Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 160

‫هوية


‫ ؟!‬
‫البد لـ «الدوحة» يف م�ستهل عددها الثاين من �أن ت�شكر جميع الذين �أ�سدوا لها‬
‫الن�صح من م�س�ؤولني و�صحافيني ومثقفني ومهتمني وقراء عاديني وقد �أخذت‬
‫«الدوحة» علم ًا بجميع املالحظات‪ ،‬التي �أعقبت العدد (�صفر) والعدد(واحد)‪،‬‬
‫فعدلت ما يجب تعديله‪ ،‬وات�سع �صدرها للنقد البناء‪ ،‬معتربة �أن العمل ال�صحايف‬
‫هو يف �أ�سا�سه عملية جدلية بني القارئ والنا�شر‪ ،‬فنحن مل يخطر على بالنا‬
‫وللحظة واحدة ادعاء الكمال‪ ،‬فالكمال هلل وحده‪.‬‬
‫وقوة «الدوحة» ـ يف الأ�سا�س ـ من قوة كتابها‪ ،‬ومن �إميانهم بقدرة الكلمة على �صنع‬
‫املعجزات‪ ،‬وما �أحوجنا يف العامل العربي �إىل �أقالم جادة و�إىل منابر تعك�س الواقع‬
‫الثقايف ومتثله خري متثيل‪ .‬وكذلك قوة «الدوحة» من قوة قرائها ومن اهتمامهم‬
‫بها كمطبوعة ثقافية ت�ضاف �إىل املجالت ال�صادرة‪ ،‬ال مبثابة �إ�ضافة رقم �أو كم‬
‫بل مبثابة �إ�ضافة نوعية كما ن�أمل‪.‬‬
‫لعل ال�س�ؤال الأ�سا�سي الذي كان يوجه �إىل «الدوحة» من قبل املهتمني وال�صحافة‬
‫ب�شكل عام‪ ،‬هو‪ :‬ما هي هوية املجلة؟ ونحن لي�ست لدينا �إجابة جاهزة على هذا‬
‫ال�س�ؤال ال�صعب‪� ،‬سوى الإدراك ب�أننا جزء من عامل تت�شكل هويته انطالق ًا من‬
‫ال�سجال امل�ستمر بني التيارات واالجتاهات وامليول الفكرية املختلفة‪ .‬خ�صو�ص ًا‬
‫�أننا ل�سنا الآن يف ع�صر عقائدي متحجر يدعي اليقني واجلزم بهوية مكتملة‪،‬‬
‫فالهوية الثقافية تبقى قيد الدر�س واالحتمال والتطور‪.‬‬
‫عادت «الدوحة» �إىل ال�صدور‪� ،‬أو �صدرت «الدوحة» �إ�صدار ًا جديد ًا‪ ،‬ال عربة‬
‫بالت�سميات والعناوين‪ ،‬املهم �أن املجلة قد ح�ضرت‪ ،‬يف الأ�سواق كما يف �ضمائر‬
‫الكتاب والقراء‪ ،‬ونعلن من اليوم �أن �صفحات «الدوحة» مفتوحة للكتاب املكر�سني‬
‫كما للكتاب اجلدد‪ ،‬وال يدافع عن الن�ص �سوى الن�ص الذي يعري نف�سه للن�شر‪،‬‬
‫ال نب�شركم ب�أية فتوحات ولن نغايل يف الأماين �أو الطموحات‪ ،‬بل نلقي ال�سالم‬
‫والتحية ونن�ضم �إىل م�سرية الثقافة العربية بخطوات واثقة وجلية‪.‬‬

‫مدير التحرير‬

‫‬
‫الهيئة اال�ست�شارية‬ ‫الغالف الأول‪:‬‬
‫�أ‪.‬د‪ .‬حممد عبد الرحيم كافود‬ ‫جملة ثقافية �شهرية ي�صدرها‬
‫�سعادة مبارك بن نا�صر �آل خليفة‬ ‫املجل�س الوطني للثقافة والفنون والرتاث يف قطر‬
‫د‪ .‬حمد عبد العزيز الكواري‬
‫�أ‪.‬د‪ .‬حممد غامن الرميحي‬ ‫رئي�س املجل�س‬
‫د‪ .‬علي فخرو‬ ‫امل�شرف العام‬
‫�أ‪.‬د‪ .‬ر�ضوان ال�سيد‬ ‫�سعادةال�شيخ م�شعل بن جا�سم �آل ثاين‬
‫�أ‪ .‬رجاء النقا�ش‬ ‫مدير التحرير‬
‫عماد العبداهلل‬
‫�شروط الن�شر يف املجلة‬ ‫رئي�س الق�سم الفني‬
‫ر�سم الغالف و�صممه‬
‫حممد �أبو طالب‬ ‫�سلمان املالك‬
‫جملة «الدوحة» جملة �أدبية ثقافية فكرية‪ ،‬تعنى بن�شر الأعمال‬
‫الإبداعية والبحوث والدرا�سات يف جماالت الفكر والآداب‬ ‫�سكرتري التحرير‬
‫والعلوم الإن�سانية‪ ،‬ويتم الن�شر فيها ح�سب الأ�صول الآتية‪:‬‬ ‫نبيل خالد الأغا‬
‫‪�-1‬أن تكون املادة خا�صة مبجلة «الدوحة» وغري من�شورة �أو مر�سلة‬ ‫الغالف الأخري‪:‬‬
‫تنفيذ ماكيت‬
‫�إىل جهة �أخرى‪.‬‬
‫‪-2‬املواد املر�سلة تكون مطبوعة ومدققة لغوياً‪.‬‬ ‫ف�ؤاد ها�شم‬
‫‪� -3‬أال تتجاوز الدرا�سة حدود ال�صفحات الع�شر من املجلة‪.‬‬ ‫ر�شا �أبو�شو�شة‬
‫‪ -4‬يف�ضل �إر�سال املادة بوا�سطة الربيد الإلكرتوين‪.‬‬ ‫املحررون‬
‫‪-5‬على الكاتب موافاة املجلة با�سمه الثالثي و�أعماله وجن�سيته‬ ‫النور عثمان �أبكر‬
‫وعنوانه ورقم هاتفه ورقم ح�سابه امل�صريف و�صورة عن جواز‬
‫حممد الربيع حممد �صالح‬
‫�سفره �أو بطاقته ال�شخ�صية‪.‬‬
‫‪ -6‬ال يجوز �إعادة ن�شر املواد املن�شورة يف املجلة �إال مبوافقة من‬ ‫علي النوي�شي‬
‫�إدارتها‪ ،‬وال يجوز االقتبا�س دون �إ�شارة للم�صدر‪.‬‬ ‫فاطمة �شرف الدين‬
‫‪-7‬التعاد املواد املر�سلة اىل املجلة �سواء ن�شرت �أم مل تن�شر‪.‬‬ ‫جميع امل�شاركات تر�سل با�سم مدير التحرير ويف�ضل‬
‫‪-8‬املواد املن�شورة يف املجلة ال تعرب عن موقف املجلة بل تعرب عن‬ ‫«التحدي» للفنان القطري‬ ‫�أن تر�سل عرب الربيد االلكرتوين للمجلة �أو على قر�ص‬
‫�آراء �أ�صحابها فقط‪.‬‬ ‫‪1987-1958‬‬ ‫يو�سف ال�شريف‬ ‫مدمج على العنوان التايل‪:‬‬
‫تليفون ‪)+974( 4366283 :‬‬
‫فاكس ‪)+974( 4421979 :‬‬
‫اال�شرتاكات ال�سنوية‬ ‫ص‪.‬ب‪ - 22404 :.‬الدوحة ‪ -‬قطر‬
‫‪ 75‬يورو‬ ‫دول االحتاد الأوروبي‬ ‫خارج دولة قطر‬ ‫داخل دولة قطر‬ ‫البريد اإللكتروني‪:‬‬
‫‪ 100‬دوالر‬ ‫�أمريك ا‬ ‫‪ 300‬ريال‬ ‫دول اخلليج العربي‬ ‫‪ 120‬ريا ًال‬ ‫الأفراد ‬ ‫‪ editor@dohamagazine.com‬‬
‫‪150‬دوالر ًا‬ ‫كندا وا�سرتاليا‬ ‫‪ 300‬ريال‬ ‫باقي الدول العربية‬ ‫‪ 240‬ريا ًال‬ ‫الدوائر الر�سمية‬
‫مكتب القاهرة ‪  :‬سامي كمال الدين‬
‫تر�سل قيمة اال�شرتاك مبوجب حوالة م�صرفية �أو �شيك بالريال القطري با�سم‬ ‫‪  34‬ش طلعت حرب‪ ،‬الدور اخلامس‪،‬‬
‫املجل�س الوطني للثقافة والفنون والرتاث على عنوان املجلة‪.‬‬ ‫شقة ‪  25‬ميدان التحرير‬
‫الأ�سعار‬ ‫املوزعون‬
‫‪ 3000‬لرية‬ ‫اجلمهورية اللبنانية‬ ‫‪ 10‬رياالت‬ ‫دولة قطر‬ ‫وكيلالتوزيعيفدولةقطر‪ :‬دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع ‪ -‬الدوحة ‪ -‬ت‪ - 4557810 :‬فاك�س‪4557819 :‬‬
‫اجلمهورية العراقية ‪ 3000‬دينار‬ ‫دينار واحد‬ ‫مملكة البحرين‬ ‫وكالء التوزيع يف اخلارج‪ :‬اململكة العربية ال�سعودية ‪ -‬ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع ‪ -‬الريا�ض‪ -‬ت‪:‬‬
‫اململكة الأردنية الها�شمية ‪ 1.5‬دينار‬ ‫‪ 10‬دراهم‬ ‫الإمارات العربية املتحدة‬ ‫‪ - 4871414‬فاك�س‪ /4871460 :‬مملكة البحرين ‪ -‬م�ؤ�س�سة الهالل لتوزيع ال�صحف ‪ -‬املنامة ‪ -‬ت‪:‬‬
‫‪ 150‬ريا ًال‬ ‫اجلمهورية اليمنية‬ ‫‪ 800‬بي�سة‬ ‫�سلطنة عمان‬ ‫‪ - 17480800‬فاك�س‪/17480818 :‬دولة الإمارات العربية املتحدة ‪ -‬امل�ؤ�س�سة العربية لل�صحافة والإعالم‬
‫‪ 1.5‬جنيه‬ ‫جمهورية ال�سودان‬ ‫دينار واحد‬ ‫دولة الكويت‬ ‫‪� -‬أبو ظبي ‪ -‬ت‪ - 4477999 :‬فاك�س‪� /4475668 :‬سلطنة عُ مان ‪ -‬م�ؤ�س�سة عُ مان لل�صحافة والأنباء والن�شر‬
‫‪� 100‬أوقية‬ ‫موريتانيا‬ ‫‪ 10‬رياالت‬ ‫اململكة العربية ال�سعودية‬ ‫والإعالن ‪ -‬م�سقط ‪ -‬ت‪ - 24600196 :‬فاك�س‪ /24699672 :‬دولة الكويت ‪ -‬م�ؤ�س�سة ال�سيا�سة للطباعة‬
‫‪ 1‬دينار �أردين‬ ‫فل�سطني‬ ‫جنيهان‬ ‫جمهورية م�صر العربية‬ ‫وال�صحافة والن�شر ‪ -‬الكويت ‪ -‬ت‪ - 4830439 :‬فاك�س‪ /4834893 :‬اجلمهورية اللبنانية ‪ -‬م�ؤ�س�سة نعنوع‬
‫‪� 1500‬شلن‬ ‫ال�صومال‬ ‫‪ 3‬دنانري‬ ‫اجلماهريية العربية الليبية‬ ‫ال�صحفية للتوزيع ‪ -‬بريوت ‪ -‬ت‪ - 653259 :‬فاك�س‪ /653260 :‬اجلمهورية اليمنية ‪ -‬حمالت القائد‬
‫‪ 4‬جنيهات‬ ‫بريطانيا‬ ‫‪ 2‬دينار‬ ‫اجلمهورية التون�سية‬ ‫التجارية ‪� -‬صنعاء ‪ -‬ت‪ - 240883 :‬فاك�س‪ / 240883 :‬جمهورية م�صر العربية ‪ -‬م�ؤ�س�سة الأهرام ‪-‬‬
‫‪ 4‬يورو‬ ‫دول االحتاد الأوروبي‬ ‫‪ 80‬دينار ًا‬ ‫اجلمهورية اجلزائرية‬ ‫القاهرة ‪ -‬ت‪ - 25796997 :‬فاك�س ‪/27703196‬اجلماهريية الليبية ‪ -‬دار الفكر اجلديد ال�سترياد ون�شر‬
‫الواليات املتحدة الأمريكية ‪ 4‬دوالرات‬ ‫‪ 15‬درهم ًا‬ ‫اململكة املغربية‬ ‫وتوزيع املطبوعات ‪ -‬طرابل�س ‪ -‬ت‪ - 925639257 :‬فاك�س‪ / 213332610 :‬جمهورية ال�سودان ‪ -‬دار الريان‬
‫‪ 5‬دوالرات‬ ‫كندا وا�سرتاليا‬ ‫‪ 80‬لرية‬ ‫اجلمهورية العربية ال�سورية‬ ‫للثقافة والن�شر والتوزيع ‪ -‬اخلرطوم ‪ -‬ت‪ - 466357 :‬فاك�س‪ / 466951 :‬اململكة املغربية ‪ -‬ال�شركة العربية‬
‫الإفريقية للتوزيع والن�شر وال�صحافة‪� ،‬سربي�س ‪ -‬الدار البي�ضاء ‪ -‬ت‪ - 2249200 :‬فاك�س‪2249214 :‬‬
‫‬
‫مقاالت وبحوث الفتنة قدر الأمة �أم وعيها الزائف؟ (عبدالعزيز حممد اخلاطر) ‪4‬‬
‫ثقافة االعرتاف بالآخر (د‪ .‬عبد ال�سالم امل�سدّي) ‪6‬‬
‫املنجل املهيب (د‪ .‬نادر كاظم) ‪16‬‬
‫ه�سترييا اللغة ( عبد الواحد ل�ؤل�ؤة) ‪26‬‬
‫كتّاب امل�سرح احلديث والتمرد على الإب�سينية (حمد الرميحي) ‪34‬‬
‫�سارتر �ضد �سارتر (علي بدر) ‪42‬‬
‫بيت اللغة (حممد القا�ضي) ‪48‬‬
‫احلوار حوار مع الدكتور ن�صر حامد ابو زيد (�سامي كمال الدين) ‪56‬‬
‫ق�ضية العدد الت�سامح والتطرف‬

‫ثقافة الت�سامح عند امل�سلمني (د‪ .‬يو�سف القر�ضاوي) ‪68‬‬


‫�سكان القواقع (املطران غريغور حداد) ‪74‬‬
‫ال�سُّ نة الكونية (د‪.‬منى مكرم عبيد) ‪76‬‬
‫املهمة الع�سرية (د‪ .‬حممد �سبيال) ‪80‬‬
‫حوار الطر�شان (د‪ .‬النور حمد) ‪84‬‬
‫قابيل وهابيل (عبد الباري طاهر)‪88‬‬
‫النجاة والهالك (�أ‪.‬د ر�ضوان ال�سيد)‪92‬‬
‫نحن والغرب (د‪.‬كمال عبد اللطيف) ‪96‬‬
‫�أ�سفار رحلة �إىل باري�س (جورج طراد) ‪102‬‬
‫�أحافري لغوية متحذلقون مت�شدقون(م�صطفى رجب) ‪112‬‬
‫�شخ�صية العدد حممد يون�س (فاطمة �شرف الدين) ‪116‬‬
‫كتاب ال�شهر رواية «وهج غام�ض للملكة لونا» (د‪� .‬أحمد ال�صادق �أحمد) ‪122‬‬
‫ذاكرة املدن يوم ا�شتعلت القاهرة (في�صل جلول) ‪126‬‬
‫من رفوف املكتبة عر�ض موجز لثمانية من الكتب العربية والأجنبية ‪142‬‬
‫�صفحات مطوية �أحوال الن�ساء ‪146‬‬
‫فنون اجلنوب يف امل�سرح اللبناين (عبيدو با�شا) ‪150‬‬
‫ن�صو�ص �أبا الطيِّب هات نبوءتَك اجلديدة! (�سميح القا�سم) ‪10‬‬
‫انتقام (نورا حممد فرج) ‪24‬‬
‫�أبواب (عدنان ال�صائغ) ‪54‬‬
‫الن�سنا�س قبل غروب ال�شم�س (�أحمد�إبراهيم الفقيه) ‪62‬‬
‫َح�سنة (هيفاء بيطار) ‪98‬‬
‫راتخم الأ�صيل (وجدي الأهدل) ‪110‬‬
‫�أبحث عن العاطفة ( حممد ال�صادق احلاج) ‪138‬‬

‫‬
‫�أما فيما يتعلق‪  ‬باملفاهيم املنتجة حمليا والتي نقفز �إليها‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ون�ستبقها كنتيجة دومنا اعتبار ملكوناتها الداخلية وتفكيك‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫هذه املكونات بحيث �أ�صبحت من الكرب والت�ضخم حتمل‬
‫�أك�ثر مما حتتمل‪ ‬كمفردة وكمعنى‪ .‬كذلك‪� ‬إليكم مفهوم‬
‫«الفتنة» مثا ًال على ذلك فهو كمعنى يحتمل الكثري وقد م ّر‬
‫ن�صو�صوبحوث‬
‫مقاالت‬
‫صو�ص‬
‫يف القر�آن الكرمي مبعانٍ متعددة فقد �أتى مبعنى االختبار‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وال��ب�لاء‪ ،‬وثانية مبعنى ال�شرك‪ ،‬و�أخ��رى مبعنى التعذيب‬ ‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ورابعة مبعنى فتنة الرجل يف �أهله وماله وول��ده‪ .‬ما يهمنا‬
‫هنا‪  ‬هو تفكيك هذا املفهوم �سيا�سياً‪ ،‬وهل ثمة داللة �سيا�سية‬ ‫ال�شك �أننا نعاين من �إ�شكالية يف التعامل مع املفاهيم‬
‫وا�ضحة حمددة له ما �أن ت�صل الأمور �إليها حتى نكون �أمام‬
‫فتنة‪ ،‬وبالتايل ال ميكن ا�ستخدام مفهوم �آخر بدي ًال عنه‪،‬‬ ‫من حيث البداية يف تناولها وا�ستيعابها‪ ،‬فاملفهوم املنتج‬
‫هذا ما �أعنيه ب�ضرورة التعامل مع مكونات املفهوم املنتج‬ ‫حملياً غري الآخر امل�ستورد‪ ،‬وبالتايل فتعاملنا معه البد‬
‫حملي ًا �أو ًال قبل االتفاق على ما يحمله من معنى‪.‬‬ ‫�أن يبد�أ من مكوناته وبنيته‪ ،‬لأننا من �أنتجه يف الأ�سا�س‬
‫فمفهوم الفتنة �سيا�سي ًا نتاج العقلية العربية الإ�سالمية‬ ‫وبالتايل ميكن �إعادة �صياغته من جديد مب�سمى �آخر �أو‬
‫بامتياز‪ .‬وهو مفهوم يدل على ق�صور �سيا�سي تاريخي عن‬
‫بلوغ مرحلة الر�شد والن�ضج التي مرت بها جمتمعات �أخرى‬ ‫ا�ستبعاده �أو �إيجاد بديل عنه‪ .‬يف حني �أن الآخر امل�ستورد من‬
‫يف‪  ‬عامل اليوم‪ .‬ملاذا نحن فقط دائم ًا يف خوف من ا�شتعال‬ ‫املفرو�ض �أن نتو�صل �إليه �أو ن�ستوعبه كنتيجة مبكوناتنا‬
‫الفتنة؟‬ ‫الداخلية اخلا�صة بنا‪ ،‬وهي ال�صيغة الوحيدة املمكنة يف‬
‫ملاذا جمتمعاتنا العربية والإ�سالمية هي فقط م�سرح ًا ملثل‬ ‫هذه احلالة اال�ستريادية ال �أن نطلب من البنية‪ ‬ومكونات‬
‫هذا اال�شتعال؟‬
‫�أو ًال وقبل كل �شيء ما هي الفتنة �أ�صالً؟ وما هي مكوناتها؟‬ ‫املجتمع التحتية �أن تتغري‪ ،‬لتالئم املفهوم امل�ستورد‪ ،‬وهو‬
‫ال �أجد تف�سري ًا لها‪� ،‬إنها منطقة حمظورة عجزنا �أو عجزت‬ ‫�سبب ما ن�شهده من ف�شل ذريع يف حماوالت توطني‬
‫�أط���راف الأم���ة ع��ن مقاربتها ب�شكل يدخلها �ضمن �أح��د‬ ‫مفهوم الدميوقراطية انطالقاً من تناولنا ‪ ‬لبنية املجتمع‬
‫م�ستويات العقل اجلمعي للأمة‪ ،‬فجل�ست هذه الأط��راف‬ ‫الرتكيبية بد ًال من �إيجاد نوع من التوافق بينها كبديل عن‬
‫على حدود هذه املنطقة خوف ًا من ال�سقوط فيها‪ ،‬لأنها ال‬
‫تزال يف مرحلة الالمعقول والالمتفاهم حوله‪ ،‬وتظل الأمور‬ ‫تغيريها �أو حماولة ذلك‪.‬‬
‫هكذا حتى يح�صل حدث م�أ�ساوي معني يدفع �أحد الأطراف‬
‫مفهوم يجب تفكيكه‬
‫يف ال�سقوط يف املنطقة‪ ،‬لت�شتعل الفتنة وت�أتي على الأخ�ضر‬
‫والياب�س‪� .‬أم��ا مكونات «الفتنة» فهي ت�تراوح بني الأبعاد‬

‫«الفتنة»‬
‫الدينية �أو الطائفية �أو القبلية‪.‬‬
‫وهذه يف اعتقادي مكونات ما قبل املجتمع املدين‪ ،‬هذا يف�سر‬
‫عدم‪  ‬وجود مثل هذا املفهوم يف البلدان املتمدنة واملتطورة‪،‬‬
‫هل ميكن احلديث عن «فتنة» بهذا املفهوم يف دول �أوروبا‬
‫الغربية املتقدمة؟ �أو يف الواليات املتحدة الأمريكية مثالً؟‪.‬‬

‫قدر الأمة �أم وعيها الزائف؟‬


‫اخلطورة عندما يعي الطامع واملرتب�ص بهذه الأمة بجميع‬ ‫عبدالعزيز حممد اخلاطر‬
‫م�سمياته مكونات هذا املفهوم وما يعنيه لدينا ‪ -‬رغم عدم‬
‫وج��وده تاريخي ًا بنف�س املعنى ‪ -‬ف���إن ه��ذا املفهوم ي�صبح‬ ‫كاتب من قطر‬
‫�سالح ًا ا�سرتاتيجي ًا ميلكه �أم�ضى من جميع الأ�سلحة و�أ�شد‬
‫فتكاً‪ ،‬وهنا ن�صبح �أمام خيار �آخر ميلكه الن�ستطيع له دفع ًا‬
‫�إال فيما ندر‪ ،‬وهو �إ�شعال نار الفتنة بني الإخوة و�أبناء الوطن‬
‫الواحد‪ ،‬فهو �إذن مكمن �أوجدناه نحن لعجزنا عن تفكيكه‬
‫و�إيجاد احللول املنا�سبة له لنقتل به بعد ذلك فن�سمع عن‬
‫�إذك��اء روح العداء بني ال�شيعة وال�سنة يف العراق من قبل‬
‫‬
‫ق����وات ال��ت��ح��ال��ف ون�����س��م��ع عن‬
‫ت�أجيج الو�ضع الداخلي يف م�صر‬
‫بني الأقباط وامل�سلمني‪� ،‬إدراك ًا‬
‫من الآخ��ر ملعنى ه��ذا املفهوم‪ ‬‬
‫الذي يختزل تاريخنا يف ثنائية‬
‫القاتل وامل��ق��ت��ول و�إدراك���� ًا منه‬
‫ك��ذل��ك ل��ع��دم اك��ت��م��ال ن�ضجنا‬
‫ال�سيا�سي ك�أمة وك�شعوب‪ ،‬فما‬
‫عليهم �سوى �إدراك ذلك حتى‬
‫ت�صري لهم الغلبة وي�صبح زمام‬
‫الأمور كله ب�أيديهم‪.‬‬
‫وقد‪  ‬عرف تاريخنا عرب عقوده‬
‫الطويلة منذ فجر الإ�سالم فتن ًا‬
‫عديدة لغياب ال�سيا�سة كعامل‬
‫يتو�سط ب�ين اخل�ل�اف وكذلك‬
‫�صالبة الفهم ال��دي��ن��ي وب��روز‬
‫العامل العرقي الإثني‪ ،‬فال تلبث‬
‫الأم��ة �أن جتد نف�سها يف �أت��ون‬
‫حرب طاحنة اجنرّت �إليها جر ًا‬
‫دومنا ا�ستعداد �أو تهيب‪ .‬من هنا‬
‫حتى تاريخنا احلديث جداً‪ ،‬م ّر‬
‫وال ي��زال مير مبثل ه��ذه الفنت‬
‫التي يجب �إخراجها من �إطارها‬
‫امللتب�س بالدين و�إدخالها �ضمن‬
‫ع��م��ل��ي��ة ال��ق�����ص��ور ال�����س��ي��ا���س��ي‬
‫وامل�ؤ�س�ساتي للمجتمع‪ .‬فاجتياح‬
‫����ص���دام ل��ل��ك��وي��ت �أق�����ام فتنة‪،‬‬
‫واحلرب اللبنانية الأهلية �أي�ض ًا‬
‫فتنة ل�سقوط البع�ض يف هذه‬
‫الفجوة �أو املنطقة املحظورة‪،‬‬
‫مبعنى �أن مثل ه��ذه الأح���داث‬
‫فجّ رت مكونات الأم��ة وجعلتها‬
‫يف م��واج��ه��ة م��ع نف�سها‪ ،‬وهي‬
‫التي حاولت طوي ًال ن�سيانها �أو‬
‫تنا�سيها ولي�س حلها‪ .‬ه��ذا هو‬
‫الق�صور التاريخي‪.‬‬
‫احلقيقة خالفات طائفية كانت �أم دينية �أم قبلية ميكن‬ ‫والآن للخروج من ه��ذا امل����أزق ال��ذي تكرر و�سيتكرر عرب‬
‫التفاهم حولها وو�ضع الآليات الد�ستورية والقوانني املدنية‬ ‫التاريخ البد من الإ�شارة �إىل بع�ض املنافذ املحتملة‪:‬‬
‫للتعامل معها‪.‬‬ ‫�أوالً‪ :‬االع�تراف بن�سبية املعرفة لدى جميع الأط��راف‪ ،‬لأن‬
‫خام�ساً‪ :‬دمقرطة ال�سلطة العربية والإ�سالمية وتعقيد اتخاذ‬ ‫ادعاء احلقيقة واملعرفة التامة يعني ال�صدام مع الآخر ال‬
‫القرارات امل�صريية‪ ،‬لكي ال تتكرر «فنت» مب�ستوى غزو دولة‬ ‫حمالة مهما طالت املدة وامتد الدهر‪.‬‬
‫لدولة �أخرى‪.‬‬ ‫ثانياً‪� :‬إقامة الد�ساتري املدنية القائمة على امل�ساواة واملواطنة‬
‫�أعتقد �أن مثل هذه الإج���راءات �سوف تخرج هذا املفهوم‬ ‫لإيقاظ املجتمع من �سباته التاريخي ومرجعياته الأولية‬
‫(الفتنة) م��ن مكانته الرهيبة يف زواي���ا ال��وع��ي العربي‪،‬‬ ‫بجميع �أ�شكالها �سواء كانت طائفية �أو قبلية �أو نحو ذلك‪.‬‬
‫وتعيده �إىل مكانته احلقيقية وامللمو�سة‪ ،‬ك�أن يفنت ال�شاب‬ ‫ثالثاً‪� :‬إخراج مفهوم الفتنة من الوعي العربي ومن الن�سق‬
‫الو�سيم‪  ‬قلوب الن�ساء‪� ،‬أو �أن تفنت املر�أة اجلميلة الرجال‪،‬‬ ‫الديني‪ ،‬لأن ا�ستمرار هذا الوعي يعني توقع وجودها وقيامها‬
‫وهما �أمران ال يالم�س خطرهما �أطراف الأمة‪ ،‬بل وميكن‬ ‫ال �شعوري ًا طال الزمن �أو ق�صر‪ ،‬ففتنة «الرجل يف دينه» مث ًال‬
‫التح�صن منهما بالأخالق والتدين �أو حتى بالزواج‪.‬‬ ‫�أو «فتنة امل�سيح الدجال»‪ ،‬خمتلفة متام ًا عن ما يقع �ضمن‬
‫الوعي ب�أن الفتنة قدر للأمة‪ ،‬حمَّلها‪� ,‬أي الأمة‪ ,‬ما ال حتتمل‪،‬‬ ‫هذا املفهوم حالياً‪.‬‬
‫وجعلها تنقل داءها يف ردائها‪.‬‬ ‫رابعاً‪ :‬تفكيك مفهوم الفتنة و�إعادته �إىل جزئياته‪ ،‬وهي يف‬
‫العمل الفني ‪ :‬حسن عبد علوان ‪ -‬العراق‬
‫‬
‫انح�سرت – بفعل االن�شقاق العميق احلا�صل‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ب�ي�ن امل �ن �ظ��وم��ات الإج��رائ �ي��ة وامل �ن �ظ��وم��ات‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ال��رم��زي��ة يف املجتمع الإن���س��اين اجل��دي��د ‪-‬‬
‫�سلطة املثقف حتى لتكاد تتبدّل وظيفته‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫ج��وه��ري�اً‪ .‬مل يعد بو�سع املثقف �أن ي�صنع‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬

‫ثقافة‬
‫احلدث يف جماالت احلياة العامة على ح ّد‬ ‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ما كان ي�صنع من قبل‪ .‬مل يعد يت�س ّنى �أن‬
‫ي�صدح املثقف بقولة تغيرّ جماري الأحداث‬

‫االعرتاف‬
‫وت��ر��س��م م�ع��امل ال�ط��ري��ق ك��ال��ذي فعله طه‬
‫ح�سني عام ‪ 1937‬حني قال �إن حق النا�س يف‬
‫التعليم كحقهم يف املاء والهواء‪� ،‬أو كالذي‬
‫ف �ع �ل��ه م ��ن ق �ب �ل��ه الأدي � ��ب‬
‫ال �ف��رن �� �س��ي �إمي � �ي� ��ل زوال‬
‫ح�ين ��ص��اح �صيحته «�إين‬

‫بالآخر‬
‫لأته ُم» فغيرّ تاريخ فرن�سا‬
‫ق�سمت‬ ‫يف امل �� �س ��أل��ة ال �ت��ي ّ‬
‫ال�شعب الفرن�سي �شقني‪،‬‬
‫وهي ق�ضية درايفو�س‪� .‬أو كالذي فعله من‬
‫بعدهما جون بول �سارتر حني مت ّرد – عام‬
‫‪ – 1970‬على ال�سلطة فحكم عليه الق�ضاء‬
‫بال�سجن فا�ضطر الرئي�س جورج بومبيدو‬
‫ال‪�« :‬إين ال �أ�ستطيع �أن �أز ّج‬ ‫�أن يتدخل قائ ً‬ ‫امل�سدي‬
‫د‪ .‬عبد ال�سالم ّ‬
‫بالثقافة خلف ق�ضبان ال�سجون»‪.‬‬ ‫كاتب من تون�س‬

‫تخ�ص الن�سق الأك�بر يف الرابطة الب�شرية‬ ‫متوترة ج��د ًا ّ‬ ‫رمبا �آن الأوان لكي ننتبه �إىل احلقيقة اجلديدة التي �أفرزها‬
‫العامة‪ ،‬ولئن ك��ان ل�ل�إب��داع الأدب��ي ف�ضل الإره��ا���ص بهذه‬ ‫تطوّر املجتمع الإن�س���اين و�أ�ص���بحت حتك���م حركته الداخلية‬
‫احلقيقة اجلديدة منذ ت�أ�سّ �س يف جم��ال ال��رواي��ة مفهوم‬ ‫من وراء �س���طوح الظاهر‪ ،‬ولذلك خفيت على العني املجرّدة‬
‫البطل اجلماعي ف�إن الفن مل يحد�س باالنقالب الداخلي‬ ‫الالهية‪� ،‬أما م�ض���مونها فيتمثل يف �أن عهد البطولة الفردية‬
‫يف القيم الإن�سانية‪ ،‬ذلك �أن خروج ال�سيا�سة واملعرفة واملال‬ ‫ق���د ولىّ فح ّل حمله عهد البطولة اجلماعية‪ .‬ترى ذلك جلي ًا‬
‫�إىل ع�صر البطولة اجلماعية قد �أجّ ج لهيب املناف�سة‪ ،‬وحوّل‬ ‫خلف دوائر الأقطاب الثالثة الكربى التي على ن�سقها ت�صنع‬
‫العالقة التكافلية �إىل مواجهة �صراعية ك�أمنا هي �صراع‬ ‫الإن�س���انية م�صريها‪ :‬قطب ال�سيا�سة وهي التي تنتج القرار‪،‬‬
‫على البقاء‪ ،‬ولهذا ال�سبب البالغ اخلفاء تكاد تنفجر حرب‬ ‫وقطب املعرف���ة وهي التي حترّك العلم نح���و الأمام‪ ،‬وقطب‬
‫الهويات‪ ،‬ولذلك �أي�ض ًا ما انفكت ت�ست�شري ظاهرة الإرهاب‬ ‫املال وهو الذي ي�صنع تراكم الرثوة‪ .‬فال�سيا�سة اليوم يديرها‬
‫امل�ضاد بقدر ا�ست�شراء ظاهرة الإرهاب نف�سها‪.‬‬ ‫فريق ملتفّ حول ت�ص���وّر حمدّد لالختي���ارات التي تهيئها له‬
‫جمموع���ة متكاتفة‪ ،‬ت�ص���نع له الفكر ال�سيا�س���ي‪ ،‬وجتتهد يف‬
‫الهوية م�صطلح متغري‬ ‫حتقيق ما ترى �أنه هو امل�ص���لحة العلي���ا للوطن اخلا�ص بها‪.‬‬
‫والعلم ت�أتي اكت�شافاته ثمرة جلهود فريق من العلماء امللتفني‬
‫�إن مو�ض���وع الهُوية �أ�صبح ي�س���تلزم طرح ًا جديداً‪ ،‬وذلك يف‬ ‫حول م�شروع بحثي يجتمعون عليه يتناهى يف الدقة ويرتامى‬
‫�ضوء �سببني اثنني‪� ،‬أولهما تغيرّ امل�شهد الثقايف الإن�ساين مبا‬ ‫�إىل حقول متعدّدة من االخت�صا�صات‪ ،‬لذلك كثري ًا ما ت�سند‬
‫�أف�ضى �إىل انقالب مرجعياته و�إىل ا�ضطراب �سلّم �أولوياته‪،‬‬ ‫اجلوائز العاملية الكربى للفريق البحثي ال ل�ش���خ�ص متفرّد‪.‬‬
‫وثانيهما ت�ص���دّر العام���ل اللغوي �أمام �س���ائر املقوّمات التي‬ ‫و�أما املال – يف الزراعة وال�صناعة والتجارة جميعها – فلم‬
‫منه���ا تتك���وّن منظومة قيم االنتم���اء احل�ض���اري‪ .‬فلقد كان‬ ‫يعد ي�ص���نع الرثوة �إال يف نطاق ال�ش���ركات حتى ولو انبنت يف‬
‫بديهي��� ًا �أن الهُوي���ة ترتك���ز عل���ى �أركان تاريخية يت�ص���دّرها‬ ‫منطلقها على ثروة فردية‪.‬‬
‫االنتماء �إىل �أ�ص���ول �س�ل�الية واح���دة‪ ،‬وهي تل���ك التي متثل‬ ‫ولكن امل�شهد اجلديد يف املجتمع الإن�ساين يعطينا �صورة‬
‫‬
‫قهرية‪ :‬الدين‪ ،‬والأ�س���رة‪ ،‬والدولة‪ ،‬والثقافة ال�سائدة‪ ،‬واللغة‬ ‫خريط���ة الأجنا�س والأع���راق‪ ،‬ثم ت�أتي اللغة كعن�ص���ر معبرّ‬
‫املوروثة‪.‬‬ ‫عن ذلك االنخراط ال�س�ل�ايل‪ ،‬ثم ت�أتي املعتقدات التي طاملا‬
‫�إن املرج���ع الغيب���ي تتنامى �س���طوته يف جمتمعات �إن�س���انية‬ ‫كانت اجلامع بال�ضرورة يف خمتلف الثقافات‪.‬‬
‫عدي���دة‪ ،‬ويتخذ �أحيان ًا �ش���كل امللل الغريب���ة والنحل العجيبة‬ ‫وع���رف الع���رب – خالل القرن الع�ش���رين – م���ن املذاهب‬
‫الراف�ض���ة للمجتمع الإن�س���اين اجلديد‪ ،‬وقد و�ص���لت �سطوته‬ ‫ال�سيا�سية التحزبية ما �أدخل تعدي ًال على �سلّم الرتب‪ ،‬ف�أقام‬
‫�إىل الذروة يف حتالفات عقدية تكت�سب �صيغة �إحياء املقدّ�س‬ ‫الهُوية على وحدة االنتماء ال�س�ل�ايل‪ ،‬ووح���دة اللغة‪ ،‬ووحدة‬
‫العتي���ق‪ ،‬ولكن الأدق هو ازدواج هذا اللون الغيبي مع �ض���رب‬ ‫التاري���خ‪ ،‬م�س���قط ًا بذلك الركن الروح���ي و�إن اعتربه مقوم ًا‬
‫�آخ���ر م���ن الإيغ���ال يف مرجعية االنتم���اء القوم���ي‪ ،‬مما دفع‬ ‫م�ؤازر ًا ملنظومة القيم التي عليها ي�ستوي معمار الهُوية‪ ،‬وكان‬
‫�إىل تعاظ���م ح���ركات ميينية تعل���ن جهار ًا تعلقه���ا باالختيار‬ ‫يف ذلك ت�ص���ور ا�سرتاتيجي يهدف �إىل توحيد �صف العروبة‬
‫ال�شوفيني املطلق‪.‬‬ ‫مبختلف املعتقدات الروحية القائمة بني �أبنائها‪ .‬ولكن الو�ضع‬
‫هنا – حتديد ًا – تت�ش���كّل للمثقف وظيفته اجلديدة �أال وهي‬ ‫اجلديد الذي �آلت �إليه الروابط يف املجتمع الإن�ساين ب�أكمله‬
‫الن�ضال ب�إ�صرار يف �س���بيل تر�سيخ ثقافة االعرتاف بالآخر‪،‬‬ ‫ق���د دفع �إىل انبعاث املرجع الروحي يف العديد من الثقافات‬
‫وتر�س���يخ االقتناع ب�أنها ا�س���تثمار بعيد امل���دى ينتهي فيه كل‬ ‫الغربية وال�ش���رقية‪ ،‬وهي الظاهرة التي يطل���ق عليها علماء‬
‫الأط���راف بفوائ����ض ثابت���ة من الرب���ح‪ ،‬وم�س����ألة االعرتاف‬ ‫االجتماع وعلماء الإنا�س���ة «عودة املقدّ�س» وعلينا �أال نن�س���ى‬
‫بثقافة الآخر ج�سر متحرّك على �ضفتني‪ :‬مقاومة الإجحاف‬ ‫�أن ذبذبات التوتر قد ت�ض���افر على تكثيفها م�صدران اثنان‪:‬‬
‫بغي���ة اقتالع االع�ت�راف‪ ،‬ثم حمارب���ة التطرّف م���ع مقاومة‬ ‫م�ص���در ال�سيا�س���ة مبا هي انحياز مطلق لن�س���بية امل�صالح‪،‬‬
‫اتخاذه مطية لإر�سال التهمة ال�سهلة‪.‬‬ ‫وم�ص���در التنظري الفل�س���في الذي يمُ عن �إىل حدود ال�شطط‬
‫هن���ا – مرة �أخرى – يقف املثقف العربي‪ ،‬ليواجه بن�ض���اله‬ ‫يف الإع�ل�اء من حري���ة الفرد بذات���ه‪ ،‬والذي انته���ى يف �آخر‬
‫جبهتني زاحفتني‪ :‬جبهة خارجي���ة متعن يف الإغاظة بركوب‬ ‫طوباويات���ه احلداثي���ة �إىل القول �إن حرية الإن�س���ان ال تكتمل‬
‫مطايا التهم ال�سهلة اجلاهزة‪ ،‬وجبهة داخلية ينزع �أ�صحابها‬ ‫�إال �إذا ق�ض���ى على خم�س���ة �أ�ش���ياء متثل جميعها م�ؤ�س�س���ات‬
‫‬
‫لقد ج���اءت الثقافة العربية مبا ي�ش���هد على �أنها ان�س���جمت‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫م���ع قان���ون التاري���خ يف �أن العلم �إن�س���اين وعل���ى الثقافة يف‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫خ�صو�ص���ياتها �أن تذع���ن له‪ ،‬ولي�س بو�س���ع ثقافة �أن ت�ص���نع‬
‫جمدها الإن�ساين �إال �إذا �صانت ميثاق االعرتاف بالآخر‪.‬‬
‫باك���را‪ ،‬كان �أبو يو�س���ف يعقوب الكن���دي (ت ‪ 252‬هـ) يخط‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫ر�س���ائل ُه الفل�س���فية‪ ،‬وباكر ًا �أي�ضا دوّن ما هو جدير ب�أن يكون‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ميثاق ًا يكتب مباء الذهب على نا�صية امل�ؤ�س�سة التي ال يدفعها‬ ‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫�إال حمرك التخا�صب بني املناهل يف تنوعها واملوارد يف تعدد‬
‫�أل�سنتها‪:‬‬ ‫�إىل التطرّف فيحاول �أن يعيد ل�ص���وت العقل �صداه امل�سموع‪.‬‬
‫«علين���ا باقتن���اء احلق و�إن �أت���ى من الأجنا�س القا�ص���ية عنا‬ ‫ولكن الأعراف الثقافية قد ق�ض���ت ب�أن الرباهني امل�س���تمدّة‬
‫والأمم املباينة لنا‪ ،‬ف�إنه ال �شيء �أوْىل بطالب احلق من احلق‪،‬‬ ‫من احلا�ض���ر ال تقوى وال تتعزّز �إال �إذا ا�س���تندت �إىل براهني‬
‫ولي�س ينبغي بَخْ ُ�س احلق‪ ،‬وال ت�صغري قائله‪ ،‬وال الآتي به‪ .‬فال‬ ‫ن�س���تدعيها من املا�ض���ي‪ ،‬لذل���ك حق لن���ا �أن نتمنّى كم يكون‬
‫�أحدَ بُخ�س باحلق‪ ،‬بل ك ٌّل يُ�شرّفه احلقُّ»‪ .‬ف�أي ذروة �أرقى من‬ ‫ناجع ًا �أن يبد�أ املثقف العربي ب�إعادة ترتيب املراجع القيمية‪،‬‬
‫هذا ال�سَّ نم يف جمال االعرتاف بالآخر؟ �إنه الن�ص ال�صريح‬ ‫كي يتعزّز لديه العق ُل مب�شروعية امل�أثور الفكري‪.‬‬
‫بذاته‪ :‬الأجنا�س القا�ص���ية عنا والأمم املباينة لنا‪� .‬أما املدار‬
‫ال���ذي يقوم مقام قل���ب الرحى فهو احل���ق يف معناه املطلق‪،‬‬ ‫�سقوط اللغة واحلدود‬
‫حيثم���ا كان ح���قٌّ‪ ،‬والكن���دي ‪� -‬إذ يتحدث �إلين���ا عن احلق ‪-‬‬
‫كان يدبّج خطاب ًا فل�س���في ًا وهو ي�ضع ر�س���ائله الفل�سفيّة‪ ،‬فال‬ ‫ويف الب���دء على املثق���ف �أن يذكّر جموع النا�س – يف عامتهم‬
‫جم���ال �إذن �إىل حمل اللفظ على داللة اخل�ص���و�ص التي هي‬ ‫ويف كثري من خا�ص���تهم – ب�أن الإ�سالم عندما نزلت ر�سالته‬
‫داخلة �ض���من مقا�ص���د التوحيد و�أغرا�ض الت�ش���ريع الإلهي‪،‬‬ ‫حر����ص احلر�ص كل���ه على �أن يقي���م مفهوم ًا جدي���د ًا للهوية‬
‫و�إمن���ا هو على داللة العم���وم‪ ،‬تلك الداللة التي و�ض���عت لها‬ ‫اجلماعية‪ ،‬فقلّل من �ش����أن الرابطة ال�ساللية التي تقوم على‬
‫اللغ���ة ا�ص���طالح ًا جديد ًا �إذ تقول ‪ -‬ب���دل احلق ‪ -‬احلقيقة‪.‬‬ ‫احلمي���ة العرقية وتغذي فكرة الع�ص���بية امل�س���تبدّة باملجتمع‬ ‫الإ�سالم �أ�سقط‬
‫فلي�س تق ّو ًال على �ص���احبنا �أن نعتربه منخرط ًا كلي ًا يف ميثاق‬ ‫العرب���ي يومئذ‪ ،‬و�ألغ���ى معيار املكان بو�ص���فه مرتكز ًا للهوية‬
‫اجلماعية‪ ،‬ف�أ�س���قط بذلك فكرة احل���دود اجلغرافية كرمز‬
‫فكرة احلدود‬
‫االعرتاف بالآخر‪.‬‬
‫ف�إن كان الكنديّ فيل�س���وف ًا ‪ -‬وامليثاق الفكري الذي �أ�س���لفنا‬ ‫�أ�سا�س���ي يف فكرة الوطن‪ ،‬بل �إن الإ�س�ل�ام قد �ألغى عن�ص���ر‬ ‫اجلغرافية‬
‫اللغة بو�ص���فه عام ًال يف ت�شكيل الهوية اجلماعية‪ ،‬وهذا مما‬
‫ال يُ�س���تغرب من كل فيل�س���وف ‪ -‬ف�إنّ مقيا�س التنوع الثقايف‪،‬‬
‫تخفى على النا�س �أ�سراره كما �سنعود �إليه‪.‬‬ ‫وعن�صر اللغة‬
‫اخلالق القائم على مبد�أ االعرتاف بالآخر عندما يتبناه من‬
‫اخت�ص ب�ش����ؤون الدين ومباحث العقيدة يكون �أبلغ‪ ،‬و�أن�صع‪،‬‬ ‫لق���د �أعل���ن الن�ص املقدّ�س عن املق�ص���د الأ�س���مى من وجود‬ ‫بو�صفهما‬
‫الإن�سان مع الإن�س���ان‪�« :‬إنّا خلقناكم �شعوب ًا وقبائل لتعارفوا»‬
‫ورمبا �أدْعَ ى للإن�ص���اف الثق���ايف‪ ،‬لأنه يقط���ع الطريق �أمام‬
‫كل �إجحاف ح�ض���اري �أو غَ مْط فكري‪ .‬ف�أبو حامد الغزايل (‬ ‫ثم �أر�سى الأ�س���ا�س اجلديد للتفا�ضل‪�« :‬إن �أكرمكم عند اهلل‬ ‫عاملني يف‬
‫‪505 450-‬هـ) الذي ا�ستحق بجدارة �شُ هرة حجّ ة الإ�سالم‪،‬‬ ‫�أتقاكم» وهذا معناه �أن املبد�أ الأول هو التنوّع الب�شري يف كنف‬ ‫ت�شكيل‬
‫ي�س���وّي منافحة عالية يف �أمر ف�ض���ائل التنوّع الثقايف‪ ،‬والذي‬ ‫�أن النا����س جميعهم �سوا�س���ية‪ ،‬و�أنه على ذل���ك املبد�أ ينطلق‬
‫كان ميثاق ًا على قلم الكندي يمُ ْ�سي د�ستور ًا فكري ًا على يده‪.‬‬ ‫حافز ال�س���عي نحو التفا�ضل‪ ،‬وهو – مبرجعياتنا الراهنة –‬ ‫الهوية‬
‫ينطلق الغزايل من تقرير حال ما هو �س���ائد مر�س�ل�اً حكمه‬ ‫ن�ص‬
‫التناف�س اخلالّق‪ .‬ثم جاء الن�ص ال�ش���ارح واملكمّل وهو ّ‬ ‫اجلماعية‬
‫ال�صريح‪« :‬عادة �ضعفاء العقول �أنهم يعرفون احلقَّ بالرجال‬ ‫ال�س���نّة‪ ،‬ومل يكن هيّن ًا وال ي�سري ًا �أن ي�صدح �صاحب الر�سالة‬
‫ال الرجالَ باحلق»‪.‬‬ ‫بقول���ه «لي�س من ف�ض���ل لعربي على �أعجم���ي �إال بالتقوى» وال‬
‫فامل�س����ألة مبدئيّة ولي�س���ت مقيّدة مبجال �إن�س���اين دون �آخر‪:‬‬ ‫�أن ي�أخ���ذ ذلك املوقف الرمزي بال���غ الداللة‪ ،‬حينما ر ّد على‬
‫لي�س���ت وقف��� ًا عل���ى ظواهر ال�س���لوك وال على بن���ات الأفكار‪،‬‬ ‫الذي احتج بال�شعار ال�سلوكي املوروث‪« :‬ان�صر �أخاك ظامل ًا �أو‬
‫اخت�ص بدين‬‫ولي�س���ت وقف ًا على حقل الن�ش���اط الفك���ري �إذا ّ‬ ‫مظلوماً» ب�أن ف�سّ ر و�شرح‪ :‬ان�صره ظامل ًا بردّه عن �ضاللته‪.‬‬
‫�أو بفل�س���فة �أو بلغة �أو ب�سيا�سة‪ .‬فاحلق هنا هو رم ٌز للم�ؤ�س�سة‬ ‫املهمّ لدين���ا هنا هو هذه احلروف الذهبي���ة الأوىل التي بها‬
‫الفكرية الواعية بنف�س���ها وامل�س����ؤولة عن �أقدارها‪ .‬ومل ي�ش����أ‬ ‫ُدبّ���ج امليث���اق الثق���ايف اجلديد‪ ،‬ميث���اق االع�ت�راف بالآخر‪،‬‬
‫الغ���زايل �أن يك���ون بدع���ة‪ ،‬لذلك ن���راه ي�ؤ�س����س موقفه على‬ ‫ميثاق ن�س���خ فكرة الإق�ص���اء‪ ،‬ولك �أن تعي���د تتبّع املنعرجات‬
‫امل�أثور من الأقوال ومن الأفعال‪ :‬وهو يخط �س�ي�رته الفكرية‬ ‫الك�ب�رى يف تاريخ احل�ض���ارة العربية الإ�س�ل�امية‪ ،‬ف�س���تجد‬
‫يف كتابه «املنقذ من ال�ض�ل�ال» قائال‪« :‬والعاقل يقتدي بقول‬ ‫�أنه���ا مل تزده���ر �إال بف�ض���ل ثقاف���ة االع�ت�راف بالآخر‪ ،‬هذه‬
‫�أم�ي�ر امل�ؤمنني علي بن �أبي طالب‪ :‬ال تع���رف احلقَّ بالرجال‬ ‫الت���ي بف�ض���لها ان�ص���هرت الأجنا�س والأعراق‪ ،‬ثم ان�س���كبت‬
‫ب���ل اعرف احل���قَّ تعرف �أهله»‪ .‬ث���م ينطلق �ش���ارح ًا ومعلالً‪:‬‬ ‫منه���ا العلوم واملعارف‪ ،‬ويكفي يف تبيان ذلك �أن حتويل اللغة‬
‫«والعاق���ل يع���رف احلقَّ ثم ينظ���ر يف نف�س الق���ول‪ ،‬ف�إن كان‬ ‫العربي���ة �إىل منظومة معرفية يتكامل فيها علم املعجم وعلم‬
‫ح ّق ًا قبله �س���وا ٌء كان قائل ُه ُمبْط ًال �أو محُ قاً‪ ،‬بل رمبا يحر�ص‬ ‫العرو�ض وعلوم النحو وال�صرف والأ�صوات قد مت يف القرن‬
‫على انتزاع احلق من �أقاويل �أهل ال�ض�ل�ال‪ ،‬عامل ًا ب�أن معدن‬ ‫الثاين على يد العربي اخلليل الفراهيدي والفار�س���ي الوافد‬
‫الذهب الرغامُ»‪.‬‬ ‫�سيبويه‪.‬‬

‫‬
‫لي����س ه ّين��� ًا وال ي�س�ي�ر ًا �أن يرتقي الطرح العرب���ي �إىل منزلة‬ ‫ويرتقي �أبو حامد الغزايل �إىل درج ٍة �أعلى‪ ،‬حماو ًال تخ�صي�ص‬
‫م���ن احلوار ب�ي�ن الثقافات فيم�س���ك ب�أرق �ألي���اف العقالنية‬ ‫العلماء مبيزة الأمانة لأنهم حفظة احلق واملطالبون ب�صيانة‬
‫يف امل�س����ألة اللغوي���ة العامة‪ ،‬ف�إذا به يقدم در�س��� ًا يف ن�س���بية‬ ‫د�س���اتري الإن�ص���اف‪« :‬وهذا وه ٌم باطل وهو غالب على �أكرث‬
‫املرجعيات القيميّة‪ ،‬يوجهه �إىل �أ�ساطني احل�ضارة اليونانية‪،‬‬ ‫اخلل���ق‪� ..‬أبدا يعرفون احل���ق بالرجال وال يعرف���ون الرجال‬
‫وك���م نحن يف حاج���ة �إىل �إع���ادة �إنتاج ذلك الدر�س �ص���وب‬ ‫باحلق وه���و غاية ال�ض�ل�الة»‪ .‬فلي�س اف�ت�راء وال جمازفة �أن‬
‫�أ�ساطني الثقافات الكونية الراهنة‪.‬‬ ‫نعترب الغزايل رائد ًا بني دعاة كونية املعرفة رغم خ�صو�صية‬
‫الثقافة‪ ،‬ورائد ًا بني دعاة االعرتاف بالآخر‪.‬‬
‫عن�صرية اللغة‬ ‫�َنُ وتتوات ُر منافحاتُ الرّواد عنه‪ ،‬و�س���ي�أتي ‪-‬‬‫و�س���يطّ رد ال�سَّ نَ ُ‬
‫غ�ي�ر بعيد ‪ -‬من يعطي �أروع الأمثلة يف �ص���هر الثقافات بغية‬
‫فه���ذا ابن ح���زم (‪ 456-384‬هـ) ‪ -‬وهو الأديب‪ ،‬واملف�س���ر‪،‬‬ ‫ا�ست�ص���فاء نُ�سغها الإن�س���اين اخلال�ص‪ ،‬و�س���ينهل من ثقافة‬
‫والقا�ضي‪ ،‬واملنظّ ر يف باب �أ�صول الفقه‪ ،‬واحلري�ص على �أن‬ ‫اليون���ان �أيمّ ا نهلٍ وهو الإمام يف �ش����ؤون الدين والعقيدة‪ ،‬بل‬
‫يكون عنوان م�صنّفه �شاهد ًا على ر�ؤيته اجلامعة من «الإحكام‬ ‫وهو احلاكم بني �أفراد الرعية على من�ص���ة قا�ضي الق�ضاة‪،‬‬
‫يف �أ�ص���ول الأح���كام»‪ -‬يقول‪« :‬وقد توهم ق���وم يف لغتهم �أنها‬ ‫�س���ي�أتي �أبو الوليد بن ر�شد فيُفتي يف الق�ضايا الفل�سفية التي‬
‫يخ�ص����ص القوم الذين‬ ‫�أف�ض���ل اللغات» وهو هنا يتلطف فال ّ‬ ‫ظلت معلّقة منذ �أر�س���طو‪ ،‬و�س�ت�رث الثقافة الالتينية تركته‬
‫يعنيه���م‪ ،‬وهذا منه كيا�س���ة لي�س �إال‪ ،‬لأنه يق�ص���د �أهل الدار‬ ‫املعرفية فتق ّر له بالف�ض���ل‪ ،‬وتقول قولتها التي �سرت م�ضرب‬
‫من �أبناء ثقافته العربية قطعاً‪ .‬ثم ي�ستطرد �شارح ًا م�ستدالً‪:‬‬ ‫الأمثال‪« :‬لئن كان الذي ف�س��� ّر الطبيعة هو �أر�سطو ف�إن الذي‬
‫وهذا ال معنى له‪ ،‬لأن وجوه الف�ض���ل معروفة‪ ،‬و�إمنا هي بعمل‬ ‫ف�س ّر �أر�سطو �إمنا هو ابن ر�شد» كان ابن ر�شد(‪ 595-520‬هـ)‬
‫�أو اخت�ص���ا�ص‪ ،‬وال عم���ل للغة‪ ،‬وال جاء ن�ص يف تف�ض���يل لغة‬ ‫�أمارة فريدة يف ت�ش���ييد ميثاق االعرتاف بالآخر املف�ضي �إىل‬
‫احل�ضارة‬ ‫على لغة‪ ،‬وقد قال تعاىل «وما �أر�س���لنا من ر�س���ول �إال بل�س���ان‬
‫قومه ليبينّ لهم» وقال تعاىل «ف�إمنا ي�سّ ���رناه بل�سانك لعلهم‬
‫التنوع احل�ض���اري اخلالق عرب تعدد الأل�سنة املنقول بع�ضها‬
‫�إىل بع�ض‪ ،‬و�إذ هو يدبّج ف�صل املقال بكفاءة عقالنية فا�صمة‬
‫ال�سوية �إذا‬ ‫يتذك���رون» ف�أخرب �أنه مل ُين���زل القر�آن بلغة العرب �إال ليفهم‬ ‫يقرر جُ مّاع ما ي�ص���ل داخل الإن�س���ان كيانه الفل�سفي بكيانه‬
‫ذلك قومه عليه ال�سالم ال لغري ذلك‪.‬‬ ‫الروح���اين‪ ،‬ويالحم ب�ي�ن وجوده الت�أملي ووج���وده الإمياين‪،‬‬
‫اكتملت‬ ‫ولكن اب���ن حزم يحوّل وجهة الإ�ش���كال فيخرج به من دائرة‬ ‫�إذا به يعيد �ص���وغ ميثاق املواثيق ويحيي د�س���تور الد�س���اتري‪،‬‬
‫حترر �أهلها‬ ‫الثقاف���ة اخلا�ص���ة ‪ -‬التي هي ثقاف���ة الأنا مبا �أن �ص���احبنا‬ ‫يف �إن�صاف ح�ضاري مت�ألق‪ ،‬ويف �سم ّو �أخالقي لطاملا تفتقده‬
‫اب���نٌ لها ‪ -‬ويلج ب���ه الأفق الإن�س���اين الأرح���ب فيُطلعنا على‬ ‫الإن�سانية يف زمننا اجلديد‪.‬‬
‫من مركبات‬ ‫�أن الوهم وه ٌم ح�ض���اري �ش���ائع‪ ،‬و�أن اخلط����أ يف هذا املجال‬ ‫«يج���ب علينا �إن �ألفينا ملن تقدمنا من الأمم ال�س���الفة نظر ًا‬
‫اخلوف‬ ‫ِملمّا يرتكبه جهابذة الفكر الب�ش���ري �أحياناً‪ ،‬ذلك �أن ال�سبب‬ ‫يف املوج���ودات‪ ،‬واعتب���ار ًا لها بح�س���ب ما اقت�ض���ته �ش���رائط‬
‫الثاوي هو مع�ضلة االن�سجام مع ن�سبيّة املرجعيّات القيميّة يف‬ ‫الربه���ان‪� ،‬أن ننظ���ر يف الذي قالوه من ذل���ك‪ ،‬وما �أثبتوه يف‬
‫على الذات‬ ‫تاريخ الإن�س���انية قاطبة‪ .‬يقول ابن حزم‪« :‬وقد غلط يف ذلك‬ ‫كتبه���م‪ ،‬فم���ا كان منها موافق ًا للحق قبلناه منهم‪ ،‬و�س���رّرنا‬
‫الثقافية‬ ‫جالينو����س‪ ،‬قال �إن لغة اليونانيني �أف�ض���ل اللغات لأن �س���ائر‬ ‫به‪ ،‬و�ش���كرناهم عليه‪ ،‬وم���ا كان منها غري موافق للحق نبّهنا‬
‫اللغات �إمنا هي ت�ش���به �إم���ا نُباح الكلب �أو نقيق ال�ض���فادع»‪.‬‬ ‫عليه‪ ،‬وحذرناهم»‪ .‬هو هذا الذي لي�ست الإن�سانية ‪ -‬بالأم�س‬
‫وال ي�ت�ردد ابن حزم يف تق���دمي الدر�س الذي به يتخلق جنني‬ ‫واليوم وغداً‪ -‬يف حاجة �إىل �شيء مثلما هي يف حاجة �إليه‪.‬‬
‫الإن�ص���اف الثقايف‪ ،‬وبه تتولد تقاليد االختالف احل�ض���اري‬ ‫احلقيق���ة ه���ي �أن العرب قد �ص���نعوا ح�ض���ارة و�أنهم ‪ -‬قبل‬
‫املخ�ص���اب‪« :‬وه���ذا جه ٌل �ش���ديد لأن كل لغ ٍة لي�س���ت لغته وال‬ ‫�ص���نعها‪ ،‬وعن���د �ص���نعها‪ ،‬وبعد �ص���نعها ‪ -‬قد تخل�ص���وا من‬
‫يفهمه���ا فه���ي عنده يف النّ�ص���اب ال���ذي ذك���ر جالينو�س وال‬ ‫املركبات الثقافية حي���ال الآخرين بعد �أن حترروا من العقد‬
‫فرق»‪.‬‬ ‫العرقي���ة ويف مقدمتها العق���دة اللغوية‪� .‬أمل يبادر �ص���احبنا‬
‫ث���م يلج ابن ح���زم بامل�س����ألة �إىل ب�ؤرتها املركزي���ة لري ّد على‬ ‫�أبو عثم���ان اجلاح���ظ (‪ 150-255‬ه���ـ) يف مقدمات كتاب‬
‫الذين قالوا «العربية �أف�ض���ل اللغ���ات لأنه بها نزل كالم اهلل‬ ‫احليوان بالقول امل�ؤكد‪« :‬والإن�سان ف�صيح و�إن عبرّ عن نف�سه‬
‫تع���اىل» فيقدم احلجج النقلية والعقلية يف ا�س���تدالل نا�ص���ع‬ ‫بالفار�س���ية �أو بالهندي���ة �أو بالرومانية‪ ،‬ولي�س العربي �أ�س���و�أ‬
‫مب�ي�ن‪ ،‬ويجع���ل العربي���ة وال�س���ريانية والعرباني���ة يف مرتبة‬ ‫فهم ًا لطمطمة الرومي من الرومي لبيان ل�سان العربي‪ ،‬فكل‬
‫الت�س���اوي من حيث القيمة املطلقة‪� ،‬إذ بجميعها نزل من اهلل‬ ‫�إن�سان من هذا الوجه يقال له ف�صيح» �إن العرب قد تخل�صوا‬
‫على ر�سله كالمه املقدّ�س‪.‬‬ ‫من عُ قدة الآخر فتخل�ص���وا بذل���ك من عقدة الذات اللغوية‪،‬‬
‫و�إن الع���رب قد �أثبتوا ب�أن احل�ض���ارة ال�س���وية ذات الأعمدة‬
‫�إن االع�ت�راف الثقايف بالآخ���ر هو املدخ���ل الطبيعي للحوار‬ ‫الرا�س���ية يف الأعم���اق هي التي �إذا اكتمل���تْ حترر �أهلها من‬
‫مع���ه‪ ،‬وهو امل�س���وّغ القدير لتزكية فعله �إذا �أن�ص���ف واعتدل‪،‬‬ ‫مركّبات اخلوف على الذات‪ ،‬وال �س���يما الذات الثقافية التي‬
‫ولالعرتا�ض عليه �إن �ش���ط ومال مع الهوى‪ .‬فلي�س من �سبيل‬ ‫�س���لطتها يف اللغ���ة‪ .‬وما من ح�ض���ارة تظ���ل متحفّزة تتحرك‬
‫ملقاومة تعميم التهمة ال�سهلة �إال برف�ض فكرة االق�صاء ليتمّ‬ ‫بهاج����س الذعر من الآخ���ر وتندفع بغريزة العداء املف�ض���ية‬
‫االنخ���راط بعد ذلك يف معركة الق�ض���اء على التطرف مهما‬ ‫�إىل مقوالت ال�ص���راع وال�ص���دام والترّ هّ ب �إال وهي ح�ضارة‬
‫يكن م�صدره وم�أتاه و�أي ًا كانت �أ�سبابه �أو تعالته‪.‬‬ ‫تفتقر يف باطنها �إىل عن�صر جوهري ير�أب ت�شققها الداخلي‬
‫ويرممّ فلول معمارها اخلارجي‪.‬‬
‫العمل الفني ‪ :‬عادل السيوي‪ -‬مصر‬

‫‬
‫عر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬

‫الطيب‪..‬‬ ‫أبا‬ ‫�‬


‫�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر‬ ‫�شعر‬

‫ِّ‬
‫�شعر �شعر‬
‫ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫عر‬
‫�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر �شعر �شعر‬ ‫عر �شعر �شعر �شعر �شعر‬

‫هات‬
‫نبوء َتك اجلديدة!‬
‫�سميح القا�سم‬

‫العمل الفني ‪ :‬ضياء العزاوي ‪ -‬العراق‬

‫‪10‬‬
‫بيت النا ِر ُم ْقتَبَلُ‬ ‫�صالتك‪ُ ،‬‬‫َ‬ ‫�أَ ِق ْم‬
‫أمن‪ ،‬والإميا ُن ُم ْقتَتَلُ‬ ‫فيه ت� ُ‬ ‫و ‬ ‫ ‬
‫أقفرت منها عقيدتُها‬ ‫يف � ّأم ٍة � ْ‬
‫أوبا�ش وال َه َملُ‬ ‫و�سا َد �أ�سيا َدها ال ُ‬ ‫ ‬
‫«�ضحكت من جهلها � مَأمٌ»‬ ‫ْ‬ ‫و�أم ٍة‬
‫و�أ َّّم بالعل ِم فيها ك ٌّل من َجهِلوا‬ ‫ ‬
‫وقد تلو ُم حبيباً زاغَ مو ِع ُد ُه‬
‫ذل‬ ‫يطيب لدي ِه اللو ُم َ‬
‫والع ُ‬ ‫فال ُ‬ ‫ ‬
‫أنت تعر ُف ُه‬ ‫زي � َ‬‫وللأعاريب ٌّ‬
‫أخفت ا ُحللَلُ ؟‬ ‫أتعرف ماذا � ِ‬ ‫لكن‪ُ � ،‬‬ ‫ْ‬ ‫ ‬
‫�صالتك‪ ،‬قرطا�ساً بال ق َل ٍم‬ ‫َ‬ ‫�أَ ِق ْم‬
‫واخليلُ والليلُ ‪ ،‬ما ر�ؤيا؟ وما � َأملُ ؟‬ ‫ ‬
‫ت�صافحها‬
‫ُ‬ ‫كف‬
‫ني �إىل ٍّ‬ ‫وما احلن ُ‬
‫اخليبات حُ ْمتَ َملُ ؟‬
‫ُ‬ ‫وكلُّ ما تل ُد‬ ‫ ‬
‫أهل فال امر�أ ٌة‬ ‫ديار َك من � ٍ‬ ‫َخ َو ْت ُ‬
‫ال» وال َر ُجلُ‬ ‫بال�ضيف «يا �أه ً‬‫ِ‬ ‫ت�صيح‬
‫ُ‬ ‫ ‬

‫‪11‬‬
‫ريحها َقلَقاً‬ ‫زود َ‬ ‫الهواج�س‪ِّ .‬‬
‫ِ‬ ‫فتى‬ ‫عر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫الريح تَنت ِقلُ‬
‫ �إ َّيل َعدوا ُه فوق ِ‬ ‫ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫كوفتك اخل�رضاء مقرب ٌة‬ ‫َ‬ ‫قباب‬
‫ُ‬
‫�شعر‬ ‫�شعر‬
‫�شعر �شعر‬ ‫عر‬
‫�شقيق ِ‬
‫احلزن ُمعتَقَلُ‬ ‫ورامتي يا َ‬ ‫ ‬ ‫ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر �شعر �شعر‬ ‫عر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫وللغزا ِة من البيدا ِء ما رغبوا‬
‫ينوء ال�سهلُ وا َجلبَلُ‬ ‫وبالطغا ِة ُ‬ ‫ ‬
‫نفور َك وال ُ‬
‫أغالل باهظ ٌة‬ ‫�أخا العروب ِة‪ ،‬ما زالت بال َع َر ٍب‬
‫وما ُ‬
‫وما جموحي وحويل الي� ُأ�س واملَلَلُ ؟‬ ‫ ‬ ‫والع َملُ‬ ‫ولل ِ‬
‫أجانب فيها الر� ُأي َ‬ ‫ ‬
‫�أبا الق�صائ ِد‪ ،‬نَ ْ�صل اليُتم �أَدر َكها‬ ‫�ص‬‫ُر�ص ٌة ف َُر ٌ‬
‫تاحت ف َ‬ ‫ِ‬
‫وللعقارب ْ‬
‫رح يُتمي بها هيهات ين َد ِملُ‬ ‫ِ‬
‫فللم�صائب من َحلّوا ومن رحلوا!‬ ‫ ‬
‫وج ُ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫ناديت بغدا َد من ُجبّي ووح�شتِ ِه‬ ‫ُ‬
‫‪f f f‬‬

‫تن�س ِد ُل‬ ‫بالقد�س بغدادي فبا َغتَني‬ ‫ِ‬ ‫يمَ َّ ْم ُت‬


‫ناديت ب�رص َة والآفاقُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫مو�صلَ ‪ .‬ما ر َّد ْت‪ .‬وال جَنَ ٌف‬ ‫ناديت ِ‬ ‫ت�شفع َيل املُثُلُ‬
‫نب ومل ْ‬ ‫بغ�ض وغ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ ‬
‫ُ‬
‫الذئب ال يَ ِ�صلُ‬ ‫ِ‬ ‫�صوت عوا ِء‬ ‫ِ‬ ‫وغري‬ ‫ ‬ ‫جب بفل�سطيني‪ ،‬فما �س�ألوا!‬ ‫ومل �أُ ْ‬ ‫ ‬
‫�ضاع مو ِع ُد ُه‬ ‫فلول‪ ،‬كيف �أنعتُها‬ ‫وحا�رصتْني ٌ‬
‫ر�س َ‬ ‫ولل�شنا�شيل ُع ٌ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫وللفرات � ٌأب يف ال�شا ِم َم ْر َق ُد ُه‬ ‫وقد رمتني بها �أيّ ُامك الأُ َو ُل‬ ‫ ‬
‫وان»‪ .‬ال عراقَ هنا!‬ ‫عب بُ ٍ‬‫«�ش َ‬ ‫بلغت ِ‬ ‫ُ‬
‫ن�ش ِغلُ ؟‬‫فمن �أنادي‪ ،‬وعنّي الكو ُن ُم َ‬ ‫ ‬
‫‪f f f‬‬
‫�شعر؟ وما َز َجلُ ؟‬ ‫وال رفاقَ ‪ ..‬فما ٌ‬ ‫ ‬
‫منك طيّب ٌة‬ ‫�أبا الق�صائ ِد‪ .‬هل يل َ‬ ‫مهجنَ ٌة‬
‫أخالط َّ‬ ‫ُر�س و� ٌ‬ ‫رو ٌم وف ٌ‬
‫تر ُّد روحي‪ ،‬ويحلو بعدها ال َأجلُ ؟‬ ‫ ‬ ‫ال�سبُلُ‬
‫بيتك ُ�س َّد ْت دو َين ُّ‬ ‫وحول َ‬ ‫ ‬
‫خ�صب وعافي ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫عت نهرين‪ .‬من‬ ‫أر�ض الد ِّم منبتُنا‬ ‫ابن احل�سنيِ‪ ،‬و� ُ‬ ‫يا َ‬
‫�أب َد َ‬
‫عيني يَن َه ِملُ‬ ‫َ‬ ‫وابن احل�سنيِ‪� ،‬أنا‪ ،‬بالد ِّم �أ ْغتَ ِ�سلُ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫نهريك من َّ‬ ‫ودمع‬
‫ُ‬ ‫ ‬
‫أو�صال مق َّطع ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫وملء واديك �‬ ‫ُتلت غدراً‪ .‬وقتلي غيلةٌ‪ .‬وبنا‬ ‫ق َ‬
‫َ‬
‫واديك‪ ،‬وا َحل َملُ !‬ ‫َ‬ ‫الذئب يف‬
‫ُ‬ ‫وا�ستفر�س‬
‫َ‬ ‫ ‬ ‫املوت يكت ِملُ‬ ‫ني بعد ِ‬ ‫�صاب بعث ِ‬ ‫نِ ُ‬ ‫ ‬
‫�سخرت‬ ‫عذاب �إذا ا�ستثقلتُ ُه‬ ‫وبي‬ ‫م�ضاج ِعهم‬‫ِ‬ ‫نار يف‬ ‫أنت‪ٌ .‬‬ ‫أنت ما � َ‬ ‫و� َ‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫ومنكم �أُث ِقلَ الثِّقَلُ‬
‫ال�شعوب‪ُ ..‬‬ ‫منّي‬ ‫ ‬ ‫حناجرهم‬ ‫ُ‬ ‫فانهالت‬
‫ْ‬ ‫قالوا تنبَّ� َأت‬
‫ُ‬
‫طوى العراقَ مبا ال �أ�شتهي نب�أٌ‬ ‫خناجر ُهم‪ .‬قالوا‪ .‬وقد ف ََعلوا‬ ‫َ‬ ‫تغوي‬ ‫ ‬
‫وجهي ا َخل َجلُ‬ ‫جزعت منه‪ ،‬و�أدمى‬ ‫ ‬ ‫وكم تنبّ�أت �أن تعرى َمقاتِلُهم‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫لحوا مبن َقتَلوا!‬ ‫وكم تنبَّ�أت �أن يُ َ‬ ‫ ‬
‫طاب منبَ ُع ُه‬ ‫من كان �شعباً عريقاً َ‬
‫‪f f f‬‬
‫‪12‬‬
‫قول لبي ٍد ُج َّن عاقلُها‬ ‫فما �أَ ُ‬ ‫طوائف ن َّز ْت بينَها نِ َحلُ‬ ‫َ‬ ‫غدا‬ ‫ ‬
‫أنث ا َجل َملُ‬ ‫وا�ستذكرت ناق ٌة وا�ست� َ‬ ‫ْ‬ ‫ ‬ ‫رايات ُم َذ َّهبَ ٌة‬‫وللمذاهب ٌ‬ ‫ِ‬
‫القول َم�ضيَ َع ٌة‬ ‫أقول‪ .‬ووقت ِ‬ ‫وما � ُ‬ ‫نفط بها �أتبا ُعها ث ِملوا‬ ‫وك� ُأ�س ٍ‬ ‫ ‬
‫ني حَمَوا تاريخ ُهم لغ ٍد‬ ‫يف حُمبَط َ‬ ‫وكلُّ �أ ٍّم على الأبنا ِء الئب ٌة‬
‫أم�سهِم َ�سبَلوا‬ ‫وجمَّدوا اليو َم ما يف � ِ‬ ‫ ‬ ‫�شيخ على �أحبابِ ِه َو ِجلُ‬ ‫وكلُّ ٍ‬ ‫ ‬
‫يت على �أم ٍر بهم َ�صلُبوا‬ ‫ارتخ َ‬ ‫�إذا َ‬ ‫بيت على �أبواب ِه َه ِل ٌع‬ ‫وكلُّ ٍ‬
‫ُبت على �أم ِر ل ُهم َه ِدلوا‬ ‫و�إن َ�صل َ‬ ‫ ‬ ‫درب بوادي ِ‬
‫املوت ُمتَّ ِ�صلُ‬ ‫وكلُّ ٍ‬ ‫ ‬
‫وردت فق َْط ُر املا ِء جانبَ ُهم‬ ‫َ‬ ‫و�إن‬ ‫وللغزا ِة ُه ٌ‬
‫راء �سرِ ُّ ُه َ�س َف ٌه‬
‫فغيث عندهم َه ِطلُ‬ ‫و�إن َ�ص َد ْر َت ٌ‬ ‫ ‬ ‫وللبُغا ِة ِم ٌ‬
‫راء لُبُّ ُه َم َطلُ‬ ‫ ‬
‫أقول ملن كنّا لهم مث ً‬
‫ال‬ ‫وما � ُ‬ ‫�سادر �أَ�شرِ ٌ‬‫علوج ٌ‬ ‫قطيع ٍ‬ ‫فذا ُ‬
‫�رضب املَثَلُ‬
‫وباملوت فينا يُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫حيّاً‪،‬‬ ‫ ‬ ‫أجالف يحتَ ِفلُ‬‫قطيع من ال ِ‬ ‫وذا ٌ‬ ‫ ‬
‫قول وعني الده ِر تَ ْرقُبُنا‬ ‫وهل �أَ ُ‬ ‫عباءتِ ِه‬ ‫قلب‪ ،‬يف َ‬ ‫ني نارينِ ٌ‬ ‫وب َ‬
‫أجيال �ستعقُبُنا‬ ‫قول ل ٍ‬ ‫وما �أَ ُ‬ ‫الو ِهلُ‬‫تدفَّ�أَ ا ِحل ُّب دهراً واحتمى َ‬ ‫ ‬
‫عن اجلدو ِد؟ فهل َج ّدوا؟ وهل هزلوا؟‬ ‫‪f f f‬‬

‫جابت جنوماً حولنا � مَأم ٌ‬ ‫أقول ْ‬ ‫� ُ‬ ‫ال�رضيح وق ُْم‬ ‫َ‬ ‫�أبا الق�صائ ِد ق ُْم‪�ُ .‬ش ّق‬
‫وجلُّ غايتنا الأغنا ُم والإبِلُ ؟‬ ‫ُ‬ ‫ ‬ ‫ت�ستوجب ال ِعلَلُ‬
‫ُ‬ ‫املوت ما‬ ‫ولقّن َ‬ ‫ ‬
‫ن�سيت‬
‫ْ‬ ‫أبوح ب�أنّا ِم َّل ٌة‬ ‫وهل � ُ‬ ‫نبوءتك الأخرى على َع َج ٍل‬ ‫وقُل َ‬
‫جذورها‪ ،‬ف�إذا �أبنا�ؤها ِملَلُ ؟‬ ‫َ‬ ‫ ‬ ‫فبني حزين وخويف خاف ٌق َع ِجلُ‬ ‫ ‬
‫لهيب لَ ُه‬ ‫�أم �أكتُ ُم الربقَ �ضوءاً ال َ‬ ‫ناي ُمتَّ َ�س ٌع‬ ‫ِ‬
‫وللكواكب يف يمُ َ‬
‫يبوح �شهاباً نَ ْ�س ُل ُه ُ�ش َعلُ ؟‬ ‫وبي ُ‬ ‫ ‬ ‫وعند يُ�رساي للأقما ِر ُمنتَ َج ٌع‬
‫ت�شماً‬ ‫ال�صمت حُم ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقد �أفو ُز ِ‬
‫بطيب‬ ‫وللخليق ِة يف �صدري عال نُ ُز ُل‬ ‫ ‬
‫يطيب على علاّ ت ِه ال َف َ�شلُ !‬ ‫وقد ُ‬ ‫ ‬ ‫ألف �شارد ٍة‬ ‫�أبا الق�صائ ِد‪ .‬عندي � ُ‬
‫‪f f f‬‬ ‫ي�سهر ال َّزغَلُ‬
‫اخللق‪ ..‬لكن ُ‬ ‫وي�سهر ُ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫تاجان‪ .‬من َك ِل ٍم‬ ‫ِ‬ ‫�صاحب التاج‪ .‬يل‬
‫َ‬ ‫يا‬ ‫وال �أنا ُم و�آفاقُ الردى َق َل ٌق‬
‫عال‪ .‬ومن �أَلمَ ٍ‪� .‬أُهوي وال �أَ ِ�صلُ‬ ‫ٍ‬ ‫ ‬ ‫وبالرما ِد جفوين ا ُحلمر تكتَ ِحلُ‬ ‫ ‬
‫ويل بال ٌد �إىل العليا ِء طاحمَ ٌة‬ ‫وا�ستغثت ب ِه‬
‫ُ‬ ‫نجى‪.‬‬
‫آمنت باهلل َم ً‬ ‫� ُ‬
‫طافح ٌة‬
‫بفي�ض اخل ِري َ‬ ‫ويل بال ٌد ِ‬ ‫الر ُ�سلُ‬ ‫وبال�سما ِء‪ ،‬وما َ‬
‫جاء ْت به ُّ‬ ‫ ‬
‫وكلُّ ما ظلَّ يل من ِ‬
‫غي�ضها َو َ�شلُ‬ ‫ ‬ ‫أبوح ب ِه‬ ‫بال�صمت �رسٌّ ال � ُ‬ ‫ِ‬ ‫وال َذ‬
‫أغراب يف وطني‬ ‫وطالع ال�سعد لل ِ‬ ‫ُ‬ ‫ال�صد ِر يَعتَ ِملُ‬ ‫يف�ضح ما يف َّ‬
‫ُ‬ ‫وال�صمت‬
‫ُ‬ ‫ ‬

‫‪13‬‬
‫دوار البَ ْح ِر وا َجلفَلُ‬ ‫وعند ِ�ض ِّدي ُ‬ ‫ ‬ ‫عر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫الروح ُمرتوياً‬ ‫ِ‬ ‫وكم َعبَ ْب ُت َ‬
‫زالل‬ ‫ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫ي�ش ُّق الوِر ُد والنَّ َهلُ‬ ‫�سواي ُ‬ ‫َ‬ ‫ويف‬ ‫ ‬
‫�شعر‬ ‫�شعر‬
‫�شعر �شعر‬ ‫عر‬
‫دت بوجه البغي وانك َف�أوا‬
‫ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫وكم َ�ص َم ُ‬ ‫�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر �شعر �شعر‬ ‫عر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫وكم َ�ص َد ْد ُت غوى الغاوي وكم َقبِلوا‬ ‫ ‬
‫ونبَّهوين �إىل ما ينبغي‪�َ ،‬ش َططاً‬ ‫م�صباحها ُز َحلُ‬ ‫ُ‬ ‫وطالعي ُغرب ٌة‬ ‫ ‬
‫ويو َم نبَّهتُ ُهم عن حكم ٍة َغ ِفلوا‬ ‫ ‬ ‫ِ‬
‫وللحراك �أ�ساطريٌ ُمل َّف َق ٌة‬
‫وقُلت فيهم كالماً طيباً َغ ِز ًال‬ ‫ال�شلَلُ‬
‫وللحقائقِ من تاريخنا ّ‬ ‫ ‬
‫وهم َه َجوين‪ .‬ويف ترثيِبِهم َغ َز ُل!‬ ‫ ‬ ‫ونار دمي‬ ‫قلبك يف قلبي‪ُ .‬‬ ‫ونور َ‬ ‫ُ‬
‫يبي الأ�صلُ ‪ ،‬مو�صو ًال به ن�سبي‬ ‫و َع َ‬ ‫غ�شى ُحزنَ ُه َطفَلُ‬ ‫موتك ّ‬ ‫من نا ِر َ‬ ‫ ‬
‫ال�شعر ُهم نُ ِ�سلوا‬ ‫ومن حظرية «دوللي» ِّ‬ ‫ ‬ ‫التاج هيبَتُ ُه‬ ‫يا �صاحب التاج‪َ .‬ع ْد ُل ِ‬
‫أخاك‪ .‬حلريف راي ٌة َ�ش َم َخ ْت‬ ‫�أنا‪َ � .‬‬ ‫املوت عد ًال فوقَ من َع َدلوا!‬ ‫و�إ َّن يف ِ‬ ‫ ‬
‫املنابر �أغوتْها وال ال ُقلَلُ‬ ‫فال ُ‬ ‫ ‬ ‫املوت‪ .‬من دنيا لآخر ٍة‬ ‫ونحن يف ِ‬ ‫ُ‬
‫همني «نَ َظر الأعمى �إىل �أ َدبي»‬ ‫ما َّ‬ ‫عر ُه الأَ َز ُل‬ ‫بعث ِ�ش ُ‬ ‫املوت ٌ‬ ‫آخر ِ‬ ‫و� ُ‬ ‫ ‬
‫قلت فاقتتلوا‬ ‫اخللق بي‪� ..‬أو ُ‬ ‫و� َآم َن ُ‬ ‫ ‬ ‫املوت قافي ٌة‬ ‫و�أ�سعف ْتني بوادي ِ‬
‫علوت بِ ِه‬
‫ُ‬ ‫ُلك من نو ٍر‬ ‫همني امل ُ‬ ‫ما َّ‬ ‫أبيات وا ُجل َملُ‬ ‫فدانت لها ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫ع َّز ْت‬ ‫ ‬
‫النا�س من َ�س ِفلوا‬ ‫ثيب ُ‬ ‫ويف الظال ِم يُ ُ‬ ‫ ‬ ‫وناو�ش ْتها �أفاعي اللغو عاري ًة‬
‫ويف بالدي وحو�ش الغزو �سائب ٌة‬ ‫حاولت ِحيَلُ‬ ‫ْ‬ ‫واكت�ست ما‬
‫ْ‬ ‫من جلدها‪،‬‬ ‫ ‬
‫�صل يَبتَهِلُ‬ ‫لرب النَّ ِ‬ ‫وحلم �شعبي ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬ ‫وجبَّها ُجحرها خزياً على َكل ٍَل‬
‫غا�صبها‬ ‫دون ِ‬ ‫ر�صا�ص َ‬ ‫ٌ‬ ‫ومن متوري‬ ‫ومل يطاو ِْل ن�شيدي جاحماً َكلَلُ‬ ‫ ‬
‫ر�صا�ص فاتَ ُه الأُ ُكلُ‬ ‫ٌ‬ ‫وللغزا ِة‬ ‫ ‬ ‫الوح�ش �ألبَ ُ�س ُه‬ ‫ِ‬ ‫ريت‪ .‬فجل ُد‬
‫�إذا َع ُ‬
‫�أنا النخيلُ ‪ .‬وبي من دجلتي َع َ�ص ٌب‬ ‫الوب�ش �أنتَ ِعلُ‬‫حفيت‪َ ،‬فو ْج َه ِ‬ ‫ُ‬ ‫و�إن‬ ‫ ‬
‫ومن فراتي د ٌم‪� .‬أدعو فَيَمتَثِلُ‬ ‫ ‬ ‫فقلب الي�أ�س �أنز ُع ُه‬ ‫قيت ُ‬ ‫و�إن َ�ش ُ‬
‫دى‬ ‫وال�سالح ُ�س ً‬ ‫ُ‬ ‫أدفع �رشّاً‬
‫وكيف � ُ‬ ‫َ‬ ‫ر�ضيت فقربي ُمز ِه ٌر َخ ِ�ضلُ‬ ‫ُ‬ ‫و�إن‬ ‫ ‬
‫اب والأَ َ�سلُ ؟‬ ‫الن�ش ُ‬
‫ال�صواريخ‪ ،‬ما ّ‬ ‫ُ‬ ‫هنا‬ ‫ ‬ ‫املوت من عليائ ِه َج ِذ ًال‬ ‫أنزل َ‬ ‫و� ُ‬
‫أنقا�ض منزلنا‬ ‫وللغزا ِة على � ِ‬ ‫�ضاحك َج ِذ ُل‬ ‫ٌ‬ ‫وهيكلُ العظ ِم عندي‬ ‫ ‬
‫مميت‪ .‬دمي يف َخ ْم ِر ِه َم َهلُ‬ ‫ر�س ٌ‬ ‫ُع ٌ‬ ‫ ‬ ‫الرحمن �أب َد َع ُه‬ ‫ُ‬ ‫و�صوت قلبي كما‬
‫ُ‬
‫أبراج رايتُ ُهم‬ ‫أ�شالء حلمي على ال ِ‬ ‫� ُ‬ ‫ال�صوت ُمنتَ َحلُ‬ ‫ِ‬ ‫�ستعار‬
‫و�شانئي‪ُ ،‬م ُ‬ ‫ ‬
‫�صعدت ب�أ�شالئي فقد نزلوا‬ ‫ُ‬ ‫و�إذ‬ ‫ ‬ ‫هاج مائِ ُجها‬ ‫بحور َ‬ ‫وحتت �صدري ٌ‬
‫‪14‬‬
‫لعلَّ بعثاً يواتيهم مبا بَذَلوا‬ ‫ ‬ ‫وي�سهرون على �سجنٍ �أنا ُم بِ ِه‬
‫اجلفون‪ُ ،‬ه ُم الأ�رسى وبي ُع ِقلوا ويا جنوين اقتَ ِ�ص ْد ما ظلَّ من َعلَمي‬ ‫ِ‬ ‫ملء‬
‫َ‬ ‫ ‬
‫ويا جنوين �أغثني من جنون َدمي‬ ‫مددت يدي‬ ‫ُ‬ ‫ال كم‬‫ولل�سال ِم نبي ً‬
‫ومن جحيم فمي‪� ..‬أخبو في�شتَ ِعلُ‬ ‫ ‬ ‫ال عن يدي َق َفلوا‬ ‫وللخ�صا ِم ذلي ً‬ ‫ ‬
‫للحب مملك ًة‬ ‫ِّ‬ ‫ويا جنوين �أ ِق ْم‬ ‫لم بِهِم‬ ‫ويب�سلون على ي� ٍأ�س يُ ُّ‬
‫وللحيا ِة �أ ِد ْم ما تُله ُِم القُبَلُ !‬ ‫ ‬ ‫ويجبنون �إذا ما َ�ش ْع َ�ش َع الأَ َملُ‬ ‫َ‬ ‫ ‬
‫‪f f f‬‬ ‫ا�ص ال ِّدما ِء متى‬ ‫م�ص ِ‬‫حال ّ‬ ‫�أحالُهم ُ‬
‫معت�صماً‬ ‫إن�سان ِ‬ ‫آمنت باهللِ وال ِ‬ ‫� ُ‬ ‫هوت من ِج ْ�س ِم ِه ُكتَلُ ؟‬ ‫النهار ْ‬ ‫ُ‬ ‫عال‬ ‫ ‬
‫بحبل خال ِق ِه‪ .‬يكبو‪ ،‬ويعتَ ِد ُل‬ ‫ِ‬ ‫ ‬ ‫‪f f f‬‬

‫وح�سبي اهللُ‪ .‬يف ُحزين ويف َغ َ�ضبي‬ ‫َ‬ ‫ان من َع َر ٍب‬ ‫ابن ا ُحل َ�سينْ ِ‪ُ .‬ح َ�سينيّ ِ‬ ‫يا َ‬
‫أزم ْع ُت �أتَّ ِكلُ‬
‫على ر�ضا ُه مبا � َ‬ ‫ودالت بنا يا �صاحبي ال ُّد َو ُل ‬ ‫ْ‬ ‫ِ�صي ٍد‪.‬‬ ‫ ‬
‫و�إنني ُمز ِم ٌع تبدي َد غا�شي ٍة‬ ‫حت‬ ‫فكيف نُغ�ضي على مكروه ٍة َف َد ْ‬ ‫َ‬
‫وا�ستفحلَ ا َخل َطلُ‬ ‫َ‬ ‫ال�صواب بها‬
‫ُ‬ ‫�ضلَّ‬ ‫ ‬ ‫ن�صرب عن ذ ٍُّل ونَحت ِملُ ؟‬ ‫وكيف ُ‬ ‫ ‬
‫�أبا الق�صائ ِد فاب�سط راح ًة ْ‬
‫تعبت‬ ‫وبي جنونُ َك‪ُ .‬ح ّراً َج َّب من �سبقوا‬
‫أقالمها‪ .‬ودوا ُة احل ِرب تختَز ُِل‬ ‫ � ُ‬ ‫طوق من راغوا ومن َو َ�صلوا‬ ‫و�شب عن ِ‬ ‫ّ‬ ‫ ‬
‫�أبا الق�صائد‪ .‬وابن الرافدين‪� .‬أنا‬ ‫�سيف ودولتُ ُه؟‬ ‫وبي جنوين‪ .‬فما ٌ‬
‫ذابك‪ .‬ال َر ْذ ٌم‪ .‬وال بَ َطلُ‬ ‫ �أخو َع َ‬ ‫الوقوف مبا ال يُ�س� ُأل ال َّطلَلُ ؟‬ ‫ُ‬ ‫وما‬ ‫ ‬
‫عذابك‪ .‬ما �أله ْت ُه ُمغري ٌة‬ ‫َ‬ ‫�أخو‬ ‫كافور ت�ست�رشي �إقامتُ ُه‬ ‫َ‬ ‫ون�سلُ‬
‫ويف غيابِ َك‪ ..‬ال ين�أى ويعتَز ُِل‬ ‫ ‬ ‫واحلب يمُ ْ ِحلُ والإن�سا ُن يرتحَ ِلُ !‬ ‫ُّ‬ ‫ ‬
‫ركانان من َغ َ�ض ٍب‬ ‫ِ‬ ‫نحن‪ ،‬بُ‬
‫ونحن ما ُ‬ ‫ُ‬ ‫وها �أنا َطلَلٌ م�أ�ساتُ ُه َعبَ ٌث‬
‫الع َ�سلُ‬
‫ُم ٍّر‪ ،‬لري�ضى على �صحرائنا َ‬ ‫ ‬ ‫يف ُحلمه َعبَ ٌث‪ .‬يف ي� ِأ�سه َعبَ ٌث‬
‫كفلت‬
‫وال�شعب الذي ْ‬ ‫ُ‬ ‫وح�سبُنا اهللُ‪.‬‬ ‫واملوت ُمبتَذ َُل‬
‫ُ‬ ‫عبث‪.‬‬ ‫وعي�ش ُه ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫أين المَينْ ُ وال َّزلَلُ ؟‬‫احلق‪َ � ،‬‬ ‫قبور ُه َّ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬ ‫يف رام ٍة َعبَ ٍث �أو كو َف ٍة َعبَ ٍث‬
‫جتم ُعنا‬ ‫نار ا ُحللم َ‬ ‫وح�سبُنا اهلل‪ُ .‬‬ ‫من � َّأم ٍة مل يَه ِْجها خطبُها ا َجللَلُ‬ ‫ ‬
‫�شاءتْنا‪ ،‬فما ا َجل َد ُل‬ ‫يف جنَّ ِة ا ُحلل ِم‪َ .‬‬ ‫ ‬ ‫ال ملن جهلوا‬ ‫اجت ِْح عق ً‬ ‫فيا جنوين رَ‬
‫وكلُّ من ثابروا يف َ�س ْعيِهِم‪َ ..‬و َ�صلوا!‬ ‫ ‬ ‫اجلنون دليلٌ للأوىل َع ِقلوا‬ ‫َ‬ ‫ �أن‬
‫نحن هنا‬
‫ان ُ‬ ‫ابن ا ُحل�سنيِ‪ُ ،‬ح َ�س ْينيّ ِ‬ ‫يا َ‬ ‫حم بال ّطل ِْع بادي ًة‬ ‫ويا جنوين اقتَ ْ‬
‫نحن نَ ْرتجَ ِلُ !!‬ ‫هناك‪� ،‬سوى ما ُ‬ ‫وال َ‬ ‫ ‬ ‫وجابِ ِه الليلَ بالعني التي َ�س َملوا‬ ‫ ‬
‫ويا جنوين �أَثِ ْر موتى ق ََ�ضوا عبثاً‬
‫(الرامة‪�-‬إبريل‪ /‬ني�سان ‪)2007‬‬ ‫ ‬
‫‪15‬‬
‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫«الأمل هو �أقوى م�ساعد على تقوية الذاكرة»(‪ ،)1‬هكذا قال‬ ‫هل للمر�ض ذاكرة؟‬
‫نيت�شه يف «جينالوجيا الأخالق»‪ ،‬لأن الأمل ينطبع يف الذاكرة‬ ‫قد يبدو هذا الربط بني املر�ض والذاكرة م�ستغرباً‪،‬‬
‫بقوة جتعلنا نحتفظ بفكرة عنه‪« ،‬ووحدها الأ�شياء التي ال تفت�أ‬
‫ت�ؤملنا تبقى يف الذاكرة»‪ .‬ال لأنه �شيء ي�ؤملنا فح�سب‪ ،‬بل لأنه‬ ‫�إال �أنه من البداهة بحيث ال يحتاج �إىل تو�ضيح �أو‬
‫�شيء يرتك �أثر ًا ال ميحى يف �أج�سادنا‪.‬‬ ‫ا�ستدالل‪ ،‬فهل هناك من ذاكرة �أقوى من ذاكرة‬
‫يحمل الكثريون يف البحرين على �أج�سادهم ذكريات م�ؤملة‬ ‫املر�ض؟ املر�ض مبا هو اعتالل يف النف�س واجل�سد‪،‬‬
‫لأمرا�ض وبائية عنيدة انت�شرت بينهم مع �أواخر القرن التا�سع‬
‫ع�شر وبدايات القرن الع�شرين‪ ،‬ف َمنْ ِمنْ ه�ؤالء ين�سى مر�ض‬
‫و�أي�ضاً – وهذا هو الأهم – مبا هو نق�ش يف هذا‬
‫اجلدري العنيد؟ كثريون ق�ضوا نحبهم بفعل اجلدري‪ ،‬ومن‬ ‫اجل�سد‪ ،‬فما حفر على اجل�سد متتع بالدوام‪.‬‬

‫املنجل‬
‫بقي ح ّي ًا حمل مع ج�سده ذكرى هذا املر�ض على �شكل ندوب‬
‫وت� ُّشوهات دائمة يف الوجه‪ ،‬وهناك من �أ�صيب بالعمى الكامل‬
‫بفعل هذا املر�ض اللعني وقواه املد ِّمرة‪ .‬هذه الندوب املحفورة‬
‫يف الوجه هي كتابة اجلدري‪ ،‬وهذا العمى الذي يت�سبب فيه‬
‫اجلدري �أو الرتاخوما هو نق�شه وتوقيعه على اجل�سد‪ .‬وهذه‬

‫املهيب‬
‫كتابات وتوقيعات ال �سبيل �إىل اخلال�ص منها �أو حمو �آثارها‪.‬‬
‫توقيعات‬
‫هل بقي بعد هذا �شك يف �أن املر�ض هو �أ�سا�س الذاكرة؟ وهل‬
‫ين�سى �أحد توقيعات املر�ض على ج�سده الذي هو احلقيقة الأكرث‬
‫ح�ضور ًا ومبا�شرة يف عامل الدنيا؟ اجل�سد هو املكان الأكرث‬

‫ذاكرة املر�ض‬
‫قدرة على االحتفاظ ب�أر�شيف املر�ض وا�ستيداع كتاباته ونقو�شه‬
‫املهددة باالنقرا�ض‪ .‬وي�ضمن اجل�سد‪ ،‬مثل كل الأر�شيفات(‪،)2‬‬
‫�إمكانية اال�ستذكار والتكرار حيث يتنا�سخ املر�ض من ج�سد �إىل‬

‫و�أر�شيف‬
‫ج�سد بفعل العدوى �أو بفعل اجلينات الوراثية‪.‬‬
‫ولأن اجل�سد ك�أر�شيف بهذه الأهمية فقد ظهرت فكرة العقوبات‬
‫اجل�سدية مبا هي توقيعات قا�سية يحتفظ بها املرء يف ج�سده‬

‫العقوبات اجل�سدية‬
‫مبا هو �أر�شيف ومكان لإنقاذ الذاكرة من التلف‪ .‬ولنتذكر‬
‫العقوبات القدمية يف تاريخ العقاب يف العامل كالرجم وجدع‬
‫الأنف وثلم الأذن وتقطيع ال�صدر والأيدي والأطراف ومتزيق‬

‫يف البحرين‬
‫الأو�صال بوا�سطة اخليول والتعذيب باخلازوق والتحريق وال�سلخ‬
‫والرمي يف الزيت املغلي وطالء املجرم بالع�سل ثم تركه حتت‬
‫وهج ال�شم�س احلارقة يل�سعه الذباب‪...‬كل هذه عقوبات مل‬
‫تكن حمكومة بال�ضرورة بغاية االنتقام من املجرمني واجلناة‬
‫واخلارجني على القانون‪ ،‬بل بغاية النق�ش والتوقيع على اجل�سد‬
‫لتنطبع عليه �آثار ال متحى‪ ،‬ولترت�سخ هذه الآثار يف الذاكرة‪ ،‬بل‬
‫ت�صبح هي �أ�سا�س الذاكرة بحيث يتذكر املجرم �آثار العقاب‬ ‫د‪ .‬نادر كاظم‬
‫على ج�سده فريتدع ويرجع �إىل �صوابه‪ ،‬وينزجر بذلك غريه من‬ ‫كاتب من البحرين‬
‫جناة حمتملني‪.‬‬
‫ال يختلف املر�ض عن هذا النوع من العقاب اجل�سدي‪ ،‬واملر�ض‬
‫الوراثي �أ�شبه ب�إيذاء ينزله الآباء على �أبنائهم‪� .‬إال �أن الباعث‬
‫على احلرية يف املر�ض �أنه يرتك �آثاره بال غاية معروفة‪ ،‬فال‬
‫‪16‬‬
17
‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫يقوم به �آخرون هم �أكف�أ منا لهذه املهمة‪� .‬إن ما ن�سعى �إليه هنا‬ ‫تنطبع ذاكرة املر�ض يف اجل�سد بغاية التخويف والرتهيب ومن‬
‫هو ا�ستك�شاف ذاكرة املر�ض العابرة للأجيال‪ ،‬وما ميكن �أن‬ ‫�أجل االرتداع والرجوع �إىل ال�صواب‪ ،‬لأنه ال جمال لالعتبار‬
‫ن�سميه «الأر�شيف اجلماعي للمر�ض» وما له من قيمة يف درا�سة‬ ‫بعد �أن ينق�ش املر�ض �آثاره على اجل�سد؛ �إذ ما العربة يف ندوب‬
‫التاريخ االجتماعي والثقايف وال�سيا�سي وحتى اجلغرايف يف‬ ‫وت�شوهات نق�شها اجلدري على وجه �ضحاياه؟ وما العربة‬
‫البحرين‪ .‬ونحن نزعم �أن �إجناز هذا الأر�شيف �سيك�شف لنا‬ ‫يف كريات الدم حني ت�أخذ �شكل املنجل املهيب يف البحرين‬
‫حقيقة بع�ض التطورات التاريخية يف البحرين حيث كانت‬ ‫ومنطقة اخلليج؟‬
‫�أعرا�ض هذا املر�ض اجلماعي مبثابة نقطة حتول لي�س يف‬ ‫وما دام املر�ض ال ينق�ش �آثاره على �أج�سادنا بغاية االعتبار �أو‬
‫تاريخ املر�ض فح�سب‪ ،‬بل يف تاريخ البحرين وما ترافق معه‬ ‫االنتقام فهو �إذن فعل بال غاية‪ ،‬وبتعبري �آخر هو فعل عبثي‪.‬‬
‫من انتقاالت جذرية يف الو�ضع ال�سيا�سي واجلغرايف من دملون‬
‫�إىل البحرين الكربى كمنطقة بني الب�صرة وعمان وت�شمل �أوال‬ ‫ذاكرة جماعية‬
‫والقطيف والإح�ساء‪� ،‬إىل �أوال التي اخت�صت با�سم البحرين‬
‫دون �سائر املناطق الأخرى‪� ،‬إىل البحرين احلديثة التي ي�ؤرخ‬ ‫غري �أن هناك نوع ًا من الأمرا�ض يعجز حتى املوت عن حمو‬
‫لها منذ �أواخر القرن التا�سع ع�شر‪ .‬و�سيتبينّ لنا كيف يتطابق‬ ‫�آثاره التي تنطبع يف الذاكرة اجلماعية‪ ،‬وهذه هي الأمرا�ض‬
‫هذا امل�سار التاريخي يف البحرين مع �سرية ّ‬
‫التك�شف البطيء‬ ‫اجلماعية‪ ،‬كالأمرا�ض الوراثية واملتوطنة والأوبئة‪ .‬هذا النوع‬
‫والتدريجي لأعرق مر�ض جماعي عرفته هذه املنطقة‪ ،‬وهو‬ ‫من الأمرا�ض اجلماعية هو ما ي�ؤ�س�س ذاكرة جماعية للمر�ض‪،‬‬
‫املر�ض الذي امتلك قدرة ا�ستثنائية على توقيع ا�سمه بحروف‬ ‫ذاكرة عابرة للفرد الذي يتح ّول �إىل ج�سر لعبور املر�ض �إىل‬
‫‪( HBS‬ا�سم اجلني امل�س�ؤول عن الهيموجلوبني غري الطبيعي‬ ‫�ساللته من �أوالد و�أحفاد كما يف الأمرا�ض الوراثية‪ ،‬و�إىل‬
‫يف الدم)‪� .‬إنه باخت�صار فقر الدم املنجلي‪.‬‬ ‫جماعته و�أهل بلدته كما يف الأمرا�ض املتوطنة املوجودة عادة‬ ‫توقيعات‬
‫بني �سكان منطقة جغرافية معينة ويف كل الأوقات‪ ،‬وكما يف‬
‫منجل دملون‬ ‫الأوبئة التي تنت�شر بني النا�س ب�سرعة وعلى نطاق وا�سع بفعل‬ ‫املر�ض‬
‫ومبا �أن كل �شيء بد�أ قبلنا بزمن طويل‪ ،‬ف�إننا �سنبد�أ احلفر يف‬
‫العدوى‪ .‬وهذا �ضرب من �ضروب اال�ستمالك اجلماعي‪� ،‬إال �أنه‬ ‫على اجل�سد‬
‫ا�ستمالك ا�ضطراري مرغوب عنه‪ ،‬وهذا ما مي ّيزه عن بقية‬
‫ذاكرة املر�ض وتوقيعاته على �أج�ساد البحرينيني من هذا الذي‬ ‫�أ�شكال اال�ستمالكات اجلماعية الأخرى‪.‬‬ ‫هي احلقيقة‬
‫بد�أ قبلنا بزمن طويل‪ ،‬من دملون مبا هي التاريخ الأبعد املعروف‬
‫لهذا البلد بح�سب ما ك�شفت عنه التنقيبات الدمناركية يف‬
‫متتلك هذه الأمرا�ض قدرة ا�ستثنائية على التوقيع‪ ،‬على نق�ش‬
‫اال�سم على اجل�سد‪ .‬والتوقيع ينطوي على قابلية تكرار النق�ش‬ ‫الأكرث‬
‫خم�سينيات القرن الع�شرين‪ .‬ومبا �أن الن�صو�ص ال�سومرية‬ ‫وتنا�سخه من ج�سد �إىل �آخر‪ ،‬وهي �أمرا�ض ي�صح �أن نقول‬ ‫ح�ضوراً‬
‫– ويف مقدمتها «ملحمة جلجام�ش» ‪ -‬هي �أقدم ن�صو�ص‬ ‫عنها‪« :‬قل يل ما مر�ضك (الوراثي واملتوطن) �أقل لك من �أنت‬
‫يرد فيها ذكر دملون‪ ،‬فبالإمكان �أن تكون هذه الن�صو�ص هي‬ ‫و�إىل �أي جماعة تنتمي؟»‪.‬‬
‫نقطة انطالق يف هذه املهمة‪ .‬ويف هذه الن�صو�ص كانت دملون‬ ‫املر�ض بهذا املعنى لي�س قرابة متخيلة بني �أفراد جمعتهم �إرادة‬
‫امل�ضيئة واملباركة والطاهرة و�أي�ض ًا البلد الذي «ال ينعق فيه‬ ‫العي�ش امل�شرتك‪ ،‬بل هو مبثابة الهوية ال َق َدرية التي ال دخل فيها‬
‫الغراب‪ ،‬والأ�سد ال يفرت�س‪ ،‬والذئب ال يخطف احلمل‪ ،‬ال �أحد‬ ‫ال للإرادة وال للوعي‪ ،‬فهذه هوية ل�سنا خمريين فيها‪ ،‬فال �أحد‬
‫يقول‪»:‬عيناي ت�ؤملانني‪ ،‬ال �أحد يقول‪ :‬ر�أ�سي ي�ؤملني‪ ،‬ال يقول‬ ‫يختار نوع املر�ض الذي يبتلى به هو وذريته و�سكان منطقته‪ ،‬وال‬
‫العجوز‪� :‬إين عجوز»‪.‬‬ ‫�أحد يختار �شكل الندوب والت�شوهات التي يرتكها املر�ض على‬
‫ويف �أر�ض كهذه ال وجود للمر�ض وال لأي نوع من �أنواع النق�ش‬ ‫ج�سده؛ لأن املر�ض ينزل علينا كالقدر‪ .‬وما هو كذلك ال �سبيل‬
‫امل�ؤملة �أو املميتة‪ ،‬فالأ�سد ال يفرت�س‪ ،‬والذئب ال يخطف احلمل‪،‬‬ ‫�إىل دفعه �أو الهروب من �أمامه‪.‬‬
‫وال �أحد ي�شكو من �أمل العني والر�أ�س �أو ال�شيخوخة‪ .‬وهنا كان‬ ‫وحني نتحدث عن الأمرا�ض القدرية يف البحرين ف�إننا‬
‫البحر مبثابة «حزام �صحي» يلتف حول هذه اجلزيرة من جميع‬ ‫نتحدث عن ذاكرة املر�ض اجلماعية للبحرينيني‪ ،‬والتاريخ‬
‫اجلهات‪ ،‬ويحميها من كل الأمرا�ض والأوبئة‪ .‬وبهذا كانت دملون‬ ‫اجلماعي ل�سرية �أمرا�ضهم ومر�ضاهم‪ .‬وهي �سرية ممتدة‬
‫التج�سيد الأ�سمى للفردو�س الأر�ضي‪.‬‬ ‫ومت�صلة‪ ،‬ويبدو �أنها ال تعرف االنقطاعات والفجوات‪ .‬وال‬
‫وتتع ّمق هذه الذاكرة حني ترتبط بالأمل والعنف واخلراب‪ ،‬بل‬ ‫ن�سعى هنا لكتابة تاريخ الطب وال الت�أريخ للخدمات ال�صحية‬
‫�إن الأمم – كما يقول جاك دريدا – تبد�أ يف خ�ضم العنف‪.‬‬ ‫�أو لت�أ�سي�س امل�ؤ�س�سات الطبية وظهور االكت�شافات الطبية‬
‫وهكذا ابتد�أت �سرية املر�ض يف البحرين‪ ،‬وانطلق �سهم هذه‬ ‫وانخفا�ض معدالت الوفاة يف البحرين‪ ،‬فهذا مو�ضوع �آخر قد‬
‫‪18‬‬
‫وذكرها يف كتاب «احليوان» على ل�سان العامة حين ًا‪ ،‬وعلى‬ ‫الذاكرة منذ �أن خربت دملون‪ ،‬ونبذت هذه اجلزيرة �أو�صافها‬
‫ل�سان «ثقاة التجار الذين نقبوا يف البالد» حين ًا �آخر‪ ،‬وجرت‬ ‫ال�سومرية الأ�سطورية ك�أر�ض اخللود امل�ضيئة واملطهرة والنقية‬
‫معه يف موا�ضع �أخرى جمرى الأمثال كما هو ال�ش�أن حني‬ ‫واملباركة‪ .‬واحتفظت بتلك امل�ستنقعات التي جعلها �أنكي فيها‪،‬‬
‫البحرين‪ ،‬ودماميل اجلزيرة‪،‬‬ ‫«يقال يف ُح َّمى َخيرب‪ِ ،‬وطحال ْ‬ ‫والنخل الذي وهبه �إياها‪� ،‬إال �أن هذه امل�ستنقعات �صارت موطن ًا‬
‫وج َرب الزِّجن»(‪ .)5‬واحلق �أن الإ�شارة �إىل ت�ضخم طحال من‬ ‫َ‬ ‫للبعو�ض‪ ،‬فانت�شر فيها مر�ض املالريا‪ ،‬ومن �أجل مقاومة‬
‫�سكن البحرين �إ�شارة متكررة يف م�ؤلفات القدماء‪ ،‬واعترب ابن‬ ‫تقو�ست كريات الدم احلمراء يف �أحفاد‬ ‫الإ�صابة بهذا املر�ض ّ‬
‫خرداذبة ذلك من «طبائع البلدان»(‪ ،)6‬وذكر ابن عبد املنعم‬ ‫ّ‬
‫الدملونيني‪ ،‬و�أخذت �شكل املنجل (املح�ش) املهيب الذي ح�صد‬
‫العقاب‬ ‫احلمريي �أن البحرين بلدة «خم�صو�صة بتعظيم الطحال»(‪.)7‬‬ ‫النبات والب�شر مع ًا‪.‬‬
‫اجل�سدي‬ ‫وكذا ذكر �أبو من�صور الثعالبي يف كتابه «ثمار القلوب يف‬
‫امل�ضاف واملن�سوب» اخت�صا�ص �أهل البحرين بتعظيم الطحال‬
‫ومن املعروف �أن لفقر الدم املنجلي عالقة تاريخية مبر�ض‬
‫املالريا حيث حدثت طفرة �أو تغري يف تركيبة اجلينات «‬
‫ترا�ض‬
‫ٍ‬ ‫�صك‬ ‫وانتفاخ البطن‪ ،‬ونقل عن اجلاحظ قوله‪«:‬من �أقام يف البحرين‬ ‫املورثات « كو�سيلة طبيعية ملنع غزو اجل�سم مبيكروبات املالريا؛‬
‫مدة ربا طحاله‪ ،‬وانتفخ بطنه؛ كما قال ال�شاعر �آنف ًا»‪.‬‬ ‫ولهذا ال�سبب ف�إن «امل�صاب بالأنيميا املنجلية �أو حامل العامل‬
‫مع ق�سوة‬ ‫�أما ابن قتيبة فيعقد م�شابهة بني عمان والبحرين‪ ،‬ووجه ال�شبه‬ ‫الوراثي للمر�ض تكون لديه مقاومة �ضد الإ�صابة باملالريا‪ ،‬ومع‬
‫االنتقام‬ ‫يتمثل يف �أن كلتا البلدتني وبية (�أي وبيئة) و�أهلها م�صفرة‬ ‫مرور الزمن كان مر�ض املالريا يق�ضي على الأ�شخا�ص الذين ال‬
‫وجوههم مطحولون‪.‬‬ ‫يعانون من مر�ض الأنيميا املنجلية؛ لأن طفيل املالريا ّ‬
‫يف�ضل �أن‬
‫العارية‬ ‫هذه ذاكرة جماعية للمر�ض ن�شرتك فيها نحن كبحرينيني‬ ‫يعي�ش على الدم ال�سليم‪ ،‬وهكذا ترك مر�ض املالريا الأ�شخا�ص‬
‫مع �أهل القطيف والإح�ساء وكذلك مع �أهل عمان بح�سب ابن‬ ‫الذين يعانون من فقر الدم املنجلي �أو يحملون العامل الوراثي‬
‫قتيبة‪ ،‬وهي ذاكرة ت�شبكنا مع ًا‪.‬‬ ‫�أحياء وب�أعداد كبرية»(‪.)3‬‬
‫وتذكر �آن هاري�سون �أن بول هاري�سون‪ ،‬الطبيب واملب�شر يف بعثة‬ ‫ومن هذه امل�ستنقعات ت�أ�س�ست ذاكرة �أعرق مر�ض عرفته‬
‫الإر�سالية الأمريكية بالبحرين‪ ،‬زار القطيف يف العام ‪،1913‬‬ ‫البحرين الكربى (�أوال‪ ،‬والقطيف‪ ،‬والإح�ساء)‪ :‬فقر الدم‬
‫ووجد �أن �أغلب �سكانها كانوا «م�صابني بت�ضخم الطحال‪ ،‬وفقر‬ ‫املنجلي (ال�سكل �سل)‪ ،‬هذا الأر�شيف العريق الذي احتفظ‬
‫الدم‪ ،‬وهم ذوو وجوه �شاحبة كالأ�شباح‪ .‬كان املر�ض بادي ًا على‬ ‫بذكرى م�ستنقعات �أنكي ونخيله ومنجلها املهيب وتوقيعات‬
‫كل الوجوه»(‪ .)8‬وهذا ت�شخي�ص دقيق ينطبق على �سكان �أوال‬ ‫ا�سمه العتيد على �صفحات كريات الدم احلمراء فينا‪ .‬ومن‬
‫بقدر ما ينطبق على �سكان القطيف والإح�ساء‪.‬‬ ‫هذه اللحظة ابتد�أت ذاكرة املر�ض يف البحرين‪ ،‬وتع ّمقت هذه‬
‫ال يعرف بال�ضبط متى انفكت �أوال عن رباط البحرين الكربى‪،‬‬ ‫الذاكرة بقوة‪ ،‬و�صار املنجل املهيب يو ّقع ا�سمه على الأج�ساد‬
‫ومتى اخت�صت وحدها بهذا اال�سم‪ .‬يرى البع�ض �أن هذا‬ ‫كما لو كان و�شم ًا ال ميكن حموه‪ ،‬وعلى املرء �أن ي�سلمه‪ ،‬بكل‬
‫االنفكاك ح�صل �إبان االحتالل الربتغايل للبحرين يف القرن‬ ‫�أمانة‪ ،‬لأبنائه و�أحفاده‪.‬‬
‫‪16‬م‪� ،‬أما نا�صر اخلريي فيذهب �إىل �أن جزر البحرين اخت�صت‬
‫بهذا اال�سم عن �سائر مناطق البحرين الكربى يف القرن ال�سابع‬ ‫�أقوال الرحالة‬
‫الهجري‪/‬الثالث ع�شر امليالدي �أثناء حكم الأتابكة للبحرين‪،‬‬
‫والذي ا�ستمر نحو ‪ 70‬عام ًا بدء ًا من ‪1238‬م‪ .‬فمع ا�ستيالء‬ ‫وقد �صاحب هذه النقلة يف التاريخ واجلغرافيا نقلة �أخرى على‬
‫الأتابكة على القطيف وجزائر البحرين «مت انف�صال جزائر‬ ‫�صعيد املر�ض وذاكرته وتوقيعاته على �أج�ساد البحرينيني ويف‬
‫البحرين عن جمموعة البحرين انف�صا ًال �أبدي ًا»(‪.)9‬‬ ‫دمائهم‪ .‬فحني �أتى زكريا القزويني (ت ‪682‬هـ) على ذكر‬
‫ويربط �أحمد بن ماجد‪ ،‬يف كتاب «الفوائد يف �أ�صول علم‬ ‫البحرين قال �إنها «ناحية بني الب�صرة وعمان على �ساحل‬
‫البحر والقواعد»‪ ،‬بني �أوال وزجنبار‪ ،‬ويذكر �أن الأوائل قالوا‬ ‫البحر» وذكر ا�شتهارها بالل�ؤل�ؤ ومغا�صاته‪ ،‬ثم عقّب على ذلك‬
‫يف تواريخهم‪»:‬جزيرتان وخيمتان‪� ،‬إحداهما ب�أق�صى اجلنوب‪،‬‬ ‫بقوله‪« :‬ومن �سكن بالبحرين يعظم طحاله وينتفخ بطنه‪ ،‬ولهذا‬
‫وهي هذه اجلزيرة (يق�صد جزيرة زجنبار)‪ ،‬والأخرى‬ ‫قال ال�شاعر‪:‬‬
‫ب�أق�صى ال�شمال‪ ،‬وهي البحرين امل�سماة �أوال‪ ،‬خ�صو�ص ًا عند‬ ‫َ‬
‫ومن َ�سكن البحرين يعظم طحاله‬ ‫ ‬
‫نزول ال�شم�س بربج امليزان‪ ،‬يبتدئ فيها احل ّمى والتوعك عند‬ ‫(‪)4‬‬
‫ويعظم فيها بط ُنه وهو جـائع»‬ ‫ ‬
‫ا�صفرار الرتجن»(‪.)10‬‬ ‫هذه – فيما يبدو – بداية التك�شف التدريجي لأعرا�ض املر�ض‬
‫هذه �إ�شارة بالغة اخلطورة‪ ،‬وينبغي �أن نتعامل معها بو�صفها‬ ‫العريق يف البحرين الكربى‪ :‬ت�ضخم الطحال وانتفاخ البطن‪.‬‬
‫عالمة ذات داللة مزدوجة فهي‪ ،‬من جهة‪ ،‬ت�شري �إىل اخت�صا�ص‬ ‫وهذه �أعرا�ض اعتربها اجلاحظ من «خ�صائ�ص البلدان»‪،‬‬
‫‪19‬‬
‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫م�صابون بفقر الدم املنجلي‪ ،‬و‪ % 11‬حاملون للمر�ض‪ .‬وتذكر‬ ‫�أوال با�سم البحرين دون �سائر املناطق الأخرى‪ ،‬ومن جهة‬
‫بع�ض الإح�صاءات �أن ‪ % 20‬من ال�س ّكان يف مملكة البحرين‬ ‫ثانية فهي ت�ؤكد على ات�صال «الأر�شيف املر�ضي» لأوال ب�أر�شيف‬
‫يعانون من فقر الدم املنجلي‪.‬‬ ‫املر�ض ب�إفريقيا التي ينت�شر فيها مر�ض فقر الدم املنجلي‪،‬‬
‫هذه الن�سب املتطابقة �أو املتقاربة يف عدد امل�صابني واحلاملني‬ ‫ولكن بنوع خمتلف‪.‬‬
‫لهذا املر�ض يف البحرين والقطيف والإح�ساء هي �أبلغ عالمة‬ ‫و�أول ما يلفت يف �إ�شارة ابن ماجد �أنها مبثابة قلب جذري‬
‫ت�شري �إىل الهوية ال َق َدرية (املر�ضية) ل�سكان البحرين الكربى‬ ‫لأ�سطورة دملون كفردو�س �أر�ضي‪ .‬وملعرفة حقيقة هذا القلب‬
‫بني الب�صرة وعمان‪ ،‬وهي �أفدح تركة يف ذاكرة املر�ض يف‬ ‫علينا �أن ن�أخذ كلمة «وخيمة» بداللتها احلرفية يف ل�سان العرب‬
‫�أر�شيف هذه املنطقة‪ ،‬وهي �أعظم تقوي�ض لأ�سطورة دملون التي‬ ‫حيث جاء «بل ٌد َو ِخي ٌم �أي غري موافق يف ال�سكن‪ .‬و�شي ٌء َو ِخي ٌم‬
‫ال مير�ض فيها �أحد وتطيب فيها ال�سكنى!‬ ‫�أي َوبِي ٌء‪ .‬و�أر�ض َو ِخي َمة �أي ال ينجع كلأُها»‪ .‬وبهذا ت�صبح‬
‫«البحرين امل�سماة ب�أوال» جزيرة موبوءة وال ت�صلح لل�سكن على‬
‫تقوي�ض الأ�سطورة‬ ‫خالف ما جاء يف الأ�ساطري ال�سومرية من �أن «دملون يطيب‬
‫ال�سكنى يف م�ساكنها»! حيث ال �أحد ي�شكو من �أمل العني والر�أ�س‬
‫تنطوي ذاكرة املر�ض يف البحرين على �سرية طويلة من‬ ‫وال�شيخوخة!‬
‫التقوي�ض املت�صاعد لأ�سطورة دملون التي ال مير�ض فيها �أحد‪.‬‬ ‫وي�شري �أحمد بن ماجد �إىل �أن جزيرة �أوال ت�صبح وخيمة حني‬
‫ويف هذا ال�سياق ت�أتي الأمرا�ض الوبائية يف البحرين احلديثة‬ ‫تكون ال�شم�س يف برج امليزان‪� ،‬أي يف وقت ال�شتاء – وحتديد ًا يف‬
‫�إبان الع�صر الإمربيايل‪ ،‬وملا كانت البحرين تقع على الطريق‬ ‫�سبتمرب و�أكتوبر – وهو مو�سم ا�صفرار الرتجن والأج�ساد �أي�ض ًا‪.‬‬
‫امللوكي للإمربيالية بني الهند وبريطانيا حيث كانت تنتقل‬ ‫ومن املعروف �أن تع ّر�ض اجل�سم للربد يت�سبب يف نوبات الأمل‬
‫اجليو�ش والب�ضائع والأمرا�ض‪ ،‬ف�إنها كانت مهددة ك�سائر دول‬ ‫عند امل�صابني بفقر الدم املنجلي‪ ،‬ولهذا ين�صح الأطباء دائم ًا‬ ‫املر�ض‬
‫اخلليج بانتقال العدوى وانت�شار الأوبئة �أثناء رحالت العبور‬ ‫بحفظ اجل�سم دافئ ًا‪.‬‬
‫من �آ�سيا �إىل �أوروبا‪ .‬وقد «كانت البحرين كغريها من بلدان‬ ‫ويف الفرتة ذاتها �أي�ض ًا يذكر الإخباري الربتغايل جوا دو بارو�ش‬ ‫يذكر بذاته‬
‫ِّ‬
‫اخلليج تعاين من انت�شار الأوبئة والأمرا�ض بكرثة‪ ..‬وكانت‬ ‫�أن البحرين جزيرة كثرية النخيل و�شديدة الرطوبة واخل�ضرة‪،‬‬ ‫�أكرث مما‬
‫�أوبئة الطاعون والكولريا متر على البحرين بني �سنة و�أخرى‬ ‫�إال �أنها «كثرية الوباء خ�صو�ص ًا يف بع�ض �شهور ال�سنة‪� ،‬أي من‬
‫حتى راح الأهايل يح�سبون ال�سنوات التي ال ي�صابون فيها‬ ‫نهاية �شتنرب (�أي �سبتمرب) �إىل فرباير‪ ،‬فهي يف بع�ض الأحيان‬ ‫يذكر بنعمة‬‫ِّ‬
‫بهذه الأمرا�ض‪ ،‬ويعتربونها �سنوات خري»(‪ .)12‬ويذكر لورمير‬
‫�أن الكولريا هاجمت البحرين يف العام ‪ ،)13(1821‬ويف العام‬
‫خالل هذه ال�شهور �شديدة الوباء �إىل حد �أن �أعيانها يغادرونها‬ ‫ال�صحة‬
‫�إىل القطيف املوجودة على ال�ساحل العربي»(‪.)11‬‬
‫‪ ،1871‬ويف يوليو و�أغ�سط�س من العام ‪ 1893‬حيث «�أعلن عن‬ ‫بعد هذا ميكننا العودة �إىل الن�سخة البحرينية من كتاب �أحمد‬
‫حدوث ‪ 7000‬حالة يف اجلزر»‪ ،‬ويف مايو ‪« 1904‬وقيل �إن �أكرث‬ ‫بن ماجد‪ ،‬وهي الن�سخة التي جعلها حمقق الكتاب الأ�صل الأول‬
‫من ‪ 1200‬حالة وقعت يف البحرين‪ ،‬الأمر الذي نتج عنه هرب‬ ‫املعتمد يف التحقيق‪ .‬يف هذه الن�سخة حتريف وا�ضح يف ا�سم‬
‫كثري من ال�سكان �إىل �أجزاء �أخرى من اخلليج»‪ .‬ويذكر لورمير‬ ‫�أوال‪ ،‬وهذا حتريف ال وجود له �إال يف الن�سخة البحرينية‪ ،‬وهو ما‬
‫�أن �أول انفجار �شديد لوباء الطاعون يف البحرين كان يف مايو‬ ‫حمل املحقق على ت�صحيحه مبا جاء يف ن�سخة املكتبة الوطنية‬
‫ويونيو ‪« 1903‬وقد مات نحو ‪� 300‬شخ�ص من �أ�صل �ضعفي‬ ‫بباري�س ون�سخة دار الكتب الظاهرية بدم�شق‪ .‬فما ف ّرقه حتريف‬
‫هذا العدد ممن �أ�صيبوا باملر�ض»‪ .‬وعلى �إثر هذا االنت�شار لوباء‬ ‫الن�سخة البحرينية جمعه ا�سم البحرين وا�سم املر�ض وتوقيعات‬
‫الطاعون‪« ،‬منعت ال�سفن الأهلية من مغادرة اجلزيرة‪ ،‬ولكن‬ ‫منجله املهيب الذي جمع بني �سكان البحرين الكربى‪ .‬والالفت‬
‫هذا الأمر مل يدم طوي ًال لأن البحرين تعتمد كثري ًا على �إيران‬ ‫حق ًا �أن فقر الدم املنجلي مي ّثل �إحدى امل�شكالت ال�صحية‬
‫من ناحية تزويدها باملواد الغذائية» (�ص‪ .)3707‬ويف مايو‬ ‫املزمنة يف البحرين كما يف القطيف والإح�ساء‪ .‬و ُيذكر يف هذا‬
‫ويونيو ‪ 1905‬حدث االنفجار الثاين للمر�ض يف البحرين «وكان‬ ‫ال�ش�أن �أن عدد امل�صابني واحلاملني لهذا املر�ض يف اململكة‬
‫حم�صور ًا عملي ًا يف مدينتي املنامة واملحرق وقد حدثت يف كل‬ ‫العربية ال�سعودية يبلغ ‪ 1445067‬مري�ض ًا‪ .‬وت�ؤكد الدرا�سات‬
‫منهما حوايل ‪ 400‬حالة ن�صفها مميت»‪.‬‬ ‫والبحوث العلمية �أن املنطقة ال�شرقية هي �أكرث املناطق التي‬
‫�أما اجلدري فقد كان يرتدد وقوعه يف منطقة اخلليج ب�صورة‬ ‫ينت�شر بها فقر الدم املنجلي‪ ،‬حيث تبلغ ن�سبة حاملي املر�ض‬
‫وبائية‪ ،‬ويذكر لورمير �أن يف «منت�صف القرن التا�سع ع�شر‬ ‫ما بني ‪ % 25 - 20‬من ال�سكان‪ .‬ومن املعروف كذلك �أن هذا‬
‫كان مر�ض اجلدري منت�شر ًا ب�صفة عامة و�أثار الرعب ال�شديد‬ ‫املر�ض ينت�شر بكرثة يف البحرين‪ .‬وبح�سب ما جاء يف بع�ض‬
‫بني �سكان اخلليج»(‪ .)14‬وانت�شر اجلدري يف البحرين يف العام‬ ‫الدرا�سات م�ؤخر ًا ف�إن حوايل ‪% 2‬من الأطفال حديثي الوالدة‬
‫‪20‬‬
‫ك�أي طب �إمربيايل‪� ،‬إال على نحو انتقائي‪ ،‬فقد كان «هناك‬ ‫‪ 1891‬وانت�شرت معه موجة خطرية من الإنفلونزا ت�سببت يف‬
‫تف�ضيل ملجمعات التعدين وامل�صانع والثكنات واملراكز املدنية‬ ‫موت الكثريين يف البحرين‪ .‬ويف العام ‪ 1927‬انت�شر مرة �أخرى‬
‫الرئي�سية‪ ،‬يف حني كان هناك �إهمال عام لل�سكان الريفيني‬ ‫وكاد يفتك بالكثري من الأهايل‪ ،‬وبح�سب بلجريف ف�إن اجلدري‬
‫ول�صحة الن�ساء والأطفال‪ .‬كما كان هناك ت�أكيد على االهتمام‬ ‫يعود �إىل البحرين يف كل عام ‪ .‬و�إ�ضافة �إىل اجلدري «هناك‬
‫باملر�ض الوبائي بد ًال من املر�ض املتوطن»(‪.)22‬‬ ‫مر�ض اجلذام الذي تعاين منه حاالت �صغرية ومتفرقة‪� ،‬أما‬
‫ومما ي�ؤكد هذا الإ�شارة �إىل اهتمام الطب الإمربيايل باملر�ض‬ ‫الكولريا فزيارتها حدث متوقع يف �أي وقت ويليها الطاعون»(‪.)15‬‬
‫الوبائي بد ًال من املر�ض املتوطن‪ ،‬و�أن امل�ؤ�س�سات والأجهزة‬ ‫ودملون التي ال ي�شكو �أحد فيها من �أمل العني �إذا مبعظم �أهلها‬
‫الطبية يف البحرين خا�ضت معركة �ضارية �ضد الأمرا�ض‬ ‫يبتلون بالرتاخوما ورمد العني‪ ،‬فقد كانت �أمرا�ض العيون‬
‫�أر�شيف‬ ‫الوبائية التي �ضربت البحرين كاجلدري واحل�صبة والتيفوئيد‬
‫والكولريا والطاعون واملالريا (جاء يف تقارير ‪1940/1939‬م‬
‫�شائعة يف البحرين «وكثري من الأهايل كانوا بعني واحدة‬
‫فقط»(‪ .)16‬ويذكر الطبيب واملب�شر �شارون توما�س �أنه زار‬
‫«�أوال»‬ ‫�أن ‪ %60‬من �أطفال مدار�س املنامة كانوا م�صابني باملالريا‪،‬‬ ‫املحرق يف العام ‪ 1901‬والحظ فيها �أن «عيون الكثريين منهم‬
‫وبح�سب بلجريف ف�إن �إح�صائيات العام ‪ 1937‬تدل على �أن‬ ‫كما بدت لنا مري�ضة وحتتاج �إىل عالج»(‪ .)17‬ويف العام ‪1910‬‬
‫املر�ضي‬ ‫‪ 2%0‬من الأهايل م�صابون باملالريا‪ ،‬و�أ�صبحت هذه الن�سبة‬ ‫تذكر املب�شرة �إليانور تيلور �أن ال�شيء الوحيد الالفت للنظر يف‬
‫مت�صل‬ ‫�أقل من ‪ %1‬يف العام ‪ .)23(1956‬يف حني �أنها �أهملت مر�ض فقر‬ ‫املنامة «هو عيون النا�س الفظيعة‪ ،‬فكم هو م�ؤمل �أن جند حتى‬
‫الدم املنجلي مبا هو املر�ض الأكرث عراقة يف هذه اجلزيرة‪.‬‬ ‫يف عيون الأطفال عمى كام ًال»(‪ .)18‬وجاء يف �سجالت التعليم‬
‫ب�أر�شيف‬ ‫وال�س�ؤال امللح هو هل بالإمكان تعطيل ذاكرة هذا املر�ض؟‬ ‫لعام ‪� 1944‬أنه «مت الك�شف الطبي على عيون جميع طالب‬
‫«�إفريقيا»‬ ‫ف�إذا كان للمر�ض ذاكرة‪ ،‬و�إذا كانت الذاكرة مهددة بالفقدان‬ ‫املنامة»‪ ،‬وتبني �أن ‪ %78‬يعانون من الرتاخوما‪ ،‬ويف خريف‬
‫والتلف‪ ،‬فهل تفقد �أج�ساد �أهل هذه اجلزيرة ذاكرة هذا املر�ض‬ ‫هذا العام انت�شر وباء العيون يف املدار�س و�أ�صيب ‪ %50‬من‬
‫العتيد؟ ومتى ي�شيخ هذا املر�ض وي�صاب بالزهامير وينتهي �إىل‬ ‫الطالب يف بع�ض املدار�س‪ ،‬وفقد بع�ض الطالب عين ًا واحدة‪،‬‬
‫اخلرف؟ و�إال من ذا الذي �سي�صدق �أن عمر الأنيميا املنجلية‬ ‫كما فقد النظر عدد من طالب القرى(‪� .)19‬أما اليوم ف�إن ن�سبة‬
‫الآن يزيد على ‪ 4000‬عام (�إذا �أخذنا بالفر�ضية التي تقول �إن‬ ‫العمى يف البحرين ت�صل �إىل ‪.%1.9‬‬
‫الطفرة الوراثية حدثت يف الفرتة الدملونية) ومع ذلك مل ي�صب‬
‫هذا املر�ض العنيد بالزهامير حتى هذه اللحظة؟‬ ‫تع�صب ا�ستعماري‬
‫ّ‬
‫ويبدو �أنه لي�س هناك ‪ -‬اليوم – �سوى طريقني لإ�صابة هذا‬
‫املر�ض العنيد بفقدان الذاكرة‪ :‬الأول هو الفح�ص قبل الزواج‪.‬‬ ‫وت�شري ال�سجالت الر�سمية �إىل �أن �أهل القرى كانوا عقبة ك�أداء‬
‫ف�إذا كان الأطفال يرثون �أحد اجلينات من الأب والآخر من‬ ‫يف وجه الطب الإمربيايل‪ ،‬وقد انطوى املوقف من �أمرا�ضهم‬
‫الأم‪ ،‬و�إذا كان هذا املر�ض من الأمرا�ض الوراثية املتنحية (�أي‬ ‫وتهجم بال مواراة على �سكان‬‫تع�صب ا�ستعماري مك�شوف‪ّ ،‬‬ ‫على ّ‬
‫حتى ي�صاب الن�سل باملر�ض يجب �أن يكون الوالدان حاملني �أو‬ ‫القرى املحليني وعاداتهم وتقاليدهم‪ .‬ويف هذا ال�سياق يذكر‬
‫م�صابني باملر�ض)‪ ،‬فبالإمكان �إذن تعطيل ذاكرة هذا املر�ض‬ ‫مدير التعليم ‪ F.J.Wakelin‬يف تقرير العام ‪� 1943‬أن «�صحة‬
‫من خالل االقرتان بزوجة ال تكون ال م�صابة وال حاملة للجني‬ ‫طالب القرى �سيئة وهم ي�أتون بالفقر واملر�ض والقذارة مع ًا �إىل‬
‫املعطوب‪ ،‬وكذا احلال بالن�سبة للزوج‪ .‬وبهذه الطريقة تتقل�ص‬ ‫املدر�سة‪ .‬ومت ت�شخي�ص �أربعة من الطالب م�صابني ب�أمرا�ض‬
‫ن�سبة الإ�صابة بهذا املر�ض‪ ،‬وي�صاب املر�ض بفقدان ذاكرة‬ ‫جن�سية»(‪ .)20‬واحلق �أن هذا هو ديدن الطب الإمربيايل الذي‬
‫جزئي على �أقل تقدير‪.‬‬ ‫ال يتحدث عن املر�ض �إال كعقبة يف وجه «التنمية»‪� ،‬أو عائق‬
‫�أما الفقدان الكلي لذاكرة هذا املر�ض ّ‬
‫فتب�شر به تدخُّ الت‬ ‫�أمام ت�شغيل امل�صانع وامل�ؤ�س�سات واملن�ش�آت والإدارات‪ .‬ويف هذا‬
‫الهند�سة الوراثية والثورة البيوتكنولوجية من خالل العالج‬ ‫ال�سياق ي�شري ال�سيد ماك�س و�ستون ثورنربغ‪ ،‬نائب رئي�س �شركة‬
‫اجليني‪.‬‬ ‫نفط البحرين يف �أوائل الأربعينيات‪� ،‬إىل �أن �سيا�سة ال�شركة هي‬
‫ّ‬
‫ومع الإغراءات التي تب�شر بها هذه التدخالت‪� ،‬إال �أنها ال‬ ‫ا�ستخدام عمال من خارج البحرين‪ ،‬لكون العمال املحليني غري‬
‫ت�ضمن الفقدان النهائي املربم لذاكرة فقر الدم املنجلي‪،‬‬ ‫مهرة «كما �أنهم جهلة‪ ،‬فقراء‪ ،‬ناق�صو التغذية‪ ،‬ومر�ضى»(‪.)21‬‬
‫فكما حدث هذا املر�ض نتيجة لطفرة �أ ّدت �إىل خلل جيني‪،‬‬ ‫فاملر�ض �إذن‪ ،‬مثله مثل الفقر واجلهل ونق�ص التغذية‪ ،‬عقبة‬
‫فكذلك ميكن �أن يحدث ذات اخللل اجليني يف �أي جني �سليم‪،‬‬ ‫�أمام ت�شغيل امل�صانع‪ ،‬وكان ال بد من تدخل طبي من �أجل‬
‫والبيولوجيون يعرفون �أنه «�إذا ما تغيرّ جني بالطفرة �أو ا�ستبدل‬ ‫ت�أهيل ه�ؤالء املر�ضى ليكونوا قادرين على ت�شغيل امل�صانع‪.‬‬
‫به �آخر‪ ،‬فالأغلب �أن تعقب ذلك �آثار جانبية غري متوقعة‪ ،‬وقد‬ ‫�إال �أن هذا التدخّ ل الطبي يف عالج الأمرا�ض املحلية مل يكن‪،‬‬
‫‪21‬‬
‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫�إىل �أوالدنا معنى ينت�شل عملية التمرير كلها من عامل العبث؟‬ ‫تكون بغي�ضة»‪ .‬وهذه خماوف حقيقية قد ال تهم املتخ�ص�صني‬
‫جوابي عن ذلك �سيكون بالإيجاب‪ ،‬فهذا اخلوف املريع من‬ ‫يف الهند�سة الوراثية‪� ،‬إال �أنها قد تكون ذات عواقب كارثية على‬
‫انقطاع الذكر هو ما مينح املعنى لتوريث فقر الدم املنجلي‪.‬‬ ‫من هو م�صاب �أو حامل للجني امل�س�ؤول عن فقر الدم املنجلي‪.‬‬
‫و�إذا كان الإن�سان‪ ،‬بح�سب نيت�شه‪ ،‬ال يرف�ض املعاناة يف حد‬ ‫ويف هذا ال�سياق يذكر العلماء �أن اجلني «امل�س�ؤول عن �أنيميا‬
‫ذاتها بل يريدها �شريطة �أن تكون معاناة ذات معنى وغاية‪،‬‬ ‫اخلاليا املنجلية ي�ضفي مناعة �ضد املالريا‪ ،‬وهذا هو ال�سبب‬
‫ف�إن ا�ستمرار الذكر واخلوف من انقطاع الن�سل والذاكرة هو‬ ‫يف �شيوعه بني ال�سود‪ ،‬ف�أ�صولهم كما نعلم من �إفريقيا حيث‬
‫ما مينح لهذا املر�ض معناه وغايته‪ ،‬وهذا ما �سيجعل الإن�سان‬ ‫املالريا مر�ض خطري‪ .‬قد يرفع �إ�صالح جني �أنيميا اخلاليا‬
‫يحتمل معاناته مع هذا املر�ض العنيد‪ .‬وبهذا �ست�ستمر ذاكرة‬ ‫املنجلية �إذن من قابليتهم للإ�صابة باملالريا»(‪.)24‬‬
‫هذا املر�ض من �أجل ا�ستمرار ذكرنا الذي يحيا بالتكاثر‬
‫وعندئذ لن يكون �أمامنا ملواجهة هذا املر�ض ذي‬‫ٍ‬ ‫والتنا�سل‪.‬‬ ‫البقاء للأقوى‬
‫الذاكرة العتيدة غري الطريقني ال�سابقني‪ :‬الفقدان اجلزئي‬
‫للذاكرة من خالل الفح�ص قبل الزواج‪� ،‬أو الفقدان الكلي‬ ‫وعلى هذا ف�إن الفقدان الكلي والنهائي لذاكرة هذا املر�ض ال‬
‫ولكن غري النهائي من خالل تدخّ الت الهند�سة الوراثية‬ ‫يت�أتى �إال بخيار م�ستحيل ومرفو�ض �أخالقي ًا‪ ،‬وهو خيار يوجيني‬ ‫الن�سب‬
‫والثورة البيوتكنولوجية مهما تكون عواقبها‪� .‬إىل �أن تظهر هذه‬ ‫‪ eugenic‬ميار�سه هذه املرة الآباء ال دولة القهر وال العلماء‬
‫النتائج �سيكون علينا �أن نتقبل هذا املر�ض كابتالء ال مهرب‬ ‫العن�صريون‪ ،‬وهو �أن ميتنع املرء املري�ض عن الزواج‪ ،‬و�إذا تز ّوج‬ ‫املتطابقة‬
‫منه �أو كرتكة ثقيلة ال منا�ص من حتملها‪ .‬على �أج�ساد �أهل هذه‬ ‫�أن ميتنع عن الإجناب والتكاثر‪ ،‬و�إذا �أجنب �أن يتخري من ن�سله‬ ‫يف عدد‬
‫اجلزيرة �إذن �أن تتقبل هذا املر�ض‪ ،‬و�أن حتمل توقيع منجله‬ ‫الولد ال�سليم فقط‪ ،‬لأن الثورة البيوتكنولوجية �ستقول للوالدين‬
‫املهيب عليها كالو�شم‪ ،‬و�أن ت�سلمه �إىل القادمني يف الزمن الآتي‬ ‫�إن اجلنني الذي حتمله املر�أة �سي�صاب بهذا املر�ض الوراثي �أو‬ ‫امل�صابني‬
‫كما ت�سلم الأمانات الثقيلة‪.‬‬ ‫ذاك ثم ترتك لهما احلرية اليوجينية للتخل�ص من اجلنني �إذا‬ ‫عالمة بليغة‬
‫�شاءا‪ .‬ف�إذا كانت ذاكرة هذا املر�ض تنتع�ش من خالل انتقال‬
‫جينات املرء املري�ض بالتكاثر‪ ،‬ف�إن الأمل الوحيد يف تعطيل هذه‬ ‫على الهوية‬
‫هوام�ش‪:‬‬ ‫الذاكرة ب�صورة نهائية يكمن يف وقف التكاثر بقطع الطريق‬ ‫القدرية‬
‫(‪ – )1‬جينالوجيا الأخالق‪� ،‬ص ‪.52‬‬ ‫الذي يحمل جيناتنا املعطوبة �إىل الأجيال القادمة‪� .‬إال �أن هذا‬
‫(‪ – )2‬ملزيد من ّ‬
‫التو�سع حول مفهوم الأر�شيف ميكن الرجوع �إىل‪ :‬جاك دريدا‪ ،‬ح ّمى الأر�شيف‬
‫الفرويدي‪ ،‬تر‪ :‬عدنان ح�سن‪�( ،‬سوريا‪ :‬دار احلوار‪.)2003 ،‬‬ ‫احلل ظامل ويوجيني (م�صطلح �صاغه فران�سي�س جالتون يف‬ ‫ل�سكان‬
‫العام ‪ ،1883‬ويعنى به حت�سني الن�سل عن طريق منح ال�سالالت‬ ‫البحرين‬
‫(‪� – )3‬شيخة �سامل العري�ض‪ ،‬حقائق عن فقر الدم املنجلي‪( ،‬د‪.‬ت)‪� ،‬ص ‪.6‬‬
‫(‪ – )4‬زكريا القزويني‪� ،‬آثار البالد و�أخبار العباد (بريوت‪ :‬دار بريوت‪� ،)1984 ،‬ص ‪.78‬‬
‫(‪ – )5‬اجلاحظ‪ ،‬احليوان‪ ،‬حت‪ :‬عبد ال�سالم هارون‪( ،‬م�صر‪ :‬مكتبة م�صطفى البابي احللبي‪،‬‬ ‫الأكرث �صالحية فر�صة �أف�ضل للتكاثر ال�سريع مقارنة بال�سالالت‬
‫ط‪ ،)1966 ،2 :‬ج‪� ،4 :‬ص ‪.135‬‬
‫(‪ – )6‬ابن خرداذبة‪ ،‬امل�سالك واملمالك‪( ،‬م�صر‪ :‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬د‪.‬ت)‪� ،‬ص ‪.171‬‬
‫الأقل �صالحية‪ ،‬وهذا ال يكون �إال حني يتعطل عمل ال�صدفة يف‬ ‫الكربى‬
‫(‪ – )7‬عبد املنعم احلمريي‪ ،‬الرو�ض املعطار يف خرب الأقطار‪ ،‬حت‪� :‬إح�سان عبا�س‪( ،‬بريوت‪:‬‬ ‫عمليات االنتخاب الطبيعي وي�ستبدل بهذا االنتخاب قوانني‬
‫مكتبة لبنان‪ ،‬ط‪� ،)1984 ،2:‬ص ‪.82‬‬ ‫االنتخاب اال�صطناعي واملربمج)‪.‬‬
‫(‪� – )8‬آن هاري�سون‪ ،‬الطبيب بول هاري�سون‪ :‬مئة عام من اخلدمات الطبية‪ ،‬تر‪ :‬عي�سى �أمني‪،‬‬
‫(البحرين‪ :‬مركز ال�شيخ �إبراهيم بن حممد �آل خليفة للثقافة والبحوث)‪� ،‬ص ‪.58‬‬ ‫والأهم من هذا �أن هذا اخليار اليوجيني ينطوي على نذير‬
‫(‪ – )9‬قالئد النحرين يف تاريخ البحرين‪� ،‬ص ‪.146‬‬
‫(‪ – )10‬الفوائد يف �أ�صول علم البحر والقواعد‪� ،‬ص ‪.207‬‬ ‫مواجهة قا�سية وخا�سرة بيننا وبني املوت‪ ،‬هذا املوت الذي‬
‫(‪ – )11‬تاريخ النفوذ الربتغايل يف البحرين‪� ،‬ص ‪.108‬‬
‫(‪ – )12‬حكايات من البحرين‪� ،‬ص ‪.151‬‬
‫ال عزاء لنا فيه �إال من خالل مترير ذكرنا وذاكرتنا وكذلك‬
‫(‪ – )13‬ج‪ .‬ج‪ .‬لورمير‪ ،‬دليل اخلليج‪ ،‬تر‪ :‬ق�سم الرتجمة بديوان �صاحب ال�سمو �أمري قطر‪،‬‬ ‫جيناتنا ال�سليمة واملعطوبة �إىل الأجيال القادمة‪ .‬وعلى املرء‬
‫(الدوحة‪ ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ج‪� ،6:‬ص ‪ ،3647‬وانظر ال�صفحات التالية‪.3682 ،3667 ،3659 ،3653 :‬‬
‫(‪ - )14‬م‪.‬ن‪ ،‬ج‪� ،6:‬ص ‪.3709‬‬
‫عندئذ �أن يختار بني موته النهائي املربم حيث لن يكون له ذكر‬‫ٍ‬
‫(‪ – )15‬ال�سرية واملذكرات‪� ،‬ص ‪.185‬‬ ‫وال ذاكرة وال جينات مترر �إىل �أحد‪ ،‬وبني الإجناب و�ضمان‬
‫(‪ – )16‬م‪.‬ن‪� ،‬ص ‪.185‬‬ ‫ا�ستمرار ذكره وذاكرته وجيناته حتى لو كانت معطوبة‪ ،‬وعلى‬
‫(‪ – )17‬خالد الب�سام (�إعداد وترجمة)‪ ،‬القوافل‪ :‬رحالت الإر�سالية الأمريكية يف مدن‬
‫اخلليج واجلزيرة العربية ‪� ،1926 – 1901‬ص ‪.24‬‬ ‫املرء �أن يواجه هذا ال�س�ؤال الوجودي‪ :‬هل �إجناب �أوالد وتعذيبهم‬
‫(‪ – )18‬م‪.‬ن‪� ،‬ص ‪.82‬‬
‫(‪ - )19‬مئة عام من التعليم النظامي يف البحرين‪� ،‬ص ‪.353‬‬ ‫مبر�ض وراثي �أ ْوىل من �أن يذهب املرء يف مواجهة خا�سرة مع‬
‫(‪ – )20‬م‪.‬ن‪� ،‬ص ‪.338‬‬
‫(‪ – )21‬البحرين‪ :‬م�شكالت التغيري ال�سيا�سي واالجتماعي‪� ،‬ص ‪.147‬‬
‫املوت؟ وهل يك�شف ح�سم اجلواب عن هذا ال�س�ؤال عن معنى‬
‫(‪ – )22‬دافيد �أرنولد (حترير)‪ ،‬الطب الإمربيايل واملجتمعات املحلية‪ ،‬تر‪ :‬م�صطفى فهمي‪،‬‬ ‫املر�ض الوراثي بحيث تنتفي عنه ٍ‬
‫عندئذ �صفة العبثية؟‬
‫(الكويت‪� :‬سل�سلة عامل املعرفة‪ ،‬ع‪� ،)1998 ،236 :‬ص ‪.35‬‬
‫(‪ – )23‬ال�سرية واملذكرات‪� ،‬ص ‪.184‬‬
‫موت املعنى ملر�ض وراثي‬ ‫و�أخري ًا هل مينح اخلوف من هكذا ٍ‬
‫(‪ – )24‬نهاية الإن�سان‪� ،‬ص ‪.123‬‬ ‫عنيد كفقر الدم املنجلي؟ وهل يكون لتمرير اجلني املعطوب‬
‫‪22‬‬
23
‫ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ق�صة‬ ‫ق�صة‬
‫صو�ص ن�صو�ص‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ق�صة ق�صة‬ ‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬

