Professional Documents
Culture Documents
Le رشيد بلعيفة
Le رشيد بلعيفة
السنة اجلامعية
3102/3102
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
E
نسج حلمة هذا البحث وسداه نزوع حنو مساءلة اخلطاب النقدي العريب احلديث واملعاصر،
وهو إذ يروم تتبع أهم احملطات املعرفية اليت شهدهتا الساحة النقدية العربية ،فهو كذلك يتحسس
مفاصل العملية النقدية العربية ،ويبحث يف مكامن اخللل الذي أصاب هذه املنظومة املعرفية .فلقد
شهدت الساحة النقدية العربية احلديثة واملعاصرة ،أعىت موجات املد النقدي العاملي ،وكان من نتائج
هذا التنوع الكبري الذي عرفته الساحة النقدية ،أن حصل نوع من الصدام على مستوى الفكر وعلى
مستوى املنهج وكذلك على مستوى املصطلح النقدي ،واتسمت هذه احلركة النقدية حبالة من األخذ
والرد ،مما أسس حلوار ثقايف أو معريف حول البحث عن خطاب عريب أصيل ،ميتح من موروثه الفكري
والنقدي والبالغي ،ويساير يف الوقت ذاته مستجدات الراهن ،األمر الذي جنم عنه تعدد واضح يف
احلركات النقدية املعاصرة ،بني حمافظ على تراثه -إال ما متتع منه بالتجدد -وحمدث متطلع للوافد من
نشط ذلك احلوار املشهدي للنقد العريب احلديث واملعاصر ،وأسهم يف
احلضارة الغربية ،الشيء الذي ّ
طرح مجلة من اإلشكاليات املعرفية ،لعل أمهها السعي حنو تأسيس نظرية نقدية عربية حديثة ،تستمد
قوانينها وأصوهلا من الرتاث النقدي العريب ،وتشتغل يف الوقت نفسه مبختلف النظريات املعرفية اليت
وفرهتا مجلة االجتاهات النقدية الغربية ،مما جعل تأصيل خطاب نقدي عريب متميز ،أمرا يف غاية
2
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الصعوبة ،ويرقى إىل حكم املتعذر ،مما أدى إىل مزالق خطرية شهدهتا الساحة النقدية الثقافية،
وخباصة تلك املتعلقة باملفهوم اخلاطئ للحداثة عند بعض النقاد واملفكرين العرب ،أما عند البعض
اآلخر فإن مفهوم احلداثة عندهم يتأسس على مبدأ الوعي بالرتاث ،وبالتايل فإن أحباثهم انصبت
حول تأصيل أو تأسيس خطاب نقدي عريب حداثي متجذر يف الثقافة العربية ،ويف الوقت نفسه
يتغذى من الروافد املعرفية العربية.
إن املوضوع الذي يروم البحث خوض غماره ،يتمحور أساسا حول جدلية التأصيل والتحديث
يف اخلطاب النقدي العريب احلديث ،انطالقا من واقع احلوار الثقايف العريب الذي أنتج مجلة من
الدراسات املنهجية يف هذا اجملال ،وتثري مجلة التساؤالت املعرفية تساؤالت منهجية هامة ،ألن األزمة
املعرفية هي أزمة منهجية بشكل من األشكال ،وألن احلركة النقدية العربية احلديثة سعت إىل حتديث
اخلطاب النقدي ،دون مراعاة يف الكثري من األحيان ،النتاج األديب الضخم الذي يعرب عن واقع مجايل
جتاوز حدود النظرية .وسيسعى البحث أيضا إىل مناقشة حالة الشرخ اليت أصابت املنظومة الثقافية
العربية ،من خالل منوذجني استحكما أصول اخللل داخل هذه املنظومة ،ومن مث أوقعا النظرية يف
حالة من البلبلة واالضطراب ،ومها منوذج العرض ومنوذج التعريض ،مما حدا بيوسف اخلال إىل القول
بني قضايا عامل قدمي وقضايا عامل حديث ،أجدين أعاين إشكالية خطرية بني تداخل إشكاليات عامل
قدمي داخل إشكاليات عامل حديث ،أو كما يذهب اجلابري إىل أن العرب يوجدون يف املاضي ،هذا
املاضي املسكون داخلهم.
هكذا انسحب الصراع بني القدمي واجلديد ،ليوجد حالة من البلبلة واالضطراب ،أو يوجد حالة
من العماء كما يقول بريس ،حني نفقد الرؤية فإننا النرى األشياء على حقائقها كاملة ،هذا الوضع
اإلشكايل يقودنا حقيقة إىل رسم مسارات خاصة نفك معها االرتباطات اإلشكالية ،أو أن نفصل
االرتباطات املتشاكلة يف حلظة تعيني اإلشكالية اليت مت فيها االلتحام بني عناصر اإلشكال كما
يذهب إىل ذلك نصر حامد أبو زيد.
3
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
وتأسيسا على ما مت ،يتحتم على البحث تعيني اجملال املعريف الذي سيقارب داخله إشكاليته،
باعتبار العينة اليت ستقتصر على البحث يف النظرية النقدية العربية احلديثة ،ويعني اللحظات اليت
اصطنعت فيها األزمة ،ليفك االرتباط بني عناصرها ،مما مي ّكنه من تشكيل بنية قلقة داخل هذا البناء،
هذه البنية اليت سيدرس البحث من خالهلا بدقة ،التحوالت النامجة عن الرتاكم املعريف الذي ترسب
يف شكل طبقات متشاكلة ،ليفصل املكرور عن القارئ ،أو يضع حواجز متنعنا الوقوع يف متنعات
هذه البىن املرتاكمة ،ألن البحث سيصطدم بداهة بصرح تراثي ترسب خالل حقب زمنية متباعدة،
وسيتفادى البحث تلك القراءة التلفيقية ،اليت ال تدفع بالعملية القرائية إىل آماهلا املبتغاة ،وسينأى
بنفسه عن إصدار تلك األحكام الناجزة اجلاهزة اليت تقع يف الكثري من األحيان يف مطب املعيارية
والتقييمية ،على اعتبار أن العينة اليت غامر البحث بدراستها عينة شاسعة ومرتامية األطراف ،مما حتم
عليه السعي حنو ضبط هذه الشساعة عرب هيكلية تنظيمية قوامها الطرح املنهجي ملختلف الطروحات
النظرية واملمارسات التطبيقية اليت هنض البحث مبعاينتها.
وقد مت اصطفاء هذه املدونة ممثلة يف مجلة من املشاريع النقدية احلديثة واملعاصرة ،ليصنع البحث
لنفسه إطارا معرفيا يقارب من خالله هذه املتون النقدية ،علما أنه يسعى من خالهلا لرسم صريورة
العملية النقدية العربية احلديثة واملعاصرة ،وقد متت عملية االصطفاء على مدونة الدكتور طه حسين
النقدية مرورا بإسهامات الدكتور شكري محمد عياد وانتهاء جبهود الدكتور جابر عصفور ،غري أن
- عملية اختيار هذه املشاريع النقدية ،إمنا متت من منطلق فاعلية التأثري اليت مارسها طه حسين
باعتباره ممثال لتوجه نقدي عريب حديث ش ّكل ما ميكن اعتباره مدرسة نقدية -يف جيل النقاد العرب
املعاصرين من جهة ،ومن جهة أخرى ألن هذه املشاريع متثل سلسلة نقدية ترجع يف أصل منها إىل
مدرسة طه حسين النقدية.
وسينتهج البحث إجراءات نقد النقد ،ونظريات القراءة مبا توفره من أدوات حتدد جماالت
التحليل والدراسة ،دون أن يسعى البحث إىل تنب واضح ومسبق ملنهج من املناهج ،ومعىن هذا أن
4
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
املنهج مبعىن املقاربة الفكرية أو اإلبستمولوجية مبا حتمله من فرضيات مل يؤخذ بعني االعتبار ،لكن
املنهج مبعىن مجلة اآلليات اإلجرائية كانت حمل اهتمام البحث.
واستتباعا هلذا تتضح إشكالية البحث على النحو اآليت :هل هناك نظرية نقدية عربية؟ ماهي
أهم اإلشكاليات اليت تطرحها النظرية النقدية؟ هل استوعب العرب إشكاليات وتساؤالت النظرية
النقدية العربية احلديثة؟ أين اخللل؟ هل بطرحنا هذا نصطنع األزمة أم أن هناك أزمة نظرية فعلية؟
ماهو الدور النقدي الذي اضطلع به طه حسين يف املسرية النقدية العربية احلديثة؟ ماهي املبادئ
النظرية اليت ارتكز عليها طه حسين؟ وهل هناك رابط معريف بني الرتاث النقدي العريب والنظريات
الغربية؟ وما مدى إسهامات الدكتور شكري عياد يف العملية النقدية العربية احلديثة؟ وكيف استطاع
أن ميزج بني مقوالت البالغة العربية القدمية وإجنازات األسلوبيات احلديثة؟ وما هي أهم جهوده
النقدية يف جمال األسلوبية؟ أال ميثل شكري عياد حلقة نقدية واصلة بني جمرى العملية النقدية ممثلة
يف أعمال طه حسين ومرسى هذه العملية كما عند جابر عصفور؟ ما موقفه من احلداثيني العرب؟
أين يتموقع جابر عصفور على خارطة النقد العريب املعاصر؟ ما مدى حضور احلداثة النقدية يف
خطابه النقدي؟ ماهي إسهاماته النظرية والتطبيقية على املدونات الرتاثية؟ وكيف قرأ جابر عصفور
الرتاث؟ هل من داخل املنظومة الرتاثية أم مبا أسعفته به احلضارة الغربية؟
متثل هذه التساؤالت وغريها مادة جوهرية يقوم البحث لإلجابة عنها وبسطها ،دون أن يدعي
امتالك احلقيقة النقدية كاملة ،ولكن حياول البحث أن يبقي على مجلة من األبواب مشرعة ،ليتم
احلفر من خالهلا يف خمتلف األنساق الثقافية واملعرفية اليت تروم سرب كنه هذه القضايا واإلشكاليات.
وبناء على ذلك ،سعى البحث إىل تشخيص هذه التساؤالت واإلشكاالت من خالل ممارسات
عينية ملموسة افرتضت أدوات منهجية تارخيية واجتماعية ،ومرتكزة على أدوات نقد النقد ،األمر
الذي جعل البحث يتوزع إىل ثالثة أبواب ،مص ّدرا مبقدمة ومتبوعا خبامتة.
5
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
انبىن الباب األول – وعنوانه ،اخلطاب النقدي عند طه حسين -على ثالثة فصول ،اهتم أوهلا
باملرجعيات القرائية لطه حسين ،إذ توزعت هذه املرجعيات بني مرجعيات تراثية ،وأخرى حديثة،
وآخرها ليربالية ،ليختم الفصل بأهم مدونات طه حسين النقدية ،وانكب الفصل الثاين على تتبع
أهم األعمال النقدية لطه حسين يف مرحلة البدايات ،ممثلة يف اتباعه سبيل املنهج التارخيي يف قراءته
ملختلف املدونات الرتاثية ،كدراسته أليب العالء ،وفلسفة ابن خلدون .لينهض الفصل الثالث على
حتسس مفاصل العملية النقدية عند الرجل يف قراءته للشعر اجلاهلي ،وانتهاجه منهج الشك
الديكاريت سبيال للوصول إىل احلقيقة.
أما الباب الثاين فقد اشتغل على إبراز فاعلية اجلهود النقدية للدكتور شكري حممد عياد ومحل
العنوان اآليت :شكري عياد ،احللقة النقدية الواصلة .وارتكز على ثالثة فصول عملت على إضاءة
املشروع النقدي عند الرجل ،فدرس الفصل األول اخللفيات املعرفية اليت صاغت املشروع النقدي
عنده ،وتابع الفصل الثاين مباحث املوائمة بني البالغة العربية القدمية واألسلوبيات احلديثة ،ووقف
البحث عند النقاط املضيئة اليت ميزت املسرية النقدية لعياد ،مث متحور الفصل الثالث حول أهم
املواقف النقدية لعياد ممثلة يف مناهضته للحداثيني العرب ،وكذا تبيان موقفه العام من احلداثة العربية،
ومشروعه يف تأسيس حداثة عربية.
وكان الباب الثالث الذي محل عنوان أزمة املنهج يف اخلطاب النقدي عند جابر عصفور،
وتوزع على فصلني ،أبرز أوهلما خطاب احلداثة عند جابر عصفور ،وتتبع جممل القضايا النقدية
احلداثية اليت حبثها عصفور ،إضافة إىل الوقوف عند أهم املواقف النقدية احلداثية اليت انربى عصفور
للذود عنها .وتابع الفصل الثاين املهمة لكن انشغل هده املرة بكيفيات قراءة الرتاث النقدي عند
جابر عصفور ،وسعى إىل معاينة أهم السبل اليت انتهجها عصفور يف قراءته للرتاث النقدي ،مث
حتسس وشائج التضام اليت عملت على نسج تلك اللحمة بني أعماله الرتاثية.
6
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
مث كانت اخلامتة اليت صاغت جممل االستخالصان والنتائج اليت وصل البحث إليها ،دون أن
ت ّدعي أهنا الكلمة الفصل ،يف حبث حيتاج إىل دراسات أخرى تدفع إىل بلوغ غايات خمتلفة ملا توصل
إليه هذا البحث.
وقد استعان البحث جبملة من املصادر واملراجع اليت أضاءت سبيله مبا أتاحته من مادة معرفية
مرتاكمة ،ومتشعبة ،فإضافة إىل أهم املتون النقدية لكل من طه حسين وشكري عياد وجابر
عصفور ،واليت شكلت املصادر األساسية للبحث ،إضافة إىل هذا ،فقد عمل البحث على اإلفادة
من بعض املؤلفات النقدية اليت ال تقل أمهيتها املعرفية عن مادة املصادر األساسية ،كمؤلفات الدكتور
عبد العزيز محودة ،املرايا احملدبة واملرايا املقعرة ،إضافة إىل مؤلفات أدونيس ،وصالح فضل ،وسيد
البحراوي ،وعبد الرزاق عيد وغريهم ،مما أفاد البحث من طروحاهتم النظرية والتطبيقية.
هذا وإن كان ال خيلو أي حبث من متاعب وصعوبات تعرتض سبيله ،فإن معاناة هذا البحث
إمنا مردها إىل سعة املدونة النقدية اليت اشتغل البحث عليها ،وتشعب مسالك الدراسة يف منازعها
النقدية ،أضف إىل ذلك ،أن هذه السعة وهذا التشعب ،خيلقان نوعا من عدم االطمئنان واالرتياح
جلملة النتائج اليت سيصلها البحث وذلك لكثرة الدراسات اليت تناولت هذه القضايا – وإن كانت
مغايرة يف طرحها ويف نتائجها ملا سلكه هذا البحث -خمافة احلراثة يف املاء ،فقد حظي طه حسين
بكم هائل من الدراسات والبحوث حول مشروعه النقدي والثقايف واحلضاري ،مما جيعل أية مثال ّ
جماوزة هلذه البحوث جمازفة ال تؤمتن عواقبها ،فضال عن السقوط يف فخ التكرار والتسطيح .غري أن
عزاء الباحث هو هذا اجلهد املتواضع ،وهو جهد املقل الذي يطمح إىل أن يضيف هذا البحث لبنة
أخرى يف صرح النقد واملعرفة ،وحسبه احملاولة املخلصة واهلادفة إىل تقدمي اإلضافة املمكنة.
وأخريا ال يسعين يف هذا املقام الكرمي ،إال أن أتقدم بأمسى عبارات التقدير والتبجيل واالحرتام
إىل أستاذي املشرف على هذا العمل األستاذ الدكتور يوسف األطرش ،الذي سعدت بإشرافه العلمي
الصارم على جزئيات هذا البحث ،وعلى حرصه واهتمامه البالغني إلجنازه يف أحسن حلة ،وأهبى
7
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
طلعة .وعلى مالحظاته الدقيقة يف تقومي هذا البحث .فله مين خالص التقدير واالمتنان وجازاه اهلل
عين خري اجلزاء على صربه معي وصربه علي.
8
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
9
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
10
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.1مرحلة البدايات:
ينهض هذا القسم من الدراسة على إبراز خمتلف املرجعيات املعرفية اليت صاغت املشروع
النقدي لطه حسين ،1إذ من املفيد الوقوف بنوع من التحليل والتتبع لصريورة هذه املصبات الفكرية
اليت أسهمت يف تكوين عقل الرجل ،ويف رأيي أهنا نزعت منزعني اثنني .تفرع عنهما فيما بعد
تشربه طه حسين يف مرحلة البدايات
مصبات أخرى فرعية ،أقصد بالنوع األول التكوين الرتاثي الذي ّ
من تعليمه باألزهر واختالفه على حلقات البحث اليت كانت تعقد من قبل شيوخ املساجد ،وأما
النوع الثاين وهو األهم يف نظره وهو مزاولة الدراسة باجلامعة من قبل جمموعة من األساتذة
املستشرقني الذين رمسوا معامل الطريق النقدية يف توجهه فيما بعد ،والشك أن هذين الرافدين املهمني
مها اللذان رمسا شخصية طه حسين النقدية يف خمتلف مؤلفاته فيما بعد.
1ولد طه حسني يف الرابع عشر من شهر نوفمرب عام 0880بقرية تعرف باسم ( عزبة الكيلو) قرب مدينة (مغاغة) يف حمافظة
املنيا بصعيد مصر ،أصابه الرمد يف سن مبكرة ففقد بصره إثر ذلك ،ومل متنعه عاهته من حفظ القرآن الكرمي ومل يبلغ التاسعة
من عمره ،مث انتسب إىل األزهر عام 0013الذي كان يعده يف بداية األمر منبع العلم واملعرفة ،وكانت أمنيته أن يصبح عاملا
أزهريا ،مث مالبث أن تربم بطرقه العتيقة البالية يف نظره.وسيأيت يف البحث ذكر أهم احملطات املعرفية اليت ارتادها.
11
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
أما املرجعية األوىل فهي اليت بصمت طه حسين ببصمتها األولية يف كيفية قراءة املوروث
اإلبداعي العريب ،ممثلة يف دروس الشيخ المرصفي وهي القراءة الرتاثية لتلك اآلثار اإلبداعية املقررة
على الطلبة باألزهر آنذاك ،وهي القراءة املسؤولة عن استكناه اجلوانب النحوية والبالغية قصد بلوغ
املنحى اجلمايل يف النص اإلبداعي القدمي ،ويعرتف طه حسين بفاعلية تلك القراءة يف صقل املوهبة
النقدية للقارئ معلنا يف مقدمة كتابه "جتديد ذكرى أيب العالء" "أستاذنا اجلليل سيد بن علي
املرصفي أصح من عرفت مبصر فقها يف اللغة وأسلمهم ذوقا يف النقد ،وأصدقهم رأيا يف األدب،
وأكثرهم رواية للشعر والسيما شعر اجلاهلية وصدر اإلسالم 1".هو اعرتاف وإقرار مبدى سعة عقل
هذا الرجل ومكانته الفكرية واألدبية يف األوساط األزهرية قبل أن ينتقل الطالب إىل الدراسة باجلامعة.
وحيدد طه حسين حداثة سنه يف اختالفه إىل دروس الشيخ إذ يقول ":كان يدرس األدب يف األزهر
الشريف ،وبدأت أختلف إليه وملا أعد السادسة عشرة ،فلزمته أربع سنني ما أذكر أين انقطعت عن
درسه ،أو ختلفت عن جملسه".2
ترسم تلك الدروس صورة ناصعة للشيخ يف ذهن الطالب ،وتصوغه على مثاهلا يف النقد
والقراءة ،واإلحاطة بعلوم اللغة والدين فيكاد يكون الطالب صورة أخرى ألستاذه كيف ال وهو ال
يفارق جملسه لإلملام مبا جادت به قرحية الشيخ من شىت املعارف والعلوم ويتطور ذلك االهتمام
ليصبح كلفا بالشيخ وحبا لدروسه يقول طه حسين" :حب األستاذ ودرسه قد أثر يف نفسي تأثريا
3
كونا هلا يف األدب والنقد ذوقا على مثال ذوقه"
شديدا ،فصاغاها على مثاله ،و ّ
أما املرجعية األخرى اليت أسهمت يف بلورة الوعي النقدي عند الرجل فهي القراءة احلديثة
للنص اإلبداعي القدمي ،اليت تلقاها على أيدي مجلة من األساتذة املستشرقني ،يأيت يف طليعتهم
املستشرق اإليطايل كارلو نالينو ( )CARLO Nallinoالذي بصم التلميذ ببصمته يف كيفية قراءة
النص القدمي ،األمر الذي جنم عنه تأثر واضح من قبل الطالب بتقنيات وآليات القراءة احلديثة اليت
أتى هبا هؤالء املستشرقون.
1طه حسني :جتديد ذكرى أيب العالء ،اجملموعة الكاملة ملؤلفات الدكتور طه حسني ،الشركة العاملية للكتاب ،مكتبة املدرسة،
بريوت ،ط ،0082 ،3مج ،01ج ،0ص.0 :
2املصدر نفسه ،ص.0 :
3نفسه ،ص.0 :
12
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
إذا فقد تنوعت مجلة هذه املصادر واملرجعيات اليت عملت على صياغة الوعي النقدي عند
طه حسين ،وهي اليت أسهمت فيما بعد يف بلورة هذا الوعي الذي انبجست عنه خمتلف قراءاته
سواء أكانت تراثية أم حداثية ،األمر الذي حدا به إىل حماولة اإلملام بكل هذه املرتكزات اليت أوجدت
طه حسين الناقد األديب وحىت الناقد الثقايف ،وما من شك يف أن هذه املصادر هي اليت وجهت عقله
النقدي ،صوب مجلة من القضايا اليت تنازعتها أقالم الباحثني ،وعملت على مزج الروح اخلالفية اليت
كانت نفسية طه حسين حتتضنها ،فسرعان ما وقفت هذه املنابع القرائية مبثابة احلافز
( )Motivationالذي يدفع به إىل ارتياد مناطق بكر يف الساحة النقدية والثقافية العربية ،األمر
الذي مسح له مبالمسة هذا النسيج الثقايف واملعريف ،الذي يزخر به تراث األمة العربية ،وميكن أن يرجع
تكوينه الفكري والثقايف إىل عدة عناصر "ليست منفصلة وإمنا متصلة ،متمازجة يف النسيج العام
لفكره" 1.وهذه العناصر تؤسس يف خلفيتها املعرفية لعقل متقد ميتح معينه النقدي من ينابيع شىت،
القدمية منها واحلديثة ،ألن العقل الناقد ال ميكن أن يركن ويطمئن إىل كل ما هو مسلّم به ومعتقد أنه
بديهي دون اخلوض فيه؛ بل إنه العقل الوثّاب الشكاك الذي يستبدل الشك باليقني واالضطراب
بالطمأنينة ،وهو األمر الذي حدا بطه حسين إىل ارتياد هذه املناطق املعتمة من الرتاث قصد
استنطاقها وفك شفرات معانيها ونزع أردية التدثر عنها.
أما مجلة هذه املرجعيات فقد تنوعت وتعددت كما أسلفنا إىل مرجعيات تراثية ومرجعيات
املكون األساس لشخصية طه حسين الناقد والقارئ ،إهنا يومياته
حدثية دون أن جنوز أو نغفل ّ
وحياته يف الصعيد املصري.
هي املرحلة اليت أسست لعملية التأثري املباشر الذي مارسته البيئة املصرية وباخلصوص الصعيد
املصري يف فكر الرجل ،إذ حبكم آفته البصرية كان يستمع "إىل نساء القرى إذا خلون إىل أنفسهن،
أن يذكرن آالمهن وموتاهن فيعددن...وكان ...أسعد الناس باالستماع إىل أخواته وهن يتغنني وأمه
وهي تعدد" .2وحبكم عملية السماع حفظ الفىت كثريا من األغاين واألناشيد وكثريا من "عبارات
1مصطفى عبد الغين :حتوالت طه حسني ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،ص ،0001ص.32 :
2طه حسني :األيام ،مركز األهرام للرتمجة والنشر ،القاهرة ،ط ،3112 ،3الكتاب األول ،ص.21 :
13
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
التعديد وكثريا من جد القصص وهزله ،أضف إىل ذلك ما كان لتأثري العادات والتقاليد االجتماعية
من أثر بالغ يف تشكيل شخصيته العقلية واالجتماعية فكان هلا تأثري كبري فيه مثل رياح اخلماسني
اليت كانت تسبق أيام النسيم حيث كان الناس (إذا أظلهم يوم اجلمعة أسرفوا يف األكل ويف ألوان
امللون ،وكان الفقهاء قد استعدوا
خاصة من الطعام ،حىت إذا كان يوم السبت أسرفوا يف أكل البيض ّ
هلذا اليوم استعدادا خاصا ،فاشرتوا ورقا أبيضا مصقوال ،وقطعوه قطعا صغارا دقاقا) إىل آخر السرد
الذي يذهب إىل أن هذه األوراق تشفي الرمد من العيون يف موسم اخلماسني وهو ما يُردد يف
أيامه".1
إن التأثري املباشر للبيئة املصرية آنذاك هو من بني املصادر اليت غ ّذت عقل الفىت هبذه الطقوس
والعادات والتقاليد ،اليت كان هلا صدى فيما بعد أثناء عمليات الكتابة اليت مارسها طه حسين ،وقد
أهلمت هذه البيئة الكاتب إهلاما حادا خاصة يف اختيار شخصياته األدبية كما هو احلال يف مؤلفه
'"األيام" إذ جند هلا صدى يف عامله احلقيقي اخلارجي .ونستطيع أن نرد العديد من الشخصيات اليت
مر هبا يف صباه وذكرها يف األيام
وردت يف قصصه "إىل مقابل هلا من أشخاص وأحداث حقيقية ّ
كاجلد وسيّدنا والعريف ومشايخ الطرق ومفتش الطرق ومفتش الزراعة واملأمور ،إىل جانب أن أغلب
تشبيهاته وشخوصه املستعارة اليت وردت يف أعماله السياسية ،ميكن أن جندها – باملقابل -تعود إىل
رموز تضرب يف أعماق الصيب يف بيئته األوىل 2".تلك إذا هي تأثريات بيئة الريف املصري على حياة
الفىت يف بداية األمر.
أما حني انتقل إىل املدينة فإنه رأى "لونا آخر من احلياة ،ففي مدرسة "اجلريدة" خاصة تبلورت
مكوناته األوىل عن الفكرة املصرية اليت انتهت به إىل الفكرة القومية ،واليت انعكس فيها إحساس
لطفي السيد بالتاريخ املصري ،وبالنتائج اليت توصل إليها عن اآلثار املصرية القدمية" .3ويف املدينة
1
أيقن طه حسين أن مكونات العقل املصري تتصل "اتصاال قريبا ومنظما مؤثرا يف حياته ومتأثرا هبا"
ويغذي ذلك ما تلقاه يف اجلامعة املصرية القدمية من دروس يف احلضارة املصرية القدمية ،على يد
"أمحد كمال" الذي شرح لطالبه الصلة بني اللغة املصرية القدمية وبني اللغات السامية ومنها العربية،
ويستدل على ذلك بألفاظ من اللغة املصرية القدمية يردها إىل العربية مرة وإىل لغات سامية مرة
أخرى ،إضافة إىل ذلك فقد عمل عنصر اللغة والدين دورا بارزا يف إثبات الشخصية الفكرية لطه
حسين ،يؤكد ذلك ما جاء يف قوله...":فاللغة العربية فينا ليست لغة أجنبية وإمنا هي لغتنا ،وهي
2
أقرب إلينا ألف مرة ومرة من لغة املصريني القدماء ،وقل مثل ذلك يف الدين ،ومثله يف األدب"
وترتبط اللغة والدين عنده مبا أسهما به يف بلورة الوعي الديين املتقدم الذي ّبوأه تلك املكانة املرموقة
يف تتلمذه باألزهر ،عندما كان صبيا إضافة إىل تسجيله كل تلك املطارحات الفكرية اليت كانت جتري
صورها يف كتابه األيام ،غري أنه ارتبط ارتباطا متينا بالشيخ "حممد بينه وبني شيوخه باألزهر كما ّ
عبده" وتأثره به تأثرا بالغا حينما مترد على نظم األزهر وتربم بالتعليم املتداول فيه.
