Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 372

‫اجلمهورية اجلزائرية الدميقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعليم العالي و البحث العلمي‬


‫جامعة احلاج خلضر ‪ -‬باتنة‬

‫قسم اللغة العربية و آدابها‬ ‫كلية اآلداب و اللغــات‬


‫مصلحة الدراسات العليا‬

‫النظرية النقدية العربية احلديثة‬


‫إشكالية تأسيس أم أزمة متأسس‬
‫‪ -‬قراءة يف األنظمة املعرفية ‪-‬‬

‫حبث مقدم لنيل درجة دكتوراه العلوم يف النقد األدبي‬

‫إشراف األستاذ ‪:‬‬ ‫إعداد الطالب ‪:‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬يوسف األطرش‬ ‫رشيد بلعيفة‬

‫الصفة‬ ‫اجلامعة‬ ‫الرتبة‬ ‫االسم و اللقب‬


‫رئيـسا‬ ‫احلاج خلضر ‪ -‬باتنة‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬الطيب بودربالة‬
‫مشرفا و مقررا‬ ‫عباس لغرور ‪ -‬خنشلة‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬يوسف األطرش‬
‫عضوا مناقشا‬ ‫احلاج خلضر ‪ -‬باتنة‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عبد اهلل العشي‬
‫عضوا مناقشا‬ ‫احلاج خلضر ‪ -‬باتنة‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬علي خذري‬
‫عضوا مناقشا‬ ‫عباس لغرور ‪ -‬خنشلة‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عمر عيالن‬
‫عضوا مناقشا‬ ‫العربي التبسي ‪ -‬تبسة‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬رشيد رايس‬

‫السنة اجلامعية‬
‫‪3102/3102‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪E‬‬

‫نسج حلمة هذا البحث وسداه نزوع حنو مساءلة اخلطاب النقدي العريب احلديث واملعاصر‪،‬‬
‫وهو إذ يروم تتبع أهم احملطات املعرفية اليت شهدهتا الساحة النقدية العربية‪ ،‬فهو كذلك يتحسس‬
‫مفاصل العملية النقدية العربية‪ ،‬ويبحث يف مكامن اخللل الذي أصاب هذه املنظومة املعرفية‪ .‬فلقد‬
‫شهدت الساحة النقدية العربية احلديثة واملعاصرة‪ ،‬أعىت موجات املد النقدي العاملي‪ ،‬وكان من نتائج‬
‫هذا التنوع الكبري الذي عرفته الساحة النقدية‪ ،‬أن حصل نوع من الصدام على مستوى الفكر وعلى‬
‫مستوى املنهج وكذلك على مستوى املصطلح النقدي‪ ،‬واتسمت هذه احلركة النقدية حبالة من األخذ‬
‫والرد‪ ،‬مما أسس حلوار ثقايف أو معريف حول البحث عن خطاب عريب أصيل‪ ،‬ميتح من موروثه الفكري‬
‫والنقدي والبالغي‪ ،‬ويساير يف الوقت ذاته مستجدات الراهن‪ ،‬األمر الذي جنم عنه تعدد واضح يف‬
‫احلركات النقدية املعاصرة‪ ،‬بني حمافظ على تراثه‪ -‬إال ما متتع منه بالتجدد‪ -‬وحمدث متطلع للوافد من‬
‫نشط ذلك احلوار املشهدي للنقد العريب احلديث واملعاصر‪ ،‬وأسهم يف‬
‫احلضارة الغربية‪ ،‬الشيء الذي ّ‬
‫طرح مجلة من اإلشكاليات املعرفية‪ ،‬لعل أمهها السعي حنو تأسيس نظرية نقدية عربية حديثة‪ ،‬تستمد‬
‫قوانينها وأصوهلا من الرتاث النقدي العريب‪ ،‬وتشتغل يف الوقت نفسه مبختلف النظريات املعرفية اليت‬
‫وفرهتا مجلة االجتاهات النقدية الغربية‪ ،‬مما جعل تأصيل خطاب نقدي عريب متميز ‪ ،‬أمرا يف غاية‬
‫‪2‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الصعوبة‪ ،‬ويرقى إىل حكم املتعذر‪ ،‬مما أدى إىل مزالق خطرية شهدهتا الساحة النقدية الثقافية‪،‬‬
‫وخباصة تلك املتعلقة باملفهوم اخلاطئ للحداثة عند بعض النقاد واملفكرين العرب‪ ،‬أما عند البعض‬
‫اآلخر فإن مفهوم احلداثة عندهم يتأسس على مبدأ الوعي بالرتاث‪ ،‬وبالتايل فإن أحباثهم انصبت‬
‫حول تأصيل أو تأسيس خطاب نقدي عريب حداثي متجذر يف الثقافة العربية‪ ،‬ويف الوقت نفسه‬
‫يتغذى من الروافد املعرفية العربية‪.‬‬

‫إن املوضوع الذي يروم البحث خوض غماره‪ ،‬يتمحور أساسا حول جدلية التأصيل والتحديث‬
‫يف اخلطاب النقدي العريب احلديث‪ ،‬انطالقا من واقع احلوار الثقايف العريب الذي أنتج مجلة من‬
‫الدراسات املنهجية يف هذا اجملال‪ ،‬وتثري مجلة التساؤالت املعرفية تساؤالت منهجية هامة‪ ،‬ألن األزمة‬
‫املعرفية هي أزمة منهجية بشكل من األشكال‪ ،‬وألن احلركة النقدية العربية احلديثة سعت إىل حتديث‬
‫اخلطاب النقدي‪ ،‬دون مراعاة يف الكثري من األحيان‪ ،‬النتاج األديب الضخم الذي يعرب عن واقع مجايل‬
‫جتاوز حدود النظرية‪ .‬وسيسعى البحث أيضا إىل مناقشة حالة الشرخ اليت أصابت املنظومة الثقافية‬
‫العربية‪ ،‬من خالل منوذجني استحكما أصول اخللل داخل هذه املنظومة‪ ،‬ومن مث أوقعا النظرية يف‬
‫حالة من البلبلة واالضطراب‪ ،‬ومها منوذج العرض ومنوذج التعريض‪ ،‬مما حدا بيوسف اخلال إىل القول‬
‫بني قضايا عامل قدمي وقضايا عامل حديث‪ ،‬أجدين أعاين إشكالية خطرية بني تداخل إشكاليات عامل‬
‫قدمي داخل إشكاليات عامل حديث‪ ،‬أو كما يذهب اجلابري إىل أن العرب يوجدون يف املاضي‪ ،‬هذا‬
‫املاضي املسكون داخلهم‪.‬‬

‫هكذا انسحب الصراع بني القدمي واجلديد‪ ،‬ليوجد حالة من البلبلة واالضطراب‪ ،‬أو يوجد حالة‬
‫من العماء كما يقول بريس‪ ،‬حني نفقد الرؤية فإننا النرى األشياء على حقائقها كاملة‪ ،‬هذا الوضع‬
‫اإلشكايل يقودنا حقيقة إىل رسم مسارات خاصة نفك معها االرتباطات اإلشكالية‪ ،‬أو أن نفصل‬
‫االرتباطات املتشاكلة يف حلظة تعيني اإلشكالية اليت مت فيها االلتحام بني عناصر اإلشكال كما‬
‫يذهب إىل ذلك نصر حامد أبو زيد‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وتأسيسا على ما مت‪ ،‬يتحتم على البحث تعيني اجملال املعريف الذي سيقارب داخله إشكاليته‪،‬‬
‫باعتبار العينة اليت ستقتصر على البحث يف النظرية النقدية العربية احلديثة‪ ،‬ويعني اللحظات اليت‬
‫اصطنعت فيها األزمة‪ ،‬ليفك االرتباط بني عناصرها‪ ،‬مما مي ّكنه من تشكيل بنية قلقة داخل هذا البناء‪،‬‬
‫هذه البنية اليت سيدرس البحث من خالهلا بدقة‪ ،‬التحوالت النامجة عن الرتاكم املعريف الذي ترسب‬
‫يف شكل طبقات متشاكلة‪ ،‬ليفصل املكرور عن القارئ‪ ،‬أو يضع حواجز متنعنا الوقوع يف متنعات‬
‫هذه البىن املرتاكمة‪ ،‬ألن البحث سيصطدم بداهة بصرح تراثي ترسب خالل حقب زمنية متباعدة‪،‬‬
‫وسيتفادى البحث تلك القراءة التلفيقية‪ ،‬اليت ال تدفع بالعملية القرائية إىل آماهلا املبتغاة‪ ،‬وسينأى‬
‫بنفسه عن إصدار تلك األحكام الناجزة اجلاهزة اليت تقع يف الكثري من األحيان يف مطب املعيارية‬
‫والتقييمية‪ ،‬على اعتبار أن العينة اليت غامر البحث بدراستها عينة شاسعة ومرتامية األطراف‪ ،‬مما حتم‬
‫عليه السعي حنو ضبط هذه الشساعة عرب هيكلية تنظيمية قوامها الطرح املنهجي ملختلف الطروحات‬
‫النظرية واملمارسات التطبيقية اليت هنض البحث مبعاينتها‪.‬‬

‫وقد مت اصطفاء هذه املدونة ممثلة يف مجلة من املشاريع النقدية احلديثة واملعاصرة‪ ،‬ليصنع البحث‬
‫لنفسه إطارا معرفيا يقارب من خالله هذه املتون النقدية‪ ،‬علما أنه يسعى من خالهلا لرسم صريورة‬
‫العملية النقدية العربية احلديثة واملعاصرة‪ ،‬وقد متت عملية االصطفاء على مدونة الدكتور طه حسين‬
‫النقدية مرورا بإسهامات الدكتور شكري محمد عياد وانتهاء جبهود الدكتور جابر عصفور‪ ،‬غري أن‬
‫‪-‬‬ ‫عملية اختيار هذه املشاريع النقدية‪ ،‬إمنا متت من منطلق فاعلية التأثري اليت مارسها طه حسين‬
‫باعتباره ممثال لتوجه نقدي عريب حديث ش ّكل ما ميكن اعتباره مدرسة نقدية‪ -‬يف جيل النقاد العرب‬
‫املعاصرين من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى ألن هذه املشاريع متثل سلسلة نقدية ترجع يف أصل منها إىل‬
‫مدرسة طه حسين النقدية‪.‬‬

‫وسينتهج البحث إجراءات نقد النقد‪ ،‬ونظريات القراءة مبا توفره من أدوات حتدد جماالت‬
‫التحليل والدراسة‪ ،‬دون أن يسعى البحث إىل تنب واضح ومسبق ملنهج من املناهج‪ ،‬ومعىن هذا أن‬

‫‪4‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫املنهج مبعىن املقاربة الفكرية أو اإلبستمولوجية مبا حتمله من فرضيات مل يؤخذ بعني االعتبار‪ ،‬لكن‬
‫املنهج مبعىن مجلة اآلليات اإلجرائية كانت حمل اهتمام البحث‪.‬‬

‫واستتباعا هلذا تتضح إشكالية البحث على النحو اآليت‪ :‬هل هناك نظرية نقدية عربية؟ ماهي‬
‫أهم اإلشكاليات اليت تطرحها النظرية النقدية؟ هل استوعب العرب إشكاليات وتساؤالت النظرية‬
‫النقدية العربية احلديثة؟ أين اخللل؟ هل بطرحنا هذا نصطنع األزمة أم أن هناك أزمة نظرية فعلية؟‬
‫ماهو الدور النقدي الذي اضطلع به طه حسين يف املسرية النقدية العربية احلديثة؟ ماهي املبادئ‬
‫النظرية اليت ارتكز عليها طه حسين؟ وهل هناك رابط معريف بني الرتاث النقدي العريب والنظريات‬
‫الغربية؟ وما مدى إسهامات الدكتور شكري عياد يف العملية النقدية العربية احلديثة؟ وكيف استطاع‬
‫أن ميزج بني مقوالت البالغة العربية القدمية وإجنازات األسلوبيات احلديثة؟ وما هي أهم جهوده‬
‫النقدية يف جمال األسلوبية؟ أال ميثل شكري عياد حلقة نقدية واصلة بني جمرى العملية النقدية ممثلة‬
‫يف أعمال طه حسين ومرسى هذه العملية كما عند جابر عصفور؟ ما موقفه من احلداثيني العرب؟‬
‫أين يتموقع جابر عصفور على خارطة النقد العريب املعاصر؟ ما مدى حضور احلداثة النقدية يف‬
‫خطابه النقدي؟ ماهي إسهاماته النظرية والتطبيقية على املدونات الرتاثية؟ وكيف قرأ جابر عصفور‬
‫الرتاث؟ هل من داخل املنظومة الرتاثية أم مبا أسعفته به احلضارة الغربية؟‬

‫متثل هذه التساؤالت وغريها مادة جوهرية يقوم البحث لإلجابة عنها وبسطها‪ ،‬دون أن يدعي‬
‫امتالك احلقيقة النقدية كاملة‪ ،‬ولكن حياول البحث أن يبقي على مجلة من األبواب مشرعة‪ ،‬ليتم‬
‫احلفر من خالهلا يف خمتلف األنساق الثقافية واملعرفية اليت تروم سرب كنه هذه القضايا واإلشكاليات‪.‬‬

‫وبناء على ذلك‪ ،‬سعى البحث إىل تشخيص هذه التساؤالت واإلشكاالت من خالل ممارسات‬
‫عينية ملموسة افرتضت أدوات منهجية تارخيية واجتماعية‪ ،‬ومرتكزة على أدوات نقد النقد‪ ،‬األمر‬
‫الذي جعل البحث يتوزع إىل ثالثة أبواب‪ ،‬مص ّدرا مبقدمة ومتبوعا خبامتة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫انبىن الباب األول – وعنوانه‪ ،‬اخلطاب النقدي عند طه حسين‪ -‬على ثالثة فصول‪ ،‬اهتم أوهلا‬
‫باملرجعيات القرائية لطه حسين‪ ،‬إذ توزعت هذه املرجعيات بني مرجعيات تراثية‪ ،‬وأخرى حديثة‪،‬‬
‫وآخرها ليربالية‪ ،‬ليختم الفصل بأهم مدونات طه حسين النقدية‪ ،‬وانكب الفصل الثاين على تتبع‬
‫أهم األعمال النقدية لطه حسين يف مرحلة البدايات‪ ،‬ممثلة يف اتباعه سبيل املنهج التارخيي يف قراءته‬
‫ملختلف املدونات الرتاثية‪ ،‬كدراسته أليب العالء‪ ،‬وفلسفة ابن خلدون‪ .‬لينهض الفصل الثالث على‬
‫حتسس مفاصل العملية النقدية عند الرجل يف قراءته للشعر اجلاهلي‪ ،‬وانتهاجه منهج الشك‬
‫الديكاريت سبيال للوصول إىل احلقيقة‪.‬‬

‫أما الباب الثاين فقد اشتغل على إبراز فاعلية اجلهود النقدية للدكتور شكري حممد عياد ومحل‬
‫العنوان اآليت‪ :‬شكري عياد‪ ،‬احللقة النقدية الواصلة‪ .‬وارتكز على ثالثة فصول عملت على إضاءة‬
‫املشروع النقدي عند الرجل ‪ ،‬فدرس الفصل األول اخللفيات املعرفية اليت صاغت املشروع النقدي‬
‫عنده‪ ،‬وتابع الفصل الثاين مباحث املوائمة بني البالغة العربية القدمية واألسلوبيات احلديثة‪ ،‬ووقف‬
‫البحث عند النقاط املضيئة اليت ميزت املسرية النقدية لعياد‪ ،‬مث متحور الفصل الثالث حول أهم‬
‫املواقف النقدية لعياد ممثلة يف مناهضته للحداثيني العرب‪ ،‬وكذا تبيان موقفه العام من احلداثة العربية‪،‬‬
‫ومشروعه يف تأسيس حداثة عربية‪.‬‬

‫وكان الباب الثالث الذي محل عنوان أزمة املنهج يف اخلطاب النقدي عند جابر عصفور‪،‬‬
‫وتوزع على فصلني ‪ ،‬أبرز أوهلما خطاب احلداثة عند جابر عصفور‪ ،‬وتتبع جممل القضايا النقدية‬
‫احلداثية اليت حبثها عصفور‪ ،‬إضافة إىل الوقوف عند أهم املواقف النقدية احلداثية اليت انربى عصفور‬
‫للذود عنها‪ .‬وتابع الفصل الثاين املهمة لكن انشغل هده املرة بكيفيات قراءة الرتاث النقدي عند‬
‫جابر عصفور‪ ،‬وسعى إىل معاينة أهم السبل اليت انتهجها عصفور يف قراءته للرتاث النقدي‪ ،‬مث‬
‫حتسس وشائج التضام اليت عملت على نسج تلك اللحمة بني أعماله الرتاثية‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مث كانت اخلامتة اليت صاغت جممل االستخالصان والنتائج اليت وصل البحث إليها‪ ،‬دون أن‬
‫ت ّدعي أهنا الكلمة الفصل‪ ،‬يف حبث حيتاج إىل دراسات أخرى تدفع إىل بلوغ غايات خمتلفة ملا توصل‬
‫إليه هذا البحث‪.‬‬

‫وقد استعان البحث جبملة من املصادر واملراجع اليت أضاءت سبيله مبا أتاحته من مادة معرفية‬
‫مرتاكمة‪ ،‬ومتشعبة‪ ،‬فإضافة إىل أهم املتون النقدية لكل من طه حسين وشكري عياد وجابر‬
‫عصفور‪ ،‬واليت شكلت املصادر األساسية للبحث‪ ،‬إضافة إىل هذا ‪ ،‬فقد عمل البحث على اإلفادة‬
‫من بعض املؤلفات النقدية اليت ال تقل أمهيتها املعرفية عن مادة املصادر األساسية‪ ،‬كمؤلفات الدكتور‬
‫عبد العزيز محودة‪ ،‬املرايا احملدبة واملرايا املقعرة‪ ،‬إضافة إىل مؤلفات أدونيس‪ ،‬وصالح فضل‪ ،‬وسيد‬
‫البحراوي‪ ،‬وعبد الرزاق عيد وغريهم‪ ،‬مما أفاد البحث من طروحاهتم النظرية والتطبيقية‪.‬‬

‫هذا وإن كان ال خيلو أي حبث من متاعب وصعوبات تعرتض سبيله‪ ،‬فإن معاناة هذا البحث‬
‫إمنا مردها إىل سعة املدونة النقدية اليت اشتغل البحث عليها‪ ،‬وتشعب مسالك الدراسة يف منازعها‬
‫النقدية‪ ،‬أضف إىل ذلك‪ ،‬أن هذه السعة وهذا التشعب‪ ،‬خيلقان نوعا من عدم االطمئنان واالرتياح‬
‫جلملة النتائج اليت سيصلها البحث وذلك لكثرة الدراسات اليت تناولت هذه القضايا – وإن كانت‬
‫مغايرة يف طرحها ويف نتائجها ملا سلكه هذا البحث‪ -‬خمافة احلراثة يف املاء‪ ،‬فقد حظي طه حسين‬
‫بكم هائل من الدراسات والبحوث حول مشروعه النقدي والثقايف واحلضاري‪ ،‬مما جيعل أية‬ ‫مثال ّ‬
‫جماوزة هلذه البحوث جمازفة ال تؤمتن عواقبها‪ ،‬فضال عن السقوط يف فخ التكرار والتسطيح‪ .‬غري أن‬
‫عزاء الباحث هو هذا اجلهد املتواضع‪ ،‬وهو جهد املقل الذي يطمح إىل أن يضيف هذا البحث لبنة‬
‫أخرى يف صرح النقد واملعرفة‪ ،‬وحسبه احملاولة املخلصة واهلادفة إىل تقدمي اإلضافة املمكنة‪.‬‬

‫وأخريا ال يسعين يف هذا املقام الكرمي‪ ،‬إال أن أتقدم بأمسى عبارات التقدير والتبجيل واالحرتام‬
‫إىل أستاذي املشرف على هذا العمل األستاذ الدكتور يوسف األطرش‪ ،‬الذي سعدت بإشرافه العلمي‬
‫الصارم على جزئيات هذا البحث ‪ ،‬وعلى حرصه واهتمامه البالغني إلجنازه يف أحسن حلة‪ ،‬وأهبى‬

‫‪7‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫طلعة‪ .‬وعلى مالحظاته الدقيقة يف تقومي هذا البحث‪ .‬فله مين خالص التقدير واالمتنان وجازاه اهلل‬
‫عين خري اجلزاء على صربه معي وصربه علي‪.‬‬

‫عني زاال ‪:‬ي‪3102/10/10 :‬‬

‫‪8‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الباب األول ‪:‬‬


‫اخلطاب النقدي عند طه حسني‬
‫الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬طه حسني و مرحلة تأسيس الكتابة النقدية‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬إشكالية قراءة الرتاث الشعري عند طه حسني‬

‫‪9‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل األول ‪:‬‬


‫مرجعيات القراءة عند طه حسني‬
‫‪ .1‬مرحلة البدايات‬
‫‪ .1.1‬يف الريف املصري‬
‫‪ .1.1‬يف األزهر‬
‫‪ .1.1‬يف اجلامعة‬
‫‪ .1.1‬يف السوربون‬
‫‪ .1‬طه حسني و املرجعية الليربالية‬
‫‪ .1‬آثار طه حسني‬

‫‪10‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .1‬مرحلة البدايات‪:‬‬

‫ينهض هذا القسم من الدراسة على إبراز خمتلف املرجعيات املعرفية اليت صاغت املشروع‬
‫النقدي لطه حسين‪ ،1‬إذ من املفيد الوقوف بنوع من التحليل والتتبع لصريورة هذه املصبات الفكرية‬
‫اليت أسهمت يف تكوين عقل الرجل‪ ،‬ويف رأيي أهنا نزعت منزعني اثنني‪ .‬تفرع عنهما فيما بعد‬
‫تشربه طه حسين يف مرحلة البدايات‬
‫مصبات أخرى فرعية‪ ،‬أقصد بالنوع األول التكوين الرتاثي الذي ّ‬
‫من تعليمه باألزهر واختالفه على حلقات البحث اليت كانت تعقد من قبل شيوخ املساجد‪ ،‬وأما‬
‫النوع الثاين وهو األهم يف نظره وهو مزاولة الدراسة باجلامعة من قبل جمموعة من األساتذة‬
‫املستشرقني الذين رمسوا معامل الطريق النقدية يف توجهه فيما بعد‪ ،‬والشك أن هذين الرافدين املهمني‬
‫مها اللذان رمسا شخصية طه حسين النقدية يف خمتلف مؤلفاته فيما بعد‪.‬‬

‫‪ -0‬التكوين الرتاثي (التقليدي)‬

‫‪ -3‬التكوين العلمي (احلديث)‪.‬‬

‫‪ 1‬ولد طه حسني يف الرابع عشر من شهر نوفمرب عام ‪ 0880‬بقرية تعرف باسم ( عزبة الكيلو) قرب مدينة (مغاغة) يف حمافظة‬
‫املنيا بصعيد مصر‪ ،‬أصابه الرمد يف سن مبكرة ففقد بصره إثر ذلك‪ ،‬ومل متنعه عاهته من حفظ القرآن الكرمي ومل يبلغ التاسعة‬
‫من عمره‪ ،‬مث انتسب إىل األزهر عام ‪ 0013‬الذي كان يعده يف بداية األمر منبع العلم واملعرفة‪ ،‬وكانت أمنيته أن يصبح عاملا‬
‫أزهريا‪ ،‬مث مالبث أن تربم بطرقه العتيقة البالية يف نظره‪.‬وسيأيت يف البحث ذكر أهم احملطات املعرفية اليت ارتادها‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أما املرجعية األوىل فهي اليت بصمت طه حسين ببصمتها األولية يف كيفية قراءة املوروث‬
‫اإلبداعي العريب‪ ،‬ممثلة يف دروس الشيخ المرصفي وهي القراءة الرتاثية لتلك اآلثار اإلبداعية املقررة‬
‫على الطلبة باألزهر آنذاك‪ ،‬وهي القراءة املسؤولة عن استكناه اجلوانب النحوية والبالغية قصد بلوغ‬
‫املنحى اجلمايل يف النص اإلبداعي القدمي‪ ،‬ويعرتف طه حسين بفاعلية تلك القراءة يف صقل املوهبة‬
‫النقدية للقارئ معلنا يف مقدمة كتابه "جتديد ذكرى أيب العالء" "أستاذنا اجلليل سيد بن علي‬
‫املرصفي أصح من عرفت مبصر فقها يف اللغة وأسلمهم ذوقا يف النقد‪ ،‬وأصدقهم رأيا يف األدب‪،‬‬
‫وأكثرهم رواية للشعر والسيما شعر اجلاهلية وصدر اإلسالم‪ 1".‬هو اعرتاف وإقرار مبدى سعة عقل‬
‫هذا الرجل ومكانته الفكرية واألدبية يف األوساط األزهرية قبل أن ينتقل الطالب إىل الدراسة باجلامعة‪.‬‬
‫وحيدد طه حسين حداثة سنه يف اختالفه إىل دروس الشيخ إذ يقول ‪":‬كان يدرس األدب يف األزهر‬
‫الشريف‪ ،‬وبدأت أختلف إليه وملا أعد السادسة عشرة‪ ،‬فلزمته أربع سنني ما أذكر أين انقطعت عن‬
‫درسه‪ ،‬أو ختلفت عن جملسه"‪.2‬‬

‫ترسم تلك الدروس صورة ناصعة للشيخ يف ذهن الطالب‪ ،‬وتصوغه على مثاهلا يف النقد‬
‫والقراءة‪ ،‬واإلحاطة بعلوم اللغة والدين فيكاد يكون الطالب صورة أخرى ألستاذه كيف ال وهو ال‬
‫يفارق جملسه لإلملام مبا جادت به قرحية الشيخ من شىت املعارف والعلوم ويتطور ذلك االهتمام‬
‫ليصبح كلفا بالشيخ وحبا لدروسه يقول طه حسين‪" :‬حب األستاذ ودرسه قد أثر يف نفسي تأثريا‬
‫‪3‬‬
‫كونا هلا يف األدب والنقد ذوقا على مثال ذوقه"‬
‫شديدا‪ ،‬فصاغاها على مثاله‪ ،‬و ّ‬
‫أما املرجعية األخرى اليت أسهمت يف بلورة الوعي النقدي عند الرجل فهي القراءة احلديثة‬
‫للنص اإلبداعي القدمي‪ ،‬اليت تلقاها على أيدي مجلة من األساتذة املستشرقني‪ ،‬يأيت يف طليعتهم‬
‫املستشرق اإليطايل كارلو نالينو (‪ )CARLO Nallino‬الذي بصم التلميذ ببصمته يف كيفية قراءة‬
‫النص القدمي‪ ،‬األمر الذي جنم عنه تأثر واضح من قبل الطالب بتقنيات وآليات القراءة احلديثة اليت‬
‫أتى هبا هؤالء املستشرقون‪.‬‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬اجملموعة الكاملة ملؤلفات الدكتور طه حسني‪ ،‬الشركة العاملية للكتاب‪ ،‬مكتبة املدرسة‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪ ،0082 ،3‬مج‪ ،01‬ج‪ ،0‬ص‪.0 :‬‬
‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.0 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.0 :‬‬
‫‪12‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إذا فقد تنوعت مجلة هذه املصادر واملرجعيات اليت عملت على صياغة الوعي النقدي عند‬
‫طه حسين‪ ،‬وهي اليت أسهمت فيما بعد يف بلورة هذا الوعي الذي انبجست عنه خمتلف قراءاته‬
‫سواء أكانت تراثية أم حداثية‪ ،‬األمر الذي حدا به إىل حماولة اإلملام بكل هذه املرتكزات اليت أوجدت‬
‫طه حسين الناقد األديب وحىت الناقد الثقايف‪ ،‬وما من شك يف أن هذه املصادر هي اليت وجهت عقله‬
‫النقدي‪ ،‬صوب مجلة من القضايا اليت تنازعتها أقالم الباحثني‪ ،‬وعملت على مزج الروح اخلالفية اليت‬
‫كانت نفسية طه حسين حتتضنها‪ ،‬فسرعان ما وقفت هذه املنابع القرائية مبثابة احلافز‬
‫(‪ )Motivation‬الذي يدفع به إىل ارتياد مناطق بكر يف الساحة النقدية والثقافية العربية‪ ،‬األمر‬
‫الذي مسح له مبالمسة هذا النسيج الثقايف واملعريف‪ ،‬الذي يزخر به تراث األمة العربية‪ ،‬وميكن أن يرجع‬
‫تكوينه الفكري والثقايف إىل عدة عناصر "ليست منفصلة وإمنا متصلة‪ ،‬متمازجة يف النسيج العام‬
‫لفكره"‪ 1.‬وهذه العناصر تؤسس يف خلفيتها املعرفية لعقل متقد ميتح معينه النقدي من ينابيع شىت‪،‬‬
‫القدمية منها واحلديثة‪ ،‬ألن العقل الناقد ال ميكن أن يركن ويطمئن إىل كل ما هو مسلّم به ومعتقد أنه‬
‫بديهي دون اخلوض فيه؛ بل إنه العقل الوثّاب الشكاك الذي يستبدل الشك باليقني واالضطراب‬
‫بالطمأنينة‪ ،‬وهو األمر الذي حدا بطه حسين إىل ارتياد هذه املناطق املعتمة من الرتاث قصد‬
‫استنطاقها وفك شفرات معانيها ونزع أردية التدثر عنها‪.‬‬

‫أما مجلة هذه املرجعيات فقد تنوعت وتعددت كما أسلفنا إىل مرجعيات تراثية ومرجعيات‬
‫املكون األساس لشخصية طه حسين الناقد والقارئ‪ ،‬إهنا يومياته‬
‫حدثية دون أن جنوز أو نغفل ّ‬
‫وحياته يف الصعيد املصري‪.‬‬

‫‪: -1.1‬ي الريف املصري‬

‫هي املرحلة اليت أسست لعملية التأثري املباشر الذي مارسته البيئة املصرية وباخلصوص الصعيد‬
‫املصري يف فكر الرجل‪ ،‬إذ حبكم آفته البصرية كان يستمع "إىل نساء القرى إذا خلون إىل أنفسهن‪،‬‬
‫أن يذكرن آالمهن وموتاهن فيعددن‪...‬وكان‪ ...‬أسعد الناس باالستماع إىل أخواته وهن يتغنني وأمه‬
‫وهي تعدد"‪ .2‬وحبكم عملية السماع حفظ الفىت كثريا من األغاين واألناشيد وكثريا من "عبارات‬

‫‪ 1‬مصطفى عبد الغين‪ :‬حتوالت طه حسني‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬ص ‪ ،0001‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 2‬طه حسني‪ :‬األيام‪ ،‬مركز األهرام للرتمجة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،3112 ،3‬الكتاب األول‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫‪13‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫التعديد وكثريا من جد القصص وهزله‪ ،‬أضف إىل ذلك ما كان لتأثري العادات والتقاليد االجتماعية‬
‫من أثر بالغ يف تشكيل شخصيته العقلية واالجتماعية فكان هلا تأثري كبري فيه مثل رياح اخلماسني‬
‫اليت كانت تسبق أيام النسيم حيث كان الناس (إذا أظلهم يوم اجلمعة أسرفوا يف األكل ويف ألوان‬
‫امللون‪ ،‬وكان الفقهاء قد استعدوا‬
‫خاصة من الطعام‪ ،‬حىت إذا كان يوم السبت أسرفوا يف أكل البيض ّ‬
‫هلذا اليوم استعدادا خاصا‪ ،‬فاشرتوا ورقا أبيضا مصقوال‪ ،‬وقطعوه قطعا صغارا دقاقا) إىل آخر السرد‬
‫الذي يذهب إىل أن هذه األوراق تشفي الرمد من العيون يف موسم اخلماسني وهو ما يُردد يف‬
‫أيامه"‪.1‬‬

‫إن التأثري املباشر للبيئة املصرية آنذاك هو من بني املصادر اليت غ ّذت عقل الفىت هبذه الطقوس‬
‫والعادات والتقاليد‪ ،‬اليت كان هلا صدى فيما بعد أثناء عمليات الكتابة اليت مارسها طه حسين‪ ،‬وقد‬
‫أهلمت هذه البيئة الكاتب إهلاما حادا خاصة يف اختيار شخصياته األدبية كما هو احلال يف مؤلفه‬
‫'"األيام" إذ جند هلا صدى يف عامله احلقيقي اخلارجي‪ .‬ونستطيع أن نرد العديد من الشخصيات اليت‬
‫مر هبا يف صباه وذكرها يف األيام‬
‫وردت يف قصصه "إىل مقابل هلا من أشخاص وأحداث حقيقية ّ‬
‫كاجلد وسيّدنا والعريف ومشايخ الطرق ومفتش الطرق ومفتش الزراعة واملأمور‪ ،‬إىل جانب أن أغلب‬
‫تشبيهاته وشخوصه املستعارة اليت وردت يف أعماله السياسية ‪،‬ميكن أن جندها – باملقابل‪ -‬تعود إىل‬
‫رموز تضرب يف أعماق الصيب يف بيئته األوىل‪ 2".‬تلك إذا هي تأثريات بيئة الريف املصري على حياة‬
‫الفىت يف بداية األمر‪.‬‬

‫‪: -2.1‬ي األاهر‬

‫أما حني انتقل إىل املدينة فإنه رأى "لونا آخر من احلياة‪ ،‬ففي مدرسة "اجلريدة" خاصة تبلورت‬
‫مكوناته األوىل عن الفكرة املصرية اليت انتهت به إىل الفكرة القومية‪ ،‬واليت انعكس فيها إحساس‬
‫لطفي السيد بالتاريخ املصري‪ ،‬وبالنتائج اليت توصل إليها عن اآلثار املصرية القدمية"‪ .3‬ويف املدينة‬

‫‪ 1‬مصطفى عبد الغين‪ :‬حتوالت طه حسني‪ ،‬ص‪.32 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.38 ،32 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.38 :‬‬
‫‪14‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪1‬‬
‫أيقن طه حسين أن مكونات العقل املصري تتصل "اتصاال قريبا ومنظما مؤثرا يف حياته ومتأثرا هبا"‬
‫ويغذي ذلك ما تلقاه يف اجلامعة املصرية القدمية من دروس يف احلضارة املصرية القدمية‪ ،‬على يد‬
‫"أمحد كمال" الذي شرح لطالبه الصلة بني اللغة املصرية القدمية وبني اللغات السامية ومنها العربية‪،‬‬
‫ويستدل على ذلك بألفاظ من اللغة املصرية القدمية يردها إىل العربية مرة وإىل لغات سامية مرة‬
‫أخرى‪ ،‬إضافة إىل ذلك فقد عمل عنصر اللغة والدين دورا بارزا يف إثبات الشخصية الفكرية لطه‬
‫حسين‪ ،‬يؤكد ذلك ما جاء يف قوله‪...":‬فاللغة العربية فينا ليست لغة أجنبية وإمنا هي لغتنا‪ ،‬وهي‬
‫‪2‬‬
‫أقرب إلينا ألف مرة ومرة من لغة املصريني القدماء‪ ،‬وقل مثل ذلك يف الدين‪ ،‬ومثله يف األدب"‬
‫وترتبط اللغة والدين عنده مبا أسهما به يف بلورة الوعي الديين املتقدم الذي ّبوأه تلك املكانة املرموقة‬
‫يف تتلمذه باألزهر‪ ،‬عندما كان صبيا إضافة إىل تسجيله كل تلك املطارحات الفكرية اليت كانت جتري‬
‫صورها يف كتابه األيام‪ ،‬غري أنه ارتبط ارتباطا متينا بالشيخ "حممد‬ ‫بينه وبني شيوخه باألزهر كما ّ‬
‫عبده" وتأثره به تأثرا بالغا حينما مترد على نظم األزهر وتربم بالتعليم املتداول فيه‪.‬‬

‫يتتبع عبد العزيز المقالح املسرية العلمية واملعرفية لطه حسين عندما كان طالبا أزهريا وكيف‬
‫استقى منه علما وافرا من علوم الدين والفقه واألدب وغريه‪ ،‬و ّنوه باجلهود املعتربة اليت بذهلا يف سبيل‬
‫التحصيل العلمي والديين واألديب يف هذه املؤسسة العتيدة‪ ،‬واليت فتحت له مغاليق النصوص وفكت‬
‫شفراهتا عن طريق كوكبة من العلماء الذين تتلمذ عليهم‪ ،‬من أمثال الشيخ حممد عبده وغريه‪ ،‬غري أن‬
‫ما ينعاه املقاحل على الذين تعرضوا لطه حسين يف نقدهم الالذع حينا واجلارح حينا آخر‪ ،‬ورميهم إياه‬
‫بأنه اهلادم واملتمرد على هذه األصول األزهرية‪ ،‬ما ينعاه عليهم هو أن الرجل مثرة من مثار األزهر‬
‫وصاحب عقل مستنري وذا طبيعة جتاوزية ملا هو سائد سريا على خطى أستاذه الشيخ حممد عبده‪،‬‬
‫ألن الدين مل يعط ألحد صكوك الغفران أو منعها يقول املقاحل‪ ":‬كان طه حسين متمردا ولكنه كان‬
‫متمردا أزهريا‪ ،‬ويف مترده من فضائل األزهر الشريف الكثري جدا ويف نقده اللغوي والبياين والتارخيي ما‬
‫يذكر مبنهج األقدمني‪ ،‬وما يؤكد بأنه كان مستوعبا ألرفع من بلغته الثقافة العربية يف عصور االزدهار‪،‬‬
‫وأنه كان على إملام واسع وشامل بعلوم احلديث والفقه واألدب والشعر والتاريخ‪ ،‬وأنه مل يكن أقل من‬

‫‪ 1‬عبد العزيز شرف‪ :‬طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،0022 ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 2‬طه حسني‪ :‬فصول يف األدب والنقد‪ ،‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،0022 ،‬مج‪ ،5‬ص‪.00 :‬‬
‫‪15‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫بقية زمالئه األزهريني إسرافا يف اخلوض يف قضايا النحو والصرف وعلم البيان‪ ،‬وكل هذه املالحظات‬
‫العابرة تؤكد أزهريته وتشري إىل ما كان له من ثقافة عربية أصيلة ممتدة اجلذور"‪.1‬‬

‫يواصل المقالح طرح هذه األفكار املدافعة عن طه حسين حينا واملربزة ملرجعيته الرتاثية حينا‬
‫آخر‪ ،‬من منظور الناقد األديب الذي يعرض الفرضيات ليصل إىل مجلة من النتائج تكون قمينة برد‬
‫الفروع إىل األصول‪ ،‬وذلك يف حركة لولبية ال تنفك تتّبع هذه املؤثرات الرتاثية قبل األجنبية‪ ،‬فيصل‬
‫إىل نتيجة مؤداها أن كتاب "يف الشعر اجلاهلي" مثال مل يكن مثرة من مثار اتصاله بالثقافة الفرنسية‪،‬‬
‫اليت تأثر هبا فيما بعد خاصة على مستوى منهج الدراسة‪ ،‬إمنا يرجع بتأثره الكبري واملباشر باملوروث‬
‫النقدي والبالغي العريب يقول المقالح‪...":‬و حنن نزعم – منذ البداية‪ -‬أن طه حسين يف كل ما‬
‫ذهب إليه من آراء يف هذا الكتاب مل يكن إال ناقدا عربيا أزهريا‪ ،‬وإن ذلك الكتاب وهو أخطر كتبه‬
‫على اإلطالق وأحفلها بالتمرد واإلثارة‪ ،‬هو أقرب كتبه إىل املنهج األزهري وأشدها ارتباطا باألساليب‬
‫األزهرية وتقليب اآلراء على وجوهها املختلفة‪ ،‬كما أنه أيضا أوضح كتبه تأثرا بالنقاد العرب األقدمني‬
‫الذين شككوا يف كل شيء ووضعوا أسس العقالنية يف الدراسات األدبية سيما يف نقد الشعر‬
‫خباصة"‪.2‬‬

‫استتباعا ملا مت عرضه فقد تآلفت مجلة من الظروف يف بلورة وصياغة الوعي‪ ،‬النقدي عند‬
‫العميد قبيل احلرب العاملية األوىل‪ ،‬وكانت مبثابة نقطة حتول بارزة يف مسريته النقدية والتأليفية‪ ،‬ذلك‬
‫أن الرجل عاصر مجلة من القامات السامقة يف جمال اللغة والفقه واألصول وغريها من العلوم‬
‫واملعارف‪ ،‬واليت أسهمت يف تشكيل اللبنات األوىل يف التكوين املعريف له‪ ،‬يصف طه حسين تلك‬
‫الفرتة بقوله‪ ":‬ففي أواخر القرن املاضي وأوائل هذا القرن ظهرت املقدمات اليت تنبئ مبا كان أدبنا‬
‫مشرفا عليه من تطور خطري‪ ،‬ظهرت آثار الشيخ "حممد عبده" و"قاسم أمني" و"املويلحي" و"عبد‬
‫اهلل ندمي" و"البارودي" و"حافظ وشوقي" و"مطران" وكان هؤالء مجيعا وكثري من أمثاهلم يصورون آخر‬
‫عصر وأول عصر آخر‪ ،‬يصورون طورا من أطوار االنتقال‪ ،‬فهم كانوا حيافظون على كره وجيددون على‬
‫استحياء‪..‬مث كانت الواقعة الكربى اليت هزت العامل كله مخس سنني‪ 3‬وإذا اجلذوة املصرية تتوهج‬

‫‪ 1‬عبد العزيز املقاحل‪ :‬عمالقة عند مطلع القرن‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0088 ،3‬ص‪. 28 :‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪ 3‬يقصد بذلك احلرب العاملية األوىل‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫فرتسل ضوءها وشررها إىل ما حوهلا من البالد العربية وإذا األدب العريب حييا يف ذلك الوقت حياة‬
‫عنيفة خصبة خمتلفة مل يعرفها منذ زمن بعيد جدا" ‪.1‬‬

‫مثّلت هذه املرحلة مرحلة البدايات يف متثل كيفيات الدراسة باألزهر‪ ،‬وهي اليت حركت دوافعا‬
‫دفينة يف نفسية الرجل‪ ،‬وأثرت مسريته الفكرية فيما بعد‪ ،‬وصاغت توجهه املعريف حنو التجاوز املمكن‬
‫للطرق العتيقة اليت كان األزهر يعكف على توصيلها لطالبه‪ ،‬فالرجل مل يرض هنمه العلمي اجلامح أن‬
‫يظل حبيس األطر األزهرية التقليدية يف مقاربة النصوص وشرحها وفهمها‪ ،‬إمنا أصبح حيس أن طرحه‬
‫املعريف أكرب من أن يضبط بضوابط األزهر البالية آنذاك‪.‬‬

‫يعرتف طه حسين بذلك قائال‪":‬إن املدة اليت قضيتها يف األزهر‪ ،‬كانت فرتة انتقال‪ ،‬فكان‬
‫حممد عبده يفسر القرآن على طرق حديثة والشيخ املرصفي يعلمنا األدب‪ ،‬وكالمها يذم الطرق‬
‫األزهرية‪ ،‬وكان قاسم أمني يقول حبرية املرأة‪ ،‬وفتحي زغلول يرتجم لنا كتبا قيمة واجلريدة تنادي مبعايري‬
‫جديدة يف السياسة واالجتماع‪ ،‬فكنا يف اضطراب ذهين ال نستقر وشعرنا حنن تالميذ الشيخ املرصفي‬
‫أن طرق األزهر عتيقة فكنا نتكلم ونناقش عن اإلصالح الذي يقول به الشيخ حممد عبده‪ ،‬وقد‬
‫حضرت له حماضرتني ولكن مع ذلك الوقت شعرت أن األزهر مل يعد يشبع ما يف نفسي من‬
‫األغراض األدبية فرتكته والتحقت باجلامعة املصرية"‪.2‬لكن رغم تربمه بأسلوب األزهريني ونقمته عليهم‬
‫مل مينع أن تكون" السنوات اليت قضاها يف األزهر من أهم مراحل تكوينه العقلي‪ ،‬اليت أصبحت قواما‬
‫أساسيا لثقافته اللغوية والنقدية فكل ما ميتاز به أسلوبه من الرصانة والفصاحة يرجع إىل هذه الفرتة‬
‫اليت تعلم فيها دروس األدب على شيوخ األزهر وخاصة املرصفي"‪ 3‬الذي أسهم يف حتوله"من الدراسة‬
‫الدينية التقليدية إىل دراسة األدب العريب القدمي مبنهج جديد"‪.4‬‬

‫لقد استمرأ طه حسين هذا الدرس فلزم أستاذه‪ ،‬وكان حيفظ كل ما يلقى إليه‪ ،‬وانتقل معه يوم‬
‫انتقل املرصفي من األزهر إىل داره‪ ،‬فعرف معىن األدب القدمي وازداد به تعلقا وإليه انصرافا حىت ساء‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬ألوان‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،2‬ص‪.32 ،32 :‬‬
‫‪ 2‬سامي الكيايل‪ :‬مع طه حسني‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط ‪ ،3‬دت‪ ،‬ص‪.08 ،02:‬‬
‫‪ 3‬عبد العزيز شرف‪ :‬طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي‪ ،‬ص‪.25 :‬‬
‫‪ 4‬مصطفى عبد الغين‪ :‬حتوالت طه حسني‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫‪17‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ظن أصحابه فيه‪ ،‬فنفوه عن جهة العلم الصحيح وع ّدوه صاحب شعر ينشد وكالم يقال‪ 1‬أما طه‬
‫حسين فأحكم صلته باملرصفي ولزمه أربع سنوات صقل فيها ذوقه وأصبح على علم مبذاهب الشعر‬
‫وطريقة تذوقه وفهمه يقول‪...":‬ومل يقف األمر بيين وبينه على ما يكون بني األستاذ والتلميذ من‬
‫الصلة بل نشأ بيننا نوع من احملبة يشوهبا يف نفسي اإلجالل واإلكبار ويف نفسه العطف واحلنان‪....‬‬
‫حب األستاذ ودرسه قد أثر يف نفسي تأثريا شديدا‪ ،‬فصاغاها على مثاله‪ ،‬وكونا هلا يف األدب والنقد‬
‫ذوقا على مثال ذوقه‪ ،‬إيثار للبدوي اجلزل على احلضري السهل‪ ،‬وكلف مبناحي اإلعراب يف فنون‬
‫القول‪ ،‬ونبو عن تكلف املولدين ألنواع البديع وانتحاهلم أللوان الفلسفة واملنطق‪ ،‬وبغض شديد حلكم‬
‫الضرورة يف الشعر‪ ،‬وللفظ السهل املهلهل يقع بني األلفاظ اجلزلة الفخمة‪ ،‬إىل غري ذلك مما هو إىل‬
‫مذهب القدماء من أئمة اللغة ورواة الشعر أدىن منه إىل مذهب احملدثني من األدباء والنقاد"‪.2‬‬

‫عرف طه حسني على الشيخ المرصفي أمهات الكتب العربية القدمية اليت ال حتسب يف كتب‬
‫األزهر‪ ،‬من أمثال ديوان احلماسة وهنج البالغة بشرح اإلمام حممد عبده والكامل للمربد ومقامات‬
‫احلريري واهلمذاين واملعلقات وكتب اجلرجاين يف البالغة وكتاب سيبويه واملفصل يف النحو‪ ،‬فأخذ‬
‫يستوعبها وما جرى جمراها يف دار الكتب على وجه اخلصوص مطبوعة كانت أو خمطوطة‪.3‬‬

‫إذا لقد تنوعت املصادر واملناحي األدبية والنقدية وتعددت مظان التأثري ومواطنه‪ ،‬ومما الشك‬
‫فيه أن املنهج املتبع والسبيل الذي راده الشيخ هو نفسه الطريق واملنهج الذي سار فيه التلميذ بعد‬
‫ذلك‪ ،‬بدء من تكوين ملكة قوية يف الذوق الذي يكون حكرا على القدمي واجلزل والبدوي‪ ،‬مث كلفه‬
‫بصحة األسلوب وإعرابه ملا هلذا األخري من تأثري على امللكة األوىل‪ ،‬أي الذوق مث نفور ونبو من‬
‫أشعار املولدين الذين هلثوا وراء صناعة البديع‪ ،‬وكلفوا بألوان الفلسفة واملنطق‪ ،‬مث أخريا تتبع وسري‬
‫على منوال القدماء وما ارتضوه من حكم ونقد وبعد عن كل ما هو مولّد وحديث‪ ،‬تلك إذا هي‬
‫اخلطوات األوىل اليت صاغت الفكر النقدي عند طه حسين ممثلة يف عظيم تأثره بأستاذه الشيخ‬
‫املرصفي‪ ،‬مما جعل الطالب صورة ثانية لألستاذ ال يكاد جياوزه أو حىت خيالفه‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر طه حسني‪ :‬األيام‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.021 :‬‬


‫‪ 2‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.00 ،01 :‬‬
‫‪ 3‬ينظر حلمي مرزوق‪ :‬تطور النقد والتفكري األديب احلديث يف الربع األول من القرن العشرين‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬ط‪ ،3112 ،0‬ص‪.221 ،250:‬‬
‫‪18‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يتتبع أحمد بوحسن املؤثرات الفكرية والسياسة اليت طبعت الفكر النقدي عند الرجل يف‬
‫بداياته الفكرية‪ ،‬وحياول أن يلم مبجمل التيارات الفاعلة يف الساحة الثقافية املصرية فيعدد الصحافة‬
‫واألحزاب السياسية اليت كانت متور هبا مصر آنذاك يقول‪":‬كانت الصحافة من أهم اجملاالت اليت‬
‫حترك فيها منذ بداية حياته الفكرية فوجدها وسيلة لالتصال واملواجهة‪ ،‬وإذا كان الفضل يعود إىل‬
‫"اجلريدة" و"مصر الفتاة" و"اهلداية" و"العلم" و"الشعب" فإن طه حسين سيعزز منذ هذه املرحلة‬
‫أيديولوجية حزب األمة وجيدها تستجيب لكثري من تطلعاته ويتلمس فيها جانبا من جوانب مشروعه‬
‫الفكري"‪.1‬‬

‫فعال يف صياغة الفكر النقدي للرجل‪ ،‬وإذكاء‬ ‫من مجلة املؤثرات اليت أسهمت بشكل ّ‬
‫مشروعه الفكري النهضوي‪ ،‬ما متثله يف بداياته للفكر الليربايل الذي بدأ يف الرواج يف الساحة الثقافية‬
‫املصرية‪ ،‬وما مثله "أمحد لطفي السيد" من تأثري كبري يف فكره " وقد لقي خطاب لطفي السيد متسعا‬
‫وارتياحا يف صدر طه حسين‪ ،‬ذلك اخلطاب الذي ال يقف عند حدود مصر وتارخيها‪ ،‬بل يتعداه‬
‫ليمتد إىل الفكر الليربايل األوريب ويرى فيه ما مل يره يف الفكر األزهري احملافظ"‪ .2‬ذلك أنّه عمل منذ‬
‫يطور‬
‫بداية ممارسته الفكرية على جتاوز ما هو كائن‪ ،‬دون إلغاء املوروث أو نفيه‪ ،‬بل حاول أن ّ‬
‫أساليب التفكري والتثقيف من خالل ما أتاحته الليربالية الوافدة من آليات يف إعادة قراءة الرتاث دون‬
‫نفيه‪ ،‬والسري به قدما حنو غايات كانت تتغياها النخبة الفاعلة يف الساحة الثقافة املصرية ومن مجلتهم‬
‫طه حسين"وبذلك لعبت القناعة الليربالية دورا هاما يف صياغة جانب هام من كتاباته النقدية"‪.3‬‬

‫ّأما حني يعرض الباحث الروافد املعرفية اليت ش ّكلت املرجعية النقدية للعميد فإنه يقسمها إىل‬
‫قراءتني األوىل كانت مستمدة من دروس الشيخ سيد بن علي المرصفي والثانية كانت متتح من‬
‫معني القراءة النقدية لكارلو نالينو‪ ،‬ويف تعقيبه على القراءة األوىل واليت ميكن أن نصطلح عليها‬
‫القراءة الرتاثية للرتاث فالباحث يصفها على أهنا‪":‬قراءة أساسية يف العملية النقدية اليت سيتعامل معها‬
‫طه حسين يف دراسته للنص األديب‪ ،‬كما تعترب ثابتا أساسيا سيوجه مشروع كتاباته النقدية عندما‬

‫‪ 1‬أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،0085 ،0‬ص‪.32 ،32:‬‬
‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪19‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حياول البحث عن قراءة جدية وصحيحة للنص العريب القدمي وبذلك تكون هذه القراءة تلتصق بذات‬
‫النص العريب وال تكاد تتعداها"‪.1‬‬

‫أما حني يستعرض النموذج اآلخر من القراءة ‪ -‬وهي القراءة املنهجية أو احلديثة للنص العريب‬
‫القدمي‪ ،‬واليت أخذ هبا طه حسين على يد أستاذه املستشرق نالينو‪ ،-‬فالباحث يصفها بأهنا قراءة‬
‫جتاوز النص إىل ما هو خارجه يقول‪ّ " :‬أما القراءة الثانية اليت ستساعد طه حسني على جتاوز القراءة‬
‫الداخلية األوىل وتتعدى ذات النص العريب‪ ،‬فهي اليت سيأخذها من أستاذه باجلامعة املصرية األستاذ‬
‫نالينو‪ ،‬وستكون هذه القراءة للنص العريب قراءة من اخلارج‪ ،‬إذ سيمده باملنهج الذي سيقدم به طه‬
‫حسني قراءته األوىل للناس يف صياغة جديدة تكشف عن أشياء ذات بال كما قال"‪.2‬‬

‫يظهر مما سبق أن هذا النوع من القراءة هي من ستمكن طه حسين من جتريبها يف الولوج إىل‬
‫عامل النص العريب القدمي‪ ،‬دون االكتفاء مبا كان يقدم عنه من شرح وتفسري وشيء يسري من التأويل‪،‬‬
‫وهي قراءة حداثية مقارنة بزمانه‪ ،‬وهي اليت صاغت الفكر النقدي عنده صياغة منهجية علمية ّبوأته‬
‫مكانة الريادة يف نقد النصوص العربية املختلفة واخلروج من هذه العملية النقدية بنتائج مل يعهدها‬
‫اجملتمع القرائي املصري آنذاك‪ ،‬فكانت مبثابة الفتح الكبري يف فكر الرجل‪ ،‬ملا أسهم به فيما بعد من‬
‫دراسات‪.‬‬

‫ينقل الباحث أمحد بوحسن طريقة كال األستاذين يف مقاربة النصوص العربية سواء أكانت‬
‫نقدية أم إبداعية‪ ،‬أما الطريقة األوىل فهي اليت يقوم فيها الشيخ املرصفي باتباع مجلة من اخلطوات‬
‫حني يقوم بدراسة كتاب الكامل للمربد‪ :‬رغبة اآلمل من كتاب الكامل‪:‬‬

‫‪ -‬يعرض كالم املربد كما جاء يف كتابه الكامل مث يشرحه بعد ذلك‪.‬‬

‫‪ -‬يؤكد على حتقيق السند‪.‬‬

‫‪ -‬يوضح ويضبط بعض األمساء والعبارات وحياول أن يعطيها وضعها اللغوي الصحيح‬
‫لتقرأ سليمة وصحيحة‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫نفسه‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪20‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ -‬يهتم بالشرح اللغوي ويرجع الكلمة إىل أصلها معتمدا يف ذلك على الشرح املعجمي‬
‫متوخيا من ذلك غرضا تعليميا‪.‬‬

‫‪ -‬يبدي إعجابه من حني آلخر ببعض املعاين الشعرية دون تعليل مفصل لذلك‪.1‬‬

‫يظهر من هذه اخلطوات أن قراءة املرصفي كانت تعتمد يف مجلة ما تعتمد على اجلانب اللغوي‬
‫الذي يتغيا القراءة السليمة للنص العريب‪ ،‬وتعتمد هذه القراءة على ملكة الذوق يف الوصول إىل‬
‫جتليات اجلمال الفين داخل النص القدمي‪ ،‬وهو األمر الذي مارسه طه حسين يف معظم مدوناته‬
‫النقدية يف مرحلة البدايات وحرص على إبرازه وتبيانه‪ ،‬معرتفا بفضل هذا النوع من الدراسة اليت تلقاها‬
‫من قبل الشيخ املرصفي يف معرفة النص من الداخل‪.‬‬

‫أما النوع الثاين من القراءة فهي اليت تأثر هبا الرجل فيما بعد اخنراطه باجلامعة املصرية وتتلمذه‬
‫على يد مجلة من األساتذة املستشرقني الذين بصموا الطالب ببصمتهم ويأيت يف طليعتهم املستشرق‬
‫اإليطايل األستاذ كارلو نالينو الذي درسهم حماضرات تاريخ اآلداب العربية وتعترب هذه القراءة قراءة‬
‫ثانية للنص العريب ضخها نالينو يف طلبته‪ ،‬فقد كانت حماضرات نالينو تعتمد على مجلة من اخلطوات‬
‫حيث يقسم موضوع حماضراته إىل عدة نقاط يتعرض هلا تباعا واحدة بعد األخرى‪ ،‬مث حيدد املوضوع‬
‫الذي يريد اخلوض فيه ويلتزم بذلك حىت ال يستطرد يف حديثه مث يذكر املصادر اليت يأخذ منها‬
‫نصوصه ويناقشها أحيانا بإعطاء األدلة‪ ،‬ويعطي رأيه املستقل يف كل فكرة‪ ،‬ويظهر بذلك مستقل‬
‫الرأي ويدحض حجة غريه باألدلة‪.2‬‬

‫تلك إذا أهم اخلطوات اليت يتبعها نالينو يف حتليل نصوصه‪ ،‬واليت أخذ هبا طه حسين يف‬
‫قراءاته للنص العريب يف الكثري من مقاالته النقدية‪ ،‬وجتلى ذلك فيما بعد بأخذه آليات البحث‬
‫التارخيي الذي أخذه عن نالينو وذلك بقوله‪...":‬إن املطلوب مين ليس إال أن أطبق على اآلداب‬
‫العربية أساليب البحث التارخيي اليت عادت على تاريخ آدابنا اإلفرجنية بطائل عظيم"‪ .3‬وهو املنهج‬

‫‪1‬ينظر‪ :‬أمحد بوحسن‪ ،‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪3‬كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية من اجلاهلية حىت عصر بين أمية‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،0021 ،3‬ص‪.52:‬‬
‫‪21‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الذي سيتبناه الناقد يف معظم كتاباته النقدية وبه حياول إعادة قراءة النص الشعري العريب القدمي‬
‫معتمدا على هذا املنهج‪.‬‬

‫تتشكل ‪ -‬إذا‪ -‬مرجعيات القراءة عند طه حسين من مجلة من املرجعيات اليت عملت على‬
‫بلورة الفكر النقدي له‪ ،‬ويقف يف مقدمتها تلك القراءات اهلادفة اليت تلقاها على يد الشيخ سيد‬
‫علي المرصفي يف البداية عندما كان طالبا باألزهر‪ ،‬مث أثناء اختالفه إىل اجلامعة املصرية وما تلقاه‬
‫على يد املستشرقني وعلى رأسهم كارلو نالينو (‪ ،)Carlo Nallino‬ويعرتف بفضل هذين الرجلني يف‬
‫تكوينه العلمي واملعريف واملنهجي بشيء كبري من التواضع يقول‪...":‬أما أنا فقد سجلت غري مرة‬
‫وأسجل اآلن أين مدين حبيايت العقلية كلها هلذين األستاذين العظيمني‪ :‬سيّد علي املرصفي‪ ...‬وكارلو‬
‫نالينو‪ .‬أحدمها علّمين كيف أقرأ النص العريب القدمي وكيف أفهمه يف نفسي وكيف أحاول حماكاته‬
‫وعلمين اآلخر كيف أستنبط احلقائق من ذلك النص‪ ،‬وكيف أصوغها آخر األمر علما يقرؤه الناس‬
‫وجيدون فيه شيئا ذا بال‪ ،‬وكل ما أتيح يل بعد هذين األستاذين العظيمني من الدرس والتحصيل يف‬
‫مصر ويف خارج مصر‪ ،‬فهو قد أقيم على هذا األساس الذي تلقيته منهما يف ذلك الطور األول من‬
‫أطوار الشباب‪ ،‬بفضلهما مل أحس الغربة حني أمعنت يف قراءة كتب األدب القدمي‪ ،‬وحني اختلفت‬
‫إىل األساتذة األوربيني يف جامعة باريس‪ ،‬وحني أمعنت يف قراءة كتب األدب احلديث‪ ،‬فال غرابة إذا‬
‫إيل من‬
‫أن تكون حيايت كلها ّبرا هبذين األستاذين وإكبارا هلما واعرتافا بفضلهما وشكرا ملا أهديا ّ‬
‫إيل من مجيل‪ ،‬وشهد اهلل ما قرأت يف كتاب قدمي وال حديث وال حاولت كتابة يف‬ ‫معروف وما أسديا ّ‬
‫األدب إال ذكرت أحدمها أو كليهما وأرسلت إليهما من أعماق نفسي حتية احلب واإلعجاب‬
‫والشكر والوفاء"‪.1‬‬

‫ال شك أن هذا األثر الكبري الذي تركه كل من المرصفي ونالينو يف الطالب هو الذي صاغ‬
‫فكره وصقل موهبته املعرفية وذلك لتضافر اجلانب الرتاثي واجلانب احلداثي‪ ،‬وهذا الزاد واملعني املعريف‬
‫هو املسؤول عن الكثري من اآلراء والطروحات النقدية اليت صدرت عنه يف خمتلف كتاباته النقدية بعد‬
‫ذلك‪.‬‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬مقدمة كتاب كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬ص‪.0 ،8 :‬‬
‫‪22‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪: -3.1‬ي اجلامعة‪:‬‬

‫التحق طه حسين باجلامعة منذ إنشائها سنة ‪ 0018‬وأخذ السريانية وأصول العربية واحلبشية‬
‫"على ليتمان وتاريخ الفلك عند العرب واآلداب على نالينو‪ ،‬وتاريخ الفلسفة اإلسالمية على‬
‫سانتالنا‪ ،‬وتاريخ الشرق القدمي على نالينو واالصطالحات الفلسفية على ماسينون"‪.1‬‬

‫يعترب هؤالء األساتذة مبثابة الواجهة اخللفية يف بلورة الوعي الثقايف عند طه حسين‪ ،‬ذلك أهنم‬
‫أسهموا بقسط وافر يف بسط معامل الطريق األوىل اليت عملت على صياغة الفكر النقدي فيما بعد‬
‫عند الرجل‪ ،‬وانطالقا من دروس هؤالء األعالم استقى طه حسين مراحل البدايات األوىل يف ضخ‬
‫جهازه املفاهيمي واملصطلحي بالكثري من املفاهيم واملبادئ‪ ،‬األمر الذي جنم عنه توجه معني من قبل‬
‫الرجل وهو ما بدا واضحا يف تلمس املعامل األوىل للنشاط النقدي له‪ ،‬وتتأسس النظرة النقدية عند‬
‫طه حسين من تلك اإلرهاصات األوىل للتشبع بالفكر اليوناين والفلسفة اليونانية اليت أسهمت يف‬
‫تسديد الرؤية النقدية له "وتعود عالقة طه حسين بالفكر اليوناين والروماين إىل دراسته بالسربون‬
‫حيث كان حيضر تاريخ اليونان على كلوتز )‪ (Glotz‬وتاريخ الرومان على بلوك وتاريخ األدب‬
‫يقرب‬
‫اإلغريقي على األستاذ كروازيت )‪ ...(Croiset‬وقرر منذ عودته من باريس والتحاقه باجلامعة أن ّ‬
‫يدرس التاريخ اليوناين القدمي إىل جانب التاريخ‬‫أصول احلضارة الغربية من الثقافة العربية‪ ،‬فبدأ ّ‬
‫الروماين القدمي"‪.2‬‬

‫لقد تغريت حياة طه حسين إثر اخنراطه باجلامعة وذلك ألهنا فتحت له آفاقا معرفية مل‬
‫يعهدها من قبل أثناء تواجده باألزهر‪ ،‬األمر الذي جعله جيدد األمل يف احلياة العقلية وأصبح يراها‬
‫أمرا مقدسا "‪...‬و ميضي العام األول من احلياة اجلامعية عيدا كلّه‪ ،‬ال حيس الفىت سأما أو ضيقا‪...‬‬
‫فقد أقبل أساتذة جدد ملكوا عليه أمره واستأثروا هبواه؛ فهذا األستاذ كارلو نالينو املستشرق اإليطايل‬
‫يدرس بالعربية أيضا‪ ،‬ويف‬
‫يدرس باللغة العربية تاريخ األدب والشعر األموي‪ ،‬وهذا األستاذ سانتالنا ِّ‬ ‫ِّ‬
‫يدرس‬
‫هلجة تونسية عذبة‪ ،‬تاريخ الفلسفة اإلسالمية وتاريخ الرتمجة خاصة‪ ،‬وهذا األستاذ ميلوين ِّ‬

‫‪1‬أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬ص‪.80 :‬‬


‫والعلوم‬ ‫‪2‬عباس أرحيلة‪ :‬األثر األرسطي يف النقد والبالغة العربيني إىل حدود القرن الثاين اهلجري‪ ،‬منشورات كلية اآلداب‬
‫اإلنسانية‪ ،‬الرباط‪ ،،‬ط‪ ،0000 ،0‬ص‪.012 :‬‬
‫‪23‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫باللغة العربية كذلك تاريخ الشرق القدمي‪ ،‬ويتحدث إىل الطالب عن أشياء مل يتحدث عنها أستاذ‬
‫قبله يف مصر‪ ....‬وهذا أستاذ أملاين‪ ،‬هو األستاذ ليتمان قد أقبل يتحدث إىل الطالب عن اللغات‬
‫السامية واملقارنة بينها وبني اللغة العربية‪ ،‬مث يأخذ يف تعليمهم بعض هذه اللغات‪ ،‬وإذا الفىت خيرج من‬
‫تاما لوال أنه يعيش بني زمالئه من األزهريني والدارعميني‬
‫حياته األوىل خروجا يوشك أن يكون ّ‬
‫وطالب مدرسة القضاء وجه النهار وشطرا من الليل"‪.1‬‬

‫يتضح جليا من هذا النص تلك املكانة املرموقة اليت يتمتع هبا هؤالء املستشرقون الذين حتدث‬
‫عنه طه حسين أو حىت الذين مل يتحدث عنهم‪ ،‬إذ يرجع إليهم الفضل يف إنارة عقول ذلك اجليل‬
‫ودفعه إىل ارتياد آفاق واسعة من العلم واملعرفة وجتديد املناهج اليت كادت أن جتعل من الطالب غريبا‬
‫حىت مع زمالئه‪ ،‬واقتلعته تلك الطرق من مجود العادة وسبل التكرار إىل قلق السؤال واضطراب‬
‫املنهج‪ ،‬لقد "أتاحوا له أن يأوي إىل ركن شديد من الثقافة الشرقية اخلالصة وأتاحوا ملزاجه أن يأتلف‬
‫ائتالفا معتدال من علم الشرق والغرب مجيعا‪ ،‬وكان األساتذة املصريون خيتلفون فيما بينهم اختالفا‬
‫شديدا‪ ،‬كان منهم املطربشون واملعممون والذين سبقت العمامة على رؤوسهم مث احنسرت عنها وجاء‬
‫مكاهنا الطربوش"‪.2‬‬

‫ينبئ هذا الوصف أ ّن طه حسين يعي متاما تلك الفروق اجلوهرية‪ ،‬اليت كانت فيما بني جيل‬
‫أساتذته باجلامعة‪ ،‬وذلك يرجع إىل مدى تأثر كل أستاذ يف ذلك الزمن بالقيمة املعرفية للمنهج الذي‬
‫جاء به األساتذة املستشرقون إىل اجلامعة املصرية‪ " .‬أدرك أ ّن هذه العلوم اليت هبرته مل تتطور وتصل‬
‫إىل ما وصلت إليه‪ ،‬إال بعدما التزم األساتذة األوربيون يف دراسة ظواهرها بقواعد وأسس هي املنهج‬
‫العلمي‪ ،‬واقتنع بضرورة األخذ باملنهج العلمي يف الدراسة والبحث اقتداء بأساتذته املستشرقني‪،‬‬
‫وباملنهج التارخيي بالذات"‪.3‬‬

‫األمر الذي جعله يصرح به يف الكثري من مدوناته النقدية‪ ،‬خاصة عندما أكد أن األدب كغريه‬
‫من الظواهر الثقافية‪ ،‬خيضع للعلل االجتماعية الكونية أو احلتمية االجتماعية‪ ،‬وقد جتلى ذلك يف‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬األيام‪ ،‬الكتاب الثالث‪ ،‬ص‪.220 ،228 :‬‬


‫‪2‬نفسه ‪ ،‬ص‪.253 :‬‬
‫‪3‬عبد اجمليد حنون‪ :‬الالنسونية وأثرها يف رواد النقد العريب احلديث‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،0002 ،‬ص‪.052 :‬‬
‫‪24‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫كتابه احملوري "جتديد ذكرى أيب العالء"‪ ،‬واستمرت بعد ذلك مقرتنة بدرجات خمتلفة وبنوع من اجلرب‬
‫تقل تدرجييا مع تغري امل ّد النقدي‬
‫التارخيي الذي يلغي الفاعلية اإلنسانية‪ ،‬صحيح أن درجة اإللغاء ّ‬
‫عند طه حسني وتنوع ممارساته‪ ،‬ولكن املنظور املرتبط باحلتمية يظل باقيا ال ينتفي وجوده‪ ،‬كما يظل‬
‫اجلرب موجودا بأكثر من شكل‪.1‬‬

‫يعود ذلك إىل أثر اجلامعة املصرية فيه وأثر األستاذ نالينو بالتحديد‪" .‬ويبدو أن طه حسني‬
‫اقرتب من هذا الفهم أثناء دراسته يف اجلامعة املصرية (‪ )0002،0001‬على يد جمموعة من املستشرقني‬
‫ويبدو أن لكارلو نالينو –حتديدا‪ -‬أثرا بارزا يف هذا اجلانب"‪.2‬‬

‫مث يعقد جابر عصفور تلك املوازنة بني األدب العريب وغريه من اآلداب كما فعل طه حسين‬
‫من قبل‪ ،‬ويُرجع ذلك دائما إىل أثر نالينو فيه‪ ،‬يقول‪ ":‬لقد تعلم طه حسني من كارلو نالينو يف‬
‫اجلامعة املصرية القدمية إمكانية أن ندرس األدب العريب على أساس من املوازنة بينه وبني اآلداب‬
‫القدمية الكربى‪ ،‬ولقد تبلور وعيه بضرورة هذه املوازنة يف فرنسا‪ ،‬فأكد بعد عودته منها‪ :‬أن األدب‬
‫بطبيعته شديد احلاجة إىل املقارنات واملوازنات"‪.3‬‬

‫خنلص مما سبق أن دراسته باجلامعة كانت مبثابة الفتح الكبري الذي مورس عليه من قبل مجلة‬
‫من املستشرقني‪ ،‬الذين وطّدوا عالقته مبناهج البحث العلمي آنذاك‪ ،‬ويف مقدمتهم األستاذ نالينو‬
‫الذي م ّكنه من حتكيم املنهج التارخيي الذي جند آثاره وأصداءه بادية يف الكثري من مؤلفاته يف تلك‬
‫الفرتة خاصة حبوثه األولية ممثلة يف جتديد ذكرى أيب العالء وفلسفة ابن خلدون‪ .‬وحديث األربعاء‪.‬‬

‫‪: -4.1‬ي السربون ‪:‬‬

‫شكلت مرحلة تواجد طه حسين بالسربون منعطفا حامسا يف حياته العلمية واملنهجية‪ ،‬إذ‬
‫بعد حصوله على منحة الدراسة باخلارج سنة ‪ 0002‬سافر إىل مونبوليه بفرنسا لدراسة ختصص‬
‫التاريخ‪ ،‬وكان آنذاك قد أهنى دراسته باجلامعة سنة ‪ 0003‬وقدم حبثه املوسوم "ذكرى أيب العالء"‬

‫‪ 1‬ينظرجابرعصفور‪ :‬املرايا املتجاورة‪-‬دراسة يف نقد طه حسني‪ -‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،0082 ،‬ص‪.21:‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪.320 ،325 :‬‬
‫‪25‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وكانت أول دراسة لنيل درجة الدكتوراه من اجلامعة األهلية سنة ‪ .0002‬ويف العام املوايل وبعدما‬
‫حلّت أزمة البعثة النامجة عن احلرب العاملية األوىل‪ ،‬رجع إىل السربون بالذات حيث م ّكنه ذلك من‬
‫التعمق يف دراسة اللغة الفرنسية ومواصلة دراسته الالتينية‪ ،‬وراح يعد لنيل درجة الليسانس يف التاريخ‬
‫إىل جانب إعداده حبثا يف علم االجتماع حول فلسفة ابن خلدون بإشراف املستشرق كازانوفا والعامل‬
‫إميل دوركامي‪.1‬‬

‫أما أثناء حتضريه إلعداد درجة الليسانس يف التاريخ درس على أساتذة كبار يف التاريخ مثل‬
‫جوستاف بلوك‪ 2‬الذي كان يدرس التاريخ الروماين‪ ،‬والباحث جوستاف جلوتز‪ 3‬أستاذ التاريخ‬
‫اليوناين‪ ،‬وشارل ديهل‪ 4‬أستاذ تاريخ القرون الوسطى‪ ،‬واألستاذ شارل سينيوبوس‪ 5‬أستاذ التاريخ‬
‫احلديث‪ .‬واألستاذ ألفونس أوالر‪ 6‬أستاذ تاريخ الثورة الفرنسية‪ ،‬واألستاذ جوستاف النسون الذي‬
‫‪7‬‬
‫درسه األدب الفرنسي‪.‬‬

‫‪ 1‬كازانوفا ‪ .P. Casanova :‬مستشرق فرنسي درس يف الكوليج دي فرانس اللغة العربية وآداهبا‪ ،‬انتدبته اجلامعة املصرية‬
‫سنة ‪ 0035‬لتدريس فقه اللغة‪ ،‬تويف يف مصر سنة ‪ .0032‬له دراسات متعددة يف جماالت متخصصة حول خمتلف أوجه‬
‫احلضارة العربية‪ .‬ينظر عبد اجمليد حنون‪ :‬الالنسونية وأثرها يف رواد النقد العريب احلديث‪ ،‬ص‪.052 :‬‬
‫‪ 2‬غوستاف بلوك ‪ Gustave Bloch :‬باحث فرنسي درس يف ليون وباريس التاريخ الروماين الذي ألّف فيه عدة مؤلفات‬
‫أشهرها ‪ :‬أصول جملس الشيوخ الروماين‪ .‬ينظر عبد اجمليد حنون‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.052‬‬
‫جوستاف جلوتز ‪Gustave Glotz‬مؤرخ فرنسي خريج املدرسة العليا لألساتذة‪ ،‬أستاذ األدب اليوناين بالسربون منذ‬ ‫‪3‬‬

‫‪ ،0802‬له مجلة من املؤلفات منها‪" :‬التعذيب يف بالد اليونان البدائية وتضامن األسرة يف القانون اجلنائي باليونان ‪0012‬‬
‫والعمل عند اليونان قدميا‪ .‬ينظر عبد اجمليد حنون‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.052 :‬‬
‫‪ 4‬شارل ديهل ‪ C. Diehl :‬باحث فرنسي خريج املدرسة العليا لألساتذة‪ .‬متخصص يف التاريخ البيزنطي‪ ،‬له مؤلفات منها‪:‬‬
‫إغريقيا البيزنطية و"وجوه بيزنطية وتاريخ اإلمرباطورية البيزنطية‪ .‬ينظر عبد اجمليد حنون‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪052 :‬‬
‫‪ 5‬شارل سينيوبوس‪ .C. Seignobos :‬مؤرخ فرنسي‪ ،‬تأثر باملدرسة التارخيية األملانية‪ ،‬له عدة مؤلفات أشهرها‪ :‬تاريخ‬
‫احلضارة و"مدخل إىل الدارسات التارخيية و"التاريخ السياسي ألوربا احلديثة وكانت طريقته النقدية املوسومة بالوضعية تعىن‬
‫أساسا باحلدث التارخيي املادي‪ .‬ينظر عبد اجمليد حنون‪ :‬املرجع السابق ص‪.052 :‬‬
‫‪ 6‬ألفونس أوالر ‪ A. Aulard‬مؤرخ فرنسي‪ .‬أهم آثاره "التاريخ السياسي للثورة الفرنسية وهو مؤسس جملة‪ :‬الثورة الفرنسية‪.‬‬
‫ينظر عبد اجمليد حنون‪ ،‬املرجع السابق ص ‪.052‬‬
‫جوستاف النسون ‪ ، 0022 -0852 Gustave Lanson‬حصل على الدكتوراه يف اآلداب سنة ‪ 0888‬و ّ‬
‫درس يف‬ ‫‪7‬‬

‫التعليم الثانوي واجلامعي يف السربون ويف املدرسة العليا لألساتذة اليت صار مشرفا على إدارهتا سنة ‪ .0013‬كان معنيا بتاريخ‬
‫تطور األفكار األدبية واملعرفة الدقيقة املفصلة للمبدع وفردية األثر الفين وتيارات العصور وتطبيق املناهج العلمية يف الدراسات‬
‫‪26‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫رمبا هؤالء هم األساتذة الغربيون الذين تتلمذ عليهم طه حسين أثناء تواجده بالسربون‪ ،‬ويظهر‬
‫من أمسائهم أن الرجل احتك هبؤالء األعالم ليطلع على مجلة من احلقول املعرفية كالنقد والتاريخ‬
‫والفلسفة واألدب املقارن‪ ،‬مما ّأهله فيما بعد ليكون هو بدوره َعلَما من أعالم النقد األديب وتاريخ‬
‫األدب واألدب املقارن يف العامل العريب‪ .‬وهم الذين أوقدوا فيه جذوة السؤال وقلق احلقيقة وعدم‬
‫االمتثال ملا هو كائن‪ ،‬وإمنا جتاوزه إىل ما جيب أن يكون‪ ،‬وهم الذين يدين هلم طه حسين بفضل‬
‫األستاذية‪ .‬يذكر حياته العلمية بباريس أثناء بعثته إليها وكيف توزع تواجده بني أربعة معاهد "‬
‫السربون‪ ،‬وفيه كنت أحضر دروس التاريخ القدمي‪ ،‬تاريخ اليونان على جلوتز وتاريخ الرومان على‬
‫بلوك‪ ،‬واألدب الفرنسي على النسون‪ ،‬والفلسفة واالجتماع على دوركامي وديكارت على ليفي برول‬
‫والالتيين على مارثا والثورة على أوالر والبيزنطي على شارل ديهل والتاريخ احلديث على سينيوس‬
‫واجلغرافيا على دمياجنون واملعهد الثاين هو الكوليج دي فرانس وكنت أحضر فيها دروس القرآن‬
‫بالعربية على كازانوفا وعلم النفس على بريجانيه واملعهد الثالث مكتبة الق ّديسة جنيفياف والبيت‬
‫أعده املعهد الرابع‪ ...‬فقرأنا متثيل القرن املاضي وكثريا من كتب أناتول فرانس وبروجيه وبريفو‪ 1".‬تلك‬
‫ّ‬
‫إذا أهم الروافد املعرفية اليت عملت على بلورة الوعي النقدي عند الرجل بأوربا‪.‬‬

‫يعرتف طه حسين أيضا بفضل املستشرق اإليطايل سانتيالنا أستاذ الفلسفة اإلسالمية الذي‬
‫أوجد عالمات التأثري والتأثر بني الفلسفة اإلسالمية والفلسفة اليونانية‪ ،‬وكيف أثر يف النهضة الفكرية‬
‫جليل طه حسين يقول‪":‬وما أعرف لألستاذ نالينو نظريا يف التوجيه العميق للنهضة املصرية إال زميله‬
‫األستاذ "سانتيالنا" الذي أحدث يف مصر هنضة خطرية يف دراسة الفلسفة اإلسالمية ويف الصلة بني‬
‫هذه الفلسفة وبني الفلسفة اليونانية القدمية"‪.2‬‬

‫كانت فرتة تواجده بفرنسا مرحلة تداخل للثقافتني العربية والفرنسية‪ ،‬مما ّأهله أن ينجز رسالته‬
‫الثانية للدكتوراه حول فلسفة ابن خلدون واليت كانت مثرة متثله للثقافة الفرنسية‪ ،‬ودليل متكنه من‬

‫األدبية‪ ،‬خترجت عليه مدرسة هامة جتمع بني االجتاه الفلسفي يف النقد والدقة العلمية يف البحث‪ .‬له جمموعة هامة من املؤلفات‬
‫أمهها‪ :‬تاريخ األدب الفرنسي‪ ،‬ومبادئ اإلنشاء واألسلوب وبوالو‪ ،‬كورين‪ ،‬فولتري‪ .‬ينظر‪ :‬أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند‬
‫طه حسني‪ ،‬ص‪ .000 :‬وحممد مندور‪ :‬النقد املنهجي عند العرب‪ ،‬مقدمة "منهج البحث يف األدب"‪ ،‬ص‪.200 :‬‬
‫‪1‬سامي الكيايل‪ :‬مع طه حسني‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،3‬إقرأ ح‪ ،00‬ج‪ ،0‬ص‪.32 ،35 :‬‬
‫‪2‬طه حسني‪ :‬مقدمة كتاب كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪27‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفرنسية واستيعابه للفكر واألدب الفرنسيني واستعداده الطبيعي للتعمق يف هذه الثقافة‪ ،‬وقد منحه‬
‫الكوليج دي فرانس جائزة "سنثور" املعروفة بعد أن نالت رسالته أعظم تقدير من أساتذة السربون‪،1‬‬
‫ومتثل الثقافة الفرنسية عند طه حسين " منوذجا رائعا وصورة حيّة وامتدادا للثقافة اليونانية يف تطور‬
‫‪2‬‬
‫العقل البشري وأثره العظيم يف كل عصر‪".‬‬

‫مل تكن مصادر الثقافة الفرنسية عند طه حسين حمصورة يف املؤلفات األدبية‪ ،‬وإمنا كانت‬
‫تتجاوزها "إىل االطالع على الصحف الفرنسية واحلرص على متابعتها واإلفادة من طرائقها يف‬
‫التحرير والتعبري‪ ،‬ومعاجلة املوضوعات اليت يُعىن هبا فن املقال يف الصحافة الفرنسية‪ ،‬اليت كانت قد‬
‫طفرت طفرة جديدة بفضل شخصية حمرريها الذين كانوا يوقعون مقاالهتم وكان هؤالء الصحفيون من‬
‫خرية رجال األدب‪ ،‬األمر الذي ساعدهم على التفوق يف حترير مقاالهتم السياسية بأسلوب رفيع مما‬
‫اجتذب القراء إىل صفهم"‪.3‬‬

‫لقد ّأهله منصبه اجلديد باعتباره أستاذا للتاريخ اليوناين والروماين بعد عودته من فرنسا إىل‬
‫النهل أكثر من عيون األدب اليوناين والروماين‪ ،‬األمر الذي ساعده يف التمثل الكبري ملنجزات هذين‬
‫األدبني وترمجة بعض األعمال من اليونانية إىل العربية‪ ،‬وتأليف بعض األعمال اخلاصة هبذا األدب‪.‬‬
‫درس مادة التاريخ اليوناين والروماين‬‫واستحكمت العالقة بني األدب اليوناين والروماين أكثر بعد أن ّ‬
‫ملدة أربع سنوات‪ ،‬وأخذ يف نقل املآثر اليونانية األدبية والفكرية والسياسية‪.4‬‬

‫استطاع طه حسين يف هذه الفرتة أن ينقل بعضا من عيون األدب اليوناين إىل العربية‪ ،‬وأن‬
‫يرتجم كذلك بعض املؤلفات اليت رأى أهنا على صلة وثيقة باحلياة السياسية واألدبية املصرية‬

‫‪ 1‬ينظر عبد العزيز شرف‪ :‬طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي‪ ،‬ص‪.21 ،20 :‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫‪ 3‬ينظر نفسه‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪ 4‬ينظر أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬ص‪.83 ،80 :‬‬
‫‪28‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫آنذاك‪ .1‬واملتتبع جململ هذه املؤلفات اليت نقلت إىل العربية وغريها يلحظ ذلك الوله الكبري والتأثر‬
‫البني مبنجزات هذه األمة‪ ،‬اليت ال جيد طه حسين حرجا يف أن ينسب مصر إىل أصوهلا اليونانية‬ ‫ّ‬
‫رده كل منجزات ومكتسبات األمة العربية إليه‪ ،‬يقول يف‬ ‫القدمية‪ ،‬ويتضح جليا تعلقه بالعقل اليوناين و ّ‬
‫مؤلفه قادة الفكر‪":‬العقل اإلنساين ظهر مبظهرين خمتلفني‪ :‬أحدمها يوناين خالص هو الذي انتصر‪،‬‬
‫وهو الذي يسيطر على احلياة اإلنسانية إىل اليوم‪ ،‬واآلخر شرقي اهنزم أمام املظهر اليوناين‪ ،‬وهو اآلن‬
‫يلقي السالح ويُسلم للمظهر اليوناين تسليما"‪.2‬‬

‫تستمر نظرته التقديسية لألدب اليوناين عامة ولفلسفة أرسطو خاصة‪ ،‬وذلك عندما يضع هذه‬
‫الفلسفة موضعا سامقا ويُرجع كل هذه الفلسفات الالحقة تابعة هلا وفرعا من فروعها‪ ،‬خاصة عندما‬
‫اشتد تأثره هبا يف السنوات‪ ،‬اليت اشتغل فيها بكرسي التاريخ القدمي‪ ،‬وحىت عندما نُقل إىل كرسي‬
‫األدب مل ختف حدة هذا التأثري‪ ،‬بل جنده يف غري موضع من مؤلفاته يُعرب عن افتتانه بأرسطو‬
‫وباليونان عامة‪ ،‬نلحظ ذلك يف ترحيبه بالرتمجة اليت ّأداها "لطفي السيد" لكتاب األخالق‬
‫يد تأسيس حضارة جديدة‬ ‫"ألرسطو"‪ ،‬يقول طه حسين‪ ":‬لو أ ّن هذه احلضارة احلديثة أُزيلت وأر َ‬
‫لكانت فلسفة أرسطو طاليس أساسا هلذه احلضارة اجلديدة"‪ .3‬مث يشتد افتتانه بفلسفة أرسطو‬

‫‪1‬نذكر من مجلة هذه املؤلفات واملقاالت‪ - :‬مذهب أرسطو يف السياسة واالجتماع‪ ،‬نشرت يف اهلالل‪ ،0030/3‬وصحف‬
‫خمتارة من الشعر التمثيلي عند اليونان وهي مقالة يقدم فيها الكتاب الذي حيمل العنوان نفسه إىل القراء‪ ،‬نشرت يف اهلالل‬
‫كذلك يف ‪ ،0030/2‬ومن الكتب اليت ألفها وترمجها‪:‬‬
‫‪ -‬صحف خمتارة من الشعر التمثيلي عند اليونان ‪.0031‬‬
‫‪ -‬آهلة اليونان وهو ملخص حماضرات الدكتور طه حسني يف الظاهرة الدينية عند اليونان وأثرها يف املدنية‪ ،‬مجعه‪ :‬حممد‬
‫حسني جرب‪،‬القاهرة ‪.0000‬‬
‫‪ -‬نظام األثينيني ألرسطو طاليس ‪.0030‬‬
‫‪ -‬دروس التاريخ القدمي يف اجلامعة املصرية‪ ،‬نشر بعضها يف صحيفة اجلامعة املصرية بني عامي ‪ 0000‬و‪ ،0032‬وهي‬
‫الدروس اليت كان يلقيها باجلامعة‪.‬‬
‫‪ -‬قادة الفكر القاهرة ‪ ،0035‬سوفوكليس‪ ،‬أنتجونا القاهرة ‪.0028‬‬
‫‪ -‬سوفوكليس‪ :‬من األدب التمثيلي اليوناين (إلكرتا)‪ ،‬آجاكس‪ ،‬أنتجونا‪ ،‬آدوبيوس ملكا القاهرة ‪.0020‬‬
‫‪ -‬أندريه جيد‪ :‬من أبطال األساطري اليونانية‪ ،‬يتضمن أوديب وتيسيوس القاهرة ‪ .0022‬ينظر أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب‬
‫النقدي عند طه حسني‪ ،‬هامش ‪ 02‬ص ‪.83‬‬
‫‪2‬طه حسني‪ :‬قادة الفكر‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪،0080 ،‬ص‪.003 :‬‬
‫‪3‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪ ،‬مج‪ ،3‬ج‪ ،2‬ص‪.222 :‬‬
‫‪29‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مر العصور فيقول‪ ":‬لقد كانت‬‫فيجعل منها النرباس الذي تنبثق منه كل العلوم والفلسفات على ّ‬
‫فلسفة أرسطو طاليس أساس النهضة العربية األوىل‪ ،‬وأساس النهضة األوربية يف العصر احلديث وجيب‬
‫أن تكون أساس النهضة العلمية يف مصر احلديثة"‪.1‬‬

‫إن املتمعن يف هذه النصوص يلحظ جليا ذلك االعرتاف الكبري حبجم املنجزات الفلسفية‬
‫األرسطية وذلك إلسهامها يف دفع عجلة النهضة األوربية والعربية على السواء‪ ،‬ذلك أن طه حسين‬
‫يعتقد جازما أن العقل املصري سليل العقل اليوناين اخلالص‪ ،‬وأن هذا العقل يلحق بالشرق القريب يف‬
‫تارخييته‪ ،‬ويستلهم منه هذه الفرادة واألملعية اليت يتمتع هبا‪ ،‬بل إن املتمعن يف كتابه "قادة الفكر" ال‬
‫مرت ذات يوم حبضارة‬ ‫تعوزه النظرة الفاحصة إلدراك حجم االعرتاف الكبري هبذه العقول الكبرية اليت ّ‬
‫اليونان؛ جند ذلك مثال حني حياول طه حسين إغراء القارئ العريب باالطالع على هذه اآلداب‬
‫اخلالدة يقول‪ ":‬أكنت مصيبا إذا حني زعمت أن شعراء اإللياذة واألوديسا يُع ّدون حبق من قادة‬
‫الفكر اإلنساين؟‪ ...‬أريد أن تقرأ اإللياذة واألوديسا لتعرف ما مها‪ ،‬وكل ما أطمح إليه يف هذه‬
‫أشوقك إىل أن تقرأ شيئا قليال أو كثريا من آثار املفكرين الذين اختذهتم موضوعا هلذه‬
‫الفصول هو أن ّ‬
‫األحاديث"‪.2‬‬

‫‪ .2‬طه حسني واملرجعية الليربالية‬

‫كانت فرتة التحول الفكري اليت عاشها طه حسين متثل املصدر األول من اهتمامه بالعنصر‬
‫األجنيب يف صقل موهبته وتكوينه‪ ،‬وأقل ما يقال عن هذه املرحلة " أهنا مستمدة من البيئة اليت عاش‬
‫فيها‪- ،‬أوال‪ -‬ومن الثقافة الفرنسية ثانيا‪ ،‬ومن الثقافة الالتينية ثالثا"‪.3‬‬

‫تعد البيئة األخرى ‪-‬بيئة التعقيل‪ -‬من أهم البيئات أثرا يف فكره‪ ،‬وهي البيئة اليت اضطلعت‬
‫مدرسة اجلريدة بإشاعتها يف احلياة املصرية‪ ،‬وحماولة التوفيق بني الفكرين األوريب واملصري‪ ،‬إلنتاج‬
‫تفكري قومي خالص غري متخلف عن نظائره من الغرب‪ .4‬وكان لطفي السيد يشجعه على الكتابة يف‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.222 :‬‬


‫طه حسني‪ :‬قادة الفكر‪ ،‬إدارة اهلالل‪ ،‬مصر‪ ،‬د‪.‬ط‪،0035 ،‬ص‪.03 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪3‬عبد العزيز شرف‪ :‬طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي‪ ،‬ص‪.28 :‬‬
‫‪4‬ينظر املرجع نفسه‪ :‬ص‪.20 :‬‬
‫‪30‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫صحيفته (اجلريدة) "و قد كانت للصلة القوية بينهما أكرب األثر يف توجيه طه حسني إىل آراء فولتري‬
‫ومونتسكيو‪ ،‬كما دفعه إىل تعلم الفرنسية وذلك مما أدخله يف البيئة اجلامعية"‪.1‬‬

‫أما الذين تعرضوا للعالقة بني طه حسين ولطفي السيد وحزب األمة يذهبون إىل أن طه‬
‫حسين مل تكن السياسة تعنيه يوما‪ ،‬بقدر ما كان يهتم بفكر لطفي السيد وحزب األمة‪ ،‬يقول أحد‬
‫الدارسني‪ ":‬ميكن القول أن ارتباط طه حسني برجال حزب األمة مل يكن ارتباطا باحلزب السياسي‪،‬‬
‫بقدر ما كان ارتباطا باملدرسة الفكرية اليت خرج هبا لطفي السيد عن نظام احلزب"‪ 2‬وتأثر بطروحات‬
‫هذا احلزب ملا وجد فيها من حترر وانفتاح على الثقافة الغربية‪ ،‬وهو ما كان يصبو إليه هروبا من‬
‫الطرق البالية واملتكلسة اليت كان األزهر ينادي هبا يف تعليمه‪ ،‬فوجد طه حسين من مث متنفسا يف‬
‫هذه الدعاوى لالنفتاح على اآلخر يقول رجاء النقاش‪ ":‬ويف اعتقادي أنه لوال لطفي السيد واجتاهه‬
‫الفكري اجملدد املتحرر ملا ارتبط طه حسين حبزب األمة فلقد كان الدافع األساسي هلذا االرتباط واقعا‬
‫فكريا ومل يكن واقعا سياسيا حبال من األحوال"‪ ،3‬مث يواصل النقاش تعليله ذلك بقوله‪ ":‬وكما يؤكد‬
‫هذا االستنتاج أننا ال جند يف إنتاج طه حسني الفكري يف هذه الفرتة املبكرة من حياته أي ميل إىل‬
‫تأييد اإلقطاعيني أو النظام اإلقطاعي‪ ،‬الذي كان ميثله حزب األمة من الناحية السياسية‬
‫واالجتماعية‪ ...‬ومل يكن طه حسين مؤيدا لإلقطاع والرجعية‪ ،‬بل كان "الجئا" إىل جزيرة الفكر‬
‫املتحرر اجلديد يف شخصية لطفي السيد الذي كان باملصادفة من أعضاء حزب األمة البارزين ألنه‬
‫يرتبط مع احلزب مبصاحله (فهو من كبار اإلقطاعيني) وإن كان ينفصل عنه بفكره وعقله ألنه من كبار‬
‫املثقفني"‪.4‬‬

‫ميثل لطفي السيد بالنسبة لطه حسين النموذج الذي جيب أن حيتذى‪ ،‬فالرجل منفتح على‬
‫العديد من الثقافات القدمية واحلديثة‪ ،‬ما جعله يفنت به أميا افتتان خاصة من ناحية إعجابه بالفكر‬
‫الغريب سواء اليوناين أم األوريب احلديث يقول طه حسين يف ذلك‪ ":‬لقد كان هيكل زميل الشباب‬
‫وصديق الكهولة وأخا لشيخوخة‪ ،‬تعارفنا مجيعا حني كنا ناشئني يف مكتب أستاذنا أمحد لطفي‬

‫‪1‬مصطفى عبد الغين‪ :‬حتوالت طه حسني‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪2‬عبد العزيز شرف‪ :‬طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪3‬رجاء النقاش‪ :‬أدباء معاصرون‪ ،‬املكتبة األجنلو املصرية‪ ،‬دط‪ ،0028 ،‬ص‪.35 :‬‬
‫‪4‬نفسه‪ ،‬ص‪.35 :‬‬
‫‪31‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫السيد‪ ،‬عندما كان مديرا للجريدة‪ ،‬كنا خنتلف إليه يف الضحى بني حني وحني لنشهد عمله يف إدارة‬
‫اجلريدة وحتريرها‪ ،‬ونسمع أحاديثه العذبة يف السياسة والفلسفة واملنطق ويف األدب العريب أيضا‪ ،‬كنا‬
‫نتخذه منوذجا ألنفسنا ونقيس عليه املثل األعلى عندما نطمح إىل املثل العليا يف احلياة‪ ،‬وعرفته حني‬
‫كنا تلميذين يف الكتابة األدبية والصحفية ألستاذنا أمحد لطفي السيد‪ ،‬كان كالنا يكتب يف‬
‫اجلريدة"‪.1‬‬

‫يتميز الفكر النقدي والفلسفي للطفي السيد بالتنوع والتعدد واألخذ من ثقافات متعددة‪،‬‬
‫فهو جيمع بني الثقافة اإلسالمية والثقافة اليونانية القدمية والثقافة األوربية‪ ،‬وعُرف يف مسريته الفكرية‬
‫واألدبية كذلك بالرتمجة من الفرنسية إىل العربية‪ ،‬ويف ذلك يقول طه حسين‪ ":‬وأريد أن أعلم إىل أي‬
‫كاتب أو أي مفكر أو إىل أي مرتجم يف مصر أو يف الشرق العريب كله‪ ،‬نستطيع أن نقرن األستاذ‬
‫أمحد لطفي السيد‪ ،‬أما أنا فلست أعرف له نظريا يف الكتابة وال يف التفكري وال يف الرتمجة‪ ،‬وأزعم أن‬
‫ليس من املصريني وغري املصريني من يستطيع أن جيد له نظريا يف هذه الوجوه الثالثة من وجوه احلياة‬
‫األدبية‪ :‬التفكري والكتابة والرتمجة"‪.2‬‬

‫لقد تأثر طه حسين أّميا تأثر بالفكر النقدي والفلسفي للسيد‪ ،‬وانتصر للكثري من آرائه‬
‫الفلسفية‪ ،‬خاصة يف جمال الرتمجة‪ ،‬فقد ترجم لطفي السيد من آثار أرسطو مخسة كتب هي"كتاب‬
‫الطبيعة‪ ،‬وكتاب الكون والفساد‪ ،‬وكتابان يف األخالق بعنوان (على تيقو ماخوس)‪ ،‬وكتاب السياسة‪،‬‬
‫وأما الثقافة األوربية احلديثة فإن السيد كان معجبا برواد الفكر الليربايل األوريب أمثال فولتري وروسو‪،‬‬
‫وكانت‪ ،‬وستوارت ميل‪ ،‬كما أعجب أكثر وبفولتري"‪.3‬‬

‫لقد أسهمت القناعة الليربالية اليت استوحاها طه حسين من لطفي السيد‪ ،‬وغريه من الليرباليني‬
‫املصريني آنذاك يف صياغة جانب مهم من شخصية طه حسين النقدية‪ ،‬واليت م ّكنته من جماهبة الفكر‬
‫وجراء ذلك فقد رفع طه‬
‫التقليدي السلفي‪ ،‬الذي مثله المنفلوطي والرافعي ورشيد رضا وغريهم‪ّ .‬‬
‫حسين مكانة لطفي السيد عاليا وع ّده من بني القامات النقدية والفلسفية ّ‬
‫علوا يف العصر احلديث‬

‫‪ 1‬أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬ص‪.21 ،30 :‬‬


‫‪2‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص‪.230 :‬‬
‫‪3‬أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬ص‪.20:‬‬
‫‪32‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يقول فيه‪":‬مسى العرب زعيم الفالسفة اليونانية املعلم األول‪ ،‬وكانوا يف ذلك منصفني‪ ،‬وأنا أزعم أن‬
‫األستاذ أمحد لطفي السيد معلمنا األول يف هذا العصر‪ ،‬وأزعم أين يف ذلك صادق منصف‪،‬‬
‫ومتواضع أيضا‪ ،‬لست من الغلو حبيث أقرن األستاذ السيد إىل أرسطو طاليس‪ ،‬فأرسطو طاليس هو‬
‫املعلم األول لإلنسانية اخلالدة‪ ،‬ولطفي السيد هو املعلم األول لعصرنا هذا الذي حنن فيه"‪.1‬‬

‫مل يلبث اتصاله بالثقافة الفرنسية واليونانية‪ ،‬أن أصبح عنصرا من عناصر ثقافته العامة‪ ،‬اليت‬
‫تثمر يف النهاية أسلوبا‪ ..‬يف األدب هو مثرة امتزاج العناصر الثالثة احمللي والعريب والفرنسي‪ 2‬حيث‬
‫جتسد يف ما خلّفه طه حسين‬
‫تلتقي األصول التقليدية واجتاهات التجديد اتصاال عقليا وفنيا‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫من آثار بقيت عالمات تأثريها يف األدباء واملفكرين املعاصرين إىل اآلن‪.‬‬

‫يتتبع عبد العزيز المقالح الروافد املعرفية اليت صاغت الفكر النقدي عند الرجل‪ ،‬وعملت على‬
‫مصب معريف واحد‪ ،‬بل وقف عند مجلة من األصول اليت وقفت سببا يف‬ ‫ّ‬ ‫بلورته‪ ،‬ومل يطمئن الرجل إىل‬
‫إبراز ذلك التوجه دون سواه‪ ،‬فعمد إىل تنزيل هذه الظاهرة منزال منهجيا‪ ،‬يف البداية مث فلسفيا ثانيا‬
‫يقول المقالح‪...":‬لقد كان املنهج هو ما ينقص الطالب العريب واإلنسان العريب يف بداية القرن‬
‫العشرين‪ .‬وقد تكفل طه حسين من بني سائر األساتذة واملتخصصني بأن يقلّب يف أوراق العصور‪،‬‬
‫ويف الواقع املعاصر حبثا عن النهج الغائب‪ ،‬وقد أفاد من معرفته بقواعد املنهج التارخيي عند ابن‬
‫خلدون‪ ،‬واصطنع هذه املعرفة يف الدراسات األدبية‪ ،‬وحينما بدأ يف تدريس تاريخ األدب العريب يف‬
‫اجلامعة املصرية مل يكن قد غاب عن منهج ابن خلدون‪ ،‬وال طريقته املمحصة يف دراسة اآلراء‬
‫والوقائع واألحداث التارخيية ويف مقدمته خباصة‪ ،‬وقد استلهم هذا املنهج يف دراسته الشعر‬
‫اجلاهلي"‪.3‬‬

‫غري أن النهج الذي ارتضاه طه حسين يف تقليب أسفار الرتاث‪ ،‬وحماولة بعثها من جديد يف‬
‫الردة‬
‫تعود عليه النقاد والباحثون‪ ،‬هو ما دفع باألكثرية من هؤالء إىل تلك ّ‬
‫قالب وثوب خيالف ما ّ‬
‫العنيفة ضد الرجل وحماولة سلبه كل ما من شأنه أن يدفع بالبحث العلمي إىل األمام‪ ،‬بل كان األمر‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.230 :‬‬


‫‪ 2‬ينظر‪ :‬عبد العزيز شرف‪ :‬طه حسني واجملتمع التقليدي‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪3‬عبد العزيز املقاحل‪ :‬عمالقة عند مطلع القرن‪ ،‬دار اآلداب بريوت‪ ،‬ط‪،0088 ،3‬ص‪.53 :‬‬
‫‪33‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫على خالف ذلك بأن صودرت احلريات وأغلقت أبواب االجتهاد يف الرتاث باعتباره من الطابوهات‬
‫اليت حيضر على الباحث والناقد االقرتاب منها‪ ،‬يقول العميد مربزا تلك االنتكاسة املعرفية اليت أصابت‬
‫األمة يف تلك الفرتة‪..":‬ما أظن املصريني بينوا جهاد مجال الدين األفغاين والشيخ حممد عبده ‪-‬‬
‫رمحهما اهلل‪ -‬يف هذا السبيل وما لقيا من السخط عليهما واملكر هبما‪ ،‬والتنكر ملن ذهب مذهبهما أو‬
‫اختلف إىل دروسهما وليس هلذا مصدر إال أن النائمني يكرهون اليقظة‪ ،‬ويكرهون بالطبع من‬
‫يدعوهم إليها‪ ،‬كما أن الذين اسرتاحوا إىل اجلمود ال يبغضون شيئا كما يبغضون احلركة والداعني‬
‫إليها‪ ،‬ومع ذلك فقد نامت األمة اإلسالمية قرونا‪ ،‬ولكنها حني استيقظ بعض املمتازين منها ودعوها‬
‫إىل اليقظة يف إحلاح‪ ،‬أتيح هلا يف الوقت القصري شيء ال بأس به من التنبه بل شيء ال بأس به من‬
‫التقدم‪ ،‬وإن مل تزل بعيدة أشد البعد عن أن تكون جديرة بتارخيها اإلسالمي البعيد"‪.1‬‬

‫رد تلك التهم اليت حاول خصوم طه حسين إلصاقها به‪ ،‬واليت مفادها‬ ‫حياول المقالح جاهدا ّ‬
‫أنه سليل احلضارة الغربية وأنه مناهض للعروبة واإلسالم‪ ،‬وأنه من دعاة التغريب واالنسالخ عن‬
‫مقومات اهلوية العربية اإلسالمية‪ ،‬فينربي املقاحل مدافعا عنه‪ ،‬جلملة من األسباب اليت بدورها ختلص‬
‫إىل مجلة من النتائج‪ ،‬ر ّادا تلك التهم مبسوغات معرفية وفكرية ّبوأته مقاما عاليا يف مساء الفكر‬
‫والثقافة‪ ،‬ومن تلك املرافعات أن كتاب يف الشعر اجلاهلي حيتوي جمموعة من االفرتاضات ال‬
‫املسلمات‪ ،‬وأن طه حسين مل ينكر الشعر اجلاهلي‪ ،‬وال شكك يف كل شعرائه‪ ،‬بل ّ‬
‫ردد احلقائق‬
‫رددها من قبله ابن سالم وآخرون‪ ،‬وأن اختياره القيام بتدريس األدب العريب‬ ‫نفسها أو املزاعم اليت ّ‬
‫والشعر العريب وختصصه يف هذا اجملال ينفي عنه احتقار هذا األدب وهذا الشعر‪ ،‬إن ما كتبه طه‬
‫دحبه عنه من حتليالت ومن نثر شعري بالغ‬ ‫حسني قبل ذلك وبعد ذلك عن الشعر اجلاهلي وما ّ‬
‫العذوبة لبعض النصوص الشعرية القدمية‪ ،‬برهان ال يقبل الشك على حبّه وافتتانه بذلك الشعر‪.2‬‬

‫خنلص من كل ما سبق إىل أن شخصية طه حسين النقدية‪ ،‬مل تركن ملرجعية أحادية يف‬
‫حتصيلها العلمي واملعريف‪ ،‬إمنا تضافرت مجلة من املؤثرات املعرفية على بلورة الفكر النقدي عنده‪،‬‬
‫وعملت على صياغة املشروع النقدي لديه‪ ،‬وهو األمر الذي تأتى من دعامتني هامتني أسهمتا يف‬

‫طه حسني‪ :‬مرآة اإلسالم‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪212 :‬‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬ينظر عبد العزيز املقاحل‪ :‬عمالقة عند مطلع القرن‪ ،‬ص‪.55 ،52 :‬‬
‫‪34‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫توظيفه لكل املعطيات الثقافية والفكرية اليت تشد مشروعه النقدي وكتاباته النقدية والتارخيية " أوالمها‬
‫رابطة متينة مؤسسة على ثقافة ووعي بالرتاث العريب اإلسالمي‪ ،‬كشف هبا ومن خالهلا عن فهم‬
‫عميق هلذا الرتاث واستيعاب لطاقاته املبدعة‪ ،‬وثانيهما نظرة عصرية قائمة على ثقافة حية قادرة على‬
‫حتريك الواقع واالستجابة للمعطيات احلضارية اجلديدة"‪.1‬‬

‫أما من حيث امتداد املشروع احلضاري والنقدي عند طه حسين‪ ،‬فهو مل يعكف على مرجعية‬
‫واحدة‪ ،‬يستقي منها منوذجه بل جعل وجهته حمصورة يف الغرب األوريب‪ ،‬باعتبار أن مصر جزء من‬
‫الكيان املتوسطي‪ ،‬الذي متتد إليه عرب عصور سحيقة من الزمن‪ ،‬ألن مصر امتداد طبيعي للضفة‬
‫األخرى من املتوسط‪ ،‬ومادام األمر كذلك فقد استقى طه حسين آليات نقده من اآلخر الغريب يف‬
‫حركة موجهة حنوه‪ ،‬هذه اآلليات اليت تعددت مصادر توظيفها من مدونة إىل أخرى‪ ،‬غري أن ما ميكن‬
‫مالحظته أنه " مل يأخذ الظواهر بشموهلا‪ ،‬مث خيتار املنهج الذي يقيم القياس عليه‪ ،‬بل يبدو األمر‬
‫معكوسا لديه‪ ،‬إذ أخذ مبنهج الشك الديكاريت‪ ،‬وأقام تصوراته على أوليات أولية‪ ،‬من هذا املنهج‬
‫عامال على إجراء القياس عليه"‪.2‬‬

‫لكن اعتماده الشك وسيلة لبلوغ احلقيقة النقدية هو ما ينعاه عليه بعض خصومه م ّدعني أنه‬
‫أدخل يف النقد العريب ما ليس منه متناسني يف الوقت ذاته‪ ،‬أن آلية الشك من صميم فعاليات النقد‬
‫العريب القدمي‪ ،‬وقد قامت دراسات كثرية على إثبات هذه اآللية عند الرواد من النقاد القدامى أمثال‬
‫ابن سالم وغريه‪ ،‬يف حماولة منهم إلثبات الشعر الصحيح من املنحول‪ .‬وانطالقا من هذه الطعون اليت‬
‫طعن هبا طه حسين وكتابه املقصود بذلك "يف الشعر اجلاهلي" منت فيه تلك الشخصية املتمردة‬
‫القلقة الثائرة إىل شك السؤال‪ ،‬واملطّلعة إىل طلب املزيد املفيد من العلم واملعرفة‪ ،‬وعدم التسليم هبا‬
‫هو كائن وواقع‪ ،‬إمنا حماولة الوقوف موقف املتسائل الشاك فيما يتم تقدميه من قبل بعض أساتذته‪،‬‬
‫ويف مؤلفه "األيام" الكثري من القصص واألحداث‪ ،‬اليت وقعت له وهو يرويها بشيء من احلسرة تارة‬
‫والفكاهة تارة أخرى‪ ،‬لنصل إىل نتيجة مؤداها " أن طبعه اجلديل قد برز يف وقت مبكر يف بنيته‬
‫الفكرية‪ ،‬وأن هذه البنية سوف تتطور وسيكون هلا أثر بعيد يف حياته ويف منهجه العلمي الذي‬

‫‪1‬ماجد السامرائي‪ :‬الثقافة واحلرية –قراءة يف فكر طه حسني‪ ،-‬األهايل للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،0002 ،0‬ص‪.12:‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪35‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫رسخ هذه النزعة اجلدلية يف‬


‫سيتخذه يف حبوثه املنتظرة‪ ،‬ويبدو أن شغفه بعلم املنطق هو الذي ّ‬
‫عقليته"‪.1‬‬

‫لعل ما ذكر يعد من أهم املرجعيات القرائية اليت اعتمدها طه حسين‪ ،‬واليت كانت مبثابة‬
‫البدايات اليت عملت على صياغة شخصيته النقدية والفكرية‪ ،‬األمر الذي ينجر عنه حماولة جرد أهم‬
‫املؤلفات واألعمال اليت اضطلع هبا يف حياته النقدية والفكرية‪ ،‬واليت شكلت معامل بارزة يف ريادته‬
‫للعديد من احلقول املعرفية‪.‬‬

‫‪ .3‬زثار طه حسني‪:‬‬

‫إن املشتغل على مؤلفات طه حسين يلقى من الصعوبة الشيء الكثري‪ ،‬ذلك أن الرجل‬
‫تعددت اهتماماته كما تعددت مناحي دراساته‪ ،‬فقد كتب يف السياسة ويف الرتبية والتعليم والفلسفة‬
‫والنقد واألدب والرتمجة وتاريخ األدب والسرية والقصة وغريها من احلقول املعرفية اليت اشتغل عليها‪،‬‬
‫ويف كل ذلك إبراز ملالمح شخصيته وجتلياهتا داخل كتاباهتا‪ ،‬ممّا ميّكن الدارس الوقوف عند خمتلف‬
‫االجتاهات اليت طرقها‪ ،‬فالرجل متعدد املواهب فقد مارس الكتابة يف القصة والسرية الذاتية واملقال‬
‫األديب والصحفي‪ ،‬وترجم وخلص الكثري من اآلداب األجنبية القدمية واحلديثة‪.‬‬

‫وشارك يف أهم املعارك النقدية والفكرية‪ ،‬اليت عرفها اجملتمع العريب عامة واجملتمع املصري‬
‫خاصة‪ " ،‬وقد ال يعجب املتابع ألعمال طه حسين من تلك الكثرة الغزيرة‪ ،‬إذا علم أن صاحبها ظل‬
‫أكثر من نصف قرن من الزمان يواصل اإلنتاج الفكري واألديب دون توقف عن الكتابة‪ ،‬فاألديب‪...‬‬
‫‪2‬‬
‫أي أديب يف نظره هو الذي يستمر يف عمله األديب‪".‬‬

‫غري أن ما نريد توضيحه وإثباته ملختلف هذه املتون هو أن نقتصر على أعماله النقدية‪ ،‬أي‬
‫اليت عاجل فيها الكثري من إشكاليات وقضايا النقد العريب احلديث‪ ،‬متخذا مناهج البحث الغربية‬
‫وسيلة لعملية التجديد اليت يرومها‪ ،‬فالرجل يعد من بني أهم الشخصيات النقدية يف العصر احلديث‪،‬‬
‫واليت نادت بالتجديد يف األدب العريب ونقده وقاد فريق التجديد‪ ،‬فالرجل" يبشر باملناهج واألساليب‬

‫‪1‬حسني مجعة‪ :‬طه حسني‪ ،‬القامة والظل‪ ،‬دار ابن هانئ للدراسات والنشر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،0002 ،0‬ص‪.31 :‬‬
‫‪2‬سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0022 ،3‬ص‪.013 :‬‬
‫‪36‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وأدواته احلديثة ويدعو إىل تطبيقها يف كل جماالت احلياة عامة‪ ،‬ويف ميادين األدب والفكر خاصة‪،‬‬
‫ويرى أن ما يفعله هو احلق يف مقابل فريق قدمي مازال يستخدم املناهج واألساليب واألدوات التقليدية‬
‫القدمية‪ ،‬وال يريد أن يتخلص منها أو حىت يفكر يف ذلك ألنه مقتنع متام االقتناع بأن تفكريه هو احلق‬
‫"‪ .1‬سيحاول البحث أن يتتبع املسار التارخيي يف ظهور هذه املؤلفات واألعمال وذلك ملبتغى‬
‫منهجي حمض‪:‬‬

‫‪ -1114‬كتاب "ذكرى أيب العالء"‪ .‬والكتاب رسالة نال هبا درجة الدكتوراه من اجلامعة‬
‫املصرية‪ ،‬وهي أول كتاب طبعه ونشره سنة ‪ 0005‬مبطبعة الواعظ مبصر وهبا نال شهادة العاملية ولقب‬
‫دكتور يف األدب وطبع الكتاب ثانية مبطبعة املعاهد مبصر سنة ‪ 0033‬مث طبعة ثالثة بعنوان "جتديد‬
‫ذكرى أيب العالء" من دار املعارف سنة ‪ ،0022‬ويعد الكتاب وثيقة تارخيية خصبة حول شخصية أيب‬
‫العالء وفلسفته وعقيدته وبيئته وحياته الفكرية والسياسية والدينية‪.‬‬

‫‪Etude Analytique et Critique de la philosophie sociale d’Ibn‬‬ ‫‪: -1111‬‬


‫‪Khaldoun. Paris 1917 (Thèse de lettres de l’université de Paris).‬‬
‫والكتاب يف األصل رسالة تقدم هبا إىل السربون ونال هبا شهادة الدكتوراه من جامعة باريس‪ ،‬وقد‬
‫ترمجها األستاذ "حممد عبد اهلل عنان" بعنوان‪ :‬فلسفة ابن خلدون االجتماعية‪ ،‬وقد طبعت أوال مبطبعة‬
‫االعتماد سنة ‪ 0035‬ضمن منشورات جلنة التأليف والرتمجة بالقاهرة‪.‬‬

‫يعرض طه حسين يف هذا الكتاب آراء ّ‬


‫العالمة ابن خلدون وفلسفته يف علم االجتماع‬
‫والعمران‪ ،‬كما يعرض آراءه يف حياة البداوة واحلضر‪ ،‬ويف تتبعه لكل قضايا الكتاب‪ ،‬ال يقدم طه‬
‫حسين أفكار ابن خلدون فقط بل يعرضها لنقد بناء ينم عن عقل راجح وحصيف‪ ،‬فيناقش أفكاره‬
‫بلني مرة وبصرامة مرة أخرى‪ ،‬دون أن يعدم القارئ مدى إعجابه بعبقرية ابن خلدون الف ّذة‪ ،‬ودون أن‬
‫مينعه ذلك من نقده نقدا دقيقا‪.‬‬

‫‪ 1‬سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني ‪ ،‬ص‪.52 :‬‬


‫‪37‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ -1111‬يصدر يف القاهرة كتاب "آهلة اليونان" والذي كان يف األصل بعنوان "الظاهرة الدينية‬
‫عند اليونان وتطور اآلهلة وأثرها يف املدنية"‪ .1‬وطبع سنة ‪ 0000‬مبطبعة املنار‪.‬‬

‫‪ -1124 ،1111‬دروس وحماضرات التاريخ القدمي‪ ،‬نشر بعضها بصحيفة اجلامعة املصرية وهي‬
‫الدروس اليت ألقاها العميد باعتباره أستاذا للتاريخ اليوناين والروماين القدمي وذلك بعد عودته من‬
‫فرنسا‪.‬‬

‫‪ -1121‬كتاب "صحف خمتارة من الشعر التمثيلي عند اليونان" طبع سنة ‪ 0031‬مبطبعة اهلالل‬
‫مبصر‪.‬‬

‫‪ -1121‬كتاب "الواجب" ألفه جول سيمون ‪ Jules Simon‬وترمجه طه حسين وحممد‬


‫رمضان وطبع سنة ‪ 0030‬مبطبعة اجلريدة يف ‪ 2‬أجزاء‪.‬‬

‫‪ -1121‬نظام األثينيني تأليف أرسطو طاليس‪ ،‬ترمجه طه حسين عن اليونانية وطبع مبطبعة‬
‫اهلالل وأعيد طبعه بدار املعارف‪.‬‬

‫‪ -1121‬روح الرتبية ألّفه جوستاف لوبون ‪ Gustave le Bon‬ترمجه طه حسين عن الفرنسية‬


‫وطبع مبطبعة اهلالل‪.‬‬

‫‪ -1124‬قصص متثيلية جلماعة من أشهر الكتاب الفرنسيني‪ ،‬ترمجه طه حسين وطبع باملطبعة‬
‫التجارية سنة ‪0032.‬‬

‫‪ -1121‬يصدر كتابه "قادة الفكر" بعد أن كان نشره يف جريدة اهلالل‪.2‬‬

‫والكتاب عبارة عن جرد تارخيي ألهم الشخصيات القائدة على مستوى الفكر حسبه فهو‬
‫يقدمهم على النحو التايل (هومريوس‪ ،‬سقراط‪ ،‬أفالطون‪ ،‬أرسطو طاليس‪ ،‬اإلسكندر املقدوين‪،‬‬
‫ويوليوس قيصر)‪ .‬ويف أثناء تقدميه لكل شخصية يثبت طه حسين أن القائد ليس شخصية مبتورة‬

‫‪1‬محدي السكوت ومارسيدن جونز‪ :‬أعالم األدب املعاصر يف مصر (‪ )0‬طه حسني‪ ،‬القاهرة قسم النشر باجلامعة األمريكية‪،‬‬
‫‪ ،0025‬ص‪.82 :‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪82 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪38‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الصلة مبحيطها وبيئتها‪ ،‬بل تعترب الشخصية نتاج رئيسي هلما وهو يف ذلك يؤسس للمنهج‬
‫االجتماعي يف نقد اآلثار األدبية متأثرا بطروحات‪ :‬هيبوليت تني وسانت بيف وبرونتيري‪.‬‬

‫‪ -1121‬يصدر كتابه "حديث األربعاء" وهو عبارة عن سلسلة من املقاالت نشرها جبريدة‬
‫السياسة وطبع منها اجمللد األول يف السنة نفسها وأصدر اجلزء الثاين سنة ‪ 0032‬ومها عبارة عن‬
‫دراسة للحياة األدبية عند طائفة من شعراء اجملون والدعابة واللذة واللهو يف الدولتني األموية‬
‫والعباسية‪ ،‬وما كان لذلك من صلة باحلياة االجتماعية والسياسية يف تلك البيئة‪ .1‬وطبع اجلزآن يف‬
‫دار املعارف سنة ‪ 0050‬مث طبع اجلزء الثالث بدار املعارف سنة ‪.0052‬‬

‫‪ -1121‬كتاب "يف الشعر اجلاهلي"‪ :‬طبع الكتاب بدار الكتب املصرية سنة ‪ 0032‬ونظرا ملا‬
‫أثاره من ضجة معرفية يف أوساط متلقيه‪ ،‬بسبب طرحه الديين والسياسي واألديب فقد سحب من‬
‫السوق وأبدل عنوانه بـ "يف األدب اجلاهلي"‪ ،‬والكتاب خالصة حماضراته اليت كان يلقيها على طلبته‬
‫يف كلية اآلداب‪ ،‬بعد أن أصبح أستاذا لألدب العريب وأصبح "يفكر يف التأريخ لألدب العريب تأرخيا‬
‫جديدا"‪.2‬‬

‫‪ -1121‬كتاب "يف األدب اجلاهلي" وهو الكتاب السالف‪ ،‬بعد أن سحب من السوق وحوكم‬
‫مؤلفه أمام احملاكم املصرية اضطر لسحبه وتغيري عنوانه وحذف فصل منه‪ ،‬وأضاف له عدة فصول‬
‫وطبع الكتاب مبطبعة االعتماد بالقاهرة سنة ‪ 0032‬وطبع ثانية سنة ‪.0085‬‬

‫‪ -1121‬يف الصيف‪ ،‬غري أن الكتاب ظهر سنة ‪ 0022‬وهو جمموعة رسائل كتبها يف أوربا‪.3‬‬

‫‪ -1121‬كتاب "األيام"‪ ،‬صدر اجلزء األول منه بعدما نشر باهلالل من ديسمرب ‪ 0032‬إىل‬
‫جويلية ‪ ،0032‬مث مجع يف كتب وطبع مبطبعة أمني عبد الرمحان سنة ‪ ،0030‬وأعيد طبعه بدار‬
‫املعارف سنة ‪ 0023‬مث سنة ‪ 0020‬مث سنة ‪.0058‬‬

‫‪1‬سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني‪ ،‬ص‪.051،020 :‬‬


‫املرجع نفسه‪ :‬ص‪.003 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪3‬عبد العزيز شرف‪ :‬طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪39‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ -1133‬كتاب "حافظ وشوقي"‪ ،‬والكتاب عبارة عن جمموعة مقاالت كان قد نشرها يف‬
‫"السياسة" و"املقتطف" و"اهلالل" من سنة ‪ 0032‬إىل سنة ‪ ،10023‬وهو دراسة عن الشاعرين‬
‫حافظ إبراهيم وأمحد شوقي يف مواطن التجديد والتقليد لديهما ويعرض فيه للموهبة اإلبداعية عند‬
‫كال الشاعرين وذلك بقدر تطرق كل واحد منهما جلملة األغراض الشعرية املعروفة‪ ،‬متتبعا يف ذلك‬
‫مقوالت املنهج االنطباعي والتأثري يف نقد الشعر‪.‬‬

‫‪ -1133‬كتاب "على هامش السرية" أصدره يف هذه السنة بعد أن كان عبارة عن مقاالت‬
‫نشرت يف جملة الرسالة‪ ،‬مث أصدر جزءه األول عام ‪ 0022‬ألول مرة‪.2‬‬

‫‪ -1133‬صدرت طبعة كتاب "نقد النثر" لقدامة بن جعفر‪ ،‬مجعه وحققه طه حسين وعبد‬
‫احلميد العبادي وطبع بدار الكتب املصرية‪ .‬وأعيد طبعه بدار الكتب العلمية ببريوت ‪ ،0005‬مع‬
‫متهيد لطه حسين‪.‬‬

‫‪ -1134‬دعاء الكروان‪ ،‬وقد أعيد طبعه سنة ‪ 0050‬بدار املعارف‪.‬‬

‫‪ -1131‬كتاب "من بعيد" وهو جمموعة مقاالت نشرها يف جملة "السياسة" كتبها عن حياة‬
‫باريس وهلوها‪ ،‬عن سارة برنار ومتثيلها‪ ،‬عن حياة البحر والسفر‪ ،‬عن الشك واليقني‪ ،‬عن الكثري مما له‬
‫صلة حبياة الفكر ونزعات التطور‪ ،‬وهو كذلك حبث كتبه بعد الضجة اليت أحدثها كتابه "يف الشعر‬
‫اجلاهلي"‪ .‬وفيه يقول طه حسين حول اختاذه منهج الشك الديكاريت سبيال للوصول إىل احلقيقة "إن‬
‫ديكارت يتخذ لفلسفته قاعدة مل يألفها الناس‪ ،‬هي نسيان القدمي والرباءة منه كلّه‪ ،‬وافرتاض أنه مل‬
‫يكن‪ ،‬حىت إذا قرأت هذه الفلسفة وتعمقت فيها مل جتد جديدا‪ ،‬وال شيئا يشبه اجلديد‪ ،‬وإمنا هو‬
‫كالم ككالم الفالسفة فيه كثري من احلدود والقضايا واألقيسة"‪.3‬‬

‫طبع الكتاب مبطبعة االعتماد سنة ‪ ،0025‬وأعيد طبعه سنة ‪ 0022‬مث سنة ‪ 0052‬مبطابع‬
‫جريدة املصري‪.‬‬

‫‪1‬ينظر املرجع السابق ‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪3‬طه حسني‪ :‬من بعيد‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0023 ،2‬ص‪.308 ،302 :‬‬
‫‪40‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ -1131‬صدر كتاب "احلياة األدبية يف جزيرة العرب" بدمشق‪ ،‬وأعيد طبعه من جديد حتت‬
‫عنوان "ألوان" ألنه دراسات "أللوان خمتلفة من األدب على تباعد العصور وتباين األجيال‪ ،‬ينتقل‬
‫صاحبها بالقارئ من األدب العريب إىل اآلداب األجنبية على اختالفها"‪.1‬‬

‫سنة ‪0052.‬‬ ‫‪ -1131‬مع أيب العالء يف سجنه‪ :‬طبع مبطبعة املعارف مث مرة أخرى‬

‫‪" -1131‬أندروماك" لراسني‪ :‬ترمجه طه حسين وطبع باملطبعة األمريية ببوالق‪.‬‬

‫‪" -1131‬من حديث الشعر والنثر"‪ :‬وهي حماضرات ألقاها يف مناسبات أدبية خمتلفة ونشرها‬
‫يف "املقتطف" و"السياسة" و"اجلهاد" و"الرسالة"‪.2‬‬

‫ويف هذا الكتاب يعلن صراحة عن موقفه من أولئك الذين يتشبثون بالقدمي ظنا منهم أهنم‬
‫متأصلون يف الرتاث ويرمون اجملددين بالضالل واالحنراف‪ ،‬وفيه يعلن عن رأيه الصريح يف قيمة األدب‬
‫العريب القدمي " خالفا ملا يأخذ عليه املتحذلقون الذين كانوا يتهمون زعيم التجديد األديب بأن‬
‫جتديده يقوم على إنكار القدمي ‪....‬و هو جهل وضالل‪ .‬إن هذه احملاضرات ‪ ...‬تؤكد من جديد‬
‫حقيقة مؤداها أن طه حسين يف مقدمة من دعموا األدب العريب األصيل القدمي وحببوه إىل النشء‬
‫اجلديد يف ذلك الوقت"‪.3‬‬

‫‪0052.‬‬ ‫طبع الكتاب مرة ثانية سنة ‪ 0028‬بدار املعارف وطبعة ثالثة بالدار نفسها سنة‬

‫‪" -1131‬القصر املسحور" ‪ :‬باالشرتاك مع األستاذ توفيق احلكيم‪ ،‬طبع بدار النشر احلديث‬
‫سنة ‪0022.‬‬

‫‪ -1131‬كتاب "مع املتنيب" ظهر يف جزأين وفيه تتجلى نظرة العميد إىل شخصية املتنيب الشاعر‬
‫الذي مأل الدنيا وشغل الناس‪ ،‬فكان أن تباينت نظرة طه حسين النقدية عن تلك اآلراء واألحكام‬
‫اليت سبقته خبصوص املتنيب‪ ،‬وقد أعيد طبعه بدار املعارف سنة ‪ 0052‬يف جملد واحد‪.‬‬

‫‪1‬سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني‪ ،‬ص‪.002 :‬‬


‫‪2‬ينظر‪ :‬محدي السكوت ومارسيدن جونز‪ :‬أعالم األدب املعاصر يف مصر‪ )0( ،‬طه حسني ص‪.82 :‬‬
‫سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني‪ ،‬ص‪.002 :‬‬
‫‪3‬‬

‫‪41‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫سنة ‪0050.‬‬ ‫‪" -1131‬احلب الضائع"‪ :‬نشرت يف العدد رقم ‪ 011‬من سلسلة اقرأ‬

‫‪ -1131‬كتاب "مستقبل الثقافة يف مصر" طبع بدار املعارف مث أعيد طبعه سنة ‪،0022‬‬
‫يقوم طه حسين نوعية احلياة الوطنية بعد‬‫والكتاب من أهم الكتب يف فكر النظام االجتماعي‪ ،‬وفيه ّ‬
‫معاهدة ‪ 0022‬موضحا الغاية منه يف قوله‪" :‬شعرت كما شعر غريي من املصريني‪ ،‬وكما شعر‬
‫الشباب‪ ..‬خاصة‪ ...‬بأن مصر تبدأ عهدا جديدا من حياهتا بعد أن كسبت فيه بعض احلقوق‪ ،‬فإن‬
‫عليها أن تنهض فيه بواجبات خطرية وتبعات تقال‪ ،‬وما كان أشد تأثري هبذه احلركة اليسرية الساذجة‬
‫اليت دفعت بعض الشباب اجلامعيني يف العام املاضي إىل أن يسألوا املفكرين‪ ،‬والرأي ع ّما يرون يف‬
‫واجب مصر بعد إمضاء املعاهدة مع اإلجنليز‪ :‬فقد أقبل هؤالء الشباب اجلامعيون يسألوننا أن‬
‫نبصرهم بأمورهم وهنديهم إىل واجباهتم"‪ ،1‬وفيه يربهن على العالقة املتينة بني العقل املصري والعقل‬
‫اليوناين وعلى شدة اتصال مصر باليونان القدمية وعلى تشابه اإلسالم واملسيحية يف عالقتهما‬
‫بالفلسفة‪ .2‬وهو ما ألّب عليه مجلة من العلماء الذين رأوا يف الكتاب "دعوة إىل محل مصر على‬
‫احلضارة الغربية وطبعها هبا وقطع ما يربطها بقدميها وبإسالمها"‪.3‬‬

‫كرس طه حسين يف هذا الكتاب منهجا معينا يريد من خالله معاجلة قضية أساسية وهي‬ ‫لقد ّ‬
‫يصور هلم إهنم خلقوا من‬
‫"أن منحو من قلوب املصريني أفرادا ومجاعات هذا الوهم اآلمث الشنيع الذي ّ‬
‫طينة غري طينة األوريب‪ ،‬وفطروا على أمزجة غري األمزجة األوربية‪ ،‬ومنحوا عقوال غري العقول‬
‫األوربية"‪.4‬‬
‫يضيف طه حسين يف إبراز الصلة الوطيدة بني العقل املصري واألوريب قائال‪" :‬مهما نبحث‬
‫ومهما نستقصي‪ ،‬فلن جند ما حيملنا على أن نقبل أن بني العقل األوريب والعقل املصري فرقا‬
‫جوهريا"‪ ،5‬فإذا كانت هذه هي النتيجة فليس أمامنا إال أن نتصل بأوربا حىت نصبح جزء منها لفظا‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬مستقبل الثقافة يف مصر‪ :‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0022 ،0‬مج‪ ، 0‬ص‪.12 :‬‬
‫‪2‬ينظر‪ :‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية واملرجعيات املستعارة‪ - ،‬تداخل األنساق واملفاهيم ورهانات العوملة‪ -‬املركز الثقايف‬
‫العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪0000 ،0‬ص‪.02 :‬‬
‫‪3‬سامح كرمي‪ :‬معارك طه حسني األدبية والفكرية‪ ،‬دار القلم بريوت‪ ،‬ط‪ ،0022 ،3‬ص‪.012 :‬‬
‫‪4‬طه حسني‪ :‬مستقبل الثقافة يف مصر‪ ،‬مج‪ ،0‬ص‪.50 ،51 :‬‬
‫‪5‬نفسه‪ ،‬مج‪ ،0‬ص‪.58 :‬‬
‫‪42‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يقومها‪،‬‬
‫نقوم األشياء كما ّ‬‫ومعىن وحقيقة وشكال‪ ،‬حبيث نشعر األوريب أننا نرى األشياء كما يراها‪ ،‬و ّ‬
‫وحنكم على األشياء كما حيكم عليها"‪.1‬‬
‫جاء يف كتاب "أعالم األدب املعاصر يف مصر" عن قيمة الكتاب احلضارية " إن كتاب مستقبل‬
‫الثقافة يف مصر‪..‬قد اعترب وقت كتابته‪ ..‬الوثيقة اهلامة اليت تتميز بوضوح املنطلق‪ ،‬وبعد اخليال إذا ما‬
‫قورنت بكل ما كتب حول أهداف الثقافة املصرية وآماهلا‪ ...،‬وكما يوضح املؤلف يف املقدمة‪ ،‬كان‬
‫هناك باعثان على تأليف الكتاب‪ :‬األول هو معاهدة سنة ‪ 0022‬بني مصر وبريطانيا واتفاق مونرتو‬
‫اللذان فتحا الباب الستقالل مصر‪ ،‬والثاين هو حضور املؤلف عددا من املؤمترات اليت دارت حوهلا‬
‫األهداف العامة للثقافة والرتبية‪ ،‬واليت انعقدت يف باريس يف صيف ‪.2"0022‬‬

‫‪" -1131‬من األدب التمثيلي اليوناين" سوفوكليس ترمجة طه حسين ملسرحيات "ألكرتا"‬
‫"إياس" "أنيتيجونا" و"أوديبوس ملكا"‪ ،‬طبعت مبطبعة جلنة التأليف والرتمجة والنشر وأعيد طبعها يف‬
‫دار املعارف‪.‬‬

‫‪ -1131‬يصدر كتاب "مع أيب العالء يف سجنه" ويف السنة نفسها يصدر اجلزء الثاين لكتاب‬
‫"األيام" وطبع ثانية باملعارف سنة ‪0052.‬‬

‫‪" -1142‬حلظات"‪ ،‬وهي عبارة عن فصول ومقاالت خلصها طه حسين من عيون األدب‬
‫الفرنسي املعاصر‪ ،‬وكانت قد نشرت يف دوريات "السياسة" و"اهلالل" و"احلديث"‪ ،3‬والكتاب يف‬
‫جزأين‪ ،‬طبع بدار املعارف سنة ‪.0023‬‬

‫يف السنة نفسها يصدر اجلزء الثاين من كتابه "على هامش السرية" وطبع بدار املعارف وأعيد‬
‫طبعه فيها سنة ‪0052.‬‬

‫‪ -1143‬يصدر اجلزء الثالث من "على هامش السرية" طبع بدار املعارف سنة ‪ 0022‬وأعيد‬
‫طبعه هبا سنة ‪0055.‬‬

‫املصدر السابق‪ ،‬مج‪ ،0‬ص‪.58 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪2‬محدي السكوت ومارسيدن جونز‪ :‬أعالم األدب املعاصر يف مصر‪ )0( ،‬طه جسني‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه ‪ :‬ص‪.82 :‬‬
‫‪43‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪0022‬‬ ‫‪ -1143‬صوت باريس وهو جمموعة من القصص التمثيلية‪ ،‬طبع بدار املعارف سنة‬
‫وأعيد طبعه هبا سنة ‪0052.‬‬

‫‪ -1141‬مجعت مقاالته اليت كانت تصدر يف جمموعة من الدوريات لعل أمهها "الرسالة"‬
‫و"الثقافة" و"الوادي" و"جمليت" حتت عنوان "فصول يف األدب والنقد" وهو الكتاب الذي "جعل‬
‫الشبان ينتظرون ويأملون أن يتناوهلم عميد األدب العريب بالنقد والتقييم تقديرا منه لتلك األعمال‬
‫العظيمة للجيل التايل من األدباء"‪.1‬‬

‫‪ -1141‬أصدر كتابه "جنة الشوك" وهو لون من الكتابة‪ ،‬جديد ‪ -‬يف رأي صاحبه‪ -‬على‬
‫جيل األدباء يف ذلك العصر حيث جاء فيه "والذين يقرؤون ما أذعت يف الناس من الكتب منذ أكثر‬
‫من ربع قرن يستطيعون أن‪ ....‬يتبينوا يف وضوح وجالء أين أستجيب حني أكتب –و حني أكتب يف‬
‫األدب خاصة‪ -‬لشيئني اثنني‪ :‬أحدمها ما أرى من رأي أو أجد من عاطفة وشعور‪ ،‬واآلخر امتحان‬
‫أكون‬
‫قدرة اللغة العربية على أن تقبل فنونا من األدب مل يطرقها القدماء‪ ،‬وامتحان قدريت أنا على أن ّ‬
‫الصلة بني اللغة العربية وبني الفنون واآلداب"‪.2‬‬

‫يتناول سامح كرمي كتاب "جنة الشوك" مربزا مكانة هذا اللون من الكتابة يف الساحة األدبية‬
‫آذاك‪ ،‬فالكتاب حسبه يرمي "إىل تصوير فرتات عصر االنتقال اليت متتاز مبا يكثر فيها من اضطراب‬
‫الرأي واختالط األمر‪ ،‬واحنراف السرية الفردية واالجتماعية عن املألوف من مناهج احلياة‪ ،‬مما يدفع‬
‫املصلحني إىل النقد والعناية بإصالح الفاسد وتقومي املعوج والداللة على اخلري لقصد إليه‪ ،‬وعلى الشر‬
‫ليتنكب سبيله‪ .‬وخييل ملن يقرأ صفحات هذا الكتاب أن طه حسين قد سلك مسلك صديقه أيب‬
‫العالء املعري يف تصوير طباع الناس الذين أحسن إليهم فأساءوا إليه‪ ،‬وصارحهم مبا ينطوي عليه قلبه‬
‫من حب فخذلوه وتآمروا عليه‪ ،‬وهو كما هو ينظر إىل خذالهنم له بالسخرية‪ ،‬معتمدا على علمه‬
‫الذي خيفف عنه أمل اإلنسانية"‪.3‬‬

‫‪1‬سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني‪ ،‬ص‪.005 :‬‬


‫‪2‬طه حسني‪ :‬جنة الشوك‪ ،‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬ط‪ ،0‬بريوت‪ ،0022،‬مج‪ ،00‬ص‪.20 :‬‬
‫‪3‬سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني‪ ،‬ص‪.053 :‬‬
‫‪44‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ -1141‬يصدر كتابه "صوت أيب العالء"‪ :‬نُشر يف العدد ‪ 32‬من "اقرأ" وطُبع بدار املعارف‪،‬‬
‫ويعد هذا الكتاب ثالث الكتب عن شخصية أيب العالء "و فيه ينثر بعض قصائد أيب العالء بأسلوبه‬
‫ممهدا للكثريين الذين يصعب عليهم فهم لزوميات أيب العالء فهما صحيحا أن‬ ‫األخاذ ّ‬
‫الشعري ّ‬
‫يدركوا غايات هذا الفيلسوف الشاعر ومراميه‪...‬إن حب طه حسين أليب العالء املعري‪ ،‬جعله جيهد‬
‫يعز على‬
‫نفسه قدر طاقته يف أن حيبب فيه اآلخرين‪ ..‬ومل يكن ذلك إال بتيسري أدبه وجعله سهال ال ّ‬
‫طالب علم أو اطالع"‪.1‬‬

‫‪ -1141‬يصدر طه حسين كتابه "عثمان" وهو اجلزء األول من كتاب "الفتنة الكربى" الذي‬
‫بكم هائل من املعلومات التارخيية حول‬‫يزود القارئ ّ‬ ‫طبع بدار املعارف‪ ،‬وفيه استطاع طه حسين أن ّ‬
‫هذه القضية يف مقتل عثمان ‪ -‬رضي اهلل عنه‪ -‬وإصابة األمة اإلسالمية هبذه الفتنة اليت مل تعرف هلا‬
‫مثيال منذ وفاة الرسول – صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وفيه استطاع طه حسين أن يكون "املؤرخ املنصف‬
‫الذي يعرض األحداث جمردة عن كل عصبية أو هوى فقد ق ّدم للقارئ مادة وافية دقيقة موضوعية‬
‫عن تاريخ هذه الفرتة بشىت مالبساهتا"‪.2‬‬

‫‪ -1141‬يصدر كتابه "رحلة الربيع" الذي كان يف األصل جمموعة من املقاالت كان يكتبها من‬
‫أوربا مث مجعها حتت املسمى‪.‬‬

‫‪ -1141‬يصدر كتابه "املعذبون يف األرض" واليت نشرت أوال مبجلة الكاتب املصري سنة‬
‫‪ 0028‬وما بعدها‪ ،‬وطبعت يف صيدا بلبنان سنة ‪ ،0020‬مث مبطبعة املعارف مث طبعت بالشركة العربية‬
‫سنة ‪ ،0058‬والرواية إنسانية تعاجل قضية اجتماعية وإنسانية وتدين "شخوصها الرؤوس الغارقة يف‬
‫الغىن‪ ،‬املتخمة بالثراء‪ ،‬الالهية عن اجلوع‪ ،‬وعلى الرغم من أن هذه مبادئ إنسانية ومعان يعتنقها أي‬
‫جر عليه الكثري من‬
‫كاتب حيمل بني أصابعه قلما شريفا على الرغم من كل هذا إال أن هذا الكتاب ّ‬
‫املتاعب واملشاكل نظرا لنغمته الثورية على األقل يف ذلك احلني"‪3‬؛ فاملشاكل اليت أثارها طه حسين‬
‫يف هذه الرواية مكنته من كشف املستور واملخبوء من هذه القضايا اإلنسانية ألنه يعيش وسط الناس‬

‫‪1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.002 ،005 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.022 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.038 :‬‬
‫‪45‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يعرب عن آماهلم وآالمهم ومهومهم‪ ،‬وقد كانت اآلالم واهلموم كثرية وقت كتابة هذا املؤلَّف‪ ،‬فرمحة‬
‫"و ّ‬
‫هلؤالء الذين ال جيدون ما ينفقون فيتطلعون إىل الواجدين لعلهم حيسون حنوهم بالعطف الذي جيب‬
‫أن ينتشر ورمحة هلؤالء الذين يطوون أكبادهم على خممصة بينما الطعام يتخم قوما قريبني منهم‬
‫ولكنهم ال حيسون إحساس احملروم‪ .‬هكذا حتدث طه حسين‪ ...‬وهلذا صودر كتاب املعذبون يف‬
‫األرض وُمنع من دخول القاهرة"‪.1‬‬

‫‪ -1141‬يصدر كتاب "مرآة الضمري احلديث" وقد طبع بعنوان "نفوس للبيع" ضمن جمموعة‬
‫كتب للجميع سنة ‪ 0052‬مبطبعة شركة التوزيع املصرية‪.‬‬

‫‪ -1111‬يصدر كتاب "الوعد احلق" يف سلسلة اقرأ العدد ‪ 82‬مث يطبع بدار املعارف سنة‬
‫‪ 0052‬وسنة ‪ 0050‬وسنة ‪0021.‬‬

‫‪ -1111‬جتمع فصول كتاب "جنة احليوان" ويطبع مبطابع جريدة املصري ‪.‬‬

‫‪ 0025‬و‪0028‬‬ ‫‪ -1112‬مجعت جمموعة من املقاالت نشرت مبجلة "الكاتب املصري" بني سنة‬
‫حتت اسم "ألوان" وطبع بدار املعارف سنة ‪ 0053‬وأعيد طبعه سنة ‪ 0058‬بدار املعارف‪.‬‬

‫ويف السنة نفسها يصدر الطبعة األوىل من مؤلفه "بني بني" وهو جمموعة مقاالت نشرها جبريدة‬
‫"البالغ"‪ ،2‬وطبع الكتاب بدار العلم للماليني بريوت ‪.‬‬

‫‪ -1113‬يصدر اجلزء الثاين من مؤلفه "الفتنة الكربى"‪" :‬علي وبنوه" ويطبع بدار املعارف‪،‬‬
‫ويعاد طبعه سنة ‪.0020‬‬

‫‪ -1111‬يشرتك مع األستاذ إبراهيم األبياري يف شرح "لزوم ما اليلزم" أليب العالء املعري ضمن‬
‫جمموعة "ذخائر العرب" اجلزء األول‪ ،‬دار املعارف‪.‬‬

‫‪" -1111‬من هناك" وهو الكتاب نفسه "صوت باريس"‪ .‬أصدره ضمن سلسلة "الكتاب‬
‫الذهيب"‪.‬‬

‫‪ 1‬سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني‪ ،‬ص‪.038 :‬‬


‫‪ 2‬ينظر‪ :‬عبد العزيز شرف‪ :‬طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي‪ ،‬ص‪.53 :‬‬
‫‪46‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ويف السنة نفسها يصدر كتابا بعنوان "خصام وتعد"‪ .‬صدر يف بريوت وهو جمموعة مقاالت‬
‫نقدية نشرها جبريدة "اجلمهورية"‪ ،‬ويتناول طه حسين راهن احلياة اإلبداعية والنقدية آنذاك وإشكالية‬
‫الركود املعريف الذي عرفته الساحة األدبية بقوله مير العام دون أن يظهر منها كتاب‪ ..‬والصحف‬
‫اليومية واألسبوعية ال حتفل باألدب‪ ،‬مث يناقش مجلة من القضايا املتصلة باألدب منها مثال‪ :‬الصلة‬
‫فريد‬
‫بني األدب واحلياة‪ ،‬وهل األدب للحياة أم أن األدب لألدب؟ مث حيدد العالقة بني األدب والثورة ّ‬
‫على الذين رموا األدب املصري بالتخلف عن جماراة ثورة ‪ 0053‬بقوله‪ ...":‬ويزعمون أن أدب الثورة‬
‫مل يوجد بعد مع أن الثورة قد شبّت‪ ...‬والذين يقولون هذا الكالم ينسون أو جيهلون أن األدب ميهد‬
‫يصور‬
‫للثورة‪ ،‬وينشئها ويشب جذوهتا يف النفوس مبا يلقي يف قلوب الناس من اآلراء اجلديدة ومبا ّ‬
‫لعقوهلم من القيم املستحدثة‪ ،‬وحني ينقل أذواقهم من طور إىل طور‪ ،‬وحني يبغض إليهم القدمي من‬
‫أوضاعهم االجتماعية ويدفعهم إىل تغيري األوضاع‪ .‬إمنا األدباء قوم حيلمون والثورة تعبري وتفسري‬
‫ألحالمهم"‪.1‬‬

‫‪ -1111‬أصدر كتابه "نقد وإصالح" الذي طبع بدار العلم للماليني ببريوت‪ ،‬وطبع مرة أخرى‬
‫سنة ‪ 0021‬بالدار نفسها‪ ،‬وهو عبارة عن جمموعة من املقاالت كان قد نشرها يف صحيفة‬
‫"اجلمهورية"‪.‬‬

‫‪ -1111‬أعاد طبع كتابيه "يف الصيف" و"رحلة الربيع" يف كتاب واحد بعنوان "رحلة الربيع‬
‫والصيف"‪.‬‬

‫‪ -1111‬مجع جمموعة من املقاالت اليت كان قد نشرها يف "اجلمهورية" و"األهرام" يف كتاب‬


‫بعنوان "من أدبنا املعاصر‪ ،‬وطبع بالشركة العربية للطباعة والنشر بالقاهرة‪ ،‬وتناول فيه بالنقد جمموعة‬
‫من القصص للكثري من األدباء املعاصرين‪ ،‬حيث حتدث يف هذا الكتاب عن "بعض القضايا اليت‬
‫شغلت الوسط األديب مثل الواقعية يف األدب والفن والتجديد يف الشعر وموقف الشعراء التقليديني‬
‫منه‪ ،‬وموقف جملمع اللغة العربية‪ ،‬مث ينتقل على قراءة يف بعض دواوين الشعر ومنها (وحي احلرمان)‬
‫و(أصداء النيل) وغريها من املوضوعات"‪ ،2‬وناقش أيضا قضية الشعر اجلديد وموجة ظهوره يف‬

‫‪1‬سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني‪ ،‬ص‪.002 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.002 :‬‬
‫‪47‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الساحة اإلبداعية املصرية إال أنه كان "أكثر حتررا ومرونة من كثري من أبناء جيله كالعقاد وعزيز أباظة‬
‫وغريمها"‪.1‬‬

‫‪ -1111‬يصدر كتابه "مرآة اإلسالم" الذي طبع بدار املعارف‪ ،‬ويصدر كذلك يف بريوت "من‬
‫أدب التمثيل الغريب" الذي كان قد نشر فصوله يف "اجلهاد"‪.2‬‬

‫ويف العام نفسه يصدر كتابه "أحاديث" الذي عاجل فيه العديد من القضايا اليت تتناول جوانب‬
‫كثرية من احلياة سواء األدبية والثقافية أو االجتماعية والفكرية مع حماولته تقدمي بعض احللول لبعض‬
‫اإلشكاليات‪.‬‬

‫جل‬
‫يف السنة نفسها يصدر من بريوت كتابه "من لغو الصيف إىل ج ّد الشتاء" الذي نشرت ّ‬
‫فصوله يف "الرسالة" و"جمليت" و"اهلالل" و"الثقافة" و"األهرام"‪.3‬‬

‫‪ -1111‬يصدر بالقاهرة كتابه الشيخان‪" :‬أو بكر وعمر بن اخلطاب" الذي طبع بدار املعارف‬
‫مبصر‪.‬‬

‫‪ -1111‬يصدر له يف بريوت كتابه "من تاريخ األدب العريب" يف جملدين‪ :‬يضم اجمللد األول‬
‫(العصر اجلاهلي واإلسالمي) ويضم الثاين (العصر العباسي األول)‪ .‬وقد نشرت معظم فصول هذين‬
‫اجمللدين من قبل يف كتايب طه حسين اهلامني "يف األدب اجلاهلي" و"حديث األربعاء"‪ ،‬وقد أضاف‬
‫هلا "شكري فيصل" بعض املقاالت واألحباث اليت مل تنشر من قبل‪.‬‬

‫‪ -1111‬يصدر له "تقليد وجتديد"‪ :‬وهي عبارة عن سلسلة إذاعية حول بعض قضايا التقليد‬
‫والتجديد‪ ،‬مجعها كذلك شكري فيصل‪.‬‬

‫‪1‬محدي السكوت ومارسيدن جونز‪ :‬أعالم األدب املعاصر يف مصر(‪ )0‬طه حسني‪ :‬ص‪.52 :‬‬
‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪3‬نفسه‪ :‬ص‪.23 :‬‬
‫‪48‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ -1111‬يصدر له "كتب ومؤلفون"‪ :‬وهو عبارة عن مقاالت تضم املقدمات اليت كتبها طه‬
‫حسين لعدد من الكتب ومجعها شكري فيصل كذلك‪.1‬‬

‫إضافة إىل العديد من الرسائل واملقاالت اليت مل تنشر من قبل سواء كانت يف الرتمجة أم يف‬
‫النقد‪ ،‬ومنها تلك الكتابات اليت كتبها طه حسين باللغة الفرنسية‪ ،‬ومل تنشر من قبل‪ ،‬كاليت مجعها‬
‫‪2‬‬
‫وترمجها عبد الرشيد الصادق حممودي‪.‬‬

‫‪1‬محدي السكوت ومارسيدن جونز‪ :‬أعالم األدب املعاصر يف مصر(‪ )0‬طه حسني‪ :‬ص‪.02 :‬‬
‫‪ 2‬من الشاطئ اآلخر‪ :‬طه حسني يف جديده الذي مل ينشر سابقا‪ ،‬كتابات طه حسني الفرنسية مجعها وترمجها وعلق عليها‪،‬‬
‫عبد الرشيد الصادق احملمودي‪ ،‬شركة املطبوعات للتوزيع والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0001 ،0‬‬

‫‪49‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل الثاني ‪:‬‬

‫طه حسني و مرحلة تأسيس الكتابة النقدية‬


‫‪ .1‬طه حسني و املنهج التارخيي‬
‫‪ .1‬منهج املرصفي‬
‫‪ .1‬املنهج احلديث‬
‫‪ .1‬فاعلية املنهجني‬
‫‪ .5‬املنهج التارخيي يف كتاب جتديد ذكرى أبي العالء‬
‫‪ .6‬احلتمية التارخيية‬
‫‪ .7‬البحث عن املنهج (حديث األربعاء)‬
‫‪ .1.7‬من اجلرب التارخيي إىل احلرية الفردية‬
‫‪ .1.7‬آلية اشتغال املنهج‬
‫‪ .1.7‬قوانني ابن خلدون الفلسفية‬
‫‪ .8‬خيارات املمارسة املنهجية يف حديث األربعاء‬

‫‪50‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .1‬طه حسني واملنهج التارخيي‬

‫ترجع صلة طه حسين بالبحث العلمي احلديث أيام كان طالبا باجلامعة األهلية‪ ،‬عندما طرق‬
‫مسعه ألول مرة دروس األساتذة املستشرقني‪ ،‬الذين زاول عليهم دراسته العلمية احلديثة‪ ،‬واليت مثّنها‬
‫فيما بعد يف التحاقه باجلامعة الفرنسية " لقد مسع من أساتذته عموما وأستاذه كارلو نالينو خاصة أن‬
‫البحث العلمي الرصني يتطلب األخذ باملنهج العلمي احلديث‪ ،‬كما مسع أن هذا املنهج هو مجلة من‬
‫األسس والعمليات والعلوم على الباحث أن يأخذ هبا‪ ،‬فجمع شتات كل ما مسعه حماوال تطبيقه يف‬
‫أول حبث قدمه سنة ‪ 0002‬إىل اجلامعة لنيل درجة الدكتوراه‪ 1"،‬وكان ذلك يف أول عهده بتلك‬
‫الطروحات اجلديدة اليت مل يكن له عهد هبا‪.‬‬

‫لقد دعا طه حسين إىل املنهج التارخيي بعدما ذاع صيته بفرنسا آنذاك‪ ،‬وهو منهج حيتكم‬
‫إىل العلل واملعلوالت‪ ،‬ويفسر الظواهر األدبية تفسريا سببيا‪ ،‬وقد جعل عينة حبثه أبا العالء املعري يف‬
‫فلسفته التشاؤمية‪ ،‬مربزا النفس اإلسالمية ودورها يف عصرها قائال‪ " :‬ليس الغرض يف هذا الكتاب أن‬
‫نصف حياة أيب العالء وحده وإمنا نريد أن ندرس حياة النفس اإلسالمية يف عصره‪ ،‬فلم يكن حلكيم‬
‫املعرة أن ينفرد بإظهار آثاره املادية واملعنوية‪ ،‬وإمنا الرجل وما له من آثار وأطوار نتيجة الزمة‪ ،‬ومثرة‬
‫ّ‬
‫ناضجة لطائفة من العلل اشرتكت يف تأليف مزاجه‪ ،‬وتصوير نفسه‪ ،‬من غري أن يكون له عليها‬
‫سيطرة أو سلطان"‪.2‬‬

‫‪ 1‬عبد اجمليد حنون‪ :‬الالنسونية وأثرها يف رواد النقد العريب احلديث‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪ ،0002 ،‬ص‪:‬‬
‫‪.022‬‬
‫‪2‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0022 ،0‬مج‪ ،2‬ص‪.225 :‬‬
‫‪51‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ينتج عن هذه الدراسة العلمية‪ ،‬اإلقرار بأن األديب املبدع مثرة من مثرات اجملتمع‪ ،‬يؤثر فيه كما‬
‫سوف يتأثر به‪ ،‬وهي نظرة حتتكم إىل الصريورة التارخيية اليت جتعل من الظاهرة األدبية علّة ومعلوال يف‬
‫اآلن نفسه‪ ،‬ولقد دأب الرجل على االمتثال التام هلذا املنهج يف الدراسة‪ ،‬جاعال من كل النتائج اليت‬
‫حتصل عليها سببا من أسباب هذا املنحى من مناحي الدراسة‪ .‬يقول طه حسين دفاعا عن توجهه‬
‫عما قبله وما بعده‪ ،‬ذلك‬‫البحثي‪" :‬و اخلطأ كل اخلطأ أن ننظر إىل اإلنسان نظرنا إىل الشيء املستقل ّ‬
‫الذي ال يتصل بشيء مما حوله‪ ،‬وال يتأثر بشيء مما سبقه أو أحاط به‪ ،‬ذلك خطأ‪ ،‬ألن الكائن‬
‫املستقل هذا االستقالل ال عهد له هبذا العامل‪ ،‬إمنا يأتلف هذا العامل من أشياء يتصل بعضها ببعض‪،‬‬
‫ويؤثر بعضها يف بعض ومن هنا مل يكن بني أحكام العقل أصدق من القضية القائلة بأن املصادفة‬
‫حمال‪ ،‬وأن ليس يف هذا العامل شيء إال وهو نتيجة من جهة وعلة من جهة أخرى"‪.1‬‬

‫ينقاد طه حسين جراء اتّباعه املنحى التارخيي يف تفسري الظاهرة األدبية‪ ،‬إىل أن جيعل من تأريخ‬
‫عما كان معهودا يف طريقة القدماء‪ ،‬ويضع ألجل ذلك‬ ‫األدب ظاهرة جديدة‪ ،‬ختتلف االختالف كله ّ‬
‫شروطا حامسة‪ ،‬يف التأريخ ومن مثّ التنظري هلذه الظواهر‪ ،‬يقول‪" :‬فاملؤرخ الذي ال يؤمن باملذاهب‬
‫احلديثة وال يصطنع يف البحث طرائقه الطريفة‪ ،‬وال يرضى أن يعرتف مبا بني أجزاء العامل من االتصال‬
‫احملتوم‪ ،‬وال أن يسلّم بأن الشيء الواحد على صغره وضآلته‪ ،‬إمنا هو الصورة ملا أوجده من العلل وال‬
‫يطمئن إىل أن احلركة التارخيية جربية ليس لالختيار فيها مكان‪ ،‬املؤرخ القدمي الذي يرفض هذا كله‪،‬‬
‫وال مييل إليه ملزم مع ذلك أن يبحث عن حياة األمة اإلسالمية‪ ،‬إذا حبث عن حياة أيب العالء‬
‫املعري‪ ،‬فإنه إ ْن مل يفعل ذلك‪ ،‬استحال عليه أن يفهم الرجل‪ ،‬أو يهتدي من أمره إىل شيء"‪.2‬‬