‫نورة حممد فرج‬


‫كاتبة من قطر‬

‫انتقـــام‬
‫الكمبيوتر‪� ،‬أبحث عن �صورة له‪ ،‬ف�أكت�شف للتو �أن‬ ‫حبة البطاطا هذه ت�شبهه!!‬
‫ال �صورة له عندي!! عجيبة ذاكرتي‪ ،‬و�أعجب منها‬ ‫هو ال ي�شبه البطاطا‪� ،‬أعلم ذلك‪ ،‬ولكن حبة البطاطا‬
‫�أحزاين‪� .‬إذن �أنا �س�أ�ستعيد مالحمه من ذاكرتي‬ ‫هذه ت�شبهه متاماً‪ ،‬ينق�صها �شعر‪ ،‬لي�س ناعم ًا‬
‫و�أعيد نحتها يف حبة البطاطا‪ ،‬و�س�أعيد نحت �أوجاع‬ ‫بال�ضرورة لت�صبح هي هو‪.‬مل �أذهب يف الأ�صل‬
‫قلبي عليها‪�.‬آليت على نف�سي �أو ًال �أال �أغ�سله‪ /‬ها‪،‬‬ ‫ل�شراء البطاطا‪ ،‬فقد كنت اقت�صر على �شراء اجلزر‬
‫هو دوما كان قذراً‪ ،‬و�إن كان لطيف ًا ووديع ًا كبطاطا‪.‬‬ ‫واخل�س‪ ،‬ولكن بطاطا ال�سوء هذه ا�سرتعت انتباهي‪،‬‬
‫تركته برتابه وو�ساخته‪� .‬أخرجت �سلة اخلياطة‪،‬‬ ‫فا�ضطررت مكرهة ‪ -‬مل تكرهني �سوى نف�سي‪-‬‬
‫�أخذت منها علبة الدبابي�س‪ ،‬و�شككت ر�أ�س البطاطا‬ ‫ل�شراء كيلو بطاطا‪ .‬والآن ال �أعرف �أين يتوجب عليّ‬
‫بكومة من الدبابي�س‪ .‬تذكرت و�سائل ال�سحر القدمي‪،‬‬ ‫حفظها‪ ،‬يف الثالجة؟ مل �أ�س�أل �أمي من قبل عن‬
‫هل ي�ؤمله ر�أ�سه الآن؟ من امل�ؤ�سف �أنني فقدت رقم‬ ‫ذلك‪ ،‬ف�أنا ال �أعرف �شيئ ًا عن الطبخ‪� .‬ألقيت كي�س‬
‫موبايله من زمن قدمي و�إال لكنت �أر�سلت له «م�سج»‬ ‫البطاطا على الطاولة يف املطبخ‪ ،‬و�أخرجت حبة‬
‫�أ�ساله عما �إذا كان ر�أ�سه ي�ؤمله الآن‪ ،‬رمبا لي�س من‬ ‫البطاطا منه‪.‬هو الآن بني يدي حبة بطاطا‪ .‬تروقني‬
‫دبابي�سي و�إمنا من اخلمر‪� ،‬أو رمبا اخلمر مل تعد‬ ‫فكرة ال�شبه‪ ،‬وتثري ّيف رغبة قدمية باالنتقام‪ .‬افتح‬

‫‪24‬‬
‫�شاربه‪.‬هناك على م�ؤخرة ر�أ�سه‪ ،‬قررت �أن �أحفر‬ ‫ت�ؤثر فيه‪� .‬أنا ال �أعرف عند �أي درجة بال�ضبط‬
‫بالإنكليزية احلروف الأوىل من ا�سمه‪ ،‬لكنني مل‬ ‫تبد�أ اخلمر ت�أثريها فيمن ي�شربونها با�ستمرار‪،‬‬
‫�أفلح �سوى يف حفر خطوط متعرثة‪ .‬مل �أحفرها على‬ ‫وال �أي نوع من اخلمر بالذات ميكنه �أن ي�ؤثر فيه‬
‫م�ؤخرة ر�أ�سه بال�ضبط‪ .‬يف البطاطا ال يعلم الإن�سان‬ ‫بقوة‪ ،‬ال �أملك ثقافة يف اخلمر‪ ،‬وال يف البطاطا‪ .‬يا‬
‫�أين هي امل�ؤخرة بال�ضبط‪.‬تلك الكتلة العبيطة املبقعة‬ ‫رجلي الو�سيم‪ .‬نزعت برفق تلك الدبابي�س‪� .‬أعواد‬
‫بالأ�سود والأحمر وح�شائ�ش خ�ضراء‪ .‬الآن �أين‬ ‫الكربيت قد يكون منظرها �أحلى‪ .‬هذه املرة و�أنا‬
‫�أ�ضعها بعد �أن انتهيت من تعذيبها؟�شعرت بالتقزز‬ ‫�أ�شك �أعواد الكربيت يف ر�أ�سه وجدت �صعوبة ب�سبب‬
‫لفكرة �أن �أحتفظ بر�أ�سه يف الثالجة‪ .‬تركتها على‬ ‫بع�ض النباتات اخل�ضراء على ر�أ�سه‪� .‬شعره كان‬
‫الطاولة مبوازاة الكات�شاب وزيت الزيتون‪ .‬مل يحدث‬ ‫�أ�سود ومل يكن ناعماً‪ .‬قررت �أن �أ�شخبط على وجهه‬
‫�شيء‪ ،‬ن�سيت البطاطا الفاتنة‪ ،‬وحينما تذكرتها بعد‬ ‫بالو�سائل الأكرث تقليدية‪ :‬قلم الكحل والروج‪ .‬ر�سمت‬
‫�أيام عرفت �أن عاملة التنظيف رمتها يف القمامة‬ ‫بقع ًا حمراء مكان عينيه ور�سمت بالكحل �شفتيه‪.‬‬
‫دون �أن ت�س�ألني‪.‬‬ ‫كان له �شارب ولكنني لن �أر�سم �شاربه‪ .‬كان فيه‬
‫العمل الفني ‪ :‬بايا‪ -‬اجلزائر‬ ‫من رجولة ال�شارب ما يكفي لأن يكون رج ًال بامتياز‬

‫‪25‬‬
‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ميكن الت�أريخ لل�شكالنية الرو�سية يف‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫بداياتها املبكرة بعام ‪ ،1914‬عند ظهور‬
‫درا�سة «ڤكتور �شكلوڤ�سكي» عن ال�شعر‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫امل�ستقبلي بعنوان «بعث الكلمة»‪ .‬كما �أن‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫نهايتها الأخرية قد جاءت بفعل �ضغط‬ ‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫�سيا�سي خارجي‪ ،‬متثل بن�ص «�شكلوڤ�سكي»‬
‫الذي ن�شره يف كانون الثاين‪/‬يناير ‪.1930‬‬
‫لكن احلقيقة �أن احلركة كانت عر�ضة‬
‫لنقد م�ستمر منذ عام ‪ 1923‬عندما �أفرد‬
‫«تروت�سكي» ف�ص ً‬
‫ال يف كتابه بعنوان الأدب‬
‫والثورة‪ ،‬خ�ص�صه لنقد ال�شكالنية‪.‬‬

‫ه�سترييا اللغة‬
‫ال�شكالنية الرو�سية‬
‫ّ‬
‫ يف النقد الأدبي‬
‫برزت النظرية ال�شكالنية من اجتماعات ومناق�شات‬ ‫ت�أليف‪� :‬آن جفر�سون‬
‫ومن�شورات جماعتني �صغريتني من الطلبة ‪-‬جماعة‬
‫«�أوپوجاز» ‪ Opojaz‬ومقرها مدينة پــيرت�سربك‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫�أ�ستاذة الأدب الفرن�سي بجامعة �أك�سفورد‬
‫�إىل «حلقة مو�سكو اللغوية»‪ .‬كانت جماعة مو�سكو تتكون‬
‫بالأ�سا�س من لغويّني معنيّني بتو�سيع حقل الأل�سُ نيّة لي�شمل‬ ‫ترجمة وتلخي�ص‪ :‬د‪.‬عبد الواحد ل�ؤل�ؤة‬
‫اللغة ال�شعرية‪ ،‬وكان �أ�شهر �أع�ضائها املنظ ّر اللغوي البارز‬ ‫كاتب من العراق‬
‫«رومان ياكوب�سن»‪ .‬وكانت جماعة «�أوپـوجاز»‪ ،‬كما ي�شري‬
‫عنوانها الكامل (جمعية درا�سة اللغة ال�شعرية) تتكون من‬
‫باحثني يف الأدب‪ ،‬يوحدهم عدم قناعة بالأ�شكال القائمة‬
‫يف الدرا�سة الأدبية‪ ،‬مع اهتمام عميق ب�شعر امل�ستقبليني‬
‫الرو�س‪� .‬إىل جانب قائد اجلماعة «ڤكتور �شكلوڤ�سكي» كانت‬
‫«�أوپوجاز» ت�ضم بني �أع�ضائها «بوري�س �آيخنباوم» و«�أو�سيـپ‬
‫بريك» و«يوري تينيانو»‪ .‬ومع وجود فروق يف الرتكيز يف‬
‫‪26‬‬
27
‫و«جينيت»)‪� .‬إن رغبة البنيوية يف ت�أ�سي�س نظرية �شعرية‪،‬‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫متميزة عن غريها من امل�سالك الأكادميية‪ ،‬جعلها مدينة‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫�إىل حد كبري �إىل ال�شكالنية الرو�سية‪ ،‬وذلك يف �أهدافها‬
‫العلمية‪ ،‬وعلى م�ستوى �أكرث تف�صيالً‪ ،‬يف �سعيها نحو نظرية‬
‫يف ال�سرد‪.‬‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مبادئ نظرية عامة‬ ‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫متثل ال�شكالنية الرو�سية واحدة من �أوىل املحاوالت املنهجية‬
‫لإقامة الدرا�سات الأدبية على �أ�س�س م�ستقلة‪ ،‬وجلعل درا�سة‬ ‫م�ساهمات ال�شكالنيني �أفراداً‪� ،‬إال �أن القيمة النظرية لعملهم‬
‫الأدب فرع ًا معرفي ًا متخ�ص�ص ًا قائم ًا بذاته‪ .‬وقد يجد املرء‬ ‫ميكن فهمها وتقوميها ب�صورة �أف�ضل عند النظر �إليها جهد ًا‬
‫�أ�صداء لهذا النوع من امل�شروع عند «�آي‪� .‬أي‪ .‬رچـاردز» �أو‬ ‫جماعي ًا لإقامة �أ�سا�س نظري وا�ضح للدرا�سات الأدبية‪.‬‬
‫�أ�صحاب «النقد اجلديد» ولو �أنه لي�س لدى �أيّ من اجلانبني‬
‫الدرجة نف�سها من ال�صرامة النظرية والتما�سك‪ ،‬كما‬ ‫التاريخ واملمار�سة‬
‫�أنهما ال ينزعان �إىل الرتكيز على الأدبي ال�صرف بالدرجة‬
‫نف�سها‪ .‬وقد يتفق ال�شكالنيون مع «ت‪�.‬س‪�.‬إليوت» يف قوله ‪�،‬إن‬ ‫وبعد عام ‪ ،1930‬عندما توقف اجلهد الفكري اجلماعي‪،‬‬
‫حتويل االهتمام من ال�شاعر �إىل ال�شعر غاية حممودة(‪.)1‬‬ ‫مل يعد هناك من �أهمية نظرية لعمل امل�ساهمني �أفراداً‪.‬‬
‫لكن ذلك التوافق يظهر يف عملهم منهج ًا نظري ًا ال حم�ض‬ ‫وقد هجر �أكرثهم اهتماماتهم ال�سابقة‪ ،‬وانقلبوا �إىل �أمناط‬
‫تف�ضيل فكري‪ .‬ومع �أنهم ي�شاركون «�آي‪�.‬أي‪.‬رﭽـاردز»‬ ‫من الدرا�سة الأدبية �أقل �إثارة للجدل‪ ،‬مثل ت�أويل الن�صو�ص‬
‫َب َرمَه بفو�ضى النظريات النقدية القائمة‪ ،‬وت�شوّفه �إىل نوع‬ ‫(كما فعل «�آيخنباوم» وببوري�س توما �شيـﭭ�سكي)‪ .‬لكن‬
‫من النظام العلمي يف درا�سة الأدب‪ ،‬فمن امل�ؤكد �أنهم ما‬ ‫�أفكار ال�شكالنية الرو�سية ا�ستمرت يف الوجود‪ ،‬كما يظهر‬
‫كانوا ليوافقوا على ر�أيه ب�أن النظرية الأدبية يجب �أن تعنى‬ ‫يف عمل «حلقة پـراك اللغوية» بعد �أن قام «رومان ياكوب�سن»‬
‫باخلربة �أو بالقيمة‪ ،‬وما كانوا لي�ؤيدّوا جلوءه �إىل وظائف‬ ‫�أحد م�ؤ�س�سيها مبغادرة مو�سكو �إىل ت�شيكو�سلوڤاكيا عام‬
‫الأع�ضاء الع�صبية �أو علم النف�س و�سيلة جلعل النقد الأدبي‬ ‫‪ .1920‬لقد ظهرت هذه اجلماعة �إىل الوجود عام ‪1926‬‬
‫�أكرث علمية‪� .‬إن احلل الذي تقدمه ال�شكالنية الرو�سية لهذه‬ ‫ثم تفرقت‪ ،‬كذلك ب�سبب �أحداث �سيا�سية‪ ،‬عام ‪.1939‬‬
‫الق�ضايا جميع ًا هو �أكرث جذرية بكثري مما يقدمه «النقد‬ ‫وكان اثنان من �أهم �أع�ضاء هذه احللقة «يان موكارڤ�سكي»‬
‫اجلديد»‪ .‬و�إن النظرية ال�شكالنية ت�ستثني ب�شكل منهجي‬ ‫و«ن‪�.‬س‪ .‬تروبت�سكوي» (الذي ن�شر عام ‪ 1949‬كتاب ًا بعنوان‬
‫�صارم ما هو غري �أدبي‪ ،‬وحيث يتجرّد «النقد اجلديد» يف‬ ‫«مبادئ ال�صوتيات �أفاد منه «ليـﭭـي �شرتاو�س» يف درا�سة‬
‫كثري من جهوده ال�ستغوار العالقات املختلفة بني احلياة‬ ‫الإنا�سيّة البنيوية»‪ .‬كان الت�شيكيون‪ ،‬مثل �أهل مو�سكو من‬
‫والفن‪ ،‬يرى ال�شكالنيون الرو�س �أن الأمرين يناق�ض �أحدهما‬ ‫قبلهم‪ ،‬لغويني بالدرجة الأوىل‪ ،‬ومل يغريوا كثري ًا يف ما‬
‫الآخر‪.‬‬ ‫�أ�سّ �ست له النظرية الأدبية ال�شكالنية‪ ،‬كما تطورت يف �أواخر‬
‫وعند النظر �إىل الن�ص الأدبي على �أنه �أداة تعبري �أو متثيل‬ ‫عقد الع�شرينيات من القرن املا�ضي‪ .‬وبوجه عام‪ ،‬ميكن‬
‫تكون خ�صو�صية �صفاته الأدبية عر�ضة للتجاوز‪ .‬كما �أن‬ ‫النظر �إىل عمل «حلقة پـراك» على �أنه �إعادة عر�ض ملوقف‬
‫النظر �إىل العمل الأدبي على �أنه �أداة تعبري عن �شخ�صية‬ ‫ال�شكالنيني الالحقني‪.‬‬
‫امل�ؤلف ي�ؤدي دون ريب �إىل ال�سرية وعلم النف�س‪ .‬والنظر �إليه‬ ‫ومع �أن الأحداث التاريخية قد ت�آمرت على طم�س ال�شكالنية‬
‫بو�صفه �صورة عن جمتمع بعينه ي�ؤدي بدوره �إىل التاريخ �أو‬ ‫الرو�سية‪ ،‬و�إبعادها عن تطورات فكرية �أخرى يف القرن‬
‫ال�سيا�سة �أو علم االجتماع‪.‬‬ ‫الع�شرين‪ ،‬و�إعطائها �صورة ظاهرة منعزلة حمددة املوقع‪،‬‬
‫والنظرة البديلة قد تطرح ميزة خا�صة بالأدب‪ ،‬رمبا ت�سوّغ‬ ‫�إال �أن لها‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬عالقات مع عدد من احلركات النظرية‬
‫الوجود امل�ستقل للدرا�سات الأدبية‪ ،‬لكنها قد تقلّ�ص جمال‬ ‫الأكرث حداثة‪ .‬ومن ذلك �أن «رومان ياكوب�سن» وزميله يف‬
‫مو�ضوع الدرا�سة �إىل درجة كبرية‪ ،‬وت�ؤدي �إىل غربلة متكررة‬ ‫مدر�سة ﭙـراك «رينه ويليك» تركا �أثر ًا كبري ًا على الدرا�سات‬
‫للعمل الأدبي‪ .‬بحث ًا عن مكوِّن �سحري بعينه‪ .‬واخلطة‬ ‫الأدبية من خالل تدري�سهما وعملهما يف الواليات املتحدة‬
‫ال�شكالنية للتعامل مع م�شكلة التعريف ال يقت�صر ف�ضلها‬ ‫لعقود عديدة‪ .‬ومع �أن كتاب «رنيه ويليك» بعنوان «نظرية‬
‫على �ضمان �أن الأدب ال ميكن اخت�صاره �إىل �أي �شيء �آخر‪،‬‬ ‫الأدب» (باال�شرتاك مع «�أو�سنت وارين» وقد ن�شر �أول مرة‬
‫بل برهنت كذلك على �أنها فاعلة ب�شكل هائل يف تطوير‬ ‫عام ‪ )1949‬مل يكن يت�سم بعقيدة نظرية وا�ضحة‪ ،‬ف�إنه قد‬
‫جميع مظاهر النظرية ال�شكالنية‪ .‬والتعريف ال�شكالين‬ ‫بقي‪ ،‬ل�سنوات طويلة‪ ،‬املرجع الأو�سع انت�شاراً‪ ،‬مبا يقدمه‬
‫للأدب هو تعريف مغاير �أو معاك�س‪ :‬فالذي يكوّن الأدب هو‬ ‫من و�صف نظري وا�ضح للدرا�سات الأدبية‪� ،‬أمام الناطقني‬
‫حم�ض اختالفه عن مراتب حقائق �أخرى‪ .‬واملفهوم الفاعل‬ ‫باللغة الإنـكليزية‪ .‬وثانياً‪ ،‬بل رمبا لي�س يف �شكل ا�ستمرار‬
‫يف هذا التخ�صي�ص املغاير هو التغريب �أي جعل ال�شيء‬ ‫البقاء قدر ما هو ا�ستعادة حياة‪ ،‬جند �أن ال�شكالنية الرو�سية‬
‫غريب ًا ‪.astranenuie‬‬ ‫كان لها دور مهم يف تطور البنيوية الـﭙـاري�سية‪ ،‬خالل عقد‬
‫فبالن�سبة لل�شكالنيني‪� ،‬إذن‪ ،‬تكون مهمة الدرا�سات الأدبية‬ ‫ال�ستينيات من القرن املا�ضي (وبخا�صة يف عمل «تودورو»‬

‫‪28‬‬
‫ذات التوجّ ه التاريخي �أو تلك القائمة على املحاكاة‪ ،‬و�أخري ًا‬ ‫حتليل الفروق املت�ضمنَّة بني اللغة العملية واللغة ال�شعرية‪،‬‬
‫ما الوظيفة التي تعطيها ال�شكالنية للفكر الذي كان ب�ؤرة‬ ‫معتمدين على مفهوم التغريب لإبراز تلك الفروق �إىل حيّز‬
‫االهتمام يف نظريات النقد ذات التوجّ ه الفل�سفي؟ �إن‬ ‫النظر‪ .‬فبالرتكيز على عن�صر املغايرة وح�سب‪ ،‬ميكن‬
‫العالقات بني الن�ص وامل�ؤلف وبني الن�ص والواقع هي عنا�صر‬ ‫للدرا�سات الأدبية املحافظة على مو�ضوع درا�ستها اخلا�ص‪.‬‬
‫�أ�سا�سية يف �أي مفهوم للأدب‪ .‬وميكن النظر �إىل م�س�ألة‬ ‫و�إذا ر�سمنا حدود مو�ضوع الدرا�سة الأدبية على �أ�سا�س‬
‫الأفكار يف الأدب على �أنها �أحد وجوه م�س�ألة الواقع‪ ،‬بكونه‬ ‫املغايرة ال على �أ�سا�س خ�صائ�ص الفطرة‪ ،‬يغدو من املمكن‬
‫جزء ًا من «حمتوى» الأدب‪ ،‬وهو ق�ضية عُ ني ال�شكالنيون‬ ‫ت�أ�سي�س فكرة الأدبية‪ ،‬و�إعطاء نوع من املنزلة العلمية لدرا�سة‬
‫�أنف�سهم ب�شكل خا�ص مبواجهتها‪.‬‬ ‫الأدب‪ .‬هاتان امليزتان �أ�سا�سيتان للنظرية ال�شكالنية‪.‬‬
‫ف�أوالً‪ ،‬امل�ؤلف‪ .‬عندما تكون الأدبية‪ ،‬ال الأعمال املختلفة هي‬ ‫الأدبية‪ ،‬ولي�س هذا العمل �أو ذاك‪ ،‬لهذا امل�ؤلف �أو ذاك‪ ،‬هو‬
‫ما يكوّن غر�ض الدرا�سات الأدبية‪ ،‬تكون منزلة امل�ؤلف قد‬ ‫هدف الدرا�سات الأدبية‪.‬‬
‫خ�ضعت لتغيرّ جذري‪ .‬يقول «�أو�سي بريك» «ترى جماعة‬ ‫كان ال�شكالنيون يف املمار�سة الفعلية ينزعون �إىل الرتكيز‬
‫«�أوﭙوجاز» �أن ال وجود ل�شعراء �أو �شخ�صيات �أدبية‪ ،‬بل يوجد‬ ‫على «اخل�صائ�ص ال�شكلية يف الأدب‪ ،‬ومر ّد ذلك �أن الو�سائل‬
‫�شعر و�أدب»‪ )2(.‬لقد تكرّر هذا التقييد ب�أ�شكال خمتلفة‬ ‫ال�شكلية كانت بنظرهم هي الأدوات التي حتقق التغريب»‪.‬‬
‫يف عدد كبري من النظريات النقدية والأدبية يف القرن‬ ‫من ال�ضروري �إدراك هذه النقطة عند النظر يف الطريقة‬
‫الع�شرين‪ .‬فمالحظات «ت‪�.‬س‪�.‬إليوت» مث ًال عن ال�شعر يف‬ ‫التي تطوّر بها التفكري ال�شكالين بعدئذ‪ .‬فالرتادف بني‬
‫كونه «لي�س تعبري ًا عن ال�شخ�صية بل هروب ًا من ال�شخ�صية»‬ ‫الأدبية وال�شكل مييز املرحلة الأوىل من ال�شكالنية‪« .‬الفن‬
‫قد تبدو توقع ًا لكلمات «بريك» اجلريئة‪ .‬لكن الطريقة التي‬ ‫تقانة» وبالو�سيلة بط ًال وحيد ًا مبد�آن غيرّ منهما و�شذبهما‬
‫طوّر بها «النقاد اجلدد» بديهية «�إليوت» مل تلغ امل�ؤلف متاماً‪،‬‬ ‫بالتدريج تطوّر الت�ضاد بني التلقائية والتغريب‪ .‬وحيث كانت‬
‫فعو�ض ًا عن ذلك �إذ قاموا بتغيري موقعه من خارج الن�ص‬ ‫النظرة ال�سابقة ترى يف العمل الفني جمموع و�سائله‪ ،‬ف�إن‬
‫�إىل داخله �سوّغوا تغيري ًا يف الطريقة من مقْرتب ال�سرية‬ ‫النظرة الالحقة �أخذت بعني االعتبار �أن الو�سائل الأدبية‬
‫نف�سها هي عر�ضة لتلقائية الإدراك‪ .‬وذلك يعني �أن ت�ضاد‬
‫رومان ياكوب�سن‬ ‫امل�ألوف‪ /‬املغرَّب �أ�صبح الآن واقع ًا داخل الأدب نف�سه ومل‬
‫يعد امتداد ًا م�صاحب ًا للتمييز بني الأدب والال �أدب‪ .‬والأدبية‬
‫من �أ�شهر �أع�ضاء جماعة مو�سكو‬ ‫متيز ال�شكل ال بو�صفه حم�ض كالم معاق‪ ،‬بل الأهم من ذلك‬
‫بو�صفه �شك ًال معاقاً‪.‬‬
‫وب�سبب من احتمال فقدان الو�سائل الأدبية قدرتها على‬
‫الناقد ال�شهري تودوروف‬ ‫التغريب بَر َز التمييز بني الو�سيلة وبني الوظيفة‪ .‬ف�أثر‬
‫التغريب يف و�سيلة بعينها ال يعتمد على كونها و�سيلة‪ ،‬بل‬
‫ت�أثر بال�شكالنية الرو�سية‬ ‫على وظيفتها يف العمل الذي تظهر فيه‪ .‬فالو�سيلة نف�سها قد‬
‫ت�ستعمل يف �أنواع من الوظائف املحتملة‪ ،‬مثلما ميكن لو�سائل‬
‫خمتلفة �أن ت�شرتك يف وظيفة واحدة‪ .‬وقد يحتوي عمل‬
‫بعينه على عنا�صر �سلبية �أو تلقائية‪ ،‬تكون الحقة لعنا�صر‬
‫التغريب �أو العنا�صر «امل�صدَّرة» �أي املدفوعة �إىل ال�صدارة‪.‬‬
‫وقد ظهر م�صطلح «الت�صدير» ‪( Foregrounding‬على‬
‫يد «تينيانو» بالدرجة الأوىل) كنتيجة حتمية لر�ؤية الن�ص‬
‫الأدبي نظام ًا مكون ًا من عنا�صر متداخلة متفاعلة‪ ،‬من �أجل‬
‫التفريق بني العنا�صر ال�سائدة والتلقائية‪.‬‬
‫لقد �شكّلت فكرة الت�صدير يف العمل الأدبي الأ�سا�س يف‬
‫خم�ص�صة من الدرا�سات‬ ‫التفكري ال�شكالين يف جماالت ّ‬
‫الأدبية‪ ،‬مثل الأجنا�س الأدبية والتاريخ الأدبي ب�شكل خا�ص‪.‬‬
‫امل�ضامني‬
‫قد يح�سن بنا التوقف لتقومي املوقف ال�شكالين مبقارنته مع‬
‫االفرتا�ضات التي جتردت ال�شكالنية لتحل حملّها‪ ،‬والتي‬
‫ما تزال �إىل ح ّد بعينه ت�شكل الأ�سا�س الذي ت�صدر عنه‬
‫الدرا�سات النقدية اليوم ولو ب�شكل �ضمني‪ .‬لذا قد يت�ساءل‬
‫املرء عن الدور الذي يعزى يف النظرية ال�شكالنية �إىل‬
‫امل�ؤلف والذي ت�أ�س�س عليه النقد القائم على ال�سرية‪ ،‬وعما‬
‫ح ّل بالواقع الذي و�ضعته يف اللبّ من اهتماماتها النظريات‬
‫‪29‬‬
‫منطقي يف التعبري عنه‪ ،‬كما كان االهتمام مب�سائل ال�شكل‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫عندهم يُع ّد و�سيلة للك�شف عن املعاين غري العقالنية يف‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫الأدب‪ .‬لكن املعنى والأفكار ال تعني �شيئ ًا عند ال�شكالنيني‪،‬‬
‫وهي مثل الواقع‪ ،‬تدخل يف الأدب كجزء من املادة املتاحة‬
‫التي ت�ضعها الو�سائل الوظيفية بعدئذ يف اال�ستخدام الأدبي‪.‬‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫يقول «ياكوب�سن» يف هذا ال�صدد‪« :‬نحن نتعامل جوهري ًا ال‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مع الفكرة بل مع حقائق لفظية»‪.‬‬ ‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ويبدو من الوا�ضح �إذن �أن املوقف ال�شكالين من هذه‬
‫الق�ضايا جميع ًا (امل�ؤلف‪ ،‬الواقع‪ ،‬الأفكار) لي�س حم�ض‬
‫تف�ضيل اعتباطياً‪ ،‬بل �إنه ي�صدر عن مفهومي التغريب‬ ‫�إىل ُمقْترَ َبِ الكلمات على ال�صفحة‪� .‬إن الأهمية التي يعزوها‬
‫والأدبية‪ -‬اللذين مبا يقومان عليه من مغايرة‪� -‬سي�ؤديّان‬ ‫النقاد اجلدد للمعنى والر�ؤية جتعل من ال�ضروري ا�ستمرار‬
‫دوم ًا �إىل تعريف الأدب ب�شكل يخالف الأ�شياء التي كانت‬ ‫وجود امل�ؤلف‪ .‬وعلى النقي�ض من ذلك‪ ،‬يرى ال�شكالنيون �أن‬
‫النظرة التقليدية ترى �أن الأدب يعبرّ عنها‪ .‬فا�ستبعاد امل�ؤلف‬ ‫ال عالقة للأدب بالر�ؤية �أو معنى امل�ؤلف‪.‬‬
‫والواقع والفكرة عن مواقعها املركزية يف الأدب كان جزء ًا‬ ‫هذه نظرة �أكرث من �صورة بالغة التطرف من هجوم النقاّد‬
‫من تنقية فكرة الأدب التي ت�ؤدي �إىل تغيري جذري يف واحدة‬ ‫اجلدد على «املغالطة املق�صودة»‪ .‬لكنها نتيجة منطقية‬
‫من �أعمق املفهومات املتجذرة يف التفكري عن الأدب‪ :‬التمييز‬ ‫للمبادئ الأ�سا�سية يف النظرية ال�شكالنية‪ ،‬وبخا�صة للنظرة‬
‫بني ال�شكل واملحتوى‪.‬‬ ‫ال�شكالنية �إىل التاريخ الأدبي وللتفريق بني اللغة العملية‬
‫لقد عك�ست النظرية ال�شكالنية �أف�ضلية املحتوى على ال�شكل‪،‬‬ ‫واللغة ال�شعرية‪ .‬وبالن�سبة لل�شكالنيني تتكون الأ�صالة‬
‫ووجّ هت اهتمامها �إىل ال�شكل وحده‪ .‬وي�صبح املحتوى لذلك‬ ‫من �إعادة ت�شكيل الو�سائل املتاحة وح�سب‪ ،‬ال من الر�ؤية‬
‫معتمد ًا على ال�شكل (كما يت�ضح من الكالم على ال�سرية‬ ‫ال�شخ�صية يف اخلربة التي يعي�شها ال ُكتّاب‪ .‬ويف نظام‬
‫والواقع والفكرة) وال يكون له من وجود م�ستقل يف الأدب‪.‬‬ ‫الأ�شياء هذا يبدو �أن ال مكان لتواريخ حياة �أو �شخ�صيات‬
‫�إن املبد�أ احلركي املت�ضمّن يف التفريق بني املادة‪/‬الو�سيلة‬ ‫منتجي الأعمال الأدبية‪.‬‬
‫يعني �أن عنا�صر ال�شكل نف�سه ميكن �أن تُ�ضمّ �إىل مفهوم‬ ‫اللغة يف ال�شعر ال ت�شري �إىل غر�ض خارج ذاتها‪ ،‬وال تنال �أي‬
‫املادة‪ .‬فالو�سائل امل�ستهلكة التي مل تعد تقوم بوظيفة يف‬ ‫وزن عاطفي من الناطق بها‪ ،‬فهي لغة مكتفية بذاتها‪� ،‬أو كما‬
‫عملية التغريب تبقى متثل جزء ًا من مادة العمل بقدر‬ ‫يقول ال�شكالنيون «قيّمة بذاتها»‪ .‬لذا فالإ�شارة املغايرة التي‬
‫ما متثله �أفكار �أو مظاهر احلياة الفعلية‪� .‬إن الت�ضاد بني‬ ‫تكوّن الأدب ت�ستبعد املتكلم منذ البداية‪ :‬هدف العلم الأدبي‬
‫التلقائية والتغريب‪ ،‬الذي يقوم على الت�ضاد بني املادة‬ ‫�أدبية بال م�ؤلف‪.‬‬
‫والو�سيلة‪ ،‬ير�سم خطّ ًا يف مو�ضع خمتلف متام ًا عن اخلط‬ ‫ون�أتي الآن �إىل م�س�ألة املوقع املخ�ص�ص للواقع يف النظرية‬
‫الذي يف�صل ال�شكل عن املحتوى‪ .‬والواقع �أن الت�ضاد‬ ‫ال�شكالنية‪ .‬هنا كذلك تنقلب الأف�ضلية التقليدية للحقيقة‬
‫ميكن �أن ير�سم اخلط بطريقة جتعل من ال�شكل واملحتوى‬ ‫على الأدب‪ .‬حيث يكون املبد�أ البديهي �أن الأدب ي�ستمد من‬
‫م�صطلحني مرتادفني‪ .‬فمثالً‪،‬عندما ي�ؤلـَّف العمل لكي‬ ‫�أدب �آخر ولي�س من �أي م�صدر غري �أدبي‪ ،‬ي�صبح الواقع غري‬
‫يعر�ض جميع و�سائله للعيان يغدو ال�شكل نف�سه حمتوى‪ .‬ويف‬ ‫ذي عالقة بالكتابة �أو حتليل الأدب‪.‬‬
‫ر�أي «�شكلوڤ�سكي» تتكون رواية «�سترين» بعنوان تري�سرتام‬ ‫�إن الدور الذي يقوم به الواقع يف تكوين الأدب ثانوي وتابع‪.‬‬
‫�شاندي من �سل�سلة من التجاوزات على الأعراف الأدبية التي‬ ‫فهو يدخل يف العمل الأدبي ك�أحد املعطيات التي يبد�أ بها‬
‫ت�سرتعي انتباهنا �إىل �أ�شكال الفن الروائي؛ وبذلك حتوّل‬ ‫الفنان‪ .‬يكون الواقع يف متناول الفنان بالطريقة نف�سها التي‬
‫م�سائل ال�شكل �إىل م�سائل حمتوى‪ .‬يقول «�شكلوڤ�سكي» �إن‬ ‫تكون بها اللغة العادية والتقاليد الأدبية ال�سائرة والو�سائل‪.‬‬
‫«الوعي بال�شكل يكوّن مادة الرواية»(‪� .)3‬إن هذا التطرّف يف‬ ‫فهو �أحد مكوّنات العمل الفني ال مرجع ًا له (فالأدب لي�ست‬
‫�إعادة تق�سيم م�صطلحي ال�شكل واملحتوى يتبع منطقي ًا مبد�أ‬ ‫له مراجع)‪ .‬يقول «ياكوب�سن» يف �إ�شارة �إىل �شعر «ماالرميه»‬
‫التغريب وال�شكل ممكن الإدراك‪ .‬وعندما يجرى ت�صدير‬ ‫�إن الزهرة ال�شعرية هي الزهرة التي ال توجد يف �أيٍّ من‬
‫ال�شكل يغدو من امل�ستحيل احلديث عن �أي حمتوى �آخر �سوى‬ ‫باقات الزهور‪.‬‬
‫ال�شكل نف�سه‪.‬‬ ‫هذا العك�س للأف�ضليات ينطبق يف معظمه على امل�س�ألة‬
‫الثالثة‪ ،‬وهي موقع الأفكار يف الأدب‪ .‬ال ي�شكل املعنى ق�ضية‬
‫ال�شعر والنرث والتاريخ الأدبي‬ ‫تنه�ض بوجه ال�شكالنيني الرو�س‪ ،‬وهم يف هذا املجال‬
‫يختلفون ب�شكل ا�سا�سي جد ًا عن النقّاد اجلدد الذين‬
‫مع �أن هدف العلم الأدبي ال�شكالين كان الأدبية ولي�س‬ ‫ي�شرتكون معهم يف م�سائل �أخرى‪ .‬فالنقّاد اجلدد‪ ،‬وقبلهم‬
‫الأعمال الأدبية املختلفة‪� ،‬إال �أن �إحدى النتائج الرئي�سية‬ ‫«�آي‪�.‬أي‪.‬رچاردز» كانوا على القدر نف�سه من حما�سة‬
‫الهتمام ال�شكالنيني بالأدبية كان الوعي املتزايد بالأجنا�س‬ ‫ال�شكالنيني لف�صل الأدب عن �سياقه يف التاريخ وال�سِّ يرَ ‪،‬‬
‫الأدبية‪ .‬وبعد �أن عُ رِّفت الأدبية ب�أنها الفرق بني التلقائية‬ ‫وكان ان�شغالهم بال�شكل والتـِّـقانة يت�شابه يف كثري من النقاط‬
‫والتغريب‪� ،‬سرعان ما ات�ضح �أن الأدبية ال تت�شكّل بالطريقة‬ ‫مع من يقابلهم من ال�شكالنيني‪ .‬لكن فنّ النقاد اجلدد كان‬
‫نف�سها يف خمتلف الأعمال‪ ،‬و�أن الو�سائل التي تبينّ الفرق يف‬ ‫من �أجل تو�صيل معنى‪ ،‬وليكن معنى ال يقوى �أي خطاب‬

‫‪30‬‬
‫ال�شعر �إعالء و�إغناء التوا�صل العادي‪ .‬بل وعلى النقي�ض‬ ‫الق�ص�ص النرثي هي غري الو�سائل التي تبينّ الفرق يف ال�شعر‬
‫من ذلك‪ ،‬يريد ال�شكالنيون الرو�س �أن يركزوا على الفروق‬ ‫الغنائي‪ .‬فال�شعر والق�ص�ص يتكونان من مميّزات «�سائدة»‬
‫بني نوعني من اللغة‪ :‬لغة �شعرية تحُ دَّد على كل م�ستوى (مبا‬ ‫�أو «حمدِّ دات جن�س» خمتلفة متاماً‪ .‬والواقع �أن الذي مييز‬
‫يف ذلك امل�ستوى الداليل) تقف على النقي�ض من لغة عملية‬ ‫اجلن�سني الأدبيني عن بع�ضهما البع�ض لي�س طبيعة الو�سائل‪،‬‬
‫وعادية‪.‬‬ ‫بل طبيعة الت�ضاد الذي يكوِّن منهما �أدباً‪ .‬فالتفريق الفاعل‬
‫ومقرتب ال�شكالنيني �إىل الق�ص النرثي كان‪� -‬إىل درجة‬ ‫يف ال�شعر يقع بني اللغة العملية واللغة ال�شعرية‪ ،‬ولكن من‬
‫بعينها‪ -‬حمكوم ًا باهتمامهم الأ�صلي بال�شعر‪ .‬وحماوالت‬ ‫الوا�ضح �أن ذلك �أقل �أهمية بالن�سبة للنرث‪.‬‬
‫«�شكلوف�سكي» املبدعة يف ر�سم توازيات بني الو�سائل ال�شعرية‬ ‫كان ال�شعر نقطة البداية بالن�سبة للنظرية الأدبية‬
‫وو�سائل بناء احلبكة تبينّ �إىل �أي مدى كانت النظرية الأدبية‬ ‫ال�شكالنية‪ ،‬وقد امتد ب�شكل بالغ الو�ضوح �إىل تعريف الأدبية‬
‫ال�شكالنية عميقة اجلذور يف ال�شعر‪ .‬ولكن‪ ،‬على الرغم من‬ ‫ب�شكل مغاير‪ .‬يقول «ياكوب�سن»‪� «:‬إن ال�شعر عُ نفٌ منظّ م �ضد‬
‫الرباعة يف جهود «�شكلوف�سكي» تبينّ �أن مبد�أ املغايرة القائم‬ ‫الكالم العادي»(‪ .)4‬ودرا�سة ال�شكالنيني حول ال�شعر ت�شمل‬
‫وراء ال�شعر مل ميكن تطبيقه على النرث ب�شكل وا�سع �أو م�ؤثر‬ ‫ثالثة جماالت رئي�سية حيث يجري هذا العنف‪ .‬املجال الأول‬
‫جداً‪ ،‬فتوجّ ب بناء التعار�ض الوظيفي على �أ�س�س خمتلفة‪.‬‬ ‫هو ن�سيج ال�صوت‪ .‬يتكون العنف هنا من ت�صدير امليزة‬
‫وبتو�سّ ع �أكرث‪ ،‬كانت درا�سة ال�شكالنيني للق�ص تقوم على‬ ‫ال�صوتية للكالم العادي‪ ،‬التي تبقى يف التوا�صل الطبيعي يف‬
‫التمييز بني الأحداث من جهة وبني الرتكيب من جهة‬ ‫مرتبة �أدنى من «جمموعة» �أ�صوات الألفاظ املرجعية «ال�شعر‬
‫�أخرى‪.‬‬ ‫كالم مركَّب من كامل ن�سيجه ال�صوتي»(‪ ،)5‬ال حم�ض كالم‬
‫عادي مع حت�سينات مو�سيقية م�ضافة‪ .‬يرى ال�شكالنيون‬
‫عالقة جدلية‬ ‫�أن ثمة �أنواع ًا من الو�سائل يف ال�شعر ت�ؤدي �إىل «تخ�شني»‬
‫�أو «�إعاقة» اللفظ‪ .‬ويف م�ساهمة مبكّرة للتحليل ال�شكالين‬
‫العالقة بني الق�صة واحلبكة تكاد ت�شبه العالقة بني اللغة‬ ‫لل�شعر قدمها اليو جاكوبن�سكيب يظهر وجو ٌد وا�ض ٌح يف ال�شعر‬
‫العادية واللغة ال�شعرية‪ .‬فاحلبكة تخلق �أثر ًا تغريبي ًا يف‬ ‫من »تراكمات �أ�صوات مت�شابهة ي�صعب النطق بها»(‪.)6‬‬
‫ثانياً‪ ،‬يظهر �أثر قوانني الإيقاع يف ال�شعر بالتوتّر الذي حتدثه‬
‫مهمة ال�شكالنية هي حتليل الفروق‬ ‫بني مبد�أين خمتلفني من ترابط الكلمات‪ :‬بنية اجلملة‪ ،‬التي‬
‫حتد ّد التوتر يف اللغة العادية‪ ،‬والإيقاع الذي ي�شكل مبد�أً‬
‫بني اللغة العملية واللغة ال�شعرية‬ ‫حمدِّ د ًا ثاني ًا يف ال�شعر‪.‬‬
‫�إن الفهم الكامل لل�شعر يتطلب ر�ؤية املبد�أين يعمالن معاً‪،‬‬
‫لأن حتليل قوانني ال�شعر من دون النظر �إىل قوانني اللغة‬
‫الزهرة ال�شعرية هي الزهرة التي ال توجد‬ ‫العادية ي�ؤدي �إىل جتاوز الطبيعة اللفظية ال�صرف يف ال�شعر‬
‫يف �أي باقة من باقات الزهور‬ ‫و�إىل حتويله من حيّز اللغة �إىل حيّز املو�سيقى‪ .‬كذلك‪ ،‬ف�إن‬
‫�إهمال �ضوابط ال�شعر �سوف «يدمّر» البيت ال�شعري بو�صفه‬
‫بناء لفظي ًا حمدّداً‪ ،‬يقوم على تلك الوجوه من الكلمة التي‬
‫ترتاجع �إىل املهاد من اللغة العادية(‪ .)7‬وهكذا‪ ،‬مرة �أخرى‪،‬‬
‫ال يكون الرتكيز على ال�شعر نف�سه‪ ،‬بل على الفرق بني ال�شعر‬
‫واللغة العادية‪.‬‬
‫والوجه الثالث من اللغة العادية الذي يتجاوز عليه ال�شعر‬
‫هو داللة الألفاظ‪ .‬حيث يختلف ال�شعر عن اللغة العادية يف‬
‫كونه ي�ستدعي املعاين الثانوية �أو امل�صاحبة للكلمة يف �آنٍ‬
‫معاً‪ ،‬وهو �إجراء قد ي�سبب �إرباك ًا يف التوا�صل العادي‪ ،‬الذي‬
‫يقوم على غياب الغمو�ض ب�سبب وجود معنى وظيفي واحد‬
‫للكلمة وح�سب‪ .‬يقول «�آيخنباوم»‪ :‬عندما تدخل املفردات‬
‫يف ال�شعر تكون ك�أنها انتزعت من الكالم العادي‪ .‬ثم‬
‫تغدو حماطة بهالة جديدة من املعنى(‪ .)8‬يبدو هذا الكالم‬
‫من م�ألوف �أ�صحاب النقد اجلديد‪ ،‬فهو ي�ستدعي مفهوم‬
‫الغمو�ض عندهم �أو عند «وليم �إمـﭙ�سن»‪ .‬لكن ال�شكالنيني‬
‫ال ي�شاركون �أ�صحاب النقد اجلديد ر�أيهم يف �أن ال�شعر‬
‫نقي�ض ٌة �أو ح ٌل متناق�ضات‪ ،‬لأنهم مل يكونوا مهتمني باملعنى‬
‫يف ال�شعر‪ .‬والأهم من ذلك �أن ال�شكالنيني يختلفون جذري ًا‬
‫عن �أ�صحاب النقد اجلديد يف الطريقة التي يربطون بها‬
‫غمو�ض ال�شعر باللغة العادية؛ فمن خالل الوظيفة املغايرة‪،‬‬
‫ولي�س عن طريق االن�سجام والرتكيز وح�سب‪ ،‬ي�ستطيع‬
‫‪31‬‬
‫هذا الرتاث على �أنها «طريق م�سدود»‪� ،‬أو يف الأقل هي م�ؤ�شر‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫نحو التفكك(‪.)11‬‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫واملجال الثالث الذي قدم فيه ال�شكالنيون م�ساهمات عملية‬
‫‪ -‬تاريخ الأدب ‪ -‬ميثل ت�ضا ّد ًا مغاير ًا ثالث ًا يف حتديد ما هو‬
‫�أدبي‪ .‬فحيث يعنى ال�شعر بالتفريق بني اللغة العادية ولغة‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫ال�شعر‪ ،‬ويعنى الق�ص مبا ميكن �أن يدعى �شك ًال �أدبي ًا يفرقه‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫عن حمتواه غري الأدبي‪ ،‬ي�ستدعي مفهوم ال�شكالنيني للتاريخ‬ ‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫الأدبي تفريق ًا بني ال�شكل التلقائي وال�شكل قابل الإدراك يف‬
‫داخل الأدب نف�سه‪ .‬وهذا العن�صر املغاير يف التاريخ الأدبي‬
‫يبعده ب�شكل جذري عن املفاهيم ال�سابقة للبعد التاريخي يف‬ ‫الق�صة‪ ،‬وو�سائل احلبكة مل تـُه ّي�أ لتكون �أدوات لتو�صيل‬
‫الأدب‪� .‬إن النظرة الوراثية قد تبدو للوهلة الأوىل �أنها تكوّن‬ ‫الق�صة‪ ،‬بل �إنها تدفع �إىل ال�صدارة على ح�ساب الق�صة‪.‬‬
‫طريقة تاريخية رفيعة يف التفكري حول الأدب‪ ،‬لأن الن�ص‬ ‫وميكن �أن تختلف هذه الو�سائل ب�شكل كبري يف طبيعتها‬
‫الأدبي كان يُف�سَّ ر من ناحية �أ�سبابه و�أ�صوله‪ .‬لكن النظرة‬ ‫ومداها‪ :‬من العر�ض ال�شامل لبنية الق�ص نزو ًال �إىل التالعب‬
‫التي ت�ضمّنتها عن الأدب ب�شكل عام انتهت �إىل نظرة غري‬ ‫اللغوي‪ .‬ودرا�سة «�آيخنباوم» لرواية «غوغول» بعنوان املعطف‬
‫تاريخية‪ .‬فعند تناول «العظماء» وحدهم والتعامل معهم‬ ‫مثال جيّد على الأمر الثاين‪ .‬فهو يتجرّد للقول �إن يف هذه‬
‫ك�أنهم ظواهر منعزلة‪ ،‬اخفق التقليديون من نقاد الأدب‬ ‫احلكاية «يتحول مركز اجلاذبية من املو�ضوع‪� ...‬إىل‬
‫والباحثني يف تو�صيل �أي �إح�سا�س بتطور تاريخي �شامل‬ ‫الو�سائل(‪ .)9‬والأ�سا�س احلركي يف بنية احلكاية ال يوجد يف‬
‫للأدب‪.‬‬ ‫الأحداث املرويّة‪ ،‬بل يف طريقة عر�ضها‪ .‬وهذه الطريقة‬
‫وبوجه عام‪ ،‬يرى ال�شكالنيون قوتني متكاملتني تعمالن‬ ‫نف�سها ال تقررها �شخ�صية الراوي املزعومة‪ ،‬بل ال�صيغ‬
‫يف تطوّر الأدب‪ .‬تتعلق الأوىل بالو�سائل ال�سائدة يف جن�س‬ ‫البالغية من تورية وغريها من امل�ؤثرات ال�صوتية اللفظية‬
‫�أدبي بعينه و‪�/‬أو يف فرتة حمدّدة‪ .‬ومع مرور الزمن تغدو‬ ‫التي ت�ؤدي �إىل تفريق و�إزاحة الواقع‪ ،‬الذي قد يبدو ك�أنه‬
‫هذه الو�سائل م�ألوفة وال تعود مما ي�سرتعي املالحظة‪.‬وعند‬ ‫نقطة البداية‪ .‬وهكذا تكون «الق�صة» كما يف هذه احلكاية‪،‬‬
‫بلوغ هذه املرحلة يظهر عمل �أدبي جديد يقوم بالتقاط تلك‬ ‫نتيجة و�سائل لغوية معينة �صرف»‪.‬‬
‫الو�سائل وي�صنع منها و�سائل ت�سرتعي املالحظة من جديد‪،‬‬ ‫وثمة ُمقترَ َب �شكالين �أكرث جوهرية نحو الق�ص جنده يف‬
‫وب�أ�سلوب املحاكاة ال�ساخرة يف العادة‪.‬‬ ‫درا�سة «�شكلوڤ�سكي» عن رواية تري�سرتام �شاندي‪ .‬فهذه‬
‫الرواية‪ ،‬مبا فيها من نظام �سرد م�ضطرب‪ ،‬وتعليق من‬
‫قوة و�ضعف‬ ‫امل�ؤلف �شديد الربوز والوعي بالذات‪ ،‬ت�شكل مثا ًال نادر ًا بيد‬
‫ال�شكالنيني لتف�ضيل احلبكة على الق�صة‪ .‬فاملبد�أ ال�شكالين‬
‫ومبد�أ التطوّر الآخر يت�صل بتقدمي و�سائل من �أجنا�س �شائعة‬ ‫القائل «�إن �أ�شكال الفن تُف�سَّ ر بقوانني الفن‪ ،‬وهي ال ت�سوَّغ‬
‫�أو هام�شية �إىل امل�سار الرئي�سي يف التطور الأدبي‪ ،‬لتح ّل‬ ‫بواقعيتها(‪ )10‬يبدو وا�ضح ًا يف كل جانب تقريب ًا من رواية‬
‫حمل و�سائل م�ستهلكة‪« .‬د�ستويـف�سكي» مثالً‪ ،‬يرفع الو�سائل‬ ‫ا�سترين»‪ ،‬ولي�س ثمة من حاجة لأن ي�ستخل�ص منها بالتحليل‬
‫امل�ستعملة يف ما يدعوه «�شكلوف�سكي» رواية ال�شوارع �إىل‬ ‫(رمبا كما هو احلال يف رواية املعطف)‪ .‬فو�سائل البناء‬
‫مرتبة املثال الأدبي‪ ،‬كما يحوّل «جيخوف» بع�ض املعامل من‬ ‫مك�شوفة للعيان ولي�ست م�ستثارة بفعل الأحداث واملواقف‬
‫املجالت الهزلية �إىل نرث �أدبي رو�سي‪ .‬مل يعد التاريخ الأدبي‬ ‫يف الق�صة‪ .‬وي�صيب اال�ضطراب الق�صة مرار ًا بفعل بع�ض‬
‫تف�سري ًا تعليلي ًا لروائع الأدب العاملي‪ ،‬وال تراث ًا متوا�صالً‪.‬‬ ‫و�سائل احلبكة‪ ،‬مثل تغيري املواقع يف ال�سياق (حيث ال‬
‫�إنه م�شروع كبري يف �شعرية ال�شكالنية الرو�سية‪ ،‬لأن يف‬ ‫تظهر املقدمة �إال يف الف�صل الع�شرين يف املجلد الثالث)‬
‫�آخر املطاف «يكون واجب التاريخ الأدبي‪ ....‬هو بال�ضبط‬ ‫والإزاحات الزمنية التي تك�شف عن النتائج قبل الأ�سباب‪،‬‬
‫الك�شف عن ال�شكل(‪� .)12‬إن التوكيد على وجود مبد�أ التغاير‬ ‫و�إقحام �أحدوثات ثانوية‪ ،‬واجلنوح نحو ا�ستطرادات كثرية‬
‫يف جميع جوانب الفكر ال�شكالين قد ي�ؤدي باملرء �إىل الظن‬ ‫من كل نوع‪ .‬ورمبا كانت �أبرز هذه الو�سائل تكرار التعليقات‬
‫ب�أن الو�ضوح يف النظرية هو نتيجة موقف فكري متّخذ �سلف ًا‬ ‫اخلجولة التي يقدمها امل�ؤلف‪ ،‬فيك�شف عن و�سائله متام ًا‬
‫و�أن هدف ال�شكالنيني هو �إقامة نظام ثابت مت�شدد‪ .‬لكن‬ ‫بالإ�شارة �إىل الفروق بني الق�صة واحلبكة‪.‬‬
‫التما�سك املذهل يف النظرية ال�شكالنية ال ميكن بحال �أن‬ ‫هذه النظرة �إىل الق�ص النرثي متيل �إىل االختالف مع‬
‫يعزى �إىل �ضغط التقليديني من بني اجلماعة‪ .‬فعلى اجلانب‬ ‫النظرة التي ينطوي عليها تراث النقد اجلديد الذي‪ ،‬يف‬
‫الفردي كانوا جميع ًا يجهدون يف التوكيد على الطبيعة‬ ‫قراءته للق�ص‪ ،‬قد �أخ�ضع ب�شكل منهجي م�سائل احلبكة �إىل‬
‫امل�ؤقتة لأدوات املفاهيم‪ ،‬كما ميكن مالحظة مرونتهم‬ ‫م�سائل الواقعية‪ .‬وحيث كان ال�شكل ق�ضية يف هذا الرتاث‪،‬‬
‫يف الطريقة التي تطورت بها النظرية لت�شمل مو�ضوعات‬ ‫كما يف وجهة النظر ال�سردية عند «هرني جيم�س»‪ ،‬جرى‬
‫جديدة مثل الق�ص والتاريخ الأدبي‪ .‬ي�ؤكد «�آيخنباوم» ب�شدة‬ ‫ت�صنيف ال�شكل حتت م�سائل �أكرث تقليدية مثل املو�ضوع‬
‫�أنهم اما كانوا مدافعني عن طريقة‪ ،‬بل باحثني يف �شيء(‪.)13‬‬ ‫والر�ؤية الأخالقية‪ ،‬وغدا ال�شكل و�سيلة لتو�صيل هذه امل�سائل‬
‫والواقع �أن هذا ال�شيء (الأدبية) والطريقة التي حُ دِّ د بها‬ ‫الأخرى‪ .‬وحيث تكون خ�صائ�ص التقانة �شديدة الربوز‪ ،‬كما‬
‫هو الذي �ضمن الو�ضوح يف العلم الأدبي‪� .‬إن الإ�صرار على‬ ‫يف رواية «جيم�س» بعنوان يولي�سي�س حُ كِمَ على الرواية يف‬
‫‪32‬‬
‫وهو يقوم على االدّعاء ب�أن جميع ا�ستعماالت اللغة‪ ،‬مبا‬ ‫اخل�صو�صية (يف العلم ويف ال�شيء مو�ضع بحثه) وما يقوم‬
‫فيها اال�ستعمال الأدبي‪ ،‬هو ا�ستعمال اجتماعي ومذهبي‬ ‫عليه من خطة مغايرة قد برهن ال على حم�ض كون العلم‬
‫(�أيديولوجي)‪ .‬وفائدة هذا القول �إنه يتيح للمرء حتديد‬ ‫الأدبي مثمر ًا جد ًا وقاب ًال للتطوير‪ ،‬بل على كونه متما�سك ًا‬
‫عالقة الأدب بالواقع بطريقة �أكرث ايجابية وو�ضوحاً‪:‬‬ ‫ب�شكل ملحوظ كذلك‪ .‬و�إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ف�إن عدد ًا من‬
‫فالأدب والواقع الذي ميثله يقعان على امل�ستوى نف�سه‪ ،‬ويرى‬ ‫املظاهر الكربى يف النظرية ال�شكالنية تربهن على �أنها‬
‫«باختني» �أن هذا امل�ستوى مذهبي‪ .‬وعلى الرغم من �أن‬ ‫كانت تتوقع بع�ض ًا من �أهم الأفكار يف النظرية الأدبية يف‬
‫الأدب مذهبي بال�ضرورة‪ ،‬ف�إن خ�صائ�صه بو�صفه �أدب ًا لها‬ ‫القرن الع�شرين‪� ،‬إن مل تكن م�ؤثرة ب�شكل مبا�شر فيها‪.‬‬
‫�أثر �إق�صائي على ما متثله من مذاهب‪ ،‬وهكذا تتيح للقارئ‬ ‫فاملوقع املركزي للّغة‪ ،‬والتقليل من �أهمية عن�صر ال�سرية‪،‬‬
‫�أن يغدو �أكرث وعي ًا بها بو�صفها مذاهب‪ .‬ونظرة البنيوية‬ ‫وفكرة علم الأدب‪ ،‬والأهمية املعطاة لالنحراف عن امل�ألوف‬
‫�إىل اللغة ت�ؤدي كذلك �إىل نظرة �أكرث مرونة و�شمو ًال بكثري‬ ‫ت�شكل مبجموعها بع�ض ًا من اخل�صائ�ص الرئي�سية املتكررة‬
‫جتاه العالقة بني الأدب والواقع‪ .‬تعرّف النظرية البنيوية‬ ‫يف النظرية الأدبية من «ياكوب�سن» �إىل «بارت»‪.‬‬
‫ك ًّال من الأدب والواقع االجتماعي �أو الثقايف مب�صطلحات‬ ‫هذه �إذن‪ ،‬هي نواحي القوة يف النظرية‪� .‬أما نواحي التق�صري‬
‫�سيمائية‪ ،‬مما ي�ؤدّي �إىل النظر �إليهما وك�أنهما واقعان على‬ ‫فم�صدرها الرئي�سي يت�أتى من اهتمامها املق�صور على‬
‫ال�شكل وحده هو ما ت�ستهدفه ال�شكالنية‬

‫امل�ستوى نف�سه (كما هو احلال يف نظرية «باختني»)‪ .‬ويف‬ ‫الأدبي‪� .‬أما العنا�صر غري الأدبية‪،‬التي يحدّد جتاهها ب�شكل‬
‫الوقت نف�سه‪ ،‬يرى �أغلب املنظّ رين البنيويّني ان الأدب ما‬ ‫حتظ مبا يكفي من تنظري‪.‬‬‫مغاير كل ما هو �أدبي‪ ،‬ف�إنها مل َ‬
‫زال يحتفظ بتميّزه من خالل وعيه اللغوي اخلا�ص ‪ -‬وهي‬ ‫لي�س لدى ال�شكالنيني نظرية متطورة يف اللغة‪ ،‬وال نظرية‬
‫فر�ضية تعتمد �أي�ض ًا على نظرية يف اللغة معقدة ن�سبياً‪.‬‬ ‫يف الثقافة واملجتمع‪ ،‬وهذا النق�ص ي�ضع حدود ًا معينة على‬
‫وبعبارة �أخرى‪ ،‬مع ان ال�شكالنيني قد خَ طَ وا خطوة بالغة‬ ‫نظريتهم يف الأدب‪� .‬إن املعاجلة النظرية الرفيعة يف الن�صف‬
‫الأهمية يف جعل اللغة مركزية يف تعريفهم للأدب‪ ،‬ف�إن‬ ‫الأدبي من معادلتهم ال جتد ما مياثلها يف الق�سم غري الأدبي‬
‫تق�صريهم النظري ميكن �أن يعزى �إىل ح ّد كبري �إىل‬ ‫منها‪ .‬يف النظرية ال�شكالنية نحن نتعامل مع نظرة يف اللغة‬
‫�إخفاقهم يف تو�سيع نظرية يف اللغة لت�شمل �آفاق ًا �أخرى‪.‬‬ ‫حمدودة جد ًا �سابقة على نظرية «�سو�سّ ور»‪ .‬لكن نظرة يف‬
‫وتبقى فكرتهم عن الواقع حبي�سة وجهة النظر الثقافية التي‬ ‫اللغة‪ ،‬را�سخة نظرياً‪ ،‬ميكن �أن ت�ضفي على النظرية الأدبية‬
‫كانت نظريتهم يف الأدب حتاول ا�ستبدالها‪ .‬وامل�صاعب التي‬ ‫قدر ًا �أكرب من الرهافة والت�شذيب ‪ -‬كما هو احلال يف‬
‫ج ّر �إليها ذلك ميكن ر�ؤيتها بو�ضوح �شديد يف نظريتهم عن‬ ‫املثال ذي الوظائف ال�ستّ عندبرومان ياكوب�سن‪� .‬إن نظرية‬
‫التاريخ الأدبي‪ .‬فعلى الرغم من تعريفهم املجدّد للتاريخ‬ ‫«�سو�سّ ور» يف اللغة‪� ،‬أو النظرية ال�سيمائية باخل�صو�ص‪ ،‬تفتح‬
‫الأدبي بو�صفه �سل�سلة غري متوا�صلة‪ ،‬ف�إنهم مل ي�ستطيعوا‬ ‫�آفاق النظرية الأدبية لأنها تقدم و�سائل لتنظري واقع غري‬
‫تف�سري كيفية ات�صال التاريخ الأدبي ب�سال�سل تاريخية‬ ‫�أدبي �إ�ضافة �إىل الأدب نف�سه‪.‬‬
‫�أخرى‪ .‬فلو كان لديهم نظرية اجتماعية وثقافية �أكرث تطور ًا‬ ‫كان النقد املارك�سي لل�شكالنية الرو�سية يركّز بت�شديد‬
‫لغدوا يف و�ضع �أف�ضل بكثري للتعامل مع هذه امل�شكلة‪.‬‬ ‫خا�ص على غياب �أي بُعد اجتماعي يف مفهومها عن الأدب‪.‬‬
‫وي�أتي �أكرب هجوم يف نقد ال�شكالنية من مدر�سة «باختني»‬

‫هوام�ش‪:‬‬

‫‪.T.S. Eliot, Selected Essays, London, 1972 (1932) p.22‬‬ ‫‪. 1‬‬
‫‪Osip Brik, Russian Poetics in Translations.1977 (1932),p.90‬‬ ‫‪ .2‬‬
‫‪Lemon & Reis, Russian Formalist Criticism: Four Essays, Lincoln Nebrasca. p.12‬‬ ‫‪ .3‬‬
‫‪ Victor Elrich, Russian Formalism: History‬ذ‪.Doctrine, The Hague, 1980, p.219‬‬ ‫‪ .4‬‬
‫‪.Ibid., p.212‬‬ ‫‪ .5‬‬
‫‪.Lemon & Reis, op.cit., p.19‬‬ ‫‪ .6‬‬
‫‪.Matejka & Pomorska, Readings in Russian Poetics, Ann Arbor, Mich. 1978. p.124‬‬ ‫‪ .7‬‬
‫‪Lemon & Reis, op.cit., p.129‬‬ ‫‪ .8‬‬
‫‪.Boris Eichenbaum, Russian Review, 20 (1963) p.377‬‬ ‫‪ .9‬‬
‫‪Lemon and Reis, op.cit., p.57‬‬ ‫‪ .10‬‬
‫‪.F.R. Leavis, The Great Tradition, Hamondsworth, Middx. 1962 (1948) p.36‬‬ ‫‪ .11‬‬
‫‪.Matjeka & Pomorska,op.cit.,p.132‬‬ ‫‪ .12‬‬
‫‪.Lemon & Reis, Op.cit., p.131‬‬ ‫‪ .13‬‬

‫‪33‬‬
‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ال �شك �أن منت�صف القرن الثامن ع�شر �شهد �أ�شكا ًال‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫خمتلفة من التم ّرد على الإب�سينية بوا�سطة ك ّتاب‬
‫وخمرجني مبدعني �صنعوا بعبقريتهم جتارب ومدار�س‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫فنية جديدة متم ّردة ثارت على ال�شكل الدرامي التقليدي‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫للإب�سينية‪ ،‬ومن �أهم ه�ؤالء الك ّتاب واملخرجني �ألفريد‬ ‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫جاري‪� ،‬أبيا‪� ،‬أرتو‪ ،‬برخت‪ ،‬كريك‪ ،‬برنارد �شو‪ ،‬برانديللو‪،‬‬
‫�ستان�سالف�سكي وغريهم كثريون‪ ،‬كل منهم يف ر�أيي‬
‫يحتاج �إىل بحوث لإبراز مت ّرده‪ ،‬ويف هذه املقالة �أحاول �أن‬
‫�أتناول �أبرز مدر�سة لفنانني مت ّردوا على الإب�سينية �شك ً‬
‫ال‬
‫عبوا فيه عن‬ ‫وم�ضموناً‪ ،‬وبنوا �صرحاً فنياً �إن�سانياً رّ‬
‫واقعهم الإن�ساين كما عاي�شوه بعذاباته و�آالمه وم�آ�سيه‬
‫و�شعروا بعبثية وال معقولية �أال وهي مدر�سة م�سرح‬
‫العبث‪ ،‬كما �أحاول �أن �أتع ّر�ض لكاتب فذ �أثر بكتاباته‬
‫املتم ّيزة على ك ّتاب هذه املدر�سة بفكره وفنه �أال وهو‬
‫الكاتب ال�صقلي الإيطايل برانديللو‪ ،‬هذا املتم ّرد الذي‬
‫هدم بوعيه وعبقريته �شكل الإب�سينية‪ ،‬وخلق مب�سرحيته‬
‫ال جديداً‬ ‫اخلالدة (�ست �شخ�صيات تبحث عن م�ؤلف) �شك ً‬
‫يف الكتابة امل�سرحية‪« ،‬امل�سرح داخل امل�سرح» بالإ�ضافة �إىل‬
‫معباً فيها عن خواء الواقع‬ ‫امل�سرحيات العديدة التي �ألفها رّ‬
‫«لكل حقيق ُته» ب�شكل م�سرحي‬ ‫احلياتي م ّب�شراً بفل�سفة ٍّ‬
‫ال وم�ضموناً‪ ،‬ت�أثر به ك ّتاب امل�سرح‬ ‫�إبداعي جديد �شك ً‬
‫الفرن�سي وبنوا على �أفكاره فكراً وفناً جديداً متناغماً مع‬

‫ك ّتاب‬
‫فكره الفني �أ�سلوباً درامياً يعتمد على ا�ستاتيكية احلدث‬

‫امل�سرح احلديث‬
‫الدرامي املتنامي‪.‬‬

‫والتمرد على‬
‫ّ‬
‫الإب�سينية‬
‫حمد الرميحي‬
‫كاتب وخمرج من قطر‬

‫‪34‬‬
‫ولكي نعرف كيف حدث التم ّرد عند كتّاب امل�سرح احلديث‬
‫فال ب ّد �أن نعرف الأ�سباب والظروف االجتماعية وال�سيا�سية‬
‫واالقت�صادية والفكرية للتم ّرد‪ ،‬فالتم ّرد ال ُي ْخلق من العدم‬
‫ولي�س �صرعة لكاتب ما يف مكان ما من العامل‪ ،‬فالتم ّرد‬
‫الكتابي فعل �إن�ساين يحدث نتيجة تراكم معريف ثقايف‬
‫فكري فل�سفي ل�شعب‪ ،‬لأمة وحل�ضارة ما‪.‬‬
‫كما �أحاول هنا �أن �أغو�ص يف طبيعة مت ّرد برانديللو وكتّاب‬
‫م�سرح العبث الفرن�سي كظاهرة مت ّردية �شغلت العامل‬
‫و�أر�ست �أ�شكا ًال م�سرحية ك�سرت الإب�سينية و�أر�ست قالب ًا �أو‬
‫قوالب جديدة �شك ًال وم�ضمون ًا‪.‬‬
‫فال �شك يف �أن �أي اجتاه �أدبي يف جمتمع من املجتمعات‬
‫هو نتاج املرحلة احل�ضارية التي مي ّر بها‪ ،‬ولقد م ّر املجتمع‬
‫الأوروبي يف خمتلف مراحل تطوره مبتغيرّ ات اجتماعية‬
‫وفل�سفية و�أدبية وعلمية و�سيا�سية‪ ،‬خ�صو�ص ًا بعد‬
‫احلربني العامليتني اللتني هزّتا كيانه‪ ،‬وهدمتا‬
‫كثري ًا من �أ�صنامه الرا�سخة يف عقل الإن�سان‪.‬‬

‫الأدب وانهيار املفاهيم‬


‫وللأدب القدر الأكرب يف التعبري عن انهيار املفاهيم التي‬
‫جاءت يف النظريات العلمية والفل�سفية واالجتماعية‬
‫وال�سيا�سية والأدبية‪ ،‬و�أكرب �صيحة دوت يف العامل مربزة‬
‫�أنواع اخلواء‪ ،‬والعفن الإن�ساين‪ ،‬والتح ّلل الروحي الذي‬
‫جلبته الربجوازية الأوروبية بعد ن�شوة انت�صارها‪ ،‬هي‬
‫رثاء «ت‪�.‬س‪.‬اليوت» يف ق�صيدته الأر�ض اخلراب(‪ )1‬و�أهم‬
‫النظريات الفل�سفية التي �ساعدت يف عملية الهدم و�أنهت‬
‫عهد ال�صروح امليتافيزيقية هي فل�سفة «هيجل املثالية»‪،‬‬
‫التي ترى �أن الفكر �سابق على وجود املادة‪ ،‬والفل�سفة‬
‫املارك�سية التي عار�ض فيها مارك�س فل�سفة هيجل على‬
‫�أ�سا�س املادية اجلدلية التي ت�ؤ ّكد �أن وجود املادة �سابق‬
‫على وجود الفكر‪ ،‬و�أقام املادية التاريخية التي تبحث يف‬
‫علم قوانني التطور االجتماعي‪ ،‬وال�صراع الطبقي وخمتلف‬
‫جماالت الن�شاط الب�شري(‪ ،)2‬والفل�سفة التحليلية عند‬
‫«برتر اندر�سل» و«جورج مور» اللذين وجها �صدمة للمجتمع‬
‫مبطلقاته الأخالقية‪ ،‬والفل�سفة «الربجماتية» عند «وليم‬
‫جيم�س» و«جون ديوي» والوجودية التي عك�ست الت�شا�ؤم‬
‫واخلواء الإن�ساين وعبثية احلياة‪ ،‬وفل�سفة نيت�شه التي كانت‬
‫تعبري ًا وجودي ًا عن احلياة‪ ،‬ومن ثم ال�صرخة التي زلزلت‬
‫�أكرب �إميان �إن�ساين يف الوجود‪ ،‬وهو الإميان باهلل(‪ )3‬يقول‬
‫«ريجي�س جوليفييه» والواقع �أن نيت�شه قد ا�صطدم ا�صطدام ًا‬
‫فاجع ًا مب�شكلة احلقيقة هذه حينما �أدرك �أن احلل الذي‬
‫و�ضعه لها يج ّر �إىل انقالب يف لوحة القيم كلها‪ ،‬ف�إذا مل‬
‫تعـد هنـاك «�سماء للحقيقة» بالن�سبة له فذلك لأنه مل يعد‬
‫‪35‬‬
‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬

‫يوجد �إلـه ت�ستند �إليه يف ثباتها ودوامها‪ ،‬و«موت الإله» الذي‬


‫يعلنه يف كتاباته الأخرية وهو انهيار املطلق ب�صورة �أ�سا�سية‬
‫وحا�سمة‪ ،‬فالعامل �إن�ساين‪ ،‬والتاريخ �إن�ساين‪ ،‬والإن�سان‬
‫موجود‪ ،‬وهو لي�س �سوى �إن�سان(‪.)4‬‬
‫ومن النظريات العلمية التي �ساهمت يف ك�سر الأفكار‬
‫القدمية‪« ،‬دارون» يف «�أ�صل الأنواع» (‪ ،)1849‬والن�سبية‬
‫�ستان�سالف�سكي‬ ‫عند اين�شتني‪ ،‬ونظرية التحليل النف�سي عند «فرويد» التي‬
‫�صبغت �أدب القرن الع�شرين ب�أفكارها‪ ،‬وخ�صو�ص ًا فكرة‬
‫حني تقف حكومات العامل �ضدها – ويف ظ ّل هذا الت�أمني‬ ‫ازدواج ال�شخ�صية و�صراعاتها مع ذاتها(‪.)5‬‬
‫قد حتدث بع�ض الأخطاء املعار�ضة التي يجب �أال ير ّكز‬ ‫كما �أحدث العلم احلديث ت�أثري ًا كبري ًا يف عقل الإن�سان‬ ‫التمرد‬
‫املف ّكرون عليها‪ ،‬ولكن ال يوجد �أي م ّربر لأن تنزل �إىل م�ستوى‬ ‫املعا�صر‪ ،‬فطبعه بطابع الآلة‪ ،‬التي �سيرّ ت ال�صواريخ‬
‫ال �إن�ساين وال حر‪ ،‬بينما هي قامت على �أ�سا�س اال�شرتاكية‪،‬‬ ‫الف�ضائية والغوا�صات الذرية‪ ،‬ومن العوامل التي غر�ست‬ ‫الكتابي‬
‫التي تعمل على �إعالء الإن�سان وتعميق احلرية(‪.)8‬‬ ‫بذرة ال�شك يف قيم الإن�سان املعا�صر‪ ،‬احلرب العاملية الأوىل‪،‬‬ ‫فعل �إن�ساين‬
‫التي كانت �إيذان ًا بنهاية العامل القدمي الذي كان يعي�ش‬
‫وجود وعبث‬ ‫فرتة جني ثمار الثورات ال�شعبية التي قامت يف �أوروبا(‪،)6‬‬ ‫يحدث نتيجة‬
‫ومن هذه العوامل التي ذكرناها بد�أ ال�شعور العميق بفردية‬
‫�إ�ضافة �إىل هذا �شهد القرن الع�شرون اندحار اال�ستعمار‬
‫القدمي بجميع �أنواعه‪ ،‬وظهور احلركات اال�شرتاكية يف‬ ‫تراكم‬
‫الإن�سان ووحدته وخيبة �أمله يف رقي احل�ضارة الب�شرية بعد‬ ‫العامل بعد الثورة الرو�سية عام ‪ ،1917‬وانهيار االقت�صاد‬ ‫معريف‬
‫ت�شككها يف القيم املنطقية التي ي�ؤمن بها الإن�سان الأوروبي‪،‬‬ ‫العاملي‪ ،‬وظهور الفا�شية الأوروبية الرهيبة‪ ،‬و�سيطرتها يف‬
‫فجاءت �أغلب كتابات الإن�سان الأوروبي حافلة بالرثاء‬ ‫�إيطاليا و�أملانيا ورومانيا واملجر‪ ،‬ويف ظل هذه املتغيرّ ات‪،‬‬ ‫ثقايف‬
‫املفعم‪ ،‬وحاالت انعدام التوازن‪ ،‬وافتقار العامل �إىل معنى‬ ‫عا�شت �أوروبا يف متزق �سيا�سي واقت�صادي �أدّى بال�ضرورة‬ ‫فكري‬
‫حقيقي‪ ،‬مما �أدّى بالإن�سان �إىل الي�أ�س العميق‪ ،‬ومن خالل‬ ‫�إىل ن�ش�أة جو خانق للحرية يف �أكرث مناطقها‪.‬‬
‫هذا الي�أ�س خرج بع�ض الكتّاب الذين �أطلق عليهم كتاب‬ ‫وفل�سفي‬
‫«العبث» �أو كتاب «الطليعة» يف فرن�سا‪ ،‬ليوقفوا كل حماولة‬ ‫ا�شرتاكية وعنف‬
‫ملقارعة هذا العامل بالفكرة املنطقية‪ ،‬طاملا �أن العامل نف�سه‬
‫فقد كل موا�صفات املنطق‪ ،‬فلم تعد اللغة قادرة على نقل‬ ‫وبجانب ظهور الفا�شية يف �أوروبا‪ ،‬برز الفكر اال�شرتاكي‬
‫�أي معنى �أو فكرة‪ ،‬ولذلك اختفت ال�شخ�صية املتكاملة يف‬ ‫الذي �أخذ يعلو‪ ،‬بعد جناح الثورة الرو�سية ومقارعتها‬
‫الأدب كما و�صفها �أر�سطو – البطل الأر�سطي – النهيار كل‬ ‫للنازية – ف�آمن به املاليني الذين وجدوا يف «الفل�سفة‬
‫املعاين التي تخلق هذه القيم‪.‬‬ ‫املارك�سية» اخلال�ص الأخري للب�شرية‪� ،‬إال �أنه يف العهد‬
‫ومات النقد الذي ال يقوم �إال على تراث �أدبي بال�ضرورة‪،‬‬ ‫«ال�ستاليني» م ّرت الثورة ب�أزمة نتيجة لتطبيقها لهذه‬
‫فلم تعد هناك �ضرورة لوجود‪ ،‬لأنه يحتاج �إىل معان‬ ‫الفل�سفة‪ ،‬فالبع�ض مال �إىل الي�سار متخذ ًا من العنف و�سيلة‬
‫منطقية ينطلق منها(‪ )9‬وجاءت م�سرحية «يف انتظار جودو»‬ ‫يف جمابهة الر�أ�سمالية والبع�ض مال �إىل اليمني متخذ ًا‬
‫لبيكيت يف يناير ‪ 1953‬مربزة ما و�صلت �إليه الب�شرية من‬ ‫منهج املهادنة مع �إبراز م�ساوئ الر�أ�سمالية‪ ،‬كا�ستعمارها‬
‫خواء‪ ،‬و�س�أم‪ ،‬فالوجود �أ�صبح �ساكن ًا راكد ًا برغم �صريورته‪،‬‬ ‫لل�شعوب وا�ستغالل الإن�سان يف جمتمعاتها‪ ،‬ولكن يف العهد‬
‫وندرك هذا من خالل حوار «تالدميري» بوزو «ا�سرتاجون»‬ ‫نف�سه حدث كثري من الأخطاء الال�إن�سانية املتناق�ضة مع‬
‫�إذ نعرف مدى امللل واخلواء الذي يولده انتظار الإن�سان‬ ‫الفكـر اال�شرتاكي‪ ،‬الذي من املفرو�ض �أنه يعمل على رقي‬
‫للموت يف هذه احلياة‪ ،‬رغم عمله وحركته الدائبة‪:‬‬ ‫الإن�سان وتعميق ملفاهيم احلرية وامل�ساواة والإخاء(‪ )7‬يقول‬
‫ا�سرتاجون‪� :‬أتظن �أن‪...‬‬ ‫حممد ر�شاد خمي�س يف مقدّمته لرتجمة م�سرحية «�سجناء‬
‫فالدميري‪ :‬كال ال �أعني هذا‪ ،‬بل �أعني �أنني �أ�ؤكد �أنني كنت‬ ‫الطونا»‪.‬‬
‫�أعاين من تعب عقلي عندما جئت �إىل هذا العامل‪ ،‬ولكن‬ ‫ومن جانب �آخر كان التطبيق ال�ستاليني يت�سم بالعنف‬
‫لي�ست هذه امل�س�ألة‪.‬‬ ‫و�إهدار احلرية‪� ،‬صحيح �أن هناك مربرات لها قيمتها‪،‬‬
‫بوزو‪ :‬خم�سة �شلنات‪..‬‬ ‫�أهمها �أن �أول واجب على �أية ثورة هو ت�أمينها‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬
‫‪36‬‬
‫برنارد �شو‬ ‫برخت‬

‫مثالية هيجل‬ ‫فاحلياة الإن�سانية �إذن ال �أهمية لها‪ ،‬هذا وا�ضح‪.‬‬ ‫فالدميري‪� :‬إننا يف االنتظار‪ ،‬لقد ا�ستبد بنا امللل (يل ّوح بيده)‬
‫كل الذين يف ّكرون مثلك يجب �أن يقبلوا هذا اال�ستدالل و�أن‬ ‫كال‪ ،‬ال تعرت�ض‪� ،‬إن امللل يكاد يقتلنا‪ ،‬وما من �سبيل لإنكار‬
‫�أنهت عهد‬ ‫يعتربوا حياتهم عدمية القيمة‪ ،‬فما داموا يعتربون املال‬ ‫ذلك‪ ،‬ح�سن ًا‪ .‬ثم يت�صادف �أن جند �شيئ ًا يروح عن نفو�سنا‬
‫ال�صروح‬ ‫كل �شيء‪� ،‬إ�ضافة �إىل ذلك �أنا ق ّررت �أن �أكون منطقي ًا‪ ،‬وما‬ ‫فماذا نفعل؟ نوع الفر�صة ت�صنع هيا بنا نعمل (يتقدّم يف‬
‫دمت �أملك ال�سلطة‪ ،‬ف�سرتون ما �سيكلفكم املنطق من ثمن‪،‬‬ ‫اجتاه الكومة)‪ ،‬ويتوقف‪ ،‬بعد حلظة واحدة �سيختفي كل‬
‫امليتافيزيقية‬ ‫�س�أق�ضي على املعار�ضني وعلى املتناق�ضات‪.‬‬ ‫�شيء وجند �أنف�سنا وحيدين مرة �أخرى و�سط اخلواء(‪.)10‬‬
‫و�أخري ًا تو�صلت لفهم فائدة ال�سلطة‪� ،‬أنها تتيح للم�ستحيل‬ ‫بهذا ال�شعور اليائ�س الذي يعبرّ عن موت معنى الأ�شياء‪،‬‬
‫فر�صة‪ ،‬واليوم وفيما ي�أتي من الزمن لن ت�صبح حلريتي‬ ‫وافتقاد الدافع للعمل‪ ،‬يعر�ض بيكيت للنا�س حياتهم‬
‫حدود»(‪.)14‬‬ ‫الواقعية‪ ،‬التي ال تقوم على منطق كما يراها‪ ،‬حماو ًال �أن‬
‫يثور على واقعهم املرير‪ ،‬لتف�سريه �إىل الأف�ضل‪ ،‬كما يقول‬
‫�شك يف الأ�س�س الكربى‬ ‫مارتن ا�سلني يف مقدّمة «دراما الالمعقول»‪:‬‬
‫«�ألي�س �صحيح ًا �أي�ض ًا �أن هذه امل�سرحيات لي�ست �سوى‬
‫وقبل �أن يبد�أ «�ألبري كامو» و«بيكيت» يف ن�شر هذا الفكر‬ ‫تعبري عن الي�أ�س الكامل على الرغم من ت�شا�ؤمها العميق‬
‫الالمعقول‪ ،‬كان ال�صقلي «برانديللو» يلقي ظال ًال من ال�شك‬ ‫وال�صحيح �أن دراما الالمعقول تهاجم يف الأ�سا�س اليقينات‬
‫على الأ�س�س الكربى للثقافة واحل�ضارة الربجوازيتني يف‬ ‫املريبة يف ال�صروح (امليتافيزيقية) ويف ال�سيا�سة‪ ،‬فهي‬
‫�أوروبا خالل الأربعينيات من خالل ق�ص�صه وم�سرحياته‪،‬‬ ‫تهدف �إىل �إخراج جمهور من حالة الر�ضا عن النف�س‬
‫التي كانت تعبرّ عن حال الع�صر‪ ،‬مت�أثرة ب�أغلب العوامل‬ ‫ليقف وجه ًا لوجه �أمام احلقائق القا�سية اخلا�صة بالو�ضع‬
‫التي ذكرناها حماو ًال �إثبات ف�شل الربجوازية‪ ،‬التي حتاول‬ ‫الإن�ساين كما يراها ه�ؤالء الكتاب»(‪.)11‬‬
‫�إعطاء �إن�سان الع�صر احلديث املتناق�ض ذات ًا واحدة‬ ‫ويت�ضح هذا يف موقف البريكامو – ككاتب عبثي – الذي‬
‫لتغطية خوائها وزيف ال�شعارات التي زرعتها يف عقله‪ ،‬يقول‬ ‫مل يتخذ موقف ًا �سلبي ًا �إبان احلرب العاملية الثانية‪ ،‬ومل‬
‫برانديللو على ل�سان «هرني الرابع»‪ ،‬مهاجم ًا الربجوازية‬ ‫يعتزل العامل بل جند �أن موقفه خالل تلك الفرتة كان‬
‫التي حتاول �أن تط ّبع النا�س على تفكريها‪ ،‬وت�ستغلهم‬ ‫�إيجابي ًا‪ ،‬فلم يدع العامل يق ّرر م�صريه وحده‪ ،‬بل ان�ضم‬
‫خلدمة �أهدافها‪� :‬أن ه�ؤالء النا�س يطالبون بقية العامل‬ ‫�إىل �صفوف املقاومة الفرن�سية‪ ،‬ومن ثم �إىل احلزب‬
‫دائم ًا ب�أن يت�ص ّرفوا بال�ضبط كما يريدون‪� ،‬أن ُتعا�ش كل‬ ‫ف�ضل الدفاع عن القوميني‬ ‫ال�شيوعي الفرن�سي(‪ ،)12‬ولكنه ّ‬
‫حلظة من كل يوم كما ي�شا�ؤون‪ ..‬ولكن بالطبع لي�س هناك‬ ‫اجلزائريني‪ ،‬يقول �ألبري كامو خماطب ًا �صيحات الي�أ�س التي‬
‫�أي غرور يف ذلك لها‪ ...‬لها‪ ...‬بالطبع‪ ...‬لي�ست �سوى‬ ‫تعمل على �إ�ضعاف النفو�س �أثناء احلرب العاملية الثانية‪:‬‬
‫طريقتهم يف التفكري‪ ..‬طريقتهم يف الر�ؤية‪ ...‬طريقتهم يف‬ ‫«�أول �شيء يجب علينا عمله �أال ني�أ�س‪ ،‬و�أال ن�صغي كثرياً‬
‫ال�شعور‪ ...‬لكل طريقته يف‪ ...‬و�أنتم �أي�ض ًا لكم طريقتكم‪...‬‬ ‫�إىل �أولئك الذين ي�صيحون معلنني �أن نهاية العامل قد‬
‫�ألي�س كذلك؟ بالطبع لديكم طريقتكم‪ ...‬ولكن �أي طريقة‬ ‫اقرتبت(‪ )13‬وقام �ألبري كامو بت�صوير ن�ضاله املناه�ض‬
‫تلك؟‪� ...‬إن طريقتكم هي طريقة القطيع العادي‪ ...‬ما �أنتم‬ ‫للفا�شية والدكتاتورية بجميع �أ�شكالها يف م�سرحية كاليجوال‪،‬‬
‫�إال قطيع من الغنم‪ ...‬ب�ؤ�ساء‪ ...‬مزعزعون‪� ...‬ضعفاء‪...‬‬ ‫�إذ يقول على ل�سان «كاليجوال» مبين ًا �أن «الديكتاتور» ال‬
‫وهم ي�ستغلون هذا‪ ...‬يخ�ضعونكم لإرادتهم‪ ...‬يجعلونكم‬ ‫يوجد �أمامه �شيء م�ستحيل‪ ،‬حتى لو كان يف حتقيق هذا‬
‫تقبلون طريقتهم يف احلياة حتى ت�شعروا وتروا كما ي�شعرون‬ ‫امل�ستحيل وبال على الب�شرية‪:‬‬
‫يتم�سكون‬
‫وكما يرون‪� ،‬أو على الأقل هذا هو الوهم الذي ّ‬ ‫كاليجوال‪ :‬ا�سمع يل جيد ًا يا مغفل‪� ،‬إذا كان للخزانة �أهمية‪،‬‬
‫‪37‬‬
‫�إزاء �شيء كهذا؟(‪.)18‬‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وجند ت�أثري نغمة هرني الرابع عند �ألبري كامو وا�ضحة يف‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫«كاليجوال»‪ ،‬فهذه امل�سرحية التي تع ّد من �أروع �أعمال �ألبري‬
‫كامو‪ ،‬ما هي �إال �صورة مل�سرحية «هرني الرابع»‪ ،‬و�إن كانت‬
‫ت� ّصور م�ضمون عبثية الوجود ب�صورة مبا�شرة �أكرث من‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫برانديللو‪ ،‬وفيها يطعن كامو مفهوم احلرية يف �شخ�صية‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫كاليجوال‪ ،‬فاحلرية عنده ما هي �إال االعتداء على حرية‬ ‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫الآخرين‪.‬‬
‫دم واغرتاب‬ ‫به يف �سعادة‪ ..‬فماذا‪ ،‬قبل كل �شيء‪� ،‬أفلحوا يف �أن ي�ؤثروا‬
‫عليكم؟ كلمات‪ ..‬كما يفهمها كل منا ثم يخرجها مرة‬
‫ولقد اكت�شف الإن�سان الأوروبي �أن احلرب العاملية ح ّولت‬ ‫�أخرى بطريقته اخلا�صة وهكذا‪ ...‬هكذا يتك ّون ما ي�س ّمونه‬
‫�أجمل مدن �أوروبا و�أروع مناطقها الريفية �إىل �ساحات‬ ‫الر�أي العام(‪.)15‬‬
‫دموية‪ ،‬و�أ�صبح الإن�سان ‪ -‬الذي كان منذ فرتة ال يق ّيم بثمن‬ ‫ولقد كان من الطبيعي �أن يحارب «برانديللو» ويتهم تارة‬
‫– ال قيمة له فهو ميوت يف كل حلظة ك�أتفه خملوق على وجه‬ ‫بالغمو�ض‪ ،‬وتارة �أخرى بال�سف�سطة يف بالده‪ ،‬ويف �أوروبا‪،‬‬
‫الأر�ض‪ ،‬ولقد بدا للبع�ض �أن �شرور احلرب مبثابة خدمة‬ ‫مل يلق الرتحيب �إال بعد فرتة طويلة من تغربة لإميانه‬
‫للب�شرية‪ ،‬فمن �أجل ال�سالم يجب �أن ميوت املاليني‪ ،‬لتعي�ش‬ ‫بالفكر الذي التزم به يف جميع �أعماله‪ ،‬يقول عنه الناقد‬
‫البق ّية يف جو من العدالة وامل�ساواة‪ ،‬وكتب «برانديللو»‬ ‫«ادريا نوتبلجر» يف �صحيفة «كونكورد»‪:‬‬
‫�أعماله مبين ًا من خاللها ت� ّصوره الفكري للحقائق التي‬ ‫�إنه فن ك�سل ومتعة‪ ،‬لي�س له م�ضمون عميق‪ ،‬ولي�ست له‬ ‫ال�شعور‬
‫جدّية �أخالقية وال اهتمامات ح ّية بالروحانيات(‪.)16‬‬
‫كان الإن�سان الأوروبي قد ه�ضمها و�أخذ ينا�ضل من �أجلها‬
‫�إن فن «برانديللو» بال�ضرورة لن ُيفهم وتنتفي منه �أ�صالته‬ ‫العميق‬
‫حلماية م�ؤ�س�سات طبقة الربجوازية التي �ض ّيعت كل القيم‬
‫وكل املكا�سب التي حققها الإن�سان الأوروبي خالل ن�ضاله‬ ‫وعمقه عند طبقة يرتكز منطقها على فكرة �أن العامل خلق‬ ‫بفردية‬
‫من �أجلها‪ ...‬ال بد �أن ي�سخر ماليني املاليني من الب�شر‬
‫املرير عرب القرون لتحقيق امل�ساواة والعدالة خلدمة‬
‫�أهوائها الال�إن�سانية‪.‬‬ ‫خلدمة طبقة من ال�صفوة‪ ،‬يقول حممد �إ�سماعيل حممد‬ ‫الإن�سان‬
‫برانديللو ين�صح النا�س يف م�سرحياته ب�أن يت�أملوا يف‬ ‫يف مقدمة ترجمته مل�سرحيات برانديللو‪:‬‬ ‫وخيبة �أمله‬
‫الوجود العقيم‪ ،‬اخلايل من احلقائق املو�ضوعية‪ ،‬فاحلقيقة‬ ‫«كان برانديللو يفهم الطبيعة الب�شرية حق الفهم‪ ،‬وكان‬
‫الوحيدة هي احلقيقة الذاتية ال�صرفة‪ ،‬وما احلقائق التي‬ ‫ُيدرك �أن النا�س يف كثري من الأحوال ‪-‬وخ�صو�ص ًا يف‬ ‫يف احل�ضارة‬
‫يطلقها مثل زعيم فا�شي �إال حقائق مز ّورة ال تقوم على‬ ‫املجتمعات التي تتح ّكم فيها النظم الأوتوقراطية والفا�شية‪،‬‬ ‫الب�شرية‬
‫منطق مو�ضوعي‪.‬‬ ‫مثل نظام الديكتاتور مو�سوليني الفا�شي يف �إيطاليا‪ -‬متيل‬
‫وي� ّصور لنا برانديللو الإح�سا�س بالعذاب والقلق واحلرية‬ ‫�إىل الرتفيه والت�سلية والفكاهة للرتويح عن نف�سها مما‬ ‫والقيم‬
‫تعانيه من كبت‪ ،‬يف حني ت�ضيق مبن يدفعها �إىل التفكري‬
‫عند �إن�سان هذا الع�صر‪ ،‬والت�شا�ؤم الذي كان �أ�سا�س كتابات‬
‫والتعميق‪ ،‬ومبن يجربها على م�شاهدة �صورتها على‬ ‫املنطقية‪ ،‬قاد‬
‫كتّاب العبث‪ ،‬يقول يف م�سرحيته «هرني الرابع»‪ :‬ف ّكروا يف‬
‫�إن�سان القرن الع�شرين وهو يع ّذب نف�سه ويعي�ش يف عذاب‬ ‫حقيقتها باملر�آة و�إدراك مدى ب�ؤ�سها و�شقاء �أحوالها‪� ،‬أما‬ ‫�إىل العبث‬
‫القلق حتى يعرف كيف تنتهي الأمور‪.‬‬ ‫وجه �إليه‪ ،‬وهو اتهامه بالهدم‬ ‫عن االتهام الذي كثري ًا ما ّ‬
‫�إن النا�س ال ي�ألون جهد ًا يف االندفاع هنا وهناك وقد‬ ‫فقد كان يرف�ضه يف �إ�صرار وقوة‪ ،‬فكتب يقول «مل �أحاول‬
‫�أم�ضهم القلق على القدر واحلظ‪ ،‬وعلى ما يظنون �أن القدر‬ ‫قط �أن �أهدم �شيئ ًا غري الأوهام‪ ،‬وهل يعترب هدم ًا �أن ي�سعى‬
‫يخبئه لهم(‪.)19‬‬ ‫الكاتب �إىل فتح �أعني الب�شر على احلقائق»(‪)17‬؟‬
‫وعلى الرغم من هذا القلق والت�شا�ؤم الذي �أدّى بكتّاب‬ ‫ولقد كان القا�سم امل�شرتك الأكرب بني برانديللو وكتاب‬
‫العبث �إىل الإميان بعبثية الوجود‪ ،‬ونبذ كل احللول‬ ‫العبث‪ ،‬هو الكفر بالأ�س�س الثقافية وال�سيا�سية للعامل‬
‫يتم�سكون باحلياة‪ ،‬فكل‬‫االجتماعية للحياة‪ ،‬جند �أنهم ّ‬ ‫الربجوازي‪ ،‬عامل الدمار والأكاذيب‪ ،‬وت�سخري عقول‬
‫كاتب منهم يتع ّلل ب�أمل حمدّد يكتب به حياته ور�ؤيته‬ ‫النا�س‪ ،‬وجتنيدهم للدفاع عن مكا�سب وم�ؤ�س�سات غري‬
‫للوجود‪ ،‬فهذا مث ًال «برياجنيه» بطل م�سرحية اخلرتيت‬ ‫�إن�سانية تخدم م�صاحلهم‪ .‬لذا جند يف �أغلب �أعماله‬
‫ليون�سكو‪ ،‬عندما �أ�ضحى النا�س جميع ًا من حوله خراتيت‪،‬‬ ‫الدرامية �أنه ي� ّصور زيف هذه الطبقة وم�ساوئها ويدعو‬
‫مل ي�ست�سلم ومل يتح ّول مثلهم �إىل خرتيت‪ ،‬بل ظ ّل يدافع‬ ‫النا�س �إىل الثورة‪ ،‬ورف�ض كل قيمة ي�ضعونها‪.‬‬
‫عن �إن�سانيته‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫وهكذا جنده يف م�سرحية «هرني الرابع» يعر�ض للنا�س‬
‫براجنيه‪ :‬ما �أقبح �شكلي‪ ،‬الويل ملن �أراد �أن يحتفظ بتف ّرده‪..‬‬ ‫م�شكلة مواجهتهم للديكتاتور الذي يزعزع كل �أ�شكال‬
‫حين ًا‪ ،‬ليكن ما يكون �س�أدافع عن نف�سي �ضد العامل �أجمع‪..‬‬ ‫القيم والتقاليد‪ :‬ماذا يكون الأمر عندما جتدون �أنف�سكم‬
‫غدّارتي‪ ،‬غدّارتي‪..‬‬ ‫وجه ًا لوجه مع رجل جمنون؟ جتدون �أنف�سكم وجه ًا لوجه‬
‫«يلتفت �إىل جدار �أق�صى امل�سرح حيث ر�ؤو�س اخلراتيت‬ ‫مع �شخ�ص يزلزل �أ�سا�س كل �شيء �أقمتموه داخل �أنف�سكم؟‬
‫مث ّبتة‪� ،‬صائح ًا‪� ،‬ضد العامل �أجمع‪� ،‬س�أدافع عن نف�سي‪� ،‬ضد‬ ‫كل �شيء بنيتموه حولكم؟ �شخ�ص يتحدّى املنطق‪ ،‬منطق‬
‫العامل �أجمع‪� ،‬س�أدافع عن نف�سي‪� ،‬أنا �آخر �إن�سان‪� ،‬س�أظل‬ ‫كل �شيء �ش ّيدمتوه؟ �أهم‪..‬؟ ماذا ي�ستطيع الإن�سان �أن يفعل‬
‫‪38‬‬
‫برانديللو‬ ‫جاري‬

‫برانديللو‬ ‫روافد فل�سفية‬ ‫كذلك حتى النهاية‪ ...‬لن �أ�ست�سلم»(‪.)20‬‬


‫ويقول الدكتور نبيل راغب مبين ًا وظيفة كتّاب العبث‪،‬‬
‫ال‬
‫�ألقى ظال ً‬ ‫�إن العلم والأدب والفل�سفة واالقت�صاد وال�سيا�سة روافد‬ ‫وم�صور ًا �أهدافهم‪:‬‬
‫من ال�شك‬ ‫ت�صب يف جمرى واحد وهو حياة الإن�سان‪ ،‬ومن هذا املنطلق‬ ‫ّ‬ ‫لقد جاءت مدر�سة العبث يف الأدب نتيجة لهذه املحنة التي‬
‫�سنق ّيم برانديللو يف �ضوء موقفه جتاه حياة الإن�سان‪،‬‬ ‫مير بها الإن�سان املعا�صر‪ ،‬وهي مدر�سة �أدبية ترى وظيفتها‬
‫على الأ�س�س‬ ‫يقول هذا الكاتب الفذ «ث ّمة كتاب معنيون يغلب عليهم‬ ‫�أن حتارب العبث الذي يجتاح حياة الإن�سان عن طريق‬
‫الكربى‬ ‫طابع التقرير الو�صفي‪ ،‬وثمة �آخرون ي�شعرون �إىل جانب‬
‫هذا الطابع التقريري‪ ،‬ب�ضرورة وجود �أعماق روحية‪ ،‬فال‬
‫جت�سيده يف �أعمال م�سرحية وروائية و�شعرية‪ ،‬فخري دواء‬
‫لأمرا�ض هذا الع�صر املعقد هو ت�شخي�ص الداء حتى يبحث‬
‫للثقافة‬ ‫يتق ّبلون من ال�صور والأحداث وامل�شاهد منها مت�شابه ًا‬ ‫الإن�سان عن الطريق اخلا�ص به للتخ ّل�ص منه (‪.)21‬‬
‫– �إن �صح هذا التعبري – بدرجة مع ّينة من احلياة‪ ،‬وكان‬ ‫ونحن نرى �أن �أغلب �أعمال برانديللو ما هي �إال تعبري عن‬
‫واحل�ضارة‬ ‫مكت�سب ًا لإحدى القيم الكلية‪ ،‬وه�ؤالء كتّاب يغلب عليهم‬ ‫خيبة �أمله يف احللول االجتماعية التي كان ي�ؤمن بها‪،‬‬
‫الطابع الفل�سفي – وقد كان من �سوء طالعي �أن �أنتمي‬ ‫وخ�صو�ص ًا بعد �أن �صدمته الطبقة الربجوازية ال�صغرية‬
‫له�ؤالء الآخرين(‪.)24‬‬ ‫املثقفة يف �إيطاليا‪ ،‬فبعد �أن حققت هذه الطبقة مكا�سبها‬
‫من نظرة «برانديللو» الوجودية للحياة‪ ،‬وهذه النظرة‬ ‫على ح�ساب الفقراء الذين بهروا يف البداية ب�شعاراتها‬
‫امل�ستمدّة من الفل�سفة املثالية‪� ،‬سنتولىّ هذا التقييم بالبحث‬ ‫تن ّكرت لهم‪ ،‬يقول الأ�ستاذ �سعد �أرد�ش يف مقدمته مل�سرحية‬
‫عن اجلذور الفل�سفية للفكر الوجودي‪.‬‬ ‫قواعد املبارزة‪ :‬ونحن �إذا قر�أنا الق�صة الطويلة للكاتب‬
‫�إن الفل�سفة ب�صورة عامة تقوم على مذهبني �أ�سا�سيني‪،‬‬ ‫«ال�سنون وال�شباب» (‪ ،)1909‬وجدنا �أنها ت�صوير خليبة‬
‫هما املذهب املثايل واملذهب املادي‪ ،‬وهناك بالطبع بني‬ ‫�أمل تاريخية قومية‪ :‬للحقيقة املفزعة القاتلة بعد احلركة‬
‫هاتني النظرتني للحياة اختالف كبري‪ ،‬فالفل�سفة املثالية‬ ‫التحريرية الكربى �سنة ‪ ،1848‬وبعد مالحم «نحاربيا‬
‫تقوم على متجيد الذات الفردية‪� ،‬أما الفل�سفة املادية‬ ‫لدى» الكربى �سنة ‪ )22(1860‬ومن كلمات �شخ�صية واحدة‬
‫فتقوم على متجيد الذات اجلماعية‪ ،‬والفل�سفة الوجودية‬ ‫يف ق�صة ال�سنون وال�شباب‪ ،‬نعرف مدى حزن «برانديللو»‬
‫تخالف الفل�سفة املثالية يف بع�ض الأفكار‪ ،‬وتتفق مع الفل�سفة‬ ‫العميق خليبة �أمله يف القيم والأهداف التي كان يف يوم من‬
‫املارك�سية ذات النظرة املادية يف كثري من الق�ضايا‪ ،‬و�أهمها‬ ‫الأيام م�ؤمن ًا بها‪ ،‬وانك�شاف عدم منطق وحقيقة ال�سلوك‬
‫ق�ضية الفل�سفة الأوىل‪ ،‬وهي �أ�سبقية املادة �أو الفكرة‬ ‫التقليدي وازدواجيته لدى �إن�سان هذا الع�صر‪ ،‬يقول‪� :‬إن‬
‫للوجود‪ ،‬ف�سارتر ي�ؤمن ب�أن املادة �سابقة على الفكرة‪ ،‬يقول‬ ‫�شيئ ًا واحد ًا ي�صيبنا باحلزن يا �أ�صدقائي الأعزاء‪:‬‬
‫الدكتور �أمني العيوطي‪ :‬يرى �سارتر �أن املادية اجلدلية‬ ‫انك�شاف اللعبة‪� ...‬أق�صد لعبة ذلك ال�شيطان القذر‬
‫هي التف�سري الوحيد ال�صائب للتاريخ‪ ،‬ولكن الوجودية هي‬ ‫ال�ساخر الذي يعي�ش يف داخل كل منا‪ ،‬وي�ستمتع ب�أن يعر�ض‬
‫املنهج الواقعي للحقيقة‪� ،‬أي �أنه يرى �أن الوجودية على‬ ‫علينا من اخلارج كحقيقة ما ي�صفه هو نف�سه لنا فيما بعد‬
‫�صواب يف تف�سريها ملوقف الإن�سان‪ ،‬و�أن املارك�سية �صائبة‬ ‫ب�أنه خيال‪ ،...‬و�إذا كان كل بال نهايات وال �أهداف ف�إن هذا‬
‫يف حتليلها للتاريخ‪ ،‬وهو ي�ؤمن ب�أنها متلك مفاتيح الأدوات‬ ‫الربهان على �أنه ال ميكن �أن تكون له نهايات �أو �أهداف‪،‬‬
‫الف ّعالة لل�سيطرة على التاريخ‪� ،‬أي �أنها من الناحية العملية‬ ‫و�أنه من العبث �أن نبحث له عن نهايات �أو �أهداف(‪.)23‬‬
‫ال ميكن �أن تخطئ‪ ،‬ولكنه مع ذلك ال ميلك �إال �أن يقول‬ ‫ومن هذا نرى مدى تطابق فكر برانديللو الت�شا�ؤمي مع‬
‫�إن �أقوال مارك�س‪ ،‬واجنلز‪�« -‬إمنا تهدي �إىل العمل ولكنها‬ ‫�أفكار كتّاب م�سرح العبث الذي ي�ؤمن بالنظرة نف�سها‬
‫الت�شا�ؤمية للوجود الإن�ساين واملادي‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫النظرة املادية للحياة‪ ،‬يقول جورج لوكات�ش يف كتابه معنى‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫الواقعية‪:‬‬
‫«�إنه �إذا كانت امل�سرحية العبثية تعطي يف النهاية �شكالً‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫جامد ًا نتيجة النعدام احلبكة وجمود املوقف‪ ،‬ف�إن هذا �إمنا‬
‫يعك�س اعتقاد كتّاب العبث يف طبيعة جامدة للأحداث‪،‬‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫وهذا يو�ضح �أن الأ�سلوب الواقعي والأ�سلوب غري الواقعي‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫�إمنا يعك�سان يف النهاية نظرتني متعار�ضتني �إىل احلياة‪،‬‬ ‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫نظرة ديناميكية متط ّورة‪ ،‬ونظرة جامدة ثابتة»(‪ .)29‬يع ّلق‬
‫د‪� .‬أمني العيوطي على هاتني النظرتني‪ ،‬النظرة الديناميكية‬
‫والنظرة اجلامدة الثابتة بقوله‪:‬‬ ‫حقائق ثابتة‪ ،‬ومعنى هذا باخت�صار �أن �سارتر يلغي عن�صر‬
‫«�إننا هنا �أمام تيارين من الفكر يف النقد يعادالن االجتاه‬ ‫العمل اجلماعي ليح ّل حمله عن�صر العمل الفردي»(‪.)25‬‬
‫ال�سريايل الغام�ض واالجتاه الواقعي يف امل�سرح‪ ،‬كما‬ ‫�إال �أنها تعار�ض املارك�سية يف النظرة الفردية للتجربة‬
‫يعادالن االجتاهني ال�سيا�سيني‪ ،‬الغربي وال�شرقي ال�سائدين‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬فاملارك�سية تنظر �إىل التجربة الذاتية للفرد على‬
‫يف املجتمعات احلديثة»(‪.)30‬‬ ‫�أنها ر ّد فعل للظواهر االجتماعية‪ ،‬بينما تنظر الوجودية‬
‫ونرى �أن ال�صيحة الأخالقية (الفردية) التي يطلقها‬ ‫�إىل جتربة الفرد على �أنها هي الوجه احلقيقي للحقيقة‬
‫برانديللو يف �أغلب م�سرحياته‪« ،‬افعل ما متليه عليك‬ ‫االجتماعية(‪ .)26‬والوجوديون بنظرتهم الذاتية‪� ،‬أهم ما‬
‫تهتم بالآخرين (كما قال �سارتر «الآخرون‬ ‫ذاتك‪ ،‬وال ّ‬ ‫يثريهم يف احلياة‪ ،‬مكان الإن�سان فيها‪ ،‬والطريق الذي‬
‫هم اجلحيم») ال ميكن ف�صلها عن النظرة االقت�صادية‬ ‫يختاره الإن�سان يف احلياة‪ ،‬م�س�ألة احلرية‪ ،‬املوت‪ ،‬الزمن‬
‫الر�أ�سمالية التي تدفع ت�شجيع الفرد �إىل الربح ال�سريع �إىل‬ ‫الوجودي‪ ،‬والقلق الإن�ساين‪ ،‬عبثية الإرادة الإن�سانية‪ ،‬عبث‬ ‫برانديللو‪:‬‬
‫�أعلى مدى ممكن‪.‬‬
‫وهذه الدعوة �إىل الربح ال�سريع‪� ،‬إذا انطلق الإن�سان‬
‫الوجود‪.‬‬ ‫افعل ما متليه‬
‫تهتم بامل�شكالت‬
‫ومن هنا نرى �أن الفل�سفة الوجودية ال ّ‬
‫منها فال ب ّد �أن ت�ؤدّي به �إىل تغليب روح الإن�سانية‬ ‫تهتم بالإح�سا�س باحلياة‬
‫االجتماعية الواقعية يف احلياة بل ّ‬ ‫عليك ذاتك‬
‫بال�ضرورة‪ ،‬ولكن هناك من ي�ؤ ّيد هذا املذهب الداعي‬
‫�إىل اجلماعية‪ ،‬الذي يتح ّول فيه الإن�سان �إىل جمرد �آلة‬
‫وغمو�ضها‪ ،‬وقد عبرّ كتّاب م�سرح العبث عن هذا الإح�سا�س‬
‫الوجودي يف �أغلب كتاباتهم‪ ،‬يقول الدكتور زكريا �إبراهيم‬ ‫وال تهتم‬
‫�إنتاجية‪ ،‬يقول الدكتور ف�ؤاد زكريا‪ :‬و�إمنا الذي يعنينا من‬ ‫على ل�سان خ�صوم الوجودية الالذع للفال�سفة الوجوديني‪:‬‬ ‫بالآخرين!‬
‫هذا هو التناق�ض ال�صارخ الذي تك�شف عنه هذه النظرة‬ ‫وي�ستطرد خ�صوم الفل�سفة (ويق�صد الفل�سفة الوجودية)‬
‫بني الأ�سا�س االقت�صادي والبناء املعنوي �أو الأخالقي‬ ‫فيقولون �إن كل حماوالت بائ�سة يبذلها قوم فقدوا كل �صلة‬
‫للح�ضارة الر�أ�سمالية التي ت�سود فيها‪ ،‬ذلك لأن حمور‬ ‫أدل على ذلك فيما يزعم ه�ؤالء – من �أن ‬ ‫بالواقع ولي�س � ّ‬
‫الدعوة الأخالقية يف املجتمع الر�أ�سمايل هو ت�أكيد كرامة‬ ‫الوجوديني (الوجوديون هم من بني الفال�سفة املعا�صرين‬
‫تن�صب على ت�أكيد �أن‬
‫ّ‬ ‫الفرد‪ ،‬وفل�سفة هذا املجتمع ودعايته‬ ‫�أكرثهم اهتمام ًا مب�شكلة الإن�سان) قد ان�صرفوا عن درا�سة‬
‫احل�ضارة الأخرى‪� ،‬أعني احل�ضارة اال�شرتاكية يف �شتى‬ ‫الكون‪ ،‬وتن ّكروا لكل قانون علمي‪ ،‬مكتفني بدرا�سة الإن�سان‬
‫مظاهرها‪ ،‬تق�ضي على الكرامة الفردية وجتعل من الأفراد‬ ‫والتح�سر على م�صريه ومي�ضي �أحد النقاد‬
‫ّ‬ ‫وو�صف حريته‬
‫«�أرقام ًا» يف جمتمع من النمل والنحل‪.‬‬ ‫�إىل ح ّد �أبعد من ذلك يف نقد الوجوديني فيقول «�إنهم‬
‫والأهم من ذلك �أن املجتمع الر�أ�سمايل نف�سه هو الذي‬ ‫يذكرون املرء بتلك الكالب احلاملة التي تقوم فيها فج�أة‬
‫يطالب لنف�سه بحق الدفاع عن القيم الروحية ويتّهم‬ ‫بينما هي يف حالة عدو وقفز فردي – رغبة عارمة يف �أن‬
‫املجتمع املقابل له بت�أكيد املادية واتخاذها حمور ًا لن�شاط‬ ‫جتري وراء طرف ذنبها»(‪.)27‬‬
‫الإن�سان يف كل امليادين‪ ،‬وهنا يظهر لأعيننا بكل و�ضوح‬ ‫ولقد � ّصور �أغلب كتّاب العبث الي�أ�س‪ ،‬وخواء الكون وانعدام‬
‫مدى التناق�ض يف بناء عامل القيم يف املجتمع الر�أ�سمايل‪:‬‬ ‫املعنى‪ ،‬واجلمود الإن�ساين الذي يدفع الإن�سان �إىل التكور‬
‫«ذلك لأن هذا البناء يرتكز على مبد�أ اقت�صادي يفرت�ض‬ ‫داخل ذاته الفردية‪ ،‬فهم ال ي�أبهون للم�شكالت االجتماعية‬
‫�ضمن ًا �أن غاية الإن�سان الكربى هي حتقيق الربح وامل�صلحة‬ ‫الواقعية يف احلياة‪ ،‬بل ت�شغلهم معرفة تف�سري �س ّر الإح�سا�س‬
‫الذاتية‪ ،‬وهي غاية مادية �صرفة‪ ،‬ولكن واجهة البناء تتخذ‬ ‫الغام�ض للحياة‪ ،‬يقول الدكتور �أمني العيوطي عن م�سرح‬
‫ين�صب فيه املف ّكرون �أنف�سهم مدافعني‬‫�شك ًال روحي ًا رفيع ًا ّ‬ ‫يهتم بعر�ض موقف يف حياة فرد‪،‬‬ ‫العبث‪»:‬جاء م�سرح ًا ّ‬
‫عن كرامة الإن�سان وجدارته» ‪.‬‬
‫(‪)31‬‬
‫موقف جامد ال يتط ّور بحيث ميكن �أن يبلور فكرة فل�سفة‬
‫يح�سه �شخ�ص‬‫حمدّدة‪� ،‬أنه بالنب�ض املبهم الغام�ض الذي ّ‬
‫الفرد والنظام‬ ‫مثل «�سرتاجون» �أو «فالدميري» يف االنتظار‪� ،‬أو باحتجاج‬
‫مبهم غام�ض �ضد �شكل احلياة يف املجتمع الر�أ�سمايل كما‬
‫ومن هنا نرى �أن الروح الفردية يف الدولة الر�أ�سمالية‬ ‫يف «الرقابة الق�صوى» �أو «اخلادمتان» جلان جينيه‪ ،‬فهو‬
‫ت�صبح نظرة الدولة �إىل احلياة كذلك‪ ،‬ومن ثم فالدولة‬ ‫يهتم بالإح�سا�س باحلياة‪ ،‬ال مب�شكالت ال�سلوك‬ ‫م�سرح ّ‬
‫�ستطمع يف الربح ال�سريع على ح�ساب الدولة الفقرية‬ ‫واخللقيات كما يف امل�سرح الواقعي»(‪ ،)28‬ومن هنا نرى �أن‬
‫الأخرى‪ ،‬ومن هنا ي�أتي اال�ستغالل واال�ستعمار والفو�ضى‬ ‫م�سرح العبث ميثل النظرة املثالية للحياة‪ ،‬و�أن رف�ض كتّاب‬
‫التي ت�ؤدّي �إىل دمار املجتمعات واحلروب‪.‬‬ ‫م�سرح العبث فكرة الأيديولوجيات وامل�سرح الواقعي ميثل‬
‫‪40‬‬
‫الفا�شية – على غرار جميع الأيديولوجيات الت�س ّلطية –‬ ‫ومع �أن بع�ض زعماء املذاهب الفل�سفية الفردية كان‬
‫نظام �صارم يتوافر فيه اليقني والتحديد‪ ،‬ومع هذا بالنظر‬ ‫لهم موقف �إيجابي من ق�ضايا ال�صراع الإن�ساين من‬
‫�إىل ما كان ي�صاحب ذلك من رغبة برانديللو يف االنطالق‬ ‫�أجل احلرية واال�ستقالل‪� ،‬أمثال �سارتر الذي دافع عن‬
‫ومقته للفن الدعائي»‪.‬‬ ‫الق�ضية اجلزائرية‪ ،‬والق�ضية الفيتنامية التي كانت له‬
‫و�أختم هذا بقول د‪ .‬موجمان �إن املفهوم الت�شا�ؤمي للتاريخ‬ ‫فيها اليد الطوىل يف �إثارة الر�أي العاملي �ضد النظامني‬
‫ينبثق من التن ّكر للتقدّم االجتماعي فاتخاذ وجهة نظر‬ ‫الأمريكي والفرن�سي‪ ،‬من خالل �آرائه املناه�ضة لال�ستعمار‬
‫ت�شا�ؤمية ب�صدد حا�ضر الإن�سانية وم�ستقبلها‪ ،‬ال يعني غري‬ ‫والربجوازية العاملية‪ ،‬والتي تنادي ب�أحقية ال�شعوب يف تقرير‬
‫عدم االعرتاف بانتقال املجتمع من مرحلة واطئة ح�ضاري ًا‬ ‫م�صريها‪� ،‬إال �أن موقفه من الق�ضية الفل�سطينية كان �سلبي ًا‬
‫�إىل مرحلة �أعلى من �سابقتها‪ ،‬وهذا يعني �إما توقف الزمن‬ ‫فقد كتب مقا ًال يف عام ‪ 1948‬ينتقد فيه �سيا�سة االن�سحاب‬
‫تربع برانديللو‬ ‫بالقيا�س �إىل املجتمع و�إما انحدار املجتمع ذاته �إىل هاوية‬ ‫الربيطاين من فل�سطني‪ ،‬وذلك خوف ًا على الإ�سرائيليني من‬
‫االنقرا�ض‪.‬‬ ‫العرب‪ ،‬ويطالب فيه احلكومة الربيطانية بال�سماح لليهود‬
‫بجائزة‬ ‫ومن خالل هذا التحليل املوجز للظروف ال�سيا�سية‬ ‫بحمل ال�سالح �ضد العرب‪ ،‬يف حني يلتزم ال�صمت يف الوقت‬
‫واالجتماعية واالقت�صادية والفكرية والفل�سفية التي عملت‬ ‫الذي كانت ترتكب فيه �إ�سرائيل �أب�شع املجازر �ضد ال�شعب‬
‫نوبل التي‬ ‫على هدم ال�صروح التقليدية للمجتمع الأوروبي‪ ،‬مما �أدّى‬ ‫العربي الفل�سطيني‪ .‬يقول الدكتور ف�ؤاد زكريا‪»:‬يف كل هذه‬
‫ح�صل عليها‬ ‫بال�ضرورة �إىل بروز مت ّرد ثوري للكتابة امل�سرحية التي‬ ‫احلاالت ينتهي الأمر بالفيل�سوف الداعي �إىل الفردية �إىل‬
‫كانت الإب�سينية متثل منوذجها التقليدي يف هذه الفرتة‬ ‫ت�أكيد قيمة الأنانية يف �صورة من �صورها‪ ،‬على الرغم‬
‫�إىل حملة‬ ‫التاريخية من عمر امل�سرح الأوروبي‪ ،‬برز برانديللو وكتاب‬ ‫من �أن نواياه قد تكون ح�سنة‪ ،‬ورغبته قد تكون حقيقية‬
‫مو�سوليني‬ ‫م�سرح العبث بعد ر�ؤيتهم و�إح�سا�سهم بخيبة الأمل يف‬ ‫يف اتخاذ دعوته هذه و�سيلة لت�أكيد كرامة الإن�سان‪ ،‬ومن‬
‫احلياة ويف احللول االجتماعية التي كانت الإب�سينية مثلها‬ ‫هنا كان عليه �أن يراجع موقفه املعنوي ب�أ�سره‪� ،‬إذا �شاء �أال‬
‫على احلب�شة!‬ ‫الأعلى‪ ،‬ولهذا كان متردّهم نتيجة حتمية الفتقار العامل‬ ‫يكون و�سيلة خلدمة قيم التخ ّلف‪ ،‬و�إذا �أراد �أن يكون تفكريه‬
‫الإن�ساين �إىل معنى حقيقي للحياة بعد الدمار واملوت‬ ‫عام ًال على �إعالء مكانة الإن�سان بحق»‪.‬‬
‫العبثي الذي �صبغ الكون بالرثاء املفعم بالي�أ�س والت�شا�ؤم‬ ‫ونحن ال نرى يف موقف برانديللو نف�س موقف �سارتر‪:‬‬
‫واحلرية والقلق يف م�صري الب�شرية‪ ،‬و�أختتم هذه املقالة‬ ‫فربانديللو على الرغم من مناه�ضته املبا�شرة للأفكار‬
‫بقول برانديللو يف م�سرحيته (هرني الرابع)‪ :‬ف ّكروا يف‬ ‫وال�صيغ الربجوازية والفا�شية‪� ،‬إال �أننا ال جند مربر ًا‬
‫�إن�سان القرن الع�شرين وهو يعذب نف�سه ويعي�ش يف عذاب‬ ‫لت ّربعه بجائزة نوبل التي ح�صل عليها حلملة مو�سوليني‬
‫القلق حتى يعرف كيف تنتهي الأمور‪.‬‬ ‫على احلب�شة‪ ،‬يقول روبرت بر�سثاين‪« :‬لعل رغبة برانديللو‬
‫املذعورة يف القالب تن�شر اجنذابه �إىل الفا�شية (فقد ت ّربع‬
‫العمل الفني ‪ :‬احمد البحراني‪ -‬العراق‬ ‫بجائزة نوبل حلملة مو�سوليني على احلب�شة)‪ ،‬ذلك �أن‬