يتتبع عبد العزيز المقالح املسرية العلمية واملعرفية لطه حسين عندما كان طالبا أزهريا وكيف
استقى منه علما وافرا من علوم الدين والفقه واألدب وغريه ،و ّنوه باجلهود املعتربة اليت بذهلا يف سبيل
التحصيل العلمي والديين واألديب يف هذه املؤسسة العتيدة ،واليت فتحت له مغاليق النصوص وفكت
شفراهتا عن طريق كوكبة من العلماء الذين تتلمذ عليهم ،من أمثال الشيخ حممد عبده وغريه ،غري أن
ما ينعاه املقاحل على الذين تعرضوا لطه حسين يف نقدهم الالذع حينا واجلارح حينا آخر ،ورميهم إياه
بأنه اهلادم واملتمرد على هذه األصول األزهرية ،ما ينعاه عليهم هو أن الرجل مثرة من مثار األزهر
وصاحب عقل مستنري وذا طبيعة جتاوزية ملا هو سائد سريا على خطى أستاذه الشيخ حممد عبده،
ألن الدين مل يعط ألحد صكوك الغفران أو منعها يقول املقاحل ":كان طه حسين متمردا ولكنه كان
متمردا أزهريا ،ويف مترده من فضائل األزهر الشريف الكثري جدا ويف نقده اللغوي والبياين والتارخيي ما
يذكر مبنهج األقدمني ،وما يؤكد بأنه كان مستوعبا ألرفع من بلغته الثقافة العربية يف عصور االزدهار،
وأنه كان على إملام واسع وشامل بعلوم احلديث والفقه واألدب والشعر والتاريخ ،وأنه مل يكن أقل من
1عبد العزيز شرف :طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،0022 ،ص.22 :
2طه حسني :فصول يف األدب والنقد ،اجملموعة الكاملة ،دار الكتاب اللبناين ،0022 ،مج ،5ص.00 :
15
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
بقية زمالئه األزهريني إسرافا يف اخلوض يف قضايا النحو والصرف وعلم البيان ،وكل هذه املالحظات
العابرة تؤكد أزهريته وتشري إىل ما كان له من ثقافة عربية أصيلة ممتدة اجلذور".1
يواصل المقالح طرح هذه األفكار املدافعة عن طه حسين حينا واملربزة ملرجعيته الرتاثية حينا
آخر ،من منظور الناقد األديب الذي يعرض الفرضيات ليصل إىل مجلة من النتائج تكون قمينة برد
الفروع إىل األصول ،وذلك يف حركة لولبية ال تنفك تتّبع هذه املؤثرات الرتاثية قبل األجنبية ،فيصل
إىل نتيجة مؤداها أن كتاب "يف الشعر اجلاهلي" مثال مل يكن مثرة من مثار اتصاله بالثقافة الفرنسية،
اليت تأثر هبا فيما بعد خاصة على مستوى منهج الدراسة ،إمنا يرجع بتأثره الكبري واملباشر باملوروث
النقدي والبالغي العريب يقول المقالح...":و حنن نزعم – منذ البداية -أن طه حسين يف كل ما
ذهب إليه من آراء يف هذا الكتاب مل يكن إال ناقدا عربيا أزهريا ،وإن ذلك الكتاب وهو أخطر كتبه
على اإلطالق وأحفلها بالتمرد واإلثارة ،هو أقرب كتبه إىل املنهج األزهري وأشدها ارتباطا باألساليب
األزهرية وتقليب اآلراء على وجوهها املختلفة ،كما أنه أيضا أوضح كتبه تأثرا بالنقاد العرب األقدمني
الذين شككوا يف كل شيء ووضعوا أسس العقالنية يف الدراسات األدبية سيما يف نقد الشعر
خباصة".2
استتباعا ملا مت عرضه فقد تآلفت مجلة من الظروف يف بلورة وصياغة الوعي ،النقدي عند
العميد قبيل احلرب العاملية األوىل ،وكانت مبثابة نقطة حتول بارزة يف مسريته النقدية والتأليفية ،ذلك
أن الرجل عاصر مجلة من القامات السامقة يف جمال اللغة والفقه واألصول وغريها من العلوم
واملعارف ،واليت أسهمت يف تشكيل اللبنات األوىل يف التكوين املعريف له ،يصف طه حسين تلك
الفرتة بقوله ":ففي أواخر القرن املاضي وأوائل هذا القرن ظهرت املقدمات اليت تنبئ مبا كان أدبنا
مشرفا عليه من تطور خطري ،ظهرت آثار الشيخ "حممد عبده" و"قاسم أمني" و"املويلحي" و"عبد
اهلل ندمي" و"البارودي" و"حافظ وشوقي" و"مطران" وكان هؤالء مجيعا وكثري من أمثاهلم يصورون آخر
عصر وأول عصر آخر ،يصورون طورا من أطوار االنتقال ،فهم كانوا حيافظون على كره وجيددون على
استحياء..مث كانت الواقعة الكربى اليت هزت العامل كله مخس سنني 3وإذا اجلذوة املصرية تتوهج
1عبد العزيز املقاحل :عمالقة عند مطلع القرن ،دار اآلداب ،بريوت ،ط ،0088 ،3ص. 28 :
2املرجع نفسه ،ص.20 :
3يقصد بذلك احلرب العاملية األوىل.
16
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
فرتسل ضوءها وشررها إىل ما حوهلا من البالد العربية وإذا األدب العريب حييا يف ذلك الوقت حياة
عنيفة خصبة خمتلفة مل يعرفها منذ زمن بعيد جدا" .1
مثّلت هذه املرحلة مرحلة البدايات يف متثل كيفيات الدراسة باألزهر ،وهي اليت حركت دوافعا
دفينة يف نفسية الرجل ،وأثرت مسريته الفكرية فيما بعد ،وصاغت توجهه املعريف حنو التجاوز املمكن
للطرق العتيقة اليت كان األزهر يعكف على توصيلها لطالبه ،فالرجل مل يرض هنمه العلمي اجلامح أن
يظل حبيس األطر األزهرية التقليدية يف مقاربة النصوص وشرحها وفهمها ،إمنا أصبح حيس أن طرحه
املعريف أكرب من أن يضبط بضوابط األزهر البالية آنذاك.
يعرتف طه حسين بذلك قائال":إن املدة اليت قضيتها يف األزهر ،كانت فرتة انتقال ،فكان
حممد عبده يفسر القرآن على طرق حديثة والشيخ املرصفي يعلمنا األدب ،وكالمها يذم الطرق
األزهرية ،وكان قاسم أمني يقول حبرية املرأة ،وفتحي زغلول يرتجم لنا كتبا قيمة واجلريدة تنادي مبعايري
جديدة يف السياسة واالجتماع ،فكنا يف اضطراب ذهين ال نستقر وشعرنا حنن تالميذ الشيخ املرصفي
أن طرق األزهر عتيقة فكنا نتكلم ونناقش عن اإلصالح الذي يقول به الشيخ حممد عبده ،وقد
حضرت له حماضرتني ولكن مع ذلك الوقت شعرت أن األزهر مل يعد يشبع ما يف نفسي من
األغراض األدبية فرتكته والتحقت باجلامعة املصرية".2لكن رغم تربمه بأسلوب األزهريني ونقمته عليهم
مل مينع أن تكون" السنوات اليت قضاها يف األزهر من أهم مراحل تكوينه العقلي ،اليت أصبحت قواما
أساسيا لثقافته اللغوية والنقدية فكل ما ميتاز به أسلوبه من الرصانة والفصاحة يرجع إىل هذه الفرتة
اليت تعلم فيها دروس األدب على شيوخ األزهر وخاصة املرصفي" 3الذي أسهم يف حتوله"من الدراسة
الدينية التقليدية إىل دراسة األدب العريب القدمي مبنهج جديد".4
لقد استمرأ طه حسين هذا الدرس فلزم أستاذه ،وكان حيفظ كل ما يلقى إليه ،وانتقل معه يوم
انتقل املرصفي من األزهر إىل داره ،فعرف معىن األدب القدمي وازداد به تعلقا وإليه انصرافا حىت ساء
1طه حسني :ألوان ،دار املعارف ،مصر ،ط ،2ص.32 ،32 :
2سامي الكيايل :مع طه حسني ،دار املعارف ،مصر ،ط ،3دت ،ص.08 ،02:
3عبد العزيز شرف :طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي ،ص.25 :
4مصطفى عبد الغين :حتوالت طه حسني ،ص.21 :
17
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ظن أصحابه فيه ،فنفوه عن جهة العلم الصحيح وع ّدوه صاحب شعر ينشد وكالم يقال 1أما طه
حسين فأحكم صلته باملرصفي ولزمه أربع سنوات صقل فيها ذوقه وأصبح على علم مبذاهب الشعر
وطريقة تذوقه وفهمه يقول...":ومل يقف األمر بيين وبينه على ما يكون بني األستاذ والتلميذ من
الصلة بل نشأ بيننا نوع من احملبة يشوهبا يف نفسي اإلجالل واإلكبار ويف نفسه العطف واحلنان....
حب األستاذ ودرسه قد أثر يف نفسي تأثريا شديدا ،فصاغاها على مثاله ،وكونا هلا يف األدب والنقد
ذوقا على مثال ذوقه ،إيثار للبدوي اجلزل على احلضري السهل ،وكلف مبناحي اإلعراب يف فنون
القول ،ونبو عن تكلف املولدين ألنواع البديع وانتحاهلم أللوان الفلسفة واملنطق ،وبغض شديد حلكم
الضرورة يف الشعر ،وللفظ السهل املهلهل يقع بني األلفاظ اجلزلة الفخمة ،إىل غري ذلك مما هو إىل
مذهب القدماء من أئمة اللغة ورواة الشعر أدىن منه إىل مذهب احملدثني من األدباء والنقاد".2
عرف طه حسني على الشيخ المرصفي أمهات الكتب العربية القدمية اليت ال حتسب يف كتب
األزهر ،من أمثال ديوان احلماسة وهنج البالغة بشرح اإلمام حممد عبده والكامل للمربد ومقامات
احلريري واهلمذاين واملعلقات وكتب اجلرجاين يف البالغة وكتاب سيبويه واملفصل يف النحو ،فأخذ
يستوعبها وما جرى جمراها يف دار الكتب على وجه اخلصوص مطبوعة كانت أو خمطوطة.3
إذا لقد تنوعت املصادر واملناحي األدبية والنقدية وتعددت مظان التأثري ومواطنه ،ومما الشك
فيه أن املنهج املتبع والسبيل الذي راده الشيخ هو نفسه الطريق واملنهج الذي سار فيه التلميذ بعد
ذلك ،بدء من تكوين ملكة قوية يف الذوق الذي يكون حكرا على القدمي واجلزل والبدوي ،مث كلفه
بصحة األسلوب وإعرابه ملا هلذا األخري من تأثري على امللكة األوىل ،أي الذوق مث نفور ونبو من
أشعار املولدين الذين هلثوا وراء صناعة البديع ،وكلفوا بألوان الفلسفة واملنطق ،مث أخريا تتبع وسري
على منوال القدماء وما ارتضوه من حكم ونقد وبعد عن كل ما هو مولّد وحديث ،تلك إذا هي
اخلطوات األوىل اليت صاغت الفكر النقدي عند طه حسين ممثلة يف عظيم تأثره بأستاذه الشيخ
املرصفي ،مما جعل الطالب صورة ثانية لألستاذ ال يكاد جياوزه أو حىت خيالفه.
يتتبع أحمد بوحسن املؤثرات الفكرية والسياسة اليت طبعت الفكر النقدي عند الرجل يف
بداياته الفكرية ،وحياول أن يلم مبجمل التيارات الفاعلة يف الساحة الثقافية املصرية فيعدد الصحافة
واألحزاب السياسية اليت كانت متور هبا مصر آنذاك يقول":كانت الصحافة من أهم اجملاالت اليت
حترك فيها منذ بداية حياته الفكرية فوجدها وسيلة لالتصال واملواجهة ،وإذا كان الفضل يعود إىل
"اجلريدة" و"مصر الفتاة" و"اهلداية" و"العلم" و"الشعب" فإن طه حسين سيعزز منذ هذه املرحلة
أيديولوجية حزب األمة وجيدها تستجيب لكثري من تطلعاته ويتلمس فيها جانبا من جوانب مشروعه
الفكري".1
فعال يف صياغة الفكر النقدي للرجل ،وإذكاء من مجلة املؤثرات اليت أسهمت بشكل ّ
مشروعه الفكري النهضوي ،ما متثله يف بداياته للفكر الليربايل الذي بدأ يف الرواج يف الساحة الثقافية
املصرية ،وما مثله "أمحد لطفي السيد" من تأثري كبري يف فكره " وقد لقي خطاب لطفي السيد متسعا
وارتياحا يف صدر طه حسين ،ذلك اخلطاب الذي ال يقف عند حدود مصر وتارخيها ،بل يتعداه
ليمتد إىل الفكر الليربايل األوريب ويرى فيه ما مل يره يف الفكر األزهري احملافظ" .2ذلك أنّه عمل منذ
يطور
بداية ممارسته الفكرية على جتاوز ما هو كائن ،دون إلغاء املوروث أو نفيه ،بل حاول أن ّ
أساليب التفكري والتثقيف من خالل ما أتاحته الليربالية الوافدة من آليات يف إعادة قراءة الرتاث دون
نفيه ،والسري به قدما حنو غايات كانت تتغياها النخبة الفاعلة يف الساحة الثقافة املصرية ومن مجلتهم
طه حسين"وبذلك لعبت القناعة الليربالية دورا هاما يف صياغة جانب هام من كتاباته النقدية".3
ّأما حني يعرض الباحث الروافد املعرفية اليت ش ّكلت املرجعية النقدية للعميد فإنه يقسمها إىل
قراءتني األوىل كانت مستمدة من دروس الشيخ سيد بن علي المرصفي والثانية كانت متتح من
معني القراءة النقدية لكارلو نالينو ،ويف تعقيبه على القراءة األوىل واليت ميكن أن نصطلح عليها
القراءة الرتاثية للرتاث فالباحث يصفها على أهنا":قراءة أساسية يف العملية النقدية اليت سيتعامل معها
طه حسين يف دراسته للنص األديب ،كما تعترب ثابتا أساسيا سيوجه مشروع كتاباته النقدية عندما
1أمحد بوحسن :اخلطاب النقدي عند طه حسني ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،ط ،0085 ،0ص.32 ،32:
2نفسه ،ص.32 :
3نفسه ،ص.20 :
19
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
حياول البحث عن قراءة جدية وصحيحة للنص العريب القدمي وبذلك تكون هذه القراءة تلتصق بذات
النص العريب وال تكاد تتعداها".1
أما حني يستعرض النموذج اآلخر من القراءة -وهي القراءة املنهجية أو احلديثة للنص العريب
القدمي ،واليت أخذ هبا طه حسين على يد أستاذه املستشرق نالينو ،-فالباحث يصفها بأهنا قراءة
جتاوز النص إىل ما هو خارجه يقولّ " :أما القراءة الثانية اليت ستساعد طه حسني على جتاوز القراءة
الداخلية األوىل وتتعدى ذات النص العريب ،فهي اليت سيأخذها من أستاذه باجلامعة املصرية األستاذ
نالينو ،وستكون هذه القراءة للنص العريب قراءة من اخلارج ،إذ سيمده باملنهج الذي سيقدم به طه
حسني قراءته األوىل للناس يف صياغة جديدة تكشف عن أشياء ذات بال كما قال".2
يظهر مما سبق أن هذا النوع من القراءة هي من ستمكن طه حسين من جتريبها يف الولوج إىل
عامل النص العريب القدمي ،دون االكتفاء مبا كان يقدم عنه من شرح وتفسري وشيء يسري من التأويل،
وهي قراءة حداثية مقارنة بزمانه ،وهي اليت صاغت الفكر النقدي عنده صياغة منهجية علمية ّبوأته
مكانة الريادة يف نقد النصوص العربية املختلفة واخلروج من هذه العملية النقدية بنتائج مل يعهدها
اجملتمع القرائي املصري آنذاك ،فكانت مبثابة الفتح الكبري يف فكر الرجل ،ملا أسهم به فيما بعد من
دراسات.
ينقل الباحث أمحد بوحسن طريقة كال األستاذين يف مقاربة النصوص العربية سواء أكانت
نقدية أم إبداعية ،أما الطريقة األوىل فهي اليت يقوم فيها الشيخ املرصفي باتباع مجلة من اخلطوات
حني يقوم بدراسة كتاب الكامل للمربد :رغبة اآلمل من كتاب الكامل:
-يعرض كالم املربد كما جاء يف كتابه الكامل مث يشرحه بعد ذلك.
-يوضح ويضبط بعض األمساء والعبارات وحياول أن يعطيها وضعها اللغوي الصحيح
لتقرأ سليمة وصحيحة
20
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
-يهتم بالشرح اللغوي ويرجع الكلمة إىل أصلها معتمدا يف ذلك على الشرح املعجمي
متوخيا من ذلك غرضا تعليميا.
-يبدي إعجابه من حني آلخر ببعض املعاين الشعرية دون تعليل مفصل لذلك.1
يظهر من هذه اخلطوات أن قراءة املرصفي كانت تعتمد يف مجلة ما تعتمد على اجلانب اللغوي
الذي يتغيا القراءة السليمة للنص العريب ،وتعتمد هذه القراءة على ملكة الذوق يف الوصول إىل
جتليات اجلمال الفين داخل النص القدمي ،وهو األمر الذي مارسه طه حسين يف معظم مدوناته
النقدية يف مرحلة البدايات وحرص على إبرازه وتبيانه ،معرتفا بفضل هذا النوع من الدراسة اليت تلقاها
من قبل الشيخ املرصفي يف معرفة النص من الداخل.
أما النوع الثاين من القراءة فهي اليت تأثر هبا الرجل فيما بعد اخنراطه باجلامعة املصرية وتتلمذه
على يد مجلة من األساتذة املستشرقني الذين بصموا الطالب ببصمتهم ويأيت يف طليعتهم املستشرق
اإليطايل األستاذ كارلو نالينو الذي درسهم حماضرات تاريخ اآلداب العربية وتعترب هذه القراءة قراءة
ثانية للنص العريب ضخها نالينو يف طلبته ،فقد كانت حماضرات نالينو تعتمد على مجلة من اخلطوات
حيث يقسم موضوع حماضراته إىل عدة نقاط يتعرض هلا تباعا واحدة بعد األخرى ،مث حيدد املوضوع
الذي يريد اخلوض فيه ويلتزم بذلك حىت ال يستطرد يف حديثه مث يذكر املصادر اليت يأخذ منها
نصوصه ويناقشها أحيانا بإعطاء األدلة ،ويعطي رأيه املستقل يف كل فكرة ،ويظهر بذلك مستقل
الرأي ويدحض حجة غريه باألدلة.2
تلك إذا أهم اخلطوات اليت يتبعها نالينو يف حتليل نصوصه ،واليت أخذ هبا طه حسين يف
قراءاته للنص العريب يف الكثري من مقاالته النقدية ،وجتلى ذلك فيما بعد بأخذه آليات البحث
التارخيي الذي أخذه عن نالينو وذلك بقوله...":إن املطلوب مين ليس إال أن أطبق على اآلداب
العربية أساليب البحث التارخيي اليت عادت على تاريخ آدابنا اإلفرجنية بطائل عظيم" .3وهو املنهج
الذي سيتبناه الناقد يف معظم كتاباته النقدية وبه حياول إعادة قراءة النص الشعري العريب القدمي
معتمدا على هذا املنهج.
تتشكل -إذا -مرجعيات القراءة عند طه حسين من مجلة من املرجعيات اليت عملت على
بلورة الفكر النقدي له ،ويقف يف مقدمتها تلك القراءات اهلادفة اليت تلقاها على يد الشيخ سيد
علي المرصفي يف البداية عندما كان طالبا باألزهر ،مث أثناء اختالفه إىل اجلامعة املصرية وما تلقاه
على يد املستشرقني وعلى رأسهم كارلو نالينو ( ،)Carlo Nallinoويعرتف بفضل هذين الرجلني يف
تكوينه العلمي واملعريف واملنهجي بشيء كبري من التواضع يقول...":أما أنا فقد سجلت غري مرة
وأسجل اآلن أين مدين حبيايت العقلية كلها هلذين األستاذين العظيمني :سيّد علي املرصفي ...وكارلو
نالينو .أحدمها علّمين كيف أقرأ النص العريب القدمي وكيف أفهمه يف نفسي وكيف أحاول حماكاته
وعلمين اآلخر كيف أستنبط احلقائق من ذلك النص ،وكيف أصوغها آخر األمر علما يقرؤه الناس
وجيدون فيه شيئا ذا بال ،وكل ما أتيح يل بعد هذين األستاذين العظيمني من الدرس والتحصيل يف
مصر ويف خارج مصر ،فهو قد أقيم على هذا األساس الذي تلقيته منهما يف ذلك الطور األول من
أطوار الشباب ،بفضلهما مل أحس الغربة حني أمعنت يف قراءة كتب األدب القدمي ،وحني اختلفت
إىل األساتذة األوربيني يف جامعة باريس ،وحني أمعنت يف قراءة كتب األدب احلديث ،فال غرابة إذا
إيل من
أن تكون حيايت كلها ّبرا هبذين األستاذين وإكبارا هلما واعرتافا بفضلهما وشكرا ملا أهديا ّ
إيل من مجيل ،وشهد اهلل ما قرأت يف كتاب قدمي وال حديث وال حاولت كتابة يف معروف وما أسديا ّ
األدب إال ذكرت أحدمها أو كليهما وأرسلت إليهما من أعماق نفسي حتية احلب واإلعجاب
والشكر والوفاء".1
ال شك أن هذا األثر الكبري الذي تركه كل من المرصفي ونالينو يف الطالب هو الذي صاغ
فكره وصقل موهبته املعرفية وذلك لتضافر اجلانب الرتاثي واجلانب احلداثي ،وهذا الزاد واملعني املعريف
هو املسؤول عن الكثري من اآلراء والطروحات النقدية اليت صدرت عنه يف خمتلف كتاباته النقدية بعد
ذلك.
1طه حسني :مقدمة كتاب كارلو نالينو :تاريخ اآلداب العربية ،ص.0 ،8 :
22
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
التحق طه حسين باجلامعة منذ إنشائها سنة 0018وأخذ السريانية وأصول العربية واحلبشية
"على ليتمان وتاريخ الفلك عند العرب واآلداب على نالينو ،وتاريخ الفلسفة اإلسالمية على
سانتالنا ،وتاريخ الشرق القدمي على نالينو واالصطالحات الفلسفية على ماسينون".1
يعترب هؤالء األساتذة مبثابة الواجهة اخللفية يف بلورة الوعي الثقايف عند طه حسين ،ذلك أهنم
أسهموا بقسط وافر يف بسط معامل الطريق األوىل اليت عملت على صياغة الفكر النقدي فيما بعد
عند الرجل ،وانطالقا من دروس هؤالء األعالم استقى طه حسين مراحل البدايات األوىل يف ضخ
جهازه املفاهيمي واملصطلحي بالكثري من املفاهيم واملبادئ ،األمر الذي جنم عنه توجه معني من قبل
الرجل وهو ما بدا واضحا يف تلمس املعامل األوىل للنشاط النقدي له ،وتتأسس النظرة النقدية عند
طه حسين من تلك اإلرهاصات األوىل للتشبع بالفكر اليوناين والفلسفة اليونانية اليت أسهمت يف
تسديد الرؤية النقدية له "وتعود عالقة طه حسين بالفكر اليوناين والروماين إىل دراسته بالسربون
حيث كان حيضر تاريخ اليونان على كلوتز ) (Glotzوتاريخ الرومان على بلوك وتاريخ األدب
يقرب
اإلغريقي على األستاذ كروازيت ) ...(Croisetوقرر منذ عودته من باريس والتحاقه باجلامعة أن ّ
يدرس التاريخ اليوناين القدمي إىل جانب التاريخأصول احلضارة الغربية من الثقافة العربية ،فبدأ ّ
الروماين القدمي".2
لقد تغريت حياة طه حسين إثر اخنراطه باجلامعة وذلك ألهنا فتحت له آفاقا معرفية مل
يعهدها من قبل أثناء تواجده باألزهر ،األمر الذي جعله جيدد األمل يف احلياة العقلية وأصبح يراها
أمرا مقدسا "...و ميضي العام األول من احلياة اجلامعية عيدا كلّه ،ال حيس الفىت سأما أو ضيقا...
فقد أقبل أساتذة جدد ملكوا عليه أمره واستأثروا هبواه؛ فهذا األستاذ كارلو نالينو املستشرق اإليطايل
يدرس بالعربية أيضا ،ويف
يدرس باللغة العربية تاريخ األدب والشعر األموي ،وهذا األستاذ سانتالنا ِّ ِّ
يدرس
هلجة تونسية عذبة ،تاريخ الفلسفة اإلسالمية وتاريخ الرتمجة خاصة ،وهذا األستاذ ميلوين ِّ
باللغة العربية كذلك تاريخ الشرق القدمي ،ويتحدث إىل الطالب عن أشياء مل يتحدث عنها أستاذ
قبله يف مصر ....وهذا أستاذ أملاين ،هو األستاذ ليتمان قد أقبل يتحدث إىل الطالب عن اللغات
السامية واملقارنة بينها وبني اللغة العربية ،مث يأخذ يف تعليمهم بعض هذه اللغات ،وإذا الفىت خيرج من
تاما لوال أنه يعيش بني زمالئه من األزهريني والدارعميني
حياته األوىل خروجا يوشك أن يكون ّ
وطالب مدرسة القضاء وجه النهار وشطرا من الليل".1
يتضح جليا من هذا النص تلك املكانة املرموقة اليت يتمتع هبا هؤالء املستشرقون الذين حتدث
عنه طه حسين أو حىت الذين مل يتحدث عنهم ،إذ يرجع إليهم الفضل يف إنارة عقول ذلك اجليل
ودفعه إىل ارتياد آفاق واسعة من العلم واملعرفة وجتديد املناهج اليت كادت أن جتعل من الطالب غريبا
حىت مع زمالئه ،واقتلعته تلك الطرق من مجود العادة وسبل التكرار إىل قلق السؤال واضطراب
املنهج ،لقد "أتاحوا له أن يأوي إىل ركن شديد من الثقافة الشرقية اخلالصة وأتاحوا ملزاجه أن يأتلف
ائتالفا معتدال من علم الشرق والغرب مجيعا ،وكان األساتذة املصريون خيتلفون فيما بينهم اختالفا
شديدا ،كان منهم املطربشون واملعممون والذين سبقت العمامة على رؤوسهم مث احنسرت عنها وجاء
مكاهنا الطربوش".2
ينبئ هذا الوصف أ ّن طه حسين يعي متاما تلك الفروق اجلوهرية ،اليت كانت فيما بني جيل
أساتذته باجلامعة ،وذلك يرجع إىل مدى تأثر كل أستاذ يف ذلك الزمن بالقيمة املعرفية للمنهج الذي
جاء به األساتذة املستشرقون إىل اجلامعة املصرية " .أدرك أ ّن هذه العلوم اليت هبرته مل تتطور وتصل
إىل ما وصلت إليه ،إال بعدما التزم األساتذة األوربيون يف دراسة ظواهرها بقواعد وأسس هي املنهج
العلمي ،واقتنع بضرورة األخذ باملنهج العلمي يف الدراسة والبحث اقتداء بأساتذته املستشرقني،
وباملنهج التارخيي بالذات".3
األمر الذي جعله يصرح به يف الكثري من مدوناته النقدية ،خاصة عندما أكد أن األدب كغريه
من الظواهر الثقافية ،خيضع للعلل االجتماعية الكونية أو احلتمية االجتماعية ،وقد جتلى ذلك يف
كتابه احملوري "جتديد ذكرى أيب العالء" ،واستمرت بعد ذلك مقرتنة بدرجات خمتلفة وبنوع من اجلرب
تقل تدرجييا مع تغري امل ّد النقدي
التارخيي الذي يلغي الفاعلية اإلنسانية ،صحيح أن درجة اإللغاء ّ
عند طه حسني وتنوع ممارساته ،ولكن املنظور املرتبط باحلتمية يظل باقيا ال ينتفي وجوده ،كما يظل
اجلرب موجودا بأكثر من شكل.1
يعود ذلك إىل أثر اجلامعة املصرية فيه وأثر األستاذ نالينو بالتحديد" .ويبدو أن طه حسني
اقرتب من هذا الفهم أثناء دراسته يف اجلامعة املصرية ( )0002،0001على يد جمموعة من املستشرقني
ويبدو أن لكارلو نالينو –حتديدا -أثرا بارزا يف هذا اجلانب".2
مث يعقد جابر عصفور تلك املوازنة بني األدب العريب وغريه من اآلداب كما فعل طه حسين
من قبل ،ويُرجع ذلك دائما إىل أثر نالينو فيه ،يقول ":لقد تعلم طه حسني من كارلو نالينو يف
اجلامعة املصرية القدمية إمكانية أن ندرس األدب العريب على أساس من املوازنة بينه وبني اآلداب
القدمية الكربى ،ولقد تبلور وعيه بضرورة هذه املوازنة يف فرنسا ،فأكد بعد عودته منها :أن األدب
بطبيعته شديد احلاجة إىل املقارنات واملوازنات".3
خنلص مما سبق أن دراسته باجلامعة كانت مبثابة الفتح الكبري الذي مورس عليه من قبل مجلة
من املستشرقني ،الذين وطّدوا عالقته مبناهج البحث العلمي آنذاك ،ويف مقدمتهم األستاذ نالينو
الذي م ّكنه من حتكيم املنهج التارخيي الذي جند آثاره وأصداءه بادية يف الكثري من مؤلفاته يف تلك
الفرتة خاصة حبوثه األولية ممثلة يف جتديد ذكرى أيب العالء وفلسفة ابن خلدون .وحديث األربعاء.
