Professional Documents
Culture Documents
002
002
؟!
البد لـ «الدوحة» يف م�ستهل عددها الثاين من �أن ت�شكر جميع الذين �أ�سدوا لها
الن�صح من م�س�ؤولني و�صحافيني ومثقفني ومهتمني وقراء عاديني وقد �أخذت
«الدوحة» علم ًا بجميع املالحظات ،التي �أعقبت العدد (�صفر) والعدد(واحد)،
فعدلت ما يجب تعديله ،وات�سع �صدرها للنقد البناء ،معتربة �أن العمل ال�صحايف
هو يف �أ�سا�سه عملية جدلية بني القارئ والنا�شر ،فنحن مل يخطر على بالنا
وللحظة واحدة ادعاء الكمال ،فالكمال هلل وحده.
وقوة «الدوحة» ـ يف الأ�سا�س ـ من قوة كتابها ،ومن �إميانهم بقدرة الكلمة على �صنع
املعجزات ،وما �أحوجنا يف العامل العربي �إىل �أقالم جادة و�إىل منابر تعك�س الواقع
الثقايف ومتثله خري متثيل .وكذلك قوة «الدوحة» من قوة قرائها ومن اهتمامهم
بها كمطبوعة ثقافية ت�ضاف �إىل املجالت ال�صادرة ،ال مبثابة �إ�ضافة رقم �أو كم
بل مبثابة �إ�ضافة نوعية كما ن�أمل.
لعل ال�س�ؤال الأ�سا�سي الذي كان يوجه �إىل «الدوحة» من قبل املهتمني وال�صحافة
ب�شكل عام ،هو :ما هي هوية املجلة؟ ونحن لي�ست لدينا �إجابة جاهزة على هذا
ال�س�ؤال ال�صعب� ،سوى الإدراك ب�أننا جزء من عامل تت�شكل هويته انطالق ًا من
ال�سجال امل�ستمر بني التيارات واالجتاهات وامليول الفكرية املختلفة .خ�صو�ص ًا
�أننا ل�سنا الآن يف ع�صر عقائدي متحجر يدعي اليقني واجلزم بهوية مكتملة،
فالهوية الثقافية تبقى قيد الدر�س واالحتمال والتطور.
عادت «الدوحة» �إىل ال�صدور� ،أو �صدرت «الدوحة» �إ�صدار ًا جديد ًا ،ال عربة
بالت�سميات والعناوين ،املهم �أن املجلة قد ح�ضرت ،يف الأ�سواق كما يف �ضمائر
الكتاب والقراء ،ونعلن من اليوم �أن �صفحات «الدوحة» مفتوحة للكتاب املكر�سني
كما للكتاب اجلدد ،وال يدافع عن الن�ص �سوى الن�ص الذي يعري نف�سه للن�شر،
ال نب�شركم ب�أية فتوحات ولن نغايل يف الأماين �أو الطموحات ،بل نلقي ال�سالم
والتحية ونن�ضم �إىل م�سرية الثقافة العربية بخطوات واثقة وجلية.
مدير التحرير
الهيئة اال�ست�شارية الغالف الأول:
�أ.د .حممد عبد الرحيم كافود جملة ثقافية �شهرية ي�صدرها
�سعادة مبارك بن نا�صر �آل خليفة املجل�س الوطني للثقافة والفنون والرتاث يف قطر
د .حمد عبد العزيز الكواري
�أ.د .حممد غامن الرميحي رئي�س املجل�س
د .علي فخرو امل�شرف العام
�أ.د .ر�ضوان ال�سيد �سعادةال�شيخ م�شعل بن جا�سم �آل ثاين
�أ .رجاء النقا�ش مدير التحرير
عماد العبداهلل
�شروط الن�شر يف املجلة رئي�س الق�سم الفني
ر�سم الغالف و�صممه
حممد �أبو طالب �سلمان املالك
جملة «الدوحة» جملة �أدبية ثقافية فكرية ،تعنى بن�شر الأعمال
الإبداعية والبحوث والدرا�سات يف جماالت الفكر والآداب �سكرتري التحرير
والعلوم الإن�سانية ،ويتم الن�شر فيها ح�سب الأ�صول الآتية: نبيل خالد الأغا
�-1أن تكون املادة خا�صة مبجلة «الدوحة» وغري من�شورة �أو مر�سلة الغالف الأخري:
تنفيذ ماكيت
�إىل جهة �أخرى.
-2املواد املر�سلة تكون مطبوعة ومدققة لغوياً. ف�ؤاد ها�شم
� -3أال تتجاوز الدرا�سة حدود ال�صفحات الع�شر من املجلة. ر�شا �أبو�شو�شة
-4يف�ضل �إر�سال املادة بوا�سطة الربيد الإلكرتوين. املحررون
-5على الكاتب موافاة املجلة با�سمه الثالثي و�أعماله وجن�سيته النور عثمان �أبكر
وعنوانه ورقم هاتفه ورقم ح�سابه امل�صريف و�صورة عن جواز
حممد الربيع حممد �صالح
�سفره �أو بطاقته ال�شخ�صية.
-6ال يجوز �إعادة ن�شر املواد املن�شورة يف املجلة �إال مبوافقة من علي النوي�شي
�إدارتها ،وال يجوز االقتبا�س دون �إ�شارة للم�صدر. فاطمة �شرف الدين
-7التعاد املواد املر�سلة اىل املجلة �سواء ن�شرت �أم مل تن�شر. جميع امل�شاركات تر�سل با�سم مدير التحرير ويف�ضل
-8املواد املن�شورة يف املجلة ال تعرب عن موقف املجلة بل تعرب عن «التحدي» للفنان القطري �أن تر�سل عرب الربيد االلكرتوين للمجلة �أو على قر�ص
�آراء �أ�صحابها فقط. 1987-1958 يو�سف ال�شريف مدمج على العنوان التايل:
تليفون )+974( 4366283 :
فاكس )+974( 4421979 :
اال�شرتاكات ال�سنوية ص.ب - 22404 :.الدوحة -قطر
75يورو دول االحتاد الأوروبي خارج دولة قطر داخل دولة قطر البريد اإللكتروني:
100دوالر �أمريك ا 300ريال دول اخلليج العربي 120ريا ًال الأفراد editor@dohamagazine.com
150دوالر ًا كندا وا�سرتاليا 300ريال باقي الدول العربية 240ريا ًال الدوائر الر�سمية
مكتب القاهرة :سامي كمال الدين
تر�سل قيمة اال�شرتاك مبوجب حوالة م�صرفية �أو �شيك بالريال القطري با�سم 34ش طلعت حرب ،الدور اخلامس،
املجل�س الوطني للثقافة والفنون والرتاث على عنوان املجلة. شقة 25ميدان التحرير
الأ�سعار املوزعون
3000لرية اجلمهورية اللبنانية 10رياالت دولة قطر وكيلالتوزيعيفدولةقطر :دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع -الدوحة -ت - 4557810 :فاك�س4557819 :
اجلمهورية العراقية 3000دينار دينار واحد مملكة البحرين وكالء التوزيع يف اخلارج :اململكة العربية ال�سعودية -ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع -الريا�ض -ت:
اململكة الأردنية الها�شمية 1.5دينار 10دراهم الإمارات العربية املتحدة - 4871414فاك�س /4871460 :مملكة البحرين -م�ؤ�س�سة الهالل لتوزيع ال�صحف -املنامة -ت:
150ريا ًال اجلمهورية اليمنية 800بي�سة �سلطنة عمان - 17480800فاك�س/17480818 :دولة الإمارات العربية املتحدة -امل�ؤ�س�سة العربية لل�صحافة والإعالم
1.5جنيه جمهورية ال�سودان دينار واحد دولة الكويت � -أبو ظبي -ت - 4477999 :فاك�س� /4475668 :سلطنة عُ مان -م�ؤ�س�سة عُ مان لل�صحافة والأنباء والن�شر
� 100أوقية موريتانيا 10رياالت اململكة العربية ال�سعودية والإعالن -م�سقط -ت - 24600196 :فاك�س /24699672 :دولة الكويت -م�ؤ�س�سة ال�سيا�سة للطباعة
1دينار �أردين فل�سطني جنيهان جمهورية م�صر العربية وال�صحافة والن�شر -الكويت -ت - 4830439 :فاك�س /4834893 :اجلمهورية اللبنانية -م�ؤ�س�سة نعنوع
� 1500شلن ال�صومال 3دنانري اجلماهريية العربية الليبية ال�صحفية للتوزيع -بريوت -ت - 653259 :فاك�س /653260 :اجلمهورية اليمنية -حمالت القائد
4جنيهات بريطانيا 2دينار اجلمهورية التون�سية التجارية � -صنعاء -ت - 240883 :فاك�س / 240883 :جمهورية م�صر العربية -م�ؤ�س�سة الأهرام -
4يورو دول االحتاد الأوروبي 80دينار ًا اجلمهورية اجلزائرية القاهرة -ت - 25796997 :فاك�س /27703196اجلماهريية الليبية -دار الفكر اجلديد ال�سترياد ون�شر
الواليات املتحدة الأمريكية 4دوالرات 15درهم ًا اململكة املغربية وتوزيع املطبوعات -طرابل�س -ت - 925639257 :فاك�س / 213332610 :جمهورية ال�سودان -دار الريان
5دوالرات كندا وا�سرتاليا 80لرية اجلمهورية العربية ال�سورية للثقافة والن�شر والتوزيع -اخلرطوم -ت - 466357 :فاك�س / 466951 :اململكة املغربية -ال�شركة العربية
الإفريقية للتوزيع والن�شر وال�صحافة� ،سربي�س -الدار البي�ضاء -ت - 2249200 :فاك�س2249214 :
مقاالت وبحوث الفتنة قدر الأمة �أم وعيها الزائف؟ (عبدالعزيز حممد اخلاطر) 4
ثقافة االعرتاف بالآخر (د .عبد ال�سالم امل�سدّي) 6
املنجل املهيب (د .نادر كاظم) 16
ه�سترييا اللغة ( عبد الواحد ل�ؤل�ؤة) 26
كتّاب امل�سرح احلديث والتمرد على الإب�سينية (حمد الرميحي) 34
�سارتر �ضد �سارتر (علي بدر) 42
بيت اللغة (حممد القا�ضي) 48
احلوار حوار مع الدكتور ن�صر حامد ابو زيد (�سامي كمال الدين) 56
ق�ضية العدد الت�سامح والتطرف
�أما فيما يتعلق باملفاهيم املنتجة حمليا والتي نقفز �إليها وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ون�ستبقها كنتيجة دومنا اعتبار ملكوناتها الداخلية وتفكيك
مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
هذه املكونات بحيث �أ�صبحت من الكرب والت�ضخم حتمل
�أك�ثر مما حتتمل كمفردة وكمعنى .كذلك� إليكم مفهوم
«الفتنة» مثا ًال على ذلك فهو كمعنى يحتمل الكثري وقد م ّر
ن�صو�صوبحوث
مقاالت
صو�ص
يف القر�آن الكرمي مبعانٍ متعددة فقد �أتى مبعنى االختبار حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وال��ب�لاء ،وثانية مبعنى ال�شرك ،و�أخ��رى مبعنى التعذيب بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
ورابعة مبعنى فتنة الرجل يف �أهله وماله وول��ده .ما يهمنا
هنا هو تفكيك هذا املفهوم �سيا�سياً ،وهل ثمة داللة �سيا�سية ال�شك �أننا نعاين من �إ�شكالية يف التعامل مع املفاهيم
وا�ضحة حمددة له ما �أن ت�صل الأمور �إليها حتى نكون �أمام
فتنة ،وبالتايل ال ميكن ا�ستخدام مفهوم �آخر بدي ًال عنه، من حيث البداية يف تناولها وا�ستيعابها ،فاملفهوم املنتج
هذا ما �أعنيه ب�ضرورة التعامل مع مكونات املفهوم املنتج حملياً غري الآخر امل�ستورد ،وبالتايل فتعاملنا معه البد
حملي ًا �أو ًال قبل االتفاق على ما يحمله من معنى. �أن يبد�أ من مكوناته وبنيته ،لأننا من �أنتجه يف الأ�سا�س
فمفهوم الفتنة �سيا�سي ًا نتاج العقلية العربية الإ�سالمية وبالتايل ميكن �إعادة �صياغته من جديد مب�سمى �آخر �أو
بامتياز .وهو مفهوم يدل على ق�صور �سيا�سي تاريخي عن
بلوغ مرحلة الر�شد والن�ضج التي مرت بها جمتمعات �أخرى ا�ستبعاده �أو �إيجاد بديل عنه .يف حني �أن الآخر امل�ستورد من
يف عامل اليوم .ملاذا نحن فقط دائم ًا يف خوف من ا�شتعال املفرو�ض �أن نتو�صل �إليه �أو ن�ستوعبه كنتيجة مبكوناتنا
الفتنة؟ الداخلية اخلا�صة بنا ،وهي ال�صيغة الوحيدة املمكنة يف
ملاذا جمتمعاتنا العربية والإ�سالمية هي فقط م�سرح ًا ملثل هذه احلالة اال�ستريادية ال �أن نطلب من البنية ومكونات
هذا اال�شتعال؟
�أو ًال وقبل كل �شيء ما هي الفتنة �أ�صالً؟ وما هي مكوناتها؟ املجتمع التحتية �أن تتغري ،لتالئم املفهوم امل�ستورد ،وهو
ال �أجد تف�سري ًا لها� ،إنها منطقة حمظورة عجزنا �أو عجزت �سبب ما ن�شهده من ف�شل ذريع يف حماوالت توطني
�أط���راف الأم���ة ع��ن مقاربتها ب�شكل يدخلها �ضمن �أح��د مفهوم الدميوقراطية انطالقاً من تناولنا لبنية املجتمع
م�ستويات العقل اجلمعي للأمة ،فجل�ست هذه الأط��راف الرتكيبية بد ًال من �إيجاد نوع من التوافق بينها كبديل عن
على حدود هذه املنطقة خوف ًا من ال�سقوط فيها ،لأنها ال
تزال يف مرحلة الالمعقول والالمتفاهم حوله ،وتظل الأمور تغيريها �أو حماولة ذلك.
هكذا حتى يح�صل حدث م�أ�ساوي معني يدفع �أحد الأطراف
مفهوم يجب تفكيكه
يف ال�سقوط يف املنطقة ،لت�شتعل الفتنة وت�أتي على الأخ�ضر
والياب�س� .أم��ا مكونات «الفتنة» فهي ت�تراوح بني الأبعاد
«الفتنة»
الدينية �أو الطائفية �أو القبلية.
وهذه يف اعتقادي مكونات ما قبل املجتمع املدين ،هذا يف�سر
عدم وجود مثل هذا املفهوم يف البلدان املتمدنة واملتطورة،
هل ميكن احلديث عن «فتنة» بهذا املفهوم يف دول �أوروبا
الغربية املتقدمة؟ �أو يف الواليات املتحدة الأمريكية مثالً؟.
ثقافة
احلدث يف جماالت احلياة العامة على ح ّد بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
ما كان ي�صنع من قبل .مل يعد يت�س ّنى �أن
ي�صدح املثقف بقولة تغيرّ جماري الأحداث
االعرتاف
وت��ر��س��م م�ع��امل ال�ط��ري��ق ك��ال��ذي فعله طه
ح�سني عام 1937حني قال �إن حق النا�س يف
التعليم كحقهم يف املاء والهواء� ،أو كالذي
ف �ع �ل��ه م ��ن ق �ب �ل��ه الأدي � ��ب
ال �ف��رن �� �س��ي �إمي � �ي� ��ل زوال
ح�ين ��ص��اح �صيحته «�إين
بالآخر
لأته ُم» فغيرّ تاريخ فرن�سا
ق�سمت يف امل �� �س ��أل��ة ال �ت��ي ّ
ال�شعب الفرن�سي �شقني،
وهي ق�ضية درايفو�س� .أو كالذي فعله من
بعدهما جون بول �سارتر حني مت ّرد – عام
– 1970على ال�سلطة فحكم عليه الق�ضاء
بال�سجن فا�ضطر الرئي�س جورج بومبيدو
ال�« :إين ال �أ�ستطيع �أن �أز ّج �أن يتدخل قائ ً امل�سدي
د .عبد ال�سالم ّ
بالثقافة خلف ق�ضبان ال�سجون». كاتب من تون�س
تخ�ص الن�سق الأك�بر يف الرابطة الب�شرية متوترة ج��د ًا ّ رمبا �آن الأوان لكي ننتبه �إىل احلقيقة اجلديدة التي �أفرزها
العامة ،ولئن ك��ان ل�ل�إب��داع الأدب��ي ف�ضل الإره��ا���ص بهذه تطوّر املجتمع الإن�س���اين و�أ�ص���بحت حتك���م حركته الداخلية
احلقيقة اجلديدة منذ ت�أ�سّ �س يف جم��ال ال��رواي��ة مفهوم من وراء �س���طوح الظاهر ،ولذلك خفيت على العني املجرّدة
البطل اجلماعي ف�إن الفن مل يحد�س باالنقالب الداخلي الالهية� ،أما م�ض���مونها فيتمثل يف �أن عهد البطولة الفردية
يف القيم الإن�سانية ،ذلك �أن خروج ال�سيا�سة واملعرفة واملال ق���د ولىّ فح ّل حمله عهد البطولة اجلماعية .ترى ذلك جلي ًا
�إىل ع�صر البطولة اجلماعية قد �أجّ ج لهيب املناف�سة ،وحوّل خلف دوائر الأقطاب الثالثة الكربى التي على ن�سقها ت�صنع
العالقة التكافلية �إىل مواجهة �صراعية ك�أمنا هي �صراع الإن�س���انية م�صريها :قطب ال�سيا�سة وهي التي تنتج القرار،
على البقاء ،ولهذا ال�سبب البالغ اخلفاء تكاد تنفجر حرب وقطب املعرف���ة وهي التي حترّك العلم نح���و الأمام ،وقطب
الهويات ،ولذلك �أي�ض ًا ما انفكت ت�ست�شري ظاهرة الإرهاب املال وهو الذي ي�صنع تراكم الرثوة .فال�سيا�سة اليوم يديرها
امل�ضاد بقدر ا�ست�شراء ظاهرة الإرهاب نف�سها. فريق ملتفّ حول ت�ص���وّر حمدّد لالختي���ارات التي تهيئها له
جمموع���ة متكاتفة ،ت�ص���نع له الفكر ال�سيا�س���ي ،وجتتهد يف
الهوية م�صطلح متغري حتقيق ما ترى �أنه هو امل�ص���لحة العلي���ا للوطن اخلا�ص بها.
والعلم ت�أتي اكت�شافاته ثمرة جلهود فريق من العلماء امللتفني
�إن مو�ض���وع الهُوية �أ�صبح ي�س���تلزم طرح ًا جديداً ،وذلك يف حول م�شروع بحثي يجتمعون عليه يتناهى يف الدقة ويرتامى
�ضوء �سببني اثنني� ،أولهما تغيرّ امل�شهد الثقايف الإن�ساين مبا �إىل حقول متعدّدة من االخت�صا�صات ،لذلك كثري ًا ما ت�سند
�أف�ضى �إىل انقالب مرجعياته و�إىل ا�ضطراب �سلّم �أولوياته، اجلوائز العاملية الكربى للفريق البحثي ال ل�ش���خ�ص متفرّد.
وثانيهما ت�ص���دّر العام���ل اللغوي �أمام �س���ائر املقوّمات التي و�أما املال – يف الزراعة وال�صناعة والتجارة جميعها – فلم
منه���ا تتك���وّن منظومة قيم االنتم���اء احل�ض���اري .فلقد كان يعد ي�ص���نع الرثوة �إال يف نطاق ال�ش���ركات حتى ولو انبنت يف
بديهي��� ًا �أن الهُوي���ة ترتك���ز عل���ى �أركان تاريخية يت�ص���دّرها منطلقها على ثروة فردية.
االنتماء �إىل �أ�ص���ول �س�ل�الية واح���دة ،وهي تل���ك التي متثل ولكن امل�شهد اجلديد يف املجتمع الإن�ساين يعطينا �صورة
قهرية :الدين ،والأ�س���رة ،والدولة ،والثقافة ال�سائدة ،واللغة خريط���ة الأجنا�س والأع���راق ،ثم ت�أتي اللغة كعن�ص���ر معبرّ
املوروثة. عن ذلك االنخراط ال�س�ل�ايل ،ثم ت�أتي املعتقدات التي طاملا
�إن املرج���ع الغيب���ي تتنامى �س���طوته يف جمتمعات �إن�س���انية كانت اجلامع بال�ضرورة يف خمتلف الثقافات.
عدي���دة ،ويتخذ �أحيان ًا �ش���كل امللل الغريب���ة والنحل العجيبة وع���رف الع���رب – خالل القرن الع�ش���رين – م���ن املذاهب
الراف�ض���ة للمجتمع الإن�س���اين اجلديد ،وقد و�ص���لت �سطوته ال�سيا�سية التحزبية ما �أدخل تعدي ًال على �سلّم الرتب ،ف�أقام
�إىل الذروة يف حتالفات عقدية تكت�سب �صيغة �إحياء املقدّ�س الهُوية على وحدة االنتماء ال�س�ل�ايل ،ووح���دة اللغة ،ووحدة
العتي���ق ،ولكن الأدق هو ازدواج هذا اللون الغيبي مع �ض���رب التاري���خ ،م�س���قط ًا بذلك الركن الروح���ي و�إن اعتربه مقوم ًا
�آخ���ر م���ن الإيغ���ال يف مرجعية االنتم���اء القوم���ي ،مما دفع م�ؤازر ًا ملنظومة القيم التي عليها ي�ستوي معمار الهُوية ،وكان
�إىل تعاظ���م ح���ركات ميينية تعل���ن جهار ًا تعلقه���ا باالختيار يف ذلك ت�ص���ور ا�سرتاتيجي يهدف �إىل توحيد �صف العروبة
ال�شوفيني املطلق. مبختلف املعتقدات الروحية القائمة بني �أبنائها .ولكن الو�ضع
هنا – حتديد ًا – تت�ش���كّل للمثقف وظيفته اجلديدة �أال وهي اجلديد الذي �آلت �إليه الروابط يف املجتمع الإن�ساين ب�أكمله
الن�ضال ب�إ�صرار يف �س���بيل تر�سيخ ثقافة االعرتاف بالآخر، ق���د دفع �إىل انبعاث املرجع الروحي يف العديد من الثقافات
وتر�س���يخ االقتناع ب�أنها ا�س���تثمار بعيد امل���دى ينتهي فيه كل الغربية وال�ش���رقية ،وهي الظاهرة التي يطل���ق عليها علماء
الأط���راف بفوائ����ض ثابت���ة من الرب���ح ،وم�س����ألة االعرتاف االجتماع وعلماء الإنا�س���ة «عودة املقدّ�س» وعلينا �أال نن�س���ى
بثقافة الآخر ج�سر متحرّك على �ضفتني :مقاومة الإجحاف �أن ذبذبات التوتر قد ت�ض���افر على تكثيفها م�صدران اثنان:
بغي���ة اقتالع االع�ت�راف ،ثم حمارب���ة التطرّف م���ع مقاومة م�ص���در ال�سيا�س���ة مبا هي انحياز مطلق لن�س���بية امل�صالح،
اتخاذه مطية لإر�سال التهمة ال�سهلة. وم�ص���در التنظري الفل�س���في الذي يمُ عن �إىل حدود ال�شطط
هن���ا – مرة �أخرى – يقف املثقف العربي ،ليواجه بن�ض���اله يف الإع�ل�اء من حري���ة الفرد بذات���ه ،والذي انته���ى يف �آخر
جبهتني زاحفتني :جبهة خارجي���ة متعن يف الإغاظة بركوب طوباويات���ه احلداثي���ة �إىل القول �إن حرية الإن�س���ان ال تكتمل
مطايا التهم ال�سهلة اجلاهزة ،وجبهة داخلية ينزع �أ�صحابها �إال �إذا ق�ض���ى على خم�س���ة �أ�ش���ياء متثل جميعها م�ؤ�س�س���ات
لقد ج���اءت الثقافة العربية مبا ي�ش���هد على �أنها ان�س���جمت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
م���ع قان���ون التاري���خ يف �أن العلم �إن�س���اين وعل���ى الثقافة يف
مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
خ�صو�ص���ياتها �أن تذع���ن له ،ولي�س بو�س���ع ثقافة �أن ت�ص���نع
جمدها الإن�ساين �إال �إذا �صانت ميثاق االعرتاف بالآخر.
باك���را ،كان �أبو يو�س���ف يعقوب الكن���دي (ت 252هـ) يخط
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
ر�س���ائل ُه الفل�س���فية ،وباكر ًا �أي�ضا دوّن ما هو جدير ب�أن يكون حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ميثاق ًا يكتب مباء الذهب على نا�صية امل�ؤ�س�سة التي ال يدفعها بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
�إال حمرك التخا�صب بني املناهل يف تنوعها واملوارد يف تعدد
�أل�سنتها: �إىل التطرّف فيحاول �أن يعيد ل�ص���وت العقل �صداه امل�سموع.
«علين���ا باقتن���اء احلق و�إن �أت���ى من الأجنا�س القا�ص���ية عنا ولكن الأعراف الثقافية قد ق�ض���ت ب�أن الرباهني امل�س���تمدّة
والأمم املباينة لنا ،ف�إنه ال �شيء �أوْىل بطالب احلق من احلق، من احلا�ض���ر ال تقوى وال تتعزّز �إال �إذا ا�س���تندت �إىل براهني
ولي�س ينبغي بَخْ ُ�س احلق ،وال ت�صغري قائله ،وال الآتي به .فال ن�س���تدعيها من املا�ض���ي ،لذل���ك حق لن���ا �أن نتمنّى كم يكون
�أحدَ بُخ�س باحلق ،بل ك ٌّل يُ�شرّفه احلقُّ» .ف�أي ذروة �أرقى من ناجع ًا �أن يبد�أ املثقف العربي ب�إعادة ترتيب املراجع القيمية،
هذا ال�سَّ نم يف جمال االعرتاف بالآخر؟ �إنه الن�ص ال�صريح كي يتعزّز لديه العق ُل مب�شروعية امل�أثور الفكري.
بذاته :الأجنا�س القا�ص���ية عنا والأمم املباينة لنا� .أما املدار
ال���ذي يقوم مقام قل���ب الرحى فهو احل���ق يف معناه املطلق، �سقوط اللغة واحلدود
حيثم���ا كان ح���قٌّ ،والكن���دي � -إذ يتحدث �إلين���ا عن احلق -
كان يدبّج خطاب ًا فل�س���في ًا وهو ي�ضع ر�س���ائله الفل�سفيّة ،فال ويف الب���دء على املثق���ف �أن يذكّر جموع النا�س – يف عامتهم
جم���ال �إذن �إىل حمل اللفظ على داللة اخل�ص���و�ص التي هي ويف كثري من خا�ص���تهم – ب�أن الإ�سالم عندما نزلت ر�سالته
داخلة �ض���من مقا�ص���د التوحيد و�أغرا�ض الت�ش���ريع الإلهي، حر����ص احلر�ص كل���ه على �أن يقي���م مفهوم ًا جدي���د ًا للهوية
و�إمن���ا هو على داللة العم���وم ،تلك الداللة التي و�ض���عت لها اجلماعية ،فقلّل من �ش����أن الرابطة ال�ساللية التي تقوم على
اللغ���ة ا�ص���طالح ًا جديد ًا �إذ تقول -ب���دل احلق -احلقيقة. احلمي���ة العرقية وتغذي فكرة الع�ص���بية امل�س���تبدّة باملجتمع الإ�سالم �أ�سقط
فلي�س تق ّو ًال على �ص���احبنا �أن نعتربه منخرط ًا كلي ًا يف ميثاق العرب���ي يومئذ ،و�ألغ���ى معيار املكان بو�ص���فه مرتكز ًا للهوية
اجلماعية ،ف�أ�س���قط بذلك فكرة احل���دود اجلغرافية كرمز
فكرة احلدود
االعرتاف بالآخر.
ف�إن كان الكنديّ فيل�س���وف ًا -وامليثاق الفكري الذي �أ�س���لفنا �أ�سا�س���ي يف فكرة الوطن ،بل �إن الإ�س�ل�ام قد �ألغى عن�ص���ر اجلغرافية
اللغة بو�ص���فه عام ًال يف ت�شكيل الهوية اجلماعية ،وهذا مما
ال يُ�س���تغرب من كل فيل�س���وف -ف�إنّ مقيا�س التنوع الثقايف،
تخفى على النا�س �أ�سراره كما �سنعود �إليه. وعن�صر اللغة
اخلالق القائم على مبد�أ االعرتاف بالآخر عندما يتبناه من
اخت�ص ب�ش����ؤون الدين ومباحث العقيدة يكون �أبلغ ،و�أن�صع، لق���د �أعل���ن الن�ص املقدّ�س عن املق�ص���د الأ�س���مى من وجود بو�صفهما
الإن�سان مع الإن�س���ان�« :إنّا خلقناكم �شعوب ًا وقبائل لتعارفوا»
ورمبا �أدْعَ ى للإن�ص���اف الثق���ايف ،لأنه يقط���ع الطريق �أمام
كل �إجحاف ح�ض���اري �أو غَ مْط فكري .ف�أبو حامد الغزايل ( ثم �أر�سى الأ�س���ا�س اجلديد للتفا�ضل�« :إن �أكرمكم عند اهلل عاملني يف
505 450-هـ) الذي ا�ستحق بجدارة �شُ هرة حجّ ة الإ�سالم، �أتقاكم» وهذا معناه �أن املبد�أ الأول هو التنوّع الب�شري يف كنف ت�شكيل
ي�س���وّي منافحة عالية يف �أمر ف�ض���ائل التنوّع الثقايف ،والذي �أن النا����س جميعهم �سوا�س���ية ،و�أنه على ذل���ك املبد�أ ينطلق
كان ميثاق ًا على قلم الكندي يمُ ْ�سي د�ستور ًا فكري ًا على يده. حافز ال�س���عي نحو التفا�ضل ،وهو – مبرجعياتنا الراهنة – الهوية
ينطلق الغزايل من تقرير حال ما هو �س���ائد مر�س�ل�اً حكمه ن�ص
التناف�س اخلالّق .ثم جاء الن�ص ال�ش���ارح واملكمّل وهو ّ اجلماعية
ال�صريح« :عادة �ضعفاء العقول �أنهم يعرفون احلقَّ بالرجال ال�س���نّة ،ومل يكن هيّن ًا وال ي�سري ًا �أن ي�صدح �صاحب الر�سالة
ال الرجالَ باحلق». بقول���ه «لي�س من ف�ض���ل لعربي على �أعجم���ي �إال بالتقوى» وال
فامل�س����ألة مبدئيّة ولي�س���ت مقيّدة مبجال �إن�س���اين دون �آخر: �أن ي�أخ���ذ ذلك املوقف الرمزي بال���غ الداللة ،حينما ر ّد على
لي�س���ت وقف��� ًا عل���ى ظواهر ال�س���لوك وال على بن���ات الأفكار، الذي احتج بال�شعار ال�سلوكي املوروث« :ان�صر �أخاك ظامل ًا �أو
اخت�ص بدينولي�س���ت وقف ًا على حقل الن�ش���اط الفك���ري �إذا ّ مظلوماً» ب�أن ف�سّ ر و�شرح :ان�صره ظامل ًا بردّه عن �ضاللته.
�أو بفل�س���فة �أو بلغة �أو ب�سيا�سة .فاحلق هنا هو رم ٌز للم�ؤ�س�سة املهمّ لدين���ا هنا هو هذه احلروف الذهبي���ة الأوىل التي بها
الفكرية الواعية بنف�س���ها وامل�س����ؤولة عن �أقدارها .ومل ي�ش����أ ُدبّ���ج امليث���اق الثق���ايف اجلديد ،ميث���اق االع�ت�راف بالآخر،
الغ���زايل �أن يك���ون بدع���ة ،لذلك ن���راه ي�ؤ�س����س موقفه على ميثاق ن�س���خ فكرة الإق�ص���اء ،ولك �أن تعي���د تتبّع املنعرجات
امل�أثور من الأقوال ومن الأفعال :وهو يخط �س�ي�رته الفكرية الك�ب�رى يف تاريخ احل�ض���ارة العربية الإ�س�ل�امية ،ف�س���تجد
يف كتابه «املنقذ من ال�ض�ل�ال» قائال« :والعاقل يقتدي بقول �أنه���ا مل تزده���ر �إال بف�ض���ل ثقاف���ة االع�ت�راف بالآخر ،هذه
�أم�ي�ر امل�ؤمنني علي بن �أبي طالب :ال تع���رف احلقَّ بالرجال الت���ي بف�ض���لها ان�ص���هرت الأجنا�س والأعراق ،ثم ان�س���كبت
ب���ل اعرف احل���قَّ تعرف �أهله» .ث���م ينطلق �ش���ارح ًا ومعلالً: منه���ا العلوم واملعارف ،ويكفي يف تبيان ذلك �أن حتويل اللغة
«والعاق���ل يع���رف احلقَّ ثم ينظ���ر يف نف�س الق���ول ،ف�إن كان العربي���ة �إىل منظومة معرفية يتكامل فيها علم املعجم وعلم
ح ّق ًا قبله �س���وا ٌء كان قائل ُه ُمبْط ًال �أو محُ قاً ،بل رمبا يحر�ص العرو�ض وعلوم النحو وال�صرف والأ�صوات قد مت يف القرن
على انتزاع احلق من �أقاويل �أهل ال�ض�ل�ال ،عامل ًا ب�أن معدن الثاين على يد العربي اخلليل الفراهيدي والفار�س���ي الوافد
الذهب الرغامُ». �سيبويه.
لي����س ه ّين��� ًا وال ي�س�ي�ر ًا �أن يرتقي الطرح العرب���ي �إىل منزلة ويرتقي �أبو حامد الغزايل �إىل درج ٍة �أعلى ،حماو ًال تخ�صي�ص
م���ن احلوار ب�ي�ن الثقافات فيم�س���ك ب�أرق �ألي���اف العقالنية العلماء مبيزة الأمانة لأنهم حفظة احلق واملطالبون ب�صيانة
يف امل�س����ألة اللغوي���ة العامة ،ف�إذا به يقدم در�س��� ًا يف ن�س���بية د�س���اتري الإن�ص���اف« :وهذا وه ٌم باطل وهو غالب على �أكرث
املرجعيات القيميّة ،يوجهه �إىل �أ�ساطني احل�ضارة اليونانية، اخلل���ق� ..أبدا يعرفون احل���ق بالرجال وال يعرف���ون الرجال
وك���م نحن يف حاج���ة �إىل �إع���ادة �إنتاج ذلك الدر�س �ص���وب باحلق وه���و غاية ال�ض�ل�الة» .فلي�س اف�ت�راء وال جمازفة �أن
�أ�ساطني الثقافات الكونية الراهنة. نعترب الغزايل رائد ًا بني دعاة كونية املعرفة رغم خ�صو�صية
الثقافة ،ورائد ًا بني دعاة االعرتاف بالآخر.
عن�صرية اللغة �َنُ وتتوات ُر منافحاتُ الرّواد عنه ،و�س���ي�أتي -و�س���يطّ رد ال�سَّ نَ ُ
غ�ي�ر بعيد -من يعطي �أروع الأمثلة يف �ص���هر الثقافات بغية
فه���ذا ابن ح���زم ( 456-384هـ) -وهو الأديب ،واملف�س���ر، ا�ست�ص���فاء نُ�سغها الإن�س���اين اخلال�ص ،و�س���ينهل من ثقافة
والقا�ضي ،واملنظّ ر يف باب �أ�صول الفقه ،واحلري�ص على �أن اليون���ان �أيمّ ا نهلٍ وهو الإمام يف �ش����ؤون الدين والعقيدة ،بل
يكون عنوان م�صنّفه �شاهد ًا على ر�ؤيته اجلامعة من «الإحكام وهو احلاكم بني �أفراد الرعية على من�ص���ة قا�ضي الق�ضاة،
يف �أ�ص���ول الأح���كام» -يقول« :وقد توهم ق���وم يف لغتهم �أنها �س���ي�أتي �أبو الوليد بن ر�شد فيُفتي يف الق�ضايا الفل�سفية التي
يخ�ص����ص القوم الذين �أف�ض���ل اللغات» وهو هنا يتلطف فال ّ ظلت معلّقة منذ �أر�س���طو ،و�س�ت�رث الثقافة الالتينية تركته
يعنيه���م ،وهذا منه كيا�س���ة لي�س �إال ،لأنه يق�ص���د �أهل الدار املعرفية فتق ّر له بالف�ض���ل ،وتقول قولتها التي �سرت م�ضرب
من �أبناء ثقافته العربية قطعاً .ثم ي�ستطرد �شارح ًا م�ستدالً: الأمثال« :لئن كان الذي ف�س��� ّر الطبيعة هو �أر�سطو ف�إن الذي
وهذا ال معنى له ،لأن وجوه الف�ض���ل معروفة ،و�إمنا هي بعمل ف�س ّر �أر�سطو �إمنا هو ابن ر�شد» كان ابن ر�شد( 595-520هـ)
�أو اخت�ص���ا�ص ،وال عم���ل للغة ،وال جاء ن�ص يف تف�ض���يل لغة �أمارة فريدة يف ت�ش���ييد ميثاق االعرتاف بالآخر املف�ضي �إىل
احل�ضارة على لغة ،وقد قال تعاىل «وما �أر�س���لنا من ر�س���ول �إال بل�س���ان
قومه ليبينّ لهم» وقال تعاىل «ف�إمنا ي�سّ ���رناه بل�سانك لعلهم
التنوع احل�ض���اري اخلالق عرب تعدد الأل�سنة املنقول بع�ضها
�إىل بع�ض ،و�إذ هو يدبّج ف�صل املقال بكفاءة عقالنية فا�صمة
ال�سوية �إذا يتذك���رون» ف�أخرب �أنه مل ُين���زل القر�آن بلغة العرب �إال ليفهم يقرر جُ مّاع ما ي�ص���ل داخل الإن�س���ان كيانه الفل�سفي بكيانه
ذلك قومه عليه ال�سالم ال لغري ذلك. الروح���اين ،ويالحم ب�ي�ن وجوده الت�أملي ووج���وده الإمياين،
اكتملت ولكن اب���ن حزم يحوّل وجهة الإ�ش���كال فيخرج به من دائرة �إذا به يعيد �ص���وغ ميثاق املواثيق ويحيي د�س���تور الد�س���اتري،
حترر �أهلها الثقاف���ة اخلا�ص���ة -التي هي ثقاف���ة الأنا مبا �أن �ص���احبنا يف �إن�صاف ح�ضاري مت�ألق ،ويف �سم ّو �أخالقي لطاملا تفتقده
اب���نٌ لها -ويلج ب���ه الأفق الإن�س���اين الأرح���ب فيُطلعنا على الإن�سانية يف زمننا اجلديد.
من مركبات �أن الوهم وه ٌم ح�ض���اري �ش���ائع ،و�أن اخلط����أ يف هذا املجال «يج���ب علينا �إن �ألفينا ملن تقدمنا من الأمم ال�س���الفة نظر ًا
اخلوف ِملمّا يرتكبه جهابذة الفكر الب�ش���ري �أحياناً ،ذلك �أن ال�سبب يف املوج���ودات ،واعتب���ار ًا لها بح�س���ب ما اقت�ض���ته �ش���رائط
الثاوي هو مع�ضلة االن�سجام مع ن�سبيّة املرجعيّات القيميّة يف الربه���ان� ،أن ننظ���ر يف الذي قالوه من ذل���ك ،وما �أثبتوه يف
على الذات تاريخ الإن�س���انية قاطبة .يقول ابن حزم« :وقد غلط يف ذلك كتبه���م ،فم���ا كان منها موافق ًا للحق قبلناه منهم ،و�س���رّرنا
الثقافية جالينو����س ،قال �إن لغة اليونانيني �أف�ض���ل اللغات لأن �س���ائر به ،و�ش���كرناهم عليه ،وم���ا كان منها غري موافق للحق نبّهنا
اللغات �إمنا هي ت�ش���به �إم���ا نُباح الكلب �أو نقيق ال�ض���فادع». عليه ،وحذرناهم» .هو هذا الذي لي�ست الإن�سانية -بالأم�س
وال ي�ت�ردد ابن حزم يف تق���دمي الدر�س الذي به يتخلق جنني واليوم وغداً -يف حاجة �إىل �شيء مثلما هي يف حاجة �إليه.
الإن�ص���اف الثقايف ،وبه تتولد تقاليد االختالف احل�ض���اري احلقيق���ة ه���ي �أن العرب قد �ص���نعوا ح�ض���ارة و�أنهم -قبل
املخ�ص���اب« :وه���ذا جه ٌل �ش���ديد لأن كل لغ ٍة لي�س���ت لغته وال �ص���نعها ،وعن���د �ص���نعها ،وبعد �ص���نعها -قد تخل�ص���وا من
يفهمه���ا فه���ي عنده يف النّ�ص���اب ال���ذي ذك���ر جالينو�س وال املركبات الثقافية حي���ال الآخرين بعد �أن حترروا من العقد
فرق». العرقي���ة ويف مقدمتها العق���دة اللغوية� .أمل يبادر �ص���احبنا
ث���م يلج ابن ح���زم بامل�س����ألة �إىل ب�ؤرتها املركزي���ة لري ّد على �أبو عثم���ان اجلاح���ظ ( 150-255ه���ـ) يف مقدمات كتاب
الذين قالوا «العربية �أف�ض���ل اللغ���ات لأنه بها نزل كالم اهلل احليوان بالقول امل�ؤكد« :والإن�سان ف�صيح و�إن عبرّ عن نف�سه
تع���اىل» فيقدم احلجج النقلية والعقلية يف ا�س���تدالل نا�ص���ع بالفار�س���ية �أو بالهندي���ة �أو بالرومانية ،ولي�س العربي �أ�س���و�أ
مب�ي�ن ،ويجع���ل العربي���ة وال�س���ريانية والعرباني���ة يف مرتبة فهم ًا لطمطمة الرومي من الرومي لبيان ل�سان العربي ،فكل
الت�س���اوي من حيث القيمة املطلقة� ،إذ بجميعها نزل من اهلل �إن�سان من هذا الوجه يقال له ف�صيح» �إن العرب قد تخل�صوا
على ر�سله كالمه املقدّ�س. من عُ قدة الآخر فتخل�ص���وا بذل���ك من عقدة الذات اللغوية،
و�إن الع���رب قد �أثبتوا ب�أن احل�ض���ارة ال�س���وية ذات الأعمدة
�إن االع�ت�راف الثقايف بالآخ���ر هو املدخ���ل الطبيعي للحوار الرا�س���ية يف الأعم���اق هي التي �إذا اكتمل���تْ حترر �أهلها من
مع���ه ،وهو امل�س���وّغ القدير لتزكية فعله �إذا �أن�ص���ف واعتدل، مركّبات اخلوف على الذات ،وال �س���يما الذات الثقافية التي
ولالعرتا�ض عليه �إن �ش���ط ومال مع الهوى .فلي�س من �سبيل �س���لطتها يف اللغ���ة .وما من ح�ض���ارة تظ���ل متحفّزة تتحرك
ملقاومة تعميم التهمة ال�سهلة �إال برف�ض فكرة االق�صاء ليتمّ بهاج����س الذعر من الآخ���ر وتندفع بغريزة العداء املف�ض���ية
االنخ���راط بعد ذلك يف معركة الق�ض���اء على التطرف مهما �إىل مقوالت ال�ص���راع وال�ص���دام والترّ هّ ب �إال وهي ح�ضارة
يكن م�صدره وم�أتاه و�أي ًا كانت �أ�سبابه �أو تعالته. تفتقر يف باطنها �إىل عن�صر جوهري ير�أب ت�شققها الداخلي
ويرممّ فلول معمارها اخلارجي.
العمل الفني :عادل السيوي -مصر
عر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
ِّ
�شعر �شعر
ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
عر
�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�شعر �شعر �شعر عر �شعر �شعر �شعر �شعر
هات
نبوء َتك اجلديدة!
�سميح القا�سم
10
بيت النا ِر ُم ْقتَبَلُ �صالتكُ ،َ �أَ ِق ْم
أمن ،والإميا ُن ُم ْقتَتَلُ فيه ت� ُ و
أقفرت منها عقيدتُها يف � ّأم ٍة � ْ
أوبا�ش وال َه َملُ و�سا َد �أ�سيا َدها ال ُ
«�ضحكت من جهلها � مَأمٌ» ْ و�أم ٍة
و�أ َّّم بالعل ِم فيها ك ٌّل من َجهِلوا
وقد تلو ُم حبيباً زاغَ مو ِع ُد ُه
ذل يطيب لدي ِه اللو ُم َ
والع ُ فال ُ
أنت تعر ُف ُه زي � َوللأعاريب ٌّ
أخفت ا ُحللَلُ ؟ أتعرف ماذا � ِ لكنُ � ، ْ
�صالتك ،قرطا�ساً بال ق َل ٍم َ �أَ ِق ْم
واخليلُ والليلُ ،ما ر�ؤيا؟ وما � َأملُ ؟
ت�صافحها
ُ كف
ني �إىل ٍّ وما احلن ُ
اخليبات حُ ْمتَ َملُ ؟
ُ وكلُّ ما تل ُد
أهل فال امر�أ ٌة ديار َك من � ٍ َخ َو ْت ُ
ال» وال َر ُجلُ بال�ضيف «يا �أه ًِ ت�صيح
ُ
11
ريحها َقلَقاً زود َ الهواج�سِّ .
ِ فتى عر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
الريح تَنت ِقلُ
�إ َّيل َعدوا ُه فوق ِ ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
كوفتك اخل�رضاء مقرب ٌة َ قباب
ُ
�شعر �شعر
�شعر �شعر عر
�شقيق ِ
احلزن ُمعتَقَلُ ورامتي يا َ ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�شعر �شعر �شعر عر �شعر �شعر �شعر �شعر
وللغزا ِة من البيدا ِء ما رغبوا
ينوء ال�سهلُ وا َجلبَلُ وبالطغا ِة ُ
نفور َك وال ُ
أغالل باهظ ٌة �أخا العروب ِة ،ما زالت بال َع َر ٍب
وما ُ
وما جموحي وحويل الي� ُأ�س واملَلَلُ ؟ والع َملُ ولل ِ
أجانب فيها الر� ُأي َ
�أبا الق�صائ ِد ،نَ ْ�صل اليُتم �أَدر َكها �صُر�ص ٌة ف َُر ٌ
تاحت ف َ ِ
وللعقارب ْ
رح يُتمي بها هيهات ين َد ِملُ ِ
فللم�صائب من َحلّوا ومن رحلوا!
وج ُ ُ
ناديت بغدا َد من ُجبّي ووح�شتِ ِه ُ
f f f
جابت جنوماً حولنا � مَأم ٌ أقول ْ � ُ ال�رضيح وق ُْم َ �أبا الق�صائ ِد ق ُْم�ُ .ش ّق
وجلُّ غايتنا الأغنا ُم والإبِلُ ؟ ُ ت�ستوجب ال ِعلَلُ
ُ املوت ما ولقّن َ
ن�سيت
ْ أبوح ب�أنّا ِم َّل ٌة وهل � ُ نبوءتك الأخرى على َع َج ٍل وقُل َ
جذورها ،ف�إذا �أبنا�ؤها ِملَلُ ؟ َ فبني حزين وخويف خاف ٌق َع ِجلُ
لهيب لَ ُه �أم �أكتُ ُم الربقَ �ضوءاً ال َ ناي ُمتَّ َ�س ٌع ِ
وللكواكب يف يمُ َ
يبوح �شهاباً نَ ْ�س ُل ُه ُ�ش َعلُ ؟ وبي ُ وعند يُ�رساي للأقما ِر ُمنتَ َج ٌع
ت�شماً ال�صمت حُم ِ ِ وقد �أفو ُز ِ
بطيب وللخليق ِة يف �صدري عال نُ ُز ُل
يطيب على علاّ ت ِه ال َف َ�شلُ ! وقد ُ ألف �شارد ٍة �أبا الق�صائ ِد .عندي � ُ
f f f ي�سهر ال َّزغَلُ
اخللق ..لكن ُ وي�سهر ُ ُ
تاجان .من َك ِل ٍم ِ �صاحب التاج .يل
َ يا وال �أنا ُم و�آفاقُ الردى َق َل ٌق
عال .ومن �أَلمَ ٍ� .أُهوي وال �أَ ِ�صلُ ٍ وبالرما ِد جفوين ا ُحلمر تكتَ ِحلُ
ويل بال ٌد �إىل العليا ِء طاحمَ ٌة وا�ستغثت ب ِه
ُ نجى.
آمنت باهلل َم ً � ُ
طافح ٌة
بفي�ض اخل ِري َ ويل بال ٌد ِ الر ُ�سلُ وبال�سما ِء ،وما َ
جاء ْت به ُّ
وكلُّ ما ظلَّ يل من ِ
غي�ضها َو َ�شلُ أبوح ب ِه بال�صمت �رسٌّ ال � ُ ِ وال َذ
أغراب يف وطني وطالع ال�سعد لل ِ ُ ال�صد ِر يَعتَ ِملُ يف�ضح ما يف َّ
ُ وال�صمت
ُ
13
دوار البَ ْح ِر وا َجلفَلُ وعند ِ�ض ِّدي ُ عر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
الروح ُمرتوياً ِ وكم َعبَ ْب ُت َ
زالل ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
ي�ش ُّق الوِر ُد والنَّ َهلُ �سواي ُ َ ويف
�شعر �شعر
�شعر �شعر عر
دت بوجه البغي وانك َف�أوا
ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
وكم َ�ص َم ُ �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�شعر �شعر �شعر عر �شعر �شعر �شعر �شعر
وكم َ�ص َد ْد ُت غوى الغاوي وكم َقبِلوا
ونبَّهوين �إىل ما ينبغي�َ ،ش َططاً م�صباحها ُز َحلُ ُ وطالعي ُغرب ٌة
ويو َم نبَّهتُ ُهم عن حكم ٍة َغ ِفلوا ِ
وللحراك �أ�ساطريٌ ُمل َّف َق ٌة
وقُلت فيهم كالماً طيباً َغ ِز ًال ال�شلَلُ
وللحقائقِ من تاريخنا ّ
وهم َه َجوين .ويف ترثيِبِهم َغ َز ُل! ونار دمي قلبك يف قلبيُ . ونور َ ُ
يبي الأ�صلُ ،مو�صو ًال به ن�سبي و َع َ غ�شى ُحزنَ ُه َطفَلُ موتك ّ من نا ِر َ
ال�شعر ُهم نُ ِ�سلوا ومن حظرية «دوللي» ِّ التاج هيبَتُ ُه يا �صاحب التاجَ .ع ْد ُل ِ
أخاك .حلريف راي ٌة َ�ش َم َخ ْت �أناَ � . املوت عد ًال فوقَ من َع َدلوا! و�إ َّن يف ِ
املنابر �أغوتْها وال ال ُقلَلُ فال ُ املوت .من دنيا لآخر ٍة ونحن يف ِ ُ
همني «نَ َظر الأعمى �إىل �أ َدبي» ما َّ عر ُه الأَ َز ُل بعث ِ�ش ُ املوت ٌ آخر ِ و� ُ
قلت فاقتتلوا اخللق بي� ..أو ُ و� َآم َن ُ املوت قافي ٌة و�أ�سعف ْتني بوادي ِ
علوت بِ ِه
ُ ُلك من نو ٍر همني امل ُ ما َّ أبيات وا ُجل َملُ فدانت لها ال ُ ْ ع َّز ْت
النا�س من َ�س ِفلوا ثيب ُ ويف الظال ِم يُ ُ وناو�ش ْتها �أفاعي اللغو عاري ًة
ويف بالدي وحو�ش الغزو �سائب ٌة حاولت ِحيَلُ ْ واكت�ست ما
ْ من جلدها،
�صل يَبتَهِلُ لرب النَّ ِ وحلم �شعبي ِّ ُ وجبَّها ُجحرها خزياً على َكل ٍَل
غا�صبها دون ِ ر�صا�ص َ ٌ ومن متوري ومل يطاو ِْل ن�شيدي جاحماً َكلَلُ
ر�صا�ص فاتَ ُه الأُ ُكلُ ٌ وللغزا ِة الوح�ش �ألبَ ُ�س ُه ِ ريت .فجل ُد
�إذا َع ُ
�أنا النخيلُ .وبي من دجلتي َع َ�ص ٌب الوب�ش �أنتَ ِعلُحفيتَ ،فو ْج َه ِ ُ و�إن
ومن فراتي د ٌم� .أدعو فَيَمتَثِلُ فقلب الي�أ�س �أنز ُع ُه قيت ُ و�إن َ�ش ُ
دى وال�سالح ُ�س ً ُ أدفع �رشّاً
وكيف � ُ َ ر�ضيت فقربي ُمز ِه ٌر َخ ِ�ضلُ ُ و�إن
اب والأَ َ�سلُ ؟ الن�ش ُ
ال�صواريخ ،ما ّ ُ هنا املوت من عليائ ِه َج ِذ ًال أنزل َ و� ُ
أنقا�ض منزلنا وللغزا ِة على � ِ �ضاحك َج ِذ ُل ٌ وهيكلُ العظ ِم عندي
مميت .دمي يف َخ ْم ِر ِه َم َهلُ ر�س ٌ ُع ٌ الرحمن �أب َد َع ُه ُ و�صوت قلبي كما
ُ
أبراج رايتُ ُهم أ�شالء حلمي على ال ِ � ُ ال�صوت ُمنتَ َحلُ ِ �ستعار
و�شانئيُ ،م ُ
�صعدت ب�أ�شالئي فقد نزلوا ُ و�إذ هاج مائِ ُجها بحور َ وحتت �صدري ٌ
14
لعلَّ بعثاً يواتيهم مبا بَذَلوا وي�سهرون على �سجنٍ �أنا ُم بِ ِه
اجلفونُ ،ه ُم الأ�رسى وبي ُع ِقلوا ويا جنوين اقتَ ِ�ص ْد ما ظلَّ من َعلَمي ِ ملء
َ
ويا جنوين �أغثني من جنون َدمي مددت يدي ُ ال كمولل�سال ِم نبي ً
ومن جحيم فمي� ..أخبو في�شتَ ِعلُ ال عن يدي َق َفلوا وللخ�صا ِم ذلي ً
للحب مملك ًة ِّ ويا جنوين �أ ِق ْم لم بِهِم ويب�سلون على ي� ٍأ�س يُ ُّ
وللحيا ِة �أ ِد ْم ما تُله ُِم القُبَلُ ! ويجبنون �إذا ما َ�ش ْع َ�ش َع الأَ َملُ َ
f f f ا�ص ال ِّدما ِء متى م�ص ِحال ّ �أحالُهم ُ
معت�صماً إن�سان ِ آمنت باهللِ وال ِ � ُ هوت من ِج ْ�س ِم ِه ُكتَلُ ؟ النهار ْ ُ عال
بحبل خال ِق ِه .يكبو ،ويعتَ ِد ُل ِ f f f
وح�سبي اهللُ .يف ُحزين ويف َغ َ�ضبي َ ان من َع َر ٍب ابن ا ُحل َ�سينْ ُِ .ح َ�سينيّ ِ يا َ
أزم ْع ُت �أتَّ ِكلُ
على ر�ضا ُه مبا � َ ودالت بنا يا �صاحبي ال ُّد َو ُل ْ ِ�صي ٍد.
و�إنني ُمز ِم ٌع تبدي َد غا�شي ٍة حت فكيف نُغ�ضي على مكروه ٍة َف َد ْ َ
وا�ستفحلَ ا َخل َطلُ َ ال�صواب بها
ُ �ضلَّ ن�صرب عن ذ ٍُّل ونَحت ِملُ ؟ وكيف ُ
�أبا الق�صائ ِد فاب�سط راح ًة ْ
تعبت وبي جنونُ َكُ .ح ّراً َج َّب من �سبقوا
أقالمها .ودوا ُة احل ِرب تختَز ُِل � ُ طوق من راغوا ومن َو َ�صلوا و�شب عن ِ ّ
�أبا الق�صائد .وابن الرافدين� .أنا �سيف ودولتُ ُه؟ وبي جنوين .فما ٌ
ذابك .ال َر ْذ ٌم .وال بَ َطلُ �أخو َع َ الوقوف مبا ال يُ�س� ُأل ال َّطلَلُ ؟ ُ وما
عذابك .ما �أله ْت ُه ُمغري ٌة َ �أخو كافور ت�ست�رشي �إقامتُ ُه َ ون�سلُ
ويف غيابِ َك ..ال ين�أى ويعتَز ُِل واحلب يمُ ْ ِحلُ والإن�سا ُن يرتحَ ِلُ ! ُّ
ركانان من َغ َ�ض ٍب ِ نحن ،بُ
ونحن ما ُ ُ وها �أنا َطلَلٌ م�أ�ساتُ ُه َعبَ ٌث
الع َ�سلُ
ُم ٍّر ،لري�ضى على �صحرائنا َ يف ُحلمه َعبَ ٌث .يف ي� ِأ�سه َعبَ ٌث
كفلت
وال�شعب الذي ْ ُ وح�سبُنا اهللُ. واملوت ُمبتَذ َُل
ُ عبث. وعي�ش ُه ٌ ُ
أين المَينْ ُ وال َّزلَلُ ؟احلقَ � ، قبور ُه َّ ُ يف رام ٍة َعبَ ٍث �أو كو َف ٍة َعبَ ٍث
جتم ُعنا نار ا ُحللم َ وح�سبُنا اهللُ . من � َّأم ٍة مل يَه ِْجها خطبُها ا َجللَلُ
�شاءتْنا ،فما ا َجل َد ُل يف جنَّ ِة ا ُحلل ِمَ . ال ملن جهلوا اجت ِْح عق ً فيا جنوين رَ
وكلُّ من ثابروا يف َ�س ْعيِهِمَ ..و َ�صلوا! اجلنون دليلٌ للأوىل َع ِقلوا َ �أن
نحن هنا
ان ُ ابن ا ُحل�سنيُِ ،ح َ�س ْينيّ ِ يا َ حم بال ّطل ِْع بادي ًة ويا جنوين اقتَ ْ
نحن نَ ْرتجَ ِلُ !! هناك� ،سوى ما ُ وال َ وجابِ ِه الليلَ بالعني التي َ�س َملوا
ويا جنوين �أَثِ ْر موتى ق ََ�ضوا عبثاً
(الرامة�-إبريل /ني�سان )2007
15
وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
«الأمل هو �أقوى م�ساعد على تقوية الذاكرة»( ،)1هكذا قال هل للمر�ض ذاكرة؟
نيت�شه يف «جينالوجيا الأخالق» ،لأن الأمل ينطبع يف الذاكرة قد يبدو هذا الربط بني املر�ض والذاكرة م�ستغرباً،
بقوة جتعلنا نحتفظ بفكرة عنه« ،ووحدها الأ�شياء التي ال تفت�أ
ت�ؤملنا تبقى يف الذاكرة» .ال لأنه �شيء ي�ؤملنا فح�سب ،بل لأنه �إال �أنه من البداهة بحيث ال يحتاج �إىل تو�ضيح �أو
�شيء يرتك �أثر ًا ال ميحى يف �أج�سادنا. ا�ستدالل ،فهل هناك من ذاكرة �أقوى من ذاكرة
يحمل الكثريون يف البحرين على �أج�سادهم ذكريات م�ؤملة املر�ض؟ املر�ض مبا هو اعتالل يف النف�س واجل�سد،
لأمرا�ض وبائية عنيدة انت�شرت بينهم مع �أواخر القرن التا�سع
ع�شر وبدايات القرن الع�شرين ،ف َمنْ ِمنْ ه�ؤالء ين�سى مر�ض
و�أي�ضاً – وهذا هو الأهم – مبا هو نق�ش يف هذا
اجلدري العنيد؟ كثريون ق�ضوا نحبهم بفعل اجلدري ،ومن اجل�سد ،فما حفر على اجل�سد متتع بالدوام.
املنجل
بقي ح ّي ًا حمل مع ج�سده ذكرى هذا املر�ض على �شكل ندوب
وت� ُّشوهات دائمة يف الوجه ،وهناك من �أ�صيب بالعمى الكامل
بفعل هذا املر�ض اللعني وقواه املد ِّمرة .هذه الندوب املحفورة
يف الوجه هي كتابة اجلدري ،وهذا العمى الذي يت�سبب فيه
اجلدري �أو الرتاخوما هو نق�شه وتوقيعه على اجل�سد .وهذه
املهيب
كتابات وتوقيعات ال �سبيل �إىل اخلال�ص منها �أو حمو �آثارها.
توقيعات
هل بقي بعد هذا �شك يف �أن املر�ض هو �أ�سا�س الذاكرة؟ وهل
ين�سى �أحد توقيعات املر�ض على ج�سده الذي هو احلقيقة الأكرث
ح�ضور ًا ومبا�شرة يف عامل الدنيا؟ اجل�سد هو املكان الأكرث
ذاكرة املر�ض
قدرة على االحتفاظ ب�أر�شيف املر�ض وا�ستيداع كتاباته ونقو�شه
املهددة باالنقرا�ض .وي�ضمن اجل�سد ،مثل كل الأر�شيفات(،)2
�إمكانية اال�ستذكار والتكرار حيث يتنا�سخ املر�ض من ج�سد �إىل
و�أر�شيف
ج�سد بفعل العدوى �أو بفعل اجلينات الوراثية.
ولأن اجل�سد ك�أر�شيف بهذه الأهمية فقد ظهرت فكرة العقوبات
اجل�سدية مبا هي توقيعات قا�سية يحتفظ بها املرء يف ج�سده
العقوبات اجل�سدية
مبا هو �أر�شيف ومكان لإنقاذ الذاكرة من التلف .ولنتذكر
العقوبات القدمية يف تاريخ العقاب يف العامل كالرجم وجدع
الأنف وثلم الأذن وتقطيع ال�صدر والأيدي والأطراف ومتزيق
يف البحرين
الأو�صال بوا�سطة اخليول والتعذيب باخلازوق والتحريق وال�سلخ
والرمي يف الزيت املغلي وطالء املجرم بالع�سل ثم تركه حتت
وهج ال�شم�س احلارقة يل�سعه الذباب...كل هذه عقوبات مل
تكن حمكومة بال�ضرورة بغاية االنتقام من املجرمني واجلناة
واخلارجني على القانون ،بل بغاية النق�ش والتوقيع على اجل�سد
لتنطبع عليه �آثار ال متحى ،ولترت�سخ هذه الآثار يف الذاكرة ،بل
ت�صبح هي �أ�سا�س الذاكرة بحيث يتذكر املجرم �آثار العقاب د .نادر كاظم
على ج�سده فريتدع ويرجع �إىل �صوابه ،وينزجر بذلك غريه من كاتب من البحرين
جناة حمتملني.
ال يختلف املر�ض عن هذا النوع من العقاب اجل�سدي ،واملر�ض
الوراثي �أ�شبه ب�إيذاء ينزله الآباء على �أبنائهم� .إال �أن الباعث
على احلرية يف املر�ض �أنه يرتك �آثاره بال غاية معروفة ،فال
16
17
وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
يقوم به �آخرون هم �أكف�أ منا لهذه املهمة� .إن ما ن�سعى �إليه هنا تنطبع ذاكرة املر�ض يف اجل�سد بغاية التخويف والرتهيب ومن
هو ا�ستك�شاف ذاكرة املر�ض العابرة للأجيال ،وما ميكن �أن �أجل االرتداع والرجوع �إىل ال�صواب ،لأنه ال جمال لالعتبار
ن�سميه «الأر�شيف اجلماعي للمر�ض» وما له من قيمة يف درا�سة بعد �أن ينق�ش املر�ض �آثاره على اجل�سد؛ �إذ ما العربة يف ندوب
التاريخ االجتماعي والثقايف وال�سيا�سي وحتى اجلغرايف يف وت�شوهات نق�شها اجلدري على وجه �ضحاياه؟ وما العربة
البحرين .ونحن نزعم �أن �إجناز هذا الأر�شيف �سيك�شف لنا يف كريات الدم حني ت�أخذ �شكل املنجل املهيب يف البحرين
حقيقة بع�ض التطورات التاريخية يف البحرين حيث كانت ومنطقة اخلليج؟
�أعرا�ض هذا املر�ض اجلماعي مبثابة نقطة حتول لي�س يف وما دام املر�ض ال ينق�ش �آثاره على �أج�سادنا بغاية االعتبار �أو
تاريخ املر�ض فح�سب ،بل يف تاريخ البحرين وما ترافق معه االنتقام فهو �إذن فعل بال غاية ،وبتعبري �آخر هو فعل عبثي.
من انتقاالت جذرية يف الو�ضع ال�سيا�سي واجلغرايف من دملون
�إىل البحرين الكربى كمنطقة بني الب�صرة وعمان وت�شمل �أوال ذاكرة جماعية
والقطيف والإح�ساء� ،إىل �أوال التي اخت�صت با�سم البحرين
دون �سائر املناطق الأخرى� ،إىل البحرين احلديثة التي ي�ؤرخ غري �أن هناك نوع ًا من الأمرا�ض يعجز حتى املوت عن حمو
لها منذ �أواخر القرن التا�سع ع�شر .و�سيتبينّ لنا كيف يتطابق �آثاره التي تنطبع يف الذاكرة اجلماعية ،وهذه هي الأمرا�ض
هذا امل�سار التاريخي يف البحرين مع �سرية ّ
التك�شف البطيء اجلماعية ،كالأمرا�ض الوراثية واملتوطنة والأوبئة .هذا النوع
والتدريجي لأعرق مر�ض جماعي عرفته هذه املنطقة ،وهو من الأمرا�ض اجلماعية هو ما ي�ؤ�س�س ذاكرة جماعية للمر�ض،
املر�ض الذي امتلك قدرة ا�ستثنائية على توقيع ا�سمه بحروف ذاكرة عابرة للفرد الذي يتح ّول �إىل ج�سر لعبور املر�ض �إىل
( HBSا�سم اجلني امل�س�ؤول عن الهيموجلوبني غري الطبيعي �ساللته من �أوالد و�أحفاد كما يف الأمرا�ض الوراثية ،و�إىل
يف الدم)� .إنه باخت�صار فقر الدم املنجلي. جماعته و�أهل بلدته كما يف الأمرا�ض املتوطنة املوجودة عادة توقيعات
بني �سكان منطقة جغرافية معينة ويف كل الأوقات ،وكما يف
منجل دملون الأوبئة التي تنت�شر بني النا�س ب�سرعة وعلى نطاق وا�سع بفعل املر�ض
ومبا �أن كل �شيء بد�أ قبلنا بزمن طويل ،ف�إننا �سنبد�أ احلفر يف
العدوى .وهذا �ضرب من �ضروب اال�ستمالك اجلماعي� ،إال �أنه على اجل�سد
ا�ستمالك ا�ضطراري مرغوب عنه ،وهذا ما مي ّيزه عن بقية
ذاكرة املر�ض وتوقيعاته على �أج�ساد البحرينيني من هذا الذي �أ�شكال اال�ستمالكات اجلماعية الأخرى. هي احلقيقة
بد�أ قبلنا بزمن طويل ،من دملون مبا هي التاريخ الأبعد املعروف
لهذا البلد بح�سب ما ك�شفت عنه التنقيبات الدمناركية يف
متتلك هذه الأمرا�ض قدرة ا�ستثنائية على التوقيع ،على نق�ش
اال�سم على اجل�سد .والتوقيع ينطوي على قابلية تكرار النق�ش الأكرث
خم�سينيات القرن الع�شرين .ومبا �أن الن�صو�ص ال�سومرية وتنا�سخه من ج�سد �إىل �آخر ،وهي �أمرا�ض ي�صح �أن نقول ح�ضوراً
– ويف مقدمتها «ملحمة جلجام�ش» -هي �أقدم ن�صو�ص عنها« :قل يل ما مر�ضك (الوراثي واملتوطن) �أقل لك من �أنت
يرد فيها ذكر دملون ،فبالإمكان �أن تكون هذه الن�صو�ص هي و�إىل �أي جماعة تنتمي؟».
نقطة انطالق يف هذه املهمة .ويف هذه الن�صو�ص كانت دملون املر�ض بهذا املعنى لي�س قرابة متخيلة بني �أفراد جمعتهم �إرادة
امل�ضيئة واملباركة والطاهرة و�أي�ض ًا البلد الذي «ال ينعق فيه العي�ش امل�شرتك ،بل هو مبثابة الهوية ال َق َدرية التي ال دخل فيها
الغراب ،والأ�سد ال يفرت�س ،والذئب ال يخطف احلمل ،ال �أحد ال للإرادة وال للوعي ،فهذه هوية ل�سنا خمريين فيها ،فال �أحد
يقول»:عيناي ت�ؤملانني ،ال �أحد يقول :ر�أ�سي ي�ؤملني ،ال يقول يختار نوع املر�ض الذي يبتلى به هو وذريته و�سكان منطقته ،وال
العجوز� :إين عجوز». �أحد يختار �شكل الندوب والت�شوهات التي يرتكها املر�ض على
ويف �أر�ض كهذه ال وجود للمر�ض وال لأي نوع من �أنواع النق�ش ج�سده؛ لأن املر�ض ينزل علينا كالقدر .وما هو كذلك ال �سبيل
امل�ؤملة �أو املميتة ،فالأ�سد ال يفرت�س ،والذئب ال يخطف احلمل، �إىل دفعه �أو الهروب من �أمامه.
وال �أحد ي�شكو من �أمل العني والر�أ�س �أو ال�شيخوخة .وهنا كان وحني نتحدث عن الأمرا�ض القدرية يف البحرين ف�إننا
البحر مبثابة «حزام �صحي» يلتف حول هذه اجلزيرة من جميع نتحدث عن ذاكرة املر�ض اجلماعية للبحرينيني ،والتاريخ
اجلهات ،ويحميها من كل الأمرا�ض والأوبئة .وبهذا كانت دملون اجلماعي ل�سرية �أمرا�ضهم ومر�ضاهم .وهي �سرية ممتدة
التج�سيد الأ�سمى للفردو�س الأر�ضي. ومت�صلة ،ويبدو �أنها ال تعرف االنقطاعات والفجوات .وال
وتتع ّمق هذه الذاكرة حني ترتبط بالأمل والعنف واخلراب ،بل ن�سعى هنا لكتابة تاريخ الطب وال الت�أريخ للخدمات ال�صحية
�إن الأمم – كما يقول جاك دريدا – تبد�أ يف خ�ضم العنف. �أو لت�أ�سي�س امل�ؤ�س�سات الطبية وظهور االكت�شافات الطبية
وهكذا ابتد�أت �سرية املر�ض يف البحرين ،وانطلق �سهم هذه وانخفا�ض معدالت الوفاة يف البحرين ،فهذا مو�ضوع �آخر قد
18
وذكرها يف كتاب «احليوان» على ل�سان العامة حين ًا ،وعلى الذاكرة منذ �أن خربت دملون ،ونبذت هذه اجلزيرة �أو�صافها
ل�سان «ثقاة التجار الذين نقبوا يف البالد» حين ًا �آخر ،وجرت ال�سومرية الأ�سطورية ك�أر�ض اخللود امل�ضيئة واملطهرة والنقية
معه يف موا�ضع �أخرى جمرى الأمثال كما هو ال�ش�أن حني واملباركة .واحتفظت بتلك امل�ستنقعات التي جعلها �أنكي فيها،
البحرين ،ودماميل اجلزيرة، «يقال يف ُح َّمى َخيربِ ،وطحال ْ والنخل الذي وهبه �إياها� ،إال �أن هذه امل�ستنقعات �صارت موطن ًا
وج َرب الزِّجن»( .)5واحلق �أن الإ�شارة �إىل ت�ضخم طحال من َ للبعو�ض ،فانت�شر فيها مر�ض املالريا ،ومن �أجل مقاومة
�سكن البحرين �إ�شارة متكررة يف م�ؤلفات القدماء ،واعترب ابن تقو�ست كريات الدم احلمراء يف �أحفاد الإ�صابة بهذا املر�ض ّ
خرداذبة ذلك من «طبائع البلدان»( ،)6وذكر ابن عبد املنعم ّ
الدملونيني ،و�أخذت �شكل املنجل (املح�ش) املهيب الذي ح�صد
العقاب احلمريي �أن البحرين بلدة «خم�صو�صة بتعظيم الطحال»(.)7 النبات والب�شر مع ًا.
اجل�سدي وكذا ذكر �أبو من�صور الثعالبي يف كتابه «ثمار القلوب يف
امل�ضاف واملن�سوب» اخت�صا�ص �أهل البحرين بتعظيم الطحال
ومن املعروف �أن لفقر الدم املنجلي عالقة تاريخية مبر�ض
املالريا حيث حدثت طفرة �أو تغري يف تركيبة اجلينات «
ترا�ض
ٍ �صك وانتفاخ البطن ،ونقل عن اجلاحظ قوله«:من �أقام يف البحرين املورثات « كو�سيلة طبيعية ملنع غزو اجل�سم مبيكروبات املالريا؛
مدة ربا طحاله ،وانتفخ بطنه؛ كما قال ال�شاعر �آنف ًا». ولهذا ال�سبب ف�إن «امل�صاب بالأنيميا املنجلية �أو حامل العامل
مع ق�سوة �أما ابن قتيبة فيعقد م�شابهة بني عمان والبحرين ،ووجه ال�شبه الوراثي للمر�ض تكون لديه مقاومة �ضد الإ�صابة باملالريا ،ومع
االنتقام يتمثل يف �أن كلتا البلدتني وبية (�أي وبيئة) و�أهلها م�صفرة مرور الزمن كان مر�ض املالريا يق�ضي على الأ�شخا�ص الذين ال
وجوههم مطحولون. يعانون من مر�ض الأنيميا املنجلية؛ لأن طفيل املالريا ّ
يف�ضل �أن
العارية هذه ذاكرة جماعية للمر�ض ن�شرتك فيها نحن كبحرينيني يعي�ش على الدم ال�سليم ،وهكذا ترك مر�ض املالريا الأ�شخا�ص
مع �أهل القطيف والإح�ساء وكذلك مع �أهل عمان بح�سب ابن الذين يعانون من فقر الدم املنجلي �أو يحملون العامل الوراثي
قتيبة ،وهي ذاكرة ت�شبكنا مع ًا. �أحياء وب�أعداد كبرية»(.)3
وتذكر �آن هاري�سون �أن بول هاري�سون ،الطبيب واملب�شر يف بعثة ومن هذه امل�ستنقعات ت�أ�س�ست ذاكرة �أعرق مر�ض عرفته
الإر�سالية الأمريكية بالبحرين ،زار القطيف يف العام ،1913 البحرين الكربى (�أوال ،والقطيف ،والإح�ساء) :فقر الدم
ووجد �أن �أغلب �سكانها كانوا «م�صابني بت�ضخم الطحال ،وفقر املنجلي (ال�سكل �سل) ،هذا الأر�شيف العريق الذي احتفظ
الدم ،وهم ذوو وجوه �شاحبة كالأ�شباح .كان املر�ض بادي ًا على بذكرى م�ستنقعات �أنكي ونخيله ومنجلها املهيب وتوقيعات
كل الوجوه»( .)8وهذا ت�شخي�ص دقيق ينطبق على �سكان �أوال ا�سمه العتيد على �صفحات كريات الدم احلمراء فينا .ومن
بقدر ما ينطبق على �سكان القطيف والإح�ساء. هذه اللحظة ابتد�أت ذاكرة املر�ض يف البحرين ،وتع ّمقت هذه
ال يعرف بال�ضبط متى انفكت �أوال عن رباط البحرين الكربى، الذاكرة بقوة ،و�صار املنجل املهيب يو ّقع ا�سمه على الأج�ساد
ومتى اخت�صت وحدها بهذا اال�سم .يرى البع�ض �أن هذا كما لو كان و�شم ًا ال ميكن حموه ،وعلى املرء �أن ي�سلمه ،بكل
االنفكاك ح�صل �إبان االحتالل الربتغايل للبحرين يف القرن �أمانة ،لأبنائه و�أحفاده.
16م� ،أما نا�صر اخلريي فيذهب �إىل �أن جزر البحرين اخت�صت
بهذا اال�سم عن �سائر مناطق البحرين الكربى يف القرن ال�سابع �أقوال الرحالة
الهجري/الثالث ع�شر امليالدي �أثناء حكم الأتابكة للبحرين،
والذي ا�ستمر نحو 70عام ًا بدء ًا من 1238م .فمع ا�ستيالء وقد �صاحب هذه النقلة يف التاريخ واجلغرافيا نقلة �أخرى على
الأتابكة على القطيف وجزائر البحرين «مت انف�صال جزائر �صعيد املر�ض وذاكرته وتوقيعاته على �أج�ساد البحرينيني ويف
البحرين عن جمموعة البحرين انف�صا ًال �أبدي ًا»(.)9 دمائهم .فحني �أتى زكريا القزويني (ت 682هـ) على ذكر
ويربط �أحمد بن ماجد ،يف كتاب «الفوائد يف �أ�صول علم البحرين قال �إنها «ناحية بني الب�صرة وعمان على �ساحل
البحر والقواعد» ،بني �أوال وزجنبار ،ويذكر �أن الأوائل قالوا البحر» وذكر ا�شتهارها بالل�ؤل�ؤ ومغا�صاته ،ثم عقّب على ذلك
يف تواريخهم»:جزيرتان وخيمتان� ،إحداهما ب�أق�صى اجلنوب، بقوله« :ومن �سكن بالبحرين يعظم طحاله وينتفخ بطنه ،ولهذا
وهي هذه اجلزيرة (يق�صد جزيرة زجنبار) ،والأخرى قال ال�شاعر:
ب�أق�صى ال�شمال ،وهي البحرين امل�سماة �أوال ،خ�صو�ص ًا عند َ
ومن َ�سكن البحرين يعظم طحاله
نزول ال�شم�س بربج امليزان ،يبتدئ فيها احل ّمى والتوعك عند ()4
ويعظم فيها بط ُنه وهو جـائع»
ا�صفرار الرتجن»(.)10 هذه – فيما يبدو – بداية التك�شف التدريجي لأعرا�ض املر�ض
هذه �إ�شارة بالغة اخلطورة ،وينبغي �أن نتعامل معها بو�صفها العريق يف البحرين الكربى :ت�ضخم الطحال وانتفاخ البطن.
عالمة ذات داللة مزدوجة فهي ،من جهة ،ت�شري �إىل اخت�صا�ص وهذه �أعرا�ض اعتربها اجلاحظ من «خ�صائ�ص البلدان»،
19
وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
م�صابون بفقر الدم املنجلي ،و % 11حاملون للمر�ض .وتذكر �أوال با�سم البحرين دون �سائر املناطق الأخرى ،ومن جهة
بع�ض الإح�صاءات �أن % 20من ال�س ّكان يف مملكة البحرين ثانية فهي ت�ؤكد على ات�صال «الأر�شيف املر�ضي» لأوال ب�أر�شيف
يعانون من فقر الدم املنجلي. املر�ض ب�إفريقيا التي ينت�شر فيها مر�ض فقر الدم املنجلي،
هذه الن�سب املتطابقة �أو املتقاربة يف عدد امل�صابني واحلاملني ولكن بنوع خمتلف.
لهذا املر�ض يف البحرين والقطيف والإح�ساء هي �أبلغ عالمة و�أول ما يلفت يف �إ�شارة ابن ماجد �أنها مبثابة قلب جذري
ت�شري �إىل الهوية ال َق َدرية (املر�ضية) ل�سكان البحرين الكربى لأ�سطورة دملون كفردو�س �أر�ضي .وملعرفة حقيقة هذا القلب
بني الب�صرة وعمان ،وهي �أفدح تركة يف ذاكرة املر�ض يف علينا �أن ن�أخذ كلمة «وخيمة» بداللتها احلرفية يف ل�سان العرب
�أر�شيف هذه املنطقة ،وهي �أعظم تقوي�ض لأ�سطورة دملون التي حيث جاء «بل ٌد َو ِخي ٌم �أي غري موافق يف ال�سكن .و�شي ٌء َو ِخي ٌم
ال مير�ض فيها �أحد وتطيب فيها ال�سكنى! �أي َوبِي ٌء .و�أر�ض َو ِخي َمة �أي ال ينجع كلأُها» .وبهذا ت�صبح
«البحرين امل�سماة ب�أوال» جزيرة موبوءة وال ت�صلح لل�سكن على
تقوي�ض الأ�سطورة خالف ما جاء يف الأ�ساطري ال�سومرية من �أن «دملون يطيب
ال�سكنى يف م�ساكنها»! حيث ال �أحد ي�شكو من �أمل العني والر�أ�س
تنطوي ذاكرة املر�ض يف البحرين على �سرية طويلة من وال�شيخوخة!
التقوي�ض املت�صاعد لأ�سطورة دملون التي ال مير�ض فيها �أحد. وي�شري �أحمد بن ماجد �إىل �أن جزيرة �أوال ت�صبح وخيمة حني
ويف هذا ال�سياق ت�أتي الأمرا�ض الوبائية يف البحرين احلديثة تكون ال�شم�س يف برج امليزان� ،أي يف وقت ال�شتاء – وحتديد ًا يف
�إبان الع�صر الإمربيايل ،وملا كانت البحرين تقع على الطريق �سبتمرب و�أكتوبر – وهو مو�سم ا�صفرار الرتجن والأج�ساد �أي�ض ًا.
امللوكي للإمربيالية بني الهند وبريطانيا حيث كانت تنتقل ومن املعروف �أن تع ّر�ض اجل�سم للربد يت�سبب يف نوبات الأمل
اجليو�ش والب�ضائع والأمرا�ض ،ف�إنها كانت مهددة ك�سائر دول عند امل�صابني بفقر الدم املنجلي ،ولهذا ين�صح الأطباء دائم ًا املر�ض
اخلليج بانتقال العدوى وانت�شار الأوبئة �أثناء رحالت العبور بحفظ اجل�سم دافئ ًا.