‫هوام�ش‪:‬‬
‫�ص ‪.16‬‬ ‫(‪ )1‬د‪ .‬حممد زكي الع�شماوي‪ ،‬الأدب وقيم احلياة املعا�صرة‪ ،‬الهيئة امل�صرية العامة‬
‫(‪ )17‬لويجي برانديللو‪ – 1 :‬ديانا واملثال ‪ – 2‬احلياة عطاء ‪ – 3‬لذة الأمانة‪ ،‬ترجمة‬ ‫للكتّاب‪ ،‬الإ�سكندرية‪1974 ،‬م �ص‪.20 ،19 ،18‬‬
‫وتقدمي حممد �إ�سماعيل حممد‪ ،‬وزارة الإعالم‪ ،‬الكويت‪ ،‬عدد ‪� 42/1‬أول مار�س ‪،1973‬‬ ‫(‪ )2‬املو�سوعة اال�شرتاكية‪ ،‬دار الهالل‪� ،1970 ،‬ص ‪.468‬‬
‫�ص ‪.6‬‬ ‫(‪ )3‬مارتن ا�سلني‪ ،‬دراما الالمعقول‪ ،‬وزارة الإر�شاد والأنباء‪ ،‬الكويت ‪� 1970‬ص ‪.13‬‬
‫(‪ )18‬لويجي برانديللو‪ ،‬م�سرحية هرني الرابع‪ ،‬ترجمة فاروق عبد الوهاب‪ ،‬جملة‬ ‫(‪ )4‬ريجي�س جوليفييه‪ ،‬املذاهب الوجودية‪ ،‬ترجمة ف�ؤاد كامل‪ ،‬الدار امل�صرية للت�أليف‬
‫امل�سرح‪ ،‬م�سرح احلكيم‪ ،‬القاهرة‪� ،1965 ،‬ص ‪.119 ،118‬‬ ‫والرتجمة القاهرة‪� ،1966 ،‬ص ‪.65 ،55‬‬
‫(‪ )19‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.120‬‬ ‫(‪ )5‬حممد �إ�سماعيل حممد‪ ،‬مقدّ مة‪ ،‬ترجمة مل�سرحية ديانا واملثال واحلياة عطاء‪ ،‬لذة‬
‫(‪ )20‬يوجني يون�سكو‪ ،‬امل�ست�أجر اجلديد‪ ،‬اللوحة‪ ،‬اخلرتيت‪ ،‬ترجمة حمادة �إبراهيم‪،‬‬ ‫الأمانة‪ ،‬لويجي بريانديللو‪ ،‬وزارة الإعالم‪ ،‬الكويت‪� ،1973 ،‬ص ‪.26‬‬
‫وزارة الإعالم‪ ،‬الكويت‪� ،1975 ،‬ص ‪.316‬‬ ‫(‪� )6‬سامي خ�شبة‪ ،‬ق�ضايا امل�سرح املعا�صر‪ ،‬من�شورات وزارة الإعالم‪ ،‬العراق‪� 1977 ،‬ص‬
‫(‪ )21‬د‪ .‬نبيل راغب‪ ،‬املذاهب الأدبية‪ ،‬الهيئة امل�صرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،1977 ،‬‬ ‫‪.15 ،14‬‬
‫�ص ‪.342‬‬ ‫(‪ )7‬حممد ر�شاد خمي�س‪ ،‬مقدمة ترجمة م�سرحية �سجناء الطونا ل�سارتر‪ ،‬دار الكتاب‬
‫(‪� )22‬سعد �أرد�ش‪ ،‬مقدمة ترجمة م�سرحية قواعد املبارزة للويجي برانديللو‪ ،‬ترجمة‬ ‫العربي للطباعة والن�شر‪ ،‬القاهرة‪� ،‬ص ‪.8 ،7‬‬
‫�أحمد �سعد الدين‪ ،‬الدار امل�صرية للت�أليف والرتجمة‪ ،‬القاهرة‪� ،1965 ،‬ص ‪.8‬‬ ‫(‪ )8‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.8‬‬
‫(‪ )23‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.9‬‬ ‫(‪ )9‬مارتن ا�سلني‪ ،‬دراما الالمعقول‪ ،‬وزارة الإر�شاد والأنباء‪ ،‬الكويت‪� ،1970 ،‬ص ‪:12‬‬
‫(‪ )24‬لويجي برانديللو‪ ،‬ثالثية امل�سرح داخل م�سرح‪ ،‬ترجمة حممد �إ�سماعيل حممد‪،‬‬ ‫‪.14‬‬
‫وزارة الإعالم‪ ،‬الكويت‪� ،1977 ،‬ص ‪.19‬‬ ‫(‪� )10‬صمويل بيكيت‪ ،‬يف م�سرح العبث «انتظار جودو»‪ ،‬ترجمة دكتور فايز ا�سكندر‪،‬‬
‫(‪ )25‬الدكتور �أمني العيوطي‪� ،‬سارتر الر�ؤية الوجودية‪ ،‬جملة الفكر املعا�صر‪ ،‬العدد‬ ‫الهيئة امل�صرية العامة للت�أليف والن�شر‪.1970 ،‬‬
‫‪ ،25‬مار�س ‪� ،1976‬ص ‪.135‬‬ ‫(‪ )11‬مارتن ا�سلني‪ ،‬دراما الالمعقول‪ ،‬وزارة الإر�شاد والأنباء‪ ،‬الكويت‪� ،1970 ،‬ص ‪.24‬‬
‫(‪ )26‬املرجع ال�سابق �ص ‪.135‬‬ ‫(‪ )12‬عبد املنعم احلفني‪� ،‬ألبري كامو حياته‪� ،‬أدبه‪ ،‬م�سرحياته‪ ،‬فل�سفته‪ ،‬فنّه‪ ،‬دار‬
‫(‪ )27‬الدكتور زكريا �إبراهيم‪ ،‬م�شكلة الإن�سان‪ ،‬دار م�صر للطباعة‪ ،‬القاهرة‪� ،‬ص‪.10‬‬ ‫املفكّر‪ ،‬القاهرة‪� ،1963 ،‬ص ‪.43‬‬
‫(‪ )28‬د‪� .‬أمني العيوطي‪ ،‬حركة العبث‪ ،‬عبث الذات �أم عبث الواقع‪ ،‬جملة الفكر املعا�صر‪،‬‬ ‫(‪� )13‬ألبري كامو‪ ،‬كاليجوال‪ ،‬ترجمة علي عطية رزق‪ ،‬الدار القومية للطباعة والن�شر‪،‬‬
‫العدد ‪ ،37‬القاهرة‪� ،1968 ،‬ص ‪.98‬‬ ‫القاهرة‪.‬‬
‫(‪ )29‬املرجع ال�سابق‪.98 ،‬‬ ‫(‪ )14‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.55 ،54‬‬
‫(‪ )30‬املرجع ال�سابق‪.98 ،‬‬ ‫(‪ )15‬لويجي برانديللو‪ ،‬م�سرحية هرني الرابع‪ ،‬ترجمة فاروق عبد الوهاب‪ ،‬جملة‬
‫(‪ )31‬ف�ؤاد زكريا‪� ،‬آراء نقدية يف م�شكالت الفكر والثقافة‪ ،‬الهيئة امل�صرية العامة‬ ‫امل�سرح‪ ،‬م�سرح احلكيم‪ ،‬القاهرة‪� ،1965 ،‬ص ‪.117‬‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪� ،1975 ،‬ص ‪.98‬‬ ‫(‪ )16‬لويجي برانديللو‪ ،‬مقدمة ن�ص م�سرحية قواعد املبارزة‪ ،‬ترجمة �أحمد �سعد‬
‫الدين‪ ،‬تقدمي �سعد �أرد�ش‪ ،‬الدار امل�صرية للت�أليف والن�شر‪ ،‬القاهرة‪� ،‬سبتمرب ‪،1965‬‬

‫‪41‬‬
‫�سارتر‬
‫�ضـــــ‬
‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬

‫�سارتر‬
‫علي بدر‬
‫كاتب من العراق‬

‫عالــم املثقفني ال�صـــــــــ‬


‫‪42‬‬
‫ـــــــد‬
‫ح�ي�ن ن� �ق ��ول �� �س ��ارت ��ر‪ ،‬ن �ع �ن��ي ال �ث �ق��اف��ة‬
‫احل��� ّ�س�ي��ة وال���ش�ع�ب�ي��ة ال �ت��ي ام �ت��دت من‬
‫نهاية احلرب العاملية الثانية وحتى ثورة‬
‫ال�ستينيات‪ .‬نعني منط و�أ�سلوب احلياة‬
‫اجل��دي��دة ال��ذي ��ص��دره احل� ّ�ي الالتيني‬
‫وال���س��ان ج��رم��ان دوب��ري��ه‪ .‬نعني تقليد‬
‫املقاهي واملالهي ودور الن�شر واملكتبات‬
‫على �إيقاع مو�سيقى اجل��از وال�شان�سون‬
‫ال�ف��رن���س��ي ال ��ذي ب�ل��غ ذروة جت�ل�ي��ه مع‬
‫ال�صوت ال�ساحر لإدي��ث بياف‪ ،‬ول�شارلز‬
‫�آزن��اف��ور ال��ذي غنى �أغنية ‪La Bohème‬‬
‫ن�شيد الفنانني وال�شعراء يف املومنارتر‪.‬‬
‫ح�ين ن �ق��ول � �س��ارت��ر ن�ع�ن��ي البوهيمية‬
‫ال� ��روائ � �ي� ��ة ب� �ع ��د �أن �أط � �ل� ��ق ال� �ك� � َّت ��اب‬
‫م �� �ش��اع��ره��م وغ ��رائ ��زه ��م‪ ،‬غ ��ارق�ي�ن يف‬
‫امللذات والأحا�سي�س واملتع بنهم كبري‪.‬‬
‫نعني الفل�سفة التي هبطت �إىل ال�شارع‪،‬‬
‫�إىل احل�ي��اة‪� ،‬إىل امل�ن��زل‪� ،‬إىل املقهى كي‬
‫تعتق ال�ف��رد م��ن ال�ع��وائ��ق االجتماعية‬
‫واجل�ن���س�ي��ة وال���س�ي��ا��س�ي��ة وت�ع�ي����ش معه‬
‫متبطلة يف املقاهي وال�شوارع واملالهي‪.‬‬

‫ـــــــــــــاخب و�أوهام الوجودية العربية‬


‫‪43‬‬
‫كاتب يا�سني وحممد ديب‪ .‬املنا�ضل يف دعم جبهة‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫التحرير الوطني اجلزائرية وا�ستعداده لإيواء املنا�ضلني‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫اجلزائريني الذين تطاردهم ال�شرطة الفرن�سية‪.‬‬
‫�أم من �سارتر املنخرط املحموم مع ال�صهيونية؟ من‬
‫�سارتر املنظر ال�سيا�سي يف عمله النظري ال�ضخم‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫«نقد العقل اجلديل» �أم من �سارتر املت�ضامن الب�سيط‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وال�شعبي مع فيتنام يف احلرب الأمريكية؟ من �سارتر‬ ‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫الراف�ض جلائزة نوبل‪� ،‬أم من �سارتر املط ّبع للوجودية‬
‫كتيار متق ّدم يف احلياة الثقافية؟ من �سارتر الغثيان‬
‫كذلك نعني عالقة احلب املدوية – دون زواج ‪ -‬بني دو الذي ف�ضح احلياة الربجوازية الزائفة وامل�صطنعة �أم‬
‫بوفوار و�سارتر والتي �أغرت مئات الآالف من ال�شباب من �سارتر الباحث عن اجلمال وهو ينزع عن اجل�سد‬
‫قد�سيته؟‬ ‫بتقليدها‪.‬‬
‫حني نقول �سارتر نعني �صورة جنم الثقافة الذي‬
‫ر�أ�سمال رمزي‬ ‫بالفكر‬ ‫يحيط به مريدوه الأطلنطيون من املولعني‬
‫والإبداع وااللتزام واحلرية‪ .‬نعني الإمرباطور الثقايف‬
‫الذي جل�س على عر�ش ال�سان جرمان دوبريه‪ ،‬حماط ًا من هذا املفتتح كان ميكننا �أن نتع ّرف على �سارتر‬
‫بجوقة من املعجبني واملعجبات من ممثلني وممثالت املعادي ل�سارتر يف الثقافة العربية‪.‬‬
‫ومطربات وعار�ضات �أزياء وكاتبات مبتدئات وطالبات‪� .‬أو بالأحرى يف جزء من الثقافة‪ ،‬وهي ثقافة ا�ستالبية‬
‫امتثايل رغم نعني �سارتر ال�ساحر مبفاهيمه ال�شاملة‪ ،‬وحركاته عبرّ ت طوال اخلم�سينيات وال�ستينيات عن عجز‬
‫الإغوائية على الرغم من دمامته‪� .‬سارتر االمتثايل ونكو�ص كاملني يف فهم �سارتر �أو تقدميه‪ .‬كان علينا‬
‫مبادراته على الرغم من مبادراته ال�سيا�سية‪ ،‬وتعليقاته امللغمة‪ ،‬البحث عن �سارتر امل�ضاد ل�سارتر يف جزء من الثقافة‬
‫ال�سيا�سية ون�شاطاته الثقافية الكثرية‪� .‬سارتر الفنان ال�ساحر املعا�صرة التي تخلت عن �شفرتها مع �أول �إطاللة لهذه‬
‫على الرغم من العدمية املت�شائمة وال�سوداوية التي ال�شخ�صية ال�ساحرة دون متييز �شديد بني الفكرة‬
‫و�ساحر رغم طبعت كتاباته‪� .‬سارتر املرح وال�ساخر على الرغم من وبني �إمكانيات حتققها‪� ،‬أو على الأقل بني الفكرة وبني‬
‫عدميته كفاحه ال�سيا�سي اجلاد‪ .‬نعني �سارتر الرثي الذي يربح ظاللها‪ ،‬ولدى مثقفني مه ّمني ال يتعلق الأمر لديهم‬
‫الكثري من كتبه‪� ،‬سارتر �ساحر اجلميالت‪ ،‬زير الن�ساء مبهزلة عاملثالثية‪� ،‬أو بخداع ماكر‪� ،‬إمنا مبواقف‬
‫وقناعات و�صراعات فكرية و�سيا�سية واجتماعية‪.‬‬ ‫الذي يغوي الفاتنات بف�ضل جاذبيته الفكرية‪.‬‬
‫�إن �سارتر يف ن�سخته العربية مل يكن يف حقيقته نهاية‬ ‫كان‬ ‫أين‬ ‫�‬ ‫�أما ال�س�ؤال املهم يف هذه املق ّدمة فهو من‬
‫للثقافة العربية �أن تدخل عامل �سارتر؟ من االلتزام لعر�ض خطري من الأفكار امل� ّشوهة‪ ،‬واملواقف املختلقة‪،‬‬
‫ال�شر�س‪ ،‬من احلرية املطلقة‪ ،‬من رجل الغليون‪ ...‬من والقناعات دون متثيل حقيقي �أو ا�ستيعاب �صريح فقط‪،‬‬
‫يدخن ويكتب �إمنا كان نوع ًا من عدم الكفاءة الأخالقية واالجتماعية‬ ‫الفيل�سوف الذي مي�شي على الأر�ض‪ّ ،‬‬
‫والفكرية لدى بع�ض املثقفني‪ ،‬حيث دخل �سارتر �إىل‬ ‫مع‬ ‫و�صداقاته‬ ‫الأغاين ويزعج الكثريين ب�شهرته‬
‫الثقافة العربية بقدر كبري من االختالق‪ ،‬والكذب‬ ‫الن�ساء؟‬
‫والتزييف‪ ...‬والأمر مل يكن عر�ض ًا على الإطالق‪،‬‬ ‫أخالقية‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫القيم‬ ‫على‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫خطر‬ ‫ي�شكل‬ ‫الذي‬ ‫البوهيمي‬ ‫من‬
‫من املنا�ضل ال�سيا�سي امل�ؤمن باال�شرتاكية‪ ،‬واملتعاطف فهناك �صراع رمزي على �سارتر ذاته وعلى �أفكاره بني‬
‫مع ال�شيوعيني‪� ،‬أم من معادي ال�ستالينية وقاهر �أعتى تيارين ثقافيني يف اخلم�سينيات وال�ستينيات بني‬
‫ال�شيوعيني؟ من �سارتر املفكر الأوروبي ال�صاخب‪ ،‬جماعة الآداب وجماعة �شعر‪.‬‬
‫�أم �سارتر العاملثالثي يف مق ّدمة «معذبو الأر�ض» فجماعة الآداب املمثلة ب�سهيل �إدري�س وعبد اهلل عبد‬
‫لفرانز فانون؟ من �سارتر الدوغمائي يف نقا�شه مع الدامي و�إميل �شويري وغريهم كانت تعبرّ عن ربط‬
‫عبد الكبري اخلطيبي حول امل�س�ألة اليهودية‪� ،‬أم من ع�ضوي بني القومية والوجودية ك�شرط الزم لاللتزام‬
‫�سارتر املتم ّرد يف تطبيع �أفكار �ألبري ميمي عن حت ّول ال�سيا�سي الأخالقي واالجتماعي يف املمار�سة الأدبية‪،‬‬
‫الثقافات واكت�ساب ال�شفرات؟ من �سارتر املت�شائم يف وعلى الرغم من �أن هذا الربط كان ربط ًا اعتباطي ًا‬
‫نقا�شه مع امل�سيو نافيل عن الوجودية‪� ،‬أم من �سارتر بطبيعة الأمر‪� ،‬إال �أن جماعة الآداب خا�ضت �صراع ًا‬
‫املتع ّدد واملتغيرّ يف �أفكاره وحياته؟ من �سارتر الن�ص �ضاري ًا مع جماعة �شعر املمثلة بيو�سف اخلال و�أدوني�س‬
‫احل ّر غري اخلا�ضع �إىل قيود �أم من �سارتر امللتزم؟ من و�أن�سي احلاج والذين وجدوا يف املفهوم الوجودي‬
‫�سارتر املقيد بالن�ص �أم من قدي�س النظرة الليربالية للحرية الفردية‪ ،‬وحت ّرر الكائن من الغائية‪ ،‬ال�شرط‬
‫الذي ر�أى يف وجود الفرد غاية بذاتها‪ .‬والذي جعل الالزم للممار�سة الأدبية‪ ،‬وهكذا �أنتجت الوجودية‬
‫من ح ّد احلرية املطلقة �شرط ًا لاللتزام؟ من الطفل تيارين متناق�ضني ومت�صارعني‪ ،‬و�أ�صبح �سارتر‬
‫الربجوازي الذي عا�ش حلظة الالفعل ب�شكل �أبدي �أم هو الر�أ�سمال الرمزي الذي تتدافع القوى الثقافية‬
‫من �سارتر الأزمنة احلديثة‪ .‬املخترب الفكري والأدبي وال�سيا�سية لتملكه واالحتياز عليه‪ ،‬فما هو االلتزام‬
‫يف اخلم�سينيات‪ ،‬من �سارتر املدافع عن اجلزائر مع ال�سارتري ن�سبة للقوميني؟ وما هي احلرية الأدبية‬
‫‪44‬‬
‫عن الفرد‪ ،‬والذي ر�أى يف وجوده ماهيته‪ ،‬و�أنه غاية‬ ‫والثقافية والفكرية ن�سبة للليرباليني؟‬
‫بذاتها‪ ،‬وال �أهداف �سيا�سية �أو ميتافيزيقية لوجوده‪،‬‬ ‫كان مفهوم االلتزام ال�سارتري �أكرث تعقيد ًا مما‬
‫بل هو الذي يح ّدد �أهدافه بنف�سه‪ ،‬وهكذا بد�أ ال�صراع‬ ‫طرحته الآداب‪ ،‬مثلما كانت احلرية ال�سارترية �أكرث‬
‫اخلفي‪� ،‬سيا�سي ًا واجتماعي ًا وثقافي ًا بتحوير مقوالت‬ ‫تعقيد ًا مما طرحته جملة �شعر‪:‬‬
‫الوجودية خلدمة �أفكار كل طرف وتوظيفها يف ال�صراع‪،‬‬ ‫ينطلق مفهوم احلرية عند �سارتر من بنية فل�سفية‬
‫وعلى الرغم من �أن ال�صراع كان يدور ب�شكل �أ�سا�سي‬ ‫متكاملة حتمها ال�شعور اجلامح بعدم الر�ضا والإحباط‬
‫بني القوميني الذين جت ّمعوا حول �سهيل �إدري�س وجملة‬ ‫والتقزز الفظيع الذي �ساد �أوروبا بعد احلربني‬
‫الآداب وكان االلتزام �شعارهم‪ ،‬والليرباليني الذين‬ ‫العامليتني‪ ،‬و�صورة التناق�ض بني الأ�شياء املو�ضوعية‬
‫جت ّمعوا حول يو�سف اخلال وجملة �شعر‪ ،‬وكانت فكرة‬ ‫والوعي الذاتي الذي طرحته الفينمونولوجيا‪ ،‬فالوعي‬
‫احلرية وال�شرط الوجودي �شعارهم‪� ،‬إال �أن هذا مل‬ ‫عند �سارتر لي�س �شيئ ًا‪ ،‬و�إن احلقيقة ميكن �أن تت�ضح‬
‫مينع طرف ًا ثالث ًا من الربوز �آنذاك‪ ،‬فقد �أغرى �سارتر‬ ‫بالوقوف بعيد ًا عن الأ�شياء املو�ضوعية واتخاذ موقف‬
‫طرف ًا من الكتاب ال�شيوعيني مبارك�سيته‪ ،‬بل مبا طرحه‬ ‫منها‪ .‬ومبا �أن الوعي لي�س «�شيئ ًا»‪ ،‬ف�إنه ال يتو ّرط دائم ًا‬
‫�سارتر عن �أن الوجودية تعي�ش على هام�ش املارك�سية‬ ‫يف الأ�شياء‪ ،‬كما تتو ّرط هي وتتداخل فيما بينها‪ .‬وهذا‬
‫وتذوب فيها‪ ،‬وكان كتاب «�أحمق العائلة»‪ ،‬الذي تناول‬ ‫يعني �أن الوعي‪ ،‬وبالتايل الب�شر �أنف�سهم هم �أ�سا�س ًا‬
‫فيه �سارتر �سرية حياة الأديب الفرن�سي غو�ستاف‬ ‫�أحرار‪ ،‬و�أن �أية حماولة من �أي كائن �أو �أية نظرية‬
‫فلوبري‪ ،‬هو عر�ض �إغرائي للتحليل الأدبي‪ ،‬وفق ًا للمنهج‬ ‫فل�سفية لت�صويرهم على غري هذا النحو ال تعدو كونها‬
‫املارك�سي‪« ،‬وال �أظن �أن �أحد ًا من الكتاب العرب قد قر�أ‬ ‫ت�صور ًا �شخ�صي ًا �أو «�إميان ًا زائف ًا»‪.‬‬
‫قدي�س‬ ‫هذا الكتاب يف ذلك الوقت»‪ ،‬ولكن كانت كتابات �سارتر‬ ‫وقد بينّ �سارتر �أن حرية الوعي الب�شري هي «عبء»‬
‫الليربالية‬ ‫ال�صحفية و�إعالناته‪ ،‬املت�أثرة مبارك�س‪ ،‬وحماولته خلق‬
‫نوع من الفردية «االجتماعية» التي ال تذوب يف املجتمع‬
‫عليه‪ ،‬فهو «حمكوم ‪ »condamné‬عليه بهذه احلرية‬
‫وحمكوم عليه �أن يكون حر ًا‪ ،‬وهكذا تغدو «امل�شاريع‬
‫الذي ر�أى يف‬ ‫وال ت�سعى لالنف�صال عنه‪ ،‬هي التي بلبلت ال�شيوعيني‬ ‫‪ »projet‬الإن�سانية مبواجهة م�ستم ّرة مع ا�ستحالتها‪،‬‬
‫املت�أثرين بالوجودية وخلخلت مواقفهم‪ ،‬وما زاد يف‬ ‫ذلك لأن عليها �أن تكون واعية‪ ،‬وعليها �أن تكون ح ّرة‬
‫وجود الفرد‬ ‫هذا القلق واال�ضطراب هو م�سرحية «الأيدي القذرة»‬ ‫�أي�ض ًا‪ .‬وحيث �إن ا�ستحالة خلق «�أ�شياء واعية بذاتها‬
‫غاية بذاتها‬ ‫موجهة ب�شكل مبا�شر �ض ّدهم‪.‬‬ ‫والتي ع ّدها ال�شيوعيون ّ‬ ‫‪ ،»en soi‬ف�إنها ال متنع الب�شر من اخل�ضوع لإغرائها‪،‬‬
‫لقد �أ�شعل عر�ض م�سرحية الأيدي القذرة يف «تياتر‬ ‫وحماولة حتقيق تلك امل�شاريع‪ .‬ويف اعتقاد �سارتر �أن‬
‫�أنطوان» يف باري�س نقا�ش ًا طوي ًال وجد ًال وا�سع ًاكما �أنها‬ ‫على الإن�سان �أن يكون هو نف�سه حر ًا‪ ،‬و�أن يح ّدد لنف�سه‬
‫ج ّرت عداء احلزب ال�شيوعي الفرن�سي لها‪ ،‬ومن بعده‬ ‫هدف ًا وي�سعى �إىل حتقيقه‪� ،‬إذ ال �أهداف ماورائية‬
‫الأحزاب ال�شيوعية العربية الر�سمية‪ ،‬ونفى �سارتر �أن‬ ‫لوجوده‪ ،‬بل ما يح ّدده هو لنف�سه‪.‬‬
‫يكون الق�صد من امل�سرحية نقد احلزب ال�شيوعي‪،‬‬
‫ورف�ض منذ �سنة ‪ 1952‬ال�سماح بعر�ضها يف الغرب‬ ‫ال�شيوعيون والأيدي القذرة‬
‫بحجة �أن ذلك ي�ؤ ّدي �إىل زيادة ح ّدة احلرب الباردة‪...‬‬ ‫ّ‬
‫و�إن نظرنا لبع�ض الدوريات وال�صحف العربية يف‬ ‫«‪ ...‬كنا ن�ضع يف �أعماق قلوبهم الرغبة يف (�أوربة)‬
‫ال�سبعينيات يربز �شكل هذا ال�صراع و�إن كان مت�أخر ًا‬ ‫بالدهم‪ ،‬ثم نر�سلهم �إىل بالدهم‪ ،‬و�أي بالد كانت‬
‫قلي ًال ‪.‬‬ ‫�أبوابها مغلقة دائم ًا يف وجوهنا ومل نكن جند منفذ ًا‬
‫وهكذا حت ّولت الوجودية �إىل نوع من ال�صراع الرمزي‬ ‫�إليها‪ ،‬كنا بالن�سبة �إليها رج�س ًا وجن�س ًا‪ ،‬كنا �أعداء‬
‫بني املثقفني والتيارات الثقافية والفكرية وال�سيا�سية‬ ‫يخافون منا‪ ،‬وك�أنهم همج مل يعرفوا ب�شر ًا‪ ،‬لكن منذ‬
‫وحت ّولت �إىل �سلوك اجتماعي وثقايف وح�ضري �أكرث من‬ ‫�أن �أر�سلنا املفكرين الذين �صنعناهم لبالدهم‪ ،‬كنا‬
‫كونها �أفكار ًا قابلة للتطوير والتحوير‪.‬‬ ‫ن�صيح من �أم�سرتدام �أو برلني �أو باري�س‪ ،‬الإخاء الإخاء‬
‫الب�شري فريتد رجع �صوتنا من �أقا�صي �إفريقيا �أو‬
‫االلتزام الناق�ص‬ ‫ال�شرق الأو�سط �أو الأدنى �أو الأق�صى �أو �شمال �إفريقيا‪،‬‬
‫كنا نقول ليح ّل املذهب الإن�ساين �أو دين الإن�سانية‬
‫كتب جورج طرابي�شي عن االلتزام يف الثقافة العربية‬ ‫حم ّل الأديان املختلفة وكانوا ير ّددون �أ�صواتنا هذه من‬
‫ما يلي‪:‬‬ ‫�أفواههم وحينما ن�صمت كانوا ي�صمتون» – �سارتر‪.‬‬
‫«من مفارقات الثقافة العربية املعا�صرة‪ ،‬اخلا�ضعة‬ ‫لقد كان االلتزام الذي طرحته جملة الآداب هو التزام‬
‫بقوة لقانون التثاقف �أنها ت�ستورد �أحيان ًا املفاهيم‪،‬‬ ‫�سارتري مبا�شر و�صريح‪ ،‬هذا يعني �أنه خمتلف كلي ًا‬
‫وحتى ال�شعارات‪ ،‬قبل �أن تكون املكتبة العربية قد‬ ‫عن االلتزام اجلدانويف املارك�سي‪ ،‬وكان عليها �أن‬
‫ا�ستوعبت ‪ -‬عن طريق الرتجمة ‪ -‬الكتب الأمهات التي‬ ‫تنتزع مفهوم احلرية �أي�ض ًا والذي �آمنت به من جملة‬
‫�صيغت فيها تلك املفاهيم‪.‬‏‬ ‫�شعر (ر ّوجت لهذا املفهوم عرب افتتاحيات املجلة التي‬
‫وهذا ما حدث لفكرة االلتزام التي ا�ستطاعت �أن‬ ‫كتبها يو�سف اخلال واملقابالت التي �أجريت يف ذلك‬
‫تفر�ض نف�سها مبنتهى القوة يف ال�ساحة الثقافية‬ ‫الوقت مع �أدوني�س)‪ ،‬وكان عليها �أن توفق بني االلتزام‬
‫العربية ابتداء من �أوا�سط اخلم�سينيات‪ ،‬بف�ضل جملة‬ ‫القومي يف حلظة �صعود عبد النا�صر مع فكرة �سارتر‬
‫‪45‬‬
‫�إىل خطاب تعبوي يف حني �أن ت�أثريهما يف الغرب‪ ،‬و�إن‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫كان كا�سح ًا‪� ،‬إال �أنه فردي ولي�س جماعي ًا‪ ،‬ففي الثقافة‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫العربية هنالك جمهور على الدوام‪ ،‬وهنالك مر�شد‬
‫اجلمهور‪ ،‬فهو داعية‪ ،‬وت�ستبنى ر�ؤية اجلمهور من‬
‫املثقف ال من الثقافة‪ ،‬من ال�شخ�ص ال من الن�ص‪.‬‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫كتب �سارتر يف مق ّدمة كتاب فرانز فانون معذبو‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫الأر�ض‪:‬‬ ‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫«كنا نح�ضر ر�ؤ�ساء القبائل و�أوالد الأ�شراف والأثرياء‬
‫وال�سادة من �إفريقيا و�آ�سيا‪ ،‬ونطوف بهم بع�ض �أيام‬
‫يف �أم�سرتدام ولندن والرنويج وبلجيكا وباري�س‪ ،‬فتتغيرّ‬ ‫«الآداب» البريوتية لها‪ ،‬قبل �أن يكون املنبع الرئي�سي‬
‫مالب�سهم ويلتقطون بع�ض �أمناط العالقات االجتماعية‬ ‫لهذه الفكرة‪ ،‬وهو كتاب �سارتر «ما الأدب ؟» قد �أخذ‬
‫اجلديدة‪ ،‬ويرتدون ال�سرتات وال�سراويل ويتعلمون‬ ‫طريقه �إىل الن�شر بالعربية»‪.‬‏‬
‫منا طريقة جديدة يف الرواح والغدو واال�ستقبال‬ ‫لقد ح ّل جدل احلرية وااللتزام حمل جدل الزنديق‬
‫ّ‬
‫واال�ستدبار‪ ،‬ويتعلمون لغاتنا و�أ�ساليب رق�صنا وركوب‬ ‫وامل�ؤمن يف الرتاث الإ�سالمي‪ ،‬وجدل الرجعي والتق ّدمي‬
‫عرباتنا‪ ،‬وكنا ند ّبر لبع�ضهم �أحيان ًا زيجة �أوروبية‪،‬‬ ‫يف ال�سجال احل�ضاري واالجتماعي‪ ،‬وجدل القومي‬
‫نلقنهم �أ�سلوب احلياة ب�أثاث جديد وطرز جديدة‬ ‫واملارك�سي يف املجال ال�سيا�سي‪ ،‬و�شهدت اخلم�سينيات‬
‫وغذاء �أوروبي‪ ...‬ونف�سدهم ثم كنا واثقني من �أن‬ ‫وال�ستينيات احتفاء خا�ص ًا بهذا املفهوم وجد ًال وا�سع ًا‬
‫ه�ؤالء املفكرين ال ميلكون كلمة واحدة يقولونها غري ما‬ ‫دون العودة �إىل منابعه الأ�صلية‪� ،‬أو �أ�صوله الفل�سفية‬
‫و�ضعناه يف �أفواههم‪ ،‬لي�س هذا فح�سب‪ ،‬بل �إنهم �سلبوا‬ ‫والثقافية العميقة‪ ،‬وكانت الآداب تفهمه كنظري حقيقي‬
‫حق الكالم من مواطنيهم»‪.‬‬ ‫للفكرة اجلدانوفية ال�شائعة يف الأدبيات املارك�سية‬
‫كان يعقوب �صروف وفار�س منر و�شاهني مكاريو�س‬ ‫املب�سطة �أكرث من فهمها ال�سارتري اخلا�ص‪ ،‬فقد‬ ‫لقد حل‬
‫ونيقوال حداد وجرجي زيدان و�سالمة مو�سى‪� ،‬أول‬ ‫طرحته ك�صنو للمقد�س الأيديولوجي يف ال�سيا�سة‪،‬‬
‫ب�شروا بالتغريب على �صفحات املقتطف‪ ،‬و�سعوا‬ ‫من ّ‬ ‫وبالكاد الم�ست املفهوم الوجودي له‪ ،‬بل انحازت �إىل‬ ‫جدل احلرية‬
‫�إىل ربط املجتمع العربي باملجتمع الغربي‪ ،‬ون�شروا‬ ‫ثقافة �سيا�سية قومية �شبه حزبية‪ ،‬و�أملت من خالل‬ ‫وااللتزام حمل‬
‫�أفكار دارون ونيت�شه‪ ،‬ودعوا �إىل حقيقة ومادية الكون‬ ‫�سلطتها يف الن�شر والرتويج ن�ص ًا خا�ضع ًا لر�ؤيتها هي‪،‬‬
‫ووحدة العقل‪ ،‬و�آمنوا بالعقالنية كتف�سري نهائي‬ ‫كانت تريد �أن ت�صل به �إىل جمهورية حاملة‪ ،‬يقوم على‬ ‫جدل الزنديق‬
‫للكون‪ ،‬وكان يقابلهم االجتاه الروحي للعقاد وزكي‬
‫الأر�سوزي وعثمان �أمني‪ ،‬وترتكز على احلد�س كما هو‬
‫تغيري الواقع «الراهن» ويك ّيف املبنى احل�ضاري احلايل‬
‫مع مبنى ح�ضاري وثقايف عربي �سابق‪.‬‬ ‫وامل�ؤمن‬
‫عند برغ�سون‪ ،‬واملعرفة املتحققة بني �إدراك الوجود‬ ‫كانت حاالت التقهقر ال�سيا�سي العربي و�صعود‬
‫واالندماج العاطفي‪ ،‬وحماولة تكوين ديني �أخالقي‬ ‫النا�صرية وبروز حركات التح ّرر الوطني قد دفعت هذا‬
‫يتجاوز بريق احل�ضارة الغربية‪.‬‬ ‫املفهوم �شيئ ًا ف�شيئ ًا نحو االلتزام ب�صورته اجلدانوفية‬
‫وكان �أول ظهور للوجودية قد حتقق عند عبد الرحمن‬ ‫�أو املتمرك�سة دون اعرتاف باجلدانوفية �أو املارك�سية‪،‬‬
‫بدوي‪ ،‬عرب الزمان الوجودي منت�صف الأربعينيات‪،‬‬ ‫فرفع اليافطة ال�سيا�سية‪ ،‬ووعود جنة اال�ستقالل‬
‫وكما فهمه من هايدغر‪ ،‬ومن التمييز الالزم بني‬ ‫واحلرية والوحدة املقبلة‪ ،‬وت�صنيع الأدب والثقافة‬
‫الوجود الزائف والوجود املو�ضوعي‪ ،‬راف�ض ًا الكوجيتو‬ ‫مع ا�ست�صالح الأرا�ضي وخو�ض املعارك الوهمية على‬
‫الديكارتي م�ستبد ًال �إياه بالكوجيتو الإرادي‪ ...‬ومتوافق ًا‬ ‫الورق‪ ،‬قد �أنتجت ُكتاب ًا ملتزمني وحاملني مثلهم مثل‬
‫مع �شخ�صانية مونيه التي دخلت الفكر العربي من‬ ‫احلاملني يف اجلمهوريات اال�شرتاكية‪ ،‬وحت ّول �سارتر‬
‫خالل كتابات «رينيه حب�شي»‪ ،‬والتي تقود �إىل �صريورة‬ ‫�إىل جدانوف مقابل جلدانوفية عربية عند احل�صري‬
‫م�ستمرة و�أبدية‪ ،‬وقد خ�ضع النقا�ش الفل�سفي �إىل جدل‬ ‫والأر�سوزي‪ ،‬وكان املفهوم احلقيقي لاللتزام هو الأدب‬
‫مع الو�ضعية املنطقية التي ر ّوج لها الدكتور زكي جنيب‬ ‫واملوجه وامللحق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املحكوم‬
‫حممود الذي �أكد �أن التجربة والعمل ميثالن املعيار‬ ‫يف الواقع‪ ،‬ف�ضح االلتزام �أزمة النخب املثقفة احلديثة‬
‫الوحيد لكل حقيقة‪ ...‬والذي طرح مفهوم تقليد الغرب‬ ‫يف ت�شكلها الهجني وا�ضطرابها بني �صياغتني وبنيتني‬
‫ك�أمر الزم للتط ّور الثقايف واالجتماعي‪.‬‬ ‫خمتلفتني تقريب ًا دون التمكن من امل�صاحلة بينهما‪،‬‬
‫الت�شظي الثقايف‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ومن هذا التعار�ض الن�سقي بزغ‬
‫�سارتر العر ب وفل�سطني الغرب‬ ‫وعدم القدرة على �صياغة موقف اجتماعي وفكري‬
‫وا�ضح‪ ،‬وعلى الرغم من �أن االنفتاح على التيارات‬
‫«ها هو الطفل قد عاد �إىل �أهله‬ ‫الثقافية الغربية �شكل �شرخ ًا يف �س�ؤال الهوية‪.‬‬
‫مل ي�ستطع النظر طوي ًال بوجه ال�شم�س‪»..‬‬ ‫من جهة �أخرى كانت كل حركة وافدة ‪ -‬حتى احلركات‬
‫هكذا كتب فولني يف القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬وقد تنطبق‬ ‫ذات الطابع الوجودي وال�شخ�صاين‪ -‬تخ�ضع �إىل‬
‫هذه احلكمة كثري ًا على �سارتر وعلى مواقفه وال �سيما‬ ‫اخلطاب التعبوي يف الثقافة العربية‪ ،‬فالوجودية‬
‫من ق�ضية عادلة وجوهرية كفل�سطني‪ ،‬كموقف من‬ ‫و�سارتر ح�صر ًا حتوال – مثل املارك�سية والقومية ‪-‬‬
‫‪46‬‬
‫اخلطيبي‪«:‬الأمر وا�ضح ال لب�س فيه‪ ..‬قامت �إ�سرائيل‬ ‫مواقفه ال�صعبة من الأمم املغدورة يف ذروة حركة‬
‫باحتالل �أرا�ض عربية‪ ...‬كيف ميكن ل�سارتر �أن يوقع‬ ‫التح ّرر الوطني والقومي يف العامل وت�صفية �إرث‬
‫عري�ضة تدين الذي وقع عليه فعل االحتالل؟‪.»...‬‬ ‫اال�ستعمار‪ ،‬ال كمو�ضوعة �أخالقية‪ ،‬وهو الذي ّ‬
‫د�شن‬
‫�أنا �أعتقد �أن �سارتر �شعر بهذا التم ّزق الأخالقي‪،‬‬ ‫بعمق الفل�سفة الأخالقية بوجوديته والتزامه‪� ،‬إمنا‬
‫و�شعر باال�ضطراب والتلك�ؤ وعدم القدرة على التمييز‬ ‫كق�ضية �إن�سانية �أي�ض ًا‪ .‬فاملوقف هنا هو موقف ثقايف‬
‫احلقيقي‪ ،‬وهذا ما دفعه �إىل الإحلاح على مقابلة لطفي‬ ‫بالت�أكيد حيث حت ّر�ض الثقافة على ما يطلق عليه‬
‫اخلويل عند زيارته لباري�س بعد هذه احلادثة ب�أعوام‪،‬‬ ‫دريدا بتفكيك احلق‪..‬ما دام العدل ال ميكن تفكيكه‪،‬‬
‫وحاول �شرح الظروف واملالب�سات التي جعلته يوقع‬ ‫غري �أن الأمر كان على خالف ذلك‪ ،‬ولذا بقيت هذه‬
‫هذه العري�ضة‪ ،‬وحماولته االت�صال ببع�ض املثقفني‬ ‫املو�ضوعة خد�ش ًا كبري ًا يف �ضمري �سارتر‪ ،‬و�ضمري‬
‫العرب ل�شرح موقفه‪ ،‬غري �أن هذا الأمر مل يكن مهم ًا‬ ‫تابعيه من العرب زمن ًا طوي ًال‪.‬‬
‫على الإطالق‪ ،‬ف�سارتر بقي حمافظ ًا على عالقته‬ ‫لقد �شكلت مواقف �سارتر الوا�ضحة من حرب اجلزائر‬
‫اال�ستثنائية بالدولة العربية ومبثقفيها ومب�ؤ�س�ساتها‪،‬‬ ‫وفيتنام ن�صر ًا كبري ًا للوجوديني العرب‪ ،‬فقد كان‬
‫وكتب لطفي اخلويل يف كتابه املم ّيز «لقاء مع برتراند‬ ‫موقف ًا عاد ًال‪ ،‬ووا�ضح ًا وجلي ًا‪ ،‬وقد ك ّر�س نف�سه وجملته‬
‫ر�سل و�سارتر»‪� ،‬أن �سارتر �أكد له على �ضرورة‬ ‫«الأزمنة احلديثة» يف تلك الفرتة خلدمة هذه الق�ضية‪،‬‬
‫�إيجاد �صيغة عادلة تتيح التعاي�ش بني الإ�سرائيليني‬ ‫ووقف بحزم و�ش ّدة ال تلني بوجه اللوبي الذي كان‬
‫والفل�سطينيني �ضمن دولة واحدة وب�أن الر�أي العام‬ ‫ينا�صر مبد�أ القوة واالحتالل واالكت�ساح واالجتياح‬
‫ال�صورة‬ ‫الفرن�سي منحاز لإ�سرائيل ب�سبب حرب اجلزائر‪� ،‬إال‬ ‫والتدمري واالجتثاث الثقايف‪ ،‬لكن موقفه من الق�ضية‬
‫الأخرية‬ ‫�أن �سارتر مثله مثل �أكرث املثقفني الفرن�سيني كان يرزح‬ ‫الفل�سطينية كان خميب ًا على نحو فا�ضح‪ ،‬وقد عانى‬
‫حتت عقدة الهولوكو�ست‪.‬‬ ‫املثقفون العرب الذين ب�شروا بالوجودية �أو الذين‬
‫ل�سارتر‬ ‫نا�صروها ب�شكل علني �أو الذين ح�سبوا �أنف�سهم على‬
‫يف �شقة مي�شال فوكو‬ ‫تيارها م�شاكل ج ّمة يف تربير مواقفه �أو �شرحها وهم‬
‫خمزية‬ ‫الذين ربطوا دون م�سوغ بني الن�ضال القومي والنزعة‬
‫�إن ال�صورة الأخرية جلان بول �سارتر يف الثقافة للوجوديني‬ ‫الفل�سفية الوجودية‪.‬‬
‫العربية هي ما رواه �إدوارد �سعيد عن اللقاء الذي‬ ‫يف عام ‪ 1967‬وقبل اندالع حرب الأيام ال�ستة قام‬
‫ّمت بني املثقفني العرب والإ�سرائيليني يف �شقة مي�شال العرب‬ ‫�سارتر برفقة �سيمون دو بوفوار وكلود النزمان رئي�س‬
‫فوكو‪ ،‬فقد وقع �سارتر يف �شيخوخته حتت قب�ضة‬ ‫حترير جملة «الأزمنة احلديثة» �آنذاك‪ ،‬بزيارة م�صر‬
‫�سكرتري يهودي غريب الأطوار‪.‬‬ ‫النا�صرية بدعوة من �صحيفة الأهرام‪ ،‬وكان يف‬
‫وقد �سرد �سعيد بنربة حزينة �إحباطه حيال طريقة‬ ‫ا�ستقباله جمموعة من املثقفني امل�صريني‪ ،‬من بينهم‬
‫تنظيم اللقاء بني املثقفني الإ�سرائيليني والعرب‬ ‫لطفي اخلويل و�إح�سان عبد القدو�س وفتحي خليل‬
‫والفرن�سيني‪ ،‬وانده�ش من احلالة املزرية التي �صار بها‬ ‫و�أني�س من�صور الذين حاولوا �شرح الق�ضية الفل�سطينية‬
‫�سارتر يف نهاية عمره‪ ،‬وخ�ضوعه التام ل�شخ�ص غريب‬ ‫و�أبعادها ب�صورة م�ستفي�ضة‪ ،‬وقد بقي �سارتر وبوفوار‬
‫الأطوار يدعى بيار فيكتور وهو اال�سم امل�ستعار لبيني‬ ‫والنزمان �أ�سبوعني يف م�صر‪ ،‬زاروا �أثناءها املعامل‬
‫ليفي‪ ،‬اليهودي – امل�صري‪ ،‬الذي تزعم تيار ًا طالبي ًا‬ ‫واجلامعات والقرى‪ ،‬والتقوا باملثقفني وال�سيا�سيني‪،‬‬
‫ماوي ًا يدعى الي�سار الربوليتاري �أثناء انتفا�ضة ‪.68‬‬ ‫ومن بينهم عبد النا�صر‪ ،‬وقاموا برحلة �إىل قطاع غزة‬
‫وقد تع ّرف عليه �سارتر �إىل جانب �أ�شخا�ص �آخرين‬ ‫واطلعوا عن كثب على معاناة الالجئني الفل�سطينيني‪،‬‬
‫و�أ�سهم معه يف ت�أ�سي�س �صحيفة «ليربا�سيون» يف عام‬ ‫و�أكد �سارتر تف ّهمه للم�أ�ساة الفل�سطينية يف لقائه‬
‫‪ 1971‬ثم حت ّول ايل �سكرتريه اخلا�ص من عام ‪1973‬‬ ‫مع طلبة جامعة القاهرة‪ ،‬وعد حق عودة الالجئني‬
‫حتى وفاته يف عام ‪ .1980‬وهي الفرتة التي حت ّول‬ ‫�أمر ًا ال تنازل عنه وفق �صيغة من �صيغ التعاي�ش مع‬
‫فيها �سارتر �إىل خرف‪ ،‬و�ضرير‪ ،‬ومهلو�س‪ ،‬وقد هيمن‬ ‫الإ�سرائيليني‪ ،‬وق ّرر �أن يكون عدد «الأزمنة احلديثة»‬
‫عليه «بيني ليفي» و�أحكم �سيطرته عليه‪ ،‬وفر�ض عليه‬ ‫املقبل خم�ص�ص ًا ل�شرح وجهتي النظر الإ�سرائيلية‬
‫�شروط ًا وقنن لقاءاته حتى مع �أقرب �أ�صدقائه‪ ،‬وقد‬ ‫والعربية من الق�ضية الفل�سطينية‪ ،‬كما وعد بعدم‬
‫ن�شر �سل�سلة من احلوارات املط ّولة معه‪ ،‬ظهر فيها هذا‬ ‫م�شاركته يف العدد التزام ًا منه باحلياد واملو�ضوعية‪.‬‬
‫الأخري ب�صيغة مناق�ضة كلية لأفكاره ولوجوديته ولإرثه‬ ‫بعد عودة �سارتر �إىل باري�س ب�أيام اندلعت حرب الأيام‬
‫الفل�سفي‪ ،‬ن�شرتها �أ�سبوعية «لونوفيل �أوب�سريفاتور»‪.‬‬ ‫ال�ستة‪ ،‬فقد �ش ّنت �إ�سرائيل هجوم ًا غادر ًا واحتلت‬
‫ف�أثارت هذه احلوارات حينها �ضجة كبرية دفعت‬ ‫أرا�ض عربية‪ ،‬ورمبا انق�سم العامل �إبان ذاك �إىل‬ ‫� ٍ‬
‫ب�سيمون دو بوفوار �إىل االحتجاج واتهام بيني ليفي‬ ‫ن�صفني‪ ،‬غري �أن �سارتر كان يعرف املكان الذي عليه‬
‫باال�ستحواذ املطلق على �سارتر‪.‬‬ ‫�أن ي�صطف داخله‪ ،‬فقد وقف دون مواربة مع ال�صف‬
‫ال�صورة الأخرية ل�سارتر‪ ،‬كما رواها �إدوارد �سعيد‪،‬‬ ‫الإ�سرائيلي‪ ،‬ووقع مع عدد من املثقفني اليمينيني‬
‫خمزية للوجوديني العرب‪ ،‬ف�سارتر ‪ -‬كما يقول �سعيد‬ ‫عري�ضة ت�ضامن مع �إ�سرائيل و�إدانة للعرب‪ ،‬وقد �صعق‬
‫‪ -‬يهذي‪ ،‬ويرى ب�صعوبة‪ ،‬ي�أكل ويت�ساقط الأكل على‬ ‫الوجوديون العرب‪ ،‬وال �س ّيما الذين كانوا يف باري�س‬
‫قمي�صه‪.‬‬ ‫من موقف �سارتر اجلنوين‪ ،‬وقد قال عبد الكبري‬
‫‪47‬‬
‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬

‫بيت‬
‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬

‫ اللغة‬ ‫حممد القا�ضي‬

‫الطاهر بنجلون ال�شاعر والقا�ص والروائي وال�صحفي املغربي ارتبط‬


‫كاتب من تون�س‬

‫ا�سمه يف بداية ال�سبعينيات من القرن الع�شرين بعامل الإبداع باللغة‬


‫الفرن�سية حيث �أ�صدر �سنة ‪1971‬م ديوانه ال�شعري الأول (رجال حتت‬
‫كفن ال�صمت) بالدار البي�ضاء‪ ،‬ويف �سنة ‪1972‬م �أخرجت مطابع ما�سبريو‬
‫ال�شهرية بفرن�سا ديوانه الثاين (ندوب ال�شم�س)‪ .‬ويف �سنة ‪1974‬م جذب‬
‫االنتباه �إليه من خالل تقرير مف�صل ن�شر على ال�صفحة الأوىل من‬
‫جريدة (لوموند) ذائعة ال�صيت عن رحلة احلج التي قام بها �إىل مكة‪،‬‬
‫ثم تزايد االنتباه �إليه بعد ن�شره ملقاالت ت�ض ّمنت �آراءه يف ق�ضايا ال�شرق‬
‫الأو�سط‪ .‬بعد ذلك ن�شر �أول كتاب له عن الع ّمال املهاجرين‪ ،‬وذلك �سنة‬
‫‪1976‬م حتت عنوان (�أق�صى درجات العزلة)‪ .‬فا�ستطاع بعد ذلك �أن ينتزع‬
‫له مكاناً بني �أ�شهر �أدباء العامل يف العقود الثالثة من القرن الع�شرين‪،‬‬
‫ويعترب �أكرث الروائيني املغاربة �إنتاجاً يف اللغة الفرن�سية‪ ،‬وحقق يف فرتة‬
‫ما جناحاً كبرياً داخل فرن�سا نف�سها‪ ،‬حيث ح�صل على جائزة (غونكور)‬
‫ال�شهرية‪ ،‬التي ت�ؤمن ل�صاحبها ذيوع ال�صيت لدى اجلمهور الفرن�سي‪،‬‬
‫وكان �سابع �أديب غري فرن�سي ينال تلك اجلائزة الأدبية‪.‬‬
‫تن ّوعت كتاباته وتو ّزعت بني جماالت ال�شعر والق�صة والرواية واملقالة‪،‬‬
‫ولكنه �أكرث �إخال�صاً للرواية‪ ،‬فقد �صدر له‪ :‬حرودة‪ /‬موحا املجنون ‪-‬‬
‫موحا احلكيم‪ /‬طفل الرمال‪ /‬الليلة املقدّ�سة‪� /‬صالة الغائب‪ /‬الكاتب‬
‫العمومي‪ /‬وغريها من الأعمال الأخرى‪ ،‬ترجمت �أعماله �إىل ‪ 43‬لغة‪.‬‬

‫الفرن�سي���ة امل�سكون���ة بذاكـــــــــــــــــ‬


‫‪48‬‬
‫ـــ���رة عربي���ة عن���د الطاه���ر بنجل���ون‬
‫‪49‬‬
‫�أحالمنا و�شكوكنا وغ�ضبنا‪� ،‬سوى لغة اال�ستعمار‪ .‬كانت‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫الدمياغوجية تهزنا‪ ،‬وكنا نريد لأنف�سنا �أن نكون حديثني‪،‬‬
‫خمل�صني وملتزمني‪� ،‬أي �أن نكون �شهود ًا على ع�صرنا‪،‬‬ ‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ربر �أنف�سنا‪،‬‬
‫نتوجه‬
‫قريبني خا�صة من هموم �شعبنا‪ ،‬لذلك لكي ن ّ‬
‫رحنا نن�صب خيمتنا يف املقابر التي كان علينا �أن ّ‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫�إليها ب�شعرنا وكتاباتنا‪� ...‬أنا مل �أ�شك حلظة يف حياتي‪،‬‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫يف �صدق هويتي العربية حتى ولو كنت �أعبرّ عن هذه‬ ‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫الهوية بلغة �أجنبية»(‪.)4‬‬
‫ُينعت الطاهر بنجلون ب�أنه مزدوج الثقافة ‪ -‬وك�أمنا‬
‫يل ّمحون �إىل وجود ازدواجية والء ‪� -‬صحيح �إنه يعبرّ‬ ‫ولد �سنة ‪1944‬م مبدينة فا�س‪ ،‬ون�ش�أ يف مدينة طنجة‬
‫جيد ًا بالفرن�سية‪ ،‬لكنه ملت�صق بالأر�ض التي �أجنبته‪،‬‬ ‫التي انتقلت �إليها �أ�سرته �سنة ‪1955‬م‪ ،‬وقد كان لهذا �أبلغ‬
‫وقد �ص ّرح مرة «�إنني �أعترب �أنه مبج ّرد �أن يكون املرء قد‬ ‫الت�أثري عليه‪ ،‬فالطبيعة والبيئة والظروف ال�سيا�سية التي‬
‫�أو�ضح يف داخله بع�ض الأ�شياء و�أنه يريد قولها فليقلها‬ ‫م ّرت بها هذه البقعة جعلته يتّجه �إىل درا�سة الفل�سفة‬
‫ب�أية لغة ي�ستطيعها‪ ،‬ويجب �أال ن�ضع م�س�ألة اللغة قبل‬ ‫�سواء يف املغرب �أو يف باري�س بعد ذلك‪ ،‬حيث دخلها‬
‫م�س�ألة التعبري‪� ،‬إنني �أ�ص ّرح ب�أنني ال �أعاين �أية عقدة‬ ‫�سنة ‪1961‬م وهو يحمل طموح ًا كبري ًا‪ ،‬فاجته �إىل كتابة‬
‫ت�أنيب �أو �أزمة �ضمري و�أنا �أكتب عن احلياة املغربية‬ ‫ال�شعر‪« ،‬عندما بد�أت الكتابة‪ ،‬فقد كان من الطبيعي‬
‫بالفرن�سية»(‪.)5‬‬ ‫بالن�سبة يل �أن �أكتب بالفرن�سية‪ ..‬و�أ�شعر بحرية �أكرث‬
‫عندما �أكتب بها»(‪.)1‬‬
‫الأدب يف خدمة املهاجرين وق�ضاياهم‬ ‫لقد تع ّلم الفرن�سية يف الوقت الذي تع ّلم فيه العربية‪ ،‬ثم‬
‫�شيئ ًا ف�شيئ ًا كان الفوز من ن�صيب الفرن�سية‪ ،‬ومع مرور‬
‫�ساعدت عوامل كثرية على تر�سيخ �شخ�صية الطاهر‬ ‫الوقت �صار حت ّدي ًا ف�شعر ب�أنه ا�ستوىل على لغة الأجنبي‬ ‫الطاهر‬
‫بنجلون يف ال�ساحة الأدبية الفرن�سية و�شهرته فيها‬ ‫امل�ستعمر الذي كان ي�ستعمر بالده‪�« ،‬إن الفرن�سية التي‬
‫منها‪� ،‬صداقة الي�سار الفرن�سي للكتّاب املغاربة‪ّ ،‬‬
‫وكف‬ ‫نكتب بها نحن مع�شر املغاربة‪ ،‬فرن�سية تختلف قطع ًا‬ ‫بنجلون‪:‬‬
‫اجلمهور عن اال�شتباه يف نوايا الروائيني املغاربة‬
‫املعبرّ ين بالفرن�سية‪ ،‬بل �إنهم �أ�صبحوا يح�صلون على‬
‫عن فرن�سية مي�شال تورنييه ويل كلوزيو‪ ،‬لغتنا الفرن�سية‬
‫لغة (م�سكونة) بذاكرة عربية وبا�ستيحاء عربي‪ ،‬لغة‬
‫�أكتب‬
‫جوائز �أدبية �أجنبية وتنالهم من نقاد الي�سار الفرن�سي‬ ‫�أدخلناها يف متاهة دواخلنا ويف ثنايا ال وعينا‪ ،‬مبعنى من‬ ‫�شكوكي‬
‫مقاالت تقريظية وتتهافت دور الن�شر الكربى على طبع‬ ‫املعاين بتنا نحن الذين ن�ست�ضيف هذه اللغة‪ ،‬ال هي التي‬
‫�أعمالهم‪ ،‬و�إدخال تعليم الأدب املغربي �إىل اجلامعات‬ ‫ت�ست�ضيفنا‪ ،‬وذلك لأننا ندخلها يف عامل ويف خيال مل يكن‬ ‫وعواطفي‬
‫الفرن�سية ك�أدب وطني له �شخ�صيته امل�ستقلة ولي�س‬ ‫بو�سعها �أبد ًا �أن ت�صل �إليهما من دوننا‪ ،‬نحن نعرب بها‬ ‫بلغة هي غري‬
‫ك�أدب (م�ستعمرات) و�إجناز جمموعة من الأطروحات‬ ‫وهي تتب ّدل‪ ،‬تتط ّور‪ ،‬بل ورمبا ت�ستعيد بنا �شبابها»(‪.)2‬‬
‫اجلامعية حوله‪� ،‬إ�ضافة �إىل تكاثر الوجود املغربي يف‬ ‫ينتمي الطاهر بنجلون �إىل اجليل الثاين من الكتّاب‬ ‫لغة �أمي‬
‫فرن�سا‪ ،‬فمنذ ال�سبعينيات زادت هجرة املغاربة �إىل‬ ‫املغاربيني الذين يكتبون بالفرن�سية‪ ،‬فاجليل الأول‪ ،‬جيل‬
‫�أوروبا‪ ،‬ولفرن�سا بوجه خا�ص‪ ،‬هذه الق�ضية التي فر�ضت‬ ‫الر ّواد الذي ميثله �أحمد ال�صفريوي و�إدري�س ال�شرايبي‬
‫نف�سها ب�شدة يف �أجهزة الإعالم الفرن�سية‪ ،‬مع �إثارة فكرة‬ ‫ومولود معمري وكاتب يا�سني وعمرو�ش وغريهم‪ ،‬بد�أ‬
‫هجرة الإ�سالم للغرب التي ر ّددها بع�ض الأوروبيني‪،‬‬ ‫حوايل ‪1950 - 1945‬م كما يقول (جان ديجو) يف‬
‫وقد حظيت ق�ضية املهاجرين العرب واملغاربة على وجه‬ ‫كتابه (الأدب املغاربي املكتوب بالفرن�سية‪� /‬ص‪)11 :‬‬
‫التحديد لأوروبا بجانب كبري من هموم الطاهر بنجلون‬ ‫وذلك ا�ستجابة لرغبتهم يف التعبري عن ذواتهم داخل‬
‫الفكرية و�شغلته كثري ًا وذلك بحكم معاي�شته لهذا الو�ضع‬ ‫جمال ثقافة امل�ستعمر وتقدمي �صورة عن جمتمعهم الذي‬
‫يف فرن�سا‪ ،‬ف�أ�صدر �سنة ‪1976‬م روايته (�أق�صى درجات‬ ‫يعي�ش ح�سب الكاتب عبد الكبري اخلطيبي و�ضعية مت�أزمة‬
‫العزلة) والتي تناول فيها مو�ضوع ا�ضطهاد الع ّمال‬ ‫مرتبطة بالتخ ّلف االجتماعي من جهة ومبرحلة ت�صفية‬
‫املغاربة يف فرن�سا‪ ،‬فينقل �صورة م�ؤملة مفعمة بامل�شاعر‬ ‫اال�ستعمار من جهة �أخرى‪ .‬وهي ح�سب الناقد املغربي‬
‫املرهفة عن حياة اجلموع الغفرية من الع ّمال املغاربة‬ ‫ح�سن بحراوي كتابات لي�ست م�ستم ّدة من املا�ضي �أي من‬
‫الذين كانوا ي�سافرون �إىل فرن�سا للعمل‪ ،‬وال�صعوبات‬ ‫ال�شرق وال هي منقولة كلية من الغرب‪� ،‬إنها خال�صة ذلك‬
‫التي كانت تالحقهم عند عودتهم �إىل بالدهم‪ ،‬فالراوي‬ ‫اللقاء بني الأ�صيل والوافد‪ ،‬ولكن �ضمن حتمية التح ّوالت‬
‫يحتل موقع ًا داخلي ًا يف جلج الأحداث‪ ،‬يحكي عن م�شاعره‬ ‫االجتماعية التي عا�شها الواقع الوطني يف فرتة حم ّددة‬
‫وجتاربه ك�أنه يف جل�سة اعرتاف يع ّرفنا ب�أحداث الرواية‬ ‫من تاريخنا(‪.)3‬‬
‫و�شخو�صها و�أمكنتها‪ ،‬دون �أن ينزع عنه ذلك‪ ،‬حت ّكمه يف‬ ‫وي�صف الطاهر بنجلون جيله قائ ًال‪«:‬كانت قناعتنا تطلع‬
‫ال�سرد الذي يبقى خا�ضع ًا لر�ؤيته اخلا�صة للعامل‪ ،‬لكن‬ ‫من �ضمرينا املع ّذب‪ ،‬فنحن �إمنا كنا نعبرّ عن ذواتنا‬
‫�سرعان ما يتب ّدد هذا احلكم وبخا�صة ملا ن�ست�شف ب�أن‬ ‫بلغة ال ميكن لل�شعب قراءتها �أو �سماعها‪� ،‬أما اله ّوة التي‬
‫هذا العقد املربم بني الروائي والراوي ‪ -‬ال�شخ�صية‬ ‫تكف عن االت�ساع‪.‬‬ ‫راحت تف�صل بني املثقف وال�شعب فلم ّ‬
‫الرئي�سية‪ ،‬لي�س مبني ًا على التماهي �أو التطابق‪ ،‬وذلك‬ ‫لقد كنا كتّاب ًا مز ّيفني مقتلعني ال منلك‪ ،‬للتعبري عن‬
‫‪50‬‬
‫الطاهر بنجلون‬

‫عنف‬ ‫فقط‪«:‬حرودة» تظهر نهار ًا وتختفي لي ًال‪ ،‬يف مغارة ما‬ ‫نظر ًا الختالف مواقعهما االجتماعية‪ ،‬ويف هذه احلالة‬
‫بعيدة عن املدينة حيث تربط م�صريها ب�أ�شباح الليل‪،‬‬ ‫يتّخذ الطاهر بنجلون �شكل �صورة �ضمنية خمتفية يف‬
‫وحركات‬ ‫وحرودة فوق ذلك‪� ،‬ساهمت يف ت�شكيل تاريخ مدينتني‪:‬‬ ‫الكوالي�س‪ ،‬ب�صفة املخرج �أو عار�ض الأزياء‪ ،‬ومع تتايل‬
‫عن�صرية‬ ‫فا�س (م�سقط ر�أ�س الكاتب) وطنجة (املدينة التي ا�ستقر‬ ‫الأحداث تتب ّدد �صورة الكاتب ال�ضمني‪ ،‬يتماهى الطاهر‬
‫بها بعد انتقال الأ�سرة �إليها) �إنها حت ّلق فوق عاملني‬ ‫بنجلون ‪ -‬بطريقة فنية ‪ -‬مع الراوي (املهاجر)‪ ،‬وت�ش ّكل‬
‫تهدد حياة‬ ‫�أو�سعتهما الرواية بالو�صف الالواقعي حيث يختلط احللم‬ ‫نقطة هذا التقاطع الت�أكيد على منط �سردي يت�شابك فيه‬
‫بالفانتازيا‪ ،‬وحيث تتح ّول حرودة �إىل عالقة وبو�صلة‬ ‫الذاتي باملو�ضوعي‪� ،‬إن كل ف�صول الرواية ي�سردها املهاجر‬
‫املهاجرين‬ ‫تعلو الزمن املغربي‪ ،‬وبني فا�س «مدينة بدون معامل‪،‬‬ ‫ب�ضمري املتك ّلم وتتع ّلق بالهجرة �إىل فرن�سا‪ ،‬والك�شف ع ّما‬
‫العرب‬ ‫مر�صودة لتكون عا�صمة ثقافية‪ ،‬مدينة � ّأ�س�ست الفارق‬ ‫تثريه يف نف�سيته ال�شخ�صيات من �إح�سا�سات بالغربة‬
‫بني اليد والفكر»‪« .‬بف�ضل ما جلامع القرويني �أو مدار�س‬ ‫والوحدانية واملغايرة‪�« ،‬إ�ضافة �إىل هذا‪ ،‬زيادة احلركات‬
‫�أبناء الأعيان من �إ�شعاع معريف‪ ،‬حافظت �شبكة العائالت‬ ‫العن�صرية يف فرن�سا و�أوروبا التي تناه�ض وجود العرب‬
‫النبيلة على تالحمها وا�ستمرارها �أمام �أبناء احلرفيني‬ ‫وامل�سلمني هناك وتتعامل معهم ب�صورة دونية‪ ،‬ال ب ّد من‬
‫الذين كانوا مر�صودين لتع ّلم مهنة �آبائهم وتوارثها»‪.‬‬ ‫مواجهتها على امل�ستوى نف�سه‪ .‬والواقع �أن ث ّمة خطورة على‬
‫وطنجة مرتع للتهريب‪ ،‬وب�ؤرة الريبة والكذب واالرت�شاء‪،‬‬ ‫ه�ؤالء املهاجرين‪� ،‬سواء على امل�ستوى الثقايف �أو املادي‪،‬‬
‫ومن طنجة يعرج �إىل اجلبل حيث بد�أت ثورة عبد الكرمي‬ ‫�أما على امل�ستوى الثقايف‪ ،‬فهذه الفئة ت�شعر بانعدام الهوية‬
‫ينظم رجاله‪،‬‬ ‫اخلطابي‪« .‬كان عبد الكرمي اخلطابي ّ‬ ‫والت�شتّت احل�ضاري بني اللغة العربية واللغة الفرن�سية‬
‫ا�ستعداد ًا ملحاربة االحتالل الإ�سباين‪ ،‬جنوده كانوا جميع ًا‬ ‫وبني ثقافة اجلنوب وثقافة ال�شمال‪ ،‬ومثل هذا الو�ضع‬
‫وع�شاق الأر�ض ال�سمراء‪ ،‬تعانقهم جذورها‪،‬‬ ‫�أبناء الغابة ّ‬ ‫ي�ش ّكل تربة مثالية لظهور العنف واحلركات العن�صرية‬
‫ي�ؤويهم م�ضجعها‪ ،‬كانوا يتم ّرنون على العنف ويدجنون‬ ‫التي ته ّدد حياة املهاجرين الذين و�صلوا يف فرن�سا �إىل‬
‫التح ّدي بل �إن جندي ًا بلغ به التح ّدي درجة اخليانة»‪.‬‬ ‫�أكرث من خم�سة ماليني عربي»(‪.)6‬‬
‫«عبد الكرمي‪ ...‬يا ذاكرة خالدة»‪« ...‬عبد الكرمي رجل‬
‫حمارب‪ ،‬منا�ضل‪ ،‬مواطن من �أجدير‪ ،‬مع ّلم يف مليلية‪،‬‬ ‫الطاهر بنجلون وعامل الفانتازيا‬
‫قا�ض‪ ،‬ثم �أمري‪.»...‬‬
‫�إن رواية «حرودة» هي ق�صة مدينتني‪ :‬ق�صة املدينة‬ ‫وا�صل الطاهر بنجلون �إ�صدار الروايات فجاءت‪« :‬حرودة»‬
‫املغربية يف مواجهة التحديث‪ ،‬وق�صة املواطن التقليدي‬ ‫و«موحا املجنون ‪ -‬وموحا احلكيم» و«الكاتب العمومي»‬
‫�ضحية النمو احل�ضاري املباغت‪� .‬إنها و�صف �شعري‬ ‫و«طفل الرمال» و«الليلة املق ّد�سة» وغريها‪.‬‬
‫ملدينتني‪ :‬الرمز والوطن‪ ،‬كما �أنها ق�صة الطفولة‬ ‫ففي رواية «حرودة» ال نعرث على ق�صة ميكن تلخي�ص‬
‫املتج ّددة والتح ّول العنيف‪ ،‬هذا ال�صراخ االجتماعي‬ ‫�أحداثها �أو القب�ض على مك ّوناتها الأ�سا�سية �أو التع ّرف‬
‫تعج به رواية «حرودة» �سيخفت تدريجي ًا يف‬ ‫الذي كانت ّ‬ ‫على م�صائر �أبطالها‪� ،‬إننا �إزاء �شخ�صية منوذجية‬
‫‪51‬‬
‫واحل�ضارات»(‪.)9‬‬ ‫وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ا�س���ت�أثرت رواية «الليلة املق ّد�س���ة» باهتمام خا�ص من‬
‫(‪)10‬‬
‫مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ط���رف النقاد يف فرن�س���ا واملغرب‪ ،‬لأنها �أهلت �ص���احبها‬
‫للح�صول على جائزة (الكونغور) الفرن�سية ال�شهرية(‪،)11‬‬
‫وحظي���ت بتغطي���ة �إعالمي���ة �ش���ملت م�س���احات كبرية يف‬
‫ن�صو�ص وبحوث‬
‫صو�صمقاالت‬
‫وث‬
‫ال�صحافة املرئية وامل�سموعة واملكتوبة‪ ،‬والرواية تت�أ ّلف من‬ ‫حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ديباجة واثنني وع�شرين ف�ص ًال مر ّقم ًا ومعنون ًا‪ ،‬وتتح ّدث‬ ‫ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث‬
‫ع���ن امر�أة عج���وز عائدة من بعي���د تو ّد �أن حتكي ق�ص���ة‬
‫حياتها وتبوح ب�أ�س���رارها‪ ،‬ا�ستجابة ل�ض���غوط و�إكراهات‬
‫داخلية وخارجية‪.‬‬ ‫روايات الطاهر بنجلون الأخرى‪ ،‬كما �ستت�ضاءل النزعة‬
‫ال�ض���غوط الداخلية تتمثل يف ما ت�شعر به من ثقل ج�سدي‬ ‫ال�شعرية ل�صالح تغريبة جديدة‪� ،‬إنها احلنني العميق‬
‫و�أمل وغريهم���ا‪ ،‬تق���ول‪�« :‬س����أتك ّلم‪� ،‬س����أديل بالكلم���ات‬ ‫�إىل الوطن الذي ينقل املهاجر من املدينة الأجنبية �إىل‬
‫والزمن‪� ،‬إنني �أح�س���ني مثقلة بع�ض ال�شيء‪ ،‬وهذا ال يعود‬ ‫الوطن الذاكرة(‪.)7‬‬
‫�إىل وط�أة ال�سنني بل �إىل وط�أة كل ما مل يقل‪ ،‬كل ما كتمته‬ ‫�أما رواية «موحا املجنون ‪ -‬موحا احلكيم» والتي يتح ّدث‬
‫و�أخفيته‪.»...‬‬ ‫فيها ب�أ�سلوب �شاعري �أخاذ ‪ -‬وهو اللون الذي ّ‬
‫يف�ضله‬
‫�أما ال�ضغوط اخلارجية فتتج ّلى يف التحريف الذي حلق‬ ‫‪ -‬ي�ستلهم فيها من الرتاث العربي الذي يوظفه توظيفاً‬
‫ق�صتها على �أيدي الرواة ورغبتها يف ت�صحيح الوقائع‬ ‫معا�صر ًا عرب جتديد ما كان ينقل �شفوي ًا من احلكايات‬
‫وتتج ّلى �أي�ض ًا يف �سقوط الراوي الأ�صلي وفقدانه للذاكرة‬ ‫ال�شعبية العربية‪ ،‬فيغو�ص يف �أعماق هذا الرتاث ليجني‬
‫تقول‪« :‬لقد ق�ص�صت عليكم بع�ض الق�ص�ص‪ ،‬وما هي‬ ‫منه مو�ضوعاته و�أفكاره‪ ،‬فموحا هنا هو جحا يف احلكايات‬
‫حق ًا بق�صتي‪ ...‬ومبا �أن حياتي لي�ست حكاية‪ ،‬حر�صت‬ ‫ال�شعبية‪� ،‬إال �أن ال�صرخات التي يطلقها هي �صرخات‬
‫أ�صحح الوقائع و�أف�شي لكم ال�س ّر امل�صون»‪.‬‬ ‫على �أن � ّ‬ ‫الإن�سان املعا�صر‪� ،‬صرخات الأمل يف جمتمع اال�ستغالل‬ ‫فران�سوا بوت‪:‬‬
‫ورغم هذه ال�ضغوط‪ ،‬ف�إنها ال حتكي ق�صة حياتها‬ ‫واال�ستالب‪ ،‬يف جمتمع الطبقات والقهر‪� ،‬صرخات موحا‬
‫مبا�شرة‪ ،‬بل تعمد �إىل التماطل واملناورة وذلك بغية �إثارة‬ ‫يف وجه احليلة املزيفة واحلب اخلادع واملظاهر الكاذبة‬ ‫الكاتب‬
‫انتباه امل�سرود لهم وال�سيطرة على حوا�سهم ومداركهم‪،‬‬ ‫(ال�شخ�صية) هنا لها القابلية على تق ّم�ص خمتلف‬ ‫املغربي‬
‫يتم من خالل و�صفها لق�صتها بالغرابة‬ ‫وذلك ما ّ‬ ‫الأدوار‪.‬‬
‫وتقدميها ملقطع مثري وم� ّشوق‪« .‬ق�صتي لي�ست عظيمة وال‬ ‫فهو مت�س ّول �أو مه ّرج �أو نبي يحيا وميوت‪ ،‬ثم ُيبعث من‬ ‫�أعطى نفحة‬
‫تراجيدية‪ ،‬هي بب�ساطة غريبة»‪.‬‬
‫«تذ ّكروا كنت طفلة م�ضطربة الهوية ومرتنحتها‪ ،‬بنتاً‬
‫جديد خمرتق ًا حواجز الزمان واملكان فهو موجود �أينما‬ ‫�شباب‬
‫يعاين الإن�سان من الب�ؤ�س والقهر وال�شقاء‪ ،‬ينام يف جوف‬
‫أح�س بنف�سه ناق�ص الرجولة‬ ‫كنت مقنعة مب�شيئة �أب � ّ‬ ‫�شجرة‪ ،‬يحاكي الطيور‪ ،‬يك ّلم املاعز‪ ،‬ويجادل البولي�س‪،‬‬ ‫للكتابة‬
‫ومهان ًا لأنه مل يرزق ولد ًا‪ ،‬وكما تعلمون‪ ،‬كنت �أنا هذا‬
‫االبن الذي كان يحلم‪ ،‬والبقية يعرفها بع�ضكم‪ ،‬والآخرون‬
‫ولكن حماوراته لي�ست هراء جمنون و�شطحات خيال‬
‫كاذب‪ ،‬بل �صورة ح ّية متج ّددة ل�صوت كل املقهورين الذين‬ ‫الفرن�سية‬
‫�سمعوا نتف ًا منها هنا وهناك»‪.‬‬ ‫كممت �أفواههم يف جمتمع اال�ستغالل‪ ،‬فال ي�ستطيعون‬
‫�إنها امر�أة تنجب �سبع بنات‪ ،‬لكن زوجها يكرهها وبناتها‬ ‫الكالم‪� ،‬صرخة الأمل احلقيقي املنبعث من �أعماق املهاجر‬
‫ويفكر يف قتلهن جميع ًا‪� ،‬إال �أن جبنه يحول دون ذلك‪،‬‬ ‫الذي يقا�سي من الغربة والظلم االجتماعي‪.‬‬
‫فيعلق �آماله على حملها الثامن‪ ،‬ويكون متيقن ًا �أن املولود‬ ‫رواية مثقلة بالهموم العامة املعا�صرة‪ ،‬ن�ستمع فيها �إىل‬
‫�سيكون ابن ًا ذكر ًا‪ ،‬ومرة �أخرى يخيب �أمله‪� ،‬إال �أن جنونه‬ ‫خمتلف الأ�صوات املتناق�ضة �أحيان ًا واملتناغمة �أحيان ًا‬
‫جعله يت� ّصور مالمح املولودة الأنثى مالمح ذكورة‪ ،‬ويقنع‬ ‫�أخرى‪ ،‬وهذه الأ�صوات على كرثتها هي �صوت واحد‪،‬‬
‫�أ�سرته وباقي �أقاربه بذلك‪ ،‬ويعاملها على هذا الأ�سا�س‪،‬‬ ‫�صوت بطل الرواية موحا‪ ،‬وبالتايل فهو �صوت �إن�ساننا‬
‫حيث يلب�سها لبا�س الذكور ويختنها‪ ،‬ويف ما بعد يزوجها‬ ‫املعا�صر «�أنا ل�ست ق ّدي�س ًا وال ولي ًا ما �أنا �إال �إن�سان ‪� -‬إال‬
‫ابنة عمها فاطمة امل�صابة بداء ال�صرع!‬ ‫�أنه �إن�سان ثائر» هذا ال�صوت العابث يجذب القارئ يف‬
‫وي�ستمر هذا احلال مدة ع�شرين �سنة‪ ،‬حيث ال يح ّررها‬ ‫دوامة غيبياته املتن ّوعة والتي �أديرت بحذاقة‪ ،‬تت�شابك‬
‫�أبوها مما فر�ضه عليها من قيود الذكورة �إال ليلة احت�ضاره‬ ‫فيها احلقيقة باخليال‪ ،‬ويندمج الأمل بالفرح‪ ،‬وميتزج‬
‫والتي ت�صادف ليلة القدر‪ ،‬حيث يعرتف بخطيئته وب�أنوثتها‬ ‫احلب بالكراهية‪ ،‬واملوت باحلياة‪.‬‬
‫وي�ستغفرها ثم ميوت‪ .‬فتق ّرر اال�ستمرار يف تنكرها حتى‬ ‫واجلنون يف الرواية هو جنون الغربة وال�ضياع واال�ستالب‬
‫تتم مرا�سيم اجلنازة �إال �أن فار�س ًا يختطفها من املقربة‬ ‫ّ‬ ‫الثقايف والقهر اال�ستعماري‪�« .‬أنا �أروي ق�ص�ص ًا‪ ،‬وال �أظن‬
‫�أثناء دفن والدها وي�صطحبها �إىل (قرية الأطفال)‪،‬‬ ‫�أن هذا الأمر �سيئ للغاية»(‪ .)8‬وقد كتب فران�سوا بوت يف‬
‫لكنها �سرعان ما تطرد منها‪ ،‬فتعود �إىل بيت �أبيها لتجمع‬ ‫جريدة (لوموند) قائ ًال‪« :‬املفارقة هي �أن الكاتب املغربي‬
‫كل احلاجيات التي تذكرها باملا�ضي وتدفنها يف حد�ش‬ ‫جاء ليعطي نفحة من �شباب �إىل الكتابة الفرن�سية‪...‬‬
‫�أبيها وترحل عازمة على قطع كل الأوا�صر مع ما�ضيها‬ ‫من خالل �إحياء التقاليد القدمية للق�ص�ص العربي‪...‬‬
‫وعلى بداية حياتها من جديد‪ .‬ويف طريقها ت�صادف‬ ‫وتو�ضح �أفكار ًا �أخرى‪،‬‬‫�إن كتاباته ت�صف عادات �أخرى ّ‬
‫رج ًال جمهو ًال‪ ،‬يطاردها‪ ،‬ت�ست�سلم له فيفت�ض بكارتها‪ ،‬ثم‬ ‫�إنها ت�ضع �أمام عيوننا فوائد ما ي�س ّمى بتالقح الأجنا�س‬
‫‪52‬‬
‫�أما الناقد واملرتجم املغربي �إبراهيم اخلطيب فقد‬ ‫تتابع رحيلها‪ ،‬ت�صل �إىل مدينة �صغرية‪ ،‬فتدخلها وتبحث‬
‫و�صف الرواية قائ ًال‪�« :‬إن الليلة املق ّد�سة لي�ست رواية‬ ‫عن ح ّمام لالغت�سال والنوم‪ ،‬لكن اجلال�سة تدعوها‬
‫مده�شة‪� ،‬أو تثري االنتباه برتكيبها احلريف‪ ،‬ولكنها رواية‬ ‫�إىل ق�ضاء الليل ببيتها‪ ،‬ثم تعر�ض عليها العمل عندها‬
‫ر�صينة تتوفر على وحدة بناء وعلى متاهي �شبه مطلق‬ ‫واالعتناء ب�أخيها ال�ضرير (القن�صل)‪ ،‬وخالل عملها‬
‫بني حمكيها والر�ؤية ال�شعرية التي ّمتت معاجلته بها‪،‬‬ ‫يح�صل بينهما نوع من الو ّد‪ ...‬ومبوازاة مع ذلك ينفر من‬
‫ويبدو يل �أن الطاهر بنجلون �أبان يف هذه الرواية عن‬ ‫�أخته ويه ّم�شها‪� ،‬إال �أن هذه الأخرية ال تقبل اال�ست�سالم‪،‬‬
‫حذق يف �إدراج عنا�صر متنافرة يف املتخيل العربي ‪-‬‬ ‫فتكيد لل�شخ�صية املحورية‪ ،‬حيث �إنها بعد �أن تعرف‬
‫الإ�سالمي‪« :‬ليلة القدر ‪ -‬الرو�ض العاطر ‪ -‬احلالج‪� ،‬إلخ)‬ ‫ق�صتها ترحل للبحث عن �أهلها وذويها وتخربهم مبكان‬
‫داخل �سرد ي�ستوحي �أو�ضاع ًا معا�صرة‪ ،‬كما ا�ستطاع �أن‬ ‫وجودها‪ ،‬في�أتي عمها لالنتقام منها خ�صو�ص ًا و�أنها كانت‬
‫يربهن �أن الذاكرة مبردوديتها و�أ�ساطريها وجغرافيتها‬ ‫�سبب حرمانه من �إرث �أخيه ب�سبب حفاظها على قناع‬
‫اخلا�صة‪ ،‬تبقى املعني الذي ال ين�ضب بالن�سبة لكل تخييل‬ ‫الذكورة‪ ،‬لكنها تباغته بطلقات م�سد�س فرتديه قتي ًال‬
‫مبدع»(‪.)15‬‬ ‫ويحكم عليها بال�سجن ملدة خم�س ع�شرة �سنة‪ ،‬و�أثناء‬
‫لقد مت ّيز الطاهر بنجلون بلغة �أقل عنف ًا واندفاع ًا و�أكرث‬ ‫هذه امل ّدة‪ ،‬متوت اجلال�سة‪ ،‬وتتع ّر�ض ال�شخ�صية املحورية‬
‫مرونة وغنى ويعود هذا على ما يبدو �إىل �أنه ال ي�أبه‬ ‫النتقام ب�شع من طرف �أخواتها‪ ،‬ويرحل القن�صل‪ ،‬ثم‬
‫باجلمالية قدر اعتنائه بالو�صف‪ ،‬وميزج بني عمل احللم‬ ‫تخفف عقوبتها و ُيطلق �سراحها فرتحل �إىل �إحدى املدن‬
‫وعمل الوعي والإحالة �إىل زمن ومكان ثابتني‪.‬‬ ‫ال�شاطئية‪ ،‬و�صدفة تلتقي بالقن�صل من جديد!‬
‫واملالحظ �أن ق�صة هذه املر�أة غريبة حق ًا‪ ،‬حيث يتداخل‬
‫العمل الفني ‪ :‬سلمان املالك‪ -‬قطر‬ ‫فيها الواقع املعي�ش باخليال واحللم والوهم والهلو�سة‪.‬‬
‫وي�ش ّكل املكان من منظور بطلة الرواية ف�ضاء ف�سيحاً‬
‫هوام�ش‪:‬‬ ‫ميتزج فيه الذاتي بالكوين وتربز فيه تناق�ضات الداخل‬
‫(‪ )1‬انظر امللحق الأ�سبوعي جلريدة (الأنباء) املغربية ‪ /‬عدد‪6/7 :‬‬ ‫واخلارج‪.‬‬
‫مار�س ‪1988‬م‪�/‬ص‪11 :‬‬ ‫�إن تك���رار هذه الكلمات وتكثيفها (البيت‪ ،‬الغرفة‪ ،‬الدار‪،‬‬
‫(‪ )2‬انظر امللحق الأ�سبوعي جلريدة امليثاق الوطني‪/‬عدد‪18/19 :‬‬ ‫الزنزانة‪ ،‬ال�سجن‪ ،‬اجلدران‪ ،‬ال�صندوق‪ ،‬الباب املغلق‪)...‬‬
‫يناير ‪� /1987‬ص‪( 8 :‬مقال الطاهر بنجلون حتت عنوان‪:‬لغة الأم‪...‬‬
‫اللغة ‪ -‬الأم)‬ ‫داخل ف�ض���اء الرواية يف�ص���ح عن �أبع���اد رمزية تتوق من‬
‫(‪ )3‬نف�س املرجع‬ ‫خالله���ا البطلة �إىل خلق �ألفة حميمية مع املكان الداخلي‬
‫(‪ )4‬نف�س املرجع‬ ‫باعتب���اره امل���كان ال���ذي ميك���ن الدف���اع عنه �ض���د القوى‬
‫(‪ )5‬انظر امللحق الثقايف جلريدة (العلم) عدد‪ 9 :‬نوفمرب ‪1985‬م �ص‪:‬‬ ‫املعادي���ة‪� ،‬أي املكان الذي حت ّب���ه‪ ،‬فالداخل يع ّمق وجودها‬
‫‪( 2‬قراءة لرواية حرودة) �أجنزتها عالية ممدوح‬
‫(‪ - )6‬انظر امللحق الثقايف جلريدة (العلم) عدد‪ 23:‬مايو ‪1998‬م �ص‪:‬‬ ‫ومينحها ح�ض���ور ًا قوي��� ًا‪� .‬أما اخلارج فهو م���كان الربودة‬
‫‪/12‬حوار معه �أجرته (�أورنت بر�س)‬ ‫والعنف ويرتبط يف ذهنها باالغت�صاب والوح�شية»(‪.)12‬‬
‫(‪ )7‬انظر القراءة التي �أجنزتها عالية ممدوح لرواية (حرودة) العلم‬ ‫يق���ول كات���ب الرواي���ة‪« :‬يف (الليل���ة املق ّد�س���ة) مل �أق���م‬
‫الثقايف‪� /‬أنظر هام�ش‪5:‬‬
‫(‪ )8‬انظر العلم الثقايف لـ«جريدة العلم» عدد‪ 5 :‬يناير ‪�/1979‬ص‪8:‬‬
‫با�ستق�صاء الإ�شكاالت النف�سانية لل�شخ�صيات‪ ،‬واهتممت‬
‫(قراءة لرواية موحا املجنون ‪ -‬موحا احلكيم) بقلم‪ :‬نهلة حكيم‬ ‫بالو�ضعيات وانعكا�ساتها على احلياة وعلى �أحالم �أبطال‬
‫وانظر كذلك امللحق الأ�سبوعي جلريدة الأنباء املغربية‪/‬مرجع �سابق‬ ‫الرواية‪ ...‬و�ص�ي�رت الكل ممزوج ًا يف (الليلة املق ّد�س���ة)‬
‫(‪ - )9‬امللحق الأ�سبوعي جلريدة الأنباء‪/‬مرجع �سابق‬ ‫�إىل درج���ة جتع���ل القارئ يعجز عن معرفة م���ا �إذا كانت‬
‫(‪ )10‬ترجمها �إىل العربية حممد ال�شركي‪ ،‬وراجعها ال�شاعر حممد‬
‫بني�س حتت عنوان (ليلة القدر) و�أجنزت عنها درا�سات نقدية عديدة‬
‫بطل���ة الرواي���ة تعي�ش حل���م حياتها �أو كانت عا�ش���ت هذه‬
‫ن�شرت يف ال�صحف واملجالت املغربية‬ ‫احلياة واقع ًا‪ ...‬كل �شيء يف احلياة الفعلية معقد غام�ض‬
‫(‪ )11‬جائزة �أدبية �شهرية ت� ّأ�س�ست �سنة ‪1903‬م‪ ،‬ويعترب الطاهر‬ ‫�ش���ديد الإبه���ام‪ .‬لذلك ف����إن م�ؤلفي (يعن���ي طفل الرمال‬
‫بنجلون �أول عربي و�إفريقي ح�صل عليها‪� ،‬أما الكتّاب الأجانب الذين‬ ‫والليلة املق ّد�سة) حول‪ :‬الهوية‪ ،‬وال�سرابية والإبهام»(‪.)13‬‬
‫فازوا بها قبله فهم‪:‬‬
‫‪� -‬شارل بلين�سيه من بلجيكا �سنة ‪1937‬م‬ ‫وكتب الكاتب الفرن�سي (جاك فيني)‪�« :‬إن من يت�أمل‬
‫‪ -‬بياتريك�س بيك من بلجيكا �سنة ‪1952‬م‬ ‫مغزى رواية الطاهر بنجلون هو كمن ي�سعى‪ ،‬يف �صحراء‬
‫‪ -‬فران�سي�س فالدر من بلجيكا �سنة ‪1958‬م‬ ‫للقب�ض على �سراب‪ ،‬وكما يفنت ال�سراب وي�سحر كذلك‬
‫‪ -‬فنتيال هوريا من رومانيا �سنة ‪1960‬م‬ ‫تفعل رواية (الليلة املق ّد�سة)‪ ...‬هل يق�صد بنجلون بهذه‬
‫‪ -‬جاك �شي�سيك من �سوي�سرا �سنة ‪1973‬م‬
‫‪� -‬أنطونني ماييه من كندا �سنة ‪1979‬م‬ ‫الليلة احلياة ذاتها �أم يق�صد حلظة خا�صة للحياة‪،‬‬
‫(‪ )12‬انظر �صحيفة (�أنوال) عدد‪ 3 :‬فرباير ‪�/1990‬ص‪( 18 :‬ما‬ ‫حلظة فجر بعيد؟‪ ...‬يخ ّيل للقارئ‪ ،‬لأول وهلة‪� ،‬إنه يعاي�ش‬
‫�أ�شبه اليوم بالأم�س‪/‬قراءة يف رواية ليلة القدر) علي بن�ساعود‪ ،‬وانظر‬ ‫حلم ًا ولي�س �أحداث واقع‪ ...‬ومن يلج ال�صحراء هو كمن‬
‫كذلك �صحيفة (�أنوال الثقايف) عدد‪ 12:‬دي�سمرب ‪1987‬م �ص‪( 6 :‬بنية‬ ‫يدخل يف حلم‪ ،‬ال يخرج منها �إن مل يكن ح ّدد موقع‬
‫املكان يف رواية ليلة القدر) حممد بوجنمة‬
‫(‪ )13‬انظر امللحق الثقايف جلريدة (العلم) عدد‪� 10 :‬أكتوبر ‪1987‬م‪.‬‬ ‫ال�ضفة الأخرى‪ ،‬ولع ّل بنجلون يرمز �إىل �ضرورة �إبرام‬
‫�ص‪( 6:‬حوار مرتجم عن �أ�سبوعية جون �أفريك‪ /‬عدد‪23/9/:‬‬ ‫ميثاق اجتماعي جديد بني الرجال والن�ساء‪ ،‬حيث يت�س ّنى‬
‫‪1987‬م) مع الكاتب قبل ح�صوله على جائزة الكونغور‬ ‫اخلروج من وط�أة هذا الليل املوح�ش البهيم وهو‪ ،‬يف كل‬
‫(‪ )14‬نف�س املرجع الأخري‬
‫(‪� )15‬أنوال الثقايف‪/‬مرجع �سابق (ملف خا�ص عن اجلائزة والرواية‬
‫ذلك‪ ،‬يتح ّدث عن �شعبه بالذات‪ ،‬غري �أن ال�س�ؤال يتجاوز‬
‫الفائزة) (�ساهم فيه العديد من �أدباء ونقاد املغرب)‪.‬‬ ‫جميع ما يدعى من (ثقافات مزدوجة)»(‪.)14‬‬
‫‪53‬‬
‫عر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر‬ ‫�شعر‬
‫�شعر �شعر‬ ‫عر‬
‫ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬

‫�أبواب‬
‫�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر‬
‫�شعر �شعر �شعر‬ ‫عر �شعر �شعر �شعر �شعر‬

‫عدنان ال�صائغ‬
‫�شاعر من العراق‬

‫� ُ‬
‫أطرق باباً‬
‫�أفتح ُه‬
‫ال �أب�رص �إال نف�سي باباً‬
‫�أفتح ُه‬
‫� ُ‬
‫أدخل‬
‫باب �آخر‬
‫ال �شيء �سوى ٍ‬
‫يا ربي‬
‫كم باباً يف�صلني عني؟‬ ‫ْ‬
‫نــ�ص‬
‫ن�سيت نف�سي على طاول ِة‬ ‫ُ‬
‫مكتبتي‬
‫�شيزوفرينيا‬ ‫وم�ضيت‬
‫ُ‬
‫فتحت خطوتي يف‬ ‫ُ‬ ‫وحني‬
‫يف وطني‬ ‫الطريق‬
‫اخلوف ويق�سمني‪:‬‬‫ُ‬ ‫يجمعني‬ ‫اكت�شفت �أنني ال �شيء غري‬
‫ُ‬
‫يكتب‬
‫ال ُ‬ ‫رج ً‬ ‫لن�ص‬ ‫ظلٍّ ٍ‬
‫خلف �ستائ ِر نافذتي ‪-‬‬
‫آخر ‪َ -‬‬
‫وال َ‬ ‫�أرا ُه مي�شي �أمامي مب�شق ٍة‬
‫يرقبني‬ ‫النا�س ك�أنه �أنا‬
‫وي�صافح َ‬
‫ُ‬
‫‪54‬‬
‫�أق ّل ُم �أظافري الو�سخ َة‬ ‫ت�أويل‬
‫و� ّ‬
‫أفك ُر ب�أجمادهم الباذخ ِة‬
‫ه�ؤالء املنت�صبون يف ال�ساحات‬ ‫يـم ّلونني �سطوراً‬
‫يطلقون قهقهاتهم العالي َة‬ ‫ويب ّوبونني ف�صو ًال‬
‫اجلوع‬
‫يطحن �أ�سنانَ ُه من ِ‬
‫ُ‬ ‫�شعب‬
‫على ٍ‬ ‫ثم يُفهر�سونني‬
‫الذهب‬
‫ِ‬ ‫ويبني لهم �أن�صاباً من‬ ‫ال‬‫ويَطبعونني كام ً‬
‫والأدعية!‬ ‫املكتبات‬
‫ِ‬ ‫ويُوزعونني على‬
‫اجلرائد‬
‫ِ‬ ‫ويَ�شتمونني يف‬
‫العراق‬ ‫و�أنا‬
‫ملْ‬
‫يبتعد‬
‫العراق الذي ْ‬ ‫ُ‬ ‫أفتح‬
‫� ْ‬
‫ات�سعت يف املنايف خطا ْه‬ ‫ْ‬ ‫كلما‬ ‫فمي‬
‫يتئد‬
‫والعراق الذي ْ‬ ‫ُ‬ ‫بعد!‬
‫ن�صف نافذ ٍة‪..‬‬
‫انفتحت ُ‬ ‫ْ‬ ‫كلما‬
‫قلت‪� :‬آ ْه‬ ‫ُ‬ ‫حكمة م�ؤقتة‬
‫يرتعد‬
‫والعراق الذي ْ‬ ‫ُ‬
‫مر ظ ٌّل‬ ‫كلما َّ‬ ‫ْ‬
‫الطبول‬ ‫�ضجيج‬
‫ِ‬ ‫يف‬
‫تخي ّل ُت ف ّوه ًة ترت�صدين‪،‬‬ ‫لك �أنْ تنتحي‬ ‫َ‬
‫�أو متا ْه‬ ‫جانباً‬
‫نفتقد‬
‫والعراق الذي ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫�ستقول‬ ‫وت� ّؤج َل ما‪....‬‬
‫أغان وكحلٌ ‪..‬‬ ‫ن�صف تاريخه � ٍ‬ ‫ُ‬
‫ون�صف طغا ْه‬ ‫ٌ‬ ‫ثالثة مقاطع للحرية‬
‫�سذاجة‬ ‫‪ - 1‬قال �أبي‪:‬‬
‫أحد‬
‫ؤياك على � ٍ‬‫تق�ص�ص ر� َ‬
‫ْ‬ ‫ال‬
‫كلما َ‬
‫�سقط دكتاتور‬ ‫فال�شارع ملغو ٌم بالآذانْ‬
‫ُ‬
‫املر�ص ِع بدموعنا‬
‫التاريخ‪ّ ،‬‬‫ِ‬ ‫عر�ش‬
‫من ِ‬ ‫أذن‬ ‫ُّ‬
‫كل � ٍ‬
‫التهبت كفاي بالت�صفيق‬ ‫ْ‬ ‫يربطها ٌ‬
‫�سلك �رسّ ٌي بالأخرى‬
‫البيت‬
‫لكنني حاملا �أعود �إىل ِ‬ ‫حتى َ‬
‫ت�صل ال�سلطانْ‬
‫أ�ضغط على ز ِر التليفزيون‬ ‫و� ُ‬
‫دكتاتور �آخر‬
‫ٌ‬ ‫يندلق‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اجلرنال من امل�شنقة‬ ‫َ‬
‫ي�سقط‬ ‫‪ - 2‬بعد �أن‬
‫من �أفوا ِه اجلماه ِري امللتهب ِة بال�صف ِري‬ ‫الطري دورتَ ُه‬
‫ير�سم ُ‬‫بعد �أن َ‬
‫والهتافات‬ ‫الطليق‬
‫ْ‬ ‫يف الهواء‬
‫ال�ضحك‬
‫ِ‬ ‫‪ ..‬غارقاً يف‬ ‫تتخ�ض َب راياتُنا بالدماءِ‪....‬‬
‫بعد �أن ّ‬
‫من �سذاجتي‬ ‫ما الذي ُ‬
‫نفعل؟‬
‫التهبت عيناي بالدموع!‬ ‫ْ‬
‫التماثيل‬
‫ِ‬ ‫‪ - 3‬جال�ساً ِّ‬
‫بظل‬
‫‪55‬‬
‫حوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫وار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫‪:‬‬ ‫احلوار احلوار احلوار الدكتور ن�صر حامد �أبوزيد لـ‬
‫حوار احلوار‬
‫احلوار‬ ‫ارحواراحلوار‬
‫احلوار احلوار‬
‫حلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬

‫ال �أعتقد �أن‬


‫احلوار احلوار‬ ‫احلوار احلوار احلوار احلوار‬

‫الإ�سالميني‬
‫قر�أوا نقد‬ ‫القاهرة ‪� -‬سامي كمال الدين‬

‫اخلطاب الديني‬
‫الدكتور ن�صر حامد �أبوزيد كان �أمامه من البداية خياران‪:‬‬
‫�إما �أن يرمي بنف�سه يف �أح�ضان ال�سيا�سة و ي�ؤثر ال�سالمة‪ .‬و�إما �أن ينزوي حتت ظالل امل�ؤ�س�سة‬
‫الدينية وينعم بحمايتها ولكنه ن�أى بنف�سه عن هذين اخليارين واختار لنف�سه طريقاً ثالثاً‪.‬‬
‫لأنه لي�س من منط املفكرين املدجنني‪ ،‬الذين ال يرتفع م�ستوى جر�أتهم الفكرية ب�أكرث من‬
‫قامتهم الق�صرية‪ ..‬وكان طريقه �صعباً جتاوز فيه كل الإ�شارات والدوائر احلمراء التي حتاول‬
‫احتكار ال�سلطة الدينية‪ ،‬وامل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية التي تعمل على ا�ستالب العقول وق�صفها‪.‬‬
‫لقد ف�ضح د‪� .‬أبوزيد هذا التحالف غري املقد�س بني ال�سيا�سي والديني وبجر�أة فكرية �أعلن‬
‫�أن الأنظمة الديكتاتورية يف العامل الإ�سالمي وجدت يف مظلة حماية العقيدة �أداة ت�ستند‬
‫عليها لرتكيز جذورها اال�ستبدادية‪ .‬و�أن تدخل ال�سيا�سة يف عملية جتديد الفكر الديني‪،‬‬
‫يحوله �إىل فكر براغماتي‪ .‬في�صبح التجديد حرباً على الورق ولغواً من القول‪.‬‬
‫وي�ؤكد د‪� .‬أبوزيد على �أنه من امل�ستحيل �أن يزدهر فكر حر يف ظل �سلطة ت�ستغل كل �أ�ساليبها‬
‫الو�ضيعة ال�ستخدام الدين ل�صالح ال�سيا�سة‪.‬‬
‫جتربة املفكر والباحث امل�صري د‪ .‬ن�صر حامد �أبوزيد تنتمي �إىل اللحظة املعرفية املعا�صرة يف‬
‫ب بهذا الفكر حدود التقليد‬ ‫الثقافة العربية والإ�سالمية‪ ،‬وهي متثل جزءاً من �أفق معريف‪َ ،‬ع رَ َ‬
‫والتحليل املوروثني‪ .‬ويف هذا احلوار ي�ضيء �أبوزيد مراجعه وم�صادره الثقافية‪ ،‬ويك�شف عن‬
‫نقاط االلتبا�س يف بع�ض القراءات لفكره و�إنتاجه‪ ،‬ويطرح ر�ؤيته لواقع ثقايف مت�سامح‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫الدولة‬
‫كائن معنوي‬
‫يجب �أن يتخلى عن‬
‫االنت�ساب‬
‫�إىل دين بعينه‬

‫‪57‬‬
‫الن�صو�ص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد‬ ‫حوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫وار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫عن املعنى احلريف املبا�شر‪ ،‬وحتاول اكت�شاف املعاين‬ ‫احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫احلقيقية واخلفية وراء الن�صو�ص املقد�سة»‪،‬‬
‫فكيف ترى الفرق بني التعريفني‪ ،‬وهل ت�صلح هذه‬ ‫حوار احلوار‬
‫الفل�سفة للقر�آن وتف�سريه من وجهة نظرك؟‬
‫ال �أرى فارق ًا بني التعريفني‪ ،‬بل ال �أرى �أننا �إزاء تعريفني‪.‬‬
‫احلوار‬
‫احلوار احلوار احلوار‬ ‫ارحواراحلوار‬
‫احلوار احلوار‬
‫حلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫ف��امل�����س�يري ي��ت��ح��دث ع��ن امل��ع��ن��ى اال���ش��ت��ق��اق��ي والتوظيف‬ ‫احلوار احلوار‬ ‫احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫الديني للم�صطلح بطريقة عامة‪ ،‬يف حني �أن حديثي الذي‬
‫ا�ست�شهدت به يتناول التطور املعا�صر للهريمينوطيقا يف‬
‫فل�سفة جادامر وكيفية تطويرها لتالئم التعامل مع الن�ص‬ ‫يف كتابك «�إ���ش��ك��ال��ي��ات ال��ق��راءة و�آل��ي��ات‬
‫الديني يف الثقافة الإ�سالمية‪� .‬أما م�س�ألة مدى �صالحية‬ ‫ال��ت���أوي��ل» ت��ق��ول «وت��ع��د الهريمينوطيقا‬
‫هذه الفل�سفة �أو تلك للتعامل مع ال��ق��ر�آن‪ ،‬فالفي�صل يف‬ ‫اجلدلية عند جادامر بعد تعديلها من خالل‬
‫ذلك لي�س الت�سا�ؤل النظري بل التحقق الفعلي للنتائج يف‬ ‫منظور جديل مادي‪ ،‬نقطة بدء �أ�صيلة للنظر �إىل‬
‫�إطار الك�شف عن املعاين والدالالت الأعمق للن�صو�ص‪ .‬ويف‬ ‫عالقة املف�سر بالن�ص ال يف الن�صو�ص الأدبية‬
‫تقديري �أن الهريمينوطيقا قادرة على مد الباحث ب�أطر‬ ‫ونظرية الأدب فح�سب‪ ،‬بل يف �إع��ادة النظر يف‬
‫و�أدوات منهجية لغوية و�أ�سلوبية ورمزية متكنه من الغو�ص‬ ‫تراثنا الديني ح��ول تف�سري ال��ق��ر�آن منذ �أق��دم‬
‫يف م�ستويات من املعنى مل يحلم بها القدماء‪ .‬هذا ف�ض ًال‬ ‫ع�صوره وحتى الآن»‪ ،‬لكن الدكتور عبدالوهاب‬
‫عن �أن الرتاث التف�سريي كان دائم ًا منفتح ًا على الرتاث‬ ‫امل�سريي يرى �أن «الهريمينوطيقا م�شتقة من الكلمة‬
‫الإن�ساين‪ ،‬فلماذا يريد البع�ض اليوم �سد هذا الباب با�سم‬ ‫اليونانية ‪ ،HERMENEUIM‬مبعنى يف�سر �أو‬
‫«اخل�صو�صية» و«حماية ال��ذات» �إىل غري ذلك من ذرائع‬ ‫يو�ضح ‪ -‬من علم الالهوت ‪ -‬حيث كان يق�صد بها‬
‫تف�ضي �إىل «�ضمور» الأنا وتقوقعها يف �سجن ما�ضيها؟‬ ‫ذلك اجلزء من الدرا�سات الالهوتية املعني بت�أويل‬

‫د‪ .‬ن�صر حامد �أبوزيد‬


‫مفكر م�صري مقيم يف هولندا‪.‬‬
‫من مواليد ‪.1943‬‬
‫ح�صل على الدكتوراه يف الدرا�سات الإ�سالمية‬
‫يف القاهرة عام ‪ 1972‬يف �أوائ��ل الت�سعينيات‬
‫من القرن املا�ضي‪.‬‬
‫�أثار غ�ضب امل�ؤ�س�سة الدينية مب�شروعه الفكري‬
‫حول درا�سة القر�آن يف �سياقه التاريخي‪ ،‬ف�أدانته‬
‫حمكمة م�صرية بتهمة الردة وازدراء الإ�سالم‪،‬‬
‫فغادر ب�لاده ليعي�ش يف هولندا‪ ،‬حيث يحا�ضر‬
‫ب��ج��ام��ع��ة الي���دن وب��ج��ام��ع��ة ال��ع��ل��وم الإن�����س��ان��ي��ة‬
‫(باوترخت)‪.‬‬
‫ومن �أبرز م�ؤلفاته‪:‬‬
‫‪ -‬االجتاه العقلي يف التف�سري‬
‫‪ -‬فل�سفة الت�أويل‬
‫‪� -‬أنظمة العالمات يف اللغة والأدب والثقافة‬
‫‪ -‬مفهوم الن�ص‬
‫‪ -‬التفكري يف زمن التكفري‬
‫‪ -‬الن�ص ‪ -‬ال�سلطة‪ -‬احلقيقة‬

‫‪58‬‬
‫التحالف غري املقد�س بني ال�سيا�سي والديني‬ ‫كما ترى �أن الن�ص يف حقيقته وجوهره منتج‬
‫ثقايف‪ ،‬وهو يف هذه احلالة �إذن ق�ضية بديهية‬
‫قدمي تاريخي ًا‬ ‫ال حتتاج �إىل �إثبات‪� ..‬أال ترى �أنها جر�أة فكرية‬
‫يف التعامل مع الن�ص القر�آين بهذا املنهج؟‬
‫�صار امل�سا�س بكتب الرتاث ونقدها قرين‬ ‫نعم ه��ي ج���ر�أة‪ ،‬لكنها كما قلت ج���ر�أة «ف��ك��ري��ة»‪ ،‬وه��ذا‬
‫تو�صيف هام‪� .‬أما �أنها ق�ضية بديهية ال حتتاج لإثبات فهذا‬
‫الكفر‬ ‫ما مل �أقله‪ ،‬بدليل �أنني �أفردت �صفحات لإثباتها بالأدلة‬
‫والرباهني التاريخية والثقافية واللغوية‪ ،‬وهي �صفحات مل‬
‫يقر�أها الناقدون الذين حر�صوا على ترويجها عارية عن‬
‫�أدلتها‪ .‬الدليل على ذلك قولك على ل�ساين �إنها حقيقة‬
‫مل��اذا خاف الإ�سالميون من نقدك للخطاب‬ ‫بديهية‪ ،‬وه��و ق��ول مر�سل كما ت��رى‪ .‬امل�س�ألة الأدق �أن‬
‫ال��دي��ن��ي ال�����ذي حت���دث���ت م���ن خ�ل�ال���ه عن‬ ‫الرتويج ملقولة «منتج ثقايف» دون اال�ستناد �إىل �أدلتها �أدى‬
‫االجتهادات الب�شرية لفهم الن�صو�ص الدينية‬ ‫�إىل ترويج تزوير �آخر فحواه �أنني �أنكر امل�صدر الإلهي‪،‬‬
‫وت�أويلها؟‬ ‫وهذا ما مل �أقل به ال �ضمن ًا وال ت�صريحاً‪ .‬واحلقيقة يف‬
‫ال �أعتقد �أن من ت�سميهم «الإ�سالميني» ‪ -‬وال �أدري مَنْ‬ ‫هذا الأم��ر �أن النظر �إىل القر�آن باعتباره «فعالً» �إلهي ًا‬
‫هم ‪ -‬ق��ر�أوا ب�أنف�سهم نقد اخلطاب الديني حتى يقال‬ ‫يختلف عن النظر �إليه بو�صفه «�صفة» �إلهية‪ ،‬وهذه من‬
‫�إنهم قد خافوا منه �أو �إنه قد �أخافهم‪� .‬أ�صاب «الذعر»‬ ‫امل�سائل «العوي�صة» التي يهاب الفكر الإ�سالمي املعا�صر‬
‫يف البداية فرد ًا واح��د ًا م�سته بع�ض العبارات يف مقدمة‬ ‫اخلو�ض فيها‪ ،‬رغ��م �أنها ق�ضية نوق�شت با�ستفا�ضة يف‬
‫الكتاب ف�شن حملته التكفريية داخ��ل اجلامعة وخ��ارج‬ ‫تاريخ الفكر الإ�سالمي‪ .‬هذه «الهيبة» م�صدرها اخلوف‪,‬‬
‫اجلامعة‪ .‬املذهل يف املو�ضوع �أن �شخ�ص ًا واحد ًا «فا�سداً»‬ ‫ولي�س م�صدرها «الورع»‪ ،‬يف حني �أن «اجلر�أة» متثل حتدي ًا‬
‫ب�شهادة اجلميع قاد مع�سكر «الإ�سالميني» هذا‪ ،‬ف�أخاف‬ ‫للخوف‪ ،‬ولي�ست �ضد «الورع املعريف»‪.‬‬
‫«غري الإ�سالميني» يف اجلامعة وخارجها‪ .‬علينا �أن نفت�ش‬
‫عن «الف�ساد» يف ه��ذه احلملة وم��ا �آل��ت �إليه من نتائج‪.‬‬ ‫ي���رى �أح����د ال��ك��ت��اب ‪��� -‬س��ل��ي��م��ان ب��ن �صالح‬
‫ما هو «خميف» يف نقد اخلطاب الديني‪ ،‬هو قدرته على‬ ‫اخلرا�شي ‪� -‬أن م�شروعك هو «و�ضع الت�صورات‬
‫الك�شف عن البنية الفكرية العميقة ملنطلقات اخلطاب‬ ‫املارك�سية وامل�ضامني املادية اجلدلية وتف�سرياتها‬
‫ال��دي��ن��ي‪ ،‬بنية «التكفري» و«اح��ت��ك��ار احلقيقة» و«�إه���دار‬ ‫للحياة والكون والإن�سان والوحي والنبوة والغيب‬
‫ال�سياق» و«املغالطات الفكرية» و«تزوير التاريخ»‪ .‬وهي بنية‬ ‫وال��ع��ق��ي��دة يف املعنى ال��ق��ر�آين‪ ،‬في�صري ال��ق��ر�آن‬
‫يلتقي فيها االعتدال والتطرف كما يلتقي فيها ال�سيا�سي‬ ‫مارك�سي ًا ينطق با�سم مارك�س وفال�سفة املادية‬
‫والديني‪ .‬من هنا �سمح ال�سيا�سي للديني مبحاولة اغتيال‬ ‫اجلدلية والهريمينوطيقا فيغري بذلك املفاهيم‬
‫«نقد اخلطاب الديني» بالقانون‪ .‬لكن كما ت��رى م��ازال‬ ‫الرئي�سية للقر�آن‪ ،‬ويلغي املعاين احلقيقية لل�سور‬
‫«نقد اخلطاب الديني» حي ًا وحراً‪.‬‬ ‫والآيات‪ ،‬ويطم�س احلقائق الدينية التي ر�سخها‬
‫القر�آن وبينتها ال�سنة»‪ ..‬ما تعليقك؟‬
‫ب�ي�ن ال��ن�����ص واحل��اك��م��ي��ة ت��ل��ت��ق��ي عنا�صر‬ ‫ال تعليق على كالم من هذا النوع‪.‬‬
‫اجل��م��اع��ات املعتدلة وامل��ت��ط��رف��ة‪ ،‬ه��ل هذا‬
‫يرجع �إىل عدم نزول املثقفني العرب احلقيقيني‬ ‫كيف تف�سر وق��وع العامل الإ�سالمي �أ�سري ًا‬
‫�إىل هذا امليدان واختيار البعد عنه راحة للبال‪،‬‬ ‫للن�ص الديني والرتاثي يف ممار�سة حياته؟‬
‫�أم لأن ال�شعوب ت�أخذ الدين بوجهة نظر �أحادية‬ ‫هذا �س�ؤال معقد �أجبت عنه يف كتاباتي كلها و�آخرها بحث‬
‫�أم ماذا؟‬ ‫مطول بالإنكليزية‪ .‬لكن دعني �أفكك ال�س�ؤال‪ ،‬فالعامل‬
‫ه���ذه ات��ه��ام��ات غ�ير �صحيحة ع��ل��ى الإط��ل�اق يف جانب‬ ‫الإ�سالمي لي�س �أ���س�ير ًا للن�ص ذات��ه بقدر ما هو �سجني‬
‫املثقفني وال�شعوب على ال�سواء‪ .‬كما قلت‪ :‬االلتقاء مل يكن‬ ‫تف�سري حم��دد للن�صو�ص ومعاجلة بعينها ل��ل�تراث كتب‬
‫بني املعتدلني واملتطرفني فقط‪ ،‬بل التحالف غري املقد�س‬ ‫لهما ال�شيوع واالنت�شار لأ�سباب �سيا�سية واجتماعية‪.‬‬
‫بني ال�سيا�سي والديني‪ ،‬وهو حتالف مت�أ�صل تاريخي ًا منذ‬ ‫ه��ذه التف�سريات واملعاجلات الب�شرية اكت�سبت قدا�سة‬
‫�صار النقا�ش الفكري �ش�أن ًا تتدخل فيه النظم ال�سيا�سية‬ ‫الن�صو�ص الأ�صلية ف�صار امل�سا�س بها نقد ًا وحتلي ًال قرين‬
‫فتن�صر هذا �ضد ذاك‪ ،‬ثم حني تنقلب م�صاحلها تغري‬ ‫الكفر‪.‬‬
‫حتالفاتها فتحارب من كانت تن�صره منذ حني‪ .‬ال حاجة‬ ‫ويف هذا االنحبا�س داخل تف�سري بعينه ومعاجلة بذاتها مت‬
‫لال�ستدالل على ذلك مبا قامت به «الدولة العبا�سية» يف‬ ‫تغييب تف�سريات ومعاجلات �أخرى يف الرتاث ذاته‪ .‬مهمة‬
‫التدخل يف �ش�أن اجلدل الالهوتي حول القر�آن‪ ،‬كما فعل‬ ‫البحث العلمي يف ق�ضايا ال�تراث والتف�سري الك�شف عن‬
‫القي�صر يف التدخل يف �ش�أن املجامع املقد�سة يف القرون‬ ‫هذه املعاجلات املُ َغيّبة‪ ،‬والتوا�صل معها‪ ،‬ولكن على �أر�ض‬
‫ال�سابقة على الإ�سالم‪.‬‬ ‫الواقع ولي�س على �أر�ض املا�ضي‪.‬‬
‫ونحن الآن يف �صخب «تعديل الد�ستور» �أج��دين يف �صف‬
‫‪59‬‬
‫انقالبات عديدة حدثت يف الهوية ال�سيا�سية للدولة العربية‬ ‫حوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫وار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫احلديثة‪ ،‬وهي انقالبات مل مت�س هيكل الدولة التقليدي‪.‬‬
‫احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫كيف ت��رى ال��دور ال��ذي تلعبه ال�سيا�سة يف‬ ‫حوار احلوار‬
‫جتديد اخلطاب الديني؟‬
‫�إن��ه دور �سلبي يحوِّل الفكر الديني �إىل فكر براغماتي‪،‬‬
‫احلوار‬
‫احلوار احلوار احلوار‬ ‫ارحواراحلوار‬
‫احلوار احلوار‬
‫حلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫في�صبح التجديد ل��غ��و ًا م��ن ال��ق��ول وحت�سين ًا للقوارير‬ ‫احلوار احلوار‬ ‫احلوار احلوار احلوار احلوار‬
‫احلاملة للفكر القدمي نف�سه‪ .‬الحظ فزع امل�ؤ�س�سة الدينية‬
‫من ظاهرة «ال��دع��اة» و«املفتني» اجل��دد‪� .‬إن��ه �صراع بني‬
‫متناف�سني على ت��روي��ج ال�سلعة ذات��ه��ا‪� .‬أ�صبحت كلمة‬
‫«خ��ط��اب» تعني «اخل��ط��اب��ة» و«ال��وع��ظ»‪ ،‬و�أ�صبحت كلمة‬ ‫ال��ق�لائ��ل ال��ذي��ن ي���رون ���ض��رورة �أن تتخلى ال��دول��ة عن‬ ‫الفكر‬
‫«جتديد» مرادفة ملقابلها ال�سيا�سي ال��رث «�إ���ص�لاح»‪ .‬ال‬ ‫االنت�ساب �إىل «دين» بعينه‪ ،‬فالدولة كائن معنوي‪ .‬لعل هذه‬
‫ميكن جتديد اخلطاب الديني دون نقده‪� ،‬أي فح�صه نقدي ًا‬ ‫تكون نقطة البداية يف م�س�ألة «املواطنة»‪ ،‬وجوهرها عدم‬ ‫جزء ال يتجز�أ‬
‫يف �سياقه التاريخي واالجتماعي‪ .‬هكذا قال ال�شيخ «�أمني‬ ‫تدخل الدولة يف ال�ش�ؤون االعتقادية للمواطنني‪ .‬الأزهر‬
‫م�ؤ�س�سة يجب �أن تتحرر من �أ�سر الدولة لتمار�س بحرية‬
‫من حركة‬
‫اخلويل» �شيخ املجددين‪�« :‬أول التجديد‪ ،‬قتل القدمي بحثاً»‪،‬‬
‫فهل قتلنا القدمي بحث ًا �أم �ضيعناه وبددناه حني اخت�صرناه‬ ‫دورها التعليمي والدعوي وتتفاعل مع م�ؤ�س�سات املجتمع‬ ‫ال�صراع‬
‫الأخرى بد ًال من �أن تكون رقيب ًا عليها‪.‬‬
‫يف حمفوظات نرددها ب�أل�سن متباينة؟‬
‫رقابة الدولة على �ضمري امل��واط��ن‪ ،‬ورقابة الأزه��ر على‬ ‫االجتماعي‬
‫الفكر ال��ذي تنتمي �إل��ي��ه والأ���س��ل��وب ال��ذي‬ ‫كل امل�ؤ�س�سات‪ ،‬كلتاهما جزء من بنية الدولة البولي�سية‬ ‫وال�سيا�سي‬
‫التي �آن الأوان لتفكيكها لتحرير املواطن وحترير الفكر‪.‬‬
‫انتهجته يف جتديد ال��ق��ر�آن مل ي�ستمر منذ‬
‫هذه هي الأزمة التاريخية ولي�س تقاع�س املثقفني �أو غباء امل��ح��اوالت التي مت��ت يف ال��ق��رن الثالث الهجري‬
‫والثقايف‬
‫مرور ًا بابن ر�شد وحممد عبده وطه ح�سني و�أمني‬ ‫ال�شعوب‪.‬‬
‫اخل��ويل‪ ،‬وحتى الباحث حممد �أحمد خلف اهلل‬
‫ك��ي��ف ت�ستخدم الأن��ظ��م��ة الديكتاتورية ور�سالته عن «التمثيل يف القر�آن الكرمي»‪.‬‬
‫ال���رج���ع���ي���ة اخل����ط����اب ال���دي���ن���ي ك��غ��ط��اء �أال ترى �أن الفكر ال��ذي ال ي�ستطيع ال�صمود �أو‬
‫�أيديولوجي‪ ..‬ومل��اذا ت��رى �أن �أ�صحاب اخلطاب �إثبات وجوده كل هذا الزمن فكر ه�ش و�ضعيف �أو‬
‫الديني مناه�ضون ملبادئ التجديد والتحديث خاطئ؟‬
‫من زعم «جتديد القر�آن» يا موالنا؟ وما معنى هذا الكالم‬ ‫والتطوير؟‬
‫الأن��ظ��م��ة ال��ع��رب��ي��ة وغ�ير ال��ع��رب��ي��ة يف ال��ع��امل الإ���س�لام��ي امللقى على عواهنه؟ كل من ذكرتهم معنيون بتجديد الفكر‬
‫اح��ت��اج��ت �إىل م�����ش��روع��ي��ة وج��دت��ه��ا يف ال��زع��م بحماية وجتديد املعنى الديني‪ ،‬وهي عملية دونها ال ي�ستقيم �أمر‬
‫ال��ع��ق��ي��دة‪ ،‬وه��و نف�س ال��زع��م ال���ذي انبنى عليه مفهوم �أمة �إذ تتجمد ثقافتها‪ ،‬وهو ما نعانيه الآن‪ .‬ومن �أهم �أ�س�س‬
‫«اخل�لاف��ة» يف الأدب��ي��ات ال�سيا�سية التقليدية‪ .‬مناه�ضة جتديد املعنى الديني جتديد فهم ال��ق��ر�آن‪ ،‬وه��و �أم��ر لن‬
‫التجديد والتحديث والتطوير مق�صورة على جمال الفكر يتحقق دون جتديد املناهج بالتوا�صل مع الفكر الإن�ساين‬
‫الديني‪ ،‬باعتباره جما ًال للحقائق الثابتة التي يُع ُّد امل�سا�س يف علوم اللغة والبالغة وحتليل الن�صو�ص والهريمينوطيقا‬
‫وغريها بال خوف وال مهابة‪.‬‬ ‫بها م�سا�س ًا بالأنظمة ذاتها التي ي�سندها هذا الفكر‪.‬‬
‫وي�ستطرد د‪ .‬ابو زيذ بعد توقف ق�صري وي�ضيف قائالً‪:‬‬
‫ما الذي حوّل املجتمع العربي من الت�سامح تتحدث عن «�صمود» الفكر كما لو كان الفكر ين�ش�أ يف فراغ‪،‬‬
‫ويحارب التقليد واالنغالق و�ضيق الأف��ق يف ف��راغ‪ .‬الفكر‬ ‫�إىل التع�صب والتكفري؟‬
‫جزء ال يتجز�أ من حركة ال�صراع االجتماعي وال�سيا�سي‬ ‫من‬ ‫لعل‬ ‫كهذا‪.‬‬ ‫حوار‬ ‫يف‬ ‫بها‬ ‫عوامل كثرية ي�صعب الإمل��ام‬
‫�أه��م هذه العوامل و�أولها غياب «احل��ري��ات»‪ ،‬وال �أق�صد والثقايف‪ .‬ولو طبقت منطقك على حياتنا ال�سيا�سية لقلت‬
‫احل��ري��ات ال�����س��ي��ا���س��ي��ة‪ ،‬ب��ل �أق�����ص��د «احل���ري���ة» مبعناها �إن النظام احلايل هو الأف�ضل للحكم لأنه عا�ش وا�ستمر‬
‫االجتماعي وال��ف��ك��ري والفل�سفي‪ .‬غياب احل��ري��ة يخلق �أكرث من ربع قرن‪ ،‬يف حني ف�شلت كل حماوالت �إ�صالح هذا‬
‫حالة من «االن�سداد» تبد�أ على امل�ستوى الفردي وتطال النظام وا�ستبدال نظام �أف�ضل به‪ .‬يعني بعبارة �أخ��رى‪:‬‬
‫االجتماعي وال�سيا�سي والثقايف والفكري‪ .‬العامل الثاين كل الأنظمة ال�سيا�سية الأخرى ‪ -‬احلرية والدميوقراطية‬
‫‪ -‬وهو مرتبط بالأول ‪ -‬اخت�صار الهوية يف «الدين» وحده وتبادل ال�سلطة ‪ -‬ه�شة وفا�شلة وخاطئة‪ .‬وباملثل ميكن‬
‫وتفتيت العنا�صر العديدة املكونة للهوية‪ .‬هذا االخت�صار القول �إن كل املفكرين الذين عانوا اال�ضطهاد والإبعاد ‪-‬‬
‫له جتليات يف كل مناحي احلياة‪ :‬ال�سيا�سية واالجتماعية والقتل �أحياناً‪ -‬كانوا فا�شلني و�أن �أفكارهم كانت خاطئة‪.‬‬
‫والفكرية والثقافية‪ ،‬بل واللغوية‪ .‬نحن الآن ب�إزاء اخت�صار ومع ذلك ف�إن ا�ستنتاجك نف�سه خاطئ‪ ،‬فلوال ما �أجنزه‬
‫�آخر للهوية الدينية ذاتها �إىل �إما «�شيعي» و�إما «�سُ ني»‪ ،‬ه�ؤالء املفكرون ‪ -‬الفا�شلون اخلاطئون بح�سب هذا املنطق‪-‬‬
‫وه��و اخت�صار وراءه ما وراءه‪ .‬وراء ه��ذه االخت�صارات ما �سمعت من يقول الآن �إن حت�صيل «اجلزية» من الأقباط‬
‫‪60‬‬
‫ن�سقنا الثقايف يعتمد على الرواية‬ ‫‪ -‬وهو �أمر من�صو�ص عليه يف القر�آن الكرمي ن�ص ًا قطعي‬
‫الداللة‪ -‬كان ممار�سة تاريخية‪ .‬ومع ذلك فالفارق بني من‬
‫ال�شفاهية مما يجعلنا �أ�سرى جهلنا �أو‬ ‫يقول ذلك وبني الفكر النقدي احلقيقي فارق �شا�سع‪� .‬إذ‬
‫تع�صبنا‬ ‫يعجز من يقول ذلك عن االع�تراف بالأ�صل الذي انبنى‬
‫عليه مثل هذا الر�أي‪� ،‬أ�صل �أنّ القر�آن «ن�ص تاريخي»‪ .‬هذا‬
‫منوذج للتجديد الرباغماتي الذي حتدثت عنه فيما �سبق‪،‬‬
‫«مفهوم الن�ص» لي�س بحث ًا يف تاريخ القر�آن‬ ‫وهو جتديد فيه من اجلنب �أكرث مما فيه من الفكر‪.‬‬
‫ما االختالفات وما نقاط التالقي بينك وبني بقدر ما هو تناول لعلوم القر�آن الكال�سيكية‬
‫بحث ًا عن مفهوم الن�ص‬ ‫ه�ؤالء الذين ذكرتهم يف ال�س�ؤال ال�سابق؟‬
‫الفارق �أنهم عا�شوا ع�صورهم و�أنا �أعي�ش ع�صري‪ ،‬ا�ستلهم‬
‫من �إجنازاتهم و�أقدرها دون �أن �أحولها �إىل �أغنية �أرددها‪.‬‬
‫املق�صود �أنني �أتوا�صل معهم منذ املعتزلة وحتى ال�شيخ ممكن يف ن�سق ثقايف يعتمد على الرواية ال�شفاهية‪ .‬نف�س‬
‫�أمني اخلويل توا�ص ًال نقدي ًا �أ�ؤكد به تلمذتي احلقيقية لهم الأمر حدث مع «�أوالد حارتنا» حني �سمع �شاب من خطيب‬
‫وقدرتي على ا�ستيعابهم وعلى جتاوزهم يف نف�س الوقت‪ .‬م�سجد عن كفر م�ؤلفها‪ ،‬وقل ما �شئت‪.‬‬
‫حني كتبت «مفهوم الن�ص» مل��اذا ا�ستبعدت‬ ‫ح�صلت على جائزة اب��ن ر�شد للفكر احلر‪،‬‬
‫ق�ضايا ه��ام��ة ومتعلقة بالن�ص مثل حال‬ ‫وبينك وبني م�سرية ابن ر�شد ت�شابه وا�ضح‬
‫اللغة العربية �أيام الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫���س��واء يف تطبيق امل��ن��ه��ج ال��ع��ق�لاين للبحث �أو‬
‫وجمع القر�آن بها يف عهد �سيدنا عثمان ولي�س يف‬ ‫الت�صادف يف حرق كتب ابن ر�شد وحترمي الفل�سفة‬
‫عهد الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وخلو اللغة‬ ‫وطرده من الأندل�س‪ ،‬وحماكمتك بدعوى احل�سبة‬
‫العربية من التنقيط وعالقتها بالن�ص القر�آين‬ ‫والتفريق بينك وبني زوجتك وحرمانك من نيل‬
‫وقد�سيته؟‬ ‫درجة الأ�ستاذية يف جامعة القاهرة وطردك من‬
‫يعني �أن��ت حتر�ضني على مزيد من الكفر بح�سب قول‬ ‫م�صر‪ ..‬كيف ترى التالقي واالختالف بينكما؟‬
‫املتع�صبني‪� .‬إذا كان مفهوم الن�ص خال من مناق�شة هذه‬ ‫وهل هذا هو م�صري من يت�أمل ويبحث منذ قدم‬
‫الق�ضايا‪ ،‬فلأنه لي�س بحث ًا يف تاريخ القر�آن بقدر ما هو‬ ‫التاريخ وحتى الآن؟‬
‫تناول لعلوم القر�آن الكال�سيكية بحث ًا عن مفهوم للن�ص‪.‬‬ ‫قد تكون هناك نقاط ت�لاق كثرية‪ ،‬وه��ذا يك�شف جتمد‬
‫هذا «املفهوم» الذي تو�صلت �إليه �أثار ما �أثار بعد �أن زيّف‬ ‫املجتمعات العربية‪� .‬أزمة ابن ر�شد تُر ّد �إىل حر�ص ال�سلطة‬
‫معناه املزيفون‪ .‬ومع ذلك ف�أنا الآن ب�صدد بحث جديد عن‬ ‫على مغازلة العامة من خالل الفقهاء‪ .‬ولذلك حني �أرادت‬
‫القر�آن رمبا يكون مبثابة «زيارة جديدة»‪.‬‬ ‫فر�ض �ضرائب جديدة ا�شرتط الفقهاء نفي اب��ن ر�شد‬
‫وحرق كتبه‪ ،‬وقد كان‪ .‬لكن ابن ر�شد جتاوز �أزمة «النفي»‬
‫ها �أنت ترى مثل لوي�س عو�ض يف كتابه امل�صادر‬ ‫و«احل���رق» لأن��ه مفكر �أ�صيل‪ ،‬فعا�شت �أف��ك��اره وتطورت‬
‫«يف فقه اللغة العربية» �أن القر�آن �أوحي به‬ ‫و�أحدثت �أثرها يف �سياق �آخر قدّرها و�أفاد منها‪ .‬الأزمة‬
‫�إىل الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬والر�سول �صلى‬ ‫هي يف جوهرها‪� :‬سلطة �سيا�سية عاجزة عن التوا�صل مع‬
‫اهلل عليه و�سلم قام ب�صياغته بعد ذلك باللغة‬ ‫املجتمع �إال من خالل و�ساطة الفقهاء با�سم احلفاظ على‬
‫العربية‪� ..‬أما زلت عند هذا الر�أي؟‬ ‫الثوابت وحماية العقائد‪� ..‬إلخ‪ .‬ولأن هذه ال�سلطة هجينية‬
‫وه��ل يعقل �أن ي�ستطيع ب�شر و���ض��ع ك�لام بهذا‬ ‫التكوين جتدها «مدنية» يف القانون التجاري واجلنائي‪،‬‬
‫الأ�سلوب ودون خط�أ واحد وبطريقة يعجز باقي‬ ‫«دينية» يف الأح��وال ال�شخ�صية‪ .‬وهي الآن حتاول اللعب‬
‫الب�شر عن �صياغتها؟‬ ‫على احلبلني‪ :‬حبل «مبادئ ال�شريعة هي امل�صدر الرئي�سي‬
‫�أوالً‪ ،‬ال �أدري من �أين �أتيت ب�أنني �أرى هذا الر�أي‪ ،‬و�أكاد‬ ‫للت�شريع» وحبل «ال �أح��زاب على �أ�سا�س ديني»‪ ،‬في�صبح‬
‫�أ�شك �أن لوي�س عو�ض ك��ان معني ًا يف كتاب «فقه اللغة»‬ ‫«الدين» م�ؤمماً‪ .‬كيف تتخيل فكر ًا حر ًا يزدهر هنا؟ هل‬
‫بهذه الق�ضية‪� .‬أراك �أي�ض ًا ‪ -‬وهذا م�ؤ�سف ‪ -‬تعتمد على‬ ‫هذا قدر ال فكاك منه؟ كال بالقطع فالفكر احلر يقاوم‪.‬‬
‫ال�سماع‪ .‬ومع ذلك فالق�ضية لي�ست جديدة‪ ،‬فال�سيوطي يف‬
‫كتابه «الإتقان يف علوم القر�آن» يورد ر�أي ًا فحواه �أن القر�آن‬ ‫تقول �إن طه ح�سني عندما حذف العبارات‬
‫�أنزل على قلب حممد «�أنزله على قلبك» بن�ص القر�آن‪،‬‬ ‫امللتهبة من كتابه «يف ال�شعر اجلاهلي» مل‬
‫وهذا معناه كما يذهب �أ�صحاب هذا الر�أي �أن املعنى �إلهي‬ ‫يتنازل عن منهج ال�شك الديكارتي‪ ..‬كيف؟‬
‫واللفظ ملحمد‪ .‬هذا ر�أي قدمي �إذن ولي�س بدعة جديدة‪.‬‬ ‫حذف طه ح�سني العبارة التي �أثارت ثائرة املتع�صبني‪� ،‬أما‬
‫م�س�ألة لغة ال��ق��ر�آن و�أ���س��ل��وب��ه ونظرية �إع��ج��ازه اللغوي‬ ‫منهج البحث فقد ظل هو هو‪ ،‬بل ات�سع تطبيقه يف كتاب‬
‫والبالغي م�س�ألة �أي�ض ًا حتتاج لفح�ص نقدي تاريخي‬ ‫«يف الأدب اجلاهلي»‪ .‬ما �أثار املتع�صبني �ضد الرجل كان‬
‫بخ�صو�ص «التحدي» ومعناه وداللته‪.‬‬ ‫عبارة انتزعت من �سياقها ومت تزييف دالالت��ه��ا‪ .‬وهذا‬
‫‪61‬‬
‫ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ق�صة‬ ‫ق�صة‬
‫صو�ص ن�صو�ص‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬

‫الن�سنا�س‬
‫ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ق�صة ق�صة‬ ‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫يف هجاء الب�شر ومـــديح القـرود‬

‫قبل غروب ال�شم�س‬


‫لوكان قرد ًا من تلك التي ي�سرح بها ال�شحاذون واحلواة‬
‫يف �شوارع القاهرة‪ ،‬ويعلمونها بع�ض الرق�صات واحلركات‬
‫�أحمد �إبراهيم الفقيه‬
‫اخلفيفة التي جتعلها كائنات م�ضحكة يحبها النا�س‬ ‫كاتب من ليبيا‬
‫ويتحلقون حولها ويدفعون القرو�ش ل�صاحبها‪ ،‬وبعك�س‬ ‫مل ت��غ��ادر خميلتي ح��ادث��ة ق��ر�أت��ه��ا يف ك��ت��اب «احل��ي��وان»‬
‫زميالتي التلميذات الالتي ت�ستقطبهن مثل هذه احللقات‬ ‫للجاحظ‪ ،‬عن القرية املحاذية لغابة م�أهولة بالقرود‪،‬‬
‫التي ت�ضحك ملنظر القرد الراق�ص‪� ،‬أثناء خروجنا من‬ ‫وال�شكوى التي رفعها �أهايل تلك القرية‪� ،‬إىل ال�سلطان‪،‬‬
‫املدر�سة‪ ،‬كنت �أنفر منها و�أ�سرع اخلطى لكي �أبتعد عنها‪،‬‬ ‫يطالبونه فيها ب�إنقاذهم من االعتداءات التي تقوم بها‬
‫و�صرت فيما بعد �أجتنب الذهاب �إىل الأماكن التي حتتفظ‬ ‫القرود على القرية‪ ،‬وخا�صة اغت�صاب الن�ساء‪ ،‬حيث كانت‬
‫بتجمعات للقرود مثل حديقة احليوان مبنطقة اجليزة‪،‬‬ ‫هذه القرود تقتن�ص فر�صة خ��روج �أي��ة ام��ر�أة من ن�ساء‬
‫�أو حديقة الأ�سماك مبنطقة اجلزيرة التي حتتوي على‬ ‫القرية للرعي �أو جلمع الأحطاب �أو جلب املاء من النبع‬
‫جبالية للقرود‪ ،‬وعندما ترغمني الظروف على الذهاب‬ ‫املوجود بطرف القرية‪ ،‬حتى تهجم عليها‪ ،‬بل وت�ساعد‬
‫�إىل هذه الأماكن‪ ،‬كنت �أق��وم بكل التدابري التي جتعلني‬ ‫�إناث القرود ذكورها يف الإم�ساك باملر�أة له�ؤالء الذكور‬
‫�أبقى بعيد ًا عن املناطق امل�أهولة بالقرود‪ ،‬كما حدث �أكرث‬ ‫يتناوبون على اغت�صابها‪ ،‬وال يرتكونها �إال بعد ق�ضاء‬
‫من مرة مع خطيبي الذي مل �أ�ش�أ �أن �أخالفه عندما �شاء �أن‬ ‫وطرهم منها وهي مرمية فوق الأر���ض‪ ،‬ينزف دمها من‬
‫نلتقي يف حديقة الأ�سماك‪ ،‬فكنت �أذهب �إىل هناك‪ ،‬و�أكتم‬ ‫اجل��راح التي حلقت بها �أثناء م�صارعتها لهذه القرود‪،‬‬
‫عنه خويف من القرود‪ ،‬و�أجل�س معه يف جزيرة ال�شاي و�أنا‬ ‫وهي بني احلياة واملوت‪ ،‬بل ح�صل �أكرث من مرة‪ ،‬كما يقول‬
‫�أحر�ص على �أن �أدير وجهي �إىل جبالية القرود التي ت�شكل‬ ‫اجلاحظ على ل�سان ه�ؤالء النا�س يف �شكواهم املرفوعة‬
‫مرتفع ًا ال ميكن ملن يدخل احلديقة �أن يتفادى النظر‬ ‫�إىل ال�سلطان‪� ،‬أن ماتت امل��ر�أة املغت�صبة بني �أي��دي هذه‬
‫�إليه‪� ،‬إال �إذا تعمد ذلك كما �أفعل‪ ،‬و�أدار للجبالية ظهره‬ ‫القرود املتوح�شة‪� ،‬إن مل يكن اختناق ًا �أو نزفاً‪ ،‬فتحت ت�أثري‬
‫عن �سبق �إ�صرار‪ ،‬ولأنني ا�شرتك مع خطيبي الذي �أ�صبح‬ ‫ال�صدمة والإح�سا�س بالعار‪.‬‬
‫زوج��ي‪ ،‬يف العمل بالتدري�س‪ ،‬فقد تقررت �إعارتنا �إىل‬ ‫كانت هذه الق�صة القدمية التي �أوردها �أبو عثمان اجلاحظ‬
‫اململكة املغربية �ضمن برنامج للتبادل الثقايف‪ ،‬يق�ضي ب�أن‬ ‫يف كتابه ال�شهري‪ ،‬الذي يرجع تاريخه لأكرث من اثني ع�شر‬
‫يذهب من م�صر مدر�سون لتدري�س اللغة العربية‪ ،‬مقابل‬ ‫قرنا‪ ،‬ومل يحدد تاريخ وقوعها الذي ميكن �أن يكون قبل‬
‫جميء مدر�سني للغة الفرن�سية من املغرب للتدري�س يف‬ ‫كتابة الكتاب بقرون كثرية �أخرى‪ ،‬قد �أ�صابتني بحالة من‬
‫بع�ض املعاهد املتخ�ص�صة‪ ،‬و�سافرت وزوجي مع �أع�ضاء‬ ‫الفزع من القرود ميكن ت�سميتها «فوبيا القرود»‪ ،‬منذ �أن‬
‫البعثة �إىل العا�صمة الرباط‪ ،‬ليتم من هناك توزيعنا على‬ ‫قر�أتها يف مكتبة املدر�سة الثانوية يف تلك املرحلة املبكرة‬
‫املدار�س التي حتتاج لهذا التخ�ص�ص يف خمتلف مناطق‬ ‫من عمري‪ ،‬و�صرت �أح�س بق�شعريرة من �أي قرد �أراه حتى‬
‫اململكة‪ ،‬وكانت املدر�سة التي مت اختيارها لنا‪ ،‬تقع يف‬
‫‪62‬‬
‫فيه �إىل بيئة وحميط جديدين وغريبني عنه‪ ،‬وكانت �إزرو‬ ‫�إح��دى املدن اجلبلية ب�أوا�سط املغرب‪ ،‬هي مدينة �إزرو‪،‬‬
‫�أ�شبه بحديقة كبرية حيث الأ�شجار يف كل مكان‪ ،‬مو�صولة‬ ‫التي وجدنا زمالء مغاربة وموظفني م�صريني يف ال�سفارة‬
‫بذلك الغالف الأخ�ضر الذي يغطي اجلبال من حولها‪،‬‬ ‫يهنئوننا على حظنا ال�سعيد الذي جعل مدينة �إزرو من‬
‫ب�ين ب�ساتني وغ��اب��ات وح��ق��ول وم���راع خ�ضراء‪ ،‬ومل تكن‬ ‫ن�صيبنا‪ ،‬ب�سبب جمالها‪ ،‬وجمال املنطقة التي جتاورها‪،‬‬
‫املدر�سة واحل��ي ال�سكني التابع لها‪ ،‬ا�ستثناء من ذلك‪،‬‬ ‫خا�صة بعد �أن ابتنى ملك البالد ق�صر ًا يف مدينة حتاذيها‬
‫فاملكان مكتظ ب�أ�شجار ال�سرو وال�صنوبر وال�سنديان التي‬ ‫ه��ي اي��ف��ران‪ ،‬لق�ضاء �أ���ش��ه��ر ال�صيف ه��ن��اك‪ ،‬ف�صارت‬
‫تعطر ب�أريجها املكان‪ ،‬حتاذيها وجتاورها �أ�شجار مثمرة‬ ‫املنطقة تزخر باملتنزهات والأندية الريا�ضية واالجتماعية‬
‫�أخرى مثل �أ�شجار البابوجن والنارجن‪ ،‬وم��زارع املوز‪ ،‬ومل‬ ‫ذات امل�ستوى الرفيع‪ ،‬كما �صارت اجلبال املجاورة حمج ًا‬
‫�أكت�شف �إال يف اليوم الثاين �أو الثالث‪ ،‬و�أنا �أبد�أ يف مبا�شرة‬ ‫للمتزحلقني على اجلليد بعد �أن جلبت احلكومة اخلرباء‬
‫العمل يف املدر�سة وانتقل �إليها من بيتي على الأقدام عرب‬ ‫لبناء منتجعات عاملية لل�سياح‪ ،‬وكانت �سعادتي و�سعادة‬
‫طريق حتف به الأ�شجار‪� ،‬أن هذه الأ�شجار املحيطة بالبيت‬ ‫زوجي كبرية ونحن ن�صل اىل هذه املنطقة اجلبلية ذات‬
‫واملدر�سة لي�ست �إال م�ستعمرة للقرود‪ ،‬ولنوع من القرود‬ ‫الطبيعة ال�ساحرة‪ ،‬بجبالها وغاباتها وبحرياتها التي‬
‫ال�صغرية‪ ،‬امل�سماة الن�ساني�س‪ ،‬وهي �أك�ثر �أن��واع القرود‬ ‫حتيط مبدينة �إزرو وت�شكل جزء ًا منها‪ ،‬ون�أخذ من حمطة‬
‫ذكاء وقدرة على تقليد الإن�سان والت�آلف مع املجتمعات‬ ‫احلافالت �سيارة �أجرة تقلنا �إىل ال�سكن الذي خ�ص�صوه‬
‫الب�شرية وال��ق��ي��ام بت�صرفات ت�شبه ت�صرفات الب�شر‪،‬‬ ‫لنا‪ ،‬وك��ان ع��ب��ارة ع��ن دارة �صغرية يف ح��ي �سكني يتبع‬
‫بل �إن ه��ذه الن�ساني�س ب��ال��ذات هي التي ورد ذكرها يف‬ ‫املدر�سة ويقع على م�سافة ق�صرية منها‪ ،‬ووجدنا فور �أن‬
‫كتاب اجلاحظ عند �سرده لق�صة القرود التي تغت�صب‬ ‫ا�ستقر بنا املقام يف مقر �إقامتنا اجلديد‪ ،‬ترحيب ًا من �أهل‬
‫الن�ساء‪ ،‬و�أعرتف �أن فرحتي بجمال بلدة �إزرو وبهاء احلي‬ ‫احلي‪ ،‬قاطنيه و�أ�صحاب دكاكينه‪ ،‬ور�أينا من عواطفهم‬
‫اجلامعي تبخرت منذ اللحظة الأوىل التي ر�أيت فيها هذه‬ ‫ما �أ�شعرنا ب�أننا بني �أهلنا و�إخوتنا‪ ،‬و�أزال هذا الرتحيب‬
‫الن�ساني�س‪ ،‬بل حتولت الفرحة �إىل �إح�سا�س بال�صدمة‪،‬‬ ‫عني وع��ن زوج��ي ذل��ك اخل��وف الغريزي ال��ذي ي�شعر به‬
‫وخيبة الأم��ل‪ ،‬ف��الأم��ر ه��ذه امل��رة لي�س ق��رود ًا يف حديقة‬ ‫كل �إن�سان ينتقل من بيته وحميطه ال��ذي عا�ش وتربى‬

‫‪63‬‬
‫احليوان �أتفاداها و�أم�ضي يف طريقي و�إمنا جرية م�ستمرة‪،‬‬ ‫ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ورفاق يف الإقامة التي �سوف ت�ستمر مدة ا�ستمراري يف هذا‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫العمل‪ ،‬و�شعب من القرود ي�ستوطن هذه الأ�شجار ويتقافز‬
‫عربها بحرية‪ ،‬وهي �أ�شجار مو�صولة بحديقة البيت الذي‬
‫�أ�سكنه واملدر�سة التي �أعمل بها‪ ،‬و�صار همي و�أنا �أذهب‬
‫ق�صة‬ ‫ق�صة‬
‫صو�ص ن�صو�ص‬
‫ب�صحبة زوج���ي �إىل امل��در���س��ة وال��ت��ق��ي ببع�ض اجل�يران‬ ‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫و�أ�صحاب احلوانيت هو �أن �أ���س���أل ه���ؤالء النا�س الذين‬ ‫ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ق�صة ق�صة‬ ‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫يقيمون �إقامة دائمة ب�صحبة الن�ساني�س كيف يتعاملون‬
‫معها ونوع امل�ضايقات التي يلقونها منها‪ ،‬فكانت الردود‬
‫تختلف من واحد �إىل �آخر‪ ،‬فهناك من يعرب عن �إعجابه‬
‫بها ويجد يف �صحبتها ت�سلية وترفيهاً‪ ،‬وهناك من يجدها‬
‫�إزعاج ًا ب�سبب ما ي�صدر عنها من �أ�صوات‪ ،‬وما تقوم به‬
‫من م�ضايقات ل�سائقي ال�سيارات‪ ،‬خا�صة عندما تختار �أن‬
‫تقفز فوق مقدمة ال�سيارة وهي جتري‪ ،‬ومت�سك مبم�سحتي‬
‫الأمطار وتلت�صق بالزجاج فتحجب الر�ؤية عن ال�سائق‪،‬‬
‫الذي ي�ضطر �إىل �إيقاف ال�سيارة‪ ،‬بطريقة فجائية تخالف‬
‫قواعد ال�سالمة‪ ،‬ليق�ضي وقت ًا يف �إزاح��ة هذه احليوانات‬
‫املزعجة من فوق �سيارته‪� ،‬إال �أنني مل �أ�سمع �أي �شيء عن‬
‫�سلوك عدواين �آخر تقوم به‪� ،‬أو �إ�شارة �إىل ما جاء ذكره‬
‫يف كتاب اجلاحظ‪ ،‬ومل يكن ممكن ًا طبع ًا �أن �أف�صح عن‬
‫هواج�سي و�أ�سال �أي �أحد �س�ؤا ًال مبا�شر ًا عن ذلك املو�ضوع‬
‫الذي �أورثني كراهية القرود واخل��وف منها‪ ،‬وق��ررت �أن‬
‫�أكتم خويف و�أال �أعكر �صفو احلياة التي �أعي�شها مع زوجي‬
‫بالتعبري �أو احلديث عن �أية خماوف �أعاين منها‪ ،‬خا�صة‬
‫�أنني �أ�سري يف طريق الذهاب �إىل املدر�سة �أو العودة منها‬
‫و�أن��ا يف �صحبته وحمايته مطمئنة �إىل �أنني ال �أواج��ه �أي‬
‫خطر من هذه الن�ساني�س التي كان زوجي يبدي تلطف ًا معها‬
‫ويتعمد �أن ي�ضع يف جيبه �شيئ ًا من اللوز �أو الفول ال�سوداين‬
‫يقدمه طعام ًا لها‪ ،‬وهو يعرب عن �إعجابه بهذه الكائنات‬
‫امل�ساملة اللطيفة الذكية‪� ،‬سعيد ًا بهذا احلظ الذي جعلنا‬
‫جناور غابات م�أهولة مبثل هذه القرود امل�ساملة التي تكاد‬
‫من فرط ذكائها �أن ت�صبح ب�شراً‪ ،‬ولي�ست كغابات �أخرى‬
‫ت�سكنها ال�ضباع والذئاب و�أحيان ًا حيوانات �أ�شد �شرا�سة‬
‫وفتك ًا كالنمور والأ���س��ود‪ ،‬ومل �أ�ستطع �أن �أرد عليه مبا‬
‫يخطر على ذهني من ردود ب�أن هذا يجعلها �أكرث خطراً‪،‬‬
‫و�أدعى ملثلي �أن يخ�شاها باعتبارها �أقرب يف طبيعتها �إىل‬
‫الإن�سان‪ ،‬وميكن �أن متار�س بع�ض �سلوكيات الب�شر ب�أ�سلوب‬
‫حيواين وترتكب �أعمال االغت�صاب مع الن�ساء كما ينزو‬
‫ذكر احليوان على �أنثاه‪.‬‬
‫كانت الأيام الأوىل حت�ضري ًا للعام الدرا�سي و�إعداد ًا له‪،‬‬
‫حيث ي�شارك كل املدر�سني وامل��در���س��ات يف جل��ان وفرق‬
‫عمل تعمل يف الفرتة ال�صباحية حتى منت�صف النهار‪،‬‬
‫�إال �أن امل�س�ألة اختلفت عندما انتظمت الدرا�سة ومت توزيع‬
‫املدر�سني على خمتلف احل�ص�ص والف�صول‪ ،‬فالدرا�سة‬
‫تتوا�صل طوال �ساعات النهار‪ ،‬ومل يكن جدول احل�ص�ص‬
‫ال��ذي يقدمه زوج��ي متوافق ًا مع ج��دول احل�ص�ص التي‬
‫�أقدمها‪ ،‬بل �صار ذهابي �إىل املدر�سة يتوافق مع موعد‬
‫عودته وانتهائه من تقدمي درو�سه‪ ،‬ومل يعد متي�سر ًا �أن‬
‫�أذهب ب�صحبته �إىل املدر�سة كما مل يكن ممكن ًا �أن �أفكر‬
‫جمرد التفكري يف قطع امل�سافة بني البيت واملدر�سة‪ ،‬رغم‬
‫ق�صرها‪ ،‬مبفردي‪ ،‬وكان احلل الذي اهتديت �إليه هو �أن‬
‫‪64‬‬
‫كانوا يتمرغون يف الأوح��ال‪ ،‬يتبادلون نظرات مريبة ثم‬ ‫اتفق مع فاطمة‪ ،‬ال�صبية الرببرية ال�صغرية ذات اخلم�سة‬
‫يتجهون بهذه النظرات يل وللفتاة التي معي وقد وقفنا‬ ‫ع�شر عاماً‪ ،‬التي ت�أتي ملدة �ساعتني كل يوم مل�ساعدتي يف‬
‫يف حالة ترقب وتوج�س‪ ،‬قبل �أن نرى �أحد الثالثة‪ ،‬وكان‬ ‫�أعمال البيت‪ ،‬على مرافقتي يف م�شوار الذهاب والعودة‬
‫�أك�ثر من �صاحبيه ط��و ًال وامتالء‪ ،‬يهيب بهما �أن ي�سرعا‬ ‫عرب ه��ذا الطريق امل���أه��ول بالن�ساني�س‪ ،‬ومل �أج��د م�برر ًا‬
‫قبل هروب الفتاة ال�شلحية وامل��ر�أة امل�صرية‪ ،‬مما جعلنا‬ ‫�أم��ام زوج��ي‪ ،‬و�أم��ام جمتمع املدر�سة ال��ذي �صار ي�شاهد‬
‫ننتبه �إىل �أن��ه ينوي بنا �شراً‪ ،‬فرك�ضنا عائدتني باجتاه‬ ‫هذه الفتاة تودعني عند باب املدر�سة وتنتظرين لرتافقني‬
‫القرية‪� ،‬إال �أن ال�شبان الثالثة رك�ضوا خلفنا‪ ،‬و�أ�سرع‬ ‫عند امل��غ��ادرة‪ ،‬غري القول �إن دواع��ي احلمل تقت�ضي �أن‬
‫�أحدهم ي�سبقنا وي�سد الطريق �أمامنا‪ ،‬بحيث �أفلحوا يف‬ ‫�أ�ستعني بهذه الفتاة يف حمل حقيبة الكتب والكراري�س‪،‬‬
‫حما�صرتنا ومنعنا من الهروب و�أخ��رج �أحدهم �سكينا‬ ‫بينما كان العمل احلقيقي لهذه الفتاة الرببرية التي جتيد‬
‫ي�شهره يف وجهي ووج��ه الفتاة التي معي‪ ،‬طالب ًا منا �أن‬ ‫احلديث باللغة العربية‪ ،‬هو �أن تلهيني عن االنتباه لهذه‬
‫ندخل �أمامه و�سط الغابة‪ ،‬وب�سرعة طويت املظلة و�ضربت‬ ‫الن�ساني�س‪ ،‬وت�شغلني بحديثها عن الهواج�س واملخاوف‬
‫بها يده التي حتمل ال�سكني حتى طار ال�سكني بعيداً‪� ،‬إال‬ ‫التي تراودين �أثناء مروري بجوارها‪ ،‬ومع انق�ضاء �أ�شهر‬
‫�أن رفيقه حلق به وعاد يهددنا وهو ي�شهره يف وجهينا‪ ،‬يف‬ ‫اخل��ري��ف‪ ،‬وان��ت��ه��اء الأوق����ات امل�شم�سة‪ ،‬وان��ق�لاب اجلو‬
‫حني ت�صاعد �صراخنا �أنا وفاطمة نطلب النجدة‪ ،‬دون‬ ‫�إىل غيوم و�أمطار وبرد كما هي طبيعة ف�صل ال�شتاء يف‬
‫�أن يكون ه��ذا ال�صراخ رادع�� ًا لل�شبان الثالثة‪ ،‬مينعهم‬ ‫تلك املناطق اجلبلية امل�شهورة مبنتجعات التزحلق على‬
‫من موا�صلة حتر�شهم بنا وتهديدهم لنا وحماولة �سحبنا‬ ‫اجلليد‪ ،‬بد�أت الن�ساني�س تغيب من �أماكنها املعهودة فوق‬
‫داخل الغابة‪ ،‬ويف حني جنحوا يف جر فاطمة ف�إنني دخلت‬ ‫�أغ�صان الأ�شجار‪ ،‬بل تختفي نهائي ًا عن الأنظار‪ ،‬هاربة‬
‫يف معركة معهم باملظلة وعندما �أفلحوا يف انتزاعها مني‬ ‫من ه��ذا ال�صقيع لالحتماء ب���أدغ��ال بعيدة‪ ،‬و�شقوق يف‬
‫ارمتيت فوق الأر���ض‪� ،‬أم�سك ب�أع�شابها وترابها‪ ،‬راف�ضة‬ ‫اجلبال املجاورة‪� ،‬إىل حد �أنني فكرت يف �إعفاء ال�صبية‬
‫�أن ا�ست�سلم الثنني منهم يحاوالن ج��رّي بالقوة للحاق‬ ‫الرببرية من مرافقتي توفري ًا لأجرتها‪ ،‬لوال �أنني كنت �أملح‬
‫بزميلهما الذي �أم�سك بفاطمة قريب ًا من �إحدى الأ�شجار‪،‬‬ ‫بني احلني والآخر وجه ن�سنا�س يطل بني �أغ�صان �شجرة‬
‫دون �أن تتوقف هي �أي�ضا عن �إطالق �صراخها كما وا�صلت‬ ‫بعيدة‪ ،‬ف�أعرف �أن وجود هذه الن�ساني�س يف هذه البقعة‬
‫�أن���ا �أي�ضا ال�����ص��راخ ب�أق�صى م��ا يف حنجرتي م��ن ق��وة‪،‬‬ ‫من الأر����ض ق��در ال ه��روب منه‪ ،‬طاملا �أرغمتني ظروف‬
‫ورغ��م ال�سيارة التي توقفت يف عر�ض الطريق‪ ،‬والرجل‬ ‫العمل على الإقامة يف هذه البلدة‪ ،‬و�أنه ال�سبيل لأن �أن�سى‬
‫الذي خرج منها �صائح ًا يف �أوجه ال�شبان �أن يتوقفوا عن‬ ‫خويف منها حتى وهي تتوارى بعيد ًا داخ��ل الغابة‪ ،‬لأنها‬
‫اال�ستمرار يف �سلوكهم العدواين الإج��رام��ي‪ ،‬فلم يظهر‬ ‫مهما ابتعدت فالبد �أن ترتك ممث ًال لها يذكرين بها‪ ،‬بل‬
‫عليهم �أي خوف �أو رغبة يف العدول عن هجومهم‪ .‬وا�صل‬ ‫�إن هواج�سي ازدادت ا�ستعار ًا عندما ر�أيت يف �سوق البلدة‬
‫االثنان حماولة جرّي فوق الأر�ض‪ ،‬و�أم�سك الثالث بفاطمة‬ ‫�صبي ًا �صغري ًا كثيف ال�شعر‪ ،‬يغطي ال�شعر الأ�سود الغزير‬
‫راف�ض ًا �أن يرتكها تنفذ من قب�ضته‪ ،‬و�أكرث من ذلك �أطلقوا‬ ‫ذراعيه و�ساقيه‪ ،‬مما جعلني ال �أ�شك حلظة واحدة ب�أن‬
‫تهديداتهم يف وج��ه الرجل ال��ذي ج��اء يحاول جندتنا‪،‬‬ ‫�أمه قد �أجنبته بعد �أن تعر�ضت لالغت�صاب من قبل هذه‬
‫قائلني له ب�أن يبتعد عن طريقهم �إذا �أراد لنف�سه ال�سالمة‪،‬‬ ‫القرود‪� .‬أعرف �أنني حامل‪ ،‬و�أن هذا العمل يع�صمني من‬
‫فعاد �إىل �سيارته ي�ضرب نفريها ب�شكل متوا�صل‪ ،‬مثري ًا‬ ‫ال��وق��وع يف مثل ه��ذا البالء ال��ذي وقعت فيه �أم ال�صبي‬
‫�أكرب قدر من ال�ضو�ضاء‪ ،‬ظهر �إثر ذلك �أكرث من مزارع‬ ‫الكثيف ال�شعر عندما تعر�ضت الغت�صاب القرود‪ ،‬ولكنني‬
‫يحمل ف�أ�س ًا �أو رف�ش ًا �أو معوالً‪ ،‬مما �أنزل الرعب يف قلوب‬ ‫�س�أ�صاب مبحنة �أكرب من حمنتها لأنني �إن مل �أفقد حياتي‬
‫ال�شبان الثالثة‪ ،‬ورك�ضوا هاربني و�سط الأدغال‪ ،‬وتعاون‬ ‫ف�س�أفقد عقلي و�س�أفقد بالت�أكيد اجلنني الذي يف �أح�شائي‬
‫ه���ؤالء الرجال على نقلي ونقل فاطمة �إىل ال�سيارة‪ ،‬كي‬ ‫لو تعر�ضت ملثل هذا االعتداء ال �سمح اهلل‪ .‬كان هناك‬
‫ت�أخذنا �إىل م�ستو�صف البلدة كما اقرتح �سائقها‪ ،‬ملداواة‬ ‫رذاذ خفيف‪ ،‬توافق نزوله مع موعد ذهابي �إىل املدر�سة‪،‬‬
‫ما حلقنا من جروح وخدو�ش �إثر مقاومتنا لهذا االعتداء‪،‬‬ ‫ف�أخذت معي املظلة وطلبت من فاطمة �أن تلت�صق بي و�أنا‬
‫ومل �أعرت�ض فهي منا�سبة �أي�ض ًا لأن �أطمئن على اجلنني‬ ‫�أن�شرها فوق ر�أ�سي ور�أ�سها لكي تتقي هي الأخرى ابتالل‬
‫الذي �أحمله‪ ،‬ب�أمل �أال يكون قد حلقه بع�ض الأذى �إثر هذه‬ ‫مالب�سها والكراري�س التي معها بهذا ال��رذاذ‪� ،‬سائرين‬
‫ال�صدمة‪ ،‬ور�أيت‪ ،‬وال�سيارة تتحرك بنا عرب الطريق الذي‬ ‫باجتاه املدر�سة‪ ،‬نخرتق �أ�شجار الغابة‪ ،‬ندرد�ش ونت�ضاحك‬
‫حتفه الأ�شجار‪ ،‬وجه ن�سنا�س �صغري يطل من بني الأغ�صان‬ ‫دون �أن يعكر �صفونا وجود �أي ن�سنا�س فوق هذه الأ�شجار‪،‬‬
‫وينظر نحوي بعينني متتلآن ف�ضوال‪ ،‬ف���أدرت ر�أ�سي نحو‬ ‫وعند و�صولنا �إىل نقطة يف منت�صف الطريق‪ ،‬تزداد فيها‬
‫هذا الن�سنا�س من �إزرو‪� ،‬أنظر �إليه ب�أ�سف واعتذار ول�سان‬ ‫الأ�شجار ج�سامة وكثافة‪ ،‬وتت�شابك لت�صنع ما ي�شبه الدغل‬
‫حايل يطلب ال�صفح منه‪ ،‬لأنني ظلمته وظلمت القرود من‬ ‫ال��ذي ق��د يغري الن�ساني�س باالحتماء حتته م��ن املطر‪،‬‬
‫بني قومه‪ ،‬عندما اعتربتهم م�صدر خطر وتهديد حلياتي‬ ‫ازددت اطمئنان ًا و�إح�سا�س ًا بالأمان حلظة �أن تطلعت فلم‬
‫وعفتي وحياة وعفاف كل الن�ساء‪ ،‬بينما اخلطر كان يكمن‬ ‫�أجد �أث��ر ًا لهذه القرود‪� ،‬إال �أن حركة مبهمة تناهت �إيل‬
‫يف ن��وع من الب�شر‪ ،‬ت�ستحي وحو�ش الغابة من �أفعالهم‬ ‫من بني هذه الأ�شجار الكثيفه �أزالت هذا ال�شعور وجعلتني‬
‫وترف�ض الهبوط �إىل الدرك الأ�سفل من اخل�سة والنذالة‬ ‫�أحتفز و�أتهي�أ لظهور هذه الكائنات الكريهة‪ ،‬ولكن الذي‬
‫والوح�شية الذي هبطوا �إليه‪.‬‬ ‫ظهر من بني كثافة الأ�شجار مل يكن قرد ًا �أو عدة قرود‪،‬‬
‫و�إمنا ثالثة �شبان‪ ،‬لهم �شعور منفو�شة ومالب�س رثة ك�أنهم‬
‫‪65‬‬
‫ق�ضية العدد‬

‫‪66‬‬
‫الت�سامح‬
‫التطرف‬ ‫و‬
‫يف الأ�سا�س كان الت�سامح‪ ..‬وال يزال‪.‬‬
‫�إنه قبول الآخر‪ ،‬وجود ًا ور�أي ًا‪ ،‬تعبري ًا وتطلعات‪ .‬وكي‬
‫نقبل الآخر البد من بوابة للعبور‪� .‬إنها بوابة املعرفة‪.‬‬
‫معرفته وا�ستيعاب فكره‪ .‬حينها يكون الدخول يف‬
‫العمق الإن�ساين ُمتاح ًا‪ ..‬ال بل هو واجب‪.‬‬
‫فالأديان يف جوهرها الأ�سمى‪� ،‬إميان وممار�سة‪.‬‬
‫و�أف�ضل الدروب امل�ؤدية �إىل رقي املمار�سة هو الت�سامح‪.‬‬
‫لأنه من دون الت�سامح ال قبول للمختلف وال تف ّهم له‪.‬‬
‫ويف هذا ت�صادم م�ستمر وجمابهات تتوالد وتتنا�سل‬
‫حتى الدمار‪.‬‬
‫فلقد �أر�سل اهلل �أنبياءه وح ّملهم كتبه لي�صلح ما اعوج‬
‫يف خلق الب�شر‪� .‬أراد �إرجاعهم �إىل ال�صراط امل�ستقيم‬
‫ب�إبعادهم عن االنهيارات الأخالقية التي نخرتهم‬
‫و�شوهت ال�صورة التي �أرادها اهلل لهم حني َب َر�أهم‪.‬‬
‫يف هذا امللف املتعدد الأ�صوات والنربات وامل�شارب‪ ،‬تفتح‬
‫«الدوحة» الباب وا�سع ًا �أمام قبول الآخر والإ�صغاء‬
‫�إليه ومعرفته وحماورته‪ ،‬ال حلمله على تغيري عقائده‪،‬‬
‫و�إمنا للتفاعل معه وااللتقاء مع ًا على ممار�سة �إن�سانية‬
‫�صافية وراقية‪.‬‬
‫متعددة التوجهات‪ ،‬ت�ضيء‬‫�إنه ملف ي�ضم �أ�صوات ًا عربية ّ‬
‫�شمعة‪ ،‬ولو ب�سيطة‪ ،‬ملكافحة عتمة التطرف‪ .‬فلي�س من‬
‫طبيعتنا �أبد ًا �أن نكتفي ب َل ْعن الظالم!‬

‫‪67‬‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ا‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬

‫ثقـــافة الت�سامح‬
‫عند امل�سلمني‬
‫بقلم �أ‪.‬د‪ :‬يو�سف القر�ضاوي‬
‫رئي�س االحتاد العاملي لعلماء امل�سلمني‬

‫‪68‬‬
‫ال�صدام‪ ،‬والرفق ال العنف‪ ،‬والرحمة ال الق�سوة‪ ،‬وال�سالم‬ ‫من �أ�شد الأمور خطر ًا‪ ،‬والتي ته ّدد املجتمعات بالتمزّق‬
‫ال احلرب‪.‬‬ ‫وال��ت��ع��ادي‪ ،‬ب��ل ق��د تف�ضي �إىل ا�شتعال احل���روب بني‬
‫وم�صادر ثقافة الت�سامح ل��دى امل�سلم كثرية و�أ�صيلة‪.‬‬ ‫املجتمعات بع�ضها ببع�ض‪ ،‬بل بني �أبناء املجتمع الواحد‪،‬‬
‫و�أعظمها بال ريب هو‪ :‬القر�آن الكرمي؛ الذي �أ�س�س �أ�صول‬ ‫التع�صب‪.‬‬
‫والوطن الواحد‪ّ :‬‬
‫الت�سامح‪ ،‬ور�سخها يف �سوره املكية واملدنية‪ ،‬ب�أ�ساليبه‬ ‫بالتع�صب اع��ت��زاز الإن�����س��ان بعقيدته �أو‬
‫ّ‬ ‫ولي�س امل���راد‬
‫البيانية املعجزة‪ ،‬التي تخاطب الكيان الإن�ساين كله‪،‬‬ ‫ب�أفكاره التي اقتنع بها مبح�ض اختياره‪ ،‬فهذا ال ميكن‬
‫فتقنع العقل‪ ،‬ومتتع العاطفة‪ ،‬وحترك الإرادة‪ .‬و�سريى‬ ‫بالتع�صب انغالق املرء على عقيدته‬ ‫ّ‬ ‫�أن يعاب‪� .‬إمنا املراد‬
‫القارئ الكرمي �أن الدعائم ال�شرعية واملنطقية التي‬ ‫�أو فكره‪ ،‬واعتبار الآخرين جميع ًا خ�صومه و�أع��داءه‪،‬‬
‫�سنعتمد عليها يف الدعوة �إىل الت�سامح و�إ�شاعته وتثبيته‬ ‫وتوج�س ال�ش ّر منهم‪ ،‬و�إ�ضمار ال�سوء لهم‪ ،‬و�إ�شاعة جو من‬
‫م�ستمدة من القر�آن �أ�سا�س ًا‪.‬‬ ‫العنف والكراهية لهم‪ ،‬مما يفقد النا�س العي�ش يف �أمان‬
‫وبعد ذلك ت�أتي ال�سرية وال�سنة النبوية �شارحة مو�ضحة‬ ‫واطمئنان‪ .‬والأمن نعمة من �أعظم نعم اهلل على الإن�سان‪،‬‬
‫الدرجة الدنيا‬ ‫ومف�صلة‪ ،‬فال�سنة هي البيان النظري‪ ،‬والتطبيق العملي‬ ‫لهذا امنت اهلل على قري�ش فقال‪:‬‬
‫َات َوال ُّز ُبرِ َو�أَ ْنزَ ْلنَا �إِ َل ْي َك الذِّ ْك َر‬
‫للقر�آن‪ ،‬كما قال تعاىل‪«:‬با ْل َب ِّين ِ‬ ‫« َف ْل َي ْع ُب ُدوا َر َّب َهذَ ا ا ْل َب ْي ِت ال َِّذي �أَ ْط َع َم ُه ْم ِم ْن ُج ٍوع َو�آَ َم َن ُه ْم‬
‫للت�سامح‬ ‫َّا�س َما ُنزِّ لَ �إِ َل ْيهِ ْم َو َل َع َّل ُه ْم َي َت َف َّك ُر َون» (النحل‪.)44:‬‬
‫ِل ُت َبينِّ َ ِللن ِ‬ ‫ِم ْن خَ ْو ٍف» (قري�ش‪ .)4،3:‬واعترب القر�آن اجلنة دار �أمن‬
‫�أن تدع‬ ‫وي���أت��ي ب��ع��د ذل���ك ع��م��ل ال�صحابة ر���ض��ي اهلل عنهم‪،‬‬ ‫الم �آَ ِم ِن َني» (احلجر‪.)46:‬واعترب �شر‬ ‫وها ب َِ�س ٍ‬ ‫كامل‪« :‬ا ْدخُ ُل َ‬
‫خ�صو�ص ًا اخللفاء الرا�شدين‪ ،‬و�سنتهم امتداد ًا ل�سنة‬ ‫ما ت�صاب به املجتمعات‪ :‬اجلوع واخلوف‪ ،‬فقال تعاىل‪:‬‬
‫ملخالفك‬ ‫النبي‪ ،‬وهم تالميذ مدر�سة النبوة‪ ،‬بها اقتدوا فاهتدوا‪،‬‬ ‫« َف�أَذَ ا َق َها اللهَّ ُ ِل َب َ‬
‫ا�س الجْ ُ ��و ِع َوالخْ َ ْ���و ِف بمِ َ ا َكا ُنوا َي ْ�ص َن ُع َ‬
‫ون»‬
‫حرية دينه‬ ‫وعلى �ضوئها اقتب�سوا ت�شريعاتهم وتوجيهاتهم‪ ،‬فهدوا‬
‫�إىل �صراط م�ستقيم‪.‬‬
‫(النحل‪.)112:‬‬
‫وم��ن ال��ن��ا���س م��ن يت�صور �أن الإمي����ان ال��دي��ن��ي م�لازم‬
‫وعقيدته‪..‬‬ ‫كما ن�ست�أن�س �أي�ض ًا ب�أقوال �أئمة الأمة وفقهائها وعلمائها‬ ‫للتع�صب ال يفارقه ال حمالة‪ .‬لأن امل�ؤمن بدينه يعتقد �أنه‬
‫والعليا �أال‬ ‫ال��را���س��خ�ين‪ ،‬ال��ذي��ن ه��م ورث���ة ال��ن��ب��وة‪ ،‬وحملة علمها‪،‬‬
‫ينفون عنه حتريف املغالني‪ ،‬وانتحال املبطلني‪ ،‬وت�أويل‬
‫على احلق‪ ،‬وما عداه على الباطل‪ ،‬و�أن �إميانه هو �سبيل‬
‫النجاة‪ ،‬وم��ن مل يتم�سك بعروته الوثقى مل يهتد �إىل‬
‫ت�ضيق على‬ ‫اجلاهلني‪.‬‬ ‫طريق اخلال�ص‪ ،‬و�أن من مل ي�ؤمن بكتابه املنزل‪ ،‬وبنبيه‬
‫وم���ن م�����ص��ادر ث��ق��اف��ة ال��ت�����س��ام��ح ل���دى امل�����س��ل��م ال��واق��ع‬ ‫املر�سل‪ ،‬فهو ذاهب �إىل اجلحيم‪ ،‬وال تنفعه �أعمال اخلري‬
‫املخالفني‬ ‫التاريخي‪ ،‬لأن الإ�سالم‪ ،‬بهذا التاريخ قام على الت�سامح‬ ‫التي قدمها‪ ،‬لأنها مل تنب على الإميان‪ ،‬فال قيمة لها عند‬
‫فيما يعتقدون‬ ‫مع املخالفني‪ ،‬مل يخالف يف ذلك خليفة �أو �سلطان‪� ،‬أو‬ ‫اهلل‪ .‬كما قال تعاىل‪:‬‬
‫قائد ‪� ،‬أو وزير يف امل�شرق واملغرب‪ ،‬يف خالفة بني �أمية‪،‬‬ ‫« َوا َّل ِ��ذي َ��ن َك َف ُروا �أَ ْع َما ُل ُه ْم َك َ�س َر ٍاب ِب ِقي َع ٍة َي ْح َ�س ُب ُه َّ‬
‫الظ ْم َ�آ ُن‬
‫حله يف‬ ‫�أو بني العبا�س‪� ،‬أو بني عثمان‪ .‬ولقد �شهد بذلك م�ؤرخون‬ ‫َما ًء َحتَّى �إِذَ ا َج��ا َء ُه لمَ ْ َيجِ ْد ُه �شَ ْيئ ًا» ( النور‪ ،)39:‬وكقوله‬
‫دينهم �أو‬ ‫من�صفون من الغربيني وغريهم‪ ،‬ونقلنا ذلك عنهم يف‬ ‫ين َك َف ُروا ِب َر ِّبهِ ْم �أَ ْع َما ُل ُه ْم َك َر َم ٍاد ا�شْ َت َّد ْت‬
‫تعاىل‪«َ :‬م َث ُل ال َِّذ َ‬
‫�أكرث من كتاب لنا‪ ،‬منهم توم�س �أرنولد‪ ،‬وغ�ستاف لوبون‪،‬‬ ‫ون ممِ َّ ا َك َ�س ُبوا َع َلى �شَ ْي ٍء»‬ ‫ا�ص ٍف لاَ َيق ِْد ُر َ‬ ‫ِب ِه ال ِّر ُيح فيِ َي ْو ٍم َع ِ‬
‫مذهبهم‬ ‫وغريهما‪.‬‬ ‫(�إبراهيم‪ .)18:‬وه��ذه الت�صورات ل�ل�آخ��ري��ن تن�شئ‬
‫العداوة والبغ�ضاء بني النا�س بع�ضهم وبع�ض‪ ،‬وكثري ًا ما‬
‫خ�صائ�ص ثقافة الت�سامح الإ�سالمي‬ ‫ت�ؤدي �إىل حروب دموية بني الطوائف وال�شعوب املختلفة‬
‫ديني ًا‪.‬‬
‫ولثقافة الت�سامح الإ�سالمي خ�صائ�ص متعددة‪ ،‬بيد‬
‫�أن هناك خ�صي�صة مهمة‪ ،‬وهي �أن �صبغتها الدينية‪،‬‬ ‫م�صادر ثقافة الت�سامح لدى امل�سلم‬
‫وم�صدرها الرباين‪ ،‬وانبثاقها �أ�ص ًال من الأوامر الإلهية‪،‬‬
‫والتوجهات النبوية جتعل لها �سلطة على امل�سلمني‪ ،‬نابعة‬ ‫كما �سجل ذلك التاريخ يف ع�صوره املختلفة بني الأديان‬
‫من قلوبهم و�ضمائرهم‪ ،‬يذعنون لها‪ ،‬ويحر�صون على‬ ‫بع�ضها وبع�ض؛ كما ب�ين امل�سلمني وال��ن�����ص��ارى‪ ،‬وبني‬
‫تنفيذ �أحكامها‪ ،‬بدافع من �إميانهم‪ ،‬وخ�شية لربهم‪.‬‬ ‫الطوائف واملذاهب الدينية داخل الدين الواحد‪ ،‬كما بني‬
‫وف��رق بني �سلطة القوانني الو�ضعية التي يحاول كثري‬ ‫الكاثوليك والربوت�ستانت‪ ،‬وكذلك ال�سنّة وال�شيعة‪ .‬فما‬
‫من الأفراد التحلل منها‪ ،‬والتحايل على �أحكامها‪ ،‬وبني‬ ‫احلل �أمام هذه امل�شكالت الفكرية والعملية التي تتج�سد‬
‫الأحكام الإلهية‪ ،‬التي ب�شر امل�ؤمنون بها �أنهم باحرتامها‬ ‫يف الواقع‪ ،‬ومتثل حتديات حتتاج �إىل مواجهة‪ ،‬وت�سا�ؤالت‬
‫واتباعها‪ ،‬يك�سبون ر���ض��وان اهلل ت��ع��اىل‪ ،‬ومثوبته يف‬ ‫تفتقر �إىل �أجوبة؟‬
‫الآخرة‪ ،‬و�سكينة النف�س‪ ،‬وراحة ال�ضمري يف الدنيا‪ ،‬كما‬ ‫و�أود �أن �أبادر هنا ف�أقول‪:‬‬
‫قال تعاىل‪«َ :‬م ْن َع ِم َل َ�صالحِ ًا ِم ْن ذَ َكرٍ �أَ ْو �أُ ْن َثى َو ُه َو ُم�ؤ ِْم ٌن‬ ‫�إن الإ�سالم قد عالج هذه الت�صورات النظرية‪ ،‬وامل�شكالت‬
‫العملية‪ ،‬من خالل ثقافة �أ�صيلة وا�ضحة �أ�س�سها و�أر�ساها‪َ ،‬ف َلن ُْح ِي َي َّن ُه َح َيا ًة َط ِّي َب ًة َو َلن َْجزِ َي َّن ُه ْم �أَ ْج َر ُه ْم ِب�أَ ْح َ�سنِ َما َكا ُنوا‬
‫وعلمها لأبنائه‪ ،‬وهي ثقافة ت�ؤ�س�س الت�سامح ال التع�صب‪َ ،‬ي ْع َم ُل َون» (النحل‪.)97:‬‬
‫والتعارف ال التناكر‪ ،‬واحل��ب ال الكراهية‪ ،‬واحل��وار ال‬

‫‪69‬‬
‫الأديان كلها �إال دينه؟ �إنه لو فعل هذا مل يكن م�صريه �إال‬ ‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫اخليبة والإخفاق‪ ،‬وانت�صار م�شيئة اهلل الواحد القهار‪.‬‬ ‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫‪ - 3‬ح�ساب املختلفني �إىل اهلل يوم القيامة‬
‫وال��رك��ي��زة الثالثة‪� :‬أن ح�ساب املختلفني يف دياناتهم‬
‫ومذاهبهم واجتاهاتهم الدينية والأخالقية التي ن�ش�أوا‬
‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ا‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫عليها‪ ،‬لي�س �إلينا‪ ،‬ولكن �إىل خالق اجلميع‪� ،‬إىل اهلل‬ ‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫وح��ده‪ ،‬ولي�س يف ه��ذه الدنيا‪ ،‬ولكن يف ال��دار الآخ��رة‪،‬‬ ‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ي��وم القيامة‪ .‬وه��ذا ما ق��رره ال��ق��ر�آن يف موا�ضع �شتى‪.‬‬
‫وك َفقُلِ اللهَّ ُ �أَ ْع َل ُم‬
‫يقول تعاىل خماطب ًا ر�سوله‪َ « :‬و�إِ ْن َجا َد ُل َ‬
‫ون‪ ،‬اللهَّ ُ َي ْح ُك ُم َب ْي َن ُك ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة ِفي َما ُك ْنت ُْم ِفي ِه‬ ‫بمِ َ ا َت ْع َم ُل َ‬ ‫الركائز العقدية والفكرية للت�سامح الإ�سالمي‬
‫ُون» (احلج‪ .)68،69:‬ويف �سياق �آخر يقول له يف‬ ‫تَخْ َت ِلف َ‬
‫ا�س َت ِق ْم َك َما �أُ ِم ْر َت َوال َت َّت ِب ْع‬‫و‬ ‫ع‬ ‫د‬ ‫َا‬
‫ف‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫ذَ‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫«‬ ‫الكتاب‪:‬‬ ‫أهل‬ ‫�ش�أن �‬ ‫تقوم ثقافة الت�سامح عند امل�سلمني على جملة من الركائز‬
‫ُْ َ ْ‬ ‫العقدية والفكرية‪ ،‬بيانها فيما يلي‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫َاب َو�أ ِم�� ْر ُت ِ أل ْع ِدلَ‬ ‫ُ‬ ‫للهَّ‬
‫�أَ ْه َوا َء ُه ْم َو ُق ْل � َآمن ُْت بمِ َ ا �أ ْنزَ لَ ا ِم ْن ِكت ٍ‬
‫َ‬
‫َب ْي َن ُك ُم اللهَّ ُ َر ُّبنَا َو َر ُّب ُك ْم َلنَا �أَ ْع َما ُلنَا َو َل ُك ْم �أَ ْع َما ُل ُك ْم ال ُح َّج َة‬ ‫‪� - 1‬إقرار التعددية‬
‫َب ْي َننَا َو َب ْي َن ُك ُم اللهَّ ُ َي ْج َم ُع َب ْي َننَا َو�إِ َل ْي ِه المْ َ ِ�ص ُري» (ال�شورى‪.)15:‬‬ ‫الركيزة الأوىل‪ :‬وهي �إقرار ظاهرة التعددية‪� ،‬أو التنوع‪،‬‬
‫ويعدد �أ�صحاب الديانات املختلفة من كتابيني ووثنيني‪،‬‬ ‫و�أنها ظاهرة طبيعية‪ ،‬و�سنة كونية‪ ،‬كما ي�ؤمن امل�سلم‬
‫ليبني لنا �أن اهلل هو الذي يف�صل بينهم يوم القيامة‪�ِ « :‬إ َّن‬ ‫بوحدانية اخل��ال��ق‪ ،‬ي���ؤم��ن بتعددية اخللق يف جم��االت‬
‫�شتى‪ .‬فهناك التعددية العرقية‪َ « :‬و َج َع ْلنَا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل‬
‫ال�صا ِب ِئ َني َوالن ََّ�صا َرى َوالمْ َ ُج َ‬
‫و�س‬ ‫ين َها ُدوا َو َّ‬ ‫ين � َآمنُوا َوال َِّذ َ‬ ‫ال َِّذ َ‬
‫ِل َت َعا َرفُوا» (احلجرات‪ .)13:‬وهناك التعددية اللغوية‪:‬‬
‫ين �أَ�شْ َر ُكوا �إِ َّن اللهَّ َ َيف ِْ�ص ُل َب ْي َن ُه ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة �إِ َّن اللهَّ َ َعلىَ‬
‫َوال َِّذ َ‬
‫ُك ِّل �شَ ْي ٍء �شَ هِ ي ٌد» (احلج‪.)17:‬‬ ‫����ض َواخْ �� ِت�َل اَ ُف �أَل ِْ�س َن ِت ُك ْم‬
‫ال ْر ِ‬‫ال�س َما َو ِات َو َْ أ‬
‫« َو ِم ْ��ن َ�آ َي��ا ِت�� ِه خَ ْلقُ َّ‬
‫َو�أَ ْل َوا ِن ُك ْم ِ�إ َّن فيِ ذَ ِل َك َ آَل َي ٍات ِل ْل َعالمِ ِ َني» (الروم‪ .)22:‬وهناك‬
‫وهذه الفكرة �أو العقيدة‪ ،‬من �ش�أنها �أن تخفف من النظرة‬
‫ال�سوداوية للآخرين‪ ،‬مهما يكن اعتقاد املتد ّين‪ ،‬ونظرته‬ ‫َّا�س �أُ َّم ًة َو ِاح َد ًة‬
‫التعددية الدينية‪َ « :‬و َل ْو �شَ ا َء َر ُّب َك لجَ َ َع َل الن َ‬ ‫التع�صب‬
‫�إىل نف�سه‪ ،‬ونظرته �إىل غ�يره‪ ،‬فكل متدين ي�ؤمن �أنه‬ ‫َولاَ َي��زَ ا ُل َ‬
‫��ون مخُ ْ َت ِل ِف َني ِ�إ ّال َم ْ��ن َر ِح َ��م َر ُّب َ��ك َو ِل��ذَ ِل َ��ك خَ َل َق ُه ْم»‬ ‫انغالق املرء‬
‫(هود‪ )118،117:‬قال املف�سرون‪ :‬ولالختالف خلقهم‪،‬‬
‫هو املهتدي‪ ،‬وغريه هو ال�ضال‪ ،‬وهو املب�صر‪ ،‬وغريه هو‬
‫الأعمى‪ ،‬ولكن ح�ساب ذلك �إىل اهلل‪ ،‬يوم تبلى ال�سرائر‪،‬‬ ‫لأنه ملا �أعطى كال منهم العقل والإرادة‪ ،‬تنوعت مواقفهم‬ ‫على عقيدته‬
‫وتنك�شف احلقائق‪َ « :‬ي ْو َم ِئ ٍذ ُي َوفِّيهِ ُم اللهَّ ُ ِدي َن ُه ُم الحْ َ قَّ َو َي ْع َل ُم َ‬
‫ون‬ ‫ودياناتهم‪ .‬وهناك التعددية املذهبية والفكرية‪ ،‬داخل‬
‫الدين الواحد‪ ،‬لأن اهلل �أنزل الدين ن�صو�ص ًا قابلة لتعدد‬
‫واعتبار‬
‫�أَ َّن اللهَّ َ ُه َو الحْ َ ُّق المْ ُ ِب ُني» (النور‪.)25:‬‬
‫‪- 4‬اعتبار الب�شرية كلها �أ�سرة واحدة‬ ‫الر�ؤى واالجتهادات‪ ،‬ولو �شاء �أن يجمع النا�س على ر�أي‬ ‫الآخرين �أعداء‬
‫والركيزة الرابعة‪� :‬أن الإ�سالم ينظر �إىل الب�شرية كلها –‬ ‫واحد‪ ،‬وعلى مذهب واحد‪ ،‬جلعل الدين كله قائم ًا على‬
‫�أي ًا كانت �أجنا�سها و�ألوانها ولغاتها و�أقاليمها وطبقاتها‪-‬‬ ‫ن�صو�ص قطعية الثبوت‪ ،‬قطعية الداللة‪ ،‬فال جمال فيها‬
‫بو�صفها �أ�سرة واح��دة‪ ،‬تنتمي من جهة اخللق �إىل رب‬ ‫الختالف‪ .‬وهناك التعددية ال�سيا�سية واحلزبية‪ ،‬وما‬
‫واحد‪ ،‬ومن جهة الن�سب �إىل �أب واحد‪ ،‬وهذا ما نادى به‬ ‫دمنا قد �أجزنا تعدد املذاهب يف الفقه‪ ،‬يلزمنا �أن جنيز‬
‫تعدد الأحزاب يف ال�سيا�سة‪ ،‬فما الأحزاب �إال مذاهب يف‬
‫القر�آن النا�س؛ كل النا�س‪ ،‬فقال‪َ « :‬يا َ�أ ُّي َها الن ُ‬
‫َّا�س ا َّتقُوا َر َّب ُك ُم‬
‫ال�سيا�سة‪ ،‬وما املذاهب �إال �أحزاب يف الفقه‪.‬‬
‫ال َِّذي خَ َل َق ُك ْم ِم ْن َنف ٍْ�س َو ِاح َد ٍة َوخَ َلقَ ِم ْن َها َز ْو َج َها َو َب َّث ِم ْن ُه َما‬
‫ر َِجا ًال َك ِثري ًا َو ِن َ�سا ًء َوا َّتقُوا اللهَّ َ ال َِّذي ت ََ�سا َء ُل َ‬ ‫‪ - 2‬االختالف واقع مب�شيئة اهلل تعاىل‬
‫الَ ْر َح َ‬
‫��ام‬ ‫ون ِب ِه َو ْ أ‬
‫والركيزة الثانية‪� :‬أن اختالف الدين واقع مب�شيئة اهلل‬
‫�إِ َّن اللهَّ َ َك َان َع َل ْي ُك ْم َر ِقيب ًا» (الن�ساء‪ ،)1:‬وما �أجدر كلمة‬
‫«الأرح��ام» يف هذا ال�سياق �أن تف�سر مبا ي�شمل الأرحام‬ ‫تعاىل‪ ،‬املرتبطة بحكمته �سبحانه‪ ،‬فال ي�شاء �إال ما كان‬
‫الإن�سانية كلها‪ .‬كما قال ال�شاعر امل�سلم‪:‬‬ ‫فيه حكمة‪ ،‬لأن من �أ�سمائه (احلكيم) فهو ال يخلق �شيئ َا‬
‫ �إذا كان �أ�صلي من تراب فكلها‬ ‫باط ًال‪ ،‬وال ي�شرع �شيئ ًا عبث ًا‪ .‬وقد �أعلن القر�آن �أن هذا‬
‫بالدي وكل العاملني �أقاربي!‬ ‫ ‬ ‫االختالف الديني واقع مب�شيئة اهلل عز وجل كما قال‪:‬‬
‫وقد �أعلن ر�سول الإ�سالم هذه احلقيقة‪ -‬وحدة الأ�سرة‬ ‫الَ ْر ِ�ض ُكلُّ ُه ْم جميع ًا �أَ َف�أَن َْت ُت ْكرِ ُه‬
‫« َو َل ْو �شَ ا َء َر ُّب َك َ آلَ َم َن َم ْن فيِ ْ أ‬
‫الب�شرية‪� -‬أمام اجلموع احلا�شدة يف حجة الوداع‪ ،‬قائ ًال‪:‬‬ ‫َّا�س َحتَّى َي ُكو ُنوا ُم�ؤ ِْم ِن َني» (يون�س‪ )99:‬وقال تعاىل‪َ « :‬و َل ْو‬ ‫الن َ‬
‫«يا �أيها النا�س �إن ربكم واحد‪ ،‬و�إن �أباكم واحد‪ ،‬كلكم‬ ‫�شَ ا َء اللهَّ ُ لجَ َ َم َع ُه ْم َع َلى ا ْل ُه َدى فَال َت ُكون ََّن ِم َن الجْ َ ِاه ِل َني»‬
‫لآدم‪ ،‬و�آدم من ت��راب‪ ،‬ال ف�ضل لعربي على عجمي‪ ،‬وال‬ ‫(الأنعام‪ .)35:‬ولو �شاء ربنا �أن يجعل كل النا�س م�ؤمنني‬
‫لعجمي على عربي �إال بالتقوى �إن �أكرمكم عند اهلل‬ ‫مهديني مطيعني له‪ ،‬جلعلهم على �صورة �أخ��رى‪ ،‬كما خلق‬
‫�أتقاكم» (رواه �أحمد) وهو تقرير وت�أكيد ملا جاء يف الآية‬ ‫ون ال َّل ْي َل‬ ‫املالئكة مفطورين على طاعته وعبادته « ُي َ�س ِّب ُح َ‬
‫ون ا َما‬ ‫َ‬ ‫للهَّ‬ ‫ُون» (الأنبياء‪« ،)20:‬لاَ َي ْع ُ�ص َ‬ ‫َوال َّن َها َر لاَ َي�� ْف�ُت�رُ َ‬
‫الكرمية من �سورة احلجرات « َيا �أَ ُّي َها الن ُ‬
‫َّا�س �إِنَّا خَ َل ْقنَا ُك ْم‬
‫�أَ َم َر ُه ْم َو َي ْف َع ُل َون َما ُي�ؤ َْم ُر َون» (التحرمي‪.)6:‬وما دام هذا‬
‫ِم ْن ذَ َكرٍ َو�أُ ْن َثى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُ�ش ُعوب ًا َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َرفُوا �إِ َّن َ�أ ْك َر َم ُك ْم‬
‫ِعن َْد اللهَّ ِ �أَ ْتقَا ُك ْم �إِ َّن اللهَّ َ َع ِلي ٌم خَ ِب ٌري» (احلجرات‪.)13:‬‬ ‫االختالف الديني واقع ًا مب�شيئة اهلل �سبحانه‪ ،‬فمن ذا‬
‫ال��ذي يقف �ضد م�شيئة اهلل؟ ومن ال��ذي يفكر يف حمو‬
‫‪70‬‬
‫ومن الأحاديث ال�صحيحة التي لها داللة‪ :‬ما رواه ال�شيخان‬ ‫فاملراد بالذكر والأنثى يف الآي��ة‪� :‬آدم وح��واء‪ ،‬وهما �أبوا‬
‫�أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مروا عليه بجنازة‪ ،‬فقام‬ ‫الب�شر‪ .‬وي�ست�أن�س لهذا مبا جاء يف احلديث الذي رواه‬
‫لها واقف ًا‪� ،‬إكرام ًا للميت‪ ،‬فقال له ال�صحابة‪ :‬يا ر�سول‬ ‫�أحمد و�أب��و داود عن زيد بن �أرق��م و�إن كان يف �إ�سناده‬
‫اهلل؛ �إنها جنازة يهودي! (يريدون �أنها ليهودي �أي �أنها‬ ‫�ضعف �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان يقول دبر كل‬
‫لي�ست جنازة م�سلم) فقال �صلى اهلل عليه و�سلم‪ -‬وما‬ ‫�صالة‪« :‬اللهم ربنا ورب كل �شيء ومليكه‪� ،‬أنا �شهيد �أنك‬
‫�أروع ما قال‪�« : -‬ألي�ست نف�س ًا؟! (متفق عليه)‪ .‬فما �أروع‬ ‫وحدك ال �شريك لك‪ ،‬اللهم ربنا ورب كل �شيء ومليكه‪،‬‬
‫املوقف املحمدي‪ ،‬وما �أروع التف�سري والتعليل؛ «�ألي�ست‬ ‫�أنا �شهيد �أن حممد ًا عبدك ور�سولك‪ ،‬اللهم ربنا ورب كل‬
‫نف�س ًا؟!» بلى �إنها نف�س �إن�سانية‪ ،‬ولكل نف�س يف الإ�سالم‬ ‫�شيء ومليكه؛ �أنا �شهيد �أن العباد كلهم �أخوة»‪.‬‬
‫حرمة ومكانة‪ .‬وهذا على الرغم مما وقع من اليهود من‬ ‫وقد �أثبت القر�آن �أن هناك �أخوة دينية بني �أهل الإميان �أو‬
‫الإ�ساءات الكثرية للر�سول ولأ�صحابه‪.‬‬ ‫�أهل الدين الواحد‪ ،‬كمــا قال تعاىل‪�ِ « :‬إنمَّ َا المْ ُ�ؤ ِْمن َ‬
‫ُون ِ�إخْ ـ ـ َوةٌ»‬
‫‪ - 6‬الرب والق�سط للم�ساملني من غري امل�سلمني‬ ‫(احلجرات‪ :‬من الآية‪َ « ،)10‬ف�أَ ْ�ص َب ْح ُتـ ـ ْـم ِب ِن ْع َم ِت ِه �إِخْ َوان ًا»‬
‫والركيزة ال�ساد�سة‪� :‬إق��رار التعامل بالرب والق�سط مع‬ ‫(�آل عمران‪ :‬من الآية‪ .)103‬كما �أثبت �أن هناك �أخوة‬
‫امل�ساملني من غري امل�سلمني‪ ،‬وهو ما �سجلتُه يف �أول كتاب‬ ‫قومية ووطنية‪ ،‬كالتي �أثبتها بني الر�سل و�أقوامهم املكذبني‬
‫يل دخلت به ميدان الت�أليف العلمي‪ ،‬وهو كتاب (احلالل‬ ‫لهم « َو�إِلىَ َع ٍاد �أَخَ ُاه ْم ُهود ًا» (الأعراف‪ :‬من الآية‪،)65‬‬
‫واحل��رام يف الإ���س�لام) منذ ما يقرب من ن�صف قرن‬ ‫«�إِلىَ َث ُمو َد �أَخَ ُاه ْم َ�صالحِ ًا» (النمل‪ :‬من الآية‪ .)45‬والأخوة‬
‫من الزمان‪ .‬فقد ذكرت يف ف�صل (عالقة امل�سلم بغري‬ ‫هنا قطع ًا لي�ست دينية‪ ،‬و�إمنا هي �أخوة قومية‪ ،‬ولهذا كان‬
‫امل�سلم) ما يلي‪� :‬إذا �أردن��ا �أن جنمل تعليمات الإ�سالم‬ ‫يبد�أ كل ر�سول من ه�ؤالء نداءه بقوله‪َ « :‬يا َق ْو ِم ْاع ُب ُدوا اللهَّ َ‬
‫يف معاملة املخالفني له ‪ -‬يف �ضوء ما يحل وما يحرم‪-‬‬ ‫َما َل ُك ْم ِم ْن �إِ َل ٍه غَ يرْ ُ ُه» (الأعراف‪ :‬من الآية‪ .)59‬فال غرو‬
‫فح�سبنا �آيتان من كتاب اهلل‪ ،‬جديرتان �أن تكونا د�ستور ًا اخليبة‬ ‫�أن تكون هناك �أخوة �إن�سانية �آدمية بحكم االنت�ساب �إىل‬
‫جامع ًا يف هذا ال�ش�أن‪ .‬وهما قوله تعاىل‪« :‬ال َي ْن َها ُك ُم اللهَّ ُ والإخفاق‬ ‫�آدم �أبي الب�شر‪ ،‬ومن هنا نودوا جميعا بقوله تعاىل‪َ « :‬يا‬
‫الدينِ َولمَ ْ ُيخْ رِ ُجو ُك ْم ِم ْن ِد َيا ِر ُك ْم‬ ‫ين لمَ ْ ُيقَا ِت ُلو ُك ْم فيِ ِّ‬ ‫َعنِ ال َِّذ َ‬ ‫َب ِني �آ َد َم َ» يف القر�آن خم�س مرات‪.‬‬
‫م�صري‬ ‫وه ْم َو ُتق ِْ�س ُطوا ِ�إ َل ْيهِ ْم ِ�إ َّن اللهَّ َ ُي ِح ُّب المْ ُق ِْ�س ِط َني‪�ِ ،‬إنمَّ َا‬ ‫�أَ ْن َتبرَ ُّ ُ‬ ‫‪- 5‬تكرمي الإن�سان لإن�سانيته وحدها‬
‫من يفكر يف‬ ‫َ‬
‫الدينِ َو�أخْ َر ُجو ُك ْم ِم ْن‬ ‫ين قَا َت ُلو ُك ْم فيِ ِّ‬
‫َ‬
‫ُ‬ ‫للهَّ‬
‫َي ْن َها ُك ُم ا َعنِ ال َِّذ َ‬ ‫والركيزة اخلام�سة للت�سامح يف الإ���س�لام‪ :‬هي تكرمي‬
‫ِد َيا ِر ُك ْم َو َظ َاه ُروا َع َلى �إِخْ َراجِ ك ْم �أ ْن َت َول ْو ُه ْم َو َم ْ��ن َي َت َول ُه ْم‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الإن�سان من حيث هو �إن�سان‪ ،‬بغ�ض النظر عن لون ب�شرته‬
‫حمو الأديان‬ ‫الظالمِ ُ َون» (املمتحنة‪ .)9-8:‬فالآية الأوىل مل‬ ‫َف�أُو َل ِئ َك ُه ُم َّ‬ ‫�أو لون عينيه‪� ،‬أو �صبغة �شعره‪� ،‬أو �شكل �أنفه �أو وجهه‪،‬‬
‫�إال دينه‬ ‫ترغب يف العدل والإق�ساط فح�سب �إىل غري امل�سلمني‬ ‫�أو بالنظر �إىل لغته �أو �إقليمه الذي يعي�ش فيه‪� ،‬أو عرقه‬
‫الذين مل يقاتلوا امل�سلمني يف الدين‪ ،‬ومل يخرجوهم من‬ ‫الذي ينتمي �إليه‪� ،‬أو طبقته االجتماعية التي ينت�سب – �أو‬
‫ديارهم ‪� -‬أي �أولئك الذين ال حرب وال عداوة بينهم وبني‬ ‫ين�سبه النا�س‪� -‬إليها‪� ،‬أو حتى دينه الذي يعتنقه وي�ؤمن‬
‫امل�سلمني‪ -‬بل رغبت الآي��ة يف برهم والإق�ساط �إليهم‪.‬‬ ‫به‪.‬‬
‫والرب كلمة جامعة ملعاين اخلري والتو�سع فيه‪ ،‬فهو �أمر‬ ‫وذل��ك �أن �أ�سا�س التكرمي يف نظر القر�آن هو‪ :‬الآدمية‬
‫فوق العدل‪ .‬وهي الكلمة التي يعرب بها امل�سلمون عن �أوجب‬ ‫ذاتها‪ ،‬كما قال تعاىل « َو َلق َْد َك َّر ْمنَا َب ِني �آ َد َم َو َح َم ْلن ُ‬
‫َاه ْم‬
‫احلقوق الب�شرية عليهم‪ ،‬وذلك هو (ب ُّر) الوالدين‪ .‬و�إمنا‬ ‫َاه ْم َع َلى‬ ‫ات َوف ََّ�ض ْلن ُ‬ ‫َاه ْم ِم َن َّ‬
‫الط ِّي َب ِ‬ ‫فيِ ا ْل�َب�رَ ِّ َوا ْل َب ْحرِ َو َر َز ْقن ُ‬
‫قلنا‪� :‬إن الآية رغبت يف ذلك لقوله تعاىل‪�« :‬إِ َّن اللهَّ َ ُي ِح ُّب‬ ‫َك ِث ٍري ممِ َّ ْن خَ َل ْقنَا َتف ِْ�ضي ًال» (الإ�سراء‪ . )70:‬وقال تعاىل‪:‬‬
‫المْ ُق ِْ�س ِط َني» وامل�ؤمن ي�سعى دائم ًا �إىل حتقيق ما يحبه اهلل‪.‬‬ ‫« َلق َْد خَ َل ْقنَا ال َإن�س َان فيِ �أَ ْح َ�سنِ َت ْق ِو ٍمي» (التني‪ .)4:‬وقال‬
‫وال ينفي معنى الرتغيب والطلب يف الآي��ة‪� :‬أنها جاءت‬ ‫�سبحانه‪« :‬ال َّر ْح َم ُن َع َّل َم ا ْل ُق ْر� َآن خَ َلقَ ال َ‬
‫إن�س َان َع َّل َم ُه ا ْل َب َي َان»‬
‫بلفظ «ال َي ْن َها ُك ُم اللهَّ ُ » فهذا التعبري ق�صد به نفي ما كان‬ ‫(الرحمن‪ .)4-1:‬وقال يف �أول ما نزل من القر�آن‪« :‬ا ْق َر ْ أ�‬
‫عالق ًا بالأذهان ‪ -‬وما ي��زال‪� -‬أن املخالف يف الدين ال‬ ‫ن�س َان َما لمَ ْ َي ْع َل ْم»‬ ‫الَ ْك َر ُم‪ ،‬ال َِّذي َع َّل َم بِا ْل َق َل ِم‪َ ،‬ع َّل َم ْ إِ‬
‫ال َ‬ ‫َو َر ُّب َك ْ أ‬
‫ي�ستحق بر ًا وال ق�سط ًا‪ ،‬وال مودة وال ح�سن ع�شرة‪ .‬فبينّ‬ ‫(العلق‪ .)5-3 :‬وقال عز وجل « َو�إِذْ قَ��الَ َر ُّب َ��ك ِل ْل َم َال ِئ َك ِة‬
‫اهلل تعاىل �أنه ال ينهى امل�ؤمنني عن ذلك مع كل املخالفني‬ ‫���ض خَ ِلي َف ًة قَا ُلو ْا َ�أتجَ ْ َع ُل ِفي َها َمن ُيف ِْ�س ُد‬ ‫ِ�إنيِّ َج ِاع ٌل فيِ ا َلأ ْر ِ‬
‫لهم‪ ،‬بل مع املحاربني لهم‪ ،‬العادين عليهم‪.‬‬ ‫الد َماء َون َْح ُن ُن َ�س ِّب ُح ب َِح ْم ِد َك َو ُنق َِّد ُ�س َل َك قَالَ‬ ‫ِفي َها َو َي ْ�س ِف ُك ِّ‬
‫‪ - 7‬العداوات بني النا�س لي�ست �أمر ًا دائم ًا‬ ‫�إِنيِّ �أَ ْع َل ُم َما َال َت ْعل ُم َون» (البقرة‪ .)30:‬نعم عقد م�سابقة‬ ‫َ‬
‫وال��رك��ي��زة ال�سابعة‪ ،‬ال��ت��ي ق��رره��ا الإ����س�ل�ام‪ ،‬وع ّلمها‬ ‫بني �آدم واملالئكة‪ ،‬ظهر فيها ف�ضل �آدم �أبي الب�شر على‬
‫للم�سلمني‪ ،‬وغر�سها يف عقولهم و�ضمائرهم‪� :‬أن النا�س‬ ‫املالئكة الكرام‪ .‬ومن ثم �أمر الإ�سالم باحرتام الإن�سان‪،‬‬
‫قد يعادي بع�ضهم بع�ض ًا‪ ،‬لأ�سباب خمتلفة‪ ،‬دينية �أو‬ ‫فال يجوز �أن ي�ؤذى يف ح�ضرته‪� ،‬أو يهان يف غيبته‪ ،‬حتى‬
‫دنيوية‪ ،‬ولكن هذه العداوات – على حق كانت �أو على‬ ‫بكلمة يكرهها لو �سمعها‪ ،‬ولو كانت حقيقة يف نف�سها‪،‬‬
‫باطل‪ -‬ال ت��دوم �أب��د الدهر‪ ،‬فالقلوب تتغري‪ ،‬والأح��وال‬ ‫ولكنها ت���ؤذي��ه‪ ،‬وحتى بعد موته ال يذكر �إال بخري‪ ،‬وال‬
‫تتبدل‪ ،‬وعدو الأم�س قد ي�صبح �صديق اليوم‪ ،‬وبعيد اليوم‬ ‫يجوز �أن متتهن حرمة ج�سده حي ًا �أو ميت ًا‪ ،‬حتى جاء يف‬
‫قد ي�صبح قريب الغد‪ ،‬وه��ذه قاعدة مهمة يف عالقات‬ ‫احلديث‪« :‬ك�سر عظم امليت كك�سر عظم احل��ي» (رواه‬
‫النا�س بع�ضهم ببع�ض‪ ،‬فال ينبغي �أن ي�سرفوا يف العداوة‪،‬‬ ‫�أحمد و�أبو داود)‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫�إليه جمعية (�سانت جديو) وقد �شارك فيه كبار الكرادلة‪،‬‬ ‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫وك��ب��ار علماء امل�سلمني‪ .‬والقمة الإ�سالمية امل�سيحية‬ ‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫يف بر�شلونة (‪2003‬م) وم���ؤمت��ر احل���وار الإ�سالمي‪-‬‬
‫امل�سيحي مع الكنائ�س ال�شرقية خا�صة يف القاهرة‪ .‬ولكن‬
‫بعد كلمات بابا الفاتيكان (بندكت ال�ساد�س ع�شر) يف‬
‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ا‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫حما�ضرته ب�أملانيا (‪�12‬سبتمرب ‪ )2006‬التي �أ�ساء فيها‬ ‫العددق�ضية العدد‬ ‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫�إىل الإ�سالم ونبيه وعقيدته و�شريعته وح�ضارته توقف‬ ‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫احلوار بيننا وبني القوم؛ حتى يظهر موقف �آخر ميحو‬
‫حتى ال يبقوا لل�صلح مو�ضع ًا‪ ،‬وهذا ما نبه �إليه القر�آن الأذى ال�سابق‪.‬‬
‫‪� - 9‬أعلى درجات الت�سامح عند امل�سلمني وحدهم‬
‫امل�سلمني وال��رك��ي��زة التا�سعة‪� :‬أن امل�سلمني وح��ده��م ه��م الذين‬ ‫بو�ضوح بعد نهيه عن مواالة �أعداء اهلل و�أعداء‬
‫يف �أول �سورة املمتحنة‪ ،‬و�ضرب مث ًال ب�صالبة �‬
‫إبراهيم لهم �أعلى درج��ات الت�سامح الديني‪ .‬ذلك �أن الت�سامح‬
‫ون الديني والفكري له درج��ات ومراتب‪ ،‬فالدرجة الدنيا‬ ‫والذين معه �إذ قالوا لقومهم‪�« :‬إِنَّا ُب َر�آ ُء ِم ْن ُك ْم َوممِ َّ ا َت ْع ُب ُد َ‬
‫ِم ْن ُدونِ اللهَّ ِ َك َف ْرنَا ِب ُك ْم َو َب َدا َب ْي َننَا َو َب ْي َن ُك ُم ا ْل َع َدا َو ُة َوا ْل َبغ َْ�ضا ُء‬
‫قال من الت�سامح �أن تدع ملخالفك حرية دينه وعقيدته‪ ،‬وال‬ ‫�أَ َبد ًا َحتَّى ُت�ؤ ِْمنُوا بِاللهَّ ِ َو ْح َد ُه» (املمتحنة‪ .)4:‬بعد‬
‫هذام ْنهم جتربه بالقوة على اعتناق دينك �أو مذهبك‪ ،‬بحيث �إذا‬
‫فهذا �أبى حكمت عليه باملوت �أو العذاب �أو امل�صادرة �أو النفي‬ ‫ين َعا َد ْيتُم ِّ ُ‬ ‫«ع َ�سى اللهَّ ُ �أَن َي ْج َع َل َب ْي َن ُك ْم َو َبينْ َ ال َِّذ َ‬ ‫تعاىل‪َ :‬‬
‫َّم َ��و َّد ًة َوا قَدي ٌر َوا غَ فُو ٌر َّرحي ٌم» (املمتحنة‪.)7:‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫للهَّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫للهَّ‬
‫(ع�سى) �أو غري ذلك من �ألوان العقوبات واال�ضطهادات التي يقوم‬
‫بكلمةوالبغ�ضاء بها املتع�صبون �ضد خمالفيهم يف عقائدهم‪ ..‬فتدع له‬ ‫ال��رج��اء من اهلل �سبحانه ال��ذي ذك��ره‬
‫ميلأ القلوب �أم ًال بتغيري القلوب من‬
‫العداوةالقلوب‪ ،‬فهو حرية االعتقاد‪ ،‬ولكن ال متكنه من ممار�سة واجباته‬
‫علىملا م�ضى من الأحقاد الدينية التي تفر�ضها عليه عقيدته‪ ،‬واالمتناع مما يعتقد‬ ‫تغيري‬ ‫�إىل املودة واملحبة‪ ،‬واهلل قدير‬
‫الذي يقلبها كيف ي�شاء‪ ،‬واهلل غفور‬
‫ت�صفو قلوبهم‪ ،‬وال عجب حترميه عليه‪.‬‬
‫الذين وابغ�ض بغي�ضك هونا ما والدرجة الو�سطى من الت�سامح‪� :‬أن تدع له حق االعتقاد‬ ‫قولهم‪:‬‬
‫وال�ضغائن‪ ،‬رحيم بعباده‬
‫�أن ا�شتهر بني امل�سلمني‬
‫مبا يراه من ديانة ومذهب ثم ال ت�ضيق عليه برتك �أمر‬
‫يعتقد وجوبه �أو فعل �أمر يعتقد حرمته‪ .‬ف�إذا كان اليهودي‬ ‫ر�سول ع�سى �أن يكون حبيبك يوما ما»‪.‬‬
‫ً‬
‫الإ�سالم �أعلن ‪ - 8‬الدعوة �إىل احلوار بالتي هي �‬
‫أح�سنهي‪ :‬الدعوة �إىل يعتقد حرمة العمل يوم ال�سبت فال يجوز �أن يكلف بعمل‬ ‫والركيزة الثامنة للت�سامح الإ�سالمي‬
‫يف قوله تعاىل‪« :‬ادع يف هذا اليوم‪ .‬لأنه ال يفعله �إال وهو ي�شعر مبخالفة دينه‪.‬‬
‫��كلحْ َ �س َن ِة وجا ِد ْلهم بِا َّل ِتْ ُي و�إذا كان الن�صراين يعتقد بوجوب الذهاب �إىل الكني�سة‬ ‫وحدة الأ�سرة ح��وار املخالفني باحل�سنى‪ ،‬وذل‬
‫الب�شرية �إِ ِهلىِي �أَ َ�سحب�سِيلِن َر�إ ِّبنكر ِببا َك هكو َم�أَةع َ َولام ْوبمِعنظة َا�ض َّل َعن َ�سب َِي ِل ِه و ُهو َ�أع َلم يوم الأحد فال يجوز �أن مينع من ذلك يف هذا اليوم‪.‬‬
‫َ لحْ ِ ْ ِ لمْ َ ِ َ ِ‬
‫َ َ ََُ ْ ُ‬
‫واملوعظة وال��درج��ة التي تعلو ه��ذه يف الت�سامح �أال ن�ضيق على‬ ‫َ ْ َ ُ ِ َّ َ َّ ُ َ ْ ُ َ‬
‫‪،)125‬املوافقني‪ ،‬واجل���دال بالتي هي املخالفني فيما يعتقدون حله يف دينهم �أو مذهبهم‪ .‬و�إن‬
‫باحلكمة‬ ‫فالدعوة‬ ‫ِبالمْ ُ ْهت َِد َين» (النحل‪:‬‬
‫احل�سنة – غالب ًا‪-‬‬
‫مع املخالفني‪ .‬فامل�سلمون م�أمورون كنت تعتقد �أنه حرام يف دينك �أو مذهبك‪ .‬وهذا ما كان‬ ‫�أح�سن – غالب ًا ‪-‬‬
‫مع خمالفهم‪ ،‬بالطريقة التي هي عليه امل�سلمون مع املخالفني من �أهل الذمة‪� .‬إذ ارتفعوا‬
‫يجادلوا و�أقرب �إىل القبول من املخالف‪� .‬إىل ال��درج��ة العليا من الت�سامح‪ .‬فقد التزموا كل ما‬ ‫من ربهم �أن‬
‫أمثلهاأح�سن‪ ،‬هو‪ :‬احلوار الذي ندعو �إليه يعتقده غري امل�سلم �أنه حالل يف دينه‪ ،‬وو�سعوا له يف ذلك‪،‬‬ ‫�أح�سن الطرق‪� ،‬‬
‫بالتيلنا‪ ،‬وهو الذي ال ي�سعى �إىل �إيغار ال�صدور‪ ،‬ومل ي�ضيقوا عليه باملنع والتحرمي‪.‬‬ ‫�‬ ‫هي‬ ‫واجلدال‬
‫املخالفنيب�ين القلوب‪ ،‬و�إث���ارة م��ا ي�شعل الفتنة‪� ،‬أو ذلك لأن ال�شيء الذي يحله دين من الأديان لي�س فر�ض ًا‬ ‫مع‬
‫�أوي��ورث ال�ضغينة‪ ،‬بل يعمل على تقريب القلوب بع�ضها على �أتباعه �أن يفعلوه‪.‬‬ ‫املباعدة‬
‫لاَ ف�إذا كان دين املجو�سي يبيح له الزواج من �أمه �أو �أخته‬
‫الكتاب‪:‬ظ َل«مَووا فيمكنه �أن يتزوج من غريهما وال حرج‪ .‬و�إذا كان دين‬ ‫َ‬ ‫ين‬ ‫ِ‬
‫َّذ‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫من بع�ض‪ ،‬كما قال تعاىل يف جمادلة �أهل‬
‫َاب �إِلاَّ بِا َّل ِتي ِه َي �أَ ْح َ�س ُن �إِلاَّ‬ ‫تجُ َا ِد ُلوا �أَ ْه َل ال ِْكت ِ‬
‫اجلوامع الن�صراين يحل له �أكل اخلنزير‪ ،‬ف�إنه ي�ستطيع �أن يعي�ش‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫نقاط التمايز عمره دون �أن ي�أكل اخلنزير‪ ،‬ويف حلوم البقر والغنم‬ ‫ِم�� ْن�� ُه ْ��م» (العنكبوت‪ .)46:‬ف��الآي��ة تركز على‬
‫باحل�سنى‪ .‬وبهذا والطري مت�سع له‪ .‬ومثل ذلك اخلمر‪ ،‬ف���إذا كانت بع�ض‬ ‫امل�شرتكة التي ي�ؤمن بها الفريقان‪ ،‬ال على‬
‫احل��واراملتخالفني‪ ،‬وال يرى الكتب امل�سيحية قد جاءت ب�إباحتها �أو �إباحة القليل منها‬ ‫بني‬
‫واالختالف‪ ،‬وهذا من �أ�صول‬
‫احل��وار‬ ‫يرى الإ�سالم �ضرورة‬
‫بينهم‪ ،‬كما ادعى الكاتب اال�سرتاتيجي لإ�صالح املعدة‪ ،‬فلي�س من فرائ�ض امل�سيحية �أن ي�شرب‬ ‫حتمية ال�صراع‬
‫امل�سيحي اخلمر‪ .‬فلو �أن الإ�سالم قال للذميني‪ :‬دعوا زواج‬ ‫الأمريكي (�صمويل هانتينغتون)‪.‬‬
‫امل�سيحي منذ حوايل �أربعني املحارم‪ ،‬و�شرب اخلمر‪ ،‬و�أكل اخلنازير‪ ،‬مراعاة ل�شعور‬
‫إ�سالميإىل عهد قريب‪ ،‬وق��د �شاركت �إخوانكم امل�سلمني‪ ،‬مل يكن عليهم يف ذلك � ُّأي حرج ديني‪،‬‬ ‫ً‬
‫وقد بد�أ احلوار ال‬
‫لهذا� احل���وار‪ ،‬منها‪ :‬م�ؤمتر القمة لأنهم �إذا تركوا هذه الأ�شياء مل يرتكبوا يف دينهم منكر ًا‪،‬‬ ‫�سنة‪ ،‬ومل ي��زل م�ستمرا‬
‫ؤمتر يف روما (�أكتوبر‪ )2001‬الذي دعت وال �أخلوا بواجب مقد�س‪.‬‬ ‫يف �أك�ثر من م�‬
‫الإ�سالمية امل�سيحية‬
‫‪72‬‬
‫وروى �أبو عبيد يف (الأم��وال) عن �سعيد بن امل�سيب‪� :‬أن‬ ‫ومع هذا مل يقل الإ�سالم ذلك‪ ،‬ومل ي�ش�أ �أن ي�ضيق على‬
‫ر�سول اهلل ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬ت�صدق ب�صدقة على‬ ‫غري امل�سلمني يف �أم��ر يعتقدون حله‪ ،‬وق��ال للم�سلمني‪:‬‬
‫�أهل بيت من اليهود‪ ،‬فهي تجُ ْ َرى عليهم‪ .‬وروى البخاري‬ ‫اتركوهم وما يدينون‪.‬‬
‫عن �أن�س �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم عاد يهودي ًا‪،‬‬ ‫‪ - 10‬روح الت�سامح عند امل�سلمني‬
‫وعر�ض عليه الإ�سالم ف�أ�سلم‪ ،‬فخرج وهو يقول‪« :‬احلمد‬ ‫الركيزة العا�شرة للت�سامح الإ�سالمي تتجلى فيما ن�سميه‬
‫هلل الذي �أنقذه بي من النار»‪ .‬وروى البخاري �أي�ض ًا‪�« :‬أن‬ ‫«روح الت�سامح الديني» عند امل�سلمني‪ ،‬ذلك �أن هناك �شيئ ًا‬
‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم تويف ودرعه مرهونة عند‬ ‫ال يدخل يف نطاق احلقوق التي تنظمها القوانني‪ ،‬ويلزم‬
‫يهودي يف نفقة عياله»‪ ،‬وقد كان يف و�سعه �صلى اهلل عليه‬ ‫بها الق�ضاء‪ ،‬وت�شرف على تنفيذها احلكومات‪ .‬ذلك هو‬
‫و�سلم �أن ي�ستقر�ض من �أ�صحابه‪ ،‬وما كانوا ِل َي ِ�ضنُّوا عليه‬ ‫«روح ال�سماحة» التي تبدو يف ُح�سن املعا�شرة‪ ،‬ولطف‬
‫ب�شيء ولكنه �أراد �أن ُي َع ِّلم �أمته‪ .‬وقبل النبي �صلى اهلل‬ ‫املعاملة‪ ،‬ورعاية اجل��وار‪ ،‬و�سعة امل�شاعر الإن�سانية من‬
‫عليه و�سلم الهدايا من غري امل�سلمني‪ ،‬وا�ستعان يف �سلمه‬ ‫الرب والرحمة والإح�سان‪ .‬وهي الأمور التي حتتاج �إليها‬
‫وحربه بغري امل�سلمني‪ ،‬حيث �ضمن والءهم له‪.‬‬ ‫احلياة اليومية‪ ،‬وال يغني فيها قانون وال ق�ضاء‪ .‬وهذه‬
‫وتتجلى ه��ذه ال�سماحة ك��ذل��ك يف معاملة ال�صحابة‬ ‫ال��روح ال تكاد توجد يف غري املجتمع الإ�سالمي‪ .‬تتجلى‬
‫والتابعني لغري امل�سلمني‪.‬‬ ‫ه��ذه ال�سماحة يف مثل ق��ول ال��ق��ر�آن يف �ش�أن الوالدين‬
‫فعمر ي�أمر ب�صرف معا�ش دائم ليهودي وعياله من بيت‬ ‫امل�شركني اللذين يحاوالن �إخراج ابنهما من التوحيد �إىل‬
‫َات‬ ‫مال امل�سلمني‪ ،‬ثم يقول‪ :‬قال اهلل تعاىل‪�« :‬إِنمَّ َا َّ‬
‫ال�ص َدق ُ‬ ‫ال�شرك‪َ « :‬و َ�ص ِاح ْب ُه َما فيِ ال ُّد ْن َيا َم ْع ُروف ًا» (لقمان‪.)15 :‬‬
‫ِل ْل ُف َق َرا ِء َوالمْ َ َ�س ِاكنيِ» (�سورة التوبة‪ )60 :‬وهذا من م�ساكني‬ ‫ون‬ ‫ويف قول القر�آن ي�صف الأبرار من عباد اهلل‪َ « :‬و ُي ْط ِع ُم َ‬
‫�أهل الكتاب‪ .‬ومير يف رحلته �إىل ال�شام بقوم جمذومني‬ ‫الط َع َام َع َلى ُح ِّب ِه ِم ْ�س ِكين ًا َو َي ِتيم ًا َو�أَ ِ�سري ًا» (الإن�سان‪.)8:‬‬
‫َّ‬
‫م��ن ال��ن�����ص��ارى ف��ي���أم��ر مب�ساعدة اجتماعية لهم من‬ ‫ومل يكن الأ�سري حني نزلت الآية �إال من امل�شركني‪ .‬ويف‬
‫بيت مال امل�سلمني‪ .‬و�أ�صيب عمر ب�ضربة رجل من �أهل‬ ‫قول القر�آن يجيب عن �شبهة بع�ض امل�سلمني يف م�شروعية‬
‫الذمة ـ �أبي ل�ؤل�ؤة املجو�سي ـ فلم مينعه ذلك �أن يو�صي‬ ‫الإنفاق على ذويهم وجريانهم من امل�شركني املُ ِ�ص ِّرين‪:‬‬
‫اخلليفة من بعده وهو على فرا�ش املوت فيقول‪« :‬و�أو�صيه‬ ‫ُون ِ�إ ّال ا ْب ِتغَا َء‬
‫َل ْنف ُِ�س ُك ْم َو َم��ا ُت ْن ِفق َ‬ ‫« َو َم��ا ُت ْن ِفقُوا ِم ْ��ن خَ �ْي�رْ ٍ ف ِ أَ‬
‫�أ�سا�س‬ ‫بذمة اهلل وذم��ة ر�سوله �صلى اهلل عليه و�سلم �أن يويف‬ ‫ون»‬‫َو ْج ِه اللهَّ ِ َو َما ُت ْن ِفقُوا ِم ْن خَ يرْ ٍ ُي َو َّف �إِ َل ْي ُك ْم َو�أ ْنت ُْم ال ت ُْظ َل ُم َ‬
‫َ‬
‫لهم بعهدهم و�أن يقاتل من وراءه��م و�أن ال يكلفوا فوق‬ ‫(البقرة‪ .)272:‬وقد روى حممد بن احل�سن �صاحب �أبي‬
‫التكرمي يف‬ ‫طاقتهم» (رواه البخاري)‪ .‬وعبد اهلل بن عمرو يو�صي‬ ‫حنيفة ومد ِّون مذهبه �أن النبي ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم‬
‫القر�آن هو‬ ‫غالمه �أن يعطي ج��اره اليهودي من الأ�ضحية‪ ،‬ويكرر‬
‫الو�صية مرة بعد مرة‪ ،‬حتى ده�ش الغالم‪ ،‬و�س�أله عن �سر‬
‫‪ -‬بعث �إىل �أهل مكة ما ًال ملا قحطوا ليوزع على فقرائهم‪.‬‬
‫هذا على الرغم مما قا�ساه من �أهل مكة من العنت والأذى‬
‫الآدمية ذاتها‬ ‫هذه العناية بجار يهودي‪ ،‬قال ابن عمرو‪� :‬إن النبي �صلى‬ ‫هو و�أ�صحابه‪ .‬وروى �أحمد وال�شيخان عن �أ�سماء بنت �أبي‬
‫اهلل عليه و�سلم ق��ال‪« :‬ما زال جربيل يو�صيني باجلار‬ ‫بكر قالت‪ :‬قدمت �أمي وهي م�شركة‪ ،‬يف عهد قري�ش �إذ‬
‫حتى ظننت �أنه �سيورثه» (رواه �أبو داود والرتمذي)‪.‬‬ ‫عاهدوا‪ ،‬ف�أتيت النبي ‪�-‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬فقلت‪ :‬يا‬
‫وماتت �أم احلارث بن �أبي ربيعة وهي ن�صرانية‪ ،‬ف�شيعها‬ ‫ر�سول اهلل‪� ،‬إن �أمي قدمت وهي راغبة‪� ،‬أفـ� ِأ�صلها؟ قال‪:‬‬
‫�أ�صحاب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪( .‬رواه عبد‬ ‫«نعم‪�ِ ،‬صلي �أمك» (متفق عليه)‪.‬‬
‫الرزاق يف م�صنفه)‪ .‬وكان بع�ض �أجالء التابعني يعطون‬ ‫ويف قول القر�آن يبني �أدب املجادلة مع املخالفني‪َ « :‬ولاَ‬
‫ن�صيب ًا من �صدقة الفطر لرهبان الن�صارى وال يرون يف‬ ‫َاب ِ�إلاَّ با َّل ِتي ِه َي �أَ ْح َ�س ُن ِ�إلاَّ ال َِّذ َ‬
‫ين َظ َل ُموا‬ ‫تجُ َا ِد ُلوا �أَ ْه َل ال ِْكت ِ‬
‫ذلك حرج ًا‪ .‬بل ذهب بع�ضهم ـ كعكرمة واب��ن �سريين‬ ‫ِم ْن ُه ْم» (العنكبوت‪ .)46:‬وتتجلى هذه ال�سماحة كذلك يف‬
‫والزهري ـ �إىل جواز �إعطائهم من الزكاة نف�سها‪ .‬وروى‬ ‫معاملة الر�سول ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬لأهل الكتاب‬
‫ابن �أبي �شيبة عم جابر بن زيد‪� :‬أنه ُ�سئل عن ال�صدقة‬ ‫يهود ًا كانوا �أو ن�صارى‪ ،‬فقد كان يزورهم ويكرمهم‪،‬‬
‫فيمن تو�ضع؟ فقال‪ :‬يف �أهل ملتكم من امل�سلمني‪ ،‬و�أهل‬ ‫ويح�سن �إليهم‪ ،‬ويعود مر�ضاهم‪ ،‬وي�أخذ منهم ويعطيهم‪.‬‬
‫ذمتهم‪ ...‬وذكر القا�ضي عيا�ض يف (ترتيب امل��دارك)‬ ‫ذك��ر اب��ن �إ�سحق يف ال�سرية �أن وف��د جن��ران ـ وه��م من‬
‫قال‪ :‬حدث الدارقطني �أن القا�ضي �إ�سماعيل بن �إ�سحاق‪،‬‬ ‫الن�صارى ـ ملا قدموا على الر�سول ‪� -‬صلى اهلل عليه‬
‫دخ��ل عليه الوزير عبدون بن �صاعد الن�صراين وزير‬ ‫و�سلم ‪ -‬باملدينة‪ ،‬دخ��ل��وا عليه م�سجده بعد الع�صر‪،‬‬
‫اخلليفة املعت�ضد باهلل العبا�سي‪ ،‬فقام له القا�ضي ورحب‬ ‫فكانت �صالتهم‪ ،‬فقاموا ي�صلون يف م�سجده‪ ،‬ف���أراد‬
‫به‪ .‬ف��ر�أى �إنكار ال�شهود لذلك‪ ،‬فلما خرج الوزير قال‬ ‫النا�س منعهم‪ ،‬فقال ر�سول اهلل ‪�-‬صلى اهلل عليه و�سلم‪ -‬‬
‫القا�ضي �إ�سماعيل‪ :‬قد علمت �إنكاركم‪ ،‬وق��د ق��ال اهلل‬ ‫‪« :‬دعوهم» فا�ستقبلوا امل�شرق ف�صلوا �صالتهم‪ .‬وعقب‬
‫تعاىل‪« :‬ال ينهاكم اهلل عن الذين مل يقاتلوكم يف الدين‬ ‫املجتهد ابن القيم على هذه الق�صة يف (الهدي النبوي)‬
‫ومل يخرجوكم من دياركم �أن تربوهم وتق�سطوا �إليهم �إن‬ ‫فذكر مما فيها من الفقه‪( :‬ج��واز دخ��ول �أه��ل الكتاب‬
‫اهلل يحب املق�سطني» (املمتحنة‪ .)8:‬وهذا الرجل يق�ضي‬ ‫م�ساجد امل�سلمني‪ ،‬ومتكني �أه��ل الكتاب من �صالتهم‬
‫حوائج امل�سلمني وهو �سفري بيننا وبني املعت�ضد‪ ....‬وهذا‬ ‫بح�ضرة امل�سلمني‪ ،‬ويف م�ساجدهم �أي�ض ًا‪� ،‬إذا كان ذلك‬
‫من الرب‪.‬‬ ‫عار�ض ًا‪ ،‬وال ميكنون من اعتياد ذلك)‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫ا ق�ضية‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬

‫�سكان‬
‫القواقع‬
‫حتتاج جمتمعاتنا املدنية هذه الأيام‪ ،‬كما يف‬
‫كل وقت‪� ،‬إىل الكثري من ثقافة الت�سامح‪.‬‬
‫والإن�سان يحتاج خ�صو�صاً �إىل ما لي�س‬
‫متوافراً عنده‪ ،‬لأنه ّ‬
‫يح�س باحلاجة �إليه‬
‫�إح�سا�ساً وا�ضحاً‪.‬‬
‫حداد‬
‫املطران غريغوار ّ‬
‫فهو ذلك الذي يقوم على قناعة مفادها �أننا جميع ًا‬ ‫رجل دين من لبنان‬
‫من امل�ستوى نف�سه‪ ،‬من الناحية الإن�سانية خ�صو�ص ًا‪،‬‬
‫و�أننا قادرون على اكت�شاف بع�ضنا بع�ض ًا‪ .‬يعني �أننا‬ ‫والت�سامح م�ستويان اثنان‪� ،‬أو فلنقل �إنه نوعان‪ :‬النوع‬
‫ن�ستطيع �أن نكت�شف وجوه االختالفات القائمة بيننا‪.‬‬ ‫الأول يكون عندما ُيقدم الإن�سان على �إظهار الت�سامح‬
‫وهذا �أمر مهم للغاية‪ .‬ولكن الأكرث �أهمية منه هو �أن‬ ‫مع �شخ�ص �آخر‪ ،‬انطالق ًا من اعتقاده ب�أنه �أف�ضل منه‬
‫نقبل االختالفات ونفهمها‪ ،‬ونتفهمها‪ ،‬ونتعامل مع‬ ‫و�أقوى‪ ،‬لذلك هو يت�سامح معه‪ .‬وهذا هو اخلطر بعينه‬
‫مظاهرها ومع نتائج ممار�ستها‪ ،‬بانفتاح وبا�ستعداد‬ ‫لأنه يتوهم ب�أنه قادر على التحكم بالآخر‪ ،‬وب�أن هذا‬
‫دائم للتحاور ولتبادل الر�أي‪ ،‬من دون ا�ستبعاد فكرة‬ ‫الآخر ركيك و�ضعيف ويحتاج �إىل من يتعامل معه‬
‫ارت�ضاء تبادل «التنازالت» من �أجل االلتقاء فوق‬ ‫بالت�سامح ليتمكن من احلياة‪ .‬بالت�أكيد هذا النوع‪،‬‬
‫�أر�ضية م�شرتكة وثابتة‪.‬‬ ‫الذي هو م�ساحمة ولي�س ت�ساحم ًا‪ ،‬لي�س �سمة من‬
‫وعلينا �أن ندرك �أن الت�سامح‪ ،‬يف �أيامنا احلالية‪ ،‬يبدو‬ ‫�سمات املجتمعات التي ن�صبو �إليها ونعمل على ن�شر‬
‫وك�أنه طوباوية ي�ستحيل الو�صول �إليها‪ .‬وهذا عائد �إىل‬ ‫ثقافتها و�إر�ساء قواعد تنظيمها‪.‬‬
‫�أن كال منا يرجع �إىل �أ�صوله و�إىل املجموعة الدينية �أو‬ ‫�أما النوع الثاين‪ ،‬وهو النوع ال�سامي على ما �أظن‬
‫‪74‬‬
‫وهذا �أمر �صعب التحقيق هذه الأيام لأن املجتمعات‬ ‫الطائفية �أو املذهبية التي هو فيها يف الوقت احلا�ضر‪.‬‬
‫التي نعي�ش فيها تت�ألف غالب ًا من �أ�شخا�ص مل يكن لهم‬ ‫هو يعتقد �أن هذا املوقع هو موقعه الطبيعي‪ ،‬و�أن قيم‬
‫حظ التد ّرب على القيم‪ .‬مما ي�ؤ ّدي �إىل �أن تقوم كل‬ ‫هذا املوقع هي بال�ضرورة قيمه‪ ،‬و�أن مكان انطالقه‬
‫عائلة على �أ�سا�س جمموعة �صغرية من القيم اخلا�صة‬ ‫الفعلي هو املكان الذي ينتمي �إليه بالأ�صول‪.‬‬
‫بها‪ ،‬ت�ستخدمها ك�أدوات قيا�س و�إطالق �أحكام مينة‬ ‫والوهم هو الذي يجعل �أ�صحاب هذه الفكرة يعتقدون‬
‫وي�سرة‪ ،‬من دون �أي تع ّمق فعلي يف املو�ضوع املطروح‪.‬‬ ‫�أنهم‪ ،‬ب�سبب قدرتهم‪ ،‬ي�ستطيعون �أن يت�ساحموا مع‬
‫لأجل هذا من ال�ضروري �أن تكون هناك جمموعة من‬ ‫الآخر و�أن يق ّدموا له بع�ض ًا من الكثري الذي عندهم‪.‬‬
‫النا�س الذين يتح ّلون بالوعي ليكت�شفوا معنى كل �أبعاد‬ ‫طبع ًا هناك الكثري من النماذج امل�شابهة من حولنا‪.‬‬
‫معادلة‪ :‬كل �إن�سان وكل الإن�سان‪ ،‬وحتاول �أن تعرث على‬ ‫ال بل رمبا كان هذا النوع من النا�س هو الطاغي يف‬
‫االختالفات التي ميكن �أن نقبل بها‪ ،‬وكذلك تهتدي‬ ‫املجتمعات حيث نعي�ش‪.‬‬
‫�إىل االختالفات التي ميكن �أن نقبل بها‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬رغم كل هذا‪ ،‬يبقى ال�س�ؤال الأ�سا�سي التايل‪� :‬إىل‬
‫�أي ح ّد ي�ستطيع الفرد منا �أن يخرج من «القوقعة» التي‬
‫اختالفات وقيم‬ ‫نعي�ش �ضمنها؟ وما املقايي�س التي جتعلنا قادرين على‬
‫اخلروج من �شرنقتنا من �أجل الو�صول �إىل الآخر؟‬
‫�أخت�صر و�أقول �إن االختالفات التي ميكن �أن نقبل بها‬ ‫هذا هو ال�س�ؤال الكبري الذي ال ب ّد من الإجابة عنه‪،‬‬
‫هي تلك التي ال ت�ؤثر على تلك القيم �سلبي ًا‪ ،‬ال بل هي‬ ‫والت�ص ّرف على �أ�سا�سه �إذا كنا راغبني فع ًال يف‬
‫حتافظ عليها‪� .‬أما تلك التي ال ميكنني �أن �أقبل بها‬ ‫االرتفاع �إىل م�ستوى املبادئ الإن�سانية ال�صافية التي‬
‫فهي تلك التي تنتهك تلك القيم وال حتافظ عليها‬ ‫ندعو �إليها‪.‬‬
‫حقوق‬ ‫�أبد ًا‪.‬‬
‫الإن�سان‬ ‫مث ًال هناك عند البع�ض من غري الواعني‪ ،‬عدد من‬ ‫املرجعية �إن�سانية‬
‫االختالفات التي جتعلهم يقولون‪ :‬هذا الإن�سان‬
‫و(املر�أة)‬ ‫خمتلف عني وال ميكنني القبول به‪ ،‬لذلك ال ب ّد من‬ ‫واالنطالقة يف هذا االجتاه �إما �أن تكون دينية و�إما �أن‬
‫�إزاحته والتخل�ص منه‪� ،‬أو يف �أ�ضعف الإميان حماربته‬ ‫تكون �إن�سانية‪� ،‬أو حتى علمانية كما يتكاثر احلديث يف‬
‫�إحدى طرق‬ ‫�أو مقاطعته‪.‬‬ ‫�أيامنا احلالية‪.‬‬
‫تعميم ثقافة‬ ‫هنا يكون الت�سامح قد غاب كلي ًا عن ت�ص ّرفات هذا‬ ‫�أنا �شخ�صي ًا يهمني كثري ًا �أن �أنطلق من املنطلقات‬
‫الفريق‪ .‬غاب كمفهوم وكثقافة يفرت�ض �أن ت�شهد‬ ‫الإن�سانية – العلمانية لأننا نكون جميع ًا يف اخلندق‬
‫الت�سامح‬ ‫تطبيق ًا فعلي ًا لها يف احلياة اليومية ويف تعاملنا مع‬ ‫نف�سه ويف املعطيات �إياها‪ ،‬ونعمل كلنا يد ًا بيد من �أجل‬
‫الآخرين يف كل �ساعة‪.‬‬ ‫جمتمع م�شرتك‪ .‬هنا تتب ّدل املرجعية فال تعود دينية‬
‫�أو طائفية �أو مذهبية‪ ،‬بل هي مرجعية �إن�سانية بكل ما‬
‫اكت�شاف الت�سامح‬ ‫للكلمة من معنى‪.‬‬
‫يف ثقافة الت�سامح التي نحن ب�صددها ما معنى القول‬
‫البديل‪ ،‬حتى يف احلاالت املظلمة‪ ،‬هو �أن ن�ساعد هذا‬ ‫�إن املرجعية هي مرجعية �إن�سانية؟‬
‫«البع�ض» على �أن يكت�شف يف الآخر بع�ض النواحي‬ ‫يعني �أن الإن�سان قيمة‪ .‬قيمة مطلقة‪ .‬لذلك يجب �أن‬
‫الإيجابية التي ميكن التعامل معها والت�أ�سي�س عليها‬ ‫نعيد �إىل تلك القيمة كل ت�صرفاتنا التي ينبغي �أن‬
‫من �أجل قبوله والتعاطي معه على �أ�سا�س جمموعة‬ ‫نقي�سها على �أ�سا�س القيمة الإن�سانية لنتبينّ ما �إذا‬
‫القيم الإيجابية التي حت ّدثنا عنها‪ .‬حينها يكون‬ ‫كنا م�صيبني يف مواقفنا �أو خمطئني‪ .‬حينها يكون‬
‫الت�سامح قد بد�أ بالظهور فع ًال‪ ،‬و�أخذنا نكت�شف كيف‬ ‫للت�سامح معناه الفعلي والعميق‪.‬‬
‫ميكننا �أن نعي�ش مع ًا هذه القيم امل�شرتكة‪ ،‬و�أن نتطور‬ ‫قيمة الإن�سان احلقيقية واملطلقة تق�ضي ب�أن يكون‬
‫مع ًا‪ ،‬و�أن ن�ستخرج طرق ًا ميكن �أن ن�سلكها فتنت�شر من‬ ‫الفرد ميزان ًا وحمور ًا لكل ما يفكر فيه‪ .‬ف�إذا كان يريد‬
‫حولنا ثقافة الت�سامح احلقيقية‪.‬‬ ‫نت قوانني فعليه �أن يقول �إن هذا القانون هو‬ ‫�أن ي�س ّ‬
‫�أظن �أن اجلمعيات املدنية‪ ،‬وكذلك الأحزاب غري‬ ‫لكل �إن�سان‪ .‬و�إذا رغب يف �إقامة م�ؤ�س�سة ما فعليه �أن‬
‫الطائفية‪ ،‬وامل�ؤ�س�سات غري املذهبية التي ت�ؤمن بحقوق‬ ‫يفكر ب�أنه يقيم تلك امل�ؤ�س�سة لكل النا�س ولي�س لبع�ض‬
‫الإن�سان – كل �إن�سان وكل الإن�سان – وبحقوق املر�أة‪..‬‬ ‫النا�س‪ .‬هذا هو املبد�أ الذي نطرحه اليوم يف احلركة‬
‫هذه بع�ض من الطرق التي ميكن �أن ن�سلكها من �أجل‬ ‫االجتماعية – تيار املجتمع املدين‪ ،‬وقد ح ّولناه �إىل‬
‫تعميم ثقافة الت�سامح وعي�ش جتلياتها الفعلية من‬ ‫�شعار يقول‪ :‬نعمل لكل �إن�سان ولكل الإن�سان‪« .‬كل‬
‫خالل عالقتنا بالآخرين‪.‬‬ ‫�إن�سان» هو اجلزء الذي يرتبط بثقافة الت�سامح كما‬
‫يجب �أن نعرتف ب�أن كل هذه املبادئ العليا ال ت�شهد‬ ‫�شرحت �سابق ًا‪� .‬أما «كل الإن�سان» فهذا عائد �إىل‬
‫تطبيقات كثيفة يف جمتمعاتنا‪ .‬ولكن هذا ال يعني �أنه‬ ‫�إدراكنا ب�أن الإن�سان ج�سد ونف�س وروح‪ .‬وحني ن�أخذ‬
‫يجب �أن ن�ست�سلم‪ .‬على العك�س ال�صعوبات تزيدنا‬ ‫هذه اجلوانب بعني االعتبار يكون قد �أ�صبح الإن�سان‬
‫ت�صميم ًا على فعل كل ما هو ممكن للو�صول �إىل‬ ‫قيمة مطلقة‪ .‬فالإن�سان ال يكون �إن�سان ًا كام ًال �إال �إذا‬
‫الت�سامح!‬ ‫تكاملت فيه هذه اجلوانب الثالثة‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ا‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫يف البداية يجب �أن نعرتف ب�أن الت�سامح يف الأديان لي�س‬ ‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫قيمة عبثية �أتت عن طريق امل�صادفة‪� ،‬أو هو قيمة ثانوية‬
‫ميكننا �أن ن�أخذ بها �أو ال ن�أخذ‪ ،‬بل هو قيمة �أ�صلية وثابتة‬
‫يف كل الأديان ال�سماوية‪ ،‬بل �إننا ال نبالغ لو قلنا �إنه قيمة‬
‫وجودية‪ ،‬ووجوده يف احلياة �ضروري �ضرورة الوجود‬
‫نف�سه‪ ،‬ولقد �أثبتت ذلك كل الكتب ال�سماوية ومنها القر�آن‬
‫الكرمي يف قوله تعاىل «ي�أيها النا�س �إنا خلقناكم من ذكر‬
‫و�أنثى وجعلناكم �شعوبا وقبائل لتعارفوا» فلقد �أثبتت‬
‫هذه الآية مبا ال يدع جما ًال لل�شك �أن الهدف الأ�سمى من‬
‫اخللق هو التعارف بني الب�شر من �أجل التكاتف لعمران‬
‫الأر�ض‪ ،‬وهذا التعارف والتكاتف يلزمه وجود الت�سامح‪،‬‬
‫والإن�سان بطبعه ال تتحقق حياته وال ينبني كيانه وال‬
‫تكتمل ذاته وال يكت�سب ما ي�صبو �إليه من قدرات �إال‬
‫داخل و�سط اجتماعي مت�شابك‪ ،‬فيه اخلري وال�شر‪ ،‬وفيه‬
‫احلب والبغ�ض‪ ،‬والتجان�س والتنافر‪ ،‬وفيه الأنا والأنا‬

‫ال�سنة‬
‫الآخر‪ ،‬ومن بني كل هذه املتناق�ضات تبدو قيمة الت�سامح‬
‫باعتبارها القيمة الأ�سمى مكانة‪ ،‬والأرفع �ش�أنا‪.‬‬

‫ُّ‬
‫الكونية‬
‫د‪ .‬منى مكرم عبيد‬
‫كاتبة من م�صر‬
‫‪76‬‬
‫فكرة‬
‫الت�سامح‬
‫ب�سيطة‬
‫و�شفافة يف‬
‫ح�ضورها‪..‬‬
‫كارثية‬
‫وقاتلة يف‬
‫غيابها‬

‫خطابات‬
‫املقد�س‬
‫ّ‬ ‫ت�شوه‬
‫وتغتال العقل‬
‫وت�صادر‬
‫احلرية‬

‫‪77‬‬
‫الو�صاية «كل ما تكره �أن يفعله غريك بك ف�إياك �أن‬ ‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫تفعله �أنت بغريك» ويف مو�ضع �آخر «اغت�سلوا وتطهروا‬
‫و�أزيلوا �شرور �أفكاركم – وكفوا عن الإ�ساءة وتعلموا‬ ‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫الإح�سان والتم�سوا الإن�صاف»‪.‬‬
‫وهكذا بات وا�ضح ًا �أن الت�سامح الديني مطلب �إن�ساين‬
‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ا‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫نبيل دعت �إليه كل الأديان دون ا�ستثناء‪ ،‬وكيف ال تدعو‬ ‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫�إليه وقد �أرادته احلكمة الإلهية واقت�ضته الفطرة‬ ‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫الإن�سانية وا�ستوجبته الن�ش�أة االجتماعية وفر�ضته‬
‫املجتمعات املدنية‪ .‬والت�سامح لغة متعارف عليها يف‬
‫جميع الأديان واملذاهب‪.‬‬ ‫وقيمة الت�سامح الديني تتمثل يف كونه ي�ؤكد على‬ ‫معارك‬
‫وقيمة الت�سامح الديني تتمثل يف كونه يقت�ضي امل�ساواة‬ ‫االحرتام املتبادل بني �أ�صحاب الديانات املختلفة‪،‬‬
‫يف احلقوق من حيث �إنه يقت�ضي الت�سليم املطلق اعتقاد ًا‬ ‫وهو حجر الزاوية املتني الذي تبنى عليه العالقات‬ ‫املتدينني‬
‫و�سلوك ًا وممار�سة‪ ،‬ب�أنه �إذا كان له�ؤالء وجود فلأولئك‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬وهو ال يعني �أنك حترتم دينك ومعتقداتك‬ ‫مع �أنف�سهم‬
‫وجود‪ ،‬و�إذا كان له�ؤالء دين له حرمته فلأولئك دين‬ ‫اخلا�صة بك فقط‪ ،‬بل يفر�ض عليك احرتام وتقدير‬
‫له احلرمة نف�سها‪ ،‬و�إذا كان له�ؤالء خ�صو�صية ثقافية‬ ‫املعتقدات الأخرى وعدم ت�شويهها واحتقارها‪،‬‬ ‫أ�شد‬
‫� ّ‬
‫فالديانات ال�سماوية ح�صر ًا تدعو �إىل الت�سامح مع‬
‫ال تر�ضى االنتهاك‪ ،‬فلأولئك خ�صو�صية ثقافية ال‬
‫الآخر وهي جميع ًا ت�ستقي من منبع واحد‪ ،‬وهي جميعها‬ ‫�ضراوة من‬
‫تقبل امل�س �أبد ًا‪ .‬والت�سامح الديني �أر�ضية �أ�سا�سية‬
‫لبناء املجتمع املدين و�إر�ساء قواعده‪ ،‬فالتعددية‬ ‫تعترب النا�س �إخوة ال تفا�ضل بينهم من حيث ر�سائلهم‬ ‫معاركهم‬
‫ال�سماوية ودعواتهم‪ ،‬ومن حيث الإميان بهم وال�سري‬
‫والدميوقراطية وقبول الآخر وحرية املعتقد وتقدير‬
‫املواثيق الوطنية واحرتام �سيادة القانون كل هذه الأمور‬ ‫وفق ًا لتعليمهم‪ ،‬فلقد ورد يف العهد القدمي «�أن الرب‬ ‫مع غريهم‬
‫خيارات ا�سرتاتيجية وقيم �إن�سانية ال تقبل الرتا�ضي‬ ‫�إلهنا رب واحد ف�أحبب الرب �إلهك بكل قلبك وكل‬
‫وال التفريط وال امل�ساومة‪ ،‬وهذا يعني �أن الت�سامح عامل‬ ‫نف�سك وكل قدراتك» والقر�آن الكرمي يقول‪« :‬قولوا �آمنا‬
‫�أ�سا�سي ال غنى عنه يف بناء املجتمع املدين‪ ،‬وهذا �أي�ض ًا‬ ‫باهلل وما �أنزل �إلينا وما �أنزل �إىل �إبراهيم و�إ�سماعيل‬
‫يقودنا �إىل �أن الت�سامح ي�ستوجب االحرتام املتبادل‬ ‫و�إ�سحاق ويعقوب والأ�سباط وما �أوتي مو�سى وعي�سى‬
‫والتقدير امل�شرتك‪.‬‬ ‫وما �أوتي النبيون من قبلهم ال نفرق بني �أحد منهم»‪.‬‬
‫ويقول ال�سيد امل�سيح «�أحبوا بع�ضكم بع�ضا كما �أحببتكم‬
‫غياب الت�سامح كارثة‬ ‫و�أحبوا �أعداءكم و�أح�سنوا �إىل مبغ�ضيكم» ويقول القر�آن‬
‫يف مو�ضع �آخر «�إن تعفوا وت�صفحوا وتغفروا ف�إن اهلل‬
‫و�إذا كانت فكرة الت�سامح ب�سيطة و�شفافة يف ح�ضورها‪،‬‬ ‫غفور رحيم»‪ .‬وهذه الآية تعني �أن اهلل مت�سامح وغفور‬
‫ف�إنها كارثية وقاتلة يف غيابها لأن غياب الت�سامح يعني‬ ‫مع الذين ي�ساحمون ويغفرون للمخطئني بحقهم‪.‬‬
‫انت�شار ظاهرة التع�صب والعنف و�سيادة عقلية التجرمي‬ ‫والت�سامح يف الأديان �أمر بديهي بحكم انتماء الأديان‬
‫يف ال�سلطة وخارجها من قبل جماعات التطرف‬ ‫�إىل ال�سماء‪ ،‬وهو ما يعني �أنها ال ت�أمر �إال باخلري واحلق‬
‫والت�شدد ومن قبل القوى الغا�شمة‪� ،‬إن وجود �أقوال من‬ ‫وال�صالح‪ ،‬وال تدعو �إال �إىل الرب والرحمة والإح�سان‪،‬‬
‫عينة «احلروب املقد�سة واحلروب ال�صليبية‪ ..‬نحن‬ ‫وال تو�صى �إال بالأمن وال�سلم وال�سالم‪ ،‬وما كانت يوم ًا‬
‫وحدنا على طريق احلق وغرينا فا�سد وكافر وملحد‬ ‫عائق ًا يف حد ذاتها �أمام التالحم والتبادل والتعاي�ش‬
‫وعلماين» كل هذه امل�صطلحات �ضد الت�سامح وتف�سده‬ ‫والتعارف والتحاور‪ ،‬و�إمنا العائق يف الذين يتوهمون‬
‫وحتل حمله الكره والعنف‪.‬‬ ‫�أنهم ميتلكون احلقيقة املطلقة وي�ستغلون الأديان يف‬
‫وحينما تغيب �شم�س الت�سامح ت�شرق �شمو�س احلروب‪،‬‬ ‫حتديد م�صائر النا�س‪ ،‬وال يوجد دين �سماوي ينفرد‬
‫وي�صبح الر�صا�ص بدي ًال عن احلوار‪ ،‬واخلراب والدمار‬ ‫دون غريه من الأديان باال�شتمال على مبادئ الت�سامح‪،‬‬
‫بدي ًال عن العمار‪.‬‬ ‫ولننظر �إىل هذه الآيات التي وردت يف القر�آن والإجنيل‬
‫لقد �أفادنا التاريخ ب�أن امل�سلمني قد انفتحوا �أيام‬ ‫والتوراة وكلها �شواهد على �أن الت�سامح عامل م�شرتك‬
‫عطائهم احل�ضاري وازدهارهم الثقايف على‬ ‫يف الديانات الثالث‪ .‬يقول الإجنيل «لقد قيل لكم من‬
‫معارف وعلوم وثقافات‪ ،‬وحر�صوا على �أن يفهموها‬ ‫قبل �أن ال�سن بال�سن والأنف بالأنف و�أنا �أقول لكم ال‬
‫وي�ستوعبوها وي�ستفيدوا منها‪ ،‬حتى �أن التاريخ ي�ؤكد‬ ‫تقاوموا ال�شر بال�شر‪ ،‬بل من �ضرب خدك الأمين فحول‬
‫�أنهم ما ا�ستطاعوا �أن يقيموا ح�ضارتهم التي �أقاموها‬ ‫�إليه اخلد الأي�سر ومن �أراد �أن يخا�صمك ويخلع رداءك‬
‫�إال بعد اطالعهم وا�ستفادتهم مما وجد لدى غريهم‪،‬‬ ‫فاترك له الرداء‪ ،‬ومن �سخرك لت�سري معه ميال ف�سر‬
‫وقد �شرع ذلك االنفتاح الكوين الذي �سلكوه الأبواب‬ ‫معه ميلني‪ ،‬ومن �س�ألك ف�أعطه‪ ،‬ومن �أراد �أن يقرت�ض‬
‫على م�صاريعها �أمام التعرف والتقارب والتبادل‬ ‫منك فال ترده» �إجنيل متى ‪ ،52‬العدد ‪ ،142 – 39‬وهنا‬
‫وعزز الأدوار الإيجابية الفعالة التي كانت ت�ؤديها تلك‬ ‫ينا�شد امل�سيح �أتباعه ب�أال يقاوموا ال�شر مبثله ويطلب‬
‫املناظرات التي كانت ت�ستقطب عرب «بيوت احلكمة‬ ‫منهم ال�سماحة ملن �أ�ساء �إليهم‪.‬‬
‫التي تناف�س �أولو الأمر يف ت�أ�سي�سها» العلماء من‬ ‫وكذلك تدعو اليهودية �إىل الت�سامح‪ ،‬ولننظر �إىل هذه‬
‫‪78‬‬
‫وتقودنا هذه املرحلة �إىل جدلية العالقة بني امل�سيحية‬ ‫خمتلف الأديان‪ ،‬وقد �أقبل امل�سلمون عليها بتلقائية‬
‫ال�شرقية وامل�سيحية الغربية والإ�سالم‪ ،‬وهي عالقة‬ ‫وق�صد‪ ،‬وقبلوا فيها �شرط االلتزام بعدم اال�ستدالل‬
‫موهت عنا�صرها و�شوهتها تاريخي ًا احلروب ال�صليبية‬ ‫على مقوالتهم ال بالكتاب وال بال�سنة‪ ،‬نزو ًال عند رغبة‬
‫ورواياتها‪.‬‬ ‫مناظريهم من اليهود والن�صارى وحتى من البوذيني‬
‫فامل�سيحية ال�شرقية حتاور الإ�سالم برحابة وقرابة‪،‬‬ ‫واملجو�س وغريهم‪ ،‬مت�سك ًا بالعقالنية وحتقيق ًا‬
‫تتخطى بكثري �إمكانية حوارها مع امل�سيحية الغربية‪،‬‬ ‫للمو�ضوعية وتطبيق ًا للمنهجية العلمية‪ .‬ولذلك البد‬
‫وامل�سيحي ال�شرقي يف بنيته الذهنية‪ ،‬ويف طريقة‬ ‫من الدعوة �إىل ت�ضامن املبادئ النبيلة للأديان‪ ،‬و�أن‬
‫مواجهته الفكرية والعملية للعامل‪ ،‬وللإميان �أقرب‬ ‫تتعاون جهود الثقافات الواعية القادرة على خلق فكر‬
‫�إىل امل�سلم منه �إىل امل�سيحي الغربي‪� .‬إن التاريخ الذي‬ ‫ح�ضاري يتوارى �أمامه كل خطاب ي�شوه املقد�س ويغتال‬
‫ازدهار‬ ‫�شهد مراحل قامتة يف تاريخ عالقات ال�شعوب املختلفة‬ ‫العقل وي�صادر احلرية ويجذب �إىل اخللف‪ ،‬ويعمل على‬
‫يف انتمائها الديني‪ ،‬عرف �أي�ضا مراحل م�ضيئة‬ ‫خلق عامل جديد خال من العن�صرية العرقية وبغ�ضاء‬
‫املرحلة‬ ‫تناقلت �إرث ًا طوي ًال ومنذ بدء الدعوة الإ�سالمية من‬ ‫التطاحن الديني وهو هدف كوين نبيل‪.‬‬
‫الأندل�سية‬ ‫التعاي�ش الإ�سالمي امل�سيحي‪ .‬هذا الإرث الذي تقا�سمه‬
‫امل�سيحيون وامل�سلمون يف ال�شرق حلقبات طويلة‪ ،‬كان‬ ‫الت�سامح بني امل�سيحية والإ�سالم‬
‫كان نتيجة‬ ‫ميتهن وي�شرذم عندما جتد ال�سلطة م�صلحة لها يف‬
‫للت�سامح‬ ‫العداء املتبادل بني �أتباع الديانتني‪.‬‬ ‫�إن تاريخ التقاء امل�سيحية بالإ�سالم تاريخ طويل‬
‫مت�شعب‪ ،‬تنوعت حمطاته بني الت�سامح والعنف‬
‫املتبادل‬ ‫عقبات �أمام الت�سامح‬ ‫والدمار واملودة والوقائع الكربى التي كتب التاريخ على‬
‫ال يبدو العامل يف بداية هذا القرن موقع ًا رحب ًا للت�ضامن بني الإ�سالم‬ ‫�إيقاعها‪ ،‬و�ضعت امل�سيحية والإ�سالم يف مواقع العراك‬
‫والعداوة‪ ،‬لأن التاريخ مل يكتب �إال على �ضجيج املعارك‬
‫والت�سامح يف ظل ح�ساب توازنات القوى املقبلة بني وامل�سيحية‬ ‫ومعادالت الغلبة‪ ،‬لذا قيل �إن ال�شعوب الهانئة لي�س لها‬
‫عوملة كا�سحة وفقر متعاظم و�إرهاب مفاجئ وحروب‬ ‫تاريخ‪ ،‬ولكن يغيب عن �أذهاننا �أن املعارك التاريخية‬
‫�أثنية وتوازن دويل ظامل وحماوالت �سيطرة لقوى عاملية‬ ‫التي جرت بني امل�سيحيني �أنف�سهم وبني امل�سلمني‬
‫ت�ستعيد حلم الإمرباطوريات القدمية‪.‬‬ ‫�أنف�سهم كانت �أق�سى و�أ�شد �ضراوة من املعارك التي‬
‫تبدو امل�شكلة الآن بني عاملني ال بني دينني‪ ،‬بني العامل‬ ‫جرت تاريخي ًا بني امل�سيحيني وامل�سلمني‪ ،‬وهما ينتميان‬
‫الغربي والعامل الإ�سالمي‪ ،‬وتتعمق امل�شكلة عندما‬ ‫�إىل دينني خمتلفني‪ ،‬مما يثبت �أن املعارك ال ت�شتعل‬
‫حتاول احل�ضارة الغربية �أو الأقوى ت�أكيد هيمنتها‬ ‫بال�ضرورة يف اختالف الأديان وال تقع �شرارتها الأوىل‬
‫وفر�ض مناذجها على العامل من خالل ال�سيطرة‬ ‫يف �سبيلها‪ ،‬وما منوذج احلربني العامليتني الأوىل‬
‫الكونية للعوملة‪ ،‬وتزداد املواقف تباعد ًا ب�سبب احلمالت‬ ‫والثانية علينا ببعيد‪.‬‬
‫الهادفة لت�شويه �صورة الإ�سالم يف الغرب ولربطه‬ ‫�إن احلروب التي جي�شت لها اجليو�ش حتت العناوين‬
‫بالعنف والإرهاب وت�صاعد �أحداث العنف الدموي‬ ‫الدينية الكبرية كانت �أبعد ما تكون عن حقيقة التعبري‬
‫التي تعك�س �شعارات دينية وتطيح ب�ضحايا �أبرياء‪،‬‬ ‫الديني يف �سموه الروحي‪ ،‬لأن العنف تعبري عن الرت�سب‬
‫بالإ�ضافة �إىل تنامي اخلطاب الديني التحري�ضي‬ ‫ال�سهل لع�صبية الدين‪ ،‬والت�سامح هو ح�صيلة الوعي‬
‫وال�سجايل لفظ ًا وترميز ًا مبا يوحي بانبعاث �أ�صوليات‬ ‫احلقيقي ال�صعب لر�سالة الدين ولندلل على ذلك بعدد‬
‫�إ�سالمية وم�سيحية يف ال�شرق والغرب‪ ،‬وا�ستخدام‬ ‫من الأمثلة‪ ،‬منها على �سبيل املثال ال احل�صر املرحلة‬
‫الدين للتناف�س ال�سيا�سي وبالتايل الو�صول �إىل ال�سلطة‬ ‫الأندل�سية‪ ،‬فهذه املرحلة مل تعرف ازدهار ًا يف ال�شعر‬
‫واال�ستئثار بها‪ .‬ومن العقبات التي تقف �أمام الت�سامح‬ ‫والأدب والهند�سة والفنون �إال نتيجة تالقي احل�ضارات‬
‫�أي�ضا غياب العدالة االجتماعية والإح�سا�س بالغنب‬ ‫والأديان‪ ،‬وت�شاركها يف رحابة وت�سامح بالرغم من‬
‫االجتماعي عند فئة دون غريها‪ ،‬ولذلك ف�إين �أرى �أن‬ ‫ت�صادم االختالف‪.‬‬
‫هناك جمموعة من اخلطوات الواجب اتخاذها من‬ ‫ومع �أن امل�سلمني دخلوا الأندل�س يف القرن التا�سع‬
‫�أجل زيادة م�ساحة الت�سامح وتنقيته من �أي �شوائب‬ ‫حاملني ح�ضارة خمتلفة ودين ًا خمتلف ًا ولغة خمتلفة‪،‬‬
‫ومنها‪:‬‬ ‫ومع �أن امل�سيحيني يف ا�ستعادتهم للأندل�س بنوا‬
‫‪� -1‬إبراز القيم الإيجابية عند الآخر وامل�ساعدة على‬ ‫كني�ستهم بالقوطية عنوة داخل �أعمدة جامع قرطبة‪،‬‬
‫تطويرها‪.‬‬ ‫�إال �أن املرحلة الأندل�سية ما جتلت كح�ضارة �إال نتيجة‬
‫‪ -2‬التمهيد حلوار متكافئ يرف�ض �أن يكون دعوة‬ ‫الت�سامح املتبادل بني الإ�سالم وامل�سيحية‪.‬‬
‫ويرف�ض �أن يكون تب�شري ًا‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة ملرحلة احلروب ال�صليبية‪ ،‬وهي العقبة‬
‫‪� -3‬إقامة م�ؤ�س�سات فاعلة للحوار امل�ستمر‪.‬‬ ‫الفكرية الكبرية يف فهم تاريخ القرون الو�سطى وعالقة‬
‫‪ -4‬التعرف على الآخر من خالل تعريفه هو لذاته‪.‬‬ ‫امل�سيحية بالإ�سالم‪ ،‬فعلينا نحن �أهل ال�شرق ا�ستعادة‬
‫‪ -5‬تعزيز االنتماء �إىل م�ؤ�س�سات املجتمع املدين وتفعيل‬ ‫قراءتها املت�أنية من م�صادرها املتقابلة‪ ،‬لك�سر هذا‬
‫املواطنة‪.‬‬ ‫الوهم الكبري واخللط بني الدعوة الدينية والأزمات‬
‫العمل الفني ‪ :‬فاحت املدرس ‪ -‬سورية‬
‫االقت�صادية واملعارك احلربية وال�سيطرة ال�سيا�سية‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫ا ق�ضية‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬

‫‪80‬‬
‫�أ�صبحت ح�ضارة الأمم ال تقا�س اليوم فقط‬
‫مبدى التقدّم العلمي والتقني الذي اكت�سبته‪،‬‬
‫بل �أي�ضاً مبدى قدرتها على اخلروج من‬
‫تقوقعها الذاتي‪ ،‬وقدرتها على ر�ؤية الآخر‬
‫املختلف‪ ،‬واالعرتاف له بكامل حقوقه وعلى‬
‫ر�أ�سها حق الوجود‪ ،‬وحق االختالف‪.‬‬
‫وهذه القدرة لي�ست ملكة معطاة‪ ،‬بقدر ما‬
‫هي مكت�سب فكري وح�ضاري يتم اختياره‬

‫املهمة‬
‫بالتدريج‪ ،‬بالتوازي مع الن�ضج الفكري‬
‫املتمثل يف حتجيم مظاهر الرنج�سية‬
‫الفكرية واجلماعية التي حتجب ر�ؤية الآخر‬

‫الع�سرية‬
‫كما هو‪ ،‬وتعوق عملية فهم وتفهم �أو�ضاعه‬
‫وخ�صو�صياته ودوافعه‪.‬‬

‫د‪ .‬حممد �سبيال‬


‫كاتب من املغرب‬

‫فقط‪ ،‬بل طالت كل م�ستويات الوجود االجتماعي يف‬ ‫و�إذا كانت الع�صور ال�سابقة من تاريخ الب�شرية قد‬
‫هذه البلدان‪ ،‬وبخا�صة منها العالقات بني النا�س‪ .‬فهذا‬ ‫ات�سمت بالعديد من احلروب وال�صراعات االثنية‪،‬‬
‫الطفح الدميغرايف يبز كل حماوالت التنمية‪ ،‬وي�ؤ ّدي �إىل‬ ‫واملذهبية والدينية‪ ،‬ناهيك عن ال�صراعات االقت�صادية‬
‫تزايد مظاهر ال�صراع من �أجل ك�سب لقمة العي�ش‪ ،‬كما‬ ‫وال�سيا�سية‪ ،‬ف�إنه من املفرت�ض اليوم ‪� -‬أمام التق ّدم‬
‫يقذف ب�شرائح كبرية من ال�سكان يف �أتون حياة يومية‬ ‫الهائل يف معرفة �أحوال خمتلف الأمم وال�شعوب‪،‬‬
‫تت�سم بالفو�ضى املعمارية‪ ،‬والتكد�س ال�سكني‪ ،‬وال�صراع‬ ‫وكذا التق ّدم الهائل الذي حققته الفل�سفة والعلوم‬
‫احلاد على اخلريات واخلدمات‪ ،‬مما يولد ذهنية �أو‬ ‫التع�صب يف‬
‫ّ‬ ‫الإن�سانية يف فهم �آليات ودوافع ومنطق‬
‫نف�سية قوامها عدم التهي�ؤ للت�سامح واحلوار‪ ،‬بل على‬ ‫خمتلف مظاهره وم�ستوياته‪� -‬أن تخطو كل ال�شعوب‬
‫النقي�ض من ذلك التهي�ؤ خلطاب العنف وممار�سات‬ ‫التع�صب العرقي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خطوة �إىل الأمام يف نبذ مظاهر‬
‫العنف واالحتجاج الناجتني عن الإحباط‪ .‬فالالت�سامح‬ ‫الفكري‪ ،‬الديني وال�سيا�سي‪ ،‬ويف ا�ستبدالها ب�آليات‬
‫هو املهاد اخل�صب للعنف‪ ،‬والت�سامح هو الطريق �إىل‬ ‫للحوار والتفاهم والإ�صغاء املتبادل‪ ،‬غري �أنه �إذا كانت‬
‫احلوار والتفاهم وال�سالم‪.‬‬ ‫الب�شرية قد حققت نظري ًا ومبدئي ًا‪ -‬بحكم التط ّور‬
‫املعريف‪� -‬إمكانيات �أكرب لفهم الآخر املختلف وتفهم‬
‫ت�سامح �أم ت�ساهل؟‬ ‫خ�صو�صياته يف الإدراك والفعل‪ ،‬ف�إن عوامل �أخرى قد‬
‫برزت و�شكلت الأر�ضية اخل�صبة ملمار�سة العنف و�أ�شكال‬
‫وهذه الو�ضعية اجلديدة تتطلب‪� -‬إ�ضافة �إىل التحوالت‬ ‫عدم الت�سامح‪ ،‬منها التق ّدم التقني يف اكت�شاف �أ�ضخم‬
‫االقت�صادية واالجتماعية‪ -‬تطوير ثقافة جديدة قوامها‬ ‫و�أدق و�سائل العنف وت�سويقها على نطاق وا�سع‪ ،‬ومنها‬
‫القبول بالتع ّدد واالختالف‪ ،‬واعتماد خطاب و�آلية‬ ‫ما ا�صطلح على ت�سميته بع�صاب احل�ضارة احلديثة‬
‫احلوار والتفاهم بدل الإق�صاء وال�صمم عن �سماع‬ ‫املتمثل يف مظاهر القلق والالمعنى التي تراود نف�سية‬
‫�صوت الآخر‪� .‬إال �أن الت�سامح لي�س جم ّرد فكرة �أو حالة‬ ‫الفرد �أو املجتمعات احلديثة‪ ،‬ومنها التفكك التدريجي‬
‫نف�سية نعتنقها عند �أول م�صادفة‪ ،‬ولي�ست جمرد موقف‬ ‫لآليات الت�ضامن والتعا�ضد الع�ضوي التي كان املجتمع‬
‫�سلبي يتمثل يف الالمباالة جتاه معتقدات الآخرين‪� ،‬أو‬ ‫التقليدي يوفرها للأفراد ويحميهم وي�ؤطرهم بها‪،‬‬
‫احللم �أو الت�ساهل الذي ينم عن درجة من االحتقار‪،‬‬ ‫�سواء تعلق الأمر مبظاهر الت�ضامن العائلي‪� ،‬أو القبلي‪،‬‬
‫�أو الرفق‪� ،‬أو االمتثال التعودي‪� ،‬أو ال�شفقة الأخالقية‪،‬‬ ‫�أو العرقي �أو غريها‪ ،‬ومنها �أخري ًا الظاهرة الأ�سا�سية‬
‫بل �إن الت�سامح يف معناه احلديث موقف �إيجابي يعني‬ ‫التي تق�ض م�ضاجع املجتمعات احلديثة‪ ،‬وهي ظاهرة‬
‫املوافقة وامل�صادقة والتقبل الواعي واالختيار الإرادي‪.‬‬ ‫التفاوت احل�ضاري وما ينتج عنها من فقر وغنب‪ .‬فقد‬
‫وبالتايل فهو موقف يتطلب عناء ومراجعة للرنج�سية‬ ‫عرفت املجتمعات التي هي يف طريق النمو طفرات‬
‫الذاتية الفردية واجلماعية وممار�سة نقد ذاتي جتاه‬ ‫دميغرافية كا�سحة مل تكتف بتغيري امل�شهد املعماري‬
‫‪81‬‬
‫الآدميني الوارد �ضمن الأحكام ال�سلطانية للماوردي‬ ‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫(تويف �سنة ‪450‬هـ)‪ ،‬ور�سالة حممد ح�سني النجفي‬ ‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫النائيني �سنة ‪ ،1909‬وجمموعة مواثيق حقوق الإن�سان‬
‫يف الإ�سالم التي �صدرت يف نهاية القرن الع�شرين‪.‬‬
‫(غامن جواد‪ :‬مراحل تطور وثائق حقوق الإن�سان يف‬
‫العدد‬ ‫ا ق�ضية‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫الثقافة الإ�سالمية‪ ،‬بحث قدم لندوة جمموعات منظمة‬ ‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫العفو الدولية‪ ،‬الرباط‪ ،‬فرباير ‪.)2000‬‬ ‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫علم احلوار‬
‫الثقافة الذاتية واملن�شطات الأيديولوجية التي يجد‬
‫كما �أن الرتاث العربي الإ�سالمي غني ب�أدبيات احلوار‬ ‫املرء نف�سه واقع ًا فيها‪ .‬والت�سامح يف معناه احلديث‬
‫واملناظرة‪ .‬بل �إن يف هذا الرتاث علم ًا كام ًال للحوار‬ ‫لي�س فقط حماولة للخروج من الذات لر�ؤية الآخر يف‬
‫وللمناظرة‪ ،‬وقامو�س ًا غني ًا مادته املجادلة واملخاطبة‬ ‫مت ّيزه واختالفه‪ ،‬بل �إنه يتطلب جهد ًا فكري ًا وت�سلح ًا‬
‫واملناق�شة واملنازعة واملجال�سة واملذاكرة واملطارحة‬ ‫ثقافي ًا بالثقافة احلديثة (ثقافة احلداثة) ثقافة احلق‬
‫وامل�ساجلة واملداولة واملناق�ضة �سواء داخل الثقافة‬ ‫وامل�ساواة‪� ،‬إ�ضافة �إىل مراجعة نقدية للرتاث الثقايف‬
‫العربية الإ�سالمية �أي بني الفرق املختلفة‪� ،‬أو بينها وبني‬ ‫التقليدي بهدف ت�أويله وتكييفه مع معطيات ثقافة‬
‫الثقافات الأخرى‪.‬‬ ‫احلداثة الفكرية‪.‬‬
‫هناك اليوم �ضرورة ق�صوى لإحياء هذا الرتاث‬ ‫ثقافة الت�سامح هذه ال تعدم جذور ًا �سواء يف تراثنا‬
‫الثقايف املمتلئ بالعديد من القيم اخليرّ ة واجلميلة‪� ،‬أو‬
‫وتطويره ليكون �سند ًا ثقافي ًا لإنعا�ش ثقافة احلوار التي‬
‫يف الثقافة احلديثة ذاتها التي نظمت مقولة الت�سامح‪،‬‬ ‫يجب مراجعة‬
‫يفر�ضها علينا الع�صر احلديث الذي يطلق عليه ع�صر‬
‫التوا�صل‪.‬‬ ‫و�أدجمتها يف القوانني وامل�ؤ�س�سات احلديثة‪.‬‬ ‫الرتاث‬
‫‪� - 2‬إن كل ثقافة ت�شهد‪ ،‬بدرجة �أو �أخرى‪� ،‬صراع ًا ت�أويلي ًا‬ ‫فالدين الإ�سالمي يت�سم برف�ضه للإكراه يف االعتقاد «ال‬
‫تتوقف نتائجه لي�س فقط على ال�سياق الثقايف املحيط‪،‬‬ ‫�إكراه يف الدين – ولو �شاء ربك لآمن من يف الأر�ض كلهم‬ ‫الثقايف‬
‫بل �أي�ض ًا على ال�سياق االجتماعي ذاته‪ .‬فالثقافة هي‬ ‫جميعا‪� ،‬أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني» (�سورة‬ ‫التقليدي‬
‫مبثابة خمزون فكري متع ّدد الألوان‪ ،‬قابل لال�ستثمار‬ ‫ل�ست عليهم مب�صيطر»‬ ‫يون�س) «فذكر �إمنا �أنت ُم َذكر َ‬
‫والت�أويل يف اجتاهات خمتلفة‪ .‬والقوى االجتماعية‬ ‫(الغا�شية ‪ )22‬و «وما على الر�سول �إال البالغ املبني»‬ ‫وتكييفه‬
‫والثقافية التي هي يف موقع الت�أثري وال�سيادة هي التي‬ ‫(النور ‪ )54‬وقوله تعاىل «وق ّل احلق من ربكم فمن �شاء‬ ‫مع معطى‬
‫تفر�ض الت�أويالت املالئمة لها‪ .‬لذلك قد يكون من عدم‬ ‫فلي�ؤمن ومن �شاء فليكفر» (الكهف ‪� ...)29‬إلخ‪.‬‬
‫الدقة �أن ن�صف هذه الثقافة الدينية �أو تلك بالعنف �أو‬ ‫الرتاث العربي الإ�سالمي ب�شقيه الديني والثقايف غني‬ ‫احلداثة‬
‫ال�سالم‪ ،‬باالنغالق �أو االنفتاح‪ ،‬بالت�ش ّدد �أو املرونة‪ .‬بل‬ ‫ُمبثل و�آيات الت�سامح‪ .‬وككل تراث‪ ،‬روحي و�إن�ساين‪،‬‬
‫�إن �شروط التفاعل االجتماعي ال�سيا�سي الثقايف هي‬ ‫تتعاي�ش فيه ثقافة الت�شدد وثقافة الت�سامح‪.‬‬
‫ال�شروط املح ّددة ح�سب الفرتات‪ .‬ف�إذا كانت العقود‬ ‫يف الن�صو�ص الدينية تتفاعل ب�شكل رفيع وارتوازي‬
‫الأخرية قد �شهدت انبعاث ت�أويالت وفهوم �أرثوذوك�سية‬ ‫ثقافة العنف وثقافة الت�سامح وال�سلم‪� ،‬أو �آيات ال�سيف‪،‬‬
‫مت�ش ّددة للن�صو�ص الإ�سالمية تبع ًا ل�سياقات وحم ّددات‬ ‫و�آيات احلوار والت�سامح‪ .‬وهنا ال بد من �إبداء بع�ض‬
‫داخلية وخارجية فلي�س معنى ذلك �أن الثقافة الدينية‬ ‫املالحظات‪:‬‬
‫الإ�سالمية هي ثقافة ت�ش ّدد وانغالق وعنف كما مييل‬ ‫‪� - 1‬إن عدد �آيات احلوار والت�سامح هو �أكرث من ‪� 60‬آية‬
‫الغرب اليوم �إىل ت� ّصور وت�صوير ذلك‪.‬‬ ‫(انظر ماجد الغرباوي‪ :‬الت�سامح ومنابع الالت�سامح‪،‬‬
‫بغداد‪� ،2006 ،‬ص‪.)164-159:‬‬
‫الوجه الآخر‬ ‫وبجانب الن�صو�ص القر�آنية امل�شرعة للت�سامح العقدي‬
‫والفكري تن�ضح ال�سرية النبوية بدورها بقيم الت�سامح‬
‫لكن �إبراز الوجه الآخر للثقافة الدينية الإ�سالمية‬ ‫والدعوة للحوار‪� ،‬إذ كان النبي الكرمي ي�ستقبل �أهل‬
‫يتطلب ت�ضافر اجلهود الفكرية من طرف نخب ثقافية‬ ‫الكتاب وامل�شركني ويحاورهم‪ ،‬وير�سل الر�سائل والبعثات‬
‫ا�ستوعبت �أ�س�س وحم ّددات الثقافة الإن�سانية الكونية‬ ‫�إىل ملوك الن�صارى‪ ،‬ويربم معهم االتفاقيات والعهود‬
‫احلديثة وبخا�صة يف جمال الإن�سانيات‪ ،‬لإبراز وتقدمي‬ ‫(عهد جنران‪.)..‬‬
‫القراءة‪ ،‬امل�ستنرية للن�صو�ص الإ�سالمية‪ ،‬ومن ثمة‬ ‫وهناك تراث من الن�صو�ص الإ�سالمية التي ميكن‬
‫تطوير وتعميق بعد االنفتاح والت�سامح فيها‪.‬‬ ‫اعتبارها‪ ،‬بجانب الكتاب وال�سنة‪� ،‬سند ًا لثقافة حقوق‬
‫وهي بالت�أكيد مه ّمة ع�سرية بالنظر �إىل قوة عوامل‬ ‫الإن�سان يف الثقافة الإ�سالمية �أولها خطبة الوداع‪،‬‬
‫املقاومة والنكو�ص يف جمتمعات ما يزال الوعي ال�سائد‬ ‫وو�صية �أبي بكر ال�صديق لعامله يف ال�شام‪ ،‬وكتاب عمر‬
‫فيها يت� ّصور �أن مظاهر التجديد الثقايف والفكري على‬ ‫بن اخلطاب �إىل �أبي مو�سى الأ�شعري‪ ،‬وعهد الإمام‬
‫�أنها خروج عن الن�ص‪.‬‬ ‫ملالك اال�شرت عامله يف م�صر (�سنة ‪39‬هـ)‪ ،‬ور�سالة‬
‫‪� - 3‬إن العامل قد دخل يف �سريورة حتوالت نوعية على‬ ‫احلقوق لعلي بن احل�سني زين العابدين‪ ،‬وحقوق‬
‫‪82‬‬
‫والكرامة املالزمني لكل كائن ب�شري‪ .‬فنيل االعتبار‬ ‫كافة امل�ستويات مع ن�شوء احلداثة ب�شقيها املادي والثقايف‪.‬‬
‫واالحرتام واالعرتاف بالكرامة هنا مل يعد �إح�سان ًا‪� ،‬أو‬ ‫و�إنه ابتداء من القرن الثامن ع�شر بد�أت تتبلور ثقافة‬
‫هبة‪� ،‬أو تكرم ًا‪� ،‬أو �شفقة �أخالقية �أو جمرد ف�ضيلة بل‬ ‫�إن�سانية حقوقية قوامها التعاقد‪ ،‬وامل�شروعية‪ ،‬واحلق‪،‬‬
‫�أ�صبح حق ًا للمتلقي وواجب ًا على الطرف الآخر‪.‬‬ ‫وحمورها التفاعل الإن�ساين‪ ،‬ثقافة ّمت فيها االنتقال‬
‫من بني االتفاقيات الدولية التي غذت هذا التح ّول نذكر‬ ‫بالفكر ال�سيا�سي من الإ�شكالية الالهوتية ال�سيا�سية‬
‫«اتفاقية الق�ضاء على كل �أ�شكال التمييز العن�صري»‬ ‫�إىل الإ�شكالية ال�سيا�سية الإن�سانية التي تعترب منظومة‬
‫(‪ )1965‬و«الإعالن املتعلق بالق�ضاء على كل �أ�شكال‬ ‫حقوق الإن�سان نواتها املركزية‪.‬‬
‫التع�صب والتمييز القائمني على �أ�سا�س الدين �أو املعتقد»‬ ‫ّ‬
‫(‪ )1981‬و«اتفاقية الق�ضاء على كل �أ�شكال التمييز‬ ‫الأخالق والت�شريع‬
‫�ضد املر�أة» (‪� )1979‬إىل غري ذلك من االتفاقيات‬
‫التي ت�شكل ثقافة �سيا�سية كاملة للت�سامح‪ .‬وقد انعك�ست‬ ‫يف �سياق هذا التحول �أخذت العديد من املقوالت‬
‫هذه االتفاقيات على مواثيق املنظمات الإقليمية‪ ،‬وعلى‬ ‫الأخالقية تتح ّول �إىل مقوالت ت�شريعية وقانونية‪ ،‬ومن‬
‫د�ساتري وقوانني خمتلف الدول‪.‬‬ ‫بينها مقولة الت�سامح‪ ،‬التي �أخذت يف االنتقال التدريجي‬
‫وعلى وجه العموم ت�شكل مقولة الت�سامح �أحد مق ّومات‬ ‫من كونها نوع ًا من الف�ضيلة املتمثلة يف ال�شفقة‪ ،‬والرحمة‪،‬‬
‫الفكر احلديث كله‪ .‬ولعل ما مييز هذا الفكر هو كونه‬ ‫والعفة‪ ،‬واحللم‪ ،‬والرفق‪ ،‬لتكت�سب طابع ًا ت�شريعي ًا‬
‫حتولت‬
‫ّ‬
‫قد �أ�ضفى على هذه املقولة طابع ًا م�ؤ�س�سي ًا وقانوني ًا‬ ‫وقانوني ًا وم�ؤ�س�سي ًا‪� ،‬أي لت�صبح بالتايل حق ًا �أ�سا�سي ًا من‬
‫وتنظيمي ًا‪ ،‬ومل يعد يكتفي باعتبارها جمرد مقولة �أو‬ ‫حقوق الإن�سان‪ .‬وقد طال هذا التح ّول العديد من املُثل‬
‫املقوالت‬ ‫مثال �أخالقي‪.‬‬ ‫الأخالقية التي انتقلت بالتدريج من جمال ال�ضمري �إىل‬
‫الأخالقية‬ ‫فالدميوقراطية‪ ،‬التي هي قوام نظام احلكم الع�صري‪،‬‬
‫تت�ضمن مقولة الت�سامح وت�ستدجمها يف �صلبها‪ ،‬ناقلة‬
‫جمال الت�شريع �أو من دائرة الأخالقية الذاتية �إىل دائرة‬
‫الأخالقية املو�ضوعية ح�سب امل�صطلحات الهيغلية‪.‬‬
‫�إىل مقوالت‬ ‫�إياها من م�ستوى الف�ضيلة �إىل م�ستوى احلق‪ .‬وذلك لأن‬ ‫وبذلك ت�ستكمل احلداثة ال�صرح الأخالقي ب�إ�ضافة‬
‫قوام الدميوقراطية هو القبول بتعدد وتوازن احلقوق‬ ‫الآليات املو�ضوعية �إىل الوعي الأخالقي �أو ال�ضمري‪،‬‬
‫ت�شريعية‬ ‫وامل�صالح املختلفة‪ .‬وبالتايل ميكن اعتبار الت�سامح �أحد‬ ‫انطالق ًا من اقتناع فكري م�ؤداه �أن الوعي وال�ضمري‪ ،‬يف‬
‫وقانونية‬ ‫الأ�س�س الثقافية الرئي�سية للدميوقراطية‪ ،‬مثلما هو‬ ‫�صورتيهما الأخالقية والدينية‪� ،‬ضروريان‪ ،‬لكنهما غري‬
‫الفكرة املحورية الناظمة ملبد�أ حقوق الإن�سان‪.‬‬ ‫كافيني ب�سبب ه�شا�شة الكائن الب�شري‪ ،‬وعدم قدرته على‬
‫ت�صادر فكرة الت�سامح على مبد�أ �ضمني �أ�سا�سي‬ ‫ال�صمود �أمام الإغراءات والإغواءات التي تت�ضاعف يف‬
‫هو امل�ساواة املطلقة بني الأفراد والأجنا�س والأقوام‬ ‫ع�صر احلداثة والوفرة‪.‬‬
‫واحل�ضارات‪ .‬كما �أنها ت�صادر على فكرة �أخرى هي حق‬ ‫يطفح الرتاث الثقايف للأمم املتحدة بالعديد من الأمثلة‬
‫االختالف‪ .‬فالنا�س مت�ساوون فيما بينهم مهما اختلفت‬ ‫التي ت�شهد على هذا التح ّول واالنتقال يف ت� ّصور الت�سامح‬
‫مذاهبهم ودياناتهم‪ ،‬وعاداتهم‪ ،‬و�أجنا�سهم‪ ،‬وعروقهم‪،‬‬ ‫من القيمة الأخالقية �إىل م�ستوى احلق املن�صو�ص عليه‬
‫و�أنظمتهم ولغاتهم‪ ،‬بل �إن مقولة الت�سامح هي �إقرار‬ ‫ت�شريعي ًا‪.‬‬
‫باحلق من هذا احلق‪.‬‬ ‫تن�ص ديباجة ميثاق الأمم املتحدة على اعتبار الت�سامح‬ ‫ّ‬
‫وعلى امل�ستوى الفكري نالحظ �أن الت�سامح الفكري‬ ‫قيمة �أ�سا�سية يف العالقات بني الدول والأفراد‪»:‬نحن‬
‫مرتبط بن�سبيته احلقيقية‪ ،‬والقبول بتع ّدد املعاين‪،‬‬ ‫�شعوب الأمم املتحدة �آلينا على �أنف�سنا �أن نعي�ش ونحن‬
‫واختالف الت�أويالت‪ ،‬وتكاثر القراءات للظاهرة‬ ‫ن�أخذ �أنف�سنا بالت�سامح‪ ،‬و�أن نعي�ش مع ًا يف �سالم وح�سن‬
‫الواحدة �أو للن�ص الواحد‪ .‬وعلى النقي�ض من ذلك ف�إن‬ ‫تن�ص مواد هذا امليثاق على �ضرورة «تعزيز‬ ‫جوار»‪ .‬كما ّ‬
‫القول بالر�أي الواحد الأحد واحلقيقة الوحيدة �أو املعنى‬ ‫احرتام حقوق الإن�سان واحلريات الأ�سا�سية للنا�س‬
‫الوحيد هو نوع من اال�ستبداد الفكري الذي يتعني علينا‬ ‫جميع ًا‪ ،‬والت�شجيع على ذلك دون متييز ح�سب العن�صر‬
‫اليوم مقاومته وا�ستبعاده‪.‬‬ ‫�أو اجلن�س �أو الدين»‪.‬‬
‫التع�صب املذهبي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املختلفة‪:‬‬ ‫التع�صب‬
‫ّ‬ ‫�إن �أ�شكال‬ ‫لكن بجانب ميثاق الأمم املتحدة الذي هو وثيقة توجيهية‬
‫والتع�صب الوطني‬ ‫ّ‬ ‫والتع�صب العرقي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والتع�صب الديني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ذات طابع معنوي و�أخالقي‪ ،‬وبالتايل غري ملزم‪ ،‬ف�إن‬
‫والتع�صب الريا�ضي الذي يربز‬ ‫ّ‬ ‫بل‬ ‫أجانب)‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫(رف�ض‬ ‫الأمم املتحدة نف�سها قد �أ�صدرت العديد من االتفاقيات‬
‫�إىل ال�سطح بني الفينة والأخرى تدل على �أنه رغم كل‬ ‫التي توقع عليها الدول الأع�ضاء‪ ،‬وتعترب توقيعها عليها‬
‫هذه اجلهود وعلى الرغم من كل هذا الرتاث الروحي‬ ‫نوع ًا من االلتزام بتطبيقها وا�ستدماجها يف ت�شريعاتها‬
‫والقانوين وامل�ؤ�س�سي ف�إن الت�سامح مل يتح ّول اليوم �إىل‬ ‫املحلية‪ .‬وهذه االتفاقيات هي �صيغ قانونية وت�شريعات‬
‫�سلوك يومي ومل ي�صبح ذهنية وم�سلكية عامة لدى كل‬ ‫تت�ض ّمن الت�سامح كخلفية فكرية لها‪ ،‬و�أوالها و�أهمها‬
‫الب�شر‪� ،‬إذ ما تزال بقايا الرنج�سية الفردية واجلماعية‬ ‫يف هذا الباب «اتفاقية �إلغاء العبودية واال�سرتقاق» مبا‬
‫طاغية ومتف�شية ب�شكل كبري‪ .‬وهو ما يجعل �أمر �إقرار‬ ‫تعنيه من �إقرار للم�ساواة املطلقة يف احلق يف االنتماء‬
‫الت�سامح مهمة ع�سرية‪ ،‬لأنها تتطلب �أوال تذويب الكثري‬ ‫للإن�سانية بعيد ًا عن �أي متييز يف اللون �أو العرق �أو احلق‬
‫من الرنج�سيات والأحكام امل�سبقة‪.‬‬ ‫يف الكرامة‪ .‬والوجه الآخر لهذه االتفاقية هو �إقرار حق‬
‫العمل الفني ‪ :‬سامي محمد ‪ -‬الكويت‬ ‫الآخر‪ ،‬املختلف عرق ًا ولون ًا‪ ،‬يف �أن يحظى باالحرتام‬
‫‪83‬‬
‫حوار‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫ا ق�ضية‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬

‫الطر�شان!‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬

‫يقول العفيف الأخ�ضر �إن��ه ال �سبيل‬


‫�إىل اخل � � ��روج م ��ن ح � ��رب ال ��دي ��ان ��ات‬
‫ال��دائ��رة اليوم �إال ب��اع�تراف امل�سلمني‬
‫بالديانات التي �سبقت الإ�سالم‪ .‬ويورد‬
‫ال�ع�ف�ي��ف الأخ �� �ض��ر الآي� � ��ة‪�«:‬إن ال��ذي��ن‬
‫�آم �ن��وا‪ ،‬وال��ذي��ن ه� ��ادوا‪ ،‬وال���ص��اب�ئ��ون‪،‬‬
‫والن�صارى‪ ،‬من �آمن باهلل واليوم الآخر‬
‫وعمل �صاحلاً فال خوف عليهم وال هم‬
‫يحزنون» م�شرياً �إىل �أن فقهاء الع�صور‬
‫الو�سطى هم الذين قالوا �إن هذه الآية‬
‫من�سوخة ب�آية «ومن يبتغ غري الإ�سالم‬
‫ديناً فلن يقبل منه وهو يف الآخرة من‬
‫اخل��ا� �س��ري��ن»‪ .‬غ�ير �أن ال�ن���س��خ ث��اب��ت‪،‬‬
‫ف�آية ال�سيف التي ن�صها‪« ،‬ف��إذا ان�سلخ‬
‫الأ�شهر احلرم فاقتلوا امل�شركني حيث‬
‫وجدمتوهم» ن�سخت كل �آيات الإ�سماح‪،‬‬
‫مثال �آية‪«:‬فذكر �إمنا �أنت مذكر‪ ،‬ل�ست‬
‫عليهم مب�صيطر» �أو �آي��ة‪«:‬وق��ل احلق‬
‫من ربكم فمن �شاء فلي�ؤمن ومن �شاء‬
‫فليكفر»‪ ،‬وغريهما من �آيات الإ�سماح‬
‫العديدة‪ .‬وت�أكيداً للن�سخ جاء احلديث‬
‫النبوي القائل‪�«:‬أمرت �أن �أقاتل النا�س‬
‫ح�ت��ى ي���ش�ه��دوا �أن ال �إل ��ه �إال اهلل و�أن‬
‫حممداً ر�سول اهلل»‪.‬‬
‫د‪.‬النور حمد‬
‫كاتب من ال�سودان‬
‫‪84‬‬
‫النبي‪ ،‬وت�آمر على حياته حتى ا�ضطره للهجرة‪ ،‬هذا‬ ‫امل�شكلة �إذن لي�ست يف ما �إذا كانت �آيات الإ�سماح قد‬
‫ف�ض ًال عما جرى من تعذيب �أ�صحابه‪ ،‬الذين ق�ضى‬ ‫ّمت ن�سخها ب�آيات اجلهاد �أم ال‪ ،‬فهي قد ن�سخت بالفعل‪.‬‬
‫بع�ضهم ب�سبب ذلك التعذيب الرهيب‪.‬‬ ‫كما �أن اجلهاد قد قام بالفعل وبه مت ّددت دولة املدينة‬
‫ي��ق��ول الأ���س��ت��اذ حم��م��ود حم��م��د ط��ه ل��و ك���ان الن�سخ‬ ‫لت�صل �أعماق �آ�سيا �شرق ًا‪ ،‬ولت�صل �إفريقيا غرب ًا‪.‬‬
‫�سرمدي ًا لأ�صبح خري ما يف ديننا من�سوخ ًا مبا هو �أقل‬ ‫ف�آيات الإ�سماح مل يعد لها احلكم منذ �أن قال النبي‬
‫منه‪ .‬وذلك يتعار�ض مع قوله تعاىل‪« :‬واتبعوا �أح�سن‬ ‫الكرمي‪�«:‬أمرت �أن �أقاتل النا�س حتى ي�شهدوا �أن ال �إله‬
‫ما �أن��زل �إليكم من ربكم»‪ .‬ويقول �أي�ض ًا‪� ،‬إن الن�سخ‬ ‫�إال اهلل و�أن حممد ًا ر�سول اهلل»‪ .‬امل�شكلة لي�ست �إذن يف‬
‫لي�س تغيري ر�أي‪ .‬فتغيري الر�أي ال يجوز يف حق الذات‬ ‫ما �إذا كان الن�سخ قد جرى �أم ال‪ .‬فهو جرى بالفعل‪.‬‬
‫العليا‪ .‬ولذلك‪ ،‬مل يبق �إال �أن الن�سخ قد كان �إرجاء‪.‬‬ ‫امل�شكلة هي‪ :‬هل الن�سخ م�ستم ّر �أب��د الدهر‪� ،‬أم هو‬
‫وي�ستدل الأ���س��ت��اذ حم��م��ود حممد ط��ه على الن�سخ‬ ‫�إج��راء مرحلي اقت�ضاه الظرف التاريخي يف القرن‬
‫بالآية‪« :‬ما نن�سخ من �آية �أو نن�سها‪ ،‬ن�أت بخري منها‬ ‫ال�سابع امليالدي‪ ،‬و�أن �آيات الإ�سماح التي ّمت ن�سخها‬
‫�أو مثلها»‪ .‬وي�ستدل الأ�ستاذ حممود حممد طه على‬ ‫ميكن �أن تكون لها عودة؟ هذا ال�س�ؤال املركزي جد ًا‪،‬‬
‫جم��يء وق��ت الأ���ص��ول اليوم ب�بروز املجتمع الكوكبي‬ ‫هو ما عاجله الأ�ستاذ حممود حممد طه يف كتابه‪،‬‬
‫الراهن‪ ،‬الذي �أ�صبح ال�سالم والتعاي�ش ال�سلمي فيه‬ ‫«الر�سالة الثانية من الإ���س�لام»‪ .‬والأ���س��ت��اذ حممود‬
‫�أمرين ال منا�ص منهما‪ .‬كما �أ�صبحت كفالة احلقوق‬ ‫حممد طه مفكر �إ�سالمي ���س��وداين جم��دد‪� ،‬أعدمه‬
‫املت�ساوية للنا�س‪ ،‬بغ�ض النظر عن الدين‪� ،‬أو العرق‪،‬‬ ‫الرئي�س ال�سوداين الأ�سبق جعفر حممد منريي بتهمة‬
‫ا�ستخدم‬ ‫�أو ال��ل��ون‪� ،‬أو اجلن�س‪ ،‬مطلب ًا بديهي ًا‪ .‬ول��ذل��ك ف���إن‬ ‫الر ّدة يف ‪ 18‬يناير ‪ .1985‬وحادثة قتله متثل‪ ،‬يف ح ّد‬
‫الإ�سالم‬ ‫االجتهاد ال��ق��ادر على الت�ص ّدي لتح ّديات ع�صرنا‬ ‫ذاتها‪� ،‬أك�بر ال�شواهد على انعدام �أ�س�س الت�سامح‬
‫الراهن‪ ،‬فيما يتعلق بق�ضايا احلقوق الأ�سا�سية ـ وفق‬ ‫الديني يف العامل الإ���س�لام��ي‪ .‬فالذين �أف��ت��وا بر ّدته‬
‫ال�سيف كما‬ ‫ر�ؤية الأ�ستاذ حممود حممد طه ‪� -‬إمنا هو االجتهاد‬ ‫وق���ادوه �إىل حبل امل�شنقة �إمن��ا ك��ان��وا فقهاء دول��ة‪،‬‬
‫ي�ستخدم‬ ‫الذي يتجه �إىل بعث �أ�صول القر�آن املن�سوخة‪ ،‬ولي�س‬ ‫ا�ستندوا �إىل الن�صو�ص‪ ،‬و�إىل ���س��واب��ق ع��دي��دة يف‬
‫الزعم ب�أن ال�شريعة الإ�سالمية املطبقة منذ القرن‬ ‫التاريخ الإ�سالمي‪.‬‬
‫الطبيب‬ ‫ال�سابع امليالدي‪� ،‬صاحلة لكل زمان ومكان‪ .‬ويف هذا‬
‫املب�ضع‪،‬‬ ‫املعنى كتب الأ�ستاذ حممود حممد طه‪:‬‬ ‫قر�آن الأ�صول وقر�آن الفروع‬
‫م��ن اخل��ط���أ ال�شنيع �أن يظن �إن�����س��ان �أن ال�شريعة‬
‫ولي�س كما‬ ‫الإ�سالمية يف القرن ال�سابع ت�صلح‪ ،‬بكل تفا�صيلها‪،‬‬ ‫جوهر فكرة الأ�ستاذ حممود حممد طه يتلخ�ص يف �أن‬
‫للتطبيق يف ال��ق��رن الع�شرين‪ ،‬ذل��ك ب����أن اختالف‬ ‫الن�سخ لي�س نهائي ًا‪ ،‬لأن �آيات القر�آن كما يراها تتبادل‬
‫ي�ستخدم‬ ‫م�ستوى جمتمع القرن ال�سابع‪ ،‬عن م�ستوى جمتمع‬ ‫احلكم‪ .‬فالذي ن��زل يف البداية ك��ان ال��ق��ر�آن املكي‪،‬‬
‫اجل ّزار املدية‬ ‫القرن الع�شرين‪� ،‬أم��ر ال يقبل املقارنة‪ ،‬وال يحتاج‬ ‫الذي ي�شري �إليه الأ�ستاذ حممود حممد طه بـ«قر�آن‬
‫العارف ليف�صل فيه تف�صي ًال‪ ،‬و�إمنا هو يتحدث عن‬ ‫الأ�صول»‪ .‬غري �أن قر�آن الأ�صول املكي قد جرى ن�سخه‬
‫نف�سه‪ ،‬في�صبح الأم��ر عندنا �أم��ام �إح��دى خ�صلتني‪:‬‬ ‫بـ «قر�آن الفروع» املدين‪ .‬فالأ�صل يف الإ�سالم الإ�سماح‬
‫�إما �أن يكون الإ�سالم‪ ،‬كما جاء به املع�صوم بني دفتي‬ ‫واحلرية وامل�س�ؤولية الفردية �أمام اهلل مت�شي ًا مع قوله‬
‫امل�صحف‪ ،‬قادر ًا على ا�ستيعاب طاقات جمتمع القرن‬ ‫تعاىل‪« :‬فذكر �إمنا �أنت مذكر‪ ،‬ل�ست عليهم مب�صيطر»‬
‫الع�شرين‪ ،‬فيتوىل توجيهه يف م�ضمار الت�شريع‪ ،‬ويف‬ ‫(الغا�شية ‪ ،)22‬وغريها من �آيات الإ�سماح العديدة‪.‬‬
‫م�ضمار الأخ�ل�اق‪ ،‬و�إم��ا �أن تكون قدرته قد نفدت‪،‬‬ ‫فالنبي مكلف فقط بالتذكري‪ ،‬ولي�س له �أن ي�سيطر على‬
‫وت��وق��ف��ت عند ح�� ّد تنظيم جمتمع ال��ق��رن ال�سابع‪،‬‬ ‫املدعوين �أو �أن يكرههم على قبول الدعوة‪ .‬غري �أن هذا‬
‫واملجتمعات ال��ت��ي تلته مم��ا ه��ي مثله‪ ،‬فيكون على‬ ‫امل�ستوى من اخلطاب القائم على احلرية وامل�س�ؤولية‬
‫ب�شرية القرن الع�شرين �أن تخرج عنه‪ ،‬و�أن تلتم�س‬ ‫قد مت ن�سخه ب�آية ال�سيف‪ ،‬التي بناء عليها قال النبي‬
‫ح ّل م�شاكلها يف فل�سفات �أخريات‪ ،‬وهذا ما ال يقول‬ ‫الكرمي‪�« :‬أمرت �أن �أقاتل النا�س حتى ي�شهدوا �أن ال �إله‬
‫به م�سلم‪ ،‬ومع ذلك ف�إن امل�سلمني غري واعني ب�ضرورة‬ ‫�إال اهلل و�أن حممد ًا ر�سول اهلل»‪ .‬فالثابت �أن اجلهاد‬
‫تطوير ال�شريعة‪ ،‬وه��م يظنون �أن م�شاكل القرن‬ ‫قد �شرع بعد �أن ج��رى ن�سخ �آي��ات الإ�سماح التي مل‬
‫الع�شرين ميكن �أن ي�ستوعبها‪ ،‬وينه�ض بحلها‪ ،‬نف�س‬ ‫ي�ستجب لها املجتمع املكي‪ ،‬الذي قاوم الدعوة و�آذى‬
‫‪85‬‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ا‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫دعاوى االعتدال والو�سطية التي يدعونها‪ ،‬متط ّرفون‬ ‫الت�شريع الذي ا�ستوعب‪ ،‬ونه�ض بح ّل م�شاكل القرن‬
‫تكفرييون‪ ،‬ال يختلفون يف �شيء عن جماعة «القاعدة»‬ ‫ال�سابع‪ ،‬وذلك جهل مف�ضوح‪.‬‬
‫وجماعة «طالبان»‪ .‬هذا �إ�ضافة �إىل كونهم مدفوعني‬ ‫ال�شريعة الإ���س�لام��ي��ة املحكمة منذ ال��ق��رن ال�سابع‬
‫لهذه امل�ؤمترات بوا�سطة الأنظمة ال�سيا�سية العربية‬ ‫امليالدي �أمرت بقتال الكفار حتى ي�سلموا‪ ،‬كما �أمرت‬
‫التي توظفهم �ضمن منظومتها القمعية ال�شاملة‪.‬‬ ‫بقتال �أهل الكتاب حتى ي�سلموا‪� ،‬أو يقبلوا دفع اجلزية‬
‫فحني �أح��� ّ��س ال��غ��رب �أن���ه ق��د �أ���ص��ب��ح بحاجة ما�سة‬ ‫عن يد وهم �صاغرون‪ .‬وقد ف�سر ابن كثري «�صاغرون»‬
‫�إىل ت�أ�سي�س ديني لل�سالم يف الإ�سالم‪� ،‬أوع��ز ‪ -‬من‬ ‫بقوله‪�« :‬أي ذليلني حقريين»‪� .‬أي�ض ًا ت�أمر ال�شريعة‬
‫فرط غفلته ‪ -‬لهذه الأنظمة التي يرعاها ب�أن حت ّرك‬ ‫الإ���س�لام��ي��ة املحكمة منذ ال��ق��رن ال�سابع امل��ي�لادي‬
‫علماءها جتاه ما يريد‪ ،‬فح ّركتهم! وال غرابة �إذن �إن‬ ‫بقتل ال���ذي ي��ب��دل دي��ن��ه‪« ،‬م��ن ب��دل دي��ن��ه فاقتلوه»‪.‬‬
‫كان عطاء ه�ؤالء «العلماء» يف كل تلك امل�ؤمترات عطاء‬ ‫�أك�ثر من ذل��ك‪ ،‬ف���إن ال�شريعة الإ�سالمية ت�أمر بقتل‬
‫بالغ ال�ض�آلة‪ ،‬الأمر الذي جعل منها جم ّرد منا�سبات‬ ‫امل�سلم نف�سه‪� ،‬إن هو ترك ال�صالة! وال نن�سى �أي�ض ًا‬
‫روتينية لتبادل املجامالت‪ ،‬واالبت�سامات ال�صفراء‪.‬‬ ‫�أن ال�شريعة الإ�سالمية املحكمة منذ القرن ال�سابع‬
‫ما يحتاجه العامل الإ�سالمي اليوم هو اجتهاد جديد‬ ‫امليالدي قد �أق ّرت الرق‪ ،‬و�أقرت معه التمتع بالإماء‪،‬‬
‫م�ستند �إىل �أ�صول ال��ق��ر�آن وجوهر ر�سالة الإ�سالم‬ ‫بغري عقد زواج‪ .‬كما �أنها مل ت�ساو الن�ساء بالرجال‬ ‫التكفري‬
‫املتمثلة يف ال�سالم ويف امل�س�ؤولية ال��ف��ردي��ة‪ .‬ومثل‬
‫هذا االجتهاد ال يكون بغري اخلروج عن �إطار �أحكام‬
‫يف احلقوق‪ ،‬وجعلت الرجال �أو�صياء على الن�ساء‪.‬‬
‫وكل ما تق ّدم ال يعيب ال�شريعة الإ�سالمية يف �شيء يف‬
‫والإخراج‬
‫يخ�ص �ش�ؤون حرية االعتقاد‪،‬‬ ‫ال�شريعة ال�سلفية يف ما ّ‬ ‫ذلك الظرف التاريخي‪ ،‬ويرى الأ�ستاذ حممود حممد‬ ‫من امللة‬
‫وحرية الر�أي‪ ،‬و�سائر احلقوق الأ�سا�سية‪ ،‬لي�ستند �إىل‬ ‫طه �أن كل ما ج��رى ذك��ره عاليه ك��ان ت�شريع ًا �إلهي ًا‬
‫تن�ص‬
‫�أ�صول القر�آن التي تلتقي يف الإطار العام مبا ّ‬ ‫من لدن عليم خبري‪ .‬وهو ت�شريع كان منا�سب ًا جد ًا‬ ‫يف تاريخ‬
‫عليه الد�ساتري‪ ،‬والدميوقراطيات‪ ،‬والإعالن العاملي‬ ‫لذلك الوقت‪ .‬ولذلك يقول الأ�ستاذ حممود حممد‬ ‫الثقافة‬
‫حلقوق الإن�سان‪ .‬وحني عجز علما�ؤنا عن اخلروج عن‬ ‫طه‪� ،‬إن الإ�سالم لي�س بحاجة ملن يعتذر عنه‪ ،‬لكونه‬
‫عقلية التجرب وال�سيطرة والكبت وامل�صادرة ذهبوا‬ ‫قد ا�ستخدم ال�سيف يف القرن ال�سابع امليالدي‪ .‬وذكر‬ ‫الإ�سالمية‬
‫ليطالبوا ب�أن ي�ستثنينا العامل من مقايي�سه للحقوق‬ ‫يف ذلك ال�صدد �أن الإ�سالم قد ا�ستخدم ال�سيف كما‬ ‫و�صال‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬زاعمني �أن لنا «حقوق �إن�سان خا�صة بنا»!‬ ‫ي�ستخدم الطبيب املب�ضع‪ ،‬ولي�س كما ي�ستخدم اجلزار‬
‫وهكذا �أ�صبحنا ن�سمع مب�صطلح «حقوق الإن�سان يف‬ ‫املدية‪ .‬كل ما يف الأمر‪� ،‬أن القول با�ستخدام ال�سيف‬ ‫يف غرابتهما‬
‫الإ�سالم»! وهكذا حتول احلوار يف كل هذه امل�ؤمترات‬ ‫اليوم‪ ،‬وحماكمة النا�س بالر ّدة اليوم‪ ،‬وانتقا�ص حقوق‬ ‫لالمعقول‬
‫�إىل جم��رد ح��وار طر�شان‪ ،‬فحقوق الإن�سان لي�ست‬ ‫النا�س ب�سبب العقيدة‪� ،‬أو العرق‪� ،‬أو اللون‪� ،‬أو اجلن�س‪،‬‬
‫ط�لا���س��م مبهمة‪ ،‬و�إمن����ا مي��ك��ن تلخي�صها يف‪ :‬حق‬ ‫�أمر معيب ويجب �أال يل�صق بالإ�سالم يف عامل اليوم‪.‬‬
‫الإن�سان البالغ الر�شيد يف االعتقاد‪ ،‬ويف التعبري عن‬
‫ر�أيه‪ ،‬ويف ال�سفر‪ ،‬وال�سفر مبفرده �إن �شاء‪ ،‬رج ًال كان‬ ‫التعاي�ش ال�سلمي وحوار الطر�شان‬
‫�أم امر�أة‪ ،‬ويف قيادة ال�سيارة �إن �شاء‪ ،‬رج ًال كان �أم‬
‫امر�أة‪ ،‬ويف انتخاب حاكمه وعزله �إن �شاء‪ .‬باخت�صار‬ ‫ب��ع��د هجمة احل���ادي ع�شر م��ن �سبتمرب ‪ 2001‬يف‬
‫هي حقه يف �أال تتم م�صادرة حقه يف احلرية على‬ ‫نيويورك‪ ،‬كرثت امل�ؤمترات التي تنعقد حتت م�س ّميات‬
‫�أ�سا�س ال��ع��رق‪� ،‬أو ال��دي��ن‪� ،‬أو اجلن�س‪� ،‬أو ال��ل��ون‪� ،‬أو‬
‫حوار الأديان والت�سامح الديني‪ .‬غري �أن من ي�شارك‬
‫الطبقة االجتماعية‪.‬‬
‫يف هذه امل�ؤمترات‪ ،‬ممن يحلو لهم ب�أن ي�سموا �أنف�سهم‬
‫«علماء الإ�سالم» ال ميلكون زاد ًا ميكن �أن ي�شاركوا به‬
‫يف موائد احل��داث��ة‪� ،‬سوى اجتهادات فقهاء احلقب‬
‫نزعة التكفري ال تعرف احلدود!‬ ‫ال�سوالف‪ .‬وهي اجتهادات مل تعد ت�سمن �أو تغني من‬
‫جوع‪ ،‬يف مواجهة حت ّديات احلا�ضر‪ .‬فالعلماء الذين‬
‫تندبهم اجلهات الإ�سالمية الر�سمية لي�شاركوا يف يظن كثريون �أن التكفري والإخ���راج من امللة �أم��ران‬
‫هذه امل���ؤمت��رات ال ي�ؤمنون �أ�ص ًال مبا توا�ضعت عليه يطاالن فقط �أولئك الذين ي�أتون ب���آراء ت�شذ عن ما‬
‫احل�ضارة املعا�صرة فيما يتعلق بالتعاي�ش‪ .‬فهم رغم توا�ضعت عليه الأكرثية‪ .‬كما يظنون �أن هناك فهما‬
‫‪86‬‬
‫�أب��ي حنيفة‪ ،‬من كبار �أه��ل ال��ر�أي‪ .‬نذكر منهم على‬ ‫للدين تت�شاركه غالبية من النا�س‪ ،‬ي�شذ عنهم بع�ض‬
‫�سبيل املثال ال احل�صر‪� ،‬أي��وب ال�سختياين‪ ،‬ومالك‪،‬‬ ‫ال�����ش��واذ ال��ذي��ن ي��ج��ب ردع��ه��م‪ .‬غ�ير �أن ذل���ك غري‬
‫والأوزاع��ي‪ ،‬ووكيع‪ ،‬وجرير بن حازم‪ ،‬وابن املبارك‪.‬‬ ‫�صحيح‪ .‬فالتكفري والإخراج من امللة يف تاريخ الثقافة‬
‫كما جاء �أي�ض ًا �أن الإم��ام عبد اهلل قد روى ب�إ�سناده‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬ظاهرتان ميكن �أن تلحقا يف غرابتهما‬
‫�إىل حماد بن �أبي �سليمان �أنه قال ل�سفيان‪«:‬اذهب‬ ‫بالالمعقول‪ .‬ولرمبا ال يعرف �أكرثية امل�سلمني‪ ،‬مث ًال‪،‬‬
‫�إىل الكافر �أبي حنيفة»‪ ،‬فقل له‪� :‬إن كنت تقول‪�« :‬إن‬ ‫�أن الإم��ام �أبا حنيفة النعمان قد مت تكفريه من قبل‬
‫القر�آن خملوق فال تقربنا»‪ .‬ورغ��م ذلك �صار لأبي‬ ‫خ�صومه يف الر�أي! و�أنه ا�ستتيب يف حياته ب�ضع مرات!‬
‫يحتاج العامل‬ ‫حنيفة �أتباع عرب التاريخ الإ�سالمي‪ ،‬ال يقلون بحال‬ ‫بل �إن �سفيان الثوري حني بلغه نب�أ وفاة �أبي حنيفة‬
‫عن �أتباع مالك وال�شافعي وابن حنبل وغريهم من‬ ‫قال‪« :‬احلمد هلل الذي �أراح امل�سلمني منه‪ ،‬لقد كان‬
‫الإ�سالمي‬ ‫املجتهدين!‬ ‫ينق�ض عرى الإ�سالم عروة عروة‪ .‬ما ولد يف الإ�سالم‬
‫�إىل اجتهاد‬ ‫ال�شاهد‪� ،‬أنه لي�ست هناك قواعد ثابتة حتكم نزعة‬ ‫مولود �أ�ش�أم على الإ�سالم منه»!! وهذه العبارة املروية‬
‫التكفري‪ ،‬فالتكفري �سالح جرى ا�ستخدامه ب�أ�شكال‬ ‫ع��ن �سفيان ال��ث��وري ر ّدده���ا معه ع��دد م��ن خمالفي‬
‫جديد خارج‬ ‫ع�شوائية خمتلفة يف �أزمنة خمتلفة‪ ،‬بغر�ض التخل�ص‬
‫�إطار الفكر‬ ‫من اخل�صوم الفكريني‪ ،‬وهو بتلك الأو�صاف �سالح‬
‫مي��ك��ن �أن ي��ط��ال �أي �أح���د‪ ،‬وب�لا ا���س��ت��ث��ن��اء‪ .‬ول��ذل��ك‬
‫ال�سلفي‬ ‫فاملخرج من ورطته ال يكون بغري �إخ���راج مفرداته‬
‫كلية من القامو�س احل��ي‪ ،‬وو�ضعها‪ ،‬و�إىل الأب��د‪ ،‬يف‬
‫�أرف��ف التاريخ‪ .‬ولكن ذل��ك لن يتحقق بغري اجتهاد‬
‫انقالبي منفلت متام ًا من قب�ضة ال�سلف‪ ،‬ومن �سائر‬
‫الأط��ر الظرفية التاريخية التي حكمت اجتهاداتهم‬
‫وخياراتهم‪ .‬و�إال فدون الت�سامح الديني خرط القتاد!‬
‫�أم����ا حم��اول��ة ت���رك ال��دي��ن ج��ان��ب��ا واالجت�����اه �صوب‬
‫«العلمانية» كما يرى بع�ض املثقفني امل�سلمني‪ ،‬فتمثل‬
‫يف نظري حماولة لل�سري يف ذات اخلط التاريخي الذي‬
‫�سارت عليه حركة ف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬كما جرت‬
‫يف املجتمعات الغربية‪ .‬ف�سرينا يف ذلك امل�ضمار �سوف‬
‫يكون �ضئيل املردود‪ ،‬كما �أنه غري مطلوب �أ�ص ًال‪ ،‬يف‬
‫ما �أرى‪ .‬فق�ضية احلرية كما عاجلها الفكر ال�سيا�سي‬
‫واالقت�صادي الغربي مل تثمر يف نهاية م�سارها �سوى‬
‫�سيطرة مطلقة للمالكني‪ ،‬وق��ت ٍ��ل ذري��ع للإن�سان يف‬
‫الإن�سان‪ ،‬وتبيان ذلك يطول‪.‬‬
‫ما �أراه هو �ضرورة مواجهة ق�ضية التحديث من داخل‬
‫بنية ديننا نف�سه‪ ،‬ال من خارجها‪ .‬فارتداء اخلوذة‬
‫العقلية الغربية كما هي‪ ،‬غري ممكن يف حالتنا‪ ،‬لأنه‪،‬‬
‫وبب�ساطة �شديدة‪ ،‬ال يلم�س اجلماهري ب�أي تغيري‪ .‬و�أي‬
‫تغيري ال يلم�س اجلماهري ف�سيكون تغيري ًا فوقي ًا لن‬
‫تكري�س لل�سلطة وال�ثروة يف‬ ‫ٍ‬ ‫ي�سفر يف منتهاه �إال عن‬
‫ً‬
‫�أيدي النخب‪ .‬هذا ف�ضال عن �أن انعتاق الغرب نف�سه‪،‬‬
‫على علله الكثرية‪ ،‬مل يكن ليحدث لوال �أفكار مارتن‬
‫لوثر‪ ،‬وج��ون كالفن‪ ،‬التي �أع��اد �إنتاجها و�ضخها يف‬
‫جمرى الر�أ�سمالية امل�سيطرة اليوم‪ ،‬الأمل��اين ماك�س‬
‫فيرب‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫الت�سامح قيمة �إن�سانية عظيمة‪ ،‬وبذرته موجودة يف كل تراث‬ ‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد الأمم وال�شعوب واحل�ضارات الب�شرية منذ فجر التاريخ‪،‬‬
‫فق�صة التكوين موجودة يف العهد القدمي والقر�آن الكرمي‬
‫كم�ؤ�شر دال‪ .‬وبالتحديد ق�صة قابيل وهابيل‪ ،‬ففي القر�آن‬ ‫العددالعدد‬ ‫ق�ضية‬
‫ا ق�ضية العدد‬
‫عدد‬
‫«واتل عليهم نب�أ ابني �آدم باحلق �إذ قربا قرباناً فتقبل من‬ ‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ق�ضية‬ ‫دد‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�أحدهما ومل يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال �إمنا يتقبل‬ ‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫يل يدك لتقتلني ما �أنا ببا�سط‬ ‫اهلل من املتقني لئن ب�سطت �إ ّ‬
‫يدي �إليك لأقتلك �إين �أخاف اهلل رب العاملني»(املائدة‪،)28-27:‬‬
‫(فنظر الرب هابيل وتقدمته و�إىل قابيل وتقدمته مل ينظر)‬

‫قابيلو‬
‫العهد القدمي �سفر التكوين( ‪.)5-4‬‬

‫هابيل‬ ‫عبد الباري طاهر‬


‫كاتب من اليمن‬

‫لل�صراع والتي يطلق عليها كارل مارك�س ال�صراع الطبقي‪،‬‬ ‫�إن رحلة الب�شرية والفكر الب�شري تدل على التطور املطرد‬
‫وي�سميها هيغل رحلة الروح‪ ،‬واملانوية والبو�شية ثنائية‬ ‫من الع�صبية ال�شديدة والعنف املرتبط �أ�شد االرتباط‬
‫اخلري وال�شر‪ ،‬ولعل تنوع الآلهة يف الهند حد الكرثة الكاثرة‬ ‫بالبيئات واملجتمعات الأكرث تخلف ًا وب�ؤ�س ًا وهي ما �أطلق‬
‫هو ما �أعطى للح�ضارة الهندية وللأمة هذه الروح ال�سمحة‬ ‫عليها مارك�س املراحل اخلم�س و�إن كانت تلكم الت�شكيالت‬
‫واملتفتحة ومع ذلك ف�إن �أكرث االجتاهات الهندية ت�ساحم ًا‬ ‫املجتمعية تختلف من �أمة لأخرى‪ ،‬ومن ح�ضارة حل�ضارة‪،‬‬
‫قد �شهدت �ضراوة العنف واالغتيال ب�سبب التفاوت‬ ‫فلل�شرق ‪ -‬كما تنبه م�ؤخر ًا مارك�س وال�سال ‪ -‬طبيعة تطور‬
‫االجتماعي والثقافات العن�صرية والتمييز‪.‬‬ ‫خمتلفة عن �أوروبا تت�سم باالزدواج والتداخل وميوعة‬
‫وحق ًا ف�إن الأنبياء يف ال�شرق الذين ال ح�صر لهم‪ ،‬واملر�سلني‬ ‫احلدود بني ت�شكيلة و�أخرى‪.‬‬
‫على كرثتهم‪ ،‬م�ؤ�شر التعدد والتنوع والتفتح والت�سامح‪.‬‬ ‫�صحيح �أن ال�سمة الغالبة لهذه الت�شكيالت البدائية‬
‫مرت كل الأمم وال�شعوب مبوجات من احلروب والعنف‬ ‫عبودية �إقطاع الق�سوة والعنف والع�صبية �إال �أنها �أي�ضا قد‬
‫والق�سوة �سواء داخل كل �أمة و�شعب �أو بينهما وجوارهما‪،‬‬ ‫حملت بذار التفتح والت�سامح‪ ،‬كما �أن الت�سامح و�إن ارتبط‬
‫وحتى البعيدون عنهم‪ ،‬وتاريخ الب�شرية كلها مليء بكوارث‬ ‫بالتحديث والتح�ضر واال�ستقرار‪� ،‬إال �أن هذه احل�ضارات قد‬
‫العنف واالحرتاب منذ الوالدة‪ ،‬كما عرف �أي�ض ًا �ألوان ًا من‬ ‫زخرت بالق�سوة والعنف واحلروب �أي�ضاً‪.‬‬
‫التفتح واحلوار والت�سامح‪.‬‬ ‫ق�صة هابيل وقابيل دالة لأنها تعود �إىل مراحل باكرة‬
‫�إن الديانات ال�سماوية (التوحيدية الثالث) قد عرفت‬ ‫يف التاريخ الب�شري (ق�صة الراعي واملزارع) ب�أبعادهما‬
‫التع�صب واالحرتاب والتجرمي والتكفري والقتل وحتى‬ ‫الرمزية قد ظلت قائمة يف كل املجتمعات والتاريخ الب�شري‬
‫الإحراق‪ ،‬كما عرفت �أي�ض ًا الت�سامح والت�آخي والرتاحم‪،‬‬ ‫واتخذت �أ�شكا ًال و�صور ًا �شتى‪ :‬التاجر العامل‪ ،‬الفالح‬
‫عرفت امل�سيحية الطوائف العديدة كما �شهدت اليهودية‬ ‫الر�أ�سمايل‪ ،‬البدوي املتمدن‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫انق�سامات �أي�ض ًا و�صراعات متنوعة‪ .‬وكان الإ�سالم �آخر‬
‫الديانات التوحيدية زاخر ًا باملذاهب الفقهية واحرتام‬ ‫ثنائيات‬
‫حرية االجتهاد قبل ع�صور االنحطاط والدكتاتورية‬
‫واال�ستبداد‪ ،‬وميثل علم الكالم الإ�سالمي مدر�سة زاهية يف‬ ‫وهل ال�صراع يف ت�شاد ودارفور �إال �صورة من �صور هابيل‬
‫حرية الر�أي والتعبري‪ ،‬واحرتام حق االعتقاد‪ ،‬ويف الوقت‬ ‫وقابيل؟! وميكن الرتميز بهابيل وقابيل ملا يجري بني‬
‫�أي�ض ًا �شهد الفكر الكالمي خالفات تبد�أ وال تنتهي حتى يف‬ ‫�إ�سرائيل والعرب وبني �أمريكا والعديد من بلدان العامل‪،‬‬
‫�أكرث هذه املذاهب عقالنية وحترراً‪ ،‬فالأحناف على �سبيل‬ ‫وبالأخ�ص العراق وفل�سطني و�أفغان�ستان‪ ،‬فالرموز الب�شرية‬
‫‪88‬‬
‫املثال‪ ،‬وهم من �أكرث املذاهب ا�ستناد ًا �إىل العقل‪ ،‬قد وقعوا‬
‫يف كمائن التكفري والتخوين للخ�صوم‪ ،‬وحمنة �أحمد بن‬
‫حنبل مع املعتزلة معروفة‪ ،‬فالفاجع �أن حمنة ابن حنبل‬
‫و�أتباعه من القائلني بعدم خلق القر�آن قد بد�أت على يد‬
‫املعت�صم‪ ،‬وهو الأمي الذي يكره العلم كراهة املوت‪.‬‬
‫ولقيت املطرفية يف اليمن‪ ،‬وهي ان�شقاق متطور من االعتزال‬
‫والزيدية‪ ،‬حرب �إبادة‪� .‬أما يف امل�سيحية ف�إن حماكم التفتي�ش‬
‫التزال ت�ؤرق ال�ضمري الإن�ساين‪ .‬واال�ضطهاد والقمع بني‬
‫الكاثوليك والربوت�ستانت اليزال قائم ًا حتى اليوم‪.‬‬
‫اليهودية‬
‫يف اجلانب التاريخي معروف ال�صراع‬
‫الكالح والدامي بني الر�سل والأنبياء‬
‫و�أتباعهم من بني �إ�سرائيل والعهد‬
‫القدمي والقر�آن يحويان عديد ًا من ق�ص�ص‬
‫املعاناة والكيد اللذين تعر�ض لهما الأنبياء‬
‫واملر�سلون‪.‬‬
‫يف اجلانب النظري ترى الباحثة الربيطانية كارين‬
‫�أرم�سرتونغ «�أن للتوراة �أو �شريعة مو�سى عليه ال�سالم‬
‫منطقها الروحي اخلا�ص بها‪ ،‬وكانت �ش�أنها يف ذلك �ش�أن‬
‫(القبااله) متثل ا�ستجابة للنزوح الذي �أتى به املنفى‪،‬‬
‫فعندما تعر�ض بنو �إ�سرائيل للرتحيل �إىل بابل يف القرن‬
‫ال�ساد�س قبل امليالد و�شهدوا دمار املعبد و�أطالل حياتهم‬
‫الدينية �أ�صبح ن�ص ال�شريعة معبد ًا جديد ًا يقيم فيه‬
‫النازحون لون ًا من الوجود الإلهي»‪.‬‬
‫وكان الن�ص على تق�سيم العامل �إىل ما هو طاهر وما هو‬
‫جن�س وما هو مقد�س‪ ،‬وما هو دنيوي ميثل �إعادة تنظيم‬
‫العامل املمزق ب�صورة �إبداعية مبتكرة‪ .‬وكان اليهود يرون‬
‫يف درا�سة �شريعتهم يف املنفى خربة دينية عميقة‪� ،‬أي‬
‫�أنهم مل يكونوا يقر�أون الن�ص مثل ما يقر�أه املحدثون طلب ًا‬
‫للمعلومات فقط‪ ،‬بل كانت عملية الدرا�سة نف�سها‪� ،‬أي طرح‬
‫الأ�سئلة والعثور على �إجابات لها‪ ،‬واملناق�شات احلامية‬
‫واال�ستغراق يف �أدق التفا�صيل‪ ،‬هي التي جتعلهم ي�شعرون‬
‫بالوجود الآلهي(‪ .)1‬ال يفوتنا �أن ن�شري �إىل �أن العزلة يف‬
‫الكتاب املقد�س وتق�سيم العامل �إىل خري و�شر قد خلقا‬
‫ا�ستعالء ديني ًا وع�صبية عرقية جند ثمارها الكارثية يف‬
‫الو�ضع الإ�سرائيلي القائم‪.‬‬
‫للغرب‪ ،‬ولكنها ال ت�ستطيع الهرب منها‪� ،‬إذ �أدت احل�ضارة‬ ‫ويالحظ الدكتور عبد الوهاب امل�سريي �أن الت�شريعات‬
‫الغربية �إىل تغيري العامل تغيري ًا ال ي�سمح لأي �شيء بالعودة‬
‫املختلفة هي حمور اخلالف بني الفرق اليهودية يف الع�صر‬
‫�إىل ما كان عليه حتى الدين‪ ،‬بعد �أن �شغل النا�س يف �شتى‬ ‫احلديث‪� ،‬إذ يرى اليهود املتزمتون �أنهم مكلفون بتنفيذ‬
‫بقاع الأر�ض بهذه الأحوال اجلديدة‪ ،‬وا�ضطروا �إىل �إعادة‬ ‫كل ما جاءت به ال�شريعة اليهودية ويف �صياغة حياتهم‬
‫تقييم تقاليدهم الدينية التي كانت موجهة لنمط بالغ‬ ‫وفق ًا لقواعدها‪ .‬بينما يذهب الإ�صالحيون �إىل القول �إن‬
‫االختالف من �أمناط املجتمع(‪.)3‬‬ ‫الت�شريعات مرتبطة مبكان وزمان حمددين‪ ،‬و�إن قواعدها‬
‫والواقع �أن ن�ش�أة الأ�صولية ال ميكن قراءتها فقط من‬ ‫غري ملزمة‪ .‬ويرى املحافظون �أنهم ينفذون روح ال�شريعة‬
‫منطق التعميم‪ ،‬فهي متعددة ومتنوعة وقراءتها امل�سيحية‬ ‫دون حرفيتها(‪.)2‬‬
‫خمتلفة عنها بهذا القدر �أو ذاك يف الإ�سالم �أو اليهودية‬
‫�أو البوذية �أو �أي مذهب من املذاهب‪ ،‬وما يعنينا �أكرث هنا‬ ‫الأ�صولية‬
‫قراءة الأ�صولية يف املنطقة العربية وحتديد ًا االجتاهات‬
‫وترى الباحثة �أن احلركات الأ�صولية قد ن�ش�أت وارتبطت اجلاحمة للتكفري والتخوين‪ ،‬ومدى قربها �أو بعدها من روح‬
‫ارتباط ًا حيوي ًا باحلداثة‪ .‬فهي ترف�ض العقالنية العلمية العقالنية والت�سامح‪ ،‬الذي يحتل م�ساحة �أعمق و�أو�سع يف‬
‫‪89‬‬
‫�أبوبكر العربي واجلويني والباقالين (‪.)4‬‬ ‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ويعلل �أبو بكر الرازي لرتجيح العقل ب�أنه �أ�صل للنقل فك�أن‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫الطعن يف العقل طعن يف العقل والنقل مع ًا(‪.)5‬‬
‫ومل يجمع الفقهاء على �شيء ك�إجماعهم على �أن الإن�سان‬
‫�إذا قال قو ًال يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإميان من‬
‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ا‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫وجه واحد حمل على الإميان‪.‬‬ ‫العددق�ضية العدد‬ ‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫وي�شري و�ضاح طاهر يف مبحث له عن الت�سامح الديني يف‬ ‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫اليمن �إىل عدة حقائق منها‪:‬‬
‫‪ -‬كل جمتهد م�صيب‪.‬‬
‫الفكر الإ�سالمي و�إن كنا ندرك �أن هناك م�شرتك ًا بني كل ‪� -‬إذا اختلف مذهب �إمام ال�صالة ومذهب امل�ؤمت به فالإمام‬
‫حاكم‪.‬‬ ‫هذه الأ�صوليات‪.‬‬
‫‪ -‬ال �إنكار يف خمتلف فيه‪.‬‬ ‫يف‬ ‫أدلة‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫لها‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫�سند‬ ‫جتد‬ ‫املتطرفة‬ ‫االجتاهات‬ ‫�صحيح �أن‬
‫قرائنها لبع�ض من جوانب الدين والتاريخ والفرق والطوائف ‪ -‬ال يكون التكفري والتف�سيق �إال بديل قاطع‪.‬‬
‫املت�شددة‪ .‬ولكن الأ�صح �أن اجلوانب املعتدلة والعقالنية‬
‫علم الكالم وغنى التنوع‬ ‫هي الأكرث �شيوع ًا ورجحاناً‪ ،‬ففي الآيات ع�شرات الأدلة‬
‫على حرية الر�أي واالعتقاد‪« ،‬من �شاء فلي�ؤمن ومن �شاء‬
‫فليكفر» (الكهف ‪« ،)29‬لكم دينكم ويل دين» (الكافرون ‪ ،)6‬وميثل علم الكالم مدر�سة �إ�سالمية زاهية �أو بالأحرى‬
‫«�أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني» (يون�س ‪« ،)99‬ال مدار�س متعددة ومتنوعة وحتى متعار�ضة‪ ..‬فهناك ر�سائل‬
‫�إكراه يف الدين» (البقرة ‪« ،)256‬ادع �إىل �سبيل ربك باحلكمة املوحدين واختالف امل�صلني لأبي احل�سن الأ�شعري واحل�سن‬
‫واملوعظة احل�سنة وجادلهم بالتي هي �أح�سن» (النحل ‪ ،)125‬الب�صري ومدر�سته االعتزالية التي بد�أت منذ نهايات‬
‫«ولو كنت فظا غليظ القلب النف�ضوا من حولك» (�آل عمران القرن الثاين الهجري حني تالقت �أفكار امل�سلمني‪ .‬وبد�أ‬
‫االحتكاك بني هذه الأجنا�س املختلفة تظهر �آثاره بالنقا�ش‬ ‫االجتاهات ‪.)159‬‬
‫املتطرفة والقر�آن الكرمي زاخر بالآيات الداعية �إىل العقل والتفكري واخل�صام يف �أ�صول الديانات وعقائدها‪ .‬وات�سع اجلدل‬
‫والنظر والتدبر‪« .‬ال يكلف اهلل نف�سا �إال و�سعها» (البقرة فيها �شيئ ًا ف�شيئاً‪ ،‬فتناول الأحداث التاريخية واالختالف‬
‫جتد �سنداً ‪« ،)286‬يريد بكم الي�سر وال يريد بكم الع�سر» (البقرة ‪ ،)185‬بني علماء امل�سلمني(‪.)6‬‬
‫لها و�أدلة «يريد اهلل �أن يخفف عنكم وخلق الإن�سان �ضعيفاً» (الن�ساء وقد مثلت هذه املدار�س بغناها وتعددها وتنوعها وحوارياتها‬
‫‪« ،)28‬وما جعل عليـكم يف الدين من حرج» (احلج ‪ .)78‬الوا�صلة حد اجلدل واخل�صام مع نف�سها‪ ،‬ومع امللل والنحل‬
‫يف الدين والأحاديث ال�صحـيحة ال�شـارحة للكتاب تزكي وت�ؤكد هذا املختلفة مناهج حقيقية للعلم واملعرفة واحلرية والت�سامح‬
‫املنحى‪�« ..‬إن هـذا الدين متني ف�أوغلوا فيه برفق �إن اهلل والقبول بالر�أي الآخر املختلف‪.‬‬
‫والتاريخ‪ ..‬يحب �أن ت�ؤتى رخ�صه كما يحب �أن ت�ؤتى عزائمه»‪« .‬عليكم ويالحظ الباحث الإ�سالمي حممد عمارة يف مقدمة ر�سائل‬
‫العدل والتوحيد «ن�ستطيع �أن جند فكر الأ�شاعرة و�أ�صحاب‬ ‫لكن من الأعمال ما تطيقون ف�إن اهلل ال ميل حتى ال متلوا»‪.‬‬
‫الأثر واحلديث بكرثة حممودة يف القاهرة مثالً‪ .‬كما‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫نلحظ‬ ‫وبتتبع �سري �أئمة املذاهب والفرق الإ�سالمية‬
‫العقالنية غالبيتهم العظمى قد رددت القول امل�أثور االختالف رحمة جند فكر ال�شيعة الإمامية يف النجف الأ�شرف‪ ،‬وخا�صة‬
‫�أكرث �شيوع ًا و�أن اخلالف ال يف�سد للود ق�ضية وقال ال�شافعي‪ :‬ر�أيي الإ�سماعيلية يف الهند وباك�ستان»(‪.)7‬‬
‫�صواب يحتمل اخلط�أ ور�أيك خط�أ يحتمل ال�صواب‪� .‬أما وكان المتزاج الأفكار �أو تالقحها كتعبري حميي الدين ابن‬
‫ورجحان ًا الإمام �أبو حنيفة النعمان فكان يردد هذا ر�أي ر�أيناه‪ ،‬فمن عربي يف فتوحاته �أثر عميق يف احلياة الفكرية واحلياة‬
‫جاء ب�أف�ضل منه اتبعناه‪ .‬وين�ص منت الأزهار يف مذهب ال�سيا�سية فقد كانت الوظائف تعطى للم�ستحق الكف�ؤ‬
‫الزيدية‪ ..‬وهو مرجع مهم على «ال نكري يف خمتلف فيه»‪ .‬بغ�ض النظر عن عقيدته ومذهبه‪ ،‬فالأطباء امل�سيحيون‬
‫وكان �أحمد بن تيمية احلراين من جمددي القرن الثامن يف العهدين الأموي والعبا�سي ظلوا حمل الرعاية لدى‬
‫كثريا ما يردد «�إمنا �أهلك النا�س رجالن ن�صف طبيب من اخللفاء‪ .‬وكان لهم الإ�شراف على مدار�س الطب يف بغداد‬
‫ودم�شق زمن ًا طويالً‪ .‬وكانوا يعينون يف منا�صب مهمة يف‬ ‫عاجله �أماته ون�صف عامل من �أفتاه �أف�سد دينه»‪.‬‬
‫لقد نظر �أئمة املذاهب �إىل �آرائهم وفتاواهم ك�آراء واجتهاد الدولة الإ�سالمية ‪.‬‬
‫(‪)8‬‬

‫لهم يف قراءة الن�ص‪ ،‬مهتدين باحلديث ال�شريف «من �أ�صاب وكانت احللقات العلمية يف ح�ضرة اخللفاء جتمع بني‬
‫فله �أجران ومن �أخط�أ فله �أجر» ولي�ست املعتزلة وحدها من خمتلف العلماء على اختالف �أديانهم ومذاهبهم‪ .‬كانت‬
‫قالت بتقدمي العقل على النقل‪ ،‬بل �إن عامل ًا جمتهد ًا يقلده للم�أمون حلقة علمية يجتمع فيها علماء الديانات واملذاهب‬
‫ال�سلفيون والتيارات التكفريية هو ابن تيمية يقول‪�« :‬إذا كلها‪ .‬وكان يقول لهم ابحثوا ما �شئتم يف العلم من غري‬
‫حدث تعار�ض بينهما‪ :‬العقل والنقل ف�إما �أن يجمع بينهما �أن ي�ستدل كل واحد منكم بكتابه الديني كي ال تثور بذلك‬
‫وهو حمال لأنه جمع بني النقي�ضني‪ ،‬و�إما �أن يردا جميعا» م�شاكل طائفية(‪ ،)9‬ومثل تلك احللقات العلمية ال�شعبية‬
‫واحلل؟ يرد فهمي هويدي «فوجب تقدمي العقل» وي�ضيف �أن قال خلف بن املثنى‪« :‬لقد �شهدنا ع�شرة يف الب�صرة‬
‫هذا الر�أي مبثابة قانون كليب عند �أكرث الأئمة املجتهدين‪ ،‬يجتمعون يف جمل�س واحد ال يعرف �أحد مثلهم يف الدنيا‬
‫الفخر الرازي و�أتباعه‪ .‬وقبله الإمام الغزايل‪ ،‬والقا�ضي علم ًا ونباهة‪ .‬وهم اخلليل بن �أحمد الفراهيدي �صاحب‬
‫‪90‬‬
‫النحو وهو (�سني)‪ ،‬واحلمريي ال�شاعر وهو (�شيعي)‪ ،‬ت�سبوا الدهر ف�إن اهلل هو الدهر» والدهرية قالوا �إن الدهر‬
‫و�صالح بن عبد القدو�س وهو (ثنوي)‪ ،‬و�سفيان بن جما�شع مبا يقت�ضيه جمبول من حيث الفطرة الإلهية على ما هو‬
‫وهو (خارجي �صفري)‪ ،‬وب�شار بن برد وهو (�شعوبي خليع واقع فيه فما ثم �إال �أرحام تدفع و�أر�ض تبلع(‪.)12‬‬
‫ماجن)‪ ،‬وحماد عجرد وهو (زنديق �شعوبي)‪ ،‬وابن را�س‬
‫التحاور‪ ..‬املبتد�أ واخلرب‬ ‫اجلالوت ال�شاعر وهو (يهودي)‪ ،‬وابن نظري املتكلم وهو‬
‫(ن�صراين)‪ ،‬وعمر بن امل�ؤيد وهو (جمو�سي)‪ ،‬وابن �سنان‬
‫احلراين ال�شاعر وهو (�صابئ)‪ ،‬كانوا يجتمعون فيتنا�شدون التحاور قيمة �إن�سانية عظيمة‪ ،‬ومبقدار ما ارتبط الت�سامح‬
‫الأ�شعار ويتناقلون الأخبار‪ ،‬ويتحدثون يف جو من الود ال واحلرية والت�آخي باحلوار مبقدار ما ارتبط الطغيان والف�ساد‬
‫تعدد الأنبياء‬ ‫تكاد تعرف منهم �أن بينهم هذا االختالف ال�شديد يف والظلم بالكبت والإرهاب وم�صادرة احلرية‪.‬‬
‫م�ؤ�شر للتنوع‬ ‫وال ميكن بحال التربير للقمع والإرهاب بالدين‪ ،‬فجوهر‬ ‫ديانتهم ومذاهبهم»(‪.)10‬‬
‫الدين ‪� -‬أي دين ‪ -‬يتوخى العدل والإن�صاف واحرتام‬
‫والتفتح‬ ‫الإرادة واحلرية‪ ،‬فقد حتاور اهلل مع املالئكة «و�إذ قال ربك‬ ‫الت�صوف وتعدد احلقيقة‬
‫والت�سامح‬ ‫للمالئكة �إين جاعل يف الأر�ض خليفة قالوا �أجتعل فيها من‬
‫ويعترب الت�صوف الإ�سالمي �إحدى الثمار الناجحة للتفتح يف�سد فيها وي�سفك الدماء ونحن ن�سبح بحمدك ونقد�س‬
‫والت�سامح وحق االختيار‪ .‬وكانت مدر�سة احلالج وال�شبلي لك قال �إين �أعلم ما ال تعلمون» (الآية ‪ 30‬البقرة)‪ ،‬والقر�آن‬
‫واجلنيد‪ ،‬ثم فيما بعد ابن عربي والغزايل وال�سهروردي ي�شتمل على ع�شرات الآيات والق�ص�ص التي حتاور فيها‬
‫والق�شريي و�صو ًال �إىل �صاحب الإن�سان الكامل «عبد الكرمي �إبلي�س مع اهلل‪ ،‬وحتاور فيها الأنبياء مع خمالفيهم‪ ،‬وعر�ض‬
‫اجليلي» فقد رفع املت�صوفون �شعارات املحبة والعرفان‪ .‬القر�آن لهذه الآراء املنكرة واجلاحدة دون زراية �أو نكري‪.‬‬
‫وكان �شعارهم الأكرث �شيوع ًا وعمق ًا «الطرائق بعدد «اذهبا �إىل فرعون �إنه طغى فقوال له قو ًال لين ًا لعله يذكّر‬
‫�أو يخ�شى» (‪� 44 - 43‬سورة طه)‪ .‬فاحلرية �أقد�س و�أثمن ما‬ ‫اخلالئق»‪.‬‬
‫لقد �سبق املت�صوفة التيارات احلداثية وما بعد احلداثية ميتلك الإن�سان وهي حق مواطنة وحق �إن�ساين وحياتي‪ .‬وهي‬
‫يف جعل الإن�سان يف مركز الكون بل ارتفعوا به �إىل مراتب م�س�ؤولية عقلية ودينية و�أخالقية واجتماعية و�سيا�سية‪.‬‬
‫ويرتبط بهذه احلرية م�ستقبلنا وم�ستقبل �أجيالنا ك�أفراد‬ ‫�أ�سمى و�أعلى‪.‬‬
‫والكل على حق فعبد الكرمي اجليلي يف كتابه القيم «الإن�سان وك�شعوب وك�أمة‪ .‬فاال�ستبداد �أ�سو�أ �أنواع ال�سيا�سة‪ ،‬و�أكرثها‬
‫الكامل» يحدد ثالثة �أوجه للو�صول �إىل املعرفة الكاملة وهو فتك ًا بالإن�سان وبغري الإن�سان يف املجتمع املحكوم بالظلم‬
‫ما يرد �إىل قلبك من طريق اخلاطر الرباين وامللكي وهو ما والطغيان‪ ،‬مما ي�ؤدي �إىل الرتاجع يف كافة مرافق احلياة‬
‫قال به العديد من ال�صوفية و�أ�صحاب العلم اللدين‪ ،‬ومنهم ووجوهها و�إىل تعطيل الطاقات وهدرها‪ ..‬يرى املفكر‬
‫حجة الإ�سالم ابو حامد الغزايل الذين يرون املعرفة نور ًا الكواكبي يف (طبائع اال�ستبداد) «�أن اال�ستبداد �أ�صل لكل‬
‫يقذف اهلل به يف قلب العبد‪ .‬الوجه الثاين ما يرد على ل�سان ف�ساد‪ ،‬ومبنى ذلك �أن البحث امل�ؤكد يف �أحوال الب�شر وطبائع‬
‫من ين�سب �إىل ال�سنة واجلماعة وي�شرتط الأخذ به �أن توجد االجتماع ك�شف �أن لال�ستبداد �أثر ًا �سيئ ًا يف كل واد»‪.‬‬
‫له �شواهد‪� ،‬أو يكون حمم ًال فهو املراد ح�سب تعبريه ويحيل فاال�ستبداد ي�ضغط على العقل فيف�سده‪ .‬ويلعب بالدين‬
‫فيف�سده‪ .‬ويحارب الدين فيف�سده‪ .‬ويغالب املجد فيف�سده‪،‬‬ ‫�إىل الإلهام وبني التوقف واال�ست�سالم‪.‬‬
‫الوجه الثالث �أن يكون وارد ًا على ل�سان من اعتزل عن ويقيم مقامه التمجد ‪.‬‬
‫(‪)13‬‬

‫املذهب والتحق ب�أهل البدعة‪ ،‬فهذا العلم هو املرفو�ض‪.‬‬


‫هوام�ش‪:‬‬ ‫وي�ضيف ولكن الكي�س ال يرف�ض مطلقا بل يقبل منه ما‬
‫يقبله الكتاب وال�سنة من كل وجه ويرد منه ما يرده الكتاب‬
‫(‪ )1‬معارك يف �سبيل الإله الأ�صولية يف اليهودية وامل�سيحية والإ�سالم‬ ‫وال�سنة من كل وجه‪ .‬وق َّل �أن يتفق مثل هذا يف م�سائل �أهل‬
‫«كارين �أرم�سرتونغ» ترجمة د‪ .‬فاطمة ن�صر‪ .‬د‪ .‬حممد عناين‬
‫(‪ )2‬املو�سوعة اليهودية ‪� 52‬ص ‪ 146 ،145‬د‪ .‬عبد الوهاب امل�سريي‬ ‫القبلة‪ ،‬وما قبله الكتاب �أو ال�سنة من وجه ورده من وجه‬
‫(‪ )3‬معارك يف �سبيل الإله م�صدر �سبقت الإ�شارة �إليه �ص‪8‬‬ ‫فهو فيه على ذلك املنهج(‪.)11‬‬
‫(‪ )4‬القر�آن وال�سلطان «هموم �إ�سالمية معا�صرة» فهمي هويدي دار‬ ‫فهو يرى �أن الكفار عبدوه بالذات‪ ،‬لأنه ملا كان احلق تعاىل‬
‫ال�شروق �ص‪49‬‬
‫(‪ )5‬م�صدر �سبقت الإ�شارة �إليه �ص‪50‬‬
‫حقيقة الوجود ب�أ�سره‪ ،‬والكفار من جملة الوجود وهو‬
‫(‪ )6‬املغني يف �أبواب العدل والتوحيد �إمالء القا�ضي �أبي احل�سن عبد‬ ‫حقيقتهم فكفروا �أن يكون لهم رب لأنه تعاىل حقيقتهم‬
‫اجلبار الأ�صلح �ص و‪.‬ز‬ ‫وال رب له بل هو الرب املطلق فعبدوه من حيث ما تقت�ضي‬
‫(‪ )7‬ر�سائل العدل والتوحيد‪ :‬احل�سن الب�صري القا�ضي عبد اجلبار‬ ‫ذواتهم التي هو عينها‪.‬‬
‫الإمام يحيى بن احل�سني �ص‪51‬‬
‫(‪ )8‬القر�آن وال�سلطان وم�صدر �سبقت الإ�شارة �إليه �ص‪231‬‬ ‫والذين عبدوا الأوثان منهم‪ ،‬فل�سر وجوده بكماله بال حلول‬
‫(‪ )9‬القر�آن وال�سلطان م�صدر �سبقت الإ�شارة �إليه �ص‪232‬‬ ‫وال مزج يف كل فرد من �أفراد ذرات الوجود‪ .‬فكان تعاىل‬
‫(‪ )10‬القر�آن وال�سلطان م�صدر �سبقت الإ�شارة �إليه �ص‪232‬‬ ‫حقيقة تلك الأوثان التي يعبدونها فما عبدوا �إال اهلل‪ .‬وذلك‬
‫(‪ )11‬الإن�سان الكامل لل�شيخ عبد الكرمي �إبراهيم اجليلي �ص‪14‬‬ ‫�إتباعهم للحق يف �أنف�سهم لأن قلوبهم �شهدت لهم ب�أن‬
‫بت�صرف �شديد‬
‫(‪ )12‬الإن�سان الكامل م�صدر �سبقت الإ�شارة �إليه �ص‪110‬‬ ‫اخلري يف ذلك الأمر فانعقدت عقائدهم على حقيقة ذلك‬
‫(‪ )13‬طبائع اال�ستبداد‪ .‬وم�صارع اال�ستعباد عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫وهو عند ظن عبده به‪ .‬و�أما الدهرية «امللحدون» ف�إنهم‬
‫�ص‪56‬‬ ‫عبدوه من حيث الهوية‪ ،‬فقال عليه ال�صالة وال�سالم «ال‬
‫‪91‬‬
‫النجاة‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ا‬

‫و‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬

‫الهـالك!‬
‫نظرات يف «ر�ؤية العامل»‬
‫ٌ‬
‫يف الإ�سالم املعا�صر‬

‫�أ‪.‬د‪ .‬ر�ضوان ال�سيد ما وجد املثقفون العرب �أواخر القرن التا�سع ع�شر «ترجمة» لكلمة‬
‫‪ Tolerans‬غري «الت�ساهل»‪ .‬والواقع �أن هذا «املفرد» ُيراعي املعنى‬ ‫كاتب من لبنان‬
‫ثرُ‬
‫الأ�صلي الذي �أحاط بظهور امل�صطلح �أو ا�ستعماله‪ .‬فقد ك ا�ستعماله‬
‫يف القرن الثامن ع�شر‪ ،‬وبرز يف عنوان كتاب الفيل�سوف الربيطاين جون‬
‫لوك‪ .‬وكان بذلك يجيب على حتدي ال�صراع الطويل‪ ،‬واحلروب التي‬
‫مل تنقطع بني الكاثوليك والربوت�ستانت يف �أوروبا‪ .‬ويف النهاية كان‬
‫ال�سيا�سيون‪ ،‬ولي�س رجال الدين‪ ،‬هم الذين �أو�صلوا �إىل املُهادنة التي‬
‫دفعت باجتاه االعرتاف فيما بعد‪ .‬وهكذا فمفرد الت�ساهُ ل‪ ،‬واملفرد الآخر‬
‫الت�سامح‪ ،‬كالهما يطلبان من كل �صاحب عقيدة �أو ر�أي ديني �أو �سيا�سي‬
‫�أن يت�ساهل ويت�سامح جتاه املختلفني معه يف الدين �أو يف ال�سيا�سة �أو‬
‫ممكن‪ ،‬لكنها‬
‫ٍ‬ ‫تعاي�ش‬
‫ٍ‬ ‫يف التوجه الفكري‪ .‬وهذه درجة دنيا تو�صل �إىل‬
‫حميم بني الفئات املختلفة‪� ،‬إذ �إن ذلك‬
‫ٍ‬ ‫عي�ش‬
‫ال تعني على الو�صول �إىل ٍ‬
‫يتطلب اعرتافاً متباد ًال يتجاوز الت�ساهُ ل والت�سامح‪.‬‬

‫‪92‬‬
93
‫و�أخالدهم ‪ -‬وال�شعب الأمريكي يف القرنني الأولني مك ّون‬ ‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫من �أنا�س هاربني من اال�ضطهاد الديني �إىل �أر�ض اهلل‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫اجلديدة ‪� -‬شرور نزاعات حوايل القرنني من الزمان‪.‬‬
‫والأمر خمتلف مع التجربة العربية ‪ -‬الإ�سالمية بني الدين‬
‫والدولة لقرون و�سيطة متطاولة‪ .‬فهي ال ت�شبه طبع ًا التجربة‬
‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ا‬
‫عدد ق�ضية العدد‬
‫الأوروبية �أو البيزنطية �إبان �سيطرة الكني�سة الكاثوليكية �أو‬ ‫العددق�ضية العدد‬
‫العدد‬ ‫دد ق�ضية‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية‬
‫الأرثوذك�سية‪ .‬كما �أنها ال ت�شبه جتربة التنا ُبذ بني الطرفني‬ ‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫يف �أوروبا بعد القرن ال�ساد�س ع�شر‪ .‬بل وال ميكن القول‬
‫�إن هناك ت�شابه ًا قوي ًا بني التجربة الإ�سالمية والأخرى‬
‫الأمريكية‪ .‬لأن التجربة الأمريكية تقول باال�ستقاللية‬
‫الكاملة لكل من املجالني‪ .‬وال ميكن قول ذلك عن التجربة‬ ‫ويف الواقع‪ ،‬كان هذا امل�سعى الثقايف وال�سيا�سي هو ما‬
‫الإ�سالمية التي ما ا�ستقلت فيها الدولة متام ًا عن الدين‪.‬‬ ‫حاولت القيام به ليربالية القرن الثامن ع�شر‪ ،‬وما‬
‫لكن كما تختلف العالقة بني الدين والدولة يف الأ�صول‬ ‫ُعرف وقتها بع�صر الأنوار‪ .‬وتقوم فكرة «االعرتاف» بحد‬
‫والن�ش�أة بني الغرب والإ�سالم‪ ،‬يختلف الدين الإ�سالمي‬ ‫ذاتها على مبد�أين‪:‬املعرفة واخل�ضوع ملقت�ضياتها (ولي�س‬
‫عن الكاثوليكية يف فهم «اخلال�ص» و�إدارته‪� ،‬أو يف دور‬ ‫االعتقاد �أو امل�صلحة)‪ ،‬ون�سبية احلقيقة‪ .‬وقد حتقق الكثري‬
‫رجل الدين يف امل�شروع اخلال�صي‪ .‬فبالن�سبة للأ�صل‬ ‫من الليربالية يف املجال الفكري والثقايف‪� ،‬أما يف املجال‬
‫قامت الدولة منذ البداية يف ح�ضن الإ�سالم وبا�سمه‪ .‬لكن‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬فقد حتققت بالتدريج الدميوقراطية التمثيلية‪.‬‬
‫امل�س�ؤولني ال�سيا�سيني‪ ،‬وبعد حماوالت ا�ستمرت حلوايل‬ ‫وما �أمكن حتقيق الليربالية الدينية‪ ،‬فكان �أنْ جرتْ‬
‫القرنني‪ ،‬يئ�سوا من �إمكان احل�صول على �صالحيات ذات‬ ‫تنحيتها بالعلمانية العنيفة �أو الهادئة عن املجال العام‪.‬‬
‫طابع ديني‪ ،‬فاعرتفوا للعلماء والفقهاء با�ستقالل املجال‬ ‫وقد كان هناك من ا�ستغرب مطالع القرن التا�سع ع�شر‪،‬‬
‫الديني‪ ،‬وحقهم يف التدخل الت�شريعي‪� .‬أما الفقهاء من‬ ‫كيف ميكن حتقيق اعرتاف متبادل يف املجال ال�سيا�سي‪،‬‬
‫جانبهم فاعتربوا م�سائل ال�ش�أن العام من م�سائل «امل�صالح»‬ ‫رغم امل�صالح املت�ضاربة‪ ،‬والأمزجة الثائرة‪ ،‬وحب ال�سلطة‬ ‫تختلف‬
‫التي تعود للتقدير الإن�ساين‪ ،‬ويتوالها ال�سيا�سيون‪ .‬وبذلك‬ ‫املعروف‪ ،‬وال ميكن حتقيق ليربالية يف املجال الديني رغم‬ ‫العالقة‬
‫قامت منذ ما بعد القرن الثالث الهجري �شراكة رحبة بني‬ ‫�أن اهلل واحد‪ ،‬ومن املفرو�ض �أن رجال الدين تركوا الدنيا‬
‫الطرفني‪ .‬فاملجاالن متمايزان‪ ،‬لكن هناك منطقة رمادية‬ ‫وراءهم ظهري ًا؟! وكان هناك من �أجاب‪� :‬إن الدين اعتقاد‪،‬‬ ‫بني الدين‬
‫يتالقيان فيها‪ ،‬ويتجاذبان يف جمال اقت�سام ثرواتها �أو‬ ‫واالعتقاد ال ي�ستطيع الت�سليم بن�سبية املعرفة �أو احلقيقة‪،‬‬ ‫والدولة‬
‫�سلطاتها‪ .‬وقد ا�ستقر الأمر على هذا النحو (�سلطة �سيا�سية‬ ‫�إذ يرتتب على ذلك قو ٌل بالنجاة �أو بالهالك!‪ .‬وعلى �أي‬
‫لي�ست لها �صالحيات يف ال�ش�أن الديني‪ ،‬وعلماء ي�سيطرون‬ ‫حال‪ ،‬فالذي وجه امل�شكل باجتاه الت�سامح واالعرتاف ما‬ ‫يف الأ�صول‬
‫يف ال�ش�أن الديني‪ ،‬وال يتدخلون يف ال�ش�أن ال�سيا�سي �إال‬
‫نا�صحني) لأكرث من �ألف عام‪ ،‬وبخا�صة يف الزمن العثماين‬
‫كان تع ُّقل رجال الدين‪ ،‬وال حكمة ال�سيا�سيني‪ ،‬بل ح�صول‬
‫�أمرين‪ :‬االتفاق على تنظيمات معنية لإدارة ال�ش�أن العام‪،‬‬
‫والن�ش�أة‬
‫عندما قويت �شوكة الدولة‪ ،‬وا�ستتبعت امل�ؤ�س�سة الدينية �إىل‬ ‫واالتفاق على �إبعاد ال�ش�أن الديني عن املجال العام‪ .‬وقد‬ ‫بني الغرب‬
‫حد بعيد‪.‬‬ ‫حروب وف ٍنت متكاثر ٍة داخل كل بلد‪ ،‬وبني‬ ‫مت الأمران بعد‬
‫والواقع �أن ظهور امل�شكلة �أو ح�ضورها �أواخر القرن التا�سع‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫البلدان املتقاربة واملتباعدة‪ .‬والطريف ما يقوله الأمريكيون‬ ‫والإ�سالم‬
‫داع قوي لوال النموذج الأوروبي العنيف‬ ‫ع�شر‪ ،‬ما كان له ٍ‬ ‫خمالفني يف ذلك الأوروبيني ب�ش�أن تعليل الف�صل بني الدين‬
‫والغلاّ ب‪ .‬فقد جاءت التنظيمات العثمانية‪ ،‬ومعها مبد�أ‬ ‫وال�ش�أن العام‪ .‬الأوروبيون يقولون �إن التدخل الديني يف‬
‫املواطنة والد�ستور‪ ،‬واالنتخابات‪ .‬وتراجع الدور القانوين‬ ‫ال�ش�أن العام يف�سد الأمور‪ ،‬ويقوي احلزازات والع�صبيات‪.‬‬
‫لل�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬وما عادت هناك تفرقة بني النا�س‬ ‫بينما يقول الأمريكيون �إن ال�سيا�سة هي الكفيلة ب�إف�ساد‬
‫على �أ�سا�س الدين‪ .‬و�إمنا بقي ذلك االحرتام وتلك الهيبة‬ ‫الدين وت�شويهه‪ .‬ولذلك ف�إن املق�صود �إبعاد ال�سيا�سة عن‬
‫للإ�سالم بحكم العرف والتاريخ‪ ،‬و�أن �أكرثية النا�س ال�ساحقة‬ ‫الدين‪ ،‬ولي�س الدين عن ال�سيا�سة‪ .‬ومن هنا جاءت تلك‬
‫م�سلمة‪ .‬وما كان طموح رجال الدين �إىل الت�أثري يف ال�ش�أن‬ ‫املادة ال�شهرية والغريبة يف الد�ستور الأمريكي‪ ،‬والتي‬
‫العام‪ ،‬لأنهم ما اعتادوا ذلك طوال الع�صر العثماين‪ .‬و�إمنا‬ ‫متنع الكونغر�س من اال�شرتاع يف ال�ش�أن الديني حتلي ًال �أو‬
‫كان ال�سالطني وال�صدور العظام والوالة ي�ستدعون �أرباب‬ ‫حترمي ًا‪ ،‬رف�ض ًا �أو ن�صرة!‬
‫امل�ؤ�س�سات الدينية من �أجل احل�صول على موافقتهم على‬
‫القوانني اجلديدة يف �صيغة فتاوى‪ ،‬لتح�سينها وجتميلها‬ ‫‪f f f‬‬
‫يف عيون العامة‪ .‬وما كان كثريون من العلماء م�سرورين‬
‫بالدنيا اجلديدة والغريبة عليهم‪ ،‬لكنهم كانوا عدميي‬ ‫العرب يح�سون بامل�شكلة بني الدين والدولة‪،‬‬
‫‪ ..‬وعندما بد�أ ُ‬
‫احليلة واحليل‪ ،‬ولو �أنهم تذمروا �أو ثاروا فما كانوا ميلكون‬ ‫�إمنا حدث ذلك و�سط ح�ضو ٍر طا ٍغ للتجربة الأوروبية‬
‫النموذج القريب الآخر‪ ،‬املخالف لنموذج الدولة الوطنية‬ ‫ال�سلبية مع الدين‪ ،‬ولي�س للتجربة الأمريكية املختلفة‪ .‬ومرة‬
‫املتم�صرين ملو�ضوع‬
‫ّ‬ ‫ال�صاعدة‪ .‬ولذا ف�إن �إثارة اللبنانيني‬ ‫�أخرى ما كانت العبقرية الأمريكية وراء تلك «احلكمة» يف‬
‫عالقة الدين بالدولة‪ ،‬واملطالبة بالف�صل بينهما �ش�أن‬ ‫التعامل مع الدين‪ ،‬بل �إنهم �شاهدوا و�شهدوا ب�أج�سادهم‬
‫‪94‬‬
‫العنف متثل ن�سبة �ضئيلة �ضمن تيارات «ال�صحوة»‪ ،‬بيد‬ ‫ما حدث بفرن�سا‪� ،‬إمنا كان املق�صود به لي�س التذمر من‬
‫�أن الر�ؤية واحدة‪ ،‬ومفادها �أن امل�سلمني غادروا الإ�سالم‬ ‫�سلطة رجال الدين امل�سلمني‪ ،‬بل من الهالة الدينية خلالفة‬
‫�أو غفلوا عنه‪ ،‬و�أن املطلوب واملفرو�ض ا�ستعادة املجتمعات‬ ‫ال�سلطان عبداحلميد‪ ،‬ومن جلوء احلكام والوالة امل�سلمني‬
‫الإ�سالمية �إىل الدين احلنيف بالقوة �أو باحل�سنى عن‬ ‫�إىل تلك الهالة‪ ،‬للحيلولة دون حتديد �سلطاتهم وتقييدها‬
‫طريق �إقامة الدولة التي تطبق ال�شريعة‪ .‬ولأن احلوائل دون‬ ‫بالد�ساتري والقوانني وامل�ؤ�س�سات‪ .‬بيد �أن الأمر جتاوز حده‬
‫ذلك ال تقت�صر على اخلارج الهاجم‪ ،‬بل �إن التغريب جتذر‬ ‫بع�ض ال�شيء عندما راح بع�ض ه�ؤالء يقارنون بني ا�ضطهاد‬
‫يف الداخل‪ ،‬فالرد ينبغي �أن يكون عام ًا و�شام ًال ويف الدين‬ ‫الكني�سة للمفكرين يف الع�صور الو�سطى‪ ،‬وا�ضطهاد بع�ض‬
‫والثقافة وال�سيا�سة‪ ،‬لإع��ادة �صياغة كل �شيء بالت�أ�صيل‬ ‫املفكرين امل�سلمني يف التاريخ الإ�سالمي‪ .‬وهنا ويف جتربة‬
‫وبالت�صفية وبالتطهري وبالبرت‪.‬‬ ‫طه ح�سني وعلي عبدالرازق و�آخرين لعبت عقلية احلداثة‬
‫ويحدث ذلك كله يف ثقافتنا وديننا وفهم �ش�أننا العام‪ ،‬يف‬ ‫‪ -‬وهي عقلية خ�صوم ٍة وطهوري ٍة بروت�ستانتية‪ -‬دور مثري‬
‫الوقت الذي تطور وتغري فيه الأمر يف العامل من الت�ساهل‬ ‫امل�شكالت‪ ،‬وخمرتع امللفات غري املوجودة‪ .‬ولو كان الو�ضع‬
‫والت�سامح �إىل دعوات العي�ش واالعرتاف الكامل واملتبادل‬ ‫يف م�صر هو مثل و�ضع �ساقونا روال ب�إيطاليا الو�سيطة‪،‬‬
‫بني الثقافات والأديان والأنظمة االقت�صادية وال�سيا�سية‪.‬‬ ‫حرق كما �أُحرق الراهب‪ .‬لكن يف الواقع ما ح�صل له‬ ‫لأُ َ‬
‫وقد �أملت خري ًا حني �أقبل �إ�سالميون كثريون يف الت�سعينيات‬ ‫�شيء‪ ،‬بل �صار وزير ًا بعد كتابه الثوري‪ :‬الإ�سالم و�أ�صول‬
‫«�صدام احل�ضارات»‬ ‫من القرن املا�ضي للرد على دعوة ِ‬ ‫احلكم!‬
‫مل يرد الغرب‬ ‫با�ستك�شاف قيم الت�سامح والتعدد يف املجتمعات الإ�سالمية‬ ‫وفقرة �أخرية ال �أتعمد �أن تكون غريبة يف هذا ال�سياق‪ .‬ما‬
‫الو�سيطة‪ ،‬والنعي على الغرب �أنه ما عرف يف �أزمنته‬ ‫كان م�صطفى كمال م�ضطر ًا بعد �إ�سقاط اخلالفة �إىل‬
‫بالإ�سالم‬ ‫الو�سيطة الت�سامح جتاه التعدد الديني‪ ،‬وال االعرتاف‬ ‫ا�ضطهاد الإ�سالم نف�سه‪ ،‬وال كانت تركيا بحاجة �إىل تلك‬
‫�صالح ًا‬ ‫بالآخر اليهودي �أو امل�سلم �أو البوذي‪� ..‬إلخ‪ .‬لكن ال�ضربات‬ ‫العلمانية ال�شر�سة لإن�شاء الدولة احلديثة‪ .‬ولو �أنه �أبقى بعد‬
‫املتبادلة بني الراديكاليني الإ�سالميني‪ ،‬والأمريكيني‬ ‫اخلالفة على م�شيخة الإ�سالم‪� ،‬أو من�صب مفتي تركيا �أو‬
‫و�إمنا �أراد به‬ ‫والأوروبيني قبل ‪� 11‬أيلول‪�/‬سبتمرب وبعده‪� ،‬أحدثت لدى‬ ‫ا�سطنبول (و�شيخ الإ�سالم هو يف الأ�صل مفتي ا�سطنبول)‬
‫�صدام ًا يف‬ ‫عامة امل�سلمني نزعات الرثاء للنف�س‪ ،‬والثوران الأعمى على‬
‫الآخر الهاجم انتقام ًا وت�شفي ًا وهيمنة‪ .‬ويف �أجواء الت�صادم‬
‫ملا كانت هناك م�شكلة لنظام حكمه‪ ،‬وال للعالقة بني الدين‬
‫والدولة يف بلد ال�سلطنة واخلالفة‪ .‬لكن الذي يظهر �أن ذلك‬
‫عقر داره‬ ‫والتقاتل ما جتددت الفر�صة لدى �سائر الأطراف للنظر‬ ‫كان مطلوب ًا منه و�أنه كان يكره التقليد ورجاالته‪ِ ،‬ل َ�ش َر ِه ِه‬
‫واالقتناع باحلوار واالنفتاح‪ ،‬كما حتر�ص بع�ض النخب يف‬ ‫�سنوات قليلة‪� .‬أما الت�سامح و�أما‬‫ٍ‬ ‫حديث يف‬
‫كيان ٍ‬ ‫�إىل �إقامة ٍ‬
‫العاملني الغربي والإ�سالمي على الت�أميل والتخطيط‪ ،‬بل‬ ‫فاحلديث عنهما ال مكان له‪ ،‬يف دولة العلمانيني‬ ‫ُ‬ ‫الت�ساهل‪،‬‬
‫واملمار�سة �أحيان ًا‪.‬‬ ‫الأوائل يف العامل الإ�سالمي‪.‬‬
‫يقول العقل ويقول املنطق ويقول الواقع �إنه ال م�صلحة‬
‫لنا يف �إخافة العامل وال يف اخلوف منه‪ .‬وال�سبيل الوحيدة‬ ‫‪f f f‬‬
‫املتاحة لبلوغ ذلك تتمثل يف ال�سعي للدخول يف العامل‬
‫ومعه‪ ،‬وامل�شاركة فيه‪ ،‬والت�أثري باجلدية وبالفعالية ل�صالح‬ ‫يف الفرتة التي ظهر فيها مطلب الت�سامح(‪)1920-1880‬‬
‫ق�ضايانا و�إعزاز �إن�ساننا وديننا وثقافتنا‪ .‬على �أن امل�شهد‬ ‫ما كانت هناك حاجة ما�سة �إل��ي��ه‪ ،‬و�إمن��ا كانت احلاجة‬
‫احلا�ضر لدى الطرفني ال يبعث على التفا�ؤل‪ .‬ف�شبابنا‬ ‫للإ�صالح الديني وال�سيا�سي‪ .‬ومع ذلك فالذي حدث لي�س‬
‫�صاروا �أقل ت�ساحم ًا جتاه بني قومهم‪ ،‬وجتاه املختلفني‬ ‫ل�شي �إال‬
‫الإ�صالح‪ ،‬و�إمنا َ�ص ْد ُم الإ�سالم يف عقر داره‪ ،‬ال ٍ‬
‫عنهم ومعهم يف العامل‪ .‬وال�شعوب الغربية ترتاوح �إزاءنا‬ ‫للت�شبه بالتجربة الغربية‪ ،‬وبالتحديد الفرن�سية‪ ،‬احلديثة‪.‬‬
‫بني الالمباالة واخلوف بعد �أن �صار الإ�سالم م�شكلة عاملي ٌة‪.‬‬ ‫لكننا ومنذ ثالثة عقود بحاجة فعلية للت�سامح‪ .‬فهذه‬
‫«هم» يعتقدون �أننا نريد �إعاقة تقدمهم ورفاههم ونتحدى‬ ‫امل��رة حدث تغيري قوي وعميق بداخل الإ���س�لام‪ .‬ذلك �أن‬
‫�أ�سلوب حياتهم‪ .‬وكثريون منا يعتقدون �أن «هدفهم» الإلغاء‬ ‫ظاهرة «الأ�صولية الإ�سالمية» لي�ست بالأمر العار�ض �أو‬
‫�أو الهيمنة وال �شيء غري‪ .‬وبني الإنكار واال�ستنكار ال مكان‬ ‫الهام�شي‪ ،‬كما �أن املوقف من الأدي��ان الأخ��رى والثقافات‬
‫للت�سامح وال الت�ساهل‪ .‬والذي �أراه �أن التغيري البد �أن يبد�أ‬ ‫وال��ع��امل امل��ع��ا���ص��ر‪ ،‬لي�س م�����ص��ادف��ة �أن يت�سم بالت�شدد‬
‫عندنا‪ :‬يف تعاملنا مع �أنف�سنا‪ ،‬ومع جمتمعاتنا وثقافتنا‬ ‫واالنغالق‪ .‬فقد تطورت حركات الهوية يف العاملني العربي‬
‫و�سلطاتنا‪ .‬فالذين ال تعجبهم ال�سلطة القائمة �أو بع�ض‬ ‫والإ�سالمي �إىل اجتاهات �أ�صولية ت�أ�صيلية‪ ،‬تطورت لديها‬
‫ت�صرفاتها و�سيا�ساتها يحاولون �إ�صالحها ال هدمها‪ .‬البد‬ ‫ر�ؤية للعامل ذات خ�صو�صية �شديدة ومرهقة‪ .‬فهي حتمل‬
‫من تغيري يف «ر�ؤية العامل» يف �أو�ساطنا بدء ًا بر�ؤية القريب‬ ‫من جهة على التقليد الديني الإ�سالمي (تقليد املذاهب‬
‫والظاهر واملُ ْد َرك واملرقوب واملرغوب‪ .‬وعندما نتقدم على‬ ‫الفقهية) باعتباره عاجز ًا وتابع ًا لل�سلطات‪ .‬وهي ُتدينُ‬
‫طريق ال�سالم وال�سالمة الذاتية‪ ،‬تتجدد الفر�ص لتغيري‬ ‫العا َمل املُعا�صر باعتباره مبجمله م�ؤامر ًة على الإ�سالم‪،‬‬
‫ر�ؤى و�سلوك الآخرين جتاهنا‪ .‬فمتى نت�سامح جتاه �أنف�سنا‬ ‫وهي تفهمه كله حتت م�صطلح ومفهوم «التغريب»‪ ،‬وت�شن‬
‫وما هو املطلوب منها‪ ،‬وكيف ن�صري �إىل ذلك؟‬ ‫عليه حرب ًا �شعواء يف التفكري واملمار�سة‪ .‬وينتهي الأمر بتلك‬
‫فيا دا َرها باخليف �إنّ م َزارها‬ ‫احلركات والتوجهات �إىل حزبية قا�سية تطورت �إىل �إحداث‬
‫قريب ولكنْ دون ذلك � ُ‬
‫أهوال‬ ‫ٌ‬ ‫ال�شقاقات بداخل الإ���س�لام نف�سه‪ ،‬و�صحيح �أن حركات‬
‫‪95‬‬
‫قد ال جنانب ال�صواب‪� ،‬إذا ما اعتربنا �أن �أول دفاع عن الت�سامح‬ ‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫ق�ضية العدد ق�ضية العدد يف الفكر العربي املعا�صر‪ ،‬تبلور على �صفحات جملة «اجلامعة»‪،‬‬
‫التي كان ي�شرف على حتريرها فرح �أنطون‪ .‬و�أن الف�ضل يعود‬
‫�إىل هذا امل�صلح بالذات‪ ،‬يف تقدمي حمتوى املفهوم و�إبراز‬ ‫العددالعدد‬ ‫ق�ضية‬
‫ا ق�ضية العدد‬
‫عدد‬
‫�أهميته‪ ،‬وذلك يف �إطار تقدميه ملنظومة احلداثة ال�سيا�سية‬ ‫العدد‬ ‫ق�ضية‬ ‫ق�ضية‬ ‫دد‬
‫ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫كما تبلورت يف الفكر ال�سيا�سي احلديث‪.‬‬ ‫دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد‬
‫فمنذ ما يتجاوز مئة �سنة‪ ،‬وبال�ضبط يف �سنة ‪ ،1902‬وظف‬
‫فرح �أنطون مفهوم الت�سامح الذي كان يرادفه بلفظ الت�ساهل‬
‫لإبراز �أهمية حمتواه‪ ،‬باعتباره حاجة مالزمة للتحرر من‬
‫االنغالق والتع�صب ومعاداة الآخرين‪.‬‬

‫د‪ .‬كمال عبداللطيف‬


‫كاتب من املغرب‬
‫نحن والغرب‬
‫مل تكن حماولة فرح �أنطون �سهلة‪ ،‬وقبله مل تكن جهود‬
‫الت�سامح وفل�سفة الأنوار‬ ‫الطهطاوي يف نقل وترجمة املفاهيم ال�سيا�سية الليربالية‬
‫والقوانني الو�ضعية متي�سرة‪ ،‬رغم �أن هذا الأخري كان‬
‫يف ال�صفحات التي كتب فرح �أنطون عن مو�ضوع‬ ‫يحاول يف �أعماله الفكرية‪ ،‬اال�ستجابة ملطالب دولة يف‬
‫اال�ضطهاد يف الإ�سالم وامل�سيحية‪ ،‬ثم جمعت بعد ذلك‬ ‫طور الت�أ�سي�س (دولة حممد علي يف م�صر) والبحث‬
‫يف كتابه املرتجم عن «ابن ر�شد وفل�سفته» ذهب �إىل‬ ‫ملفاهيم املنظومة ال�سيا�سية الليربالية عن مقابالتها‬
‫الإعالء من مفهوم الت�سامح كما تبلور يف فل�سفة الأنوار‪،‬‬ ‫يف الرتاث‪ ،‬مقابالتها اال�صطالحية واال�شتقاقية‪ ،‬وما‬
‫بل �إن مرماه الإ�صالحي دفعه �إىل التحم�س لهذا املفهوم‬ ‫يحتمل �أن ي�شكل مقاب ًال مطابق ًا ملعانيها ودالالتها‪.‬‬
‫و�إ�ضفاء م�سحة جديدة على م�ضمونه‪ ،‬وقد برز ذلك‬ ‫اختار فرح �أنطون املرجعية الغربية‪ ،‬وتبنى حمتواها‪،‬‬
‫يف الأمثلة املتعددة التي كان يحاول بوا�سطتها تقريب‬ ‫انطالق ًا من كونها ت�شكل �أفق ًا فكري ًا جديد ًا م�ساعد ًا على‬
‫املفهوم �إىل القارئ العربي‪.‬‬ ‫تركيب م�شروع يف النهو�ض العربي امل�أمول‪ ،‬ورمبا لهذا‬
‫ارتبط دفاع فرح عن الت�سامح‪ ،‬بدعوته �إىل العلمانية‪ ،‬كما‬ ‫ال�سبب بالذات‪ ،‬ت�صدى حممد عبده لنقد مقاالت فرح‬
‫ارتبط بدفاعه عن مبد�أ الن�سبية يف جمال املعرفة‪ ،‬ومعنى‬ ‫�أنطون‪ ،‬وترتب عن ال�سجال الذي دار بينهما يف مو�ضوع‬
‫هذا �أن تبلور املفهوم يف خطابه الإ�صالحي ارتبط ب�سياق‬ ‫اال�ضطهاد يف الإ�سالم وامل�سيحية‪ ،‬كتاب حممد عبده‬
‫�أعم يتعلق مبحاولة �إجناز تعريب للمنظومة ال�سيا�سية‬ ‫ال�شهري «الإ�سالم والن�صرانية»‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫والتع�صب والإق�صاء‪� ،‬سواء يف عالقتنا فيما بيننا �أو يف‬ ‫الليربالية‪ ،‬وذلك يف مالب�سات تاريخية ونظرية ترتبط‬
‫عالقتنا بالآخرين‪ ،‬وهو ما ي�ستلزم ا�ستح�ضار مفهوم‬ ‫مبناخ الفكر الإ�صالحي‪ ،‬فكر النه�ضة العربية‪ ،‬كما ن�ش�أ‬
‫الت�سامح ك�أداة للدفاع عن التعاي�ش والإقرار باالختالف‪،‬‬ ‫يف نهاية القرن التا�سع ع�شر ومطلع القرن الع�شرين‪.‬‬
‫واالعرتاف باحلرية كقيمة ال تقبل امل�ساومة‪.‬‬ ‫وبا�ستثناء جهود فرح �أنطون يف �إ�ضاءة مفهوم الت�سامح‪،‬‬
‫ال ميكن القول بناء على ما �سبق‪� ،‬إن الدعوة �إىل الت�سامح‬ ‫وهي اجلهود التي غذت اخلطاب ال�سيا�سي العربي‬
‫�أو العناية به كمفهوم يف �سياق تطور الفكر ال�سيا�سي يف‬ ‫ب�شحنة داللية ذات مرجعية غربية‪ ،‬جند �أن مالمح‬
‫الثقافة العربية‪� ،‬أو يف جمال الفل�سفة ال�سيا�سية الغربية‬ ‫املفهوم ظلت غائبة متام ًا عن لغة اخلطاب ال�سيا�سي‬
‫املعا�صرة‪ ،‬تعد من باب االهتمام العار�ض �أو امل�ؤقت‪� ،‬أو‬ ‫العربي املعا�صر‪.‬‬
‫االهتمام املرهون مبعارك �سيا�سية حمددة كما ميكن �أن‬ ‫�صحيح �أن مفكري النه�ضة‪ ،‬من ذوي التوجه الليربايل‪،‬‬
‫يفهم من �شعار الت�سامح الذي �أعلنته منظمة اليون�سكو‬ ‫قد اعتنوا مبفاهيم املنظومة ال�سيا�سية الليربالية‪ ،‬التي‬
‫�سنة ‪.1995‬‬ ‫ن�ش�أت وتطورت يف قلبها مفاهيم‪ ،‬من قبيل احلرية‬
‫واملواطن وامل�ساواة والد�ستور وغريها‪� ،‬إال �أن مفهوم‬
‫الغرب ومظاهر الالت�سامح‬ ‫الت�سامح بالذات ظل يف حكم الغائب‪� ،‬أي يف حكم‬
‫الالمفكر فيه يف الثقافة ال�سيا�سية العربية املعا�صرة‪.‬‬
‫�إن م�شكالت الغرب املعا�صر يف عالقته مب�ستعمراته‬ ‫و�صحيح �أي�ض ًا �أن معارك كتاب علي عبد الرازق «الإ�سالم‬
‫الغرب‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬ويف ر�ؤيته لكثري من ق�ضايا املجتمع الدويل‬ ‫و�أ�صول احلكم» ومعارك ن�ص طه ح�سني «يف ال�شعر‬
‫وب�ؤر ال�صراع املنت�شرة يف العامل‪ ،‬تربز كثري ًا من مظاهر‬ ‫اجلاهلي»‪ ،‬كانت ت�ستدعي بدورها املفهوم ب�صورة غري‬
‫املعا�صر‬ ‫الالت�سامح‪� ،‬إن مل يكن التع�صب الأعمى‪ ،‬حيث ي�شكل‬ ‫مبا�شرة‪� ،‬إال �أنها كانت ت�ستدعي روحه يف الأغلب الأعم وال‬
‫يعاين‬ ‫عدم االعرتاف بالآخر وعدم االعرتاف باخل�صو�صيات‬ ‫ت�ستح�ضر منطوقه وال ر�سمه‪� ،‬إال �أن هذا احل�ضور ال ي�سعفنا‬
‫التاريخية والثقافية �صفات مالزمة لكثري من خطابات‬ ‫بتبني معطيات نظرية ميكن �أن تفيدنا يف �صوغ بع�ض‬
‫تناق�ض ًا بني‬ ‫الغرب‪ ،‬رغم تناق�ض هذا الأمر مع الأ�س�س واملبادئ‬ ‫اجلوانب والأبعاد اخلا�صة بتجربتنا التاريخية والنظرية‬
‫النظرية‬ ‫والفل�سفات التي قامت عليها احل�ضارة الغربية‪.‬‬ ‫يف جمال مواجهة التع�صب الفكري‪ ،‬من �أجل الدفاع عن‬
‫مل ي�ستطع الغرب �إذن يف �سلوكه الفعلي املبا�شر‪ ،‬متثل‬ ‫حرية الفكر‪ ،‬وحرية الر�أي والعقيدة‪ .‬فهل ن�ستنتج من هذا‬
‫واملمار�سة‬ ‫روح الت�سامح‪ ،‬ومل متكنه درو�س تاريخ الفل�سفة ال�سيا�سية‬ ‫�أن معركة الفكر العربي يف الدفاع عن الت�سامح كقيمة‬
‫من لوك �إىل فولتري‪ ،‬ودرو�س تاريخ العلم املبلورة ملبد�أ‬ ‫�أخالقية وح�ضارية التزال قائمة ومطلوبة؟‬
‫الن�سبية يف املعرفة‪ ،‬من االعرتاف بالآخر ب�صورة تتجاوز‬ ‫نعم �إننا نعتقد ذلك‪ ،‬وكثري من املعارك القائمة‪ ،‬يف �أكرث‬
‫املفارقات التي ولدها تاريخ الغرب املعا�صر يف عالقته‬ ‫من ُقطر عربي يف امل�ستوى ال�سيا�سي ويف امل�ستوى العقائدي‬
‫بالآخرين يف �إفريقيا و�آ�سيا‪ .‬و�إذا كانت ح�صيلة النظر‬ ‫ويف امل�ستويات املرتبطة بق�ضايا حقوق الإن�سان‪ ،‬ت�ؤ�شر‬
‫الأخالقي املتمثلة يف املواثيق والعهود املتعلقة بحقوق‬ ‫�إىل حاجاتنا امللحة لفتح جدال يف مو�ضوع الت�سامح‪.‬‬
‫الإن�سان قد بلورت من ال�شرائع واملبادئ والقواعد ما ينبئ‬
‫عن جهود غري م�سبوقة يف الفكر ال�سيا�سي الإن�ساين‪،‬‬ ‫�شحنة دينية وحمتوى �أخالقي‬
‫ف�إن الأفعال واملبادرات واملواقف وردود الفعل القائمة‬
‫يف الواقع تك�شف وجود تناق�ضات مرعبة بني النظر‬ ‫�إذا كنا ن�سلم ب�أن خطاب «ر�سالة يف الت�سامح» (‪)1679‬‬
‫واملمار�سة‪ ،‬حيث تعك�س املمار�سات تراجعات رهيبة عن‬ ‫جلون لوك‪ ،‬مل ي�شكل �إال مقدمة �أولية لبلورة املفهوم يف‬
‫منطوق وروح املبادئ وال�شرائع املعلنة‪.‬‬ ‫�سياق معارك احلداثة ال�سيا�سية الأوروبية مع الكني�سة‬
‫ينطبق الأمر نف�سه على واقع املجتمعات العربية‪ ،‬ذلك �أن‬ ‫ومع �سلطة الن�صو�ص القطعية‪ ،‬و�أن حمدودية هذه‬
‫بع�ض تيارات الفكر التقليدي املحافظ يف فكرنا املعا�صر‪،‬‬ ‫الر�سالة قد جتوزت بالتو�سيع الذي حلق داللة املفهوم يف‬
‫تعلن ب�شرا�سة نوع ًا من العودة �إىل الن�صية املغلقة‪ ،‬مغفلة‬ ‫�أدبيات فل�سفة الأنوار‪ ،‬وخا�صة مع فولتري‪ ،‬حيث تقل�صت‬
‫كل االجتهادات التي �صنعت روح التقدم يف تاريخنا‪،‬‬ ‫ال�شحنة الدينية للمفهوم‪ ،‬حل�ساب داللة �أخالقية �أو�سع‬
‫وهذا الأمر بالذات يجعلنا ن�ستنتج دون تردد �أن معركة‬ ‫وذلك يف �إطار فهم للحرية وامل�ساواة‪ ،‬وهما املفهومان‬
‫الت�سامح التزال مفتوحة يف واقعنا‪� ،‬صحيح �أنها د�شنت يف‬ ‫املحايثان للت�سامح‪ ،‬ف�إن فل�سفات حقوق الإن�سان ومواثيق‬
‫مطلع القرن املا�ضي يف ال�سجال الذي دار بني فرح �أنطون‬ ‫هذه احلقوق‪ ،‬قد �أغنت بدورها حمولة املفهوم‪ ،‬وو�سعت‬
‫وحممد عبده‪ ،‬و�أنها ت�ست�أنف اليوم يف املعارك الفكرية‬ ‫دوائر دالالته‪ ،‬ف�أ�صبحت ت�ستوعب جماالت اجتماعية‬
‫وال�سيا�سية التي تطالب بفتح باب االجتهاد يف جمال‬ ‫و�سيا�سية ومعرفية مل تكن واردة ب�شكل مبا�شر‪ ،‬يف �سياق‬
‫درا�سة الظواهر الرتاثية‪� ،‬إال �أننا ن�ستطيع القول اليوم‬ ‫تبلوره اال�صطالحي الأول‪� ،‬ضمن معارك الدولة والكني�سة‬
‫�إنها معركة مل تعد قابلة للت�أجيل‪ ،‬و�إن معطيات متعددة‬ ‫يف �أوروبا احلديثة‪ ،‬ومعنى هذا �أن حاجاتنا اليوم يف الفكر‬
‫يف الواقع العربي تقت�ضي بلورة اجتهادات جديدة متكننا‬ ‫ال�سيا�سي العربي �إىل الت�سامح كف�ضيلة عقلية و�أخالقية‪،‬‬
‫من ا�ستثمار الدالالت الرمزية واملفتوحة للمفهوم‪.‬‬ ‫ال ترتبط فقط مبرياث نظري تاريخي معني‪ ،‬بل �إنها‬
‫�إن ذلك ما نعتقده فع ًال‪ ،‬ويف هذا الإطار ميكننا �أن نعلن‬ ‫ترتبط �أو ًال وقبل كل �شيء بحاجتنا الفعلية والتاريخية‬
‫راهنية املفهوم و�ضرورته يف حا�ضرنا‪.‬‬ ‫ملحتواه‪ .‬ففي حا�ضرنا كثري من مظاهر االنغالق والقهر‬
‫‪97‬‬
‫ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ق�صة‬ ‫ق�صة‬