شكلت مرحلة تواجد طه حسين بالسربون منعطفا حامسا يف حياته العلمية واملنهجية ،إذ
بعد حصوله على منحة الدراسة باخلارج سنة 0002سافر إىل مونبوليه بفرنسا لدراسة ختصص
التاريخ ،وكان آنذاك قد أهنى دراسته باجلامعة سنة 0003وقدم حبثه املوسوم "ذكرى أيب العالء"
1ينظرجابرعصفور :املرايا املتجاورة-دراسة يف نقد طه حسني -اهليئة املصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،0082 ،ص.21:
2املرجع نفسه ،ص.22 :
3نفسه ،ص.320 ،325 :
25
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
وكانت أول دراسة لنيل درجة الدكتوراه من اجلامعة األهلية سنة .0002ويف العام املوايل وبعدما
حلّت أزمة البعثة النامجة عن احلرب العاملية األوىل ،رجع إىل السربون بالذات حيث م ّكنه ذلك من
التعمق يف دراسة اللغة الفرنسية ومواصلة دراسته الالتينية ،وراح يعد لنيل درجة الليسانس يف التاريخ
إىل جانب إعداده حبثا يف علم االجتماع حول فلسفة ابن خلدون بإشراف املستشرق كازانوفا والعامل
إميل دوركامي.1
أما أثناء حتضريه إلعداد درجة الليسانس يف التاريخ درس على أساتذة كبار يف التاريخ مثل
جوستاف بلوك 2الذي كان يدرس التاريخ الروماين ،والباحث جوستاف جلوتز 3أستاذ التاريخ
اليوناين ،وشارل ديهل 4أستاذ تاريخ القرون الوسطى ،واألستاذ شارل سينيوبوس 5أستاذ التاريخ
احلديث .واألستاذ ألفونس أوالر 6أستاذ تاريخ الثورة الفرنسية ،واألستاذ جوستاف النسون الذي
7
درسه األدب الفرنسي.
1كازانوفا .P. Casanova :مستشرق فرنسي درس يف الكوليج دي فرانس اللغة العربية وآداهبا ،انتدبته اجلامعة املصرية
سنة 0035لتدريس فقه اللغة ،تويف يف مصر سنة .0032له دراسات متعددة يف جماالت متخصصة حول خمتلف أوجه
احلضارة العربية .ينظر عبد اجمليد حنون :الالنسونية وأثرها يف رواد النقد العريب احلديث ،ص.052 :
2غوستاف بلوك Gustave Bloch :باحث فرنسي درس يف ليون وباريس التاريخ الروماين الذي ألّف فيه عدة مؤلفات
أشهرها :أصول جملس الشيوخ الروماين .ينظر عبد اجمليد حنون ،املرجع نفسه ،ص .052
جوستاف جلوتز Gustave Glotzمؤرخ فرنسي خريج املدرسة العليا لألساتذة ،أستاذ األدب اليوناين بالسربون منذ 3
،0802له مجلة من املؤلفات منها" :التعذيب يف بالد اليونان البدائية وتضامن األسرة يف القانون اجلنائي باليونان 0012
والعمل عند اليونان قدميا .ينظر عبد اجمليد حنون ،املرجع نفسه ،ص.052 :
4شارل ديهل C. Diehl :باحث فرنسي خريج املدرسة العليا لألساتذة .متخصص يف التاريخ البيزنطي ،له مؤلفات منها:
إغريقيا البيزنطية و"وجوه بيزنطية وتاريخ اإلمرباطورية البيزنطية .ينظر عبد اجمليد حنون ،املرجع السابق ،ص052 :
5شارل سينيوبوس .C. Seignobos :مؤرخ فرنسي ،تأثر باملدرسة التارخيية األملانية ،له عدة مؤلفات أشهرها :تاريخ
احلضارة و"مدخل إىل الدارسات التارخيية و"التاريخ السياسي ألوربا احلديثة وكانت طريقته النقدية املوسومة بالوضعية تعىن
أساسا باحلدث التارخيي املادي .ينظر عبد اجمليد حنون :املرجع السابق ص.052 :
6ألفونس أوالر A. Aulardمؤرخ فرنسي .أهم آثاره "التاريخ السياسي للثورة الفرنسية وهو مؤسس جملة :الثورة الفرنسية.
ينظر عبد اجمليد حنون ،املرجع السابق ص .052
جوستاف النسون ، 0022 -0852 Gustave Lansonحصل على الدكتوراه يف اآلداب سنة 0888و ّ
درس يف 7
التعليم الثانوي واجلامعي يف السربون ويف املدرسة العليا لألساتذة اليت صار مشرفا على إدارهتا سنة .0013كان معنيا بتاريخ
تطور األفكار األدبية واملعرفة الدقيقة املفصلة للمبدع وفردية األثر الفين وتيارات العصور وتطبيق املناهج العلمية يف الدراسات
26
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
رمبا هؤالء هم األساتذة الغربيون الذين تتلمذ عليهم طه حسين أثناء تواجده بالسربون ،ويظهر
من أمسائهم أن الرجل احتك هبؤالء األعالم ليطلع على مجلة من احلقول املعرفية كالنقد والتاريخ
والفلسفة واألدب املقارن ،مما ّأهله فيما بعد ليكون هو بدوره َعلَما من أعالم النقد األديب وتاريخ
األدب واألدب املقارن يف العامل العريب .وهم الذين أوقدوا فيه جذوة السؤال وقلق احلقيقة وعدم
االمتثال ملا هو كائن ،وإمنا جتاوزه إىل ما جيب أن يكون ،وهم الذين يدين هلم طه حسين بفضل
األستاذية .يذكر حياته العلمية بباريس أثناء بعثته إليها وكيف توزع تواجده بني أربعة معاهد "
السربون ،وفيه كنت أحضر دروس التاريخ القدمي ،تاريخ اليونان على جلوتز وتاريخ الرومان على
بلوك ،واألدب الفرنسي على النسون ،والفلسفة واالجتماع على دوركامي وديكارت على ليفي برول
والالتيين على مارثا والثورة على أوالر والبيزنطي على شارل ديهل والتاريخ احلديث على سينيوس
واجلغرافيا على دمياجنون واملعهد الثاين هو الكوليج دي فرانس وكنت أحضر فيها دروس القرآن
بالعربية على كازانوفا وعلم النفس على بريجانيه واملعهد الثالث مكتبة الق ّديسة جنيفياف والبيت
أعده املعهد الرابع ...فقرأنا متثيل القرن املاضي وكثريا من كتب أناتول فرانس وبروجيه وبريفو 1".تلك
ّ
إذا أهم الروافد املعرفية اليت عملت على بلورة الوعي النقدي عند الرجل بأوربا.
يعرتف طه حسين أيضا بفضل املستشرق اإليطايل سانتيالنا أستاذ الفلسفة اإلسالمية الذي
أوجد عالمات التأثري والتأثر بني الفلسفة اإلسالمية والفلسفة اليونانية ،وكيف أثر يف النهضة الفكرية
جليل طه حسين يقول":وما أعرف لألستاذ نالينو نظريا يف التوجيه العميق للنهضة املصرية إال زميله
األستاذ "سانتيالنا" الذي أحدث يف مصر هنضة خطرية يف دراسة الفلسفة اإلسالمية ويف الصلة بني
هذه الفلسفة وبني الفلسفة اليونانية القدمية".2
كانت فرتة تواجده بفرنسا مرحلة تداخل للثقافتني العربية والفرنسية ،مما ّأهله أن ينجز رسالته
الثانية للدكتوراه حول فلسفة ابن خلدون واليت كانت مثرة متثله للثقافة الفرنسية ،ودليل متكنه من
األدبية ،خترجت عليه مدرسة هامة جتمع بني االجتاه الفلسفي يف النقد والدقة العلمية يف البحث .له جمموعة هامة من املؤلفات
أمهها :تاريخ األدب الفرنسي ،ومبادئ اإلنشاء واألسلوب وبوالو ،كورين ،فولتري .ينظر :أمحد بوحسن :اخلطاب النقدي عند
طه حسني ،ص .000 :وحممد مندور :النقد املنهجي عند العرب ،مقدمة "منهج البحث يف األدب" ،ص.200 :
1سامي الكيايل :مع طه حسني ،دار املعارف ،مصر ،ط ،3إقرأ ح ،00ج ،0ص.32 ،35 :
2طه حسني :مقدمة كتاب كارلو نالينو :تاريخ اآلداب العربية ،ص.02 :
27
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الفرنسية واستيعابه للفكر واألدب الفرنسيني واستعداده الطبيعي للتعمق يف هذه الثقافة ،وقد منحه
الكوليج دي فرانس جائزة "سنثور" املعروفة بعد أن نالت رسالته أعظم تقدير من أساتذة السربون،1
ومتثل الثقافة الفرنسية عند طه حسين " منوذجا رائعا وصورة حيّة وامتدادا للثقافة اليونانية يف تطور
2
العقل البشري وأثره العظيم يف كل عصر".
مل تكن مصادر الثقافة الفرنسية عند طه حسين حمصورة يف املؤلفات األدبية ،وإمنا كانت
تتجاوزها "إىل االطالع على الصحف الفرنسية واحلرص على متابعتها واإلفادة من طرائقها يف
التحرير والتعبري ،ومعاجلة املوضوعات اليت يُعىن هبا فن املقال يف الصحافة الفرنسية ،اليت كانت قد
طفرت طفرة جديدة بفضل شخصية حمرريها الذين كانوا يوقعون مقاالهتم وكان هؤالء الصحفيون من
خرية رجال األدب ،األمر الذي ساعدهم على التفوق يف حترير مقاالهتم السياسية بأسلوب رفيع مما
اجتذب القراء إىل صفهم".3
لقد ّأهله منصبه اجلديد باعتباره أستاذا للتاريخ اليوناين والروماين بعد عودته من فرنسا إىل
النهل أكثر من عيون األدب اليوناين والروماين ،األمر الذي ساعده يف التمثل الكبري ملنجزات هذين
األدبني وترمجة بعض األعمال من اليونانية إىل العربية ،وتأليف بعض األعمال اخلاصة هبذا األدب.
درس مادة التاريخ اليوناين والروماينواستحكمت العالقة بني األدب اليوناين والروماين أكثر بعد أن ّ
ملدة أربع سنوات ،وأخذ يف نقل املآثر اليونانية األدبية والفكرية والسياسية.4
استطاع طه حسين يف هذه الفرتة أن ينقل بعضا من عيون األدب اليوناين إىل العربية ،وأن
يرتجم كذلك بعض املؤلفات اليت رأى أهنا على صلة وثيقة باحلياة السياسية واألدبية املصرية
1ينظر عبد العزيز شرف :طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي ،ص.21 ،20 :
2املرجع نفسه ،ص.21 :
3ينظر نفسه ،ص.20 :
4ينظر أمحد بوحسن :اخلطاب النقدي عند طه حسني ،ص.83 ،80 :
28
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
آنذاك .1واملتتبع جململ هذه املؤلفات اليت نقلت إىل العربية وغريها يلحظ ذلك الوله الكبري والتأثر
البني مبنجزات هذه األمة ،اليت ال جيد طه حسين حرجا يف أن ينسب مصر إىل أصوهلا اليونانية ّ
رده كل منجزات ومكتسبات األمة العربية إليه ،يقول يف القدمية ،ويتضح جليا تعلقه بالعقل اليوناين و ّ
مؤلفه قادة الفكر":العقل اإلنساين ظهر مبظهرين خمتلفني :أحدمها يوناين خالص هو الذي انتصر،
وهو الذي يسيطر على احلياة اإلنسانية إىل اليوم ،واآلخر شرقي اهنزم أمام املظهر اليوناين ،وهو اآلن
يلقي السالح ويُسلم للمظهر اليوناين تسليما".2
تستمر نظرته التقديسية لألدب اليوناين عامة ولفلسفة أرسطو خاصة ،وذلك عندما يضع هذه
الفلسفة موضعا سامقا ويُرجع كل هذه الفلسفات الالحقة تابعة هلا وفرعا من فروعها ،خاصة عندما
اشتد تأثره هبا يف السنوات ،اليت اشتغل فيها بكرسي التاريخ القدمي ،وحىت عندما نُقل إىل كرسي
األدب مل ختف حدة هذا التأثري ،بل جنده يف غري موضع من مؤلفاته يُعرب عن افتتانه بأرسطو
وباليونان عامة ،نلحظ ذلك يف ترحيبه بالرتمجة اليت ّأداها "لطفي السيد" لكتاب األخالق
يد تأسيس حضارة جديدة "ألرسطو" ،يقول طه حسين ":لو أ ّن هذه احلضارة احلديثة أُزيلت وأر َ
لكانت فلسفة أرسطو طاليس أساسا هلذه احلضارة اجلديدة" .3مث يشتد افتتانه بفلسفة أرسطو
1نذكر من مجلة هذه املؤلفات واملقاالت - :مذهب أرسطو يف السياسة واالجتماع ،نشرت يف اهلالل ،0030/3وصحف
خمتارة من الشعر التمثيلي عند اليونان وهي مقالة يقدم فيها الكتاب الذي حيمل العنوان نفسه إىل القراء ،نشرت يف اهلالل
كذلك يف ،0030/2ومن الكتب اليت ألفها وترمجها:
-صحف خمتارة من الشعر التمثيلي عند اليونان .0031
-آهلة اليونان وهو ملخص حماضرات الدكتور طه حسني يف الظاهرة الدينية عند اليونان وأثرها يف املدنية ،مجعه :حممد
حسني جرب،القاهرة .0000
-نظام األثينيني ألرسطو طاليس .0030
-دروس التاريخ القدمي يف اجلامعة املصرية ،نشر بعضها يف صحيفة اجلامعة املصرية بني عامي 0000و ،0032وهي
الدروس اليت كان يلقيها باجلامعة.
-قادة الفكر القاهرة ،0035سوفوكليس ،أنتجونا القاهرة .0028
-سوفوكليس :من األدب التمثيلي اليوناين (إلكرتا) ،آجاكس ،أنتجونا ،آدوبيوس ملكا القاهرة .0020
-أندريه جيد :من أبطال األساطري اليونانية ،يتضمن أوديب وتيسيوس القاهرة .0022ينظر أمحد بوحسن :اخلطاب
النقدي عند طه حسني ،هامش 02ص .83
2طه حسني :قادة الفكر ،دار العلم للماليني ،بريوت،0080 ،ص.003 :
3طه حسني :حديث األربعاء ،اجملموعة الكاملة ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت لبنان ،دط ،دت ،مج ،3ج ،2ص.222 :
29
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
مر العصور فيقول ":لقد كانتفيجعل منها النرباس الذي تنبثق منه كل العلوم والفلسفات على ّ
فلسفة أرسطو طاليس أساس النهضة العربية األوىل ،وأساس النهضة األوربية يف العصر احلديث وجيب
أن تكون أساس النهضة العلمية يف مصر احلديثة".1
إن املتمعن يف هذه النصوص يلحظ جليا ذلك االعرتاف الكبري حبجم املنجزات الفلسفية
األرسطية وذلك إلسهامها يف دفع عجلة النهضة األوربية والعربية على السواء ،ذلك أن طه حسين
يعتقد جازما أن العقل املصري سليل العقل اليوناين اخلالص ،وأن هذا العقل يلحق بالشرق القريب يف
تارخييته ،ويستلهم منه هذه الفرادة واألملعية اليت يتمتع هبا ،بل إن املتمعن يف كتابه "قادة الفكر" ال
مرت ذات يوم حبضارة تعوزه النظرة الفاحصة إلدراك حجم االعرتاف الكبري هبذه العقول الكبرية اليت ّ
اليونان؛ جند ذلك مثال حني حياول طه حسين إغراء القارئ العريب باالطالع على هذه اآلداب
اخلالدة يقول ":أكنت مصيبا إذا حني زعمت أن شعراء اإللياذة واألوديسا يُع ّدون حبق من قادة
الفكر اإلنساين؟ ...أريد أن تقرأ اإللياذة واألوديسا لتعرف ما مها ،وكل ما أطمح إليه يف هذه
أشوقك إىل أن تقرأ شيئا قليال أو كثريا من آثار املفكرين الذين اختذهتم موضوعا هلذه
الفصول هو أن ّ
األحاديث".2
كانت فرتة التحول الفكري اليت عاشها طه حسين متثل املصدر األول من اهتمامه بالعنصر
األجنيب يف صقل موهبته وتكوينه ،وأقل ما يقال عن هذه املرحلة " أهنا مستمدة من البيئة اليت عاش
فيها- ،أوال -ومن الثقافة الفرنسية ثانيا ،ومن الثقافة الالتينية ثالثا".3
تعد البيئة األخرى -بيئة التعقيل -من أهم البيئات أثرا يف فكره ،وهي البيئة اليت اضطلعت
مدرسة اجلريدة بإشاعتها يف احلياة املصرية ،وحماولة التوفيق بني الفكرين األوريب واملصري ،إلنتاج
تفكري قومي خالص غري متخلف عن نظائره من الغرب .4وكان لطفي السيد يشجعه على الكتابة يف
3عبد العزيز شرف :طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي ،ص.28 :
4ينظر املرجع نفسه :ص.20 :
30
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
صحيفته (اجلريدة) "و قد كانت للصلة القوية بينهما أكرب األثر يف توجيه طه حسني إىل آراء فولتري
ومونتسكيو ،كما دفعه إىل تعلم الفرنسية وذلك مما أدخله يف البيئة اجلامعية".1
أما الذين تعرضوا للعالقة بني طه حسين ولطفي السيد وحزب األمة يذهبون إىل أن طه
حسين مل تكن السياسة تعنيه يوما ،بقدر ما كان يهتم بفكر لطفي السيد وحزب األمة ،يقول أحد
الدارسني ":ميكن القول أن ارتباط طه حسني برجال حزب األمة مل يكن ارتباطا باحلزب السياسي،
بقدر ما كان ارتباطا باملدرسة الفكرية اليت خرج هبا لطفي السيد عن نظام احلزب" 2وتأثر بطروحات
هذا احلزب ملا وجد فيها من حترر وانفتاح على الثقافة الغربية ،وهو ما كان يصبو إليه هروبا من
الطرق البالية واملتكلسة اليت كان األزهر ينادي هبا يف تعليمه ،فوجد طه حسين من مث متنفسا يف
هذه الدعاوى لالنفتاح على اآلخر يقول رجاء النقاش ":ويف اعتقادي أنه لوال لطفي السيد واجتاهه
الفكري اجملدد املتحرر ملا ارتبط طه حسين حبزب األمة فلقد كان الدافع األساسي هلذا االرتباط واقعا
فكريا ومل يكن واقعا سياسيا حبال من األحوال" ،3مث يواصل النقاش تعليله ذلك بقوله ":وكما يؤكد
هذا االستنتاج أننا ال جند يف إنتاج طه حسني الفكري يف هذه الفرتة املبكرة من حياته أي ميل إىل
تأييد اإلقطاعيني أو النظام اإلقطاعي ،الذي كان ميثله حزب األمة من الناحية السياسية
واالجتماعية ...ومل يكن طه حسين مؤيدا لإلقطاع والرجعية ،بل كان "الجئا" إىل جزيرة الفكر
املتحرر اجلديد يف شخصية لطفي السيد الذي كان باملصادفة من أعضاء حزب األمة البارزين ألنه
يرتبط مع احلزب مبصاحله (فهو من كبار اإلقطاعيني) وإن كان ينفصل عنه بفكره وعقله ألنه من كبار
املثقفني".4
ميثل لطفي السيد بالنسبة لطه حسين النموذج الذي جيب أن حيتذى ،فالرجل منفتح على
العديد من الثقافات القدمية واحلديثة ،ما جعله يفنت به أميا افتتان خاصة من ناحية إعجابه بالفكر
الغريب سواء اليوناين أم األوريب احلديث يقول طه حسين يف ذلك ":لقد كان هيكل زميل الشباب
وصديق الكهولة وأخا لشيخوخة ،تعارفنا مجيعا حني كنا ناشئني يف مكتب أستاذنا أمحد لطفي
السيد ،عندما كان مديرا للجريدة ،كنا خنتلف إليه يف الضحى بني حني وحني لنشهد عمله يف إدارة
اجلريدة وحتريرها ،ونسمع أحاديثه العذبة يف السياسة والفلسفة واملنطق ويف األدب العريب أيضا ،كنا
نتخذه منوذجا ألنفسنا ونقيس عليه املثل األعلى عندما نطمح إىل املثل العليا يف احلياة ،وعرفته حني
كنا تلميذين يف الكتابة األدبية والصحفية ألستاذنا أمحد لطفي السيد ،كان كالنا يكتب يف
اجلريدة".1
يتميز الفكر النقدي والفلسفي للطفي السيد بالتنوع والتعدد واألخذ من ثقافات متعددة،
فهو جيمع بني الثقافة اإلسالمية والثقافة اليونانية القدمية والثقافة األوربية ،وعُرف يف مسريته الفكرية
واألدبية كذلك بالرتمجة من الفرنسية إىل العربية ،ويف ذلك يقول طه حسين ":وأريد أن أعلم إىل أي
كاتب أو أي مفكر أو إىل أي مرتجم يف مصر أو يف الشرق العريب كله ،نستطيع أن نقرن األستاذ
أمحد لطفي السيد ،أما أنا فلست أعرف له نظريا يف الكتابة وال يف التفكري وال يف الرتمجة ،وأزعم أن
ليس من املصريني وغري املصريني من يستطيع أن جيد له نظريا يف هذه الوجوه الثالثة من وجوه احلياة
األدبية :التفكري والكتابة والرتمجة".2
لقد تأثر طه حسين أّميا تأثر بالفكر النقدي والفلسفي للسيد ،وانتصر للكثري من آرائه
الفلسفية ،خاصة يف جمال الرتمجة ،فقد ترجم لطفي السيد من آثار أرسطو مخسة كتب هي"كتاب
الطبيعة ،وكتاب الكون والفساد ،وكتابان يف األخالق بعنوان (على تيقو ماخوس) ،وكتاب السياسة،
وأما الثقافة األوربية احلديثة فإن السيد كان معجبا برواد الفكر الليربايل األوريب أمثال فولتري وروسو،
وكانت ،وستوارت ميل ،كما أعجب أكثر وبفولتري".3
لقد أسهمت القناعة الليربالية اليت استوحاها طه حسين من لطفي السيد ،وغريه من الليرباليني
املصريني آنذاك يف صياغة جانب مهم من شخصية طه حسين النقدية ،واليت م ّكنته من جماهبة الفكر
وجراء ذلك فقد رفع طه
التقليدي السلفي ،الذي مثله المنفلوطي والرافعي ورشيد رضا وغريهمّ .
حسين مكانة لطفي السيد عاليا وع ّده من بني القامات النقدية والفلسفية ّ
علوا يف العصر احلديث
يقول فيه":مسى العرب زعيم الفالسفة اليونانية املعلم األول ،وكانوا يف ذلك منصفني ،وأنا أزعم أن
األستاذ أمحد لطفي السيد معلمنا األول يف هذا العصر ،وأزعم أين يف ذلك صادق منصف،
ومتواضع أيضا ،لست من الغلو حبيث أقرن األستاذ السيد إىل أرسطو طاليس ،فأرسطو طاليس هو
املعلم األول لإلنسانية اخلالدة ،ولطفي السيد هو املعلم األول لعصرنا هذا الذي حنن فيه".1
مل يلبث اتصاله بالثقافة الفرنسية واليونانية ،أن أصبح عنصرا من عناصر ثقافته العامة ،اليت
تثمر يف النهاية أسلوبا ..يف األدب هو مثرة امتزاج العناصر الثالثة احمللي والعريب والفرنسي 2حيث
جتسد يف ما خلّفه طه حسين
تلتقي األصول التقليدية واجتاهات التجديد اتصاال عقليا وفنيا ،وهو ما ّ
من آثار بقيت عالمات تأثريها يف األدباء واملفكرين املعاصرين إىل اآلن.
يتتبع عبد العزيز المقالح الروافد املعرفية اليت صاغت الفكر النقدي عند الرجل ،وعملت على
مصب معريف واحد ،بل وقف عند مجلة من األصول اليت وقفت سببا يف ّ بلورته ،ومل يطمئن الرجل إىل
إبراز ذلك التوجه دون سواه ،فعمد إىل تنزيل هذه الظاهرة منزال منهجيا ،يف البداية مث فلسفيا ثانيا
يقول المقالح...":لقد كان املنهج هو ما ينقص الطالب العريب واإلنسان العريب يف بداية القرن
العشرين .وقد تكفل طه حسين من بني سائر األساتذة واملتخصصني بأن يقلّب يف أوراق العصور،
ويف الواقع املعاصر حبثا عن النهج الغائب ،وقد أفاد من معرفته بقواعد املنهج التارخيي عند ابن
خلدون ،واصطنع هذه املعرفة يف الدراسات األدبية ،وحينما بدأ يف تدريس تاريخ األدب العريب يف
اجلامعة املصرية مل يكن قد غاب عن منهج ابن خلدون ،وال طريقته املمحصة يف دراسة اآلراء
والوقائع واألحداث التارخيية ويف مقدمته خباصة ،وقد استلهم هذا املنهج يف دراسته الشعر
اجلاهلي".3
غري أن النهج الذي ارتضاه طه حسين يف تقليب أسفار الرتاث ،وحماولة بعثها من جديد يف
الردة
تعود عليه النقاد والباحثون ،هو ما دفع باألكثرية من هؤالء إىل تلك ّ
قالب وثوب خيالف ما ّ
العنيفة ضد الرجل وحماولة سلبه كل ما من شأنه أن يدفع بالبحث العلمي إىل األمام ،بل كان األمر
على خالف ذلك بأن صودرت احلريات وأغلقت أبواب االجتهاد يف الرتاث باعتباره من الطابوهات
اليت حيضر على الباحث والناقد االقرتاب منها ،يقول العميد مربزا تلك االنتكاسة املعرفية اليت أصابت
األمة يف تلك الفرتة..":ما أظن املصريني بينوا جهاد مجال الدين األفغاين والشيخ حممد عبده -
رمحهما اهلل -يف هذا السبيل وما لقيا من السخط عليهما واملكر هبما ،والتنكر ملن ذهب مذهبهما أو
اختلف إىل دروسهما وليس هلذا مصدر إال أن النائمني يكرهون اليقظة ،ويكرهون بالطبع من
يدعوهم إليها ،كما أن الذين اسرتاحوا إىل اجلمود ال يبغضون شيئا كما يبغضون احلركة والداعني
إليها ،ومع ذلك فقد نامت األمة اإلسالمية قرونا ،ولكنها حني استيقظ بعض املمتازين منها ودعوها
إىل اليقظة يف إحلاح ،أتيح هلا يف الوقت القصري شيء ال بأس به من التنبه بل شيء ال بأس به من
التقدم ،وإن مل تزل بعيدة أشد البعد عن أن تكون جديرة بتارخيها اإلسالمي البعيد".1
رد تلك التهم اليت حاول خصوم طه حسين إلصاقها به ،واليت مفادها حياول المقالح جاهدا ّ
أنه سليل احلضارة الغربية وأنه مناهض للعروبة واإلسالم ،وأنه من دعاة التغريب واالنسالخ عن
مقومات اهلوية العربية اإلسالمية ،فينربي املقاحل مدافعا عنه ،جلملة من األسباب اليت بدورها ختلص
إىل مجلة من النتائج ،ر ّادا تلك التهم مبسوغات معرفية وفكرية ّبوأته مقاما عاليا يف مساء الفكر
والثقافة ،ومن تلك املرافعات أن كتاب يف الشعر اجلاهلي حيتوي جمموعة من االفرتاضات ال
املسلمات ،وأن طه حسين مل ينكر الشعر اجلاهلي ،وال شكك يف كل شعرائه ،بل ّ
ردد احلقائق
رددها من قبله ابن سالم وآخرون ،وأن اختياره القيام بتدريس األدب العريب نفسها أو املزاعم اليت ّ
والشعر العريب وختصصه يف هذا اجملال ينفي عنه احتقار هذا األدب وهذا الشعر ،إن ما كتبه طه
دحبه عنه من حتليالت ومن نثر شعري بالغ حسني قبل ذلك وبعد ذلك عن الشعر اجلاهلي وما ّ
العذوبة لبعض النصوص الشعرية القدمية ،برهان ال يقبل الشك على حبّه وافتتانه بذلك الشعر.2
خنلص من كل ما سبق إىل أن شخصية طه حسين النقدية ،مل تركن ملرجعية أحادية يف
حتصيلها العلمي واملعريف ،إمنا تضافرت مجلة من املؤثرات املعرفية على بلورة الفكر النقدي عنده،
وعملت على صياغة املشروع النقدي لديه ،وهو األمر الذي تأتى من دعامتني هامتني أسهمتا يف
طه حسني :مرآة اإلسالم ،دار املعارف ،مصر ،دط ،دت ،ص212 :
1
2ينظر عبد العزيز املقاحل :عمالقة عند مطلع القرن ،ص.55 ،52 :
34
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
توظيفه لكل املعطيات الثقافية والفكرية اليت تشد مشروعه النقدي وكتاباته النقدية والتارخيية " أوالمها
رابطة متينة مؤسسة على ثقافة ووعي بالرتاث العريب اإلسالمي ،كشف هبا ومن خالهلا عن فهم
عميق هلذا الرتاث واستيعاب لطاقاته املبدعة ،وثانيهما نظرة عصرية قائمة على ثقافة حية قادرة على
حتريك الواقع واالستجابة للمعطيات احلضارية اجلديدة".1
أما من حيث امتداد املشروع احلضاري والنقدي عند طه حسين ،فهو مل يعكف على مرجعية
واحدة ،يستقي منها منوذجه بل جعل وجهته حمصورة يف الغرب األوريب ،باعتبار أن مصر جزء من
الكيان املتوسطي ،الذي متتد إليه عرب عصور سحيقة من الزمن ،ألن مصر امتداد طبيعي للضفة
األخرى من املتوسط ،ومادام األمر كذلك فقد استقى طه حسين آليات نقده من اآلخر الغريب يف
حركة موجهة حنوه ،هذه اآلليات اليت تعددت مصادر توظيفها من مدونة إىل أخرى ،غري أن ما ميكن
مالحظته أنه " مل يأخذ الظواهر بشموهلا ،مث خيتار املنهج الذي يقيم القياس عليه ،بل يبدو األمر
معكوسا لديه ،إذ أخذ مبنهج الشك الديكاريت ،وأقام تصوراته على أوليات أولية ،من هذا املنهج
عامال على إجراء القياس عليه".2
لكن اعتماده الشك وسيلة لبلوغ احلقيقة النقدية هو ما ينعاه عليه بعض خصومه م ّدعني أنه
أدخل يف النقد العريب ما ليس منه متناسني يف الوقت ذاته ،أن آلية الشك من صميم فعاليات النقد
العريب القدمي ،وقد قامت دراسات كثرية على إثبات هذه اآللية عند الرواد من النقاد القدامى أمثال
ابن سالم وغريه ،يف حماولة منهم إلثبات الشعر الصحيح من املنحول .وانطالقا من هذه الطعون اليت
طعن هبا طه حسين وكتابه املقصود بذلك "يف الشعر اجلاهلي" منت فيه تلك الشخصية املتمردة
القلقة الثائرة إىل شك السؤال ،واملطّلعة إىل طلب املزيد املفيد من العلم واملعرفة ،وعدم التسليم هبا
هو كائن وواقع ،إمنا حماولة الوقوف موقف املتسائل الشاك فيما يتم تقدميه من قبل بعض أساتذته،
ويف مؤلفه "األيام" الكثري من القصص واألحداث ،اليت وقعت له وهو يرويها بشيء من احلسرة تارة
والفكاهة تارة أخرى ،لنصل إىل نتيجة مؤداها " أن طبعه اجلديل قد برز يف وقت مبكر يف بنيته
الفكرية ،وأن هذه البنية سوف تتطور وسيكون هلا أثر بعيد يف حياته ويف منهجه العلمي الذي
1ماجد السامرائي :الثقافة واحلرية –قراءة يف فكر طه حسني ،-األهايل للطباعة والنشر والتوزيع ،ط ،0002 ،0ص.12:
نفسه ،ص.02 :
2
35
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
لعل ما ذكر يعد من أهم املرجعيات القرائية اليت اعتمدها طه حسين ،واليت كانت مبثابة
البدايات اليت عملت على صياغة شخصيته النقدية والفكرية ،األمر الذي ينجر عنه حماولة جرد أهم
املؤلفات واألعمال اليت اضطلع هبا يف حياته النقدية والفكرية ،واليت شكلت معامل بارزة يف ريادته
للعديد من احلقول املعرفية.