من �آ�سيا �إىل �أوروبا .وقد «كانت البحرين كغريها من بلدان ويف الفرتة ذاتها �أي�ض ًا يذكر الإخباري الربتغايل جوا دو بارو�ش يذكر بذاته
ِّ
اخلليج تعاين من انت�شار الأوبئة والأمرا�ض بكرثة ..وكانت �أن البحرين جزيرة كثرية النخيل و�شديدة الرطوبة واخل�ضرة، �أكرث مما
�أوبئة الطاعون والكولريا متر على البحرين بني �سنة و�أخرى �إال �أنها «كثرية الوباء خ�صو�ص ًا يف بع�ض �شهور ال�سنة� ،أي من
حتى راح الأهايل يح�سبون ال�سنوات التي ال ي�صابون فيها نهاية �شتنرب (�أي �سبتمرب) �إىل فرباير ،فهي يف بع�ض الأحيان يذكر بنعمةِّ
بهذه الأمرا�ض ،ويعتربونها �سنوات خري»( .)12ويذكر لورمير
�أن الكولريا هاجمت البحرين يف العام ،)13(1821ويف العام
خالل هذه ال�شهور �شديدة الوباء �إىل حد �أن �أعيانها يغادرونها ال�صحة
�إىل القطيف املوجودة على ال�ساحل العربي»(.)11
،1871ويف يوليو و�أغ�سط�س من العام 1893حيث «�أعلن عن بعد هذا ميكننا العودة �إىل الن�سخة البحرينية من كتاب �أحمد
حدوث 7000حالة يف اجلزر» ،ويف مايو « 1904وقيل �إن �أكرث بن ماجد ،وهي الن�سخة التي جعلها حمقق الكتاب الأ�صل الأول
من 1200حالة وقعت يف البحرين ،الأمر الذي نتج عنه هرب املعتمد يف التحقيق .يف هذه الن�سخة حتريف وا�ضح يف ا�سم
كثري من ال�سكان �إىل �أجزاء �أخرى من اخلليج» .ويذكر لورمير �أوال ،وهذا حتريف ال وجود له �إال يف الن�سخة البحرينية ،وهو ما
�أن �أول انفجار �شديد لوباء الطاعون يف البحرين كان يف مايو حمل املحقق على ت�صحيحه مبا جاء يف ن�سخة املكتبة الوطنية
ويونيو « 1903وقد مات نحو � 300شخ�ص من �أ�صل �ضعفي بباري�س ون�سخة دار الكتب الظاهرية بدم�شق .فما ف ّرقه حتريف
هذا العدد ممن �أ�صيبوا باملر�ض» .وعلى �إثر هذا االنت�شار لوباء الن�سخة البحرينية جمعه ا�سم البحرين وا�سم املر�ض وتوقيعات
الطاعون« ،منعت ال�سفن الأهلية من مغادرة اجلزيرة ،ولكن منجله املهيب الذي جمع بني �سكان البحرين الكربى .والالفت
هذا الأمر مل يدم طوي ًال لأن البحرين تعتمد كثري ًا على �إيران حق ًا �أن فقر الدم املنجلي مي ّثل �إحدى امل�شكالت ال�صحية
من ناحية تزويدها باملواد الغذائية» (�ص .)3707ويف مايو املزمنة يف البحرين كما يف القطيف والإح�ساء .و ُيذكر يف هذا
ويونيو 1905حدث االنفجار الثاين للمر�ض يف البحرين «وكان ال�ش�أن �أن عدد امل�صابني واحلاملني لهذا املر�ض يف اململكة
حم�صور ًا عملي ًا يف مدينتي املنامة واملحرق وقد حدثت يف كل العربية ال�سعودية يبلغ 1445067مري�ض ًا .وت�ؤكد الدرا�سات
منهما حوايل 400حالة ن�صفها مميت». والبحوث العلمية �أن املنطقة ال�شرقية هي �أكرث املناطق التي
�أما اجلدري فقد كان يرتدد وقوعه يف منطقة اخلليج ب�صورة ينت�شر بها فقر الدم املنجلي ،حيث تبلغ ن�سبة حاملي املر�ض
وبائية ،ويذكر لورمير �أن يف «منت�صف القرن التا�سع ع�شر ما بني % 25 - 20من ال�سكان .ومن املعروف كذلك �أن هذا
كان مر�ض اجلدري منت�شر ًا ب�صفة عامة و�أثار الرعب ال�شديد املر�ض ينت�شر بكرثة يف البحرين .وبح�سب ما جاء يف بع�ض
بني �سكان اخلليج»( .)14وانت�شر اجلدري يف البحرين يف العام الدرا�سات م�ؤخر ًا ف�إن حوايل % 2من الأطفال حديثي الوالدة
20
ك�أي طب �إمربيايل� ،إال على نحو انتقائي ،فقد كان «هناك 1891وانت�شرت معه موجة خطرية من الإنفلونزا ت�سببت يف
تف�ضيل ملجمعات التعدين وامل�صانع والثكنات واملراكز املدنية موت الكثريين يف البحرين .ويف العام 1927انت�شر مرة �أخرى
الرئي�سية ،يف حني كان هناك �إهمال عام لل�سكان الريفيني وكاد يفتك بالكثري من الأهايل ،وبح�سب بلجريف ف�إن اجلدري
ول�صحة الن�ساء والأطفال .كما كان هناك ت�أكيد على االهتمام يعود �إىل البحرين يف كل عام .و�إ�ضافة �إىل اجلدري «هناك
باملر�ض الوبائي بد ًال من املر�ض املتوطن»(.)22 مر�ض اجلذام الذي تعاين منه حاالت �صغرية ومتفرقة� ،أما
ومما ي�ؤكد هذا الإ�شارة �إىل اهتمام الطب الإمربيايل باملر�ض الكولريا فزيارتها حدث متوقع يف �أي وقت ويليها الطاعون»(.)15
الوبائي بد ًال من املر�ض املتوطن ،و�أن امل�ؤ�س�سات والأجهزة ودملون التي ال ي�شكو �أحد فيها من �أمل العني �إذا مبعظم �أهلها
الطبية يف البحرين خا�ضت معركة �ضارية �ضد الأمرا�ض يبتلون بالرتاخوما ورمد العني ،فقد كانت �أمرا�ض العيون
�أر�شيف الوبائية التي �ضربت البحرين كاجلدري واحل�صبة والتيفوئيد
والكولريا والطاعون واملالريا (جاء يف تقارير 1940/1939م
�شائعة يف البحرين «وكثري من الأهايل كانوا بعني واحدة
فقط»( .)16ويذكر الطبيب واملب�شر �شارون توما�س �أنه زار
«�أوال» �أن %60من �أطفال مدار�س املنامة كانوا م�صابني باملالريا، املحرق يف العام 1901والحظ فيها �أن «عيون الكثريين منهم
وبح�سب بلجريف ف�إن �إح�صائيات العام 1937تدل على �أن كما بدت لنا مري�ضة وحتتاج �إىل عالج»( .)17ويف العام 1910
املر�ضي 2%0من الأهايل م�صابون باملالريا ،و�أ�صبحت هذه الن�سبة تذكر املب�شرة �إليانور تيلور �أن ال�شيء الوحيد الالفت للنظر يف
مت�صل �أقل من %1يف العام .)23(1956يف حني �أنها �أهملت مر�ض فقر املنامة «هو عيون النا�س الفظيعة ،فكم هو م�ؤمل �أن جند حتى
الدم املنجلي مبا هو املر�ض الأكرث عراقة يف هذه اجلزيرة. يف عيون الأطفال عمى كام ًال»( .)18وجاء يف �سجالت التعليم
ب�أر�شيف وال�س�ؤال امللح هو هل بالإمكان تعطيل ذاكرة هذا املر�ض؟ لعام � 1944أنه «مت الك�شف الطبي على عيون جميع طالب
«�إفريقيا» ف�إذا كان للمر�ض ذاكرة ،و�إذا كانت الذاكرة مهددة بالفقدان املنامة» ،وتبني �أن %78يعانون من الرتاخوما ،ويف خريف
والتلف ،فهل تفقد �أج�ساد �أهل هذه اجلزيرة ذاكرة هذا املر�ض هذا العام انت�شر وباء العيون يف املدار�س و�أ�صيب %50من
العتيد؟ ومتى ي�شيخ هذا املر�ض وي�صاب بالزهامير وينتهي �إىل الطالب يف بع�ض املدار�س ،وفقد بع�ض الطالب عين ًا واحدة،
اخلرف؟ و�إال من ذا الذي �سي�صدق �أن عمر الأنيميا املنجلية كما فقد النظر عدد من طالب القرى(� .)19أما اليوم ف�إن ن�سبة
الآن يزيد على 4000عام (�إذا �أخذنا بالفر�ضية التي تقول �إن العمى يف البحرين ت�صل �إىل .%1.9
الطفرة الوراثية حدثت يف الفرتة الدملونية) ومع ذلك مل ي�صب
هذا املر�ض العنيد بالزهامير حتى هذه اللحظة؟ تع�صب ا�ستعماري
ّ
ويبدو �أنه لي�س هناك -اليوم – �سوى طريقني لإ�صابة هذا
املر�ض العنيد بفقدان الذاكرة :الأول هو الفح�ص قبل الزواج. وت�شري ال�سجالت الر�سمية �إىل �أن �أهل القرى كانوا عقبة ك�أداء
ف�إذا كان الأطفال يرثون �أحد اجلينات من الأب والآخر من يف وجه الطب الإمربيايل ،وقد انطوى املوقف من �أمرا�ضهم
الأم ،و�إذا كان هذا املر�ض من الأمرا�ض الوراثية املتنحية (�أي وتهجم بال مواراة على �سكانتع�صب ا�ستعماري مك�شوفّ ، على ّ
حتى ي�صاب الن�سل باملر�ض يجب �أن يكون الوالدان حاملني �أو القرى املحليني وعاداتهم وتقاليدهم .ويف هذا ال�سياق يذكر
م�صابني باملر�ض) ،فبالإمكان �إذن تعطيل ذاكرة هذا املر�ض مدير التعليم F.J.Wakelinيف تقرير العام � 1943أن «�صحة
من خالل االقرتان بزوجة ال تكون ال م�صابة وال حاملة للجني طالب القرى �سيئة وهم ي�أتون بالفقر واملر�ض والقذارة مع ًا �إىل
املعطوب ،وكذا احلال بالن�سبة للزوج .وبهذه الطريقة تتقل�ص املدر�سة .ومت ت�شخي�ص �أربعة من الطالب م�صابني ب�أمرا�ض
ن�سبة الإ�صابة بهذا املر�ض ،وي�صاب املر�ض بفقدان ذاكرة جن�سية»( .)20واحلق �أن هذا هو ديدن الطب الإمربيايل الذي
جزئي على �أقل تقدير. ال يتحدث عن املر�ض �إال كعقبة يف وجه «التنمية»� ،أو عائق
�أما الفقدان الكلي لذاكرة هذا املر�ض ّ
فتب�شر به تدخُّ الت �أمام ت�شغيل امل�صانع وامل�ؤ�س�سات واملن�ش�آت والإدارات .ويف هذا
الهند�سة الوراثية والثورة البيوتكنولوجية من خالل العالج ال�سياق ي�شري ال�سيد ماك�س و�ستون ثورنربغ ،نائب رئي�س �شركة
اجليني. نفط البحرين يف �أوائل الأربعينيات� ،إىل �أن �سيا�سة ال�شركة هي
ّ
ومع الإغراءات التي تب�شر بها هذه التدخالت� ،إال �أنها ال ا�ستخدام عمال من خارج البحرين ،لكون العمال املحليني غري
ت�ضمن الفقدان النهائي املربم لذاكرة فقر الدم املنجلي، مهرة «كما �أنهم جهلة ،فقراء ،ناق�صو التغذية ،ومر�ضى»(.)21
فكما حدث هذا املر�ض نتيجة لطفرة �أ ّدت �إىل خلل جيني، فاملر�ض �إذن ،مثله مثل الفقر واجلهل ونق�ص التغذية ،عقبة
فكذلك ميكن �أن يحدث ذات اخللل اجليني يف �أي جني �سليم، �أمام ت�شغيل امل�صانع ،وكان ال بد من تدخل طبي من �أجل
والبيولوجيون يعرفون �أنه «�إذا ما تغيرّ جني بالطفرة �أو ا�ستبدل ت�أهيل ه�ؤالء املر�ضى ليكونوا قادرين على ت�شغيل امل�صانع.
به �آخر ،فالأغلب �أن تعقب ذلك �آثار جانبية غري متوقعة ،وقد �إال �أن هذا التدخّ ل الطبي يف عالج الأمرا�ض املحلية مل يكن،
21
وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
�إىل �أوالدنا معنى ينت�شل عملية التمرير كلها من عامل العبث؟ تكون بغي�ضة» .وهذه خماوف حقيقية قد ال تهم املتخ�ص�صني
جوابي عن ذلك �سيكون بالإيجاب ،فهذا اخلوف املريع من يف الهند�سة الوراثية� ،إال �أنها قد تكون ذات عواقب كارثية على
انقطاع الذكر هو ما مينح املعنى لتوريث فقر الدم املنجلي. من هو م�صاب �أو حامل للجني امل�س�ؤول عن فقر الدم املنجلي.
و�إذا كان الإن�سان ،بح�سب نيت�شه ،ال يرف�ض املعاناة يف حد ويف هذا ال�سياق يذكر العلماء �أن اجلني «امل�س�ؤول عن �أنيميا
ذاتها بل يريدها �شريطة �أن تكون معاناة ذات معنى وغاية، اخلاليا املنجلية ي�ضفي مناعة �ضد املالريا ،وهذا هو ال�سبب
ف�إن ا�ستمرار الذكر واخلوف من انقطاع الن�سل والذاكرة هو يف �شيوعه بني ال�سود ،ف�أ�صولهم كما نعلم من �إفريقيا حيث
ما مينح لهذا املر�ض معناه وغايته ،وهذا ما �سيجعل الإن�سان املالريا مر�ض خطري .قد يرفع �إ�صالح جني �أنيميا اخلاليا
يحتمل معاناته مع هذا املر�ض العنيد .وبهذا �ست�ستمر ذاكرة املنجلية �إذن من قابليتهم للإ�صابة باملالريا»(.)24
هذا املر�ض من �أجل ا�ستمرار ذكرنا الذي يحيا بالتكاثر
وعندئذ لن يكون �أمامنا ملواجهة هذا املر�ض ذيٍ والتنا�سل. البقاء للأقوى
الذاكرة العتيدة غري الطريقني ال�سابقني :الفقدان اجلزئي
للذاكرة من خالل الفح�ص قبل الزواج� ،أو الفقدان الكلي وعلى هذا ف�إن الفقدان الكلي والنهائي لذاكرة هذا املر�ض ال
ولكن غري النهائي من خالل تدخّ الت الهند�سة الوراثية يت�أتى �إال بخيار م�ستحيل ومرفو�ض �أخالقي ًا ،وهو خيار يوجيني الن�سب
والثورة البيوتكنولوجية مهما تكون عواقبها� .إىل �أن تظهر هذه eugenicميار�سه هذه املرة الآباء ال دولة القهر وال العلماء
النتائج �سيكون علينا �أن نتقبل هذا املر�ض كابتالء ال مهرب العن�صريون ،وهو �أن ميتنع املرء املري�ض عن الزواج ،و�إذا تز ّوج املتطابقة
منه �أو كرتكة ثقيلة ال منا�ص من حتملها .على �أج�ساد �أهل هذه �أن ميتنع عن الإجناب والتكاثر ،و�إذا �أجنب �أن يتخري من ن�سله يف عدد
اجلزيرة �إذن �أن تتقبل هذا املر�ض ،و�أن حتمل توقيع منجله الولد ال�سليم فقط ،لأن الثورة البيوتكنولوجية �ستقول للوالدين
املهيب عليها كالو�شم ،و�أن ت�سلمه �إىل القادمني يف الزمن الآتي �إن اجلنني الذي حتمله املر�أة �سي�صاب بهذا املر�ض الوراثي �أو امل�صابني
كما ت�سلم الأمانات الثقيلة. ذاك ثم ترتك لهما احلرية اليوجينية للتخل�ص من اجلنني �إذا عالمة بليغة
�شاءا .ف�إذا كانت ذاكرة هذا املر�ض تنتع�ش من خالل انتقال
جينات املرء املري�ض بالتكاثر ،ف�إن الأمل الوحيد يف تعطيل هذه على الهوية
هوام�ش: الذاكرة ب�صورة نهائية يكمن يف وقف التكاثر بقطع الطريق القدرية
( – )1جينالوجيا الأخالق� ،ص .52 الذي يحمل جيناتنا املعطوبة �إىل الأجيال القادمة� .إال �أن هذا
( – )2ملزيد من ّ
التو�سع حول مفهوم الأر�شيف ميكن الرجوع �إىل :جاك دريدا ،ح ّمى الأر�شيف
الفرويدي ،تر :عدنان ح�سن�( ،سوريا :دار احلوار.)2003 ، احلل ظامل ويوجيني (م�صطلح �صاغه فران�سي�س جالتون يف ل�سكان
العام ،1883ويعنى به حت�سني الن�سل عن طريق منح ال�سالالت البحرين
(� – )3شيخة �سامل العري�ض ،حقائق عن فقر الدم املنجلي( ،د.ت)� ،ص .6
( – )4زكريا القزويني� ،آثار البالد و�أخبار العباد (بريوت :دار بريوت� ،)1984 ،ص .78
( – )5اجلاحظ ،احليوان ،حت :عبد ال�سالم هارون( ،م�صر :مكتبة م�صطفى البابي احللبي، الأكرث �صالحية فر�صة �أف�ضل للتكاثر ال�سريع مقارنة بال�سالالت
ط ،)1966 ،2 :ج� ،4 :ص .135
( – )6ابن خرداذبة ،امل�سالك واملمالك( ،م�صر :مكتبة الثقافة الدينية ،د.ت)� ،ص .171
الأقل �صالحية ،وهذا ال يكون �إال حني يتعطل عمل ال�صدفة يف الكربى
( – )7عبد املنعم احلمريي ،الرو�ض املعطار يف خرب الأقطار ،حت� :إح�سان عبا�س( ،بريوت: عمليات االنتخاب الطبيعي وي�ستبدل بهذا االنتخاب قوانني
مكتبة لبنان ،ط� ،)1984 ،2:ص .82 االنتخاب اال�صطناعي واملربمج).
(� – )8آن هاري�سون ،الطبيب بول هاري�سون :مئة عام من اخلدمات الطبية ،تر :عي�سى �أمني،
(البحرين :مركز ال�شيخ �إبراهيم بن حممد �آل خليفة للثقافة والبحوث)� ،ص .58 والأهم من هذا �أن هذا اخليار اليوجيني ينطوي على نذير
( – )9قالئد النحرين يف تاريخ البحرين� ،ص .146
( – )10الفوائد يف �أ�صول علم البحر والقواعد� ،ص .207 مواجهة قا�سية وخا�سرة بيننا وبني املوت ،هذا املوت الذي
( – )11تاريخ النفوذ الربتغايل يف البحرين� ،ص .108
( – )12حكايات من البحرين� ،ص .151
ال عزاء لنا فيه �إال من خالل مترير ذكرنا وذاكرتنا وكذلك
( – )13ج .ج .لورمير ،دليل اخلليج ،تر :ق�سم الرتجمة بديوان �صاحب ال�سمو �أمري قطر، جيناتنا ال�سليمة واملعطوبة �إىل الأجيال القادمة .وعلى املرء
(الدوحة ،د.ت) ،ج� ،6:ص ،3647وانظر ال�صفحات التالية.3682 ،3667 ،3659 ،3653 :
( - )14م.ن ،ج� ،6:ص .3709
عندئذ �أن يختار بني موته النهائي املربم حيث لن يكون له ذكرٍ
( – )15ال�سرية واملذكرات� ،ص .185 وال ذاكرة وال جينات مترر �إىل �أحد ،وبني الإجناب و�ضمان
( – )16م.ن� ،ص .185 ا�ستمرار ذكره وذاكرته وجيناته حتى لو كانت معطوبة ،وعلى
( – )17خالد الب�سام (�إعداد وترجمة) ،القوافل :رحالت الإر�سالية الأمريكية يف مدن
اخلليج واجلزيرة العربية � ،1926 – 1901ص .24 املرء �أن يواجه هذا ال�س�ؤال الوجودي :هل �إجناب �أوالد وتعذيبهم
( – )18م.ن� ،ص .82
( - )19مئة عام من التعليم النظامي يف البحرين� ،ص .353 مبر�ض وراثي �أ ْوىل من �أن يذهب املرء يف مواجهة خا�سرة مع
( – )20م.ن� ،ص .338
( – )21البحرين :م�شكالت التغيري ال�سيا�سي واالجتماعي� ،ص .147
املوت؟ وهل يك�شف ح�سم اجلواب عن هذا ال�س�ؤال عن معنى
( – )22دافيد �أرنولد (حترير) ،الطب الإمربيايل واملجتمعات املحلية ،تر :م�صطفى فهمي، املر�ض الوراثي بحيث تنتفي عنه ٍ
عندئذ �صفة العبثية؟
(الكويت� :سل�سلة عامل املعرفة ،ع� ،)1998 ،236 :ص .35
( – )23ال�سرية واملذكرات� ،ص .184
موت املعنى ملر�ض وراثي و�أخري ًا هل مينح اخلوف من هكذا ٍ
( – )24نهاية الإن�سان� ،ص .123 عنيد كفقر الدم املنجلي؟ وهل يكون لتمرير اجلني املعطوب
22
23
ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ق�صة ق�صة
صو�ص ن�صو�ص
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ق�صة ق�صة �صة ق�صة ق�صة ق�صة
انتقـــام
الكمبيوتر� ،أبحث عن �صورة له ،ف�أكت�شف للتو �أن حبة البطاطا هذه ت�شبهه!!
ال �صورة له عندي!! عجيبة ذاكرتي ،و�أعجب منها هو ال ي�شبه البطاطا� ،أعلم ذلك ،ولكن حبة البطاطا
�أحزاين� .إذن �أنا �س�أ�ستعيد مالحمه من ذاكرتي هذه ت�شبهه متاماً ،ينق�صها �شعر ،لي�س ناعم ًا
و�أعيد نحتها يف حبة البطاطا ،و�س�أعيد نحت �أوجاع بال�ضرورة لت�صبح هي هو.مل �أذهب يف الأ�صل
قلبي عليها�.آليت على نف�سي �أو ًال �أال �أغ�سله /ها، ل�شراء البطاطا ،فقد كنت اقت�صر على �شراء اجلزر
هو دوما كان قذراً ،و�إن كان لطيف ًا ووديع ًا كبطاطا. واخل�س ،ولكن بطاطا ال�سوء هذه ا�سرتعت انتباهي،
تركته برتابه وو�ساخته� .أخرجت �سلة اخلياطة، فا�ضطررت مكرهة -مل تكرهني �سوى نف�سي-
�أخذت منها علبة الدبابي�س ،و�شككت ر�أ�س البطاطا ل�شراء كيلو بطاطا .والآن ال �أعرف �أين يتوجب عليّ
بكومة من الدبابي�س .تذكرت و�سائل ال�سحر القدمي، حفظها ،يف الثالجة؟ مل �أ�س�أل �أمي من قبل عن
هل ي�ؤمله ر�أ�سه الآن؟ من امل�ؤ�سف �أنني فقدت رقم ذلك ،ف�أنا ال �أعرف �شيئ ًا عن الطبخ� .ألقيت كي�س
موبايله من زمن قدمي و�إال لكنت �أر�سلت له «م�سج» البطاطا على الطاولة يف املطبخ ،و�أخرجت حبة
�أ�ساله عما �إذا كان ر�أ�سه ي�ؤمله الآن ،رمبا لي�س من البطاطا منه.هو الآن بني يدي حبة بطاطا .تروقني
دبابي�سي و�إمنا من اخلمر� ،أو رمبا اخلمر مل تعد فكرة ال�شبه ،وتثري ّيف رغبة قدمية باالنتقام .افتح
24
�شاربه.هناك على م�ؤخرة ر�أ�سه ،قررت �أن �أحفر ت�ؤثر فيه� .أنا ال �أعرف عند �أي درجة بال�ضبط
بالإنكليزية احلروف الأوىل من ا�سمه ،لكنني مل تبد�أ اخلمر ت�أثريها فيمن ي�شربونها با�ستمرار،
�أفلح �سوى يف حفر خطوط متعرثة .مل �أحفرها على وال �أي نوع من اخلمر بالذات ميكنه �أن ي�ؤثر فيه
م�ؤخرة ر�أ�سه بال�ضبط .يف البطاطا ال يعلم الإن�سان بقوة ،ال �أملك ثقافة يف اخلمر ،وال يف البطاطا .يا
�أين هي امل�ؤخرة بال�ضبط.تلك الكتلة العبيطة املبقعة رجلي الو�سيم .نزعت برفق تلك الدبابي�س� .أعواد
بالأ�سود والأحمر وح�شائ�ش خ�ضراء .الآن �أين الكربيت قد يكون منظرها �أحلى .هذه املرة و�أنا
�أ�ضعها بعد �أن انتهيت من تعذيبها؟�شعرت بالتقزز �أ�شك �أعواد الكربيت يف ر�أ�سه وجدت �صعوبة ب�سبب
لفكرة �أن �أحتفظ بر�أ�سه يف الثالجة .تركتها على بع�ض النباتات اخل�ضراء على ر�أ�سه� .شعره كان
الطاولة مبوازاة الكات�شاب وزيت الزيتون .مل يحدث �أ�سود ومل يكن ناعماً .قررت �أن �أ�شخبط على وجهه
�شيء ،ن�سيت البطاطا الفاتنة ،وحينما تذكرتها بعد بالو�سائل الأكرث تقليدية :قلم الكحل والروج .ر�سمت
�أيام عرفت �أن عاملة التنظيف رمتها يف القمامة بقع ًا حمراء مكان عينيه ور�سمت بالكحل �شفتيه.
دون �أن ت�س�ألني. كان له �شارب ولكنني لن �أر�سم �شاربه .كان فيه
العمل الفني :بايا -اجلزائر من رجولة ال�شارب ما يكفي لأن يكون رج ًال بامتياز
25
وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ميكن الت�أريخ لل�شكالنية الرو�سية يف مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
بداياتها املبكرة بعام ،1914عند ظهور
درا�سة «ڤكتور �شكلوڤ�سكي» عن ال�شعر
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
امل�ستقبلي بعنوان «بعث الكلمة» .كما �أن حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
نهايتها الأخرية قد جاءت بفعل �ضغط بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
�سيا�سي خارجي ،متثل بن�ص «�شكلوڤ�سكي»
الذي ن�شره يف كانون الثاين/يناير .1930
لكن احلقيقة �أن احلركة كانت عر�ضة
لنقد م�ستمر منذ عام 1923عندما �أفرد
«تروت�سكي» ف�ص ً
ال يف كتابه بعنوان الأدب
والثورة ،خ�ص�صه لنقد ال�شكالنية.
ه�سترييا اللغة
ال�شكالنية الرو�سية
ّ
يف النقد الأدبي
برزت النظرية ال�شكالنية من اجتماعات ومناق�شات ت�أليف� :آن جفر�سون
ومن�شورات جماعتني �صغريتني من الطلبة -جماعة
«�أوپوجاز» Opojazومقرها مدينة پــيرت�سربك� ،إ�ضافة �أ�ستاذة الأدب الفرن�سي بجامعة �أك�سفورد
�إىل «حلقة مو�سكو اللغوية» .كانت جماعة مو�سكو تتكون
بالأ�سا�س من لغويّني معنيّني بتو�سيع حقل الأل�سُ نيّة لي�شمل ترجمة وتلخي�ص :د.عبد الواحد ل�ؤل�ؤة
اللغة ال�شعرية ،وكان �أ�شهر �أع�ضائها املنظ ّر اللغوي البارز كاتب من العراق
«رومان ياكوب�سن» .وكانت جماعة «�أوپـوجاز» ،كما ي�شري
عنوانها الكامل (جمعية درا�سة اللغة ال�شعرية) تتكون من
باحثني يف الأدب ،يوحدهم عدم قناعة بالأ�شكال القائمة
يف الدرا�سة الأدبية ،مع اهتمام عميق ب�شعر امل�ستقبليني
الرو�س� .إىل جانب قائد اجلماعة «ڤكتور �شكلوڤ�سكي» كانت
«�أوپوجاز» ت�ضم بني �أع�ضائها «بوري�س �آيخنباوم» و«�أو�سيـپ
بريك» و«يوري تينيانو» .ومع وجود فروق يف الرتكيز يف
26
27
و«جينيت»)� .إن رغبة البنيوية يف ت�أ�سي�س نظرية �شعرية، وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
متميزة عن غريها من امل�سالك الأكادميية ،جعلها مدينة مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
�إىل حد كبري �إىل ال�شكالنية الرو�سية ،وذلك يف �أهدافها
العلمية ،وعلى م�ستوى �أكرث تف�صيالً ،يف �سعيها نحو نظرية
يف ال�سرد.
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
مبادئ نظرية عامة وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
متثل ال�شكالنية الرو�سية واحدة من �أوىل املحاوالت املنهجية
لإقامة الدرا�سات الأدبية على �أ�س�س م�ستقلة ،وجلعل درا�سة م�ساهمات ال�شكالنيني �أفراداً� ،إال �أن القيمة النظرية لعملهم
الأدب فرع ًا معرفي ًا متخ�ص�ص ًا قائم ًا بذاته .وقد يجد املرء ميكن فهمها وتقوميها ب�صورة �أف�ضل عند النظر �إليها جهد ًا
�أ�صداء لهذا النوع من امل�شروع عند «�آي� .أي .رچـاردز» �أو جماعي ًا لإقامة �أ�سا�س نظري وا�ضح للدرا�سات الأدبية.
�أ�صحاب «النقد اجلديد» ولو �أنه لي�س لدى �أيّ من اجلانبني
الدرجة نف�سها من ال�صرامة النظرية والتما�سك ،كما التاريخ واملمار�سة
�أنهما ال ينزعان �إىل الرتكيز على الأدبي ال�صرف بالدرجة
نف�سها .وقد يتفق ال�شكالنيون مع «ت�.س�.إليوت» يف قوله �،إن وبعد عام ،1930عندما توقف اجلهد الفكري اجلماعي،
حتويل االهتمام من ال�شاعر �إىل ال�شعر غاية حممودة(.)1 مل يعد هناك من �أهمية نظرية لعمل امل�ساهمني �أفراداً.
لكن ذلك التوافق يظهر يف عملهم منهج ًا نظري ًا ال حم�ض وقد هجر �أكرثهم اهتماماتهم ال�سابقة ،وانقلبوا �إىل �أمناط
تف�ضيل فكري .ومع �أنهم ي�شاركون «�آي�.أي.رﭽـاردز» من الدرا�سة الأدبية �أقل �إثارة للجدل ،مثل ت�أويل الن�صو�ص
َب َرمَه بفو�ضى النظريات النقدية القائمة ،وت�شوّفه �إىل نوع (كما فعل «�آيخنباوم» وببوري�س توما �شيـﭭ�سكي) .لكن
من النظام العلمي يف درا�سة الأدب ،فمن امل�ؤكد �أنهم ما �أفكار ال�شكالنية الرو�سية ا�ستمرت يف الوجود ،كما يظهر
كانوا ليوافقوا على ر�أيه ب�أن النظرية الأدبية يجب �أن تعنى يف عمل «حلقة پـراك اللغوية» بعد �أن قام «رومان ياكوب�سن»
باخلربة �أو بالقيمة ،وما كانوا لي�ؤيدّوا جلوءه �إىل وظائف �أحد م�ؤ�س�سيها مبغادرة مو�سكو �إىل ت�شيكو�سلوڤاكيا عام
الأع�ضاء الع�صبية �أو علم النف�س و�سيلة جلعل النقد الأدبي .1920لقد ظهرت هذه اجلماعة �إىل الوجود عام 1926
�أكرث علمية� .إن احلل الذي تقدمه ال�شكالنية الرو�سية لهذه ثم تفرقت ،كذلك ب�سبب �أحداث �سيا�سية ،عام .1939
الق�ضايا جميع ًا هو �أكرث جذرية بكثري مما يقدمه «النقد وكان اثنان من �أهم �أع�ضاء هذه احللقة «يان موكارڤ�سكي»
اجلديد» .و�إن النظرية ال�شكالنية ت�ستثني ب�شكل منهجي و«ن�.س .تروبت�سكوي» (الذي ن�شر عام 1949كتاب ًا بعنوان
�صارم ما هو غري �أدبي ،وحيث يتجرّد «النقد اجلديد» يف «مبادئ ال�صوتيات �أفاد منه «ليـﭭـي �شرتاو�س» يف درا�سة
كثري من جهوده ال�ستغوار العالقات املختلفة بني احلياة الإنا�سيّة البنيوية» .كان الت�شيكيون ،مثل �أهل مو�سكو من
والفن ،يرى ال�شكالنيون الرو�س �أن الأمرين يناق�ض �أحدهما قبلهم ،لغويني بالدرجة الأوىل ،ومل يغريوا كثري ًا يف ما
الآخر. �أ�سّ �ست له النظرية الأدبية ال�شكالنية ،كما تطورت يف �أواخر
وعند النظر �إىل الن�ص الأدبي على �أنه �أداة تعبري �أو متثيل عقد الع�شرينيات من القرن املا�ضي .وبوجه عام ،ميكن
تكون خ�صو�صية �صفاته الأدبية عر�ضة للتجاوز .كما �أن النظر �إىل عمل «حلقة پـراك» على �أنه �إعادة عر�ض ملوقف
النظر �إىل العمل الأدبي على �أنه �أداة تعبري عن �شخ�صية ال�شكالنيني الالحقني.
امل�ؤلف ي�ؤدي دون ريب �إىل ال�سرية وعلم النف�س .والنظر �إليه ومع �أن الأحداث التاريخية قد ت�آمرت على طم�س ال�شكالنية
بو�صفه �صورة عن جمتمع بعينه ي�ؤدي بدوره �إىل التاريخ �أو الرو�سية ،و�إبعادها عن تطورات فكرية �أخرى يف القرن
ال�سيا�سة �أو علم االجتماع. الع�شرين ،و�إعطائها �صورة ظاهرة منعزلة حمددة املوقع،
والنظرة البديلة قد تطرح ميزة خا�صة بالأدب ،رمبا ت�سوّغ �إال �أن لها ،مع ذلك ،عالقات مع عدد من احلركات النظرية
الوجود امل�ستقل للدرا�سات الأدبية ،لكنها قد تقلّ�ص جمال الأكرث حداثة .ومن ذلك �أن «رومان ياكوب�سن» وزميله يف
مو�ضوع الدرا�سة �إىل درجة كبرية ،وت�ؤدي �إىل غربلة متكررة مدر�سة ﭙـراك «رينه ويليك» تركا �أثر ًا كبري ًا على الدرا�سات
للعمل الأدبي .بحث ًا عن مكوِّن �سحري بعينه .واخلطة الأدبية من خالل تدري�سهما وعملهما يف الواليات املتحدة
ال�شكالنية للتعامل مع م�شكلة التعريف ال يقت�صر ف�ضلها لعقود عديدة .ومع �أن كتاب «رنيه ويليك» بعنوان «نظرية
على �ضمان �أن الأدب ال ميكن اخت�صاره �إىل �أي �شيء �آخر، الأدب» (باال�شرتاك مع «�أو�سنت وارين» وقد ن�شر �أول مرة
بل برهنت كذلك على �أنها فاعلة ب�شكل هائل يف تطوير عام )1949مل يكن يت�سم بعقيدة نظرية وا�ضحة ،ف�إنه قد
جميع مظاهر النظرية ال�شكالنية .والتعريف ال�شكالين بقي ،ل�سنوات طويلة ،املرجع الأو�سع انت�شاراً ،مبا يقدمه
للأدب هو تعريف مغاير �أو معاك�س :فالذي يكوّن الأدب هو من و�صف نظري وا�ضح للدرا�سات الأدبية� ،أمام الناطقني
حم�ض اختالفه عن مراتب حقائق �أخرى .واملفهوم الفاعل باللغة الإنـكليزية .وثانياً ،بل رمبا لي�س يف �شكل ا�ستمرار
يف هذا التخ�صي�ص املغاير هو التغريب �أي جعل ال�شيء البقاء قدر ما هو ا�ستعادة حياة ،جند �أن ال�شكالنية الرو�سية
غريب ًا .astranenuie كان لها دور مهم يف تطور البنيوية الـﭙـاري�سية ،خالل عقد
فبالن�سبة لل�شكالنيني� ،إذن ،تكون مهمة الدرا�سات الأدبية ال�ستينيات من القرن املا�ضي (وبخا�صة يف عمل «تودورو»
28
ذات التوجّ ه التاريخي �أو تلك القائمة على املحاكاة ،و�أخري ًا حتليل الفروق املت�ضمنَّة بني اللغة العملية واللغة ال�شعرية،
ما الوظيفة التي تعطيها ال�شكالنية للفكر الذي كان ب�ؤرة معتمدين على مفهوم التغريب لإبراز تلك الفروق �إىل حيّز
االهتمام يف نظريات النقد ذات التوجّ ه الفل�سفي؟ �إن النظر .فبالرتكيز على عن�صر املغايرة وح�سب ،ميكن
العالقات بني الن�ص وامل�ؤلف وبني الن�ص والواقع هي عنا�صر للدرا�سات الأدبية املحافظة على مو�ضوع درا�ستها اخلا�ص.
�أ�سا�سية يف �أي مفهوم للأدب .وميكن النظر �إىل م�س�ألة و�إذا ر�سمنا حدود مو�ضوع الدرا�سة الأدبية على �أ�سا�س
الأفكار يف الأدب على �أنها �أحد وجوه م�س�ألة الواقع ،بكونه املغايرة ال على �أ�سا�س خ�صائ�ص الفطرة ،يغدو من املمكن
جزء ًا من «حمتوى» الأدب ،وهو ق�ضية عُ ني ال�شكالنيون ت�أ�سي�س فكرة الأدبية ،و�إعطاء نوع من املنزلة العلمية لدرا�سة
�أنف�سهم ب�شكل خا�ص مبواجهتها. الأدب .هاتان امليزتان �أ�سا�سيتان للنظرية ال�شكالنية.
ف�أوالً ،امل�ؤلف .عندما تكون الأدبية ،ال الأعمال املختلفة هي الأدبية ،ولي�س هذا العمل �أو ذاك ،لهذا امل�ؤلف �أو ذاك ،هو
ما يكوّن غر�ض الدرا�سات الأدبية ،تكون منزلة امل�ؤلف قد هدف الدرا�سات الأدبية.
خ�ضعت لتغيرّ جذري .يقول «�أو�سي بريك» «ترى جماعة كان ال�شكالنيون يف املمار�سة الفعلية ينزعون �إىل الرتكيز
«�أوﭙوجاز» �أن ال وجود ل�شعراء �أو �شخ�صيات �أدبية ،بل يوجد على «اخل�صائ�ص ال�شكلية يف الأدب ،ومر ّد ذلك �أن الو�سائل
�شعر و�أدب» )2(.لقد تكرّر هذا التقييد ب�أ�شكال خمتلفة ال�شكلية كانت بنظرهم هي الأدوات التي حتقق التغريب».
يف عدد كبري من النظريات النقدية والأدبية يف القرن من ال�ضروري �إدراك هذه النقطة عند النظر يف الطريقة
الع�شرين .فمالحظات «ت�.س�.إليوت» مث ًال عن ال�شعر يف التي تطوّر بها التفكري ال�شكالين بعدئذ .فالرتادف بني
كونه «لي�س تعبري ًا عن ال�شخ�صية بل هروب ًا من ال�شخ�صية» الأدبية وال�شكل مييز املرحلة الأوىل من ال�شكالنية« .الفن
قد تبدو توقع ًا لكلمات «بريك» اجلريئة .لكن الطريقة التي تقانة» وبالو�سيلة بط ًال وحيد ًا مبد�آن غيرّ منهما و�شذبهما
طوّر بها «النقاد اجلدد» بديهية «�إليوت» مل تلغ امل�ؤلف متاماً، بالتدريج تطوّر الت�ضاد بني التلقائية والتغريب .وحيث كانت
فعو�ض ًا عن ذلك �إذ قاموا بتغيري موقعه من خارج الن�ص النظرة ال�سابقة ترى يف العمل الفني جمموع و�سائله ،ف�إن
�إىل داخله �سوّغوا تغيري ًا يف الطريقة من مقْرتب ال�سرية النظرة الالحقة �أخذت بعني االعتبار �أن الو�سائل الأدبية
نف�سها هي عر�ضة لتلقائية الإدراك .وذلك يعني �أن ت�ضاد
رومان ياكوب�سن امل�ألوف /املغرَّب �أ�صبح الآن واقع ًا داخل الأدب نف�سه ومل
يعد امتداد ًا م�صاحب ًا للتمييز بني الأدب والال �أدب .والأدبية
من �أ�شهر �أع�ضاء جماعة مو�سكو متيز ال�شكل ال بو�صفه حم�ض كالم معاق ،بل الأهم من ذلك
بو�صفه �شك ًال معاقاً.
وب�سبب من احتمال فقدان الو�سائل الأدبية قدرتها على
الناقد ال�شهري تودوروف التغريب بَر َز التمييز بني الو�سيلة وبني الوظيفة .ف�أثر
التغريب يف و�سيلة بعينها ال يعتمد على كونها و�سيلة ،بل
ت�أثر بال�شكالنية الرو�سية على وظيفتها يف العمل الذي تظهر فيه .فالو�سيلة نف�سها قد
ت�ستعمل يف �أنواع من الوظائف املحتملة ،مثلما ميكن لو�سائل
خمتلفة �أن ت�شرتك يف وظيفة واحدة .وقد يحتوي عمل
بعينه على عنا�صر �سلبية �أو تلقائية ،تكون الحقة لعنا�صر
التغريب �أو العنا�صر «امل�صدَّرة» �أي املدفوعة �إىل ال�صدارة.
وقد ظهر م�صطلح «الت�صدير» ( Foregroundingعلى
يد «تينيانو» بالدرجة الأوىل) كنتيجة حتمية لر�ؤية الن�ص
الأدبي نظام ًا مكون ًا من عنا�صر متداخلة متفاعلة ،من �أجل
التفريق بني العنا�صر ال�سائدة والتلقائية.
لقد �شكّلت فكرة الت�صدير يف العمل الأدبي الأ�سا�س يف
خم�ص�صة من الدرا�سات التفكري ال�شكالين يف جماالت ّ
الأدبية ،مثل الأجنا�س الأدبية والتاريخ الأدبي ب�شكل خا�ص.
امل�ضامني
قد يح�سن بنا التوقف لتقومي املوقف ال�شكالين مبقارنته مع
االفرتا�ضات التي جتردت ال�شكالنية لتحل حملّها ،والتي
ما تزال �إىل ح ّد بعينه ت�شكل الأ�سا�س الذي ت�صدر عنه
الدرا�سات النقدية اليوم ولو ب�شكل �ضمني .لذا قد يت�ساءل
املرء عن الدور الذي يعزى يف النظرية ال�شكالنية �إىل
امل�ؤلف والذي ت�أ�س�س عليه النقد القائم على ال�سرية ،وعما
ح ّل بالواقع الذي و�ضعته يف اللبّ من اهتماماتها النظريات
29
منطقي يف التعبري عنه ،كما كان االهتمام مب�سائل ال�شكل وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
عندهم يُع ّد و�سيلة للك�شف عن املعاين غري العقالنية يف مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
الأدب .لكن املعنى والأفكار ال تعني �شيئ ًا عند ال�شكالنيني،
وهي مثل الواقع ،تدخل يف الأدب كجزء من املادة املتاحة
التي ت�ضعها الو�سائل الوظيفية بعدئذ يف اال�ستخدام الأدبي.
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
يقول «ياكوب�سن» يف هذا ال�صدد« :نحن نتعامل جوهري ًا ال حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
مع الفكرة بل مع حقائق لفظية». وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
ويبدو من الوا�ضح �إذن �أن املوقف ال�شكالين من هذه
الق�ضايا جميع ًا (امل�ؤلف ،الواقع ،الأفكار) لي�س حم�ض
تف�ضيل اعتباطياً ،بل �إنه ي�صدر عن مفهومي التغريب �إىل ُمقْترَ َبِ الكلمات على ال�صفحة� .إن الأهمية التي يعزوها
والأدبية -اللذين مبا يقومان عليه من مغايرة� -سي�ؤديّان النقاد اجلدد للمعنى والر�ؤية جتعل من ال�ضروري ا�ستمرار
دوم ًا �إىل تعريف الأدب ب�شكل يخالف الأ�شياء التي كانت وجود امل�ؤلف .وعلى النقي�ض من ذلك ،يرى ال�شكالنيون �أن
النظرة التقليدية ترى �أن الأدب يعبرّ عنها .فا�ستبعاد امل�ؤلف ال عالقة للأدب بالر�ؤية �أو معنى امل�ؤلف.
والواقع والفكرة عن مواقعها املركزية يف الأدب كان جزء ًا هذه نظرة �أكرث من �صورة بالغة التطرف من هجوم النقاّد
من تنقية فكرة الأدب التي ت�ؤدي �إىل تغيري جذري يف واحدة اجلدد على «املغالطة املق�صودة» .لكنها نتيجة منطقية
من �أعمق املفهومات املتجذرة يف التفكري عن الأدب :التمييز للمبادئ الأ�سا�سية يف النظرية ال�شكالنية ،وبخا�صة للنظرة
بني ال�شكل واملحتوى. ال�شكالنية �إىل التاريخ الأدبي وللتفريق بني اللغة العملية
لقد عك�ست النظرية ال�شكالنية �أف�ضلية املحتوى على ال�شكل، واللغة ال�شعرية .وبالن�سبة لل�شكالنيني تتكون الأ�صالة
ووجّ هت اهتمامها �إىل ال�شكل وحده .وي�صبح املحتوى لذلك من �إعادة ت�شكيل الو�سائل املتاحة وح�سب ،ال من الر�ؤية
معتمد ًا على ال�شكل (كما يت�ضح من الكالم على ال�سرية ال�شخ�صية يف اخلربة التي يعي�شها ال ُكتّاب .ويف نظام
والواقع والفكرة) وال يكون له من وجود م�ستقل يف الأدب. الأ�شياء هذا يبدو �أن ال مكان لتواريخ حياة �أو �شخ�صيات
�إن املبد�أ احلركي املت�ضمّن يف التفريق بني املادة/الو�سيلة منتجي الأعمال الأدبية.
يعني �أن عنا�صر ال�شكل نف�سه ميكن �أن تُ�ضمّ �إىل مفهوم اللغة يف ال�شعر ال ت�شري �إىل غر�ض خارج ذاتها ،وال تنال �أي
املادة .فالو�سائل امل�ستهلكة التي مل تعد تقوم بوظيفة يف وزن عاطفي من الناطق بها ،فهي لغة مكتفية بذاتها� ،أو كما
عملية التغريب تبقى متثل جزء ًا من مادة العمل بقدر يقول ال�شكالنيون «قيّمة بذاتها» .لذا فالإ�شارة املغايرة التي
ما متثله �أفكار �أو مظاهر احلياة الفعلية� .إن الت�ضاد بني تكوّن الأدب ت�ستبعد املتكلم منذ البداية :هدف العلم الأدبي
التلقائية والتغريب ،الذي يقوم على الت�ضاد بني املادة �أدبية بال م�ؤلف.
والو�سيلة ،ير�سم خطّ ًا يف مو�ضع خمتلف متام ًا عن اخلط ون�أتي الآن �إىل م�س�ألة املوقع املخ�ص�ص للواقع يف النظرية
الذي يف�صل ال�شكل عن املحتوى .والواقع �أن الت�ضاد ال�شكالنية .هنا كذلك تنقلب الأف�ضلية التقليدية للحقيقة
ميكن �أن ير�سم اخلط بطريقة جتعل من ال�شكل واملحتوى على الأدب .حيث يكون املبد�أ البديهي �أن الأدب ي�ستمد من
م�صطلحني مرتادفني .فمثالً،عندما ي�ؤلـَّف العمل لكي �أدب �آخر ولي�س من �أي م�صدر غري �أدبي ،ي�صبح الواقع غري
يعر�ض جميع و�سائله للعيان يغدو ال�شكل نف�سه حمتوى .ويف ذي عالقة بالكتابة �أو حتليل الأدب.
ر�أي «�شكلوڤ�سكي» تتكون رواية «�سترين» بعنوان تري�سرتام �إن الدور الذي يقوم به الواقع يف تكوين الأدب ثانوي وتابع.
�شاندي من �سل�سلة من التجاوزات على الأعراف الأدبية التي فهو يدخل يف العمل الأدبي ك�أحد املعطيات التي يبد�أ بها
ت�سرتعي انتباهنا �إىل �أ�شكال الفن الروائي؛ وبذلك حتوّل الفنان .يكون الواقع يف متناول الفنان بالطريقة نف�سها التي
م�سائل ال�شكل �إىل م�سائل حمتوى .يقول «�شكلوڤ�سكي» �إن تكون بها اللغة العادية والتقاليد الأدبية ال�سائرة والو�سائل.
«الوعي بال�شكل يكوّن مادة الرواية»(� .)3إن هذا التطرّف يف فهو �أحد مكوّنات العمل الفني ال مرجع ًا له (فالأدب لي�ست
�إعادة تق�سيم م�صطلحي ال�شكل واملحتوى يتبع منطقي ًا مبد�أ له مراجع) .يقول «ياكوب�سن» يف �إ�شارة �إىل �شعر «ماالرميه»
التغريب وال�شكل ممكن الإدراك .وعندما يجرى ت�صدير �إن الزهرة ال�شعرية هي الزهرة التي ال توجد يف �أيٍّ من
ال�شكل يغدو من امل�ستحيل احلديث عن �أي حمتوى �آخر �سوى باقات الزهور.
ال�شكل نف�سه. هذا العك�س للأف�ضليات ينطبق يف معظمه على امل�س�ألة
الثالثة ،وهي موقع الأفكار يف الأدب .ال ي�شكل املعنى ق�ضية
ال�شعر والنرث والتاريخ الأدبي تنه�ض بوجه ال�شكالنيني الرو�س ،وهم يف هذا املجال
يختلفون ب�شكل ا�سا�سي جد ًا عن النقّاد اجلدد الذين
مع �أن هدف العلم الأدبي ال�شكالين كان الأدبية ولي�س ي�شرتكون معهم يف م�سائل �أخرى .فالنقّاد اجلدد ،وقبلهم
الأعمال الأدبية املختلفة� ،إال �أن �إحدى النتائج الرئي�سية «�آي�.أي.رچاردز» كانوا على القدر نف�سه من حما�سة
الهتمام ال�شكالنيني بالأدبية كان الوعي املتزايد بالأجنا�س ال�شكالنيني لف�صل الأدب عن �سياقه يف التاريخ وال�سِّ يرَ ،
الأدبية .وبعد �أن عُ رِّفت الأدبية ب�أنها الفرق بني التلقائية وكان ان�شغالهم بال�شكل والتـِّـقانة يت�شابه يف كثري من النقاط
والتغريب� ،سرعان ما ات�ضح �أن الأدبية ال تت�شكّل بالطريقة مع من يقابلهم من ال�شكالنيني .لكن فنّ النقاد اجلدد كان
نف�سها يف خمتلف الأعمال ،و�أن الو�سائل التي تبينّ الفرق يف من �أجل تو�صيل معنى ،وليكن معنى ال يقوى �أي خطاب
30
ال�شعر �إعالء و�إغناء التوا�صل العادي .بل وعلى النقي�ض الق�ص�ص النرثي هي غري الو�سائل التي تبينّ الفرق يف ال�شعر
من ذلك ،يريد ال�شكالنيون الرو�س �أن يركزوا على الفروق الغنائي .فال�شعر والق�ص�ص يتكونان من مميّزات «�سائدة»
بني نوعني من اللغة :لغة �شعرية تحُ دَّد على كل م�ستوى (مبا �أو «حمدِّ دات جن�س» خمتلفة متاماً .والواقع �أن الذي مييز
يف ذلك امل�ستوى الداليل) تقف على النقي�ض من لغة عملية اجلن�سني الأدبيني عن بع�ضهما البع�ض لي�س طبيعة الو�سائل،
وعادية. بل طبيعة الت�ضاد الذي يكوِّن منهما �أدباً .فالتفريق الفاعل
ومقرتب ال�شكالنيني �إىل الق�ص النرثي كان� -إىل درجة يف ال�شعر يقع بني اللغة العملية واللغة ال�شعرية ،ولكن من
بعينها -حمكوم ًا باهتمامهم الأ�صلي بال�شعر .وحماوالت الوا�ضح �أن ذلك �أقل �أهمية بالن�سبة للنرث.
«�شكلوف�سكي» املبدعة يف ر�سم توازيات بني الو�سائل ال�شعرية كان ال�شعر نقطة البداية بالن�سبة للنظرية الأدبية
وو�سائل بناء احلبكة تبينّ �إىل �أي مدى كانت النظرية الأدبية ال�شكالنية ،وقد امتد ب�شكل بالغ الو�ضوح �إىل تعريف الأدبية
ال�شكالنية عميقة اجلذور يف ال�شعر .ولكن ،على الرغم من ب�شكل مغاير .يقول «ياكوب�سن»� «:إن ال�شعر عُ نفٌ منظّ م �ضد
الرباعة يف جهود «�شكلوف�سكي» تبينّ �أن مبد�أ املغايرة القائم الكالم العادي»( .)4ودرا�سة ال�شكالنيني حول ال�شعر ت�شمل
وراء ال�شعر مل ميكن تطبيقه على النرث ب�شكل وا�سع �أو م�ؤثر ثالثة جماالت رئي�سية حيث يجري هذا العنف .املجال الأول
جداً ،فتوجّ ب بناء التعار�ض الوظيفي على �أ�س�س خمتلفة. هو ن�سيج ال�صوت .يتكون العنف هنا من ت�صدير امليزة
وبتو�سّ ع �أكرث ،كانت درا�سة ال�شكالنيني للق�ص تقوم على ال�صوتية للكالم العادي ،التي تبقى يف التوا�صل الطبيعي يف
التمييز بني الأحداث من جهة وبني الرتكيب من جهة مرتبة �أدنى من «جمموعة» �أ�صوات الألفاظ املرجعية «ال�شعر
�أخرى. كالم مركَّب من كامل ن�سيجه ال�صوتي»( ،)5ال حم�ض كالم
عادي مع حت�سينات مو�سيقية م�ضافة .يرى ال�شكالنيون
عالقة جدلية �أن ثمة �أنواع ًا من الو�سائل يف ال�شعر ت�ؤدي �إىل «تخ�شني»
�أو «�إعاقة» اللفظ .ويف م�ساهمة مبكّرة للتحليل ال�شكالين
العالقة بني الق�صة واحلبكة تكاد ت�شبه العالقة بني اللغة لل�شعر قدمها اليو جاكوبن�سكيب يظهر وجو ٌد وا�ض ٌح يف ال�شعر
العادية واللغة ال�شعرية .فاحلبكة تخلق �أثر ًا تغريبي ًا يف من »تراكمات �أ�صوات مت�شابهة ي�صعب النطق بها»(.)6
ثانياً ،يظهر �أثر قوانني الإيقاع يف ال�شعر بالتوتّر الذي حتدثه
مهمة ال�شكالنية هي حتليل الفروق بني مبد�أين خمتلفني من ترابط الكلمات :بنية اجلملة ،التي
حتد ّد التوتر يف اللغة العادية ،والإيقاع الذي ي�شكل مبد�أً
بني اللغة العملية واللغة ال�شعرية حمدِّ د ًا ثاني ًا يف ال�شعر.
�إن الفهم الكامل لل�شعر يتطلب ر�ؤية املبد�أين يعمالن معاً،
لأن حتليل قوانني ال�شعر من دون النظر �إىل قوانني اللغة
الزهرة ال�شعرية هي الزهرة التي ال توجد العادية ي�ؤدي �إىل جتاوز الطبيعة اللفظية ال�صرف يف ال�شعر
يف �أي باقة من باقات الزهور و�إىل حتويله من حيّز اللغة �إىل حيّز املو�سيقى .كذلك ،ف�إن
�إهمال �ضوابط ال�شعر �سوف «يدمّر» البيت ال�شعري بو�صفه
بناء لفظي ًا حمدّداً ،يقوم على تلك الوجوه من الكلمة التي
ترتاجع �إىل املهاد من اللغة العادية( .)7وهكذا ،مرة �أخرى،
ال يكون الرتكيز على ال�شعر نف�سه ،بل على الفرق بني ال�شعر
واللغة العادية.
والوجه الثالث من اللغة العادية الذي يتجاوز عليه ال�شعر
هو داللة الألفاظ .حيث يختلف ال�شعر عن اللغة العادية يف
كونه ي�ستدعي املعاين الثانوية �أو امل�صاحبة للكلمة يف �آنٍ
معاً ،وهو �إجراء قد ي�سبب �إرباك ًا يف التوا�صل العادي ،الذي
يقوم على غياب الغمو�ض ب�سبب وجود معنى وظيفي واحد
للكلمة وح�سب .يقول «�آيخنباوم» :عندما تدخل املفردات
يف ال�شعر تكون ك�أنها انتزعت من الكالم العادي .ثم
تغدو حماطة بهالة جديدة من املعنى( .)8يبدو هذا الكالم
من م�ألوف �أ�صحاب النقد اجلديد ،فهو ي�ستدعي مفهوم
الغمو�ض عندهم �أو عند «وليم �إمـﭙ�سن» .لكن ال�شكالنيني
ال ي�شاركون �أ�صحاب النقد اجلديد ر�أيهم يف �أن ال�شعر
نقي�ض ٌة �أو ح ٌل متناق�ضات ،لأنهم مل يكونوا مهتمني باملعنى
يف ال�شعر .والأهم من ذلك �أن ال�شكالنيني يختلفون جذري ًا
عن �أ�صحاب النقد اجلديد يف الطريقة التي يربطون بها
غمو�ض ال�شعر باللغة العادية؛ فمن خالل الوظيفة املغايرة،
ولي�س عن طريق االن�سجام والرتكيز وح�سب ،ي�ستطيع
31
هذا الرتاث على �أنها «طريق م�سدود»� ،أو يف الأقل هي م�ؤ�شر وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
نحو التفكك(.)11 مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
واملجال الثالث الذي قدم فيه ال�شكالنيون م�ساهمات عملية
-تاريخ الأدب -ميثل ت�ضا ّد ًا مغاير ًا ثالث ًا يف حتديد ما هو
�أدبي .فحيث يعنى ال�شعر بالتفريق بني اللغة العادية ولغة
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
ال�شعر ،ويعنى الق�ص مبا ميكن �أن يدعى �شك ًال �أدبي ًا يفرقه حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
عن حمتواه غري الأدبي ،ي�ستدعي مفهوم ال�شكالنيني للتاريخ وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
الأدبي تفريق ًا بني ال�شكل التلقائي وال�شكل قابل الإدراك يف
داخل الأدب نف�سه .وهذا العن�صر املغاير يف التاريخ الأدبي
يبعده ب�شكل جذري عن املفاهيم ال�سابقة للبعد التاريخي يف الق�صة ،وو�سائل احلبكة مل تـُه ّي�أ لتكون �أدوات لتو�صيل
الأدب� .إن النظرة الوراثية قد تبدو للوهلة الأوىل �أنها تكوّن الق�صة ،بل �إنها تدفع �إىل ال�صدارة على ح�ساب الق�صة.
طريقة تاريخية رفيعة يف التفكري حول الأدب ،لأن الن�ص وميكن �أن تختلف هذه الو�سائل ب�شكل كبري يف طبيعتها
الأدبي كان يُف�سَّ ر من ناحية �أ�سبابه و�أ�صوله .لكن النظرة ومداها :من العر�ض ال�شامل لبنية الق�ص نزو ًال �إىل التالعب
التي ت�ضمّنتها عن الأدب ب�شكل عام انتهت �إىل نظرة غري اللغوي .ودرا�سة «�آيخنباوم» لرواية «غوغول» بعنوان املعطف
تاريخية .فعند تناول «العظماء» وحدهم والتعامل معهم مثال جيّد على الأمر الثاين .فهو يتجرّد للقول �إن يف هذه
ك�أنهم ظواهر منعزلة ،اخفق التقليديون من نقاد الأدب احلكاية «يتحول مركز اجلاذبية من املو�ضوع� ...إىل
والباحثني يف تو�صيل �أي �إح�سا�س بتطور تاريخي �شامل الو�سائل( .)9والأ�سا�س احلركي يف بنية احلكاية ال يوجد يف
للأدب. الأحداث املرويّة ،بل يف طريقة عر�ضها .وهذه الطريقة
وبوجه عام ،يرى ال�شكالنيون قوتني متكاملتني تعمالن نف�سها ال تقررها �شخ�صية الراوي املزعومة ،بل ال�صيغ
يف تطوّر الأدب .تتعلق الأوىل بالو�سائل ال�سائدة يف جن�س البالغية من تورية وغريها من امل�ؤثرات ال�صوتية اللفظية
�أدبي بعينه و�/أو يف فرتة حمدّدة .ومع مرور الزمن تغدو التي ت�ؤدي �إىل تفريق و�إزاحة الواقع ،الذي قد يبدو ك�أنه
هذه الو�سائل م�ألوفة وال تعود مما ي�سرتعي املالحظة.وعند نقطة البداية .وهكذا تكون «الق�صة» كما يف هذه احلكاية،
بلوغ هذه املرحلة يظهر عمل �أدبي جديد يقوم بالتقاط تلك نتيجة و�سائل لغوية معينة �صرف».
الو�سائل وي�صنع منها و�سائل ت�سرتعي املالحظة من جديد، وثمة ُمقترَ َب �شكالين �أكرث جوهرية نحو الق�ص جنده يف
وب�أ�سلوب املحاكاة ال�ساخرة يف العادة. درا�سة «�شكلوڤ�سكي» عن رواية تري�سرتام �شاندي .فهذه
الرواية ،مبا فيها من نظام �سرد م�ضطرب ،وتعليق من
قوة و�ضعف امل�ؤلف �شديد الربوز والوعي بالذات ،ت�شكل مثا ًال نادر ًا بيد
ال�شكالنيني لتف�ضيل احلبكة على الق�صة .فاملبد�أ ال�شكالين
ومبد�أ التطوّر الآخر يت�صل بتقدمي و�سائل من �أجنا�س �شائعة القائل «�إن �أ�شكال الفن تُف�سَّ ر بقوانني الفن ،وهي ال ت�سوَّغ
�أو هام�شية �إىل امل�سار الرئي�سي يف التطور الأدبي ،لتح ّل بواقعيتها( )10يبدو وا�ضح ًا يف كل جانب تقريب ًا من رواية
حمل و�سائل م�ستهلكة« .د�ستويـف�سكي» مثالً ،يرفع الو�سائل ا�سترين» ،ولي�س ثمة من حاجة لأن ي�ستخل�ص منها بالتحليل
امل�ستعملة يف ما يدعوه «�شكلوف�سكي» رواية ال�شوارع �إىل (رمبا كما هو احلال يف رواية املعطف) .فو�سائل البناء
مرتبة املثال الأدبي ،كما يحوّل «جيخوف» بع�ض املعامل من مك�شوفة للعيان ولي�ست م�ستثارة بفعل الأحداث واملواقف
املجالت الهزلية �إىل نرث �أدبي رو�سي .مل يعد التاريخ الأدبي يف الق�صة .وي�صيب اال�ضطراب الق�صة مرار ًا بفعل بع�ض
تف�سري ًا تعليلي ًا لروائع الأدب العاملي ،وال تراث ًا متوا�صالً. و�سائل احلبكة ،مثل تغيري املواقع يف ال�سياق (حيث ال
�إنه م�شروع كبري يف �شعرية ال�شكالنية الرو�سية ،لأن يف تظهر املقدمة �إال يف الف�صل الع�شرين يف املجلد الثالث)
�آخر املطاف «يكون واجب التاريخ الأدبي ....هو بال�ضبط والإزاحات الزمنية التي تك�شف عن النتائج قبل الأ�سباب،
الك�شف عن ال�شكل(� .)12إن التوكيد على وجود مبد�أ التغاير و�إقحام �أحدوثات ثانوية ،واجلنوح نحو ا�ستطرادات كثرية
يف جميع جوانب الفكر ال�شكالين قد ي�ؤدي باملرء �إىل الظن من كل نوع .ورمبا كانت �أبرز هذه الو�سائل تكرار التعليقات
ب�أن الو�ضوح يف النظرية هو نتيجة موقف فكري متّخذ �سلف ًا اخلجولة التي يقدمها امل�ؤلف ،فيك�شف عن و�سائله متام ًا
و�أن هدف ال�شكالنيني هو �إقامة نظام ثابت مت�شدد .لكن بالإ�شارة �إىل الفروق بني الق�صة واحلبكة.
التما�سك املذهل يف النظرية ال�شكالنية ال ميكن بحال �أن هذه النظرة �إىل الق�ص النرثي متيل �إىل االختالف مع
يعزى �إىل �ضغط التقليديني من بني اجلماعة .فعلى اجلانب النظرة التي ينطوي عليها تراث النقد اجلديد الذي ،يف
الفردي كانوا جميع ًا يجهدون يف التوكيد على الطبيعة قراءته للق�ص ،قد �أخ�ضع ب�شكل منهجي م�سائل احلبكة �إىل
امل�ؤقتة لأدوات املفاهيم ،كما ميكن مالحظة مرونتهم م�سائل الواقعية .وحيث كان ال�شكل ق�ضية يف هذا الرتاث،
يف الطريقة التي تطورت بها النظرية لت�شمل مو�ضوعات كما يف وجهة النظر ال�سردية عند «هرني جيم�س» ،جرى
جديدة مثل الق�ص والتاريخ الأدبي .ي�ؤكد «�آيخنباوم» ب�شدة ت�صنيف ال�شكل حتت م�سائل �أكرث تقليدية مثل املو�ضوع
�أنهم اما كانوا مدافعني عن طريقة ،بل باحثني يف �شيء(.)13 والر�ؤية الأخالقية ،وغدا ال�شكل و�سيلة لتو�صيل هذه امل�سائل
والواقع �أن هذا ال�شيء (الأدبية) والطريقة التي حُ دِّ د بها الأخرى .وحيث تكون خ�صائ�ص التقانة �شديدة الربوز ،كما
هو الذي �ضمن الو�ضوح يف العلم الأدبي� .إن الإ�صرار على يف رواية «جيم�س» بعنوان يولي�سي�س حُ كِمَ على الرواية يف
32
وهو يقوم على االدّعاء ب�أن جميع ا�ستعماالت اللغة ،مبا اخل�صو�صية (يف العلم ويف ال�شيء مو�ضع بحثه) وما يقوم
فيها اال�ستعمال الأدبي ،هو ا�ستعمال اجتماعي ومذهبي عليه من خطة مغايرة قد برهن ال على حم�ض كون العلم
(�أيديولوجي) .وفائدة هذا القول �إنه يتيح للمرء حتديد الأدبي مثمر ًا جد ًا وقاب ًال للتطوير ،بل على كونه متما�سك ًا
عالقة الأدب بالواقع بطريقة �أكرث ايجابية وو�ضوحاً: ب�شكل ملحوظ كذلك .و�إ�ضافة �إىل ذلك ،ف�إن عدد ًا من
فالأدب والواقع الذي ميثله يقعان على امل�ستوى نف�سه ،ويرى املظاهر الكربى يف النظرية ال�شكالنية تربهن على �أنها
«باختني» �أن هذا امل�ستوى مذهبي .وعلى الرغم من �أن كانت تتوقع بع�ض ًا من �أهم الأفكار يف النظرية الأدبية يف
الأدب مذهبي بال�ضرورة ،ف�إن خ�صائ�صه بو�صفه �أدب ًا لها القرن الع�شرين� ،إن مل تكن م�ؤثرة ب�شكل مبا�شر فيها.
�أثر �إق�صائي على ما متثله من مذاهب ،وهكذا تتيح للقارئ فاملوقع املركزي للّغة ،والتقليل من �أهمية عن�صر ال�سرية،
�أن يغدو �أكرث وعي ًا بها بو�صفها مذاهب .ونظرة البنيوية وفكرة علم الأدب ،والأهمية املعطاة لالنحراف عن امل�ألوف
�إىل اللغة ت�ؤدي كذلك �إىل نظرة �أكرث مرونة و�شمو ًال بكثري ت�شكل مبجموعها بع�ض ًا من اخل�صائ�ص الرئي�سية املتكررة
جتاه العالقة بني الأدب والواقع .تعرّف النظرية البنيوية يف النظرية الأدبية من «ياكوب�سن» �إىل «بارت».
ك ًّال من الأدب والواقع االجتماعي �أو الثقايف مب�صطلحات هذه �إذن ،هي نواحي القوة يف النظرية� .أما نواحي التق�صري
�سيمائية ،مما ي�ؤدّي �إىل النظر �إليهما وك�أنهما واقعان على فم�صدرها الرئي�سي يت�أتى من اهتمامها املق�صور على
ال�شكل وحده هو ما ت�ستهدفه ال�شكالنية
امل�ستوى نف�سه (كما هو احلال يف نظرية «باختني») .ويف الأدبي� .أما العنا�صر غري الأدبية،التي يحدّد جتاهها ب�شكل
الوقت نف�سه ،يرى �أغلب املنظّ رين البنيويّني ان الأدب ما حتظ مبا يكفي من تنظري.مغاير كل ما هو �أدبي ،ف�إنها مل َ
زال يحتفظ بتميّزه من خالل وعيه اللغوي اخلا�ص -وهي لي�س لدى ال�شكالنيني نظرية متطورة يف اللغة ،وال نظرية
فر�ضية تعتمد �أي�ض ًا على نظرية يف اللغة معقدة ن�سبياً. يف الثقافة واملجتمع ،وهذا النق�ص ي�ضع حدود ًا معينة على
وبعبارة �أخرى ،مع ان ال�شكالنيني قد خَ طَ وا خطوة بالغة نظريتهم يف الأدب� .إن املعاجلة النظرية الرفيعة يف الن�صف
الأهمية يف جعل اللغة مركزية يف تعريفهم للأدب ،ف�إن الأدبي من معادلتهم ال جتد ما مياثلها يف الق�سم غري الأدبي
تق�صريهم النظري ميكن �أن يعزى �إىل ح ّد كبري �إىل منها .يف النظرية ال�شكالنية نحن نتعامل مع نظرة يف اللغة
�إخفاقهم يف تو�سيع نظرية يف اللغة لت�شمل �آفاق ًا �أخرى. حمدودة جد ًا �سابقة على نظرية «�سو�سّ ور» .لكن نظرة يف
وتبقى فكرتهم عن الواقع حبي�سة وجهة النظر الثقافية التي اللغة ،را�سخة نظرياً ،ميكن �أن ت�ضفي على النظرية الأدبية
كانت نظريتهم يف الأدب حتاول ا�ستبدالها .وامل�صاعب التي قدر ًا �أكرب من الرهافة والت�شذيب -كما هو احلال يف
ج ّر �إليها ذلك ميكن ر�ؤيتها بو�ضوح �شديد يف نظريتهم عن املثال ذي الوظائف ال�ستّ عندبرومان ياكوب�سن� .إن نظرية
التاريخ الأدبي .فعلى الرغم من تعريفهم املجدّد للتاريخ «�سو�سّ ور» يف اللغة� ،أو النظرية ال�سيمائية باخل�صو�ص ،تفتح
الأدبي بو�صفه �سل�سلة غري متوا�صلة ،ف�إنهم مل ي�ستطيعوا �آفاق النظرية الأدبية لأنها تقدم و�سائل لتنظري واقع غري
تف�سري كيفية ات�صال التاريخ الأدبي ب�سال�سل تاريخية �أدبي �إ�ضافة �إىل الأدب نف�سه.
�أخرى .فلو كان لديهم نظرية اجتماعية وثقافية �أكرث تطور ًا كان النقد املارك�سي لل�شكالنية الرو�سية يركّز بت�شديد
لغدوا يف و�ضع �أف�ضل بكثري للتعامل مع هذه امل�شكلة. خا�ص على غياب �أي بُعد اجتماعي يف مفهومها عن الأدب.
وي�أتي �أكرب هجوم يف نقد ال�شكالنية من مدر�سة «باختني»
هوام�ش:
.T.S. Eliot, Selected Essays, London, 1972 (1932) p.22 . 1
Osip Brik, Russian Poetics in Translations.1977 (1932),p.90 .2
Lemon & Reis, Russian Formalist Criticism: Four Essays, Lincoln Nebrasca. p.12 .3
Victor Elrich, Russian Formalism: Historyذ.Doctrine, The Hague, 1980, p.219 .4
.Ibid., p.212 .5
.Lemon & Reis, op.cit., p.19 .6
.Matejka & Pomorska, Readings in Russian Poetics, Ann Arbor, Mich. 1978. p.124 .7
Lemon & Reis, op.cit., p.129 .8
.Boris Eichenbaum, Russian Review, 20 (1963) p.377 .9
Lemon and Reis, op.cit., p.57 .10
.F.R. Leavis, The Great Tradition, Hamondsworth, Middx. 1962 (1948) p.36 .11
.Matjeka & Pomorska,op.cit.,p.132 .12
.Lemon & Reis, Op.cit., p.131 .13
33
وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ال �شك �أن منت�صف القرن الثامن ع�شر �شهد �أ�شكا ًال مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
خمتلفة من التم ّرد على الإب�سينية بوا�سطة ك ّتاب
وخمرجني مبدعني �صنعوا بعبقريتهم جتارب ومدار�س
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
فنية جديدة متم ّردة ثارت على ال�شكل الدرامي التقليدي حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
للإب�سينية ،ومن �أهم ه�ؤالء الك ّتاب واملخرجني �ألفريد وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
جاري� ،أبيا� ،أرتو ،برخت ،كريك ،برنارد �شو ،برانديللو،
�ستان�سالف�سكي وغريهم كثريون ،كل منهم يف ر�أيي
يحتاج �إىل بحوث لإبراز مت ّرده ،ويف هذه املقالة �أحاول �أن
�أتناول �أبرز مدر�سة لفنانني مت ّردوا على الإب�سينية �شك ً
ال
عبوا فيه عن وم�ضموناً ،وبنوا �صرحاً فنياً �إن�سانياً رّ
واقعهم الإن�ساين كما عاي�شوه بعذاباته و�آالمه وم�آ�سيه
و�شعروا بعبثية وال معقولية �أال وهي مدر�سة م�سرح
العبث ،كما �أحاول �أن �أتع ّر�ض لكاتب فذ �أثر بكتاباته
املتم ّيزة على ك ّتاب هذه املدر�سة بفكره وفنه �أال وهو
الكاتب ال�صقلي الإيطايل برانديللو ،هذا املتم ّرد الذي
هدم بوعيه وعبقريته �شكل الإب�سينية ،وخلق مب�سرحيته
ال جديداً اخلالدة (�ست �شخ�صيات تبحث عن م�ؤلف) �شك ً
يف الكتابة امل�سرحية« ،امل�سرح داخل امل�سرح» بالإ�ضافة �إىل
معباً فيها عن خواء الواقع امل�سرحيات العديدة التي �ألفها رّ
«لكل حقيق ُته» ب�شكل م�سرحي احلياتي م ّب�شراً بفل�سفة ٍّ
ال وم�ضموناً ،ت�أثر به ك ّتاب امل�سرح �إبداعي جديد �شك ً
الفرن�سي وبنوا على �أفكاره فكراً وفناً جديداً متناغماً مع
ك ّتاب
فكره الفني �أ�سلوباً درامياً يعتمد على ا�ستاتيكية احلدث
امل�سرح احلديث
الدرامي املتنامي.
والتمرد على
ّ
الإب�سينية
حمد الرميحي
كاتب وخمرج من قطر
34
ولكي نعرف كيف حدث التم ّرد عند كتّاب امل�سرح احلديث
فال ب ّد �أن نعرف الأ�سباب والظروف االجتماعية وال�سيا�سية
واالقت�صادية والفكرية للتم ّرد ،فالتم ّرد ال ُي ْخلق من العدم
ولي�س �صرعة لكاتب ما يف مكان ما من العامل ،فالتم ّرد
الكتابي فعل �إن�ساين يحدث نتيجة تراكم معريف ثقايف
فكري فل�سفي ل�شعب ،لأمة وحل�ضارة ما.
كما �أحاول هنا �أن �أغو�ص يف طبيعة مت ّرد برانديللو وكتّاب
م�سرح العبث الفرن�سي كظاهرة مت ّردية �شغلت العامل
و�أر�ست �أ�شكا ًال م�سرحية ك�سرت الإب�سينية و�أر�ست قالب ًا �أو
قوالب جديدة �شك ًال وم�ضمون ًا.
فال �شك يف �أن �أي اجتاه �أدبي يف جمتمع من املجتمعات
هو نتاج املرحلة احل�ضارية التي مي ّر بها ،ولقد م ّر املجتمع
الأوروبي يف خمتلف مراحل تطوره مبتغيرّ ات اجتماعية
وفل�سفية و�أدبية وعلمية و�سيا�سية ،خ�صو�ص ًا بعد
احلربني العامليتني اللتني هزّتا كيانه ،وهدمتا
كثري ًا من �أ�صنامه الرا�سخة يف عقل الإن�سان.
مثالية هيجل فاحلياة الإن�سانية �إذن ال �أهمية لها ،هذا وا�ضح. فالدميري� :إننا يف االنتظار ،لقد ا�ستبد بنا امللل (يل ّوح بيده)
كل الذين يف ّكرون مثلك يجب �أن يقبلوا هذا اال�ستدالل و�أن كال ،ال تعرت�ض� ،إن امللل يكاد يقتلنا ،وما من �سبيل لإنكار
�أنهت عهد يعتربوا حياتهم عدمية القيمة ،فما داموا يعتربون املال ذلك ،ح�سن ًا .ثم يت�صادف �أن جند �شيئ ًا يروح عن نفو�سنا
ال�صروح كل �شيء� ،إ�ضافة �إىل ذلك �أنا ق ّررت �أن �أكون منطقي ًا ،وما فماذا نفعل؟ نوع الفر�صة ت�صنع هيا بنا نعمل (يتقدّم يف
دمت �أملك ال�سلطة ،ف�سرتون ما �سيكلفكم املنطق من ثمن، اجتاه الكومة) ،ويتوقف ،بعد حلظة واحدة �سيختفي كل
امليتافيزيقية �س�أق�ضي على املعار�ضني وعلى املتناق�ضات. �شيء وجند �أنف�سنا وحيدين مرة �أخرى و�سط اخلواء(.)10
و�أخري ًا تو�صلت لفهم فائدة ال�سلطة� ،أنها تتيح للم�ستحيل بهذا ال�شعور اليائ�س الذي يعبرّ عن موت معنى الأ�شياء،
فر�صة ،واليوم وفيما ي�أتي من الزمن لن ت�صبح حلريتي وافتقاد الدافع للعمل ،يعر�ض بيكيت للنا�س حياتهم
حدود»(.)14 الواقعية ،التي ال تقوم على منطق كما يراها ،حماو ًال �أن
يثور على واقعهم املرير ،لتف�سريه �إىل الأف�ضل ،كما يقول
�شك يف الأ�س�س الكربى مارتن ا�سلني يف مقدّمة «دراما الالمعقول»:
«�ألي�س �صحيح ًا �أي�ض ًا �أن هذه امل�سرحيات لي�ست �سوى
وقبل �أن يبد�أ «�ألبري كامو» و«بيكيت» يف ن�شر هذا الفكر تعبري عن الي�أ�س الكامل على الرغم من ت�شا�ؤمها العميق
الالمعقول ،كان ال�صقلي «برانديللو» يلقي ظال ًال من ال�شك وال�صحيح �أن دراما الالمعقول تهاجم يف الأ�سا�س اليقينات
على الأ�س�س الكربى للثقافة واحل�ضارة الربجوازيتني يف املريبة يف ال�صروح (امليتافيزيقية) ويف ال�سيا�سة ،فهي
�أوروبا خالل الأربعينيات من خالل ق�ص�صه وم�سرحياته، تهدف �إىل �إخراج جمهور من حالة الر�ضا عن النف�س
التي كانت تعبرّ عن حال الع�صر ،مت�أثرة ب�أغلب العوامل ليقف وجه ًا لوجه �أمام احلقائق القا�سية اخلا�صة بالو�ضع
التي ذكرناها حماو ًال �إثبات ف�شل الربجوازية ،التي حتاول الإن�ساين كما يراها ه�ؤالء الكتاب»(.)11
�إعطاء �إن�سان الع�صر احلديث املتناق�ض ذات ًا واحدة ويت�ضح هذا يف موقف البريكامو – ككاتب عبثي – الذي
لتغطية خوائها وزيف ال�شعارات التي زرعتها يف عقله ،يقول مل يتخذ موقف ًا �سلبي ًا �إبان احلرب العاملية الثانية ،ومل
برانديللو على ل�سان «هرني الرابع» ،مهاجم ًا الربجوازية يعتزل العامل بل جند �أن موقفه خالل تلك الفرتة كان
التي حتاول �أن تط ّبع النا�س على تفكريها ،وت�ستغلهم �إيجابي ًا ،فلم يدع العامل يق ّرر م�صريه وحده ،بل ان�ضم
خلدمة �أهدافها� :أن ه�ؤالء النا�س يطالبون بقية العامل �إىل �صفوف املقاومة الفرن�سية ،ومن ثم �إىل احلزب
دائم ًا ب�أن يت�ص ّرفوا بال�ضبط كما يريدون� ،أن ُتعا�ش كل ف�ضل الدفاع عن القوميني ال�شيوعي الفرن�سي( ،)12ولكنه ّ
حلظة من كل يوم كما ي�شا�ؤون ..ولكن بالطبع لي�س هناك اجلزائريني ،يقول �ألبري كامو خماطب ًا �صيحات الي�أ�س التي
�أي غرور يف ذلك لها ...لها ...بالطبع ...لي�ست �سوى تعمل على �إ�ضعاف النفو�س �أثناء احلرب العاملية الثانية:
طريقتهم يف التفكري ..طريقتهم يف الر�ؤية ...طريقتهم يف «�أول �شيء يجب علينا عمله �أال ني�أ�س ،و�أال ن�صغي كثرياً
ال�شعور ...لكل طريقته يف ...و�أنتم �أي�ض ًا لكم طريقتكم... �إىل �أولئك الذين ي�صيحون معلنني �أن نهاية العامل قد
�ألي�س كذلك؟ بالطبع لديكم طريقتكم ...ولكن �أي طريقة اقرتبت( )13وقام �ألبري كامو بت�صوير ن�ضاله املناه�ض
تلك؟� ...إن طريقتكم هي طريقة القطيع العادي ...ما �أنتم للفا�شية والدكتاتورية بجميع �أ�شكالها يف م�سرحية كاليجوال،
�إال قطيع من الغنم ...ب�ؤ�ساء ...مزعزعون� ...ضعفاء... �إذ يقول على ل�سان «كاليجوال» مبين ًا �أن «الديكتاتور» ال
وهم ي�ستغلون هذا ...يخ�ضعونكم لإرادتهم ...يجعلونكم يوجد �أمامه �شيء م�ستحيل ،حتى لو كان يف حتقيق هذا
تقبلون طريقتهم يف احلياة حتى ت�شعروا وتروا كما ي�شعرون امل�ستحيل وبال على الب�شرية:
يتم�سكون
وكما يرون� ،أو على الأقل هذا هو الوهم الذي ّ كاليجوال :ا�سمع يل جيد ًا يا مغفل� ،إذا كان للخزانة �أهمية،
37
�إزاء �شيء كهذا؟(.)18 وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وجند ت�أثري نغمة هرني الرابع عند �ألبري كامو وا�ضحة يف مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
«كاليجوال» ،فهذه امل�سرحية التي تع ّد من �أروع �أعمال �ألبري
كامو ،ما هي �إال �صورة مل�سرحية «هرني الرابع» ،و�إن كانت
ت� ّصور م�ضمون عبثية الوجود ب�صورة مبا�شرة �أكرث من
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
برانديللو ،وفيها يطعن كامو مفهوم احلرية يف �شخ�صية حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
كاليجوال ،فاحلرية عنده ما هي �إال االعتداء على حرية وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
الآخرين.