‫َح�سنة‬
‫صو�ص ن�صو�ص‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ق�صة ق�صة‬ ‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬

‫مل ي�س�ألها ر�أيها‪ ،‬عا�شت مع زوجها خم�س �سنوات‬ ‫هيفاء بيطار‬


‫و�أجنبت بنت ًا‪ ،‬وحني تويف ب�أزمة قلبية‪ ،‬انتقلت‬
‫وطفلتها �إىل بيت �أ�سرتها‪ ،‬لت�ست�أنف بر�ضى ال ي�شوبه‬ ‫قا�صة من �سورية‬
‫وحب ال يعرف الفتور‪ ،‬خدمة �إخوتها اخلم�سة‪،‬‬ ‫تذمر‪ّ ،‬‬ ‫مل ت�شعر َح�سنة يوم ًا بحاجة لتجميل �شخ�صيتها‬
‫ووالديها‪ ،‬لمِ تت�ساءل مرة واحدة لمِ َ عليها �أن تقوم‬ ‫�أو ادعاء �صفات لي�ست فيها‪ ،‬لأنها التطلب �شيئ ًا‬
‫بكل الأعباء ال�شاقة من غ�سيل وطبخ وتنظيف‪...‬‬ ‫من هذا العامل‪ ،‬وال تطمع مبال وال �شهرة‪ ،‬ج ّل ما‬
‫بل كانت تلوم نف�سها حني ي�ضطرها التعب لالرمتاء‬ ‫تريده �أن يحبوها‪ ،‬لكن يبدو �أنها تطلب امل�ستحيل!‬
‫متال�شية على فرا�شها دون �أن ت�سمع كلمة عزاء �أو‬ ‫ت�شك يوم ًا‬
‫�إنها حتتاج حبهم كي ت�ؤكد وجودها‪ ،‬ومل ّ‬
‫�شكر‪...‬‬ ‫ب�إميانها بهم‪ ،‬فهم �إخوتها من حلمها ودمها‪ ،‬والدم‬
‫حب ابنتها �سعادة عارمة‪� ،‬إنها تع�شق هذه‬ ‫ّ‬ ‫أعطاها‬ ‫�‬ ‫ال ي�صري ماء‪...‬‬
‫ال�صغرية‪ ،‬التي تب ّدد بلمح الب�صر ك�آبة روحها وتعب‬ ‫ً‬
‫ت�شهد َح�سنة بهذه العبارة دوما‪ ،‬ويف كل مرة تقولها‬
‫ج�سدها ‪ ،‬لكن املوت خطف فرحة الأم امل�سكينة ‪،‬‬ ‫باحلما�سة ذاتها‪ ،‬والإميان نف�سه‪ ،‬لكنها يف ال�سنوات‬
‫وتوفيت الطفلة وهي يف ال�ساد�سة من عمرها بعد‬ ‫الأخرية �صارت تقولها كما لو �أنها ت�ص ّر وحتتاج �أن‬
‫�إ�صابتها بالتهاب ال�سحايا‪...‬‬ ‫ت�ؤكد لنف�سها �أنها ت�ؤمن بهم‪.‬‬
‫(تتابع الأيام مقربة للآالم)‪ ،‬هكذا حاولوا موا�ساتها‪،‬‬ ‫حتب َح�سنة �أن جتمع كل روحها و�أحا�سي�سها يف ب�ؤرة‬‫ُ‬
‫وحاولت ح�سنة موا�ساة نف�سها‪ ،‬لكنها �أدركت �أن‬ ‫املا�ضي‪ ،‬يتوهج وجهها املتعب وقد غزته جتاعيد‬
‫روحها ماتت منذ وفاة وحيدتها‪ ..‬وجدت عزاءها‬ ‫ال�شيخوخة بنور �ساكن‪ ،‬وهي ترنو �إىل �صور املا�ضي‬
‫يف ال�صالة والتع ّبد‪ ،‬من مثل ال�صالة يدخل الراحة‬ ‫امللونة بالوردي دوم ًا‪ ،‬ولطاملا ت�ساءلت ملاذا تعجز عن‬
‫للقلوب احلزينة‪ ،‬بل �صارت ت�ؤمن �أن احلزن عالمة‬ ‫تخ ّيل املا�ضي بلونٍ �آخر‪ ..‬ملاذا الوردي الفاحت ي�صبغ‬
‫عافية‪ ،‬كانت ت�صلي لهم دائم ًا كي ينجحوا ويوفقوا‬ ‫تلك الأيام وال�سنوات احللوة التي عا�شتها معهم يف‬
‫يف م�شاريعهم‪ ..‬وتتباهى بتفوقهم �أمام النا�س‪..‬‬ ‫بيت واحد‪ ،‬يتحلقون حول طاولة الطعام‪ ،‬ي�أكلون‬ ‫ٍ‬
‫رفاهيتها الوحيدة حني جتل�س على ال�شرفة ال�ضيقة‬ ‫وي�ضحكون‪ ،‬وينامون يف الغرفة ذاتها وقد التحمت‬
‫ت�سمع الأغاين العاطفية وتطرز ال�شرا�شف‪.‬‬ ‫�أنفا�سهم الدافئة‪...‬‬
‫ال ت�ستطيع َح�سنة �أن حت ّدد بدقة متى و�صلت �إىل هذه‬ ‫لكن الآن‪ ،‬يا للق�سوة التي يعاملونها بها‪ ،‬كيف‬
‫الدرجة الكبرية من ّ‬
‫الذل والأمل‪ ،‬يف الواقع ال متلك‬ ‫حتجرت عواطفهم مع الزمن؟! �أ ُيعقل هذا؟!‪..‬‬ ‫ّ‬
‫القدرة على التعبري عن م�شاعرها وحتليلها‪ ،‬بل ت�شري‬ ‫�إنهم �إخوتها من حلمها ودمها‪� ..‬أينبذونها لأنها مل‬
‫أح�س هنا بكتلة جليد ثقيلة فوق‬‫�إىل �صدرها وتقول‪ّ � :‬‬ ‫حت�صل �شهاداتهم العالية؟!‬‫ت�صبح ثرية مثلهم ومل ّ‬
‫أح�س بحلقة حديد‬‫قلبي‪� ..‬أو مت�سك رقبتها وتقول � ّ‬ ‫ما ذنبها �إن كانت االبنة البكر لأ�سرة فقرية‪ ،‬قطع‬
‫ت�ضغط على عنقي‪.‬‬ ‫والدها تعليمها االبتدائي و�أحلقها لتتعلم اخلياطة‬
‫رف�ض ابن �أخيها �أن حت�ضر ع ّمته ال�ساذجة عر�سه‪،‬‬ ‫لدى �أ�شهر خياطة يف املدينة‪ ،‬وبفرتة ق�صرية �أتقنت‬
‫فهو حمام ٍالمع وزوجته ابنة وزير‪ ،‬ووجود َح�سنة يف‬ ‫َح�سنة اخلياطة‪ ،‬وعلى مدى �سبع �سنوات كانت‬
‫حفل العر�س الفخم ال يتنا�سب مع اجلو االجتماعي‬ ‫تعطي كل قر�ش تك�سبه لوالدها‪ ،‬الذي مل يخطر له‬
‫الراقي يومها اقتحمت بيت �أخيها‪ ،‬ومل ت�ستطع �أن‬ ‫مرة واحدة �أن ي�شكرها‪...‬‬
‫تتكلم وهي جال�سة‪ ،‬بل وقفت من �ش ّدة ا�ضطرابها‪،‬‬ ‫وعندما بلغت الع�شرين زوجها ب�أحد �أ�صدقائه‪،‬‬
‫‪98‬‬
99
‫بها �أمام النا�س‪..‬‬ ‫ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫لكنها تن�سى معاملتهم ّ‬ ‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫الفظة معها‪ ،‬فت�أتيهم كل مرة‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ب�شوق وفرح �صادقني‪ ،‬وما �أن جتل�س بينهم وتبد�أ‬
‫الكالم حتى يت�أففوا من تفاهة حديثها وي�أمروها‬
‫بوقاحة �أن ت�سكت وتتابع برامج التلفاز التي تثري‬
‫ق�صة‬ ‫ق�صة‬
‫صو�ص ن�صو�ص‬
‫اهتمامهم‪ ،‬وال يجدون �أي حرج يف ال�سخرية من‬ ‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫حديثها‪ ..‬تت�أ ّمل وجوههم بطرف عينها‪ ،‬كلها تبوح‬ ‫ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ق�صة ق�صة‬ ‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫بحقيقة م�ؤكدة‪:‬‬
‫ال ن�ستطيع �أن نحبك‪� ،‬أنت ل�ست من مقامنا‪.‬‬
‫ي�سخر منها ابن �أخيها‪ ،‬ي�س�ألها‪ :‬عمتي هل �سمعت‬
‫بهايدغر‪.....‬‬
‫تت�ساءل واالبت�سامة العذبة ت�ش ّع من عينيها‪ :‬من‬
‫يكون‪...‬؟‬
‫ي�ضحك بوقاحة وال يجيبها‪...‬‬
‫تتجاهل طعنة الأمل يف قلبها‪ ،‬تتمنى له املزيد من‬
‫النجاح والتوفيق‪...‬‬
‫كانت تزور �إخوتها اخلم�سة ح�سب مواعيد ح ّددوها‬
‫لها‪ ،‬وكثري ًا ما كانوا يلغون املوعد‪ ،‬ذات يوم ا�ستب ّد‬
‫بها القهر‪ ،‬لأن �أخاها الأكرب اعتذر لها ثالث مرات‬
‫متتالية و�أبلغها عن طريق خادمته �أال تزورهم‪ ،‬لأن‬
‫�ضيوف ًا مه ّمني �سيزورونهم‪...‬‬
‫مل حتتمل القهر‪ ،‬ا�ستب ّد بها الغ�ضب‪ ،‬فق�صدت بيت‬
‫�أخيها‪ ،‬قرعت اجلر�س مرار ًا فلم يفتحوا الباب‪..‬‬
‫كانت تقف مطرودة من حياتهم تت�أ ّمل النقو�ش‬
‫البديعة للباب اخل�شبي بنظرات تفي�ض بالوجع‪،‬‬
‫ف ّكرت وهي تقف خارج قو�سي حياتهم ما الذي‬
‫يجعلها تتح ّمل كل هذا القدر من الذل والقهر؟‪...‬‬
‫مل تعرف اجلواب‪ ،‬لكنها حني اند�ست يف فرا�شها‬ ‫ويتقطع من الأمل واالن�سحاق‪:‬‬‫ّ‬ ‫و�أخذ �صوتها يرتع�ش‬
‫متجاهلة �أوجاع مفا�صلها كالعادة‪ ،‬هم�ست الو�سادة‬ ‫�أت�ستع ّرون مني �أنا �أختك من حلمك ودمك‪� ،‬أنا التي‬
‫يف �أذنها باجلواب‪ :‬اخلوف‪� ..‬أجل اخلوف وحده‬ ‫غ�سلت ثيابك الو�سخة �سنوات و�سنوات‪� ،‬أنا التي‬
‫قادر على �إي�صالها �إىل كل هذا القدر من ّ‬
‫الذل‪..‬‬ ‫�أتباهى بك �أمام النا�س‪...‬‬
‫�إنها تخاف �أن تخلو حياتها منهم‪� ،‬إنهم �أ�سرتها‪،‬‬ ‫ال ي�شعر �أحد من �إخوتها و�أوالدهم ب�أية �ضرورة‬
‫�إخوتها من حلمها ودمها‪ ،‬والأ�سرة مثل ال�شجرة‬ ‫ملراعاة م�شاعرها‪ ،‬وال يجدون �أي حرج يف زجرها‪،‬‬
‫تتغذى من ن�سغ واحد‪ ،‬من دونهم �ستكون مثل غ�صن‬ ‫ّ‬ ‫و�أمرها ب�أن تخر�س‪ ،‬هل متلك تلك الإن�سانة ال�ساذجة‬
‫مقطوع ي�صيبه اليبا�س واملوت‪.‬‬ ‫�شبه الأ ّمية م�شاعر!‬
‫ّ‬
‫الذل‪� ،‬ألب�سة‬ ‫من وقت لآخر يق ّدمون لها هدايا‬ ‫حتجرهم املتزايد مع الزمن‪ ،‬واجلفاء الذي‬ ‫لكن ّ‬
‫يريدون رميها‪ ،‬بقايا طعام‪ ،‬ت�شكرهم على هداياهم‬ ‫يعاملونها به‪ ،‬جعلها مع الزمن تنكم�ش وتخاف‪ ،‬بل‬
‫وقلبها يغو�ص يف هيوىل الأمل‪ ،‬ت�شعر كيف يت�ص ّلب‬ ‫�صارت تتع ّمد عدم الفهم‪ ،‬وكفّت عن طرح الأ�سئلة‬
‫وجهها وقد ر�سمت مالحمها ذروة اخليبة والأمل‪..‬‬ ‫تعذب روحها‪ ،‬بل وجدت نف�سها م�ستع ّدة لتح ّمل‬ ‫التي ّ‬
‫يتجاهلون نظرتها التي تفي�ض بالعتب واخليبة وحني‬ ‫كل �شيء ي�صدر عنهم‪ ،‬فهم �إخوتها من حلمها‬
‫تتجر�أ وتعاتبهم على ق�سوتهم وتذ ّكرهم �أنهم �إخوة ‪،‬‬ ‫ودمها‪ ..‬كانت جارتها و�صديقة طفولتها تهم�س‬
‫و�أن الدم ال ي�صري ما ًء يت�أففون من كالمها ويلعنون‬ ‫يعذب روحها‪� :‬إخوتك �أثرياء جد ًا ملاذا‬‫ب�أذنها بكالم ّ‬
‫ال�شيخوخة التي جتعل الإن�سان كثري ال�شكوى وثقيل‬ ‫ال يعطونك املال‪ ،‬كيف يقبلون �أن تعي�شي يف قبو تفوح‬
‫الظل‪.‬‬ ‫منه رائحة املجاري‪ ،‬وهم يعي�شون يف ق�صور؟!‬
‫حتلم َح�سنة �أحيان ًا �أن ترتكهم جميع ًا‪ ،‬وتهيم يف‬ ‫ترجوها �أال تتح ّدث عن �إخوتها‪ ،‬وت�ؤكد لها �أنها ال‬
‫ف�ضاء دافئ رحيم‪ ،‬تق ّرر مقاطعتهم‪ ،‬مت ّر �أ�سابيع‪،‬‬ ‫تريد منهم �شيئ ًا‪� ،‬سوى �شيء واحد‪ :‬احلب‪.‬‬
‫ال ي�س�ألون عنها‪ ،‬تنك�سر وتعود ت�شحذ عواطفهم‬ ‫تزورهم يف �أوقات تزداد تباعد ًا ح�سب رغباتهم‪،‬‬
‫ال�ضحلة‪...‬‬ ‫تت�أ ّملهم بنظرات تفي�ض بالأ�سى كيف تثري اال�شمئزاز‬
‫�صارت ت�ستيقظ من نومها مذعورة مبج ّرد �أن حتلم‬ ‫والعجرفة يف نفو�سهم‪ ،‬وكيف ي�شعرونها كل حلظة‬
‫متحجرة فاترة تُ�شعرها كم‬
‫ّ‬ ‫بنظراتهم لها‪ ،‬نظرات‬ ‫�أنها ال ت�شرفهم ويتم ّنون �أال تنتمي �إليهم‪� ،‬إنهم فوق‪،‬‬
‫هي ُم�ضجرة وجاهلة وال جتيد فن احلديث‪ ..‬تفتح‬ ‫وهي حتت‪ ..‬امر�أة نكرة‪ ،‬ال متلك �أية �صفة ليتباهوا‬
‫‪100‬‬
‫عينها مرتعبة هاربة من ح�صار نظراتهم‪ ،‬لكنها‬
‫بحب وتن�سى �إ�ساءاتهم‬ ‫ترغم نف�سها �أن تف ّكر بهم ّ‬
‫�أو تتنا�ساها‪.‬‬
‫ال�شبان يتجاهلونها حني ي�صدفونها‬ ‫كان �أوالد �إخوتها ّ‬
‫يف الطريق‪ ..‬ذات يوم التقت ابن �أخيها يتح ّدث‬
‫احلب يف قلبها‪ ،‬واقرتبت‬ ‫ّ‬ ‫�إىل �صبية جميلة‪ ،‬فا�ض‬
‫منهما ال تن�س كيف ت�شنج وجهه بالرف�ض واالحتقار‬
‫وهو ينظر �إليها‪�ُ ..‬صعقت كم تتب ّدل الوجوه‪� ،‬أهذا‬
‫باحلب والدفء وهو يتح ّدث‬ ‫ّ‬ ‫هو وجهه اجلميل امل�ش ّع‬
‫وحتجر‪ ،‬ترى �أيهما وجهه‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫�إىل الفتاة‪ ،‬كيف ت�ص ّل‬
‫احلقيقي؟!‬
‫حني احتاجت �إىل عمل جراحي نقلوها �إىل امل�شفى‬
‫احلكومي‪ ،‬حيث �شاركت ثماين مري�ضات غرفة‬
‫بائ�سة‪ ،‬يف الوقت الذي يجرون فحو�صاتهم الطبية‬
‫يف �أهم م�شايف �أوروبا‪...‬‬
‫ت�شعر َح�سنة ب�أنها حتتاج �إخوتها و�شبح عواطفهم‬
‫نحوها‪ ،‬كي ت�صمد يف احلياة‪ ،‬احلياة الأ�شبه مبحيط‬
‫هائج‪ ،‬تخاف �أن يبتلعها‪� ...‬إنهم ي�شعرونها ب�شيء‬
‫من انتماء و�أمان ال تتخ ّيل وجودها من دونهما‪ ...‬ما‬
‫حب‪ ،‬خا�صة بني الإخوة!‬ ‫نفع احلياة دون ّ‬
‫ابنة �أختها تن�شر ق�صائد وجدانية م�ؤثرة‪ ،‬يبكي‬
‫النا�س حني يقر�ؤونها‪ ،‬لكنها تتجاهل عمتها حني‬
‫تلتقيها �صدفة يف ال�شارع‪ ،‬ومل تزرها يف امل�شفى‬
‫حني ا�ضطر الطبيب ال�ستئ�صال ن�صف �أمعاء الع ّمة‬
‫امل�سكينة التي نه�ش ال�سرطان �أح�شاءها‪...‬‬
‫ذات ليل �شديد الربودة‪� ،‬أيقظ الذعر َح�سنة من‬
‫نومها‪ ،‬مل تتبينّ الكابو�س الذي جعلها ترتع�ش من‬
‫اخلوف‪ ..‬مل حتلم بعيونهم التي حت ّدق بها بتكبرّ‬
‫واحتقار‪ ،‬بل ر�أت �شيئ ًا �شديد اللمعان يبهر نظرها‪..‬‬
‫مل تفهم ما ال�شيء الذي يلتمع هكذا‪ ..‬فج�أة انغر�ست‬
‫احلقيقة يف قلبها كن�صل �سكني‪ ..‬هزت ر�أ�سها مرار ًا‬
‫م�ؤكدة لنف�سها �أنهم اليح ّبونها �أبد ًا و�أنها ال تعني‬
‫لهم �شيئ ًا‪ ،‬و�أنها عا�شت عمرها على وهم ا�سمه‬
‫العائلة والأ�سرة‪.‬‬
‫بكت بحرقة‪ ،‬حتى ا�ضطرت لأن ت�ستبدل و�سادتها‬
‫ب�أخرى جافة‪...‬‬
‫بعد تلك الليلة احلافلة بالقهر‪ ،‬وامل�ضيئة باحلقيقة‬
‫بخم�سة �أيام‪ ،‬ماتت َح�سنة‪ ،‬كانت قد تناولت ع�شا ًء‬
‫خفيف ًا‪ ،‬وتابعت احللقة الأخرية من امل�سل�سل اليومي‪،‬‬
‫تثاءبت وت�ساءلت‪ :‬هل �سيكون امل�سل�سل اجلديد‬
‫غطت ر�أ�سها كعادتها حني تنام‪ ،‬احت�ضنت‬ ‫�شيق ًا؟‪ّ ...‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫�صورة وحيدتها‪� ،‬أخذت نف�سا عميقا‪ ،‬ثم �أطلقت‬
‫روحها على دفعتني‪.‬‬
‫�صعق الإخوة حني �أبلغهم املحامي �أن و�صية َح�سنة‬
‫الوحيدة �أال يح�ضروا جنازتها‪ ،‬و�أال يدفنوها‪ ،‬و�أال‬
‫يتق ّبلوا بها التعازي‪ ...‬و�أال يزوروا قربها‪.‬‬
‫�أو�صت جارتها و�صديقة طفولتها الوحيدة مثلها‪،‬‬
‫باحلب‬
‫ّ‬ ‫البائ�سة مثلها‪ ،‬وامل�ضحكة مثلها – لأنها ت�ؤمن‬
‫‪� -‬أن تدفنها و�أن تزرع زهور ًا حول قربها‪ ،‬وت�سقيها‬
‫حني ي�سمح وقتها بذلك‪.‬‬
‫العمل الفني‪ :‬صادق طعمة ‪ -‬العراق‬

‫‪101‬‬
‫سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬

‫باري�س‬
‫ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫أ�سفار‬ ‫�أ�سفار �‬
‫ار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬ ‫�أ�سفار �أ�سفار �‬
‫فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬

‫رحلة �إىل‬

‫�سيدة احلديد تنحني لت�شرب‬


‫جورج طراد‬
‫كاتب من لبنان‬

‫‪102‬‬
‫كل الدروب تو�صل �إىل باري�س‪ .‬دروب الفن والأناقة‬
‫والتاريخ‪ .‬دروب اجلمال ومقاهي الأر�صفة وجادة‬
‫ال�شانزيليزيه‪ ،‬ودروب الأحالم التي ال تنتهي‪ ،‬بحيث‬
‫�أنك �إذا ما زرت باري�س مرة تع ّلقت بها ف�صارت جزءاً‬
‫من اخلريطة اجلمالية التي ال ميكنك التح ّرك من‬
‫دونها‪.‬‬
‫منذ و�صولك �إىل مطار «روا�سي �شارل ديغول»‪ ،‬على‬
‫بعد ن�صف �ساعة بال�سيارة من قلب املدينة‪ ،‬ت�شعر ب�أنك‬
‫دخلت يف جو خمتلف‪ .‬جو له نكهة �أخرى حتى ولو‬
‫كنت مدمن �سفر‪ ،‬ج ّواب �آفاق‪ ،‬باحثاً عن الغرابة حتت‬
‫كل �سماء‪ .‬فامل�ضيفة التي ت�ستقبلك‪ ،‬فور اخلروج من‬
‫الطائرة‪ ،‬تفل�ش ابت�سامتها‪ ،‬كما �شعرها الأ�شقر وعينيها‬
‫�شديدتي الزرقة‪ ،‬تر�شدك �إىل حيث يجب �أن ت�سري‪.‬‬ ‫ْ‬
‫ومع �أن هناك �أكرث من مائة م�سافر على منت الطائرة‬
‫نف�سها‪ ،‬ف�إنهم جميعاً ي�سريون خلف امل�ضيفة امل�ضيافة‬
‫يح�س وك�أنها مر�شدته اخلا�صة‬
‫التي جتعل كل واحد منا ّ‬
‫يف هذا املطار الف�سيح البالغ الأناقة و‪ ..‬احلرا�سة‪.‬‬
‫تالحظ‪ ،‬منذ الدقائق الأوىل‪� ،‬أن هناك هاج�ساً �أمنياً‬
‫ي�سيطر على الأجواء‪ ،‬و�إن كان الفرن�سيون يجتهدون‬
‫يف التظاهر بالهدوء وك�أن ال تهديدات وال من يهدّدون‪.‬‬
‫وبالفعل تنتهي معامالت اخلروج ب�سرعة ن�سبية‪ ،‬رغم‬
‫التدقيق يف الأوراق ويف الأمتعة ويف الوجوه‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫لذلك ابت�سم لك ال�سائق وحمل لك احلقيبة‪ ،‬وبادرك‪،‬‬ ‫�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫بلغة �إنكليزية على الطريقة الفرن�سية‪ ،‬لريحّ ب بك يف‬
‫باري�س‪.‬‬ ‫فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫وتتكرّر املعاملة نف�سها يف الفندق اجليد الذي يط ّل على‬
‫مبنى «دار الأوبرا» العريق يف الدائرة الباري�سية الثامنة‪.‬‬
‫أ�سفار‬ ‫�أ�سفار �‬
‫فار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫فتح�س وك�أنك‬
‫ّ‬ ‫تقف على النافذة وتنظر �إىل اخل��ارج‪،‬‬ ‫أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬ ‫ار �أ�سفار �أ�سفار �‬
‫�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫�أم��ام لوحة فنية متحرّكة‪ .‬الأل��وان متداخلة واخلطوط‬ ‫فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫عريقة ومتكاملة‪� ،‬أما احلركة فت�ضفي على امل�شهد حياة‬
‫دافئة ناب�ضة ت�ستعجل االنخراط فيها‪ .‬فلي�س من اجلائز‬
‫�أن ت�ضيع حلظة واحدة من الوقت الباري�سي الرائع و�أنت‬ ‫�سائق التاك�سي الذي يقلّك من املطار �صار �أكرث «دماثة»‬ ‫نادل ي�صر‬
‫منز ٍو يف غرفة الفندق‪.‬‬ ‫مما كان عليه قبل ع�شر �سنوات‪ .‬ففي املا�ضي كان �سائقو‬
‫ولكن‪ ،‬قبل �أن تخرج‪ ،‬ال ب ّد من �أن تزوّد نف�سك مبعلومات‬ ‫التاك�سي الباري�سيون يرف�ضون التحدّث مع ال�سيّاح بغري‬ ‫على �أن‬
‫حول املدينة ال�ساحرة التي تنوي خو�ض غمارها‪ .‬وخري‬ ‫اللغة الفرن�سية‪� .‬أ�سا�س ًا قلّة ن��ادرة ج��د ًا كانت جتيد‬ ‫يقب�ض ثمن‬
‫دليل لك الكمبيوتر يف غرفتك‪ .‬منه ت�ستقي املعلومات‬ ‫بع�ض ًا من الإنكليزية‪� .‬أما العربية فتكون حمظوظ ًا لأن‬
‫وتعرف كيف تتحرّك ويف �أي اجتاه‪.‬‬ ‫ت�سمعها من �سائق التاك�سي �إذا كان تون�سي ًا �أو مغربي ًا �أو‬ ‫الطلبية فور‬
‫جزائرياً‪ .‬ويف هذه احلالة �أي�ض ًا تكون عباراته مطعمة‬
‫ب�ألفاظ فرن�سية وبلكنة غريبة جتعل التفاهم بينكما‬
‫و�ضعها على‬
‫بداية ال�شانزيليزيه‬
‫بالعربية‪ ،‬مهمة �شاقة �إن مل تكن م�ستحيلة‪.‬‬ ‫الطاولة‬
‫باري�س مق�سّ مة �إىل ع�شرين دائ��رة‪ ،‬رمبا تكون متقاربة‬ ‫منذ انت�شار انفتاح احلدود الأوروبية والعمل بت�أ�شرية‬
‫من حيث امل�ساحة‪ ،‬ولكنها قطع ًا متفاوتة جلهة الأهمية‬ ‫«ال�شنغن» التي ت�سهّل عليك التنقل بني دولة �أوروبية‬
‫وال���وزن االقت�صادي واالج��ت��م��اع��ي‪ .‬يف قلب العا�صمة‬ ‫أح�س الفرن�سيون ب�أنهم يحتاجون‬ ‫و�أخرى‪ ،‬كما ت�شاء‪ّ � ،‬‬
‫الدائرة الأوىل ومنها تنطلق الدوائر حولها‪ .‬الأطراف‬ ‫�إىل اللغة الإنكليزية و�إىل التعامل الهادئ مع ال�سيّاح‪،‬‬
‫هي الدوائر ال�شعبية وفيها الكثري من العرب والأفارقة‪.‬‬ ‫و�إال هرب ال�ضيوف‪ ،‬مع دوالراتهم‪� ،‬إىل دولة �أخرى‪.‬‬

‫‪104‬‬
105
‫بالفعل «مربط خيل العرب»‪ .‬ذلك �أن ال��زوّار العرب‪،‬‬ ‫�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫من كل امل�ستويات والأقطار‪ ،‬ال يعتربون �أن زيارتهم �إىل‬
‫باري�س قد اكتملت ما مل يتجوّلوا على �أر�صفة تلك اجلادة‬ ‫فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫الراقية‪� ،‬أو يجل�سوا يف �أحد مقاهيها‪.‬‬
‫ومقاهي اجل���ادة متعدّدة امل�ستويات‪ .‬فعندك املقهى‬
‫أ�سفار‬ ‫�أ�سفار �‬
‫فار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫ال��ذي يقدّم لك فنجان القهوة وق��وف�� ًا ب�أقل من ثالثة‬ ‫أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬ ‫ار �أ�سفار �أ�سفار �‬
‫�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫دوالرات (‪ 2‬يورو)‪ .‬وعندك املقهى الذي يبعد عنه �أمتار ًا‬ ‫فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫ويتقا�ضى منك بدل فنجان القهوة ع�شر م��رات �أكرث‪.‬‬
‫والالفت �أن معظم هذه املقاهي ي�ص ّر على �أن يقب�ض‬
‫منك ثمن الطلبية فور و�ضعها على الطاولة �أمامك‪ ،‬ذلك‬ ‫الدائرة الع�شرون وكذلك التا�سعة ع�شرة والثامنة ع�شرة‪.‬‬ ‫�ساحر يربط‬
‫�أم��ا �أرق��ى الدوائر و�أغالها ثمن ًا فهي الأوىل والثامنة‬
‫�أن �أ�صحاب املحال باتوا «ملدوعني» لكرث املقالب التي‬
‫وال�ساد�سة ع�شرة‪ .‬وثمّة دوائ��ر تاريخية مثل اخلام�سة‬ ‫‪ 20‬يورو بخيط‬
‫�شربوها من «الغرباء» الذين يعمد بع�ضهم �إىل ا�ستهالك‬
‫الطلبية ثم «ي�شمّعون» اخليط وقت احل�ساب!‬ ‫وال�ساد�سة حيث احليّ الالتيني و�شارع ال�سان جرمان‬ ‫ويوقع يف‬
‫وكني�سة نوتردام ونهر ال�سني‪ .‬وين�صحك املوقع ال�سياحي‬
‫مطعم الذوات‬ ‫على الإن�ترن��ت ب����أن ت�ستقل اخل��ط ال���دائ���ري‪ ،‬وا�سمه‬ ‫حبائله الن�ساء‬
‫يلف باري�س من اخلارج وك�أنه‬ ‫«احلزام ال�صغري»‪ ،‬الذي ّ‬
‫بالفعل حزام‪� .‬أما اخلط الدائري ال�سريع فهو «احلزام‬
‫وال�شيوخ‬
‫�أم��ا �إذا كنت م�ترف ال���ذوق‪ ،‬منتفخ اجليب‪ ،‬ومدجج ًا‬
‫بدفاتر �شيكات �أو بطاقات اعتماد‪ ،‬فيمكنك �أن تدعو‬ ‫الكبري» الذي ت�سلكه ال�سيارات الراغبة يف تاليف الدخول‬
‫�أ�صدقاءك �إىل مقهى «الفوكت�س» لتتناول ما ل ّذ وطاب من‬ ‫يف الزحمة الباري�سية‪ ،‬وتتّجه �إىل بقيّة املدن الكربى وفق‬
‫الطعام النادر الذي ا�شتهر به املطبخ الفرن�سي العريق‬ ‫طرقات موزّعة توزيع ًا مدرو�س ًا بني املناطق‪.‬‬
‫عرب الأجيال‪ .‬واحل�ساب‪ ،‬حتى ولو كان ع�سري ًا للغاية‪،‬‬ ‫ت��خ��ت��ار االب����ت����داء م���ن ج���ادة‬
‫من حيث الأرق��ام والتفا�صيل‪ ،‬ف�إنه ي�ستحق عناء‬ ‫ال�شانزيليزيه ال��ت��ي يعلوها‬
‫املجازفة‪ ،‬لأنك �ستكون قادر ًا على املفاخرة‬ ‫«قو�س الن�صر»‪ .‬هذه اجلادة‬
‫�أمام معارفك‪ ،‬يف الوطن واملهجر‪ ،‬ب�أنك‬ ‫العريقة ج��داً‪ ،‬واملعروفة‬
‫تربّعت �سعيد ًا على طاولة من طاوالت‬ ‫يف ك���ل ال����ع����امل‪ ،‬هي‬

‫‪106‬‬
‫�سياحية مميّزة على منت مركب �سياحي يتهادى على‬ ‫«الفوكت�س» التي جل�س �إليها م�شاهري العامل!‬
‫نهر ال�سني يف رحلة قد ت�ستغرق ثالث �ساعات‪ .‬ف�إذا كان‬ ‫ويبدو �أن الباري�سيني‪ ،‬ممّ ن يعي�شون على فُتات «الفوكت�س»‪،‬‬
‫الطق�س �صحواً‪ ،‬ف���إن هذا الع�شاء ال يفوَّت‪� .‬إن��ه فر�صة‬ ‫يدركون �أهمية هذا املوقع‪ ،‬بدليل �أنك و�أنت جال�س على‬
‫تاريخية لال�ستمتاع يف الليل‪ ،‬و�أنت ت�سبح فوق ماء هادئ‬ ‫الطاولة املطلّة على ال�شارع‪ ،‬يف هذا الطق�س امل�شم�س‬
‫طاملا حلمت به ال�شعوب وماليني ال�سيّاح‪.‬‬ ‫على غري عادته يف مثل هذا الوقت من ال�سنة‪ ،‬ت�شاهد‬
‫ومي ّر املركب �أمام برج �إيفل‪ ،‬الذي ي�سمّيه الباري�سيون‬ ‫ع�شرات الذين يتقدّمون منك ليعر�ضوا عليك �شراء‬
‫املعتّقون «ال�سيدة حديد»‪ .‬تلمح طيفه العمالق يرتاءى‬ ‫زهرة �أو بطاقة معايدة‪ ..‬لكن �أطرف امل�شاهد و�أكرثها‬
‫على �صفحة نهر ال�سني‪ ،‬وك�أن ال�سيدة العمالقة تنحني‬ ‫غرابة هي التي قام بها �أحد «ال�سَ حَ رة»‪� ،‬أو العبي اخلفّة‪،‬‬
‫لت�شرب من نهر التاريخ ما ي�ساعدها على ال�صمود �أكرث‬ ‫حيث �أوقع يف حبائله ن�سا ًء و�شيوخ ًا و�أطفا ًال من املارة‪،‬‬
‫برج �إيفل‬ ‫ف�أكرث‪.‬‬ ‫مثري ًا حوله عوا�صف ال�ضحك‪ ..‬هو يربط ورقة نقدية‬
‫وميكنك �أي�ض ًا �أن ت�سهر �سري ًا على الأقدام‪ ..‬نعم! اجلولة‬
‫ي�سميه‬ ‫يف احل��ي الالتيني ممتعة �إىل �أق�صى احل���دود‪ .‬ففي‬
‫من فئة الع�شرين ي��ورو بخيط دقيق ج��د ًا وغري مرئي‪،‬‬
‫ويطرحها على ق��ارع��ة الطريق‪ .‬وم��ا �أن ينحني عابر‬
‫الباري�سيون‬ ‫الأزقة التاريخية ال�ضيّقة التي ال ت�صل �إليها ال�سيارات‪،‬‬ ‫ال�سبيل اللتقاطها حتى ي�سحبها «ال�ساحر» ببطء‪ ،‬في�سري‬
‫�ألوف النا�س يتحرّكون على مدار ال�ساعة فوق احلجارة‬ ‫وراءه��ا «املخدوع» على �أمل االم�ساك بها‪ ..‬وهات على‬
‫املعتقون‬ ‫املر�صوفة التي تغطي ال�شوارع‪ ،‬وبني اجلدران التي توك�أ‬ ‫�ضحك وت�صفيق!‬
‫«ال�سيدة‬ ‫عليها التاريخ مئات ال�سنني‪.‬‬ ‫ن�سيت �أن �أق��ول لكم �إن �أ�شهر املرابع الليلية يف العامل‬
‫�ساعات ممتعة ميكنك �أن مت�ضيها يف احليّ الالتيني‪.‬‬ ‫يقع على ميني ج��ادة ال�شانزيليزيه ن��زوالً‪� .‬إن��ه «مقهى‬
‫احلديد»‬ ‫مطاعم يونانية متلأ املكان مبو�سيقاها وبرائحة ال�شواء‪،‬‬ ‫الليدو» ذائ��ع ال�صيت‪ ،‬وال��ذي يقدّم ا�ستعرا�ضات فنية‬
‫�أك�شاك تون�سية فيها احللوى وال�شاي الأخ�ضر‪ .‬واجهات‬ ‫جريئة ومتقنة‪ .‬لكن ال�سهرة فيه باهظة للغاية‪� ،‬إذ �إنها‬
‫مغطاة باللون الأحمر خلف زجاجها مطاعم �صينية‪.‬‬ ‫تبد�أ بثالثمئة يورو لل�شخ�ص الواحد‪ ،‬وحتتاج �إىل حجز‬
‫�أك�شاك لبيع �سندوي�شات ال�شاورما ت�شرتيها ببع�ض‬ ‫م�سبق‪ ،‬لكن طعمها ال�شهي يبقى حتت الأ�ضرا�س طوي ًال‬
‫«ي��وروات» وت�ستمتع بطعمها ال�شهي و�أنت ت�سري يف �أزقة‬ ‫طويالً!‬
‫التاريخ‪ ،‬لتط ّل على كاتدرائية نوتردام التي كانت م�سرح ًا‬ ‫ه��ذا لل�سهر‪ .‬ولكنك ل�ست ملزم ًا بتم�ضية �سهرتك يف‬
‫لأحداث «�أحدب نوتردام» لفيكتور هيغو‪ ..‬و�إذا ما �أردت‬ ‫مربع ليلي‪� .‬إمنا هناك خيارات كثرية ال تُع ّد وال تحُ �صى‪..‬‬
‫�أن توغل �أك�ثر ف�إنك ت�صل �إىل �شارع «�سان جرمان»‪،‬‬ ‫لكن �أبرزها على الإطالق هو تناول الع�شاء �ضمن جولة‬

‫‪107‬‬
‫والباري�سيون �أفردوا �أماكن ف�سيحة من مدينتهم للزوّار‬ ‫�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫وللمقيمني الأج��ان��ب‪ ،‬بحيث تبدو العا�صمة الفرن�سية‬
‫وك�أنها �أف�ضل الأماكن للحوارات احل�ضارية والفكرية‪.‬‬ ‫فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫ه��ذا على الرغم من وج��ود ت��ي��ارات �سيا�سية كثرية يف‬
‫البالد باتت ت�شكو من تكاثر «الأغراب»‪ ،‬وتدعو �إىل تقنني‬
‫أ�سفار‬ ‫�أ�سفار �‬
‫فار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫الإقامة يف فرن�سا عموم ًا وباري�س خ�صو�صاً‪.‬‬ ‫أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬ ‫ار �أ�سفار �أ�سفار �‬
‫�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫ولكن هذا ال مينع التقاء احل�ضارات والأديان يف �أجواء‬ ‫فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار‬
‫من الت�سامح واحلرية ا�شتهرت بهما مدينة باري�س عرب‬
‫العقود املا�ضية‪ .‬وم�سجد باري�س يف �ساحة م��وجن يف‬
‫ال��دائ��رة ال�ساد�سة هو خري دليل على ذل��ك‪ .‬ففي هذا‬ ‫م�سجد باري�س حيث املقاهي التي كان يق�صدها م�شاهري العامل‪ ،‬وت�شهد‬
‫ال�صرح الديني ال��ذي ي���ؤمّ��ه امل�سلمون‪ ،‬م��ن فرن�سيني‬ ‫حلقات النقا�ش الفكري‪ ،‬الذي �صنع جزء ًا ال ب�أ�س به من‬
‫ومقيمني و�سيّاح‪ ،‬لل�صالة واحلوار‪ ،‬تعقد حلقات فكرية‬ ‫تعقد فيه تاريخ فرن�سا الثقافة واملعرفة الفل�سفية‪.‬‬
‫حوارية على مدار �أي��ام ال�سنة‪ ،‬ويتمّ فيها تبادل الآراء‬ ‫حلقات‬
‫والنقا�ش بروح من االنفتاح ق ّل نظريها‪.‬‬ ‫ت ّلة املومنارتر‬
‫ومعهد العامل العربي يف باري�س �أي�ض ًا هو واحد من �صروح‬ ‫فكرية على‬
‫احلوار بني العرب والغرب‪ ،‬بني الإ�سالم وامل�سيحية‪ ،‬بني‬ ‫مدار ال�سنة وما دمنا يف جماالت ال�سهر‪ ،‬فال ب�أ�س عليك �إن اخرتت �أن‬
‫احل�ضارة امل�شرقية واحل�ضارة التي ت�سيطر على �أوروبا‪.‬‬ ‫مت�ضي �سهرة‪� ،‬أو جزء ًا من �سهرة‪ ،‬عند تلّة «مومنارتر»‪،‬‬
‫ويتجلّى هذا احلوار من خالل املعار�ض الفنية والندوات‬ ‫التي �شهدت معارك ال تزال �آثارها حمفوظة على بع�ض‬
‫الفكرية واحلفالت املو�سيقية‪ ،‬وعر�ض الأفالم الوثائقية‪،‬‬ ‫امل��ب��اين‪� ،‬أو م��ن خ�لال اللوحات التذكارية‪ ،‬ب�ين ق��وات‬
‫التي ت�ساهم يف تعريف العامل الغربي على ح�ضارة �شرقية‬ ‫النازية وقوات املقاومة الفرن�سية‪ .‬وعلى تلك التلّة فنانون‬
‫مل يفهمها الأوروبيون‪ ،‬حتى الآن‪ ،‬فهم ًا كافياً‪ ،‬مع الأ�سف‬ ‫من كل العامل‪ ،‬بينهم لبناين وتون�سي وم�صري‪ ،‬ير�سمون‬
‫ال�شديد‪.‬‬ ‫«البورتريهات» لل�سيّاح بقلم الر�صا�ص وبالفحم‪ ..‬وكذلك‬
‫والزائر يف باري�س �إذا كانت له اهتمامات ثقافية‪ ،‬هناك‬ ‫هناك مو�سيقيون يعزفون على �آالت �أحلان ًا فولكلورية من‬
‫مواقع ال ب ّد من زيارتها‪ ،‬ويف طليعتها متحف اللوفر‪ ،‬الذي‬ ‫بلدانهم‪ ،‬فيتحلّق حولهم امل��ارة‪ ،‬ي�ستمتعون باملو�سيقى‬
‫ي�ضمّ تراث ًا فني ًا عاملياً‪ ،‬لي�س فقط على �صعيد اللوحات‬ ‫ويدفعون لهم دريهمات يف قبّعة يجول بها �أحدهم على‬
‫والر�سوم‪ ،‬ولكن كذلك على م�ستوى الآثار القدمية‪ ،‬ويف‬ ‫حلقة احلا�ضرين‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫مقدّمتها �آثار عربية‪ ،‬ال �سيما من م�صر عهد الفراعنة‪ ،‬لل�سائح �أن يهتدي �إىل طرق الو�صول �إليها و�إىل �أهميتها التجول يف‬
‫مب��ج��رّد مراجعة امل��وق��ع ال�سياحي ملدينة باري�س على‬ ‫ومن لبنان واليمن وغريهما‪.‬‬
‫املرتو متعة‬ ‫وهناك �أي�ض ًا «�سنرت بوبور»‪ ،‬الذي يجمع يف مبنى مفرط الإنرتنت‪.‬‬
‫جمهولة‬ ‫أمر‬ ‫�‬ ‫اختالفها‪،‬‬ ‫على‬ ‫ال�سياحية‬ ‫املواقع‬ ‫تلحظه‬ ‫ال‬ ‫احلداثة �آث���ار ًا لفنانني معا�صرين من كل العامل‪ .‬كما لكن ما‬
‫ب�سيط للغاية قد ين�ساه الكثريون �أو �أن��ه��م‪ ،‬يف زحمة‬ ‫�أن الأهرامات الزجاجية يف باحته تذكّر الزوّار بتالقي‬
‫االهتمامات ال�سياحية‪ ،‬ال يتنبّهون �إليه‪� ..‬إنه التجوّل يف‬ ‫احل�ضارات وبتفاعلها‪.‬‬
‫املرتو‪.‬‬
‫�صدّقوين �إن ال�سفر �إىل باري�س من دون التجوّل يف املرتو‬ ‫عامل حتت الأر�ض‬
‫هو كمن يحمل باقة من الورد وال يتن�شق عبريها‪ ..‬فاملرتو‪،‬‬
‫و�إن كان �شعبياً‪ ،‬هو مر�آة ح�ضارية �أي�ضاً‪� ،‬إنه الوجه الآخر‬ ‫طبع ًا هناك ف�سحات وا�سعة لـ «ال�شوبينغ» ولتتبّع املو�ضة‬
‫ملدينة باري�س‪ ،‬و�أروع ما فيه الفرق املو�سيقية املرجتلة يف‬ ‫م��ن خ�لال العرو�ضات املتوا�صلة‪ ،‬ال �سيما يف «ق�صر‬
‫�أقبية حتت الأر���ض‪ ،‬والر�سّ امون الذين يخطون لوحات‬ ‫امل���ؤمت��رات»‪ ..‬وهناك ف�سحات �أخ��رى ل��زي��ارة املناطق‬
‫رائعة بالطب�شور امللوّن‪ ..‬وكذلك ه�ؤالء املت�سكعون الذين‬ ‫ال�سياحية القريبة جد ًا من باري�س مثل «ق�صر فر�ساي»‬
‫مي�ل�أون الأقبية ب�ضحكاتهم امل��دوي��ة‪ ،‬وثيابهم الرثة‪،‬‬ ‫و«ق�صر فونتينبال» وغريهما‪ .‬وق��د يكون من الإهمال‬
‫وعيونهم التي تنظر �إىل الال�شيء‪ ..‬ولكنها ت�ترك يف‬ ‫ال�شديد‪ ،‬ال��ذي �سيندم عليه ال�سائح بكل ت�أكيد‪ ،‬عدم‬
‫قلبك ت�أثري ًا حتمله معك‪ ،‬حيث تعود �إىل بالدك و�أنت‬ ‫ال��ذه��اب �إىل املركز اجل��غ��رايف العلمي‪� ،‬أو �إىل متحف‬
‫مملوء بعبري باري�س وب�صورها ال�ساحرة‪.‬‬ ‫الإن�سان‪� ،‬أو حتى �إىل مدينة ي��ورو دي��زين القريبة من‬
‫باري�س‪ .‬وكلها م��واق��ع ملحوظة على الإن�ترن��ت وميكن‬
‫الرسوم ‪ :‬إسماعيل عزام‪ -‬العراق‬

‫‪109‬‬
‫هذا الرجل الرائع ال يدفع تكاليف امل�سكن الذي يقيم فيه‪.‬‬ ‫ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫لأنه بب�ساطة قرر �أن يعي�ش يف كرتون م�صنوع من الورق املقوى‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫البني اللون‪.‬لي�س له جريان من النوع املعتاد‪ ،‬فالفيال التي‬
‫يقطن فيها تقع يف �شارع فرعي م�سدود‪ ،‬قذر‪ ،‬ومزدحم يف‬
‫ال�صبح وامل�ساء‪ ،‬ودائم ًا هناك �صياح و�ضجيج ال يهد�أ ي�صدر‬
‫ق�صة‬ ‫ق�صة‬
‫صو�ص ن�صو�ص‬
‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬

‫راتخم‬
‫عن ج�يران��ه‪ ،‬وه��م �أ�صحاب املطاعم وحم�لات بيع ال�شاي‬
‫باحلليب‪.‬غالب ًا ما ينام حتى ال�ضحى‪ .‬وعندما يخرج الطالب‬ ‫ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫ق�صة ق�صة‬ ‫�صة ق�صة ق�صة ق�صة‬
‫من الثانوية املجاورة يف فرتة اال�سرتاحة ليتناولوا �إفطارهم‬
‫�أو ل�شرب ال�شاي باحلليب‪ ،‬ف�إنه يف�ضل �إخ���راج ر�أ���س��ه من‬
‫الكرتون‪ ،‬ليتفادى تعر�ض كرتونه لركالت طائ�شة من �أولئك‬
‫ال�صبية الوقحني‪ ،‬الذين يزعجهم ا�ستغراقه يف نوم لذيذ‪.‬‬
‫يخرج من كرتونه ببطء �شديد‪ ،‬وك�أنه يرقة تخرج من �شرنقة‪،‬‬
‫فيبد�أ �أو ًال ب�إخراج ر�أ�سه مغم�ض ًا عينيه‪ ،‬ثم يفتحهما على‬
‫مهل‪ ،‬وك���أن �ضوء النهار ي�سبب له �أمل�� ًا ال يطاق‪ .‬وبعد حني‬
‫يحدج املكان بب�صر واهن حماو ًال التعرف عليه‪ ،‬وباذ ًال جهد ًا‬

‫الأ�صــيــل‬
‫�إ�ضافي ًا لتذكر من هو؟ وكيف و�صل �إىل هنا؟‬
‫ي�سحب �صدره �إىل اخلارج‪ ،‬ويتكئ مبرفقه على دكة �أ�سمنتية‬
‫�ضيّقة‪ ،‬و�آنذاك ينتابه �إح�سا�س بالغبطة لوجود تلك الدكة‪� ،‬إذ‬
‫لوالها ملا ت�سنى له النهو�ض من فرا�شه‪.‬‬
‫وهو يف جل�سته امللوكية تلك‪ ،‬ودون �أن يتفوّه بكلمة‪ ،‬يح�ضر له‬
‫نادل ذو �شفة �أرنبية ك�أ�س ال�شاي باحلليب اململوء �إىل ن�صفه‬
‫«الدبل»‪.‬‬
‫كثريون ميرون ويلقون عليه التحية‪ ،‬فري ّد عليهم والب�شا�شة‬
‫ال�صادقة مترح يف وجهه‪.‬‬
‫يت�أمل النا�س يف غدوهم ورواحهم‪ ،‬وي�شعر باحلزن لأجلهم‪،‬‬
‫خ�صو�ص ًا حني ي�سمعهم يتحدثون عن غالء املعي�شة‪ ،‬وارتفاع‬
‫�إيجارات امل�ساكن‪ ،‬وفواتري املاء والكهرباء والهاتف املرهقة‬
‫للجيوب‪.‬‬
‫ي��راه��م مقطبني‪ ،‬قلقني‪ ،‬منزعجني‪ ،‬وال��ه��مّ ير�سم زواي��اه‬
‫احلادة على �سحناتهم‪ ،‬والتجاعيد تتكاثر وت�شرخ �صورهم‪،‬‬
‫واال�ضطراب يتغلغل حتت اجللد‪ ،‬فتنطفئ نظرة العيون‪،‬‬
‫وتنخ�سف اجلباه العالية‪ ،‬وتغور الب�سمات ال�سعيدة‪.‬‬
‫هو وحده يعرف �س ّر جناته من هذه التحوّالت املرعبة للوجه‬
‫الب�شري‪..‬لأنه ورغم بلوغه الأربعني عاماً‪ ،‬ووجود تلك اللحية‬
‫ال�سوداء امل�سرت�سلة‪ ،‬ما زال وجهه طفولياً‪ ،‬وعيناه بريئتني‪.‬‬
‫ولأن��ه ال يحمل يف جيبه م��االً‪� ،‬صار م�ستغني ًا عن كل �أح��د‪.‬‬
‫التفكري يف امل��ال ال ي�شغله‪ ،‬لذلك ي��رى نف�سه �أغنى من كل‬
‫�أغنياء املدينة‪ ..‬لأن��ه من منهم – �أي الأغنياء – بلغ من‬
‫الرثاء حد ًا مل يعد معه يفكر يف املال؟!‬
‫لكن من �أين يعي�ش راتخم الأ�صيل ؟ كيف يدبر ثمن وجباته؟‬
‫طبع ًا هو يدفع ثمن الطعام الذي يتناوله‪ ،‬وال�شاي باحلليب‬
‫الذي ي�شربه‪ ،‬فهو ال ي�ستجدي �أحداً‪ ،‬وال يقبل �إح�سان ًا من �أي‬
‫كان‪ ..‬ولذلك يقوم بجوالت عديدة على قدميه جلمع قناين‬ ‫وجدي الأهدل‬
‫امل��ي��اه البال�ستيكية يف كي�س نايلون كبري ج���داً‪ ،‬ث��م يبيعها‬ ‫قا�ص من اليمن‬
‫ملحالت الع�صائر ‪ .‬ويدخل �ضمن ن�شاطه �أي�ض ًا جمع الكراتني‬
‫و�أطباق البي�ض‪.‬‬
‫ويوفر له هذا العمل ال�شبيه بجمع الثمار من الغابة‪ ،‬زمن‬
‫الأق��وام البدائية‪ ،‬ثمن امل�أكل وامل�شرب‪ ،‬و�أحيان ًا ثمن ربطة‬
‫القات ال�صوطي‪.‬‬
‫قلبه ينب�ض براحة ‪ ،‬ال �شيء تقريب ًا ي�شغل باله ‪.‬‬
‫عندما يخرج من غرفة نومه ال�صغرية جداً‪ ،‬وينه�ض متمطي ًا‬
‫‪110‬‬
‫الدنيا» حينذاك فقط يتنف�س مطمئناً‪ ،‬ويدخل �إىل جوف‬ ‫كالقط‪ ،‬يبدو ف��ارع القامة‪ ،‬عري�ض املنكبني‪ ،‬ق��وي البنية‪،‬‬
‫كرتونه مرتاح ال�ضمري‪ ،‬ويف ثانية ينام‪.‬‬ ‫وخ�صره دقيق ًا وبطنه مم�سوحاً‪ ،‬ك�أمنا هو فار�س �ضائع يف‬
‫زمن يخلو من الفرو�سية‪.‬‬
‫‪fff‬‬
‫�شعره �أ�سود فاحم ي�صل �إىل كتفيه‪ ،‬ووجهه الطويل فيه مالحة‬
‫جل�س �أحدهم يف املقهى وفتح حمفظته‪ ،‬فتدحرجت منها كرة‬ ‫ورجولة م�ؤثرة‪.‬‬
‫نارية ملتهبة‪ ،‬وزنها خفيف كالري�شة‪ ،‬ف�أخذت الريح تلعب بها‪،‬‬ ‫كيف ال يكون مثل هذا العمالق‪ ،‬بو�سامته الالفتة‪ ،‬ورجولته‬
‫ف�إذا هي تنط من مكان لآخر يف غم�ضة عني‪.‬‬ ‫الطاغية‪� ،‬شخ�صية بارزة يف املجتمع؟!‬
‫خ�شيت على بيتي الكرتوين و�أ�سمايل العتيقة وكومة القناين‬ ‫من املفارقات �أن معظم ال�شخ�صيات التي تدير �ش�ؤون املجتمع‬
‫البال�ستيكية من �أن تلتهمها النريان‪ ،‬فوقفت باملر�صاد لتلك‬ ‫يف وقتنا احلا�ضر هم من ق�صار القامة‪� ..‬شيء حمري فعالً!!‬
‫الكرة العابثة‪.‬‬ ‫يبدو لنا العامل ال��ذي يعي�ش فيه راتخم الأ�صيل حم��دود ًا‬
‫وخوف ًا من اح�تراق املقهى ركلها �أحد العاملني عالي ًا جداً‪،‬‬ ‫للغاية‪ ،‬وخالي ًا من الإثارة والتغيري‪ ،‬و�أن �أيامه كلها مت�شابهة‪،‬‬
‫فا�ستقرت هناك فوق ر�ؤو�سنا وقالت �أنا ال�شم�س‪ ،‬ثم انهمرت‬ ‫و�أنه مي�ضي �أوقاته على نحو روتيني ممل‪.‬‬
‫حرارة ال�صيف‪.‬‬ ‫لكن هذا الت�صور خاطئ متاماً‪ ،‬لأنه ال مي�ضي عليه �أ�سبوع‬
‫جل���أ رواد املقهى �إىل الأم��اك��ن الظليلة وان�شغلوا بتجفيف‬ ‫دون �أن يت�شاجر مع عنا�صر البلدية الذين يحاولون طرده من‬
‫عرقهم‪ ،‬بينما عدت �أنا �إىل مو�ضعي ال�سابق‪� ،‬أر�شف ال�شاي‬ ‫مكانه‪� ،‬أو مع �آخرين ال يعجبهم وجوده بقربهم‪� ،‬أو مت�شردين‬
‫باحلليب مبزاج رائق ‪� ،‬شاعر ًا بالأمان‪.‬‬ ‫يح�صلها بعرق‬ ‫�أفظاظ يحاولون �سلبه نقوده القليلة التي ّ‬
‫ا�سرتخت القطط حتت الكرا�سي والألواح الطويلة املخ�ص�صة‬ ‫جبينه‪.‬‬
‫للجلو�س‪ ،‬وكفت عن مالحقة الفئران‪.‬‬ ‫وقبل �سنوات عر�ضت عليه امر�أة �أرمل متلك بيت ًا �أن يتزوجها‪،‬‬
‫من مذياع املقهى �سمعنا ن�شرة الأخبار ال�صباحية‪ ،‬وردت فيها‬ ‫ولكنه رف�ض عر�ضها املغري‪ ،‬دون �أن يرف له جفن‪.‬‬
‫قرارات ر�سمية تثري الإعجاب‪ ،‬منها �أن ي�سقط املطر!‬ ‫و�أم��ا الأع��م��ال التي عر�ضت عليه ورف�ضها‪ ،‬ف�أكرث من �أن‬
‫ردّد الواقفون يف انتظار دوره��م ل�شراء ال�شاي باحلليب‪،‬‬ ‫حت�صى‪.‬‬
‫واجلال�سون بال دور خلف املذيع بحما�سة منقطعة النظري‪:‬‬ ‫مل يكن يقبل ب�أن يت�أمّر عليه �أي رب عمل مهما �أعطاه من مال‬
‫ي�سقط ي�سقط ي�سقط!‬ ‫‪ .‬كان يريد �أن يبقى �سيد نف�سه ‪ ..‬وهو ما كان ‪.‬‬
‫ر�أينا واحد ًا قد بلغ اخلم�سني‪ ،‬له مالمح قا�سية‪ ،‬ويبدو عليه‬ ‫راتخم الأ�صيل له �أ�صدقاء كثريون ‪� ،‬أغلبهم مت�شردون مثله‪،‬‬
‫�أن��ه يحتل مركز ًا مرموقاً‪ ،‬ي�سحب كر�سي ًا وينتحي جانباً‪،‬‬ ‫يهيمون على وجوههم يف احل���ارات بال م���أوى معظم �أي��ام‬
‫حيث اختار اجللو�س حتت طربال �أزرق‪ ،‬وبيده ك�أ�س ال�شاي‬ ‫ال�سنة‪ ،‬والقليل منهم ميوت يف ذروة الربد‪.‬‬
‫باحلليب‪.‬‬ ‫حني يقيل ليخزن القات‪ ،‬يلتف حوله عدد منهم‪ ،‬ويتبادلون‬
‫كان يبت�سم بخبث‪ ،‬لأنه الوحيد الذي ا�ستمع لن�شرة الأخبار‬ ‫�أحاديث لطيفة‪.‬‬
‫و�أدرك مغزاها‪ ،‬فاتخذ مبكر ًا التدابري الالزمة‪.‬‬ ‫�أحيان ًا تخطر امل��ر�أة ببال راتخم الأ�صيل فيبت�سم ويغرق يف‬
‫وا�ستجابت ال�سماء لأوامر احلكومة‪ ،‬وك�أنها مواطن �صالح‪،‬‬ ‫تخيالت ممتعة‪ ،‬وتراوده �أحالم يقظة �ساحرة‪:‬‬
‫ف�أخذت متطر بغزارة‪ ،‬والرياح ت�صفق بعنف‪ ،‬والرعد يدوي‬ ‫يتخيل �شابة ح�سناء‪ ،‬هيفاء القدّ‪ ،‬ب�شرتها كاحلليب‪ ،‬تهيم به‬
‫يف الأعايل ويز�أر ك�أ�سد جائع‪.‬‬ ‫ع�شقاً‪.‬‬
‫ب�سرعة جتمع املاء يف و�سط الطربال الأزرق‪ ،‬وكلما �ضربت‬ ‫يت�صورها تراقبه من نافذة غرفتها حني مير من ال�شارع الذي‬
‫الريح بزعانفها‪ ،‬كان املاء يندفع من �أحد الثقوب‪ ،‬ويهبط‬ ‫ت�سكن فيه‪ .‬يتخيل رع�شة قلبها حني تراه‪ ،‬وكيف تهرع �آن يغيب‬
‫ك�شالل هادر على �صلعة الرجل اخلم�سيني‪ ،‬الذي حافظ على‬ ‫عن ناظرها �إىل الورقة والقلم لت�سكب م�شاعرها يف ق�صيدة‬
‫وقاره و�صالبة مالحمه دون ت�أثر يذكر بالبلل الذي �أ�صابه‪.‬‬ ‫�شعر مرتعة باللوعة وعذاب الفراق!‬
‫ا�ستغربت كثري ًا موقف هذا الكهل الذي يبدو موظف ًا رفيع املقام‬ ‫ثم يتنهد وي�شعر بالأ�سى على حال تلك الفتاة املهوو�سة بحبه!‬
‫ورب �أ�سرة ناجحاً‪ ،‬وعجزه عن تغيري موقعه‪ ،‬وا�ست�سالمه للبلل‬ ‫هكذا هو من�سجم مع نف�سه‪ ،‬فال حاجة له بعد ذلك المر�أة‬
‫بتلك القدرية امل�ش�ؤومة‪.‬‬ ‫حقيقية من حلم ودم تعكر عليه �صفو حياته‪.‬‬
‫ما الذي يجربه على البقاء حيث هو؟ ملاذا ال يحاول البحث عن‬ ‫قرب منت�صف الليل تهد�أ احلركة يف املقهى املجاور‪ ،‬وتغلق‬
‫مو�ضع �أف�ضل؟ وبد ًال من �أن ي�سعى �إىل جهة �أخرى يف املقهى‬ ‫املطاعم �أبوابها‪ ،‬وترف الأرواح الهائمة قريب ًا من الأر�ض‪،‬‬
‫تقيه الغرق‪ ،‬ر�أيته يحدق بثبات وحتد يف ثقب الطربال‪ ،‬يف‬ ‫حتى لتو�شك �أن تالم�س الر�ؤو�س‪.‬‬
‫عني الفتحة‪ ،‬غري عابئ باملاء الذي كان «يط�شط�ش» فوقه بني‬ ‫يف هذا الوقت املت�أخر‪ ،‬يقوم راتخم الأ�صيل بجولته اخلتامية‪،‬‬
‫احلني واحلني كلما عنّ للريح �أن تتالعب بالطربال الأزرق‬ ‫ويجمع القناين البال�ستيكية من حتت املقاعد والطاوالت‪،‬‬
‫وتهزه لتدلق ما جتمع يف جوفه من ماء عكر‪.‬‬ ‫وم��ن ب�ين امل��وا���س�ير واحل��ف��ر‪ ،‬وم��ن �أم��اك��ن �أخ���رى متفرقة‪،‬‬
‫رمبا هو العناد الذي �أبقاه يف مكانه‪.‬‬ ‫�أم�سى يعرف بخربته الطويلة �أن �سمار الليل �سيرتكون فيها‬
‫حد�ست ب�أن حياته ذاتها ال تخلو هي �أي�ض ًا من ثقب مماثل ‪.‬‬ ‫بقاياهم‪.‬‬
‫منذ �سنوات و�أنا �أراه يرتدّد على املقهى مهيب ًا يرفل يف بدالت‬ ‫لكنه قبل �أن ي�أوي �إىل مهجعه‪ ،‬كان يحر�ص على عادة ت�أ�صلت‬
‫�أنيقة‪ ،‬ف�أمتنى يف �سري لو �أكون مثله‪ ..‬ولكنني بعد �أن اكت�شفت‬ ‫يف نف�سه مبرور الأيام‪ ،‬ومل يعد يقدر على قطعها‪:‬‬
‫�أ�سلوبه يف احلياة‪ ،‬وب�أية نف�سية يحيا‪ ،‬حمدت اهلل �أنني مل �أبتل‬ ‫كان ي�صرف ما يف جيبه من نقود حتى �آخر فل�س‪ ،‬على نف�سه‬
‫بخ�صلة العناد‪ ،‬و�أن حياتي املتوا�ضعة تخلو من �أية ثقوب!‬ ‫وعلى �أ�صدقائه املعدمني‪ .‬وملا يت�أكد من خلو جيبه من «و�سخ‬
‫‪111‬‬
‫لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫ية �أحافري لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫حافري لغوية �أحافري لغوية‬

‫متحذلقون‬
‫لغويةلغوية‬
‫أحافري‬ ‫ص�‬
‫حافري‬
‫وية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫غوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬

‫مت�شدقون!‬
‫اال�ستفهام بـ «ما» و بـ «ماذا» لي�س واحداً‬

‫‪112‬‬
‫�إذا قل ��ت ل�ش ��خ�ص م�س ��تفهماً‪« :‬م ��ا بك يا فالن؟» �أو قل ��ت‪« :‬ماذا بك يا فالن؟» فهل اال�س ��تفهام يف‬
‫احلال�ي�ن واح ��د؟‪ .‬ظاهر قواعد اللغة يوحي بذلك‪� .‬إذ �أن اال�س ��تفهام بـ«م ��ا» �إمنا يكون عن حقيقة‬
‫ال�شيء‪ .‬وقد ورد يف القر�آن الكرمي على ل�سان �سيدنا �إبراهيم عليه ال�سالم قوله تعاىل‪:‬‬
‫«وات� � ُل عليه ��م نب� ��أ �إبراهي ��م‪� .‬إذ ق ��ال لأبي ��ه وقومه‪ :‬م ��ا تعب ��دون؟ قالوا‪ :‬نعب ��د �أ�ص ��ناماً فنظل لها‬
‫عاكفني» ( ال�شعراء ‪.)71- 69/‬‬
‫وقال عنه �أي�ضاً‪:‬‬
‫«و�إن منْ �شيعته لإَبراهيم‪� .‬إ ْذ جاء ربَّه بقلبٍ �سليم‪� .‬إذ قا َل لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟‪� .‬أَئِفكاً �آله ًة‬
‫دون اهلل تريدون؟!‪ ( ».‬ال�صافات‪.)87- 83/‬‬
‫فف ��ي الآي ��ة الأوىل «م ��ا تعب ��دون» تقديرها‪� :‬أيُّ �ش ��يء تعبُدون؟ �أي �أنها ل�س� ��ؤال ع ��ادي غايته طلب‬
‫معرفة اجلواب‪ ،‬بدليل �أن قومه �أجابوه فقالوا‪« :‬نعبد �أ�صناماً»‪� .‬أما (ما) يف قوله (ماذا تعبدون)‬
‫ف�إنه ��ا ج ��اءت مركب� � ًة مع (ذا) فكانتا معاً ا�س ��ماً واحداً (ماذا)‪ ،‬والهدف من ا�س ��تعماله لي�س لطلب‬
‫معرف ��ة اجل ��واب‪ ،‬و�إمن ��ا تقريعه ��م وتوبيخه ��م‪ .‬والدليل على ذلك �أن ��ه مل ينتظر منه ��م جواباً‪ ،‬بل‬
‫�أجاب نف�سه ب�س�ؤال ا�ستنكاري �آخر (�أئفكاً �آلهة دون اهلل تريدون؟)‪.‬‬
‫فكان ��ت (ما) يف (ما تعبدون) ا�س ��م ا�س ��تفهام‪ ،‬وهي وما بعدها جملة‪ :‬مبت ��د�أ و خرب‪� ،‬أما (ما) التي‬
‫�أ�ض ��يفت لها (ذا) ف�ص ��ارتا معاً (ماذا) ا�س ��ماً واحداً‪ ،‬فك�أنها يف حمل ن�ص ��ب «حال» تقدم على الفعل‬
‫والتقدير‪ :‬تعبدون �أيَّ �شيء؟‪.‬‬
‫واخلال�ص ��ة �أن (ما) و(ماذا) ا�س ��ما ا�س ��تفهام‪ .‬ولكنك �إذا �أردت اال�س ��تفهام على حقيقته ا�ستخدمت‬
‫(ما) و�إن خرجت باال�ستفهام �إىل غر�ض بالغي �آخر‪ ،‬كالتوبيخ �أو اال�ستنكار ا�ستخدمت (ماذا)‪.‬‬

‫�أ‪.‬د م�صطفى رجب‬


‫كاتب من م�صر‬

‫‪113‬‬
‫ويقولون‪� :‬سررتُ بر�ؤيا فالن‪� ،‬إ�شارة �إىل م ْر�آهُ‪ .‬وهذا خط�أ‬ ‫لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫ية �أحافري لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫�شاع حتى وقع فيه �أبو الطيب املتنبي يف قوله‪:‬‬ ‫حافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫مَ �ضى الليلُ والف�ضلُ الذي لك ال يمَ ْ�ضي ‪ ...‬ور�ؤياك �أحلى‬
‫ْ�ض‬
‫يف العيون من ال ُغم ِ‬
‫وال�صواب �أن يقال‪� :‬سررت بر�ؤيتك‪ ،‬لأن العرب جتعل‬
‫لغويةلغوية‬
‫أحافري‬ ‫ص�‬
‫حافري‬
‫الر�ؤية ملا يرى يف اليقظة‪ ،‬والر�ؤيا ملا يرى يف املنام‪ ،‬كما‬ ‫وية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫قال تعاىل يف �سورة يو�سف‪�« :‬إنْ كُنتمْ لل ُّر�ؤيا تعْبرُ ون»‪.‬‬ ‫غوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية‬
‫‪f f f‬‬ ‫ ‬
‫وزنا‪َ :‬فعَّل و�أَ ْفعَلَ ‪:‬‬
‫�صحفي ب�ضم ال�صاد �أو فتحها‪:‬‬ ‫«و�صيت»؟‬‫هل هناك فرق بني قولنا «�أو�صيت» وقولنا َّ‬
‫ويقولون ملن له �صلة بال�صحف �أو يعمل فيها‪�ُ :‬صحُ فِيّ ‪-‬‬ ‫وقولنا «�أبلغت» و«بلَّغت»؟‬
‫ب�ضم ال�صاد‪ -‬قيا�س ًا على قولهم يف الن�سب �إىل الأن�صار‬ ‫القاعدة اللغوية امل�شهورة هنا �أن الفعل الرباعي املزيد‬
‫�أن�����ص��اريّ ‪ ،‬و�إىل الأع����راب �أع���راب���يّ ‪ .‬وال�����ص��واب عند‬ ‫بالت�ضعيف �أو بالهمز يدل على معنى التكثري واملبالغة‪.‬‬
‫النحويني الب�صريني �أن يوقع الن�سب �إىل واحدة ال�صحف‬ ‫ف���إذا زدنا فع ًال ثالثي ًا مثل «كَ��رُمَ » لنجعله رباعي ًا قلنا‪:‬‬
‫وهي �صحيفة‪ ،‬فيقال َ�صحَ فيّ ‪ ،‬كما يقال يف الن�سب �إىل‬ ‫كرَّمته و�أكرمته بالت�ضعيف وبالهمز على التوايل‪.‬‬
‫حَ نيفة‪ :‬حَ نَفيّ ‪ ،‬لأنهم ال يرون الن�سبة �إال �إىل الواحد‪� ،‬إال‬ ‫ولكن قارئ القر�آن الكرمي يالحظ �أن الأ�سلوب القر�آين‬
‫�أن جتعل اجلمع ا�سم ًا علم ًا للمن�سوب �إليه‪ ،‬فيوقع الن�سب‬ ‫ي�ستعمل امل�ضعف واملهموز تبع ًا ملقت�ضى ال�سياق‪ ،‬في�ستعمل‬
‫حينئذ �إىل �صيغته‪ ،‬كقولهم يف الن�سب �إىل قبيلة هوازن‪:‬‬ ‫«و�صى» غالب ًا مع الأمور الدينية املعنوية مثل‪:‬‬ ‫الفعل َّ‬ ‫الفر�س‬
‫هَ وازِين‪ ،‬و�إىل حي كِ الب‪ :‬كِ البيّ ‪ ،‬و�إىل الأنبار‪� :‬أنباريّ ‪،‬‬ ‫«وو�صينا الإن�سان بوالديه‪( »..‬العنكبوت ‪.) 8 /‬‬ ‫خ�صبوا‬
‫و�إىل املدائن‪ :‬مدائنيّ ‪ ،‬ف�إنه �ش ّذ عن �أ�صله‪.‬‬ ‫«وو�صى بها �إبراهيم بنيه ويعقوب‪( »..‬البقرة ‪.)132/‬‬ ‫َّ‬ ‫لغتهم‬
‫يف حني ي�ستخدم وزن �أفعل (�أو�صى) مع الأمور املادية‪،‬‬
‫‪f f f‬‬ ‫ ‬ ‫كقوله تعاىل‪« :‬يو�صيكم اهلل يف �أوالدكم‪ :‬للذكر مثل حظ‬ ‫الفقرية‬
‫اجلموع �أنواع‪:‬‬
‫الأنثيني‪( »..‬الن�ساء‪.)11/‬‬ ‫مبلفوظات‬
‫ف�إذا كانت هذه قاعدة مطردة فكيف قال تعاىل «و�أو�صاين‬
‫بع�ض الكتاب ال يفرقون بني جموع القلة وجموع الكرثة‪،‬‬ ‫بال�صالة والزكاة ما دمت حيا» (مرمي ‪ )21/‬على ل�سان‬ ‫بابل الغنية‬
‫فيقولون مثالً‪ :‬ثالثة �شهور‪ ،‬و�سبعة بحوث‪ .‬وال�صواب �أن‬ ‫نبي اهلل يحيى؟ مع �أن هذه �أمور دين وعبادات؟‬
‫قال بع�ض الباحثني (القرتان ال�صالة بالزكاة) �أي لأن‬
‫الزكاة من املعامالت املادية فقد تغلب وجودها على‬
‫ال�سياق‪ .‬ومنه ا�ستعمال (جنَّ ى) و(�أجنُ ى)‪ ،‬ف�إن املالحظ‬
‫�أن ال��ق��ر�آن الكرمي كثري ًا ما ي�ستعمل (جنّ ��ى) للتلبث‬
‫والتمهل يف التنجية‪ .‬وي�ستعمل (�أجنى) يف الإ�سراع بها‪.‬‬
‫قال تعاىل‪« :‬و�إذْ �أجنيناكم من �آل فرعون ي�سومونكم �سوء‬
‫العذاب يذبحون �أبناءكم وي�ستحيون ن�ساءكم ‪ .‬ويف ذلكم‬
‫بالء من ربكم عظيم‪ .‬و�إذ فرقنا بكم البحر ف�أجنيناكم‬
‫و�أغرقنا �آل فرعون و�أنتم تنظرون» (البقرة ‪.)49-50 /‬‬
‫«ف�إنه ملا كانت النجاة من البحر مل ت�ستغرق وقت ًا طوي ًال‬
‫وال مكث ًا ا�ستعمل (�أجن��ى)‪ ،‬بخالف البقاء مع فرعون‪،‬‬
‫ف�إنه ا�ستغرق وقت ًا طوي ًال ومكثاً‪ ،‬فا�ستعمل (جنّ ى)»‪.‬‬
‫‪f f f‬‬ ‫ ‬

‫الفر�س‪ ،‬بفتح الراء‪ ،‬وقد �أقبلت الفر�س‬‫ُ‬ ‫َك�ض‬


‫يقولون‪ :‬ر َ‬
‫ُ�ض‪ .‬وال�صواب فيه �أن يقال رُكِ َ�ض الفر�س‪ ،‬ب�ضم‬ ‫ترك ُ‬
‫َ�ض‪ ،‬ب�ضم التاء‪.‬‬
‫الراء‪ ،‬و�أقبلت تُرك ُ‬
‫ُ�ض‬
‫و�أ�صل الرك�ض حتريك القوائم‪ ،‬ومنه قوله تعاىل‪« :‬ا ْرك ْ‬
‫برِ جْ ل َِك»‪ ،‬ولهذا قيل للجنني �إذا ا�ضطرب يف بطن �أمه‪:‬‬
‫ارتك�ض‪.‬‬
‫َ‬ ‫قد‬
‫‪f f f‬‬ ‫ ‬

‫‪114‬‬
‫وال تتلقوج وال تنبج‪ ،‬وال تنفلج‪ ،‬وال تقب حتت الرجل‪،‬‬ ‫يقال ثالثة �أ�شهر و�سبعة �أبحاث‪ ، ،‬وذلك لأن العدد من‬
‫وال تل�صق بخبز الفجل‪ ،‬ظاهرها كالزعفران‪ ،‬وباطنها‬ ‫الثالثة �إىل الع�شرة تو�صف به ال ِق ّلةِ‪ ،‬و�أوزان جموع القلة‬
‫ك�شقائق النعمان‪� ،‬أخف من ري�ش الطري‪� ،‬شديدة الب�أ�س‬ ‫�أربعة هي‪� :‬أفْعال مثل‪� :‬أبحاث و�أ�سياف و�أ ْفعُل مثل‪� :‬أبحر‬
‫على ال�سري‪ ،‬طويلة الكعاب‪ ،‬عالية الأجناب‪ ،‬ال يلحق بها‬ ‫و�أع�ين‪ ،‬و�أ ْف ِعلَة مثل‪� :‬أغطية و�أمثلة و�أوبئة‪ ،‬و ِف ْعلَة مثل‪:‬‬
‫الرتاب‪ ،‬وال يغرقها ماء ال�سحاب‪ ،‬ت�صر �صرير الباب‪،‬‬ ‫�صبية وفتية‪.‬‬
‫وتلمع كال�سراب‪ ،‬و�أدميها من غري ج��راب‪ ،‬جلدها من‬ ‫�أما �أوزان الكرثة فهي ماعدا تلك الأربعة‪ ،‬فمنها فعال‬
‫خال�ص جلود املاعز‪ ،‬ما لب�سها �أحد �إال افتخر بها وعز‬ ‫– بك�سر الفاء – مثل جبال وبحار‪ ،‬وفعول مثل �سيوف‬
‫خم��روزة كخرز اخلرنفو�ش‪ ،‬وه��ي �أخ��ف من املنقو�ش‪،‬‬ ‫وبحوث وقطوف‪ ،‬وغريها‪ .‬فالدقة اللغوية تقت�ضي من‬
‫م�سمرة باحلديد ممنطقة‪ ،‬ثابتة يف الأر����ض املزلقة‪،‬‬ ‫الكتاب بعامة‪ ،‬واملبدعني بخا�صة �أن يتحروا الدقة يف‬
‫نعلها من جلد الأفيلة ال احلمري الفطري‪ ،‬وتكون بالرنر‬ ‫ا�ستعمال اجلموع العربية‪.‬‬
‫احلقري»‪.‬‬
‫فلما �أم�سك النحوي من كالمه‪ ،‬وث��ب الإ�سكايف على‬ ‫جزمة النحوي‪ :‬كيف تكون؟!!‬
‫�أقدامه‪ ،‬ومت�شى وتبخرت‪ ،‬و�أطرق �ساعة وتفكر‪ ،‬وت�شدد‬ ‫مل يكتب اهلل للنحاة ما كتب لأهل الأدب والبالغة من‬
‫وت�شمر‪ ،‬وحترج وتنمر‪ ،‬ودخل حانوته وخرج‪ ،‬وقد داخله‬ ‫ال�شهرة وذيوع ال�صيت‪ ،‬ومل يُعرف عن النحاة ما عرف‬
‫احلنق واحلرج‪ ،‬فقال له النحوي‪ :‬جئت مبا طلبت‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫عن الأدب��اء وال�شعراء من خفة الظل‪ ،‬ولطف املع�شر‪،‬‬
‫ال بل بجواب ما قلت‪ ،‬فقال‪ :‬قل و�أوج��ز‪ ،‬و�سجع ورجز‪،‬‬ ‫وظرف املنادمة‪.‬‬
‫فقال‪:‬‬ ‫فالنحاة ‪ -‬كما تقدمهم �إلينا كتب الرتاث ‪ -‬متحذلقون‪،‬‬
‫اللغة‬ ‫�أخربك �أيها النحوي‪� ،‬أن ال�شر�سا يحزوي‪� ،‬شطبطبات‬ ‫مت�شدقون بغرائب الألفاظ حتى ولو كانوا يف مواقف ال‬
‫العروبية‬ ‫املتقرل‪ ،‬واملتقبعقب ملا قرب من قرى قوق القرنقنقق‪،‬‬ ‫ت�سمح بالت�شدق‪ ،‬وال حتتمل اال�ستظراف ممن لي�س له‬
‫ط���رق رزق��ن��ا‪� ،‬شرا�سيف ق�صر الق�شتبع م��ن جانب‬ ‫ب�أهل‪.‬‬
‫�سبقت‬ ‫ال�����ش��ر���ش��ن��ك��ل وال����دي����وك ت�����ص��ه��ل��ل‪ ،‬ك��ن��ه��ي��ق ال��رق��اي��ق‬ ‫يحكون �أن نحوي ًا �سقط يف بئر‪ ،‬فمر رجل بالبئر ف�صاح‬
‫وجود‬ ‫ال�صوجلانات‪ ،‬واحلرفرف الفرتاح‪ ،‬يبي�ض القرقنطق‬ ‫النحوي لينقذه الرجل‪ ،‬فلما �أجابه الرجل‪ ،‬قال له النحوي‪:‬‬
‫الالتينية‬ ‫والزعر برجوا حلبنبوا يا حيزا‪ ،‬من الطري‪ ،‬بحج بجمند‬
‫كب�شمردل‪ ،‬خاط الركبنبو‪� ،‬شاع اجلرببر‪ ،‬بجفر الرتاح‪،‬‬
‫اطلب يل حب ًال دقيق ًا و�شُ دَّين �ش َّد ًا وثيقاً‪ ،‬واجذبني جذب ًا‬
‫رقيقاً‪ ،‬فقال الرجل الذي يبدو �أنه كان عامي ًا ال يح�سن‬
‫والرومان‬ ‫ابن يو�شاخ‪ ،‬على لوى �شمندخ‪ ،‬بل�ساننت القراوق‪.‬‬ ‫�شيئ ًا من اللغة‪ :‬امر�أتي طالق �إنْ �أخرجتُك!!!‬
‫ولغتهم‬ ‫مازكلوخ‪� ،‬إنك �أكيت �أر�س برام‪ ،‬امل�سلطنح بال�شمردلند‬ ‫ويحكي لنا ال�شاعر امل�صري املجهول �شرف بن �أ�سد‬
‫خملوط‪ ،‬والزيبق بحبال ال�شم�س مربوط علعل ب�شعلعل‪،‬‬ ‫(ت ‪738‬هـ) حكاية طريفة عن نحوي مر ب�إ�سكايف يبيع‬
‫مات الكركندو�ش �أدع��وك يف الوليمة‪ ،‬يا تي�س يا حمار‬ ‫النعال‪ ،‬فوقف ببابه يريد �أن ي�شرتي نعالً‪ ،‬فقال النحوي‬
‫يا بهيمة‪� ،‬أع��ي��ذك ب��ال��رح��واح‪ ،‬و�أب��خ��رك بح�صى لبان‬ ‫للإ�سكايف‪:‬‬
‫امل�سرتاح‪ ،‬و�أوفيك‪ ،‬و�أوقيك‪ ،‬و�أرقيك‪ ،‬برقوات مرقات‪،‬‬ ‫«�أب��ي��تَ اللعن‪ ،‬واللعنُ ي���أب��اك‪ ،‬رح��م اهلل �أمَّ��ك و�أب��اك»‪،‬‬
‫ب��رق��وات م��رق��ات ق��رق��وات ال��ب��ط��ون‪ ،‬لتخل�ص م��ن داء‬ ‫وهذه حتية العرب يف اجلاهلية قبل الإ�سالم‪ ،‬ولكن عليك‬
‫الرب�سام واجلنون‪.‬‬ ‫ال�سِّ لْم وال�سَّ لَمُ وال�سَّ الم‪ ،‬ومثلك من يُعز ويُحرتمْ و ُيكْرم‬
‫ونزل من دكانه‪ ،‬م�ستغيث ًا بجريانه‪ ،‬وقب�ض حلية النحوي‬ ‫ويُحْ تَ�شَ م‪� ،‬إنني ق��ر�أتُ القر�آن و« التي�سري» و«العنوان»‬
‫بكفيه‪ ،‬وخنقه ب�إ�صبعيه‪ ،‬حتى خ ّر مغ�شي ًا عليه‪ ،‬وبربر‬ ‫و«امل��ق��ام��ات احل��ري��ري��ة» و«وال����درة الأل��ف��ي��ة» و«ك�شاف‬
‫يف وجهه وزجمر‪ ،‬ون�أى بجانبه وا�ستكرب‪ ،‬و�شخر ونخر‪،‬‬ ‫ال��زخم�����ش��ري» و«ت��اري��خ ال��ط�بري»‪ ،‬و���ش��رح��ت اللغة مع‬
‫وتقدم وت�أخر‪ ،‬فقال النحوي‪ :‬اهلل �أكرب اهلل �أكرب‪ ،‬ويحك‬ ‫العربية على �سيبويه‪ ،‬ونفطويه‪ ،‬واحل�سن بن خالويه‪،‬‬
‫�أنت جتننت؟ فقال له‪ :‬بل �أنت تخرفت‪.‬‬ ‫والقا�سم ب��ن كُ��مَ�� ْي��ل‪ ،‬والن�ضر ب��ن �شميل‪ ،‬وق��د دعتني‬
‫وهكذا انتهت ق�صة النحوي الذي �أراد �أن ي�شرتي نع ًال‬ ‫ال�ضرورة �إليك‪ ،‬ومتثلت بني يديك‪ ،‬لعلك تتحفني من‬
‫من �إ�سكايف ال �ش�أن له باللغة فانتهي ذلك به �إىل ق�سم‬ ‫بع�ض حكمتك‪ ،‬وح�سن �صنعتك‪ ،‬بنعل يقيني احلر‪ ،‬ويدفع‬
‫ال�شرطة‪ ،‬وقد حكى لنا هذه احلكاية ابن �شاكر الكتبي‬ ‫عني ال�شر‪ ،‬و�أعرب لك عن ا�سمه حقيقياً‪ ،‬لأتخذك بذلك‬
‫يف فوات الوفيات (‪ )2/102‬وابن تغري بردي يف املنهل‬ ‫رفيقاً‪ ،‬ففيه لغات خمتلفة‪ ،‬على ل�سان اجلمهور م�ؤتلفة‪:‬‬
‫ال�صايف وامل�ستويف بعد ال��وايف (‪ ،)6/226‬وال��ذي تتبع‬ ‫ففي النا�س من كناه بـ «ا َمل��دَ ا���س»‪ ،‬ويف عامة الأمم من‬
‫ن��وادر النحاة يف كتب ال�تراث يجد من �أمثالها الكثري‬ ‫لقبه بـ«القَدَ م»‪ ،‬و�أه��ل �شهرنوزة �سموه بـ « ال�ساموزة»‪.‬‬
‫والكثري‪ ،‬ولكن عليه �أن يحتاط لنف�سه بكثري من ال�صرب‬ ‫و�إين �أخاطبك بلغات ه�ؤالء القوم‪ ،‬وال �إثم عليَّ يف ذلك‬
‫والأناة حتى ال ي�صاب هو مبا �أ�صيب به النحاة من حب‬ ‫وال لوم‪ ،‬والثالثة بي �أوىل‪ ،‬و�أ�س�ألك �أيها املوىل �أن تتحفني‬
‫الغريب من اللفظ حتى ال تت�أثر حياته الزوجية يف ع�صرنا‬ ‫ب�ساموزة �أنعم من املوزة‪� ،‬أقوى من ال�صوان‪ ،‬و�أطول عمر ًا‬
‫هذا الذي يتميز بالقلق ونفاد ال�صرب ‪.‬‬ ‫من الزمان ‪ ،‬خالية البوا�شي ‪ ،‬مطبقة احلوا�شي‪ ،‬ال يتغري‬
‫ملحوظة‪ :‬الكلمات الغريبة يف عبارات الإ�سكايف ال‬ ‫عليَّ و�شيها‪ ،‬وال يروعني م�شيها‪ ،‬ال تنقلب �إن وَطِ ئْتُ بها‬
‫�أ�صل لها يف اللغة فهي لي�ست ذات معنى و�إمنا هي تعبري‬ ‫جُ روفاً‪ ،‬و ال تنفلتُ �إن طحتُ بها مكان ًا خم�سوفاً‪ ،‬وال تلتوق‬
‫عن �ضيقه بحذلقة النحوي‪.‬‬ ‫من �أجلي‪ ،‬وال ي�ؤملها ثقلي وال تتمزق من رجلي‪ ،‬وال تتعوج‪،‬‬
‫‪115‬‬
‫ة العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫للمرة الأوىل‪ ،‬بنغالد�ش املهم�شة يف ذاكرة العامل‪ ،‬اجلائعة‬ ‫�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫والبائ�سة‪ ،‬الغارقة يف في�ضاناتها وم�آ�سيها والعارية �إال من‬
‫فقرها وب�ؤ�سها وبيوتها التي ال ي�صلها ال�ضوء‪ ،‬للمرة الأوىل‬
‫�شخ�صية العدد‬ ‫عدد‬
‫خ�صية العدد‬
‫بنغالد�ش‪ ،‬القطن املت�ش ّبع باللون الأ�سود‪ ،‬ت�ستقطب �أ�ضواء‬ ‫لعدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫�شخ�صية العدد‬ ‫العدد �شخ�صية العدد‬
‫الدنيا فتتقدّم يف ثوب بنغايل مم ّيز‪ ،‬منت�صبة القامة‪،‬‬
‫مرفوعة الر�أ�س لتت�سلم جائزة نوبل لل�سالم!‬
‫حكاية ك�أمنا تخرج من كتاب «�ألف ب�ؤ�س وب�ؤ�س» لتحتل يف‬
‫«جملد نوبل» املركز الأول بني ‪ 191‬حكاية �أخرى مر�شحة‬
‫عن ال�سالم!‬
‫وبطلها حممد يون�س الربوفي�سور االقت�صادي البنغايل‪،‬‬
‫فار�س �أ�سمر مل يحلل �سرقة الأغنياء لإطعام الفقراء مثل‬
‫روبن هود‪ ،‬بل قفز فوق املعجزات الأ�سطورية والربامج‬
‫االقت�صادية ال�شائعة يف مكافحة الفقر عرب �آلية اقت�صادية‬
‫ب�سيطة غري معقدة تتب ّنى �إقرا�ض الفقراء دون �أية �ضغوط‬
‫عليهم ودون �أية �ضمانات منهم‪� :‬آلية خلقت به ومعه‪،‬‬
‫م�صرف «غرامني» �أي «بنك القرية» فتقا�سما معاً جائزة‬

‫يون�س‬ ‫حممد‬
‫نوبل لل�سالم للعام ‪2006‬‬

‫حممد يون�س‬
‫يخرج من بطن‬
‫احلوت ليقتل الفقر‬
‫فاطمة �شرف الدين‬
‫كاتبة من لبنان‬

‫‪116‬‬
‫بد�أت احلكاية عام ‪ .1976‬حينها كانت‬
‫بنغالد�ش ال تزال ترزح حتت تداعيات املجاعة‬
‫(التي حلت عام ‪ 1974‬وح�صدت حوايل‬
‫املليون ون�صف املليون من ال�سكان) وكان هو‪:‬‬
‫الربوفي�سور اجلامعي ورئي�س ق�سم االقت�صاد‬
‫يف جامعة �شيتاغونغ‪ ،‬وكانت هي‪ :‬فقرية‬
‫جوبرا‪ ،‬العينة احلقيقية لفقراء بنغالد�ش وكل‬
‫فقراء العامل‪ ،‬فتبنى ب�ؤ�سهم‪ ،‬لريتبط بهم يف‬
‫رباط اقت�صادي �إن�ساين مقد�س!‬
‫يروي يون�س �أنه �أثناء جولته امليدانية مع طالبه‬
‫يف قرية جوبرا ‪ -‬املجاورة جلامعة �شيتاغونغ‪،‬‬
‫التقى يون�س بتلك املر�أة فيما كانت م�ستغرقة‬
‫يف �صناعة كرا�سي البامبو‪ ،‬ليدرك من خالل‬
‫حمادثتها �أن الفقراء يدورون �أبد ًا يف حلقة‬
‫الفقر املرعبة‪ ،‬فهي تقرت�ض من املرابني‬
‫ل�شراء البامبو اخلام وتعمل ‪� 12‬ساعة يومي ًا‬
‫وال يتبقى لها بعد �سداد القر�ض مع فوائده �إال‬
‫ما ي�س ّد الرمق!‬
‫يف ذاك اللقاء‪� ،‬أدرك �أنه �شتان بني النظريات‬
‫االقت�صادية التي يدر�سها يف اجلامعة وبني‬
‫رمال الفقر املتح ّركة التي يعلق ويغرق فيها‬
‫الفقراء‪« :‬لقد كنا – نعم ‪ -‬نحن �أ�ساتذة‬
‫االقت�صاد نتم ّيز ب�ش ّدة الذكاء‪ ،‬لكننا مل نكن‬
‫نعرف �شيئ ًا عن الفقر الذي كان يحيط بنا من‬
‫كل جانب‪ .‬كانت درو�سنا االقت�صادية ت�شبه‬
‫الأفالم الأمريكية التي دائم ًا ينت�صر فيها‬
‫البطل»‪.‬‬
‫هذا اللقاء دفعه �إىل �أن يبا�شر حت ّركه العملي‬
‫�ضد الفقر فبد�أ معركته الأوىل يف ‪ 42‬قرية‬
‫فقرية جماورة جلوبرا‪ ،‬م�سلح ًا مببلغ �صغري‬
‫من ماله اخلا�ص لتمويل م�شاريع �إنتاجية‬
‫�صغرية خا�صة بـ ‪ 42‬امر�أة ‪ ،‬مبع ّدل ‪27$‬‬
‫للمر�أة الواحدة وذلك دون �أي قيد �أو �شرط �أو‬
‫حتى حتديد لفرتة ال�سداد‪.‬‬
‫وعلى الرغم من النتائج املذهلة التي حققها‪،‬‬
‫باءت حماوالته يف �إقناع البنك املركزي‬
‫البنغايل والبنوك التجارية بتب ّني «برنامج‬
‫�إقرا�ض الفقراء»‪ ،‬بالف�شل واال�ستهزاء‪ .‬مما‬
‫ا�ضطره ‪ -‬ما بني عامي ‪ 1976‬و‪� - 1979‬إىل‬
‫اقرتا�ض قر�ض �شخ�صي بغية ت�أ�سي�س بنك‬
‫غرامني �أي (بنك القرية)‪ ،‬فتمكن مرة ثانية‬
‫من حت�سني حياة ‪� 500‬أ�سرة فقرية ليثبت‬
‫للعامل وللبنوك ‪ -‬التي �شككت �سابق ًا يف جناح‬
‫فكرته – �أن الفقراء جديرون باالقرتا�ض‬
‫وهذا ما دفع البنك املركزي عام ‪� 1979‬إىل‬
‫تب ّني م�شروع بنك «غرامني» الذي ا�ستطاع‬
‫منذ انطالقته وحتى تاريخنا احلايل – تقدمي‬
‫القرو�ض لأكرث من ‪ 7‬ماليني من فقراء العامل‪،‬‬
‫معظمهم من الن�ساء و�أغلبهم من بنغالد�ش ‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫وعنه يقول د‪ .‬يون�س‪« :‬يفوق حجم الأموال املودعة حالي ًا‬ ‫ة العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫يف غرامني حجم القرو�ض ويقوم البنك ب�إقرا�ض ما‬
‫يعادل نحو ‪ 800‬مليون دوالر �أمريكي �سنوي ًا‪ ،‬وتبلغ قيمة‬ ‫�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫القر�ض الواحد �أقل من ‪ 200‬دوالر �أمريكي يف املتو�سط‪،‬‬
‫فيما يبلغ عدد املُق َر�ضني ‪ 5,6‬مليون ُمقرت�ض‪ ،‬ودون �أي‬
‫�شخ�صية العدد‬ ‫عدد‬
‫خ�صية العدد‬
‫�ضمانات منهم‪ .‬لقد ا�ستحدثنا العديد من الربامج يف‬ ‫لعدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫بنك غرامني منها الربامج املتعلقة بقرو�ض الإ�سكان‪،‬‬ ‫�شخ�صية العدد‬ ‫العدد �شخ�صية العدد‬
‫قرو�ض الطالب‪� ،‬صناديق التقاعد‪ ،‬قرو�ض �شراء‬
‫الهواتف اجل ّوالة وقرو�ض للمت�س ّولني ليتح ّولوا �إىل باعة‬
‫متج ّولني على �أبواب املنازل»‪.‬‬
‫لذا كان من البديهي �أن يتخلى الربوفي�سور يون�س عن‬ ‫ح�صوله على «نوبل» لل�سالم �أكد‬
‫�إطاره الأكادميي يف اجلامعة لالنخراط يف بنك غرامني‬
‫الذي حت ّدى بهويته امل�صرفية املتج ّددة عامل املال‬ ‫�أن الكفاح �ضد الفقر َه ٌّم �سيا�سي‬
‫واملرابني ليغيرّ يف م�سار التنمية االقت�صادية واالجتماعية‬ ‫ولي�س اقت�صادي ًا فقط‬
‫يف العامل بعيد ًا عن �أية خماطر مالية‪« .‬لو �أنني �أ�ستطيع‬
‫�أن �أكون مفيد ًا لأي �شخ�ص �آخر ولو ليوم واحد ملا تر ّددت‬
‫�أبد ًا‪.‬‬
‫اقت�صاد و�سيا�سة‬
‫م َّثل جناحه �سبب ًا رئي�سي ًا يف انت�شار فكرة «بنوك الفقراء»‬
‫يف نحو خم�سني بلد ًا يف العامل‪ ،‬ومن بينها دول متق ّدمة‪،‬‬
‫فاكت�سبت التجربة البنغالية طابع ًا عاملي ًا يف �آليات مكافحة‬
‫الفقر‪ .‬حتى �أن بنغالد�ش ‪ -‬القطن املت�شبع بالفقر الأ�سود‬
‫‪ -‬و�صلت �إىل «البيت الأبي�ض»‪ ,‬فعام ‪� 2000‬أوكل «بيل‬
‫كلينتون» �إىل حممد يون�س مبه ّمة �إن�شاء م�صرف مماثل‬
‫مل�صرف غرامني يف والية �أركن�سا�س مل�ساعدة الن�ساء‬
‫والفئة ال�شابة فيها على ت�أ�سي�س م�شروعات �صغرية‪.‬‬
‫كما دعت هيالري كلينتون كل الدول �إىل اال�ستفادة من‬
‫«احرتام حممد يون�س للدور احليوي الذي تلعبه الن�ساء‬
‫يف احلياة االقت�صادية واالجتماعية وال�سيا�سية يف‬
‫جمتمعاتنا»‪.‬‬
‫�أما جيمي كارتر (الرئي�س الأ�سبق للواليات املتحدة‬
‫الأمريكية) فاعترب �أن «ما ق ّدمه حممد يون�س للفقراء‬
‫يتع ّدى �صحن طعام‪� ..‬إنه الأمان ب�شكله الأ�سا�سي»‪.‬‬
‫ب�أية حال ال ب ّد �أن يقودنا النجاح الكبري الذي حققه‬
‫حممد يون�س �إىل قراءة الإخفاقات يف امل�شاريع‬
‫امل�شابهة‪ ،‬يف حديث له مع وكالة الأهرام ي�ؤكد‪�« :‬أن‬
‫الف�شل يك ُمن يف �إخفاقنا يف فهم جوهر الكائن‬
‫الب�شري يف نظريتنا التي و�ضعناها‪ .‬فالأفراد‬
‫العاد ّيون لي�سوا كائنات ب�شرية �أُحاد َّية‬
‫اجلانب‪� ،‬إنهم متعدًّدو الأبعاد واجلوانب‪.‬‬
‫فعواطفهم ومعتقداتهم و�أولو ّياتهم و�أمناط‬
‫تو�صف ب�شكل منا�سب‬ ‫�سلوكهم ميكن �أن َ‬
‫�أكرث من خالل الت�شا ُبه اجلزئي الذي‬
‫نراه بني الألوان الأ�سا�سية وماليني‬
‫الألوان والأطياف التي تُنتجها هذه‬
‫الألوان الأ�سا�سية»‪.‬‬
‫ويتمحور �إجناز يون�س حول �أربعة عناوين‬
‫�أ�سا�سية‪ :‬الأول و�ضع م�ؤ�شرات بديلة مل�ؤ�شرات‬
‫التنمية ال�سائدة باالرتكاز على حياة الـ ‪50‬‬

‫‪118‬‬
‫الفقر واملوت‬ ‫‪ %‬من املجتمع �أي الفئة الفقرية املهم�شة‪ ،‬والثاين اعتبار‬
‫القر�ض �أو االئتمان حق ًا �أ�سا�سي ًا من حقوق الإن�سان مبن‬
‫الفقر عند يون�س يقارب املوت كثري ًا‪ .‬يف مقابلة له يف‬ ‫فيهم الفقراء‪ ،‬وعدم �إق�صائهم عن حقهم يف احل�صول‬
‫برنامج «حديث ال�شعب» ‪Talk to the Nation‬‬ ‫على القرو�ض حتى من دون �ضمانات‪ ،‬والثالث التوظيف‬
‫نوفمرب ‪ 2006‬يقول يون�س «للموت �أ�شكال ع ّدة‪ .‬فالفقراء‬ ‫الذاتي للفقراء ومتكينهم وتعزيز قدراتهم لالرتقاء‬
‫ميوتون ببطء‪ ،‬ومع كل ثانية مت ّر تتناق�ص امل�سافة بني‬ ‫من حالة الإح�سان �إىل االكتفاء الذاتي‪ ،‬والرابع اعتبار‬
‫املوت‬ ‫احلياة واملوت‪ ،‬فيتال�صقان مع ًا بحيث ال ميكن التفريق‬ ‫الن�ساء قوة للعمل واملدخل احلقيقي لتح�سني حياة الأ�سر‬
‫ب�سبب‬ ‫يتم بهدوء‬‫بينهما‪ ،‬واملوت من الفقر مثل النوم متام ًا ّ‬ ‫الفقرية‪.‬‬
‫�إذن �أدرك يون�س عرب فقرية جوبرا‪ ،‬ما ن�ساه �أو تنا�ساه‬
‫الفقر‬ ‫�شديد مت�صلب وغري ملحوظ»‪.‬‬
‫مل تكن مالمح فقر «فقرية جوبرا» ‪ -‬التي قادته �إىل‬ ‫العديد من امل�صلحني التنمويني واالقت�صاديني الرقميني‬
‫مثل النوم‬ ‫فقراء العامل وقادت الفقراء �إليه‪ -‬فط ّوبوه ب�ألقاب �صادقة‬ ‫الغيورين على الفقراء‪ :‬عامل الفقر بجذوره وتداعياته‪.‬‬
‫وهذا ما يف�سر ح�صوله على جائزة نوبل لل�سالم بد ًال عن‬
‫هادئ‬ ‫منها «ق ّدي�س الفقراء»‪�« ،‬أبو الفقراء»‪« ،‬م�صريف الفقراء»‬
‫االقت�صاد‪ ،‬ففي امللحق االقت�صادي ل�صحيفة الفيغارو‬
‫‪ -‬بغريبة عليه‪ ،‬فهو بالت�أكيد قد ر�أى الفقر �سابق ًا‪،‬‬
‫ومت�صلِّب‬ ‫ففي بنغالد�ش يتج ّول الفقر حر ًا �إال من فقره‪ّ ،‬‬
‫يع�س يف‬ ‫الفرن�سية ‪ Le Figaro‬ال�صادر بتاريخ ‪2006/11/1‬‬
‫وغري‬ ‫الطرقات �ساهر ًا ي�أبى �أن ينام‪ ،‬وهو ابن بنغالد�ش‪ ،‬قد‬ ‫يقول «ال يعترب الكفاح �ضد الفقر هم ًا اقت�صادي ًا فقط‪،‬‬
‫�ألف منذ �صغره معاناة الفقراء و�شاهد انك�سار الأيادي‬ ‫هم �سيا�سي �أي�ض ًا‪ ..‬فالفقر يخلق ا�ضطرابات‬ ‫ولكنه ّ‬
‫ملحوظ‬ ‫امل�ستعطية و�سمع دعاء البطون اجلائعة تر�سم فوق‬ ‫لدول ومناطق العامل‪ ،‬وهو عامل م�ساعد على تفريخ‬
‫الإرهاب‪ ،‬وهو ال�سبب الرئي�س لهجرة واغرتاب النا�س‪.‬‬
‫ولهذه الأ�سباب رمبا‪ ،‬اعتربت �أكادميية نوبل �أن عملي‬
‫ي�ستحق الرتحيب به يف جمال ال�سالم �أكرث منه يف املجال‬
‫االقت�صادي البحت»‪.‬‬
‫و�إذ �أ�ضاف يون�س �إىل عامل املال بعد ًا �إن�ساني ًا‪ ،‬ف�إن‬
‫جتربته ‪ -‬يف بنك غرامني ‪� -‬أ�ضافت له قناعات ال‬
‫تتزحزح «منحتني جتربتي يف العمل مع بنك غرامني‪،‬‬
‫الإميان الرا�سخ ب�إبداع الكائن الب�شري وب�أن العامل مل‬
‫يخلق ليعاين من ب�ؤ�س اجلوع والفقر‪ ،‬فما معاناته �سابق ًا‬
‫بت �أ�ؤمن‬‫�أو حالي ًا �إال ب�سبب جتاهلنا لهذه الق�ضية‪ .‬لقد ّ‬
‫ب�أننا ن�ستطيع �أن نخلق عامل ًا حر ًا من الفقر‪ ،‬وذلك لي�س‬
‫ب�سبب حلمي التقي‪ ،‬بل ب�سبب النتيجة امللمو�سة للتجربة‬
‫املكت�سبة يف بنك غرامني»‪.‬‬
‫جاءت نوبل كتتويج ل�سيل من اجلوائز ‪ -‬املحلية‬
‫والإقليمية والدولية ‪ -‬التي ح�صدها الربوفي�سور يون�س‬
‫من �ألبوم العائلة‬ ‫يف العقود الثالثة املا�ضية‪ ،‬ومنها‪ :‬جائزة رئي�س جمهورية‬
‫بنغالد�ش لعام ‪ ،1978‬وجائزة رومان ماغا�ساي�ساي‬
‫القر�ش �شك ًال للرغيف «كانوا يقفون �أمام الأبواب‪..‬‬ ‫الفلبينية لعام ‪ ،1984‬وجائزة الآغا خان لعام ‪،1989‬‬
‫ينتظرون الإح�سان ب�صمت‪ ..‬حفنة �أرز‪ ..‬قطعة خبز‪..‬‬ ‫وجائزة «�أنديرا غاندي لل�سالم ونزع ال�سالح والتنمية»‬
‫�أو يتقوقعون فال مت ّيز �إذا ما كانوا �أحيا ًء �أو �أموات ًا‪..‬‬ ‫عام ‪ ،1991‬وجائزة منظمة الأغذية والزراعة الدولية‬
‫جميعهم مت�شابهون رجا ًال ون�سا ًء و�أطفا ًال» فهو و�إن ن�ش�أ‬ ‫لعام ‪ ،1994‬وجائزة �سيمون بوليفار لعام ‪ 1996‬من‬
‫يف �أ�سرة مي�سورة احلال بعيد ًا عن الفقر لكنه تر ّبى على‬ ‫منظمة اليوني�سكو‪ ،‬وجائزة �سيدين الأ�سرتالية لل�سالم‬
‫�أال يرد فقري ًا‪.‬‬ ‫لعام ‪ ،1998‬وجائزة جملة الإيكونومي�ست «للإبداع‬
‫االجتماعي واالقت�صادي» لعام ‪ ،2004‬وجائزة �سيئول‬
‫م�صريف الفقراء‬ ‫الكورية لل�سالم لعام ‪ ،2006‬وجائزة الأم تريزا لعام‬
‫‪ ،2006‬وجائزة التح ّرر من احلاجة وق ّدمت له يف مدينة‬
‫هكذا ر ّبته �صفية خاتون وهكذا ر ّباه املنزل «رقم ‪:»20‬‬ ‫«ميدلبريغ» الهولندية (وهي �إحدى جوائز احل ّريات‬
‫ففي كتاب «م�صريف الفقراء» ‪Banker to the Poor‬‬ ‫الأربع‪ ،‬التي �أوردها الرئي�س الأمريكي «فرانكلني دي‬
‫الذي �أع ّده بالتعاون مع الكاتب وال�صحفي الأمريكي �آالن‬ ‫يتم تقدميها �سنوي ًا لتكرمي‬ ‫روزفلت» عام ‪ 1941‬والتي ّ‬
‫جولي�س �أكتوبر ‪ ،2003‬يروي يون�س �سرية حياته بدء ًا من‬ ‫الأ�شخا�ص الذين �أظهروا التزام ًا باحل ّريات الأ�سا�سية‬
‫طفولته ومرور ًا بدرا�سته اجلامعية يف بنغالد�ش ومن‬ ‫الأربع‪ :‬حرية القول والتعبري وحرية العبادة والتح ّرر من‬
‫ثم يف �أمريكا‪ ،‬وزواجه بعد عودته من «�أفروجي» �أ�ستاذة‬ ‫احلاجة والتح ّرر من اخلوف)‪.‬‬
‫الفيزياء بجامعة «جهانغريناغار» يف بنغالد�ش‪ .‬كما‬
‫‪119‬‬
‫«الأبي�ض» النجاح و�إميانه بالعلم‪ ،‬ومن «الرباق» احلزم‬ ‫ة العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫تع�ض والدتي �شفتها ال�سفلى‪� ،‬أنه ال‬‫«كنا ندرك عندما ّ‬
‫�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫فائدة من تغيري ر�أيها»‪ .‬واملنهجية والتنظيم والأهم‬
‫التعاطف مع الفقراء والرحمة‪.‬‬
‫ا�ستقى يون�س وهو مل يكمل التا�سعة من عمره ‪ -‬تعاليم‬
‫�شخ�صية العدد‬ ‫عدد‬
‫خ�صية العدد‬
‫الإ�سالم الأ�سا�سية «كان والدي م�سلم ًا ورع ًا وملتزم ًا‪.‬‬ ‫لعدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد‬
‫�أ ّدى فري�ضة احلج ثالث مرات»‪ ،‬وحتى �أدق تفا�صيله‬ ‫�شخ�صية العدد‬ ‫العدد �شخ�صية العدد‬
‫«كنت �أ�س�أل والدتي عن اختالف لون ال�سماء ما بني‬
‫الأحمر والأزرق على جانبي املنزل فتجيبني‪ :‬الأزرق هو‬
‫ال�سم الذي قتل ب�سببه احل�سن والأحمر لون دم احل�سني‬ ‫ّ‬ ‫يروي الكتاب ن�ش�أة وتطور بنك غرامني يف حتليل للدوافع‬
‫الذي �سال»‪ .‬وتلقى و�إخوته العلم يف مدر�سة «المار بازار»‬ ‫الأ�سا�سية التي دفعت يون�س �إىل �إعادة �صياغة العالقة‬
‫االبتدائية املجانية املكتظة «�أربعون تلميذ ًا يف الف�صل‬ ‫االقت�صادية ما بني الفقراء والأغنياء‪.‬‬
‫الواحد» مبوازاة القيم الفا�ضلة واالن�ضباط واملعتقدات‬ ‫ولد حممد يون�س عام ‪ ،1940‬يف مدينة �شيتاغونغ ‪ -‬وكان‬
‫الروحية‪ ،‬لكنه مت ّيز منذ �صغره و�أخوه �سالم «الأخ‬ ‫ترتيبه الثالث بني ‪� 14‬أخ ًا و�أخت ًا (تويف منهم خم�سة يف‬
‫وال�صديق واملرافق الدائم الذي يكربه بثالث �سنوات»‪،‬‬ ‫طفولتهم)‪ ،‬لأب ميلك حم ًال للمجوهرات (احلاجي دوال‬
‫عن �أترابهما و�أغلب �إخوتهما‪ ،‬بنهم ال ي�شبع للمطالعة‬ ‫ميا) ولأم مت�شبعة ب�إن�سانيتها (�صفية خاتون) عرفت‬
‫وقراءة الكتب واملجالت والروايات البولي�سية‪ ...‬نهم كان‬ ‫ب�أنها ال تر ّد حمتاج ًا وقف ببابها‪.‬‬
‫يدفعهما �إىل �إم�ضاء الوقت الطويل يف عيادة طبيبهم‬ ‫�أنهى تعليمه الثانوي بتفوق يف بلدته «�شيتاغونغ»‪ ،‬والتحق‬
‫العائلي‪ ،‬لال�ستفادة من ال�صحف واملجالت املتوفرة‬ ‫بجامعة «دكا» لالقت�صاد ليح�صل على منحة تف ّوق‬
‫فيها‪ .‬وقبل �أن يبلغ الثانية ع�شرة من عمره كتب رواية‬ ‫درا�سية للتح�صيل العلمي يف اخلارج‪ .‬فتخ ّرج من جامعة‬
‫بولي�سية �شيقة طبع ًا مل تن�شر‪.‬‬ ‫فانديربيلت ‪ Vanderbilt University‬يف نا�شفيل‪،‬‬
‫هذا النهم للقراءة الذي يعتربه حممد يون�س ال�سبب‬ ‫‪ Nashville‬بوالية تيني�سي الأمريكية ‪Tennessee‬‬ ‫هرب من‬
‫الأ�سا�سي لتفوقه يف مراحل درا�سته االبتدائية والثانوية‪،‬‬ ‫عام ‪ .1965‬ويف فرتة تواجده بالبعثة ن�شبت حرب حترير‬ ‫الن�صو�ص‬
‫مل يدفعه �إىل �شراء الكتب وا�ستعارتها فقط‪ ،‬بل تع ّداه‬ ‫بنغالد�ش (باك�ستان ال�شرقية �سابق ًا) وا�ستقاللها عن‬ ‫والنظريات‬
‫�إىل التحايل وانتحال �صفة الغري!!‪ .‬ففي كتابه‪ ،‬يروي‬ ‫فان�ضم‬
‫ّ‬ ‫باك�ستان (�أو باك�ستان الغربية يف ذلك الوقت)‪،‬‬
‫توجه بر�سالة �إىل‬
‫كيف �أنه ويف الثانية ع�شرة من عمره‪ّ ،‬‬ ‫يون�س �إىل حركة حقوق الإن�سان‪ ،‬ليعود �إىل بالده عام‬ ‫الكت�شاف‬
‫رئي�س حترير جملة «�شوكاترا»‪ ،‬وهي املجلة املف�ضلة لديه‬ ‫‪ 1972‬ويرت�أ�س ق�سم االقت�صاد يف جامعة �شيتاغونغ‪..‬‬ ‫اقت�صاديات‬
‫منتح ًال ا�سم �أحد الفائزين فيها ومطالب ًا �إياه بتحويل‬ ‫يف املنزل «رقم ‪ »20‬يف �شارع بوك�سريهارت‪� ،‬شهد يون�س‬
‫جائزته‪� ،‬أي اال�شرتاك املجاين �إىل عنوانه اجلديد!‪..‬‬ ‫طفولته ب�أحالمها ونزواتها وحتى �أ�سرارها ال�صغرية‪،‬‬ ‫احلياة‬
‫وطبع ًا غاب املنزل «رقم ‪ »20‬عن ن�ص الر�سالة خوف ًا من‬ ‫ففيما ي�ضج الطابق الأر�ضي بحركة طرق الذهب‬ ‫احلقيقية‬
‫الوقوع يف قب�ضة الأب!‬ ‫وت�صنيعه وتلميعه وحركة الزبائن حيث امل�شغل واملحل‪،‬‬
‫يف املنزل «رقم ‪ ،»20‬كانت الدنيا حت�ضر مبختلف وجوهها‪:‬‬ ‫كان الطابق العلوي ي�ضج بامل�شاعر الإن�سانية املختلطة‬
‫الديني‪ ،‬الثقايف‪ ،‬االجتماعي‪ ،‬الإن�ساين وحتى ال�سيا�سي‪:‬‬ ‫باالنت�صارات واالنك�سارات املختلفة‪ ..‬واملنزل يبدو يف‬
‫فهو ‪ -‬و�أي�ض ًا يف ال�سابعة من عمره ‪ -‬تذوق مفاهيم‬ ‫ذاكرة حممد يون�س ك�أنه مطلي بح�ضور لونني �أ�سا�سيني‪:‬‬
‫احلريات واحلقوق العامة من خالل النقا�شات ال�سيا�سية‬ ‫الأبي�ض (لون �سروال الأب وبيجامته وحذائه وثوبه‬
‫التي كانت حتتدم يف املنزل «رقم ‪ »20‬بني والده امل�سلم‬ ‫الطويل) والرباق (لون �ساري والدته الذي طاملا تعلق به‬
‫و�أ�صدقائه الهندو�س ليكون انطباعه اخلا�ص «كنت �أ�شعر‬ ‫وهو �صغري)‪.‬‬
‫بوجود عدم ثقة بني الطائفتني الدينيتني»‪ ..‬لي�س هذا‬ ‫يف غرف املنزل الأربع «رقم ‪ ،»20‬تع ّرف حممد يون�س‬
‫فح�سب بل �أن ال�شخ�صيات ال�سيا�سية ‪ -‬الرائجة حينها ‪-‬‬ ‫على �إيقاعات الدنيا تر�شح من حيطان منزلهم‪« :‬املنزل‬
‫من حممد علي جناح «قائد حركة انف�صال باك�ستان عن‬ ‫ي�ضج طوال اليوم بحركة ال�شارع املكتظ بنداءات الباعة‬ ‫ّ‬
‫الهند» وغاندي ‪ ،‬واللورد لوي�س مونت باتن‪ ،‬ت�سللت �إىل‬ ‫املتج ّولني وت�ضرعات املت�سولني التي ما �أن تهد�أ عند‬
‫احلكايات التي كانت ترويها لهم والدتهم قبل النوم‪.‬‬ ‫منت�صف الليل حتى تطقطق ب�صوت الذهب املطروق‬
‫يروي يف كتابه �أنه ما زال يذكر ليلة الرابع ع�شر من �آب‪/‬‬ ‫ال�صاعد من م�شغل والدي الواقع يف الطابق الأر�ضي‪،‬‬
‫�أغ�سط�س من العام‪ ،1947‬ليلة �إعالن ا�ستقالل باك�ستان!‬ ‫وب�صرير اخلزائن احلديدية ورجع �أقفالها ال�ستة عند‬
‫ليلتها ارتدت مدينته �شيتاغونغ �أعالمها وتز ّينت ب�أكاليل‬ ‫�إغالق املحل»‪.‬‬
‫الأخ�ضر والأبي�ض‪ ..‬يقول عنها يف كتابه «كانت هذه �أول‬ ‫�إذن بني ح�ضني والده «احلاجي دوال ميا» الذي (كان‬
‫جرعة ت�صيبني من الفخر الوطني‪ .‬وك�أنها ما زالت‬ ‫يهتم بالقراءة ل�ضيق الوقت‪ ،‬فعامله يقوم على‬ ‫نادر ًا ما ّ‬
‫ت�سري يف عروقي»‪ ..‬وما زال يذكر رجع �صوته املنطلق‬ ‫ثالث دعائم �أ�سا�سية ال�صالة والأ�سرة والتجارة) ووالدته‬
‫من حنجرته ال�صغرية «باك�ستان زيندباد» �أي «تعي�ش‬ ‫«�صفية خاتون» امل�س�ؤولة عن تنظيم و�إدارة �ش�ؤون الأ�سرة‪،‬‬
‫باك�ستان»!!‬ ‫بني ح�ضني «الأبي�ض» و«الرباق» ن�ش�أ يون�س‪ :‬فاكت�سب من‬
‫‪120‬‬
‫وحده ال يكفي فهو «باب بني ع ّدة �أبواب ال ميكن ولوجها‬
‫�إال �إذا �أعدنا �صياغة ر�ؤيتنا للغري ور�سم هذه املفاهيم يف‬ ‫�صراخ يف الليل‬
‫�إطار عمل تنظيمي»‪.‬‬
‫ويون�س يف دعوته ين�شر ر�سالة الت�ضامن �ضد الفقر‬ ‫يف املنزل «رقم ‪ »20‬دارت الدنيا حلوة م�ستقرة دافئة‬
‫«�أردت �أن �أخربكم يف كتابي حكاية بنك غرامني لتق ّرروا‬ ‫حتى بلوغه التا�سعة من عمره فقد فعل القدر فعله لتتخذ‬
‫�أ�ضاف‬ ‫ماذا تعني لكم؟ و�أدعوكم من خالله �إىل االن�ضمام �إىل‬ ‫غرف املنزل منحى خمتلف ًا عندما انقلبت «�صفية خاتون»‬
‫امل�ؤمنني بقدرتنا على �صناعة عامل خال من الفقر‪..‬‬ ‫من الأم الدافئة �إىل كتلة ع�صبية تتجاذبها انفعاالت‬
‫�إىل اقت�صاد‬ ‫مهما كنا‪ ..‬ثوري ًا‪ ،‬ليربالي ًا‪ ،‬حمافظ ًا‪� ،‬شاب ًا �أو عجوز ًا‪..‬‬ ‫متقلبة‪«:‬كانت والدتي ت�شتم‪ ،‬تلعن‪ ،‬حت ّدث نف�سها ل�ساعات‬
‫املال بعداً‬ ‫ف�إننا ن�ستطيع جميعنا �أن نتكاتف يف هذه الق�ضية»‪.‬‬ ‫و�ساعات وتك ّرر حديثها ل�ساعات و�ساعات‪ ،‬وحتى تقيم‬
‫�إن�ساني ًا‬ ‫و�إذا كانت حكاية يون�س تقرب �إىل حكاية «نبي الفقراء»‬
‫املوعود الذي ر�أى الفقر رج ًال فقتله! لي�ؤكد للعامل ‪-‬‬
‫فر�ض �صالتها الواحد ل�ساعات و�ساعات‪ .‬كانت تخاطب‬
‫الأموات فتلعنهم وت�ستفز الأحياء فت�شتمهم بكلمات‬
‫بتحرير‬ ‫با�سرتاتيجياته االقت�صادية يف مكافحة الفقر وم�ؤ�س�ساته‬ ‫نابية»!‬
‫الفقراء‬ ‫التنموية الدولية والعاملية املنت�شرة يف الأر�ض‪ ،‬ببناتها‬ ‫انقلب احلال يف املنزل ‪ -‬ب�سبب مر�ض والدته الوراثي‬
‫و�أخواتها وعائالتها وخربائها والذين باتوا يفوقون تعداد‬ ‫‪ -‬فبات ي�صدر �ضجيجه �إىل الدنيا «كنا ن�ستيقظ على‬
‫من �سلطان‬ ‫فقراء الأر�ض �أن «العلم حاكم واملال حمكوم عليه»‪ ،‬يف‬ ‫�صرخات مرعبة وحادة يف الليل» فتح ّمل حممد يون�س‬
‫الفائدة‬ ‫عمق كتاب يون�س �سريته‪ ،‬ويف قلب �سريته هناك عميق ًا‬ ‫– على الرغم من �صغر �سنه – م�س�ؤولية مرهقة نف�سي ًا‬
‫«كنت �أ�ساعد والدي يف �ضبطها حلماية �إخوتي ال�صغار‬
‫من اعتداءاتها اجل�سدية عليهم»!‬
‫ما زال يذكر يف حماوالتهم الطفولية لتفادي تلك‬
‫الإ�ساءات كيف واجهوا القدر بلعبة م�سلية متهكمة‪،‬‬
‫«�أطلقنا على املنزل «رقم ‪ »20‬ت�سمية (حمطة الوالدة‬
‫الإذاعية) التي تنقل يف بث حي ومبا�شر على الهواء‬
‫نوباتها الع�صبية وخطاباتها املرتافقة بامل�ؤثرات احل ّية»‪،‬‬
‫وكيف اخرتعوا خطط متويه �صغرية للحرب الدائرة يف‬
‫الغرف الأربع (ب ّدلنا �أ�سماءنا �إىل �أرقام‪ :‬اعتداء على‬
‫الرقم ‪ ..4‬الأم تهاجم الرقم ‪ ...3‬الرقم ‪ 5‬انتبه‪.»..‬‬
‫مل يلجمه هذا االنك�سار النف�سي العظيم عن حتقيق‬
‫انت�صاراته العلمية بتفوق وحتى يف ظروف مالية حمدودة‪:‬‬
‫«كان والدي ال يبخل يف الإنفاق على تعليمنا وعلى �سفرنا‬
‫لكنه كان يلزمنا مب�صروف جيب حمدود‪.»..‬‬
‫ولأن متطلبات حممد يون�س كانت كثرية (مطاعم – كتب‬
‫– جمالت‪� -‬سينما) ف�إنه مل يتوان عن تعزيز موازنته‬
‫ال�ضيقة‪ ،‬فكان يختل�س �سر ًا القرو�ش النقدية ال�صغرية‬
‫مع الرئي�س الأمريكي الأ�سبق جيمي كارتر‬
‫املتواجدة يف درج والده والتي مل يلحظ الوالد اختفاءها‬
‫�أبد ًا!‬
‫ظلت �صفية خاتون �سجينة مر�ضها الوراثي ملدة ثالثني‬
‫جد ًا‪ ،‬حكاية‪ :‬فهو عرف االحتياج ولو لإ�شباع نهمه‬ ‫عام ًا وظ ّل «الأبي�ض» �أبي�ض (يرعاها بلباقة و�صرب‪،‬‬
‫للقراءة‪ ،‬وعرف معنى التح ّرر منذ هتف يف �شوارع‬ ‫خمل�ص ًا وحمب ًا ك�أنها ما تب ّدلت‪ ،‬ك�أنها نف�س املر�أة التي‬
‫بوك�سريهارت «باك�ستان زيندباد»‪ ،‬وعرف �آلية �شبكات‬ ‫تزوجها وهو يف الثانية والع�شرين من عمره) �أما «الرباق»‬
‫الأمان منذ حت ّول مع �إخوته �إىل �أرقام يف مواجهة القدر‬ ‫فذبل عنه ملعانه �إىل �أن انطف�أ كلي ًا عام ‪.1982‬‬
‫الب�شع وذاق مرارة احلرمان واجلوع العاطفي للأم منذ‬ ‫يف كتاب يون�س الكثري من احلكايات‪ ..‬عنه‪ ..‬عن البنك‪..‬‬
‫مر�ضها‪.‬‬ ‫عن الفقراء‪� ..‬صفحات مفتوحة على الأخرى دون قواطع‪،‬‬
‫يف كتاب يون�س املقروء‪ ،‬ظ ّل والده «احلاجي دوال الميا»‬ ‫وعندما تق ّدم وبنك غرامني ال�ستالم جائزة نوبل‪،‬‬
‫وفي ًا ل�صفية خاتون على الرغم من ب�ؤ�سها ال�صحي‬ ‫تق ّدمت معه بنغالد�ش وفقرية جوبرا ون�سبة عالية من‬
‫وتدهور ظروفها‪ .‬ظ ّل «الأبي�ض» �أبي�ض‪.‬‬ ‫فقراء العامل‪ ..‬للمرة الأوىل يكون احل�شد على املن�صة‬
‫عب يون�س غري املقروء‪ ،‬ظ ّل الطفل ال�صغري وفياً‬ ‫ويف ّ‬ ‫كبري ًا!‬
‫لعطاء �صفية خاتون‪ ..‬لإكرامها للفقراء «من م�صروف‬ ‫فيون�س ي�ؤمن ب�أننا «نحن بحارة ومالحو هذا العامل ونحن‬
‫جيبها اخلا�ص» والأهم �أنه ظ ّل طف ًال �أبي�ض ووفي ًا لل�ساري‬ ‫من يق ّرر وجهتنا‪ ،‬وما تعاطينا اجلدي وامللتزم بدورنا يف‬
‫رباق الذي طاملا تعلق به يف ال�صغر فتعلق بتفا�صيل‬ ‫ال ّ‬ ‫احلياة �سوى الطريق الوحيد للو�صول �إىل مبتغانا»‪.‬‬
‫فقرية جوبرا‪ ..‬بذيل ثوب فقرية جوبرا‪.‬‬ ‫ومعجزة «يون�س» قامت يف �إقرا�ض الفقراء مع �أن القر�ض‬
‫‪121‬‬
‫عامل ال�سيميولوجيا والفيل�سوف والروائي الإيطايل‬ ‫كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫تاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫�أمربتو �إكو مل يرتدد هذه املرة �أي�ضاً ووا�صل م�شروعه‬ ‫شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫الروائي التجريبي وللمرة اخلام�سة‪ ،‬فقد �أ�صدر رائعته‬
‫الأوىل «ا�سم الوردة» يف مطلع ثمانينيات القرن املا�ضي‬
‫ال�شهرال�شهر‬
‫كتابكتاب‬
‫هر‬
‫و�أعقبتها «بندول فوكو»‪ ،‬ثم «جزيرة الأم�س» و�أخرياً‬ ‫ب اال�شهر كتاب اال�شهر كتاب اال�شهر‬
‫كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫«باودولنيو»‪.‬‬ ‫كتاب ال�شهر‬ ‫تاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫والآن �صدرت خام�س رواياته «وهج غام�ض للملكة لونا»‬
‫التي �صدرت بالإيطالية ‪ 2004‬وظهرت طبعتها ال�شعبية‬
‫�إىل الإنكليزية هذا العام‪.‬‬