.3زثار طه حسني:
إن املشتغل على مؤلفات طه حسين يلقى من الصعوبة الشيء الكثري ،ذلك أن الرجل
تعددت اهتماماته كما تعددت مناحي دراساته ،فقد كتب يف السياسة ويف الرتبية والتعليم والفلسفة
والنقد واألدب والرتمجة وتاريخ األدب والسرية والقصة وغريها من احلقول املعرفية اليت اشتغل عليها،
ويف كل ذلك إبراز ملالمح شخصيته وجتلياهتا داخل كتاباهتا ،ممّا ميّكن الدارس الوقوف عند خمتلف
االجتاهات اليت طرقها ،فالرجل متعدد املواهب فقد مارس الكتابة يف القصة والسرية الذاتية واملقال
األديب والصحفي ،وترجم وخلص الكثري من اآلداب األجنبية القدمية واحلديثة.
وشارك يف أهم املعارك النقدية والفكرية ،اليت عرفها اجملتمع العريب عامة واجملتمع املصري
خاصة " ،وقد ال يعجب املتابع ألعمال طه حسين من تلك الكثرة الغزيرة ،إذا علم أن صاحبها ظل
أكثر من نصف قرن من الزمان يواصل اإلنتاج الفكري واألديب دون توقف عن الكتابة ،فاألديب...
2
أي أديب يف نظره هو الذي يستمر يف عمله األديب".
غري أن ما نريد توضيحه وإثباته ملختلف هذه املتون هو أن نقتصر على أعماله النقدية ،أي
اليت عاجل فيها الكثري من إشكاليات وقضايا النقد العريب احلديث ،متخذا مناهج البحث الغربية
وسيلة لعملية التجديد اليت يرومها ،فالرجل يعد من بني أهم الشخصيات النقدية يف العصر احلديث،
واليت نادت بالتجديد يف األدب العريب ونقده وقاد فريق التجديد ،فالرجل" يبشر باملناهج واألساليب
1حسني مجعة :طه حسني ،القامة والظل ،دار ابن هانئ للدراسات والنشر ،دمشق ،ط ،0002 ،0ص.31 :
2سامح كرمي :ماذا يبقى من طه حسني ،دار القلم ،بريوت ،ط ،0022 ،3ص.013 :
36
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
وأدواته احلديثة ويدعو إىل تطبيقها يف كل جماالت احلياة عامة ،ويف ميادين األدب والفكر خاصة،
ويرى أن ما يفعله هو احلق يف مقابل فريق قدمي مازال يستخدم املناهج واألساليب واألدوات التقليدية
القدمية ،وال يريد أن يتخلص منها أو حىت يفكر يف ذلك ألنه مقتنع متام االقتناع بأن تفكريه هو احلق
" .1سيحاول البحث أن يتتبع املسار التارخيي يف ظهور هذه املؤلفات واألعمال وذلك ملبتغى
منهجي حمض:
-1114كتاب "ذكرى أيب العالء" .والكتاب رسالة نال هبا درجة الدكتوراه من اجلامعة
املصرية ،وهي أول كتاب طبعه ونشره سنة 0005مبطبعة الواعظ مبصر وهبا نال شهادة العاملية ولقب
دكتور يف األدب وطبع الكتاب ثانية مبطبعة املعاهد مبصر سنة 0033مث طبعة ثالثة بعنوان "جتديد
ذكرى أيب العالء" من دار املعارف سنة ،0022ويعد الكتاب وثيقة تارخيية خصبة حول شخصية أيب
العالء وفلسفته وعقيدته وبيئته وحياته الفكرية والسياسية والدينية.
-1111يصدر يف القاهرة كتاب "آهلة اليونان" والذي كان يف األصل بعنوان "الظاهرة الدينية
عند اليونان وتطور اآلهلة وأثرها يف املدنية" .1وطبع سنة 0000مبطبعة املنار.
-1124 ،1111دروس وحماضرات التاريخ القدمي ،نشر بعضها بصحيفة اجلامعة املصرية وهي
الدروس اليت ألقاها العميد باعتباره أستاذا للتاريخ اليوناين والروماين القدمي وذلك بعد عودته من
فرنسا.
-1121كتاب "صحف خمتارة من الشعر التمثيلي عند اليونان" طبع سنة 0031مبطبعة اهلالل
مبصر.
-1121نظام األثينيني تأليف أرسطو طاليس ،ترمجه طه حسين عن اليونانية وطبع مبطبعة
اهلالل وأعيد طبعه بدار املعارف.
-1124قصص متثيلية جلماعة من أشهر الكتاب الفرنسيني ،ترمجه طه حسين وطبع باملطبعة
التجارية سنة 0032.
والكتاب عبارة عن جرد تارخيي ألهم الشخصيات القائدة على مستوى الفكر حسبه فهو
يقدمهم على النحو التايل (هومريوس ،سقراط ،أفالطون ،أرسطو طاليس ،اإلسكندر املقدوين،
ويوليوس قيصر) .ويف أثناء تقدميه لكل شخصية يثبت طه حسين أن القائد ليس شخصية مبتورة
1محدي السكوت ومارسيدن جونز :أعالم األدب املعاصر يف مصر ( )0طه حسني ،القاهرة قسم النشر باجلامعة األمريكية،
،0025ص.82 :
نفسه ،ص82 :
2
38
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الصلة مبحيطها وبيئتها ،بل تعترب الشخصية نتاج رئيسي هلما وهو يف ذلك يؤسس للمنهج
االجتماعي يف نقد اآلثار األدبية متأثرا بطروحات :هيبوليت تني وسانت بيف وبرونتيري.
-1121يصدر كتابه "حديث األربعاء" وهو عبارة عن سلسلة من املقاالت نشرها جبريدة
السياسة وطبع منها اجمللد األول يف السنة نفسها وأصدر اجلزء الثاين سنة 0032ومها عبارة عن
دراسة للحياة األدبية عند طائفة من شعراء اجملون والدعابة واللذة واللهو يف الدولتني األموية
والعباسية ،وما كان لذلك من صلة باحلياة االجتماعية والسياسية يف تلك البيئة .1وطبع اجلزآن يف
دار املعارف سنة 0050مث طبع اجلزء الثالث بدار املعارف سنة .0052
-1121كتاب "يف الشعر اجلاهلي" :طبع الكتاب بدار الكتب املصرية سنة 0032ونظرا ملا
أثاره من ضجة معرفية يف أوساط متلقيه ،بسبب طرحه الديين والسياسي واألديب فقد سحب من
السوق وأبدل عنوانه بـ "يف األدب اجلاهلي" ،والكتاب خالصة حماضراته اليت كان يلقيها على طلبته
يف كلية اآلداب ،بعد أن أصبح أستاذا لألدب العريب وأصبح "يفكر يف التأريخ لألدب العريب تأرخيا
جديدا".2
-1121كتاب "يف األدب اجلاهلي" وهو الكتاب السالف ،بعد أن سحب من السوق وحوكم
مؤلفه أمام احملاكم املصرية اضطر لسحبه وتغيري عنوانه وحذف فصل منه ،وأضاف له عدة فصول
وطبع الكتاب مبطبعة االعتماد بالقاهرة سنة 0032وطبع ثانية سنة .0085
-1121يف الصيف ،غري أن الكتاب ظهر سنة 0022وهو جمموعة رسائل كتبها يف أوربا.3
-1121كتاب "األيام" ،صدر اجلزء األول منه بعدما نشر باهلالل من ديسمرب 0032إىل
جويلية ،0032مث مجع يف كتب وطبع مبطبعة أمني عبد الرمحان سنة ،0030وأعيد طبعه بدار
املعارف سنة 0023مث سنة 0020مث سنة .0058
3عبد العزيز شرف :طه حسني وزوال اجملتمع التقليدي ،ص.20 :
39
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
-1133كتاب "حافظ وشوقي" ،والكتاب عبارة عن جمموعة مقاالت كان قد نشرها يف
"السياسة" و"املقتطف" و"اهلالل" من سنة 0032إىل سنة ،10023وهو دراسة عن الشاعرين
حافظ إبراهيم وأمحد شوقي يف مواطن التجديد والتقليد لديهما ويعرض فيه للموهبة اإلبداعية عند
كال الشاعرين وذلك بقدر تطرق كل واحد منهما جلملة األغراض الشعرية املعروفة ،متتبعا يف ذلك
مقوالت املنهج االنطباعي والتأثري يف نقد الشعر.
-1133كتاب "على هامش السرية" أصدره يف هذه السنة بعد أن كان عبارة عن مقاالت
نشرت يف جملة الرسالة ،مث أصدر جزءه األول عام 0022ألول مرة.2
-1133صدرت طبعة كتاب "نقد النثر" لقدامة بن جعفر ،مجعه وحققه طه حسين وعبد
احلميد العبادي وطبع بدار الكتب املصرية .وأعيد طبعه بدار الكتب العلمية ببريوت ،0005مع
متهيد لطه حسين.
-1131كتاب "من بعيد" وهو جمموعة مقاالت نشرها يف جملة "السياسة" كتبها عن حياة
باريس وهلوها ،عن سارة برنار ومتثيلها ،عن حياة البحر والسفر ،عن الشك واليقني ،عن الكثري مما له
صلة حبياة الفكر ونزعات التطور ،وهو كذلك حبث كتبه بعد الضجة اليت أحدثها كتابه "يف الشعر
اجلاهلي" .وفيه يقول طه حسين حول اختاذه منهج الشك الديكاريت سبيال للوصول إىل احلقيقة "إن
ديكارت يتخذ لفلسفته قاعدة مل يألفها الناس ،هي نسيان القدمي والرباءة منه كلّه ،وافرتاض أنه مل
يكن ،حىت إذا قرأت هذه الفلسفة وتعمقت فيها مل جتد جديدا ،وال شيئا يشبه اجلديد ،وإمنا هو
كالم ككالم الفالسفة فيه كثري من احلدود والقضايا واألقيسة".3
طبع الكتاب مبطبعة االعتماد سنة ،0025وأعيد طبعه سنة 0022مث سنة 0052مبطابع
جريدة املصري.
-1131صدر كتاب "احلياة األدبية يف جزيرة العرب" بدمشق ،وأعيد طبعه من جديد حتت
عنوان "ألوان" ألنه دراسات "أللوان خمتلفة من األدب على تباعد العصور وتباين األجيال ،ينتقل
صاحبها بالقارئ من األدب العريب إىل اآلداب األجنبية على اختالفها".1
سنة 0052. -1131مع أيب العالء يف سجنه :طبع مبطبعة املعارف مث مرة أخرى
" -1131من حديث الشعر والنثر" :وهي حماضرات ألقاها يف مناسبات أدبية خمتلفة ونشرها
يف "املقتطف" و"السياسة" و"اجلهاد" و"الرسالة".2
ويف هذا الكتاب يعلن صراحة عن موقفه من أولئك الذين يتشبثون بالقدمي ظنا منهم أهنم
متأصلون يف الرتاث ويرمون اجملددين بالضالل واالحنراف ،وفيه يعلن عن رأيه الصريح يف قيمة األدب
العريب القدمي " خالفا ملا يأخذ عليه املتحذلقون الذين كانوا يتهمون زعيم التجديد األديب بأن
جتديده يقوم على إنكار القدمي ....و هو جهل وضالل .إن هذه احملاضرات ...تؤكد من جديد
حقيقة مؤداها أن طه حسين يف مقدمة من دعموا األدب العريب األصيل القدمي وحببوه إىل النشء
اجلديد يف ذلك الوقت".3
0052. طبع الكتاب مرة ثانية سنة 0028بدار املعارف وطبعة ثالثة بالدار نفسها سنة
" -1131القصر املسحور" :باالشرتاك مع األستاذ توفيق احلكيم ،طبع بدار النشر احلديث
سنة 0022.
-1131كتاب "مع املتنيب" ظهر يف جزأين وفيه تتجلى نظرة العميد إىل شخصية املتنيب الشاعر
الذي مأل الدنيا وشغل الناس ،فكان أن تباينت نظرة طه حسين النقدية عن تلك اآلراء واألحكام
اليت سبقته خبصوص املتنيب ،وقد أعيد طبعه بدار املعارف سنة 0052يف جملد واحد.
41
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
سنة 0050. " -1131احلب الضائع" :نشرت يف العدد رقم 011من سلسلة اقرأ
-1131كتاب "مستقبل الثقافة يف مصر" طبع بدار املعارف مث أعيد طبعه سنة ،0022
يقوم طه حسين نوعية احلياة الوطنية بعدوالكتاب من أهم الكتب يف فكر النظام االجتماعي ،وفيه ّ
معاهدة 0022موضحا الغاية منه يف قوله" :شعرت كما شعر غريي من املصريني ،وكما شعر
الشباب ..خاصة ...بأن مصر تبدأ عهدا جديدا من حياهتا بعد أن كسبت فيه بعض احلقوق ،فإن
عليها أن تنهض فيه بواجبات خطرية وتبعات تقال ،وما كان أشد تأثري هبذه احلركة اليسرية الساذجة
اليت دفعت بعض الشباب اجلامعيني يف العام املاضي إىل أن يسألوا املفكرين ،والرأي ع ّما يرون يف
واجب مصر بعد إمضاء املعاهدة مع اإلجنليز :فقد أقبل هؤالء الشباب اجلامعيون يسألوننا أن
نبصرهم بأمورهم وهنديهم إىل واجباهتم" ،1وفيه يربهن على العالقة املتينة بني العقل املصري والعقل
اليوناين وعلى شدة اتصال مصر باليونان القدمية وعلى تشابه اإلسالم واملسيحية يف عالقتهما
بالفلسفة .2وهو ما ألّب عليه مجلة من العلماء الذين رأوا يف الكتاب "دعوة إىل محل مصر على
احلضارة الغربية وطبعها هبا وقطع ما يربطها بقدميها وبإسالمها".3
كرس طه حسين يف هذا الكتاب منهجا معينا يريد من خالله معاجلة قضية أساسية وهي لقد ّ
يصور هلم إهنم خلقوا من
"أن منحو من قلوب املصريني أفرادا ومجاعات هذا الوهم اآلمث الشنيع الذي ّ
طينة غري طينة األوريب ،وفطروا على أمزجة غري األمزجة األوربية ،ومنحوا عقوال غري العقول
األوربية".4
يضيف طه حسين يف إبراز الصلة الوطيدة بني العقل املصري واألوريب قائال" :مهما نبحث
ومهما نستقصي ،فلن جند ما حيملنا على أن نقبل أن بني العقل األوريب والعقل املصري فرقا
جوهريا" ،5فإذا كانت هذه هي النتيجة فليس أمامنا إال أن نتصل بأوربا حىت نصبح جزء منها لفظا
1طه حسني :مستقبل الثقافة يف مصر :اجملموعة الكاملة ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،ط ،0022 ،0مج ، 0ص.12 :
2ينظر :عبد اهلل إبراهيم :الثقافة العربية واملرجعيات املستعارة - ،تداخل األنساق واملفاهيم ورهانات العوملة -املركز الثقايف
العريب ،بريوت -الدار البيضاء ،ط0000 ،0ص.02 :
3سامح كرمي :معارك طه حسني األدبية والفكرية ،دار القلم بريوت ،ط ،0022 ،3ص.012 :
4طه حسني :مستقبل الثقافة يف مصر ،مج ،0ص.50 ،51 :
5نفسه ،مج ،0ص.58 :
42
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يقومها،
نقوم األشياء كما ّومعىن وحقيقة وشكال ،حبيث نشعر األوريب أننا نرى األشياء كما يراها ،و ّ
وحنكم على األشياء كما حيكم عليها".1
جاء يف كتاب "أعالم األدب املعاصر يف مصر" عن قيمة الكتاب احلضارية " إن كتاب مستقبل
الثقافة يف مصر..قد اعترب وقت كتابته ..الوثيقة اهلامة اليت تتميز بوضوح املنطلق ،وبعد اخليال إذا ما
قورنت بكل ما كتب حول أهداف الثقافة املصرية وآماهلا ...،وكما يوضح املؤلف يف املقدمة ،كان
هناك باعثان على تأليف الكتاب :األول هو معاهدة سنة 0022بني مصر وبريطانيا واتفاق مونرتو
اللذان فتحا الباب الستقالل مصر ،والثاين هو حضور املؤلف عددا من املؤمترات اليت دارت حوهلا
األهداف العامة للثقافة والرتبية ،واليت انعقدت يف باريس يف صيف .2"0022
" -1131من األدب التمثيلي اليوناين" سوفوكليس ترمجة طه حسين ملسرحيات "ألكرتا"
"إياس" "أنيتيجونا" و"أوديبوس ملكا" ،طبعت مبطبعة جلنة التأليف والرتمجة والنشر وأعيد طبعها يف
دار املعارف.
-1131يصدر كتاب "مع أيب العالء يف سجنه" ويف السنة نفسها يصدر اجلزء الثاين لكتاب
"األيام" وطبع ثانية باملعارف سنة 0052.
" -1142حلظات" ،وهي عبارة عن فصول ومقاالت خلصها طه حسين من عيون األدب
الفرنسي املعاصر ،وكانت قد نشرت يف دوريات "السياسة" و"اهلالل" و"احلديث" ،3والكتاب يف
جزأين ،طبع بدار املعارف سنة .0023
يف السنة نفسها يصدر اجلزء الثاين من كتابه "على هامش السرية" وطبع بدار املعارف وأعيد
طبعه فيها سنة 0052.
-1143يصدر اجلزء الثالث من "على هامش السرية" طبع بدار املعارف سنة 0022وأعيد
طبعه هبا سنة 0055.
2محدي السكوت ومارسيدن جونز :أعالم األدب املعاصر يف مصر )0( ،طه جسني ،ص.22 :
3املرجع نفسه :ص.82 :
43
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
0022 -1143صوت باريس وهو جمموعة من القصص التمثيلية ،طبع بدار املعارف سنة
وأعيد طبعه هبا سنة 0052.
-1141مجعت مقاالته اليت كانت تصدر يف جمموعة من الدوريات لعل أمهها "الرسالة"
و"الثقافة" و"الوادي" و"جمليت" حتت عنوان "فصول يف األدب والنقد" وهو الكتاب الذي "جعل
الشبان ينتظرون ويأملون أن يتناوهلم عميد األدب العريب بالنقد والتقييم تقديرا منه لتلك األعمال
العظيمة للجيل التايل من األدباء".1
-1141أصدر كتابه "جنة الشوك" وهو لون من الكتابة ،جديد -يف رأي صاحبه -على
جيل األدباء يف ذلك العصر حيث جاء فيه "والذين يقرؤون ما أذعت يف الناس من الكتب منذ أكثر
من ربع قرن يستطيعون أن ....يتبينوا يف وضوح وجالء أين أستجيب حني أكتب –و حني أكتب يف
األدب خاصة -لشيئني اثنني :أحدمها ما أرى من رأي أو أجد من عاطفة وشعور ،واآلخر امتحان
أكون
قدرة اللغة العربية على أن تقبل فنونا من األدب مل يطرقها القدماء ،وامتحان قدريت أنا على أن ّ
الصلة بني اللغة العربية وبني الفنون واآلداب".2
يتناول سامح كرمي كتاب "جنة الشوك" مربزا مكانة هذا اللون من الكتابة يف الساحة األدبية
آذاك ،فالكتاب حسبه يرمي "إىل تصوير فرتات عصر االنتقال اليت متتاز مبا يكثر فيها من اضطراب
الرأي واختالط األمر ،واحنراف السرية الفردية واالجتماعية عن املألوف من مناهج احلياة ،مما يدفع
املصلحني إىل النقد والعناية بإصالح الفاسد وتقومي املعوج والداللة على اخلري لقصد إليه ،وعلى الشر
ليتنكب سبيله .وخييل ملن يقرأ صفحات هذا الكتاب أن طه حسين قد سلك مسلك صديقه أيب
العالء املعري يف تصوير طباع الناس الذين أحسن إليهم فأساءوا إليه ،وصارحهم مبا ينطوي عليه قلبه
من حب فخذلوه وتآمروا عليه ،وهو كما هو ينظر إىل خذالهنم له بالسخرية ،معتمدا على علمه
الذي خيفف عنه أمل اإلنسانية".3
-1141يصدر كتابه "صوت أيب العالء" :نُشر يف العدد 32من "اقرأ" وطُبع بدار املعارف،
ويعد هذا الكتاب ثالث الكتب عن شخصية أيب العالء "و فيه ينثر بعض قصائد أيب العالء بأسلوبه
ممهدا للكثريين الذين يصعب عليهم فهم لزوميات أيب العالء فهما صحيحا أن األخاذ ّ
الشعري ّ
يدركوا غايات هذا الفيلسوف الشاعر ومراميه...إن حب طه حسين أليب العالء املعري ،جعله جيهد
يعز على
نفسه قدر طاقته يف أن حيبب فيه اآلخرين ..ومل يكن ذلك إال بتيسري أدبه وجعله سهال ال ّ
طالب علم أو اطالع".1
-1141يصدر طه حسين كتابه "عثمان" وهو اجلزء األول من كتاب "الفتنة الكربى" الذي
بكم هائل من املعلومات التارخيية حوليزود القارئ ّ طبع بدار املعارف ،وفيه استطاع طه حسين أن ّ
هذه القضية يف مقتل عثمان -رضي اهلل عنه -وإصابة األمة اإلسالمية هبذه الفتنة اليت مل تعرف هلا
مثيال منذ وفاة الرسول – صلى اهلل عليه وسلم -وفيه استطاع طه حسين أن يكون "املؤرخ املنصف
الذي يعرض األحداث جمردة عن كل عصبية أو هوى فقد ق ّدم للقارئ مادة وافية دقيقة موضوعية
عن تاريخ هذه الفرتة بشىت مالبساهتا".2
-1141يصدر كتابه "رحلة الربيع" الذي كان يف األصل جمموعة من املقاالت كان يكتبها من
أوربا مث مجعها حتت املسمى.
-1141يصدر كتابه "املعذبون يف األرض" واليت نشرت أوال مبجلة الكاتب املصري سنة
0028وما بعدها ،وطبعت يف صيدا بلبنان سنة ،0020مث مبطبعة املعارف مث طبعت بالشركة العربية
سنة ،0058والرواية إنسانية تعاجل قضية اجتماعية وإنسانية وتدين "شخوصها الرؤوس الغارقة يف
الغىن ،املتخمة بالثراء ،الالهية عن اجلوع ،وعلى الرغم من أن هذه مبادئ إنسانية ومعان يعتنقها أي
جر عليه الكثري من
كاتب حيمل بني أصابعه قلما شريفا على الرغم من كل هذا إال أن هذا الكتاب ّ
املتاعب واملشاكل نظرا لنغمته الثورية على األقل يف ذلك احلني"3؛ فاملشاكل اليت أثارها طه حسين
يف هذه الرواية مكنته من كشف املستور واملخبوء من هذه القضايا اإلنسانية ألنه يعيش وسط الناس
يعرب عن آماهلم وآالمهم ومهومهم ،وقد كانت اآلالم واهلموم كثرية وقت كتابة هذا املؤلَّف ،فرمحة
"و ّ
هلؤالء الذين ال جيدون ما ينفقون فيتطلعون إىل الواجدين لعلهم حيسون حنوهم بالعطف الذي جيب
أن ينتشر ورمحة هلؤالء الذين يطوون أكبادهم على خممصة بينما الطعام يتخم قوما قريبني منهم
ولكنهم ال حيسون إحساس احملروم .هكذا حتدث طه حسين ...وهلذا صودر كتاب املعذبون يف
األرض وُمنع من دخول القاهرة".1
-1141يصدر كتاب "مرآة الضمري احلديث" وقد طبع بعنوان "نفوس للبيع" ضمن جمموعة
كتب للجميع سنة 0052مبطبعة شركة التوزيع املصرية.
-1111يصدر كتاب "الوعد احلق" يف سلسلة اقرأ العدد 82مث يطبع بدار املعارف سنة
0052وسنة 0050وسنة 0021.
-1111جتمع فصول كتاب "جنة احليوان" ويطبع مبطابع جريدة املصري .
0025و0028 -1112مجعت جمموعة من املقاالت نشرت مبجلة "الكاتب املصري" بني سنة
حتت اسم "ألوان" وطبع بدار املعارف سنة 0053وأعيد طبعه سنة 0058بدار املعارف.
ويف السنة نفسها يصدر الطبعة األوىل من مؤلفه "بني بني" وهو جمموعة مقاالت نشرها جبريدة
"البالغ" ،2وطبع الكتاب بدار العلم للماليني بريوت .
-1113يصدر اجلزء الثاين من مؤلفه "الفتنة الكربى"" :علي وبنوه" ويطبع بدار املعارف،
ويعاد طبعه سنة .0020
-1111يشرتك مع األستاذ إبراهيم األبياري يف شرح "لزوم ما اليلزم" أليب العالء املعري ضمن
جمموعة "ذخائر العرب" اجلزء األول ،دار املعارف.
" -1111من هناك" وهو الكتاب نفسه "صوت باريس" .أصدره ضمن سلسلة "الكتاب
الذهيب".