دم واغرتاب به يف �سعادة ..فماذا ،قبل كل �شيء� ،أفلحوا يف �أن ي�ؤثروا
عليكم؟ كلمات ..كما يفهمها كل منا ثم يخرجها مرة
ولقد اكت�شف الإن�سان الأوروبي �أن احلرب العاملية ح ّولت �أخرى بطريقته اخلا�صة وهكذا ...هكذا يتك ّون ما ي�س ّمونه
�أجمل مدن �أوروبا و�أروع مناطقها الريفية �إىل �ساحات الر�أي العام(.)15
دموية ،و�أ�صبح الإن�سان -الذي كان منذ فرتة ال يق ّيم بثمن ولقد كان من الطبيعي �أن يحارب «برانديللو» ويتهم تارة
– ال قيمة له فهو ميوت يف كل حلظة ك�أتفه خملوق على وجه بالغمو�ض ،وتارة �أخرى بال�سف�سطة يف بالده ،ويف �أوروبا،
الأر�ض ،ولقد بدا للبع�ض �أن �شرور احلرب مبثابة خدمة مل يلق الرتحيب �إال بعد فرتة طويلة من تغربة لإميانه
للب�شرية ،فمن �أجل ال�سالم يجب �أن ميوت املاليني ،لتعي�ش بالفكر الذي التزم به يف جميع �أعماله ،يقول عنه الناقد
البق ّية يف جو من العدالة وامل�ساواة ،وكتب «برانديللو» «ادريا نوتبلجر» يف �صحيفة «كونكورد»:
�أعماله مبين ًا من خاللها ت� ّصوره الفكري للحقائق التي �إنه فن ك�سل ومتعة ،لي�س له م�ضمون عميق ،ولي�ست له ال�شعور
جدّية �أخالقية وال اهتمامات ح ّية بالروحانيات(.)16
كان الإن�سان الأوروبي قد ه�ضمها و�أخذ ينا�ضل من �أجلها
�إن فن «برانديللو» بال�ضرورة لن ُيفهم وتنتفي منه �أ�صالته العميق
حلماية م�ؤ�س�سات طبقة الربجوازية التي �ض ّيعت كل القيم
وكل املكا�سب التي حققها الإن�سان الأوروبي خالل ن�ضاله وعمقه عند طبقة يرتكز منطقها على فكرة �أن العامل خلق بفردية
من �أجلها ...ال بد �أن ي�سخر ماليني املاليني من الب�شر
املرير عرب القرون لتحقيق امل�ساواة والعدالة خلدمة
�أهوائها الال�إن�سانية. خلدمة طبقة من ال�صفوة ،يقول حممد �إ�سماعيل حممد الإن�سان
برانديللو ين�صح النا�س يف م�سرحياته ب�أن يت�أملوا يف يف مقدمة ترجمته مل�سرحيات برانديللو: وخيبة �أمله
الوجود العقيم ،اخلايل من احلقائق املو�ضوعية ،فاحلقيقة «كان برانديللو يفهم الطبيعة الب�شرية حق الفهم ،وكان
الوحيدة هي احلقيقة الذاتية ال�صرفة ،وما احلقائق التي ُيدرك �أن النا�س يف كثري من الأحوال -وخ�صو�ص ًا يف يف احل�ضارة
يطلقها مثل زعيم فا�شي �إال حقائق مز ّورة ال تقوم على املجتمعات التي تتح ّكم فيها النظم الأوتوقراطية والفا�شية، الب�شرية
منطق مو�ضوعي. مثل نظام الديكتاتور مو�سوليني الفا�شي يف �إيطاليا -متيل
وي� ّصور لنا برانديللو الإح�سا�س بالعذاب والقلق واحلرية �إىل الرتفيه والت�سلية والفكاهة للرتويح عن نف�سها مما والقيم
تعانيه من كبت ،يف حني ت�ضيق مبن يدفعها �إىل التفكري
عند �إن�سان هذا الع�صر ،والت�شا�ؤم الذي كان �أ�سا�س كتابات
والتعميق ،ومبن يجربها على م�شاهدة �صورتها على املنطقية ،قاد
كتّاب العبث ،يقول يف م�سرحيته «هرني الرابع» :ف ّكروا يف
�إن�سان القرن الع�شرين وهو يع ّذب نف�سه ويعي�ش يف عذاب حقيقتها باملر�آة و�إدراك مدى ب�ؤ�سها و�شقاء �أحوالها� ،أما �إىل العبث
القلق حتى يعرف كيف تنتهي الأمور. وجه �إليه ،وهو اتهامه بالهدم عن االتهام الذي كثري ًا ما ّ
�إن النا�س ال ي�ألون جهد ًا يف االندفاع هنا وهناك وقد فقد كان يرف�ضه يف �إ�صرار وقوة ،فكتب يقول «مل �أحاول
�أم�ضهم القلق على القدر واحلظ ،وعلى ما يظنون �أن القدر قط �أن �أهدم �شيئ ًا غري الأوهام ،وهل يعترب هدم ًا �أن ي�سعى
يخبئه لهم(.)19 الكاتب �إىل فتح �أعني الب�شر على احلقائق»()17؟
وعلى الرغم من هذا القلق والت�شا�ؤم الذي �أدّى بكتّاب ولقد كان القا�سم امل�شرتك الأكرب بني برانديللو وكتاب
العبث �إىل الإميان بعبثية الوجود ،ونبذ كل احللول العبث ،هو الكفر بالأ�س�س الثقافية وال�سيا�سية للعامل
يتم�سكون باحلياة ،فكلاالجتماعية للحياة ،جند �أنهم ّ الربجوازي ،عامل الدمار والأكاذيب ،وت�سخري عقول
كاتب منهم يتع ّلل ب�أمل حمدّد يكتب به حياته ور�ؤيته النا�س ،وجتنيدهم للدفاع عن مكا�سب وم�ؤ�س�سات غري
للوجود ،فهذا مث ًال «برياجنيه» بطل م�سرحية اخلرتيت �إن�سانية تخدم م�صاحلهم .لذا جند يف �أغلب �أعماله
ليون�سكو ،عندما �أ�ضحى النا�س جميع ًا من حوله خراتيت، الدرامية �أنه ي� ّصور زيف هذه الطبقة وم�ساوئها ويدعو
مل ي�ست�سلم ومل يتح ّول مثلهم �إىل خرتيت ،بل ظ ّل يدافع النا�س �إىل الثورة ،ورف�ض كل قيمة ي�ضعونها.
عن �إن�سانيته ،يقول: وهكذا جنده يف م�سرحية «هرني الرابع» يعر�ض للنا�س
براجنيه :ما �أقبح �شكلي ،الويل ملن �أراد �أن يحتفظ بتف ّرده.. م�شكلة مواجهتهم للديكتاتور الذي يزعزع كل �أ�شكال
حين ًا ،ليكن ما يكون �س�أدافع عن نف�سي �ضد العامل �أجمع.. القيم والتقاليد :ماذا يكون الأمر عندما جتدون �أنف�سكم
غدّارتي ،غدّارتي.. وجه ًا لوجه مع رجل جمنون؟ جتدون �أنف�سكم وجه ًا لوجه
«يلتفت �إىل جدار �أق�صى امل�سرح حيث ر�ؤو�س اخلراتيت مع �شخ�ص يزلزل �أ�سا�س كل �شيء �أقمتموه داخل �أنف�سكم؟
مث ّبتة� ،صائح ًا� ،ضد العامل �أجمع� ،س�أدافع عن نف�سي� ،ضد كل �شيء بنيتموه حولكم؟ �شخ�ص يتحدّى املنطق ،منطق
العامل �أجمع� ،س�أدافع عن نف�سي� ،أنا �آخر �إن�سان� ،س�أظل كل �شيء �ش ّيدمتوه؟ �أهم..؟ ماذا ي�ستطيع الإن�سان �أن يفعل
38
برانديللو جاري
هوام�ش:
�ص .16 ( )1د .حممد زكي الع�شماوي ،الأدب وقيم احلياة املعا�صرة ،الهيئة امل�صرية العامة
( )17لويجي برانديللو – 1 :ديانا واملثال – 2احلياة عطاء – 3لذة الأمانة ،ترجمة للكتّاب ،الإ�سكندرية1974 ،م �ص.20 ،19 ،18
وتقدمي حممد �إ�سماعيل حممد ،وزارة الإعالم ،الكويت ،عدد � 42/1أول مار�س ،1973 ( )2املو�سوعة اال�شرتاكية ،دار الهالل� ،1970 ،ص .468
�ص .6 ( )3مارتن ا�سلني ،دراما الالمعقول ،وزارة الإر�شاد والأنباء ،الكويت � 1970ص .13
( )18لويجي برانديللو ،م�سرحية هرني الرابع ،ترجمة فاروق عبد الوهاب ،جملة ( )4ريجي�س جوليفييه ،املذاهب الوجودية ،ترجمة ف�ؤاد كامل ،الدار امل�صرية للت�أليف
امل�سرح ،م�سرح احلكيم ،القاهرة� ،1965 ،ص .119 ،118 والرتجمة القاهرة� ،1966 ،ص .65 ،55
( )19املرجع ال�سابق� ،ص .120 ( )5حممد �إ�سماعيل حممد ،مقدّ مة ،ترجمة مل�سرحية ديانا واملثال واحلياة عطاء ،لذة
( )20يوجني يون�سكو ،امل�ست�أجر اجلديد ،اللوحة ،اخلرتيت ،ترجمة حمادة �إبراهيم، الأمانة ،لويجي بريانديللو ،وزارة الإعالم ،الكويت� ،1973 ،ص .26
وزارة الإعالم ،الكويت� ،1975 ،ص .316 (� )6سامي خ�شبة ،ق�ضايا امل�سرح املعا�صر ،من�شورات وزارة الإعالم ،العراق� 1977 ،ص
( )21د .نبيل راغب ،املذاهب الأدبية ،الهيئة امل�صرية العامة للكتاب ،القاهرة،1977 ، .15 ،14
�ص .342 ( )7حممد ر�شاد خمي�س ،مقدمة ترجمة م�سرحية �سجناء الطونا ل�سارتر ،دار الكتاب
(� )22سعد �أرد�ش ،مقدمة ترجمة م�سرحية قواعد املبارزة للويجي برانديللو ،ترجمة العربي للطباعة والن�شر ،القاهرة� ،ص .8 ،7
�أحمد �سعد الدين ،الدار امل�صرية للت�أليف والرتجمة ،القاهرة� ،1965 ،ص .8 ( )8املرجع ال�سابق� ،ص .8
( )23املرجع ال�سابق� ،ص .9 ( )9مارتن ا�سلني ،دراما الالمعقول ،وزارة الإر�شاد والأنباء ،الكويت� ،1970 ،ص :12
( )24لويجي برانديللو ،ثالثية امل�سرح داخل م�سرح ،ترجمة حممد �إ�سماعيل حممد، .14
وزارة الإعالم ،الكويت� ،1977 ،ص .19 (� )10صمويل بيكيت ،يف م�سرح العبث «انتظار جودو» ،ترجمة دكتور فايز ا�سكندر،
( )25الدكتور �أمني العيوطي� ،سارتر الر�ؤية الوجودية ،جملة الفكر املعا�صر ،العدد الهيئة امل�صرية العامة للت�أليف والن�شر.1970 ،
،25مار�س � ،1976ص .135 ( )11مارتن ا�سلني ،دراما الالمعقول ،وزارة الإر�شاد والأنباء ،الكويت� ،1970 ،ص .24
( )26املرجع ال�سابق �ص .135 ( )12عبد املنعم احلفني� ،ألبري كامو حياته� ،أدبه ،م�سرحياته ،فل�سفته ،فنّه ،دار
( )27الدكتور زكريا �إبراهيم ،م�شكلة الإن�سان ،دار م�صر للطباعة ،القاهرة� ،ص.10 املفكّر ،القاهرة� ،1963 ،ص .43
( )28د� .أمني العيوطي ،حركة العبث ،عبث الذات �أم عبث الواقع ،جملة الفكر املعا�صر، (� )13ألبري كامو ،كاليجوال ،ترجمة علي عطية رزق ،الدار القومية للطباعة والن�شر،
العدد ،37القاهرة� ،1968 ،ص .98 القاهرة.
( )29املرجع ال�سابق.98 ، ( )14املرجع ال�سابق� ،ص .55 ،54
( )30املرجع ال�سابق.98 ، ( )15لويجي برانديللو ،م�سرحية هرني الرابع ،ترجمة فاروق عبد الوهاب ،جملة
( )31ف�ؤاد زكريا� ،آراء نقدية يف م�شكالت الفكر والثقافة ،الهيئة امل�صرية العامة امل�سرح ،م�سرح احلكيم ،القاهرة� ،1965 ،ص .117
للكتاب ،القاهرة� ،1975 ،ص .98 ( )16لويجي برانديللو ،مقدمة ن�ص م�سرحية قواعد املبارزة ،ترجمة �أحمد �سعد
الدين ،تقدمي �سعد �أرد�ش ،الدار امل�صرية للت�أليف والن�شر ،القاهرة� ،سبتمرب ،1965
41
�سارتر
�ضـــــ
وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وبحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
�سارتر
علي بدر
كاتب من العراق
بيت
حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
عنف فقط«:حرودة» تظهر نهار ًا وتختفي لي ًال ،يف مغارة ما نظر ًا الختالف مواقعهما االجتماعية ،ويف هذه احلالة
بعيدة عن املدينة حيث تربط م�صريها ب�أ�شباح الليل، يتّخذ الطاهر بنجلون �شكل �صورة �ضمنية خمتفية يف
وحركات وحرودة فوق ذلك� ،ساهمت يف ت�شكيل تاريخ مدينتني: الكوالي�س ،ب�صفة املخرج �أو عار�ض الأزياء ،ومع تتايل
عن�صرية فا�س (م�سقط ر�أ�س الكاتب) وطنجة (املدينة التي ا�ستقر الأحداث تتب ّدد �صورة الكاتب ال�ضمني ،يتماهى الطاهر
بها بعد انتقال الأ�سرة �إليها) �إنها حت ّلق فوق عاملني بنجلون -بطريقة فنية -مع الراوي (املهاجر) ،وت�ش ّكل
تهدد حياة �أو�سعتهما الرواية بالو�صف الالواقعي حيث يختلط احللم نقطة هذا التقاطع الت�أكيد على منط �سردي يت�شابك فيه
بالفانتازيا ،وحيث تتح ّول حرودة �إىل عالقة وبو�صلة الذاتي باملو�ضوعي� ،إن كل ف�صول الرواية ي�سردها املهاجر
املهاجرين تعلو الزمن املغربي ،وبني فا�س «مدينة بدون معامل، ب�ضمري املتك ّلم وتتع ّلق بالهجرة �إىل فرن�سا ،والك�شف ع ّما
العرب مر�صودة لتكون عا�صمة ثقافية ،مدينة � ّأ�س�ست الفارق تثريه يف نف�سيته ال�شخ�صيات من �إح�سا�سات بالغربة
بني اليد والفكر»« .بف�ضل ما جلامع القرويني �أو مدار�س والوحدانية واملغايرة�« ،إ�ضافة �إىل هذا ،زيادة احلركات
�أبناء الأعيان من �إ�شعاع معريف ،حافظت �شبكة العائالت العن�صرية يف فرن�سا و�أوروبا التي تناه�ض وجود العرب
النبيلة على تالحمها وا�ستمرارها �أمام �أبناء احلرفيني وامل�سلمني هناك وتتعامل معهم ب�صورة دونية ،ال ب ّد من
الذين كانوا مر�صودين لتع ّلم مهنة �آبائهم وتوارثها». مواجهتها على امل�ستوى نف�سه .والواقع �أن ث ّمة خطورة على
وطنجة مرتع للتهريب ،وب�ؤرة الريبة والكذب واالرت�شاء، ه�ؤالء املهاجرين� ،سواء على امل�ستوى الثقايف �أو املادي،
ومن طنجة يعرج �إىل اجلبل حيث بد�أت ثورة عبد الكرمي �أما على امل�ستوى الثقايف ،فهذه الفئة ت�شعر بانعدام الهوية
ينظم رجاله، اخلطابي« .كان عبد الكرمي اخلطابي ّ والت�شتّت احل�ضاري بني اللغة العربية واللغة الفرن�سية
ا�ستعداد ًا ملحاربة االحتالل الإ�سباين ،جنوده كانوا جميع ًا وبني ثقافة اجلنوب وثقافة ال�شمال ،ومثل هذا الو�ضع
وع�شاق الأر�ض ال�سمراء ،تعانقهم جذورها، �أبناء الغابة ّ ي�ش ّكل تربة مثالية لظهور العنف واحلركات العن�صرية
ي�ؤويهم م�ضجعها ،كانوا يتم ّرنون على العنف ويدجنون التي ته ّدد حياة املهاجرين الذين و�صلوا يف فرن�سا �إىل
التح ّدي بل �إن جندي ًا بلغ به التح ّدي درجة اخليانة». �أكرث من خم�سة ماليني عربي»(.)6
«عبد الكرمي ...يا ذاكرة خالدة»« ...عبد الكرمي رجل
حمارب ،منا�ضل ،مواطن من �أجدير ،مع ّلم يف مليلية، الطاهر بنجلون وعامل الفانتازيا
قا�ض ،ثم �أمري.»...
�إن رواية «حرودة» هي ق�صة مدينتني :ق�صة املدينة وا�صل الطاهر بنجلون �إ�صدار الروايات فجاءت« :حرودة»
املغربية يف مواجهة التحديث ،وق�صة املواطن التقليدي و«موحا املجنون -وموحا احلكيم» و«الكاتب العمومي»
�ضحية النمو احل�ضاري املباغت� .إنها و�صف �شعري و«طفل الرمال» و«الليلة املق ّد�سة» وغريها.
ملدينتني :الرمز والوطن ،كما �أنها ق�صة الطفولة ففي رواية «حرودة» ال نعرث على ق�صة ميكن تلخي�ص
املتج ّددة والتح ّول العنيف ،هذا ال�صراخ االجتماعي �أحداثها �أو القب�ض على مك ّوناتها الأ�سا�سية �أو التع ّرف
تعج به رواية «حرودة» �سيخفت تدريجي ًا يف الذي كانت ّ على م�صائر �أبطالها� ،إننا �إزاء �شخ�صية منوذجية
51
واحل�ضارات»(.)9 وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
وث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ا�س���ت�أثرت رواية «الليلة املق ّد�س���ة» باهتمام خا�ص من
()10
مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ط���رف النقاد يف فرن�س���ا واملغرب ،لأنها �أهلت �ص���احبها
للح�صول على جائزة (الكونغور) الفرن�سية ال�شهرية(،)11
وحظي���ت بتغطي���ة �إعالمي���ة �ش���ملت م�س���احات كبرية يف
ن�صو�ص وبحوث
صو�صمقاالت
وث
ال�صحافة املرئية وامل�سموعة واملكتوبة ،والرواية تت�أ ّلف من حوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
ديباجة واثنني وع�شرين ف�ص ًال مر ّقم ًا ومعنون ًا ،وتتح ّدث ت وبحوث مقاالت وبحوث مقاالت وبحوث
بحوث مقالت وبحوث مقاالت وبحوث
ع���ن امر�أة عج���وز عائدة من بعي���د تو ّد �أن حتكي ق�ص���ة
حياتها وتبوح ب�أ�س���رارها ،ا�ستجابة ل�ض���غوط و�إكراهات
داخلية وخارجية. روايات الطاهر بنجلون الأخرى ،كما �ستت�ضاءل النزعة
ال�ض���غوط الداخلية تتمثل يف ما ت�شعر به من ثقل ج�سدي ال�شعرية ل�صالح تغريبة جديدة� ،إنها احلنني العميق
و�أمل وغريهم���ا ،تق���ول�« :س����أتك ّلم� ،س����أديل بالكلم���ات �إىل الوطن الذي ينقل املهاجر من املدينة الأجنبية �إىل
والزمن� ،إنني �أح�س���ني مثقلة بع�ض ال�شيء ،وهذا ال يعود الوطن الذاكرة(.)7
�إىل وط�أة ال�سنني بل �إىل وط�أة كل ما مل يقل ،كل ما كتمته �أما رواية «موحا املجنون -موحا احلكيم» والتي يتح ّدث
و�أخفيته.»... فيها ب�أ�سلوب �شاعري �أخاذ -وهو اللون الذي ّ
يف�ضله
�أما ال�ضغوط اخلارجية فتتج ّلى يف التحريف الذي حلق -ي�ستلهم فيها من الرتاث العربي الذي يوظفه توظيفاً
ق�صتها على �أيدي الرواة ورغبتها يف ت�صحيح الوقائع معا�صر ًا عرب جتديد ما كان ينقل �شفوي ًا من احلكايات
وتتج ّلى �أي�ض ًا يف �سقوط الراوي الأ�صلي وفقدانه للذاكرة ال�شعبية العربية ،فيغو�ص يف �أعماق هذا الرتاث ليجني
تقول« :لقد ق�ص�صت عليكم بع�ض الق�ص�ص ،وما هي منه مو�ضوعاته و�أفكاره ،فموحا هنا هو جحا يف احلكايات
حق ًا بق�صتي ...ومبا �أن حياتي لي�ست حكاية ،حر�صت ال�شعبية� ،إال �أن ال�صرخات التي يطلقها هي �صرخات
أ�صحح الوقائع و�أف�شي لكم ال�س ّر امل�صون». على �أن � ّ الإن�سان املعا�صر� ،صرخات الأمل يف جمتمع اال�ستغالل فران�سوا بوت:
ورغم هذه ال�ضغوط ،ف�إنها ال حتكي ق�صة حياتها واال�ستالب ،يف جمتمع الطبقات والقهر� ،صرخات موحا
مبا�شرة ،بل تعمد �إىل التماطل واملناورة وذلك بغية �إثارة يف وجه احليلة املزيفة واحلب اخلادع واملظاهر الكاذبة الكاتب
انتباه امل�سرود لهم وال�سيطرة على حوا�سهم ومداركهم، (ال�شخ�صية) هنا لها القابلية على تق ّم�ص خمتلف املغربي
يتم من خالل و�صفها لق�صتها بالغرابة وذلك ما ّ الأدوار.
وتقدميها ملقطع مثري وم� ّشوق« .ق�صتي لي�ست عظيمة وال فهو مت�س ّول �أو مه ّرج �أو نبي يحيا وميوت ،ثم ُيبعث من �أعطى نفحة
تراجيدية ،هي بب�ساطة غريبة».
«تذ ّكروا كنت طفلة م�ضطربة الهوية ومرتنحتها ،بنتاً
جديد خمرتق ًا حواجز الزمان واملكان فهو موجود �أينما �شباب
يعاين الإن�سان من الب�ؤ�س والقهر وال�شقاء ،ينام يف جوف
أح�س بنف�سه ناق�ص الرجولة كنت مقنعة مب�شيئة �أب � ّ �شجرة ،يحاكي الطيور ،يك ّلم املاعز ،ويجادل البولي�س، للكتابة
ومهان ًا لأنه مل يرزق ولد ًا ،وكما تعلمون ،كنت �أنا هذا
االبن الذي كان يحلم ،والبقية يعرفها بع�ضكم ،والآخرون
ولكن حماوراته لي�ست هراء جمنون و�شطحات خيال
كاذب ،بل �صورة ح ّية متج ّددة ل�صوت كل املقهورين الذين الفرن�سية
�سمعوا نتف ًا منها هنا وهناك». كممت �أفواههم يف جمتمع اال�ستغالل ،فال ي�ستطيعون
�إنها امر�أة تنجب �سبع بنات ،لكن زوجها يكرهها وبناتها الكالم� ،صرخة الأمل احلقيقي املنبعث من �أعماق املهاجر
ويفكر يف قتلهن جميع ًا� ،إال �أن جبنه يحول دون ذلك، الذي يقا�سي من الغربة والظلم االجتماعي.
فيعلق �آماله على حملها الثامن ،ويكون متيقن ًا �أن املولود رواية مثقلة بالهموم العامة املعا�صرة ،ن�ستمع فيها �إىل
�سيكون ابن ًا ذكر ًا ،ومرة �أخرى يخيب �أمله� ،إال �أن جنونه خمتلف الأ�صوات املتناق�ضة �أحيان ًا واملتناغمة �أحيان ًا
جعله يت� ّصور مالمح املولودة الأنثى مالمح ذكورة ،ويقنع �أخرى ،وهذه الأ�صوات على كرثتها هي �صوت واحد،
�أ�سرته وباقي �أقاربه بذلك ،ويعاملها على هذا الأ�سا�س، �صوت بطل الرواية موحا ،وبالتايل فهو �صوت �إن�ساننا
حيث يلب�سها لبا�س الذكور ويختنها ،ويف ما بعد يزوجها املعا�صر «�أنا ل�ست ق ّدي�س ًا وال ولي ًا ما �أنا �إال �إن�سان � -إال
ابنة عمها فاطمة امل�صابة بداء ال�صرع! �أنه �إن�سان ثائر» هذا ال�صوت العابث يجذب القارئ يف
وي�ستمر هذا احلال مدة ع�شرين �سنة ،حيث ال يح ّررها دوامة غيبياته املتن ّوعة والتي �أديرت بحذاقة ،تت�شابك
�أبوها مما فر�ضه عليها من قيود الذكورة �إال ليلة احت�ضاره فيها احلقيقة باخليال ،ويندمج الأمل بالفرح ،وميتزج
والتي ت�صادف ليلة القدر ،حيث يعرتف بخطيئته وب�أنوثتها احلب بالكراهية ،واملوت باحلياة.
وي�ستغفرها ثم ميوت .فتق ّرر اال�ستمرار يف تنكرها حتى واجلنون يف الرواية هو جنون الغربة وال�ضياع واال�ستالب
تتم مرا�سيم اجلنازة �إال �أن فار�س ًا يختطفها من املقربة ّ الثقايف والقهر اال�ستعماري�« .أنا �أروي ق�ص�ص ًا ،وال �أظن
�أثناء دفن والدها وي�صطحبها �إىل (قرية الأطفال)، �أن هذا الأمر �سيئ للغاية»( .)8وقد كتب فران�سوا بوت يف
لكنها �سرعان ما تطرد منها ،فتعود �إىل بيت �أبيها لتجمع جريدة (لوموند) قائ ًال« :املفارقة هي �أن الكاتب املغربي
كل احلاجيات التي تذكرها باملا�ضي وتدفنها يف حد�ش جاء ليعطي نفحة من �شباب �إىل الكتابة الفرن�سية...
�أبيها وترحل عازمة على قطع كل الأوا�صر مع ما�ضيها من خالل �إحياء التقاليد القدمية للق�ص�ص العربي...
وعلى بداية حياتها من جديد .ويف طريقها ت�صادف وتو�ضح �أفكار ًا �أخرى،�إن كتاباته ت�صف عادات �أخرى ّ
رج ًال جمهو ًال ،يطاردها ،ت�ست�سلم له فيفت�ض بكارتها ،ثم �إنها ت�ضع �أمام عيوننا فوائد ما ي�س ّمى بتالقح الأجنا�س
52
�أما الناقد واملرتجم املغربي �إبراهيم اخلطيب فقد تتابع رحيلها ،ت�صل �إىل مدينة �صغرية ،فتدخلها وتبحث
و�صف الرواية قائ ًال�« :إن الليلة املق ّد�سة لي�ست رواية عن ح ّمام لالغت�سال والنوم ،لكن اجلال�سة تدعوها
مده�شة� ،أو تثري االنتباه برتكيبها احلريف ،ولكنها رواية �إىل ق�ضاء الليل ببيتها ،ثم تعر�ض عليها العمل عندها
ر�صينة تتوفر على وحدة بناء وعلى متاهي �شبه مطلق واالعتناء ب�أخيها ال�ضرير (القن�صل) ،وخالل عملها
بني حمكيها والر�ؤية ال�شعرية التي ّمتت معاجلته بها، يح�صل بينهما نوع من الو ّد ...ومبوازاة مع ذلك ينفر من
ويبدو يل �أن الطاهر بنجلون �أبان يف هذه الرواية عن �أخته ويه ّم�شها� ،إال �أن هذه الأخرية ال تقبل اال�ست�سالم،
حذق يف �إدراج عنا�صر متنافرة يف املتخيل العربي - فتكيد لل�شخ�صية املحورية ،حيث �إنها بعد �أن تعرف
الإ�سالمي« :ليلة القدر -الرو�ض العاطر -احلالج� ،إلخ) ق�صتها ترحل للبحث عن �أهلها وذويها وتخربهم مبكان
داخل �سرد ي�ستوحي �أو�ضاع ًا معا�صرة ،كما ا�ستطاع �أن وجودها ،في�أتي عمها لالنتقام منها خ�صو�ص ًا و�أنها كانت
يربهن �أن الذاكرة مبردوديتها و�أ�ساطريها وجغرافيتها �سبب حرمانه من �إرث �أخيه ب�سبب حفاظها على قناع
اخلا�صة ،تبقى املعني الذي ال ين�ضب بالن�سبة لكل تخييل الذكورة ،لكنها تباغته بطلقات م�سد�س فرتديه قتي ًال
مبدع»(.)15 ويحكم عليها بال�سجن ملدة خم�س ع�شرة �سنة ،و�أثناء
لقد مت ّيز الطاهر بنجلون بلغة �أقل عنف ًا واندفاع ًا و�أكرث هذه امل ّدة ،متوت اجلال�سة ،وتتع ّر�ض ال�شخ�صية املحورية
مرونة وغنى ويعود هذا على ما يبدو �إىل �أنه ال ي�أبه النتقام ب�شع من طرف �أخواتها ،ويرحل القن�صل ،ثم
باجلمالية قدر اعتنائه بالو�صف ،وميزج بني عمل احللم تخفف عقوبتها و ُيطلق �سراحها فرتحل �إىل �إحدى املدن
وعمل الوعي والإحالة �إىل زمن ومكان ثابتني. ال�شاطئية ،و�صدفة تلتقي بالقن�صل من جديد!
واملالحظ �أن ق�صة هذه املر�أة غريبة حق ًا ،حيث يتداخل
العمل الفني :سلمان املالك -قطر فيها الواقع املعي�ش باخليال واحللم والوهم والهلو�سة.
وي�ش ّكل املكان من منظور بطلة الرواية ف�ضاء ف�سيحاً
هوام�ش: ميتزج فيه الذاتي بالكوين وتربز فيه تناق�ضات الداخل
( )1انظر امللحق الأ�سبوعي جلريدة (الأنباء) املغربية /عدد6/7 : واخلارج.
مار�س 1988م�/ص11 : �إن تك���رار هذه الكلمات وتكثيفها (البيت ،الغرفة ،الدار،
( )2انظر امللحق الأ�سبوعي جلريدة امليثاق الوطني/عدد18/19 : الزنزانة ،ال�سجن ،اجلدران ،ال�صندوق ،الباب املغلق)...
يناير � /1987ص( 8 :مقال الطاهر بنجلون حتت عنوان:لغة الأم...
اللغة -الأم) داخل ف�ض���اء الرواية يف�ص���ح عن �أبع���اد رمزية تتوق من
( )3نف�س املرجع خالله���ا البطلة �إىل خلق �ألفة حميمية مع املكان الداخلي
( )4نف�س املرجع باعتب���اره امل���كان ال���ذي ميك���ن الدف���اع عنه �ض���د القوى
( )5انظر امللحق الثقايف جلريدة (العلم) عدد 9 :نوفمرب 1985م �ص: املعادي���ة� ،أي املكان الذي حت ّب���ه ،فالداخل يع ّمق وجودها
( 2قراءة لرواية حرودة) �أجنزتها عالية ممدوح
( - )6انظر امللحق الثقايف جلريدة (العلم) عدد 23:مايو 1998م �ص: ومينحها ح�ض���ور ًا قوي��� ًا� .أما اخلارج فهو م���كان الربودة
/12حوار معه �أجرته (�أورنت بر�س) والعنف ويرتبط يف ذهنها باالغت�صاب والوح�شية»(.)12
( )7انظر القراءة التي �أجنزتها عالية ممدوح لرواية (حرودة) العلم يق���ول كات���ب الرواي���ة« :يف (الليل���ة املق ّد�س���ة) مل �أق���م
الثقايف� /أنظر هام�ش5:
( )8انظر العلم الثقايف لـ«جريدة العلم» عدد 5 :يناير �/1979ص8:
با�ستق�صاء الإ�شكاالت النف�سانية لل�شخ�صيات ،واهتممت
(قراءة لرواية موحا املجنون -موحا احلكيم) بقلم :نهلة حكيم بالو�ضعيات وانعكا�ساتها على احلياة وعلى �أحالم �أبطال
وانظر كذلك امللحق الأ�سبوعي جلريدة الأنباء املغربية/مرجع �سابق الرواية ...و�ص�ي�رت الكل ممزوج ًا يف (الليلة املق ّد�س���ة)
( - )9امللحق الأ�سبوعي جلريدة الأنباء/مرجع �سابق �إىل درج���ة جتع���ل القارئ يعجز عن معرفة م���ا �إذا كانت
( )10ترجمها �إىل العربية حممد ال�شركي ،وراجعها ال�شاعر حممد
بني�س حتت عنوان (ليلة القدر) و�أجنزت عنها درا�سات نقدية عديدة
بطل���ة الرواي���ة تعي�ش حل���م حياتها �أو كانت عا�ش���ت هذه
ن�شرت يف ال�صحف واملجالت املغربية احلياة واقع ًا ...كل �شيء يف احلياة الفعلية معقد غام�ض
( )11جائزة �أدبية �شهرية ت� ّأ�س�ست �سنة 1903م ،ويعترب الطاهر �ش���ديد الإبه���ام .لذلك ف����إن م�ؤلفي (يعن���ي طفل الرمال
بنجلون �أول عربي و�إفريقي ح�صل عليها� ،أما الكتّاب الأجانب الذين والليلة املق ّد�سة) حول :الهوية ،وال�سرابية والإبهام»(.)13
فازوا بها قبله فهم:
� -شارل بلين�سيه من بلجيكا �سنة 1937م وكتب الكاتب الفرن�سي (جاك فيني)�« :إن من يت�أمل
-بياتريك�س بيك من بلجيكا �سنة 1952م مغزى رواية الطاهر بنجلون هو كمن ي�سعى ،يف �صحراء
-فران�سي�س فالدر من بلجيكا �سنة 1958م للقب�ض على �سراب ،وكما يفنت ال�سراب وي�سحر كذلك
-فنتيال هوريا من رومانيا �سنة 1960م تفعل رواية (الليلة املق ّد�سة) ...هل يق�صد بنجلون بهذه
-جاك �شي�سيك من �سوي�سرا �سنة 1973م
� -أنطونني ماييه من كندا �سنة 1979م الليلة احلياة ذاتها �أم يق�صد حلظة خا�صة للحياة،
( )12انظر �صحيفة (�أنوال) عدد 3 :فرباير �/1990ص( 18 :ما حلظة فجر بعيد؟ ...يخ ّيل للقارئ ،لأول وهلة� ،إنه يعاي�ش
�أ�شبه اليوم بالأم�س/قراءة يف رواية ليلة القدر) علي بن�ساعود ،وانظر حلم ًا ولي�س �أحداث واقع ...ومن يلج ال�صحراء هو كمن
كذلك �صحيفة (�أنوال الثقايف) عدد 12:دي�سمرب 1987م �ص( 6 :بنية يدخل يف حلم ،ال يخرج منها �إن مل يكن ح ّدد موقع
املكان يف رواية ليلة القدر) حممد بوجنمة
( )13انظر امللحق الثقايف جلريدة (العلم) عدد� 10 :أكتوبر 1987م. ال�ضفة الأخرى ،ولع ّل بنجلون يرمز �إىل �ضرورة �إبرام
�ص( 6:حوار مرتجم عن �أ�سبوعية جون �أفريك /عدد23/9/: ميثاق اجتماعي جديد بني الرجال والن�ساء ،حيث يت�س ّنى
1987م) مع الكاتب قبل ح�صوله على جائزة الكونغور اخلروج من وط�أة هذا الليل املوح�ش البهيم وهو ،يف كل
( )14نف�س املرجع الأخري
(� )15أنوال الثقايف/مرجع �سابق (ملف خا�ص عن اجلائزة والرواية
ذلك ،يتح ّدث عن �شعبه بالذات ،غري �أن ال�س�ؤال يتجاوز
الفائزة) (�ساهم فيه العديد من �أدباء ونقاد املغرب). جميع ما يدعى من (ثقافات مزدوجة)»(.)14
53
عر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�شعر �شعر
�شعر �شعر عر
ر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�أبواب
�شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر �شعر
�شعر �شعر �شعر عر �شعر �شعر �شعر �شعر
عدنان ال�صائغ
�شاعر من العراق
� ُ
أطرق باباً
�أفتح ُه
ال �أب�رص �إال نف�سي باباً
�أفتح ُه
� ُ
أدخل
باب �آخر
ال �شيء �سوى ٍ
يا ربي
كم باباً يف�صلني عني؟ ْ
نــ�ص
ن�سيت نف�سي على طاول ِة ُ
مكتبتي
�شيزوفرينيا وم�ضيت
ُ
فتحت خطوتي يف ُ وحني
يف وطني الطريق
اخلوف ويق�سمني:ُ يجمعني اكت�شفت �أنني ال �شيء غري
ُ
يكتب
ال ُ رج ً لن�ص ظلٍّ ٍ
خلف �ستائ ِر نافذتي -
آخر َ -
وال َ �أرا ُه مي�شي �أمامي مب�شق ٍة
يرقبني النا�س ك�أنه �أنا
وي�صافح َ
ُ
54
�أق ّل ُم �أظافري الو�سخ َة ت�أويل
و� ّ
أفك ُر ب�أجمادهم الباذخ ِة
ه�ؤالء املنت�صبون يف ال�ساحات يـم ّلونني �سطوراً
يطلقون قهقهاتهم العالي َة ويب ّوبونني ف�صو ًال
اجلوع
يطحن �أ�سنانَ ُه من ِ
ُ �شعب
على ٍ ثم يُفهر�سونني
الذهب
ِ ويبني لهم �أن�صاباً من الويَطبعونني كام ً
والأدعية! املكتبات
ِ ويُوزعونني على
اجلرائد
ِ ويَ�شتمونني يف
العراق و�أنا
ملْ
يبتعد
العراق الذي ْ ُ أفتح
� ْ
ات�سعت يف املنايف خطا ْه ْ كلما فمي
يتئد
والعراق الذي ْ ُ بعد!
ن�صف نافذ ٍة..
انفتحت ُ ْ كلما
قلت� :آ ْه ُ حكمة م�ؤقتة
يرتعد
والعراق الذي ْ ُ
مر ظ ٌّل كلما َّ ْ
الطبول �ضجيج
ِ يف
تخي ّل ُت ف ّوه ًة ترت�صدين، لك �أنْ تنتحي َ
�أو متا ْه جانباً
نفتقد
والعراق الذي ْ ُ ْ
�ستقول وت� ّؤج َل ما....
أغان وكحلٌ .. ن�صف تاريخه � ٍ ُ
ون�صف طغا ْه ٌ ثالثة مقاطع للحرية
�سذاجة - 1قال �أبي:
أحد
ؤياك على � ٍتق�ص�ص ر� َ
ْ ال
كلما َ
�سقط دكتاتور فال�شارع ملغو ٌم بالآذانْ
ُ
املر�ص ِع بدموعنا
التاريخّ ،ِ عر�ش
من ِ أذن ُّ
كل � ٍ
التهبت كفاي بالت�صفيق ْ يربطها ٌ
�سلك �رسّ ٌي بالأخرى
البيت
لكنني حاملا �أعود �إىل ِ حتى َ
ت�صل ال�سلطانْ
أ�ضغط على ز ِر التليفزيون و� ُ
دكتاتور �آخر
ٌ يندلق
ُ ُ
اجلرنال من امل�شنقة َ
ي�سقط - 2بعد �أن
من �أفوا ِه اجلماه ِري امللتهب ِة بال�صف ِري الطري دورتَ ُه
ير�سم ُبعد �أن َ
والهتافات الطليق
ْ يف الهواء
ال�ضحك
ِ ..غارقاً يف تتخ�ض َب راياتُنا بالدماءِ....
بعد �أن ّ
من �سذاجتي ما الذي ُ
نفعل؟
التهبت عيناي بالدموع! ْ
التماثيل
ِ - 3جال�ساً ِّ
بظل
55
حوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
وار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
: احلوار احلوار احلوار الدكتور ن�صر حامد �أبوزيد لـ
حوار احلوار
احلوار ارحواراحلوار
احلوار احلوار
حلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
الإ�سالميني
قر�أوا نقد القاهرة � -سامي كمال الدين
اخلطاب الديني
الدكتور ن�صر حامد �أبوزيد كان �أمامه من البداية خياران:
�إما �أن يرمي بنف�سه يف �أح�ضان ال�سيا�سة و ي�ؤثر ال�سالمة .و�إما �أن ينزوي حتت ظالل امل�ؤ�س�سة
الدينية وينعم بحمايتها ولكنه ن�أى بنف�سه عن هذين اخليارين واختار لنف�سه طريقاً ثالثاً.
لأنه لي�س من منط املفكرين املدجنني ،الذين ال يرتفع م�ستوى جر�أتهم الفكرية ب�أكرث من
قامتهم الق�صرية ..وكان طريقه �صعباً جتاوز فيه كل الإ�شارات والدوائر احلمراء التي حتاول
احتكار ال�سلطة الدينية ،وامل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية التي تعمل على ا�ستالب العقول وق�صفها.
لقد ف�ضح د� .أبوزيد هذا التحالف غري املقد�س بني ال�سيا�سي والديني وبجر�أة فكرية �أعلن
�أن الأنظمة الديكتاتورية يف العامل الإ�سالمي وجدت يف مظلة حماية العقيدة �أداة ت�ستند
عليها لرتكيز جذورها اال�ستبدادية .و�أن تدخل ال�سيا�سة يف عملية جتديد الفكر الديني،
يحوله �إىل فكر براغماتي .في�صبح التجديد حرباً على الورق ولغواً من القول.
وي�ؤكد د� .أبوزيد على �أنه من امل�ستحيل �أن يزدهر فكر حر يف ظل �سلطة ت�ستغل كل �أ�ساليبها
الو�ضيعة ال�ستخدام الدين ل�صالح ال�سيا�سة.
جتربة املفكر والباحث امل�صري د .ن�صر حامد �أبوزيد تنتمي �إىل اللحظة املعرفية املعا�صرة يف
ب بهذا الفكر حدود التقليد الثقافة العربية والإ�سالمية ،وهي متثل جزءاً من �أفق معريفَ ،ع رَ َ
والتحليل املوروثني .ويف هذا احلوار ي�ضيء �أبوزيد مراجعه وم�صادره الثقافية ،ويك�شف عن
نقاط االلتبا�س يف بع�ض القراءات لفكره و�إنتاجه ،ويطرح ر�ؤيته لواقع ثقايف مت�سامح.
56
الدولة
كائن معنوي
يجب �أن يتخلى عن
االنت�ساب
�إىل دين بعينه
57
الن�صو�ص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد حوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
وار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
عن املعنى احلريف املبا�شر ،وحتاول اكت�شاف املعاين احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
احلقيقية واخلفية وراء الن�صو�ص املقد�سة»،
فكيف ترى الفرق بني التعريفني ،وهل ت�صلح هذه حوار احلوار
الفل�سفة للقر�آن وتف�سريه من وجهة نظرك؟
ال �أرى فارق ًا بني التعريفني ،بل ال �أرى �أننا �إزاء تعريفني.
احلوار
احلوار احلوار احلوار ارحواراحلوار
احلوار احلوار
حلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
ف��امل�����س�يري ي��ت��ح��دث ع��ن امل��ع��ن��ى اال���ش��ت��ق��اق��ي والتوظيف احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
الديني للم�صطلح بطريقة عامة ،يف حني �أن حديثي الذي
ا�ست�شهدت به يتناول التطور املعا�صر للهريمينوطيقا يف
فل�سفة جادامر وكيفية تطويرها لتالئم التعامل مع الن�ص يف كتابك «�إ���ش��ك��ال��ي��ات ال��ق��راءة و�آل��ي��ات
الديني يف الثقافة الإ�سالمية� .أما م�س�ألة مدى �صالحية ال��ت���أوي��ل» ت��ق��ول «وت��ع��د الهريمينوطيقا
هذه الفل�سفة �أو تلك للتعامل مع ال��ق��ر�آن ،فالفي�صل يف اجلدلية عند جادامر بعد تعديلها من خالل
ذلك لي�س الت�سا�ؤل النظري بل التحقق الفعلي للنتائج يف منظور جديل مادي ،نقطة بدء �أ�صيلة للنظر �إىل
�إطار الك�شف عن املعاين والدالالت الأعمق للن�صو�ص .ويف عالقة املف�سر بالن�ص ال يف الن�صو�ص الأدبية
تقديري �أن الهريمينوطيقا قادرة على مد الباحث ب�أطر ونظرية الأدب فح�سب ،بل يف �إع��ادة النظر يف
و�أدوات منهجية لغوية و�أ�سلوبية ورمزية متكنه من الغو�ص تراثنا الديني ح��ول تف�سري ال��ق��ر�آن منذ �أق��دم
يف م�ستويات من املعنى مل يحلم بها القدماء .هذا ف�ض ًال ع�صوره وحتى الآن» ،لكن الدكتور عبدالوهاب
عن �أن الرتاث التف�سريي كان دائم ًا منفتح ًا على الرتاث امل�سريي يرى �أن «الهريمينوطيقا م�شتقة من الكلمة
الإن�ساين ،فلماذا يريد البع�ض اليوم �سد هذا الباب با�سم اليونانية ،HERMENEUIMمبعنى يف�سر �أو
«اخل�صو�صية» و«حماية ال��ذات» �إىل غري ذلك من ذرائع يو�ضح -من علم الالهوت -حيث كان يق�صد بها
تف�ضي �إىل «�ضمور» الأنا وتقوقعها يف �سجن ما�ضيها؟ ذلك اجلزء من الدرا�سات الالهوتية املعني بت�أويل
58
التحالف غري املقد�س بني ال�سيا�سي والديني كما ترى �أن الن�ص يف حقيقته وجوهره منتج
ثقايف ،وهو يف هذه احلالة �إذن ق�ضية بديهية
قدمي تاريخي ًا ال حتتاج �إىل �إثبات� ..أال ترى �أنها جر�أة فكرية
يف التعامل مع الن�ص القر�آين بهذا املنهج؟
�صار امل�سا�س بكتب الرتاث ونقدها قرين نعم ه��ي ج���ر�أة ،لكنها كما قلت ج���ر�أة «ف��ك��ري��ة» ،وه��ذا
تو�صيف هام� .أما �أنها ق�ضية بديهية ال حتتاج لإثبات فهذا
الكفر ما مل �أقله ،بدليل �أنني �أفردت �صفحات لإثباتها بالأدلة
والرباهني التاريخية والثقافية واللغوية ،وهي �صفحات مل
يقر�أها الناقدون الذين حر�صوا على ترويجها عارية عن
�أدلتها .الدليل على ذلك قولك على ل�ساين �إنها حقيقة
مل��اذا خاف الإ�سالميون من نقدك للخطاب بديهية ،وه��و ق��ول مر�سل كما ت��رى .امل�س�ألة الأدق �أن
ال��دي��ن��ي ال�����ذي حت���دث���ت م���ن خ�ل�ال���ه عن الرتويج ملقولة «منتج ثقايف» دون اال�ستناد �إىل �أدلتها �أدى
االجتهادات الب�شرية لفهم الن�صو�ص الدينية �إىل ترويج تزوير �آخر فحواه �أنني �أنكر امل�صدر الإلهي،
وت�أويلها؟ وهذا ما مل �أقل به ال �ضمن ًا وال ت�صريحاً .واحلقيقة يف
ال �أعتقد �أن من ت�سميهم «الإ�سالميني» -وال �أدري مَنْ هذا الأم��ر �أن النظر �إىل القر�آن باعتباره «فعالً» �إلهي ًا
هم -ق��ر�أوا ب�أنف�سهم نقد اخلطاب الديني حتى يقال يختلف عن النظر �إليه بو�صفه «�صفة» �إلهية ،وهذه من
�إنهم قد خافوا منه �أو �إنه قد �أخافهم� .أ�صاب «الذعر» امل�سائل «العوي�صة» التي يهاب الفكر الإ�سالمي املعا�صر
يف البداية فرد ًا واح��د ًا م�سته بع�ض العبارات يف مقدمة اخلو�ض فيها ،رغ��م �أنها ق�ضية نوق�شت با�ستفا�ضة يف
الكتاب ف�شن حملته التكفريية داخ��ل اجلامعة وخ��ارج تاريخ الفكر الإ�سالمي .هذه «الهيبة» م�صدرها اخلوف,
اجلامعة .املذهل يف املو�ضوع �أن �شخ�ص ًا واحد ًا «فا�سداً» ولي�س م�صدرها «الورع» ،يف حني �أن «اجلر�أة» متثل حتدي ًا
ب�شهادة اجلميع قاد مع�سكر «الإ�سالميني» هذا ،ف�أخاف للخوف ،ولي�ست �ضد «الورع املعريف».
«غري الإ�سالميني» يف اجلامعة وخارجها .علينا �أن نفت�ش
عن «الف�ساد» يف ه��ذه احلملة وم��ا �آل��ت �إليه من نتائج. ي���رى �أح����د ال��ك��ت��اب ��� -س��ل��ي��م��ان ب��ن �صالح
ما هو «خميف» يف نقد اخلطاب الديني ،هو قدرته على اخلرا�شي � -أن م�شروعك هو «و�ضع الت�صورات
الك�شف عن البنية الفكرية العميقة ملنطلقات اخلطاب املارك�سية وامل�ضامني املادية اجلدلية وتف�سرياتها
ال��دي��ن��ي ،بنية «التكفري» و«اح��ت��ك��ار احلقيقة» و«�إه���دار للحياة والكون والإن�سان والوحي والنبوة والغيب
ال�سياق» و«املغالطات الفكرية» و«تزوير التاريخ» .وهي بنية وال��ع��ق��ي��دة يف املعنى ال��ق��ر�آين ،في�صري ال��ق��ر�آن
يلتقي فيها االعتدال والتطرف كما يلتقي فيها ال�سيا�سي مارك�سي ًا ينطق با�سم مارك�س وفال�سفة املادية
والديني .من هنا �سمح ال�سيا�سي للديني مبحاولة اغتيال اجلدلية والهريمينوطيقا فيغري بذلك املفاهيم
«نقد اخلطاب الديني» بالقانون .لكن كما ت��رى م��ازال الرئي�سية للقر�آن ،ويلغي املعاين احلقيقية لل�سور
«نقد اخلطاب الديني» حي ًا وحراً. والآيات ،ويطم�س احلقائق الدينية التي ر�سخها
القر�آن وبينتها ال�سنة» ..ما تعليقك؟
ب�ي�ن ال��ن�����ص واحل��اك��م��ي��ة ت��ل��ت��ق��ي عنا�صر ال تعليق على كالم من هذا النوع.
اجل��م��اع��ات املعتدلة وامل��ت��ط��رف��ة ،ه��ل هذا
يرجع �إىل عدم نزول املثقفني العرب احلقيقيني كيف تف�سر وق��وع العامل الإ�سالمي �أ�سري ًا
�إىل هذا امليدان واختيار البعد عنه راحة للبال، للن�ص الديني والرتاثي يف ممار�سة حياته؟
�أم لأن ال�شعوب ت�أخذ الدين بوجهة نظر �أحادية هذا �س�ؤال معقد �أجبت عنه يف كتاباتي كلها و�آخرها بحث
�أم ماذا؟ مطول بالإنكليزية .لكن دعني �أفكك ال�س�ؤال ،فالعامل
ه���ذه ات��ه��ام��ات غ�ير �صحيحة ع��ل��ى الإط��ل�اق يف جانب الإ�سالمي لي�س �أ���س�ير ًا للن�ص ذات��ه بقدر ما هو �سجني
املثقفني وال�شعوب على ال�سواء .كما قلت :االلتقاء مل يكن تف�سري حم��دد للن�صو�ص ومعاجلة بعينها ل��ل�تراث كتب
بني املعتدلني واملتطرفني فقط ،بل التحالف غري املقد�س لهما ال�شيوع واالنت�شار لأ�سباب �سيا�سية واجتماعية.
بني ال�سيا�سي والديني ،وهو حتالف مت�أ�صل تاريخي ًا منذ ه��ذه التف�سريات واملعاجلات الب�شرية اكت�سبت قدا�سة
�صار النقا�ش الفكري �ش�أن ًا تتدخل فيه النظم ال�سيا�سية الن�صو�ص الأ�صلية ف�صار امل�سا�س بها نقد ًا وحتلي ًال قرين
فتن�صر هذا �ضد ذاك ،ثم حني تنقلب م�صاحلها تغري الكفر.
حتالفاتها فتحارب من كانت تن�صره منذ حني .ال حاجة ويف هذا االنحبا�س داخل تف�سري بعينه ومعاجلة بذاتها مت
لال�ستدالل على ذلك مبا قامت به «الدولة العبا�سية» يف تغييب تف�سريات ومعاجلات �أخرى يف الرتاث ذاته .مهمة
التدخل يف �ش�أن اجلدل الالهوتي حول القر�آن ،كما فعل البحث العلمي يف ق�ضايا ال�تراث والتف�سري الك�شف عن
القي�صر يف التدخل يف �ش�أن املجامع املقد�سة يف القرون هذه املعاجلات املُ َغيّبة ،والتوا�صل معها ،ولكن على �أر�ض
ال�سابقة على الإ�سالم. الواقع ولي�س على �أر�ض املا�ضي.
ونحن الآن يف �صخب «تعديل الد�ستور» �أج��دين يف �صف
59
انقالبات عديدة حدثت يف الهوية ال�سيا�سية للدولة العربية حوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
وار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
احلديثة ،وهي انقالبات مل مت�س هيكل الدولة التقليدي.
احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
كيف ت��رى ال��دور ال��ذي تلعبه ال�سيا�سة يف حوار احلوار
جتديد اخلطاب الديني؟
�إن��ه دور �سلبي يحوِّل الفكر الديني �إىل فكر براغماتي،
احلوار
احلوار احلوار احلوار ارحواراحلوار
احلوار احلوار
حلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
في�صبح التجديد ل��غ��و ًا م��ن ال��ق��ول وحت�سين ًا للقوارير احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار احلوار
احلاملة للفكر القدمي نف�سه .الحظ فزع امل�ؤ�س�سة الدينية
من ظاهرة «ال��دع��اة» و«املفتني» اجل��دد� .إن��ه �صراع بني
متناف�سني على ت��روي��ج ال�سلعة ذات��ه��ا� .أ�صبحت كلمة
«خ��ط��اب» تعني «اخل��ط��اب��ة» و«ال��وع��ظ» ،و�أ�صبحت كلمة ال��ق�لائ��ل ال��ذي��ن ي���رون ���ض��رورة �أن تتخلى ال��دول��ة عن الفكر
«جتديد» مرادفة ملقابلها ال�سيا�سي ال��رث «�إ���ص�لاح» .ال االنت�ساب �إىل «دين» بعينه ،فالدولة كائن معنوي .لعل هذه
ميكن جتديد اخلطاب الديني دون نقده� ،أي فح�صه نقدي ًا تكون نقطة البداية يف م�س�ألة «املواطنة» ،وجوهرها عدم جزء ال يتجز�أ
يف �سياقه التاريخي واالجتماعي .هكذا قال ال�شيخ «�أمني تدخل الدولة يف ال�ش�ؤون االعتقادية للمواطنني .الأزهر
م�ؤ�س�سة يجب �أن تتحرر من �أ�سر الدولة لتمار�س بحرية
من حركة
اخلويل» �شيخ املجددين�« :أول التجديد ،قتل القدمي بحثاً»،
فهل قتلنا القدمي بحث ًا �أم �ضيعناه وبددناه حني اخت�صرناه دورها التعليمي والدعوي وتتفاعل مع م�ؤ�س�سات املجتمع ال�صراع
الأخرى بد ًال من �أن تكون رقيب ًا عليها.
يف حمفوظات نرددها ب�أل�سن متباينة؟
رقابة الدولة على �ضمري امل��واط��ن ،ورقابة الأزه��ر على االجتماعي
الفكر ال��ذي تنتمي �إل��ي��ه والأ���س��ل��وب ال��ذي كل امل�ؤ�س�سات ،كلتاهما جزء من بنية الدولة البولي�سية وال�سيا�سي
التي �آن الأوان لتفكيكها لتحرير املواطن وحترير الفكر.
انتهجته يف جتديد ال��ق��ر�آن مل ي�ستمر منذ
هذه هي الأزمة التاريخية ولي�س تقاع�س املثقفني �أو غباء امل��ح��اوالت التي مت��ت يف ال��ق��رن الثالث الهجري
والثقايف
مرور ًا بابن ر�شد وحممد عبده وطه ح�سني و�أمني ال�شعوب.
اخل��ويل ،وحتى الباحث حممد �أحمد خلف اهلل
ك��ي��ف ت�ستخدم الأن��ظ��م��ة الديكتاتورية ور�سالته عن «التمثيل يف القر�آن الكرمي».
ال���رج���ع���ي���ة اخل����ط����اب ال���دي���ن���ي ك��غ��ط��اء �أال ترى �أن الفكر ال��ذي ال ي�ستطيع ال�صمود �أو
�أيديولوجي ..ومل��اذا ت��رى �أن �أ�صحاب اخلطاب �إثبات وجوده كل هذا الزمن فكر ه�ش و�ضعيف �أو
الديني مناه�ضون ملبادئ التجديد والتحديث خاطئ؟
من زعم «جتديد القر�آن» يا موالنا؟ وما معنى هذا الكالم والتطوير؟
الأن��ظ��م��ة ال��ع��رب��ي��ة وغ�ير ال��ع��رب��ي��ة يف ال��ع��امل الإ���س�لام��ي امللقى على عواهنه؟ كل من ذكرتهم معنيون بتجديد الفكر
اح��ت��اج��ت �إىل م�����ش��روع��ي��ة وج��دت��ه��ا يف ال��زع��م بحماية وجتديد املعنى الديني ،وهي عملية دونها ال ي�ستقيم �أمر
ال��ع��ق��ي��دة ،وه��و نف�س ال��زع��م ال���ذي انبنى عليه مفهوم �أمة �إذ تتجمد ثقافتها ،وهو ما نعانيه الآن .ومن �أهم �أ�س�س
«اخل�لاف��ة» يف الأدب��ي��ات ال�سيا�سية التقليدية .مناه�ضة جتديد املعنى الديني جتديد فهم ال��ق��ر�آن ،وه��و �أم��ر لن
التجديد والتحديث والتطوير مق�صورة على جمال الفكر يتحقق دون جتديد املناهج بالتوا�صل مع الفكر الإن�ساين
الديني ،باعتباره جما ًال للحقائق الثابتة التي يُع ُّد امل�سا�س يف علوم اللغة والبالغة وحتليل الن�صو�ص والهريمينوطيقا
وغريها بال خوف وال مهابة. بها م�سا�س ًا بالأنظمة ذاتها التي ي�سندها هذا الفكر.
وي�ستطرد د .ابو زيذ بعد توقف ق�صري وي�ضيف قائالً:
ما الذي حوّل املجتمع العربي من الت�سامح تتحدث عن «�صمود» الفكر كما لو كان الفكر ين�ش�أ يف فراغ،
ويحارب التقليد واالنغالق و�ضيق الأف��ق يف ف��راغ .الفكر �إىل التع�صب والتكفري؟
جزء ال يتجز�أ من حركة ال�صراع االجتماعي وال�سيا�سي من لعل كهذا. حوار يف بها عوامل كثرية ي�صعب الإمل��ام
�أه��م هذه العوامل و�أولها غياب «احل��ري��ات» ،وال �أق�صد والثقايف .ولو طبقت منطقك على حياتنا ال�سيا�سية لقلت
احل��ري��ات ال�����س��ي��ا���س��ي��ة ،ب��ل �أق�����ص��د «احل���ري���ة» مبعناها �إن النظام احلايل هو الأف�ضل للحكم لأنه عا�ش وا�ستمر
االجتماعي وال��ف��ك��ري والفل�سفي .غياب احل��ري��ة يخلق �أكرث من ربع قرن ،يف حني ف�شلت كل حماوالت �إ�صالح هذا
حالة من «االن�سداد» تبد�أ على امل�ستوى الفردي وتطال النظام وا�ستبدال نظام �أف�ضل به .يعني بعبارة �أخ��رى:
االجتماعي وال�سيا�سي والثقايف والفكري .العامل الثاين كل الأنظمة ال�سيا�سية الأخرى -احلرية والدميوقراطية
-وهو مرتبط بالأول -اخت�صار الهوية يف «الدين» وحده وتبادل ال�سلطة -ه�شة وفا�شلة وخاطئة .وباملثل ميكن
وتفتيت العنا�صر العديدة املكونة للهوية .هذا االخت�صار القول �إن كل املفكرين الذين عانوا اال�ضطهاد والإبعاد -
له جتليات يف كل مناحي احلياة :ال�سيا�سية واالجتماعية والقتل �أحياناً -كانوا فا�شلني و�أن �أفكارهم كانت خاطئة.
والفكرية والثقافية ،بل واللغوية .نحن الآن ب�إزاء اخت�صار ومع ذلك ف�إن ا�ستنتاجك نف�سه خاطئ ،فلوال ما �أجنزه
�آخر للهوية الدينية ذاتها �إىل �إما «�شيعي» و�إما «�سُ ني» ،ه�ؤالء املفكرون -الفا�شلون اخلاطئون بح�سب هذا املنطق-
وه��و اخت�صار وراءه ما وراءه .وراء ه��ذه االخت�صارات ما �سمعت من يقول الآن �إن حت�صيل «اجلزية» من الأقباط
60
ن�سقنا الثقايف يعتمد على الرواية -وهو �أمر من�صو�ص عليه يف القر�آن الكرمي ن�ص ًا قطعي
الداللة -كان ممار�سة تاريخية .ومع ذلك فالفارق بني من
ال�شفاهية مما يجعلنا �أ�سرى جهلنا �أو يقول ذلك وبني الفكر النقدي احلقيقي فارق �شا�سع� .إذ
تع�صبنا يعجز من يقول ذلك عن االع�تراف بالأ�صل الذي انبنى
عليه مثل هذا الر�أي� ،أ�صل �أنّ القر�آن «ن�ص تاريخي» .هذا
منوذج للتجديد الرباغماتي الذي حتدثت عنه فيما �سبق،
«مفهوم الن�ص» لي�س بحث ًا يف تاريخ القر�آن وهو جتديد فيه من اجلنب �أكرث مما فيه من الفكر.
ما االختالفات وما نقاط التالقي بينك وبني بقدر ما هو تناول لعلوم القر�آن الكال�سيكية
بحث ًا عن مفهوم الن�ص ه�ؤالء الذين ذكرتهم يف ال�س�ؤال ال�سابق؟
الفارق �أنهم عا�شوا ع�صورهم و�أنا �أعي�ش ع�صري ،ا�ستلهم
من �إجنازاتهم و�أقدرها دون �أن �أحولها �إىل �أغنية �أرددها.
املق�صود �أنني �أتوا�صل معهم منذ املعتزلة وحتى ال�شيخ ممكن يف ن�سق ثقايف يعتمد على الرواية ال�شفاهية .نف�س
�أمني اخلويل توا�ص ًال نقدي ًا �أ�ؤكد به تلمذتي احلقيقية لهم الأمر حدث مع «�أوالد حارتنا» حني �سمع �شاب من خطيب
وقدرتي على ا�ستيعابهم وعلى جتاوزهم يف نف�س الوقت .م�سجد عن كفر م�ؤلفها ،وقل ما �شئت.
حني كتبت «مفهوم الن�ص» مل��اذا ا�ستبعدت ح�صلت على جائزة اب��ن ر�شد للفكر احلر،
ق�ضايا ه��ام��ة ومتعلقة بالن�ص مثل حال وبينك وبني م�سرية ابن ر�شد ت�شابه وا�ضح
اللغة العربية �أيام الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم ���س��واء يف تطبيق امل��ن��ه��ج ال��ع��ق�لاين للبحث �أو
وجمع القر�آن بها يف عهد �سيدنا عثمان ولي�س يف الت�صادف يف حرق كتب ابن ر�شد وحترمي الفل�سفة
عهد الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم ،وخلو اللغة وطرده من الأندل�س ،وحماكمتك بدعوى احل�سبة
العربية من التنقيط وعالقتها بالن�ص القر�آين والتفريق بينك وبني زوجتك وحرمانك من نيل
وقد�سيته؟ درجة الأ�ستاذية يف جامعة القاهرة وطردك من
يعني �أن��ت حتر�ضني على مزيد من الكفر بح�سب قول م�صر ..كيف ترى التالقي واالختالف بينكما؟
املتع�صبني� .إذا كان مفهوم الن�ص خال من مناق�شة هذه وهل هذا هو م�صري من يت�أمل ويبحث منذ قدم
الق�ضايا ،فلأنه لي�س بحث ًا يف تاريخ القر�آن بقدر ما هو التاريخ وحتى الآن؟
تناول لعلوم القر�آن الكال�سيكية بحث ًا عن مفهوم للن�ص. قد تكون هناك نقاط ت�لاق كثرية ،وه��ذا يك�شف جتمد
هذا «املفهوم» الذي تو�صلت �إليه �أثار ما �أثار بعد �أن زيّف املجتمعات العربية� .أزمة ابن ر�شد تُر ّد �إىل حر�ص ال�سلطة
معناه املزيفون .ومع ذلك ف�أنا الآن ب�صدد بحث جديد عن على مغازلة العامة من خالل الفقهاء .ولذلك حني �أرادت
القر�آن رمبا يكون مبثابة «زيارة جديدة». فر�ض �ضرائب جديدة ا�شرتط الفقهاء نفي اب��ن ر�شد
وحرق كتبه ،وقد كان .لكن ابن ر�شد جتاوز �أزمة «النفي»
ها �أنت ترى مثل لوي�س عو�ض يف كتابه امل�صادر و«احل���رق» لأن��ه مفكر �أ�صيل ،فعا�شت �أف��ك��اره وتطورت
«يف فقه اللغة العربية» �أن القر�آن �أوحي به و�أحدثت �أثرها يف �سياق �آخر قدّرها و�أفاد منها .الأزمة
�إىل الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم ،والر�سول �صلى هي يف جوهرها� :سلطة �سيا�سية عاجزة عن التوا�صل مع
اهلل عليه و�سلم قام ب�صياغته بعد ذلك باللغة املجتمع �إال من خالل و�ساطة الفقهاء با�سم احلفاظ على
العربية� ..أما زلت عند هذا الر�أي؟ الثوابت وحماية العقائد� ..إلخ .ولأن هذه ال�سلطة هجينية
وه��ل يعقل �أن ي�ستطيع ب�شر و���ض��ع ك�لام بهذا التكوين جتدها «مدنية» يف القانون التجاري واجلنائي،
الأ�سلوب ودون خط�أ واحد وبطريقة يعجز باقي «دينية» يف الأح��وال ال�شخ�صية .وهي الآن حتاول اللعب
الب�شر عن �صياغتها؟ على احلبلني :حبل «مبادئ ال�شريعة هي امل�صدر الرئي�سي
�أوالً ،ال �أدري من �أين �أتيت ب�أنني �أرى هذا الر�أي ،و�أكاد للت�شريع» وحبل «ال �أح��زاب على �أ�سا�س ديني» ،في�صبح
�أ�شك �أن لوي�س عو�ض ك��ان معني ًا يف كتاب «فقه اللغة» «الدين» م�ؤمماً .كيف تتخيل فكر ًا حر ًا يزدهر هنا؟ هل
بهذه الق�ضية� .أراك �أي�ض ًا -وهذا م�ؤ�سف -تعتمد على هذا قدر ال فكاك منه؟ كال بالقطع فالفكر احلر يقاوم.
ال�سماع .ومع ذلك فالق�ضية لي�ست جديدة ،فال�سيوطي يف
كتابه «الإتقان يف علوم القر�آن» يورد ر�أي ًا فحواه �أن القر�آن تقول �إن طه ح�سني عندما حذف العبارات
�أنزل على قلب حممد «�أنزله على قلبك» بن�ص القر�آن، امللتهبة من كتابه «يف ال�شعر اجلاهلي» مل
وهذا معناه كما يذهب �أ�صحاب هذا الر�أي �أن املعنى �إلهي يتنازل عن منهج ال�شك الديكارتي ..كيف؟
واللفظ ملحمد .هذا ر�أي قدمي �إذن ولي�س بدعة جديدة. حذف طه ح�سني العبارة التي �أثارت ثائرة املتع�صبني� ،أما
م�س�ألة لغة ال��ق��ر�آن و�أ���س��ل��وب��ه ونظرية �إع��ج��ازه اللغوي منهج البحث فقد ظل هو هو ،بل ات�سع تطبيقه يف كتاب
والبالغي م�س�ألة �أي�ض ًا حتتاج لفح�ص نقدي تاريخي «يف الأدب اجلاهلي» .ما �أثار املتع�صبني �ضد الرجل كان
بخ�صو�ص «التحدي» ومعناه وداللته. عبارة انتزعت من �سياقها ومت تزييف دالالت��ه��ا .وهذا
61
ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ق�صة ق�صة
صو�ص ن�صو�ص
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
الن�سنا�س
ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ق�صة ق�صة �صة ق�صة ق�صة ق�صة
يف هجاء الب�شر ومـــديح القـرود
63
احليوان �أتفاداها و�أم�ضي يف طريقي و�إمنا جرية م�ستمرة، ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ورفاق يف الإقامة التي �سوف ت�ستمر مدة ا�ستمراري يف هذا
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
العمل ،و�شعب من القرود ي�ستوطن هذه الأ�شجار ويتقافز
عربها بحرية ،وهي �أ�شجار مو�صولة بحديقة البيت الذي
�أ�سكنه واملدر�سة التي �أعمل بها ،و�صار همي و�أنا �أذهب
ق�صة ق�صة
صو�ص ن�صو�ص
ب�صحبة زوج���ي �إىل امل��در���س��ة وال��ت��ق��ي ببع�ض اجل�يران �صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
و�أ�صحاب احلوانيت هو �أن �أ���س���أل ه���ؤالء النا�س الذين ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ق�صة ق�صة �صة ق�صة ق�صة ق�صة
يقيمون �إقامة دائمة ب�صحبة الن�ساني�س كيف يتعاملون
معها ونوع امل�ضايقات التي يلقونها منها ،فكانت الردود
تختلف من واحد �إىل �آخر ،فهناك من يعرب عن �إعجابه
بها ويجد يف �صحبتها ت�سلية وترفيهاً ،وهناك من يجدها
�إزعاج ًا ب�سبب ما ي�صدر عنها من �أ�صوات ،وما تقوم به
من م�ضايقات ل�سائقي ال�سيارات ،خا�صة عندما تختار �أن
تقفز فوق مقدمة ال�سيارة وهي جتري ،ومت�سك مبم�سحتي
الأمطار وتلت�صق بالزجاج فتحجب الر�ؤية عن ال�سائق،
الذي ي�ضطر �إىل �إيقاف ال�سيارة ،بطريقة فجائية تخالف
قواعد ال�سالمة ،ليق�ضي وقت ًا يف �إزاح��ة هذه احليوانات
املزعجة من فوق �سيارته� ،إال �أنني مل �أ�سمع �أي �شيء عن
�سلوك عدواين �آخر تقوم به� ،أو �إ�شارة �إىل ما جاء ذكره
يف كتاب اجلاحظ ،ومل يكن ممكن ًا طبع ًا �أن �أف�صح عن
هواج�سي و�أ�سال �أي �أحد �س�ؤا ًال مبا�شر ًا عن ذلك املو�ضوع
الذي �أورثني كراهية القرود واخل��وف منها ،وق��ررت �أن
�أكتم خويف و�أال �أعكر �صفو احلياة التي �أعي�شها مع زوجي
بالتعبري �أو احلديث عن �أية خماوف �أعاين منها ،خا�صة
�أنني �أ�سري يف طريق الذهاب �إىل املدر�سة �أو العودة منها
و�أن��ا يف �صحبته وحمايته مطمئنة �إىل �أنني ال �أواج��ه �أي
خطر من هذه الن�ساني�س التي كان زوجي يبدي تلطف ًا معها
ويتعمد �أن ي�ضع يف جيبه �شيئ ًا من اللوز �أو الفول ال�سوداين
يقدمه طعام ًا لها ،وهو يعرب عن �إعجابه بهذه الكائنات
امل�ساملة اللطيفة الذكية� ،سعيد ًا بهذا احلظ الذي جعلنا
جناور غابات م�أهولة مبثل هذه القرود امل�ساملة التي تكاد
من فرط ذكائها �أن ت�صبح ب�شراً ،ولي�ست كغابات �أخرى
ت�سكنها ال�ضباع والذئاب و�أحيان ًا حيوانات �أ�شد �شرا�سة
وفتك ًا كالنمور والأ���س��ود ،ومل �أ�ستطع �أن �أرد عليه مبا
يخطر على ذهني من ردود ب�أن هذا يجعلها �أكرث خطراً،
و�أدعى ملثلي �أن يخ�شاها باعتبارها �أقرب يف طبيعتها �إىل
الإن�سان ،وميكن �أن متار�س بع�ض �سلوكيات الب�شر ب�أ�سلوب
حيواين وترتكب �أعمال االغت�صاب مع الن�ساء كما ينزو
ذكر احليوان على �أنثاه.
كانت الأيام الأوىل حت�ضري ًا للعام الدرا�سي و�إعداد ًا له،
حيث ي�شارك كل املدر�سني وامل��در���س��ات يف جل��ان وفرق
عمل تعمل يف الفرتة ال�صباحية حتى منت�صف النهار،
�إال �أن امل�س�ألة اختلفت عندما انتظمت الدرا�سة ومت توزيع
املدر�سني على خمتلف احل�ص�ص والف�صول ،فالدرا�سة
تتوا�صل طوال �ساعات النهار ،ومل يكن جدول احل�ص�ص
ال��ذي يقدمه زوج��ي متوافق ًا مع ج��دول احل�ص�ص التي
�أقدمها ،بل �صار ذهابي �إىل املدر�سة يتوافق مع موعد
عودته وانتهائه من تقدمي درو�سه ،ومل يعد متي�سر ًا �أن
�أذهب ب�صحبته �إىل املدر�سة كما مل يكن ممكن ًا �أن �أفكر
جمرد التفكري يف قطع امل�سافة بني البيت واملدر�سة ،رغم
ق�صرها ،مبفردي ،وكان احلل الذي اهتديت �إليه هو �أن
64
كانوا يتمرغون يف الأوح��ال ،يتبادلون نظرات مريبة ثم اتفق مع فاطمة ،ال�صبية الرببرية ال�صغرية ذات اخلم�سة
يتجهون بهذه النظرات يل وللفتاة التي معي وقد وقفنا ع�شر عاماً ،التي ت�أتي ملدة �ساعتني كل يوم مل�ساعدتي يف
يف حالة ترقب وتوج�س ،قبل �أن نرى �أحد الثالثة ،وكان �أعمال البيت ،على مرافقتي يف م�شوار الذهاب والعودة
�أك�ثر من �صاحبيه ط��و ًال وامتالء ،يهيب بهما �أن ي�سرعا عرب ه��ذا الطريق امل���أه��ول بالن�ساني�س ،ومل �أج��د م�برر ًا
قبل هروب الفتاة ال�شلحية وامل��ر�أة امل�صرية ،مما جعلنا �أم��ام زوج��ي ،و�أم��ام جمتمع املدر�سة ال��ذي �صار ي�شاهد
ننتبه �إىل �أن��ه ينوي بنا �شراً ،فرك�ضنا عائدتني باجتاه هذه الفتاة تودعني عند باب املدر�سة وتنتظرين لرتافقني
القرية� ،إال �أن ال�شبان الثالثة رك�ضوا خلفنا ،و�أ�سرع عند امل��غ��ادرة ،غري القول �إن دواع��ي احلمل تقت�ضي �أن
�أحدهم ي�سبقنا وي�سد الطريق �أمامنا ،بحيث �أفلحوا يف �أ�ستعني بهذه الفتاة يف حمل حقيبة الكتب والكراري�س،
حما�صرتنا ومنعنا من الهروب و�أخ��رج �أحدهم �سكينا بينما كان العمل احلقيقي لهذه الفتاة الرببرية التي جتيد
ي�شهره يف وجهي ووج��ه الفتاة التي معي ،طالب ًا منا �أن احلديث باللغة العربية ،هو �أن تلهيني عن االنتباه لهذه
ندخل �أمامه و�سط الغابة ،وب�سرعة طويت املظلة و�ضربت الن�ساني�س ،وت�شغلني بحديثها عن الهواج�س واملخاوف
بها يده التي حتمل ال�سكني حتى طار ال�سكني بعيداً� ،إال التي تراودين �أثناء مروري بجوارها ،ومع انق�ضاء �أ�شهر
�أن رفيقه حلق به وعاد يهددنا وهو ي�شهره يف وجهينا ،يف اخل��ري��ف ،وان��ت��ه��اء الأوق����ات امل�شم�سة ،وان��ق�لاب اجلو
حني ت�صاعد �صراخنا �أنا وفاطمة نطلب النجدة ،دون �إىل غيوم و�أمطار وبرد كما هي طبيعة ف�صل ال�شتاء يف
�أن يكون ه��ذا ال�صراخ رادع�� ًا لل�شبان الثالثة ،مينعهم تلك املناطق اجلبلية امل�شهورة مبنتجعات التزحلق على
من موا�صلة حتر�شهم بنا وتهديدهم لنا وحماولة �سحبنا اجلليد ،بد�أت الن�ساني�س تغيب من �أماكنها املعهودة فوق
داخل الغابة ،ويف حني جنحوا يف جر فاطمة ف�إنني دخلت �أغ�صان الأ�شجار ،بل تختفي نهائي ًا عن الأنظار ،هاربة
يف معركة معهم باملظلة وعندما �أفلحوا يف انتزاعها مني من ه��ذا ال�صقيع لالحتماء ب���أدغ��ال بعيدة ،و�شقوق يف
ارمتيت فوق الأر���ض� ،أم�سك ب�أع�شابها وترابها ،راف�ضة اجلبال املجاورة� ،إىل حد �أنني فكرت يف �إعفاء ال�صبية
�أن ا�ست�سلم الثنني منهم يحاوالن ج��رّي بالقوة للحاق الرببرية من مرافقتي توفري ًا لأجرتها ،لوال �أنني كنت �أملح
بزميلهما الذي �أم�سك بفاطمة قريب ًا من �إحدى الأ�شجار، بني احلني والآخر وجه ن�سنا�س يطل بني �أغ�صان �شجرة
دون �أن تتوقف هي �أي�ضا عن �إطالق �صراخها كما وا�صلت بعيدة ،ف�أعرف �أن وجود هذه الن�ساني�س يف هذه البقعة
�أن���ا �أي�ضا ال�����ص��راخ ب�أق�صى م��ا يف حنجرتي م��ن ق��وة، من الأر����ض ق��در ال ه��روب منه ،طاملا �أرغمتني ظروف
ورغ��م ال�سيارة التي توقفت يف عر�ض الطريق ،والرجل العمل على الإقامة يف هذه البلدة ،و�أنه ال�سبيل لأن �أن�سى
الذي خرج منها �صائح ًا يف �أوجه ال�شبان �أن يتوقفوا عن خويف منها حتى وهي تتوارى بعيد ًا داخ��ل الغابة ،لأنها
اال�ستمرار يف �سلوكهم العدواين الإج��رام��ي ،فلم يظهر مهما ابتعدت فالبد �أن ترتك ممث ًال لها يذكرين بها ،بل
عليهم �أي خوف �أو رغبة يف العدول عن هجومهم .وا�صل �إن هواج�سي ازدادت ا�ستعار ًا عندما ر�أيت يف �سوق البلدة
االثنان حماولة جرّي فوق الأر�ض ،و�أم�سك الثالث بفاطمة �صبي ًا �صغري ًا كثيف ال�شعر ،يغطي ال�شعر الأ�سود الغزير
راف�ض ًا �أن يرتكها تنفذ من قب�ضته ،و�أكرث من ذلك �أطلقوا ذراعيه و�ساقيه ،مما جعلني ال �أ�شك حلظة واحدة ب�أن
تهديداتهم يف وج��ه الرجل ال��ذي ج��اء يحاول جندتنا، �أمه قد �أجنبته بعد �أن تعر�ضت لالغت�صاب من قبل هذه
قائلني له ب�أن يبتعد عن طريقهم �إذا �أراد لنف�سه ال�سالمة، القرود� .أعرف �أنني حامل ،و�أن هذا العمل يع�صمني من
فعاد �إىل �سيارته ي�ضرب نفريها ب�شكل متوا�صل ،مثري ًا ال��وق��وع يف مثل ه��ذا البالء ال��ذي وقعت فيه �أم ال�صبي
�أكرب قدر من ال�ضو�ضاء ،ظهر �إثر ذلك �أكرث من مزارع الكثيف ال�شعر عندما تعر�ضت الغت�صاب القرود ،ولكنني
يحمل ف�أ�س ًا �أو رف�ش ًا �أو معوالً ،مما �أنزل الرعب يف قلوب �س�أ�صاب مبحنة �أكرب من حمنتها لأنني �إن مل �أفقد حياتي
ال�شبان الثالثة ،ورك�ضوا هاربني و�سط الأدغال ،وتعاون ف�س�أفقد عقلي و�س�أفقد بالت�أكيد اجلنني الذي يف �أح�شائي
ه���ؤالء الرجال على نقلي ونقل فاطمة �إىل ال�سيارة ،كي لو تعر�ضت ملثل هذا االعتداء ال �سمح اهلل .كان هناك
ت�أخذنا �إىل م�ستو�صف البلدة كما اقرتح �سائقها ،ملداواة رذاذ خفيف ،توافق نزوله مع موعد ذهابي �إىل املدر�سة،
ما حلقنا من جروح وخدو�ش �إثر مقاومتنا لهذا االعتداء، ف�أخذت معي املظلة وطلبت من فاطمة �أن تلت�صق بي و�أنا
ومل �أعرت�ض فهي منا�سبة �أي�ض ًا لأن �أطمئن على اجلنني �أن�شرها فوق ر�أ�سي ور�أ�سها لكي تتقي هي الأخرى ابتالل
الذي �أحمله ،ب�أمل �أال يكون قد حلقه بع�ض الأذى �إثر هذه مالب�سها والكراري�س التي معها بهذا ال��رذاذ� ،سائرين
ال�صدمة ،ور�أيت ،وال�سيارة تتحرك بنا عرب الطريق الذي باجتاه املدر�سة ،نخرتق �أ�شجار الغابة ،ندرد�ش ونت�ضاحك
حتفه الأ�شجار ،وجه ن�سنا�س �صغري يطل من بني الأغ�صان دون �أن يعكر �صفونا وجود �أي ن�سنا�س فوق هذه الأ�شجار،
وينظر نحوي بعينني متتلآن ف�ضوال ،ف���أدرت ر�أ�سي نحو وعند و�صولنا �إىل نقطة يف منت�صف الطريق ،تزداد فيها
هذا الن�سنا�س من �إزرو� ،أنظر �إليه ب�أ�سف واعتذار ول�سان الأ�شجار ج�سامة وكثافة ،وتت�شابك لت�صنع ما ي�شبه الدغل
حايل يطلب ال�صفح منه ،لأنني ظلمته وظلمت القرود من ال��ذي ق��د يغري الن�ساني�س باالحتماء حتته م��ن املطر،
بني قومه ،عندما اعتربتهم م�صدر خطر وتهديد حلياتي ازددت اطمئنان ًا و�إح�سا�س ًا بالأمان حلظة �أن تطلعت فلم
وعفتي وحياة وعفاف كل الن�ساء ،بينما اخلطر كان يكمن �أجد �أث��ر ًا لهذه القرود� ،إال �أن حركة مبهمة تناهت �إيل
يف ن��وع من الب�شر ،ت�ستحي وحو�ش الغابة من �أفعالهم من بني هذه الأ�شجار الكثيفه �أزالت هذا ال�شعور وجعلتني
وترف�ض الهبوط �إىل الدرك الأ�سفل من اخل�سة والنذالة �أحتفز و�أتهي�أ لظهور هذه الكائنات الكريهة ،ولكن الذي
والوح�شية الذي هبطوا �إليه. ظهر من بني كثافة الأ�شجار مل يكن قرد ًا �أو عدة قرود،
و�إمنا ثالثة �شبان ،لهم �شعور منفو�شة ومالب�س رثة ك�أنهم
65
ق�ضية العدد
66
الت�سامح
التطرف و
يف الأ�سا�س كان الت�سامح ..وال يزال.