‫إن دعوة طه حسين إىل جتديد األدوات النقدية احلديثة‪ ،‬إمنا هي دعوة إىل جتاوز ما هو عتيق‬
‫تسهل الوقوف‬‫من العملية النقدية برمتها‪ ،‬وحتريض على األخذ مبا عند الغرب من طرائق للبحث ّ‬
‫على مجيع الظواهر األدبية دون استثناء‪ ،‬وهي يف الوقت نفسه دعوة إىل املروق عن هذه اآلراء النقدية‬
‫البالية‪ ،‬اليت جتاوزها الزمن احلديث‪ ،‬حىت يف كيفية جتديد العمل على مصادر البحث ومراجعه‪ .‬يدعو‬
‫طه حسين إىل إيفاء البحث حقه منها‪ ،‬وذكرها ملا يتطلبه البحث العلين اجلديد يف أوربا من هذا‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.222 ،225 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.222 :‬‬
‫‪52‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اإلجراء على عكس ما كان مألوفا يف البحوث التقليدية‪ ،‬يقول العميد‪ " :‬لقد كان ميتاز الرجل يف‬
‫العصر القدمي بكثرة ما أحصى من العلم‪ ،‬وما وعى من األخبار‪ ،‬فكان من املعقول أن يضن على‬
‫الناس مبصادر علمه حىت ال يشارك فيه‪ .‬أما اآلن فقد أصبح الرجل ميتاز حبسن البحث والتحليل‪،‬‬
‫وإتقان التتبع واالستقراء وإجادة النظر واالستنباط‪ ،‬ومن الواضح أن إظهار مصادره للناس يعينه على‬
‫إظهار حظه من ذلك‪ ،‬وإعالن قسطه من التفوق والنبوغ"‪.1‬‬

‫يعلق الباحث اجلزائري عبد المجيد حنون‪ ،‬حول هنج طه حسين من البحث واالستقصاء‬
‫بقوله‪ ":‬لقد تغري مفهوم العلم من التحصيل واحلفظ إىل البحث والتحليل وإتقان التتبع واالستقراء‪،‬‬
‫ومن مث البد أن يتحول املنهج من سرد لألخبار وإهبار للسامعني بكثرهتا وطرافتها‪ ،‬إىل حبث وحتليل‬
‫تلك األخبار للكشف عن عللها من جهة ونتائجها من جهة أخرى‪ ،‬إهنا رؤية جديدة للتاريخ اقتنع‬
‫هبا طه حسين وأعلن اعتمادها أسلوبه يف البحث"‪.2‬‬

‫إن املنحى الذي حناه يف حبثه حول أيب العالء املعري‪ ،‬ما كان له أن خيرج منه بطائل لوال الرؤية‬
‫النقدية احلديثة‪ ،‬اليت تأثر هبا أّميا تأثر من قبل أستاذه املستشرق اإليطايل كارلو نالينو‪ ،‬الذي أخذ عنه‬
‫كيفيات البحث عن تاريخ اآلداب وكيفية التأريخ هلا‪ ،‬بعدما جعل نالينو هذا املنهج سبيال ملعرفة‬
‫اآلداب األوربية‪ ،‬راح ينتهج النهج نفسه حول تاريخ آداب اللغة العربية من اجلاهلية حىت صدر الدولة‬
‫األموية‪ ،‬يقول نالينو‪" :‬إن املطلوب مين ليس إال أن أطبق على اآلداب العربية أساليب البحث‬
‫التارخيي اليت عادت على تاريخ آدابنا اإلفرجنية بطائل عظيم"‪.3‬‬

‫كانت بصمة األستاذ واضحة جلية يف تلميذه‪ ،‬الذي حذا حذوه يف تفعيل هذا املنهج حول أيب‬
‫العالء‪ ،‬وهو املنهج التارخيي احلديث‪ ،‬الذي خيتلف ‪-‬ال حمالة‪ -‬عن نظريه املنهج التارخيي القدمي‪:‬‬
‫"فالقدمي يقوم على جتميع األخبار واملعلومات والروايات ونسبتها إىل أصحاهبا‪ ،‬مث سردها‪ ،‬دون حتليل‬
‫أو تعليل من منطلق احرتام املاضي وتقديسه أحيانا‪ ،‬أما املنهج التارخيي احلديث‪ ،‬فال يكتفي جبمع‬
‫األخبار والروايات ونسبتها‪ ،‬وإمنا يتعدى ذلك إىل البحث والتحليل والتعليل واالستقصاء لتلك‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.280 ،281 :‬‬


‫‪2‬عبد اجمليد حنون‪ :‬الالنسونية و أثرها يف رواد النقد العريب احلديث‪ ،‬ص‪.022 :‬‬
‫كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،3‬ص‪.52 :‬‬
‫‪3‬‬

‫‪53‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الروايات بغية الكشف عن أسباهبا ونتائجها وبذلك تصبح مسألة نسبية‪ ،‬ويصبح املاضي يعامل‬
‫معاملة احلاضر‪ ،‬أي يدرس دراسة موضوعية"‪.1‬‬

‫انطالقا من إميان طه حسين جبدوى اتباع طروحات املنهج التارخيي‪ ،‬للوصول إىل نتائج مل‬
‫تقصي األخبار‬
‫تصل إليها الدراسات األدبية العربية من قبل‪ ،‬فإنه حنا يف حبثه ذلك املنحى من ّ‬
‫وقياسها مبحك العقل واملنطق‪ ،‬وجعل الظاهرة األدبية علة ملعلول موجود‪ ،‬أو هي نتيجة لسبب قائم‪.‬‬

‫لقد تعلم طه حسين من أستاذه نالينو " أن األدب مرآة للعصر الذي قيل فيه‪ ،‬فهو دافع من‬
‫مصور هلا‪ ،‬وال سبيل إىل درسه وفقهه إال إذا‬
‫دوافع هذه احلياة وكذلك صدى من أصدائها‪ ،‬أي ّ‬
‫درست احلياة اليت سبقته فأثرت يف إنشائه‪ ،‬واليت عاصرته فتأثرت به وأثّرت فيه‪ ،‬واليت جاءت يف إثر‬
‫عصره فتل ّقفت نتائجه وتأثرت هبا"‪ .2‬وخلص من ذلك أن لألدب مظهرين "مظهره الفردي ألنه‬
‫يستطيع أن يربأ من الصلة بينه وبني األديب الذي أنتجه‪ ،‬ومظهره االجتماعي ألن هذا األديب نفسه‬
‫ليس إال فردا من مجاعة‪ ،‬فحياته ال تُتصور وال تُفهم وال ُحتقق إال على أنه متأثر باجلماعة اليت يعيش‬
‫‪3‬‬
‫فيها‪ ،‬هو يف نفسه ظاهرة اجتماعية فال ميكن أن يكون أدبه إال ظاهرة اجتماعية"‪.‬‬

‫لقد استمع التلميذ غري مرة إىل أستاذه‪ ،‬وهو يعرض ألمساء علماء معتربين فينقد أعماهلم‪،‬‬
‫ويبدي فكره حبرية تامة‪ ،‬قصد االنتفاع بأعماهلم العلمية‪ ،‬وتقديرها بعيدا عن كل غرض دينء‪ 4‬مث‬
‫ينتقل ليتحدث عن اللغة بوصفها الكائن احلي الذي يقبل "النمو والتجدد والفساد‪ ،‬وكذلك األلفاظ‬
‫تغري أحوال األمة‬
‫املفردة‪ ،‬فكثريا ما يطرأ عليها من التغري واالنتقال من معىن إىل آخر حسبما يقتضيه ّ‬
‫االجتماعية والسياسية والتقدم أو التقهقر يف الصنائع والعلوم"‪.5‬‬

‫يقر طه حسين ويعرتف بأن املنهج القدمي ّ‬


‫كره إليه أعمال احملدثني‪ ،‬وأن الذي أزال هذا الكره‬ ‫ّ‬
‫حب وال يعرفه‬
‫احلر‪ ،‬ال يستهويه ّ‬‫هو املنهج اجلديد‪ ،‬وموقفه من القدماء واحملدثني موقف الرجل ّ‬

‫‪1‬عبد اجمليد حنون‪ :‬الالنسونية و أثرها يف رواد النقد العريب احلديث‪ ،‬ص‪.022 :‬‬
‫‪ 2‬كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬مقدمة طه حسني‪ ،‬ص‪.01 :‬‬
‫‪3‬نفسه‪ ،‬ص‪.01 :‬‬
‫‪4‬ينظر نفسه‪ ،‬ص‪.31 ،00 :‬‬
‫‪ 5‬نفسه‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫‪54‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫بغض‪ ،‬وإمنا اجمليد واملسيء سواء يف اخلضوع لقوانني البحث‪ .1‬وتعترب هذه املرحلة من مراحل الكتابة‬
‫النقدية عنده من أخصب املراحل وأمثرها ألهنا شكلت املعامل األساسية أو األوىل للكتابة النقدية‬
‫عنده‪ ،‬أعين هنا األعمال اليت تقدم هبا عن أيب العالء املعري‪ ،‬فالرجل مل يتجاوز اخلامسة والعشرين‬
‫عندما ندب نفسه لتقدمي أيب العالء للناس على الرغم من ازوراره عنه يف البداية هروبا من التقاليد‬
‫وينميها‪ ،‬لكن مل يفتأ األمر أن انقلب بتأثر الرجل بأستاذه املرصفي‪.‬‬
‫يكرسها ّ‬ ‫البالية اليت كان األزهر ّ‬
‫يقول طه حسين عن تلك املرحلة من حياته العقلية‪..." :‬أنا رجل شديد األثرة أحب أن أكون‬
‫ملعاصري وملن جييئون على أثري من الناس وضوحا تاما يف مجيع ما اختلف على نفسي من‬
‫ّ‬ ‫واضحا‬
‫األطوار‪ ،‬وهذا الكتاب ميثل حيايت العقلية يف اخلامسة والعشرين‪ ،‬فال بأس بإظهار هذا النوع من‬
‫احلياة للناس"‪.2‬‬

‫ترتاوح األحكام النقدية له‪ ،‬بني أحكام يتعصب فيها لصاحبه أيب العالء من منطلق النقد‬
‫التأثري واالنطباعي‪ ،‬الذي حيتكم فيه طه حسين إىل الذوق الشخصي البعيد عن معايري النقد‬
‫والتقريض‪ ،‬وبني أحكام يكون فيها قاسيا عليه أحيانا أخرى‪ ،‬يف نقد موجع وعميق يف اآلن نفسه‬
‫كما يف قوله‪" :‬ولقد يغرت بعض الباحثني مبا جيد يف شعره من وصف النجوم ومواقعها وحركاهتا‪ ،‬ومن‬
‫وصف السيف وروائه‪ ،‬والفرس وأجزائه ولكنه إن أعجب بذلك‪ ،‬فإمنا يعجب بشيء ليس أليب العالء‬
‫فيه إال الرواية وحسن التنسيق فهو يف احلقيقة يستطرف شيئا تليدا‪ ...‬على أن نقنع اآلن باإلشارة إىل‬
‫املصادر العامة اليت يأخذ منها املكفوفون ما يطرقون من أوصاف املادة‪ ،‬فأوهلا ما يقرؤون ويستظهرون‬
‫من الشعر والنثر‪ ،‬الذي أنشأه املبصرون والثاين ما يرثون من األساطري القدمية‪ ،‬والثالث ما يسمعون‬
‫من أحاديث الناس‪ ،‬والرابع ما جيدون يف كتب العلم من خصائص األشياء‪ ،‬هذه املصادر تشرتك يف‬
‫إمداد املكفوفني مبا جتد يف كالمهم من وصف املبصرات"‪.3‬‬

‫يكتب صالح فضل معلقا على هذا احلديث حول نقد طه حسين للمعري قائال‪ " :‬و ال‬
‫أحسب أن هذا احلديث العميق الذي تأمل فيه طه حسين حال املعري وحاله وهو يف اخلامسة‬
‫والعشرين من عمره‪ ،‬مل خيرج بعد من مصر‪ ،‬ومل يطّلع على معطيات الثقافة احلديثة بشكل مباشر‪ ،‬قد‬

‫‪1‬ينظر طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.02 ،05 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.03 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه ‪ ،‬ص‪.312 :‬‬
‫‪55‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يغريه جذريا بعد هذا الزمن الطويل ألنه ينبئ عن خربة علمية وفنية صادقة‪ ،‬وينبثق من‬
‫وجد ما ّ‬
‫استبطان صحيح وتأمل طويل وموضوعي لطبيعة هذا املوقف الدقيق"‪.1‬‬

‫غري أن هذا النقد ال يلبث أن يتغري مبرور الزمن‪ ،‬بني النقد األول والنقد يف املراحل الالحقة‪،‬‬
‫ليتكثف احلوار بني الرجلني يف شكل من التماهي بني الشخصيتني يف بعضهما البعض‪ ،‬وينصرف‬
‫حوار طه حسين إىل املعري يف شكل مناجاة روحية يبث من خالهلا لواعج نفسه وأشجان روحه‬
‫لرفيق روحه املعري يف هذه املناجاة الرفيعة‪" :‬كنت أحدث أبا العالء بأن تشاؤمه ال مصدر له يف‬
‫حقيقة األمر إال العجز عن ذوق احلياة‪ ...‬وكان أبو العالء جييبين ببيته املشهور‪:‬‬

‫و لم أعرض عن اللذات إال ‪ ‬ألن خيارها عني خنسنه"‪.2‬‬

‫الشك أن هذا التواصل‪ ،‬هو تواصل روحي يبث فيه احملاور صاحبه كل ما يعتمل يف نفسه من‬
‫مشاعر وأحاسيس‪ ،‬أراد هلا البوح وآثر هلا اإلعالن على الصمت‪ .‬يعلّق صالح فضل حول هذا‬
‫احلديث بقوله‪ " :‬وهو هنا يتواصل روحيا وفنيا مع أيب العالء املفكر الفيلسوف أكثر مما يتواصل مع‬
‫كتابته‪ ،‬فيصبح الشعر وثيقة للحياة ومادة للتأمل وأداة للحديث‪ ،‬ويصبح البطل هو املؤلف‪ ،‬ويتحول‬
‫النص إىل موضوع ثانوي ضعيف األمهية‪ ،‬لكن طه حسين يتخذ من هذا النهج التأويلي ذريعة لبلورة‬
‫بعض اخلواطر اجلمالية ذات القيمة النقدية الرفيعة فهو يدرك أنه يرتكز على مبدأ التواصل مع املتلقي‬
‫كمنطلق للفاعلية اجلمالية‪ ،‬ويستثمر هذا املبدأ إىل منتهاه‪ ،‬ويستخلص منه بعض اللفتات املاهرة‬
‫العميقة"‪.3‬‬

‫إن منطقة التناول النقدي اليت يقدمها طه حسين متتح من املقوالت البالغية القدمية‬
‫عج هبا النقد‬
‫مصطلحاهتا‪ ،‬وال تكاد حتيد عنها‪ ،‬ذلك أن الرجل موقوف حول هذه املقوالت اليت ّ‬
‫القدمي واحلديث على السواء‪ ،‬فال خمرج للناقد عنها‪ ،‬وإن كانت حتتاج يف الكثري من األحيان إىل أن‬
‫مر هبا طه‬
‫تتطلع إىل الوافد اجلديد من األجهزة املفاهيمية احلديثة‪ ،‬خاصة يف مراحل التماهي اليت ّ‬
‫حسين يف نقده سواء للمعري أو للمتنيب‪ ،‬ففي تعليقه على بيتني للمتنيب يقول فيهما‪:‬‬

‫‪1‬صالح فضل‪ :‬شفرات النص‪ ،‬دراسة سيميولوجية يف شعرية القص والقصيد‪،‬دار اآلداب‪،‬بريوت‪ ،‬ط‪،0000 ،0‬ص‪.021 :‬‬
‫‪2‬طه حسني‪ :‬مع أيب العالء يف سجنه‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،00‬ص‪.05 ،02،02 :‬‬
‫‪3‬صالح فضل‪ :‬شفرات النص‪ ،‬ص‪.020 :‬‬
‫‪56‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫بأبي من وددته فافترقنا ‪ ‬وقضى اهلل بعد ذاك اجتماعا‬

‫لي وداعـا‬
‫فافترقنا حوالً فلما التقينا ‪ ‬كان تـسليمه ع ـ ـ ّ‬
‫يعلّق طه حسين حوهلما بقوله‪ " :‬وسواء أكان هذا الشعر جيّدا أو رديئا مستقيما أو ملتويا‪،‬‬
‫فإين أجد يف نفسي حبّا له وميال إليه‪ ،‬ألين أمتثل هذا اجلهد العنيف الذي بذله هذا الصيب الذكي‪،‬‬
‫حىت استخرج هذين البيتني‪ .‬ومن يدري لعلّي إمنا أحب هذين البيتني وأُعجب جيهد الصيب يف‬
‫استخراجهما‪ ،‬ألين شهدت صبيا أحبّه يبذل هذا اجلهد‪ ،‬وينفق مثل هذا الوقت ويستخرج مثل هذا‬
‫الشعر‪ ،‬ومل أجد بدًّا من أن أثين له على شعره‪ ،‬وأهنئه مبا انتهى إليه من الفوز‪ .‬ومل أكن يف هذه‬
‫التهنئة وال يف ذلك الثناء متكلفا وال غاليا‪ .‬وإمنا كنت صادقا مرسال نفسي على سجيّتها‪ ،‬أصدر عن‬
‫العاطفة أكثر مما أصدر عن الفن"‪.1‬‬

‫يقول صالح فضل عن مصطلحات طه حسين النقدية‪ ،‬وجهازه املفاهيمي يف ذلك الوقت‪،‬‬
‫أهنما مل يسايرا ما كان يصبوا إليه من جتاوز للسائد يف جمال النقد‪ ،‬عندما ضاقت عنه العبارة وافتقر‬
‫املصطلح النقدي إىل الرتكيز واإلفادة واهلدف‪..." :‬و لقد كان جهاز طه حسني املعريف غنيا يف‬
‫مفاهيمه وتصوراته فهو ذواقة منوذجي‪ ،‬يتقن معايشة النصوص‪ ،‬ويتفنن يف الكشف عن بواطنها ومل‬
‫يكن النقد يف العقود األوىل من هذا القرن قد جتاوز مرحلة التناول املوضوعايت والتحليل الفكري‬
‫للنصوص‪ ،‬فإذا احتاج طه حسني ألدوات اصطالحية ترتبط هبذا القطب الفين‪ ،‬مل جيد لديه سوى‬
‫جمموعة التسميات البالغية الفقرية‪ ،‬فهو مضطر إذا أن يرجع فن املتنيب فعال إىل ما يسميه خصلتني‬
‫مها قوامه الشعري ومها املطابقة واملبالغة"‪.2‬‬

‫يقف طه حسين عند منهج القدماء يف قراءة النصوص الرتاثية‪ ،‬وكذلك يقف عند مناهج‬
‫البحث احلديثة األوربية خاصة‪ ،‬ويربز جدواها وفاعليتها يف عمل تفاضلي واضح؛ فالرجل يعتمد‬
‫وبني ذلك يف‬
‫اعتمادا كليا ودائما على هذا النزوع التفاضلي بني العقل املصري العريب والعقل الغريب ّ‬
‫مستهل مقدمته لكتابه "جتديد ذكرى أيب العالء" حيث يضع القارئ يف صلب إشكالية البحث‬

‫طه حسني‪ :‬مع املتنيب‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪.28 :‬‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬صالح فضل‪ :‬شفرات النص‪ ،‬ص‪.022 ،022 :‬‬


‫‪57‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ويطلعه على ممايزته بني منهجني يف الدراسة‪ :‬املنهج القدمي أو ما يصطلح عليه هو مبنهج املرصفي‪،‬‬
‫واملنهج احلديث الذي تأثر فيه ببعض أساتذته املستشرقني‪.‬‬

‫‪ .2‬منهج املرصفي‬

‫يعرتف طه حسين بأمهية املنهج النقدي‪ ،‬الذي تعلمه على المرصفي حيث يقول عنه‪:‬‬
‫"مذهب األستاذ املرصفي نافع النفع كلّه إذا أريد تكوين ملكة يف الكتابة وتأليف الكالم وتقوية‬
‫الطالب يف النقد وحسن الفهم آلثار العرب‪ ،‬وليس يريد األستاذ أكثر من ذلك‪ ،‬ولكن هذا املذهب‬
‫وحده ال يكفي إلجادة البحث عن اآلداب وتارخيها على املنهج احلديث"‪.1‬‬

‫ذلك املنهج هو الذي ش ّكل املعامل الكربى لشخصيته النقدية فيما بعد‪ ،‬حبكم عملية التأثر‬
‫احلاصلة من قبل الطالب‪ ،‬فالمرصفي هو املرحلة األوىل من مراحل تكوينه النقدي ملا ملس فيه من‬
‫ج ّد وإخالص وعمق يف التأصيل الرتاثي‪ ،‬األمر الذي حدا به إىل القول بأن " أستاذنا اجلليل‪ ،‬السيد‬
‫علي املرصفي أصح من عرفته مبصر فقها يف اللغة وأسلمهم ذوقا يف النقد وأصدقهم رأيا يف األدب‬
‫وأكثرهم رواية للشعر والسيما شعر اجلاهلية واإلسالم"‪.2‬‬

‫ميثّل المرصفي املرجعية الرتاثية األوىل بالنسبة لطه حسين‪ ،‬ملا وجد فيه من عمق يف االطالع‬
‫على الرتاث وصدق يف الرأي‪ ،‬وما كان يتمتع به من ذوق سليم بوأه تلك املكانة السامقة يف مساء‬
‫العلم وجعل منهجه القدمي هذا حمصورا يف شخصه‪.‬‬

‫‪ .3‬املنهج احلديث‬

‫هو املنهج الذي استحدثته اجلامعة املصرية عند إنشائها‪ ،‬وذلك على يد جمموعة من األساتذة‬
‫املستشرقني‪ ،‬الذين أتوا مبناهج علمية حديثة يف دراسة نصوص األدب العريب مل تعهدها اجلامعة من‬
‫يعرف طه حسين املنهج احلديث بقوله‪" :‬املذهب الذي أحدثته اجلامعة املصرية يف درس‬ ‫قبل‪ّ .‬‬
‫اآلداب مبصر نافع النفع كلّه الستخراج نوع من العلم مل يكن لنا بد عهد مع شدة احلاجة إليه‪ ،‬وهو‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.03 :‬‬


‫املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.10 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪58‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تأريخ اآلداب تأرخيا ميكننا من فهم األمة العربية خاصة واإلسالمية عامة فهما صحيحا‪ ،‬حظ‬
‫الصواب فيه أكثر من حظ اخلطأ ونصيب الوضوح فيه أوفر من نصيب الغموض"‪.1‬‬

‫هذا املنهج احلديث هو الذي ميكننا حسبه‪ ،‬من استخراج الصورة احلقيقية لألمة العربية‬
‫واإلسالمية‪ ،‬كما فعل أصحابه يف أوربا من قبل‪ ،‬وتبقى إشكالية قراءة موروث األمة العربية واإلسالمية‬
‫من أهم اإلشكاليات املعرفية‪ ،‬اليت نذر العميد نفسه للقيام هبا على مدار حياته الفكرية والتأليفية‪.‬‬

‫‪ .4‬فاعلية املنهجني‬

‫يفاضل طه حسين يف بداية مؤلفه "جتديد ذكرى أيب العالء" بني املنهجني القدمي واحلديث‪،‬‬
‫إيل أبا العالء وأزال املنهج‬
‫"كره املنهج القدمي ّ‬
‫وينتصر طبعا لطروحات املنهج احلديث حيث يقول‪ّ :‬‬
‫احلديث من نفسي هذا الكره‪ ،‬ووقفين مع بعض الشعراء احملدثني واملتقدمني موقف الرجل احلر‪ ،‬ال‬
‫يستهويه حب وال يصرفه بغض وإمنا اجمليد واملسيء عنده سواء يف اخلضوع لقوانني البحث"‪.2‬‬

‫ينساق طه حسين وراء طروحات املنهج احلديث‪ ،‬الذي ينشد املوضوعية يف الطرح النسيب وال‬
‫حيتكم إىل التأثرية أو االنطباعية‪ ،‬وال خيضع للحب والكراهية‪ ،‬كما هو الشأن مع املنهج القدمي‪،‬‬
‫وتعلقه باملنهج احلديث‪ ،‬هو الذي جعله يتربم مبقوالت املنهج القدمي البالية حسبه‪ ،‬ودون أن يقع يف‬
‫شرك التمايز الفاضح بني املنهجني‪ ،‬يدعو مرة أخرى إىل حماولة اجلمع بينهما فيقول‪ " :‬ولست أزعم‬
‫أنّا لسنا يف حاجة إىل درس اآلداب على املنهج القدمي‪ ،‬بل أقول إنّا يف حاجة إىل املنهجني معا‪ ،‬يف‬
‫حاجة إىل املنهج القدمي لتقوى يف أنفسنا ملكة اإلنشاء وفهم اآلثار العربية التليدة‪ ،‬يف حاجة إىل‬
‫املنهج احلديث لنحسن استنباط التاريخ األديب من هذه اآلثار"‪.3‬‬

‫يتضح مما سبق أن حاجة طه حسين للمنهجني من األمهية مبكان؛ ذلك أن الرجل سيجعل‬
‫كل اهتمامه حماولة استكشاف حياة أيب العالء املعري‪ ،‬متبعا يف ذلك مقوالت املنهج التارخيي وما‬
‫يزوده به من آليات تساعده على القراءة والفهم‪ ،‬دون أن يغفل املنهج القدمي الذي ّزوده فيما مضى‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.03 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪3‬نفسه ‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪59‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫بأساسيات العملية النقدية اليت يقول عنها "فلم يبق من هذه اآلثار احلسان اليت تركها األستاذ يف‬
‫تلك النفس الناشئة إال دقة النقد اللفظي واحلرص على إيثار الكالم إذا امتاز مبتانة اللفظ ورصانة‬
‫‪1‬‬
‫األسلوب‪".‬‬

‫أما عن مالبسات إخراج هذا الكتاب للناس يف ذلك الوقت‪ ،‬واألسباب اليت دفعته إىل تأليف‬
‫يصرح قائال‪" :‬و قد كانت مهيت فرتت عن العناية به والتفكري فيه حني شغلين عندما‬
‫مثل هذا الكتاب ّ‬
‫كنت فيه من درس وحتصيل ولكين أذنت يف نشره ألمرين‪ :‬األول‪ :‬أنه ميثل طورا من أطوار حيايت‬
‫العقلية وأنا رجل شديد األثرة أحب أن أكون واضحا ملعاصري وملن جييئون على أثري من الناس‪،‬‬
‫وضوحا تاما يف مجيع ما اختلف على نفسي من األطوار‪ ،‬وهذا الكتاب ميثل حيايت العقلية يف‬
‫اخلامسة والعشرين‪ ،‬فال بأس بإظهار هذا النوع من احلياة للناس"‪.2‬‬

‫يربز هذا النص مرحلة هامة من مراحل تكوين طه حسين‪ ،‬وهو يف اخلامسة والعشرين من‬
‫عمره‪ ،‬ويعترب كتابه عن أيب العالء تأسيسا لفكره النقدي ومرجعية معرفية يف آن معا‪.‬‬

‫مث يضيف طه حسين السبب الثاين الذي دفعه إىل إخراج كتابه للناس‪..." :‬الثاين‪ :‬أن هذا‬
‫الكتاب – وال أريد بذلك انتحال فخر أو حرص على متدح‪ -‬يؤرخ احلركة األدبية يف مصر‪ ،‬فإين ال‬
‫أعرف قبل اليوم كتابا ظهر على هذا النحو من البحث‪ ،‬ورمبا ال أغلو إن قلت‪ :‬إين ال أعرف كتابا‬
‫يف اآلداب العربية قد وضعه صاحبه على قاعدة معروفة وخطة مرسومة من القواعد واخلطط اليت‬
‫يتخذها علماء أوربا أساسا ملا يكتبون يف تاريخ اآلداب‪ 3"،‬وهو بذلك يبوء كتابه مكانة غاية يف‬
‫األمهية‪ ،‬ملا طرقه من جديد على مستوى املنهج النقدي احلديث‪.‬‬

‫‪ .1‬املنهج التارخيي ‪:‬ي كتاب جتديد ذكرى أبي العالء‬

‫يقسم طه حسين كتابه إىل فصول ويق ّدم لدرسه‬


‫ترسم مقدمة الكتاب املنحى العام له؛ ففيها ّ‬
‫أبا العالء بأنه اعتمد اعتمادا مطلقا على مقوالت املنهج النفسي وكذا التحليل الطبيعي كما دعاه "‬

‫‪ 1‬املصدر السابق ‪ :‬ص‪.03 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪3‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪60‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫جعلت درس أيب العالء درسا لعصره‪ ،‬واستنبطت حياته مما أحاط به من املؤثرات‪ ،‬ومل أعتمد هذه‬
‫املؤثرات األجنبية وحدها‪ ،‬بل اختذت شخصية أيب العالء مصدرا من مصادر البحث‪ ،‬بعد أن وصلت‬
‫إىل تعيينها وحتقيقها‪ ،‬وعلى ذلك فلست يف هذا الكتاب طبعيا فحسب بل أنا طبعي نفسي أعتمد‬
‫فيه ما تنتج املباحث الطبيعية ومباحث علم النفس"‪ .1‬وهي أوىل خطوات هذا املنهج اجلديد‪ ،‬الذي‬
‫ارتضاه لتحليل نفسية الشاعر‪ ،‬األمر الذي ميكنه من استخراج الصورة املثلى له‪.‬‬

‫يسرتسل طه حسين يف إبراز قيمة الكتاب املعرفية منذ البداية‪ ،‬فيشعر قارئه بأنه يريد لكتابه أن‬
‫يكون نوعا من املنطق يف قوله‪..." :‬فأما أنا فقد وضعت هلذا الكتاب خطة رمستها رمسا ظاهرا يف هذا‬
‫التمهيد‪ ،‬الذي يلقاك بعد الفراغ من هذه الكلمة‪ ،‬وتشددت يف اتباع هذه اخلطة‪ ،‬فلم أمهلها ومل أشذ‬
‫عن أصل من أصوهلا حىت كاد الكتاب يكون نوعا من املنطق أو هو بالفعل منطق تارخيي وأديب ليس‬
‫فيه حكم إال وهو يستند إىل مصدر‪ ،‬وال نتيجة إال وهي تعتمد على مقدمة‪ ،‬قد بذلت اجلهد يف‬
‫استقصاء حظها من الصحة‪ ،‬ولست أزعم أن نتائج هذا الكتاب كلها حق من غري شك‪ ،‬ولكين‬
‫أعتقد أن إصابتها عندي راجحة وأهنا إىل اليقني أقرب منها على الشك"‪ .2‬وذلك إلميانه بنسبية‬
‫النتائج اليت ميكن أن يتحصل عليها من وراء تفعيل آليات هذا املنهج أو ذاك‪.‬‬

‫ينساق طه حسين يف مؤلفه هذا وراء املنهج التارخيي لكن يف كثري من الغلو باستحضاره أمورا‬
‫شكلية رمبا تسيء إىل نتائج املنهج أكثر مما تثريها وتؤيدها‪ ،‬فهو يف الكثري من األحيان يُبني عن أثر‬
‫أستاذه نالينو يف شخصيته البحثية‪ ،‬وذلك على حساب الداللة املكتنزة داخل النص‪ .‬جند من ذلك‬
‫– مثال‪ -‬عندما يتحدث عن أيب العالء املعري من أنه مكفوف البصر وأنه نتيجة لذلك ال جييد‬
‫وصف املبصرات فيقول‪" :‬وإمنا يتقن وصف ما حييط به علمه من غري املبصرات‪ ،‬فإن تناول األشياء‬
‫املبصرة فوصفها وفصل أجزاءها وحددها فليس خيلو من إحدى اثنني‪ :‬إما أن يكون عياال على غريه‬
‫من الوصاف واملبصرين فيأخذ عنهم ما قالوا‪ ،‬وينفخ فيه من نظمه روحا خاصة‪ ،‬وليس هو يف هذه‬
‫احلال واصفا وال شاعرا وإّمنا هو نظّام‪ ،‬وإما أن ميلكه الغرور‪ ،‬ويأخذه العجب‪ ،‬فيتناول األشياء‬

‫‪ 1‬املصدر السابق ‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫نفسه‪ ،‬ص‪.02 ،02 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪61‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫املبصرة بالوصف والتفصيل من غري أن يأمت بغريه أو يرتسم خطو شاعر آخر‪ ،‬وهو يف هذه احلال‬
‫عرضة اخلطأ الشائن والسخف الكثري"‪.1‬‬

‫رمبا ال جند مربرا هلذه النتائج اليت حتصل عليها طه حسين يف تتبعه ملثل هذه القضايا؛ فالرجل‬
‫ينتصر لروح املنهج العلمي حىت على حساب النص‪ .‬ذلك أنه قد خالف الكثري من العلماء الذين‬
‫أثبتوا أن املكفوفني ال يقلون قدرة على وصف غري املبصرات واملبصرات‪ ،‬وأن الضرير ميكنه أن جييد‬
‫وصف املبصرات‪.2‬‬

‫غري أن السبب الذي دفع به إىل مثل هذا املوقف هو اتباعه خطة معيّنة رمسها لكتابه وأراد هلا‬
‫أن تنفذ يف علميتها‪ ،‬فإذا كان لكل علة معلول فإنه كذلك البد أن تستند إىل علة معقولة مفادها أن‬
‫الضرير ال ميكن أن يصور إال ما أدركه مبخيلته‪ .‬لقد حاول طه حسين تطبيق تلك اخلطة اليت رمسها‬
‫منذ مقدمة كتابه‪ ،‬ويف أحيان أخرى يسقط يف وعثة التلفيق ألنه ينساق وراء طموحه النظري على‬
‫حساب ممارسته النقدية‪ .‬األمر الذي جيعلنا نستحضر تلك اللغة اإلنشائية اليت عودنا عليها مثال يف‬
‫قوله‪..." :‬بل ما لنا وخليال الشعراء نقصد إليه ونتعمق فيه‪ ،‬وما أخذنا يف هذا الكتاب لنكون شعراء‪،‬‬
‫أو خائلني‪ ،‬وإمنا سبيلنا فيه سبيل الباحث احملقق والدارس املستقصي جيمع األشباه إىل نظائرها‬
‫واألشياء إىل قرائنها‪ ،‬ليستنبط منها قضية جمهولة‪ ،‬أو يوضح هبا حكما غامضا أو يستظهر هبا على‬
‫إثبات خرب مشكوك فيه"‪.3‬‬

‫‪ .1‬احلتمية التارخيية‬

‫تقوم فكرة احلتمية التارخيية عند طه حسين على أساس أن أبا العالء املعري كان نتيجة‬
‫جملموعة من العوامل صنعته‪ ،‬وجيب اإلملام واإلحاطة هبا‪ ،‬يقول‪ " :‬ليس الغرض يف هذا الكتاب أن‬
‫نصف حياة أيب العالء املعري وحده‪ ،‬وإمنا نريد أن ندرس حياة النفس اإلسالمية يف عصره‪ ،‬فلم يكن‬
‫املعرة أن ينفرد بإظهار آثاره املادية واملعنوية‪ ،‬وإمنا الرجل وما له من آثار وأطوار نتيجة الزمة‬
‫حلكيم ّ‬

‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪.310 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪2‬ينظر‪ :‬عز الدين األمني‪ :‬نشأة النقد األديب احلديث يف مصر‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬دط‪ ،‬ص‪.322 :‬‬
‫‪3‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪62‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ومثرة ناضجة لطائفة من العلل اشرتكت يف تأليف مزاجه وتصوير نفسه‪ ،‬من غري أن يكون له عليها‬
‫سيطرة أو سلطان"‪.1‬‬

‫يرى طه حسين ‪-‬نتيجة لذلك‪ -‬أن مهمة مؤرخ األدب هي الكشف عن هذه العلل اليت‬
‫تقف وراء إنتاج مثل هذه األعمال‪ ،‬كما جيب على املؤرخ أن يربز هذه األسباب اليت أوجدت‬
‫عما قبله‬
‫صاحب العمل كذلك " واخلطأ كل اخلطأ أن ننظر إىل اإلنسان نظرنا إىل الشيء املستقل ّ‬
‫أو ما بعده‪ ،‬إذ ليس يف هذا العامل شيء إال وهو نتيجة من جهة وعلة من جهة أخرى‪ ،‬ونتيجة لعلة‬
‫سبقته ومقدمة ألثر يتلوه‪ ...‬وليس للمؤرخ اجمليد إال البحث عن هذه العلل والكشف عما بينها من‬
‫صلة أو نسبة‪ ،‬فعمله يف احلقيقة وصفي ال وصفي أي أنه يدل على شيء قد كان‪ ،‬من غري أن خيرتع‬
‫شيئا مل يكن"‪.2‬‬

‫يبالغ طه حسين كثريا يف تتبعه الظاهرة التارخيية للوصول إىل األسباب اليت دفعت إىل الوجود‬
‫بأيب العالء وغريه فيما بعد‪ ،‬ويظهر أنه تأثر بطروحات املنهج التارخيي يف بداية كتابه خاصة عندما‬
‫يقرن وجود أيب العالء املعري بعنصر الزمان واملكان والبيئة يقول‪ " :‬فأبو العالء مثرة من مثرات عصره‪،‬‬
‫قد عمل يف إنضاجها الزمان واملكان واحلال السياسية واالجتماعية‪ ،‬واحلال االقتصادية ولسنا حنتاج‬
‫إىل أن نذكر الدين‪ ،‬فإنه أظهر أثرا من أن نشري إليه"‪ .3‬هذه العلل اليت يرى طه حسين أهنا كفيلة‬
‫بإبراز أيب العالء يف زمانه ومكانه وبيئته‪ .‬منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي ‪-‬حسب طه‬
‫حسني‪ ،-‬أما العلل املادية فالبيئة الطبيعية‪ :‬كاعتدال اجلو وصفائه‪ ،‬وخصب األرض ومجال الرىب‪ ،‬ورقة‬
‫املاء وعذوبته‪ ،‬ونقاء الشمس وهباؤها‪ .‬ومن العلل املعنوية مثال‪ :‬ظلم احلكومة وجورها‪ ،‬وجهل األمة‬
‫ومجودها‪ ،‬وشدة اآلداب املوروثة وخشونتها‪ ،‬وهذه العلل تشرتك يف تكوين الرجل وتنشئ نفسه‪ ،‬بل‬
‫يعن له من اخلواطر واآلراء‪.4‬‬
‫وتلهمه أيضا ما ّ‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.31 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫‪ 4‬ينظر املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.31 :‬‬
‫‪63‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يشرتط طه حسين فكرة اجلرب التارخيي أو احلتمية التارخيية كذلك يف كشف شخصيات‬
‫األعالم؛ ألن املنهج التارخيي يعتمد الوصف أساسا له‪ ،‬فالناقد ينتقل باملعري من الكلي إىل اجلزئي‬
‫ألنه يص ّدر كالمه عنه باملؤثرات الكربى‪ :‬الزمان واملكان واألوضاع االجتماعية والسياسية‪ ،‬مث ينتقل‬
‫ويفصل فيها احلديث‪ ،‬ويشرتط كذلك على املؤرخ األديب أن‬ ‫إىل املعري وأسرته مث ثقافته ومزاجه‪ّ ،‬‬
‫يتخري الوسائط اليت هبا يستطيع مواكبة حبثه " فاملؤرخ‬
‫ملما مبا لدى الغرب من مناهج وأن ّ‬ ‫يكون ّ‬
‫الذي ال يؤمن باملذاهب احلديثة‪ ،‬وال يصطنع يف البحث طرائقه‪ ،‬وال يرضى أن يعرتف مبا بني أجزاء‬
‫العامل من االتصال احملتوم‪ ،‬وال أن يسلّم بأن الشيء الواحد على صغره وضآلته‪ ،‬إمنا هو الصورة ملا‬
‫أوجده من العلل وال يطمئن إىل أن احلركة التارخيية جربية ليس لالختيار فيها مكان‪ ،‬املؤرخ القدمي‬
‫الذي يرفض هذا كله وال مييل إليه‪ ،‬ملزم مع ذلك أن يبحث عن حياة األمة اإلسالمية‪ ،‬إذا حبث عن‬
‫حياة أيب العالء‪ ،‬فإنه إن مل يفعل ذلك استحال عليه أن يفهم الرجل‪ ،‬أو يهتدي من أمره إىل‬
‫شيء"‪.1‬‬

‫صور طه حسين حياة أيب العالء وكأنه ظاهرة علمية ختضع لقوانني العلوم‬ ‫نتيجة لذلك فقد ّ‬
‫التجريبية‪ ،‬وهو يف هذا يساير ما هو من صميم عمل علماء األحياء والنبات؛ إذ من مهامهم إخضاع‬
‫املادة احملللة للتجريب الكيميائي‪ ،‬فالعميد حياول أن مياثل عملهم بإخضاع القصيدة الشعرية للمعري‬
‫هلذا النوع من التحليل‪ ،‬يقول‪ " :‬إمنا احلادثة التارخيية والقصيدة الشعرية‪ ،‬واخلطبة جييدها اخلطيب‬
‫والرسالة ينمقها الكاتب األديب‪ ،‬كل أولئك نسيج من العلل االجتماعية والكونية خيضع للبحث‬
‫والتحليل خضوع املادة لعمل الكيمياء"‪.2‬‬

‫كرس طه حسين كل جهده يف هذا الكتاب خلدمة املنهج على حساب املوضوع مما نتج‬ ‫لقد ّ‬
‫عنه نوع من التجديف والتهافت على مستوى النتائج‪ ،‬إذ ال ميكن الركون والتسليم بكل طروحات‬
‫النقد التارخيي وجماراة الغرب يف كل ما ذهب إليه‪ .‬وقد كان من نتيجة ذلك أن رفض العديد من‬
‫جراء منهجه هذا إذ ذهب "حممد مندور" إىل أن كتاب "جتديد ذكرى‬
‫الدارسني ما توصل إليه الرجل ّ‬
‫أيب العالء" "كتاب طه حسني الشاب الذي كان ال يزال يف محاسته األوىل ملناهج البحث وأقسام‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.33 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪64‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفلسفة"‪ .1‬لذلك فهو جمموعة من "التقاسيم املدرسية اليت تقف عند الشكل دون أن متس‬
‫الصميم"‪ 2.‬فهو "أشبه ما يكون بقطعة من األثاث‪ ،‬تامة الرتكيب‪ ،‬مع ّدة األدراج‪ ،‬أتى املؤلف‬
‫فمألها"‪.3‬‬

‫يف رفضه لنتائج املناهج النقدية اليت تتخذ سياقات مغايرة للنص اإلبداعي منطلقا هلا‪ ،‬كاملنهج‬
‫النفسي واالجتماعي والتارخيي‪ ،‬يرى محمد مندور عدم فاعلية هذه املناهج يف الوصول إىل مكنون‬
‫النص‪ ،‬وإزاحة ستائر املعىن عنه‪ ،‬يقول ‪" :‬فقد أستطيع أن أطمئن إىل تصوير أديب ما لنفسية ما يف‬
‫رواية ما‪ ،‬ولكين أرفض أن أثق مبا يقوله الفالسفة أو علماء النفس عن اإلنسان إطالقا أو ملكة من‬
‫ملكته‪ ،‬ألين أحس دائما أن حديثهم ال يالقي حقيقة أي نفس ممن أرى حويل"‪.4‬‬

‫ال يسلّم مندور يقينا بنتائج مثل هذه البحوث‪ ،‬وال ّ‬


‫يعول كثريا أو قليال عليها يف الوصول إىل‬
‫عمق األثر الفين انطالقا من عدم إطالقيتها‪ ،‬مبعىن أهنا تبقى دائما يف محى النسبية أكثر منها على‬
‫اليقينية ألن حقلها إنساين بامتياز‪ ،‬وينتقل مندور إىل مكانة أيب العالء املعري بني نقاده ويعرض‬
‫جممل األحباث اليت تناولته بالنقد والدراسة‪ ،‬وال حيتفي كثريا مبا توصلت إليه هذه األحباث من نتائج‬
‫على كثرهتا‪ ،‬إمنا يعرتض على منطلقاهتا على مستوى املنهج التارخيي دائما فيقول‪ " :‬وإذا فالنقد‬
‫التارخيي متهيد للنقد األديب‪ ،‬متهيد الزم ولكنه ال جيوز أن نقف عنده وإال كنا كمن جيمع املواد األولية‬
‫مث ال يقيم البناء"‪5‬؛ ألن الكاتب أو الشاعر يف نظره وحدة متكاملة "كقطرة من املياه ال متايز بني‬
‫ذراهتا"‪.6‬‬

‫فالناحية التارخيية التوثيقية للعمل ولصاحبه من األمهية مبكان يف الدرس النقدي لكنها خطوة‬
‫أوىل فقط جيب أن تتبع خبطوات أخرى أثناء النقد‪ ،‬وميعن مندور يف نقده إىل من سبقوه إىل نقد أيب‬
‫العالء يف أهنم مل يتمكنوا من فهم نفسية الشاعر وإمنا كانت أعماهلم جمتزأة ال تفي بالغرض املنشود‬

‫‪ 1‬حممد مندور‪ :‬يف امليزان اجلديد‪ ،‬مكتبة مطبعة هنضة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2‬ص‪.013 :‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.013 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.012 :‬‬
‫‪ 4‬نفسه‪ ،‬ص‪.030 :‬‬
‫‪ 5‬نفسه‪ ،‬ص‪.030 :‬‬
‫‪6‬نفسه‪ ،‬ص‪.021 :‬‬
‫‪65‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫من عملية النقد نفسها‪ ،‬ويشرتط قبال عملية الفهم على عملية التفسري‪ ،‬ويطلب من الناقد أن يعيش‬
‫حياة الشاعر أو الكاتب موضوع النقد كي يتمكن من إعطاء صورة مشرقة يف نقده له‪ " :‬وإذا‬
‫فمحاولة الفهم خري من حماولة التفسري‪ ،‬وعلى أساس هذا الفهم يستقيم النقد أو يعوج‪ ،‬والذي‬
‫الشك فيه أن الكثري من النقد الوصفي مل ينجح يف أداء رسالته لعجز أصحابه عن كل فهم صحيح‬
‫لنفوس من ينقدون بل روح العصر أو األدب الذي يعرضون له"‪ .1‬على اعتبار أن فاعلية هذه املناهج‬
‫اليت مت اعتمادها‪ ،‬التفي حباجة الباحث املعرفية‪.‬‬

‫يعرتف مندور أن مهمة النقد من بني املهمات الصعبة‪ ،‬اليت ال ميكن القيام هبا إال إذا توافرت‬
‫مجلة من الشروط واألسباب‪ ،‬خاصة حينما يعرض حملاولة فهم الناقد لنفسية الشاعر أو األديب‪،‬‬
‫فيشرتط عليه بداية متثل هذه التجربة اخلاصة عنده بقوله‪ " :‬والواقع أن النقد ليس باملهمة اهليّنة‪ ،‬وال‬
‫هو يف مقدور كل إنسان‪ ،‬إذ البد ملن يريد أن حياوله يكون غنيا بتجارب احلياة‪ ،‬غىن يذهب مبا يف‬
‫النفس من مجود حبيث يستطيع أن خيرج من حميطها لتعيش باخليال يف حميط جديد‪ ،‬وهذا حيتاج إىل‬
‫وإما باملران الطويل على فهم جتارب‬‫مرونة نفسية ال تكتسب إال بأحد أمرين‪ :‬إما بالتجارب املباشرة‪ّ ،‬‬
‫الغري كما يقصها األدباء"‪ .2‬يردف دائما حول مهمة الناقد وضرورة األخذ مبناهج البحث لكن‬
‫بشروط البحث العلمي "وواجب النقد فيما احسب هو فهم جتارب الكتّاب والشعراء فهما نفسيا‬
‫ال حت ّده أصول وال ميليه علم‪ ،‬وإمنا نستعني بالعلم وباألصول عند دراسة صياغة ما كتبوا"‪.3‬‬

‫يبقى التساؤل املطروح حول منابع طه حسين ومصادره اليت استقى منها منهجه هذا‪ ،‬فالراجح‬
‫أن األمر يعود به إىل أيام دراسته باجلامعة وتأثره بأستاذه املستشرق نالينو‪ ،‬حىت وإن كان هذا األخري‬
‫مل يذهب كل تلك املذاهب يف مؤلفه عن تاريخ آداب اللغة العربية‪ .‬إال أن املصدر األساس الذي‬
‫حصل به متاس وتأثري هو طروحات الناقد الفرنسي هيبوليت تين (‪ )H. Taine‬الذي ق ّدم جممل‬
‫نظريته النقدية يف مؤلفه "تاريخ األدب اإلجنليزي"‪ ،‬وفيه املعامل األساسية لنظرية اجلرب التارخيي أو‬
‫احلتمية التارخيية اليت أخذ هبا طه حسين فيما بعد‪ ،‬ليس فقط يف مؤلفه عن أيب العالء بل حىت يف‬
‫أهم مؤلفاته النقدية "حديث األربعاء" و"يف الشعر اجلاهلي" و"مع املتنيب"‪ ،‬وهي الكتب النقدية‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.028 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.020 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.053 :‬‬
‫‪66‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األربعة اليت صاغت املشروع النقدي عند طه حسين‪ .‬إال أن مواطن التأثري اليت حدثت بني "تني"‬
‫و"طه حسين" كانت على مستوى الزمان واملكان ومل يذكر طه حسني عنصر اجلنس الذي اشرتطه‬
‫"تني"‪ ،‬ولكنه يذكر احلالة السياسية واالجتماعية واالقتصادية‪.1‬‬

‫مجع طه حسين يف املنهج النقدي التارخيي الذي ارتاده‪ ،‬بني اجلرب التارخيي يف حتليل الظواهر‬
‫املعري وجربيته‪ ،‬فهو يؤكد أن اجلربية قد‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وبني اجلرب الفلسفي أثناء حديثه عن فلسفة ّ‬
‫أفرغت الفلسفة من إثباهتا منذ زمن بعيد‪ ،‬ويرفض االختيار بقوله‪" :‬إن هذا االختيار إما أن يكون‬
‫متصال مبا قبله وما بعده اتصال العلة مبعلوهلا والنتيجة مبقدمتها أوال‪ ،‬فإن تكن األوىل فهو اجلرب‪ ،‬إذ ال‬
‫ميكن أن يتخلف املعلول عن علته وال أن حتول النتيجة عن مقدمتها‪ ،‬وإذا فادعاء االختيار ليس إال‬
‫غرورا‪ ،‬وإن تكن الثانية فقد بطلت القضية اليت قدمناها‪ ،‬وأصبح العامل ملعبا ختتلف فيه املصادفات‬
‫وهو ما شك يف بطالنه‪ ،‬إذا فليس من اجلرب حميد‪ ،‬وال عن االضطرار عنه من حل"‪.2‬‬

‫يتبني لنا من خالل هذا االقتباس أن عملية اجلرب يف التاريخ يتبعها –ال حمالة‪ -‬جرب يف‬
‫الفلسفة‪ ،‬فكما ال يوجد للصدفة أي جمال يف حياتنا‪ ،‬كذلك ال ميكن أن تبين هذه الصدفة حياة أيب‬
‫ويلح طه حسين على ذلك االنسجام بني اجلرب التارخيي واجلرب الفلسفي؛ ألنه من‬ ‫العالء املعري‪ّ ،‬‬
‫صميم منهجه الذي اتبعه حول حياة أيب العالء‪.‬‬

‫يستعرض الباحث عبد الرزاق عيد جماالت التواشج والتضام يف فكر طه حسين النقدي‪،‬‬
‫حيث ّبني العالقة الوطيدة بني الواقع والعقل‪ ،‬وكيفية حلول هذه يف تلك‪ ،‬مرّكزا على التأثريات‬
‫( ‪ )SAINTE Beuve‬وتين (‪)TAINE‬‬ ‫املمارسة من قبل نقاد أوربا يف القرن ‪ ،00‬خصوصا سانت بيف‬
‫على احلياة العقلية واملعرفية يف مصر؛ أي قبل انتقاله إىل الدراسة بأوربا‪ ،‬وبالضبط حني مباشرته‬
‫أطروحته للدكتوراه حول أيب العالء املعري‪ ،‬وأخذه مببدأ احلتمية التارخيية‪ ،‬أو اجلرب التارخيي‪ ،‬إال أن‬
‫"حضور سانت بيف يف املمارسة املنهجية عند طه حسين سيكون حضورا الحقا ومتصال بشكل‬
‫خاص يف كتاباته النقدية الصحفية‪ ،‬فيما ميكن أن نسميه نقدا انطباعيا تأثريا‪ ،‬تفرتضه ضرورة التواصل‬
‫مع احلياة الثقافية‪ ،‬أي أن (بيف) ال يش ّكل عنصرا ركنيا يف البنية التكوينية كمنظور كلي‪ ،‬أو لنظام‬

‫‪1‬ينظر‪ :‬أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪2‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.388 :‬‬
‫‪67‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫معريف له جهازه وأدواته‪ ،‬بل هو أحد جتليات املمارسة النقدية األدبية من خالل االنفتاح على تنوع‬
‫االجتاهات الفكرية األدبية الغربية‪ ،‬حيضه يف ذلك نزوع تعليمي توجيهي تثقيفي واضح"‪.1‬‬

‫ال يستطيع عبد الرزاق عيد نفي ارتباط طه حسين يف نقده ومساءالته باجلربية أو احلتمية‪،‬‬
‫ويسعى إىل تربير موقفه انطالقا من أنه ذهب هذا املذهب للثورة على اليقينيات والنظرة الثابتة‬
‫والساكنة للظواهر على ما ميكن أن جيعل من التحول واالضطراب غاية لالطمئنان والراحة "قد يبدو‬
‫وعي طه حسني بالتاريخ متلبسا بنوع من احلتمية اجلربية‪ ،‬لكنها حتمية جربية تتحرر من القدر‬
‫الغنوصي واإلرادة املطلقة ما قبل الطبيعة وما بعد التاريخ‪ ،‬لتبدأ حلظة انفصال هذا التاريخ عن‬
‫الالهوت لتتهاوى فيها بعد ‪ -‬يف دراساته التارخيية الالحقة‪ -‬كل أشكال الوعي العرفاين وإيديولوجيا‬
‫تقديس املاضي عندما يدمج العقالنيتها مبنهجه التارخيي العقالين"‪.2‬‬

‫لقد شغف طه حسين بطروحات املنهج التارخيي يف تفسري اآلثار األدبية والوقوف عند فاعلية‬
‫هذا املنهج‪ ،‬إذ من بني أهم القضايا املعرفية اليت نالت حظها من الدراسة واالستقصاء على مدار‬
‫سنني من عمره‪ ،‬واليت ّتوجت يف هنايتها توجهه ومنزعه املنهجي والنقدي والعلمي وأرست دعائم‬
‫فكره النقدي "ثالث زوايا حتدد مثلث التطور يف الوعي املنهجي‪ :‬عقل أيب العالء‪ ،‬عقالنية ابن‬
‫خلدون الفلسفة التارخيية‪ ،‬عقالنية املنهج الديكاريت‪ ،‬ومن خالل احلركة بني هذه الزوايا الثالث‬
‫عرب عنه ديكارت بأن العلم جيعلنا باطراد‬‫تتكشف املمارسة املنهجية لطه حسني يف طموح علمي ّ‬
‫وعلى الدوام سادة الطبيعة ومالكيها"‪.3‬‬

‫خنلص مما سبق إىل أن عملية استثمار طروحات املنهج التارخيي ومقوالت اجلرب التارخيي‬
‫والفلسفي إمنا استمدها الرجل من أساتذته باجلامعة املصرية‪ ،‬خاصة نالينو‪ ،‬مث تأثره الواضح مبقوالت‬
‫"هيبوليت تني" يقول الدكتور "شكري عزيز ماضي" حول عملية التأثري املمارسة على طه حسني‬
‫"وقد أثرت آراء تني تأثريا واسعا يف الدراسات األدبية والنقدية ووصل تأثريها إىل نقدنا العريب‬

‫‪ 1‬عبد الرزاق عيد‪:‬طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية‪،‬رؤية للنشر والتوزيع‪،‬القاهرة‪،‬ط‪ ،3118،0‬ص‪.020 ،021 :‬‬
‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.022 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.028 :‬‬
‫‪68‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫احلديث‪ ،‬حيث جتلى يف بعض كتابات طه حسني‪ ،‬وقد سامهت يف إجياد تصورات جديدة لألدب‬
‫ويف إنشاء مناهج نقدية تدرس الظاهرة األدبية ومدى تأثرها بالبيئة"‪.1‬‬

‫يقر هذا الرأي مبا ال يدع جماال للشك بأن طه حسين تأثر يف بعض كتاباته النقدية بطروحات‬
‫ّ‬
‫"تني" حول تأثري البيئة يف اإلبداع والفن‪ ،‬غري أن هذا ال يعدم أن يكون طه حسين قد هنج مناهج‬
‫أخرى يف نقده‪ ،‬تقامستها املناهج النقدية األخرى كالتأثرية واالنطباعية أو حىت الشكلية يف بعض‬
‫كتاباته النقدية األخرى‪ ،‬فقد اجتمعت "التيارات النقدية الرئيسة الثالثة يف نتاجه النقدي‪ :‬الواقعي‬
‫صورته التأرخيية والتيار الوجداين أو الرومنسي املتمثل باالهتمام بذات األديب‪ ،‬أو بالذات عموما‬
‫سواء لدى الناقد أو لدى املتلقي عرب األسلوب االنطباعي والشكالين باهتمامه بالنص وحده دون‬
‫الذات والتأريخ والعامل"‪.2‬‬

‫يقف سيد البحراوي موقفا عادال حني يقوم بتقييم إنتاجات نقادنا العرب احملدثني‪ ،‬فالرجل‬
‫يعرض هلذه اجلهود النقدية من وجهة نظر حمايدة نظرا لإلشكاالت الكربى اليت وقع فيها النقاد‬
‫العرب أثناء تطبيقاهتم ملناهج النقد الغربية‪ ،‬دون وعي منهم باحلمولة املعرفية والفلسفية اليت تصاحب‬
‫املنهج واملصطلح يف هجرهتما‪ ،‬وعندما يصل إىل الرواد من النقاد احملدثني وكيفية احتكاكهم مبنجزات‬
‫احلضارة األوربية خيلع عليهم أي لبوس للتأصيل والتأسيس‪ ،‬إمنا هو يف حقيقة األمر تلفيق ويف أحسن‬
‫الظروف تكامل بني عدة مناهج ال ميكن أن تستثمر فيها العملية النقدية‪ ،‬وال ميكن أن تعطي‬
‫نتائجها املرجوة يقول البحراوي‪ ":‬ويف النقد األديب‪ ،‬بدا واضحا انبهار روادنا بإجناز األوريب‪ ،‬وضرورة‬
‫نقله دون أن يدركوا أن منهجهم يف التعامل مع هذا اإلجناز النقدي‪ ،‬هو يف احلقيقة قتل له ألنه معاد‬
‫لطبيعته ولتارخيية إنتاجه‪ ،‬ويتضح هذا األمر من منهج تعامل طه حسني مع املنهج الديكاريت يف كتابه‬
‫يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬والذي من خالله أعلن أول مترد حقيقي على املنهج القدمي"‪ .3‬يرجع سوء‬
‫استعمال املنهج من قبل طه حسين إىل ذلك االنبهار احلاصل بكل منجزات العقل األوريب‪،‬‬
‫والفلسفي منه على وجه اخلصوص‪ ،‬فالرجل مل يأخذ من ديكارت إال هذا الشعار الداعي إىل جتاوز‬

‫‪ 1‬شكري عزيز ماضي‪ :‬يف نظرية األدب‪ ،‬دار احلداثة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0082 ،0‬ص‪.82 :‬‬
‫‪2‬سعد البازعي‪ :‬استقبال اآلخر‪ -‬الغرب يف النقد العريب احلديث‪ -‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪،3112 ،0‬‬
‫ص‪.00 :‬‬
‫‪3‬سيد البحراوي‪ :‬قضايا النقد واإلبداع العريب‪ ،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬مصر‪ ،3113 ،‬ع‪ ،030‬ص ‪.012 ،015 :‬‬
‫‪69‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫القدمي وقتله‪ ،‬واالندفاع حنو اجلديد مع التجرد التام للذات من كل معارفها السابقة‪ ،‬والتعامل مع‬
‫الظاهرة تعامل العامل الكيميائي مع املادة‪.‬‬

‫إن إشكالية املنهج املتبع من قبله‪ ،‬هي اليت أوقعته يف هذا االضطراب الذي انسحب على‬
‫العديد من أعماله التطبيقية‪ ،‬بدءا بعمله حول أيب العالء إىل قراءته للشعر اجلاهلي؛ ألن املالحظ أهنا‬
‫عبارة عن استنتاجات خاصة‪ ،‬أملتها ظروف املقايسة اليت وقع طه حسين ضحيتها يف مقارنته األدب‬
‫العريب ‪ -‬والشعر اجلاهلي خاصة‪ -‬باألدب األوريب والشعر اليوناين خاصة‪ 1.‬يقول سيّد البحراوي‬
‫عن تلفيقية طه حسين يف جمال املنهج‪ ":‬إن هذا اجلمع بني منهجني ال جيتمعان وهو الذي ميكننا أن‬
‫نسميه التلفيق‪ ،‬قد التقى مع تلفيقات منهجية أخرى خاصة بفهمه لوظيفة األدب بني التصوير‬
‫(البيئي) والتعبري الذايت‪ ،‬وخاصة بالعالقة بني تاريخ األدب والدراسة األدبية‪ ،‬أي بني العلم‬
‫واالنطباعية الذوقية‪ ،‬وهي تلفيقات قد نتجت عن أن طه حسني كما هو واضح مل يعاين بعمق‬
‫الفروق اجلوهرية بني املصطلحات واملفاهيم وهذا هو الوضع الطبيعي لناقل هذه املفاهيم وليس‬
‫منتجها"‪.2‬‬

‫وحاصل القول أن التطبيقات اآللية والصنمية للمنهج النقدي‪ ،‬دون وعي بكل اخللفيات‬
‫الفلسفية واملرجعيات الفكرية اليت عملت على صياغتها‪ ،‬هو ما يوقع الباحث أو الناقد يف نوع من‬
‫التجديف الذي ال تؤمن عواقبه‪ ،‬إذ يصبح عمله جمردا من كل تأسيس فلسفي أو تقعيد نظري يسمح‬
‫له باالستمرار والفاعلية‪ .‬غري أننا سنحاول أن نقف يف العنصر املوايل هلذا الفصل عند أهم تطبيقات‬
‫املنهج التارخيي وكذا منهج الشك عند طه حسين يف قراءة بعض متون األدب العريب القدمي‬
‫واحلديث‪ ،‬وذلك بتخصيص منت آخر يعترب حلقة مهمة يف املشروع النقدي عند طه حسين وهو‬
‫كتاب حديث األربعاء‪.‬‬

‫‪1‬ينظر‪ :‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية واملرجعيات املستعارة‪ ،‬ص‪.22 ،25 ،22 :‬‬
‫‪2‬سيد البحراوي‪ :‬قضايا النقد و اإلبداع العريب‪ ،‬ص‪.018 ،012 :‬‬
‫‪70‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .1‬البحث عن املنهج (حديث األربعاء)‬

‫‪ -1..‬من اجلرب التارخيي إىل احلرية الفردية‬

‫سبق أن تتبعنا مستوى الشطط الذي بلغه هيبوليت تين (‪ ،)HYPOLYTE Taine‬يف مبالغته‬
‫باألخذ باحلتمية التارخيية أو اجلرب التارخيي‪ ،‬حىت أصبح من رواد هذا االجتاه‪ ،‬ورأينا كذلك كيف ساير‬
‫طه حسين تلك الطروحات النقدية‪ ،‬وكيف وظفها يف قراءة أيب العالء املعري‪ ،‬سواء يف حياته أو‬
‫فلسفته أو شعره‪ ،‬وذلك بكثري من االطمئنان والتقديس‪ ،‬حيث جنده يقول‪" :‬يدل ما قدمناه على أنّا‬
‫نرى اجلرب يف التاريخ‪ ،‬أي يف احلياة االجتماعية إمنا تأخذ أشكاهلا املختلفة‪ ،‬وتنزل منازهلا املتباينة بتأثري‬
‫العلل واألسباب اليت ال ميلكها اإلنسان‪ ،‬وال يستطيع هلا دفعا‪ ،‬وال اكتسابا‪ ،‬ذلك رأي نراه‪ ،‬وسنثبته‬
‫يف موضعه من الكتاب‪...،‬ولسنا نبتدع هذا الرأي وإمنا نوافق فيه كثريا من فالسفة أوربا وفالسفة‬
‫املسلمني"‪.1‬‬

‫هذا التشيع الواضح ملنهج احملدثني كما يسميه‪ ،‬جعله يلهث بكل ما شكل هذا املنهج‪ ،‬من‬
‫رجوع إىل البيئة واجلنس وغريها‪ .‬األمر الذي غدا معه تطبيق مقوالت املنهج أهم وأجدى عنده من‬
‫البحث ونتائجه‪ ،‬إذ جنده يويل األمهية الكربى لكيفية استثمار مقوالت هذه اإلجراءات التارخيية‪،‬‬
‫يقول‪ " :‬تدل املقالة األوىل على أن احلياة العامة يف عصر أيب العالء مل تكن شيئا تطمئن إليه النفس‪،‬‬
‫أو يرضى به الرجل احلكيم‪ ،‬لفساد ما كان فيها من سياسة وخلق‪ ،‬ومن تقسيم ثروة وتأثري دين‪ ،‬تدل‬
‫املقالة الثانية على أن احلياة اخلاصة أليب العالء‪ ،‬مل تكن خريا من احلياة العامة‪...‬وعلى أن الرجل قد‬
‫أحسن الدرس وأجاد التعليم‪ ،‬ورحل إىل مدن خمتلفة وأقام يف بيئات متباينة‪ ،‬وكان له قلب ذكي‬
‫وأنف محى‪ ...،‬فهذه املؤثرات كلها قد اشرتكت يف تأليف الرتاث األديب أليب العالء‪ ،‬فإذا وصفنا هذا‬
‫الرتاث كان من احلق علينا أن حنلله إىل عناصره‪ ،‬ونرده إىل مصادره‪ ،‬وحنن فاعلون إن شاء اهلل"‪.2‬‬

‫لقد عمد طه حسين يف قراءة الشعر القدمي‪ ،‬إىل قراءة تتحكم بناصية العلم التطبيقي والتجرييب‬
‫احلديث‪ ،‬للوقوف على مدى مطابقة الشعر للحياة‪ ،‬أو بتعبري آخر كيف يصور الشعر العريب القدمي‬
‫احلياة العربية‪ ،‬وكيف يكون مرتمجا هلا كاشفا إياها‪ ،‬فانقاد إىل وضع ذلك الشعر على حمك العقل؛‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬ص‪.00 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.000 :‬‬
‫‪71‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫قصد سرب أغواره وكشف خمبوءه وحماولة إنطاقه مبا سكت عنه ذلك الشعر‪ ،‬يتأتى ذلك عند تتبعنا‬
‫لعمل من أهم األعمال النقدية عنده‪ ،‬دأب على تأليفه منذ مدة طويلة هو حديث األربعاء باعتباره"‬
‫فصوال كانت تنشر يف صحيفة سيارة ليقرأها الناس مجيعا فينتفع بقراءهتا من ينتفع ويتفكه بقراءهتا من‬
‫يتفكه‪ ،‬ومل يكن ب ّد لكتابتها من أن يتجنب التعمق يف البحث واإلحلاح يف التحقيق العلمي‪ ،‬إذ‬
‫‪1‬‬
‫كانت الصحف السيارة ال تصلح ملثل هذا"‪.‬‬

‫‪ - 2.1‬آلية اشتغال املنهج‬

‫ال جيعل طه حسين من حديث األربعاء حدثا مهما يف منهج الدراسات النقدية‪ ،‬ألنه ببساطة‬
‫ال ميكن أن يؤول إىل حبث علمي دقيق يف خمتلف املظاهر اإلبداعية‪ ،‬اليت من أبرزها األدب العريب‬
‫مر العصور‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬ألن أصل الكتاب عبارة عن مقاالت كانت تنشر بني احلني‬ ‫على ّ‬
‫واآلخر‪ ،‬جلملة أغراض ال ميكن أن يضمن مؤلفها أهنا حتمل بذرة نقدية‪ ،‬تصلح لقيام مبدأ نقدي أو‬
‫مدرسة أو اجتاه‪ ،‬إمنا جعلت ألغراض أخرى ليس جماهلا النقد العلمي‪ .‬واألمر الذي جعل طه حسين‬
‫يتجاوز فيها النزعة اجلربية أو احلتمية التارخيية اليت اعتمدها مبدءا يف دراسة أيب العالء‪ ،‬غري أنه ال‬
‫يتجاوزها كليا إمنا مرحليا فقط‪.‬‬

‫يتساءل طه حسين يف مؤلفه هذا عن املغزى من دراسة شعر أي شاعر ما‪ ،‬فريى أن اهلدف‬
‫منه ليس فقط حتديد شخصية هذا الشاعر الفردية‪ ،‬بل جيب أن يتجاوز املؤرخ األديب ذلك إىل ما‬
‫يؤلف هذه الشخصية من ميول وأهواء وعواطف‪ ،‬حىت يتسىن له فهم العصر والزمن الذي عاشت فيه‬
‫هذه الشخصية مث ينتقل إىل البيئة اليت خضع هلا‪ ،‬واجلنسية اليت محلها وجنم عنها‪ .‬تلك – إذا‪ -‬هي‬
‫أهم القضايا والنقاط اليت ينهض عليها منهج "هيبوليت تني" واليت كان تأرخيه لألدب مسرحا هلا‪.‬‬

‫ال يعكف طه حسين يف حديث األربعاء على املنهج التارخيي كما أسس له تين‪ ،‬ومل حيتكم‬
‫لعناصره الثالثة املشكلة له (الزمان‪ ،‬املكان واجلنس)‪ ،‬بل اعتمد كذلك على ما أصبح يُعرف باالجتاه‬
‫النقدي العلمي‪ ،‬الذي استمد رواده آلياهتم ونظرهتم لألدب من العلوم اإلنسانية‪ ،‬وهو االجتاه املتمثل‬
‫يف طروحات سانت بيف (‪ )SAINTE Beuve‬وجول لمتر(‪ )Jules Lemaître‬وبرونتيير‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬مج‪، 3‬ج‪ ،0‬ص‪.10 :‬‬
‫‪72‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫(‪ )Brunetière‬على الرغم من وجود فروق منهجية ومصطلحية بني أصحاب هذه االجتاهات‪.‬‬
‫لذلك فهو ال يتجاوزها بصورة مطلقة؛ بل حياول جاهدا التوليف بينهما‪ .‬يقول طه حسين‪..." :‬و ال‬
‫نقل إن يف هذا شيئا من التحرج‪ ،‬أو إن فيه تضييقا وحماولة من هذه احملاوالت‪ ،‬اليت أرادت غري مرة‬
‫أن جتعل النقد علما ذا قواعد وأصول فلم تفلح‪ ،‬ومل توفق إىل شيء كثري‪ .‬ال تقل هذا‪ ،‬فإين ال أحترج‪،‬‬
‫وال أضيق‪ ،‬وال أحاول أن أضع للنقد قواعد وأصوال معينة‪ ،‬وإمنا أحاول أن أفهم معك معىن النقد‪،‬‬
‫وما يرمي إليه الناقد‪ ،‬ومهما ختتلف مذاهب النقاد احملدثني ومسالكهم‪ ،‬فهم يقصدون إىل هذا كله‬
‫أو بعضه‪ .‬سل "سانت بيف" (‪ )Sainte Beuve‬ينبئك بأنه يعين قبل كل شيء إذا قرأ قصيدة من‬
‫الشعر‪ ،‬أو فصال من النثر‪ ،‬بأن جيد شخص الشاعر أو الكاتب‪ ،‬وبأن حيلل هذا الشخص‪ ،‬ويصل‬
‫إىل دقائقه ودخائله‪ ،‬كما يفعل علماء التاريخ الطبيعي يف معاملهم‪ ،‬ولكن الشخص وحده ال يكفيه‬
‫وال يعنيه‪ ،‬وإمنا هو يتخذ هذا الشخص وسيلة إىل النوع‪ ،‬يتخذ هذا اجلزئي وسيلة إىل الكلي‪ .‬مث سل‬
‫يكون نفسه‪،‬‬
‫"تني" (‪ )Taine‬ينبئك بأن شخص الشاعر‪ ،‬أو الكاتب ومزاجه وعواطفه وكل ما ّ‬
‫اليعنيه إال من حيث هو أثر من آثار العصر الذي عاش فيه‪ ،‬والبيئة اليت خضع هلا‪ ،‬واألمة اليت جنم‬
‫منها‪ ،‬فالشخص عنده أثر من آثار هذا العصر‪ ،‬وهذه البيئة وهذه األمة‪ .‬مث سل "جول ملرت" ( ‪Jules‬‬
‫‪ )Lemaître‬ينبئك بأن هذا كله لغو وثرثرة‪ ،‬وأن الفن وحده هو الذي يعنيه‪ ،‬ويعنيه من حيث إنه‬
‫يؤثر يف النفس‪ ،‬فيبعث فيها العواطف على اختالفها‪ ،‬ويبعث فيها الرضا واإلعجاب‪ .‬ويف احلق أن‬
‫يود‬
‫الناقد ال يقنع مبا كان يقنع به "سانت بيف أو "تني" أو "جول ملرت" أو غريهم من النقاد‪ ،‬وإمنا ّ‬
‫لو استطاع أن يوفق إىل هذا كله‪ ،‬ويستخلص منه غرضا شامال يطلبه ويسمو إليه حني ينقد‪ ،‬فيفهم‬
‫شخصية الشاعر أو الكاتب وعصره وفنه"‪.1‬‬

‫نالحظ جليا من خالل هذا االقتباس‪ ،‬أن طه حسين يدين الدين كلّه ألولئك النقاد من ذوي‬
‫االجتاه العلمي يف النقد‪ ،‬فالرجل حياول استثمار وتطبيق آليات هذا املنهج كما صاغها أصحاهبا‪ .‬إال‬
‫أنه سيعدل عن ذلك يف عام ‪ ،0032‬وسرياجع نظرته التارخيية‪ ،‬اليت سريجعها إىل تيار الفلسفة‬
‫الوضعية منذ كونت إىل دوركايم حىت ليفي بريل‪ ،‬حيث أصبح يتحفظ نوعا ما بالنسبة للقيمة‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.222 ،222 :‬‬


‫‪73‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫العلمية هلذا االجتاه النقدي‪ ،1‬ألنه ال يكتفي مبقوالت هذا املنهج خاصة يف هذه الفرتة‪ ،‬ألن املنهج‬
‫عنده ال يفي بكل ما يرجى من الدراسة األدبية‪ ،‬ذلك أن األديب خيتلف يف طبيعته عن العلم‪ ،‬وهلذا‬
‫ينبغي أن يضاف إىل هذا املنهج العلمي عنصرا آخر شخصي يقوم على الذوق‪ ،‬يقول طه حسين‪:‬‬
‫"‪ ...‬ذلك ألن تاريخ األدب ال يستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي اخلالص وحدها وإمنا‬
‫هو مضطر معها إىل الذوق"‪ .2‬وانطالقا من هذا جتتمع لديه الذاتية باملوضوعية‪ ،‬أو تلتقي عنده‬
‫النزعة العلمية بالنزعة األدبية أو الفنية يف تداخل وامتزاج كبريين‪ ،‬يقول‪" :‬فأنت ترى أن تاريخ األدب‬
‫منقسم بطبعه إىل هذين القسمني‪ :‬القسم العلمي والقسم الفين‪ ،‬ولكن هذين ليسا متمايزين"‪.3‬‬

‫رغم ذلك اعترب طه حسين نظرييت سانت بوف وهيبوليت تين ركيزتني أساسيتني يف منهجه‬
‫اهلادف إىل الشمولية والتكامل النقدي‪ .‬وأراد طه حسين كذلك أن يوازن بني هاتني النظريتني‪ ،‬وبني‬
‫املنهج التأثري عند جول لمتر‪ ،‬الذي ظهر كرد فعل على مجلة هذه املناهج‪ ،‬اليت جعلت من النقد‬
‫علما حمضا‪ .‬وبعمله هذا ال جيد طه حسين مانعا من اإلفادة من كال املنهجني الذايت واملوضوعي‪،‬‬
‫ويقول أنه مل خيرتع هذا املنهج‪ ،‬إمنا وافق فيه اجتاها نقديا كان قد أسسه الناقد الفرنسي جوستاف‬
‫النسون (‪ )G.Lanson‬وهو أحد أساتذته بالسربون‪ ،‬والذي تأثر هو بدوره تأثرا عميقا بـتين‬
‫وبرونتيير‪ ،‬دون أن حيتفظ منهما إال مبا كان عرضة للجدال الواسع‪ ،‬فالنسون مل يربط األدب والنقد‬
‫يقر بضرورة التذوق يف أي نقد‬ ‫ربطا آليا‪ ،‬بل انزاح عن ذلك إىل فاعلية العلوم االجتماعية‪ ،‬وكان ّ‬
‫أديب‪ ،‬يقول‪" :‬لن نعرف قط مشروبا بتحليله حتليال كيمياويا أو بتقرير اخلرباء دون أن نتذوقه بأنفسنا‪،‬‬
‫حيل شيء حمل الذوق"‪.4‬‬ ‫وكذلك األمر يف األدب فال ميكن أن ّ‬
‫لقد أقر النسون بفاعلية الذوق يف احلكم على األعمال األدبية‪ ،‬وليس األمر منوطا فقط‬
‫مبناهج البحث العلمية‪ ،‬يقول حول أمهية الذوق‪" :‬ومادامت التأثرية هي املنهج الوحيد الذي ميكنّنا‬

‫‪1‬ينظر عبد السالم الشاذيل‪ :‬األسس النظرية يف مناهج البحث األديب العريب احلديث‪ ،‬دار احلداثة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0080 ،0‬ص‪:‬‬
‫‪.255‬‬
‫‪ 2‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.28 :‬‬
‫‪ 4‬جوستاف النسون‪ :‬منهج البحث يف تاريخ األدب‪ ،‬تر‪ :‬حممد مندور‪ ،‬ضمن كتاب النقد املنهجي عند العرب‪ ،‬دار هنضة‬
‫مصر للطباعة و النشر‪ ،‬دط‪ ،‬ص‪.213 :‬‬
‫‪74‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫من اإلحساس بقوة املؤلفات ومجاهلا فلنستخدمه يف ذلك صراحة‪ ،‬ولكن لنقصره على ذلك يف عزم‬
‫ولنعرف ‪ -‬مع احتفاظنا به‪ -‬كيف منيّزه ونق ّدره ونراجعه وحن ّده‪ ،‬وهذه هي الشروط األربعة‬
‫الستخدامه"‪.1‬‬

‫خنلص من هذا إىل أن النسون مجع بني املعرفة العلمية‪ ،‬والتذوق الفين أثناء الدراسة األدبية‪،‬‬
‫وهو عينه الذي قام به طه حسين فيما بعد سريا على خطى أستاذه‪.‬‬

‫‪ -3.1‬قوانني ابن خلدون الفلسفية‬

‫إضافة إىل التأثري الذي مارسه كل من تين‪ ،‬سانت بوف‪ ،‬برونتيير وجول لمتر‪ ،‬واالحتكام‬
‫إىل قوانني الظاهرة األدبية‪ ،‬سواء باجلرب التارخيي أم بعملية التطور اليت تواكب اآلداب‪ ،‬أم ملكة الذوق‬
‫خيوهلا طه حسين خاصية احلكم على اإلبداعات‪ ،‬فقد تأثر بقانون ابن خلدون حول التشابه‬‫اليت ّ‬
‫متسك هبا ناقدوه مع نقده ‪-‬طه حسين‪ -‬لتلك‬ ‫واالختالف‪ .‬وهذا القانون أو هذه اآلراء هي اليت ّ‬
‫يربئ هارون‬
‫اآلراء نقدا عقالنيا‪ ،‬فعنده أن ابن خلدون غري معصوم من اخلطأ‪ ،‬عندما حاول مثال أن ّ‬
‫الرشيد وعصره من الفساد السياسي واألخالقي‪ ،‬يقول‪" :‬خليق بنا أن نتدبر حني نقرأ التاريخ‪،‬‬
‫وحناول فهمه وتفسريه‪ .‬خليق بنا أن نفهم قانونني وضعهما ابن خلدون‪ ،‬ولكن أن نفهمهما أحسن‬
‫مما فهمهما ابن خلدون‪ .‬ومها‪ :‬أن الناس مجيعا متشاهبون مهما ختتلف أزمنتهم وأمكنتهم‪ ،‬وأن الناس‬
‫مجيعا خمتلفون مهما تشتد بينهم وجوه الشبه‪ .‬جيب أن نفهم هذين القانونني‪ ،‬وأن حنسن املالءمة‬
‫بينهما‪ .‬وأن نعرف فيما خيتلف الناس‪ ،‬وفيم يتشاهبون‪ ،‬وما أثر هذا االختالف وهذا التشابه؟ وحنن‬
‫إذا فهمنا هذين القانونني عرفنا أن العصر العباسي قد كان كغريه من عصور اجملد واحلضارة‪ ،‬فيه ج ّد‬
‫وهزل‪ ،‬وفيه شك ويقني"‪.2‬‬

‫مث يردف حول املوضوع نفسه مربزا صورة العصر العباسي اليت تقوم دوما على هذين القانونني‬
‫البن خلدون "وأنا أزعم – وأعتقد أين قادر على إثبات ما أزعم‪ -‬أن القرن الثاين للهجرة قد كان‬
‫عصر هلو ولعب‪ ،‬وقد كان عصر شك وجمون‪ ،‬وكل شيء يثبت صحة هذا الرأي‪ ،‬فقد كان هذا‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.212 :‬‬


‫‪2‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.389 :‬‬
‫‪75‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫العصر عصر انتقال من بداوة إىل حضارة‪ ،‬ومن سذاجة إىل تعقيد‪ ،‬ومن فطرة خالصة إىل علم‬
‫وفلسفة‪ ،‬وقد كان فوق هذا كله عصر امتزاج بأمم خمتلفة‪ ،‬وشعوب متباينة‪ ،‬منها البدوي واحلضري‪،‬‬
‫ومنها اجلاهل والعامل‪ ،‬ومنها الغين والفقري"‪.1‬‬

‫وسريا وفق نظام ابن خلدون‪ ،‬يع ّدد طه حسين هذه الثنائيات الضدية‪ ،‬اليت تؤسس لوعي‬
‫نقدي جديد‪ ،‬ارتاده متأثّرا بالتاريخ الفلسفي اإلسالمي ممثال يف أحد أقطابه‪ ،‬وهو ابن خلدون‬
‫وللربهنة على صحة ما ذهب إليه يف حديث األربعاء‪ ،‬ووقوفه عند كل عصر أديب‪ ،‬حماوال حتليله وفق‬
‫طروحات املنهج التارخيي‪ ،‬الذي واكبه والزمه منذ أن كان بباريس‪ ،‬وحىت عند رجوعه إىل القاهرة‬
‫يقول‪ " :‬أنا ازعم‪ ...‬أن كل شيء يف هذا العصر يؤيّدين يف هذا الرأي‪ .‬وأن هذا القرن قد بدأ خبالفة‬
‫الوليد بن يزيد‪ ،‬وختم خبالفة األمني بن الرشيد‪ ،‬وأحب أن يقارن بني هذين اخلليفتني‪ ،‬مث ألفت إىل‬
‫بشار‪ ،‬ومطيع‪ ،‬وأيب نواس‪ ،‬والرقاشي‪ ،‬والعباس بن األحنف‪ ،‬ومسلم بن الوليد‪ ،‬ومحّاد عجرد‪ ،‬وحيي‬
‫بن زياد‪ ،‬وابن املقفع‪ ،‬وأبان بن عبد احلميد‪ ،‬وغريهم من الشعراء والكتّاب واملف ّكرين‪ ،‬وال أريد أن‬
‫املتحرجون"‪.2‬‬
‫أذكر الفقهاء وأصحاب الكالم خمافة أن يغضب ّ‬
‫يتبني مما سبق أن طه حسين‪ ،‬قد تأثر كثريا بأستاذه النسون‪ ،‬يف طبيعة النقد التارخيي‬
‫املوسوعي الذي دعا إليه الرجل‪ ،‬وهو يف ذلك يتجاوز ما كان قد دعا إليه يف مؤلفه السابق "ذكرى‬
‫أيب العالء" من االحتكام إىل اجلرب التارخيي أو احلتمية التارخيية‪ ،‬وخرج من ربقة النقد العلمي اجلاف‪،‬‬
‫املعول عليه من‬
‫الذي يشغل الناس بنفسه وشكله أكثر مما يشغلهم بنتائجه املوضوعية‪ ،‬إذ أصبح ّ‬
‫الطائلة النقدية عنده‪ ،‬هو املزاوجة والتأليف بني النزعة الذاتية واملوضوعية‪ ،‬واالحتكام إىل خاصية‬
‫الذوق يف استخراج الصورة احلقيقية هلذه اإلبداعات‪.‬‬

‫إضافة إىل ذلك فطه حسين حمكوم دوما وبدافع من املؤثر الغريب‪ ،‬بعقد مثل هذه املقارنات‬
‫واملوازنات بني األدب العريب واألدب اليوناين أو األوريب‪ ،‬ويعزو تطور الشعوب واألمم إىل مؤثرات‬
‫البيئة‪ ،‬سواء االجتماعية أو االقتصادية أو السياسية‪ ،‬ويربط فكرة التطور اليت حصلت لألمة اليونانية‬
‫من بداوهتا إىل حضارهتا على هذه العوامل‪ .‬غري أن هذا الربط بني التاريخ والبيئة‪ ،‬هو الذي استأثر‬

‫‪1‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.389 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.390 :‬‬
‫‪76‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫بفكر الرجل‪ ،‬ليجعل منه منهجا نقديا ملثل هذه القضايا "إن طه حسين يف عرضه للعوامل املوضوعية‬
‫املؤثرة يف تطور الوعي االجتماعي وأشكاله الشعرية أو الفلسفية حيقق نقلة هامة يف وعيه ملنهجه‬
‫كلي الفعالية واحلضور والتأثري لالنتقال باجتاه إدراك دور الفكر يف تغيري‬
‫التارخيي الذي كان يبدو ّ‬
‫التاريخ ذاته على طريق متلكه كمنهج"‪.1‬‬

‫أوجها‪ ،‬حني‬‫تتصاعد موجة املواالة اليت بدأها عبد الرزاق عيد‪ ،‬بالنسبة لطه حسين إىل ّ‬
‫يتناول مشكلة من أخطر املشكالت‪ ،‬اليت عاجلها هذا األخري ودعا إليها صراحة‪ ،‬وهي وجوب أن‬
‫تقتفي األمة العربية سبيل األمة اليونانية‪ ،‬واستبدال سلطان العقل بسلطان الدين "وهو إذ يكتشف‬
‫أن العقل الفلسفي هو الذي قاد العامل القدمي وهو الذي يقود العامل احلديث‪ ،‬فالبد إذا من دعائم‬
‫العقل الشعري وتقشريه من بطانته الوجدانية الالهوتية‪ ،‬القانعة بالطبيعة‪ ،‬واملستسلمة ملسلّمات‬
‫يقينياهتا الزائفة‪ ،‬ليخلص الروح العلمي من أوشاب اإليديولوجيا الكهنوتية اليت تضلّله‪ ،‬وهو خالل‬
‫تأسيسه هلذا النظام املنهجي التارخيي اإلنساين‪ ،‬إمنا كان يقوم بعملية دمج غري مباشرة للنظام املعريف‬
‫اإلسالمي هبذا النظام املعريف اإلنساين الكوين فيكاد أن يلغيه"‪.2‬‬

‫إن املتفحص هلذا النص يلحظ – ال حمالة‪ -‬شرخا معرفيا أصاب املنظومة الفكرية للرجل؛ إذ‬
‫مبحاولة دفاعه عن طروحات طه حسين‪ ،‬يتغافل عن أحد املبادئ األساسية اليت دعا إليها الدين‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وهو مبدأ التفكر والتدبر يف األرض واخللق وامللكوت‪ .‬أضف إىل ذلك أن النصوص‬
‫الدينية اليت كانت شارحة للدين‪ ،‬هي اليت أوقعت النص القرآين يف واحدية املعىن‪ ،‬أو على أقل تقدير‬
‫الرضوخ إىل معىن واحد وأوحد‪ ،‬وهو املعىن املفهوم من قبل رجال الدين‪.‬‬

‫ال يفوتين وأنا أعاجل هذه الفكرة املعضلة‪ ،‬أن أذكر على سبيل التمثيل‪ ،‬مجلة من احملن اليت‬
‫جراء القمع التسلطي املمارس من ذوي‬ ‫عاشها الفالسفة أو رجال الدين‪ ،‬يف خمتلف العصور العربية‪ّ ،‬‬
‫املقربني من السلطان‪ .‬القضية إذا ليست يف توحيد العقل العريب مع العقل اليوناين‪ ،‬إمنا‬
‫الشوكة و ّ‬
‫اإلشكالية يف نظري على األقل‪ ،‬هي تلك احلدود املعرفية للتأويل‪ ،‬واملمارسات الفكرية اليت تنهل من‬
‫الرتاث وتعود إليه‪ ،‬وطه حسين – يف اعتقادي‪ -‬مل تفته هذه اللفتة‪ ،‬إال أنه أساء التعبري عنها‪ ،‬رمبا‬

‫‪1‬عبد الرزاق عيد‪ :‬طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية‪ ،‬ص‪.052 ،052 :‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.002 :‬‬
‫‪77‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫لتحمسه املفرط يف حماولة بلوغ األمة العربية اإلسالمية ما بلغته األمم األوربية‪ ،‬وهو ليس بدعا يف‬
‫هذا؛ فقد كانت العديد من احملاوالت اليت سلكت هذا املسلك من املثاقفة مع اآلخر‪ ،‬وحماولة البلوغ‬
‫فقوض التاريخ‬‫املعريف لشىت أصناف العلم واملدنية‪ ،‬لقد أراد "طه حسني أن يؤسس تارخيا جديدا ّ‬
‫القدمي دون أن يبين التاريخ اجلديد‪ .‬أراد ان يدمج التاريخ العريب بالرتاث العاملي وأن خيضعه لقوانني‬
‫املنهج ذاهتا‪ ،‬فألغى الرتاث اخلاص ومضى التاريخ العام غري آبه لدورنا التارخيي‪ .‬أراد أن يدخل قانون‬
‫التطور من خالل إدخال منظومة الوعي التارخيي يف بنية العقل العريب‪ ،‬لكي يدخل العرب التاريخ‪،‬‬
‫فبدا التطور حركة دوران انكفائية‪ ،‬وغدت حلظة عقالنية طه حسين الليربالية نور يف لوحة ظالمية‬
‫تعزز أكثر فأكثر ابتعاد العرب عن التاريخ"‪.1‬‬

‫لقد أراد طه حسين أن يكون قطب الرحى بالنسبة للتجاوز العقلي وليس التجاوز املكاين‪،‬‬
‫يطهرها بقدر ما طفت على‬ ‫حرك بركة آنسة ملاء راكد‪ ،‬فما كان له أن ّ‬ ‫لكن الذي حصل‪ ،‬أن الرجل ّ‬
‫السطح عالمات افرتاق بني ما تريد وبني ما متّ إجنازه‪ .‬إضافة إىل أن عملية املهادنة‪ ،‬اليت متت بني‬
‫الباحث والشعب وقبلهما السلطة‪ ،‬هي اليت جعلت من قضية املنهج س ّكينا يف خاصرة الوعي العريب‪.‬‬

‫كل‬
‫إن الذي يرومه العميد يف طرائقه البحثية هذه‪ ،‬هو أن جيد سبيال خلالص العقل العريب‪ ،‬من ّ‬
‫ما علق به من شوائب الدهر‪ ،‬والدفع به إىل ارتياد آفاق رحبة من العلم والتقدم‪ ،‬كما حصل دوما مع‬
‫العقل األوريب‪ ،‬ألن مفهوم التطور والتقدم يتضمن "نظرة إىل الزمان يستقطبها املستقبل‪ ،‬زمان ترتاكم‬
‫فيه جتارب اإلنسان الذي يتطور دائما حنو األفضل بعقله ووجدانه وحتكمه يف األشياء‪ ،‬ومفهوم‬
‫التقدم يتضمن رؤية للتاريخ نقيسه باحلاضر‪ ،‬وليس حاضر أية حضارة بل حاضر احلضارة الغربية"‪.2‬‬

‫وهو الرأي نفسه والدعوة ذاهتا‪ ،‬اليت مافتئ طه حسين ينادي هبا حينما اشرتط يف تطور األمة‬
‫العربية‪ ،‬وجوب مسايرهتا للنموذج الغريب‪ ،‬وبالضبط منذ أن تطورت اليونان من البداوة إىل التحضر‪،‬‬
‫وحينما استبدلوا العقل الفلسفي بالعقل الديين أو امليثولوجي "لقد آمن طه حسني بعاملية الثقافة‬
‫الغربية‪ ،‬وأن هذه الثقافة قد نسخت كل الثقافات واحلضارات فأصبحت هي احلضارة‪ ،‬وعلى اجلميع‬

‫‪1‬عبد الرزاق عيد‪ :‬طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية‪ ،‬ص‪.310 :‬‬
‫‪2‬علي أومليل‪ :‬سؤال الثقافة‪ ،‬الثقافة العربية يف عامل متحول‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،3115 ،0‬‬
‫ص‪.05:‬‬
‫‪78‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أن يتبناها‪ ،‬ولذلك دعا إىل تعليم اليونانية والالتينية الستيعاب أصول احلضارة الغربية‪ ،‬هو طبعا يقول‬
‫إنه بدعوته هذه ال يريد ملواطنيه أن يفقدوا هويتهم‪ ،‬لكنه حتفظ لفظي ال ينفي دعوته يف كتابه‬
‫مستقبل الثقافة يف مصر‪ ،‬إضافة إىل كتابات أخرى إىل تغريب بلده مصر"‪.1‬‬

‫أجد أن هذا القول ينطوي على كثري من التحامل على مشروع طه حسين التنويري‬
‫واحلضاري‪ ،‬ذلك أن الرجل مل يدع إىل التغريب أو االستغراب‪ ،‬كما يصطلح عليه بعض مثقفي‬
‫معني‪،‬‬
‫احلداثة اليوم‪ ،‬إمنا دعوته ورؤاه ووعيه مبا حققته أوربا وخاصة فرنسا‪ ،‬إمنا حتقق يف سياق ثقايف ّ‬
‫حيمل هذه الكتابات أكثر مما حتتمل وتطيق‪ ،‬أو أن‬‫وال ميكن لباحث يف القرن احلادي والعشرين أن ّ‬
‫يتعسف يف إصدار األحكام القيمية واملعيارية على مشروع رمبا كان األمشل من بني املشاريع احلضارية‬
‫األخرى‪ ،‬بالرغم من اإلحباط وبعض اهلزال الذي وسم مشروعه فيما بعد‪ ،‬ألسباب رمبا تكون‬
‫سياسية بالدرجة األوىل وال سبيل إىل طرحها ومناقشتها يف حبث نقدي كالذي حنن بصدده‪.‬‬

‫تتأكد الفاعلية النقدية لطه حسين‪ ،‬يف طرقه للكثري من احلقول املعرفية‪ ،‬اليت أراد من خالهلا‬
‫إعادة قراءة املوروث اإلبداعي والنقدي العريب القدمي‪ ،‬قراءة تتواءم مع متطلبات العصر ومنجزات‬
‫الراهن‪ ،‬ألن " أمهية املمارسة النقدية وخطورهتا وفاعليتها ال تكمن يف مدى جدهتا وحديتها وعمقها‬
‫فحسب‪ ،‬بل تكمن –إضافة إىل ذلك‪ -‬يف مدى استجابتها حلركة الواقع املعيش‪ ،‬وتلبية حاجاته‬
‫املتغرية فالثقافة املنشودة (واملمارسة النقدية املنشودة أيضا وهي جزء أصيل منها)‬
‫األساسية املستجدة و ّ‬
‫حل اإلشكاليات احلضارية لألمة"‪.2‬‬ ‫هي تلك اليت تُسهم يف ّ‬
‫رمبا هو السلوك عينه الذي سلكه طه حسين‪ ،‬ودعا إليه يف األخذ بأسباب احلداثة الغربية يف‬
‫ماسة إىل التغيري انطالقا من خمزوننا‬
‫جماالت خمتلفة‪ ،‬قصد مسايرة ركب األمم املتقدمة‪ ،‬وألن احلاجة ّ‬
‫الرتاثي‪ ،‬وصعودا إىل منجزات أوربا الثقافية والسياسية واالجتماعية‪ ،‬وهي دعوة ألّبت عليه مجلة من‬
‫النقاد الذين ينطلقون يف دعاواهم من دوغمائية تراثية تتشبث بالقدمي وتتشرنق حاوله‪ ،‬يف حلقة‬
‫مفرغة ال طائل منها‪ ،‬ويف الوقت ذاته ناصرته مجلة أخرى من النقاد رأوا فيه حامل لواء التنوير‪ ،‬ولكنه‬

‫‪1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.30 :‬‬


‫‪2‬شكري عزيز ماضي‪ :‬من إشكاليات النقد العريب اجلديد‪ -،‬البنيوية‪ ،‬النقد األسطوري‪ ،‬مورفولوجيا السرد‪ ،‬ما بعد البنيوية‪،-‬‬
‫املؤسسة العربية للدراسات و النشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0002 ،0‬ص‪.081 :‬‬
‫‪79‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫السهم الذي افرتع عذرية اخلمول واجلمود الذي عاىن منه النقد واألدب‪ ،‬كما عانت منه خمتلف‬
‫جماالت احلياة من سياسية وثقافية واقتصادية وغريها‪ .‬مث يضيف الباحث تصورا آخر يضع فيه الناقد‬
‫موضع الريادة يف حماولة اخلروج باألدب والنقد من تلك الزاوية املظلمة اليت الزمته طويال يقول‪ ":‬فطه‬
‫حسني كان يطمح إىل تأسيس منهج علمي يف دراسة األدب ونقده"‪.1‬‬

‫وبعد أن يستعرض طروحات طه حسين يف تعريفه اإلبداع األديب‪ ،‬وأنه قائم على أصول طبيعية‬
‫من داخله‪ ،‬وأن مناط األمر يتمثل يف كيفية استجالء اجلمال الفين من قبل القارئ‪ .‬يصل إىل نتيجة‬
‫مؤداها أن "إميان طه حسني حبرية اإلبداع وبالقيم اجلمالية املطلقة واملثل العليا اجملردة‪ ،‬وحيصر مهمة‬
‫األدب يف خلق اجلمال سيدفع به دفعا على تبين معايري نقدية متحررة‪ ،‬لذا نراه يؤكد ‪ -‬مرارا‪ -‬بأن‬
‫النص اجليد يتوافر على خاصيتني هامتني أو قيّمتني خطريتني مها‪ -0:‬اجلمال الفين املطلق‪ -3 ،‬أن‬
‫يكون مرآة لبيئته"‪.2‬‬

‫يتجه اخلطاب النقدي عند طه حسين وجهة مقايسة‪ ،‬بني منجزات العقل الفلسفي الغريب‬
‫واستقباالت العقل العريب النصي (الديين)‪ ،‬لكن هذه املقايسة جيب أن تنتظم يف سياقات مماثلة يف‬
‫أثناء مرحلة التقبل‪ ،‬أي أن مقايسته حنت منحى معرفيا يف ظاهرها‪ ،‬راديكاليا ليرباليا يف باطنها‪ ،‬ما‬
‫أفرز مجلة من التعارضات‪ ،‬على مستوى القاعدة القرائية لفكر طه حسين‪ .‬يقف الباحث عبد‬
‫الرزاق عيد عند تش ّكل العقل الفلسفي الغريب وماهيته يف كليته وإنسانيته‪ ،‬موضحا أن "الفكر الغريب‬
‫يتأطر يف نص طه حسني كنظام مفاهيمي متكامل‪ ،‬كجهاز معريف متسق يدعو للتفاعل معه بوصفه‬
‫املكون هلذا النظام أو لذاك اجلهاز"‪.3‬‬
‫العقل (العقالين طبعا) هو العنصر التكويين اجلوهري ّ‬
‫يتناول الباحث عبد الرزاق عيد‪ ،‬الكيفية اليت باشر هبا العميد نقده جلملة من الشعراء لعل‬
‫أشهرهم المتنبي والمعري‪ ،‬وكيف وازن بينهما من حيث الشاعرية‪ ،‬مث من حيث اإليديولوجيا احملركة‬
‫لشخصية كل شاعر على ِح َدة‪ ،‬وينهض اخلطاب النقدي عنده‪ ،‬يف هذه اجلزئية على املكونات‬
‫البنيوية‪ ،‬اليت تنتظم يف أنساق وسياقات معرفية‪ ،‬هي بالضرورة من أساسيات البحث‪ ،‬يقول‪" :‬إن‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.082 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.001 :‬‬
‫‪ 3‬عبد الرزاق عيد‪ :‬طه حسني‪ :‬رائد العقالنية الليربالية العربية‪ ،‬ص‪.302 :‬‬
‫‪80‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الضرورات املنهجية على مستوى تقنية البحث‪ ،‬تتطلب التوفر على العناصر التكوينية املنسجمة يف‬
‫منطوقها الداخلي‪ ،‬لكي يستقيم االستقراء يف بلوغ نتائجه الربهانية‪ ،‬ولذا فإن النص ينحو باجتاه‬
‫تنمية العناصر اليت ختدم الوظيفة البنائية للمنظومة اليت يسعى إىل تكوينها‪ ،‬ولذا يكثر املسكوت عنه‬
‫ويتم جتاوز ما يبدو متناقضا وخمتلفا على مستوى االستقراء يف خدمة الربهان وحتققه"‪.1‬‬

‫ال جيد طه حسين فكاكا من قبضة املنهج االنطباعي والتأثري‪ ،‬يف إصدار أحكامه القيمية‬
‫املعيارية حول جمموعة الشعراء الذين انتقاهم للدرس واملساءلة‪ ،‬ذلك أن الرجل حيتكم إىل ملكة‬
‫الذوق يف إصدار هذه األحكام النقدية‪ ،‬اليت تنضاف إليها يف هنايتها بعض التعديالت يف مسألة‬
‫الغلو واإلسراف "إن املطمح األخالقي الذي يكمن وراء منهجه يف البحث قاده يف أحايني كثرية إىل‬
‫نوع من اإلسراف والغلو الذي يتخطى املعريف باجتاه إيديولوجيته املستقبلية الداعية لالخنراط يف‬
‫احلداثة الكونية‪ ،‬حيث مل يرتدد يف اندفاعه األخالقي العارم من إطالق بعض األحكام اليت تتبدى‬
‫عن قسوة وجفاء‪ ،‬حيث يرى الفارق بني املعري واملتنيب هو الفرق بني الفيلسوف والرجل من سائر‬
‫الناس"‪.2‬‬

‫تعامل طه حسين مع الرتاث من منظور الباحث املن ّقب يف طبقات هذا اهلرم الكبري‪ ،‬ذلك أنه‬
‫استثمر جممل الطروحات الرتاثية‪ ،‬مث أضاف هلا ما جادت به احلضارة الغربية يف سبيل تبيان واستظهار‬
‫املناطق املشرقة منه‪ ،‬ومل يتم التعامل من باب االختيار أو االقتفاء‪ ،‬بقدر ما كان العمل مشوليا يف‬
‫البحث واالستقصاء‪ ،‬واستثماره للتاريخ اإلسالمي خاصة ش ّكل حجر الزاوية يف هذه املعاجلة‪ ،‬فضال‬
‫عن استلهامه احملطات الكربى يف هذا التاريخ‪ ،‬وهو إذ يعاجل أهم القضايا التارخيية‪ ،‬إمنا ليزيح الستار‬
‫ومييط اللثام عن الوجه احلقيقي هلذا التاريخ‪ ،‬باقتباسه لنظرية املعرفة املعاصرة وملقوالهتا احلفرية "إن‬
‫وعي طه حسني للتغاير بني نسقني متمايزين يف حقل نظرية املعرفة دفعه على مستوى التوظيف‬
‫اإليديولوجي إىل تأكيد هذا التمايز بني العلم والدين‪ ،‬لكن ال يفتئت أحدمها على اآلخر‪ ،‬حيث‬

‫‪1‬عبد الرزاق عيد‪ :‬طه حسني‪ ،‬رائد العقالنية الليربالية العربية‪ ،‬ص‪.328 :‬‬
‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.351 ،320 :‬‬
‫‪81‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يعرض لتاريخ هذا االفتئات منذ صراع سقراط ضد الرأي العام وصوال إىل الثورة الفرنسية وانتصار‬
‫العلم والعلمانية عرب افتئاهتا على الدين والكنيسة"‪.1‬‬

‫تربز احملطات املعرفية الكربى اليت اشتغل عليها طه حسين‪ ،‬مدى إملام الرجل بكل ذلك الزخم‬
‫املعريف للرتاث بشىت أشكاله الديين‪ ،‬السياسي‪ ،‬االقتصادي وغريه‪ ،‬ومدى استثماره ملقوالت هذا‬
‫الرتاث من داخله‪ ،‬مث اإلفادة من منجزات احلضارة الغربية يف احلفر عن جممل السياقات التارخيية‪ ،‬اليت‬
‫عملت على تشكيل هذه الكتلة من الرتاث‪ ،‬وأثناء مساءلته ملختلف القضايا‪ ،‬ال يرتك طه حسين‬
‫سبيال من سبل حتقيق الفائدة إال وطرقه‪ ،‬وانطالقا من هذا فهو "يعترب رائدا ليس يف إدراك أمهية‬
‫العامل االقتصادي يف احلياة االجتماعية فحسب‪ ،‬بل إن إدراكه ألمهيته جعل منه عامال أساسيا يف‬
‫تفسري الظواهر منهجيا‪ ،‬أي أنه أدرجه يف جهاز مفاهيمه ورؤيته املعرفية يف الفهم والتحليل بوصفه‬
‫العامل الرئيسي الذي حيدد الوظيفة اإليديولوجية‪ ،‬ألي حدث تارخيي أو ظاهرة فكرية اجتماعية"‪.2‬‬

‫إن املنهج املتبع من قبل طه حسين يف قراءة الرتاث‪ ،‬وليس النقدي فحسب بل كل أنواعه مبا‬
‫فيها الديين‪ ،‬هو الذي م ّكنه من وضع يده على العلة الفاعلة يف مستوى العالقات بني احلاكم‬
‫فعال يف سري األمة يف رعيلها‬
‫واحملكوم‪ ،‬خاصة إذا علمنا أن من أهم العوامل اليت أسهمت بشكل ّ‬
‫األول‪ ،‬كان العامل السياسي واالقتصادي‪( ،‬مسألة املغا م يف الفتوحات) وهو منهج حيفر عميقا يف‬
‫األنساق التارخيية للمسلمني‪ ،‬ويكشف عن مدى القدرة الفائقة اليت ميتلكها‪ ،‬يف إضاءة بعض املناطق‬
‫الغائمة يف تارخيها العريب اإلسالمي‪ ،‬وحماولة إزاحة ستار التقديس عن بعض املمارسات‪ ،‬اليت كانت‬
‫متثل عصب احلياة بالنسبة هلم‪.‬‬

‫ومن هذا املنظور كانت النظرة القدمية للتاريخ واليت تبناها العديد من النقاد احملدثون تورط‬
‫أصحاهبا يف "ضروب من اخلطأ يف احلكم"‪ ،3‬وال حيصل ذلك حسبه إال إذا أبقينا الرتاث بعيدا عن‬
‫جراء تلك املمارسات‪ ،‬ومنه ميكننا‬ ‫هاالت التقديس‪ ،‬اليت صاحبته وجعلته كتلة صلبة بل متكلسة ّ‬
‫يود‬
‫بعد نزع رداء القداسة عنه أن نعطي صورة مشرقة عن كل شخصيات هذا الرتاث‪ ،‬ولذلك فهو ّ‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.322 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.382 :‬‬
‫‪3‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.385 :‬‬
‫‪82‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أن يقرأ "ويدرس حياهتم على هذه القاعدة وهي أهنم ناس ال مالئكة"‪ .1‬األمر الذي م ّكنه من‬
‫مساءلة هذه املتون بعني الناقد احلصيف‪ ،‬الذي يتجرد من كل هوى مسبق‪ ،‬وال حتول بينه وبني‬
‫خطوات حبثه ونتائجه كل دعاوى التقديس والتهليل‪ ،‬ألن خطاب النقد عنده إمنا ينهض على إقحام‬
‫اخلصم باحلجة والربهان والدليل‪ ،‬وهو الذي سار عليه يف مؤلف حديث األربعاء كما يف غريه من‬
‫تبين املوقف السوفسطائي‪ ،‬وإمنا‬
‫املؤلفات اليت هنضت بعبء املنهج‪ ،‬والنتيجة أن "نقد احلقيقة ال يعين ّ‬
‫يعين أن اليقني ال ميكن إال أن يكون مغلقا‪ ،‬وهلذا فهو يؤول يف املنتهى إىل الدوغمائية اليت ترتجم‬
‫تعصبا وحتزبا ورمبا عنفا وإرهابا وفضال عن ذلك‪ ،‬فالدوغمائية والوثوقية واليقينية كل هذه ليست‬
‫ميوه‬
‫نقيض الريبية والسفسطة‪ ،‬إهنا سفسطة مضاعفة‪ ،‬ذلك أن خطاب اليقني والوثوق واإلحكام ّ‬
‫احلقائق بقدر ما حيجب حقيقته أي آلياته يف التمويه والتضليل"‪.2‬‬

‫أدرك طه حسين منذ بدايات تكوينه‪ ،‬خاصة عند احتكاكه بأساتذة أوربا‪ ،‬أدرك أن سبيل‬
‫الوصول إىل احلقيقة ال يكون بالطابع الذايت فحسب‪ ،‬بل رمبا السبيل األسلم لذلك هو االحتكام إىل‬
‫مر العصور سواء‬ ‫جل مؤلفاته النقدية إىل اآلراء الفلسفية على ّ‬
‫آليات العقل‪ ،‬لذلك ينتصر العميد يف ّ‬
‫اليونانية أم اإلسالمية‪ ،‬مما جعله يقرأ هذه الظواهر واألحداث يف صريورهتا التارخيية‪ ،‬وهو األمر الذي‬
‫ندب العميد نفسه القيام به واحلفر يف أنساقه‪ ،‬لسرب أغواره وإخضاعه حملك العقل والنقد العلمي‪،‬‬
‫بعيدا عن عتمة الدوغمائية السلفية‪ ،‬وبعيدا كذلك عن النظرة التقديسية لكل ما هو عتيق أو قدمي‬
‫"التارخيية تعين أن لألحداث واملمارسات واخلطابات أصلها الواقعي وحيثياهتا الزمانية واملكانية‬
‫التغري أي قابليتها‬
‫وشروطها املادية والدنيوية‪ ،‬كما تعين خضوع البىن واملؤسسات واملفاهيم للتطور و ّ‬
‫للتحويل والصرف وإعادة التوظيف"‪ ،3‬وذلك هو املبتغى من استثمار تلك املناهج من قبله يف ختليص‬
‫الرتاث الشعري واألديب عامة من ربقة التقديس والتشرنق حول الذات‪ ،‬واالنكفاء إىل املاضي املوروث‬
‫التغري‪ ،‬ولكل جيل ولكل عصر ّقراءه ون ّقاده‪،‬‬ ‫يف قراءة ذلك الرتاث‪ ،‬إذ من نواميس احلياة التطور و ّ‬
‫عمقت دراسة طه حسين عن ابن‬‫وهلم مناهجهم وطرائقهم البحثية‪ ،‬ومادام األمر كذلك فقد ّ‬
‫خلدون‪- ،‬وكذا دراسته على أعالم النقد التارخيي الفرنسي‪ ،‬والسيما النسون ‪ -‬يف نفسه شروط‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.390 :‬‬


‫‪2‬علي حرب‪ :‬نقد النص‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،3115 ،2‬ص‪.33 :‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.25 :‬‬
‫‪83‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫البحث يف التاريخ العريب اإلسالمي‪ ،‬وقد كلّفه بطروحات وقوانني ابن خلدون كثريا‪ ،‬ألنه كما قال‬
‫عنه "يكره الغرض واهلوى‪ ،‬وحيذر من أخطار كثرية حتيط بكاتب التاريخ‪ ،‬وحيبب إليك‪ ،‬أوحيتّم‬
‫عليك‪ ،‬حتكيم العقل فيما يروى لك من احلوادث‪ ،‬وهو يصل من هذا كلّه إىل استكشاف قوانني‬
‫قيّمة يف النقد التارخيي"‪.1‬‬

‫يتضح جليا مما سبق أن فكر طه حسين يسري يف خط متصاعد‪ ،‬وذلك بعد أن جتاوز مقوالت‬
‫جتمد النص النقدي عند مجلة من العلل واألسباب اليت رمبا ال دخل هلا‬ ‫احلكم التارخيي اليت رأى بأهنا ّ‬
‫يف عملية القراءة‪ ،‬وألنه يف تطوره الفكري ال يسلك سبال سهلة ميكن اقتفاؤها بل يسري دوما يف طرق‬
‫وعرة املسالك‪ ،‬حىت أننا نتلمس أنه يف بعض األحيان يكاد يرت ّد عن طبيعة منهجه العقالين‪ ،‬ألن‬
‫"النقد العريب يعاين أزمة هي جزء من أزمة اإلبداع‪ ،‬ومن أزمة الثقافة ومن أزمة الواقع‪ ،‬مبعىن أن هناك‬
‫قانونا ما حيكم هذه املستويات‪ ،‬ويلقي بظله على كل منها‪ ،‬وإذا كان الواقع ليس معطى موضوعيا‬
‫ساكنا موحدا‪ ،‬بل هو حركة نشطة من التعامل والصراع بني قوى اجتماعية ذات مصاحل خمتلفة‬
‫وإيديولوجيات متعددة ومتصارعة أحيانا يف التعبري الثقايف هلذا الواقع خيضع بالضرورة هلذا التعدد‬
‫والتعارض والتصارع"‪.2‬‬

‫لقد عرف املشروع النقدي عند طه حسين ذلك التنوع والثراء على مستوى اإلجراء أو‬
‫املصطلح األمر الذي جعل تلك املدونات النقدية تتسم بطابع اإلحاطة والشمولية‪ ،‬وال أظن أن ذلك‬
‫يدخل يف باب الفوضى املنهجية أو االضطراب املصطلحي بقدر ما يدل على سعة االطالع‬
‫والتمكن من الوافد الغريب‪ ،‬فضال عن اإلحاطة بكل جوانب هذا الرتاث الضخم‪ .‬إضافة إىل أنه‬
‫استطاع أن خيوض الصراع مع القدمي من داخل منظومته‪ ،‬يقول أحد الباحثني‪..." :‬و القطع كان‬
‫أفضل من يستطيع ممارسة أبلغ تأثري يف قارئه من غريه من املدافعني عن احلداثة إ ْن لبالغة تعبريه‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.385 :‬‬


‫نصر حامد أبو زيد‪ :‬إشكاليات القراءة و آليات التأويل‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ -‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0002 ،2‬ص‪:‬‬
‫‪2‬‬

‫‪.322‬‬
‫‪84‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وسحره أو االقتدار الذي ال يضاهى يف التبليغ على أرفع أسلوب بيداغوجي‪ ،‬أو لسلطانه الثقايف يف‬
‫حقبة امتدت منذ احلرب العاملية األوىل حىت مخسينات القرن املاضي"‪.1‬‬

‫يثري أي عمل أديب أو نقدي مهم مجلة من الردود سواء كانت مدافعة أم رافضة‪ ،‬وحديث‬
‫املدونات النقدية عند طه حسين‪ ،‬اليت رام فيها تطبيق منهج معني يسمح له‬ ‫األربعاء من بني ّ‬
‫بتفكيك تلك البىن املتشابكة‪ ،‬اليت تصنع ذلك اهلرم الرتاثي‪ .‬فقد الذ الرجل–كما أسلفنا‪ -‬بقوانني ابن‬
‫خلدون وهو يف هذا يواجه احملافظني به‪ ،‬باعتبار القوانني املهمة والقيّمة اليت وضعها ابن خلدون‪،‬‬
‫وحتديده جململ الصفات واملزايا اليت جيب على الباحث يف التاريخ التحلي هبا‪ ،‬األمر الذي حدا‬
‫ببعض الباحثني إىل القول‪" :‬إن املنهج الذي يغلب على حديث األربعاء والسيما يف اجلزأين األول‬
‫والثاين‪،‬هو منهج ابن خلدون"‪ .2‬رمبا مل يستطع املؤلفان التمييز بني املنهج والقانون‪ ،‬ذلك أن ابن‬
‫خلدون وضع قوانني حتكم الظاهرة األدبية ومل يدبّج منهجا للتحليل؛ فاملنهج هو تفعيل وممارسة‬
‫لنظرية أدبية ما‪.‬‬

‫‪ .1‬خيارات املمارسة املنهجية ‪:‬ي حديث األربعاء‬

‫كم هائل من املقاالت والبحوث‪ ،‬اليت كانت يف األصل‬ ‫يتشكل مؤلف حديث األربعاء من ّ‬
‫تكتب وتنشر يف جمالت أسبوعية‪ ،‬كمجلة "السياسة" و"اجلهاد" وغريها‪ .‬وهذه املقاالت هي اليت‬
‫التزم بكتابتها طه حسين زمنا طويال‪ ،‬غري أ ّن ما ميكن أن يالحظ عليها‪ ،‬هو ضيق احليّز املكاين‬
‫املخصص لكل مقالة‪ ،‬األمر الذي يتعسر معه التحقيق يف كل جوانب املوضوع وإخضاعه إىل التدقيق‬
‫العلمي‪ ،‬وهذا االلتزام هو الذي جعله يكتب أسبوعيا "إىل الناس على ما فيه من نقص وحاجة إىل‬
‫‪3‬‬
‫ختصصه‬
‫اإلصالح" ‪ .‬رغم ما يف ذلك من نقص بالعناية هبا وبنتائجها‪ ،‬إضافة إىل احليّز احملدود الذي ّ‬
‫الصحيفة أو اجمللة‪ ،‬يقول طه حسين يف ذلك‪..." :‬و وأنا أستبيح لنفسي ‪...‬أن أقدم إليك صورة‬
‫صادقة ولكنها موجزة من الشعراء الذين أدرسهم‪ ،‬وقد أستطيع أنٌ دم إليك صورة صادقة من‬

‫‪1‬عبد اإلله بلقزيز‪ :‬العرب واحلداثة – دراسة يف مقاالت احلداثيني‪ ،-‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،3112 ،0‬‬
‫ص‪.052 :‬‬
‫‪2‬محدي السكوت و مارسيدن جونز‪ :‬أعالم األدب املعاصر يف مصر (‪ )0‬طه حسني‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.01 :‬‬
‫‪3‬‬

‫‪85‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫صاحبنا هذا‪ ،‬ولكين أجد مشقة شديدة يف اإلجياز‪ .‬فليس من اليسري أن ختتار من شعره‪ ،‬فكل شعره‬
‫أو أكثره حري أن خيتار‪ .‬وال يقف األمر عند هذا احلد‪ ،‬بل أنت مضطر إىل أن تروي له شعرا كثريا‬
‫مما حيتمل هذا احلديث ‪.1" ،‬‬

‫األمر الذي جنم عنه عدم وضوح الرؤية النقدية واملنهجية لديه‪ ،‬ما جعل العديد من الباحثني‬
‫ينعتون "حديث األربعاء" بأنه مؤلف ال حيتوي على منهج واضح‪ ،‬إال أن الكتاب يف احلقيقة عبارة‬
‫عن جمموعة من املوضوعات ينتظمها خيط داليل ومعنوي واحد يش ّدها إىل بعضها البعض‪ .‬يكفي‬
‫أن ندرك أن حديث األربعاء ألّفه الناقد يف أواخر ‪ 0033‬أي بعد عودته من السربون‪ ،‬لنعي الفرق‬
‫بني التجربة الشخصية له يف كل كتبه السابقة عليه‪ ،‬ورمبا ترجع املوضوعات اليت عاجلها طه حسين‬
‫توحدها كما أسلفنا‪ ،‬فعند دراسته األدب العباسي مثال‪،‬‬ ‫يف هذا الكتاب إىل فكرة رئيسة واحدة ّ‬
‫فالرجل يربز العالقة والصلة اليت جتمع بني جمموعة من الشعراء‪ ،‬يف قضية اجملون واخلالعة واللهو‬
‫والشك‪ ،‬أو حىت صلة الصدق يف التعامل مع حوادث العصر العباسي‪ ،‬فإن شعر هؤالء يعكس‬
‫حقيقة ما كان موجودا يف ذلك العصر‪ .‬وعند انتقاله على بيئة احلجاز‪ ،‬فالرجل يدرس العالقة اليت‬
‫تربط بني شعراءه يف غرض الغزل اإلباحي‪ ،‬واألمر نفسه كذلك بني شعراء الغزل العذري العفيف يف‬
‫بادية احلجاز‪.‬‬

‫مير هبا ليحقق نتائج‬


‫نصه إىل مراحل ثالث‪ ،‬جيب أن ّ‬ ‫يقسم ّ‬
‫وليتسىن له مثل هذا التوجه‪ّ ،‬‬
‫مرضية وهي‪ :‬استكشاف النص األديب‪ ،‬مث قراءته قراءة صحيحة‪ ،‬مث حتقيقه وضبطه‪ .‬وتع ّد هذه‬
‫العملية عملية إعداد للبحث يشملها اجلانب العلمي‪ ،‬وتأيت رمبا آخر مرحلة فيه وهي مرحلة التذوق‪،‬‬
‫اليت تظهر فيها روح الناقد وشخصيته يقول طه حسين‪" :‬أريد أن أدرس شعر أيب نواس‪ ،‬فأنا مضطر‬
‫أول األمر إىل أن أحبث عن هذا الشعر‪ .‬وهلذا البحث املنظم قواعده وأصوله‪ ،‬فإذا وجدت هدا الشعر‬
‫فأ نا مضطر إىل أن أقرأه وأحقق نصوصه وأقارن مقارنة علمية دقيقة بني النسخ اليت تشتمل عليه‪ .‬فإذا‬
‫نصا انتهى إليه حبثي واختياري‪ ،‬فأنا مضطر‬
‫استخلصت من هذه النسخ املختلفة والنصوص املتباينة ّ‬
‫ويفسر وحيلّل ويستخلص ما يف هذا‬
‫إىل أن أقرأ هذا النص قراءة الباحث املن ّقب الذي يريد أن يفهم ّ‬
‫الشعر من خصائص لغوية أو حنوية أو بيانية‪ .‬فإذا أنا فرغت من هذا كله فاستكشفت النص وحققته‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.355 :‬‬


‫‪86‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وفسرته واستخلصت خصائصه ومميزاته‪ ،‬مستعينا يف هذا كله هبذه العلوم املختلفة‪ ...،‬فقد انتهى‬
‫ّ‬
‫القسم العلمي اخلالص من عملي مؤرخا لآلداب‪ ،‬وبدأ القسم الفين الذي أجتهد ما استطعت يف أن‬
‫أخفف تأثري شخصييت فيه‪ ،‬ولكين أعتمد فيه‪ ،‬سواء أردت أم مل أرد‪ ،‬على الذوق‪ ،‬وهذا القسم هو‬
‫النقد"‪.1‬‬

‫نستطيع أن نفهم من خالل هذا االقتباس‪ ،‬أن املراحل النقدية عند طه حسين قد عرفت تطورا‬
‫ومسرية حافلة بالنقد‪ ،‬وتاريخ األدب والدراسة األدبية‪ ،‬فيشتمل القسم األول من دراساته على دراسته‬
‫األدب اجلاهلي‪ ،‬وأيب العالء املعري وجمموعة من شعراء الغزل‪ ،‬وبعض شعراء العصر األموي‪،‬‬
‫وأحاديث األربعاء اليت تناول فيها مجاعة من شعراء العصر العباسي‪ ،‬ومع املتنيب‪ ،‬ويشتمل القسم‬
‫اآلخر مجلة من املقاالت تناول فيها مجاعة من الكتّاب والشعراء احملدثني والقدماء‪ ،‬وعرض فيها‬
‫للصراع بني القدمي واجلديد‪.‬‬

‫وبضغط من املنهج التارخيي‪ ،‬الذي ُوسم به العميد حيتاج يف الكثري من األحيان إىل أن يبحث‬
‫بشر به ودعا إليه قبل بداية مقاله فيه‪ .‬فعندما حياول أن‬
‫شاعرا واحدا يف أكثر من مقال‪ ،‬ليربز ما ّ‬
‫يبني مدى تأثري البيئة يف رسم شخصية الشاعر‪ ،‬وكيف تنعكس هذه يف تلك يقول‪ " :‬الفرد‪ .‬ماهو؟‬ ‫ّ‬
‫هو أثر من آثار األمة اليت نشأ فيها‪ ،‬أو قل من آثار اجلنس الذي نشأ منه‪ :‬فيه أخالقه وعاداته‬
‫وملكاته ومميزاته املختلفة‪ .‬وهذه األخالق والعادات وامللكات واملميزات ماهي؟ هي أثر هلذين املؤثرين‬
‫العظيمني اللذين خيضع هلما كل شيء يف هذه الدنيا‪ :‬املكان وما يتصل به من حاله اإلقليمية‬
‫واجلغرافية وما إىل ذلك‪ ،‬والزمان وما يستتبع من هذه األحداث اليت ختضع كل شيء للتطور‬
‫واالنتقال‪ .‬الكاتب أو الشاعر إذا أثر من آثار اجلنس والبيئة والزمان‪ ،‬فينبغي أن يتلمس من هذه‬
‫املؤثرات اليت أحدثت الكاتب أو الشاعر‪ ،‬وأرغمته على أن يصدر ما كتب أو نظم من اآلثار‪.2".‬‬

‫هذا بطبيعة احلال أحد سبل الدراسة عند طه حسين‪ ،‬يف حماولة تكييف مقوالت املنهج‬
‫التارخيي الذي استثمره من تين‪ ،‬مث من النسون فيما بعد‪ ،‬لقراءة املدونات الشعرية العربية‪ ،‬واليت‬
‫توصله حتما إىل معرفة احلالة االجتماعية واالقتصادية لذلك العصر‪ .‬ودائما يف حماولته إبراز دور البيئة‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،00‬ص‪.51 :‬‬
‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪87‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يف رسم صورة العصر الذي ينتمي إليه الشاعر‪ ،‬يواصل طه حسين ذلك عندما يعرض بالدراسة‬
‫لطائفة من شعراء احلجاز‪ ،‬وكذلك لبعض الشعراء العباسيني يقول عن أثر البيئة يف حياة كل من عمر‬
‫بن أبي ربيعة وأبي نواس على التوايل‪ " :‬فلست أعرف شاعرا إسالميا استطاع أن ميثل العصر الذي‬
‫كان يعيش فيه‪ ،‬والبيئة اليت كان حييا فيه‪ ،‬كهذين الرجلني اللذين نستطيع أن نتخذمها مرجعا يف درس‬
‫اجلماعة اليت كانت حتيط هبما‪ ،‬تريد أن تدرس العراق صدر الدولة العباسية‪ ،‬وأن تدرس بغداد أيام‬
‫الرشيد واألمني خاصة‪ ،‬فارجع إىل أيب نواس‪ .‬تريد أن تدرس حياة احلجاز يف الدولة األموية‪ ،‬فارجع‬
‫إىل ابن أيب ربيعة"‪1‬؛ ألن بإمكان الدارس هلذا الشاعر أن تتش ّكل لديه صورة مكتملة عن كل عصر‬
‫من هذين العصرين‪ ،‬على اعتبار أن األدب صورة للحياة يتأثر هبا كما يؤثر فيها‪ ،‬وهو عينه املنهج‬
‫الذي أخذ به يف كتابه األول "جتديد ذكرى أيب العالء"‪ ،‬الذي استثمر فيه منهج هيبوليت تين‬
‫الفرنسي‪ ،‬ولكي يستويف طه حسين حقه من الدراسة املنهجية اليت هنض بإبرازها‪ ،‬خيصص مثال تسع‬
‫تشخص احلياة العباسية أيام الرشيد واألمني‪ ،‬فلن‬
‫مقاالت كاملة لدراسة أيب نواس وحده " تريد أن ّ‬
‫جتد هلا تشخيصا أقوى وال أظهر وال أصدق من أيب نواس"‪ .2‬وكذلك عندما يدرس الشعراء الغزليني‬
‫يف بيئة احلجاز‪ ،‬فإنه ميثل بعمر بن أيب ربيعة‪ ،‬ويفرد له مقالني ألن "املؤرخ الذي يريد أن يدرس حياة‬
‫األرستقراطية القرشية يف احلجاز أثناء القرن األول للهجرة جيب أن يلتمس هذه احلياة يف شعر عمر‬
‫بن أيب ربيعة‪ ،‬قبل أن يلتمسها يف أخبار التاريخ وحوادثه املختلفة"‪.3‬‬

‫احلق أن طه حسين قد تعمقت نظرته إىل الرتاث الشعري العريب‪ ،‬قصد مساءلته بتأثري من‬
‫نالينو ّأوال‪ ،‬مث من أصحاب االجتاه التارخيي ثانيا‪ ،‬ألن نالينو هو الذي دفع به إىل دراسة األدب‬
‫العريب دراسة تارخيية حديثة‪ ،‬كما فعل هو مع اآلداب األوربية‪ ،‬يقول يف ذلك‪ " :‬إن املطلوب مين‬
‫ليس إال أن أطبّق على اآلداب العربية‪ ،‬أساليب البحث التارخيي‪ ،‬اليت عادت على تاريخ آدابنا‬
‫اإلفرجنية بطائل عظيم"‪ .4‬وانطالقا من هذا جعل نالينو الشعر واآلداب عموما مرآة لكل احلياة‬
‫السياسية واالجتماعية‪ ،‬وقد سايره العميد يف ذلك أثناء دراسته اليت حنن بصدد تتبعها‪ ،‬ولذلك جند‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.211 ،300 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.211 :‬‬
‫‪3‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.211 :‬‬
‫‪ 4‬كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪88‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫نالينو حينما تتبع بالدراسة عصر بين أمية وجد أن الشعر " مرآة أحوال األحزاب السياسية والدينية‬
‫وترمجان أهواء الناس‪ ،‬وآرائهم يف مسائل الدنيا والدين‪ ،‬فما تقدم برهان على ذلك قاطع فأشرت إىل‬
‫أشعار العثمانية‪ ،‬واخلوارج والشيعة واملرجئة والزبرييني وأصحاب األمويني"‪ .1‬وهو األمر نفسه والتعريف‬
‫ذاته الذي يضعه طه حسين فيما بعد للشعر ودوره يف احلياة يقول‪ ،‬فالشعر "مرآة متثل يف ّقوة أو‬
‫ضعف شخصية الشاعر وبيئته وعصره‪ ،‬وهو من هذه الناحية متصل بزمانه ومكانه"‪.2‬‬

‫يستلهم طه حسين طروحات أستاذه يف تفسري الظواهر األدبية بثنائية الزمان واملكان‪ّ ،‬‬
‫وبني‬
‫فسر‬
‫العالقة بني هذه املؤثرات وبني الشعر واإلبداع عموما‪ ،‬وذلك متشيا على خطى أستاذه الذي ّ‬
‫نشأة فن الغزل يف مدن احلجاز تفسريا مرآويا‪ ،‬ألن هذا الفن الشعري قد نشأ يف مدن احلجاز نتيجة‬
‫ألسباب سياسية‪ ،‬وهي انصراف الشباب يف اجلزيرة العربية بعد أن مت الفتح للمسلمني إىل حياة‬
‫التظرف والغناء‪ ،‬وخاصة أن هذا الشباب قد أدرك بعد فرتة‪ ،‬أن سلطة مدن احلجاز قد انتقلت إىل‬
‫أمكنة أخرى‪ ،‬يقول نالينو " وإن سألتموين عن سبب هذا التقلب الشديد يف أساليب الشعر يف‬
‫املدن احلجازية‪ ،‬قلت ال خيفى على أحد أن أكثر رجال السياسة واحلرب قد تركوا جزيرة العرب يف‬
‫أواخر خالفة علي بن أيب طالب‪ ،‬فبقيت باملدينة أهل التقى والعبادة والنسك من األنصار‬
‫واملهاجرين‪ ،‬كأن الدنيا يف الشام والدين مبدينة النيب‪ ،‬وكثرت يف ذلك العصر ثروة احلرمني‪ ،‬والسيما‬
‫مكة والتساع العالئق واملصارف التجارية‪ ،‬ولزيادة الوافدين عليها لتأدية فريضة احلج‪ ،‬فبزيادة الثروة‬
‫والنعمة واتساع العيش‪ ،‬زاد أيضا ما تنـزع النفوس إليه من الشهوات‪ ،‬واملالذ والتنعم بأنواع الرتف‪،‬‬
‫وفسدت أخالق الشبان من البيوتات الكبرية الذين مل يكن هلم باحلجاز جمال واسع لالعتناء بأمور‬
‫السياسة واحلرب‪ ،‬وال بالعلوم العقلية اليت مل تزل جمهولة عند العرب يف ذلك الزمان‪ ،‬فاشتد ميلهم إىل‬
‫غزل ومساع الغناء وحضور املالهي"‪.3‬‬‫التظرف والتّ ّ‬
‫إذا تتبعنا طه حسين يف تفسريه ملثل هذه الظواهر‪ ،‬فال جنده حييد عن هذا التوجه لألستاذ‬
‫نالينو‪ ،‬حيث يذهب يف تفسري نشأة الغزل مبدن احلجاز املذهب نفسه يقول‪" :‬نستطيع أن نستنبط‬
‫أن بالد العرب ‪ -‬بعد أن مت الفتح للمسلمني‪ ،‬وبعد أن جاهدت يف االحتفاظ بالسلطان السياسي‪،‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.322 :‬‬


‫طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.202:‬‬
‫‪2‬‬

‫‪3‬كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬ص‪.015 :‬‬


‫‪89‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وأخفقت يف اجلهاد إخفاقا شنيعا‪ ،‬وانتقل مركز احلكم منها إىل الشام‪ ،‬كما انتقل مركز املعارضة منها‬
‫إىل العراق‪ -‬انصرفت أو كادت تنصرف عن االشرتاك يف احلياة العامة‪ ،‬وفرغت للحياة اخلاصة‪،‬‬
‫فانكبّت على نفسها‪ 1".‬يذهب طه حسين بعد ذلك إىل حتقيق البعض من شخصيات الشعراء يف‬
‫عصر بين أمية‪ ،‬وعصر بين العباس‪ ،‬سواء اليت حازها من شعرهم أو من كتب األدب واألخبار؛‬
‫فيتناول حياة أيب نواس‪ ،‬الوليد بن يزيد‪ ،‬مطيع بن إياس‪ ،‬محّاد‪ ،‬عجرد‪ ،‬احلسني بن الضحاك اخلليع‬
‫وبشار بن برد‪ ،‬ويعتذر عن حتقيق شخصية والبة بن احلباب " ألن اهلل مل يق ّدر لشعره البقاء‪ ،‬وال‬
‫ألخباره وسريته أن يتناقلها الرواة‪ ،‬فذهبت حياته كما ذهب أدبه"‪.2‬‬

‫ومتاشيا مع طروحات أستاذه نالينو‪ ،‬فإن طه حسين حينما يصل به البحث إىل بعض القرى‬
‫التصوف‪ ،‬ألهنم‬
‫يف بادية احلجاز‪ ،‬وما إليها من البالد العربية‪ ،‬فيصفها بأهنا عرفت الزهد وشيئا يشبه ّ‬
‫كانوا "فقراء فلم يتح هلم اللهو"‪ .3‬أما مسببات هذا الفقر فريجعها الناقد إىل ما استجد يف حياة‬
‫هؤالء "و رمبا كان من احلق أن نالحظ أن هؤالء الناس من أهل البادية‪ ،‬كانوا قد احتملوا أعباء يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬مل يكونوا حيتملوهنا يف اجلاهلية‪ ،‬أريد أعباء الصدقة والزكاة"‪ .4‬إضافة إىل هذه املسببات فقد‬
‫منع عليهم اإلسالم طرق الرزق القدمية " أضف إىل هذا شيئا آخر‪ ،‬وهو أن اإلسالم قد أخذ على‬
‫أقر السالم بني‬
‫هؤالء الناس شيئا من طرق الكسب اليت كانت مألوفة يف اجلاهلية‪ ،‬ألن اإلسالم ّ‬
‫القبائل البدوية وحال بينها وبني ما كانت تتخذه جمدا وشرفا ومكسبا من الغزو وضروب اإلغارة"‪.5‬‬
‫ال جيد طه حسين فكاكا من ربقة التصور االستشراقي ألستاذه نالينو‪ ،‬فيحذو حذوه يف الوقوف عند‬
‫مرت بنا‪ ،‬وحىت يف تعليله وتفسريه ال جيد ب ّدا من أن يسايره‪ ،‬حىت وإن كان‬
‫خمتلف هذه الظواهر اليت ّ‬
‫يف ذلك مساس جبانب مهم من الدين‪ ،‬فالرجل مل يتحرج أبدا من ذلك‪ ،‬ألن مقدماته النظرية هي‬
‫اليت أوصلته إىل نتائجه هذه‪ ،‬حىت وإن كانت حتوي نوعا من التجديف‪ ،‬وجتانب يف كثري من األحيان‬
‫صح التعبري‪ -‬ألستاذه نالينو ما جنده عند هذا‬
‫الصواب واحلقيقة‪ .‬ومن مناذج املواالة والتكرار – إن ّ‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.002 .003 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.523 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.002 :‬‬
‫‪ 4‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.332 :‬‬
‫‪5‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.335 ،332 :‬‬
‫‪90‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األخري من كالم يف النسيب عند األعراب يف أيام بين أمية‪ ،‬من أهنم مل يفردوا له قصائد خاصة به‪،‬‬
‫يقول نالينو‪ " :‬أخذ بعض شعراء أهل الوبر املعدودين يقولون القصائد يف جمرد النسيب‪ ،‬بل ال‬
‫يتعاطون غريه‪ ،‬وصناعتهم بعيدة عن أسلوب أشعار اجلاهلية وعن منهج الغزليني من أهل املدر فإهنم‬
‫ال يعشقون إال امرأة واحدة جعلوا عيشهم فداءها وال يتغزلون وال يفتخرون بنيل وصلها‪ ،‬وإمنا‬
‫يظهرون يف شعرهم رقة القلب وشدة احلنو‪ ...،‬وكل ذلك مصوغ يف قالب رشيق مرتجم بلفظ رقيق‬
‫وكالم لطيف عفيف ال يدخل فيه شيء من اخلالعة والشهوة الذاتية"‪.1‬‬

‫وهو األمر نفسه عند طه حسين حينما جيد نفسه مضطرا ‪ -‬حبكم التأثري املمارس عليه‪ -‬إلجراء‬
‫هذه املوازنة بني شعر الغزل عند األمويني‪ ،‬وشعر اجلاهليني يف الغرض نفسه ليتساءل‪ " :‬فبم امتازوا‬
‫عن هؤالء الشعراء؟ بشيئني اثنني فيما أعتقد‪ :‬أحدمها أهنم قصروا حياهتم الفنية على الغزل‪ .‬وكان‬
‫الشعراء يف العصر اجلاهلي يعنون بالغزل كما يعنون بغريه من الفنون‪ ،‬ورمبا اختذوه وسيلة يف أكثر‬
‫األحيان ال غاية‪ .‬أما أصحابنا هؤالء فقد اختذوا الغزل غاية ال وسيلة‪ .‬مل نعرف أهنم مدحوا أو عنوا‬
‫بفن آخر من فنون الشعر إال ما كان يضطرهم إليه الغزل‪...‬واآلخر أن غزل هؤالء الشعراء‬
‫اإلسالميني أرقى بكثري من غزل اجلاهليني من حيث إن غزل اجلاهليني كان ماديا خالصا‪ ،‬يف حني‬
‫كان يف غزل اإلسالميني شيء غري املادة‪ ،‬وأظن أن هذا حيتاج إىل شيء من اإليضاح‪ ...‬مل يكونوا‬
‫[اجلاهليون] يعنون بذكر احلب وتأثريه يف النفس وال هبذه اآلالم املختلفة اليت تنشأ عنه‪ ،‬أي مل يكونوا‬
‫يعنون بدخائل نفوسهم‪ ،‬وإمنا كان الغزل عندهم ضربا من الوصف‪ ،‬كانوا يصفون النساء كما يصفون‬
‫اإلبل‪ .‬وقلّما جتد عندهم عناية بالعاطفة أو حرصا على متثيلها"‪.2‬‬

‫يبدو التأثري الكبري الذي مارسه نالينو يف تلميذه واضحا‪ ،‬وتتسع دائرة االتفاق بينهما ويف‬
‫املقابل تضيق دائرة اخلالف‪ ،‬يف العديد من القضايا اليت طرقها كل واحد منهما‪ ،‬فيجد طه حسين‬
‫نفسه تابعا ألستاذه‪ ،‬مقتفيا أثره ال يكاد حييد عن طروحاته قيد أمنلة‪ ،‬فمثال عند دراسة نالينو لشعر‬
‫لبيد بن ربيعة العامري يف اإلسالم‪ ،‬واليت مازالت خالفية بني النقاد‪ ،‬فنالينو مير مرور الكرام يف قضية‬
‫البيت الواحد الذي قيل إن لبيدا قاله يف اإلسالم‪ ،‬فقط دون أن يعطي رأيه يف ذلك قائال‪":‬أدرك‬

‫‪1‬كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬ص‪.022 ،025 :‬‬


‫‪2‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.330 :‬‬
‫‪91‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اإلسالم إال أنه مل يقل يف عهده إىل بيتا واحدا اختلفت الرواة فيه‪ ....‬ومن املشهور ما يف ديوانه من‬
‫العبارات الدينية‪ ،‬بل الشبيهة بالعقائد اإلسالمية‪ ...‬ولكن ليس كل ما ينسب إليه يف ديوانه من هذا‬
‫الباب صحيحا بل ال اختالف يف بعض األشعار أهنا مصنوعة"‪.1‬‬

‫على الرغم من شكه يف بعض األشعار اليت حتمل طابعا دينيا‪ ،‬إال أنه مل يشك يف قضية البيت‬
‫الواحد‪ ،‬الذي قيل أن لبيدا قاله بعد إسالمه‪ ،‬ومل يتبع هذه املسألة طويال‪ ،‬واألمر نفسه جنده عند طه‬
‫حسين‪ ،‬فبعد أن تناول ما يروى من أن عمر بن اخلطاب ‪ -‬رضي اهلل عنه‪ -‬كتب إىل املغرية بن‬
‫عما أحدثوه يف اإلسالم من شعر‪،‬‬
‫شعبة‪ ،‬واليه على الكوفة‪ ،‬ليسأل الشعراء ولبيد بن ربيعة فيهم‪ّ ،‬‬
‫تاما‪ ،‬فسرتى‬
‫يقول‪ " :‬ولست أخفي عليك أن اطمئناين إىل هذه القصة [فيما يتصل بلبيد] ليس ّ‬
‫صحت هذه‬‫الرواة يضيفون إىل لبيد شعرا‪ ،‬إن صح فقد كان لبيد إذا يقول الشعر يف اإلسالم‪ ،‬وإن ّ‬
‫القصة فقد كان الرواة إذا يكذبون على لبيد‪ ...‬وأكرب ظين أن لبيدا أعرض عن الشعر يف اإلسالم‪،‬‬
‫فلم يتخذه صناعة‪ ،‬ومل يكثر من إنشاده‪ ،‬وانصرف عنه إىل القرآن‪ ،‬ولكنه قال يف اإلسالم غري‬
‫بيت"‪.2‬‬

‫إن طه حسين ال جيهد نفسه عناء البحث يف هذه الظاهرة‪ ،‬كما يف غريها من الظواهر‪ ،‬بل‬
‫يبين آراءه على الظن فقط‪ ،‬ألن أستاذه من قبل مل يكلّف نفسه مشقة البحث كذلك‪ .‬فكأنه يعيد‬
‫مر بنا‬
‫ما كان قد ّقرره أستاذه من قبل‪ ،‬ليس يف هذه املسألة فحسب؛ بل يف الكثري من املسائل كما ّ‬
‫من قبل‪ .‬حىت عندما ش ّكك يف بعض شخصيات الشعراء يف املدن احلجازية‪ ،‬مل يشذ عن قاعدة‬
‫التأثر الذي مارسه عليه أستاذه نالينو‪ ،‬وغريه من األساتذة املستشرقني‪ ،‬وآلية الشك آلية أثرية عند طه‬
‫حسين‪ ،‬فقد ّ‬
‫جرهبا مع بعض الشعراء العذريني األمويني‪ ،‬يقول عن شخصية اجملنون‪ " :‬وأزعم أن‬
‫امللوح خاصة إمنا هو شخص من هؤالء األشخاص اخلياليني‪ ،‬الذين خترتعهم الشعوب‬ ‫قيس بن ّ‬
‫امللوح شخصا شعبيا‬
‫لتمثيل فكرة خاصة‪ ،‬أو حنو خاص من أحناء احلياة‪ ،‬بل رمبا مل يكن قيس بن ّ‬

‫‪1‬كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬ص‪.28 :‬‬


‫طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.51 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪92‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫"كجحا" وإمنا كان شخصا اخرتعه نفر من الرواة‪ ،‬وأصحاب القصص ليلهو به الناس أو لريضوا به‬
‫حاجة أدبية أو خلقية"‪.1‬‬

‫واألمر نفسه عند أستاذه الذي شكك قبل ذلك يف شخصية اجملنون بقوله‪..." :‬فزعم بعض‬
‫الناس أنه رجل مل يكن قط‪ ،‬وال عرف يف الدنيا إال باسم اجملنون ألنه وضعه الرواة"‪ .2‬ومرتكزه يف‬
‫ذلك إىل روايتني تعودان إىل ابن الكليب‪ ،‬مصدرمها كتاب األغاين لألصفهاين‪.‬‬

‫خنلص مما سبق إىل أن طه حسين اعتمد اعتمادا كليا على طروحات األساتذة املستشرقني‪،‬‬
‫الذين تتلمذ عليهم وأبرزهم نالينو‪ ،‬إضافة إىل استثماره مقوالت املنهج التارخيي‪ ،‬كما وضع أسس له‬
‫هيبوليت تين‪ ،‬سانت بيف وبرونتيير‪ ،‬وأنه حاول مزج النزعة املوضوعية هلذا املنهج‪ ،‬بالنزعة الذاتية‬
‫اليت تتمثل يف ملكة الذوق‪ ،‬اليت رمبا يرجع صداها إىل حسين المرصفي وإىل غوستاف النسون من‬
‫بعده كذلك‪ .‬وهو إذ يعيد قراءة هذه املدونات‪ ،‬فهو يعيد فتح مغاليق هذه النصوص‪ ،‬ويفتح النص‬
‫على القراءة الثانية‪ ،‬اليت ال تستبعد القراءات األخرى‪ ،‬بقدر ما حتاول إثراءها؛ ألن املوروث احلضاري‬
‫جل هذه الدراسات النقدية اليت انربت له‪،‬‬‫لألمة‪ ،‬مل يدرس ويقرأ بالطريقة النقدية املثلى‪ ،‬إمنا كانت ّ‬
‫سطحية يف معظمها ال عمق فيها‪ ،‬وتعتمد يف مجلة ما تعتمد على املالحظة العابرة‪ ،‬والتفسري اللغوي‬
‫الذي يقف عند حدود اجلملة لقياس الشاهد‪ ،‬وتفسري الوحدات اللغوية تفسريا ال حركية فيه‪ .‬األمر‬
‫الذي دفع بطه حسين ومجلة من النقاد احملدثني من بعده‪ ،‬إىل إعادة قراءة هذا الرتاث قراءة واعية‪،‬‬
‫هتدف إىل سرب أغواره‪ ،‬وفك شفراته‪ ،‬واستخراج مكنونه وإنطاقه مبا سكتت عنه مدوناته‪ .‬لنحاول يف‬
‫الفصل الالحق تتبع املظان األساسية‪ ،‬اليت جعل منها طه حسين حقال لدراسته‪ ،‬يف اعتماده آليات‬
‫املناهج الفلسفية الغربية‪ ،‬وسنخص بالدراسة واملساءلة والبحث‪ ،‬منهج الشك الديكاريت‪ ،‬وكيفية‬
‫التوليف اليت حصلت بني شك ديكارت‪ ،‬وشك العميد يف الشعر اجلاهلي‪.‬‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.020 :‬‬


‫‪ 2‬كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬ص‪.020 ،021 :‬‬
‫‪93‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل الثالث ‪:‬‬


‫إشكالية قراءة الرتاث الشعري عند طه حسني‬

‫‪ .1‬من املقايسة إىل املماثلة‬


‫‪ .1‬حضور املؤثر الغربي‬
‫‪ .1‬قراءة النص الشعري ‪ ،‬الشروط و الضوابط‬
‫‪ .1‬طه حسني و املسألة اهلومريية‬
‫‪ .5‬طه حسني و اسرتاتيجية القراءة املقارنة‬
‫‪ .6‬إشكالية قراءة النص الشعري اجلاهلي‬
‫‪ .7‬آلية الشك الديكارتي و التاريخ األدبي‬
‫‪ .8‬النص الشعري اجلاهلي ‪ :‬نبش األصول‬
‫‪ .9‬ديكارت و طه حسني ‪ ،‬رؤيتان و عاملان‬

‫‪94‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .1‬من املقايسة إىل املماثلة‬

‫تتنـزل قراءة طه حسين للعقل العريب من نزوع تفاضلي بني مجلة من العقول‪ ،‬إذ يأخذ مبدأ‬
‫املفاضلة بني العقل املشرقي والعقل اليوناين‪ ،‬وحياول عقد مجلة من املقارنات بينهما من دافع التحكم‬
‫والغلبة واالمتياز للعقل اليوناين يف كل شيء‪ .‬خاصة عندما يستعيد الرجل قراءة بول فاليري للحياة‬
‫الدينية والسياسية للحضارة الغربية‪ ،‬فيحلل العقل األوريب إىل عناصر ثالثة‪ :‬حضارة اليونان وما فيها‬
‫وحث على اإلحسان‪ ،‬يقول طه حسين يف‬ ‫من سياسة وفقه‪ ،‬واملسيحية وما فيها من دعوة إىل اخلري ّ‬
‫ربطه العقل املشرقي مبصادره اليونانية‪ " :‬لو أردنا أن حنلل العقل اإلسالمي يف مصر والشرق القريب‪،‬‬
‫أفرتاه ينحل إىل شيء آخر‪ ،‬غري هذه العناصر اليت انتهى إليها حتليل بول فالريي؟‪ ...‬خذ نتائج العقل‬
‫اإلسالمي كلها‪ ،‬فرتاها تنحل إىل هذه اآلثار األدبية والفلسفية والفنية‪ ،‬اليت مهما تكن مشخصاهتا‬
‫فهي متصلة حبضارة اليونان‪ ،‬وما فيها من أدب وفلسفة وفن وإىل هذه السياسة والفقه‪ ،‬اللذين مهما‬
‫يكن أمرمها فهما متصالن أشد االتصال مبا كان للرومان من سياسة وفقه‪ ،‬وإىل هذا الدين اإلسالمي‬
‫وحيث عليه من إحسان‪ ،‬ومهما يقل القائلون‪ ،‬فلن يستطيعوا أن‬ ‫الكرمي‪ ،‬وما يدعو إليه من خري ّ‬
‫متمما ومصدقا للتوراة واإلجنيل"‪.1‬‬
‫ينكروا أن اإلسالم قد جاء ّ‬
‫ذلك هو التقريب املقارين الذي هنض به الفكر النقدي عند طه حسين؛ وهو تقريب ينبين‬
‫على مبدأ التفاضل واملقايسة بني نوعني من العقول‪ :‬عقل يوناين خالص وعقل مشرقي يأخذ أبعاده‬
‫املنهجية والفكرية من العقل اليوناين اخلالد‪.‬‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬املؤلفات الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،0022 ،‬ج‪ ،0‬ص‪.58 :‬‬
‫‪95‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يقر طه حسين بأسبقية وأفضلية العقل اليوناين على باقي العقول األخرى‪ ،‬سواء املتزامنة منه‬ ‫ّ‬
‫أو اليت سبقته يف منحى احتفايل مبنجزات اليونان الفلسفية والفكرية يف قوله‪" :‬جيب أن نالحظ أن‬
‫العقل اإلنساين ظهر يف العصر القدمي مبظهرين خمتلفني‪ :‬أحدمها يوناين خالص‪ ،‬وهو الذي انتصر وهو‬
‫الذي سيطر على احلياة اإلنسانية إىل اليوم‪ ،‬واآلخر شرقي اهنزم مرات أمام املظهر اليوناين‪ ،‬وهو اآلن‬
‫يلقي السالح ويسلّم للمظهر اليوناين تسليما‪ ...‬بينما جند العقل اليوناين يسلك يف فهم الطبيعة‬
‫وتفسريها هذا املسلك الفلسفي‪ ،‬الذي نشأت عنه فلسفة سقراط وأفالطون وأرسطو طاليس‪ ،‬مث‬
‫فلسفة ديكارت وكنت وكمت وهيجل وسبنسر‪ .‬جند العقل الشرقي يذهب مذهبا دينيّا قانعا يف فهم‬
‫للكهان يف عصوره األوىل وللديانات السماوية يف عصوره الراقية وامتاز‬ ‫الطبيعة وتفسريها‪ :‬خضع ّ‬
‫باألنبياء كما امتاز العامل اليوناين الغريب بالفالسفة"‪.1‬‬

‫إن مبدأ املفاضلة واملقايسة الذي ارتكز عليه طه حسين يف توجهه النقدي والفكري‪ ،‬هو ما‬
‫النرية املشرقة للغرب‪ ،‬وهو ما أوجد‬
‫أعطى تلك الصورة املظلمة القامتة للشرق يف مقابل تلك الصورة ّ‬
‫فكرا ّنريا مشبعا بالتوجه الفلسفي الفكري‪ ،‬الذي ال يقنع بوصف الظواهر بل باستنطاقها وحماولة‬
‫معرفة كنه األشياء وجواهرها‪ ،‬الكما يقنع العقل الشرقي مبعاينة املظاهر فحسب‪ ،‬لذلك تطور العقل‬
‫األول وشاع وسيطر‪ ،‬وتقهقر الثاين وتراجع‪ .‬يف حني كانت ماهية العقل اليوناين الفلسفة والفكر‪،‬‬
‫كانت الكهانة والعرافة مادة العقل الشرقي – إن جاز أن يسمى عقال‪ ،-‬وانطالقا من آلية املقايسة‬
‫بني العقلني تتجه عنايته النقدية مبعاينة أمهات القضايا اجلوهرية الشائكة اليت عرفتها املراحل احلضارية‬
‫اجنر عنها من‬
‫على مر العصور‪ ،‬ومن أمهها مقايسة مرحلة البداوة اليونانية مبرحلة البداوة العربية وما ّ‬
‫شك يف الكثري من املسلّمات األدبية والنقدية‪ ،‬اليت كانت سائدة‪ ،‬وهي القضية اإلطار اليت شغلته‬
‫فرتة زمنية معينة‪ ،‬وومست اجتاهه النقدي مبيسمها‪ ،‬وهي اليت شكك فيها طه حسين بالكثرة املطلقة‬
‫من الشعر العريب قبل اإلسالم‪ .‬انطالقا من مبدأ املقايسة بني األدب العريب واآلداب العاملية األخرى‬
‫كاليونانية والرومانية وغريها‪ .‬وسريا فيما بعد على هنج الفيلسوف رنيه ديكارت(‪)R. Descartes‬‬
‫يف مفتتح مؤلفه اهلام "قادة الفكر" يضع العميد قارئه أمامه حني يتناول مقومات األمم السالفة‬
‫كاألمة اليونانية‪ ،‬وال جيد حرجا يف توصيف بدايات هذه األمم العقلية والفكرية‪ ،‬بأهنا اعتمدت على‬
‫هذه البداوة اليت صاغت معامل الفكر لديها‪.‬‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬قادة الفكر‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،0080 ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪96‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ويذهب يف مبدأ التفاضل بني األمتني العربية واليونانية‪ ،‬متوخيا مبدأ املقايسة بينهما يقول طه‬
‫حسين‪..." :‬إذا فالشعراء هم قادة الفكر يف هذه األمم‪ .‬تأثروا حبياهتا البدوية‪ ،‬فنشئوا مالئمني هلا‪،‬‬
‫ومتيزت شخصياهتم فأثّروا فيمن حوهلم‪ ،‬مث يف األجيال اليت خلفتهم‪ ،‬وهل كانت توجد احلضارة‬
‫اليونانية اليت أنشأت سقراط وأرسطو طاليس‪ ،‬واليت أنشأت إسكولوس وسوفوكليس‪ ،‬واليت أنشأت‬
‫فيدياس وبرييكليس لو مل توجد البداوة اليونانية‪ ،‬اليت سيطر عليها شعر هومريوس وخلفائه؟ وهل‬
‫كانت توجد احلضارة اإلسالمية اليت ظهر فيها من ظهر من اخللفاء والعلماء وأفذاذ الرجال‪ ،‬لو مل‬
‫توجد البداوة العربية اليت سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة واألعشى وزهري من هؤالء الشعراء الذين‬
‫نبخسهم أقدارهم وال نعرف هلم حقهم"‪.1‬‬

‫إن املالحظ هلذا النص تتشكل لديه قناعة معرفية بأن طه حسين‪ ،‬يفاضل بني األمتني اليونانية‬
‫والعربية من مبدأ املقايسة‪ ،‬اليت يريد العميد تطبيقها على الرتاث العريب انطالقا من نظريه اليوناين‪ .‬غري‬
‫توصل إليها هي حمدودية تأثري الشاعر العريب يف غريه‪ ،‬واحنسار الفاعلية على العرب‬ ‫أن النتيجة اليت ّ‬
‫فقط؛ يف حني تتجاوز تأثريات الشاعر اليوناين أمته إىل غريها من األمم حبكم إنسانية الرسالة‬
‫واإلبداع اليت ينطوي عليها الشعر اليوناين‪ ،‬فكان تأثريه عامليا إنسانيا قدميا وحديثا يقول طه حسين‪:‬‬
‫" بداوة العرب أثّرت يف العرب ويف احلضارة اإلسالمية‪ ،‬ومل تتجاوز احلضارة اإلسالمية إال قليال‪ ،‬وإذا‬
‫فشعراء اجلاهلية العربية عرب ال أكثر وال أقل‪ ،‬أما بداوة اليونان فقد أثّرت يف اليونان وأثّرت يف‬
‫الرومان وأثّرت يف العرب وأثّرت يف اإلنسانية القدمية واملتوسطة وهي تؤثر اآلن يف اإلنسانية احلديثة‬
‫وستؤثر فيها إىل ما شاء اهلل‪ ،‬وإذا فشعراء البداوة اليونانية يونان ولكنهم ملك لإلنسانية كلها"‪.2‬‬