ويف السنة نفسها يصدر كتابا بعنوان "خصام وتعد" .صدر يف بريوت وهو جمموعة مقاالت
نقدية نشرها جبريدة "اجلمهورية" ،ويتناول طه حسين راهن احلياة اإلبداعية والنقدية آنذاك وإشكالية
الركود املعريف الذي عرفته الساحة األدبية بقوله مير العام دون أن يظهر منها كتاب ..والصحف
اليومية واألسبوعية ال حتفل باألدب ،مث يناقش مجلة من القضايا املتصلة باألدب منها مثال :الصلة
فريد
بني األدب واحلياة ،وهل األدب للحياة أم أن األدب لألدب؟ مث حيدد العالقة بني األدب والثورة ّ
على الذين رموا األدب املصري بالتخلف عن جماراة ثورة 0053بقوله ...":ويزعمون أن أدب الثورة
مل يوجد بعد مع أن الثورة قد شبّت ...والذين يقولون هذا الكالم ينسون أو جيهلون أن األدب ميهد
يصور
للثورة ،وينشئها ويشب جذوهتا يف النفوس مبا يلقي يف قلوب الناس من اآلراء اجلديدة ومبا ّ
لعقوهلم من القيم املستحدثة ،وحني ينقل أذواقهم من طور إىل طور ،وحني يبغض إليهم القدمي من
أوضاعهم االجتماعية ويدفعهم إىل تغيري األوضاع .إمنا األدباء قوم حيلمون والثورة تعبري وتفسري
ألحالمهم".1
-1111أصدر كتابه "نقد وإصالح" الذي طبع بدار العلم للماليني ببريوت ،وطبع مرة أخرى
سنة 0021بالدار نفسها ،وهو عبارة عن جمموعة من املقاالت كان قد نشرها يف صحيفة
"اجلمهورية".
-1111أعاد طبع كتابيه "يف الصيف" و"رحلة الربيع" يف كتاب واحد بعنوان "رحلة الربيع
والصيف".
الساحة اإلبداعية املصرية إال أنه كان "أكثر حتررا ومرونة من كثري من أبناء جيله كالعقاد وعزيز أباظة
وغريمها".1
-1111يصدر كتابه "مرآة اإلسالم" الذي طبع بدار املعارف ،ويصدر كذلك يف بريوت "من
أدب التمثيل الغريب" الذي كان قد نشر فصوله يف "اجلهاد".2
ويف العام نفسه يصدر كتابه "أحاديث" الذي عاجل فيه العديد من القضايا اليت تتناول جوانب
كثرية من احلياة سواء األدبية والثقافية أو االجتماعية والفكرية مع حماولته تقدمي بعض احللول لبعض
اإلشكاليات.
جل
يف السنة نفسها يصدر من بريوت كتابه "من لغو الصيف إىل ج ّد الشتاء" الذي نشرت ّ
فصوله يف "الرسالة" و"جمليت" و"اهلالل" و"الثقافة" و"األهرام".3
-1111يصدر بالقاهرة كتابه الشيخان" :أو بكر وعمر بن اخلطاب" الذي طبع بدار املعارف
مبصر.
-1111يصدر له يف بريوت كتابه "من تاريخ األدب العريب" يف جملدين :يضم اجمللد األول
(العصر اجلاهلي واإلسالمي) ويضم الثاين (العصر العباسي األول) .وقد نشرت معظم فصول هذين
اجمللدين من قبل يف كتايب طه حسين اهلامني "يف األدب اجلاهلي" و"حديث األربعاء" ،وقد أضاف
هلا "شكري فيصل" بعض املقاالت واألحباث اليت مل تنشر من قبل.
-1111يصدر له "تقليد وجتديد" :وهي عبارة عن سلسلة إذاعية حول بعض قضايا التقليد
والتجديد ،مجعها كذلك شكري فيصل.
1محدي السكوت ومارسيدن جونز :أعالم األدب املعاصر يف مصر( )0طه حسني :ص.52 :
2نفسه ،ص.23 :
3نفسه :ص.23 :
48
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
-1111يصدر له "كتب ومؤلفون" :وهو عبارة عن مقاالت تضم املقدمات اليت كتبها طه
حسين لعدد من الكتب ومجعها شكري فيصل كذلك.1
إضافة إىل العديد من الرسائل واملقاالت اليت مل تنشر من قبل سواء كانت يف الرتمجة أم يف
النقد ،ومنها تلك الكتابات اليت كتبها طه حسين باللغة الفرنسية ،ومل تنشر من قبل ،كاليت مجعها
2
وترمجها عبد الرشيد الصادق حممودي.
1محدي السكوت ومارسيدن جونز :أعالم األدب املعاصر يف مصر( )0طه حسني :ص.02 :
2من الشاطئ اآلخر :طه حسني يف جديده الذي مل ينشر سابقا ،كتابات طه حسني الفرنسية مجعها وترمجها وعلق عليها،
عبد الرشيد الصادق احملمودي ،شركة املطبوعات للتوزيع والنشر ،بريوت ،ط.0001 ،0
49
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
50
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ترجع صلة طه حسين بالبحث العلمي احلديث أيام كان طالبا باجلامعة األهلية ،عندما طرق
مسعه ألول مرة دروس األساتذة املستشرقني ،الذين زاول عليهم دراسته العلمية احلديثة ،واليت مثّنها
فيما بعد يف التحاقه باجلامعة الفرنسية " لقد مسع من أساتذته عموما وأستاذه كارلو نالينو خاصة أن
البحث العلمي الرصني يتطلب األخذ باملنهج العلمي احلديث ،كما مسع أن هذا املنهج هو مجلة من
األسس والعمليات والعلوم على الباحث أن يأخذ هبا ،فجمع شتات كل ما مسعه حماوال تطبيقه يف
أول حبث قدمه سنة 0002إىل اجلامعة لنيل درجة الدكتوراه 1"،وكان ذلك يف أول عهده بتلك
الطروحات اجلديدة اليت مل يكن له عهد هبا.
لقد دعا طه حسين إىل املنهج التارخيي بعدما ذاع صيته بفرنسا آنذاك ،وهو منهج حيتكم
إىل العلل واملعلوالت ،ويفسر الظواهر األدبية تفسريا سببيا ،وقد جعل عينة حبثه أبا العالء املعري يف
فلسفته التشاؤمية ،مربزا النفس اإلسالمية ودورها يف عصرها قائال " :ليس الغرض يف هذا الكتاب أن
نصف حياة أيب العالء وحده وإمنا نريد أن ندرس حياة النفس اإلسالمية يف عصره ،فلم يكن حلكيم
املعرة أن ينفرد بإظهار آثاره املادية واملعنوية ،وإمنا الرجل وما له من آثار وأطوار نتيجة الزمة ،ومثرة
ّ
ناضجة لطائفة من العلل اشرتكت يف تأليف مزاجه ،وتصوير نفسه ،من غري أن يكون له عليها
سيطرة أو سلطان".2
1عبد اجمليد حنون :الالنسونية وأثرها يف رواد النقد العريب احلديث ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،دط ،0002 ،ص:
.022
2طه حسني :جتديد ذكرى أيب العالء ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ط ،0022 ،0مج ،2ص.225 :
51
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ينتج عن هذه الدراسة العلمية ،اإلقرار بأن األديب املبدع مثرة من مثرات اجملتمع ،يؤثر فيه كما
سوف يتأثر به ،وهي نظرة حتتكم إىل الصريورة التارخيية اليت جتعل من الظاهرة األدبية علّة ومعلوال يف
اآلن نفسه ،ولقد دأب الرجل على االمتثال التام هلذا املنهج يف الدراسة ،جاعال من كل النتائج اليت
حتصل عليها سببا من أسباب هذا املنحى من مناحي الدراسة .يقول طه حسين دفاعا عن توجهه
عما قبله وما بعده ،ذلكالبحثي" :و اخلطأ كل اخلطأ أن ننظر إىل اإلنسان نظرنا إىل الشيء املستقل ّ
الذي ال يتصل بشيء مما حوله ،وال يتأثر بشيء مما سبقه أو أحاط به ،ذلك خطأ ،ألن الكائن
املستقل هذا االستقالل ال عهد له هبذا العامل ،إمنا يأتلف هذا العامل من أشياء يتصل بعضها ببعض،
ويؤثر بعضها يف بعض ومن هنا مل يكن بني أحكام العقل أصدق من القضية القائلة بأن املصادفة
حمال ،وأن ليس يف هذا العامل شيء إال وهو نتيجة من جهة وعلة من جهة أخرى".1
ينقاد طه حسين جراء اتّباعه املنحى التارخيي يف تفسري الظاهرة األدبية ،إىل أن جيعل من تأريخ
عما كان معهودا يف طريقة القدماء ،ويضع ألجل ذلك األدب ظاهرة جديدة ،ختتلف االختالف كله ّ
شروطا حامسة ،يف التأريخ ومن مثّ التنظري هلذه الظواهر ،يقول" :فاملؤرخ الذي ال يؤمن باملذاهب
احلديثة وال يصطنع يف البحث طرائقه الطريفة ،وال يرضى أن يعرتف مبا بني أجزاء العامل من االتصال
احملتوم ،وال أن يسلّم بأن الشيء الواحد على صغره وضآلته ،إمنا هو الصورة ملا أوجده من العلل وال
يطمئن إىل أن احلركة التارخيية جربية ليس لالختيار فيها مكان ،املؤرخ القدمي الذي يرفض هذا كله،
وال مييل إليه ملزم مع ذلك أن يبحث عن حياة األمة اإلسالمية ،إذا حبث عن حياة أيب العالء
املعري ،فإنه إ ْن مل يفعل ذلك ،استحال عليه أن يفهم الرجل ،أو يهتدي من أمره إىل شيء".2
إن دعوة طه حسين إىل جتديد األدوات النقدية احلديثة ،إمنا هي دعوة إىل جتاوز ما هو عتيق
تسهل الوقوفمن العملية النقدية برمتها ،وحتريض على األخذ مبا عند الغرب من طرائق للبحث ّ
على مجيع الظواهر األدبية دون استثناء ،وهي يف الوقت نفسه دعوة إىل املروق عن هذه اآلراء النقدية
البالية ،اليت جتاوزها الزمن احلديث ،حىت يف كيفية جتديد العمل على مصادر البحث ومراجعه .يدعو
طه حسين إىل إيفاء البحث حقه منها ،وذكرها ملا يتطلبه البحث العلين اجلديد يف أوربا من هذا
اإلجراء على عكس ما كان مألوفا يف البحوث التقليدية ،يقول العميد " :لقد كان ميتاز الرجل يف
العصر القدمي بكثرة ما أحصى من العلم ،وما وعى من األخبار ،فكان من املعقول أن يضن على
الناس مبصادر علمه حىت ال يشارك فيه .أما اآلن فقد أصبح الرجل ميتاز حبسن البحث والتحليل،
وإتقان التتبع واالستقراء وإجادة النظر واالستنباط ،ومن الواضح أن إظهار مصادره للناس يعينه على
إظهار حظه من ذلك ،وإعالن قسطه من التفوق والنبوغ".1
يعلق الباحث اجلزائري عبد المجيد حنون ،حول هنج طه حسين من البحث واالستقصاء
بقوله ":لقد تغري مفهوم العلم من التحصيل واحلفظ إىل البحث والتحليل وإتقان التتبع واالستقراء،
ومن مث البد أن يتحول املنهج من سرد لألخبار وإهبار للسامعني بكثرهتا وطرافتها ،إىل حبث وحتليل
تلك األخبار للكشف عن عللها من جهة ونتائجها من جهة أخرى ،إهنا رؤية جديدة للتاريخ اقتنع
هبا طه حسين وأعلن اعتمادها أسلوبه يف البحث".2
إن املنحى الذي حناه يف حبثه حول أيب العالء املعري ،ما كان له أن خيرج منه بطائل لوال الرؤية
النقدية احلديثة ،اليت تأثر هبا أّميا تأثر من قبل أستاذه املستشرق اإليطايل كارلو نالينو ،الذي أخذ عنه
كيفيات البحث عن تاريخ اآلداب وكيفية التأريخ هلا ،بعدما جعل نالينو هذا املنهج سبيال ملعرفة
اآلداب األوربية ،راح ينتهج النهج نفسه حول تاريخ آداب اللغة العربية من اجلاهلية حىت صدر الدولة
األموية ،يقول نالينو" :إن املطلوب مين ليس إال أن أطبق على اآلداب العربية أساليب البحث
التارخيي اليت عادت على تاريخ آدابنا اإلفرجنية بطائل عظيم".3
كانت بصمة األستاذ واضحة جلية يف تلميذه ،الذي حذا حذوه يف تفعيل هذا املنهج حول أيب
العالء ،وهو املنهج التارخيي احلديث ،الذي خيتلف -ال حمالة -عن نظريه املنهج التارخيي القدمي:
"فالقدمي يقوم على جتميع األخبار واملعلومات والروايات ونسبتها إىل أصحاهبا ،مث سردها ،دون حتليل
أو تعليل من منطلق احرتام املاضي وتقديسه أحيانا ،أما املنهج التارخيي احلديث ،فال يكتفي جبمع
األخبار والروايات ونسبتها ،وإمنا يتعدى ذلك إىل البحث والتحليل والتعليل واالستقصاء لتلك
53
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الروايات بغية الكشف عن أسباهبا ونتائجها وبذلك تصبح مسألة نسبية ،ويصبح املاضي يعامل
معاملة احلاضر ،أي يدرس دراسة موضوعية".1
انطالقا من إميان طه حسين جبدوى اتباع طروحات املنهج التارخيي ،للوصول إىل نتائج مل
تقصي األخبار
تصل إليها الدراسات األدبية العربية من قبل ،فإنه حنا يف حبثه ذلك املنحى من ّ
وقياسها مبحك العقل واملنطق ،وجعل الظاهرة األدبية علة ملعلول موجود ،أو هي نتيجة لسبب قائم.
لقد تعلم طه حسين من أستاذه نالينو " أن األدب مرآة للعصر الذي قيل فيه ،فهو دافع من
مصور هلا ،وال سبيل إىل درسه وفقهه إال إذا
دوافع هذه احلياة وكذلك صدى من أصدائها ،أي ّ
درست احلياة اليت سبقته فأثرت يف إنشائه ،واليت عاصرته فتأثرت به وأثّرت فيه ،واليت جاءت يف إثر
عصره فتل ّقفت نتائجه وتأثرت هبا" .2وخلص من ذلك أن لألدب مظهرين "مظهره الفردي ألنه
يستطيع أن يربأ من الصلة بينه وبني األديب الذي أنتجه ،ومظهره االجتماعي ألن هذا األديب نفسه
ليس إال فردا من مجاعة ،فحياته ال تُتصور وال تُفهم وال ُحتقق إال على أنه متأثر باجلماعة اليت يعيش
3
فيها ،هو يف نفسه ظاهرة اجتماعية فال ميكن أن يكون أدبه إال ظاهرة اجتماعية".
لقد استمع التلميذ غري مرة إىل أستاذه ،وهو يعرض ألمساء علماء معتربين فينقد أعماهلم،
ويبدي فكره حبرية تامة ،قصد االنتفاع بأعماهلم العلمية ،وتقديرها بعيدا عن كل غرض دينء 4مث
ينتقل ليتحدث عن اللغة بوصفها الكائن احلي الذي يقبل "النمو والتجدد والفساد ،وكذلك األلفاظ
تغري أحوال األمة
املفردة ،فكثريا ما يطرأ عليها من التغري واالنتقال من معىن إىل آخر حسبما يقتضيه ّ
االجتماعية والسياسية والتقدم أو التقهقر يف الصنائع والعلوم".5
1عبد اجمليد حنون :الالنسونية و أثرها يف رواد النقد العريب احلديث ،ص.022 :
2كارلو نالينو :تاريخ اآلداب العربية ،مقدمة طه حسني ،ص.01 :
3نفسه ،ص.01 :
4ينظر نفسه ،ص.31 ،00 :
5نفسه ،ص.30 :
54
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
بغض ،وإمنا اجمليد واملسيء سواء يف اخلضوع لقوانني البحث .1وتعترب هذه املرحلة من مراحل الكتابة
النقدية عنده من أخصب املراحل وأمثرها ألهنا شكلت املعامل األساسية أو األوىل للكتابة النقدية
عنده ،أعين هنا األعمال اليت تقدم هبا عن أيب العالء املعري ،فالرجل مل يتجاوز اخلامسة والعشرين
عندما ندب نفسه لتقدمي أيب العالء للناس على الرغم من ازوراره عنه يف البداية هروبا من التقاليد
وينميها ،لكن مل يفتأ األمر أن انقلب بتأثر الرجل بأستاذه املرصفي.
يكرسها ّ البالية اليت كان األزهر ّ
يقول طه حسين عن تلك املرحلة من حياته العقلية..." :أنا رجل شديد األثرة أحب أن أكون
ملعاصري وملن جييئون على أثري من الناس وضوحا تاما يف مجيع ما اختلف على نفسي من
ّ واضحا
األطوار ،وهذا الكتاب ميثل حيايت العقلية يف اخلامسة والعشرين ،فال بأس بإظهار هذا النوع من
احلياة للناس".2
ترتاوح األحكام النقدية له ،بني أحكام يتعصب فيها لصاحبه أيب العالء من منطلق النقد
التأثري واالنطباعي ،الذي حيتكم فيه طه حسين إىل الذوق الشخصي البعيد عن معايري النقد
والتقريض ،وبني أحكام يكون فيها قاسيا عليه أحيانا أخرى ،يف نقد موجع وعميق يف اآلن نفسه
كما يف قوله" :ولقد يغرت بعض الباحثني مبا جيد يف شعره من وصف النجوم ومواقعها وحركاهتا ،ومن
وصف السيف وروائه ،والفرس وأجزائه ولكنه إن أعجب بذلك ،فإمنا يعجب بشيء ليس أليب العالء
فيه إال الرواية وحسن التنسيق فهو يف احلقيقة يستطرف شيئا تليدا ...على أن نقنع اآلن باإلشارة إىل
املصادر العامة اليت يأخذ منها املكفوفون ما يطرقون من أوصاف املادة ،فأوهلا ما يقرؤون ويستظهرون
من الشعر والنثر ،الذي أنشأه املبصرون والثاين ما يرثون من األساطري القدمية ،والثالث ما يسمعون
من أحاديث الناس ،والرابع ما جيدون يف كتب العلم من خصائص األشياء ،هذه املصادر تشرتك يف
إمداد املكفوفني مبا جتد يف كالمهم من وصف املبصرات".3
يكتب صالح فضل معلقا على هذا احلديث حول نقد طه حسين للمعري قائال " :و ال
أحسب أن هذا احلديث العميق الذي تأمل فيه طه حسين حال املعري وحاله وهو يف اخلامسة
والعشرين من عمره ،مل خيرج بعد من مصر ،ومل يطّلع على معطيات الثقافة احلديثة بشكل مباشر ،قد
يغريه جذريا بعد هذا الزمن الطويل ألنه ينبئ عن خربة علمية وفنية صادقة ،وينبثق من
وجد ما ّ
استبطان صحيح وتأمل طويل وموضوعي لطبيعة هذا املوقف الدقيق".1
غري أن هذا النقد ال يلبث أن يتغري مبرور الزمن ،بني النقد األول والنقد يف املراحل الالحقة،
ليتكثف احلوار بني الرجلني يف شكل من التماهي بني الشخصيتني يف بعضهما البعض ،وينصرف
حوار طه حسين إىل املعري يف شكل مناجاة روحية يبث من خالهلا لواعج نفسه وأشجان روحه
لرفيق روحه املعري يف هذه املناجاة الرفيعة" :كنت أحدث أبا العالء بأن تشاؤمه ال مصدر له يف
حقيقة األمر إال العجز عن ذوق احلياة ...وكان أبو العالء جييبين ببيته املشهور:
الشك أن هذا التواصل ،هو تواصل روحي يبث فيه احملاور صاحبه كل ما يعتمل يف نفسه من
مشاعر وأحاسيس ،أراد هلا البوح وآثر هلا اإلعالن على الصمت .يعلّق صالح فضل حول هذا
احلديث بقوله " :وهو هنا يتواصل روحيا وفنيا مع أيب العالء املفكر الفيلسوف أكثر مما يتواصل مع
كتابته ،فيصبح الشعر وثيقة للحياة ومادة للتأمل وأداة للحديث ،ويصبح البطل هو املؤلف ،ويتحول
النص إىل موضوع ثانوي ضعيف األمهية ،لكن طه حسين يتخذ من هذا النهج التأويلي ذريعة لبلورة
بعض اخلواطر اجلمالية ذات القيمة النقدية الرفيعة فهو يدرك أنه يرتكز على مبدأ التواصل مع املتلقي
كمنطلق للفاعلية اجلمالية ،ويستثمر هذا املبدأ إىل منتهاه ،ويستخلص منه بعض اللفتات املاهرة
العميقة".3
إن منطقة التناول النقدي اليت يقدمها طه حسين متتح من املقوالت البالغية القدمية
عج هبا النقد
مصطلحاهتا ،وال تكاد حتيد عنها ،ذلك أن الرجل موقوف حول هذه املقوالت اليت ّ
القدمي واحلديث على السواء ،فال خمرج للناقد عنها ،وإن كانت حتتاج يف الكثري من األحيان إىل أن
مر هبا طه
تتطلع إىل الوافد اجلديد من األجهزة املفاهيمية احلديثة ،خاصة يف مراحل التماهي اليت ّ
حسين يف نقده سواء للمعري أو للمتنيب ،ففي تعليقه على بيتني للمتنيب يقول فيهما:
1صالح فضل :شفرات النص ،دراسة سيميولوجية يف شعرية القص والقصيد،دار اآلداب،بريوت ،ط،0000 ،0ص.021 :
2طه حسني :مع أيب العالء يف سجنه ،دار املعارف ،مصر ،ط ،00ص.05 ،02،02 :
3صالح فضل :شفرات النص ،ص.020 :
56
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
لي وداعـا
فافترقنا حوالً فلما التقينا كان تـسليمه ع ـ ـ ّ
يعلّق طه حسين حوهلما بقوله " :وسواء أكان هذا الشعر جيّدا أو رديئا مستقيما أو ملتويا،
فإين أجد يف نفسي حبّا له وميال إليه ،ألين أمتثل هذا اجلهد العنيف الذي بذله هذا الصيب الذكي،
حىت استخرج هذين البيتني .ومن يدري لعلّي إمنا أحب هذين البيتني وأُعجب جيهد الصيب يف
استخراجهما ،ألين شهدت صبيا أحبّه يبذل هذا اجلهد ،وينفق مثل هذا الوقت ويستخرج مثل هذا
الشعر ،ومل أجد بدًّا من أن أثين له على شعره ،وأهنئه مبا انتهى إليه من الفوز .ومل أكن يف هذه
التهنئة وال يف ذلك الثناء متكلفا وال غاليا .وإمنا كنت صادقا مرسال نفسي على سجيّتها ،أصدر عن
العاطفة أكثر مما أصدر عن الفن".1
يقول صالح فضل عن مصطلحات طه حسين النقدية ،وجهازه املفاهيمي يف ذلك الوقت،
أهنما مل يسايرا ما كان يصبوا إليه من جتاوز للسائد يف جمال النقد ،عندما ضاقت عنه العبارة وافتقر
املصطلح النقدي إىل الرتكيز واإلفادة واهلدف..." :و لقد كان جهاز طه حسني املعريف غنيا يف
مفاهيمه وتصوراته فهو ذواقة منوذجي ،يتقن معايشة النصوص ،ويتفنن يف الكشف عن بواطنها ومل
يكن النقد يف العقود األوىل من هذا القرن قد جتاوز مرحلة التناول املوضوعايت والتحليل الفكري
للنصوص ،فإذا احتاج طه حسني ألدوات اصطالحية ترتبط هبذا القطب الفين ،مل جيد لديه سوى
جمموعة التسميات البالغية الفقرية ،فهو مضطر إذا أن يرجع فن املتنيب فعال إىل ما يسميه خصلتني
مها قوامه الشعري ومها املطابقة واملبالغة".2
يقف طه حسين عند منهج القدماء يف قراءة النصوص الرتاثية ،وكذلك يقف عند مناهج
البحث احلديثة األوربية خاصة ،ويربز جدواها وفاعليتها يف عمل تفاضلي واضح؛ فالرجل يعتمد
وبني ذلك يف
اعتمادا كليا ودائما على هذا النزوع التفاضلي بني العقل املصري العريب والعقل الغريب ّ
مستهل مقدمته لكتابه "جتديد ذكرى أيب العالء" حيث يضع القارئ يف صلب إشكالية البحث
طه حسني :مع املتنيب ،دار املعارف ،مصر ،دط ،دت ،ص.28 :
1
ويطلعه على ممايزته بني منهجني يف الدراسة :املنهج القدمي أو ما يصطلح عليه هو مبنهج املرصفي،
واملنهج احلديث الذي تأثر فيه ببعض أساتذته املستشرقني.
.2منهج املرصفي
يعرتف طه حسين بأمهية املنهج النقدي ،الذي تعلمه على المرصفي حيث يقول عنه:
"مذهب األستاذ املرصفي نافع النفع كلّه إذا أريد تكوين ملكة يف الكتابة وتأليف الكالم وتقوية
الطالب يف النقد وحسن الفهم آلثار العرب ،وليس يريد األستاذ أكثر من ذلك ،ولكن هذا املذهب
وحده ال يكفي إلجادة البحث عن اآلداب وتارخيها على املنهج احلديث".1
ذلك املنهج هو الذي ش ّكل املعامل الكربى لشخصيته النقدية فيما بعد ،حبكم عملية التأثر
احلاصلة من قبل الطالب ،فالمرصفي هو املرحلة األوىل من مراحل تكوينه النقدي ملا ملس فيه من
ج ّد وإخالص وعمق يف التأصيل الرتاثي ،األمر الذي حدا به إىل القول بأن " أستاذنا اجلليل ،السيد
علي املرصفي أصح من عرفته مبصر فقها يف اللغة وأسلمهم ذوقا يف النقد وأصدقهم رأيا يف األدب
وأكثرهم رواية للشعر والسيما شعر اجلاهلية واإلسالم".2
ميثّل المرصفي املرجعية الرتاثية األوىل بالنسبة لطه حسين ،ملا وجد فيه من عمق يف االطالع
على الرتاث وصدق يف الرأي ،وما كان يتمتع به من ذوق سليم بوأه تلك املكانة السامقة يف مساء
العلم وجعل منهجه القدمي هذا حمصورا يف شخصه.
.3املنهج احلديث
هو املنهج الذي استحدثته اجلامعة املصرية عند إنشائها ،وذلك على يد جمموعة من األساتذة
املستشرقني ،الذين أتوا مبناهج علمية حديثة يف دراسة نصوص األدب العريب مل تعهدها اجلامعة من
يعرف طه حسين املنهج احلديث بقوله" :املذهب الذي أحدثته اجلامعة املصرية يف درس قبلّ .
اآلداب مبصر نافع النفع كلّه الستخراج نوع من العلم مل يكن لنا بد عهد مع شدة احلاجة إليه ،وهو
58
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تأريخ اآلداب تأرخيا ميكننا من فهم األمة العربية خاصة واإلسالمية عامة فهما صحيحا ،حظ
الصواب فيه أكثر من حظ اخلطأ ونصيب الوضوح فيه أوفر من نصيب الغموض".1
هذا املنهج احلديث هو الذي ميكننا حسبه ،من استخراج الصورة احلقيقية لألمة العربية
واإلسالمية ،كما فعل أصحابه يف أوربا من قبل ،وتبقى إشكالية قراءة موروث األمة العربية واإلسالمية
من أهم اإلشكاليات املعرفية ،اليت نذر العميد نفسه للقيام هبا على مدار حياته الفكرية والتأليفية.
.4فاعلية املنهجني
يفاضل طه حسين يف بداية مؤلفه "جتديد ذكرى أيب العالء" بني املنهجني القدمي واحلديث،
إيل أبا العالء وأزال املنهج
"كره املنهج القدمي ّ
وينتصر طبعا لطروحات املنهج احلديث حيث يقولّ :
احلديث من نفسي هذا الكره ،ووقفين مع بعض الشعراء احملدثني واملتقدمني موقف الرجل احلر ،ال
يستهويه حب وال يصرفه بغض وإمنا اجمليد واملسيء عنده سواء يف اخلضوع لقوانني البحث".2
ينساق طه حسين وراء طروحات املنهج احلديث ،الذي ينشد املوضوعية يف الطرح النسيب وال
حيتكم إىل التأثرية أو االنطباعية ،وال خيضع للحب والكراهية ،كما هو الشأن مع املنهج القدمي،
وتعلقه باملنهج احلديث ،هو الذي جعله يتربم مبقوالت املنهج القدمي البالية حسبه ،ودون أن يقع يف
شرك التمايز الفاضح بني املنهجني ،يدعو مرة أخرى إىل حماولة اجلمع بينهما فيقول " :ولست أزعم
أنّا لسنا يف حاجة إىل درس اآلداب على املنهج القدمي ،بل أقول إنّا يف حاجة إىل املنهجني معا ،يف
حاجة إىل املنهج القدمي لتقوى يف أنفسنا ملكة اإلنشاء وفهم اآلثار العربية التليدة ،يف حاجة إىل
املنهج احلديث لنحسن استنباط التاريخ األديب من هذه اآلثار".3
يتضح مما سبق أن حاجة طه حسين للمنهجني من األمهية مبكان؛ ذلك أن الرجل سيجعل
كل اهتمامه حماولة استكشاف حياة أيب العالء املعري ،متبعا يف ذلك مقوالت املنهج التارخيي وما
يزوده به من آليات تساعده على القراءة والفهم ،دون أن يغفل املنهج القدمي الذي ّزوده فيما مضى
ّ
بأساسيات العملية النقدية اليت يقول عنها "فلم يبق من هذه اآلثار احلسان اليت تركها األستاذ يف
تلك النفس الناشئة إال دقة النقد اللفظي واحلرص على إيثار الكالم إذا امتاز مبتانة اللفظ ورصانة
1
األسلوب".