‫رواية «وهج غام�ض للملكة لونا» لأمربتو �إكو‬

‫الفا�شية‬
‫مل تكن‬

‫�سوى �أن�شودة رعوية‬


‫ويبدو �أن �إكو مل يتوقف مطلق ًا عن التفكري يف �شكل �سردي‬
‫�أو �شكل مقاومة �سردية لعوامله الغرائبية‪ ،‬التي تعمل على‬ ‫د‪� .‬أحمد �صادق �أحمد‬
‫نقد الكهنوت والإكلريو�س ودولة �أوروبا القرو�سطية التي‬ ‫كاتب من ال�سودان‬
‫�آلت �إىل �أداة طيعة يف �أيدي الكهنة والرهبان ‪ -‬ومل ينفك‬
‫�أي�ض ًا عن ذكر «رائحة الكتب القدمية» ‪ -‬بعبارة بورخي�س‪،‬‬
‫الذي نفى هو ‪� -‬أي �إكو‪ -‬م�ؤخر ًا يف كتابه «حول الأدب»‬
‫‪ - 2005‬حيث ت�ضمن الكتاب مقالة طويلة ‪ -‬نفى فيها �أن‬
‫يكون (ظ ًال) لعوامل بورخي�س الق�ص�صية ‪ -‬ومثلما قام‬
‫البناء ال�سردي لعمله الأكرث �شهرة «ا�سم الوردة» على‬
‫حكاية البحث عن خمطوطة �ضاعت يف �أ�ضابري الرهبان‬
‫�إبان الع�صور الو�سطى الأوروبية‪ ،‬جند هنا بطل هذه‬
‫الرواية «يامبو»‪ ،‬كما يحلو للكاتب والأ�صدقاء من حوله‬
‫�أن ي�سموه‪ ،‬الذي عمل طوال حياته بائع ًا للكتب القدمية‪،‬‬
‫وقد ظهر عليه الإرهاق ونال منه التعب ومن ثم ظهرت‬
‫بوادر فقدان ذاكرة ‪ -‬ومل يعد يذكر حتى �أ�سماء �أفراد‬
‫�أ�سرته ‪� -‬إال �أن عناوين الكتب وامل�ؤلفني وتاريخ طباعتها‪،‬‬
‫متح مطلقا من ذاكرته‪.‬‬ ‫بالإ�ضافة لأ�سماء ع�شيقاته‪ ،‬مل َ‬
‫كل ما يربطه بهذا العامل يف هذه اللحظة غيوم و�ضباب‬
‫منتزع من ن�صو�ص �شعرية ‪ -‬مثل ق�صيدة الأملاين هرمان‬
‫‪122‬‬
123
‫يامبو �إن ذاكرته ورقية �أو هي م�صنوعة من ورق‪.‬‬ ‫كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫تاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫ت�ستمر حماوالت �أ�سرته يف الوقوف معه يف حمنته �إىل‬
‫شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫�أن تقرر زوجته �إر�ساله �إىل م�سقط ر�أ�سه‪ ،‬قرية �صغرية‬
‫ا�سمها �سوالرا حيث ولد وعا�ش طفولته ومراهقته‪ ،‬وهنا‬
‫يبد�أ (احلكي) وعلى م�ستوى �آخر وب�أفق �أكرث ت�شويق ًا‪.‬‬
‫ال�شهرال�شهر‬
‫كتابكتاب‬
‫هر‬
‫ويبدو �أن �إكو مثل بطله يف كون �أن ذاكرته �أي�ض ًا من ورق‪.‬‬ ‫ب اال�شهر كتاب اال�شهر كتاب اال�شهر‬
‫فمنذ عودته �إىل تلك القرية يبد�أ يامبو با�ستعادة ذاكرته‬ ‫كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫كتاب ال�شهر‬ ‫تاب ال�شهر كتاب ال�شهر‬
‫قلي ًال قلي ًال‪ ،‬وذلك با�ستخدام �إكو ملجموعة من الر�سومات‬
‫واللوحات تعود �إىل طفولة يامبو ‪ -‬منها ما هو معروف‬
‫يف تاريخ الفن الت�شكيلي املعا�صر‪ ،‬ومنها ما يخ�ص‬
‫جمموعة �إكو ال�شخ�صية ‪ -‬وهنا ميكن �أن نذكر مو�سوعته‬
‫(‪ )2003‬عن تاريخ الفن الت�شكيلي املعا�صر التي �أ�سماها‬
‫«عن اجلمال» ‪ -‬متام ًا مثل «اجلك�سو» التي بو�ضع �آخر‬
‫قطعة منها تكون تلك الذاكرة قد �صارت مكتملة حتى‬
‫�آخر قعرها ‪ -‬وقد امتلأت �صفحات الرواية بالعديد‬
‫من الر�سومات التي ت�ضمنت حتى ر�سوم ًا كاريكاتورية‬
‫�أو الر�سوم املتحركة‪ .‬قام يامبو بنب�ش �أوراق �أ�سرته‪،‬‬
‫وكذلك كل مطبوعة يف مكتبة الأ�سرة و�ألبومات العائلة‬
‫‪ -‬وهنا تتحول الذاكرة الورقية �إىل ذاكرة �أتوبيوغرافية‪،‬‬
‫والتي تتحول باكتمال احلكاية �إىل ذاكرة داللية‪ ،‬ويبدو‬
‫�أن البناء ال�سردي و�إيقاع ال�سرد قد قاما على اللعب على‬
‫�أمناط الذاكرة تلك‪� ،‬إال �أن �إكو لعب على العالقة اجلدلية‬
‫فيما بني ذاكرة �أتوبيوغرافية و�أخرى داللية حتى ي�ضمن‬
‫‪ -‬برباعة ‪ -‬تفرد عمله الروائي التجريبي ذاك‪.‬‬

‫نقد الإكلريو�س‬
‫لن ننفك من �أ�سر ذلك الإيقاع ال�سردي ‪ -‬حتى �أن‬
‫القارئ ين�سى اجلزء الأول من الرواية فينغم�س مع يامبو‬
‫يف قريته الوادعة وهو ي�سرد تاريخ �إيطاليا �إبان احلرب‬
‫ومو�سوليني وهتلر‪� ..‬إلخ‪ ،‬وذلك من املجالت وق�صا�صات‬
‫ال�صحف‪ ،‬ونرى يامبو وهو يبحث عن عوامل طفولة‬
‫�ضائعة وفتاته التي بحث عنها مثلما كتب �سلفه دانتي‬ ‫ه�سه ومواطنه دانتي اللجريي‪ ،‬وكذلك اليوت‪ ،‬ولن ين�سى‬
‫عم ًال عظيم ًا ليخلد حمبوبته بباتري�س ‪ -‬وقد ذكر �إكو‬ ‫بالطبع ق�ص�صه البولي�سية ‪ -‬خا�صة كونان دويل وجورج‬
‫يف لقاء معه بعد �صدور هذا العمل قائ ًال‪« :‬لقد ر�سمت‬ ‫�سيمنون‪.‬‬
‫�شخ�صية تختلف عني كثري ًا‪ ،‬وقد ح�شدت كثري ًا من‬ ‫تتكثف تلك الغيوم وت�ضعف الر�ؤية ب�سبب ال�ضباب �إىل �أن‬
‫ذكريات طفولتي الباكرة ولدي �إح�سا�س ب�أن خ�صو�صيتي‬ ‫تعم الظلمة مطلق ًا ذاكرة ال�سيد يامبو بائع الكتب القدمية‪،‬‬
‫مل تنتهك �أبد ًا‪ ...‬مث ًال البد �أن يكون كل واحد منا قد‬ ‫ثم نرى �أفراد �أ�سرته و�أحفاده وهم ملتفون حوله وهو طريح‬
‫�أحب يف فرتة مراهقته‪� ،‬إال �أنه لن يف�شي هذا ال�سر لأحد‬ ‫الفرا�ش يف �أحد امل�ست�شفيات‪ ،‬يقرتب الطبيب لي�س�أله‬
‫�أبد ًا‪ ..‬و�أ�صدقكم القول �إن تلك الفتاة كانت فتاتي ولكم‬ ‫ب�ضعة �أ�سئلة يف حماولة مل�ساعدته كي ي�ستعيد ذاكرته‪ ،‬فقد‬
‫�أن تت�صوروا كم كان حبي ذلك عظيم ًا»‪( .‬جملة التامي‬ ‫افتتحت الرواية بذلك احلوار‪ ،‬الذي يك�شف لنا عن ذكاء‬
‫الأمريكية ‪ 13‬يونيو ‪.)2005‬‬ ‫�سردي لإكو‪ ،‬حيث �إن تلك اللحظة كانت هي حبكة الرواية‬
‫عندما �أفاق يف حلظة ما‪� ،‬صرخ يامبو «انفجارات يف‬ ‫و�أ�سا�س بنائها ال�سردي‪:‬‬
‫بغداد؟ ال مل نقر�أ عنها يف �ألف ليلة وليلة»‪ .‬كثري من‬ ‫‪ -‬ا�سمك؟‬
‫ال�سخرية مما يدور يف هذا العامل والتطرف والإرهاب‪.‬‬ ‫‪ -‬دعني �أتذكر‪� ،‬إنه على طرف ل�ساين‪.‬‬
‫وقد ُعرف �إكو مبقاالته ال�ساخرة حول الفاتيكان‪،‬‬ ‫ومن ثم تلفه تلك الغيوم‪ ،‬وتن�ضم زوجته للطبيب يف‬
‫ومن قبلها رهبان القرون الو�سطى ‪ -‬حتى �أننا جندها‬ ‫حماوالت �أخرى ال�ستعادة ذاكرته‪ ،‬وتذهب به �إىل املنزل‪،‬‬
‫قد ت�سربت �إىل معظم ن�صو�صه ال�سردية ‪� -‬أي نقد‬ ‫فهرع �إىل غرفة مكتبه حيث يبد�أ يف قراءة �أ�سماء الكتب‬
‫الإكلريو�س و�سلطة الكني�سة ‪ -‬فقد �أراد القول يف روايته‬ ‫وامل�ؤلفني ثم يتوقف عن النظر يف كعوبها وي�شيح عنها بعيد ًا‬
‫ال�سابقة لهذه «باودولينو»‪�« ،‬أي حق للبابا حتى مننحه‬ ‫ويكمل من ذاكرته البقية ح�سب ما هي مرتبة يف خزانات‬
‫املدينة؟» بل و�أكرث من ذلك فقد قال ب�ضرورة �إيجاد‬ ‫الكتب التي ميتلئ بها منزله‪ .‬يف مكان ما يف الرواية يقول‬
‫‪124‬‬
‫�أحالم‪ ،‬كوابي�س فنتازيا‪ ،‬وذاكرة ‪ -‬هي عنا�صر هذا‬ ‫�صيغة علمانية لل�سرد توازي عنف الإكلريو�س‪ .‬ويف �أحد‬
‫ال�سرد �أو عنا�صره املكونة �إن �شئت ‪� -‬إكو هو �صاحب‬ ‫م�ستويات ال�سرد جند �أن لغة �إكو ال�سردية تتحول �إىل لغة‬
‫املقولة ال�شائعة ‪ -‬جاءت يف ا�سم الوردة ‪« -‬هنالك �أحالم‬ ‫(ناقدة) ‪ -‬تذهب بعيد ًا يف نقد الأيديولوجيا وكل معرفة‬
‫كثرية ت�شبه الكتابة‪ ،‬مثلما �أن هنالك كتابات كثرية ت�شبه‬ ‫جوهرانية‪« ،‬دعنا ال نتحدث عن هيغل وربط م�شروعه‬
‫احللم»‪ ،‬وحتى يف هذه الرواية يختم �إكو احلكاية على‬ ‫بالدولة واملجتمع املدين‪ ...‬مل يكن �سوى فا�شي»!‬
‫ل�سان بطله يامبو‪ ،‬قائ ًال «لقد �سمعت �صوت ًا قوي ًا يقول يل‪:‬‬ ‫«�صنعت ذاكرتي من ورق! ما �أروع رائحة الكتب القدمية!‪،‬‬
‫الذي �سوف تراه‪ ،‬لك مطلق احلرية يف كتابته‪� ،‬أو �أن تكتبه‬ ‫�أنا ال �أخطئ‪ ،‬فقد �شكلتني منذ طفولتي الباكرة وال تزال‪،‬‬
‫يف كتابك فلن يقر�أه �أحد‪ ،‬لأنك فقط حتلم ب�أنك تكتبه»‬ ‫دليلي هو �أين ما زلت �أعمل يف جتارة الكتب القدمية‬
‫الرواية �ص ‪.423‬‬ ‫والنادرة» ‪ -‬هل هنالك �أفق �سردي �أتوبيوغرايف؟ نعم!‬
‫يفيق يامبو الآن‪ ،‬فقد انق�شع ال�ضباب‪ ،‬وزالت الغيوم ومل‬ ‫فحينما تقرر زوجة يامبو منفاه ذاك بهدف ا�ستعادة‬
‫يبق يف قعر ذاكرته �سوى وجه حمبوبته و�صاح حينما‬ ‫ذاكرته عناوين الكتب وطبعاتها النادرة و�أ�سماء‬
‫كل ما يربط‬ ‫و�صلت به �أحالمه وكوابي�سه �إىل ذاك احلد‪« ،‬ق�شعريرة‬ ‫ع�شيقاته هي اخليط الوحيد الذي ظل يربطه بهذا العامل‬
‫�أ�صابت بدين‪ ،‬نظرت �إىل �أعلى ف�إذا بال�شم�س تنك�سف‬ ‫‪ -‬نحن هنا �أمام نو�ستاجليا من نوع خا�ص رمبا �أراد بها‬
‫يامبو بهذا‬ ‫و�صار العامل �إىل ظلمة» الرواية �ص ‪.449‬‬ ‫�إكو �أن ُي�سكن �سريته الذاتية متن ًا �سردي ًا! رمبا كانت‬
‫العامل‬ ‫يف �إحدى تداعياته‪ ،‬ويف �سياق احلديث حول �سلطة‬ ‫�إحاالت املكان والنا�س والكتب وق�صا�صات ال�صحف‬
‫الكهنوت‪� ،‬صرخ يامبو «مل تكن القدي�سة جان دارك �سوى‬ ‫هي (وثيقة) حتكي تلك الطفولة ال�ضائعة �إال �أن خطاب‬
‫غيوم‬ ‫فا�شية من نوع رفيع‪� ...‬إن ح�ضور الفا�شية كان كثيف ًا‬ ‫الفا�شية وهيمنته وقمعه �آنذاك‪ ،‬هي «الرتاجيديا» التي‬
‫و�ضباب‬ ‫مندغم ًا مع �سريورة التاريخ منذ بدء اخلليقة‪ ،‬مل يكن‬ ‫�شكلت ذلك اجلمال ال�سردي الذي اتخذ �أ�سلوبه املف�ضل‬
‫الإكلريو�س �سوى فا�شيني وبامتياز» الرواية �ص ‪.342‬‬ ‫«حكاية بولي�سية» ورمبا ‪ -‬ومن خالل الر�سوم املتحركة‬
‫منتزع من‬ ‫مل يكن هذا العمل‪ ،‬يف التحليل النهائي �سوى عنف‬ ‫والق�ص�ص امل�صورة ‪ -‬عر�ض لنا �إكو نقد ًا �سيميولوجي ًا‬
‫موازٍ لعنف الدولة والإكلريو�س ‪ -‬الفا�شية يف �إيطاليا‬ ‫رائع ًا لتلك الأن�شودة الرعوية (الفا�شية)‪ ،‬كما �شهدها يف‬
‫ن�صو�ص‬ ‫منوذج ًا‪ -‬بل و�أكرث من ذلك رمبا �أراد ال�سيد �إكو �أن‬ ‫طفولته وكيف �أنها �شوهت براءة طفولته‪.‬‬
‫�شعرية‬ ‫يقول �إن الفا�شية مل تكن �سوى �أن�شودة رعوية‪.‬‬
‫مقاومة �سردية لعنف الدولة‬
‫�سردية من‬ ‫مقطع من الف�صل «‪»15‬‬
‫الأحالم‬ ‫من «وهج غام�ض للملكة لونا»‬ ‫ينك�شف الآن ال�سر الغام�ض للملكة لونا‪ ،‬فلم يكن ذلك‬
‫�سوى حكاية بذات العنوان كان قد قر�أها �آنذاك‪ ،‬وعاد‬
‫والكوابي�س‬ ‫ها قد عادت الغيوم وعاد ال�ضباب‪.‬‬ ‫�إليها بعد خم�سني عام ًا لتلهمه هذا العمل‪ ،‬وبذا مل يتغري‬
‫بحوائطهلتفوحهي جتربة موت؟ تقول والفنتازيا‬
‫الف�سفور‪،‬‬ ‫رائحة‬ ‫منها‬ ‫ه�آنذا �أ�سافر يف نفق‬
‫�أ�سرع باجتاه �أفق رمادي‪.‬‬
‫العنوان ‪ -‬فقد زعم �أن مدلوالته حتيل �إىل تراجيديا واقع‬
‫طفولته وب�ؤ�س حا�ضره وظلمة م�ستقبله‪� ،‬إن كل من يتابع‬
‫والذكريات‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫عك�س‬ ‫أى‬ ‫�‬ ‫ر‬ ‫التجربة‬ ‫تلك‬ ‫احلكمة �إن من خا�ض‬ ‫�أعمال �إكو‪� ،‬سواء كانت يف النقد الأدبي �أو ال�سيميولوجيا‪-‬‬
‫ف�إنك تتحرك يف �صراط مظلم ت�صاب فيه بالدوار ومن‬ ‫علم الإ�شارات‪� -‬أو الفل�سفة و�أخري ًا �أعماله الروائية‪،‬‬
‫ثم نور يعم الأب�صار‪.‬‬ ‫�سوف يجد �أن هذا العمل يف كثري من عنا�صره ال�سردية‬
‫�أقرتب الآن من نهاية النفق‪ ،‬حيث بخار كثيف يتال�شى‬ ‫يتبع �أفق ًا �أتوبيوغرافي ًا بدء ًا من رائحة الكتب والإ�شارة‬
‫�إىل �أعلى‪ ،‬ومل �أكن �أعلم �أنني �أحترك يف ن�سيج ناعم من‬ ‫لأ�سماء م�ؤلفيه الأثريين ثم النتاج الت�شكيلي العاملي‬
‫دخان‪� ،‬إنه �ضباب‪� ،‬ضباب ال يو�صف وجدت نف�سي �أ�سبح‬ ‫الذي (نظمه) بعناية يف املو�سوعة امل�شار �إليها �آنف ًا‬
‫يف �ضباب حقيقي ها قد عدت الآن‪.‬‬ ‫‪ -‬ثم حوارات يامبو العميقة مع �أ�ستاذه (�ص ‪ 342‬من‬
‫ً‬
‫يلفني ال�ضباب من كل ناحية وي�شكل عاملا من حويل‪� ،‬آه‬ ‫الرواية وما بعدها)‪ ،‬حول تلك الأ�سئلة الفل�سفية من مثل‬
‫ليتني �أر�سم مالمح بيت و�أرى ال�ضباب يزحف ناحيته‬ ‫(ال�شر مطلق ًا) ‪ -‬وعنف خطاب الإكلريو�س الذي دفعه‬
‫ويتوارى �سقف ذلك البيت‪� ،‬إال �أن ال�ضباب الآن قد ابتلع‬ ‫لي�سمم راهب ًا من القرون‬‫لأن يكتب رواية «ا�سم الوردة» ِّ‬
‫كل �شيء‪� .‬إنه الآن يف كل مكان‪ ،‬يف التالل واحلقول‪ ،‬ال‬ ‫الو�سطى حينما (�ضاقت به ال�سبل) �إىل �أن ي�ضع حد ًا‬
‫�أدرى �إن كنت �سابح ًا �أو �أنني �أم�شي‪� ،‬إال �أن �سطح الأر�ض‬ ‫لداء «الكهانة»‪ ،‬كل ذلك يدفعنا للقول �إن �إكو وظف‬
‫من �ضباب‪ ،‬متام ًا مثلما تكون منزلق ًا على �سطح مغطى‬ ‫(بوح الذات احلميم) ‪ -‬وهم�س الذاكرة االتوبيوغرافية‬
‫باجلليد‪ .‬غرقت يف ال�ضباب وتن�شقته حتى �أح�س�ست به‬ ‫والداللية مع ًا يف جدلية عالقتهما‪ -‬للتجريب ب�شكل‬
‫ميلأ رئتي و�صرت �أتنف�سه مثل دلفني‪� .‬ضمني ال�ضباب‬ ‫خمتلف هنا‪ ،‬ليخو�ض مغامرة الكتابة ال�سردية‪� .‬إن‬
‫�إليه وا�ستقبلني �أمام عتبة ذاك احللم‪ ،‬وبدثار من غيوم‬ ‫هذا البناء ال�سردي لهو �سرية رجل بعوامل مت�شظية «يا‬
‫لفني حتى �شعرت بتلك الق�شعريرة قد زالت وبطعم‬ ‫لوجودي هذا غري املتما�سك ‪� ..‬صارت يل قوى الآن �أ�صنع‬
‫مرارة هي خليط من جليد و�شراب وتبغ‪ ،‬وقد بد�أت الآن‬ ‫بها عاملي اخلا�ص» ‪ -‬الرواية �ص ‪ .421‬ونقر�أ يف الرواية‪،‬‬
‫يف التال�شي‪.‬‬ ‫«و�أخري ًا �أ�ستطيع �أن �أرى‪ ،‬ر�ؤيا قدي�سني‪ ...‬ر�أيت حتى قاع‬
‫«الرواية �ص ‪.»302-301‬‬ ‫حرف الألف حيث ي�شع نورا ‪ -‬لي�س من قاع هذا الكون ‪-‬‬
‫العمل الفني ‪ :‬نذير نبعة‪ -‬سورية‬
‫بل من رفوف قعر ذاكرتي» ‪ -‬الرواية �ص ‪.421‬‬
‫‪125‬‬
‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬

‫ذاكـرة املدن‬ ‫ملدن‬

‫يوم‬
‫ذاكـرة املدن‬
‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ذاكـرة املدن‬ ‫رة املدن ذاكـرة املدن‬

‫ا�شتعلت‬
‫القاهرة‬
‫«الأوروبية»‬ ‫في�صل جلول‬
‫كاتب من لبنان‬

‫وقائع احلريق بح�سب �شاهد عيان‬

‫‪126‬‬
‫يف ‪ 26‬كانون الثاين ‪ -‬يناير عام ‪ 1952‬اندلع يف القاهرة حريق هائل ا�ستمر من الثانية‬
‫ال‪ .‬وقع احلريق يف و�سط املدينة وطال ‪ -‬بح�سب‬ ‫ع�شرة ظهراً حتى احلادية ع�شرة لي ً‬
‫الدكتور ع�صام الطاهر وهو �شاهد عيان(‪- )1‬مواقع ومباين ي�شغلها الأوروبيون �أو‬
‫يرت ّددون عليها‪ ،‬وقدّر عددها بـ‪ 700‬مبنى مو ّزعة على ال�شكل التايل‪ 300:‬حمل‬
‫جتاري‪ 117 ،‬مكتب �أعمال‪ 13 ،‬فندقاً‪ 30 ،‬مكتباً لإدارة �شركات‪ 40 ،‬دار �سينما‪8 ،‬‬
‫حمالت ومعار�ض كبرية لل�سيارات‪ 10 ،‬متاجر لبيع ال�سالح‪ 73 ،‬مطعماً ومقهى‬
‫و�صالة‪ 92 ،‬حانة للخمور‪ 16 ،‬نادياً وم�صرفاً واحداً هو الإنكليزي «باركليز بنك»‪.‬‬
‫وت�ؤ ّكد الدكتورة جليلة القا�ضي(‪� )2‬أن العدد ال�صحيح هو ‪ 711‬مبنى تقع كلها يف و�سط‬
‫العا�صمة‪ ،‬وحتديداً يف الأزبكية وعديل و�شوارع عماد الدين وف�ؤاد و�إبراهيم و�سليمان‬
‫با�شا وعبد اخلالق ثروت‪ .‬وامتد احلريق �إىل الظاهر والفجالة و�شربا و�شارع الهرم‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫من احلادث‪ ،‬وهو يطرح عادة يف علم اجلرمية لتحديد‬ ‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫هوية املتهم فيها‪ ،‬ونخت�صر الفر�ضيات التي ما برحت‬
‫متداولة يف اخلطوط التالية‪:‬‬
‫�أو ًال‪ :‬فر�ضية �أحمد ح�سني املنا�ضل ال�شعبوي واملتهم‬
‫الوحيد يف العملية‪ .‬قيل �إنه ميثل التيار الراديكايل‬
‫ذاكـرة املدن‬ ‫ملدن‬
‫ذاكـرة املدن‬
‫الثوري املناه�ض للربيطانيني وللق�صر امللكي والراف�ض‬ ‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫حلكومة الوفد‪ ،‬يحتفظ املتهم بنفوذ يف الأحياء ال�شعبية‬ ‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ذاكـرة املدن‬ ‫رة املدن ذاكـرة املدن‬
‫التي خرجت بر ّمتها �إىل ال�شوارع يومذاك‪ ،‬وبالتايل‬
‫لديه م�صلحة حقيقية يف تو�سيع ال�صراع بني الوطنيني‬
‫والق�صر واملحتل الربيطاين‪� .‬سوى �أن البكبا�شي جالل‬ ‫تف�صح هوية املباين امل�ستهدفة عن �أن احلي الأوروبي‪،‬‬ ‫ما ح�صل‬
‫ندا يقول �إن ح�سني كان مري�ض ًا يوم احلريق و�إنه قدم‬ ‫�أو ما كان ي�س ّميه اخلديوي �إ�سماعيل «يف بالدي قطعة‬
‫له العالج بنف�سه(‪ .)3‬ولو كان ح�سني م�س�ؤو ًال فع ًال عن‬ ‫من �أوروبا»‪� ،‬أتت عليه نريان املتظاهرين (املجموعة‬ ‫يومذاك‪..‬‬
‫احلريق لأعلن تبنيه الحق ًا �إذا افرت�ضنا �أنه كان خائف ًا‬ ‫املنا�ضلة �أو اجلانحة �أو ال�سرية من بينهم)‪ ،‬ما �أ ّدى‬ ‫جمموعة‬
‫بح�سب الدكتورة القا�ضي �إىل تغيري عمراين حا�سم‪� ،‬إذ‬
‫من العقاب يف العهد امللكي‪ .‬فاحلريق �ساعد يف انبثاق‬
‫ثورة يوليو ‪ -‬متوز ‪ 1952‬التي ال تكنّ احرتام ًا للأوروبيني‪،‬‬ ‫انتقل و�سط القاهرة بعد احلريق من الأزبكية �إىل ميدان‬ ‫حرائق‬
‫واحلادث م ّر عليه الزمن وبالتايل من ال�سهل تبنيه دون‬ ‫التحرير‪.‬‬ ‫ولي�س‬
‫واحلق �إن ما ح�صل يومذاك هو جمموعة من احلرائق‬
‫حت ّمل تبعات هذا التبني‪ .‬ناهيك عن �أن حماكمة الرجل‬
‫مل تتمتع ب�أب�سط �شروط العدالة وات�سمت بف�ضائح‬ ‫ولي�س حريق ًا واحد ًا ي�ص ّنفها املتهم الوحيد يف العملية‬ ‫حريق ًا‬
‫باجلملة‪ ،‬من بينها �أن البولي�س ال�س ّري اخرتع �شهود ًا‬ ‫�أحمد ح�سني ‪ -‬زعيم حزب «م�صر الفتاة» ومن ثم حزب‬ ‫واحداً‬
‫مز ّورين ف�شل �أحدهم يف التع ّرف على املتهم‪ ،‬يف حني‬ ‫«م�صر اال�شرتاكي» ‪ -‬يف جمموعات ثالث‪ :‬املجموعة‬
‫�أكد علي ماهر رئي�س احلكومة املعينّ بعد احلريق �أنه‬ ‫الأوىل اندلعت �صباح ًا مع �إحراق كازينو بديعة (لبنانية‬
‫ات�صل ب�أحمد ح�سني يف منزله يف ذلك اليوم وبالتايل من‬ ‫من عائلة م�صابني)‪ ،‬واملجموعة الثانية امت ّدت من‬
‫ال�صعب �أن يحرق القاهرة وهو يف بيته‪.‬‬ ‫الواحدة �إىل الثالثة بعد الظهر‪ ،‬وطالت دور اللهو و�صاالت‬
‫ثاني ًا‪ :‬فر�ضية ال�ضباط الأحرار‪ .‬وهي ت�ستند �إىل‬ ‫ال�سينما ذات ال�صفة الربيطانية‪ ،‬واملرحلة الثالثة التي‬
‫التطورات الالحقة‪� ،‬إذ ه ّي�أ احلريق مناخ ًا �أف�ضل للقيام‬ ‫ا�ستمرت حتى احلادية ع�شرة لي ًال طالت �أماكن متنوعة‪.‬‬
‫بالثورة بعد �أن تبينّ �أن القوى ال�سيا�سية املعار�ضة‬ ‫ويرى ح�سني �أن الذين قاموا بها هم «جمموعة من‬
‫واملوالية والق�صر امللكي كلها عاجزة عن ال�سيطرة على‬ ‫الل�صو�ص واملت�آمرين» ودائم ًا بح�سب جريدة «ال�شعب»‪.‬‬
‫البلد وتلبية مطالب الق�سم الأكرب من امل�صريني برحيل‬ ‫وتتع ّدد الروايات حول الو�سائل امل�ستخدمة يف احلريق‬
‫بريطانيا وتغيري الأو�ضاع االقت�صادية واال�ستجابة‬ ‫بتع ّدد �شهود العيان فالدكتور الطاهر ي�ؤ ّكد �أنه ر�أى‬
‫لتح ّدي ال�صراع مع �إ�سرائيل‪ .‬غري �أن �أحد ًا من ال�ضباط‬ ‫ب�أم العني �صب ّية و�ش ّبان ًا ي�شعلون حريق ًا بقطع مبللة‬
‫امل�صريني �أو املنف�صلني عنهم مل يثبت التهمة على‬ ‫بالكاز و�أعواد الثقاب‪ ،‬يف حني يرى �آخرون �أن املواد‬
‫عبد النا�صر و�أ�صدقائه‪ .‬ولو كان ه�ؤالء م�س�ؤولني عن‬ ‫امل�ستخدمة هي عبارة عن م�سحوق على �شكل «بودرة»‬
‫احلريق ملا تر ّددوا يف تب ّنيه يف ذروة �صراعهم مع القوى‬ ‫�شديدة اال�شتعال‪ ،‬وهي مل تكن متوافرة �إال يف الثكنات‬
‫اال�ستعمارية بعد غزو ال�سوي�س كعمل يدعو �إىل االفتخار‪.‬‬ ‫الربيطانية‪ ،‬يف حني يجزم جورج مينان الذي نقدم‬
‫ثالث ًا‪ :‬فر�ضية الق�صر امللكي وهي ترتكز �إىل حقيقة �أن‬ ‫�شهادته مرتجمة �أن احلرائق كان ي�شعلها كوماندو�س‬
‫احلريق �أطاح بحكومة الوفد التي كانت حتكم ب�إرادتها‬ ‫بوا�سطة �صفائح البنزين و�أن حرائق �أخرى ا�شتعلت‬
‫ولي�س ب�إرادة امللك و�أن هذا الأخري كان يعمل على رحيلها‬ ‫بوا�سطة م�شعل �أوك�سيدريكي‪.‬‬
‫بفارغ ال�صرب‪ .‬وقد رحلت بالفعل بعد حريق القاهرة ما‬
‫يوحي ب�أن الق�صر امللكي رمبا يقف وراء ما ح�صل‪ .‬هنا‬ ‫فاعل جمهول‬
‫�أي�ض ًا ال �شيء م�ؤكد ًا خ�صو�ص ًا �أن ثوريي يوليو ا�ستولوا‬
‫على الأر�شيف امللكي بعد الإطاحة بامللك‪ ،‬وكان بو�سعهم‬ ‫على الرغم من م�ضي �أكرث من خم�سني عام ًا على احلريق‬
‫�إثبات التهمة على العر�ش من خالل وثائقه �أو من خالل‬ ‫مازال فاعله جمهو ًال‪ .‬فالق�ضاء امل�صري ف�شل يف العهد‬
‫رجاله لو كانوا فع ًال مت�أكدين من تورطه يف احلريق(‪.)4‬‬ ‫امللكي يف �إثبات التهمة على املنا�ضل الراديكايل �أحمد‬
‫رابع ًا‪ :‬فر�ضية بريطانيا‪ .‬يرى البع�ض �أن لربيطانيا‬ ‫ح�سني‪ .‬ومل يح ّدد العهد اجلمهوري الوليد بعد �شهور من‬
‫م�صلحة حقيقية يف ما ح�صل‪ ،‬بدليل �أن احلريق �أطاح‬ ‫احلريق هوية الفاعلني ومل تبادر جهات م�ستقلة‪ -‬على ما‬
‫باحلكومة الوفدية التي كانت ت�ص ّر على اجلالء‪ ،‬الأمر‬ ‫�أعلم ‪� -‬إىل �إجراء حتقيق تت�ضح من خالله امل�س�ؤوليات‪،‬‬
‫الذي جعل القوات الربيطانية �ضامن ًا وحيد ًا من انزالق‬ ‫وبالتايل القول �إن الأيدي التي �أحرقت قاهرة اخلديوي‬
‫م�صر يف الفو�ضى وعودة امللك لاللت�صاق باملحتلني‬ ‫�إ�سماعيل الأوروبية فعلت ذلك من �أجل �أغرا�ض‬
‫بعدما �أخذ باالبتعاد قلي ًال عنهم مل�سايرة ال�شارع‬ ‫حمددة‪.‬‬
‫امل�صري‪ ،‬ناهيك عن احلديث عن املواد احلارقة التي‬ ‫يف غياب حتقيق ج ّدي حول احلريق جرى تداول عدد من‬
‫ا�ستخدمت والتي ال تتوافر �إال يف الثكنات الربيطانية‪.‬‬ ‫الفر�ضيات انطالق ًا من �س�ؤال عن امل�ستفيد‪� ‬أو امل�ستفيدين‬
‫‪128‬‬
‫�صحت هذه الفر�ضية لكان من ال�صعب �إخفاء تو ّرط‬ ‫لو ّ‬
‫الربيطانيني طيلة �أكرث من ن�صف قرن‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن‬
‫الأر�شيف الربيطاين ك�شف النقاب عن �أحداث تو ّرطت‬
‫فيها حكومة �صاحبة اجلاللة وكانت �أخطر بكثري من‬
‫حريق القاهرة‪.‬‬
‫خام�س ًا‪ :‬فر�ضية امل�ؤامرة ال�صهيونية‪ .‬وهي ت�ستند �إىل‬
‫القول �إن �إ�سرائيل د ّبرت العملية حلمل اليهود والر�ساميل‬
‫اليهودية على مغادرة م�صر والهجرة �إىل �إ�سرائيل‪،‬‬
‫ولإحلاق الأذى مب�سار التحديث والتط ّور امل�صري بعد ‪4‬‬
‫�سنوات على ن�شوء دولة �إ�سرائيل‪ .‬و�إذا كان �صحيح ًا ما‬
‫ُين�سب لل�صهيونية فلماذا مل تتوافر �إثباتات دامغة حتى‬
‫الآن حول احلريق؟ وملاذا ال ُيك�شف النقاب عن عمالء‬
‫�إ�سرائيل الذين �أحرقوا القاهرة الأوروبية؟‪ ..‬ثم هل‬
‫ُيعقل �أن حتمل �إ�سرائيل مئات الآالف من امل�صريني �إىل‬
‫ال�شوارع يف ذلك اليوم احتجاج ًا على جمزرة الإ�سماعيلية‬
‫التي ّمتت يف اليوم ال�سابق؟‪ ..‬وهل ميكن لها �أن تكون‬
‫م�ستفيدة من قتل اجلنود امل�صريني يف مبنى املحافظة‬
‫و�أن تركب انتفا�ضة م�صرية لالحتجاج على مقتلهم و�أن‬
‫تد ّبر حريق القاهرة خالل االنتفا�ضة؟‬
‫�ساد�س ًا‪ :‬فر�ض ّية الأطراف املتع ّددة‪ .‬رمبا تكون هذه‬
‫الفر�ض ّية الأقرب �إىل الواقع‪ ،‬وذلك لأ�سباب عديدة‪ ،‬من‬
‫خمطط مع ّد �سلف ًا‬
‫بينها �أن احلريق مل يكن ناجت ًا عن ّ‬
‫املحتجني على جمزرة‬ ‫ّ‬ ‫بل ارت�سم تدريجي ًا يف خم ّيلة‬
‫الإ�سماعيلية‪ .‬وللتذكري ن�شري �إىل �أن الوزارة الوفدية‬
‫�أمرت جنود ًا متمركزين يف مبنى املحافظة وثكنتها‬
‫باملقاومة حتى املوت‪ ،‬يف مواجهة القوات الربيطانية التي‬
‫كانت حتا�صرهم‪ .‬وقد �سقط يف املجابهة حوايل ‪150‬‬
‫م�صري ًا بني قتيل وجريح‪ .‬ت ّوج احلادث ‪ -‬بح�سب تلخي�ص‬
‫ع�صام الطاهر الهام لوقائع تلك الفرتة ‪� -‬شهور ًا طويلة‬
‫من ال�صراع بني الوفد والي�سار الراديكايل من جهة‪ ،‬وبني‬
‫امللك و�أحزاب االحتالل والربيطانيني من جهة �أخرى‪.‬‬
‫فقد فاز الوفد بانتخابات عام ‪ 1950‬و�ش ّكل حكومة‬
‫خرجت تدريجي ًا عن �سيطرة امللك واتخذت قرارات‬
‫مناه�ضة لالحتالل‪ ،‬من بينها �إلغاء معاهدة العام ‪1936‬‬
‫والطلب من الربيطانيني البقاء يف منطقة القنال وعدم‬
‫اخلروج منها والتغا�ضي عن حرب الع�صابات‪ ،‬التي كان‬
‫ي�ش ّنها الوطنيون �ضد القوات املحتلة‪� ،‬أو دعم امل�شاركني‬
‫فيها‪ .‬وقد ازدادت هذه العمليات بعد تظاهرة املليون‬
‫نظمت يف ‪ 1951 /11 /14‬لدعم قرار‬ ‫�شخ�ص التي ّ‬
‫�إلغاء املعاهدة‪ .‬يف هذه الأجواء املحمومة وقعت جمزرة‬
‫الإ�سماعيلية والر ّد االنتقامي عليها من خالل حرق كل ما‬
‫يرمز �إىل الوجود الربيطاين والأوروبي يف م�صر‪.‬‬
‫‪ ‬يف �ضوء ذلك يبدو من غري امل�ستبعد �أن يكون احلريق قد‬
‫بد�أ بطريقة عفوية يف «كازينو بديعة»‪ ،‬و�أن تكون �أطراف‬
‫عديدة ا�ستغلته ف�أ�شعلت حرائق يف �أماكن �أخرى‪ .‬ويف‬
‫هذا ال�سياق من املحتمل �أن يكون �أن�صار �أحمد ح�سني‬
‫قد �شاركوا يف احلريق وجمموعات مرتبطة بال�ضباط‬
‫الأحرار‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن �شهادات عديدة ت�ؤ ّكد م�شاركة‬
‫ع�سكريني نظاميني يف �إ�شعال احلرائق‪ ،‬وكذا الأمر‬
‫بالن�سبة لأن�صار الوفد ورمبا عمالء ا�ستخبارات �أجنبية‬
‫ف�ض ًال عن الل�صو�ص واجلانحني والفقراء الذين كانوا‬
‫‪129‬‬
‫لغته التي متتزج فيها امل�شاعر اخلا�صة واالنتماء القوي‬ ‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫واخليال اخل�صب‪.‬‬
‫وال ب ّد من لفت نظر القارئ �إىل �أننا اعتمدنا ترجمة‬
‫حرفية للن�ص مع بع�ض التدخل الذي ح�صرناه دائم ًا يف‬
‫هاللني‪ ،‬وذلك يف كل م ّرة وجدنا �ضرورة من �أجل املزيد‬
‫ذاكـرة املدن‬ ‫ملدن‬
‫ذاكـرة املدن‬
‫من الإي�ضاح �أو الت�أكيد �أو ما �شابه ذلك‪.‬‬ ‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫يف تقدميه لهذا الن�ص ولن�صو�ص �أخرى وقعها �أبرز‬ ‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ذاكـرة املدن‬ ‫رة املدن ذاكـرة املدن‬
‫جنوم ال�صحافة يف فرن�سا ي�ستعيد هرني الموريه قول‬
‫�ألبري كامو ال�شهري عن العمل ال�صحايف «�إنه ت�أريخ‬
‫اللحظة» ولأن الن�ص هو بالفعل تاريخ لتلك «اللحظة‬ ‫يعي�شون يف �أحياء فقرية معدمة‪ ،‬فيما القاهرة الأوروبية‬ ‫فاعل‬
‫تتج ّمع فيها كل مظاهر الرثاء والرثوة وال�صفوة امل�صرية‬
‫العربية» احلا�سمة يف حياة م�صر بعني فرن�سية‪ ،‬ف�أنه‬
‫جدير بالو�صول �إىل من يرغب يف الوقوف على املزيد من‬ ‫امل�ؤ ّيدة للق�صر واالحتالل الأجنبي‪ .‬ويبدو يل منطقي ًا‬ ‫جمهول‪..‬‬
‫تفا�صيل حدث �أ�سا�سي يف تاريخنا احلديث واملعا�صر‪.‬‬ ‫�أن يبادر الفقراء املعدمون �إىل االنتقام من �أحياء الغنى‬ ‫رغم م�ضي‬
‫الفاح�ش يف حلظة انتفا�ضة كتلك التي �شهدتها القاهرة‬
‫حريق القاهرة‬ ‫يومذاك‪.‬‬ ‫�أكرث‬
‫�أما االمتناع عن ك�شف النقاب عن تفا�صيل احلريق‬ ‫من ن�صف‬
‫الدقيقة وحتديد هوية الفاعلني فقد يكون ناجت ًا عن تع ّدد‬
‫بقلم ‪-‬جورج مينان‬
‫لقد ع�شت �ساعة ب�ساعة تراجيديا �سبت القاهرة‪.‬‬ ‫الأطراف‪ ،‬وتع ّذر ح�صر التهمة يف طرف‪ ،‬وعن اخلوف‬ ‫قرن!‬
‫القاهرة‪ ..‬كانون الثاين ‪ -‬يناير‪« .‬كل �شيء على ما يرام‬ ‫من العواقب املالية التي ميكن �أن ترتتّب على حرق ثروة‬
‫يا �سيدتي املركيزة»(‪ ..)5‬هكذا ميكن ت�سمية احلوار‬ ‫�أوروبية ‪ -‬م�صرية هائلة‪ ،‬ولرمبا �أي�ض ًا لوجود م�ستفيدين‬
‫الق�صري الذي دار قرابة ال�ساعة الرابعة بعد الظهر‪ ،‬على‬ ‫كرث من احلدث يف ال�سلطة واملعار�ضة واجلي�ش‪ ،‬ما �أ ّدى‬
‫خط الهاتف بني الإ�سكندرية والقاهرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�إىل اعتقال �أحمد ح�سني بو�صفه كب�ش حمرقة منوذجي ًا‬
‫‪� -‬ألو! �شيربدز �أوتيل؟ هنا ال�سيدة ب من ب و�شركائه يف‬ ‫يف ظرف من هذا النوع‪.‬‬
‫الإ�سكندرية‪.‬‬ ‫ولعل من بني غرائب هذا احلدث الكثرية �أن الربيطانيني‬
‫ح�ضر يل غرفتي‪� .‬س�أ�صل يف الليل عرب‬ ‫‪� ... -‬أحمد ّ‬ ‫والغربيني عموم ًا مل يجروا ب�ش�أنه حتقيق ًا جدير ًا‬
‫تن�س يا �أحمد �أن ّ‬
‫حت�ضر ال�شاي‬ ‫الطريق ال�صحراوي‪ .‬ال َ‬ ‫باالحرتام!‬
‫اخلا�ص بي!‬ ‫�إذا ما جتاوزنا هوية امل�س�ؤول �أو امل�س�ؤولني عن حريق‬
‫‪ -‬هناك �أمر ما يا �سيدتي‪� ....‬أخ�شى كثري ًا �أال تكون غرفة‬ ‫القاهرة ميكن القول �إنه كان مق ّدمة حا�سمة للثورة‬
‫�سيدتي جاهزة‪.‬‬ ‫امل�صرية يف ‪ 23‬متوز ‪ -‬يوليو‪ .‬فقد حلقت هزمية كبرية‬
‫ً‬
‫‪ -‬غري جاهزة يا �أحمد ؟! �ستكون حتما املرة الأوىل‪.‬‬ ‫بالغرب يف عا�صمة املع ّز يف ذلك اليوم‪ ،‬على ما ي�ؤكد‬
‫‪ -‬نعم يا �سيدتي‪ .‬وللمرة الأوىل ال يوجد �شاي يف �شيربدز‬ ‫�شاهدنا الفرن�سي جورج مينان‪ ،‬وكان ال�ضباط الأحرار‬
‫�أي�ض ًا‪.‬‬ ‫ي�ستع ّدون خالل ال�شهور التالية لإ�شعال حرائق �أخرى يف‬
‫‪ -‬ال �شاي يف �شيربدز؟! لكن يا �أحمد �إنها الثورة!‬ ‫م�صر والعامل العربي والعامل الثالث �ست�ؤ ّدي �إىل انهيار‬
‫‪ -‬بالفعل يا �سيدتي‪� .‬إنها الثورة‪ ..‬منذ �ساعتني �شيربدز‬ ‫النظام العاملي الكولونيايل مرة واحدة و�إىل الأبد‪.‬‬
‫�أوتيل ي�شتعل‪.‬‬
‫ومع ذلك بد�أ النهار بداية ح�سنة‪ .‬كان �شبيه ًا ب�صباحيات‬ ‫ال�شاهد الفرن�سي‬
‫ال�شتاء الإفريقي‪ ،‬حيث لطافة الطق�س تذ ّكر ب�صباحاتنا‬
‫الربيعية‪ .‬مع فارق �أن العطر املنع�ش الذي ينبعث من‬ ‫الن�ص الذي نق ّدمه مرتجم ًا يف هذا الكتاب «م�صر‬
‫الن�سغ النامي عندنا‪ ،‬ح ّلت حم ّله هنا رائحة القذارة‬ ‫بعيون الفرن�سي�س» حول حريق القاهرة‪ ،‬عدا عن كونه‬
‫الأبدية املمزوجة بالتوابل والتي تثريها ال�شم�س‪� .‬إنها‬ ‫�شهادة مبا�شرة وفريدة من نوعها من موقع احلريق‪،‬‬
‫رائحة ال�شرق‪ .‬لتلطيف هذا االنتقال (من جو �إىل جو)‬ ‫ف�إنه ينطوي على �إ�ضافة �أ�سا�سية تكمن يف �أنه يعبرّ عن‬
‫كان ما زال يف �أق�صى حلقي �أثر طعم منع�ش لآخر ك�أ�س‬ ‫وجهة نظر غري حمايدة ولرمبا حاقدة طرحها امل�ؤلف‬
‫«هايد�سيك»(‪ )6‬تناولته يف بار «�شركة الطريان الفرن�سية»‬ ‫ال�صحايف جورج مينان بو�ضوح من خالل �أو�صاف ونعوت‬
‫التي �أقلتني قبل �ساعتني �إىل مطار القاهرة‪ .‬وكان يف جيبي‬ ‫و�أحيان ًا �شتائم قبيحة‪ ،‬تعك�س �إح�سا�س ًا ال يخطئ بانهيار‬
‫�أي�ض ًا بع�ض االحتياطي من علب �سجائر»الغولواز»(‪.)7‬‬ ‫موقع نفوذ غربي من الدرجة الأوىل يف العامل العربي‪.‬‬
‫بائعو راحة احللقوم‪ ،‬جاذبة الذباب‪ ،‬وما�سحو الأحذية‬ ‫عندما ن�شر الن�ص بالفرن�سية يف �صحيفة «لو دوفينيه‬
‫بوا�سطة الب�صاق‪ ،‬ومقعدون مقطوعة �أقدامهم يرتدون‬ ‫ليبرييه» يف �شباط ‪ -‬فرباير عام ‪ 1952‬القى �إقبا ًال كبري ًا‪،‬‬
‫خرق ًا من القما�ش البايل‪ ،‬كل ه�ؤالء كانوا يحتلون زوايا‬ ‫وعندما �أعيد ن�شره يف العام ‪ 1986‬يف كتاب م�ستقل مع‬
‫ال�شوارع‪ ،‬بينما املل�صق الإعالين للقاهرة املتع ّدد الألوان‬ ‫�أربعني ن�ص ًا �آخر حول �أبرز �أحداث القرن الع�شرين‪،‬‬
‫يوحي ب�شرقية جديدة‪.‬‬ ‫اعترب �أي�ض ًا الأهم بني الن�صو�ص املن�شورة‪ ،‬لي�س فقط‬
‫�شعرت و�أنا ا�ستهلك خل�سة كي�سي الأول من الف�ستق‬ ‫ب�سبب بنائه املحكم ودقة مالحظاته‪ ،‬و�إمنا �أي�ض ًا ب�سبب‬
‫‪130‬‬
‫املح ّم�ص‪� ،‬أنه من ال�صعوبة مبكان �أن يتق ّم�ص املرء‪،‬‬
‫يف مثل ذلك ال�صباح‪ ،‬نف�س ًا �أخرى غري تلك التي مت ّيز‬
‫�سائح ًا �أوروبي ًا كاريكاتوري ًا‪.‬‬
‫الكوماندو�س ي�ضرب يف ال�ساعة ‪� 11‬صباح ًا‬
‫بد�أت الق�ضية بغرابة �شديدة‪ .‬فج�أة‪� ‬شيء ما بدا وك�أنه‬
‫ال يتطابق مع هذه البانوراما‪� .‬شيء ما ال ميكن �إدراكه‪.‬‬
‫�شيء غريزي لكنه يف الوقت نف�سه م�ؤ ّكد متام ًا‪� .‬أو ًال جلهة‬
‫ي�ضب‬
‫التفا�صيل‪ :‬كان بائع الفول‪ ،‬ال�ساكن فوق فطائره‪ّ ،‬‬
‫ب�ضاعته بهدوء‪ .‬والكهل الذي كان يج ّر عنزته (ال�شاة)‬
‫بني ال�سيارات‪ ،‬بد�أت عنزته جت ّره‪ ،‬والن�سوة ال�سود‬
‫ال�سمينات‪ ،‬و�أطفالهن كال�صرر على �أذرعهن‪ ،‬يهرولن‬
‫على طول الر�صيف بحركات مروحية ثم �أخذت �صفائح‬
‫النوافذ تقرقع يف اجلو‪.‬‬
‫�أدركت خالل ذلك �أن اجلميع ي�سري يف نف�س االجتاه‪.‬‬
‫حاولت ال�سيارات �شبه املتوقفة‪ ،‬و�سط هذه اجلمهرة‬
‫املت�ضخمة تدريجي ًا‪� ،‬أن تواجه املوقف بزمامريها‪،‬‬
‫فامليكانيك ي�ضمن مناعة ما حيال ما تنويه‪  ‬تلك ال�سيقان‬
‫ال�ضامرة‪� ،‬أي غريزة التم ّرد القاتل‪� .‬أما �أنا املذهول فقد‬
‫حطيت يف تلك املعمعة‪.‬‬
‫بعدها لعلعت هرجة الزمامري ومن ثم ال �شيء البتة‪.‬‬
‫ال�شارع فارغ متام ًا‪ .‬و�ساد �صمت عجيب‪.‬‬
‫ثم بد�أت العرا�ضة‪.‬‬
‫مل يكن عددهم كبري ًا يف عمق جادة ف�ؤاد الأول ‪-‬‬
‫�شانزيليزيه القاهرة ‪ -‬خم�سون من ال�صبية يت�أطرون‬
‫مقابل العمارات ويت�ص ّدرهم علم‪ .‬بدون ذلك العلم‬
‫الأخ�ضر‪ ،‬ذي الهالل الأبي�ض‪ ،‬كان ميكن اعتبار التظاهرة‬
‫جم ّرد جت ّمع ل�ش ّبان ميرحون خالل عيد ر�أ�س ال�سنة‪ .‬كان‬
‫يتوجب االقرتاب من التظاهرة للتحقق من �أن الفرح ال‬ ‫ّ‬
‫ي�سكن تلك الوجوه‪.‬‬
‫يف ال�صف الأول كتفان غري مرئيني يحمالن بزهو‬
‫�شخ�ص ًا يرتدي الزي الع�سكري الر�سمي و«البرييه»‬
‫اخل�ضراء‪�«:‬إنه متط ّوع من القناة»‪ .‬كان ال�شاب الأ�سمر‬
‫يهتف بعبارات ق�صرية وي�ؤكد عليها بحركة حا�سمة من‬
‫ذراعيه‪ .‬وي�ستعيد اجلمع‪ ،‬كما يف الكور�س القدمي‪ ،‬ما‬
‫أ�صم بغرابته‪.‬‬
‫يقوله ال�شاب‪ ،‬ب�صوت واحد � ّ‬
‫يف اخللف كانت الأقدام العارية تتم ّدد خمرب�شة الإ�سفلت‬
‫ب�أظافرها ال�سوداء‪ .‬يف ر�أ�سي �أنا الأوروبي كان لأول �ضجة‬
‫�أحدثها زجاج تك�سر للتو‪ ،‬وقع من ّبه ال�صباح‪ .‬فعلى بعد‬
‫خم�سني مرت ًا مني كان الكوماندو�س ي�ضرب �سينما‬
‫الـ«ريفويل»‪.‬‬
‫�إنذار يف البار‬
‫‪� ‬أدركت فندقي يف الوقت املنا�سب‪ .‬هناك ملحت فرا�شني‬
‫نوبيني يقفالن بقب�ضاتهم ال�سوداء العمالقة بوابة‬
‫املدخل احلديدية‪ .‬قبل ذلك �أقفلت بوابة البار وبهو‬
‫التدخني‪ .‬فتحول بذلك‪ ،‬الباال�س املحروم من النور‪� ،‬إىل‬
‫معقل مظلم‪ ،‬حيث اخلوف بد�أ يقتفي �أثري‪ .‬ملحة ب�صر‬
‫خفيفة من حتت الباب جعلتني �أعرف �أن الريفويل «ل�ؤل�ؤة‬
‫‪131‬‬
‫يف امل�صعد بني طابقني‪ ،‬وتطلب النجاة يف الآن مع ًا من‬ ‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ال�سيدة العذراء ومن �أبناء اهلل على الأر�ض‪ ،‬الذين جا�ؤوا‬
‫ب�سلم �صغري و�شمعدان‪ .‬اخلدم‪ .‬اخلدم ما زالوا يطيعون‬
‫(الأوامر) وكانت هذه �إ�شارة طيبة‪ ،‬فذلك �أف�ضل بكثري‬
‫من �أن نكون �أي�ض ًا بحاجة حلماية م�ؤخرتنا‪.‬‬
‫ذاكـرة املدن‬ ‫ملدن‬
‫ذاكـرة املدن‬
‫�ستتيح يل (من الآن ف�صاعد ًا) �شرفة البناية الأ�سمنتية‬ ‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫الدائرية العري�ضة ‪ -‬التي تط ّل من علو طبقاتها الثماين‪،‬‬ ‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ذاكـرة املدن‬ ‫رة املدن ذاكـرة املدن‬
‫على ملتقى جادة ف�ؤاد الأول مع جادة �سليمان با�شا ‪-‬‬
‫مركز ًا للمراقبة فريد ًا من نوعه‪ ،‬وهو ما مل �أكن �أحلم به‬
‫يف حالتي تلك‪ .‬منها �س�أ�شاهد طوال ع�شر �ساعات ما مل‬ ‫�سينمات ال�شرق» ت�شتعل‪.‬‬ ‫هزمية‬
‫يف ظلمة الفندق امل�صفحة‪ ،‬عود ثقاب يقرقع منرياً‬
‫يجر�ؤ نريون على القيام به‪.‬‬
‫للحظة‪ ،‬جلد املقاعد املهجورة اللماع‪ .‬هناك التقيت‬ ‫كبرية‬
‫يف الأ�سفل‪� ،‬أي يف ال�ساحة‪ ،‬حيث فاج�أتني الأحداث‬
‫قبل قليل‪ ،‬بد�أ املكان ميتلئ من جديد‪ ،‬عرب كافة الأزقة‬ ‫�صاحب الفندق‪� .‬إنه يوناين حاذق‪ ،‬حت ّدث معي قبل قليل‬ ‫للغرب‬
‫املو�صلة �إليه‪ .‬ها هي املوجة املهتاجة وامل�ؤلفة من �أولئك‬ ‫بلغات متع ّددة وجعلني �أت�سلى ل�ساعة من الزمن‪ .‬الآن‬
‫�أقلع عن ترحيبه االحتفايل‪ :‬هذا �أنت يا �سيدي؟ ا�صعد‬ ‫يف قاهرة‬
‫الذين هربوا من ال�ساحة من قبل‪ ،‬ها هم يرجعون الآن‬
‫نحو الريفويل‪.‬على �شرفة ال�سينما كان ر�سم «�سبن�سر‬ ‫ب�سرعة �إىل املطعم‪ .‬الآخرون فوق‪� .‬س�أحلق بكم‪ .‬قبل �أن‬ ‫املعز‬
‫ترا�سي» ذو الأمتار اخلم�سة يتال�شى يف اللهب‪ ،‬وتتال�شى‬ ‫يختفي �أثر عود الثقاب ر�أيت م�سد�س الرباوننغ املنكل‬
‫ق�سمات وجهه املتجهمة على الكرتون‪ .‬الآن �أم�سكت‬ ‫ال�صغري الذي يحمله يف و�سطه‪.‬‬
‫جمهرة النا�س بالق�ضية‪ ،‬ه�ؤالء هم جمهور البطاقات‬ ‫يف الطابق الأول‪ ،‬ويف قاعة الطعام الكربى كان ال�شحم‬
‫الربيدية احلار وامللون امل�ؤلف من الب�سي اجلالبية‪� ،‬أي‬ ‫رخي�ص الثمن املتجمع حول اللمبات ال�صغرية يبحث‬
‫قمي�ص النوم الطويل الذي يعترب الزي الر�سمي للفقر‬ ‫عن انعكا�س يف الكري�ستال ال�شاحب للرثيات املعلقة على‬
‫يف هذا البلد‪.‬‬ ‫مقربة من ال�سقوف العالية‪ .‬يف هذا املكان اجتمع ذلك‬
‫ما�سحو الأحذية وبائعو البطاطا املقلية وال�شحاذون‬ ‫القطيع (النزالء) غري املرئي والهام�س‪ ،‬الذي جل�أ �إىل‬
‫وامل�ش ّردون والأطفال البناديق وخدم كل العامل‪ ،‬كل ه�ؤالء‬ ‫املطعم‪ .‬من جهتي ارت�أيت �أن املكان يفتقر �إىل الهواء‬
‫خرجوا من جحورهم‪ ،‬يرك�ضون بني البنايات الب�شعة‬ ‫الكايف فخطر يل �أن �أعمل وفق املبد�أ القدمي التقليدي‬
‫وي�ستعيدون منت�صرين ال�سيطرة على �أر�صفة القاهرة‬ ‫الذي يق�ضي بال�صعود �إىل ال�سطح يف مثل هذه احلاالت‪.‬‬
‫اجلميلة البي�ضاء‪ ،‬التي كانت يف حريق ذلك اليوم تقود‬ ‫يف هذا الوقت كان انقطاع الكهرباء قد �أ ّدى �إىل تعطل‬
‫�إىل موعد مع القيامة‪.‬‬ ‫امل�صعد‪� .‬سرت على الأدراج بعك�س حركة النازلني‬
‫كان احلريق يت�أجج منذ �ساعة عندما جاءت �سيارة‬ ‫عربها‪ ،‬والذين يهرولون نحو قاعة الطعام‪ .‬يف‪  ‬م�ستوى‬
‫الإطفاء الأوىل خمرتقة املكان كعربة يف �ساحة لل�سباق‪.‬‬ ‫الطابق الثالث كانت �سيدة �إيطالية م�س ّنة قد حو�صرت‬

‫‪132‬‬
‫ال�شاحنة جديدة‪ ،‬ويواكبها �صفان من الإطفائيني ال�سود‬
‫حذار‬ ‫ال�شجعان‪ .‬كانت قبعاتهم النحا�سية تلمع حتت �أ�شعة‬
‫ال�شم�س كعرف الديك‪ .‬لن يدوم احلما�س الكبري الذي‬
‫ماذا �سيفعل ه�ؤالء البائ�سون �ضد من هم �أكرث ب�ؤ�س ًا‬ ‫ترافق مع و�صولها �إال لوم�ضة من الزمن‪ .‬فقد افرت�ش‬
‫منهم؟‬ ‫�أربعة من املتظاهرين الأر�ض‪ ،‬وجل�س كل منهم حتت‬
‫ربر‬ ‫البارحة برزت ق�ضية الإ�سماعيلية ال�شهرية – امل ّ‬ ‫دوالب بقرب احلاجز الواقي من ال�صدمات‪ .‬كان‬
‫الأكيد لأحداث هذا اليوم ‪ -‬خالل ذلك قام �سراج الدين‬ ‫جر�س الإنذار ال�ضخم يف ال�شاحنة يرن كجر�س رئي�س‬
‫با�شا وزير الداخلية الدموي‪ ،‬ب�إعطاء �أوامر بالهاتف من‬ ‫�أحد امل�ؤمترات لكن بال جدوى‪ .‬بد�أت املفاو�ضات (مع‬
‫مكتبه يف قيادة الوفد‪ ،‬تق�ضي بتزويد �شرطة ق�ضبان‬ ‫الإطفائيني) وكانت تتخللها �شعارات معهودة‪«:‬املوت‬
‫اخليزران املوجودين يف القناة بالأ�سلحة‪ .‬و�أعطى ال�شرطة‬ ‫للإنكليز! الرحيل للأجانب! دماء �إخوتنا الذين �سقطوا‬
‫�أوامر باملقاومة حتى املوت يف وجه القوات الإنكليزية‬ ‫يف الإ�سماعيلية تنادي بالث�أر»‪.‬‬
‫التي حتا�صر مركز اجلندرمة هناك‪ .‬كان يوجد ‪ 48‬من‬ ‫ثم هتفوا ب�صوت واحد‪« .‬الإطفائيون معنا»‪!!.‬‬
‫«البولوك نظام» �أي �أفراد ال�شرطة امللحقني‪ .‬ه�ؤالء ماتوا‬ ‫خالل خم�س دقائق كف جر�س الإطفائية عن االحتجاج‪،‬‬
‫يف �سيدي �إبراهيم‪ .‬ماتوا من �أجل ماذا؟‬ ‫وبعد خم�س �أخرى بد�أ جنود النار ي�صفقون لل�شاب الذي‬
‫هذا ال�س�ؤال كان يطرحه املتظاهرون على رجال ال�شرطة‬ ‫يهتف‪ ،‬وخالل ربع �ساعة اختفت عربة الإطفائية يف‬
‫الذين جاءوا لقمعهم‪ .‬جرت الأمور مع ه�ؤالء املدافعني‬ ‫زاوية �شارع �سليمان با�شا قبل �أن مت ّد مرت ًا واحد ًا من‬
‫عن النظام ب�سرعة �أكرب مما جرى مع الإطفائيني قبل‬ ‫خراطيمها‪.‬‬
‫قليل‪ .‬ا�ستغرق الأمر دقيقتني من التخاطب ثم �صارت‬
‫الق�ضية يف اجليب‪ .‬لقد تك ّررت حكاية الدواليب ثم‬ ‫يف نار احلقد‬
‫اجتهت ال�شاحنة بدورها نحو الطريق مرور ًا بزاوية �شارع‬
‫�سليمان با�شا يرافقها هتاف اجلمهور ب�صوت واحد‪ ،‬هذا‬ ‫يف هذا الوقت كانت الريفويل تب�صق كتل اللهب من فتحات‬
‫اجلمهور الذي �سهى للحظة خالل وجود ال�شرطة‪ ،‬ثم‬ ‫طبقاتها اخلم�س‪ .‬لقد متكن امل�شاغبون الأكرث جر�أة من‬
‫ا�ست�أنف �أعمال التخريب بحما�س مت�صاعد‪.‬‬ ‫غريهم من الدخول �إىل البناء‪ ،‬وا�ضعني حمارم رطبة‬
‫على �أنوفهم‪ ،‬ثم انت�شروا يف باحة‪ .‬كانوا يرق�صون على‬
‫قادة الأورك�سرتا ال�سريون‬ ‫حافة الفراغ (بعيد ًا عن اللهب) على طول الكورني�ش‪،‬‬
‫كح�شرات �صغرية ر�شيقة احلركة وم�ستديرة ك�سل�سلة‪،‬‬
‫لكن ما الذي ح ّل بكوماندو�س البداية؟ �س�أعرف اجلواب‬ ‫ويتناقلون كل ما مل يحرتق بعد من هذه البناية الفخمة‪.‬‬
‫حني �ألقي نظرة �شاملة على املكان بكامله‪ .‬فحتى الآن‬ ‫يف �أعلى ال�سطوح‪ ،‬وبهدوء على ما يبدو‪ ،‬كانت تت�ساقط‬
‫كنت وحدي يف هذا الربج الأ�سمنتي‪ ،‬وكنت قد تركت‬ ‫كاملطر‪ ،‬طاوالت اللعب الطويلة والتي ا�ستقبلت يف ال�سابق‬
‫عيوين م�س ّمرة على هجوم الريفويل‪ .‬مل �أكن �أعرف �أنه‬ ‫العبي الربيدج الأكرث متيز ًا يف املدينة‪ .‬وكانت تت�ساقط‬
‫خالل ال�ساعات التالية �ستختفي بدورها ‪� 25‬صالة �سينما‬ ‫�أي�ض ًا املقاعد ال�ضخمة وكرا�سي البار‪ ،‬و�أطقم �أقداح‬
‫�أخرى‪ ،‬وت�أكلها �أل�سنة اللهب من مواقع �أخرى بالطبع‪.‬‬ ‫ال�شراب و�أواين اجلاد و�سجادات املو�سكي ال�ساحرة‪ .‬كل‬
‫وما ح�سبته حتى الآن �ضباب ًا كان يف الواقع دخان ًا رهيب ًا‬ ‫هذه الأغرا�ض كانت جتمعها يف الأ�سفل‪ ،‬جمموعة من‬
‫ت�صاعد من احلريق الذي ميت ّد عرب املدينة الأوروبية‪ .‬ما‬ ‫احلا�ضرين‪ ،‬وتدفعها �إىل جممرة ذات �شكل هرمي‪،‬‬
‫فعله الكوماندو�س يف الريفويل رمبا ا�ستغرق ع�شر دقائق‪،‬‬ ‫تت�أجج دوري ًا وبال توقف‪ .‬كان لهيب املجمرة يتداخل مع‬
‫�أي الوقت الكايف لد�س النار يف البارود‪� .‬س�أعرف من بعد‬ ‫لهيب البناء ليتحول �إىل م�شعل �ضخم ترتفع قمته عالي ًا‬
‫�أن فريق ال�صدم هذا كان يتجول منذ �ساعتني يف ال�شوارع‬ ‫�إىل ال�سماء دون �أن تدرك مداها العني املج ّردة‪.‬‬
‫ليفجر الأهداف التي اختارها بدافع‬ ‫برفقة فرق �أخرى‪ّ ،‬‬ ‫‪ ...‬و�أحيان ًا كانت تقع من �أعلى ال�سطوح قطعة �أثاث‬
‫احلقد الذي يختزنه ال�شحاذون ملدة طويلة من الزمن‪.‬‬ ‫وتتك�سر على اجلمهور فيحمل ج�سد �أو ج�سدان ويتوا�صل‬
‫�إنها املرة الأوىل التي ن�شهد تظاهرة عبيد م�سلحة‬ ‫االحتفال دون توقف‪.‬‬
‫ب�صفائح البنزين‪ ،‬لكن �آخرين هم الذين و�ضعوها يف‬
‫�أيديهم‪.‬‬ ‫البولي�س معنا‬
‫يف الرابعة بعد الظهر حت ّول قلب املدينة �إىل حمرقة‬
‫وا�سعة الأطراف‪ ،‬يغطيها دخان كثيف‪ .‬و�شيئ ًا ف�شيئ ًا‬ ‫حوايل ال�ساعة الثانية ظهر ًا‪ ،‬رجال البولي�س الذين‬
‫كانت قرقعة احلريق حت ّل حم ّل �ضجيج الأ�صوات املتنافرة‬ ‫اختفوا ب�سحر �ساحر يف البداية‪ ،‬جاءوا يف �شاحنة‬
‫وال�صادرة عن االنتفا�ضة‪.‬‬ ‫مك�شوفة تقل ف�صي ًال من اجلنود من رتبة �شاوي�ش‪.‬‬
‫من برجي الذي مل يعد بالإمكان البقاء فيه ج ّراء �شهب‬ ‫يرتدي �أفراد ال�شرطة ه�ؤالء خرق ًا بالية ويعتربون هنا‬
‫اللهيب املت�صاعدة‪ ،‬ر�أيت النار متت ّد متتالية �إىل املخازن‬ ‫حرا�س الأمن وامل�س�ؤولني عن ال�سالم‪ .‬لقد فر�ض الإنكليز‬
‫اليهودية «�شيكوريل» الواقعة يف جادة ف�ؤاد الأول وهي‬ ‫على م�صر �شرطة م�سلحة لها من الع ّدة بالتمام والكمال‬
‫خمازن كربى تت�ألف من �ست طبقات‪ .‬ها هي جدران‬ ‫ق�صب اخليزران‪ ،‬م�ستندين �إىل فعالية هذا الأ�سلوب يف‬
‫�شيكوريل تتهاوى جزء ًا بعد جزء يف املجمرة‪ ،‬وتليها من‬ ‫اجلزر الربيطانية‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫�شيربدز التعي�س!‬
‫�إذا كنا منلك تفا�صيل �أقل حول ما جرى يف �أماكن �أخرى‪،‬‬
‫فال �شيء يحمل على التفكري �أن الوح�شية مل تكن �سائدة‬
‫ذاكـرة املدن‬ ‫ملدن‬
‫ذاكـرة املدن‬
‫يف كل مكان‪.‬‬ ‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫هل �سيعرف عدد �أولئك الذين ق�ضوا يف بناية باركليز‬ ‫ذاكـرة املدن‬ ‫رة املدن ذاكـرة املدن‬
‫بنك؟ ويف �شيربدز �أوتيل؟‬
‫�شيربدز هو بال �أدنى �شك اخل�سارة الأكرب التي منيت‬
‫بها املدينة‪ .‬لي�س فقط للقيمة العقارية لهذا البناء الكبري‬ ‫حلظة ثم خمازن �شمالخ املجاورة‪ ،‬وهي يهودية �أي�ض ًا‪ ،‬فقد‬
‫احرتقت طبقاتها الأربع يف �أقل من ن�صف �ساعة‪.‬‬
‫الق�صر‪ ،‬الأكرث فخامة من ق�صور �ألف ليلة وليلة‪ ،‬والذي‬ ‫عربية‬
‫ما كان ممكن ًا لكاتب رواية اكزوتيكي يف �أدب الغرائب‬
‫�أن يتخ ّيله‪ ،‬لي�س لهذا فقط و�إمنا لقيمته التي ال تق ّدر‬ ‫كيف مات جيم�س �أ‪.‬كريغ؟‬ ‫حا�سمة‬
‫بثمن من حيث كنوز الفن العربي املج ّمعة منذ قرن يف‬
‫على مييني كان يحرتق «تورف كلوب»‪ ،‬النادي الفخم‬ ‫يف تاريخ‬
‫تعج‬‫هذا املتحف ‪ -‬الفندق‪� .‬إنه مدينة �صغرية حقيقية ّ‬
‫بالن�شاطات التي تبد�أ من‪  ‬حت�ضري راحة احللقوم �إىل‬ ‫الذي يلتقي فيه النبالء غري املتوجني من كل �أنحاء العامل‪،‬‬ ‫م�صر‬
‫وب�صورة خا�صة الربيطانيون منهم‪� .‬سيدات و�سادة من‬
‫ال�سجاد والأواين‪ .‬اجلناح الوحيد الذي �سلم فيه‬ ‫ت�صنيع ّ‬ ‫كل املقامات املميزة‪ ،‬كانوا ي�أتون كل م�ساء ليجدوا نعيم‬ ‫بعيون‬
‫هو ال�صغري اخلا�ص باملكاتب‪ ،‬حيث دار و�سط الدمار‬
‫الكامل االت�صال الهاتفي الذي نقلناه يف بداية هذا املقال‪،‬‬ ‫الراحة والرفاهية يف �صالونات النادي وبرودة الع�شب‬ ‫فرن�سية‬
‫�أما ما تبقى ف�سيظل يحرتق ملدة �أربعة �أيام متوا�صلة‪.‬‬ ‫الإنكليزي املنع�شة وغري املتوقعة يف هذا املكان‪� .‬س�أعرف‬
‫دام �إخالء �شيربدز �أوتيل ‪� 190 -‬شخ�ص ًا ‪ -‬حتى امل�ساء‪.‬‬ ‫فيما بعد �أن امل�شاهد الأكرث وح�شية وهذيان ًا قد دارت يف‬
‫جمع �صاحب الفندق عامله هذا حتت نخالت احلديقة‬ ‫هذا املكان‪.‬‬
‫التي جنت من احلريق وا�ستفاد من فرتات الهدوء كي‬ ‫كانت نوافذ النادي مغلقة ب�إحكام بق�ضبان من احلديد‬
‫يخرج �ضيوفه �إىل ال�شارع عرب جمموعات �صغرية حماو ًال‬ ‫املقوى‪ ،‬الأمر الذي جعل املهاجمني يتخيلون �أنهم وقعوا‬
‫تهدئة اجلمهور الذي يطالب مبوت تلك ال�سيدة ال�شقراء‬ ‫يف الفخ‪ .‬اندفعوا �إىل الداخل وو�صلوا �إىل و�سط القاعة‬
‫كلون �سنابل القمح‪ ،‬والتي ولدت على �ضفاف نهر البو‪.‬‬ ‫املخ�ص�صة للتدخني‪ ،‬فوجدوا عجوز ًا ي�ستقبلهم بكل‬ ‫ّ‬
‫�أو ذلك اجلنتلمان ذو العظام النافرة الذي و�صل تو ًا من‬ ‫الهدوء الإنكليزي اللطيف‪ ،‬الذي ميكن �أن يراكمه رجل‬
‫الربازيل‪.‬‬ ‫مثله يف �آخر حياته املهنية بعد �أن عمل كم�صريف يف‬
‫عندما انتهت عملية الإنقاذ تبينّ لنا عند التعداد �أن نزالء‬ ‫ال�شرق‪� ،‬إنه ال�سري جيم�س �أ‪ .‬كريغ‪ ،‬الإداري ال�سابق يف‬
‫كرث ًا غري موجودين وبع�ضهم من �أهم النزالء كال�سيدة‬ ‫�أهم م�صارف القاهرة‪ .‬لن نعرف �أبد ًا ما �إذا كان هذا‬
‫«دورا» التي �ستن�شر ال�صحف �صورتها يف اليوم التايل‬ ‫العجوز قد ر�أى املو�سى التي �ستقطع رقبته‪.‬‬
‫على ال�صفحات الأوىل حتت �إعالن مينح لكل من يوفر‬ ‫ال�سري جيم�س �إيرلند كريغ كان عمره ‪ 84‬عام ًا «لكنه كان‬
‫�أدلة عنها ك ّمية خيالية من الذهب‪.‬‬ ‫يبدو �أ�صغر من �سنه بكثري» هكذا و�صفه كل من يعرفه يف‬
‫من �أعلى ال�شرفة حيث جل�أت كنت �أ�سعل ك�سجني الأ�شغال‬ ‫القاهرة ممن و�صل �إليهم نب�أ موته يف اليوم التايل من‬
‫ال�شاقة و�سط الدخان الذي يل ّفني‪ ،‬ومل يكن بو�سعي �أن‬ ‫خالل ال�صحف التي فر�ضت عليها الرقابة‪ ،‬وبالتحديد‬
‫�أتخيل الرعب الذي يخ ّيم على املدينة املجنونة‪ .‬يف مثل‬ ‫من خالل �إعالن خجول عن موت امل�صريف كريغ «على‬
‫هذه اللحظات نتح ّول �إىل �أنانيني‪.‬‬ ‫�إثر توقف يف القلب»‪.‬‬
‫تتو�سع بال‬
‫كانت �شبكة الدخان املن�سوجة مبئة �شعلة ّ‬ ‫عدا ال�سيد كريغ و�ضع الفو�ضويون يدهم على �سكرترية‬
‫ح�صر حول جزيرتي‪  ‬ال�صغرية‪ .‬كانت كل م�ستودعات‬ ‫�شابة فلفوها بغطاء ورموها من نافذة الطابق الثالث‪،‬‬
‫ال�سيارات الكبرية حترتق «فورد» و«ال�ستود بيكر»‬ ‫وبعد �صرخة خميفة �ست�سحق هذه التاع�سة يف املوقد‬
‫و«القاهرة كايرو» و«موتورز �إنكليز» الذي �أحرق بقاذف‬ ‫امللتهب يف ال�شارع و�سط �أثاث ال�صالونات‪.‬‬
‫اللهب الأوك�سيدريكي‪ ،‬ف�ض ًال عن ‪� 300‬سيارة جديدة‬ ‫يف هذا الوقت كان �آخرون قد �أوثقوا على مقعد «مي�شال‬
‫تنفجر الواحدة بعد الأخرى‪ .‬كل ذلك‬ ‫كانت خزاناتها ّ‬ ‫كوتز» مالك ال�سفن الذي �سيحرق حي ًا‪ .‬وهناك �أي�ض ًا‬
‫و�سط ال�صراخ الذي يطلقه كل �أولئك الذين طردتهم‬ ‫�أحد �ضيوف النادي الذي مل تك�شف هويته ر�سمي ًا‪ .‬جل�أ‬
‫بالأم�س الزمامري ال�سلطوية‪ .‬لقد �أحرقت كل البارات‪،‬‬ ‫هذا منذ بداية الهجوم �إىل الطبقة العليا‪ ،‬وعندما تبينّ‬
‫وكل الكازينوهات‪ ،‬وكل النوادي‪ ،‬وكل حمالت احللوى‬ ‫له �أنه لن يتم ّكن من تفادي املهاجمني واحلرائق‪ ‬قام‬
‫وكل ما يرمز �إىل امللذات والغنى وكل ما له وجه �أجنبي‬ ‫الرجل بعقد �شرا�شف و�صلها ببع�ضها البع�ض وربطها‬
‫�أو كافر حتى قن�صلية ال�سويد الربيئة‪ .‬كل ذلك تع ّر�ض‬ ‫�إىل قاعدة املدخنة‪ ،‬يف حماولة للهرب وكان خط�أه �أنه مل‬
‫للحرق‪.‬‬ ‫يح�سب ح�ساب النوافذ‪ .‬لذا م ّر �أحدهم وكان على الأرجح‬
‫مل يت�سن يل �إال ال�ساعة اخلام�سة ر�ؤية الأ�شياء عن قرب‬ ‫م�سلح ًا بنف�س املو�سى التي قتلت كريغ قبل دقائق‪ ،‬فقطع‬
‫وب�أكرث قدر ممكن مع �أن الأمور كان ميكن �أن تدور ب�شكل‬ ‫�سلم القما�ش الذي هوى مع �صاحبه و�سط احلريق‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫املدخل املعدنية‪ ،‬حينئذ امتدت مئة يد �إىل الباب ثم‬ ‫�سيئ بالن�سبة يل ب�سبب هويتي الكاثوليكية فقد كانت لدي‬
‫جاء دور الرجل الذي يحمل العمود اخل�شبي ودار م�شهد‬ ‫فر�صة هامة لأكون فكرة عن الطريقة التي اعتمدت لأنه‬
‫على غرار م�شاهد احل�ضارات القدمية‪ .‬خم�س ع�شرة يد‬ ‫توجد فع ًال طريقة �صارمة وج ّدية �أكد ج ّديتها كل �أولئك‬
‫م�س ّمرة ال�سواعد �أخذت تلقي ب�ضرباتها بوا�سطة العمود‬ ‫الذين �أداروا و�شاركوا يف تنفيذ هذا احلفل اخلتامي‬
‫اخل�شبي على الباب احلديدي الذي ا�ست�سلم خالل وقت‬ ‫متع ّدد الألوان‪.‬‬
‫ق�صري‪ .‬‬ ‫يف الطبقة الأر�ضية حيث وجدت هناك «ميلك بار‬
‫‪.....‬خزانات ورفوف وبارات لل�صودا وطاوالت وكرا�س‬ ‫�أمريكي» هو واحد من عدد ال ُيح�صى من امليلك بارات‬
‫ومرايا وكل �شيء يف الداخل با�ستثناء اجلدران‪ ،‬ذلك‬ ‫التي �أقيمت يف املدينة‪ .‬ميلك بار الفندق هذا كان‬
‫كله كان ي�صل �إىل ال�شارع يف حركة قذف متوا�صلة‪ .‬هنا‬ ‫الأكرث �شهرة يف القاهرة ب�سبب النيون والنيكل اللذين‬
‫وبح�سب ال�سيناريو الذي ّمت يف الريفويل وكل مكان‪ ،‬جرى‬ ‫ي�سبحان فيه لي ًال نهار ًا والأنوار دائمة احلركة‪ ‬فيه والتي‬
‫تكدي�س احلطام �أمام الواجهة املبتورة‪ ،‬وجاء دور الرجل‬ ‫ال تطاق‪ ،‬وكذلك الكوكا كوال التي ت�ضخّ هنا بكميات‬
‫الذي يحمل �صفيحة البنزين ف�ألقى قطعة فتيل م�شتعلة‬ ‫كبرية ومبوجات متتالية‪ .‬منذ بدء اال�ضطرابات �أ�شارت‬
‫ويف حلظة واحدة حت ّولت كومة الأنقا�ض �إىل جممرة‪،‬‬ ‫الأ�صابع �إىل �ستائره املعدنية التي �أغلقت ب�سرعة‪ ،‬ولكنه‬
‫وما �أن بد�أت النار تت� ّأجج حتى توارت �سيارة اجليب عن‬ ‫مل يتع ّر�ض للهجوم �إال يف ال�ساعة اخلام�سة‪.‬‬
‫الأنظار‪.‬‬
‫كان من ح�سن حظ �أولئك الذين كانوا داخل الفندق �أن‬ ‫التقنيون‬
‫احلريق لن يجد ما يغ ّذيه يف املفرو�شات املتبقية لأنها‬
‫معدنية وعلى الأخ�ص يف امليلك بار‪� .‬إذ حاولت �أل�سنة‬ ‫عندما �شاهدت �سيارة اجليب تتوقف فج�أة فهمت فور ًا‪.‬‬
‫اللهب خالل ن�صف �ساعة �أن تنفذ �إىل البار لكن دون‬ ‫كل �شيء مت ب�سرعة‪ .‬قفز رجال �أربعة من ال�سيارة‪ ،‬كان‬
‫جدوى‪ ،‬وقد ج ّرب َمنْ يف ال�شارع وبطريقة �صبيانية‬ ‫مظهرهم ولبا�سهم الذي ال غبار عليه مي ّيزهم عن‬
‫�إعادة �إ�شعال احلريق بورق ال�صحف‪ ،‬لكن دون طائل‪.‬‬ ‫اجلمهرة الباقية من ذوي اخلرق البالية‪ ،‬كانوا جمموعة‬
‫يف هذا الوقت كان �صاحب الفندق يحر�س �أمام باب‬ ‫من التقنيني‪� .‬أحدهم يحمل �صفيحة والآخر مي�سك ما‬
‫خمزن املازوت ي�صحبه �صب ّيان م�سلحان باملطافئ‪.‬‬ ‫ي�شبه العمود اخل�شبي‪ ،‬والثالث يحتفظ بخطاف‪ ،‬والرابع‬
‫عندما ر�آين �أ�صل �إىل �أ�سفل ال�سلم �سحب م�سد�سه‬ ‫كان خايل اليدين‪ .‬فور نزوله من ال�سيارة بد�أ هذا الأخري‬
‫الأوتوماتيكي دون ت�س ّرع ومن ثم ا�ست�ؤنف الروتني ف�أ�شار‬ ‫يخطب يف اجلمهور‪ .‬خالل اخلطاب الذي ا�ستغرق وقت ًا‬
‫يل جمام ًال ب�أن � ّ‬
‫أتوجه �إىل البار‪.‬‬ ‫�إ ّ‬ ‫ق�صري ًا حتول الر�صيف الأمريكي‪� ،‬أي امليلك بار‪� ،‬إىل‬
‫‪...‬وبا�ستثناء ما هو غري متوقع كنا قد �سلمنا‪.‬‬ ‫قفري مرتا�ص ي�سوده العداء‪ .‬يف هذا الوقت كان الرجل‬
‫الذي يحمل اخلطاف ميزّق ب�ضربات عنيفة �ستائر‬
‫‪135‬‬
‫ثمن ًا للعمارة التي كان قد ا�شرتاها يف ال�صباح نف�سه‪.‬‬ ‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫حوايل ال�ساعة ال�ساد�سة بدا �أن يف الأفق ما هو �أ�سو�أ‪ .‬يف‬
‫هذا الوقت فقط اجتاحت ال�شوارع قرقعة من كل �صوب‪:‬‬
‫لقد و�صلت القوى النظامية‪.‬‬
‫و�صلت �أو ًال فرقة اخليالة التي كانت تفتح الطريق‪،‬‬
‫ذاكـرة املدن‬ ‫ملدن‬
‫ذاكـرة املدن‬
‫وتطلق النار من �أ�سلحتها القدمية نحو ال�سماء‪ ،‬ومن‬ ‫ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن‬
‫ثم الكتيبة املد ّرعة الثقيلة‪ ،‬وهي بالت�أكيد �أقل زينة من‬ ‫ذاكـرة املدن‬ ‫رة املدن ذاكـرة املدن‬
‫�سابقتها‪ ،‬لكنها �أكرث فعالية وقوة‪ ،‬و�أخري ًا كتيبة جنود‬
‫امل�شاة التي متركزت على املفرتقات مطلقة ر�صا�ص ًا‬
‫وهمي ًا فوق الر�ؤو�س‪� .‬أما ال�شرطة التي التحقت باجلبهة‬ ‫العرا�ضة الأخرية‬ ‫ح�صد‬
‫الأكرث ا�شتعا ًال فقد �أخذت تقذف قنابل الغاز امل�سيلة‬
‫عندما �صعدت جمدد ًا �إىل ال�شرفة تبينّ يل �أن عملية‬ ‫ال�سبت‬
‫للدموع باجتاه قطيع امل�شاغبني الذي �أخذ يرتاجع‪ ،‬يف‬
‫حني �أن رجال الإطفاء وعلى رغم املو�سى التي تقطع لهم‬ ‫التحطيم مل تتوقف بعد‪ .‬ال بل كانت قد جت ّددت وب�شكل‬ ‫الأحمر‬
‫خراطيم املياه هنا وهناك فقد كانوا يحاولون بال اقتناع‬ ‫وا�سع‪ .‬كان الغ�ضب ي�أكل امل�شاغبني لعجزهم عن �إحراق‬
‫الفندق‪ ،‬فكانوا يث�أرون من املواد التي مل تعد �صاحلة‬ ‫ال‬
‫‪ 80‬قتي ً‬
‫كبري �إطفاء احلريق الذي كان يلتهم كل �شيء‪.‬‬
‫لكن ما الذي جعل املوقف يتغيرّ ؟ بكل ب�ساطة حدث‬ ‫لال�ستعمال‪ ،‬وكان ح�شد النا�س امللتحي بالآي�س كرمي‬ ‫والأ�ضرار‬
‫ما ي�أتي‪ :‬معترب ًا �أن «املزحة» طالت كثري ًا �أعلم ال�سري‬ ‫غري عابئ بالدخان الذي يف�سد الهواء ويجعله غري‬
‫قابل للتنف�س فعقدوا حول املجمرة حلقة راق�صة تت�صف‬ ‫املادية‬
‫�صمويل �ستيفن�سون ال�سفري الربيطاين يف القاهرة نظريه‬
‫الأمريكي الذي �أو�صل الر�سالة للحكومة امل�صرية بناء‬ ‫بوح�شية عبثية‪ ،‬وو�سط الزعيق اله�ستريي الذي كان‬ ‫بلغت‬
‫على طلب �ستيفن�سون وهي م�صاغة بعبارات دبلوما�سية‬ ‫يت�صاعد �إىل ال�سماء امل�شحونة بالروائح النتنة كانت‬
‫ال�سيقان امل�سحورة تدفع اجلالبيات الطويلة �إىل �أعلى‬ ‫‪ 50‬مليار‬
‫لكنها تعبرّ عملي ًا عن املوقف احلا�سم التايل‪� :‬إن مل تعلنوا‬
‫حال الطوارئ ف�ستكون قوات القناة (الإنكليزية) هنا‬ ‫بحركة مروحية‪ .‬يف الوقت نف�سه كانت الأيدي ال�سوداء‬ ‫فرنك‬
‫خالل �ساعتني‪.‬‬ ‫تقذف اجلمر يف الهواء فيت�ساقط على الأر�ض كالب�صاق‬
‫ويتح ّول �إىل �شرارات‪� .‬أما علب احلليب املجفف فكانت‬ ‫فرن�سي‬
‫و�إذا كان قد تبقى بع�ض الوقت لتفادي الأ�سو�أ فمن‬
‫امل�ؤ�سف �أن الوقت كان قد ت�أخر كثري ًا لتفادي الكارثة‪.‬‬ ‫تقذف كالقنابل اليدو ّية نحو الواجهة فتن�سحق خملفة‬
‫لقد ح�صد ال�سبت الأحمر ‪ 80‬قتي ًال‪� .‬أما الأ�ضرار املادية‬ ‫غيوم ًا بي�ضاء‪ .‬و�أي�ض ًا كانت تقذف املقاعد و�أدوات املطبخ‬
‫ف�إن التقديرات الأكرث مو�ضوعية �ستخ ّمنها بـ ‪ 50‬مليار‬ ‫والأغرا�ض الأقل ا�ستعما ًال كانت تقذف باجتاه اجلدران‬
‫فرنك فرن�سي على الأقل‪.‬‬ ‫ثم ت�ستعاد وت�سحق وتبعرث‪.‬‬
‫كانت غريزة العنف الثائرة ت�ضفي على هذا املق�صف‬
‫الغرب �أمام هزميته‬ ‫الأهوج خ�صو�صية طقو�سية‪ .‬مل يكن ما �شاهدته جم ّرد‬
‫�شغب كما نعرفه يف الغرب‪ .‬لقد كان موكب ًا همجي ًا مدفوع ًا‬
‫يف الوقت الذي كان يطلق فيه الر�صا�ص الوهمي ذو‬ ‫من كل �شياطني ال�صحراء‪ .‬كنا �أمام ن�شوة عارمة‪� ،‬أمام‬
‫ال�سحر امله ّدئ كان �صفري �سيارات الإ�سعاف احلاد يخ ّيم‬ ‫عرا�ضة طاغية‪.‬‬
‫على ال�شوارع‪ .‬يف ذلك احلني تركت مق ّري (الربج)‬ ‫يف هذا الوقت كان البولي�س ال�شكلي مي ّد يد العون بقوة‬
‫ورجعت �إىل بهو الفندق مع هبوط الليل‪ .‬على �ضوء‬ ‫لالنتفا�ضة يف �أماكن عديدة‪ .‬هنا كوكبة تو ّزع قنابلها‬
‫ال�شمعدانات التي �أ�شعلت من جديد كان بالإمكان ر�ؤية‬ ‫امل�سيلة للدموع على احل�شود‪ ،‬وهناك عريف �أول‬
‫وجوه التجار ورجال الأعمال التي اكت�ست بجمود �أبله‪،‬‬ ‫(�شاوي�ش) يهرع حام ًال ماكينة خياطة‪ ،‬وهنالك �آخر من‬
‫وهم الذين يغل ّفون وجوههم عادة بابت�سامة كانوا يظنون‬ ‫ممثلي النظام ي�صعد �إىل الطبقات ويدق اجلر�س حم ّذر ًا‬
‫�أنهم �سيحتفظون بها �إىل الأبد بعدما �ألفوا تركيبها‪ .‬لقد‬ ‫النزالء من �أنه �سي�أتي بامل�شاغبني �إن مل يدفع له كل منهم‬
‫برهنت الأحداث �إىل �أي ح ّد كان كل ه�ؤالء النا�س الذين‬ ‫وعلى الفور خم�سني قر�ش ًا‪.‬‬
‫ي�سكنون يف م�صر منذ �سنوات قد ظلوا عميان ًا‪ ...‬لذا‬
‫كانوا يت�ساءلون‪:‬‬ ‫�سيادة الفو�ضى املطلقة‬
‫ال�شرطة �أين ال�شرطة؟‬
‫رجل �شرطة مع ر�شا�ش واحد يف ال�شارع‪ ،‬واحد فقط‪ ،‬كان‬ ‫�أما احلكومة الوفدية فلكم كانت تتمنى �أن يكون رحيلها‬
‫كفي ًال بت�سوية كل �شيء من البداية‪.‬‬ ‫الئق ًا‪ .‬ها هي تتخ ّبط و�سط جدال عقيم حول جمموعة‬
‫ً‬
‫ويتحاورون‪ :‬لقد متادى ه�ؤالء الأوغاد كثريا‪ .‬لقد ق�ضوا‬ ‫من النارجيالت‪.‬‬
‫ب�ضربة واحدة على الرثوة الوطنية ‪.‬‬ ‫النحا�س با�شا الذي مل يكن قد تلطف حتى ذلك الوقت‬
‫«الرثوة الوطنية»؟ ماذا تعني«الرثوة الوطنية» لأولئك‬ ‫مبغادرة منزله رفع �أخري ًا �س ّماعة الهاتف يف منت�صف‬
‫الذين مل تكن راحة يدهم قد الم�ست لرية واحدة من‬ ‫الظهرية ال ليتخذ �إجراء معين ًا‪ ،‬بل ليطلب مقلمة‬
‫قبل‪ .‬ما الذي كان ميكن �أن يخ�سره ه�ؤالء النا�س يف هذه‬ ‫�أظافره‪ ...‬يف هذا الوقت وحتى ال يبقى يف الظ ّل كان‬
‫املغامرة‪ .‬ن�س�ألكم؟! ولكن �أحد ًا مل يكن يريد �أو يحاول‬ ‫�سراج الدين وزير الداخلية يو ّقع �شيك ًا بـ‪ 80‬مليون جنيه‬
‫‪136‬‬
‫�إنه با�شا من ال�شمال قال يل �صاحب الفندق‪ ،‬ينزل عندنا‬ ‫�أن يفهم‪.‬‬
‫كل �أ�سبوع‪ ،‬ليح�صل على جرعته‪.‬‬ ‫يف تلك الأثناء‪ ،‬هنالك‪ ،‬على طريق ال�صحراء‪ ،‬كانوا‬
‫لقد فهمت الآن فقط‪ .‬كان هذا العجوز النبيل غائباً‬ ‫ي�شعلون النار �أي�ض ًا يف ملهى الأهرام الفخم‪� ،‬أي يف‬
‫عن امل�أ�ساة من بدايتها‪  ‬ي�سرتخي براحة على �إثر جرعة‬ ‫الكباريه ّ‬
‫املف�ضل للمجون امللكي‪.‬‬
‫املورفني‪ ،‬بالن�سبة �إليه مل يح�صل ‪� ‬شيء البتة‪ ،‬ولن ي�شعر‬ ‫ويف املطار‪ ،‬كانت طائرات ثالث تابعة ل�شركة الطريان‬
‫�أبد ًا مبا جرى‪.‬‬ ‫الربيطانية «بريتي�ش �أوفر�سايز» احتلت مكان ًا على املد ّرج‬
‫يف الظلمة التي تنريها ال�شموع امتدت يد و�أخمدت �أنفا�س‬ ‫يف حماولة للإقالع على م�س�ؤوليتها بعدما رف�ض برج‬
‫املذياع ‪ .‬فاغتنمت الفر�صة‪� ،‬ساعة احلائط ال�سوي�سرية‬ ‫املراقبة ت�أمني االت�صال لها‪ .‬واحدة منها فقط خاطرت‬
‫ال�ساحرة بهدوئها لتعلن ال�سابعة م�ساء �أي �ساعة الوي�سكي‬ ‫بالإقالع وبثالثة حم ّركات‪.‬‬
‫والت�شيب�س‪ .‬لكن َمنْ ِمنْ احل�ضور كان جائع ًا؟‬ ‫يف بهو الفندق �أدار �أحدهم مفتاح املذياع لال�ستعالم ع ّما‬
‫بهدوء طيور ال�صحراء الكربى كانت دواري هذا البلد‬ ‫يجري‪ ،‬لكن راديو �صاحب اجلاللة كان يبث ربع �ساعة‬
‫تدور وتدور و�سط الدخان الذي هجرها من �أع�شا�شها‪،‬‬ ‫من مو�سيقى التانغو‪ .‬يف هذا الوقت ظهر يل ج�سد غارق‬
‫وكما الرجال �ستحاول البحث طيلة الليل عن النوم الذي‬ ‫يف كنبة‪� .‬إنه ذلك العجوز ال�شاحب الذي الحظت يف‬
‫هجر جفونها‪.‬‬ ‫مالحمه نب ًال كبري ًا هذا ال�صباح يف البار‪.‬‬
‫هوام�ش‪:‬‬
‫هذا الن�ص الذي تنفرد بن�شره «الدوحة» مبنا�سبة مرور ‪ 55‬عام ًا على حريق القاهرة هو ف�صل من كتاب «م�صر بعيون الفرن�سي�س» الذي ي�صدر قريب ًا عن الدار‬
‫العربية للعلوم يف بريوت ومكتبة مدبويل يف القاهرة‪.‬‬
‫(‪ -)1‬جريدة ال�شعب امل�صرية ‪2002 - 1 – 24‬‬
‫(‪ - )2‬جريدة امل�صري ال�صادرة يف كندا ‪2003 - 1 – 29‬‬
‫(‪ - )3‬البيان الإماراتية ‪2002 - 7 - 24‬‬
‫(‪� - )4‬أ ّكد يل �سامي �شرف يف ربيع العام ‪  2005‬يف اجلزائر خالل ع�شاء على هام�ش «امل�ؤمتر القومي العربي» �أن اللواء يف املخابرات حممد �إمام قائد البولي�س‬
‫ال�سيا�سي اعرتف بعد الثورة ب�أن الق�صر امللكي كان متورط ًا يف «حريق القاهرة» لقد ا�ستدعيته �إىل مكتبي ل�س�ؤاله عن بع�ض الأمور ومن �ضمنها حريق القاهرة ف�أ ّكد‬
‫يل �أن امللك هو الذي حرقها و�ستجد تفا�صيل احلوار معه يف كتابي الذي �سي�صدر قريب ًا والكالم دائم ًا ل�سامي �شرف‪ .‬ويف ال�سياق نف�سه �أ ّكد يل الدكتور كمال عبد‬
‫اللطيف الطويل �أن تنظيم «�إخوان احلرية» امل�شبوه الذي كانت ترعاه املخابرات الربيطانية اتهم �أي�ض ًا ب�إ�شعال احلرائق يف القاهرة و�أن عدم ذكره يف الوثائق‬
‫الربيطانية املن�شورة ال ينفي م�شاركته يف احلريق‪.‬‬
‫‪ - )5( ‬تطلق هذه العبارة يف فرن�سا للإ�شارة �إىل حالة الالمباالة يف ظروف بالغة ال�صعوبة �أو اخلطورة‪.‬‬
‫(‪ - )6‬نوع من ال�شمبانيا ما زال متداو ًال حتى اليوم يف فرن�سا‪.‬‬
‫(‪ - )7‬نوع من ال�سجائر الفرن�سية التي كانت م�شهورة عاملي ًا ورمبا ما زالت يف الدول الناطقة بالفرن�سية‪.‬‬
‫�شباط ‪ -‬فرباير ‪1952‬‬
‫‪LE  DAUPHINE   LIBERE‬‬

‫‪137‬‬
‫(‪)2‬‬
‫العمل �آي َة الإن�سان‪ ،‬ح َّتى َ�س َرت ال�صناع ُة يف جدولِ‬ ‫ال يزال ُ‬

‫ ‬
‫وانفج َرت �شراي ُني املمكنِ الغايل و�سالَ عقيقُ‬ ‫َ‬ ‫الروح‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ر�ضاعات البنا ِء‬ ‫ً‬
‫الت�سلي ِة منها فطاما للجماع ِة القوي ِة من‬
‫والتكوينِ وعبور ًا ‪ -‬تعبري ًا‪� -‬إىل املراهق ِة احل�ضار َّي ِة‪ ،‬حيث‬
‫الرتاكم املخ َّرقِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مرياث‬ ‫ي�أخذُ �سادتُها بالنظرِ �شزر ًا �إىل‬
‫أنف�سهم متطاول َني على‬ ‫ون �أعنا َقهم َ‬
‫�‬ ‫مو�ضع‪ ،‬و َي ْل ُو َ‬
‫ٍ‬ ‫يف ِّ‬
‫كل‬
‫الكونِ �آخذين �أعطافهم ب�أيديهم حذَ َر الف�سا ِد وال ُي َب َ‬
‫الون‬

‫�أبحث عن‬
‫داخل َني ك�أطوا ٍر �شرنق َّي ٍة على َج َّن ِة املحاول ِة ال�سوداء‪.‬‬
‫ال�سرعة‪.‬‬ ‫ج َّن ِة االختيا ِر واملقدا ِر وال�سر ِد والذات‪ :‬عرو�س ُّ‬
‫يدخلون‪ ،‬جنب ًا �إىل جنبِ ال َّر َعايا الذين �ض َّر َجت الت�سليةُ‬ ‫َ‬

‫العاطفة‬
‫بلذاذات احلقائقِ املتخ َّيلة‪ ،‬فانزلقوا بدورهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عيونهم‬
‫ظن الأقويا ُء �أنهم م�ستفردون بها‬ ‫نحو اجل َّن ِة عينها التي َّ‬
‫ِ‬
‫خريات ال�ضالل‪.‬‬ ‫إن�سان من خريا ِتها‪،‬‬ ‫َف َمن ُعوا ال َ‬
‫(‪)3‬‬
‫بدا للرائي من ُج ْحرِ ال�صعلكة‪َّ � ،‬أن «الكمالَ » مل َي ْع ُد كونَه‬
‫م�شروط وم�ستعارٍ‪ ،‬هو‬ ‫ٍ‬ ‫ازدواجي‬
‫ٍّ‬ ‫بتاريخ‬
‫ٍ‬ ‫مفرد ًة حم َّمل ًة‬
‫يف احلقيق ِة تاريخ مفرد ِة النق�ص‪ .‬لي�س بعيد ًا جد ًا عن‬
‫ذلك‪ ،‬ولكن بعيد ًا بحيث ال ي�سهل الو�صل بني الت� ُّصورين‬
‫�إ َّال بالغي ًا‪ ،‬يبدو الآن ِل َعينْ ٍ حفيد ٍة عامل ٍة حتت يد الرائي‪،‬‬
‫«الكون» والكمالُ‬
‫ُ‬ ‫� َّأن الكمالَ هو م�ست َه ّل كل وجود‪ .‬يبد�أ‬ ‫اع م�ستعر�ض)‬ ‫أر�ضي ِ‬
‫ة‪/‬ق َط ٌ‬ ‫ّ‬ ‫(جتريد ٌة �‬
‫بني يديه‪ ،‬وينتهي‪ ،‬ف�إذا الكمالُ �شظايا‪ .‬ذلك‪ ،‬لأنه ما‬
‫برح الكمالُ ما َّد ًة خام ًا‪ ،‬طين ًة �أ َّولي ًة‪ ،‬حال ًة وجود َّي ًة تبدو‬ ‫حممد ال�صادق احلاج‬
‫يل من هنا ‪ -‬حيث الأر�ض املل َّونة‪ ،‬مهد عيني‪� -‬أ�شب َه‬
‫روح الكائن وتتقز َُّح‬ ‫ب�صور ٍة �شم�س َّي ٍة �سالب ٍة تتبذَّ لُ يف ِ‬ ‫كاتب من ال�سودان‬
‫اب الأر�ض‪،‬‬ ‫تبع ًا ملحاوالته‪ ،‬ذاهب ًة يف تهتُّكها عميق ًة َ‬
‫ك�ص َو ِ‬
‫الق�صد غاي ًة‪ ،‬وال هو‬ ‫ِ‬ ‫وبالألوان‪� .‬إذ ًا‪ ،‬لي�س الكمالُ بهذا‬
‫ُعطى‪ ،‬فما بال ال�صناع ِة تهذر؟!‪.‬‬ ‫جائزة ت َ‬ ‫(‪)1‬‬
‫حرب �إميائ َّي ٌة خال�ص ٌة ال خ�صوم َة فيها‪،‬‬ ‫� َّإن مداوم َة االنتظا ِر على �سطح هذه الكتلة املتقب�ضة‬
‫غري � َّأن الكمالَ ٌ‬ ‫من العنا�صر «الأر�ض»‪ ،‬ومراقب َة الإقام ِة الوجودي ِة‬
‫حرب جمهر َّي ٌة يخو�ضها ال�شي ُء‬ ‫ٌ‬ ‫تتناحر‪،‬‬ ‫وال فيها � ٌ‬
‫أطراف‬
‫وال �ض َّد له غري �صورته من�سوخ ًة‪ ،‬وقد طفحت على الوج ِه‬ ‫خيارات التوازي واالنحناء بني‬ ‫ِ‬ ‫وقيا�س‬
‫َ‬ ‫بع ِني امل�سطرة‪،‬‬
‫ك ّل الإمياءات الع�ضل َّي ِة املمكنة‪ ،‬ف َي ْب ُط ُل يف ال�شيء معنى‬ ‫حيا ِد الأفق املنظو ِر وحدو ِد عمائم الأ�شجا ِر واملباين؛‬
‫النتقا�ض املعنى‪� .‬إذ ًا‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫وجوده قبل �أن َي ْب ُط َل الكمالُ تبع ًا‬ ‫رات خاطف ٍة تتع َّلق بالطر ِد‬ ‫حت�ض على التو ُّر ِط يف ت� ُّصو ٍ‬ ‫ُّ‬
‫أج�سام‬
‫والإق�صاء‪ .‬ل ّأن الزوايا ال�سوداء‪ ،‬التي توفِّرها ال ُ‬
‫كل �أ ْو ُج ِه ال�صور ِة‬‫تطلب َّ‬ ‫تط ُل ُب ال�صناع ُة املعنى ال الكمال‪ُ ،‬‬ ‫إح�سا�س الناد َر‬ ‫الكثيفة لل َّرائي لي ًال‪ ،‬تعطي ذلك ال‬
‫تطلب الو�ضوح‪،‬‬ ‫إمياءات ت�ؤمل‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫امل�سترتة‪ ،‬تطلب ال َّت� َ‬
‫أويل فال‬ ‫َ‬
‫العمران من‬ ‫ُ‬ ‫به�شا�ش ِة املو�ضوع وب�ساط ِة ما ينطوي عليه‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تطلب ال�صناعة جتزِ ئة الكمال‪.‬‬ ‫تقوي�ض املُ ْط َلق‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫تطلب‬
‫ُ‬ ‫ين قا�صر‪.‬‬ ‫هذيانٍ مد ّ‬
‫(‪)4‬‬ ‫�صارم‬
‫ٍ‬ ‫إخال�ص‬ ‫بجد َّي ٍة و� ٍ‬
‫الزوايا الق�صرية‪ ،‬الق�صري ُة ِّ‬
‫جات املجنون ُة على‬ ‫قيا�س ًا مبا يعلوها من فرا ٍغ طويلٍ ‪ ،‬عاقٍّ ‪َ ،‬ي ِع ُد باخليانةِ‬
‫العيون الكثري ُة ال�صلب ُة‪ ،‬ال َّتم ُّو ُ‬ ‫ُ‬ ‫�إنَّها‬
‫بالفن وال�سالبِ‬ ‫ِّ‬ ‫ال غري‪ ،‬منغلقٍ على احتماالته‪ ،‬عامرٍ‬
‫ً‬
‫�سطح اخل�شبِ املخروط‪ُ ،‬م ْو َكل ٌة �أبدا بتدب ِري ما يقابلها‬ ‫ِ‬
‫�ضمن‬
‫َ‬ ‫ال�صناعي من ِن َّي ٍات جمال َّي ٍة تُف َه ُم‬ ‫ِ‬
‫ز‬ ‫املجا‬ ‫يف‬ ‫أر�ض وال�سماء!‪.‬‬ ‫هند�سي مع َّل ٌق بني ال ِ‬
‫ٌّ‬ ‫وال�صداقة‪� :‬ش َع ٌب‬
‫ِّ‬ ‫الفرا ُغ‪ ،‬هو الهند�س ُة‪ ،‬جمتمع ًة �إىل رعاياها «ال ََّز َوا َيا» منذ‬
‫أ�شخا�ص‬‫ٌ‬ ‫إي�ضاحات ال�شعر َّي ِة التي يتق َّد ُم بها �‬ ‫ِ‬ ‫�سياقِ ال‬
‫�صاح َبت َج ْد َع َة‬ ‫التي‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫أورو‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بالنربة‬ ‫‪-‬‬ ‫للطبيعة‬ ‫محُ ِ ُّب َ‬
‫ون‬ ‫باب َم ْطو ٍِّي يتجادل َْن حول فداح ِة احل ِّر َّي ٍة‬ ‫فجرِ املاد ِة خلف ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ َّ‬ ‫يف حالِ انطفاء حم ِّرك الرغبة‪ .‬الفرا ُغ ين�صت حماو ًال‬
‫اللطف والرهافة‪ ،‬تائقون‬ ‫ِ‬ ‫وه ْم �إىل ذلك غاي ٌة يف‬ ‫ال َّتنوير‪ُ -‬‬
‫�إىل ع�شائ َر نبات َّي ٍة عاقل ٍة ت ْق َبلهم ك�أع�ضاء حقيق ِّيني َ‬
‫داخل‬ ‫ميتزج بالنتيج ِة املح�سوب ِة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بقد ِر الإمكانِ تفادي �أن‬
‫مرجح ًا � َّأن ال�شقاقَ الذي ال ب َّد �أن ين�ش�أ ع�ش َّي َة القيامة‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫وذات‬ ‫�أنظمتها ال َق َرا ِب َّي ِة‪ ،‬بت�أم ِني ِن َّيا ِتهم التي تبدو �أدب َّي ًة َ‬ ‫�سوف يكون برهان ًا له على ه�شا�ش ِة البني ِة القدر َّي ِة التي‬
‫تركيبي قابلٍ لل َّت�أويل مثل عيون الأ�شجار‪� .‬أ َّما يف‬ ‫ٍّ‬ ‫طابع‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يفخر بها برنامج ال َّت�سلُّ ِح اجلَّما ِّ‬
‫القيات الداخلية‬ ‫ِ‬ ‫أر�ضي‪� ،‬شبك ِة ال َّت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫للفخِّ‬ ‫ِ‬
‫احلالك‬ ‫ِ‬
‫ز‬ ‫املجا‬ ‫جلمهوريات ال�شجرِ‬ ‫يل‬
‫ِّ‬ ‫واحلجارة‪.‬‬
‫ريب‬ ‫املمكنة‪ ،‬فاملنظ ُر امل� َّؤه ُل للعملِ يف خدم ِة ال َّزمانِ ‪ ،‬ال َ‬
‫‪138‬‬
‫وتذهب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الفردو�س‪ ،‬هذا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طبقات‬ ‫عالق ًا ب�إفريزِ �إحدى‬ ‫ي�شبه طائر ًا طيني ًا م�ش َّع ًا يتخ َّب ُط يف الدغل‪ .‬هو �شك ٌل‪ ،‬بني ٌة‬
‫العمومي نح َو �سوقِ «ال�شجرة»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫منحدر ًة بها �س َّيار ُة ال َّنقْلِ‬ ‫بال�سالم املحيرِّ ِ وق َّو ِة امل�سكن ِة التي مت ِّي ُز‬ ‫ِ‬ ‫وح�ش َّي ٌة حمتمي ٌة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عب يف زهر ِة اجل ََّ�س ِد تف�سريا �سينمائيا لل�شي ِء‬ ‫أيت ال ُّر َ‬
‫ر� ُ‬ ‫الأ�شجا َر بعا َّم ٍة وتدفعها للإميانِ بعدلِ االحتماالت‪ .‬البنية‬
‫معجم الن ِ‬
‫َّبات‬ ‫ُ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ل‬
‫َ ُّ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫إمياءات‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫ن‬‫َّ‬ ‫ِ‬
‫أ�س‬ ‫�‬ ‫حتت‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫َّق‬
‫ز‬ ‫مم‬ ‫العاري‬ ‫أثاثات اخل�شبي ِة‪،‬‬ ‫أدوات وال ِ‬ ‫كل ال ِ‬ ‫نف�سها املف�ضوح ُة يف ِّ‬
‫ِ�ش ْل َو ًا ِ�ش ْل َوا‪ .‬و� َّإن �شيئ ًا ما‪ ،‬يف املطلق‪َ ،‬ي ْب ُط ُل �أن ُي َع َّد َجما ًال‪...‬‬ ‫ً‬
‫واملع َّر�ض ُة للإطرا ِء �أو النفور‪ ،‬غري احل�صين ِة �أبدا �ض َّد‬
‫ذاك ف َّن‪.‬‬‫ما َم َّ�ست ُه َي ٌد بال�صناع ِة والتحريف‪ ،‬فهو �إذ َ‬ ‫ارين‬ ‫النج َ‬
‫العائد �إىل عملِ َّ‬ ‫فيهي ِ‬ ‫اال�ستعرا�ضي الترَّ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫امل�سلك‬
‫ً‬
‫جتفيف روحها‪ ،‬مقرونا بنفخهم عليها روحا �أخرى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫على‬
‫(‪)5‬‬ ‫�إن�سان َّي ًة‪ ،‬عاطف ًة زخرف َّي ًة رهيب ًة‪ ،‬ال َي َ�س ُع املهتدي �إليها‬
‫مو�ضوع‪ ،‬وهي طائر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫اليَ ُد‬ ‫املطروح �أر�ض ًا‬‫ِ‬ ‫غري �أن يه ِّل َل خمنوق ًا من �أعماقِ طائره‬
‫ذات‪ ،‬وهي ف�ضاء‪.‬‬ ‫د‬
‫َُ ٌ‬ ‫ الي‬ ‫خمذو ًال يف اجلَّمالِ مم ّت َّن ًا للكمال‪:‬‬
‫خادمة الزمان‪ ،‬هذه الب ْن َية‪ ،‬هي التي ك�شفَت يل عن �أجمل‬
‫(‪)6‬‬ ‫علي بنعم ِة �أن �أتذكَّرها متى ما‬ ‫الأ�صابع يف العامل‪ ،‬و�أفاءت َّ‬
‫اكم‬‫ِ‬ ‫ترَّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫حقولِ‬ ‫من‬ ‫حقلٍ‬ ‫أي‬
‫ِّ‬ ‫ال َي َ�س ُع عام ًال ‪َّ � -‬أي عاملٍ يف �‬ ‫َع َّن يل ذلك‪ .‬ولقد بدا يل حينذاك‪َّ � ،‬أن تخفاقها الهينِّ َ ‪،‬‬
‫املتجمع ِة حولَ هيكلِ الوجو ِد عناقيد هند�س َّيةً‬ ‫ِّ‬ ‫الإن�سا ِّ‬
‫ين‬ ‫�صاخب ‪ -‬بالأ�صاب ِع ذاتها‪ ،‬وهي‬ ‫ٌ‬ ‫حالَ ا ِملزَ اح‪ ،‬هو احتفا ٌل‬
‫والبيانات‪� -‬إ َّال �أن ُي َجزِّ َئ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واملعلومات‬ ‫ِ‬
‫املالحظات‬ ‫من‬ ‫تَخْ ِفقُ من �أجل ذلك‪ -‬داخل حلظ ٍة ُمط َب َق ٍة على نف�سها‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الكمالَ ‪ ،‬وبالذات يف اللحظة التي َتلي نظ َر َت ُه ال َّتقييم َّي َة‬ ‫ِ‬ ‫قلوب رعناء‬ ‫�صرخات‪ٌ ،‬‬‫ٌ‬ ‫ال حتدث مطلق ًا وال تنق�ضي‪.‬‬
‫�إىل َع َم ِله‪ ،‬حيث َيرى لأ َّول م َّر ٍة �صور َة �أ َثرِ ِه ممزَّق ًة ب� ِأ�س َّن ِة‬ ‫تتفتَّقُ َط َّي اللحظ ِة كالأزهار‪ ،‬جلو ٌد ح َّي ٌة مل َت ْكتُب عليها‬
‫داخل ع ِني امل�سته ِل ِك الذي يبحث دائم ًا‬ ‫املعنى هذه امل َّر ِة َ‬ ‫َّظرات‬ ‫أر�ض �شيئ ًا مما حتفره عاد ًة ب� ِأ�س َّن ِة الن ِ‬ ‫جتارب ال ِ‬
‫ُ‬
‫حتياج م�ستحيل‪� :‬آل ِة‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫ا‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫ة‬ ‫ممكن‬ ‫عن �ضا َّل ٍة واقع َّي ٍة‬ ‫املخاطي‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫الوالدات‬ ‫رب‬
‫ُ‬ ‫ح‬ ‫منها‬ ‫ويطفر‬ ‫ى‪،‬‬ ‫ر‬‫َّ‬ ‫تتع‬ ‫اجللود‪،‬‬ ‫على‬
‫مفتاح الفردو�س‪:‬‬ ‫نهائي ال�سلوى؛ ِ‬ ‫جم�س ِم ال ِّر�ضا؛ ِّ‬ ‫الكفاية؛ َّ‬ ‫خ�شبي كا�س ٌر‪ ،‬يحتفل بالأ�صاب ِع النَّادر ِة‬ ‫ٌّ‬ ‫النَّا�ضج‪� .‬سكو ٌن‬
‫ميكن له �أن ي�أخذها ب َي ِد ِه م َّر ًة واحد ًة‬ ‫ُ‬ ‫التي‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫الأدا ِة َّ‬
‫ال�س َب ِب َّي‬ ‫أمواج النائم َة بدفق ٍة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫ور�شَّ‬ ‫ة‬ ‫ً‬ ‫عابث‬ ‫عليه‬ ‫التي ارتَخَ ت‬
‫ال�ضرور َة وينفيها من حيا ِته نهائي ًا‪.‬‬ ‫و�أخري ًة في�ص َر َع بها َّ‬ ‫مثيل‬ ‫بخ َّف ٍة ال َ‬ ‫تن�سحب ِ‬
‫َ‬ ‫عفو َّي ٍِة من �إبريقِ اخللود‪ ،‬قبل ان‬
‫جل َّن ِة �سعي ًا يف ط َلبِ الالعمل والالحتمي ِة‬ ‫�إ َّن ُه يتوقُ �إىل ا َّ‬ ‫الن�سيم ر�أي ُت ُه‬
‫ُ‬ ‫ه‬‫ُُ‬ ‫ب‬ ‫يالع‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫الو�شاح �إلهِ َّي‬ ‫ِ‬ ‫لها غري خفَّة ذلك‬

‫‪139‬‬
‫الوهم يف غريها‪.‬‬ ‫من َي ِد ِ‬
‫ترقيعي على هذه ال�شاكلة‪ ،‬و�إن َرق َيِ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫غري � َّأن ك ّل جمهود‬
‫واملجد َم ْر َقى ما ال ُي ْ�س َت َعا ُد �إن�ساني ًا‪ ،‬فهو يف‬ ‫ِ‬ ‫يف القد�سي ِة‬
‫واال�ستعرا�ض‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ارج الت�سلية َيد ُر ُج و�إىل غايات الترَّ فيه‬ ‫ِ‬ ‫َم َد ِ‬
‫ي�سعى‪.‬‬
‫ون الأنبيا َء‬ ‫موا�ض ِعه‪ ،‬و َين َْح ُل َ‬ ‫فون ال َك ِل َم عن ِ‬ ‫وحقَّ لمِ َن يح ِّر َ‬ ‫ُ‬
‫و�س َة‬ ‫د‬
‫َّ ُّ َ‬‫ُ‬
‫ق‬ ‫ال‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫ي‬ ‫امللكوت‬ ‫َ‬
‫الهياكل‬ ‫عون‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫ج‬
‫ُ َ ِّ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫يقولوا‪،‬‬ ‫مل‬ ‫ما‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫آله‬ ‫ل‬ ‫وا‬
‫َّعم ُح َّج ًة‬ ‫�شَ ْر َب َة اخليالِ الالذع َة‪� ،‬أن يجدوا يف هذا الز ِ‬
‫خلبرَ ِ َّي ِة املتخ َّيلة‪.‬‬ ‫يطعنون يف �سالم ِة منقوالتهم ا َ‬ ‫َ‬ ‫على َمن‬
‫ون العظماء؛ مهند�سو �أ�صنام احلقائقِ النَّائم ِة‬ ‫�إنَّهم املُ َ�سلُّ َ‬ ‫والواجبات ذاتها التي ي�شدو‬ ‫ِ‬ ‫ه َرب ًا من الأ�شيا ِء والأفعالِ‬
‫الفعليون‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫احل�ضارات‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫َا‬
‫ن‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫َّمان؛‬ ‫ز‬ ‫لل‬ ‫أعوج‬
‫يف ال�ضل ِع ا ِ‬
‫ل‬ ‫بها ويدعو �إليها ويقتل يف �سبيلِ احلثِّ على الوفاء بها!!‪.‬‬
‫إ�شارات بالغ ِة اللوع ِة حالَ َمن ال‬ ‫املط َلقِ يف � ٍ‬ ‫ئون بنا �إىل ْ‬ ‫ُي ْو ِم َ‬ ‫ُكن عام ًال ح َّق ًا‪َّ ،‬ثم ِم ْل ب�أ�صابعك �إىل خلو ٍة وت ََد َّب ْر فيها‬
‫تح�س َن النَّاظ ُر وج َهه‪ ،‬ال ع َني ويب ِغي‬ ‫وج َه َل ُه و َي ْب ِغي �أن َي ْ�س ِ‬ ‫وف تَرى كم ير�ضيك يف قرار ِة‬ ‫ل�ساع ٍة ب�أظا ِفرِ ها‪ ،‬و َل َ�س َ‬
‫ل�سان ويب ِغي �أن ينطق‪ ،‬ال �أُ ُذ َن ويبغي �أن َي�سم َع‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫تهتم لإر�ضاء � َأحد مطلقا‪ ،‬ذلك‬ ‫نف�س َك َح َّد ال ُّثمال ِة �أال َّ‬
‫ِ‬
‫�أن َي َرى‪ ،‬ال َ‬
‫النظام الك ِّل َّية عند �سقوطه �سهوا عن َيده‪ ،‬وهو بغري‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر َّن َة‬ ‫ل َّأن‪ ...‬يا للهول‪...‬‬
‫ِ‬
‫ئون‬ ‫املتدليِّ ‪ُ ،... ،‬ي ْو ِم َ‬ ‫يلط َم املجهولَ على َف ِّك ِه َ‬ ‫ٍيد ويبغي �أن ُ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بنا‪ ،‬و«الإ�شار ُة ندا ٌء على ر� ِأ�س ال ُب ْعد و َب ْو ٌح ِب َعينْ ِ العلة» كما‬ ‫(‪)7‬‬
‫ريب‬ ‫َكت ََب ال�شيخُ ال َّرائي حميي الدين بن عربي‪ ،‬وهو ال َ‬ ‫‪ُ ...‬ث َّم �إ َّن ُه ما من َب�شَ رِ ٍّي َي ُجو ُد على َب�شَ رِ ٍّي مثله ب�شهاد ِة‬
‫املحاوالت ُمقَزِّ ُحو �صورة العا ِمل يف �أع ُيننا‬ ‫ِ‬ ‫واح ٌد من �ساد ِة‬ ‫باب الإيثا ِر واملح َّبة‪ ،‬فما ال�شَّ اه ُد‬ ‫حدثَ من ِ‬ ‫الكمال‪ ،‬و� ْإن َ‬
‫ات الت�سلي ِة ونو ِر احلقائقِ املتخ َّيلة‪.‬‬ ‫بِهِ َب ِ‬ ‫�أ�سا�س ًا‪ ،‬وما االمتيا ُز يف ذلك؟‪� .‬أعني‪َّ � ،‬إن ال َب�شَ رِ َّي مل َي ُع ْد‬
‫لأنّه ما من بني ٍة اجتماع َّي ٍة �أو منظوم ٍة ثقافي ٍة‪� ،‬سيا�س َّي ٍة‬ ‫و�سجِ َّي ًة � ْأن َي َه َب ال َب�شَ رِ َّي يق َني َك َما ِله‪ ،‬و�إ َّال‬
‫يطيقُ طبيع ًة َ‬
‫ن�شاط الب�شر‬ ‫�أو عقائدي ٍة ت�سو ُد وت�ؤ ِّث ُر ب�صور ٍة وا�سع ٍة يف ِ‬ ‫أ�صلي يف جِ ِب َّل ِت ِه م�ستن َك ٌر‬ ‫نف�س ِه �ضمن ًا مبا هو � ٌّ‬ ‫�شَ هِ َد على ِ‬
‫والذهني‬ ‫اال�ستعرا�ض البد ُّ‬
‫ين‬ ‫ُ‬ ‫�إ َّال وكانت ال َّت�سلي ُة هي‬ ‫تراكمات ثقافته وتربيته‪� :‬أنَّه هو ذاته �صنيع َة اخليال‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫ُّ‬ ‫خَ َيال مثي ِله الذي َو َه َب ُه يق َني وجوده‪ .‬ال َب�شَ رِ ُّي �صانع ًا‪،‬‬
‫الطاغي الذي يف ط َّيا ِته تك ُم ُن �أ�سرا ُر هذه‬ ‫والتعبريي َّ‬
‫ُّ‬
‫بكل ما لديها‪،‬‬ ‫املنظومة‪ ،‬وهي من خالله تتباهى ِّ‬ ‫الغذائي الذي ال‬ ‫ُّ‬ ‫الطاحون ُة �ض َّد اجلَّمال‪ ،‬هو الأ ْي ُ�ض‬ ‫هو َّ‬
‫هي‬ ‫ابتدا ًء من حرك ِة ِم�شْ ِط احل َّالق‪ ،‬مرور ًا بفنونِ َّ‬ ‫باليد �إ َّال ما ال تري ُد وما ال‬ ‫ميكن لمَ ُْ�س ُه عمل َّي ًا ِ‬
‫مينحك ممِ َّ ا ُ‬
‫الط ِ‬ ‫ت�ستطي ُع لمَ َْ�سه‪ .‬قد يكون ذلك فاتن ًا‪� ،‬شعر َّي ًا‪ ،‬ملهم ًا‪ ،‬ف ِّن َّيا‪ً،‬‬
‫الفتوحات يف ال ِعل ِْم وما‬ ‫ِ‬ ‫واجلَّرمية‪ ،‬وانتها ًء ب�أعمقِ و�أعق َِد‬
‫ال�سا ِل َب ِة‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫�سال‬ ‫ر‬
‫ِّ‬ ‫ال‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫حامل‬ ‫الطبيعة‪َ � .‬أجل‪ ،‬الت�سلية‪ ،‬هي‬ ‫وراء َّ‬ ‫حدثَ ‪ ،‬هو � َّأن ال َب�شَ رِ َّي‬ ‫لكنَّه حتم ًا يجايف اجلَّمال‪ .‬فالذي َ‬
‫قد � ْأ�س َل َم ما عنده بالفعلِ �إىل املط َلق‪ ،‬وملَّا ر�أى اجلَّمالَ‬
‫وب َ�ص َوا َبها‪ ،‬وهي الأداة الفاعلة يف �سيادة وت�أثري‬ ‫ال�شُّ ُع َ‬ ‫الذي تخ َّلقَ عن ب� ِأ�س َي ِد ِه وخيا ِله يف هيئ ِة ما َب َدا له ح َّق ًا‬
‫هذه املنظومة �أو تلك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أعطى‬ ‫وذات ًا ومنزل ًة تفوقُ ال َّن َوالَ ‪ ،‬ت�ألمَّ َ ‪ ،‬لأنَّه هو الذي � َ‬
‫(‪)10‬‬ ‫و�أ ْو َج َد‪ ،‬وهو الذي �شَ هِ َد ِّثم �شَ هِ َد‪ِّ ،‬ثم مل يعد قادر ًا على �أن‬
‫هريج‪ ،‬و�إن‬
‫ِ‬ ‫ت‬‫َّ‬ ‫ال‬ ‫حم�ض‬ ‫هي‬ ‫لي�ست‬ ‫والت�سلية التي �أعنيها هنا‪،‬‬ ‫يفعل �أ َّي ًا من ذلك‪ ،‬ح َّتى وال لنف�سه‪.‬‬
‫الرتفيهي يف مرحل ٍة معين ٍة من‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫الن�شاط‬ ‫َ�ص َّح عليها هذا‬
‫تاريخ الب�شر‪ ،‬ولعل الأ�صوب هو‪� ،‬أن هذا الن�شاط الهازلُ‬ ‫(‪)8‬‬
‫امل�ستط َر ُف َ�ص َّح على الت�سلية يف جانب من حياة الب�شر‪،‬‬ ‫الفن‪ .‬القتل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جمهر‬ ‫حتت‬ ‫�شيء يف الوجو ِد ُم َ�س ِّلي ً‬
‫ا‬ ‫يبدو ك ّل ٍ‬
‫بد�أ مع �أوىل �شرارات الفن والنظر يف ممكنات العقل‬ ‫ال�شعر‪ ،‬اخلجل‪،‬‬ ‫الأمل‪ ،‬البالدة‪ ،‬اجلُّنون‪ ،‬املر�ض‪ ،‬الرغبة‪ِّ ،‬‬
‫وما زال يرافق الإن�سان‪ ،‬ولكن يف �سياق املعذور �سلف ًا عن‬ ‫الإعالن‪!...‬‬
‫إدراج‬
‫مهمة الرائي‪ .‬الت�سلية‪ ،‬هنا‪ ،‬ب�صورة �أ�سا�سية هي‪ُ � :‬‬ ‫منجزَ ةً‪ ،‬واحلقولُ حولها ُم ْل َت َّم ٌة كامل ُة‬ ‫َ‬ ‫الهياكلِ‬ ‫تبدو ك ُّل‬
‫الطبيعي للواقع‪ ،‬ا�ستح�ضار املعقوالت‬ ‫املجهول يف ال َع ْر�ض‬ ‫مم�سك ٌة ب�أطرافِ‬ ‫املُ َوافَا ِة ملح�صول الترَّ ا ُك ِم الوفريِ‪ِ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫أليف امل�ستغ َرب وامل�ستحيل»‪� ،‬أي جعله �أليف ًا‪.‬‬ ‫فيزيائي ًا «ت� ُ‬ ‫�صرخات‬ ‫احلب واالنتما ِء يف‬‫َو ْ�صالتها احل َّي ِة تفعمها بفائقِ ِّ‬
‫«تعب ُري» اخليال‪� ،‬إي �إعان ُت ُه على العبو ِر من وح�ش ِة ال‬ ‫اخلروم االرتباطي ِة املنادية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ال�سالب ِة �إىل ِ�صفْرِ الواق ِع �إن�ساني ًا و�إر�سا ُل ُه من‬ ‫اخلياالت ممكن ًة‪ ،‬فهي �إن �أمكنَت يف العقل ‪ -‬و�إن‬ ‫ِ‬ ‫تبدو ك ُّل‬
‫�إن�سان َّي ِت ِه َّ‬ ‫احل�س‪ -‬فقد ام َكنَت �ضمن ًا يف الواقع‪.‬‬
‫َث َّم �إىل وح�شة ال �إن�سانيته املوجبة‪ ،‬وهي وح�ش ُة ِّ‬
‫كل خيالٍ‬ ‫ناف َِت َّ‬
‫َر َم ْت به مفرز ُة التفا�ضل والتباديل �إىل فم العني الب�شرية‬
‫فن؛ الوح�ش ُة التي ْا ْ�س َت ْم َل َكها ال ُ‬
‫إن�سان‬ ‫ال�شرهة‪ ،‬وح�ش ُة ِّ‬
‫كل ٍّ‬ ‫(‪)9‬‬
‫ل ْأجل ك ّل �أعمال ال�شعور و َق َّد َ�سها �ضرورةً‪ُ ،‬مذ كانت خالي ًة‪،‬‬ ‫يريدون �أن‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫حالٍ‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫أي‬ ‫�‬ ‫� َّإن ال ُبنَا َة وال�صانعني على‬
‫الثقافات «اخللود» و«احلكمة»‬ ‫ُ‬ ‫هي الوح�ش ُة التي تدعوها‬ ‫ي�س ُّدوها‬ ‫دون �أن ُ‬ ‫يرتكوا فجو ًة يف هذا الوجو ِد املخ َّر ِم َ‬
‫الديانات «اجلنة» وندعوها «املقدار»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وتدعوها‬ ‫واخلياالت التي قد تتم َّثل �أ�شكا ًال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باالفرتا�ضات والأفكا ِر‬
‫تعتمد الت�سلي ُة يف ثقتها بقابل َّي ِة الب�شر العتناق حماوالتها‬ ‫فيزيائي ًة حقيقي ًة يف كث ٍري من الأحيانِ وعقل َّي ًة ُم�س َت َم َّد ًة‬