‫فيصور لنا من دافع النزوع املقايسي هيمنة‬


‫تستمر املفاضلة إذا بني العقلني اليوناين والعريب‪ّ ،‬‬
‫العقل الفلسفي اليوناين وتبعية غريه له‪ ،‬وإبراز مدى حمدودية العقل العريب يف املقابل‪ ،‬وهي نظرة أقل‬
‫ما يقال عنها أهنا منبهرة مبنجزات اآلخر الغريب‪ ،‬والرجوع إىل هذا األصل اخلالد الذي يتمثل يف‬
‫الشعر اليوناين والفلسفة اليونانية‪ .‬وليس هناك أدىن شك من أن طه حسين وقف مندهشا منبهرا‬
‫ط من شأن العقل العريب الشرقي‪ ،‬الذي‬
‫أمام عبقرية العقل اليوناين وعامليته‪ ،‬ويف املقابل كما أسلفنا ح ّ‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬قادة الفكر‪ ،‬ص‪.12 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.18 :‬‬
‫‪97‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫امتاز حسبه بالسكون والرتابة وامللل والتكرار‪ ،‬نازعا عنه أي سلطة عقلية ومعرفية رمبا تشفع له تقدمه‬
‫ط النعوت واألوصاف‪ ،‬وكأن لسان حاله يقول أن هذا العقل سليب بامتياز‪،‬‬ ‫يف يوم ما‪ ،‬بل ينعته بأح ّ‬
‫وحنن يف غىن عن االحتفاء به وتبجيله‪ ،‬بل هو مصدر علّتنا وختلفنا وتقهقرنا نظرا ألننا مل نُسهم يف‬
‫إنتاج الوعي الفلسفي وكذا احلضاري الذي أسس له العقل اليوناين‪ ،‬ورمبا هي النظرة نفسها اليت‬
‫حاول تثبيتها والدفاع عنها يف كتاب قادة الفكر‪ ،‬وفلسفة ابن خلدون االجتماعية وغريها من‬
‫املدونات‪ ،‬وفيها يدين طه حسين للثقافة الغربية وللعقل الغريب بأسباب التقدم والرقي يف شىت‬
‫اجملاالت خاصة جمال النقد‪ ،‬ومييل إىل العقالنية األوربية سليلة العقل اليوناين الذي تدفق عرب النهر‬
‫جراء ذلك الفعل‪.‬‬
‫اخلالد‪ ،‬ليزهر العامل كله ّ‬
‫‪ .2‬حضور املؤثر الغربي‬

‫عرف املشروع النقدي عند طه حسين يف مرحلة تش ّكله‪ ،‬مجلة من القراءات املتباينة حينا‬
‫واملتوافقة حينا آخر‪ ،‬واليت أخضعت الرجل ملنطلقاهتا‪ ،‬سواء على مستوى البنية املرجعية لكل قراءة أو‬
‫جل هذه القراءات كانت إسقاطية يف جمملها وحتتكم‬ ‫على مستوى اإلجراء النقدي املمارس‪ .‬غري أن ّ‬
‫إىل مبدأ القيمية واملعيارية‪ ،‬الذي ال تؤمتن عواقبه من الناحية احلكمية‪ ،‬إذ ستحاول كل قراءة أن تقدح‬
‫يف نظريهتا بشىت السبل‪ ،‬حىت وإن خرجت عن جماالت السجال الفكري واملعريف إىل سجاالت دينية‬
‫عقدية تروم الوصول إىل التخطيء وحىت التكفري كما هو حاصل القراءات السلفية الدينية اليت‬
‫تناولت طه حسين‪ .‬يقول عبد اهلل إبراهيم حول تباين هذه القراءات وح ّدة اختالفها‪" :‬إستأثر حكم‬
‫القيمة مبكانة الصدارة املطلقة يف معظم القراءات اليت تناولت طه حسني بوصفه ناقدا ومفكرا‪،‬‬
‫والواقع إن اإلنقسام حوله مبعثه يف األساس‪ ،‬استناد القراءات إىل أحكام قيمية بصدده‪ ،‬أحكام‬
‫تستمد مشروعيتها النقدية من أهنا تلعب على نوع من مسار التلقي اخلاص باألفق الذي يرتتب فيه‬
‫عمل طه حسني‪ ،‬فمرة تكثّف حضوره وصورته ودوره‪ ،‬ومرة تقصيه وتستبعده‪ ،‬ويف كل مرة تسقط‬
‫عليه فائضا من مقاصدها"‪ .1‬األمر الذي أدى إىل تشييء الفكر النقدي عند طه حسين‪ ،‬مبعىن أن‬
‫كل قراءة تؤسس منطلقاهتا ومفاهيمها مما أجنزت حول هذا اهلرم الكبري وهو أمر يصطبغ عادة بنوع‬
‫مهدت له‪.‬‬‫من اإليديولوجيا اليت حتاول أن جتد من يعضدها انطالقا مما ّ‬

‫‪1‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية و املرجعيات املستعارة‪ ،‬ص‪.05 :‬‬


‫‪98‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫واملالحظ حول هذا املشروع احلضاري والنقدي الذي هنض بعبئه طه حسين‪ ،‬أنه استمد من‬
‫كل مقومات النجاح واستطاع أن يستثمر ويفيد من منجزاهتا دون أن يويل ظهره‬ ‫احلضارة الغربية ّ‬
‫ملنجزات احلضارة العربية اإلسالمية‪ .‬األمر الذي جنم عنه تثبيت قدمه يف الرتاث مع االنفتاح على‬
‫اآلخر وحماولة اإلفادة منه‪.‬‬

‫ترتكز قراءة عبد العزيز حمودة ملشروع احلداثيني العرب من زاوية رؤية حمددة‪ ،‬مت مبوجبها‬
‫معاينة هذه املشاريع يف منطلقاهتا ومراميها‪ ،‬ودرس السبل اليت توخاها هؤالء احلداثيون‪ ،‬ومن أهم‬
‫مرتكزاهتم‪ :‬دعوهتم الصرحية إىل ممارسة القطيعة املعرفية مع الرتاث‪ ،‬وهو الشرط األساس يف اعتقادهم‬
‫لقيام حداثة عربية‪ ،‬وينعى حمودة على هؤالء مواقفهم االنفعالية واليت وقفت يف الكثري من األحيان‬
‫منبهرة أمام منجزات العقل الغريب‪ ،‬ويف الوقت ذاته تنصلت من كل التزاماهتا جتاه الرتاث العريب‪،‬‬
‫وبرتت العالقة الرابطة بني ماضيها واملتمثل يف تراثها واتصلت بأحادية القطب‪ ،‬وهو احلضارة الغربية‬
‫بكل منجزاهتا دون متحيص أو تنقية‪ ،‬إمنا أخذت هذه احلضارة برمتها وكأهنا املخلّص مما حنن فيه من‬
‫ختلف وسبات‪ ،‬ويف املقابل يدافع حمودة عن مجلة من التنويريني من زاوية أن معظمهم تلقى بدايات‬
‫تعليمه يف كربيات اجلامعات الفرنسية واإلجنليزية‪ ،‬لكنهم رغم ذلك‪ ،‬وقفوا موقف التبجيل واإلكبار‬
‫هلذا الرتاث‪ ،‬ومل يديروا ظهورهم له‪ ،‬إمنا جعلوه قاعدة صلبة ومرتكزا أساسيا وشرطا ضروريا لبلوغ أي‬
‫تقدم أو حداثة‪.‬‬

‫يكتب عبد العزيز حمودة عنه قائال‪.." :‬مل يسجل طه حسني مثال‪ ،‬مع كل ما أثاره من‬
‫ضجة يف السنوات املبكرة‪ ،‬وعلى الرغم من كل محاسه للثقافة الغربية‪ ،‬احتقارا للعقل العريب ومنجزاته‪،‬‬
‫وقد تركزت الضجة اليت أحدثها طه حسني خاصة حني صدر كتابه الشهري يف الشعر اجلاهلي سنة‬
‫‪ ،0032‬على قراءته اجلديدة للرتاث العريب‪ ،‬وليس على رفضه لذلك الرتاث أو احتقاره له"‪.1‬‬

‫تتشكل قراءتنا للرتاث بشىت أنواعه من دافع اكتشاف الذات من جديد‪ ،‬إذ العالقة بني الذات‬
‫واملوضوع من االلتحام‪ ،‬حبيث يصعب على الباحث الفصل بينهما‪ ،‬بالرغم من أن الرتاث موجود يف‬
‫ويوحد أكرب مما يفصل‬
‫نقطة ما هناك والذات القارئة موجودة يف حاضرها هنا‪ ،‬إال أن ما جيمع ّ‬
‫ويفرق‪ ،‬يقول علي حرب‪...":‬فالرتاث ليس موضوعا قائما بذاته منفصال عنّا متام االنفصال‪ ،‬وال هو‬
‫ّ‬

‫املقعرة‪ ،‬ص‪.23 :‬‬


‫عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا ّ‬
‫‪1‬‬

‫‪99‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ومكون سلفا ومسبقا ينبغي علينا إزاحة النقاب عنه وكشفه‪ ،‬فالكشف عن الرتاث هو‬ ‫معطى جاهز ّ‬
‫إعادة اكتشاف له‪ ،‬وإعادة الكشف إمنا هي إعادة بناء للذات واستنهاض للوعي‪ ،‬فالذات ال تنفك‬
‫عن املوضوع وكل وعي جديد باملوضوع هو داللة على تب ّدل النظرة إىل الذات واملوضوع معا"‪.1‬‬

‫إذا جتاوزنا هذه اجلدلية‪ ،‬الذات‪/‬املوضوع‪ ،‬ووقفنا عند عتبات التماس احلاصل بينهما‪ ،‬ومل‬
‫تسعفنا آلياتنا العتيقة يف املقارنة واالستنطاق‪ ،‬حسن بنا األخذ من اآلخر الغريب‪ ،‬دون التماهي فيه أو‬
‫مكونات اإلنسانية اليت تتالقح فيها األفكار‬
‫مكون من ّ‬ ‫الذوبان يف أنساقه وأعطافه‪ ،‬ذلك أن اآلخر ّ‬
‫وتتقادح فيها العقول كما قال التوحيدي‪ ،‬وقبله اجلاحظ‪ ،‬األدب عقل غريك تضيفه إىل عقلك‪،‬‬
‫فاآلخر بثقافته وتراثه ميثل بالنسبة للذات نقطة التحول والربوز والتجاوز‪ ،‬باعتبار النقالت النوعية اليت‬
‫صاغها الغرب وفق فكره وموروثه يقول علي حرب‪" :‬ذلك أن ثقافات الغري تفتح أمام األنا أبوابا‬
‫جديدة وتوقظ الذات على حقيقتها‪ْ ،‬بيد أن لكل ثقافة هويتها ولكل مغامرة عقلية أسرارها ولكل‬
‫حضارة معجزهتا واملعجزة ال ميكن القبض عليها أو قولبتها يف تفسري وحيد وشامل أو استنفادها عرب‬
‫مقولة واحدة"‪.2‬‬

‫استئناسا هبذا‪ ،‬ال تستطيع الذات االستغناء واالستقالل عن اآلخر‪ ،‬ويف الوقت نفسه ال جيوز‬
‫هلا االنصياع له واالنبطاح أمامه والذوبان فيه والتماهي معه‪ ،‬على اعتبار أن هوية الذات غري هوية‬
‫اآلخر‪ ،‬لكن دون هتويل لألمر‪ ،‬جيب التالقح مع هذا املك ّون الغريب واإلفادة من منجزاته العقلية‬
‫واملنهجية والعلمية‪ ،‬انطالقا مما آمن به طه حسين من قبل يف النقد التارخيي املقارن واكتشافه آليات‬
‫جديدة للمثاقفة مل تتجه العناية إليها من قبل‪" .‬وموضوع الغرب بكل إشكالياته الثقافية والسياسية‬
‫واالقتصادية مل يثر عند أولئك الرواد بالطريقة اليت يثار هبا اآلن‪ ،‬ومل يكن مثّة انفصال إجرائي يضعه‬
‫أولئك بينهم وبني اآلخر الغريب‪ ،‬مي ّكنهم يف األقل من إجراء حوار نقدي معه‪ ،‬إذ أن الفروض األولية‬
‫للتفكري الصحيح كانت مستمدة من الثقافة الغربية نفسها وسؤال النقد مبعناه الشامل مل يكن مثارا‪،‬‬
‫وإمنا كانت الدعوة للتماهي مع الغرب‪ ،‬عند أولئك الرواد‪ -‬ويف طليعتهم لطفي السيد وسالمة موسى‬

‫‪1‬علي حرب‪ :‬مداخالت‪ ،‬مباحث نقدية حول أعمال‪ :‬حممد عابد اجلابري‪ ،‬حسني مروة‪ ،‬هشام جعيط‪ ،‬عبد السالم بنعبد‬
‫العايل‪ ،‬سعيد بنسعيد دار احلداثة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0085 ،0‬ص‪.0 :‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.35 :‬‬
‫‪100‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الرقي‬
‫تعرب ضمنا عن إميان مطلق بأن أسلوب التق ّدم الغريب هو األسلوب الوحيد يف ّ‬
‫وطه حسني‪ّ -‬‬
‫والتطور‪ ،‬وأن جتربة الغرب جيب أن حتتذى باعتبارها جتربة كونية"‪.1‬‬

‫قد يكون هذا الرأي صائبا يف بعض مناحيه‪ ،‬إالّ أن شدة التحامل على ّرواد النقد العريب‬
‫احلديث هو ما يبعث على هتافت هذا الطرح‪ ،‬ذلك أن طه حسين مثال قد دعا إىل األخذ مبنجزات‬
‫الغرب دون التماهي فيه والذوبان يف إجنازاته‪ ،‬ودعوته صرحية يف هذا الشأن‪ ،‬حىت خبصوص تعامله مع‬
‫اإلجراء النقدي احلديث‪ ،‬يعلّق عبد اإلله بلقزيز حول هذه القضية ويعتقد جازما يف طرحه النقدي‬
‫أن طه حسين كان أمشل وأوسع يف اطالعه على الرتاث العريب اإلسالمي من جانب‪ ،‬وكذا استيعابه‬
‫العميق للمدينة األوربية من جانب آخر من جمايليه شبلي الشميل وسالمة موسى‪ ،‬يقول الباحث‪:‬‬
‫"‪...‬بل لعلّه كان أوسع اطالعا منهما عليها وأعمق إدراكا لكنّه قطعا فاقهما مبا ليس يقاس يف‬
‫اإلحاطة بالتاريخ الثقايف اإلسالمي‪ ،‬فكان ذلك سببا يف بنائه رؤية للحداثة أكثر "أصالة" وأقل تقليدا‬
‫ألفكار األوربيني احملدثني"‪ ،2‬ويردف الباحث مربزا املكانة اليت يتمتع هبا طه حسين على ساحة‬
‫الفكر النقدي احلديث ويربؤه من تلك النقائص اليت رماه هبا خصومه‪ ،‬من أنه رجل علماين إحلادي‪،‬‬
‫وأنه جتاوز املألوف يف النّيل من الدين يقول الباحث‪...":‬فهو ما ذهب يف نقد التقليد مثال إىل نقد‬
‫الشميل مدفوعا بنـزعته التطورية (الداروينية) إىل احل ّد‬
‫ط من االعتقاد الديين كما فعل ّ‬ ‫الدين واحل ّ‬
‫األقصى‪ ،‬وال ذهب فيه مذهب سالمة موسى يف عدميته جتاه كل قدمي‪ ،‬وتبشرييته املفرطة باملثال‬
‫النهضوي األوريب‪ ،‬ودعوته إىل حماكاته على حنو رث‪ .‬وإمنا سلك مسلك الشدياق يف األخذ‬
‫باحلسنني‪ :‬مثرات املدنية احلديثة ورحيق املرياث العريب اإلسالمي الوسيط"‪.3‬‬

‫مطب املماثلة مع الغرب يف بعض منجزاته‬


‫رغم هذا إال أننا ال نعفي العميد من الوقوع يف ّ‬
‫أخص بالذكر كتابه الذي شغل الدنيا – يف الشعر‬
‫النقدية‪ ،‬واليت تواترت على حنو نصف قرن‪ ،‬و ّ‬
‫اجلاهلي‪ -‬والذي دعا فيه إىل تبين منهج الشك‪ ،‬والذي يقوم يف أحد بديهياته على عزل النص عن‬
‫كل سياقاته الفلسفية واملعرفية والدينية‪ ،‬تلك السياقات اليت منا منها منهج الشك الديكاريت‪ ،‬إمنا‬

‫‪1‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية واملرجعيات املستعارة‪ ،‬ص‪.02 ،02 :‬‬
‫‪ 2‬عبد اإلله بلقزيز‪ :‬العرب و احلداثة‪ ،‬ص‪.028 :‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.028 :‬‬
‫‪101‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫صاغتها مجلة من األنساق األنطولوجية حملاولة إثبات الذات يف غياب أي شك عن العلة األوىل‪،‬‬
‫الذات اإلهلية‪.‬‬

‫إن املنهج العقالين لطه حسين هو الذي صاغ وش ّكل مساره الفكري والنقدي على السواء‪،‬‬
‫انطالقا من كونيّة العقل‪ ،‬واملعضد لذلك أن الرجل إمنا جعل مدوناته األكادميية والنقدية تنصرف إىل‬
‫املعري‪ ،‬عقالنية ابن خلدون وعقالنية ديكارت‪ ،‬ما‬‫أجل املعضالت الفلسفية إشكاال‪ ،‬فلسفة ّ‬‫معاجلة ّ‬
‫مسح بربوز التيار العقالين النهضوي للعميد يف مواجهة دعاة التغريب ودعاة التكفري‪ ،‬وإميانا منه‬
‫بواحدية العقل اإلنساين‪ ،‬خاصة عند مقايسته بني العقل اليوناين والعقل العريب‪ ،‬يعقد تلك املقارنة‬
‫املنهجية ليدلل هبا على صحة مذهبه‪ ،‬وسداد منهجه‪ ،‬فالعقل عند طه حسين "عقل كوين حمكوم‬
‫مببدأ التشابه اخللدوين الذي يفضي إىل الوحدة العقلية للجنس البشري‪ ،‬وتباينه يعود إىل ما ختتلف‬
‫عليه الفوارق التارخيية‪ ،‬فليس هناك عقل عريب وعقل أوريب‪ ،‬فهما ليسا نسقني متناظرين ال يلتقيان‪،‬‬
‫مر اليونان يف هذه املرحلة يف طور‬
‫فإذا كان العقل العريب يغلفه ضباب الرؤيا الشعرية (امليثية) فإمنا ّ‬
‫بداوهتم‪ ،‬قبل أن ينتقلوا إىل العقل الفلسفي (اللوغوس) وتتبدى األمهية النظرية الستقراء طه حسني‬
‫وتأسيسه لرتسيمة (شعر‪/‬فلسفة) من خالل ما حتققه من وظيفة عقالنية يف إنتاج وعي مطابق‬
‫لتحديات الواقع املعاصر فيما هو عليه‪ ،‬وحاجاته إىل التغيري والتقدم"‪.1‬‬

‫يستمر عبد الرزاق عيد يف دفاعه عن طروحات طه حسين النقدية والفكرية‪ ،‬متوسال جبملة‬
‫من املنطلقات الفكرية‪ ،‬أو إن شئنا التحديد والضبط املصطلحي‪ ،‬ببعض العلل املوصلة لعالهتا‪ ،‬إذ‬
‫يساير طه حسين يف كيفية مقايسته بني العقل اليوناين والعقل العريب‪ ،‬وكيف اشتغل العقل اليوناين‬
‫على الفلسفة‪ ،‬اليت أخرجت الناس من سياقات بدوية ميثولوجية‪ ،‬إىل سياقات عقلية يكون العقل هو‬
‫رأس اهلرم‪ ،‬يقول عبد الرزاق عيد‪" :‬هبذا اجلهاز املفاهيمي يتوجه طه حسني باجتاه اللحظة األوىل‬
‫برد كل‬
‫تكون العقل العريب الشعري "الشعر اجلاهلي" ليخرتقها فيلولوجيا ّ‬
‫اليت يتشكل منها وهبا بداية ّ‬
‫الظواهر إىل أصوهلا‪ ،‬لقد أرسى دعائم وعي تارخيي منهجي جديد من خالل املواجهة مع كلية الشرط‬
‫تطوره العقلي والتارخيي"‪.2‬‬
‫اإلنساين يف ّ‬

‫‪1‬عبد الرزاق عيد‪ :‬طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية‪ ،‬ص‪.021 :‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.002 ،003 :‬‬
‫‪102‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يرد طه حسين ختلّف مصر عن أوربا ‪-‬رغم أهنما يصدران من مصدر واحد وهو الشرق‬
‫القريب ويلحق مصر بالشرق القريب ملتانة الصلة الرابطة بني العقل املصري القدمي والعقل األوريب‪-‬‬

‫جراء احلملة العثمانية وما انطوت عليه من جهل وظالم وفقر أوصلها إىل حالة من‬ ‫إىل ما حلق مبصر ّ‬
‫رد هذه الظروف الثقافية‬
‫التخبط والعمى‪ ،‬وهو رمبا أمر فيه نوع من إعادة النظر‪ ،‬ذلك أنه ال ميكننا ّ‬
‫املزرية إىل اخلارج وحده‪ ،‬ونعلّق عليه أوزارنا وكأنه مشجب العار‪ ،‬وإمنا األجدى أن يتم نقد هذه‬
‫املنظومة الفكرية واملعرفية داخليا‪ ،‬بسرب بنياهتا‪ ،‬واكتشاف غامضها وتفكيك مقوالهتا‪ ،‬ومن مث إعادة‬
‫بنائها ورأب صدعها‪ ،‬حىت نكون منصفني يف أحكامنا وتقييد مرامينا‪.‬‬

‫إن ثقافة أية أمة هي معيار األمسى هلويتها‪ ،‬وهي كذلك مرجعيتها اليت ترتكز عليها وتصدر‬
‫منها‪ ،‬غري أن ثقافة األمة العربية إمنا صنعتها وصاغتها مجلة من املؤثرات واحملطات الكربى‪ ،‬واليت‬
‫ترجع يف أحد مصادرها إىل نبعها األول‪ :‬النص القرآين‪ ،‬الذي أراد طه حسين نزع أسطرته وجتريده‬
‫ضخه الغرب من ثقافة وافدة على هذا املشرق‪" .‬تقوم املماثلة يف‬ ‫من قدسيته واالحتكام من مث إىل ما ّ‬
‫فكر طه حسني على نوع من القراءة لتاريخ الغرب الذي يراه خطّا متصال صاعدا يبدأ من اليونان‬
‫فالرومان فالعصر الوسيط وصوال إىل العصر احلديث‪ ،‬ومبا أن مصر والشرق متصالن بذلك التاريخ‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫فينبغي قراءهتما يف ضوئه أوال ودجمهما فيه ثانيا"‪.‬‬

‫تنطلق قراءة عبد اهلل إبراهيم للمشروع النقدي واحلضاري لطه حسين‪ ،‬من دافع النزوع حنو‬
‫إثبات التهافت الفكري والنقدي واملنهجي عنده‪ ،‬ألن الرجل ال يفتأ يقتطع النصوص واالستشهادات‬
‫من سياقاهتا ليثبت منحاه يف املقارنة‪ ،‬وممارسة القدر الكبري من جوانب الغلط اليت رمى هبا منهج طه‬
‫حسين يف قراءة الرتاث العريب‪ ،‬ومن املؤكد أن هذا النوع من القراءات يُصنّف حتت مسمى‬
‫القدحيات اليت حتاول جاهدة النّـْيل من منجزات من تنتقده‪.‬‬

‫توصل إليها الدكتور عبد اهلل إبراهيم ّ‬


‫تصب يف‬ ‫جل االستنتاجات اليت ّ‬ ‫يرجع ذلك إىل أ ّن ّ‬
‫أكثرها فيما اصطلح عليه مببدأ املقايسة الذي وقع ضحيّته طه حسين‪ُ ،‬م ْغفال يف ذات احلني‪ -‬أي‬
‫عبد اهلل إبراهيم‪ -‬أن هذا النوع من القراءة رمبا ينسحب على الدراسات املقارنة اليت ق ّدمها الرجل يف‬
‫قايس بني أ ّمتني عظيمتني‬
‫بدايات القرن العشرين‪ ،‬ورمبا ال جنانب الصواب إذا ذهبنا أن العميد إمنا َ‬
‫‪1‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية و املرجعيات املستعارة‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪103‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مها اليونانية والعربية‪ ،‬حملاولة إثبات وجود الروابط املعرفية والعقلية بينهما‪ ،‬وهو ما وجدت آثاره‬
‫وأصداؤه يف الرتاث النقدي خاصة عند الجاحظ وقدامة وحازم وغريهم‪ .‬أضف إىل ذلك أن البناء‬
‫النقدي الذي تناوله طه حسين يف تلك الفرتة كان خاضعا جلملة من األنساق الثقافية واالجتماعية‬
‫وحىت السياسية‪ ،‬واليت رمبا مل تكن من النضج املعريف أو اإلبستيمي الكبري الذي تشهده الساحة‬
‫الرواد من النقاد‪.‬‬
‫النقدية اليوم‪ .‬وهذا لكي ال نتحامل كثريا على ما أجنزه ّ‬
‫تستمر محلة التهويل وممارسة ذلك النوع من الغلط‪ ،‬حينما يكتب عبد اهلل إبراهيم قائال‪:‬‬
‫"يكشف مبدأ املقايسة يف خطاب طه حسني عن آلية تشتغل ضمن نظام شبه ثابت‪ ،‬فما أن تطرح‬
‫قضية ما يف األدب والفكر إال ويصار البحث هلا عن نظري يف الفكر الغريب‪ ،‬سواء كان حديثا أو‬
‫قدميا‪ ،‬وجتري مضاهاة ومقارنة بني نوعني ويُصار إىل تثبيت القضية أو نفيها يف ضوء إثبات أو نفي‬
‫‪1‬‬
‫القضية األخرى"‪.‬‬

‫إن مبدأ املقايسة الذي هتافت عليه عبد اهلل إبراهيم وجعل منه املصطلح املفتاح‪ ،‬يف ولوج‬
‫عامل طه حسين الفكري والنقدي‪ ،‬هو الذي مسح للعميد بأن ينجز تلك املقارنات بني الفكر اليوناين‬
‫والفكر العريب‪ ،‬رمبا ليس من جانب احملاكاة واالمتثال‪ ،‬وإمنا من جانب بعث هذا القدمي من جديد‪،‬‬
‫وإعادة قراءته يف ضوء ما يسمح به العصر من قراءة جديدة هادفة واعية‪ ،‬وحتاول يف الوقت نفسه أن‬
‫جتد هلذا الرتاث العريب التليد موضع قدم يف صناعة املعرفة اإلنسانية‪ ،‬على غرار ما صنع العقل اليوناين‬
‫يف القدمي‪ ،‬وال إخاهلا تنحو ذلك املنحى الذي فهمه عبد اهلل إبراهيم‪ ،‬من أهنا مماثلة بل امتثال هلذا‬
‫اآلخر يف كل شيء "إن الفارق عظيم بني احلداثة وبني التقليد الرث للغرب (التغربن)‪ .‬احلداثة إبداع‬
‫واقتحام جي ّذف ببطولة ضد التيار كي يؤسس للنفس مكانا‪ ،‬أما التغربن فريادف التبعية الفكرية‪،‬‬
‫التسول الثقايف والتّعيّش من إبداع اآلخرين‪ ،‬وحتويل املعرفة من إنتاج إىل ترمجة وترداد‬
‫والكسل املعريف و ّ‬
‫ممل ورتيب ملا قاله اآلخرون‪ .‬إنه القفى املوضوعي للسلفية‪ :‬كالمها يؤمن بسلفه الصاحل ويأخذ عنه‬
‫تردد األوراد واألذكار"‪ 2.‬ذلك ماحاول العميد النأي عنه ليضمن‬ ‫ويردد "تعاليمه" كما ّ‬
‫بإفراط‪ّ ،‬‬

‫‪1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.30 :‬‬


‫‪2‬عبد اإلله بلقزيز‪ :‬العرب و احلداثة‪ ،‬ص‪.23، 20:‬‬
‫‪104‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ملشروعه نوعا من التأصيل النظري الذي يرد الفروع إىل أصوهلا‪ ،‬يف حركة دائبة تواصل بني الرتاث‬
‫واحلداثة‪.‬‬

‫‪ .3‬قراءة النص الشعري‪ ،‬الشروط والضوابط‬

‫تنتظم القراءة النقدية للرتاث عند طه حسين يف شكلني متباينني متمايزين‪ ،‬أوهلما قراءته بدافع‬
‫النـزوع حنو مماثلة الرتاث العريب للرتاث اليوناين ومن مث األوريب وثانيهما قراءته للشعر العريب قبل‬
‫اجنر عنه استبعاده وإقصاؤه من دائرة الباحثني امللتزمني بقضايا‬
‫اإلسالم قراءة حديثة‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫األمة‪ ،‬والذائدين عن حرماهتا ومقدساهتا‪ ،‬ذلك النـزوع املعريف الذي د ّشنه العميد‪ ،‬بوقوفه يف وجه‬
‫النظرة السلفية الدوغمائية للرتاث‪ ،‬وحماولته نزع رداء القداسة الذي تتدثر به مثل هذه القراءات‪ ،‬وهو‬
‫إذ ميضي يف مشروعه ال ينجو يف الكثري من األحيان من الوقوع يف مطبات التلفيق والتربير‬
‫الساذجني‪ ،‬ألن اعتماده مبدأ املماثلة واملقايسة إمنا جىن عليه يف عدم التوافق بني مقدماته ونتائجه‪،‬‬
‫أضف إىل ذلك أن اعتماده آلية الشك الديكاريت مل يعدم من هتافت أملته التطبيقات التعسفية ورمبا‬
‫االرجتالية لتلك اآللية‪ ،‬مع ما نالحظ من فروق جوهرية بني تطبيقات املنهج عند ديكارت وتطبيقاته‬
‫عند طه حسين"‪...‬من الواضح أن طه حسني يريد تفكيك هذه الكتلة املتصلّبة من التصورات‬
‫والقناعات واملقوالت‪ ،‬وذلك ال يتم من وجهة نظره‪ ،‬إال من خالل فعلني متزامنني أوهلما‪ :‬الشك‬
‫واالرتياب بكل ما قيل وثبّت حول األدب القدمي‪ ،‬وخباصة اجلاهلي باعتباره‪ ،‬يف تصور القدماء‪،‬‬
‫األصل الذي حت ّدر عنه األدب العريب واللغة العربية‪ ،‬وثانيهما‪ :‬تعليل ماهية األدب بوصفه مرآة‬
‫تنعكس فيها مجلة الظروف الذاتية واملوضوعية ملبدعه وعصره وبيئته وطباعه وكل احملضن الثقايف الذي‬
‫‪1‬‬
‫حيتضن ظهوره"‪.‬‬

‫إن بلوغ طه حسين هذا املبلغ‪ ،‬واضطالعه هبذا العبء احلضاري اهلام‪ ،‬إمنا تأتّى له ذلك من‬
‫متثله للثقافة الوافدة الداعمة لتحكيم فاعلية العقل يف استنطاق الظواهر األدبية والنقدية اليت يكتنـزها‬
‫الرتاث العريب‪ ،‬وذلك بتوظيف هذه اإلجراءات احلديثة لتلك الغاية الكبرية‪ ،‬وهي إجراءات وآليات‬
‫استثمرها بداية من متثّله لطروحات املنهج التارخيي الذي أرسى دعائمه هيبوليت تين وسانت بيف‬
‫ومن بعدمها برونتيير والقائل بضرورة االحتكام إىل ظاهرة احلتم التارخيي أو اجلرب التارخيي‪ ،‬وهي اآلراء‬

‫‪1‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية واملرجعيات املستعارة‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪105‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫النقدية اليت متّ توظيفها يف نقده أليب العالء‪ ،‬مث يف كتابه "فلسفة ابن خلدون" ومها العمالن‬
‫التأسيسيان اللذين ظهر فيهما أثر تطبيق ذلك املنهج‪ ،‬أما خبصوص تبنّيه ملقولة األدب مرآة لعصره‬
‫فتم استثمارها بطريقة نقدية تراتبية أفضت من األسباب إىل النتائج جبملة من األحكام النقدية املتبناة‬
‫ّ‬
‫من قبله‪ .‬غري أن طه حسين "مل حيفل باإلعالن عن أصل الرؤية النقدية القائلة بأن األدب مرآة‬
‫للحياة‪ ،‬كما احتفى باإلعالن املثري عن تبنّيه منهج الشك الديكاريت‪ ،‬مع أن تلك الرؤية النقدية‬
‫‪1‬‬
‫كانت أهم العناصر الفاعلة يف فكر طه حسني النقدي وأقدمها فيه‪".‬‬

‫يرجع توجه طه حسين إىل هذا النوع من الدراسة املرآوية واليت غدت توفيقية‪ ،‬إىل أثر اجلامعة‬
‫املصرية فيه متأثرا بدروس املستشرقني الذين يأيت يف طليعتهم األستاذ نالينو الذي ترك أثرا بارزا يف‬
‫‪3‬‬
‫هذا اجلانب‪ 2‬يقول طه حسني‪ ":‬ألول مرة تعلمنا أن األدب مرآة حلياة العصر الذي نتج فيه‪".‬‬

‫وقضية "املرآة" قضية شائعة يف جمموعة من الكتب النقدية عنده وهي كلمة أثرية عنده‪ ،‬خاصة‬
‫يف مؤلفاته النقدية يف مرحلة البدايات‪ ،‬وقد ذهب جابر عصفور إىل أن طه حسين ّ‬
‫يعرب عن املرآوية‬
‫أو عن عالقة األثر األديب بأصله بكلمات ثالث هي‪ :‬التصوير‪ ،‬التمثيل واالنعكاس‪ ،‬والشك أن هذه‬
‫الكلمات ترجع إىل حقل داليل واحد‪ ،‬وتشري يف معظم سياقاهتا إىل طرفني‪ :‬أحدمها علة واآلخر‬
‫معلول‪ ،‬الطرف األول هو األصل أما الثاين فهو صورة للطرف األول‪ ،‬وال تتحقق هذه األبعاد الداللية‬
‫يردنا إىل مفهوم العمل‬
‫يف تشبيه يتصل باألدب مثلما تتحقق يف تشبيه األدب باملرآة‪ .‬إ ّن هذا التشبيه ّ‬
‫األديب بوصفه صورة ألصل ْقبلي‪ ،‬ذلك ألن املرآة متثل أشياء تقع خارجها‪ ،‬وكما تعكس املرآة‬
‫املوضوعات املواجهة لصفحتها فتمثلها وتعرض صورهتا‪ ،‬كذلك األدب‪ ،‬فهو مرآة لشيء يقع خارج‬
‫‪4‬‬
‫كيانه املطبوع أو املسموع‪.‬‬

‫سبق أن ذكرنا أن قضية األدب مرآة لعصره الذي أنتج فيه‪ ،‬قضية أخذها طه حسين عن‬
‫أستاذه نالينو باجلامعة املصرية وقبل أن يؤلف كتابه "يف الشعر اجلاهلي" بفرتة طويلة وهي إشكالية‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪2‬ينظر جابر عصفور‪ :‬املرايا املتجاورة‪-‬دراسة يف نقد طه حسني‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،0082،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪3‬كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية‪ ،‬مقدمة طه حسني‪ ،‬ص‪.01 :‬‬
‫‪4‬ينظر‪ :‬جابر عصفور‪ :‬املرايا املتجاورة‪ ،‬ص‪.30 ،31 :‬‬
‫‪106‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫عرفها النقد التارخيي على يد تين وبيف‪ ،‬وحقيقة فقد أخذ الرجل مبقوالت هذا املنهج يف قراءة بعض‬
‫كاملعري وكدراسته البن خلدون‪.‬‬
‫األشعار القدمية ّ‬
‫غري أن الذي نالحظه يف فرتة الحقة من حياة طه حسين النقدية أن الرجل جتاوز هذه‬
‫املقوالت‪ ،‬بل ثار عليها ألهنا يف اعتقاده آليات تقتل اإلبداع األديب‪ ،‬وجتنح جنوحا سافرا حنو العلمية‪،‬‬
‫وهو أمر ال ميكن التوفيق فيه وال االطمئنان إىل نتائجه ألن " تاريخ األدب ال يستطيع بوجه من‬
‫الوجوه أن يكون (موضوعيا) صرفا‪ ،‬وإمنا هو متأثر أشد التأثر وأقواه بالذوق‪ ،‬وبالذوق الشخصي قبل‬
‫الذوق العام‪ .‬وأنت تستطيع أن تقرأ هذه اآلثار القيّمة اليت تركها سانت بوف‪ ،‬فسيكون موقفك منها‬
‫موقفك من اآليات الفنية القيّمة‪ ،‬وستجد يف قراءهتا ل ّذة تعدل اللذة اليت جتدها عندما تقرأ آثار‬
‫موسيه أو ال مارتني أو فيين أو غريهم من الذين كتب عنهم سانت بوف‪ ،‬ولن جتد هذه اللذة العلمية‬
‫اليت ال ختلو من جفاء محوضة عندما تقرأ هذه اآلثار‪ ،‬ذلك ألن سانت بوف مل يستطع أن يكون‬
‫عاملا وال أن يستنبط قوانني‪...،‬مل يستطع أن ميحو شخصيته وال أن خيفف من تأثريها‪ .‬فأنت تراه‬
‫فيما يكتب وأنت تسمعه وأنت تتحدث إليه وأنت تستكشف عواطفه وميوله وأهواءه‪ ،‬وتستكشفها‬
‫يف غري مشقة وال عناء‪ ،‬وأنت تعرف أنه كان متأثرا باحلب يف هذا الفصل‪ ،‬وكان متأثرا بالبغض‬
‫واحلسد يف ذلك الفصل‪ .‬أفتظن أنك تستطيع أن تظفر بشخصية نيوتون والمارك ودروين وباستور يف‬
‫آثارهم العلمية اخلالصة مبثل ما تظفر به من شخصية سانت بوف يف آثاره األدبية‪،‬كال ! ألن هؤالء‬
‫‪1‬‬
‫كانوا علماء‪ ،‬وألن هذا كان أديبا‪ ،‬والعلم شيء واألدب شيء آخر"‪.‬‬

‫جراء هذا النص هي من صميم العملية النقدية عند طه‬


‫إن عملية التجاوز املنهجي احلاصل ّ‬
‫حسين فيما سيأيت من أعمال نقدية‪ ،‬فالرجل مل يبق حبيس تلك األطر والشروط العلمية الصارمة‬
‫اليت وضعها سانت بوف وأتباعه نظرا الحتكامهم إىل علمية النقد‪ ،‬بل يريد – أي طه حسني‪ -‬أن‬
‫جيعل من العملية النقدية مزجيا بني صرامة املنهج العلمي وذاتية الناقد‪ ،‬ألن احلقل الذي يشتغل عليه‬
‫من العلوم اإلنسانية واليت حتتكم فيه النفس إىل خاصية الذوق يف استخراج مكنون النص ومجاليته؛‬
‫يقول الدكتور عبد الملك مرتاض حول علمية النقد وفنّيته‪" :‬هو علم حني يسعى إىل تأسيس‬
‫أحكامه‪ ،‬وتعليل مقوالته وتأسيس نظرياته إما على علم اجلمال‪ ،‬وإما على التاريخ‪ ،‬وإما على علم‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،0025 ،00‬ص‪.22 ،22 :‬‬
‫‪107‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫االجتماع وإما على علم النفس وإما على اللسانيات‪...‬وهو فن حني يتطلع إىل أن جيعل من قراءة‬
‫نص من النصوص األدبية حتفة أدبية يستخلص من خالل جتسيدها عناصر اجلمال‪ ،‬ومواطن االبتكار‬
‫‪1‬‬
‫ومظاهر اجل ّدة‪ ،‬وخصوصا ما حيمل القارئ على اإلعجاب‪ ،‬وما يغريه بالتعلق بالنص املقروء"‪.‬‬

‫لقد عدل طه حسين عن نظرته العلمية للنقد حينما استثمر تلك املقوالت يف قراءة أيب العالء‬
‫متر عرب خاصية ذاتية تذوقية‪ ،‬تأخذ من النظرية‬ ‫املعري‪ ،‬لكنه أدرك أن الوصول إىل حقيقة النص ّ‬
‫وتضيف إليها ما أسبغته عليها من ميول نفسية تنشد الوصول إىل مجالية النص وشعريته‪ .‬مث يضيف‬
‫موقفه من منهجي تين وبرونتيير‪ ،‬ويقف املوقف نفسه الذي رآه يف هنج بوف ألنه مهما اقرتب‬
‫األدب من العل م فسيظل عاجزا عن تفسري النبوغ الذي هو جوهر ما يسعى إليه تني‪" ،‬ذلك ألنه‬
‫مهما يُقل يف البيئة والزمان واجلنس‪ ،‬ومهما يقل يف تطور الفنون األدبية‪ ،‬فستظل أمامه عقدة مل حتل‬
‫‪2‬‬
‫بعد ولن يوفق هو حللّها‪ ،‬وهي نفسية املنتج يف األدب والصلة بينها وبني آثارها األدبية"‪.‬‬

‫‪ .4‬طه حسني واملسألة اهلومريية‬

‫يتأسس اخلطاب النقدي التارخيي عند طه حسين من دافع املثاقفة مع اآلخر الغريب قصد‬
‫احملرم واملق ّدس واحملضور‪ ،‬أضف‬
‫طي ّ‬‫كشف خبايا الرتاث العريب اإلسالمي‪ ،‬واليت ظلت أزمنة مديدة ّ‬
‫إىل ذلك حماولته الدفع هبذا الرتاث إىل احتالل مراتب ريادية كما حيتلها الفكر الغريب اليوم‪ .‬ومن‬
‫منطلق إعادة قراءة الرتاث فقد تأثر باملسألة اهلومريية اليت هنض باستجالئها مجلة من النقاد الغربيني‪،‬‬
‫واألمر نفسه هنض به يف حماولته قراءة هذا املوروث الشعري‪ ،‬قراءة جديدة مل تعهدها الساحة األدبية‬
‫لعل أخطرها ما ُرمي به طه حسين من اإلحلاد‬
‫العربية آنذاك‪ ،‬مما ولّد ردود فعل متباينة يف حينها‪ّ ،‬‬
‫صح توصيفه‬
‫والكفر والزندقة والتجريح واالستنكار‪ .‬غري أن الرجل واصل مشروعه البحثي املقارين إن ّ‬
‫هبذه الصفة‪ ،‬ألنه يعي حجم التحديات اليت كان خيضع هلا آنذاك من ضرورة بعث النقد العريب‬
‫والفكر العريب من جديد‪ ،‬وحماولة مسايرة الركب املتقدم‪.‬‬

‫‪1‬عبد امللك مرتاض‪ :‬يف نظرية النقد‪ -‬متابعة ألهم املدارس النقية املعاصرة ورصد لنظرياهتا‪ -‬دار هومة‪ ،‬اجلزائر‪،3113 ،‬ص‪:‬‬
‫‪.02 ،02‬‬
‫‪2‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪108‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يرى جابر عصفور أن طه حسين انطلق يف مشروعه هذا يف اقتفاء أثر (وولف) يف إنكار‬
‫شخصية هوميروس‪ ،‬وأثر األستاذ (جابرييل) يف وصوله إىل أن سقراط شخص خرايف مل يوجد ومل‬
‫يعرفه التاريخ؛ أي أن طه حسين تواصل مع تقاليد البحث التارخيي يف اآلداب بوجه خاص‪ ،‬وحاول‬
‫تطبيقها على الشعر العريب ‪ ،‬فبدأ بالشك يف الصورة التارخيية املأثورة عن العصر العباسي (‪)0033‬‬
‫وأعقبها بالشك يف وجود بعض شعراء الغزل اإلسالمي (‪ ،)0032‬مث تصاعد بالشك فشمل أغلب‬
‫الشعر اجلاهلي (‪ ،)0032‬وظلت دراسات وولف وجابرييل وأمثاهلما – يف اليونانيات‪ -‬أقرب إليه من‬
‫‪Sir‬‬ ‫نتائج الدراسات االستشراقية يف الشعر العريب ابتداء من ألواردت ‪ 0823‬ومرورا بليال (‬
‫‪1‬‬
‫‪ 0008 )Charles Lyall‬وانتهاء بمرجليوث (‪.0035 )Margoliouth‬‬

‫يقول عبد القادر بوزيدة‪ " :‬تأثر طه حسني يف كتابه عن األدب اجلاهلي بالغربيني دون شك‪،‬‬
‫تأثر هبم يف منهج الدراسة من جهة‪ ،‬ويف احلجج اليت كان يسوقها للشك يف الشعر اجلاهلي من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬والدراسة ملثل هذه العالقات التأثرية تدخل يف إطار األدب املقارن‪ ،‬ولكن املناهج اليت درست‬
‫هبا هذه العالقة بني اآلداب عموما وبني األدب العريب واآلداب الغربية خصوصا‪ .‬هي مناهج تقف‬
‫من الظاهرة عند السطح وال تلج أعماقها‪ ،‬تدرس الظاهرة دراسة وصفية حمضة وال حتاول أن حتللها‬
‫وتتبني أسباهبا‪ ،‬وهي هلذا ال تستطيع أن تدرك الوظيفة اليت ميكن أن يلعبها العنصر األجنيب اجمللوب‬
‫يف املساعدة على طرح بعض القضايا اليت ميكن أن حيجم عن طرحها الكاتب أو املف ّكر أو األديب‬
‫أو التيار األجنيب بالذات‪ ،‬وهل هي مسألة مصادفة فقط أم تتعلق بالذوق وامليل اخلاص للمفكر أو‬
‫األديب املتأثر‪ ،‬أم أهنا على العكس من ذلك تأيت استجابة الحتياجات عميقة تستشعرها األمة‬
‫‪2‬‬
‫املستقبلية تبحث عن طرق لبلورهتا والتعبري عنها"‪.‬‬

‫و قد الحظ عبد القادر بوزيدة بأن هناك شبها كبريا بني ما جاء عند بعض النقاد الغربيني‬
‫حول املسألة اهلومريية وبني ما ذهب إليه طه حسني يف شكه يف الشعر العريب القدمي"‪.3‬‬

‫‪1‬ينظر‪:‬جابر عصفور‪ ،‬املرايا املتجاورة‪ ،‬ص‪.352 ،352 :‬‬


‫‪2‬عبد القادر بوزيدة‪ :‬طه حسني و منهج الشك الديكاريت و املسألة اهلومريية‪ ،‬دراسة مقارنة‪ ،‬جملة اللغة و األدب‪ ،‬جامعة‬
‫اجلزائر‪ ،‬ع‪ ،0002 ،15‬ص‪.01 :‬‬
‫‪ 3‬ينظر املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.01 :‬‬
‫‪109‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .1‬طه حسني وإسرتاتيجية القراءة املقارنة‬

‫ترتكز عملية املقارنة األدبية عند طه حسني على مجلة من املعطيات املعرفية‪ ،‬لعل أمهها هو‬
‫سريه على منوال من سبقه إىل هذه العملية‪ ،‬أقصد رفاعة الطهطاوي الذي أجرى هذه املقارنات‬
‫املادية اليت تنأى عن الفن واخلطاب األديب النأي كله‪ ،‬وال تتأكد عملية املقارنة بني الرجلني يف هذا‬
‫املنحى أو ذاك وإمنا تربز يف جمال اإلبداع األديب‪ ،‬وتاريخ األدب والنقد أكثر عند طه حسين‪ ،‬باعتبار‬
‫أن اخلطاب األديب يؤكد عدم وجود داللة جاهزة سلفا كما يقرر تودروف وأن " التعبري اللغوي هو‬
‫العملية اليت تكون فيها كل العناصر وكل املظاهر ذات داللة‪ ،‬وإن تكن على درجات متفاوتة‪ ،‬وال‬
‫وجود للمعىن قبل أن نتلفظه وندركه‪ ،‬وهو يولد يف تلك اللحظة بالذات وال يقتصر على معلومة‬
‫ينقلها املظهر املرجعي للمنطوق"‪.1‬‬

‫انطالقا من هذا حياول البحث أن يتبع نقاط املقارنة عند طه حسين ومدى إسهام الرجل يف‬
‫إرساء دعائم هذه املقارنات سواء بني اإلبداع أو بني النقد أو غريمها‪.‬‬

‫وعملية التتبع إمنا تنبع من حماولة حصر هذه املوضوعات يف مظاهنا األصلية دون أن ختتزهلا‬
‫على مظهر دون آخر‪.‬‬

‫يفتتح طه حسني مؤلفه "مرآة اإلسالم" مبحاولة إثبات أمر التخلف لألمة العربية باملقارنة مع‬
‫األمم األخرى‪ ،‬ليثبت أمر املغايرة واملفارقة يقول‪ ":‬يف أواسط القرن السادس للمسيح كانت األمة‬
‫العربية متخلفة أشد التخلف بالقياس إىل األمم اليت كانت جتاورها‪ 2".‬ودائما وبضغط من خطاب‬
‫التخلف يؤكد طه حسين التبعية الشمالية واجلنوبية لإلمرباطورية الفارسية والبيزنطية قائال "‪..‬وكما أن‬
‫اإلمرباطورية البيزنطية قد محت هؤالء العرب يف الشام‪ ،‬واختذت منهم حرسا للحدود بينها وبني‬
‫وسريت هلم سبل العيش‪ ،‬فكذلك‬ ‫اجلزيرة العربية‪ ،‬وجعلت منهم ملوكا وسادة‪ ،‬وأجزلت هلم العطاء ّ‬

‫ت‪ .‬تودروف‪ :‬األدب والداللة‪ :‬تر‪ :‬حممد ندمي خشفة‪ ،‬مركز اإلمناء احلضاري‪ ،‬حلب‪ ،‬ط‪ ،0002 ،0‬ص‪.02 :‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ 2‬طه حسني‪ :‬مرآة اإلسالم‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،0050 ،‬ص‪.5 :‬‬
‫‪110‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫صنعت اإلمرباطورية الفارسية بالعرب الذين استقروا يف العراق‪ ،‬اختذهتم حرسا للحدود بينها وبني‬
‫‪1‬‬
‫اجلزيرة العربية وجعلت منهم ملوكا وسادة‪ ،‬وملّكت بعضهم األرض وأغدقت عليهم العطاء‪".‬‬

‫ميتلك طه حسين هذه العقلية املقارنة‪ ،‬اليت ال تفتأ تقارن بني األدب العريب واألدب اليوناين‬
‫أو الروماين‪ ،‬ففي حديثه عن ثراء أسرة الشاعر عمر بن أيب ربيعة مثال يقول‪ ":‬وكان هلذه األسرة رقيق‬
‫‪2‬‬
‫كثري يذكرنا مبا نقرأ يف أخبار األغنياء من اليونان والرومان‪".‬‬

‫تنعقد الصلة بني طه حسين واملوضوعات األدبية اليت يقايس هبا غريها من اآلداب‪ ،‬من دافع‬
‫النزوع حنو املماثلة واملطابقة ومن مث املقايسة‪ ،‬ففي تعريفه لكلمة "األدب" الجيد طه حسني مانعا من‬
‫عما هلا من معىن يف‬
‫مقايستها مبا لدى األمم األخرى من تعريفات هلذه الكلمة‪ ،‬ال خترج يف جمملها ّ‬
‫األدب العريب القدمي‪ ،‬يقول " ‪ ...‬مث هل يدل " األدب " عند األمم األجنبية القدمية أو احلديثة على‬
‫شيء غري هذا الذي يدل عليه عندنا ؟ فنحن إذا ذكرنا األدب اليوناين ال نفهم منه إال مأثور الكالم‬
‫اليوناين شعرا ونثرا‪ :‬نفهم من اإللياذة واألوديسة‪ ،‬ونفهم منه شعرا بندار وسافو وسيمونيد‪ ،‬نفهم منه‬
‫قصص الشعراء املمثلني‪ ،‬ونفهم منه تاريخ هريودوت وتوسرييد‪ ،‬نفهم منه نثر أفالطون وإيسوقراط‪،‬‬
‫وخطب برييكليس ودميوستني‪ .‬وقل مثل هذا يف األدب الروماين‪ ،‬وقل مثله يف األدب احلديث‪ ،‬فال‬
‫‪3‬‬
‫يدل األدب الفرنسي إال على مأثور الكالم الفرنسي نظما ونثرا‪".‬‬

‫دائما يف عقده ملثل هذه التوازيات واملقايسات‪ ،‬يعمد طه حسين إىل مقايسة تاريخ األدب‬
‫العريب بغريه من تاريخ األدب الغريب قدميه وحديثه‪ ،‬مع حماولة تبيان هذه املماثلة على الصعيد املعريف‬
‫دون فقه‬‫يقول‪ ":‬وكيف تريد أن تضع تاريخ األدب العريب ومل يدون للغة العربية فقهها على حنو ما ّ‬
‫اللغات احلديثة والقدمية‪ ،‬ومل ينظم للغة العربية حنوها وصرفها‪ ،‬على حنو ما نظم للغات احلديثة‬
‫‪4‬‬
‫والقدمية حنوها وصرفها‪".‬‬

‫املصدر السابق‪ :‬ص‪.0 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪ 2‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.213 :‬‬


‫‪ 3‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.38 :‬‬
‫‪ 4‬نفسه‪ ،‬ص‪.52 :‬‬
‫‪111‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يتشكل الرأي النقدي عند طه حسين‪ ،‬من دافع املقارنة واملوازنة بني األدبني العريب واليوناين‪،‬‬
‫من ضرورة وجود تشابه أو قل تطابق بني بعض القضايا األدبية والفكرية‪ ،‬اليت عرضها األدب اليوناين‬
‫والعريب كقضية االنتحال‪ ،‬وحتت هذا العنوان" ليس النحل مقصورا على العرب"‪ ،‬يدعو العميد مجيع‬
‫الباحثني إىل ضرورة االنتباه إىل مثل هذه املقارنات‪ ،‬لكي يتسىن هلم الفهم السليم واالستفادة من‬
‫مثل هذه األحباث‪ ،‬مبقارنة األمة العربية بغريها من األمم‪ ،‬ويستعمل العميد مصطلحات من قبيل‬
‫"املقارنة " و"التأثري" و"التأثر" مما يثبت احلس النقدي املقارن عنده يف تلك املرحلة املبكرة من نقدنا‬
‫العريب احلديث‪ ،‬يقول‪ ":‬وإذا كان هناك شيء يؤخذ على الذين كتبوا تاريخ العرب‪ ،‬وآداهبم فلم‬
‫يلموا إملاما كافيا بتاريخ هذه األمم القدمية‪ ،‬أومل خيطر هلم أن يقارنوا بني‬
‫يوفقوا للحق فيه‪ ،‬فهو أهنم مل ّ‬
‫األمة العربية واألمم اليت خلت قبلها‪ ،‬وإّمنا نظروا إىل هذه األمة العربية‪ ،‬كأهنا أمة فذة مل تعرف أحدا‬
‫ومل يعرفها أحد‪ ،‬مل تشبه أحدا ومل يشبهها أحد‪ ،‬مل تؤثر يف أحد ومل يؤثر فيها أحد‪ ،‬قبل قيام احلضارة‬
‫‪1‬‬
‫العربية وانبساط سلطاهتا على العامل القدمي‪".‬‬

‫يضيف طه حسين معلقا على املسألة نفسها " لو درسوا تاريخ هذه األمم القدمية وقارنوا بينه‬
‫‪2‬‬
‫ميهد‬
‫لتغري بذلك تاريخ العرب أنفسهم" ‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫وبني تاريخ العرب لتغري رأيهم يف األمة العربية‪ ،‬و ّ‬
‫لعملية املقارنة الوجودية والفكرية بني األمتني اليونانية والرومانية من جهة‪ ،‬واألمة العربية من جهة ثانية‬
‫قدر هلاتني األمتني يف العصور القدمية مثل ما‬ ‫مع رصده لنقاط التشابه واملماثلة بينها‪ ،‬يقول‪" :‬فقد ُ‬
‫قدر لألمة العربية يف العصور الوسطى‪ :‬كلتامها حتضرت بعد بداوة‪ .‬وكلتامها خضعت يف حياهتا‬
‫الداخلية هلذه الصروف السياسية املختلفة‪ .‬وكلتامها انتهت إىل نوع من التكوين السياسي دفعها إىل‬
‫أن تتجاوز موطنها اخلاص وتغري على البالد اجملاورة وتبسط سلطاهتا على األرض‪ .‬وكلتامها مل تبسط‬
‫سلطاهنا على األرض عبثا‪ ،‬وإّمنا نفعت وانتفعت وتركت لإلنسانية تراثا قيّما ال تزال تنتفع به إىل‬
‫األمة العربية‪،‬‬
‫اآلن‪ :‬ترك اليونان فلسفة وأدبا‪ .‬وترك الرومان تشريعا ونظاما‪ .‬وكذلك كان شأن ّ‬
‫حتضرت كما حتضر اليونان والرومان بعد بداوة‪ ،‬وتأثّرت كما تأثر اليونان والرومان بصروف سياسية‬ ‫ّ‬
‫خمتلفة‪ ،‬وانتهى هبا تكوينها السياسي إىل مثل ما انتهى التكوين السياسي لليونان والرومان إليه من‬
‫جتاوز احلدود الطبيعية وبسط السلطات على األرض‪ ،‬وتركت كما ترك اليونان والرومان لإلنسانية تراثا‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.002 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ :‬ص‪.002 :‬‬
‫‪112‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫قيّما خالدا فيه أدب وعلم ودين‪ .‬وليس من العجيب يف شيء أن تكون العوارض اليت عرضت حلياة‬
‫‪1‬‬
‫العرب على اختالف فروعها مشبهة للعوارض اليت عرضت حلياة اليونان والرومان من وجوه كثرية‪".‬‬

‫لقد حرصنا على تثبيت هذا النص ‪ -‬رغم طوله‪ -‬لنحاول مرة أخرى الربهنة على أن املغزى‬
‫من هذه املقارنات‪ ،‬اليت يقوم هبا طه حسين إمنا هو حماولة إثباته أن العقل العريب سواء القدمي أم‬
‫احلديث‪ ،‬إّمنا هو تابع أمني للعقل اليوناين والروماين‪ ،‬ومبقارنته هذه إمنا ينتزع مجلة من األحداث من‬
‫وحتضره‪ ،‬وكذلك من جهة‬ ‫سياقاهتا اليت أتت فيها‪ ،‬وذلك بعقده هذه املقايسة بني بداوة اليونان ّ‬
‫أخرى بداوة العرب وحتضرهم‪ .‬وعمليات التسلط اليت كانت آنذاك‪ ،‬ومتاشيا مع مبدأ املقايسة الذي‬
‫اختاره طه حسين واستنادا إىل الشاعر الفرنسي بول فاليري " فإ ّن العقل األوريب يـَُرُّد إىل عناصر‬
‫ثالثة‪ :‬حضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن‪ ،‬وحضارة الرومان وما فيها من سياسة وفقه‪،‬‬
‫واملسيحية وما فيها من دعوة إىل اخلري وحث على اإلحسان‪ .‬وعلى هذا‪ ،‬فإن احلضارة األوربية‬
‫‪2‬‬
‫احلديثة شديدة الصلة مبصادرها اإلغريقية والرومانية واملسيحية‪".‬‬

‫لكن عملية املقايسة الطاهوية إمنا تقوم يف جوهرها على شيء من التناقض‪ ،‬وقع فيه العميد‬
‫يف العديد من احملطات‪ ،‬خاصة يف معاجلته هلذه املسألة املتعلقة باألمة اليونانية والرومانية وأثرمها يف‬
‫األمة العربية‪ ،‬فهذه املسألة تنطوي على تشيّع واضح للحضارة األوربية احلديثة على حساب احلضارة‬
‫العربية اإلسالمية‪ ،‬خذ مثال قوله اآليت فيما خيص املقارنة بني العقل اليوناين الغريب والعقل العريب‬
‫الشرقي‪ ":‬جيب أن نالحظ أن العقل اإلنساين ظهر يف العصر القدمي مبظهرين خمتلفني‪ :‬أحدمها يوناين‬
‫خالص‪ ،‬وهو الذي انتصر‪ ،‬وهو الذي يسيطر على احلياة اإلنسانية إىل اليوم‪ ،‬واآلخر شرقي اهنزم‬
‫ات أمام املظهر اليوناين‪ ،‬وهو اآلن يلقي السالح ويسلم للمظهر اليوناين تسليما ‪...‬بينما جند‬ ‫مر ٍ‬
‫العقل اليوناين يسلك يف فهم الطبيعة وتفسريها هذا املسلك الفلسفي الذي نشأت عنه فلسفة‬
‫سقراط وأفالطون وأرسطاليس‪ ،‬مث فلسفة ديكارت وكنت وكمت وهيجل وسبسنر‪ ،‬جند العقل الشرقي‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.002 ،002 :‬‬


‫‪ 2‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية واملرجعيات املستعارة‪ ،‬ص‪.08 :‬‬
‫‪113‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫للكهان يف عصوره األوىل‪ ،‬وللديانات‬‫يذهب مذهبا دينيا قانعا يف فهم الطبيعة وتفسريها‪ :‬خضع ّ‬
‫‪1‬‬
‫السماوية يف عصوره الراقية‪ ،‬وامتاز باألنبياء كما امتاز العامل اليوناين الغريب بالفالسفة‪".‬‬

‫ينتصر طه حسين من خالل هذا النص للعقل الغريب‪ ،‬على حساب العقل العريب الشرقي‬
‫الذي يرى فيه مصدر اخلمول والسكون‪ ،‬يف حني ميور العقل الغريب هبذه احلركة احلداثية اليت تصنع‬
‫فعل التفرد‪ ،‬وجتعل منه معينا ال ينضب من التساؤالت‪ ،‬اليت تستبدل الشك باليقني والقلق بالسكون‪،‬‬
‫وإذا كان الغرب مصدر اإلهلام والعلم‪ ،‬فإن الشرق مصدر الكهانة والدين‪.‬‬

‫غري أن طه حسني ال ينفك يعدد هذه احملاسن للعقل الغريب‪ ،‬وهذه املثالب للعقل الشرقي‪،‬‬
‫"إن طه حسني ميتثل متاما لشروط القراءة املتمركزة على ذاهتا‪ ،‬اليت أنتجها فكر حديث يف الغرب‪،‬‬
‫خلع على الثقافات مسات هنائية‪ ،‬وصفات ثابتة‪ ،‬ورّكب للشرق صورة متخيلة مشبعة بالسكون‬
‫واخلمول والتأمل واالعتبار‪ ،‬وللغرب صورة متخيلة متور باحلركة واحليوية والبحث واالستنتاج‪ ،‬واستبعد‬
‫الشروط التارخيية للتجارب الثقافية‪ ،‬وتعامل مع غرب مطلق وشرق مطلق‪ ،‬جاعال التعارض سدًّا منيعا‬
‫بني االثنني‪ ،‬استنادا على القول بالتضاد يف الطبع والفكر والعرق‪ 2"،‬لكنه سرعان ما يقع يف هذا‬
‫التناقض الصريح حينما يقرر أنه" ليس هناك علم شرقي وعلم غريب‪ ،‬وليست هناك فلسفة شرقية‬
‫يعجز الغريب عن فهمها‪ ،‬وال فلسفة غربية يقصر الشرقي عن إساغتها‪ ،‬كل ذلك أثر من آثار‬
‫‪3‬‬
‫اإلسكندر‪ ،‬فهو الذي قارب بني الشرق والغرب‪ ،‬ومزج العقل الشرقي بالعقل الغريب‪".‬‬

‫ينتج عن هذه املقايسة سلسلة من التناقضات اليت تبحث بدورها عن هذه املقدمات‬
‫واألسباب غري املوضوعية‪ ،‬واليت توقع صاحبها يف التناقض‪ ،‬ذلك أن طه حسين إمنا يسقط هذه‬
‫املوازنات النظرية ليحاول إثبات طروحاته النقدية‪ ،‬اليت ق ّدم هلا دوما من منطلق النزعة املقارنة اليت‬
‫يشتغل عليها‪.‬‬

‫ففي أحد أهم القضايا النقدية اليت أثارها العميد وهي قضية الشك يف الشعر اجلاهلي‪،‬‬
‫يقايس طه حسين بني اليونان والعرب من جهة والفرس من جهة أخرى‪ ،‬ليحاول بلورة موقفه النقدي‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬قادة الفكر‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪ 2‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية واملرجعيات املستعارة‪ ،‬ص‪.35 :‬‬
‫‪ 3‬طه حسني‪ :‬قادة الفكر‪ ،‬ص‪.050 :‬‬
‫‪114‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫من خالل هذه القضية‪ ،‬يقول‪ ":‬إ ّن الكثرة املطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليس من اجلاهلية يف‬
‫شيء‪ ،‬وإّمنا هي منتحلة خمتلقة بعد ظهور اإلسالم‪ ،‬فهي إسالمية متثل حياة املسلمني وميوهلم‬
‫وأهواءهم أكثر مما متثل حياة اجلاهليني‪ ،‬وال أكاد أشك يف أن ما بقي من الشعر اجلاهلي الصحيح‬
‫قليل جدًّا ال ميثل شيئا وال يدل على شيء‪ ،‬وال ينبغي االعتماد عليه يف استخراج الصورة األدبية‬
‫الصحيحة‪ ،‬هلذا العصر اجلاهلي ‪ ...‬إ ّن ما تقرؤه على أنّه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو‬
‫عنرتة ليس من هؤالء يف شيء‪ ،‬وإمنا هو انتحال الرواة أو اختالق األعراب أو صنعة النحاة‪ ،‬أو‬
‫القصاص أو اخرتاع املفسرين واحملدثني واملتكلمني ‪...‬إن الشعر الذي ينسب إىل امرئ القيس‬ ‫تكلف ّ‬
‫أو األعشى‪ ،‬أو إىل غريمها من الشعراء اجلاهليني ال ميكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون هلؤالء‬
‫‪1‬‬
‫الشعراء‪ ،‬وال أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن‪".‬‬

‫تأتلف نظرة طه حسين املقارنة من أمشاج ختلّقت من دافع املقايسة بني األدبني اليوناين‬
‫والعريب‪ ،‬ليصل إىل أن حىت االنتحال‪ ،‬وهو قضية قدمية قدم إبداعات اإلنسان‪ ،‬قد طاولت األمة‬
‫اليونانية فلماذا ال يكون األمر كذلك عند األمة العربية‪ ،‬يقول طه حسين مقررا ذلك" لن تكون األمة‬
‫العربية أول أمة انتحل فيها الشعر انتحاال ومحل على قدمائها كذبا وزورا‪ ،‬وإمنا انتحل الشعر يف األمة‬
‫اليونانية والرومانية من قبل ومحل على القدماء من شعرائها‪ ،‬واخندع به الناس وآمنوا له‪ ،‬ونشأت عن‬
‫هذا االخنداع واإلميان سنة أدبية توارثها الناس مطمئنني إليها‪ ،‬حىت كان العصر احلديث وحىت استطاع‬
‫النقاد من أصحاب التاريخ واألدب واللغة والفلسفة‪ ،‬أن يردوا األشياء إىل أصوهلا ما استطاعوا إىل‬
‫‪2‬‬
‫ذلك سبيال‪".‬‬

‫اجنر عن هذه املوازنة واملقايسة أن كانت قضية الشك مطية نقدية امتطاها طه حسني يف‬ ‫لقد ّ‬
‫كتابه "يف الشعر اجلاهلي"‪ ،‬بعد أن أسس هلا يف مؤلفه "حديث األربعاء" األمر الذي نتج عنه الشك‬
‫حىت يف بعض الشعراء العذريني كاجملنون‪ ،‬وعندما يعرض العالقة بني طريف املعادلة‪ ،‬األمة اليونانية‬
‫والرومانية من جهة‪ ،‬والعربية من جهة أخرى‪ ،‬خيلص إىل" إ ّن بني العرب والرومان من جهة وبني‬
‫الفرس واليونان من جهة أخرى‪ ،‬تشاهبا شديدا‪ ،‬انتصر العرب على الفرس انتصارا عسكريا‪،‬وانتصر‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬دار املعارف للطباعة و النشر‪ ،‬سوسة‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‪ ،3112 ،2‬ص‪.00 ،02 :‬‬
‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ :‬ص‪. 52 :‬‬
‫‪115‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفرس على العرب انتصارا أدبيا‪ ،‬وكذلك انتصر الرومان على اليونان انتصارا حربيا‪ ،‬وانتصر اليونان‬
‫على الرومان انتصارا أدبيا‪ ،‬وكان مظهر هذا االنتصار األديب يف روما ويف بغداد واحدا‪ ،‬وهو أن‬
‫اليونان والفرس أخذوا الرومان والعرب بآداهبم وحضارهتم‪ ،‬ومل يكتفوا بذلك بل عبثوا باآلداب‬
‫الالتينية والعربية فأدخلوا فيها وأضافوا إليها ما مل يكن هلا به عهد‪ ،‬وكذلك صنعوا باألنساب‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وكذلك صنعوا بالتاريخ والسري‪".‬‬

‫إن طه حسين وانطالقا من عقده هذه املوازنة بني النصر األديب واهلزمية العسكرية‪ ،‬يريد أن‬
‫يؤسس لرأيه املقارين حول شكه يف إمكانية وجود شعر اجملنون‪ ،‬وحىت اجملنون يف ح ّد ذاته‪ ،‬ويريد أن"‬
‫خيلص من هذه العالقة املتضادة بني النصر العسكري والنصر األديب‪ ،‬إىل أ ّن نتائج اهليمنة األدبية‬
‫كانت أقوى من اهلزمية العسكرية"‪ ،2‬ومل تتوقف عملية املقارنة عنده عند هذا احل ّد فحسب؛ بل‬
‫تع ّداها إىل إمكانية وجود هذه املقارنات واملوازنات بني اآلداب من منطلق عملية التأثري والتأثر‪ ،‬اليت‬
‫هي ركيزة املدرسة الفرنسية يف األدب املقارن‪ ،‬ويتجاوز ذلك إىل آلية اشتغال أخرى‪ ،‬هي عملية توارد‬
‫اخلواطر أو ما يسمى باالتصال الذهين‪ ،‬ففي مؤلفه "من بعيد" يعرض للعديد من هذه التقاطعات‬
‫اليت حدثت بني أعالم النقد وتاريخ األدب‪ ،‬ويف تعليقه على إحدى احملاضرات اليت ألقاها املستشرق‬
‫لويس ماسينون عن أثر التصوف يف تكوين العقيدة الدينية عند املسلمني‪ ،‬يتتبع طه حسين هذه‬
‫القضية ويعرض إىل مصدر التصوف هل هو عريب أم يوناين أم فارسي؟ فيهتدي إىل إمكانية التأثري‬
‫املتبادل اليت حصلت بني خمتلف هذه املصادر‪.‬‬

‫يقول‪" :‬إن ما ميكن أن جند فيه من موافقة ملا عند األمم األخرى‪ ،‬مل يؤخذ عن هذه األمم‬
‫وإمنا هي املصادفة وتوارد اخلواطر ووحدة النظام العقلي يف التفكري مهما ختتلف األمم ومهما ختتلف‬
‫البيئات‪ ،‬فليس حتما إذا ف ّكر العريب كما فكر اليوناين‪ ،‬أن يكون العريب قد أخذ عن اليوناين‪ ،‬ولكن‬
‫‪3‬‬
‫من املعقول جدًّا أن يكون اليوناين والعريب قد ف ّكرا بطريقة واحدة فاهتديا إىل نتيجة واحدة‪".‬‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬حديث األربعاء ‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪. 083 :‬‬


‫أمحد عبد العزيز‪ :‬حنو نظرية جديدة لألدب املقارن– اسرتاتيجيات املقارنة‪ -‬مكتبة األجنلو املصرية‪،‬ط‪،3113،0‬ص‪.22:‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ 3‬طه حسني ‪ :‬من بعيد‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0023 ،2‬ص‪.005 :‬‬
‫‪116‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يقر طه حسين إذا بإمكانية توارد اخلواطر دون أن حيصر عملية املشاهبة يف قضية التأثري‬ ‫ّ‬
‫والتأثر‪ ،‬وهو هنا إمنا يفرق بني إمكانية حدوث الفعل وافرتاض عملية احلدوث‪ ،‬وميايز بني فريقني مها‬
‫الفالسفة واملؤرخون‪ ،‬يقول‪ ":‬أما املؤرخون فرييدون احلقائق الواقعة‪ ،‬واليلجؤون إىل االفرتاض إال‬
‫لتفسري هذه احلقائق تفسريا مؤقتا حىت يتاح هلم استكشاف احلقائق الواقعة اليت تفسر ما لديهم"‪.1‬‬
‫وينحو طه حسين منحى املؤرخ تارة‪ ،‬والفيلسوف تارة أخرى‪ ،‬حني يقوم مبثل هذه التفسريات اليت ترد‬
‫التصوف هي خصيصة عربية بامتياز ‪.‬‬
‫صوف‪ ،‬إما إىل تأثري اليونان يف العرب‪ ،‬أو أ ّن ظاهرة ّ‬
‫التّ ّ‬
‫يتتبع طه حسين طروحات املدرسة الفرنسية يف األدب املقارن‪ ،‬ملتزما مبا متليه الوثيقة‬
‫التارخيية مث عملية املالحظة والتجريب كمرحلة تالية لألوىل‪ ،‬يقول يف ذلك‪ ":‬فإذا رأينا عند العرب‬
‫فكرة صوفية أو غري صوفية توافق ما رأينا عند اليونان أو عند الفرس‪ ،‬كان لنا أن نفرتض توارد‬
‫اخلواطر‪ ،‬وكان لنا أن نفرتض أن العرب قد أخذوا عن اليونان أو عن الفرس‪ ،‬كان لنا أن نفرتض‬
‫‪2‬‬
‫يرجح هذا الفرض أو ذاك‪".‬‬
‫عما ّ‬
‫األمرين مجيعا وأن نبحث ّ‬
‫يصل الناقد من خالل هذه الفروض إىل إثبات عملية التأثري والتأثر سريا على سنن املدرسة‬
‫الفرنسية يف حدوث عمليات التأثري‪ ،‬بعد أن يزيح من حسبانه فرضية توارد اخلواطر‪ ،‬لكن ال يلبث‬
‫أن يرتد ويرجع عن هذه الطروحات اليت ساقها إلثبات املقارنة على أساس التأثري‪ ،‬فيكتفي بإبراز‬
‫قيمة املؤرخ والتاريخ حني يقول‪ ":‬وليس جيب أن جند النص التارخيي الذي ال حيتمل الشك على أن‬
‫العرب قد أخذوا عن اليونان أو عن الفرس لتنفي توارد اخلواطر‪ ،‬فكثريا ما تضيع النصوص دون أن‬
‫الصالت اليت‬
‫يكون ضياعها مصدرا لضياع احلقيقة‪ .‬وليست النصوص كل شيء يف التاريخ فهناك ِّ‬
‫ختتلف قوة وضعفا ومتانة ووهنا بني األمم‪ .‬وهذه الصالت إذا ثبتت ثبوتا تارخييا كافيا أباحت للمؤرخ‬
‫‪3‬‬
‫أن يرجح تأثري األمم بعضها يف بعض‪".‬‬

‫ومما حياول طه حسين الدعوة له ورّمبا إبرازه يف ثوب قشيب‪ ،‬هو تصرحيه بإمكانية تأثري الفقه‬
‫الروماين يف الفقه اإلسالمي‪ ،‬دون أن يلزم نفسه بإثبات هذه التبعية حلساسية املسألة من جهة‪ ،‬ولعدم‬

‫‪ 1‬طه حسني ‪ :‬من بعيد ‪ ،‬ص‪.002 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.002 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.002 :‬‬
‫‪117‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫توفر الوثيقة التارخيية لديه مما يثبت عملية التأثري من جهة أخرى‪ ،‬غري أنه يرى أن العرب قد صبغوا‬
‫كثريا من أحكام الفقه الروماين بالصبغة اإلسالمية‪ ،‬يقول‪ ":‬وإذا فهناك تأثري خفي قد يكون أش ّد‬
‫وأقوى من التأثري الواضح الذي حتدثه األمم بعضها يف بعض‪ ،‬ومن اإلسراف أن نقطع بأن هذا الرأي‬
‫أو هذه النظرية أثر عريب خالص أو أثر يوناين خالص‪ ،‬وإمنا سبيل القصد يف ذلك ‪ -‬إذا مل توجد‬
‫‪1‬‬
‫يبني خطأ هذا الرتجيح‪".‬‬
‫النصوص‪ -‬هو ترجيح تأثري األمم بعضها يف بعض حىت يظهر ما ّ‬
‫تأيت عملية االستنتاج هذه من نزوع طه حسين إىل حماولة الدفع بالثقافات غري العربية إىل‬
‫احتالل حيّز مرموق على الساحة الثقافية العربية‪ .‬وانطالقا من هذا يدعو يف الكثري من مؤلفاته إىل‬
‫ضرورة اإلملام باللغات األجنبية األخرى‪ ،‬ناهيك عن متثل اللغة العربية قصد التمكن من فك طالسم‬
‫خمتلف النصوص‪ ،‬وحماولة اإلمساك بتالبيب الداللة اللغوية‪ ،‬أو الدينية إملاما يؤهل الناقد وعامل اللغة‬
‫ومؤرخ األدب إىل أن حيتل املكانة املنوطة به‪ ،‬وهو أحد شروط املواكبة الصحيحة ملا جيري بني األمم‬
‫األخرى؛ فالرجل داعية إىل ضرورة استثمار خمتلف اللغات يف األزهر‪ ،‬باعتباره اجلامعة اإلسالمية‬
‫الكربى آنذاك‪ ،‬يقول طه حسين يف دعوته هذه" ولو أن يل كلمة مسموعة بني علماء اإلسالم‬
‫القرتحت وأحلحت يف االقرتاح‪ ،‬أن ندرس اللغات األجنبية اإلسالمية يف األزهر الشريف وأن تكون‬
‫هناك فصول تتخصص يف درس الفارسية وأخرى يف درس الرتكية وأخرى يف درس اللغات اإلسالمية‬
‫اليت ليست تركية وال فارسية‪ .‬فمن املؤمل ومن املخزي أن ندرس كتب الدين اليت كتبت بالفارسية أو‬
‫بالرتكية أو بلغة أخرى من لغات اهلند مثال‪ ،‬يف فرنسا وإجنلرتا وأملانيا وأمريكا‪ ،‬وأن جيهلها علماء‬
‫هلموا أيّها‬
‫اإلسالم يف األزهر الشريف‪ .‬واألزهر الشريف بعد هو اجلامعة اإلسالمية الكربى‪ّ ...،‬‬
‫مفصال نافعا فإنكم‬
‫السادة العلماء طالبوا بأن تدرس اللغات اإلسالمية يف جامعتكم اإلسالمية درسا ّ‬
‫إن مل تفعلوا أضعتم على األزهر حقه يف أن يكون اجلامعة اإلسالمية الكربى‪ ،‬وليس ينبغي أن تكون‬
‫‪2‬‬
‫مدرسة اللغات الشرقية يف باريس أنفع من األزهر الشريف‪".‬‬

‫هذه الدعوة اجمللجلة هي اليت ما فتئ طه حسين يكررها‪ ،‬يف كل مناسبة إميانا منه بضرورة‬
‫مدرس األدب والناقد األديب‪ ،‬على الكثري من لغات العامل األخرى‪ ،‬دفعا لعملية‬
‫ووجوب انفتاح ّ‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬من بعيد‪ ،‬ص‪.008 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.031 ،000 :‬‬
‫‪118‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫املثاقفة والتالقح الفكري واملعريف‪ ،‬وكذا مسايرة ركب التقدم العلمي على الصعيد املعريف والنقدي؛‬
‫تصورنا " ألستاذ لألدب العريب مل يلم وال ينتظر أن يلم بلغة أجنبية وال‬
‫فالعميد يتساءل عن كيفية ّ‬
‫بأدب أجنيب‪ ،‬وال مبنهج من مناهج البحث عن حياة اللغة وأطوار األدب"‪ ،1‬وعملية التمثل هذه‬
‫ليست غاية يف ذاهتا يرمي إليها العميد‪ ،‬إمنا لغاية تتجاوز ذلك إىل عملية استثمار هذه املعرفة‪ ،‬يف‬
‫اإلحاطة مبجمل املناهج الغربية احلديثة‪ ،‬قصد جتاوز السائد الكالسيكي يف عمليات النقد‪ ،‬وتتكرر‬
‫الدعوة إىل دراسة اللغات األجنبية وإتقاهنا‪ ،‬مرتبطة بدراسة الصالت بني اآلداب‪ ،‬وتأثري بعضها يف‬
‫البعض اآلخر‪ ،‬فهم يدرسونه "معتمدين يف درسه على إتقان اللغات السامية وآداهبا‪ ،‬وعلى إتقان‬
‫اللغتني اليونانية والالتينية وآداهبما‪ ،‬وعلى إتقان اللغات اإلسالمية وآداهبا‪ ،‬مث على إتقان اللغات‬
‫‪2‬‬
‫األوربية احلديثة وآداهبا‪".‬‬

‫يعج به املستودع األوريب من معارف‪ ،‬إمنا هدفها‬ ‫إن دعوته إىل مواكبة اجلديد‪ ،‬واستثمار ما ّ‬
‫خدمة األدب العريب يف األساس‪ ،‬األمر الذي حدا به إىل تأكيد هذه الضرورة بأساليب خمتلفة‪،‬‬
‫باألمر والتقرير واالستفهام‪ ،‬يقول‪ ":‬فمن زعم لك أن األدب العريب ميكن أن يدرس اآلن دون‬
‫االعتماد على هذا كله فهو ّإما خمدوع أو مشعوذ‪ .‬وكيف السبيل إىل أن يدرس األدب العريب درسا‬
‫صحيحا إذا مل تدرس الصلة املادية واملعنوية بني اللغة العربية واللغات السامية وبني األدب العريب‬
‫واألدب السامي؟ وكيف السبيل إىل درس األدب العريب إذا مل ندرس اللغة اليونانية والالتينية‬
‫وآداهبما وكيف السبيل إىل درس األدب العريب إذا مل ندرس اللغات اإلسالمية املختلفة‪ ،‬والسيما‬
‫ونتبني ما كان هلذه اللغات وآداهبا من تأثري يف أدبنا العريب الذي مل ينشأ يف برج من‬‫الفارسية منها‪ّ ،‬‬
‫العاج‪ ،‬وإمنا تأثر باآلداب املختلفة وأثر فيها؟ ‪ ...‬وكيف السبيل إىل درس األدب العريب إذا مل ندرس‬
‫‪3‬‬
‫ونتبني تأثريها يف أدبنا احلديث؟"‬
‫اللغات األوربية احلية ّ‬
‫مؤداها أ ّن التّجلّي احلقيقي للغة‪ ،‬يكون عرب‬
‫تنعقد الصلة الوثيقة بني األدب واللغة من فرضية ّ‬
‫هذه املدونات اخلالدة اليت نسميها أدبا‪ ،‬وعملية دراسة هذه الصالت بني اآلداب‪ ،‬إّمنا تتم عرب سبل‬
‫متعددة وطرق خمتلفة منها "الصلة بني األدب والشعب‪ ،‬وبني األدب وغريه من مظاهر احلياة العقلية‬

‫‪ 1‬طه حسني ‪ :‬يف األدب اجلاهلي ‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪. 02 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.08،02 :‬‬
‫‪119‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫والشعورية‪ ،‬ويف عناية قوية بتحقيق الصلة بني آداب األمم املختلفة وما ميكن أن يكون لبعضها من‬
‫‪1‬‬
‫تأثري يف بعضها اآلخر‪".‬‬

‫إن غاية ما ترمي إليه هذه الدراسات‪ ،‬هو تقفي الصالت من أجل الدراسات الصحيحة‬
‫لب الدراسات املقارنة‪ ،‬اليت من شأهنا أن تقدم خدمة جليلة لألدب القومي‬
‫لألدب العريب وهو ّ‬
‫يقول‪ ،‬طه حسين‪ ":‬وكيف السبيل إىل أن يدرس األدب العريب درسا صحيحا إذا مل تدرس الصلة‬
‫املادية واملعنوية بني اللغة العربية واللغات السامية وبني اللغة العربية واألدب السامي؟ وهل هناك سبيل‬
‫إىل أن يدرس األدب العريب دون أن نفهم التوراة واإلجنيل؟‪ ...‬وكيف السبيل إىل درس األدب العريب‬
‫نبني مقدار ما كان حلضارة اليونان والرومان من‬
‫إذا مل ندرس اللغة اليونانية والالتينية وآداهبما‪ ،‬ومل ّ‬
‫تأثري يف أدبنا وفلسفتنا وعلمنا‪ ،‬ومل نتبني مكانة أدبنا العريب بالقياس إىل هذه اآلداب اليونانية‬
‫‪2‬‬
‫والالتينية‪".‬‬

‫إهنا دائما الدعوة نفسها اليت دأب العميد على تكرارها‪ ،‬بغية متثل خمتلف اآلداب اإلنسانية‬
‫اخلالدة‪ ،‬األمر الذي من شأنه أن خيلق جسورا من التواصل املعريف اخلالق‪ ،‬ويدفع هبذه اآلداب‬
‫واللغات إىل تبوء مكانة عالية يف مساء اإلبداع والفن‪.‬‬

‫‪ .1‬إشكالية قراءة النص الشعري اجلاهلي‬

‫يرى الكثري من الباحثني يف جمال النقد واألدب أن طه حسين‪ ،‬أخذ وتأثر جبملة من املقاالت‬
‫النقدية اليت كتبها املستشرق اإلجنليزي مرجليوث منها مثال‪ ،‬مقاله "حممد وظهور اإلسالم" الصادر‬
‫سنة ‪ 0015‬ومقال له يف جملة اجلمعية امللكية األسبوعية سنة ‪ ،0002‬مث املقال املشهور سنة ‪0035‬‬
‫بعنوان "أصول الشعر العريب"‪ ،3‬ويف مجلة هذه املقاالت تنبين آراء ومعتقدات مرجليوث حول بعض‬
‫وضح فيه املستشرق نزعة‬
‫القضايا اهلامة يف جمال الفكر واألدب‪ ،‬إال أن املقال املشار إليه أخريا هو ما ّ‬
‫الشك اليت راودته حول صحة هذا الشعر‪ ،‬وحماولته النبش يف األصول األوىل له‪ ،‬يقول ناصر الدين‬
‫األسد ‪ ..." :‬مث استقر املوضوع بني يدي الدكتور طه حسني‪ ،‬فخلق منه شيئا جديدا‪ ،‬مل يعرفه‬

‫‪ 1‬طه حسني ‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪3‬ينظر سيد البحراوي‪ :‬البحث عن املنهج يف النقد العريب احلديث‪ ،‬دار شرقيات‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0002 ،0‬ص‪.20 :‬‬
‫‪120‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫القدماء ومل يقتحم السبيل إليه العرب احملدثون من قبله‪ ،‬مث أنكره بعده كثري من احملدثني إنكارا خصبا‬
‫للرد عليه ونقض كتابه‪ ،‬وقد استقى الدكتور طه حسني أكثر مادته‬ ‫يتمثل يف هذه الكتب اليت ألّفوها ّ‬
‫‪ -‬حيث يستشهد ويتمثل باألخبار والروايات‪ -‬من العرب القدماء‪ ،‬وسلك هبا سبيل مرجليوث يف‬
‫االستنباط واالستنتاج والتوسع يف دالالت الروايات واألخبار‪ ،‬فنحن إذا بإزاء نظرية عامة مل نرها فيما‬
‫عرضنا من آراء العرب القدماء‪ ،‬وحنسب أهنا مل تدر هلم ببال ولكننا رأيناها واضحة املعامل فيما‬
‫نصا صرحيا يف‬ ‫نص عليها ّ‬ ‫عرضنا من آراء مرجليوث‪ ،‬ومل يكتف باإلشارة إليها إشارة عابرة وإمنا ّ‬
‫عبارات متكررة ختتلف ألفاظها وتتفق مراميها‪ ،‬وجاء الدكتور طه حسني فلم يقنع كما قنع مرجليوث‬
‫‪1‬‬
‫فصل لنا القول فيها يف كتاب قائم بذاته‪".‬‬
‫بأن يدلنا عليها يف مقالة أو مقالتني وإمنا ّ‬
‫يقيم صاحب هذا النص مجلة من الفروق‪ ،‬ليمايز فيها بني طروحات مرجليوث‪ ،‬واستثمارات‬
‫طه حسين‪ ،‬فإذا كان األول أمجل هذه األسباب بتلك النتائج وقنع بأن يثري هذه اإلشكالية يف مقالة‬
‫أو مقالتني يقف فيهما عند األصول املعرفية للشعر العريب القدمي‪ ،‬فإن الثاين قد تتبع الظاهرة بعني‬
‫الناقد املتمرس احلصيف‪ ،‬الذي يرد األسباب إىل نتائجها والفرضيات إىل التجريب العلمي‪ ،‬الذي ال‬
‫‪2‬‬
‫يقنع بالتكهن باملظاهر وإمنا يتعمق يف األسباب املوصلة إىل الغايات‪.‬‬

‫‪1‬ناصر الدين األسد‪ :‬مصادر الشعر اجلاهلي و قيمتها التارخيية‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،0028 ،5‬ص‪.281 ،220 :‬‬
‫‪ 2‬تشري العديد من الدراسات إىل أن مرجليوث كانت له مقالة عنواهنا "نشأة الشعر اجلاهلي"‪ ،‬واليت نشرها يف عدد يوليو سنة‬
‫‪ 0035‬من "جملة اجلمعية اآلسيوية امللكية" باإلجنليزية وترمجها عبد الرمحن بدوي يف كتابه "دراسات املستشرقني حول صحة‬
‫الشعر اجلاهلي"‪ ،‬ص‪ .030،82‬فإذا كان من عالقة بني كتاب طه حسني "يف الشعر اجلاهلي" ومقالة مرجليوث فإهنا تتمثل‬
‫أساسا يف صدورمها عن منهج واحد يف دراسة الشعر وتقوميه‪ ،‬أكثر من القول برتديد طه حسني آلراء مرجليوث‪ ،‬ويتلخص هذا‬
‫املنهج يف بساطة واختصار شديدين‪ :‬يف أن الشاعر مثرة البيئة اليت ينشأ فيها بظروفها املختلفة االقتصادية والسياسية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬وأن األدب مثرة األديب الذي أنتجه والبيئة اليت صنعته‪ ..‬وهذا ما كان يردده طه حسني يف مقاالته عن األدب‬
‫العريب يف القسم األول من أحاديث األربعاء قبل كتابه "يف الشعر اجلاهلي"‪ .‬ومما يؤكد هذه العالقة املنهجية بني مرجليوث وطه‬
‫حسني‪ ،‬أن طه حسني اشتغل بالشعر اجلاهلي طوال السنة اجلامعية ‪ 0032 -0035‬قبل أن يؤلف كتابه سنة ‪ ،0032‬أي أنه‬
‫سبق نشر مقالة مرجليوث اليت مل تظهر إال يف يوليو ‪ .0035‬ينظر عبد الرمحان حممد‪ :‬الشعر اجلاهلي‪ -‬قضاياه الفنية‬
‫واملوضوعية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪،0081 ،‬ص‪ .023 ،020:‬نقال عن أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪،‬‬
‫هامش‪ ،22 ،‬ص‪.003 :‬‬
‫‪121‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وغاية طه حسين أن ينتشل العقل العريب احلديث من سطوة التخلف وبراثن اجلهل والتقديس‪،‬‬
‫يقول سيد البحراوي‪....":‬إن الشك يف الشعر اجلاهلي‪ ...‬باإلضافة إىل التشكيك يف قداسة‬
‫املسلمني بعد النيب‪ ،‬فيما خيتص بنحلهم للشعر اجلاهلي‪ ...‬كانت عناصر هامة يف إجناز كان البد‬
‫لطه حسني وجيله من الطبقة الوسطى أن حيققوه‪ ،‬حتطيم القداسة التقليدية على املستويات املختلفة‪،‬‬
‫حىت يستطيعوا أن ينتقلوا إىل جمتمعهم يف مرحلة ثقافية اجتماعية سياسية جديدة هي مرحلة‬
‫الرومانسية يف الفن والليربالية يف الفكر ومن أجل هذا كان البد من إحالل املنهج الوضعي البشري‬
‫‪1‬‬
‫حمل التفسري امليتافيزيقي لألشياء والعامل؛ أي ليقيموا مقدساهتم بدال من املقدسات السابقة"‪.‬‬

‫‪ .1‬زلية الشك الديكارتي والتاريخ األدبي‬

‫يعترب كتاب "يف الشعر اجلاهلي" للدكتور طه حسين من بني أشهر الكتب النقدية يف القرن‬
‫العشرين‪ ،‬مبا أثاره من قضايا متس األصل األول للشعر العريب وهو الشعر اجلاهلي‪ .‬ولفتحه مغاليق‬
‫أي مطلب يقيين‪ ،‬وهو كتاب استفزازي‬ ‫العقل العريب أمام الرتيث والتدبر قبل إصدار األحكام أو ّ‬
‫بكل ما حتمله الكلمة من معىن ألنه يطرح الكثري من املسلّمات واليقينيات جانبا‪ ،‬ويبحث عن‬
‫مقومات الثبات واالستقرار‪ ،‬وينشد يف‬
‫وينحي عن سبيله كل ّ‬
‫مناطق االضطراب والشك ويأنس هبما ّ‬
‫الوقت نفسه كل أسباب التساؤل والكشف عنها‪ .‬غري أن خصومه ‪ -‬وأثناء تعرضهم له ولكتابه‪ -‬مل‬
‫مست بالدرجة األوىل شخصيته قبل أن تتعرض حملتوى الكتاب وما‬ ‫ختل تدخالهتم من مساجالت ّ‬ ‫ُ‬
‫أثاره من قضايا جديرة بالبحث واملساءلة والقدح‪ ،‬ورمبا كان دافعهم األول هو تلك القضايا اليت‬
‫تناوهلا طه حسين بشيء من االبتسار والتلفيق‪ ،‬ومل تتعد الصفحات القليلة من حجم الكتاب‬
‫ومردها األول هو اجلانب الديين‬
‫الكلي‪ ،‬أقول هذه القضايا اليت ألّبت عليه خصومه‪ ،‬إمنا مصدرها ّ‬
‫مرة يف كتابه هذا‪ ،‬وهي مالمسة أغضبت الكثري من الباحثني‬ ‫العقدي‪ ،‬الذي المسه املؤلف غري ّ‬
‫خاصة ذوي التوجه الديين يف الكتابة‪ ،‬األمر الذي دفع إىل بروز تلك املعارك الفكرية واألدبية وحىت‬
‫وجره‬
‫السياسية والدينية‪ ،‬اليت كان من نتائجها مصادرة الكتاب وحرمان صاحبه من شهادته العامليّة‪ّ ،‬‬
‫لعل‬
‫إىل احملاكمات املدنية كما العسكرية‪ ،‬ولعل مرتكزات هؤالء اخلصوم إمنا تأتّت من مجلة نقاط ّ‬
‫أمهها‪:‬‬

‫‪1‬سيد البحراوي‪ :‬البحث عن املنهج‪ ،‬ص‪.23 :‬‬


‫‪122‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ -0‬أن طه حسني ك ّذب القرآن الكرمي يف إخباره عن إبراهيم وإمساعيل عليهما السالم‪.‬‬

‫‪ -3‬أن طه حسني أنكر القراءات السبع اجملمع عليها‪ ،‬فزعم أهنا ليست ُمن ّـزلة من اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪ -2‬أنه طعن يف نسب النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪ -2‬أنه أنكر لإلسالم أولويته يف بالد العرب وأنه دين إبراهيم عليه السالم‪.‬‬

‫بأولية الشعر العريب‬


‫إضافة إىل هذه األسباب‪ ،‬طرق الرجل العديد من املوضوعات ذات الصلة ّ‬
‫القدمي‪ ،‬إىل جانب موضوعات كانت إىل عهد قريب من الطابوهات اليت حيضر على الباحث اخلوض‬
‫يف تفاصيلها‪ ،‬غري أن طه حسين آثر أن ينكئ هذه اجلراح‪ ،‬وينبش يف هذه الطبقات الدوغمائية اليت‬
‫مر العصور‪ ،‬ولعل من أهم هذه القضايا اليت متّ اإلملاح هلا سابقا ضمن‬ ‫ش ّكلت تراكما معرفيا على ّ‬
‫القضايا األربعة قوله‪" :‬للتوراة أن حت ّدثنا عن إبراهيم وإمساعيل‪ ،‬وللقرآن أن حي ّدثنا عنهما أيضا ولكن‬
‫ورود هذين االمسني يف التوراة والقرآن ال يكفي إلثبات وجودمها التارخيي‪ ،‬فضال عن إثبات هذه‬
‫القصة اليت حتدثت هبجرة إمساعيل بن إبراهيم إىل مكة ونشأة العرب املستعربني فيها‪ ،‬وحنن مضطرون‬
‫إىل أن نرى يف هذه القصة نوعا من احليلة يف إثبات الصلة بني اليهود والعرب من جهة‪ ،‬وبني‬
‫‪1‬‬
‫اإلسالم واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى‪".‬‬

‫لسنا يف موضع الدفاع عن مواقف طه حسين الشخصية والعقدية‪ ،‬بقدر ما نتلمس مفاصل‬
‫الطعن اليت باشرها يف جسد الدين اإلسالمي‪ ،‬غري أن مبتغى البحث ليس يف إدانة أو يف تربئة طه‬
‫حسين من هذه التهم ّ‬
‫املوجهة إليه‪ ،‬بقدر ما نروم البحث يف تلك القضايا اليت أثارها هبذه الطريقة‬
‫اجلديدة‪ ،‬واليت أسهمت يف تأليب العامة من الناس‪ ،‬فضال عن الباحثني والعلماء ضد فكره وتوجهه‪،‬‬
‫وحماولة الدفع به إىل مناطق الظل وإبعاده عن ممارسة هذا احلق يف االختالف‪.‬‬

‫أما القضية الثانية اليت رمي هبا طه حسني‪ ،‬فهي متأتية من قوله‪....":‬ونوع آخر من تأثري‬
‫الدين يف انتحال الشعر وإضافته إىل اجلاهليني وهو ما يتصل بتعظيم شأن النيب من ناحية أسرته‬
‫ونسبه من قريش‪ ،‬فألمر ما اقتنع الناس بأن النيب جيب أن يكون من صفوة بين هاشم‪ ،‬وأن يكون بنو‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪123‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫هاشم صفوة بين عبد مناف وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بين قصي‪ ،‬وأن يكون قصي صفوة‬
‫قريش وقريش صفوة بين مضر‪ ،‬ومضر صفوة عدنان‪ ،‬وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة اإلنسانية‬
‫‪1‬‬
‫كلها‪".‬‬

‫إن ما يروم طه حسين إثباته من خالل هذا االستشهاد‪ ،‬هو إبراز مجلة من الدواعي واألسباب‬
‫اليت عملت على انتحال الشعر العريب‪ ،‬ومن مجلة هذه األسباب العامل الديين‪ ،‬خاصة وأن السبب‬
‫الذي سبق العامل الديين كان عامال سياسيا‪ ،‬من أجل إعالء مكانة قريش وصوهتا‪ ،‬ألهنا من بني‬
‫قل شعرها كوهنا مل حتارب كما يذهب إىل ذلك ابن سالم؛ فالقضية قدمية من ناحية‬ ‫القبائل اليت ّ‬
‫إثارهتا‪ ،‬غري أن جديدها هو معاجلتها هبذه الكيفية‪.‬‬

‫أما الفرضية الثالثة أو ثالثة األثايف اليت هوجم طه حسين بسببها من قبل مجلة من األدباء‬
‫واملفكرين ورجال الدين هي قوله‪..":‬و شاعت يف العرب أثناء ظهور اإلسالم وبعده فكرة أن اإلسالم‬
‫جيدد دين إبراهيم‪ ،‬ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب يف عصر من‬
‫العصور مث أعرضت عنه ملاّ أضلها به املضلون وانصرفت إىل عبادة األوثان"‪.2‬‬

‫إن املبتغى من هذه القضية ومن الكتاب ككل‪ ،‬ليس الطعن يف الدين اإلسالمي احلنيف‪،‬‬
‫بقدر ما كان مراده إثارة التساؤل وإشعال جذوة الشك‪ ،‬وعدم االطمئنان ألي مسلّمة من شأهنا أن‬
‫جتمد االجتهاد أو تقتل البحث‪ ،‬إمنا مناط القضية برمتها هي إثارة جدلية عميقة عمق القضايا اليت‬
‫ّ‬
‫عاجلها‪ ،‬وهي منهجية الدراسة وخلخلة النظم الفكرية السائدة واملسيطرة على الساحة الفكرية العربية‬
‫املوجهة إليه من قبل خصومه يف اجلامعة واألزهر على‬ ‫آنذاك‪ ،‬وبالرغم من تربئة ساحته من التّهم ّ‬
‫السواء "مل يكف أعداد طه حسني –وكانت لبعضهم أغراض سياسية متّصلة بالعداء للحزب الذي‬
‫كان ينتمي إليه طه حسني (األحرار الدستوريني)‪ -‬عن اهلجوم عليه من حني آلخر‪ ،‬واهتامه ليس‬
‫فقط بالطعن على اإلسالم وإمنا بالكفر واإلحلاد‪ ،‬وهو األمر الذي نفاه طه حسني يف الصحف ويف‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬ص‪.82 ،82 :‬‬


‫‪2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.05 :‬‬
‫‪124‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أقره عليه قرار النيابة‪ .‬غري أن املؤكد أن طه حسني كان شا ّكا كما أعلن هو نفسه وأن ش ّكه‬
‫النيابة و ّ‬
‫‪1‬‬
‫شاك فيها كعامل‪".‬‬
‫قد يطال بعض النصوص الدينية‪ ،‬ولكنه مؤمن هبا كمسلم ّ‬

‫‪ .1‬النص الشعري اجلاهلي؛ نبش األصول‬

‫يتش ّكل كتاب يف الشعر اجلاهلي من ثالثة أبواب كربى‪ ،‬اختص الباب األول بإبراز منهج‬
‫الكتاب والدوافع اليت أثارت قضية الشك يف صحة الشعر اجلاهلي‪ ،‬واهتم الباب الثاين بتقدمي مجلة‬
‫من األسباب املسؤولة عن انتحال الشعر اجلاهلي‪ ،‬وتعددت هذه األسباب لتكون أسبابا سياسية‬
‫ودينية وشعوبية وقصص الرواة وغريها من األسباب‪ ،‬وهنض الباب الثالث ليتناول عددا من الشعراء‬
‫فشك يف وجود‬
‫موضحا عدم صحة نسبة معظم الشعر إليهم بل ذهب به الشك إىل مداه البعيد؛ ّ‬ ‫ّ‬
‫بعض الشعراء أصال‪ ،‬وهو الكتاب الذي شغل الدنيا يف ذلك الزمن‪ ،‬إذ انتهج فيه طه حسين هنج‬
‫الغربيني يف نوعية الدراسات النقدية اليت أجريت على اآلداب األوربية سريا على سنّة أساتذته‬
‫املستشرقني‪ ،‬ومن جهة أخرى ألنه يعي جيّدا مدى عمق النتائج اليت ميكن الوصول إليها‪.‬‬

‫بعد أن يعرض لألسباب الدافعة والداعية ملثل ذلك اإلبداع يف تلك احلقبة الزمنية يقول طه‬
‫حسين مدافعا عن توجهه النقدي اجلديد‪ ":‬هذا حنو من البحث عن تاريخ الشعر العريب جديد‪ ،‬مل‬
‫يألفه الناس عندنا من قبل‪ ،‬وأكاد أثق أن فريقا منهم سيلقونه ساخطني عليه‪ ،‬وبأن فريقا آخر‬
‫سيزورون عنه ازورارا‪ ،‬ولكين على سخط أولئك وازورار هؤالء‪ ،‬أريد أن أذيع هذا البحث‪ ،‬أو بعبارة‬ ‫ّ‬
‫‪2‬‬
‫أصح أريد أن أقيّده‪ ،‬فقد أذعته قبل اليوم حني حت ّدثت به إىل طاليب يف اجلامعة‪".‬‬
‫ّ‬
‫يدافع طه حسين عن توجهه النقدي منذ بداية الكتاب ‪ ،‬وهو ينتقل مبنهجه هذا بالبحث‬
‫األديب إىل وجهة أخرى مل يعهدها النقد األديب من قبل‪ ،‬فيجعل من مقدماته سببا منطقيا لنتائجه‬
‫يتوخاها‪ .‬والكتاب يف أصله مل يشتغل عليه صاحبه لفئات واسعة من الناس‪ ،‬إمنا جعل لزمرة قليلة‬
‫اليت ّ‬
‫من الناس هم الذين مسّاهم طه حسين باملستنريين‪ ،‬يقول‪...":‬و أنا مطمئن إىل أن هذا البحث وإن‬

‫‪1‬سيّد البحراوي‪ :‬البحث عن املنهج يف النقد العريب احلديث‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪2‬طه حسني‪ :‬يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪125‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أسخط قوما وشق على آخرين‪ ،‬فسريضي هذه الطائفة القليلة من املستنريين الذين هم يف حقيقة‬
‫‪1‬‬
‫األمر ع ّدة املستقبل وقوام النهضة احلديثة وفخر األدب اجلديد‪".‬‬

‫هذه الفئة من املستنريين هي اليت ح ّفزته على القيام مبا قام به‪ ،‬من خلخلة السائد وتقويض‬
‫الفكر الرجعي اإلعتقادي املسلّم‪ ،‬وأبدلته بقلق التساؤل وثورة الشك‪ ،‬ألن الرجل مل يرد أن يكرر ما‬
‫تراكم من قبل يف أجبديات النقد العريب القدمي‪ ،‬من تلك األحكام الناجزة واليت ترتكز يف جمملها على‬
‫تلك املعيارية والقيمية‪ ،‬اليت ال تصيب احلقيقة النقدية يف صميمها‪ ،‬بل تبقى هكذا ختمينات تتدافع‬
‫يف كل مرة إىل جهة ما‪ ،‬رمبا تكون سياسية ورمبا عقدية إىل غري ذلك من السياقات اليت كانت‬
‫تتحكم يف العملية النقدية آنذاك‪ .‬بل أراد أن يدفع بالعملية النقدية برمتها إىل األمام‪ ،‬وذلك‬
‫باالستلهام من الوافد الغريب مع حماولة أرضنته وتبيئته عربيا على مستوى النقد‪ ،‬وذلك باالنطالق من‬
‫متس تلك املدونات الرتاثية واليت ميثل الشعر اجلاهلي أصلها األول‪" ،‬أهناك‬
‫مجلة تساؤالت جوهرية ّ‬
‫شعر جاهلي‪ ،‬فإن كان هناك شعر جاهلي فما السبيل إىل معرفته‪،‬وما هو؟ وما مقداره؟ ومب ميتاز عن‬
‫غريه؟ وميضون يف طائفة من األسئلة حيتاج حلها إىل رويّة وأناة وإىل جهود اجلماعات العلمية ال إىل‬
‫‪2‬‬
‫جهود األفراد‪".‬‬

‫تش ّكل هذه التساؤالت وغريها حجر الزاوية يف نظرة طه حسين إىل الشعر اجلاهلي‪ ،‬وبداية‬
‫مرحلة الشك اليت الزمته طيلة حياته النقدية والفكرية‪ ،‬وانطالقا من هذه التساؤالت اليت كانت‬
‫مفاتيحا لفك طالسم هذا اإلرث احلضاري‪ ،‬وحماولة معرفة كنهه وسرب أغواره‪ ،‬استنتج طه حسين‬
‫احملرية واالستفزازية بالنسبة لزمانه‪ ،‬واليت بقيت آثارها املعرفية بادية شاخصة إىل يوم الناس هذا‬
‫نتائجه ّ‬
‫وهي "‪...‬أن الكثرة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من اجلاهلية يف شيء‪ ،‬وإمنا هي منتحلة خمتلقة بعد‬
‫‪3‬‬
‫ظهور اإلسالم‪ ،‬فهي إسالمية متثّل حياة املسلمني وميوهلم وأهوائهم أكثر مما متثل حياة اجلاهليني‪".‬‬

‫هذه احلياة اليت يبحث عنها طه حسين يف الشعر اجلاهلي فلم جيد ما ميثّلها فيه‪ ،‬بل الذي‬
‫عمل على بلورة حياهتم االجتماعية واالقتصادية واالجتماعية إمنا هو القرآن الكرمي والتاريخ‬

‫‪1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.03 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.02 ،05 :‬‬
‫‪3‬نفسه ‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪126‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫واألساطري‪ ،‬يقول‪" :‬أنا أزعم مع هذا كله أن العصر اجلاهلي القريب من اإلسالم مل يضع‪ ،‬وأنّا‬
‫نستطيع أن نتصوره تصورا واضحا قويا صحيحا‪ ،‬ولكن بشرط أال نعتمد على الشعر‪ ،‬بل على القرآن‬
‫من ناحية والتاريخ واألساطري من ناحية أخرى‪ 1".‬هذه املصادر هي ما يعتقد طه حسني أهنا قمينة‬
‫بإبراز الصورة احلقيقية للعصر اجلاهلي‪ ،‬ويتأتى هذا االعتقاد واالقتناع من مصبّات فكرية غربية عملت‬
‫على ضخ هذه النظرة النقدية لديه‪ ،‬ومتثلت أساسا يف طروحات ديكارت الفلسفية‪ ،‬يقول عنها طه‬
‫حسين‪" :‬أريد أن أصطنع يف األدب هذا املنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن‬
‫حقائق األشياء ّأول هذا العصر احلديث‪ ،‬والناس مجيعا يعلمون أن القاعدة األساسية هلذا املنهج هي‬
‫أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل‪ ،‬وأن يستقبل موضوع حبثه خايل الذهن مما قيل‬
‫‪2‬‬
‫تاما‪".‬‬
‫خلوا ّ‬
‫فيه ّ‬
‫ال جيد العميد حرجا يف التصريح باملنهج العلمي والفلسفي الذي يروم استثماره ملقاربة النص‬
‫الشعري اجلاهلي‪ ،‬فوجد يف منهج الشك الديكاريت مالذا له يف إعادة قراءة هذه النصوص‪ ،‬على‬
‫ضوء ما ج ّد من علم وفلسفة وجتاوز ما كان سائدا من قبل‪ ،‬عسى أن يق ّدم جديدا على ساحة‬
‫يصرح يف بداية درسه لألدب اجلاهلي‪ " ،‬أريد أن أقول إين سأسلك يف هذا‬ ‫الفكر والنقد‪ .‬فالرجل ّ‬
‫النحو من البحث مسلك احملدثني من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة‪.‬‬
‫أريد أن أصطنع يف األدب هذا املنهج الفلسفي الذي استحدثه "ديكارت" للبحث عن حقائق‬
‫األشياء يف أول هذا العصر احلديث‪ ،‬والناس مجيعا يعلمون أن القاعدة األساسية هلذا املنهج هي أن‬
‫يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل‪ ،‬وأن يستقبل موضوع حبثه خايل الذهن مما قيل فيه‬
‫خلوا تاما‪ .‬والناس مجيعا يعلمون أن هذا املنهج الذي سخط عليه أنصار القدمي يف الدين والفلسفة‬
‫يوم ظهر‪ ،‬قد كان من أخصب املناهج وأقومها وأحسنها أثرا‪ ،‬وأنه قد ج ّدد العلم والفلسفة جتديدا‪،‬‬
‫غري مذاهب األدباء يف أدهبم والفنانني يف فنوهنم‪ ،‬وأنه هو الطابع الذي ميتاز به هذا العصر‬
‫وأنه قد ّ‬
‫احلديث‪ .‬فلنصطنع هذا املنهج حني نريد أن نتناول أدبنا العريب القدمي وتارخيه بالبحث واالستقصاء‪،‬‬
‫ولنستقبل هذا األدب وتارخيه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل‪ ،‬وخلصنا من كل هذه‬

‫‪1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.08 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫‪127‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫احلرة‪،‬‬
‫األغالل الكثرية الثقيلة اليت تأخذ أيدينا وأرجلنا ورءوسنا فتحول بيننا وبني احلركة اجلسمية ّ‬
‫‪1‬‬
‫احلرة أيضا‪".‬‬
‫وحتول بيننا وبني احلركة العقلية ّ‬
‫لقد اعتمد طه حسين يف قراءته للشعر اجلاهلي مجلة من املقاييس واألسس لعل أمهها‪ :‬وصف‬
‫وضعية األدب ودراسته يف مصر‪ ،‬واملناهج اليت عرفتها الساحة الثقافية فيها‪ ،‬مث ضرورة إصالح الوضع‬
‫األديب يف مصر‪ ،‬وعرض مقاييس تاريخ األدب وتبين املقياس العلمي والفين‪ ،‬وأخريا يشرتط ذلك‬
‫اجلانب من احلرية لدراسة األدب شأنه يف ذلك شأن باقي العلوم اليت تدرس لذاهتا يقول‪" :‬األدب يف‬
‫حاجة إىل هذه احلرية‪ .‬هو يف حاجة إىل أال يعترب علما دينيا وال وسيلة دينية‪ .‬وهو يف حاجة إىل أن‬
‫يتحرر من هذا التقديس‪ .‬هو يف حاجة إىل أن يكون كغريه من العلوم قادرا على أن خيضع للبحث‬
‫والنقد والتحليل والشك والرفض واإلنكار‪ ،‬ألن هذه األشياء كلها هي األشياء اخلصبة حقا‪ .‬واللغة‬
‫العربية يف حاجة إىل أن تتحلل من التقديس‪ ،‬هي يف حاجة إىل أن ختضع لعمل الباحثني كما ختضع‬
‫املادة لتجارب العلماء‪ ....‬فلتكن قاعدتنا إذا أن األدب ليس علما من علوم الوسائل يدرس لفهم‬
‫الفين‬
‫تذوق اجلمال ّ‬‫القرآن واحلديث فقط‪ ،‬وإمنا هو علم يدرس لنفسه ويقصد به قبل كل شيء إىل ّ‬
‫‪2‬‬
‫فيما يؤثر من الكالم‪".‬‬

‫يُفرد عاطف أحمد الدراسبة مبحثا خاصا لقراءة طه حسين للشعر اجلاهلي‪ ،‬حتت عنوان‬
‫يتلمس مفاصل التقاطع بني قراءة هذا األخري ونظرية‬ ‫"مشكالت التأويل التارخيي" وحياول أن ّ‬
‫التأويل‪ ،‬ذلك أن الباحث عزا فكرة املنهج يف النقد الغريب إىل أهنا كانت "استجابة للتطور املتسارع‬
‫واملتنامي يف نظرية املعرفة‪ ،‬ولعل أول قراءة نقدية مغايرة للشعر اجلاهلي استشرفت آفاق املنهج هي‬
‫‪3‬‬
‫قراءة الدكتور طه حسني يف كتابه املعروف "يف الشعر اجلاهلي‪".‬‬

‫مث يواصل عملية التحليل والبسط النظرية لعملية النقد اليت مارسها على مدونة الشعر اجلاهلي‪،‬‬
‫بأهنا حماولة جريئة امتازت عن احملاوالت األخرى يف القراءة‪ ،‬اليت خرجت من عملية النقد املوضوعايت‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.28 ،22 :‬‬


‫املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.50 ،58 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪3‬عاطف أمحد‪ :‬الدراسبة‪ :‬قراءة النص الشعري اجلاهلي يف ضوء نظرية التأويل‪ ،‬عامل الكتب احلديث‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪،3112 ،0‬‬
‫ص‪.02 :‬‬
‫‪128‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أو التأثري إىل شكها يف فاعلية مثل هذه القراءات‪ ،‬مث يأيت الباحث باألطر العامة اليت رمست معامل‬
‫القراءة الطاهوية من أهنا تنـزع إىل العلمية وفق ما وفرته نظرية املعرفة‪ ،‬والتطور املتسارع للمناهج النقدية‬
‫وجدواها يف القراءة واالستنطاق‪ ،‬إذ من شروط القراءة احملايدة أن تعزل النص عن سياقاته وأنساقه‬
‫مطب‬
‫اليت أنتج فيها‪ ،‬ومن أوليات هذا العزل أن يتجرد الباحث من دينه وقوميته خمافة الوقوع يف ّ‬
‫احملاباة والتقديس "جيب حني نستقبل البحث عن األدب وتارخيه أن ننسى قوميتنا ونستغل عقولنا مبا‬
‫‪1‬‬
‫يالئم هذه القومية وهذا الدين‪".‬‬

‫ال ميكن أن يكون طه حسين وال حىت ديكارت صادقني يف دعوهتما إىل ّ‬
‫جترد ال ّذات القارئة‬
‫من كل مرجعياهتا ومسبقاهتا ‪ :‬الدين‪ ،‬القومية ‪...،‬إخل‪ ،‬إال على سبيل اجملاز الذي رمبا غايته االرتفاع‬
‫بالعقل إىل درجة مطلقيته‪ ،‬ألن طه حسين نفسه حني يباشر قراءة هذا الزخم املعريف الضخم يقاربه‬
‫ويف نفسه كل تراكمات هذا الرتاث‪ ،‬ويقاربه ويف ذهنه كل أولئك املتنورين من علماء الغرب الذين‬
‫المسوا تلك القضايا اليت يعيد مالمستها هو‪ .‬يعلّق الباحث الدراسبة على مقولة طه حسين اآلنفة‬
‫بقوله‪":‬إن طه حسني يف مقولته تلك‪ ،‬ال يدعو إىل التخلي عن القومية والدين وإمنا حياول أن يق ّدم‬
‫معايري للقراءة والفهم مبعزل عن اإليديولوجيا‪ ،‬أي أن عمليات قراءة الرتاث وفهمه ينبغي أال ختضع‬
‫تكون الرتاث‬
‫لشرط سلطوية مفروضة عليه من اخلارج‪ ،‬فالوعي بالرتاث جيب أن يتشكل وفق شروط ّ‬
‫نفسه‪ ،‬ووفق معطيات املنهج"‪ .2‬حياول الدراسبة أن يقايس بني عملية النقد اليت ميارسها طه حسين‪،‬‬
‫وتلك اليت تنـزع منـزعا حداثيا‪ ،‬وبني منجزات الفلسفة الظواهرية اهلوسرلية‪" .‬ولذلك ليس غريبا هنا‬
‫أن نتلمس ملمحا من مالمح الظاهرية يف التفكري النقدي لدى طه حسني‪ ،‬إذ جنده يضع معايري‬
‫القومية والدين بني قوسني‪ ،‬أي أنه يعلّق العوامل اخلارجية ويسعى إىل قراءة الرتاث مبعزل عنها‪ ،‬غري‬
‫يتطور حنو قراءة الشعر اجلاهلي بظاهرية هوسرل‪ ،‬أو بشروط‬
‫أن هذا اخلطاب النقدي املتقدم رؤية مل ّ‬
‫‪3‬‬
‫املنهج الديكاريت كما زعم وإمنا أخذ ينحو منحى تارخييا وفق منهج جوستاف النسون‪".‬‬

‫جتعل املمارسة النقدية عند طه حسين من منجزات املنهج التارخيي مرتكزا هلا‪ ،‬ذلك أنه بالغ‬
‫تعسفيا يف قراءة الرتاث الشعري اجلاهلي من منظور احلتمية التارخيية‪ ،‬وحماولته إرجاع صورة احلياة‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬ص‪.33 :‬‬


‫‪2‬عاطف أمحد الدراسبة‪ :‬قراءة النص الشعري اجلاهلي‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.08 ،02 :‬‬
‫‪129‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫العقلية والدينية والسياسية واالجتماعية إىل مصدر واحد هو القرآن الكرمي‪ ،‬ألن هذا الشعر ال يعكس‬
‫كل هذه الصور‪" .‬إن ما يذهب إليه طه حسني ينطوي على مشكلتني يف التأويل‪ :‬إحدامها تتعلق‬
‫مبفهوم النص اجلاهلي‪ ،‬واألخرى تتعلق مبوثوقية النص اجلاهلي‪ ،‬فأما فيما يتعلق مبفهوم النص‪ ،‬فإن‬
‫النص اجلاهلي عنده ال يُظهر وعيا جاهليا حقيقيا؛ أي أن الوجود الواقعي ال يتحقق يف بنية النص‬
‫‪1‬‬
‫الشعري"‪.‬‬

‫إن النظرة اليت انطلق منها طه حسين يف مساءلته للنص الشعري اجلاهلي تتأسس على مجلة‬
‫من الدواعي هي املسؤولة عن ذلك التوجه النقدي منها‪ ،‬أن النص الشعري اجلاهلي ال يعكس احلياة‬
‫الدينية اجلاهلية‪ ،‬وال يعكس كذلك احلياة االقتصادية اجلاهلية ويرينا األخالق على غري ما هي عليه‬
‫يف القرآن الكرمي‪ ،‬وال يتحدث هذا الشعر عن البحر الذي كان حييط باجلزيرة العربية‪ .‬وانطالقا من‬
‫ذلك تشكلت تلك النظرة النقدية املريبة له حول هذا الرتاث فكانت نتائجه يف شق منها متداعية‬
‫مضطربة‪ ،‬ألنه حقق استقامة منهجه الذي اتبعه على حساب النص الشعري‪ ،‬الذي ال يستجيب كل‬
‫‪2‬‬
‫ما ذهب إليه يف نقده‪.‬‬

‫إن املنهج الذي اصطنعه طه حسين ‪-‬عندما ّ‬


‫تعرض ملا قاله القدماء حول هذا الشعر‪ -‬ال يقف‬
‫منه موقف التقديس بل هو موقف املتسائل املتشكك يف تلك اجلهود النقدية القدمية‪ ،‬إذ يضعها طه‬
‫حسين يف خانة واحدة‪ ،‬هي خانة الشك والتجاوز " حنن بني اثنتني‪ :‬إما أن نقبل يف األدب وتارخيه‬
‫ما قال األدباء‪ ،‬ال نتناول ذلك من النقد إال هبذا املقدار اليسري الذي ال خيلو منه كل حبث‪ ،‬والذي‬
‫ووفّق أبو عبيدة أو مل يُوفّق‪ ،‬واهتدى الكسائي أو‬ ‫يتيح لنا أن نقول‪ :‬أخطأ األصمعي أو أصاب‪ُ ،‬‬
‫ضل الطريق‪ ،‬وإما أن نضع علم املتقدمني كلّه موضع البحث‪ ،‬لقد أنسيت‪ ،‬فلست أريد أن أقول‬ ‫ّ‬
‫البحث‪ ،‬وإمنا أريد أن أقول الشك‪ ،‬أن أالّ نقبل شيئا مما قاله القدماء يف األدب وتارخيه إال بعد حبث‬
‫وتثبّت‪ ...‬والفرق بني هذين املذهبني يف البحث عظيم‪ ،‬فهو الفرق بني اإلميان الذي يبعث على‬
‫االطمئنان والرضا‪ ،‬والشك الذي يبعث على القلق واالضطراب وينتهي يف كثري من األحيان إىل‬
‫اإلنكار واجلحود‪ ،‬املذهب األول يدع كل شيء حيث تركه القدماء ال يناله بتغيري وال تبديل‪ ،‬وال‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.08 :‬‬


‫‪2‬ينظر‪ :‬يوسف اليوسف‪ :‬مقاالت يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬دار احلقائق للطباعة و النشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0081 ،3‬ص‪.82 :‬‬
‫‪130‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مسا رفيقا‪ ،‬أما املذهب الثاين فيقلب العلم القدمي رأسا على عقب‬ ‫ميسسه يف مجلته وتفصيله إال ًّ‬
‫يصح أكثره أن ميحو منه شيئا كثريا‪ 1".‬وهو مدرك متاما ما ينجم عن اتباع هذا املنهج‬‫وأخشى إن مل ّ‬
‫مر العصور‪ -‬بني أمرين "إما أن جيحدوا‬‫خمري ‪ -‬مثله مثل العلماء على ّ‬ ‫من أذى ونصب‪ ،‬لذا فهو غري ّ‬
‫أنفسهم وجيحدوا العلم وحقوقه فريحيوا ويسرتحيوا‪ ،‬وإما أن يعرفوا ألنفسهم ح ّقها ويؤدوا للعلم واجبه‪،‬‬
‫فيتعرضوا ملا ينبغي أن يتعرض له العلماء من األذى‪ ،‬وحيتملوا ما ينبغي أن حيتمله العلماء من سخط‬
‫‪2‬‬
‫الساخطني‪".‬‬

‫يتتبع الباحث عاطف الدراسبة مجلة من القراءات احلديثة للنص الشعري اجلاهلي على غرار‬
‫قراءة طه حسين فيذكر منها دراسة ناصر الدين األسد‪ ،‬أحمد الحوفي‪ ،‬يحي الجبوري وعفيف‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬كما عرض للدراسات اليت حنت منحى أسطوريا يف دراسة الشعر اجلاهلي‪ ،‬كدراسة‬
‫نصرت عبد الرحمن‪ ،‬مصطفى عبد الشافي الشوري وغريها‪ ،‬ووازن بينها ليخلص إىل نتيجة‬
‫مفادها أن هذه الدراسات قد أثبتت موثوقية النص الشعري اجلاهلي‪ ،‬وتارخييته وأنه عكس احلياة‬
‫العقلية والدينية والسياسية للمجتمع اجلاهلي‪ ،‬وأن كال القراءتني تفرضان على النص منطا تقليديا من‬
‫أمناط التأويل هو التأويل املوضوعي للنص اجلاهلي‪ 3.‬وينتقد الباحث مجلة هذه الدراسات والقراءات‬
‫مجيعها ويثبت أمرا مجاليا‪ ،‬أو قل نتيجة منطقية مفادها "إن مثل هذه القراءات جتعل النص اجلاهلي‬
‫بنية تارخيية جتسد احلقيقة كاملة‪ ،‬وهذا األمر جيعل من النص أثرا تارخييا ينتمي إىل املاضي وحسب‪،‬‬
‫وبذلك تتحدد عمليات الفهم وتنحصر يف بعد واحد ال ينفصل بني وجودين‪ :‬وجود واقعي ووجود‬
‫فين‪ ،‬فاحلياة الدينية والعقلية واالجتماعية هي وجود واقعي‪ ،‬يف حني أن النص الشعري املتجسد بنية‬
‫لغوية هو وجود فين وليس من املنطق أن يتجسد الوجود الواقعي بالوجود الفين جتسيدا حقيقيا‪ .‬ذلك‬
‫أن الوجود الفين هو إعادة بناء وصياغة وخلق‪ ،‬أو هو رؤية بنيوية أخرى للوجود الواقعي ال تقدمه‬
‫كما هو‪ ،‬وإمنا يتمظهر وفق قوانني اللغة‪ ،‬ووعي املؤلف وإدراك املتلقي‪ ،‬ولذلك فإن عمليات الفهم‬
‫‪4‬‬
‫تكونه"‪.‬‬
‫وآليات التلقي توجهها بىن النص ال قوانني الوجود الواقعي وشروط ّ‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.23 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.25،22 :‬‬
‫‪3‬ينظر‪ :‬عاطف أمحد الدراسبة‪ :‬قراءة النص الشعري اجلاهلي‪ ،‬ص‪.010 :‬‬
‫‪4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.013 ،010 :‬‬
‫‪131‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫جتدر اإلشارة هنا إىل ما سنّه الفيلسوف التأويلي جورج غادامير يف احلقيقة واملنهج‪ ،‬على‬
‫اعتبار أن املنهج هو اآللية أو الوسيلة اليت هتدف أو تدل على بلوغ احلقيقة يقول الباحث سعيد‬
‫توفيق‪...":‬فاملنهج لدى غادامري ليس هو الوسيلة الوحيدة لالقرتاب من احلقيقة‪ ،‬كما أن احلقيقة‬
‫بدورها ليست مطلقة يقينية مكفولة الضمان من خالل أدوات املنهج‪ ،‬كما لو كانت احلقيقة كنزا‬
‫يكون العثور عليه مضمونا من خالل خطّة مرسومة على حنو ما وقع يف ظن ديكارت صاحب املقال‬
‫يف املنهج حينما كان يصوغ قواعده هلداية العقل والبحث عن احلقيقة يف العلوم"‪ ، 1‬وفكرة املنهج‬
‫الغادمرية هلا أصوهلا الفلسفية القدمية؛ إذ ترجع إىل العلوم الطبيعية التجريبية واستثمارها ملقولة املنهج‬
‫هبدف الوصول إىل احلقيقة العلمية‪ "،‬وغادامري يعين باملنهج هنا منهج العلم احلديث‪ ،‬الذي يتوخى‬
‫املوضوعية ويستبعد الذات التارخيية هبدف االستحواذ على املوضوع من خالل جمموعة من األدوات‬
‫والقواعد اليت حتاول الذات من خالهلا أن تفهم املوضوع أو الظاهرة كحالة ممثلة لقاعدة عامة‪ ،‬ولكن‬
‫الذات أو الوعي هنا ال يريد أن يفهم العامل‪ ،‬وإمنا يريد تغيريه أو إعادة خلقه يف صورة متخيلة‪،‬‬
‫فالفهم احلقيقي يبدأ من واقعة وجودنا يف العامل على حنو ال تنفصل فيه الذات عن املوضوع أو الوعي‬
‫عن عامله الذي حييا فيه‪ ،‬من خالل خربة أولية سابقة على كل تفكري منهجي‪ ،‬وعلى هذا فإن املنهج‬
‫خيلق حالة انفصال أو ثنائية بني الذات واملوضوع‪ ،‬وجيعل الذات مستبعدة عن عاملها أو تنظر إليه من‬
‫‪2‬‬
‫اخلارج من خالل جمموعة من القواعد واألدوات املنهجية اليت تريد أن تفرضها عليه‪".‬‬

‫يلح عليها وينظّر هلا‪ ،‬هي الفكرة‬


‫إن فكرة انفصال الذات عن املوضوع واليت مافتئ غادامري ّ‬
‫ذاهتا اليت آمن هبا طه حسين يف قراءته للشعر اجلاهلي‪ ،‬ال أقول أنه مل حيتكم ملنهج ّ‬
‫معني‪ ،‬إمنا حاول‬
‫جيرد ذاته من كل ما من شأنه أن يدجمها يف املقروء‪ ،‬إذ منذ البداية وبتأثري من كبار املستشرقني‬
‫أن ّ‬
‫أمثال النسون‪ ،‬ونالينو‪ ،‬دأب طه حسين يف ختليص هذا الرتاث اهلام من هالته القدسية‪ ،‬اليت عتّمت‬
‫جنرد طه‬
‫تامني‪ ،‬وحنن ال ّ‬‫على الفكر النقدي القدمي وحىت احلديث يف أن يقارب مبوضوعية وحياد ّ‬
‫حسين من أصالته املعرفية وأصوله الرتاثية بقدر ما نروم تبيان أثر الثقافة الغربية يف فكره النقدي‪،‬‬
‫ظل مقلقا ومأزوما بفعل التجاذبات املعرفية اليت ازدان هبا رصيده‬
‫السيما وأن سؤال النقد عنده ّ‬

‫‪1‬سعيد توفيق‪ :‬يف ماهية اللغة وفلسفة التأويل‪ ،‬املؤسسة اجلامعية للنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3113 ،0‬ص‪.01 :‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.00،01 :‬‬
‫‪132‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫النقدي‪ ،‬من مرجعياته الرتاثية وروافده الغربية يف آن معا‪ ،‬والشك كذلك أن بصمة أولئك املستشرقني‬
‫ظلّت واضحة جليّة حىت يف إسهاماته النقدية االنطباعية‪.‬‬

‫رمبا ال جنانب الصواب إذا خلصنا أن ما يرومه الناقد من خالل منهج قراءته للنص الشعري‬
‫يتعني عليه أن‬
‫اجلاهلي‪ ،‬هو اعتباره موضوعا للقراءة بعيدا عن هذه الذات القارئة وعن أفق قراءهتا‪ ،‬إذ ّ‬
‫مييّز بني ما هو ذايت وما هو موضوعي‪ ،‬ألن عملية الفهم مث التفسري اليت ميارسها القارئ على النص‬
‫حتتم عليه أن ال خيلط بني تارخيية املؤلف وتارخيية النص‪ ،‬يقول سعيد توفيق‪":‬ينبغي أن منيّز بني تارخيية‬
‫املؤلف وتارخيية النص‪ ،‬فتارخيية املؤلف هي ظروفه وخرباته الثقافية واالجتماعية والنفسية اخلاصة به‪،‬‬
‫موجها دائما‬
‫أما تارخيية النص فهي احلقيقة التارخيية اليت يقوهلا النّص باعتبار أ ّن ما يقوله النص يكون ّ‬
‫ألناس يعيشون يف عصر ما بكل أشكاله الثقافية واالجتماعية والدينية‪ ،‬ومن خالل عالقة النص‬
‫بالقارئ يدخل النص يف سياق ثقايف‪ ،‬اجتماعي غريب عليه‪ ،‬سياق قارئ حييا يف زمان ومكان ما‬
‫‪1‬‬
‫آخر‪".‬‬

‫توخي هذه النظرة يف قراءة النصوص وتفسريها ومن مثّ فهمنا‪ ،‬فإننا نزيح كل‬‫إذا ما رمنا ّ‬
‫القراءات اليت مارسها طه حسين على الرتاث الشعري اجلاهلي‪ ،‬ذلك أنه احتكم إىل تارخيية النص‬
‫اتضح له أ ّن النصوص اجلاهلية ال تعكس احلياة‬
‫من خالل تصويره ومرآويته لعصره وجيله‪ ،‬وحينما ّ‬
‫وشك يف وجود أغلبية شعرائه‪ ،‬وما نلتمسه من عذر له‬
‫العقلية والدينية واالجتماعية نفى ذلك الشعر ّ‬
‫هو أن مستوى القراءة النظرية والتطبيقية السائدة آنذاك‪ ،‬كانت قاصرة على هذا الفهم أو على هذه‬
‫اإلسرتاتيجية يف القراءة‪.‬‬

‫رّمبا من اإلجحاف وسوء التقدير أن نرمي طه حسني بالتلفيق واالضطراب يف توظيف املنهج‬
‫املناسب لعملية القراءة‪ ،‬كما يذهب إىل ذلك غري واحد من النقاد العرب احملدثني‪ 2،‬ذلك أن الرجل‬
‫تقصي الوجود اجلاهلي فيما خلّفه اجلاهلي نفسه‪ ،‬وذلك بدافعية املنهج التارخيي‬ ‫إمنا حاول جاهدا ّ‬
‫الالنسوين من ناحية‪ ،‬وضغط احلتمية التارخيية من ناحية ثانية‪ ،‬وكال املنهجني أثبتا هتافتهما بتط ّور‬
‫العملية النقدية اليت واكبت العصر احلديث‪ ،‬وامتدت لتشمل رقعة واسعة من الثقافة العربية يف أثناء‬

‫‪1‬سعيد توفيق‪ :‬يف ماهية اللغة و فلسفة التأويل‪ ،‬ص‪.022 :‬‬


‫‪2‬ينظر على سبيل التمثيل‪ :‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية و املرجعيات املستعارة ص‪ 20 ،22 ،22 ،22 ،23 :‬و ‪.51‬‬
‫‪133‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مرحلة االستقبال‪ ،‬وجرى جتاوز هذه املقوالت الكالسيكية برمتها‪" .‬إن النص األديب‪ ،‬بل أي عمل‬
‫فين هو كأي ظاهرة من ظواهر العامل اخلارجي ميثل كيانا موضوعيا يقوم خارجنا وال يكون من خلق‬
‫تصوراتنا عنه‪ ،‬ولكنه يف الوقت نفسه ال يكون مبثابة حقيقة موضوعية ميكن أن يتأسس معناها بشكل‬
‫مستقل عنا‪ ،‬كما لو كان هناك معىن موضوعي واحد ميكن قياسه وإحصاؤه وال منلك سوى أن نتفق‬ ‫ّ‬
‫‪1‬‬
‫ونقر به‪".‬‬
‫عليه ّ‬
‫إن عملية القراءة اليت مارسها طه حسين على العديد من نصوص الشعر اجلاهلي‪ ،‬إّمنا حنت‬
‫منحى تفسريا ال تأويليا‪ ،‬ذلك أنّه مل يبحث يف األنظمة املعرفية واألنساق الفكرية اليت صاغت هذه‬
‫املدونات‪ ،‬إمنا نظر إليها باعتبارها أمناطا إبداعية تعاورها الشعراء القدامى وال حيق هلا أن تتجاوز ما‬
‫ّ‬
‫هو سائد وموجود "علينا أال نستغرب حينما ظهر لنا شعر زهري منسجما مع مجيع أنساقه اللغوية‬
‫حتول النص اجلاهلي عنده إىل نسق تارخيي‬ ‫واالجتماعية والتارخيية‪ ،‬كما ال نستغرب أيضا عملية ّ‬
‫خالص ال جيوز ماضيه‪ ،‬ذلك أنه قد غاب عنه أن األنساق التارخيية واالجتماعية حتضر يف النص‬
‫ؤول فهم آلية تشكل األنساق تشكال‬ ‫بوصفها بىن قابلة للقراءة والتأويل‪ ،‬وهنا تصبح مهمة القارئ املُ ّ‬
‫‪2‬‬
‫فنيا فضال عن حتليله الكيفية اليت انتقلت هبا األنساق من وجودها الواقعي إىل وجودها الفين‪".‬‬

‫إن ما سنّه طه حسين يف قراءته للرتاث الشعري اجلاهلي‪ ،‬أنه دفع بعملية القراءة إىل ارتياد‬
‫مناطق قصيّة مل تتجه العناية إليها من قبل‪ ،‬وقد ح ّفز منظورات القراءة إىل بلوغ غايات معرفية عملت‬
‫اهلوة بني الطريف والتالد‪ ،‬يعرتف له يف ذلك الكثري من النقاد الذين ع ّدوه رائدا من ّرواد‬
‫على جتسري ّ‬
‫حور طرائق النقد وصاغه على غري منوال " من اإلنصاف أن يشار‬ ‫النقد العريب احلديث‪ ،‬وهو الذي ّ‬
‫إىل أن طه حسني قد كشف عن معايري للقراءة والفهم تنسجم كثريا مع النظريات املتجهة للقارئ‪،‬‬
‫النصيّة لشعر لبيد وطرفة وزهري‪ ...‬فكانت تلك‬ ‫ْبيد أهنا مل تأخذ حظّها من احلضور يف قراءاته ّ‬
‫اهلوة بني الذائقة املعاصرة والذائقة القدمية فضال عن‬
‫القراءات حماولة يسعى من خالهلا إىل جتسري ّ‬
‫‪3‬‬
‫سعيها إىل إزالة حالة اإلعراض عن قراءة الشعر اجلاهلي‪".‬‬

‫‪1‬سعيد توفيق‪ :‬يف ماهية اللغة و فلسفة التأويل‪ ،‬ص‪.025 :‬‬


‫‪2‬عاطف أمحد الدراسبة‪ :‬قراءة النص الشعري اجلاهلي‪ ،‬ص‪.012 :‬‬
‫‪3‬املرجع نفسه ص‪.015 :‬‬
‫‪134‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تكشف لنا مجلة من النصوص النقدية اليت صاغها طه حسين‪ ،‬عن وعي عميق بالعملية‬
‫يفرق مثال بني‬
‫النقدية اليت رادها‪ ،‬مشكال منها إطارا معرفيا متق ّدما ج ّدا بالنسبة إىل عصره‪ ،‬فالرجل ّ‬
‫معيارين للقراءة مها املعيار العلمي الذي حيتاج إىل ما يعرف عند مايكل ريفاتير "بالكفاءة األدبية‬
‫واللغوية"‪ .1‬واملعيار الثاين هو املعيار اجلمايل الذي يتعلق بذاتية القارئ‪ ،‬يقول طه حسين‪" :‬أنا إذا‬
‫أفسره من الوجهة النحوية واللغوية‪ ،‬وأزعم لك أن هذا‬
‫عامل حني أستكشف لك النص وأحققه و ّ‬
‫النص صحيح من هذه الوجهة أو غري صحيح‪ ،‬ولكين لست عاملا حني أدلك على مواضع اجلمال‬
‫الفين يف هذا النص‪ ،‬وإذا فليس عليك أن تقبل ما أقوله وليس لك أيضا أن تنكره‪ ،‬وإمنا لك أن تنظر‬
‫‪2‬‬
‫فيه‪ ،‬فإذا وافق هواك فذاك‪ ،‬وإن مل يوافق هواك فلك ذوقك اخلاص‪".‬‬

‫يدعو طه حسين ‪ -‬يف طرقه هلذه احلقول النقدية‪ -‬إىل حترير فهمنا من صنمية املنهج التقليدي‬
‫وأدواته اإلجرائية‪ ،‬إىل االنفتاح عن إمكانيات القراءة وما تتيحه ملكة الذوق من أفق رحب يف‬
‫يقوض كثريا من سلطة املنهج‬ ‫استنطاق النص وتأويله‪ .‬إن هذا الفهم الذي يستند إىل اخلربة اجلمالية ّ‬
‫ويف ّككها " والتفكيك هنا ليس نظرية أو منهجا يف القراءة‪ ،‬وإمنا هو تعرية ملفاهيمنا وتصوراتنا‬
‫التقليدية‪ ،‬حبيث نبقى يف جمال االنفتاح الذي يبعدنا عن جمال التمثل الذي يدرس النص هبدف‬
‫الوصول إىل معرفة تصورية ثابتة‪ ،‬إن هذه العملية يف الفهم كما يرى غادامري تشبه حالة السلب اليت‬
‫يصل فيها املرء إىل حرية إزاء الكلمات‪ ،‬وهي يف الوقت نفسه اليت تطلق سراح الفكر وعندئذ يبدأ‬
‫‪3‬‬
‫الفهم‪".‬‬

‫لعل من احلدود املنهجية املائزة اليت وقف طه حسين جهده النقدي عليها‪ ،‬هي حماولته التمييز‬
‫ّ‬
‫األدب‪ .‬مبعىن أنه وضع احلدود املفهومية‬ ‫ِ‬
‫األدب‬ ‫بني تاريخ األدب وبني العلم الذي يدرس به مؤرخ‬
‫َ‬
‫يربأ‬
‫واإلجرائية لعدم اخللط بني مؤرخ األدب وبني الناقد األديب‪ ،‬فمؤرخ األدب ال سبيل له إىل " أن ّ‬
‫‪4‬‬
‫من شخصيته وذوقه‪ ،‬وهذا نفسه كاف يف أن حيول بني تاريخ األدب وبني أن يكون علما‪".‬‬

‫‪1‬رامان سلدن‪ :‬النظرية األدبية املعاصرة‪ .‬تر‪ :‬جابر عصفور‪ ،‬دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ 0000 ،0‬ص‪:‬‬
‫‪.002‬‬
‫‪2‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.50 :‬‬
‫‪3‬سعيد توفيق‪ :‬يف ماهية اللغة و فلسفة التأويل‪ ،‬ص‪.80 :‬‬
‫‪4‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪135‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حياول العميد عدم الوقوع يف مطب احلتمية التارخيية‪ ،‬اليت ومست منجزه النقدي أثناء مرحلة‬
‫البدايات‪ ،‬فهو مل يقف جهده النقدي الالحق على تفسري الظاهرة األدبية من ذلك املنظور‪ ،‬فالرجل‬
‫حياول ختليص نقده منها‪ ،‬متجها يف الوقت ذاته وجهة نفسية إن جاز التعبري يف حتليل وتأويل مجلة‬
‫من الظواهر األدبية اليت أخضعها للنقد واملساءلة‪ ،‬فهو اليرى ب ّد من أن يربأ مؤرخ األدب من ذوقه‬
‫اخلاص‪ ،‬أما إذا كان ذلك كذلك‪ ،‬فإن تاريخ األدب يصبح " نوعا من الكيمياء والطبيعة واجليولوجيا‪،‬‬
‫يعىن به املختصون وحدهم وينصرف عنه املستنريون‪ ،‬وقد يكون احتمال هذا يسريا لو أن تاريخ‬
‫األدب استفاد من هذا الضيق الذي يضطره إليه حرصه على أن يكون علما‪ ،‬ففسر لنا الظواهر‬
‫تفسر لنا العلوم الطبيعية ظواهر الطبيعة وتستنبط لنا قوانينها‪ .‬ولكنه‬
‫األدبية واستنبط لنا قوانينها‪ ،‬كما ّ‬
‫لن يظفر من هذا بشيء ذي غناء‪ .‬ذلك ألنه مهما يقل يف البيئة والزمان واجلنس‪ ،‬ومهما يقل يف‬
‫تطور الفنون األدبية‪ ،‬فستظل أمامه عقدة مل حتل بعد ولن يوفق هو حللها‪ ،‬وهي نفسية املنتج يف‬
‫‪1‬‬
‫األدب والصلة بينها وبني آثارها األدبية‪".‬‬

‫يتجاوز طه حسين التوجه التارخيي واالجتماعي أثناء املقاربة النقدية اليت يباشرها على مجلة‬
‫من املتون الشعرية‪ ،‬وهو هبذا يتجه اجتاها نفسيا أثناء معاجلته اجلديدة‪ ،‬ليخلّص النقد من اجلفاف‬
‫الذي اعرتاه نتيجة تلك املمارسات الصنمية اليت خضع هلا طويال‪ ،‬األمر الذي حدا بجابر عصفور‬
‫إىل القول بأننا إزاء ناقد "ينطوي نقده على مفارقات عجيبة فهو يفتح عقله ووجدانه لكل‬
‫االجتاهات واملذاهب واملدارس‪ ،‬فيتدافع اإلعجاب بكتاباته تدافع أعمال وأمساء متباينة كل التباين‬
‫ومتنافرة كل التنافر إىل درجة تفرض األسئلة‪ :‬أين يكمن االجتاه احلقيقي هلذا الناقد؟ وهل حنن إزاء‬
‫موحد يف اإلجابة أم إزاء تباين متنافر يف االستجابات؟ وهل حنن إزاء ناقد خيتار من أدب‬ ‫جتانس ّ‬
‫‪2‬‬
‫الغرب‪ ،‬أم إزاء ناقد ينبهر بكل ما يأيت من الغرب بنفس الدرجة والقدر‪".‬‬

‫تلك إذا هي أهم التساؤالت املعرفية واملنهجية اليت وقف عندها عصفور وهو يتتبع خمتلف‬
‫القراءات النقدية اليت باشرها طه حسين جململ ّ‬
‫مدونات الرتاث العريب‪ ،‬فهو ال يقنع باستثمار آليات‬
‫منهج معني‪ ،‬بل يفيد من كل التيارات سواء الوافدة أو اليت هي متأصلة يف وعيه النقدي الرتاثي‪.‬‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫جابر عصفور‪ :‬املرايا املتجاورة‪ ،‬ص‪.0 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪136‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وكما تتبع طه حسين نوعية من املقاييس واملعايري وقف نفسه عليها يف قراءة الشعر اجلاهلي‪ .‬تتبع‬
‫كذلك منهجا لغويا رمبا أخذه عن بعض املستشرقني حول صحة الشعر اجلاهلي‪ ،‬واليت يقوم على‬
‫مجلة من اخلطوات‪ ،‬لعل أمهها‪ :‬أن لغة اجلنوب يف اجلزيرة العربية ختتلف عن لغة الشمال‪ ،‬وأن اللغة‬
‫القرشية مل تكن سائدة يف اجلزيرة العربية كلها سيادة كاملة مما يربر وصول الشعر اجلاهلي كلّه إلينا‬
‫تصور نظري عام‪ ،‬اختذ فيه‬ ‫بالعربية القرشية‪ ،‬وهكذا جند قراءته للشعر اجلاهلي قد انطلقت من ّ‬
‫النموذج األوريب مثاال‪ ،‬وسعى إىل حتقيقه يف النص العريب‪ ،‬ودون إدراك هذه اخلطة املنهجية اليت سعى‬
‫إىل حتقيقها يف كتابه‪ ،‬فإن قراءة الكتاب ستكون –رغم أمهيتها‪ -‬قراءة جزئية‪ ،‬ال تقف على مشروع‬
‫قراءة طه حسين للنص الشعري العريب يف خمتلف أبعاده‪ " ،‬هذه القراءة اليت ستقوم على أساس حتقيق‬
‫اخلطة املنهجية بالوسائل اليت استعملت يف بناء التاريخ األوريب‪ ،‬ولو على حساب بعض احلقائق‬
‫التارخيية الثابتة اليت كان طه حسني ضحيتها ودون اعتبار للخصوصية التارخيية لألدب العريب‬
‫‪1‬‬
‫أحيانا‪".‬‬

‫إن ما هندف الوصول إليه من خالل هذه املعاينة هو مدى إفادة طه حسين من منهج الشك‬
‫الديكاريت وماهي عالقته بديكارت؟ وهل مستوى التناول بني الرجلني متّ مبستوى واحد؟ أم أن هناك‬
‫توصل‬
‫تفاوتا على مستوى توظيف آلية الشك؟ وما هي أهم النتائج سواء السلبية أم اإلجيابية اليت ّ‬
‫إليها طه حسني يف توظيفه هلذا املنهج؟‬

‫‪ .1‬ديكارت وطه حسني‪ ،‬رؤيتان وعاملان‬

‫الجي د الباحث يف جمال الفلسفة والفكر حتديدا هنائيا ملذهب الشك؛ إذ حيمل هذا األخري‬
‫جمموعة من الدالالت ختتلف باختالف مواطن البحث والتدقيق عن احلقيقة‪ ،‬وال ميكن االطمئنان‬
‫لتعريف واحد يكفي بلوغ املنتهى عن معرفة ماهية الشك‪ ،‬حيث ختتلف التيارات وتتباين يف توصيف‬
‫هذا املذهب‪ ،‬فالفرق واضح مثال بني الشك اإلبستمولوجي واملنهجي واالعتقادي واإلحلادي وغريها‪.‬‬
‫غري أن الذي يعنينا وحنن نتحسس مفاصل نظرية املعرفة عند طه حسين يف ارتضائه الشك منهجا‬
‫فاعال يف الوصول إىل احلقيقة‪ ،‬وعدم االطمئنان إىل معتقدات األمة وثوابتها املرتسخة عن الشعر‬
‫اجلاهلي مثال‪ ،‬هو توظيفه هلذا الشك املعريف أو اإلبستمولوجي باعتبار أن "موضوعه املعرفة‬

‫‪1‬أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬ص‪.002 :‬‬


‫‪137‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الصحيحة‪ ،‬فهو تردد جيعل صاحبه عاجزا عن إدراك حقيقة ما‪ ،‬غري مطمئن إىل وجود أداة مت ّكن‬
‫صاحبها من اكتساب علم صحيح‪ 1".‬غري أن هذا التوجه حيتاج منّا إىل إعادة نظر فيما ذهب إليه‬
‫صاحبه‪ ،‬على اعتبار أن طه حسين شكك يف بعض معتقدات األمة وعقائدها بتجاوزه الشعر‬
‫اجلاهلي إىل قضايا جوهرية يف الدين‪ ،‬إذ ميكن أن نصطلح على هذا النوع من الشك بالشك‬
‫اإلنكاري أو اإلحلادي كما يذهب صاحب النص "وموضوعه املعتقدات املسلّم هبا بني الناس‪ ،‬وقد‬
‫يتجاوز الالأدرية والرتدد الذي يبدو يف تغليق احلكم إىل رتبة اإلنكار الذي يقوم على سلب االعتقاد‬
‫‪2‬‬
‫تضمن اإلنكار إصدار أحكام سلبية‪".‬‬
‫يف أمر أو نفي القول بصحته ومن هنا ّ‬
‫يع ّد العقل أداة املعرفة األمثل وذلك يف ظل وجود وسائط أخرى للمعرفة كاحلدس واحلس‪،‬‬
‫وإعمال آلية العقل يف الوصول إىل احلقيقة هو السبيل األجنع يف عرف العديد من التيارات واملذاهب‬
‫الفلسفية سواء القدمية أو احلديثة‪ ،‬ومادام العقل هو احملك األساسي الذي يضع املوازين بني الصحيح‬
‫واخلاطئ‪ ،‬فإن تنقيته تتطلب إفراغه من كل ما حواه ليعاد ترتيب األمور السليمة فيه وال حيصل له‬
‫ذلك إالّ إذا شكك يف معارفه القبلية ووضعها موضع مساءلة وريب ال موضع اطمئنان وتسليم‪ ،‬وهو‬
‫عينه ما قام عليه أساس املنهج الديكاريت يف الشك املنهجي‪ ،‬ألن " العقل عند ديكارت حافل‬
‫بأفكا ٍر بعضها خاطئ‪ ،‬وال سبيل إىل تطهري العقل من األفكار اخلاطئة إال بإفراغه من مجيع ما فيه‪،‬‬
‫وهو ال يرتك العقل فارغا وإال شابه غريه من الشكاك احلقيقيني‪ ،‬فهو يعيد إليه ما يراه سليما من هذه‬
‫األفكار‪ ،‬ويطرح عنه اخلاطئ منها يف ضوء منهجه العقلي املعروف‪ ،‬فالشك هو حمك الصحيح‬
‫‪3‬‬
‫والباطل من أفكارنا وبه يتحرر العقل من أوهامه‪".‬‬

‫مل يكن مبدأ الشك عند ديكارت كما كان عند غريه من الفالسفة الذين سبقوه أو زامنوه‪،‬‬
‫بل إن ماهية الشك عنده ترتقي يف مدارج البحث عن احلقيقة والوصول إىل اليقني ومل يفتعل الشك‬
‫لذاته‪ ،‬بل جعله وسيلة ال غاية‪ ،‬والبحث عن اليقني يتطلب شكا منهجيا منظّما لبلوغ املقاصد‬
‫املرجوة منه "وأضحى الشك أداة للنقد وأسلوبا يتبع يف التمييز بني الصواب واخلطأ‪ ،‬أوغل يف الشك‬
‫ّ‬
‫إىل أقصى آماده من غري أن يتوقف يف منتصف الطريق ويعلن إفالسه‪ ...،‬ومن هنا كان انتصار‬

‫‪1‬توفيق الطويل‪ :‬أسس الفلسفة‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0022 ،5‬ص‪.218 :‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.218 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.232 :‬‬


‫‪138‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ديكارت فكشف عن الروحية واستعاد يقني احلقيقة‪ ،‬واهتدى إىل اهلل‪ ...‬فقيل إن مقال ديكارت عن‬
‫‪1‬‬
‫املنهج يعارض قصة هزمية بقصة انتصار‪".‬‬

‫تعتمد فلسفة ديكارت يف شقها األكرب على الشك املنهجي الذي يقوم على فكرة أساسية‬
‫مفادها عدم التسليم مبا وصل إليه األقدمون من نتائج‪ ،‬إمنا جيب أن ختضع كل أعماهلم للنقد ويستند‬
‫هذا املبتغى على ثالثة خطوات أو قواعد منهجية أوهلا " أال أقبل شيئا ما على أنه حق‪ ،‬ما مل أعرف‬
‫التهور والسبق إىل احلكم قبل النظر وال أدخل يف أحكامي إال‬
‫يقينا أنه كذلك مبعىن أن أجتنب بعناية ّ‬
‫‪2‬‬
‫ما يتمثل أمام عقلي يف جالء ومتيز‪ ،‬حبيث ال يكون لدي أي جمال لوضعه موضع الشك‪".‬‬

‫هي القاعدة اليت حرص طه حسين على توضيحها أثناء مقاربته للنص الشعري اجلاهلي وغريه‬
‫من املتون؛ إذ مل يقف من دراسات األقدمني موقف املسلّم واملعتقد‪ ،‬بل وقف منها موقف الشاك يف‬
‫مرة أخرى حني ميايز بني تراث األمة اليونانية واألمة العربية‬
‫طروحاهتا ويف نتائجها‪ ،‬األمر الذي نلمسه ّ‬
‫يف قضية انتحال الشعر‪ ،‬فخلص إىل أن مجلة من األمور جعلت من هذه القضية موضعا للشبه‬
‫ومحل على القدماء من‬ ‫بينهما؛ يقول‪" :‬وإمنا ُحنل الشعر يف األمة اليونانية واألمة الرومانية من قبل ُ‬
‫يردوا‬
‫شعرائها حىت كان العصر احلديث وحىت استطاع النقاد من أصحاب التاريخ واللغة والفلسفة أن ّ‬
‫األشياء إىل أصوهلا ما استطاعوا إىل ذلك سبيال‪ ،‬وأنت تعلم أن حركة النقد هذه بالقياس إىل اليونان‬
‫غريت‬‫والرومان مل تنته بعد‪ ،‬وأهنا لن تنتهي غدا وال بعد غد‪ ،‬وأنت تعلم أهنا قد وصلت إىل نتائج ّ‬
‫تاما ما كان معروفا متوارثا من تاريخ هاتني األمتني وآداهبما‪ ،‬وأنت إذا ف ّكرت ستوافقين على‬ ‫تغيريا ّ‬
‫منشأ هذه احلركة النقدية إمنا هو يف حقيقة األمر تأثر الباحثني يف األدب والتاريخ هبذا املنهج الذي‬
‫‪3‬‬
‫دعوت إليه يف ّأول هذا الكتاب وهو منهج ديكارت الفلسفي‪".‬‬

‫تقوم هذه القاعدة على عدم التسليم واالعتقاد مبا كان سائدا من قبل يف الدراسات القدمية‪،‬‬
‫"أقسم‬
‫إمنا السبيل إىل ذلك هو الشك فيها قصد الوصول إىل اليقني‪ ،‬وتقوم القاعدة الثانية على أن ّ‬
‫كل واحدة من املعضالت اليت سأختربها إىل أجزاء على قدر املستطاع وعلى قدر ما تدعوا احلاجة‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪.232 ،235 ،‬‬


‫‪2‬ديكارت‪ :‬مقال يف املنهج‪ ،‬تر‪ :‬حممود حممد اخلضريي‪ ،‬دار الكاتب العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0028 ،3‬ص‪.020 ،021 :‬‬
‫‪3‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.005 ،002 :‬‬
‫‪139‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إىل حلّها على خري الوجوه‪ 1".‬حتتل هذه القاعدة مكانة غاية يف األمهية؛ إذ عليها مناط التحليل‬
‫وإقامة الدليل على صحة ما يذهب إليه‪.‬‬

‫ُسري أفكاري بنظام بادئا بأبسط األمور وأسهلها‬ ‫أما القاعدة الثالثة فيقول بشأهنا‪ " :‬أن أ ّ‬
‫معرفة كي أتدرج قليال قليال حىت أصل إىل معرفة أكثر تركيبا‪ ،‬بل وأن أفرض ترتيبا بني األمور اليت ال‬
‫يسبق بعضها اآلخر بالطبع‪ 2".‬تعتمد هذه القاعدة على النتائج اليت توصل إليها ديكارت يف‬
‫القاعدة الثانية‪ ،‬فإذا كانت هذه األخرية قاعدة حتليلية فإن القاعدة الثالثة تنهض بإعادة تركيب ما متّ‬
‫تفكيكه آنفا‪ .‬يضاف إىل هذه القواعد الثالثة السالفة قاعدة رابعة وأخرية يف املنهج االستقرائي عند‬
‫ديكارت وهي اليت يرى حوهلا "أن أعمل يف كل األحوال من اإلحصاءات الكاملة واملراجعات‬
‫‪3‬‬
‫الشاملة ما جيعلين على ثقة من أنين مل أغفل شيئا‪".‬‬

‫تع ّد هذه األخرية قاعدة للتأليف والرتكيب معا‪ ،‬أو ما يسميها ديكارت مبدأ االستقراء‪ ،‬وهي‬
‫اليت متكن من حتقيق القاعدة السابقة‪ ،‬حيث ترمي إىل استيعاب كل ما يتصل مبسألة معيّنة وترتيب‬
‫‪4‬‬
‫دجبها ديكارت ليصل مبنهجه‬
‫العناصر اليت ميكن التوصل إليها‪ .‬هذا عن تلك القواعد واملبادئ اليت ّ‬
‫الفلسفي إىل نتائج يقينيّة بعد أن سرى الشك إليها‪ .‬أما عن كيفية إفادة طه حسني من مجلة هذه‬
‫القواعد وكيفية استئناسه هبا يف قراءة الرتاث الشعري العريب‪ ،‬فقد ذكرنا يف غري موضع من هذا الفصل‬
‫املسلم وإمنا‬
‫أن الرجل إمنا ثار على علم املتقدمني بغية مساءلته واستنطاقه‪ ،‬ومل يقف منه موقف ّ‬
‫موقف الشاك الذي يروم الوصول إىل احلقيقة اعتمادا على اجلانب العقلي‪ ،‬لذلك فهو ال يطمئن‬
‫مدوناته النقدية خاصة مؤلفه "يف الشعر اجلاهلي"‪،‬‬
‫لعلمهم حول تلك القضايا اليت المسها يف ّ‬
‫خاصة عندما يتساءل عن العديد من القضايا اليت كانت إىل عهد قريب منه تبدو مسلّما هبا‪ ،‬ويف‬
‫املقابل لذلك يرفع من شأن احملدثني واجمل ّددين حول هذه القضايا فيقول‪ ":‬والنتائج الالزمة هلذا‬
‫املذهب الذي يذهبه اجمل ّددون عظيمة جليلة اخلطر‪ ،‬فهي على الثورة األدبية أقرب منها إىل كل شيء‬
‫آخر‪ ،‬وحسبك أهنم يش ّكون فيما كان الناس يرونه يقينا‪ ،‬وقد جيحدون ما أمجع الناس على أنه حق‬