أما عن مالبسات إخراج هذا الكتاب للناس يف ذلك الوقت ،واألسباب اليت دفعته إىل تأليف
يصرح قائال" :و قد كانت مهيت فرتت عن العناية به والتفكري فيه حني شغلين عندما
مثل هذا الكتاب ّ
كنت فيه من درس وحتصيل ولكين أذنت يف نشره ألمرين :األول :أنه ميثل طورا من أطوار حيايت
العقلية وأنا رجل شديد األثرة أحب أن أكون واضحا ملعاصري وملن جييئون على أثري من الناس،
وضوحا تاما يف مجيع ما اختلف على نفسي من األطوار ،وهذا الكتاب ميثل حيايت العقلية يف
اخلامسة والعشرين ،فال بأس بإظهار هذا النوع من احلياة للناس".2
يربز هذا النص مرحلة هامة من مراحل تكوين طه حسين ،وهو يف اخلامسة والعشرين من
عمره ،ويعترب كتابه عن أيب العالء تأسيسا لفكره النقدي ومرجعية معرفية يف آن معا.
مث يضيف طه حسين السبب الثاين الذي دفعه إىل إخراج كتابه للناس..." :الثاين :أن هذا
الكتاب – وال أريد بذلك انتحال فخر أو حرص على متدح -يؤرخ احلركة األدبية يف مصر ،فإين ال
أعرف قبل اليوم كتابا ظهر على هذا النحو من البحث ،ورمبا ال أغلو إن قلت :إين ال أعرف كتابا
يف اآلداب العربية قد وضعه صاحبه على قاعدة معروفة وخطة مرسومة من القواعد واخلطط اليت
يتخذها علماء أوربا أساسا ملا يكتبون يف تاريخ اآلداب 3"،وهو بذلك يبوء كتابه مكانة غاية يف
األمهية ،ملا طرقه من جديد على مستوى املنهج النقدي احلديث.
جعلت درس أيب العالء درسا لعصره ،واستنبطت حياته مما أحاط به من املؤثرات ،ومل أعتمد هذه
املؤثرات األجنبية وحدها ،بل اختذت شخصية أيب العالء مصدرا من مصادر البحث ،بعد أن وصلت
إىل تعيينها وحتقيقها ،وعلى ذلك فلست يف هذا الكتاب طبعيا فحسب بل أنا طبعي نفسي أعتمد
فيه ما تنتج املباحث الطبيعية ومباحث علم النفس" .1وهي أوىل خطوات هذا املنهج اجلديد ،الذي
ارتضاه لتحليل نفسية الشاعر ،األمر الذي ميكنه من استخراج الصورة املثلى له.
يسرتسل طه حسين يف إبراز قيمة الكتاب املعرفية منذ البداية ،فيشعر قارئه بأنه يريد لكتابه أن
يكون نوعا من املنطق يف قوله..." :فأما أنا فقد وضعت هلذا الكتاب خطة رمستها رمسا ظاهرا يف هذا
التمهيد ،الذي يلقاك بعد الفراغ من هذه الكلمة ،وتشددت يف اتباع هذه اخلطة ،فلم أمهلها ومل أشذ
عن أصل من أصوهلا حىت كاد الكتاب يكون نوعا من املنطق أو هو بالفعل منطق تارخيي وأديب ليس
فيه حكم إال وهو يستند إىل مصدر ،وال نتيجة إال وهي تعتمد على مقدمة ،قد بذلت اجلهد يف
استقصاء حظها من الصحة ،ولست أزعم أن نتائج هذا الكتاب كلها حق من غري شك ،ولكين
أعتقد أن إصابتها عندي راجحة وأهنا إىل اليقني أقرب منها على الشك" .2وذلك إلميانه بنسبية
النتائج اليت ميكن أن يتحصل عليها من وراء تفعيل آليات هذا املنهج أو ذاك.
ينساق طه حسين يف مؤلفه هذا وراء املنهج التارخيي لكن يف كثري من الغلو باستحضاره أمورا
شكلية رمبا تسيء إىل نتائج املنهج أكثر مما تثريها وتؤيدها ،فهو يف الكثري من األحيان يُبني عن أثر
أستاذه نالينو يف شخصيته البحثية ،وذلك على حساب الداللة املكتنزة داخل النص .جند من ذلك
– مثال -عندما يتحدث عن أيب العالء املعري من أنه مكفوف البصر وأنه نتيجة لذلك ال جييد
وصف املبصرات فيقول" :وإمنا يتقن وصف ما حييط به علمه من غري املبصرات ،فإن تناول األشياء
املبصرة فوصفها وفصل أجزاءها وحددها فليس خيلو من إحدى اثنني :إما أن يكون عياال على غريه
من الوصاف واملبصرين فيأخذ عنهم ما قالوا ،وينفخ فيه من نظمه روحا خاصة ،وليس هو يف هذه
احلال واصفا وال شاعرا وإّمنا هو نظّام ،وإما أن ميلكه الغرور ،ويأخذه العجب ،فيتناول األشياء
61
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
املبصرة بالوصف والتفصيل من غري أن يأمت بغريه أو يرتسم خطو شاعر آخر ،وهو يف هذه احلال
عرضة اخلطأ الشائن والسخف الكثري".1
رمبا ال جند مربرا هلذه النتائج اليت حتصل عليها طه حسين يف تتبعه ملثل هذه القضايا؛ فالرجل
ينتصر لروح املنهج العلمي حىت على حساب النص .ذلك أنه قد خالف الكثري من العلماء الذين
أثبتوا أن املكفوفني ال يقلون قدرة على وصف غري املبصرات واملبصرات ،وأن الضرير ميكنه أن جييد
وصف املبصرات.2
غري أن السبب الذي دفع به إىل مثل هذا املوقف هو اتباعه خطة معيّنة رمسها لكتابه وأراد هلا
أن تنفذ يف علميتها ،فإذا كان لكل علة معلول فإنه كذلك البد أن تستند إىل علة معقولة مفادها أن
الضرير ال ميكن أن يصور إال ما أدركه مبخيلته .لقد حاول طه حسين تطبيق تلك اخلطة اليت رمسها
منذ مقدمة كتابه ،ويف أحيان أخرى يسقط يف وعثة التلفيق ألنه ينساق وراء طموحه النظري على
حساب ممارسته النقدية .األمر الذي جيعلنا نستحضر تلك اللغة اإلنشائية اليت عودنا عليها مثال يف
قوله..." :بل ما لنا وخليال الشعراء نقصد إليه ونتعمق فيه ،وما أخذنا يف هذا الكتاب لنكون شعراء،
أو خائلني ،وإمنا سبيلنا فيه سبيل الباحث احملقق والدارس املستقصي جيمع األشباه إىل نظائرها
واألشياء إىل قرائنها ،ليستنبط منها قضية جمهولة ،أو يوضح هبا حكما غامضا أو يستظهر هبا على
إثبات خرب مشكوك فيه".3
.1احلتمية التارخيية
تقوم فكرة احلتمية التارخيية عند طه حسين على أساس أن أبا العالء املعري كان نتيجة
جملموعة من العوامل صنعته ،وجيب اإلملام واإلحاطة هبا ،يقول " :ليس الغرض يف هذا الكتاب أن
نصف حياة أيب العالء املعري وحده ،وإمنا نريد أن ندرس حياة النفس اإلسالمية يف عصره ،فلم يكن
املعرة أن ينفرد بإظهار آثاره املادية واملعنوية ،وإمنا الرجل وما له من آثار وأطوار نتيجة الزمة
حلكيم ّ
2ينظر :عز الدين األمني :نشأة النقد األديب احلديث يف مصر ،دار املعارف ،مصر ،دط ،ص.322 :
3طه حسني :جتديد ذكرى أيب العالء ،ص.22 :
62
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ومثرة ناضجة لطائفة من العلل اشرتكت يف تأليف مزاجه وتصوير نفسه ،من غري أن يكون له عليها
سيطرة أو سلطان".1
يرى طه حسين -نتيجة لذلك -أن مهمة مؤرخ األدب هي الكشف عن هذه العلل اليت
تقف وراء إنتاج مثل هذه األعمال ،كما جيب على املؤرخ أن يربز هذه األسباب اليت أوجدت
عما قبله
صاحب العمل كذلك " واخلطأ كل اخلطأ أن ننظر إىل اإلنسان نظرنا إىل الشيء املستقل ّ
أو ما بعده ،إذ ليس يف هذا العامل شيء إال وهو نتيجة من جهة وعلة من جهة أخرى ،ونتيجة لعلة
سبقته ومقدمة ألثر يتلوه ...وليس للمؤرخ اجمليد إال البحث عن هذه العلل والكشف عما بينها من
صلة أو نسبة ،فعمله يف احلقيقة وصفي ال وصفي أي أنه يدل على شيء قد كان ،من غري أن خيرتع
شيئا مل يكن".2
يبالغ طه حسين كثريا يف تتبعه الظاهرة التارخيية للوصول إىل األسباب اليت دفعت إىل الوجود
بأيب العالء وغريه فيما بعد ،ويظهر أنه تأثر بطروحات املنهج التارخيي يف بداية كتابه خاصة عندما
يقرن وجود أيب العالء املعري بعنصر الزمان واملكان والبيئة يقول " :فأبو العالء مثرة من مثرات عصره،
قد عمل يف إنضاجها الزمان واملكان واحلال السياسية واالجتماعية ،واحلال االقتصادية ولسنا حنتاج
إىل أن نذكر الدين ،فإنه أظهر أثرا من أن نشري إليه" .3هذه العلل اليت يرى طه حسين أهنا كفيلة
بإبراز أيب العالء يف زمانه ومكانه وبيئته .منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي -حسب طه
حسني ،-أما العلل املادية فالبيئة الطبيعية :كاعتدال اجلو وصفائه ،وخصب األرض ومجال الرىب ،ورقة
املاء وعذوبته ،ونقاء الشمس وهباؤها .ومن العلل املعنوية مثال :ظلم احلكومة وجورها ،وجهل األمة
ومجودها ،وشدة اآلداب املوروثة وخشونتها ،وهذه العلل تشرتك يف تكوين الرجل وتنشئ نفسه ،بل
يعن له من اخلواطر واآلراء.4
وتلهمه أيضا ما ّ
يشرتط طه حسين فكرة اجلرب التارخيي أو احلتمية التارخيية كذلك يف كشف شخصيات
األعالم؛ ألن املنهج التارخيي يعتمد الوصف أساسا له ،فالناقد ينتقل باملعري من الكلي إىل اجلزئي
ألنه يص ّدر كالمه عنه باملؤثرات الكربى :الزمان واملكان واألوضاع االجتماعية والسياسية ،مث ينتقل
ويفصل فيها احلديث ،ويشرتط كذلك على املؤرخ األديب أن إىل املعري وأسرته مث ثقافته ومزاجهّ ،
يتخري الوسائط اليت هبا يستطيع مواكبة حبثه " فاملؤرخ
ملما مبا لدى الغرب من مناهج وأن ّ يكون ّ
الذي ال يؤمن باملذاهب احلديثة ،وال يصطنع يف البحث طرائقه ،وال يرضى أن يعرتف مبا بني أجزاء
العامل من االتصال احملتوم ،وال أن يسلّم بأن الشيء الواحد على صغره وضآلته ،إمنا هو الصورة ملا
أوجده من العلل وال يطمئن إىل أن احلركة التارخيية جربية ليس لالختيار فيها مكان ،املؤرخ القدمي
الذي يرفض هذا كله وال مييل إليه ،ملزم مع ذلك أن يبحث عن حياة األمة اإلسالمية ،إذا حبث عن
حياة أيب العالء ،فإنه إن مل يفعل ذلك استحال عليه أن يفهم الرجل ،أو يهتدي من أمره إىل
شيء".1
صور طه حسين حياة أيب العالء وكأنه ظاهرة علمية ختضع لقوانني العلوم نتيجة لذلك فقد ّ
التجريبية ،وهو يف هذا يساير ما هو من صميم عمل علماء األحياء والنبات؛ إذ من مهامهم إخضاع
املادة احملللة للتجريب الكيميائي ،فالعميد حياول أن مياثل عملهم بإخضاع القصيدة الشعرية للمعري
هلذا النوع من التحليل ،يقول " :إمنا احلادثة التارخيية والقصيدة الشعرية ،واخلطبة جييدها اخلطيب
والرسالة ينمقها الكاتب األديب ،كل أولئك نسيج من العلل االجتماعية والكونية خيضع للبحث
والتحليل خضوع املادة لعمل الكيمياء".2
كرس طه حسين كل جهده يف هذا الكتاب خلدمة املنهج على حساب املوضوع مما نتج لقد ّ
عنه نوع من التجديف والتهافت على مستوى النتائج ،إذ ال ميكن الركون والتسليم بكل طروحات
النقد التارخيي وجماراة الغرب يف كل ما ذهب إليه .وقد كان من نتيجة ذلك أن رفض العديد من
جراء منهجه هذا إذ ذهب "حممد مندور" إىل أن كتاب "جتديد ذكرى
الدارسني ما توصل إليه الرجل ّ
أيب العالء" "كتاب طه حسني الشاب الذي كان ال يزال يف محاسته األوىل ملناهج البحث وأقسام
الفلسفة" .1لذلك فهو جمموعة من "التقاسيم املدرسية اليت تقف عند الشكل دون أن متس
الصميم" 2.فهو "أشبه ما يكون بقطعة من األثاث ،تامة الرتكيب ،مع ّدة األدراج ،أتى املؤلف
فمألها".3
يف رفضه لنتائج املناهج النقدية اليت تتخذ سياقات مغايرة للنص اإلبداعي منطلقا هلا ،كاملنهج
النفسي واالجتماعي والتارخيي ،يرى محمد مندور عدم فاعلية هذه املناهج يف الوصول إىل مكنون
النص ،وإزاحة ستائر املعىن عنه ،يقول " :فقد أستطيع أن أطمئن إىل تصوير أديب ما لنفسية ما يف
رواية ما ،ولكين أرفض أن أثق مبا يقوله الفالسفة أو علماء النفس عن اإلنسان إطالقا أو ملكة من
ملكته ،ألين أحس دائما أن حديثهم ال يالقي حقيقة أي نفس ممن أرى حويل".4
فالناحية التارخيية التوثيقية للعمل ولصاحبه من األمهية مبكان يف الدرس النقدي لكنها خطوة
أوىل فقط جيب أن تتبع خبطوات أخرى أثناء النقد ،وميعن مندور يف نقده إىل من سبقوه إىل نقد أيب
العالء يف أهنم مل يتمكنوا من فهم نفسية الشاعر وإمنا كانت أعماهلم جمتزأة ال تفي بالغرض املنشود
1حممد مندور :يف امليزان اجلديد ،مكتبة مطبعة هنضة مصر ،القاهرة ،ط ،2ص.013 :
2املرجع نفسه ،ص.013 :
3نفسه ،ص.012 :
4نفسه ،ص.030 :
5نفسه ،ص.030 :
6نفسه ،ص.021 :
65
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
من عملية النقد نفسها ،ويشرتط قبال عملية الفهم على عملية التفسري ،ويطلب من الناقد أن يعيش
حياة الشاعر أو الكاتب موضوع النقد كي يتمكن من إعطاء صورة مشرقة يف نقده له " :وإذا
فمحاولة الفهم خري من حماولة التفسري ،وعلى أساس هذا الفهم يستقيم النقد أو يعوج ،والذي
الشك فيه أن الكثري من النقد الوصفي مل ينجح يف أداء رسالته لعجز أصحابه عن كل فهم صحيح
لنفوس من ينقدون بل روح العصر أو األدب الذي يعرضون له" .1على اعتبار أن فاعلية هذه املناهج
اليت مت اعتمادها ،التفي حباجة الباحث املعرفية.
يعرتف مندور أن مهمة النقد من بني املهمات الصعبة ،اليت ال ميكن القيام هبا إال إذا توافرت
مجلة من الشروط واألسباب ،خاصة حينما يعرض حملاولة فهم الناقد لنفسية الشاعر أو األديب،
فيشرتط عليه بداية متثل هذه التجربة اخلاصة عنده بقوله " :والواقع أن النقد ليس باملهمة اهليّنة ،وال
هو يف مقدور كل إنسان ،إذ البد ملن يريد أن حياوله يكون غنيا بتجارب احلياة ،غىن يذهب مبا يف
النفس من مجود حبيث يستطيع أن خيرج من حميطها لتعيش باخليال يف حميط جديد ،وهذا حيتاج إىل
وإما باملران الطويل على فهم جتاربمرونة نفسية ال تكتسب إال بأحد أمرين :إما بالتجارب املباشرةّ ،
الغري كما يقصها األدباء" .2يردف دائما حول مهمة الناقد وضرورة األخذ مبناهج البحث لكن
بشروط البحث العلمي "وواجب النقد فيما احسب هو فهم جتارب الكتّاب والشعراء فهما نفسيا
ال حت ّده أصول وال ميليه علم ،وإمنا نستعني بالعلم وباألصول عند دراسة صياغة ما كتبوا".3
يبقى التساؤل املطروح حول منابع طه حسين ومصادره اليت استقى منها منهجه هذا ،فالراجح
أن األمر يعود به إىل أيام دراسته باجلامعة وتأثره بأستاذه املستشرق نالينو ،حىت وإن كان هذا األخري
مل يذهب كل تلك املذاهب يف مؤلفه عن تاريخ آداب اللغة العربية .إال أن املصدر األساس الذي
حصل به متاس وتأثري هو طروحات الناقد الفرنسي هيبوليت تين ( )H. Taineالذي ق ّدم جممل
نظريته النقدية يف مؤلفه "تاريخ األدب اإلجنليزي" ،وفيه املعامل األساسية لنظرية اجلرب التارخيي أو
احلتمية التارخيية اليت أخذ هبا طه حسين فيما بعد ،ليس فقط يف مؤلفه عن أيب العالء بل حىت يف
أهم مؤلفاته النقدية "حديث األربعاء" و"يف الشعر اجلاهلي" و"مع املتنيب" ،وهي الكتب النقدية
األربعة اليت صاغت املشروع النقدي عند طه حسين .إال أن مواطن التأثري اليت حدثت بني "تني"
و"طه حسين" كانت على مستوى الزمان واملكان ومل يذكر طه حسني عنصر اجلنس الذي اشرتطه
"تني" ،ولكنه يذكر احلالة السياسية واالجتماعية واالقتصادية.1
مجع طه حسين يف املنهج النقدي التارخيي الذي ارتاده ،بني اجلرب التارخيي يف حتليل الظواهر
املعري وجربيته ،فهو يؤكد أن اجلربية قد
اإلنسانية ،وبني اجلرب الفلسفي أثناء حديثه عن فلسفة ّ
أفرغت الفلسفة من إثباهتا منذ زمن بعيد ،ويرفض االختيار بقوله" :إن هذا االختيار إما أن يكون
متصال مبا قبله وما بعده اتصال العلة مبعلوهلا والنتيجة مبقدمتها أوال ،فإن تكن األوىل فهو اجلرب ،إذ ال
ميكن أن يتخلف املعلول عن علته وال أن حتول النتيجة عن مقدمتها ،وإذا فادعاء االختيار ليس إال
غرورا ،وإن تكن الثانية فقد بطلت القضية اليت قدمناها ،وأصبح العامل ملعبا ختتلف فيه املصادفات
وهو ما شك يف بطالنه ،إذا فليس من اجلرب حميد ،وال عن االضطرار عنه من حل".2
يتبني لنا من خالل هذا االقتباس أن عملية اجلرب يف التاريخ يتبعها –ال حمالة -جرب يف
الفلسفة ،فكما ال يوجد للصدفة أي جمال يف حياتنا ،كذلك ال ميكن أن تبين هذه الصدفة حياة أيب
ويلح طه حسين على ذلك االنسجام بني اجلرب التارخيي واجلرب الفلسفي؛ ألنه من العالء املعريّ ،
صميم منهجه الذي اتبعه حول حياة أيب العالء.
يستعرض الباحث عبد الرزاق عيد جماالت التواشج والتضام يف فكر طه حسين النقدي،
حيث ّبني العالقة الوطيدة بني الواقع والعقل ،وكيفية حلول هذه يف تلك ،مرّكزا على التأثريات
( )SAINTE Beuveوتين ()TAINE املمارسة من قبل نقاد أوربا يف القرن ،00خصوصا سانت بيف
على احلياة العقلية واملعرفية يف مصر؛ أي قبل انتقاله إىل الدراسة بأوربا ،وبالضبط حني مباشرته
أطروحته للدكتوراه حول أيب العالء املعري ،وأخذه مببدأ احلتمية التارخيية ،أو اجلرب التارخيي ،إال أن
"حضور سانت بيف يف املمارسة املنهجية عند طه حسين سيكون حضورا الحقا ومتصال بشكل
خاص يف كتاباته النقدية الصحفية ،فيما ميكن أن نسميه نقدا انطباعيا تأثريا ،تفرتضه ضرورة التواصل
مع احلياة الثقافية ،أي أن (بيف) ال يش ّكل عنصرا ركنيا يف البنية التكوينية كمنظور كلي ،أو لنظام
معريف له جهازه وأدواته ،بل هو أحد جتليات املمارسة النقدية األدبية من خالل االنفتاح على تنوع
االجتاهات الفكرية األدبية الغربية ،حيضه يف ذلك نزوع تعليمي توجيهي تثقيفي واضح".1
ال يستطيع عبد الرزاق عيد نفي ارتباط طه حسين يف نقده ومساءالته باجلربية أو احلتمية،
ويسعى إىل تربير موقفه انطالقا من أنه ذهب هذا املذهب للثورة على اليقينيات والنظرة الثابتة
والساكنة للظواهر على ما ميكن أن جيعل من التحول واالضطراب غاية لالطمئنان والراحة "قد يبدو
وعي طه حسني بالتاريخ متلبسا بنوع من احلتمية اجلربية ،لكنها حتمية جربية تتحرر من القدر
الغنوصي واإلرادة املطلقة ما قبل الطبيعة وما بعد التاريخ ،لتبدأ حلظة انفصال هذا التاريخ عن
الالهوت لتتهاوى فيها بعد -يف دراساته التارخيية الالحقة -كل أشكال الوعي العرفاين وإيديولوجيا
تقديس املاضي عندما يدمج العقالنيتها مبنهجه التارخيي العقالين".2
لقد شغف طه حسين بطروحات املنهج التارخيي يف تفسري اآلثار األدبية والوقوف عند فاعلية
هذا املنهج ،إذ من بني أهم القضايا املعرفية اليت نالت حظها من الدراسة واالستقصاء على مدار
سنني من عمره ،واليت ّتوجت يف هنايتها توجهه ومنزعه املنهجي والنقدي والعلمي وأرست دعائم
فكره النقدي "ثالث زوايا حتدد مثلث التطور يف الوعي املنهجي :عقل أيب العالء ،عقالنية ابن
خلدون الفلسفة التارخيية ،عقالنية املنهج الديكاريت ،ومن خالل احلركة بني هذه الزوايا الثالث
عرب عنه ديكارت بأن العلم جيعلنا باطرادتتكشف املمارسة املنهجية لطه حسني يف طموح علمي ّ
وعلى الدوام سادة الطبيعة ومالكيها".3
خنلص مما سبق إىل أن عملية استثمار طروحات املنهج التارخيي ومقوالت اجلرب التارخيي
والفلسفي إمنا استمدها الرجل من أساتذته باجلامعة املصرية ،خاصة نالينو ،مث تأثره الواضح مبقوالت
"هيبوليت تني" يقول الدكتور "شكري عزيز ماضي" حول عملية التأثري املمارسة على طه حسني
"وقد أثرت آراء تني تأثريا واسعا يف الدراسات األدبية والنقدية ووصل تأثريها إىل نقدنا العريب
1عبد الرزاق عيد:طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية،رؤية للنشر والتوزيع،القاهرة،ط ،3118،0ص.020 ،021 :
2نفسه ،ص.022 :
3نفسه ،ص.028 :
68
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
احلديث ،حيث جتلى يف بعض كتابات طه حسني ،وقد سامهت يف إجياد تصورات جديدة لألدب
ويف إنشاء مناهج نقدية تدرس الظاهرة األدبية ومدى تأثرها بالبيئة".1
يقر هذا الرأي مبا ال يدع جماال للشك بأن طه حسين تأثر يف بعض كتاباته النقدية بطروحات
ّ
"تني" حول تأثري البيئة يف اإلبداع والفن ،غري أن هذا ال يعدم أن يكون طه حسين قد هنج مناهج
أخرى يف نقده ،تقامستها املناهج النقدية األخرى كالتأثرية واالنطباعية أو حىت الشكلية يف بعض
كتاباته النقدية األخرى ،فقد اجتمعت "التيارات النقدية الرئيسة الثالثة يف نتاجه النقدي :الواقعي
صورته التأرخيية والتيار الوجداين أو الرومنسي املتمثل باالهتمام بذات األديب ،أو بالذات عموما
سواء لدى الناقد أو لدى املتلقي عرب األسلوب االنطباعي والشكالين باهتمامه بالنص وحده دون
الذات والتأريخ والعامل".2
يقف سيد البحراوي موقفا عادال حني يقوم بتقييم إنتاجات نقادنا العرب احملدثني ،فالرجل
يعرض هلذه اجلهود النقدية من وجهة نظر حمايدة نظرا لإلشكاالت الكربى اليت وقع فيها النقاد
العرب أثناء تطبيقاهتم ملناهج النقد الغربية ،دون وعي منهم باحلمولة املعرفية والفلسفية اليت تصاحب
املنهج واملصطلح يف هجرهتما ،وعندما يصل إىل الرواد من النقاد احملدثني وكيفية احتكاكهم مبنجزات
احلضارة األوربية خيلع عليهم أي لبوس للتأصيل والتأسيس ،إمنا هو يف حقيقة األمر تلفيق ويف أحسن
الظروف تكامل بني عدة مناهج ال ميكن أن تستثمر فيها العملية النقدية ،وال ميكن أن تعطي
نتائجها املرجوة يقول البحراوي ":ويف النقد األديب ،بدا واضحا انبهار روادنا بإجناز األوريب ،وضرورة
نقله دون أن يدركوا أن منهجهم يف التعامل مع هذا اإلجناز النقدي ،هو يف احلقيقة قتل له ألنه معاد
لطبيعته ولتارخيية إنتاجه ،ويتضح هذا األمر من منهج تعامل طه حسني مع املنهج الديكاريت يف كتابه
يف الشعر اجلاهلي ،والذي من خالله أعلن أول مترد حقيقي على املنهج القدمي" .3يرجع سوء
استعمال املنهج من قبل طه حسين إىل ذلك االنبهار احلاصل بكل منجزات العقل األوريب،
والفلسفي منه على وجه اخلصوص ،فالرجل مل يأخذ من ديكارت إال هذا الشعار الداعي إىل جتاوز
1شكري عزيز ماضي :يف نظرية األدب ،دار احلداثة ،بريوت ،ط ،0082 ،0ص.82 :
2سعد البازعي :استقبال اآلخر -الغرب يف النقد العريب احلديث -املركز الثقايف العريب ،بريوت -الدار البيضاء ،ط،3112 ،0
ص.00 :
3سيد البحراوي :قضايا النقد واإلبداع العريب ،اهليئة العامة لقصور الثقافة ،مصر ،3113 ،ع ،030ص .012 ،015 :
69
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
القدمي وقتله ،واالندفاع حنو اجلديد مع التجرد التام للذات من كل معارفها السابقة ،والتعامل مع
الظاهرة تعامل العامل الكيميائي مع املادة.
إن إشكالية املنهج املتبع من قبله ،هي اليت أوقعته يف هذا االضطراب الذي انسحب على
العديد من أعماله التطبيقية ،بدءا بعمله حول أيب العالء إىل قراءته للشعر اجلاهلي؛ ألن املالحظ أهنا
عبارة عن استنتاجات خاصة ،أملتها ظروف املقايسة اليت وقع طه حسين ضحيتها يف مقارنته األدب
العريب -والشعر اجلاهلي خاصة -باألدب األوريب والشعر اليوناين خاصة 1.يقول سيّد البحراوي
عن تلفيقية طه حسين يف جمال املنهج ":إن هذا اجلمع بني منهجني ال جيتمعان وهو الذي ميكننا أن
نسميه التلفيق ،قد التقى مع تلفيقات منهجية أخرى خاصة بفهمه لوظيفة األدب بني التصوير
(البيئي) والتعبري الذايت ،وخاصة بالعالقة بني تاريخ األدب والدراسة األدبية ،أي بني العلم
واالنطباعية الذوقية ،وهي تلفيقات قد نتجت عن أن طه حسني كما هو واضح مل يعاين بعمق
الفروق اجلوهرية بني املصطلحات واملفاهيم وهذا هو الوضع الطبيعي لناقل هذه املفاهيم وليس
منتجها".2
وحاصل القول أن التطبيقات اآللية والصنمية للمنهج النقدي ،دون وعي بكل اخللفيات
الفلسفية واملرجعيات الفكرية اليت عملت على صياغتها ،هو ما يوقع الباحث أو الناقد يف نوع من
التجديف الذي ال تؤمن عواقبه ،إذ يصبح عمله جمردا من كل تأسيس فلسفي أو تقعيد نظري يسمح
له باالستمرار والفاعلية .غري أننا سنحاول أن نقف يف العنصر املوايل هلذا الفصل عند أهم تطبيقات
املنهج التارخيي وكذا منهج الشك عند طه حسين يف قراءة بعض متون األدب العريب القدمي
واحلديث ،وذلك بتخصيص منت آخر يعترب حلقة مهمة يف املشروع النقدي عند طه حسين وهو
كتاب حديث األربعاء.