�إنه قبول الآخر ،وجود ًا ور�أي ًا ،تعبري ًا وتطلعات .وكي
نقبل الآخر البد من بوابة للعبور� .إنها بوابة املعرفة.
معرفته وا�ستيعاب فكره .حينها يكون الدخول يف
العمق الإن�ساين ُمتاح ًا ..ال بل هو واجب.
فالأديان يف جوهرها الأ�سمى� ،إميان وممار�سة.
و�أف�ضل الدروب امل�ؤدية �إىل رقي املمار�سة هو الت�سامح.
لأنه من دون الت�سامح ال قبول للمختلف وال تف ّهم له.
ويف هذا ت�صادم م�ستمر وجمابهات تتوالد وتتنا�سل
حتى الدمار.
فلقد �أر�سل اهلل �أنبياءه وح ّملهم كتبه لي�صلح ما اعوج
يف خلق الب�شر� .أراد �إرجاعهم �إىل ال�صراط امل�ستقيم
ب�إبعادهم عن االنهيارات الأخالقية التي نخرتهم
و�شوهت ال�صورة التي �أرادها اهلل لهم حني َب َر�أهم.
يف هذا امللف املتعدد الأ�صوات والنربات وامل�شارب ،تفتح
«الدوحة» الباب وا�سع ًا �أمام قبول الآخر والإ�صغاء
�إليه ومعرفته وحماورته ،ال حلمله على تغيري عقائده،
و�إمنا للتفاعل معه وااللتقاء مع ًا على ممار�سة �إن�سانية
�صافية وراقية.
متعددة التوجهات ،ت�ضيء�إنه ملف ي�ضم �أ�صوات ًا عربية ّ
�شمعة ،ولو ب�سيطة ،ملكافحة عتمة التطرف .فلي�س من
طبيعتنا �أبد ًا �أن نكتفي ب َل ْعن الظالم!
67
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
ق�ضية العدد ق�ضية العدد
العدد ق�ضية ا
عدد ق�ضية العدد
العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
ثقـــافة الت�سامح
عند امل�سلمني
بقلم �أ.د :يو�سف القر�ضاوي
رئي�س االحتاد العاملي لعلماء امل�سلمني
68
ال�صدام ،والرفق ال العنف ،والرحمة ال الق�سوة ،وال�سالم من �أ�شد الأمور خطر ًا ،والتي ته ّدد املجتمعات بالتمزّق
ال احلرب. وال��ت��ع��ادي ،ب��ل ق��د تف�ضي �إىل ا�شتعال احل���روب بني
وم�صادر ثقافة الت�سامح ل��دى امل�سلم كثرية و�أ�صيلة. املجتمعات بع�ضها ببع�ض ،بل بني �أبناء املجتمع الواحد،
و�أعظمها بال ريب هو :القر�آن الكرمي؛ الذي �أ�س�س �أ�صول التع�صب.
والوطن الواحدّ :
الت�سامح ،ور�سخها يف �سوره املكية واملدنية ،ب�أ�ساليبه بالتع�صب اع��ت��زاز الإن�����س��ان بعقيدته �أو
ّ ولي�س امل���راد
البيانية املعجزة ،التي تخاطب الكيان الإن�ساين كله، ب�أفكاره التي اقتنع بها مبح�ض اختياره ،فهذا ال ميكن
فتقنع العقل ،ومتتع العاطفة ،وحترك الإرادة .و�سريى بالتع�صب انغالق املرء على عقيدته ّ �أن يعاب� .إمنا املراد
القارئ الكرمي �أن الدعائم ال�شرعية واملنطقية التي �أو فكره ،واعتبار الآخرين جميع ًا خ�صومه و�أع��داءه،
�سنعتمد عليها يف الدعوة �إىل الت�سامح و�إ�شاعته وتثبيته وتوج�س ال�ش ّر منهم ،و�إ�ضمار ال�سوء لهم ،و�إ�شاعة جو من
م�ستمدة من القر�آن �أ�سا�س ًا. العنف والكراهية لهم ،مما يفقد النا�س العي�ش يف �أمان
وبعد ذلك ت�أتي ال�سرية وال�سنة النبوية �شارحة مو�ضحة واطمئنان .والأمن نعمة من �أعظم نعم اهلل على الإن�سان،
الدرجة الدنيا ومف�صلة ،فال�سنة هي البيان النظري ،والتطبيق العملي لهذا امنت اهلل على قري�ش فقال:
َات َوال ُّز ُبرِ َو�أَ ْنزَ ْلنَا �إِ َل ْي َك الذِّ ْك َر
للقر�آن ،كما قال تعاىل«:با ْل َب ِّين ِ « َف ْل َي ْع ُب ُدوا َر َّب َهذَ ا ا ْل َب ْي ِت ال َِّذي �أَ ْط َع َم ُه ْم ِم ْن ُج ٍوع َو�آَ َم َن ُه ْم
للت�سامح َّا�س َما ُنزِّ لَ �إِ َل ْيهِ ْم َو َل َع َّل ُه ْم َي َت َف َّك ُر َون» (النحل.)44:
ِل ُت َبينِّ َ ِللن ِ ِم ْن خَ ْو ٍف» (قري�ش .)4،3:واعترب القر�آن اجلنة دار �أمن
�أن تدع وي���أت��ي ب��ع��د ذل���ك ع��م��ل ال�صحابة ر���ض��ي اهلل عنهم، الم �آَ ِم ِن َني» (احلجر.)46:واعترب �شر وها ب َِ�س ٍ كامل« :ا ْدخُ ُل َ
خ�صو�ص ًا اخللفاء الرا�شدين ،و�سنتهم امتداد ًا ل�سنة ما ت�صاب به املجتمعات :اجلوع واخلوف ،فقال تعاىل:
ملخالفك النبي ،وهم تالميذ مدر�سة النبوة ،بها اقتدوا فاهتدوا، « َف�أَذَ ا َق َها اللهَّ ُ ِل َب َ
ا�س الجْ ُ ��و ِع َوالخْ َ ْ���و ِف بمِ َ ا َكا ُنوا َي ْ�ص َن ُع َ
ون»
حرية دينه وعلى �ضوئها اقتب�سوا ت�شريعاتهم وتوجيهاتهم ،فهدوا
�إىل �صراط م�ستقيم.
(النحل.)112:
وم��ن ال��ن��ا���س م��ن يت�صور �أن الإمي����ان ال��دي��ن��ي م�لازم
وعقيدته.. كما ن�ست�أن�س �أي�ض ًا ب�أقوال �أئمة الأمة وفقهائها وعلمائها للتع�صب ال يفارقه ال حمالة .لأن امل�ؤمن بدينه يعتقد �أنه
والعليا �أال ال��را���س��خ�ين ،ال��ذي��ن ه��م ورث���ة ال��ن��ب��وة ،وحملة علمها،
ينفون عنه حتريف املغالني ،وانتحال املبطلني ،وت�أويل
على احلق ،وما عداه على الباطل ،و�أن �إميانه هو �سبيل
النجاة ،وم��ن مل يتم�سك بعروته الوثقى مل يهتد �إىل
ت�ضيق على اجلاهلني. طريق اخلال�ص ،و�أن من مل ي�ؤمن بكتابه املنزل ،وبنبيه
وم���ن م�����ص��ادر ث��ق��اف��ة ال��ت�����س��ام��ح ل���دى امل�����س��ل��م ال��واق��ع املر�سل ،فهو ذاهب �إىل اجلحيم ،وال تنفعه �أعمال اخلري
املخالفني التاريخي ،لأن الإ�سالم ،بهذا التاريخ قام على الت�سامح التي قدمها ،لأنها مل تنب على الإميان ،فال قيمة لها عند
فيما يعتقدون مع املخالفني ،مل يخالف يف ذلك خليفة �أو �سلطان� ،أو اهلل .كما قال تعاىل:
قائد � ،أو وزير يف امل�شرق واملغرب ،يف خالفة بني �أمية، « َوا َّل ِ��ذي َ��ن َك َف ُروا �أَ ْع َما ُل ُه ْم َك َ�س َر ٍاب ِب ِقي َع ٍة َي ْح َ�س ُب ُه َّ
الظ ْم َ�آ ُن
حله يف �أو بني العبا�س� ،أو بني عثمان .ولقد �شهد بذلك م�ؤرخون َما ًء َحتَّى �إِذَ ا َج��ا َء ُه لمَ ْ َيجِ ْد ُه �شَ ْيئ ًا» ( النور ،)39:وكقوله
دينهم �أو من�صفون من الغربيني وغريهم ،ونقلنا ذلك عنهم يف ين َك َف ُروا ِب َر ِّبهِ ْم �أَ ْع َما ُل ُه ْم َك َر َم ٍاد ا�شْ َت َّد ْت
تعاىل«َ :م َث ُل ال َِّذ َ
�أكرث من كتاب لنا ،منهم توم�س �أرنولد ،وغ�ستاف لوبون، ون ممِ َّ ا َك َ�س ُبوا َع َلى �شَ ْي ٍء» ا�ص ٍف لاَ َيق ِْد ُر َ ِب ِه ال ِّر ُيح فيِ َي ْو ٍم َع ِ
مذهبهم وغريهما. (�إبراهيم .)18:وه��ذه الت�صورات ل�ل�آخ��ري��ن تن�شئ
العداوة والبغ�ضاء بني النا�س بع�ضهم وبع�ض ،وكثري ًا ما
خ�صائ�ص ثقافة الت�سامح الإ�سالمي ت�ؤدي �إىل حروب دموية بني الطوائف وال�شعوب املختلفة
ديني ًا.
ولثقافة الت�سامح الإ�سالمي خ�صائ�ص متعددة ،بيد
�أن هناك خ�صي�صة مهمة ،وهي �أن �صبغتها الدينية، م�صادر ثقافة الت�سامح لدى امل�سلم
وم�صدرها الرباين ،وانبثاقها �أ�ص ًال من الأوامر الإلهية،
والتوجهات النبوية جتعل لها �سلطة على امل�سلمني ،نابعة كما �سجل ذلك التاريخ يف ع�صوره املختلفة بني الأديان
من قلوبهم و�ضمائرهم ،يذعنون لها ،ويحر�صون على بع�ضها وبع�ض؛ كما ب�ين امل�سلمني وال��ن�����ص��ارى ،وبني
تنفيذ �أحكامها ،بدافع من �إميانهم ،وخ�شية لربهم. الطوائف واملذاهب الدينية داخل الدين الواحد ،كما بني
وف��رق بني �سلطة القوانني الو�ضعية التي يحاول كثري الكاثوليك والربوت�ستانت ،وكذلك ال�سنّة وال�شيعة .فما
من الأفراد التحلل منها ،والتحايل على �أحكامها ،وبني احلل �أمام هذه امل�شكالت الفكرية والعملية التي تتج�سد
الأحكام الإلهية ،التي ب�شر امل�ؤمنون بها �أنهم باحرتامها يف الواقع ،ومتثل حتديات حتتاج �إىل مواجهة ،وت�سا�ؤالت
واتباعها ،يك�سبون ر���ض��وان اهلل ت��ع��اىل ،ومثوبته يف تفتقر �إىل �أجوبة؟
الآخرة ،و�سكينة النف�س ،وراحة ال�ضمري يف الدنيا ،كما و�أود �أن �أبادر هنا ف�أقول:
قال تعاىل«َ :م ْن َع ِم َل َ�صالحِ ًا ِم ْن ذَ َكرٍ �أَ ْو �أُ ْن َثى َو ُه َو ُم�ؤ ِْم ٌن �إن الإ�سالم قد عالج هذه الت�صورات النظرية ،وامل�شكالت
العملية ،من خالل ثقافة �أ�صيلة وا�ضحة �أ�س�سها و�أر�ساهاَ ،ف َلن ُْح ِي َي َّن ُه َح َيا ًة َط ِّي َب ًة َو َلن َْجزِ َي َّن ُه ْم �أَ ْج َر ُه ْم ِب�أَ ْح َ�سنِ َما َكا ُنوا
وعلمها لأبنائه ،وهي ثقافة ت�ؤ�س�س الت�سامح ال التع�صبَ ،ي ْع َم ُل َون» (النحل.)97:
والتعارف ال التناكر ،واحل��ب ال الكراهية ،واحل��وار ال
69
الأديان كلها �إال دينه؟ �إنه لو فعل هذا مل يكن م�صريه �إال �ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
اخليبة والإخفاق ،وانت�صار م�شيئة اهلل الواحد القهار. ق�ضية العدد ق�ضية العدد
- 3ح�ساب املختلفني �إىل اهلل يوم القيامة
وال��رك��ي��زة الثالثة� :أن ح�ساب املختلفني يف دياناتهم
ومذاهبهم واجتاهاتهم الدينية والأخالقية التي ن�ش�أوا
العدد ق�ضية ا
عدد ق�ضية العدد
عليها ،لي�س �إلينا ،ولكن �إىل خالق اجلميع� ،إىل اهلل العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
وح��ده ،ولي�س يف ه��ذه الدنيا ،ولكن يف ال��دار الآخ��رة، دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
ي��وم القيامة .وه��ذا ما ق��رره ال��ق��ر�آن يف موا�ضع �شتى.
وك َفقُلِ اللهَّ ُ �أَ ْع َل ُم
يقول تعاىل خماطب ًا ر�سولهَ « :و�إِ ْن َجا َد ُل َ
ون ،اللهَّ ُ َي ْح ُك ُم َب ْي َن ُك ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة ِفي َما ُك ْنت ُْم ِفي ِه بمِ َ ا َت ْع َم ُل َ الركائز العقدية والفكرية للت�سامح الإ�سالمي
ُون» (احلج .)68،69:ويف �سياق �آخر يقول له يف تَخْ َت ِلف َ
ا�س َت ِق ْم َك َما �أُ ِم ْر َت َوال َت َّت ِب ْعو ع د َا
ف كَ ِ
ل ذَ ِ
ل َ
ف « الكتاب: أهل �ش�أن � تقوم ثقافة الت�سامح عند امل�سلمني على جملة من الركائز
ُْ َ ْ العقدية والفكرية ،بيانها فيما يلي:
َ ُ
َاب َو�أ ِم�� ْر ُت ِ أل ْع ِدلَ ُ للهَّ
�أَ ْه َوا َء ُه ْم َو ُق ْل � َآمن ُْت بمِ َ ا �أ ْنزَ لَ ا ِم ْن ِكت ٍ
َ
َب ْي َن ُك ُم اللهَّ ُ َر ُّبنَا َو َر ُّب ُك ْم َلنَا �أَ ْع َما ُلنَا َو َل ُك ْم �أَ ْع َما ُل ُك ْم ال ُح َّج َة � - 1إقرار التعددية
َب ْي َننَا َو َب ْي َن ُك ُم اللهَّ ُ َي ْج َم ُع َب ْي َننَا َو�إِ َل ْي ِه المْ َ ِ�ص ُري» (ال�شورى.)15: الركيزة الأوىل :وهي �إقرار ظاهرة التعددية� ،أو التنوع،
ويعدد �أ�صحاب الديانات املختلفة من كتابيني ووثنيني، و�أنها ظاهرة طبيعية ،و�سنة كونية ،كما ي�ؤمن امل�سلم
ليبني لنا �أن اهلل هو الذي يف�صل بينهم يوم القيامة�ِ « :إ َّن بوحدانية اخل��ال��ق ،ي���ؤم��ن بتعددية اخللق يف جم��االت
�شتى .فهناك التعددية العرقيةَ « :و َج َع ْلنَا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل
ال�صا ِب ِئ َني َوالن ََّ�صا َرى َوالمْ َ ُج َ
و�س ين َها ُدوا َو َّ ين � َآمنُوا َوال َِّذ َ ال َِّذ َ
ِل َت َعا َرفُوا» (احلجرات .)13:وهناك التعددية اللغوية:
ين �أَ�شْ َر ُكوا �إِ َّن اللهَّ َ َيف ِْ�ص ُل َب ْي َن ُه ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة �إِ َّن اللهَّ َ َعلىَ
َوال َِّذ َ
ُك ِّل �شَ ْي ٍء �شَ هِ ي ٌد» (احلج.)17: ����ض َواخْ �� ِت�َل اَ ُف �أَل ِْ�س َن ِت ُك ْم
ال ْر ِال�س َما َو ِات َو َْ أ
« َو ِم ْ��ن َ�آ َي��ا ِت�� ِه خَ ْلقُ َّ
َو�أَ ْل َوا ِن ُك ْم ِ�إ َّن فيِ ذَ ِل َك َ آَل َي ٍات ِل ْل َعالمِ ِ َني» (الروم .)22:وهناك
وهذه الفكرة �أو العقيدة ،من �ش�أنها �أن تخفف من النظرة
ال�سوداوية للآخرين ،مهما يكن اعتقاد املتد ّين ،ونظرته َّا�س �أُ َّم ًة َو ِاح َد ًة
التعددية الدينيةَ « :و َل ْو �شَ ا َء َر ُّب َك لجَ َ َع َل الن َ التع�صب
�إىل نف�سه ،ونظرته �إىل غ�يره ،فكل متدين ي�ؤمن �أنه َولاَ َي��زَ ا ُل َ
��ون مخُ ْ َت ِل ِف َني ِ�إ ّال َم ْ��ن َر ِح َ��م َر ُّب َ��ك َو ِل��ذَ ِل َ��ك خَ َل َق ُه ْم» انغالق املرء
(هود )118،117:قال املف�سرون :ولالختالف خلقهم،
هو املهتدي ،وغريه هو ال�ضال ،وهو املب�صر ،وغريه هو
الأعمى ،ولكن ح�ساب ذلك �إىل اهلل ،يوم تبلى ال�سرائر، لأنه ملا �أعطى كال منهم العقل والإرادة ،تنوعت مواقفهم على عقيدته
وتنك�شف احلقائقَ « :ي ْو َم ِئ ٍذ ُي َوفِّيهِ ُم اللهَّ ُ ِدي َن ُه ُم الحْ َ قَّ َو َي ْع َل ُم َ
ون ودياناتهم .وهناك التعددية املذهبية والفكرية ،داخل
الدين الواحد ،لأن اهلل �أنزل الدين ن�صو�ص ًا قابلة لتعدد
واعتبار
�أَ َّن اللهَّ َ ُه َو الحْ َ ُّق المْ ُ ِب ُني» (النور.)25:
- 4اعتبار الب�شرية كلها �أ�سرة واحدة الر�ؤى واالجتهادات ،ولو �شاء �أن يجمع النا�س على ر�أي الآخرين �أعداء
والركيزة الرابعة� :أن الإ�سالم ينظر �إىل الب�شرية كلها – واحد ،وعلى مذهب واحد ،جلعل الدين كله قائم ًا على
�أي ًا كانت �أجنا�سها و�ألوانها ولغاتها و�أقاليمها وطبقاتها- ن�صو�ص قطعية الثبوت ،قطعية الداللة ،فال جمال فيها
بو�صفها �أ�سرة واح��دة ،تنتمي من جهة اخللق �إىل رب الختالف .وهناك التعددية ال�سيا�سية واحلزبية ،وما
واحد ،ومن جهة الن�سب �إىل �أب واحد ،وهذا ما نادى به دمنا قد �أجزنا تعدد املذاهب يف الفقه ،يلزمنا �أن جنيز
تعدد الأحزاب يف ال�سيا�سة ،فما الأحزاب �إال مذاهب يف
القر�آن النا�س؛ كل النا�س ،فقالَ « :يا َ�أ ُّي َها الن ُ
َّا�س ا َّتقُوا َر َّب ُك ُم
ال�سيا�سة ،وما املذاهب �إال �أحزاب يف الفقه.
ال َِّذي خَ َل َق ُك ْم ِم ْن َنف ٍْ�س َو ِاح َد ٍة َوخَ َلقَ ِم ْن َها َز ْو َج َها َو َب َّث ِم ْن ُه َما
ر َِجا ًال َك ِثري ًا َو ِن َ�سا ًء َوا َّتقُوا اللهَّ َ ال َِّذي ت ََ�سا َء ُل َ - 2االختالف واقع مب�شيئة اهلل تعاىل
الَ ْر َح َ
��ام ون ِب ِه َو ْ أ
والركيزة الثانية� :أن اختالف الدين واقع مب�شيئة اهلل
�إِ َّن اللهَّ َ َك َان َع َل ْي ُك ْم َر ِقيب ًا» (الن�ساء ،)1:وما �أجدر كلمة
«الأرح��ام» يف هذا ال�سياق �أن تف�سر مبا ي�شمل الأرحام تعاىل ،املرتبطة بحكمته �سبحانه ،فال ي�شاء �إال ما كان
الإن�سانية كلها .كما قال ال�شاعر امل�سلم: فيه حكمة ،لأن من �أ�سمائه (احلكيم) فهو ال يخلق �شيئ َا
�إذا كان �أ�صلي من تراب فكلها باط ًال ،وال ي�شرع �شيئ ًا عبث ًا .وقد �أعلن القر�آن �أن هذا
بالدي وكل العاملني �أقاربي! االختالف الديني واقع مب�شيئة اهلل عز وجل كما قال:
وقد �أعلن ر�سول الإ�سالم هذه احلقيقة -وحدة الأ�سرة الَ ْر ِ�ض ُكلُّ ُه ْم جميع ًا �أَ َف�أَن َْت ُت ْكرِ ُه
« َو َل ْو �شَ ا َء َر ُّب َك َ آلَ َم َن َم ْن فيِ ْ أ
الب�شرية� -أمام اجلموع احلا�شدة يف حجة الوداع ،قائ ًال: َّا�س َحتَّى َي ُكو ُنوا ُم�ؤ ِْم ِن َني» (يون�س )99:وقال تعاىلَ « :و َل ْو الن َ
«يا �أيها النا�س �إن ربكم واحد ،و�إن �أباكم واحد ،كلكم �شَ ا َء اللهَّ ُ لجَ َ َم َع ُه ْم َع َلى ا ْل ُه َدى فَال َت ُكون ََّن ِم َن الجْ َ ِاه ِل َني»
لآدم ،و�آدم من ت��راب ،ال ف�ضل لعربي على عجمي ،وال (الأنعام .)35:ولو �شاء ربنا �أن يجعل كل النا�س م�ؤمنني
لعجمي على عربي �إال بالتقوى �إن �أكرمكم عند اهلل مهديني مطيعني له ،جلعلهم على �صورة �أخ��رى ،كما خلق
�أتقاكم» (رواه �أحمد) وهو تقرير وت�أكيد ملا جاء يف الآية ون ال َّل ْي َل املالئكة مفطورين على طاعته وعبادته « ُي َ�س ِّب ُح َ
ون ا َما َ للهَّ ُون» (الأنبياء« ،)20:لاَ َي ْع ُ�ص َ َوال َّن َها َر لاَ َي�� ْف�ُت�رُ َ
الكرمية من �سورة احلجرات « َيا �أَ ُّي َها الن ُ
َّا�س �إِنَّا خَ َل ْقنَا ُك ْم
�أَ َم َر ُه ْم َو َي ْف َع ُل َون َما ُي�ؤ َْم ُر َون» (التحرمي.)6:وما دام هذا
ِم ْن ذَ َكرٍ َو�أُ ْن َثى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُ�ش ُعوب ًا َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َرفُوا �إِ َّن َ�أ ْك َر َم ُك ْم
ِعن َْد اللهَّ ِ �أَ ْتقَا ُك ْم �إِ َّن اللهَّ َ َع ِلي ٌم خَ ِب ٌري» (احلجرات.)13: االختالف الديني واقع ًا مب�شيئة اهلل �سبحانه ،فمن ذا
ال��ذي يقف �ضد م�شيئة اهلل؟ ومن ال��ذي يفكر يف حمو
70
ومن الأحاديث ال�صحيحة التي لها داللة :ما رواه ال�شيخان فاملراد بالذكر والأنثى يف الآي��ة� :آدم وح��واء ،وهما �أبوا
�أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مروا عليه بجنازة ،فقام الب�شر .وي�ست�أن�س لهذا مبا جاء يف احلديث الذي رواه
لها واقف ًا� ،إكرام ًا للميت ،فقال له ال�صحابة :يا ر�سول �أحمد و�أب��و داود عن زيد بن �أرق��م و�إن كان يف �إ�سناده
اهلل؛ �إنها جنازة يهودي! (يريدون �أنها ليهودي �أي �أنها �ضعف �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان يقول دبر كل
لي�ست جنازة م�سلم) فقال �صلى اهلل عليه و�سلم -وما �صالة« :اللهم ربنا ورب كل �شيء ومليكه� ،أنا �شهيد �أنك
�أروع ما قال�« : -ألي�ست نف�س ًا؟! (متفق عليه) .فما �أروع وحدك ال �شريك لك ،اللهم ربنا ورب كل �شيء ومليكه،
املوقف املحمدي ،وما �أروع التف�سري والتعليل؛ «�ألي�ست �أنا �شهيد �أن حممد ًا عبدك ور�سولك ،اللهم ربنا ورب كل
نف�س ًا؟!» بلى �إنها نف�س �إن�سانية ،ولكل نف�س يف الإ�سالم �شيء ومليكه؛ �أنا �شهيد �أن العباد كلهم �أخوة».
حرمة ومكانة .وهذا على الرغم مما وقع من اليهود من وقد �أثبت القر�آن �أن هناك �أخوة دينية بني �أهل الإميان �أو
الإ�ساءات الكثرية للر�سول ولأ�صحابه. �أهل الدين الواحد ،كمــا قال تعاىل�ِ « :إنمَّ َا المْ ُ�ؤ ِْمن َ
ُون ِ�إخْ ـ ـ َوةٌ»
- 6الرب والق�سط للم�ساملني من غري امل�سلمني (احلجرات :من الآيةَ « ،)10ف�أَ ْ�ص َب ْح ُتـ ـ ْـم ِب ِن ْع َم ِت ِه �إِخْ َوان ًا»
والركيزة ال�ساد�سة� :إق��رار التعامل بالرب والق�سط مع (�آل عمران :من الآية .)103كما �أثبت �أن هناك �أخوة
امل�ساملني من غري امل�سلمني ،وهو ما �سجلتُه يف �أول كتاب قومية ووطنية ،كالتي �أثبتها بني الر�سل و�أقوامهم املكذبني
يل دخلت به ميدان الت�أليف العلمي ،وهو كتاب (احلالل لهم « َو�إِلىَ َع ٍاد �أَخَ ُاه ْم ُهود ًا» (الأعراف :من الآية،)65
واحل��رام يف الإ���س�لام) منذ ما يقرب من ن�صف قرن «�إِلىَ َث ُمو َد �أَخَ ُاه ْم َ�صالحِ ًا» (النمل :من الآية .)45والأخوة
من الزمان .فقد ذكرت يف ف�صل (عالقة امل�سلم بغري هنا قطع ًا لي�ست دينية ،و�إمنا هي �أخوة قومية ،ولهذا كان
امل�سلم) ما يلي� :إذا �أردن��ا �أن جنمل تعليمات الإ�سالم يبد�أ كل ر�سول من ه�ؤالء نداءه بقولهَ « :يا َق ْو ِم ْاع ُب ُدوا اللهَّ َ
يف معاملة املخالفني له -يف �ضوء ما يحل وما يحرم- َما َل ُك ْم ِم ْن �إِ َل ٍه غَ يرْ ُ ُه» (الأعراف :من الآية .)59فال غرو
فح�سبنا �آيتان من كتاب اهلل ،جديرتان �أن تكونا د�ستور ًا اخليبة �أن تكون هناك �أخوة �إن�سانية �آدمية بحكم االنت�ساب �إىل
جامع ًا يف هذا ال�ش�أن .وهما قوله تعاىل« :ال َي ْن َها ُك ُم اللهَّ ُ والإخفاق �آدم �أبي الب�شر ،ومن هنا نودوا جميعا بقوله تعاىلَ « :يا
الدينِ َولمَ ْ ُيخْ رِ ُجو ُك ْم ِم ْن ِد َيا ِر ُك ْم ين لمَ ْ ُيقَا ِت ُلو ُك ْم فيِ ِّ َعنِ ال َِّذ َ َب ِني �آ َد َم َ» يف القر�آن خم�س مرات.
م�صري وه ْم َو ُتق ِْ�س ُطوا ِ�إ َل ْيهِ ْم ِ�إ َّن اللهَّ َ ُي ِح ُّب المْ ُق ِْ�س ِط َني�ِ ،إنمَّ َا �أَ ْن َتبرَ ُّ ُ - 5تكرمي الإن�سان لإن�سانيته وحدها
من يفكر يف َ
الدينِ َو�أخْ َر ُجو ُك ْم ِم ْن ين قَا َت ُلو ُك ْم فيِ ِّ
َ
ُ للهَّ
َي ْن َها ُك ُم ا َعنِ ال َِّذ َ والركيزة اخلام�سة للت�سامح يف الإ���س�لام :هي تكرمي
ِد َيا ِر ُك ْم َو َظ َاه ُروا َع َلى �إِخْ َراجِ ك ْم �أ ْن َت َول ْو ُه ْم َو َم ْ��ن َي َت َول ُه ْم
َّ َّ ُ الإن�سان من حيث هو �إن�سان ،بغ�ض النظر عن لون ب�شرته
حمو الأديان الظالمِ ُ َون» (املمتحنة .)9-8:فالآية الأوىل مل َف�أُو َل ِئ َك ُه ُم َّ �أو لون عينيه� ،أو �صبغة �شعره� ،أو �شكل �أنفه �أو وجهه،
�إال دينه ترغب يف العدل والإق�ساط فح�سب �إىل غري امل�سلمني �أو بالنظر �إىل لغته �أو �إقليمه الذي يعي�ش فيه� ،أو عرقه
الذين مل يقاتلوا امل�سلمني يف الدين ،ومل يخرجوهم من الذي ينتمي �إليه� ،أو طبقته االجتماعية التي ينت�سب – �أو
ديارهم � -أي �أولئك الذين ال حرب وال عداوة بينهم وبني ين�سبه النا�س� -إليها� ،أو حتى دينه الذي يعتنقه وي�ؤمن
امل�سلمني -بل رغبت الآي��ة يف برهم والإق�ساط �إليهم. به.
والرب كلمة جامعة ملعاين اخلري والتو�سع فيه ،فهو �أمر وذل��ك �أن �أ�سا�س التكرمي يف نظر القر�آن هو :الآدمية
فوق العدل .وهي الكلمة التي يعرب بها امل�سلمون عن �أوجب ذاتها ،كما قال تعاىل « َو َلق َْد َك َّر ْمنَا َب ِني �آ َد َم َو َح َم ْلن ُ
َاه ْم
احلقوق الب�شرية عليهم ،وذلك هو (ب ُّر) الوالدين .و�إمنا َاه ْم َع َلى ات َوف ََّ�ض ْلن ُ َاه ْم ِم َن َّ
الط ِّي َب ِ فيِ ا ْل�َب�رَ ِّ َوا ْل َب ْحرِ َو َر َز ْقن ُ
قلنا� :إن الآية رغبت يف ذلك لقوله تعاىل�« :إِ َّن اللهَّ َ ُي ِح ُّب َك ِث ٍري ممِ َّ ْن خَ َل ْقنَا َتف ِْ�ضي ًال» (الإ�سراء . )70:وقال تعاىل:
المْ ُق ِْ�س ِط َني» وامل�ؤمن ي�سعى دائم ًا �إىل حتقيق ما يحبه اهلل. « َلق َْد خَ َل ْقنَا ال َإن�س َان فيِ �أَ ْح َ�سنِ َت ْق ِو ٍمي» (التني .)4:وقال
وال ينفي معنى الرتغيب والطلب يف الآي��ة� :أنها جاءت �سبحانه« :ال َّر ْح َم ُن َع َّل َم ا ْل ُق ْر� َآن خَ َلقَ ال َ
إن�س َان َع َّل َم ُه ا ْل َب َي َان»
بلفظ «ال َي ْن َها ُك ُم اللهَّ ُ » فهذا التعبري ق�صد به نفي ما كان (الرحمن .)4-1:وقال يف �أول ما نزل من القر�آن« :ا ْق َر ْ أ�
عالق ًا بالأذهان -وما ي��زال� -أن املخالف يف الدين ال ن�س َان َما لمَ ْ َي ْع َل ْم» الَ ْك َر ُم ،ال َِّذي َع َّل َم بِا ْل َق َل ِمَ ،ع َّل َم ْ إِ
ال َ َو َر ُّب َك ْ أ
ي�ستحق بر ًا وال ق�سط ًا ،وال مودة وال ح�سن ع�شرة .فبينّ (العلق .)5-3 :وقال عز وجل « َو�إِذْ قَ��الَ َر ُّب َ��ك ِل ْل َم َال ِئ َك ِة
اهلل تعاىل �أنه ال ينهى امل�ؤمنني عن ذلك مع كل املخالفني ���ض خَ ِلي َف ًة قَا ُلو ْا َ�أتجَ ْ َع ُل ِفي َها َمن ُيف ِْ�س ُد ِ�إنيِّ َج ِاع ٌل فيِ ا َلأ ْر ِ
لهم ،بل مع املحاربني لهم ،العادين عليهم. الد َماء َون َْح ُن ُن َ�س ِّب ُح ب َِح ْم ِد َك َو ُنق َِّد ُ�س َل َك قَالَ ِفي َها َو َي ْ�س ِف ُك ِّ
- 7العداوات بني النا�س لي�ست �أمر ًا دائم ًا �إِنيِّ �أَ ْع َل ُم َما َال َت ْعل ُم َون» (البقرة .)30:نعم عقد م�سابقة َ
وال��رك��ي��زة ال�سابعة ،ال��ت��ي ق��رره��ا الإ����س�ل�ام ،وع ّلمها بني �آدم واملالئكة ،ظهر فيها ف�ضل �آدم �أبي الب�شر على
للم�سلمني ،وغر�سها يف عقولهم و�ضمائرهم� :أن النا�س املالئكة الكرام .ومن ثم �أمر الإ�سالم باحرتام الإن�سان،
قد يعادي بع�ضهم بع�ض ًا ،لأ�سباب خمتلفة ،دينية �أو فال يجوز �أن ي�ؤذى يف ح�ضرته� ،أو يهان يف غيبته ،حتى
دنيوية ،ولكن هذه العداوات – على حق كانت �أو على بكلمة يكرهها لو �سمعها ،ولو كانت حقيقة يف نف�سها،
باطل -ال ت��دوم �أب��د الدهر ،فالقلوب تتغري ،والأح��وال ولكنها ت���ؤذي��ه ،وحتى بعد موته ال يذكر �إال بخري ،وال
تتبدل ،وعدو الأم�س قد ي�صبح �صديق اليوم ،وبعيد اليوم يجوز �أن متتهن حرمة ج�سده حي ًا �أو ميت ًا ،حتى جاء يف
قد ي�صبح قريب الغد ،وه��ذه قاعدة مهمة يف عالقات احلديث« :ك�سر عظم امليت كك�سر عظم احل��ي» (رواه
النا�س بع�ضهم ببع�ض ،فال ينبغي �أن ي�سرفوا يف العداوة، �أحمد و�أبو داود).
71
�إليه جمعية (�سانت جديو) وقد �شارك فيه كبار الكرادلة، �ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
وك��ب��ار علماء امل�سلمني .والقمة الإ�سالمية امل�سيحية ق�ضية العدد ق�ضية العدد
يف بر�شلونة (2003م) وم���ؤمت��ر احل���وار الإ�سالمي-
امل�سيحي مع الكنائ�س ال�شرقية خا�صة يف القاهرة .ولكن
بعد كلمات بابا الفاتيكان (بندكت ال�ساد�س ع�شر) يف
العدد ق�ضية ا
عدد ق�ضية العدد
حما�ضرته ب�أملانيا (�12سبتمرب )2006التي �أ�ساء فيها العددق�ضية العدد العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
�إىل الإ�سالم ونبيه وعقيدته و�شريعته وح�ضارته توقف دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
احلوار بيننا وبني القوم؛ حتى يظهر موقف �آخر ميحو
حتى ال يبقوا لل�صلح مو�ضع ًا ،وهذا ما نبه �إليه القر�آن الأذى ال�سابق.
� - 9أعلى درجات الت�سامح عند امل�سلمني وحدهم
امل�سلمني وال��رك��ي��زة التا�سعة� :أن امل�سلمني وح��ده��م ه��م الذين بو�ضوح بعد نهيه عن مواالة �أعداء اهلل و�أعداء
يف �أول �سورة املمتحنة ،و�ضرب مث ًال ب�صالبة �
إبراهيم لهم �أعلى درج��ات الت�سامح الديني .ذلك �أن الت�سامح
ون الديني والفكري له درج��ات ومراتب ،فالدرجة الدنيا والذين معه �إذ قالوا لقومهم�« :إِنَّا ُب َر�آ ُء ِم ْن ُك ْم َوممِ َّ ا َت ْع ُب ُد َ
ِم ْن ُدونِ اللهَّ ِ َك َف ْرنَا ِب ُك ْم َو َب َدا َب ْي َننَا َو َب ْي َن ُك ُم ا ْل َع َدا َو ُة َوا ْل َبغ َْ�ضا ُء
قال من الت�سامح �أن تدع ملخالفك حرية دينه وعقيدته ،وال �أَ َبد ًا َحتَّى ُت�ؤ ِْمنُوا بِاللهَّ ِ َو ْح َد ُه» (املمتحنة .)4:بعد
هذام ْنهم جتربه بالقوة على اعتناق دينك �أو مذهبك ،بحيث �إذا
فهذا �أبى حكمت عليه باملوت �أو العذاب �أو امل�صادرة �أو النفي ين َعا َد ْيتُم ِّ ُ «ع َ�سى اللهَّ ُ �أَن َي ْج َع َل َب ْي َن ُك ْم َو َبينْ َ ال َِّذ َ تعاىلَ :
َّم َ��و َّد ًة َوا قَدي ٌر َوا غَ فُو ٌر َّرحي ٌم» (املمتحنة.)7:
ِ ُ للهَّ ِ ُ للهَّ
(ع�سى) �أو غري ذلك من �ألوان العقوبات واال�ضطهادات التي يقوم
بكلمةوالبغ�ضاء بها املتع�صبون �ضد خمالفيهم يف عقائدهم ..فتدع له ال��رج��اء من اهلل �سبحانه ال��ذي ذك��ره
ميلأ القلوب �أم ًال بتغيري القلوب من
العداوةالقلوب ،فهو حرية االعتقاد ،ولكن ال متكنه من ممار�سة واجباته
علىملا م�ضى من الأحقاد الدينية التي تفر�ضها عليه عقيدته ،واالمتناع مما يعتقد تغيري �إىل املودة واملحبة ،واهلل قدير
الذي يقلبها كيف ي�شاء ،واهلل غفور
ت�صفو قلوبهم ،وال عجب حترميه عليه.
الذين وابغ�ض بغي�ضك هونا ما والدرجة الو�سطى من الت�سامح� :أن تدع له حق االعتقاد قولهم:
وال�ضغائن ،رحيم بعباده
�أن ا�شتهر بني امل�سلمني
مبا يراه من ديانة ومذهب ثم ال ت�ضيق عليه برتك �أمر
يعتقد وجوبه �أو فعل �أمر يعتقد حرمته .ف�إذا كان اليهودي ر�سول ع�سى �أن يكون حبيبك يوما ما».
ً
الإ�سالم �أعلن - 8الدعوة �إىل احلوار بالتي هي �
أح�سنهي :الدعوة �إىل يعتقد حرمة العمل يوم ال�سبت فال يجوز �أن يكلف بعمل والركيزة الثامنة للت�سامح الإ�سالمي
يف قوله تعاىل« :ادع يف هذا اليوم .لأنه ال يفعله �إال وهو ي�شعر مبخالفة دينه.
��كلحْ َ �س َن ِة وجا ِد ْلهم بِا َّل ِتْ ُي و�إذا كان الن�صراين يعتقد بوجوب الذهاب �إىل الكني�سة وحدة الأ�سرة ح��وار املخالفني باحل�سنى ،وذل
الب�شرية �إِ ِهلىِي �أَ َ�سحب�سِيلِن َر�إ ِّبنكر ِببا َك هكو َم�أَةع َ َولام ْوبمِعنظة َا�ض َّل َعن َ�سب َِي ِل ِه و ُهو َ�أع َلم يوم الأحد فال يجوز �أن مينع من ذلك يف هذا اليوم.
َ لحْ ِ ْ ِ لمْ َ ِ َ ِ
َ َ ََُ ْ ُ
واملوعظة وال��درج��ة التي تعلو ه��ذه يف الت�سامح �أال ن�ضيق على َ ْ َ ُ ِ َّ َ َّ ُ َ ْ ُ َ
،)125املوافقني ،واجل���دال بالتي هي املخالفني فيما يعتقدون حله يف دينهم �أو مذهبهم .و�إن
باحلكمة فالدعوة ِبالمْ ُ ْهت َِد َين» (النحل:
احل�سنة – غالب ًا-
مع املخالفني .فامل�سلمون م�أمورون كنت تعتقد �أنه حرام يف دينك �أو مذهبك .وهذا ما كان �أح�سن – غالب ًا -
مع خمالفهم ،بالطريقة التي هي عليه امل�سلمون مع املخالفني من �أهل الذمة� .إذ ارتفعوا
يجادلوا و�أقرب �إىل القبول من املخالف� .إىل ال��درج��ة العليا من الت�سامح .فقد التزموا كل ما من ربهم �أن
أمثلهاأح�سن ،هو :احلوار الذي ندعو �إليه يعتقده غري امل�سلم �أنه حالل يف دينه ،وو�سعوا له يف ذلك، �أح�سن الطرق� ،
بالتيلنا ،وهو الذي ال ي�سعى �إىل �إيغار ال�صدور ،ومل ي�ضيقوا عليه باملنع والتحرمي. � هي واجلدال
املخالفنيب�ين القلوب ،و�إث���ارة م��ا ي�شعل الفتنة� ،أو ذلك لأن ال�شيء الذي يحله دين من الأديان لي�س فر�ض ًا مع
�أوي��ورث ال�ضغينة ،بل يعمل على تقريب القلوب بع�ضها على �أتباعه �أن يفعلوه. املباعدة
لاَ ف�إذا كان دين املجو�سي يبيح له الزواج من �أمه �أو �أخته
الكتاب:ظ َل«مَووا فيمكنه �أن يتزوج من غريهما وال حرج .و�إذا كان دين َ ين ِ
َّذ ل ا
من بع�ض ،كما قال تعاىل يف جمادلة �أهل
َاب �إِلاَّ بِا َّل ِتي ِه َي �أَ ْح َ�س ُن �إِلاَّ تجُ َا ِد ُلوا �أَ ْه َل ال ِْكت ِ
اجلوامع الن�صراين يحل له �أكل اخلنزير ،ف�إنه ي�ستطيع �أن يعي�ش ُ َ
نقاط التمايز عمره دون �أن ي�أكل اخلنزير ،ويف حلوم البقر والغنم ِم�� ْن�� ُه ْ��م» (العنكبوت .)46:ف��الآي��ة تركز على
باحل�سنى .وبهذا والطري مت�سع له .ومثل ذلك اخلمر ،ف���إذا كانت بع�ض امل�شرتكة التي ي�ؤمن بها الفريقان ،ال على
احل��واراملتخالفني ،وال يرى الكتب امل�سيحية قد جاءت ب�إباحتها �أو �إباحة القليل منها بني
واالختالف ،وهذا من �أ�صول
احل��وار يرى الإ�سالم �ضرورة
بينهم ،كما ادعى الكاتب اال�سرتاتيجي لإ�صالح املعدة ،فلي�س من فرائ�ض امل�سيحية �أن ي�شرب حتمية ال�صراع
امل�سيحي اخلمر .فلو �أن الإ�سالم قال للذميني :دعوا زواج الأمريكي (�صمويل هانتينغتون).
امل�سيحي منذ حوايل �أربعني املحارم ،و�شرب اخلمر ،و�أكل اخلنازير ،مراعاة ل�شعور
إ�سالميإىل عهد قريب ،وق��د �شاركت �إخوانكم امل�سلمني ،مل يكن عليهم يف ذلك � ُّأي حرج ديني، ً
وقد بد�أ احلوار ال
لهذا� احل���وار ،منها :م�ؤمتر القمة لأنهم �إذا تركوا هذه الأ�شياء مل يرتكبوا يف دينهم منكر ًا، �سنة ،ومل ي��زل م�ستمرا
ؤمتر يف روما (�أكتوبر )2001الذي دعت وال �أخلوا بواجب مقد�س. يف �أك�ثر من م�
الإ�سالمية امل�سيحية
72
وروى �أبو عبيد يف (الأم��وال) عن �سعيد بن امل�سيب� :أن ومع هذا مل يقل الإ�سالم ذلك ،ومل ي�ش�أ �أن ي�ضيق على
ر�سول اهلل � -صلى اهلل عليه و�سلم -ت�صدق ب�صدقة على غري امل�سلمني يف �أم��ر يعتقدون حله ،وق��ال للم�سلمني:
�أهل بيت من اليهود ،فهي تجُ ْ َرى عليهم .وروى البخاري اتركوهم وما يدينون.
عن �أن�س �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم عاد يهودي ًا، - 10روح الت�سامح عند امل�سلمني
وعر�ض عليه الإ�سالم ف�أ�سلم ،فخرج وهو يقول« :احلمد الركيزة العا�شرة للت�سامح الإ�سالمي تتجلى فيما ن�سميه
هلل الذي �أنقذه بي من النار» .وروى البخاري �أي�ض ًا�« :أن «روح الت�سامح الديني» عند امل�سلمني ،ذلك �أن هناك �شيئ ًا
النبي �صلى اهلل عليه و�سلم تويف ودرعه مرهونة عند ال يدخل يف نطاق احلقوق التي تنظمها القوانني ،ويلزم
يهودي يف نفقة عياله» ،وقد كان يف و�سعه �صلى اهلل عليه بها الق�ضاء ،وت�شرف على تنفيذها احلكومات .ذلك هو
و�سلم �أن ي�ستقر�ض من �أ�صحابه ،وما كانوا ِل َي ِ�ضنُّوا عليه «روح ال�سماحة» التي تبدو يف ُح�سن املعا�شرة ،ولطف
ب�شيء ولكنه �أراد �أن ُي َع ِّلم �أمته .وقبل النبي �صلى اهلل املعاملة ،ورعاية اجل��وار ،و�سعة امل�شاعر الإن�سانية من
عليه و�سلم الهدايا من غري امل�سلمني ،وا�ستعان يف �سلمه الرب والرحمة والإح�سان .وهي الأمور التي حتتاج �إليها
وحربه بغري امل�سلمني ،حيث �ضمن والءهم له. احلياة اليومية ،وال يغني فيها قانون وال ق�ضاء .وهذه
وتتجلى ه��ذه ال�سماحة ك��ذل��ك يف معاملة ال�صحابة ال��روح ال تكاد توجد يف غري املجتمع الإ�سالمي .تتجلى
والتابعني لغري امل�سلمني. ه��ذه ال�سماحة يف مثل ق��ول ال��ق��ر�آن يف �ش�أن الوالدين
فعمر ي�أمر ب�صرف معا�ش دائم ليهودي وعياله من بيت امل�شركني اللذين يحاوالن �إخراج ابنهما من التوحيد �إىل
َات مال امل�سلمني ،ثم يقول :قال اهلل تعاىل�« :إِنمَّ َا َّ
ال�ص َدق ُ ال�شركَ « :و َ�ص ِاح ْب ُه َما فيِ ال ُّد ْن َيا َم ْع ُروف ًا» (لقمان.)15 :
ِل ْل ُف َق َرا ِء َوالمْ َ َ�س ِاكنيِ» (�سورة التوبة )60 :وهذا من م�ساكني ون ويف قول القر�آن ي�صف الأبرار من عباد اهللَ « :و ُي ْط ِع ُم َ
�أهل الكتاب .ومير يف رحلته �إىل ال�شام بقوم جمذومني الط َع َام َع َلى ُح ِّب ِه ِم ْ�س ِكين ًا َو َي ِتيم ًا َو�أَ ِ�سري ًا» (الإن�سان.)8:
َّ
م��ن ال��ن�����ص��ارى ف��ي���أم��ر مب�ساعدة اجتماعية لهم من ومل يكن الأ�سري حني نزلت الآية �إال من امل�شركني .ويف
بيت مال امل�سلمني .و�أ�صيب عمر ب�ضربة رجل من �أهل قول القر�آن يجيب عن �شبهة بع�ض امل�سلمني يف م�شروعية
الذمة ـ �أبي ل�ؤل�ؤة املجو�سي ـ فلم مينعه ذلك �أن يو�صي الإنفاق على ذويهم وجريانهم من امل�شركني املُ ِ�ص ِّرين:
اخلليفة من بعده وهو على فرا�ش املوت فيقول« :و�أو�صيه ُون ِ�إ ّال ا ْب ِتغَا َء
َل ْنف ُِ�س ُك ْم َو َم��ا ُت ْن ِفق َ « َو َم��ا ُت ْن ِفقُوا ِم ْ��ن خَ �ْي�رْ ٍ ف ِ أَ
�أ�سا�س بذمة اهلل وذم��ة ر�سوله �صلى اهلل عليه و�سلم �أن يويف ون»َو ْج ِه اللهَّ ِ َو َما ُت ْن ِفقُوا ِم ْن خَ يرْ ٍ ُي َو َّف �إِ َل ْي ُك ْم َو�أ ْنت ُْم ال ت ُْظ َل ُم َ
َ
لهم بعهدهم و�أن يقاتل من وراءه��م و�أن ال يكلفوا فوق (البقرة .)272:وقد روى حممد بن احل�سن �صاحب �أبي
التكرمي يف طاقتهم» (رواه البخاري) .وعبد اهلل بن عمرو يو�صي حنيفة ومد ِّون مذهبه �أن النبي � -صلى اهلل عليه و�سلم
القر�آن هو غالمه �أن يعطي ج��اره اليهودي من الأ�ضحية ،ويكرر
الو�صية مرة بعد مرة ،حتى ده�ش الغالم ،و�س�أله عن �سر
-بعث �إىل �أهل مكة ما ًال ملا قحطوا ليوزع على فقرائهم.
هذا على الرغم مما قا�ساه من �أهل مكة من العنت والأذى
الآدمية ذاتها هذه العناية بجار يهودي ،قال ابن عمرو� :إن النبي �صلى هو و�أ�صحابه .وروى �أحمد وال�شيخان عن �أ�سماء بنت �أبي
اهلل عليه و�سلم ق��ال« :ما زال جربيل يو�صيني باجلار بكر قالت :قدمت �أمي وهي م�شركة ،يف عهد قري�ش �إذ
حتى ظننت �أنه �سيورثه» (رواه �أبو داود والرتمذي). عاهدوا ،ف�أتيت النبي �-صلى اهلل عليه و�سلم -فقلت :يا
وماتت �أم احلارث بن �أبي ربيعة وهي ن�صرانية ،ف�شيعها ر�سول اهلل� ،إن �أمي قدمت وهي راغبة� ،أفـ� ِأ�صلها؟ قال:
�أ�صحاب ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم( .رواه عبد «نعم�ِ ،صلي �أمك» (متفق عليه).
الرزاق يف م�صنفه) .وكان بع�ض �أجالء التابعني يعطون ويف قول القر�آن يبني �أدب املجادلة مع املخالفنيَ « :ولاَ
ن�صيب ًا من �صدقة الفطر لرهبان الن�صارى وال يرون يف َاب ِ�إلاَّ با َّل ِتي ِه َي �أَ ْح َ�س ُن ِ�إلاَّ ال َِّذ َ
ين َظ َل ُموا تجُ َا ِد ُلوا �أَ ْه َل ال ِْكت ِ
ذلك حرج ًا .بل ذهب بع�ضهم ـ كعكرمة واب��ن �سريين ِم ْن ُه ْم» (العنكبوت .)46:وتتجلى هذه ال�سماحة كذلك يف
والزهري ـ �إىل جواز �إعطائهم من الزكاة نف�سها .وروى معاملة الر�سول � -صلى اهلل عليه و�سلم -لأهل الكتاب
ابن �أبي �شيبة عم جابر بن زيد� :أنه ُ�سئل عن ال�صدقة يهود ًا كانوا �أو ن�صارى ،فقد كان يزورهم ويكرمهم،
فيمن تو�ضع؟ فقال :يف �أهل ملتكم من امل�سلمني ،و�أهل ويح�سن �إليهم ،ويعود مر�ضاهم ،وي�أخذ منهم ويعطيهم.
ذمتهم ...وذكر القا�ضي عيا�ض يف (ترتيب امل��دارك) ذك��ر اب��ن �إ�سحق يف ال�سرية �أن وف��د جن��ران ـ وه��م من
قال :حدث الدارقطني �أن القا�ضي �إ�سماعيل بن �إ�سحاق، الن�صارى ـ ملا قدموا على الر�سول � -صلى اهلل عليه
دخ��ل عليه الوزير عبدون بن �صاعد الن�صراين وزير و�سلم -باملدينة ،دخ��ل��وا عليه م�سجده بعد الع�صر،
اخلليفة املعت�ضد باهلل العبا�سي ،فقام له القا�ضي ورحب فكانت �صالتهم ،فقاموا ي�صلون يف م�سجده ،ف���أراد
به .ف��ر�أى �إنكار ال�شهود لذلك ،فلما خرج الوزير قال النا�س منعهم ،فقال ر�سول اهلل �-صلى اهلل عليه و�سلم -
القا�ضي �إ�سماعيل :قد علمت �إنكاركم ،وق��د ق��ال اهلل « :دعوهم» فا�ستقبلوا امل�شرق ف�صلوا �صالتهم .وعقب
تعاىل« :ال ينهاكم اهلل عن الذين مل يقاتلوكم يف الدين املجتهد ابن القيم على هذه الق�صة يف (الهدي النبوي)
ومل يخرجوكم من دياركم �أن تربوهم وتق�سطوا �إليهم �إن فذكر مما فيها من الفقه( :ج��واز دخ��ول �أه��ل الكتاب
اهلل يحب املق�سطني» (املمتحنة .)8:وهذا الرجل يق�ضي م�ساجد امل�سلمني ،ومتكني �أه��ل الكتاب من �صالتهم
حوائج امل�سلمني وهو �سفري بيننا وبني املعت�ضد ....وهذا بح�ضرة امل�سلمني ،ويف م�ساجدهم �أي�ض ًا� ،إذا كان ذلك
من الرب. عار�ض ًا ،وال ميكنون من اعتياد ذلك).
73
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
ق�ضية العدد ق�ضية العدد
العدد ا ق�ضية
عدد ق�ضية العدد
العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�سكان
القواقع
حتتاج جمتمعاتنا املدنية هذه الأيام ،كما يف
كل وقت� ،إىل الكثري من ثقافة الت�سامح.
والإن�سان يحتاج خ�صو�صاً �إىل ما لي�س
متوافراً عنده ،لأنه ّ
يح�س باحلاجة �إليه
�إح�سا�ساً وا�ضحاً.
حداد
املطران غريغوار ّ
فهو ذلك الذي يقوم على قناعة مفادها �أننا جميع ًا رجل دين من لبنان
من امل�ستوى نف�سه ،من الناحية الإن�سانية خ�صو�ص ًا،
و�أننا قادرون على اكت�شاف بع�ضنا بع�ض ًا .يعني �أننا والت�سامح م�ستويان اثنان� ،أو فلنقل �إنه نوعان :النوع
ن�ستطيع �أن نكت�شف وجوه االختالفات القائمة بيننا. الأول يكون عندما ُيقدم الإن�سان على �إظهار الت�سامح
وهذا �أمر مهم للغاية .ولكن الأكرث �أهمية منه هو �أن مع �شخ�ص �آخر ،انطالق ًا من اعتقاده ب�أنه �أف�ضل منه
نقبل االختالفات ونفهمها ،ونتفهمها ،ونتعامل مع و�أقوى ،لذلك هو يت�سامح معه .وهذا هو اخلطر بعينه
مظاهرها ومع نتائج ممار�ستها ،بانفتاح وبا�ستعداد لأنه يتوهم ب�أنه قادر على التحكم بالآخر ،وب�أن هذا
دائم للتحاور ولتبادل الر�أي ،من دون ا�ستبعاد فكرة الآخر ركيك و�ضعيف ويحتاج �إىل من يتعامل معه
ارت�ضاء تبادل «التنازالت» من �أجل االلتقاء فوق بالت�سامح ليتمكن من احلياة .بالت�أكيد هذا النوع،
�أر�ضية م�شرتكة وثابتة. الذي هو م�ساحمة ولي�س ت�ساحم ًا ،لي�س �سمة من
وعلينا �أن ندرك �أن الت�سامح ،يف �أيامنا احلالية ،يبدو �سمات املجتمعات التي ن�صبو �إليها ونعمل على ن�شر
وك�أنه طوباوية ي�ستحيل الو�صول �إليها .وهذا عائد �إىل ثقافتها و�إر�ساء قواعد تنظيمها.
�أن كال منا يرجع �إىل �أ�صوله و�إىل املجموعة الدينية �أو �أما النوع الثاين ،وهو النوع ال�سامي على ما �أظن
74
وهذا �أمر �صعب التحقيق هذه الأيام لأن املجتمعات الطائفية �أو املذهبية التي هو فيها يف الوقت احلا�ضر.
التي نعي�ش فيها تت�ألف غالب ًا من �أ�شخا�ص مل يكن لهم هو يعتقد �أن هذا املوقع هو موقعه الطبيعي ،و�أن قيم
حظ التد ّرب على القيم .مما ي�ؤ ّدي �إىل �أن تقوم كل هذا املوقع هي بال�ضرورة قيمه ،و�أن مكان انطالقه
عائلة على �أ�سا�س جمموعة �صغرية من القيم اخلا�صة الفعلي هو املكان الذي ينتمي �إليه بالأ�صول.
بها ،ت�ستخدمها ك�أدوات قيا�س و�إطالق �أحكام مينة والوهم هو الذي يجعل �أ�صحاب هذه الفكرة يعتقدون
وي�سرة ،من دون �أي تع ّمق فعلي يف املو�ضوع املطروح. �أنهم ،ب�سبب قدرتهم ،ي�ستطيعون �أن يت�ساحموا مع
لأجل هذا من ال�ضروري �أن تكون هناك جمموعة من الآخر و�أن يق ّدموا له بع�ض ًا من الكثري الذي عندهم.
النا�س الذين يتح ّلون بالوعي ليكت�شفوا معنى كل �أبعاد طبع ًا هناك الكثري من النماذج امل�شابهة من حولنا.
معادلة :كل �إن�سان وكل الإن�سان ،وحتاول �أن تعرث على ال بل رمبا كان هذا النوع من النا�س هو الطاغي يف
االختالفات التي ميكن �أن نقبل بها ،وكذلك تهتدي املجتمعات حيث نعي�ش.
�إىل االختالفات التي ميكن �أن نقبل بها. لكن ،رغم كل هذا ،يبقى ال�س�ؤال الأ�سا�سي التايل� :إىل
�أي ح ّد ي�ستطيع الفرد منا �أن يخرج من «القوقعة» التي
اختالفات وقيم نعي�ش �ضمنها؟ وما املقايي�س التي جتعلنا قادرين على
اخلروج من �شرنقتنا من �أجل الو�صول �إىل الآخر؟
�أخت�صر و�أقول �إن االختالفات التي ميكن �أن نقبل بها هذا هو ال�س�ؤال الكبري الذي ال ب ّد من الإجابة عنه،
هي تلك التي ال ت�ؤثر على تلك القيم �سلبي ًا ،ال بل هي والت�ص ّرف على �أ�سا�سه �إذا كنا راغبني فع ًال يف
حتافظ عليها� .أما تلك التي ال ميكنني �أن �أقبل بها االرتفاع �إىل م�ستوى املبادئ الإن�سانية ال�صافية التي
فهي تلك التي تنتهك تلك القيم وال حتافظ عليها ندعو �إليها.
حقوق �أبد ًا.
الإن�سان مث ًال هناك عند البع�ض من غري الواعني ،عدد من املرجعية �إن�سانية
االختالفات التي جتعلهم يقولون :هذا الإن�سان
و(املر�أة) خمتلف عني وال ميكنني القبول به ،لذلك ال ب ّد من واالنطالقة يف هذا االجتاه �إما �أن تكون دينية و�إما �أن
�إزاحته والتخل�ص منه� ،أو يف �أ�ضعف الإميان حماربته تكون �إن�سانية� ،أو حتى علمانية كما يتكاثر احلديث يف
�إحدى طرق �أو مقاطعته. �أيامنا احلالية.
تعميم ثقافة هنا يكون الت�سامح قد غاب كلي ًا عن ت�ص ّرفات هذا �أنا �شخ�صي ًا يهمني كثري ًا �أن �أنطلق من املنطلقات
الفريق .غاب كمفهوم وكثقافة يفرت�ض �أن ت�شهد الإن�سانية – العلمانية لأننا نكون جميع ًا يف اخلندق
الت�سامح تطبيق ًا فعلي ًا لها يف احلياة اليومية ويف تعاملنا مع نف�سه ويف املعطيات �إياها ،ونعمل كلنا يد ًا بيد من �أجل
الآخرين يف كل �ساعة. جمتمع م�شرتك .هنا تتب ّدل املرجعية فال تعود دينية
�أو طائفية �أو مذهبية ،بل هي مرجعية �إن�سانية بكل ما
اكت�شاف الت�سامح للكلمة من معنى.
يف ثقافة الت�سامح التي نحن ب�صددها ما معنى القول
البديل ،حتى يف احلاالت املظلمة ،هو �أن ن�ساعد هذا �إن املرجعية هي مرجعية �إن�سانية؟
«البع�ض» على �أن يكت�شف يف الآخر بع�ض النواحي يعني �أن الإن�سان قيمة .قيمة مطلقة .لذلك يجب �أن
الإيجابية التي ميكن التعامل معها والت�أ�سي�س عليها نعيد �إىل تلك القيمة كل ت�صرفاتنا التي ينبغي �أن
من �أجل قبوله والتعاطي معه على �أ�سا�س جمموعة نقي�سها على �أ�سا�س القيمة الإن�سانية لنتبينّ ما �إذا
القيم الإيجابية التي حت ّدثنا عنها .حينها يكون كنا م�صيبني يف مواقفنا �أو خمطئني .حينها يكون
الت�سامح قد بد�أ بالظهور فع ًال ،و�أخذنا نكت�شف كيف للت�سامح معناه الفعلي والعميق.
ميكننا �أن نعي�ش مع ًا هذه القيم امل�شرتكة ،و�أن نتطور قيمة الإن�سان احلقيقية واملطلقة تق�ضي ب�أن يكون
مع ًا ،و�أن ن�ستخرج طرق ًا ميكن �أن ن�سلكها فتنت�شر من الفرد ميزان ًا وحمور ًا لكل ما يفكر فيه .ف�إذا كان يريد
حولنا ثقافة الت�سامح احلقيقية. نت قوانني فعليه �أن يقول �إن هذا القانون هو �أن ي�س ّ
�أظن �أن اجلمعيات املدنية ،وكذلك الأحزاب غري لكل �إن�سان .و�إذا رغب يف �إقامة م�ؤ�س�سة ما فعليه �أن
الطائفية ،وامل�ؤ�س�سات غري املذهبية التي ت�ؤمن بحقوق يفكر ب�أنه يقيم تلك امل�ؤ�س�سة لكل النا�س ولي�س لبع�ض
الإن�سان – كل �إن�سان وكل الإن�سان – وبحقوق املر�أة.. النا�س .هذا هو املبد�أ الذي نطرحه اليوم يف احلركة
هذه بع�ض من الطرق التي ميكن �أن ن�سلكها من �أجل االجتماعية – تيار املجتمع املدين ،وقد ح ّولناه �إىل
تعميم ثقافة الت�سامح وعي�ش جتلياتها الفعلية من �شعار يقول :نعمل لكل �إن�سان ولكل الإن�سان« .كل
خالل عالقتنا بالآخرين. �إن�سان» هو اجلزء الذي يرتبط بثقافة الت�سامح كما
يجب �أن نعرتف ب�أن كل هذه املبادئ العليا ال ت�شهد �شرحت �سابق ًا� .أما «كل الإن�سان» فهذا عائد �إىل
تطبيقات كثيفة يف جمتمعاتنا .ولكن هذا ال يعني �أنه �إدراكنا ب�أن الإن�سان ج�سد ونف�س وروح .وحني ن�أخذ
يجب �أن ن�ست�سلم .على العك�س ال�صعوبات تزيدنا هذه اجلوانب بعني االعتبار يكون قد �أ�صبح الإن�سان
ت�صميم ًا على فعل كل ما هو ممكن للو�صول �إىل قيمة مطلقة .فالإن�سان ال يكون �إن�سان ًا كام ًال �إال �إذا
الت�سامح! تكاملت فيه هذه اجلوانب الثالثة.
75
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
ق�ضية العدد ق�ضية العدد
العدد ق�ضية ا
عدد ق�ضية العدد
العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
يف البداية يجب �أن نعرتف ب�أن الت�سامح يف الأديان لي�س دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
قيمة عبثية �أتت عن طريق امل�صادفة� ،أو هو قيمة ثانوية
ميكننا �أن ن�أخذ بها �أو ال ن�أخذ ،بل هو قيمة �أ�صلية وثابتة
يف كل الأديان ال�سماوية ،بل �إننا ال نبالغ لو قلنا �إنه قيمة
وجودية ،ووجوده يف احلياة �ضروري �ضرورة الوجود
نف�سه ،ولقد �أثبتت ذلك كل الكتب ال�سماوية ومنها القر�آن
الكرمي يف قوله تعاىل «ي�أيها النا�س �إنا خلقناكم من ذكر
و�أنثى وجعلناكم �شعوبا وقبائل لتعارفوا» فلقد �أثبتت
هذه الآية مبا ال يدع جما ًال لل�شك �أن الهدف الأ�سمى من
اخللق هو التعارف بني الب�شر من �أجل التكاتف لعمران
الأر�ض ،وهذا التعارف والتكاتف يلزمه وجود الت�سامح،
والإن�سان بطبعه ال تتحقق حياته وال ينبني كيانه وال
تكتمل ذاته وال يكت�سب ما ي�صبو �إليه من قدرات �إال
داخل و�سط اجتماعي مت�شابك ،فيه اخلري وال�شر ،وفيه
احلب والبغ�ض ،والتجان�س والتنافر ،وفيه الأنا والأنا
ال�سنة
الآخر ،ومن بني كل هذه املتناق�ضات تبدو قيمة الت�سامح
باعتبارها القيمة الأ�سمى مكانة ،والأرفع �ش�أنا.
ُّ
الكونية
د .منى مكرم عبيد
كاتبة من م�صر
76
فكرة
الت�سامح
ب�سيطة
و�شفافة يف
ح�ضورها..
كارثية
وقاتلة يف
غيابها
خطابات
املقد�س
ّ ت�شوه
وتغتال العقل
وت�صادر
احلرية
77
الو�صاية «كل ما تكره �أن يفعله غريك بك ف�إياك �أن �ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
تفعله �أنت بغريك» ويف مو�ضع �آخر «اغت�سلوا وتطهروا
و�أزيلوا �شرور �أفكاركم – وكفوا عن الإ�ساءة وتعلموا ق�ضية العدد ق�ضية العدد
الإح�سان والتم�سوا الإن�صاف».
وهكذا بات وا�ضح ًا �أن الت�سامح الديني مطلب �إن�ساين
العدد ق�ضية ا
عدد ق�ضية العدد
نبيل دعت �إليه كل الأديان دون ا�ستثناء ،وكيف ال تدعو العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
�إليه وقد �أرادته احلكمة الإلهية واقت�ضته الفطرة دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
الإن�سانية وا�ستوجبته الن�ش�أة االجتماعية وفر�ضته
املجتمعات املدنية .والت�سامح لغة متعارف عليها يف
جميع الأديان واملذاهب. وقيمة الت�سامح الديني تتمثل يف كونه ي�ؤكد على معارك
وقيمة الت�سامح الديني تتمثل يف كونه يقت�ضي امل�ساواة االحرتام املتبادل بني �أ�صحاب الديانات املختلفة،
يف احلقوق من حيث �إنه يقت�ضي الت�سليم املطلق اعتقاد ًا وهو حجر الزاوية املتني الذي تبنى عليه العالقات املتدينني
و�سلوك ًا وممار�سة ،ب�أنه �إذا كان له�ؤالء وجود فلأولئك الإن�سانية ،وهو ال يعني �أنك حترتم دينك ومعتقداتك مع �أنف�سهم
وجود ،و�إذا كان له�ؤالء دين له حرمته فلأولئك دين اخلا�صة بك فقط ،بل يفر�ض عليك احرتام وتقدير
له احلرمة نف�سها ،و�إذا كان له�ؤالء خ�صو�صية ثقافية املعتقدات الأخرى وعدم ت�شويهها واحتقارها، أ�شد
� ّ
فالديانات ال�سماوية ح�صر ًا تدعو �إىل الت�سامح مع
ال تر�ضى االنتهاك ،فلأولئك خ�صو�صية ثقافية ال
الآخر وهي جميع ًا ت�ستقي من منبع واحد ،وهي جميعها �ضراوة من
تقبل امل�س �أبد ًا .والت�سامح الديني �أر�ضية �أ�سا�سية
لبناء املجتمع املدين و�إر�ساء قواعده ،فالتعددية تعترب النا�س �إخوة ال تفا�ضل بينهم من حيث ر�سائلهم معاركهم
ال�سماوية ودعواتهم ،ومن حيث الإميان بهم وال�سري
والدميوقراطية وقبول الآخر وحرية املعتقد وتقدير
املواثيق الوطنية واحرتام �سيادة القانون كل هذه الأمور وفق ًا لتعليمهم ،فلقد ورد يف العهد القدمي «�أن الرب مع غريهم
خيارات ا�سرتاتيجية وقيم �إن�سانية ال تقبل الرتا�ضي �إلهنا رب واحد ف�أحبب الرب �إلهك بكل قلبك وكل
وال التفريط وال امل�ساومة ،وهذا يعني �أن الت�سامح عامل نف�سك وكل قدراتك» والقر�آن الكرمي يقول« :قولوا �آمنا
�أ�سا�سي ال غنى عنه يف بناء املجتمع املدين ،وهذا �أي�ض ًا باهلل وما �أنزل �إلينا وما �أنزل �إىل �إبراهيم و�إ�سماعيل
يقودنا �إىل �أن الت�سامح ي�ستوجب االحرتام املتبادل و�إ�سحاق ويعقوب والأ�سباط وما �أوتي مو�سى وعي�سى
والتقدير امل�شرتك. وما �أوتي النبيون من قبلهم ال نفرق بني �أحد منهم».
ويقول ال�سيد امل�سيح «�أحبوا بع�ضكم بع�ضا كما �أحببتكم
غياب الت�سامح كارثة و�أحبوا �أعداءكم و�أح�سنوا �إىل مبغ�ضيكم» ويقول القر�آن
يف مو�ضع �آخر «�إن تعفوا وت�صفحوا وتغفروا ف�إن اهلل
و�إذا كانت فكرة الت�سامح ب�سيطة و�شفافة يف ح�ضورها، غفور رحيم» .وهذه الآية تعني �أن اهلل مت�سامح وغفور
ف�إنها كارثية وقاتلة يف غيابها لأن غياب الت�سامح يعني مع الذين ي�ساحمون ويغفرون للمخطئني بحقهم.
انت�شار ظاهرة التع�صب والعنف و�سيادة عقلية التجرمي والت�سامح يف الأديان �أمر بديهي بحكم انتماء الأديان
يف ال�سلطة وخارجها من قبل جماعات التطرف �إىل ال�سماء ،وهو ما يعني �أنها ال ت�أمر �إال باخلري واحلق
والت�شدد ومن قبل القوى الغا�شمة� ،إن وجود �أقوال من وال�صالح ،وال تدعو �إال �إىل الرب والرحمة والإح�سان،
عينة «احلروب املقد�سة واحلروب ال�صليبية ..نحن وال تو�صى �إال بالأمن وال�سلم وال�سالم ،وما كانت يوم ًا
وحدنا على طريق احلق وغرينا فا�سد وكافر وملحد عائق ًا يف حد ذاتها �أمام التالحم والتبادل والتعاي�ش
وعلماين» كل هذه امل�صطلحات �ضد الت�سامح وتف�سده والتعارف والتحاور ،و�إمنا العائق يف الذين يتوهمون
وحتل حمله الكره والعنف. �أنهم ميتلكون احلقيقة املطلقة وي�ستغلون الأديان يف
وحينما تغيب �شم�س الت�سامح ت�شرق �شمو�س احلروب، حتديد م�صائر النا�س ،وال يوجد دين �سماوي ينفرد
وي�صبح الر�صا�ص بدي ًال عن احلوار ،واخلراب والدمار دون غريه من الأديان باال�شتمال على مبادئ الت�سامح،
بدي ًال عن العمار. ولننظر �إىل هذه الآيات التي وردت يف القر�آن والإجنيل
لقد �أفادنا التاريخ ب�أن امل�سلمني قد انفتحوا �أيام والتوراة وكلها �شواهد على �أن الت�سامح عامل م�شرتك
عطائهم احل�ضاري وازدهارهم الثقايف على يف الديانات الثالث .يقول الإجنيل «لقد قيل لكم من
معارف وعلوم وثقافات ،وحر�صوا على �أن يفهموها قبل �أن ال�سن بال�سن والأنف بالأنف و�أنا �أقول لكم ال
وي�ستوعبوها وي�ستفيدوا منها ،حتى �أن التاريخ ي�ؤكد تقاوموا ال�شر بال�شر ،بل من �ضرب خدك الأمين فحول
�أنهم ما ا�ستطاعوا �أن يقيموا ح�ضارتهم التي �أقاموها �إليه اخلد الأي�سر ومن �أراد �أن يخا�صمك ويخلع رداءك
�إال بعد اطالعهم وا�ستفادتهم مما وجد لدى غريهم، فاترك له الرداء ،ومن �سخرك لت�سري معه ميال ف�سر
وقد �شرع ذلك االنفتاح الكوين الذي �سلكوه الأبواب معه ميلني ،ومن �س�ألك ف�أعطه ،ومن �أراد �أن يقرت�ض
على م�صاريعها �أمام التعرف والتقارب والتبادل منك فال ترده» �إجنيل متى ،52العدد ،142 – 39وهنا
وعزز الأدوار الإيجابية الفعالة التي كانت ت�ؤديها تلك ينا�شد امل�سيح �أتباعه ب�أال يقاوموا ال�شر مبثله ويطلب
املناظرات التي كانت ت�ستقطب عرب «بيوت احلكمة منهم ال�سماحة ملن �أ�ساء �إليهم.
التي تناف�س �أولو الأمر يف ت�أ�سي�سها» العلماء من وكذلك تدعو اليهودية �إىل الت�سامح ،ولننظر �إىل هذه
78
وتقودنا هذه املرحلة �إىل جدلية العالقة بني امل�سيحية خمتلف الأديان ،وقد �أقبل امل�سلمون عليها بتلقائية
ال�شرقية وامل�سيحية الغربية والإ�سالم ،وهي عالقة وق�صد ،وقبلوا فيها �شرط االلتزام بعدم اال�ستدالل
موهت عنا�صرها و�شوهتها تاريخي ًا احلروب ال�صليبية على مقوالتهم ال بالكتاب وال بال�سنة ،نزو ًال عند رغبة
ورواياتها. مناظريهم من اليهود والن�صارى وحتى من البوذيني
فامل�سيحية ال�شرقية حتاور الإ�سالم برحابة وقرابة، واملجو�س وغريهم ،مت�سك ًا بالعقالنية وحتقيق ًا
تتخطى بكثري �إمكانية حوارها مع امل�سيحية الغربية، للمو�ضوعية وتطبيق ًا للمنهجية العلمية .ولذلك البد
وامل�سيحي ال�شرقي يف بنيته الذهنية ،ويف طريقة من الدعوة �إىل ت�ضامن املبادئ النبيلة للأديان ،و�أن
مواجهته الفكرية والعملية للعامل ،وللإميان �أقرب تتعاون جهود الثقافات الواعية القادرة على خلق فكر
�إىل امل�سلم منه �إىل امل�سيحي الغربي� .إن التاريخ الذي ح�ضاري يتوارى �أمامه كل خطاب ي�شوه املقد�س ويغتال
ازدهار �شهد مراحل قامتة يف تاريخ عالقات ال�شعوب املختلفة العقل وي�صادر احلرية ويجذب �إىل اخللف ،ويعمل على
يف انتمائها الديني ،عرف �أي�ضا مراحل م�ضيئة خلق عامل جديد خال من العن�صرية العرقية وبغ�ضاء
املرحلة تناقلت �إرث ًا طوي ًال ومنذ بدء الدعوة الإ�سالمية من التطاحن الديني وهو هدف كوين نبيل.
الأندل�سية التعاي�ش الإ�سالمي امل�سيحي .هذا الإرث الذي تقا�سمه
امل�سيحيون وامل�سلمون يف ال�شرق حلقبات طويلة ،كان الت�سامح بني امل�سيحية والإ�سالم
كان نتيجة ميتهن وي�شرذم عندما جتد ال�سلطة م�صلحة لها يف
للت�سامح العداء املتبادل بني �أتباع الديانتني. �إن تاريخ التقاء امل�سيحية بالإ�سالم تاريخ طويل
مت�شعب ،تنوعت حمطاته بني الت�سامح والعنف
املتبادل عقبات �أمام الت�سامح والدمار واملودة والوقائع الكربى التي كتب التاريخ على
ال يبدو العامل يف بداية هذا القرن موقع ًا رحب ًا للت�ضامن بني الإ�سالم �إيقاعها ،و�ضعت امل�سيحية والإ�سالم يف مواقع العراك
والعداوة ،لأن التاريخ مل يكتب �إال على �ضجيج املعارك
والت�سامح يف ظل ح�ساب توازنات القوى املقبلة بني وامل�سيحية ومعادالت الغلبة ،لذا قيل �إن ال�شعوب الهانئة لي�س لها
عوملة كا�سحة وفقر متعاظم و�إرهاب مفاجئ وحروب تاريخ ،ولكن يغيب عن �أذهاننا �أن املعارك التاريخية
�أثنية وتوازن دويل ظامل وحماوالت �سيطرة لقوى عاملية التي جرت بني امل�سيحيني �أنف�سهم وبني امل�سلمني
ت�ستعيد حلم الإمرباطوريات القدمية. �أنف�سهم كانت �أق�سى و�أ�شد �ضراوة من املعارك التي
تبدو امل�شكلة الآن بني عاملني ال بني دينني ،بني العامل جرت تاريخي ًا بني امل�سيحيني وامل�سلمني ،وهما ينتميان
الغربي والعامل الإ�سالمي ،وتتعمق امل�شكلة عندما �إىل دينني خمتلفني ،مما يثبت �أن املعارك ال ت�شتعل
حتاول احل�ضارة الغربية �أو الأقوى ت�أكيد هيمنتها بال�ضرورة يف اختالف الأديان وال تقع �شرارتها الأوىل
وفر�ض مناذجها على العامل من خالل ال�سيطرة يف �سبيلها ،وما منوذج احلربني العامليتني الأوىل
الكونية للعوملة ،وتزداد املواقف تباعد ًا ب�سبب احلمالت والثانية علينا ببعيد.
الهادفة لت�شويه �صورة الإ�سالم يف الغرب ولربطه �إن احلروب التي جي�شت لها اجليو�ش حتت العناوين
بالعنف والإرهاب وت�صاعد �أحداث العنف الدموي الدينية الكبرية كانت �أبعد ما تكون عن حقيقة التعبري
التي تعك�س �شعارات دينية وتطيح ب�ضحايا �أبرياء، الديني يف �سموه الروحي ،لأن العنف تعبري عن الرت�سب
بالإ�ضافة �إىل تنامي اخلطاب الديني التحري�ضي ال�سهل لع�صبية الدين ،والت�سامح هو ح�صيلة الوعي
وال�سجايل لفظ ًا وترميز ًا مبا يوحي بانبعاث �أ�صوليات احلقيقي ال�صعب لر�سالة الدين ولندلل على ذلك بعدد
�إ�سالمية وم�سيحية يف ال�شرق والغرب ،وا�ستخدام من الأمثلة ،منها على �سبيل املثال ال احل�صر املرحلة
الدين للتناف�س ال�سيا�سي وبالتايل الو�صول �إىل ال�سلطة الأندل�سية ،فهذه املرحلة مل تعرف ازدهار ًا يف ال�شعر
واال�ستئثار بها .ومن العقبات التي تقف �أمام الت�سامح والأدب والهند�سة والفنون �إال نتيجة تالقي احل�ضارات
�أي�ضا غياب العدالة االجتماعية والإح�سا�س بالغنب والأديان ،وت�شاركها يف رحابة وت�سامح بالرغم من
االجتماعي عند فئة دون غريها ،ولذلك ف�إين �أرى �أن ت�صادم االختالف.