‫‪1‬ديكارت‪ :‬مقال يف املنهج‪ ،‬ص‪.023 ،020 :‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.023 ،020 :‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.023 :‬‬
‫‪4‬ينظر‪ :‬عبد السالم الشاذيل‪ :‬األسس النظرية يف مناهج البحث األديب العريب احلديث‪ ،‬ص‪.222 ،225 :‬‬
‫‪140‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الشك فيه‪ ،‬وليس حظ هذا املذهب منتهيا عند هذا احلد بل هو جياوزه إىل حدود أخرى أبعد منه‬
‫مدى وأعظم أثرا فهم قد ينتمون إىل تغيري التاريخ أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ‪ ،‬وهم قد ينتهون‬
‫‪1‬‬
‫إىل الشك يف أشياء مل يكن يباح الشك فيها‪".‬‬

‫أما عن املبدأ الثاين الذي يقوم على التحليل والتفكيك قصد الوصول إىل احلقيقة فنجد صداه‬
‫أو ما ميثله عند طه حسين يف تساؤالته حول ماهية الشعر اجلاهلي‪ ،‬ووجوده ومتثيله حلياة العرب‬
‫آنذاك‪ ،‬فينطلق للربهنة على ذلك من نفي متثيل الشعر حلياة العرب بكل مستوياهتا االجتماعية‬
‫والسياسية والعقلية واالقتصادية‪ ،‬وال يطمئن إىل ما جاء يف نصوص الشعر إمنا انصب اهتمامه حول‬
‫ما جاء يف القرآن ويف نصوص الشعراء الذين عاصروا الدعوة اإلسالمية‪ ،‬يقول يف ذلك‪" :‬فإذا أردت‬
‫أن أدرس احلياة اجلاهلية‪ ....‬أدرسها يف القرآن‪ ،‬فالقرآن أصدق مرآة للعصر اجلاهلي‪ ،‬ونص القرآن‬
‫ثابت ال سبيل إىل الشك فيه‪ ...،‬وأدرسها يف شعر هؤالء الشعراء الذين عاصروا النيب وجادلوه‪ ،‬ويف‬
‫شعر الشعراء اآلخرين الذين جاءوا بعده ومل تكن نفوسهم قد طابت عن اآلراء واحلياة اليت ألفها‬
‫آباؤهم قبل ظهور اإلسالم‪ ،‬بل أدرسها يف الشعر األموي نفسه‪ ،‬فلست أعرف أمة من األمم القدمية‬
‫‪2‬‬
‫استمسكت مبذهب احملافظة يف األدب ومل جت ّدد فيه إال مبقدار كاألمة العربية‪".‬‬

‫وسريا منه على هنج ديكارت يذهب طه حسين يف مساءلة هذه النصوص اليت ذكرها ليربهن‬
‫على صحة الشعر اجلاهلي ووجوده من عدمه‪ ،‬فيقف عند متثيل القرآن للحياة العقلية والدينية للعرب‬
‫قبل اإلسالم‪ ،‬مث يردفها حبياهتم السياسية اليت كانت قائمة على عقد األحالف بني العرب وبني غريها‬
‫من الفرس والروم واحلبش واهلند‪ .‬يقول طه حسني يف ذلك‪" :‬سرية النيب حتدثنا أن العرب جتاوزوا‬
‫بوغاز باب املندب إىل بالد احلبشة وبأهنم جتاوزوا إىل بالد الفرس والشام وفلسطني إىل مصر‪ ،‬فلم‬
‫يكونوا إذا معتزلني ومل يكونوا‪ ...‬بنجوة من تأثري الفرس والروم واحلبش واهلند وغريهم من األمم اجملاورة‬
‫هلم مل يكونوا يف عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إىل األمم األخرى"‪ 3.‬ويتناول طه حسني جتليّات‬
‫احلياة العقلية يف القرآن بعد أن نفى متثيلها يف الشعر اجلاهلي فيقول‪ ":‬والقرآن ال ميثل احلياة الدينية‬
‫وحدها‪ ،‬وإمنا ميثل شيئا آخر غريها‪ ،‬ال جنده يف الشعر اجلاهلي‪ ....،‬ميثل حياة عقلية قوية‪ ،‬ميثل قدرة‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.20 ،21 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.25 :‬‬
‫‪141‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫على اجلدال واخلصام‪ ،‬أنفق القرآن يف جهادها حظا عظيما‪ ،‬كانوا جيادلون يف الدين وفيما يتصل‬
‫بالدين من هذه املسائل املعضلة اليت ينفق الفالسفة فيها حياهتم دون أن يوفقوا حللّها يف البحث‪ ،‬يف‬
‫‪1‬‬
‫اخللق‪ ،‬يف إمكان االتصال بني اهلل والناس‪ ،‬يف املعجزة وما إىل ذلك‪".‬‬

‫لعل القاعدة الثالثة اليت استثمرها طه حسين واملتمثلة يف االنطالق من العام إىل اخلاص أو من‬
‫ّ‬
‫الكل إىل األجزاء‪ ،‬هي القاعدة اليت دفعت باملنهج الديكاريت إىل آماده يف توظيفات طه حسين‪،‬‬
‫فهو ينطلق من العام إىل اخلاص قصد التفكيك وإعادة الرتكيب‪ ،‬وجند ما ميثّل ذلك يف حبثه عن‬
‫أسباب انتحال الشعر فيذهب إىل الشك يف الغالبية العظمى للشعر اجلاهلي‪ ،‬مث يبدأ يف تبيان‬
‫ويفصلها مربزا بعض األشعار املنسوبة آلدم وعاد ومثود واجلن‪ ،‬مث يفحص‬
‫األسباب الداعية إىل ذلك ّ‬
‫الشعر الذي يعتقد أنه خلقته العصبيات القبلية والعرقية‪ ،‬لينهض باستثمار القاعدة الرابعة من قواعد‬
‫ديكارت اليت أسلفنا احلديث عنها‪.‬‬

‫لقد تأثر طه حسين باملنهج الديكاريت أو بالديكارتية يف مقاربة النص الشعري العريب القدمي‪،‬‬
‫ذلك أنه أخضع كل هذا الرتاث إىل مبدأ الشك‪ ،‬حماولة منه يف انتهاج سبيل العلمية يف النقد األديب‪،‬‬
‫غري أن مجلة من النقاد والباحثني يعيبون عليه عدم فاعلية هذه اآللية‪-‬آلية الشك‪ -‬يف قراءة الشعر‬
‫اجلاهلي‪ ،‬وذلك ألنه مل يصب يف استثمار وتطبيق هذا املنهج الفلسفي كما هو احلال عند ديكارت‪،‬‬
‫باعتبار أن شك هذا األخري شكا منهجيا وأنطولوجيا‪ ،‬بينما ال يعدو شك طه حسين أن يكون‬
‫شكاّ تارخييا‪" .‬وعلى هذا يتع ّذر احلديث عن تأثر حقيقي بديكارت إال بكثري من التحديد والتقييد‪،‬‬
‫ذلك أن شك ديكارت شك منهجي‪ ،‬فيما شك طه حسني تارخيي‪ ،‬ألنه ال يستهدف البحث عن‬
‫ماهيات ثابتة التارخيية‪ ،‬مثل املاهيات الرياضية أو احلقائق امليتافيزيقية‪ ،‬كما هو احلال عند ديكارت‪،‬‬
‫بل يستهدف من وراء ش ّكه الكشف عن دور الزمان يف بناء اللغة وهدمها‪ ،‬والكشف عن دور الزمان‬
‫يف صحة الرواية األدبية وكذهبا‪ ،‬والربهنة على أن املصلحة والعصبية والصراع بني األمم املختلفة داخل‬
‫الدولة العربية يف عصرها األول‪ ،‬قد لعبت دورا كبريا يف تشويه الرواية"‪ 2.‬وحول اإلشكالية ذاهتا‪،‬‬
‫يذهب األستاذ محمد عابد الجابري حينما سئل حول معاملة النقاد العرب للتيارات الفكرية الوافدة‬

‫‪1‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪2‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬الثقافة العربية و املرجعيات املستعارة‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪142‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مثل الديكارتية فأجاب "عندما نأخذ فكر ديكارت وانتقاله إىل العامل العريب سوف جند أنه مل ينتقل‬
‫كتيار‪ ،‬وإذا تساءلنا عن أصدائه فسنجد شيئا منها عند طه حسني يف نقد الشعر اجلاهلي بشكل‬
‫‪1‬‬
‫غامض‪".‬‬

‫يتموضع حكم الجابري السالف يف حقل التفكري الفلسفي العقالين‪ ،‬ذلك أن الرجل ظل‬
‫يشتغل بالفلسفة والعقالنية منذ عقود‪ ،‬فمن البديهي أن يرى مثل ذلك الرأي‪ ،‬إذ العداء للعقل هو‬
‫وأد للفكر وللتقدم ونكوص وتقهقر إىل الوراء وفشل يف مسايرة ركب احلضارة العاملية اليت إمنا قامت‬
‫بانتهاجها سبيل العقل يف وصوهلا إىل حقائق األشياء؛ يقول الجابري يف مشروطية احلداثة للعقالنية‬
‫"‪..‬وهل ميكن حتقيق حداثة بدون سالح العقل والعقالنية؟ هل ميكن حتقيق هنضة بدون عقل‬
‫ناهض؟ إن العداء للعقالنية أو الطعن فيها‪ ،‬يف حال مثل حالنا‪ ،‬سلوك ال ميكن إجياد مكان له‬
‫خارج ظالمية الالعقالنية ومن يضع رجله فيها حيكم على نفسه بالعمى‪ ،‬والعقالنية مصباح يوقده‬
‫اإلنسان‪ ،‬ليس وسط الظالم وحسب بل قد يضطر إىل التجوال به يف واضحة النهار‪ 2".‬وتعد هذه‬
‫الدعوات من ضرورات االلتزام بالعقالنية‪ ،‬أو مببادئ العقل للمضي قدما حنو احلداثة يف شىت‬
‫اجملاالت‪ ،‬وبدوهنا ال ميكن للمجتمع العريب احلديث واملعاصر بكل تياراته وأطيافه أن يسلك سبيل‬
‫التقدم والرقي‪ ،‬ألن العقالنية هي املفتاح األساسي لولوج هذا التيار املعريف‪.‬‬

‫لقد أيقن طه حسين أن العدل أعدل قسمة بني الناس‪ ،‬وأن العقل العريب ال يقل شأنا عن‬
‫باقي العقول األخرى اليت مينح منها كما يضيف إليها‪ ،‬وال سبيل لبلوغ ما بلغوا إال سبيل االهتداء‬
‫املخول بإدراك حقائق األشياء والظواهر فضال عن تفسريها‬
‫بآليات العقل والعقالنية‪ ،‬على اعتبار أنه ّ‬
‫وتأويلها وحىت متثلها‪ .‬إال أن قضية القضايا هي يف ختليص هذا العقل من كل الشوائب والرتسبات‬
‫اليت من شأهنا أن تعرقل مهامه‪ ،‬وتثنيه عن بلوغ مراميه ومقاصده‪ ،‬ذلك أن عمل العقل إمنا يتوجه‬
‫رأسا إىل حماولة إدراك هذه الظواهر وفهمها مث حماولة جتاوزها إىل إدراك غريها من الظواهر‪ ،‬وطه‬
‫حسين يف احتكامه لسلطة العقل يف حتليل الظواهر األدبية والنقدية‪ ،‬إمنا إمتاح هذه السلطة من‬
‫مرجعيات عديدة ومتنوعة‪ ،‬عملت على صياغتها وبلورهتا مطالعاته الكثيفة واملعمقة ملدونات الرتاث‬

‫‪1‬حممد عابد اجلابري‪ :‬الرتاث واحلداثة‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3112 ،2‬ص‪.350 :‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.08 :‬‬
‫‪143‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫العريب من جهة‪ ،‬وإطالعه املستمر على كل جديد حتمله ساحة النقد الغربية يف جمال الفكر والثقافة‪،‬‬
‫والواضح من توجهه حنو املستودع األوريب هو رمبا مسايرته للعديد من الطروحات النقدية احلديثة‬
‫مقارنة مبا هو سائد على ساحة النقد العربية آنذاك‪ ،‬وحماولة التجاوز هي اليت م ّكنته من طرق العديد‬
‫من احلقول املعرفية اليت عملت على توضيح املنحى النقدي عنده‪ ،‬وذلك يف حماوالت منه لدفع‬
‫العملية النقدية العربية قدما‪ ،‬وعدم االكتفاء مبا توصل إليه العقل العريب آنذاك يف تفسريه مدونات‬
‫مر العصور‪ " ،‬لقد أراد باصطناع املنهج الدعوة إىل العقل وحترير اإلنسان ومل يكتف‬ ‫اإلبداع على ّ‬
‫بالتوثيق األكادميي ألفكار ديكارت لتكون هوامش على املنت العريب الذي كادت أن تضيع كلماته‬
‫‪1‬‬
‫بفعل الزمن‪ ،‬بل تفقد صفحاته الناصعة وأوراقه العقلية بفعل اجلمود والقيود واألغالل‪".‬‬

‫إن التوجه العقالين لطه حسين مل يكن وليد تأثره بالثقافة الفرنسية ّأوال‪ ،‬بل ميكن الرجوع هبذا‬
‫التوجه إىل بداياته النقدية حول كتاباته عن أيب العالء والعالقة وطيدة ال حتتاج إىل كثري تدليل أو‬
‫برهنة‪ ،‬من أن العالقة بني أيب العالء وطه حسني عالقة متينة صلبة‪ ،‬األمر الذي جعل من أيب العالء‬
‫املثل األعلى بالنسبة له‪ ،‬وهي النفسية اليت وقف العميد عندها طويال حماوال سربها ومعرفة كل‬
‫جوانبها املضيئة واملظلمة‪ .‬أضف إىل ذلك ما كان قد أجنزه عن ابن خلدون حول تتبعه ملختلف‬
‫املظان الفلسفية والفكرية وكذا االجتماعية عند هذا العالّمة‪ ،‬األمر الذي جنم عنه وجود متثّل كبري‬
‫آلرائه وطروحاته‪ ،‬خاصة تلك القوانني اليت بىن عليها ابن خلدون معامل االجتماع وعلم العمران‬
‫البشري‪ ،‬لذلك أكاد أجزم أن ما يربط طه حسين بالفيلسوف ديكارت أقل بالنظر للعالقة الوثيقة‬
‫اليت تربط الرجل بإرثه النقدي والبالغي والفلسفي العريب القدمي‪ ،‬ذلك أن حمددات العملية النقدية‬
‫تشرهبا عقل الرجل من مظان‬ ‫عنده‪ ،‬أو ما اصطلح عليه بآلية الشك يف املوروث الشعري العريب‪ ،‬إمنا ّ‬
‫عديدة يف املدونات النقدية القدمية‪ ،‬حىت وإن ظل خصومه ي ّدعون أنه صورة أخرى من ديكارت‬
‫على األقل يف منهج الشك‪ ،‬وأجدين أذهب مع الناقد محمد برادة حني يذهب إىل القول‪" :‬إن طه‬
‫حسني يبدو بنيانا مرتاصا وكتلة مضيئة وسط بنية األدب والفكر يف خضم معارك القلم والسياسة‬
‫مبصر منذ عشرينات هذا القرن [يقصد القرن العشرين] – بكتاباته وحياته‪ -‬اليت تأخذ داللتها يف‬

‫‪ 1‬أمحد عبد احلليم عطية‪ :‬الديكارتية يف الفكر العريب املعاصر‪ -‬دراسة مقارنة يف املذاهب الفلسفية الغربية والثقافة العربية‬
‫احلديثة‪ -‬دار الثقافة والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪144‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫كلّيتها وتقاطع حلظاهتا وكأهنا نص كتب دفعة واحدة"‪ 1.‬األمر الذي جيعلنا نذهب إىل أن طه حسين‬
‫صوب مساره ودراساته‬‫مل يتأثر كثريا بطروحات الفرنسيني وعلى رأسهم ديكارت إال بالقدر الذي ّ‬
‫وهنجها‪ ،‬مبعىن أن الرجل مل يعكف على الطروحات النظرية والتطبيقية لديكارت إال بالقدر اليسري‬
‫حىت وإن أثبت هو نفسه ذلك يف غري موضع من كتبه‪ ،‬بأنه اصطنع لنفسه منهج ديكارت يف‬
‫البحث واالستقصاء‪ ،‬ألن الفرق واضح بني الدراستني والرجلني يف متكني الشك كآلية للقراءة‬
‫واالستنطاق واحلفر‪.‬‬

‫وقد أسلفنا أن شك الفيلسوف ديكارت كان شكا فلسفيا منهجيا‪ ،‬يف حني كان شك‬
‫األديب شكا تارخييا أدبيا حمضا‪ ،‬وإذا كان شك ديكارت من أجل البحث عن غاية أمسى هي‪ :‬اهلل‪،‬‬
‫العامل والنفس‪ ،‬وهي موضوعات الالهوت األساسية‪ ،‬فإن شك طه حسين كان غري ذلك؛ حيث مل‬
‫تتجه عنايته يف البحث عن هذه املاهيات‪ " .‬إن ديكارتية طه حسني املزعومة إشاعة صدرت عنه‬
‫أوال‪ ،‬فقد أثبت يف أكثر من مكان من كتاباته أنه اصطنع املنهج الفلسفي الذي استخدمه‬
‫ديكارت‪،‬و يف كلمة "أصطنع" قدر كبري من التواضع فلم يقل – مثال‪ -‬أنه التزم‪ ،‬ومع ذلك تبقى‬
‫‪2‬‬
‫كلمة اصطنع معرض شك حني نقارن بني املنهجني‪".‬‬

‫ولعل السهم املعريف الذي أصابه طه حسين يرجع إىل تأثره رمبا بتلك الشروط والقوانني‬
‫الفلسفية العميقة اليت صاحبت نظرية ابن خلدون يف علم العمران البشري‪ ،‬وكيف كانت ثورته‬
‫العقلية على معطيات التاريخ البشري خاصة‪ ،‬إذ ش ّكلت دراسته حول ابن خلدون أرضية معرفية‬
‫وواجهة خلفية انطلق منها يف الثورة على الكثري من املسلّمات واليقينيّات‪ ،‬اليت أسهمت يف تصلّب‬
‫العقل العريب‪ ،‬ومنعته االجتهاد‪ ،‬وحرمته روح املبادرة والبحث والكشف واالستقصاء‪ ،‬يقول المقالح‪:‬‬
‫"‪...‬ملاذا ال يكون ابن خلدون الذي حاول إعادة تنظيم التاريخ العريب وفقا ملنهجه القائم على ربط‬
‫التاريخ بعلم االجتماع قد ترك أثرا كبريا يف توجيه الطالب طه حسني وأغراه إىل إعادة دراسة األدب‬

‫‪1‬حممد برادة‪ :‬مفهوم احلداثة عند طه حسني من خالل كتايب حافظ وشوقي وحديث األربعاء ‪ -‬دراسات مغربية يف الفلسفة‬
‫و الرتاث الفكري العريب احلديث‪ -‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،0085 ،‬ص‪.052 :‬‬
‫‪2‬عبد العزيز املقاحل‪ :‬عمالقة عند مطلع القرن‪ ،‬ص‪.51 :‬‬
‫‪145‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫العريب‪ ،‬أو باألصح الشعر العريب وتنظيم املقاييس النقدية بعيدا عن األحكام العاطفية واآلراء‬
‫‪1‬‬
‫املضطربة‪".‬‬

‫إن ما حياول المقالح إثباته هو تعددية املناحي املعرفية واملصبات الفلسفية اليت عملت على‬
‫صياغة املشروع النقدي والفلسفي عند طه حسين‪ ،‬ذلك أن الرجل تباينت مشاربه ومناهله من رجوع‬
‫إىل الرتاث بكل دقائقه وتفاصيله بدءا من تأثره بابن سالّم واألصمعي يف قضية االنتحال‪ ،‬هذه‬
‫القضية القدمية اجلديدة‪ ،‬مرورا باملعري واستلهام فلسفته وشكه وتشاؤمه وحىت عدميته‪ ،‬وكذلك‬
‫اعتمادا على ابن خلدون يف ثورته على املعطيات التارخيية وحماولة صياغته نظرية يف العمران البشري‬
‫وعلم االجتماع‪ ،‬ووصوال إىل استثماره منجزات احلضارة الغربية ممثلة يف املناهج احلديثة املستعملة‬
‫لقراءة النصوص وإعادة تقييمها باالحتكام إىل ما جادت به ساحة العلم من مناهج حديثة‪ ،‬لعل‬
‫أمهها املنهج التارخيي وفلسفة الشك الديكاريت‪.‬‬

‫يعلل األستاذ المقالح رجوع طه حسين إىل استثمار ابن خلدون وقوانينه إىل حتمسه الشديد‬
‫هبذه الفلسفة وبنتائجها‪ ،‬يقول‪" :‬من السهل إثبات األسباب اليت دعت طه حسني إىل اإلقبال على‬
‫ابن خلدون وإعداد دراسة عنه‪ ،‬وإن هذا اإلقبال مل يأت عفوا أو صدفة‪ ،‬وإمنا صدر عن رغبة عربية‬
‫إسالمية يف إيصال ما انقطع من حوار عريب إسالمي مع أساليب البحث القائمة على املالحظة‬
‫وحىت تنفيذها‪ -‬طه حسين يف مشروعه‬ ‫‪-‬‬ ‫املوضوعية‪ 2".‬تلك إذا هي املهمة اليت اضطلع بتبليغها‬
‫التنويري‪ ،‬فهو يدفع إىل تأسيس منوذج ملثقف جديد‪ ،‬ال ينتج وعيا مطابقا بالواقع فحسب‪ ،‬بل‬
‫وسلوكا وممارسة كذلك يستلزم ضرورة تالزم النظرية واملمارسة لدى ذلك املثقف اإلصالحي‬
‫الراديكايل الذي يطمح إىل فعل التغيري‪.‬‬

‫تتشكل الرؤية النقدية له من العديد من القضايا اجلوهرية اليت ضخت خطاب النقد عنده‪،‬‬
‫وينقاد إىل تفكيك البىن املؤسسة هلذا اهليكل‪ ،‬ويف الوقت نفسه حياول اإلمساك بأهم احملطات املعرفية‬
‫اليت هيمنت على ساحة النقد العريب يف زمانه‪ ،‬وتتدافع إىل السطح مجلة من األحكام النقدية اليت‬
‫مشلتها املعاينة التارخيية‪ ،‬ومدى إسهام الوافد الغريب يف ضخ خطاب نقدي بديل وجماوز ملا كان سائدا‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.50 :‬‬


‫‪2‬املرجع نفسه‪.53 ،‬‬
‫‪146‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫على الصعيد الوجودي‪ ،‬إذ أن عتاقة اآلليات القرائية القدمية مل تعد جتدي أثناء املعاينة النقدية‬
‫احلديثة‪ ،‬يقول أحد الدارسني‪ " :‬إن وسائل النقد التقليدية استنفذت طاقتها ومل تعد مؤهلة لإليفاء‬
‫مبشروع درس األعمال الروائية والشعرية اآلخذة بأسباب اإلبداع اجلديد وال قادرة على النفاذ إىل‬
‫أسس اإلبداع فيها وإبراز خصوصياهتا البنيوية‪ ،‬فكانت احلاجة إىل البحث عن وسائل درس بديلة‬
‫‪1‬‬
‫واستدعاء ما يبدو أدعى إىل حتقيق الغاية املذكورة‪".‬‬

‫تعد قراءة طه حسين احلديثة للرتاث الشعري العريب من إحدى القراءات املتاحة له‪ ،‬غري أن‬
‫التّهيّب الذي وسم جهود النقاد القدامى واحملدثني لبلوغ محى هذا املخزون العظيم‪ ،‬هو ما حال‬
‫بينهم وبني فهمه واستيعابه وإعادة قراءته من جديد‪ ،‬فهو الذي يدعو دائما إىل تغيري عاداتنا يف‬
‫القراءة سريا على سنّة القدامى الذين مل جيدوا حرجا يف اإلفادة من اآلخر إلثراء خمزوهنم‪ ،‬يقول طه‬
‫حسين‪.." :‬وقد قامت حياتنا احلديثة على إحياء األدب العريب ودرس اآلداب األوربية‪ ،‬وستقوم‬
‫دائما على هذين العنصرين من عناصر احلياة اخلصيبة‪ ،‬وعلى هذين العنصرين نفسهما‪ ،‬قامت حياة‬
‫العرب القدماء أو قل حياة األمة اإلسالمية القدمية على إحياء األدب العريب‪ ،‬ودرس الثقافات‬
‫األجنبية اليت عرفتها يف تلك العصور‪ ،‬فنحن نسلك نفس الطريق اليت سلكها القدماء نقيّم حضارتنا‬
‫‪2‬‬
‫احلديثة على ما أقام القدماء عليه حضارهتم تلك املزدهرة‪".‬‬

‫يؤكد طيب تيزيني أن عملية التأثري والتأثر اليت متارسها بعض الثقافات اإلنسانية‪ ،‬ال تعين حبال‬
‫من األحوال الذوبان أو اهلجنة‪ ،‬ذلك أن لكل أمة ثقافتها وخصوصيتها املعرفية واألنطولوجية‪ ،‬وأن‬
‫خزان معريف خاص ختتزنه كل ثقافة أو أمة على حدة‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫هذه الفرادة واخلصوصية‪ ،‬إمنا تنبع من ّ‬
‫"إننا يف الوقت الذي نرى فيه أن الثقافة العربية اإلسالمية الوسيطة والفلسفة والعلوم الطبيعية منها‬
‫تكونت إىل ح ّد كبري حتت تأثري الثقافات األجنبية‪ ،‬فإهنا ظلّت حمتفظة بكوهنا ثقافة‬
‫خصوصا‪ ،‬قد ّ‬
‫اجملتمع العريب اإلسالمي الوسيط‪ ،‬إهنا مل تكن هجينة‪ ،‬كما يؤكد البعض من املثقفني العرب‬

‫‪1‬حممد الناصر العجيمي‪ :‬النقد العريب احلديث‪ ،‬جملة عالمات يف النقد‪ ،‬جدة‪ ،‬يونيو‪ ،3115 ،‬ج‪ ،52‬مج‪ ،02‬ص‪.058 :‬‬
‫‪2‬طه حسني‪ :‬خصام و نقد‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0022 ،2‬ص‪.20 ،21 :‬‬
‫‪147‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫املعاصرين‪ ،‬ذلك ألن التأثر بعوامل أجنبية ال يعين إطالقا الوقوع يف واقع (هجني) إذا استطاع ممثلو‬
‫‪1‬‬
‫هذه الثقافات استيعاب هذه املسألة بعمق‪".‬‬

‫تتأسس القراءة – انطالقا من هذا النص‪ -‬على املرتكزات املعرفية والفلسفية لكل أمة‪ ،‬مع‬
‫ضرورة اإلفادة مبثاقفة اآلخر دون اإلحساس بتلك الدونية والصغار الذي رمبا يتسرب إىل الذات‬
‫منتقصا من جهدها الذايت واملتعدي‪ .‬ولتكتسب الذات نوعا من احلضور يتعني عليها جماوزة ذلك‬
‫الرتاكم املعريف التقليدي قرائيا؛ أي مبمارسة أقصى غايات القراءة واحلفر قصد استخراج الصورة‬
‫احلقيقية لتلك املدونات اإلبداعية‪ .‬يقول عز الدين إسماعيل‪..." :‬وهكذا تتنوع مداخل قراءة هذا‬
‫الشعر (اجلاهلي) فتصبح فكرة القراءة نفسها هي املنهج الذي يفرتض أنه فتح الباب لكل قراءة‬
‫ممكنة اآلن‪ ،‬وفيما بعد‪ ،‬ويف أي وقت ممكن‪ ،‬ومن املؤكد أن هذا التنوع يف القراءات أكسب الفكر‬
‫النقدي من جهة ثراء وغىن‪ ،‬وأكسب األدب نفسه من جهة أخرى‪ ،‬أمهية وقيمة مل تكونا له من‬
‫قبل‪ ،‬عندما كان يدرس يف ضوء البالغة السطحية البسيطة واملرصودة اليت كان الشيخ املرصفي قد‬
‫نقلها إلينا من كتب البالغة القدمية لكي يعلمنا كيف نفهم التشبيه واالستعارة والكناية‪ ،‬وما إىل‬
‫ذلك‪ ،‬من خالل نص شعري بسيط‪ ،‬وإهنا لنقلة باهرة يف حقيقة األمر بني البداية املرصفية‪ ،‬وما‬
‫‪2‬‬
‫انتهينا إليه يف جمال الدرس األديب يف زمننا الراهن‪".‬‬

‫حيسد هذا النص حالة الشرخ اليت أصابت املنظومة النقدية العربية يف العصر احلديث‪،‬‬ ‫رمبا ّ‬
‫بفعل الرتاكمات الثقافية العتيقة اليت مارست نوعا من االستالب الفكري على النص اإلبداعي كما‬
‫مارسته على النص النقدي‪ ،‬وحرمته البوح بإمكانيات تشكل الداللة داخل رحم هذا النص‪،‬‬
‫واالطمئنان إىل أحادية الداللة اللغوية البسيطة اليت تطفو على السطح‪ ،‬وجيسد هذا النص كذلك‬
‫ينجر عنه‬
‫عملية التجاذب واالستقطاب احلاصل بني جيلي العملية النقدية القدمية واحلديثة وما ّ‬
‫الحمالة من فوضى نقدية‪ ،‬تصيب الرصيد الثقايف واملعريف على صعيد النقد يف مقتله‪ ،‬ويعترب البعد‬
‫التارخيي للظاهرة األدبية سببا من األسباب الرئيسية يف تعدد واختالف القراءات النقدية وهو األمر‬
‫وتغريها من عصر إىل عصر‪ ،‬ومن مث صفة‬‫الذي "يؤكد أن تعدد القراءة حمكوم بتعدد الشروط التارخيية ّ‬

‫‪1‬طيب تيزيين‪ :‬مشروع رؤية جديدة للفكر العريب يف العصر الوسيط‪ ،‬دار دمشق للطباعة والنشر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،0080 ،0‬ص‪:‬‬
‫‪.218‬‬
‫‪2‬عز الدين إمساعيل‪:‬آفاق معرفية يف اإلبداع والنقد واألدب والشعر‪ ،‬النادي األديب الثقايف‪،‬جدة‪ ،3112،‬ص‪.080 ،081:‬‬
‫‪148‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫"النسبية" اليت ليس من الضروري أن تتناقض و"املوضوعية" يف القراءة‪...‬من حيث ما تدل عليه هذه‬
‫وتتغري عالقات‬
‫الصفة من إمكانات حمتملة لدالالت النصوص املقروءة‪ ،‬حني تتعدل مراكز الثقل ّ‬
‫الدوال‪ ،‬ليربز إمكان داليل يف "األمامية" مزحيا غريه يف عملية حمكومة بشروط تارخيية بكل عصر من‬
‫ناحية‪ ،‬وشروط معرفية خاصة بعمليات إنتاج املعرفة وعالقاهتا يف أنساق متشاهبة أو متضادة داخل‬
‫العصر من ناحية ثانية"‪ .1‬هذه الشروط هي اليت ينبغي على الباحث والناقد ضبطها بشيء من‬
‫مدونة مهما كانت‪.‬‬
‫االتزان وعدم الشطط يف تفعيلها من أجل قراءة أي ّ‬
‫تكرس مبدأ الوصول إىل سرب كنه األشياء‪،‬‬
‫ومجلة اآلليات اليت يشتغل عليها الناقد هي اليت ّ‬
‫داخل نظام اللغة املتوسل هبا من قبل املبدع‪ ،‬وهي اليت تدفع دالالت النص إىل الربوز والتجلّي ويف‬
‫الوقت ذاته تؤجل دالالت أخرى إىل قراءات مغايرة عن تلك اليت متت من قبل‪ ،‬كل هذا جيعل من‬
‫مهمة الناقد ليس البحث عن ما قاله النص‪ ،‬إمنا ما مل يقله هذا النص أو كيف قال هذا النص ما‬
‫قاله؟‬

‫ومجاع القول‪ ،‬يعد طه حسين ناقدا متعدد املذاهب واالجتاهات‪ ،‬بل قد راد كل املناهج‬
‫النقدية احلديثة بشيء من التحفظ تارة واجملاراة واجلراءة تارة أخرى‪ ،‬الشيء الذي جيعل منه مدرسة‬
‫نقدية متعددة املناهج والتيارات‪ ،‬ذلك أنه أسهم بشيء غري يسري يف إعادة بناء العملية النقدية‬
‫ودفعها‪ ،‬ودفع من وراء ذلك آلية العقل لالشتغال من جديد بعد أن ركنت إىل القنوع واالستكانة‬
‫وقنعت بالقشور دون اللباب‪ ،‬فأصبح عقال آليا ستاتيكيا ساكنا‪ ،‬وهي العملية النقدية اليت كانت إىل‬
‫زمانه تكتفي من نقد النص اإلبداعي شعره ونثره‪ ،‬قدميه وحديثه بشرح غريب ألفاظه وتفسري اليسري‬
‫من معانيه‪ ،‬األمر الذي حتّم عليه ودفع به إىل حماولة إعادة قراءة هذا الرتاث الضخم قراءات‬
‫متعددة‪ ،‬ال تقنع بقراءة أحادية وال ترضى بتلك النتائج اهلزيلة الظاهرة واحملدودة إذ "مل يعد اهلدف من‬
‫قراءة الرتاث – يف النمط اجلديد‪ -‬استعادة املاضي‪ ،‬مبا يقرتب به من قيم مجالية ومبادئ أدبية‪ ،‬فقد‬
‫أضحت هذه املبادئ والقيم قرينة إطار مرجعي مرفوض‪ .‬صار التمرد عليه قرين التحرر الفردي الذي‬
‫‪2‬‬
‫ينطلق من إطار مرجعي مضاد‪".‬‬

‫‪1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬دار سعاد الصباح‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪ ،0000 ،0‬ص‪.51 ،20 :‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.0 :‬‬
‫‪149‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫هو األمر الذي نذر طه حسين نفسه القيام به‪ ،‬فعملية التحرر من ربقة الرتاث بإعادة قراءته‬
‫واستنطاقه هي ما يدفع بالعملية النقدية بأمجعها إىل األمام‪ ،‬وجعلها تساير كل مستجدات العصر‪،‬‬
‫وما متليه هذه املناهج الوافدة من الثقافة الغربية‪ ،‬ومزاوجتها مبا للذات من إرث حضاري وثقايف‬
‫تستثمره يف حماولة النهضة ومسايرة األمم املتقدمة األخرى‪ .‬لقد أصبحت قراءة الرتاث النقدي كما‬
‫يذهب جابر عصفور عملية تارخيية متكررة ّ‬
‫ومتغرية‪ ،‬وذلك من حيث ارتباطها بطرح متجدد ألسئلة‬
‫أساسية ثابتة يف كل مرحلة أدبية‪ ،‬أو مدرسة نقدية‪ ،‬ومن حيث ارتباطها يف الوقت نفسه‪ ،‬بإجابات‬
‫‪1‬‬
‫بتغري هذه املراحل واملدارس‪.‬‬
‫متغرية ّ‬
‫ّ‬

‫‪1‬ينظر املرجع السابق‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪150‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الباب الثاني‪:‬‬
‫شكري عياد‪ ،‬احللقة النقدية الواصلة‬
‫الفصل األول ‪ :‬اخللفيات املعرفية‪-‬مرحلة البدايات‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬بني البالغة العربية واألسلوبيات احلديثة‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬شكري عياد وحداثة اخلطاب النقدي‬

‫‪151‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل األول ‪:‬‬


‫اخللفيات املعرفية ‪ -‬مرحلة البدايات‬
‫‪ .1‬يف تأسيس الوعي النقدي‬
‫‪ .1‬االجتاهات األدبية احلديثة‬
‫‪ .1‬سؤال النقد ‪ ،‬سؤال النظرية عند عياد‬
‫‪ .1‬قضايا تراثية يف الفكر النقدي عند عياد‬
‫‪ .1.1‬كيفيات قراءة الرتاث‬
‫‪ .1.1‬التأثري األرسطي يف البالغة العربية‬
‫‪ .5‬مكانة شكري عياد النقدية‬
‫‪ .6‬شكري عياد و معضلة التأصيل النقدي‬

‫‪152‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪: .1‬ي تأسيس الوعي النقدي‬

‫يعترب تأثري طه حسين يف طلبته باجلامعة املصرية أعظم تأثري على مستوى بنية الفكر النقدي‪،‬‬
‫وتأسيس ذلك االنشغال الفكري الذي مل يعهده هؤالء الطلبة من ذي قبل‪ ،‬فقد تغريت نظرهتم‬
‫لألدب ونقده انطالقا من تلك احملاضرات اليت كانت تلقي عليهم من قبل العميد‪ ،‬والذي ش ّكل ما‬
‫ميكن اعتباره بادرة جديدة وبدعة حسنة تلقاها طلبته بكل جدية وحزم يقول شكري عياد باعتباره‬
‫أحد طلبة طه حسين يف وصفه لتلك املكانة اليت كان طه حسني يتمتع هبا بني طلبته "كان طه‬
‫حسني يتمتع بشهرة واسعة وميثل فتنة للشباب‪ ،‬وحنن الذين تتلمذنا مباشرة على طه حسني ال ننسى‬
‫أننا كنا ال نعرف النظرة احلديثة إىل األدب والبحث األديب إال من خالل حماضراته وكتبه‪ ،‬لقد منونا‬
‫يف ظله‪ ،‬وكلنا أخذ منه شيئا أو أشياء‪ ،‬ومنا من أسرف يف تقليده ال كما يقلد املرء أستاذه بل كما‬
‫يقلد الطفل أباه‪ ،‬فإذا أخرج يف احلياة كان صورة من األدب‪ ،‬حتتفظ بالقليل من فضائله والكثري من‬
‫‪1‬‬
‫عيوبه‪".‬‬

‫متيزت املرحلة األوىل من حياة شكري عياد بالثراء الفكري والنقدي على الساحة الفكرية‬
‫املصرية‪ ،‬آنذاك وبرزت للوجود الكثري من املؤلفات اليت شكلت منعطفا حادا يف حياة الرجل‪،‬‬
‫وتنوعت هذه املدونات وتباينت أهدافها ومراميها من حيث دفاعها عن الدين اإلسالمي‪ ،‬يف وجه‬
‫أولئك العلماء الذين حاولوا احلط من قدره‪ ،‬والنيل من مبادئه فكانت كتابات محمد حسين هيكل‬
‫وأحمد أمين وطه حسين والعقاد من أبرز الكتابات يف تلك احلقبة‪ ،‬وقد ع ّد هؤالء من أعالم‬
‫املدرسة احلديثة قبل عقدين من الزمن‪ ،‬لكنهم عادوا كما يقول شكري عياد يف " أواخر أيامهم على‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬عرض ومناقشة املرايا املتجاورة‪ ،‬دراسة يف نقد طه حسني جلابر عصفور جملة فصول‪ ،‬القاهرة‪،‬مج‪ ،2‬ع‪،2‬‬
‫‪ ،0082‬ص‪.213 :‬‬
‫‪153‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الرتاث العريب القدمي إىل عصور اإلسالم األوىل يستمدون منها إهلامهم وكأهنم نفضوا أيديهم من‬
‫احلداثة اليت سلخوا يف الدعوة إليها‪ .‬الشطر األكرب من أعمارهم ورجعوا إىل ما هنجه اجليل السابق‬
‫هلم من خطة األحياء والتجديد إال أنك تلمح يف كتاباهتم اإلسالمية نربة من احلنني إىل فردوس‬
‫‪1‬‬
‫مفقود ال جتدها عند أسالفهم‪".‬‬

‫امتدت املرحلة األوىل من حياة عياد واستظلت بضالل وارفة من النقد والفكر وخاصة الرتمجة‪،‬‬
‫اليت نقلت عيون اآلداب الغربية إىل اللغة العربية‪ ،‬واضطلع هبذه املهمة مجع من املرتمجني خاصة‬
‫اجلامعني منهم‪ ،‬والذين أفاد منهم عياد أّميا إفادة يف حتديد مالمح توجهه النقدي آنذاك‪ ،‬وكانت‬
‫تلك الفرتة يف الثالثينيات واألربعينيات من القرن املاضي‪ .‬يذكر محمد يوسف نجم أن اجلامعني قد‬
‫أسهموا يف دفع احلركة النقدية إىل جانب األعمال املرتمجة فقد" ترمجوا عددا من كتب النقد األورويب‬
‫منها‪ ،‬فنون األدب لتشارلنت ترمجة زكي جنيب حممود القاهرة ‪ 0022‬وقواعد النقد األديب لالسل أبر‬
‫كروميب ترمجة حممد عوض حممد القاهرة ‪ 0022‬ومنهج البحث يف األدب لالنسون ترمجة حممد‬
‫مندور بريوت ‪ ،0022‬الذوق األديب الرنولد بنيت ترمجة الدكتور علي حممد اجلندي القاهرة ‪0052‬‬
‫والنقد األديب ومدارسه احلديثة هلامين ترمجة إحسان عباس وحممد يوسف جنم وترمجوا عددا من‬
‫النصوص األصلية يف النقد منها كتاب الشعر ألرسطو ترمجة إحسان عباس القاهرة وترمجة عبد‬
‫الرمحن بدوي القاهرة ‪ 0052‬وكتاب فن الشعر هلوراس ترمجة حممود الغول القاهرة ‪ 0025‬وترمجة لويس‬
‫عوض القاهرة ‪ 0022‬ومقالة بيفون عن األسلوب ترمجة أمحد أمحد بدوي القاهرة‪ ،‬ومقالة شللي‬
‫الدفاع عن الشعر ترمجة نظمي خليل القاهرة ‪ 0022‬ومقالة هازلت عن الشعر ترمجة نظمي خليل‬
‫القاهرة ‪ 0022‬ومقدمة وردزورث للحكاية الغنائية ترمجة زكي جنيب حممود القاهرة‪ 0052 ،‬وقد كانت‬
‫‪2‬‬
‫هذه الرتمجات املعني الذي استقى منه أكثر النقاد"‪.‬‬

‫لقد آثرت أن أثبت النص السالف على طوله النسيب ألبرز العدد الكبري من الكتب واملقاالت‪،‬‬
‫اليت ترمجت يف الفرتة املمتدة بني الثالثينيات واخلمسينيات من القرن املاضي‪ ،‬ومدى التنوع‬
‫البني على مستوى العناوين جلملة احلقول املعرفية والفكرية اليت تشتغل عليها‪ ،‬وما من‬
‫واالختالف ّ‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬األدب يف عامل متغري‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للتأليف والنشر‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪ 2‬حممد يوسف جنم‪ ،‬نظرية النقد والفنون واملذاهب األدبية يف األدب العريب احلديث‪ ،‬مقدمة دليل‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫‪ ،0085‬ص‪.53 :‬‬
‫‪154‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫شك يف أن شكري عياد قد أفاد فائدة كربى من مجلة هذه الرتمجات‪ ،‬ذلك أهنا – هذه الكتب‪-‬‬
‫هي اليت وضعت األسس األوىل واملتعددة لدراسة األدب ونقده عند الرجل‪ ،‬يأيت ذلك يف اعرتافه‬
‫الواضح بأمهيتها وتأثري بعضها يف مسريته النقدية‪ ،‬ودورها يف إثارة القضايا النقدية الكثرية يف ذهنه منذ‬
‫املرحلة األوىل لإلطالع عليها‪ ،‬ويتجلى ذلك يف اهتمامه بالرتمجة اليت قام هبا حممد مندور ألحد‬
‫الكتب الفرنسية سنة ‪ 0023‬يقول عياد " قرأت الرتمجة الرائعة اليت قدمها الدكتور حممد مندور‬
‫لكتاب ديهامل اهلام" دفاع عن األدب" وقرأت الدراسة املستفيضة اليت عرف هبا الناقد الكبري‬
‫"ديهامل لقراء العربية‪ ،‬وعرفت أن ديهامل كاتب من أكرب الكتاب الفرنسيني املعاصرين‪ ...‬أما‬
‫الكتاب نفسه "دفاع عن األدب" فلعلي ال أستطيع أن أحصي مدى تأثري به‪ ،‬قد حتضرين منه فكرة‬
‫أثناء حديث أو مقال فأعزوها إليه‪ ،‬ولكين ال أشك يف أن كثريا من األفكار اليت أقوهلا وال أعزوها‬
‫إليه –ألنين مل أعد أعرف أهي أفكاري أم أفكار ديهامل‪ -‬قد فجرهتا يف نفسي قراءة ذلك الكتاب‬
‫‪1‬‬
‫العظيم"‪.‬‬

‫أما البصمة األبرز يف حياة الرجل العقلية والنقدية إمنا استقاها من تأثره البالغ جبيل الرواد من‬
‫النقاد؛ أمثال أمين الخولي وطه حسين والعقاد وغريهم‪ ،‬غري أنه يدين الدين كله يف مجلة من‬
‫مؤلفاته النقدية يف مرحلة البدايات ألستاذه الخولي‪ ،‬الذي يعترب أحسن من صقل موهبة الرجل‪،‬‬
‫وأبان له طريق البحث خاصة فيما يتعلق باجلوانب الرتاثية‪ ،‬يقول عياد عن أستاذه الخولي‪" :‬ينتمي‬
‫أمني اخلويل انتماء مباشرا إىل جيل الثورة العرابية ويستمد منابعه األوىل الشيخ حممد عبده وقد انفرد‬
‫أمني اخلويل عن سائر جيله‪ ،‬مبا كان ينبغي أن يكون هو األصل‪ :‬انفرد بالقوامة على تراث اجليل‬
‫السابق‪ ،‬ينمي خري ما فيه‪ ،‬يستكمل نواقصه ويصلح خطأه‪ ،‬ويتطلع لتحقيق مامل يسعفهم زمنهم‬
‫بتحقيقه‪ ،‬وبدال من أن يضع إحدى قدميه عل أرض الثقافة املصرية‪ ،‬واألخرى على أرض الثقافة‬
‫الغربية‪ ،‬آثر أن يثبت قدميه كليهما يف أرض بالده‪ ،‬وميد عينيه إىل ما إىل الضفة األخرى‪ ،‬فإن‬
‫‪2‬‬
‫أعجبه شيء أخذ منه بقدر ما يريد وحيتاج"‪.‬‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬األدب يف عامل متغري‪ ،‬ص‪.020 ،028 :‬‬


‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬الرؤيا املقيدة ‪ -‬دراسات يف التفسري احلضاري لألدب‪ ،-‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬دط‪،0020،‬‬
‫ص‪.022 :‬‬
‫‪155‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ميثل أمين الخولي منعطفا هاما على مستوى مسرية النقد األديب يف العصر احلديث‪ ،‬وذلك‬
‫لتميزه عن غريه من النقاد الذي جايلوه‪ ،‬فكان أن اختلف عن هذه الكوكبة من ناحية املنطلقات‬
‫النظرية والركائز املعرفية للعملية النقدية‪ ،‬فكان تراثيا جدا لكن بعقلية الباحث والناقد العارف خببايا‬
‫العصر يف الوقت ذاته‪ ،‬انطالقا من مقولته املشهورة "أول التجديد قتل القدمي حبثا"‪ ،‬فلم يكن الخولي‬
‫ممن انبهر بالوافد من الثقافة الغربية‪ ،‬بكل زمخها الفكري والفلسفي والنقدي‪ ،‬بل اتسمت نظرته‬
‫بشيء غري يسري من الدعوة بالرجوع إىل األصل‪ ،‬مع حماولة فهمه قصد جتاوز السائد واملتعارف عليه‪،‬‬
‫وحماولة إجياد بدالئل على مستوى النقد والتحليل جلملة من الظواهر األدبية والنقدية‪ ،‬ابتداء باجلوانب‬
‫التعبريية لشؤون الدين‪ .‬يتجلى ذلك يف تأطريه للعديد من البحوث اجلامعية على غرار رسالة "الفن‬
‫القصصي يف القرآن الكرمي" للدكتور حممد أمحد خلف اهلل ‪ 0050‬ورسالة "التفسري البياين للقرآن‬
‫الكرمي" للدكتورة عائشة عبد الرمحن‪ .‬يقول عياد بشيء من املرارة عن املصري الذي آلت إليه مدرسة‬
‫التفسري األديب اليت يتزعمها الشيخ الخولي‪" :‬وال يزال املنهج الذي رمسه الشيخ وقدم غري قليل من‬
‫النماذج يف تطبيقه حمتاجا إىل أن يتجسد تفسريا أدبيا ينظر يف الكتاب اخلالد بعقلية العصر ومناهجه‬
‫‪1‬‬
‫يف الدراسة األدبية"‪.‬‬

‫يظهر التحمس الشديد من قبل عياد للشيخ الخولي ومنهجه يف الدراسة املعروف بالتفسري‬
‫األديب للقرآن‪ ،‬عند ما ظهرت تلك الدراسات اجلادة واحلديثة واهلادفة إىل جتاوز السائد من‬
‫الدراسات القدمية‪ ،‬متمثلة يف دراسة بنت الشاطئ والدكتور محمد أحمد خلف اهلل والضجة املعرفية‬
‫اليت صاحبت صدور هذين العملني ملا عرضاه من جديد على مستوى آليات التحليل احلديثة‪ ،‬اليت‬
‫تعزى يف الكثري منها إىل ابتكارات الشيخ اخلويل نظريا وصيحات املناهضني لكل عمل خالق أو‬
‫جتربة حية يقول عياد يف ذلك‪" :‬ارتبط اسم األستاذ أمني اخلويل بأكثر من دعوة واحدة يف جمال‬
‫الدراسة األدبية‪ ،‬ارتبط مبا مساه التفسري األديب للقرآن الكرمي‪ ،‬وأثار املشاغبون أعداء العقل ما أثاروا‬
‫من ضجيج حول هذا املنهج‪ ،‬حىت نشر األستاذ أحاديثه "من هدي القرآن" ونشرت تلميذته بنت‬
‫الشاطئ كتاهبا "التفسري البياين للقرآن" بعد أن نشرت الرسالة اجلامعية األوىل يف التفسري األديب اليت‬
‫أعدت حتت إشرافه‪ ،‬واليت أثري مبناسبتها كل ذلك الضجيج رسالة "الفن القصصي يف القرآن الكرمي"‬
‫للدكتور حممد أمحد خلف اهلل فعرف الناس‪ ،‬أن صياح اجلامدين مل يكن خدمة للدين‪ ،‬فما كانت‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬الرؤيا املقيدة ‪ ،‬ص‪.022 :‬‬


‫‪156‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الدعوة إىل التفسري األديب للقرآن الكرمي‪ ،‬غري دعوة إىل بذل شيء من اجلهد يف فهم الكتاب املبني‬
‫فهما ال يفق عند حدود التفاسري القدمية‪ ،‬اليت ارتبطت معظمها – إن مل نقل كلها‪ -‬بأساطري األمم‬
‫الغابرة‪ ،‬وعقائد الفرق املتناحرة‪ ،‬بل يتجاوز ذلك إىل استخدام األساليب احلديثة يف البحث اللغوي‬
‫‪1‬‬
‫واألديب‪ ،‬مستعينا مبعارف العصر يف علم النفس وعلم االجتماع‪".‬‬

‫إن املنحى النقدي الذي حناه الخولي باعتباره أول اجملددين‪ ،‬على مستوى البحوث الرتاثية اليت‬
‫أضحت دراسات دينية بامتياز‪ ،‬هو نفسه املنحى والسبيل اليت تأثر هبا عياد يف مطارحاته الفكرية‬
‫والنقدية للمسائل الرتاثية‪ ،‬مما جعل من عمليات التجاوز أمرا ال مناص منه على صعيد التحليل‬
‫واحلفر يف اخللفيات الفلسفية للرتاث العريب‪.‬‬

‫إن التشيع الواضح للخولي هو ما رجح كفة الدراسات احلديثة للنص املقدس‪ /‬املعجز على‬
‫تلك الدراسات الكالسيكية له‪ ،‬واليت تقنع يف العديد من املرات مبا مت التوصل إليه يف جمال التفسري‪،‬‬
‫دون أن يكلف هؤالء أنفسهم عناء البحث املثمر واجملدي‪ ،‬والذي ينفتح على علوم العصر يف حماولة‬
‫فهمه وسرب أغواره وهي العلوم اليت كانت ركائز للخولي ولعياد من بعد‪ ،‬يف حماولة كنه الظواهر‬
‫األدبية بنمط من الفهم يكون مغايرا ملا هو سائد‪ ،‬وحماولة السري بالعملية النقدية قدما إىل مناطق‬
‫كانت جمهولة عند الكثري من النقاد والباحثني‪ ،‬ويتقاطع عياد يف الدعوة إىل القراءة اجلديدة‪،‬‬
‫للنصوص مبا ألف فيما بعد على صعيد البحث والنظرية من حبوث كانت امتدادا واضحا خلطى تلك‬
‫املدرسة مدرسة اخلويل ومن بعده عياد مث نقاد آخرون‪.‬‬

‫يدافع عياد عن أستاذه يف العديد من احملطات املعرفية اليت صاغها‪ ،‬ففي وقوفه إىل جانب‬
‫أستاذه فيما عرف "باملدرسة اإلقليمية لألدب" وينافح عن هذه التسمية املصطلحية مبعدا عنها أية‬
‫خصوصية وحساسية سياسية أو أيديولوجية‪ ،‬يقول‪ ":‬وحسب بعض الناس أن هذه الدعوة تعين‬
‫اإلقليمية السياسية وأهنا – كهذه ‪ -‬جيب أن ختتفي يف عصر القومية العربية‪ ،‬والذين ظنوا هذا الظن‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬جتارب يف األدب والنقد‪ :‬دار الكاتب العريب للطباعة والنشر القاهرة‪ ،0022 ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪157‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫هم من ختدعهم – أو تأسرهم‪ -‬األمساء وال بأس عليهم أن يهامجوا املنهج اإلقليمي يف دراسة‬
‫‪1‬‬
‫األدب‪ ،‬الذي ينعتونه اختصارا ب"اإلقليمية‪".‬‬

‫مث يضيف معرتفا "بأنه من أنصار هذا املنهج – اإلقليمي‪ -‬سريا على خطر أستاذه يف قوله‪" :‬إىل‬
‫حد أن أصبحنا –حنن أنصار املنهج اإلقليمي يف دراسة األدب‪ -‬نرى من الضروري أن نكمل هذه‬
‫الدراسات بدراسات أخرى تتتبع احلركات األدبية املشرتكة يف شىت أرجاء العامل العريب‪ ،‬فليست‬
‫‪2‬‬
‫الدعوة إىل "منهج إقليمي يف دراسة األدب "إال دعوة إىل املنهج العلمي يف دراسة األدب"‪.‬‬

‫رمبا يعين عياد بالدعوة إىل املنهج العلمي يف دراسة األدب إىل ما مت استقباله من دعوات‬
‫حديثة يف كيفية الدراسة واملساءلة‪ ،‬وهي استبدال الدراسات التحليلية اليت تنحو منحى سياقيا إىل‬
‫تغيريها والثورة عليها‪ ،‬واستبداهلا بالدراسة النسقية اليت ترى يف النص بنية مغلقة تدرس لذاهتا ومن‬
‫أجل ذاهتا‪ ،‬وهي الدعوة اليت ازدهرت مع بروز جنم اللسانيات يف العامل الغريب مث ثورة مدرسة‬
‫الشكالنيني الروس الذين دعوا إىل دراسة النص بعيدا عن مجلة السياقات اليت حتيط به‪ 3.‬باعتبار أن‬
‫الدراسات السابقة عن الشكالنية مل متارس النقد إمنا مارست علم االجتماع‪ ،‬وعلم النفس والفلسفة‬
‫والسياسة وغريها من احلقول‪ ،‬اليت ضاع النص يف غياهيبها‪ ،‬فكان أن اجتهت الدراسات يف هذا‬
‫االجتاه‪ ،‬وهي الدعوة إىل علمنة األدب أو علمية األدب‪ .‬مبا أن الوظيفة األوىل للخطاب تكمن يف‬
‫اجلانب التواصلي التبليغي‪ ،‬فزاد عنها أن ازدوجت هذه الوظيفة فأصبحت إضافة إىل عملية التواصل‬
‫والتبليغ يضطلع اخلطاب بإبراز الوظيفة النقدية أو اجلمالية‪ ،‬اليت تتكشف وراء البنية الكلية له‪،‬‬
‫انطالقا من انسجام هذه البنيات واتساقها‪ ،‬فلم يلبث عياد أن دعا إىل مثل هذه الدراسات تأثرا‬
‫باجلديد على الساحة النقدية العاملية‪ ،‬دون أن حتصل تلك القطيعة املعرفية كما نادى هبا غريه من‬
‫النقاد العرب احملدثني‪.‬‬

‫‪ 1‬شكري عياد‪ :‬جتارب يف األدب والنقد‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 3‬ملزيد حول طروحات الشكالنية الروسية‪ ،‬ينظر رامان سالدن‪ :‬النظرية األدبية املعاصرة‪ ،‬ترمجة جابر عصفور‪ .‬دار الفكر‬
‫للدراسات والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ .0000 ،0‬الفصل االول اخلاص بالنزعة الشكلية الروسية‪ ،‬ص‪ 33 :‬إىل ‪.22‬‬
‫‪158‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ورمبا يقصد عياد بالدراسة العلمية لألدب ما كان دعا إليه يف مؤلفه "دائرة اإلبداع" من ضرورة‬
‫التفريق بني مناهج الدراسة األدبية‪ ،‬ووقوفه بشيء من اإلسهاب عند تقسيمات النقد العاملي إىل‬
‫كالسيكي ورومانسي‪ ،‬وتفريقه بني العلم والفن وبني األحكام اخلاصة واألحكام العامة‪ ،‬ودراسته‬
‫لطروحات العديد من النقاد على غرار ت‪ .‬س إليوت وكلينيث بروكس ومقوالهتما النقدية مما‬
‫حدى به إىل االنتصار ألصحاب املذهب الكالسيكي من غري إسراف يف ذلك‪.‬‬

‫‪ .2‬االجتاهات األدبية احلديثة‬

‫تتميز نظرة عياد إىل مجلة االجتاهات النقدية بأهنا نظرة معتدلة يف طرحها ويف نتائجها‪ ،‬ذلك‬
‫أن الرجل يقف عند كل اجتاه مبديا خطواته العامة يف قراءة النص األديب‪ ،‬بدءا باالجتاه الكالسيكي‬
‫الذي ينضوي حتته ما عرف فيما بعد بالنقد اجلديد‪ ،‬مبديا يف كل طرح وجهة نظره اخلاصة من مجلة‬
‫القضايا النقدية الشائكة‪ ،‬وحماولة معاينة الظاهرة موضوع البحث‪ ،‬واخلروج من هذه العملية بطائل‬
‫نقدي ميكن االرتكاز عليه يف تبيان حدود النظرة النقدية اليت متيزه عن غريه من النقاد‪.‬‬

‫يؤسس عياد ملرجعيات النقد الكالسيكي بأرسطو وتنظرياته يف جمال علم الشعر‪ ،‬ويتتبع تلك‬
‫الشروط اليت جعلها أرسطو للشعراء‪ ،‬قصد حتسني هذه الصناعة فتلفى يف مؤلفه عبارات من قبيل‬
‫"ينبغي للشاعر" و"جيب على الشاعر" فكانت مبثابة األسباب الرئيسية لضبط الصناعة الشعرية عند‬
‫اإلغريق‪ ،‬مث من تالهم من الرومان ممثال يف أحد أتباع أرسطو وهو هوراس مث انتقاال إىل بوالو‬
‫الفرنسي وبوب اإلجنليزي‪ ،‬وكل هؤالء ال يكاد نقدهم خيرج عن احلدود اليت رمسها املعلّم األول‪ ،‬مث‬
‫يتتبع عياد تأثري أرسطو يف أعالم النقد العريب القدمي‪ ،‬ويقف عند أصحاب املعقول ممثلني يف‬
‫طروحات قدامة بن جعفر وأصحاب املنقول الذي ال يكادون خيتلفون كثريا عن أصحاب التيار‬
‫األول‪ ،‬فإذا كان أصحاب املعقول هم خري من تأثر بأرسطو‪ ،‬فإن أصحاب املنقول كذلك مل خيرجوا‬
‫من موقف النقد الكالسيكي‪ ،‬ذلك أهنم هم الذين وضعوا قواعد لعمود الشعراء وقوانينه‪ ،‬ومل خيرجهم‬
‫تقدميهم للذوق من املوقف العام للكالسية يقول عياد‪ " :‬ولعل هذه السمة املشرتكة بني الفريقني‬

‫‪159‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫راجعة إىل أهنم عاشوا يف ظل جمتمع ذي قيم ثابتة‪ ،‬والثبات هنا ال يعين القوة دائما‪ ،‬وإمنا يعين أننا ال‬
‫‪1‬‬
‫نعثر على أية حماولة جادة إلحالل قيم أخرى حمل تلك القيم"‪.‬‬

‫تعترب هذه النظرة ذات أبعاد حضارية راسخة رسوخ املبادئ اليت اتكأت عليها باعتبار أن من‬
‫مهوم الناقد أو املفكر تتبع مثل هذه الظواهر‪ ،‬اليت حتدد جماالت البحث دون أن تتعدى ذلك إىل‬
‫وضع قوانني تدرس مبوجبها عملية منو اجملتمعات واحنالهلا‪ ،‬ويضيف عياد يف وضعه ذلك التحديد‬
‫للموقف النقدي الذي ينبع "من ظروف حضارية تشمل األحوال السياسية واالقتصادية للمجتمع‬
‫كما تشمل املعتقدات وطريقة التفكري وأمناط السلوك الشائعة فيه؛ أي أن مردها يف النهاية إىل القيم‬
‫‪2‬‬
‫السائدة يف اجملتمع"‪.‬‬

‫املوجه األساسي للعملية النقدية عنده‪ ،‬وبقدر ما تتميز بالثبات‬ ‫هذه القيم واملبادئ هي ّ‬
‫واالستقرار‪ ،‬هي كذلك املدوزنة لعملية النقد ولطريقة التفكري وكذا حتديد أمناط السلوك السائدة‪.‬‬

‫ينتقل عياد إىل الوقوف عند اجتاه آخر ينضوي حتت عبارة النقد الكالسيكي – يف نظره‪-‬‬
‫وهو النقد اجلديد‪ ،‬الذي محل مسات الكالسيكية على الرغم من وجوده يف عامل غري مستقر‪ ،‬وجمتمع‬
‫ذي قيم غري ثابتة‪ ،‬ويعلل بروز هذا االجتاه بأنه رد فعل جلملة من االجتاهات اليت أفرزهتا حركة الواقع‬
‫فهو الذي يرى " أن االضطراب السياسي واالجتماعي قد أدى إىل ظهور أشد املذاهب السياسية‬
‫االجتماعية إميانا بالسلطة‪ ،‬وهو املذهب الفاشي‪ ،‬فال حمل للعجب إذا من عودة الكالسية يف عصر‬
‫‪3‬‬
‫اضطربت فيه القيم األدبية والفنية اضطرابا مل يسبق له نظري‪".‬‬

‫إن ما يؤكد الناقد على تبيانه يف وصف جممل هذه االجتاهات‪ ،‬هو إبراز قيمة كل اجتاه نقدي‬
‫ومرجعياته الفكرية‪ ،‬اليت يستند عليها‪ ،‬ودعاواه يف معاجلة النصوص األدبية‪ ،‬ونوع النتائج اليت يتحصل‬
‫عليها‪ ،‬كل ذلك يف بسط نظري مسهب يتناول فيه عياد مجلة هذه االجتاهات‪ ،‬معرضا إياها على‬
‫حمك النقد البناء‪ .‬ففي تربمه مبقوالت النقد اجلديد أو ببعض هذه املقوالت اليت بالغت يف دعوى‬
‫العلمية‪ ،‬أي علمية النقد مما حتم جفاف الدراسة النقدية‪ ،‬وحتت هذا الشعار يكتب عياد قائال‪:‬‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬دائرة اإلبداع‪ -‬مقدمة يف أصول النقد‪ ،-‬دار إلياس العصرية‪ ،‬القاهرة‪ 0082 ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.31 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪160‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫"يؤخذ على النقاد اجلدد أهنم بالغوا يف تأكيد ما مسوه "أدبية األدب" إىل درجة عزل العمل األديب‬
‫عن مجيع املؤثرات اليت خترج عن نطاق األدب نفسه‪ ،‬وبذلك ذهبوا يف جتريد الظاهرة األدبية إىل حد‬
‫فصلها عن القيم" اليت هي األصل يف وجودها أو ربطها بنوع واحد من القيم وهو القيم اجلمالية‬
‫(الشكلية‪ ،‬مثل التوازي‪ ،‬التقابل‪ ،‬التكرار‪...‬اخل) مع إدعاء أن هذه القيم ال تتأثر بالتغريات‬
‫‪1‬‬
‫االجتماعية‪".‬‬

‫تعد مقولة األدبية من أشهر املقوالت النقدية عند النقاد الشكالنيني‪ ،‬واليت برزت إىل عامل‬
‫النقد مع طروحات أصحاب االجتاه الشكلي مث كانت امتدادا فيما بعد مع ظهور املد البنيوي‪ ،‬إذ‬
‫تعين األدبية يف أبسط تعريفاهتا كما عند رومان جاكبسون" موضوع علم األدب ليس هو األدب‬
‫ولكن األدبية (‪ )La littérarité‬أي ما جيعل من عمل ما عمال أدبيا"‪ 2.‬وذلك انطالقا من اللغة‬
‫األدبية الفنية اليت تلفت النظر إليها قبل أي شيء‪ ،‬وتتجاوز اللغة العامية اليت من مهامها التبليغ‬
‫والتوصيل فقط‪ ،‬والشكالنيون برتكيزهم على هذا االهتمام باجلانب الفين يف دراستهم للنصوص‪،‬‬
‫قادهم "إىل أن يعاملوا األدب بوصفه استعماال خاصا للغة حيقق هلا التمييز باحنرافه عن اللغة العملية‬
‫املشوهة"‪ 3.‬وهو التباين الناجم عن منطلقات لغة الفن واللغة العامية‪ ،‬أضف إىل ذلك املقاصد‬
‫واألهداف اخلاصة بكل لغة‪.‬‬

‫تعترب الدراسة من الداخل اليت نادى هبا أصحاب تيار النقد اجلديد‪ ،‬من الصيحات النقدية‬
‫احلديثة اليت متايزت يف منطلقاهتا كما يف مراميها عن الدراسة اليت سبقتها‪ ،‬ممثلة يف مقوالت النقد‬
‫الرومانسي‪ ،‬الذي دعا أنصاره بالرجوع إىل العامل الداخلي للذات‪ ،‬بعد أن فشل العلم مبوضوعيته يف‬
‫الوصول إىل احلقيقة‪ ،‬ومتايزت الدراسة من الداخل كذلك عن دعوات الشكلية الروسية‪ ،‬إمنا تتمحور‬
‫دعوات النقاد اجلدد حول نظرهتم إىل القصيدة مبعزل عن املؤشرات اخلارجية‪ ،‬وذلك باعتبارها عاملا له‬
‫كيانه املستقل عن صاحبه وعن كل السياقات اليت حتيط به‪ ،‬ومن شأهنا أن تغري نوع الدراسة املتوخاة‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬دائرة اإلبداع‪ ،‬ص‪.30 :‬‬


‫‪ 2‬ت‪ ،‬تودروف وآخرون‪ :‬يف أصول اخلطاب النقدي اجلديد‪ ،‬ترمجة وتقدمي أمحد املديين‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة وزارة‬
‫الثقافة‪ ،‬بغداد‪ ،‬ص‪.03 :‬‬
‫‪ 3‬رامان سالدن‪ :‬النظرية األدبية املعاصرة‪ ،‬ترمجة‪ :‬سعيد الغامني‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0002 ،0‬ص‪:‬‬
‫‪.08‬‬
‫‪161‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وكذا نوعية النتائج املتحصل عليها‪ ،‬ليغدو النقد بذلك "عمال موضوعيا جيعل هدفه فحص النص‬
‫‪1‬‬
‫الشعري‪ ،‬والنظر إليه على أنه كيان جديد‪ ،‬خمتلف عن كل مادة أولية ميكن أن تسهم يف تكوينه"‪.‬‬

‫‪ .3‬سؤال النقد‪ ،‬سؤال النظرية عند عياد‬

‫تعترب اجتهادات شكري عياد يف جمال النظرية النقدية إسهاما جادا يف حماولته بناء منظومة‬
‫مفاهيمية ترتكز على مقوالت البالغة العربية القدمية‪ ،‬وتتوق إىل بسط نفوذها املعريف على الساحة‬
‫النقدية املعاصرة‪ ،‬من خالل إثراء هذه املقوالت بطروحات النقد املعاصر‪ ،‬السيما ما أتت به‬
‫األسلوبيات احلديثة يف جمال التنظري والتطبيق‪ ،‬غري أن هذه احملاوالت – على ثرائها وخصوبتها‪ -‬يعوزها‬
‫الضبط املنهجي الدقيق‪ ،‬وحماوالت التوليف بني الرتاث واحلداثة ال ختلو من مزالق التلفيق أو يف‬
‫أحسن األحوال ال تزيد عن ترمجة الوافد من الثقافة الغربية ‪ ،‬يقول أحد الدارسني ‪" :‬مثل هذا اجلمع‬
‫كثري يف خطابات نقد النقد والتنظري وأكثر ما يكون يف بعض مناذج اخلطاب التعليمي‪ ،‬الذي يتوق‬
‫إىل التنظري‪ ،‬ولكنه يقع عموما يف العرض النظري‪ ،‬مثل ذلك عند من يتصدى ملا يسميه "نظرية‬
‫األسلوب" اليت يتم التعبري عنها بتقدمي معلومات مفصلة حبسب املباحث (الفصول) اآلتية ‪ :‬فكرة‬
‫األسلوب عند األدباء‪ ،‬علم اللغة‪ ،‬وعلم األسلوب علم األسلوب والنقد األديب وتاريخ األدب‪ ،‬علم‬
‫األسلوب وعلم البالغة‪ ،‬ميادين الدراسة األسلوبية‪ ،‬كيف نقرأ النص الشعري‪ 2".‬تتألف النظرية من‬
‫أمشاج متفرقة من أفكار ومبادئ وتعاد صياغتها وفق رؤية معينة مما يربز نظرية مغايرة ملا تآلف سابقا‬
‫ألن النظرية‪ ":‬تتأسس على (التجميع) و(الرتكيب) من أشتات متفرقة ومتباينة وقد يكون التباين بني‬
‫‪3‬‬
‫مصادر أجزائها شديدا إىل درجة التناقض فيما بينها‪".‬‬

‫انطالقا من هذا التجميع والرتكيب تتشكل النظرية وفق آلية اجلمع والتنظيم‪ ،‬وإال استحال‬
‫–‬ ‫األمر إىل خلط وجتديف ورمبا يصل إىل حد التناقض يقول عبد اهلل الغذامي‪ ":‬إن صناعة النظرية‬
‫عندي‪ -‬عمل يشبه عمل الشعر عند ابن رشيق الذي يقول إن الشعر كالبحر أهون ما يكون على‬

‫‪ 1‬حممود الربيعي‪ :‬مداخل نقدية معاصرة إىل دراسة النص األديب‪ ،‬جملة عامل الفكر‪ ،‬الكويت‪ ،‬يوليو‪/‬سبتمرب‪ -‬أكتوبر‪ /‬ديسمرب‬
‫‪ ،0000‬مج‪،32‬ع‪ ،0‬ص‪.22 :‬‬
‫‪2‬حممد الدغمومي‪ :‬نقد النقد وتنظري النقد العريب املعاصر‪ ،‬منشورات كلية اآلداب‪ ،‬الرباط‪ ،‬مطبعة النجاح اجلديدة‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪ ،0000‬ص‪. 038 :‬‬
‫عبد اهلل حممد الغذامي ‪ :‬ثقافة األسئلة‪ -‬مقاالت يف النقد والنظرية‪ ،-‬دار سعاد الصباح‪،‬الكويت‪،‬ط‪ ،0002 ،3‬ص‪02 :‬‬
‫‪3‬‬

‫‪162‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اجلاهل أهول مايكون على العامل وأتعب أصحابه قلبا من عرفه حق معرفته ويقول أيضا‪ :‬عمل الشعر‬
‫على احلاذق به أشد من نقل الصخر‪ ،‬وكذلك هو العمل يف النظرية ويف كل فكر جاد‪ ،‬واليستهرت‬
‫بذلك أو يستقله إال اجلاهل كما يستهرت بالبحر‪ .‬أما العامل الذي اكتوى بنار املعرفة فإنه يعرف كيف‬
‫‪1‬‬
‫يكون التعب والنصب‪".‬‬

‫وتأسيسا على ما مت ّّ‪ ،‬تتعدد مفاهيم النظرية من سياق أديب أو نقدي إىل آخر‪ ،‬ورمبا محل‬
‫املصطلح الكثري من املدلوالت واملعاين اليت تند عن احلصر‪ ،‬فمنها مثال ما حييل إىل دالالت عامة‬
‫تعرض املصطلح إىل الكثري من‬‫ومنها ما حييل إىل دالالت نسقيه تعين وجود أفكار هلا خصوصيتها‪ ،‬و ّ‬
‫التخريج يف حماولة ضبط املفهوم وحصره‪ ،‬إال أن حدود املصطلح بقيت عائمة وأثرية وتأىب أن تضبط‬
‫يف حدود متيزها عن غريها من املفاهيم واملصطلحات‪ ،‬وال ميكن أن تكون النظرية "تامة أوكاملة‪،‬‬
‫مثلما أن اهتمام املرء‪ ،‬يف احلياة اليومية ال تستنضبه‪ ،‬أبدا‪ ،‬الصور الزائفة‪ ،‬والنماذج‪ ،‬أو التجريدات‬
‫‪2‬‬
‫النظرية املستخلصة منها‪".‬‬

‫ينفي ناقد آخر أن يكون مصطلح نظرية مؤطرا تأطريا هنائيا‪ ،‬حيث يلغي كل زيادة خارج‬
‫املفهوم فيقول‪ ":‬ال أود أن أقول أن النظرية هي حامل احلقيقة املطلقة‪ ،‬فنظرية النقد ال تظل جديرة‬
‫بامسها إال يف نقصها املستمر‪ ،‬أو لنقل إن جوهر النقد يرفض كل نسق "كامل" أو متكامل‪ ،‬ألن‬
‫املمارسة األدبية تظل أكثر خصبا وتنوعا من النسق النظري‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإن "نقص النقد" ال ينفي‬
‫‪3‬‬
‫مفاهيمه وال يلغي شرعية هذه املفاهيم وقدرهتا على إطالق األحكام‪".‬‬

‫من مجلة الشروط املعرفية اليت تواكب ميالد النظريات النقدية‪ ،‬هو التمثّل الدائم ملفاهيمها‬
‫ومصطلحاهتا‪ ،‬وهو األمر الذي ينجر عنه حماولة لتجاوز الراهن من العملية النقدية‪ ،‬والتطلع إىل‬
‫املأمول واملنتظر منها‪ ،‬دون االنتقاص من جهود األنا املنفعلة يف حماولة صياغتها لنظرياهتا‪ ،‬واليت رمبا‬
‫ال تكون ذات خصوصية عالية حبكم عاملية املسألة وإمنا إسهاما منها يف صناعة املعرفة البشرية‪ ،‬ألن‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.32 :‬‬


‫‪2‬إدوارد سعيد‪ :‬انتقال النظريات‪ ،‬جملة الكرمل‪ ،‬مؤسسة الكرمل الثقافية‪ ،‬بيسان للصحافة والنشر والتوزيع‪ ،‬نيقوسيا‪ ،‬قربص‪،‬‬
‫ع‪ ،0082 ،0‬ص‪.32 :‬‬
‫دراج‪ :‬يف داللة النقد‪ ،‬جملة الكرمل‪ ،‬مؤسسة الكرمل الثقافية‪ ،‬بيسان للصحافة والنشر والتوزيع‪ ،‬نيقوسيا‪ ،‬قربص‪ ،‬ع‪،3‬‬
‫فيصل ّ‬
‫‪3‬‬

‫‪ ،0080‬ص‪.012 :‬‬
‫‪163‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫النظريات "أنظمة قابلة للتحاور‪ ،‬لكن التحاور بينها مشروط‪ ،‬وأي نظرية ميكن أن تنتج عن احلوار متر‬
‫عرب الوعي خبطورة التلفيقية وعدم مشروعية االنتقائية حىت يتولد مشروع ممكن يستهدف إجياد‬
‫‪1‬‬
‫"نظرية" جامعة‪".‬‬

‫غري أن عملية مسايرة اآلخر الغريب وحماولة مواكبته يف كشوفاته النظرية واملمارسية‪ ،‬هو‬
‫العمل اجلوهري الذي ندب الكثري من النقاد العرب احملدثني أنفسهم على القيام به وتصريف كل‬
‫جهودهم النقدية يف إحيائه وبعثه‪ ،‬وتنكشف األنا الرتاثية ممثلة يف أقطاب الفكر واملعرفة يف الرتاث‬
‫أصل له شكري عياد فمايز‬ ‫العريب واإلسالمي‪ ،‬وتبدو جلية مالحمها يف البسط املعريف التنويري الذي ّ‬
‫بني فريقني هنضا بعبء التغيري الذي مارساه على الواقع الثقايف العريب إبان الغزو الغريب لبالد العرب‪،‬‬
‫ويلوذ الرجل بأقطاب الرتاث الفكري العريب قصد املخالفة وليس املقايسة واملماثلة‪ ،‬بل بغرض الفهم‬
‫والتمثل والتجاوز‪ ،‬يقول‪ ...":‬وكان سالحهم الفكري األول يف هذه املعركة هو تراث العرب‬
‫العقالين‪ ،‬فبهذا الرتاث وحده استطاعوا أن جياهبوا حضارة الغرب العقالنية مل تكن تستطيع أن تلقى‬
‫‪2‬‬
‫رينان إىل بعقلية ابن خلدون‪".‬‬

‫وهو حتد وقع صداه على عاتق الرواد األوائل يف عصر النهضة‪ ،‬ذلك ألهنم مل ينكفئوا على‬
‫أعقاهبم بسبب وجلهم بالغريب الوافد إمنا وجدوا مالذا آمنا يف تراثهم العتيد فرجعوا إليه قصد مسايرة‬
‫الواقع وعدم الوقوع يف مطب االنبهار مبنجزات الغرب سواء املادية أو الفكرية‪.‬‬

‫يد ّشن شكري عياد نظرته إىل واقع الثقافة العربية اليوم‪ ،‬من منظور الباحث احلصيف الذي ال‬
‫يألوا جهدا يف حماولة كشف أسباب النكوص‪ ،‬اليت أدت إىل ضعف النتاج الفكري والثقايف لألمة‬
‫العربية يف العصر احلديث‪ ،‬مربزا أهم العوامل اليت دفعت بالرواد من أمثال الطهطاوي وغريه إىل‬
‫االنبهار أوال مبا عند الغرب‪ ،‬وثانيا حماولة حماكاة نتاجاته اإلبداعية واملادية يف احلياة اليومية للفرد‬
‫العريب‪ ،‬وبعدما أزاح الستار عن هذه األسباب الكامنة وراء التشظي الذي أصاب الذات العربية‪،‬‬
‫وجعلها أسرية النظرة التقديسية لكل ما يصدر عن اآلخر الغريب‪ ،‬بعد هذا راح يبحث عن أجنع‬
‫السبل للنهوض هبذه الذات يف جماهبة اآلخر ومن مث حماولة رسم معامل للطريق رمبا تُـيَ ّسر الدرب‬

‫‪1‬حممد الدغمومي ‪ :‬نقد النقد‪ ،‬ص‪. 022 :‬‬


‫‪2‬شكري عياد‪ :‬األدب يف عامل متغري‪ ،‬ص‪.01 :‬‬
‫‪164‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫التغري مطابقا‬
‫للمسري "ولكن اجملتمع العريب يسري اآلن بشحنة ضخمة من قوة اإلرادة حنو جعل ّ‬
‫‪1‬‬
‫للوعي‪".‬‬

‫إن الوعي الذي يرمي إليه عياد‪ ،‬ليس الوعي الزائف أو املمكن الذي من شأنه أن يضلل الفرد‬
‫وجيعل من قيمة وجوده مفرغة من حمتواها‪ ،‬بل ذلك الوعي بالذات العربية يف وجودها وإنتاجها‬
‫وفكرها ويف كل ما متتلك‪ ،‬بعيدا عن اإلهبام واألوهام اليت رمبا كانت الذات العربية ضحية من‬
‫ضحاياها بعد أن م ّكن الوهم لنفسه من السيطرة عليها‪ ،‬ذلك الوعي املقصود باجلانب األنطولوجي‬
‫للفرد العريب ويف كيفيات التفريق بينه وبني غريه‪ ،‬ال على اعتبار أن العريب بالضرورة هو أقل حظا من‬
‫الغريب يف األخذ بأسباب التقدم والرقي‪ ،‬بل يف كيفية استثمار هذه األسباب الدافعة إىل التغري من‬
‫حال إىل آخر‪ ،‬األمر الذي حدا به إىل حماولة الدعوة للذود بالرتاث الفكري لألمة العربية‪ ،‬والدفع به‬
‫التغري الذي يدعو له وينافح‬
‫من جديد يف عملية إحياء ملا هو قدمي قصد جماهبة الوافد بالرصني‪ ،‬وهو ّ‬
‫عنه؛ ذلك ألن‪ " :‬كل جديد يف ذلك التغري يزيد تنبه الوعي ويوسع قاعدته فيدفعه إىل حتقيق تغري‬
‫‪2‬‬
‫أكرب‪ ،‬وهذا الدفع املتبادل الذي أشرت إليه‪ ،‬وهو دليل يقظة شاملة وبناء مادي وروحي متكامل‪".‬‬

‫يعرتف عياد بصعوبة التغري املنشود باعتبار الرتاكمات املعرفية والثقافية اليت ترسبت يف الوعي‬
‫العريب عرب حقب زمنية سحيقة‪ ،‬األمر الذي جيعل عملية التغري أشبه باملغامرة البطولية اليت تتطلب‬
‫نوعا من اجللد والصرب‪ ،‬وحماولة التجاوز احملفوف مبعيقات التقديس ومنطية التفكري‪ ،‬يقول‪":‬وألن‬
‫التغيري ال يتم بسهولة‪ ،‬فهناك قدر من البطولة يلزم إلمتامه‪ ،‬وهذه البطولة تتفاوت مستوياهتا كما‬
‫تتفاوت جماالهتا إال أهنا تظل دائما بطولة كلما أثبتت قدرة اإلنسان على تغيري جمتمعه وتغيري نفسه‬
‫‪3‬‬
‫أيضا‪".‬‬

‫تتعاظم النظرة النقدية الفاحصة عياد عندما يعمل آلة النقد البناءة يف كشف املخبوء واملسترت‬
‫من معهود األدب يف العامل العريب‪ ،‬وتتجلى هذه النظرة يف نزع رداء التدثر عن بعض األنواع األدبية‬
‫السائدة‪ ،‬فيجعل منها مسرحا لعمله النقدي احلصيف‪ ،‬وحماولة بلورة وترتيب هذه األنواع تبعا للفاعلية‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.25 ،22 :‬‬


‫‪ 2‬شكري عياد‪ :‬األدب يف عامل متغري‪ ،‬ص‪.25 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.25 :‬‬
‫‪165‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫االجتماعية اليت تنهض مبقاربتها " فتصوير اإلنسان جبميع جوانبه هو مهمة األدب احلق‪ ،‬األدب‬
‫اخلالص‪ ،‬الذي يعرب عن بعض احلياة يف خيال األديب‪ ،‬وهذا األدب وحده هو الذي يؤثر يف القراء‬
‫تأثريا عميقا فيجعلهم يشعرون بنبض احلياة من حوهلم كما شعر األديب هبذا النبض‪ ...‬أما أدب‬
‫ميس من نفس قارئه إال السطح‬
‫الدعاية الذي يصور سطح احلياة فقط‪ ،‬ليقول درسه وينتهي فإنه ال ّ‬
‫‪1‬‬
‫أيضا‪".‬‬

‫إن مصطلح األدب اخلالص الذي ّبوأه عياد مكانة هامة يف مشروعه النقدي‪ ،‬وجعل منه‬
‫املنهج الواضح للخروج من ربقة األدب يف عمومه‪ ،‬هو ما شكل دعوة صرحية من قبل الناقد‬
‫لالحتفاء به والتشيّع له‪ ،‬ألنه ينهض على مالمسة مهوم القارئ العريب الذي جعله الناقد قطبا هاما يف‬
‫معادلة تدور حول كيفيات إصالح وتصوير اجملتمع باعتبار أن األدب بنية فوقية تؤثر ال حمالة يف‬
‫باقي البنيات األخرى ومن ضمنها اإلنتاج املادي والثقايف يف إطالقه‪.‬‬

‫أما كيفيات التصوير الكفيلة بإخراج القدمي يف ثوب اجلديد‪ ،‬فهي من مهام اللغة اليت جيب أن‬
‫تتطور وتساير هذا الركب املعريف‪ ،‬واليت رمبا احتاجت إىل هذا التجديد والتطوير بفعل الثورة العلمية‬
‫والفكرية لألمة يف زخم التطور احلاصل من قبل اآلخر الغريب‪ ،‬وانعكاسات ذلك التطور على األنا‬
‫الشرقية‪ ،‬هذه اللغة هي مفتاح املسايرة وهي الكفيلة خبروج الذات من براثن التبعية والتخلف إىل‬
‫فضاءات أرحب من املدنية املتحضرة‪ ،‬ويف الوقت ذاته ال ينبغي أن تتم عملية تطوير وحتديث اللغة –‬

‫باعتبارها رمزا من رموز اهلوية‪ -‬يف برتها عن أصوهلا املرتسبة منذ آالف السنني‪ ،‬بل تتم هذه العملية‬
‫بفعل التغيري املتاح يف عملية مكوكية ترجع باللغة إىل أصوهلا يف حبل معريف ال يقبل االنقطاع‪ ،‬ويف‬
‫الوقت نفسه تش ّد طرف احلبل إىل احلاضر واملستقبل‪ ،‬وكأن املاضي هو الوصي الوحيد على عدم‬
‫ضياع هذه اهلوية " وهلذا حيتاج األدباء يف كل عصر إىل أن حيدثوا شيئا عجيبا يف اللغة‪ ،‬حيتاجون أن‬
‫‪2‬‬
‫جيددوها‪ ،‬وجيعلوها بنت اليوم دون أن حيطموا عالقتها األصيلة اليت ترجع إىل مئات السنني‪".‬‬

‫النقد االجتماعي لألدب كما مارسه عياد على رواية زينب‪ ،‬وإبداعات وترمجات املنفلوطي هو‬
‫ما اصطلح عليه بالنقد السوسيولوجي‪ ،‬ففي قراءته لرواية زينب يلجأ الناقد إىل ما توافر لديه من‬

‫‪1‬شكري عياد‪ :‬األدب يف عامل متغري ‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪166‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫آليات قرائية زاوجت بني الرتاث واحلداثة‪ ،‬يف مواءمة فريدة مسحت له بتجاوز هذا الواقع املرير الذي‬
‫كشفه يف قراءته إىل حماولة الوصول بالقراءة إىل االنعطاف هبا عن ما سجلته من مواقف حادة‪،‬‬
‫شكلت زينب قطب الرحى فيها مع حماولة إثارة القارئ واستمالة عطفه ومواساته لبطلة الرواية –إن‬
‫كانت زينب بطلة مبعايري النقد السيميائي‪ -‬وكيفية معاناهتا من السلطة البطريركية للمجتمع العريب‬
‫األبوي آنذاك‪ ،‬يقول عياد "فهي ّ‬
‫تزوج دون إرادهتا كما تزوج عزيزة دون إرادهتا وال يفكر أحد أن‬
‫يستشريها يف أمر نفسها‪ ،‬وإمنا هي كاملتاع تنقل من بيت إىل بيت وخييب أمل زينب يف احلياة وتذبل‬
‫‪1‬‬
‫نفسها احلساسة كما تذبل الزهرة الرقيقة‪ ،‬ومتوت روحها قبل موت اجلسد‪".‬‬

‫غري أن الالفت للنظر يف قراءات عياد للرواية والقصة املصريتني هو احتكامه إىل حاسة الذوق‬
‫الفين‪ ،‬أثناء عملية القراءة وعدم إتباع أو تطبيق آليات منهج نقدي بعينه‪ ،‬إمنا هي حماولة منه إىل‬
‫الوقوف عند املناحي الفنية يف األثر انطالقا من شكلها‪ ،‬أي شكلنة الواقع الفين مع إعطاء اجلانب‬
‫املضموين حصته من العملية النقدية‪ ،‬اليت هي يف حقيقتها حمكومة مبرجعيات قرائية هي مزيج من‬
‫الرتاث واحلداثة‪ ،‬وحتتم على القارئ الوقوف عند املنعطفات احلادة اليت متيز قراءة عن أخرى‪ ،‬ويف‬
‫الكثري من األحيان يلجأ الناقد إىل حتكيم مقوالت النقد االجتماعي قصد تفسري وحتليل هذه اآلثار‪،‬‬
‫دون أن يلزم نفسه عناء املكاشفة املنهجية عند هذه األعمال‪ ،‬ويف الوقت نفسه هو موقف موازن بني‬
‫هذه اآلثار من حيث الشخصيات الفاعلة ومناط احلكي حول مقابالت هذه الشخصيات يف العامل‬
‫والواقع " إن مشروع عياد السابق يف طرح مفهوم التذوق ومعرفة القيمة‪ ،‬ترديد ملعطيات املنهج‬
‫التأثري واالنطباعي فضال عن اجلمايل يف النقد ‪ ...‬وتلك املعطيات قد ال تستطيع حتمل مشاق النقد‬
‫املعاصر أو الصرب على أعبائه‪ ،‬ألن الساحة النقدية املعاصرة قد جتاوزت مفاهيم االستجابة الذاتية أي‬
‫اإلسقاط اخلارجي على النص‪ ،‬واستبدلتها مبفاهيم حتليل البىن واألنساق والرتاكيب واألنظمة النصية‬
‫‪2‬‬
‫واملستويات الداللية ونظم العالمات وإحياء العالمات"‬

‫‪ 1‬شكري عياد‪ :‬األدب يف عامل متغري ‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪2‬حممد سامل سعد اهلل‪ :‬ما وراء النص‪ ،‬دراسات يف النقد املعريف املعاصر‪ ،12‬عامل الكتب احلديث‪ ،‬إربد‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪ ،3118‬ص‪.020:‬‬
‫‪167‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫لقد اعتمد الناقد اعتمادا كليا يف إصدار أحكامه النقدية‪ ،‬على ملكة الذوق بشكل مباشر‪،‬‬
‫خاصة يف مرحلة البدايات النقدية له‪ ،‬ووضع مجلة من املسلمات لبلورة مشروعه النقدي وهي‬
‫كاآليت‪:‬‬

‫‪ -0‬الشعور بالقيمة أصيل يف فطرة اإلنسان‪ ،‬ومتميز ومتقدم على الشعور باملنفعة‪.‬‬

‫‪ -3‬يرتتب على ذلك أن الشعور بالقيمة واحد يف البشر ال خيتلف جوهره وإن اختلفت‬
‫مظاهره‪.‬‬

‫‪ -2‬الشعور بالقيمة قابل للتحليل حبيث ميكن فهم جوهره‪ ،‬لو أن هذا الفهم يتجاوز حدود‬
‫املاهيات والوظائف‪.‬‬

‫‪ -2‬الشعور بالقيمة قابل للتدريب من خالل إدراك مظاهره وإدراك عالقته بتلك املظاهر‪.‬‬

‫إال أن هذه املسلمات حتتاج إىل إعادة نظر من جانب أن اإلحساس بالقيمة شيء رمبا ال‬
‫يكون أساسيا عند اإلنسان عامة واملبدع بوجه خاص‪.‬‬

‫ويصف عياد هذه املسلمات أيضا بأهنا مسلمات علمية تسهم إسهاما هاما يف عملية‬
‫التحليل‪ ،‬وأن منهجها البد أن يعتمد على التجربة اجلمالية‪ ،‬وهي خربة مشرتكة بني الكاتب والقارئ‬
‫– وهنا ميكن االستفادة من طروحات نظريات االتصال والتداول‪ ،-‬ورمبا تندرج هذه التجربة حتت‬
‫مصدر هام من مصادر علم اجلمال كما عند كروتشه (‪ )Croce‬وشوبنهاور (‪،)SHOPENHAUER‬‬
‫لب الرسالة اإلبداعية‪ ،‬لذلك جيب الرتكيز على‬ ‫إضافة إىل أن التجربة اجلمالية عند عياد هي ّ‬
‫اكتشافها ومعرفتها باعتبار أن التجربة اجلمالية خاصة باملبدع كما هي خاصة باملتلقي على السواء‪،‬‬
‫وهو ما يعرف بعلم اجلمال اخلاص باملتلقي أو علم اجلمال التجرييب‪ 1،‬وتعتمد التجربة اجلمالية‬

‫‪ 1‬ملزيد من التوضيح حول اإلجتاهات النظرية والتجريبية يف علم اجلمال احلديث‪ ،‬ينظر‪ :‬راوية عبد املنعم عباس‪ ،‬القيم‬
‫اجلمالية‪ ،‬دار املعرفة اجلامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،0082 ،‬الفصل اخلامس‪ ،‬ص‪.300 ،322:‬‬
‫‪168‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫كذلك يف شق آخر على اجلانب اإلدراكي الذي يعضد جبانب تفسريي‪ ،‬أي أن تتماشى عملية‬
‫‪1‬‬
‫اإلدراك مع عملية التفسري للوصول إىل معرفة أسرار عملية اإلبداع‪.‬‬

‫ومن شروط العملية اإلبداعية يف جمال النقد عند عياد أن يعتمد الناقد اعتمادا أساسيا على‬
‫الذوق‪ ،‬إذ يؤكد أن الذوق ال يرتك على سجيته‪ ،‬وال متنح له الدميقراطية بأبعادها‪ ،‬بل أن حريته تكمن‬
‫يف تلمس القيمة أو القيم اليت متثل معان تستحسن لذاهتا‪ ،‬أو تستحسن وهي متضمنة نصوصا‬
‫‪2‬‬
‫إبداعية‪.‬‬

‫ليس هناك شك يف أن املزالق اخلطرية اليت وقع فيها العلم احلديث كان خطرها كبريا على‬
‫اإلنسان‪ ،‬نظرا للطابع املادي البحت الذي هنجه رواد العلم وطالبوه‪ ،‬فلم يعد اإلنسان حباجة كبرية‬
‫إىل إجنازات بعض العلوم نظرا ملبدأ التشيء الذي أصاب اإلنسان جراءه‪ ،‬واملؤسي يف األمر كله أن‬
‫صنمية هذه العلوم وآليتها هي ما أوصل إنسان العصر احلديث إىل نبذ هذا العلم وحماولة إجياد بدائل‬
‫الئقة لعملية البحث‪ ،‬يكتب شكري عياد مربزا النافع من العلم دون أن حيصره يف اليقينيات النهائية‪،‬‬
‫يقول‪" :‬كلمة العلم ميكن أن تطلق على كل معرفة منظمة‪ ،‬أو كل معرفة نافعة‪ ،‬وبعض الناس‬
‫يتصورون أيضا أن املعرفة جيب أن تكون يقينية لتكون علما‪ ،‬ولكن من املرجح أن جيمع كل هؤالء‬
‫على أن العلم مبوضوع ما جيب أن يشتمل على قضايا كلية ميكن أن نسميها أحكاما عامة‪ ،‬أو‬
‫‪3‬‬
‫قواعد‪ ،‬أو قوانني‪ ،‬تنطبق على كل حالة خاصة ميكن أن تعرض مما يدخل حتت هذا املوضوع‪".‬‬

‫يتناول عياد قضية العلم احلديث من منظور الناقد احلصيف الذي يزن األمور مبيزان التبصر‬
‫والتعقل‪ ،‬وال جياري أصحاب الدعوات املتعاملة يف إثبات أو نفي صفة العلمية على أمور رمبا تقبل‬
‫هذا التوصيف أو تنفيه‪ ،‬وهو يؤسس لشرعية مفهوم العلم ويقيمه داخل مبادئ التفكري العلمي‪،‬‬
‫ويرمي من خالل ذلك إىل إثبات صفة العلمية على الكثري من إجنازات البالغة العربية القدمية يف‬
‫طروحاهتا املنهجية إبان عصورها الزاهية‪ ،‬دون أن يقصر صفة العلم على الدراسات احلداثية فقط‪ ،‬إمنا‬

‫‪1‬ينظر شكري حممد عياد‪ :‬بني الفلسفة والنقد‪ ،‬منشورات أصدقاء الكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،0001 ،‬ص‪.52 ،50 :‬‬
‫‪2‬ينظر شكري حممد عياد‪ :‬دائرة اإلبداع‪ ،‬ص‪.28 ،22 :‬‬
‫‪3‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬سبتمرب ‪ ،0002‬ع‪ ،022‬ص‪.05 :‬‬
‫‪169‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تنسحب العملية على رقعة زمنية واسعة‪ ،‬يضيف عياد إىل أن الدارس األديب" إذا نظر إىل عمله على‬
‫أنه وضع قواعد واكتشاف قواعد كانت وجهته األوىل يف تناول األعمال األدبية اخلاصة هي تقييم‬
‫‪1‬‬
‫هذه األعمال‪ ،‬أي احلكم مبدى مطابقتها للقواعد"‬

‫املوسع هذا‪ ،‬يؤسس لشرعية التجريب يف العلوم‬ ‫رمبا جنانب الصواب إذا فهمنا أن تعريفه ّ‬
‫اإلنسانية‪ ،‬غري أن ما ميكن الركون إليه هو عدم التصديق بأن هذه الشرعية تنتفي إبان القيام‬
‫بعمليات نقدية إلبداعات إنسانية موضوعها اللغة‪ ،‬وهبا تتكون مادهتا األساسية‪ ،‬ألن تفسري الكثري‬
‫من الظواهر األدبية أو النقدية ال ميكن فيه الوثوق بنتائج العلوم التجريبية فيها‪ ،‬بقدر ما يصل الناقد‬
‫إىل تقريبات منهجية لنتائج حمتملة ألهنا ببساطة ال ختضع للتجريب والقياس العلمي كغريها من‬
‫العلوم الطبيعية أو الفيزيائية‪.‬‬

‫‪ .4‬قضايا تراثية ‪:‬ي الفكر النقدي عند عياد‬

‫‪ -1.4‬كيفيات قراءة الرتاث‬

‫تتباين الطرق والسبل يف كيفية قراءة الرتاث بإطالقه‪ ،‬سواء كان هذا الرتاث تراثا نقديا أم تراثا‬
‫أدبيا أم دينيا‪ ،‬ألن وسائل القراءة ختتلف من منحى إىل آخر‪ ،‬وتتجسد فاعلية القراءة النقدية للرتاث‬
‫من منظور أنه موجود هناك يف نقطة ما من املاضي لكنه يسكننا يف الوقت نفسه‪ ،‬ويتواجد فينا‬
‫ونتواجد فيه ألن الرتاث ميثّل هذه السلطة الرمزية اليت جتعلنا نتحرك وفق ما ميليه علينا من جهة‪،‬‬
‫ووفق ظروف العصر والزمن من جهة أخرى‪ ،‬يقول أدونيس عن كيفية القراءة التجاوزية ملقوالت‬
‫الرتاث‪" :‬إن جتاوز املاضي ال يعين جتاوزه على اإلطالق‪ ،‬وإمنا يعين جتاوزا ألشكاله ومواقفه ومفهوماته‬
‫وقيمه اليت نشأت كتعبري تارخيي عن احلاالت واألوضاع الثقافية واإلنسانية املاضية‪ ،‬واليت يتوجب‬
‫اليوم أن يزول فعلها لزوال الظروف اليت كانت سببا يف نشوئها‪ ،‬فلم يعد الشاعر العريب ينظر إىل‬
‫‪2‬‬
‫املاضي كنموذج للكمال‪ ،‬أو كقدسية مطلقة‪ ،‬صار املاضي يهمه بقدر ما يدعوه إىل احلوار معه‪".‬‬

‫شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬أدونيس‪ :‬زمن الشعر‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،0028 ،3‬ص‪.21 :‬‬


‫‪170‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫رمبا يتأسس الوعي باملعضالت الوجودية اليت يعاجلها الشعر من منطلق مسببات القول‪ ،‬ذلك‬
‫أن سياقات القول الشعري واإلبداعي عموما إمنا تتباين من حقبة إىل أخرى وتبقى عملية القراءة‬
‫كفيلة بإبراز هذه املكانة اليت يتمتع هبا املاضي على حساب ما سيأيت من إبداعات رمبا تتحرر من‬
‫ربقته ورمبا تبقى حبيسة مناذجه وأساليبه‪.‬‬

‫إن عملية التخلص من سلطة املاضي الرتاثي هي ما دعت إليه مناذج القراءة النقدية احلديثة‬
‫واملعاصرة‪ ،‬باعتبار القراءة عملية حيوية وحوارية تكون بني القارئ والنص‪ ،‬هذا األخري الذي خترتقه‬
‫ثغرات وفجوات جيب على هذا القارئ ملؤها وردم حفرها‪ ،‬حىت يتخلق نص جديد ال يقل أمهية عن‬
‫النص اإلبداعي األول‪ ،‬ورمبا يفوقه من حيث الوقوف عند أكرب قدر من الدالالت واملعاين اليت خيتزهنا‬
‫هذا النص‪ ،‬وال ميكن‪ -‬يف الوقت ذاته – أن ننظر إىل عملية القراءة على أهنا القبض النهائي على‬
‫كل ما حيتمله النص من معان‪ ،‬إمنا تقوم هذه العملية على أطر نسبية للقبض على عدد ال بأس به‬
‫من الدالالت‪.‬‬

‫متاشيا مع ما سبق‪ ،‬ال تندرج عملية القراءة وفق منظور هنائي مطلق‪ ،‬وإمنا حتتكم يف عنصرها‬
‫األول إىل نوع من النسبية اليت حتكم العالقة التفاعلية بني النص كوجود مستقل عن مؤلفه‪ ،‬وبني‬
‫القارئ باعتباره املنتج الثاين له‪ .‬غري أن عملية القبض على احلقيقة النهائية كما ذهب إىل ذلك‬
‫أدونيس شيء من فضول الكالم أو شيء من التجديف النقدي‪ ،‬ذلك أن النص اإلبداعي ال يروم‬
‫الوصول إىل احلقيقة وال يبحث عنها‪ ،‬ألن ذلك من شأن العلوم التجريبية الدقيقة‪ ،‬أما العلوم‬
‫اإلنسانية مبا فيها النص األديب –باعتباره علما إنسانيا‪ -‬ال هتدف وصول احلقيقة‪ ،‬إمنا تنشد اجلمال‬
‫الفين واإلبداعي الذي يتمايز به املبدعون بعضهم عن بعض‪.‬‬

‫إن احلقل املعريف الذي يشتغل ضمنه شكري عياد‪ ،‬ال يكاد يتجاوز املقوالت البالغية القدمية‬
‫إذ حياول جاهدا التوليف بني هذه املقوالت واملفاهيم واملصطلحات الوافدة مع الدراسات األسلوبية‬
‫احلديثة‪ ،‬مما جنم عنه دعوته الصرحية لعملية تأصيل مباحث األسلوبية يف الرتاث النقدي العريب لقد‪":‬‬
‫أفاد شكري عياد فائدة كربى من النقد الغريب يف بلورة (النقد التكاملي) الذي تتضافر فيه خيوط‬
‫األصالة وخيوط احلداثة‪ ،‬فقدم رؤية للبالغة العربية اعتمادا على (التأصيل)‪ ،‬لقد جعل انفتاح البالغة‬

‫‪171‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫العربية على (األسلوبية) ما يقدم يف العقل العريب‪ ،‬برؤية خاصة‪ ،‬أكثر منطقية‪ ،‬وبالتايل أكثر قدرة‬
‫على البقاء"‪.1‬‬

‫رمبا نعلل حتجيم املساحة املعرفية اليت يشتغل عليها عياد‪ ،‬ونقصرها على البالغة العربية‬
‫فحسب‪ ،‬ألن ذلك يرجع إىل تنوع اهتمامات الرجل بني القصة والرواية والنقد والرتمجة وغريها من‬
‫احلقول املعرفية اليت تضلّع فيها‪ ،‬على الرغم من جهوده يف تأسيس خطاب نقدي عريب أقل ما يقال‬
‫عنه أنه تكاملي يف مرماه ويف أسبابه‪ ،‬غري أن هاجس التأصيل هو ما دفع عياد إىل تبين هذه‬
‫التكاملية إن جاز التعبري‪ ،‬يف قراءة الرتاث البالغي يف ضوء األسلوبيات احلديثة‪ ،‬يقول عياد ‪":‬إ ّن‬
‫‪2‬‬
‫فكرة التأصيل ال تويل ظهرها للثقافة العربية‪ ،‬بل إهنا ما كانت لتوجد لوال لقاؤنا هبذه احلضارة‪".‬‬

‫إن عملية التفاعل اخلالق والتأثري املفيد عملية ذات جدوى‪ ،‬وتتأتى فاعليتها من استمدادها‬
‫من اآلخر بعض ما يزيد من شرعية األنا‪ ،‬إال أ ّن عملية املثاقفة اليت تتم دوما بني اآلداب إمنا متنح‬
‫شرعيتها كذلك من مدى احملافظة على خصوصية كل طرف على حدى‪ ،‬دون الذوبان فيه أو‬
‫االمنحاء يف طروحاته‪ ،‬وعملية إثبات هذه الفردانية هي ما حاولت املركزية الغربية منذ زمن بعيد أن‬
‫تلغيه من دافع احلصول على هذه املرتبة الريادية اليت تؤهلها الحتالل مراتب متقدمة على مستوى‬
‫السلم احلضاري العاملي‪ ،‬ويقف دعاة التغريب دوما يف حماولة إثبات ذلك الوجه االستعالئي واملتقدم‬
‫للغرب على حساب تلك املرتبة املتدنية للذات الشرقية‪ ،‬وما يدور يف فلكها ألن‪ ":‬احلضارة الغربية يف‬
‫العصور احلديثة ال تقنع أن تذوب الشعوب اإلسالمية والعربية يف مدنية الغرب؛ بل تريد أن تعرتف‬
‫‪3‬‬
‫هلا هذه الشعوب بالتبعية لألصول اليونانية يف القدمي‪ ،‬وما الغربيون إال حفدة اليونانيني‪".‬‬

‫املرجوة من هذا إمنا هي حماولة‬


‫سيحاول دعاة هذه التبعية تثبيتها بأي طريقة كانت‪ ،‬ألن الغاية ّ‬
‫طمس معامل الذات العربية‪ ،‬ومسخ هويتها وسلبها خصوصيتها الثقافية واإلثنية‪ ،‬األمر الذي حاوله‬
‫منذ البداية بعض املستشرقني الذين جهدوا يف إبراز القيمة املتعالية للفكر األوريب سواء القدمي أو‬

‫‪1‬إبراهيم أمحد ملحم‪ :‬اخلطاب النقدي وقراءة الرتاث‪-‬حنو قراءة تكاملية‪،‬عامل الكتب احلديث‪ ،‬األردن‪،3112 ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪2‬سعد البازعي‪ :‬بني منت النقد وهامشه‪-‬شكري عياد وقلق التأصيل‪ ،-‬جملة نزوى‪ ،‬مسقط‪ ،‬عمان‪ ،‬أفريل ‪،3110‬ع‪ 32‬مقال‬
‫على االنرتنيت اطلع عليه بتاريخ ‪.3100/13/03‬‬
‫‪3‬عباس أرحيلة‪ :‬مسألة التأثري األرسطي لدى مؤرخي النقد والبالغة العربيني‪ ،‬املطبعة والوراقة الوطنية‪ ،‬الرباط‪ ،‬ط‪،0000 ،0‬‬
‫ص‪.05 :‬‬
‫‪172‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫احلديث‪ ،‬ويف الوقت ذاته إثبات مصادر النقص لكل ما هو عريب إسالمي" لقد جتاهل املستشرقون‬
‫قوة الكينونة حني تكون هلا بنيتها وثوابتها وقناعاهتا وضوابطها احلضارية فتسعى أن تعانق الرتاث‬
‫أىن وجدهتا‪ ،‬فتتفاعل معها يف ضوء‬
‫السابق يف حياة البشر‪ ،‬وأن جتعل احلقيقة ضالتها تبحث عنها ّ‬
‫ثوابتها وضوابطها‪ ،‬جتاهلوا الكينونة اإلسالمية حني استطاعت أن حتول ما ينتفع به من تراث اآلخرين‬
‫‪1‬‬
‫حتويال حضاريا وتشكله وتتمثله وهتضمه‪ ،‬وتعيد إنتاجه يف ضوء حوار حضاري فعال ومثمر‪".‬‬

‫تتجاذب فرضية تأثري الفلسفة اليونانية وخباصة فلسفة أرسطو يف البالغة العربية قطبان‪ :‬القطب‬
‫يقر ويسلّم بوجود ذلك التأثري حبكم الرتمجات العديدة لكتب أرسطو خاصة‪ ،‬وحبكم‬ ‫األول ّ‬
‫التلخيصات الكثرية اليت قام هبا جمموعة من الفالسفة املسلمني يف حقب زمنية خمتلفة‪ ،‬وقطب ٍ‬
‫ثان‬
‫ينفي أية صلة للبالغة العربية بطروحات ومقوالت الفلسفة اليونانية واألرسطية منها على وجه‬
‫اخلصوص‪ ،‬يقول طه حسين ّ‬
‫مصوبا مقالته ألقطاب الفكر العريب احلديث‪ ":‬إن البيان العريب يف طور‬
‫تكوينه قبل منتصف القرن الثالث اشرتك يف تكوينه العرب والفرس واليونان‪ ،‬وبعد منتصف القرن‬
‫الثالث وجد بيانان‪ :‬عريب حمافظ ال يقرب الفلسفة اليونانية إال يف كثري من التحفظ واالحرتاس‪،‬‬
‫واآلخر يوناين جيهر باألخذ من أرسطو والنتيجة أن التيار اليوناين أغرق كل شيء‪ ،‬فالبيان العريب‬
‫يستلهم أرسطو ويتأثر به‪ ،‬والبيان اليوناين جيهر باألخذ من أرسطو‪ 2".‬تلك إذا نظرة العميد إىل‬
‫عمليات التأثري اليت مارستها الفلسفة اإلغريقية يف البيان العريب‪ ،‬فالرجل مل يركن لفرضية واحدة بل‬
‫حاول تلمس معامل التأثري هذه يف شيء من الوسطية‪.‬‬

‫‪ -2.4‬التأثري األرسطي ‪:‬ي البالغة العربية‬

‫ينقاد شكري عياد يف حتقيقه كتاب الشعر ألرسطو منذ فاحتة الكتاب‪ ،‬إىل إثبات عملية‬
‫التأثري اليت مارسها أرسطو على مقوالت النقد العريب القدمي كما احلديث‪ ،‬خاصة عندما يطرح‬
‫إشكالية فهم العرب القدامى أثناء تلخيصهم أو شرحهم كتاب أرسطو‪ ،‬على اعتبار أن الشعر العريب‬
‫القدمي مل يعرف يف أجبدياته مصطلحات أرسطو الفلسفية اخلاصة بالشعر كامللحمة والدراما‪ ،‬وخيلص‬
‫مثل من أوضح األمثلة على التأثريات العاملية يف األدب‪ ،‬أدباؤنا‬
‫الناقد إىل أن أدبنا املعاصر‪ٌ ":‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.05 :‬‬


‫‪2‬طه حسني‪ :‬مقدمة نقد النثر لقدامة بن جعفر‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬دط‪ 0005 ،‬ص‪.00 ،2 :‬‬
‫‪173‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫املعاصرون مل يكد يفلت واحد منهم من تأثري أدب أو آداب أجنبية‪ ،‬واألشكال األدبية الكربى اليت‬
‫‪1‬‬
‫نعرفها اليوم ناظرة إىل مناذج أجنبية فعقليتنا إذا متشبعة بالتفكري يف موضوع التأثري والتأثر‪".‬‬

‫يفتح عياد أبوابا مشرعة على قضية غاية يف األمهية‪ ،‬هي عملية التبادل احلضاري بني األمم‬
‫وممارسة آلية التأثري والتأثر النامجة عن غلبة أمة ألخرى‪ ،‬الشيء الذي جيعلها تابعة هلا سائرة يف‬
‫فلكها‪.‬‬

‫يص ّدر عياد حتقيقه لكتاب الشعر ألرسطو بطرح مجلة من التساؤالت حول أمهية الكتاب‬
‫الشراح األوائل أو أصحاب التلخيصات خاصة من‬ ‫املعرفية والفكرية‪ ،‬وكيفية اإلفادة منه من قبل ّ‬
‫العرب‪ ،‬واإلشكالية املطروحة هي كيفية فهم العرب حملتوى الكتاب‪ ،‬والنواحي املعرفية اليت فهم‬
‫يعرج على احملققني من املستشرقني من أمثال اإلجنليزي مرجليوث‪ ،‬وكيف‬
‫الكتاب يف ضوئها‪ ،‬مث ّ‬
‫يوازن الناقد بني النص العريب يف ترمجة متى بن يونس أو ابن سيناء أو ابن رشد‪ ،‬وكيف أفاد منه‬
‫مرجليوث ويف أحيان كثرية ّ‬
‫حيور الفكرة العربية عن أصلها ما ينجم عنه غموض يف الفكرة أو‬
‫اضطراب يف املفهوم‪.‬‬

‫لقد اعتمد عياد منهجا خمالفا يف الرتمجة والتحقيق ملا كان سائدا من قبل‪ ،‬منهج يهتم بالرتمجة‬
‫العربية ويركز على خصوصيتها‪ ،‬وهي ترمجة كانت وليدة ظروف ثقافية معينة يف احلضارة العربية‪ ،‬وهذا‬
‫املنهج يلتزم بالنص وسياقه دون أن يفرض عليه معايريا من خارجه‪ ،‬سواء أكانت هذه املعايري‬
‫مستمدة من النص األرسطي أو العصر الذي يعيش فيه الباحث‪ ،‬ويذهب يف ترمجته مذهبا مفاده أننا‬
‫ندرس هذا الكتاب يف ضوء دراسة قدمائنا له بغض النظر عن مسألة الفهم من عدمها‪ .‬فمادام‬
‫العرب القدامى قد عرفوا صورة الكتاب وجب علينا معرفة هذه الصورة عندهم‪ ،‬ونعين باملعرفة هنا أالّ‬
‫نقف عند حدود احلكم بالفهم أو عدم الفهم للكتاب األصلي‪ ،‬بل نعىن باألفكار اخلاطئة واملنحرفة‬
‫مثلما نعىن باألفكار الصحيحة مادامت صور تأثري الكتاب يف الذهن العريب‪ ،‬واستجابة الذهن العريب‬
‫للكتاب‪ ،‬أي أننا بدال من أن نسأل‪ :‬أفهموا أم مل يفهموا؟ نسأل‪ :‬كيف فهموا؟‬

‫‪1‬أرسطو طاليس‪ :‬فن الشعر‪،‬حققه مع ترمجة حديثة ودراسة لتأثريه يف البالغة العربية‪ ،‬شكري حممد عياد‪ ،‬دار الكتاب العريب‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪ ،0022 ،‬ص‪.2 :‬‬
‫‪174‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ينساق شكري عياد يف حتقيقه لكتاب فن الشعر ألرسطو‪ ،‬حنو حماولة إثبات فرضية التأثري‬
‫الذي مارسه هذا الكتاب على البالغة العربية‪ ،‬ويقف عند مجلة من اإلشكاليات املعرفية اليت رمبا‬
‫أسهمت يف متكني الشعر قيّما على البالغة‪ ،‬مث يستجمع كافة التساؤالت اليت من شأهنا أن تثبت أو‬
‫تدحض هذا التأثري فيسوق شروح ابن سينا والفارابي وابن رشد ومدى إسهامها يف بلورة الوعي‬
‫النقدي القدمي‪ ،‬مث يعرض آلراء مجلة من الباحثني املعاصرين أمثال طه حسين الذي ينفي فهم العرب‬
‫لكتاب الشعر ألرسطو يف مقدمته كتاب نقد النثر لقدامة بن جعفر‪.‬‬

‫لقد اعتمد عياد يف عرض هذه التصورات على معطيات املنهج التارخيي يف توصيف هذه‬
‫الرؤى‪ ،‬وهو املنهج الذي يرى النص يف ضوء معطياته احلضارية ال يف ضوء هذه املعطيات عند‬
‫الباحث‪ ،‬وهذا املنهج التارخيي ينبع من منطلق التسليم بإمكان قيام تاريخ أديب‪ ،‬أو تاريخ للنقد‬
‫خيلص لفهم املاضي ال للحكم عليه‪ ،‬ومن مث معاجلة ظواهر هذا املاضي على أهنا موجودات طبيعية‬
‫هلا قوانني نشأهتا وتطورها واحندارها‪ ،‬املستقلة عن الدارس الذي يرصدها أو الناقد الذي يتناوهلا‪،‬‬
‫األمر الذي م ّكنه من بعض اآلليات اليت هنضت بإبراز دور كتاب الشعر يف البالغة العربية القدمية‪،‬‬
‫عندما كانت مندجمة مع النقد القدمي‪ ،‬ويق ّدم عياد حصيلة معرفية غاية يف األمهية على دور النقد‬
‫القدمي يف بلورة األصول األوىل واملصادر األساسية اليت ينهض النقد عليها يقول‪" :‬والنقد إذا مل يعن‬
‫بتأصيل األصول غلبت عليه الذاتية وكان مرجعه يف االستحسان أو ضده على الذوق وحده‪ ...‬وإذا‬
‫ذكرنا "الذاتية" و"الذوق" يف هذا املقام فأرجو أال يفهم منهما معىن اهلوى املطلق‪ ،‬فالذوق قدرة على‬
‫احلكم تتكون من اخلربة الطويلة‪ ،‬وليس الفرق بني الذاتية واملوضوعية يف خلو األمر من كل مقياس‬
‫مشرتك‪ ،‬بل يف أ ّن الناقد الذي حيكم بذوقه وحده ال يرجع إىل صورة عامة للجودة أو الرداءة‪ ،‬فالكل‬
‫عنده مقرتن باجلزئي دائما‪ ،‬وهو ال يفصل أحدمها عن اآلخر حني يستجيد ما يستجيد‪ ،‬أو يسقط‬
‫‪1‬‬
‫ما يسقط‪".‬‬

‫يعاجل عياد من خالل هذا النص قضية من أمهات قضايا النقد العريب القدمي‪ ،‬وعليها سارت‬
‫معظم اآلراء النقدية القدمية‪ ،‬و ّقومت هبا األعمال اإلبداعية يف ذلك الزمان‪ ،‬وهي قضية الذوق الفين‬
‫اليت حيتكم إليها الناقد القدمي يف تقومي النصوص اإلبداعية‪ ،‬وما اجنر عن هذه امللكة من غلو وتطرف‬

‫‪1‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ص‪.338 :‬‬


‫‪175‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أسهما يف مغالطة كربى حنو حتجيم األعمال اإلبداعية‪ ،‬وأحيانا تقزميها انطالقا من أحكام ذاتية‬
‫صرفة‪ ،‬ال تراعى فيها األصول املوضوعية للعملية النقدية‪ ،‬إمنا تصدر هذه اآلراء نتيجة هوى يف نفس‬
‫الناقد فريفع أعماال وحيط أخرى‪ .‬فعندما يستطيع التاريخ األديب أن يتخلص من األحكام املعيارية‬
‫يكرس جهوده‬ ‫على ظاهرة أدبية أو نقدية ما‪ ،‬بأهنا صواب أو خطأ أو جيب أن تكون كذا‪ ،‬وعندما ّ‬
‫للنظر إىل الظاهرة حمل الدراسة‪ ،‬وفق معطياهتا اخلاصة دون أن يقصرها على شيء أو يفرض عليها‬
‫منظوره اخلاص أو منظور عصره‪ ،‬عندئذ يستطيع هذا التاريخ أن يعترب تارخيا حقيقيا وعندئذ ميكنه أن‬
‫يقدم إسهامات أصيلة للبشرية‪.‬‬

‫يواصل عياد بسط آرائه حول القضايا األساسية يف النقد العريب القدمي‪ّ ،‬‬
‫فيعرج على التزاوج‬
‫احلاصل بني النقد والعلوم اللغوية األخرى‪ ،‬كالنحو والعروض وغريها‪ ،‬وعمليات التالقح اليت متت بني‬
‫هذه العلوم مجيعها‪ ،‬فيسهب يف عرض إسهامات النقاد العرب القدامى كل من زاوية‪ ،‬كما هو احلال‬
‫عند اآلمدي والجرجاني وغريمها‪ ،‬وأساس العملية النقدية احملتكم فيها إىل اجلانب اللغوي يف اختيار‬
‫األلفاظ احلاملة للمعاين وقصر استشهاداهتم على العصر اجلاهلي واإلسالمي‪ ،‬دون أن يولّوا وجوههم‬
‫شطر العصور األدبية األخرى‪ ،‬ألهنا حاملة لنوع من فساد الذوق وحلن يف األساليب‪ ،‬غري أن هذا مل‬
‫مينعهم كما يؤكد عياد‪ ،‬من أن يتساحموا مع رواية شعر احملدثني يقول‪..." :‬لكنهم من جهة أخرى‬
‫أفلحوا يف أن يلزموا الشعر العريب كلّه أخص خصائص الشعر اجلاهلي‪ ،‬أعين منهج القصيدة‪ ،‬وفعلوا‬
‫ذلك يف شيء من ضيق وحرج الصدر‪ ،‬إذا قورنت به حماولة أيب نواس جتديد هذا املنهج بدت لنا لونا‬
‫‪1‬‬
‫من العبث ال يراد به إال اهلزء بأولئك اجلامدين‪".‬‬

‫أما أثناء سرده اجلهود النقدية عند اآلمدي والجرجاني مثال‪ ،‬فال جيد حرجا يف توصيف‬
‫العملية النقدية برمتها‪ ،‬بأهنا نقل أمني ملقوالت ابن سالم الجمحي فيما مضى من كتبه‪ ،‬خاصة‬
‫طبقات الشعراء‪ ،‬وابن قتيبة يف الشعر والشعراء‪ ،‬يقول‪..." :‬لكن خصائص النقد العريب ليست أقل‬
‫وضوحا عند اجلرجاين منها عند اآلمدي‪ ،‬فالنقد عنده اليزال ذاتيا تطبيقيا‪ ،‬واليزال للجانب اللغوي‬
‫فيه نصيب موفور‪ ،‬وإكثاره من إيراد املختارات الشعرية ليس إال صورة مما جنده عند ابن سالم وابن‬
‫قتيبة من إيراد ما يستجاد من شعر الشاعر على سبيل الرواية ال على سبيل النقد والتحليل‪ ،‬واملثل‬

‫‪1‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ص‪.330 :‬‬


‫‪176‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األعلى للشعر عند اآلمدي واجلرجاين واحد‪ ،‬وإن جهد كالمها يف إخفائه ليحتفظ بصفة القاضي‬
‫‪1‬‬
‫العادل‪ :‬وهو املعىن الواضح يف اللفظ الرشيق‪".‬‬

‫تتعمق الرؤية النقدية عند عياد انطالقا من تتبعه اجلهود النقدية القدمية كما أسلفنا‪ ،‬وجيهد‬
‫نفسه يف حتسس مفاصل التباين واالختالف العميق بني رواية نقادنا القدامى للكثري من القضايا‬
‫النقدية اهلامة‪ ،‬وبني طروحات أرسطو يف مؤلفه فن الشعر‪ ،‬فعلى سبيل املثال يسوق عياد مراتب‬
‫األلفاظ وشروط نظمها يف أساليب تكون وسطا بني البدوي والوحشي والساقط السوقي‪ ،‬ويقرر أن‬
‫مثل هذه الشروط مل تكن من اهتمامات اآلراء النقدية يف الشعر عند أرسطو‪ ،‬يقول عياد‪" :‬كان‬
‫مذهب اجلرجاين مستمدا من التجارب اخلاصة للغة العربية‪ ،‬اليت عانت فرتة من الزمان اختالف لغة‬
‫البدو عن لغة احلضر‪ ،‬مث عانت فرتة أخرى اختالف لغة العامة عن لغة األدب‪ ،‬فكان مدار االهتمام‬
‫يف العبارة الشعرية عنده هو مادة األلفاظ‪ ،‬وكان مثلها األعلى يقوم على التوسط أما أرسطو فلم‬
‫تواجهه مشكلة الغريب وال مشكلة العامية‪ ،‬هبذه القوة‪ ،‬فكان موضع اهتمامه طريقة استعمال‬
‫‪2‬‬
‫األلفاظ‪ ،‬وكان مثله األعلى حيث على "التغيري الواضح" يف لغة الشعر لتسمو عن الكالم املألوف‪".‬‬

‫تتكثف نظرته إىل أمهات القضايا النقدية القدمية‪ ،‬ويقف عند إشكالية السرقات الشعرية اليت‬
‫ش ّكلت مبحثا خاصا وثريا يف أجبديات النقد العريب القدمي‪ ،‬إذ ال خيلو كتاب نقدي ما إال وتناول‬
‫هذه القضية على غرار ما حبث من قضايا‪ ،‬كاللفظ واملعىن واالنتحال وغريها‪ ،‬وال جيد عياد مانعا يف‬
‫إدراج هذه القضية الشائكة حول كيفيات السرقات أهي يف األلفاظ أم يف املعاين يقول‪ ..." :‬وحنن‬
‫نرى يف حبث السرقات الذي شغل ما شغل من عناية اآلمدي واجلرجاين ومعاصريهما تفرعا واضحا‬
‫للتيار العريب النقدي القائم على الرواية‪ ،‬املعىن باجلزئيات‪ ،‬املعجب بالقدمي‪ ،‬وهذا ال يعين افرتاض تأثره‬
‫باملعركة بني القدماء واحملدثني"‪.3‬‬

‫إهنا القضية احملورية اليت دارت حوهلا معارك أدبية بني أنصار القدمي واحملدث‪ ،‬وما جنم عنها من‬
‫تنظري وممارسة حول أحقية االستشهاد‪ ،‬أو ما اصطلح عليه بعصور االحتجاج‪ ،‬وهي معركة نقدية بني‬

‫‪ 1‬أرسطو‪ :‬فن الشعر ‪ ،‬ص‪.321 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.321 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.320 ،321 :‬‬
‫‪177‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫متعصب للقدمي ومدافع عنه‪ ،‬وبني منتسب للمحدث وذائد عنه‪ ،‬الشيء الذي خلّف تراثا نقديا‬
‫هاما دار جلّه حول هذه القضايا وأمثاهلا‪.‬‬

‫ينفتح عياد على املؤثرات اخلارجية يف الثقافة العربية‪ ،‬ومن خالهلا قضايا النقد العريب القدمي‪،‬‬
‫وال يشك أبدا يف إمكانية أخذ احلضارات بعضها من بعض‪ ،‬وتأثري بعضها يف بعض من باب تالقح‬
‫الثقافات وتقادح العقول‪ ،‬ألنه شديد اإلميان بأنه من العبث البحث يف ثقافة خلصت خلوصا تاما‬
‫من أي تأثري كان‪ ،‬باعتبار التكامل املعريف والنظري الذي حتتاجه أي ثقافة إنسانية يقول‪..." :‬من‬
‫احملقق أن هذا النقد مل يكن ذا شكل واحد‪ ،‬بل كان متعدد األشكال بتعدد من خاضوا فيه‪ ،‬ومن‬
‫احملقق أن تيار النقد العريب كان يتبادل التأثري مع غريه من التيارات‪ ،‬فهذه سنة احلياة الفكرية أبدا‬
‫ومن العسري يف غري هذه األدوار أن يدل الباحث على كتاب خلص خلوصا تاما الجتاه ما‪ ،‬وجنا من‬
‫‪1‬‬
‫تأثري سائر االجتاهات‪ ،‬حىت تلك اليت تريد أن حيارهبا ويهدمها‪".‬‬

‫إن ما خلص إليه الناقد من خالل هذا الطرح املعريف ينم عن قدرة فائقة‪ ،‬ومعرفة بالغة مبفاصل‬
‫العملية النقدية والفكرية اليت متر هبا حضارة أية أمة من األمم‪ ،‬وعياد ببصريته الثاقبة وعقله الراجح ال‬
‫جيد منقصة يف إثبات عملية التأثري اليت مورست على الثقافة العربية منذ فجرها األول‪ ،‬انطالقا من‬
‫دافعية التكامل املعريف فيما بني األمم‪ ،‬وبنظرة ثاقبة أيضا يعاجل عياد مالمح التأثري األرسطي يف كتب‬
‫الجاحظ‪ ،‬فال جيد خمرجا ملا أورده هذا األخري حول قصر فضيلة الشعر على العرب دون سائر األمم‪،‬‬
‫إذ ال يعقل أن يكون الجاحظ جاهال بكتاب الشعر ألرسطو‪ ،‬رغم ذلك التمس عياد مجلة من‬
‫األعذار ساقها للجاحظ‪ ،‬يف محله هذا يقول اجلاحظ‪..." :‬و أما الشعر فحديث امليالد‪ ،‬صغري‬
‫سهل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر‪ ،‬ومهلهل بن ربيعة‪ ،‬وكتب‬ ‫السن‪ ،‬أول من هنج سبيله و ّ‬
‫أرسطو طاليس ومعلمه أفالطون مث بطليموس‪ ،‬ودميقراطس‪ ،‬وفالن وفالن‪ ،‬قبل بدء الشعر بالدهور‬
‫قبل الدهور‪ ،‬واألحقاب قبل األحقاب‪...‬و فضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان‬
‫‪2‬‬
‫العرب‪".‬‬

‫‪ 1‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ص‪.320 :‬‬


‫‪2‬اجلاحظ‪ :‬احليوان‪ ،‬مكتبة املصطفى اإللكرتونية‪ ،‬ج‪ ،0‬ص‪.20 :‬‬
‫‪178‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يسوق عياد هذا النص للجاحظ ويتحسس ّ‬


‫املسوغات املعرفية والفلسفية اليت دفعت بالرجل‬
‫إىل هذا احلكم‪ ،‬فال يكاد يطمئن حلجة معينة‪ ،‬إمنا يسوق مجلة من الفروض عساها تشفع للجاحظ‬
‫منحاه التعصيب هذا‪ ،‬غري أن عياد يذهب مذهبا نقديا مغايرا ملا كان قد انتهجه من قبل‪ ،‬فيثبت‬
‫بالدليل الذي ال يدع جماال للشك‪ ،‬أن العديد من القضايا املعرفية اليت تناوهلا الجاحظ إمنا جتد‬
‫صداها يف مؤلفات أرسطو خاصة يف الشعر واخلطابة‪ ،‬فعندما يتطرق الجاحظ إىل مفهوم الداللة‬
‫عما قرره أرسطو يف كتاب العبارة يقول الجاحظ يف‬ ‫والبيان وتقسيماهتما وتفريعاهتما ال يكاد ينأى ّ‬
‫باب البيان ‪ ":‬قال بعض جهابذة األلفاظ ونقاد املعاين‪ ،‬املعاين القائمة يف صدور العباد املتصورة يف‬
‫أذهاهنم واملتخلجة يف نفوسهم‪ ،‬واملتصلة خبواطرهم‪ ،‬واحلادثة عن فكرهم‪ ،‬مستورة خفية‪ ،‬وبعيدة‬
‫وحشية‪ ،‬وحمجوبة مكنونة‪ ،‬وموجودة يف معىن معدومة‪ ،‬ال يعرف اإلنسان ضمري صاحبه‪ ،‬وال حاجة‬
‫أخيه وخليطه وال معىن شريكه واملعاون له على أموره وعلى ما ال يبلغه من حاجات نفسه إال بغريه‬
‫وإمنا حتيا تلك املعاين يف ذكرهم هلا وإخبارهم عنها واستعماهلم إياها‪...‬وكلما كانت الداللة أوضح‬
‫‪1‬‬
‫وأفصح‪ ،‬وكانت اإلشارة أبني وأنور كان أنفع وأجنع‪".‬‬

‫إن ما نفهمه من هذا النص أن الجاحظ يسلك سبيل املتكلمني ‪-‬وهو أحدهم‪ -‬يف تعريف‬
‫البيان والداللة‪ ،‬يقول عياد‪ ":‬ال نكاد نشك يف أن اجلاحظ أخذ أصل الفكرة من قول أرسطو يف‬
‫أول كتاب العبارة "إن ما خيرج بالصوت دال على اآلثار اليت يف النفس وما يكتب دال على ما خيرج‬
‫بالصوت‪ ،‬وكما أن الكتاب ليس هو واحدا بعينه للجميع‪ ،‬كذلك ليس ما خيرج بالصوت واحدا‬
‫بعينه هلم‪ ،‬إال أن األشياء اليت ما خترج بالصوت دال عليها أوال – وهي آثار النفس‪ -‬واحدة بعينها‬
‫‪2‬‬
‫للجميع‪ ،‬واألشياء اليت آثار النفس أمثلة هلا‪ ،‬وهي املعاين‪ ،‬توجد أيضا واحدة للجميع‪".‬‬

‫إن ما بىن عياد نظرته الفاحصة عليه ‪ -‬من أن اجلاحظ تأثر تأثرا واضحا بأرسطو‪ -‬ال يرقى إىل‬
‫مرحلة اليقني بقدر ما يتبوأ منزلة الشك‪ ،‬باعتبار أن اجلاحظ مل يتناول قضاياه النقدية والبالغية تناوال‬
‫فلسفيا كما عند قدامة بن جعفر مثال‪ ،‬أضف إىل ذلك ما حبث فيه الجاحظ يتعدى التقنني احلريف‬
‫للفلسفة اليونانية‪ ،‬ألن الرجل يتمتع بعقل موسوعي‪ ،‬وال أريد أن أرمي الفلسفة اليونانية برمتها‬

‫‪1‬اجلاحظ‪ :‬البيان والتبيني‪ ،‬وضع هوامشه‪ ،‬موفق شهاب الدين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪،‬مج‪ ،0‬ج‪ ،0‬ص‪.21 :‬‬
‫‪2‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ص‪.323 :‬‬
‫‪179‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫بالقصور بقدر ما أصبو إىل كشف احلقيقة املعرفية‪ ،‬اليت أبرزها عياد من خالل عمليات احلفر‬
‫والنبش يف طبقات الرتاث النقدي والبالغي العريب‪ ،‬ليصل إىل إسهامات قدامة بن جعفر يف جمال‬
‫النقد العريب القدمي‪ ،‬وكيفية أخذه مقومات الفلسفة األرسطية‪ ،‬خاصة قضية احلدود واملفاهيم‪ ،‬فالشعر‬
‫عنده "قول موزون مقفى يدل على معىن‪ 1"،‬وهو تعريف يصل بصاحبه إىل منزلة متقدمة من التأثر‬
‫بفلسفة أرسطو دون أن يطابقها‪ ،‬ألنه عزل وظيفة الشعر الذاتية وخال منها خلوا تاما وهي وظيفة‬
‫احملاكاة كما عند أرسطو‪ ،‬غري أن عياد يلمس ذلك التأثر الصريح بفلسفة أرسطو من خالل تقسيم‬
‫قدامة الشعر إىل مادة وصورة‪ ،‬فيقرر أ ّن ‪ " :‬أثر الفلسفة األوىل يف هذه الفكرة ظاهر‪ ،‬ولكننا ال‬
‫‪2‬‬
‫نلمح فيها أثرا مباشرا لكتاب الشعر‪".‬‬

‫هناك قضية أخرى عاجلها قدامة يف نقد الشعر ووظفها عياد‪ ،‬على أهنا تأثر صريح بفلسفة‬
‫أرسطو‪ ،‬دون أن خيصص كتاب الشعر بذلك‪ ،‬وهي نسبة أغراض الشعر مثال على أن الرثاء لون من‬
‫ألوان املديح‪ ،‬وهو ما يتقاطع فيه مع أرسطو يف تقسيمه احملاكاة إىل حماكاة لألفاضل وحماكاة‬
‫لألشرار‪ ،‬وأثناء تناوله ملمح الغلو يف الشعر يقول قدامة‪...":‬هو ما ذهب إليه أهل العلم بالشعر‬
‫والشعراء قدميا‪ ،‬وقد بلغين عن بعضهم أنه قال أحسن الشعر أكذبه‪ ،‬وكذا نرى فالسفة اليونانيني يف‬
‫‪3‬‬
‫الشعر على مذهب لغتهم‪".‬‬

‫يعلق عياد على هذا النص موضحا أنه يقصد فالسفة اليونانيني يف الشعر وآراء أرسطو يف‬
‫الشعر على وجه الدقة‪ ،‬حىت وإن مل يسمي الكتاب بامسه إال أننا – يضيف عياد‪ " -‬ال نعرف‬
‫‪4‬‬
‫الوصف الذي وصفه يصدق على كتاب آخر مما ترجم إىل العربية غري هذا الكتاب‪".‬‬

‫انطالقا من تتبعه ملسار النقد العريب القدمي بكل إشكاالته ومقوالته‪ .‬يصل عياد إىل حمصلة‬
‫مفادها أن معظم القوانني النظرية اليت أطّرت النقد العريب القدمي‪ ،‬إمنا قتلت الروح اإلبداعية لدى‬
‫الشعراء املتأخرين‪ ،‬بالنظر إىل األطر الصارمة اليت تسيّج العملية اإلبداعية نقديا يقول عياد‪...":‬واحلق‬

‫‪1‬قدامة بن جعفر‪ :‬نقد الشعر‪ ،‬ص‪.2 :‬‬


‫‪2‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ص‪.322 :‬‬
‫‪3‬قدامة بن جعفر‪ :‬نقد الشعر‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪4‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ص‪.322 :‬‬
‫‪180‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أن النقد العريب اخلالص قد وضع الشعراء والنقاد مجيعا يف مأزق فالشاعر احملدث ملزم بأن جياري‬
‫القدماء يف أوصافهم وتشبيهاهتم‪ ،‬ال يستحسن إال ما استحسنوه‪ ،‬وال يذم إال ما ذموه وال يشبّه إىل‬
‫على طريقتهم‪ ،‬وال يستعري إال على أساليبهم‪ ،‬فإذا وافق الشاعر احملدث بعد ذلك شاعرا مقدما يف‬
‫‪1‬‬
‫معىن أو أسلوب فهو آخذ وهو مسبوق‪ ،‬ورمبا رمى هبذه اللفظة البشعة لفظة "السرقة‪".‬‬

‫إن تلك القوانني هي اليت ارهتنت الشاعر العريب القدمي للتقنني والتقعيد البالغيني‪ ،‬وهي من‬
‫أمخد جذوة احلرية اإلبداعية عند الشعراء‪ ،‬السيما املبتدئني منهم‪ .‬مث ينتقل عياد إىل حماولة تبيان‬
‫جوانب التأثري العميق اليت مارسها كتاب الشعر على نقادنا القدامى‪ ،‬خاصة قدامه بن جعفر الذي‬
‫يقول‪ ":‬ومما جيب تقدمته وتوطيده قبل ما أريد أن أتكلم فيه‪ ،‬أن املعاين كلها معرضة للشاعر‪ ،‬وله أن‬
‫يتكلم منها فيما أحب وآثر من غري أن حيضر عليه معىن يروم الكالم فيه‪ ،‬إذ كانت املعاين للشعر‬
‫مبنزلة املادة املوضوعة‪ ،‬والشعر فيها كالصورة‪ ،‬كما يوجد يف كل صناعة من أنه البد فيها من شيء‬
‫موضوع يقبل تأثري الصور منها‪ ،‬مثل اخلشب للنجارة والفضة للصياغة وعلى الشاعر إذا شرع يف أي‬
‫معىن كان من الرفعة والضعة‪ ،‬والرفث والنزاهة‪ ،‬والبذخ والقناعة‪ ،‬وغري ذلك من املعاين احلميدة أو‬
‫‪2‬‬
‫الذميمة أن يتوخى البلوغ من التجويد يف ذلك الغاية املطلوبة‪".‬‬

‫يثبت قدامة يف هذا النص العلل األربعة ألرسطو‪ ،‬وكيف تتضام فيما بينها لتش ّكل يف النهاية‬
‫القصيدة واملبتغى منها‪ ،‬ودون أن يشعرنا الناقد مبفاهيم أرسطو الفلسفية‪ ،‬فإنه يقتفي آثاره املنطقية‬
‫والفلسفية يف التنظري للقصيدة‪ ،‬واستطاع قدامة أن يبني الوظيفة اجلمالية للقصيدة بعيدة كل البعد‬
‫عن اجلانب األخالقي القيمي يف تقومي الشعر‪ ،‬ألن اجلمال والقبح معياران أساسيان تنهض القصيدة‬
‫العربية باستجالئهما‪ ،‬من خالل املعاين اليت حيمالهنا‪ ،‬يقول عياد معلقا على مقصدية قدامة ‪":‬‬
‫أصبحت العلة املادية أو اهليوالنية عنده هي املعاين املدلول عليها باأللفاظ‪ ،‬والعلة الصورية هي الشعر‬
‫نفسه‪ ،‬والعلة التمامية هي التجويد واإلتقان‪ ،‬واستطاع أن خيرج من ذلك بأن الشعر ال يستجاد أو‬

‫‪ 1‬أرسطو‪ :‬فن الشعر ‪ ،‬ص‪.322 :‬‬


‫قدامة بن جعفر ‪ :‬نقد الشعر‪ ،‬ص‪.2 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪181‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يستقبح ألنه يصور فضيلة أو رذيلة‪ ،‬إمنا كانت معاين الشعر الفاضلة والرذلة هي مادته فحسب‪ ،‬وإمنا‬
‫‪1‬‬
‫حقيقة الشعر هي صورته‪ ،‬هي فضائله اخلاصة اليت يبلغ هبا قائله درجة التجويد واإلحسان‪".‬‬

‫الشك أن املنطلق الذي باشره قدامة هو أن الشعر صناعة كباقي الصناعات األخرى‪،‬‬
‫كالنجارة والصياغة وغريها‪ ،‬وهو قول مكرور تعاورته ألسنة النقاد القدامى قبله وبعده فال تعيب رداءة‬
‫الصناعة مادهتا إمنا صانعها‪.‬‬

‫يواصل عياد سرد أمساء النقاد العرب القدامى يف عالقتهم بكتاب الشعر ألرسطو ومدى‬
‫تقبلهم للطروحات الفلسفية األرسطية يف الشعر‪ ،‬ويصل إىل السكاكي‪ ،‬أحد أبرز البالغيني العرب‬
‫ويصفه بأنه "أقل النقاد العرب أصالة‪ 2".‬ويف الوقت ذاته ينفي عنه عياد أية صلة بالتفكري اليوناين‬
‫وخاصة فلسفة أرسطو حني يقرر‪ ":‬ال نستطيع القول بأن كتاب الصناعتني حيمل شيئا من طابع‬
‫التفكري اليوناين فيما عدا الولع بالتعريف والتقييم‪ ،‬وليس كتاب الصناعتني يف ذلك إال كأكثر‬
‫الكتب اليت نزعت إىل الروح العلمية يف ذلك العصر‪ ،‬يف البالغة وغريها‪ .‬ولسنا جند يف كتاب‬
‫الصناعتني حماولة مستوعبة منتظمة لفهم الصناعة الشعرية وتقرير قوانينها كتلك اليت جندها عند‬
‫‪3‬‬
‫قدامة‪ ،‬وكذلك حنن ال جند عند أيب هالل رأيا ذوقيا واضحا يف البالغة‪".‬‬

‫إن صاحب الصناعتني ال يقر له قرار حول تناوله للعديد من القضايا األساسية اليت قام عليها‬
‫النقد العريب القدمي‪ ،‬كقضية اللفظ واملعىن وقضية السرقات وغريها‪ ،‬لذلك نعته عياد بأنه أقل النقاد‬
‫العرب أصالة‪ ،‬ألنه ال يلبث أن يأخذ عن ابن املعتز مث عن اجلاحظ مث قدامة وغريهم‪ ،‬ويضطرب يف‬
‫تقرير املنحى النقدي الذي يروم الكتابة فيه‪ ،‬لذلك وقع يف مطبات كبرية أوقعه فيها عدم تقيّده بتيار‬
‫نقدي وفلسفي واضح يقول عياد‪ ":‬كان كتابه – من وجهة نظر التيار العريب يف نقد الشعر‪ -‬ال ميثل‬
‫تقدما أساسيا بعد بديع ابن املعتز وموازنة اآلمدي ووساطة اجلرجاين‪ ،‬ومن وجهة نظر التيار اليوناين‬

‫‪ 1‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ص‪.328 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.328 :‬‬
‫‪ 3‬نقسه‪ ،‬ص‪.328 :‬‬
‫‪182‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الميثل حماولة مطّردة لبناء نظرية منتظمة يف الشعر بعد كتاب قدامة‪ ،‬وإمنا يلتقي التياران مجيعا‪ ،‬وإمنا‬
‫‪1‬‬
‫يطّردان وميتزجان عند عبد القاهر اجلرجاين‪".‬‬

‫يقف عياد موقفا مسلّما ومعرتفا باجلهود النقدية والبالغية لإلمام عبد القاهر الجرجاني من‬
‫خالل طروحاته البالغية يف مؤلفيه "أسرار البالغة" و"دالئل اإلعجاز"‪ ،‬ويتتبع مالمح التأثري األرسطي‬
‫يف عقل اإلمام بالنظر إىل القضايا البالغية الشائكة اليت عاجلها يف مؤلفيه‪ ،‬منها مثال خاصية التصوير‬
‫خصص هلا حيّزا غري يسري من مؤلفه "أسرار البالغة"‪ ،‬ليأيت املؤلف الثاين مبثابة النتيجة‬
‫الفين‪ ،‬اليت ّ‬
‫املنطقية لعملية التصوير وهي النظم‪ ،‬إضافة إىل قضية التخييل‪ ،‬اليت نالت قسطا وافرا من خترجيات‬
‫اإلمام‪ ،‬يقول عياد يف حماولة إثبات عملية التأثري اليت مورست على اإلمام من قبل كتاب الشعر‬
‫ألرسطو ‪..." :‬ال أنكر أن عبد القاهر قد انتفع انتفاعا كامال مبجهود رجال كاجلاحظ واآلمدي‬
‫واجلرجاين‪ ،‬ممن يشري إليهم يف غري موضع من كتابيه‪ ،‬ولكين أالحظ أيضا أن يف كتابيه أدلة ترجح‬
‫‪2‬‬
‫بل تقطع بأنه تأثر بعمل الفالسفة يف كتايب الشعر واخلطابة‪".‬‬

‫خنلص من كل ما سبق إىل أن تأثري الفلسفة األرسطية وخاصة كتاب فن الشعر‪ ،‬كان كبريا‬
‫على جل املدونات البالغية القدمية‪ ،‬إذ أسهمت هذه الكتب يف بلورة الوعي العريب النقدي بنفسه‪،‬‬
‫وحاولت التأسيس والتقنني للبالغة العربية فيما أتى من عصور‪ ،‬ويأيت تقدمي عياد هلذا الثبت التارخيي‬
‫من باب االعرتاف الصريح بتأثري املنطق والفلسفة اليونانية بعامة يف حقل البالغة والنقد العريب‪ ،‬يقول‬
‫عياد معرتفا‪...":‬ومهما يكن من شيء فقد شعرت احلياة األدبية للعرب شعورا قويا هبذه احملاولة من‬
‫الفكر اليوناين أن يقنن للشعر العريب‪ ،‬وال غرابة يف ذلك‪ ،‬فقد كانت هذه احملاولة مسايرة الجتاه احلياة‬
‫العلمية‪ ،‬كلها حنو تأصيل األصول وتقعيد القواعد‪ ،‬ومع أن طبيعة الشعر تنايف هذا االجتاه التقنيين‬
‫فقد كانت له يف العصر الذي نتحدث عنه هذه امليزة‪ ،‬وهي أنه كان مبشرا بتخليص البالغة‬
‫املعاصرة من سلطان األقدمني إذا كان – على األقل‪ -‬يقيس القدماء واحملدثني مبقياس واحد‪ ،‬فال‬

‫‪ 1‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ص‪.320 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.320 :‬‬
‫‪183‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫جيعل أحد الفريقني تابعا واآلخر متبوعا‪ ،‬وال جيعل فضيلة املتأخرين هي اجلري يف مضمار املتقدمني‬
‫‪1‬‬
‫يف معانيهم وأساليبهم‪".‬‬

‫بيد أن عملية االعرتاف بالتأثري اليوناين يف البالغة العربية من قبل عياد‪ ،‬تصطدم بنوع من‬
‫التحفظ من هذه العملية على ناقد وبالغي عريب مارس شرح الفلسفة والتنظري النقدي‪ ،‬إذ ينظر عياد‬
‫ملثل هذا التأثري أنه شكلي فقط‪ ،‬وال ميس جوهر العملية النقدية عند قدامة مثال‪ ،‬على الرغم من‬
‫تأكيده أن كتابه "نقد الشعر مؤلف على طريقة الفالسفة يبدأ حبد الشعر وبيان أقسامه (الفصل‬
‫األول) مث يصف نعوت كل قسم (الفصل الثاين)‪ ،‬مث عيوب كل قسم (الفصل الثالث)‪ ،‬وهذه حماولة‬
‫واسعة املدى لتنظيم علم الشعر تنظيما أشبه بالعلوم العقلية‪ ،‬وحتويله عن الدراسة اجلزئية واملوازنات‬
‫‪2‬‬
‫اجلزئية إىل أن يكون علما معياريا‪ ،‬يوقف به على متييز جيّد الشعر من رديئه بوجه عام‪".‬‬

‫يتقصد عياد نفي أي تأثري لكتاب الشعر ألرسطو يف كتاب نقد الشعر لقدامة مادام األمر‬
‫حمتكم إىل اجلانب الشكلي للشعر "كالم موزون مقفى"‪ ،‬وقد خال هذا التعريف من جوهر العملية‬
‫النقدية عند أرسطو واملتمثلة يف احملاكاة‪ ،‬ألجل ذلك نفى عياد أي تأثر بني الكتابني‪.‬‬

‫إن عياد يرى النص يف ضوء ثقافة العصر الذي كتب أو ترجم فيه‪ ،‬فهو ال حيكم على‬
‫االختالفات بني النص األرسطي والنص العريب على أهنا أخطاء‪ ،‬بل يرى أن هذه االختالفات دليل‬
‫على حماولة العرب استيعاب النص األرسطي من خالل ربطه بالثقافة العربية‪ ،‬فإذا وجدوا ظاهرة يف‬
‫النص األرسطي ال يوجد هلا نظري يف الثقافة العربية نقلوا هذه الظاهرة إىل أقرب ظاهرة مشاهبة ملا‬
‫عندهم‪ ،‬فمثال قام بعض املرتمجني العرب برتمجة مصطلح الرتاجيديا إىل املديح؛ ألهنم وجدوا أن‬
‫أرسطو يصف هذه الرتاجيديا بأهنا حماكاة لألخيار‪ ،‬ومبا أن املديح عندهم يتناول األخيار ويصف‬
‫حماسنهم‪ ،‬لذلك دجموا مصطلح الرتاجيديا مبصطلح املديح‪ ،‬مما يدل على أن املرتجم العريب ال يرتجم‬
‫النص األرسطي ترمجة حرفية‪ ،‬بل حياول فهمه قدر استطاعته‪ ،‬مث تتم عملية نقله إىل العربية من خالل‬
‫املصطلحات اليت ميكن استساغتها يف العقلية العربية‪ ،‬مما ميكننا من القول بأن االضطراب يف ترمجة‬

‫‪1‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ :‬تح‪ :‬شكري حممد عياد‪ ،‬طبعة اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،0002 ،‬ص‪.200 :‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.322 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪184‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫بعض املصطلحات يدل على أن املرتمجني كانوا يرغبون يف التنظري جلماليات القصيدة العربية‪ ،‬وإخراج‬
‫النقد العريب من دائرة التهومي واالنطباعية‪.‬‬

‫ومجاع القول فقد توصل عياد إىل طريقة خاصة يف التعامل مع النص الذي يدرسه‪ ،‬سواء أكان‬
‫أدبيا أم نقديا‪ ،‬فهو ال حيتكم إىل أحكام معيارية مسبقة وال يفرض طريقة معينة يف تناول النصوص‪،‬‬
‫وال يقيد النص يف إطار نظرة مذهبية جامدة‪ ،‬بل يرى النص يف ضوء معطياته اخلاصة‪ ،‬وتتمثل هذه‬
‫الطريقة يف أنه يرى النص من خالل ثقافة العصر اليت أسهمت يف تشكيله‪ ،‬أو على األقل كانت‬
‫كامنة يف خلفيته‪ ،‬وثقافة العصر تشمل البيئة الثقافية بكل زمخها ومحولتها املعرفية‪ ،‬وكذلك تشمل‬
‫اللغة بألفاظها وتراكيبها وأساليبها‪ ،‬واأللفاظ دوال على حركية احلضارة‪.‬‬

‫‪ .1‬مكانة شكري عياد النقدية‬

‫تتجسد فاعلية األفضلية املطلقة حلضارة أمة على سائر احلضارات‪ ،‬مبا متتلكه هذه األمة يف‬
‫جمال الثقافة سواء بشقها املادي أو املعنوي‪ ،‬وتكتسب هذه األفضلية من نزوعها حنو إبراز مناطق‬
‫اجلمال يف حضارهتا‪ ،‬يقول عبد السالم المسدي حول هذه املسألة" لقد عاشت اإلنسانية أمدا‬
‫مسوها على كل الثقافات األخرى‪ ،‬ومل يكن‬ ‫طويال آمنت فيه كل جمموعة حضارية بأفضلية ثقافتها و ّ‬
‫كل ذلك إال صورة من الصور اليت جتسم فيها تعلق اإلنسان باملطلق‪ ،‬مث تعميمه ملبدأ اإلطالق‪ ،‬هذا‬
‫على كل ما له صلة تربط حاضره اآليت مباضيه املنقضي مث تربط حاضره مبستقبله الصائر من جهة‬
‫‪1‬‬
‫ثانية‪".‬‬

‫تأسيسا على هذا الطرح يتم تناول قضايا الرتاث وإشكاالته بالدرس واملساءلة‪ ،‬بعيدا عن أي‬
‫تعصب أو ميول ذاتية من شأهنا أن جتعل دراسة الرتاث قاصرة عن بلوغ أهدافها ومراميها‪ .‬يضيف‬
‫المسدي قائال حول استتباع هذا النوع من الدراسة واإلسهام بتفعيل املساءلة "اكتسب مفهوم‬
‫الرتاث –من حيث هو موروث شعيب وفنون تتناقلها األجيال من األمة الواحدة‪ -‬بعده اإلنساين‪،‬‬
‫وإنسانيته هذه ال تعين أن كل موروث نوعي حيمل بالضرورة قيما شاملة لكافة اجملموعات احلضارية‪،‬‬
‫وإمنا املقصود أن كل املواريث الفنية‪ ،‬والسيما ما جيمع الناس على وصفه بالفولكلوري منها‪ ،‬تتساوى‬

‫‪1‬عبد السالم املسدي‪ :‬ما وراء اللغة‪ ،‬حبث يف اخللفيات املعرفية‪ ،‬مؤسسات عبد الكرمي بن عبد اهلل للنشر والتوزيع‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫دط‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪.052 :‬‬

‫‪185‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫قيمها العامة إذا ما نسبت إىل قيمها اخلاصة على حد نسبة املشرتك بني الناس على ما هو نوعي‬
‫‪1‬‬
‫خمصوص لدى كل جمموعة‪ ،‬أو فئة‪ ،‬أو جيل من األجيال‪".‬‬

‫إن املكانة اليت حيتلها شكري عياد يف جمال النقد األديب مكانة مهمة‪ ،‬نظرا للجهود النقدية‬
‫الكربى اليت بذهلا الرجل يف دفع هذه العملية قدما‪ ،‬والنهوض هبا قصد مواكبة هذا الزخم الفكري‬
‫والنقدي الذي متور به الساحة النقدية والفكرية العاملية‪ ،‬ويعترب يف نظر بعض النقاد واملفكرين حلقة‬
‫الوصل بني جيلني‪ :‬جيل الرواد من النقاد‪ ،‬طه حسني والعقاد وميخائيل نعيمة وهيكل وغريهم‪ ،‬وبني‬
‫جيل نقاد احلداثة العرب‪ ،‬كجابر عصفور‪ ،‬وكمال أبوديب‪ ،‬وحممد برادة‪ ،‬وعبد السالم املسدي‬
‫وغريهم‪ ،‬وقلما يتمكن ناقد عريب هبذه املكانة اليت احتلها شكري عياد‪ ،‬وذلك لتعدد االهتمامات‬
‫النقدية املمارسة من قبل الرجل‪ ،‬فقد اختلفت احلقول املعرفية اليت طرقها‪ ،‬من التأسيس لفن القصة يف‬
‫األدب العريب احلديث إىل حماولة التوليف بني البالغة العربية القدمية واألسلوبيات احلديثة‪ ،‬ليخرج هبذا‬
‫املزيج الذي دعا إليه وأمساه "علم األسلوب العريب"‪ ،‬إىل مواقفه من البنيوية باعتبارها آخر صيحات‬
‫النقد العريب يف وقتها‪ ،‬إىل التحقيق إىل الرتمجة‪ ،‬كل هذه احلقول طرقها عياد بعقل راجح وبصرية‬
‫نافذة مكنته من احتالل هذه املكانة املرموقة بني أقرانه من النقاد العرب‪ ،‬وجعلته يتمتع هبذه املكانة‬
‫الرفيعة وجعلته يزاحم تلك العقول الكبرية اليت سبقته أو حىت اليت جابلته‪ ،‬وحىت اليت أتت بعده‪.‬‬

‫يقول المسدي حول هذه املكانة اليت يتمتع هبا شكري عياد‪ ":‬من هؤالء الرواد اجلسور يف‬
‫نقدنا العريب املعاصر الدكتور شكري عياد الذي متيز يف النقد األديب على حد ما متيز النقد األديب به‪،‬‬
‫وكان صورة ناصعة لعمق الرؤية‪ ،‬وحصافة الوضع‪ ،‬واتزان السري‪ 2".‬جاء هذا احلكم على عياد من‬
‫منطلق ما يربط الناقدين يف جماالت النقد األديب وحىت الفلسفي‪ ،‬وتوحد املواقف من بعض القضايا‬
‫اجلوهرية اليت أسها فيها على حد سواء‪ ،‬وجرت بني الرجلني مجلة من املراسالت كان إحداها نتيجة‬
‫لتعليق عياد على كتاب المسدي "قضية البنيوية" يكتب املسدي قائال‪ ":‬والشك أن الدكتور‬
‫شكري عياد قد وجد فيما قدمناه من نقد للبنيوية مطية سخية فبىن عليه بناء‪ ،‬وأحكم صنع مساءلته‬
‫إحكاما‪ ،‬ومما يرتاح إليه كل مهموم باألدب‪ ،‬وكل مسكون هباجس نقده‪ ،‬أن يرتادف النهج التقوميي‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.052 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪.022 :‬‬
‫‪186‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الذي توسل به الدكتور عياد –وهو من نقد النقد‪ -‬مع النهج الذي توخيناه وحاولنا أن نؤسس‬
‫لبعض القواعد‪ ،‬وهو املنهج املعريف الذي ينبش يف حفريات النظرية النقدية من حيث هي خمزون‬
‫فكري ينطلق من مصادرات فلسفية عامة وحتتكم إىل اعتبارات تتخطى حدود احلقل الذهين الواحد‬
‫‪1‬‬
‫لتجتمع بني زماماهتا مقابض الفكر النظري اخلالص‪".‬‬