1ينظر :عبد اهلل إبراهيم :الثقافة العربية واملرجعيات املستعارة ،ص.22 ،25 ،22 :
2سيد البحراوي :قضايا النقد و اإلبداع العريب ،ص.018 ،012 :
70
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
سبق أن تتبعنا مستوى الشطط الذي بلغه هيبوليت تين ( ،)HYPOLYTE Taineيف مبالغته
باألخذ باحلتمية التارخيية أو اجلرب التارخيي ،حىت أصبح من رواد هذا االجتاه ،ورأينا كذلك كيف ساير
طه حسين تلك الطروحات النقدية ،وكيف وظفها يف قراءة أيب العالء املعري ،سواء يف حياته أو
فلسفته أو شعره ،وذلك بكثري من االطمئنان والتقديس ،حيث جنده يقول" :يدل ما قدمناه على أنّا
نرى اجلرب يف التاريخ ،أي يف احلياة االجتماعية إمنا تأخذ أشكاهلا املختلفة ،وتنزل منازهلا املتباينة بتأثري
العلل واألسباب اليت ال ميلكها اإلنسان ،وال يستطيع هلا دفعا ،وال اكتسابا ،ذلك رأي نراه ،وسنثبته
يف موضعه من الكتاب...،ولسنا نبتدع هذا الرأي وإمنا نوافق فيه كثريا من فالسفة أوربا وفالسفة
املسلمني".1
هذا التشيع الواضح ملنهج احملدثني كما يسميه ،جعله يلهث بكل ما شكل هذا املنهج ،من
رجوع إىل البيئة واجلنس وغريها .األمر الذي غدا معه تطبيق مقوالت املنهج أهم وأجدى عنده من
البحث ونتائجه ،إذ جنده يويل األمهية الكربى لكيفية استثمار مقوالت هذه اإلجراءات التارخيية،
يقول " :تدل املقالة األوىل على أن احلياة العامة يف عصر أيب العالء مل تكن شيئا تطمئن إليه النفس،
أو يرضى به الرجل احلكيم ،لفساد ما كان فيها من سياسة وخلق ،ومن تقسيم ثروة وتأثري دين ،تدل
املقالة الثانية على أن احلياة اخلاصة أليب العالء ،مل تكن خريا من احلياة العامة...وعلى أن الرجل قد
أحسن الدرس وأجاد التعليم ،ورحل إىل مدن خمتلفة وأقام يف بيئات متباينة ،وكان له قلب ذكي
وأنف محى ...،فهذه املؤثرات كلها قد اشرتكت يف تأليف الرتاث األديب أليب العالء ،فإذا وصفنا هذا
الرتاث كان من احلق علينا أن حنلله إىل عناصره ،ونرده إىل مصادره ،وحنن فاعلون إن شاء اهلل".2
لقد عمد طه حسين يف قراءة الشعر القدمي ،إىل قراءة تتحكم بناصية العلم التطبيقي والتجرييب
احلديث ،للوقوف على مدى مطابقة الشعر للحياة ،أو بتعبري آخر كيف يصور الشعر العريب القدمي
احلياة العربية ،وكيف يكون مرتمجا هلا كاشفا إياها ،فانقاد إىل وضع ذلك الشعر على حمك العقل؛
قصد سرب أغواره وكشف خمبوءه وحماولة إنطاقه مبا سكت عنه ذلك الشعر ،يتأتى ذلك عند تتبعنا
لعمل من أهم األعمال النقدية عنده ،دأب على تأليفه منذ مدة طويلة هو حديث األربعاء باعتباره"
فصوال كانت تنشر يف صحيفة سيارة ليقرأها الناس مجيعا فينتفع بقراءهتا من ينتفع ويتفكه بقراءهتا من
يتفكه ،ومل يكن ب ّد لكتابتها من أن يتجنب التعمق يف البحث واإلحلاح يف التحقيق العلمي ،إذ
1
كانت الصحف السيارة ال تصلح ملثل هذا".
ال جيعل طه حسين من حديث األربعاء حدثا مهما يف منهج الدراسات النقدية ،ألنه ببساطة
ال ميكن أن يؤول إىل حبث علمي دقيق يف خمتلف املظاهر اإلبداعية ،اليت من أبرزها األدب العريب
مر العصور ،ومن ناحية أخرى ،ألن أصل الكتاب عبارة عن مقاالت كانت تنشر بني احلني على ّ
واآلخر ،جلملة أغراض ال ميكن أن يضمن مؤلفها أهنا حتمل بذرة نقدية ،تصلح لقيام مبدأ نقدي أو
مدرسة أو اجتاه ،إمنا جعلت ألغراض أخرى ليس جماهلا النقد العلمي .واألمر الذي جعل طه حسين
يتجاوز فيها النزعة اجلربية أو احلتمية التارخيية اليت اعتمدها مبدءا يف دراسة أيب العالء ،غري أنه ال
يتجاوزها كليا إمنا مرحليا فقط.
يتساءل طه حسين يف مؤلفه هذا عن املغزى من دراسة شعر أي شاعر ما ،فريى أن اهلدف
منه ليس فقط حتديد شخصية هذا الشاعر الفردية ،بل جيب أن يتجاوز املؤرخ األديب ذلك إىل ما
يؤلف هذه الشخصية من ميول وأهواء وعواطف ،حىت يتسىن له فهم العصر والزمن الذي عاشت فيه
هذه الشخصية مث ينتقل إىل البيئة اليت خضع هلا ،واجلنسية اليت محلها وجنم عنها .تلك – إذا -هي
أهم القضايا والنقاط اليت ينهض عليها منهج "هيبوليت تني" واليت كان تأرخيه لألدب مسرحا هلا.
ال يعكف طه حسين يف حديث األربعاء على املنهج التارخيي كما أسس له تين ،ومل حيتكم
لعناصره الثالثة املشكلة له (الزمان ،املكان واجلنس) ،بل اعتمد كذلك على ما أصبح يُعرف باالجتاه
النقدي العلمي ،الذي استمد رواده آلياهتم ونظرهتم لألدب من العلوم اإلنسانية ،وهو االجتاه املتمثل
يف طروحات سانت بيف ( )SAINTE Beuveوجول لمتر( )Jules Lemaîtreوبرونتيير
1طه حسني :حديث األربعاء ،اجملموعة الكاملة ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،مج، 3ج ،0ص.10 :
72
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
( )Brunetièreعلى الرغم من وجود فروق منهجية ومصطلحية بني أصحاب هذه االجتاهات.
لذلك فهو ال يتجاوزها بصورة مطلقة؛ بل حياول جاهدا التوليف بينهما .يقول طه حسين..." :و ال
نقل إن يف هذا شيئا من التحرج ،أو إن فيه تضييقا وحماولة من هذه احملاوالت ،اليت أرادت غري مرة
أن جتعل النقد علما ذا قواعد وأصول فلم تفلح ،ومل توفق إىل شيء كثري .ال تقل هذا ،فإين ال أحترج،
وال أضيق ،وال أحاول أن أضع للنقد قواعد وأصوال معينة ،وإمنا أحاول أن أفهم معك معىن النقد،
وما يرمي إليه الناقد ،ومهما ختتلف مذاهب النقاد احملدثني ومسالكهم ،فهم يقصدون إىل هذا كله
أو بعضه .سل "سانت بيف" ( )Sainte Beuveينبئك بأنه يعين قبل كل شيء إذا قرأ قصيدة من
الشعر ،أو فصال من النثر ،بأن جيد شخص الشاعر أو الكاتب ،وبأن حيلل هذا الشخص ،ويصل
إىل دقائقه ودخائله ،كما يفعل علماء التاريخ الطبيعي يف معاملهم ،ولكن الشخص وحده ال يكفيه
وال يعنيه ،وإمنا هو يتخذ هذا الشخص وسيلة إىل النوع ،يتخذ هذا اجلزئي وسيلة إىل الكلي .مث سل
يكون نفسه،
"تني" ( )Taineينبئك بأن شخص الشاعر ،أو الكاتب ومزاجه وعواطفه وكل ما ّ
اليعنيه إال من حيث هو أثر من آثار العصر الذي عاش فيه ،والبيئة اليت خضع هلا ،واألمة اليت جنم
منها ،فالشخص عنده أثر من آثار هذا العصر ،وهذه البيئة وهذه األمة .مث سل "جول ملرت" ( Jules
)Lemaîtreينبئك بأن هذا كله لغو وثرثرة ،وأن الفن وحده هو الذي يعنيه ،ويعنيه من حيث إنه
يؤثر يف النفس ،فيبعث فيها العواطف على اختالفها ،ويبعث فيها الرضا واإلعجاب .ويف احلق أن
يود
الناقد ال يقنع مبا كان يقنع به "سانت بيف أو "تني" أو "جول ملرت" أو غريهم من النقاد ،وإمنا ّ
لو استطاع أن يوفق إىل هذا كله ،ويستخلص منه غرضا شامال يطلبه ويسمو إليه حني ينقد ،فيفهم
شخصية الشاعر أو الكاتب وعصره وفنه".1
نالحظ جليا من خالل هذا االقتباس ،أن طه حسين يدين الدين كلّه ألولئك النقاد من ذوي
االجتاه العلمي يف النقد ،فالرجل حياول استثمار وتطبيق آليات هذا املنهج كما صاغها أصحاهبا .إال
أنه سيعدل عن ذلك يف عام ،0032وسرياجع نظرته التارخيية ،اليت سريجعها إىل تيار الفلسفة
الوضعية منذ كونت إىل دوركايم حىت ليفي بريل ،حيث أصبح يتحفظ نوعا ما بالنسبة للقيمة
العلمية هلذا االجتاه النقدي ،1ألنه ال يكتفي مبقوالت هذا املنهج خاصة يف هذه الفرتة ،ألن املنهج
عنده ال يفي بكل ما يرجى من الدراسة األدبية ،ذلك أن األديب خيتلف يف طبيعته عن العلم ،وهلذا
ينبغي أن يضاف إىل هذا املنهج العلمي عنصرا آخر شخصي يقوم على الذوق ،يقول طه حسين:
" ...ذلك ألن تاريخ األدب ال يستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي اخلالص وحدها وإمنا
هو مضطر معها إىل الذوق" .2وانطالقا من هذا جتتمع لديه الذاتية باملوضوعية ،أو تلتقي عنده
النزعة العلمية بالنزعة األدبية أو الفنية يف تداخل وامتزاج كبريين ،يقول" :فأنت ترى أن تاريخ األدب
منقسم بطبعه إىل هذين القسمني :القسم العلمي والقسم الفين ،ولكن هذين ليسا متمايزين".3
رغم ذلك اعترب طه حسين نظرييت سانت بوف وهيبوليت تين ركيزتني أساسيتني يف منهجه
اهلادف إىل الشمولية والتكامل النقدي .وأراد طه حسين كذلك أن يوازن بني هاتني النظريتني ،وبني
املنهج التأثري عند جول لمتر ،الذي ظهر كرد فعل على مجلة هذه املناهج ،اليت جعلت من النقد
علما حمضا .وبعمله هذا ال جيد طه حسين مانعا من اإلفادة من كال املنهجني الذايت واملوضوعي،
ويقول أنه مل خيرتع هذا املنهج ،إمنا وافق فيه اجتاها نقديا كان قد أسسه الناقد الفرنسي جوستاف
النسون ( )G.Lansonوهو أحد أساتذته بالسربون ،والذي تأثر هو بدوره تأثرا عميقا بـتين
وبرونتيير ،دون أن حيتفظ منهما إال مبا كان عرضة للجدال الواسع ،فالنسون مل يربط األدب والنقد
يقر بضرورة التذوق يف أي نقد ربطا آليا ،بل انزاح عن ذلك إىل فاعلية العلوم االجتماعية ،وكان ّ
أديب ،يقول" :لن نعرف قط مشروبا بتحليله حتليال كيمياويا أو بتقرير اخلرباء دون أن نتذوقه بأنفسنا،
حيل شيء حمل الذوق".4 وكذلك األمر يف األدب فال ميكن أن ّ
لقد أقر النسون بفاعلية الذوق يف احلكم على األعمال األدبية ،وليس األمر منوطا فقط
مبناهج البحث العلمية ،يقول حول أمهية الذوق" :ومادامت التأثرية هي املنهج الوحيد الذي ميكنّنا
1ينظر عبد السالم الشاذيل :األسس النظرية يف مناهج البحث األديب العريب احلديث ،دار احلداثة ،بريوت ،ط ،0080 ،0ص:
.255
2طه حسني :يف األدب اجلاهلي ،ص.00 :
3نفسه ،ص.28 :
4جوستاف النسون :منهج البحث يف تاريخ األدب ،تر :حممد مندور ،ضمن كتاب النقد املنهجي عند العرب ،دار هنضة
مصر للطباعة و النشر ،دط ،ص.213 :
74
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
من اإلحساس بقوة املؤلفات ومجاهلا فلنستخدمه يف ذلك صراحة ،ولكن لنقصره على ذلك يف عزم
ولنعرف -مع احتفاظنا به -كيف منيّزه ونق ّدره ونراجعه وحن ّده ،وهذه هي الشروط األربعة
الستخدامه".1
خنلص من هذا إىل أن النسون مجع بني املعرفة العلمية ،والتذوق الفين أثناء الدراسة األدبية،
وهو عينه الذي قام به طه حسين فيما بعد سريا على خطى أستاذه.
إضافة إىل التأثري الذي مارسه كل من تين ،سانت بوف ،برونتيير وجول لمتر ،واالحتكام
إىل قوانني الظاهرة األدبية ،سواء باجلرب التارخيي أم بعملية التطور اليت تواكب اآلداب ،أم ملكة الذوق
خيوهلا طه حسين خاصية احلكم على اإلبداعات ،فقد تأثر بقانون ابن خلدون حول التشابهاليت ّ
متسك هبا ناقدوه مع نقده -طه حسين -لتلك واالختالف .وهذا القانون أو هذه اآلراء هي اليت ّ
يربئ هارون
اآلراء نقدا عقالنيا ،فعنده أن ابن خلدون غري معصوم من اخلطأ ،عندما حاول مثال أن ّ
الرشيد وعصره من الفساد السياسي واألخالقي ،يقول" :خليق بنا أن نتدبر حني نقرأ التاريخ،
وحناول فهمه وتفسريه .خليق بنا أن نفهم قانونني وضعهما ابن خلدون ،ولكن أن نفهمهما أحسن
مما فهمهما ابن خلدون .ومها :أن الناس مجيعا متشاهبون مهما ختتلف أزمنتهم وأمكنتهم ،وأن الناس
مجيعا خمتلفون مهما تشتد بينهم وجوه الشبه .جيب أن نفهم هذين القانونني ،وأن حنسن املالءمة
بينهما .وأن نعرف فيما خيتلف الناس ،وفيم يتشاهبون ،وما أثر هذا االختالف وهذا التشابه؟ وحنن
إذا فهمنا هذين القانونني عرفنا أن العصر العباسي قد كان كغريه من عصور اجملد واحلضارة ،فيه ج ّد
وهزل ،وفيه شك ويقني".2
مث يردف حول املوضوع نفسه مربزا صورة العصر العباسي اليت تقوم دوما على هذين القانونني
البن خلدون "وأنا أزعم – وأعتقد أين قادر على إثبات ما أزعم -أن القرن الثاين للهجرة قد كان
عصر هلو ولعب ،وقد كان عصر شك وجمون ،وكل شيء يثبت صحة هذا الرأي ،فقد كان هذا
العصر عصر انتقال من بداوة إىل حضارة ،ومن سذاجة إىل تعقيد ،ومن فطرة خالصة إىل علم
وفلسفة ،وقد كان فوق هذا كله عصر امتزاج بأمم خمتلفة ،وشعوب متباينة ،منها البدوي واحلضري،
ومنها اجلاهل والعامل ،ومنها الغين والفقري".1
وسريا وفق نظام ابن خلدون ،يع ّدد طه حسين هذه الثنائيات الضدية ،اليت تؤسس لوعي
نقدي جديد ،ارتاده متأثّرا بالتاريخ الفلسفي اإلسالمي ممثال يف أحد أقطابه ،وهو ابن خلدون
وللربهنة على صحة ما ذهب إليه يف حديث األربعاء ،ووقوفه عند كل عصر أديب ،حماوال حتليله وفق
طروحات املنهج التارخيي ،الذي واكبه والزمه منذ أن كان بباريس ،وحىت عند رجوعه إىل القاهرة
يقول " :أنا ازعم ...أن كل شيء يف هذا العصر يؤيّدين يف هذا الرأي .وأن هذا القرن قد بدأ خبالفة
الوليد بن يزيد ،وختم خبالفة األمني بن الرشيد ،وأحب أن يقارن بني هذين اخلليفتني ،مث ألفت إىل
بشار ،ومطيع ،وأيب نواس ،والرقاشي ،والعباس بن األحنف ،ومسلم بن الوليد ،ومحّاد عجرد ،وحيي
بن زياد ،وابن املقفع ،وأبان بن عبد احلميد ،وغريهم من الشعراء والكتّاب واملف ّكرين ،وال أريد أن
املتحرجون".2
أذكر الفقهاء وأصحاب الكالم خمافة أن يغضب ّ
يتبني مما سبق أن طه حسين ،قد تأثر كثريا بأستاذه النسون ،يف طبيعة النقد التارخيي
املوسوعي الذي دعا إليه الرجل ،وهو يف ذلك يتجاوز ما كان قد دعا إليه يف مؤلفه السابق "ذكرى
أيب العالء" من االحتكام إىل اجلرب التارخيي أو احلتمية التارخيية ،وخرج من ربقة النقد العلمي اجلاف،
املعول عليه من
الذي يشغل الناس بنفسه وشكله أكثر مما يشغلهم بنتائجه املوضوعية ،إذ أصبح ّ
الطائلة النقدية عنده ،هو املزاوجة والتأليف بني النزعة الذاتية واملوضوعية ،واالحتكام إىل خاصية
الذوق يف استخراج الصورة احلقيقية هلذه اإلبداعات.
إضافة إىل ذلك فطه حسين حمكوم دوما وبدافع من املؤثر الغريب ،بعقد مثل هذه املقارنات
واملوازنات بني األدب العريب واألدب اليوناين أو األوريب ،ويعزو تطور الشعوب واألمم إىل مؤثرات
البيئة ،سواء االجتماعية أو االقتصادية أو السياسية ،ويربط فكرة التطور اليت حصلت لألمة اليونانية
من بداوهتا إىل حضارهتا على هذه العوامل .غري أن هذا الربط بني التاريخ والبيئة ،هو الذي استأثر
بفكر الرجل ،ليجعل منه منهجا نقديا ملثل هذه القضايا "إن طه حسين يف عرضه للعوامل املوضوعية
املؤثرة يف تطور الوعي االجتماعي وأشكاله الشعرية أو الفلسفية حيقق نقلة هامة يف وعيه ملنهجه
كلي الفعالية واحلضور والتأثري لالنتقال باجتاه إدراك دور الفكر يف تغيري
التارخيي الذي كان يبدو ّ
التاريخ ذاته على طريق متلكه كمنهج".1
أوجها ،حنيتتصاعد موجة املواالة اليت بدأها عبد الرزاق عيد ،بالنسبة لطه حسين إىل ّ
يتناول مشكلة من أخطر املشكالت ،اليت عاجلها هذا األخري ودعا إليها صراحة ،وهي وجوب أن
تقتفي األمة العربية سبيل األمة اليونانية ،واستبدال سلطان العقل بسلطان الدين "وهو إذ يكتشف
أن العقل الفلسفي هو الذي قاد العامل القدمي وهو الذي يقود العامل احلديث ،فالبد إذا من دعائم
العقل الشعري وتقشريه من بطانته الوجدانية الالهوتية ،القانعة بالطبيعة ،واملستسلمة ملسلّمات
يقينياهتا الزائفة ،ليخلص الروح العلمي من أوشاب اإليديولوجيا الكهنوتية اليت تضلّله ،وهو خالل
تأسيسه هلذا النظام املنهجي التارخيي اإلنساين ،إمنا كان يقوم بعملية دمج غري مباشرة للنظام املعريف
اإلسالمي هبذا النظام املعريف اإلنساين الكوين فيكاد أن يلغيه".2
إن املتفحص هلذا النص يلحظ – ال حمالة -شرخا معرفيا أصاب املنظومة الفكرية للرجل؛ إذ
مبحاولة دفاعه عن طروحات طه حسين ،يتغافل عن أحد املبادئ األساسية اليت دعا إليها الدين
اإلسالمي ،وهو مبدأ التفكر والتدبر يف األرض واخللق وامللكوت .أضف إىل ذلك أن النصوص
الدينية اليت كانت شارحة للدين ،هي اليت أوقعت النص القرآين يف واحدية املعىن ،أو على أقل تقدير
الرضوخ إىل معىن واحد وأوحد ،وهو املعىن املفهوم من قبل رجال الدين.
ال يفوتين وأنا أعاجل هذه الفكرة املعضلة ،أن أذكر على سبيل التمثيل ،مجلة من احملن اليت
جراء القمع التسلطي املمارس من ذوي عاشها الفالسفة أو رجال الدين ،يف خمتلف العصور العربيةّ ،
املقربني من السلطان .القضية إذا ليست يف توحيد العقل العريب مع العقل اليوناين ،إمنا
الشوكة و ّ
اإلشكالية يف نظري على األقل ،هي تلك احلدود املعرفية للتأويل ،واملمارسات الفكرية اليت تنهل من
الرتاث وتعود إليه ،وطه حسين – يف اعتقادي -مل تفته هذه اللفتة ،إال أنه أساء التعبري عنها ،رمبا
1عبد الرزاق عيد :طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية ،ص.052 ،052 :
2املرجع نفسه ،ص.002 :
77
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
لتحمسه املفرط يف حماولة بلوغ األمة العربية اإلسالمية ما بلغته األمم األوربية ،وهو ليس بدعا يف
هذا؛ فقد كانت العديد من احملاوالت اليت سلكت هذا املسلك من املثاقفة مع اآلخر ،وحماولة البلوغ
فقوض التاريخاملعريف لشىت أصناف العلم واملدنية ،لقد أراد "طه حسني أن يؤسس تارخيا جديدا ّ
القدمي دون أن يبين التاريخ اجلديد .أراد ان يدمج التاريخ العريب بالرتاث العاملي وأن خيضعه لقوانني
املنهج ذاهتا ،فألغى الرتاث اخلاص ومضى التاريخ العام غري آبه لدورنا التارخيي .أراد أن يدخل قانون
التطور من خالل إدخال منظومة الوعي التارخيي يف بنية العقل العريب ،لكي يدخل العرب التاريخ،
فبدا التطور حركة دوران انكفائية ،وغدت حلظة عقالنية طه حسين الليربالية نور يف لوحة ظالمية
تعزز أكثر فأكثر ابتعاد العرب عن التاريخ".1
لقد أراد طه حسين أن يكون قطب الرحى بالنسبة للتجاوز العقلي وليس التجاوز املكاين،
يطهرها بقدر ما طفت على حرك بركة آنسة ملاء راكد ،فما كان له أن ّ لكن الذي حصل ،أن الرجل ّ
السطح عالمات افرتاق بني ما تريد وبني ما متّ إجنازه .إضافة إىل أن عملية املهادنة ،اليت متت بني
الباحث والشعب وقبلهما السلطة ،هي اليت جعلت من قضية املنهج س ّكينا يف خاصرة الوعي العريب.
كل
إن الذي يرومه العميد يف طرائقه البحثية هذه ،هو أن جيد سبيال خلالص العقل العريب ،من ّ
ما علق به من شوائب الدهر ،والدفع به إىل ارتياد آفاق رحبة من العلم والتقدم ،كما حصل دوما مع
العقل األوريب ،ألن مفهوم التطور والتقدم يتضمن "نظرة إىل الزمان يستقطبها املستقبل ،زمان ترتاكم
فيه جتارب اإلنسان الذي يتطور دائما حنو األفضل بعقله ووجدانه وحتكمه يف األشياء ،ومفهوم
التقدم يتضمن رؤية للتاريخ نقيسه باحلاضر ،وليس حاضر أية حضارة بل حاضر احلضارة الغربية".2
وهو الرأي نفسه والدعوة ذاهتا ،اليت مافتئ طه حسين ينادي هبا حينما اشرتط يف تطور األمة
العربية ،وجوب مسايرهتا للنموذج الغريب ،وبالضبط منذ أن تطورت اليونان من البداوة إىل التحضر،
وحينما استبدلوا العقل الفلسفي بالعقل الديين أو امليثولوجي "لقد آمن طه حسني بعاملية الثقافة
الغربية ،وأن هذه الثقافة قد نسخت كل الثقافات واحلضارات فأصبحت هي احلضارة ،وعلى اجلميع
1عبد الرزاق عيد :طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية ،ص.310 :
2علي أومليل :سؤال الثقافة ،الثقافة العربية يف عامل متحول ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،بريوت ،ط،3115 ،0
ص.05:
78
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
أن يتبناها ،ولذلك دعا إىل تعليم اليونانية والالتينية الستيعاب أصول احلضارة الغربية ،هو طبعا يقول
إنه بدعوته هذه ال يريد ملواطنيه أن يفقدوا هويتهم ،لكنه حتفظ لفظي ال ينفي دعوته يف كتابه
مستقبل الثقافة يف مصر ،إضافة إىل كتابات أخرى إىل تغريب بلده مصر".1
أجد أن هذا القول ينطوي على كثري من التحامل على مشروع طه حسين التنويري
واحلضاري ،ذلك أن الرجل مل يدع إىل التغريب أو االستغراب ،كما يصطلح عليه بعض مثقفي
معني،
احلداثة اليوم ،إمنا دعوته ورؤاه ووعيه مبا حققته أوربا وخاصة فرنسا ،إمنا حتقق يف سياق ثقايف ّ
حيمل هذه الكتابات أكثر مما حتتمل وتطيق ،أو أنوال ميكن لباحث يف القرن احلادي والعشرين أن ّ
يتعسف يف إصدار األحكام القيمية واملعيارية على مشروع رمبا كان األمشل من بني املشاريع احلضارية
األخرى ،بالرغم من اإلحباط وبعض اهلزال الذي وسم مشروعه فيما بعد ،ألسباب رمبا تكون
سياسية بالدرجة األوىل وال سبيل إىل طرحها ومناقشتها يف حبث نقدي كالذي حنن بصدده.