هناك جمموعة من اخلطوات الواجب اتخاذها من ومع �أن امل�سلمني دخلوا الأندل�س يف القرن التا�سع
�أجل زيادة م�ساحة الت�سامح وتنقيته من �أي �شوائب حاملني ح�ضارة خمتلفة ودين ًا خمتلف ًا ولغة خمتلفة،
ومنها: ومع �أن امل�سيحيني يف ا�ستعادتهم للأندل�س بنوا
� -1إبراز القيم الإيجابية عند الآخر وامل�ساعدة على كني�ستهم بالقوطية عنوة داخل �أعمدة جامع قرطبة،
تطويرها. �إال �أن املرحلة الأندل�سية ما جتلت كح�ضارة �إال نتيجة
-2التمهيد حلوار متكافئ يرف�ض �أن يكون دعوة الت�سامح املتبادل بني الإ�سالم وامل�سيحية.
ويرف�ض �أن يكون تب�شري ًا. �أما بالن�سبة ملرحلة احلروب ال�صليبية ،وهي العقبة
� -3إقامة م�ؤ�س�سات فاعلة للحوار امل�ستمر. الفكرية الكبرية يف فهم تاريخ القرون الو�سطى وعالقة
-4التعرف على الآخر من خالل تعريفه هو لذاته. امل�سيحية بالإ�سالم ،فعلينا نحن �أهل ال�شرق ا�ستعادة
-5تعزيز االنتماء �إىل م�ؤ�س�سات املجتمع املدين وتفعيل قراءتها املت�أنية من م�صادرها املتقابلة ،لك�سر هذا
املواطنة. الوهم الكبري واخللط بني الدعوة الدينية والأزمات
العمل الفني :فاحت املدرس -سورية
االقت�صادية واملعارك احلربية وال�سيطرة ال�سيا�سية.
79
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
ق�ضية العدد ق�ضية العدد
العدد ا ق�ضية
عدد ق�ضية العدد
العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
80
�أ�صبحت ح�ضارة الأمم ال تقا�س اليوم فقط
مبدى التقدّم العلمي والتقني الذي اكت�سبته،
بل �أي�ضاً مبدى قدرتها على اخلروج من
تقوقعها الذاتي ،وقدرتها على ر�ؤية الآخر
املختلف ،واالعرتاف له بكامل حقوقه وعلى
ر�أ�سها حق الوجود ،وحق االختالف.
وهذه القدرة لي�ست ملكة معطاة ،بقدر ما
هي مكت�سب فكري وح�ضاري يتم اختياره
املهمة
بالتدريج ،بالتوازي مع الن�ضج الفكري
املتمثل يف حتجيم مظاهر الرنج�سية
الفكرية واجلماعية التي حتجب ر�ؤية الآخر
الع�سرية
كما هو ،وتعوق عملية فهم وتفهم �أو�ضاعه
وخ�صو�صياته ودوافعه.
فقط ،بل طالت كل م�ستويات الوجود االجتماعي يف و�إذا كانت الع�صور ال�سابقة من تاريخ الب�شرية قد
هذه البلدان ،وبخا�صة منها العالقات بني النا�س .فهذا ات�سمت بالعديد من احلروب وال�صراعات االثنية،
الطفح الدميغرايف يبز كل حماوالت التنمية ،وي�ؤ ّدي �إىل واملذهبية والدينية ،ناهيك عن ال�صراعات االقت�صادية
تزايد مظاهر ال�صراع من �أجل ك�سب لقمة العي�ش ،كما وال�سيا�سية ،ف�إنه من املفرت�ض اليوم � -أمام التق ّدم
يقذف ب�شرائح كبرية من ال�سكان يف �أتون حياة يومية الهائل يف معرفة �أحوال خمتلف الأمم وال�شعوب،
تت�سم بالفو�ضى املعمارية ،والتكد�س ال�سكني ،وال�صراع وكذا التق ّدم الهائل الذي حققته الفل�سفة والعلوم
احلاد على اخلريات واخلدمات ،مما يولد ذهنية �أو التع�صب يف
ّ الإن�سانية يف فهم �آليات ودوافع ومنطق
نف�سية قوامها عدم التهي�ؤ للت�سامح واحلوار ،بل على خمتلف مظاهره وم�ستوياته� -أن تخطو كل ال�شعوب
النقي�ض من ذلك التهي�ؤ خلطاب العنف وممار�سات التع�صب العرقي،
ّ خطوة �إىل الأمام يف نبذ مظاهر
العنف واالحتجاج الناجتني عن الإحباط .فالالت�سامح الفكري ،الديني وال�سيا�سي ،ويف ا�ستبدالها ب�آليات
هو املهاد اخل�صب للعنف ،والت�سامح هو الطريق �إىل للحوار والتفاهم والإ�صغاء املتبادل ،غري �أنه �إذا كانت
احلوار والتفاهم وال�سالم. الب�شرية قد حققت نظري ًا ومبدئي ًا -بحكم التط ّور
املعريف� -إمكانيات �أكرب لفهم الآخر املختلف وتفهم
ت�سامح �أم ت�ساهل؟ خ�صو�صياته يف الإدراك والفعل ،ف�إن عوامل �أخرى قد
برزت و�شكلت الأر�ضية اخل�صبة ملمار�سة العنف و�أ�شكال
وهذه الو�ضعية اجلديدة تتطلب� -إ�ضافة �إىل التحوالت عدم الت�سامح ،منها التق ّدم التقني يف اكت�شاف �أ�ضخم
االقت�صادية واالجتماعية -تطوير ثقافة جديدة قوامها و�أدق و�سائل العنف وت�سويقها على نطاق وا�سع ،ومنها
القبول بالتع ّدد واالختالف ،واعتماد خطاب و�آلية ما ا�صطلح على ت�سميته بع�صاب احل�ضارة احلديثة
احلوار والتفاهم بدل الإق�صاء وال�صمم عن �سماع املتمثل يف مظاهر القلق والالمعنى التي تراود نف�سية
�صوت الآخر� .إال �أن الت�سامح لي�س جم ّرد فكرة �أو حالة الفرد �أو املجتمعات احلديثة ،ومنها التفكك التدريجي
نف�سية نعتنقها عند �أول م�صادفة ،ولي�ست جمرد موقف لآليات الت�ضامن والتعا�ضد الع�ضوي التي كان املجتمع
�سلبي يتمثل يف الالمباالة جتاه معتقدات الآخرين� ،أو التقليدي يوفرها للأفراد ويحميهم وي�ؤطرهم بها،
احللم �أو الت�ساهل الذي ينم عن درجة من االحتقار، �سواء تعلق الأمر مبظاهر الت�ضامن العائلي� ،أو القبلي،
�أو الرفق� ،أو االمتثال التعودي� ،أو ال�شفقة الأخالقية، �أو العرقي �أو غريها ،ومنها �أخري ًا الظاهرة الأ�سا�سية
بل �إن الت�سامح يف معناه احلديث موقف �إيجابي يعني التي تق�ض م�ضاجع املجتمعات احلديثة ،وهي ظاهرة
املوافقة وامل�صادقة والتقبل الواعي واالختيار الإرادي. التفاوت احل�ضاري وما ينتج عنها من فقر وغنب .فقد
وبالتايل فهو موقف يتطلب عناء ومراجعة للرنج�سية عرفت املجتمعات التي هي يف طريق النمو طفرات
الذاتية الفردية واجلماعية وممار�سة نقد ذاتي جتاه دميغرافية كا�سحة مل تكتف بتغيري امل�شهد املعماري
81
الآدميني الوارد �ضمن الأحكام ال�سلطانية للماوردي �ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
(تويف �سنة 450هـ) ،ور�سالة حممد ح�سني النجفي ق�ضية العدد ق�ضية العدد
النائيني �سنة ،1909وجمموعة مواثيق حقوق الإن�سان
يف الإ�سالم التي �صدرت يف نهاية القرن الع�شرين.
(غامن جواد :مراحل تطور وثائق حقوق الإن�سان يف
العدد ا ق�ضية
عدد ق�ضية العدد
الثقافة الإ�سالمية ،بحث قدم لندوة جمموعات منظمة العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
العفو الدولية ،الرباط ،فرباير .)2000 دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
علم احلوار
الثقافة الذاتية واملن�شطات الأيديولوجية التي يجد
كما �أن الرتاث العربي الإ�سالمي غني ب�أدبيات احلوار املرء نف�سه واقع ًا فيها .والت�سامح يف معناه احلديث
واملناظرة .بل �إن يف هذا الرتاث علم ًا كام ًال للحوار لي�س فقط حماولة للخروج من الذات لر�ؤية الآخر يف
وللمناظرة ،وقامو�س ًا غني ًا مادته املجادلة واملخاطبة مت ّيزه واختالفه ،بل �إنه يتطلب جهد ًا فكري ًا وت�سلح ًا
واملناق�شة واملنازعة واملجال�سة واملذاكرة واملطارحة ثقافي ًا بالثقافة احلديثة (ثقافة احلداثة) ثقافة احلق
وامل�ساجلة واملداولة واملناق�ضة �سواء داخل الثقافة وامل�ساواة� ،إ�ضافة �إىل مراجعة نقدية للرتاث الثقايف
العربية الإ�سالمية �أي بني الفرق املختلفة� ،أو بينها وبني التقليدي بهدف ت�أويله وتكييفه مع معطيات ثقافة
الثقافات الأخرى. احلداثة الفكرية.
هناك اليوم �ضرورة ق�صوى لإحياء هذا الرتاث ثقافة الت�سامح هذه ال تعدم جذور ًا �سواء يف تراثنا
الثقايف املمتلئ بالعديد من القيم اخليرّ ة واجلميلة� ،أو
وتطويره ليكون �سند ًا ثقافي ًا لإنعا�ش ثقافة احلوار التي
يف الثقافة احلديثة ذاتها التي نظمت مقولة الت�سامح، يجب مراجعة
يفر�ضها علينا الع�صر احلديث الذي يطلق عليه ع�صر
التوا�صل. و�أدجمتها يف القوانني وامل�ؤ�س�سات احلديثة. الرتاث
� - 2إن كل ثقافة ت�شهد ،بدرجة �أو �أخرى� ،صراع ًا ت�أويلي ًا فالدين الإ�سالمي يت�سم برف�ضه للإكراه يف االعتقاد «ال
تتوقف نتائجه لي�س فقط على ال�سياق الثقايف املحيط، �إكراه يف الدين – ولو �شاء ربك لآمن من يف الأر�ض كلهم الثقايف
بل �أي�ض ًا على ال�سياق االجتماعي ذاته .فالثقافة هي جميعا� ،أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني» (�سورة التقليدي
مبثابة خمزون فكري متع ّدد الألوان ،قابل لال�ستثمار ل�ست عليهم مب�صيطر» يون�س) «فذكر �إمنا �أنت ُم َذكر َ
والت�أويل يف اجتاهات خمتلفة .والقوى االجتماعية (الغا�شية )22و «وما على الر�سول �إال البالغ املبني» وتكييفه
والثقافية التي هي يف موقع الت�أثري وال�سيادة هي التي (النور )54وقوله تعاىل «وق ّل احلق من ربكم فمن �شاء مع معطى
تفر�ض الت�أويالت املالئمة لها .لذلك قد يكون من عدم فلي�ؤمن ومن �شاء فليكفر» (الكهف � ...)29إلخ.
الدقة �أن ن�صف هذه الثقافة الدينية �أو تلك بالعنف �أو الرتاث العربي الإ�سالمي ب�شقيه الديني والثقايف غني احلداثة
ال�سالم ،باالنغالق �أو االنفتاح ،بالت�ش ّدد �أو املرونة .بل ُمبثل و�آيات الت�سامح .وككل تراث ،روحي و�إن�ساين،
�إن �شروط التفاعل االجتماعي ال�سيا�سي الثقايف هي تتعاي�ش فيه ثقافة الت�شدد وثقافة الت�سامح.
ال�شروط املح ّددة ح�سب الفرتات .ف�إذا كانت العقود يف الن�صو�ص الدينية تتفاعل ب�شكل رفيع وارتوازي
الأخرية قد �شهدت انبعاث ت�أويالت وفهوم �أرثوذوك�سية ثقافة العنف وثقافة الت�سامح وال�سلم� ،أو �آيات ال�سيف،
مت�ش ّددة للن�صو�ص الإ�سالمية تبع ًا ل�سياقات وحم ّددات و�آيات احلوار والت�سامح .وهنا ال بد من �إبداء بع�ض
داخلية وخارجية فلي�س معنى ذلك �أن الثقافة الدينية املالحظات:
الإ�سالمية هي ثقافة ت�ش ّدد وانغالق وعنف كما مييل � - 1إن عدد �آيات احلوار والت�سامح هو �أكرث من � 60آية
الغرب اليوم �إىل ت� ّصور وت�صوير ذلك. (انظر ماجد الغرباوي :الت�سامح ومنابع الالت�سامح،
بغداد� ،2006 ،ص.)164-159:
الوجه الآخر وبجانب الن�صو�ص القر�آنية امل�شرعة للت�سامح العقدي
والفكري تن�ضح ال�سرية النبوية بدورها بقيم الت�سامح
لكن �إبراز الوجه الآخر للثقافة الدينية الإ�سالمية والدعوة للحوار� ،إذ كان النبي الكرمي ي�ستقبل �أهل
يتطلب ت�ضافر اجلهود الفكرية من طرف نخب ثقافية الكتاب وامل�شركني ويحاورهم ،وير�سل الر�سائل والبعثات
ا�ستوعبت �أ�س�س وحم ّددات الثقافة الإن�سانية الكونية �إىل ملوك الن�صارى ،ويربم معهم االتفاقيات والعهود
احلديثة وبخا�صة يف جمال الإن�سانيات ،لإبراز وتقدمي (عهد جنران.)..
القراءة ،امل�ستنرية للن�صو�ص الإ�سالمية ،ومن ثمة وهناك تراث من الن�صو�ص الإ�سالمية التي ميكن
تطوير وتعميق بعد االنفتاح والت�سامح فيها. اعتبارها ،بجانب الكتاب وال�سنة� ،سند ًا لثقافة حقوق
وهي بالت�أكيد مه ّمة ع�سرية بالنظر �إىل قوة عوامل الإن�سان يف الثقافة الإ�سالمية �أولها خطبة الوداع،
املقاومة والنكو�ص يف جمتمعات ما يزال الوعي ال�سائد وو�صية �أبي بكر ال�صديق لعامله يف ال�شام ،وكتاب عمر
فيها يت� ّصور �أن مظاهر التجديد الثقايف والفكري على بن اخلطاب �إىل �أبي مو�سى الأ�شعري ،وعهد الإمام
�أنها خروج عن الن�ص. ملالك اال�شرت عامله يف م�صر (�سنة 39هـ) ،ور�سالة
� - 3إن العامل قد دخل يف �سريورة حتوالت نوعية على احلقوق لعلي بن احل�سني زين العابدين ،وحقوق
82
والكرامة املالزمني لكل كائن ب�شري .فنيل االعتبار كافة امل�ستويات مع ن�شوء احلداثة ب�شقيها املادي والثقايف.
واالحرتام واالعرتاف بالكرامة هنا مل يعد �إح�سان ًا� ،أو و�إنه ابتداء من القرن الثامن ع�شر بد�أت تتبلور ثقافة
هبة� ،أو تكرم ًا� ،أو �شفقة �أخالقية �أو جمرد ف�ضيلة بل �إن�سانية حقوقية قوامها التعاقد ،وامل�شروعية ،واحلق،
�أ�صبح حق ًا للمتلقي وواجب ًا على الطرف الآخر. وحمورها التفاعل الإن�ساين ،ثقافة ّمت فيها االنتقال
من بني االتفاقيات الدولية التي غذت هذا التح ّول نذكر بالفكر ال�سيا�سي من الإ�شكالية الالهوتية ال�سيا�سية
«اتفاقية الق�ضاء على كل �أ�شكال التمييز العن�صري» �إىل الإ�شكالية ال�سيا�سية الإن�سانية التي تعترب منظومة
( )1965و«الإعالن املتعلق بالق�ضاء على كل �أ�شكال حقوق الإن�سان نواتها املركزية.
التع�صب والتمييز القائمني على �أ�سا�س الدين �أو املعتقد» ّ
( )1981و«اتفاقية الق�ضاء على كل �أ�شكال التمييز الأخالق والت�شريع
�ضد املر�أة» (� )1979إىل غري ذلك من االتفاقيات
التي ت�شكل ثقافة �سيا�سية كاملة للت�سامح .وقد انعك�ست يف �سياق هذا التحول �أخذت العديد من املقوالت
هذه االتفاقيات على مواثيق املنظمات الإقليمية ،وعلى الأخالقية تتح ّول �إىل مقوالت ت�شريعية وقانونية ،ومن
د�ساتري وقوانني خمتلف الدول. بينها مقولة الت�سامح ،التي �أخذت يف االنتقال التدريجي
وعلى وجه العموم ت�شكل مقولة الت�سامح �أحد مق ّومات من كونها نوع ًا من الف�ضيلة املتمثلة يف ال�شفقة ،والرحمة،
الفكر احلديث كله .ولعل ما مييز هذا الفكر هو كونه والعفة ،واحللم ،والرفق ،لتكت�سب طابع ًا ت�شريعي ًا
حتولت
ّ
قد �أ�ضفى على هذه املقولة طابع ًا م�ؤ�س�سي ًا وقانوني ًا وقانوني ًا وم�ؤ�س�سي ًا� ،أي لت�صبح بالتايل حق ًا �أ�سا�سي ًا من
وتنظيمي ًا ،ومل يعد يكتفي باعتبارها جمرد مقولة �أو حقوق الإن�سان .وقد طال هذا التح ّول العديد من املُثل
املقوالت مثال �أخالقي. الأخالقية التي انتقلت بالتدريج من جمال ال�ضمري �إىل
الأخالقية فالدميوقراطية ،التي هي قوام نظام احلكم الع�صري،
تت�ضمن مقولة الت�سامح وت�ستدجمها يف �صلبها ،ناقلة
جمال الت�شريع �أو من دائرة الأخالقية الذاتية �إىل دائرة
الأخالقية املو�ضوعية ح�سب امل�صطلحات الهيغلية.
�إىل مقوالت �إياها من م�ستوى الف�ضيلة �إىل م�ستوى احلق .وذلك لأن وبذلك ت�ستكمل احلداثة ال�صرح الأخالقي ب�إ�ضافة
قوام الدميوقراطية هو القبول بتعدد وتوازن احلقوق الآليات املو�ضوعية �إىل الوعي الأخالقي �أو ال�ضمري،
ت�شريعية وامل�صالح املختلفة .وبالتايل ميكن اعتبار الت�سامح �أحد انطالق ًا من اقتناع فكري م�ؤداه �أن الوعي وال�ضمري ،يف
وقانونية الأ�س�س الثقافية الرئي�سية للدميوقراطية ،مثلما هو �صورتيهما الأخالقية والدينية� ،ضروريان ،لكنهما غري
الفكرة املحورية الناظمة ملبد�أ حقوق الإن�سان. كافيني ب�سبب ه�شا�شة الكائن الب�شري ،وعدم قدرته على
ت�صادر فكرة الت�سامح على مبد�أ �ضمني �أ�سا�سي ال�صمود �أمام الإغراءات والإغواءات التي تت�ضاعف يف
هو امل�ساواة املطلقة بني الأفراد والأجنا�س والأقوام ع�صر احلداثة والوفرة.
واحل�ضارات .كما �أنها ت�صادر على فكرة �أخرى هي حق يطفح الرتاث الثقايف للأمم املتحدة بالعديد من الأمثلة
االختالف .فالنا�س مت�ساوون فيما بينهم مهما اختلفت التي ت�شهد على هذا التح ّول واالنتقال يف ت� ّصور الت�سامح
مذاهبهم ودياناتهم ،وعاداتهم ،و�أجنا�سهم ،وعروقهم، من القيمة الأخالقية �إىل م�ستوى احلق املن�صو�ص عليه
و�أنظمتهم ولغاتهم ،بل �إن مقولة الت�سامح هي �إقرار ت�شريعي ًا.
باحلق من هذا احلق. تن�ص ديباجة ميثاق الأمم املتحدة على اعتبار الت�سامح ّ
وعلى امل�ستوى الفكري نالحظ �أن الت�سامح الفكري قيمة �أ�سا�سية يف العالقات بني الدول والأفراد»:نحن
مرتبط بن�سبيته احلقيقية ،والقبول بتع ّدد املعاين، �شعوب الأمم املتحدة �آلينا على �أنف�سنا �أن نعي�ش ونحن
واختالف الت�أويالت ،وتكاثر القراءات للظاهرة ن�أخذ �أنف�سنا بالت�سامح ،و�أن نعي�ش مع ًا يف �سالم وح�سن
الواحدة �أو للن�ص الواحد .وعلى النقي�ض من ذلك ف�إن تن�ص مواد هذا امليثاق على �ضرورة «تعزيز جوار» .كما ّ
القول بالر�أي الواحد الأحد واحلقيقة الوحيدة �أو املعنى احرتام حقوق الإن�سان واحلريات الأ�سا�سية للنا�س
الوحيد هو نوع من اال�ستبداد الفكري الذي يتعني علينا جميع ًا ،والت�شجيع على ذلك دون متييز ح�سب العن�صر
اليوم مقاومته وا�ستبعاده. �أو اجلن�س �أو الدين».
التع�صب املذهبي، ّ املختلفة: التع�صب
ّ �إن �أ�شكال لكن بجانب ميثاق الأمم املتحدة الذي هو وثيقة توجيهية
والتع�صب الوطني ّ والتع�صب العرقي،
ّ والتع�صب الديني،
ّ ذات طابع معنوي و�أخالقي ،وبالتايل غري ملزم ،ف�إن
والتع�صب الريا�ضي الذي يربز ّ بل أجانب)، ل ا (رف�ض الأمم املتحدة نف�سها قد �أ�صدرت العديد من االتفاقيات
�إىل ال�سطح بني الفينة والأخرى تدل على �أنه رغم كل التي توقع عليها الدول الأع�ضاء ،وتعترب توقيعها عليها
هذه اجلهود وعلى الرغم من كل هذا الرتاث الروحي نوع ًا من االلتزام بتطبيقها وا�ستدماجها يف ت�شريعاتها
والقانوين وامل�ؤ�س�سي ف�إن الت�سامح مل يتح ّول اليوم �إىل املحلية .وهذه االتفاقيات هي �صيغ قانونية وت�شريعات
�سلوك يومي ومل ي�صبح ذهنية وم�سلكية عامة لدى كل تت�ض ّمن الت�سامح كخلفية فكرية لها ،و�أوالها و�أهمها
الب�شر� ،إذ ما تزال بقايا الرنج�سية الفردية واجلماعية يف هذا الباب «اتفاقية �إلغاء العبودية واال�سرتقاق» مبا
طاغية ومتف�شية ب�شكل كبري .وهو ما يجعل �أمر �إقرار تعنيه من �إقرار للم�ساواة املطلقة يف احلق يف االنتماء
الت�سامح مهمة ع�سرية ،لأنها تتطلب �أوال تذويب الكثري للإن�سانية بعيد ًا عن �أي متييز يف اللون �أو العرق �أو احلق
من الرنج�سيات والأحكام امل�سبقة. يف الكرامة .والوجه الآخر لهذه االتفاقية هو �إقرار حق
العمل الفني :سامي محمد -الكويت الآخر ،املختلف عرق ًا ولون ًا ،يف �أن يحظى باالحرتام
83
حوار
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
ق�ضية العدد ق�ضية العدد
العدد ا ق�ضية
عدد ق�ضية العدد
العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
الطر�شان!
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
قابيلو
العهد القدمي �سفر التكوين( .)5-4
لل�صراع والتي يطلق عليها كارل مارك�س ال�صراع الطبقي، �إن رحلة الب�شرية والفكر الب�شري تدل على التطور املطرد
وي�سميها هيغل رحلة الروح ،واملانوية والبو�شية ثنائية من الع�صبية ال�شديدة والعنف املرتبط �أ�شد االرتباط
اخلري وال�شر ،ولعل تنوع الآلهة يف الهند حد الكرثة الكاثرة بالبيئات واملجتمعات الأكرث تخلف ًا وب�ؤ�س ًا وهي ما �أطلق
هو ما �أعطى للح�ضارة الهندية وللأمة هذه الروح ال�سمحة عليها مارك�س املراحل اخلم�س و�إن كانت تلكم الت�شكيالت
واملتفتحة ومع ذلك ف�إن �أكرث االجتاهات الهندية ت�ساحم ًا املجتمعية تختلف من �أمة لأخرى ،ومن ح�ضارة حل�ضارة،
قد �شهدت �ضراوة العنف واالغتيال ب�سبب التفاوت فلل�شرق -كما تنبه م�ؤخر ًا مارك�س وال�سال -طبيعة تطور
االجتماعي والثقافات العن�صرية والتمييز. خمتلفة عن �أوروبا تت�سم باالزدواج والتداخل وميوعة
وحق ًا ف�إن الأنبياء يف ال�شرق الذين ال ح�صر لهم ،واملر�سلني احلدود بني ت�شكيلة و�أخرى.
على كرثتهم ،م�ؤ�شر التعدد والتنوع والتفتح والت�سامح. �صحيح �أن ال�سمة الغالبة لهذه الت�شكيالت البدائية
مرت كل الأمم وال�شعوب مبوجات من احلروب والعنف عبودية �إقطاع الق�سوة والعنف والع�صبية �إال �أنها �أي�ضا قد
والق�سوة �سواء داخل كل �أمة و�شعب �أو بينهما وجوارهما، حملت بذار التفتح والت�سامح ،كما �أن الت�سامح و�إن ارتبط
وحتى البعيدون عنهم ،وتاريخ الب�شرية كلها مليء بكوارث بالتحديث والتح�ضر واال�ستقرار� ،إال �أن هذه احل�ضارات قد
العنف واالحرتاب منذ الوالدة ،كما عرف �أي�ض ًا �ألوان ًا من زخرت بالق�سوة والعنف واحلروب �أي�ضاً.
التفتح واحلوار والت�سامح. ق�صة هابيل وقابيل دالة لأنها تعود �إىل مراحل باكرة
�إن الديانات ال�سماوية (التوحيدية الثالث) قد عرفت يف التاريخ الب�شري (ق�صة الراعي واملزارع) ب�أبعادهما
التع�صب واالحرتاب والتجرمي والتكفري والقتل وحتى الرمزية قد ظلت قائمة يف كل املجتمعات والتاريخ الب�شري
الإحراق ،كما عرفت �أي�ض ًا الت�سامح والت�آخي والرتاحم، واتخذت �أ�شكا ًال و�صور ًا �شتى :التاجر العامل ،الفالح
عرفت امل�سيحية الطوائف العديدة كما �شهدت اليهودية الر�أ�سمايل ،البدوي املتمدن ...الخ.
انق�سامات �أي�ض ًا و�صراعات متنوعة .وكان الإ�سالم �آخر
الديانات التوحيدية زاخر ًا باملذاهب الفقهية واحرتام ثنائيات
حرية االجتهاد قبل ع�صور االنحطاط والدكتاتورية
واال�ستبداد ،وميثل علم الكالم الإ�سالمي مدر�سة زاهية يف وهل ال�صراع يف ت�شاد ودارفور �إال �صورة من �صور هابيل
حرية الر�أي والتعبري ،واحرتام حق االعتقاد ،ويف الوقت وقابيل؟! وميكن الرتميز بهابيل وقابيل ملا يجري بني
�أي�ض ًا �شهد الفكر الكالمي خالفات تبد�أ وال تنتهي حتى يف �إ�سرائيل والعرب وبني �أمريكا والعديد من بلدان العامل،
�أكرث هذه املذاهب عقالنية وحترراً ،فالأحناف على �سبيل وبالأخ�ص العراق وفل�سطني و�أفغان�ستان ،فالرموز الب�شرية
88
املثال ،وهم من �أكرث املذاهب ا�ستناد ًا �إىل العقل ،قد وقعوا
يف كمائن التكفري والتخوين للخ�صوم ،وحمنة �أحمد بن
حنبل مع املعتزلة معروفة ،فالفاجع �أن حمنة ابن حنبل
و�أتباعه من القائلني بعدم خلق القر�آن قد بد�أت على يد
املعت�صم ،وهو الأمي الذي يكره العلم كراهة املوت.
ولقيت املطرفية يف اليمن ،وهي ان�شقاق متطور من االعتزال
والزيدية ،حرب �إبادة� .أما يف امل�سيحية ف�إن حماكم التفتي�ش
التزال ت�ؤرق ال�ضمري الإن�ساين .واال�ضطهاد والقمع بني
الكاثوليك والربوت�ستانت اليزال قائم ًا حتى اليوم.
اليهودية
يف اجلانب التاريخي معروف ال�صراع
الكالح والدامي بني الر�سل والأنبياء
و�أتباعهم من بني �إ�سرائيل والعهد
القدمي والقر�آن يحويان عديد ًا من ق�ص�ص
املعاناة والكيد اللذين تعر�ض لهما الأنبياء
واملر�سلون.
يف اجلانب النظري ترى الباحثة الربيطانية كارين
�أرم�سرتونغ «�أن للتوراة �أو �شريعة مو�سى عليه ال�سالم
منطقها الروحي اخلا�ص بها ،وكانت �ش�أنها يف ذلك �ش�أن
(القبااله) متثل ا�ستجابة للنزوح الذي �أتى به املنفى،
فعندما تعر�ض بنو �إ�سرائيل للرتحيل �إىل بابل يف القرن
ال�ساد�س قبل امليالد و�شهدوا دمار املعبد و�أطالل حياتهم
الدينية �أ�صبح ن�ص ال�شريعة معبد ًا جديد ًا يقيم فيه
النازحون لون ًا من الوجود الإلهي».
وكان الن�ص على تق�سيم العامل �إىل ما هو طاهر وما هو
جن�س وما هو مقد�س ،وما هو دنيوي ميثل �إعادة تنظيم
العامل املمزق ب�صورة �إبداعية مبتكرة .وكان اليهود يرون
يف درا�سة �شريعتهم يف املنفى خربة دينية عميقة� ،أي
�أنهم مل يكونوا يقر�أون الن�ص مثل ما يقر�أه املحدثون طلب ًا
للمعلومات فقط ،بل كانت عملية الدرا�سة نف�سها� ،أي طرح
الأ�سئلة والعثور على �إجابات لها ،واملناق�شات احلامية
واال�ستغراق يف �أدق التفا�صيل ،هي التي جتعلهم ي�شعرون
بالوجود الآلهي( .)1ال يفوتنا �أن ن�شري �إىل �أن العزلة يف
الكتاب املقد�س وتق�سيم العامل �إىل خري و�شر قد خلقا
ا�ستعالء ديني ًا وع�صبية عرقية جند ثمارها الكارثية يف
الو�ضع الإ�سرائيلي القائم.
للغرب ،ولكنها ال ت�ستطيع الهرب منها� ،إذ �أدت احل�ضارة ويالحظ الدكتور عبد الوهاب امل�سريي �أن الت�شريعات
الغربية �إىل تغيري العامل تغيري ًا ال ي�سمح لأي �شيء بالعودة
املختلفة هي حمور اخلالف بني الفرق اليهودية يف الع�صر
�إىل ما كان عليه حتى الدين ،بعد �أن �شغل النا�س يف �شتى احلديث� ،إذ يرى اليهود املتزمتون �أنهم مكلفون بتنفيذ
بقاع الأر�ض بهذه الأحوال اجلديدة ،وا�ضطروا �إىل �إعادة كل ما جاءت به ال�شريعة اليهودية ويف �صياغة حياتهم
تقييم تقاليدهم الدينية التي كانت موجهة لنمط بالغ وفق ًا لقواعدها .بينما يذهب الإ�صالحيون �إىل القول �إن
االختالف من �أمناط املجتمع(.)3 الت�شريعات مرتبطة مبكان وزمان حمددين ،و�إن قواعدها
والواقع �أن ن�ش�أة الأ�صولية ال ميكن قراءتها فقط من غري ملزمة .ويرى املحافظون �أنهم ينفذون روح ال�شريعة
منطق التعميم ،فهي متعددة ومتنوعة وقراءتها امل�سيحية دون حرفيتها(.)2
خمتلفة عنها بهذا القدر �أو ذاك يف الإ�سالم �أو اليهودية
�أو البوذية �أو �أي مذهب من املذاهب ،وما يعنينا �أكرث هنا الأ�صولية
قراءة الأ�صولية يف املنطقة العربية وحتديد ًا االجتاهات
وترى الباحثة �أن احلركات الأ�صولية قد ن�ش�أت وارتبطت اجلاحمة للتكفري والتخوين ،ومدى قربها �أو بعدها من روح
ارتباط ًا حيوي ًا باحلداثة .فهي ترف�ض العقالنية العلمية العقالنية والت�سامح ،الذي يحتل م�ساحة �أعمق و�أو�سع يف
89
�أبوبكر العربي واجلويني والباقالين (.)4 �ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
ويعلل �أبو بكر الرازي لرتجيح العقل ب�أنه �أ�صل للنقل فك�أن
ق�ضية العدد ق�ضية العدد
الطعن يف العقل طعن يف العقل والنقل مع ًا(.)5
ومل يجمع الفقهاء على �شيء ك�إجماعهم على �أن الإن�سان
�إذا قال قو ًال يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإميان من
العدد ق�ضية ا
عدد ق�ضية العدد
وجه واحد حمل على الإميان. العددق�ضية العدد العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
وي�شري و�ضاح طاهر يف مبحث له عن الت�سامح الديني يف دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
اليمن �إىل عدة حقائق منها:
-كل جمتهد م�صيب.
الفكر الإ�سالمي و�إن كنا ندرك �أن هناك م�شرتك ًا بني كل � -إذا اختلف مذهب �إمام ال�صالة ومذهب امل�ؤمت به فالإمام
حاكم. هذه الأ�صوليات.
-ال �إنكار يف خمتلف فيه. يف أدلة � و لها ا
ً �سند جتد املتطرفة االجتاهات �صحيح �أن
قرائنها لبع�ض من جوانب الدين والتاريخ والفرق والطوائف -ال يكون التكفري والتف�سيق �إال بديل قاطع.
املت�شددة .ولكن الأ�صح �أن اجلوانب املعتدلة والعقالنية
علم الكالم وغنى التنوع هي الأكرث �شيوع ًا ورجحاناً ،ففي الآيات ع�شرات الأدلة
على حرية الر�أي واالعتقاد« ،من �شاء فلي�ؤمن ومن �شاء
فليكفر» (الكهف « ،)29لكم دينكم ويل دين» (الكافرون ،)6وميثل علم الكالم مدر�سة �إ�سالمية زاهية �أو بالأحرى
«�أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني» (يون�س « ،)99ال مدار�س متعددة ومتنوعة وحتى متعار�ضة ..فهناك ر�سائل
�إكراه يف الدين» (البقرة « ،)256ادع �إىل �سبيل ربك باحلكمة املوحدين واختالف امل�صلني لأبي احل�سن الأ�شعري واحل�سن
واملوعظة احل�سنة وجادلهم بالتي هي �أح�سن» (النحل ،)125الب�صري ومدر�سته االعتزالية التي بد�أت منذ نهايات
«ولو كنت فظا غليظ القلب النف�ضوا من حولك» (�آل عمران القرن الثاين الهجري حني تالقت �أفكار امل�سلمني .وبد�أ
االحتكاك بني هذه الأجنا�س املختلفة تظهر �آثاره بالنقا�ش االجتاهات .)159
املتطرفة والقر�آن الكرمي زاخر بالآيات الداعية �إىل العقل والتفكري واخل�صام يف �أ�صول الديانات وعقائدها .وات�سع اجلدل
والنظر والتدبر« .ال يكلف اهلل نف�سا �إال و�سعها» (البقرة فيها �شيئ ًا ف�شيئاً ،فتناول الأحداث التاريخية واالختالف
جتد �سنداً « ،)286يريد بكم الي�سر وال يريد بكم الع�سر» (البقرة ،)185بني علماء امل�سلمني(.)6
لها و�أدلة «يريد اهلل �أن يخفف عنكم وخلق الإن�سان �ضعيفاً» (الن�ساء وقد مثلت هذه املدار�س بغناها وتعددها وتنوعها وحوارياتها
« ،)28وما جعل عليـكم يف الدين من حرج» (احلج .)78الوا�صلة حد اجلدل واخل�صام مع نف�سها ،ومع امللل والنحل
يف الدين والأحاديث ال�صحـيحة ال�شـارحة للكتاب تزكي وت�ؤكد هذا املختلفة مناهج حقيقية للعلم واملعرفة واحلرية والت�سامح
املنحى�« ..إن هـذا الدين متني ف�أوغلوا فيه برفق �إن اهلل والقبول بالر�أي الآخر املختلف.
والتاريخ ..يحب �أن ت�ؤتى رخ�صه كما يحب �أن ت�ؤتى عزائمه»« .عليكم ويالحظ الباحث الإ�سالمي حممد عمارة يف مقدمة ر�سائل
العدل والتوحيد «ن�ستطيع �أن جند فكر الأ�شاعرة و�أ�صحاب لكن من الأعمال ما تطيقون ف�إن اهلل ال ميل حتى ال متلوا».
الأثر واحلديث بكرثة حممودة يف القاهرة مثالً .كما أن � نلحظ وبتتبع �سري �أئمة املذاهب والفرق الإ�سالمية
العقالنية غالبيتهم العظمى قد رددت القول امل�أثور االختالف رحمة جند فكر ال�شيعة الإمامية يف النجف الأ�شرف ،وخا�صة
�أكرث �شيوع ًا و�أن اخلالف ال يف�سد للود ق�ضية وقال ال�شافعي :ر�أيي الإ�سماعيلية يف الهند وباك�ستان»(.)7
�صواب يحتمل اخلط�أ ور�أيك خط�أ يحتمل ال�صواب� .أما وكان المتزاج الأفكار �أو تالقحها كتعبري حميي الدين ابن
ورجحان ًا الإمام �أبو حنيفة النعمان فكان يردد هذا ر�أي ر�أيناه ،فمن عربي يف فتوحاته �أثر عميق يف احلياة الفكرية واحلياة
جاء ب�أف�ضل منه اتبعناه .وين�ص منت الأزهار يف مذهب ال�سيا�سية فقد كانت الوظائف تعطى للم�ستحق الكف�ؤ
الزيدية ..وهو مرجع مهم على «ال نكري يف خمتلف فيه» .بغ�ض النظر عن عقيدته ومذهبه ،فالأطباء امل�سيحيون
وكان �أحمد بن تيمية احلراين من جمددي القرن الثامن يف العهدين الأموي والعبا�سي ظلوا حمل الرعاية لدى
كثريا ما يردد «�إمنا �أهلك النا�س رجالن ن�صف طبيب من اخللفاء .وكان لهم الإ�شراف على مدار�س الطب يف بغداد
ودم�شق زمن ًا طويالً .وكانوا يعينون يف منا�صب مهمة يف عاجله �أماته ون�صف عامل من �أفتاه �أف�سد دينه».
لقد نظر �أئمة املذاهب �إىل �آرائهم وفتاواهم ك�آراء واجتهاد الدولة الإ�سالمية .
()8
لهم يف قراءة الن�ص ،مهتدين باحلديث ال�شريف «من �أ�صاب وكانت احللقات العلمية يف ح�ضرة اخللفاء جتمع بني
فله �أجران ومن �أخط�أ فله �أجر» ولي�ست املعتزلة وحدها من خمتلف العلماء على اختالف �أديانهم ومذاهبهم .كانت
قالت بتقدمي العقل على النقل ،بل �إن عامل ًا جمتهد ًا يقلده للم�أمون حلقة علمية يجتمع فيها علماء الديانات واملذاهب
ال�سلفيون والتيارات التكفريية هو ابن تيمية يقول�« :إذا كلها .وكان يقول لهم ابحثوا ما �شئتم يف العلم من غري
حدث تعار�ض بينهما :العقل والنقل ف�إما �أن يجمع بينهما �أن ي�ستدل كل واحد منكم بكتابه الديني كي ال تثور بذلك
وهو حمال لأنه جمع بني النقي�ضني ،و�إما �أن يردا جميعا» م�شاكل طائفية( ،)9ومثل تلك احللقات العلمية ال�شعبية
واحلل؟ يرد فهمي هويدي «فوجب تقدمي العقل» وي�ضيف �أن قال خلف بن املثنى« :لقد �شهدنا ع�شرة يف الب�صرة
هذا الر�أي مبثابة قانون كليب عند �أكرث الأئمة املجتهدين ،يجتمعون يف جمل�س واحد ال يعرف �أحد مثلهم يف الدنيا
الفخر الرازي و�أتباعه .وقبله الإمام الغزايل ،والقا�ضي علم ًا ونباهة .وهم اخلليل بن �أحمد الفراهيدي �صاحب
90
النحو وهو (�سني) ،واحلمريي ال�شاعر وهو (�شيعي) ،ت�سبوا الدهر ف�إن اهلل هو الدهر» والدهرية قالوا �إن الدهر
و�صالح بن عبد القدو�س وهو (ثنوي) ،و�سفيان بن جما�شع مبا يقت�ضيه جمبول من حيث الفطرة الإلهية على ما هو
وهو (خارجي �صفري) ،وب�شار بن برد وهو (�شعوبي خليع واقع فيه فما ثم �إال �أرحام تدفع و�أر�ض تبلع(.)12
ماجن) ،وحماد عجرد وهو (زنديق �شعوبي) ،وابن را�س
التحاور ..املبتد�أ واخلرب اجلالوت ال�شاعر وهو (يهودي) ،وابن نظري املتكلم وهو
(ن�صراين) ،وعمر بن امل�ؤيد وهو (جمو�سي) ،وابن �سنان
احلراين ال�شاعر وهو (�صابئ) ،كانوا يجتمعون فيتنا�شدون التحاور قيمة �إن�سانية عظيمة ،ومبقدار ما ارتبط الت�سامح
الأ�شعار ويتناقلون الأخبار ،ويتحدثون يف جو من الود ال واحلرية والت�آخي باحلوار مبقدار ما ارتبط الطغيان والف�ساد
تعدد الأنبياء تكاد تعرف منهم �أن بينهم هذا االختالف ال�شديد يف والظلم بالكبت والإرهاب وم�صادرة احلرية.
م�ؤ�شر للتنوع وال ميكن بحال التربير للقمع والإرهاب بالدين ،فجوهر ديانتهم ومذاهبهم»(.)10
الدين � -أي دين -يتوخى العدل والإن�صاف واحرتام
والتفتح الإرادة واحلرية ،فقد حتاور اهلل مع املالئكة «و�إذ قال ربك الت�صوف وتعدد احلقيقة
والت�سامح للمالئكة �إين جاعل يف الأر�ض خليفة قالوا �أجتعل فيها من
ويعترب الت�صوف الإ�سالمي �إحدى الثمار الناجحة للتفتح يف�سد فيها وي�سفك الدماء ونحن ن�سبح بحمدك ونقد�س
والت�سامح وحق االختيار .وكانت مدر�سة احلالج وال�شبلي لك قال �إين �أعلم ما ال تعلمون» (الآية 30البقرة) ،والقر�آن
واجلنيد ،ثم فيما بعد ابن عربي والغزايل وال�سهروردي ي�شتمل على ع�شرات الآيات والق�ص�ص التي حتاور فيها
والق�شريي و�صو ًال �إىل �صاحب الإن�سان الكامل «عبد الكرمي �إبلي�س مع اهلل ،وحتاور فيها الأنبياء مع خمالفيهم ،وعر�ض
اجليلي» فقد رفع املت�صوفون �شعارات املحبة والعرفان .القر�آن لهذه الآراء املنكرة واجلاحدة دون زراية �أو نكري.
وكان �شعارهم الأكرث �شيوع ًا وعمق ًا «الطرائق بعدد «اذهبا �إىل فرعون �إنه طغى فقوال له قو ًال لين ًا لعله يذكّر
�أو يخ�شى» (� 44 - 43سورة طه) .فاحلرية �أقد�س و�أثمن ما اخلالئق».
لقد �سبق املت�صوفة التيارات احلداثية وما بعد احلداثية ميتلك الإن�سان وهي حق مواطنة وحق �إن�ساين وحياتي .وهي
يف جعل الإن�سان يف مركز الكون بل ارتفعوا به �إىل مراتب م�س�ؤولية عقلية ودينية و�أخالقية واجتماعية و�سيا�سية.
ويرتبط بهذه احلرية م�ستقبلنا وم�ستقبل �أجيالنا ك�أفراد �أ�سمى و�أعلى.
والكل على حق فعبد الكرمي اجليلي يف كتابه القيم «الإن�سان وك�شعوب وك�أمة .فاال�ستبداد �أ�سو�أ �أنواع ال�سيا�سة ،و�أكرثها
الكامل» يحدد ثالثة �أوجه للو�صول �إىل املعرفة الكاملة وهو فتك ًا بالإن�سان وبغري الإن�سان يف املجتمع املحكوم بالظلم
ما يرد �إىل قلبك من طريق اخلاطر الرباين وامللكي وهو ما والطغيان ،مما ي�ؤدي �إىل الرتاجع يف كافة مرافق احلياة
قال به العديد من ال�صوفية و�أ�صحاب العلم اللدين ،ومنهم ووجوهها و�إىل تعطيل الطاقات وهدرها ..يرى املفكر
حجة الإ�سالم ابو حامد الغزايل الذين يرون املعرفة نور ًا الكواكبي يف (طبائع اال�ستبداد) «�أن اال�ستبداد �أ�صل لكل
يقذف اهلل به يف قلب العبد .الوجه الثاين ما يرد على ل�سان ف�ساد ،ومبنى ذلك �أن البحث امل�ؤكد يف �أحوال الب�شر وطبائع
من ين�سب �إىل ال�سنة واجلماعة وي�شرتط الأخذ به �أن توجد االجتماع ك�شف �أن لال�ستبداد �أثر ًا �سيئ ًا يف كل واد».
له �شواهد� ،أو يكون حمم ًال فهو املراد ح�سب تعبريه ويحيل فاال�ستبداد ي�ضغط على العقل فيف�سده .ويلعب بالدين
فيف�سده .ويحارب الدين فيف�سده .ويغالب املجد فيف�سده، �إىل الإلهام وبني التوقف واال�ست�سالم.
الوجه الثالث �أن يكون وارد ًا على ل�سان من اعتزل عن ويقيم مقامه التمجد .
()13
و
عدد ق�ضية العدد
العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
الهـالك!
نظرات يف «ر�ؤية العامل»
ٌ
يف الإ�سالم املعا�صر
�أ.د .ر�ضوان ال�سيد ما وجد املثقفون العرب �أواخر القرن التا�سع ع�شر «ترجمة» لكلمة
Toleransغري «الت�ساهل» .والواقع �أن هذا «املفرد» ُيراعي املعنى كاتب من لبنان
ثرُ
الأ�صلي الذي �أحاط بظهور امل�صطلح �أو ا�ستعماله .فقد ك ا�ستعماله
يف القرن الثامن ع�شر ،وبرز يف عنوان كتاب الفيل�سوف الربيطاين جون
لوك .وكان بذلك يجيب على حتدي ال�صراع الطويل ،واحلروب التي
مل تنقطع بني الكاثوليك والربوت�ستانت يف �أوروبا .ويف النهاية كان
ال�سيا�سيون ،ولي�س رجال الدين ،هم الذين �أو�صلوا �إىل املُهادنة التي
دفعت باجتاه االعرتاف فيما بعد .وهكذا فمفرد الت�ساهُ ل ،واملفرد الآخر
الت�سامح ،كالهما يطلبان من كل �صاحب عقيدة �أو ر�أي ديني �أو �سيا�سي
�أن يت�ساهل ويت�سامح جتاه املختلفني معه يف الدين �أو يف ال�سيا�سة �أو
ممكن ،لكنها
ٍ تعاي�ش
ٍ يف التوجه الفكري .وهذه درجة دنيا تو�صل �إىل
حميم بني الفئات املختلفة� ،إذ �إن ذلك
ٍ عي�ش
ال تعني على الو�صول �إىل ٍ
يتطلب اعرتافاً متباد ًال يتجاوز الت�ساهُ ل والت�سامح.
92
93
و�أخالدهم -وال�شعب الأمريكي يف القرنني الأولني مك ّون �ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
من �أنا�س هاربني من اال�ضطهاد الديني �إىل �أر�ض اهلل
ق�ضية العدد ق�ضية العدد
اجلديدة � -شرور نزاعات حوايل القرنني من الزمان.
والأمر خمتلف مع التجربة العربية -الإ�سالمية بني الدين
والدولة لقرون و�سيطة متطاولة .فهي ال ت�شبه طبع ًا التجربة
العدد ق�ضية ا
عدد ق�ضية العدد
الأوروبية �أو البيزنطية �إبان �سيطرة الكني�سة الكاثوليكية �أو العددق�ضية العدد
العدد دد ق�ضية
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية
الأرثوذك�سية .كما �أنها ال ت�شبه جتربة التنا ُبذ بني الطرفني دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
يف �أوروبا بعد القرن ال�ساد�س ع�شر .بل وال ميكن القول
�إن هناك ت�شابه ًا قوي ًا بني التجربة الإ�سالمية والأخرى
الأمريكية .لأن التجربة الأمريكية تقول باال�ستقاللية
الكاملة لكل من املجالني .وال ميكن قول ذلك عن التجربة ويف الواقع ،كان هذا امل�سعى الثقايف وال�سيا�سي هو ما
الإ�سالمية التي ما ا�ستقلت فيها الدولة متام ًا عن الدين. حاولت القيام به ليربالية القرن الثامن ع�شر ،وما
لكن كما تختلف العالقة بني الدين والدولة يف الأ�صول ُعرف وقتها بع�صر الأنوار .وتقوم فكرة «االعرتاف» بحد
والن�ش�أة بني الغرب والإ�سالم ،يختلف الدين الإ�سالمي ذاتها على مبد�أين:املعرفة واخل�ضوع ملقت�ضياتها (ولي�س
عن الكاثوليكية يف فهم «اخلال�ص» و�إدارته� ،أو يف دور االعتقاد �أو امل�صلحة) ،ون�سبية احلقيقة .وقد حتقق الكثري
رجل الدين يف امل�شروع اخلال�صي .فبالن�سبة للأ�صل من الليربالية يف املجال الفكري والثقايف� ،أما يف املجال
قامت الدولة منذ البداية يف ح�ضن الإ�سالم وبا�سمه .لكن ال�سيا�سي ،فقد حتققت بالتدريج الدميوقراطية التمثيلية.
امل�س�ؤولني ال�سيا�سيني ،وبعد حماوالت ا�ستمرت حلوايل وما �أمكن حتقيق الليربالية الدينية ،فكان �أنْ جرتْ
القرنني ،يئ�سوا من �إمكان احل�صول على �صالحيات ذات تنحيتها بالعلمانية العنيفة �أو الهادئة عن املجال العام.
طابع ديني ،فاعرتفوا للعلماء والفقهاء با�ستقالل املجال وقد كان هناك من ا�ستغرب مطالع القرن التا�سع ع�شر،
الديني ،وحقهم يف التدخل الت�شريعي� .أما الفقهاء من كيف ميكن حتقيق اعرتاف متبادل يف املجال ال�سيا�سي،
جانبهم فاعتربوا م�سائل ال�ش�أن العام من م�سائل «امل�صالح» رغم امل�صالح املت�ضاربة ،والأمزجة الثائرة ،وحب ال�سلطة تختلف
التي تعود للتقدير الإن�ساين ،ويتوالها ال�سيا�سيون .وبذلك املعروف ،وال ميكن حتقيق ليربالية يف املجال الديني رغم العالقة
قامت منذ ما بعد القرن الثالث الهجري �شراكة رحبة بني �أن اهلل واحد ،ومن املفرو�ض �أن رجال الدين تركوا الدنيا
الطرفني .فاملجاالن متمايزان ،لكن هناك منطقة رمادية وراءهم ظهري ًا؟! وكان هناك من �أجاب� :إن الدين اعتقاد، بني الدين
يتالقيان فيها ،ويتجاذبان يف جمال اقت�سام ثرواتها �أو واالعتقاد ال ي�ستطيع الت�سليم بن�سبية املعرفة �أو احلقيقة، والدولة
�سلطاتها .وقد ا�ستقر الأمر على هذا النحو (�سلطة �سيا�سية �إذ يرتتب على ذلك قو ٌل بالنجاة �أو بالهالك! .وعلى �أي
لي�ست لها �صالحيات يف ال�ش�أن الديني ،وعلماء ي�سيطرون حال ،فالذي وجه امل�شكل باجتاه الت�سامح واالعرتاف ما يف الأ�صول
يف ال�ش�أن الديني ،وال يتدخلون يف ال�ش�أن ال�سيا�سي �إال
نا�صحني) لأكرث من �ألف عام ،وبخا�صة يف الزمن العثماين
كان تع ُّقل رجال الدين ،وال حكمة ال�سيا�سيني ،بل ح�صول
�أمرين :االتفاق على تنظيمات معنية لإدارة ال�ش�أن العام،
والن�ش�أة
عندما قويت �شوكة الدولة ،وا�ستتبعت امل�ؤ�س�سة الدينية �إىل واالتفاق على �إبعاد ال�ش�أن الديني عن املجال العام .وقد بني الغرب
حد بعيد. حروب وف ٍنت متكاثر ٍة داخل كل بلد ،وبني مت الأمران بعد
والواقع �أن ظهور امل�شكلة �أو ح�ضورها �أواخر القرن التا�سع
ٍ ٍ
البلدان املتقاربة واملتباعدة .والطريف ما يقوله الأمريكيون والإ�سالم
داع قوي لوال النموذج الأوروبي العنيف ع�شر ،ما كان له ٍ خمالفني يف ذلك الأوروبيني ب�ش�أن تعليل الف�صل بني الدين
والغلاّ ب .فقد جاءت التنظيمات العثمانية ،ومعها مبد�أ وال�ش�أن العام .الأوروبيون يقولون �إن التدخل الديني يف
املواطنة والد�ستور ،واالنتخابات .وتراجع الدور القانوين ال�ش�أن العام يف�سد الأمور ،ويقوي احلزازات والع�صبيات.
لل�شريعة الإ�سالمية ،وما عادت هناك تفرقة بني النا�س بينما يقول الأمريكيون �إن ال�سيا�سة هي الكفيلة ب�إف�ساد
على �أ�سا�س الدين .و�إمنا بقي ذلك االحرتام وتلك الهيبة الدين وت�شويهه .ولذلك ف�إن املق�صود �إبعاد ال�سيا�سة عن
للإ�سالم بحكم العرف والتاريخ ،و�أن �أكرثية النا�س ال�ساحقة الدين ،ولي�س الدين عن ال�سيا�سة .ومن هنا جاءت تلك
م�سلمة .وما كان طموح رجال الدين �إىل الت�أثري يف ال�ش�أن املادة ال�شهرية والغريبة يف الد�ستور الأمريكي ،والتي
العام ،لأنهم ما اعتادوا ذلك طوال الع�صر العثماين .و�إمنا متنع الكونغر�س من اال�شرتاع يف ال�ش�أن الديني حتلي ًال �أو
كان ال�سالطني وال�صدور العظام والوالة ي�ستدعون �أرباب حترمي ًا ،رف�ض ًا �أو ن�صرة!
امل�ؤ�س�سات الدينية من �أجل احل�صول على موافقتهم على
القوانني اجلديدة يف �صيغة فتاوى ،لتح�سينها وجتميلها f f f
يف عيون العامة .وما كان كثريون من العلماء م�سرورين
بالدنيا اجلديدة والغريبة عليهم ،لكنهم كانوا عدميي العرب يح�سون بامل�شكلة بني الدين والدولة،
..وعندما بد�أ ُ
احليلة واحليل ،ولو �أنهم تذمروا �أو ثاروا فما كانوا ميلكون �إمنا حدث ذلك و�سط ح�ضو ٍر طا ٍغ للتجربة الأوروبية
النموذج القريب الآخر ،املخالف لنموذج الدولة الوطنية ال�سلبية مع الدين ،ولي�س للتجربة الأمريكية املختلفة .ومرة
املتم�صرين ملو�ضوع
ّ ال�صاعدة .ولذا ف�إن �إثارة اللبنانيني �أخرى ما كانت العبقرية الأمريكية وراء تلك «احلكمة» يف
عالقة الدين بالدولة ،واملطالبة بالف�صل بينهما �ش�أن التعامل مع الدين ،بل �إنهم �شاهدوا و�شهدوا ب�أج�سادهم
94
العنف متثل ن�سبة �ضئيلة �ضمن تيارات «ال�صحوة» ،بيد ما حدث بفرن�سا� ،إمنا كان املق�صود به لي�س التذمر من
�أن الر�ؤية واحدة ،ومفادها �أن امل�سلمني غادروا الإ�سالم �سلطة رجال الدين امل�سلمني ،بل من الهالة الدينية خلالفة
�أو غفلوا عنه ،و�أن املطلوب واملفرو�ض ا�ستعادة املجتمعات ال�سلطان عبداحلميد ،ومن جلوء احلكام والوالة امل�سلمني
الإ�سالمية �إىل الدين احلنيف بالقوة �أو باحل�سنى عن �إىل تلك الهالة ،للحيلولة دون حتديد �سلطاتهم وتقييدها
طريق �إقامة الدولة التي تطبق ال�شريعة .ولأن احلوائل دون بالد�ساتري والقوانني وامل�ؤ�س�سات .بيد �أن الأمر جتاوز حده
ذلك ال تقت�صر على اخلارج الهاجم ،بل �إن التغريب جتذر بع�ض ال�شيء عندما راح بع�ض ه�ؤالء يقارنون بني ا�ضطهاد
يف الداخل ،فالرد ينبغي �أن يكون عام ًا و�شام ًال ويف الدين الكني�سة للمفكرين يف الع�صور الو�سطى ،وا�ضطهاد بع�ض
والثقافة وال�سيا�سة ،لإع��ادة �صياغة كل �شيء بالت�أ�صيل املفكرين امل�سلمني يف التاريخ الإ�سالمي .وهنا ويف جتربة
وبالت�صفية وبالتطهري وبالبرت. طه ح�سني وعلي عبدالرازق و�آخرين لعبت عقلية احلداثة
ويحدث ذلك كله يف ثقافتنا وديننا وفهم �ش�أننا العام ،يف -وهي عقلية خ�صوم ٍة وطهوري ٍة بروت�ستانتية -دور مثري
الوقت الذي تطور وتغري فيه الأمر يف العامل من الت�ساهل امل�شكالت ،وخمرتع امللفات غري املوجودة .ولو كان الو�ضع
والت�سامح �إىل دعوات العي�ش واالعرتاف الكامل واملتبادل يف م�صر هو مثل و�ضع �ساقونا روال ب�إيطاليا الو�سيطة،
بني الثقافات والأديان والأنظمة االقت�صادية وال�سيا�سية. حرق كما �أُحرق الراهب .لكن يف الواقع ما ح�صل له لأُ َ
وقد �أملت خري ًا حني �أقبل �إ�سالميون كثريون يف الت�سعينيات �شيء ،بل �صار وزير ًا بعد كتابه الثوري :الإ�سالم و�أ�صول
«�صدام احل�ضارات» من القرن املا�ضي للرد على دعوة ِ احلكم!
مل يرد الغرب با�ستك�شاف قيم الت�سامح والتعدد يف املجتمعات الإ�سالمية وفقرة �أخرية ال �أتعمد �أن تكون غريبة يف هذا ال�سياق .ما
الو�سيطة ،والنعي على الغرب �أنه ما عرف يف �أزمنته كان م�صطفى كمال م�ضطر ًا بعد �إ�سقاط اخلالفة �إىل
بالإ�سالم الو�سيطة الت�سامح جتاه التعدد الديني ،وال االعرتاف ا�ضطهاد الإ�سالم نف�سه ،وال كانت تركيا بحاجة �إىل تلك
�صالح ًا بالآخر اليهودي �أو امل�سلم �أو البوذي� ..إلخ .لكن ال�ضربات العلمانية ال�شر�سة لإن�شاء الدولة احلديثة .ولو �أنه �أبقى بعد
املتبادلة بني الراديكاليني الإ�سالميني ،والأمريكيني اخلالفة على م�شيخة الإ�سالم� ،أو من�صب مفتي تركيا �أو
و�إمنا �أراد به والأوروبيني قبل � 11أيلول�/سبتمرب وبعده� ،أحدثت لدى ا�سطنبول (و�شيخ الإ�سالم هو يف الأ�صل مفتي ا�سطنبول)
�صدام ًا يف عامة امل�سلمني نزعات الرثاء للنف�س ،والثوران الأعمى على
الآخر الهاجم انتقام ًا وت�شفي ًا وهيمنة .ويف �أجواء الت�صادم
ملا كانت هناك م�شكلة لنظام حكمه ،وال للعالقة بني الدين
والدولة يف بلد ال�سلطنة واخلالفة .لكن الذي يظهر �أن ذلك
عقر داره والتقاتل ما جتددت الفر�صة لدى �سائر الأطراف للنظر كان مطلوب ًا منه و�أنه كان يكره التقليد ورجاالتهِ ،ل َ�ش َر ِه ِه
واالقتناع باحلوار واالنفتاح ،كما حتر�ص بع�ض النخب يف �سنوات قليلة� .أما الت�سامح و�أماٍ حديث يف
كيان ٍ �إىل �إقامة ٍ
العاملني الغربي والإ�سالمي على الت�أميل والتخطيط ،بل فاحلديث عنهما ال مكان له ،يف دولة العلمانيني ُ الت�ساهل،
واملمار�سة �أحيان ًا. الأوائل يف العامل الإ�سالمي.
يقول العقل ويقول املنطق ويقول الواقع �إنه ال م�صلحة
لنا يف �إخافة العامل وال يف اخلوف منه .وال�سبيل الوحيدة f f f
املتاحة لبلوغ ذلك تتمثل يف ال�سعي للدخول يف العامل
ومعه ،وامل�شاركة فيه ،والت�أثري باجلدية وبالفعالية ل�صالح يف الفرتة التي ظهر فيها مطلب الت�سامح()1920-1880
ق�ضايانا و�إعزاز �إن�ساننا وديننا وثقافتنا .على �أن امل�شهد ما كانت هناك حاجة ما�سة �إل��ي��ه ،و�إمن��ا كانت احلاجة
احلا�ضر لدى الطرفني ال يبعث على التفا�ؤل .ف�شبابنا للإ�صالح الديني وال�سيا�سي .ومع ذلك فالذي حدث لي�س
�صاروا �أقل ت�ساحم ًا جتاه بني قومهم ،وجتاه املختلفني ل�شي �إال
الإ�صالح ،و�إمنا َ�ص ْد ُم الإ�سالم يف عقر داره ،ال ٍ
عنهم ومعهم يف العامل .وال�شعوب الغربية ترتاوح �إزاءنا للت�شبه بالتجربة الغربية ،وبالتحديد الفرن�سية ،احلديثة.
بني الالمباالة واخلوف بعد �أن �صار الإ�سالم م�شكلة عاملي ٌة. لكننا ومنذ ثالثة عقود بحاجة فعلية للت�سامح .فهذه
«هم» يعتقدون �أننا نريد �إعاقة تقدمهم ورفاههم ونتحدى امل��رة حدث تغيري قوي وعميق بداخل الإ���س�لام .ذلك �أن
�أ�سلوب حياتهم .وكثريون منا يعتقدون �أن «هدفهم» الإلغاء ظاهرة «الأ�صولية الإ�سالمية» لي�ست بالأمر العار�ض �أو
�أو الهيمنة وال �شيء غري .وبني الإنكار واال�ستنكار ال مكان الهام�شي ،كما �أن املوقف من الأدي��ان الأخ��رى والثقافات
للت�سامح وال الت�ساهل .والذي �أراه �أن التغيري البد �أن يبد�أ وال��ع��امل امل��ع��ا���ص��ر ،لي�س م�����ص��ادف��ة �أن يت�سم بالت�شدد
عندنا :يف تعاملنا مع �أنف�سنا ،ومع جمتمعاتنا وثقافتنا واالنغالق .فقد تطورت حركات الهوية يف العاملني العربي
و�سلطاتنا .فالذين ال تعجبهم ال�سلطة القائمة �أو بع�ض والإ�سالمي �إىل اجتاهات �أ�صولية ت�أ�صيلية ،تطورت لديها
ت�صرفاتها و�سيا�ساتها يحاولون �إ�صالحها ال هدمها .البد ر�ؤية للعامل ذات خ�صو�صية �شديدة ومرهقة .فهي حتمل
من تغيري يف «ر�ؤية العامل» يف �أو�ساطنا بدء ًا بر�ؤية القريب من جهة على التقليد الديني الإ�سالمي (تقليد املذاهب
والظاهر واملُ ْد َرك واملرقوب واملرغوب .وعندما نتقدم على الفقهية) باعتباره عاجز ًا وتابع ًا لل�سلطات .وهي ُتدينُ
طريق ال�سالم وال�سالمة الذاتية ،تتجدد الفر�ص لتغيري العا َمل املُعا�صر باعتباره مبجمله م�ؤامر ًة على الإ�سالم،
ر�ؤى و�سلوك الآخرين جتاهنا .فمتى نت�سامح جتاه �أنف�سنا وهي تفهمه كله حتت م�صطلح ومفهوم «التغريب» ،وت�شن
وما هو املطلوب منها ،وكيف ن�صري �إىل ذلك؟ عليه حرب ًا �شعواء يف التفكري واملمار�سة .وينتهي الأمر بتلك
فيا دا َرها باخليف �إنّ م َزارها احلركات والتوجهات �إىل حزبية قا�سية تطورت �إىل �إحداث
قريب ولكنْ دون ذلك � ُ
أهوال ٌ ال�شقاقات بداخل الإ���س�لام نف�سه ،و�صحيح �أن حركات
95
قد ال جنانب ال�صواب� ،إذا ما اعتربنا �أن �أول دفاع عن الت�سامح �ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
ق�ضية العدد ق�ضية العدد يف الفكر العربي املعا�صر ،تبلور على �صفحات جملة «اجلامعة»،
التي كان ي�شرف على حتريرها فرح �أنطون .و�أن الف�ضل يعود
�إىل هذا امل�صلح بالذات ،يف تقدمي حمتوى املفهوم و�إبراز العددالعدد ق�ضية
ا ق�ضية العدد
عدد
�أهميته ،وذلك يف �إطار تقدميه ملنظومة احلداثة ال�سيا�سية العدد ق�ضية ق�ضية دد
ة العدد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
كما تبلورت يف الفكر ال�سيا�سي احلديث. دد ق�ضية العدد ق�ضية العدد
فمنذ ما يتجاوز مئة �سنة ،وبال�ضبط يف �سنة ،1902وظف
فرح �أنطون مفهوم الت�سامح الذي كان يرادفه بلفظ الت�ساهل
لإبراز �أهمية حمتواه ،باعتباره حاجة مالزمة للتحرر من
االنغالق والتع�صب ومعاداة الآخرين.
َح�سنة
صو�ص ن�صو�ص
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ق�صة ق�صة �صة ق�صة ق�صة ق�صة
101
سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
باري�س
ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
أ�سفار �أ�سفار �
ار �أ�سفار �أ�سفار
أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �
فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
رحلة �إىل
102
كل الدروب تو�صل �إىل باري�س .دروب الفن والأناقة
والتاريخ .دروب اجلمال ومقاهي الأر�صفة وجادة
ال�شانزيليزيه ،ودروب الأحالم التي ال تنتهي ،بحيث
�أنك �إذا ما زرت باري�س مرة تع ّلقت بها ف�صارت جزءاً
من اخلريطة اجلمالية التي ال ميكنك التح ّرك من
دونها.
منذ و�صولك �إىل مطار «روا�سي �شارل ديغول» ،على
بعد ن�صف �ساعة بال�سيارة من قلب املدينة ،ت�شعر ب�أنك
دخلت يف جو خمتلف .جو له نكهة �أخرى حتى ولو
كنت مدمن �سفر ،ج ّواب �آفاق ،باحثاً عن الغرابة حتت
كل �سماء .فامل�ضيفة التي ت�ستقبلك ،فور اخلروج من
الطائرة ،تفل�ش ابت�سامتها ،كما �شعرها الأ�شقر وعينيها
�شديدتي الزرقة ،تر�شدك �إىل حيث يجب �أن ت�سري. ْ
ومع �أن هناك �أكرث من مائة م�سافر على منت الطائرة
نف�سها ،ف�إنهم جميعاً ي�سريون خلف امل�ضيفة امل�ضيافة
يح�س وك�أنها مر�شدته اخلا�صة
التي جتعل كل واحد منا ّ
يف هذا املطار الف�سيح البالغ الأناقة و ..احلرا�سة.
تالحظ ،منذ الدقائق الأوىل� ،أن هناك هاج�ساً �أمنياً
ي�سيطر على الأجواء ،و�إن كان الفرن�سيون يجتهدون
يف التظاهر بالهدوء وك�أن ال تهديدات وال من يهدّدون.
وبالفعل تنتهي معامالت اخلروج ب�سرعة ن�سبية ،رغم
التدقيق يف الأوراق ويف الأمتعة ويف الوجوه.
103
لذلك ابت�سم لك ال�سائق وحمل لك احلقيبة ،وبادرك، �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
بلغة �إنكليزية على الطريقة الفرن�سية ،لريحّ ب بك يف
باري�س. فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
وتتكرّر املعاملة نف�سها يف الفندق اجليد الذي يط ّل على
مبنى «دار الأوبرا» العريق يف الدائرة الباري�سية الثامنة.
أ�سفار �أ�سفار �
فار �أ�سفار �أ�سفار
فتح�س وك�أنك
ّ تقف على النافذة وتنظر �إىل اخل��ارج، أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار ار �أ�سفار �أ�سفار �
�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
�أم��ام لوحة فنية متحرّكة .الأل��وان متداخلة واخلطوط فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
عريقة ومتكاملة� ،أما احلركة فت�ضفي على امل�شهد حياة
دافئة ناب�ضة ت�ستعجل االنخراط فيها .فلي�س من اجلائز
�أن ت�ضيع حلظة واحدة من الوقت الباري�سي الرائع و�أنت �سائق التاك�سي الذي يقلّك من املطار �صار �أكرث «دماثة» نادل ي�صر
منز ٍو يف غرفة الفندق. مما كان عليه قبل ع�شر �سنوات .ففي املا�ضي كان �سائقو
ولكن ،قبل �أن تخرج ،ال ب ّد من �أن تزوّد نف�سك مبعلومات التاك�سي الباري�سيون يرف�ضون التحدّث مع ال�سيّاح بغري على �أن
حول املدينة ال�ساحرة التي تنوي خو�ض غمارها .وخري اللغة الفرن�سية� .أ�سا�س ًا قلّة ن��ادرة ج��د ًا كانت جتيد يقب�ض ثمن
دليل لك الكمبيوتر يف غرفتك .منه ت�ستقي املعلومات بع�ض ًا من الإنكليزية� .أما العربية فتكون حمظوظ ًا لأن
وتعرف كيف تتحرّك ويف �أي اجتاه. ت�سمعها من �سائق التاك�سي �إذا كان تون�سي ًا �أو مغربي ًا �أو الطلبية فور
جزائرياً .ويف هذه احلالة �أي�ض ًا تكون عباراته مطعمة
ب�ألفاظ فرن�سية وبلكنة غريبة جتعل التفاهم بينكما
و�ضعها على
بداية ال�شانزيليزيه
بالعربية ،مهمة �شاقة �إن مل تكن م�ستحيلة. الطاولة
باري�س مق�سّ مة �إىل ع�شرين دائ��رة ،رمبا تكون متقاربة منذ انت�شار انفتاح احلدود الأوروبية والعمل بت�أ�شرية
من حيث امل�ساحة ،ولكنها قطع ًا متفاوتة جلهة الأهمية «ال�شنغن» التي ت�سهّل عليك التنقل بني دولة �أوروبية
وال���وزن االقت�صادي واالج��ت��م��اع��ي .يف قلب العا�صمة أح�س الفرن�سيون ب�أنهم يحتاجون و�أخرى ،كما ت�شاءّ � ،
الدائرة الأوىل ومنها تنطلق الدوائر حولها .الأطراف �إىل اللغة الإنكليزية و�إىل التعامل الهادئ مع ال�سيّاح،
هي الدوائر ال�شعبية وفيها الكثري من العرب والأفارقة. و�إال هرب ال�ضيوف ،مع دوالراتهم� ،إىل دولة �أخرى.
104
105
بالفعل «مربط خيل العرب» .ذلك �أن ال��زوّار العرب، �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
من كل امل�ستويات والأقطار ،ال يعتربون �أن زيارتهم �إىل
باري�س قد اكتملت ما مل يتجوّلوا على �أر�صفة تلك اجلادة فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
الراقية� ،أو يجل�سوا يف �أحد مقاهيها.
ومقاهي اجل���ادة متعدّدة امل�ستويات .فعندك املقهى
أ�سفار �أ�سفار �
فار �أ�سفار �أ�سفار
ال��ذي يقدّم لك فنجان القهوة وق��وف�� ًا ب�أقل من ثالثة أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار ار �أ�سفار �أ�سفار �
�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
دوالرات ( 2يورو) .وعندك املقهى الذي يبعد عنه �أمتار ًا فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
ويتقا�ضى منك بدل فنجان القهوة ع�شر م��رات �أكرث.
والالفت �أن معظم هذه املقاهي ي�ص ّر على �أن يقب�ض
منك ثمن الطلبية فور و�ضعها على الطاولة �أمامك ،ذلك الدائرة الع�شرون وكذلك التا�سعة ع�شرة والثامنة ع�شرة. �ساحر يربط
�أم��ا �أرق��ى الدوائر و�أغالها ثمن ًا فهي الأوىل والثامنة
�أن �أ�صحاب املحال باتوا «ملدوعني» لكرث املقالب التي
وال�ساد�سة ع�شرة .وثمّة دوائ��ر تاريخية مثل اخلام�سة 20يورو بخيط
�شربوها من «الغرباء» الذين يعمد بع�ضهم �إىل ا�ستهالك
الطلبية ثم «ي�شمّعون» اخليط وقت احل�ساب! وال�ساد�سة حيث احليّ الالتيني و�شارع ال�سان جرمان ويوقع يف
وكني�سة نوتردام ونهر ال�سني .وين�صحك املوقع ال�سياحي
مطعم الذوات على الإن�ترن��ت ب����أن ت�ستقل اخل��ط ال���دائ���ري ،وا�سمه حبائله الن�ساء
يلف باري�س من اخلارج وك�أنه «احلزام ال�صغري» ،الذي ّ
بالفعل حزام� .أما اخلط الدائري ال�سريع فهو «احلزام
وال�شيوخ
�أم��ا �إذا كنت م�ترف ال���ذوق ،منتفخ اجليب ،ومدجج ًا
بدفاتر �شيكات �أو بطاقات اعتماد ،فيمكنك �أن تدعو الكبري» الذي ت�سلكه ال�سيارات الراغبة يف تاليف الدخول
�أ�صدقاءك �إىل مقهى «الفوكت�س» لتتناول ما ل ّذ وطاب من يف الزحمة الباري�سية ،وتتّجه �إىل بقيّة املدن الكربى وفق
الطعام النادر الذي ا�شتهر به املطبخ الفرن�سي العريق طرقات موزّعة توزيع ًا مدرو�س ًا بني املناطق.
عرب الأجيال .واحل�ساب ،حتى ولو كان ع�سري ًا للغاية، ت��خ��ت��ار االب����ت����داء م���ن ج���ادة
من حيث الأرق��ام والتفا�صيل ،ف�إنه ي�ستحق عناء ال�شانزيليزيه ال��ت��ي يعلوها
املجازفة ،لأنك �ستكون قادر ًا على املفاخرة «قو�س الن�صر» .هذه اجلادة
�أمام معارفك ،يف الوطن واملهجر ،ب�أنك العريقة ج��داً ،واملعروفة
تربّعت �سعيد ًا على طاولة من طاوالت يف ك���ل ال����ع����امل ،هي
106
�سياحية مميّزة على منت مركب �سياحي يتهادى على «الفوكت�س» التي جل�س �إليها م�شاهري العامل!
نهر ال�سني يف رحلة قد ت�ستغرق ثالث �ساعات .ف�إذا كان ويبدو �أن الباري�سيني ،ممّ ن يعي�شون على فُتات «الفوكت�س»،
الطق�س �صحواً ،ف���إن هذا الع�شاء ال يفوَّت� .إن��ه فر�صة يدركون �أهمية هذا املوقع ،بدليل �أنك و�أنت جال�س على
تاريخية لال�ستمتاع يف الليل ،و�أنت ت�سبح فوق ماء هادئ الطاولة املطلّة على ال�شارع ،يف هذا الطق�س امل�شم�س
طاملا حلمت به ال�شعوب وماليني ال�سيّاح. على غري عادته يف مثل هذا الوقت من ال�سنة ،ت�شاهد
ومي ّر املركب �أمام برج �إيفل ،الذي ي�سمّيه الباري�سيون ع�شرات الذين يتقدّمون منك ليعر�ضوا عليك �شراء
املعتّقون «ال�سيدة حديد» .تلمح طيفه العمالق يرتاءى زهرة �أو بطاقة معايدة ..لكن �أطرف امل�شاهد و�أكرثها
على �صفحة نهر ال�سني ،وك�أن ال�سيدة العمالقة تنحني غرابة هي التي قام بها �أحد «ال�سَ حَ رة»� ،أو العبي اخلفّة،
لت�شرب من نهر التاريخ ما ي�ساعدها على ال�صمود �أكرث حيث �أوقع يف حبائله ن�سا ًء و�شيوخ ًا و�أطفا ًال من املارة،
برج �إيفل ف�أكرث. مثري ًا حوله عوا�صف ال�ضحك ..هو يربط ورقة نقدية
وميكنك �أي�ض ًا �أن ت�سهر �سري ًا على الأقدام ..نعم! اجلولة
ي�سميه يف احل��ي الالتيني ممتعة �إىل �أق�صى احل���دود .ففي
من فئة الع�شرين ي��ورو بخيط دقيق ج��د ًا وغري مرئي،
ويطرحها على ق��ارع��ة الطريق .وم��ا �أن ينحني عابر
الباري�سيون الأزقة التاريخية ال�ضيّقة التي ال ت�صل �إليها ال�سيارات، ال�سبيل اللتقاطها حتى ي�سحبها «ال�ساحر» ببطء ،في�سري
�ألوف النا�س يتحرّكون على مدار ال�ساعة فوق احلجارة وراءه��ا «املخدوع» على �أمل االم�ساك بها ..وهات على
املعتقون املر�صوفة التي تغطي ال�شوارع ،وبني اجلدران التي توك�أ �ضحك وت�صفيق!
«ال�سيدة عليها التاريخ مئات ال�سنني. ن�سيت �أن �أق��ول لكم �إن �أ�شهر املرابع الليلية يف العامل
�ساعات ممتعة ميكنك �أن مت�ضيها يف احليّ الالتيني. يقع على ميني ج��ادة ال�شانزيليزيه ن��زوالً� .إن��ه «مقهى
احلديد» مطاعم يونانية متلأ املكان مبو�سيقاها وبرائحة ال�شواء، الليدو» ذائ��ع ال�صيت ،وال��ذي يقدّم ا�ستعرا�ضات فنية
�أك�شاك تون�سية فيها احللوى وال�شاي الأخ�ضر .واجهات جريئة ومتقنة .لكن ال�سهرة فيه باهظة للغاية� ،إذ �إنها
مغطاة باللون الأحمر خلف زجاجها مطاعم �صينية. تبد�أ بثالثمئة يورو لل�شخ�ص الواحد ،وحتتاج �إىل حجز
�أك�شاك لبيع �سندوي�شات ال�شاورما ت�شرتيها ببع�ض م�سبق ،لكن طعمها ال�شهي يبقى حتت الأ�ضرا�س طوي ًال
«ي��وروات» وت�ستمتع بطعمها ال�شهي و�أنت ت�سري يف �أزقة طويالً!
التاريخ ،لتط ّل على كاتدرائية نوتردام التي كانت م�سرح ًا ه��ذا لل�سهر .ولكنك ل�ست ملزم ًا بتم�ضية �سهرتك يف
لأحداث «�أحدب نوتردام» لفيكتور هيغو ..و�إذا ما �أردت مربع ليلي� .إمنا هناك خيارات كثرية ال تُع ّد وال تحُ �صى..
�أن توغل �أك�ثر ف�إنك ت�صل �إىل �شارع «�سان جرمان»، لكن �أبرزها على الإطالق هو تناول الع�شاء �ضمن جولة
107
والباري�سيون �أفردوا �أماكن ف�سيحة من مدينتهم للزوّار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
ار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
وللمقيمني الأج��ان��ب ،بحيث تبدو العا�صمة الفرن�سية
وك�أنها �أف�ضل الأماكن للحوارات احل�ضارية والفكرية. فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
ه��ذا على الرغم من وج��ود ت��ي��ارات �سيا�سية كثرية يف
البالد باتت ت�شكو من تكاثر «الأغراب» ،وتدعو �إىل تقنني
أ�سفار �أ�سفار �
فار �أ�سفار �أ�سفار
الإقامة يف فرن�سا عموم ًا وباري�س خ�صو�صاً. أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار ار �أ�سفار �أ�سفار �
�أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
ولكن هذا ال مينع التقاء احل�ضارات والأديان يف �أجواء فار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار �أ�سفار
من الت�سامح واحلرية ا�شتهرت بهما مدينة باري�س عرب
العقود املا�ضية .وم�سجد باري�س يف �ساحة م��وجن يف
ال��دائ��رة ال�ساد�سة هو خري دليل على ذل��ك .ففي هذا م�سجد باري�س حيث املقاهي التي كان يق�صدها م�شاهري العامل ،وت�شهد
ال�صرح الديني ال��ذي ي���ؤمّ��ه امل�سلمون ،م��ن فرن�سيني حلقات النقا�ش الفكري ،الذي �صنع جزء ًا ال ب�أ�س به من
ومقيمني و�سيّاح ،لل�صالة واحلوار ،تعقد حلقات فكرية تعقد فيه تاريخ فرن�سا الثقافة واملعرفة الفل�سفية.