‫إن ما يود المسدي التأسيس له من خالل هذا النص‪ ،‬هو دعوته إىل ارتياد هذا احلقل املعريف‬
‫ممثال يف نقد النقد‪ ،‬ووجد فيما تالقح به مع عياد مؤشرا واضحا إىل ما يسعى هو لتأصيله‪ .‬يستمر‬
‫عرض املسدي ملا قام به الناقد شكري عياد حول كتابه فيقول‪ ":‬واقتنص الدكتور شكري عياد‬
‫مقبضا آخر من مقابض الوفاق املعريف ملا عرض على القارئ يسأله‪ :‬ملن يكتب النقاد؟‪ ..‬وأول ما قد‬
‫تكاشف به يف هذا املضمار هو أن الناقد البنيوي مل يعد يتجه مبا يكتبه ال إىل األديب صاحب‬
‫النص‪ ،‬وال إىل قارئه الطبيعي وهو الذي خياطبه األديب بأدبه‪ ،‬وإمنا أصبح يتجه بنقده إىل رفيقه الناقد‬
‫‪2‬‬
‫مقيما وإياه حوارا خاصا قد ال يشاركهما يف دواله ورموز عالماته غريمها‪".‬‬

‫يواصل المسدي التعليق على ما جاء يف مقال عياد الذي جاء بدوره تعليقا على كتاب‬
‫المسدي قائال‪ " :‬فالذي استوقفنا يف مقال الدكتور شكري عياد هو يف الثوب األدائي الذي حلّى‬
‫به آراءه‪ ،‬بل قل هو يف بنية خطابه النقدي‪ ،‬ويف صياغة أسلوبه احلواري قبل كل شيء‪ .‬فالذي‬
‫عهدناه منه أن يتكلم من مركز دائرة النقد احلديث‪ .‬وهو ال يعين قطعا أنه يتبىن مقوالته تبنيا‪ ،‬وال أن‬
‫يقطع بصالحها قطعا‪ ،‬فضال عن أن يظن أنه ينتصب نصريا هلا‪ .‬ولكن اختاذه مركز الدائرة منصة‬
‫‪3‬‬
‫على الدوام هو الضامن يف أنه ال ينتصب خصيما قاطعا‪ ،‬وال ينربي نكريا قاذفا‪".‬‬

‫انطالقا من هذه النصوص النقدية أو اليت تتنزل يف مقام نقد النقد‪ ،‬يتأسس اخلطاب النقدي‬
‫للمسدي على طبقة من النقد تراكمت فوق نظريهتا عند عياد مما يؤصل ملا يدعو إليه املسدي من‬
‫نقد النقد كممارسة أدائية‪ ،‬دعا إليها يف بعض مؤلفاته ويف تعليقه على نص شكري عياد حول‬
‫كتابه دائما يكتب المسدي قائال‪":‬وتتواصل آلية االنسياب مبددها يف قوله‪":‬إن النقاد تغريت‬

‫‪ 1‬املرجع السابق ‪ ،‬ص‪.020 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.023 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.022 :‬‬
‫‪187‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أساليبهم"‪ :‬فالدكتور عياد يتحدث عن النقاد بضمري مجع الغائب (هم) موحيا بأنه خارج عن ضمري‬
‫النقاد (هم) دون أن خيرج من ضمري النقد‪ ،‬ألنه يريد أن حيقق متاهيا بينه وبني النقد بعد أن ينجز‬
‫االنسالل من كوكبة النقاد هؤالء‪ ،‬فيكون قد سحب بساط النقد من حتت أرجلهم‪.‬وال نقد إذا إال‬
‫‪1‬‬
‫نقده‪".‬‬

‫‪ .1‬شكري عياد ومعضلة التأصيل النقدي‬

‫تعد جتربة شكري محمد عياد النقدية من بني أخصب النماذج وأثراها على مر السنوات اليت‬
‫قضاها الناقد‪ ،‬منقبا وحملال ومؤسسا‪ ،‬حيدوه يف ذلك أمل يف دفع العملية النقدية العربية إىل أقصى‬
‫آمادها‪ ،‬قصد بلوغ ذلك الشأو الذي بلغته غريها من اللغات واحلضارات‪ ،‬ويف حماوالته الكثرية حملاولة‬
‫التأسيس لنقد عريب‪ ،‬يرجع يف شقه األول إىل أصوله الرتاثية ويستحضرها أثناء عملية النقد‪ ،‬وينفتح‬
‫يف الوقت نفسه على الوافد من الثقافة الغربية يف غري ذوبان فيه أو إحماء أمامه‪ ،‬إن مايروم عياد‬
‫حتقيقه يف مشروعه النقدي الذي قارب اخلمسني عاما‪ ،‬هو التأصيل ملا أمساه "علم أسلوب العريب"‬
‫يقول يف معرض تقدميه لكتابه التأسيسي "مدخل إىل علم األسلوب" " الواقع أن هذا الكتاب ال‬
‫يصدر عن رغبة يف احلداثة أو التحديث فضال عن أن حياول فتنة الناس ببدعة جديدة من بدع‬
‫الثقافة الغربية‪ ،‬ولكنه حياول أن ينشئ يف ثقافتنا العربية علما جديدا مستمدا من تراثها اللغوي‬
‫واألديب‪ ،‬ومستجيبا لواقع التطور يف هذا الرتاث احلي‪ ،‬ومستفيدا من دراسات أهل الغرب بالقدر‬
‫‪2‬‬
‫الذي ميكن من رؤية التطور املعاصر رؤية تارخيية‪ ،‬وقراءة التاريخ قراءة عصرية‪".‬‬

‫إن ما يروم عياد توضيحه لقارئ كتابه‪ ،‬هو هذه احملاولة اجلادة واهلادفة إىل نوع من التالقح‬
‫الفكري واملعريف بني املوروث البالغي العريب‪ ،‬وبني الوافد مما مسي فيها بعد األسلوبيات احلديثة‪،‬‬
‫وعملية التمازج هذه‪ ،‬إمنا تنم عن عقل راجح وحصيف ميتاز به عياد عن غريه من النقاد الذين‬
‫جايلوه‪ ،‬ولقد م ّكن له ذلك تضلعه الكبري يف علوم اللغة البالغة العربية القدمية‪ ،‬وانفتاحه على‬
‫منجزات الثقافة الغربية املعاصرة " يف جتربة عياد الذي أعده رائدا للوعي ومساعي التأصيل يف املناهج‬
‫والنظريات املتقدمة‪ ،‬يربز قلق املراوحة بني إمكانية تطوير نظرية نقدية تستلهم الرتاث العريب وصعوبة‬

‫‪ 1‬املرجع السابق ‪ ،‬ص‪.025 ،022 :‬‬


‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب‪ ،‬أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة ‪،‬ط‪ ،0002 ،2‬ص‪.5 :‬‬
‫‪188‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫التوصل إىل ذلك‪ .‬فالناقد الذي سعى إىل تأسيس"علم أسلوب عريب" يف بعض دراساته هو نفسه‬
‫‪1‬‬
‫الذي أثار الشكوك حول إمكانية ذلك‪".‬‬

‫ال شك أن عياد يعي متاما صعوبة املسلك املعريف الذي رام االشتغال فيه والسري يف دربه‪.‬‬
‫ذلك أن عملية التأصيل ليست بالعملية السهلة املنال‪ ،‬باعتبار تلك اخلصوصيات احلضارية اليت متيز‬
‫حضارة عن أخرى‪ ،‬وثقافة عن ثقافة‪ ،‬ويف الوقت ذاته يتعني على الناقد احلصيف تتبع جممل‬
‫التوجهات النقدية قصد املعاينة أوال‪ ،‬مث الوعي بعمليات االشتغال ثانيا‪ .‬وهو الوعي مبختلف املراحل‬
‫والتوجهات النقدية اليت تساير عمليات اإلبداع‪ ،‬وتنظر هلا من منطلق اإلقرار بأن سؤال النقد سؤال‬
‫فلسفي أوال وقبل أي شيء‪ ،‬ذلك أن املعرفة احلقة إمنا يهتم هبا الناقد من الوعي مبرجعيات النقد‪،‬‬
‫وخلفياته الفلسفية والفكرية واليت تعترب املادة األساسية ألي توجه نقدي‪ ،‬أو منهج حتليلي يروم‬
‫الوقوف عند احلقائق املتغرية اليت حيتلها النص األديب‪.‬‬

‫يضع عياد جممل جتاربه النقدية واإلبداعية يف هناية مؤلفة "على هامش النقد" والذي محل بذور‬
‫املشروع النقدي له يف تفسريه احلضاري لألدب‪ ،‬مع اإلفادة من مجلة احلقول املعرفية ذات الصلة هبذا‬
‫املشروع‪ ،‬منها على سبيل اخلصوص‪ :‬تاريخ األدب ونظرية األدب‪ ،‬وعلم األسلوب‪ .‬وهي حقول‬
‫متشابكة وملتفة حول بعضها البعض لتؤدي يف النهاية حوصلة هذه التجربة احلضارية‪ ،‬يف قراءة‬
‫األدب وتفكيكه وحماولة رصد مناطق الظل والضوء فيه‪ ،‬مع جتلي إرهاصات لتواجد معامل بعض‬
‫اجلهود النقدية العربية اليت تنبئ بوجود بذور هلذه النظرية يف النقد‪ ،‬يقول عياد‪ " :‬إنين أحاول اآلن أن‬
‫أضع خالصة دراسايت وجتاريب يف النقد وحوله‪ ،‬يف مشروع نظري واحد مرتابط األجزاء يتناول طبيعة‬
‫العمل األديب‪ ،‬وطبيعة العملية النقدية‪ ،‬وخصائص لغة األدب‪ ،‬وعالقة األدب باإلبداع احلضاري‪ ،‬ويل‬
‫أبني حاجة احلياة إىل األدب حىت يستعيد األدب املكانة اليت‬ ‫مطمحان من وراء هذا املشروع ‪ :‬أن ّ‬
‫كانت له يف حياة األمة العربية على مدار التاريخ‪ ،‬وأن أبث يف علوم األدب األساسية‪ :‬نظرية األدب‬
‫وعلم األسلوب وتاريخ األدب‪ ،‬حياة جديدة من خالل ربطها بالعلوم اإلنسانية من ناحية‪ ،‬وباآلثار‬
‫‪2‬‬
‫األدبية الكربى من ناحية ثانية‪".‬‬

‫‪1‬سعد البازعي‪ :‬االختالف الثقايف وثقافة االختالف‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ 3118 ،0‬ص‪.01 :‬‬
‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪:‬على هامش النقد‪ ،‬أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،0002 ،0‬ص‪.050 ،051 :‬‬
‫‪189‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫لكن قبل هذا بزمن ليس باليسري يقر عياد بصعوبة املهمة املنوطة بالناقد املشتغل يف حقل‬
‫النظرية‪ ،‬وقلقه وشكه الدائم من إمكانية حتقيق هذا املشروع احلضاري للنظرية النقدية يقول‪ ":‬أما ماال‬
‫يستطيع هذا الكتاب أن يقدمه إليك فلعل أهم ما يعنيك منه مذهب أديب تستطيع أن تتبناه وتقول‬
‫أنه مذهبك ‪ ..‬وال أشك‪ ،‬أنك ترى ملاذا ال يستطيع هذا الكتاب أن يقدم مثل هذا املذهب‪،‬‬
‫فالكاتب الذي يظل دائما أبدا يف حوار مع نفسه ال جييب عن سؤال إال ظهر له عشرون سؤاال‪،‬‬
‫مثل هذا الكاتب قد يكون صاحب تفكري ولكنه ليس صاحب مذهب‪ ،‬قصاراه أن جيعلك تفكر‬
‫‪1‬‬
‫معه أو تفكر ضده‪ ،‬وإذا شئت أن تتمذهب بعد ذلك فهذا شأنك‪".‬‬

‫إن املعضلة اليت نذر الرجل نفسه ملعاينتها ومعاجلتها إمنا تشكلت وفق منطلقات حضارية يف‬
‫الزمان‪ ،‬ومتثلت يف مدى استلهام ومتثّل الوافد من الثقافة الغربية وحماولة تأصيله وتبيئته يف الثقافة‬
‫العربية‪ ،‬ومدى اإلفادة منه واستثماره يف عمليات التالقح الفكري يف األدب‪ ،‬وإبراز فاعلية املثاقفة‬
‫اليت مبوجبها تتطور اآلداب وتزدهر‪ ،‬وهو األمر نفسه الذي حصل مع األدب العريب ونقده‪ ،‬إال أن‬
‫اإلشكالية الكربى اليت تقف حجرة عثرة يف وجه كل تقدم ومسايرة هو هذا العماء الفكري الذي‬
‫ميارسه طائفة من النقاد واملرتمجني العرب‪ ،‬الذين أسهموا من حيث علموا أم مل يعلموا‪ ،‬يف هذه‬
‫الفوضى املصطلحية واملعرفية اليت صاغوها يف مؤلفاهتم‪ ،‬وينعى عياد على مجهور هؤالء النقاد‬
‫حتمسهم الشديد ملثل هذه النظريات واملصطلحات‪ ،‬دون الوعي خبلفياهتا املعرفية ومرجعياهتا‬
‫الفلسفية‪ ،‬يقول عياد‪ ":‬لكننا نقرأ ونسمع كلمات جديدة مثل‪ :‬البنيوية واألسلوب والتفكيكية‬
‫والشكالنية وتوابعها من إجرائية وحماور رأسية وأفقية‪ ،‬وأصبحنا نطالع يف ثنايا النقد األديب معادالت‬
‫أشبه باملعادالت اجلربية‪ ،‬وصيغا أسبه بالصيغ الكيميائية وجداول إحصائية ورسومات خطيطية‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫فأزداد اغرتاب النقد عن األدب اإلبداعي واغرتاب كليهما عن القارئ الذكي‪".‬‬

‫إهنا ثورة فكرية من قبل الناقد على رواد وأصحاب هذا النوع اجلديد من النقد واهلالة الكبرية‬
‫اليت ألبسوها للنقد‪ ،‬الذي ضاع يف حقيقة األمر يف خضم الطالسم واألشكال اهلندسية املبهمة عليه‪،‬‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬جتارب يف األدب والنقد‪ ،‬دار الكاتب العريب‪ ،‬ط‪ ،0002 ،3‬ص‪.2:‬‬
‫‪ 2‬شكري حممد عياد ‪ :‬على هامش النقد‪ ،‬ص‪.032 :‬‬
‫‪190‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫واليت أدت إىل اغرتاب النقد عن فهم النص اإلبداعي‪ ،‬وعدم احتفاء املبدع باآلراء النقدية للنقاد‪،‬‬
‫الذين أصبحوا ميارسون نوعا من الدجل الفكري واملعريف عوضا من أن ميارسوا النقد البناء‪.‬‬

‫يندفع عياد ملعاجلة هذه القضايا من دافع احلرص على ختليص النقد العريب احلديث واملعاصر‬
‫من كل الشوائب‪ ،‬اليت قد تعلق به وحماولة تنقية النقد من العوالق هو ما يدعوه عياد "بالتأصيل" وهو‬
‫أن جيعل هلذا الوافد أصال يف ثقافتنا العربية" ال ميكن أن تعيش فكرة التأصيل إذا سيطر عليها الشعور‬
‫بالنقص‪ ،‬إن فكرة التأصيل ال تويل ظهرها للثقافة الغربية بل إهنا ما كانت لتوجد لوال لقاؤنا هبذه‬
‫احلضارة‪ 1".‬مث يضيف دائما حول فكرة التأصيل‪ " ،‬مادامت فكرة التأصيل راجعة إىل لقاءنا باحلضارة‬
‫‪2‬‬
‫الغربية فيجب أال تتجاهل هذا اللقاء يف أي مرحلة من مراحل الفكرة‪".‬‬

‫إن احلاجة إىل اآلخر الغريب هو ما يدعو إليه عياد من خالل هذه النصوص‪ ،‬إمنّا تبقى هذه‬
‫احلاجة دائما نسبية‪ ،‬نسبية يف األخذ ويف الرتمجة ويف التمثل‪ ،‬حىت يتسىن للذات العربية إبراز مدى‬
‫متايزها عن هذا اآلخر الغريب خبصوصيتها الذاتية الفردانية‪ ،‬رغم ذلك‪ -‬ومتاشيا مع روح املثاقفة اليت‬
‫يدعو إىل ارتيادها‪ -‬ال يقدم لنا عياد " الوصفة املنتظرة للخروج بنظرية أو نظريات عربية يف النقد‪،‬‬
‫وفكرة التأصيل ليست أكثر من مؤشر بذلك االجتاه لكن ما يفعله عياد هو أوال أنه يرفع معدل‬
‫الوعي بإشكالية االتكاء على النظريات اجلاهزة‪ ،‬مث إنه ثانيا يطرح جتربته يف مواجهة تلك اإلشكالية‬
‫‪3‬‬
‫أو التحدي‪".‬‬

‫بعد أن حيدد عياد مفهومه هلذه املفردة األساس"التأصيل"‪ ،‬ال يلبث أن خيرج عن مألوف‬
‫الدعوات السابقة‪ ،‬يف كيفية األخذ من الثقافات الغربية من أن خنتار املفيد وندع الرديء‪ ،‬وكأن األمر‬
‫منوط بعملية اختيار منهجية واعية‪ ،‬غري أنه يطرح رؤية مركبة متناقضة حول مدى فاعلية األخذ من‬
‫اآلخر‪ ،‬ألن األمر يتضمن بعض املفارقات والتناقضات اليت قد تقع فيها األنا يقول " وقد ال تستطيع‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬األدب يف عامل متغري‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للتأليف والنشر‪ ،‬دط‪ ،‬دث ‪،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.32 :‬‬
‫سعد البازعي‪ :‬االختالف الثقايف ‪ ،‬ص‪03 :‬‬
‫‪3‬‬

‫‪191‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫احلضارة العربية احلديثة أن تنهض وتعيش يف جمتمع األمم اليوم إال إذا قبلت يف رحاهبا بعض‬
‫‪1‬‬
‫املتناقضات‪ ،‬واستطاعت أن تصقلها بطريقتها اخلاصة‪".‬‬

‫إن عملية الوعي هبذه التناقضات هي اليت ومست جهود عياد النقدية مبيسم القلق املعريف‬
‫واحلضاري‪ ،‬الذي يعي متاما صعوبة العملية وعدم الركون واالطمئنان إىل اليسري من هذه التوليفة‬
‫العجيبة بل إ ّن " القبول بالتناقض مؤشر على موقف قلق جيعل التأصيل هدفا يصعب الوصول إليه‬
‫بدال من أن يكون سهل املتناول ‪...‬وأن جزءا من أمهية النقد الذي تركه عياد هو يف هذا القلق‪،‬‬
‫الذي تتسع شواهده لتشمل الكثري من أعمال الناقد وعلى فرتات متباعدة نسبيا‪ ،‬ذلك أن هلذا‬
‫القلق داللة على الوعي بأن اإلشكالية احلضارية اليت تواجهها الشعوب العربية أعقد من أن حتل‬
‫‪2‬‬
‫بتوليفة سهلة‪".‬‬

‫وعملية الوعي هبذا التناقض احلضاري‪ ،‬هي اليت من شأهنا أن متهد السبيل يف معرفة وكنه‬
‫االختالف عن اآلخر الغريب‪ ،‬مبا حيمله من تناقضات وقد أبان عياد عن رؤية مبكرة لطبيعة هذا‬
‫االختالف احلضاري يف كتابه "جتارب يف األدب والنقد" عند قوله عن التأصيل‪ ":‬إن هذه املذاهب‬
‫اليت تطور يف ظلها علم الصناعة األدبية من كالسيكية ورومانسية وواقعية ورمزية اخل‪ .‬هي أصداء‬
‫لنظرة معينة إىل احلياة‪ ،‬نظرة تصيبها اختالفات الزمان واملكان بكثري من التغري والتبديل‪ ،‬وخيضعها‬
‫قانون رد الفعل أحيانا ملا يشبه التناقض‪ ،‬ولكن األصداء املختلفة تلتقي أخريا فتكون نظر حياة‬
‫وتكشف عن روح حضارة‪ ،‬فهل ميكننا أن نستعري القواعد اليت وضعتها هذه املذاهب‪ ،‬دون أن‬
‫تستعري النظرة اليت بنيت عليها املذاهب نفسها‪ ،‬وهي نظرة قد ال توافق كياننا النفسي وال تالئم‬
‫‪3‬‬
‫اجتاه حضارتنا‪".‬‬

‫تأسيسا على مامت تتشكل النظرة النقدية الفاحصة لعياد‪ ،‬وترسم املالمح الكربى ملشروعه‬
‫النقدي واحلضاري‪ ،‬يتضح ذلك من دافع نزوعه حنو سرب أغوار هذه احلضارة الوافدة‪ ،‬مع مجلة هذه‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬األدب يف عامل متغري‪ ،‬ص‪.32 :‬‬


‫‪2‬سعد البازعي‪ :‬استقبال اآلخر‪ -‬اآلخر يف النقد العريب احلديث‪ ،-‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪،3112 ،0‬‬
‫ص‪.352 :‬‬
‫‪ 3‬شكري حممد عياد ‪ :‬جتارب يف األدب والنقد‪ ،‬ص‪.08 :‬‬
‫‪192‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫املذاهب واملناهج‪ ،‬وقياس مدى اختالفها عن مكونات الذات العربية ومنطلقاهتا املنهجية‪ ،‬ومرتكزاهتا‬
‫املعرفية‪ ،‬اليت صاغت املالمح الكربى لعملية االختالف‪ ،‬وهو يف هذا خيتلف عن الكثري من النقاد‬
‫العرب احلداثيني‪ ،‬ذوي االجتاه الليربايل أو التنويري‪ ،‬وتتحدد نظرة عياد أكثر من خالل مجلة مدوناته‬
‫النقدية اليت ارتكزت حول صياغة مشروعه النقدي واحلضاري‪ ،‬خاصة يف تصديره لطبعته الثانية من‬
‫كتابه "جتارب يف األدب والنقد" يف قوله‪ ":‬كنت منذ أواخر األربعينيات أتطلع إىل التغيري وأميل إىل‬
‫االشرتاكية (وقد قرأت صدرا ال بأس به من كتابات ماركس ولينني وستالني) وكنت رغم وطنييت‬
‫املصرية الضيقة أعشق شعر املتنيب‪ ،‬وأعتقد أين كنت جبانب ذلك كله مسلما صحيح اإلميان‪ ،‬فلم‬
‫‪1‬‬
‫يكن ليطاوعين مهما عربد الفكر على التجديف يف آيات اهلل‪".‬‬

‫تربز نظرة عياد ملختلف املذاهب واملناهج النقدية من منظور الناقد احلصيف‪ ،‬الذي خرب معظم‬
‫هذه التيارات‪ ،‬ومل ينقد يوما ما حول سيلها اجلارف‪ ،‬الذي ميسح كل ما مير به جاعال من أي‬
‫خصوصية حضارية أو ثقافية‪ ،‬ضربا من اهلامش الذي يدور حول املركز املتمثل يف احلضارة الغربية‪،‬‬
‫هذه احلضارة اليت ش ّكلت لنفسها مركزية على مستوى الثقافة وعلى مستوى النقد‪ ،‬وجعلت من‬
‫الفكاك منها أمرا ميئوسا منه‪ ،‬غري أن عياد ويف مرحلة الحقة من حياته النقدية يعرب بوضوح عن‬
‫موقفه املناهض واملضاد إزاء ما عرف فيما بعد باحلداثة الغربية واليت أسهمت بشيء غري يسري يف‬
‫ظهور مايسمى باحلداثة العربية يقول‪ " :‬هل نقول ‪-‬أكثر من هذا‪ -‬إن دعوى "عربية" احلداثة –‬
‫هذه احلداثة – دعوى زائفة‪ ،‬ألهنا ال تزيد على أن تنقل إلينا مفاهيم احلداثة الغربية‪ ،‬بل مفاهيم‬
‫"حداثة" معينة‪ ،‬حداثة الغريب‪ ،‬والالفت‪ ،‬واملثري‪ ،‬بعد أن انقضى عهد رواد احلداثة احلقيقيني‪ ،‬أمثال‬
‫بودلري ورامبو وإزراباوند‪ ،‬ود‪.‬هـ‪ .‬لورنس‪ ،‬وو‪.‬ب‪ .‬ييتس وجيمس جويس‪ ،‬وت‪ ،‬س إليوت‪ ،‬الذين‬
‫شككوا أبناء احلضارة الغربية يف قيم هذه احلضارة‪ ،‬وهي نفسها اليت يبشر هبا حداثيونا هؤالء باسم‬
‫احلضارة اإلنسانية‪ ،‬وهي بالفعل حضارة إنسانية‪ ،‬ألهنا جعلت اإلنسان مصدر القيم كلها‪ ،‬فانتهت‬
‫بأن أصبحت اآللة اليت اخرتعها اإلنسان لتهيئ له مزيدا من القوة أو مزيدا من السعادة‪ ،‬سببا لشقائه‬
‫ورمبا لدماره؟"‪.2‬‬

‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪.15:‬‬


‫‪1‬‬

‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪،‬‬
‫الكويت‪ ،022 ،‬سبتمرب‪ ،0002 ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪193‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إذا هو املوقف النقدي لعياد من منجزات احلضارة الغربية‪ ،‬وإفرازاهتا على مستوى درجات‬
‫التقبل والتلقي عند النقاد العرب‪ ،‬ومدى انبهارهم هبذا الوافد وتلقيهم السليب هلذه املنجزات حىت‬
‫لكأهنم تابعني ومنبطحني ال فاعلني ومستثمرين‪ ،‬والسبب يف ذلك هو هذه اهلرولة الكبرية للكثري من‬
‫النقاد احلداثيني العرب‪ ،‬حنو أوروبا والغرب عموما مما أوقعهم فيما أمساه إدوارد سعيد بفنطازيا‬
‫التكرار‪ ،‬يف معرض حديثه عن مستويات التلقي العريب للحداثة الغربية‪ ،‬حني ينعدم الوعي مبجمل‬
‫املرجعيات واخللفيات اليت صاغت هذه احلداثة يف تربتها األصل يقول إدوارد سعيد‪":‬يساورين‬
‫االنطباع بأننا يف العامل العريب نقوم بالنسخ املباشر‪ ،‬ما أن يقرأ الواحد منا كتابا من تأليف فوكو‬
‫أوغرامشي حىت يرغب يف التحول إىل غرامشاوي أو فوكوي‪ ،‬ال توجد حماولة لتحويل تلك األفكار‬
‫إىل شيء ذي صلة بالعامل العريب‪ ،‬حنن ما نزال حتت تأثري الغرب‪ ،‬من موقع اعتربته على الدوام دونيا‬
‫تأمل العدد الكبري من األفراد يف مشال إفريقيا يف املستعمرات الفرنسية السابقة ممن يكتبون‬
‫وتتلمذيا‪ّ ،‬‬
‫وكأهنم تالميذ فوكو أوديريدا‪ ،‬أو تودوروف‪ ،‬والقسط األهم راجع يف نظري وهذا جمرد انطباع‪ ،‬إىل‬
‫فهم ناقص حلقيقة الغرب‪ ،‬أعتقد أننا مل ننل قسطا بعد من سريورة التنوير والتحرير باملعىن الفكري‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وأعتقد أن اللوم يقع على املثقفني إذ ليس بوسعنا أن ننحو بالالئمة على االمربيالية والصهيونية "‪.‬‬

‫تتقاطع رؤية إدوارد سعيد النقدية مع التوجه النقدي عند شكري عياد‪ ،‬إذ ما يلبث سعيد أن‬
‫يوجه هذا النقد البناء للذات‪ ،‬أو قل هو نوع من اجللد الذايت‪ ،‬وذلك يف حتميله املسؤولية كاملة‬
‫جلمهور النقاد احلداثيني‪ ،‬وينحو بالالئمة عليهم‪ ،‬نتيجة ذلك التدين والتدهور احلاصل يف جمال النقد‬
‫وسؤال النقد‪ ،‬وعمليات الوعي بالتلقي العريب هلذه املدونات النقدية الغربية‪.‬‬

‫رمبا ختتلف النربة النقدية احلادة إلدوارد سعيد عن تلك النربة اهلادئة نوعا ما من قبل عياد‪،‬‬
‫يف توجيه أصابع االهتام إىل مجلة من احلداثيني‪ ،‬الذين مل حيسنوا استثمار هذا الوافد‪ ،‬فعميت عليهم‬
‫أمورهم فالذوا بالعودة للرتاث‪ ،‬لكن بعد أن ألبسوه حلة حداثية متثلت يف دعوهتم إىل القطيعة املعرفية‬
‫معه‪ ،‬يقول عياد‪ ":‬أما احلداثيون فإهنم‪ ،‬واحلق يقال‪ ،‬أشد التفاتا إىل الرتاث من أسالفهم‪ ،‬الذين‬
‫اصطلحنا على تسميتهم جبيل الرواد‪ ،‬والذين مل يروا يف النقد العريب القدمي ما يستحق الوقوف عنده‪،‬‬
‫وراحوا ينقذون ما ميكن إنقاذه من الشعر والنثر‪ ،‬باستخدام أساليب النقد األورويب احلديث‪ ،‬فهؤالء‬

‫‪ 1‬حممود مريي‪ :‬أسئلة النقد احلديث‪ ،‬عالمات‪ ،‬جملة فصلية ثقافية‪ ،‬مكناس‪ ،0002 ،‬ع‪ ،2‬ص‪.035 :‬‬
‫‪194‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫احلداثيون اجلدد يأخذون بيد النقد العريب القدمي‪ ،‬ويركبونه طائرة ليلتحق جبامعة أوربية أو أمريكية‪،‬‬
‫طالبا حييا متواريا يف زمحة النقد احلديث‪ ،‬ال يتكلم إال حني يبتسم األستاذ مشجعا‪ ،‬فيعلق تعليقه‬
‫‪1‬‬
‫الصغري واملؤدب‪ ،‬مث يعود إىل االستماع والنقل‪".‬‬

‫إن مثل النقاد احلداثيني عند عياد مثل التلميذ املطيع‪ ،‬الذي ال حيسن حىت االستماع والنقل‬
‫ويف أحسن األحوال حيسن بعض التعليق البسيط‪ ،‬الذي ال يصيب العملية النقدية يف صميمها بل‬
‫يطمئن ملا هو سائد وموجود‪ ،‬واحلق أن عياد إمنا قسم مجهور النقاد إىل حداثيني وتراثيني إلبراز مدى‬
‫درجات الوعي الفكري‪ ،‬أو إبراز الفكر النقدي عند الطائفتني‪ .‬فال جند بدا من مسايرة تقسيمه هذا‪،‬‬
‫مع ضرورة االنتباه إىل ذلك النقد املبطن للجمهور الثاين أقصد احلداثيني‪ ،‬بعد أن وقف موقفا نقديا‬
‫من النقاد الرتاثيني الذين يلوذون باملاضي قصد االحتماء به من نوازل احلاضر‪ ،‬الذي الجيد مانعا يف‬
‫إزاحة كل القيم املضادة‪ ،‬والرتاثيون يف نظر عياد هم الذين يتصيدون السقطات املعرفية‪ ،‬اليت يبحثون‬
‫عنها فيما يطالعونه من كتب مرتمجة‪ ،‬قصد الوقوف منها موقفا مضادا ملا هو عندهم‪.‬‬

‫إن ما يلجأ له عياد يف مثل هذه النصوص‪ ،‬هو نفسه الذي وقفه محمد برادة من مستويات‬
‫الوعي بالوافد الغريب‪ ،‬ومدى إسهامه يف بلورة وصياغة الذات العربية معرفيا‪ ،‬يقول برادة بعد أن دعا‬
‫إىل فك االرتباط مع املاضي‪ ،‬ومن مث االنتقال من مراحل التبعية إىل مراحل التحرير‪ ":‬معظم نقادنا‪،‬‬
‫منذ حسني املرصفي‪ ،‬قد اجتهوا صوب املستودع األديب األوريب (=الغريب) حبثا عن أدوات التحليل‬
‫والتفسري‪ ،‬حىت عندما حاولوا إعادة تقييم روائع الرتاث العريب‪ ،‬وهذا ما ترك يف نفوسنا االنطباع‪ ،‬عند‬
‫قراءة العقاد واملازين وطه حسني وهيكل ‪....‬بأهنم جيهدون يف إبراز قيمة الرتاث عن طريق إظهار‬
‫إمكانية تطبيق املناهج الغربية على جوانبه اهلامة‪ ،‬حىت ال يكون خمتلفا يف شيء عن الرتاثات األدبية‬
‫‪2‬‬
‫لألمم املتقدمة‪".‬‬

‫تتأكد عالقة األنا باألخر من خالل منظورات عديدة ترمي يف مجلة ما ترمي إليه‪ ،‬التخلص من‬
‫هذه التبعية‪ ،‬والدعوة إىل ممارسة تلك القطيعة املعرفية مع اآلخر‪ ،‬إال يف حدود التأثري والتأثر اليت جتري‬
‫كسنن الكون‪ ،‬لتفادي ذلك التصاغر الذايت أمام اآلخر‪ ،‬وذلك اإلحساس بالدونية‪ .‬يكتب الباحث‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬على هامش النقد‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪ 2‬حممد برادة‪ :‬حممد مندور وتنظري النقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،0085 ،‬ص‪.15 :‬‬
‫‪195‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫نبيل سليمان معلقا حول عمل الناقد العريب احلداثي الذي " يستورد من اآلخر ما هو جاهز استريادا‬
‫شرعيا أو هتريبا‪ ،‬حياول التوليف مع مقتضيات الواقع الفكري والنقدي واألديب‪ ،‬تتصاغر ذاته أمام‬
‫‪1‬‬
‫اآلخر الكلي اجلاذبية والتفوق‪".‬‬

‫رمبا تبقى دعوات عياد لعمليات املثاقفة من أجدى الدعوات وأرشدها‪ ،‬ذلك أن عمليات‬
‫املثاقفة إمنا تنتج عنها الكثري من املواقف املصاحبة اليت تندرج حتتها بدورها مواقف ذاتية‪ ،‬جتعل من‬
‫عملية اخلصوصية احلضارية مسة فارقة أو عالمة مميزة هلا عن غريها‪ ،‬مما يكسبها ذلك التميز والتفرد‪،‬‬
‫فالناقد ال جيد غضاضة يف االتصال باآلخر األوريب‪ ،‬ودراسة منجزاتنا النقدية واإلبداعية يف ضوء‬
‫ثقافته‪ ،‬لكن ما ينعاه عياد على هؤالء النقاد‪ ،‬هو عمليات النقل غري الواعية مبختلف املرجعيات‬
‫واخللفيات الفلسفية اليت جتعل من عملية التلقي أو النقل‪ ،‬استنساخ حريف هلذا الوافد دون حماولة‬
‫الوعي هبذه املرجعيات أو اخللفيات‪ ،‬وكأهنا قدرنا احملتوم الذي ال ميكن الفكاك منه والتملص من‬
‫ربقته‪ ،‬مع علمه مبدى احلاجة املاسة لضرورة اإلتصال هبذا اآلخر‪ ،‬ومن الواضح أن مثل هذه‬
‫اإلشكاالت ترسل حماكمات عامة وقابلة للتعميم‪ ،‬وتسم خطاب النقد العريب احلديث بالنقل‬
‫والتجريب واالستنساخ واإلسقاط والتحريف‪ ،‬وانعدام متثل الركائز االبستمولوجية والدعامات‬
‫اإليديولوجية‪ ،‬إال أن ذلك ال يعدم ما كان قد دعا إليه يف وقت مضي طه حسين من ضرورة‬
‫االتصال بالغرب وحماولة مسايرته يف منجزاته‪ ،‬يكتب فؤاد أبو منصور قائال‪ ":‬الغرب مرآة تساعدنا‬
‫على رؤية أنفسنا يف السلم احلضاري‪ ،‬وحتدد لنا على أية درجة نقف‪ ،‬وكيف سنتوجه وأية أدوات‬
‫‪2‬‬
‫نستعمل الستكمال مشروع املعاصرة‪".‬‬

‫انطالقا مما مت تقدميه حول عالقة النقد العريب بالنقد الغريب‪ ،‬وضرورة األخذ والتبادل احلضاري‬
‫والثقايف‪ ،‬خيوض عياد غمار جتربة التحديث حيدوه يف ذلك أمل يف حماولة مسايرة هذا الوافد‪ ،‬ويف‬
‫الوقت ذاته يشد أزره ما كان قد بدأه بنفسه من متابعة التيار األسلويب يف النقد العريب املعاصر‪،‬‬
‫وحماولة إجياد توليفة عجيبة بني هذا الوافد ومقوالت البالغة العربية القدمية‪ ،‬مع الوعي بالشروط‬
‫التارخيية اليت صاغت عمليات إجياد البدائل املصطلحية واملفهومية‪.‬‬

‫‪ 1‬نبيل سليمان‪ :‬مسامهة يف نقد النقد األديب‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0082 ،0‬ص‪.28 :‬‬
‫‪ 2‬فؤاد أبو منصور‪ :‬النقد البنيوي احلديث بني أوروبا ولبنان‪ ،‬نصوص‪ ،‬مجاليات‪ ،‬تطلعات‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪،0085‬ص‪.33 :‬‬

‫‪196‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫لقد كلف عياد مبعضلة التأصيل ودعا إليها تقريبا يف جل مدوناته النقدية‪ ،‬باعتبار أن عملية "‬
‫التأصيل سواء نظرنا إليها عند األديب املنشئ أو عند الناقد الدارس‪ ،‬تنطوي على جدال مستمر بني‬
‫األصيل والوافد‪ ،‬حبيث تبدوا األصالة عملية نسبية ومتطورة أشبه بتيار مطرد ال يتوقف أبدا‪ ،‬وهنا‬
‫أيضا ميكننا أن نبحث عن املقومات الثابتة والصفات املتغرية بشرط أال نفهم من الثبات معىن اجلمود‬
‫‪1‬‬
‫واحملافظة‪ ،‬وإمنا هو جماز نستعمله ونقصد به معىن الدميومة واالستمرار‪".‬‬

‫إال أنه ظل متشككا يف جدوى وفاعلية هذه احملاولة‪ ،‬اليت أراد من خالهلا إما أن يؤسس لفن‬
‫أديب كالقصة القصرية أو املنهج‪ ،‬كاملهج األسلويب يف حتليل اخلطابات‪ ،‬ذلك أن الرجل حاول أن‬
‫يعيد صياغة هذا املنجز‪ ،‬وميزجه باملوروث سواء كان إبداعا أم نقدا كالبالغة العربية‪.‬‬

‫إن عياد يضع قارئه يف مواجهة حقيقية وحامسة أمام ما يروم التوصل إليه‪ ،‬داعيا إياه إىل عدم‬
‫تسليمه بتلك القناعات اجلاهزة واألفكار الناجزة‪ ،‬بأن حماولة عياد هي مبثابة اإلجناز النهائي يقول يف‬
‫مقدمة إحدى كتبه‪ ":‬عن هذا التصور صدرت املقاالت التالية‪ ،‬فإن وافقك هذا التصور فذاك‪ ،‬وإال‬
‫فكن على ثقة من شيئني ‪ :‬أوهلما أين مل أستمل هذا التصور من فلسفة معينة‪ ،‬ولكين صغته من‬
‫معايشة طويلة لروائع األدب القدمي واحلديث‪ ،‬وثانيهما أين مل أضع هذا التصور أمامي حىت شرعت‬
‫يف الدراسات اليت بني يديك‪ ،‬فتستطيع أن تطمئن إىل أنك لن جتد تطبيقا آليا لنظرية ال ترضاها‪ ،‬بل‬
‫إين لن أعجب إذا وجدت يف هذه الدراسات ما يناقض النظرية اليت أوضحتها لك‪ ،‬إن جاز أن‬
‫نسمي مثل هذا التصور نظرية‪ ،‬فلنتفق أو خنتلف حول النظريات‪ ،‬سيظل جيمعنا دائما اهتمام صادق‬
‫‪2‬‬
‫هبذه األعمال العجيبة اليت تسمى األعمال األدبية"‪.‬‬

‫واستكماال هلذه اجلهود النظرية‪ ،‬سينهض الفصل املوايل بإبراز حمطات التماس احلاصلة‪ ،‬بني‬
‫البالغة العربية القدمية‪ ،‬ومنجزات األسلوبيات احلديثة‪ ،‬وذلك قصد الوقوف على عمليات التوليف‬
‫املعريف اليت متت بني العلمني‪ ،‬هبدف توضيح الرؤية النقدية األسلوبية عند الناقد حممد شكري عياد‪.‬‬

‫شكري حممد عياد‪ :‬الرؤيا املقيدة‪ ،‬ص‪.38 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.2 :‬‬


‫‪197‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل الثاني ‪:‬‬

‫بني البالغة العربية و األسلوبيات احلديثة‬

‫توطئة‬
‫‪ .1‬املشروع األسلوبي عند عياد‬
‫‪ .1.1‬إشكالية استقبال األسلوبية يف النقد العربي احلديث‬
‫‪ .1.1‬معطيات شكري عياد األسلوبية‬
‫‪ .1‬شكري عياد و معضلة التأصيل ألسلوبية عربية‬
‫‪ .1‬مباحث األسلوب يف الرتاث العربي‬
‫‪ .1‬شكري عياد و حماوالت التجديد‬

‫‪198‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫توطئة‬

‫تأتلف نظرة عياد إىل الرتاث العريب ‪-‬ممثال يف مظانه النقدية والبالغية‪ ،-‬من دافع نزوعه حنو‬
‫إعادة قراءة هذا املوروث قراءات عديدة‪ ،‬من أجل إماطة اللثام ورفع الغنب الذي سيطر على هذه‬
‫احلضارة فأصاهبا نوع من الوهن‪ ،‬رمبا أخرجها من دائرة احلضارات العاملية‪ ،‬وجعلها ترزح حتت مظلة‬
‫التبعية املعرفية ردحا غري قليل من الزمن‪ .‬ال يلبث الناقد يف العديد من مؤلفاته أن يدعو إىل ضرورة‬
‫إعادة قراءة هذا الرتاث قراءات مغايرة ملا كان سائدا‪ ،‬ليس بغرض املسايرة بل بغرض التجاوز‪ ،‬الذي‬
‫ينجم عنه ال حمالة إعادة اكتشاف مناطق الظل والضوء ملرات أخرى‪ ،‬بغية ممارسة نوع من النقد‬
‫الذايت الذي يسمح ولو بالشيء اليسري‪ ،‬بتعرية هذه األنساق ونبش تراكماهتا املكرورة‪ ،‬يقول عياد يف‬
‫معرض تصديره ألحد أهم كتبه‪ ":‬الغرض من هذا الكتاب إعادة النقد العريب إىل ساحة الفكر‬
‫العاملي‪ ،‬وهذا مطلب ال يقوم به كتاب واحد وال كاتب واحد‪ ،‬ولكننا نصدر عن اعتقاد جازم أن‬
‫‪1‬‬
‫البداية الصحيحة هتيئ لالجتاه الصحيح‪".‬‬

‫إن الناقد قد ال جيد مناصا من حماولة دفع العملية النقدية‪ ،‬والقرائية بشكل عام إىل آماد بعيدة‬
‫رمبا أكسبتها نوعا من الدقة اليت تنشدها أثناء عملية القراءة‪ ،‬واحلافز يف ذلك هو أن إعادة القراءة‬
‫ختضع جلملة من الضوابط والشروط اليت جتعل منها –أي عملية القراءة‪ -‬عملية هادفة وذات جدوى‪،‬‬
‫غري أنه ال يصدر عن رغبة فردية جتاه هذا الكم من القضايا النقدية اليت حتتاج يف واقع األمر إىل‬
‫جهود مضاعفة وجبارة‪ ،‬من أجل إجناز هذا العمل الكبري‪ ،‬وعياد يف الوقت ذاته حياول إعادة دفع‬
‫وجراء ذلك‬
‫النقد العريب املعاصر إىل ساحة الفكر العاملي‪ ،‬قصد االحتكاك به وحماولة حماكاته ومتثله‪ّ ،‬‬
‫يسهم هذا النقد يف إثراء الكثري من مقوالته وجهازه املصطلحي واملفهومي باجلديد الذي تزخر به‬

‫‪1‬شكري حممد عياد ‪ :‬اجتاهات البحث األسلويب‪ ،‬أصدقاء الكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0002 ،3‬ص‪.15 :‬‬
‫‪199‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الساحة النقدية العاملية‪ ،‬ومن مث يضمن لنفسه حيزا ضمن هذه الفضاءات العاملية؛ ألن من شأن‬
‫استحضار الرتاث بغية حماورته وفك شفراته ومغاليقه أن يدفع بالعملية النقدية قدما‪ ،‬وجيعلها ذات‬
‫جدوى وفاعلية يف حماولة قراءة أسئلة النقد العريب بشقيه القدمي واحلديث‪ ،‬يقول عياد منبها لفاعلية‬
‫هذه العملية‪ ":‬أردت أن أثبت أن هبذا العمل الضئيل أننا إذا نظرنا إىل تراثنا بعيون مفتوحة على ثقافة‬
‫العصر أمكننا أن نعرف قيمة ذلك الرتاث بال مبالغة‪ ،‬وأن ننقده بال خجل‪ ،‬وأن نعيشه بال مجود‪،‬‬
‫ذلك أن إعادة تفسري املاضي يف ضوء حاجات احلاضر وتطلعات املستقبل حتيل كتلة املاضي إىل‬
‫‪1‬‬
‫زخم يدفع احلاضر حنو املستقبل‪".‬‬

‫‪ .1‬املشروع األسلوبي عند عياد‬


‫‪ -1.1‬إشكالية استقبال األسلوبية يف النقد العربي احلديث‬

‫تعترب عملية استقبال املناهج النقدية الغربية ضرورة حتمية؛ ذلك أن عملية املثاقفة إمنا تتم‬
‫بطريقة النقل والتحوير للكثري من مقوالت الوافد إىل الثقافة العربية احلديثة واملعاصرة‪ .‬وعملية التلقي‬
‫ملختلف املناهج الغربية إمنا متت وفق معايري وضوابط وأسس ال جند للنقد العريب حيادا عنها‪ ،‬إال يف‬
‫بعض جماالت االستقبال اليت شهدت متاهيا كليا يف منجزات اآلخر الغريب‪ ،‬على أساس أنه مركز‬
‫الفكر العاملي ونقطة إشعاع حضاري‪ ،‬جيب مسايرته يف كل ما يدعو إليه‪ .‬غري أن هذه املشكلة‬
‫عرفت نوعا من النكوص مارسته الذات العربية يف مقابل هذا الزخم الفكري والنقدي الذي عجت به‬
‫الساحة النقدية العاملية‪ ،‬وعملية النكوص إمنا متت للتأسي مبا لدى الذات من تراث‪ ،‬ميكن أن ترتد‬
‫إليه مولية ومشيحة بوجهها عن هذا الكاسح الغاشم‪.‬‬

‫يعيب صالح فضل عملية االنبهار اليت وقع ضحيتها الكثري من النقاد العرب أثناء استقباهلم‬
‫ملختلف املناهج الغربية‪ ،‬وعلى رأسها األسلوبية‪ُ ،‬مرجعا املشكلة إىل قصور يف عملية الفهم ملختلف‬
‫املرجعيات الفكرية هلذا املنهج‪ ،‬إضافة إىل أن مجلة من الدراسات العربية يف جمال األسلوبية اتسمت‬
‫"بعجزها عن تقنني هذه املبادئ وتأصيلها"‪ ،2‬حينما حتدث فضل عن احتفاء الدارسني العرب جبملة‬
‫من املبادئ اليت اتكأت عليها األسلوبية كمنهج من مناهج حتليل اخلطابات األدبية‪ ،‬ناعيا إياهم‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬اجتاهات البحث األسلويب‪ ،‬ص‪.2 ،5:‬‬


‫صالح فضل‪ :‬علم األسلوب مبادئه وإجراءاته‪،‬دار الشروق‪،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0008 ،0‬ص‪.12 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪200‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اكتفاءهم مبا مساه "الوعي الفطري الساذج واالطمئنان إىل انفصام البالغة التقليدية عن احلياة‬
‫‪1‬‬
‫واإلشفاق من ورود منابع العلم‪".‬‬

‫الشك أن فضال يتخذ مجلة من املواقف النقدية لعملية التناول‪ ،‬اليت متت من قبل بعض النقاد‬
‫العرب يف جمال األسلوبيات‪ ،‬ويرجعها أحيانا إىل سوء التمثل هلذا الوافد وحماولة االقتناع بأن للذات‬
‫العربية موروثا نقديا بالغيا رمبا يصلح ليحل حمل هذا الوافد‪ ،‬ويف الوقت نفسه يقتلون أي حماولة‬
‫لدمج هذه املقوالت البالغية القدمية هبذه املبادئ واملنطلقات األسلوبية احلديثة‪ ،‬لتنجم عن عملية‬
‫التزاوج هذه إطارات نقدية حداثية‪ ،‬ال تتماهى مع الغرب وال تنكفئ على الرتاث‪ ،‬إمنا تأخذ من كل‬
‫طرف مبقدار‪ ،‬أضف إىل ذلك أن هذه الدراسات العربية كما يرى صالح فضل هي خليط مشوه‬
‫وشتات مضطرب من الشروح اللغوية واملالحظات الفيلولوجية والبيانات اللغوية املشوبة بظالل‬
‫املفاهيم األسلوبية مع تفاوت يف نسب األخذ هبذا االجتاه أو ذاك‪ ،‬وإذا عملية النقد قائمة على‬
‫‪2‬‬
‫إرسال أحكام جائرة خالية من النظرة العلمية املتأنية والبحث العلمي الرصني‪.‬‬

‫أما الباحث شفيق السيد فال يكاد حييد عما ذهب إليه صالح فضل ويشاطره الرأي يف‬
‫ضعف مستوى الدراسات األسلوبية العربية‪ ،‬بسبب من غموض اآلليات واملصطلحات اخلاصة‬
‫باملنهج األسلويب‪ ،‬ناهيك عن التعقيد الكبري واملبالغ فيه أحيانا من قبل األسلوبيني العرب‪ ،‬الذين كثريا‬
‫ما تأيت أعماهلم متسمة بطابع هذا الغلو يف الغموض والتعقيد‪ ،‬غري أنه استثىن من بني هؤالء‬
‫الدارسني شكري محمد عياد خاصة يف مؤلفه التأسيسي "مدخل إىل علم األسلوب"‪ ،‬الذي رأى‬
‫فيه الباحث أن عياد أخذ نفسه بشيء غري قليل من األناة والرصانة يف البحث‪ ،‬ويستدل على ذلك‬
‫مبا جاء يف تقدميه لدراسته املوسومة "االجتاه األسلويب يف النقد األديب" قائال‪" :‬ومل حيملنا اإليقاع‬
‫‪3‬‬
‫السريع لدورة الزمن على التنازل عما أخذت به نفسي من األناة واملثابرة وفاء حلق العلم‪".‬‬

‫املرجع السابق‪ ،‬ص‪12:‬‬


‫‪1‬‬

‫‪ 2‬ينظر‪ :‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب مبادئه وإجراءاته‪ ،‬ص‪ ،12 :‬وينظر كذلك‪ ،‬حممد الناصر العجيمي‪ :‬النقد العريب‬
‫احلديث ومدارس النقد الغربية‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ -‬سوسة‪ ،‬ط‪ 0008 ،0‬ص‪.020 :‬‬
‫‪ 3‬شفيق السيد‪ :‬االجتاه األسلويب يف النقد األديب‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،0082 ،‬ص‪.12 :‬‬
‫‪201‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ويذهب عبد السالم المسدي وجهة مغايرة يف حبثه عن سبب قصور الدراسات األسلوبية‬
‫العربية وال يكتفي بتشخيص احلالة املزرية‪ ،‬اليت آل إليها النقد العريب املعاصر‪ ،‬من سوء متثل ملختلف‬
‫املناهج الغربية مبا فيها األسلوبية ميدان اهتمام الرجل‪ ،‬بل يقف عند تلمس األسباب الداعمة لفكرة‬
‫التهافت والقصور‪ ،‬اليت تأتت يف نظره من مشكلية التعامل مع املفاهيم احلديثة عند الغربيني‪ ،‬واصفا‬
‫إياهم بأهنم متثلوا احلداثة جيدا وتشربوها حىت خالطت كياهنم والبست وجودهم وأصبحت "منصهرة‬
‫يف بوتقة تارخيية‪ 1".‬يف حني تبقى احلداثة عند العرب جمرد شعار يتناقلونه ويتهافتون على التوصيف‬
‫به‪ ،‬وذلك راجع يف رأي الناقد إىل تشعب مسائل احلداثة‪ ،‬وبعد الشقة بني سياقات النقد العريب‬
‫والنقد الغريب هذه السياقات هي الكفيلة بصنع تلك الفوارق اجلوهرية‪ ،‬اليت تبني عن خصوصية كل‬
‫طرف‪.‬‬

‫إال أن هذا ال يعدم عملية األخذ من اآلخر الغريب‪ ،‬وحماولة استثمار ما جادت به احلداثة‬
‫الغربية من مناهج نقدية‪ ،‬أسهمت يف إعادة صياغة الوعي النقدي عند الغربيني والعرب على السواء‪،‬‬
‫وال جيد النقاد العرب احملدثون حرجا يف األخذ من اآلخر مبا يضمن نوعا من التطور والنمو للكثري‬
‫من مقوالتنا النقدية الرتاثية‪ ،‬اليت بقيت أدراج التاريخ؛ فصالح فضل مثال يدعو ‪ -‬يف معرض حديثه‬
‫عن الدراسات العربية وتقوميها ومؤاخذته إياها باضطراب الرؤية واالفتقار إىل املنهج‪ ،-‬إىل ضرورة‬
‫التزود بكل جديد عند الغربيني من أساليب حبث مل تعهدها الساحة النقدية من قبل‪ ،‬وخيص بالذكر‬
‫األسلوبية باعتبارها منهجا نقديا حداثيا‪ ،‬والتوسل مبا توفره من آليات وإجراءات حتليل دقيقة‪ ،‬وهو‬
‫شرط تطور النقد العريب املعاصر‪ ،‬والضامن على جتديد النظرة إىل أدبنا قدميه وحديثه‪ ،‬وحتقيق ما‬
‫نصبوا إليه من نقلة نوعية تدفع مبناهج نقدنا العريب إىل مشارف العصر‪.‬‬

‫إن عملية االهتمام مبا عند الغرب من مناهج‪ ،‬وحماولة استثمارها هو ما حدا بمحمد عزام‬
‫مثال يف كتابه "األسلوبية منهجا نقديا" بضرورة الدعوة إىل إثراء مناهجنا وطرقنا مبا ج ّد من أساليب‬
‫حبث غربية‪ ،‬وذلك هبدف االخنراط يف حركة النقد احلديثة بكل كفاءة واقتدار‪ .‬مع ضرورة الوعي مبا‬
‫لدينا من تراث زاخر وغين بكل مقومات التقدم والرقي على مستوى النقد‪ .‬دون أن جيعل هذا الرتاث‬
‫سببا يف ختلفنا وتكلسنا‪ ،‬حبجة أن تراثنا غين إىل احلد الذي ال ميكن إفادته مبا لدى اآلخر من‬

‫‪1‬عبد السالم املسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب‪ -‬حنو بديل ألسين يف نقد األدب‪ ،-‬الدار العربية للكتاب‪ ،0022 ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪202‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫منجزات‪ ،‬وهو ما قنع به بعض املثقفني العرب يف العصر احلديث‪ ،‬وركنوا إىل تلك القناعات الزائفة‪،‬‬
‫اليت تنم عن قصور يف النظرة وتقصري يف البحث‪ ،‬غري أنه يدعو إىل حماولة سرب كنه هذه املناهج وعلى‬
‫رأسها األسلوبية‪ ،‬إميانا منه بالقيمة املعرفية واإلجرائية اليت حتققها‪ ،‬وما تنتجه من آليات نقدية جديرة‬
‫بتمهيد الطريق إىل مباشرة إعادة قراءة الرتاث " من منطلق التفاعل بينه وبني احلداثة"‪ ،1‬الشيء الذي‬
‫يربز معه مبا للرتاث العريب من رسوخ قدم يف جمال الدراسات اللغوية ومن مث بعث املاضي يف احلاضر‪.‬‬

‫الشك أن إقبال النقاد العرب املعاصرين على تلقي هذه املناهج‪ ،‬ومن بينها املنهج األسلويب يف‬
‫حتليل اخلطاب‪ ،‬مرده إىل شعور بالنقص يف آليات القراءة النقدية الرتاثية‪ ،‬مما يسمح بأن تتواشج‬
‫مقوالت الرتاث مع ماهو وافد من الثقافة الغربية‪ ،‬لتحصل الفائدة املرجوة‪ .‬األمر الذي حدا بالباحث‬
‫حمادي صمود إىل أن تنازعه نفسه يف كيفيات األخذ إما من الرتاث وإما من احلداثة‪ ،‬ذلك أن‬
‫الرجل هو من ناحية "متجذر يف الرتاث باالنتماء‪ ،‬مشدود إليه وحمكوم به‪ ،‬حىت غدا قطعة من كيانه‬
‫اليستطيع االنعتاق منه وال االبتعاد عنه أبدا‪ ،‬وهو من ناحية أخرى مدعو إىل االخنراط يف عصره‬
‫وفهمه"‪ ،2‬وعملية التوفيق بني االجتاهني أو التيارين ليست بالعملية السهلة امليسورة‪ ،‬إمنا تقتضي ممن‬
‫يتشبث هبا جهدا مضاعفا وأن يطيل معاشرة كال االجتاهني وأن يسلك سبيل الفهم وأن ينساق بني‬
‫أعطاف الرتاث كما احلداثة " فليس من سبيل إىل تأصيل الكيان‪ ،‬والتعمق يف فهم الرتاث وتعيني ما‬
‫يقوم فيه من ناصع املعامل ومشرق األحناء إال باالنغماس يف العصر والتوسل بلغته واالهتداء مبفاهيمه‪،‬‬
‫على أن يكون ذلك معرفة عميقة ال تستسهل صعبا وال تستعجل نفعا‪ ،‬معرفة جتلو اخلفايا وتربز‬
‫‪3‬‬
‫اخلصائص وحتيط باملوارد واملصادر‪".‬‬
‫‪ 2.1‬معطيات شكري عياد األسلوبية‬

‫تعترب األسلوبية من احلقول املعرفية والنقدية اليت ارتادها شكري عياد منذ بدايات كتاباته‬
‫النقدية‪ ،‬واليت وضع فيها مجلة من املدونات اليت تتفاوت أمهيتها بتفاوت القضايا النقدية اليت يطرحها‬
‫يف كل مؤلف ففي مؤلفه "مدخل إىل علم األسلوب" يضع عياد قارئه يف صلب العملية التواصلية‬

‫‪1‬حممد عزام‪ :‬األسلوبية منهجا نقديا‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة ‪ ،‬دمشق‪ ،0080 ،‬ص‪.15 :‬‬
‫‪ 2‬حممد الناصر العجيمي‪ :‬النقد العريب احلديث ومدارس النقد الغربية‪ ،‬ص‪.050 :‬‬
‫محادي صمود‪ :‬الوجه والقفا يف تالزم الرتاث واحلداثة‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،0088 ،‬ص‪12. :‬‬
‫‪3‬‬

‫‪203‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫والنقدية ويوليه من العناية ما جيعل من اخليط الرابط بينهما متينا منذ البداية‪ ،‬فال يفاجئه بأن ما هو‬
‫بصدد مطالعته عن علم األسلوب هو علم جديد العهد له به‪ ،‬إمنا يسايره من حيث املنطلقات‬
‫الفكرية املوضوعة أساسا يف عملية تأليف الكتاب‪ ،‬ويطلعه بأن ما هو بصدد مطالعته إمنا هو من‬
‫قبيل القدمي‪ ،‬الذي حفل به سابقا يقول عياد يف مفتتح الكتاب‪ ":‬الكالم عن األسلوب قدمي أما علم‬
‫األسلوب فحديث ولكنين إذ أقدم إليك هذا الكتاب ال أغريك ببضاعة جديدة مستوردة‪ ،‬فعلم‬
‫األسلوب ذو نسب عريق عندنا‪ ،‬ألن أصوله ترجع إىل علوم البالغة‪ ،‬وثقافتنا العربية تزدهر برتاث غين‬
‫‪1‬‬
‫يف علوم البالغة‪".‬‬

‫هو إذا نوع من التذكري الذي البد للمؤلف من شد انتباه قارئه منذ الوهلة األوىل‪ ،‬وحماولة‬
‫استمالة فكرة وهتيئة قدراته‪ ،‬لينخرط ضمن هذه املقوالت الوافدة‪ ،‬واليت ال متثل مصادرة للحقوق‬
‫املوروثة عن األجداد‪ ،‬الذين خلفوا هذا اإلرث البالغي اهلام‪ ،‬واألمر اآلخر الذي يتغياه عياد من هذه‬
‫املصارحة واملكاشفة‪ ،‬هو كذلك حماولة إقناع هذا القاريء منذ البداية‪ ،‬بأن عملية االقرتاض اليت تتم‬
‫بني اآلداب والثقافات‪ ،‬هي اليت من شأهنا أن تراكم هذه املعارف يف غري جفاف أو إسراف‪ ،‬ويف‬
‫الوقت ذاته هي دعوة إىل عمليات املثاقفة والتالقح‪ ،‬اليت تتم بني اآلداب اإلنسانية وهي شرط أي‬
‫تقدمي ورقي‪ ،‬يقول عياد‪ ":‬والواقع أن هذا الكتاب ال يصدر عن رغبة يف احلداثة أو التحديث‪ ،‬فضال‬
‫عن أن حياول فتنة الناس ببدعة جديدة من بدع الثقافة الغربية‪ ،‬ولكنه حياول أن ينشئ يف ثقافتنا‬
‫العربية علما جديدا مستمدا من تراثها اللغوي واألديب‪ ،‬ومستجيبا لواقع التطور يف هذا الرتاث احلي‪،‬‬
‫ومستفيدا من دراسات أهل الغرب بالقدر الذي ميكن من رؤية التطور املعاصر رؤية تارخيية‪ ،‬وقراءة‬
‫‪2‬‬
‫التاريخ قراءة عصرية‪".‬‬

‫منذ البداية ال يريد عياد ‪-‬كما أسلفنا‪ -‬أن يفاجئ قارئه بأشياء رمبا تكون من باب اجملهول‬
‫عليه‪ ،‬إمنا يدفع الناقد بالعملية القرائية واإلبداعية والنقدية لتتالقح مبا عند اآلخر من ثقافة تؤهلها ألن‬
‫تتسامق معها يف مساء احلضارة العاملية‪ ،‬ذلك أن عياد من النقاد العرب القالئل الذين وقفوا موقفا‬
‫وسطا‪ ،‬وجسرا واصال بني جيلني من أجيال النقد األديب‪ ،‬فالرجل مل يشح بوجهه عن تراثه التليد‪،‬‬

‫‪ 0‬شكري حممد عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب‪ ،‬أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،0002 ،2‬ص‪.15 :‬‬
‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.15 :‬‬
‫‪204‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الذي يعترب أحد أهم مقوماته النقدية واملعرفية‪ ،‬ويف ذات الوقت مل ينبهر انبهار أولئك النقاد‬
‫السطحيني‪ ،‬هبذا الوافد من الثقافة الغربية‪ ،‬بكل ما محله من زخم فين وفكري ونقدي وإبداعي وحىت‬
‫مادي‪ ،‬إمنا اتسمت نظرته باالعتدال والوسطية‪ ،‬وإمساك العصا من وسطها فهو مشدود يف شقه إىل‬
‫الرتاث العريب التليد‪ ،‬وهو يف شقه اآلخر منفتح بدون إسراف على منجزات احلضارة الغربية‪ ،‬يف غري‬
‫غلو وال انبطاح‪ ،‬لذلك نالحظ الرجل يف الكثري من مؤلفاته ينحو هذا املنحى االعتدايل‪ ،‬يف جمال‬
‫النقد مما مكنّه من ارتياد مجلة هذه احلقول املعرفية‪ ،‬اليت طرقها بنقده اهلادئ والرصني يف غري تسرع‬
‫وال امتثال وال تعصب‪ ،‬وذلك إلميانه الراسخ أن احلضارة اإلنسانية إمنا هي مناصفة بني كل اآلداب‬
‫والشعوب‪ ،‬وال ميكن حلضارة ما أن تنـزوي وتنكفئ على نفسها وتدعي األصالة‪ .‬ويف الوقت ذاته ال‬
‫ميكن هلا أن تنسلخ من أصلها وترمتي يف أحضان الوافد الغريب‪ ،‬فتفقد مقومات وجودها‪ ،‬يقول عياد‬
‫يف معرض تشخيصه املوقف النقدي من ثنائية األصالة‪ /‬املعاصرة‪.... " :‬األدهى أن اجلمع بني‬
‫األصالة واملعاصرة جيب أن يكون شيئا يف صلب الثقافة املشرتكة فلو ختصص ناس يف األصالة أي يف‬
‫قراءة الرتاث وآخرون يف املعاصرة‪ ،‬أي يف دراسة الثقافات الغربية لتسرب األولون يف املاضي وذاب‬
‫‪1‬‬
‫اآلخرون يف األجنيب‪".‬‬

‫انطالقا من تقريره هذا‪ ،‬يعاين الناقد بنظرته الفاحصة الكثري من مقوالت النقد الغريب احلداثي‪،‬‬
‫ويعيد صياغتها وفق منطلقات الثقافة العربية اليت ترفض االحمّاء يف هذا الوفد ومنجزاته‪ ،‬سريا على أن‬
‫لكل حضارة خصوصيتها وفرادهتا على مستوى اإلبداع والنقد‪ ،‬أو قل على مستوى الوعي هبذه‬
‫املقومات واملكونات‪ ،‬ويتجه عياد صوب خمزونه الفكري الرتاثي‪ ،‬يف مزاوجة عجيبة مع مقوالت النقد‬
‫الغريب يف أشدها حداثة ليقرر أن " القارئ اجليد ميكن أن يصبح منشئا جيدا‪ ،‬والقارئ الرديء ال‬
‫يكون إال منشئا رديئا‪ ،‬وإذا احنطت قيمة اإلنتاج األديب احنطت قيمة القراءة‪ ،‬وإذا تعلم ّقراء األدب‬
‫‪2‬‬
‫كيف يقرؤون‪ ،‬فالبد لكتابه أن يتعلموا كيف يكتبون‪ ،‬أو يكفوا عن الكتابة‪".‬‬

‫إن احلاصل من هذا االستشهاد هو موضعة القارئ والكاتب عند عياد‪ ،‬هذه املوضعة هي اليت‬
‫من شأهنا أن تويل نوعا من األمهية إىل ما ميكن أن ينجر عن فعل القراءة يف حد ذاته‪ ،‬وتلمس تلك‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية و النقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب‪ ،‬ص‪.2 :‬‬
‫‪205‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األمهية واملرتبة املتقدمة اليت حيتلها القارئ يف صلب العملية النقدية عند عياد‪ ،‬وذلك ألن الرجل ‪-‬‬
‫كما أسلفنا‪ -‬على اطالع مستمر ودائم على كل جديد يف ساحة النقد العاملية‪.‬‬

‫بعد أن قطع النقد العاملي أشواطا ومسافات زمنية‪ ،‬توصف عادة بأهنا طويلة طول باع أصحاهبا‬
‫يف جمال الفلسفة وعلم اجلمال وغريها‪ ،‬وبعد أن اختلفت الكثري من املدارس النقدية يف منطلقاهتا أو‬
‫نتائجها اليت ترمي الوصول إليها‪ .‬نفض النقد العاملي يديه من الكثري من اليقينيات واملسلمات اليت‬
‫كانت سائدة زمنا طويال‪ ،‬كاالحتكام إىل مجلة السياقات اخلارجية يف قراءة النص‪ ،‬باعتبارها املفسر‬
‫الوحيد له ومع ثورة اللسانيات والشكالنية والبنيوية على هذه املسلمات‪ ،‬حت ّجر النقد مرة أخرى يف‬
‫سجن اللغة‪ ،‬فلم يستطع واحلال هذه أن يتحرر من هذا السجن اللغوي‪ ،‬الذي فتحه البنيويون‪،‬‬
‫فكان أن تفتت وتفكك هذا الوهم مبعاول البنيويني أنفسهم مبشرين مبيالد اسرتاجتيات جديدة يف‬
‫تفكيك اخلطابات وحتليلها‪ ،‬غري حمتكمني إىل أي مقوم أو رابط‪ ،‬وأجنر عن ذلك فوضى مصطلحية‪،‬‬
‫كما هي فوضى يف املفاهيم ويف اآلليات‪ ،‬وانبثق من جراء ذلك ما يعرف اآلن يف أجبديات النقد‬
‫الغريب املعاصر بنظريات القراءة والتلقي‪ ،‬اليت أسهمت يف بلورة ريادة القارئ وإبراز أمهيته ومكانته‬
‫ومركزيته ضمن العملية النقدية‪ ،‬وتقدميه على أطراف عملية اإلبداع كاملبدع والنص‪ ،‬واملالحظ أن‬
‫عياد يساير يف بداية كتابه هذا جزء من طروحات هذه النظرية‪ ،‬ويويل األمهية البالغة الستعدادات‬
‫القارئ ونتائجه وجيعل منه مركزا يف العملية النقدية‪ ،‬ويقدمه حىت على مؤلف النص‪ ،‬وجيعل من‬
‫موجه‬
‫اهتمامه به بؤرة العملية برمتها‪ ،‬فهو املسؤول ‪ -‬القارئ‪ -‬عن إنتاج أدب هادف ومجيل‪ ،‬ألنه ِّ‬
‫ومقوم هلذا الكاتب الذي حيتكم يف إبداعاته إىل استنتاجات هذا القاريء وإستخالصاته ‪.‬‬

‫يتلمس عياد خطاه بكل تؤدة وصرب وتعقل‪ ،‬لريسم لنفسه فضاء رحبا يساوق به كل املنجزات‬
‫اللغوية والنقدية‪ ،‬اليت متور هبا الساحة األدبية‪ .‬فيوضح بداية أن موضوع املسائلة والدرس‪ ،‬إمنا هو‬
‫دائما األسلوب الذي نبحث عنه داخل النصوص‪ .‬هذا األسلوب الذي هو روح اإلبداع وعموده‬
‫‪1‬‬
‫الذي يتميز أكثر ما يتميز باخلصوصية والفردانية حىت قال بوفون أن "األسلوب هو الرجل نفسه"‬
‫وذلك دليل على تلك اخلصوصية‪ ،‬اليت يتميز هبا الكتاب واألدباء فلكل فرد أسلوبه اخلاص به‪ ،‬إال‬
‫أن عياد ينفي عن نفسه وعن اآلخرين كالمهم عن األسلوب‪ ،‬ما مل نتجاوز تلك األحكام القيمية‬

‫‪ 1‬صالح فضل‪ :‬علم األسلوب مبادئه وإجراءاته‪ ،‬ص‪.52 :‬‬


‫‪206‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫االنطباعية اليت من شأهنا أن تسيء للعملية النقدية من أساسها يقول‪ ":‬من الواضح أننا ال نستطيع‬
‫أن نتكلم عن األسلوب كالما مستقيما‪ ،‬يتجاوز حدود االنطباعات اجلزئية أوالوقتية‪ ،‬ما مل حندد‬
‫مفهومنا "لألفكار" اليت توجد يف األدب أوال توجد فيه‪ ،‬وينبغي لنا عندما حناول ذلك أال ننسى أن‬
‫هذا األدب‪ ،‬الذي نتحدث عنه ليس شيئا جمردا‪ ،‬ولكنه سالسل من األصوات اليت نسمعها بآذاننا‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫حسنا الداخلي إذا كنا قد تعودنا أن نقرأ قراءة صامتة‪".‬‬
‫أو ترتدد يف ّ‬
‫رمبا يتقاطع الناقد مع طروحات أخرى أذاعها يف مؤلف آخر‪ ،‬ال يقل أمهية من حيث إرساءه‬
‫ملبادئ النقد األديب‪ ،‬هو مؤلفه "دائرة اإلبداع"‪ ،‬الذي يربز فيه ماهية األدب ومدى اكتنازه جبملة‬
‫القيم‪ ،‬اليت ال خيلو منها أي عمل أديب‪ ،‬وهو إذ يذهب هذا املذهب‪ ،‬فإمنا ليؤكد أن األدب كغريه‬
‫‪2‬‬
‫من الفنون اإلنسانية األخرى يتمازج فيها املادي العيين باجملرد املعنوي‪.‬‬

‫وما دام األدب حيتكم إىل هذين املكونني املادي والتجريدي‪ ،‬فإن العديد من النقاد العرب‬
‫احملدثني‪ ،‬مل يستطيعوا أن يفرقوا حسب عياد بني اللغة األدبية واملعىن األديب‪ ،‬ذلك أهنم قفزوا يف‬
‫تعريفاهتم لألسلوب األديب قفزا جعل من جهودهم تصاب بنوع من القصور‪ ،‬على مستوى املعرفة‬
‫النقدية‪ ،‬وحياول عياد أن يلملم أشتات هذه األفكار املتناثرة حول التمييز بني اللغة األدبية واألدب‬
‫نفسه فيصل إىل أن" األدب فن مجيل ولكنه خيتلف عن سائر الفنون اجلميلة (كالتصوير والنحت‬
‫واملوسيقى) بأنه ال ميلك أداة التعبري اخلاصة به‪ ،‬بل يستمدها من اللغة اليت يستعملها الناس يف‬
‫حماوراهتم ومعامالهتم وشىت أغراض حياهتم‪ ،‬فإذا بدأت مناقشة اللغة األدبية من حقيقة كوهنا أدبا‪،‬‬
‫اضطربت بني حقيقة كوهنا فنا وحقيقة كوهنا لغة‪ ،‬ومن مث فال بد لك أن تبدأ من أحد الطرفني‪ :‬إما‬
‫من طرف الفن وإما من طرف اللغة‪ ،‬وقد تناوهلا الفالسفة من الطرف األول ضمن حبثهم يف فلسفة‬
‫اجلمال وفلسفة الفن‪ ،‬فكان تفكريهم أكثر انسجاما‪ ،‬ولكنه مل يعط األعمال األدبية اهتماما كافيا‬
‫من حيث هي إشارة لغوية‪ ،‬ولذلك ظل مبعزل عن النقد األديب إال فيما ندر‪ ،‬بقي إذا أن جنرب‬
‫‪3‬‬
‫الطريق اآلخر فندرس اللغة األدبية بادئني من حقيقة أهنا لغة‪".‬‬

‫شكري حممد عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب ‪،‬ص‪.02 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪2‬ينظر شكري حممد عياد‪ :‬دائرة اإلبداع‪ -،‬مقدمة يف أصول النقد‪ ،-‬دار إلياس العصرية‪ ،‬القاهرة‪،0082 ،‬ص‪.28 ،22 :‬‬
‫‪ 3‬شكري حممد عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب‪ ،‬ص‪.02 ،02 :‬‬
‫‪207‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يتضح جليا أن الناقد ينحو منحى الدارسات اللسانية احلديثة‪ ،‬اليت تروم البحث عن اللغة‬
‫باعتبارها ظاهرة اجتماعية أو نظام من العالمات‪ ،‬وجيب أن تدرس لذاهتا ومن أجل ذاهتا‪ ،‬وهي‬
‫إحدى الدعوات النقدية اللغوية للعامل اللغوي سوسري (‪ ،)F. De Saussure‬ومناداته بالدراسة‬
‫مهد‬
‫التعاقبية للغة‪ ،‬بعد أن أزاح الدراسات التارخيية اليت كانت سائدة إبان العصور اللغوية‪ ،‬مما ّ‬
‫السبيل لعياد ولغريه من النقاد احملدثني‪ ،‬بأن يتجهوا يف دراستهم صوب تلك الكشوف‪ ،‬اليت مت‬
‫التوصل إليها من قبل اللسانني‪ ،‬ومن مث يتجه عياد يف دراسته لألسلوب اجتاها لغويا صرفا‪،‬باعتبار‬
‫اللغة هي احلاضنة األساسية والوحيدة لكل أنواع األساليب‪.‬‬

‫يتتبع عياد املظان األوىل لظهور علم األسلوب يف أوربا‪ ،‬فيتعقب ذلك من باب الفتح الذي‬
‫أتت به اللسانيات يف دراسة اللغة ومناداهتا بالدراسة األفقية (اآلنية) للغة وأبعدت من اهتماماهتا‬
‫الدراسة (الرأسية) التارخيية‪ ،‬أو قل أزاحتها قليال‪ ،‬وقبل ذلك عّرج عياد كعادته يف طلب التأصيل‬
‫املعريف والعلمي إىل تعريف األسلوب يف الرتاث العريب‪ ،‬وكيفية إرجاع هذه التعريفات حىت إىل عصور‬
‫االحتجاج‪ ،‬مث تناول املفهوم كما عند العالّمة ابن خلدون الذي ّ‬
‫يعرف األسلوب بقوله‪ ":‬ولنذكر هنا‬
‫سلوك األسلوب عند أهل الصناعة‪ ،‬وما يريدون هبا يف إطالقهم‪ ،‬فأعلم أهنا عبارة عندهم عن املنوال‬
‫الذي ينسج فيه الرتكيب‪ ،‬أو القالب الذي يفرغ فيه‪ .‬وال يرجع إىل الكالم باعتبار إفادته أصل املعىن‬
‫الذي هو وظيفة اإلعراب‪ ،‬وال باعتبار إفادته كمال املعىن من خواص الرتاكيب‪ ،‬الذي هو وظيفة‬
‫البالغة والبيان‪ ،‬وال باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض‪ .‬فهذه العلوم‬
‫الثالثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية‪ ،‬وإّمنا ترجع إىل صورة ذهنية للرتاكيب املنتظمة كلية باعتبار‬
‫انطباقها على تركيب خاص‪ 1".‬مل يؤصل ابن خلدون األسلوب على معاين النحو فقط وإمنا جعل‬
‫النحو والبالغة والعروض آليات تغذي سلوك األسلوب كما يسميه هو‪ ،‬لكنه مل ميتح من معني‬
‫التقعيد الذي وقعت فيه العلوم اللغوية يف زمانه‪ ،‬ألن الصناعة الشعرية يف نظره تتعدى معرفة العلوم‬
‫املذكورة وال تقوم الشاعرية عند الشاعر بإدراك هذه العلوم‪ .‬إمنا ترجع الصناعة الشعرية حسب ابن‬
‫خلدون إىل " تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان الرتاكيب وأشخاصها ويصريها يف اخليال‬
‫رصا‬
‫فريصها فيه ّ‬
‫كالقالب أو املنوال مث ينتقي الرتاكيب الصحيحة عند العرب باعتبار اإلعراب والبيان ّ‬
‫النساج يف املنوال حىت يتسع القالب حبصول الرتاكيب الوافية مبقصود‬
‫كما يفعله البنّاء يف القالب أو ّ‬
‫‪ 1‬عبد الرمحان بن حممد بن خلدون‪ :‬املقدمة‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3111 ،0‬ص‪.221 :‬‬
‫‪208‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الكالم‪ .‬ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العريب فيه‪ ،‬فأن لكل فن من الكالم‬
‫‪1‬‬
‫أساليب ختتص به وتوجد فيه على أحناء خمتلفة‪".‬‬

‫إن األسلوب حسب تصوره‪ ،‬صورة ذهنية تغمر النفس وتطبع الذوق‪ ،‬األساس فيها الدربة‬
‫النابعة عن قراءة النصوص اإلبداعية املتفردة‪ ،‬ذات البعد اجلمايل األصيل‪ ،‬ومبثل ذلك تتكون وتتآلف‬
‫الرتاكيب اليت تعودنا على نعتها باألسلوب‪ ،‬وإذا كانت الرتاكيب اليت يكون األساس األول فيها هو‬
‫اللغة‪ -‬اليت هي األداة املثلى لتشكيل الصورة الذهنية‪ ،-‬فإن الوظيفة الشعرية لألسلوب جتمل يف‬
‫حتقيق التجانس بني خمتلف الرتاكيب املنتظمة يف بنية أساسها اللغة‪ ،‬وال يتحقق ذلك إال بالتوفيق بني‬
‫الرتاكيب من جهة والذوق من جهة ثانية‪.‬‬

‫‪ .2‬شكري عياد ومعضلة التأصيل ألسلوبية عربية‬

‫يرتكز شكري عياد يف حماولته التأصيل لعلم األسلوب العريب‪ ،‬بالرجوع إىل املوروث النقدي‬
‫والبالغي‪ ،‬وعرض هذا الرتاث جنبا إىل جنب مع االجتاهات النقدية احلديثة واملعاصرة يف النقد‬
‫األسلويب‪ ،‬وهو بذلك يُرجع العديد من املظاهر اللغوية إىل مظاهنا األساسية اليت امتاحت من البالغة‬
‫العربية القدمية ومقوالهتا ومصطلحاهتا‪ ،‬ويف الوقت ذاته حياول إقصاء اجلوانب االنطباعية اليت من‬
‫شأهنا أن تضلل الباحث األسلويب أكثر من أن يستهدي هبا‪ ،‬غري أنه يلزم نفسه بوضع األسس‬
‫العلمية للنقد دومنا ممارسة سلطة بطريركية‪ ،‬أو مصادرة حليوية العمل األديب‪ ،‬ومن شأن هذه العملية‬
‫أن تفك االرتباط املعريف وحتل التعارض بني البالغة العربية القدمية والنقد األديب املعاصر‪ ،‬األمر الذي‬
‫حدا بعياد أن يقف موقفا معتدال أو وسطا بني علمية النقد األسلويب‪ ،‬واملادة اخلام اليت خيضعها‬
‫للمساءلة والدراسة‪.‬‬

‫يقر عياد بسالمة التسمية اليت ارتضاها حلل هذا اإلشكال قائال‪" :‬وإذا أعطينا البحث‬
‫األسلويب يف عمومه اسم العلم ومكانته فلن نكون مسرفني‪ ،‬على اعتبار أن "علم األسلوب" يدرس‬
‫اإلمكانيات التعبريية للغة‪ ،‬أي الوسائل اليت ميلكها اجلهاز اللغوي نفسه ألداء معان تتجاوز األغراض‬

‫‪ 1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.220 ،221 :‬‬


‫‪209‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األولية للكالم‪ ،‬ومن مث ميكننا – إذا ضيقنا الدائرة‪ -‬أن ندرس اخلصائص األسلوبية للحداثة‪ ،‬بوصفها‬
‫‪1‬‬
‫مذهبا يف الكتابة أو النظم‪ ،‬كما ندرس اخلصائص األسلوبية للكتابة الرومانسية أو الواقعية‪".‬‬

‫لقد أدرك عياد ‪ -‬منذ مرحلة بداياته التأسيسية لوضع علم أسلوب عريب‪ ،-‬أن ميزة اللغة‬
‫األدبية اليت يصدر عنها أسلوب الكاتب‪ ،‬إمنا تنبع من هذه اخلاصية األساسية والسمة البارزة يف‬
‫إبداعه وهي األدبية‪ ،‬باعتبار أن هذه األخرية هي التوشية الزخرفية اليت يتشح هبا النص اإلبداعي يف‬
‫عمومه‪ ،‬األمر الذي جيعل من علم األسلوب‪ ،‬ذلك العلم الذي يهدف الوقوف عند اجلوانب‬
‫الشخصية يف األسلوب الفردي‪ ،‬أو ما يسمى باخلصوصية األسلوبية‪ ،‬ويسلك الرجل طرق النقد‬
‫العلمي مع نوع من احلذر خمافة الوقوع يف مطبات هذه االجتاهات العلمية‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة‬
‫لعلم النفس وعلم االجتماع واألنثربولوجيا‪ ،‬ألهنا مل حتدد مفاهيمها ومصطلحاهتا اخلاصة هبا‪ ،‬لذلك‬
‫رغب عياد عن هذه االجتاهات واجته رأسا إىل علم األسلوب الذي رآه من منظوره اخلاص‪ ،‬أكثر‬
‫علمية ومناسبة لدراسة األدب‪ ،‬وذلك ألن علم األسلوب ينطلق من حتليل النص األديب‪ ،‬الذي كتب‬
‫وفق مبادئ علمية تنتمي إىل علم اللغة ‪ -‬وتعد اللغة مادته األصلية واللغة نفسها هي املادة األساسية‬
‫لألدب‪ -‬دون أن يتيه يف استخدام بعض املصطلحات اليت تعج هبا تلك االجتاهات النقدية العلمية‬
‫اليت أحملنا إليها آنفا‪.‬‬

‫لكن قبل أن نتتبع املسرية التأصيلية لعياد يف حماولته إرساء قواعد علم األسلوب العريب‪ ،‬حيسن‬
‫نعرج على اخللفيات املعرفية واملرجعيات النظرية والتطبيقية‪ ،‬اليت ش ّكلت اإلطار العام ملشروع‬
‫بنا أن ّ‬
‫الرجل يف هذا اجملال‪ ،‬فنقول إ ّن مجلة من املدونات النظرية هي اليت أسهمت يف بلورة الوعي النقدي‬
‫ويصرح يف بداية كتابه "اللغة واإلبداع"‪ ،‬أنه يقع – الكتاب‪ -‬يف سلسلة من الكتب‬‫لديه‪ ،‬فالرجل يقر ّ‬
‫التنظريية‪ ،‬اليت حتاول أن تشتغل ضمن هذا املشروع‪ " ،‬أما الذي حناوله يف هذا الكتاب اجلديد فهو‬
‫وضع املبادئ األساسية لعلم األسلوب العريب كما حنتاج إليه اليوم‪ ،‬ومن مث فسيكون علينا أن حنفر‬
‫عند اجلذور‪ ،‬أي أننا سنبحث عن اخلصائص الفنية للغة العربية من خالل كتابات اللغويني‪ ،‬قبل أن‬
‫‪2‬‬
‫نبحث عنها يف الرتاث البالغي الصرف‪".‬‬

‫شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ -‬مبادئ علم األسلوب العريب‪ ،-‬أنرتناشيونال‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0088 ،0‬ص‪.2 ،5 :‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ ،‬ص‪.2 :‬‬


‫‪210‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حتاول هذه الدعوى أن تؤسس لعلم األسلوب العريب‪ ،‬الذي يرجع يف طرف منه إىل اجلوانب‬
‫الرتاثية ممثلة يف كتابات علماء اللغة العرب‪ ،‬وكذا مقوالت البالغيني القدماء‪ .‬ويف طرفها الثاين تتطلع‬
‫إىل النهل من الوافد من الثقافة الغربية ما وسع األمر‪ ،‬وذلك بدفع عملية املدارسة واملثاقفة إىل آمادها‬
‫البعيدة يف إحياء الرتاث وفق املقوالت احلداثية‪ ،‬ومن مث " فإن جتديد البالغة العربية أو إحياؤها يف‬
‫صورة علم األسلوب العريب لن يضارا إذا اعتمدا على الدراسات اللغوية احلديثة"‪ .1‬وهي الدعوة اليت‬
‫مافتئ عياد يرددها عند كل مناسبة تتحني فيها فرصة استثمار اجلديد من الثقافة الغربية ممثال يف علم‬
‫األسلوب‪ ،‬إلثراء وإعادة قراءة مقوالت البالغة العربية القدمية‪ ،‬يف ضوء طروحات علم األسلوب‬
‫احلديث والتكامل املعريف بينهما‪.‬‬

‫واحلق أن فكرة املزاوجة بني التيارين القدمي واحلديث إمنا استثمرها الرجل من خالل اجتهادات‬
‫أستاذيه أمين الخولي وأحمد الشايب‪ ،‬فهما امللهم الفعلي يف دفعه إىل ارتياد مثل هذه الدراسات‬
‫املقارنة‪ ،‬فأمين الخولي يقف يف كتابه فن القول "موقفا وسطا بني احملافظة على القدمي واحلماسة‬
‫للجديد‪ .‬وعندما نصف موقف شيخنا "بالتوسط" جند املعىن الذي نريده ينبو عن هذه الكلمة وتنبو‬
‫عنه‪ ....،‬إذ كيف نصف موقفا جيمع بني إعزاز القدمي وإدانته واحلماسة للجديد والتوقف فيه؟ ولكننا‬
‫قد صحبنا هذا الشيخ اجلليل أكثر من ربع قرن‪ ،‬كنا نراه يزداد على تقدم السن حدة يف نقد احلاضر‬
‫‪2‬‬
‫املكبل بقيود املاضي‪ ،‬وجرأة يف بناء املستقبل على مبادئ احلرية‪".‬‬

‫تلك إذا نظرة الشيخ الخولي الوسطية كما عرضها عياد‪ ،‬واألمر نفسه عند األستاذ أحمد‬
‫الشايب الذي كان هدفه كذلك " أن يقتبس مناهج احملدثني‪ ،‬فأراد وهو يف كلية دار املعلمني أن‬
‫يستأنف دراسة البالغة على طريقة تناسب ذوق العصر‪ ،‬أو بعبارة أخرى أن يصل بني البالغة والنقد‬
‫‪3‬‬
‫األديب احلديث‪".‬‬

‫‪1‬نفسه‪ ،‬ص‪.2 :‬‬


‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.38 :‬‬
‫‪211‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وكذلك كان مبتغى عياد يف جممل دراساته النقدية األسلوبية‪ ،‬فهو يص ّدر أحد أهم كتبه قائال‪:‬‬
‫" الغرض من هذا الكتاب إعادة النقد العريب القدمي إىل ساحة الفكر العاملي"‪ .1‬الشك أن مجلة‬
‫املعطيات تتباين بني دراسات الخولي والشايب من جهة‪ ،‬وعياد من جهة أخرى نظرا ملستوى‬
‫التطور احلاصل يف حقول املعرفة النقدية‪ ،‬فالكثري من اآلليات القرائية مل تكن متاحة من ذي قبل‬
‫تدرج يف هذه‬
‫بالنسبة للشيخني‪ ،‬أما عياد فقد استهل مسريته النقدية يف القراءات األسلوبية‪ ،‬بأن ّ‬
‫القضايا من البسيط إىل املعقد‪ ،‬مما ش ّكل منظومة متكاملة لتأسيس موقف نقدي خاص به‪ ،‬ولعل‬
‫أوىل حماوالته يف دراساته األسلوبية رسالته اليت ق ّدمها لنيل درجة املاجستري من اجلامعة املصرية بعنوان‬
‫"يوم الدين واحلساب"‪ ،‬واليت تعترب عمال أسلوبيا مبكرا‪ ،‬حيث كان اعتماده يف تأليف هذا الكتاب‬
‫على منهج أستاذه الشيخ أمين الخولي‪ ،‬باعتباره مؤسس مدرسة التفسري األديب للقرآن الكرمي‪ ،‬يقول‬
‫عياد بشأن تقسيم الكتاب " أما الباب األول فدراسة معاين املفردات كما أوضحها أستاذنا [اخلويل]‪،‬‬
‫وأما الباب الثاين فدراسة األسلوب أي طريقة التأليف بني املعاين املفردة لتأدية األغراض‪ ،‬وأما الباب‬
‫الثالث فدراسة املرامي اإلنسانية واالجتماعية"‪ .2‬واحلال أن تقسيم الرسالة (الكتاب) هبذه املنهجية‪،‬‬
‫يربز امليول األسلوبية يف مقاربة الظاهرة األدبية داخل النصوص اليت اعتمدها عياد‪ ،‬وذلك وفق‬
‫منهجية الشيخ اخلويل يف عرضه لبحث اللغة الفنية‪.‬‬

‫أما احللقة النقدية األخرى يف سلسلة املشروع األسلويب لعياد فهو ترمجته كتاب "يف الشعر‬
‫ألرسطو"‪ ،‬والذي ذيّله بدراسة معمقة حول التأثري الذي مارسه أرسطو مبنطقه يف البالغة العربية‪،‬‬
‫باعتبار هذه األخرية هي األب الشرعي لألسلوبية احلديثة على األقل يف فرتة من فرتات البحث‪.‬‬

‫تتواىل البحوث والدراسات اليت أسهمت يف تأسيس الدراسات األسلوبية احلديثة عنده وعلى‬
‫أمهيتها‪ ،‬فقد كان مؤلفه "مدخل إىل علم األسلوب" إضافة جديدة يف االهتمام بدراسة اللغة الفنية‪،‬‬
‫وحماولة السري هبذا العلم قدما‪ ،‬هبدف حتديده واإلسهام يف بلورة املشروع األسلويب العام‪ .‬وجاء‬
‫الكتاب يف قسمني‪ :‬القسم األول‪ :‬نظرية األسلوب‪ ،‬والقسم اآلخر دراسة تطبيقية يف قصائد خمتارة‬
‫من الشعر الوجداين احلديث‪ ،‬ويأيت يف مقدمة الكتاب أن عياد‪" :‬حياول أن ينشئ يف ثقافتنا العربية‬

‫‪1‬شكري حممد عياد‪ :‬اجتاهات البحث األسلويب‪ ،‬ص‪.15 :‬‬


‫‪2‬شكري حممد عياد‪ :‬يوم الدين واحلساب‪ ،‬دار الوحدة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0081 ،0‬ص‪.01 :‬‬
‫‪212‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫علما جديدا مستمدا من تراثها اللغوي واألديب‪ ،‬ومستجيبا لواقع التطور يف هذا الرتاث احلي‪،‬‬
‫ومستفيدا من دراسات أهل الغرب بالقدر الذي ميكن من رؤية التطور املعاصرة رؤية تارخيية‪ ،‬وقراءة‬
‫‪1‬‬
‫التاريخ قراءة عصرية‪".‬‬

‫لقد أبرز يف مؤلفه هذا مجلة من العناوين اليت محلت قضايا نظرية عديدة‪ ،‬تناول يف أوهلا فكرة‬
‫األسلوب عند األدباء‪ ،‬معرفا إياه تعريفات متفرقة تظهر حجم التباين والتمايز بني عديد احلقول‬
‫املعرفية‪ ،‬اليت انتصر بعضها لألسلوب الفردي على اعتبار أن األسلوب خاصية فردانية بكل مبدع‪.‬‬
‫وانتصر الفريق اآلخر إىل معيار اجلمال واجلودة وامللكة كما ذهب نفر من النقاد القدامى كما هو‬
‫احلال عند ابن خلدون‪ ،‬مث كان العنوان اآلخر "علم اللغة وعلم األسلوب" الذي حاول فيه عياد‬
‫التأسيس لعلم اللغة يف الرتاث النقدي والبالغي مع ابن خلدون‪ ،‬وحىت طروحات حازم القرطاجين"‬
‫عرج على الدراسات‬‫يف تعريف األسلوب منطقيا يف ارتكازه على املصادر املنطقية الرتاثية‪ ،‬مث ّ‬
‫التمهيدية لعلم اللغة مع سوسير(‪ )F. De Saussure‬وحماولة تفريقه بني اللغة والكالم‪ ،‬الذي يسميه‬
‫( ‪Charles‬‬ ‫عياد القول‪ 2.‬وصوال إىل الدراسات األوىل يف جمال األسلوبية مع مؤسسها شارل بالي‬
‫خص نفسه بالدراسة املنهجية للغة الطبيعية قائال‪" :‬املسألة عنده مسألة منهج‪ ،‬فالعامل‬
‫‪ )Bally‬الذي ّ‬
‫اللغوي يبحث عن قوانني لغوية حتكم عملية "االختيار" اليت يقوم هبا أي شخص يستعمل اللغة‪ ،‬وال‬
‫‪3‬‬
‫يبحث عن القوانني اجلمالية اليت ختص األدب دون غريه من األغراض اليت تستخدم فيها اللغة‪".‬‬

‫إن عياد يؤسس للدراسات األسلوبية احلديثة باجلهود اللغوية اليت بذهلا شارل بالي باعتباره‬
‫طوروا الدراسات اللغوية فيما بعد لتشكل لنفسها فرعا من فروع علم‬ ‫أحد تالمذة سوسري‪ ،‬الذين ّ‬
‫اللغة‪ ،‬مث حياول الناقد أن يفرق يف عنصر آخر بني مجلة من احلقول املعرفية بني علم األسلوب والنقد‬
‫األديب وتاريخ األدب؛ فيتناول الفروق اجلوهرية بني الناقد األديب والعامل اللغوي مثال‪ ،‬من أجل‬
‫الوصول إىل كنه النص األديب املمثل يف شكل عالمات لغوية‪ ،‬وحياول عياد التفريق بني مهمة العامل‬
‫اللغوي والناقد األديب‪ ،‬انطالقا من عمل كل واحد منهما داخل النص‪ ،‬يقول عياد‪" :‬النصوص‬
‫األدبية ميكن أن تدرس دراسة لغوية فقط‪ ،‬أما أن تدرس دراسة لغوية أسلوبية فهذا مطلب يوشك أن‬

‫‪1‬شكري عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب‪ ،‬ص‪.2 :‬‬


‫‪ 2‬ينظر املصدر السابق‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪213‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يكون مستحيال‪ ،‬إمنا يستطيع أن يقوم بالدراسة األسلوبية للنصوص األدبية ناقد أديب تكون مهمته‬
‫‪1‬‬
‫متييز النص األديب من أي نص لغوي آخر‪ ،‬بل من أي نص أديب آخر‪".‬‬

‫واحلق أن الفروق اجلوهرية بني علم األسلوب من جهة والنقد األديب من جهة أخرى‪ ،‬أظهر من‬
‫أن يربهن عليها؛ ذلك أن األسلوبية ال تعدو أن تكون منهجا ضمن مناهج النقد األديب‪ ،‬وهي عملية‬
‫نقدية ترتكز على الظاهرة اللغوية‪ ،‬وتبحث يف أسس اجلمال املتضمن داخل النص اإلبداعي‪ .‬يف حني‬
‫أن النقد األديب يراعي يف النص مجلة من الشروط اليت ينضوي عليها‪ ،‬وذلك قصد مقاربته داخليا‪.‬‬
‫وتتيح آليات التحليل األسلويب اجملال للناقد األديب كي حيصل على أكرب قدر من الدالالت واملعاين‬
‫املكتنـزة داخل النص‪ ،‬ذلك أن هذا األخري مشكل من مجلة من املستويات خيدم بعضها البعض‬
‫لتصل يف النهاية إىل بلوغ النص املرتبة السامقة اليت يتغياها املبدع ويبحث عنها الناقد‪ ،‬إال أن الفارق"‬
‫بني النقد واألسلوبية يتأتى من األدوات واألهداف أو الغايات‪ ،‬فإذا كانت أدوات األسلوبية تتوقف‬
‫على اللغة فحسب‪ ،‬فإن النقد بعينه يعد اللغة إحدى أدواته‪ ،‬وإذا كان اهلدف الذي تنشده األسلوبية‬
‫هو الكشف عن البناء اللغوي وما داخله من انزياحات عن القاعدة املعيارية‪ ،‬فإن اهلدف عند النقد‬
‫‪2‬‬
‫هو اإلجابة عن أسئلة فحواها كيف وملاذا‪ ،‬مستعينا بكل ما يراه من أدوات ختدم هدفه‪".‬‬

‫ألجل هذه األسباب ال ميكن أن حتل األسلوبية حمل النقد األديب أو أن تصبح نظرية نقدية‪،‬‬
‫وال تستطيع أن تزيح النقد كما فعلت مع البالغة القدمية اليت استطاعت أن تتجاوزها يف العديد من‬
‫املناطق‪ .‬يقول المسدي حول الفكرة ذاهتا‪ ":‬وحنن ننفي عن األسلوبية أن تؤول إىل نظرية نقدية‬
‫شاملة لكل أبعاد الظاهرة األدبية‪ ،‬فضال عن أن تطمح إىل نقض النقد األديب أصوليا‪ ،‬وعلة ذلك أهنا‬
‫متسك عن احلكم يف شأن األدب من حيث رسالته‪ ...‬بينما رسالة النقد كامنة يف إماطة اللثام عن‬
‫رسالة األدب"‪ .3‬وملا كانت األسلوبية يف إحدى مهامها تتجنب إطالق األحكام املعيارية القيمية كما‬
‫فعلت البالغة فهي "ال تطمح إال أن تكون رافدا موضوعيا يغذي النقد فيمده ببديل اختياري حيل‬

‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.21 :‬‬


‫‪2‬يوسف أبو العدوس‪:‬األسلوبية‪،‬الرؤية والتطبيق‪،‬دار املسرية للنشر والتوزيع والطباعة‪،‬عمان‪،‬األردن‪ ،‬ط‪،3112،0‬ص‪.55 :‬‬
‫‪ 3‬عبد السالم املسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.005 :‬‬
‫‪214‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حمل االرتسام واالنطباع حىت تسلم أسس البناء النقدي‪ ،‬فاألسلوبية إذا دعامة آنية حضورية يف كل‬
‫‪1‬‬
‫ممارسة نقدية‪".‬‬

‫يضع عياد مجلة من الشروط املعرفية والنفسية اليت جيب على الناقد األسلويب التحلي هبا‪ ،‬وإال‬
‫غدا عمله قاصرا وهزيال‪ ،‬وال خيدم العملية النقدية من أساسها‪ ،‬ومن الضروريات اليت يتحتم على‬
‫الناقد األسلويب التحلي هبا خاصية الذوق الفين للنص املراد مساءلته‪ ،‬يقول عياد‪ ":‬فإذا كان عمل‬
‫الناقد األسلويب هو تبيني االرتباط بني التعبري والشعور‪ ،‬فيجب أن يكون قادرا على االستجابة للقطعة‬
‫األدبية اليت يدرسها‪ ،‬وإال فإهنا ستظل بالنسبة له حروفا ميتة‪ ...‬إن الناقد األسلويب ال ميكن أن يدرس‬
‫عمال ال يتذوقه‪ 2".‬لقد تناول عياد خاصية الذوق باعتبارها ملكة شعورية تذكي جذوة النقد عند‬
‫الناقد األسلويب‪ ،‬بيد أن األمر ال يتوقف عند هذه اخلاصية نظرا ملا تنشده األسلوبية من موضوعية يف‬
‫‪3‬‬
‫ويصرح بأن على الناقد األسلويب أن يتمتع بنوع من احلدس الفين‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫الطرح ويف مراميها التحليلية‬
‫قل االختيار املوفق جلملة من املدونات والنصوص املراد قراءهتا‪ ،‬باعتبار أن عملية االختيار حمدد من‬
‫حمددات األسلوب وملمح من مالحمه‪ ،‬وإليه يعود فضل النتائج اليت يتحصل عليها الناقد األسلويب‪،‬‬
‫يقول عياد‪" :‬فالناقد الواسع األفق يتذوق أعماال خمتلفة االجتاهات واألشكال‪...‬فكل نقد جاد – ال‬
‫‪4‬‬
‫النقد األسلويب فحسب‪ -‬ينطوي على حكم ضمين بأن العمل املنقود يستحق القراءة‪".‬‬

‫وهو املذهب نفسه الذي قصده عياد عندما وازن بني عمل كل من الناقد األسلويب والناقد‬
‫االنطباعي‪ ،‬الذي يرتكز على مجلة من األحكام االنطباعية املعيارية أثناء مقاربته النص األديب‪ ،‬على‬
‫عكس الناقد األسلويب الذي ينطوي على توجه معني للقراءة اليت تفكك النص داخليا‪ ،‬وتبعد من‬
‫حسباهنا تلك املنطلقات أو السياقات اليت كانت تتحكم يف رقاب العملية النقدية‪ ،‬واليت من شأهنا‬
‫أن تسيء عملية الفهم املنشودة‪ ،‬وحتد من فاعلية اإلجراءات املتوخاة يف أثناء املساءلة النقدية‪.‬‬
‫"والفرق بني الناقد األسلويب والناقد االنطباعي هو أن األول أكثر موضوعية‪ ،‬ألنه ينطلق من حتليل‬

‫‪1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.005 :‬‬


‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪3‬حول ملكة الذوق وفاعليتها يف عملية النقد ينظر‪ :‬شكري حممد عياد‪ ،‬دائرة اإلبداع‪ ،‬ص‪.22 ،23 :‬‬
‫شكري حممد عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪4‬‬

‫‪215‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫للنص املكتوب‪ ،‬قائم على مبادئ علمية‪ ،‬يف حني أن الثاين ينطلق من مشاعره اخلاصة إزاء العمل‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وقد تعكس هذه املشاعر صورة صادقة للعمل‪ ،‬ولكنها يف كثري من األحيان تكون بعيدة عنه‪".‬‬

‫ال جيد عياد بدا من أن يتوسط بني علم األسلوب والنقد األديب‪ ،‬على اعتبار أن هذا األخري‬
‫حيتوي األول ويثريه يف الوقت نفسه‪ ،‬وحياول جتسري اهلوة العميقة اليت فصلت العلمني عن بعضهما‬
‫البعض‪ ،‬وذلك ألن علم األسلوب ما هو إال اجتاه من اجتاهات النقد األديب املعاصر‪ ،‬ال ميكن بأي‬
‫يتغول على منشئه حىت وإن استقل جبملة من آلياته القرائية‪ .‬ألن النقد كذلك‬
‫حال من األحول أن ّ‬
‫يسعى جاهدا المتالك هذه العملية املوضوعية يف مقاربة النصوص األدبية‪ ،‬دون أن يقصر نفسه على‬
‫اجتاه آخر‪ ،‬يقول يف ذلك‪ ":‬لكن التميز ال يعين الفصل‪ ،‬فعلم األسلوب والنقد األديب يتعاونان‬
‫ويتكامالن وإذا كان علم األسلوب قد اشتد عوده اليوم وأصبح أقرب إىل املوضوعية من شقيقه‬
‫األكرب "النقد األديب" فإنه يسيء إىل نفسه قبل أن يسيء إىل هذا الشقيق إن هو حاول أن يغتصب‬
‫مكانه‪ ،‬إن النقد األديب يف طريقه إىل أن يصبح – بدوره‪ -‬علما وهو قادر – حىت حبالته احلاضرة‪-‬‬
‫‪2‬‬
‫على أن يستعني بعلم األسلوب دون أن يتنازل عن حقه يف الوجود‪".‬‬

‫يكاد ينسحب األمر نفسه على تاريخ األدب‪ ،‬إذ خيلص عياد إىل أن العالقة الرابطة بني تاريخ‬
‫يقر‬
‫األدب وعلم األسلوب‪ ،‬تكمن يف الوعي مبستويات إنتاج النصوص األدبية وغري األدبية‪ ،‬إذ ّ‬
‫الباحث باستحالة أن يلقي الباحث األسلويب أحكاما عامة على املعطيات التارخيية اليت أسهمت يف‬
‫إنتاج النص‪ ،‬إذا كان غري ملم باملرجعيات واخللفيات الفكرية اليت أسهمت يف صياغة هذه الظاهرة‪" .‬‬
‫إننا إذ حنلل نصا أدبيا ما حتليال أسلوبيا – مهما يكن دقيقا وعميقا‪ -‬ال نستطيع أن نقفز منه إىل‬
‫أحكام عامة عن عصره‪ ،‬فالبد للوصول إىل هذه األحكام من إضافة حقائق أخرى بعضها مستمد‬
‫‪3‬‬
‫من نصوص أدبية ذات صلة بالنص األول‪ ،‬وبعضها حقائق ال توصف بأهنا أدبية‪".‬‬

‫يصل عياد مجلة هذه املقاالت يف كتابه مدخل إىل علم األسلوب مبقال آخر عن علم‬
‫األسلوب وعلم البالغة ويعرض فيه لتعريف كل علم على حدا‪ ،‬مث مييز بني العلمني يف مجلة من‬

‫‪ 1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.23 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 3‬شكري حممد عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب ‪ ،‬ص‪.22 ،22 :‬‬
‫‪216‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفروق اليت تفصل بينهما أوهلما " أن علم البالغة علم لغوي قدمي وعلم األسلوب علم لغوي‬
‫حديث‪...‬فالعلوم اللغوية القدمية تنظر إىل اللغة على أهنا شيء ثابت‪ ،‬يف حني أن العلوم اللغوية‬
‫‪1‬‬
‫احلديثة تسجل ما يطرأ عليها من تغري وتطور‪".‬‬

‫مث يتناول الفرق الثاين الذي يراه فاصال بني العلمني وهو "إن علم البالغة علم معياري‪ ،‬على‬
‫حني أن علم األسلوب علم وصفي"‪ .2‬ال يكتفي عياد هبذين الفرقني بني علم البالغة وبني‬
‫األسلوبية‪ ،‬فيضيف فرقا آخر يتجلى يف نظرة كل علم إىل ما كان يسمى مبقتضى احلال يف البالغة‬
‫العربية القدمية‪ ،‬والذي اصطلح عليه مصطلح "املوقف" وكيف ربطت باحلالة العقلية للمخاطب نظرا‬
‫جل أعمال البالغيني العرب القدامى‪ ،‬مما جنم عنه عمليات التقعيد‬‫لسيطرة آليات املنطق على ّ‬
‫والتقنني اليت أصابت مقوالت البالغة باجلمود والتكلس يقول عياد‪ " :‬تتجلى سيطرة املنطق على‬
‫علم البالغة يف تبويب هذا العلم‪ ،‬فإنه مل يكد خيرج يف هذا التبويب عن موضوعني اثنني‪ :‬داللة‬
‫اللفظ اجملرد وهو ما يسميه املناطقة بالتصور‪...،‬وداللة اجلملة وهو ما يسميه املناطقة‬
‫بالتصديق‪....‬ومل تتحرر البالغة من هذا التبويب املنطقي إال حني أضافت موضوع الربط بني اجلمل‬
‫(الفصل والوصل) وموضوع اإلجياز واإلطناب‪ ،‬ولكنها تركت ظواهر لغوية مهمة يعىن هبا علم‬
‫األسلوب‪ 3".‬وخيتم عياد مقالته هذه بإبراز فرق آخر بني علم البالغة وعلم األسلوب يتمثل أساسا‬
‫‪4‬‬
‫يف "اتساع آفاق علم األسلوب اتساعا كبريا بالقياس إىل علم البالغة‪".‬‬

‫مردها إىل أن الباحث األسلويب ال يكتفي أثناء التحليل باجلزء من‬


‫وإشكالية االتساع إمنا ّ‬
‫النص‪ ،‬كأن يقف عند مستوى ويهمل آخر‪ ،‬بل تشمل دراسته كل املستويات متضافرة لتؤدي الداللة‬
‫كاملة‪ .‬فيباشر حتليله من أدىن مستوى وهو املستوى الصويت الذي يقف فيه عند ظاهرة تكرار‬
‫احلروف مثال واملوسيقى الداخلية واخلارجية للقطعة‪ ،‬ويتدرج يف مقاربة مجيع املستويات بصرفها‬
‫وتركيبها وداللتها وال يهمل أي جزئية مهما بدت هامشية يف منت النص‪ ،‬ويف حوصلة هلذه النتائج‬
‫اليت حتصل عليها يصل عياد إىل "أن علم األسلوب ال يكتفي بدراسة الظواهر اللغوية يف عصر‬

‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 3‬شكري حممد عياد‪ :‬مدخل إىل علم األسلوب‪ ،‬ص‪. 28 :‬‬
‫‪4‬نفسه‪ ،‬ص‪.28 :‬‬
‫‪217‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫واحد‪ ،‬وال ميزج بني العصور كما تفعل البالغة‪ ،‬بل ميكن أن يتتبع تطور الظاهرة على مر العصور‪ ،‬وال‬
‫يكتفي بدراسة الدالالت الوجدانية العامة الزائدة على الدالالت املباشرة ملختلف الرتاكيب اللغوية‪،‬‬
‫بل يدرس أيضا الصفات اخلاصة اليت متيز هذه الدالالت الوجدانية يف أسلوب مدرسة أدبية معينة أو‬
‫‪1‬‬
‫فن أديب معني‪ ،‬أو يف أسلوب كاتب بالذات‪ ،‬أو عمل أديب واحد بعينه‪".‬‬

‫إن ما خيلص له عياد هو تبيان الفروق اجلوهرية بني علم البالغة وعلم األسلوب‪ ،‬على اعتبار‬
‫أن ما يفرقهما أكرب مما جيمعهما‪ ،‬رغم أهنما يشرتكان يف موضوع الدراسة وهو اخلطاب األديب‪ ،‬وتبقى‬
‫مجلة من الفروق واملزايا تفصل العلمني مل يتطرق هلا على األقل يف هذا املؤلف رغم أهنا متثل‬
‫منعطفات حادة على مستوى الدراسة املقارنة بني العلمني‪.‬‬

‫تزدان احللقة النقدية يف جمال الدراسة األسلوبية لعياد بكتاب هام عنوانه‪":‬اجتاهات البحث‬
‫األسلويب" الذي أصدره سنة ‪ ،0082‬والذي ص ّدره مبقدمة جاء فيها أن اهلدف من هذا الكتاب هو‬
‫‪2‬‬
‫"إعادة النقد العريب القدمي إىل ساحة الفكر العاملي‪".‬‬

‫واهلدف اآلخر من الكتاب كذلك هو" وضع البالغة العربية على اخلريطة العامة للدراسات األسلوبية‬
‫‪3‬‬
‫كما نعرفها اليوم‪".‬‬

‫يعترب كتاب "اجتاهات البحث األسلويب" حلقة واصلة بني الكتاب األول "مدخل إىل علم‬
‫األسلوب" والكتاب اآلخر الذي سيليه حول " اللغة واإلبداع"‪ ،‬والكتاب األول املدخل كما يرى‬
‫‪4‬‬
‫عياد "مل يكن أكثر من حجر صغري ألقي يف ماء ساكن فرقرق فيه دوائر مال بثت أن اضمحلت‪".‬‬

‫و الكتاب مشروع نظري ضخم حياول عياد مسايرته بأربعة أجزاء أخرى‪:‬‬

‫أولها‪ :‬اجتاهات البحث األسلويب‪ ،‬أي نظرية األسلوب يف صياغاهتا املختلفة‪.‬‬

‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬اجتاهات البحث األسلويب ‪ ،‬ص‪.5 :‬‬
‫‪3‬شكري حممد عياد‪ :‬اجتاهات البحث األسلويب ‪ ،‬ص‪.300 :‬‬
‫‪ 4‬نفسه‪ ،‬ص‪.2 :‬‬
‫‪218‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ثانيها‪ :‬االستعمال الفين لألشكال اللغوية واليت تشمل صيغ املفردات وأنواع الرتاكيب فهو يعىن‬
‫بالوظائف اإلضافية لألشكال النحوية‪.‬‬

‫ثالثها‪ :‬يقصر على الدراسة األسلوبية للصور والرموز‪ ،‬وهي الدالالت اجلوهرية اليت ّ‬
‫تكون ما‬
‫نسميه عامل القصيدة أو العمل األديب‪.‬‬

‫ورابعها‪ :‬يبحث يف اخلصائص اللغوية لألشكال األدبية ويدخل يف ذلك خصائص األسلوب‬
‫الشعري واألسلوب النثري وخصائص لغة القصة ولغة املسرحية‪ ،‬واخلصائص اللغوية اليت متيز مذهبا‬
‫‪1‬‬
‫أدبيا عن مذهب آخر‪.‬‬

‫غري أن هذه التقسيمات ال تزعم لنفسها الكمال وأهنا جامعة مانعة‪ ،‬ألهنا حتاول أن تساير‬
‫نظريا ما كان عياد قد بدأه يف املدخل‪ ،‬وعلى ذلك فالسلسلة اليت قيّدها عياد "ال ترمي إىل وضع‬
‫"علم أسلوب عريب" حمصور املسائل‪ ،‬مكتمل اخلطوط‪ ،‬وإمنا ترمي إىل فتح أكثر ما ميكن من األبواب‬
‫‪2‬‬
‫املغلقة‪".‬‬

‫جاءت عملية التناول عبارة عن ترمجات ألهم االجتاهات األسلوبية يف النقد الغريب مع مراعاة‬
‫خصوصية اللغة العربية أثناء التمثيل‪ ،‬ومل حيصر عياد نفسه يف األخذ من املدرستني الفرنسية‬
‫ليعرف القارئ العريب املعاصر بأهم املدارس األسلوبية يف‬
‫واإلجنليزية بل اجتهد ما وسعه األمر لذلك ّ‬
‫العامل الغريب‪ ،‬مع حماولة تقريبها لتساعد على عملية الفهم والتمثل‪ ،‬وقد تناول عياد بالرتمجة الدقيقة‬
‫سبعة مقاالت تربز أهم أعالم النقد األسلويب الغريب واجتاهاهتم النقدية‪ ،‬إضافة إىل مقالة ثامنة ضمنها‬
‫عياد الكتاب ليزيح بعض اللبس ويرفع بعض اإلشكال عن مكتسبات البالغة العربية القدمية يف‬
‫مواجهة األسلوبية احلديثة‪ ،‬وقد غطّت هذه الرتمجات معظم املدارس األسلوبية يف العامل الغريب‪،‬‬
‫وجاءت على النحو التايل‪:‬‬

‫شارل بايل‪.‬‬ ‫‪ -0‬علم األسلوب وعلم اللغة العام‬

‫ليو شبتسر‪.‬‬ ‫‪ -3‬علم اللغة وتاريخ األدب‬

‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.5 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.2 :‬‬
‫‪219‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ستيفن أملان‪.‬‬ ‫‪ -2‬اجتاهات جديدة يف علم األسلوب‬

‫مايكل ريفاتري‪.‬‬ ‫‪ -2‬معايري لتحليل األسلوب‬

‫ج‪.‬ب‪.‬ثورن‬ ‫‪ -5‬النحو التوليدي والتحليل األسلويب‬

‫ج‪.‬مشت‪.‬‬ ‫‪ -2‬حنو تفسري برامجايت لإلبداعية‬

‫ميالن يانكوفتش‪.‬‬ ‫‪ -2‬األسلوب الفردي ومشكلة املعىن يف العمل األديب‬

‫شكري حممد عياد‪.‬‬ ‫‪ -8‬البالغة العربية وعلم األسلوب‬

‫لقد متت عملية اختيار هذه املقاالت من باب احلرص الشديد من قبل عياد‪ ،‬ليطلع القارئ‬
‫العريب املعاصر على معظم االجتاهات األسلوبية العاملية‪ ،‬فانتقل به من االجتاه التعبريي التأسيسي‬
‫الذي جيعل من اللغة العادية اليومية حقال لدراسته‪ ،‬ممثال يف مؤسسه شارل بالي مرورا باجتاه‬
‫قعد له الناقد ليو سبتزر وإبراز أوجه التقاطع والتباين اليت متيز العملني‪ ،‬وتأثري‬
‫األسلوبية النفسية كما ّ‬
‫الفلسفة املثالية يف جل طروحات الرجل‪ ،‬مث التعريج على اجتاه آخر ال يقل أمهية عن سابقيه وهو‬
‫االجتاه الوظيفي البنيوي ممثال يف اجتهادات ريفاتير‪ ،‬قبل أن عرض لطروحات ستيفن ألمان يف‬
‫األسلوبية اليت عدها علما شابا لكنه ّبوأ لنفسه مكانة هامة يف حقل الدراسات اللغوية املعاصرة‪،‬‬
‫وقد أبان عياد عن حتكم واضح يف رسم حدود آليات هذه االجتاهات‪ ،‬ومدى إسهامها يف دفع‬
‫العملية النقدية األسلوبية‪ .‬دون أن نغفل دور األسلوب الذي اعتمده عياد يف ترمجة هذه املقاالت‬
‫وحماولته يف كل مرة شد انتباه القارئ إىل ضرورة مسايرته قصد اإلملام بالقدر الوايف من هذه املناهج أو‬
‫االجتاهات‪ ،‬وأخريا جاءت املقالة الثامنة واألخرية اليت كتبها املرتجم نفسه لتضع البالغة العربية جنبا‬
‫إىل جنب مع هذه االجتاهات األسلوبية احلديثة دون انتقاص من شأن هذا املوروث الضخم‪ ،‬ودون‬
‫غرور بأن موروثنا عايل الكعب على هذه املدارس‪ ،‬إمنا تناول عياد هذه العالقة بشيء من الرزانة‬
‫واهلدوء مكنته من هذه املقارنة اليت عقدها‪ ،‬وسيأيت تفصيل هذه العالقة يف الفصل املوايل عند إبراز‬
‫نقاط التماس والتوازي بني العلمني حىت يتيسر لنا إضاءة هذه العالقة بشيء من املوضوعية اليت‬
‫هتدف إىل الدراسة العلمية الوصفية للظاهرة دومنا تعصب لرأي أو إصدار حلكم‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يستمر املشروع األسلويب لعياد بإصدار كتاب آخر ميثل احللقة الواصلة بني ما سبقه من‬
‫كتابات وبني مؤلفات أخرى تشاركه اهلم املعريف نفسه‪ ،‬إنه كتاب "اللغة واإلبداع"‪ -‬مبادئ علم‬
‫األسلوب العريب‪ -‬الذي أصدره سنة ‪ ،0088‬والذي يعد تتوجيا للجهد النقدي السالف وجاء معززا‬
‫للمشروع األسلويب عند الرجل‪ ،‬وهو مثرة طيبة لذلك اجملهود الذي بذله يف الكتابات السابقة‪.‬‬

‫يلتزم عياد منذ فاحتة الكتاب مبنهج معني يشد الكتاب إليه من جمراه إىل مرساه‪ ،‬ويف الوقت‬
‫ذاته يبني العالقة الوطيدة اليت تربط هذا األخري بسابقيه فيقول‪" :‬أما الذي حناوله يف هذا الكتاب‬
‫اجلديد فهو وضع املبادئ األساسية لعلم األسلوب العريب كما حنتاج إليه اليوم‪ ،‬ومن مث فسيكون‬
‫علينا أن حنفر عند اجلذور‪ ،‬أي أننا سنبحث عن اخلصائص الفنية للغة العربية من خالل كتابات‬
‫‪1‬‬
‫اللغويني‪ ،‬قبل أن نبحث عنها يف الرتاث البالغي الصرف‪".‬‬

‫تلك إذا الغاية من تأليف هذه احللقة ضمن هذه السلسلة وطرق املعاجلة واملساءلة اليت ينشدها‬
‫عياد يف بلوغ املرمى املنشود‪ .‬أما عن قضية املنهج املتبع ملختلف املظاهر اللغوية واألسلوبية اليت هو‬
‫بصدد تعرية أنساقها واحلفر عن جذورها‪ ،‬فيقول يف ذلك‪..." :‬فالتزامنا املنهجي مبا نسميه "املنظور‬
‫التارخيي" حيتم علينا أن نبتكر احللول املناسبة ملشكالتنا بقدر ما حيتم علينا أن نستلهم تراثنا وجتارب‬
‫الثقافات املعاصرة لنا‪ ،‬ألن النقطة اليت نقف عليها واليت نسميها حاضرنا أو واقعنا ليست إال نقطة‬
‫ومهية يف امتداد الزمان واملكان‪....‬سنقدم يف سبيل استكمال هذا املنظور التارخيي خطوة أبعد من‬
‫تلك اليت خطوناها يف "املدخل" و"االجتاهات" فلن نكتفي باملقارنة بني البالغة وعلم األسلوب‪،‬‬
‫ولكننا سنعرض مشكالت "اللغة الفنية" يف مساق واحد‪ ،‬ونضع أقوال البالغيني القدماء جبانب‬
‫‪2‬‬
‫أقوال األسلوبيني املعاصرين‪ ،‬ال نفرق بني قدمي وحديث أو بني عريب وغريب‪".‬‬

‫تتنـزل عبارة املنظور التارخيي على األقل يف هذا النص ضمن ما ميكننا االصطالح عليه بالكلمة‬
‫املفتاح (‪ ، )Mot clé‬ذلك أن فاعلية هذه العبارة إمنا اكتسبت هذه اخلصوصية والفرادة يف الداللة‬
‫من حقل لغوي أو لساين يتتبع الظاهرة اللغوية موضوعيا‪ ،‬دون أن خيصها إلطالق األحكام اجلاهزة‬
‫الناجزة‪ .‬فالباحث حياول جاهدا أن يأخذ نفسه يف هذا املؤلف بأن يعقد الصلة احلميمة والعالقة‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ ،‬ص‪.2 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.2 :‬‬
‫‪221‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الوطيدة بني ما كان من مؤلفات وبني هذا األخري‪ ،‬وأخذ نفسه بأن عاجل مجلة القضايا املطروحة على‬
‫الساحة البالغية العربية‪ ،‬ومدى مالءمتها وموازاهتا مبا متور به الساحة النقدية العاملية‪ ،‬دون أن‬
‫يتعصب لقدمي أو ينبهر جبديد‪ ،‬ويتيح لنفسه مبنهجه هذا أن يقارب جممل اإلشكاالت املعرفية بكل‬
‫أرحيية وموضوعية‪ ،‬وبعد أن جيري نوعا من املقارنة بني النصوص احلديثة يف األسلوبيات لشارل بالي‬
‫مثال خيلص إىل أن وحدة املوضوع تقابلها وحدة العقل والفكر‪ ،‬ذلك أن ميدان املعاجلة وحقل‬
‫املدارسة واحد يف كال النصني‪ ،‬غري أنه خيلص إىل نتيجة مفادها أن إجراء مثل هذه املقارنات من‬
‫شأنه أن يلتبس على بعض النقاد فيذهبون مذاهب شىت يف املفاضلة بني احلضارات يقول عياد‪:‬‬
‫"على أننا نبادر إىل القول بأن اختاذ املقارنة طريقا إىل الزعم بأن الثقافة العربية سبقت ثقافة الغرب‬
‫إىل كذا أو كذا‪ ،‬أمر ال حنبذه فضال عن أن منارسه أو نقول به‪ ،‬فهو ال يتفق مع منهجنا‪ ،‬منهج‬
‫"املنظور التارخيي" الذي يسجل املتغريات كما يسجل الثوابت‪ ،‬ويعرتف بالنسيب كما يعرتف باملطلق‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ويرتكز على الوعي باحلاضر بدال من تقديس املاضي‪".‬‬

‫ال حيتكم الباحث إىل مثل هذه املقارنات الساذجة اليت تنحو منحى املفاضلة بني احلضارات‪،‬‬
‫مما يتسبب يف عقم النتائج اليت تتوصل إليها مثل هذه الدراسات‪ ،‬فضال عن لوازم التفاوت وخيارات‬
‫املقارنة بني احلضارتني الغربية والعربية‪ ،‬األمر الذي من شأنه أن يصيب األنا الدارسة بنوع من‬
‫التضخم وجيعلها تبتعد عن بلوغ احلقيقة العلمية اليت تبقى دائما تنشد املوضوعية‪ ،‬وحتاول جاهدة أن‬
‫تزيح مثل هذه الدراسات املتورمة اليت ال تقدم للعملية النقدية طائال يذكر‪.‬‬

‫يعترب كتاب "اللغة واإلبداع" كتابا مفصليا مركزيا‪ ،‬باعتباره واسطة العقد بني املدخل‬
‫واالجتاهات من جهة ومؤلف دائرة اإلبداع من جهة أخرى‪ .‬يقول عياد‪ ..." :‬إن هذا الكتاب يأيت‬
‫بعد "دائرة اإلبداع" مفصال ملا أمجل هناك عن اللغة الفنية وحماوال‪ ،‬مثل سابقه‪ ،‬أن يؤصل منهجا‬
‫نقر ألنفسنا بأننا بلغنا ذلك الغرض أو دنونا منه‪ ،‬ولعل‬
‫للدراسات األدبية‪ ،‬وهو مطلب عزيز‪ ،‬وال ّ‬
‫املشقة اليت عانيناها يف هذا الكتاب كانت أعظم منها يف سابقه فنحن حناول هذه املرة أن نرسي‬

‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.0 :‬‬


‫‪222‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الدعائم لعلم جديد‪ ،‬لك أن تسميه "مبادئ علم األسلوب العريب" كما مسيناه‪ ،‬أو "أصول البالغة‬
‫‪1‬‬
‫العربية" إن كنت حريصا على االسم القدمي‪".‬‬

‫يتقاطع إذا هذا الكتاب مع املدخل واالجتاهات يف إبراز سريورة املشروع األسلويب عند الرجل‪،‬‬
‫وحماولة التأسيس ملشروع علم أسلوب عريب‪ ،‬يتنقل فيه العلم بآلياته القرائية وجهازه املصطلحي‬
‫واملفهومي‪ ،‬ومن جهة أخرى حياول جتاوز تلك املقوالت البالغية القارة‪ ،‬ليس نفيا هلا أو ممارسة‬
‫القطيعة املعرفية معها‪ ،‬إمنا جعلها أساسا ملنطلقات الدراسة األسلوبية احلديثة كما يرغب عياد‬
‫الوصول إليه‪ .‬ومن ناحية ثانية يتقاطع اللغة واإلبداع مع مؤلف سابق جاء جممال للكثري من القضايا‬
‫واإلشكاالت اليت ختص اللغة الفنية واليت تناوهلا الباحث يف كتاب "دائرة اإلبداع"‪ ،‬فعملية التماس‬
‫حصلت على مستوى الدعوة إىل التأصيل‪ ،‬وجيمع بينهما العناية بدراسة اللغة الفنية حتت قبة علم‬
‫األسلوب‪.‬‬

‫لعل جممل القضايا اللغوية واألسلوبية اليت أخضعها عياد للمعاينة ومن مث املعاجلة‪ ،‬تعد عملية‬
‫مهمة يف منطلقات الدرس النقدي عند الرجل‪ ،‬ذلك أنه مل يكتف بعرض هذه القضايا إمجاال إمنا‬
‫حاول أن يؤسس لكل إشكالية تأسيسا ينم عن حتكم واضح يف عمليات املتابعة التارخيية حتليال‬
‫ونقدا واستقراء‪ ،‬وتدل كذلك على أنه ال يتبع ذلك التسطيح الساذج يف معاجلة أمهات القضايا‪،‬‬
‫سواء كانت تراثية أم حداثية‪ ،‬إمنا جيهد قدر مبتغاه إىل عملية التوليف العجيبة يف طرح القضية على‬
‫مقوالت الرتاث مث حياول إجياد البدائل املصطلحية هلا على مستوى النقد العريب احلديث واملعاصر‪،‬‬
‫دون أن جيعل هذه العملية فعال ال طائل من ورائه‪ ،‬إمنا هو إعادة ترسيخ للكثري من هذه اإلشكاالت‬
‫عج هبا الرتاث اللغوي العريب‪.‬‬
‫اليت ّ‬
‫‪ .3‬مباحث األسلوب ‪:‬ي الرتاث العربي‬

‫يرجع عياد كعادته‪ -‬يف معاينته لتعريف األسلوب‪ -‬إىل مظان النقد والبالغة واإلعجاز‪،‬‬
‫ليؤسس للمصطلح مفهوماته يف العديد من احلقول املعرفية اليت أثرت املصطلح بالعديد من‬
‫الدالالت‪ ،‬فيؤصل له عند علماء اإلعجاز‪ ،‬على اعتبار الدراسات اليت متت ملعاينة وجه اإلعجاز يف‬

‫املصدر السابق ‪ ،‬ص‪.0 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪223‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أسلوب النص القرآين‪ ،‬وهي من املباحث التأصيلية يف معرفة املصطلح كما هو الشأن عند ابن قتيبة‬
‫يف "تأويل مشكل القرآن"‪ ،‬والخطّابي يف بيان "إعجاز القرآن" والباقالني يف "إعجاز القرآن"‬
‫وغريهم ممن وقفوا اهتماماهتم ودراساهتم حول إبراز مواطن اإلعجاز يف النص القرآين‪ ،‬وموازنة‬
‫األسلوب القرآين باألسلوب البشري‪ .‬وال خيفى على دارس تلك النتائج القيّمة اليت توصل إليها هؤالء‬
‫العلماء‪.‬‬

‫مث يعرج على طرق املفهوم عند مجلة من النقاد والبالغيني الذين أبانوا عن اهتمام بالغ بالكثري‬
‫من القضايا النقدية والبالغية واليت شكلت حمور دراساهتم‪ ،‬كالجاحظ يف الكثري من مؤلفاته الذي‬
‫وازن بني مجلة من الطرق واألساليب يف تأليف اخلطبة مثال‪ ،‬لكن بقي األمر ملتبسا على العديد من‬
‫البالغيني يف تفريقهم بني النوع األديب واملوضع وطريقة الصياغة‪ ،‬على أن مت هلم االستئناس مبا جاء‬
‫به عبد القاهر الجرجاني من قوله بالنظم فجمعت األخرية بني تلك اإلمكانيات اليت كانت مطروحة‬
‫ك اإلشكال وفُهم من هذه الكلمة أن األسلوب هو النظم كما ذهب‬ ‫على ساحة النقد والبالغة‪ ،‬ف ُف ّ‬
‫إىل ذلك عبد القاهر‪ ،‬وبذلك مت القضاء على هذه املشكلة اليت بقيت عالقة منذ اجلاحظ واليت‬
‫مفادها أن البالغة راجعة إىل األلفاظ أم إىل املعاين‪.‬‬

‫يقول عبد القاهر ‪" :‬واعلم أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم‬
‫النحو‪ ،‬وتعمل على قوانينه وأصوله‪ ،‬وتعرف مناهجه اليت هنجت فعال فال تزيغ عنها‪ ،‬وحتفظ الرسوم‬
‫اليت رمست لك فال ختل بشيء منها‪ ،‬وذلك أنا ال نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غري أن ينظر يف‬
‫وجوه كل باب وفروقه‪ -‬فينظر يف اخلرب‪...‬ويف الشرط واجلزاء‪ ...‬ويف احلال‪...‬هذا هو السبيل‪ :‬فلست‬
‫بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا‪ ،‬وخطؤه إن كان خطأ إىل النظم‪ ،‬ويدخل حتت هذا االسم‪-‬‬
‫إال وهو من معاين النحو‪ ،‬قد أصيب به موضعه ووضع حقه‪ ،‬أو عومل خبالف هذه املعاملة فأزيل‬
‫عن موضعه واستعمل يف غري ماينبغي له‪ ،‬فال ترى كالما وصف بصحة نظم أو فساده‪ ،‬أو وصف‬
‫مبزية وفضل فيه‪ ،‬إال وأنت جتد مرجع تلك الصحة‪ ،‬وذلك الفساد وتلك املزية‪ ،‬وذلك الفضل إىل‬
‫‪1‬‬
‫معاين النحو وأحكامه‪ ،‬ووجدته يدخل يف أصل من أصوله‪ ،‬ويتصل بباب من أبوابه‪".‬‬

‫‪ 1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز يف علم املعاين‪ ،‬صحح أصله‪ :‬اإلمام حممد عبده والشيخ الرتكزي الشنقيطي‪ -‬علق‬
‫حواشيه‪ :‬حممد رشيد رضا‪ ،‬الناشر مكتبة القاهرة‪ ،0020 ،‬ص‪.52 ،55 :‬‬

‫‪224‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مث يعرض عياد للجهود البالغية أو قل املنطقية لحازم القرطاجني يف خمالفته ما ذهب إليه عبد‬
‫القاهر‪ ،‬إذ النظم عند حازم هو ذلك الرتابط أو االنسجام واالتساق الذي يكون بني أجزاء النص‬
‫ككل‪ ،‬وهو ما يصطلح عليه حازم باالطراد يف تسومي رؤوس املعاين‪ ،‬ويشمل النص أو القصيدة من‬
‫مطلعها إىل مقطعها‪ ،‬ودراسة كيفية تناسل وتوالد املعاين من بداية الشطر األول إىل مقطع القصيدة‬
‫الذي ميثل خامتتها‪ .‬إضافة إىل وجود ذلك السلك املعنوي الرابط ألسباب املطلع وما ينجم عنه من‬
‫إطراء منطقي جلل األغراض اليت تأيت يف جسد القصيدة يقول حازم ‪" :‬ملا كانت األغراض الشعرية‬
‫يوقع يف واحد منها اجلملة الكبرية من املعاين واملقاصد‪ ،‬وكانت لتلك املعاين جهات فيها توجد‬
‫ومسائل منها تقتىن كجهة وصف احملبوب وجهة وصف اخليال وجهة وصل الطلول وجهة وصف يوم‬
‫النوى‪ ،‬وما جرى جمرى ذلك يف غرض النسيب‪ ،‬وكانت حتصل للنفس باالستمرار على تلك اجلهات‬
‫والنقلة من بعضها إىل بعض وبكيفية االطراد يف املعاين صورة وهيأة تسمى األسلوب‪ ،‬وجب أن‬
‫تكون نسبة األسلوب إىل املعاين نسبة النظم إىل األلفاظ‪ ،‬ألن األسلوب حيصل عن كيفية االستمرار‬
‫يف أوصاف جهة جهة من جهات غرض القول وكيفية االطّراد من أوصاف جهة إىل جهة‪ .‬فكان‬
‫مبنزلة النظم يف األلفاظ الذي هو صورة كيفية‪/‬االستمرار يف األلفاظ والعبارات واهليئة احلاصلة عن‬
‫‪1‬‬
‫كيفية النقلة من بعضها إىل بعض وما يعتمد فيها من ضروب الوضع وأحناء الرتتيب‪".‬‬

‫مل يبق النظم عند حازم كما كان عند الجرجاني بل مت استثمار املصطلح من قبل حازم ليقوم‬
‫مقام األسلوب املتبع يف كل أحناء النص‪ /‬القصيدة‪.‬‬

‫مث يقف عياد عند جهود العالمة ابن خلدون يف تفعيل هذا املصطلح وكيفية اشتغاله على‬
‫أكثر من حقل معريف‪ ،‬فاألسلوب عنده يرجع إىل ما يصطلح عليه الصناعة الشعرية اليت يقول عنها‪:‬‬
‫"اعلم أهنا عبارة عندهم عن املنوال الذي ينسج فيه الرتاكيب‪ ،‬أو القالب الذي يفرغ فيه‪ .‬وال يرجع‬
‫إىل الكالم باعتبار إفادته أصل املعىن الذي هو وظيفة اإلعراب‪ ،‬وال باعتبار إفادته كمال املعىن من‬
‫خواص الرتاكيب الذي هو وظيفة البالغة والبيان‪ ،‬وال باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو‬
‫وظيفة العروض‪ ،‬فهذه العلوم الثالثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية‪ ،‬وإمنا يرجع إىل صورة ذهنية‬

‫‪1‬حازم القرطاجين‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تح‪ ،‬حممد احلبيب بن اخلوجة‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫‪ ،0080‬ص‪.222 :‬‬
‫‪225‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫للرتاكيب املنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص‪ ،‬وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان‬
‫ويصريها يف اخليال كالقالب أو املنوال مث ينتقي الرتاكيب الصحيحة عند العرب‬
‫الرتاكيب وأشخاصها ّ‬
‫‪1‬‬
‫النساج يف املنوال‪".‬‬
‫باعتبار اإلعراب والبيان فريصها فيه رصا كما يفعله البناء يف القالب أو ّ‬
‫يعلق عياد على تعريف ابن خلدون بقوله‪" :‬هذا التحديد ملعىن األسلوب ومكانه من الصنعة‬
‫األدبية مع نزعته التعليمية الواضحة‪ ،‬هو أدق وأوضح ما جنده لدى النقاد العرب يف هذا الباب‪.2".‬‬

‫ويف صنيعه هذا إمنا حياول عياد أن يعاين أكرب قدر ممكن من احلقول املعرفية اليت تناولت‬
‫املصطلح يف الرتاث العريب‪ ،‬ضمن بيئة علماء اإلعجاز مرورا بالنقاد والبالغيني وانتهاء باملناطقة‬
‫واملفكرين‪ ،‬يكون الرجل قد أوضح احلدود املفهومية للمصطلح يف هذه البيئات كلها‪ ،‬ليتسىن له‬
‫واحلال هذه أن يعاين املصطلح يف الثقافات األوربية احلديثة ليمر إىل اجلهود اللغوية لألسلوب يف‬
‫الثقافة العربية احلديثة واملعاصرة‪ ،‬فقد تناوله يف الثقافات األوربية مرجعا إياه حىت إىل اللغات الالتينية‬
‫األم‪ .‬ويتتبع املصطلح صعودا حينما كان مرادفا للبالغة (‪ )Rhétorique‬وذلك ألنه يربز ما اصطلح‬
‫عليه عياد مبستويات التعبري‪ ،‬ويتدرج يف التقريب هلذا املصطلح حىت يصرح بأن "مفهوم‬
‫األسلوب(‪ )Style‬عندهم ال خيتلف اختالفا أساسيا عنه عندنا‪ 3".‬على اعتبار املساواة التامة اليت‬
‫حصلت بني األسلوب والبالغة يف الثقافة الغربية القدمية‪.‬كما يذهب إىل ذلك عياد عندما يقف‬
‫خصوه مبعىن أضيق‬
‫على أن "األسلوب ‪ Style‬عندهم رمبا جعلوه مرادفا للبالغة (‪ )Rhetoric‬ورمبا ّ‬
‫من ذلك وهو "مستوى التعبري" وعندهم ثالثة مستويات أو أساليب‪ ،‬القريب واملتوسط والرفيع‪ ،‬وقد‬
‫ربطوها باملستويات االجتماعية من جهة‪ ،‬وبالفنون األدبية من جهة ثانية‪ ،‬وباحملسنات البيانية من‬
‫‪4‬‬
‫جهة ثالثة‪".‬‬

‫إال أن امليزة األساسية ملصطلح "أسلوب" يف هذه الثقافة‪ ،‬هي اخلصوصية الفردية لكل أسلوب‬
‫فردي انطالقا من مقولة بوفون‪" :‬األسلوب هو الرجل ذاته" فأصبح يدل على اجلانب الفردي أو‬

‫‪1‬ابن خلدون‪:‬املقدمة‪ ،‬ص‪.220 ،221 :‬‬


‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 4‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع ‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪226‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الشخصي للفرد املتكلم أو املبدع‪ ،‬حىت أن بعضهم شبه األسلوب ببصمة األصبع‪ ،‬وهي اخلاصية اليت‬
‫تناوهلا عياد بشيء من اإلسهاب مربزا أن لكل إنسان أسلوبه اخلاص الذي خيتلف بالضرورة عن‬
‫إنسان آخر‪.‬‬

‫‪ .4‬شكري عياد وحماوالت التجديد‬

‫يصل عياد إىل تناول مباحث األسلوب عند اجملددين األوائل للبالغة‪ ،‬وقبل أن خيضع هذه‬
‫اجلهود التجديدية للمعاينة والكشف‪ ،‬يقف عند بعض املطبات املعرفية اليت أسهمت يف تكلس‬
‫وحتجر الدرس اللغوي عندنا‪ ،‬الشيء الذي أبطأ عجلة التقدم أو أوقفها يقول‪" :‬واحلق أن الدراسة‬
‫البالغية كما عرفت قدميا مل تكن لتفي حباجة العصر‪ ،‬فأبرز عيوهبا أهنا أشكال لغوية ال يربطها‬
‫رابط‪ ...‬هلذا كان التحليل البالغي عاجزا عن إعطاء تفسري ذي داللة لألعمال األدبية‪ ،‬بقدر ما كان‬
‫النقد األديب –الرومنسي‪ -‬الذي بين على تقسيمات عريضة مبهمة‪ ،‬واعتمد على أحكام انطباعية‬
‫‪1‬‬
‫سريعة‪ ،‬عاجزا عن إسباغ شيء من املوضوعية على مناهج البحث األديب يف البيئات اجلامعية‪".‬‬

‫حياول عياد أن يربط بني منجزات الثقافة األوربية – يف حماولة تنزيل مباحث األسلوب منزلة‬
‫البالغة القدمية– وبني احملاوالت األوىل يف الثقافة العربية احلديثة‪ ،‬اليت رامت التجديد املعريف للكثري‬
‫من املقوالت البالغية‪ ،‬وتطفو إىل السطح تلك احملاولتني الرائدتني يف أحباث التجديد ممثلة يف جهود‬
‫الشيخ أمين الخولي يف كتابه "فن القول" أما احملاولة الثانية فهي لألستاذ أحمد الشايب يف مؤلفه‬
‫"األسلوب"‪.‬‬

‫يقف عياد عند مظان التجديد الذي ابتغاه الخولي يف "فن القول" فيبدأ بتغيري اسم البالغة‬
‫تبوأها الشيخ بني إعزازه للقدمي‬‫إىل فن القول من قبل الشيخ‪ ،‬ويتناول عملية التوسط املنهجي اليت ّ‬
‫ويف الوقت ذاته محاسته للجديد‪ ،‬يقول عياد‪" :‬وقد بىن كتابه هذا على املقارنة بني البالغة العربية‬
‫التقليدية وبالغة احملدثني‪ - ،‬أي األوربيني‪ -‬اليت مسوها "علم األسلوب"‪ ،‬واعتمد يف رسم صورة‬
‫البالغة العربية التقليدية ‪-‬اليت أحاط برتاثها املعروف إحاطة كاملة متعمقة‪ -‬على "شروح‬

‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.35 :‬‬


‫‪227‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫التلخيص"‪ ...‬أما "بالغة احملدثني" فقد اعتمد فيها على كتاب ملؤلف إيطايل امسه "لباريين" وعنوان‬
‫الكتاب "األسلوب اإليطايل"‪ "Lo stileia Italiano‬وهو كتاب غري معروف لدينا"‪.1‬‬

‫إال أن الذي ش ّد انتباه الناقد يف حماوالت التجديد اليت باشرها الخولي‪ ،‬هو إصراره على فنية‬
‫البالغة العربية من جهة‪ ،‬ومناداته بالدراسة املوضوعية من جهة أخرى ‪ ،‬فيتساءل عياد " كيف اشتبه‬
‫عليه األمر يف الدراسة البالغية اليت يريدها موضوعية‪ ،‬فجعلها "فنا" كفن الشاعر أو الكاتب‬
‫املبدع؟"‪ 2‬ويتابع عياد بأن الشيخ لزم نفسه خباصية الذوق يف نقد األعمال اإلبداعية وقراءهتا‪ - ،‬ما‬
‫دامت البالغة يف عرفه ال ميكن أن ترقى إىل مصاف العلوم‪ ،-‬ألن الشيخ يرفض علمية البالغة وإمنا‬
‫يسلم األمر إىل األفكار الذوقية اليت من شأهنا أن تتبع مواطن اجلمال يف النص األديب‪.‬‬

‫مث يتناول عياد احملاولة الثانية لألستاذ الشايب الذي حاول " أن يصل بني البالغة والنقد‬
‫األديب احلديث‪ 3".‬غري أن مرجعيات األستاذ من الثقافة الغربية كانت قاصرة على رفده باجلديد على‬
‫ساحة النقد األسلويب‪ ،‬وذلك بالنظر إىل ما ميتلكه األستاذ من ثقافة تراثية كانت مزجيا بني البالغة‬
‫والنقد‪ ،‬فانطلق الشايب يف إعادة صياغة البالغة على منهج الشيخ الخولي إال أنه باينه يف النظر‬
‫التحليلي ملكونات البالغة بل كان اعتماده "على ما قرره ابن خلدون عن األسلوب‪ ،‬وبىن عليه نقاشا‬
‫‪4‬‬
‫طويال حول كون األسلوب نظاما لفظيا أو نظاما معنويا‪".‬‬

‫إال أن الشايب ال حيصر جل اهتمامه يف مقاربة البالغة العربية القدمية معتمدا على جهود‬
‫القدماء‪ ،‬إمنا جيد لنفسه مكانا هاما عندما يقيم هذه الصلة احلميمة بني البالغة القدمية باعتبارها‬
‫جمموعة من القواعد‪ ،‬وبني النقد احلديث (الرومنسي) الذي جيعل حمور اهتمامه التجربة الذاتية‪ ،‬فهل‬
‫جنح األستاذ يف عقد مثل هذه الصالت؟ يقول عياد مربزا اجلهود التجديدية لألستاذ يف النقد‬
‫احلديث "الواقع أن األستاذ الشايب جيد نفسه مضطرا‪ ،‬يف الفصل الذي يعقده بعنوان "تكوين‬
‫األسلوب" إىل االعتماد على مفاهيم البالغة القدمية دون غريها‪ .‬فتوسيع مفهوم األسلوب حبيث‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.32 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.38 :‬‬
‫‪ 4‬نفسه‪ ،‬ص‪.38 :‬‬
‫‪228‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يشمل كل عناصر العمل األديب اليت حتدث عنها األستاذ الشايب يف أصول النقد‪ ،‬وهي الفكرة‬
‫والعاطفة واخليال إىل جانب العبارة‪ ،‬حري أن يلقي بالناشئ يف خضم ال هناية له ما دام املعيار‬
‫الوحيد للعناصر الثالثة األوىل هو التجربة اإلنسانية مطلقة من كل قيد‪ .‬وإذا فالبد من االلتزام‬
‫‪1‬‬
‫باملفهوم الضيق لألسلوب الذي حيصره يف العبارة وحدها‪".‬‬

‫يتدرج الناقد – عياد‪ -‬يف بسطه ملفاهيم األسلوب يف الثقافة العربية املعاصرة‪ ،‬بعد أن أسس‬
‫للمفهوم يف الثقافة العربية القدمية بشيء من اإلسهاب‪ ،‬فيجد أن الكلمة تفاوت مدلوهلا بني بيئة‬
‫وأخرى مما أسهم يف إغناء داللتها وثرائها‪ .‬واألمر اآلخر هو أن مفهوم األسلوب سواء يف القدمي أم‬
‫يف احلديث‪ ،‬إمنا يرتكز على مكتسبات العلوم اللغوية القدمية منها واحلديثة‪ ،‬يقول‪ " :‬إن القدماء –‬
‫بوجه عام‪ -‬تناولوا ظاهرة األسلوب من مدخل التقاليد الفنية‪ ،‬وأن احملدثني تناولوها من مدخل‬
‫التجربة النفسية والتعبري عن الذاتية‪ .‬وكال املدخلني ال يأخذنا إىل قلب الظاهرة‪ .‬فإذا نظرنا إىل كل‬
‫ذلك احلشد من األفكار والنظريات عن األسلوب وجدناها ال جتمع إال على شيء واحد وهو أن‬
‫األسلوب يعتمد على اللغة‪ .‬يف وسعنا إذا أن نقول إن األسلوب ظاهرة لغوية‪ ،‬وأن نشرع يف تفسريه‬
‫‪2‬‬
‫على هذا األساس‪".‬‬

‫غري أن مرجعيات علم األسلوب احلديث إمنا تتباين مظاهنا من املرجعيات اللغوية إىل‬
‫الدراسات األدبية‪ ،‬اليت أسهمت يف بلورة جممل الدراسات األسلوبية يف العامل الغريب‪ ،‬ومن مث حتديد‬
‫ط خطواته األوىل إال حني‬ ‫املنطلقات النظرية لربوز هذا العلم اجلديد "والواقع أن علم األسلوب مل خي ُ‬
‫ارتكز على علم اللغة وكان هذا التحول انقالبا يف الدراسات األدبية‪ ،‬ولكنه مل يصدر عن علم اللغة‪،‬‬
‫بل جاء من قلب الدراسات األدبية نفسها‪ 3".‬وسنده يف ذلك عمليات التحول اليت مورست على‬
‫حتليل النص األديب بعد أن أخذ النقد االنطباعي يف الرتاجع‪ ،‬واختاذ منهج حتليل النص مبعزل عن‬
‫شخصية صاحبه‪ ،‬بديال شرعيا يف عملية التحليل‪ ،‬على اعتبار أن الشخصية األساسية واحملورية يف‬
‫النص هي اللغة املتوسل هبا‪.‬‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.21 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪229‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يربز عياد العالقة املتينة اليت تربط علم األسلوب بعلم اللغة احلديث‪ ،‬ومدى الرتابط الوثيق‬
‫الذي جيمع بني العلمني على ساحة النقد العاملي املعاصر‪ ،‬فيقول‪ " :‬بدأ علم األسلوب احلديث‬
‫األصح أن نقول إن الناقد يف هذا‬
‫ّ‬ ‫علما لغويا‪ ،‬ولكن النقاد ما لبثوا أن اسرتدوه من علماء اللغة‪ ،‬ولعل‬
‫العصر أصبح ناقدا ولغويا فهو يشبه الناقد القدمي من هذه الناحية‪ ،‬ولكن مع مالحظة الفروق املهمة‬
‫بني املفاهيم اللغوية القدمية واحلديثة‪ ،‬وأصبحت معظم الدراسات النقدية احلديثة در ٍ‬
‫اسات أسلوبية‬
‫‪1‬‬
‫كما انصبت معظم الدراسات األسلوبية على لغة األدب‪".‬‬

‫تشكل الدراسات اللغوية‪ ،‬اخللفية األساسية واملرجعية اهلامة النطالق الدراسات األسلوبية‬
‫وحلوهلا بديال للكثري من مناهج الدراسة النقدية‪ ،‬وأصبح علم األسلوب – على حداثة سنه‪ -‬ميثل‬
‫البؤرة املركزية للدراسات اللغوية واألدبية العاملية‪ ،‬ويشاطر عياد ما ذهب إليه الناقد اللغوي ستيفن‬
‫ألمان من أن علم األسلوب علم شاب مليء باحليوية والنشاط‪ ،‬لكنه ينعى على الكثري من نقادنا‬
‫وباحثينا املعاصرين عملية االستقبال العريب هلذه املناهج‪ ،‬من منطلق حمدودية عملية الفهم والتمثل‪،‬‬
‫كوهنما مها السبب الرئيس يف اضطراب الرؤية النقدية وهزاهلا‪ ،‬ذلك أن اجلهل بالشيء ال يعين عدم‬
‫وجوده‪ .‬أضف إىل ذلك ما صاحب استقبال هذه املناهج من تشكيك يف فاعليتها‪ ،‬وما أصاب‬
‫املنظومة الفكرية واملعرفية من شرخ أسهم يف خلخلة مستويات القراءة والفهم‪.‬‬

‫يقول عياد مربزا هلذا اهلم املعريف الذي يصدر عنه "إ ّن هذه الصورة شبيهة مبا جنده عندنا –‬
‫والسيما يف هذه السنوات األخرية‪ -‬من اختالط األفكار وافتقاد املنهج‪ ،‬ولكن ال خندعن أنفسا‪:‬‬
‫فشتان ما بني اضطراب ناشئ عن اجلهل وفقدان الثقة بالعقل وقعود اهلمة عن الطلب‪ ،‬واضطراب‬
‫ناشئ عن احلرية العقلية اليت ال تفتأ تنبش عن املشكالت وجترب كل احللول وتناقش كل الفروض‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫مغرى بارتياد ذلك اجملهول‪".‬‬
‫إن علم هذا العصر كعامل هذا العصر‪ :‬جمهول دائم وعقل ّ‬
‫يستمر عياد يف تتبع املسار النظري ملشروعه األسلويب‪ ،‬من دافع تبيان مجلة من القضايا اهلامة‬
‫اليت تربط علم األسلوب بعلوم اللغة‪ ،‬وهاجسه دائما هو الوقوف عند الصالت والروابط اليت تلتحم‬
‫بني البالغة العربية من جهة‪ ،‬والدراسات اللغوية احلديثة من جهة أخرى‪ .‬ويف ربطه الوظائف النحوية‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ ،‬ص‪.25 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪230‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫القدمية بالوظائف البالغية يقول عياد مربزا هذه الروابط‪" :‬إن علماء األسلوب يف عصرنا هذا عنوا‬
‫بإيضاح مسألة بقيت غامضة مشوشة لدى بالغيينا القدماء‪ ،‬وهي عالقة القواعد النحوية بالفن‬
‫‪1‬‬
‫القويل‪ ،‬وهذا شرط ضروري لتحديد الظاهرة األسلوبية‪".‬‬

‫وحتديد مثل هذه العالقات من شأنه أن يدفع بالتحليل األسلويب إىل كشف الكثري من الروابط‬
‫والعالقات اليت تُسهم يف إثراء داللة النص‪ ،‬وعدم االكتفاء بالدالالت السطحية له‪ ،‬إمنا حماولة احلفر‬
‫يف أعماق هذا النص من أجل البوح بالقدر الكايف من املعاين اليت كانت متسرتة على القارئ أثناء‬
‫مباشرته عملية القراءة‪.‬‬

‫مل يكتف عياد بإبراز نوع واحد من الدالالت اليت خيتزهنا النص‪ ،‬وإمنا حاول جاهدا أن يربز‬
‫أنواعا شىت من الدالالت اليت حيتملها النص األديب عندما خيضع لعمليات التحليل األسلويب‪ ،‬مع‬
‫تفاوت يف حجم هذه الدالالت‪ ،‬إذ ال ميكن حسبه أن نطمئن إىل الداللة األحادية للغة بل جيب‬
‫البحث عن خمتلف الدالالت احملتملة‪ ،‬ويُرجع عياد اهتمام أوائل األسلوبيني كشارل بالي مثال‬
‫وتالمذته بأنواع الدالالت‪ ،‬إىل أن جيري بينها ذلك التماثل‪ ،‬كما هو موجود عندنا يف كتب البالغة‬
‫تصور بايل علم األسلوب على أنه علم لغوي صرف‪ ،‬يكمل النحو‪ ،‬وال خيتلط‬ ‫والنحو يقول‪" :‬لقد ّ‬
‫بالبالغة أو فن الكتابة وسار تلميذاه ماروزو وكريسو على الدرب حىت منتهاه‪ ،‬فكتب كالمها كتابا يف‬
‫علم األسلوب موزعا على أبواب تشبه أبواب النحو‪ ،‬ابتداء باحلروف أو األصوات وانتهاء باجلملة أو‬
‫‪2‬‬
‫العبارة‪ ،‬وميكن أن نشبه هذا النوع من التأليف بكتب البالغة عندنا‪".‬‬

‫ال يعدو األمر أن يكون عملية إسقاط أو متاثل وتوازي للجهود األسلوبية الغربية وموازنتها مبا‬
‫هو موجود عندنا يف البالغة العربية‪ ،‬األمر الذي حدا بعياد أن مير بالكثري من املسائل اللغوية ممثلة يف‬
‫مقوالت النحو التوليدي التحويلي عند تشومسكي (‪ )Noam Chomsky‬ومدى مالئمة تلك‬
‫القضايا النحوية للمسائل اللغوية املوجودة يف الرتاث اللغوي العريب‪ ،‬أضف إىل ذلك‪ ،‬تلك‬
‫التحسينات اليت تعج هبا البالغة يف موازاهتا مع مقولة البنية السطحية والبيئة العميقة عند‬
‫تشومسكي‪ ،‬يقول عياد مفاضال بني األصلني العريب والغريب ‪" :‬يالحظ أن البالغة التقليدية عند‬

‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.25 ،22 :‬‬


‫‪231‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫العرب واألوربيني على السواء قد ميّزت بني حتسينات راجعة إىل أصل التعبري وأخرى إضافية تأيت بعد‬
‫األوىل يف القيمة ( فهذا أساس التفرقة بني علمي املعاين والبيان من ناحية وعلم البديع من ناحية‬
‫أخرى) ولكن التفرقة املبنية على النحو التوليدي التحويلي تبدو أكثر منطقية‪ 1".‬وهنا ينتصر عياد‬
‫حليوية النحو التوليدي التحويلي على خالف الثبات السكوين للكثري من مقوالت البالغة العربية‪،‬‬
‫اليت ال تتيح للمبدع الكثري من إمكانيات التعبري بسبب تلك القواعد والتقنينات اليت مارست نوعا‬
‫من التقييد الكابح لروح اإلبداع‪.‬‬

‫وانطالقا من ذلك يصل عياد إىل بلورة مفهوم تلك السمة املميزة للنص األديب‪ ،‬واليت تصنع‬
‫فرادته وخصوصيته‪ ،‬ومن مث إبداعيته وهو ما اصطلح عليه بأدبية األدب‪ .‬يقول عياد‪ " :‬الفنان اللغوي‬
‫ال يتعامل مع مادة أدبية خمتلطة‪ ،‬ولكنه يتعامل مع أعراف لغوية متعدد‪ ،‬خيضعها مرة وخيضع هلا مرة‪،‬‬
‫ويؤلف بني بعضها وبعض مرة‪ ،‬ويضرب بعضها ببعض مرة‪ ،‬لكي حيدث نظاما جديدا متميزا‪،‬خاصا‪،‬‬
‫هو النظام الذي حنسه معىن جمردا كامنا حتت النص األديب‪ ،‬وهو نظام اليشبه نظام أي نص أديب‬
‫‪2‬‬
‫آخر‪".‬‬