‫‪140‬‬
‫الب�شرية‪ ،‬و ْانطبعت على رمز املطلق‪ ،‬مل ُي ِطق الإن�سان �أن‬ ‫احلثيثة لرتقيع اخلروم على املمكن �ساري ًا وحميط ًا‬
‫أر�ض‬ ‫قد خرج من حلمه ك ّل هذا الف�ضل و�أ�شرق على � ٍ‬ ‫أمون اجلانبِ و�أدنى �إىل‬ ‫بالوجود‪ .‬تعتمد عليه‪ ،‬ال ِل َك ْو ِن ِه م� َ‬
‫تتج�سد واقع ًا َ�سو َّي ًا من قوة العطاء‪ ،‬فما‬
‫افرتا�ضي ٍة كادت َّ‬ ‫ال َّتن َُّ�صلِ منه باعتبا ِر ِه واقع ًا امتناعي ًا‪ ،‬ا�ستعرا�ض ًا فني ًا‬
‫الفتات الذي تبقى منها يف جعبته‬ ‫َ‬ ‫كان منه �إ َّال �أن مللم‬ ‫ال�صفَا‬‫يكون �أو ال يكون‪� ،‬أي ال ِل َك ْو ِن ِه‪ ،‬بتعريف �إخوان َّ‬
‫و�أفا�ضه على نف�سه وقال‪ :‬هذه نفخة الروح خَ َّ�ص ْتنا بها‬ ‫ُ�ش َركا ِء املحاولة �إن ِق ْ�سنَا ُه على «الإرادة» باملرادفة‪:‬‬
‫القدرة من هناك‪ .‬ولكن هذه اجلمرة َت َّت ِق ُد يف النفخة‪،‬‬ ‫ممكنٍ َك ْو ُن ُه و َك ْو ُن ِخال ِفه»‪.‬‬ ‫«�إ�شار ٌة بال َو ْه ِم �إىل تكوينِ �أمرٍ ِ‬
‫جمرةٌ‪ ،‬هي الكنز الغايل‪ ،‬كنز الذاهبني خفاف ًا � َ‬
‫أدراج‬ ‫لي�س لهذا فح�سب تعتمد عليه الت�سلية‪ ،‬بل لأنه ‪ -‬املمكن‪-‬‬
‫الت�سلية‪ ،‬جمر ٌة ال يدركها العامل �إ َّال كنق�ص فينا‪ ،‬وهو‬ ‫منظم ٍة‪ ،‬غري عاقل ٍة‪،‬‬ ‫على وجه التحديد‪ :‬ق َّو ٌة غا�شم ٌة غري َّ‬
‫لطيف بتات ًا‪ ،‬هو الذي يو ِّلد فينا هذه‬ ‫�أمر غري َمرِ ٍح وال ٍ‬ ‫غري �أخالقي ٍة‪ ،‬غري ح�سابي ٍة‪ ،‬وبالأ�سا�س‪ ،‬غري ميكانيكية‪.‬‬
‫الغربة اللعينة ويخ ِّلدنا يف الأمل!‪ .‬هل متوت اجلمرة يوماً‬ ‫بح ِّري ِة املحاول ِة واالختيار‪.‬‬ ‫ولأنه �إذ ًا‪ ،‬قو ٌة وجودي ٌة متع ِّلق ٌة ُ‬
‫ينح ُّت عرب �شرائح املوقد الوجودي‬ ‫وت�صري تراب ًا باهت ًا َ‬ ‫وكل ما يح�صل يف العامل ‪ -‬على نحو ما تفرت�ض �آلي ُة‬
‫احلديدي ِة املتقاطعة فن�صبح بذلك قادرين على فهم‬ ‫ن�شو ِء وت�أث ِري الت�سلية‪ -‬هو حا�صل هذه احلركة‪ ،‬وهو �سلي ٌم‬
‫ل�سان هذا احلا�ضر‪ ،‬وقادرين على االت�صال بالواقع يف‬ ‫و�صحي ٌح وواقع‪ ،‬لكنه مع ذلك قاب ٌل للتغيريِ‪ ،‬وم�ست�سل ٌم‬
‫ٌ‬
‫م�شروط‬ ‫املفاتيح املالئمة مثل الب�شر ال�صاحلني؟‪ .‬هذا‬ ‫جلربوت املحاولة‪ .‬ال خلل‪ ،‬ال نق�ص‪ ،‬وال غلط يف الكون على‬
‫بو�ضع َّي ٍات خا�ضع ٍة لنظام التباديل‪ ،‬وباقي ٍة حتت عر�ش‬ ‫العار�ض‪ ،‬وحركة املحاوالت‪ ،‬هذا هو‬ ‫ُ‬ ‫املمكن‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الإطالق‪ ،‬بل‬
‫املمكن‪ .‬فهل ‪ -‬من �أجل كرامة املحاولة‪� -‬سيعود «ما‬ ‫م�ستويات عديدة ‪ -‬تباديل‪ -‬فمنها ما‬ ‫ٍ‬ ‫ينتج الواق َع على‬ ‫ما ُ‬
‫وراء الطبيعة» ِعلْم ًا حقيقي ًا ذات يوم‪� ،‬أي‪ ،‬علم ًا جتريبي ًا‬ ‫ُي ْ�س َت ْع َمل فيكون هو الواقع احلا�صل امل�صطنع من جمموع‬ ‫ُ‬
‫خا�ضع ًا للريا�ضيات كما حلم �إميانويل كانط؟ وكما حلمت‬ ‫اختيارات الب�شر واحتماالت م�سالكهم املت�سل�سلة‪ ،‬ومنها‬
‫الأخيل ُة احل َّي ُة التي �أ َّلفَت «عرائ�س املجال�س» و«�ألف ليلة‬ ‫فيتنحى على �أمل �أن‬ ‫ما ي� ِّؤج ُل ُه يق ُني االختيار �أو �أ ْر َج ِح َّي ُتهُ‪َّ ،‬‬
‫وليلة» وكما حلم ال�ساد ُة املب�صرون املُ َ�سلُّون العظماء‪ :‬عبد‬ ‫يعمل بدي ًال عن احتمالٍ تلف �أثناء ا�ستعماله‪ .‬والتباديل‬ ‫َ‬
‫اهلل بن عبا�س‪ ،‬حميي الدين بن عربي‪ ،‬بورخي�س‪� ،‬إخوان‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هذه يف جمملها ‪ -‬ما تمَ َّ تن�شيطه منها وما �أ ْب ِطل‪ -‬هي‬
‫ال�صفا‪ ،‬بريكلي‪ ،‬هومريو�س‪...‬‬ ‫وا�ضح‬
‫َ‬ ‫مادة املمكن‪ ،‬التي يقوم عليها العا َمل ُفني ًا ُم َه ْي َك ًال‬
‫�أي‪ ،‬هل ح َّق ًا‪ ،‬كما راق لهذه الظنون �أن تزعم‪ ،‬ن�ستطيع‬ ‫وامل�سالك‪ ،‬ولكن‪ ...‬لي�س جمي ًَال‪ ،‬كام ًال ولكن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اخلرائط‬
‫‪ -‬باحتذاء �سبل الت�سلية‪� -‬أن ن�أتي باملجهول ك ّله طريح ًا‬ ‫ني‬‫ٌ‬ ‫ع‬ ‫وهي‬ ‫ك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫امل�سته‬ ‫عني‬ ‫يف‬ ‫الفردو�س‬ ‫أن‬ ‫ل‬ ‫أجزاء!‪،‬‬ ‫على �‬
‫كاحلوت على ترابنا الواقعي‪ ،‬مفهوم ًا وم�ستجيب ًا لقيا�سات‬ ‫«ما ميالها �إ َّال الرتاب» م�أثور ًة عن �أ�سالفنا يف طريقتهم‬
‫الدنيا وهند�ساتها؟‪.‬‬ ‫احلام�ضة ملعاجلة م�سائل الكمال املُ َج َّز�أ والنق�ص الالزم‬
‫يبدو يل �أن حا�ضرنا هذا هو جنَّة افالطون ال�شنيعة‪ ،‬تلك‬ ‫وا�ستحالة ترقيع الفجوات يف «هيكل الفارغ»‪.‬‬
‫توع َدنا بها منذ دهور وب�شَّ رنا فيها باحلذف والنفي‬ ‫التي َّ‬
‫�ستبطنَها العامل يف حراكه حتى وافاها‪ ،‬ف�إذا‬ ‫والغربة‪ ،‬ف ْا َ‬ ‫(‪)11‬‬
‫بنا لدى �صورة املثال هكذا!‪.‬‬ ‫َّ‬
‫«ال َب ِني �آدم‪ ،‬عينو‪ ،‬ما ميالها �إال الرتاب»‪ .‬و«عينو»‬
‫م�شغول ٌة به – الرتاب‪ -‬تَزِ ُنهُ‪ِّ ،‬‬
‫تثمنه و ُت َقن ِْط ُر ُه كنز ًا‬
‫(‪)12‬‬ ‫يف �أ�سواق الرتاكم‪ .‬الرتاب‪ :‬الكنز الباهت‪ .‬احلقيقة‬
‫هنا‪ ،‬ما للمطلق من ح�صانة‬ ‫الباهتة‪ .‬املن�ش�أ الباهت‪.‬‬
‫ك َّال!‬ ‫الل�سان‬
‫َ‬ ‫�سبيل لنا لأن نفهم‬ ‫َ‬ ‫ولأننا �أر�ض ُّيون‪ ،‬فال‬
‫وما لل�شاعر من امتياز‪.‬‬ ‫الرتاب يف م�ؤخّ رة‬‫ُ‬ ‫كه‬ ‫ر‬
‫ِّ‬ ‫يح‬ ‫الذي‬ ‫أحولَ‬ ‫البهيم ال‬
‫َ‬ ‫الغرائزي‬
‫َّ‬
‫جل ْم ُر‪ :‬ولنا رفاهية �أن نزعم‬ ‫الوجو ِد‪ ،‬ل َّأن يف �أعماقنا ا َّ‬
‫(‪)13‬‬ ‫ذلك!‪ .‬اجلمر الذي فينا‪ :‬القو ُة الطبيعي ُة‪ ،‬امل�ستح�ضر ُة‬
‫هنا‪،‬‬ ‫ح�سي ًا عرب الأدوات امل�صنوعة وفق ًا لفرائ�ض الرتاكم‬
‫كل �صناع ٍة‬ ‫يف ِّ‬ ‫حي يف �أدغالنا الع�ضوية‬ ‫واملالحظة‪ .‬اجلمر مزده ٌر ٌّ‬
‫ن�شاط فن ٍِّّي‬‫كل ٍ‬ ‫يف ِّ‬ ‫الرطبة‪ ،‬يتفتق يف �صميم حماوالتنا مثل �شم�س حيوانية‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫يف كل قب�ضة عا�صفة تدنو �سريعة من وجهك‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫متوح�شة‪ .‬اجلمر يف �صلب تلك املكاف�أة‪ ،‬تلك الر�شوة‪،‬‬
‫جرح يحاول �أن ي�ؤ ِّدي وظيف َة الهادي‬ ‫كل ٍ‬ ‫يف ِّ‬ ‫إن�سان على نف�سه‬ ‫تلك احلفنة الغالية التي ْا�ستدركها ال ُ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫يف كل �ضحكة َت ُر ُّج هوا َء القلبِ بعكازها َف َيلتَاث‬ ‫بعد �أن ُب ْو ِغ َت ب�أنه �أهدرها على الغربا ِء الرمزيني يف‬
‫كل معدن‬ ‫يف ِّ‬ ‫حماقة الفجرِ وكيف َب َدت عليهم وال �أبهى‪ ،‬فال غَ ْر َو �أن‬
‫كل َي ٍد طاغيةٍ‬ ‫يف ِّ‬ ‫علوم الأر�ض وال�سماء َت ُد ُّب كال َه َو ِّام حتت توا�ضع‬ ‫بقيت ُ‬
‫كل �صرخ ٍة م�ست�ض َعفة‪:‬‬ ‫يف ِّ‬ ‫إن�سان على خياله‬ ‫هذه االرتباطات الرتاتبية التي َج َّرها ال ُ‬
‫ابحث عن دمع ِة الوح�ش‬ ‫وم�صريه ب�أثر من �سعيه لتجريد خطط الكمال‪« :‬الآبا ُء‬
‫ابحث عن املياه الكابو�س ّية‬ ‫أكلون احل�صرم والأبناء َي ْ�ضرِ ُ�سون»!‪ .‬هذه املكاف�أة التي‬ ‫ي� َ‬
‫ابحث عن العاطفة‪.‬‬ ‫�أكرم الإن�سان بها نف�سه ف�ضل ًة عن خريه وعن �إ�سرافه‪:‬‬
‫ن�س ّميها ال ُّروح‪ .‬الروح التي حني فا�ضت عن خيال املحاولة‬
‫جزء من عمل فني ‪:‬عبد اجمليد البكري‪ -‬تونس‬
‫‪141‬‬
‫برهان الع�سل‬ ‫ن رفوف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫املكتبة من رفوف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫ف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫�سلوى النعيمي‬
‫ريا�ض الري�س للكتب والن�شر ‪ -‬بريوت‪2007 -‬‬ ‫تبة من رفوف املكتبة‬ ‫ن رفوف املكتبة‬
‫رفوف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫من رفوف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫رفوف املكتبة‬ ‫ن رفوف املكتبة من‬
‫اجلهاد والإ�سالم‬
‫التحيز يف مواجهة الواقع‬
‫�أ‪ .‬ج‪ .‬نوراين‬
‫ترجمة ريا�ض ح�سن‬
‫دار الفارابي ‪ -‬بريوت‪2007 -‬‬

‫ركزت هجمات ‪� 11‬أيلول‪�/‬سبتمرب على الواليات املتحدة‬


‫انتباه العامل على الأ�صولية الإ�سالمية‪ .‬وقيل �إن ما يح�صل‬
‫هو «�صراع ح�ضارات» بني «غرب» ع�صري علماين و«�إ�سالم»‬
‫رجعي‪ .‬وت�صاعدت هذه الثنائية‪� ،‬إن جاز التعبري‪ ،‬عندما‬
‫�أعلن الرئي�س الأمريكي جورج بو�ش بعيد الهجمات «احلرب‬
‫على الإرهاب»‪ ،‬دافع ًا جنوده �إىل �أفغان�ستان‪ ،‬وم�صنف ًا دو ًال‬
‫«منذ �أن عرفت املفكر‪ ،‬وبعد كل هذه ال�سنوات‪ ،‬مل مير‬ ‫�أخرى (كوريا ال�شمالية والعراق و�إيران) على «حمور ال�شر»‬
‫يوم يف حياتي من دون �أن �أفكر به‪ .‬ال ميكن �أن �أ�شتهي‬ ‫مهدد ًا بالتو�سع �إليها‪ ،‬ثم حمت ًال �إحداها وهي العراق‪ ،‬ومعد ًا‬
‫رج ًال من دون �أن �أفكر به‪ .‬ال ميكن �أن �أقر�أ �صحيفة من‬ ‫العدة لعمل ما �ضد �إيران بعدما ح ّيد كوريا ال�شمالية بالوعود‬
‫دون �أن �أفكر به‪ .‬البد �أن يكون يف يومي ما يذكرين به‪.‬‬ ‫االقت�صادية ال�سخية‪.‬‬
‫كل تف�صيل من حياتي مرتبط به‪ .‬تعلمت منه �أن �أ�سبح‬ ‫وهذا الكتاب املخت�صر و�سهل القراءة يدح�ض االعتقادات‬
‫على مهل‪� ،‬أن �أغو�ص يف مويجاتي حتى القاع‪ ،‬على مهل‪،‬‬ ‫اخلاطئة التي �صاغها عدد كبري من املفكرين الأوروبيني‬
‫واثقة من �أنه معي حتى تلك اللحظة التي �س�أفتح فيها‬ ‫حول الإ�سالم عرب القرون‪ ،‬والتي ال تزال بالن�سبة �إىل غري‬
‫عيني عليه‪ .‬مل �أكن �أغم�ضهما كثري ًا‪ .‬كنت �أحاول �أن‬ ‫ّ‬ ‫امل�سلمني تعوق الفهم احلقيقي لطبيعة الإ�سالم وتاريخ‬
‫�أبقى �صاحية‪ ،‬متنبهة‪� ،‬أراه و�أراين»‪.‬‬ ‫التفاعالت امل�سيحية ‪ -‬الإ�سالمية‪ ،‬كما يظهر �أن طبيعة‬
‫هذا بع�ض مما يف (كتاب‪/‬رواية) ال�سورية �سلوى النعيمي‬ ‫الت�أكيدات احلديثة التي تطلقها احلركات الأ�صولية‬
‫«برهان الع�سل» الذي ُمنع يف معر�ض دم�شق للكتاب‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬حتركها الدوافع ال�سيا�سية التي هي مو�ضوع ريبة‬
‫هذا العام‪ ،‬الأمر الذي دفع ال�شاعرة‪� ،‬صاحبة التجربة‬ ‫على ال�صعيد الديني‪ ،‬ويقابلها ب�أفكار املفكرين امل�سلمني‬
‫الروائية الأوىل‪� ،‬إىل البوح بتعليق �ساخر‪« :‬هذا ي�شكل‬ ‫التقدميني الذين تطرقوا �إىل الأ�سئلة التي ال ميكن حتا�شيها‬
‫دعاية وا�سعة‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أنه ُيباع لي�س فقط يف املكتبات‪،‬‬ ‫والتي يطرحها العامل الع�صري على امل�ؤمنني‪.‬‬
‫و�إمنا على االنرتنت‪ ،‬وقد �سجل ن�سبة جيدة من املبيعات‪..‬‬ ‫يزودنا �أ‪ .‬ج‪ .‬نوراين ببع�ض املفاهيم الأ�سا�سية الالزمة‬
‫كما توجد ن�سخ م�سروقة منه ميكن حتميلها جمان ًا»‪.‬‬ ‫للت�صدي لطفرة التع�صب �ضد الإ�سالم‬
‫ي�شار �إىل �أن الكتاب يت�ضمن مقطع ًا حول الرقابة يرد‬ ‫املبنية على معلومات خاطئة‪ ،‬وللتعاطي‬
‫يف �سياق حديث بني �صديقتني �إذ تقول الأوىل للثانية‪:‬‬ ‫مع �أي حماولة لإ�ضفاء �صورة رومان�سية‬
‫«غد ًا مينعون لك كتابك» فتجيب الأخرى‪« :‬ال �أت�صور �أن‬ ‫على �أعمال الأ�صوليني الوح�شية وغري‬
‫الرقابة على هذه الدرجة من الغباء‪ ،‬و�إذا كانت كذلك‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬وي�صف �أولئك الأ�صوليني‬
‫ف�س�أ�صبح م�شهورة»‪.‬‬ ‫باملخادعني الذين ي�ستغلون الدين‬
‫�أما بطلة الرواية فهي امر�أة تعمل يف مكتبة وتقر�أ الكتب‬ ‫ك�سالح �سيا�سي‪ .‬وي�ستند الكاتب �إىل‬
‫العربية القدمية‪ .‬ويت�ضمن الكتاب ما ترويه املر�أة عن‬ ‫جملة مراجع‪ ،‬خ�صو�ص ًا ملفكرين‬
‫حياتها وعمن يحيطون بها ا�ستناد ًا �إىل كتب اجلن�س‬ ‫�إ�سالميني م�ستنريين‪ ،‬ومناق�ش ًا‬
‫العربية القدمية‪ .‬ويتخذ «برهان الع�سل» �شكل الكتب‬ ‫مناق�شة علمية داح�ضة الت�صنيفات‬
‫العربية القدمية ون�سقها‪� ،‬إذ ي�ضم �أبواب ًا مع عناوين لكل‬ ‫املت�سرعة للمفكرين الغربيني‬
‫منها‪� .‬أما ال�شخ�صيات فلي�ست حية بالفعل‪ ،‬ولكنها قائمة‬ ‫اليمينيني يف خ�صو�ص ظاهرة‬
‫يف ال�سرد‪ .‬فبا�ستثناء الراوية واملفكر‪ ،‬ال توجد �شخ�صيات‪،‬‬ ‫الإ�سالم ال�سيا�سي‪.‬‬
‫و�إمنا حكايات عن �آخرين وحياتهم اجلن�سية‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫�شتاء العائلة‬
‫علي بدر‬
‫امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ‪ -‬بريوت ‪2007 -‬‬

‫ت�صور هذه الرواية تهدم الطبقة الأر�ستقراطية البغدادية وانهيارها‬


‫يف ال�ستينيات وال�سبعينيات بعد اندالع الثورة‪ ،‬وذلك عن طريق ق�صة‬
‫حب تعي�شها �سيدة يف الأربعني من عائلة ترتبط بالبالط امللكي املنهار‪،‬‬
‫فرتف�ض االنخراط يف احلياة اجلديدة‪ ،‬وتعتزل يف ق�صرها امل�شيد على‬
‫نهر دجلة مع خادمها الفار�سي وابنة �أخيها ال�شابة‪ .‬وتقطع كل عالقة لها‬
‫مع اخلارج با�ستثناء ذكرياتها القدمية واجللو�س عند قبور �أفراد عائلتها‬
‫الذين قتلتهم الثورة‪.‬‬
‫ً‬
‫ويف يوم ماطر يدخل �شاب �إىل الق�صر‪ ،‬مدعيا قرابته للعائلة و�أنه جاء من‬
‫اخلارج ب�صحبة زوجته لق�ضاء �شهر الع�سل‪ .‬وعلى الرغم من �شكوك ال�سيدة فيه‪،‬‬
‫ت�سمح له بالعي�ش معها يف الق�صر‪ ،‬حيث يبد�أ ال�شاب بتدمري حياة هذه ال�سيدة وابنة �أخيها عن‬
‫طريق اخرتاع ق�ص�ص حب مزيفة معهما تدفعهما �إىل التناف�س عليه‪ ،‬ثم يحدث خط�أ غري مق�صود ي�ؤدي‬
‫�إىل هربه من الق�صر فتنهار حياة العائلة وتتقهقر‪.‬‬
‫امر�أة تخ ّلت عن العامل اخلارجي �أم ًال يف �أن ين�ساها هذا العامل‪ ،‬جتد نف�سها فج�أة �أمام احلقيقة ال�صاعقة واملرة التي‬
‫يفتح عينيها عليها ح�ضور الغريب يف ليلة ماطرة‪ ،‬وان�سحابه يف م�ساء عا�صف‪ ،‬تارك ًا �إياها مذهولة باحلقيقة اجلديدة‬
‫التي لطاملا تعامت عنها‪� :‬إنها امر�أة من املا�ضي‪.‬‬
‫وي�سري ال�سرد بطيئ ًا يف الفرتة التي يكون فيها الغريب موجودا داخل املنزل مع الن�ساء الثالث (العمة وابنة �أخيها‬
‫ً‬
‫وزوجته)‪ ،‬بينما ي�سرع حتى االنهيار بعد ان�سحاب الغريب من حياة �ساكنتي الق�صر‪� .‬إنها رواية ت�ؤرخ للطبقة‬
‫الأر�ستقراطية يف العراق‪ ،‬وملعجمها الذي يتكون من ديكورات‪ ،‬و�أثاث‪ ،‬وممتلكات‪ ،‬ميعن بدر يف تعدادها لك�شف‬
‫�سطحية هذه الطبقة‪.‬‬

‫بني فقه الإ�صالح ال�شيعي ووالية الفقيه‬


‫الدولة واملواطن‬
‫وجيه كوثراين‬
‫‪2007‬‬ ‫دار النهار ‪ -‬بريوت‪-‬‬
‫م ّثل اال�ستقواء ال�سيا�سي بالدعوة الدينية ظاهرة بارزة �شهدها املجتمع يف كل تواريخ العامل وح�ضاراته‪ .‬لكن الفكر‬
‫الإ�صالحي احلديث متكن يف ح�ضارات و�أديان عديدة �أن يتو�صل �إىل حل يقوم ب�شكل �أ�سا�سي على التمييز �أو الف�صل‬
‫بني ال�سلطة الدينية وال�سلطة املدنية‪ .‬لكن الرتاث الإ�سالمي‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف العامل العربي‪ ،‬يعيد يف الذاكرة واملمار�سة‬
‫هذا الإ�شكال اخلطري يف �شعاب حياتنا االجتماعية والثقافية وال�سيا�سية‪.‬‬
‫يركز هذا الكتاب على فقه الإ�صالح ال�شيعي الذي واكب النه�ضة العربية والإ�سالمية‪ ،‬و�شارك فيها‪،‬‬
‫مقدم ًا م�ساهمة جدية على طريق بناء الدولة‪/‬املواطن‪ ،‬والدعوة �إىل ثقافة املواطنة واالجتماع‬
‫املدين‪ ،‬مواجه ًا يف مرحلته احلا�ضرة فقه «والية الفقيه» املطلقة القائمة على الطاعة الدينية‬
‫والتكليف ال�شرعي يف جمال ال�سيا�سة‪.‬‬
‫وميثل «حزب اهلل» اللبناين‪ ،‬ال�ساعي �إىل ثمن داخلي لل�ضربات املوجعة التي وجهها �إىل‬
‫�إ�سرائيل منذ �أ�س�سه «احلر�س الثوري» الإيراين‪ ،‬مطابق ًا لـ‪« ‬حزب اهلل» يف اجلمهورية‬
‫الإ�سالمية يف العام ‪ ،1982‬القوة الدافعة الأبرز خارج �إيران لتعميم جتربة والية‬
‫الفقيه‪.‬‬
‫ويبحث وجيه كوثراين‪ ،‬الأ�ستاذ املتقاعد يف اجلامعة اللبنانية الذي جدد يف �أكرث‬
‫من م�س�ألة النظرة �إىل التاريخ اللبناين والعربي اخلاليف يف �أوجه كثرية‪ ،‬يف هذا‬
‫الإ�شكال ب�أبرز تداعياته اللبنانية والعربية والإيرانية‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن الفقهاء‬
‫الدينيني ال�شيعة يف لبنان قدموا م�ساهمات جليلة يف الإ�صالح الديني قبل‬
‫�أن تنق�ض على لبنان وغريه من الدول العربية ذات احل�ضور ال�شيعي الكبري‬
‫ثقافة «والية الفقيه» من «قم»‪ ،‬العا�صمة املقد�سة لإيران‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫‪Suez 1956‬‬ ‫ن رفوف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫املكتبة من رفوف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫ف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫‪The Inside Story of the First Oil War‬‬
‫‪Barry Turner‬‬
‫تبة من رفوف املكتبة‬ ‫ن رفوف املكتبة‬
‫‪Hodder – 2007‬‬ ‫رفوف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫«ال�سوي�س ‪ :1956‬الق�صة الداخلية لأوىل حروب‬ ‫من رفوف املكتبة من رفوف املكتبة‬
‫رفوف املكتبة‬ ‫ن رفوف املكتبة من‬
‫النفط»‬
‫باري تورنر‬
‫�شكلت �أزمة ال�سوي�س نقطة حتول يف تاريخ العامل بعد احلرب‬
‫العاملية الثانية‪ .‬فقد �أ�سقطت رئي�س وزراء ما كان ُيعرف‬
‫‪Leaving Beirut‬‬
‫بربيطانيا العظمى‪ ،‬و�أعادت ر�سم اخلريطة ال�سيا�سية لل�شرق‬
‫‪Mai Ghoussoub‬‬
‫الأو�سط ب�شكل نهائي‪ .‬وزعزعت «العالقة اخلا�صة» بني لندن‬
‫‪Saqi – 2007‬‬
‫ووا�شنطن‪ ،‬و�أعطت �إ�سرائيل الفر�صة الأوىل ال�ستعرا�ض‬
‫تفوقها الع�سكري‪ .‬ويك�شف كتاب «ال�سوي�س ‪ :1956‬الق�صة‬
‫الداخلية لأوىل حروب النفط» الرياء ال�سيا�سي للحملة‬ ‫«مغادرة بريوت»‬
‫الربيطانية – الفرن�سية – الإ�سرائيلية على م�صر ب�أ�صوات‬ ‫مي غ�صوب‬
‫امل�شاركني فيها‪.‬‬ ‫غ ّيب املوت يف وقت �سابق من‬
‫لقد كتب باري تورنر رواية ممتازة ومبا�شرة للأحداث‪ .‬وعلى‬ ‫هذا العام النا�شرة والكاتبة‬
‫الرغم من �أن الق�صة ال تزال ماثلة يف �أذهان الكثريين ممن‬ ‫والنحاتة اللبنانية املقيمة‬
‫ال يزالون على قيد احلياة اليوم‪ ،‬ف�إن الكاتب يعر�ضها بطريقة‬ ‫يف بريطانيا مي غ�صوب‪،‬‬
‫جذابة‪ ،‬بلغته الأنيقة‪ ،‬التي ال ترتبك مع ارتباك الأحداث‬ ‫زوج���ة املحلل ال�سيا�سي‬
‫وتعقيدها‪ .‬ويربع ب�شكل خا�ص يف ك�شف اخليوط املاكرة‬ ‫حازم �صاغية‪ ،‬فغاب وجه‬
‫للدبلوما�سية‪ .‬ويرف�ض الر�أي ال�شائع يف الغرب‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف‬ ‫من وجوه الن�ضال العربي‬
‫بريطانيا‪ ،‬ب�أن حرب ال�سوي�س انتهت بن�صر ع�سكري وخ�سارة‬ ‫يف ���س��ب��ي��ل ال��ق�����ض��اي��ا‬
‫�سيا�سية‪ ،‬لي�ؤكد �أنها �إمنا كانت خ�سارة ع�سكرية وكارثة‬ ‫املحقة‪ ،‬بدء ًا بفل�سطني‬
‫�سيا�سية‪ ،‬خ�صو�ص ًا مع وقوف وا�شنطن �ضد حليفتها بريطانيا‪،‬‬ ‫وانتها ًء ب�آخر �أطراف‬
‫�إىل جانب عدوتها مو�سكو‪ ،‬ودفعها باجتاه ان�سحاب القوات‬ ‫ال����ع����امل‪ .‬ف��غ�����ص��وب‪،‬‬
‫الغازية‪ ،‬وبالتايل انهيار اال�ستعمار الربيطاين والفرن�سي‪،‬‬ ‫�صاحبة «دار ال�ساقي» الراقية للن�شر‬
‫متهيد ًا لدخولها هي �إىل ال�شرق الأو�سط‪.‬‬ ‫يف بريطانيا‪ ،‬تقلبت يف العمل الي�ساري والدفاع عن حقوق‬
‫وي�ستعر�ض تورنر املقاربات ال�سيا�سية الربيطانية‪ ،‬العن�صرية‬ ‫املر�أة يف �شبابها قبل �أن حتط الرحال يف عا�صمة ال�ضباب‬
‫وامل�ستعلية‪ ،‬التي زرعت الكراهية يف نفو�س من خ�ضع للحكم‬ ‫ي�أ�س ًا من نهاية ما للحرب الأهلية اللبنانية‪.‬‬
‫الربيطاين من �شعوب‪ ،‬ما دفع الكثري ممن راجعوا الكتاب من‬ ‫تروي غ�صوب يف هذا الكتاب «مغادرة بريوت»‪ ،‬الذي �أعادت‬
‫كتاب غربيني‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف ال�صحف الربيطانية‪� ،‬إىل املقارنة‬ ‫ال��دار طبعه قبيل وفاتها‪ ،‬ذكرياتها اللبنانية يف مراحل‬
‫بني «حملة ال�سوي�س»‪ ،‬كما ي�سميها الربيطانيون‪ ،‬و«احلرب على‬ ‫خمتلفة حتى خروجها �إىل بريطانيا يف الثمانينيات‪ .‬تروي‬
‫الإرهاب»‪ ،‬التي يخو�ضونها اليوم �إىل جانب الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫�أنها كتبت وهي ال ت��زال يف الثانية ع�شرة مو�ضوع �إن�شاء‬
‫ويتوقعون ف�شل هذه مثلما ف�شلت تلك‪ ،‬طال الزمان �أم ق�صر‪.‬‬ ‫جمدت فيه الث�أر‪ ،‬ظن ًا �أنها �ستنال �إعجاب معلمتها‪ ،‬لكنها‬
‫نالت التقريع‪ ،‬فاملعلمة قالت لها �إن الث�أر «�أج�بن» �أن��واع‬
‫ال�سلوك الب�شري‪.‬‬
‫وبعد �سنني‪ ،‬وهي يف بريطانيا‪ ،‬تذكرت احلادثة‪ ،‬فالث�أر‬
‫قطع �أو�صال بالدها‪ .‬وت�ساءلت �إن كانت �ستت�سامح مع َمنْ‬
‫قد ي�ؤذيها لو بقيت يف وطنها �أم �أنها كانت �ستخو�ض غمار‬
‫الث�أر �ش�أنها �ش�أن كثري من مواطنيها‪ .‬وعلى هذا املنوال‬
‫حتوك ق�صة حياتها يف هذا العمل الإن�ساين املمتع والآ�سر‬
‫يف الوقت نف�سه‪.‬‬
‫ال تفرغ من الكتاب �إال و�أن��ت تت�أمل يف جمال احلياة على‬
‫الرغم من ق�سوتها‪ ،‬ففي مزيج من الواقعية واخليال‪ ،‬تن�سج‬
‫غ�صوب كتابها‪ ،‬منمقة �إي��اه باملوقف ال�سيا�سي امللتزم‪،‬‬
‫ومعربة فيه عن �أفكار‪ ،‬وم�شاعر يختلط فيها احلب بالكره‬
‫للمكان‪ ،‬ويربز فيها املنفى مع كل ما يثريه من �صراعات‬
‫داخل النف�س الب�شرية‪.‬‬
‫‪144‬‬
‫‪Imperial Life in the Emerald City‬‬
‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫‪Inside Iraq’s Green Zone‬‬
‫‪Rajif Chandrasekaran‬‬
‫ ‬ ‫‪Vintage – 2007‬‬

‫«احلياة االمربيالية يف املدينة الزمردية‪ :‬داخل املنطقة اخل�ضراء يف‬


‫العراق»‬
‫راجيف �شاندرا�سيكاران‬
‫بو�صفه رئي�س مكتب �صحيفة «الوا�شنطن بو�ست» الأمريكية يف بغداد‪ ،‬قد يكون راجيف‬
‫�شاندرا�سيكاران �أطول ال�صحافيني الأمريكيني �إقامة يف ما يُعرف باملنطقة اخل�ضراء‬
‫يف العا�صمة العراقية‪ .‬وهو يروي يف كتابه هذا ق�صة احلياة قرب مقر قيادة قوات‬
‫التحالف‪ ،‬التي حتتل هذا البلد‪ ،‬وهو ال يبعد كثري ًا عن �أحد ق�صور الرئي�س العراقي‬
‫الراحل �صدام ح�سني‪.‬‬
‫وتبد�أ الرواية يف العمل الذي يحمل عنوان «احلياة الإمربيالية يف املدينة الزمردية‪:‬‬
‫داخل املنطقة اخل�ضراء يف العراق» بتويل بول برمير‪ ،‬احلاكم املدين الأمريكي ال�سابق‬
‫للبالد‪ ،‬مهامه يف العام ‪ ،2003‬وزرع الإدارة الأمريكية لهذا البلد املحتل باملوالني‬
‫للرئي�س الأمريكي جورج بو�ش‪ ،‬بغ�ض النظر عن فهمهم للأحوال املحلية وعادات‬
‫العراقيني وتقاليدهم‪ .‬وتنتهي «حني انفجر كل �شيء يف وجوهنا»‪ ،‬وفق ًا لو�صف �أحد ه�ؤالء‪.‬‬
‫ويعدد �شاندرا�سيكاران الف�صام الذي �أ�صاب اجلميع تقريب ًا مع الواقع‪ .‬فثمة جرنال �أمريكي علق على رعب الأطفال‬
‫العراقيني من هدير املروحيات الع�سكرية الأمريكية بالقول �إن عليهم �أن يفرحوا ب�صوت احلرية‪ .‬والأمر على حد‬
‫روايته مل يخل جهد ًا كبري ًا لتجاوز البريوقراطية‪ ،‬وحتقيق �إ�صالحات فعلية يف الإدارة الأمريكية يف العراق‪.‬‬
‫ويدخل الكاتب يف بع�ض التفا�صيل غري اململة‪ ،‬فالكافترييا التابعة لل�شركة النفطية الأمريكية العمالقة (هاليربتون)‪،‬‬
‫التي يرتبط بها كبار من معاوين بو�ش‪ ،‬كنائبه ديك ت�شيني ووزير دفاعه ال�سابق دونالد رام�سفيلد‪ ،‬كانت تقدم حلم‬
‫اخلنزير يف كل وجباتها‪ ،‬ما �أثار حفيظة املوظفني العراقيني‪.‬‬

‫‪1967‬‬
‫‪Israel, the War and the Year that Transformed the Middle East‬‬
‫‪Tom Segev‬‬
‫‪Metropolitan Books - 2007‬‬

‫‪�« :1967‬إ�سرائيل واحلرب والعام الذي غري ال�شرق الأو�سط»‬


‫توم �سيغيف‬
‫كان العرب يهددون بتدمري �إ�سرائيل ورمي اليهود يف البحر‪ .‬لكن �إ�سرائيل مل تنتظر لرتى �إن‬
‫كانوا �سيعملون �أي �شيء يف هذا االجتاه‪ .‬ففي ‪ 5‬حزيران‪/‬يونيو ‪ ،1967‬هاجمت الدول العربية‬
‫الثالث املحيطة بها (م�صر و�سوريا والأردن)‪ .‬وخالل �أقل من �ساعة‪ ،‬دمر �سالح اجلو‬
‫الإ�سرائيلي ‪ 250‬مقاتلة م�صرية‪ ،‬وهي على املدارج‪ ،‬واخرتقت قوات امل�شاة الإ�سرائيلية‬
‫احلدود امل�صرية عرب �سيناء‪ .‬وبد�أت املدفعية الأردنية تق�صف القد�س الغربية و�ضواحي‬
‫تل �أبيب‪ ،‬فيما �أغار �سالح اجلو الأردين على املدن ال�ساحلية الإ�سرائيلية‪ .‬وق�صفت‬
‫املدفعية ال�سورية املتمركزة يف اجلوالن اجلليل‪ .‬وركز الإ�سرائيليون هجومهم على‬
‫م�صر‪ ،‬ف�سلبوها غزة و�سيناء‪ ،‬ثم ركزوا هجومهم على الأردن‪ ،‬ف�سلبوه ال�ضفة الغربية‪،‬‬
‫قبل �أن يركزوا هجومهم على �سوريا‪ ،‬ف�أ�سكتوا مدفعيتها‪ ،‬ثم ا�ستولوا على اجلوالن‪.‬‬
‫يف خالل �ستة �أيام‪ ،‬هزم املواطنون الإ�سرائيليون املدربون ع�سكري ًا ثالثة من �أقوى اجليو�ش العربية‪،‬‬
‫وا�ستولوا على �أرا�ض تفوق م�ساحتها �أربعة �أ�ضعاف دولتهم‪ .‬وتتالت الكتب عن «حرب الأيام ال�ستة»‪ .‬و�آخرها كتاب‬
‫توم �سيغيف «‪� :1967‬إ�سرائيل واحلرب والعام الذي غري ال�شرق الأو�سط»‪ .‬و�سيغيف من امل�ؤرخني اجلدد يف �إ�سرائيل‬
‫الذين عمدوا �إىل رمي الرواية الر�سمية الإ�سرائيلية ملجريات الأمور منذ الطرد اجلماعي للفل�سطينيني قبيل قيام‬
‫الدولة العربية والبحث عن احلقيقة التي ال ت�ش ّرف‪ .‬وهو هنا ي�ؤكد �أن �صلف اجلرناالت‪ ،‬من طراز �إ�سحق رابني و�أرييل‬
‫�شارون‪ ،‬و�إميانهم العميق بالقوة‪ ،‬ما ت�سبب باحلرب‪ ،‬ال عنرتيات الدول العربية‪.‬‬
‫‪145‬‬
‫طوية �صفحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫�صفحات مطوية �صفحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫فحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫�صفحات مطوية‬ ‫وية‬
‫فحات مطوية‬
‫�صفحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫مطوية �صفحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫�صفحات مطوية‬ ‫وية �صفحات مطوية‬

‫الن�ساء‬
‫علي مبارك‬

‫قال ال�شيخ‪ :‬كنت �أت�أ ّمل فيما �أراه من الأحوال‪ ،‬ال �سيما‬
‫يف اختالط الن�ساء مع الرجال‪ ،‬فوجدت يف اختالطهن‬
‫فوائد لهن من حيث �أنهن يتلذذن مبا يرينه ويعلمنه‬
‫من احلوادث والأخبار‪ ،‬وما يطلعن عليه من‬
‫حماورات الرجال‪ ،‬لكن رمبا ترتب على‬
‫هذا االختالط ما يخرجهن عما هو‬
‫�أليق بهن من ال�صيانة واحلياء‪،‬‬
‫لأن كرثة املخالطة واملالم�سة بني‬
‫الرجال والن�ساء قد تف�ضي �إىل �ضد‬
‫ذلك‪ ،‬فال �شك �أن عادات امل�شرقيني‬
‫�أرجح‪ ،‬ور�أيهم يف احتجاب الن�ساء عن‬
‫الرجال �أ�صح و�أ�صلح‪.‬‬
‫فقال الإنكليزي‪� :‬إن الذي ذكرت‪� ،‬أيها‬
‫ال�شيخ‪ ،‬من املحذورات‪ ،‬ال متنع منه‬
‫العزلة بالكلية‪ ،‬لأن كل امر�أة ميكنها �أن‬
‫تعلم كل �شيء وهي يف منزلها‪ ،‬ب�أن تنظر‬
‫يف االبتدا‪ ،‬لأنك‬ ‫من ال�ش ّباك مث ًال فرتى كل ما مي ّر بال�شوارع‬
‫تعلم �أن ح�سن الرتبية‬ ‫واحلارات‪ ،‬فتعرف �أو�صاف الن�ساء والرجال‪،‬‬
‫يهذب عقل الإن�سان‬ ‫و�أحوالهم‪ ،‬فمن �أحبته خاطبته‪ ،‬وما �أعجبها‬
‫وي�صفي طباعه ويع ّوده على‬ ‫فعلته‪ ،‬وحينئذ يكون حال من قعدت يف منزلها‬
‫الف�ضائل ويبعده عن الرذائل‪،‬‬ ‫من الن�ساء كحال من تكون مع الرجال �سواء ب�سواء‪،‬‬
‫فهو زمام ذلك كله‪ ،‬والقاطع لعرق‬ ‫ومع ذلك فاملر�أة على ح�سب عوائدكم مل متنع كل املنع‬
‫ال�شبهة من �أ�صله‪ ،‬ومل �أ َر هذه العادة املخالفة لعادتنا‬ ‫عن اخلروج من منزلها‪ ،‬بل تخرج لزيارة �أهلها وجريانها‬
‫�إال يف بع�ض مدن البالد ال�شرقية‪ ،‬فاخت�صا�صها بهذه املدن‬ ‫و�أحبابها من �أهل البلد‪ ،‬فيمكنها �أن تطلع على �صفاتهم‬
‫يدل على �أنها بدعة حدثت لأ�سباب طارئة‪ ،‬ف�إن جميع‬ ‫القليلة ّ‬ ‫و�أحوالهم‪ ،‬وتعلم درجة ثروتهم يف منازلهم‪ ،‬و�إذا �أراد منعها‬
‫ن�ساء الأرياف ون�ساء عربان البادية وبالد العرب و�أهل املغرب‬ ‫من اخلروج فرمبا تعللت ب�أن عليها ريح ًا من اجلن �أو بها‬
‫و�سواحل ال�شام و�أر�ض احلجاز ال يحتجنب عن الرجال‪ ،‬ورمبا‬ ‫مر�ض ًا من الأمرا�ض فال ت�سرتيح �إال بزيارة بع�ض الأولياء‬
‫قمن مقام �أزواجهن يف بع�ض الأحوال‪ ،‬ك�إكرام ال�ضيف‬ ‫�أو امل�ضي �إىل بع�ض الن�ساء‪� ،‬أو تريد الذهاب �إىل احلمام‪،‬‬
‫والأخذ والعطاء مع الأجانب‪ ،‬وكثري ًا ما يكون �أمر املنزل‬ ‫�أو �صلة بع�ض الأرحام‪ ،‬ونحو ذلك من الأعذار واحليل التي‬
‫و�إدارته موكو ًال �إىل ر�أيهن وتدبريهن‪ ،‬وقد ر�أيت فيهن من‬ ‫ميكنها �أن تبلغ بها الأمل‪.‬‬
‫عاونت الرجل يف �أعماله ال�شاقة‪ ،‬وهذا كله باالختيار من غري‬ ‫فكما ال يكتفي مبج ّرد العلم مع احلرية‪ ،‬كذلك ال يكتفي مبج ّرد‬
‫�إكراه وال �إجبار‪.‬‬ ‫العزلة مع اجلهل‪ ،‬بل ال ب ّد يف كال احلالني من ح�سن الرتبية‬
‫الأعمال الكاملة‪1979/‬‬

‫‪146‬‬
‫حالة املر�أة‬
‫يف الهيئة االجتماعية تابعة حلالة الآداب يف الأمة‬
‫قا�سم �أمني‬
‫من احتقار املر�أة �أن يطلق الرجل زوجته بال‬ ‫حمب للحقيقة �أن يبحث معي يف حالة‬ ‫�إين �أدعو كل ّ‬
‫�سبب‪.‬‬ ‫الن�ساء امل�صريات‪ ،‬و�أنا على يقني من �أنه �سي�صل‬
‫من احتقار املر�أة �أن يقعد الرجل على‬ ‫وحده �إىل النتيجة التي و�صلت �إليها‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫مائدة الطعام وحده ثم جتتمع‬ ‫�ضرورة الإ�صالح فيها(‪.)....‬‬
‫الن�ساء‪ ،‬من �أم و�أخت وزوجة‪،‬‬ ‫لقد م�ضت القرون على الأمم‬
‫وي�أكلن ما ف�ضل منه‪.‬‬ ‫الإ�سالمية وهي حتت حكم‬
‫من احتقار املر�أة �أن يعينّ لها‬ ‫اال�ستبداد املطلق‪ ،‬و�أ�ساء حكامها‬
‫حمافظ ًا على ِعر�ضها مثل �أغا‬ ‫يف الت�ص ّرف‪ ،‬وبالغوا يف اتباع‬
‫�أو مقدّم �أو خادم يراقبها‬ ‫�أهوائهم‪ ،‬واللعب ب�ش�ؤون الرعية‪.‬‬
‫تتوجه‪.‬‬
‫وي�صحبها �أينما ّ‬ ‫بل لعبوا بالدين نف�سه يف �أغلب‬
‫من احتقار املر�أة �أن ي�سجنها‬ ‫الأزمنة‪ .‬وال ي�ستثنى منهم �إ ّال‬
‫يف منزل ويفتخر ب�أنها ال تخرج‬ ‫عدد قليل ال يكاد يذكر بالن�سبة‬
‫منه �إ ّال حممولة على النع�ش �إىل‬ ‫�إىل غالبهم‪.‬‬
‫القرب‪.‬‬ ‫كان من �أثر هذه احلكومات‬
‫من احتقار املر�أة �أن يعلن‬ ‫اال�ستبدادية �أن الرجل يف قوته �أخذ‬
‫الرجال �أن الن�ساء ل�سن حم ًال للثقة‬ ‫يحتقر املر�أة يف �ضعفها‪ .‬وقد يكون‬
‫والأمانة‪.‬‬ ‫من �أ�سباب ذلك �أن �أول �أثر يظهر‬
‫من احتقار املر�أة �أن يحال بينها‬ ‫يف الأمة املحكومة باال�ستبداد‬
‫وبني احلياة العامة والعمل يف‬ ‫هو ف�ساد الأخالق‪.‬‬
‫�أي �شيء يتعلق بها‪ :‬فلي�س‬ ‫وملا كانت املر�أة �ضعيفة‬
‫لها ر�أي يف الأعمال‪ ،‬وال‬ ‫اهت�ضم الرجل حقوقها‬
‫فكر يف امل�شارب‪ ،‬وال ذوق‬ ‫و�أخذ يعاملها باالحتقار‬
‫يف الفنون‪ ،‬وال قدم يف‬ ‫واالمتهان ودا�س برجليه‬
‫املنافع العامة‪ ،‬وال مقام يف‬ ‫على �شخ�صيتها‪ .‬عا�شت‬
‫االعتقادات الدينية‪ ،‬ولي�س لها‬ ‫املر�أة يف انحطاط �شديد �أي ًا كان‬
‫ف�ضيلة وطنية وال �شعور ملي‪.‬‬ ‫عنوانها يف العائلة‪ ،‬زوجة �أو �أم ًا �أو‬
‫ول�ست مبالغ ًا �إن قلت‪� :‬إن ذلك كان‬ ‫بنت ًا‪ ،‬لي�س لها �ش�أن وال اعتبار وال ر�أي‪،‬‬
‫حال املر�أة يف م�صر �إىل هذه ال�سنني‬ ‫خا�ضعة للرجل لأنه رجل ولأنها امر�أة‪.‬‬
‫الأخرية التي خفت فيها نوع ًا �سلطة الرجل‬ ‫فنما �شخ�صها يف �شخ�ص الرجل ومل يبق لها‬
‫على املر�أة تبع ًا لتقدّم الفكر يف الرجال واعتدال‬ ‫واخت�صت‬
‫ّ‬ ‫املنازل‪،‬‬ ‫من الكون ما ي�سعها �إ ّال ما ا�سترت من زوايا‬
‫ال�سلطة احلاكمة عليهم‪ ،‬ور�أينا الن�ساء يخرجن لق�ضاء‬ ‫والتحجب لأ�ستار الظلمات وا�ستعملها الرجل متاعاً‬ ‫ّ‬ ‫باجلهل‬
‫حاجاتهن ويرتدّدن على املتنزهات العمومية ال�ستن�شاق‬ ‫للذة‪ ،‬يلهو بها متى �أراد‪ .‬ويقذف بها يف الطرق متى �شاء‪،‬‬
‫الهواء وترويح النفو�س بت�سريح النظر يف الكائنات التي‬ ‫له احلرية ولها الرق‪ .‬وله العلم ولها اجلهل‪ .‬له العقل ولها‬
‫عر�ضها ال�صانع ج ّل �ش�أنه على نظر كل خملوق‪ ،‬رج ًال كان �أو‬ ‫البله‪ .‬له ال�ضياء ولها الظلمة وال�سجن‪ .‬له الأمر والنهي ولها‬
‫امر�أة‪ .‬وكثري منهنّ يذهنب مع رجالهن �إىل ال�سياحة يف بع�ض‬ ‫الطاعة وال�صرب‪ .‬له كل �شيء يف الوجود وهي بع�ض ذلك الك ّل‬
‫البالد الأخرى‪ .‬وكثري من الرجال قد �أعطوا لن�سائهم مقام ًا‬ ‫الذي ا�ستوىل عليه‪:‬‬
‫يف احلياة العائلية‪.‬‬ ‫من احتقار املر�أة ميلأ بيته بجوار بي�ض �أو �سود �أو بزوجات‬
‫وهذا �إمنا طر�أ على بع�ض الرجال من ن�ش�أة الثقة يف نفو�س‬ ‫متعدّدة‪ ،‬يهوي �إىل �أيهنّ �شاء‪ ،‬مقاد ًا �إىل ال�شهوة‪ ،‬م�سوق ًا‬
‫�أولئك الرجال بن�سائهم واطمئنانهم �إىل �أمانتهنّ ‪ :‬وهو‬ ‫وحب ا�ستيفاء اللذة‪ ،‬غري مبال مبا فر�ضه عليه‬ ‫بباعث الرتف ّ‬
‫احرتام جديد للمر�أة‪.‬‬ ‫الدين من ح�سن الق�صد فيما يعمل‪ ،‬وال �أوجبه عليه من العدل‬
‫«حترير املر�أة» ‪« -‬القاهرة ‪»1899‬‬ ‫فيما ي�أتي‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫طوية �صفحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫�صفحات مطوية �صفحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫فحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫�صفحات مطوية‬ ‫وية‬
‫فحات مطوية‬
‫يف احل��رمي على الو�سائد الناعمة وحوله الن�ساء والغلمان‬ ‫�صفحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫مطوية �صفحات مطوية �صفحات مطوية‬
‫والزهور والروائح العطرية وكل ما من �ش�أنه �إثارة ال�شهوة‪،‬‬ ‫�صفحات مطوية‬ ‫وية �صفحات مطوية‬
‫وكان يت�أنق يف ثيابه وي�سرف يف التحلي باجلواهر‪ ،‬حتى �أنه‬

‫احلرمي‬
‫ك��ان يعلق اجلواهر يف حليته‪ ،‬وزي��ن مركبته و�سروج خيله‬
‫بالذهب اخلال�ص‪ ،‬وكان يطوف �أحيان ًا مع وزرائه يف املدينة‬
‫ثم ال يلبث �أن يقطع الطواف وي�سرع يف العودة �إىل احلرمي‪،‬‬
‫وحدث مرة �أنه �أثناء طوافه ر�أى امر�أة كبرية اجل�سم ف�أعجبه‬
‫هذا النوع من الن�ساء‪ ،‬ف�أمر �أن ي�ؤتى له ب�أ�سمن ام��ر�أة يف‬
‫املدينة‪ ،‬وخرجت اجلنود للبحث وج��اءوا بن�ساء كثريات مل‬ ‫عند �سالطني �آل عثمان‬
‫يوافقهن خياله‪ ،‬حتى عرثوا �أخري ًا على �أرمنية حازت ر�ضاء‬
‫ال�سلطان فقربها �إليه‪ ،‬و�أخ��ذ نفوذها يكرب بن�سبة ج�سمها‬ ‫مذكرات الأمرية جويدان‬
‫حتى ت�ضاءل �أمام نفوذها نفوذ ال�سلطان ونفوذ املحظيات‬
‫الأخريات فت�آمرت املحظيات �ضدّها‪ ،‬وبلغها‬ ‫�إن الباحث املتع ّمق يف �أعمال ال�سالطني العثمانيني ال‬
‫خرب امل�ؤامرة ف�أقامت وليمة دعت �إليها‬ ‫يرى يف �أعمالهم �أظهر من اخلنق وال�شنق‬
‫غرمياتها‪ ،‬ث��م �أم���رت بخنقهن على‬ ‫والت�سميم والإغراق واحلب�س‪ ،‬فقد كانوا‬
‫امل��ائ��دة‪ ،‬وان��ف��ردت ه��ي بال�سلطة‪،‬‬ ‫يعتقدون �أن هذه الأ�س�س متهّد لل�سلطة‬
‫ف��ك��ان��ت ت��غ��ري ال�سلطان بقتل‬ ‫وتوطد مركز اخلليفة‪ ،‬لأنها تبعد‬
‫م��ن ت�شاء وت��رف��ع م��ن ت�شاء‪،‬‬ ‫املناف�سني من الطريق‪ ،‬وكانت‬
‫وال�سلطان ال ي��ر ّد لها كلمة‬ ‫�أجن��ح الطرق للتخل�ص من‬
‫لأن����ه ك���ان ع���ب���د ًا ل�����ش��ه��وت��ه‪،‬‬ ‫املزاحمني‪.‬‬
‫والويل للطبيب الذي ين�صح‬ ‫ول��ي��ت ���ش��ع��ري ك��ي��ف كانت‬
‫ال�سلطان مب��راع��اة �صحته‪،‬‬ ‫امل������ر�أة ت�����ص�بر ع��ل��ى �آالم‬
‫ف���إن��ه ي��ع�� ّر���ض نف�سه لغ�ضب ال‬ ‫احلمل وهي تعلم �أن طفلها‬
‫يعرف نتيجته‪.‬‬ ‫�سيقتل عقب الوالدة؟ ول�ست‬
‫وع��ن��دم��ا ي��ت��وىل ال�����س��ل��ط��ان‬ ‫�أدري ب�أي عاطفة كانت تتقدّم‬
‫ت�����س��ي�ير ح���رمي���ه الح���ت�ل�ال‬ ‫امل����ر�أة �إىل ال�سلطان تبادله‬
‫ال�سراي وطرد حرمي ال�سلطان‬ ‫القبالت وتناف�س غريها يف ح ّبه‬
‫امل ّيت �إىل �سراي قدمي وقد تثور‬ ‫وه��ي ال متلك من �أم��ره��ا �سوى‬
‫احلرمي املطرودة ل�سلطتها ال�ضائعة‪،‬‬ ‫ال�ساعة التي حتيا فيها‪ ،‬ورمبا‬
‫ف��ي��م�ل�أن اجل���و ���ص��راخ�� ًا وي��ك�����س��رن‬ ‫ال تطلع عليها �شم�س الغد حتى تكون‬
‫ال�شبابيك والأبواب ويخربن يف الق�صر‬ ‫غريقة يف الب�سفور‪ ،‬و�أغلب ظني �أن ذلك‬
‫بقدر ما ي�ستطعن‪ ،‬ولعلم الن�ساء ب�أن‬ ‫الزمن انفرد ب�صنف خم�صو�ص من الن�ساء ال‬
‫مدّة �سلطتهن ال تطول �إال بقدر ما يعي�ش‬ ‫يرين وال ي�سمعن وال ي�شعرن‪.‬‬
‫ال�سلطان‪ ،‬فقد كانت �إحداهن �إذا نالتها‬ ‫ومل يكن م��ن ال�سهل �إدارة احل���رمي‪ ،‬كما يجب‪،‬‬
‫احلظوة �أ�سرفت يف ا�ستعمال نفوذها‬ ‫فرئي�سة حرمي مراد الثالث كان حتت حرا�ستها �أربعون‬
‫لأن الوقت ق�صري‪ ،‬وكانت ت��دور يف‬ ‫حمظية ومئة طفل وخم�سمئة جارية‪ ،‬ويف نف�س الوقت كان‬
‫احلرمي حرب خف ّية الكت�ساب ر�ضا‬ ‫من واجبها �أن تكون على ات�صال ب�ش�ؤون امللك يف اخلارج‬
‫ال�سلطان واال�ستبداد بالنفوذ‪.‬‬ ‫ومراقبة ما يجري يف احل��رمي يف الداخل‪ ،‬والعمل على �أال‬
‫وهكذا ظلت احلرمي يتع ّر�ضن يف‬ ‫تت�صل �إح��دى الن�ساء باحلياة اخلارجية‪ ،‬ولكن الن�ساء كنّ‬
‫�ش�ؤون الدولة‪ ،‬والن�ساء يحكمن من خلف ال�ستار حتى توىل‬ ‫�أمهر من �أن تقف يف �سبيلهن اجل��دران‪ ،‬وثبت �أن املحظية‬
‫البادي�شاه عبد احلميد خان �ساكن ق�صر يلدز‪.‬‬ ‫«رقية» وهي من فيني�سيا كانت ترا�سل «كاترين دي مدي�سي»‬
‫وكانت حتاول ا�ستغالل نفوذها ل�صالح بالدها‪.‬‬
‫دم�شق‪ :‬دار املدى «‪»2004‬‬ ‫وتتابع �سالطني �آل عثمان وكلهم �سواء يف الع�سف والظلم‬
‫حتى جاء �إبراهيم الأول فكان عبد ًا ل�شهوته‪ ،‬فكان مقامه‬

‫‪148‬‬
‫�إ�صالح القوانني العملية‬
‫للعالقة الزوجية‬
‫هدى �شعراوي‬
‫معه بهدوء وراحة‪ .‬و�إمنا هو �سالح يريد �إكراهها به‬ ‫بعد �أن عدنا من م�ؤمتر باري�س‪ ،‬وبعد �أن �شاركنا فيه‬
‫(�إن كانت مو�سرة) على �إعطائه مبلغ ًا مقابل‬ ‫بق�سط وافر‪ ،‬وحققنا فيه نتائج باهرة من �أجل ق�ضية‬
‫مع�سرة) فلإكراهها‬ ‫الطالق‪ ،‬و(�إن كانت ّ‬ ‫املر�أة والتط ّور االجتماعي وال�سالم العام‪ ،‬دعوت‬
‫على �إبراء ذ ّمته من نفقة وغريها‪.‬‬ ‫�أع�ضاء االحتاد الن�سائي لعقد عدّة جل�سات من‬
‫�إن دار الطاعة هي �أخطر من دور‬ ‫�أجل هذا الغر�ض‪ .‬وقد انتهت هذه اجلل�سات‬
‫ال�سجن املعدّة لإيواء الأ�شقياء واملحكوم‬ ‫�إىل �إعداد تقرير‪ ،‬رفعته جمعية االحتاد‬
‫عليهم بارتكاب اجلرائم واملنكرات‪،‬‬ ‫الن�سائي امل�صري يف ‪ 21‬نوفمرب ‪� 1926‬إىل‬
‫لأن امل�سجونني حتت �إ�شراف �أنا�س‬ ‫�أ�صحاب الدولة واملعايل رئي�س جمل�س الوزراء‬
‫حمدودة �سلطتهم يف القانون ولي�س‬ ‫ووزير احلقانية ورئي�س جمل�س ال�شيوخ ورئي�س‬
‫بينهم وبني املحكوم عليهم عداء �أو‬ ‫جمل�س النواب‪.‬‬
‫خ�صومة ت�ستفزهم �إىل التنكيل والتعدّي‬ ‫ن�ص التقرير‪:‬‬
‫وكان هذا هو ّ‬
‫على حدود ال�سلطة التي لهم قانون ًا‪� .‬أما‬ ‫(‪)....‬‬
‫الزوج (وهو اخل�صم واحلار�س على املر�أة‬ ‫«�إننا نطلب �إ�صالح القوانني العملية‬
‫التعي�سة املق�ضي عليها بالدخول حتت‬ ‫للعالقة الزوجية‪ ،‬وجعلها منطبقة على‬
‫طاعته) فال �سلطان لأحد عليه �أمام‬ ‫ما �أرادته ال�شريعة من �إحكام‬
‫هذه امل�سكينة‪ .‬وهو ميلك كما يقول‬ ‫الروابط العائلية و�سيادة الهناء‬
‫بع�ض الفقهاء �إغالق الباب عليها‬ ‫فيها‪ .‬ولذلك نطلب �صيانة املر�أة‬
‫ومنع كل �إن�سان من الدخول عليها‬ ‫من الظلم الواقع عليها»‪.‬‬
‫بال�سب‬
‫ّ‬ ‫�إال ب�إذن‪ ،‬ويتعدّى عليها‬ ‫�أو ًال‪ :‬من تعدّد الزوجات دون م ّربر‪.‬‬
‫وال�ضرب واملحاكم ال�شرعية ال تعترب كل‬ ‫ثاني ًا‪ :‬من الإ�سراع يف الطالق دون �سبب‬
‫هذا خروج ًا من الزوج على احلدود التي له‬ ‫جوهري‪.‬‬
‫�شرع ًا على زوجته‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬من الظلم والإرهاق اللذين يقعان‬
‫�أما م�س�ألة رعاية الطفل وتقرير من له حق‬ ‫عليها فيما يدعى بدار الطاعة‪.‬‬
‫الواليةعليهعنداختالفالأبوين�أوموت�أحدهما‪،‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬من �أخذ �أوالدها يف حالة افرتاق الزوجني‬
‫فمن امل�سائل التي ت�ستدعي النظر يف �إ�صالحها‪ ،‬لأننا‬ ‫يف �سنّ هم فيها يف �أ�ش ّد احلاجة لعناية �أ ّمهم‬
‫نرى �أن اجلاري عليه العمل يف الق�ضاء ال�شرعي لي�س‬ ‫وحنانها‪.‬‬
‫وافي ًا دائم ًا بو�ضع الطفل حتت مراقبة �صحيحة عطوفة وي ّد‬ ‫ف�إذا نحن طالبنا ب�سنّ قانون مينع تعدّد الزوجات �إال ل�ضرورة‪.‬‬
‫باردة تعنى برتبيته تربية �صحيحة ج�سمي ًا و�أخالقي ًا‪ .‬و�أ�سو�أ‬ ‫ك�أن تكون الزوجة عقيم ًا �أو مري�ضة مبر�ض مينعها من �أداء‬
‫احلاالت و�أبعدها عن الإن�صاف حالة وجود �أم للطفل مطلقة‬ ‫وظيفتها الزوجية (ويف هذه احلاالت يجب �أن يثبت ذلك‬
‫وغري متزوجة‪� ،‬أي متف ّرغة لل�سهر على م�صلحة �أوالدها‪ ،‬ينزع‬ ‫الطبيب)‪ .‬و�إذا نحن طالبنا ب�سنّ قانون يلزم املطلق �أال يطلق‬
‫ولدها من ح�ضانتها يف �سنّ ال�سبع �إن كان ذكر ًا‪ ،‬والت�سع �إن‬ ‫زوجه �إال �أمام القا�ضي ال�شرعي الذي عليه معاجلة التوفيق‬
‫كانت �أنثى‪.‬‬ ‫بح�ضور حكم من �أهله وحكم من �أهلها قبل احلكم بالطالق‪،‬‬
‫ن�ص على �أن يبقى ال�صبي يف ح�ضانة �أمه حتى‬ ‫والإمام مالك ّ‬ ‫فلأن هذه القوانني تزيل الفو�ضى احلا�صلة يف م�سائل الزواج‬
‫ن�ص ال�شريعة‬ ‫ي�صح‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫يحتلم والبنت حتى تتزوج‪ .‬فهل ّ‬ ‫والطالق‪ ،‬وبالتايل تزيل التع�س وال�شقاء اللذين يرزح حتتهما‬
‫ور�أي �إمام م�شهور‪� ،‬أن تكون ال�سابعة �أو التا�سعة �سنّ اال�ستغناء‬ ‫الألوف من الن�ساء ب�سبب �سوء ت�ص ّرف الرجال يف ذلك احلق‪.‬‬
‫�صح �أن ذلك حمتمل يوم �أن كانت احلياة �أق ّل‬ ‫عن الن�ساء‪ ،‬و�إن ّ‬ ‫فكم من ن�ساء يطلقن لأوهى الأ�سباب‪ ،‬ويف حلظة تنح ّل الرابطة‬ ‫ّ‬
‫ي�صح يف الع�صر‬ ‫تعقيد ًا و�أقرب �إىل البداوة منها اليوم‪ ،‬فهل ّ‬ ‫العائلية املقدّ�سة‪ .‬وكم من ن�ساء يتز ّوج �أزواجهن بغريهن لغري‬
‫الذي نعي�ش فيه وقد ت�ضاعفت احلاجات وتعدّدت و�سائل‬ ‫�سبب �إال �أنانية الرجل‪ ،‬ناهيك مبا ي�صيب الأوالد يف احلالتني‬
‫الرتبية وطرق الوقايات ال�صحية؟‬ ‫من ج ّراء قطع ال�صلة بني والديهم‪ ،‬مما ال يحتاج �إىل �شرح‪.‬‬
‫امل�شاهد �أنه ال ميكن اال�ستغناء عن معونة الأم ون�صائحها قبل‬ ‫�أما م�س�ألة �إكراه الزوجة على الذهاب �إىل ما يدعى دار‬
‫ال�ساد�سة ع�شرة‪ ،‬والدليل على ذلك �أن احلكومة نف�سها جرت‬ ‫الطاعة‪ ،‬فتتطلب النظر يف حتديد احلقوق املق ّررة يف باب‬
‫على هذه القاعدة وق ّررت حديث ًا اعتبار بدء �سنّ الر�شد من‬ ‫والية الزوج وما يدّعيه من احلقوق على زوجته‪ ،‬لأن امل�س�ألة‬
‫احلادية والع�شرين‪.‬‬ ‫من الأهمية مبكان و�أ�صبحت �سالح ًا ي�ستعمله الرجل حينما‬
‫تخرج زوجته من دار الزوجية ل�سوء معاملته �أو تعذر العي�ش‬
‫«املذكرات ‪»1979‬‬

‫‪149‬‬
‫عمـارة‬
‫ون فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫ن فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫ن فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫فنون‬ ‫فنون‬
‫ن فنون فنون‬

‫جديدة‬
‫فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫فنونفنون فنون‬ ‫نون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫فنون‬ ‫ن فنون فنون فنون‬

‫‪150‬‬
‫اجلنوب يف امل�سرح اللبناين‬

‫احتل اجلنوب مكاناً مركزياً يف حياة‬


‫اللبنانيني‪ .‬لي�ست هذه عالمة فارقة فيه‪،‬‬
‫لأن دوره بد�أ حمورياً منذ اللحظات الأوىل يف‬
‫ال�صراع العربي‪ -‬الإ�سرائيلي‪ .‬الأحرى القول‪،‬‬
‫�إن اجلنوب عقد عالقات م�ستمرة بالأحداث‬
‫الكربى بالعامل‪ .‬بد�أ قريناً لكل ما هو عاملي‪.‬‬
‫هكذا هو منذ بدايات القرن احلايل‪� ،‬أو منذ‬
‫�أواخر القرن املا�ضي‪ .‬لن ينتظر اجلنوبيون‬
‫ال‪ ،‬لكي يدركوا مدى تف ّوق منطقتهم‬ ‫طوي ً‬
‫على ال�صعيد ال�سيا�سي‪ ،‬حتى يف حلظات‬
‫القهر الق�صوى من قبل انتداب �أو �سلطة‬
‫حملية‪� ،‬أو �أعيان �أو بكوات‪� .‬صار اجلنوب‬
‫حكمة من تتايل الأحداث فيه ومن انفتاحه‬
‫على ُقطرها املحلي والعاملي‪ .‬عقله عقل‬
‫تاريخ‪ .‬وقد وجد م�ستقره النهائي يف بريوت‪.‬‬
‫يف العا�صمة يف كافة امل�ستويات‪ ،‬وخ�صو�صاً‬
‫امل�ستويات التعبريية‪.‬‬
‫عبيدو با�شا‬
‫كاتب من لبنان‬

‫‪151‬‬
‫دولة جبل عامل �أو اجلنوب اللبناين‪ ،‬ك�أنه طرف يف لعبة‬ ‫ون فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫ن فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫كونية‪ .‬قراءة حكاية من حكاياته ت�ؤكد ذلك‪ .‬حكاية‬
‫ن فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫�سيا�سية �أو حكايات جنيات‪ ،‬تب ّدل اجلنيات فيها مواقع‬
‫�إقامتها‪ .‬مل يكتب اجلنوب م�شروع ًا ثقافي ًا ومل ي�ستلهم‬
‫�إال حكاياته‪� .‬ص ّبت م�شاريعه يف �أيكته‪ .‬ولعل �أبرز هذه‬
‫فنون‬ ‫فنون‬
‫ن فنون فنون‬
‫امل�شاريع هي م�شاريع ت�أريخية ولي�ست فنية �أو ثقافية‪ .‬ولو‬ ‫فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫�أن الثقافة لعبت دور ًا بارز ًا يف امل�شروع التاريخي‪ .‬هذه‬ ‫فنونفنون فنون‬ ‫نون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫فنون‬ ‫ن فنون فنون فنون‬
‫ثنائية خ�صبة‪� ،‬أ�سهمت يف قيام حركة طال مداها حتى‬
‫و�صل �إىل العا�صمة الثقافية بريوت‪.‬‬
‫كل حياة ثقافية تفرز رجا ًال و�إنتاجات‪ .‬ولكن حماوالت‬
‫اجلنوبيني يف امل�سرح بقيت يف اجلنوب‪ ،‬حماوالت‬
‫هاوية مل ت�صل ح ّد االحرتاف �أو االعرتاف بها من قبل‬
‫امل�سرحيني يف بريوت‪ .‬يف كل الأحوال‪ ،‬مل يت�أنَّ امل�سرحيون‬
‫يف اجلنوب وهم ميار�سون �أدوار ًا و�سيطة بني امل�سرح‬
‫وجمهوره‪ .‬ذلك �أنهم �أرادوا �أن ير�سموا حدود م�سرحهم‬
‫يف حدود اجلنوب‪ ،‬لأنهم ق ّدموا التعبري على �أ�شكاله‪.‬‬
‫ولأنهم حكموا �أنف�سهم بالنظرة الثقافية �إليهم‪ ،‬ولي�س‬
‫بنظرتهم �إىل �أنف�سهم‪.‬‬
‫لي�س هذا تعري�ض ًا‪ ،‬ولي�ست هذه حماولة لر�سم ح ّد ف�صل‬
‫بني اجلنوب والعا�صمة‪ .‬بيد �أن م�سافة وا�سعة بقيت تف�صل‬
‫بينهما‪ ،‬حني ترك اجلنوب لزعاماته التقليدية ولعالقاته‬
‫التقليدية التي مل تتخ ّل�ص مما تخ ّل�صت منه بريوت يف‬
‫�أواخر القرن املا�ضي‪ .‬الإقطاع �أو ًال وم�صادراته �أكرث من‬
‫ُفجر‬
‫منحى‪ .‬انفجرت حركة تنوير ثقافية يف بريوت‪ ،‬مل ت ّ‬
‫يف اجلنوب حني قامت فيه حركة ثقافية مو�سوعية غري‬
‫فاعلة متام ًا‪� ،‬سوى على ال�صعيد الداخلي‪.‬‬
‫ربط احلركة الإبداعية بالواقع من مفهوم �إنتاجي‬
‫خال�ص‪ ،‬بقي حكر ًا على م�سرحيي العا�صمة‪ .‬هذا كالم‬ ‫من م�سرحية الع�صافري لروجيه ع�ساف‬
‫قفز من التاريخ البعيد �إىل مرحلة ال�ستينيات‪ .‬ف�سر‬
‫البع�ض ذلك‪ ،‬بعد ت�أمالت طويلة مع ّمقة وغري مع ّمقة‪،‬‬
‫بكون امل�سرح ابن املدينة‪ .‬امل�سرح مديني واجلنوب قرى‪.‬‬
‫و�ضعوا مرحلة على طاولة الت�شريح من ج ّراء ذلك‪.‬‬
‫ولكنهم ما لبثوا �أن تخطوا الواقعة‪ ،‬بنقل جتربتهم �إىل‬
‫اجلنوب‪ ،‬دون �أن ينتقلوا هم �أنف�سهم �إىل اجلنوب‪.‬‬
‫�صراع امل�سارح‬
‫قامت احلركة امل�سرحية يف لبنان يف بريوت‪ّ � .‬أ�س�س‬
‫�أنطوان ملتقى ومنري �أبو دب�س امل�سرح احلديث الذي‬
‫مت ّرد عليه بع�ض امل�سرحيني العاملني فيه‪ .‬وجدوا يف ما‬
‫يقوم به �أبو دب�س فذلكات‪ .‬ولكنهم انتبهوا �إىل �أن بداية‬
‫امل�سرح يف لبنان بد�أت من اقتبا�س امل�سرحية اليونانية‪.‬‬
‫ق ّدمت «�سبعة على �أبواب طيبة» يف امل�سرح والتليفزون‪.‬‬
‫انتظر الكثريون �سنوات طويلة قبل �أن ير ّددوا دون هوادة‬
‫�أثينا �أثينا �أمنا‪� .‬أثينا �أمنا ونحن �أوديب‪ .‬هنا تعززت‬
‫جتربة املدينة‪ .‬حت ّلق �أنطوان ملتقى ورفاق له حول‬
‫طاولة نقا�ش انتهى بت�سمية جتربة جديدة وبتحفيزها‬
‫على مناف�سة ذاكرة البداية الطرية‪ .‬قادت املناف�سة �إىل‬ ‫من م�سرحية «ابت�سم �أنت لبناين» ليحيى جابر‬
‫ت�أليف حلقة امل�سرح اللبناين‪ .‬جلنة مهرجانات بعلبك‬
‫انتبهت �إىل �أن التجربة التي ح�ضنتها باتت مه ّددة‪.‬‬
‫راقبت ال�سيدة �سعاد جنار قيام مهرجان را�شانا ل�صالح‬
‫‪152‬‬
‫به ويدافع عنه ويدعو �إليه‪ ،‬مل يجد �أكرث ا�ستيعاب ًا من‬ ‫حلقة امل�سرح‪ ،‬ف�أقامت مهرجان ًا مناف�س ًا له هو مهرجان‬
‫اجلنوب للمو�ضوعات الأو�سع‪ .‬وهو �أقام لقا ًء مدوي ًا بني‬ ‫جبيل‪ .‬تناف�س املهرجانان بقوة امل�سرحيني‪� ،‬إذ ك ّلما ق ّدم‬
‫التغريب واجلنوب‪ ،‬حني ا�ستلهم �أ�سئلة جنوبية كربى‬ ‫�أنطوان ملتقى م�سرحية يف را�شانا‪ ،‬حاول �أبو دب�س تقدمي‬
‫يف م�سرحيات بري�شت التي اقتب�سها �أو �أعاد كتابتها‪،‬‬ ‫م�سرحية �أميز يف مهرجانات جبيل‪ .‬وك ّلما ق ّدم �أبو دب�س‬
‫م�سطر ًا دخول الوعي ال�سيا�سي �إىل امل�سرح ودخول‬ ‫م�سرحية قوية يف مهرجانات جبيل‪� ،‬أجابه �أنطوان ملتقى‬
‫امل�سرح ال�سيا�سي �إىل لبنان‪.‬‬ ‫مب�سرحية �أقوى يف را�شانا‪.‬‬
‫«جحا يف القرى الأمامية» جنوبية الهوى والهوية‪.‬‬ ‫و�سط التناف�س الالهب هذا بقي امل�سرحيون ي�ؤلفون‬
‫وكذلك «وايزمانو بن غوريون و�شركاه»‪ .‬مفاج�آت‬ ‫جتربة واحدة‪ .‬اعرتف �أنطوان ملتقى ب�أنه لوال‬
‫و�إدها�شات ك�شفت هزال الواقع اللبناين وه�شا�شته‬ ‫املهرجانان والتناف�س الذي �أقاماه النتهت جتربة امل�سرح‬
‫حني راحت تكتب قوة امل�سرح يف احلياة العامة بلبنان‪.‬‬ ‫يف لبنان بعد ثالث �أو �أربع �أو خم�س �سنوات على قيامها‪.‬‬
‫�أقام الرجل رباط زواج قد�سي ًا بني اجلنوب اللبناين‬ ‫م�صوغ مديني وجد مرتعه يف املدينة قبل �أن يتف ّرع‪ .‬راح‬
‫وبري�شت وامل�سرح ال�سيا�سي‪ .‬ولأنه مارك�سي‪ ،‬ف�إن �أية‬ ‫امل�سرحيون ي�ؤ ّكدون وهم يعر�ضون يف مدينة �أو قرية‪.‬‬
‫مناق�شة معه‪� ،‬سلكت طرق اجلدل‪ .‬اجلنوب يف قلب‬ ‫بعلبك مدينة‪ ،‬جبيل مدينة‪� ،‬أما را�شانا فهي قرية ذات‬
‫اجلدل‪ ،‬ثمرة �أكيدة لكثري من التف ّكر وال�شغل والتعب‪.‬‬ ‫موا�صفات مدينية انوجدت يف الأخوة ب�صبو�ص و�أنطوان‬
‫م�سرح‬ ‫�سطرت بداية ح�ضور اجلنوب‬ ‫املنهجية العلمية البكر‪ّ ،‬‬ ‫ولطيفة ملتقى و�أ�صدقاء ومريدين كثريين‪.‬‬
‫اجلنوب جاء‬ ‫يف امل�سرح اللبناين‪« .‬جحا يف القرى الأمامية» نوع من‬
‫الإن�صات �إىل �صوت اجلنوب وهمومه عرب حجج و�أدلة‪،‬‬ ‫بري�شت واجلنوب‬
‫كانقالب‬ ‫يف خ�صو�صية الفتة يف ذلك الوقت‪� .‬صوت ي�سوده القمع‬
‫على‬ ‫والت�س ّلط والرهبة والرغبة يف التعبري‪ .‬منط يبحث يف‬ ‫بد�أت النه�ضة بحركة ترجمة وت�أليف يف بريوت‪ .‬ترجم‬
‫الأ�سباب‪ ،‬يجادلها ويحفر للجنوب موقع ًا يف البدايات‬ ‫مارون النقا�ش م�سرحيات ق ّدمها يف بريوت‪ ،‬قبل �أن‬
‫الأ�شكال‬ ‫امل�سرحية يف لبنان‪.‬‬ ‫يعيدنا �إىل م�سرح الإر�ساليات الدينية‪ .‬مل يح ّول جتربته‬
‫�إىل معلم‪ ،‬بل ح ّولها �إىل در�س تعليمي يف �أ�صول انطفاء‬
‫التقليدية‬ ‫املعيار امل�سرحي‬ ‫املحاوالت‪ .‬يف ما بعد‪ ،‬قال رميون جبارة �إن امل�سرح‬
‫و«احلكواتي»‬ ‫اللبناين بد�أ بال�صح‪ ،‬لأنه بد�أ بالرتجمة‪ .‬حلظة لقاء‬
‫�صار اجلنوب معيار ًا من معايري امل�سرح يف لبنان‪.‬‬ ‫تاريخية‪ ،‬بقي اجلنوب اللبناين يف من�أى عنها‪ .‬يف ما‬
‫�صار ر�ؤية و�أ�سلوب ًا‪ ،‬يكت�شف فيه امل�سرحيون والنا�س ا�ستلهام‬ ‫بعد‪ ،‬بد�أت حركة م�سرحية بالفرن�سية‪ ،‬راحت ّ‬
‫تتخطى‬
‫هوياتهم امل�ؤ�صلة وا�ستقاللهم املفقود‪ .‬لن ت�صبح روحه تراثي عبقري‬ ‫رويد ًا رويد ًا لغتها و�أ�ساليبها‪ .‬ولكن اجلنوب مل يبقَ‬
‫روح و�صاية‪ ،‬ولن يتح ّول يف ح�ضوره �إىل �أيديولوجيا‬ ‫خايل الوفا�ض يف هذه املعمعة‪ ،‬مع بروز �أ�سماء م�سرحية‬
‫ا�ستبدادية‪ ،‬ومل يطغ دون دوافع �أو �أ�سباب على‬ ‫جنوبية يف بريوت مل جتاهر بانتمائها هذا �إال يف مرحلة‬
‫تخل م�سرحية من‬ ‫حيوات امل�سرحيني وخميالتهم‪ .‬مل ُ‬ ‫مت�أخرة‪ ،‬يف مرحلة بداية احلرب الأهلية يف لبنان‪،‬‬
‫ا�سم اجلنوب �أو من �إ�شارة �إليه‪« :‬بالن�سبة لبكره �شو»‬ ‫كروجيه ع�ساف ونقوال دانيال وعادل �شاهني ونزيه‬
‫و«فيلم �أمريكي طويل» لزياد الرحباين‪ .‬م�سرحيات‬ ‫قطان وغريهم‪ .‬مل ينب�شوا تواريخ والداتهم احلقيقية‬
‫منري ك�سرواين‪ .‬م�سرحيات �شو�شو �أو امل�سرح الوطني‬ ‫�إال بعد خم�س ع�شرة �سنة على بداية احلقبة الثانية يف‬
‫ال�شعبي مع «خيمة كركوز» و«�آخ يا بلدنا»‪ .‬جتربة‬ ‫جتربة امل�سرح اللبناين‪� ،‬إذا اعتربنا �أن مارون النقا�ش‬
‫امل�سرح يف «الإعالم املوحد» يف منظمة التحرير‬ ‫ومنْ جاء بعده من �أقاربه هم �أ�صحاب احلقبة الأوىل‪.‬‬‫َ‬
‫الفل�سطينية‪ .‬جتربة امل�سرح يف «الإعالم اجلماهريي»‬ ‫ه�ؤالء عادوا مبو�ضوعات م�سرحية مهمة‪ ،‬تالئم جدل‬
‫يف منظمة التحرير الفل�سطينية‪ .‬م�سرحيات ف�ؤاد نعيم‬ ‫املرحلة التاريخية اجلديدة التي خا�ضها لبنان ومل يرتكوا‬
‫كـ «احللبة»‪ .‬م�سرحيات نقوال دانيال‪ .‬ثم �إن اجلنوب‬ ‫فر�صة �سانحة �إال وا�ستغلوها حماولني ك�سر ما اعتادوا‬
‫و�صل �إىل التجارب العربية الكربى‪ .‬احلبيب �شبيل‬ ‫تقدي�سه والنظر �إليه نظرة خا�صة‪ .‬وعلى الرغم من �أن‬
‫ق ّدم «�سمفونية» عن ح�صار بريوت واجلنوب‪ .‬فرقة‬ ‫املعارك التي خا�ضوها واملتعلقة باال�ستلهام والتوظيف‪،‬‬
‫«امل�سرح اجلديد» ق ّدمت «عرب»‪« .‬نزهة ريفية» ليعقوب‬ ‫�إال �أن الآخرين مل ينظروا �إىل اال�ستلهام ك�سبة عار يف‬
‫ال�شدراوي‪ .‬غري �أن م�سرحيات كثرية مل تقربه‪ ،‬لذا‬ ‫يوم من الأيام‪ .‬لقد ع ّلمتهم الأيام والقراءات والرتبية‬
‫مل ي�ش ّكل �أيديولوجيا ا�ستبدادية‪ .‬رميون جبارة قارب‬ ‫املختلفة‪� ،‬أن ال�صراحة هي الثوب الذي ال نخجل منه‪،‬‬
‫اجلنوب بعموميات م�سرحه‪ .‬ولكنه مل يقربه حق ًا‪ ،‬ال يف‬ ‫و�أن اجلنوب هو بيت ال�صراحة يف قراءة الو�ضع اللبناين‬
‫«زراد�شت» وال «�شربل» وال «لتمت ديد�سدمونة» وال «حتت‬ ‫والعربي‪.‬‬
‫رعاية زكور» �أو «من قطف زهرة اخلريف»‪ .‬م�سرحيات‬ ‫جالل خوري واحد من ق ّلة قليلة طرحت اجلنوب‬
‫�أنطوان ملتقى مل تقربه كذلك‪« .‬و�صية كلب» �أو «جرمية‬ ‫ك�إ�شكالية مو�ضعية حقيقية يف جتربة امل�سرح اللبناين‪.‬‬
‫وعقاب» �أو «زيارة ال�سيدة العجوز» �أو «مهاجر بري�سبان»‬ ‫قر�أ يف اللغة‪ ،‬قر�أ يف التقاليد‪ ،‬قر�أ يف الدين ويف‬
‫�أو «موانئ احلنني» �أو «وراء الباب» وغريها ل�شكيب‬ ‫ي�سجل مالحظات وجدت‬ ‫و�سخر قراءاته لكي ّ‬ ‫العلمنة‪ّ ،‬‬
‫خوري‪� .‬أو م�سرحيات برج فازليان‪.‬‬ ‫م�ستقرها النهائي يف �أعمال طليعية لبنانية‪ .‬ا�ستغل‬
‫رئيف كرم عرج على اجلنوب يف م�سرحياته‪ ،‬يف �أبعاد‬ ‫خوري بذكاء حال املجتمع لكي يو�صل الفكر الذي ي�ؤمن‬
‫‪153‬‬
‫جذور ال�سرية يف وجدان امل�شاهدين‪ .‬وهم م�شاهدون‬ ‫ون فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫ن فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫حمدودو التوجه‪ .‬لأنهم �أ�صحاب و�أقارب و�أفواج‬
‫ن فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫«الك�شافة الإ�سالمية» منتجة هذا العر�ض امل�سرحي‪.‬‬
‫جمهوري الرجال والن�ساء‪ .‬لقد‬‫ّ‬ ‫لذلك مت الف�صل بني‬
‫وجدتُ �صفني طويلني من الن�ساء يحيطان ب�صف طويل‬
‫فنون‬ ‫فنون‬
‫ن فنون فنون‬
‫من الرجال‪� .‬أ�صولية م�ستجدة تكت�شف مواهب جديدة‬ ‫فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫وترعاها يف �أطر وقنوات �ضيقة‪ .‬الديني يتداخل يف‬ ‫فنونفنون فنون‬ ‫نون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫فنون‬ ‫ن فنون فنون فنون‬
‫التاريخي‪ .‬التاريخي يتداخل يف الواقع‪ .‬ال�شعبي ي�ضحى‬
‫�أ�سطورة متوهمة‪ .‬تلك تو�صيفات ثالثة لـ «ث�أر اهلل» التي‬
‫ما �إن بد�أت تعلن عن ح�ضورها‪ ،‬حتى �أفلت �إىل مطرح‬ ‫�شبه جتريدية وب�شيء من العبثية‪ ،‬ولو �أننا ال ن�ستطيع‬
‫بعيد يف الذاكرة ال�سوداء �أو ال�صندوق الأ�سود لتجربة‬ ‫�أن ننكر �أنه ا�ستطاع خالل فرتة ق�صرية �أن يكتب عدد ًا‬
‫امل�سرح يف لبنان يف حلظة من حلظات دمارها الكبري‬ ‫من الن�صو�ص الب�صرية‪ ،‬حماو ًال اال�ستفادة من نتاجات‬
‫عام ‪.1984‬‬ ‫امل�سارح الأوروبية يف ر�ؤاه و�أفكاره‪ .‬كل امل�سرحيات التي‬
‫تعاطت ومو�ضوعة اجلنوب‪ ،‬حاولت �أن تلتقط نب�ض‬
‫�ساحة ال�ضيعة‬ ‫احلدث ووعي وقائعه العتيقة ودوره يف خريطة ال�صراع‬
‫ومواطن اخللل الإقليمية والأحداث اجللل املنتظرة‪ ،‬يف‬
‫لن تنه�ض مرحلة على م�سرحية ال تطرح �أ�سئلة تق�ض‬ ‫م�صوغات فنية متفاوتة‪ .‬بع�ضها تقليدي وبع�ضها باحث‬
‫امل�ضاجع‪ .‬ولن تنه�ض مرحلة على م�سرحيات ال تطرح‬ ‫وبع�ضها �ضائع وبع�ضها خطابي و�صويل‪� ،‬أو انتهازي‬
‫�أ�سئلة تق�ض امل�ضاجع‪� .‬س�ؤال امل�سرح �أبعد من ذلك‬ ‫فاقع‪� .‬ش ّكل اجلنوب خ�صي�صة بارزة يف جتربة امل�سرح‬
‫امللحة تقع يف النقد ويف حماية العادات‬ ‫بكثري‪ .‬ال�ضرورة ّ‬ ‫اللبناين احلديث‪ .‬دفاتر النك�سة فيه ودفاتر القوة‪ .‬ذلك‬
‫�أن املقاومة وحدها لي�ست ال�صورة الوحيدة امل�ضادة‬
‫والتقاليد بح�ضانتها ب�أ�شكال فنية جديدة ت�ستطيع‬
‫حتويلها دون �أن تقطع مع ذاكرتها‪.‬‬ ‫للذل‪ .‬لأن اجلنوب حقل عالقات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�صار اجلنوب‬
‫لنقل �إنها جملة ن�شاطات مل ت�ستطع �أن تر�سم طريقاً‬ ‫ولأن اجلنوب حقل دالالت‪ ،‬هناك واحدة من املحاوالت‬ ‫من معايري‬
‫�إىل حركة متقدمة �أو واعية على �شتى ال�صعد الإبداعية‬ ‫الو�صولية هي «ث�أر اهلل»‪ .‬حماولة خطرة جد ًا‪ ،‬لأنها‬
‫والنقدية والتاريخية والتقوميية‪ .‬مل ي�صبح امل�سرح مع‬ ‫ا�ستلهمت ال�سرية احل�سينية يف ترتيب م�سرحي م�ؤذ‪ .‬بدا‬ ‫امل�سرح‬
‫مثل هذه املحاوالت ذا �أهمية خا�صة ومل تت�سع دائرة‬ ‫اجلنوب جزء ًا �أكيد ًا من ال�سرية هذه‪ .‬ا�سقاط مربر‪ .‬بل‬ ‫يف لبنان‬
‫االهتمام به من خمتلف طبقات ال�شعب‪ .‬وخ�صو�صا‬ ‫�إن اجلنوب يف واحدة من طبقاته املتعددة هو م�ساحة‬
‫�أن امل�سرح �صار و�سيلة ا�ستعمالية يف �صراع �سيا�سي‬ ‫�شرعية لإقامة هذه ال�سرية‪ .‬جميل ب�سمة �أخذ العملية‬ ‫يكت�شف فيه‬
‫الفنية على عاتقه‪ّ � .‬شوه كل اجلهود ال�سابقة يف العمل‬
‫طويل وحمكم يف اجلنوب‪ .‬لعبت منظمة ال�شباب‬
‫على ال�سرية احل�سينية‪� .‬أو تر�سيخ ال�سرية يف م�صوغ فني‬ ‫امل�سرحيون‬
‫الدميوقراطي‪ ،‬وهي تنظيم فرع يف احلزب ال�شيوعي‬
‫اللبناين‪ ،‬دور ًا يف �إنتاج م�سرحيات يف اجلنوب‪ .‬كما لعب‬ ‫متقدم‪ .‬الرتكيز على احلقوق الإن�سانية للجنوبيني وعلى‬ ‫هوياتهم‬
‫حق املقاومة‪ ،‬جاء يف �صورة بائ�سة مل تطرح الإ�شكاليات‬
‫�أ�شخا�ص مثل هذا الدور‪ ،‬وكذلك هيئات‪ .‬الأبرز نادي‬
‫ال�شقيف يف منطقة النبطية‪ ،‬الذي �أبدى ان�شغا ًال وا�سع ًا‬ ‫احلقة‪ .‬ال يتبلور الفكر امل�سرحي هنا‪ ،‬لكي يدغم‬ ‫وا�ستقاللهم‬
‫بح�ضور امل�سرح يف املنطقة‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي بالثقايف‪� .‬أو لكي يقيم من كليهما عامل ًا حمفوف ًا‬ ‫املفقود‬
‫تدور الأحداث يف م�سرحيات نادي ال�شقيف يف �ساحة‬ ‫بالإ�شارات‪ .‬ذلك ان «ث�أر اهلل» ن�أت عن فكرة تر�سيخ‬
‫�ضيعة‪ ،‬كما هي احلال دائم ًا يف م�سرحيات الرحابنة‪.‬‬
‫ت�أثر بالغ بواحدة من جتارب العهود ال�سيا�سية اللبنانية‬
‫الناجزة‪ .‬بحث اجلنوبيون برباءتهم عن نوع من‬
‫امل�ساواة‪ ،‬باختيار الأجواء الرحبانية‪ .‬داروا النق�ص‬
‫بالتماثل مبا هو مت�شكل ونهائي ومعروف و�شائع‪ .‬ولكنهم‬
‫مل ي�ألوا جهد ًا يف ح�شر بع�ض امل�شاهد اخلا�صة مبزارع‬
‫التبغ و�سط الأحداث الرحبانية وو�سط الأغنيات املدوية‬
‫والدبكات الغارزة �أقدام الدابكني يف خ�شبات امل�سرح‪� .‬أما‬
‫الطموح �إىل املو�ضوعية ف�ش�أن م�ؤجل لأنه غري متوافر‪.‬‬
‫جتارب حزبية‬
‫لعل طموح طعان �أ�سعد �شاعر الأغنية �أبعد من ذلك‬
‫بكثري‪� .‬أن يكتب للم�سرح يف اجلنوب �شعراء وكتّاب‬
‫وبع�ض املتخ�ص�صني دون �أن نن�سى الإعداد واالقتبا�س‪.‬‬
‫ومع ذلك فكل هذه املحاوالت مل ترتك �أثر ًا وال ب�صمة‬ ‫لقطة �أخرى من م�سرحية الع�صافري‬
‫‪154‬‬
‫من م�سرحية لزياد الرحباين بعنوان «�شي فا�شل»‬
‫امل�سرحيات‬ ‫والكوابي�س وعقد وم�شاكل مل تنك�شف �إال عرب �ضربة‬ ‫يف احلياة الثقافية واالجتماعية‪ .‬بيد �أنها تركت‬
‫كان همها‬ ‫قوية هي احلرب‪ .‬وجرى الرتكيز على القرار ‪� 425‬أو‬
‫الن�ص الدويل اخلا�ص باالحتالل الإ�سرائيلي‪ .‬وهو ن�ص‬
‫ذكريات‪ .‬امل�سرحيات اال�ستعرا�ضية خا�صة بنادي‬
‫ال�شقيف‪ .‬وامل�سرحية الدرامية خا�صة باحتاد ال�شباب‬
‫التقاط نب�ض‬ ‫غري حمرتم‪ .‬كما جرى الرتكيز على مثلث احلياة واملوت‬ ‫الدميقراطي‪ .‬جتارب املنظمة احلزبية هذه «ال ب�أ�س‬
‫والهنغار الذي ق�صفته قوات االحتالل الإ�سرائيلي يف‬ ‫بها»‪ ،‬كما ي�صرح رفيق علي �أحمد‪� .‬أبرزت �أ�سماء انطف�أ‬
‫احلدث ووعي‬ ‫واحدة من �أب�شع م�شاهد احلرب احلديثة يف العامل‪.‬‬ ‫بع�ضها وال يزال بع�ضها الآخر يف جتربة امل�سرح اللبنانية‬
‫دقائقه ودوره‬ ‫الق�سوة االرتوية �شكلت املعادل الفني للعر�ض‪.‬‬ ‫كح�سام ال�صباح وم�شهور م�صطفى‪ .‬وثمة ا�سم ثالث‬
‫وثمة ملحات من غروتوف�سكي‪« .‬ذكريات» روت حكاية‬ ‫هو في�صل جميل‪ ،‬اختفت �آثاره منذ مطلع ال�سبعينيات‪.‬‬
‫يف خريطة‬ ‫ثالثة ل�صو�ص يف �سجن‪ .‬يروي كل واحد �سبب دخوله‬ ‫�أ�سماء لفتت الأنظار‪ .‬ولكنها بقيت يف مدارها‪ ،‬بتن�شيط‬
‫ال�صراع‬ ‫�إىل ال�سجن‪ .‬ثالثة جنوبيني‪ .‬اثنان يتواط�آن على الثالث‬
‫بق�صد �إجباره على رواية �أ�سباب دخوله �إىل ال�سجن‪.‬‬
‫مبا�شر من عادل ال�صباح‪ .‬وهو مارك�سي تر�شح‬
‫لالنتخابات النيابية ذات يوم‪ .‬كما طارت �أ�سماء �أخرى‬
‫الإقليمي‬ ‫�إنهم ميثلون رواياتهم مداورة على مدى �ساعة وربع‬ ‫يف ف�ضاء املنطقة كح�سن ن�صار وعلي بيطار‪.‬‬
‫ال�ساعة‪ .‬دخل الأول ال�سجن بتهمة ال�سرقة والقتل‪ .‬الثاين‬ ‫انت�شار الفرق امل�سرحية يف منطقة النبطية مل يكن‬
‫دخل ال�سجن لأن �أهل قريته اجلنوبية �ضايقوه باتهامه‬ ‫ر�سالة‪ .‬بل روح ًا نقية �أرادت �أن تبني مقايي�سها على‬
‫بالهبل‪ .‬حتاملوا عليه فهاجمهم‪ .‬الثالث يف ال�سجن‪ ،‬لأنه‬ ‫مقايي�س املجتمع الذي قامت يف كنفه‪ .‬مل ي�صفها �أحد‬
‫ذهب لكي ينفذ عملية �ضد �إ�سرائيل من موقع حدودي‪.‬‬ ‫ب�أح�سن ال�صفات‪ .‬ومل تطرح اتفاق ًا على م�صوغ �أو‬
‫م�سرح داخل امل�سرح‪ .‬امل�سرحية تغريبية‪ .‬جتربة من‬ ‫اختالف ًا عليه‪ .‬عربت املمنوع �إىل قيام �أن�شطة حمببة‬
‫جتارب م�صطفى التي بد�أها مب�سرحية «امل�سرية» يف‬ ‫وقريبة من النفو�س وجاذبة لها‪ .‬راهقت �إذا ما جاز‬
‫نادي ال�شقيف‪ .‬وهي ذات منحى �سوريايل‪� -‬إيحائي‪.‬‬ ‫التعبري‪ .‬مل تقم حرب ًا �شعواء على ال�سيا�سي القمعي ومل‬
‫�صرخة مثالية �ضد موت اللبناين واجلنوبي‪ .‬مزارعو‬ ‫تذهب �إىل �أحاديث اجلن�س ومل ت�سهب يف احلديث عن‬
‫التبغ �أبطال «امل�سرية»‪� .‬أما «الطواف امل�سرحي» فهو‬ ‫الأبعاد اجل�سدية والنف�سية واالجتماعية‪� .‬إملاحة ما�ضية‬
‫طواف بطله حكواتي تقليدي لعب دوره م�شهور م�صطفى‬ ‫فقط‪.‬‬
‫يف مقهى تقليدي‪ .‬ينتهي الطواف يف املقهى‪ ،‬حيث‬ ‫م�شهور م�صطفى البادئ ب�أعمال هاوية متام ًا يف اجلنوب‪،‬‬
‫يروي احلكواتي تغريبة بني هالل‪� .‬إال �أن الأهم على‬ ‫ا�ستمر عمله يف امل�سرح‪� .‬أ�ضحى حمرتف ًا‪ .‬له جمموعة‬
‫�صعيد عالقة اجلنوب بامل�سرح وعالقة امل�سرح باجلنوب‬ ‫من امل�سرحيات همومها جنوبية باملطلق‪« .‬حدود قانا»‬
‫يف جتربة م�شهور م�صطفى عمله على عا�شوراء عام‬ ‫(‪ )1998‬و«ذكريات خارج ال�سجن» (‪ )1993‬و«امل�سرية»‬
‫‪.1994‬‬ ‫(‪ )1976‬و«الطواف امل�سرحي» (�صيدا ‪ .)1993‬ركزت‬
‫«حدود قانا» على احلاالت النف�سية للناجني من املجزرة‪.‬‬
‫امل�سرح العا�شورائي‬ ‫�أطفال ومراهقون يعانون من ت�شوهات نف�سية وج�سدية‪،‬‬
‫تنعك�س يف �سلوكهم االجتماعي ويف عدم قدرتهم‬
‫على الت�أقلم مع اجلماعة‪ .‬نبع من امل�شاكل‪� .‬أجريت و�ضع عا�شوراء كم�شروع ثقايف يجعلها ت�صب يف م�ضامني‬
‫مقابالت مع الناجني‪ ،‬عرب الأ�شرطة امل�سجلة وكامريات تخ�صيب العالقة بها‪ ،‬دون �إ�سقاط �أي من معانيها‪ .‬بل �إن‬
‫التليفزيون وال�سينما‪ .‬ا�شتغل فريق العمل على الأحالم تعزيز هذه املعاين‪ ،‬هو واحد من مفاتيح التطور والتقدم‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫متثيل �أدوارهم يف الطريق �إىل مقهى «الهور�س �شو»‪.‬‬ ‫ون فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫ن فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫هناك اجتمعت النا�س حولهم‪ ،‬قبل �أن ُيقادوا يف �شاحنة‬
‫ن فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫ع�سكرية �إىل خمفر حبي�ش‪ .‬ك�سر اجلنوب �أنظمة مقفلة‬
‫وترجم حا ًال ناجمة عن فعل القوى املتقابلة التي يلغي‬
‫الواحد منها الآخر‪� ،‬إىل حد يدفع �أحيان ًا �إىل ا�ستعمال‬
‫فنون‬ ‫فنون‬
‫ن فنون فنون‬
‫تعبري التوازن مبعناه امليكانيكي‪.‬‬ ‫فنون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫اجلنوب يف امل�سرح عني حا ًال ال م�ستقرة يف ابتداع �أ�شكال‬ ‫فنونفنون فنون‬ ‫نون فنون فنون فنون فنون فنون‬
‫فنون‬ ‫ن فنون فنون فنون‬
‫متقدمة وطليعية‪ .‬ال ق�صور حراري ًا‪ .‬اللغة تعنف‪ ،‬اللغة‬
‫تتمرد على ذاتها‪ ،‬تتمرد على �شروطها الداخلية‪ .‬هذا‬
‫ما حدث مع فرقة «احلكواتي» اللبنانية‪ ،‬التي ا�ستجابت‬ ‫البحث يف طبيعة هذا املكون‪ ،‬قد يفرز �إجناز ًا كبري ًا على‬
‫�إىل ق�ضية اجلنوب كهم حموري يتخطى االهتمامات‬ ‫هذا ال�صعيد‪ .‬فال تنافر بني ال�سرية وروابطها الفنية‬
‫التقليدية‪� .‬أقامت «احلكواتي» انقالبها على الأ�شكال‬ ‫�إذا ما وجدت‪ .‬ذلك �أن قراءة املا�ضي‪ ،‬غالب ًا ما جاءت‬
‫التقليدية عرب ثالث م�سرحيات‪� ،‬شكلت الأخرية الذروة‬ ‫متنوعة‪ .‬قراءة يف اللغة وبحث يف �إ�شكاليتها‪ .‬قراءة يف‬
‫يف عالقتها باجلنوب‪ .‬بـ «ال ِعبرَ والإبر» �أو ًال �أو حكاية �أبو‬ ‫الدين وما ُكتب حوله وفيه‪ .‬وقراءة يف التقاليد الدينية‬
‫كامل‪ .‬ثم «من حكايات الـ ‪ .»36‬و�أخري ًا «�أيام اخليام»‬ ‫النه�ضة وحلظها يف �سياق �آخر‪ ،‬مع ت�أكيدنا على �أن التقاليد‬
‫�ش ّكلت الثالث م�سرحيات هذه‪�ُ ،‬س ّلم ًا �إبداعي ًا مت�صاعد ًا‬ ‫امل�سرحية الدينية �شيء‪ ،‬والدين بن�صو�صه ال�صريحة �شيء �آخر‪.‬‬
‫يف م�سرية الفرقة «بالعرب والإبر» عن اجلنوبي امل�سحوق‬
‫عرب «الرجل الذي �صار كلب ًا» لدراغون‪ .‬مت اقتبا�سها‬ ‫�شاحنة ع�سكرية‬ ‫يف لبنان‬
‫�أو لبننتها من «حكايات الـ ‪ »36‬عن انتفا�ضة العاملني‬
‫ي�ؤكد جالل خوري يف حديث خا�ص «جحا يف القرى‬ ‫بد�أت بحركة‬
‫يف جبل عامل‪ ،‬يف مواجهة قوات االحتالل الفرن�سية‬
‫والإنكليزية‪ .‬هنا بد�أ مترد روجيه ع�ساف على لغة جتربة‬ ‫الأمامية» كوميديا �شعبية ملحمية‪ .‬و«كذاب» �أو «حماورات‬ ‫الرتجمة على‬
‫�شاهني وطن�سا»‪ ،‬طرحت ق�ضية اجلنوب‪� .‬شكل الأمر‬
‫«حمرتف بريوت للم�سرح»‪ .‬ذلك �أن امل�سرحية ك�شفت‬
‫الآثار املتبقية من جتربة املحرتف‪ .‬حكت «�أيام اخليام»‬ ‫زيادة يف املرجعية على �صعيد امل�سرح‪ .‬ديناميكا حرارية‬ ‫يد مارون‬
‫ق�صة املجزرة التي ارتكبها الإ�سرائيليون بحق من تبقى‬ ‫ابتدعت نظم ًا كيميائية متقدمة يف �أ�شكال التعبري‬ ‫النقا�ش‬
‫من عجائز اخليام يف �أحد املالجىء‪ .‬تركوا بع�ضهم لكي‬ ‫التي حاكت ق�ضية اجلنوب‪« .‬جمدلون» �شكلت مفرتق ًا‬
‫يخربوا الآخرين مبا ر�أوا‪ .‬ولعل «�أيام اخليام» هي حكاية‬ ‫مع فرقة «حمرتف بريوت للم�سرح» مع روجيه ع�ساف‬ ‫يف بريوت‬
‫احلاج حممد عليان‪ .‬جنوبي مل يطق العي�ش يف ال�ضاحية‬ ‫ون�ضال الأ�شقر‪ .‬منعتها ال�سلطة‪� .‬أو حاولت منعها‪ ،‬حني‬
‫حمل �أفراد من الدرك اللبناين �أمر املنع‪ .‬بيد �أن �أفراد‬
‫وا�ستوت يف‬
‫اجلنوبية حيث احت�شدت �أعداد كبرية من اجلنوبيني‪،‬‬
‫فرتك البيت‪ .‬رمى هويته اللبنانية يف البحر‪ ،‬يف منطقة‬ ‫الفرقة امل�سرحية احتجوا على قرار املنع‪ ،‬حيث تابعوا‬ ‫اجلنوب‬
‫الرملة البي�ضاء قبل �أن ينتحر برتك نف�سه للتيارات‬
‫العنيفة هناك‪.‬‬
‫م�سرحيات اجلنوب انتوت �أن تفر�ض قطع ًا فعلي ًا مع‬
‫ال�شكل امل�سرحي املهيمن‪ .‬ميزها العمل اجلمعي من‬
‫جهة اختيار وتقرير العمل ب�شكل م�شرتك وا�ستخدام‬
‫كل الإمكانات املتوافرة من قبل اجلميع‪ ،‬رابطة فاعلية‬
‫ال�شرطني ال�سالفني مبدى جتان�س �أع�ضاء الفرقة فيما‬
‫بينهم وارتباطهم الفعلي باجلمهور الذي ميثلونه‪.‬‬
‫لغة كاملة‪ ،‬قامت على ا�ستعمال الروح والأداة اجلنوبية‬
‫وخربة العالقة باجلنوب وجتربة امل�سرح اللبناين‪.‬‬
‫حلظة لقاء ا�ستثنائية بني اجلنوب وامل�سرح‪� ،‬أقامت‬
‫روح ًا تعبريية ا�ستثنائية‪ .‬وقف �أع�ضاء الفرقة يف ندوة‬
‫مهرجان نان�سي عام ‪ 1983‬دقيقة �صمت احتجاجا‬
‫على اعتقال خمرج ومدير فرقة احلكواتي الفل�سطينية‬
‫تنطح‬‫فرن�سوا �أبو�سامل من قبل ال�سلطات الإ�سرائيلية‪ّ .‬‬
‫م�سرحيون �إ�سرائيليون حا�ضرون �إىل دح�ض معلومة‬
‫االعتقال التي كانت وزعتها وكاالت �أنباء عاملية‪� .‬إال �أن‬
‫احلكاية مل تنته هنا‪ .‬فقد عمد ه�ؤالء �إىل ح�ضور عر�ض‬
‫«�أيام اخليام» ومل يخرجوا من ال�صالة �إال بعد �أن �أغمي‬
‫على زميلتهم‪ ،‬من جراء متابعتها م�شهد املجزرة التي‬
‫اقرتفها جنود االحتالل الإ�سرائيلي بحق عجائز اخليام‬
‫وهم يف ملج�أ القرية اجلنوبية البعيدة‪.‬‬ ‫من م�سرحية «بان�سيون ال�ست نعيمة»‬
‫‪156‬‬
‫«�أيام اخليام» لروجيه ع�ساف‬

‫اجلنوب يف‬ ‫�أية �سلطة �إبداعية‪ .‬وطاملا لعبت احلكاية دور ًا �أ�سا�سي ًا‬ ‫بكت الإ�سرائيلية حتى انهارت وهي ت�شاهد �أج�ساد‬
‫يف م�سرحيات فرقة احلكواتي الأخرية‪ ،‬ف�إن احلكاية‬ ‫املمثلني مبعرثة فوق الطاوالت ال�صغرية وحتتها‪ .‬وهي‬
‫امل�سرح حتول‬ ‫يف «القانون ختم وبرنيطة» لعبت دور املحدد الرئي�سي‬ ‫طاوالت منثورة يف حيز فقري‪ .‬ولكنه غني يف دالالته‬
‫لعمارة جديدة‬ ‫ل�سلوك العنا�صر‪ ،‬التي حازت ا�ستقال ًال بالكلية‪.‬‬ ‫الت�شكيلية‪ .‬وبكت حتى انهارت‪ ،‬يف الوقت الذي بد�أ فيه‬
‫الوالدة حكمت التطور‪ .‬و�سائل جتاوز التناق�ض تكثفت‬ ‫ال�صوت امل�سجل يعدد �أ�سماء �ضحايا املجزرة‪.‬‬
‫تداخلت‬ ‫يف العفوية ويف هموم التعبري ال�شر�سة‪ .‬قاتل البع�ض لكي‬ ‫الإبداع يف خدمة التعبري‪ .‬اختيار اجلنوب يف �أعمال‬
‫ميتلك دوره يف احلياة‪ .‬غابت البنيات التفا�ضلية من‬ ‫فرقة احلكواتي يعود اىل ر�ؤية �سيا�سية ب�سيطة ومعقدة‬
‫فيها التجربة‬ ‫جراء ذلك‪ .‬وقام �إطار خمتلف متام ًا يف الطريق �إىل‬ ‫يف �آن‪ .‬فاجلنوب هو ب�ؤرة اال�شتعال‪ ،‬التي نهلت منها ب�ؤر‬
‫امل�سرحية‬ ‫�سهول التعبري و�سهولته‪ .‬مل يكن ثمة من توجيه باملعنى‬ ‫�إبداع قامت يف العا�صمة‪ ،‬على م�ستوى اللغة ولي�س اللكنة‬
‫التقني للكلمة‪ .‬بل تغذية‪ .‬غذى روجيه ع�ساف نا�س‬ ‫فقط‪.‬‬
‫بالو�سط‬ ‫عيناتا بالكودات املحر�ضة على متلك العمل‪ .‬لقد فعلوا‪.‬‬
‫املدمر‬ ‫�أما ع�ساف فوجد منذ ذلك الوقت �أن التعبري �أهم من‬ ‫اجلر�س‬
‫امل�صوغ‪ .‬وهما �إذا التقيا �أقاما ح�ساب ًا �آخر‪ .‬ال مناذج‬
‫واملخرب‬ ‫�سابقة هنا وال مبادئ قدمية وال قوانني تعتمد مناهج‬ ‫ن�ص جنوبي دافق يف «اجلر�س»‪ .‬ع�شرات احلكايات‬
‫يف �سنوات‬ ‫ثابتة‪ .‬النظام املاثل يف امل�سرحية قانون خا�ص حم�صل‬
‫من التجربة املفتوحة على نا�سها‪� .‬إننا �أمام م�ؤ�شرات‬
‫املتتالية‪ .‬لقد حقق رفيق علي �أحمد واحدا من طموحاته‬
‫يف «اجلر�س» حيث بدا اجلنوب عربي ًا بتميز‪ .‬وحيث‬
‫احلرب الأهلية‬ ‫طبيعية لن ي�أبه �أ�صحابها �إىل العالمات التي قد متنح‬ ‫تبلورت احلكايات يف م�صوغ فني جذاب ا�ستقطب‬
‫من قبل جلان حكام واقعية �أو متخيلة‪.‬‬ ‫ع�شرات �آالف اللبنانيني‪.‬‬
‫عمل يتعلق باخللفية االجتماعية ‪ -‬االقت�صادية ‪-‬‬ ‫متاثل ال�شكل واحلكاية حجر الأ�سا�س يف «اجلر�س»‪.‬‬
‫الثقافية للمحلة ال�سكنية الداخلية‪.‬‬ ‫مناذج متقاربة يف نظامني ملمو�سني (احلكاية وال�شكل)‬
‫حتقيق الذات هو النموذج يف «القانون ختم وبرنيطة»‪.‬‬ ‫متاثال يف �شكل واحد‪ .‬ت�شابه بنيوي ووظيفي‪� .‬أو ك�أنه‬
‫عمارة جديدة يف جنوب تداخل بالتجربة امل�سرحية يف‬ ‫تطابق عالقات بني عنا�صرامل�سرح‪« .‬القانون ختم‬
‫�سنوات احلرب الأهلية خ�صو�ص ًا‪ .‬لقد حتول �إىل حالة‬ ‫وبرنيطة» لروجيه ع�ساف يف عيناتا‪ ،‬طرحت �إمكانية‬
‫�أ�صيلة يف و�سط مدمر وخرب‪ .‬حتول �إىل ظاهرة‪ ،‬حتت‬ ‫حتقيق التكامل بني االعتبارات ال�سيا�سية والوظيفية‪.‬‬
‫تهديد الأخطار املحدقة الكربى‪ .‬اجلنوب يف امل�سرح‬ ‫البدء من امل�سرح‪ ،‬قبل ان تنقلب الآية بالتمام والكمال‬
‫�أ�ضحى حا ًال د�ستورية‪ .‬جماله من �شعور ناجت عن �أ�شكال‬ ‫ل�صالح �آلية �إبداعية �أخرى‪.‬‬
‫متقدمة ومتطورة‪ .‬مل يعد الريف ريف ًا‪ .‬بقي امل�سرح‬ ‫والدة النظرية العامة يف «القانون ختم وبرنيطة» حكم‬
‫مديني ًا‪ ،‬هذا �صحيح‪ .‬ولكن اجلنوب عبرّ عن الوحدة يف‬ ‫العملية الإبداعية بح�ضور البديهيات‪ .‬اللقاء باملو�ضوع‬
‫الكرثة والتكامل مع املحيط‪ .‬واحتوى �شخ�صية م�سرحيني‬ ‫�إلزامي يف العمل امل�سرحي‪� .‬إنها لي�ست م�سرحية‪ ،‬بل‬
‫متقدمني من �أجيال خمتلفة‪ ،‬يف �أفالك فكرية وروحية‬ ‫عم ًال م�سرحي ًا‪ .‬وبني االثنني فروق جوهرية‪ .‬وهي متيزت‬
‫فنية‪ .‬ك�أن م�سرحياته‪ ،‬حازت اكتمال عنا�صر التكوين‪.‬‬ ‫بغياب �سلطة �سيا�سية مركزية وغياب �أية قوة يف خدمة‬
‫‪157‬‬
‫راء بريد القراء بريد القراء بريد القراء‬
‫اء بريد القراء بريد القراء بريد القراء بريد القراء‬
‫القراء بريد القراء بريد القراء‬
‫لقراء بريد القراء‬
‫قافة �شارع الثقافة‬
‫�صفحة للتوا�صل بني‬ ‫بريد القراء بريد القراء بريد القراء‬
‫القراءبريد القراء‬ ‫قراء بريد القراء بريد القراء بريد‬
‫القراء‬ ‫ء بريد القراء بريد‬

‫وق���رائ���ه���ا الأع���������زاء ت��ع��ي��د‬


‫ب�����ن�����اء م������ا ان����ق����ط����ع م��ن‬
‫ج�����س��ور ال��و���ص��ل ال��ث��ق��ايف‬
‫ودفء احل�����وار الإن�����س��اين‬

‫تاريخ الكلمات بني‬


‫الو�صل والقطيعة‬

‫فكرت كثري ًا مع �صدور العدد الأول ملجلتكم فيما‬


‫�ستكتبونه‪ ،‬وما هو احلجر الذي �ست�ضيفونه يف جدار‬
‫الثقافة العربية‪ ،‬فمنذ قرن �أو يزيد‪ ،‬ت�صدر ع�شرات‬
‫من املجالت بداية من العروة الوثقى والر�سالة ومرور ًا‬
‫مبجالت الآداب والأقالم‪ ..‬ثم ف�صول والناقد والقاهرة‬
‫والع�صور‪ ..‬وكل هذه املجالت �صدرت ثم �أفلت �شمو�سها‬
‫فماتت �أو انتحرت‪.‬‬
‫واجلدار الذي كان قد قرب متامه واكتماله‪ ،‬ت�ساقطت‬
‫�أحجاره من جديد‪ ،‬وتبعرثت و�سط عامل عربي ا�ستحل‬ ‫منهل عذب‬
‫�أبنا�ؤه �أكل حلوم �إخوانهم �أحياء ولي�سوا �أمواتاً‪ ..‬ومل‬
‫يعلن �أحد عن كراهته للفعل و�سط عامل من الكراهية‪.‬‬ ‫ننتهز هذه الفر�صة املباركة ونرجو من �سعادتكم �أن‬
‫وال �أقول �إنني ا�ستغربت كثري ًا جر�أتكم و�صدوركم يف مثل‬ ‫تتف�ضلوا بتزويد مكتبتنا املتنامية مبجلتكم الثمينة التي‬
‫هذا التوقيت بالذات‪ ،‬واجل�سد العربي قد �أعلن احلرب‬ ‫�ستلقى قبو ًال ح�سن ًا من الأ�ساتذة والباحثني والطالب‬
‫‪ -‬خا�صة يف مرحلة التخ�ص�ص ‪ -‬فهي حق ًا منهل عذب‬
‫على نف�سه يف العراق وفل�سطني وال�سودان وال�صومال‪،‬‬ ‫يرده ظم�أى العلوم واملعارف ويفتقدونها يف �إعداد‬
‫وك�أن �شعبنا العربي �صدق عليه قول ال�شاعر كامل‬ ‫البحوث ور�سائل التخ�ص�ص واملحا�ضرات‪ ،‬فجزاكم‬
‫ال�شناوي «بع�ضي ميزق بع�ضي»‪.‬‬ ‫اهلل اجلزاء الأوفى عن �إخوانكم البعيدين عن �أرا�ضي‬
‫ومع تقليب �أوراق العدد الأول من جملة «الدوحة» وجدت‬ ‫الإ�سالم و�أجوائه الثقافية واحل�ضارية وبنية لغته‬
‫الأ�صيلة‪ ،‬ووفقكم اهلل خلدمة دينه ولغة نبيه وجنته‪،‬‬
‫�أنه بقدر ت�شا�ؤمنا فمن حقنا �أن نتفاءل‪ ،‬و�أن نعيد من‬ ‫و�أنتم �أهل ذلك واهلل يتوالكم‪.‬‬
‫جديد بناء البيت الذي خربته الأحقاد‪.‬‬ ‫عبدالقادر حممد‬
‫خالد العامري‬ ‫�أمني مكتبة ال�شيخ �أبوبكر الإ�سالمية‬
‫طرابل�س ‪ -‬ليبيا‬ ‫كريال ‪ -‬الهند‬
‫‪158‬‬
‫غبطة و«خوف»‬
‫�إنه ملن دواعي �سروري و�سعادتي �أن �أ�سطر �إليكم من خالل ر�سالتي هذه �أعمق م�شاعري القلبية و�أ�سمى التربيكات‬
‫مبنا�سبة ا�ستئناف �صدور جملة «الدوحة» بعد انقطاع عقدين من الزمن تقريب ًا‪.‬‬
‫ال �أخفي عليكم مدى الغبطة التي انتابتني و�أنا �أت�صفح ال�شبكة العنكبوتية لتقع عيني على �أحد املواقع الذي �أعلن‬
‫عن عودة املجلة لل�صدور‪ .‬فـ «الدوحة» لها ذكريات عزيزة يف نف�سي‪ ،‬كوين ع�شت يف العراق وكنت �أ�شرتيها �شهري ًا‬
‫واحتفظ ب�أعدادها �أيام رئي�سي حتريرها د‪ .‬حممد �إبراهيم ال�شو�ش و �أ‪ .‬رجاء النقا�ش‪ .‬ولكن القدر ق�ضى بتوقف‬
‫املجلة عن ال�صدور لأ�سباب معينة‪ ،‬كما �أظن‪ ،‬وغادرت بلدي عام ‪ 1994‬مرغم ًا لأتغرب و�أعي�ش يف املنفى طوال‬
‫هذه ال�سنوات التي كانت �سنة �أ�سو�أ من �سنة‪ .‬حتى بات حتت االحتالل الأمريكي فري�سة ينه�ش به من كل مكان‪.‬‬
‫بدوري �أبعث �إليكم بقطعة �أدبية كتبتها لـ «الدوحة» وحتمل عنوان «خوف»‪� ،‬آمال �أن جتد طريقها للن�شر‪.‬‬
‫علي ال�سياب ‪ -‬والية فكتوريا ‪� -‬أ�سرتاليا‬

‫ال بالده�شة والفكر اجلميل‬


‫�أه ً‬
‫رمبا ال يوجد على �ساحتنا العربية من �أخبار من املمكن �أن ت�س ّر اخلاطر �أو ت�شرح القلب‪ ،‬فالطعنات على قلب‬
‫العروبة تتواىل‪ ،‬ومل تعد هناك دموع جديدة ميكن �أن تذرف على الكثري من اخليبات العربية‪ ..‬فكل الينابيع �ستجف‬
‫اليوم �أو غداً‪ ..‬حتى ينابيع البرتول قد اقرتبت �ساعة ن�ضوبها‪!!..‬‬
‫ولكن هناك من الأخبار ما يدفعنا �إىل االحتفاء بها‪ ..‬فمع عودة جملة «الدوحة» لل�صدور �أ�ستطيع �أن �أقول �إن هناك‬
‫نافذة جديدة للنور قد �شرعت يف مواجهة الظالمية والظالميني‪.‬‬
‫ومع افتتاحية العدد �أده�شتني مقالة �أدوني�س «�أهال بال�سرد ولو حزن ال�شعر»‪ .‬ولكن �سرعان ما ت�سربت املقالة من‬
‫بني عقلي وعينيّ ‪ ،‬وك�أن الكاتب ي�ضن علينا �أن نعي�ش حلظة �سعادة يف عناق مع الفكر اجلميل‪ ،‬والعقل الأجمل‪.‬‬
‫و�إذا كانت ق�صيدة �سعدي يو�سف �أ�سعدتني ف�إن ق�صيدة �شوقي بزيع �أ�سرتني و�أده�شتني‪ ..‬ويف ق�ضية العدد «الكتابة‬
‫بني الذكورة والأنوثة»‪ ،‬انفعلت كثري ًا مع مقالة د‪� .‬شريين �أبوالنجا لعر�ضها وجهة نظر معاندة لو�ضعها التاريخ‬
‫وال�سيا�سة واحلروب يف مواجهة املر�أة‪.‬‬
‫كيميائي وليد رم�ضان‬
‫وهران ‪ -‬اجلزائر‬

‫رجاء للم�س�ؤولني‬
‫بزيادة املطبوع‬
‫لقد وقعنا �ضحية خديعة مت الإعالن عنها بالتب�شري ب�صدور‬
‫جملة «الدوحة» �أول ال�شهر املا�ضي‪ ..‬ولكن مل ن�ستطع العثور‬
‫على �أعداد لدى الباعة‪ ..‬وعندما ن�س�أل عنها يكون اجلواب‬
‫نفدت خالل �ساعة واحدة‪ ..‬والأعداد ال تكفي‪!..‬‬
‫وبعد حماوالت ا�ستطعت الو�صول �إىل ن�سخة ا�ستعرتها من‬
‫�صديق‪ ،‬وبقدر ما ع�شت �سعادتي مع مو�ضوعات العدد‪� ،‬إال‬
‫�أن تعا�ستي كانت �أكرب‪ ،‬لأنني �س�أفقد هذا العدد ب�إعادته �إىل‬
‫�صاحبه‪.‬‬
‫و�أملنا يف امل�س�ؤولني عن املجلة بزيادة الأعداد املطبوعة‬
‫واملر�سلة �إىل م�صر‪ ..‬فما عهدناه من قطر اخلري �أنها لن‬
‫تبخل علينا بزيادة املطبوع‪.‬‬
‫هناء عبداحلميد‬
‫كاتبة وروائية‬
‫الإ�سكندرية ‪ -‬م�صر‬

‫‪159‬‬
‫تلك الدوحة‪...‬‬
‫عندما تقرر �إ�صدار جملة «الدوحة» القدمية ويف �أول اجتماع �أ�سبوعي مبكتب �سعادة وزير الإعالم بالوزارة ـ وكان‬
‫�سعادة الوزير ي�شغل وقتها مكتبني‪� :‬أحدهما بالوزارة‪ ،‬والثاين يف الديوان الأمريي ـ ومل يكن قد مر على و�صويل‬
‫الدوحة �إال يوم وبع�ض يوم‪� .‬س�ألت �سعادة الوزير بح�ضور ال�سيد مدير الإعالم‪ ،‬وكان قد رحب بي ترحيب ًا حار ًا‬
‫يف االجتماع‪ ،‬وقدمني بكلمات طيبة لبقية الزمالء‪ :‬ما هي غايتكم من �إن�شاء جملة الدوحة؟ وما هي تفا�صيل‬
‫خطتكم التي تريدون �أن �أعمل على �ضوئها؟‪ .‬ونظر �سعادة الوزير �إىل املدير ثم ابت�سم وهو يقول‪ :‬هذا دورك‬
‫�أنت‪ ،‬ار�سم اخلطة و�سندر�سها يف االجتماع القادم �إذا �شئت‪ ،‬ثم قال �ضاحكاً‪ :‬املدير يقول �إنك عبقري ف�أرنا‬
‫عبقريتك‪ ،‬قلت‪ :‬ال�سيد املدير �صديقي وقريبي ور�أيه يف عبقريتي جمروح‪ ،‬تعمدت �أن �أذكر ذلك حتى ال ت�صبح‬
‫احلقيقة طعنة مدخرة للم�ستقبل‪.‬‬
‫هذا «ال�سكت�ش» هو من ذاكرة تلك الأيام اخلوايل وقد يتكرر هذا مع الدوحة اجلديدة التي رمبا تكون �أروع من‬
‫جملة الدوحة يف �سابق عهدها و�أكرث انت�شار ًا منها‪ ،‬لكنها تظل برغم اال�سم‪ ،‬جملة جديدة مبوا�صفات جديدة‬
‫وبروح جديدة ولع�صر جديد وقراء جدد تختلف اجتاهاتهم و�أذواقهم‪.‬‬
‫�أما ا�ستن�ساخ جملة الدوحة (القدمية) كما ولدت عمالقة يف عهدها الزاهر‪ ،‬فذلك طلب‬
‫امل�ستحيل كما عرب عن ذلك �شاعر �أغنية �أم كلثوم «فات امليعاد»‪:‬‬
‫وعاوزنا نرجع زي زمان‬
‫قل للزمان ارجع يا زمان‬
‫وهات يل قلب ال داب وال حب‬
‫وال اجنرح وال �شاف حرمان‬
‫لكي تعود «الدوحة» التي �ألفناها و�أحببناها و�أحبها القارئ العربي كما مل يع�شق جملة غريها‪،‬‬
‫نحتاج لتعود �إلينا تلك احلقبة من الزمان‪ ،‬حني كنا ـ عبدالقادر حميدة ذلك الأديب عميق‬
‫الثقافة الذي ي�ستطيع �أن يحول �ألفاظ ًا متناثرة و�أحيان ًا ال معنى لها �إىل عقد ن�ضيد‪ ،‬والفنان‬
‫العبقري حق ًا حممد �أبو طالب الذي كان ي�أخذ ال�صفحات من عبدالقادر وتتحول يف ذهنه‬
‫الوقاد �إىل منظومة من الر�ؤى والأ�شكال وال�صور والألوان‪ ،‬وكمال �سعد غريب الأطوار (رحمه‬
‫اهلل) الذي كان يجمع بني الأدب الرفيع واحل�س ال�صحايف املتميز ـ يف �أوج ال�شباب واحليوية‪,‬‬
‫جنل�س طول الليل يف ح�صائر تختلط فيها الأوراق واللوحات و�صحائف الطعام‪ ،‬يف �شقة‬
‫عمارة اخلليفي يف «را�س بو عبود» ن�أكل الفول والفالفل والفطائر ال ندري �إن كان ع�شاء �أو‬
‫فطور ًا ون�صلي الع�شاء وال�صبح حا�ضر ًا ونراقب احلياة عند الفجر تدب يف �أو�صال بلد حبيب‬
‫د‪.‬حممد �إبراهيم ال�شو�ش ينمو �أمامنا كما تنمو الزهرة ويتفتح الورد‪.‬‬
‫م�ؤ�س�س جملة الدوحة ورئي�س حتريرها الأ�سبق وكانت املجلة كالطفل ال�شقي تعبث وجتري منطلقة ال يقيدها الروتني‪ .‬وكان ال�صوت الوحيد‬
‫الذي ميكن �أن يكبح جماح هذه احليوية الدافقة هو �صوت الأب داوود فانو�س يف مكاتب وزارة‬
‫املالية والبرتول‪ ،‬ميلك يف يده خيوط الهم الإداري واملايل يف الدولة ال يتعني �أحد �أو ي�سكن �إال وفق رغبته‪ ،‬كان‬
‫ي�ستطيع �أن ي�ضخ الدم يف �شرايني عملك �أو مينع عنه الهواء‪.‬‬
‫�أحبنا لوجه اهلل وفتح قلبه لنا كما مل يفتحه لأحد‪ ،‬جئته يف �أول عهدي يف �ش�أن من �ش�ؤون املجلة ف�صدين يف جفوة‬
‫مل �أتوقعها‪ ،‬قلت له‪ :‬بهذه الطريقة لن ن�ستطيع �إخراج املجلة بال�صورة التي يريدها �سعادة الوزير‪ ،‬نظر حوله‬
‫�إىل طالبي احلاجات و�ضحك وهو يقول هازئاً‪ :‬هذا البلد كان موجود ًا قبل �صدور جملتك‪ ،‬و�أعتقد �أنه �سيبقى‬
‫لفرتة �أطول حتى و�إن مل ت�صدر‪ .‬التقطت القفاز وقلت‪ :‬وماذا يف ذلك؟ هذا العامل كان يعي�ش قبل ظهور البن�سلني‬
‫يل ملياً‪ ،‬ويبدو‬‫والأمرا�ض تفتك بالب�شر و�أح�سب �أنه كان �سيعي�ش فرتة �أطول لو مل يكت�شف البن�سلني‪ .‬نظر �إ ّ‬
‫�أن املقارنة قد �أده�شته و�أعجبته وعجز عن كتمان �ضحكته‪ ،‬ثم مد يده ووقّع على الطلب‪ ،‬ومن يومها �أ�صبحنا‬
‫�أ�صدقاء ال يرف�ض لنا طلبا ً‪ .‬وقد كان حتيزه ملجلة الدوحة وتدليله لها مثار الده�شة يف �أروقة �إدارة الإعالم‪ ،‬وال‬
‫�أح�سبه ـ رحمه اهلل ـ كان يجد وقت ًا لقراءتها‪.‬‬
‫كانت جملة الدوحة يف عهدها الأول نتاج حب غامر‪ ،‬ولهذا �أحبها القارئ ومل يجد النا�شرون فيها ما يثري‬
‫غ�ضبهم وم�ؤاخذتهم‪.‬‬

‫‪160‬‬

You might also like