حوارية على مدار �أي��ام ال�سنة ،ويتمّ فيها تبادل الآراء حلقات
والنقا�ش بروح من االنفتاح ق ّل نظريها. ت ّلة املومنارتر
ومعهد العامل العربي يف باري�س �أي�ض ًا هو واحد من �صروح فكرية على
احلوار بني العرب والغرب ،بني الإ�سالم وامل�سيحية ،بني مدار ال�سنة وما دمنا يف جماالت ال�سهر ،فال ب�أ�س عليك �إن اخرتت �أن
احل�ضارة امل�شرقية واحل�ضارة التي ت�سيطر على �أوروبا. مت�ضي �سهرة� ،أو جزء ًا من �سهرة ،عند تلّة «مومنارتر»،
ويتجلّى هذا احلوار من خالل املعار�ض الفنية والندوات التي �شهدت معارك ال تزال �آثارها حمفوظة على بع�ض
الفكرية واحلفالت املو�سيقية ،وعر�ض الأفالم الوثائقية، امل��ب��اين� ،أو م��ن خ�لال اللوحات التذكارية ،ب�ين ق��وات
التي ت�ساهم يف تعريف العامل الغربي على ح�ضارة �شرقية النازية وقوات املقاومة الفرن�سية .وعلى تلك التلّة فنانون
مل يفهمها الأوروبيون ،حتى الآن ،فهم ًا كافياً ،مع الأ�سف من كل العامل ،بينهم لبناين وتون�سي وم�صري ،ير�سمون
ال�شديد. «البورتريهات» لل�سيّاح بقلم الر�صا�ص وبالفحم ..وكذلك
والزائر يف باري�س �إذا كانت له اهتمامات ثقافية ،هناك هناك مو�سيقيون يعزفون على �آالت �أحلان ًا فولكلورية من
مواقع ال ب ّد من زيارتها ،ويف طليعتها متحف اللوفر ،الذي بلدانهم ،فيتحلّق حولهم امل��ارة ،ي�ستمتعون باملو�سيقى
ي�ضمّ تراث ًا فني ًا عاملياً ،لي�س فقط على �صعيد اللوحات ويدفعون لهم دريهمات يف قبّعة يجول بها �أحدهم على
والر�سوم ،ولكن كذلك على م�ستوى الآثار القدمية ،ويف حلقة احلا�ضرين.
108
مقدّمتها �آثار عربية ،ال �سيما من م�صر عهد الفراعنة ،لل�سائح �أن يهتدي �إىل طرق الو�صول �إليها و�إىل �أهميتها التجول يف
مب��ج��رّد مراجعة امل��وق��ع ال�سياحي ملدينة باري�س على ومن لبنان واليمن وغريهما.
املرتو متعة وهناك �أي�ض ًا «�سنرت بوبور» ،الذي يجمع يف مبنى مفرط الإنرتنت.
جمهولة أمر � اختالفها، على ال�سياحية املواقع تلحظه ال احلداثة �آث���ار ًا لفنانني معا�صرين من كل العامل .كما لكن ما
ب�سيط للغاية قد ين�ساه الكثريون �أو �أن��ه��م ،يف زحمة �أن الأهرامات الزجاجية يف باحته تذكّر الزوّار بتالقي
االهتمامات ال�سياحية ،ال يتنبّهون �إليه� ..إنه التجوّل يف احل�ضارات وبتفاعلها.
املرتو.
�صدّقوين �إن ال�سفر �إىل باري�س من دون التجوّل يف املرتو عامل حتت الأر�ض
هو كمن يحمل باقة من الورد وال يتن�شق عبريها ..فاملرتو،
و�إن كان �شعبياً ،هو مر�آة ح�ضارية �أي�ضاً� ،إنه الوجه الآخر طبع ًا هناك ف�سحات وا�سعة لـ «ال�شوبينغ» ولتتبّع املو�ضة
ملدينة باري�س ،و�أروع ما فيه الفرق املو�سيقية املرجتلة يف م��ن خ�لال العرو�ضات املتوا�صلة ،ال �سيما يف «ق�صر
�أقبية حتت الأر���ض ،والر�سّ امون الذين يخطون لوحات امل���ؤمت��رات» ..وهناك ف�سحات �أخ��رى ل��زي��ارة املناطق
رائعة بالطب�شور امللوّن ..وكذلك ه�ؤالء املت�سكعون الذين ال�سياحية القريبة جد ًا من باري�س مثل «ق�صر فر�ساي»
مي�ل�أون الأقبية ب�ضحكاتهم امل��دوي��ة ،وثيابهم الرثة، و«ق�صر فونتينبال» وغريهما .وق��د يكون من الإهمال
وعيونهم التي تنظر �إىل الال�شيء ..ولكنها ت�ترك يف ال�شديد ،ال��ذي �سيندم عليه ال�سائح بكل ت�أكيد ،عدم
قلبك ت�أثري ًا حتمله معك ،حيث تعود �إىل بالدك و�أنت ال��ذه��اب �إىل املركز اجل��غ��رايف العلمي� ،أو �إىل متحف
مملوء بعبري باري�س وب�صورها ال�ساحرة. الإن�سان� ،أو حتى �إىل مدينة ي��ورو دي��زين القريبة من
باري�س .وكلها م��واق��ع ملحوظة على الإن�ترن��ت وميكن
الرسوم :إسماعيل عزام -العراق
109
هذا الرجل الرائع ال يدفع تكاليف امل�سكن الذي يقيم فيه. ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
لأنه بب�ساطة قرر �أن يعي�ش يف كرتون م�صنوع من الورق املقوى
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
البني اللون.لي�س له جريان من النوع املعتاد ،فالفيال التي
يقطن فيها تقع يف �شارع فرعي م�سدود ،قذر ،ومزدحم يف
ال�صبح وامل�ساء ،ودائم ًا هناك �صياح و�ضجيج ال يهد�أ ي�صدر
ق�صة ق�صة
صو�ص ن�صو�ص
�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
راتخم
عن ج�يران��ه ،وه��م �أ�صحاب املطاعم وحم�لات بيع ال�شاي
باحلليب.غالب ًا ما ينام حتى ال�ضحى .وعندما يخرج الطالب ة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة ق�صة
ق�صة ق�صة �صة ق�صة ق�صة ق�صة
من الثانوية املجاورة يف فرتة اال�سرتاحة ليتناولوا �إفطارهم
�أو ل�شرب ال�شاي باحلليب ،ف�إنه يف�ضل �إخ���راج ر�أ���س��ه من
الكرتون ،ليتفادى تعر�ض كرتونه لركالت طائ�شة من �أولئك
ال�صبية الوقحني ،الذين يزعجهم ا�ستغراقه يف نوم لذيذ.
يخرج من كرتونه ببطء �شديد ،وك�أنه يرقة تخرج من �شرنقة،
فيبد�أ �أو ًال ب�إخراج ر�أ�سه مغم�ض ًا عينيه ،ثم يفتحهما على
مهل ،وك���أن �ضوء النهار ي�سبب له �أمل�� ًا ال يطاق .وبعد حني
يحدج املكان بب�صر واهن حماو ًال التعرف عليه ،وباذ ًال جهد ًا
الأ�صــيــل
�إ�ضافي ًا لتذكر من هو؟ وكيف و�صل �إىل هنا؟
ي�سحب �صدره �إىل اخلارج ،ويتكئ مبرفقه على دكة �أ�سمنتية
�ضيّقة ،و�آنذاك ينتابه �إح�سا�س بالغبطة لوجود تلك الدكة� ،إذ
لوالها ملا ت�سنى له النهو�ض من فرا�شه.
وهو يف جل�سته امللوكية تلك ،ودون �أن يتفوّه بكلمة ،يح�ضر له
نادل ذو �شفة �أرنبية ك�أ�س ال�شاي باحلليب اململوء �إىل ن�صفه
«الدبل».
كثريون ميرون ويلقون عليه التحية ،فري ّد عليهم والب�شا�شة
ال�صادقة مترح يف وجهه.
يت�أمل النا�س يف غدوهم ورواحهم ،وي�شعر باحلزن لأجلهم،
خ�صو�ص ًا حني ي�سمعهم يتحدثون عن غالء املعي�شة ،وارتفاع
�إيجارات امل�ساكن ،وفواتري املاء والكهرباء والهاتف املرهقة
للجيوب.
ي��راه��م مقطبني ،قلقني ،منزعجني ،وال��ه��مّ ير�سم زواي��اه
احلادة على �سحناتهم ،والتجاعيد تتكاثر وت�شرخ �صورهم،
واال�ضطراب يتغلغل حتت اجللد ،فتنطفئ نظرة العيون،
وتنخ�سف اجلباه العالية ،وتغور الب�سمات ال�سعيدة.
هو وحده يعرف �س ّر جناته من هذه التحوّالت املرعبة للوجه
الب�شري..لأنه ورغم بلوغه الأربعني عاماً ،ووجود تلك اللحية
ال�سوداء امل�سرت�سلة ،ما زال وجهه طفولياً ،وعيناه بريئتني.
ولأن��ه ال يحمل يف جيبه م��االً� ،صار م�ستغني ًا عن كل �أح��د.
التفكري يف امل��ال ال ي�شغله ،لذلك ي��رى نف�سه �أغنى من كل
�أغنياء املدينة ..لأن��ه من منهم – �أي الأغنياء – بلغ من
الرثاء حد ًا مل يعد معه يفكر يف املال؟!
لكن من �أين يعي�ش راتخم الأ�صيل ؟ كيف يدبر ثمن وجباته؟
طبع ًا هو يدفع ثمن الطعام الذي يتناوله ،وال�شاي باحلليب
الذي ي�شربه ،فهو ال ي�ستجدي �أحداً ،وال يقبل �إح�سان ًا من �أي
كان ..ولذلك يقوم بجوالت عديدة على قدميه جلمع قناين وجدي الأهدل
امل��ي��اه البال�ستيكية يف كي�س نايلون كبري ج���داً ،ث��م يبيعها قا�ص من اليمن
ملحالت الع�صائر .ويدخل �ضمن ن�شاطه �أي�ض ًا جمع الكراتني
و�أطباق البي�ض.
ويوفر له هذا العمل ال�شبيه بجمع الثمار من الغابة ،زمن
الأق��وام البدائية ،ثمن امل�أكل وامل�شرب ،و�أحيان ًا ثمن ربطة
القات ال�صوطي.
قلبه ينب�ض براحة ،ال �شيء تقريب ًا ي�شغل باله .
عندما يخرج من غرفة نومه ال�صغرية جداً ،وينه�ض متمطي ًا
110
الدنيا» حينذاك فقط يتنف�س مطمئناً ،ويدخل �إىل جوف كالقط ،يبدو ف��ارع القامة ،عري�ض املنكبني ،ق��وي البنية،
كرتونه مرتاح ال�ضمري ،ويف ثانية ينام. وخ�صره دقيق ًا وبطنه مم�سوحاً ،ك�أمنا هو فار�س �ضائع يف
زمن يخلو من الفرو�سية.
fff
�شعره �أ�سود فاحم ي�صل �إىل كتفيه ،ووجهه الطويل فيه مالحة
جل�س �أحدهم يف املقهى وفتح حمفظته ،فتدحرجت منها كرة ورجولة م�ؤثرة.
نارية ملتهبة ،وزنها خفيف كالري�شة ،ف�أخذت الريح تلعب بها، كيف ال يكون مثل هذا العمالق ،بو�سامته الالفتة ،ورجولته
ف�إذا هي تنط من مكان لآخر يف غم�ضة عني. الطاغية� ،شخ�صية بارزة يف املجتمع؟!
خ�شيت على بيتي الكرتوين و�أ�سمايل العتيقة وكومة القناين من املفارقات �أن معظم ال�شخ�صيات التي تدير �ش�ؤون املجتمع
البال�ستيكية من �أن تلتهمها النريان ،فوقفت باملر�صاد لتلك يف وقتنا احلا�ضر هم من ق�صار القامة� ..شيء حمري فعالً!!
الكرة العابثة. يبدو لنا العامل ال��ذي يعي�ش فيه راتخم الأ�صيل حم��دود ًا
وخوف ًا من اح�تراق املقهى ركلها �أحد العاملني عالي ًا جداً، للغاية ،وخالي ًا من الإثارة والتغيري ،و�أن �أيامه كلها مت�شابهة،
فا�ستقرت هناك فوق ر�ؤو�سنا وقالت �أنا ال�شم�س ،ثم انهمرت و�أنه مي�ضي �أوقاته على نحو روتيني ممل.
حرارة ال�صيف. لكن هذا الت�صور خاطئ متاماً ،لأنه ال مي�ضي عليه �أ�سبوع
جل���أ رواد املقهى �إىل الأم��اك��ن الظليلة وان�شغلوا بتجفيف دون �أن يت�شاجر مع عنا�صر البلدية الذين يحاولون طرده من
عرقهم ،بينما عدت �أنا �إىل مو�ضعي ال�سابق� ،أر�شف ال�شاي مكانه� ،أو مع �آخرين ال يعجبهم وجوده بقربهم� ،أو مت�شردين
باحلليب مبزاج رائق � ،شاعر ًا بالأمان. يح�صلها بعرق �أفظاظ يحاولون �سلبه نقوده القليلة التي ّ
ا�سرتخت القطط حتت الكرا�سي والألواح الطويلة املخ�ص�صة جبينه.
للجلو�س ،وكفت عن مالحقة الفئران. وقبل �سنوات عر�ضت عليه امر�أة �أرمل متلك بيت ًا �أن يتزوجها،
من مذياع املقهى �سمعنا ن�شرة الأخبار ال�صباحية ،وردت فيها ولكنه رف�ض عر�ضها املغري ،دون �أن يرف له جفن.
قرارات ر�سمية تثري الإعجاب ،منها �أن ي�سقط املطر! و�أم��ا الأع��م��ال التي عر�ضت عليه ورف�ضها ،ف�أكرث من �أن
ردّد الواقفون يف انتظار دوره��م ل�شراء ال�شاي باحلليب، حت�صى.
واجلال�سون بال دور خلف املذيع بحما�سة منقطعة النظري: مل يكن يقبل ب�أن يت�أمّر عليه �أي رب عمل مهما �أعطاه من مال
ي�سقط ي�سقط ي�سقط! .كان يريد �أن يبقى �سيد نف�سه ..وهو ما كان .
ر�أينا واحد ًا قد بلغ اخلم�سني ،له مالمح قا�سية ،ويبدو عليه راتخم الأ�صيل له �أ�صدقاء كثريون � ،أغلبهم مت�شردون مثله،
�أن��ه يحتل مركز ًا مرموقاً ،ي�سحب كر�سي ًا وينتحي جانباً، يهيمون على وجوههم يف احل���ارات بال م���أوى معظم �أي��ام
حيث اختار اجللو�س حتت طربال �أزرق ،وبيده ك�أ�س ال�شاي ال�سنة ،والقليل منهم ميوت يف ذروة الربد.
باحلليب. حني يقيل ليخزن القات ،يلتف حوله عدد منهم ،ويتبادلون
كان يبت�سم بخبث ،لأنه الوحيد الذي ا�ستمع لن�شرة الأخبار �أحاديث لطيفة.
و�أدرك مغزاها ،فاتخذ مبكر ًا التدابري الالزمة. �أحيان ًا تخطر امل��ر�أة ببال راتخم الأ�صيل فيبت�سم ويغرق يف
وا�ستجابت ال�سماء لأوامر احلكومة ،وك�أنها مواطن �صالح، تخيالت ممتعة ،وتراوده �أحالم يقظة �ساحرة:
ف�أخذت متطر بغزارة ،والرياح ت�صفق بعنف ،والرعد يدوي يتخيل �شابة ح�سناء ،هيفاء القدّ ،ب�شرتها كاحلليب ،تهيم به
يف الأعايل ويز�أر ك�أ�سد جائع. ع�شقاً.
ب�سرعة جتمع املاء يف و�سط الطربال الأزرق ،وكلما �ضربت يت�صورها تراقبه من نافذة غرفتها حني مير من ال�شارع الذي
الريح بزعانفها ،كان املاء يندفع من �أحد الثقوب ،ويهبط ت�سكن فيه .يتخيل رع�شة قلبها حني تراه ،وكيف تهرع �آن يغيب
ك�شالل هادر على �صلعة الرجل اخلم�سيني ،الذي حافظ على عن ناظرها �إىل الورقة والقلم لت�سكب م�شاعرها يف ق�صيدة
وقاره و�صالبة مالحمه دون ت�أثر يذكر بالبلل الذي �أ�صابه. �شعر مرتعة باللوعة وعذاب الفراق!
ا�ستغربت كثري ًا موقف هذا الكهل الذي يبدو موظف ًا رفيع املقام ثم يتنهد وي�شعر بالأ�سى على حال تلك الفتاة املهوو�سة بحبه!
ورب �أ�سرة ناجحاً ،وعجزه عن تغيري موقعه ،وا�ست�سالمه للبلل هكذا هو من�سجم مع نف�سه ،فال حاجة له بعد ذلك المر�أة
بتلك القدرية امل�ش�ؤومة. حقيقية من حلم ودم تعكر عليه �صفو حياته.
ما الذي يجربه على البقاء حيث هو؟ ملاذا ال يحاول البحث عن قرب منت�صف الليل تهد�أ احلركة يف املقهى املجاور ،وتغلق
مو�ضع �أف�ضل؟ وبد ًال من �أن ي�سعى �إىل جهة �أخرى يف املقهى املطاعم �أبوابها ،وترف الأرواح الهائمة قريب ًا من الأر�ض،
تقيه الغرق ،ر�أيته يحدق بثبات وحتد يف ثقب الطربال ،يف حتى لتو�شك �أن تالم�س الر�ؤو�س.
عني الفتحة ،غري عابئ باملاء الذي كان «يط�شط�ش» فوقه بني يف هذا الوقت املت�أخر ،يقوم راتخم الأ�صيل بجولته اخلتامية،
احلني واحلني كلما عنّ للريح �أن تتالعب بالطربال الأزرق ويجمع القناين البال�ستيكية من حتت املقاعد والطاوالت،
وتهزه لتدلق ما جتمع يف جوفه من ماء عكر. وم��ن ب�ين امل��وا���س�ير واحل��ف��ر ،وم��ن �أم��اك��ن �أخ���رى متفرقة،
رمبا هو العناد الذي �أبقاه يف مكانه. �أم�سى يعرف بخربته الطويلة �أن �سمار الليل �سيرتكون فيها
حد�ست ب�أن حياته ذاتها ال تخلو هي �أي�ض ًا من ثقب مماثل . بقاياهم.
منذ �سنوات و�أنا �أراه يرتدّد على املقهى مهيب ًا يرفل يف بدالت لكنه قبل �أن ي�أوي �إىل مهجعه ،كان يحر�ص على عادة ت�أ�صلت
�أنيقة ،ف�أمتنى يف �سري لو �أكون مثله ..ولكنني بعد �أن اكت�شفت يف نف�سه مبرور الأيام ،ومل يعد يقدر على قطعها:
�أ�سلوبه يف احلياة ،وب�أية نف�سية يحيا ،حمدت اهلل �أنني مل �أبتل كان ي�صرف ما يف جيبه من نقود حتى �آخر فل�س ،على نف�سه
بخ�صلة العناد ،و�أن حياتي املتوا�ضعة تخلو من �أية ثقوب! وعلى �أ�صدقائه املعدمني .وملا يت�أكد من خلو جيبه من «و�سخ
111
لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
ية �أحافري لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
حافري لغوية �أحافري لغوية
متحذلقون
لغويةلغوية
أحافري ص�
حافري
وية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
غوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
مت�شدقون!
اال�ستفهام بـ «ما» و بـ «ماذا» لي�س واحداً
112
�إذا قل ��ت ل�ش ��خ�ص م�س ��تفهماً« :م ��ا بك يا فالن؟» �أو قل ��ت« :ماذا بك يا فالن؟» فهل اال�س ��تفهام يف
احلال�ي�ن واح ��د؟ .ظاهر قواعد اللغة يوحي بذلك� .إذ �أن اال�س ��تفهام بـ«م ��ا» �إمنا يكون عن حقيقة
ال�شيء .وقد ورد يف القر�آن الكرمي على ل�سان �سيدنا �إبراهيم عليه ال�سالم قوله تعاىل:
«وات� � ُل عليه ��م نب� ��أ �إبراهي ��م� .إذ ق ��ال لأبي ��ه وقومه :م ��ا تعب ��دون؟ قالوا :نعب ��د �أ�ص ��ناماً فنظل لها
عاكفني» ( ال�شعراء .)71- 69/
وقال عنه �أي�ضاً:
«و�إن منْ �شيعته لإَبراهيم� .إ ْذ جاء ربَّه بقلبٍ �سليم� .إذ قا َل لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟� .أَئِفكاً �آله ًة
دون اهلل تريدون؟! ( ».ال�صافات.)87- 83/
فف ��ي الآي ��ة الأوىل «م ��ا تعب ��دون» تقديرها� :أيُّ �ش ��يء تعبُدون؟ �أي �أنها ل�س� ��ؤال ع ��ادي غايته طلب
معرفة اجلواب ،بدليل �أن قومه �أجابوه فقالوا« :نعبد �أ�صناماً»� .أما (ما) يف قوله (ماذا تعبدون)
ف�إنه ��ا ج ��اءت مركب� � ًة مع (ذا) فكانتا معاً ا�س ��ماً واحداً (ماذا) ،والهدف من ا�س ��تعماله لي�س لطلب
معرف ��ة اجل ��واب ،و�إمن ��ا تقريعه ��م وتوبيخه ��م .والدليل على ذلك �أن ��ه مل ينتظر منه ��م جواباً ،بل
�أجاب نف�سه ب�س�ؤال ا�ستنكاري �آخر (�أئفكاً �آلهة دون اهلل تريدون؟).
فكان ��ت (ما) يف (ما تعبدون) ا�س ��م ا�س ��تفهام ،وهي وما بعدها جملة :مبت ��د�أ و خرب� ،أما (ما) التي
�أ�ض ��يفت لها (ذا) ف�ص ��ارتا معاً (ماذا) ا�س ��ماً واحداً ،فك�أنها يف حمل ن�ص ��ب «حال» تقدم على الفعل
والتقدير :تعبدون �أيَّ �شيء؟.
واخلال�ص ��ة �أن (ما) و(ماذا) ا�س ��ما ا�س ��تفهام .ولكنك �إذا �أردت اال�س ��تفهام على حقيقته ا�ستخدمت
(ما) و�إن خرجت باال�ستفهام �إىل غر�ض بالغي �آخر ،كالتوبيخ �أو اال�ستنكار ا�ستخدمت (ماذا).
113
ويقولون� :سررتُ بر�ؤيا فالن� ،إ�شارة �إىل م ْر�آهُ .وهذا خط�أ لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
ية �أحافري لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
�شاع حتى وقع فيه �أبو الطيب املتنبي يف قوله: حافري لغوية �أحافري لغوية
مَ �ضى الليلُ والف�ضلُ الذي لك ال يمَ ْ�ضي ...ور�ؤياك �أحلى
ْ�ض
يف العيون من ال ُغم ِ
وال�صواب �أن يقال� :سررت بر�ؤيتك ،لأن العرب جتعل
لغويةلغوية
أحافري ص�
حافري
الر�ؤية ملا يرى يف اليقظة ،والر�ؤيا ملا يرى يف املنام ،كما وية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
لغوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
قال تعاىل يف �سورة يو�سف�« :إنْ كُنتمْ لل ُّر�ؤيا تعْبرُ ون». غوية �أحافري لغوية �أحافري لغوية
f f f
وزناَ :فعَّل و�أَ ْفعَلَ :
�صحفي ب�ضم ال�صاد �أو فتحها: «و�صيت»؟هل هناك فرق بني قولنا «�أو�صيت» وقولنا َّ
ويقولون ملن له �صلة بال�صحف �أو يعمل فيها�ُ :صحُ فِيّ - وقولنا «�أبلغت» و«بلَّغت»؟
ب�ضم ال�صاد -قيا�س ًا على قولهم يف الن�سب �إىل الأن�صار القاعدة اللغوية امل�شهورة هنا �أن الفعل الرباعي املزيد
�أن�����ص��اريّ ،و�إىل الأع����راب �أع���راب���يّ .وال�����ص��واب عند بالت�ضعيف �أو بالهمز يدل على معنى التكثري واملبالغة.
النحويني الب�صريني �أن يوقع الن�سب �إىل واحدة ال�صحف ف���إذا زدنا فع ًال ثالثي ًا مثل «كَ��رُمَ » لنجعله رباعي ًا قلنا:
وهي �صحيفة ،فيقال َ�صحَ فيّ ،كما يقال يف الن�سب �إىل كرَّمته و�أكرمته بالت�ضعيف وبالهمز على التوايل.
حَ نيفة :حَ نَفيّ ،لأنهم ال يرون الن�سبة �إال �إىل الواحد� ،إال ولكن قارئ القر�آن الكرمي يالحظ �أن الأ�سلوب القر�آين
�أن جتعل اجلمع ا�سم ًا علم ًا للمن�سوب �إليه ،فيوقع الن�سب ي�ستعمل امل�ضعف واملهموز تبع ًا ملقت�ضى ال�سياق ،في�ستعمل
حينئذ �إىل �صيغته ،كقولهم يف الن�سب �إىل قبيلة هوازن: «و�صى» غالب ًا مع الأمور الدينية املعنوية مثل: الفعل َّ الفر�س
هَ وازِين ،و�إىل حي كِ الب :كِ البيّ ،و�إىل الأنبار� :أنباريّ ، «وو�صينا الإن�سان بوالديه( »..العنكبوت .) 8 / خ�صبوا
و�إىل املدائن :مدائنيّ ،ف�إنه �ش ّذ عن �أ�صله. «وو�صى بها �إبراهيم بنيه ويعقوب( »..البقرة .)132/ َّ لغتهم
يف حني ي�ستخدم وزن �أفعل (�أو�صى) مع الأمور املادية،
f f f كقوله تعاىل« :يو�صيكم اهلل يف �أوالدكم :للذكر مثل حظ الفقرية
اجلموع �أنواع:
الأنثيني( »..الن�ساء.)11/ مبلفوظات
ف�إذا كانت هذه قاعدة مطردة فكيف قال تعاىل «و�أو�صاين
بع�ض الكتاب ال يفرقون بني جموع القلة وجموع الكرثة، بال�صالة والزكاة ما دمت حيا» (مرمي )21/على ل�سان بابل الغنية
فيقولون مثالً :ثالثة �شهور ،و�سبعة بحوث .وال�صواب �أن نبي اهلل يحيى؟ مع �أن هذه �أمور دين وعبادات؟
قال بع�ض الباحثني (القرتان ال�صالة بالزكاة) �أي لأن
الزكاة من املعامالت املادية فقد تغلب وجودها على
ال�سياق .ومنه ا�ستعمال (جنَّ ى) و(�أجنُ ى) ،ف�إن املالحظ
�أن ال��ق��ر�آن الكرمي كثري ًا ما ي�ستعمل (جنّ ��ى) للتلبث
والتمهل يف التنجية .وي�ستعمل (�أجنى) يف الإ�سراع بها.
قال تعاىل« :و�إذْ �أجنيناكم من �آل فرعون ي�سومونكم �سوء
العذاب يذبحون �أبناءكم وي�ستحيون ن�ساءكم .ويف ذلكم
بالء من ربكم عظيم .و�إذ فرقنا بكم البحر ف�أجنيناكم
و�أغرقنا �آل فرعون و�أنتم تنظرون» (البقرة .)49-50 /
«ف�إنه ملا كانت النجاة من البحر مل ت�ستغرق وقت ًا طوي ًال
وال مكث ًا ا�ستعمل (�أجن��ى) ،بخالف البقاء مع فرعون،
ف�إنه ا�ستغرق وقت ًا طوي ًال ومكثاً ،فا�ستعمل (جنّ ى)».
f f f
114
وال تتلقوج وال تنبج ،وال تنفلج ،وال تقب حتت الرجل، يقال ثالثة �أ�شهر و�سبعة �أبحاث ، ،وذلك لأن العدد من
وال تل�صق بخبز الفجل ،ظاهرها كالزعفران ،وباطنها الثالثة �إىل الع�شرة تو�صف به ال ِق ّلةِ ،و�أوزان جموع القلة
ك�شقائق النعمان� ،أخف من ري�ش الطري� ،شديدة الب�أ�س �أربعة هي� :أفْعال مثل� :أبحاث و�أ�سياف و�أ ْفعُل مثل� :أبحر
على ال�سري ،طويلة الكعاب ،عالية الأجناب ،ال يلحق بها و�أع�ين ،و�أ ْف ِعلَة مثل� :أغطية و�أمثلة و�أوبئة ،و ِف ْعلَة مثل:
الرتاب ،وال يغرقها ماء ال�سحاب ،ت�صر �صرير الباب، �صبية وفتية.
وتلمع كال�سراب ،و�أدميها من غري ج��راب ،جلدها من �أما �أوزان الكرثة فهي ماعدا تلك الأربعة ،فمنها فعال
خال�ص جلود املاعز ،ما لب�سها �أحد �إال افتخر بها وعز – بك�سر الفاء – مثل جبال وبحار ،وفعول مثل �سيوف
خم��روزة كخرز اخلرنفو�ش ،وه��ي �أخ��ف من املنقو�ش، وبحوث وقطوف ،وغريها .فالدقة اللغوية تقت�ضي من
م�سمرة باحلديد ممنطقة ،ثابتة يف الأر����ض املزلقة، الكتاب بعامة ،واملبدعني بخا�صة �أن يتحروا الدقة يف
نعلها من جلد الأفيلة ال احلمري الفطري ،وتكون بالرنر ا�ستعمال اجلموع العربية.
احلقري».
فلما �أم�سك النحوي من كالمه ،وث��ب الإ�سكايف على جزمة النحوي :كيف تكون؟!!
�أقدامه ،ومت�شى وتبخرت ،و�أطرق �ساعة وتفكر ،وت�شدد مل يكتب اهلل للنحاة ما كتب لأهل الأدب والبالغة من
وت�شمر ،وحترج وتنمر ،ودخل حانوته وخرج ،وقد داخله ال�شهرة وذيوع ال�صيت ،ومل يُعرف عن النحاة ما عرف
احلنق واحلرج ،فقال له النحوي :جئت مبا طلبت ،فقال: عن الأدب��اء وال�شعراء من خفة الظل ،ولطف املع�شر،
ال بل بجواب ما قلت ،فقال :قل و�أوج��ز ،و�سجع ورجز، وظرف املنادمة.
فقال: فالنحاة -كما تقدمهم �إلينا كتب الرتاث -متحذلقون،
اللغة �أخربك �أيها النحوي� ،أن ال�شر�سا يحزوي� ،شطبطبات مت�شدقون بغرائب الألفاظ حتى ولو كانوا يف مواقف ال
العروبية املتقرل ،واملتقبعقب ملا قرب من قرى قوق القرنقنقق، ت�سمح بالت�شدق ،وال حتتمل اال�ستظراف ممن لي�س له
ط���رق رزق��ن��ا� ،شرا�سيف ق�صر الق�شتبع م��ن جانب ب�أهل.
�سبقت ال�����ش��ر���ش��ن��ك��ل وال����دي����وك ت�����ص��ه��ل��ل ،ك��ن��ه��ي��ق ال��رق��اي��ق يحكون �أن نحوي ًا �سقط يف بئر ،فمر رجل بالبئر ف�صاح
وجود ال�صوجلانات ،واحلرفرف الفرتاح ،يبي�ض القرقنطق النحوي لينقذه الرجل ،فلما �أجابه الرجل ،قال له النحوي:
الالتينية والزعر برجوا حلبنبوا يا حيزا ،من الطري ،بحج بجمند
كب�شمردل ،خاط الركبنبو� ،شاع اجلرببر ،بجفر الرتاح،
اطلب يل حب ًال دقيق ًا و�شُ دَّين �ش َّد ًا وثيقاً ،واجذبني جذب ًا
رقيقاً ،فقال الرجل الذي يبدو �أنه كان عامي ًا ال يح�سن
والرومان ابن يو�شاخ ،على لوى �شمندخ ،بل�ساننت القراوق. �شيئ ًا من اللغة :امر�أتي طالق �إنْ �أخرجتُك!!!
ولغتهم مازكلوخ� ،إنك �أكيت �أر�س برام ،امل�سلطنح بال�شمردلند ويحكي لنا ال�شاعر امل�صري املجهول �شرف بن �أ�سد
خملوط ،والزيبق بحبال ال�شم�س مربوط علعل ب�شعلعل، (ت 738هـ) حكاية طريفة عن نحوي مر ب�إ�سكايف يبيع
مات الكركندو�ش �أدع��وك يف الوليمة ،يا تي�س يا حمار النعال ،فوقف ببابه يريد �أن ي�شرتي نعالً ،فقال النحوي
يا بهيمة� ،أع��ي��ذك ب��ال��رح��واح ،و�أب��خ��رك بح�صى لبان للإ�سكايف:
امل�سرتاح ،و�أوفيك ،و�أوقيك ،و�أرقيك ،برقوات مرقات، «�أب��ي��تَ اللعن ،واللعنُ ي���أب��اك ،رح��م اهلل �أمَّ��ك و�أب��اك»،
ب��رق��وات م��رق��ات ق��رق��وات ال��ب��ط��ون ،لتخل�ص م��ن داء وهذه حتية العرب يف اجلاهلية قبل الإ�سالم ،ولكن عليك
الرب�سام واجلنون. ال�سِّ لْم وال�سَّ لَمُ وال�سَّ الم ،ومثلك من يُعز ويُحرتمْ و ُيكْرم
ونزل من دكانه ،م�ستغيث ًا بجريانه ،وقب�ض حلية النحوي ويُحْ تَ�شَ م� ،إنني ق��ر�أتُ القر�آن و« التي�سري» و«العنوان»
بكفيه ،وخنقه ب�إ�صبعيه ،حتى خ ّر مغ�شي ًا عليه ،وبربر و«امل��ق��ام��ات احل��ري��ري��ة» و«وال����درة الأل��ف��ي��ة» و«ك�شاف
يف وجهه وزجمر ،ون�أى بجانبه وا�ستكرب ،و�شخر ونخر، ال��زخم�����ش��ري» و«ت��اري��خ ال��ط�بري» ،و���ش��رح��ت اللغة مع
وتقدم وت�أخر ،فقال النحوي :اهلل �أكرب اهلل �أكرب ،ويحك العربية على �سيبويه ،ونفطويه ،واحل�سن بن خالويه،
�أنت جتننت؟ فقال له :بل �أنت تخرفت. والقا�سم ب��ن كُ��مَ�� ْي��ل ،والن�ضر ب��ن �شميل ،وق��د دعتني
وهكذا انتهت ق�صة النحوي الذي �أراد �أن ي�شرتي نع ًال ال�ضرورة �إليك ،ومتثلت بني يديك ،لعلك تتحفني من
من �إ�سكايف ال �ش�أن له باللغة فانتهي ذلك به �إىل ق�سم بع�ض حكمتك ،وح�سن �صنعتك ،بنعل يقيني احلر ،ويدفع
ال�شرطة ،وقد حكى لنا هذه احلكاية ابن �شاكر الكتبي عني ال�شر ،و�أعرب لك عن ا�سمه حقيقياً ،لأتخذك بذلك
يف فوات الوفيات ( )2/102وابن تغري بردي يف املنهل رفيقاً ،ففيه لغات خمتلفة ،على ل�سان اجلمهور م�ؤتلفة:
ال�صايف وامل�ستويف بعد ال��وايف ( ،)6/226وال��ذي تتبع ففي النا�س من كناه بـ «ا َمل��دَ ا���س» ،ويف عامة الأمم من
ن��وادر النحاة يف كتب ال�تراث يجد من �أمثالها الكثري لقبه بـ«القَدَ م» ،و�أه��ل �شهرنوزة �سموه بـ « ال�ساموزة».
والكثري ،ولكن عليه �أن يحتاط لنف�سه بكثري من ال�صرب و�إين �أخاطبك بلغات ه�ؤالء القوم ،وال �إثم عليَّ يف ذلك
والأناة حتى ال ي�صاب هو مبا �أ�صيب به النحاة من حب وال لوم ،والثالثة بي �أوىل ،و�أ�س�ألك �أيها املوىل �أن تتحفني
الغريب من اللفظ حتى ال تت�أثر حياته الزوجية يف ع�صرنا ب�ساموزة �أنعم من املوزة� ،أقوى من ال�صوان ،و�أطول عمر ًا
هذا الذي يتميز بالقلق ونفاد ال�صرب . من الزمان ،خالية البوا�شي ،مطبقة احلوا�شي ،ال يتغري
ملحوظة :الكلمات الغريبة يف عبارات الإ�سكايف ال عليَّ و�شيها ،وال يروعني م�شيها ،ال تنقلب �إن وَطِ ئْتُ بها
�أ�صل لها يف اللغة فهي لي�ست ذات معنى و�إمنا هي تعبري جُ روفاً ،و ال تنفلتُ �إن طحتُ بها مكان ًا خم�سوفاً ،وال تلتوق
عن �ضيقه بحذلقة النحوي. من �أجلي ،وال ي�ؤملها ثقلي وال تتمزق من رجلي ،وال تتعوج،
115
ة العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
للمرة الأوىل ،بنغالد�ش املهم�شة يف ذاكرة العامل ،اجلائعة �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
والبائ�سة ،الغارقة يف في�ضاناتها وم�آ�سيها والعارية �إال من
فقرها وب�ؤ�سها وبيوتها التي ال ي�صلها ال�ضوء ،للمرة الأوىل
�شخ�صية العدد عدد
خ�صية العدد
بنغالد�ش ،القطن املت�ش ّبع باللون الأ�سود ،ت�ستقطب �أ�ضواء لعدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
�شخ�صية العدد العدد �شخ�صية العدد
الدنيا فتتقدّم يف ثوب بنغايل مم ّيز ،منت�صبة القامة،
مرفوعة الر�أ�س لتت�سلم جائزة نوبل لل�سالم!
حكاية ك�أمنا تخرج من كتاب «�ألف ب�ؤ�س وب�ؤ�س» لتحتل يف
«جملد نوبل» املركز الأول بني 191حكاية �أخرى مر�شحة
عن ال�سالم!
وبطلها حممد يون�س الربوفي�سور االقت�صادي البنغايل،
فار�س �أ�سمر مل يحلل �سرقة الأغنياء لإطعام الفقراء مثل
روبن هود ،بل قفز فوق املعجزات الأ�سطورية والربامج
االقت�صادية ال�شائعة يف مكافحة الفقر عرب �آلية اقت�صادية
ب�سيطة غري معقدة تتب ّنى �إقرا�ض الفقراء دون �أية �ضغوط
عليهم ودون �أية �ضمانات منهم� :آلية خلقت به ومعه،
م�صرف «غرامني» �أي «بنك القرية» فتقا�سما معاً جائزة
يون�س حممد
نوبل لل�سالم للعام 2006
حممد يون�س
يخرج من بطن
احلوت ليقتل الفقر
فاطمة �شرف الدين
كاتبة من لبنان
116
بد�أت احلكاية عام .1976حينها كانت
بنغالد�ش ال تزال ترزح حتت تداعيات املجاعة
(التي حلت عام 1974وح�صدت حوايل
املليون ون�صف املليون من ال�سكان) وكان هو:
الربوفي�سور اجلامعي ورئي�س ق�سم االقت�صاد
يف جامعة �شيتاغونغ ،وكانت هي :فقرية
جوبرا ،العينة احلقيقية لفقراء بنغالد�ش وكل
فقراء العامل ،فتبنى ب�ؤ�سهم ،لريتبط بهم يف
رباط اقت�صادي �إن�ساين مقد�س!
يروي يون�س �أنه �أثناء جولته امليدانية مع طالبه
يف قرية جوبرا -املجاورة جلامعة �شيتاغونغ،
التقى يون�س بتلك املر�أة فيما كانت م�ستغرقة
يف �صناعة كرا�سي البامبو ،ليدرك من خالل
حمادثتها �أن الفقراء يدورون �أبد ًا يف حلقة
الفقر املرعبة ،فهي تقرت�ض من املرابني
ل�شراء البامبو اخلام وتعمل � 12ساعة يومي ًا
وال يتبقى لها بعد �سداد القر�ض مع فوائده �إال
ما ي�س ّد الرمق!
يف ذاك اللقاء� ،أدرك �أنه �شتان بني النظريات
االقت�صادية التي يدر�سها يف اجلامعة وبني
رمال الفقر املتح ّركة التي يعلق ويغرق فيها
الفقراء« :لقد كنا – نعم -نحن �أ�ساتذة
االقت�صاد نتم ّيز ب�ش ّدة الذكاء ،لكننا مل نكن
نعرف �شيئ ًا عن الفقر الذي كان يحيط بنا من
كل جانب .كانت درو�سنا االقت�صادية ت�شبه
الأفالم الأمريكية التي دائم ًا ينت�صر فيها
البطل».
هذا اللقاء دفعه �إىل �أن يبا�شر حت ّركه العملي
�ضد الفقر فبد�أ معركته الأوىل يف 42قرية
فقرية جماورة جلوبرا ،م�سلح ًا مببلغ �صغري
من ماله اخلا�ص لتمويل م�شاريع �إنتاجية
�صغرية خا�صة بـ 42امر�أة ،مبع ّدل 27$
للمر�أة الواحدة وذلك دون �أي قيد �أو �شرط �أو
حتى حتديد لفرتة ال�سداد.
وعلى الرغم من النتائج املذهلة التي حققها،
باءت حماوالته يف �إقناع البنك املركزي
البنغايل والبنوك التجارية بتب ّني «برنامج
�إقرا�ض الفقراء» ،بالف�شل واال�ستهزاء .مما
ا�ضطره -ما بني عامي 1976و� - 1979إىل
اقرتا�ض قر�ض �شخ�صي بغية ت�أ�سي�س بنك
غرامني �أي (بنك القرية) ،فتمكن مرة ثانية
من حت�سني حياة � 500أ�سرة فقرية ليثبت
للعامل وللبنوك -التي �شككت �سابق ًا يف جناح
فكرته – �أن الفقراء جديرون باالقرتا�ض
وهذا ما دفع البنك املركزي عام � 1979إىل
تب ّني م�شروع بنك «غرامني» الذي ا�ستطاع
منذ انطالقته وحتى تاريخنا احلايل – تقدمي
القرو�ض لأكرث من 7ماليني من فقراء العامل،
معظمهم من الن�ساء و�أغلبهم من بنغالد�ش .
117
وعنه يقول د .يون�س« :يفوق حجم الأموال املودعة حالي ًا ة العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
يف غرامني حجم القرو�ض ويقوم البنك ب�إقرا�ض ما
يعادل نحو 800مليون دوالر �أمريكي �سنوي ًا ،وتبلغ قيمة �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
القر�ض الواحد �أقل من 200دوالر �أمريكي يف املتو�سط،
فيما يبلغ عدد املُق َر�ضني 5,6مليون ُمقرت�ض ،ودون �أي
�شخ�صية العدد عدد
خ�صية العدد
�ضمانات منهم .لقد ا�ستحدثنا العديد من الربامج يف لعدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
بنك غرامني منها الربامج املتعلقة بقرو�ض الإ�سكان، �شخ�صية العدد العدد �شخ�صية العدد
قرو�ض الطالب� ،صناديق التقاعد ،قرو�ض �شراء
الهواتف اجل ّوالة وقرو�ض للمت�س ّولني ليتح ّولوا �إىل باعة
متج ّولني على �أبواب املنازل».
لذا كان من البديهي �أن يتخلى الربوفي�سور يون�س عن ح�صوله على «نوبل» لل�سالم �أكد
�إطاره الأكادميي يف اجلامعة لالنخراط يف بنك غرامني
الذي حت ّدى بهويته امل�صرفية املتج ّددة عامل املال �أن الكفاح �ضد الفقر َه ٌّم �سيا�سي
واملرابني ليغيرّ يف م�سار التنمية االقت�صادية واالجتماعية ولي�س اقت�صادي ًا فقط
يف العامل بعيد ًا عن �أية خماطر مالية« .لو �أنني �أ�ستطيع
�أن �أكون مفيد ًا لأي �شخ�ص �آخر ولو ليوم واحد ملا تر ّددت
�أبد ًا.
اقت�صاد و�سيا�سة
م َّثل جناحه �سبب ًا رئي�سي ًا يف انت�شار فكرة «بنوك الفقراء»
يف نحو خم�سني بلد ًا يف العامل ،ومن بينها دول متق ّدمة،
فاكت�سبت التجربة البنغالية طابع ًا عاملي ًا يف �آليات مكافحة
الفقر .حتى �أن بنغالد�ش -القطن املت�شبع بالفقر الأ�سود
-و�صلت �إىل «البيت الأبي�ض» ,فعام � 2000أوكل «بيل
كلينتون» �إىل حممد يون�س مبه ّمة �إن�شاء م�صرف مماثل
مل�صرف غرامني يف والية �أركن�سا�س مل�ساعدة الن�ساء
والفئة ال�شابة فيها على ت�أ�سي�س م�شروعات �صغرية.
كما دعت هيالري كلينتون كل الدول �إىل اال�ستفادة من
«احرتام حممد يون�س للدور احليوي الذي تلعبه الن�ساء
يف احلياة االقت�صادية واالجتماعية وال�سيا�سية يف
جمتمعاتنا».
�أما جيمي كارتر (الرئي�س الأ�سبق للواليات املتحدة
الأمريكية) فاعترب �أن «ما ق ّدمه حممد يون�س للفقراء
يتع ّدى �صحن طعام� ..إنه الأمان ب�شكله الأ�سا�سي».
ب�أية حال ال ب ّد �أن يقودنا النجاح الكبري الذي حققه
حممد يون�س �إىل قراءة الإخفاقات يف امل�شاريع
امل�شابهة ،يف حديث له مع وكالة الأهرام ي�ؤكد�« :أن
الف�شل يك ُمن يف �إخفاقنا يف فهم جوهر الكائن
الب�شري يف نظريتنا التي و�ضعناها .فالأفراد
العاد ّيون لي�سوا كائنات ب�شرية �أُحاد َّية
اجلانب� ،إنهم متعدًّدو الأبعاد واجلوانب.
فعواطفهم ومعتقداتهم و�أولو ّياتهم و�أمناط
تو�صف ب�شكل منا�سب �سلوكهم ميكن �أن َ
�أكرث من خالل الت�شا ُبه اجلزئي الذي
نراه بني الألوان الأ�سا�سية وماليني
الألوان والأطياف التي تُنتجها هذه
الألوان الأ�سا�سية».
ويتمحور �إجناز يون�س حول �أربعة عناوين
�أ�سا�سية :الأول و�ضع م�ؤ�شرات بديلة مل�ؤ�شرات
التنمية ال�سائدة باالرتكاز على حياة الـ 50
118
الفقر واملوت %من املجتمع �أي الفئة الفقرية املهم�شة ،والثاين اعتبار
القر�ض �أو االئتمان حق ًا �أ�سا�سي ًا من حقوق الإن�سان مبن
الفقر عند يون�س يقارب املوت كثري ًا .يف مقابلة له يف فيهم الفقراء ،وعدم �إق�صائهم عن حقهم يف احل�صول
برنامج «حديث ال�شعب» Talk to the Nation على القرو�ض حتى من دون �ضمانات ،والثالث التوظيف
نوفمرب 2006يقول يون�س «للموت �أ�شكال ع ّدة .فالفقراء الذاتي للفقراء ومتكينهم وتعزيز قدراتهم لالرتقاء
ميوتون ببطء ،ومع كل ثانية مت ّر تتناق�ص امل�سافة بني من حالة الإح�سان �إىل االكتفاء الذاتي ،والرابع اعتبار
املوت احلياة واملوت ،فيتال�صقان مع ًا بحيث ال ميكن التفريق الن�ساء قوة للعمل واملدخل احلقيقي لتح�سني حياة الأ�سر
ب�سبب يتم بهدوءبينهما ،واملوت من الفقر مثل النوم متام ًا ّ الفقرية.
�إذن �أدرك يون�س عرب فقرية جوبرا ،ما ن�ساه �أو تنا�ساه
الفقر �شديد مت�صلب وغري ملحوظ».
مل تكن مالمح فقر «فقرية جوبرا» -التي قادته �إىل العديد من امل�صلحني التنمويني واالقت�صاديني الرقميني
مثل النوم فقراء العامل وقادت الفقراء �إليه -فط ّوبوه ب�ألقاب �صادقة الغيورين على الفقراء :عامل الفقر بجذوره وتداعياته.
وهذا ما يف�سر ح�صوله على جائزة نوبل لل�سالم بد ًال عن
هادئ منها «ق ّدي�س الفقراء»�« ،أبو الفقراء»« ،م�صريف الفقراء»
االقت�صاد ،ففي امللحق االقت�صادي ل�صحيفة الفيغارو
-بغريبة عليه ،فهو بالت�أكيد قد ر�أى الفقر �سابق ًا،
ومت�صلِّب ففي بنغالد�ش يتج ّول الفقر حر ًا �إال من فقرهّ ،
يع�س يف الفرن�سية Le Figaroال�صادر بتاريخ 2006/11/1
وغري الطرقات �ساهر ًا ي�أبى �أن ينام ،وهو ابن بنغالد�ش ،قد يقول «ال يعترب الكفاح �ضد الفقر هم ًا اقت�صادي ًا فقط،
�ألف منذ �صغره معاناة الفقراء و�شاهد انك�سار الأيادي هم �سيا�سي �أي�ض ًا ..فالفقر يخلق ا�ضطرابات ولكنه ّ
ملحوظ امل�ستعطية و�سمع دعاء البطون اجلائعة تر�سم فوق لدول ومناطق العامل ،وهو عامل م�ساعد على تفريخ
الإرهاب ،وهو ال�سبب الرئي�س لهجرة واغرتاب النا�س.
ولهذه الأ�سباب رمبا ،اعتربت �أكادميية نوبل �أن عملي
ي�ستحق الرتحيب به يف جمال ال�سالم �أكرث منه يف املجال
االقت�صادي البحت».
و�إذ �أ�ضاف يون�س �إىل عامل املال بعد ًا �إن�ساني ًا ،ف�إن
جتربته -يف بنك غرامني � -أ�ضافت له قناعات ال
تتزحزح «منحتني جتربتي يف العمل مع بنك غرامني،
الإميان الرا�سخ ب�إبداع الكائن الب�شري وب�أن العامل مل
يخلق ليعاين من ب�ؤ�س اجلوع والفقر ،فما معاناته �سابق ًا
بت �أ�ؤمن�أو حالي ًا �إال ب�سبب جتاهلنا لهذه الق�ضية .لقد ّ
ب�أننا ن�ستطيع �أن نخلق عامل ًا حر ًا من الفقر ،وذلك لي�س
ب�سبب حلمي التقي ،بل ب�سبب النتيجة امللمو�سة للتجربة
املكت�سبة يف بنك غرامني».
جاءت نوبل كتتويج ل�سيل من اجلوائز -املحلية
والإقليمية والدولية -التي ح�صدها الربوفي�سور يون�س
من �ألبوم العائلة يف العقود الثالثة املا�ضية ،ومنها :جائزة رئي�س جمهورية
بنغالد�ش لعام ،1978وجائزة رومان ماغا�ساي�ساي
القر�ش �شك ًال للرغيف «كانوا يقفون �أمام الأبواب.. الفلبينية لعام ،1984وجائزة الآغا خان لعام ،1989
ينتظرون الإح�سان ب�صمت ..حفنة �أرز ..قطعة خبز.. وجائزة «�أنديرا غاندي لل�سالم ونزع ال�سالح والتنمية»
�أو يتقوقعون فال مت ّيز �إذا ما كانوا �أحيا ًء �أو �أموات ًا.. عام ،1991وجائزة منظمة الأغذية والزراعة الدولية
جميعهم مت�شابهون رجا ًال ون�سا ًء و�أطفا ًال» فهو و�إن ن�ش�أ لعام ،1994وجائزة �سيمون بوليفار لعام 1996من
يف �أ�سرة مي�سورة احلال بعيد ًا عن الفقر لكنه تر ّبى على منظمة اليوني�سكو ،وجائزة �سيدين الأ�سرتالية لل�سالم
�أال يرد فقري ًا. لعام ،1998وجائزة جملة الإيكونومي�ست «للإبداع
االجتماعي واالقت�صادي» لعام ،2004وجائزة �سيئول
م�صريف الفقراء الكورية لل�سالم لعام ،2006وجائزة الأم تريزا لعام
،2006وجائزة التح ّرر من احلاجة وق ّدمت له يف مدينة
هكذا ر ّبته �صفية خاتون وهكذا ر ّباه املنزل «رقم :»20 «ميدلبريغ» الهولندية (وهي �إحدى جوائز احل ّريات
ففي كتاب «م�صريف الفقراء» Banker to the Poor الأربع ،التي �أوردها الرئي�س الأمريكي «فرانكلني دي
الذي �أع ّده بالتعاون مع الكاتب وال�صحفي الأمريكي �آالن يتم تقدميها �سنوي ًا لتكرمي روزفلت» عام 1941والتي ّ
جولي�س �أكتوبر ،2003يروي يون�س �سرية حياته بدء ًا من الأ�شخا�ص الذين �أظهروا التزام ًا باحل ّريات الأ�سا�سية
طفولته ومرور ًا بدرا�سته اجلامعية يف بنغالد�ش ومن الأربع :حرية القول والتعبري وحرية العبادة والتح ّرر من
ثم يف �أمريكا ،وزواجه بعد عودته من «�أفروجي» �أ�ستاذة احلاجة والتح ّرر من اخلوف).
الفيزياء بجامعة «جهانغريناغار» يف بنغالد�ش .كما
119
«الأبي�ض» النجاح و�إميانه بالعلم ،ومن «الرباق» احلزم ة العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
تع�ض والدتي �شفتها ال�سفلى� ،أنه ال«كنا ندرك عندما ّ
�شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
فائدة من تغيري ر�أيها» .واملنهجية والتنظيم والأهم
التعاطف مع الفقراء والرحمة.
ا�ستقى يون�س وهو مل يكمل التا�سعة من عمره -تعاليم
�شخ�صية العدد عدد
خ�صية العدد
الإ�سالم الأ�سا�سية «كان والدي م�سلم ًا ورع ًا وملتزم ًا. لعدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
صية العدد �شخ�صية العدد �شخ�صية العدد
�أ ّدى فري�ضة احلج ثالث مرات» ،وحتى �أدق تفا�صيله �شخ�صية العدد العدد �شخ�صية العدد
«كنت �أ�س�أل والدتي عن اختالف لون ال�سماء ما بني
الأحمر والأزرق على جانبي املنزل فتجيبني :الأزرق هو
ال�سم الذي قتل ب�سببه احل�سن والأحمر لون دم احل�سني ّ يروي الكتاب ن�ش�أة وتطور بنك غرامني يف حتليل للدوافع
الذي �سال» .وتلقى و�إخوته العلم يف مدر�سة «المار بازار» الأ�سا�سية التي دفعت يون�س �إىل �إعادة �صياغة العالقة
االبتدائية املجانية املكتظة «�أربعون تلميذ ًا يف الف�صل االقت�صادية ما بني الفقراء والأغنياء.
الواحد» مبوازاة القيم الفا�ضلة واالن�ضباط واملعتقدات ولد حممد يون�س عام ،1940يف مدينة �شيتاغونغ -وكان
الروحية ،لكنه مت ّيز منذ �صغره و�أخوه �سالم «الأخ ترتيبه الثالث بني � 14أخ ًا و�أخت ًا (تويف منهم خم�سة يف
وال�صديق واملرافق الدائم الذي يكربه بثالث �سنوات»، طفولتهم) ،لأب ميلك حم ًال للمجوهرات (احلاجي دوال
عن �أترابهما و�أغلب �إخوتهما ،بنهم ال ي�شبع للمطالعة ميا) ولأم مت�شبعة ب�إن�سانيتها (�صفية خاتون) عرفت
وقراءة الكتب واملجالت والروايات البولي�سية ...نهم كان ب�أنها ال تر ّد حمتاج ًا وقف ببابها.
يدفعهما �إىل �إم�ضاء الوقت الطويل يف عيادة طبيبهم �أنهى تعليمه الثانوي بتفوق يف بلدته «�شيتاغونغ» ،والتحق
العائلي ،لال�ستفادة من ال�صحف واملجالت املتوفرة بجامعة «دكا» لالقت�صاد ليح�صل على منحة تف ّوق
فيها .وقبل �أن يبلغ الثانية ع�شرة من عمره كتب رواية درا�سية للتح�صيل العلمي يف اخلارج .فتخ ّرج من جامعة
بولي�سية �شيقة طبع ًا مل تن�شر. فانديربيلت Vanderbilt Universityيف نا�شفيل،
هذا النهم للقراءة الذي يعتربه حممد يون�س ال�سبب Nashvilleبوالية تيني�سي الأمريكية Tennessee هرب من
الأ�سا�سي لتفوقه يف مراحل درا�سته االبتدائية والثانوية، عام .1965ويف فرتة تواجده بالبعثة ن�شبت حرب حترير الن�صو�ص
مل يدفعه �إىل �شراء الكتب وا�ستعارتها فقط ،بل تع ّداه بنغالد�ش (باك�ستان ال�شرقية �سابق ًا) وا�ستقاللها عن والنظريات
�إىل التحايل وانتحال �صفة الغري!! .ففي كتابه ،يروي فان�ضم
ّ باك�ستان (�أو باك�ستان الغربية يف ذلك الوقت)،
توجه بر�سالة �إىل
كيف �أنه ويف الثانية ع�شرة من عمرهّ ، يون�س �إىل حركة حقوق الإن�سان ،ليعود �إىل بالده عام الكت�شاف
رئي�س حترير جملة «�شوكاترا» ،وهي املجلة املف�ضلة لديه 1972ويرت�أ�س ق�سم االقت�صاد يف جامعة �شيتاغونغ.. اقت�صاديات
منتح ًال ا�سم �أحد الفائزين فيها ومطالب ًا �إياه بتحويل يف املنزل «رقم »20يف �شارع بوك�سريهارت� ،شهد يون�س
جائزته� ،أي اال�شرتاك املجاين �إىل عنوانه اجلديد!.. طفولته ب�أحالمها ونزواتها وحتى �أ�سرارها ال�صغرية، احلياة
وطبع ًا غاب املنزل «رقم »20عن ن�ص الر�سالة خوف ًا من ففيما ي�ضج الطابق الأر�ضي بحركة طرق الذهب احلقيقية
الوقوع يف قب�ضة الأب! وت�صنيعه وتلميعه وحركة الزبائن حيث امل�شغل واملحل،
يف املنزل «رقم ،»20كانت الدنيا حت�ضر مبختلف وجوهها: كان الطابق العلوي ي�ضج بامل�شاعر الإن�سانية املختلطة
الديني ،الثقايف ،االجتماعي ،الإن�ساين وحتى ال�سيا�سي: باالنت�صارات واالنك�سارات املختلفة ..واملنزل يبدو يف
فهو -و�أي�ض ًا يف ال�سابعة من عمره -تذوق مفاهيم ذاكرة حممد يون�س ك�أنه مطلي بح�ضور لونني �أ�سا�سيني:
احلريات واحلقوق العامة من خالل النقا�شات ال�سيا�سية الأبي�ض (لون �سروال الأب وبيجامته وحذائه وثوبه
التي كانت حتتدم يف املنزل «رقم »20بني والده امل�سلم الطويل) والرباق (لون �ساري والدته الذي طاملا تعلق به
و�أ�صدقائه الهندو�س ليكون انطباعه اخلا�ص «كنت �أ�شعر وهو �صغري).
بوجود عدم ثقة بني الطائفتني الدينيتني» ..لي�س هذا يف غرف املنزل الأربع «رقم ،»20تع ّرف حممد يون�س
فح�سب بل �أن ال�شخ�صيات ال�سيا�سية -الرائجة حينها - على �إيقاعات الدنيا تر�شح من حيطان منزلهم« :املنزل
من حممد علي جناح «قائد حركة انف�صال باك�ستان عن ي�ضج طوال اليوم بحركة ال�شارع املكتظ بنداءات الباعة ّ
الهند» وغاندي ،واللورد لوي�س مونت باتن ،ت�سللت �إىل املتج ّولني وت�ضرعات املت�سولني التي ما �أن تهد�أ عند
احلكايات التي كانت ترويها لهم والدتهم قبل النوم. منت�صف الليل حتى تطقطق ب�صوت الذهب املطروق
يروي يف كتابه �أنه ما زال يذكر ليلة الرابع ع�شر من �آب/ ال�صاعد من م�شغل والدي الواقع يف الطابق الأر�ضي،
�أغ�سط�س من العام ،1947ليلة �إعالن ا�ستقالل باك�ستان! وب�صرير اخلزائن احلديدية ورجع �أقفالها ال�ستة عند
ليلتها ارتدت مدينته �شيتاغونغ �أعالمها وتز ّينت ب�أكاليل �إغالق املحل».
الأخ�ضر والأبي�ض ..يقول عنها يف كتابه «كانت هذه �أول �إذن بني ح�ضني والده «احلاجي دوال ميا» الذي (كان
جرعة ت�صيبني من الفخر الوطني .وك�أنها ما زالت يهتم بالقراءة ل�ضيق الوقت ،فعامله يقوم على نادر ًا ما ّ
ت�سري يف عروقي» ..وما زال يذكر رجع �صوته املنطلق ثالث دعائم �أ�سا�سية ال�صالة والأ�سرة والتجارة) ووالدته
من حنجرته ال�صغرية «باك�ستان زيندباد» �أي «تعي�ش «�صفية خاتون» امل�س�ؤولة عن تنظيم و�إدارة �ش�ؤون الأ�سرة،
باك�ستان»!! بني ح�ضني «الأبي�ض» و«الرباق» ن�ش�أ يون�س :فاكت�سب من
120
وحده ال يكفي فهو «باب بني ع ّدة �أبواب ال ميكن ولوجها
�إال �إذا �أعدنا �صياغة ر�ؤيتنا للغري ور�سم هذه املفاهيم يف �صراخ يف الليل
�إطار عمل تنظيمي».
ويون�س يف دعوته ين�شر ر�سالة الت�ضامن �ضد الفقر يف املنزل «رقم »20دارت الدنيا حلوة م�ستقرة دافئة
«�أردت �أن �أخربكم يف كتابي حكاية بنك غرامني لتق ّرروا حتى بلوغه التا�سعة من عمره فقد فعل القدر فعله لتتخذ
�أ�ضاف ماذا تعني لكم؟ و�أدعوكم من خالله �إىل االن�ضمام �إىل غرف املنزل منحى خمتلف ًا عندما انقلبت «�صفية خاتون»
امل�ؤمنني بقدرتنا على �صناعة عامل خال من الفقر.. من الأم الدافئة �إىل كتلة ع�صبية تتجاذبها انفعاالت
�إىل اقت�صاد مهما كنا ..ثوري ًا ،ليربالي ًا ،حمافظ ًا� ،شاب ًا �أو عجوز ًا.. متقلبة«:كانت والدتي ت�شتم ،تلعن ،حت ّدث نف�سها ل�ساعات
املال بعداً ف�إننا ن�ستطيع جميعنا �أن نتكاتف يف هذه الق�ضية». و�ساعات وتك ّرر حديثها ل�ساعات و�ساعات ،وحتى تقيم
�إن�ساني ًا و�إذا كانت حكاية يون�س تقرب �إىل حكاية «نبي الفقراء»
املوعود الذي ر�أى الفقر رج ًال فقتله! لي�ؤكد للعامل -
فر�ض �صالتها الواحد ل�ساعات و�ساعات .كانت تخاطب
الأموات فتلعنهم وت�ستفز الأحياء فت�شتمهم بكلمات
بتحرير با�سرتاتيجياته االقت�صادية يف مكافحة الفقر وم�ؤ�س�ساته نابية»!
الفقراء التنموية الدولية والعاملية املنت�شرة يف الأر�ض ،ببناتها انقلب احلال يف املنزل -ب�سبب مر�ض والدته الوراثي
و�أخواتها وعائالتها وخربائها والذين باتوا يفوقون تعداد -فبات ي�صدر �ضجيجه �إىل الدنيا «كنا ن�ستيقظ على
من �سلطان فقراء الأر�ض �أن «العلم حاكم واملال حمكوم عليه» ،يف �صرخات مرعبة وحادة يف الليل» فتح ّمل حممد يون�س
الفائدة عمق كتاب يون�س �سريته ،ويف قلب �سريته هناك عميق ًا – على الرغم من �صغر �سنه – م�س�ؤولية مرهقة نف�سي ًا
«كنت �أ�ساعد والدي يف �ضبطها حلماية �إخوتي ال�صغار
من اعتداءاتها اجل�سدية عليهم»!
ما زال يذكر يف حماوالتهم الطفولية لتفادي تلك
الإ�ساءات كيف واجهوا القدر بلعبة م�سلية متهكمة،
«�أطلقنا على املنزل «رقم »20ت�سمية (حمطة الوالدة
الإذاعية) التي تنقل يف بث حي ومبا�شر على الهواء
نوباتها الع�صبية وخطاباتها املرتافقة بامل�ؤثرات احل ّية»،
وكيف اخرتعوا خطط متويه �صغرية للحرب الدائرة يف
الغرف الأربع (ب ّدلنا �أ�سماءنا �إىل �أرقام :اعتداء على
الرقم ..4الأم تهاجم الرقم ...3الرقم 5انتبه.»..
مل يلجمه هذا االنك�سار النف�سي العظيم عن حتقيق
انت�صاراته العلمية بتفوق وحتى يف ظروف مالية حمدودة:
«كان والدي ال يبخل يف الإنفاق على تعليمنا وعلى �سفرنا
لكنه كان يلزمنا مب�صروف جيب حمدود.»..
ولأن متطلبات حممد يون�س كانت كثرية (مطاعم – كتب
– جمالت� -سينما) ف�إنه مل يتوان عن تعزيز موازنته
ال�ضيقة ،فكان يختل�س �سر ًا القرو�ش النقدية ال�صغرية
مع الرئي�س الأمريكي الأ�سبق جيمي كارتر
املتواجدة يف درج والده والتي مل يلحظ الوالد اختفاءها
�أبد ًا!
ظلت �صفية خاتون �سجينة مر�ضها الوراثي ملدة ثالثني
جد ًا ،حكاية :فهو عرف االحتياج ولو لإ�شباع نهمه عام ًا وظ ّل «الأبي�ض» �أبي�ض (يرعاها بلباقة و�صرب،
للقراءة ،وعرف معنى التح ّرر منذ هتف يف �شوارع خمل�ص ًا وحمب ًا ك�أنها ما تب ّدلت ،ك�أنها نف�س املر�أة التي
بوك�سريهارت «باك�ستان زيندباد» ،وعرف �آلية �شبكات تزوجها وهو يف الثانية والع�شرين من عمره) �أما «الرباق»
الأمان منذ حت ّول مع �إخوته �إىل �أرقام يف مواجهة القدر فذبل عنه ملعانه �إىل �أن انطف�أ كلي ًا عام .1982
الب�شع وذاق مرارة احلرمان واجلوع العاطفي للأم منذ يف كتاب يون�س الكثري من احلكايات ..عنه ..عن البنك..
مر�ضها. عن الفقراء� ..صفحات مفتوحة على الأخرى دون قواطع،
يف كتاب يون�س املقروء ،ظ ّل والده «احلاجي دوال الميا» وعندما تق ّدم وبنك غرامني ال�ستالم جائزة نوبل،
وفي ًا ل�صفية خاتون على الرغم من ب�ؤ�سها ال�صحي تق ّدمت معه بنغالد�ش وفقرية جوبرا ون�سبة عالية من
وتدهور ظروفها .ظ ّل «الأبي�ض» �أبي�ض. فقراء العامل ..للمرة الأوىل يكون احل�شد على املن�صة
عب يون�س غري املقروء ،ظ ّل الطفل ال�صغري وفياً ويف ّ كبري ًا!
لعطاء �صفية خاتون ..لإكرامها للفقراء «من م�صروف فيون�س ي�ؤمن ب�أننا «نحن بحارة ومالحو هذا العامل ونحن
جيبها اخلا�ص» والأهم �أنه ظ ّل طف ًال �أبي�ض ووفي ًا لل�ساري من يق ّرر وجهتنا ،وما تعاطينا اجلدي وامللتزم بدورنا يف
رباق الذي طاملا تعلق به يف ال�صغر فتعلق بتفا�صيل ال ّ احلياة �سوى الطريق الوحيد للو�صول �إىل مبتغانا».
فقرية جوبرا ..بذيل ثوب فقرية جوبرا. ومعجزة «يون�س» قامت يف �إقرا�ض الفقراء مع �أن القر�ض
121
عامل ال�سيميولوجيا والفيل�سوف والروائي الإيطايل كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر
تاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر
�أمربتو �إكو مل يرتدد هذه املرة �أي�ضاً ووا�صل م�شروعه شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر
الروائي التجريبي وللمرة اخلام�سة ،فقد �أ�صدر رائعته
الأوىل «ا�سم الوردة» يف مطلع ثمانينيات القرن املا�ضي
ال�شهرال�شهر
كتابكتاب
هر
و�أعقبتها «بندول فوكو» ،ثم «جزيرة الأم�س» و�أخرياً ب اال�شهر كتاب اال�شهر كتاب اال�شهر
كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر كتاب ال�شهر
«باودولنيو». كتاب ال�شهر تاب ال�شهر كتاب ال�شهر
والآن �صدرت خام�س رواياته «وهج غام�ض للملكة لونا»
التي �صدرت بالإيطالية 2004وظهرت طبعتها ال�شعبية
�إىل الإنكليزية هذا العام.
الفا�شية
مل تكن
نقد الإكلريو�س
لن ننفك من �أ�سر ذلك الإيقاع ال�سردي -حتى �أن
القارئ ين�سى اجلزء الأول من الرواية فينغم�س مع يامبو
يف قريته الوادعة وهو ي�سرد تاريخ �إيطاليا �إبان احلرب
ومو�سوليني وهتلر� ..إلخ ،وذلك من املجالت وق�صا�صات
ال�صحف ،ونرى يامبو وهو يبحث عن عوامل طفولة
�ضائعة وفتاته التي بحث عنها مثلما كتب �سلفه دانتي ه�سه ومواطنه دانتي اللجريي ،وكذلك اليوت ،ولن ين�سى
عم ًال عظيم ًا ليخلد حمبوبته بباتري�س -وقد ذكر �إكو بالطبع ق�ص�صه البولي�سية -خا�صة كونان دويل وجورج
يف لقاء معه بعد �صدور هذا العمل قائ ًال« :لقد ر�سمت �سيمنون.
�شخ�صية تختلف عني كثري ًا ،وقد ح�شدت كثري ًا من تتكثف تلك الغيوم وت�ضعف الر�ؤية ب�سبب ال�ضباب �إىل �أن
ذكريات طفولتي الباكرة ولدي �إح�سا�س ب�أن خ�صو�صيتي تعم الظلمة مطلق ًا ذاكرة ال�سيد يامبو بائع الكتب القدمية،
مل تنتهك �أبد ًا ...مث ًال البد �أن يكون كل واحد منا قد ثم نرى �أفراد �أ�سرته و�أحفاده وهم ملتفون حوله وهو طريح
�أحب يف فرتة مراهقته� ،إال �أنه لن يف�شي هذا ال�سر لأحد الفرا�ش يف �أحد امل�ست�شفيات ،يقرتب الطبيب لي�س�أله
�أبد ًا ..و�أ�صدقكم القول �إن تلك الفتاة كانت فتاتي ولكم ب�ضعة �أ�سئلة يف حماولة مل�ساعدته كي ي�ستعيد ذاكرته ،فقد
�أن تت�صوروا كم كان حبي ذلك عظيم ًا»( .جملة التامي افتتحت الرواية بذلك احلوار ،الذي يك�شف لنا عن ذكاء
الأمريكية 13يونيو .)2005 �سردي لإكو ،حيث �إن تلك اللحظة كانت هي حبكة الرواية
عندما �أفاق يف حلظة ما� ،صرخ يامبو «انفجارات يف و�أ�سا�س بنائها ال�سردي:
بغداد؟ ال مل نقر�أ عنها يف �ألف ليلة وليلة» .كثري من -ا�سمك؟
ال�سخرية مما يدور يف هذا العامل والتطرف والإرهاب. -دعني �أتذكر� ،إنه على طرف ل�ساين.
وقد ُعرف �إكو مبقاالته ال�ساخرة حول الفاتيكان، ومن ثم تلفه تلك الغيوم ،وتن�ضم زوجته للطبيب يف
ومن قبلها رهبان القرون الو�سطى -حتى �أننا جندها حماوالت �أخرى ال�ستعادة ذاكرته ،وتذهب به �إىل املنزل،
قد ت�سربت �إىل معظم ن�صو�صه ال�سردية � -أي نقد فهرع �إىل غرفة مكتبه حيث يبد�أ يف قراءة �أ�سماء الكتب
الإكلريو�س و�سلطة الكني�سة -فقد �أراد القول يف روايته وامل�ؤلفني ثم يتوقف عن النظر يف كعوبها وي�شيح عنها بعيد ًا
ال�سابقة لهذه «باودولينو»�« ،أي حق للبابا حتى مننحه ويكمل من ذاكرته البقية ح�سب ما هي مرتبة يف خزانات
املدينة؟» بل و�أكرث من ذلك فقد قال ب�ضرورة �إيجاد الكتب التي ميتلئ بها منزله .يف مكان ما يف الرواية يقول
124
�أحالم ،كوابي�س فنتازيا ،وذاكرة -هي عنا�صر هذا �صيغة علمانية لل�سرد توازي عنف الإكلريو�س .ويف �أحد
ال�سرد �أو عنا�صره املكونة �إن �شئت � -إكو هو �صاحب م�ستويات ال�سرد جند �أن لغة �إكو ال�سردية تتحول �إىل لغة
املقولة ال�شائعة -جاءت يف ا�سم الوردة « -هنالك �أحالم (ناقدة) -تذهب بعيد ًا يف نقد الأيديولوجيا وكل معرفة
كثرية ت�شبه الكتابة ،مثلما �أن هنالك كتابات كثرية ت�شبه جوهرانية« ،دعنا ال نتحدث عن هيغل وربط م�شروعه
احللم» ،وحتى يف هذه الرواية يختم �إكو احلكاية على بالدولة واملجتمع املدين ...مل يكن �سوى فا�شي»!
ل�سان بطله يامبو ،قائ ًال «لقد �سمعت �صوت ًا قوي ًا يقول يل: «�صنعت ذاكرتي من ورق! ما �أروع رائحة الكتب القدمية!،
الذي �سوف تراه ،لك مطلق احلرية يف كتابته� ،أو �أن تكتبه �أنا ال �أخطئ ،فقد �شكلتني منذ طفولتي الباكرة وال تزال،
يف كتابك فلن يقر�أه �أحد ،لأنك فقط حتلم ب�أنك تكتبه» دليلي هو �أين ما زلت �أعمل يف جتارة الكتب القدمية
الرواية �ص .423 والنادرة» -هل هنالك �أفق �سردي �أتوبيوغرايف؟ نعم!
يفيق يامبو الآن ،فقد انق�شع ال�ضباب ،وزالت الغيوم ومل فحينما تقرر زوجة يامبو منفاه ذاك بهدف ا�ستعادة
يبق يف قعر ذاكرته �سوى وجه حمبوبته و�صاح حينما ذاكرته عناوين الكتب وطبعاتها النادرة و�أ�سماء
كل ما يربط و�صلت به �أحالمه وكوابي�سه �إىل ذاك احلد« ،ق�شعريرة ع�شيقاته هي اخليط الوحيد الذي ظل يربطه بهذا العامل
�أ�صابت بدين ،نظرت �إىل �أعلى ف�إذا بال�شم�س تنك�سف -نحن هنا �أمام نو�ستاجليا من نوع خا�ص رمبا �أراد بها
يامبو بهذا و�صار العامل �إىل ظلمة» الرواية �ص .449 �إكو �أن ُي�سكن �سريته الذاتية متن ًا �سردي ًا! رمبا كانت
العامل يف �إحدى تداعياته ،ويف �سياق احلديث حول �سلطة �إحاالت املكان والنا�س والكتب وق�صا�صات ال�صحف
الكهنوت� ،صرخ يامبو «مل تكن القدي�سة جان دارك �سوى هي (وثيقة) حتكي تلك الطفولة ال�ضائعة �إال �أن خطاب
غيوم فا�شية من نوع رفيع� ...إن ح�ضور الفا�شية كان كثيف ًا الفا�شية وهيمنته وقمعه �آنذاك ،هي «الرتاجيديا» التي
و�ضباب مندغم ًا مع �سريورة التاريخ منذ بدء اخلليقة ،مل يكن �شكلت ذلك اجلمال ال�سردي الذي اتخذ �أ�سلوبه املف�ضل
الإكلريو�س �سوى فا�شيني وبامتياز» الرواية �ص .342 «حكاية بولي�سية» ورمبا -ومن خالل الر�سوم املتحركة
منتزع من مل يكن هذا العمل ،يف التحليل النهائي �سوى عنف والق�ص�ص امل�صورة -عر�ض لنا �إكو نقد ًا �سيميولوجي ًا
موازٍ لعنف الدولة والإكلريو�س -الفا�شية يف �إيطاليا رائع ًا لتلك الأن�شودة الرعوية (الفا�شية) ،كما �شهدها يف
ن�صو�ص منوذج ًا -بل و�أكرث من ذلك رمبا �أراد ال�سيد �إكو �أن طفولته وكيف �أنها �شوهت براءة طفولته.
�شعرية يقول �إن الفا�شية مل تكن �سوى �أن�شودة رعوية.
مقاومة �سردية لعنف الدولة
�سردية من مقطع من الف�صل «»15
الأحالم من «وهج غام�ض للملكة لونا» ينك�شف الآن ال�سر الغام�ض للملكة لونا ،فلم يكن ذلك
�سوى حكاية بذات العنوان كان قد قر�أها �آنذاك ،وعاد
والكوابي�س ها قد عادت الغيوم وعاد ال�ضباب. �إليها بعد خم�سني عام ًا لتلهمه هذا العمل ،وبذا مل يتغري
بحوائطهلتفوحهي جتربة موت؟ تقول والفنتازيا
الف�سفور، رائحة منها ه�آنذا �أ�سافر يف نفق
�أ�سرع باجتاه �أفق رمادي.
العنوان -فقد زعم �أن مدلوالته حتيل �إىل تراجيديا واقع
طفولته وب�ؤ�س حا�ضره وظلمة م�ستقبله� ،إن كل من يتابع
والذكريات ذلك، عك�س أى � ر التجربة تلك احلكمة �إن من خا�ض �أعمال �إكو� ،سواء كانت يف النقد الأدبي �أو ال�سيميولوجيا-
ف�إنك تتحرك يف �صراط مظلم ت�صاب فيه بالدوار ومن علم الإ�شارات� -أو الفل�سفة و�أخري ًا �أعماله الروائية،
ثم نور يعم الأب�صار. �سوف يجد �أن هذا العمل يف كثري من عنا�صره ال�سردية
�أقرتب الآن من نهاية النفق ،حيث بخار كثيف يتال�شى يتبع �أفق ًا �أتوبيوغرافي ًا بدء ًا من رائحة الكتب والإ�شارة
�إىل �أعلى ،ومل �أكن �أعلم �أنني �أحترك يف ن�سيج ناعم من لأ�سماء م�ؤلفيه الأثريين ثم النتاج الت�شكيلي العاملي
دخان� ،إنه �ضباب� ،ضباب ال يو�صف وجدت نف�سي �أ�سبح الذي (نظمه) بعناية يف املو�سوعة امل�شار �إليها �آنف ًا
يف �ضباب حقيقي ها قد عدت الآن. -ثم حوارات يامبو العميقة مع �أ�ستاذه (�ص 342من
ً
يلفني ال�ضباب من كل ناحية وي�شكل عاملا من حويل� ،آه الرواية وما بعدها) ،حول تلك الأ�سئلة الفل�سفية من مثل
ليتني �أر�سم مالمح بيت و�أرى ال�ضباب يزحف ناحيته (ال�شر مطلق ًا) -وعنف خطاب الإكلريو�س الذي دفعه
ويتوارى �سقف ذلك البيت� ،إال �أن ال�ضباب الآن قد ابتلع لي�سمم راهب ًا من القرونلأن يكتب رواية «ا�سم الوردة» ِّ
كل �شيء� .إنه الآن يف كل مكان ،يف التالل واحلقول ،ال الو�سطى حينما (�ضاقت به ال�سبل) �إىل �أن ي�ضع حد ًا
�أدرى �إن كنت �سابح ًا �أو �أنني �أم�شي� ،إال �أن �سطح الأر�ض لداء «الكهانة» ،كل ذلك يدفعنا للقول �إن �إكو وظف
من �ضباب ،متام ًا مثلما تكون منزلق ًا على �سطح مغطى (بوح الذات احلميم) -وهم�س الذاكرة االتوبيوغرافية
باجلليد .غرقت يف ال�ضباب وتن�شقته حتى �أح�س�ست به والداللية مع ًا يف جدلية عالقتهما -للتجريب ب�شكل
ميلأ رئتي و�صرت �أتنف�سه مثل دلفني� .ضمني ال�ضباب خمتلف هنا ،ليخو�ض مغامرة الكتابة ال�سردية� .إن
�إليه وا�ستقبلني �أمام عتبة ذاك احللم ،وبدثار من غيوم هذا البناء ال�سردي لهو �سرية رجل بعوامل مت�شظية «يا
لفني حتى �شعرت بتلك الق�شعريرة قد زالت وبطعم لوجودي هذا غري املتما�سك � ..صارت يل قوى الآن �أ�صنع
مرارة هي خليط من جليد و�شراب وتبغ ،وقد بد�أت الآن بها عاملي اخلا�ص» -الرواية �ص .421ونقر�أ يف الرواية،
يف التال�شي. «و�أخري ًا �أ�ستطيع �أن �أرى ،ر�ؤيا قدي�سني ...ر�أيت حتى قاع
«الرواية �ص .»302-301 حرف الألف حيث ي�شع نورا -لي�س من قاع هذا الكون -
العمل الفني :نذير نبعة -سورية
بل من رفوف قعر ذاكرتي» -الرواية �ص .421
125
كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
يوم
ذاكـرة املدن
ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ذاكـرة املدن رة املدن ذاكـرة املدن
ا�شتعلت
القاهرة
«الأوروبية» في�صل جلول
كاتب من لبنان
126
يف 26كانون الثاين -يناير عام 1952اندلع يف القاهرة حريق هائل ا�ستمر من الثانية
ال .وقع احلريق يف و�سط املدينة وطال -بح�سب ع�شرة ظهراً حتى احلادية ع�شرة لي ً
الدكتور ع�صام الطاهر وهو �شاهد عيان(- )1مواقع ومباين ي�شغلها الأوروبيون �أو
يرت ّددون عليها ،وقدّر عددها بـ 700مبنى مو ّزعة على ال�شكل التايل 300:حمل
جتاري 117 ،مكتب �أعمال 13 ،فندقاً 30 ،مكتباً لإدارة �شركات 40 ،دار �سينما8 ،
حمالت ومعار�ض كبرية لل�سيارات 10 ،متاجر لبيع ال�سالح 73 ،مطعماً ومقهى
و�صالة 92 ،حانة للخمور 16 ،نادياً وم�صرفاً واحداً هو الإنكليزي «باركليز بنك».