‫إن ما يروم عياد إثباته هنا هو تلك اخلصوصية الفنية اليت يتميز هبا نص عن آخر‪ ،‬وذلك وفق‬
‫اإلمكانيات اليت تتيحها اللغة للمبدع‪ ،‬غري أن هذه العملية تكون حمكومة جبملة من املعايري واألعراف‬
‫اليت ال جيوز للمبدع خرقها أو جتاهلها‪ ،‬ورمبا خضع هلا الفنان أو املبدع انطالقا من ميول مجاعية‬
‫وليست فردية‪ ،‬على اعتبار أن عملية االختيار إمنا حتتكم إىل شروط خاصة كما حتتكم إىل شروط‬
‫عامة‪ ،‬ومن شأن هذه املعايري أن تسهم يف صياغة اجلانب الشخصي للنص األديب‪ ،‬وتصنع فرادته‬
‫انطالقا من تلك االحنرافات أو اخلروقات اليت يأتيها املبدع رمبا عن قصد أو عن غري قصد‪ ،‬األمر‬
‫الذي جيعل من عملية اإلبداع يف حد ذاهتا حمكومة سلفا هبذه املعايري والشروط اليت ميتثل هلا املبدع يف‬
‫النهاية‪.‬‬

‫جيري عياد نوعا من التقريب املنهجي أو التحليلي لظاهرة األسلوب‪ ،‬وكيفيات التحديد‬
‫وإمكانيات التحليل إذا انضوى األسلوب حتت فلسفة من الفلسفات احلديثة‪ ،‬يقول‪" :‬إن األسلوب‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ ،‬ص‪.52 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫‪232‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إذا نُظر إليه يف ضوء الفلسفة الرومنسية على أنه السمة اليت متيّز كاتبا عن كاتب‪ ،‬فلن نستطيع يف‬
‫هذه احلالة أن نتحدث عن علم يسمى علم األسلوب‪ ،‬ألنه سيكون كال متفردا غري قابل للتجزئة‬
‫ولكننا لو استطعنا أن حنلل عناصره حتليال علميا (رياضيا) ألمكننا أن منيز بني األساليب املختلفة‬
‫‪1‬‬
‫حبسب اختالف مكونات كل منها‪".‬‬

‫تنم هذه املعاجلة الدقيقة عن هاجس التأصيل النقدي الذي يتغياه شكري عياد‪ ،‬فال يلبث أن‬
‫جيري تلك املوازنات واملقارنات بني اإلرث احلضاري العريب ممثال يف البالغة والنقد والنحو‪ ،‬وبني هذه‬
‫املكتسبات أو املنجزات اللغوية الغربية‪ ،‬حماوال إماطة اللثام عن الكثري من القضايا اليت تقع يف‬
‫الصميم من العملية النقدية األسلوبية‪ ،‬وهو بذلك يتجاوز الكثري من النقاد والباحثني واللغويني‬
‫العرب‪ ،‬الذين أسهموا يف دفع عمليات النقد العريب احلديث واملعاصر‪ ،‬وجعلها ترتاد مناطق رمبا مل‬
‫تتجه إليها العناية من قبل‪ ،‬ومت اكتشاف هذه اجملاهيل اجلديدة اليت أسبغت على مثل هذه الدراسات‬
‫نوعا من الريادة والتبجيل واالحتفاء‪.‬‬

‫لقد صرف الناقد جهدا ليس باليسري يف تتبع جممل املظاهر اللغوية والنقدية اليت عرفتها ساحة‬
‫فطوف عند‬
‫النقد األديب املعاصر‪ ،‬ومارس نوعا من الذكاء يف تشريح هذه القضايا واإلشكاالت‪ّ .‬‬
‫ثنائيات سوسير ومقوالت نظرية االتصال‪ ،‬وخلص إىل أن اإلبداع ذو طابع شخصي‪ ،‬وال ميكن أن‬
‫يكون إال كذلك‪ ،‬وأن الظاهرة األسلوبية فريدة فرادة اإلبداع الذايت للمبدع‪ ،‬سواء كان شاعرا أو ناثرا‬
‫وأن مسة الفردية تتجاوز املقول إىل القائل‪ ،‬وهذا رمبا خيرج عن ضوابط البحث األسلويب املعاصر‪ ،‬إذ‬
‫الشأن منصب بداية وهناية حول النص‪ /‬الظاهرة موضوع املساءلة والدرس‪ ،‬وأن النقد األسلويب فرض‬
‫نفسه كأحسن بديل للنقاد املعاصرين ملا يتيحه من آليات تنهض بإبراز مسات األدبية واالنزياح داخل‬
‫النص‪.‬‬

‫ختتلف عملية حتديد هذه الظواهر األسلوبية باختالف مناهج الدرس والتحليل‪ ،‬فإذا كان النقاد‬
‫األسلوبيون الرواد‪ -‬بايل على سبيل التمثيل‪ -‬يقفون عند حتديد اللغة الطبيعية أو اللغة املستعملة بني‬
‫األفراد يف حديثهم اليومي‪ ،‬فإن النقاد األسلوبيون اآلن يعنون بإبراز مجاليات النصوص املكتوبة وبيان‬
‫أوجه التأثري الفين اليت متارسها هذه النصوص على مجهور النقاد‪ .‬وهكذا "أصبح علم األسلوب‪ ،‬يف‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.21 :‬‬


‫‪233‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫نظر معظم ممارسيه اليوم مرتبطا بدراسة النصوص األدبية‪ ،‬بعد أن كان يف أول نشأته منصبا على‬
‫‪1‬‬
‫دراسة جانب من جوانب اللغة الطبيعية‪ ،‬أي اللغة املستعملة يف شؤون احلياة العادية‪".‬‬

‫ختضع عملية حتديد الظاهرة األسلوبية داخل النص‪ ،‬إىل مجلة من الشروط لعل من أمهها معاينة‬
‫مبدأ االختيار الذي امتثل له املبدع‪ ،‬إال أن هذه العملية ال تؤدي بالضرورة إىل التحليل األمثل‬
‫للنص‪ ،‬وذلك الكتفاء مجلة من النقاد األسلوبيني بالبحث عن جزئيات يسرية داخل النص‪ ،‬أو قل‬
‫يعمي النص‬‫العمل على تفتيت النص وجتزيئه إىل أصوات وحقول داللية وغريها‪ ،‬األمر الذي رمبا ّ‬
‫ويعتمه أكثر مما يضيئه‪ ،‬بل إن الدراسة األمثل لتوظيف القدر الكايف من إمكانيات التحليل‪ ،‬إمنا‬
‫تتطلب "منهجا خاصا لدراسة الظاهرة األسلوبية اليت حتدد معناها عند معظم الدارسني يف الوقت‬
‫احلاضر باالستعمال األديب للغة‪ ،‬وبناء على ذلك‪ ،‬ينبغي أن حناول وصف هذه الظاهرة بتعيني‬
‫‪2‬‬
‫اخلصائص اليت متيزها عن االستعماالت األخرى‪".‬‬

‫ال حيتفي شكري عياد كثريا بالدراسة التجزيئية للنص‪ ،‬وذلك العتبارات عديدة لعل من أمهها‪،‬‬
‫أن مثل هذه الدارسات متارس نوعا من التضليل على فهم القارئ‪ ،‬أما الطريقة األمثل حسبه فهي‬
‫دراسة جممل االختيارات اليت يصدر عنها املبدع‪ ،‬ليتسىن للدارس األسلويب ممارسة التحليل وفق مبدأ‬
‫مر بنا أن االختيار‬
‫االختيار‪ ،‬باعتباره أوىل حمددات األسلوب باإلضافة إىل الرتكيب واالنزياح‪ .‬وقد ّ‬
‫خيضع جلملة من الضوابط الفردية واجلماعية اليت تؤطره‪ ،‬لتجعل املبدع ميتح من اللغة ‪-‬كمدونة‬
‫كربى‪ -‬ما يناسب مبتغاه من القول‪ ،‬هذه الضوابط أو الشروط حتكم عملية االختيار وال ترتكها على‬
‫إطالقها‪ ،‬فالشرطان األساسان لعملية االختيار مها مراعاة اجلوانب الذاتية وكذا املوضوعية‪ ،‬أثناء‬
‫عملية االختيار مما يكسب العملية اإلبداعية مجالية راقية تنأى بنفسها عن املكرور واملبتذل‪.‬‬

‫ومهما يكن‪ ،‬فإن األسلوب يكتسب قوته من طبيعة الشخصية اليت استخدمته "ومن عبارات‬
‫كان هلا أثرها يف النفوس مل تكن لتحدث هذا األثر لو مل تصدر عن شخصية بذاهتا‪ ،‬إن األديب ذو‬
‫الشخصية القوية املؤثرة خيلق للكلمة ‪ -‬باستخدامها إياها‪ -‬جماال واسعا‪ ،‬وال يلبث الكثريون أن جيدوا‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ ،‬ص‪.25 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪234‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أنفسهم واقعني يف إسارها‪ ،‬فمن حيوية الشخصية وقوهتا تستمد الكلمة وهي هبذه احليوية والقوة تؤثر‬
‫‪1‬‬
‫يف اآلخرين وتفرض نفسها عليهم‪".‬‬

‫تتفاوت فاعلية االختيار من مبدع إىل آخر‪ ،‬نظرا للمستويات املعرفية أو اإلبداعية اليت تفصل‬
‫بينهما؛ فما يوفق فيه مبدع قد يفشل فيه آخر‪ ،‬وذلك راجع إىل مقتضيات القول ومبتغى الرسالة أو‬
‫النص‪ ،‬لكن جناح أحدمها مرهون حبسن توظيف اختياراته وفق مبادئ أو معايري معينة "ومهما يكن‪،‬‬
‫فإن حتديد األسلوب على أنه اختيار حمور أساسي من حماور الدراسات األسلوبية‪ ،‬اليت قدمت‬
‫األسلوب على أنه متصل بوعي املبدع وبذاتيته اليت متيزه عن الذوات األخرى‪ ،‬فتفاوت األسلوب رمبا‬
‫‪2‬‬
‫يكون قائما على طبيعة االختيار الذي عد عنصرا أساسيا من عناصر عملية اإلبداع‪".‬‬

‫يقف عياد عند هذا احملدد بشيء من اإلسهاب‪ ،‬ملا له من أمهية بالغة يف معرفة واكتشاف‬
‫بواطن النص اإلبداعي‪ ،‬والوقوف عند مدى توفيق املبدع يف اختياراته‪ ،‬اليت تنأى يف العادة عن‬
‫توظيف اللغة العادية البسيطة‪ ،‬وتطلب نوعا من االستعمال اجملازي يقول عياد‪" :‬أما أوسع أبواب‬
‫االختيار أمام الشاعر أو الكاتب فال شك أنه التعبريات اجملازية"‪.3‬‬

‫انطالقا من هذه االستعماالت اجملازية خيلق املبدع ما يعرف بالصورة يف أجبديات النقد العريب‬
‫سواء القدمي أم احلديث‪ ،‬وللصورة أمهيتها البالغة من الناحية األسلوبية أو اجلمالية‪ ،‬وحىت من ناحية‬
‫التلقي املوجب للقارئ‪ ،‬ذلك أهنا ختلق نوعا من األرحيية ونوعا من الفضول يتتبعه القارئ قصد فك‬
‫طالمسها وتعرية أنساقها‪ ،‬يقول عياد‪..." :‬جيب أن ال ننسى أن الصورة – هبذا املعىن الضيق‪ -‬هي‬
‫جزء من نسيج عمل أديب وأن العمل األديب يراد به دائما إحداث أثر فين لدى املتلقي‪ ،‬ومن مث‬
‫ختتلف صنعة الصورة األدبية من مدرسة إىل أخرى‪ ،‬وأبرز ما يتضح فيه هذا االختالف هو مدى‬
‫‪4‬‬
‫التباعد بني طريف الصورة‪".‬‬

‫‪1‬عز الدين امساعيل‪ :‬األدب وفنونه ‪ -‬دراسة ونقد‪ ،-‬دار الفكر العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0028 ،2‬ص‪.22 :‬‬
‫‪2‬يوسف أبو العدوس‪ :‬األسلوبية‪ -‬الرؤية والتطبيق‪ ،-‬ص‪.020 :‬‬
‫‪ 3‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ ،‬ص‪.28 :‬‬
‫‪4‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫‪235‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تلك إذا هي أهم اجلهود النظرية اليت اضطلع هبا شكري عياد‪ ،‬عرب مسريته النقدية‪ ،‬واليت‬
‫يشكل البحث األسلويب أهم مرتكزاهتا وأعمدهتا‪ ،‬لينهض الفصل املوايل بإبراز خمتلف املواقف النقدية‬
‫اليت عاينها عياد‪ ،‬خاصة تلك املتعلقة مبوقفه من موجة احلداثة الغربية والعربية‪ ،‬وحتسسه أزمة احلداثة‬
‫العربية ومناهضته للحداثيني العرب‪ ،‬إضافة إىل حماولة تأسيسه ملشروع حداثي عريب‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل الثالث ‪:‬‬

‫شكري عياد و حداثة اخلطاب النقدي‬

‫‪ .1‬املنهج النقدي و إشكالية التوظيف‬


‫‪ .1‬املنهج و اخلصوصية احلضارية‬
‫‪ .1‬موقف شكري عياد من احلداثة الغربية‬
‫‪ .1‬أزمة احلداثة العربية‬
‫‪ .5‬حنو مشروع تأسيس حداثة عربية‬
‫‪ .6‬موقفه من احلداثة العربية‬
‫‪ .7‬كيف يكون النقد علما‬
‫‪ .8‬مفهوم الذوق‬

‫‪237‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .1‬املنهج النقدي وإشكالية التوظيف‬

‫تعترب إشكالية تلقي املنهج النقدي من أهم اإلشكاليات املعرفية‪ ،‬إن مل تكن أمهها؛ ذلك أن‬
‫املنهج هو املفتاح اإلجرائي(‪ ، )clé opérateur‬الذي بوساطته تفتح مغاليق النصوص‪ ،‬وتنـزع أردية‬
‫التدثر عن املعاين املكتنزة داخل هذه النصوص‪ ،‬وتتوقف فاعلية اإلجراءات النقدية على حسن‬
‫توظيفها ومتثلها‪ ،‬وحسن استثمارها من قبل الباحث أو الناقد‪ ،‬األمر الذي ينسحب عنه نتائج قمينة‬
‫باالحتفاء والتبجيل‪ ،‬وجيعل من النص كنـزا مشعا مبختلف الدالالت واملعاين‪ ،‬إال أن املعضلة احلقيقية‬
‫اليت وقع فيها النقد العريب احلديث واملعاصر‪ ،‬هي مدى اإلفادة من مناهج النقد الغربية اليت مت‬
‫استقباهلا يف بيئة النقد العريب‪ .‬ففي كثري من األحيان يتم اخللط بني التطبيق اآليل الصنمي آلليات‬
‫املناهج وبني سوء توظيفها‪ ،‬مما جيعلها آليات هدم بعدما كانت يف األساس آليات بناء‪ ،‬مما يزيد يف‬
‫عتمة النص ومتنّعه عن اإلفصاح مبخبوءه ومكنونه‪ ،‬وذلك راجع باألساس إىل عدم املعرفة باخللفيات‬
‫املعرفية واملرجعيات الفلسفية اليت صاغت هذه املناهج‪ .‬واملنهج "طريقة يف التعامل مع الظاهرة‬
‫موضوع الدراسة‪ ،‬تعتمد على أسس نظرية ذات أبعاد فلسفية وأيديولوجية بالضرورة‪ ،‬ومتلك‪ -‬هذه‬
‫الطريقة‪ -‬أدوات إجرائية دقيقة ومتوافقة مع األسس النظرية املذكورة‪ ،‬وقادرة على حتقيق اهلدف من‬
‫‪1‬‬
‫الدراسة‪".‬‬

‫وترتيبا على هذا فقد وقع الكثري من نقادنا احملدثني ضحية االنبهار والتسرع يف استثمار الوافد‬
‫من الثقافة الغربية‪ ،‬انطالقا من مقولة املغلوب مولع بتقليد الغالب‪ ،‬فلم حيسن النقاد العرب احملدثني‬

‫‪ 1‬سيد البحراوي‪ :‬البحث عن املنهج يف النقد العريب احلديث‪ ،‬دار شرقيات‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0002 ،0‬ص‪.0 :‬‬
‫‪238‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يف الكثري من األحيان التعامل مع هذا الوافد‪ ،‬وال الوعي هبذه املرجعيات الفلسفية اليت تقبع وراء كل‬
‫منهج أديب أو نقدي‪ ،‬إمنا متّ التعامل معها وكأهنا إسقاطات آلية أو مسلمات مشاعة بني كل‬
‫األجناس‪.‬‬

‫وإمعانا يف إظهار احلقيقة ومدى اخلطورة املعرفية على الذات من قبل اآلخر‪ ،‬يسعى البحث‬
‫إىل التعريف بعلم من أعالم نقدنا احلديث واملعاصر وحماولة إضاءة مشروعه النقدي‪ ،‬الذي خيص به‬
‫مجلة من القضايا اليت تنوعت بني قضايا تراثية وأخرى حداثية‪ ،‬فهل كان مستوى التناول والتمثل‬
‫مبستوى التحديات؟ وما هي املواقف النقدية اليت انربى الرجل للذود عنها؟ وهل اجلهاز املفهومي‬
‫واملصطلحي الذي توسل به عياد يف مقاربة هذه املتون كفيل بإضاءة كل هذه النصوص؟ وما هي‬
‫اآلليات القرائية املعتمدة من قبله يف عملية احلفر واالستنطاق؟ كل هذه التساؤالت وغريها هو ما‬
‫سيحاول البحث اإلجابة عنها وبسطها‪.‬‬

‫‪ .2‬املنهج واخلصوصية احلضارية‬

‫ترتكز كل عملية قراءة ‪ -‬هتدف الوصول إىل سرب كنه النص وفك شفراته وفتح مغاليقه ونزع‬
‫أستار احلجب عن معانيه‪ -‬على منهج نقدي معني ترتاد به هذه املتون‪ ،‬وحتاول مستعينة به تفكيك‬
‫البىن اللغوية الكربى والوصول إىل دالالت تقع يف العمق من العملية اإلبداعية‪ ،‬وال مناص ألي‬
‫باحث من االحتكام آلليات منهج معني‪ ،‬بغية الوصول إىل كشف احلقيقة‪/‬املعىن‪/‬الظاهرة‪ ،‬املنطوية يف‬
‫شكل نص أو إبداع واملنهج هبذا الطرح " يتعدد بتعدد أمناط املعرفة‪ ،‬وأنه يلحق هبا وال يسبقها‪ ،‬وأنه‬
‫معرض للتطور والتج ّدد والنسبية يف كل ذلك‪ ،‬وأنه هبذا ال يقبل الوصف بالشمولية‬ ‫تبعا لذلك ّ‬
‫واإلطالق ‪ ،‬وال حيتمل أن يفرض أو يعمم أو يلصق بأي جمال معريف ‪ -‬كيفما كان – ينقل إليه أو‬
‫‪1‬‬
‫تبىن فيه‪".‬‬
‫يُ ّ‬
‫منبت الصلة باحلاضنة الثقافية احلاملة له‪ ،‬وال ميكن عزله عن‬
‫تأسيسا على هذا ال يعترب املنهج ّ‬
‫احلقل املعريف الذي أنتج فيه‪ ،‬وال عن خلفياته الفكرية ومرجعياته الفلسفية اليت عملت على بلورته‬
‫ونضجه إذ " ميكن النظر يف علم املناهج بصفته نظرية عامة شاملة للمناهج املفردة‪ ،‬أي املناهج‬

‫عباس اجلراري‪ :‬خطاب املنهج‪ ،‬منشورات النادي اجلراري ‪ ،8‬الرباط‪ ،‬ط‪ ،0005 ،3‬ص‪.02 :‬‬
‫‪1‬‬

‫‪239‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫املوظفة واملستمرة يف خمتلف العلوم وحقول املعرفة‪...،‬وترتيبا على ذلك يفضي البحث يف املنهج إىل‬
‫جمال فلسفة العلوم أو نظرية املعرفة أو ما ميكن تسميته اختصارا‪ :‬االبستيمولوجيا وهو ما يتولد عنه‬
‫‪1‬‬
‫خطاب نظري من درجة ثانية يصطلح عليه باخلطاب النظري الواصف أو ما بعد النظري‪".‬‬

‫إن حماولة تأصيل مناهج البحث والدراسة األدبية هي ما يرومه عدد غري قليل من نقادنا‬
‫احملدثني‪ ،‬وعملية التأصيل يف حقيقتها هي البحث عن أصل هلذه املناهج يف الرتاث النقدي والبالغي‬
‫العريب‪ ،‬أو أرضنتها وتبيّئتها يف احلقل النقدي العريب املعاصر‪ ،‬غري أن األمر ال ميكن التسليم به هبذه‬
‫البساطة‪ ،‬فالكثري من القضايا النقدية احلديثة واملعاصرة مل جتد ما مياثلها على الصعيد الفكري‬
‫والفلسفي تراثيا‪ ،‬والكثري من املقوالت البالغية والنقدية القدمية أثبتت عقمها وعدم جدواها على‬
‫الساحة النقدية املعاصرة‪ ،‬ما أدى إىل التوجه رأسا صوب احلضارة الغربية يف حماولة الستثمارها‬
‫واإلفادة منها‪ ،‬يقول محمد برادة‪":‬معظم نقادنا منذ حسني املرصفي قد اجتهوا صوب املستودع‬
‫األديب األوريب (=الغريب) حبثا عن أدوات التحليل والتفسري‪ ،‬حىت عندما حاولوا إعادة تقييم روائع‬
‫الرتاث العريب‪ ،‬وهذا ما ترك يف نفوسنا االنطباع عند قراءة العقاد واملازين وطه حسني وهيكل‪ ...‬بأهنم‬
‫جيهدون يف إبراز قيمة الرتاث عن طريق إظهار إمكانية تطبيق املناهج الغربية على جوانبه اهلامة‪ ،‬حىت‬
‫‪2‬‬
‫ال يكون خمتلفا يف شيء عن الرتاثات األدبية لألمم املتقدمة‪".‬‬

‫واستتباعا ملا مت تقدميه حول العالقة بني النقد العريب احلديث والنقد الغريب‪ ،‬وما جنم عن‬
‫عمليات املثاقفة اليت ال غىن للنقد العريب عنها‪ ،‬وعمليات التالقح اليت متت بني االجتاهني العريب‬
‫والغريب‪ ،‬فإن هذه العالقة منذ مرحلة البدايات‪ ،‬أو بداية التواصل كانت عالقة األستاذ بالتلميذ‪ ،‬أو‬
‫التابع باملتبوع‪ ،‬واإلقرار بذلك يدخل يف صميم العملية النقدية واحلضارية اليت من شأهنا أن تدفع‬
‫بالتيارات النقدية واألدبية إىل مزيد من التقدم على الصعيد املعريف‪ .‬وال نغايل يف االعرتاف بأن مرحلة‬
‫النقل واالستنساخ واإلسقاط مثلت مرحلة قامتة يف تاريخ النقد العريب احلديث‪ ،‬ذلك أن الكثري من‬
‫النقاد العرب سار يف اجتاه األخذ من الغرب دون وعي مبختلف املرجعيات واخللفيات‪ ،‬إمنا حصلت‬
‫عملية تدافع حنو املنجز الغريب وحماولة حماكاته باعتباره املثال والنموذج واملركز‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد اجلليل بن حممد األزدي‪ :‬أسئلة املنهج يف النقد العريب احلديث‪ ،‬املديرية اجلهوية لوزارة الثقافة‪ ،‬مراكش‪ ،‬ط‪،3110 ،1‬‬
‫ص‪.23 :‬‬
‫‪2‬حممد برادة‪ :‬حممد مندور وتنظري النقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ -‬بريوت‪ ،0085 ،‬ص‪.5 :‬‬
‫‪240‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يقول نبيل سليمان مربزا عملية التدافع احلاصلة الستثمار الوافد الغريب‪ ،‬أن الناقد العريب‬
‫"يستورد من اآلخر ما هو جاهز‪ ،‬استريادا شرعيا أو هتريبا حياول التوليف مع مقتضيات الواقع‬
‫الفكري والنقدي واألديب‪ ،‬تتصاغر ذاته أمام اآلخر الكلي اجلاذبية والتفوق"‪ ،1‬إال أن تلك املنجزات‬
‫الغربية على صعيد املنهج والنظرية واإلجراء والرؤية‪ ،‬جتعل من عملية األخذ والتمثل حقا البد من‬
‫استثماره‪ ،‬وحماولة صهره مبا لدى الذات العربية من أصول تراثية بغية اخلروج من العملية النقدية‬
‫بطائل‪ ،‬فعملية املثاقفة هي وحدها الكفيلة بتعرف الذات على مثالبها وحمامدها‪ ،‬يقول فؤاد أبو‬
‫منصور بشيء من االعرتاف الذي يبطن نوعا من احلسرة "الغرب مرآة تساعدنا على رؤية أنفسنا يف‬
‫السلم احلضاري‪ ،‬وحتدد لنا على أية درجة نقف‪ ،‬وكيف سنتوجه‪ ،‬وأية أدوات نستعمل الستكمال‬
‫‪2‬‬
‫مشروع املعاصرة‪".‬‬

‫الواقع أن العالقة مع اآلخر على صعيد إنتاج املعرفة إمنا جتد مسارها الصحيح عند بعض‬
‫النقاد حتت مسمى "املقارنة"‪ ،‬أي مقارنة منجزات الغريب مبا لدى الذات العربية على الصعيد الرتاثي‪،‬‬
‫عندما تنكفئ هذه الذات إىل ماضيها علّها جتد فيه ما يثبت حضورها على الصعيد املعريف يف جماهبة‬
‫هذا اآلخر الغريب‪ ،‬الذي أعطى لنفسه مركزية تامة ورمى غريه إىل مدارات اهلامش‪ ،‬واحلال أن عملية‬
‫املقارنة يف مثل هذه األمور ال تستقيم أبدا‪ ،‬نظرا حلجم الفوارق والتباينات احلاصلة على عدد غري‬
‫يسري من احلقول املعرفية‪ ،‬إال إذا رمنا التبسيط واالختزال والتجديف فإننا نقر مبثل هذه املقارنات‪":‬‬
‫إن االخنراط حتت لواء املقارنة ملراقبة التأثريات والتأثرات وضبط درجات متثل النقاد العرب للمناهج‬
‫الغربية‪ ،‬مل ينتج سوى جمموعة من املقايسات الشكلية اجملردة اليت حتاكم املمارسات النقدية العربية‬
‫مبنطق "أستاذي"يوزع بأقساط غري متساوية نياشني الفهم وعالمات التمثل وفق معيار االقرتاب‬
‫من‪/‬االبتعاد عن املثال النموذج"‪.3‬‬

‫إن عملية االحتذاء واملقايسة هي اليت أسهمت يف وقت ما يف صياغة متطلبات املرحلة النقدية‬
‫وعجلت يف الوقت ذاته بإصدار عدد ال بأس به من املدونات النقدية‪ ،‬اليت راعى فيها‬ ‫العربية‪ّ ،‬‬
‫أصحاهبا تلك اخلصوصية الذاتية‪ ،‬اليت بال شك ختتلف عن املظان األم لتلك األعمال‪ ،‬وانطالقا من‬

‫‪1‬نبيل سليمان‪ :‬مسامهة يف نقد النقد األديب‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0082 ،0‬ص‪.28 :‬‬
‫‪2‬فؤاد أبو منصور‪ :‬النقد البنيوي احلديث بني أوربا ولبنان‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0085 ،0‬ص‪.83 :‬‬
‫‪3‬عبد اجلليل بن حممد األزدي‪ :‬أسئلة املنهج يف النقد العريب احلديث‪ ،‬ص‪.83 :‬‬
‫‪241‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫هذا بات الناقد العريب مسهما ولو بالقسط اليسري يف صياغة الوعي النقدي للذات العربية‪ ،‬ومسهما‬
‫كذلك يف بلورة العديد من وجهات النظر اخلاصة به ومبشاريعه النقدية‪ ،‬يقول توفيق الزيدي‪":‬ظاهرة‬
‫التصرف يف املناهج واضحة‪ ،‬فال جند اتباعا كليا لتلك املناهج‪ ،‬وإمنا استلهم نقادنا مبادئها العامة‬
‫كوجوب استنطاق النص واالنطالق من مبناه للوصول إىل معناه‪ ،‬أو تفكيك النص مث تركيبه أو‬
‫استغالل جهاز التواصل بوظائفه الست‪...‬ولعل هذه الظاهرة جتعل نقدنا اللساين يتسم‬
‫‪1‬‬
‫بالسطحية‪".‬‬

‫اتسمت املرحلة النقدية العربية احلديثة واملعاصرة بنوع من االستالب‪ ،‬مارسه اخلطاب الغريب‬
‫ومعرضا إياها لنوع من‬ ‫على الذات العربية‪ ،‬واقتحمها داخليا مفككا أسسها اإليديولوجية واملعرفية ّ‬
‫التش ظي‪ ،‬الذي أسهم فيما بعد يف اغرتاهبا عن مهوم عصرها وجمتمعها‪ ،‬ودون وعي منها خبطورة‬
‫األزمة‪ ،‬تالشت مقومات هذه الذات‪ ،‬وأصبحت معول هدم النتمائها احلضاري الذي كان باإلمكان‬
‫أن تكون لبنة بناء يف صرح جمتمعها‪ ،‬ودون أن نلقي بالالئمة فقط على احلضارة الغربية وإفرازاهتا‪،‬‬
‫جيب أن نقف موقف نقد هلذه الذات وكيف استلهمت هذه احلضارة‪ ،‬وكيف ارمتت يف أحضاهنا‪،‬‬
‫وكيف أقصت كل اعتبار حضاري خلصوصيتها العربية‪.‬‬

‫‪ .3‬موقف شكري عياد من احلداثة الغربية‬

‫ميتلك شكري محمد عياد حاسة نقدية دقيقة متكنه من التعرف على مواطن اخللل يف الثقافة‬
‫العربية‪ ،‬ويستطيع ببصريته الثاقبة أن يعاجل الكثري من املزالق اخلطرية اليت رمبا وقعت فيها الثقافة‪ ،‬أثناء‬
‫مقاربتها للتيارات الوافدة عليها من أرض الغرب‪ ،‬وعندما يتحسس بواطن هذا الوافد يقف منه موقف‬
‫الناقد الذي ال يألوا جهدا يف التعرف على خباياه وكشف مستوره‪ ،‬خاصة فيما يتعلق مبسببات أو‬
‫شروط احلداثة عندنا وعندهم‪ ،‬يقول عياد‪" :‬ولكن القارئ الذي خيوض يف هذه املذاهب ال حيسن به‬
‫أن ينسى أن مثة خالفات ماثلة بيننا وبينهم‪ ،‬فالظروف اليت يعيش فيها القارئ العريب والكاتب العريب‬
‫تتسم بفراغ هائل‪ ،‬يف الغرب والشرق هناك خيارات واضحة تفرضها نظم سياسية حديثة قوية‪ ،‬هلا‬
‫تقاليدها كما أن هلا تطلعاهتا‪ ،‬ويفرضها تراث ثقايف حي تعهدته أجيال من العلماء بالتحقيق‬

‫‪ 1‬توفيق الزيدي‪ :‬أثر اللسانيات يف النقد العريب احلديث من خالل بعض مناذجه‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬تونس‪-‬ليبيا‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪ ،0082‬ص‪.052 :‬‬
‫‪242‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫والدرس‪ ،‬أما يف عاملنا العريب‪ ،‬فالقدمي جمهول أو شبه جمهول واجلديد ضعيف مرتنح‪ ،‬األرض عنيدة‬
‫والسماء شحيحة‪ ،‬الكاتب كصارخ يف برية‪ ،‬والقارئ كضال يف صحراء التحديات‪ ،‬ال حد لكثرهتا‬
‫‪1‬‬
‫وال لضخامتها‪".‬‬

‫ال يقف شكري عياد موقفا مريبا من احلداثة الغربية فحسب‪ ،‬بل حي ّذر من انعكاساهتا‬
‫وتبعاهتا على كل املؤسسات‪ ،‬سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو حىت دينية‪ ،‬ذلك أن‬
‫الكثري من مقوالت احلداثة الغربية تنطوي على شيء ليس بالقليل من تفكيك كل املسلمات‬
‫واملعتقدات‪ ،‬وتدعو يف اآلن نفسه إىل مصادرة املوروث العقدي أو ما اصطلح عليه "أنسنة الدين"‪،‬‬
‫وحيذر من كل تلك الدعوات اليت نادى هبا دريدا أو بارث وغريمها‪ ،‬من ضرورة تفكيك املؤسسات‬
‫جبميع أشكاهلا باعتبارها جمموعة من السلطات القمعية اليت تقهر الذات وتكبّل حريتها‪ ،‬إن حتذيراته‬
‫من إفرازات احلداثة الغربية هو ما دفعه إىل الرتيث يف األخذ هبا‪ ،‬وإتباعها كمنهجيات له يف الثقافة‬
‫واألدب والدين وغريها‪ ،‬ويركز عياد على مبدأ اخلصوصية اليت ّ‬
‫تفرق ثقافة عن ثقافة وأمة عن أمة‪ ،‬وال‬
‫جنانب الصواب إذا ذهبنا معه يف مذهبه االستباقي من أن لكل أمة خصوصيتها الثقافية واللغوية‬
‫والدينية واملعرفية‪ ،‬وإال وجدنا أنفسنا مهددين حىت يف وجودنا‪ ،‬يقول‪ ..." :‬أننا أخذنا نشهد يف‬
‫النصف الثاين من هذا القرن مرحلة تارخيية جديدة‪ ،‬أصبح فيها الكيان القومي مهددا بالفناء"‪،2‬‬
‫ويرى أن ثورية احلداثة متثلت يف حماولة احلداثيني العرب اخلروج عن كل ما هو مألوف لدى اجلماهري‬
‫العربية‪ ،‬والنأي هبم إىل مسافات أخرى أكثر رحابة يف ظنهم‪ ،‬ويذهب إىل أن هذه الثورية اليت عرفها‬
‫الشعر احلر مثال‪ ،‬متثلت أساسا يف "اإليغال يف الغموض والتجريب‪ ،‬أي االبتعاد عن األشكال‬
‫الفنية املعروفة‪ ،‬وهو اجتاه يرجع إىل أن الشاعر ‪-‬باعتباره منتجا يف جمتمع استهالكي وليس رائيا أو‬
‫نبيا‪ -‬يقدم سلعة إىل مجهور حمدود من األفراد الذين مييلون بطبعهم إىل العزلة وقد ميكنهم أن يشاركوا‬
‫‪3‬‬
‫يف لعبة البحث عن معىن وراء الصور املهشمة اليت ينقضها الالشعور‪".‬‬

‫‪1‬شكري عياد‪ :‬دائرة اإلبداع‪ :‬مقدمة يف أصول النقد‪ ،‬دار إلياس‪ ،‬القاهرة‪ ،0082 ،‬ص‪.82 :‬‬
‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ : :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون‬
‫واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،0002 ،‬ع‪ ،022‬ص‪.203 :‬‬
‫‪3‬نفسه‪ :‬ص‪.28 ،22 :‬‬
‫‪243‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫رمبا يؤسس عياد لنظرته النقدية من خلفية معرفية صاغتها اهتماماته النقدية املعاصرة اليت‬
‫واكبت بروز موجة الشعر احلر أو ما أصبح يسمى بشعر التفعيلة‪ ،‬خاصة وأن هذا النوع من اإلبداع‬
‫الشعري سلك طريقا مغايرا ملا ألفه مجهور القراء من قبل‪ ،‬ذلك أن هذا النوع من اإلبداع موغل يف‬
‫الغموض والتجريد‪ ،‬األمر الذي عكس وجود فئة معينة من القراء هي اليت اهتمت به وحاولت‬
‫جاهدة مسايرة الشعراء املعاصرين يف كشف مرادهم‪ ،‬وفهم إشكاليات الفرد العريب املعاصر وما يعانيه‬
‫من مشاكل رمبا تقف املشاكل االجتماعية والسياسية يف مقدمتها‪ ،‬وينفرد عياد عن باقي النقاد‬
‫العرب املعاصرين بتشخيص الداء املعريف والوجودي للناقد العريب احلديث واملعاصر‪ ،‬وحياول أن‬
‫يكشف بواطن اخللل اليت استحكمت يف الذات العربية املعاصرة‪ ،‬وجعلتها ترزح حتت نري التخلف‬
‫الفكري على أصعدة عديدة‪ ،‬لعل أمهها مسألة األخذ من اآلخر‪ ،‬وكيفية استثمار الوافد من الثقافة‬
‫الغربية ومدى إسهام الذات العربية يف بلورة وعي نقدي عريب‪ ،‬ينأى هبا عن الذوبان يف اآلخر من‬
‫جهة ويدفع هبا حنو نوع من االستقالل عن تراثها من جهة ثانية‪ ،‬ألن مسألة األصالة واملعاصرة تتحد‬
‫بقدر ما تتنابذ وتتعارض‪ ،‬ألن االنكفاء على املاضي هو سبب التسرب فيه واملوت حتت سلطانه‪،‬‬
‫واالستنجاد بالغريب هو ذوبان فيه ونسخ للذات وهبت ملعاملها‪.‬‬

‫يشرح عياد‪ -‬انطالقا من هذه اإلشكالية‪ -‬وضع احلداثيني العرب ويتتبع حضورهم على الساحة‬
‫النقدية والفكرية العربية‪ ،‬فمنهم من يبدو غريبا عن وطنه وانتمائه ألنه حيضر بعقله يف عامل قدمي أو‬
‫جيد نفسه يعاجل قضايا أمته الراهنة بعقل قدمي‪ ،‬وينتج عن هذا الشرخ نوع من التشظي يصيب الذات‬
‫بنوع من االنكسار واالنشقاق على مستوى الوعي ويدفع هبا إىل حالة من الذهول وعدم التبيني‪،‬‬
‫ومنهم من ينبهر خبطاب احلداثة الغربية يف حالة غريبة أقل مايقال عنها أهنا نوع من الذهول أمام‬
‫الوافد الغريب‪ .‬يقول عياد‪" :‬إن احلداثي العريب له حضوران حيرص عليهما قدر استطاعته‪ ،‬حضور يف‬
‫جمتمعه العريب وحضور أمام مراكز الثقافة الغربية‪ ،‬وحضوره يف الثقافة العربية واضح‪ ،‬فهو حيارب‬
‫التخلف واجلمود يف النظم واملؤسسات‪ ،‬كما حيطم التقاليد اللغوية والفنية وميارس أقصى ما يستطيع‬
‫‪1‬‬
‫من حرية يف التشكيل معربا عن شهوة اإلبداع وغرام االكتشاف يف كل جتربة جديدة‪".‬‬

‫‪1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.02 ،05 :‬‬
‫‪244‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫غري أن فاعلية احلضور واملمارسة من قبل احلداثي العريب تدفع به إىل السقوط يف حوق‬
‫االحندار الثقايف الذي ميارسه عليه اخلطاب النقيض‪ ،‬حماوال احتواءه داخليا والنيل منه معرفيا‪ ،‬وتعترب‬
‫عملية احلضور اإلجيايب للحداثي العريب يف بيئته عملية ال بديل عنها‪ ،‬خاصة إذا رمنا احلديث عن‬
‫إسهام احلداثيني العرب يف دفع عجلة التقدم يف بلداهنم‪ ،‬إال أن ما ينعاه عياد عن هؤالء احلداثيني‬
‫أهنم مشتتون ومنقسمون على ذواهتم‪ ،‬فهم يعيشون غربة حىت يف أوطاهنم نتيجة عدم الفهم املنتشرة‬
‫يف أوساط قرائهم يف الثقافة األم‪ ،‬يرى عياد أن‪ ":‬احلداثي العريب يف حميطه العريب يقف ضد اجلمود‬
‫والتخلف‪ ،‬ويف حضوره الغريب يقف ضد الثقافة التجارية الرأمسالية‪ ،‬أو حيب أن يقف ضدها‪ ،‬اخلطر‬
‫يف بيئته العربية وعند قرائه العرب‪ ،‬يأتيه من كونه غري مفهوم‪ ،‬يف حني أن اخلطر عند أنداده الغربيني‬
‫يأتيه من إغراء االحندار إىل السوقية‪ ،‬ويظل احلداثي العريب عندهم وعند قرائهم غري مفهوم أيضا‪ ،‬ألنه‬
‫‪1‬‬
‫حيطم قيودا ال يشعرون هبا‪ ،‬ويهاجم حمرمات مل تعد عندهم مبحرمات‪".‬‬

‫إن ما يقرره عياد بكل جرأة نقدية هو عمق األزمة املعرفية والنقدية اليت تشهدها الساحة‬
‫األدبية يف العامل العريب‪ ،‬واليت مؤداها إىل أزمة مصطلحية أوال وأزمة مفهومية ثانيا نتجت عن‬
‫اختالف جذري بني حضارتني‪ ،‬لكل منهما خصوصيته اليت مينح منها حداثته‪ ،‬أضف إىل هذا‪ ،‬ذلك‬
‫االغرتاب واالستالب الذي حيياه احلداثي العريب داخل جمتمعه فهو ال يكاد يفهم حىت من قبل أبناء‬
‫جلدته نظرا لغياب قنوات التواصل الثقايف بينه وبني مجهور قرائه‪ ،‬ما حيتم وجود خلل يف اجلهاز‬
‫املفهومي بالنسبة للقارئ العريب‪ ،‬ألن األزمة تتفرع إىل أزمة مصطلح نقدي‪ ،‬وأزمة مفاهيم جمردة‬
‫اقتطعت من سياقاهتا احلضارية لتفرغ من كل إحالة معرفية عربية‪ ،‬األمر الذي سبب حالة من‬
‫الفوضى املعرفية‪ ،‬أو قل االضطراب والغموض املعريف الذي جنم عنه أزمة يف الفهم كما يف التفسري‪،‬‬
‫ويصل األمر إىل أزمة حىت يف مستوى الكتابة سواء كانت إبداعية أم نقدية‪ ،‬يقول عياد مربزا تلك‬
‫األزمة اليت تعصف بكتابات املبدعني والنقاد‪" :‬فالكاتب منتم بفكره أو األنا العليا إىل العامل الغريب‬
‫احلديث‪ ،‬بينما هو منتم بعالقاته االجتماعية أي األنا إىل اجملتمع العريب‪ ،‬وبناء على ذلك فلن يكون‬

‫‪1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪245‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أمامه خيار حني يكتب إال أن يكتب لقارئ على شاكلته قارئ عريب ينتمي بفكره إىل العامل الغريب‬
‫‪1‬‬
‫احلديث‪".‬‬

‫إن املعضلة اليت يعاجلها عياد هي هوة االختالف العميق بني بنية الفكر العريب املعاصر‪ ،‬وبنية‬
‫الفكر الغريب‪ ،‬ألن منطلقات الثقافة الغربية ومرجعياهتا متمايزة ومتباينة عن نظريهتا العربية‪ ،‬وعملية‬
‫النقل واالقتباس احلريف ملنجزات هذه احلضارة هي ما يوقع الفرد العريب بل احلداثي العريب يف حالة من‬
‫الضياع املعريف‪ ،‬نتيجة عدم الوعي مبختلف املرجعيات واخللفيات اليت صاغت هذه احلضارة وعملت‬
‫على منوها ونضجها‪ ،‬فإفرازات هذه احلضارة بالتأكيد تكون مغايرة ملا تعاوره الفكر العريب ومنا عليه‪،‬‬
‫هذه املرجعيات واخللفيات هي اليت أوقعت احلداثي العريب يف نوع من التيه جعله يعاين استالبا على‬
‫مستوى الفكر وآخر على مستوى الوجود‪ ،‬األمر الذي أوقع احلداثة العربية فيما يشبه القلق وااللتباس‬
‫لعدم تكافؤ منجزات الذات العربية مع نظريهتا الغربية‪ ،‬إضافة إىل عمليات احلضور املعريف على ساحة‬
‫النقد العاملية "احلداثي العريب هو يف هناية األمر جزء من موقف عاملي ملتبس‪ :‬موقف عامل يريد أن‬
‫يتوحد‪ ،‬ولكن االختالفات بني أجزائه هائلة حبيث خيشى أن يفرض التوحيد عليه فرضا‪ ،‬وجزء من‬
‫موقف قومي ملتبس‪ :‬موقف ثقافة تريد أن تشارك يف صنع العامل الواحد ولكنها ال تدري كيف‬
‫‪2‬‬
‫تدخله‪ ،‬وأين مكاهنا فيه وكال املوقفني نابع من ظروف تارخيية معينة‪".‬‬

‫يعرتف عياد صراحة بأن هذه الذات القومية اليت تبحث هلا عن مكان ما يف خضم هذا‬
‫الزخم املعريف العاملي‪ ،‬إمنا يعسر عليها ذلك بل يستحيل يف ظل هذا البون الشاسع يف معايري القيم‬
‫احلضارية للذات الغربية يف جماهبة الذات العربية‪ ،‬وإذ يضع يده على موطن الداء يف جسد احلضارة‬
‫العربية‪ ،‬فإنه يف الوقت نفسه يرفد هذا اهلرم املعريف بأساسات متينة‪ ،‬رمبا تبوؤه مكانته املنوطة به على‬
‫صعيد صناعة املعرفة‪ ،‬واإلسهام يف دفع احلضارة العربية إىل مسايرة احلضارة الغربية يف عديد اجملاالت‪.‬‬

‫لعل ما حيرص عليه عياد كثريا يف تشخيصه ملسببات أزمة احلداثة العربية ‪ -‬باعتباره املنطلق‬
‫األول ألي عملية مثاقفة ومقارنة‪ -‬هي قضية املصطلح النقدي‪ ،‬اليت تعترب من أهم القضايا الشائكة‬
‫اليت تواجه فكر احلداثة وما بعد احلداثة يف اخلطاب النقدي العريب املعاصر‪ ،‬ذلك أن أزمة نقل‬

‫‪1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪. 00 :‬‬


‫نفسه ‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪246‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫املصطلح وترمجته ال تكمن فقط يف ترمجته من لغة إىل لغة أخرى حبمولته املعرفية والثقافية‪ ،‬بل ألن‬
‫املصطلح حامل لقيمة معرفية أسهمت مجلة من الشروط واملعطيات يف بلورهتا وإبرازها‪ ،‬وحامل لفكر‬
‫ترسخ يف الضمري اجلمعي والفردي لألمة اليت أنتجت ذلك املصطلح‪ ،‬لكن أهم شرطني جيب‬ ‫معني ّ‬
‫توافرمها يف املصطلح أثناء الرتمجة أو حىت أثناء التواضع عليه مها‪" :‬االتفاق واملناسبة‪ ،‬أي اتفاق‬
‫‪1‬‬
‫الطرفني اللذين يستخدمان املصطلح على داللته‪ ،‬أما املناسبة فتعين دقة الداللة‪".‬‬

‫يتتبع محمد عناني إشكالية املصطلح سواء يف الرتمجة أو التوظيف يف اخلطاب النقدي العريب‬
‫احلديث واملعاصر‪ ،‬من واقع األزمة املعرفية اليت تعصف بأسس هذا النقد‪ ،‬وما متسه األزمة املصطلحية‬
‫على صعيد املمارسة والرتمجة‪ ،‬يقول‪ " :‬وقد استفحل األمر حىت أصبح موضة فلم يعد أحد يستخدم‬
‫كلمة "مشكل" أو "مشكلة" على اإلطالق تفضيال لكلمة "اإلشكالية" وهي مصدر صناعي من‬
‫املادة نفسها وهلا معناها احملدد باعتبارها ترمجة لكلمة أجنبية هي ‪( Problematic‬املأخوذة عن‬
‫الفرنسية لفظا ومعىن)‪ ،‬واليت قد تعين القضية اليت جتمع بني املتناقضات‪ ،‬فهو يفضلها لغرابتها‬
‫وطرافتها‪ ،‬ظانا أنه بذلك ينمق أسلوبه أو ينبئ عن العلم واحلجا‪ ،‬ومل يعد البعض يستخدم كلمة‬
‫"التناول" أو "املعاجلة" أو املنهج ال بل وال دراسة‪ ،‬مفضال كلمة "املقاربة" وهي ترمجة غريبة لكلمة‬
‫‪Approach‬اإلجنليزية اليت ال تعين أكثر من أي من هذه الكلمات‪ ،‬وإن كانت قد توحي للقارئ‬
‫‪2‬‬
‫بفيض عميم من املعرفة والتبحر يف املذاهب احلديثة‪".‬‬

‫يتأتى اخلالف واجلدل دائما من نسبية احلاالت املراد معاجلتها‪ ،‬خاصة إذا تعلق األمر‬
‫باملصطلحات وكيفية داللتها‪ ،‬إذ تبقى العملية نسبية دائما‪ ،‬وال توجد مبادئ أو هنايات قارة عند نقل‬
‫املصطلح أو ترمجته‪ ،‬الشيء الذي تنبه إليه شكري عياد وهو يعاجل أهم مصطلحني الحا له‪ ،‬وهو‬
‫بصدد متابعة ومعاينة األصول املعرفية للمصطلحات والبيئة اليت أجنبت مثلها‪ ،‬ومع قناعته الراسخة‬
‫بنسبية املسألة يف وجود هذين املصطلحني يتساءل قائال‪" :‬وهل يصح مع وجود هذا االختالف‪ ،‬أن‬
‫نتحدث عن الكالسيكية أو الرومنسية‪ ..‬إخل دون أن نقيدها بأدب قومي معني وعصر معني‪ ،‬ما دمنا‬
‫نسلم أننا بصدد أمساء جمردة فيجب أن نسلم أيضا بأن االختالف وارد‪ ،‬فلم حيدث أن اجتمع عدد‬

‫‪1‬عبد العزيز محودة ‪ :‬املرايا املقعرة‪ ،‬ص‪.03 :‬‬


‫‪2‬حممد عناين‪ :‬املصطلحات األدبية احلديثة‪ ،‬دراسة ومعجم‪ ،‬إجنليزي عريب‪ ،‬الشركة املصرية العاملية للنشر لوجنمان‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ ،0002‬ص‪.8 :‬‬
‫‪247‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫من الناس ليقروا شروطا معينة يف األعمال األدبية اليت تسمى كالسيكية أو رومنسية‪...،‬إخل‪ .‬ولو‬
‫فرضنا أن ذلك حدث‪ ،‬فهل ميكننا أن نفرض أيضا أن مجيع الكتاب يف اللغات اليت تريد أن تدخل‬
‫حلبة ما يسمى األدب العاملي أعلنوا موافقتهم على هذه الشروط والتزموا هبا يف كتاباهتم‪ 1".‬إن حتديد‬
‫املفاهيم الفكرية ملثل هذه املصطلحات إمنا يتأتى عند عياد من احلمولة الفلسفية لكل مصطلح على‬
‫حدى‪ ،‬األمر الذي ينجر معه عدم وضوح الفروق املائزة هلذه املصطلحات لعدم وضوح العتبات‬
‫األوىل ملفاهيمها‪.‬‬

‫يعرف محمد غنيمي هالل املذهب األديب بقوله‪" :‬املذهب األديب جمموعة مبادئ وأسس فنية‬
‫ّ‬
‫يدعو إليها النقاد‪ ،‬ويلتزم هبا الكتاب يف إنتاجهم‪ ،‬تربط األدب يف شكله ومضمونه مبطالب العصر‬
‫وتياراته الفكرية‪ ،‬وهي لدى الداعي إليها واملنتجني على مقتضاها مبثابة العقيدة املمثلة لروح العصر‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫وهي لذلك مفروضة على الكتاب والنقاد من خارج العمل األديب ومطالب مجهوره املتوجه به إليه‪".‬‬

‫إن النظرة املتأنية اليت ميارسها عياد على سريورة املراحل النقدية احلديثة‪ ،‬تنبئ أن الرجل ّ‬
‫مترس‬
‫مر هبا النقد العريب احلديث خاصة يف‬‫يف غري انبهار بالوافد الغريب‪ ،‬مما جعله يشرح الوضعيات اليت ّ‬
‫مصر‪ ،‬فريجع يف بداية األمر‪ ،‬غياب منهج نقدي واضح يف تلك املرحلة‪ ،‬إىل ما كان معتمدا من قبل‬
‫اجلامعة املصرية آنذاك‪ ،‬وهو مقدمة طه حسين لكتابه "يف األدب اجلاهلي"‪ ،‬وهو الذي ظل مسيطرا‬
‫على الساحة النقدية مدة زمنية ليست باليسرية‪ ،‬مع أنه كان باإلمكان أن تتجه العناية إىل مؤلف‬
‫أحمد ضيف "مقدمة لدراسة بالغة العرب" السابق زمنيا وفكريا عن مؤلف طه حسني‪ ،‬مث يتناول‬
‫عياد موجة الرتمجة العاتية اليت اجتاحت الساحة النقدية املصرية آنذاك‪ ،‬واآلثار املوجبة اليت تركتها يف‬
‫املنشغلني هبذا احلقل املعريف‪ ،‬إىل أن وصل به األمر إىل اإلرهاصات األوىل للنقد اجلديد مع بداية‬
‫األربعينيات حىت الستينيات‪ ،‬ومعه أصبح ما كان يعرف بأنه نقد جديد أصبح قدميا حبكم عمليات‬
‫التجدد الكربى اليت مرت هبا الساحة الفكرية والنقدية آنذاك‪ ،‬ويعدد عياد املؤلفات النقدية يف جمال‬
‫املد البنيوي ويكتب قائال‪ ":‬وأخذ املتحمسون هلذا املذهب اجلديد يطبقونه على نصوص من األدب‬
‫العريب بدءا بامرئ القيس وانتهاء بأحدث احملدثني‪ ،‬وظهرت جملة فصول يف القاهرة عندما كان هذا‬

‫‪1‬شكري حممد عياد ‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.052 ،052 :‬‬
‫‪ 2‬حممد غنيمي هالل ‪ :‬قضايا معاصرة يف األدب و النقد‪ ،‬دار هنضة مصر للطبع و النشر‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪.5 :‬‬
‫‪248‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫النشاط يف عنفوانه (‪ )0081‬ففتحت صدرها له‪ ،‬وقرأ الناس نقدا ال يشبه ما عرفوه أو ما ظنوا أهنم‬
‫‪1‬‬
‫عرفوه‪ ،‬فاختلطت األمور عليهم‪ ،‬وساء ظنهم باألدب اجلاد‪ ،‬فنزلوا عنه راضني إىل ثلة من املثقفني‪".‬‬

‫انطالقا من هذا النص‪ ،‬نعي متاما قيمة املشكلة املعرفية واملنهجية واملصطلحية اليت عاقت‬
‫سريورة العملية النقدية العربية يف تلك املرحلة‪ ،‬فالبيئة العربية اليت استقبلت الوافد الغريب بكل زمخه‬
‫ومحولته املعرفية ومرجعياته الفكرية‪ ،‬مل تقم بتنقية هذا الوافد من كل ما من شأنه أن جيعل املثقف‬
‫العريب يف غربة واستالب فكري‪ ،‬ذلك أن املناهج على اختالفها هلا خصوصياهتا الفكرية واملعرفية اليت‬
‫البد أن تراعى أثناء عملية النقل أو الرتمجة أو التعريب‪ ،‬وعياد حبكم متثله هلذه اإلشكالية يفحص‬
‫الوضع العريب الراهن بعني الناقد احلصيف‪ ،‬الذي ال يألوا جهدا يف تقدمي املفيد والنافع مع التحذير‬
‫من الزائف والضار‪ ،‬فهو حيدثنا عن غياب املنهج العلمي يف اجلامعة العربية يف حقبة زمنية مفصلية‪،‬‬
‫وعندما يكتب عياد ذلك فهو من باب وصف ما هو كائن ووضع القارئ العريب يف الصورة النقدية‬
‫اليت كان عليها الوضع آنذاك‪ ،‬ولكي ال جيعل القارئ العريب والطالب على وجه اخلصوص يف وضعية‬
‫املضطرب فكريا ومعرفيا‪ ،‬بل يريد أن يكون حمور العملية النقدية اليت تروم البحث يف املغيّب‬
‫واملسكوت عنه‪ ،‬يقول عياد ‪":‬كان تقديري أن أنتهي من هذا الكتاب يف بضعة أشهر‪ ،‬ولكين تبينت‬
‫أن متامه كان يقتضي سياحات طويلة يف الفلسفة والعلوم اإلنسانية‪ ،‬فضال عن األدب ونقده وأهم‬
‫من ذلك أين كنت مصمما على أن أكتب كتابا عربيا لقارئ عريب‪ ،‬وأن يكون هذا الكتاب كتايب‪،‬‬
‫وأن يكون هذا القارئ مثقفا عربيا يألف تراثه‪ ،‬ويعيش حاضره‪ ،‬ويتطلع إىل أفاق جديدة‬
‫‪2‬‬
‫للمستقبل‪".‬‬

‫‪ .4‬أامة احلداثة العربية‬

‫تتأسس نظرة شكري عياد إلشكالية احلداثة العربية‪ ،‬من دافع النزوع حنو القراءة الواعية‬
‫واهلادفة إىل معرفة اخللفيات الفكرية واملرجعيات الفلسفية اليت صاغت مقوالت احلداثة الغربية‪،‬‬
‫وأفرزت هذا الزخم املعريف اهلام من املناهج واملذاهب األدبية والنقدية‪ ،‬ويضع يف حسبانه أن املذهب‬
‫أو املنهج النقدي الغريب ال جيب أن يؤخذ أو يستقبل يف الرتبة العربية دون الوعي مبختلف املرجعيات‬

‫‪1‬شكري حممد عياد ‪ :‬دائرة اإلبداع‪ ،‬ص‪.2 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.2 :‬‬
‫‪249‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اليت أسست لظهوره يف أوربا‪ ،‬وال ينبغي واحلال كذلك أن نقطع الصلة الرابطة بني املذهب األديب‬
‫وأصوله الفلسفية‪ ،‬ألن ذلك من شأنه أن يضع تلقينا له يف خانة القصور؛ ذلك ألن لكل مذهب أو‬
‫منهج خصوصيته احلضارية واملعرفية اليت يرجع إليها‪ ،‬واحلال أن عياد يعي متاما تلك األزمة املعرفية‬
‫واملصطلحية واملنهجية اليت صاحبت ظهور ما يسمى باحلداثة العربية‪.‬‬

‫يستهل عياد حديثه عن املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬جبملة من النصوص‬
‫لعدد من النقاد واألدباء العرب‪ ،‬يف وقوفهم عند حاالت االستقبال اليت متت للمشروع احلداثي‬
‫الغريب‪ ،‬وإبراز نقاط الضعف يف عملية االستقبال هذه‪ ،‬ينقل عياد مقولة للعقاد جاء فيها‪ " :‬ومن‬
‫اخلري أن تدرس املذاهب الفكرية بل األزياء الفكرية كلما شاع منها يف أوربة مذهب جديد‪ ،‬ولكن‬
‫من الشر أن تدرس بعناوينها وظواهرها دون ما وراءها من عوامل املصادفة العارضة والتدبري‬
‫املقصود"‪ ،1‬مث يعرض عياد نصا آخر للعقاد كذلك‪ ،‬وكأنه املتمم املكمل للنص السابق يف كيفية‬
‫إبراز معامل اهلوية واخلصوصية الذاتية يف مقابل اآلخر الغريب يقول العقاد‪" :‬وقد تبني أن اهلوية الواقية‬
‫كانت ألزم للعامل العريب يف هذا الدور (النصف الثاين من القرن العشرين) مما كانت يف مجيع األدوار‬
‫املاضية منذ ابتداء النهضة يف العصر احلديث‪ ،‬فإن الدعوات العاملية خليقة أن جتور على كل كيان‬
‫‪2‬‬
‫القومية وأن تؤول هبا إىل فناء كفناء املغلوب يف الغالب‪".‬‬

‫انطالقا من هذين النصني الذين افتتح هبما عياد حديثه عن املذاهب األدبية والنقدية‪ ،‬نلحظ‬
‫ذلك الوعي املبكر للعقاد مبدى خطورة االقتباس األعمى والتهافت الكبري على عناوين املذاهب‬
‫الغربية‪ ،‬دون الوعي مبصادرها وأصوهلا يف أرض النشأة‪ ،‬ألن اخلطورة الكربى إمنا تكمن يف نظر العقاد‬
‫يف االستئناس بقشور هذه املذاهب دون لباهبا‪ ،‬وحيذر من سوء العاقبة هلذا النقل الظاهري‪ ،‬ألن من‬
‫شأن ذلك أن جيعل الذات مستلبة داخليا وخارجيا‪ ،‬وجيعلها يف عملية تبعية دائمة انطالقا من مقولة‬
‫املغلوب مولع بتقليد الغالب‪ ،‬الشيء الذي يقتل فيها كل حماولة لإلبداع واالبتكار‪ ،‬وكل جتربة حية‬
‫أو إبداع أصيل‪ .‬وما ينجر عنه كذلك هو إحساس هذه الذات بالدونية والتصاغر أمام هذا اآلخر‬
‫املتعايل‪ ،‬الذي يبقى يف نظر هذه الذات رمزا لكل تقدم ورقي‪ ،‬باعتباره املركز يبقى يف مدارات‬

‫‪1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪250‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اهلامش‪ ،‬وجيعل واحلال كذلك هذه الذات حتس بنوع من االحتواء واالغرتاب‪ ،‬وتتجرد من أصلها‬
‫وتتبىن تبنيا مفرطا مشروع اآلخر وحىت أهنا تدافع عنه‪.‬‬

‫مث يعرض عياد نصوصا أخرى ليوسف الخال‪ ،‬ال تقل أمهية عن نصوص العقاد من ناحية‬
‫عرضها هلذه األزمة املعرفية‪ ،‬وحىت الوجودية اليت تتخبط فيها احلداثة العربية‪ ،‬نتيجة قلة الوعي أو‬
‫انعدامه بتلك اخلصوصية احلضارية اليت متيّز الثقافة الغربية ومن مث حداثتها عن الثقافة العربية بكل‬
‫فرادهتا‪ ،‬ويربز الخال اخلطورة الكبرية اليت تداهم احلداثة العربية يف عقر دارها‪ ،‬نتيجة تلك املركزية اليت‬
‫جر هذه الثقافات إىل مداراته ليضمن تبعيتها الدائمة له‪ ،‬ومن مث‬ ‫يتبوؤها الغرب اإلمربيايل حماوال ّ‬
‫يتسىن له إعادة تشكيلها وصياغتها كيفما شاء‪ ،‬ويربز الخال كذلك حالة الشرخ والتمزق اليت يشعر‬
‫هبا احلداثي العريب‪ ،‬وهو حياول توطني ذاته يف عامل حديث مع أنه ينتمي اجتماعيا إىل عامل قدمي‪ ،‬مما‬
‫ينجر عنه حالة من القلق املعريف اليت من شأهنا أن تزيد من حالة اإلرباك واالغرتاب‪ ،‬ألن هذا‬
‫احلداثي يعيش يف العامل القدمي بفكر حديث ويعيش عقليا يف العامل احلديث مبشكالت عامل قدمي‪،‬‬
‫وهي املعضلة اليت هنض الخال ملعاينتها ومعاجلتها مبا تتيح له وسائل البحث والتمحيص‪ ،‬ويتساءل‬
‫عياد بدوره عن حالة هذا احلداثي املأزوم وعالقته بقارئه قائال‪" :‬إذا كتب فكيف يكتب وملن يكتب؟‬
‫هل يكتب للقارئ العريب الذي يعيش مشكالت عامله القدمي فيكون أدبه بال قيمة لدى القارئ‬
‫احلديث (وهو القارئ الغريب بطبيعة احلال) أم يكتب أدبا "حديثا" جيده القارئ العريب غريبا عليه‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ويصمه بأنه مستورد؟"‬

‫الشك أن أزمة احلداثي العريب تكمن أساسا يف كيفية التعامل مع هذا الوافد من الثقافة‬
‫الغربية‪ ،‬إضافة إىل حسن توظيفه وتناوله الشيء الذي جنم عنه – مبا أن سوء التعامل هو السائد‪-‬‬
‫تأزم يف التناول وأزمة يف املعاجلة أو اإلبداع‪ ،‬مما مسح بروز نوع مغاير للعالقة اليت تربطه بقارئه‪،‬‬
‫فنتجت هذه األزمة القرائية اليت من شأهنا أن ختلق أزمة على مستوى الوعي‪ ،‬األمر الذي عجل هبذا‬
‫التمزق احلاصل على مستوى بنية الفكر وهو "متزق يف االنتماء‪ ،‬فالكاتب منتم بفكره أو باألنا العليا‬
‫إىل العامل الغريب احلديث‪ ،‬بينما هو منتم بعالقاته االجتماعية‪ ،‬أي باألنا‪ ،‬إىل اجملتمع العريب وبناء‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب‪،‬األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪251‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫على ذلك فلن يكون أمامه خيار حني يكتب‪ ،‬إال أن يكتب لقارئ على شاكلته‪ ،‬قارئ عريب ينتمي‬
‫‪1‬‬
‫بفكره إىل العامل الغريب احلديث‪".‬‬

‫تتكثف رؤية عياد إلشكالية احلداثة العربية‪ ،‬فيصل من خالل حتليالته العميقة هلذه‬
‫اإلشكالية إىل أن احلداثة العربية بقيت منضوية حتت سلطة الغرب مبا حتمله هذه الكلمة من رأمسالية‬
‫فاجنر عن ذلك‬
‫وإمربيالية جعلت احلداثة العربية ال حتيد عن املسار الذي رمسته هلا احلداثة الغربية‪ّ ،‬‬
‫خضوع كلي هلذه املنجزات‪ ،‬و ّاحماء شامل أمام هذا الوافد الذي شكل لنفسه مركزية استطاعت أن‬
‫تنفي ما عداها إىل مدار اهلامش‪ .‬ومادام األمر كذلك فإن هذه احلداثة العربية حاولت جاهدة‬
‫التخلص من أصوهلا الرتاثية‪ ،‬بداعي أن الرتاث مصدر اجلمود وأ ّن جمرد التفكري فيه يصيب الذات‬
‫العربية بالعقم والكسل‪ ،‬ناهيك عن استحالة مسايرة اآلخر يف منجزاته‪ ،‬غري أن هذه احلداثة رغم ما‬
‫تدعيه من جتاوزية‪ ،‬بقيت مشدودة حببل متني إىل املاضي‪ ،‬ومل تستطع الفكاك منه واالنعتاق من‬
‫ربقته‪ .‬وقبل ذلك تتبادر إىل الذهن مجلة من التساؤالت رمبا وضعت حجر األساس يف معاجلة هذه‬
‫اإلشكالية‪ .‬فهل احلداثة يف نسختها العربية هي حماولة لكسر هذه الصنمية والدعوة إىل المركزية‬
‫الفكر واألدب؟ وهل احلداثة العربية حداثة هنضوية؟ وإذا كان ذلك كذلك هل دعواها بالتخلص من‬
‫الرتاث والقطيعة معه هو سبيل االنطالق إىل احلداثة العاملية؟ أليس الرتاث مقوما أساسيا من مقومات‬
‫احلداثة؟ مبا ميدها من تأصيل وتأسيس للكثري من املقوالت واالصطالحات‪.‬‬

‫وسريا على النهج نفسه يتساءل عياد تساؤال جوهريا يف حتديد ماهية احلداثة العربية قائال "إذا‬
‫كانت احلداثة استمرارا للنهضة فهل تنتمي هذه النهضة إىل املاضي الذي جيب علينا أن نتخلص‬
‫‪2‬‬
‫منه‪ ،‬أم إىل املستقبل الذي حناول أن نبنيه؟"‬

‫تعيش احلداثة العربية أزمة حقيقية‪ ،‬باعتبار البون الشاسع الذي يفصل مقوالت احلداثيني‬
‫العرب عن النتائج اليت يرمون الوصول إليها‪ ،‬وذلك يف دعواهم االنسالخ التام من أصوهلم وتراثهم‬
‫ليتسىن هلم جماهبة اآلخر الغريب‪ ،‬لكن أليس ذلك نوعا من املركزية القهرية اليت توازي يف مركزيتها‬
‫الغرب وما يدعيه؟ وكيف يواجه احلداثيون العرب حداثة الغرب وهو مبتورو الصلة مباضيهم وتراثهم؟‬

‫‪1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫‪2‬نفسه‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪252‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أال ميثل ذلك نوعا من املراوغة اليت ميارسها احلداثيون العرب وحياولوا من خالهلا اإلتيان بالكثري من‬
‫احلجج‪ ،‬حىت يربروا وقوعهم يف قبضة اآلخر الغريب واإلنبطاح أمام منجزاته‪.‬‬

‫يقف عياد من خالل قراءته للحداثة العربية‪ ،‬موقف املقوم لتلك املشاريع اليت تدعي أهنا‬
‫يعري مجلة من األنساق اليت‬
‫حداثية‪ ،‬ويربز مواطن التهافت والقصور يف مجلة هذه املشاريع‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫رآها كفيلة بإبراز األسباب الداعية إىل هذا القلق وهذه األزمة‪ ،‬من منطلق أن احلداثة العربية مارست‬
‫يف الوعيها خطابا نقيضا ملا ت ّدعيه علنا‪ ،‬أي أن جانب املسكوت عنه أو النصوص الغائبة هلا‪ ،‬تكاد‬
‫تبني أن دعوهتا إىل تبين املشروع احلداثي الغريب‪ ،‬هو احلل الذي يبدو مستحيال حسب عياد ألنه‬
‫"نوع من رد الفعل العاطفي العشوائي‪ ،‬وكأنه سلوك قهري بتعبري علم النفس املرضي‪ ،‬فهو ال يستند‬
‫إىل معرفة علمية بقوة اإلسالم‪ ،‬وال بنقاط الضعف احلقيقية يف احلضارة الغربية‪ ،‬وال بشروط الصراع‬
‫‪1‬‬
‫وأهدافه يف العامل املعاصر‪ ،‬حىت ميكنه أن يكون كفئا للمعركة‪".‬‬

‫تنبين نظرة عياد يف معاجلته جلملة هذه القضايا‪ ،‬من إميانه العميق بأن الذات العربية ال سبيل‬
‫أمامها يف بلوغ ركب التقدم والتحديث‪ ،‬إال عن طريق البحث املتعمق الذي من شأنه أن يستخرج‬
‫مكنونات الرتاث اخلالدة وحيللها بكل موضوعية وحياد‪ ،‬ومن جهة أخرى يلتفت إىل املعاصرة‬
‫باعتبارها عنصرا فاعال ضمنها‪ ،‬فيحاول حماورهتا دون أن ميّحي فيها‪ ،‬ألن عملية املزج بني االجتاهني‬
‫(الرتاث واحلداثة) ليست بالعملية السهلة املنال‪ ،‬وألن احلضارة الغربية هلا خصوصيتها اليت ال تتمثل‬
‫بسهولة للذات العربية‪ ،‬ويبدو األمر صعبا ألن احلضارة الغربية "تبدو للنظر املوضوعي الصرف‪،‬‬
‫منوذجا غري جدير باالحتذاء إذا نظرنا إىل شخصية اإلنسان على أهنا اهلدف احلقيقي والنهائي ألية‬
‫حضارة‪ ،‬وقصة األمراض النفسية الشائعة يف العامل الغريب قصة معروفة وهي عالمة واحدة من‬
‫‪2‬‬
‫عالمات كثرية على قصور هذه احلضارة‪".‬‬

‫حيذر الناقد من مغبة االنغماس يف أصناف احلداثة الغربية‪ ،‬من دافع احلرص على عدم الذوبان‬
‫مسوغاهتا يف بروز هذه احلداثة‪ ،‬اليت أتت كنتيجة لثورة معرفية طالت العديد‬
‫يف هذه احلضارة اليت هلا ّ‬
‫من املواقع واملرافق وأسهمت يف إعادة تشكيل اإلنسان الغريب بكل مكونات وجوده‪ .‬ويقف موقف‬

‫‪1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.05 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪253‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫احلياد يف تشخيص احلالة املرضية – إن جاز التعبري‪ -‬للحداثي العريب‪ ،‬ومربزا دوره يف جمتمعه القطري‬
‫وكذا يف الساحة العاملية بقوله‪" :‬إن احلداثي العريب له حضوران حيرص عليهما قدر استطاعته‪ :‬حضور‬
‫يف جمتمعه العريب وحضور أمام مراكز الثقافة الغربية‪ ،‬وحضوره يف الثقافة العربية واضح‪ ،‬فهو حيارب‬
‫التخلف واجلمود يف النظم واملؤسسات كما حيطم التقاليد اللغوية والفنية وميارس أقصى ما يستطيع‬
‫من حرية يف التشكيل معربا عن شهوة اإلبداع وغرام االكتشاف يف كل جتربة جديدة‪...‬ولكن حضوره‬
‫يف الثقافة الغربية غري بارز وال مميز‪ ،‬ألن هذه الثقافة متر منذ فرتة غري قصرية بعصر من التجريب يف‬
‫كل ميادين الفكر والفن‪ ،‬يقابله انتشار غري مسبوق للثقافة املعلّبة عن طريق وسائل اإلعالم‬
‫‪1‬‬
‫اجلماهريية‪".‬‬

‫مسوغاهتا ومربراهتا اليت أوجدهتا‪ ،‬نتيجة الثورات‬


‫كما سلف التطرق إليه‪ ،‬أن احلداثة الغربية هلا ّ‬
‫اليت كانت من أسباهبا تلك املبالغة يف الفردانية‪ ،‬أو إعطاء الفرد الكثري من احلرية الرتياد كل املناطق‬
‫حمرم‪ ،‬فإذا كانت هذه مسوغات احلداثة الغربية فما مربرات احلداثة العربية؟ األمر ال يعدو‬ ‫وانتهاك كل ّ‬
‫أن يكون تقليدا من احلداثيني العرب للمشاريع الغربية‪ ،‬إن احلداثي العريب بكل بساطة مأزوم يف هناية‬
‫األمر يشكو من حالة الضياع اليت مارسها على نفسه دون أن يدري "احلداثي العريب يف هناية األمر‪،‬‬
‫جزء من موقف عاملي ملتبس‪ :‬موقف عامل يريد أن يتوحد‪ ،‬ولكن االختالفات بني أجزائه هائلة‬
‫حبيث خيشى أن يفرض التوحيد عليه فرضا‪ ،‬وجزء من موقف قومي ملتبس‪ :‬موقف ثقافة تريد أن‬
‫تشارك يف وضع العامل الواحد‪ ،‬ولكنها ال تدري كيف تدخله‪ ،‬وال أين مكاهنا فيه‪ ،‬وكال املوقفني نابع‬
‫‪2‬‬
‫من ظروف تارخيية معينة‪".‬‬

‫يصرح عياد يف غري موضع من مدوناته النقدية‪ ،‬أن احلداثة الغربية مغايرة متاما ومتمايزة عن‬ ‫ّ‬
‫نظريهتا العربية‪ ،‬لبعد الشقة بني احلداثتني من حيث األسباب والعلل املوجدة لكل واحدة منهما‪،‬‬
‫وخلصوصية احلضارة الغربية يف إفراز هذه احلداثة‪ ،‬فاملالحظ أن التباين هو سيد املوقف بني احلداثتني‪،‬‬
‫أضف إىل ذلك أن اخللفيات الفكرية واملنطلقات الفلسفية للحداثة الغربية‪ ،‬جتعلها غري قابلة‬
‫لالحتذاء واحملاكاة‪ ،‬لسعة اهلوة الفاصلة بني احلداثة الغربية ونظريهتا العربية‪ ،‬غري أن ما كان من أمر‬
‫احلداثة العربية إمنا هو تقليد يف معظم األحيان‪ ،‬للكثري من األفكار الوافدة دون وعي هبذه املنطلقات‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.08 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.08 :‬‬
‫‪254‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫واملرجعيات‪ ،‬ما حدا بعياد إىل إثبات أن "احلداثة عند القوم حداثة ثورية‪ ،‬منبتها يف املاركسية‬
‫والوجودية والالسلطوية اليت ترمجناها حسب ميلنا الفطري بكلمة "الفوضوية"‪ ،‬وأصحاب احلداثة‬
‫عندهم يعدون أنفسهم ثوريني يف الفن‪ ،‬ويدخلون أحيانا يف أحالف مع الثوريني السياسيني‪ ،‬أما‬
‫حداثتنا فقد نبتت يف تربة الضياع‪ ،‬وترعرعت يف ظل االستبداد السياسي‪ ،‬وجرت يف ذيل األساليب‬
‫الفنية الضعيفة‪ ،‬فهي ال متلك القدرة وال اجلرأة على نقض شيء من الواقع‪ ،‬إمنا قصاراها أن تفقأ‬
‫‪1‬‬
‫عينها فال تراه‪ ،‬وهي مع ذلك تتبع كل ناعق‪ ،‬وتلقي بنفسها من الرأس إىل القدمني يف كل تيار‪".‬‬

‫إن هذه اخلصوصية اليت تتسم هبا احلداثة الغربية‪ ،‬هي اليت أفرزت هؤالء احلداثيني ذوي‬
‫االنتماءات السياسية احلزبية املتباينة‪ ،‬على عكس ما هو عليه العامل العريب احلديث واملعاصر من‬
‫تقليد أعمى ملختلف املنجزات الغربية‪ ،‬األمر الذي جيعل من حماولة التفرد صعبة وعسرية‪ ،‬وذلك‬
‫الختالف الرؤى واألهداف‪ ،‬ويضيف عياد إىل أن من مجلة األسباب احلقيقية مليالد احلداثة العربية‬
‫املأزومة‪ ،‬هو انتكاسة ‪ 0022‬وما صاحبها من تشظ ٍي على مستوى بنية الوعي والفكر العريب‪ ،‬ما‬
‫جعل الشك ينسرب إىل كيان الفرد العريب ويفقده الثقة يف نفسه ويف قادته‪ .‬األمر الذي جعل املثقف‬
‫العريب ينتهج سبيل الغموض واإللغاز سبيال للتعبري عن سخطه ونفوره من هذا الواقع املزري‪ ،‬باعتبار‬
‫أن التعبري عن احلقيقة غدا أمرا مستعصيا بل مستحيال يقول عياد‪" :‬هذا القلق الفكري لدى األديب‬
‫الشاب‪ ،‬قلق يقرب من الشك يف وجود احلقيقة أو إمكان الوصول إليها‪ ،‬يوازيه قلق فين نابع من أن‬
‫الشكل القادر على التعبري عن أفكاره‪ ،‬وهو شكل معقد بالضرورة‪ ،‬ال يصل إىل اجلماهري العريضة‬
‫(رضوى عاشور كاتبة قصة) وكثري من الكتاب الشبان يشعرون بعبثية الكتابة عن قضايا اجلماهري يف‬
‫‪2‬‬
‫حني أن اجلماهري ال تعرف القراءة‪".‬‬

‫إشكال آخر يتناوله عياد بشيء من احلسرة‪ ،‬على تلك القامات الفارعة يف مساء األدب‬
‫والنقد العربيني الذين مل حيسن استغالهلم وانبتّت الصلة بني اجليل األول أو جيل الرواد‪ ،‬وبني جيل‬
‫الشباب‪ ،‬مما ولّد حالة من الضياع املعريف على كافة األصعدة‪ .‬وجنم عنه هتوين من شأن هؤالء فبات‬
‫منتوجهم بضاعة كاسدة نافقة يقول عياد على لسان غالي شكري‪" :‬إن مثة انقطاعا تارخييا بني هذا‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬دائرة اإلبداع‪ ،‬ص‪.021 :‬‬


‫‪ 2‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.51 :‬‬
‫‪255‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وطوره كما تلقف نعمان‬ ‫اجليل واألجيال السابقة‪ ،‬لقد تلقف مندور يف املاضي حلم طه حسني ّ‬
‫عاشور حلم توفيق احلكيم وطوره‪ ،‬ولكن اجليل اجلديد أقبل واألحالم تتساقط الواحد بعد اآلخر هذا‬
‫إذن جيل ثورة ‪ 53‬وهذا قدره التارخيي‪ .‬لقد بدأ يلعب بالقلم حني كان اجلو مليئا بالصياح والتهليل‪،‬‬
‫وعندما ثبت القلم بني أصابعه كان اجلو مليئا بالصراخ والعويل‪ ،‬وكان عليه أن حيمل أوزار السابقني‬
‫‪1‬‬
‫ويسري بال دليل‪".‬‬

‫إن هذه القطيعة املعرفية من شأهنا أن تنشئ جيال من األدباء‪ ،‬ال هم ينتمون إىل جيل الرواد‬
‫بتطلعاهتم وآرائهم‪ ،‬وال هم أسسوا ألنفسهم موضعا نقديا يسريون عليه‪ ،‬إمنا تقطعت هبم األسباب‬
‫فال هم اقتدوا وال قادوا‪.‬‬

‫يتتبع عياد مظان احلداثة العربية سواء احلداثة الشعرية أم احلداثة النقدية‪ ،‬فيؤسس ملرحلة‬
‫البدايات اليت عرفتها الساحة اإلبداعية العربية فيعدد الكثري من املنابر العلمية واجملالت والدوريات‬
‫اليت أسهمت يف بلورة وإشاعة ما عرف فيما بعد حبداثة الشعر يف مصر ولبنان‪ ،‬بصفتهما موطن‬
‫احلداثة العربية بال منازع‪ ،‬ويستقصي األسباب الكامنة وراء بلورة هذا الوعي اجلديد انطالقا من‬
‫مر بإرهاصات أولية م ّكنت فيما‬‫معطيات مغايرة ملا كان سائدا‪ ،‬على اعتبار أن مولد احلداثة العربية ّ‬
‫بعد من ظهور هذا التيار‪ ،‬وأول ما ظهر يف لبنان يقول عياد‪ ":‬وكانت الرتبة اللبنانية هي األكثر‬
‫مناسبة لنمو حداثة عربية‪ ،‬فقد كان لبنان طوال اخلمسينيات والستينيات بل وإىل بدء متزقه يف أواسط‬
‫السبعينيات معرضا متجددا وباهرا لكل املذاهب الفكرية واألدبية اجلديدة‪ ،‬ولذلك استطاع أن‬
‫‪2‬‬
‫يتجذب األصوات الشابة يف شىت األقطار العربية‪".‬‬

‫كما يرى عياد أن ميالد احلداثة العربية إمنا مت يف ظروف مغايرة متاما ملا هو حاصل يف أوربا‪،‬‬
‫بل إن األمر ليبدو مناقضا متاما ملا هو عند اآلخر الغريب‪ .‬ويف حتديده ملاهية املذهب األديب وكيفية‬
‫اتساعه ليشمل التيار احلر الذي تكوثر فيما بعد حتت مسمى الشعر احلر‪ ،‬يكتب عياد قائال‪" :‬ال‬
‫يتم معىن املذهب كحركة أدبية ما حىت تكون هلا نظرة معينة إىل الكون واجملتمع وموقف الشاعر أو‬
‫الكاتب املبدع منهما‪ ،‬وهلذا يقوم النقد بوظيفة مهمة يف تكوين املذهب‪ ،‬إذ إنه يشارك اإلبداع يف‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.50 :‬‬
‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫‪256‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حتديد النظرة واملوقف"‪ .1‬مث يوضح عياد ماهية احلداثة إ ْن على الصعيد الفكري أو االجتماعي‬
‫ويدفع من جراء ذلك إىل عدم اخللط بني حدود املفاهيم واملصطلحات فيقول‪...":‬فاحلداثة مثل‬
‫الواقعية االشرتاكية وخبالف الشعر احلر‪ ،‬مذهب أديب له جذوره الفكرية وليس جمرد منط شكلي لغوي‬
‫‪2‬‬
‫أو ظاهرة اجتماعية أدبية‪".‬‬

‫لعل ما ينعاه عياد على يوسف الخال ‪ -‬باعتباره رائدا من رواد احلداثة العربية على الصعيد‬
‫اإلبداعي والنقدي‪ -‬هو دعوة الخال مجاهري احلداثيني إىل التمسك جبملة من املبادئ األساسية‪ ،‬اليت‬
‫صاغها عقب توليه رئاسة حترير "جملة شعر"‪ ،‬ومن ضمن هذه املبادئ "وعي الرتاث الروحي – العقلي‬
‫العريب وفهمه على حقيقته وإعالن هذه احلقيقة وتقييمها كما هي دومنا خوف أو مسايرة أو تردد‬
‫والغوص إىل أعماق الرتاث الروحي العقلي األوريب وفهمه وكونه‪ ،‬والتفاعل معه وكذلك اإلفادة من‬
‫التجارب الشعرية اليت حققها أدباء العامل واالمتزاج بروح الشعب ال بالطبيعة‪ ،‬فالشعب مورد حياة ال‬
‫‪3‬‬
‫تنضب أما الطبيعة فحالة زائلة‪".‬‬

‫ال جيد عياد بدا من التعليق على هذه املبادئ‪ ،‬اليت دعا إليها الخال من ضمن املبادئ اليت‬
‫احتكمت إليها "جملة شعر" باعتبارها من أوليات احلداثة العربية على مستوى اإلبداع الشعري‪ ،‬غري‬
‫أن ما يأخذه عياد على الخال هو هذا التماهي واالحماء والذوبان يف منجزات اآلخر الغريب‪ ،‬بدعوى‬
‫أهنا من لوازم تطور اإلبداع والنقد‪ .‬واحلال أن عياد يرفض رفضا قاطعا هذا السلوك مع الرتاث الغريب‬
‫ويرى أن مسألة سرب كنه الرتاث قضية قدمية قدم احلركات النقدية العربية يقول‪ ":‬لكن الدعوة إىل أن‬
‫صرح هبا صاحبا‬‫يصبح األدب العريب جزءا من األدب اإلنساين وال يبقى منعزال يف تراثه‪ ،‬دعوة قدمية ّ‬
‫الديوان يف تقدميهما هلذا الكتاب ‪ -‬املشروع سنة ‪ ،0030‬غري أننا نالحظ اختالف النربة‪ ،‬فهي هنا‬
‫أكثر حدة‪ ،‬مع شبه اهتام للرتاث العريب‪ ،‬فالدعوة لفهم الرتاث مقرتنة بالدعوة إىل تقييمه "دومنا خوف‬
‫أو مسايرة أو تردد" وكأن املتوقع إدانة ال تقييم‪ ،‬يف حني أن الدعوة إىل االتصال بالرتاث األوريب ال‬
‫تقنع مبا دون "الغوص إىل أعماقه"‪ ،‬حبيث ينتهي فهمنا إياه إىل أن "نكونه" أي أن نصبح جزءا منه‪،‬‬
‫وهذا أشد ما يكون من "التفاعل"‪ ...‬وإذا أصبح إبداعنا الشعري جزءا من الرتاث الفعلي الروحي‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪ 2‬نفسه ‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 ،22 :‬‬
‫‪257‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫العقلي األوريب فسيكون من الطبيعي أن نفيد من التجارب اليت حققها الشعراء األوربيون‪ ،‬أي أن‬
‫‪1‬‬
‫حنتذيها‪ ،‬ألهنا‪ ،‬وقد "حتققت" أصبحت هلا قوة النموذج بالنسبة لتجاربنا اليت مل تتحقق بعد‪".‬‬

‫ال يقف عياد عند عتبات التحذير من خطورة االنبطاح أمام اآلخر الغريب بكل ما يصاحب‬
‫هذه العملية من دونية وصغار‪ ،‬إمنا يشن حربا على أولئك الشعراء احلداثيني العرب الذي ظلوا‬
‫يبشرون هبذه احلداثة الغربية‪ ،‬وكأهنا اخلالص األزيل لكل معضالت اإلبداع عندنا‪ ،‬أضف إىل ذلك أن‬
‫عياد ال جيد مسوغا معرفيا لكي نسقط تبعات هذه احلداثة الغربية على إبداعاتنا العربية‪ ،‬ويرجع ذلك‬
‫يف نظره إىل تباين مسببات الظهور‪ ،‬فاحلداثة الغربية إمنا كانت نتاجا هلذه الثورة اليت أحدثها اإلنسان‬
‫على مجلة من القيم كانت سببا يف ختلفه وشقائه‪ ،‬فكانت الثورة إذن مبثابة املخلّص من براثن هذه‬
‫التقاليد والطقوس‪.‬‬

‫أما حداثتنا املزعومة فتختلف عن هذه احلداثة يف األسباب كما يف املرامي واألهداف‪ ،‬إذ‬
‫املسوغات الغربية‬
‫السؤال الذي يلح على اإلجابة هنا هو‪ :‬ما مربرات احلداثيني العرب أمام تلك ّ‬
‫لظهور احلداثة عندهم؟ وهل حقيقة قام احلداثيون العرب بثورة حىت يتسىن هلم التشدق هبذه املنجزات‬
‫رده على دعاوى أدونيس‬ ‫اليت هي أصال منجزات مهربة من اآلخر الغريب‪ .‬يقول عياد يف معرض ّ‬
‫برفضه شعر احملافل اليت كانت تنظمها أجهزة اإلعالم‪ ،‬على اعتبار أن الشعر التجرييب العريب هو‬
‫وحده الشعر الثوري‪ ،‬يقول عياد‪" :‬هل نقول إذن إن احلداثة العربية انطوت على شيء من خداع‬
‫النفس؟ هل نقول إن هذه احلداثة إذ تصف نفسها بالثورية ال تريد يف احلقيقة إال أن تتخذ واجهة‬
‫مناسبة أمام النظم "الثورية" يف العامل العريب؟ هل نقول إن شعراء احلداثة العربية‪ ،‬وهم شعراء النخبة‬
‫(واقع الميارون فيه) إمنا يقدمون زادا كالميا هلذه النخبة(مبختلف انتماءاهتا الطبقية والوطنية) تغذي به‬
‫سخطها على واقع اجتماعي تعلم‪-‬رغم متتعها فيه‪ -‬أنه فاسد ومرشح لالهنيار؟ هل نقول ‪ -‬أكثر‬
‫من هذا‪ -‬إن دعوى "عربية" احلداثة ‪ -‬هذه احلداثة‪ -‬دعوى زائفة‪ ،‬ألهنا ال تزيد على أن تنقل إلينا‬
‫مفاهيم احلداثة الغربية‪ ،‬بل مفاهيم "حداثة" معينة‪ ،‬حداثة الغريب‪ ،‬والالفت‪ ،‬واملثري‪ ،‬بعد أن انقضى‬
‫عهد ّرواد احلداثة احلقيقيني أمثال‪ :‬بودلري ورامبو وإزراباوند‪ ،‬ود‪.‬هـ‪ .‬لورنس‪ ،‬ووب‪.‬ييتس‪ ،‬وجيمس‬
‫جويس‪ ،‬وت‪.‬س‪ .‬إليوت‪ ،‬الذين شككوا أبناء احلضارة الغربية يف قيّم هذه احلضارة‪ ،‬وهي نفسها اليت‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪258‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يبشر هبا حداثيونا هؤالء باسم احلضارة اإلنسانية‪ ،‬وهي بالفعل حضارة إنسانية‪،‬ألهنا جعلت اإلنسان‬
‫مصدر القيم كلها‪ ،‬فانتهت بأن أصبحت اآللة اليت اخرتعها اإلنسان لتهيئ له مزيدا من القوة أو‬
‫‪1‬‬
‫مزيدا من السعادة‪ ،‬سببا لشقائه ورمبا لدماره‪".‬‬

‫آثرنا أن نثبت هذا النص ‪ -‬على طوله‪ -‬لنربز مدى تربم عياد هبذه الصيحات النابية اليت‬
‫يتنكبها بعض احلداثيني العرب يف كيفية النهل من اآلخر‪ ،‬وإن كانت تلك العملية نوع من املصادرة‬
‫والتجديف الذي قد تقع فيه الذات الناقلة‪ ،‬بعد أن أثبتت هذه احلضارة حمدودية روايتها‪ ،‬ومن مث‬
‫إعادة الثورة عليها حىت من قبل أبنائها لتذمرهم من منجزاهتا وإفرازاهتا‪ ،‬حىت أصبح اإلنسان الذي‬
‫كان مصدرا لكل القيم واملبادئ‪ ،‬عبارة عن آلة تسببت يف دفعه حنو أتون الشقاء بل قل الدمار كما‬
‫ذهب إىل ذلك عياد‪.‬‬

‫تتجه عناية الناقد إىل حتسس مفاصل التواشج اليت تربط بني احلداثة يف نسختها العربية‪ ،‬وبني‬
‫بعض ما دعت إليه يف الواقع من دافع التجاوز والتطور‪ ،‬ألن من األهداف األساسية هلذه الصيحة‬
‫اإلبداعية أو النقدية‪ ،‬أن تقف جسرا واصال بني ما مت إجنازه يف املاضي وما ينتظر أن ينجز من قبلها‪.‬‬
‫ذلك ألن من مقاصد الفن هو خلق هذه االسرتاتيجيات اجلمالية اليت ختلق من الواقع فنا‪ ،‬لكنه فن‬
‫يتجاوز ما هو موجود ويتطلع إىل ما جيب أن يكون‪ ،‬فاألدب "احلداثي مهما يكن مضمونه‪ ،‬أدب‬
‫رافض‪ ،‬والرفض معناه أال نستسلم للواقع الكاحل‪ ،‬واحلداثة – من املنظور الفين أيضا‪ -‬ظاهرة صحية‪،‬‬
‫ألهنا تعطي الفن قيمته احلقيقية‪ ،‬قيمته التنبؤية‪ ،‬الكشفية‪ ،‬اجلسور وتنتشله من وهدة الدعاية‬
‫الرخيصة‪ ،‬ولكن ما فيها من صحة هو ما وجد ويوجد دائما يف كل فن جيد‪ ،‬وما انفردت به من‬
‫‪2‬‬
‫غرابة أو إدهاش أو غموض مفتعل هو بعض مظاهر حضارة القرن اليت لن تدوم‪".‬‬

‫تستمر هذه املعاجلة النقدية من قبل عياد يف تبيان مدى إسهام احلداثة يف نقل عملية الوعي‬
‫من املمكن إىل الكائن‪ ،‬وذلك بإبراز مجلة من احملاسن اليت من شأهنا أن تدفع بالعملية النقدية‬
‫واإلبداعية إىل ارتياد مناطق قصية مل تتجه العناية إليها من قبل‪ ،‬وهذه العملية اليت أسهمت يف‬
‫تشكيل منظورات مغايرة ملا هو سائد واستبداهلا الشك باليقني واالبتداع بالتقليد‪ .‬غري أن األمر ال‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.20 ،28 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪259‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يسري دائما حنو هذه الغايات إذ قد تقتل احلداثة "نفسها عندما ترسخ قدمها‪ ،‬فمعىن ذلك أن تصبح‬
‫القراء والكتاب‪ ،‬أي أن تصبح تقليدا‪ ،‬وإذا أصبحت احلداثة تقليدا فإهنا لن‬
‫هلا قواعدها املتعارفة عند ّ‬
‫تفقد معناها فقط‪ ،‬بل ستشيع يف اجلمهور اليأس من كل شيء‪ ،‬احلداثة معرب إىل تقاليد أفضل‪ ،‬أو‬
‫هناية ملذهب وبداية ملذهب آخر‪ ،‬ولعل مجيع عصور األدب شهدت حداثة من نوع ما‪ ،‬ولكن حداثة‬
‫‪1‬‬
‫عصرنا طالت أكثر من العادة ألننا نعيش يف فرتة خماض طويل‪".‬‬

‫تعد احلداثة إذن من منظور عياد ذلك األلق الذي يومض دوما‪ ،‬بل يذهب يف تعليله هلا على‬
‫أهنا وجدت عرب كل عصور األدب بشيء من التفاوت واألمهية واإلسرتاتيجية‪ ،‬ومن مث تتباين‬
‫مفهوماهتا بني باحث وآخر وبني ناقد وناقد آخر‪ ،‬ذلك أهنا – أي احلداثة‪ -‬ترفض االستقرار‬
‫والثبات‪ ،‬وإال أصبحت منطا قتل نفسه بنفسه‪ ،‬إمنا تعرف احلداثة حركية دائمة ودائبة ألجل عملية‬
‫التجاوز والعبور وهي يف الوقت ذاته حركة ال هتدأ‪ ،‬وما إن تتجاوز حىت ختلق من ذاهتا مذهبا أو‬
‫اجتاها يريد هو نفسه أن يعرب ويتجاوز ما هو كائن‪ ،‬واحلداثة هبذا املعىن ليست حركة آنية ارتبط‬
‫ظهورها بظروف معينة‪ ،‬بل دعوة إىل التمرد على كل قاعدة أو مذهبية‪ ،‬ألن حتديدها يوازي موهتا‬
‫والقضاء على روح اإلبداع واالبتكار فيها‪ ،‬أو هي ذلك املشروع الذي مل يكتمل‪" .‬إن احلداثة نزوع‬
‫دائم لالبتكار وجوهر متواصل قابل لالستئناف والتواتر واالطّراد‪ ،‬إن احلداثة هبذا املعىن تظل‬
‫‪2‬‬
‫مصطلحا شامال يضم حتت قبته الواسعة أغلب حركات التجديد يف األدب والفن‪".‬‬

‫ومادامت احلداثة يف حركة دائمة‪ ،‬فإهنا ال تعرف االستقرار واهلدوء‪ ،‬ألهنا نتاج فرتات زمنية‬
‫متباعدة فيما بينها‪ ،‬ومل تعرف الظروف نفسها للوجود‪ ،‬على اعتبار أهنا وليدة ظروف معينة خاصة يف‬
‫أوربا‪ ،‬أملتها تلك السياقات الدينية الكنسية (حماكم التفتيش)‪ ،‬ويف األدب هي ثورة على تلك‬
‫املمارسات الشعرية اجلامدة‪ ،‬بعدما حتول اإلنسان إىل آلة أو قطعة غيار أو قل تشيأ وفقد جانبه‬
‫الروحي‪ ،‬ما حدا باملبدع الفرد إىل أن حييا غريبا يف جمتمعه فكان دائما "جيد هبجة يف االلتحام ببعض‬
‫االجتاهات الفلسفية التشاؤمية الصوفية والنزعات اإلشراقية السرية والنهلستية (العدمية) والعبثية‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 2‬فاضل ثامر‪ :‬مدارات نقدية (يف إشكالية النقد و احلداثة و اإلبداع)‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬العراق‪ ،‬ط‪،0082 ،0‬‬
‫ص‪.081 :‬‬
‫‪260‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫والوجودية وغريها"‪ .1‬إذ من أهم اإلجتاهات الفلسفية احلداثية‪ ،‬هذه التيارات العقلية‪ ،‬والعبثية اليت‬
‫‪2‬‬
‫تؤطر احلداثة الغربية‪.‬‬

‫تعترب حركة النقد األديب من أكثر احلركات تطورا ومنوا على الساحة العربية كما الساحة العاملية‪،‬‬
‫وذلك بسبب تطور املناهج النقدية واملذاهب األدبية‪ ،‬اليت تدفع بالعملية النقدية إىل ارتياد مناطق‬
‫جديدة واستكشاف جماهيل حديثة مل تتجه العناية إليها من قبل‪ ،‬ضمن املناهج اليت يتم جتاوزها‪،‬‬
‫باعتبار أن املناهج تتفاوت فيما بينها من ناحية قصور اآلليات وجناعتها وفاعليتها‪ ،‬وحتتل حركة النقد‬
‫العريب احلديث واملعاصر أمهية بالغة من حيث املنطلقات والغايات‪ ،‬ذلك أهنا من أثرى فرتات النقد‬
‫العريب على إطالقه إضافة إىل حجم املادة النقدية املؤلفة يف هذا العصر أقصد القرن العشرين‪ ،‬وهو ما‬
‫وقف عنده صالح فضل ضمن دراسة أجراها على مدونات النقد العريب وعدد نقاده عرب العصور‬
‫األدبية فتوصل إىل نتيجة مفادها" أن هناك عصرين ذهبيني للنقد األديب‪ ،‬مها القرن الرابع اهلجري‬
‫والعشرون امليالدي‪ ،‬تكثفت فيهما نسبيا أعداد النقاد وتعددت مؤلفاهتم يف دراسة األدب وظواهره‬
‫‪3‬‬
‫املختلفة‪".‬‬

‫وهي نتيجة توصل إليها الناقد من خالل عملية إحصاء شاملة لكل عصور النقد األديب‬
‫العريب‪ ،‬فكانت مبثابة املفاجأة للكثري من النقاد العرب ويأيت صالح فضل على رأس هؤالء‪ ،‬والسبب‬
‫كما هو ّبني من هذه احلركة النقدية اليت ال تكاد هتدأ يف كل مناهج الدراسات‪ ،‬سواء ما كان منها‬
‫مشدودا إىل الرتاث أو ما متّ تلقيه من اآلخر الغريب‪ ،‬ولنا يف املوجة األخرية ملناهج النقد العريب خري‬
‫دليل‪ ،‬حيث قطعت أوربا أشواطا كبرية يف جمال النقد األديب‪ ،‬من اللساين إىل األسلويب مرورا بالبنيوي‬
‫مث السيميائي مث ما بعد احلداثي‪ ،‬ممثال يف اسرتاتيجية التفكيك ونظريات القراءة والتلقي إىل غري ذلك‬
‫من مناهج قد تند عن احلصر‪ .‬وقد متت عملية مواكبة هذا الزخم الفكري والنقدي من قبل النقاد‬
‫العرب احملدثني‪ ،‬فمنهم من انبهر هبذا الوافد إىل حد التماهي معه والذوبان فيه‪ ،‬ومنهم ‪ -‬وهم القلة‪-‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.022 :‬‬


‫‪ 2‬حول ارتباط احلداثة الغربية بأهم هذه التيارات الفكرية واملذاهب الفلسفية‪ ،‬ينظر على سبيل التمثيل‪ :‬جياين فاتيمو‪ :‬هناية‬
‫احلداثة‪ ،‬الفلسفات العدمية والتفسريية يف ثقافة مابعد احلداثة (‪ ،)0082‬تر‪ :‬فاطمة اجليوشي‪ ،‬وزارة الثقافة دمشق‪،0008 ،‬‬
‫ص‪.22،30:‬‬
‫‪3‬صالح فضل‪ :‬يف النقد األديب‪ ،‬منشورات احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،3112 ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪261‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫من مت له معاينة هذا الوافد ووضعه على حمك النقد املوضوعي الذي ينسلخ عن تراثه‪ ،‬ويف الوقت ذاته‬
‫ال يتشبث به حبيث يصري عبدا له‪ ،‬إمنا كانت العملية النقدية عند بعض النقاد احملدثني‪ ،‬مبثابة اجلسر‬
‫الواصل بني القدمي واجلديد أو بني األصالة واملعاصرة‪ ،‬وقلة هم كذلك النقاد الذين رأوا يف عملية‬
‫املزاوجة مبا للذات من تراث مع ما عند اآلخر الغريب‪ ،‬لينتج عنه مسايرة هذا الوافد دون إحداث‬
‫قطيعة معرفية مع تراثه‪ ،‬باعتباره رمز أصالته وانتمائه‪ .‬ونسري مع الدكتور صالح فضل يف نتيجته اليت‬
‫مؤداها" أن كبار النقاد العرب‪ ،‬املؤثرين يف تطوير اخلطاب النقدي ملن جاء بعدهم ميثلون غالبا أحواال‬
‫"مفصلية"واضحة‪ ،‬تلتقي فيها األعراف الثقافية املهجنة‪ ،‬البعيدة عن نظرية الصفاء الفكري واألصالة‬
‫الرافضة للتطعيم‪ ،‬فأكثر العلماء حرصا وحفاظا على التقاليد القومية املتوارثة ال يضيف شيئا يعتد‬
‫به‪،‬وال يعترب عالمة دالة على مسار التطور العلمي واملعريف‪،‬وأصحاب التأثري احلقيقي هم الذين تتم‬
‫‪1‬‬
‫على أيديهم أبرز التحوالت املعرفية واملنهجية‪".‬‬

‫يصدر صالح فضل عن رؤية تقابلية بني منطني من النقاد العرب‪ ،‬فئة تلوذ باملاضي بكل ما‬
‫ينطوي عليه هذا املاضي من تراث وأصالة دون أن حتيد عنه‪ ،‬وفئة رأت اخلالص واملالذ فيما عند‬
‫اآلخر الغريب من منجزات فولّت وجهها شطره‪ ،‬وميمت حنوه‪ ،‬وتبقى الفئة الثالثة اليت ال ترى يف تراثها‬
‫عيبا من شأنه أن ميارس نوعا من النكوص على الذات ومل تشح بوجهها عن منجزات هذا اآلخر‬
‫الغريب‪ ،‬إمنا حاولت جاهدة التوفيق بني ما لديها وما لدى اآلخر‪ ،‬لتسهم يف حركة النقد األديب‬
‫العاملي من منطلق سنة التطور اإلنساين‪ ،‬وال جيد صالح فضل أية فائدة فيمن يرفض تطعيم الثقافة‬
‫الغربية ويلوذ دائما قافال إىل املاضي التليد‪ ،‬ألن من شأن أمثال هؤالء أن يصيبوا حركة النقد بنوع من‬
‫التكلس واجلمود املفضي إىل املوت‪ ،‬بل جنده ينتصر ولو ضمنا ألولئك النقاد اجلسور الذين أسهموا‬
‫يف جمال النقد فتميز النقد هبم كما متيزوا هم به‪ .‬يأيت من بني هؤالء يف اجليل األول أو جيل الرواد‪،‬‬
‫الدكتور طه حسين ويليه ناقد من النقاد اجلسور الذين ربطوا املاضي باحلاضر والرتاث باحلداثة وهو‬
‫الدكتور شكري حممد عياد‪.‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.02 ،02 :‬‬


‫‪262‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .1‬حنو مشروع تأسيس حداثة عربية‬


‫ميكننا توصيف النظرة النقدية للحداثة الغربية اليت اتصف هبا شكري عياد بأهنا نظرة متحيص‬
‫وانتقاء؛ ألن الرجل مل يكن ممن ساروا يف هذا الركب جملجلني ومهللني مبنجزاهتا بعيدا عن إرثهم‬
‫وثقافتهم ومرجعياهتم‪ ،‬إذ ال يعدو أن يشكل هلا ما ميكن تسميته بشروط استقبال احلداثة‪ ،‬اليت تضع‬
‫يف اعتباراهتا مبدأ اخلصوصية العربية‪ ،‬وحياول يف اآلن نفسه تأسيس رهانات هلذا الوافد انطالقا من‬
‫الثقافة العربية ذاهتا‪ ،‬فهو يساير األصوات املعتدلة اليت سبقته يف التنظري ملنجزات احلداثة العربية من‬
‫أمثال أعمال الباحث إلياس خوري وغريهم‪ ،‬يقول عياد‪" :‬مل يكن مثة ما يعوق انتشار احلداثة‬
‫كمذهب فين حمض إىل مجيع أقطار العامل العريب‪ ...‬وهكذا أصبحت احلداثة عقيدة فنية لدى النخبة‬
‫املثقفة وشباب الفن يف مشرق العامل العريب ومغربه‪ ،‬وقد ختتلف صفات هذه النخبة يف بلد عريب عن‬
‫آخر‪ ،‬ولكنها تشرتك يف شيء واحد على األقل‪ ،‬هو أهنا تشعر شعورا حادا بسقوط احللم العريب‪،‬‬
‫وعجزها املطلق عن احلركة الفاعلة‪ ،‬هذه احلالة من اإلحباط تدفعها إىل البحث عن اخلالف يف‬
‫الفن‪ ...،‬وهكذا أصبحت احلداثة خمرجا مناسبا من حالة الضياع اليت يسقط فيها جيل الثورة‬
‫‪1‬‬
‫واألجيال التالية‪".‬‬
‫يؤسس شكري عياد مفهومه للحداثة انطالقا من رفضها الواقع العريب املعيش وحماولة تغيريه‪،‬‬
‫غريت املسار العقلي والفين للنخبة العربية‪،‬‬
‫خاصة عقب النكسة العربية يف حزيران ‪ 0022‬واليت ّ‬
‫وانكسار هذا احللم وتالشيه هو ما حتّم تبديل الرؤى والوسائل من أجل اجملاوزة واخلروج من ربقة‬
‫النظام القدمي والتقاليد البالية‪ ،‬إن مبتغى الناقد يرجع يف أسبابه إىل مؤثرات خارجية حبتة‪ ،‬كانت‬
‫املرة اليت‬
‫الذات العربية مسرحا لتأثرياهتا‪ ،‬أقصد أن عوامل النكسة وما صاحبها من معرفة احلقيقة ّ‬
‫وتعرف هذه الذات على كينونتها وهويتها‪،‬‬‫تعانيها الثقافة العربية على كثري من األصعدة وامليادين‪ّ ،‬‬
‫هو ما أجرب هذه الذات على اخلروج من شرنقتها القدمية‪ ،‬وحماولتها مواكبة الركب واستثمار مسببات‬
‫التجاوز والنجاح‪ .‬وال يتأتى هلا ذلك إال باستبدال العقل بالنقل واحلديث بالقدمي واالنفتاح بالتعصب‬
‫وغريها‪ ،‬مث يضع عياد مجلة من الشروط يتحتم على النخبة العربية أن تأخذ هبا إن هي أرادت‬
‫املسايرة وليس االنصهار‪ ،‬على اعتبار أن خطاب احلداثة كان "رفضا قاطعا للتقاليد الفنية السابقة‪،‬‬
‫بل رفضا أيضا لفكرة التقاليد نفسها‪ ،‬وتأكيدا للحركة املستمرة يف الفن‪ ،‬كالثورة املستمرة يف السياسة‪،‬‬

‫‪1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪263‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ومن هنا كان اللقاء بني احلداثة –ممثلة يف السريالية‪ ،‬مث رفضها للسريالية والرتتسكية‪ ،‬كما التقت‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫بوصفها إيديولوجية النخبة بالفاشية وإزراباوند أوضح مثال‪".‬‬
‫ال يتسرب أي شك بأن احلداثة يف نسختها العربية انطالقا من نظرة عياد إليها هي حداثة‬
‫مأزومة‪ ،‬ووجه األزمة يكمن يف كيفية صياغة حداثة عربية تنفي عن نفسها كل أسباب الرجعية‬
‫والدوغمائية‪ ،‬بل ما هو منوط بالنخبة العربية هو عملية التجاوز والتحاور‪ ،‬أعين بالتجاوز حماولة‬
‫التقدم وعدم االلتفات كثريا إىل املاضي الذي رمبا كان السبب يف انتكاسة وتراجيدية العقل العريب‬
‫احلديث واملعاصر‪ ،‬باعتبار الطابع القداسي الذي حظي به مستوى التناول‪ ،‬والذي كان يف الكثري من‬
‫األحيان انكفاء عنه وتكلس فيه‪ .‬وأعين بالتحاور كيفية استثمار املنجزات الغربية على الصعيد‬
‫املصطلحي والنقدي والثقايف‪.‬‬
‫إن موضع الداء الذي يروم عياد معاجلته يف وقوفه على مكامن األزمة ومظاهنا‪ ،‬يكمن يف‬
‫"ازدواجية الوالء" كما يقول عبد العزيز حمودة‪2‬؛ ذلك أن احلداثيني العرب مل يستطيعوا التحرر من‬
‫سلطان املركزية الغربية على صعيد املصطلح والنقد واألدب والثقافة‪ ،‬فهم مل يوفقوا إىل هذا التجاوز‬
‫املدعى أو املنشود‪ ،‬بل باتوا مقلدين للمركزية الغربية يف الكثري من منجزاهتا‪ ،‬وعالجا هلذه األزمة بل‬
‫وتعريفا هبا‪.‬‬
‫أعتقد أن أزمة احلداثي العريب كما عاجلها شكري عياد ‪ -‬بلباقة وذكاء‪ -‬هي أزمة وجود‬
‫(انطولوجيا)‪ ،‬وجود احلداثي العريب يف ثقافته وأمته‪ ،‬ووجوده هناك يف العامل الغريب‪ ،‬فإذا كان التيار‬
‫األول جنح يف ختطي احلدود اجلغرافية والثقافية‪ ،‬واستلب ماهيات هذه األمم املغلوبة‪ ،‬فإن الضفة‬
‫األخرى مل تنجح حىت على أرضها وأمام قرائها يف بلورة مفاهيمها الطالمسية وإلغازها املغرق يف‬
‫التجريد‪ ،‬ألن األزمة مل تعد يف كيفية أن نكون حداثيني أو ال‪ ،‬إمنا يف عملية متثل اآلخر وصهره يف‬
‫ثقافة الذات مبا خيرجها من مستنقعها اآلسن‪ ،‬لكن شيئا من هذا مل حيدث يف اعتقاد عياد‪ ،‬الذي‬
‫راح يشرح أسباب األزمة انطالقا من حضور كل حداثي يف موطنه وانطالقا من وظيفته ثانيا أمام أمته‬
‫وثقافته وثالثا على مستوى ماهية األمة العربية وتركيبتها االقتصادية والعقدية‪.‬‬

‫‪1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.20 ،21 :‬‬


‫‪2‬عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا احملدبة ‪-‬من البنيوية إىل التفكيك‪،-‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫إبريل ‪ ،0008‬ع‪ ،323‬ص‪.23 :‬‬
‫‪264‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ترجع مجلة من املواقف النقدية عند شكري عياد إىل متثله مقوالت احلداثة الغربية‪ ،‬وفهمها‬
‫بعيدا عن كل اإلكراهات واإلرغامات العقدية والدينية‪ ،‬فالرجل يعي متاما املنطلقات الفكرية‬
‫والفلسفية هلذه احلداثة‪ ،‬ويف الوقت نفسه يفقه وجودها انطالقا من تفكيكها داخليا‪ ،‬ألن مبتغى‬
‫احلداثة الغربية عنده ونتائجها اليت توصلت إليها‪ ،‬أهنا أحلت اإلنسان حمل الدين‪ ،‬يقول‪":‬حىت أمكن‬
‫أن نفهم العقيدة املسيحية حول صلب املسيح وقيامته فهما أسطوريا على أهنا ترمز إىل جتديد احلياة‪،‬‬
‫أو اقرتان املوت باحلياة‪ ،‬على أن هذا التحول الفكري اخلطري يف الثقافة الغربية مل يقف عند هذا‬
‫احلد‪ ،‬بل اندفع بتأثري التقدم املذهل يف العلوم البيولوجية إىل حد إرجاع املقدسات والغيبيات إىل‬
‫‪1‬‬
‫جسم اإلنسان‪".‬‬
‫أقره عياد من حقائق‪ -‬بغض النظر عن موافقتنا له أم ال‪ -‬تربز اإلشكالية‬ ‫وسريا على ما ّ‬
‫األساس يف فكر احلداثة الغربية‪ ،‬وأزمة الوجود اإلنساين والعقل الغريب‪ ،‬ذلك أن مقوالت احلداثة‬
‫الغربية راعت مجلة السياقات الثقافية لإلنسان الغريب‪ ،‬وأزمته العقلية فكانت احلداثة بالنسبة له –‬

‫اإلنسان الغريب‪ -‬مبثابة املخلص من تراكمات العصور األوربية األخرية حيث يرجع األمر إىل ثالثة‬
‫قرون خلت‪ ،‬فالسياق الثقايف األوريب‪ ،‬والغريب بشكل عام‪ ،‬غري السياق الثقايف العريب على اإلطالق‪،‬‬
‫وما ميايز السياقني أكثر مما جيمعهما‪ ،‬ذلك أن أزمة الفكر الغريب أزمة عقل وإنسان وفلسفة‪ ،‬يف حني‬
‫أن أزمة اإلنسان العريب أزمة هوية وثقافة ووجود يف آن‪.‬‬
‫وتأسيسا على هذا‪ ،‬ينربي عياد مناهضا للمشروع املتشظي للحداثيني العرب‪ ،‬ويقف موقفا‬
‫مقوما وممحصا جتارهبم يف النقد واألدب‪ ،‬وهو موقف أقل ما يقال عنه أنه واع حبقيقة األزمة املعرفية‬
‫واملفهومية اليت طالت املشاريع األدبية احلداثية‪ ،‬هذه األزمة اليت أبانت عن شرخ عظيم بني دعاة‬
‫احلداثة العرب ومجهور متلقيهم وقرائهم‪ ،‬إذ تزداد اهلوة عمقا بني املبدع وقارئه‪ ،‬الذي يف أحوال كثرية‬
‫يكون هو يف واد ومتلقي إبداعه يف واد آخر‪ ،‬ملن يكتب املبدع؟ كيف يقرأ القارئ النص اإلبداعي‬
‫احلداثي؟ ما هي لغة اإلبداع احلداثية؟ كل هذا ما جعل عياد يقرر‪":‬بأن الكاتب منتم بفكره أو األنا‬
‫العليا إىل العامل الغريب احلديث‪ ،‬بينما هو منتم بعالقاته االجتماعية أي باألنا إىل اجملتمع العريب‪ ،‬وبناء‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.22 ،22 :‬‬
‫‪265‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫على ذلك فلن يكون أمامه خيار حني يكتب‪ ،‬إال أن يكتب لقارئ على شاكلته‪ ،‬قارئ عريب ينتمي‬
‫‪1‬‬
‫بفكره إىل العامل الغريب احلديث‪".‬‬
‫إن هذه االزدواجية يف التمثل واملمارسة هي ما خلق حالة من العمى النقدي واإلبداعي يف‬
‫املشروع احلداثي العريب‪ ،‬وهي األزمة ذاهتا اليت طالت كل مشاريع التحديث العربية‪ ،‬نظرا للحاجز‬
‫املعريف واملفهومي بني قطيب العملية التواصلية‪ ،‬الكاتب والقارئ‪ ،‬وبني مرتكزات الثقافة العربية احلديثة‬
‫واملعاصرة‪ ،‬ممثلة بأهم مصطلحني تتداوهلما الساحة النقدية العربية يف املدة األخرية‪ ،‬األصالة‪/‬املعاصرة‪.‬‬
‫الشك أن هذين املصطلحني قد أسيء فهمها من قبل العديد من احلداثيني العرب‪ ،‬ذلك أن‬
‫املصادرة اليت حلقت باملعىن والداللة املرتبطة بكال املصطلحني‪ ،‬والفوضى املعرفية اليت صاحبت‬
‫وجودمها‪ ،‬نتج عنها حالة من التأزم يف ضبط املفهوم وحصره‪ ،‬وبقي املفهومان عائمان يف دوامة‬
‫الالمعىن والالمفهوم‪ ،‬وانزاح تعرفيهما‪ -‬بوصفهما مصطلحني مركزيني ‪ -‬إىل مراتب خلفية أرجعت‬
‫املعىن إىل المعىن‪ ،‬يقول عياد‪ ..." :‬فهذه األقلية اليت يردد الكثري من أفرادها‪ ،‬شعار األصالة‬
‫واملعاصرة ال حتقق معىن هاتني الكلمتني وال كيفية اجلمع بينهما بأكثر من حرف العطف‪ ،‬ورمبا أصبح‬
‫‪2‬‬
‫هذا الشعار مبتذال عند أكثرهم اآلن ولكنهم ال يقدمون لنا عوضا عنه شيئا أفضل‪".‬‬
‫يرتكز شكري عياد يف تفريقه بني مفهوم األصالة واملعاصرة على كم معريف هام‪ ،‬عملت‬
‫حقول شىت على بلورته وإبرازه ألن الناقد ميتح من روافد تراثية صاغت رؤيته النقدية ملثل هذه‬
‫املفاهيم‪ ،‬ويعي متاما حجم األزمة املصطلحية اليت يتخبط فيها النقد العريب املعاصر اليوم‪ ،‬انطالقا من‬
‫دعوى النـزوع إىل النظرة املستقبلية اليت ما فتئ احلداثيون العرب يرددوهنا على أمساع قرائهم طيلة‬
‫نصف قرن من الزمن‪ ،‬غري أن هذه اجلدلية املفهومية املتمثلة يف األصالة واملعاصرة‪ ،‬يرجعها مفكر‬
‫عريب آخر إىل استحالة التمييز والتفريق بينهما‪ ،‬إذ املفهومات من التالحم والتشاكل حيث يعسر‬
‫الفصل بينهما‪ ،‬يقول علي حرب‪ ..":‬التعاصر ال يعين بالضرورة تكبيل الفكر وتقييده‪ ،‬فاألصالة هي‬
‫مبتدأ املعاصرة وماضيها الذي ال ينفك حيضر‪ ،‬وهي أساسها الراسخ وغورها األعمق‪ ،‬واملعاصرة هي‬
‫البعد اجملهول يف األصول وإمكاهنا الالمرئي‪ ،‬ومعانيها املكنونة وزمنها اآليت‪ ،‬إهنا األصول منظورا إليها‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫نفسه‪ ،‬ص‪ ،05 :‬وحول القضية نفسها يراجع علي حرب‪ :‬مداخالت‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪266‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫بعني جديدة‪ ،‬فاملعاصرة منتهى األصالة‪ ،‬واألصالة جوهر املعاصرة ولذا فإن التقدم هو استكمال‬
‫‪1‬‬
‫واستعادة‪".‬‬
‫إن املعاجلة النظرية واملمارسية تكشف ال حمالة عن الجدوى التشدق مبصطلحات حداثية‬
‫غريبة عن ثقافتنا وهويتنا‪ ،‬األمر الذي ينجر عنه ضياع املعامل البارزة ملوروثنا النقدي والبالغي واألديب‪،‬‬
‫بدعوى القطيعة االبستيمية على الرتاث‪ ،‬وهو حال أغلب احلداثيني العرب‪.‬‬
‫إن النربة احلامسة اليت أدىل هبا عياد تنم عن وعي مبدى األزمة اليت يعانيها نقاد احلداثة اليوم‪.‬‬
‫غري أنه ال يكلف نفسه معاجلة هذه اإلشكالية‪ ،‬األصالة املعاصرة‪ ،‬معاجلة شاملة تضع احلدود‬
‫املفهومية والتجريدية بني املفهومني اللغزين‪ ،‬إمنا يكتفي مبعاينة األزمة وصفيا‪ ،‬أما يف الشق الفكري‬
‫فإن علي حرب يف رده على الجابري حول إشكالية ّ‬
‫تكون العقل العريب‪ ،‬فينفذ إىل جوهر القضية‬
‫ويتحسس وشائج التضام اليت تلتحم فيها األصالة باملعاصرة من جانب منطقي حبت ومن باب‬
‫‪2‬‬
‫التجربة اإلنسانية كذلك‪.‬‬
‫‪ .1‬موقفه من احلداثة العربية‬
‫ينفرد شكري عياد يف موقفه من احلداثة العربية باعتباره الناقد العريب الرصني‪ ،‬الذي وقف‬
‫موقفا وسطا من إجنازات العقل العريب يف اتصاله مبنجزات احلضارة الغربية‪ ،‬ويف معرض حديثه عن‬
‫تعريفات احلداثة العربية ممثلة يف أعمال بعض احلداثيني العرب‪ ،‬ويف تعقيبه عن ردود فعل البعض‬
‫منهم يكتب ردا على يوسف الخال‪ ،‬عندما أثبت حالة الفصام احلاد بني املاضي واحلاضر ويؤكد أن‬
‫" التناقض بني كوننا شكال يف العامل احلديث وكوننا جوهرا يف خارجه يضطرنا إىل معاناة قضايا‬
‫‪3‬‬
‫جمتمع قدمي يف عامل حديث ومعاناة عامل حديث يف جمتمع قدمي‪".‬‬
‫يكتب عياد عن حالة الشرخ اليت أصابت األنا جراء عملية التماس األوىل من االحتكاك‬
‫باحلداثة الغربية‪ ،‬واليت جنم عنها ازدواجية يف املواقف النقدية وكذلك اإلبداعية‪ ،‬يقول عياد "فالقاعدة‬
‫أن الكاتب يكتب لنوع واحد من القراء‪ ،‬إذا وجد نفسه يفكر يف نوعني خمتلفني إىل حد التناقض‬

‫‪ 1‬علي حرب‪ :‬مداخالت‪ ،‬ص‪.23 :‬‬


‫‪ 2‬حول القراءة اليت أجنزها حرب ملشروع نقد العقل العريب للجابري‪ ،‬ينظر‪ :‬علي حرب‪ ،‬مداخالت‪،‬الفصل‪ :‬انفتاح العقل أم‬
‫انغالقه‪ ،‬والفصل‪ :‬الطموح إىل نقد معريف للعقل العريب‪.‬‬
‫‪3‬يوسف اخلال‪ :‬حنن والعامل احلديث‪ ،‬احلداثة يف الشعر‪ ،‬بريوت‪ ،0028 ،‬ص‪.5 :‬‬
‫‪267‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫فالبد أن يشعر بالتمزق حقا‪ ،‬ولكن هذا التمزق مل يبدأ من وقت الكتابة‪ ،‬لقد وجد من قبل ذلك‬
‫حتما‪ ،‬وميكننا أن نقول إنه متزق يف االنتماء‪ ،‬فالكاتب منتم بفكره أو باألنا العليا إىل العامل الغريب‬
‫احلديث بينما هو منتم بعالقاته االجتماعية أي باألنا يف اجملتمع العريب‪ ،‬وبناء على ذلك فلن يكون‬
‫أمامه خيار حني يكتب إال أن يكتب لقارئ على شاكلته‪ ،‬قارئ عريب ينتمي بفكره إىل العامل الغريب‬
‫احلديث"‪.1‬‬
‫تتنـزل مقوالت عياد حول انبهار املثقف العريب مبنجزات اآلخر الغريب‪ ،‬يف حقل معريف يؤول‬
‫إىل وقوف األنا منبهرة هبذا الوافد الغريب فتنبطح يف استقباله وتلقيه‪ ،‬بينما يلوذ فريق آخر مبنجزات‬
‫الرتاث العريب النقدي والبالغي قصد االحتماء به والفرار إليه‪ ،‬بصفته املخلّص من حلظات الضياع‬
‫والفراغ والتشظي اليت متارس على هذه األنا‪ ،‬ويف الوقت نفسه تقف طائفة أخرى موقف الوسطية من‬
‫هذه القضية فتأخذ من الرتاث دون أن تتصنم فيه ويف منجزاته‪ ،‬وتأخذ كذلك من منجزات احلضارة‬
‫الغربية يف غري إسراف وابتذال‪ ،‬إمنا تؤخذ األمور مبقدار بني هذا وذاك‪ ،‬ويف السياق ذاته يكتب رافضا‬
‫كل تعصب للقدمي بصفته السابق إىل هذه املنجزات ألنه "ال يتفق مع منهجنا‪ ،‬منهج "املنظور‬
‫التارخيي" الذي يسجل املتغريات كما يسجل الثوابت‪ ،‬ويعرتف بالنسيب كما يعرتف باملطلق‪ ،‬ويرتكز‬
‫‪2‬‬
‫على الوعي باحلاضر بدال من تقديس املاضي‪".‬‬
‫ما من شك يف أن دعوة عياد إىل األخذ مبنجزات الرتاث‪ ،‬إمنا جتلت يف دفاعه الدائم عن هذا‬
‫املوروث وعدم الذوبان يف هذا الوافد‪ ،‬لكن بشرط أن ال تتحجر يف هذه الرتاثيات بدعوى األصالة‪،‬‬
‫إمنا جيب التجاوز مبا خيدم احلضارة العربية من قدميها إىل حديثها‪ ،‬يصف عياد حالة الفوضى‬
‫واالضطراب اليت حصلت مع بدايات املد احلداثي البنيوي‪ ،‬واليت كانت سببا يف تبادل التهم والرزايا‬
‫ووسم بعضهم بعضا بشىت أساليب النعوت النابية‪" :‬فهنا اقرتبنا من دائرة "املصاحل" حيث ال رمحة وال‬
‫إنصاف‪ ،‬هنا تتبادل االهتامات بسهولة فيكون "إليوت" ومن حنا حنوه رجعيني‪ ،‬ويكون الواقعيون‬
‫االشرتاكيون عبيدا‪ ،‬ويكون الوجوديون طغمة من الربجوازية الصغرية املتعفنة والصورة أشبه بتلك‬
‫الرسوم املختلطة اليت تقدمها الصحف يف أركان التسلية‪ ،‬حتتاج إىل شيء من احلذق‪ ،‬وأن يكون يف‬
‫يدك قلم رصاص حىت تتبني معامل األرنب والذئب واحلمل‪...‬وال تلبث أن تكشف ما هو أطرف‪،‬‬

‫‪1‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ ،‬ص‪.0 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪268‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫فكل فريق يتعمد التشويش على خصمه باستخدام مصطلحاته نفسها فاإلليوتيون والوجوديون‬
‫‪1‬‬
‫يتهمون املاركسيني بأهنم رجعيون‪ ،‬واملاركسيون يرمون خصومهم مجيعا بأهنم خدام السلطة‪".‬‬
‫إن حالة الفوضى واالضطراب اليت رمسها الرجل‪ ،‬جتلت أكثر مما كانت عليه يف السابق‪،‬‬
‫خاصة عندما اشتد الصراع بني أقطاب هذه االجتاهات واملدارس‪ ،‬وجتلى ذلك مع ظهور جملة فصول‬
‫القاهرية اليت واكبت هذا التحول يف بداياته‪ ،‬فكانت مسرحا رحبا هلذه االهتامات وقبل ذلك كانت‬
‫مرتعا خصبا لتجريب آليات هذه املناهج على تراثنا العريب القدمي‪ ،‬يؤرخ عياد هلذا بقوله‪..." :‬وأخذ‬
‫املتحمسون هلذا املذهب اجلديد يطبقونه على نصوص من األدب العريب‪ ،‬بدءا بامرئ القيس وانتهاء‬
‫بأحدث احملدثني وظهرت جملة فصول يف القاهرة عندما كان هذا النشاط يف عنفوانه ‪ 0081‬ففتحت‬
‫صدرها له‪ ،‬وقرأ الناس نقدا ال يشبه ما عرفوه‪ ،‬أو ما ظنوا أهنم عرفوه‪ ،‬فاختلطت األمور عليهم‪ ،‬وساء‬
‫‪2‬‬
‫ظنهم باألدب اجلاد‪ ،‬فنـزلوا عنه راضني إىل ثلة من املثقفني‪".‬‬
‫اجنر عن هذه الوضعية سوء فهم كبري‪ ،‬أسهم يف اغرتاب النقد عن القارئ العريب يف تلك‬
‫لقد ّ‬
‫احلقبة وحىت اآلن‪ ،‬نظرا للخلط الكبري على مستوى اجلهاز املفاهيمي واملصطلحي‪ ،‬الذي أسس له‬
‫سوء الفهم والتمثل‪ ،‬وحماولة ركوب موجة احلداثة من قبل الكثري من النقاد احلداثيني العرب يف‬
‫بدايات األمر‪ ،‬الشيء الذي انسرب عنه استباحة حلمى الرتاث وحماولة تقطيع أوصاله‪.‬‬
‫يف الوقت الذي حصلت فيه عملية االنبهار بكل ما هو وافد من اآلخر الغريب‪ ،‬وقع احلداثيون‬
‫العرب يف احملظور – املغلوب مولع بتقليد الغالب‪ -‬فكان أن أدار احلداثيون العرب ظهورهم للرتاث‬
‫متعالني عليه‪ ،‬ألنه يف نظرهم مصدر التخلف واالحندار‪ ،‬فنادوا مبمارسة تلك القطائع املعرفية معه‬
‫لعلهم يظفرون بشيء من الرقي يوصلهم إىل مصاف احلضارات الراقية‪.‬‬
‫يعلق عبد العزيز حمودة حول حالة الشرخ اليت أصابت العقل العريب ممثال يف حداثييه قائال‪:‬‬
‫"إن التحول يف اجتاه احلداثة مث ما بعد احلداثة الغربيتني خلق الفراغ بقدر ما أكده‪ ،‬فشعار القطيعة‬
‫املعرفية مع الرتاث خلق فراغا أدى إىل تبين الفكر الغريب كبديل مللء الفراغ اجلديد‪ ،‬ويف الوقت نفسه‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع ‪ ،‬ص‪.83 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.2 :‬‬
‫‪269‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫خلو الساحة الثقافية العربية من فكر لغوي ونقدي ناضج‪ ،‬مث إن‬
‫فإن التحول احلداثي كان يعين ّ‬
‫‪1‬‬
‫الفوضى اليت جاءت مع احلداثة وما بعد احلداثة‪ ،‬خلقت هي األخرى فراغا جديدا وأكدته‪".‬‬
‫إال أن هناك فريقا آخر من النقاد العرب احملدثني يرى يف عملية التبادل الفكري والتالقح‬
‫الثقايف عملية تأسيسية مليالد حداثة عربية‪ ،‬تستثمر ما لديها وتتلقى ما لدى اآلخر‪ ،‬لتشكل لديها‬
‫نوعا من الفعالية والوجود‪" :‬ليست احلداثة تقليدا أعمى (للغرب يف حالتنا) كما أهنا ليست إنكارا‬
‫واستبعادا لآلخر‪ ،‬إهنا إعادة تكوين األنا والذات‪ ،‬بغية انتعاشها اإلنساين وتفتحها‪ ،‬إهنا حوار مستمر‬
‫مع اآلخر‪ ،‬بغية تطوير هذه األنا وهذه الذات‪ ،‬حبيث حيقق هذا احلوار مع اآلخر جوهر الصفات‬
‫‪2‬‬
‫اإلنسانية ويرقى باألنا وباآلخر إىل اإلحياء واالنبعاث‪".‬‬
‫‪ .1‬كيف يكون النقد علما‬
‫يرتكز موقف عياد من قضايا النقد احلديث من دافع النزوع حنو توصيف منهجي للعملية‬
‫النقدية برمتها‪ ،‬إذ بعد أن يسرد مواقف النقاد من العمليات التحليلية والتقوميية اليت خيضعوهنا‬
‫للفحص والتحليل‪ ،‬وبعد أن يقف موقفا متباينا بني نقاد من طراز إليوت وإيفورونترز حول ماهية‬
‫النقد عند كل واحد منهما‪ ،‬وكذا وظائف النقد املنوطة به‪ ،‬خيلص إىل أن من وصل إىل مشكلة‬
‫علمية النقد هو الناقد اإلجنليزي نورثروب فراي الذي باشر قضية علمية النقد بدقة‪ ،‬دون أن مينع‬
‫نفسه من الوقوع يف مطب إصدار بعض األحكام املبهمة يف نظر عياد‪.‬‬
‫يشدد عياد على ضرورة أن يضع الناقد يف حسبانه مجلة من الضوابط والشروط هي اليت ترهن‬
‫العملية النقدية برمتها‪ ،‬ويضع عياد ثالثة أزواج أو ثنائيات هي الكفيلة بإبراز العملية النقدية‪ ،‬وهي‬
‫على التوايل‪ :‬العلم‪ ،‬الفن‪ ،‬األحكام العامة‪ ،‬األحكام اخلاصة‪ ،‬التقومي‪ ،‬التفسري‪ .‬مث ال يلبث أن جيري‬
‫بعض التقابل بني هذه األزواج‪ ،‬من قبيل وضع العلم مع األحكام العامة مع التقومي ويف املقابل يضع‬
‫الفن مع األحكام اخلاصة مع التفسري مع شيء من الشرح املستفيض‪ ،‬الذي ينم عن حتكم واطالع‬
‫واسعني يف جمال النقد وارتباطه بالفن من جهة والعلم من جهة أخرى‪ ،‬مزاوجا بني علمية النقد‬
‫وقيميته‪ ،‬مراوحا بني الفن والعلم يف الكثري من األحيان ذلك‪ ":‬أن كل فن‪ -‬مهما يكن ذاتيا أو‬

‫عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا املقعرة‪ ،‬ص‪.005 :‬‬


‫‪1‬‬

‫مجال شحيد‪ ،‬وليد قصاب‪:‬خطاب احلداثة يف األدب األصول واملرجعية‪ ،‬دار الفكر‪،‬دمشق‪ ،‬ط‪،3115،0‬ص‪.80 ،88 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪270‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مستهدفا ملتعة منتجه أو مستهلكه‪ -‬البد له من االعتماد على جتارب سابقة‪ ،‬وحصيلة هذه‬
‫التجارب هي اليت ينظمها العامل يف قواعد أو قوانني‪ ،‬ولكن النقد ‪-‬رمبا خلصوصية يف مادته وهي‬
‫األعمال األدبية – ال يقر دائما بضرورة هذه القوانني‪ ،‬ومن مث يستبدل هبا الناقد الفنان معيارا وسطا‬
‫‪1‬‬
‫بني الذاتية واملوضوعية‪ ،‬بني التجديد واإلطالق وهو معيار الذوق‪".‬‬
‫أما حني يتناول قضية عالقة النقد جبملة القيم اليت تدور يف فلكه‪ ،‬فإنه ينفي عن نفسه‬
‫‪-‬باعتباره ناقدا قيميا‪ -‬كل ّاحماء يف بوتقة املاركسية أو النقد املاركسي‪ ،‬الذي يتناول النقد على أساس‬
‫أنه مجلة من القيم مرتبطة بعالقات اإلنتاج االقتصادي‪ ،‬يقول عياد" ينبغي أن ال يفهم من ربطنا‬
‫رد القيم إىل علة واحدة وهي عالقات‬ ‫القيم حبالة اجملتمع أننا ملتزمون مبا يلتزم به املاركسيون من ّ‬
‫اإلنتاج يف اجمل تمع‪ ،‬فليس يف كالمنا ما مينع من أن تكون للقيم حقيقة ثابتة وإن تدخل اجملتمع يف‬
‫‪2‬‬
‫إظهار بعضها وإخفاء بعضها اآلخر وتشويهه‪".‬‬
‫خيلص عياد يف تناوله هلذه الثنائيات النقدية متمثلة يف الفن والعلم واألحكام العامة واخلاصة‬
‫والتقومي والتفسري‪ ،‬إىل أن هذه القضايا ال ميكن أن تعاجل أفقيا وسطحيا وإمنا جتب املعاجلة رأسيا‬
‫وعموديا‪ ،‬ليتسىن للناقد الباحث الوقوف عند كل اجلزئيات اليت تعاجلها موقفا‪ ،‬متأنيا حيتاج معه‬
‫الناقد إىل بسط كل قدراته وكفاءاته يف حماولة التفريق حينا‪ ،‬والتوليف أحيانا أخرى بني هذه املسائل‬
‫اليت متس الصميم من العملية النقدية‪ ،‬يقول‪ ":‬ال يكون املسلك الصحيح يف تناول هذه املسائل‬
‫أفقيا‪ :‬العلمية أو الفنية‪ ،‬مث األحكام العامة أو األحكام اخلاصة‪ ،‬مث التقييم أو التفسري‪ ،‬بل يف تناوهلا‬
‫بطريقة رأسية حبسب موقف الناقد‪ :‬فهناك موقف علمي تعميمي تقييمي‪ ،‬وهناك موقف فين‬
‫ختصيصي تفسريي‪ ،‬وكال املوقفني نابع من ظروف حضارية تشمل األحوال السياسية واالقتصادية‬
‫مردها يف النهاية‬
‫للمجتمع كما تشمل املعتقدات وطريقة التفكري وأمناط السلوك الشائعة فيه‪ ،‬أي أ ّن ّ‬
‫‪3‬‬
‫إىل القيم السائدة يف اجملتمع‪".‬‬
‫مييز عياد بني منطلقات العملية النقدية الكالسيكية ونظريهتا الرومنسية‪ ،‬بل حىت مرامي كل‬
‫مدرسة منهما ناهيك عن منطلقاهتا املعرفية‪ ،‬فإذا كانت الكالسيكية حتتكم إىل مجلة من الشرائط‬

‫شكري حممد عياد ‪ :‬دائرة اإلبداع ص‪.02 :‬‬


‫‪1‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.00 :‬‬


‫‪2‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪. 31 :‬‬


‫‪3‬‬

‫‪271‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫والقواعد يف عملية النقد‪ ،‬وتنظر يف مدى مسايرة املبدعني والشعراء هلذه القواعد وعدم اخلروج عنها‪،‬‬
‫فإن الرومنسية ختلصت من هذه الشروط والقواعد‪ ،‬وأبقت على املبدع حرا يتمتع بقسط غري يسري‬
‫من تداعي األفكار‪ ،‬قصد سرب غور النص وحماولة الوقوف عند اجلماليات املنثنية دخل رحم هذه‬
‫النصوص‪..." .‬والرومنسية‪ ،‬مثل الكالسيكية ليست موقفا نقديا أو أدبيا فحسب‪ ،‬ولكنها فكر‬
‫وفلسفة وسياسة وأخالق أيضا ونظرهتا التحررية – املعاكسة للنظرة الكالسية‪ -‬تعرب عن موقف‬
‫‪1‬‬
‫إنساين قابل ألن يتكرر كلما هتيأت الظروف املناسبة لظهوره‪".‬‬
‫حتت عنوان النقد الكالسي‪ ،‬يتتبع عياد املؤثرات املنطقية والفكرية اليت عمل أرسطو على‬
‫مر العصور‪ ،‬وتلك القواعد الصارمة اليت جيب االحتذاء هبا‪ ،‬ألهنا متثل‬
‫إشاعتها بني مجهور النقاد على ّ‬
‫النواة أو حجر الزاوية يف جل العملية النقدية الكالسيكية‪ ،‬ويسهب يف حتديد تلك اآلثار اليت خلفها‬
‫كتاب "فن الشعر" ألرسطو يف قوافل النقاد العرب بدءا بقدامة بن جعفر ومرورا بالقاضي الجرجاني‬
‫يعرج عياد‬
‫وانتهاء بحازم القرطاجني‪ ،‬ويف كل مرحلة من هذه املراحل املهمة يف تاريخ نقدنا العريب‪ّ ،‬‬
‫على أهم املقوالت النقدية اليت صاغتها عملية التأثري األرسطي يف هؤالء النقاد العرب‪ ،‬وكذا إبراز‬
‫مناحي التأثري‪ ،‬خاصة على مستوى التنظري النقدي للشعر العريب‪ ،‬مربزا يف الوقت ذاته القسمني‬
‫البارزين لفريق النقاد العرب مقسمني إىل نقاد نقليني وعقليني‪ ،‬وموضحا بشيء من اإلسهاب مواقف‬
‫الفريقني ومواطن القوة والضعف اليت طبعت أعماهلم النقدية‪ ،‬غري أن عياد جيعل من كال الفريقني‬
‫مسوه جمموعة من القواعد اليت جيب أن يلتزمها‬
‫كالسيني "‪...‬أي أهنم يتصورون النقد علم الشعر كما ّ‬
‫الشعراء كلهم‪ ،‬ولعل هذه السمة املشرتكة بني الفريقني راجعة إىل أهنم عاشوا يف ظل جمتمع ذي قيم‬
‫ثابتة‪ ،‬والثبات هنا ال يعين القوة دائما‪ ،‬وإمنا يعين أننا ال نعثر على أية حماولة جادة إلحالل قيم أخرى‬
‫‪2‬‬
‫حمل تلك القيم‪".‬‬
‫عرج على قضية النقد الكالسي والنقد الرومنسي‪ ،-‬قضية أخرى غاية يف‬ ‫يعاجل عياد ‪-‬بعد أن ّ‬
‫األمهية على مستوى العملية التطورية للنقد‪ ،‬وهو ما يقصده بعلمية النقد‪ ،‬اليت اصطلح عليها النقاد‬
‫األوربيون يف احلضارة الغربية من أيام شكسبير وهوجو‪ ،‬ما أصبح يشكل عائقا يف تالحم التفسري مع‬
‫التقييم‪ .‬وبعد أن نفض عياد يديه من تلك املقابالت احلادة (التقييم‪/‬التفسري‪ ،‬األحكام اخلاصة‪/‬‬

‫شكري حممد عياد‪ :‬دائرة اإلبداع ‪ ،‬ص‪.31 :‬‬


‫‪1‬‬

‫نفسه ‪ ،‬ص‪. 32 :‬‬


‫‪2‬‬

‫‪272‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األحكام العامة‪ ،‬العلم‪ /‬الفن‪ .‬خيلص إىل نتيجة مؤداها " إن هناك درجات من العلمية‪ ،‬كما أن هناك‬
‫درجات من التعميم ودرجات من التقييم‪ ،‬وإن مقاييس العلمية والتعميم والتقييم ميكن أن تتغري‪ ،‬مع‬
‫افرتاض أهنا‪ -‬بوجه عام‪ ،-‬تتغري حنو األفضل حبكم تقدم العقل البشري‪ .‬وهكذا ميكننا‪ -‬من املنظور‬
‫التارخيي‪ -‬أن نالحظ قرب النقد إىل حد كبري من درجة "العلمية" لدى الكالسيني‪ ،‬وقربه من هذه‬
‫‪1‬‬
‫الدرجة إىل حد أقل لدى الكالسيني اجلدد‪ ،‬مع بقاء املقياس واحدا يف احلالني"‬
‫‪ .1‬مفهوم الذوق‬
‫ال يبتعد عياد كثريا يف معاينته لقضية علمية النقد من عدمها‪ ،‬حىت يطرق حقال معرفيا ال يقل‬
‫أمهية عن سابقه ذلك ما عاينه الناقد حتت مسمى "الذوق" وهل يشكل الذوق مانعا يف ممارسة‬
‫العملية النقدية على النصوص اإلبداعية؟ أم أن هذا االصطالح ملتحم حبيث يصعب معه الفصل‬
‫بني العلم والذوق‪ ،‬يكتب عياد موضحا ماهية الذوق‪ ،‬ومكانته وكذا خطورته إن صح القول‪":‬‬
‫فالذوق عند اجلميع معيار للنقد وهدف يف الوقت نفسه‪ :‬معيار مرن‪ ،‬ويف هذا تكمن مزيته وخطورته‬
‫معا‪ ،‬وهدف ألن وظيفة الناقد غري وظيفة احملكم يف املسابقات األدبية‪ ،‬فالناقد كاتب يتجه إىل‬
‫‪2‬‬
‫مجهور‪ ،‬ومهمته هي أن يساعد هذا اجلمهور على تذوق األعمال األدبية‪ ،‬أو أن يريب ذوقه‪".‬‬
‫تتحدد من خالل هذا النص ماهية النقد عند عياد باعتباره أساسا للمعرفة النقدية‪ ،‬وال ميكن‬
‫أن يستغين عنه أي ناقد مهما أويت من آليات املناهج احلداثية‪ ،‬فإن هذه امللكة تبقى ذات قيمة ال‬
‫ميكن جتاوزها أو حتييدها‪ ،‬وبعد أن يبسط عياد رؤيته حول املناهج النقدية‪ ،‬يصرح بأن النقد األديب‬
‫يف طريقه ألن يصبح علما وذلك بتطوير مفهوم الذوق‪ ،‬وبعد أن فصل القول يف النظريات الكالسية‬
‫والرومنسية خلص إىل أن عملية الفصل بني الذوق والعلم ال تتم هبذه البساطة الساذجة‪ ،‬وإال بقيت‬
‫عملية النقد مبهمة ال تفي بالغرض املنوط هبا ويصل إىل أن "دراسة األدب عند الكثرة الغالبة من‬
‫طالبه وأساتذته دراسة علمية بائسة يائسة‪ :‬فإما أن تكون عربدة فكرية صرحية باسم "الذوق"‪ ،‬وإما‬
‫أن تكون هروبا من درس النصوص األدبية نفسها إىل ما يتعلق هبا من أحوال ميكن أن تدرس دراسة‬
‫‪3‬‬
‫موضوعية‪".‬‬

‫املصدر السابق ‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.23 :‬‬


‫نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪3‬‬

‫‪273‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األمر الذي ينجم عنه جهل مبنطلقات هذه امللكة وما يرتتب عنه من سوء فهم هلا‪ ،‬لذلك‬
‫يشرتط عياد فهما موسعا خلاصية الذوق‪ ،‬وإال بقي النقد جمرد أحكام وآراء تقييمية وتقوميية ال تستند‬
‫إىل مرجعية‪ ،‬وذلك ما أقر به عياد يف معرض تفصيله القول عند إبرازه أمهية الذوق يف العملية النقدية‬
‫وخلص إىل مفهوم‪ ":‬الذوق ‪ -‬على الرغم من مكانته اجلوهرية يف النقد األديب –مل ُحيَلّل حتليال علميا‬
‫من قبل النقاد حىت اآلن‪ .‬لقد قبلوا – ببساطة‪ -‬األفكار الشائعة يف علم النفس‪ ،‬من احلديث عن‬
‫"امللكات" إىل احلديث عن القدرات العقلية وأثر التدريب فيها‪ ،‬ومل ينظروا إىل الذوق على أنه وظيفة‬
‫معرفية مرتبطة بوجود اإلنسان‪ ،‬وأن األدب هو التعبري األهم عن هذه الوظيفة‪ ،‬ومن مث فعليهم ‪-‬ال‬
‫‪1‬‬
‫على غريهم‪ -‬أن يبحثوا عن شروطه ويستكشفوا أبعاده‪ .‬فبدون هذا البحث ال يكون النقد علما‪".‬‬
‫تتجلى أمهية الذوق يف العملية النقدية برمتها عند الناقد‪ -‬إذ ال حميص له عنها‪ -‬لكن الذي‬
‫عاينه عياد هو أن هذه امللكة مل حتض بالعناية والدراسة الالزمة من قبل نقاد األدب‪ ،‬األمر الذي‬
‫هنض به عياد‪ ،‬ألن يف تطور خاصية الذوق‪ ،‬تطور للعملية النقدية برمتها‪ ،‬وهي املهمة األساسية اليت‬
‫قام هبا عياد يف مجلة مدوناته النقدية‪ ،‬فقد حظي الذوق مبكانة أساسية وهامة يف جهود الرجل‬
‫النقدية‪ ،‬وغدا من بني أهم املصطلحات املتداولة لديه‪ ،‬لذا جعل منه حجر الزاوية يف جناح أي عملية‬
‫نقدية فهو يصرح قائال‪ " :‬بأن الذوق ينبغي أن يعتمد أساسا لنقد علمي‪ .‬وقد حددنا الذوق بأنه‬
‫معيار وسط بني العلم والفن‪ ،‬وبني األحكام العامة واألحكام اجلزئية‪ ،‬وبني التفسري والتقييم‪ ،‬ولذلك‬
‫فهو جيمع بني هذه الوظائف الستة اليت عىن هبا النقاد دائما‪ .‬ونبهنا إىل أن الذوق الذي نتحدث عنه‬
‫جيب أال يلتبس بامليل الفردي أو الوقيت‪ .‬فالذوق يعين ممارسة احلكم على أعمال معينة بناء على‬
‫مرجع عام‪ ،‬هذا املرجع ال ميكن حتديده إال بأنه "قيمة" أو "قيم" ما‪ .‬فاحلكم يستند إىل القيمة أي‬
‫‪2‬‬
‫أنه معلل بالقيمة‪ ،‬وإن كانت القيمة نفسها غري معلّلة‪".‬‬
‫يتضح جليا من خالل هذا النص أن خاصية الذوق خاصية غاية يف األمهية‪ ،‬باعتبار املوقع‬
‫الذي حتتله‪ ،‬فهي تتوسط بني العلم والفن لتمنع صنمية الدرس وجفافه النقدي‪ ،‬بذريعة العلمية وال‬
‫تسمح خاصية الذوق بتمييع العملية النقدية بدعوى الفنية‪ ،‬ويتوسط الذوق كذلك بني األحكام‬
‫العامة واألحكام اجلزئية‪ ،‬ليتمكن من إعطاء مجلة من احللول املناسبة اليت يعىن هبا النقاد دوما‪،‬‬

‫‪1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪274‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫والشرط األساسي يف متكني الذوق من هذه املهمات هو بعده عن كل األهواء وامليول الشخصية أو‬
‫الفردية‪ ،‬ألن من مهمات الذوق إصدار نوع من األحكام حيتكم إىل قيمة مرجعية‪ ،‬من شأهنا أن‬
‫تسدد عملية الذوق وحتددها‪ ،‬والبد من ربط الذوق بالقيمة ألن " الذوق – يف هذا املفهوم املرتبط‬
‫بالقيمة‪ -‬ال يرجع إىل املزاج الشخصي‪ ،‬بل هو نقيضه‪ ،‬إن مرجعه النهائي هو استعداد مستقر يف‬
‫الطبيعة البشرية‪ ،‬مثله مثل املنطق‪ ،‬والكشف عن طبيعة هذا االستعداد هو من قبيل الكشف عن‬
‫العلل األوىل‪ ،‬أي أنه ضرب من الفكر الفلسفي احلر القائم على املشاهدة واخلربة‪ ،‬وقد يسميه البعض‬
‫‪1‬‬
‫علم اجلمال أو فلسفة الفن‪ ،‬ولكننا نفضل أن يرتبط بالنقد األديب ويكون جزءا أساسيا منه‪".‬‬
‫حيل الذوق حمل علم اجلمال والفلسفة‪ ،‬باعتبار أن هذين األخريين يهتمان بالبحث عن‬
‫احلقيقة امليتافيزيقية اليت ختص خمتلف الفنون واجملاالت‪ ،‬أما النقد فيختص بدراسة األعمال األدبية‬
‫ويقف عند استجالء مكامن اجلمال فيها‪ ،‬ويضبط مظان االستعماالت املتعددة للغة اليت من شأهنا‬
‫حتفيز مجلة املدركات فتجعلها تتضام وتتواشج قصد بلوغ خمتلف املرامي اليت ينشدها اإلبداع األديب‪،‬‬
‫يف الوقت الذي مل يعدل عياد عن تسمية األشياء مبسمياهتا‪ ،‬فال ينـزاح عن الذوق إىل باقي‬
‫املسميات األخرى‪ ،‬ولكنه يشعر أن الذوق حباجة إىل توضيح من حيث ارتباطه بالقيمة‪ ،‬ألنه‬
‫مصطلح أسيء فهمه كثريا من قبل النقاد‪ ،‬وغالبا ما متّ ربطه باألهواء واألمزجة الشخصية‪ ،‬اليت من‬
‫شأهنا أن تسيء إليه وإىل الغايات اليت ينشدها‪.‬‬
‫ترتاوح النظرة النقدية عند عياد إىل مجلة من القيم اليت يتغياها الذوق من باب التمييز بني هذه‬
‫القيم اجلمالية‪ ،‬واليت حتتكم إىل مبدأ النسبية‪ ،‬خبالف ما يرومه الفيلسوف مثال‪ ،‬الذي تتسم نظرته‬
‫إىل هذه القيم من دافع حبثه عن اختيار مناذج نقية يتمثل فيها هذا الشعور‪ .‬غري أن الناقد يصدر عن‬
‫نظرة مشولية خاصة بتلك األعمال العظيمة السامية‪ ،‬اليت ال ختتلف فيها أذواق الناس‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫محلها مجلة من القيم اجلمالية‪ ،‬اليت تبقى يف صميم عملييت القراءة واإلبداع‪ ،‬يقول عياد‪ ":‬لكن‬
‫ضرورة إثبات هذه القيم اليت تتضح من أن هناك أشياء يتفق البشر مجيعا على اإلعجاب هبا‪ ،‬وينطبق‬
‫هذا الوصف على األعمال األدبية العظيمة‪ ،‬فعظمتها الفنية ترتبط بعامليتها وخلودها‪ ،‬وكثري من‬
‫‪2‬‬
‫األعمال األدبية أو الفنية املعاصرة لنا ال هتزنا كما يهزنا أثر قدمي رائع‪".‬‬

‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪.28 :‬‬


‫‪1‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.28 :‬‬


‫‪2‬‬

‫‪275‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تتنـزل هذه الرؤية من دافع النزوع حنو إثبات هذه القيم اجلمالية اليت تكتنـزها النصوص‬
‫اإلبداعية‪ ،‬سواء كانت قدمية أو حديثة‪ ،‬غري أن عياد يويل أمهية بالغة لتلك النصوص القدمية اليت‬
‫تتسم بالعظمة ألهنا تصدر عن رؤية عميقة للعامل واألشياء‪ .‬والناقد مشدود حببل متني إىل هذه‬
‫املدونات الرتاثية اليت متثل عصب احلياة ونسغ الوجود من العملية اإلبداعية والنقدية‪ ،‬اليت يرتادها‬
‫عياد يف كل مرة‪ ،‬ويصدر الناقد كذلك عن رؤية نابعة من مقولة " األذواق ال تناقش" لكن مع شيء‬
‫غري يسري من النسبية يف عملية الذوق وآثارها املوجبة على عملية النقد األديب‪ ،‬إال أن ما ينبه إليه‬
‫عياد يف طرحه فكرة اكتناز النصوص هبذا الزخم من القيم اجلمالية‪ ،‬هو ضرورة البحث عنها – أي‬
‫القيم اجلمالية‪ -‬ضمن خمتلف النصوص اليت تنتمي بدورها إىل أنواع متباينة من األجناس األدبية‪،‬‬
‫ويعقد الناقد مقارنة نقدية بني من يفضل الشكل املسرحي على الشكل امللحمي أو العكس‪،‬‬
‫ويتساءل استنكاريا حول جدوى وفاعلية هذه املقارنة‪ .‬إال أنه يطمئن قارئه بأن هذه اجلدوى أو‬
‫الفاعلية هي ما يسميه هو بالقيم اجلمالية‪ ،‬يقول عياد "‪....‬ولكي تصح مثل هذه املقارنة جيب على‬
‫الناقد أن يتجاوز الشكل امللحمي أو الشكل املسرحي‪ ،‬إىل شيء مشرتك بينهما وأكثر أصالة من‬
‫كليهما‪ ،‬هذا الشيء املشرتك هو ما نسميه القيمة الفنية أو القيمة اجلمالية‪ ،‬وقد عجز النقد العريب‬
‫احلديث عجزا مبينا حىت اليوم يف عقد مقارنة صحيحة بني الشعر العريب والشعر األوريب ألن نقادنا‬
‫‪1‬‬
‫وقفوا عند األشكال ومل يستطيعوا جتاوزها إىل القيمة اجلمالية‪".‬‬
‫يتجاوز عياد هذه املنظورات السائدة اليت تقف عند العتبات اخلارجية للنص وتدعي عملية‬
‫يصرح بأن مثل هذه املمارسات لن تقدم شيئا ذا بال للعملية النقدية‪ ،‬باعتبار أن‬
‫القراءة والنقد‪ ،‬بل ّ‬
‫الكثري من النقد العريب احلديث عجز عن عقد مثل هذه الدراسات واملقارنات اليت يدعو عياد إىل‬
‫يشرع بابا يف جماالت ما يعرف باآلداب املقارنة‪ ،‬وحىت أنه يف عقده ملثل هذه‬
‫ارتيادها‪ ،‬وهو يف ذلك ّ‬
‫الدراسات يتجاوز ما تعاور عليه النقد من أن املقارنة تتم داخل اجلنس األديب الواحد‪ ،‬كالرواية مثال‬
‫أو املسرحية‪ ،‬أما أن جترى مثل هذه املقارنات بني امللحمة مثال واملسرح‪ ،‬فهو ما يعترب حديثا بالنظر‬
‫إىل زمن كتابة هذه اآلراء من قبل الناقد‪ ،‬وهي دعوة إىل احماء احلدود بني خمتلف األجناس األدبية‪،‬‬
‫ألن األدب أو اإلبداع مل يعد فيصال معرفيا يف التفريق بني أنواعه وأجناسه بقدر ما هو تشرب‬

‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪276‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫واستثمار هلذه األجناس بعضها من بعض‪ .‬وهو ما يعرف اليوم يف ساحة النقد األديب املعاصر‬
‫بالتفاعل النصي‪ ،‬أو التناص (‪.)Intertextualité‬‬

‫‪277‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الباب الثالث ‪:‬‬


‫أزمة املنهج يف اخلطاب النقدي‬

‫عند جابر عصفور‬


‫الفصل األول ‪ :‬خطاب احلداثة عند جابر عصفور‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬قراءة الرتاث النقدي عند جابر عصفور‬

‫‪278‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل األول ‪:‬‬


‫خطاب احلداثة عند جابر عصفور‬
‫‪ .1‬يف مفهوم احلداثة‬
‫‪ .1‬احلداثة ‪ :‬سرية ميالد و سياق تطور‬
‫‪ .1‬رهانات احلداثة العربية عند جابر عصفور‬
‫‪ .1‬جدلية األنا و اآلخر يف الوعي العربي املعاصر‬
‫‪ .5‬احلداثة العربية و املرجعيات املستعارة‬