وت�ؤ ّكد الدكتورة جليلة القا�ضي(� )2أن العدد ال�صحيح هو 711مبنى تقع كلها يف و�سط
العا�صمة ،وحتديداً يف الأزبكية وعديل و�شوارع عماد الدين وف�ؤاد و�إبراهيم و�سليمان
با�شا وعبد اخلالق ثروت .وامتد احلريق �إىل الظاهر والفجالة و�شربا و�شارع الهرم.
127
من احلادث ،وهو يطرح عادة يف علم اجلرمية لتحديد كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
هوية املتهم فيها ،ونخت�صر الفر�ضيات التي ما برحت
متداولة يف اخلطوط التالية:
�أو ًال :فر�ضية �أحمد ح�سني املنا�ضل ال�شعبوي واملتهم
الوحيد يف العملية .قيل �إنه ميثل التيار الراديكايل
ذاكـرة املدن ملدن
ذاكـرة املدن
الثوري املناه�ض للربيطانيني وللق�صر امللكي والراف�ض ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
حلكومة الوفد ،يحتفظ املتهم بنفوذ يف الأحياء ال�شعبية كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ذاكـرة املدن رة املدن ذاكـرة املدن
التي خرجت بر ّمتها �إىل ال�شوارع يومذاك ،وبالتايل
لديه م�صلحة حقيقية يف تو�سيع ال�صراع بني الوطنيني
والق�صر واملحتل الربيطاين� .سوى �أن البكبا�شي جالل تف�صح هوية املباين امل�ستهدفة عن �أن احلي الأوروبي، ما ح�صل
ندا يقول �إن ح�سني كان مري�ض ًا يوم احلريق و�إنه قدم �أو ما كان ي�س ّميه اخلديوي �إ�سماعيل «يف بالدي قطعة
له العالج بنف�سه( .)3ولو كان ح�سني م�س�ؤو ًال فع ًال عن من �أوروبا»� ،أتت عليه نريان املتظاهرين (املجموعة يومذاك..
احلريق لأعلن تبنيه الحق ًا �إذا افرت�ضنا �أنه كان خائف ًا املنا�ضلة �أو اجلانحة �أو ال�سرية من بينهم) ،ما �أ ّدى جمموعة
بح�سب الدكتورة القا�ضي �إىل تغيري عمراين حا�سم� ،إذ
من العقاب يف العهد امللكي .فاحلريق �ساعد يف انبثاق
ثورة يوليو -متوز 1952التي ال تكنّ احرتام ًا للأوروبيني، انتقل و�سط القاهرة بعد احلريق من الأزبكية �إىل ميدان حرائق
واحلادث م ّر عليه الزمن وبالتايل من ال�سهل تبنيه دون التحرير. ولي�س
واحلق �إن ما ح�صل يومذاك هو جمموعة من احلرائق
حت ّمل تبعات هذا التبني .ناهيك عن �أن حماكمة الرجل
مل تتمتع ب�أب�سط �شروط العدالة وات�سمت بف�ضائح ولي�س حريق ًا واحد ًا ي�ص ّنفها املتهم الوحيد يف العملية حريق ًا
باجلملة ،من بينها �أن البولي�س ال�س ّري اخرتع �شهود ًا �أحمد ح�سني -زعيم حزب «م�صر الفتاة» ومن ثم حزب واحداً
مز ّورين ف�شل �أحدهم يف التع ّرف على املتهم ،يف حني «م�صر اال�شرتاكي» -يف جمموعات ثالث :املجموعة
�أكد علي ماهر رئي�س احلكومة املعينّ بعد احلريق �أنه الأوىل اندلعت �صباح ًا مع �إحراق كازينو بديعة (لبنانية
ات�صل ب�أحمد ح�سني يف منزله يف ذلك اليوم وبالتايل من من عائلة م�صابني) ،واملجموعة الثانية امت ّدت من
ال�صعب �أن يحرق القاهرة وهو يف بيته. الواحدة �إىل الثالثة بعد الظهر ،وطالت دور اللهو و�صاالت
ثاني ًا :فر�ضية ال�ضباط الأحرار .وهي ت�ستند �إىل ال�سينما ذات ال�صفة الربيطانية ،واملرحلة الثالثة التي
التطورات الالحقة� ،إذ ه ّي�أ احلريق مناخ ًا �أف�ضل للقيام ا�ستمرت حتى احلادية ع�شرة لي ًال طالت �أماكن متنوعة.
بالثورة بعد �أن تبينّ �أن القوى ال�سيا�سية املعار�ضة ويرى ح�سني �أن الذين قاموا بها هم «جمموعة من
واملوالية والق�صر امللكي كلها عاجزة عن ال�سيطرة على الل�صو�ص واملت�آمرين» ودائم ًا بح�سب جريدة «ال�شعب».
البلد وتلبية مطالب الق�سم الأكرب من امل�صريني برحيل وتتع ّدد الروايات حول الو�سائل امل�ستخدمة يف احلريق
بريطانيا وتغيري الأو�ضاع االقت�صادية واال�ستجابة بتع ّدد �شهود العيان فالدكتور الطاهر ي�ؤ ّكد �أنه ر�أى
لتح ّدي ال�صراع مع �إ�سرائيل .غري �أن �أحد ًا من ال�ضباط ب�أم العني �صب ّية و�ش ّبان ًا ي�شعلون حريق ًا بقطع مبللة
امل�صريني �أو املنف�صلني عنهم مل يثبت التهمة على بالكاز و�أعواد الثقاب ،يف حني يرى �آخرون �أن املواد
عبد النا�صر و�أ�صدقائه .ولو كان ه�ؤالء م�س�ؤولني عن امل�ستخدمة هي عبارة عن م�سحوق على �شكل «بودرة»
احلريق ملا تر ّددوا يف تب ّنيه يف ذروة �صراعهم مع القوى �شديدة اال�شتعال ،وهي مل تكن متوافرة �إال يف الثكنات
اال�ستعمارية بعد غزو ال�سوي�س كعمل يدعو �إىل االفتخار. الربيطانية ،يف حني يجزم جورج مينان الذي نقدم
ثالث ًا :فر�ضية الق�صر امللكي وهي ترتكز �إىل حقيقة �أن �شهادته مرتجمة �أن احلرائق كان ي�شعلها كوماندو�س
احلريق �أطاح بحكومة الوفد التي كانت حتكم ب�إرادتها بوا�سطة �صفائح البنزين و�أن حرائق �أخرى ا�شتعلت
ولي�س ب�إرادة امللك و�أن هذا الأخري كان يعمل على رحيلها بوا�سطة م�شعل �أوك�سيدريكي.
بفارغ ال�صرب .وقد رحلت بالفعل بعد حريق القاهرة ما
يوحي ب�أن الق�صر امللكي رمبا يقف وراء ما ح�صل .هنا فاعل جمهول
�أي�ض ًا ال �شيء م�ؤكد ًا خ�صو�ص ًا �أن ثوريي يوليو ا�ستولوا
على الأر�شيف امللكي بعد الإطاحة بامللك ،وكان بو�سعهم على الرغم من م�ضي �أكرث من خم�سني عام ًا على احلريق
�إثبات التهمة على العر�ش من خالل وثائقه �أو من خالل مازال فاعله جمهو ًال .فالق�ضاء امل�صري ف�شل يف العهد
رجاله لو كانوا فع ًال مت�أكدين من تورطه يف احلريق(.)4 امللكي يف �إثبات التهمة على املنا�ضل الراديكايل �أحمد
رابع ًا :فر�ضية بريطانيا .يرى البع�ض �أن لربيطانيا ح�سني .ومل يح ّدد العهد اجلمهوري الوليد بعد �شهور من
م�صلحة حقيقية يف ما ح�صل ،بدليل �أن احلريق �أطاح احلريق هوية الفاعلني ومل تبادر جهات م�ستقلة -على ما
باحلكومة الوفدية التي كانت ت�ص ّر على اجلالء ،الأمر �أعلم � -إىل �إجراء حتقيق تت�ضح من خالله امل�س�ؤوليات،
الذي جعل القوات الربيطانية �ضامن ًا وحيد ًا من انزالق وبالتايل القول �إن الأيدي التي �أحرقت قاهرة اخلديوي
م�صر يف الفو�ضى وعودة امللك لاللت�صاق باملحتلني �إ�سماعيل الأوروبية فعلت ذلك من �أجل �أغرا�ض
بعدما �أخذ باالبتعاد قلي ًال عنهم مل�سايرة ال�شارع حمددة.
امل�صري ،ناهيك عن احلديث عن املواد احلارقة التي يف غياب حتقيق ج ّدي حول احلريق جرى تداول عدد من
ا�ستخدمت والتي ال تتوافر �إال يف الثكنات الربيطانية. الفر�ضيات انطالق ًا من �س�ؤال عن امل�ستفيد� أو امل�ستفيدين
128
�صحت هذه الفر�ضية لكان من ال�صعب �إخفاء تو ّرط لو ّ
الربيطانيني طيلة �أكرث من ن�صف قرن ،خ�صو�ص ًا �أن
الأر�شيف الربيطاين ك�شف النقاب عن �أحداث تو ّرطت
فيها حكومة �صاحبة اجلاللة وكانت �أخطر بكثري من
حريق القاهرة.
خام�س ًا :فر�ضية امل�ؤامرة ال�صهيونية .وهي ت�ستند �إىل
القول �إن �إ�سرائيل د ّبرت العملية حلمل اليهود والر�ساميل
اليهودية على مغادرة م�صر والهجرة �إىل �إ�سرائيل،
ولإحلاق الأذى مب�سار التحديث والتط ّور امل�صري بعد 4
�سنوات على ن�شوء دولة �إ�سرائيل .و�إذا كان �صحيح ًا ما
ُين�سب لل�صهيونية فلماذا مل تتوافر �إثباتات دامغة حتى
الآن حول احلريق؟ وملاذا ال ُيك�شف النقاب عن عمالء
�إ�سرائيل الذين �أحرقوا القاهرة الأوروبية؟ ..ثم هل
ُيعقل �أن حتمل �إ�سرائيل مئات الآالف من امل�صريني �إىل
ال�شوارع يف ذلك اليوم احتجاج ًا على جمزرة الإ�سماعيلية
التي ّمتت يف اليوم ال�سابق؟ ..وهل ميكن لها �أن تكون
م�ستفيدة من قتل اجلنود امل�صريني يف مبنى املحافظة
و�أن تركب انتفا�ضة م�صرية لالحتجاج على مقتلهم و�أن
تد ّبر حريق القاهرة خالل االنتفا�ضة؟
�ساد�س ًا :فر�ض ّية الأطراف املتع ّددة .رمبا تكون هذه
الفر�ض ّية الأقرب �إىل الواقع ،وذلك لأ�سباب عديدة ،من
خمطط مع ّد �سلف ًا
بينها �أن احلريق مل يكن ناجت ًا عن ّ
املحتجني على جمزرة ّ بل ارت�سم تدريجي ًا يف خم ّيلة
الإ�سماعيلية .وللتذكري ن�شري �إىل �أن الوزارة الوفدية
�أمرت جنود ًا متمركزين يف مبنى املحافظة وثكنتها
باملقاومة حتى املوت ،يف مواجهة القوات الربيطانية التي
كانت حتا�صرهم .وقد �سقط يف املجابهة حوايل 150
م�صري ًا بني قتيل وجريح .ت ّوج احلادث -بح�سب تلخي�ص
ع�صام الطاهر الهام لوقائع تلك الفرتة � -شهور ًا طويلة
من ال�صراع بني الوفد والي�سار الراديكايل من جهة ،وبني
امللك و�أحزاب االحتالل والربيطانيني من جهة �أخرى.
فقد فاز الوفد بانتخابات عام 1950و�ش ّكل حكومة
خرجت تدريجي ًا عن �سيطرة امللك واتخذت قرارات
مناه�ضة لالحتالل ،من بينها �إلغاء معاهدة العام 1936
والطلب من الربيطانيني البقاء يف منطقة القنال وعدم
اخلروج منها والتغا�ضي عن حرب الع�صابات ،التي كان
ي�ش ّنها الوطنيون �ضد القوات املحتلة� ،أو دعم امل�شاركني
فيها .وقد ازدادت هذه العمليات بعد تظاهرة املليون
نظمت يف 1951 /11 /14لدعم قرار �شخ�ص التي ّ
�إلغاء املعاهدة .يف هذه الأجواء املحمومة وقعت جمزرة
الإ�سماعيلية والر ّد االنتقامي عليها من خالل حرق كل ما
يرمز �إىل الوجود الربيطاين والأوروبي يف م�صر.
يف �ضوء ذلك يبدو من غري امل�ستبعد �أن يكون احلريق قد
بد�أ بطريقة عفوية يف «كازينو بديعة» ،و�أن تكون �أطراف
عديدة ا�ستغلته ف�أ�شعلت حرائق يف �أماكن �أخرى .ويف
هذا ال�سياق من املحتمل �أن يكون �أن�صار �أحمد ح�سني
قد �شاركوا يف احلريق وجمموعات مرتبطة بال�ضباط
الأحرار ،خ�صو�ص ًا �أن �شهادات عديدة ت�ؤ ّكد م�شاركة
ع�سكريني نظاميني يف �إ�شعال احلرائق ،وكذا الأمر
بالن�سبة لأن�صار الوفد ورمبا عمالء ا�ستخبارات �أجنبية
ف�ض ًال عن الل�صو�ص واجلانحني والفقراء الذين كانوا
129
لغته التي متتزج فيها امل�شاعر اخلا�صة واالنتماء القوي كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
واخليال اخل�صب.
وال ب ّد من لفت نظر القارئ �إىل �أننا اعتمدنا ترجمة
حرفية للن�ص مع بع�ض التدخل الذي ح�صرناه دائم ًا يف
هاللني ،وذلك يف كل م ّرة وجدنا �ضرورة من �أجل املزيد
ذاكـرة املدن ملدن
ذاكـرة املدن
من الإي�ضاح �أو الت�أكيد �أو ما �شابه ذلك. ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
يف تقدميه لهذا الن�ص ولن�صو�ص �أخرى وقعها �أبرز كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ذاكـرة املدن رة املدن ذاكـرة املدن
جنوم ال�صحافة يف فرن�سا ي�ستعيد هرني الموريه قول
�ألبري كامو ال�شهري عن العمل ال�صحايف «�إنه ت�أريخ
اللحظة» ولأن الن�ص هو بالفعل تاريخ لتلك «اللحظة يعي�شون يف �أحياء فقرية معدمة ،فيما القاهرة الأوروبية فاعل
تتج ّمع فيها كل مظاهر الرثاء والرثوة وال�صفوة امل�صرية
العربية» احلا�سمة يف حياة م�صر بعني فرن�سية ،ف�أنه
جدير بالو�صول �إىل من يرغب يف الوقوف على املزيد من امل�ؤ ّيدة للق�صر واالحتالل الأجنبي .ويبدو يل منطقي ًا جمهول..
تفا�صيل حدث �أ�سا�سي يف تاريخنا احلديث واملعا�صر. �أن يبادر الفقراء املعدمون �إىل االنتقام من �أحياء الغنى رغم م�ضي
الفاح�ش يف حلظة انتفا�ضة كتلك التي �شهدتها القاهرة
حريق القاهرة يومذاك. �أكرث
�أما االمتناع عن ك�شف النقاب عن تفا�صيل احلريق من ن�صف
الدقيقة وحتديد هوية الفاعلني فقد يكون ناجت ًا عن تع ّدد
بقلم -جورج مينان
لقد ع�شت �ساعة ب�ساعة تراجيديا �سبت القاهرة. الأطراف ،وتع ّذر ح�صر التهمة يف طرف ،وعن اخلوف قرن!
القاهرة ..كانون الثاين -يناير« .كل �شيء على ما يرام من العواقب املالية التي ميكن �أن ترتتّب على حرق ثروة
يا �سيدتي املركيزة»( ..)5هكذا ميكن ت�سمية احلوار �أوروبية -م�صرية هائلة ،ولرمبا �أي�ض ًا لوجود م�ستفيدين
الق�صري الذي دار قرابة ال�ساعة الرابعة بعد الظهر ،على كرث من احلدث يف ال�سلطة واملعار�ضة واجلي�ش ،ما �أ ّدى
خط الهاتف بني الإ�سكندرية والقاهرة. ّ �إىل اعتقال �أحمد ح�سني بو�صفه كب�ش حمرقة منوذجي ًا
� -ألو! �شيربدز �أوتيل؟ هنا ال�سيدة ب من ب و�شركائه يف يف ظرف من هذا النوع.
الإ�سكندرية. ولعل من بني غرائب هذا احلدث الكثرية �أن الربيطانيني
ح�ضر يل غرفتي� .س�أ�صل يف الليل عرب � ... -أحمد ّ والغربيني عموم ًا مل يجروا ب�ش�أنه حتقيق ًا جدير ًا
تن�س يا �أحمد �أن ّ
حت�ضر ال�شاي الطريق ال�صحراوي .ال َ باالحرتام!
اخلا�ص بي! �إذا ما جتاوزنا هوية امل�س�ؤول �أو امل�س�ؤولني عن حريق
-هناك �أمر ما يا �سيدتي� ....أخ�شى كثري ًا �أال تكون غرفة القاهرة ميكن القول �إنه كان مق ّدمة حا�سمة للثورة
�سيدتي جاهزة. امل�صرية يف 23متوز -يوليو .فقد حلقت هزمية كبرية
ً
-غري جاهزة يا �أحمد ؟! �ستكون حتما املرة الأوىل. بالغرب يف عا�صمة املع ّز يف ذلك اليوم ،على ما ي�ؤكد
-نعم يا �سيدتي .وللمرة الأوىل ال يوجد �شاي يف �شيربدز �شاهدنا الفرن�سي جورج مينان ،وكان ال�ضباط الأحرار
�أي�ض ًا. ي�ستع ّدون خالل ال�شهور التالية لإ�شعال حرائق �أخرى يف
-ال �شاي يف �شيربدز؟! لكن يا �أحمد �إنها الثورة! م�صر والعامل العربي والعامل الثالث �ست�ؤ ّدي �إىل انهيار
-بالفعل يا �سيدتي� .إنها الثورة ..منذ �ساعتني �شيربدز النظام العاملي الكولونيايل مرة واحدة و�إىل الأبد.
�أوتيل ي�شتعل.
ومع ذلك بد�أ النهار بداية ح�سنة .كان �شبيه ًا ب�صباحيات ال�شاهد الفرن�سي
ال�شتاء الإفريقي ،حيث لطافة الطق�س تذ ّكر ب�صباحاتنا
الربيعية .مع فارق �أن العطر املنع�ش الذي ينبعث من الن�ص الذي نق ّدمه مرتجم ًا يف هذا الكتاب «م�صر
الن�سغ النامي عندنا ،ح ّلت حم ّله هنا رائحة القذارة بعيون الفرن�سي�س» حول حريق القاهرة ،عدا عن كونه
الأبدية املمزوجة بالتوابل والتي تثريها ال�شم�س� .إنها �شهادة مبا�شرة وفريدة من نوعها من موقع احلريق،
رائحة ال�شرق .لتلطيف هذا االنتقال (من جو �إىل جو) ف�إنه ينطوي على �إ�ضافة �أ�سا�سية تكمن يف �أنه يعبرّ عن
كان ما زال يف �أق�صى حلقي �أثر طعم منع�ش لآخر ك�أ�س وجهة نظر غري حمايدة ولرمبا حاقدة طرحها امل�ؤلف
«هايد�سيك»( )6تناولته يف بار «�شركة الطريان الفرن�سية» ال�صحايف جورج مينان بو�ضوح من خالل �أو�صاف ونعوت
التي �أقلتني قبل �ساعتني �إىل مطار القاهرة .وكان يف جيبي و�أحيان ًا �شتائم قبيحة ،تعك�س �إح�سا�س ًا ال يخطئ بانهيار
�أي�ض ًا بع�ض االحتياطي من علب �سجائر»الغولواز»(.)7 موقع نفوذ غربي من الدرجة الأوىل يف العامل العربي.
بائعو راحة احللقوم ،جاذبة الذباب ،وما�سحو الأحذية عندما ن�شر الن�ص بالفرن�سية يف �صحيفة «لو دوفينيه
بوا�سطة الب�صاق ،ومقعدون مقطوعة �أقدامهم يرتدون ليبرييه» يف �شباط -فرباير عام 1952القى �إقبا ًال كبري ًا،
خرق ًا من القما�ش البايل ،كل ه�ؤالء كانوا يحتلون زوايا وعندما �أعيد ن�شره يف العام 1986يف كتاب م�ستقل مع
ال�شوارع ،بينما املل�صق الإعالين للقاهرة املتع ّدد الألوان �أربعني ن�ص ًا �آخر حول �أبرز �أحداث القرن الع�شرين،
يوحي ب�شرقية جديدة. اعترب �أي�ض ًا الأهم بني الن�صو�ص املن�شورة ،لي�س فقط
�شعرت و�أنا ا�ستهلك خل�سة كي�سي الأول من الف�ستق ب�سبب بنائه املحكم ودقة مالحظاته ،و�إمنا �أي�ض ًا ب�سبب
130
املح ّم�ص� ،أنه من ال�صعوبة مبكان �أن يتق ّم�ص املرء،
يف مثل ذلك ال�صباح ،نف�س ًا �أخرى غري تلك التي مت ّيز
�سائح ًا �أوروبي ًا كاريكاتوري ًا.
الكوماندو�س ي�ضرب يف ال�ساعة � 11صباح ًا
بد�أت الق�ضية بغرابة �شديدة .فج�أة� شيء ما بدا وك�أنه
ال يتطابق مع هذه البانوراما� .شيء ما ال ميكن �إدراكه.
�شيء غريزي لكنه يف الوقت نف�سه م�ؤ ّكد متام ًا� .أو ًال جلهة
ي�ضب
التفا�صيل :كان بائع الفول ،ال�ساكن فوق فطائرهّ ،
ب�ضاعته بهدوء .والكهل الذي كان يج ّر عنزته (ال�شاة)
بني ال�سيارات ،بد�أت عنزته جت ّره ،والن�سوة ال�سود
ال�سمينات ،و�أطفالهن كال�صرر على �أذرعهن ،يهرولن
على طول الر�صيف بحركات مروحية ثم �أخذت �صفائح
النوافذ تقرقع يف اجلو.
�أدركت خالل ذلك �أن اجلميع ي�سري يف نف�س االجتاه.
حاولت ال�سيارات �شبه املتوقفة ،و�سط هذه اجلمهرة
املت�ضخمة تدريجي ًا� ،أن تواجه املوقف بزمامريها،
فامليكانيك ي�ضمن مناعة ما حيال ما تنويه تلك ال�سيقان
ال�ضامرة� ،أي غريزة التم ّرد القاتل� .أما �أنا املذهول فقد
حطيت يف تلك املعمعة.
بعدها لعلعت هرجة الزمامري ومن ثم ال �شيء البتة.
ال�شارع فارغ متام ًا .و�ساد �صمت عجيب.
ثم بد�أت العرا�ضة.
مل يكن عددهم كبري ًا يف عمق جادة ف�ؤاد الأول -
�شانزيليزيه القاهرة -خم�سون من ال�صبية يت�أطرون
مقابل العمارات ويت�ص ّدرهم علم .بدون ذلك العلم
الأخ�ضر ،ذي الهالل الأبي�ض ،كان ميكن اعتبار التظاهرة
جم ّرد جت ّمع ل�ش ّبان ميرحون خالل عيد ر�أ�س ال�سنة .كان
يتوجب االقرتاب من التظاهرة للتحقق من �أن الفرح ال ّ
ي�سكن تلك الوجوه.
يف ال�صف الأول كتفان غري مرئيني يحمالن بزهو
�شخ�ص ًا يرتدي الزي الع�سكري الر�سمي و«البرييه»
اخل�ضراء�«:إنه متط ّوع من القناة» .كان ال�شاب الأ�سمر
يهتف بعبارات ق�صرية وي�ؤكد عليها بحركة حا�سمة من
ذراعيه .وي�ستعيد اجلمع ،كما يف الكور�س القدمي ،ما
أ�صم بغرابته.
يقوله ال�شاب ،ب�صوت واحد � ّ
يف اخللف كانت الأقدام العارية تتم ّدد خمرب�شة الإ�سفلت
ب�أظافرها ال�سوداء .يف ر�أ�سي �أنا الأوروبي كان لأول �ضجة
�أحدثها زجاج تك�سر للتو ،وقع من ّبه ال�صباح .فعلى بعد
خم�سني مرت ًا مني كان الكوماندو�س ي�ضرب �سينما
الـ«ريفويل».
�إنذار يف البار
� أدركت فندقي يف الوقت املنا�سب .هناك ملحت فرا�شني
نوبيني يقفالن بقب�ضاتهم ال�سوداء العمالقة بوابة
املدخل احلديدية .قبل ذلك �أقفلت بوابة البار وبهو
التدخني .فتحول بذلك ،الباال�س املحروم من النور� ،إىل
معقل مظلم ،حيث اخلوف بد�أ يقتفي �أثري .ملحة ب�صر
خفيفة من حتت الباب جعلتني �أعرف �أن الريفويل «ل�ؤل�ؤة
131
يف امل�صعد بني طابقني ،وتطلب النجاة يف الآن مع ًا من كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ال�سيدة العذراء ومن �أبناء اهلل على الأر�ض ،الذين جا�ؤوا
ب�سلم �صغري و�شمعدان .اخلدم .اخلدم ما زالوا يطيعون
(الأوامر) وكانت هذه �إ�شارة طيبة ،فذلك �أف�ضل بكثري
من �أن نكون �أي�ض ًا بحاجة حلماية م�ؤخرتنا.
ذاكـرة املدن ملدن
ذاكـرة املدن
�ستتيح يل (من الآن ف�صاعد ًا) �شرفة البناية الأ�سمنتية ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
الدائرية العري�ضة -التي تط ّل من علو طبقاتها الثماين، كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ذاكـرة املدن رة املدن ذاكـرة املدن
على ملتقى جادة ف�ؤاد الأول مع جادة �سليمان با�شا -
مركز ًا للمراقبة فريد ًا من نوعه ،وهو ما مل �أكن �أحلم به
يف حالتي تلك .منها �س�أ�شاهد طوال ع�شر �ساعات ما مل �سينمات ال�شرق» ت�شتعل. هزمية
يف ظلمة الفندق امل�صفحة ،عود ثقاب يقرقع منرياً
يجر�ؤ نريون على القيام به.
للحظة ،جلد املقاعد املهجورة اللماع .هناك التقيت كبرية
يف الأ�سفل� ،أي يف ال�ساحة ،حيث فاج�أتني الأحداث
قبل قليل ،بد�أ املكان ميتلئ من جديد ،عرب كافة الأزقة �صاحب الفندق� .إنه يوناين حاذق ،حت ّدث معي قبل قليل للغرب
املو�صلة �إليه .ها هي املوجة املهتاجة وامل�ؤلفة من �أولئك بلغات متع ّددة وجعلني �أت�سلى ل�ساعة من الزمن .الآن
�أقلع عن ترحيبه االحتفايل :هذا �أنت يا �سيدي؟ ا�صعد يف قاهرة
الذين هربوا من ال�ساحة من قبل ،ها هم يرجعون الآن
نحو الريفويل.على �شرفة ال�سينما كان ر�سم «�سبن�سر ب�سرعة �إىل املطعم .الآخرون فوق� .س�أحلق بكم .قبل �أن املعز
ترا�سي» ذو الأمتار اخلم�سة يتال�شى يف اللهب ،وتتال�شى يختفي �أثر عود الثقاب ر�أيت م�سد�س الرباوننغ املنكل
ق�سمات وجهه املتجهمة على الكرتون .الآن �أم�سكت ال�صغري الذي يحمله يف و�سطه.
جمهرة النا�س بالق�ضية ،ه�ؤالء هم جمهور البطاقات يف الطابق الأول ،ويف قاعة الطعام الكربى كان ال�شحم
الربيدية احلار وامللون امل�ؤلف من الب�سي اجلالبية� ،أي رخي�ص الثمن املتجمع حول اللمبات ال�صغرية يبحث
قمي�ص النوم الطويل الذي يعترب الزي الر�سمي للفقر عن انعكا�س يف الكري�ستال ال�شاحب للرثيات املعلقة على
يف هذا البلد. مقربة من ال�سقوف العالية .يف هذا املكان اجتمع ذلك
ما�سحو الأحذية وبائعو البطاطا املقلية وال�شحاذون القطيع (النزالء) غري املرئي والهام�س ،الذي جل�أ �إىل
وامل�ش ّردون والأطفال البناديق وخدم كل العامل ،كل ه�ؤالء املطعم .من جهتي ارت�أيت �أن املكان يفتقر �إىل الهواء
خرجوا من جحورهم ،يرك�ضون بني البنايات الب�شعة الكايف فخطر يل �أن �أعمل وفق املبد�أ القدمي التقليدي
وي�ستعيدون منت�صرين ال�سيطرة على �أر�صفة القاهرة الذي يق�ضي بال�صعود �إىل ال�سطح يف مثل هذه احلاالت.
اجلميلة البي�ضاء ،التي كانت يف حريق ذلك اليوم تقود يف هذا الوقت كان انقطاع الكهرباء قد �أ ّدى �إىل تعطل
�إىل موعد مع القيامة. امل�صعد� .سرت على الأدراج بعك�س حركة النازلني
كان احلريق يت�أجج منذ �ساعة عندما جاءت �سيارة عربها ،والذين يهرولون نحو قاعة الطعام .يف م�ستوى
الإطفاء الأوىل خمرتقة املكان كعربة يف �ساحة لل�سباق. الطابق الثالث كانت �سيدة �إيطالية م�س ّنة قد حو�صرت
132
ال�شاحنة جديدة ،ويواكبها �صفان من الإطفائيني ال�سود
حذار ال�شجعان .كانت قبعاتهم النحا�سية تلمع حتت �أ�شعة
ال�شم�س كعرف الديك .لن يدوم احلما�س الكبري الذي
ماذا �سيفعل ه�ؤالء البائ�سون �ضد من هم �أكرث ب�ؤ�س ًا ترافق مع و�صولها �إال لوم�ضة من الزمن .فقد افرت�ش
منهم؟ �أربعة من املتظاهرين الأر�ض ،وجل�س كل منهم حتت
ربر البارحة برزت ق�ضية الإ�سماعيلية ال�شهرية – امل ّ دوالب بقرب احلاجز الواقي من ال�صدمات .كان
الأكيد لأحداث هذا اليوم -خالل ذلك قام �سراج الدين جر�س الإنذار ال�ضخم يف ال�شاحنة يرن كجر�س رئي�س
با�شا وزير الداخلية الدموي ،ب�إعطاء �أوامر بالهاتف من �أحد امل�ؤمترات لكن بال جدوى .بد�أت املفاو�ضات (مع
مكتبه يف قيادة الوفد ،تق�ضي بتزويد �شرطة ق�ضبان الإطفائيني) وكانت تتخللها �شعارات معهودة«:املوت
اخليزران املوجودين يف القناة بالأ�سلحة .و�أعطى ال�شرطة للإنكليز! الرحيل للأجانب! دماء �إخوتنا الذين �سقطوا
�أوامر باملقاومة حتى املوت يف وجه القوات الإنكليزية يف الإ�سماعيلية تنادي بالث�أر».
التي حتا�صر مركز اجلندرمة هناك .كان يوجد 48من ثم هتفوا ب�صوت واحد« .الإطفائيون معنا»!!.
«البولوك نظام» �أي �أفراد ال�شرطة امللحقني .ه�ؤالء ماتوا خالل خم�س دقائق كف جر�س الإطفائية عن االحتجاج،
يف �سيدي �إبراهيم .ماتوا من �أجل ماذا؟ وبعد خم�س �أخرى بد�أ جنود النار ي�صفقون لل�شاب الذي
هذا ال�س�ؤال كان يطرحه املتظاهرون على رجال ال�شرطة يهتف ،وخالل ربع �ساعة اختفت عربة الإطفائية يف
الذين جاءوا لقمعهم .جرت الأمور مع ه�ؤالء املدافعني زاوية �شارع �سليمان با�شا قبل �أن مت ّد مرت ًا واحد ًا من
عن النظام ب�سرعة �أكرب مما جرى مع الإطفائيني قبل خراطيمها.
قليل .ا�ستغرق الأمر دقيقتني من التخاطب ثم �صارت
الق�ضية يف اجليب .لقد تك ّررت حكاية الدواليب ثم يف نار احلقد
اجتهت ال�شاحنة بدورها نحو الطريق مرور ًا بزاوية �شارع
�سليمان با�شا يرافقها هتاف اجلمهور ب�صوت واحد ،هذا يف هذا الوقت كانت الريفويل تب�صق كتل اللهب من فتحات
اجلمهور الذي �سهى للحظة خالل وجود ال�شرطة ،ثم طبقاتها اخلم�س .لقد متكن امل�شاغبون الأكرث جر�أة من
ا�ست�أنف �أعمال التخريب بحما�س مت�صاعد. غريهم من الدخول �إىل البناء ،وا�ضعني حمارم رطبة
على �أنوفهم ،ثم انت�شروا يف باحة .كانوا يرق�صون على
قادة الأورك�سرتا ال�سريون حافة الفراغ (بعيد ًا عن اللهب) على طول الكورني�ش،
كح�شرات �صغرية ر�شيقة احلركة وم�ستديرة ك�سل�سلة،
لكن ما الذي ح ّل بكوماندو�س البداية؟ �س�أعرف اجلواب ويتناقلون كل ما مل يحرتق بعد من هذه البناية الفخمة.
حني �ألقي نظرة �شاملة على املكان بكامله .فحتى الآن يف �أعلى ال�سطوح ،وبهدوء على ما يبدو ،كانت تت�ساقط
كنت وحدي يف هذا الربج الأ�سمنتي ،وكنت قد تركت كاملطر ،طاوالت اللعب الطويلة والتي ا�ستقبلت يف ال�سابق
عيوين م�س ّمرة على هجوم الريفويل .مل �أكن �أعرف �أنه العبي الربيدج الأكرث متيز ًا يف املدينة .وكانت تت�ساقط
خالل ال�ساعات التالية �ستختفي بدورها � 25صالة �سينما �أي�ض ًا املقاعد ال�ضخمة وكرا�سي البار ،و�أطقم �أقداح
�أخرى ،وت�أكلها �أل�سنة اللهب من مواقع �أخرى بالطبع. ال�شراب و�أواين اجلاد و�سجادات املو�سكي ال�ساحرة .كل
وما ح�سبته حتى الآن �ضباب ًا كان يف الواقع دخان ًا رهيب ًا هذه الأغرا�ض كانت جتمعها يف الأ�سفل ،جمموعة من
ت�صاعد من احلريق الذي ميت ّد عرب املدينة الأوروبية .ما احلا�ضرين ،وتدفعها �إىل جممرة ذات �شكل هرمي،
فعله الكوماندو�س يف الريفويل رمبا ا�ستغرق ع�شر دقائق، تت�أجج دوري ًا وبال توقف .كان لهيب املجمرة يتداخل مع
�أي الوقت الكايف لد�س النار يف البارود� .س�أعرف من بعد لهيب البناء ليتحول �إىل م�شعل �ضخم ترتفع قمته عالي ًا
�أن فريق ال�صدم هذا كان يتجول منذ �ساعتني يف ال�شوارع �إىل ال�سماء دون �أن تدرك مداها العني املج ّردة.
ليفجر الأهداف التي اختارها بدافع برفقة فرق �أخرىّ ، ...و�أحيان ًا كانت تقع من �أعلى ال�سطوح قطعة �أثاث
احلقد الذي يختزنه ال�شحاذون ملدة طويلة من الزمن. وتتك�سر على اجلمهور فيحمل ج�سد �أو ج�سدان ويتوا�صل
�إنها املرة الأوىل التي ن�شهد تظاهرة عبيد م�سلحة االحتفال دون توقف.
ب�صفائح البنزين ،لكن �آخرين هم الذين و�ضعوها يف
�أيديهم. البولي�س معنا
يف الرابعة بعد الظهر حت ّول قلب املدينة �إىل حمرقة
وا�سعة الأطراف ،يغطيها دخان كثيف .و�شيئ ًا ف�شيئ ًا حوايل ال�ساعة الثانية ظهر ًا ،رجال البولي�س الذين
كانت قرقعة احلريق حت ّل حم ّل �ضجيج الأ�صوات املتنافرة اختفوا ب�سحر �ساحر يف البداية ،جاءوا يف �شاحنة
وال�صادرة عن االنتفا�ضة. مك�شوفة تقل ف�صي ًال من اجلنود من رتبة �شاوي�ش.
من برجي الذي مل يعد بالإمكان البقاء فيه ج ّراء �شهب يرتدي �أفراد ال�شرطة ه�ؤالء خرق ًا بالية ويعتربون هنا
اللهيب املت�صاعدة ،ر�أيت النار متت ّد متتالية �إىل املخازن حرا�س الأمن وامل�س�ؤولني عن ال�سالم .لقد فر�ض الإنكليز
اليهودية «�شيكوريل» الواقعة يف جادة ف�ؤاد الأول وهي على م�صر �شرطة م�سلحة لها من الع ّدة بالتمام والكمال
خمازن كربى تت�ألف من �ست طبقات .ها هي جدران ق�صب اخليزران ،م�ستندين �إىل فعالية هذا الأ�سلوب يف
�شيكوريل تتهاوى جزء ًا بعد جزء يف املجمرة ،وتليها من اجلزر الربيطانية.
133
كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
�شيربدز التعي�س!
�إذا كنا منلك تفا�صيل �أقل حول ما جرى يف �أماكن �أخرى،
فال �شيء يحمل على التفكري �أن الوح�شية مل تكن �سائدة
ذاكـرة املدن ملدن
ذاكـرة املدن
يف كل مكان. ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
هل �سيعرف عدد �أولئك الذين ق�ضوا يف بناية باركليز ذاكـرة املدن رة املدن ذاكـرة املدن
بنك؟ ويف �شيربدز �أوتيل؟
�شيربدز هو بال �أدنى �شك اخل�سارة الأكرب التي منيت
بها املدينة .لي�س فقط للقيمة العقارية لهذا البناء الكبري حلظة ثم خمازن �شمالخ املجاورة ،وهي يهودية �أي�ض ًا ،فقد
احرتقت طبقاتها الأربع يف �أقل من ن�صف �ساعة.
الق�صر ،الأكرث فخامة من ق�صور �ألف ليلة وليلة ،والذي عربية
ما كان ممكن ًا لكاتب رواية اكزوتيكي يف �أدب الغرائب
�أن يتخ ّيله ،لي�س لهذا فقط و�إمنا لقيمته التي ال تق ّدر كيف مات جيم�س �أ.كريغ؟ حا�سمة
بثمن من حيث كنوز الفن العربي املج ّمعة منذ قرن يف
على مييني كان يحرتق «تورف كلوب» ،النادي الفخم يف تاريخ
تعجهذا املتحف -الفندق� .إنه مدينة �صغرية حقيقية ّ
بالن�شاطات التي تبد�أ من حت�ضري راحة احللقوم �إىل الذي يلتقي فيه النبالء غري املتوجني من كل �أنحاء العامل، م�صر
وب�صورة خا�صة الربيطانيون منهم� .سيدات و�سادة من
ال�سجاد والأواين .اجلناح الوحيد الذي �سلم فيه ت�صنيع ّ كل املقامات املميزة ،كانوا ي�أتون كل م�ساء ليجدوا نعيم بعيون
هو ال�صغري اخلا�ص باملكاتب ،حيث دار و�سط الدمار
الكامل االت�صال الهاتفي الذي نقلناه يف بداية هذا املقال، الراحة والرفاهية يف �صالونات النادي وبرودة الع�شب فرن�سية
�أما ما تبقى ف�سيظل يحرتق ملدة �أربعة �أيام متوا�صلة. الإنكليزي املنع�شة وغري املتوقعة يف هذا املكان� .س�أعرف
دام �إخالء �شيربدز �أوتيل � 190 -شخ�ص ًا -حتى امل�ساء. فيما بعد �أن امل�شاهد الأكرث وح�شية وهذيان ًا قد دارت يف
جمع �صاحب الفندق عامله هذا حتت نخالت احلديقة هذا املكان.
التي جنت من احلريق وا�ستفاد من فرتات الهدوء كي كانت نوافذ النادي مغلقة ب�إحكام بق�ضبان من احلديد
يخرج �ضيوفه �إىل ال�شارع عرب جمموعات �صغرية حماو ًال املقوى ،الأمر الذي جعل املهاجمني يتخيلون �أنهم وقعوا
تهدئة اجلمهور الذي يطالب مبوت تلك ال�سيدة ال�شقراء يف الفخ .اندفعوا �إىل الداخل وو�صلوا �إىل و�سط القاعة
كلون �سنابل القمح ،والتي ولدت على �ضفاف نهر البو. املخ�ص�صة للتدخني ،فوجدوا عجوز ًا ي�ستقبلهم بكل ّ
�أو ذلك اجلنتلمان ذو العظام النافرة الذي و�صل تو ًا من الهدوء الإنكليزي اللطيف ،الذي ميكن �أن يراكمه رجل
الربازيل. مثله يف �آخر حياته املهنية بعد �أن عمل كم�صريف يف
عندما انتهت عملية الإنقاذ تبينّ لنا عند التعداد �أن نزالء ال�شرق� ،إنه ال�سري جيم�س �أ .كريغ ،الإداري ال�سابق يف
كرث ًا غري موجودين وبع�ضهم من �أهم النزالء كال�سيدة �أهم م�صارف القاهرة .لن نعرف �أبد ًا ما �إذا كان هذا
«دورا» التي �ستن�شر ال�صحف �صورتها يف اليوم التايل العجوز قد ر�أى املو�سى التي �ستقطع رقبته.
على ال�صفحات الأوىل حتت �إعالن مينح لكل من يوفر ال�سري جيم�س �إيرلند كريغ كان عمره 84عام ًا «لكنه كان
�أدلة عنها ك ّمية خيالية من الذهب. يبدو �أ�صغر من �سنه بكثري» هكذا و�صفه كل من يعرفه يف
من �أعلى ال�شرفة حيث جل�أت كنت �أ�سعل ك�سجني الأ�شغال القاهرة ممن و�صل �إليهم نب�أ موته يف اليوم التايل من
ال�شاقة و�سط الدخان الذي يل ّفني ،ومل يكن بو�سعي �أن خالل ال�صحف التي فر�ضت عليها الرقابة ،وبالتحديد
�أتخيل الرعب الذي يخ ّيم على املدينة املجنونة .يف مثل من خالل �إعالن خجول عن موت امل�صريف كريغ «على
هذه اللحظات نتح ّول �إىل �أنانيني. �إثر توقف يف القلب».
تتو�سع بال
كانت �شبكة الدخان املن�سوجة مبئة �شعلة ّ عدا ال�سيد كريغ و�ضع الفو�ضويون يدهم على �سكرترية
ح�صر حول جزيرتي ال�صغرية .كانت كل م�ستودعات �شابة فلفوها بغطاء ورموها من نافذة الطابق الثالث،
ال�سيارات الكبرية حترتق «فورد» و«ال�ستود بيكر» وبعد �صرخة خميفة �ست�سحق هذه التاع�سة يف املوقد
و«القاهرة كايرو» و«موتورز �إنكليز» الذي �أحرق بقاذف امللتهب يف ال�شارع و�سط �أثاث ال�صالونات.
اللهب الأوك�سيدريكي ،ف�ض ًال عن � 300سيارة جديدة يف هذا الوقت كان �آخرون قد �أوثقوا على مقعد «مي�شال
تنفجر الواحدة بعد الأخرى .كل ذلك كانت خزاناتها ّ كوتز» مالك ال�سفن الذي �سيحرق حي ًا .وهناك �أي�ض ًا
و�سط ال�صراخ الذي يطلقه كل �أولئك الذين طردتهم �أحد �ضيوف النادي الذي مل تك�شف هويته ر�سمي ًا .جل�أ
بالأم�س الزمامري ال�سلطوية .لقد �أحرقت كل البارات، هذا منذ بداية الهجوم �إىل الطبقة العليا ،وعندما تبينّ
وكل الكازينوهات ،وكل النوادي ،وكل حمالت احللوى له �أنه لن يتم ّكن من تفادي املهاجمني واحلرائق قام
وكل ما يرمز �إىل امللذات والغنى وكل ما له وجه �أجنبي الرجل بعقد �شرا�شف و�صلها ببع�ضها البع�ض وربطها
�أو كافر حتى قن�صلية ال�سويد الربيئة .كل ذلك تع ّر�ض �إىل قاعدة املدخنة ،يف حماولة للهرب وكان خط�أه �أنه مل
للحرق. يح�سب ح�ساب النوافذ .لذا م ّر �أحدهم وكان على الأرجح
مل يت�سن يل �إال ال�ساعة اخلام�سة ر�ؤية الأ�شياء عن قرب م�سلح ًا بنف�س املو�سى التي قتلت كريغ قبل دقائق ،فقطع
وب�أكرث قدر ممكن مع �أن الأمور كان ميكن �أن تدور ب�شكل �سلم القما�ش الذي هوى مع �صاحبه و�سط احلريق.
134
املدخل املعدنية ،حينئذ امتدت مئة يد �إىل الباب ثم �سيئ بالن�سبة يل ب�سبب هويتي الكاثوليكية فقد كانت لدي
جاء دور الرجل الذي يحمل العمود اخل�شبي ودار م�شهد فر�صة هامة لأكون فكرة عن الطريقة التي اعتمدت لأنه
على غرار م�شاهد احل�ضارات القدمية .خم�س ع�شرة يد توجد فع ًال طريقة �صارمة وج ّدية �أكد ج ّديتها كل �أولئك
م�س ّمرة ال�سواعد �أخذت تلقي ب�ضرباتها بوا�سطة العمود الذين �أداروا و�شاركوا يف تنفيذ هذا احلفل اخلتامي
اخل�شبي على الباب احلديدي الذي ا�ست�سلم خالل وقت متع ّدد الألوان.
ق�صري . يف الطبقة الأر�ضية حيث وجدت هناك «ميلك بار
.....خزانات ورفوف وبارات لل�صودا وطاوالت وكرا�س �أمريكي» هو واحد من عدد ال ُيح�صى من امليلك بارات
ومرايا وكل �شيء يف الداخل با�ستثناء اجلدران ،ذلك التي �أقيمت يف املدينة .ميلك بار الفندق هذا كان
كله كان ي�صل �إىل ال�شارع يف حركة قذف متوا�صلة .هنا الأكرث �شهرة يف القاهرة ب�سبب النيون والنيكل اللذين
وبح�سب ال�سيناريو الذي ّمت يف الريفويل وكل مكان ،جرى ي�سبحان فيه لي ًال نهار ًا والأنوار دائمة احلركة فيه والتي
تكدي�س احلطام �أمام الواجهة املبتورة ،وجاء دور الرجل ال تطاق ،وكذلك الكوكا كوال التي ت�ضخّ هنا بكميات
الذي يحمل �صفيحة البنزين ف�ألقى قطعة فتيل م�شتعلة كبرية ومبوجات متتالية .منذ بدء اال�ضطرابات �أ�شارت
ويف حلظة واحدة حت ّولت كومة الأنقا�ض �إىل جممرة، الأ�صابع �إىل �ستائره املعدنية التي �أغلقت ب�سرعة ،ولكنه
وما �أن بد�أت النار تت� ّأجج حتى توارت �سيارة اجليب عن مل يتع ّر�ض للهجوم �إال يف ال�ساعة اخلام�سة.
الأنظار.
كان من ح�سن حظ �أولئك الذين كانوا داخل الفندق �أن التقنيون
احلريق لن يجد ما يغ ّذيه يف املفرو�شات املتبقية لأنها
معدنية وعلى الأخ�ص يف امليلك بار� .إذ حاولت �أل�سنة عندما �شاهدت �سيارة اجليب تتوقف فج�أة فهمت فور ًا.
اللهب خالل ن�صف �ساعة �أن تنفذ �إىل البار لكن دون كل �شيء مت ب�سرعة .قفز رجال �أربعة من ال�سيارة ،كان
جدوى ،وقد ج ّرب َمنْ يف ال�شارع وبطريقة �صبيانية مظهرهم ولبا�سهم الذي ال غبار عليه مي ّيزهم عن
�إعادة �إ�شعال احلريق بورق ال�صحف ،لكن دون طائل. اجلمهرة الباقية من ذوي اخلرق البالية ،كانوا جمموعة
يف هذا الوقت كان �صاحب الفندق يحر�س �أمام باب من التقنيني� .أحدهم يحمل �صفيحة والآخر مي�سك ما
خمزن املازوت ي�صحبه �صب ّيان م�سلحان باملطافئ. ي�شبه العمود اخل�شبي ،والثالث يحتفظ بخطاف ،والرابع
عندما ر�آين �أ�صل �إىل �أ�سفل ال�سلم �سحب م�سد�سه كان خايل اليدين .فور نزوله من ال�سيارة بد�أ هذا الأخري
الأوتوماتيكي دون ت�س ّرع ومن ثم ا�ست�ؤنف الروتني ف�أ�شار يخطب يف اجلمهور .خالل اخلطاب الذي ا�ستغرق وقت ًا
يل جمام ًال ب�أن � ّ
أتوجه �إىل البار. �إ ّ ق�صري ًا حتول الر�صيف الأمريكي� ،أي امليلك بار� ،إىل
...وبا�ستثناء ما هو غري متوقع كنا قد �سلمنا. قفري مرتا�ص ي�سوده العداء .يف هذا الوقت كان الرجل
الذي يحمل اخلطاف ميزّق ب�ضربات عنيفة �ستائر
135
ثمن ًا للعمارة التي كان قد ا�شرتاها يف ال�صباح نف�سه. كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
حوايل ال�ساعة ال�ساد�سة بدا �أن يف الأفق ما هو �أ�سو�أ .يف
هذا الوقت فقط اجتاحت ال�شوارع قرقعة من كل �صوب:
لقد و�صلت القوى النظامية.
و�صلت �أو ًال فرقة اخليالة التي كانت تفتح الطريق،
ذاكـرة املدن ملدن
ذاكـرة املدن
وتطلق النار من �أ�سلحتها القدمية نحو ال�سماء ،ومن ة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
كـرة املدن ذاكـرة املدن ذاكـرة املدن
ثم الكتيبة املد ّرعة الثقيلة ،وهي بالت�أكيد �أقل زينة من ذاكـرة املدن رة املدن ذاكـرة املدن
�سابقتها ،لكنها �أكرث فعالية وقوة ،و�أخري ًا كتيبة جنود
امل�شاة التي متركزت على املفرتقات مطلقة ر�صا�ص ًا
وهمي ًا فوق الر�ؤو�س� .أما ال�شرطة التي التحقت باجلبهة العرا�ضة الأخرية ح�صد
الأكرث ا�شتعا ًال فقد �أخذت تقذف قنابل الغاز امل�سيلة
عندما �صعدت جمدد ًا �إىل ال�شرفة تبينّ يل �أن عملية ال�سبت
للدموع باجتاه قطيع امل�شاغبني الذي �أخذ يرتاجع ،يف
حني �أن رجال الإطفاء وعلى رغم املو�سى التي تقطع لهم التحطيم مل تتوقف بعد .ال بل كانت قد جت ّددت وب�شكل الأحمر
خراطيم املياه هنا وهناك فقد كانوا يحاولون بال اقتناع وا�سع .كان الغ�ضب ي�أكل امل�شاغبني لعجزهم عن �إحراق
الفندق ،فكانوا يث�أرون من املواد التي مل تعد �صاحلة ال
80قتي ً
كبري �إطفاء احلريق الذي كان يلتهم كل �شيء.
لكن ما الذي جعل املوقف يتغيرّ ؟ بكل ب�ساطة حدث لال�ستعمال ،وكان ح�شد النا�س امللتحي بالآي�س كرمي والأ�ضرار
ما ي�أتي :معترب ًا �أن «املزحة» طالت كثري ًا �أعلم ال�سري غري عابئ بالدخان الذي يف�سد الهواء ويجعله غري
قابل للتنف�س فعقدوا حول املجمرة حلقة راق�صة تت�صف املادية
�صمويل �ستيفن�سون ال�سفري الربيطاين يف القاهرة نظريه
الأمريكي الذي �أو�صل الر�سالة للحكومة امل�صرية بناء بوح�شية عبثية ،وو�سط الزعيق اله�ستريي الذي كان بلغت
على طلب �ستيفن�سون وهي م�صاغة بعبارات دبلوما�سية يت�صاعد �إىل ال�سماء امل�شحونة بالروائح النتنة كانت
ال�سيقان امل�سحورة تدفع اجلالبيات الطويلة �إىل �أعلى 50مليار
لكنها تعبرّ عملي ًا عن املوقف احلا�سم التايل� :إن مل تعلنوا
حال الطوارئ ف�ستكون قوات القناة (الإنكليزية) هنا بحركة مروحية .يف الوقت نف�سه كانت الأيدي ال�سوداء فرنك
خالل �ساعتني. تقذف اجلمر يف الهواء فيت�ساقط على الأر�ض كالب�صاق
ويتح ّول �إىل �شرارات� .أما علب احلليب املجفف فكانت فرن�سي
و�إذا كان قد تبقى بع�ض الوقت لتفادي الأ�سو�أ فمن
امل�ؤ�سف �أن الوقت كان قد ت�أخر كثري ًا لتفادي الكارثة. تقذف كالقنابل اليدو ّية نحو الواجهة فتن�سحق خملفة
لقد ح�صد ال�سبت الأحمر 80قتي ًال� .أما الأ�ضرار املادية غيوم ًا بي�ضاء .و�أي�ض ًا كانت تقذف املقاعد و�أدوات املطبخ
ف�إن التقديرات الأكرث مو�ضوعية �ستخ ّمنها بـ 50مليار والأغرا�ض الأقل ا�ستعما ًال كانت تقذف باجتاه اجلدران
فرنك فرن�سي على الأقل. ثم ت�ستعاد وت�سحق وتبعرث.
كانت غريزة العنف الثائرة ت�ضفي على هذا املق�صف
الغرب �أمام هزميته الأهوج خ�صو�صية طقو�سية .مل يكن ما �شاهدته جم ّرد
�شغب كما نعرفه يف الغرب .لقد كان موكب ًا همجي ًا مدفوع ًا
يف الوقت الذي كان يطلق فيه الر�صا�ص الوهمي ذو من كل �شياطني ال�صحراء .كنا �أمام ن�شوة عارمة� ،أمام
ال�سحر امله ّدئ كان �صفري �سيارات الإ�سعاف احلاد يخ ّيم عرا�ضة طاغية.
على ال�شوارع .يف ذلك احلني تركت مق ّري (الربج) يف هذا الوقت كان البولي�س ال�شكلي مي ّد يد العون بقوة
ورجعت �إىل بهو الفندق مع هبوط الليل .على �ضوء لالنتفا�ضة يف �أماكن عديدة .هنا كوكبة تو ّزع قنابلها
ال�شمعدانات التي �أ�شعلت من جديد كان بالإمكان ر�ؤية امل�سيلة للدموع على احل�شود ،وهناك عريف �أول
وجوه التجار ورجال الأعمال التي اكت�ست بجمود �أبله، (�شاوي�ش) يهرع حام ًال ماكينة خياطة ،وهنالك �آخر من
وهم الذين يغل ّفون وجوههم عادة بابت�سامة كانوا يظنون ممثلي النظام ي�صعد �إىل الطبقات ويدق اجلر�س حم ّذر ًا
�أنهم �سيحتفظون بها �إىل الأبد بعدما �ألفوا تركيبها .لقد النزالء من �أنه �سي�أتي بامل�شاغبني �إن مل يدفع له كل منهم
برهنت الأحداث �إىل �أي ح ّد كان كل ه�ؤالء النا�س الذين وعلى الفور خم�سني قر�ش ًا.
ي�سكنون يف م�صر منذ �سنوات قد ظلوا عميان ًا ...لذا
كانوا يت�ساءلون: �سيادة الفو�ضى املطلقة
ال�شرطة �أين ال�شرطة؟
رجل �شرطة مع ر�شا�ش واحد يف ال�شارع ،واحد فقط ،كان �أما احلكومة الوفدية فلكم كانت تتمنى �أن يكون رحيلها
كفي ًال بت�سوية كل �شيء من البداية. الئق ًا .ها هي تتخ ّبط و�سط جدال عقيم حول جمموعة
ً
ويتحاورون :لقد متادى ه�ؤالء الأوغاد كثريا .لقد ق�ضوا من النارجيالت.
ب�ضربة واحدة على الرثوة الوطنية . النحا�س با�شا الذي مل يكن قد تلطف حتى ذلك الوقت
«الرثوة الوطنية»؟ ماذا تعني«الرثوة الوطنية» لأولئك مبغادرة منزله رفع �أخري ًا �س ّماعة الهاتف يف منت�صف
الذين مل تكن راحة يدهم قد الم�ست لرية واحدة من الظهرية ال ليتخذ �إجراء معين ًا ،بل ليطلب مقلمة
قبل .ما الذي كان ميكن �أن يخ�سره ه�ؤالء النا�س يف هذه �أظافره ...يف هذا الوقت وحتى ال يبقى يف الظ ّل كان
املغامرة .ن�س�ألكم؟! ولكن �أحد ًا مل يكن يريد �أو يحاول �سراج الدين وزير الداخلية يو ّقع �شيك ًا بـ 80مليون جنيه
136
�إنه با�شا من ال�شمال قال يل �صاحب الفندق ،ينزل عندنا �أن يفهم.
كل �أ�سبوع ،ليح�صل على جرعته. يف تلك الأثناء ،هنالك ،على طريق ال�صحراء ،كانوا
لقد فهمت الآن فقط .كان هذا العجوز النبيل غائباً ي�شعلون النار �أي�ض ًا يف ملهى الأهرام الفخم� ،أي يف
عن امل�أ�ساة من بدايتها ي�سرتخي براحة على �إثر جرعة الكباريه ّ
املف�ضل للمجون امللكي.
املورفني ،بالن�سبة �إليه مل يح�صل � شيء البتة ،ولن ي�شعر ويف املطار ،كانت طائرات ثالث تابعة ل�شركة الطريان
�أبد ًا مبا جرى. الربيطانية «بريتي�ش �أوفر�سايز» احتلت مكان ًا على املد ّرج
يف الظلمة التي تنريها ال�شموع امتدت يد و�أخمدت �أنفا�س يف حماولة للإقالع على م�س�ؤوليتها بعدما رف�ض برج
املذياع .فاغتنمت الفر�صة� ،ساعة احلائط ال�سوي�سرية املراقبة ت�أمني االت�صال لها .واحدة منها فقط خاطرت
ال�ساحرة بهدوئها لتعلن ال�سابعة م�ساء �أي �ساعة الوي�سكي بالإقالع وبثالثة حم ّركات.
والت�شيب�س .لكن َمنْ ِمنْ احل�ضور كان جائع ًا؟ يف بهو الفندق �أدار �أحدهم مفتاح املذياع لال�ستعالم ع ّما
بهدوء طيور ال�صحراء الكربى كانت دواري هذا البلد يجري ،لكن راديو �صاحب اجلاللة كان يبث ربع �ساعة
تدور وتدور و�سط الدخان الذي هجرها من �أع�شا�شها، من مو�سيقى التانغو .يف هذا الوقت ظهر يل ج�سد غارق
وكما الرجال �ستحاول البحث طيلة الليل عن النوم الذي يف كنبة� .إنه ذلك العجوز ال�شاحب الذي الحظت يف
هجر جفونها. مالحمه نب ًال كبري ًا هذا ال�صباح يف البار.
هوام�ش:
هذا الن�ص الذي تنفرد بن�شره «الدوحة» مبنا�سبة مرور 55عام ًا على حريق القاهرة هو ف�صل من كتاب «م�صر بعيون الفرن�سي�س» الذي ي�صدر قريب ًا عن الدار
العربية للعلوم يف بريوت ومكتبة مدبويل يف القاهرة.
( -)1جريدة ال�شعب امل�صرية 2002 - 1 – 24
( - )2جريدة امل�صري ال�صادرة يف كندا 2003 - 1 – 29
( - )3البيان الإماراتية 2002 - 7 - 24
(� - )4أ ّكد يل �سامي �شرف يف ربيع العام 2005يف اجلزائر خالل ع�شاء على هام�ش «امل�ؤمتر القومي العربي» �أن اللواء يف املخابرات حممد �إمام قائد البولي�س
ال�سيا�سي اعرتف بعد الثورة ب�أن الق�صر امللكي كان متورط ًا يف «حريق القاهرة» لقد ا�ستدعيته �إىل مكتبي ل�س�ؤاله عن بع�ض الأمور ومن �ضمنها حريق القاهرة ف�أ ّكد
يل �أن امللك هو الذي حرقها و�ستجد تفا�صيل احلوار معه يف كتابي الذي �سي�صدر قريب ًا والكالم دائم ًا ل�سامي �شرف .ويف ال�سياق نف�سه �أ ّكد يل الدكتور كمال عبد
اللطيف الطويل �أن تنظيم «�إخوان احلرية» امل�شبوه الذي كانت ترعاه املخابرات الربيطانية اتهم �أي�ض ًا ب�إ�شعال احلرائق يف القاهرة و�أن عدم ذكره يف الوثائق
الربيطانية املن�شورة ال ينفي م�شاركته يف احلريق.
- )5( تطلق هذه العبارة يف فرن�سا للإ�شارة �إىل حالة الالمباالة يف ظروف بالغة ال�صعوبة �أو اخلطورة.
( - )6نوع من ال�شمبانيا ما زال متداو ًال حتى اليوم يف فرن�سا.
( - )7نوع من ال�سجائر الفرن�سية التي كانت م�شهورة عاملي ًا ورمبا ما زالت يف الدول الناطقة بالفرن�سية.
�شباط -فرباير 1952
LE DAUPHINE LIBERE
137
()2
العمل �آي َة الإن�سان ،ح َّتى َ�س َرت ال�صناع ُة يف جدولِ ال يزال ُ
وانفج َرت �شراي ُني املمكنِ الغايل و�سالَ عقيقُ َ الروح
ِ
ِ
ر�ضاعات البنا ِء ً
الت�سلي ِة منها فطاما للجماع ِة القوي ِة من
والتكوينِ وعبور ًا -تعبري ًا� -إىل املراهق ِة احل�ضار َّي ِة ،حيث
الرتاكم املخ َّرقِ
ِ ِ
مرياث ي�أخذُ �سادتُها بالنظرِ �شزر ًا �إىل
أنف�سهم متطاول َني على ون �أعنا َقهم َ
� مو�ضع ،و َي ْل ُو َ
ٍ يف ِّ
كل
الكونِ �آخذين �أعطافهم ب�أيديهم حذَ َر الف�سا ِد وال ُي َب َ
الون
�أبحث عن
داخل َني ك�أطوا ٍر �شرنق َّي ٍة على َج َّن ِة املحاول ِة ال�سوداء.
ال�سرعة. ج َّن ِة االختيا ِر واملقدا ِر وال�سر ِد والذات :عرو�س ُّ
يدخلون ،جنب ًا �إىل جنبِ ال َّر َعايا الذين �ض َّر َجت الت�سليةُ َ
العاطفة
بلذاذات احلقائقِ املتخ َّيلة ،فانزلقوا بدورهم، ِ عيونهم
ظن الأقويا ُء �أنهم م�ستفردون بها نحو اجل َّن ِة عينها التي َّ
ِ
خريات ال�ضالل. إن�سان من خريا ِتها، َف َمن ُعوا ال َ
()3
بدا للرائي من ُج ْحرِ ال�صعلكةَّ � ،أن «الكمالَ » مل َي ْع ُد كونَه
م�شروط وم�ستعارٍ ،هو ٍ ازدواجي
ٍّ بتاريخ
ٍ مفرد ًة حم َّمل ًة
يف احلقيق ِة تاريخ مفرد ِة النق�ص .لي�س بعيد ًا جد ًا عن
ذلك ،ولكن بعيد ًا بحيث ال ي�سهل الو�صل بني الت� ُّصورين
�إ َّال بالغي ًا ،يبدو الآن ِل َعينْ ٍ حفيد ٍة عامل ٍة حتت يد الرائي،
«الكون» والكمالُ
ُ � َّأن الكمالَ هو م�ست َه ّل كل وجود .يبد�أ اع م�ستعر�ض) أر�ضي ِ
ة/ق َط ٌ ّ (جتريد ٌة �
بني يديه ،وينتهي ،ف�إذا الكمالُ �شظايا .ذلك ،لأنه ما
برح الكمالُ ما َّد ًة خام ًا ،طين ًة �أ َّولي ًة ،حال ًة وجود َّي ًة تبدو حممد ال�صادق احلاج
يل من هنا -حيث الأر�ض املل َّونة ،مهد عيني� -أ�شب َه
روح الكائن وتتقز َُّح ب�صور ٍة �شم�س َّي ٍة �سالب ٍة تتبذَّ لُ يف ِ كاتب من ال�سودان
اب الأر�ض، تبع ًا ملحاوالته ،ذاهب ًة يف تهتُّكها عميق ًة َ
ك�ص َو ِ
الق�صد غاي ًة ،وال هو ِ وبالألوان� .إذ ًا ،لي�س الكمالُ بهذا
ُعطى ،فما بال ال�صناع ِة تهذر؟!. جائزة ت َ ()1
حرب �إميائ َّي ٌة خال�ص ٌة ال خ�صوم َة فيها، � َّإن مداوم َة االنتظا ِر على �سطح هذه الكتلة املتقب�ضة
غري � َّأن الكمالَ ٌ من العنا�صر «الأر�ض» ،ومراقب َة الإقام ِة الوجودي ِة
حرب جمهر َّي ٌة يخو�ضها ال�شي ُء ٌ تتناحر، وال فيها � ٌ
أطراف
وال �ض َّد له غري �صورته من�سوخ ًة ،وقد طفحت على الوج ِه خيارات التوازي واالنحناء بني ِ وقيا�س
َ بع ِني امل�سطرة،
ك ّل الإمياءات الع�ضل َّي ِة املمكنة ،ف َي ْب ُط ُل يف ال�شيء معنى حيا ِد الأفق املنظو ِر وحدو ِد عمائم الأ�شجا ِر واملباين؛
النتقا�ض املعنى� .إذ ًا.. ِ وجوده قبل �أن َي ْب ُط َل الكمالُ تبع ًا رات خاطف ٍة تتع َّلق بالطر ِد حت�ض على التو ُّر ِط يف ت� ُّصو ٍ ُّ
أج�سام
والإق�صاء .ل ّأن الزوايا ال�سوداء ،التي توفِّرها ال ُ
كل �أ ْو ُج ِه ال�صور ِةتطلب َّ تط ُل ُب ال�صناع ُة املعنى ال الكمالُ ، إح�سا�س الناد َر الكثيفة لل َّرائي لي ًال ،تعطي ذلك ال
تطلب الو�ضوح، إمياءات ت�ؤملُ ، ُ امل�سترتة ،تطلب ال َّت� َ
أويل فال َ
العمران من ُ به�شا�ش ِة املو�ضوع وب�ساط ِة ما ينطوي عليه
َ ُ
تطلب ال�صناعة جتزِ ئة الكمال. تقوي�ض املُ ْط َلقُ ، َ تطلب
ُ ين قا�صر. هذيانٍ مد ّ
()4 �صارم
ٍ إخال�ص بجد َّي ٍة و� ٍ
الزوايا الق�صرية ،الق�صري ُة ِّ
جات املجنون ُة على قيا�س ًا مبا يعلوها من فرا ٍغ طويلٍ ،عاقٍّ َ ،ي ِع ُد باخليانةِ
العيون الكثري ُة ال�صلب ُة ،ال َّتم ُّو ُ ُ �إنَّها
بالفن وال�سالبِ ِّ ال غري ،منغلقٍ على احتماالته ،عامرٍ
ً
�سطح اخل�شبِ املخروطُ ،م ْو َكل ٌة �أبدا بتدب ِري ما يقابلها ِ
�ضمن
َ ال�صناعي من ِن َّي ٍات جمال َّي ٍة تُف َه ُم ِ
ز املجا يف أر�ض وال�سماء!. هند�سي مع َّل ٌق بني ال ِ
ٌّ وال�صداقة� :ش َع ٌب
ِّ الفرا ُغ ،هو الهند�س ُة ،جمتمع ًة �إىل رعاياها «ال ََّز َوا َيا» منذ
أ�شخا�صٌ إي�ضاحات ال�شعر َّي ِة التي يتق َّد ُم بها � ِ �سياقِ ال
�صاح َبت َج ْد َع َة التي ةِ ي ب أورو ل ا بالنربة - للطبيعة محُ ِ ُّب َ
ون باب َم ْطو ٍِّي يتجادل َْن حول فداح ِة احل ِّر َّي ٍة فجرِ املاد ِة خلف ٍ
َ َّ َّ يف حالِ انطفاء حم ِّرك الرغبة .الفرا ُغ ين�صت حماو ًال
اللطف والرهافة ،تائقون ِ وه ْم �إىل ذلك غاي ٌة يف ال َّتنويرُ -
�إىل ع�شائ َر نبات َّي ٍة عاقل ٍة ت ْق َبلهم ك�أع�ضاء حقيق ِّيني َ
داخل ميتزج بالنتيج ِة املح�سوب ِة، َ بقد ِر الإمكانِ تفادي �أن
مرجح ًا � َّأن ال�شقاقَ الذي ال ب َّد �أن ين�ش�أ ع�ش َّي َة القيامة، ِّ
وذات �أنظمتها ال َق َرا ِب َّي ِة ،بت�أم ِني ِن َّيا ِتهم التي تبدو �أدب َّي ًة َ �سوف يكون برهان ًا له على ه�شا�ش ِة البني ِة القدر َّي ِة التي
تركيبي قابلٍ لل َّت�أويل مثل عيون الأ�شجار� .أ َّما يف ٍّ طابع
ٍ ِ يفخر بها برنامج ال َّت�سلُّ ِح اجلَّما ِّ
القيات الداخلية ِ أر�ضي� ،شبك ِة ال َّت ل ا للفخِّ ِ
احلالك ِ
ز املجا جلمهوريات ال�شجرِ يل
ِّ واحلجارة.
ريب املمكنة ،فاملنظ ُر امل� َّؤه ُل للعملِ يف خدم ِة ال َّزمانِ ،ال َ
138
وتذهب،
ُ الفردو�س ،هذا، ِ ِ
طبقات عالق ًا ب�إفريزِ �إحدى ي�شبه طائر ًا طيني ًا م�ش َّع ًا يتخ َّب ُط يف الدغل .هو �شك ٌل ،بني ٌة
العمومي نح َو �سوقِ «ال�شجرة». ِّ منحدر ًة بها �س َّيار ُة ال َّنقْلِ بال�سالم املحيرِّ ِ وق َّو ِة امل�سكن ِة التي مت ِّي ُز ِ وح�ش َّي ٌة حمتمي ٌة
ً ً
عب يف زهر ِة اجل ََّ�س ِد تف�سريا �سينمائيا لل�شي ِء أيت ال ُّر َ
ر� ُ الأ�شجا َر بعا َّم ٍة وتدفعها للإميانِ بعدلِ االحتماالت .البنية
معجم الن ِ
َّبات ُ ه
ُ م ُ
ل
َ ُّ ي ِ
إمياءات ل ا ِ
ة نَّ ِ
أ�س � حتت
َ ً
ا َّق
ز مم العاري أثاثات اخل�شبي ِة، أدوات وال ِ كل ال ِ نف�سها املف�ضوح ُة يف ِّ
ِ�ش ْل َو ًا ِ�ش ْل َوا .و� َّإن �شيئ ًا ما ،يف املطلقَ ،ي ْب ُط ُل �أن ُي َع َّد َجما ًال... ً
واملع َّر�ض ُة للإطرا ِء �أو النفور ،غري احل�صين ِة �أبدا �ض َّد
ذاك ف َّن.ما َم َّ�ست ُه َي ٌد بال�صناع ِة والتحريف ،فهو �إذ َ ارين النج َ
العائد �إىل عملِ َّ فيهي ِ اال�ستعرا�ضي الترَّ ِّ
ِّ ِ
امل�سلك
ً
جتفيف روحها ،مقرونا بنفخهم عليها روحا �أخرى، ً ِ على
()5 �إن�سان َّي ًة ،عاطف ًة زخرف َّي ًة رهيب ًة ،ال َي َ�س ُع املهتدي �إليها
مو�ضوع ،وهي طائر.
ٌ اليَ ُد املطروح �أر�ض ًاِ غري �أن يه ِّل َل خمنوق ًا من �أعماقِ طائره
ذات ،وهي ف�ضاء. د
َُ ٌ الي خمذو ًال يف اجلَّمالِ مم ّت َّن ًا للكمال:
خادمة الزمان ،هذه الب ْن َية ،هي التي ك�شفَت يل عن �أجمل
()6 علي بنعم ِة �أن �أتذكَّرها متى ما الأ�صابع يف العامل ،و�أفاءت َّ
اكمِ ترَّ ل ا حقولِ من حقلٍ أي
ِّ ال َي َ�س ُع عام ًال َّ � -أي عاملٍ يف � َع َّن يل ذلك .ولقد بدا يل حينذاكَّ � ،أن تخفاقها الهينِّ َ ،
املتجمع ِة حولَ هيكلِ الوجو ِد عناقيد هند�س َّيةً ِّ الإن�سا ِّ
ين �صاخب -بالأ�صاب ِع ذاتها ،وهي ٌ حالَ ا ِملزَ اح ،هو احتفا ٌل
والبيانات� -إ َّال �أن ُي َجزِّ َئِ ِ
واملعلومات ِ
املالحظات من تَخْ ِفقُ من �أجل ذلك -داخل حلظ ٍة ُمط َب َق ٍة على نف�سها
ِ ِ
الكمالَ ،وبالذات يف اللحظة التي َتلي نظ َر َت ُه ال َّتقييم َّي َة ِ قلوب رعناء �صرخاتٌ ،ٌ ال حتدث مطلق ًا وال تنق�ضي.
�إىل َع َم ِله ،حيث َيرى لأ َّول م َّر ٍة �صور َة �أ َثرِ ِه ممزَّق ًة ب� ِأ�س َّن ِة تتفتَّقُ َط َّي اللحظ ِة كالأزهار ،جلو ٌد ح َّي ٌة مل َت ْكتُب عليها
داخل ع ِني امل�سته ِل ِك الذي يبحث دائم ًا املعنى هذه امل َّر ِة َ َّظرات أر�ض �شيئ ًا مما حتفره عاد ًة ب� ِأ�س َّن ِة الن ِ جتارب ال ِ
ُ
حتياج م�ستحيل� :آل ِة ٍ ْ
ا ب ي ف ِ ت َ ٍ
ة ممكن عن �ضا َّل ٍة واقع َّي ٍة املخاطي
ُّ ِ
الوالدات رب
ُ ح منها ويطفر ى، رَّ تتع اجللود، على
مفتاح الفردو�س: نهائي ال�سلوى؛ ِ جم�س ِم ال ِّر�ضا؛ ِّ الكفاية؛ َّ خ�شبي كا�س ٌر ،يحتفل بالأ�صاب ِع النَّادر ِة ٌّ النَّا�ضج� .سكو ٌن
ميكن له �أن ي�أخذها ب َي ِد ِه م َّر ًة واحد ًة ُ التي ِ
ة الأدا ِة َّ
ال�س َب ِب َّي أمواج النائم َة بدفق ٍة َ ل ا ت ور�شَّ ة ً عابث عليه التي ارتَخَ ت
ال�ضرور َة وينفيها من حيا ِته نهائي ًا. و�أخري ًة في�ص َر َع بها َّ مثيل بخ َّف ٍة ال َ تن�سحب ِ
َ عفو َّي ٍِة من �إبريقِ اخللود ،قبل ان
جل َّن ِة �سعي ًا يف ط َلبِ الالعمل والالحتمي ِة �إ َّن ُه يتوقُ �إىل ا َّ الن�سيم ر�أي ُت ُه
ُ هُُ ب يالع ً
ا الو�شاح �إلهِ َّي ِ لها غري خفَّة ذلك
139
الوهم يف غريها. من َي ِد ِ
ترقيعي على هذه ال�شاكلة ،و�إن َرق َيِ ٍّ ٍ
غري � َّأن ك ّل جمهود
واملجد َم ْر َقى ما ال ُي ْ�س َت َعا ُد �إن�ساني ًا ،فهو يف ِ يف القد�سي ِة
واال�ستعرا�ض
ِ ِ ِ
ارج الت�سلية َيد ُر ُج و�إىل غايات الترَّ فيه ِ َم َد ِ
ي�سعى.
ون الأنبيا َء موا�ض ِعه ،و َين َْح ُل َ فون ال َك ِل َم عن ِ وحقَّ لمِ َن يح ِّر َ ُ
و�س َة د
َّ ُّ َُ
ق ال َ
ة ي امللكوت َ
الهياكل عون
َ ر ج
ُ َ ِّ ي و يقولوا، مل ما َ
ة آله ل وا
َّعم ُح َّج ًة �شَ ْر َب َة اخليالِ الالذع َة� ،أن يجدوا يف هذا الز ِ
خلبرَ ِ َّي ِة املتخ َّيلة. يطعنون يف �سالم ِة منقوالتهم ا َ َ على َمن
ون العظماء؛ مهند�سو �أ�صنام احلقائقِ النَّائم ِة �إنَّهم املُ َ�سلُّ َ والواجبات ذاتها التي ي�شدو ِ ه َرب ًا من الأ�شيا ِء والأفعالِ
الفعليون، َ ِ
احل�ضارات ة
ُ َا
ن ب ُ َّمان؛ ز لل أعوج
يف ال�ضل ِع ا ِ
ل بها ويدعو �إليها ويقتل يف �سبيلِ احلثِّ على الوفاء بها!!.
إ�شارات بالغ ِة اللوع ِة حالَ َمن ال املط َلقِ يف � ٍ ئون بنا �إىل ْ ُي ْو ِم َ ُكن عام ًال ح َّق ًاَّ ،ثم ِم ْل ب�أ�صابعك �إىل خلو ٍة وت ََد َّب ْر فيها
تح�س َن النَّاظ ُر وج َهه ،ال ع َني ويب ِغي وج َه َل ُه و َي ْب ِغي �أن َي ْ�س ِ وف تَرى كم ير�ضيك يف قرار ِة ل�ساع ٍة ب�أظا ِفرِ ها ،و َل َ�س َ
ل�سان ويب ِغي �أن ينطق ،ال �أُ ُذ َن ويبغي �أن َي�سم َع ً ٍ ِ
تهتم لإر�ضاء � َأحد مطلقا ،ذلك نف�س َك َح َّد ال ُّثمال ِة �أال َّ
ِ
�أن َي َرى ،ال َ
النظام الك ِّل َّية عند �سقوطه �سهوا عن َيده ،وهو بغري
ِ ِ ً ِ ِ ر َّن َة ل َّأن ...يا للهول...
ِ
ئون املتدليِّ ُ ،... ،ي ْو ِم َ يلط َم املجهولَ على َف ِّك ِه َ ٍيد ويبغي �أن ُ
َّ ِ ِ
بنا ،و«الإ�شار ُة ندا ٌء على ر� ِأ�س ال ُب ْعد و َب ْو ٌح ِب َعينْ ِ العلة» كما ()7
ريب َكت ََب ال�شيخُ ال َّرائي حميي الدين بن عربي ،وهو ال َ ُ ...ث َّم �إ َّن ُه ما من َب�شَ رِ ٍّي َي ُجو ُد على َب�شَ رِ ٍّي مثله ب�شهاد ِة
املحاوالت ُمقَزِّ ُحو �صورة العا ِمل يف �أع ُيننا ِ واح ٌد من �ساد ِة باب الإيثا ِر واملح َّبة ،فما ال�شَّ اه ُد حدثَ من ِ الكمال ،و� ْإن َ
ات الت�سلي ِة ونو ِر احلقائقِ املتخ َّيلة. بِهِ َب ِ �أ�سا�س ًا ،وما االمتيا ُز يف ذلك؟� .أعنيَّ � ،إن ال َب�شَ رِ َّي مل َي ُع ْد
لأنّه ما من بني ٍة اجتماع َّي ٍة �أو منظوم ٍة ثقافي ٍة� ،سيا�س َّي ٍة و�سجِ َّي ًة � ْأن َي َه َب ال َب�شَ رِ َّي يق َني َك َما ِله ،و�إ َّال
يطيقُ طبيع ًة َ
ن�شاط الب�شر �أو عقائدي ٍة ت�سو ُد وت�ؤ ِّث ُر ب�صور ٍة وا�سع ٍة يف ِ أ�صلي يف جِ ِب َّل ِت ِه م�ستن َك ٌر نف�س ِه �ضمن ًا مبا هو � ٌّ �شَ هِ َد على ِ
والذهني اال�ستعرا�ض البد ُّ
ين ُ �إ َّال وكانت ال َّت�سلي ُة هي تراكمات ثقافته وتربيته� :أنَّه هو ذاته �صنيع َة اخليال، ِ يف
ُّ خَ َيال مثي ِله الذي َو َه َب ُه يق َني وجوده .ال َب�شَ رِ ُّي �صانع ًا،
الطاغي الذي يف ط َّيا ِته تك ُم ُن �أ�سرا ُر هذه والتعبريي َّ
ُّ
بكل ما لديها، املنظومة ،وهي من خالله تتباهى ِّ الغذائي الذي ال ُّ الطاحون ُة �ض َّد اجلَّمال ،هو الأ ْي ُ�ض هو َّ
هي ابتدا ًء من حرك ِة ِم�شْ ِط احل َّالق ،مرور ًا بفنونِ َّ باليد �إ َّال ما ال تري ُد وما ال ميكن لمَ ُْ�س ُه عمل َّي ًا ِ
مينحك ممِ َّ ا ُ
الط ِ ت�ستطي ُع لمَ َْ�سه .قد يكون ذلك فاتن ًا� ،شعر َّي ًا ،ملهم ًا ،ف ِّن َّياً،
الفتوحات يف ال ِعل ِْم وما ِ واجلَّرمية ،وانتها ًء ب�أعمقِ و�أعق َِد
ال�سا ِل َب ِة َّ ِ
ة �سال ر
ِّ ال ُ
ة حامل الطبيعةَ � .أجل ،الت�سلية ،هي وراء َّ حدثَ ،هو � َّأن ال َب�شَ رِ َّي لكنَّه حتم ًا يجايف اجلَّمال .فالذي َ
قد � ْأ�س َل َم ما عنده بالفعلِ �إىل املط َلق ،وملَّا ر�أى اجلَّمالَ
وب َ�ص َوا َبها ،وهي الأداة الفاعلة يف �سيادة وت�أثري ال�شُّ ُع َ الذي تخ َّلقَ عن ب� ِأ�س َي ِد ِه وخيا ِله يف هيئ ِة ما َب َدا له ح َّق ًا
هذه املنظومة �أو تلك. ِ
أعطى وذات ًا ومنزل ًة تفوقُ ال َّن َوالَ ،ت�ألمَّ َ ،لأنَّه هو الذي � َ
()10 و�أ ْو َج َد ،وهو الذي �شَ هِ َد ِّثم �شَ هِ َدِّ ،ثم مل يعد قادر ًا على �أن
هريج ،و�إن
ِ تَّ ال حم�ض هي لي�ست والت�سلية التي �أعنيها هنا، يفعل �أ َّي ًا من ذلك ،ح َّتى وال لنف�سه.