‫‪279‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪: .1‬ي مفهوم احلداثة‬

‫تتأسس املعرفة النقدية باحلداثة من دافع النزوع حنو جتاوز السائد واملألوف والتطلع إىل ما جيب‬
‫تتأىب على الوصف و التمييز‪ ،‬وهي يف الوقت ذاته حلظة خارج الزمان‬ ‫أن يكون‪ ،‬واحلداثة حلظة زمنية ّ‬
‫واملكان‪ ،‬إهنا نقطة ما يف الالزمين‪ ،‬لذلك جيب فهم هذه الظاهرة ووعيها يف إطار من النقد واملعرفة‬
‫الكفيلة بإبراز أبسط دالالت احلداثة سواء كانت شعرية أم نقدية أم إيديولوجية‪ ،‬فهي يف أبسط‬
‫دالالهتا تعين‪ " :‬االتساق مع العصر والضرورة واحلاجة‪ ،‬وهي يف حركة تطور وتقدم مستمرين ‪ ...‬هي‬
‫ذلك النمط احلضاري اخلاص‪ ،‬الذي يتعارض مع النمط السابق عليه"‪.1‬‬

‫غري أن املقصود باالتساق مع العصر‪ ،‬حسب ما ذهب إليه الباحث ليس الركون ومسايرة‬
‫منجزات احلاضر دون حماولة جماوزته وختطيه‪ ،‬بقدر ما هي حماولة وعيه واستيعابه‪ ،‬ومن مث تطويع الزمن‬
‫أو العصر لتلك املنجزات الفاعلة فيه واملش ّكلة لبنائه فهي " انقطاع عن املاضي من أجل احلاضر‪،‬‬
‫وانفصام عن احلاضر من أجل املستقبل"‪.2‬‬

‫إهنا مبثابة الثورة على كل ما هو مألوف وسائد وحماولة التطلع إىل جماوزته قصد فهمه‬
‫واستيعابه‪ ،‬وإذ نذهب هذا املنحى ال نقصد أبدا ما يدعيه أدعياء القطيعة املعرفية مع الرتاث‪ ،‬بقدر‬
‫ما ندعو إىل جماوزته‪ ،‬وعملية التجاوز ال تعين اإللغاء أو االمنّحاء أمام هذا املد احلضاري الوافد‪ ،‬بقدر‬
‫ما ترمي إىل دفعه حنو مسايرة الركب على مجيع األصعدة سواء ما خيص العلوم التجريبية أو اإلنسانية‬

‫‪ 1‬إبراهيم القهواجيي ‪ :‬تأمالت يف احلداثة األدبية‪ ،‬جملة أفق املغرب‪ ،0002 ،‬السنة ‪ ،2‬ع‪ ،0‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 2‬كمال أبو ديب ‪ :‬احلداثة‪ ،‬السلطة‪ ،‬النص‪ ،‬جملة فصول القاهرة ‪ ،0082 ،‬ع‪، 2‬ص‪.20 :‬‬
‫‪280‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫من فن وإبداع وأدب ألن‪ " ،‬املعرفة اإلنسانية تتقدم وتتضاعف بسرعة هائلة‪ ،‬وهذا ما سيجعل هذه‬
‫‪1‬‬
‫اجملاالت ومنها الفن واألدب عرضة لرياح احلداثة‪".‬‬

‫يذهب أدونيس يف الطرح نفسه من أن رياح احلداثة ستهب على كافة اجملاالت وستدخل‬
‫مبدئيا يف نوع من الشراكة فيما بينها وفق حقيقة أساسية " هي أن احلداثة رؤيا جديدة‪ ،‬وهي جوهريا‬
‫رؤيا تساؤل واحتجاج‪ ،‬تساؤل حول املمكن واحتجاج على السائد‪ ،‬فلحظة احلداثة هي حلظة التوتر‪،‬‬
‫أي التناقض والتصادم بني البىن السائدة يف اجملتمع وما تتطلبه حركته العميقة التغيريية من البىن اليت‬
‫‪2‬‬
‫تستجيب هلا وتتالءم معها‪".‬‬

‫ارتبطت احلداثة بظهور تلك التغريات احلاصلة على مستوى بنية الفكر البشري‪ ،‬احلاصل من‬
‫جمموع املؤثرات والتطورات اليت حتقق وجودها يف اجملتمعات الغربية (البورجوازية) إبان القرن التاسع‬
‫اجنر عنه بالضرورة تطور اإلنسان الغريب يف عديد اجملاالت وفق سنة التطور اليت‬
‫عشر‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫تالزم اإلنسان الفرد واجملتمع‪ ،‬وعملية التطور يف حد ذاهتا هي مثرة من مثار احلداثة الغربية‪ ،‬اليت‬
‫أصبحت فيما بعد قيمة إنسانية عليا‪ ،‬خاصة عندما توفرت الشروط املوضوعية اليت أسهمت يف ذلك‬
‫التطور والتحول الذي وسم بالعاملية أو احلضارة الكونية‪ ،‬بعد أن ألغت هذه احلداثة مجيع احلدود‬
‫املائزة بني الدول والشعوب ودعوهتا إىل كوهنا حضارة إنسانية؛ فلقد " كانت احلداثة حركة عاملية‬
‫ولّدهتا قوى خمتلفة بلغت ذراها يف دول خمتلفة وأزمان خمتلفة‪ ،‬كان مكوثها يف بعض األقطار طويال‬
‫ويف بعضها اآلخر مؤقّتا‪ ،‬يف بعض األقطار أساءت احلداثة إىل تراثها املوروث‪ ،‬كالرتاث الرومنسي‪،‬‬
‫والفيكتوري والواقعي‪ ،‬واالنطباعي‪ ،‬ويف أقطار أخرى ع ّدت نفسها تطورا لذلك الرتاث‪ ،‬للحداثة يف‬
‫احلقيقة‪ ،‬مفاهيم خمتلفة‪ ،‬ال حتددها سوى جغرافية املكان‪ ،‬وما يقال عن املكان ميكن أن يقال عن‬
‫‪3‬‬
‫الزمان‪".‬‬

‫‪ 1‬إبراهيم القهواجيي‪ :‬تأمالت يف احلداثة األدبية‪ ،‬ص‪.28 :‬‬


‫أدونيس‪ :‬فاحتة لنهايات القرن‪ ،‬دار اآلداب بريوت‪ ،‬ط‪ ،0081 ،0‬ص‪.230 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ 3‬مالكم براد بري وجيمس ماكفارلن‪ :‬احلداثة‪ -0021 ،0801 -‬دراسات مشرتكة‪ :‬تر‪ :‬مؤيد حسن فوزي‪ ،‬دار املأمون‬
‫للرتمجة والنشر‪ ،‬بغداد ‪ ،0082‬ص‪.20 ،21 :‬‬

‫‪281‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫واحلقيقة أن ميالد احلداثة الغربية كان نتاج ظروف خاصة مرت هبا أوروبا يف مرحلة معينة‬
‫وخلصائص وسياقات خاصة‪ ،‬األمر الذي جيعل من عمليات التأصيل اليت يتغياها النقاد العرب اليوم‬
‫عملية حمفوفة باملخاطر واملزالق اليت قد تأيت على العملية برمتها؛ ذلك أن نشأة احلداثة الغربية كانت‬
‫رهنا مبعطيات التطور التأرخيي يف أوروبا‪ ،‬وما الزمها من جتاذبات مهدت لعصر النهضة‪ ،‬وما أصبح‬
‫يعرف فيما بعد بالرأمسالية بعد أن متكنت أوروبا من اإلنعتاق من الربقة الدوغماثية للكنيسة‬
‫األرثوذوكسية‪ ،‬إن احلداثة مبعناها العام " تعين فرتة زمنية يف تاريخ الثقافة الغربية‪ ،‬يعود تأرخيها إىل‬
‫عصر النهضة يف إيطاليا مع اإلصالح الديين‪ ،‬أو من بداية تطور الظواهر العلمية والرياضية يف القرن‬
‫‪1‬‬
‫السابع عشر إىل الثورات السياسية يف أواخر القرن الثامن عشر‪".‬‬

‫تصور جديد للحياة والفن وهي إضافة إىل ذلك‪ ،‬وعي آخر بتجليات‬ ‫انطالقا من هذا فاحلداثة ّ‬
‫احلياة‪ ،‬ومروق وخروج عن السائد واملألوف‪ ،‬ومغادرة تلك الثوابت‪ ،‬واليقينيات اليت رزح حتتها العقل‬
‫البشري عقودا من الزمن‪ ،‬هذه األخرية اليت جتعل من العقل اإلنساين ومن إبداعه‪ ،‬عملية مكررة‬
‫وليست جديدة ألهنا تقتل فيه روح املبادرة وفاعلية التطور اإلنساين فكريا وفنيا وإيديولوجيا‪ ،‬فاحلداثة‬
‫كما يقول املديين ‪ " :‬ليست تقليعة أو فلتة‪ ،‬بل هي تأريخ حضاري (سياسي واجتماعي ) وثقايف‬
‫(فلسفي وإبداعي )"‪.2‬‬

‫إضافة إىل هذا فاحلداثة مبفهومها الشامل " أدب التكنولوجيا والفن املتأيت من عدم االعرتاف‬
‫باألمور الواقعية التقليدية‪ ،‬ومن حتطيم تكامل الشخصية الفردية‪ ،‬إهنا الفن الذي ولّدته الفوضى‬
‫اللغوية القائمة على استهجان الظواهر العامة للغة‪ ،‬إهنا الفن الذي حول الواقع إىل خيال نسيب‪ ،‬إذا‬
‫احلداثة هي فن "التحديث" فن االبتعاد الصارم عن اجملتمع‪ ،‬إهنا‪ ،‬يعتقد الفنانون التعبرييون‪ ،‬فن‬
‫الالفن الذي حيطم األطر التقليدية ويتبىن رغبات اإلنسان الفوضوية اليت ال حيدها حد‪ ،‬هبذا املعىن ال‬
‫تكون احلداثة فن احلرية (فحسب) بل فن الضرورة‪ ،‬لقد ودعت احلداثة العوامل الواقعية واحلضارية اليت‬
‫قام عليها فن القرن التاسع عشر‪ ،‬واعتمدت بدال منها العوامل الغنائية املوغلة يف اخليال والتهكم اليت‬

‫‪ 1‬عبد اهلل املهنا‪ :‬احلداثة و بعض العناصر احملدثة يف القصيدة العربية املعاصرة‪ ،‬جملة عامل الفكر‪،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون‬
‫واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬مج‪ ،00‬ع‪ 2‬ص‪.12 :‬‬
‫‪ 2‬أمحد املديين ‪ :‬الصمت – احلداثة‪ ،‬عزلة النص و هرطقة التنظري‪ ،‬احلداثة األخرى‪ ،‬جملة كتابات معاصرة‪،‬بريوت‪ ،‬حزيران‬
‫‪ ،0002‬مج‪ ،5‬ع‪ ،08‬ص‪.50 :‬‬
‫‪282‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫متتلك القدرة على اإلبداع والتحطيم يف آن واحد‪ 1".‬وال جمال للشك يف أن احلداثة يف نسختها‬
‫العربية هي امتداد طبيعي للحداثة الغربية‪ ،‬وال مناص من عمليات املثاقفة اليت ترمي إىل إثراء الذات‬
‫مبا لدى اآلخر الغريب من عدة وعتاد ويتأتى ذلك من واقع إثبات اهلوية احلضارية‪ ،‬وهذا ال ميكن‬
‫التغاضي عنه حبكم التحوالت الراهنة للعصر وهيمنة الصورة احلضارية اليت جتعل من عمليات التأثري‬
‫والتأثر حتمية ال حميص عنها‪ ،‬وتنسحب عمليات التالقح احلضاري إىل األمة العربية كما األمم‬
‫األخرى‪ ،‬باعتبار احلداثة مشروعا إنسانيا وعامليا جيعل من عمليات التهرب بال جدوى وال فائدة‪،‬‬
‫أضف إىل ذلك أن مبدأ التخطي واالنزياح عما هو سائد جيعل من عملية تصور احلداثة مغايرة ملا هو‬
‫متعارف عليه‪ ،‬إ ْن على مستوى الشكل أو املضمون‪ ،‬خاصة إذا كانت الدعوة للحداثة على مستوى‬
‫اإلبداع‪ ،‬خاصة اإلبداع الشعري منه ألن احلداثة " يف كل شيء ال يف الشعر وحده‪ ،‬موقف كياين من‬
‫احلياة يف املرحلة اليت جتتازها فهي ليست أشكاال يقتبسها اإلنسان أو زيا يتزين به‪ ،‬ألن املهم هو ما‬
‫وراء األشكال واألزياء‪ ،‬هذا املاوراء هو ما نسميه بالعقلية‪ ،‬فإما أن تكون ذا عقلية حديثة أو ال‬
‫تكون‪ ،‬مبعىن أن تأخذ باجلوهر ال باملنظر"‪. 2‬‬

‫إ ّن ما يبتغي يوسف الخال تبيانه هنا هو إبراز أمهية اللحظة احلداثية يف عقل اإلنسان العريب‬
‫ينصب‬
‫ّ‬ ‫فال ميكن أن تعيش بعقل مشدود إىل املاضي وتدعي حداثتك‪ ،‬إذ مناط األمر ومجاعه إمنا‬
‫حول هذا الوعاء (العقل) الذي هو أصدق قسمة بني الناس‪ ،‬واحلداثة هبذا املفهوم ال تكون يف مكان‬
‫دون غريه‪ ،‬إمنا الزمان واملكان مبثابة البوتقة اليت تنصهر فيها هذه احلداثة‪ ،‬ومها الوعاء الذي تنوجد‬
‫فيه الذات‪ ،‬وإذا سلمنا جدال مع أدونيس أن احلداثة جتربة‪ ،‬ورؤيا تفرتض نشوء حقائق عن األشياء‬
‫والعامل جديدة مل يعرفها القدم‪ ،‬فإ ّن من شأهنا أي الذات أن حتقق املعىن املقصود من احلداثة‪ ،‬وهي‬
‫هبذا املفهوم الثاين ليست نقدا للقدمي فحسب إمنا هي خروج عليه‪ ،‬وال تقتضي احلداثة تلك احلرية‬
‫املطلقة للفكر إمنا تتضمن أيضا حريات واسعة من ضمنها حرية اجلسد‪ ،‬إهنا بصورة ما انفجار‬
‫‪3‬‬
‫املكبوت وحترره‪.‬‬

‫‪ 1‬مالكم براد بري وجيمس ماكفارلن ‪ :‬احلداثة‪ ،‬ص‪.32 :‬‬


‫‪ 2‬يوسف اخلال ‪ :‬احلداثة يف الشعر‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0028 ،0‬ص‪.02 :‬‬
‫‪ 3‬ينظر أدونيس‪ :‬الشعرية العربية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0080 ،3‬ص‪.82 :‬‬
‫‪283‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫متاشيا مع هذا الطرح جتد احلداثة العربية ذاهتا‪ ،‬يف كوهنا رؤيا إبداعية‪ ،‬تتنصل من الثوابت‬
‫وتدعو إىل هدمها ونسفها وجتاوزها‪ ،‬ألهنا تقتلع القارئ واملبدع على السواء من مجود العادة لتدفع به‬
‫إىل ارتياد مناطق جديدة مل يتم التفكري فيها من ذي قبل‪ ،‬وأثناء عملية الدفع تلك تبعث فيه احلداثة‬
‫روح التجاوز والشك واالضطراب الذي جيب أن يستبدل به الفرد العريب ما كان مطمئنا إليه من‬
‫ثوابت ومعتقدات‪ ،‬لتحصل يف النهاية عملية خلخلة ورجة لتلك املسلمات واليقينيات لتفكر الذات‬
‫مبا مل يتم التفكري فيه‪ ،‬وتكتب ما مل تكتبه من قبل‪.‬‬

‫أحست‬
‫تتحدد عملية التالقح الفكري واحلضاري بني الذات واآلخر‪ ،‬يف اللحظة التارخيية اليت ّ‬
‫يكمل هذا‬
‫اجنر عنه تطلّعها إىل ما ّ‬
‫فيها الذات بنوع من النقص على مستويات عديدة‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫يعوضه على الصعيد املعريف والثقايف‪ ،‬فانشطرت الذات نصفني والذت بالفرار زمنيا إىل‬ ‫النقص و ّ‬
‫املاضي ومكانيا إىل الغرب‪ ،‬غري أن ما ميكن توصيفه حضاريا بعمليات املثاقفة إمنا متت يف إطار عام‬
‫أقل ما يقال عنه أنه شعور بالدونية والتخلف وعجز عن مسايرة هذه األمناط احلضارية والثقافية الذي‬
‫امتاز هبا الغرب معرفيا‪ ،‬وانطالقا من هذا ال تكمن " أمهية املمارسة النقدية وخطورهتا وفاعليتها‪ ..‬يف‬
‫مدى ج ّدهتا وج ّديتها و عمقها فحسب‪ ،‬بل تكمن إضافة إىل ذلك يف مدى استجابتها حلركة الواقع‬
‫املتغرية‪ ،‬فالثقافة املنشودة هي تلك اليت تسهم يف حل‬‫املعيش وتلبية حاجاته األساسية املستج ّدة ّ‬
‫اإلشكاليات احلضارية لألمة"‪.1‬‬

‫إ ّن عمليات التثاقف إمنا متت انطالقا من مسوغات حضارية ومعرفية‪ ،‬أسهمت يف بلورة نوع‬
‫من الوعي النقدي الذي أسهم هو بدوره يف حماولة مسايرة الذات ملستجدات احلضارة السائدة‪ ،‬األمر‬
‫الذي اجنر عنه‪ ،‬حماولة صياغة أمشاج من النقد متت يف فرتات متباعدة ذلك أ ّن " التعامل املنهجي‬
‫النقدي ال ينحصر يف دراسة النصوص األدبية وحتليلها وكيفية تناوهلا بل ميتد ليوضح رؤية ما للفعل‬
‫البشري ومفهوما ما لإلنسان‪ ،‬فاحلديث مثال عن وظيفة األدب يفضي بالضرورة للحديث عن مهمة‬
‫‪2‬‬
‫اإلنسان‪".‬‬

‫‪ 1‬شكري عزيز ماضي‪ :‬من إشكاليات النقد العريب اجلديد‪-‬البنيوية‪-‬النقد األسطوري‪-‬مورفولوجيا السرد‪-‬مابعد البنيوية‪،‬‬
‫املؤسسة العربية للدراسات و النشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0002 ،0‬ص‪.081 ،020 :‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.080 :‬‬
‫‪284‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إ ّن ما يش ّكل هذا النوع من الوعي إمنا هو احلرص على بلوغ مرحلة متقدمة مما بلغه الفكر‬
‫العاملي‪ ،‬الذي استبدل الشك باليقني‪ ،‬والتساؤل بالركون والقلق بالثبات‪ ،‬األمر الذي حدا بالعديد‬
‫من الباحثني العرب احلداثيني _ وال نقول بكليتهم _ إىل حماولة املسايرة أوال والتمثل ثانيا واالستثمار‬
‫ثالثا‪ ،‬هلذا الوافد اجلديد الذي زخرت به الساحة النقدية الغربية‪ ،‬وما متخضت عنه من مناهج حداثية‬
‫على مستوى النقد‪ ،‬والذي جتاوزت فيه الكثري من الطروحات النقدية الناجزة اجلاهزة‪ ،‬واليت رزح حتتها‬
‫النقد السياقي طويال‪ ،‬األمر الذي جعل من جماوزة هذا النمط من املناهج النقدية ضرورة ملحة أملتها‬
‫أسست ملرحلة‬‫مستجدات العصر وظروفه‪ ،‬ومحلت معها طرائق جديدة يف عملية التناول النقدي‪ّ ،‬‬
‫تالية ومهمة يف آن معا‪ ،‬طرحت على إثرها ما تداوله النقاد يف مرحلة النقد السياقي لتدفع بالعملية‬
‫النقدية قدما مما جعلها ترتاد مناطق أخرى مل يكن هلا عهد هبا‪.‬‬

‫‪ .2‬احلداثة‪ :‬سرية ميالد وسياق تطور‬

‫تتأسس املعاجلة املعرفية إلشكالية تأصيل احلداثة يف اخلطاب النقدي العريب املعاصر‪ ،‬من دافع‬
‫النزوع لتحقيق الذات العارفة جلملة من األهداف والغايات‪ ،‬اليت جتعل من عملية إدراك األنا‬
‫خلصوصيتها الثقافية واملعرفية مبتغى ترمي الوصول إليه‪ ،‬وحتقيقا هلذا املأرب يتحسس جابر عصفور‬
‫مفاصل احلداثة العربية بقوله‪ " :‬احلداثة هي اللحظة اليت تتمرد فيها الذات العارفة‪ ،‬فردا أو مجاعة‬
‫على طرائقها املعتادة يف اإلدراك‪ ،‬شاعرة أهنا البد أن تبدأ يف فعل مساءلة جذرية لكل ما حوهلا‪،‬‬
‫على كل املستويات‪ ،‬غري غافلة عن وضع نفسها هي موضع املساءلة‪ ،‬ولذلك فاحلداثة تبدأ من‬
‫اللحظة اليت تنقسم فيها الذات العارفة على نفسها لتغدو فاعال للمساءلة ومفعوال هبا‪ ،‬وذلك يف‬
‫الوقت الذي جتعل من العامل الذي تدركه موضوعا للمساءلة نفسها وال حداثة هبذا املعىن إال من‬
‫‪1‬‬
‫منظور هذه الداللة املتكاملة اليت جتمع بني الذات وموضوعها يف األنا والعامل‪".‬‬

‫تنعقد الصلة بني الذات واملوضوع يف اللحظة اليت تنمحي فيها احلدود املائزة بينهما فيغدو فعل‬
‫املعرفة متبادال بل متماهيا يف ثوب ظاهرايت لتغدو الذات موضوعا واملوضوع ذاتا‪ .‬هذا ما يؤسس إىل‬
‫ميالد حداثة فاعلة متمردة رافضة للثبات والسكون‪ ،‬مما حدا بالناقد إىل التأكيد بقوله‪" :‬ال ميكن‬
‫التحدث عن احلداثة من حيث هي فعل معريف جذري وشامل إال من منظور متردها ورفضها اجلذري‬

‫‪ 1‬جابر عصفور ‪ :‬حنو ثقافة مغايرة‪ ،‬الدار املصرية اللبنانية‪ ،‬ط‪ ،3118 ،0‬ص‪.02 :‬‬
‫‪285‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الشامل لكل شيء‪ ،‬ال باملعىن العبثي‪ ،‬أو التمرد من أجل التمرد‪ ،‬وإمنا باملعىن القصدي الذي يهدف‬
‫إىل االنتقال بكل شيء من شروط الضرورة إىل آفاق احلرية‪ ،‬من واقع التخلف إىل إمكانات التقدم‪،‬‬
‫من اإلظالم إىل االستنارة‪ ،‬من احلجر إىل حرية الفكر إىل إطالق سراح الفكر بال قيود"‪.1‬‬

‫إن اللحظة احلداثية هبذا الطرح إمنا متنح لنفسها أفقا معرفيا خاصا هبا‪ ،‬ما جيعلها ترفض املهادنة‬
‫والرتويض قصد األلفة والعادة‪ ،‬إمنا حصل هلا شبه انقطاع معريف لكل ما هو موجود والتطلع دائما‬
‫لنبذ املاضي وكل ما يتصل به من ناحية أو أخرى‪ .‬ويف رفضه هلذا الرتاث بكل زمخه ومحولته املعرفية‪،‬‬
‫ونصرته لكل ما هو جديد ووافد قصد حتقيق الغاية من احلداثة‪ ،‬يكتب عصفور قائال‪ ":‬العالمة‬
‫األوىل للحظة احلداثة هي القياس على إمكانات الزمن القادم وليس القياس على واقع احلاضر‬
‫الساكن أو مرياث املاضي الثابت"‪ ،2‬وهو األمر الذي دأب عصفور إىل املناداة به يف كل مناسبة من‬
‫مناسبات الكتابة النقدية عنده‪.‬‬

‫يعرج على اجتاهات احلداثة يف مظاهنا القدمية‪ ،‬فإنه ال جيد مانعا من تعداد أربعة‬ ‫أما عندما ّ‬
‫مذاهب أواجتاهات يرى بأهنا صنعت لنفسها يف زماهنا نسقا فكريا ومعرفيا‪ ،‬بغض الناظر عن بعده‬
‫عن العقل أو قربه منه‪ ،‬فيقول ‪ " :‬ميكن أن نتحدث يف تراثنا العريب‪ ،‬مثال عن أربعة تيارات‪ :‬تيار‬
‫العقالنية الذي ميثله املعتزلة والفالسفة‪ ،‬والتيار اإلنساين الروحي الذي ميثله املتصوفة‪ ،‬والتيار العلمي‬
‫التجرييب الذي ميثله أشباه‪ :‬جابر بن حيان واحلسن بن اهليثم وغريمها‪ ،‬وأخريا‪ ،‬التيار الذي يضم أهل‬
‫السنة مبذاهبهم األربعة من ناحية‪ ،‬والتيار السلفي الذي حتول إىل تيار إتباعي جامد‪ ،‬حيول دون‬
‫التقدم من ناحية مقابلة"‪.3‬‬

‫غري أن جابر عصفور ال يلبث على رأي نقدي ومعريف‪ ،‬حىت يعود أدراجه إىل نقضه أو يف‬
‫حاالت أخرى إىل تعديله وحتويره‪ ،‬ففي شروط احلداثة ولوازمها الفاعلة ينكفئ عصفور الئذا بالرتاث‬
‫لعلمه بثرائه وغناه؛ فعلى الكثري من املستويات اليت تدفع بالذات إىل حماولة اجملاوزة‪ ،‬وحىت مسايرة‬
‫ركب احلداثيني سواء كانوا غربا أم عربا‪ ،‬يكتب قائال‪... ":‬ال تنفصل عن املعرفة بالرتاث ‪-‬يف هذا‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.33 :‬‬
‫‪286‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اجلانب‪ -‬املعرفة باللحظة التارخيية اليت يتحرك فيها وهبا فعل احلداثة‪ ،‬وذلك بكل شروطها السياسية‬
‫واالجتماعية والثقافية‪ ،‬اليت البد من االنطالق منها‪ ،‬والبحث عن صيغ جديدة فاعلة ملواجهتها من‬
‫ناحية‪ ،‬وجماوزهتا من ناحية مقابلة‪ ،‬ويعين ذلك عدم القفز على املراحل التارخيية‪ ،‬أو حرقها‪ ،‬أو‬
‫جتاهلها‪ :‬فال ميكن االنتقال من فكر جمتمع تقليدي‪ ،‬غارق يف التخلف‪ ،‬إىل فكر جمتمع ما بعد‬
‫حداثي‪ ،‬وحنن مل ندخل أبواب احلداثة أو نقرع أبواهبا بعد‪ ،‬وال نزال نعيش يف زمن ما قبل القبل من‬
‫‪1‬‬
‫احلداثة‪".‬‬

‫تتأكد فاعلية الوعي باللحظة التارخيية يف مدى إسهامها يف التأثري مبنجزاهتا النظرية‬
‫واملمارساتية‪ ،‬لذلك تباينت عمليات التأثري من علم عريب إىل آخر‪ ،‬انطالقا من نسبة التمثل والوعي‬
‫بإشكاليات الراهن‪ ،‬ومدى اإلسهام يف بلورة حلول ناجعة ناجحة‪ .‬ومن لوازم احلداثة وشرائطها‬
‫كذلك كما يتصور جابر عصفور " أن الوعي النقدي وروح املساءلة ميكن أن تكون مدخال أوليا‬
‫‪2‬‬
‫جملاوزة هذا القصور املعيب‪ ،‬فنحن لسنا يف حاجة إىل صور مكرورة وإمنا إىل عقول مبدعة‪".‬‬

‫يتموضع النقد الذي وجهه "عبد العزيز محودة" إىل مجلة من النقاد العرب احلداثيني‪ ،‬من‬
‫وتلمس مواطن األصالة فيهم‪ ،‬من ّقبا يف اآلن نفسه‬
‫منطلق التعريف بانتماءاهتم الفكرية واإليديولوجية‪ّ ،‬‬
‫عن إسهاماهتم األكادميية واملعرفية يف مقاربتهم للرتاث النقدي والبالغي العريب‪ ،‬ومدى فاعلية هذه‬
‫قل أن جند له مثيال عند غريهم‪ ،‬يقول محودة‪":‬‬‫املقاربات‪ ،‬وما أضفته على الساحة املعرفية من ثراء ّ‬
‫‪...‬فانبهار جابر عصفور مثال بإجنازات العقل الغريب منذ تفتحت عيناه‪ ،‬كما يقول عام ‪ 0022‬على‬
‫البنيوية‪ ،‬ال يقابله احتقار أو تقليل من شأن الرتاث النقدي العريب‪ ،‬ودراسات الرجل يف الرتاث‬
‫النقدي ملا يقرب من ثالثني عاما يف ذلك اجملال تعترب من بني أعمق الدراسات األكادميية وأكثرها‬
‫جدية واحرتاما للعقل العريب‪ ،‬لكنه ال خيتلف كثريا عن بقية احلداثيني العرب يف انبهارهم بالثقافة‬
‫‪3‬‬
‫الغربية عامة واحلداثة خاصة‪".‬‬

‫‪ 1‬جابر عصفور ‪ :‬حنو ثقافة مغايرة‪ ،،‬ص‪.32 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 3‬عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا املقعرة‪ ،‬حنو نظرية نقدية عربية ‪،‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون و اآلداب‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫‪ ،3110‬ع ‪ ،323‬ص‪.28 :‬‬
‫‪287‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .3‬رهانات احلداثة العربية عند جابر عصفور‬

‫يقف جابر عصفور موقفا ال خيلو من أي شك ‪-‬رغم ما شابه من ضبابية‪ -‬من شروط احلداثة‬
‫يصرح بأن من أسباب جناح احلداثة يف نسختها الغربية‬
‫العربية ومنطلقاهتا وأجهزهتا املفاهيمية‪ ،‬عندما ّ‬
‫هو التخلص من عبء الرتاث القدمي بكل ما حتمله هذه العبارة من معىن‪ ،‬واستبدال احلاضر باملاضي‬
‫وخاصة املواضع الثابتة فيه‪ ،‬وتتمازج رؤيته مع الرؤية املعهودة عند أدونيس لتشكال معا تناسقا تاما‬
‫‪-‬‬ ‫على مستوى االصطالح أو املفاهيم‪ ،‬يقول جابر عصفور‪ ... " :‬مل يعد اهلدف من قراءة الرتاث‬
‫يف النمط اجلديد ‪ -‬استعادة املاضي بكل ما يقرتن به من قيم مجالية وأدبية‪ ،‬فقد أضحت هذه‬
‫املبادئ والقيم قرينة إطار مرجعي مرفوض‪ ،‬صار التمرد عليه قرين التحرر الفردي الذي ينطلق من‬
‫إطار مرجعي مضاد‪ ... ،‬وإذا كان اإلطار املرجعي اجلديد يعين استبدال احلاضر باملاضي‪ ،‬والغرب‬
‫املتقدم بالشرق املتخلف‪ ،‬فإنه كان يعين بداية أو قطيعة جادة مع الرتاث بوجه عام‪ ،‬ومن مثّ بداية‬
‫تعويل الناقد العريب احلديث على أصول نقدية ليست من صنعه‪ ،‬وال من تراثه‪ ،‬بل من صنع الغرب‬
‫‪1‬‬
‫املتق ّدم الذي أصبح اللحاق به ‪ -‬منذ ذلك الوقت – حالّ ألزمة التخلف‪".‬‬

‫إن هذه البدائل اليت يطرحها عصفور ما كانت لتكون لو أن الناقد التفت حقيقة إىل ذلك‬
‫الزخم املعريف الذي ميثله الرتاث العريب‪ ،‬والنظر إليه نظرة املتلهف عليه والذائد عنه‪ ،‬ال نظرة املسرتيب‬
‫به والشاك بإمكاناته‪ ،‬وهو ما حدا به أن يذهب املذهب نفسه الذي أعلنه قسطاكي الحمصي يف‬
‫صرح قائال‪ ":‬مل يكن النقد من العلوم املعرفية عند العرب يف عصر من‬ ‫مطلع القرن العشرين حني ّ‬
‫العصور‪ ،‬مع أن االنتقاد من الغرائز اليت عرفوا هبا يف كل زمن‪ ،‬فلم حيددوا له رمسا وال اشتقوا من امسه‬
‫‪2‬‬
‫فنا‪ ،‬غري ما هو معلوم عندهم من نقد الدراهم‪ ،‬أي متييز ّجيدها من رديئها‪".‬‬

‫األويل واملبدئي ملاهية النقد‪ ،‬هو ماجعل جابر عصفور ينعى على الثقافة العربية‬
‫إ ّن هذا الفهم ّ‬
‫عدم انفتاحها على اآلخر الغريب واالستعارة منه ما من شأنه أن حيقق مطاحمها يف بلوغ مراتب سامقة‬
‫يف مدارج النقد واملعرفة‪ ،‬ذلك أن الرجل يدفع بعملية األخذ واملثاقفة إىل آمادها البعيدة‪ ،‬وجيعل من‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬دار سعاد الصباح‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪ ،0003 ،0‬ص‪.28 ،22 :‬‬
‫‪ 2‬قسطاكي احلمصي‪ :‬منهل الوراد يف علم االنتقاد‪ ،‬القاهرة ‪ ،0012،‬ج‪ ،0‬ص‪ ،00 :‬نقال عن جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث‬
‫النقدي‪ ،‬ص‪.000 :‬‬
‫‪288‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ينجر عنه حصول ملكة الفهم‬ ‫عملية استحضار الرتاث عملية ذات قيمة معرفية وثقافية‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫واالستيعاب‪ ،‬ومن مث املسايرة ال من أجل الثبات واإلستكانة إمنا من أجل التجاوز املثمر واملفيد‪ ،‬وهو‬
‫ما جعله يقتنع جازما أن" هذا االشتباك بني "اآلخر" و"الرتاث" يف وعينا جيعل من حضورمها حضورا‬
‫متبادال‪ ،‬على حنو تغدو معه كل قراءة للرتاث قراءة لآلخر‪ ،‬وكل قراءة لآلخر قراءة للرتاث يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬إذ بقدر ما يؤثر الرتاث يف تعرفنا اآلخر وإدراكه فإن اآلخر – بدوره‪ -‬يؤثر يف تعرفنا الرتاث‬
‫‪1‬‬
‫وإدراكه‪".‬‬

‫يعترب جابر عصفور من بني النقاد احلداثيني العرب األوائل‪ ،‬الذين انفتحوا واستقبلوا احلداثة‬
‫الغربية وعملوا على استيعاهبا وتوصيلها للقارئ العريب‪ ،‬سواء أكان ناقدا أم مبدعا‪ ،‬وما من شك يف‬
‫تلك القدرات املعرفية والفكرية واملؤهالت العلمية اهلائلة اليت يتوفر عليها الرجل‪ ،‬سواء يف جمال الرتمجة‬
‫أو االستيعاب املعريف والنقدي لطروحات احلداثة الغربية‪ ،‬أو مقوالت الرتاث يف شقه البالغي‬
‫والنقدي‪ ،‬إال أن الرجل " مثقف يفهم ما يقرأ ويعرف جيدا ما يكتب لكنه خيتار عن وعي كامل أن‬
‫‪2‬‬
‫يتحدى قدرات القارئ على الفهم‪ ،‬أي خيتار الغموض واإلهبام واملراوغة منهجا يف الكتابة‪".‬‬

‫وسواء اتفقنا مع هذا الطرح الذي انتهجه حمودة أم ال‪ ،‬يبقى جابر عصفور من بني أهم‬
‫النقاد العرب املعاصرين يف جمال التنظري واملمارسة‪ ،‬فقد تعددت مؤلفات الرجل بني كتابات تراثية‬
‫تبحث يف العمق من قضايا الرتاث‪ ،‬خاصة النقدي منه‪ ،‬ومؤلفات أخرى جارى فيها كوكبة النقاد‬
‫الغربيني والعرب‪ ،‬الذين تعمقوا جنس الرواية أو الشعر بالدراسة والتمحيص واالستنطاق ويوظفوا‬
‫عددا ال يستهان به من املناهج النقدية اليت عجت هبا ساحة النقد العاملي املعاصر‪.‬‬

‫فعند تناوله قضية نقد النقد أو تاريخ النقد األديب‪ ،‬يلجأ جابر عصفور إىل استعمال لغة مغايرة‬
‫ملا ألفه قارئه‪ ،‬إذ تتبدى لغته غامضة جراء االستعمال املهمش للغة الواصفة‪ ،‬ورمبا يرجع ذلك إىل‬
‫انبهاره مبنجزات احلضارة الغربية ممثلة يف هذه اإلفرازات احلداثية على مستوى االستعمال والتداول‬
‫اللغوي‪ ،‬يقول‪... ":‬فما نعرفه من تاريخ النقد األديب بوجه عام هو أن كل تغيري حاسم يف جمال‬
‫املعرفة األدبية‪ ،‬يقرتن بعملية انقطاع معريف‪ ،‬وأن هذا االنقطاع ال يتأسس إال بانعكاس النقد على‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.001 :‬‬


‫عبد العزيز محودة ‪ :‬املرايا املقعرة‪ ،‬ص‪.002 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪289‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫نفسه‪ ،‬وازدواج حركته اليت يتحول هبا من لغة واصفة ملوضوع هو غريها إىل لغة واصفة ملوضوع هو‬
‫إياها‪ ،‬باملعىن الذي يغدو معه النقد لغة واصفة‪ ،‬موضوعها هو عني ذاهتا وذاهتا هي عني موضوعها‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫الذي يدخل عصرا جديدا أو مرحلة جديدة‪ ،‬بتغري نظرة الذات إليه أو حتديقها فيه‪".‬‬

‫إ ّن نظرة فاحصة ملفردات هذا االقتباس جتعل القارئ يرتبك جراء متاثالت هذا االستعمال‬
‫اللغوي وانزياحاته‪ ،‬فال يسلس له فهم املبتغى من وراء ذلك إال بعد جهد رمبا يكون مضاعفا‪ ،‬وما‬
‫‪2‬‬
‫من شك يف أن هذا اإلدعاء فلسفي دون وجود أي فلسفة حقيقية أو عمق يف التناول‪.‬‬

‫‪ .4‬جدلية األنا واآلخر ‪:‬ي الوعي العربي املعاصر‬

‫حياول جابر عصفور أن ّ‬


‫يبوء النقد املعاصر مكانة هامة يف هرم املعرفة املعاصرة‪ ،‬إما برده إىل‬
‫جذوره األصلية أو اتصاله باملنجز الغريب‪ ،‬واهلدف من كل ذلك هو حتقيق ذلك اإلتصال مع الرتاث‬
‫يف جماهبة الغازي والوافد من الثقافة الغربية‪ ،‬لكن حقيقة األمر تنبئ بأن الرجل يروم االنفصال عن هذا‬
‫الرتاث ليؤسس حداثة مزعومة‪ ،‬تكون مبتورة الصلة بكل ما يربطها باملاضي‪.‬‬

‫يكتب عصفور عن منوذج حداثي ممثال يف قراءة كمال أبي ديب لعبد القاهر الجرجاني‬
‫قائال ‪ ":‬ولكنه الوصل الذي سرعان ما ينقطع ليتأكد حضور القارئ يف حدث اتصال فعال‪ ،‬يثبت‬
‫دور املستقبل هلذه الرسالة‪ ،‬ومن مث دور القارئ املعاصر يف عملية جتعل اهلدف من القراءة مرهونا‬
‫بغائية املشروع البنيوي كله‪ ،‬وذلك هو ما واجه ناقدا مثل كمال أيب ديب إىل إعادة قراءة نظرية‬
‫اجلرجاين يف الصورة الشعرية ‪ ،0020‬ليثبت أن عبد القاهر هو الناقد الذي يؤسس عمله مدخال فذا‬
‫إىل بنية اللغة التعبريية بوجه عام والصورة الشعرية بوجه خاص‪ ،‬فعبد القاهر يف قراءة كمال أيب ديب‬
‫هو الناقد الذي يرتكز اهتمامه يف املنهج احملايث للتحليل األديب‪ ،‬وليس املنهج اخلارجي وعمله منوذج‬
‫مفيد للناقد البنيوي‪ ،‬خصوصا ما جيده هذا الناقد من اهتمام عميق بالبنية الشعرية عند عبد القاهر‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.32 ،35 :‬‬


‫‪ 2‬ينظر عبد العزيز محودة ‪ :‬املرايا املقعرة‪ ،‬ص‪.002 :‬‬
‫‪290‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حيث الرتكيز على القصيدة بوصفها نشاطا لغويا ومجاعا من العالمات أو بوصفها نسقا من عالمات‬
‫‪1‬‬
‫لغوية دالة‪".‬‬

‫إ ّن ما يروم عصفور إثباته من خالل هذا االقتباس الطويل نسبيا‪ ،‬هو ادعاءه صحة االجتاه‬
‫البنيوي‪ ،‬وليس إلثبات أن النقد العريب القدمي ‪-‬ممثال يف عبد القاهر اجلرجاين‪ -‬ميثّل مدرسة نقدية‬
‫قائمة بذاهتا‪ ،‬واحلال أن قراءته تكشف عن انزالقات خطرية يف املشروع البنيوي أليب ديب‪ ،‬الذي‬
‫يهد ف إىل ممارسة تغييب الرتاث من العملية النقدية احلداثية‪ ،‬مبعىن أن الرجل يريد أن يثبت توجهه‬
‫البنيوي باالتكاء واالعتماد على الرتاث ممثال يف طروحات عبد القاهر البالغية‪ ،‬دون أن يكلّف نفسه‬
‫عناء البحث عن اجلذور الرتاثية ملا مسي فيما بعد بالبنيوية‪ ،‬واختذ من الصورة يف البحث البالغي عند‬
‫عبد القاهر منطلقا لتوجهه البنيوي واستثماره جلهود هذا البالغي‪ ،‬إمنا هي من قبيل الوسيلة وليس‬
‫الغاية‪ ،‬إال أن قراءة عصفور تنم عن وسيلة معرفية يف ضبط هذه القضايا النقدية‪ ،‬ألن عصفور كما‬
‫يكتب عبد العزيز حمودة ‪ " :‬من بني أفضل من قدموا قراءات مستنرية للرتاث النقدي العريب‬
‫وأغزرهم إنتاجا يف هذا االجتاه‪ ... ،‬مل يتوقف كثريا أو قليال عند خطورة قراءة أيب ديب للجرجاين‪،‬‬
‫وعلى الرغم من أنه يف أكثر من مناسبة يؤكد أمهية الوسطية اليت تفرض القطيعة املعرفية مع الرتاث‪،‬‬
‫وهي حينما تفعل ذلك فإن اهلدف هو فهم املاضي بصورة أفضل من ناحية‪ ،‬وحتقيق فهم أفضل يف‬
‫الوقت نفسه للرتاث ذاته عن طريق استخدام املنهجيات واآلليات احلديثة يف التعامل معه من ناحية‬
‫‪2‬‬
‫أخرى‪".‬‬

‫إن دعوة عصفور هلذه الوسطية أملتها عليه ظروف االستقبال اآليل الصمين ملختلف آليات‬
‫املناهج الغربية من قبل بعض النقاد احلداثيني العرب‪ ،‬الذين صاغوا توجهاهتم النقدية بناء على هذه‬
‫اإلفرازات املعرفية من الثقافة الغربية‪ ،‬فلم جيد عصفور بدًّا من أن يدعو إىل وسطية يف العملية النقدية‬
‫ليطعم به خمزونه الذايت‪،‬‬
‫متسك بالرتاث ومنجزاته بيد وبيد أخرى ما أتى به الوافد من الثقافة الغربية‪ّ ،‬‬
‫غري أن ما يالحظ على هذه الدعوة أهنا تسقط يف الكثري من األحيان يف فخ التلفيق الذي جير إىل‬
‫حد التناقض‪ ،‬كما يكتب عبد العزيز حمودة متتبعا قراءة عصفور ملثل هذه املشاريع‪... " :‬مل ينزلق‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.28 :‬‬


‫‪ 2‬عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا املقعرة‪ ،‬ص‪.022 :‬‬
‫‪291‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إىل فخ قراءة الرتاث هبدف تأسيس شرعية البنيوية أو احلداثة‪ ،‬وإذا كنا يف بعض األحيان نرصد عنده‬
‫بعض التناقضات فذلك ألن تناقضاته هي تناقضات جيل احلداثيني بأكمله تقريبا بعد أن وجدوا‬
‫أنفسهم يتبنون احلداثة بتمردها على القدمي واملألوف‪ ،‬ودعوهتا للقطيعة مع املاضي مع الرغبة يف حتقيق‬
‫‪1‬‬
‫األصالة مهما اختلفنا على معناها ودرجتها‪".‬‬

‫استتباعا هلذا فإن الكثرة املطلقة من هذه املصطلحات املثارة يف هذا اجلدل‪ ،‬مل يتم التعامل‬
‫معها بشكل مستقيم على األقل عند باقي احلداثيني اآلخرين‪ ،‬إال أن عصفور ويف تبنيه هلذه الوسطية‬
‫املعرفية يعي متاما احلدود الفاصلة واملائزة بني األصالة مثال واملعاصرة‪ ،‬بني الرتاث واحلداثة‪ ،‬وهي حدود‬
‫الردة يف حقها بل بإيالئها االهتمام كله‪ ،‬واإلفادة مما عند‬
‫ال ميكن القفز عليها إلظهار هذا النوع من ّ‬
‫اآلخر من أدوات وآليات‪ ،‬تساعد على بلورة الوعي النقدي‪ ،‬خاصة املمارسي منه كما هو احلال يف‬
‫استقبال هذه االستعارات اليت تزيد من وعينا برتاثنا‪ ،‬يقول‪... ":‬ويبدو أنه يلزم يل ‪ -‬حىت أستبعد أي‬
‫سوء فهم ‪ -‬تأكيد الوجه املوجب ألمثال هذه االستعارات من حيث كوهنا أدوات ضرورية ال سبيل‬
‫إىل االستغناء عنها أو جتاهلها‪ ،‬أو اجلهل هبا يف تطوير كل معرفة قائمة بالرتاث‪ ،‬أو إنتاج أي معرفة‬
‫جديدة به‪ ،‬على األقل إىل أن تستطيع ثقافتنا أن تصل إىل الطور الذي ميكنها من اإلنتاج الذايت ملثل‬
‫هذه األدوات‪ ،‬وحىت لو وصلت ثقافيا إىل هذا الطور‪ ،‬فإن اجلدل مع "اآلخر" املنتج هلذه االستعارات‬
‫سيظل ‪-‬كما كان دائما ‪ -‬شرطا أساسيا الكتمال وعي األنا بنفسها من ناحية‪ ،‬وقدرهتا على تطوير‬
‫‪2‬‬
‫نفسها باحلوار مع غريها من ناحية ثابتة‪".‬‬

‫ولعل من أهم املصطلحات واملفاهيم اليت نالت حظّها يف التجربة النقدية عند جابر عصفور‬
‫وجعلته يقارب الرتاث العريب مقاربة متميزة جند مصطلح "الذاكرة" اليت تعمل دائما على إعادة‬
‫استحضار نقاط مهمة يف الرتاث بغية قراءهتا واستثمارها نظرا للحاجة امللحة لذلك فالذاكرة " ال‬
‫تستبقي إال ما سبق أن أثارها يف هذه اللحظة أو تلك من حلظات تارخيها املتعاقب‪ ،‬وال تسرتجع إال‬
‫ما يتجسد يف وعيها نتيجة فعل االستعادة ‪...‬ولذلك فهي ال تتحرك من حاضرها إىل ماضيها إال ما‬
‫ينجذب من خمزون هذا املاضي إىل مواقف احلاضر وأحداثه‪ 3".‬تنتقل الذاكرة أثناء القيام بعملها بني‬

‫عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا املقعرة‪ :‬ص‪.022 :‬‬


‫‪1‬‬

‫جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.002 ،002 :‬‬


‫‪2‬‬

‫‪ 3‬جابر عصفور‪ :‬ذاكرة الشعر‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬مصر ‪ ، 3115 ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪292‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حمطات كثرية‪ ،‬ويف عملية االستعادة هذه يكون عملها انتقاليا وانتقائيا يف الوقت نفسه‪ ،‬ألهنا قد‬
‫حتتوي على عناصر اإلتباع‪ ،‬وذلك نتيجة ما حيفزها من حمطات احلاضر‪ ،‬حتفزها على القيام هبذه‬
‫احلركة االرتدادية من احلاضر إىل املاضي والعكس‪ ،‬لتحرك خمزوهنا املاضي الذي يبقى النبع الذي يزود‬
‫احلاضر مبا حيتاج إليه‪.‬‬

‫وعملية اإلستعادة هذه هي اليت رفدت بعض الشعراء اإلحيائيني إىل إعادة بعث الرتاث‬
‫واملاضي من جديد‪ ،‬ولكن يف ثوب آخر‪ ،‬ما يؤسس يف مرحلة الحقة ملا عرف يف أجبديات اللغويات‬
‫احلديثة عند دي سوسير )‪ )F. De Saussure‬وحىت عند رائد إسرتاتيجية التفكيك جاك دريدا‬
‫(‪ )J.Derrida‬بثنائية احلضور والغياب‪ ،‬على أساس أن ما تستعيده الذاكرة من خطاب يكون‬
‫حاضرا ويف الوقت نفسه يوحي إىل نقيضه الغائب‪ ،‬وبضدها تتباين األشياء كما يقال‪ ،‬أما عمليات‬
‫اإلحياء اليت نادى هبا بعض شعراء التيار اإلحيائي‪ ،‬فإهنا ترمي إىل إعادة بعث تلك الكنوز الدفينة‪،‬‬
‫وهي دعوة إىل اسرتجاع ذلك املاضي الزاهر والتأسي بأجماده‪ ،‬إال أن ذلك كله حسب جابر عصفور‬
‫يدخل حتت مسمى آخر‪ ،‬نادى به النقد املعاصر وهو ما عرف بـ"التناص" )‪(Intertextualité‬‬
‫الذي برز إىل سطح الدراسات احلداثية‪ -‬والسيميائية على وجه اخلصوص‪ -‬يف أعقاب املد البنيوي‪،‬‬
‫واملناداة بفتح الدوال على تعددية املدلوالت‪ ،‬مبا أصبح يعرف بالعالمات على مستوى اللغة‪ ،‬واليت‬
‫يتجسد الدال مبدلوله األحادي‪ ،‬أما على مستوى اخلطاب فإن واحدية الدوال ال يقابلها بالضرورة‬
‫واحدية املدلوالت‪ ،‬إمنا تعددية أو الهنائية الدالالت كما نادى بذلك أصحاب إسرتاتيجية‬
‫التفكيك‪ 1.‬والتناص بذلك غياب للمعىن األصلي وهو " تلك التعالقات املتنامية ‪ -‬على حنو ملموس‬
‫أو خفي ‪ -‬لنصوص جملوبة أو متسربة يف الالوعي‪ ،‬حتل يف نص حاضر‪ ،‬ومتنحه من محولتها اليت‬
‫ميتصها أو يتقاطع معها أو يتجاوزها‪ ،‬عرب خربة حاضرة وتفاعل مستمر‪ ،‬مينح النص إنتاجية عالية‪،‬‬
‫ويدفع به إىل مناطق رؤياوية جديدة وخصبة‪ 2".‬ويغدوا النص انطالقا من هذا التعريف شبكة من‬
‫العالقات اليت ختتزن مجلة من النصوص سواء أكان صاحبها واعيا هبا أم كانت متسربة يف ال وعيه‪،‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬عمر مهيبل‪ :‬البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪ ،3101 ،2‬ص ‪ 322 :‬إىل‬
‫‪.322‬‬
‫‪ 2‬عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا احملدبة ‪ -‬من البنيوية إىل التفكيك‪ ،-‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫‪ ،0008‬ع‪ ،323‬ص‪.223 :‬‬
‫‪293‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األمر الذي حدا بجابر عصفور إىل نفي أي عملية تطابق بني التناص وعملية اإلحياء اليت واكبت‬
‫جهود مجلة من الشعراء العرب احملدثني‪ ،‬ذلك أن التماثل أو التطابق يلغي الوظيفة اجلمالية واملعرفية‬
‫آللية التناص ويسلخ العملية اإلبداعية والنقدية على السواء من أي مؤثر فين ومجايل‪ ،‬والسبب يف نظر‬
‫عصفور " يرجع إىل أن التناص أمشل من أن خيتزله املعىن الضيق للتقليد‪ ،‬وأعقد من أن تستوعبه‬
‫التقنيات احملدودة لوسائل التضمني أو اإلقتباس أو اإلستلحاق أو املعارضة أو املوازنة اليت ينطوي‬
‫‪1‬‬
‫عليها البعد الرتاثي من شعر اإلحياء‪".‬‬

‫تتباين داللة املصطلحني تباينا جليا‪ ،‬فالتناص أمشل من اإلحياء‪ ،‬ألن األخري فعل اسرتجاع‬
‫سليب للرتاث وهو تقليد الالحق للسابق‪ ،‬يف حني أن التناص نظرية معرفية من نظريات احلداثة الغربية‬
‫صري هذه النظرية نقدية وأدبية فيما بعد‪.‬‬
‫ترجع يف أصوهلا إىل مرجعيات فلسفية وفكرية هي من ّ‬
‫تتأسس نظرة جابر عصفور النقدية هلذه املصطلحات من أمهية التمييز بينها‪ ،‬وحماولة وعي‬
‫منطلقاهتا وأساساهتا املعرفية واملفهومية‪ ،‬وحياول أن يسرتشد بأهم الطروحات النقدية املعاصرة اليت تروم‬
‫التقييد ملثل هذه املصطلحات‪ ،‬ويعود السبب إىل تأكيده وجود التناص يف شعر اإلحيائيني إىل‬
‫املفهوم املعاصر ملصطلح النص الذي استثمر معناه من بارت (‪ . 2)R.Barthes‬هذا النص الذي‬
‫يقتضي جمموعة من النصوص املتداخلة واملتشابكة واليت تش ّكل نسيجا من االقتباسات السابقة عليه‪.‬‬
‫أما املفهوم املصطلحي للتناص عنده‪ ،‬فيستثمر املفهوم الذي نادت به جوليا كريستيفا‬
‫(‪ )J.Kristeva‬يقول‪ " :‬وأعرتف ابتداء أنين أفهم التناص مبعىن قريب إىل ح ّد ما‪ ،‬ومع بعض‬
‫حتول من نسق (أو‬‫االحرتاس‪ ،‬من املعىن الذي حددته جوليا كريستيفا (‪ ، )Julia Kristeva‬فالتناص ّ‬
‫أنساق) عالمة إىل نسق آخر (أو أنساق) على حنو يستلزم منطوقا جديدا‪ ،‬منطوقا حتدده العالقة‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬ذاكرة الشعر‪ ،‬ص‪.38 ،32 :‬‬


‫‪ 2‬يعّرف روالن بارت النص بقوله‪" :‬إننا نعرف اآلن أن النص ليس سطرا من الكلمات وينتج عنه معىن أحادي‪ ،‬أو ينتج عنه‬
‫معىن الهويت ‪ ...‬ولكنه فضاء ألبعاد متعددة ترتاوح فيها كتابات خمتلفة وتتنازع‪ ،‬دون أن يكون أي منها أصليا‪ ،‬فالنص نسيج‬
‫ألقوال ناجتة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة"‪ .‬روالن بارت‪ :‬نقد وحقيقة‪ ،‬تر‪ :‬منذر عياشي‪ ،‬مركز اإلمناء احلضاري‪،‬حلب‪،‬‬
‫سورية‪،‬ط‪ ،0002 ،0‬ص‪.30 :‬‬
‫‪294‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫هوة خالفية تتحدد هبا دالالت النص يف‬


‫املتوترة بني األنساق‪ ،‬خصوصا ما تؤكده هذه العالقة من ّ‬
‫‪1‬‬
‫عالقاته بغريه‪".‬‬

‫إن التناص يعمل على حتييد صاحب النص مما يفتح الباب واسعا حنو تعددية الداللة‪ ،‬بل ال‬
‫هنائيتها خاصة عند أصحاب إسرتاتيجية التفكيك‪ ،‬ويف عملية العزل هذه يغيب املعىن العام للنص‪،‬‬
‫الذي يرتاجع تدرجييا حنو اخللف مفسحا اجملال لتبوء القارئ مكانة مرموقة تؤهله إىل حماولة فك‬
‫شفرات النص الراهن‪ ،‬والتأسيس مليالد نص جديد يكون بؤرة مشعة ملختلف التأويالت والدالالت‪،‬‬
‫وتنتقل فيه الداللة من الوجود بالقوة إىل الوجود بالفعل‪.‬‬

‫غري أن املفهوم السابق للتناص كما ذهب إىل ذلك عصفور متأثرا بتعريفات جوليا كريستيفا‪،‬‬
‫يرتاجع عنه يف تعريف آخر له‪ ،‬عندما يذهب إىل عدم التطابق بني مفهوم التناص واإلحياء فيقول‪":‬‬
‫وأنا ال أشري إىل التناص مبعناه اخلاص‪ ،‬الذي أسسته جوليا كريستيفا‪ ،‬وكانت تعين به التحول من‬
‫نظام (أو أنظمة) عالمة إىل نظام آخر (أو أنظمة) حبيث يستلزم التحول منطوقا جديدا‪ ،‬وإمنا باملعىن‬
‫متضمنا وفرة من نصوص مغايرة ميثلها بقدر ما يتحدد هبا على مستويات‬‫العام الذي جيعل كل نص ّ‬
‫متعددة‪ ...‬فالتناص حركة مركبة يف النص تنطوي على السلب أو اإلجياب‪ ،‬وتكد عالقات املشاهبة‬
‫بالنصوص أو املخالفة القصدية هلا‪ 2".‬انطالقا من هذا التعريف اجلديد للتناص نلحظ نقضا واضحا‬
‫للتعريف األول‪ ،‬الذي ارتضاه عصفور للتناص‪ ،‬فالرجل يذهب مذهبا آخر يف مطابقة مفهوم التناص‬
‫ملفهوم اإلحياء على أساس من تلك العالقات احلضورية واملشاهبة بينهما‪.‬‬

‫إن النص املتناص عند جابر عصفور" فسيفساء من االقتباسات واإلمياءات والعالمات‬
‫والشفرات واإلشارات اليت تضعه يف موضعه الذي حيدد هويته اخلالفية‪ ،‬حىت يف أحوال تشاهبه مع‬
‫‪3‬‬
‫غريه داخل الشبكة اهلائلة اليت ال ح ّد هلا من النصوص اإلبداعية وغري اإلبداعية‪".‬‬

‫حياول عصفور النأي بنفسه عن تلك األحكام الناجزة اجلاهزة واإلسقاطات الفجة‪ ،‬اليت ترجع‬
‫كل ما لدى الغرب إىل أصول عربية‪ ،‬وحياول أن ينصف هذه القسمة ولو على مستوى املفاضلة بني‬

‫‪ 1‬جابر عصفور ‪ :‬ذاكرة الشعر‪ ،‬ص‪.30 :‬‬


‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬رؤى العامل‪ ،‬ص‪.202 :‬‬
‫‪ 3‬جابر عصفور‪ :‬ذاكرة الشعر‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪295‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫كل ما هو‬ ‫العقلني الغريب والعريب‪ ،‬األمر الذي جعله ال يقف موقفا منحازا إىل كل ما هو عريب ضد ّ‬
‫غريب‪ ،‬لذلك ال يطابق بني هذه املفاهيم ‪ -‬التناص‪ ،‬اإلحياء‪...-‬اخل‪ .‬ويذهب إىل أن " أي مقاربة‬
‫للرتاث تتم من داخل اجملتمع ال من خارجه‪ ،‬ويف حلظة تارخيية هلا خصوصيتها وأن هلذه املقاربة‬
‫جانب من احلياة الفكرية هلذا اجملتمع‪ ،‬ومن مثّة احلياة االجتماعية ككل‪ ...‬وبداية ذلك أن نكف عن‬
‫التوجه إليه بوصفه األصل األمثل‪ ،‬الذي البد أن نعود إليه لنستمد منه املربر ملا حولنا وما يستجد يف‬
‫‪1‬‬
‫حياتنا‪ ،‬إنه جهد بشري متغاير اخلواص‪".‬‬

‫لكل حضارة وثقافة خصوصيتها وفرادهتا اليت هبا تتغاير وتتمايز‪ ،‬فالرتاث العريب له ظروفه‬
‫التارخيية والسياقية‪ ،‬اليت أوجدته وله سياقاته الفكرية والعلمية اليت نقاربه هبا‪ ،‬واآلخر الغريب له ظروفه‬
‫اليت أنتجت إجراءاته وآلياته‪ .‬فال جمال للمزايدة واملفاخرة اليت من شأهنا أن تقتل كل إبداع ونقد بنّاء‪.‬‬

‫إ ّن ما حياول عصفور الدعوة إليه يف تتبعه ملثل هذه املفاهيم واملصطلحات الثقافية العربية‬
‫والغربية‪ ،‬إمنا هو إبراز فاعلية القراءة النقدية اهلادفة إىل التأصيل النظري‪ ،‬والسري به حنو مواكبة سري‬
‫احلضارة الراقية‪ ،‬إذ بالقراءة اهلادفة والتجاوزية وحدها نتحرر من أسر الرتاث‪ ،‬وإطباقه على رقابنا مما‬
‫جيعل من عملية املساءلة ذات جدوى وفاعلية‪ ،‬فكلما جعلنا تلك املسافة الواقية اليت متنعنا الذوبان‬
‫واالمنحاء فيه‪ ،‬كلما ضمنا تلك النتائج القمينة بإبراز كنوزه ونفائسه‪ ،‬ألننا ال نبحث يف الرتاث عن‬
‫آمالنا ورغباتنا فحسب‪ ،‬إمنا نبحث فيه عن استقالله عنا واستقاللنا عنه‪ .‬األمر الذي ميكننا من‬
‫مقاربته مقاربة موضوعية هادفة‪ ،‬وذلك ما يؤسس إىل إبراز حداثتنا العربية اليت رمبا تتغاير عن نظريهتا‬
‫الغربية‪ ،‬لكننا يف النهاية نسهم يف صناعة حداثة إنسانية عامة مع كل الفاعلني يف ساحة احلضارة‪،‬‬
‫اإلحماء يف اآلخر انطالقا من‬ ‫مع مراعاة جوانب اخلصوصية والتميز والتفرد اليت متنع عملية الذوبان و ّ‬
‫أ ّن " العالقة بني مفاهيم احلداثة األوربية ومفاهيم احلداثة العربية ال تنطوي على تشابه األصل‬
‫والصورة إال عند من يؤمن ‪ -‬واعيا أو غري واع‪ -‬بدونية األنا يف حضرة اآلخر من ناحية‪ ،‬ومن يفرغ‬
‫كل حداثة من سياقها التارخيي من ناحية ثانية‪ 2".‬ذلك ألن عملية التفرد هي من تصنع للذات‬
‫كينونتها ووجودها‪،‬‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬هوامش على دفرت التنوير ‪ ،‬ص‪ 08 :‬إىل ‪.22‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.22،25 :‬‬
‫‪296‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .1‬احلداثة العربية واملرجعيات املستعارة‬

‫يتلمس جابر عصفور مفاصل التماس يف تأثري احلضارة الغربية يف نظريهتا العربية‪ ،‬وحياول‬
‫جاهدا أن ينفي أي مرآوية يف عملية التأثري املعريف للحداثة الغربية‪ ،‬ألن األمر حسب نظره جيعل من‬
‫اآلخر الغريب فاعال واألنا العربية منفعال‪ ،‬وهو ما ال يقول به عصفور على األقل يف الوقت الراهن‪،‬‬
‫فكل حداثة هلا شرطها التارخيي وحلظتها الزمنية اليت أسهمت يف بلورهتا وإجيادها‪ ،‬وانطالقا من هذا‬
‫فإن " لكل حداثة منوذجها اخلاص ‪ ،‬نسقها املعريف املتميز‪ ،‬أسئلتها اليت ارتبطت هبمومها املتعينة‪،‬‬
‫وهي ال تتشابه مع غريها من احلداثات أو تتجاوب‪ ،‬أو تؤثر‪ ،‬إال من خصوصيتها اليت حتدد مالحمها‬
‫‪1‬‬
‫العامة اليت تلتقي فيها وغريها‪".‬‬

‫يف تتبعه إلسهامات جابر عصفور النقدية خاصة ما تعلق منها بطروحاته النقدية ملسألة‬
‫احلداثة‪ ،‬يذهب عبد العزيز حمودة إىل اعتباره من بني النقاد األوائل الذين أسهموا يف بلورة وعي‬
‫نقدي مب ّكر بإشكالية تأصيل احلداثة يف اخلطاب النقدي العريب املعاصر‪ ،‬يقول حمودة‪ " :‬كان قد‬
‫أصبح يف أثناءها من أكرب الداعني للحداثة واملروجني هلا كمدخل لالستنارة‪ ،‬األمر الذي جعله عن‬
‫جدارة أكثر الوجوه ألفة يف احملافل العلمية يف العامل األديب‪ ،‬ويف نفس الوقت استطاع أن يتقن‬
‫‪2‬‬
‫أساليب اللغة املراوغة اليت أصبحت الزمة من أهم لوازم نقد احلداثة وما بعد احلداثة‪".‬‬

‫غري أن هذا االعرتاض من قبل عبد العزيز حمودة هو يف حقيقة األمر من قبيل حتصيل‬
‫احلاصل‪ ،‬ذلك أن جابر عصفور حقيقة يع ّد من أبرز النقاد العرب احملدثني‪ ،‬الذين نادوا باحلداثة يف‬
‫الثقافة والنقد العربيني‪ ،‬وال سبيل إىل إنكار ذلك أو جحوده‪ ،‬إال أ ّن مدار القضية يعود يف أساسها‬
‫إىل مدى فاعلية طروحاته يف نقل الدراسات النقدية احلداثية العربية‪ ،‬ومدى إسهامه يف بلورة‬
‫مفاهيمها ومقوالهتا‪ ،‬وحماولة إجياد البدائل املصطلحية واملفاهيمية للعملية النقدية برمتها‪ ،‬مث يتتبع‬
‫حمودة التعريفات التأسيسية اليت تناوهلا الناقد ملصطلح احلداثة الشعرية‪ ،‬ومدى اإلضافة النوعية اليت‬
‫ميكن أن نعثر عليها يف هذه التعريفات‪.‬‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪ 2‬عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا احملدبة‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪297‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫غري أن األمر ال يعدو كونه تكرارا وإعادة ملقوالت عامة يف تعريف الشعر تراثيا‪ ،‬يقول جابر‬
‫عصفور‪ ... ":‬لنقل إن احلداثة يف الشعر ال تقوم على ثنائية يتعارض فيها املاضي مع احلاضر‪ ،‬يف‬
‫حمور زمين فحسب‪ ،‬بل تقوم على أساس من تعارض آخر يف احلاضر نفسه‪ ،‬على مستويات متعددة‪،‬‬
‫والشاعر احملدث هبذا الفهم‪ ،‬هو الشاعر الذي يبدع يف احلاضر مقابل الشاعر الذي أبدع يف املاضي‪،‬‬
‫كما أنّه الشاعر الذي يرتبط جبانب متقدم يف احلاضر مقابل الشاعر الذي يرتبط جبانب ثابت‪،‬‬
‫تغري يف عالقات احلاضر‪،‬‬
‫تغري يف اإلدراك نتج عن ّ‬‫واالرتباط باجلانب املتقدم من احلاضر يشري إىل ّ‬
‫التغري يف العالقات‪ ،‬حياول صياغته إبداعا‪ ،‬فإنه يدخل يف تعارض له‬
‫ومبجرد أن يعي الشاعر هذا ّ‬
‫‪1‬‬
‫أكثر من جانب‪".‬‬

‫رمبا ال أجانب الصواب إذا نفيت عن هذا التعريف أي صفة حداثية‪ ،‬فاألمر وما فيه ترديد‬
‫لتعريف قدمي قدم اإلبداع الشعري‪ ،‬أو معاودة لفظية توحي جب ّدهتا على الرغم من أ ّن مضموهنا‬
‫وداللتها عتيقة قدمية‪ ،‬قدم التعريفات التأسيسية للعملية الشعرية والنقدية على السواء‪ ،‬وال أجد دافعا‬
‫يف هذا املقام لتكرار جمموعة كبرية جدا من التعريفات الرتاثية للعملية اإلبداعية‪ ،‬فالكتب الرتاثية سواء‬
‫كانت عربية أم أجنبية تعج مبثل هذه التعريفات‪ ،‬فهل بعد هذا نقنع أنفسنا أننا أمام تعريف حداثي‬
‫مر بنا؟ ال أظن ذلك بالقدر الذي ال أشك فيه بأ ّن الشراب القدمي يبقى قدميا وإن وضع يف‬ ‫كالذي ّ‬
‫زجاجة جديدة‪.‬‬

‫تقصي املالمح احلداثية يف تعريفات جابر عصفور للحداثة‪ ،‬وحياول‬ ‫يواصل عبد العزيز حمودة ّ‬
‫عبثا حتسس مفاصل التالحم بني التعريفات القدمية للشعر والتعريفات اجلديدة له‪ ،‬فال يقع من ذلك‬
‫على طائل يذكر ‪ ،‬إذ بعد فرتة زمنية تنيف عن الثالثة عشر عاما من التعريف األول للشعر الذي‬
‫جاء به يعود لتعريف احلداثة الشعرية‪ ،‬لكن الرجل ال يكاد يضيف شيئا ذال بال‪ ،‬ذلك أنه اقتطع‬
‫تعريفه من مصادرته للتقاليد الشعرية العربية املتوارثة‪ ،‬أو ما اصطلح عليه بالقطيعة املعرفية مع الرتاث‪،‬‬
‫وهو الشرط األساس ليكون الشاعر حداثيا‪ ،‬مما سبّب خلال بيّنا يف موازنة املعادلة أصالة‪/‬معاصرة‬
‫ووضع القضية برمتها موضع الشك واالرتياب‪.‬‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬تعارضات احلداثة‪ ،‬جملة فصول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬أكتوبر ‪ ،0081‬مج‪ ،0‬ع‪ ،0‬ص‪.25 :‬‬
‫‪298‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تقصاها حمودة بالنسبة لجابر عصفور‪ ،‬ال تضيف شيئا يذكر يف جمال‬ ‫إن التعريفات اليت ّ‬
‫النقد‪ ،‬وذلك انطالقا من التخبط الذي أصاب اجلهاز املفاهيمي للناقد‪ ،‬ومل يستطع ضبطه داخل‬
‫منظومته املعرفية‪ ،‬شأنه يف ذلك شأن الكثري من النقاد العرب احلداثيني‪ ،‬الذين انبهروا باملنجزات‬
‫الغربية‪ ،‬دون حماولة كنه ماهيات األشياء‪ ،‬إذ ال ميكن أن نقتطع ونبتسر احلداثة بتعقيداهتا وشرائطها‬
‫عن املهاد الفلسفي الفكري‪ ،‬الذي أنتجت فيه هناك يف أرض النشأة‪ ،‬أضف إىل ذلك مستوى‬
‫الوعي الذي صاحب عملية التلقي واالستقبال العربيني ملقوالت احلداثة‪ ،‬هذا الوعي الذي مل يكتمل‬
‫بنقد األسس املرجعية للحداثة الغربية‪ ،‬فجرى انفعال وانبطاح أمام مقوالهتا ومنجزاهتا دون متحيص‬
‫وغربلة هلا‪ ،‬وعدم مراعاة اخلصوصية العرقية والثقافية لكل أمة من األمم‪.‬‬

‫إذا كان جابر عصفور ال يستقر على رأي فيما خيص نظرته إىل اإلشكاليات املعرفية اخلاصة‬
‫باستقبال احلداثة الغربية‪ ،‬فإ ّن أدونيس مثال يضع هلذه احلداثة تعريفات متمايزة أحيانا ومتشاهبة‬
‫أحيانا أخرى‪ ،‬فاحلداثة يف الفكر النقدي عند أدونيس ليست فصال أو برتا يصيب العملية اإلبداعية‬
‫عند املبدع‪ ،‬فيفصل مبوجبها ماضيه عن حاضره‪ ،‬إمنا هي استمرار وتواصل ومن مثّ جتاوز هلذا املفهوم‬
‫وحماولة بسط اجلديد يف ثوب مغاير ملا هو سالف‪ ،‬وال يشرتط أدونيس للحداثة زمنا معينا أو وحيدا‬
‫تقاس عليه اللحظات األشد حداثة من غريها‪ ،‬إمنا زمنها كذلك مستمر ومتواصل من الزمن املاضي‬
‫يف خيط تسلسلي إىل الزمن املستقبلي‪ ،‬يقول‪ ":‬إن زمن احلداثة هو الزمن العمودي أو هو التزامن‬
‫حيث تتالقى األزمنة وتتآلف‪ ،‬يف حلظة واحدة هي حلظة اإلبداع‪ ،‬هكذا ال تعود القصيدة فضاء‬
‫‪1‬‬
‫خيطيا واحدا‪ ،‬وإمنا تصبح تآلف من فضاءات عديدة‪".‬‬

‫رمبا مل تكن هذه املرة هي األوىل اليت عاجل فيها أدونيس مشكلة احلداثة سواء كانت شعرية أم‬
‫نقدية؛ فقد رسم هلا الناقد مجلة من األوهام أثبتها يف مؤلف آخر كان سابقا عن هذا الكتاب‪،2‬‬
‫ليضع القارئ يف صلب اإلشكالية ومربزا يف ذات الوقت ما انطوت عليه نظرة احلداثيني العرب من‬
‫سذاجة وهتافت يف فهم ووعي مثل هذه اإلشكاليات املعرفية‪ ،‬فالرجل ينعى على هؤالء احلداثيني‬

‫‪ 1‬أدونيس‪ :‬كالم البدايات‪ ،‬دار اآلداب‪،‬بريوت‪،‬ط‪ ،0080 ،0‬ص‪.052 :‬‬


‫أدونيس‪ :‬فاحتة لنهايات القرن ‪ -‬بيانات من أجل ثقافة عربية جديدة‪ ،-‬دار العودة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0081 ،0‬‬
‫‪2‬‬

‫و فيها حتدث عن مخسة أوهام تصيب احلداثة‪ :‬الزمنية‪ ،‬املغايرة‪ ،‬املماثلة‪ ،‬التشكيل النثري واالستحداث املوضوعي ‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫أدونيس‪ :‬فاحتة لنهايات القرن‪ ،‬ص‪.205 . 202 :‬‬

‫‪299‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫قصورهم املعريف والفكري يف معاجلة هذه القضايا‪ ،‬وينعى عليهم مجلة من اإلشكاليات اليت مرت هبا‬
‫األمة العربية‪ ،‬ويف مقدمة هذه اإلشكاالت ال يتورع عن ذكر تلك الثنائيات اليت رمست خريطة الفكر‬
‫العريب القدمي واحلديث ومنها طرق القراءة املوظفة يف قراءة الرتاث سواء كان دينيا أم أدبيا إبداعيا‪،‬‬
‫يقول ‪ " :‬إن القراءة اليت سادت واليت ال تزال سائدة هي قراءة الفقهاء‪ ،‬وإن الثقافة العربية السائدة‬
‫‪1‬‬
‫اليوم هي ثقافة الفقهاء‪ ،‬السلطة للنص ال للرأي‪".‬‬

‫رمبا ينطلق أدونيس من خلفية معرفية ومرجعية علمانية هي من دفعه الوقوف مثل هذا املوقف‪،‬‬
‫بشر هبا ال يقابلها على مستوى التلقي واحدية القارئ أو املتلقي‪ ،‬بل‬ ‫غري أن واحدية القراءة اليت ّ‬
‫على العكس من ذلك متاما‪ ،‬فلقد انفصلت هذه األنواع القرائية وتعددت بتعدد االهتمامات واملنازع‪،‬‬
‫فأصبحت القراءة الفقهية والقراءة اليسارية والقراءة العلمانية وغريها‪ ،‬دون أن حنشر كل هذه األنواع‬
‫يف زمرة واحدة وندعي أن السلطان كله للنص على حساب العقل‪ .‬مث ما املانع من االحتكام إىل‬
‫القراءة الفقهية اليت تناوهلا أدونيس خاصة إذا كانت املسألة املثارة دينية أو فقهية؟ رمبا ترجع هذه‬
‫القناعة إىل مرتكزات معرفية يسارية أو ميينية حتدد املبتغى أو الغاية من هذه املنازع‪.‬‬

‫ال جيد أدونيس مانعا يف معاجلة قضايا الرتاث على غرار الكثري من املفكرين العرب الذين‬
‫جايلوه أو الذين سبقوه يف طرح أفكارهم وآرائهم حول هذه املسألة‪ ،‬على غرار‪ ،‬محمد أركون‬
‫ومحمد عابد الجابري و طه عبد الرحمان والطيب تيزيني وحسن حنفي وجابر عصفور‬
‫وغريهم‪ .‬غري أن أدونيس يربط قضية الرتاث ربطا وثيقا وشرطيا بقضية السياسة والسلطة‪ ،‬وال جيد له‬
‫فكاكا منها‪ ،‬يقول ‪ " :‬إن مسألة الرتاث أي مسألة االرتباط به أو االنفصال عنه‪ ،‬إمنا هي مسألة‬
‫‪2‬‬
‫سياسية‪ ،‬فهي قضية السلطة ال قضية املبدع سواء كان شاعرا أو كاتبا أو مفكرا‪".‬‬

‫ميارس الرتاث سطوة معرفية هامة على أي مفكر أو شاعر‪ ،‬وال جيد منه فكاكا حىت وإن كان‬
‫من دعاة احلداثة‪ ،‬فأدونيس مثال‪ ،‬يعرتف صراحة وضمنا هبذه السلطة املعرفية للماضي وعدم‬
‫ينجر عنه حماولة املهادنة معه قصد االستمرار وعدم االنقطاع‪ ،‬يقول يف‬
‫االنفصال عنه‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫تعريفه للحداثة العربية‪ ..." :‬احلداثة العربية تسبح يف اإلبداعات العربية املاضية‪ ،‬وحني نقول بتجاوز‬

‫أدونيس‪ :‬كالم البدايات‪ ،‬ص‪.025 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪ 2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.023 :‬‬


‫‪300‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫املاضي فإننا نعين جتديدا‪ ،‬جتاوزا لتصورات معينة للماضي‪ ،‬أو لفهم معني‪ ،‬أو لبىن تعبريية معينة أو‬
‫لعالقات معينة‪ ،‬أو ملعايري وقيم معينة‪ ،‬وال يعين إطالقا أننا ننفك وننفصل عنه كأنه أصبح عضوا ميتا‬
‫زال وتالشى‪ ،‬فهذا حمال عدا أ ّن القول به جهل كامل‪ ،‬وال باملاضي وحده‪ ،‬بل أيضا بطبيعة اإلنسان‬
‫‪1‬‬
‫وطبيعة اإلبداع‪".‬‬

‫يتضح من هذا النص أن املاضي ميارس نوعا من الضغط‪ ،‬واحلضور الدائم على الفرد املبدع‬
‫قصد عدم اخلروج عن املتعارف واملتداول وحماولة الرسم على املنوال واالحتذاء بالقدمي‪ ،‬كما هو‬
‫معروف يف أجبديات نظرية الشعر القدمية‪ ،‬إمنا الذي البد منه هو عدم االعرتاف مبرجعية املاضي‬
‫على مستوى اإلبداع يف عرف أدونيس وكأ ّن الرجل يقول القول ونقيضه يف آن‪ ،‬يقول يف موضع‬
‫آخر‪ " :‬إذا كان املاضي أصال مرجعيا‪ ،‬من الناحية الدينية‪ ،‬فهو من الناحية الثقافية أفق معرفة‬
‫وتساؤل‪ ،‬أي جمموعة اختبارات‪ ،‬وكشوف ومعارف‪ ،‬ال تتسم بأي طابع مرجعي‪ ،‬وليس فيها أي‬
‫‪2‬‬
‫إلزام‪".‬‬

‫إن مثل هذه الدعوة وهذا الطرح ينسف نظرية من أشهر نظريات النقد احلديث واملعاصر‪ ،‬أال‬
‫وهي نظرية التناص (‪ )Intertextuelité‬وكيفية أخذ الالحق من السابق يف جمال اإلبداع والنقد‬
‫على السواء‪ ،‬وهي إضافة إىل ذلك حماولة لكسر القناة الرابطة بني املاضي واحلاضر‪ ،‬والعمل على منع‬
‫استمرارية املاضي يف هذا احلاضر وتغذيته‪ ،‬وجعل هذا احلاضر وليدا للحظة الراهنة وال سلطة ألحد‬
‫عليه إال من سلطته على نفسه‪ ،‬وكأن املاضي هناك يف نقطة معينة وال سلطة له على أي نقطة تقع‬
‫خارجه‪ ،‬كما أن هذا احلاضر مبتور الصلة بكل ما عداه‪ ،‬وال يرجع إال على نفسه وال ينطلق إال من‬
‫إشكالياته‪ ،‬رغم أن الرتاث موجود فينا وأن ربقته تش ّد خبناقنا شئنا ذلك أم أبينا‪ ،‬وهو من يصنع‬
‫حاضرنا وليس مبتورا عنه‪ ،‬ويرجع أدونيس مرة أخرى على عقبيه حني يعرتف بأن " الرتاث ليس‬
‫النتاج كله الذي أنتج يف املاضي‪ ،‬وإمنا هو الطاقة اإلبداعية اليت جتسدت يف منجزات ال تستنفد‪ ،‬بل‬
‫‪3‬‬
‫فعالة متوهجة وجزء من حركية التاريخ‪".‬‬
‫تظل ّ‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.022 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.025 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.025 :‬‬
‫‪301‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تؤسس مجلة هذه النصوص ملقولة احلداثة تراثيا وحداثيا‪ ،‬ذلك أن احلداثة ليست حداثة واحدة‬
‫بل هناك حداثات بعدد اجملاالت واملكامن اليت ترومها‪ ،‬وإذا كانت احلداثة العلمية هي إعادة النظر‬
‫يف الطبيعة قصد السيطرة عليها‪ ،‬كما يذهب إىل ذلك أدونيس فإن " احلداثة فنيا‪ ،‬تساؤال جذريا‬
‫يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها‪ ،‬وافتتاح آفاق جتريبية جديدة يف املمارسة الكتابية‪ ،‬وابتكار طرق‬
‫للتعبري تكون يف مستوى هذا التساؤل وشرط هذا كله الصدور عن نظرة شخصية فريدة لإلنسان‬
‫والكون‪ 1".‬األمر الذي ينسحب معه الوقوف عندها موقف املتسائل الشكاك ال املستكني املذعن‪.‬‬
‫يقول جابر عصفور‪... " :‬ومن املؤكد أننا لسنا إزاء حداثة واحدة هلا جتليات متنوعة ‪ ...‬ولسنا إزاء‬
‫عناصر ثابتة مطلقة وأخرى متغرية نسبية‪ ،‬داخل حداثة كونية واحدة مفارقة ‪ ...‬إن وضع فعل الوعي‬
‫الذي يصوغ احلداثة داخل سياقه التارخيي يؤكد أننا إزاء حداثات متعددة على املستوى املتزامن(‬
‫‪2‬‬
‫السنكروين) واملتعاقب ( الدياكروين ) على السواء‪".‬‬

‫تأسيسا على هذا القول‪ ،‬ال ميكن أن نطمئن إىل وجود حداثة عاملية تنبثق منها كل احلداثات‬
‫بل على العكس من ذلك متاما‪ ،‬فاحلداثة وليدة اللحظة التارخيية اخلاصة هبا واملميزة هلا عن سواها‪،‬‬
‫فلو امتلك العرب حداثتهم ‪ -‬باملفهوم العصفوري‪ -‬ملا كان هناك دافع هلذا اجلدل احملتدم حول نقادنا‬
‫يف إمكانية التوصيف باحلداثة من غريه‪ .‬أما مادام األمر كذلك فالناقد‪ -‬أقصد عصفور‪ -‬حياول أن‬
‫ينجر عنه شعور بالدونية والقصور‪ ،‬وهو ما مل يقع‬
‫ينأى بنفسه عن هذه التبعية لآلخر األمر الذي ّ‬
‫جابر عصفور يف حبالته‪ ،‬إذ يستمد حداثته من جذور حداثية يف الرتاث العريب‪ ،‬الشيء الذي جعلنا‬
‫يقرب جابر عصفور من قارئه يقول‪... " :‬‬ ‫نذهب مذهبا موازيا ملا اجته إليه عبد العزيز حمودة وهو ّ‬
‫فانبهار جابر عصفور مثال بإجنازات العقل الغريب منذ تفتحت عيناه كما يقول عام ‪ 0022‬على‬
‫البنيوية‪ ،‬ال يقابله احتقار أو تقليل من شأن الرتاث النقدي العريب‪ ،‬ودراسات الرجل يف الرتاث‬
‫النقدي‪ ،‬ملا يقرب من الثالثني عاما يف ذلك اجملال تعترب من بني أعمق الدراسات األكادميية وأكثرها‬
‫جدلية واحرتاما للعقل العريب‪ ،‬لكنه ال خيتلف كثريا عن بقية احلداثيني العرب يف انبهارهم بالثقافة‬
‫الغربية عامة واحلداثة خاصة"‪.3‬‬

‫‪ 1‬أدونيس‪ :‬فاحتة لنهايات القرن ‪ ،‬ص‪.230 :‬‬


‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬هوامش على دفرت التنوير ‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 3‬عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا املقعرة‪ ،‬ص‪.28 :‬‬
‫‪302‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إذا أمكننا التسليم بواقعية ما ذهب إليه عبد العزيز حمودة فإن ذلك رمبا راجع إىل سالمة‬
‫الطرح النقدي عنده‪ ،‬فحقيقة يعترب جابر عصفور من بني النقاد احلداثيني الذين وقفوا موقفا وسطا‬
‫بني الوافد من الثقافة الغربية وبني ذلك الزخم املعريف الذي ميثله الرتاث بكل أنواعه وتفريعاته‪ ،‬ألن‬
‫عملية االنبهار تتمايز ال حمالة عن عملية االحتقار‪ ،‬والفرق جل ّي واضح بني املفهومني‪ ،‬فحني نضع‬
‫يف حسابنا الغرب باعتباره منوذجا للمقارنة‪ ،‬فليس ذلك راجعا إىل سلطة ميتافيزيقية‪ ،‬أو من موقع‬
‫الغرب كمستعمر‪ ،‬بل من موقعه املعريف الذي ينتظم يف سياق عقالين‪ ،‬ذلك " العقل الذي يسعى إىل‬
‫اكتمال املعرفة‪ ،‬واكتمال املعرفة ال ميكن أن يتحقق بالنقل أو التقليد‪ ،‬ألن األول إلغاء لوجود الناقل‪،‬‬
‫والثاين إلغاء لعقله‪ 1".‬فالغرب مل يقطع الصلة املعرفية الوثيقة مع تراثه القدمي‪ ،‬إمنا استثمر هذه‬
‫املقوالت يف عملية القراءة اليت مكنته فيما بعد من احتالل هذه املناطق الواسعة يف عملية املعرفة‬
‫والتقدم‪.‬‬

‫إال أن جابر عصفور مل تكن عودته للرتاث من منطلق املكوث عنده والبكاء على مناطق النور‬
‫يف قداسته‪ ،‬إمنا مت له ذلك باملوازاة مع عملية التبجيل واالنبهار اليت واكبت استثماره هلذا الوافد‬
‫اجلديد‪ ،‬الذي رمبا مارس عليه نوعا من الغواية‪ ،‬ومصطلح الغواية مصطلح أثري عنده‪ ،‬يقول يف ذلك‪:‬‬
‫" ‪ ...‬ولكن اآلخر األوريب ينطوي على غواية خاصة تفنت احلداثة العربية املعاصرة وتتسرب "املركزية‬
‫األوربية" بني أعطاف هذه الغواية‪ ،‬مراوغة‪ ،‬خماتلة‪ ،‬مه ّددة بتدمري اخلصوصية يف غري حالة‪ ،‬على حنو‬
‫تعلو معه أصوات املودرنيزم اخلاصة بغرب أوربا على كل صوت غريها‪ ،‬وذلك قبل أن تبدأ ما بعد‬
‫املودرنيزم (‪ )Post modernism‬وتتكرر أمثولة ولع املغلوب بتقليد الغالب‪ ،‬ونقرأ تنظريات عربية عن‬
‫احلداثة كأهنا ترمجات لدراسات معروفة عن املودرنيزم األوربية‪ ،‬على حنو تنقلب معه الغواية إىل خماتلة‬
‫‪2‬‬
‫أيديولوجية تنتفي معها هوية األنا ويغرتب عنها زماهنا ومكاهنا‪".‬‬

‫يعرتف عصفور صراحة من خالل هذا النص مبا متارسه احلضارة الغربية من غواية على الذات‬
‫العربية القارئة له واملستقبلة ملنجزاته‪ ،‬ويف الوقت ذاته حي ّذر من تسرب مقوالت املركزية الغربية وما تروم‬
‫ينجر عنها من تلك النظرة املخايلة‪ ،‬اليت رمبا حتجب اخلطر الداهم الذي يواكبها‪ ،‬ويف‬ ‫تكريسه وما ّ‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬مؤسسة عيبال‪ ،‬ط‪ ،0000 ،0‬ص‪.032 :‬‬
‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬هوامش على دفرت التنوير‪ ،‬ص‪.20، 28 :‬‬
‫‪303‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األخري ال جيد فكاكا من الدعوة إىل ارتياد احلوارية أو النقد احلواري سبيال لعمليات املثاقفة والتالقح‬
‫بني أدبنا العريب واألدب الغريب‪.‬و هي متييز لنظرتنا إليه " ذلك أن جنيالوجيا الذات هي يف نفس‬
‫الوقت جنيالوجيا اآلخر‪ ،‬فالسؤال عن "النحن" يعين أيضا السؤال كيف أصبح غرينا "اآلخر"‪ ،‬وما‬
‫هي أشكال الغرب‪ :‬اليت صنعها اخلطاب العريب‪ 1".‬وهو ما تتضمنه اهلوية اخلالفية عن اآلخر والتميز‬
‫عنه؛ إذ باإلختالف نتجاوز مفهوم النموذج (‪ )Modèle‬واملعرفة الواحدة ونؤسس ما يصطلح عليه‬
‫اخلصوصية احلضارية للذات‪ ،‬اليت تأىب الذوبان واالمنحاء يف منجزات اآلخر‪ ،‬يقول الجابري‪":‬‬
‫اللحظة الراهنة يف تارخينا العريب احلديث مازالت حلظة هنضوية‪ ،‬مازلنا حنلم بالنهضة‪ ...‬والنهضة ال‬
‫تنطلق من فراغ بل البد فيها من االنتظام يف تراث‪ .‬والشعوب الحتقق هنضتها باالنتظام يف تراث‬
‫غريها بل باالنتظام يف تراثها هي‪ .‬تراث "الغري"‪ ،‬صانع احلضارة احلديثة‪ ،‬تراث ماضيه وحاضره‪،‬‬
‫ضروري لنا فعال‪ ،‬ولكن ال كـ"تراث" نندمج فيه ونذوب يف دروبه ومتعرجاته‪ ،‬بل كمكتسبات‬
‫إنسانية‪ ،‬علمية ومنهجية‪ ،‬متجددة ومتطورة‪ ،‬البد منها يف عملية االنتظام الواعي العقالين النقدي‬
‫يف تراثنا"‪ ،2‬وهو األمر الذي وقع فيه ما يسمى باخلطاب السلفي الذي انكفأ على نفسه فقط‪،‬‬
‫وأغلق كل سبل اإلتصال باآلخر ليتعرف على منجزاته وما تزخر به الساحة النقدية العاملية‪ ،‬من‬
‫كشوفات جديدة‪.‬‬

‫إذا كانت العودة إىل الرتاث يف حركة ورائية وخلفية واحتمائية هو مانعاه جابر عصفور على‬
‫أصحابه‪ ،‬فإنه ينعى يف الوقت نفسه تلك احلركة اإلنبطاحية‪ ،‬اليت تغرتب يف دروب اآلخر ويستلبها‬
‫داخليا وهو األمر الذي حدا به إىل إبراز خطاب متميز تتجلى أمهيته يف كونه استطاع أن يتجاوز‬
‫مسألة اهلوية والتأصيل‪ ،‬إىل مسألة االختالف الذي يهدف إىل إبراز خصوصيات الذات يف مقابل‬
‫اآلخر‪ ،‬والبحث عن منط جديد ال يكون بالضرورة مثال غربيا‪ ،‬بل حياول تأسيس اختالفه مع الغرب‬
‫وهو ما سعى جابر عصفور التأسيس له عند عودته لقراءة الرتاث باعتباره مصدرا البد من اإلفادة‬
‫منه‪ ،‬إلبراز مفهوم اهلوية والتأصيل العريب‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد السالم بن عبد العايل‪ :‬الرتاث واالختالف‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،0085 ،‬ص‪.05 :‬‬
‫حممد عابد اجلابري‪ :‬الرتاث واحلداثة ‪-‬دراسات ومناقشات‪ ،-‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪،‬بريوت‪ ،‬ط‪،3112 ،2‬ص‪.22 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪304‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تسىن له البحث عن صورة علمية دقيقة انطلقت‬ ‫وعند عودته إىل النصوص احملققة حتقيقا علميا ّ‬
‫من آلية الشك واملساءلة لبلوغ غايات معرفية يف عمليات البحث‪ ،‬وهو يف هذا مطّلع ماهر على‬
‫النتاج الغريب يف جمال الدراسات وفلسفات املناهج بغية االرتقاء بالرتاث العريب إىل مستوى إنتاج‬
‫املعرفة‪ ،‬اليت من شأهنا أن تستوعب املعرفة الغربية ونظريهتا الرتاثية إن الرتاث ينسرب إىل النصوص‬
‫الزعم أن مؤدى هذا الفتور هو هيمنة املوروث السياسي والشعري والديين‬ ‫املعاصرة‪ ،‬وميكننا ّ‬
‫والفلسفي‪ ،‬إضافة إىل أن مقوالت األخذ عن الغرب بات حتمية ال مناص منها ورمبا هو كذلك‬
‫املسؤول عن الكثري من اإلحباطات‪ ،‬اليت وقع ضحيتها الفكر العريب احلديث واملعاصر‪ ،‬غري أن‬
‫األسباب تأيت من اجلهل بالشروط التارخيية واملرجعيات الفلسفية واملعرفية‪ ،‬اليت أحاطت بعملية‬
‫االستقبال‪ ،‬دون أن جتعل من هذه األسباب مانعا وس ّدا لعملية التأثري والتأثر اليت متارس بني‬
‫اآلداب‪ .‬إن العيب ال يكمن يف اإلطالع على النتاج الغريب‪ ،‬بل يف غياب الوعي خبطورة املفاهيم‬
‫واملناهج ومحولتها ملا ختتزنه من شحنة معرفية تش ّكلت عرب مراحل طويلة من الرتاكم املعريف‪ ،‬وانطالقا‬
‫من هذا " ال سبيل إىل بناء هنضة فكرية إال مىت اقتنعت جمتمعاتنا بأهنا يف ظروفها الراهنة جمتمعات‬
‫‪1‬‬
‫ال تنمي املعرفة‪".‬‬

‫إن عملية العودة إىل الرتاث هي يف احلقيقة حبث عن املشروعية واملرجعية‪ ،‬وحماولة الدفع به إىل‬
‫هذه املناطق القصيّة من الفكر اليت تشهدها الساحة النقدية اليوم‪ ،‬ومن مثّ توظيف جوهره خللق‬
‫الطاقة اليت مت ّكن من الدفع به لألمام وضخ اجلديد من اخلطابات بني أعطافه وأنساغه لضمان نوع‬
‫من البعث واحلياة‪ ،‬إال أن املناخ الذي نشأت فيه العلوم واملعارف العربية مازال حاضرا فيها‪ ،‬سواء‬
‫تعلّق األمر بالبالغة أو علم الكالم أو النحو أو غريها‪ ،‬حيث ما تزال هذه العلوم حبيسة ذلك املناخ‬
‫التقليدي والتاريخ العريب القدمي‪ ،‬ومل يتم تناوهلا بالقدر الذي يضمن هلا حياة جديدة تواكب ما‬
‫استجد على ساحة الفكر العاملي‪ " ،‬غري أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذه األصول‪ ،‬كما يؤكد‬
‫هايدغر(‪ )M. Heidegger‬مرة أخرى‪ ،‬ال تعرض علينا نفسها بقدر ما ختفيها وتغلفها‪ ،‬فالرتاث ال‬
‫‪2‬‬
‫يوجد وجودا تارخييا وهو ليس حمفوظا بني دفات كتب األصول يف الوعيه‪".‬‬

‫محادي صمود‪ :‬حوار مع محادي صمود‪ ،‬جملة احلياة الثقافية‪ ،‬تونس‪ ،0088 ،‬العددان ‪ ،20 ،28‬ص‪.20 :‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ 2‬عبد السالم بنعبد العايل‪ :‬الرتاث واالختالف‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫‪305‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إن العودة إىل الرتاث هي مبثابة الوقوف عند أخطاء الذات القارئة للمقروء‪ ،‬وهي مراجعة هلا‬
‫ولتارخيها فال فكاك من هذه السطوة والسلطة اليت ميارسها الرتاث واليت تتغياها الذات " فما من‬
‫شك أن هناك هيمنة قوية للموروث القدمي على فكرنا‪ ،‬الشيء الذي جعل أدوات إنتاجنا الفكري‬
‫ختضع‪ ،‬إن قليال أو كثريا‪ ،‬هلذا املوروث القدمي بوصفه بنية عامة‪ ،‬سواء أردنا أن منارس تفكريا عقالنيا‬
‫أو العقالنيا‪ ،‬ولكن ممارسة العقالنية أو التفكري العقالين جتعل صاحبها يعي أكثر فأكثر هذه‬
‫حترر هنائيا من‬
‫اهليمنة‪ ،‬وحياول أن يتحرر منها‪ ،‬هذا شيء طبيعي‪ ،‬وال أحد يستطيع االدعاء بأنه ّ‬
‫املوروث القدمي بكل سلبياته وبكل إجيابياته‪ 1".‬واستتباعا هلذا خيضع الرتاث بكل طرقه إىل قراءة‬
‫كانت يف وقت ما تكريس للمكرور واملعاد‪ ،‬وهو ما ميكن االصطالح عليه بالقراءة الرتاثية للرتاث‪،‬‬
‫وهي القراءة اليت ال ميكنها جتاوز السائد واملألوف وإمنا النكوص دائما إىل اخللف والتغين مبا للذات‬
‫من مفاخر وأجماد‪ ،‬األمر الذي أصاب املنظومة الفكرية واملعرفية العربية‪ ،‬يف زماهنا بنوع من التّكلّس‬
‫التحجر ودفع هبا إىل حوق اجلهل والظالمية‪.‬غري أن القراءة الثرية للرتاث هي اليت تنطلق منه ال‬ ‫و ّ‬
‫وضخ اجلديد من آليات التحليل اخلطاب له‪.‬‬ ‫للركون إليه‪،‬بل لتجاوزه وحماولة إحياء أنظمته املعرفية ّ‬
‫ترتبط احلداثة األدبية عند جابر عصفور" باملغامرة الدائمة يف اللغة وباللغة‪ ،‬لصياغة التساؤل الذي‬
‫ال ينقطع‪ ،‬واكتشاف األفق الذي ال ينغلق‪ ،‬وجتريب األداة اليت ال تفارق هاجس التوتر والتغري‬
‫والتجدد"‪ ،2‬فاحلداثة إذا من زاوية نظرته تساؤل أزيل ال حي ّده زمان وال مكان‪ ،‬وثّابة دائمة التش ّكك‬
‫التعرف الطمأنينة والركون وإمنا دائمة الرتحال والتطواف‪ ،‬وهي كما يقول أدونيس‪ ":‬رؤيا جديدة‪،‬‬
‫وهي‪ ،‬جوهريا‪ ،‬رؤيا تساؤل واحتجاج‪ ،‬تساؤل حول املمكن‪ ،‬واحتجاج على السائد‪ ،‬فلحظة احلداثة‬
‫هي حلظة التوتر‪ ،‬أي التناقض والتصادم بني البىن السائدة يف اجملتمع‪ ،‬وما تتطلبه حركته العميقة من‬
‫‪3‬‬
‫البىن اليت تستجيب هلا وتتالءم معها‪".‬‬

‫هذه الصياغة اجلديدة للمفهوم هي اليت ربطت احلداثة بشقها املعنوي بالتحديث يف شقه‬
‫املادي اآليل‪ ،‬ولكن قبل ذلك ربط جابر عصفور مصطلح احلداثة مبا كان متواترا يف القرن الثاين‬
‫اهلجري عندما ظهرت ما يسمى طبقة املولّدين يف الشعر‪ ،‬وثورهتم على تقاليد القصيدة القدمية أو ما‬

‫‪ 1‬حممد عابد اجلابري‪ :‬الرتاث واحلداثة‪ ،‬ص‪.353 :‬‬


‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬هوامش على دفرت التنوير‪ ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪ 3‬أدونيس‪ :‬فاحتة لنهايات القرن‪ ،‬ص‪.230 :‬‬
‫‪306‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫كان يعرف بعمود الشعر ‪ ،‬واستبدال تلك املقدمات اجلديدة باملقدمات الطللية اليت رمست طويال‬
‫معامل القصيدة القدمية‪ ،‬ال لشيء إال أ ّن هذه املقدمات مل تعد ماثلة أمام الشعراء احملدثني يف العصر‬
‫العباسي كأيب نواس‪ ،‬وبشار بن برد وأيب العالء املعري وغريهم‪ .‬ومل تعد املقدمة الطللية تواكب ما‬
‫استجد يف حياة الشعراء يف ذلك العصر‪ ،‬مما جعل هؤالء الشعراء يتحررون بل يسخرون من تلك‬
‫املقدمة ومن يلزمها إبداعيا‪ " .‬فاالجتهاد يف الشعر‪ ،‬والسعي وراء تصورات جديدة خمالفة للقدمي‬
‫‪1‬‬
‫أجدى على الشاعر من متابعة بالغة األطالل‪".‬‬

‫املسوغ الوحيد لجابر عصفور لكي يناصر تلك الثورة اليت قام هبا هؤالء‬
‫إن هذا الطرح هو ّ‬
‫الشعراء يف العصر العباسي‪ ،‬ومتردهم على الكثري من الثوابت واملسلمات مما جعل مجلة من النقاد‬
‫العرب املعاصرين يؤرخ هبم لبداية احلداثة العربية الشعرية‪ ،‬كما يذهب إىل ذلك أدونيس يف اعرتاف‬
‫صريح بأصالته الرتاثية وانفتاحه على اآلخر يف قوله‪" :‬أحب هنا أن أعرتف بأنين كنت بني من أخذوا‬
‫بثقافة الغرب‪ ،‬غري أنين كنت‪ ،‬كذلك‪ ،‬بني األوائل الذين ما لبثوا أو جتاوزوا ذلك‪ ،‬فقد تسلحوا بوعي‬
‫ومفهومات متكنهم من أن يعيدوا قراءة موروثهم بنظرة جديدة‪ ،‬وأن حيققوا استقالهلم الثقايف الذايت‪،‬‬
‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬أحب أن أعرتف أيضا أنين مل أتعرف على احلداثة الشعرية العربية‪ ،‬من داخل‬
‫غريت معرفيت بأيب نواس‪،‬‬ ‫النظام الثقايف العريب السائد‪ ،‬وأجهزته املعرفية‪،‬فقراءة بودلري هي اليت ّ‬
‫وكشفت يل عن شعريته وحداثته‪ ،‬وقراءة ماالرميه هي اليت أوضحت يل أسرار اللغة الشعرية وأبعادها‬
‫احلديثة عند أيب متّام‪ ،‬وقراءة رامبو ونرفال وبريتون هي اليت قادتين إىل اكتشاف التجربة الصوفية‪،‬‬
‫بفرادهتا وهبائها‪ ،‬وقراءة النقد الفرنسي احلديث هي اليت دلّتين على حداثة النظر النقدي عند‬
‫‪2‬‬
‫اجلرجاين‪".‬‬

‫عندما ننصت لجابر عصفور يف قضية احلداثة والتحديث‪ ،‬فالرجل كثريا ما خيلط بني‬
‫املصطلحني؛ فيستعمل التحديث الذي يدفع حسب رأيه مبجتمع ما من التخلف إىل التقدم ويقصد‬
‫بذلك احلداثة‪ ،‬وال مانع لديه من استعمال املصطلحني مبفهوم واحد يف قوله‪ ...":‬فاحلداثة‬
‫مترد دائم على كل ما حيجر أدوات إنتاج اجملتمع وعالقاته يف قيود اإلتباع اليت تعين‬
‫كالتحديث ّ‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.022 :‬‬


‫‪ 2‬أدونيس‪ :‬الشعرية العربية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3111 ،2‬ص‪.82 :‬‬
‫‪307‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫التخلف‪ ،‬والتحديث كاحلداثة تطلّع دائم إىل املستقبل الذي يعد بالتقدم الالهنائي‪ 1".‬هذا التمرد‬
‫صح القول هو ما تؤسس له احلداثة والتحديث حسب وجهة نظر جابر عصفور‪،‬‬ ‫والعصيان إن ّ‬
‫وهي املسؤولة عن الدفع بالذات حنو التقدم ومسايرة الركب وعدم الرضا والقناعة مبا متتلكه هذه‬
‫الذات معرفيا‪ ،‬وكل هذا مرتبط يف البداية والنهاية مبساءلة الرتاث واآلخر‪ ،‬وفعل املساءلة هو املسؤول‬
‫عن تغيري عادات الذات يف القراءة‪ ،‬وعدم االطمئنان ملا هو سائد وكائن ويف الوقت نفسه يروم –‬

‫عصفور‪ -‬تبيّئة وأرضنة هذه احلداثة عربيا‪ ،‬رمبا ليشبع ميوله الليربالية متاشيا مع مذهب أستاذه طه‬
‫حسين‪ ،‬يقول جابر عصفور حول فعل املساءلة‪ ":‬وإحلاحي على املساءلة ‪ -‬يف مثل هذه السياقات‪-‬‬

‫املتغرية من حياتنا‪ ،‬فهي مرحلة الب ّد أن نتأمل‬


‫نابع من إمياين بأمهية الوعي النقدي يف هذه املرحلة ّ‬
‫املتغرية"‪.2‬‬
‫عميقا عالقاهتا املائزة وشروطها ّ‬
‫إن األمهية البالغة اليت يوليها جابر عصفور لعملية الوعي بكل إشكاليات احلداثة هي املبتغى‬
‫من وراء مشروعه النقدي يف قراءة الرتاث‪ ،‬إذ تنخرط األنا الواعية يف صنع كافة أنواع النقد املتجه إىل‬
‫تعرية األنساق الثقافية اليت متتح الذات من معينها‪ ،‬ودون الوعي بكل هذه اخللفيات واملرجعيات‬
‫تبقى الذات يف أزمة التبعية والتقليد والشعور بالنقص والدونية‪ ،‬األمر الذي يدفع هبا إىل الثبات‬
‫والسكون وعدم املبادرة اخلالقة يف صنع ذاهتا ومن مثّ تراثها‪ ،‬يقول أدونيس متاشيا مع هذا الطرح‪":‬‬
‫أن احلداثة يف الثقافة العربية هي مسألة الفكر العريب يف حواره مع نفسه ومع تارخيية املعرفة يف الرتاث‬
‫العريب‪ ،‬وهلذا يقتضي النظر فيها‪ ،‬النظر ّأوال يف بىن احلياة العربية وبنية الفكر العريب‪ ،‬فأن يسائل‬
‫الفكر العريب احلداثة هو أن يسائل نفسه‪ ،‬قبل أي شيء‪ ،‬فال يصح أن تبحث احلداثة العربية من‬
‫منظور غريب وضمن معطيات احلداثة الغربية‪ ،‬وإمنا جيب أن تبحث يف أفق الفكر العريب أصوال‬
‫وتارخيا‪ ،‬وضمن معطياته اخلاصة‪ ،‬وبأدواته املعرفية‪ ،‬ويف إطار القضايا اليت أثارهتا أو نتجت عنها"‪.3‬‬

‫وسريا على النهج نفسه يف إثبات دور الوعي بكل اخلصوصيات احلضارية والثقافية للذات‬
‫القارئة ينخرط أدونيس يف النهج نفسه قائال‪ ... ":‬أ ّكدت الفاعلية اإلبداعية العربية على أن ثقافة‬
‫شعب ما‪ ،‬ال تقوم بذاهتا ولذاهتا يف معزل عن ثقافات الشعوب األخرى‪ ،‬وإمنا هي‪ ،‬تأثر وتأثري‪ ،‬أخذ‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬هوامش على دفرت التنوير‪ ،‬ص‪.23 :‬‬


‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬أوراق ثقافية‪ ،‬ثقافة املستقبل ومستقبل الثقافة‪ ،‬املركز العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪ ،3112 ،‬ص‪.0 :‬‬
‫‪ 3‬أدونيس‪ :‬الشعرية العربية‪ ،‬ص‪.80 :‬‬
‫‪308‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وعطاء‪ ،‬وأكدت يف الوقت نفسه أن الشرط األول هلذه احلركة من التفاعل أن تتسم باإلبداعية‬
‫واخلصوصية معا‪ ،‬وهذا املزيج اإلبداعي اخلصوصي هو ما نقلته الفاعلية العربية اإلسالمية يف ذروة‬
‫نضجه إىل الغرب‪ ،‬عرب األندلس"‪.1‬‬

‫يواصل أدونيس تشرحيه لواقع احلال العريب ومسألة وعيه باللحظة التارخيية‪ ،‬اليت تتأكد فيها‬
‫فاعلية التأثر والتأثري الذي ميارسه اآلخر الغريب على الذات العربية يف نوع من االستالب؛ ويؤسس‬
‫بذلك نوعا من اخلصوصية والفردانية اليت جيب أن تعيها هذه الذات لتمتلك خاصية التميز‪ ،‬يقول‬
‫يف ذلك‪ ...":‬فإعادة النظر مبثل هذا الوعي هي وحدها اجلديرة بأن تفتح لنا األفق الصحيح لفهم‬
‫الذات واآلخر على السواء‪ ،‬وتتيح لنا إمكان رؤية جديدة ألنفسنا وللعامل‪ ،‬وهتيئ الطريق اليت جيب‬
‫أن نسلكها يف بناء املستقبل‪ ،‬دون ذلك ستظل احلداثة يف اجملتمع العريب "جملوبة" بنوع من "احليلة"‬
‫أو "السرقة" وسيظل اجملتمع العريب يبدو كأنه عربة تتجرجر مرتحنة عالقة بقطار اهليمنة الغربية‪ ،‬ضائعا‬
‫بني اقتباس عشوائي يستلب ذاتيته‪ ،‬ومتسك عشوائي بقيم املاضي التقليدية‪ ،‬يستلب إبداعيته‬
‫وحضوره يف الواقع احلي"‪ .2‬األمر الذي جيعل من إجنازات الذات العربية صورة مستنسخة لعمل‬
‫اآلخر الغريب‪ ،‬وذلك ألن خصوصية هذه الذات هي وحدها الكفيلة بدفع هذه اهليمنة املطلقة‬
‫للمركزية الغربية على األقل على مستوى إسهام هذه الذات يف صنع فرادهتا نقديا وإبداعيا وفلسفيا‪.‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.08 :‬‬
‫‪309‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل الثاني ‪:‬‬

‫قراءة الرتاث النقدي عند جابر عصفور‬


‫‪ .1‬قراءة الرتاث ‪ :‬حنو تأصيل املفهوم‬
‫‪ .1‬القراءة التأويلية بديال‬
‫‪ .1‬نظرية الشعر من املاهية إىل املهمة‬
‫‪ .1‬النص الشعري الرتاثي بني الوظيفة و اجلمالية‬
‫‪ .5‬تارخيية النص الرتاثي‬
‫‪ .6‬الرتاث كيف نقرأه‬

‫‪310‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .1‬قراءة الرتاث‪ :‬حنو تأصيل املفهوم‬

‫تشكلت القناعة النقدية لجابر عصفور يف ضرورة األخذ من اآلخر الغريب‪ ،‬نتيجة امل ّد‬
‫التوسعي الذي عرفته البنيوية يف النصف األخري من القرن العشرين‪ ،‬وإن شئنا الدقة إىل فتنته هبا‬
‫حوايل سنة ‪ 0022‬أي عندما ألف عصفور كتابه النقدي املهم يف قراءة الرتاث الشعري "مفهوم‬
‫الشعر" يكتب قائال‪ " :‬إ ّن إثراء الرتاث النقدي هبذا املعىن يؤدي إىل إثراء حياتنا النقدية نفسها‪ ،‬كما‬
‫يؤدي إىل إضفاء األصالة على اجلدية يف هذه احلياة‪ ،‬ويف ذلك يكمن احملك وراء كل حركة صوب‬
‫املاضي‪ ،‬ومثة فرق بالتأكيد بني من يعود إىل املاضي ليثبت وضعا متخلفا يف احلاضر‪ ،‬ومن يعود إىل‬
‫‪1‬‬
‫يطور احلاضر نفسه‪".‬‬
‫املاضي ليؤصل وضعا جديدا قد ّ‬
‫ترجع إشكالية اإلفادة من الرتاث أو إقصاؤه‪ ،‬إىل مدى فاعلية القراءة املتوافرة يف الراهن‪ ،‬أي‬
‫إذا كان القارئ يريد أن يلوذ باملاضي ليثبت أمرا ما يف احلاضر وأعوزته آلياته الرتاثية‪ ،‬فإنه ال حمالة‬
‫سيتجه رأسا إىل هذه املنجزات املعرفية اهلائلة اليت متور هبا الساحة النقدية املعاصرة‪ ،‬والعكس هو‬
‫الصحيح‪ ،‬ألن مبدأ الوسطية يف واقع احلال ال يقدم حال جوهريا هلذه املعضلة‪ ،‬إمنا ميارس أصحاب‬
‫هذا التوجه عملية متويه ثقايف على املقروء قصد إعادة صياغة الدعوى إىل القطيعة املعرفية مع الرتاث‪،‬‬
‫أو االرهتان إىل منجزات اآلخر الغريب‪.‬‬

‫غري أن ما يؤسس جلدوى القراءة الفاعلة للرتاث هو االنطالق منه كمطية أساسية قصد بلوغ‬
‫أقاصي احلداثة الغربية كما يكتب الجابري‪ " :‬فمن جهة حترص هذه القراءة على جعل املقروء‬
‫معاصرا لنفسه على صعيد اإلشكالية واحملتوى املعريف واملضمون اإليديولوجي‪ ،‬ومن هنا معناه بالنسبة‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر‪ -،‬دراسة يف الرتاث النقدي ‪ ،-‬جمموعة أعمال جابر عصفور‪ ،‬دار الكتاب املصري‪ ،‬القاهرة‪-‬‬
‫دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3112 ،0‬ص‪.10 :‬‬
‫‪311‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حمليطه اخلاص‪ ،‬ومن جهة أخرى حتاول هذه القراءة أن جتعل املقروء معاصرا لنا‪ ،‬ولكن فقط على‬
‫صعيد الفهم واملعقولية‪ ،‬ومن هنا معناه بالنسبة لنا حنن‪ ،‬إن إضفاء املعقولية على املقروء من طرف‬
‫القارئ معناه نقل املقروء إىل جمال اهتمام القارئ‪ ،‬الشيء الذي قد يسمح بتوظيفه من طرف هذا‬
‫األخري يف إغناء ذاته‪ ،‬أو حىت يف إعادة بناءها‪ ،‬وجعل املقروء معاصرا لنفسه معناه فصله عنّا‪ ،‬وجعله‬
‫‪1‬‬
‫معاصرا معناه وصله بنا‪".‬‬

‫يؤسس له الجابري يف هذا النص هو العالقة الطردية بالرتاث‪ ،‬وهي العالقة اليت ترتاوح بني‬
‫ما ّ‬
‫اجنرت عنها‬
‫االتصال واالنفصال‪ ،‬بني احلضور والغياب‪ ،‬فال نكاد حنصل على عالقة أحادية به‪ ،‬إال و ّ‬
‫عالقة أخرى يف تعدد سياقات األخذ منه أو االبتعاد عنه‪ ،‬ألن الرتاث هناك يف نقطة ما‪ ،‬غري أننا‬
‫نفكر فيه كما نفكر به‪ ،‬واستحضارنا إياه يكون من باب التعظيم أو التبجيل والتقديس‪ ،‬ال من باب‬
‫التحجر واجلمود‪ ،‬إمنا من باب التجاوز واالستمرارية‪ ،‬وهو األمر نفسه الذي يثبته جابر عصفور‬ ‫ّ‬
‫عندما يربز عالقتنا بالرتاث فيقول‪ ":‬هذا الفهم جيرنا إىل املشكلة الثانية‪ ،‬حيث تتحول عالقة القارئ‬
‫باملقروء إىل عالقة اتصال وانفصال يف آن‪ ،‬وإذا كان القارئ ينتمي إىل عصره واملقروء ينتمي إىل‬
‫عصره املقابل‪ ،‬فإن العالقة بينهما عالقة انفصال ال حمالة‪ ،‬لكن هذا االنفصال سرعان ما يتحول إىل‬
‫اتصال على مستوى البعد القيمي الذي ينطقه النص املقروء‪ ،‬والذي يتجاوب أو يتنافر مع البناء‬
‫القيمي لعامل القارئ‪ ،‬ولكن املشكلة ليست على هذا النحو من البساطة الظاهرة‪ ،‬فالنص املقروء هو‬
‫بعض ثقافة القارئ‪ ،‬بعض خمزونه الثقايف الذي تعلمه والذي صار جانبا من عامل وعيه املعاصر‪ ،‬ومن‬
‫هنا فإن القارئ املعاصر عندما يقرأ عبد القاهر اجلرجاين مثال‪ ،‬فإنه يقرأ عبد القاهر الذي يعيش يف‬
‫القرن اخلامس للهجرة وعبد القاهر الذي ينام حتت جلدة وعيه يف القرن اخلامس عشر للهجرة‪،‬‬
‫فكأنه يقرأ عبد القاهر الذي "هناك" وعبد القاهر الذي "هنا" أي نص عبد القاهر الذي يقع‬
‫‪2‬‬
‫خارجه‪ ،‬ونص عبد القاهر الذي يقع داخله‪".‬‬

‫مثة واقع معريف موجود يريد جابر عصفور إثباته هبذه املراوحة يف إبراز العالقات القائمة بيننا‬
‫وبني الرتاث‪ ،‬إ ْذ ال ختلو عالقتنا به من هذه احلركة الدؤوب اليت توسم مبيسم الرتاث واملعاصرة‪ ،‬غري‬

‫حممد عابد اجلابري‪ :‬حنن والرتاث ‪-‬قراءة معاصرة يف تراثنا الفلسفي‪ ،-‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،0083 ،‬ص‪.02 :‬‬
‫‪1‬‬

‫جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫‪2‬‬

‫‪312‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أن ذلك ال يعين بأي حال من األحوال النكوص إىل املاضي واالعتكاف عليه‪ ،‬دون حماولة مسايرة‬
‫احلاضر بكل مستجداته املعرفية والفكرية‪ ،‬وحماولة فهم كل ما يتعلق هبذا الوافد‪ ،‬سواء تعلق األمر‬
‫مبناهج البحث أم مبقوالت الفلسفة والفكر أو بآليات وإجراءات املناهج النقدية الغربية‪ ،‬وما حتمله‬
‫من ج ّدة يف جانب وتوليف يف جانب آخر‪ ،‬يقول جابر عصفور عن إشكالية االستعارة من اآلخر‪،‬‬
‫مربزا خطرها على الذات املستعرية‪ " :‬واحلق أن األثر السليب هلذه االستعارات املعرفية قرين غياب‬
‫الوعي النقدي هبا‪ ،‬وتقبلها مبنطق االستهالك ( الذي يقوم على الرتمجة والتلخيص والنقل )‪ ،‬وليس‬
‫منطق اإلسهام يف إعادة اإلنتاج‪ ،‬أعين التسليم اإلتباعي بسالمة االستعارة دون استدالل على‬
‫صحتها واختبار لتناسبها‪ ،‬أو فحص إلمكاناهتا على مستويني‪ :‬مستواها الذايت املقرتن بسياقها‬
‫التارخيي ونسقها املعريف الذي أنتجت ضمن عالقاته‪ ،‬ومستواها األدائي الوظيفي حني يستخدمها‬
‫القارئ يف سياق تارخيي مغاير‪ ،‬أو نسق معريف ينطوي على إشكاليات مغايرة‪ ،‬ولألسف ما يبدو‬
‫الفتا إىل اآلن أن وعي الذات القارئة هبذه االستعارات يعجز ‪ -‬غالبا ‪ -‬عن التأمل احملايد هلا ‪...‬‬
‫واإلضافة املنتجة إىل عناصرها‪ ،‬وذلك حبكم املرحلة احلضارية اليت يعيشها وعالقات التبعية اليت‬
‫‪1‬‬
‫حنياها‪".‬‬

‫تنهض قراءة جابر عصفور إىل هذا الشق من األخذ واالستعارة‪ ،‬على ضرورة الوعي بكل‬
‫اخللفيات الفكرية واملرجعيات الفلسفية واملعرفية‪ ،‬اليت انطلقت منها هذه األفكار‪ ،‬قصد إعادة بلورهتا‬
‫حتول األمر إىل استهالك واتّباع دون‬
‫وما يتوافق مع الرصيد الفكري واحلضاري للذات الناقلة‪ ،‬وإال ّ‬
‫وعي مبزالق هذه العملية‪ ،‬ويف الوقت نفسه تنطوي عملية النقل على استالب داخلي يلغي الذات من‬
‫املشاركة يف العملية املعرفية من أساسها‪ ،‬وينسف ما قد يتبادر إىل األذهان على أنه عملية متحيص‬
‫وتدقيق وأهنا تدخل يف باب األخذ‪ ،‬الذي ينضوي حتت مبدأ التأثري والتأثر‪ ،‬غري أن عملية االستعارة‬
‫دون وعي بكل تلك السياقات املعرفية‪ ،‬والشرائط الفكرية اليت أنتجت مثل هذا النوع من األفكار‬
‫هي اليت متارس على الذات نوعا من التدجني‪ ،‬الذي ال خيلو من استالب واغرتاب داخل إطارها‬
‫احلضاري‪.‬‬

‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪.002 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪313‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫غري أ ّن عصفور ال يكاد يطمئن إىل توجه نقدي فريد‪ ،‬أو حىت على رأي واحد‪ ،‬ألن تشيّعه‬
‫للمنهج البنيوي يزداد يوما بعد يوم‪ ،‬خالل مسريته النقدية يف املراحل األوىل من عمره النقدي‪،‬‬
‫فالرجل جيعل من اتباع النقد األوريب شرطا من شروط املعرفة النقدية احلداثية‪ ،‬والناقد العريب احلداثي‬
‫من منظوره ميارس نوعا من التعويض النفسي ملعرفة ذاته من خالل اآلخر‪ ،‬وينعى على النقاد العرب‬
‫عودهتم للرتاث لالستلهام املباشر منه وكأهنم كائنات باثولوجية‪ ،‬يكتب قائال‪ " :‬وليس ذلك كله من‬
‫قبيل تصاعد التقليد‪ ،‬أو مراوغته فحسب يف غيبة فحص دقيق ودرس مقارن ملقوالت التشابه والتضاد‬
‫‪-‬‬ ‫بني دي سوسري ( ومن بعده النقد الفرنسي البنيوي ) وعبد القاهر‪ ،‬وإمنا هو ‪ -‬فضال عن ذلك‬
‫وضع مؤس ي ّذكر املرء بأولئك الذين مل يق ّدروا روائيا مثل جنيب حمفوظ إال بعد أن ق ّدر على أيدي‬
‫الفرجنة يف الغرب وبعد أن حصل على أكرب جوائزهم‪ ،‬وهو وضع يكشف ‪ -‬يف النهاية‪ -‬عن عرض‬
‫من أعراض "تعويض" نفسي تتحول معه عالقة الناقد العريب املعاصر برتاثه النقدي إىل عالقة تضاد‬
‫عاطفي‪ ،‬هو انعكاس لعالقته بالنقد األوريب الذي ال ميلك هذا الناقد سوى أن يتبعه وال يستطيع ‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫يطور أدوات إنتاج معرفته النقدية والرتاثية‪ -‬سوى أن حيلم ‪ -‬عاجزا ‪ -‬باالستقالل عنه‪".‬‬
‫ما مل ّ‬
‫ال يضري عصفور أن ينتصر ويتشيّع لطروحات النقد الغريب‪ ،‬من منظور عالقات التأثري والتأثر‬
‫بني اآلداب واملناهج‪ ،‬غري أن ما يؤخذ عليه هو ارهتانه كليا لتلك املشاريع احلداثية‪ ،‬اليت غ ّذت يف‬
‫وقت الحق مقوالت اإلستشراق‪ ،‬وجعلت من الذات الشرقية برمتها والعربية على وجه اخلصوص‪،‬‬
‫حقال خصبا لدراستها وجتارهبا‪ ،‬إال أن ما حيسب له باعتباره ناقدا حداثيا‪ ،‬هو وقوفه عند نقاط‬
‫الفصل بني ما ندعيه و ما نقوم به‪ ،‬فإعادة اهتمامنا مبنجزاتنا الرتاثية ال يتم يف واقع احلال إال إذا متّ‬
‫استحضارها من قبل اآلخر الغريب‪ ،‬وإال بقيت هذه اآلثار يف طي النسيان‪ ،‬إىل أن يتم استحضارها‬
‫مبوجب منعكس شرطي‪ ،‬ألن اآلخر الغريب تذكرها أو اكتشفها‪ ،‬فنجيب محفوظ مل يكن ذا قيمة‬
‫معرفية كربى قبل حصوله على أغلى جائزة أدبية‪ ،‬وهو األمر نفسه الذي حييل إليه عبد الفتاح‬
‫كيليطو يف ربطه بني منجزات املثقف العريب واآلخر الغريب وكيفية االسرتشاد‪ ،‬اليت يهتدي إليها‬
‫العريب جراء اهتمام املثقف الغريب به‪.2‬‬

‫‪ 1‬جابر عصفور ‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪. 001 ،010 :‬‬


‫‪ " 2‬يبتعد النص املرتجم مؤقتا عن أهله وذويه‪ ،‬مث يعود إليهم‪ .‬بل إهنم‪ ،‬يف احلاالت القصوى‪ ،‬يكتشفونه ألول مرة‪ ،‬يدركون أنه‬
‫كان فيما مضى مقيما يف احلي وأهنم مل يفطنوا إىل وجوده‪ ،‬وبالتايل أمهلوه ومل يولوه مايستحق من عناية‪ ،‬لو مل يرتجم كتاب‬
‫‪314‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تنطوي اللغة النقدية لجابر عصفور على كثري من املسلمات وكثري من املفارقات يف آن معا‪.‬‬
‫ذلك أن الناقد يعرتف صراحة باستيالء الرتاث على وعينا النقدي‪ ،‬كما استوىل الشيخ على السندباد‬
‫إثر خدعة عاطفية م ّكنته منه‪ ،‬لكنه يضع القارئ يف صلب اإلشكالية أو املعضلة‪ ،‬كما أحلّ على‬
‫يسرينا مبشيئته القدسية‪ ،‬غري أنه‬
‫أساس أن الرتاث منا وحنن منه وليس موجودا هناك يف التاريخ لكنه ّ‬
‫ال يلبث أن يقرر أن الرتاث " خيادعنا عن أنفسنا‪ ،‬أو خنادع أنفسنا عنه‪ ،‬نقبل عليه بأوهام سرعان ما‬
‫جتعلنا عبيدا له‪ ،‬أو جتعل منه حضورا يقبض بأطرافه على رقابنا‪ ،‬فيعرقل خطونا‪ ،‬ويقودنا إىل حيث‬
‫‪1‬‬
‫يشاء يف أحد أزمانه‪ ،‬بدل أن نقوده حنن إىل ما نشاء من أزماننا‪".‬‬

‫تعترب هذه القصة اليت مثّل هبا جابر عصفور منوذجا حيا الستحكام الرتاث فينا‪ ،‬وقدرته علينا‬
‫مسريا‬
‫يف الكثري من األحيان حيث يغدو من الصعب الفكاك من ربقته وتسلّطه‪ ،‬ويصبح واحلالة هذه ّ‬
‫لنا ومصادرا حلرياتنا‪ ،‬لكن ما يروم الرجل التنبيه إليه يف هناية القصة هو حتذيرنا من التعامل مع الرتاث‬
‫كما تعامل السندباد مع الشيخ حينما رمى به بعيدا وختلص منه‪ ،‬وهي رمزية عالية من قبل الناقد‬
‫تدل على عدم التسليم هبذا الرتاث ورميه يف طي النسيان‪ ،‬بل يكون احلل أن نسري بالرتاث إىل زماننا‬
‫ال إىل زمانه‪ ،‬حني نستثمر مقوالته‪ ،‬ونفيد منها يف مقاربتنا ملنجزات اآلخر الغريب‪.‬‬

‫انطالقا من هذا يتضح جليا أن موقفنا من الرتاث ال ينبغي أن يسري حنو متجيده والتقوقع حول‬
‫منجزاته واالعتزاز به فقط؛ بل جيب أن يكون هذا املوقف موقف الواعي به وبكل زمخه املعريف وإرثه‬
‫الفلسفي الفكري‪ ،‬لكي ال يكون سببا يف تأخرنا‪ ،‬بل يسهم هو بدوره يف دفعنا إىل األمام حنو بناء‬
‫الفعال‪،‬‬
‫املستقبل املشرق‪ .‬إن هذا ما جيعلنا نستحضر الرتاث بإجيابية ال سلبية‪ ،‬نستحضر الرتاث ّ‬
‫الذي نتخطى به ظلمات املاضي إىل احلاضر‪ ،‬وليس العكس مثلما ذهب إىل ذلك يوسف الخال‬
‫حني وصف احلالة الراهنة للعرب وهي مبثابة العيش يف املاضي بأجساد يف احلاضر أو كأن جنعل أعيننا‬
‫يف قفانا دون أن نفيد من هذا الرتاث يف شيء‪ ،‬علما أن عمليات اإلفادة من الرتاث تتم كما يكتب‬
‫عصفور قائال‪ ...":‬ميكن أن نفيد منه دون أن خنسر وجودنا‪ ،‬ونتقبله بعضا من وعينا التارخيي ‪...‬‬

‫غري ديباجته باغرتابه‪ ،‬بانتقاله إىل‬


‫ألف ليلة وليلة‪ ،‬ملا اهتم به العرب‪ ،‬فالرتمجة هي اليت أعلت شأنه ورفعت قدره‪ ...‬لقد ّ‬
‫الغرب‪ .‬هناك وجد قراءه احلقيقيني‪ ،‬قراء يف مستواه‪ ،".‬ينظر‪ :‬عبد الفتاح كيليطو‪ :‬األدب و االرتياب‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬ط‪، 3112، 0‬ص‪.58 :‬‬
‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬هوامش على دفرت التنوير‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0002 ، 0‬ص‪.02 :‬‬
‫‪315‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ونقاربه مقاربة العقل النقدي الذي يبدأ من أسئلته هو دون أن يستعري أسئلة غريه‪ ،‬والذي جياوز‬
‫‪1‬‬
‫نفسه بنفسه عندما يسقط وعيه الضدي على مكنوناته ذاهتا‪".‬‬

‫يدفع عصفور بقارئ الرتاث إىل تبوء مكانة مرموقة يف فضاء النقد واملساءلة‪ ،‬ال لشيء إال من‬
‫أجل جماوزة هذا الرتاث ونزع عباءات القداسة عنه‪ ،‬قصد فهمه ومتثّله والوعي بكل تساؤالته‬
‫تكون يف‬
‫وإشكاالته‪ ،‬ويف الوقت ذاته حماولة صياغة أسئلته هو ال أن نستعري من اآلخر أسئلته اليت ّ‬
‫احملصلة النهائية ذاته وخصوصيته‪ ،‬وانطالقا من ذلك نفحص هذا الرتاث وحنلله قصد احلكم عليه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مادامت األسئلة اليت أجاب عنها من صميم الذات املمثلة له‪ ،‬وهنا تربز خصوصية تراث كل أمة من‬
‫دافع احلرص على بلوغ املرامي املرجوة‪ ،‬ويربز معها الوعي الذي تتبدى فيه الذات إىل موضوع فتغدو‬
‫ذاتا وموضوعا يف آن معا‪.‬‬

‫‪ .2‬القراءة التأويلية بديال‬

‫املكونة لبنيته العامة‪ ،‬واليت‬


‫إ ّن من شروط جناح مساءلة الرتاث‪ ،‬هو الوعي به أوال مث بأجزائه ّ‬
‫جتعل من فعل املساءلة والنقد عملية ذات طابع علمي التقديسي لكل ما هو تراثي‪ ،‬األمر الذي‬
‫مطب اإلسقاط اآليل الصنمي آلليات املناهج على هذا‬ ‫ينأى بالناقد أو الباحث عن السقوط يف ّ‬
‫فعالة جعلت‬ ‫الرتاث‪ ،‬إذا ما رمنا أن نتطلع برتاثنا إىل ما وصل الغرب إليه‪ ،‬على أساس من مساءلة ّ‬
‫من تراثها حافزا ومعطى من معطيات التقدم‪ ،‬وليس سببا يف التخلف والتحجر‪ ،‬يقول املفكر محمد‬
‫أركون حول ضرورة إعادة آليات قراءة الرتاث قصد ضمان نتائج تكون قمينة باالحتفاء والتبجيل "‬
‫قلنا ونكرر القول بإعادة كتابة تارخينا الثقايف بصورة عقالنية وبروح نقدية‪ ،‬ألنه من خالل ممارسة‬
‫‪2‬‬
‫العقالنية النقدية يف تراثنا نكتسب عقالنية ستكون هي الرتبة الصاحلة الغنية اخلصبة‪".‬‬

‫ال شك أن هذه النظرة العقلية ملعاجلة قضايا الرتاث هي املسؤولة عن نزع قداسة هذا الرتاث‬
‫وتبجيله عند املفكرين الجابري و أركون اللذين يتجهان توجها عقليا يف مساءلة الرتاث‪ ،‬وضرورة‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬هوامش على دفرت التنوير‪ ،‬ص‪.08 :‬‬


‫‪ 2‬حممد أركون‪ :‬قضايا يف نقل العقل الديين‪ ،‬كيف نفهم اإلسالم اليوم‪ ،‬تر‪ :‬هاشم صاحل‪ ،‬دار الطليعة للطباعة و النشر‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪ ،3111 ،3‬ص‪ .212 :‬وحول املوضوع نفسه ينظر‪ :‬حممد عابد اجلابري‪ :‬إشكاليات الفكر العريب املعاصر‪،‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3115 ،5‬ص‪.22 :‬‬
‫‪316‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الوقوف منه موقف الناقد ال املسلّم بكل منجزاته‪ ،‬األمر الذي يتحول مع مرور الوقت إىل مفاخرة‬
‫الضعة يف الوقت نفسه‪ ،‬عندما‬
‫فخ اإلعجاب‪ ،‬لكن بشعوره بالدونية و ّ‬ ‫به‪ ،‬جتعل من الناقد يسقط يف ّ‬
‫يرى إجنازات الغرب ألنه بلغ أسباب الرقي والتقدم‪ ،‬ال لشيء إال ألنه قام مبساءلة تراثه دون أن‬
‫يتحجر فيه‪ ،‬أو يقف عند عتباته‪ ،‬بل جتاوزه عندما أيقن أنه ال ميكن الركون فقط مبا لدى الرتاث من‬
‫منجزات‪ ،‬بل بالعكس عند جعله مطية إىل التقدم والرقي‪.‬‬

‫لقد وقف جابر عصفور املوقف نفسه من الرتاث حينما حاول مقاربته مقاربة عقلية‪ ،‬متحيزا‬
‫يف ذلك إىل التيارات العقلية يف الرتاث ممثلة يف املعتزلة وموقفهم يف الكثري من القضايا اإلشكالية‪،‬‬
‫دون أن حيبس نفسه على ذكر احملاسن واحملامد بل يف الكثري من األحيان يعدد اجلوانب السالبة‪ ،‬اليت‬
‫ومست أعماهلم قصد استخالص الدروس والعرب من هذه األخطاء‪ ،‬ومن مجلة مواقفه من نقائص‬
‫التيار االعتزايل قوله‪ " :‬على أن مسلك املعتزلة هذا حول نظرهتم إىل اجملاز ‪ -‬دون أن يعوا ‪ -‬نظرة‬
‫جامدة عقيم‪ ،‬ألنك إذا استعدت كل اجلوانب احلسية من التعبري اجملازي وأرجعته إىل عالقات حمضة‬
‫تؤدي معاين جمردة‪ ،‬فإنك ختنق القدرات الثرية للمجاز‪ ،‬وتقضي على كل ما ميكن أن يثريه يف خميلة‬
‫‪1‬‬
‫املتلقي‪".‬‬

‫ترتكز نظرة جابر عصفور للرتاث يف زاوية أن لكل أمة تراثها وأن ال أفضلية ألمة عن أمة‬
‫أخرى‪ ،‬وحىت لو حاولت هذه األمة إثبات أن تراثها أفضل تراث وأنقاه‪ ،‬ألن مسة األفضلية إمنا‬
‫يتجسد وجودها من مبدأ النفع العام وفاعليته لإلنسانية كلها‪ ،‬وهو األمر الذي حاول عصفور‬
‫جتْ لِلنَّاسِ﴾ اآلية‪ .‬دون‬‫خيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِ َ‬ ‫جاهدا تبيانه‪ ،‬من خالل تأويل آي القرآن الكرمي ﴿ ُ‬
‫كْنتُمْ َ‬
‫أن يتناسى خامتة اآلية اليت تؤكد ما بدأته وتشرتط مفعولية اآلية وأصالتها مبا جاء خامتة هلا‪ ،‬وبعد هذا‬
‫كله ال جيد عصفور أي فرق بني نقادنا القدامى ونقادنا احملدثني‪ ،‬يف نظرهتم التقديسية املتعالية للرتاث‬
‫العريب‪ ،‬إذ يصدح كل ناقد بأن األفضلية لرتاثنا القدمي مهما بلغت درجة املعرفة والفكر والوعي هبما‬
‫مبلغهما‪ ،‬يقول‪... " :‬وال فرق بني ناقد سلفي قدمي لألدب أو ناقد تنويري حديث يف هذه النظرة‪،‬‬
‫فابن املعتز الناقد الشاعر القدمي على سبيل املثال‪ ،‬يضين نفسه يف كتابه البديع‪ ،‬ليثبت أن املذهب‬

‫‪1‬جابر عصفور‪ :‬الصورة الفنية يف الرتاث النقدي و البالغي عند العرب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪،‬ط‪ ،0003 ،2‬ص‪:‬‬
‫‪.025‬‬
‫‪317‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اجلديد الذي أتى به احملدثون من أمثال "بشار" و"أيب نواس" و"أيب متام" مل يسبقوا إليه‪ ،‬بل كثُر يف‬
‫أشعارهم فعرف يف زماهنم فحسب‪ ،‬وطه حسني الناقد احلديث والتنويري اجلليل كمثال مقابل‪ ،‬مل‬
‫يروض به غرابة كل مسموع جديد‪،‬‬ ‫ينج من أسر هذه النظرة‪ ،‬فظل يفتش يف حمفوظه القدمي عما ّ‬
‫فردهم إىل تراثه الذي ينفي‬‫هكذا تناول حداثة "كافكا" و"كامي" و "سارتر" ومذهبهم يف العبث‪ّ ،‬‬
‫حىت أعجمية "العبث"‪ ،‬ورد "كافكا" على وجه اخلصوص إىل شاعره األثري "أيب العالء" موقنا أن "أبا‬
‫‪1‬‬
‫العالء" يذهب يف تشاؤمه املذهب نفسه الذي يذهبه "كافكا" املتشائم األوريب احلديث‪".‬‬

‫لنوضح أن نظرة جابر عصفور إىل مبدأ املقارنة‬


‫لقد آثرنا أن نورد هذا االقتباس على طوله‪ّ ،‬‬
‫بني اآلثار واآلداب كانت غائبة عن وعيه‪ ،‬كيف ال والرجل حياول جاهدا أن يثبت أمرا مغايرا ملا‬
‫يتضمنه سياق البحث وتداخل األنساق املعرفية بني االختصاصات‪ ،‬سواء يف القراءة أو النقد ذلك‬
‫أن هذه النظرة إمنا تنم عن قصور يف حماولة فهم نقادنا القدامى ألهم القضايا النقدية واإلبداعية‬
‫آنذاك‪ ،‬فضال عن أن مفاضلة طه حسين بني أبي العالء وكافكا إمنا نبعت من نزوع مقارين بني‬
‫اآلداب العاملية‪ ،‬على اعتبار أن طه حسين من بني النقاد العرب احملدثني الذين حنوا هذا املنحى يف‬
‫بدايات نشأة األدب املقارن‪.‬‬

‫فالقراءة اليت يتغياها عصفور إمنا تؤسس لنمط معريف مغاير ملا دأب عليه الفكر العريب احلديث‬
‫واملعاصر‪ ،‬حيث اختذ من علوم اآلخر وتراثه منوذجا حيتذيه‪ ،‬و يف الوقت ذاته ضاربا بعرض احلائط‬
‫الرتاث باعتباره سببا يف ختلف الذات العربية‪ ،‬غري أنه يدعو إىل االنفتاح املشروط حبقائق ما للذات‬
‫العربية من متايز وخصوصية‪ ،‬األمر الذي جيعلها مستقلة نسبيا عن هذا اآلخر‪ ،‬وال متّحي فيه وال‬
‫تذوب يف منجزاته‪ ،‬وهو يف الوقت عينه يدعو إىل تكرار هذه العملية‪ ،‬اليت قفز هبا السلف الرتاثي مع‬
‫احلضارات اجملايلة له كحضارة اليونان والفرس وغريها‪ ،‬عندما أفادت هذه الذات الرتاثية من هذه‬
‫املنجزات وزادت يف عملية تطويرها‪ " ،‬ألن العقل إذ ينظر يف األصل ويقرأ النص إمنا يتأمل تراثه‬
‫وتارخيه‪ ،‬ومغايرته لنفسه‪ ،‬إمنا يعين يف الوقت نفسه إعادة اكتشاف لألصل وإعادة بناء للذات‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫فالتجديد هو حقا إعادة بناء‪".‬‬

‫‪ 1‬جابر عصفور ‪ :‬هوامش على دفرت التنوير‪ ،‬ص‪.38 :‬‬


‫‪2‬علي حرب‪:‬التأويل واحلقيقة‪ ،‬قراءات تأويلية يف الثقافة العربية‪،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،0085 ،0‬ص‪.00:‬‬
‫‪318‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫هذه اإلشكالية اليت دأب جل املفكرين و النقاد العرب احملدثني‪ ،‬تفعيلها وفق شروط النهضة‬
‫املعرفية اليت تنشدها األمة العربية يف كافة اجملاالت واألصعدة‪ ،‬األمر الذي حدا بعلي حرب مثال أن‬
‫ينظر إىل العالقة القائمة بني الذات القارئة وتراثها نظرة نسبية وتكميلية يف آن معا‪ ،‬خاصة إذا زالت‬
‫احلدود املائزة بني هذه الذات وموضوعها وغدا املوضوع هو الذات‪ ،‬والتحامهما هو من يصنع هذا‬
‫النسق التصاعدي للفكر واجملاوزة واالستمرار‪ ،‬يكتب علي حرب قائال‪ ... ":‬إذا كانت املعرفة تفرض‬
‫اجملاوزة واملغايرة‪ ،‬مغايرة الذات لذاهتا‪ ،‬فال حميص ملن ينظر يف الرتاث من أن يقف على مسافة من‬
‫موضوعه‪ ،‬أي من ذاته ووعيه‪ ،‬وهذه املسافة متلؤها زمانية الكائن اإلنساين‪ ،‬مبا يعنيه ذلك من‬
‫‪1‬‬
‫االنشقاق واجملاوزة والقلق واملغايرة‪".‬‬

‫تتأكد فاعلية القراءة اهلادفة للرتاث من منطلق األمهية الكربى اليت يتمتع هبا هذا األخري على‬
‫ساحة الفكر املعاصر وباعتبار الرتاث أي تراث سواء أكان فلسفيا أو نقديا أو دينيا‪ ،‬فتتجاوز الذات‬
‫موضوعها وخترج من شرنقتها لتجعل من املوضوع ذاتا ومن الذات موضوعا‪ ،‬يف قراءة جتعل هذا اهلرم‬
‫الفكري واملعريف مبثابة احليّز القابل للقراءة واملساءلة‪ ،‬وإعادة التأويل يف منطوقاته ومسلّماته قصد كنه‬
‫أسراره وخباياه‪ ،‬ألن الرتاث من موجودات الذات ومن الركائز األساسية اليت متنح الذات منها وجودها‬
‫وفاعليتها إذ " ال ميكن للثقافة أن تتجدد ما مل يقف العقل على مسافة من نفسه‪ ،‬وما مل حيصل له‬
‫وعي مغاير بذاته‪ ،‬فريت ّد على تراثه وتارخيه من خالل راهنيته‪ ،‬بكل شروطها وأبعادها ويرجع إىل نفسه‬
‫‪2‬‬
‫بعد صريورته ومغايرته‪".‬‬

‫ينتصر علي حرب هلذا النوع من القراءة التأويلية للرتاث ‪ ،‬اليت تلغي الفوارق بني الذات‬
‫واملوضوع وتنفي التمايز على أساس إيديولوجي أو مذهيب أو انتماء عقدي أو ديين‪ ،‬ذلك أن القراءة‬
‫التأويلية " تستبعد التصنيفات الشائعة واملألوفة لألفكار والنصوص وللعلماء واملؤلفني‪ ،‬إىل عقلي‬
‫ونقلي‪ ،‬وأصيل ودخيل‪ ،‬وأصالة وحداثة‪ ،‬ومثايل ومادي‪ ،‬وذايت وموضوعي‪ ،‬وعلمي وغري علمي‪،‬‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ :‬ص‪.01 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪319‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫ورجعي وتقدمي‪ ،‬ليس ألن هذه الثنائيات ال حقيقة هلا وال تعرب البتة عن واقع الفكر‪ ،‬بل ألن هذه‬
‫‪1‬‬
‫تتأوهلا وتعيد بذلك تعريف املصطلحات واملفاهيم‪".‬‬
‫القراءة تتحدى تلك التصنيفات إذ تتأملها بل ّ‬
‫يعاجل جابر عصفور الكثري من القضايا النقدية سواء كانت قدمية أم حديثة‪ ،‬وال يألو جهدا يف‬
‫وضع يده على مواضع الداء واخللل يف املنظومة الفكرية أو املعرفية العربية‪ ،‬خاصة عندما يكون بصدد‬
‫تبيان موقفه النقدي من بعض القضايا اهلامة على الساحة النقدية‪ ،‬ففي قضية الشكل واملضمون على‬
‫سبيل التمثيل‪ ،‬يويل الناقد عناية بالغة هبذه القضية‪ ،‬دون أن يسري على وترية النقد العريب القدمي؛ ألن‬
‫هذه القضية من أمهات القضايا يف النقد العريب القدمي‪ ،‬ومل يفاضل جابر عصفور بني طريف هذه‬
‫اإلشكالية‪ ،‬ومل يتعسف يف القيام بذلك‪ ،‬إمنا رأى عملية الفصل بينهما عدمية اجلدوى يف أجبديات‬
‫النقد العريب املعاصر‪ ،‬يقول جابر عصفور‪... ":‬فليس مثة شيء ميكن أن يسمى شكال إال من قبيل‬
‫التعسف أيضا‪ ،‬فال شيء له وجود متعني غري القصيدة نفسها باعتبارها موازاة رمزية تفصح عن‬
‫موقف ال وجود له خارجها بأي حال‪ ،‬واملوقف الذي تقدمه القصيدة هو ضرب من اإلدراك اجلمايل‬
‫‪2‬‬
‫للواقع يتميز متيزا نوعيا عن أي إدراك آخر‪ ،‬وإال ملا كان للفن خاصية النوعية‪".‬‬

‫أما فيما خيص اخللفيات املعرفية والفلسفية لناقد الشعر حسب جابر عصفور‪ ،‬فيدرجها ضمن‬
‫حتمية املواءمة بني التنظري الفلسفي واملنحى النقدي اللغوي‪ ،‬والذي ال يتأتى لناقد الشعر أن يتصرف‬
‫من دوهنما يف نقده للقصيدة‪ ،‬يقول‪ " :‬ومن املنطق أال تربز صفة علم الشعر على هذا النحو إال يف‬
‫مرحلة فكرية ناضجة‪ ،‬ومن املنطقي – أيضا‪ -‬أن حتتاج حماولة تأسيس علم الشعر إىل ثقافة فلسفية‬
‫تتجاوز الثقافة اللغوية‪ ،‬وإن استعانت هبا لدرس األداة‪ ،‬فتفيد احملاولة _ يف هذا التجاوز _ من طريقة‬
‫الفلسفة يف صياغة املفاهيم والتصورات‪ ،‬ويف صياغة الرتابط املنطقي بني املفاهيم والتصورات‪ ،‬كما‬
‫تفيد من معطيات الفلسفة‪ ،‬فيما يتصل بإجنازها يف نظرية الفن بعامة‪ ،‬وخباصة جمال الشعر‪ ،‬الذي‬
‫درسه الفالسفة ضمن أقسام املنطق والسياسة والنفس واألخالق‪ ...‬واإلفادة من الفلسفة يف مشوهلا‬
‫تعلّم ناقد الشعر ضرورة ارتباط مفهومه عن الشعر مبفاهيم أخرى متكاملة عن احلياة‪ 3".‬ليس من‬

‫علي حرب‪:‬التأويل واحلقيقة ‪ ،‬ص‪.02 :‬‬


‫‪1‬‬

‫جابر عصفور ‪ :‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪2‬‬

‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.02 ،05 :‬‬


‫‪320‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫شك يف أن جابر عصفور يضع يده على مفصل هام من مفاصل العملية النقدية يف جمال صناعة‬
‫"علم الشعر" وهي املزاوجة بني املنحى الفلسفي واالجتاه اللغوي‪ ،‬ومها ثنائيتان ال غىن عنهما ألي‬
‫ناقد فيما يرى عصفور‪.‬‬

‫تأسيسا على مامت‪ ،‬لعل التساؤل األثري الذي يزاحم غريه من التساؤالت‪ ،‬قصد الربوز على‬
‫ساحة الفكر النقدي العريب احلداثي اليوم هو‪ ،‬ملاذا العودة إىل الرتاث يف هذه الفرتة بالذات؟ كيف‬
‫نقرأ هذا الرتاث؟ وملاذا نقرؤه؟‪ .‬وطبيعي ج ّدا أن تطرح هذه القضية يف سياقات خمتلفة ومتباينة تنبئ‬
‫عن غاية يتغياها الباحث يف الرتاث وعن كيفيات القراءة اليت يسرتشد هبا‪ ،‬والعودة إىل الرتاث من هذا‬
‫املنظور إمنا تفتح جماالت التساؤل وحتاول فك مغاليق النصوص الرتاثية اليت ما تلبث أن حتضر يف‬
‫يعرب عن مهومنا وآمالنا وآالمنا‬
‫هذه اللحظات الزمنية العصيبة‪ ،‬وإال ملاذا نسرتجع الرتاث وهو ال ّ‬
‫احلاضرة‪ ،‬ألنه اهنزم ومضى هو وأهله‪.‬‬

‫القضية وما ترمي إليه أن هناك فرقا " بني من يعود إىل املاضي ليثبّت أو يؤكد وضعا متخلفا‬
‫يطور احلاضر نفسه‪ ،‬وينفي بعض ما‬
‫ليؤصل وضعا جديدا قد ّ‬ ‫يف احلاضر‪ ،‬وبني من يعود إىل املاضي ّ‬
‫فيه من ختلّف‪ .‬وتأصيل اجلديد يعين أن "نقتله علما"‪ ،‬لنعرف أصله الذي جاء منه‪ ،‬وأصولنا اليت‬
‫ميكن أن تتقبله وتدعمه‪ ،‬ومبثل ذلك يؤصل اجلديد‪ ،‬أي يصبح له أصل‪ ،‬ويتحول إىل قوة مؤثرة كل‬
‫التأثري‪ ،‬بعد أن وجدت أصال تضرب جبذورها الفتية فيه"‪.1‬‬

‫إن عملية العودة إىل الرتاث تكتسي أمهية بالغة على الصعيد املعريف والثقايف‪ ،‬ذلك أن الرتاث‬
‫معني ال ينضب‪ ،‬وبالرجوع إليه إمنا نؤسس خلطاب نقدي جديد حياول اإلجابة عن التساؤالت املهمة‬
‫اليت نطرحها عليه‪ ،‬قصد إعادة كتابته من جديد‪ ،‬وما دمنا نؤكد على احلضور الرتاثي فينا ويف‬
‫خطاباتنا‪ ،‬فإن االنشغال به والعودة إليه متثل يف النهاية جزء من االنشغال مبشروعنا وتأصيال للهويتنا‬
‫الثقافية‪.2‬‬

‫اجته جابر عصفور صوب املستودع الرتاثي مسائال إياه ومن ّقبا عن أهم احملطات املعرفية‬
‫وعالمات الطريق البارزة اليت من شأهنا أن ترشد الباحث يف ثناياه‪ ،‬وقد أفرد هلذا الزخم الفكري‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.00 :‬‬


‫‪ 2‬ينظر حممد عابد اجلابري‪ :‬الرتاث واحلداثة‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪321‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مسافة شاسعة من دراساته النقدية‪ ،‬مربزا أمهية العودة إىل الرتاث يف اللحظة الراهنة من أجل احملافظة‬
‫على اخلصوصية الفردية وعدم الوقوع يف شرك االمنحاء والذوبان يف اآلخر‪ .‬فالرتاث عنده مبثابة‬
‫تسرب اآلخر يف هذه الذات حمال نفسه‬ ‫احلصن املنيع الذي يذود عن الذات وعن هويتها ومينع من ّ‬
‫حملّها‪ ،‬وهو ‪ -‬أي الناقد‪ -‬إذ يلوذ قافال إىل الرتاث ال يروم يف الوقت نفسه االنغالق والتحجر على‬
‫منجزاته‪ ،‬بل يروم االنفتاح سبيال للمشاركة يف صنع احلضارة اإلنسانية‪ ،‬شريطة أن يتم الوعي به ‪ -‬أي‬
‫الرتاث ‪ -‬وباآلخر ويف الوقت نفسه تتجلى األمهية الكربى لقراءة الرتاث عند جابر عصفور يف قوله‪:‬‬
‫"منذ سنوات طويلة‪ ،‬وأنا منشغل بعملية قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬بوصفها عملية ملحة هلا أمهيتها يف‬
‫ذاهتا‪ ،‬وبوصفها عملية صغرى مرتبطة بعملية كربى هي قراءة الرتاث بوجه عام‪ .‬وبقدر ما كنت أدرك‬
‫أن اإلحلاح على قراءة الرتاث هو الوجه اآلخر من اإلحلاح على قراءة الواقع‪ ،‬أو احلاضر‪ ،‬كنت أزداد‬
‫اقتناعا أنه ال توجد قراءة بريئة‪ ،‬أوحمايدة للرتاث‪ ،‬ذلك ألننا عندما نقرأ الرتاث ننطلق من مواقف‬
‫فكرية حمددة‪ ،‬ال سبيل إىل جتاهلها‪ ،‬ونفتش يف الرتاث عن عناصر للقيمة املوجبة أو السالبة‪ ،‬باملعىن‬
‫الذي يتحدد إطاره املرجعي باملواقف الفكرية اليت ننطلق منها"‪.1‬‬

‫وتأسيسا على هذا القول يتضح جليا أن الرتاث ميارس نوعا من الضغط على الذات القارئة‬
‫قصد مساءلته وبعثه‪ ،‬ألن احلاضر بكل إشكاالته هو من فرض هذه العودة‪ ،‬دون أن ينسلخ القارئ‬
‫للرتاث من توجهه الذي يصدر عنه وعن مبادئه اليت ينتصر هلا ويؤمن هبا‪ ،‬وانطالقا من هذا تش ّكل‬
‫عملية العودة إىل الرتاث حبثا عن معامل للطريق قد تسرتشد هبا الذات يف املستقبل‪ ،‬وجتد يف هذا‬
‫الرتاث حال للعديد من إشكالياهتا ومشكالهتا اليت طفت على سطح الفكر واملعرفة‪ ،‬ولعل من مجلة‬
‫الدوافع اليت تكمن وراء العودة إىل الرتاث واإلحتماء به‪ ،‬االحنطاط احلضاري الذي عاشه اإلنسان‬
‫العريب على امتداد زمن طويل‪ ،‬إضافة إىل الصدمة احلضارية اليت جتسدت يف الغياب التام للممارسة‬
‫املعرفية أو التقنية‪ ،‬اليت ميكن لإلنسان العريب أن يق ّدمها‪ ،‬فضال عن تساؤل اإلنسان العريب‪ ،‬ومراجعة‬
‫واقعه وطبيعة املرحلة اليت يعيشها‪ ،‬فهناك فارق واضح أصبح يفرض نفسه‪ ،‬وهو التقدم املذهل للغرب‬
‫يف مقابل التأخر الفاضح للعرب‪ ،‬ملعاناهتم من سيطرة العقل اخلرايف‪.‬‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.00 :‬‬


‫‪322‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .3‬نظرية الشعر من املاهية إىل املهمة‬

‫انطالقا من هذه العلل والدوافع أسس جابر عصفور مشروعه النقدي يف قراءة الرتاث‪ ،‬مثريا‬
‫العديد من القضايا اهلامة على الصعيد املعريف والفلسفي‪ ،‬فعندما يثري قضية العالقة بني النقد والبالغة‬
‫ونشأة ما يسمى بالنقد احملدث‪ ،‬يذهب إىل أن النقد ال ينفصل عن البالغة وال تنفصم عرامها‪ ،‬حلاجة‬
‫األول لآلخر وألن احلدود املعرفية بينهما كانت غري واضحة املعامل‪ ،‬فال يكاد يذكر أحدمها إال وي ّذكر‬
‫باآلخر‪ ،‬أما النشأة الفعلية اليت أسست النقد العريب احملدث فريجعها عصفور إىل الرتكيبة الفكرية اليت‬
‫صاحبت االختالط القومي وما تبعه من جدل وخصومة بني القدمي واحملدث‪ ،‬فيقول‪ ...":‬وبقدر ما‬
‫كان هذا الوجه اإلبداعي قرين الوجه الفكري يف رؤية متّحدة‪ ،‬تسعى إىل التحول عن عامل قدمي‬
‫وابتداع عامل تارخيي جديد‪ ،‬كانت الصلة وثيقة بني املستويات املتعددة هلذه الرؤية‪ ،‬على حنو جعل‬
‫أهل العقل يف الفكر سندا لطرائق احملدثني يف اإلبداع‪ ،‬بالقدر الذي جتاوبت به دوال اإلبداع ودوال‬
‫الفكر لتنطق داللة املنظور اإلجتماعي املتحول الذي حيتوي الفكر واإلبداع معا‪ ،‬بل على حنو التقى‬
‫فيه الفكر واإلبداع يف مستوى يتوسط بينهما‪ ،‬فتولد نقد أديب "حمدث" صاغ فيه أهل العقل األصول‬
‫‪1‬‬
‫ومربرين حركتها يف الوقت نفسه‪".‬‬
‫اجلديدة إلبداع أقراهنم من احملدثني‪ ،‬مدافعني عنها ّ‬
‫ترجع هذه النربة املتحفظة لعصفور من خالل هذا االقتباس إىل عدم حتمسه ملا أصبح يعرف‬
‫بالنقد األديب احملدث ‪ ،‬فجاءت تسميته له بالتنكري بدل التعريف به‪ ،‬غري أن ما هو مؤكد من املعرفة‬
‫النقدية بني الفريقني القدمي واحملدث هو عملية التقنني والتقعيد العلمي‪ ،‬اليت مارسها بعض النقاد‪،‬‬
‫الشيء الذي قد يضر بالعملية النقدية من أساسها‪ ،‬وأسهم يف تأجيج نار اخلالف بني أنصار‬
‫الفريقني أنصار العقل من املتكلمني‪ ،‬وما أوجده أصحاب اإلبداع يف تلك الفرتة‪ ،‬وأثناء حتسسه‬
‫مفاصل البالغة العربية القدمية‪ ،‬وأوليات تعريف علم الشعر فيها‪ ،‬يقف عصفور عند التعريف‬
‫القاعدي للشعر كما ذهب إىل ذلك قدامة بن جعفر مع شيء من االقتدار املعريف فيه‪ ،‬وذلك‬
‫التعريف الذي مل خيالطه شيء من منطق أرسطو أو فلسفة اليونان كما كان احلال مع غريه ممن أتى‬
‫بعده‪ ،‬كحازم القرطاجني وابن خلدون‪ ،‬يعرف قدامة الشعر بقوله ‪ ":‬قول موزون مقفى يدل على‬
‫معىن" مث يأيت تفصيل ذلك وبيانه على النحو التايل ‪ ":‬فقولنا (قول) دال على أصل الكالم الذي هو‬