الرتفيهي يف مرحل ٍة معين ٍة من ُّ ُ
الن�شاط َ�ص َّح عليها هذا
تاريخ الب�شر ،ولعل الأ�صوب هو� ،أن هذا الن�شاط الهازلُ ()8
امل�ستط َر ُف َ�ص َّح على الت�سلية يف جانب من حياة الب�شر، الفن .القتل، ّ جمهر حتت �شيء يف الوجو ِد ُم َ�س ِّلي ً
ا يبدو ك ّل ٍ
بد�أ مع �أوىل �شرارات الفن والنظر يف ممكنات العقل ال�شعر ،اخلجل، الأمل ،البالدة ،اجلُّنون ،املر�ض ،الرغبةِّ ،
وما زال يرافق الإن�سان ،ولكن يف �سياق املعذور �سلف ًا عن الإعالن!...
إدراج
مهمة الرائي .الت�سلية ،هنا ،ب�صورة �أ�سا�سية هيُ � : منجزَ ةً ،واحلقولُ حولها ُم ْل َت َّم ٌة كامل ُة َ الهياكلِ تبدو ك ُّل
الطبيعي للواقع ،ا�ستح�ضار املعقوالت املجهول يف ال َع ْر�ض مم�سك ٌة ب�أطرافِ املُ َوافَا ِة ملح�صول الترَّ ا ُك ِم الوفريِِ ،
ِّ ِ
أليف امل�ستغ َرب وامل�ستحيل»� ،أي جعله �أليف ًا. فيزيائي ًا «ت� ُ �صرخات احلب واالنتما ِء يفَو ْ�صالتها احل َّي ِة تفعمها بفائقِ ِّ
«تعب ُري» اخليال� ،إي �إعان ُت ُه على العبو ِر من وح�ش ِة ال اخلروم االرتباطي ِة املنادية. ِ
ال�سالب ِة �إىل ِ�صفْرِ الواق ِع �إن�ساني ًا و�إر�سا ُل ُه من اخلياالت ممكن ًة ،فهي �إن �أمكنَت يف العقل -و�إن ِ تبدو ك ُّل
�إن�سان َّي ِت ِه َّ احل�س -فقد ام َكنَت �ضمن ًا يف الواقع.
َث َّم �إىل وح�شة ال �إن�سانيته املوجبة ،وهي وح�ش ُة ِّ
كل خيالٍ ناف َِت َّ
َر َم ْت به مفرز ُة التفا�ضل والتباديل �إىل فم العني الب�شرية
فن؛ الوح�ش ُة التي ْا ْ�س َت ْم َل َكها ال ُ
إن�سان ال�شرهة ،وح�ش ُة ِّ
كل ٍّ ()9
ل ْأجل ك ّل �أعمال ال�شعور و َق َّد َ�سها �ضرورةًُ ،مذ كانت خالي ًة، يريدون �أن َ ال حالٍ ةِ أي � � َّإن ال ُبنَا َة وال�صانعني على
الثقافات «اخللود» و«احلكمة» ُ هي الوح�ش ُة التي تدعوها ي�س ُّدوها دون �أن ُ يرتكوا فجو ًة يف هذا الوجو ِد املخ َّر ِم َ
الديانات «اجلنة» وندعوها «املقدار». ُ وتدعوها واخلياالت التي قد تتم َّثل �أ�شكا ًال ِ ِ
باالفرتا�ضات والأفكا ِر
تعتمد الت�سلي ُة يف ثقتها بقابل َّي ِة الب�شر العتناق حماوالتها فيزيائي ًة حقيقي ًة يف كث ٍري من الأحيانِ وعقل َّي ًة ُم�س َت َم َّد ًة
140
الب�شرية ،و ْانطبعت على رمز املطلق ،مل ُي ِطق الإن�سان �أن احلثيثة لرتقيع اخلروم على املمكن �ساري ًا وحميط ًا
أر�ض قد خرج من حلمه ك ّل هذا الف�ضل و�أ�شرق على � ٍ أمون اجلانبِ و�أدنى �إىل بالوجود .تعتمد عليه ،ال ِل َك ْو ِن ِه م� َ
تتج�سد واقع ًا َ�سو َّي ًا من قوة العطاء ،فما
افرتا�ضي ٍة كادت َّ ال َّتن َُّ�صلِ منه باعتبا ِر ِه واقع ًا امتناعي ًا ،ا�ستعرا�ض ًا فني ًا
الفتات الذي تبقى منها يف جعبته َ كان منه �إ َّال �أن مللم ال�صفَايكون �أو ال يكون� ،أي ال ِل َك ْو ِن ِه ،بتعريف �إخوان َّ
و�أفا�ضه على نف�سه وقال :هذه نفخة الروح خَ َّ�ص ْتنا بها ُ�ش َركا ِء املحاولة �إن ِق ْ�سنَا ُه على «الإرادة» باملرادفة:
القدرة من هناك .ولكن هذه اجلمرة َت َّت ِق ُد يف النفخة، ممكنٍ َك ْو ُن ُه و َك ْو ُن ِخال ِفه». «�إ�شار ٌة بال َو ْه ِم �إىل تكوينِ �أمرٍ ِ
جمرةٌ ،هي الكنز الغايل ،كنز الذاهبني خفاف ًا � َ
أدراج لي�س لهذا فح�سب تعتمد عليه الت�سلية ،بل لأنه -املمكن-
الت�سلية ،جمر ٌة ال يدركها العامل �إ َّال كنق�ص فينا ،وهو منظم ٍة ،غري عاقل ٍة، على وجه التحديد :ق َّو ٌة غا�شم ٌة غري َّ
لطيف بتات ًا ،هو الذي يو ِّلد فينا هذه �أمر غري َمرِ ٍح وال ٍ غري �أخالقي ٍة ،غري ح�سابي ٍة ،وبالأ�سا�س ،غري ميكانيكية.
الغربة اللعينة ويخ ِّلدنا يف الأمل! .هل متوت اجلمرة يوماً بح ِّري ِة املحاول ِة واالختيار. ولأنه �إذ ًا ،قو ٌة وجودي ٌة متع ِّلق ٌة ُ
ينح ُّت عرب �شرائح املوقد الوجودي وت�صري تراب ًا باهت ًا َ وكل ما يح�صل يف العامل -على نحو ما تفرت�ض �آلي ُة
احلديدي ِة املتقاطعة فن�صبح بذلك قادرين على فهم ن�شو ِء وت�أث ِري الت�سلية -هو حا�صل هذه احلركة ،وهو �سلي ٌم
ل�سان هذا احلا�ضر ،وقادرين على االت�صال بالواقع يف و�صحي ٌح وواقع ،لكنه مع ذلك قاب ٌل للتغيريِ ،وم�ست�سل ٌم
ٌ
م�شروط املفاتيح املالئمة مثل الب�شر ال�صاحلني؟ .هذا جلربوت املحاولة .ال خلل ،ال نق�ص ،وال غلط يف الكون على
بو�ضع َّي ٍات خا�ضع ٍة لنظام التباديل ،وباقي ٍة حتت عر�ش العار�ض ،وحركة املحاوالت ،هذا هو ُ املمكن،
ُ الإطالق ،بل
املمكن .فهل -من �أجل كرامة املحاولة� -سيعود «ما م�ستويات عديدة -تباديل -فمنها ما ٍ ينتج الواق َع على ما ُ
وراء الطبيعة» ِعلْم ًا حقيقي ًا ذات يوم� ،أي ،علم ًا جتريبي ًا ُي ْ�س َت ْع َمل فيكون هو الواقع احلا�صل امل�صطنع من جمموع ُ
خا�ضع ًا للريا�ضيات كما حلم �إميانويل كانط؟ وكما حلمت اختيارات الب�شر واحتماالت م�سالكهم املت�سل�سلة ،ومنها
الأخيل ُة احل َّي ُة التي �أ َّلفَت «عرائ�س املجال�س» و«�ألف ليلة فيتنحى على �أمل �أن ما ي� ِّؤج ُل ُه يق ُني االختيار �أو �أ ْر َج ِح َّي ُتهَُّ ،
وليلة» وكما حلم ال�ساد ُة املب�صرون املُ َ�سلُّون العظماء :عبد يعمل بدي ًال عن احتمالٍ تلف �أثناء ا�ستعماله .والتباديل َ
اهلل بن عبا�س ،حميي الدين بن عربي ،بورخي�س� ،إخوان ُ ُ
هذه يف جمملها -ما تمَ َّ تن�شيطه منها وما �أ ْب ِطل -هي
ال�صفا ،بريكلي ،هومريو�س... وا�ضح
َ مادة املمكن ،التي يقوم عليها العا َمل ُفني ًا ُم َه ْي َك ًال
�أي ،هل ح َّق ًا ،كما راق لهذه الظنون �أن تزعم ،ن�ستطيع وامل�سالك ،ولكن ...لي�س جمي ًَال ،كام ًال ولكن ِ ِ
اخلرائط
-باحتذاء �سبل الت�سلية� -أن ن�أتي باملجهول ك ّله طريح ًا نيٌ ع وهي ك، ِ
ل امل�سته عني يف الفردو�س أن ل أجزاء!، على �
كاحلوت على ترابنا الواقعي ،مفهوم ًا وم�ستجيب ًا لقيا�سات «ما ميالها �إ َّال الرتاب» م�أثور ًة عن �أ�سالفنا يف طريقتهم
الدنيا وهند�ساتها؟. احلام�ضة ملعاجلة م�سائل الكمال املُ َج َّز�أ والنق�ص الالزم
يبدو يل �أن حا�ضرنا هذا هو جنَّة افالطون ال�شنيعة ،تلك وا�ستحالة ترقيع الفجوات يف «هيكل الفارغ».
توع َدنا بها منذ دهور وب�شَّ رنا فيها باحلذف والنفي التي َّ
�ستبطنَها العامل يف حراكه حتى وافاها ،ف�إذا والغربة ،ف ْا َ ()11
بنا لدى �صورة املثال هكذا!. َّ
«ال َب ِني �آدم ،عينو ،ما ميالها �إال الرتاب» .و«عينو»
م�شغول ٌة به – الرتاب -تَزِ ُنهُِّ ،
تثمنه و ُت َقن ِْط ُر ُه كنز ًا
()12 يف �أ�سواق الرتاكم .الرتاب :الكنز الباهت .احلقيقة
هنا ،ما للمطلق من ح�صانة الباهتة .املن�ش�أ الباهت.
ك َّال! الل�سان
َ �سبيل لنا لأن نفهم َ ولأننا �أر�ض ُّيون ،فال
وما لل�شاعر من امتياز. الرتاب يف م�ؤخّ رةُ كه ر
ِّ يح الذي أحولَ البهيم ال
َ الغرائزي
َّ
جل ْم ُر :ولنا رفاهية �أن نزعم الوجو ِد ،ل َّأن يف �أعماقنا ا َّ
()13 ذلك! .اجلمر الذي فينا :القو ُة الطبيعي ُة ،امل�ستح�ضر ُة
هنا، ح�سي ًا عرب الأدوات امل�صنوعة وفق ًا لفرائ�ض الرتاكم
كل �صناع ٍة يف ِّ حي يف �أدغالنا الع�ضوية واملالحظة .اجلمر مزده ٌر ٌّ
ن�شاط فن ٍِّّيكل ٍ يف ِّ الرطبة ،يتفتق يف �صميم حماوالتنا مثل �شم�س حيوانية
ً ٍ
يف كل قب�ضة عا�صفة تدنو �سريعة من وجهك ٍ ِّ متوح�شة .اجلمر يف �صلب تلك املكاف�أة ،تلك الر�شوة،
جرح يحاول �أن ي�ؤ ِّدي وظيف َة الهادي كل ٍ يف ِّ إن�سان على نف�سه تلك احلفنة الغالية التي ْا�ستدركها ال ُ
ْ َّ ٍ ِّ
يف كل �ضحكة َت ُر ُّج هوا َء القلبِ بعكازها َف َيلتَاث بعد �أن ُب ْو ِغ َت ب�أنه �أهدرها على الغربا ِء الرمزيني يف
كل معدن يف ِّ حماقة الفجرِ وكيف َب َدت عليهم وال �أبهى ،فال غَ ْر َو �أن
كل َي ٍد طاغيةٍ يف ِّ علوم الأر�ض وال�سماء َت ُد ُّب كال َه َو ِّام حتت توا�ضع بقيت ُ
كل �صرخ ٍة م�ست�ض َعفة: يف ِّ إن�سان على خياله هذه االرتباطات الرتاتبية التي َج َّرها ال ُ
ابحث عن دمع ِة الوح�ش وم�صريه ب�أثر من �سعيه لتجريد خطط الكمال« :الآبا ُء
ابحث عن املياه الكابو�س ّية أكلون احل�صرم والأبناء َي ْ�ضرِ ُ�سون»! .هذه املكاف�أة التي ي� َ
ابحث عن العاطفة. �أكرم الإن�سان بها نف�سه ف�ضل ًة عن خريه وعن �إ�سرافه:
ن�س ّميها ال ُّروح .الروح التي حني فا�ضت عن خيال املحاولة
جزء من عمل فني :عبد اجمليد البكري -تونس
141
برهان الع�سل ن رفوف املكتبة من رفوف املكتبة
املكتبة من رفوف املكتبة من رفوف املكتبة
ف املكتبة من رفوف املكتبة
�سلوى النعيمي
ريا�ض الري�س للكتب والن�شر -بريوت2007 - تبة من رفوف املكتبة ن رفوف املكتبة
رفوف املكتبة من رفوف املكتبة
من رفوف املكتبة من رفوف املكتبة
رفوف املكتبة ن رفوف املكتبة من
اجلهاد والإ�سالم
التحيز يف مواجهة الواقع
�أ .ج .نوراين
ترجمة ريا�ض ح�سن
دار الفارابي -بريوت2007 -
1967
Israel, the War and the Year that Transformed the Middle East
Tom Segev
Metropolitan Books - 2007
الن�ساء
علي مبارك
قال ال�شيخ :كنت �أت�أ ّمل فيما �أراه من الأحوال ،ال �سيما
يف اختالط الن�ساء مع الرجال ،فوجدت يف اختالطهن
فوائد لهن من حيث �أنهن يتلذذن مبا يرينه ويعلمنه
من احلوادث والأخبار ،وما يطلعن عليه من
حماورات الرجال ،لكن رمبا ترتب على
هذا االختالط ما يخرجهن عما هو
�أليق بهن من ال�صيانة واحلياء،
لأن كرثة املخالطة واملالم�سة بني
الرجال والن�ساء قد تف�ضي �إىل �ضد
ذلك ،فال �شك �أن عادات امل�شرقيني
�أرجح ،ور�أيهم يف احتجاب الن�ساء عن
الرجال �أ�صح و�أ�صلح.
فقال الإنكليزي� :إن الذي ذكرت� ،أيها
ال�شيخ ،من املحذورات ،ال متنع منه
العزلة بالكلية ،لأن كل امر�أة ميكنها �أن
تعلم كل �شيء وهي يف منزلها ،ب�أن تنظر
يف االبتدا ،لأنك من ال�ش ّباك مث ًال فرتى كل ما مي ّر بال�شوارع
تعلم �أن ح�سن الرتبية واحلارات ،فتعرف �أو�صاف الن�ساء والرجال،
يهذب عقل الإن�سان و�أحوالهم ،فمن �أحبته خاطبته ،وما �أعجبها
وي�صفي طباعه ويع ّوده على فعلته ،وحينئذ يكون حال من قعدت يف منزلها
الف�ضائل ويبعده عن الرذائل، من الن�ساء كحال من تكون مع الرجال �سواء ب�سواء،
فهو زمام ذلك كله ،والقاطع لعرق ومع ذلك فاملر�أة على ح�سب عوائدكم مل متنع كل املنع
ال�شبهة من �أ�صله ،ومل �أ َر هذه العادة املخالفة لعادتنا عن اخلروج من منزلها ،بل تخرج لزيارة �أهلها وجريانها
�إال يف بع�ض مدن البالد ال�شرقية ،فاخت�صا�صها بهذه املدن و�أحبابها من �أهل البلد ،فيمكنها �أن تطلع على �صفاتهم
يدل على �أنها بدعة حدثت لأ�سباب طارئة ،ف�إن جميع القليلة ّ و�أحوالهم ،وتعلم درجة ثروتهم يف منازلهم ،و�إذا �أراد منعها
ن�ساء الأرياف ون�ساء عربان البادية وبالد العرب و�أهل املغرب من اخلروج فرمبا تعللت ب�أن عليها ريح ًا من اجلن �أو بها
و�سواحل ال�شام و�أر�ض احلجاز ال يحتجنب عن الرجال ،ورمبا مر�ض ًا من الأمرا�ض فال ت�سرتيح �إال بزيارة بع�ض الأولياء
قمن مقام �أزواجهن يف بع�ض الأحوال ،ك�إكرام ال�ضيف �أو امل�ضي �إىل بع�ض الن�ساء� ،أو تريد الذهاب �إىل احلمام،
والأخذ والعطاء مع الأجانب ،وكثري ًا ما يكون �أمر املنزل �أو �صلة بع�ض الأرحام ،ونحو ذلك من الأعذار واحليل التي
و�إدارته موكو ًال �إىل ر�أيهن وتدبريهن ،وقد ر�أيت فيهن من ميكنها �أن تبلغ بها الأمل.
عاونت الرجل يف �أعماله ال�شاقة ،وهذا كله باالختيار من غري فكما ال يكتفي مبج ّرد العلم مع احلرية ،كذلك ال يكتفي مبج ّرد
�إكراه وال �إجبار. العزلة مع اجلهل ،بل ال ب ّد يف كال احلالني من ح�سن الرتبية
الأعمال الكاملة1979/
146
حالة املر�أة
يف الهيئة االجتماعية تابعة حلالة الآداب يف الأمة
قا�سم �أمني
من احتقار املر�أة �أن يطلق الرجل زوجته بال حمب للحقيقة �أن يبحث معي يف حالة �إين �أدعو كل ّ
�سبب. الن�ساء امل�صريات ،و�أنا على يقني من �أنه �سي�صل
من احتقار املر�أة �أن يقعد الرجل على وحده �إىل النتيجة التي و�صلت �إليها ،وهي:
مائدة الطعام وحده ثم جتتمع �ضرورة الإ�صالح فيها(.)....
الن�ساء ،من �أم و�أخت وزوجة، لقد م�ضت القرون على الأمم
وي�أكلن ما ف�ضل منه. الإ�سالمية وهي حتت حكم
من احتقار املر�أة �أن يعينّ لها اال�ستبداد املطلق ،و�أ�ساء حكامها
حمافظ ًا على ِعر�ضها مثل �أغا يف الت�ص ّرف ،وبالغوا يف اتباع
�أو مقدّم �أو خادم يراقبها �أهوائهم ،واللعب ب�ش�ؤون الرعية.
تتوجه.
وي�صحبها �أينما ّ بل لعبوا بالدين نف�سه يف �أغلب
من احتقار املر�أة �أن ي�سجنها الأزمنة .وال ي�ستثنى منهم �إ ّال
يف منزل ويفتخر ب�أنها ال تخرج عدد قليل ال يكاد يذكر بالن�سبة
منه �إ ّال حممولة على النع�ش �إىل �إىل غالبهم.
القرب. كان من �أثر هذه احلكومات
من احتقار املر�أة �أن يعلن اال�ستبدادية �أن الرجل يف قوته �أخذ
الرجال �أن الن�ساء ل�سن حم ًال للثقة يحتقر املر�أة يف �ضعفها .وقد يكون
والأمانة. من �أ�سباب ذلك �أن �أول �أثر يظهر
من احتقار املر�أة �أن يحال بينها يف الأمة املحكومة باال�ستبداد
وبني احلياة العامة والعمل يف هو ف�ساد الأخالق.
�أي �شيء يتعلق بها :فلي�س وملا كانت املر�أة �ضعيفة
لها ر�أي يف الأعمال ،وال اهت�ضم الرجل حقوقها
فكر يف امل�شارب ،وال ذوق و�أخذ يعاملها باالحتقار
يف الفنون ،وال قدم يف واالمتهان ودا�س برجليه
املنافع العامة ،وال مقام يف على �شخ�صيتها .عا�شت
االعتقادات الدينية ،ولي�س لها املر�أة يف انحطاط �شديد �أي ًا كان
ف�ضيلة وطنية وال �شعور ملي. عنوانها يف العائلة ،زوجة �أو �أم ًا �أو
ول�ست مبالغ ًا �إن قلت� :إن ذلك كان بنت ًا ،لي�س لها �ش�أن وال اعتبار وال ر�أي،
حال املر�أة يف م�صر �إىل هذه ال�سنني خا�ضعة للرجل لأنه رجل ولأنها امر�أة.
الأخرية التي خفت فيها نوع ًا �سلطة الرجل فنما �شخ�صها يف �شخ�ص الرجل ومل يبق لها
على املر�أة تبع ًا لتقدّم الفكر يف الرجال واعتدال واخت�صت
ّ املنازل، من الكون ما ي�سعها �إ ّال ما ا�سترت من زوايا
ال�سلطة احلاكمة عليهم ،ور�أينا الن�ساء يخرجن لق�ضاء والتحجب لأ�ستار الظلمات وا�ستعملها الرجل متاعاً ّ باجلهل
حاجاتهن ويرتدّدن على املتنزهات العمومية ال�ستن�شاق للذة ،يلهو بها متى �أراد .ويقذف بها يف الطرق متى �شاء،
الهواء وترويح النفو�س بت�سريح النظر يف الكائنات التي له احلرية ولها الرق .وله العلم ولها اجلهل .له العقل ولها
عر�ضها ال�صانع ج ّل �ش�أنه على نظر كل خملوق ،رج ًال كان �أو البله .له ال�ضياء ولها الظلمة وال�سجن .له الأمر والنهي ولها
امر�أة .وكثري منهنّ يذهنب مع رجالهن �إىل ال�سياحة يف بع�ض الطاعة وال�صرب .له كل �شيء يف الوجود وهي بع�ض ذلك الك ّل
البالد الأخرى .وكثري من الرجال قد �أعطوا لن�سائهم مقام ًا الذي ا�ستوىل عليه:
يف احلياة العائلية. من احتقار املر�أة ميلأ بيته بجوار بي�ض �أو �سود �أو بزوجات
وهذا �إمنا طر�أ على بع�ض الرجال من ن�ش�أة الثقة يف نفو�س متعدّدة ،يهوي �إىل �أيهنّ �شاء ،مقاد ًا �إىل ال�شهوة ،م�سوق ًا
�أولئك الرجال بن�سائهم واطمئنانهم �إىل �أمانتهنّ :وهو وحب ا�ستيفاء اللذة ،غري مبال مبا فر�ضه عليه بباعث الرتف ّ
احرتام جديد للمر�أة. الدين من ح�سن الق�صد فيما يعمل ،وال �أوجبه عليه من العدل
«حترير املر�أة» « -القاهرة »1899 فيما ي�أتي.
147
طوية �صفحات مطوية �صفحات مطوية
�صفحات مطوية �صفحات مطوية �صفحات مطوية
فحات مطوية �صفحات مطوية
�صفحات مطوية وية
فحات مطوية
يف احل��رمي على الو�سائد الناعمة وحوله الن�ساء والغلمان �صفحات مطوية �صفحات مطوية
مطوية �صفحات مطوية �صفحات مطوية
والزهور والروائح العطرية وكل ما من �ش�أنه �إثارة ال�شهوة، �صفحات مطوية وية �صفحات مطوية
وكان يت�أنق يف ثيابه وي�سرف يف التحلي باجلواهر ،حتى �أنه
احلرمي
ك��ان يعلق اجلواهر يف حليته ،وزي��ن مركبته و�سروج خيله
بالذهب اخلال�ص ،وكان يطوف �أحيان ًا مع وزرائه يف املدينة
ثم ال يلبث �أن يقطع الطواف وي�سرع يف العودة �إىل احلرمي،
وحدث مرة �أنه �أثناء طوافه ر�أى امر�أة كبرية اجل�سم ف�أعجبه
هذا النوع من الن�ساء ،ف�أمر �أن ي�ؤتى له ب�أ�سمن ام��ر�أة يف
املدينة ،وخرجت اجلنود للبحث وج��اءوا بن�ساء كثريات مل عند �سالطني �آل عثمان
يوافقهن خياله ،حتى عرثوا �أخري ًا على �أرمنية حازت ر�ضاء
ال�سلطان فقربها �إليه ،و�أخ��ذ نفوذها يكرب بن�سبة ج�سمها مذكرات الأمرية جويدان
حتى ت�ضاءل �أمام نفوذها نفوذ ال�سلطان ونفوذ املحظيات
الأخريات فت�آمرت املحظيات �ضدّها ،وبلغها �إن الباحث املتع ّمق يف �أعمال ال�سالطني العثمانيني ال
خرب امل�ؤامرة ف�أقامت وليمة دعت �إليها يرى يف �أعمالهم �أظهر من اخلنق وال�شنق
غرمياتها ،ث��م �أم���رت بخنقهن على والت�سميم والإغراق واحلب�س ،فقد كانوا
امل��ائ��دة ،وان��ف��ردت ه��ي بال�سلطة، يعتقدون �أن هذه الأ�س�س متهّد لل�سلطة
ف��ك��ان��ت ت��غ��ري ال�سلطان بقتل وتوطد مركز اخلليفة ،لأنها تبعد
م��ن ت�شاء وت��رف��ع م��ن ت�شاء، املناف�سني من الطريق ،وكانت
وال�سلطان ال ي��ر ّد لها كلمة �أجن��ح الطرق للتخل�ص من
لأن����ه ك���ان ع���ب���د ًا ل�����ش��ه��وت��ه، املزاحمني.
والويل للطبيب الذي ين�صح ول��ي��ت ���ش��ع��ري ك��ي��ف كانت
ال�سلطان مب��راع��اة �صحته، امل������ر�أة ت�����ص�بر ع��ل��ى �آالم
ف���إن��ه ي��ع�� ّر���ض نف�سه لغ�ضب ال احلمل وهي تعلم �أن طفلها
يعرف نتيجته. �سيقتل عقب الوالدة؟ ول�ست
وع��ن��دم��ا ي��ت��وىل ال�����س��ل��ط��ان �أدري ب�أي عاطفة كانت تتقدّم
ت�����س��ي�ير ح���رمي���ه الح���ت�ل�ال امل����ر�أة �إىل ال�سلطان تبادله
ال�سراي وطرد حرمي ال�سلطان القبالت وتناف�س غريها يف ح ّبه
امل ّيت �إىل �سراي قدمي وقد تثور وه��ي ال متلك من �أم��ره��ا �سوى
احلرمي املطرودة ل�سلطتها ال�ضائعة، ال�ساعة التي حتيا فيها ،ورمبا
ف��ي��م�ل�أن اجل���و ���ص��راخ�� ًا وي��ك�����س��رن ال تطلع عليها �شم�س الغد حتى تكون
ال�شبابيك والأبواب ويخربن يف الق�صر غريقة يف الب�سفور ،و�أغلب ظني �أن ذلك
بقدر ما ي�ستطعن ،ولعلم الن�ساء ب�أن الزمن انفرد ب�صنف خم�صو�ص من الن�ساء ال
مدّة �سلطتهن ال تطول �إال بقدر ما يعي�ش يرين وال ي�سمعن وال ي�شعرن.
ال�سلطان ،فقد كانت �إحداهن �إذا نالتها ومل يكن م��ن ال�سهل �إدارة احل���رمي ،كما يجب،
احلظوة �أ�سرفت يف ا�ستعمال نفوذها فرئي�سة حرمي مراد الثالث كان حتت حرا�ستها �أربعون
لأن الوقت ق�صري ،وكانت ت��دور يف حمظية ومئة طفل وخم�سمئة جارية ،ويف نف�س الوقت كان
احلرمي حرب خف ّية الكت�ساب ر�ضا من واجبها �أن تكون على ات�صال ب�ش�ؤون امللك يف اخلارج
ال�سلطان واال�ستبداد بالنفوذ. ومراقبة ما يجري يف احل��رمي يف الداخل ،والعمل على �أال
وهكذا ظلت احلرمي يتع ّر�ضن يف تت�صل �إح��دى الن�ساء باحلياة اخلارجية ،ولكن الن�ساء كنّ
�ش�ؤون الدولة ،والن�ساء يحكمن من خلف ال�ستار حتى توىل �أمهر من �أن تقف يف �سبيلهن اجل��دران ،وثبت �أن املحظية
البادي�شاه عبد احلميد خان �ساكن ق�صر يلدز. «رقية» وهي من فيني�سيا كانت ترا�سل «كاترين دي مدي�سي»
وكانت حتاول ا�ستغالل نفوذها ل�صالح بالدها.
دم�شق :دار املدى «»2004 وتتابع �سالطني �آل عثمان وكلهم �سواء يف الع�سف والظلم
حتى جاء �إبراهيم الأول فكان عبد ًا ل�شهوته ،فكان مقامه
148
�إ�صالح القوانني العملية
للعالقة الزوجية
هدى �شعراوي
معه بهدوء وراحة .و�إمنا هو �سالح يريد �إكراهها به بعد �أن عدنا من م�ؤمتر باري�س ،وبعد �أن �شاركنا فيه
(�إن كانت مو�سرة) على �إعطائه مبلغ ًا مقابل بق�سط وافر ،وحققنا فيه نتائج باهرة من �أجل ق�ضية
مع�سرة) فلإكراهها الطالق ،و(�إن كانت ّ املر�أة والتط ّور االجتماعي وال�سالم العام ،دعوت
على �إبراء ذ ّمته من نفقة وغريها. �أع�ضاء االحتاد الن�سائي لعقد عدّة جل�سات من
�إن دار الطاعة هي �أخطر من دور �أجل هذا الغر�ض .وقد انتهت هذه اجلل�سات
ال�سجن املعدّة لإيواء الأ�شقياء واملحكوم �إىل �إعداد تقرير ،رفعته جمعية االحتاد
عليهم بارتكاب اجلرائم واملنكرات، الن�سائي امل�صري يف 21نوفمرب � 1926إىل
لأن امل�سجونني حتت �إ�شراف �أنا�س �أ�صحاب الدولة واملعايل رئي�س جمل�س الوزراء
حمدودة �سلطتهم يف القانون ولي�س ووزير احلقانية ورئي�س جمل�س ال�شيوخ ورئي�س
بينهم وبني املحكوم عليهم عداء �أو جمل�س النواب.
خ�صومة ت�ستفزهم �إىل التنكيل والتعدّي ن�ص التقرير:
وكان هذا هو ّ
على حدود ال�سلطة التي لهم قانون ًا� .أما ()....
الزوج (وهو اخل�صم واحلار�س على املر�أة «�إننا نطلب �إ�صالح القوانني العملية
التعي�سة املق�ضي عليها بالدخول حتت للعالقة الزوجية ،وجعلها منطبقة على
طاعته) فال �سلطان لأحد عليه �أمام ما �أرادته ال�شريعة من �إحكام
هذه امل�سكينة .وهو ميلك كما يقول الروابط العائلية و�سيادة الهناء
بع�ض الفقهاء �إغالق الباب عليها فيها .ولذلك نطلب �صيانة املر�أة
ومنع كل �إن�سان من الدخول عليها من الظلم الواقع عليها».
بال�سب
ّ �إال ب�إذن ،ويتعدّى عليها �أو ًال :من تعدّد الزوجات دون م ّربر.
وال�ضرب واملحاكم ال�شرعية ال تعترب كل ثاني ًا :من الإ�سراع يف الطالق دون �سبب
هذا خروج ًا من الزوج على احلدود التي له جوهري.
�شرع ًا على زوجته. ثالث ًا :من الظلم والإرهاق اللذين يقعان
�أما م�س�ألة رعاية الطفل وتقرير من له حق عليها فيما يدعى بدار الطاعة.
الواليةعليهعنداختالفالأبوين�أوموت�أحدهما، رابع ًا :من �أخذ �أوالدها يف حالة افرتاق الزوجني
فمن امل�سائل التي ت�ستدعي النظر يف �إ�صالحها ،لأننا يف �سنّ هم فيها يف �أ�ش ّد احلاجة لعناية �أ ّمهم
نرى �أن اجلاري عليه العمل يف الق�ضاء ال�شرعي لي�س وحنانها.
وافي ًا دائم ًا بو�ضع الطفل حتت مراقبة �صحيحة عطوفة وي ّد ف�إذا نحن طالبنا ب�سنّ قانون مينع تعدّد الزوجات �إال ل�ضرورة.
باردة تعنى برتبيته تربية �صحيحة ج�سمي ًا و�أخالقي ًا .و�أ�سو�أ ك�أن تكون الزوجة عقيم ًا �أو مري�ضة مبر�ض مينعها من �أداء
احلاالت و�أبعدها عن الإن�صاف حالة وجود �أم للطفل مطلقة وظيفتها الزوجية (ويف هذه احلاالت يجب �أن يثبت ذلك
وغري متزوجة� ،أي متف ّرغة لل�سهر على م�صلحة �أوالدها ،ينزع الطبيب) .و�إذا نحن طالبنا ب�سنّ قانون يلزم املطلق �أال يطلق
ولدها من ح�ضانتها يف �سنّ ال�سبع �إن كان ذكر ًا ،والت�سع �إن زوجه �إال �أمام القا�ضي ال�شرعي الذي عليه معاجلة التوفيق
كانت �أنثى. بح�ضور حكم من �أهله وحكم من �أهلها قبل احلكم بالطالق،
ن�ص على �أن يبقى ال�صبي يف ح�ضانة �أمه حتى والإمام مالك ّ فلأن هذه القوانني تزيل الفو�ضى احلا�صلة يف م�سائل الزواج
ن�ص ال�شريعة ي�صح ،وهذا ّ يحتلم والبنت حتى تتزوج .فهل ّ والطالق ،وبالتايل تزيل التع�س وال�شقاء اللذين يرزح حتتهما
ور�أي �إمام م�شهور� ،أن تكون ال�سابعة �أو التا�سعة �سنّ اال�ستغناء الألوف من الن�ساء ب�سبب �سوء ت�ص ّرف الرجال يف ذلك احلق.
�صح �أن ذلك حمتمل يوم �أن كانت احلياة �أق ّل عن الن�ساء ،و�إن ّ فكم من ن�ساء يطلقن لأوهى الأ�سباب ،ويف حلظة تنح ّل الرابطة ّ
ي�صح يف الع�صر تعقيد ًا و�أقرب �إىل البداوة منها اليوم ،فهل ّ العائلية املقدّ�سة .وكم من ن�ساء يتز ّوج �أزواجهن بغريهن لغري
الذي نعي�ش فيه وقد ت�ضاعفت احلاجات وتعدّدت و�سائل �سبب �إال �أنانية الرجل ،ناهيك مبا ي�صيب الأوالد يف احلالتني
الرتبية وطرق الوقايات ال�صحية؟ من ج ّراء قطع ال�صلة بني والديهم ،مما ال يحتاج �إىل �شرح.
امل�شاهد �أنه ال ميكن اال�ستغناء عن معونة الأم ون�صائحها قبل �أما م�س�ألة �إكراه الزوجة على الذهاب �إىل ما يدعى دار
ال�ساد�سة ع�شرة ،والدليل على ذلك �أن احلكومة نف�سها جرت الطاعة ،فتتطلب النظر يف حتديد احلقوق املق ّررة يف باب
على هذه القاعدة وق ّررت حديث ًا اعتبار بدء �سنّ الر�شد من والية الزوج وما يدّعيه من احلقوق على زوجته ،لأن امل�س�ألة
احلادية والع�شرين. من الأهمية مبكان و�أ�صبحت �سالح ًا ي�ستعمله الرجل حينما
تخرج زوجته من دار الزوجية ل�سوء معاملته �أو تعذر العي�ش
«املذكرات »1979
149
عمـارة
ون فنون فنون فنون فنون فنون فنون
ن فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون
ن فنون فنون فنون فنون فنون
فنون فنون
ن فنون فنون
جديدة
فنون فنون فنون فنون فنون فنون
فنونفنون فنون نون فنون فنون فنون فنون فنون
فنون ن فنون فنون فنون
150
اجلنوب يف امل�سرح اللبناين
151
دولة جبل عامل �أو اجلنوب اللبناين ،ك�أنه طرف يف لعبة ون فنون فنون فنون فنون فنون فنون
ن فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون
كونية .قراءة حكاية من حكاياته ت�ؤكد ذلك .حكاية
ن فنون فنون فنون فنون فنون
�سيا�سية �أو حكايات جنيات ،تب ّدل اجلنيات فيها مواقع
�إقامتها .مل يكتب اجلنوب م�شروع ًا ثقافي ًا ومل ي�ستلهم
�إال حكاياته� .ص ّبت م�شاريعه يف �أيكته .ولعل �أبرز هذه
فنون فنون
ن فنون فنون
امل�شاريع هي م�شاريع ت�أريخية ولي�ست فنية �أو ثقافية .ولو فنون فنون فنون فنون فنون فنون
�أن الثقافة لعبت دور ًا بارز ًا يف امل�شروع التاريخي .هذه فنونفنون فنون نون فنون فنون فنون فنون فنون
فنون ن فنون فنون فنون
ثنائية خ�صبة� ،أ�سهمت يف قيام حركة طال مداها حتى
و�صل �إىل العا�صمة الثقافية بريوت.
كل حياة ثقافية تفرز رجا ًال و�إنتاجات .ولكن حماوالت
اجلنوبيني يف امل�سرح بقيت يف اجلنوب ،حماوالت
هاوية مل ت�صل ح ّد االحرتاف �أو االعرتاف بها من قبل
امل�سرحيني يف بريوت .يف كل الأحوال ،مل يت�أنَّ امل�سرحيون
يف اجلنوب وهم ميار�سون �أدوار ًا و�سيطة بني امل�سرح
وجمهوره .ذلك �أنهم �أرادوا �أن ير�سموا حدود م�سرحهم
يف حدود اجلنوب ،لأنهم ق ّدموا التعبري على �أ�شكاله.
ولأنهم حكموا �أنف�سهم بالنظرة الثقافية �إليهم ،ولي�س
بنظرتهم �إىل �أنف�سهم.
لي�س هذا تعري�ض ًا ،ولي�ست هذه حماولة لر�سم ح ّد ف�صل
بني اجلنوب والعا�صمة .بيد �أن م�سافة وا�سعة بقيت تف�صل
بينهما ،حني ترك اجلنوب لزعاماته التقليدية ولعالقاته
التقليدية التي مل تتخ ّل�ص مما تخ ّل�صت منه بريوت يف
�أواخر القرن املا�ضي .الإقطاع �أو ًال وم�صادراته �أكرث من
ُفجر
منحى .انفجرت حركة تنوير ثقافية يف بريوت ،مل ت ّ
يف اجلنوب حني قامت فيه حركة ثقافية مو�سوعية غري
فاعلة متام ًا� ،سوى على ال�صعيد الداخلي.
ربط احلركة الإبداعية بالواقع من مفهوم �إنتاجي
خال�ص ،بقي حكر ًا على م�سرحيي العا�صمة .هذا كالم من م�سرحية الع�صافري لروجيه ع�ساف
قفز من التاريخ البعيد �إىل مرحلة ال�ستينيات .ف�سر
البع�ض ذلك ،بعد ت�أمالت طويلة مع ّمقة وغري مع ّمقة،
بكون امل�سرح ابن املدينة .امل�سرح مديني واجلنوب قرى.
و�ضعوا مرحلة على طاولة الت�شريح من ج ّراء ذلك.
ولكنهم ما لبثوا �أن تخطوا الواقعة ،بنقل جتربتهم �إىل
اجلنوب ،دون �أن ينتقلوا هم �أنف�سهم �إىل اجلنوب.
�صراع امل�سارح
قامت احلركة امل�سرحية يف لبنان يف بريوتّ � .أ�س�س
�أنطوان ملتقى ومنري �أبو دب�س امل�سرح احلديث الذي
مت ّرد عليه بع�ض امل�سرحيني العاملني فيه .وجدوا يف ما
يقوم به �أبو دب�س فذلكات .ولكنهم انتبهوا �إىل �أن بداية
امل�سرح يف لبنان بد�أت من اقتبا�س امل�سرحية اليونانية.
ق ّدمت «�سبعة على �أبواب طيبة» يف امل�سرح والتليفزون.
انتظر الكثريون �سنوات طويلة قبل �أن ير ّددوا دون هوادة
�أثينا �أثينا �أمنا� .أثينا �أمنا ونحن �أوديب .هنا تعززت
جتربة املدينة .حت ّلق �أنطوان ملتقى ورفاق له حول
طاولة نقا�ش انتهى بت�سمية جتربة جديدة وبتحفيزها
على مناف�سة ذاكرة البداية الطرية .قادت املناف�سة �إىل من م�سرحية «ابت�سم �أنت لبناين» ليحيى جابر
ت�أليف حلقة امل�سرح اللبناين .جلنة مهرجانات بعلبك
انتبهت �إىل �أن التجربة التي ح�ضنتها باتت مه ّددة.
راقبت ال�سيدة �سعاد جنار قيام مهرجان را�شانا ل�صالح
152
به ويدافع عنه ويدعو �إليه ،مل يجد �أكرث ا�ستيعاب ًا من حلقة امل�سرح ،ف�أقامت مهرجان ًا مناف�س ًا له هو مهرجان
اجلنوب للمو�ضوعات الأو�سع .وهو �أقام لقا ًء مدوي ًا بني جبيل .تناف�س املهرجانان بقوة امل�سرحيني� ،إذ ك ّلما ق ّدم
التغريب واجلنوب ،حني ا�ستلهم �أ�سئلة جنوبية كربى �أنطوان ملتقى م�سرحية يف را�شانا ،حاول �أبو دب�س تقدمي
يف م�سرحيات بري�شت التي اقتب�سها �أو �أعاد كتابتها، م�سرحية �أميز يف مهرجانات جبيل .وك ّلما ق ّدم �أبو دب�س
م�سطر ًا دخول الوعي ال�سيا�سي �إىل امل�سرح ودخول م�سرحية قوية يف مهرجانات جبيل� ،أجابه �أنطوان ملتقى
امل�سرح ال�سيا�سي �إىل لبنان. مب�سرحية �أقوى يف را�شانا.
«جحا يف القرى الأمامية» جنوبية الهوى والهوية. و�سط التناف�س الالهب هذا بقي امل�سرحيون ي�ؤلفون
وكذلك «وايزمانو بن غوريون و�شركاه» .مفاج�آت جتربة واحدة .اعرتف �أنطوان ملتقى ب�أنه لوال
و�إدها�شات ك�شفت هزال الواقع اللبناين وه�شا�شته املهرجانان والتناف�س الذي �أقاماه النتهت جتربة امل�سرح
حني راحت تكتب قوة امل�سرح يف احلياة العامة بلبنان. يف لبنان بعد ثالث �أو �أربع �أو خم�س �سنوات على قيامها.
�أقام الرجل رباط زواج قد�سي ًا بني اجلنوب اللبناين م�صوغ مديني وجد مرتعه يف املدينة قبل �أن يتف ّرع .راح
وبري�شت وامل�سرح ال�سيا�سي .ولأنه مارك�سي ،ف�إن �أية امل�سرحيون ي�ؤ ّكدون وهم يعر�ضون يف مدينة �أو قرية.
مناق�شة معه� ،سلكت طرق اجلدل .اجلنوب يف قلب بعلبك مدينة ،جبيل مدينة� ،أما را�شانا فهي قرية ذات
اجلدل ،ثمرة �أكيدة لكثري من التف ّكر وال�شغل والتعب. موا�صفات مدينية انوجدت يف الأخوة ب�صبو�ص و�أنطوان
م�سرح �سطرت بداية ح�ضور اجلنوب املنهجية العلمية البكرّ ، ولطيفة ملتقى و�أ�صدقاء ومريدين كثريين.
اجلنوب جاء يف امل�سرح اللبناين« .جحا يف القرى الأمامية» نوع من
الإن�صات �إىل �صوت اجلنوب وهمومه عرب حجج و�أدلة، بري�شت واجلنوب
كانقالب يف خ�صو�صية الفتة يف ذلك الوقت� .صوت ي�سوده القمع
على والت�س ّلط والرهبة والرغبة يف التعبري .منط يبحث يف بد�أت النه�ضة بحركة ترجمة وت�أليف يف بريوت .ترجم
الأ�سباب ،يجادلها ويحفر للجنوب موقع ًا يف البدايات مارون النقا�ش م�سرحيات ق ّدمها يف بريوت ،قبل �أن
الأ�شكال امل�سرحية يف لبنان. يعيدنا �إىل م�سرح الإر�ساليات الدينية .مل يح ّول جتربته
�إىل معلم ،بل ح ّولها �إىل در�س تعليمي يف �أ�صول انطفاء
التقليدية املعيار امل�سرحي املحاوالت .يف ما بعد ،قال رميون جبارة �إن امل�سرح
و«احلكواتي» اللبناين بد�أ بال�صح ،لأنه بد�أ بالرتجمة .حلظة لقاء
�صار اجلنوب معيار ًا من معايري امل�سرح يف لبنان. تاريخية ،بقي اجلنوب اللبناين يف من�أى عنها .يف ما
�صار ر�ؤية و�أ�سلوب ًا ،يكت�شف فيه امل�سرحيون والنا�س ا�ستلهام بعد ،بد�أت حركة م�سرحية بالفرن�سية ،راحت ّ
تتخطى
هوياتهم امل�ؤ�صلة وا�ستقاللهم املفقود .لن ت�صبح روحه تراثي عبقري رويد ًا رويد ًا لغتها و�أ�ساليبها .ولكن اجلنوب مل يبقَ
روح و�صاية ،ولن يتح ّول يف ح�ضوره �إىل �أيديولوجيا خايل الوفا�ض يف هذه املعمعة ،مع بروز �أ�سماء م�سرحية
ا�ستبدادية ،ومل يطغ دون دوافع �أو �أ�سباب على جنوبية يف بريوت مل جتاهر بانتمائها هذا �إال يف مرحلة
تخل م�سرحية من حيوات امل�سرحيني وخميالتهم .مل ُ مت�أخرة ،يف مرحلة بداية احلرب الأهلية يف لبنان،
ا�سم اجلنوب �أو من �إ�شارة �إليه« :بالن�سبة لبكره �شو» كروجيه ع�ساف ونقوال دانيال وعادل �شاهني ونزيه
و«فيلم �أمريكي طويل» لزياد الرحباين .م�سرحيات قطان وغريهم .مل ينب�شوا تواريخ والداتهم احلقيقية
منري ك�سرواين .م�سرحيات �شو�شو �أو امل�سرح الوطني �إال بعد خم�س ع�شرة �سنة على بداية احلقبة الثانية يف
ال�شعبي مع «خيمة كركوز» و«�آخ يا بلدنا» .جتربة جتربة امل�سرح اللبناين� ،إذا اعتربنا �أن مارون النقا�ش
امل�سرح يف «الإعالم املوحد» يف منظمة التحرير ومنْ جاء بعده من �أقاربه هم �أ�صحاب احلقبة الأوىل.َ
الفل�سطينية .جتربة امل�سرح يف «الإعالم اجلماهريي» ه�ؤالء عادوا مبو�ضوعات م�سرحية مهمة ،تالئم جدل
يف منظمة التحرير الفل�سطينية .م�سرحيات ف�ؤاد نعيم املرحلة التاريخية اجلديدة التي خا�ضها لبنان ومل يرتكوا
كـ «احللبة» .م�سرحيات نقوال دانيال .ثم �إن اجلنوب فر�صة �سانحة �إال وا�ستغلوها حماولني ك�سر ما اعتادوا
و�صل �إىل التجارب العربية الكربى .احلبيب �شبيل تقدي�سه والنظر �إليه نظرة خا�صة .وعلى الرغم من �أن
ق ّدم «�سمفونية» عن ح�صار بريوت واجلنوب .فرقة املعارك التي خا�ضوها واملتعلقة باال�ستلهام والتوظيف،
«امل�سرح اجلديد» ق ّدمت «عرب»« .نزهة ريفية» ليعقوب �إال �أن الآخرين مل ينظروا �إىل اال�ستلهام ك�سبة عار يف
ال�شدراوي .غري �أن م�سرحيات كثرية مل تقربه ،لذا يوم من الأيام .لقد ع ّلمتهم الأيام والقراءات والرتبية
مل ي�ش ّكل �أيديولوجيا ا�ستبدادية .رميون جبارة قارب املختلفة� ،أن ال�صراحة هي الثوب الذي ال نخجل منه،
اجلنوب بعموميات م�سرحه .ولكنه مل يقربه حق ًا ،ال يف و�أن اجلنوب هو بيت ال�صراحة يف قراءة الو�ضع اللبناين
«زراد�شت» وال «�شربل» وال «لتمت ديد�سدمونة» وال «حتت والعربي.
رعاية زكور» �أو «من قطف زهرة اخلريف» .م�سرحيات جالل خوري واحد من ق ّلة قليلة طرحت اجلنوب
�أنطوان ملتقى مل تقربه كذلك« .و�صية كلب» �أو «جرمية ك�إ�شكالية مو�ضعية حقيقية يف جتربة امل�سرح اللبناين.
وعقاب» �أو «زيارة ال�سيدة العجوز» �أو «مهاجر بري�سبان» قر�أ يف اللغة ،قر�أ يف التقاليد ،قر�أ يف الدين ويف
�أو «موانئ احلنني» �أو «وراء الباب» وغريها ل�شكيب ي�سجل مالحظات وجدت و�سخر قراءاته لكي ّ العلمنةّ ،
خوري� .أو م�سرحيات برج فازليان. م�ستقرها النهائي يف �أعمال طليعية لبنانية .ا�ستغل
رئيف كرم عرج على اجلنوب يف م�سرحياته ،يف �أبعاد خوري بذكاء حال املجتمع لكي يو�صل الفكر الذي ي�ؤمن
153
جذور ال�سرية يف وجدان امل�شاهدين .وهم م�شاهدون ون فنون فنون فنون فنون فنون فنون
ن فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون
حمدودو التوجه .لأنهم �أ�صحاب و�أقارب و�أفواج
ن فنون فنون فنون فنون فنون
«الك�شافة الإ�سالمية» منتجة هذا العر�ض امل�سرحي.
جمهوري الرجال والن�ساء .لقدّ لذلك مت الف�صل بني
وجدتُ �صفني طويلني من الن�ساء يحيطان ب�صف طويل
فنون فنون
ن فنون فنون
من الرجال� .أ�صولية م�ستجدة تكت�شف مواهب جديدة فنون فنون فنون فنون فنون فنون
وترعاها يف �أطر وقنوات �ضيقة .الديني يتداخل يف فنونفنون فنون نون فنون فنون فنون فنون فنون
فنون ن فنون فنون فنون
التاريخي .التاريخي يتداخل يف الواقع .ال�شعبي ي�ضحى
�أ�سطورة متوهمة .تلك تو�صيفات ثالثة لـ «ث�أر اهلل» التي
ما �إن بد�أت تعلن عن ح�ضورها ،حتى �أفلت �إىل مطرح �شبه جتريدية وب�شيء من العبثية ،ولو �أننا ال ن�ستطيع
بعيد يف الذاكرة ال�سوداء �أو ال�صندوق الأ�سود لتجربة �أن ننكر �أنه ا�ستطاع خالل فرتة ق�صرية �أن يكتب عدد ًا
امل�سرح يف لبنان يف حلظة من حلظات دمارها الكبري من الن�صو�ص الب�صرية ،حماو ًال اال�ستفادة من نتاجات
عام .1984 امل�سارح الأوروبية يف ر�ؤاه و�أفكاره .كل امل�سرحيات التي
تعاطت ومو�ضوعة اجلنوب ،حاولت �أن تلتقط نب�ض
�ساحة ال�ضيعة احلدث ووعي وقائعه العتيقة ودوره يف خريطة ال�صراع
ومواطن اخللل الإقليمية والأحداث اجللل املنتظرة ،يف
لن تنه�ض مرحلة على م�سرحية ال تطرح �أ�سئلة تق�ض م�صوغات فنية متفاوتة .بع�ضها تقليدي وبع�ضها باحث
امل�ضاجع .ولن تنه�ض مرحلة على م�سرحيات ال تطرح وبع�ضها �ضائع وبع�ضها خطابي و�صويل� ،أو انتهازي
�أ�سئلة تق�ض امل�ضاجع� .س�ؤال امل�سرح �أبعد من ذلك فاقع� .ش ّكل اجلنوب خ�صي�صة بارزة يف جتربة امل�سرح
امللحة تقع يف النقد ويف حماية العادات بكثري .ال�ضرورة ّ اللبناين احلديث .دفاتر النك�سة فيه ودفاتر القوة .ذلك
�أن املقاومة وحدها لي�ست ال�صورة الوحيدة امل�ضادة
والتقاليد بح�ضانتها ب�أ�شكال فنية جديدة ت�ستطيع
حتويلها دون �أن تقطع مع ذاكرتها. للذل .لأن اجلنوب حقل عالقات. ّ �صار اجلنوب
لنقل �إنها جملة ن�شاطات مل ت�ستطع �أن تر�سم طريقاً ولأن اجلنوب حقل دالالت ،هناك واحدة من املحاوالت من معايري
�إىل حركة متقدمة �أو واعية على �شتى ال�صعد الإبداعية الو�صولية هي «ث�أر اهلل» .حماولة خطرة جد ًا ،لأنها
والنقدية والتاريخية والتقوميية .مل ي�صبح امل�سرح مع ا�ستلهمت ال�سرية احل�سينية يف ترتيب م�سرحي م�ؤذ .بدا امل�سرح
مثل هذه املحاوالت ذا �أهمية خا�صة ومل تت�سع دائرة اجلنوب جزء ًا �أكيد ًا من ال�سرية هذه .ا�سقاط مربر .بل يف لبنان
االهتمام به من خمتلف طبقات ال�شعب .وخ�صو�صا �إن اجلنوب يف واحدة من طبقاته املتعددة هو م�ساحة
�أن امل�سرح �صار و�سيلة ا�ستعمالية يف �صراع �سيا�سي �شرعية لإقامة هذه ال�سرية .جميل ب�سمة �أخذ العملية يكت�شف فيه
الفنية على عاتقهّ � .شوه كل اجلهود ال�سابقة يف العمل
طويل وحمكم يف اجلنوب .لعبت منظمة ال�شباب
على ال�سرية احل�سينية� .أو تر�سيخ ال�سرية يف م�صوغ فني امل�سرحيون
الدميوقراطي ،وهي تنظيم فرع يف احلزب ال�شيوعي
اللبناين ،دور ًا يف �إنتاج م�سرحيات يف اجلنوب .كما لعب متقدم .الرتكيز على احلقوق الإن�سانية للجنوبيني وعلى هوياتهم
حق املقاومة ،جاء يف �صورة بائ�سة مل تطرح الإ�شكاليات
�أ�شخا�ص مثل هذا الدور ،وكذلك هيئات .الأبرز نادي
ال�شقيف يف منطقة النبطية ،الذي �أبدى ان�شغا ًال وا�سع ًا احلقة .ال يتبلور الفكر امل�سرحي هنا ،لكي يدغم وا�ستقاللهم
بح�ضور امل�سرح يف املنطقة. ال�سيا�سي بالثقايف� .أو لكي يقيم من كليهما عامل ًا حمفوف ًا املفقود
تدور الأحداث يف م�سرحيات نادي ال�شقيف يف �ساحة بالإ�شارات .ذلك ان «ث�أر اهلل» ن�أت عن فكرة تر�سيخ
�ضيعة ،كما هي احلال دائم ًا يف م�سرحيات الرحابنة.
ت�أثر بالغ بواحدة من جتارب العهود ال�سيا�سية اللبنانية
الناجزة .بحث اجلنوبيون برباءتهم عن نوع من
امل�ساواة ،باختيار الأجواء الرحبانية .داروا النق�ص
بالتماثل مبا هو مت�شكل ونهائي ومعروف و�شائع .ولكنهم
مل ي�ألوا جهد ًا يف ح�شر بع�ض امل�شاهد اخلا�صة مبزارع
التبغ و�سط الأحداث الرحبانية وو�سط الأغنيات املدوية
والدبكات الغارزة �أقدام الدابكني يف خ�شبات امل�سرح� .أما
الطموح �إىل املو�ضوعية ف�ش�أن م�ؤجل لأنه غري متوافر.
جتارب حزبية
لعل طموح طعان �أ�سعد �شاعر الأغنية �أبعد من ذلك
بكثري� .أن يكتب للم�سرح يف اجلنوب �شعراء وكتّاب
وبع�ض املتخ�ص�صني دون �أن نن�سى الإعداد واالقتبا�س.
ومع ذلك فكل هذه املحاوالت مل ترتك �أثر ًا وال ب�صمة لقطة �أخرى من م�سرحية الع�صافري
154
من م�سرحية لزياد الرحباين بعنوان «�شي فا�شل»
امل�سرحيات والكوابي�س وعقد وم�شاكل مل تنك�شف �إال عرب �ضربة يف احلياة الثقافية واالجتماعية .بيد �أنها تركت
كان همها قوية هي احلرب .وجرى الرتكيز على القرار � 425أو
الن�ص الدويل اخلا�ص باالحتالل الإ�سرائيلي .وهو ن�ص
ذكريات .امل�سرحيات اال�ستعرا�ضية خا�صة بنادي
ال�شقيف .وامل�سرحية الدرامية خا�صة باحتاد ال�شباب
التقاط نب�ض غري حمرتم .كما جرى الرتكيز على مثلث احلياة واملوت الدميقراطي .جتارب املنظمة احلزبية هذه «ال ب�أ�س
والهنغار الذي ق�صفته قوات االحتالل الإ�سرائيلي يف بها» ،كما ي�صرح رفيق علي �أحمد� .أبرزت �أ�سماء انطف�أ
احلدث ووعي واحدة من �أب�شع م�شاهد احلرب احلديثة يف العامل. بع�ضها وال يزال بع�ضها الآخر يف جتربة امل�سرح اللبنانية
دقائقه ودوره الق�سوة االرتوية �شكلت املعادل الفني للعر�ض. كح�سام ال�صباح وم�شهور م�صطفى .وثمة ا�سم ثالث
وثمة ملحات من غروتوف�سكي« .ذكريات» روت حكاية هو في�صل جميل ،اختفت �آثاره منذ مطلع ال�سبعينيات.
يف خريطة ثالثة ل�صو�ص يف �سجن .يروي كل واحد �سبب دخوله �أ�سماء لفتت الأنظار .ولكنها بقيت يف مدارها ،بتن�شيط
ال�صراع �إىل ال�سجن .ثالثة جنوبيني .اثنان يتواط�آن على الثالث
بق�صد �إجباره على رواية �أ�سباب دخوله �إىل ال�سجن.
مبا�شر من عادل ال�صباح .وهو مارك�سي تر�شح
لالنتخابات النيابية ذات يوم .كما طارت �أ�سماء �أخرى
الإقليمي �إنهم ميثلون رواياتهم مداورة على مدى �ساعة وربع يف ف�ضاء املنطقة كح�سن ن�صار وعلي بيطار.
ال�ساعة .دخل الأول ال�سجن بتهمة ال�سرقة والقتل .الثاين انت�شار الفرق امل�سرحية يف منطقة النبطية مل يكن
دخل ال�سجن لأن �أهل قريته اجلنوبية �ضايقوه باتهامه ر�سالة .بل روح ًا نقية �أرادت �أن تبني مقايي�سها على
بالهبل .حتاملوا عليه فهاجمهم .الثالث يف ال�سجن ،لأنه مقايي�س املجتمع الذي قامت يف كنفه .مل ي�صفها �أحد
ذهب لكي ينفذ عملية �ضد �إ�سرائيل من موقع حدودي. ب�أح�سن ال�صفات .ومل تطرح اتفاق ًا على م�صوغ �أو
م�سرح داخل امل�سرح .امل�سرحية تغريبية .جتربة من اختالف ًا عليه .عربت املمنوع �إىل قيام �أن�شطة حمببة
جتارب م�صطفى التي بد�أها مب�سرحية «امل�سرية» يف وقريبة من النفو�س وجاذبة لها .راهقت �إذا ما جاز
نادي ال�شقيف .وهي ذات منحى �سوريايل� -إيحائي. التعبري .مل تقم حرب ًا �شعواء على ال�سيا�سي القمعي ومل
�صرخة مثالية �ضد موت اللبناين واجلنوبي .مزارعو تذهب �إىل �أحاديث اجلن�س ومل ت�سهب يف احلديث عن
التبغ �أبطال «امل�سرية»� .أما «الطواف امل�سرحي» فهو الأبعاد اجل�سدية والنف�سية واالجتماعية� .إملاحة ما�ضية
طواف بطله حكواتي تقليدي لعب دوره م�شهور م�صطفى فقط.
يف مقهى تقليدي .ينتهي الطواف يف املقهى ،حيث م�شهور م�صطفى البادئ ب�أعمال هاوية متام ًا يف اجلنوب،
يروي احلكواتي تغريبة بني هالل� .إال �أن الأهم على ا�ستمر عمله يف امل�سرح� .أ�ضحى حمرتف ًا .له جمموعة
�صعيد عالقة اجلنوب بامل�سرح وعالقة امل�سرح باجلنوب من امل�سرحيات همومها جنوبية باملطلق« .حدود قانا»
يف جتربة م�شهور م�صطفى عمله على عا�شوراء عام ( )1998و«ذكريات خارج ال�سجن» ( )1993و«امل�سرية»
.1994 ( )1976و«الطواف امل�سرحي» (�صيدا .)1993ركزت
«حدود قانا» على احلاالت النف�سية للناجني من املجزرة.
امل�سرح العا�شورائي �أطفال ومراهقون يعانون من ت�شوهات نف�سية وج�سدية،
تنعك�س يف �سلوكهم االجتماعي ويف عدم قدرتهم
على الت�أقلم مع اجلماعة .نبع من امل�شاكل� .أجريت و�ضع عا�شوراء كم�شروع ثقايف يجعلها ت�صب يف م�ضامني
مقابالت مع الناجني ،عرب الأ�شرطة امل�سجلة وكامريات تخ�صيب العالقة بها ،دون �إ�سقاط �أي من معانيها .بل �إن
التليفزيون وال�سينما .ا�شتغل فريق العمل على الأحالم تعزيز هذه املعاين ،هو واحد من مفاتيح التطور والتقدم.
155
متثيل �أدوارهم يف الطريق �إىل مقهى «الهور�س �شو». ون فنون فنون فنون فنون فنون فنون
ن فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون فنون
هناك اجتمعت النا�س حولهم ،قبل �أن ُيقادوا يف �شاحنة
ن فنون فنون فنون فنون فنون
ع�سكرية �إىل خمفر حبي�ش .ك�سر اجلنوب �أنظمة مقفلة
وترجم حا ًال ناجمة عن فعل القوى املتقابلة التي يلغي
الواحد منها الآخر� ،إىل حد يدفع �أحيان ًا �إىل ا�ستعمال
فنون فنون
ن فنون فنون
تعبري التوازن مبعناه امليكانيكي. فنون فنون فنون فنون فنون فنون
اجلنوب يف امل�سرح عني حا ًال ال م�ستقرة يف ابتداع �أ�شكال فنونفنون فنون نون فنون فنون فنون فنون فنون
فنون ن فنون فنون فنون
متقدمة وطليعية .ال ق�صور حراري ًا .اللغة تعنف ،اللغة
تتمرد على ذاتها ،تتمرد على �شروطها الداخلية .هذا
ما حدث مع فرقة «احلكواتي» اللبنانية ،التي ا�ستجابت البحث يف طبيعة هذا املكون ،قد يفرز �إجناز ًا كبري ًا على
�إىل ق�ضية اجلنوب كهم حموري يتخطى االهتمامات هذا ال�صعيد .فال تنافر بني ال�سرية وروابطها الفنية
التقليدية� .أقامت «احلكواتي» انقالبها على الأ�شكال �إذا ما وجدت .ذلك �أن قراءة املا�ضي ،غالب ًا ما جاءت
التقليدية عرب ثالث م�سرحيات� ،شكلت الأخرية الذروة متنوعة .قراءة يف اللغة وبحث يف �إ�شكاليتها .قراءة يف
يف عالقتها باجلنوب .بـ «ال ِعبرَ والإبر» �أو ًال �أو حكاية �أبو الدين وما ُكتب حوله وفيه .وقراءة يف التقاليد الدينية
كامل .ثم «من حكايات الـ .»36و�أخري ًا «�أيام اخليام» النه�ضة وحلظها يف �سياق �آخر ،مع ت�أكيدنا على �أن التقاليد
�ش ّكلت الثالث م�سرحيات هذه�ُ ،س ّلم ًا �إبداعي ًا مت�صاعد ًا امل�سرحية الدينية �شيء ،والدين بن�صو�صه ال�صريحة �شيء �آخر.
يف م�سرية الفرقة «بالعرب والإبر» عن اجلنوبي امل�سحوق
عرب «الرجل الذي �صار كلب ًا» لدراغون .مت اقتبا�سها �شاحنة ع�سكرية يف لبنان
�أو لبننتها من «حكايات الـ »36عن انتفا�ضة العاملني
ي�ؤكد جالل خوري يف حديث خا�ص «جحا يف القرى بد�أت بحركة
يف جبل عامل ،يف مواجهة قوات االحتالل الفرن�سية
والإنكليزية .هنا بد�أ مترد روجيه ع�ساف على لغة جتربة الأمامية» كوميديا �شعبية ملحمية .و«كذاب» �أو «حماورات الرتجمة على
�شاهني وطن�سا» ،طرحت ق�ضية اجلنوب� .شكل الأمر
«حمرتف بريوت للم�سرح» .ذلك �أن امل�سرحية ك�شفت
الآثار املتبقية من جتربة املحرتف .حكت «�أيام اخليام» زيادة يف املرجعية على �صعيد امل�سرح .ديناميكا حرارية يد مارون
ق�صة املجزرة التي ارتكبها الإ�سرائيليون بحق من تبقى ابتدعت نظم ًا كيميائية متقدمة يف �أ�شكال التعبري النقا�ش
من عجائز اخليام يف �أحد املالجىء .تركوا بع�ضهم لكي التي حاكت ق�ضية اجلنوب« .جمدلون» �شكلت مفرتق ًا
يخربوا الآخرين مبا ر�أوا .ولعل «�أيام اخليام» هي حكاية مع فرقة «حمرتف بريوت للم�سرح» مع روجيه ع�ساف يف بريوت
احلاج حممد عليان .جنوبي مل يطق العي�ش يف ال�ضاحية ون�ضال الأ�شقر .منعتها ال�سلطة� .أو حاولت منعها ،حني
حمل �أفراد من الدرك اللبناين �أمر املنع .بيد �أن �أفراد
وا�ستوت يف
اجلنوبية حيث احت�شدت �أعداد كبرية من اجلنوبيني،
فرتك البيت .رمى هويته اللبنانية يف البحر ،يف منطقة الفرقة امل�سرحية احتجوا على قرار املنع ،حيث تابعوا اجلنوب
الرملة البي�ضاء قبل �أن ينتحر برتك نف�سه للتيارات
العنيفة هناك.
م�سرحيات اجلنوب انتوت �أن تفر�ض قطع ًا فعلي ًا مع
ال�شكل امل�سرحي املهيمن .ميزها العمل اجلمعي من
جهة اختيار وتقرير العمل ب�شكل م�شرتك وا�ستخدام
كل الإمكانات املتوافرة من قبل اجلميع ،رابطة فاعلية
ال�شرطني ال�سالفني مبدى جتان�س �أع�ضاء الفرقة فيما
بينهم وارتباطهم الفعلي باجلمهور الذي ميثلونه.
لغة كاملة ،قامت على ا�ستعمال الروح والأداة اجلنوبية
وخربة العالقة باجلنوب وجتربة امل�سرح اللبناين.
حلظة لقاء ا�ستثنائية بني اجلنوب وامل�سرح� ،أقامت
روح ًا تعبريية ا�ستثنائية .وقف �أع�ضاء الفرقة يف ندوة
مهرجان نان�سي عام 1983دقيقة �صمت احتجاجا
على اعتقال خمرج ومدير فرقة احلكواتي الفل�سطينية
تنطحفرن�سوا �أبو�سامل من قبل ال�سلطات الإ�سرائيليةّ .
م�سرحيون �إ�سرائيليون حا�ضرون �إىل دح�ض معلومة
االعتقال التي كانت وزعتها وكاالت �أنباء عاملية� .إال �أن
احلكاية مل تنته هنا .فقد عمد ه�ؤالء �إىل ح�ضور عر�ض
«�أيام اخليام» ومل يخرجوا من ال�صالة �إال بعد �أن �أغمي
على زميلتهم ،من جراء متابعتها م�شهد املجزرة التي
اقرتفها جنود االحتالل الإ�سرائيلي بحق عجائز اخليام
وهم يف ملج�أ القرية اجلنوبية البعيدة. من م�سرحية «بان�سيون ال�ست نعيمة»
156
«�أيام اخليام» لروجيه ع�ساف
اجلنوب يف �أية �سلطة �إبداعية .وطاملا لعبت احلكاية دور ًا �أ�سا�سي ًا بكت الإ�سرائيلية حتى انهارت وهي ت�شاهد �أج�ساد
يف م�سرحيات فرقة احلكواتي الأخرية ،ف�إن احلكاية املمثلني مبعرثة فوق الطاوالت ال�صغرية وحتتها .وهي
امل�سرح حتول يف «القانون ختم وبرنيطة» لعبت دور املحدد الرئي�سي طاوالت منثورة يف حيز فقري .ولكنه غني يف دالالته
لعمارة جديدة ل�سلوك العنا�صر ،التي حازت ا�ستقال ًال بالكلية. الت�شكيلية .وبكت حتى انهارت ،يف الوقت الذي بد�أ فيه
الوالدة حكمت التطور .و�سائل جتاوز التناق�ض تكثفت ال�صوت امل�سجل يعدد �أ�سماء �ضحايا املجزرة.
تداخلت يف العفوية ويف هموم التعبري ال�شر�سة .قاتل البع�ض لكي الإبداع يف خدمة التعبري .اختيار اجلنوب يف �أعمال
ميتلك دوره يف احلياة .غابت البنيات التفا�ضلية من فرقة احلكواتي يعود اىل ر�ؤية �سيا�سية ب�سيطة ومعقدة
فيها التجربة جراء ذلك .وقام �إطار خمتلف متام ًا يف الطريق �إىل يف �آن .فاجلنوب هو ب�ؤرة اال�شتعال ،التي نهلت منها ب�ؤر
امل�سرحية �سهول التعبري و�سهولته .مل يكن ثمة من توجيه باملعنى �إبداع قامت يف العا�صمة ،على م�ستوى اللغة ولي�س اللكنة
التقني للكلمة .بل تغذية .غذى روجيه ع�ساف نا�س فقط.
بالو�سط عيناتا بالكودات املحر�ضة على متلك العمل .لقد فعلوا.
املدمر �أما ع�ساف فوجد منذ ذلك الوقت �أن التعبري �أهم من اجلر�س
امل�صوغ .وهما �إذا التقيا �أقاما ح�ساب ًا �آخر .ال مناذج
واملخرب �سابقة هنا وال مبادئ قدمية وال قوانني تعتمد مناهج ن�ص جنوبي دافق يف «اجلر�س» .ع�شرات احلكايات
يف �سنوات ثابتة .النظام املاثل يف امل�سرحية قانون خا�ص حم�صل
من التجربة املفتوحة على نا�سها� .إننا �أمام م�ؤ�شرات
املتتالية .لقد حقق رفيق علي �أحمد واحدا من طموحاته
يف «اجلر�س» حيث بدا اجلنوب عربي ًا بتميز .وحيث
احلرب الأهلية طبيعية لن ي�أبه �أ�صحابها �إىل العالمات التي قد متنح تبلورت احلكايات يف م�صوغ فني جذاب ا�ستقطب
من قبل جلان حكام واقعية �أو متخيلة. ع�شرات �آالف اللبنانيني.
عمل يتعلق باخللفية االجتماعية -االقت�صادية - متاثل ال�شكل واحلكاية حجر الأ�سا�س يف «اجلر�س».
الثقافية للمحلة ال�سكنية الداخلية. مناذج متقاربة يف نظامني ملمو�سني (احلكاية وال�شكل)
حتقيق الذات هو النموذج يف «القانون ختم وبرنيطة». متاثال يف �شكل واحد .ت�شابه بنيوي ووظيفي� .أو ك�أنه
عمارة جديدة يف جنوب تداخل بالتجربة امل�سرحية يف تطابق عالقات بني عنا�صرامل�سرح« .القانون ختم
�سنوات احلرب الأهلية خ�صو�ص ًا .لقد حتول �إىل حالة وبرنيطة» لروجيه ع�ساف يف عيناتا ،طرحت �إمكانية
�أ�صيلة يف و�سط مدمر وخرب .حتول �إىل ظاهرة ،حتت حتقيق التكامل بني االعتبارات ال�سيا�سية والوظيفية.
تهديد الأخطار املحدقة الكربى .اجلنوب يف امل�سرح البدء من امل�سرح ،قبل ان تنقلب الآية بالتمام والكمال
�أ�ضحى حا ًال د�ستورية .جماله من �شعور ناجت عن �أ�شكال ل�صالح �آلية �إبداعية �أخرى.
متقدمة ومتطورة .مل يعد الريف ريف ًا .بقي امل�سرح والدة النظرية العامة يف «القانون ختم وبرنيطة» حكم
مديني ًا ،هذا �صحيح .ولكن اجلنوب عبرّ عن الوحدة يف العملية الإبداعية بح�ضور البديهيات .اللقاء باملو�ضوع
الكرثة والتكامل مع املحيط .واحتوى �شخ�صية م�سرحيني �إلزامي يف العمل امل�سرحي� .إنها لي�ست م�سرحية ،بل
متقدمني من �أجيال خمتلفة ،يف �أفالك فكرية وروحية عم ًال م�سرحي ًا .وبني االثنني فروق جوهرية .وهي متيزت
فنية .ك�أن م�سرحياته ،حازت اكتمال عنا�صر التكوين. بغياب �سلطة �سيا�سية مركزية وغياب �أية قوة يف خدمة
157
راء بريد القراء بريد القراء بريد القراء
اء بريد القراء بريد القراء بريد القراء بريد القراء
القراء بريد القراء بريد القراء
لقراء بريد القراء
قافة �شارع الثقافة
�صفحة للتوا�صل بني بريد القراء بريد القراء بريد القراء
القراءبريد القراء قراء بريد القراء بريد القراء بريد
القراء ء بريد القراء بريد
رجاء للم�س�ؤولني
بزيادة املطبوع
لقد وقعنا �ضحية خديعة مت الإعالن عنها بالتب�شري ب�صدور
جملة «الدوحة» �أول ال�شهر املا�ضي ..ولكن مل ن�ستطع العثور
على �أعداد لدى الباعة ..وعندما ن�س�أل عنها يكون اجلواب
نفدت خالل �ساعة واحدة ..والأعداد ال تكفي!..
وبعد حماوالت ا�ستطعت الو�صول �إىل ن�سخة ا�ستعرتها من
�صديق ،وبقدر ما ع�شت �سعادتي مع مو�ضوعات العدد� ،إال
�أن تعا�ستي كانت �أكرب ،لأنني �س�أفقد هذا العدد ب�إعادته �إىل
�صاحبه.
و�أملنا يف امل�س�ؤولني عن املجلة بزيادة الأعداد املطبوعة
واملر�سلة �إىل م�صر ..فما عهدناه من قطر اخلري �أنها لن
تبخل علينا بزيادة املطبوع.
هناء عبداحلميد
كاتبة وروائية
الإ�سكندرية -م�صر
159
تلك الدوحة...
عندما تقرر �إ�صدار جملة «الدوحة» القدمية ويف �أول اجتماع �أ�سبوعي مبكتب �سعادة وزير الإعالم بالوزارة ـ وكان
�سعادة الوزير ي�شغل وقتها مكتبني� :أحدهما بالوزارة ،والثاين يف الديوان الأمريي ـ ومل يكن قد مر على و�صويل
الدوحة �إال يوم وبع�ض يوم� .س�ألت �سعادة الوزير بح�ضور ال�سيد مدير الإعالم ،وكان قد رحب بي ترحيب ًا حار ًا
يف االجتماع ،وقدمني بكلمات طيبة لبقية الزمالء :ما هي غايتكم من �إن�شاء جملة الدوحة؟ وما هي تفا�صيل
خطتكم التي تريدون �أن �أعمل على �ضوئها؟ .ونظر �سعادة الوزير �إىل املدير ثم ابت�سم وهو يقول :هذا دورك
�أنت ،ار�سم اخلطة و�سندر�سها يف االجتماع القادم �إذا �شئت ،ثم قال �ضاحكاً :املدير يقول �إنك عبقري ف�أرنا
عبقريتك ،قلت :ال�سيد املدير �صديقي وقريبي ور�أيه يف عبقريتي جمروح ،تعمدت �أن �أذكر ذلك حتى ال ت�صبح
احلقيقة طعنة مدخرة للم�ستقبل.
هذا «ال�سكت�ش» هو من ذاكرة تلك الأيام اخلوايل وقد يتكرر هذا مع الدوحة اجلديدة التي رمبا تكون �أروع من
جملة الدوحة يف �سابق عهدها و�أكرث انت�شار ًا منها ،لكنها تظل برغم اال�سم ،جملة جديدة مبوا�صفات جديدة
وبروح جديدة ولع�صر جديد وقراء جدد تختلف اجتاهاتهم و�أذواقهم.
�أما ا�ستن�ساخ جملة الدوحة (القدمية) كما ولدت عمالقة يف عهدها الزاهر ،فذلك طلب
امل�ستحيل كما عرب عن ذلك �شاعر �أغنية �أم كلثوم «فات امليعاد»:
وعاوزنا نرجع زي زمان
قل للزمان ارجع يا زمان
وهات يل قلب ال داب وال حب
وال اجنرح وال �شاف حرمان
لكي تعود «الدوحة» التي �ألفناها و�أحببناها و�أحبها القارئ العربي كما مل يع�شق جملة غريها،
نحتاج لتعود �إلينا تلك احلقبة من الزمان ،حني كنا ـ عبدالقادر حميدة ذلك الأديب عميق
الثقافة الذي ي�ستطيع �أن يحول �ألفاظ ًا متناثرة و�أحيان ًا ال معنى لها �إىل عقد ن�ضيد ،والفنان
العبقري حق ًا حممد �أبو طالب الذي كان ي�أخذ ال�صفحات من عبدالقادر وتتحول يف ذهنه
الوقاد �إىل منظومة من الر�ؤى والأ�شكال وال�صور والألوان ،وكمال �سعد غريب الأطوار (رحمه
اهلل) الذي كان يجمع بني الأدب الرفيع واحل�س ال�صحايف املتميز ـ يف �أوج ال�شباب واحليوية,
جنل�س طول الليل يف ح�صائر تختلط فيها الأوراق واللوحات و�صحائف الطعام ،يف �شقة
عمارة اخلليفي يف «را�س بو عبود» ن�أكل الفول والفالفل والفطائر ال ندري �إن كان ع�شاء �أو
فطور ًا ون�صلي الع�شاء وال�صبح حا�ضر ًا ونراقب احلياة عند الفجر تدب يف �أو�صال بلد حبيب
د.حممد �إبراهيم ال�شو�ش ينمو �أمامنا كما تنمو الزهرة ويتفتح الورد.
م�ؤ�س�س جملة الدوحة ورئي�س حتريرها الأ�سبق وكانت املجلة كالطفل ال�شقي تعبث وجتري منطلقة ال يقيدها الروتني .وكان ال�صوت الوحيد
الذي ميكن �أن يكبح جماح هذه احليوية الدافقة هو �صوت الأب داوود فانو�س يف مكاتب وزارة
املالية والبرتول ،ميلك يف يده خيوط الهم الإداري واملايل يف الدولة ال يتعني �أحد �أو ي�سكن �إال وفق رغبته ،كان
ي�ستطيع �أن ي�ضخ الدم يف �شرايني عملك �أو مينع عنه الهواء.
�أحبنا لوجه اهلل وفتح قلبه لنا كما مل يفتحه لأحد ،جئته يف �أول عهدي يف �ش�أن من �ش�ؤون املجلة ف�صدين يف جفوة
مل �أتوقعها ،قلت له :بهذه الطريقة لن ن�ستطيع �إخراج املجلة بال�صورة التي يريدها �سعادة الوزير ،نظر حوله
�إىل طالبي احلاجات و�ضحك وهو يقول هازئاً :هذا البلد كان موجود ًا قبل �صدور جملتك ،و�أعتقد �أنه �سيبقى
لفرتة �أطول حتى و�إن مل ت�صدر .التقطت القفاز وقلت :وماذا يف ذلك؟ هذا العامل كان يعي�ش قبل ظهور البن�سلني
يل ملياً ،ويبدووالأمرا�ض تفتك بالب�شر و�أح�سب �أنه كان �سيعي�ش فرتة �أطول لو مل يكت�شف البن�سلني .نظر �إ ّ
�أن املقارنة قد �أده�شته و�أعجبته وعجز عن كتمان �ضحكته ،ثم مد يده ووقّع على الطلب ،ومن يومها �أ�صبحنا
�أ�صدقاء ال يرف�ض لنا طلبا ً .وقد كان حتيزه ملجلة الدوحة وتدليله لها مثار الده�شة يف �أروقة �إدارة الإعالم ،وال
�أح�سبه ـ رحمه اهلل ـ كان يجد وقت ًا لقراءتها.
كانت جملة الدوحة يف عهدها الأول نتاج حب غامر ،ولهذا �أحبها القارئ ومل يجد النا�شرون فيها ما يثري
غ�ضبهم وم�ؤاخذتهم.
160