‫جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.082 ،083 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪323‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مبنزلة اجلنس للشعر وقولنا (موزون) يفصله مما ليس مبوزون‪ ،‬إذ كان من القول موزون وغري موزون‪،‬‬
‫وقولنا (مقفى) فصل بني ما له من الكالم املوزون قواف وبني ما ال قوايف له وال مقاطع وقولنا (يدل‬
‫على معىن)‪ ،‬يفصل ما جرى من القول على قافية ووزن مع داللة على معىن مما جرى على ذلك من‬
‫غري داللة على معىن"‪.1‬‬

‫سر وجوده‪ ،‬أوهلا السياق التارخيي الذي‬ ‫مثّة معايري حت ّكمت يف إبراز هذا التعريف ودافعت عن ّ‬
‫تنزل فيه هذا التعريف رغم قصوره وهتافته يف العديد من املناحي‪ ،‬إذ ال يشفع املنظور التارخيي هلذا‬
‫ّ‬
‫التعريف بأن يقبل كتعريف جامع مانع للشعر‪ ،‬سار على الرقعة البالغية يف القرون األوىل‪ ،‬إال أ ّن‬
‫مأتى القصور يندرج يف رأي جابر عصفور من‪ ...":‬أنه ال ينطوي على ّ‬
‫أي حتديد للقيمة‪ ،‬وال مييز ما‬
‫جمرد النظم‬
‫عما ليس كذلك‪ ،‬أو ‪ -‬بعبارة أخرى‪ ،-‬ال مييز الشعر عن ّ‬
‫ميكن أن نسميه "الشعر احلق" ّ‬
‫الوزين"‪.2‬‬

‫تأيت مربرات القصور يف هذا التعريف من منـزع القيمة اليت يربطها جابر عصفور رمبا بالفائدة‬
‫من قول الشعر سواء يف شكله أو مضمونه‪ ،‬وعلى ذلك األساس يستطيع الناقد أن مييز بني الشعر‬
‫حل من الشاعرية يضيف عصفور نقده لتعريف قدامة‬ ‫احلق وباقي األجناس املنظومة‪ ،‬اليت هي يف ّ‬
‫شارحا مقصوده من القيمة املرغوبة أو املطلوبة قائال‪ ":‬ولكي يتم حتديد القيمة أو التمييز بني الشعر‬
‫املعرفة ‪-‬وهي القول املوزون املقفى‬
‫والنظم ينبغي البحث عن اخلصائص املميزة اليت إذا تعاورت املادة ّ‬
‫الدال على معىن‪ -‬صارت املادة يف غاية اجلودة‪ ،‬فتصبح شعرا حبق‪ ،‬أو يف غاية الرداءة‪ ،‬فتصبح جمرد‬
‫نظم بال قيمة‪ ،‬أو تندرج بني هذين الطرفني‪ ،‬فتتحدد قيمتها تبعا ملوقعها من هذين النقيضني ‪-‬‬
‫اجلودة املطلقة والرداءة املطلقة"‪.3‬‬

‫هناك حلقة أخرى من احللقات املهمة يف التعريف بعلم الشعر يف البالغة العربية‪ ،‬وهي حلقة‬
‫موصولة باإلرث البالغي لقدامة يف تعريفه للشعر‪ ،‬دون أن خيرج عنه إال ما جتاوز فيه ابن طباطبا‪،‬‬
‫قدامة من إعطاء األمهية الكربى لعامل الطبع والصنعة يف العملية اإلبداعية للشعر‪ ،‬يقول ابن طباطبا‬

‫‪ 1‬قدامة بن جعفر‪ :‬نقد الشعر‪ ،‬تح عبد املنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص‪.05 :‬‬
‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 05 :‬‬
‫‪324‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫خص به‬
‫" الشعر‪ -‬أسعدك اهلل‪ -‬كالم منظوم بان عن املنثور الذي يستعمله الناس يف خماطباهتم مبا ّ‬
‫من النظم الذي إن عدل به عن جهته جمّته األمساع وفسد على الذوق‪ ،‬ونظمه معلوم حمدود‪ ،‬فمن‬
‫صح طبعه وذوقه مل حيتج إىل االستعانة على نظم الشعر بالعروض اليت هي ميزاته‪ ،‬ومن اضطرب‬ ‫ّ‬
‫عليه الذوق مل يستغن عن تصحيحه وتقوميه مبعرفة العروض واحلذق هبا حىت تصري معرفته املستفادة‬
‫كالطبع الذي ال تكلّف معه"‪.1‬‬

‫مما نالحظه حول هذا التعريف أنه يدور يف فلك التعريف اإلطار الذي أسسه قدامة بن‬
‫جعفر‪ ،‬إال ما أضافه ابن طباطبا حول إشكالية الطبع والصنعة والتكلف الواضح من قبل بعض‬
‫الشعراء‪ ،‬وهو تعريف ال ينأى بنفسه عن الوظيفة اجلمالية اليت يرومها كل شاعر مبدع‪ ،‬ألن السياق‬
‫التارخيي الذي أفرز هذا التعريف ومن خالله الكتاب بكامله‪ ،‬غري السياق التارخيي الذي ألّف فيه‬
‫قدامة كتابه‪ ،‬يكتب جابر عصفور معلّقا حول كتاب عيار الشعر قائال‪ ":‬إ ّن الكتاب ليس كتابا يف‬
‫نسميه بالنقد التطبيقي‪ ،‬الذي يرتكز حول النقد املوضعي معتمدا على املوازنة‪ ،‬أو قياس األشباه‬
‫ما ّ‬
‫على النظائر‪ ،‬وإمنا هو كتاب يف النقد النظري‪ ،‬الذي يعىن بتحديد أصول الفن‪ ،‬وتوضيح قواعده‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫وبالتايل حتديد معيار للقيمة"‪.‬‬

‫تلتئم الدائرة بأقطاهبا الثالثة من رواد البالغة العربية يف تأسيسهم لعلم الشعر‪ ،‬يقوم حبصر‬
‫األقوال الشعرية اإلبداعية وخيرج منها ما يند عنها‪ ،‬إن القطب األخري من هذه األقطاب جعل لنفسه‬
‫حيزا ضمن العقول الكبرية اليت زامحته وتأثّر هبا يف الوقت نفسه‪ ،‬ما حدى به إىل كشف وإبراز نواة‬
‫نظرية التخييل يف الرتاث البالغي والنقدي عند العرب‪ ،‬متأثرا بتعريفات عبد القاهر الجرجاني حول‬
‫حتديده ملاهية النظم ويف الشق اآلخر تأثريات ابن خلدون يف التخييل‪ ،‬إال أن مادفع حازما إىل تبيان‬
‫ذلك هو السياق التارخيي الذي عاشته األمة يف تلك احلقبة‪ ،‬وتردي اإلبداع وتقهقره يف موضوعاته‬
‫كما يف أشكاله‪ ،‬وازدراء الناس لإلبداع وكل حقول املعرفة يف تلك احلقبة يقول حازم واصفا تلك‬
‫احلال‪ ...":‬بل كثري من أنذال العامل‪ -‬وما أكثرهم‪ -‬يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة‪ ،‬وكان القدماء‬
‫من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيه‪ ،‬عندما اعتقد هؤالء الزعانفة على حال قد نبّه عليها أبو‬

‫‪ 1‬ابن طباطبا ‪ :‬عيار الشعر‪ ،‬تح عبد العزيز بن ناصر املانع‪ ،‬إحتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬دط‪،3115 ،‬ص‪.2 ،5 :‬‬
‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫‪325‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫علي ابن سينا فقال‪ :‬كان الشاعر يف القدمي ينـزل منـزلة النيب‪ ،‬فيعتقد قوله‪ ،‬ويصدق حكمه‪ ،‬ويؤمن‬
‫بكهانته‪ ،‬فانظر إىل تفاوت ما بني احلالني‪ ،‬حال كان ينـزل فيها منـزلة أشرف العامل وأفضلهم‪ ،‬وحال‬
‫صار ينـزل فيها منـزلة أخس العامل وأنقصهم"‪.1‬‬

‫ال جند داعيا لتفريع وتبسيط هذا التعريف املسهب حول مكانة الشاعر ودوره يف األمم‬
‫‪2‬‬
‫نود التأسيس على هذا التعريف ملعرفة وظيفة الشعر عنده كما اقتبسها من‬
‫السالفة* بقدر ما ّ‬
‫الفلسفة اإلغريقية‪ ،‬بقرهنا بني اجلانب اخللقي للشعر متجسدا يف حدي القضية من فضيلة ورذيلة‪،‬‬
‫واليت ينهض الشعر بإبرازها‪ ،‬إما حمببا فيها أو داعيا إىل الزهد هبا ‪ ،‬يقول حازم يف تعريفه للشعر‬
‫والذي نتلمس فيه دور قدامة وتأثريه ال حمالة عليه كما أثر يف غريه من الالحقني عليه‪ ،‬يقول‬
‫حازم ‪ ":‬الشعر كالم موزون مقفى من شأنه أن حيبب إىل النفس ما قصد حتبيبه إليها‪ ،‬ويكره إليه ما‬
‫قصد تكريهه لتحمل بذلك على طلبه أو اهلرب منه‪ ،‬مبا يتضمن من حسن ختييل له وحماكاة مستقلة‬
‫بنفسها أو مقصورة حبسن هيئة تآليف الكالم‪،‬أو قوة صدقه أو قوة شهرته أو مبجموع ذلك"‪.3‬‬

‫يتضح التأثري العقلي لقدامة جليا من خالل هذا التعريف‪ ،‬إال أن اجلديد فيه هو احتكامه‬
‫ملبدأ املفاضلة األخالقية اليت ينهض الشعر بإبرازها أو التنفري منها‪ ،‬وهو مبدأ ما فتئ يرسخه حازم‬
‫فيما سيأيت من عملية التأصيل اليت ميارسها يف حقل علم الشعر والبالغة اليت يروم التأسيس هلا‪ ،‬غري‬
‫أن هناك فروقا جوهرية وجلية بني طروحات حازم لتعريف الشعر ومهمته ومعضلة اللفظ واملعىن يف‬

‫‪1‬حازم القرطاجين‪:‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تح‪ :‬حلبيب بن خوجة‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‪ ،0080 ،3‬ص‪:‬‬
‫‪.032‬‬
‫‪ 2‬يذهب جابر عصفور إىل أن الشاعر العريب يف العصر اجلاهلي كان حيضى مبكانة النيب يف قومه‪ ،‬ويسوق يف هذا الصدد‬
‫كلمة منسوبة أليب عمرو بن العالء تقول‪" :‬كانت الشعراء عند العرب يف اجلاهلية‪ ،‬مبنزلة األنبياء من األمم" ينظر‪:‬جابر‬
‫عصفور‪ ،‬غواية الرتاث‪،‬كتاب العريب‪ ،‬وزارة اإلعالم‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪ ،3115 ،0‬ع‪ ، 23‬ص‪ .02:‬وهو توجه حيتاج إىل إعادة النظر‬
‫يف املقدمات والنتائج‪ ،‬ذلك أن العرب رفضوا النبوة متمثلة يف شخص النيب حممد‪ ،‬يف الوقت الذي مل يكونوا يرفضون فيه‬
‫الشعر وال الشعراء‪ ،‬بل كيف اهتموه بأنه ليس نبيا بل شاعرا لو كان الشعر هو نفسه النبوة عندهم‪ ،‬إهنم باهتامهم النيب‬
‫بالشعر‪ ،‬إمنا كانوا ينكرون النبوة من جانب‪ ،‬وحياولون التحقري من شأنه من جانب آخر‪ ،‬فاألمر الذي جاء به حممد‪ -‬يف‬
‫نظرهم‪ -‬عادي جدا ‪ ،‬فهو ليس إال واحدا من هؤالء الشعراء الذين غصت هبم اجلزيرة العربية‪ ،‬إذن فالكالم عن النبوة ليس هو‬
‫نفسه الكالم عن الشعر‪.‬‬
‫‪ 3‬حازم القرطاجين‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء ص‪.20 :‬‬
‫‪326‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الرتاث النقدي والبالغي‪ .‬وما كان قد أرسى دعائمه قدامة وابن طباطبا نظرا للتأثري الفلسفي اجللي‬
‫على الرجل يف تلك احلقبة‪ ،‬يقول جابر عصفور مربزا فاعلية التأثري اإلنعكاسي اليت طرأت على‬
‫حازم‪ ":‬هناك تباعد زمين يصل إىل حوايل ثالثة قرون يفصل ما بني حازم وبني ابن طباطبا وقدامة‪.‬‬
‫وقد كان هذا التباعد يف جانب حازم‪ ،‬ألنه أتاح له االطالع على ما مل يطّلع عليه سلفاه اللذان‬
‫سبقاه يف احملاولة‪ ،‬وأعين إجنازات الفالسفة والنقاد التطبيقيني الذي قدموا إجنازهم منذ النصف الثاين‬
‫من القرن الرابع‪ ،‬كما أتاح له االطّالع على إجنازات النقاد التظريني الذين كتبوا بعد قدامة بن جعفر‪.‬‬
‫ومن املؤكد أن حازما القرطاجين كان يعرف قدامة جيدا‪ ،‬فقد ذكره ‪ -‬يف األجزاء اليت وصلت من‬
‫"منهاج البلغاء وسراج األدباء" ‪ ،-‬غري مرة ذكرا ينطوي على إجالل وتقدير‪ .‬صحيح أن حازما خيتط‬
‫لنفسه منهجا يف التأليف غري منهج قدامة‪ ،‬ولكنه ‪ -‬وهذا هو املهم‪ -‬يتابع قدامة يف حماولة تأصيل‬
‫مفهوم للشعر غري مفارق لفكرة "علم الشعر" اليت سعى إليها قدامة يف القرن الرابع"‪.1‬‬

‫ينقاد جابر عصفور وراء التأثري الكبري الذي ميارسه السياق التارخيي يف كشف النظريات ويف‬
‫أفوهلا يف الوقت نفسه‪ ،‬ويُرجع إليه ‪ -‬أي السياق التارخيي‪ -‬ازدهار الكشوف العلمية اليت تتميز هبا‬
‫حقبة على أخرى وأمة على أخرى‪ ،‬فهو يرى مثال أن احلقبة التارخيية اليت نشأ هبا قدامة كانت‬
‫"تعاين فوضى األحكام النقدية"‪ ،2‬وأن املرحلة اليت جاء فيها حازم أي القرن السابع كانت " تعاين‬
‫من فوضى القيم واضطراهبا املصاحب لسقوط احلضارة واهنيار اجلماعة‪ ،‬وهي معاناة مرتبطة بوضع‬
‫أكثر تعقيدا من الوضع الذي عاناه قدامة"‪.3‬‬

‫يسرتسل جابر عصفور مربزا أمهية السياق التارخيي الذي اجنر عنه ذلك الوضع قائال‪" :‬لقد‬
‫كان قدامة يؤلف كتابه يف فرتة ازدهار مل تكن قائمة يف عصر حازم على مستويات عدة‪ .‬وبالتايل‬
‫كانت مشكلة قدامة يف نقد الشعر‪ ،‬هي حتديد علم يضبط خطى االزدهار‪ ،‬ويكشف عن عناصر‬
‫القيمة الثابتة يف كل شعر أصيل‪ .‬أما حازم فكان عليه أن يواجه اإلحساس العام هبوان الشعر وقلة‬
‫غض من إجناز املاضي‪ ،‬وكان على‬
‫جدواه‪ ،‬يف جمتمع ينهار كل ما فيه من أصالة‪ ،‬ويذبل فيه كل ّ‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص‪.055 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.022 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.022 :‬‬
‫‪327‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حازم – أيضا‪ -‬أن ينفي صفة الشعر عن كثري من منظومات عصره‪ ،‬يف حالة من الوعي‪ ،‬أدرك معها‬
‫أن تصحيح وضع الشعر يعين تصحيح وضع اجملتمع يف جانب من جوانبه"‪.1‬‬

‫ترتبط وظيفة الشعر عند حازم مبدى قدرة الشعر على جتاوز الواقع املهني الذي يرزح حتته‬
‫اجملتمع العريب ويف الوقت ذاته يربز من خالل هذا النص أن حازما استطاع أن يصوغ اجلهود العقلية‬
‫والنقلية املوجودة يف ذلك الوقت‪ ،‬ليشكل مفهوما متكامال لعلم البالغة والشعر يف عصر أىب عن كل‬
‫إبداع ونأى عن كل اجتهاد‪ ،‬لقد استطاع العقل العريب ممثال يف جمهودات حازم أن يتجاوز ما هو‬
‫موجود على مستوى الرتكيبة العقلية املنحطة‪ ،‬وما تبعها من احنطاط على مستوى الواقع السياسي‬
‫واالجتماعي‪ ،‬على األقل أن ينجز من منظوره اخلاص حماولة ملّ شتات نظرية الشعر يكون جوهرها‬
‫التخييل وماهيتها احملاكاة‪.‬‬

‫مل يتغاض جابر عصفور عن عملية التأثري اليت مارسها العقل اليوناين على العقل العريب يف‬
‫مراحل التأسيس‪ ،‬ومل يتجاهل كذلك‪ ،‬مبدأ األخذ من اآلخر يف شكل تفاعل وليس يف شكل‬
‫انفعال‪ ،‬إمنا تتم عملية األخذ بوعي كامل بفحوى هذا الوافد‪ ،‬وحياول أن ميارس نوعا من التأريخ‬
‫لفعل التأصيل النظري للشعر يف الثقافة العربية اإلسالمية يكتب قائال‪ " :‬الشك أن التأصيل النظري‬
‫للشعر كان يكتسب عمقا مستمرا باإلفادة من االطراد املتواصل يف حماولة الفالسفة التوفيق بني‬
‫طور ابن اهليثم ‪ -‬يف هذا اجملال‪ -‬حماوالت‬ ‫أفكار اليونان عن الشعر وطبيعة الشعر العريب‪ ،‬ولقد ّ‬
‫الكندي والفارايب وابن سينا برسالته الضائعة عن صناعة الشعر "ممتزجة من اليوناين والعريب" وواصل‬
‫ابن رشد هذه احملاولة حىت وصل هبا إىل خامتتها الطبيعية يف شرحه كتايب "الشعر" و"اخلطابة"‬
‫ألرسطو‪ ،‬أو يف شرحه "مجهورية أفالطون" ولقد قدمت هذه احملاولة املتواصلة للفالسفة مادة خصبة‪،‬‬
‫أفاد منها حازم القرطاجين يف القرن السابع‪ ،‬واستغلها يف متابعة التأصيل النظري ملفهوم الشعر‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫فأعانته على الوصول إىل مفهوم متكامل‪ ،‬ال جند له مثيال يف الرتاث النقدي‪".‬‬

‫يتتبع عصفور عملية احملاكاة الشعرية تتبعا جادا ويضع مجلة من املعايري والشروط لنجاح عملية‬
‫احملاكاة يف الشعر‪ ،‬غري أن الذي لفت انتباهه أكثر من غريه‪ ،‬ما كان يصطلح عليه يف الرتاث النقدي‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر ‪ ،‬ص‪.022 :‬‬


‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.055 :‬‬
‫‪328‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مبحاكاة املشاهبة "باعتبارها أساس اإلبداع وحيث إن اللغة يف احملاكاة هي أداة التخييل‪ ،‬املباشر وغري‬
‫حمورة أي‬
‫املباشر‪ ،‬فإن اإلبداع يعتمد بالدرجة األوىل على االستخدام اخلاص للغة حمرفة أو ّ‬
‫‪1‬‬
‫استخدامها على اجملاز حىت تبتعد عن مباشرة الداللة باملواضعة أو على احلقيقة‪".‬‬

‫ذكرت أن عصفور يستعرض مفهومه حملاكاة املشاهبة بقوله‪... ":‬أما احملاكاة التشبيهية فتجعلنا‬
‫نتعرف املوضوع من خالل غريه‪ ،‬أو تدل عليه بلفظ غريه‪ ،‬أي إهنا ال تعرضه يف عزلة واكتفاء ذاتيني‪،‬‬
‫وإمنا تعرضه بواسطة سلسلة من اإلشارات إىل موضوع آخر متميز عن ذلك املوضوع‪ ،‬ولكنه ميكن أن‬
‫يرتبط به بنحو من األحناء‪ .‬ومعىن ذلك أن احملاكاة التشبيهية تقوم على ضرب متميز من العالقات‬
‫اجملازية‪ ،‬تربط بني طرفني أو أكثر‪ .‬هذه العالقات يسميها حازم "االقرتان"‪ ،‬ويراه خاصية أساسية يف‬
‫احملاكاة التشبيهية ما دامت تقرن الشيء بغريه‪" :‬ونظري ذلك من احملاكاة يف حسن االقرتان أن يقرن‬
‫‪2‬‬
‫بالشيء احلقيقي يف الكالم ما جيعل مثاال له مما هو شبيه على جهة من اجملاز متثيلية أو استعارية"‪.‬‬

‫تتسع الرؤية النقدية عند جابر عصفور من خالل تتبعه للمسار النقدي الرتاثي خاصة عند‬
‫حازم القرطاجني‪ ،‬الذي ميثل بالنسبة ملسار النقد العريب القدمي اكتمال املفهوم من خالل طروحاته‬
‫النقدية اليت جعلت من القضايا الفلسفية أعمدة أقيمت عليها صروح النقد العريب‪ ،‬ويقف عصفور‬
‫عند هذه املنجزات موقف املشدوه هبا يف خضم احلركة النقدية الفكرية اليت متور هبا الساحة العربية‬
‫آنذاك‪ ،‬ويقر بعصرية حازم حىت أمام أكثر القامات احلديثة عصرنة‪ ،‬يقول يف مفهوم الشعر حتت‬
‫عنوان الشاعر واملتلقي‪..":‬ال يعين هذا أن الشاعر عليه أن مير بكل جتربة يعاجلها يف إبداعه‪ .‬إن‬
‫مر هبا بشكل أو بآخر‪ ،‬حبيث خيلق منها‬ ‫القدرة التخيلية متكن الشاعر من إعادة تشكيل جتاربه اليت ّ‬
‫جتارب جديدة‪ ،‬قد ال يكون عاناها واقعيا‪ ،‬وإن عاناها ختيليا‪ ،‬ومن هنا جيعل حازم أوىل قوى الطبع‬
‫هي القوة على التشبيه فيما ال جيري على السجية وال يصدر عن قرحية مبا جيري على السجية ويصدر‬
‫عن قرحية‪ .‬ومن املهم أن نفهم "القوة على التشبيه" باملعىن الشامل الذي يقرهنا بقدرة الشاعر على‬

‫عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا املقعرة‪ ،‬ص‪.282 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص‪.388 ،382 :‬‬


‫‪329‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫جتاوز ذاته‪ ،‬يف فعل من أفعال "التعاطف" و"التقمص"‪ ،‬ال يفارق قدرة التخيل على خلق جتارب‬
‫‪1‬‬
‫مستقلة‪ ،‬ال تتطابق حرفيا مع حياة الشاعر املتعينة‪".‬‬

‫ما يرومه عصفور من خالل هذا النص‪ ،‬أن حازما قد أوىل العناية البالغة مللكة التخييل‪ ،‬يف‬
‫صنع عوامل جديدة من قبل الشاعر‪ ،‬وليس شرطا أن يكون إبداعه صورة معكوسة حلياته أو جتاربه‪،‬‬
‫بل يكفي أن حيسن التخيل يف ما يروم الوصول إليه‪ ،‬وجيانس بني ذلك وبني القوة اليت يتمتع هبا‬
‫الشاعر على مستوى التشبيه باعتباره آلية من آليات صناعة الصورة الشعرية إن مل يكن أمهها؛ فلهذه‬
‫امللكة القدرة على التشبيه‪ ،‬وهي من ينقل الشاعر من املعىن البسيط إىل املعاين السامقة اليت تعلو‬
‫مساء الصورة‪ .‬الشيء الذي مي ّكنه من خلق وإبداع عوامل جديدة على مستوى ختييله حىت ولو مل جتد‬
‫ما مياثلها على صعيد التجربة الشخصية للشاعر‪.‬‬

‫بعدما يقف عصفور عند خاصية التخييل واحملاكاة عند حازم‪ ،‬يضع املقاييس العلمية ملهمة‬
‫الشعر وبعد أن يستجلي مكامن العملية النقدية الرتاثية برمتها‪ ،‬يقف عند حدود التعريفات اهلامة اليت‬
‫عاينها تراثيا خاصة ما تعلق منها بتعريفات حازم الدقيقة واملضبوطة‪ ،‬ففي إحدى تعريفاته لوظيفة‬
‫الشعر يكتب قائال‪ ":‬األقاويل الشعرية‪ ...‬القصد هبا استجالب املنافع واستدفاع املضار‪ ،‬ببسطها‬
‫عما يراد‪ ،‬مبا خييل هلا فيه من خري أو شر‪ 2".‬إن هذا التعريف‬
‫النفوس إىل ما يراد من ذلك وقبضها ّ‬
‫هو املفتتح للفصل الثالث من كتاب جابر عصفور "مفهوم الشعر"‪ ،‬والذي يقع حتت عنوان‪:‬‬
‫تبوء لنفسها مكانة‬‫"األساس األخالقي ملهمة الشعر"‪ ،‬يكتب شارحا تعريف حازم يف لغة تكاد ّ‬
‫ومنـزلة وسطا يف ابتعادها عن جتسيدها‪ ،‬بل إىل ما يطمح إليه من عمليات التجاوز اجلمايل والفين‪،‬‬
‫يقول‪ " :‬والنافع يف الفن البد أن يكون نافعا يف احلياة‪ ،‬ألنه ال ميكن أن يتعارض النافع يف الفن مع‬
‫النافع يف احلياة‪ ،‬مادامت غاية الفن تعني على حتقيق غاية احلياة من زاوية تكامل اجلوانب اإلنسانية‬
‫يف احلياة‪ .‬النافع يف احلياة شبيه بالنافع يف الفن‪ ،‬كالمها أشبه بوجهي العملة لشيء واحد متصل بغاية‬
‫اإلنسان وسعيه وراء الكمال"‪.3‬‬

‫‪ 1‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.320 ،321 :‬‬


‫‪ 2‬حازم القرطاجين‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬ص‪.222 :‬‬
‫‪ 3‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص‪.318 :‬‬
‫‪330‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إن ربط الناقد لوظيفة الشعر بالنفع والضرر‪ ،‬قضية حتتاج إىل إعادة نظر‪ ،‬خاصة إذا علمنا أن‬
‫الفن هو التعبري اجلميل عن احلياة بكل مظاهرها املادية واملعنوية‪ ،‬ألن الغاية املرجوة من اإلبداع‬
‫الشعري لدى الشاعر هي الفن أوال مث التعبري عما جتيش به نفسه من عواطف وانفعاالت ثانيا‪ ،‬وإذا‬
‫سلّمنا جدال أن غاية اإلبداع الشعري هي جلب النفع ودرء الضرر‪ ،‬حكمنا على الكثري من هذه‬
‫املدونات بغاية أحادية ضيقة ال تتسع ملا هو منوط بتشكيلها فنيا‪ ،‬أضف إىل ذلك السعي احلثيث‬
‫للمبدع خاصة‪ ،‬واإلنسان على وجه العموم إىل بلوغ درجات الكمال‪ ،‬كما أثبت عصفور‪ ،‬والكمال‬
‫كما نعلم درجة أعلى من اجلمال وحىت اجلالل‪ ،‬فالشاعر يبتغي الكمال حىت ولو على مستوى الفن‬
‫إذ الكمال خاصية من خواص اجلمال املطلق‪.‬‬

‫‪ .4‬النص الشعري الرتاثي بني الوظيفة واجلمالية‬

‫يسرتسل عصفور يف استجالء مكامن وظيفة الشعر ومهمته بعيدا عن ما كان بسطه من ذكر‬
‫ملظان النفع والضرر‪ ،‬ويقف عند قيمة أخرى أرقى وأمسى من سابقتها‪ ،‬وهي قيمة األساس اجلمايل‪،‬‬
‫بعد أن يربطه بقيم اخلري والشر‪ ،‬اليت ينهض الشعر بإبرازها‪ ،‬عند كل عملية إبداعية‪ ،‬يقول عصفور‪":‬‬
‫ومادام الشعر نشاطا إنسانيا يرتبط بسعي البشر حنو الكمال‪ ،‬فإنه ال ميكن إال أن يكون أحد‬
‫األنشطة اإلنسانية الراقية‪ ،‬ألن رقي الغاية يبسط ظله على كل وسيلة تؤدي إليه‪ ،‬وبذلك تصبح‬
‫القيمة األخالقية مصاحبة للقيمة اجلمالية وغري مفارقة هلا‪ .‬إن اجلميل خري بالضرورة‪ ،‬واألفعال‬
‫اجلميلة قرينة الفضائل‪ ،‬واألمجل هو الوجه اآلخر لألنفع‪ ،‬ماداما قد ارتبطا بالكيفية اليت تعني الكائن‬
‫اإلنساين على الوصول إىل الكمال‪ .‬ومن املنطقي ‪ -‬واألمر كذلك‪ -‬أن يش ّد الشعر إىل إطار من القيم‬
‫اخللقية قائم بالضرورة خارج جمال الفن‪ ،‬وأن حتدد مهمة الشعر يف ضوء خمطط أخالقي ميثل إطار‬
‫القيم املسلم بقيمتها‪ ،‬ويبدأ هذا اإلطار بالثنائية اليت تفصل ما بني النفس والبدن‪ ،‬وترفع من شأن‬
‫‪1‬‬
‫األوىل على حساب الثاين‪ ،‬مستندة يف ذلك إىل تراث ميكن التوفيق بني ما فيه من حكمة وشريعة‪".‬‬

‫رمبا ال نساير جابر عصفور يف الكثري مما ذهب إليه يف هذا النص‪ ،‬ألن الفن باعتباره تعبريا‬
‫مجيال عن احلياة ال ميكن أن يكون وسيلة لغرض آخر سوى اجلمال الكامن فيه‪ ،‬ذلك أن الفن أو‬
‫اإلبداع مىت انزاح عن هذه القيمة فقد كل مسوغ أنطولوجي له‪ ،‬فالفن ال ميكن قرنه وربطه هبذه القيم‬

‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪.310 ،318 :‬‬


‫‪1‬‬

‫‪331‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اخلارجة عن إطاره‪ ،‬قيم اخلري والشر واملنفعة والضرر وغريها‪ ،‬إمنا الغاية الوحيدة فيه هي التعبري اجلمايل‬
‫عن الوجود‪ ،‬ويقف الكثري من النقاد اجلماليني ضد من قال بأن وظيفة الفن هي خدمة احلياة‬
‫واحلاجات اإلنسانية‪ ،‬ألن يف هذا فروض خترج على طبيعة الفن بوصفه إبداعا ال ميكن له أن ينجح‬
‫حتت ظل هذه القيود‪ ،‬كما أنه ال يتيح للفنان احلرية يف صياغة هذا النموذج اجلمايل‪ ،‬يقول طه‬
‫حسين يف املنحى نفسه‪...":‬فاألدب ليس وسيلة وال ينبغي أن يكون وسيلة‪ ،‬واألديب ال ينشئ أدبه‬
‫لتحقيق هذا الغرض أو ذاك وال ليبلغ هذه الغاية أو تلك‪ ،‬وإمنا األدب غاية يف نفسه واألديب‬
‫يسخر األدب فيكون وسيلة من وسائل اإلصالح‬ ‫يكتب ألنه ال يستطيع إال أن يكتب‪ ...‬فأما أن ّ‬
‫أو سبيال من سبل التغيري يف حياة الشعوب‪ ،‬فهذا تفكري ال ينبغي أن نساق إليه وال نتورط فيه"‪.1‬‬

‫يُرجع طه حسين السبب يف ربط الفن باجملتمع وجعله وسيلة لإلصالح أو اخلري أو ما إىل‬
‫ذلك إىل تأثر أصحاب هذا االجتاه بالفلسفات املادية‪ ،‬فيقول‪ " :‬كل ما يؤخذ به هؤالء السادة الذين‬
‫يدعون إىل أن ينشأ األدب يف سبيل احلياة‪ ،‬هو أهنم يريدون أ ْن ينزلوا باألدب فيجعلوه وسيلة بعد أن‬
‫كان غاية‪ ،‬وينكرون أن يكون األدب أول ما يكون وقبل كل شيء غذاء األرواح‪ ،‬وتوشك املادية‬
‫احلديثة اجلاحمة أن تضطرهم إىل جعل اإلنسان كله أداة وأن تضطرهم إىل أن ينكروا ما يف اإلنسان‬
‫من روح‪ ،‬من حقه أن يقدم له الغذاء الذي يالئمه"‪ ،2‬فهو يرى يف ذلك حطّا من قيمة األدب‬
‫خلو اجلميل من املنفعة‬
‫واإلبداع وال ميكن أن يصري وسيلة بل هو غاية يف ح ّد ذاته‪ ،‬ويبدو أن ضرورة ّ‬
‫قد دخلت إىل علم اجلمال عن طريق فلسفة كانط(‪ )Kant‬إذ تبني‪ " :‬أ ّن احملاكمة اجلمالية حتمل‬
‫طابعا نقيّا خالصا ال عالقة له ألحد‪ ،‬أي أهنا متحررة من األخالق والسياسة"‪ ،3‬وهبذا تتحدد مهمة‬
‫الفن بتوليد اجلمال مما جيعل من النص األديب يف ذاته أساسا للحكم اجلمايل‪ ،‬فاحلكم اجلمايل على‬
‫هذا يرتبط بالنص نفسه‪ ،‬وتستبعد كل العناصر اخلارجية املتعلقة بالفنان أو حياته أو الغرض من‬
‫النص‪ ،‬ويصبح اجلمايل املعيار الوحيد الذي تقاس به قيمة العمل األديب‪ ،‬إن القيمة اليت تعطى للنص‬
‫ناجتة عن مدى قدرته على أن يولّد فينا الشعور باجلمال‪ ،‬يقول عبد الحميد يونس " ّأما الفن فريتبط‬

‫‪ 1‬طه حسني‪ :‬خصام ونقد‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0028 ،8‬ص‪.58 :‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ 3‬عماد حامت‪ :‬مدخل إىل تاريخ اآلداب األوربية‪ -‬اآلداب األوربية حىت القرن التاسع عشر‪ ،-‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬ليبيا‪،‬‬
‫تونس‪ ،0020 ،‬ص‪.281 :‬‬
‫‪332‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫باجلمال‪ ،‬وهذا اجلمال ال عالقة له باخلري‪ ،‬من طريق مباشر وال عالقة له كذلك باحلق من قريب أو‬
‫بعيد"‪ ، 1‬وهذا ما حيدد العالقة بني الفن واجلمال؛ أي أ ّن الوظيفة اجلمالية هي املهمة األساسية للفن‬
‫وهي كذلك الغاية اليت يتغياها‪ ،‬وهو ما تشري إليه رؤية كانط عندما مييز بني اجلمال واخلري واحلق‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫تفرق بينه وبني احلكم الفعلي واخللقي‪.‬‬
‫فريى أن احلكم اجلمايل ميتاز خبصائص ّ‬
‫فلكل من هذه األحكام شروطه وموضوعه‪ ،‬فاحلكم اجلمايل لديه حكم خاص ال يرتبط‬
‫باملنفعة‪ ،‬ومن مجلة خصائصه " أن يصدر عن رضا من الذوق ال تدفعه إليه منفعة؛ أي أن املتعة‬
‫الفنية ال هتتم بقيمة موضوعها وحتقيقه‪..،‬و ‪ ..‬إ ّن كل شيء له غاية تدرك أو يظن وجودها فيه‪ ،‬إال‬
‫حنس أمامه مبتعة تكفينا السؤال عن الغاية منه‪ ،‬حبيث لو وجد عامل ليس فيه سوى‬ ‫اجلمال فإننا ّ‬
‫اجلمال كان غاية يف ذاته"‪.3‬‬

‫جل اآلراء اليت ترى يف الفن غاية يف ذاته‪ ،‬أو أهنا تعطي اعتبارات‬
‫وتأسيسا على هذا بنيت ّ‬
‫اجلمال األولوية يف احلكم على اإلبداع األديب‪.‬‬

‫لقد حظيت الدراسات البالغية العربية القدمية باهتمام بالغ من قبل النقاد والبالغيني الذين‬
‫اقتصرت اهتماماهتم حول قراءة املظاهر اإلبداعية القدمية يف شىت جماالت اإلبداع‪ ،‬وحماولة استكناه‬
‫واستكشاف جماهيل جديدة مل تتجه العناية إليها من قبل يف الدراسات البالغية‪ ،‬واحنصرت‬
‫اهتمامات البالغيني يف رافدين أساسني أسهما يف توجيه تلك الدراسات‪ ،‬إىل الوجه اليت هي عليه‬
‫اآلن‪ ،‬يقول عبد العزيز حمودة حول استحكام هذين العنصرين يف رفد العملية النقدية ّ‬
‫برمتها تراثيا‪:‬‬
‫"‪...‬إ ّن البالغي العريب كان يتحرك وينتج على حمورين‪ :‬حمور الدين الذي بدأت البالغة موظفة يف‬
‫خدمته وتبيان إعجاز كتابه السماوي‪ ،‬وحمور التأثري األجنيب الذي ج ّد فيما بعد‪ ،‬وخاصة نظرية‬
‫شق‬
‫احملاكاة ومبادئ املنطق كما ق ّدمها أرسطو‪ ،‬والواقع التارخيي‪ ،‬أيضا‪ ،‬يؤكد أن البالغي العريب ّ‬

‫‪ 1‬عبد احلميد يونس‪ :‬األسس الفنية للنقد األديب‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،0058 ،0‬ص‪.82 :‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬حممد غنيمي هالل‪ :‬النقد األديب احلديث‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،0022 ،‬ص‪.211 :‬‬
‫‪ 3‬حممد غنيمي هالل‪ :‬األدب املقارن‪ ،‬دار النهضة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،2‬دت‪ ،‬ص‪.221 ،220 :‬‬
‫‪333‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وطور موقفا‬
‫طريقه بني احملورين يف براعة واضحة مكنته من حتاشي الصدام احملتمل يف أكثر من موقع ّ‬
‫وسطا ناضجا"‪.1‬‬

‫تلك إذن املهام املنوطة بالدراسات البالغية القدمية وحقل اشتغاهلا حول النص القرآين كما‬
‫اإلبداعات الشعرية‪ ،‬وهي يف حقيقة أمرها حقول دراسية أسهمت يف م ّد جسور التواصل بني جيلني‬
‫القدمي واحلديث‪ ،‬إذ بفضل تلك اجلهود العظيمة من لدن بالغيينا كان مدار الرؤية ومناط البحث‬
‫حول ما ج ّد من قضايا على ساحة الفكر والنقد واإلبداع ‪ ،‬األمر الذي م ّكن من توظيف تلك‬
‫املقوالت بعد أن رفدهتا الطروحات احلداثية يف جمال الدراسات اللغوية واللسانية‪ ،‬ويستعرض عبد‬
‫مر العصور‪ ،‬حىت ملا كانت‬‫العزيز حمودة تلك اإلجنازات الكربى اليت حققتها البالغة العربية على ّ‬
‫مبنأى عن تأثري الفلسفة اليونانية‪ ،‬خاصة فلسفة أرسطو‪ ،‬ويدافع دفاعا شديدا عن كل الطروحات‬
‫واملقوالت البالغية والنقدية اليت زخرت هبا الساحة األدبية العربية‪ ،‬وحياول أن يلغي أو على األقل‬
‫يقلل من شأن التأثري الفكري للعقل اليوناين يف العقل العريب قائال‪" :‬إ ّن ما أنتجه العقل العريب عن‬
‫الطبيعة اإلبداعية لألدب‪ ،‬وبرغم كل ذلك االنشغال الواضح بالفكر اليوناين‪ :‬يف الشعر واخلطابة‬
‫واملنطق‪ ،‬ختطى مبراحل كثرية كل ما كتبه أرسطو حول الطبيعة اإلبداعية للمحاكاة وبصورة جتعل من‬
‫‪2‬‬
‫البني إرجاع إجنازات البالغة العربية إىل التأثري األرسطي‪".‬‬
‫الظلم ّ‬
‫إن املبتغى األساسي لحمودة من إجراء هذا االقتباس هو إثبات املكانة السامية للعقل العريب‬
‫ودفع كل شبهة عن ختلفه وتبعيته للعقل اليوناين‪ ،‬فالرجل حياول جاهدا إثبات هذا التمايز بني العقلني‬
‫من منطلق اخلصوصية املائزة اليت تفصل بني عقل وآخر‪ ،‬ويف الوقت ذاته يثبت مدى إسهام العقل‬
‫العريب القدمي يف صناعة املعرفة خاصة اإلبداعية منها‪ ،‬إذا سلمنا أن اإلبداع ضرب من ضروب املعرفة‪.‬‬

‫نعود إىل جابر عصفور وكيفية قراءته واستثماره للرتاث العريب يف حل الكثري من املعضالت‬
‫النقدية واملعرفية والفكرية؛ فالرجل ال جيد فكاكا من تعريفه للشعر كما ذهب إىل ذلك الجاحظ إبّان‬
‫القرن الثاين اهلجري‪ ،‬من أ ّن ماهية الشعر تتشكل من مجاع الطبع والصنعة وترجع قيمته إىل اجلهد‬
‫وختري اللفظ وجودة السبك "بعد أن تتوافر للشاعر‬
‫اإلنساين الذي يكابده الشاعر يف إقامة الوزن ّ‬

‫املقعرة‪ ،‬ص‪.202 :‬‬


‫عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا ّ‬
‫‪1‬‬

‫‪ 2‬نفسه‪ ،‬ص‪.258 :‬‬


‫‪334‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اجلاحظ‪-‬‬ ‫يتقوم به وحده‪ .‬فالشعر ‪ -‬عند‬


‫"صحة الطبع" اليت هي جمرد مبدأ أويل يقوم به الشعر وال ّ‬
‫"صناعة"‪ ،‬والصناعة جهد إنساين يقع على مادة‪ ،‬هي املعاين املطروحة يف الطريق‪ ،‬اليت "يعرفها‬
‫العجمي والعريب‪ ،‬والبدوي والقروي"‪ .‬وبقدر ما يقع هذا اجلهد على مادة "املعاين" فإنه يقوم على‬
‫استخدام أدوات خمصوصة‪ ،‬بكيفية تتحول معها املادة املطروحة يف الطريق ‪ -‬خالل ممارسة هذا‬
‫اجلهد‪ -‬إىل نظم فريد يف تآلفه الصويت والداليل الذي يشبه ‪ -‬يف أثره‪ -‬تآلف عناصر "النسج"‪ ،‬أو‬
‫‪1‬‬
‫تآلف أصباغ التصوير‪".‬‬

‫تتآلف إذن خاصية الطبع والصنعة يف تشكيل املادة الشعرية‪ ،‬ودون إقصاء ألحدمها‪ ،‬أو إلغاء‬
‫لألخرى‪ ،‬ذلك أن هذه املعاين املطروحة يف الطريق كما يقرر الجاحظ ال تصنع شعرا مبفردها مطلقا‪،‬‬
‫مادامت تفتقد إىل عملية سبك األلفاظ وتآلفها وتعالقها‪ ،‬لتتشكل يف النهاية عملية اإلبداع الشعري‬
‫من مزاوجة الطبع والصنعة يف تناسق وتآلف يضمن صريورة العملية الشعرية من الشاعر إىل القارئ‪،‬‬
‫وما جتدر اإلشارة إليه يف قراءة عصفور هو حماولة مزجه بني املوهبة والصنعة يف استنطاق تعريف‬
‫الجاحظ للشعر باعتباره صناعة كباقي الصناعات يف مقارنته املعروفة بني الفضة والذهب‪ ،‬واخلامت‬
‫الذي يصنع من أحد املعدنني‪ ،‬إذ الفضل ال يكمن يف املعدن بقدر ما يتجسد يف صناعة الصانع هلذا‬
‫املعدن‪ ،‬واألمر كذلك بالنسبة للشاعر يف تعامله مع املعاين‪.‬‬

‫‪ .1‬تارخيية النص الرتاثي‬

‫تتباين عمليات العودة إىل الرتاث واستنطاقه واستثماره يف آن بني العديد من الباحثني ويف‬
‫الكثري من اجملاالت‪ ،‬فكل واحد من هؤالء الباحثني له غاية يرجو الوصول إليها وله هدف يرمي‬
‫ارتياده‪ ،‬وانطالقا من هذا كانت النتائج املتوصل إليها متمايزة عند مجلة هؤالء الباحثني والنقاد‪ ،‬مما‬
‫مردها إىل " املاضي وحده‪ ،‬أو‬‫أثرى العمليات النقدية اليت رادت الرتاث‪ ،‬وعمليات اإلختالف ليس ّ‬
‫الرتاث يف ذاته‪ ،‬وإّمنا هو خالف مصدره إىل جانب املاضي أو الرتاث‪ ،‬احلاضر‪ ،‬القارئ بشروطه‬
‫اخلاصة يف إنتاج املعرفة‪ ،‬وعالقات أنساقها ومستويات هذا اخلطاب‪ ،‬ذلك أ ّن العائد إىل الرتاث ال‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.308 :‬‬


‫‪335‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يتم إنتاج معرفة‬


‫ميكن أن يتنصل من اللحظة التارخيية اليت ينتمي إليها‪ ،‬وشروطها املعرفية اليت هبا ّ‬
‫جديدة بالرتاث"‪. 1‬‬

‫إذن فالقارئ حمكوم باللحظة التارخيية اليت ينتمي إليها وال يستطيع أن يتحكم هو يف التاريخ؛‬
‫بل األخري من يتحكم فيه‪ ،‬ويف الوقت ذاته ليس التاريخ زمنا متعاليا عن الوعي البشري‪ ،‬بل هو‬
‫جمموع التجارب اليت خاضها اإلنسان‪ ،‬والوجود اإلنساين تارخيي ومعاصر يف اآلن نفسه‪ ،‬وسيكون‬
‫من الصعب عليه جتاوز أفقه الراهن يف فهم الظاهرة التارخيية؛ إذ ال يستطيع أن يتحول إىل املاضي‬
‫ليشارك فيه ويفهمه مبوضوعية‪ . 2‬وانطالقا من هذا فإ ّن "عالقتنا بالتاريخ تقوم على اجلدل واحلوار ال‬
‫على اإلنصات السليب‪ ،‬متاما كما أ ّن تل ّقينا للعمل الفين عملية جدلية تقوم على ما يطرحه علينا من‬
‫أسئلة هي اليت ش ّكلت وجوده‪ .‬إ ّن التاريخ مثله مثل الشكل يف العمل الفين وسيط ميكن املشاركة يف‬
‫فهمه" ‪. 3‬‬

‫يقتضي احلديث عن تارخيية النص‪ ،‬البحث فيه ومساءلته الدائمة قصد تسهيل فهمه ومتثله‬
‫يسهل عملية فهم الرتاث تارخييا‪،‬‬
‫واملساءلة الدائمة ملقوالت التاريخ واملاضي وتفكيكها‪ ،‬هي ما ّ‬
‫خصوصا أن عملية القراءة لنص ما تستدعي تأويله‪ ،‬وهبذا وجب القول إن القراءة تأويل‪ ،‬والتأويل‬
‫حبث يف الدالالت املمكنة اليت خيتزهنا النص‪ ،‬وبه يتم اختبار عمق النص وقوته‪ ،‬ألن النص املتعدد‬
‫يصعب من عملية القبض عليه؛ إذ هو منفلت عن قبضة زمنه‪ ،‬وعن سياقه التارخيي‪.‬‬ ‫الدالالت ّ‬
‫ويساير جابر عصفور يف ربطه عالقة املاضي باحلاضر ما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد الذي يرى‬
‫أن الباحث ينطلق " من موقعه الراهن ومهومه املعاصرة حماوال إعادة اكتشاف املاضي‪ ،‬والباحث يف‬
‫حق احلاضر يف فهم املاضي يف‬ ‫هذه احلالة يسلم مبا يربطه باملاضي من عالقة جدلية‪ ،‬وينطلق من ّ‬
‫ضوء مهومه"‪ ،4‬وعملية استحضار املاضي يف احلاضر وقراءته هي الكفيلة بتشرحيه ووضعه على حمك‬
‫النقد ونزع أردية القداسة عنه‪ ،‬وحماولة كنه مهومه ومهوم احلاضر فيه‪ ،‬وعملية قراءة الرتاث انطالقا من‬
‫هذا ال تتم وفق اآلليات الرتاثية القدمية‪ ،‬بل بتجديد هذه اإلجراءات وحتكيم آليات النقد املعاصر اليت‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي ‪ ،‬مؤسسة عيبال‪ ،‬ط‪ 0000 ،0‬ص‪.0 :‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬نصر حامد أبو زيد‪ :‬إشكاليات القراءة وآليات التأويل‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،0003 ،0‬ص‪.23:‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪ 4‬نفسه ‪ ،‬ص‪.338 :‬‬
‫‪336‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫من خالهلا نلج عامل النص الرتاثي‪ ،‬ونتعمق فهمه ونزداد منه قربا؛ ألن عملية االرتباط بني املاضي‬
‫واحلاضر واستحضار هذه اآلليات اإلجرائية هي ما جعل عصفور يؤكد على "العالقة املتبادلة بني‬
‫جهاز قراءة الرتاث النقدي من ناحية وأجهزة النقد العريب املعاصر من ناحية ثانية‪ ،‬فاألول هو بعض‬
‫الثانية‪ ،‬وما حترزه الثانية من نتائج ينعكس على ما يقوم به األول"‪ ،1‬وال ميكن أن يدرس الرتاث إال‬
‫باآلليات اإلجرائية اليت تنتمي لزمن القارئ‪ ،‬ألن االحتكام إىل آليات الرتاث يف القراءة يصيب العملية‬
‫برمتها بنوع من القصور والتهافت‪ ،‬األمر الذي جعله ينفي عنها هذه اجلدوى والفاعلية " ألسباب‬
‫أي تأمل نقدي‬ ‫متعددة أبرزها أن هذه الدراسات ختلو من أي وعي نظري مبوضوعها‪ ،‬خلوها من ّ‬
‫ملنهجها"‪. 2‬‬

‫إن ارتباط القراءة بالوعي أمر غاية يف األمهية عند عصفور‪ ،‬ذلك أن الوعي بإشكاليات الرتاث‬
‫هو وحده الكفيل بإخراجه وإبرازه للذات القارئة قصد فك شفراته ونزع أردية التدثر عن معانيه‪،‬‬
‫وعزل قداسته اليت كانت حائال عن بلوغ مرامي الدراسات املختلفة‪ ،‬ويلح على وضع النص الرتاثي يف‬
‫كقراء فهم العالقات التبادلية بيننا وبينه‪ ،‬وجيعل من املسافة الفاصلة بيننا‬
‫سياقه التارخيي ليتسىن لنا ّ‬
‫فعالة يف عملية الفهم والتمثّل‪ ،‬يقول‪ " :‬فعندما نضعه يف سياقه التارخيي أو مواضعه التارخيية‬
‫تكون ّ‬
‫املخالفة ملوضعنا‪ ،‬فإننا نبقي على حضوره املغاير حلضورنا‪ ،‬وحنفظ ألنفسنا كياننا املستقل عن وجوده‪،‬‬
‫فنحرره من أوهامنا عنه‪ ،‬ونتحرر من خوف أن حيكم قيده على رقابنا"‪.3‬‬

‫حي ّذر عصفور من عملية حضور الرتاث يف سياقنا احلاضر؛ إذ من شأن هذه العملية أن جتعل‬
‫الرتاث حيكم قبضته علينا وجيعلنا حبيسي سياقه العام‪ ،‬ونسقه املعريف‪ ،‬ينهج عصفور حنو املغايرة‪ ،‬ألن‬
‫سياق القارئ غري سياق النص املقروء‪ ،‬لكل سياقه اخلاص القارئ واملقروء‪ ،‬وهو ما يثبت االختالف‬
‫بينهما‪ ،‬إال أن القضية اليت رمبا تكون غائبة عن وعيه هي ما يعرف باملسافة الزمنية بني القارئ‬
‫والنص‪ ،‬ألن التأويل ال يتحقق إال بالفهم العميق للنصوص‪ ،‬كما أنه يسعى إىل أن يصري هو نفسه‬
‫أداة فهم للنصوص اليت تكون قيد الدراسة‪ ،‬واستتباعا هلذا تطرح النصوص الرتاثية قضية املسافة الزمنية‬
‫اليت تفصل الدارس عنها؛ إذ كلما ازداد بعدا إال وازداد غموضا وتطلّب ذلك جتديدا لقراءاته‪ ،‬ألن‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي ‪ ،‬مؤسسة عيبال‪ ،‬ص‪.35 :‬‬


‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪337‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫النص الذي يكتفي بالقراءة الواحدة يتوقف عن االستمرار والنمو ومن مث ُحيكم عليه باملوت‪ ،‬وهو ما‬
‫حدث مع القراءات اليت ارتبطت باملستوى السطحي للنصوص‪ ،‬إن كل الشروح والتفسريات تظل‬
‫واحدة وال ترقى إىل مستوى القراءة والتأويل‪ ،‬وال ميثل فهم النصوص وتأويلها جمال العلم فقط‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ولكنهما ميتحان من التجربة العامة اليت خيلقها اإلنسان مع العامل‪.‬‬

‫إن عملية القراءة املعاصرة للنص الرتاثي هي اليت تسهم يف جعله مألوفا وليس غريبا عن هذا‬
‫القارئ الذي يشتغل على جممل األنساق املعرفية للنص املقروء‪ ،‬وهكذا ينبغي أن تتم قراءة النصوص‬
‫انطالقات من الفرتة التارخيية املعاصرة للقارئ؛ أي احلاضر الراهن‪ ،‬ال احلاضر املاضي‪ ،‬مع مراعاة‬
‫السياق العام الذي تش ّكل النص يف إطاره‪ ،‬كما ال ميكن للتأويالت أن تكون على حساب حقيقة‬
‫النص‪ ،‬بل جيب أن تستنطقه وتبحث عن حفرياته املشكلة له‪ ،‬إىل جانب ذلك تبقى ضرورة البحث‬
‫يف النص عن ما يقوله‪ ،‬باإلحالة إىل عنصر االنسجام السياقي اخلاص‪ ،‬وإىل حالة األنساق الداللية‬
‫اليت تشكل مرجعيته‪ ،‬وعن ما جيده املرسل إليه ( ‪ )Destinataire‬باإلحالة إىل أنساقه الداللية‬
‫اخلاصة‪ 2.‬لذلك ال ميكن الركون والطمأنينة للظاهر النصي أثناء عملية القراءة‪ ،‬وإال صارت العملية‬
‫إىل وجود نص ميت؛ ألن املهم يف القضية كلها هو إبراز جانب املسكوت عنه يف هذه النصوص‪،‬‬
‫باعتبار النص عاملا مكثفا من الرموز ميارس دائما لعبة التغيب واإلظهار‪ ،‬اخلفاء والتجلي‪.‬‬

‫‪ .1‬الرتاث كيف نقرؤه‬

‫كان السؤال احملوري واجلوهري الذي ندب عصفور نفسه لإلجابة عنه منذ عقود هو مالرتاث‬
‫النقدي؟ ملاذا نقرؤه؟ كيف نقرؤه؟ وهي أسئلة غاية يف األمهية ألهنا تنفتح على بعضها البعض‪ ،‬فإذا‬
‫كان السؤال األول ينهض بإبراز املاهية والكينونة‪ ،‬فإن الثاين يبحث يف العلة من قراءة هذا الزخم‪،‬‬
‫واالطالع إىل الفائدة املرجوة من وراء ذلك ويضطلع السؤال الثالث بآليات وكيفيات القراءة نفسها‬
‫والوقوف عند فاعليتها وجدواها‪ .‬ورمبا كانت هذه األسئلة " متكررة الطرح متغرية اإلجابة‪ ،‬ذلك أهنا‬

‫‪1‬‬
‫‪Voir: H.G.Gadamer:Vérité et méthode, Ed.seuil- 2eme Edition, 1976, p: 20.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Voir: U.Eco. Les limites de l'interprétation, Traduit de l'Italien par .Myriam Bouzaher. Bernard‬‬
‫‪Grasset.1992 .p:29,30.‬‬

‫‪338‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أسئلة متضمنة بالضرورة‪ ،‬وإن اختلف ترتيبها‪ ،‬يف كل اجتاه نقدي‪ ...‬إن ثبات األسئلة يرتبط‬
‫حبضورها الضمين يف كل حركة أدبية (نقدية) تتكامل جوانبها النظرية والتطبيقية"‪.1‬‬

‫جتسد هذه األسئلة مجلة املناحي القرائية اليت تطبع كل قراءة ومتيزها عن غريها‪ ،‬على مستوى‬
‫مر بنا أن أسئلة الرتاث تتباين وتتمايز تبعا للغايات واملرامي‬
‫الطرح النظري أو املمارسة التطبيقية‪ ،‬وقد ّ‬
‫تغري يصيب األجهزة القرائية للرتاث ينجر عنه بالضرورة تغري‬ ‫جراء العملية النقدية؛ فكل ّ‬
‫املقصودة من ّ‬
‫يف النتائج‪ .‬وال جمال ألن تتشابه وتتماثل مجلة القراءات اليت أخضعت الرتاث للمساءلة‪ ،‬فكل قراءة‬
‫تنتهج سبيال مغايرا لألخرى وذلك انطالقا من اآلليات القرائية املتوسل هبا أو الغايات املنشودة من‬
‫جراء تلك القراءة‪ ،‬ولعل من مجلة الدواعي اليت جعلت عصفور يتجه صوب املستودع الرتاثي قصد‬
‫مساءلته‪ ،‬هي رغبته يف حماولة حل بعض اإلشكاالت املعرفية اليت أثقلت كاهل الراهن القرائي العريب‪،‬‬
‫مما جعله أسري تلك األنساق والسياقات اليت أسهمت يف معاناته مما حتّم العودة إىل الرتاث لعل هذا‬
‫أي‬
‫املعني وهذا الصرح أن يفيد يف حل هذه القضايا العالقة اليت كبّلت العقل العريب وحبسته عن ّ‬
‫عملية تطور منشودة‪.‬‬

‫غري أن القضية األساس يف قراءة هذا الزخم تكمن يف مدى فاعلية وجناعة اآلليات املستعملة‬
‫يف عملية القراءة واحلفر‪ ،‬وكيف لنص قدمي امنحت كل األسباب والسياقات اليت أوجدته أن يسرتجع‬
‫ويقرأ قراءة موضوعية هادفة إىل توخي احلياد والعلمية‪ ،‬ويف اآلن نفسه كيف لقارئ الرتاث أن يستكنه‬
‫مضامينه‪ ،‬اليت بعدت عنه؟ لعل هذه األسئلة وغريها هي ما جييب عنها البحث يف حمطاته الالحقة‪،‬‬
‫خاصة عندما يقف عند العالمات الفارقة اليت صنعت التجربة النقدية عند عصفور وهو يستعيد قراءة‬
‫الرتاث النقدي‪ ،‬ومن مجلة اآلليات اليت توسل هبا عصفور يف عمله هذا‪ :‬آلية التفسري‪ ،‬اليت من شأهنا‬
‫أن تزيل كل أسباب الغموض واالغرتاب وجتعل النص ‪ -‬حىت وإن كان بعيدا عنا‪ -‬مفهوما للقارئ‪،‬‬
‫فالتفسري هو"حماولة لتجاوز حالة من اإلغرتاب نستشعرها إزاء موضوع ما لكونه غري مفهوم بالنسبة‬
‫‪2‬‬
‫لنا‪ ،‬وبالتايل النشعر بنوع من األلفة والتواصل معه‪".‬‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.20 ،21 :‬‬


‫‪ 2‬هانز جيورج غادمري‪ :‬جتلي اجلميل‪ ،‬تر‪ :‬سعيد توفيق‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪ ،‬مصر‪ ،‬ص‪.00 :‬‬
‫‪339‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫إن الرتاث يبدأ يف االشتغال‪ ،‬منذ اللحظة اليت يبدأ فيها فعل القراءة مساءلة نصوصه‬
‫أي إن دراسة‬‫واستقرائها‪ ،‬والكشف عن خلفياهتا وموجهاهتا‪ ،‬إذ القراءة حتيني(‪)Actualisation‬؛ ْ‬
‫النص الرتاثي‪ - ،‬أيًّا كانت طبيعته‪ -‬هي تفكيك وله وحماولة إضاءة البنيات املشتغلة فيه‪ ،‬ورصد‬
‫حتركاهتا وطرائق اشتغاهلا‪ ،‬وهي عملية ال تكون غاية يف ذاهتا بقدر ما تش ّكل العتبة األوىل اليت‬
‫بواسطتها يتمكن القارئ للرتاث من فهم النص وآلياته‪.‬‬

‫تنعقد الصلة الوثيقة بني املاضي واحلاضر عند عصفور يف حركة ارتدادية يتم مبوجبها‬
‫استحضار املاضي يف احلاضر‪،‬ومساءلته بآليات العصر؛ ألن عملية حضور الرتاث فينا ال حتتاج إىل‬
‫يقرر‪...":‬لن نستطيع أن نفصل موقفنا من احلاضر‬ ‫كثري بيان‪ ،‬يذهب عصفور املذهب ذاته عندما ّ‬
‫عن موقفنا من املاضي‪....‬لسبب بسيط مؤداه أن الرتاث موجود بنا وفينا يف الوقت نفسه‪...،‬رغم‬
‫بعده التارخيي‪ ،‬مازال يؤثر فينا بالقدر الذي نؤثر فيه‪ ،‬كأنه يش ّكلنا بقدر ما نشكله"‪.1‬‬

‫خيتزل هذا النص العالقة املطّردة بني احلاضر واملاضي‪ ،‬ويبحث يف زوال احلدود والفواصل‬
‫الزمنية اليت تفصل بني احلاضر واملاضي‪ ،‬وتؤسس يف الوقت ذاته إلمكانية تبادل األدوار اليت يشتغل‬
‫عليها الرتاث‪ ،‬فهو املاضي لكن ليس املنصرم واملنقطع‪ ،‬بل هو املوجود فينا‪ ،‬ويف املقابل حنن‬
‫موجودون فيه على اعتبار أن املاضي جسر للحاضر‪ ،‬ومن ال ماضي له ال حاضر له بالضرورة‪،‬‬
‫احملرك واحمل ّفز هلذه الذات لبلوغ مراتب‬
‫وىل عهدها‪ ،‬إمنا هو ّ‬
‫فالرتاث ليس نقطة زمنية هناك يف املاضي ّ‬
‫التقدم والرقي إن هي أحسنت استثمار تلك احملطات املعرفية املشعة يف الرتاث‪.‬‬

‫إن الرتاث هو النسق املعريف العام الذي تأسس يف مرحلة تارخيية كان فيها العلماء يسهمون يف‬
‫كل متكامل يشكل يف جمموعه خطابا منسجما يتغذى باإلختالف الذي أثرى به‬ ‫إنتاج املعرفة‪ ،‬إنه ّ‬
‫العلماء تصوراهتم وأفكارهم‪ ،‬وال ميكن أن ننفي التأثري الذي ميارسه املاضي علينا‪ ،‬ألننا لسنا سوى‬
‫جزء منه‪ ،‬فهو حاضر فينا‪ ،‬سواء عن وعي أو غري وعي " فما فينا أو معنا من حاضرنا‪ ،‬من جهة‬
‫‪2‬‬
‫اتصاله باملاضي‪ ،‬هو تراث أيضا‪".‬‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر‪ ،‬ص‪.00،0 :‬‬


‫‪ 2‬حممد عابد اجلابري‪ :‬الرتاث واحلداثة‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫‪340‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫يظل الرتاث ‪ -‬مبا هو معني من املعارف والتجارب واألفكار‪ -‬مشعا علينا وال تنقضي عطاياه‬
‫وتأثرياته على الذات املعاصرة‪ ،‬األمر الذي جيعلها مبنأى عن اهلزات واالضطرابات اخلارجية اليت من‬
‫شأهنا أن تأيت عليها‪ ،‬فاإلحتماء به هو مبثابة املنجاة هلذه الذات دون أن تتشرنق حول نفسها‬
‫وتراثها‪ ،‬وتدفع كل عملية تالقح فكري بينها وبني اآلخر الغريب‪ ،‬فإن ما ميكننا التعامل معه من حيث‬
‫هو معرفة ماضية ليس الرتاث كما عاشه املتقدمون ‪ -‬أو كما وصلنا‪ -‬بل إن الرتاث هو املعرفة اليت‬
‫ظلت صاحلة‪ ،‬وبإمكاهنا أن تسهم يف تطوير معرفتنا وبلورة مشاغلنا‪ ،‬علما من أنه هو نفسه يظل‬
‫قابال لإلغناء والتطوير‪،1‬‬

‫القراء لنصوص الرتاث‬‫غري أن هناك منط آخر من االستحضار الذي مارسه مجلة من النقاد و ّ‬
‫بعدما رأت فيه منوذجا يتوفر على مسة الكمال‪ ،‬فإذا كانت الدواعي اليت أرجعته إىل الرتاث دو ٍاع‬
‫حضارية يسعى من خالهلا إىل البحث عن خمرج ألزمته الراهنة‪ ،‬فإن السبيل اليت سيأخذ هبا تدفع به‬
‫إىل نوع من التكرار‪ ،‬األمر الذي من شأنه أن يكرس مبدأ القداسة اليت حيتمي هبا الرتاث‪ ،‬دون‬
‫حماكمته وتفكيكه وبعثه حداثيا‪ ،‬وذلك يف مساءالت ال تنتهي وال تركن إىل يقني اجلواب‪ .‬وقد كانت‬
‫هذه العودة احتماء باملاضي وانطواء على الذات‪ ،‬ومن هذا املنظور تصبح األصالة رديفة اإلتباع ال‬
‫اإلبداع‪ ،‬والسري على منوال النموذج الرتاثي املتجسد يف مفهوم السلف الصاحل‪ ،‬وال يكفي الشاعر‬
‫مثال أن يكون عربيا أصيال‪ ،‬وإمنا صار عليه مع هذا اخلطاب أن يكتب على غرار القدامى وبروحهم‪،‬‬
‫وهكذا صارت األصالة تكرارا لألشكال القدمية‪ ،‬وليست إبداعا ألشكال جديدة مغايرة تعمق الوعي‬
‫‪2‬‬
‫وتغين األشكال القدمية‪.‬‬

‫تتأسس نظرة جابر عصفور إىل العودة للرتاث من العالقة اليت ربطها بيننا وبني الرتاث‪ ،‬وهي‬
‫النظرة اليت أخذ معاملها من غادمير الذي يصف لنا تلك العالقة والرابطة احلميمة بني املاضي‬
‫"‪...‬بأي حال فإن عالقتنا العادية باملاضي ال تتميز بابتعادنا عن الرتاث‪ ،‬وحتررنا‬
‫ّ‬ ‫واحلاضر يف قوله‪:‬‬
‫منه‪ ،‬بل إننا باألحرى‪ ،‬متموقعون ضمن الرتاث‪ ،‬ومتوقعنا هنا ليس متوقعا بإزاء موضوع فنحن ال‬
‫نتصور الرتاث شيئا آخر‪ ،‬أو شيئا غريبا عنّا‪ ،‬فالرتاث دائما جزء منّا‪ ،‬كنموذج أو كمثال أو كنوع من‬
‫ّ‬
‫‪ 1‬ينظر‪ :‬حممد عابد اجلابري‪ ،‬حنن والرتاث‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،0082 ،0‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬أدونيس‪ :‬الثابت واملتحول‪ -‬حبث يف االتباع واالبتداع عند العرب‪ -2 -‬صدمة احلداثة‪ ،‬دار الفكر للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع ‪،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0082 ،5‬ص‪.022 :‬‬
‫‪341‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اإلشارة املميزة اليت تفيد أنه من الصعب حلكمنا التارخيي أن يعترب نوعا من املعرفة‪ ،‬بل هو صلة‬
‫روحية محيمة بالرتاث"‪.1‬‬

‫إن غادمير ينفي من خالل هذا االقتباس التقسيم الثنائي التقليدي ذات‪/‬موضوع‪ ،‬فهو يرفض‬
‫هذا التقسيم وجيعل الذات موضوعا واملوضوع ذاتا‪ ،‬ويرفض كذلك حكمنا على الرتاث بأنه زمن‬
‫مضى وانقضى‪ ،‬وذلك على اعتبار أننا جزء منه وهو جزء منا‪ ،‬وهو ما كان قد ذهب إليه جابر‬
‫عصفور انطالقا مما أحملنا إليه آنفا‪ .‬إال أن نفي ذلك التقسيم الذي رفضه غادمير‬
‫(‪ )H.G.Gadamer‬سابقا‪ ،‬رمبا يؤسس إللغاء املوضوعية يف املساءلة الرتاثية‪ ،‬واملوضوعية أحد أهم‬
‫مبتغيات الدراسة العلمية للعلوم اإلنسانية‪.‬‬

‫إن مبدأ النسبية الذي احتكم إليه غادمير يهز القيمة املوضوعية للدراسة الرتاثية عندما تلتحم‬
‫وتتحد الذات باملوضوع‪ ،‬األمر الذي رامه جابر عصفور وهو يلحق هذه الصفة‪ ،‬صفة النسبية بصفة‬
‫املوضوعية يف قوله‪" :‬وال جمال ‪ -‬واألمر كذلك‪ -‬للحديث عن حياد موهوم أو انفصال زائف بني‬
‫الذات واملوضوع‪ ،‬فعندما يكون القارئ بعض املقروء‪ ،‬واملوضوع بعض أزمة الذات‪ ،‬فإن القراءة لن‬
‫تكون بريئة أو حمايدة حبال‪... ،‬وال تعارض بني اتصاف قراءة الرتاث بأهنا قراءة غري بريئة وحرص كل‬
‫قراءة على أن تكون موضوعية يف الوقت نفسه"‪.2‬‬

‫ينفي عصفور عملية احلياد باعتبار التداخل التام بني الذات واملوضوع‪ ،‬وعملية املوضوعية‬
‫املطلوبة يف هذا النوع من الدراسات تكاد تدخل يف باب املتعذر‪ ،‬إن مل يكن من املستحيل‪ ،‬غري أن‬
‫هذا ال ميكن فهمه بانتفاء املوضوعية متاما وحلول الذاتية حملها‪ ،‬مما جيعل القارئ متسلطا نوعا ما يف‬
‫أحكامه على قراءة الرتاث باعتبار أن ال وجود لقراءة بريئة متاما‪.‬‬

‫إن عصفور وهو يرتاد هذه املناطق الشاسعة من الرتاث‪ ،‬إمنا يقارهبا من نزوعه حنو بلوغ مناطق‬
‫قصية منه‪ ،‬وإعادة بعثها من جديد يف ثوب مغاير ملا كانت عليه سلفا‪ .‬غري أن ما ميكن مالحظته‬
‫حول عملية قراءة الرتاث واستحضاره هو مدى تسلّح هذه الذات القارئة مبعارفها ومدركاهتا‬

‫‪ 1‬هانز جيورج غادمري‪ :‬احلقيقة واملنهج‪ - ،‬اخلطوط األساسية لتأويلية فلسفية‪ .-‬تر‪ :‬حسن ناظم‪ ،‬علي حاكم صاحل‪ ،‬راجعه‬
‫عن األملانية‪ :‬جورج كثورة‪ .‬دار أويا للطباعة‪ ،‬اجلماهريية العظمى‪ ،‬طرابلس‪ ،‬ط‪ ،3112 ،0‬ص‪.288 :‬‬
‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬ص‪.22 ،25 :‬‬
‫‪342‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وأحكامها املسبقة‪ ،‬وإسقاطها على هذه املدونة الكبرية‪ ،‬أم إن العملية الحتتاج كل تلك اخللفيات‬
‫واملرجعيات القرائية للذات؟ ما من شك يف أن عملية القراءة إمنا تتم وفق ما متلكه هذه الذات من‬
‫إمكانات ومعارف وتوجهات هي من خيوهلا طرق باب الرتاث والغوص فيه قصد استخراج خمبوءه‬
‫أي عملية قراءة هكذا دون هذه املعارف السابقة‪ ،‬حىت ولو مل يكن للقارئ‬
‫وكنوزه‪ ،‬وال ميكن أن تتم ّ‬
‫يسري عملية القراءة‬
‫مر الزمن هي من ّ‬ ‫أي معرفة مسبقة بالرتاث‪ ،‬فإ ّن معارفه اليت تراكمت على ّ‬
‫ّ‬
‫أىن شاء‪ ،‬األمر الذي مل ينفه جابر عصفور حول القارئ الذي يباشر قراءته وهو منط ٍو‬ ‫ويصريها ّ‬
‫ّ‬
‫سلفا على أنساق قبلية‪ ،‬سابقة على حدث القراءة ذلك "أن القارئ الذي يقرأ ملقروء ال يقوم بفعل‬
‫تعرف بكر على ما يقرأ‪... ،‬ومعىن ذلك أننا ال نبدأ من درجة صفر القراءة ألن هذه الدرجة غري‬
‫موجودة ابتداء‪ ،‬وال تعاين‪ -‬أبدا‪ -‬يف هذا احلال من التعرف البكر"‪.1‬‬

‫سبق أن قررنا أنه ال توجد قراءة بريئة وقراءة حمايدة بنسبة عالية من املوضوعية‪ ،‬فالقضية إذن‬
‫حتتكم إىل املاقبليات القرائية للذات القارئة وأحكامها املسبقة اليت جاءت مزودة هبا وهي تقارب هذه‬
‫النصوص من الرتاث‪ ،‬إال أن التساؤل املشروع هو‪ :‬هل تنفي هذه املعارف واألحكام السابقة أي‬
‫قراءة حمايدة وموضوعية للنص الرتاثي؟ أال تتدخل هذه األحكام يف تعديل وحتوير معاين النص يف‬
‫عني القارئ؟‬

‫توجه هذه املدركات السابقة عملية القراءة دون أن تكون ظال للمعاين املختزنة داخل النص‬ ‫ّ‬
‫"فالشخص الذي حياول أن يفهم شيئا ما لن يكيّف نفسه منذ البداية على االتكال على معانيه‬
‫املسبقة العرضية‪ ،‬متجاهال بثبات وعناد ممكنني املعىن الفعلي للنص‪ ،‬إىل أن يصبح هذا النص‬
‫مسموعا على حنو دائم حبيث أن (النص) يتغلب عن الصورة اليت يتخيلها املؤول عنه‪ ،‬بل يف احلقيقة‬
‫نصا ما هو شخص يهيئ نفسه للنص كي خيربه شيئا ما‪ ،‬وهذا‬ ‫إن الشخص الذي حياول أن يفهم ّ‬
‫هو السبب يف وجوب أن يكون الوعي موجه تأويليا وعيا حساسا باملضمون‪ ،‬وال يتضمن منذ البداية‬
‫آلخرية النص‪ ،‬بَـْي َد أ ّن هذا النوع من احلساسية ال يتضمن (احليادية) فيما يتعلق نكران املرء ذاته‪ ،‬بل‬
‫يتضمن منح املرء الصدارة ملعانيه وأحكامه املسبقة وتكيفها‪ ،‬والشيء املهم أن يعي املرء احنيازه‬

‫‪ 1‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي ‪ ،‬ص‪.00 :‬‬


‫‪343‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫اخلاص‪ ،‬وبذلك يستطيع النص أن يق ّدم نفسه من حيث آخريته‪ ،‬وهكذا يؤكد حقيقته اخلاصة مبقابل‬
‫معاين املرء املسبقة"‪.1‬‬

‫إن عملية االقرتاب من النص تتم وفق ما متتلكه هذه الذات من مدركات مسبقة واليت تسهم‬
‫يف توجيه مسار القراءة دون أن تسقط هذه الذات أحكامها آليا على النص املقروء‪ ،‬وإال ما جدوى‬
‫العملية من أساسها‪ .‬ال شك أن النص يتمنع بعض التمنع على قارئه ويرفض االنصياع إىل أوامره‪،‬‬
‫ويغدو فلوتا جاحما على البوح بأسراره هلذا القارئ‪ ،‬األمر الذي جيعل من عملية املهادنة والرتويض أمرا‬
‫ال مناص منه‪ ،‬والغرابة اليت تكون بني النص والقارئ هي من حيتم على هذا األخري االقرتاب منه‬
‫وسره‪ّ .‬أما عملية تكييف النص فهي من يدفع القارئ حنو‬ ‫أكثر‪ ،‬قصد محله على البوح مبخبوءه ّ‬
‫بأي حال من األحوال أن تنكرها الذات القارئة‪.‬‬
‫استكناه أسراره ودفعه ملمارسة فاعليته‪ ،‬اليت ال ميكن ّ‬
‫يعرتف جابر عصفور صراحة يف أكثر من موضع بوجود هذه األحكام املسبقة أو ما يسميه‬
‫هو "القراءات السابقة" واليت يؤكد على ضرورة التمييز بني صحيحها وزائفها بقوله‪... " :‬املتوسطات‬
‫البد من تقرير حضورها السالب قبل املوجب يف أيّة قراءة للرتاث النقدي ألهنا تؤدي ‪-‬يف غيبة الوعي‬
‫النقدي هبا ‪ -‬إىل قراءة "تقليد" يتحول معها القارئ إىل نقلي دون أن ينتبه‪ ،‬عندما يستسلم إىل‬
‫الصيغ التفسريية املرتاكمة داخل القراءات السابقة‪ ،‬فيستقبلها استقباال آليا‪ ،‬ويعيد إرساهلا‬
‫الشعوريا"‪ .2‬يؤكد عصفور على ضرورة الوعي هبذه القراءات السابقة واألحكام املاقبلية ليتسىن للذات‬
‫القارئة متييز جيّدها من رديئها ‪،‬و سالبها من موجبها ألن مناط القضية هو االبتعاد عن ذلك النوع‬
‫من القراءات السلفية التكرارية اليت تضيف للعملية النقدية شيئا ذا بال‪ ،‬فضال عن أهنا متارس نوعا‬
‫من االستيالب واالغرتاب على الذات القارئة واملقروء يف الوقت نفسه‪ ،‬ليكون احلاصل قراءة اتباعية‬
‫تقليدية تعمل على وأد كل قراءة فاعلة‪.‬‬

‫لعل ما ذهب إليه غادامير يف إبراز دور األحكام املسبقة يف توجيه عملية القراءة هو‬
‫التعريف الذي ميكن الركون إليه بشيء من الراحة‪ ،‬يقول‪...":‬و لكن ال شيء من هذا يغري من‬

‫‪ 1‬جورج غادامري‪ :‬احلقيقة واملهج ‪ ،‬ص‪. 223 :‬‬


‫‪ 2‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي ‪ ،‬ص‪.011 :‬‬
‫‪344‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫تسوغها يف النهاية املعرفة العقلية‪،‬‬


‫احلقيقة األساسية اليت مؤداها أن األحكام املسبقة الصادقة جيب أن ّ‬
‫حىت وإن مل يتم استكمال هذه املهمة على حنو تام مطلق"‪.1‬‬

‫مسوغات العقل باعتبار العقل أعدل قسمة بني الناس كما‬ ‫حيتكم غادامير يف هذا النص إىل ّ‬
‫يذهب إىل ذلك الفالسفة‪ ،‬فالعقل وحده هو الكفيل مبنع النفس الزيغ واخلطأ إذا احتكمت إىل‬
‫مبادئه‪ ،‬والنتيجة أنه ال ميكن احلديث بصورة جازمة عن إمكانية تغييب احلاضر أثناء العودة إىل‬
‫املاضي‪ ،‬وذلك وضع معريف يفيد منه قارئ الرتاث النقدي‪ ،‬من حيث هو مؤرخ آخر يكتب تارخيه‬
‫بعيين احلاضر‪ ،‬ومن منظور مشكالته‪ ،‬أي باألدوات املعرفية لعصره‪ ،‬وداخل عالقاته وبأساليبها اليت‬
‫يستعني هبا على فهم تراثه فهما واقعيا غري جمرد‪ ،‬وهو فهم يتنـزه عن ادعاء نزعة علمية وضعية‪ ،‬تفصل‬
‫الرتاث املقروء عن الوعي‪ ،‬أو النزعة الذاتية اليت تفصل الرتاث املقروء عن عصره؛ فعندما يعود القارئ‬
‫إىل الرتاث‪ ،‬فإنه ينطلق من فهمه اخلاص الذي تتفاعل فيه مكونات سياقه العام‪ ، 2‬مبعىن أنه حمكوم‬
‫بأفق انتظارات تصدر عن طبيعة التساؤالت والقضايا املطروحة‪ ،‬وهذا تش ّكل كل حلظة للقراءة جدال‬
‫بني أفق مستقبل فارغ ينبغي أن ميأل‪ ،‬وأفق قد حتقق وال يتوقف عن االمنحاء‪.3‬‬

‫يتجلى مما سبق أ ّن فعل القراءة هو ذلك التفاعل بني القارئ والنص‪ ،‬وحماولة ضبط آفاق كل‬
‫منهما‪ ،‬فالرتاث ليس ما كان ينتمي إىل فرتة تارخيية انتهت‪ ،‬ولكنه باألحرى يظل مستوى من‬
‫مستويات الوعي املعاصر‪ ،‬فال يتحقق وجوده إال حني يتم القيام بإبرازه وحتيينه (‪ )Actualiser‬عرب‬
‫ممارسة القراءة والفهم اللذين من شأهنما أن جيعال النص حاضرا‪ ،‬وليس جعل احلاضر حاضرا يف‬
‫املاضي بل بالتحيني ميكن أن جنعل النص معاصرا لنا‪ .‬وعليه فإن حماولة فهمنا للنص الرتاثي تقتضي‬
‫حماولة الوصول إىل املغزى العام واملعاصر للنص الرتاثي‪ ،‬وليس الوصول إىل هذا املغزى باألمر‬
‫االختياري حبيث تتحقق القراءة يف احلاضر بكل ما تعنيه الكلمة من وجود ثقايف إيديولوجي‪ ،‬ومن‬

‫‪ 1‬جورج غادامري‪ :‬احلقيقة واملنهج‪ ،‬ص‪.222 :‬‬


‫‪ 2‬ينظر‪ :‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬مؤسسة عيبال‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪3‬‬
‫‪W.Iser: l'acte de lecture, traduit de l'allemand par .Evelyne szncer, Ed Pierre mardaga‬‬
‫‪1985 p: 205.‬‬
‫‪345‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫أفق معريف وخربة حمددين‪ .1‬األمر الذي يدفع إىل وجود تأويالت والبحث عن دالالت أخرى يكتنـزها‬
‫النص الرتاثي‪.‬‬

‫إن النص عامل مكتف بذاته إذا رمنا حتليله انطالقا من إمكانات احلاضر املعاصر‪ ،‬أي زمن‬
‫قراءته‪ ،‬ذلك أنه أعتق نفسه من كل سلطة خارجة عن إطاره‪ ،‬ويف الوقت ذاته فهو مليء بالفجوات‬
‫واليتم االهتمام بالرتاث‬
‫ّ‬ ‫والثغرات اليت حيتاج على إثرها لقارئ ميلؤها ويس ّد حاجة السؤال فيه‪،‬‬
‫ونصوصه وتأويلها مبجرد أنه ٍ‬
‫ماض‪ ،‬لكن أمهيته تكمن يف السعي حنو القبض على داللته ومعانيه‪ ،‬وال‬
‫يتم ذلك إال إذا جتاوز القارئ مرحلة الفهم إىل مرحلة التأويل‪ ،‬الذي يتيح إمكانية ولوج النص بأكثر‬
‫من سبيل‪ ،‬قصد الوقوف عند أكرب قدر ممكن من الدالالت وتفكيكها‪.‬‬

‫وانطالقا من هذا يش ّكل الفهم والتأويل أهم اآلليات املوظفة يف فعل القراءة وميثالن يف اآلن‬
‫نفسه الوجه اآلخر واخلفي هلا‪ ،‬والتأويل مبا هو آلية يف االشتغال على النصوص وفك ثغراهتا ال يعين‬
‫فقط املعطيات احملددة سلفا واليت هلا وجود خارجي عن املتلقي الذي يروم الفهم؛ إذ بني "املتلقي‬
‫والنص األديب شيئا مشرتكا هو جتربة احلياة‪ ،‬هذه التجربة ذاتية عند املتلقي‪ ،‬ولكنها حتدد له الشروط‬
‫املعرفية اليت ال يستطيع جتاوزها‪ .‬وهذه التجربة‪ -‬من جانب آخر‪ -‬موضوعية يف العمل األديب‪ ،‬وعملية‬
‫الفهم تقوم على نوع من احلوار بني جتربة املتلقي الذاتية والتجربة املوضوعية املتجلية يف األدب من‬
‫خالل الوسط املشرتك"‪ ،2‬وعليه تعمل القراءة على إضاءة النص الرتاثي إضاءة هادفة إىل استثماره‬
‫وإعادة بعثه‪ ،‬قصد جتاوز حالة الشرخ الذي تعانيه الذات معرفيا‪.‬‬

‫متاشيا مع هذا تأيت أمهية التأويل يف كونه يفتح النص على الكثري من احتماالت املعىن والداللة‬
‫اليت توضع أمام القارئ للنصوص الرتاثية‪ ،‬باعتبار النص هو احلقل املعريف الذي يشتغل عليه التأويل‬
‫"والنص عامل مهول من العالقات املتشابكة‪ ،‬يلتقي فيه الزمن بكل أبعاده‪ ،‬حيث يتأسس يف رحم‬
‫املاضي‪ ،‬ويؤهل نفسه كإمكانية مستقبلية للتداخل مع نصوص آنية"‪ 3.‬ليس هناك أدىن شك يف أن‬
‫استثمار الرتاث قرائيا هو ما يضمن للذات القارئة نوعا من احلضور املعريف إضافة إىل حضورها‬

‫‪ 1‬ينظر ‪ :‬نصر حامد أبو زيد ‪ :‬إشكاليات القراءة وآليات التأويل‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ 2‬نصر حامد أبو زيد‪ :‬إشكاليات القراءة وآليات التأويل‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 3‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬اخلطيئة والتكفري‪ -‬من البنيوية إىل التشرحيية‪ ،-‬النادي األديب الثقايف‪ ،‬جدة‪ ،‬ط‪ ،0085 ،0‬ص‪.02 :‬‬
‫‪346‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫األنطولوجي‪ ،‬ذلك أن املغزى من قراءته هو إضافة هذه املعارف املودعة فيه واملكتنـزة داخله واليت‬
‫تبحث عن من يرتادها وخيرجها‪ ،‬إذ ال قيمة هلذا الرتاث إذا مل يسهم يف حل وفك هذه اإلشكاالت‬
‫اليت تعاين منها الذات املعاصرة‪ ،‬ويف اآلن نفسه ال قيمة لقراءة ال تسمن وال تغين يف مساءلتها إياه‪،‬‬
‫األمر الذي يفتح بابا مشرعا من التأويل والتأويل املضاعف هلذه القضايا اليت يزخر الرتاث هبا؛ إذ به‬
‫– التأويل‪ -‬تُفهم نصوص الرتاث بعد أن يتم حتيينها يف سياقها التارخيي‪ ،‬الذي أُنتجت فيه إضافة إىل‬
‫سياقها الذي جيب أن تُقرأ فيه‪ ،‬خصوصا أن النص كيفما كانت طبيعته يظل جماال لتعدد القراءات‪،‬‬
‫والنصوص اليت تتميز بانفتاحها الداليل‪ ،‬تظل منفتحة على عدد ال م ٍ‬
‫نته من القراءات املمكنة‪.1‬‬ ‫ُ‬
‫يف األخري ال يسعنا إال أن نساير جابر عصفور يف مسعاه ومنطلقه حول قراءة الرتاث النقدي‬
‫اليت متثل جزء من مشروع قراءة الرتاث العريب‪ ،‬واليت ال ميكنها أن تتقدم إال إذا متكن القارئ من‬
‫الوعي بالتمييز بني الذات واملوضوع‪ ،‬إىل درجة يصبح معها الوعي قادرا على تأمل نفسه يف عالقته‬
‫مبعطيات الرتاث املقروء‪ ،‬والكيفية اليت يدرك هبا هذه املعطيات‪ ،‬ليدرك أن جهاز قراءته قد كشف يف‬
‫النص الذي قرأ عن معىن ذي داللة يف السياق التارخيي وأفقه الزمين‪ ،‬وذي داللة يف السياق التارخيي‬
‫‪2‬‬
‫هلذا القارئ وأفقه الزمين اخلاص يف اآلن نفسه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Voir : U.Eco. Les limites de l’interprétation, p:130.‬‬
‫‪ 2‬ينظر جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي ‪ ،‬ص‪.002 :‬‬
‫‪347‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪7‬‬

‫بعد أن مت استهالك أثر رؤية هذا البحث‪ ،‬نستخلص مجلة من النتائج واخلالصات املعرفية اليت‬
‫وقف البحث عندها‪ ،‬وهو إذ يرصد خمتلف هذه النتائج‪ ،‬ال يدعي إطالقا أهنا نتائج هنائية ومغلقة‬
‫على نوع من احلقائق‪ ،‬إذ العمل يف جمال النقد والنظرية النقدية ال ميكن أن ينتهي إىل غاية حمددة‪،‬‬
‫فحسبه التجربة واحملاولة‪ ،‬ألن مثله كمثل عملية التأويل اليت ال تنتهي بقدر ما تعلن بداية القراءة‬
‫والتأويل‪ ،‬لكن رغم ذلك رصد البحث مجلة من النتائج صاغها على النحو اآليت‪:‬‬

‫‪ ‬تنوعت مجلة املصادر واخللفيات املعرفية‪ ،‬وتعددت بني خلفيات تراثية وأخرى حداثية‪ ،‬يف‬
‫بلورة الوعي النقدي لطه حسني مما رسم معامل الطريق أمامه يف تلك الفرتة املبكرة من حياته العقلية‪.‬‬

‫‪ ‬صاغت خمتلف احلقول املعرفية اليت ارتادها طه حسني توجهه النقدي يف مرحلة البدايات‪،‬‬
‫فكانت ممثلة يف تأثره بالبيئة األزهرية من ناحية‪ ،‬وبيئة اجلامعة من ناحية أخرى‪ ،‬مث بيئة العامل الغريب‬
‫خمتزال يف السوربون‪.‬‬

‫‪ ‬عملت هذه املؤثرات الفكرية اليت تشرهبا طه حسني منذ التحاقه باجلامعة وتربمه من األزهر‬
‫وتقاليده البالية على تأثره بأساتذته املستشرقني الذين بصموه ببصمتهم من أمثال كارلو نالينو‬
‫وسانتيالنا يف مصر والنسون ودوركامي يف فرنسا‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ ‬شكلت بدايات كتاباته النقدية ما ميكن أن نعتربه مدرسة طه حسني النقدية يف الربع‬
‫االول من القرن العشرين عندما ألف مدونتيه النقديتني‪ ،‬جتديد ذكرى أيب العالء املعري‪ ،‬وفلسفة ابن‬
‫خلدون‪ ،‬االجتماعية‪ ،‬واليت عملت على توطيد العالقة بينه وبني املنهج التارخيي الذي بشر به طه‬
‫حسني أثناء مرحلة االستقبال األوىل للنقد العريب احلديث‪.‬‬

‫‪ ‬كانت حبوثه املنشورة يف اجملالت والدوريات مبثابة النواة الصلبة لتوجهه النقدي فيما بعد‬
‫مرحلة التأليف‪ ،‬كبحوثه اليت مجعت فيما بعد يف مؤلف حديث األربعاء‪.‬‬

‫‪ ‬كان اطالعه على الرتاث اإلنساين العاملي ممثال يف الفلسفة اليونانية وفلسفة أرسطو بشكل‬
‫خاص عامال أساسيا يف نقل أمهات هذه الكتب الفكرية‪ ،‬يف حركة ترمجة واسعة‪ ،‬أسهم العميد على‬
‫مراحلها مما زود القارئ العري عامة واملصري على وجه اخلصوص مبختلف املتون الفلسفية الغربية اليت‬
‫دعا من خالهلا إىل مزيد من اإلنفتاح على اآلخر الغريب دون التنصل من تراث هذه األمة‪.‬‬

‫‪ ‬كان طه حسني تراثيا أكثر من الرتاثيني‪ ،‬وحداثيا أكثر من احلداثيني املعاصرين‪ ،‬نظرا ألنه‬
‫مل يشح بوجهه عن منجزات الرتاث ويف الوقت نفسه انفتح على الثقافة الغربية انفتاح العامل بأسرارها‬
‫وخباياها‪.‬‬

‫‪ ‬إن املشروع النقدي لطه حسني يف قراءته للرتاث الشعري اجلاهلي ما كان له أن ينحو ذلك‬
‫املنحى التصاعدي التكفريي لوال تلك العقليات الدوغمائية اليت صدر عنها كل خصومه ومناوئيه‪،‬‬
‫ذلك أن الرجل خبلخلته هذه‪ ،‬أحدث رجة على مستوى التفكري وعلى مستوى املنهج العلمي‬
‫والنقدي الذي كان متبعا آنذاك‪.‬‬

‫‪ ‬هنج طه حسني سبيل البحث العلمي يف الكشف عن حقائق األشياء سواء باملنهج‬
‫التارخيي الذي يعاين الظاهرة يف صريورهتا التارخيية واالجتماعية أو أثناء احتكامه ملنهج الشك الذي‬
‫ينشد اليقني قبل تغيري املسالك النقدية القدمية بأخرى حداثية‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ ‬كان تأثر طه حسني بديكارت جزئيا حسب ما وصل إليه البحث ومبدئيا‪ ،‬ألن التأثري‬
‫األويل والنهائي إمنا كان بالقوانني الفلسفية البن خلدون من جهة ولطروحات ابن سالم يف الرتاث‬
‫النقدي من جهة ثانية‪.‬‬

‫‪ ‬استطاع طه حسني أن يشكل مدرسة نقدية متتاح من طروحاهتا باقي املدارس‪ ،‬اليت أتت‬
‫بعده‪ ،‬فكان تأثريه واضحا فيمن أتى بعده أمثال شكري عياد وجابر عصفور فيما بعد‪.‬‬

‫‪ ‬يعد املشروع النقدي لطه حسني مشروعا عقليا ألنه دفع العقلية العربية احلديثة واملعاصرة إىل‬
‫تغيري عاداهتا يف القراءة واالستنطاق واحلفر يف طبقات الرتاث‪.‬‬

‫‪ ‬وصل البحث إىل أن احللقة النقدية الواصلة اليت يضطلع مبهمتها شكري عياد إمنا متتاح من‬
‫معني الرتاث بقدر ما تضفي عليه من مقوالت احلداثة‪ ،‬على اعتبار أن آليات القراءة عند شكري‬
‫عياد متعددة ومتنوعة منها الرتاثية ومنها احلداثية‪ .‬إضافة إىل ماميثله عياد على ساحة النقد العريب‬
‫احلديث واملعاصر ‪ ،‬فالرجل مبثابة اخليط املعنوي الرابط والواصل بني جيل الرواد واجليل الذي يليهم‪.‬‬

‫‪ ‬شكلت مرحلة البدايات النقدية عنده املعامل األوىل لرسم خارطة التوجه النقدي الذي‬
‫يستكمله عياد ضمن مسريته النقدية‪.‬‬

‫‪ ‬تعد التجربة الرائدة اليت كلف هبا عياد أثناء توليفه بني البالغة العربية القدمية ومقوالت‬
‫األسلوبيات احلديثة من التجارب الرائدة يف ساحة النقد العريب املعاصر‪.‬‬

‫‪ ‬تعددت املواهب القرائية لعياد من كاتب للقصة إىل مرتجم إىل حمقق إىل كاتب مقال‬
‫صحفي إىل ناقد أديب مما يصعب مهمة البحث يف إجنازات الرجل‪.‬‬

‫‪ ‬شكلت سلسلة شكري عياد النقدية يف جمال األسلوبيات مباحث هامة يف جمال النقد‬
‫األسلويب الغريب والغريب‪ ،‬وشكلت تطبيقاته األسلوبية مرحلة بدايات بالنسبة للتوجه األسلويب العريب‪،‬‬
‫إضافة إىل أمساء نقدية أخرى‪.‬‬

‫‪ ‬تراوح موقف عياد من احلداثيني العرب من مقبل عليهم إىل مشيح على إجنازاهتم‪ ،‬ذلك أن‬
‫الرجل يعي حجم املزالق املعرفية اليت قد توقع صاحبها يف مطبات اإلنبهار والتسرع واإلنبطاح‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ ‬رغم ذلك استطاع شكري عياد أن ينفذ إىل مقوالت هذه احلداثة من حيث منطلقاهتا‬
‫النظرية والفلسفية وصياغاهتا النظرية النهائية‪ ،‬وحياول تأسيس مشروع حداثة عربية تأخذ من الرتاث‬
‫نقاطه املضيئة بقدر ماتضيف إليه من الثقافة الغربية الوافدة‪ ،‬مبا خيدم خصوصيات األنا العربية‬
‫وثوابتها‬

‫‪ ‬سجل البحث مقاربة الرتاث من داخل منظومته الفكرية عند جابر عصقور‪ ،‬لكنه تبني أن‬
‫الرجل يستحضر مجلة من املصطلحات يف قراءته كالتناص مبفهومه عند باختني وجوليا كريستيفا‬
‫والكتابة كما عند التفكيكيني‪.‬‬

‫‪ ‬مل يربط جابر عصفور احلداثة النقدية كما احلداثة الشعرية بزمن معني لكنها حسبه قرينة‬
‫اللحظة التارخيية اليت تفرزها وتطبعها بطابعها اخلاص‪.‬‬

‫‪ ‬رفض جابر عصفور إبداعية النقد اليت حتول معها النقد من غاية إىل وسيلة للتباهي باللغة‬
‫اليت تنشد نزعة التطاوس واللغة املتعاملة‪.‬‬

‫‪ ‬وقف جابر عصفور عند نظرية الشعر الرتاثية مستحضرا آلياهتا النقدية واملقوالتية كما هو‬
‫الشأن عند قدامة وحازم وابن خلدون‪ ،‬مما يشكل عودة إىل ذلك األصل الذي يبقى حيتاج إىل‬
‫حماوالت جادة ورائدة للدفع به إىل مصاف الرتاثات العاملية‪ ،‬اليت تسهم يف خلق حداثة ّأمتهم بشكل‬
‫من األشكال‪.‬‬

‫‪ ‬ش ّكلت قراءة الرتاث بشقيه الشعري و النقدي حمورا هاما من احملاور النقدية عند جابر‬
‫عصفور‪ ،‬و اهلدف منها هو صياغة نظرية لكيفية قراءة هذا الرتاث‪ ،‬تتنوع بني القراءة التأويلية‬
‫والقراءة التارخيية له‪.‬‬

‫سجلت نظرية القراءة و التلقي حضورا الفتا يف املشروع النقدي عند جابر عصفور‪،‬‬‫‪ّ ‬‬
‫وذلك الرتباط الفعل القرائي بالقارئ‪ ،‬الذي حياور أنساق النص الرتاثي‪ ،‬كما مل يهمل عصفور‬

‫‪351‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫مقوالت التأويلية أو اهلرمينوطيقا مبا هي نظرية للفهم و التفسري‪ ،‬خاصة مفاهيم غادمير الذي ش ّكل‬
‫سؤال الرتاث أمهية بالغة يف مشروعه التأويلي‪.‬‬

‫‪ ‬هذا و ال ن ّدعي أن هذه اخلامتة ستغلق عليها باب الزيادة و االجتهاد‪ ،‬بقدر ما تدعو إىل‬
‫مغايرة البحث يف مثل هذه القضايا اليت شكلت الساحة النقدية العربية احلديثة و املعاصرة‪ ،‬و تعمل‬
‫على تنقية األجواء البحثية اليت هتدف الوصول إىل مناطق قصية مل تعهدها الساحة النقدية من قبل‪،‬‬
‫و يف الوقت نفسه يبقى سؤال النقد و سؤال النظرية منفتحا على غريه من التساؤالت املعرفية اليت‬
‫تصوغ غريها من اإلجابات‪ ،‬وحسب هذه اخلامتة أهنا وقفت عند النقاط البارزة اليت ش ّكلت معامل‬
‫واضحة سرتتكز عليها‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫فهرس األعالم‬

‫‪ ‬أمحد لطفي السيد‪ :0022-0823 :‬ولد سنة ‪ 0823‬و حفظ القرآن يف كتاب قريته‪ ،‬مث التحق‬
‫مبدرسة املنصورة االبتدائية مث مبدرسة اخلديوية‪ ،‬ويف سنة ‪ 0802‬حصل على اإلجازة يف احلقوق‪،‬‬
‫وبعدها اشتغل وكيال للنيابة‪ ،‬مث باحملاماة‪ ،‬مث تفرغ للعمل الصحفي والسياسي‪ ،‬وساهم يف إنشاء‬
‫صحيفة " اجلريدة" يف ‪ 10‬مارس ‪ ،0012‬وبقي رئيسا لتحريرها حىت توقفت يف ‪ 31‬سبتمرب ‪،0002‬‬
‫ساهم يف امليدان السياسي‪ ،‬فكان فيلسوف حزب األحرار الدستوريني وشغل منصب وزارة املعارف‪،‬‬
‫وأصبح عضوا يف جملس الشيوخ كما ساهم يف توجيه احلياة التعليمية املصرية‪ ،‬إذ شغل منصب وكيل‬
‫اجلامعة املصرية القدمية ومديرا للجامعة املصرية مث توىل بعد ذلك رئاسة "جممع اللغة العربية"‪ .‬ومن‬
‫أهم مؤلفاته ترمجته آلثار أرسطو الذي كان معجبا به‪ " :‬األخالق" "الطبيعة" "الكون والفساد"‬
‫"السياسة" وله‪" :‬تأمالت يف الفلسفة واألدب والسياسة واالجتماع" مجعه إمساعيل مظهر‪ ،‬و"مذهب‬
‫احلرية‪ -‬إىل نوابنا" وهي جمموعة مقاالت نشرها لطفي السيد يف اجلريدة‪ ،‬مجعها أمحد مصطفى‬
‫وإمساعيل زهدي‪ ،‬و" املنتخبات" مجعها إمساعيل مظهر‪.‬ينظر املرجع السابق‪ ،‬ص‪.020 :‬‬

‫‪ ‬اجنتسيو(اغناطيوس) جويدي (‪ )0025 -0822( )Ignazio Guidi‬أو جويدي الكبري متييزا له‬
‫من ابنه ميكلنجلو‪ .‬مستشرق إيطايل‪ ،‬ولد يف روما من أسرة عريقة‪ ،‬وتعلم العربية وعلمها يف‬
‫جامعتها‪ ،‬وهو من أبرز علماء اللغات السامية‪ ،‬توىل التدريس يف جامعة روما ما يزيد على أربعني‬
‫عاما‪ ،‬زار مالطة ومصر وفلسطني ودمشق واستانبول‪ ،‬ودعي يف عامي ‪ 0018‬و‪ 0010‬للتدريس يف‬
‫اجلامعة املصرية القدمية‪ ،‬فدرس األدب العريب وفقه اللغات العربية اجلنوبية بالعربية‪ ،‬وكان طه حسني‬
‫من أبرز تالميذه‪ ،‬وكان عضوا يف اجملمع العلمي العريب بدمشق‪ ،‬توزعت اهتماماته على مخسة‬
‫جماالت‪ :‬األدب العريب اإلسالمي‪ ،‬واآلداب املسيحية يف املشرق‪ ،‬واللغة احلبشية وآداهبا‪ ،‬واللغة العربية‬
‫والكتاب املقدس‪ ،‬ولغات جنوب اجلزيرة العربية‪ .‬وله فيها مؤلفات وحبوث وحتقيقات كثرية منها‪:‬‬

‫‪353‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫حماضرات أدبيات اجلغرافية والتاريخ واللغة عند العرب باعتبار عالقتها بأوربا وخصوصا بإيطاليا و‬
‫"جداول كتاب األغاين" ينظر‪ ،‬املرجع السابق‪ :‬ص‪.02:‬‬

‫‪ ‬أرسطو ‪233‬ق م‪282 -‬ق م ( َّ‪ )Aristote‬ولد أرسطو سنة ‪ 282‬ق‪.‬م يف بلدة ستاجريوس من‬
‫أعمال "خالقيديا" وكان أبوه نيقوماخوس طبيبا للملك أمينافس الثاين ملك مقدونيا‪ ،‬وقد تويف والده‬
‫وهو صغري‪ .‬تكفله وقام على تربيته رجل يدعى بروكسينوس‪ .‬جاء أرسطو أثينا ليتم تعليمه يف سنة‬
‫‪ 222‬ق م‪ .‬وانتظم يف سلك تالميذ أفالطون‪ ،‬وأقام عشرين عاما تلميذا جمدا يف األكادميية‪ ،‬وبعد أن‬
‫مات أستاذه أفالطون سنة ‪ 322‬ق‪.‬م ترك أرسطو أثينا وتوجه إىل ميسا حيث قضى مدة طويلة يف‬
‫خدمة هريمياس طاغية أتارينوس وكان هذا األمري صديقا ألفالطون من قبل‪ .‬وملا قتل هريمياس سنة‬
‫‪ 222.223‬ق‪.‬م رحل أرسطو إىل بالط امللك فيليب الثاين‪ ،‬ملك مقدونية الذي دعاه ليكون معلم‬
‫اإلسكندر‪ .‬مث عاد بعد ذلك إىل أثينا سنة ‪ 221.222‬ق‪.‬م‪ .‬وأقام هبا‪ ،‬فأنشأ مجاعة جديدة مشاهبة‬
‫لألكادميية مسيت مدرسته بالليكيون‪ ،‬وهي عني الكلمة الفرنسية الليسية‪ ،‬وقد قضى أرسطو مثانية‬
‫عشر عاما يف أثينا مشتغال بالتدريس والتصنيف‪ ،‬وتويف سنة ‪233‬ق‪.‬م‪ .‬ألف أرسطو كتبا عدة ولكنها‬
‫طه حسني‪ ،‬وألف يف نقد النثر‪،‬‬ ‫ضاعت ومل يبق منها إال كتاب نظام األثينيني الذي ترمجه‬
‫كتاب " فن اخلطابة" ويف نقد الشعر‪ "،‬فن الشعر" و" السياسة" وغريها‪.‬ينظر املرجع السابق‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.080‬‬

‫‪ ‬ألفونس أوالر (‪ )A. Aulard‬مؤرخ فرنسي‪ .‬أهم آثاره "التاريخ السياسي للثورة الفرنسية وهو‬
‫مؤسس جملة‪ :‬الثورة الفرنسية‪ .‬ينظر عبد اجمليد حنون‪ ،‬املرجع السابق ص ‪.157‬‬

‫‪ ‬جوستاف جلوتز (‪ )Gustave Glotz‬مؤرخ فرنسي خريج املدرسة العليا لألساتذة‪ ،‬أستاذ األدب‬
‫اليوناين بالسربون منذ ‪ ،1897‬له مجلة من املؤلفات منها‪" :‬التعذيب يف بالد اليونان البدائية وتضامن‬
‫األسرة يف القانون اجلنائي باليونان ‪ 1991‬والعمل عند اليونان قدميا‪ .‬ينظر عبد اجمليد حنون‪ ،‬املرجع‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.156 :‬‬

‫‪ ‬جوستاف بلوك‪ )Gustave Bloch( :‬باحث فرنسي درس يف ليون وباريس التاريخ الروماين الذي‬
‫ألّف فيه عدة مؤلفات أشهرها ‪ :‬أصول جملس الشيوخ الروماين‪ .‬ينظر عبد اجمليد حنون‪ ،‬املرجع نفسه‪،‬‬
‫ص ‪.156‬‬
‫‪354‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ ‬جوستاف النسون (‪ ، 1911 -1857 )Gustave Lanson‬حصل على الدكتوراه يف اآلداب‬


‫ودرس يف التعليم الثانوي واجلامعي يف السربون ويف املدرسة العليا لألساتذة اليت صار‬
‫سنة ‪ّ 1888‬‬
‫مشرفا على إدارهتا سنة ‪ .1991‬كان معنيا بتاريخ تطور األفكار األدبية واملعرفة الدقيقة املفصلة‬
‫للمبدع وفردية األثر الفين وتيارات العصور وتطبيق املناهج العلمية يف الدراسات األدبية‪ ،‬خترجت عليه‬
‫مدرسة هامة جتمع بني االجتاه الفلسفي يف النقد والدقة العلمية يف البحث‪ .‬له جمموعة هامة من‬
‫املؤلفات أمهها‪ :‬تاريخ األدب الفرنسي‪ ،‬ومبادئ اإلنشاء واألسلوب وبوالو‪ ،‬كورين‪ ،‬فولتري‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬ص‪ .191 :‬وحممد مندور‪ :‬النقد املنهجي عند‬
‫العرب‪ ،‬مقدمة "منهج البحث يف األدب"‪ ،‬ص‪.191 :‬‬

‫‪ ‬جول لوميرت(‪ )Lemaitre Jules( )0002-0852‬ولد يف ‪ 32‬ابريل ‪ 0852‬يف فينسي‪ ،‬وبعد‬


‫دراسته األوىل دخل إىل املدرسة العليا لألساتذة‪ ،‬مث عني أستاذا يف هافر سنة ‪ ،0825‬وابتدأ منذ ذلك‬
‫يكتب من حني آلخر يف " القرن ‪ "00‬مث يف " اجمللة الزرقاء" ويف سنة ‪ 0881‬عني أستاذا باجلزائر اليت‬
‫مل يقم هبا إال سنتني ليلتحق بعد ذلك بكلية اآلداب ببيزنسون‪ ،‬ويف سنة ‪ 0882‬يغادر األستاذية‬
‫ويشتغل يف باريس بالكتابة‪ ،‬فيصبح ناقدا جلريدة املناقشات‪ ،‬ويف سنة ‪ 0805‬يدخل إىل األكادميية‬
‫الفرنسية‪ .‬من أهم آثاره‪ :‬رواية " امللوك" و" الربملاين لوثر الكبري" و"السن الصعب" و"مأساة العفو"‬
‫وله كتابات أدبية هامة تدعى " املعاصرين" وحماضرات حول جان جاك روسو‪ ،‬وجان راسي‪،‬‬
‫وفنيلون‪ ،‬وشاتوبريان‪ .‬ينظر أمحد بوحسن‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.003،000 :‬‬

‫‪ ‬دافيد صموئل مرجليوث ‪ )Margoliouth.D.S.( 0021-0858‬درس مرجليوث اآلداب‬


‫الكالسيكية (اليونانية والرومانية) يف أكسفورد‪ ،‬مث انتقل إىل دراسة اللغات السامية‪ ،‬وكانت مثرة هذه‬
‫الدراسات‪ ،‬دراسته ونشرته لكتاب "فن الشعر" ألرسطو طاليس برتمجة مىت بن يونس وقد ظهرت‬
‫سنة ‪ ،0882‬مث عني أستاذا جبامعة أكسفورد سنة ‪ ،0880‬ويف سنة ‪ 0015‬بدأ نشر دراسته عن‬
‫اإلسالم‪ ،‬وذلك بكتابه"حممد ونشأة اإلسالم" مث ألقى حماضرات عن "تطور اإلسالم يف بدايته"‬
‫ونشرت سنة ‪ ،0002‬لكن هذه الدراسات كانت تسري فيها روح غري علمية ومتعصبة أثارت سخط‬
‫املسلمني عليه وكثريا من املستشرقني‪ ،‬وكتب حماضرات أخرى بعنوان "العالقات بني العرب واليهود"‬
‫الذي ظهر سنة ‪ ،0032‬واختري عضوا مراسال للمجمع العريب بدمشق عند نشأته‪ ،‬وله جمموعة هامة‬
‫من الكتب مثل رسائل أيب العالء املعري سنة ‪ ،0038‬و"نشوار احملاضرة" للتنوخي سنة ‪،0030‬‬
‫‪355‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫وترمجته لقسم من تاريخ ابن مسكويه "جتارب األمم" ‪ ،0031‬وله مقاالت أخرى عن األدب العريب‪.‬‬
‫ينظر‪:‬أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬ص‪.002-003 :‬‬

‫‪ ‬رينيه ديكارت (‪ )0251 -0502( )R. Descartes‬فيلسوف ورياضي وفيزيائي فرنسي‪ ،‬جتول‬
‫يف أوربا‪ ،‬كعسكري‪ ،‬عام ‪ ،0030‬مث أقام يف هولندا عشرين عاما‪ ،‬رحل يف أثنائها مرة واحدة إىل‬
‫الدامنرك وثالثا إىل فرنسا‪ ،‬يعود إليه ابتكار " علم اهلندسة التحليلية"‪ ،‬ومن أهم كتبه‪ " :‬طريقة‬
‫املنهج"و" تأمالت ميتافيزيقية"و" مبادئ الفلسفة"و" معاجلة أهواء النفس"‪.‬‬

‫‪ ‬سانت بيف (‪ )0802 -0812( )Sainte Beuve‬من أكرب النقاد أصحاب املنحى النفسي‪ ،‬كان‬
‫معنيا يف البدايات‪ ،‬بدراسة العلوم إذ كان ينوي دراسة الطب‪ ،‬اتصلت العالقة بينه وبني "فكتور‬
‫هوجو" بعد أن كتب مقالني حول ديوانه‪ ،‬درس يف جامعة "لوزان" بسويسرا‪ ،‬وجامعة "لييج" ببلجيكا‬
‫مث انتخب عضوا يف األكادميية الفرنسية عام‪ ،0822‬وعني أستاذا مبدرسة املعلمني العليا‪ ،‬فعضوا يف‬
‫جملس الشيوخ‪ ،‬له آثار قيمة عن "شاتوبريان" و"بور رويال" من أشهر كتبه "أحاديث اإلثنني"‪.‬‬

‫‪ ‬سانتيالنا (‪ )0020-0855( )David Santillana‬ولد بتونس وخترج من جامعة روما‪ ،‬شارك‬


‫يف جلنة إعداد القوانني التونسية عام ‪ ،0802‬وانتدبته اجلامعة املصرية عام ‪ ،0001‬أستاذا لتاريخ‬
‫الفلسفة‪ ،‬اشتهر يف فقه اإلسالم وفلسفته‪ ،‬وله آثار يف الفلسفة واملذاهب اإلسالمية وخاصة املالكي‬
‫والشافعي‪ .‬ينظر املرجع السابق‪ ،‬ص‪.05 :‬‬

‫‪ ‬سيد بن علي املرصفي‪ )0020-.....( :‬عامل باألدب واللغة‪ ،‬كان من مجاعة كبار العلماء باألزهر‪،‬‬
‫درس يف األزهر إىل أن شاخ وكسرت ساقه فاعتكف يف منزله بالقاهرة وجعل يعقد حلقات الدرس‬
‫للطالب الذين كانوا يقصدونه إىل أن تويف‪.‬من آثاره ( رغبة األمل من كتاب الكامل) و( أسرار‬
‫احلماسة)‪ .‬ينظر املرجع السابق‪ ،‬ص‪.02 :‬‬

‫‪ ‬شارل ديهل ‪ )C. Diehl( :‬باحث فرنسي خريج املدرسة العليا لألساتذة‪ .‬متخصص يف التاريخ‬
‫البيزنطي‪ ،‬له مؤلفات منها‪ :‬إغريقيا البيزنطية و"وجوه بيزنطية وتاريخ اإلمرباطورية البيزنطية‪ .‬ينظر عبد‬
‫اجمليد حنون‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪156 :‬‬

‫‪356‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ ‬شارل سينيوبوس‪ )C. Seignobos ( :‬مؤرخ فرنسي‪ ،‬تأثر باملدرسة التارخيية األملانية‪ ،‬له عدة‬
‫مؤلفات أشهرها‪ :‬تاريخ احلضارة و"مدخل إىل الدارسات التارخيية و"التاريخ السياسي ألوربا احلديثة‬
‫وكانت طريقته النقدية املوسومة بالوضعية تعىن أساسا باحلدث التارخيي املادي‪ .‬ينظر عبد اجمليد‬
‫حنون‪ :‬املرجع السابق ص‪.156 :‬‬

‫‪ ‬كارلو ألفونسو نالينو (‪ )0028 -0823( )Carlo Alfonso Nallino‬ولد يف تورينو (‪)Torino‬‬
‫ونشأ وتلقى دروسه األولية ومبادئ العربية والسريانية والعربية يف أوديين (‪ )Udine‬خترج من جامعة‬
‫تورينو‪ ،‬ودرس يف جامعة روما‪ ،‬أشرف على جمليت " الدراسات الشرقية"و"الشرق احلديث" ومها‬
‫باإليطالية‪ ،‬كان علمه غزيرا يف اجلغرافية والفلك عند العرب‪ ،‬وكان عارفا باإلسالم ومذاهبه‪ ،‬ذهب إىل‬
‫غري بلد عريب‪ ،‬وكان عضوا يف جممع علمي عريب وغري عريب‪ ،‬له كتب وحبوث باإليطالية والعربية‪.‬‬
‫راجع يوسف بكار‪:‬أوراق نقدية جديدة عن طه حسني‪ ،‬دار املناهل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0000 ،0‬ص‪:‬‬
‫‪.10‬‬

‫‪ ‬كااانوفا ‪ )P. Casanova( :‬مستشرق فرنسي درس يف الكوليج دي فرانس اللغة العربية وآداهبا‪،‬‬
‫انتدبته اجلامعة املصرية سنة ‪ 1915‬لتدريس فقه اللغة‪ ،‬تويف يف مصر سنة ‪ .1916‬له دراسات متعددة‬
‫يف جماالت متخصصة حول خمتلف أوجه احلضارة العربية‪ .‬ينظر عبد اجمليد حنون‪ :‬الالنسونية وأثرها‬
‫يف رواد النقد العريب احلديث‪ ،‬ص‪.156 :‬‬

‫‪ ‬فرديناند برونتيري (‪ )0012-0820( )Ferdinand Brunetiere‬صاحب مذهب التدرج‬


‫واالنتقال يف يف أنواع البالغة‪ ،‬ومن أكرب أدباء القرن التاسع عشر ونقاده يف فرنسا‪ ،‬تقلب يف مناصب‬
‫العلم واألدب‪ ،‬ومستواه العلمي الرمسي مل يتعد الشهادة الثانوية‪ ،‬لكنه عوضه باملطالعة اجلدة الواسعة‬
‫واجللد على التحصيل الذايت يف نتاجات عقول األمم وآداهبا يف خمتلف العصور‪ ،‬وساعدته يف هذا‬
‫معرفته اللغات القدمية واحلديثة‪.‬‬

‫‪ ‬هيبوليت تني (‪ )0802 -0838( )Hypolyte Taine‬من كبار علماء القرن التاسع عشر يف‬
‫فرنسا‪ ،‬تلقى تعليمه األويل يف بعض مدارس باريس‪ ،‬عاش فرتة من قلمه مبا كان يكتبه يف اجملالت‬
‫حول النقد والتاريخ‪ ،‬أصبح عضوا يف األكادميية الفرنسية عام ‪ ،0881‬ومن مؤلفاته (فالسفة فرنسا‬
‫يف القرن التاسع عشر) و ( تاريخ األدب اإلجنليزي) و( فلسفة الفن)‪.‬‬
‫‪357‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫بيبليوغرافيا البحث‬

‫‪ .1‬إبراهيم أمحد ملحم‪:‬اخلطاب النقدي وقراءة الرتاث‪، ،‬عامل الكتب احلديث‪،‬األردن‪.3112 ،‬‬

‫‪ .2‬ابن طباطبا‪:‬عيار الشعر‪،‬تح عبد العزيز بن ناصر املانع‪،‬إحتاد الكتاب العرب‪،‬دمشق‪،‬دط‪.3115 ،‬‬

‫‪ .3‬أمحد بوحسن‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪،‬الدار البيضاء‪،‬ط‪.0085 ،0‬‬

‫‪ .4‬أمحد عبد احلليم عطية‪ :‬الديكارتية يف الفكر العريب املعاصر‪ ،‬دراسة مقارنة يف املذاهب الفلسفية‬
‫الغربية والثقافة العربية احلديثة‪ ،‬دار الثقافة للنشر والنوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪.3113 ،‬‬

‫‪ .5‬أدونيس‪ :‬الثابت و املتحول‪-2 ،‬صدمة احلداثة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪.0082 ، 5‬‬

‫‪ .6‬أدونيس‪ :‬الشعرية العربية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0080 ،3‬‬

‫‪ .7‬أدونيس‪:‬فاحتة لنهايات القرن‪،‬بيانات من أجل ثقافة عربية جديدة‪،‬دار العودة‪،‬بريوت‪،‬ط‪.0081 ،0‬‬

‫‪ .8‬أدونيس‪ :‬الشعرية العربية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.3111 ،2‬‬

‫‪ .9‬أدونيس‪ :‬كالم البدايات‪ ،‬دار اآلداب‪،‬بريوت‪،‬ط‪.0080 ،0‬‬

‫‪ .11‬أرسطو طاليس‪ :‬فن الشعر‪،‬حققه مع ترمجة حديثة و دراسة لتأثريه يف البالغة العربية‪ ،‬شكري‬
‫حممد عياد‪ ،‬دار الكتاب العريب للطباعة و النشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪.0022 ،‬‬

‫‪ .11‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ :‬تح‪ :‬شكري حممد عياد‪ ،‬طبعة اهليئة املصرية العامة للكتاب‪.0002 ،‬‬

‫‪358‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .12‬ت‪.‬تودروف‪ :‬األدب والداللة‪:‬تر‪:‬حممد ندمي خشفة‪،‬مركز اإلمناء احلضاري‪،‬حلب‪،‬ط‪.0002 ،1‬‬

‫‪ .13‬ت‪ ،‬تودروف وآخرون‪ :‬يف أصول اخلطاب النقدي اجلديد‪ ،‬ترمجة وتقدمي‪ :‬أمحد املديين‪ ،‬دار‬
‫الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬بغداد‪.0082 ،‬‬

‫‪ .14‬توفيق الزيدي‪ :‬أثر اللسانيات يف النقد العريب احلديث من خالل بعض مناذجه‪،‬الدار العربية‬
‫للكتاب‪ ،‬تونس‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ط‪.1891 ،1‬‬

‫‪ .15‬توفيق الطويل‪ :‬أسس الفلسفة‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.0022 ،5‬‬

‫‪ .16‬جابر عصفور‪ :‬الصورة الفنية يف الرتاث النقدي والبالغي عند العرب‪،‬املركز الثقايف العريب‪،‬‬
‫بريوت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.0003 ،2‬‬

‫‪ .17‬جابر عصفور‪ :‬ذاكرة الشعر ‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب ‪ ،‬مصر ‪.3115،‬‬

‫‪ .18‬جابر عصفور‪ :‬مفهوم الشعر ‪ ،‬دار الكتاب اللبناين ‪ ،‬ط‪.3112 ، 0‬‬

‫‪ .19‬جابر عصفور‪:‬مفهوم الشعر‪:‬دراسة يف الرتاث النقدي‪،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪،‬ط‪.0020 ،0‬‬

‫‪ .21‬جابر عصفور‪ :‬حنو ثقافة مغايرة‪ ،‬الدار املصرية اللبنانية‪ ،‬ط‪.3118 ،0‬‬

‫‪ .21‬جابرعصفور‪:‬املرايا املتجاورة‪،‬دراسة يف نقد طه حسني‪،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪،‬القاهرة‪.0082 ،‬‬

‫‪ .22‬جابر عصفور‪ :‬أوراق ثقافية‪ ،‬ثقافة املستقبل ومستقبل الثقافة‪ ،‬املركز العريب‪،‬القاهرة‪،‬دط‪.3112 ،‬‬

‫‪ .23‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪( ،‬مؤسسة عيبال‪،‬ط‪.)0000 ،0‬‬

‫‪ .24‬جابر عصفور‪ :‬قراءة الرتاث النقدي‪ ،‬دار سعاد الصباح‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪.0000 ،0‬‬

‫‪ .25‬جابر عصفور‪ :‬هوامش على دفرت التنوير‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0002 ،0‬‬

‫‪ .26‬اجلاحظ‪ :‬البيان والتبيني‪ ،‬وضع هوامشه موفق شهاب الدين‪،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬مج‪،0‬‬
‫ج‪ ،0‬ط‪.3112 ،3‬‬

‫‪359‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .27‬اجلاحظ‪ :‬احليوان‪ ،‬مكتبة املصطفى اإللكرتونية‪ ،‬ج‪.0‬‬

‫‪ .28‬مجال شحيد‪،‬وليدقصاب‪:‬خطاب احلداثةيف األدب‪،‬األصول واملرجعية‪،‬دارالفكر‪،‬دمشق‪،‬ط‪.3115 ،0‬‬

‫‪ .29‬جوستاف النسون‪ :‬منهج البحث يف تاريخ األدب‪ ،‬تر‪ :‬حممد مندور‪ ،‬ضمن كتاب النقد‬
‫املنهجي عند العرب‪ ،‬دار هنضة مصر للطباعة و النشر‪ ،‬دط‪.‬‬

‫‪ .31‬حازم القرطاجين‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تح‪ :‬حلبيب بن خوجة‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫ط‪.0080 ،3‬‬

‫‪ .31‬حسني مجعة‪ :‬طه حسني‪ ،‬القامة والظل‪ ،‬دار ابن هانئ للدراسات والنشر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪.0002 ،0‬‬

‫‪ .32‬حلمي مرزوق‪ :‬تطور النقد والتفكري األديب احلديث يف الربع األول من القرن العشرين‪ ،‬دار‬
‫الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬ط‪.3112 ،0‬‬

‫‪ .33‬محادي محود‪ :‬الوجه والقفا يف تالزم الرتاث واحلداثة‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪.0088 ،‬‬

‫‪ .34‬محدي السكوت ومارسيدن جونز‪ :‬أعالم األدب املعاصر يف مصر (‪ )0‬طه حسني‪ ،‬قسم النشر‬
‫باجلامعة األمريكية‪ ،‬القاهرة‪.0025 ،‬‬

‫‪ .35‬ديكارت‪ :‬مقال يف املنهج‪ ،‬تر‪ :‬حممود حممد اخلضريي‪ ،‬دار الكاتب العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.0028 ،3‬‬

‫‪ .36‬رجاء النقاش‪ :‬أدباء معاصرون‪ ،‬املكتبة األجنلو املصرية‪ ،‬دط‪.0028 ،‬‬

‫‪ .37‬روالن بارت‪ :‬نقد وحقيقة‪،‬تر‪ :‬منذر عياشي‪،‬مركز اإلمناء احلضاري ‪ ،‬حلب‪ ،‬سورية ‪،‬ط‪.0002 ،0‬‬

‫‪ .38‬رامان سالدن‪ :‬النظرية األدبية املعاصرة‪ ،‬تر‪ :‬سعيد الغامني‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.0002 ،0‬‬

‫‪ .39‬سامح كرمي‪ :‬ماذا يبقى من طه حسني‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0022 ،3‬‬

‫‪ .41‬سامح كرمي‪ :‬معارك طه حسني األدبية والفكرية‪ ،‬دار القلم بريوت‪ ،‬ط‪.0022 ، 3‬‬

‫‪ .41‬سامي الكيايل‪ :‬مع طه حسني‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،3‬إقرأ ح‪ ،00‬ج‪.0‬‬
‫‪360‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .42‬سعد البازعي‪ :‬االختالف الثقايف وثقافة االختالف‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬ط‪.3118 ،0‬‬

‫‪ .43‬سعد البازعي‪ :‬استقبال اآلخر‪ ،‬الغرب يف النقد العريب احلديث‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.3112 ،0‬‬

‫‪ .44‬سعيد توفيق‪:‬يف ماهية اللغة وفلسفة التأويل‪ ،‬املؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.3113 ،0‬‬

‫‪ .45‬سيد البحراوي‪:‬البحث عن املنهج يف النقد العريب احلديث‪ ،‬دار شرقيات‪ ،‬القاهرة‪،‬ط‪.0002 ،0‬‬

‫‪ .46‬سيد البحراوي‪:‬قضايا النقد و اإلبداع العريب‪ ،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة‪،‬مصر‪،3113،‬ع ‪.030‬‬

‫‪ .47‬شفيق السيد‪ :‬االجتاه األسلويب يف النقد األديب‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬القاهرة‪.0082 ،‬‬

‫‪ .48‬شكري عزيز ماضي‪ :‬يف نظرية األدب‪ ،‬دار احلداثة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0082 ،0‬‬

‫‪ .49‬شكري عزيز ماضي‪ :‬من إشكاليات النقد العريب اجلديد‪ ،‬البنيوية‪ ،‬النقد األسطوري‪ ،‬مورفولوجيا‬
‫السرد‪ ،‬ما بعد البنيوية‪،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0002 ،0‬‬

‫‪ .51‬شكري حممد عياد‪:‬األدب يف عامل متغري‪،‬اهليئة املصرية العامة للتأليف والنشر‪.0020 ،‬‬

‫ط‪0002 ،3‬‬ ‫‪ .51‬شكري حممد عياد‪ :‬اجتاهات البحث األسلويب‪ ،،‬أصدقاء الكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬

‫‪ .52‬شكري حممد عياد‪ :‬بني الفلسفة و النقد‪ ،‬منشورات أصدقاء الكتاب‪ ،‬القاهرة‪.0001 ،‬‬

‫‪ .53‬شكري حممد عياد‪ :‬جتارب يف األدب والنقد‪ ،‬دار الكاتب العريب للطباعة والنشر‪،‬القاهرة‪.0022 ،‬‬

‫‪ .54‬شكري حممد عياد‪ :‬املذاهب األدبية و النقدية عند العرب و الغربيني‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس‬
‫الوطين للثقافة والفنون و اآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،0002 ،‬ع ‪.022‬‬

‫‪ .55‬شكري حممد عياد‪ :‬دائرة اإلبداع‪ :‬مقدمة يف أصول النقد‪،‬دار إلياس العصرية‪ ،‬القاهرة‪.0082 ،‬‬

‫‪361‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .56‬شكري حممد عياد‪:‬مدخل إىل علم األسلوب‪،‬أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع‪،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.0002 ،2‬‬

‫‪ .57‬شكري عياد‪ :‬الرؤيا املقيدة‪،‬دراسات يف التفسري احلضاري لألدب‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫دط‪.0028 ،‬‬

‫‪ .58‬شكري حممد عياد‪ :‬اللغة واإلبداع‪ -‬مبادئ علم األسلوب العريب‪ -‬ط‪.0088 ،0‬‬

‫‪ .59‬شكري عياد‪:‬على هامش النقد‪ ،‬أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.0002 ،0‬‬

‫ط‪0081 ،0‬‬ ‫‪ .61‬شكري حممد عياد‪ :‬يوم الدين واحلساب‪ ،‬دار الوحدة‪ ،‬بريوت‪،‬‬

‫‪ .61‬صالح فضل‪ :‬شفرات النص‪ ،‬دراسة سيميولوجية يف شعرية القص و القصيد‪،‬دار اآلداب‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.0000 ،0‬‬

‫‪ .62‬صالح فضل‪:‬علم األسلوب مبادئه وإجراءاته‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.0008 ،0‬‬

‫‪ .63‬صالح فضل‪ :‬يف النقد األديب‪ ،‬منشورات احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق ‪.3112‬‬

‫‪ .64‬طه حسني‪ :‬خصام ونقد‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0028 ،8‬‬

‫‪ .65‬طه حسني‪ :‬مرآة اإلسالم‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪.0050 ،‬‬

‫‪ .66‬طه حسني‪ :‬من بعيد‪ ،‬املطبعة الرمحانية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪،‬ت ‪.‬‬

‫‪ .67‬طه حسني‪ :‬من بعيد‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0023 ،2‬‬

‫‪ .68‬طه حسني‪ :‬األيام‪ ،‬مركز األهرام للرتمجة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،3112 ،3‬مج‪.0‬‬

‫‪ .69‬طه حسني‪ :‬املؤلفات الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،0022 ،‬ج‪.0‬‬

‫‪ .71‬طه حسني‪ :‬ألوان‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪.2‬‬

‫‪ .71‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬اجملموعة الكاملة ملؤلفات الدكتور طه حسني‪ ،‬الشركة‬
‫العاملية للكتاب‪ ،‬مكتبة املدرسة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0082 ،3‬مج‪ ،01‬ج‪.0‬‬
‫‪362‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .72‬طه حسني‪ :‬جتديد ذكرى أيب العالء‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،0022 ،0‬مج‪.2‬‬

‫‪ .73‬طه حسني‪ :‬جنة الشوك‪ ،‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬ط‪ ،0‬بريوت‪ ،0022 ،‬مج‪.00‬‬

‫‪ .74‬طه حسني‪:‬حديث األربعاء‪ ،‬اجملموعة الكاملة‪،‬دار الكتاب اللبناين‪،‬بريوت لبنان‪،‬دط‪،‬دت‪،‬مج‪.3‬‬

‫‪ .75‬طه حسني‪ :‬خصام و نقد‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0022 ،2‬‬

‫‪ .76‬طه حسني‪ :‬فصول يف األدب و النقد‪ ،‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،0022 ،‬مج‪.5‬‬

‫‪ .77‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ :‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪.0023 ،‬‬

‫‪ .78‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪.0025 ،00‬‬

‫‪ .79‬طه حسني‪ :‬يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬دار املعارف للطباعة والنشر‪ ،‬سوسة‪-‬تونس‪ ،‬ط‪.3112 ،2‬‬

‫‪ .81‬طه حسني‪ :‬قادة الفكر‪ ،‬إدارة اهلالل‪ ،‬مصر‪ ،‬دط‪.0035 ،‬‬

‫‪ .81‬طه حسني‪ :‬قادة الفكر‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪.0080 ،‬‬

‫‪ .82‬طه حسني‪ :‬مرآة اإلسالم‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪،‬‬

‫‪ .83‬طه حسني‪ :‬مستقبل الثقافة يف مصر‪ :‬اجملموعة الكاملة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪ ،0022‬مج‪.0‬‬

‫‪ .84‬طيب تيزيين‪ :‬مشروع رؤية جديدة للفكر العريب يف العصر الوسيط‪ ،‬دار دمشق للطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪.0080 ،0‬‬

‫‪ .85‬عاطف أمحد الدراسبة‪ :‬قراءة النص الشعري اجلاهلي يف ضوء نظرية التأويل‪،‬عامل الكتب‬
‫احلديث‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪.3112 ،0‬‬

‫‪ .86‬عباس أرحيلة‪ :‬مسألة التأثري األرسطي لدى مؤرخي النقد والبالغة العربية‪ ،‬املطبعة والوراقة‬
‫الوطنية‪ ،‬الرباط‪ ،‬ط‪.0000 ،0‬‬

‫‪363‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .87‬عباس أرحيلة‪ :‬األثر األرسطي يف النقد و البالغة العربيني إىل حدود القرن الثاين اهلجري‪،‬‬
‫منشورات كلية اآلداب و العلوم اإلنسانية‪ ،‬الرباط‪ ،‬ط‪.0000 ،0‬‬

‫‪ .88‬عباس اجلراري‪ :‬خطاب املنهج‪ .‬منشورات النادي اجلراري ‪ ،9‬الرباط‪ ،‬ط‪.1881 ،2‬‬

‫‪ .89‬عبد اإلله بلقزيز‪ :‬العرب واحلداثة‪،‬دراسة يف مقاالت احلداثيني‪،‬مركز دراسات الوحدة‬


‫العربية‪،‬بريوت‪،‬ط‪.3112 ،0‬‬

‫‪ .91‬عبد اجلليل بن حممد األزدي‪:‬أسئلة املنهج يف النقد العريب احلديث‪ ،‬املديرية اجلهوية لوزارة‬
‫الثقافة‪ ،‬مراكش‪ ،‬ط‪.2008 ،1‬‬

‫‪ .91‬عبد احلميد يونس‪ :‬األسس الفنية للنقد األديب‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.0058 ،0‬‬

‫‪ .92‬عبد الرزاق عيد‪ :‬طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية‪ ،‬رؤية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪.3118‬‬

‫‪ .93‬عبد الرزاق عيد‪ :‬طه حسني‪ ،‬العقل والدين‪ ،‬حبث يف مشكلة املنهج‪ ،‬مركز اإلمناء احلضاري‬
‫حلب‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪،0005 ،0‬‬

‫‪ .94‬عبد السالم الشاذيل‪ :‬األسس النظرية يف مناهج البحث األديب العريب احلديث‪،‬دار احلداثة‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.0080 ،0‬‬

‫‪ .95‬عبد السالم املسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب حنو بديل ألسين يف نقد األدب‪ ،‬الدار العربية‬
‫للكتاب‪.0022 ،‬‬

‫‪ .96‬عبد السالم املسدي‪ :‬ما وراء اللغة‪ ،‬حبث يف اخللفيات املعرفية‪ ،‬مؤسسات عبد الكرمي بن عبد‬
‫اهلل للنشر والتوزيع‪ ،‬تونس‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪.‬‬

‫‪ .97‬عبد السالم بن عبد العايل‪ :‬الرتاث و االختالف‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت ‪.0085‬‬

‫‪ .98‬عبد العزيز املقاحل‪ :‬عمالقة عند مطلع القرن‪ ،‬دار اآلداب بريوت‪ ،‬ط‪.0088 ،3‬‬

‫‪364‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .99‬عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا احملدبة‪ -‬من البنيوية إىل التفكيك‪ -‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة‬
‫والفنون واآلداب الكويت‪ ،0008 ،‬ع ‪.323‬‬

‫‪ .111‬عبد العزيز محودة ‪ :‬املرايا املقعرة‪ -‬حنو نظرية نقدية عربية‪ -‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة‬
‫والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،3110 ،‬ع ‪.323‬‬

‫‪ .111‬عبد العزيز شرف‪ :‬طه حسني و زوال اجملتمع التقليدي‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪.0022 ،‬‬

‫‪ .112‬عبد الفتاح كيليطو ‪ :‬األدب واالرتياب‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.3112،0‬‬

‫‪ .113‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬خلطيئة والتكفري‪،‬من البنيوية إىل التشرحيية‪ ،‬النادي األديب الثقايف‪،‬جدة‪،‬ط‪.0085 ،0‬‬

‫‪ .114‬عبد اجمليد حنون‪ :‬الالنسونية وأثرها يف رواد النقد العريب احلديث‪ ،‬اهليئة املصرية العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪.0002 ،‬‬

‫‪ .115‬عز الدين إمساعيل‪ :‬آفاق معرفية يف اإلبداع و النقد و األدب و الشعر‪ ،‬النادي األديب‬
‫الثقايف‪ ،‬جدة‪.3112 ،‬‬

‫‪ .116‬عز الدين إمساعيل‪ :‬األدب و فنونه دراسة و نقد‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.0028 ،2‬‬

‫‪ .117‬عز الدين األمني‪ :‬نشأة النقد األديب احلديث يف مصر‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬دط‪.‬‬

‫‪ .118‬علي أومليل‪ :‬سؤال الثقافة‪،‬الثقافة العربية يف عامل متحول‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪-‬بريوت‪ ،‬ط‪.3115 ،0‬‬

‫‪ .119‬علي حرب‪:‬التأويل واحلقيقة‪،‬قراءات تأويلية يف الثقافة العربية‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.0085 ،0‬‬

‫‪ .111‬علي حرب‪ :‬مداخالت‪ ،‬دار احلداثة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0085 ،0‬‬

‫‪ .111‬علي حرب‪ :‬نقد النص‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪-‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪. ،3115 ،2‬‬

‫‪365‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .112‬عماد حامت‪ :‬مدخل إىل تاريخ اآلداب األوربية ‪ -‬اآلداب األوربية حىت القرن التاسع عشر‪،-‬‬
‫الدار العربية للكتاب‪ ،‬ليبيا‪ ،‬تونس‪.0020 ،‬‬

‫‪ .113‬عمر مهيبل‪:‬البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر‪،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪،‬اجلزائر‪،‬ط‪.3101 ،2‬‬

‫‪ .114‬فاضل ثامر‪ :‬مدارات نقدية (يف إشكالية النقد و احلداثة و اإلبداع)‪ ،‬دار الشؤون الثقافية‬
‫العامة‪ ،‬العراق‪ ،‬ط‪.0082 ،0‬‬

‫‪ .115‬فؤاد أبو منصور‪ :‬النقد البنيوي احلديث بني أوربا و لبنان‪ ،‬نصوص ‪-‬مجاليات‪ ،‬تطلعات‪ ،‬دار‬
‫اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1891 ،1‬‬

‫‪ .116‬قدامة بن جعفر ‪ :‬نقد الشعر‪ ،‬تح عبد املنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬دت‪.‬‬

‫‪ .117‬كارلو نالينو‪ :‬تاريخ اآلداب العربية من اجلاهلية حىت عصر بين أمية‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫‪.0021‬‬

‫‪ .118‬ماجد السامرائي‪ :‬الثقافة واحلري‪ ،‬قراءة يف فكر طه حسني‪ ،‬األهايل للطباعة والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫ط‪.0002 ،0‬‬

‫‪ .119‬مالكم براد بري و جيمس ماكفارلن‪ :‬احلداثة ‪ ،‬دراسات مشرتكة‪ ،‬تر‪ :‬مؤيد حسن فوزي‪،‬‬
‫دار املأمون للرتمجة والنشر‪ ،‬بغداد ‪.0082‬‬

‫‪ .121‬حممد أركون‪ :‬قضايا يف نقل العقل الديين‪ ،‬كيف نفهم اإلسالم اليوم‪ ،‬تر‪ :‬هاشم صاحل‪ ،‬دار‬
‫الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.3111 ،3‬‬

‫‪ .121‬حممد الدغمومي‪ :‬نقد النقد و تنظري النقد العريب املعاصر‪ ،‬منشورات كلية اآلداب‪ ،‬الرباط‪،‬‬
‫مطبعة النجاح اجلديدة‪ ،‬ط‪.0000 ،0‬‬

‫‪ .122‬حممد برادة‪ :‬حممد مندور وتنظري النقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬الدار البيضاء ‪.1891‬‬

‫‪366‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .123‬حممد برادة‪ :‬مفهوم احلداثة عند طه حسني من خالل كتايب حافظ و شوقي و حديث‬
‫األربعاء‪ -‬دراسات مغربية يف الفلسفة و الرتاث الفكري العريب احلديث‪ -‬املركز الثقايف العريب‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪.0085 ،‬‬

‫‪ .124‬حممد سامل سعد اهلل‪ :‬ما وراء النص‪ :‬دراسات يف النقد املعريف املعاصر‪ ،12‬عامل الكتب‬
‫احلديث‪ ،‬إربد‪.‬األردن‪ ،‬ط‪.3118 ،0‬‬

‫‪ .125‬حممد عابد اجلابري‪ :‬إشكاليات الفكر العريب املعاصر‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪.3115 ،5‬‬

‫‪ .126‬حممد عابد اجلابري‪ :‬الرتاث واحلداثة‪ ،‬دراسات ومناقشات‪،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.3112 ،2‬‬

‫‪ .127‬حممد عابد اجلابري‪ :‬حنن والرتاث‪ -‬قراءات معاصرة يف تراثنا الفلسفي‪ -‬املركز الثقايف العريب‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.0082 ،0‬‬

‫‪ .128‬حممد عزام‪ :‬األسلوبية منهجا نقديا‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة ‪ ،‬دمشق‪.0080 ،‬‬

‫‪ .129‬حممد عناين ‪ :‬املصطلحات األدبية احلديثة‪ ،‬دراسة ومعجم إجنليزي عريب‪ ،‬الشركة املصرية‬
‫العاملية للنشر لوجنمان‪ ،‬القاهرة‪.0002 ،‬‬

‫‪ .131‬حممد غنيمي هالل‪ :‬األدب املقارن‪ ،‬دار النهضة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،2‬دت‪.‬‬

‫‪ .131‬حممد غنيمي هالل‪ :‬قضايا معاصرة يف األدب والنقد‪ ،‬دار هنضة مصر للطبع والنشر‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪.‬‬

‫‪ .132‬حممد غنيمي هالل‪ :‬النقد األديب احلديث‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪.0022 ،‬‬

‫ط‪.2‬‬ ‫‪ .133‬حممد مندور‪ :‬يف امليزان اجلديد‪ ،‬مكتبة مطبعة هنضة مصر‪ ،‬القاهرة‪،‬‬

‫‪ .134‬مصطفى عبد الغين‪ :‬حتوالت طه حسني‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪،0001 ،‬‬

‫‪367‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .135‬حممد يوسف جنم‪ :‬نظرية النقد والفنون واملذاهب األدبية يف األدب العريب احلديث‪ -‬مقدمة‬
‫ودليل ‪ -‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0085 ،3‬‬

‫‪ .136‬ناصر الدين األسد‪ :‬مصادر الشعر اجلاهلي و قيمتها التارخيية‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪.0028 ،5‬‬

‫‪ .137‬نبيل سليمان‪ :‬مسامهة يف نقد النقد األديب‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1891 ،1‬‬

‫‪ .138‬نصر حامد أبو زيد‪:‬إشكاليات القراءة وآليات التأويل‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬ط‪.0003 ،0‬‬

‫‪ .139‬نصر حامد أبو زيد‪ :‬إشكاليات القراءة وآليات التأويل‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪-‬‬
‫بريوت‪،‬ط‪.0002 ،2‬‬

‫‪ .141‬هانز جيورج غادمري‪ :‬احلقيقة و املنهج‪ ،‬اخلطوط األساسية لتأويلية فلسفية‪ .‬تر‪ :‬حسن ناظم‪،‬‬
‫علي حاكم صاحل‪ ،‬راجعه عن األملانية‪ :‬جورج كثورة‪ ،‬دار أويا للطباعة‪ ،‬اجلماهريية العظمى‪،‬‬
‫طرابلس‪ ،‬ط‪.3112 ،0‬‬

‫‪ .141‬هانز جيورج غادمري‪ :‬جتلي اجلميل‪ ،‬تر‪ :‬سعيد توفيق ‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪،‬مصر‪.‬‬

‫‪ .142‬يوسف أبو العدوس‪ :‬األسلوبية‪-‬الرؤية و التطبيق‪ ،-‬دار امليسرة‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪.3112 ،0‬‬

‫‪ .143‬يوسف اخلال‪ :‬احلداثة يف الشعر‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.0028 ،0‬‬

‫‪ .144‬يوسف اخلال‪ :‬حنن و العامل احلديث‪ ،‬احلداثة يف الشعر‪ ،‬بريوت‪.0028 ،‬‬

‫‪ .145‬يوسف اليوسف‪ :‬مقاالت يف الشعر اجلاهلي‪،‬دار احلقائق للطباعة والنشر‪،‬بريوت‪،‬ط‪.0081 ،3‬‬

‫اجملالت و الدوريات ‪:‬‬

‫‪ .146‬جملة أفق املغرب‪ ،0002 ،‬السنة ‪ ،2‬ع‪.0‬‬

‫‪ .147‬جملة كتابات معاصرة‪ ،‬بريوت‪ ،‬حزيران ‪ ، 0002‬مج‪ ، 5‬ع ‪.08‬‬

‫‪368‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪ .148‬جملة الكرمل‪ ،‬ع ‪.0082 ،0‬‬

‫‪ .149‬جملة فصول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬أكتوبر ‪،.0081‬مج ‪ ،0‬ع‪.0‬‬

‫‪ .151‬جملة احلياة الثقافية‪ ،‬تونس‪ ،0088 ،‬العددان ‪.20،28‬‬

‫‪ .151‬جملة نزوى‪ ،‬مسقط‪ ،‬عمان‪ ،‬أفريل ‪،3110‬ع‪.32‬‬

‫‪ .152‬جملة فصول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مج‪ ،2‬ع‪.0082 ،2‬‬

‫‪ .153‬جملة اللغة و األدب‪ ،‬جامعة اجلزائر‪ ،‬ع‪.0002 ،15‬‬

‫‪ .154‬عامل الفكر‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬مج‪ ، 00‬ع ‪.2‬‬

‫‪ .155‬جملة الكرمل‪ ،‬ع‪.0080 ،3‬‬

‫‪ .156‬عالمات يف النقد‪ ،‬جدة‪ ،‬يونيو‪ ،3115 ،‬ج‪ ،52‬م‪.02‬‬

‫‪ .157‬جملة عامل الفكر‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬مج‪ ،32‬ع‪ ،0‬أكتوبر‪،‬‬
‫ديسمرب‪.0002 ،‬‬

‫‪ .158‬عالمات ‪ ،‬جملة فصلية ثقافية‪ ،‬مكناس‪ ،‬ع‪.0002 ،2‬‬

‫‪ .159‬جملة فصول القاهرة ‪ ، 0082،‬ع‪.2‬‬

‫املراجع باللغة األجنبية‪:‬‬

‫‪160.‬‬ ‫‪H.G.Gadamer:Vérité et méthode , Ed.seuil- 2eme 2dition 1976‬‬

‫‪161.‬‬ ‫‪U.Eco Les limites de l'interprétation, Traduit de l'Italien par Myriem‬‬

‫‪Bouzaher. Bernard Grasset.1992.‬‬

‫‪162. W.Iser: l'acte de lecture, traduit de l'allemand par .Evelyneszncer, Ed‬‬


‫‪Pierre mardaga 1985.‬‬

‫‪369‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫‪u‬‬
‫‪02‬‬ ‫‪................................................................................................................ ....................‬‬ ‫مقدمة‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني‬
‫الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬
‫‪19‬‬ ‫‪.................................................................................................................‬‬ ‫‪ .1‬مرحلة البدايات‬
‫‪11‬‬ ‫‪.......................................................................................................‬‬ ‫‪ .1.1‬يف الريف املصري‬
‫‪11‬‬ ‫‪ .1.1‬يف األزهر ‪............................................................................................ .......................‬‬

‫‪11‬‬ ‫‪ .1.1‬يف اجلامعة ‪..................................................................................................................‬‬

‫‪11‬‬ ‫‪ .1.1‬يف السوربون ‪............................................................................................................. .‬‬

‫‪19‬‬ ‫‪............................................................................................‬‬ ‫‪ .1‬طه حسني و املرجعية الليربالية‬


‫‪15‬‬ ‫‪ .1‬آثار طه حسني ‪.................................................................................................................‬‬

‫الفصل الثاني ‪ :‬طه حسني و مرحلة تأسيس الكتابة النقدية‬


‫‪59‬‬ ‫‪ .1‬طه حسني و املنهج التارخيي ‪.............................................................................................‬‬

‫‪57‬‬ ‫‪ .1‬منهج املرصفي ‪..................................................................................................................‬‬

‫‪57‬‬ ‫‪ .1‬املنهج احلديث ‪..................................................................................................................‬‬

‫‪58‬‬ ‫‪ .1‬فاعلية املنهجني ‪.................................................................................................................‬‬

‫‪59‬‬ ‫‪................................................................‬‬ ‫‪ .5‬املنهج التارخيي يف كتاب جتديد ذكرى أيب العالء‬


‫‪61‬‬ ‫‪ .6‬احلتمية التارخيية ‪.................................................................................................................‬‬

‫‪79‬‬ ‫‪ .7‬البحث عن املنهج (حديث األربعاء) ‪..................................................................................‬‬

‫‪79‬‬ ‫‪............................................................................‬‬‫‪ .1.7‬من اجلرب التارخيي إىل احلرية الفردية‬


‫‪71‬‬ ‫‪ .1.7‬آلية اشتغال املنهج ‪.....................................................................................................‬‬

‫‪71‬‬ ‫‪ .1.7‬قوانني ابن خلدون الفلسفية ‪........................................................................................‬‬

‫‪81‬‬ ‫‪ .8‬خيارات املمارسة املنهجية يف حديث األربعاء ‪......................................................................‬‬

‫‪370‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬إشكالية قراءة الرتاث الشعري عند طه حسني‬


‫‪91‬‬ ‫‪ .1‬من املقايسة إىل املماثلة ‪......................................................................................................‬‬

‫‪97‬‬ ‫‪ .1‬حضور املؤثر الغريب ‪...........................................................................................................‬‬

‫‪191‬‬ ‫‪.........................................................................‬‬‫‪ .1‬قراءة النص الشعري ‪ ،‬الشروط و الضوابط‬


‫‪197‬‬ ‫‪ .1‬طه حسني و املسألة اهلومريية ‪.............................................................................................‬‬

‫‪199‬‬ ‫‪ .5‬طه حسني و اسرتاتيجية القراءة املقارنة ‪..............................................................................‬‬

‫‪119‬‬ ‫‪.................................................................................‬‬ ‫‪ .6‬إشكالية قراءة النص الشعري اجلاهلي‬


‫‪111‬‬ ‫‪ .7‬آلية الشك الديكاريت و التاريخ األديب ‪................................................................................‬‬

‫‪111‬‬ ‫‪ .8‬النص الشعري اجلاهلي ‪ :‬نبش األصول ‪...............................................................................‬‬

‫‪116‬‬ ‫‪ .9‬ديكارت و طه حسني ‪ ،‬رؤيتان و عاملان ‪............................................................................‬‬

‫الباب الثاني ‪ :‬شكري عياد احللقة النقدية الواصلة‬


‫الفصل األول ‪ :‬اخللفيات املعرفية – مرحلة البدايات‬
‫‪151‬‬ ‫‪ .1‬يف تأسيس الوعي النقدي ‪...................................................................................................‬‬

‫‪158‬‬ ‫‪................................................................................... ................‬‬‫‪ .1‬االجتاهات األدبية احلديثة‬


‫‪161‬‬ ‫‪ .1‬سؤال النقد ‪ ،‬سؤال النظرية عند عياد ‪................................................................................‬‬

‫‪169‬‬ ‫‪ .1‬قضايا تراثية يف الفكر النقدي عند عياد ‪..............................................................................‬‬

‫‪169‬‬ ‫‪ .1.1‬كيفيات قراءة الرتاث ‪.................................................................................................‬‬

‫‪171‬‬ ‫‪...............................................................................‬‬ ‫‪ .1.1‬التأثري األرسطي يف البالغة العربية‬


‫‪181‬‬ ‫‪ .5‬مكانة شكري عياد النقدية ‪.................................................................................................‬‬

‫‪187‬‬ ‫‪ .6‬شكري عياد و معضلة التأصيل النقدي ‪...............................................................................‬‬

‫الفصل الثاني ‪ :‬بني البالغة العربية و األسلوبيات احلديثة‬


‫‪198‬‬ ‫توطئة‬
‫‪.....................................................................................................................................‬‬

‫‪199‬‬ ‫‪ .1‬املشروع األسلويب عند عياد ‪...............................................................................................‬‬

‫‪199‬‬ ‫‪ .1.1‬إشكالية استقبال األسلوبية يف النقد العريب احلديث ‪.......................................................‬‬

‫‪191‬‬ ‫‪..................................................................................‬‬ ‫‪ .1.1‬معطيات شكري عياد األسلوبية‬


‫‪198‬‬ ‫‪ .1‬شكري عياد و معضلة التأصيل ألسلوبية عربية ‪....................................................................‬‬

‫‪111‬‬ ‫‪ .1‬مباحث األسلوب يف الرتاث العريب ‪.....................................................................................‬‬

‫‪115‬‬ ‫‪.......................................................................................‬‬ ‫‪ .1‬شكري عياد و حماوالت التجديد‬

‫‪371‬‬
‫الباب األول ‪ :‬اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول ‪ :‬مرجعيات القراءة عند طه حسني‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬شكري عياد و حداثة اخلطاب النقدي‬


‫‪116‬‬ ‫‪ .1‬املنهج النقدي و إشكالية التوظيف ‪.....................................................................................‬‬

‫‪117‬‬ ‫‪ .1‬املنهج و اخلصوصية احلضارية ‪............................................................................................‬‬

‫‪119‬‬ ‫‪...............................................................................‬‬ ‫‪ .1‬موقف شكري عياد من احلداثة الغربية‬


‫‪117‬‬ ‫‪ .1‬أزمة احلداثة العربية ‪...........................................................................................................‬‬

‫‪161‬‬ ‫‪ .5‬حنو مشروع تأسيس حداثة عربية ‪.......................................................................................‬‬

‫‪165‬‬ ‫‪....................................................................................................‬‬ ‫‪ .6‬موقفه من احلداثة العربية‬


‫‪168‬‬ ‫‪ .7‬كيف يكون النقد علما ‪.....................................................................................................‬‬

‫‪171‬‬ ‫‪ .8‬مفهوم الذوق ‪....................................................................................................................‬‬

‫الباب الثالث ‪ :‬أامة املنهج ‪:‬ي اخلطاب النقدي عند جابر عصفور‬
‫الفصل األول ‪ :‬خطاب احلداثة عند جابر عصفور‬
‫‪179‬‬ ‫‪ .1‬يف مفهوم احلداثة‬
‫‪...............................................................................................................‬‬

‫‪181‬‬ ‫‪ .1‬احلداثة ‪ :‬سرية ميالد و سياق تطور ‪....................................................................................‬‬

‫‪187‬‬ ‫‪...........................................................................‬‬ ‫‪ .1‬رهانات احلداثة العربية عند جابر عصفور‬


‫‪189‬‬ ‫‪ .1‬جدلية األنا و اآلخر يف الوعي العريب املعاصر ‪......................................................................‬‬

‫‪196‬‬ ‫‪ .5‬احلداثة العربية و املرجعيات املستعارة ‪.................................................................................‬‬

‫الفصل الثاني ‪ :‬قراءة الرتاث النقدي عند جابر عصفور‬


‫‪119‬‬ ‫‪ .1‬قراءة الرتاث ‪ :‬حنو تأصيل املفهوم ‪......................................................................................‬‬

‫‪115‬‬ ‫‪ .1‬القراءة التأويلية بديال ‪.........................................................................................................‬‬

‫‪111‬‬ ‫‪ .1‬نظرية الشعر من املاهية إىل املهمة ‪.......................................................................................‬‬

‫‪119‬‬ ‫‪ .1‬النص الشعري الرتاثي بني الوظيفة و اجلمالية‬


‫‪......................................................................‬‬

‫‪111‬‬ ‫‪ .5‬تارخيية النص الرتاثي ‪..........................................................................................................‬‬

‫‪117‬‬ ‫‪ .6‬الرتاث كيف نقرأه ‪..................................................................................................... .......‬‬

‫‪118‬‬ ‫خامتة ‪......................................................................................................................................‬‬

‫‪151‬‬ ‫‪.........................................................................................................................‬‬ ‫فهرس األعالم‬


‫‪169‬‬ ‫بيبليوغرافيا البحث ‪..................................................................................................................‬‬

‫‪171‬‬ ‫الفهرس ‪..................................................................................................................................‬‬

‫‪372‬‬

You might also like