تتأكد الفاعلية النقدية لطه حسين ،يف طرقه للكثري من احلقول املعرفية ،اليت أراد من خالهلا
إعادة قراءة املوروث اإلبداعي والنقدي العريب القدمي ،قراءة تتواءم مع متطلبات العصر ومنجزات
الراهن ،ألن " أمهية املمارسة النقدية وخطورهتا وفاعليتها ال تكمن يف مدى جدهتا وحديتها وعمقها
فحسب ،بل تكمن –إضافة إىل ذلك -يف مدى استجابتها حلركة الواقع املعيش ،وتلبية حاجاته
املتغرية فالثقافة املنشودة (واملمارسة النقدية املنشودة أيضا وهي جزء أصيل منها)
األساسية املستجدة و ّ
حل اإلشكاليات احلضارية لألمة".2 هي تلك اليت تُسهم يف ّ
رمبا هو السلوك عينه الذي سلكه طه حسين ،ودعا إليه يف األخذ بأسباب احلداثة الغربية يف
ماسة إىل التغيري انطالقا من خمزوننا
جماالت خمتلفة ،قصد مسايرة ركب األمم املتقدمة ،وألن احلاجة ّ
الرتاثي ،وصعودا إىل منجزات أوربا الثقافية والسياسية واالجتماعية ،وهي دعوة ألّبت عليه مجلة من
النقاد الذين ينطلقون يف دعاواهم من دوغمائية تراثية تتشبث بالقدمي وتتشرنق حاوله ،يف حلقة
مفرغة ال طائل منها ،ويف الوقت ذاته ناصرته مجلة أخرى من النقاد رأوا فيه حامل لواء التنوير ،ولكنه
السهم الذي افرتع عذرية اخلمول واجلمود الذي عاىن منه النقد واألدب ،كما عانت منه خمتلف
جماالت احلياة من سياسية وثقافية واقتصادية وغريها .مث يضيف الباحث تصورا آخر يضع فيه الناقد
موضع الريادة يف حماولة اخلروج باألدب والنقد من تلك الزاوية املظلمة اليت الزمته طويال يقول ":فطه
حسني كان يطمح إىل تأسيس منهج علمي يف دراسة األدب ونقده".1
وبعد أن يستعرض طروحات طه حسين يف تعريفه اإلبداع األديب ،وأنه قائم على أصول طبيعية
من داخله ،وأن مناط األمر يتمثل يف كيفية استجالء اجلمال الفين من قبل القارئ .يصل إىل نتيجة
مؤداها أن "إميان طه حسني حبرية اإلبداع وبالقيم اجلمالية املطلقة واملثل العليا اجملردة ،وحيصر مهمة
األدب يف خلق اجلمال سيدفع به دفعا على تبين معايري نقدية متحررة ،لذا نراه يؤكد -مرارا -بأن
النص اجليد يتوافر على خاصيتني هامتني أو قيّمتني خطريتني مها -0:اجلمال الفين املطلق -3 ،أن
يكون مرآة لبيئته".2
يتجه اخلطاب النقدي عند طه حسين وجهة مقايسة ،بني منجزات العقل الفلسفي الغريب
واستقباالت العقل العريب النصي (الديين) ،لكن هذه املقايسة جيب أن تنتظم يف سياقات مماثلة يف
أثناء مرحلة التقبل ،أي أن مقايسته حنت منحى معرفيا يف ظاهرها ،راديكاليا ليرباليا يف باطنها ،ما
أفرز مجلة من التعارضات ،على مستوى القاعدة القرائية لفكر طه حسين .يقف الباحث عبد
الرزاق عيد عند تش ّكل العقل الفلسفي الغريب وماهيته يف كليته وإنسانيته ،موضحا أن "الفكر الغريب
يتأطر يف نص طه حسني كنظام مفاهيمي متكامل ،كجهاز معريف متسق يدعو للتفاعل معه بوصفه
املكون هلذا النظام أو لذاك اجلهاز".3
العقل (العقالين طبعا) هو العنصر التكويين اجلوهري ّ
يتناول الباحث عبد الرزاق عيد ،الكيفية اليت باشر هبا العميد نقده جلملة من الشعراء لعل
أشهرهم المتنبي والمعري ،وكيف وازن بينهما من حيث الشاعرية ،مث من حيث اإليديولوجيا احملركة
لشخصية كل شاعر على ِح َدة ،وينهض اخلطاب النقدي عنده ،يف هذه اجلزئية على املكونات
البنيوية ،اليت تنتظم يف أنساق وسياقات معرفية ،هي بالضرورة من أساسيات البحث ،يقول" :إن
الضرورات املنهجية على مستوى تقنية البحث ،تتطلب التوفر على العناصر التكوينية املنسجمة يف
منطوقها الداخلي ،لكي يستقيم االستقراء يف بلوغ نتائجه الربهانية ،ولذا فإن النص ينحو باجتاه
تنمية العناصر اليت ختدم الوظيفة البنائية للمنظومة اليت يسعى إىل تكوينها ،ولذا يكثر املسكوت عنه
ويتم جتاوز ما يبدو متناقضا وخمتلفا على مستوى االستقراء يف خدمة الربهان وحتققه".1
ال جيد طه حسين فكاكا من قبضة املنهج االنطباعي والتأثري ،يف إصدار أحكامه القيمية
املعيارية حول جمموعة الشعراء الذين انتقاهم للدرس واملساءلة ،ذلك أن الرجل حيتكم إىل ملكة
الذوق يف إصدار هذه األحكام النقدية ،اليت تنضاف إليها يف هنايتها بعض التعديالت يف مسألة
الغلو واإلسراف "إن املطمح األخالقي الذي يكمن وراء منهجه يف البحث قاده يف أحايني كثرية إىل
نوع من اإلسراف والغلو الذي يتخطى املعريف باجتاه إيديولوجيته املستقبلية الداعية لالخنراط يف
احلداثة الكونية ،حيث مل يرتدد يف اندفاعه األخالقي العارم من إطالق بعض األحكام اليت تتبدى
عن قسوة وجفاء ،حيث يرى الفارق بني املعري واملتنيب هو الفرق بني الفيلسوف والرجل من سائر
الناس".2
تعامل طه حسين مع الرتاث من منظور الباحث املن ّقب يف طبقات هذا اهلرم الكبري ،ذلك أنه
استثمر جممل الطروحات الرتاثية ،مث أضاف هلا ما جادت به احلضارة الغربية يف سبيل تبيان واستظهار
املناطق املشرقة منه ،ومل يتم التعامل من باب االختيار أو االقتفاء ،بقدر ما كان العمل مشوليا يف
البحث واالستقصاء ،واستثماره للتاريخ اإلسالمي خاصة ش ّكل حجر الزاوية يف هذه املعاجلة ،فضال
عن استلهامه احملطات الكربى يف هذا التاريخ ،وهو إذ يعاجل أهم القضايا التارخيية ،إمنا ليزيح الستار
ومييط اللثام عن الوجه احلقيقي هلذا التاريخ ،باقتباسه لنظرية املعرفة املعاصرة وملقوالهتا احلفرية "إن
وعي طه حسني للتغاير بني نسقني متمايزين يف حقل نظرية املعرفة دفعه على مستوى التوظيف
اإليديولوجي إىل تأكيد هذا التمايز بني العلم والدين ،لكن ال يفتئت أحدمها على اآلخر ،حيث
1عبد الرزاق عيد :طه حسني ،رائد العقالنية الليربالية العربية ،ص.328 :
2نفسه ،ص.351 ،320 :
81
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يعرض لتاريخ هذا االفتئات منذ صراع سقراط ضد الرأي العام وصوال إىل الثورة الفرنسية وانتصار
العلم والعلمانية عرب افتئاهتا على الدين والكنيسة".1
تربز احملطات املعرفية الكربى اليت اشتغل عليها طه حسين ،مدى إملام الرجل بكل ذلك الزخم
املعريف للرتاث بشىت أشكاله الديين ،السياسي ،االقتصادي وغريه ،ومدى استثماره ملقوالت هذا
الرتاث من داخله ،مث اإلفادة من منجزات احلضارة الغربية يف احلفر عن جممل السياقات التارخيية ،اليت
عملت على تشكيل هذه الكتلة من الرتاث ،وأثناء مساءلته ملختلف القضايا ،ال يرتك طه حسين
سبيال من سبل حتقيق الفائدة إال وطرقه ،وانطالقا من هذا فهو "يعترب رائدا ليس يف إدراك أمهية
العامل االقتصادي يف احلياة االجتماعية فحسب ،بل إن إدراكه ألمهيته جعل منه عامال أساسيا يف
تفسري الظواهر منهجيا ،أي أنه أدرجه يف جهاز مفاهيمه ورؤيته املعرفية يف الفهم والتحليل بوصفه
العامل الرئيسي الذي حيدد الوظيفة اإليديولوجية ،ألي حدث تارخيي أو ظاهرة فكرية اجتماعية".2
إن املنهج املتبع من قبل طه حسين يف قراءة الرتاث ،وليس النقدي فحسب بل كل أنواعه مبا
فيها الديين ،هو الذي م ّكنه من وضع يده على العلة الفاعلة يف مستوى العالقات بني احلاكم
فعال يف سري األمة يف رعيلها
واحملكوم ،خاصة إذا علمنا أن من أهم العوامل اليت أسهمت بشكل ّ
األول ،كان العامل السياسي واالقتصادي( ،مسألة املغا م يف الفتوحات) وهو منهج حيفر عميقا يف
األنساق التارخيية للمسلمني ،ويكشف عن مدى القدرة الفائقة اليت ميتلكها ،يف إضاءة بعض املناطق
الغائمة يف تارخيها العريب اإلسالمي ،وحماولة إزاحة ستار التقديس عن بعض املمارسات ،اليت كانت
متثل عصب احلياة بالنسبة هلم.
ومن هذا املنظور كانت النظرة القدمية للتاريخ واليت تبناها العديد من النقاد احملدثون تورط
أصحاهبا يف "ضروب من اخلطأ يف احلكم" ،3وال حيصل ذلك حسبه إال إذا أبقينا الرتاث بعيدا عن
جراء تلك املمارسات ،ومنه ميكننا هاالت التقديس ،اليت صاحبته وجعلته كتلة صلبة بل متكلسة ّ
يود
بعد نزع رداء القداسة عنه أن نعطي صورة مشرقة عن كل شخصيات هذا الرتاث ،ولذلك فهو ّ
أن يقرأ "ويدرس حياهتم على هذه القاعدة وهي أهنم ناس ال مالئكة" .1األمر الذي م ّكنه من
مساءلة هذه املتون بعني الناقد احلصيف ،الذي يتجرد من كل هوى مسبق ،وال حتول بينه وبني
خطوات حبثه ونتائجه كل دعاوى التقديس والتهليل ،ألن خطاب النقد عنده إمنا ينهض على إقحام
اخلصم باحلجة والربهان والدليل ،وهو الذي سار عليه يف مؤلف حديث األربعاء كما يف غريه من
تبين املوقف السوفسطائي ،وإمنا
املؤلفات اليت هنضت بعبء املنهج ،والنتيجة أن "نقد احلقيقة ال يعين ّ
يعين أن اليقني ال ميكن إال أن يكون مغلقا ،وهلذا فهو يؤول يف املنتهى إىل الدوغمائية اليت ترتجم
تعصبا وحتزبا ورمبا عنفا وإرهابا وفضال عن ذلك ،فالدوغمائية والوثوقية واليقينية كل هذه ليست
ميوه
نقيض الريبية والسفسطة ،إهنا سفسطة مضاعفة ،ذلك أن خطاب اليقني والوثوق واإلحكام ّ
احلقائق بقدر ما حيجب حقيقته أي آلياته يف التمويه والتضليل".2
أدرك طه حسين منذ بدايات تكوينه ،خاصة عند احتكاكه بأساتذة أوربا ،أدرك أن سبيل
الوصول إىل احلقيقة ال يكون بالطابع الذايت فحسب ،بل رمبا السبيل األسلم لذلك هو االحتكام إىل
مر العصور سواء جل مؤلفاته النقدية إىل اآلراء الفلسفية على ّ
آليات العقل ،لذلك ينتصر العميد يف ّ
اليونانية أم اإلسالمية ،مما جعله يقرأ هذه الظواهر واألحداث يف صريورهتا التارخيية ،وهو األمر الذي
ندب العميد نفسه القيام به واحلفر يف أنساقه ،لسرب أغواره وإخضاعه حملك العقل والنقد العلمي،
بعيدا عن عتمة الدوغمائية السلفية ،وبعيدا كذلك عن النظرة التقديسية لكل ما هو عتيق أو قدمي
"التارخيية تعين أن لألحداث واملمارسات واخلطابات أصلها الواقعي وحيثياهتا الزمانية واملكانية
التغري أي قابليتها
وشروطها املادية والدنيوية ،كما تعين خضوع البىن واملؤسسات واملفاهيم للتطور و ّ
للتحويل والصرف وإعادة التوظيف" ،3وذلك هو املبتغى من استثمار تلك املناهج من قبله يف ختليص
الرتاث الشعري واألديب عامة من ربقة التقديس والتشرنق حول الذات ،واالنكفاء إىل املاضي املوروث
التغري ،ولكل جيل ولكل عصر ّقراءه ون ّقاده، يف قراءة ذلك الرتاث ،إذ من نواميس احلياة التطور و ّ
عمقت دراسة طه حسين عن ابنوهلم مناهجهم وطرائقهم البحثية ،ومادام األمر كذلك فقد ّ
خلدون- ،وكذا دراسته على أعالم النقد التارخيي الفرنسي ،والسيما النسون -يف نفسه شروط
البحث يف التاريخ العريب اإلسالمي ،وقد كلّفه بطروحات وقوانني ابن خلدون كثريا ،ألنه كما قال
عنه "يكره الغرض واهلوى ،وحيذر من أخطار كثرية حتيط بكاتب التاريخ ،وحيبب إليك ،أوحيتّم
عليك ،حتكيم العقل فيما يروى لك من احلوادث ،وهو يصل من هذا كلّه إىل استكشاف قوانني
قيّمة يف النقد التارخيي".1
يتضح جليا مما سبق أن فكر طه حسين يسري يف خط متصاعد ،وذلك بعد أن جتاوز مقوالت
جتمد النص النقدي عند مجلة من العلل واألسباب اليت رمبا ال دخل هلا احلكم التارخيي اليت رأى بأهنا ّ
يف عملية القراءة ،وألنه يف تطوره الفكري ال يسلك سبال سهلة ميكن اقتفاؤها بل يسري دوما يف طرق
وعرة املسالك ،حىت أننا نتلمس أنه يف بعض األحيان يكاد يرت ّد عن طبيعة منهجه العقالين ،ألن
"النقد العريب يعاين أزمة هي جزء من أزمة اإلبداع ،ومن أزمة الثقافة ومن أزمة الواقع ،مبعىن أن هناك
قانونا ما حيكم هذه املستويات ،ويلقي بظله على كل منها ،وإذا كان الواقع ليس معطى موضوعيا
ساكنا موحدا ،بل هو حركة نشطة من التعامل والصراع بني قوى اجتماعية ذات مصاحل خمتلفة
وإيديولوجيات متعددة ومتصارعة أحيانا يف التعبري الثقايف هلذا الواقع خيضع بالضرورة هلذا التعدد
والتعارض والتصارع".2
لقد عرف املشروع النقدي عند طه حسين ذلك التنوع والثراء على مستوى اإلجراء أو
املصطلح األمر الذي جعل تلك املدونات النقدية تتسم بطابع اإلحاطة والشمولية ،وال أظن أن ذلك
يدخل يف باب الفوضى املنهجية أو االضطراب املصطلحي بقدر ما يدل على سعة االطالع
والتمكن من الوافد الغريب ،فضال عن اإلحاطة بكل جوانب هذا الرتاث الضخم .إضافة إىل أنه
استطاع أن خيوض الصراع مع القدمي من داخل منظومته ،يقول أحد الباحثني..." :و القطع كان
أفضل من يستطيع ممارسة أبلغ تأثري يف قارئه من غريه من املدافعني عن احلداثة إ ْن لبالغة تعبريه
.322
84
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
وسحره أو االقتدار الذي ال يضاهى يف التبليغ على أرفع أسلوب بيداغوجي ،أو لسلطانه الثقايف يف
حقبة امتدت منذ احلرب العاملية األوىل حىت مخسينات القرن املاضي".1
يثري أي عمل أديب أو نقدي مهم مجلة من الردود سواء كانت مدافعة أم رافضة ،وحديث
املدونات النقدية عند طه حسين ،اليت رام فيها تطبيق منهج معني يسمح له األربعاء من بني ّ
بتفكيك تلك البىن املتشابكة ،اليت تصنع ذلك اهلرم الرتاثي .فقد الذ الرجل–كما أسلفنا -بقوانني ابن
خلدون وهو يف هذا يواجه احملافظني به ،باعتبار القوانني املهمة والقيّمة اليت وضعها ابن خلدون،
وحتديده جململ الصفات واملزايا اليت جيب على الباحث يف التاريخ التحلي هبا ،األمر الذي حدا
ببعض الباحثني إىل القول" :إن املنهج الذي يغلب على حديث األربعاء والسيما يف اجلزأين األول
والثاين،هو منهج ابن خلدون" .2رمبا مل يستطع املؤلفان التمييز بني املنهج والقانون ،ذلك أن ابن
خلدون وضع قوانني حتكم الظاهرة األدبية ومل يدبّج منهجا للتحليل؛ فاملنهج هو تفعيل وممارسة
لنظرية أدبية ما.
كم هائل من املقاالت والبحوث ،اليت كانت يف األصل يتشكل مؤلف حديث األربعاء من ّ
تكتب وتنشر يف جمالت أسبوعية ،كمجلة "السياسة" و"اجلهاد" وغريها .وهذه املقاالت هي اليت
التزم بكتابتها طه حسين زمنا طويال ،غري أ ّن ما ميكن أن يالحظ عليها ،هو ضيق احليّز املكاين
املخصص لكل مقالة ،األمر الذي يتعسر معه التحقيق يف كل جوانب املوضوع وإخضاعه إىل التدقيق
العلمي ،وهذا االلتزام هو الذي جعله يكتب أسبوعيا "إىل الناس على ما فيه من نقص وحاجة إىل
3
ختصصه
اإلصالح" .رغم ما يف ذلك من نقص بالعناية هبا وبنتائجها ،إضافة إىل احليّز احملدود الذي ّ
الصحيفة أو اجمللة ،يقول طه حسين يف ذلك..." :و وأنا أستبيح لنفسي ...أن أقدم إليك صورة
صادقة ولكنها موجزة من الشعراء الذين أدرسهم ،وقد أستطيع أنٌ دم إليك صورة صادقة من
1عبد اإلله بلقزيز :العرب واحلداثة – دراسة يف مقاالت احلداثيني ،-مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت ،ط،3112 ،0
ص.052 :
2محدي السكوت و مارسيدن جونز :أعالم األدب املعاصر يف مصر ( )0طه حسني ،ص.21 :
طه حسني :حديث األربعاء ،ج ،0ص.01 :
3
85
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
صاحبنا هذا ،ولكين أجد مشقة شديدة يف اإلجياز .فليس من اليسري أن ختتار من شعره ،فكل شعره
أو أكثره حري أن خيتار .وال يقف األمر عند هذا احلد ،بل أنت مضطر إىل أن تروي له شعرا كثريا
مما حيتمل هذا احلديث .1" ،
األمر الذي جنم عنه عدم وضوح الرؤية النقدية واملنهجية لديه ،ما جعل العديد من الباحثني
ينعتون "حديث األربعاء" بأنه مؤلف ال حيتوي على منهج واضح ،إال أن الكتاب يف احلقيقة عبارة
عن جمموعة من املوضوعات ينتظمها خيط داليل ومعنوي واحد يش ّدها إىل بعضها البعض .يكفي
أن ندرك أن حديث األربعاء ألّفه الناقد يف أواخر 0033أي بعد عودته من السربون ،لنعي الفرق
بني التجربة الشخصية له يف كل كتبه السابقة عليه ،ورمبا ترجع املوضوعات اليت عاجلها طه حسين
توحدها كما أسلفنا ،فعند دراسته األدب العباسي مثال، يف هذا الكتاب إىل فكرة رئيسة واحدة ّ
فالرجل يربز العالقة والصلة اليت جتمع بني جمموعة من الشعراء ،يف قضية اجملون واخلالعة واللهو
والشك ،أو حىت صلة الصدق يف التعامل مع حوادث العصر العباسي ،فإن شعر هؤالء يعكس
حقيقة ما كان موجودا يف ذلك العصر .وعند انتقاله على بيئة احلجاز ،فالرجل يدرس العالقة اليت
تربط بني شعراءه يف غرض الغزل اإلباحي ،واألمر نفسه كذلك بني شعراء الغزل العذري العفيف يف
بادية احلجاز.
وفسرته واستخلصت خصائصه ومميزاته ،مستعينا يف هذا كله هبذه العلوم املختلفة ...،فقد انتهى
ّ
القسم العلمي اخلالص من عملي مؤرخا لآلداب ،وبدأ القسم الفين الذي أجتهد ما استطعت يف أن
أخفف تأثري شخصييت فيه ،ولكين أعتمد فيه ،سواء أردت أم مل أرد ،على الذوق ،وهذا القسم هو
النقد".1
نستطيع أن نفهم من خالل هذا االقتباس ،أن املراحل النقدية عند طه حسين قد عرفت تطورا
ومسرية حافلة بالنقد ،وتاريخ األدب والدراسة األدبية ،فيشتمل القسم األول من دراساته على دراسته
األدب اجلاهلي ،وأيب العالء املعري وجمموعة من شعراء الغزل ،وبعض شعراء العصر األموي،
وأحاديث األربعاء اليت تناول فيها مجاعة من شعراء العصر العباسي ،ومع املتنيب ،ويشتمل القسم
اآلخر مجلة من املقاالت تناول فيها مجاعة من الكتّاب والشعراء احملدثني والقدماء ،وعرض فيها
للصراع بني القدمي واجلديد.
وبضغط من املنهج التارخيي ،الذي ُوسم به العميد حيتاج يف الكثري من األحيان إىل أن يبحث
بشر به ودعا إليه قبل بداية مقاله فيه .فعندما حياول أن
شاعرا واحدا يف أكثر من مقال ،ليربز ما ّ
يبني مدى تأثري البيئة يف رسم شخصية الشاعر ،وكيف تنعكس هذه يف تلك يقول " :الفرد .ماهو؟ ّ
هو أثر من آثار األمة اليت نشأ فيها ،أو قل من آثار اجلنس الذي نشأ منه :فيه أخالقه وعاداته
وملكاته ومميزاته املختلفة .وهذه األخالق والعادات وامللكات واملميزات ماهي؟ هي أثر هلذين املؤثرين
العظيمني اللذين خيضع هلما كل شيء يف هذه الدنيا :املكان وما يتصل به من حاله اإلقليمية
واجلغرافية وما إىل ذلك ،والزمان وما يستتبع من هذه األحداث اليت ختضع كل شيء للتطور
واالنتقال .الكاتب أو الشاعر إذا أثر من آثار اجلنس والبيئة والزمان ،فينبغي أن يتلمس من هذه
املؤثرات اليت أحدثت الكاتب أو الشاعر ،وأرغمته على أن يصدر ما كتب أو نظم من اآلثار.2".
هذا بطبيعة احلال أحد سبل الدراسة عند طه حسين ،يف حماولة تكييف مقوالت املنهج
التارخيي الذي استثمره من تين ،مث من النسون فيما بعد ،لقراءة املدونات الشعرية العربية ،واليت
توصله حتما إىل معرفة احلالة االجتماعية واالقتصادية لذلك العصر .ودائما يف حماولته إبراز دور البيئة
1طه حسني :يف األدب اجلاهلي ،دار املعارف ،مصر ،ط ،00ص.51 :
2نفسه ،ص.22 :
87
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يف رسم صورة العصر الذي ينتمي إليه الشاعر ،يواصل طه حسين ذلك عندما يعرض بالدراسة
لطائفة من شعراء احلجاز ،وكذلك لبعض الشعراء العباسيني يقول عن أثر البيئة يف حياة كل من عمر
بن أبي ربيعة وأبي نواس على التوايل " :فلست أعرف شاعرا إسالميا استطاع أن ميثل العصر الذي
كان يعيش فيه ،والبيئة اليت كان حييا فيه ،كهذين الرجلني اللذين نستطيع أن نتخذمها مرجعا يف درس
اجلماعة اليت كانت حتيط هبما ،تريد أن تدرس العراق صدر الدولة العباسية ،وأن تدرس بغداد أيام
الرشيد واألمني خاصة ،فارجع إىل أيب نواس .تريد أن تدرس حياة احلجاز يف الدولة األموية ،فارجع
إىل ابن أيب ربيعة"1؛ ألن بإمكان الدارس هلذا الشاعر أن تتش ّكل لديه صورة مكتملة عن كل عصر
من هذين العصرين ،على اعتبار أن األدب صورة للحياة يتأثر هبا كما يؤثر فيها ،وهو عينه املنهج
الذي أخذ به يف كتابه األول "جتديد ذكرى أيب العالء" ،الذي استثمر فيه منهج هيبوليت تين
الفرنسي ،ولكي يستويف طه حسين حقه من الدراسة املنهجية اليت هنض بإبرازها ،خيصص مثال تسع
تشخص احلياة العباسية أيام الرشيد واألمني ،فلن
مقاالت كاملة لدراسة أيب نواس وحده " تريد أن ّ
جتد هلا تشخيصا أقوى وال أظهر وال أصدق من أيب نواس" .2وكذلك عندما يدرس الشعراء الغزليني
يف بيئة احلجاز ،فإنه ميثل بعمر بن أيب ربيعة ،ويفرد له مقالني ألن "املؤرخ الذي يريد أن يدرس حياة
األرستقراطية القرشية يف احلجاز أثناء القرن األول للهجرة جيب أن يلتمس هذه احلياة يف شعر عمر
بن أيب ربيعة ،قبل أن يلتمسها يف أخبار التاريخ وحوادثه املختلفة".3
احلق أن طه حسين قد تعمقت نظرته إىل الرتاث الشعري العريب ،قصد مساءلته بتأثري من
نالينو ّأوال ،مث من أصحاب االجتاه التارخيي ثانيا ،ألن نالينو هو الذي دفع به إىل دراسة األدب
العريب دراسة تارخيية حديثة ،كما فعل هو مع اآلداب األوربية ،يقول يف ذلك " :إن املطلوب مين
ليس إال أن أطبّق على اآلداب العربية ،أساليب البحث التارخيي ،اليت عادت على تاريخ آدابنا
اإلفرجنية بطائل عظيم" .4وانطالقا من هذا جعل نالينو الشعر واآلداب عموما مرآة لكل احلياة
السياسية واالجتماعية ،وقد سايره العميد يف ذلك أثناء دراسته اليت حنن بصدد تتبعها ،ولذلك جند
نالينو حينما تتبع بالدراسة عصر بين أمية وجد أن الشعر " مرآة أحوال األحزاب السياسية والدينية
وترمجان أهواء الناس ،وآرائهم يف مسائل الدنيا والدين ،فما تقدم برهان على ذلك قاطع فأشرت إىل
أشعار العثمانية ،واخلوارج والشيعة واملرجئة والزبرييني وأصحاب األمويني" .1وهو األمر نفسه والتعريف
ذاته الذي يضعه طه حسين فيما بعد للشعر ودوره يف احلياة يقول ،فالشعر "مرآة متثل يف ّقوة أو
ضعف شخصية الشاعر وبيئته وعصره ،وهو من هذه الناحية متصل بزمانه ومكانه".2
يستلهم طه حسين طروحات أستاذه يف تفسري الظواهر األدبية بثنائية الزمان واملكانّ ،
وبني
فسر
العالقة بني هذه املؤثرات وبني الشعر واإلبداع عموما ،وذلك متشيا على خطى أستاذه الذي ّ
نشأة فن الغزل يف مدن احلجاز تفسريا مرآويا ،ألن هذا الفن الشعري قد نشأ يف مدن احلجاز نتيجة
ألسباب سياسية ،وهي انصراف الشباب يف اجلزيرة العربية بعد أن مت الفتح للمسلمني إىل حياة
التظرف والغناء ،وخاصة أن هذا الشباب قد أدرك بعد فرتة ،أن سلطة مدن احلجاز قد انتقلت إىل
أمكنة أخرى ،يقول نالينو " وإن سألتموين عن سبب هذا التقلب الشديد يف أساليب الشعر يف
املدن احلجازية ،قلت ال خيفى على أحد أن أكثر رجال السياسة واحلرب قد تركوا جزيرة العرب يف
أواخر خالفة علي بن أيب طالب ،فبقيت باملدينة أهل التقى والعبادة والنسك من األنصار
واملهاجرين ،كأن الدنيا يف الشام والدين مبدينة النيب ،وكثرت يف ذلك العصر ثروة احلرمني ،والسيما
مكة والتساع العالئق واملصارف التجارية ،ولزيادة الوافدين عليها لتأدية فريضة احلج ،فبزيادة الثروة
والنعمة واتساع العيش ،زاد أيضا ما تنـزع النفوس إليه من الشهوات ،واملالذ والتنعم بأنواع الرتف،
وفسدت أخالق الشبان من البيوتات الكبرية الذين مل يكن هلم باحلجاز جمال واسع لالعتناء بأمور
السياسة واحلرب ،وال بالعلوم العقلية اليت مل تزل جمهولة عند العرب يف ذلك الزمان ،فاشتد ميلهم إىل
غزل ومساع الغناء وحضور املالهي".3التظرف والتّ ّ
إذا تتبعنا طه حسين يف تفسريه ملثل هذه الظواهر ،فال جنده حييد عن هذا التوجه لألستاذ
نالينو ،حيث يذهب يف تفسري نشأة الغزل مبدن احلجاز املذهب نفسه يقول" :نستطيع أن نستنبط
أن بالد العرب -بعد أن مت الفتح للمسلمني ،وبعد أن جاهدت يف االحتفاظ بالسلطان السياسي،
وأخفقت يف اجلهاد إخفاقا شنيعا ،وانتقل مركز احلكم منها إىل الشام ،كما انتقل مركز املعارضة منها
إىل العراق -انصرفت أو كادت تنصرف عن االشرتاك يف احلياة العامة ،وفرغت للحياة اخلاصة،
فانكبّت على نفسها 1".يذهب طه حسين بعد ذلك إىل حتقيق البعض من شخصيات الشعراء يف
عصر بين أمية ،وعصر بين العباس ،سواء اليت حازها من شعرهم أو من كتب األدب واألخبار؛
فيتناول حياة أيب نواس ،الوليد بن يزيد ،مطيع بن إياس ،محّاد ،عجرد ،احلسني بن الضحاك اخلليع
وبشار بن برد ،ويعتذر عن حتقيق شخصية والبة بن احلباب " ألن اهلل مل يق ّدر لشعره البقاء ،وال
ألخباره وسريته أن يتناقلها الرواة ،فذهبت حياته كما ذهب أدبه".2
ومتاشيا مع طروحات أستاذه نالينو ،فإن طه حسين حينما يصل به البحث إىل بعض القرى
التصوف ،ألهنم
يف بادية احلجاز ،وما إليها من البالد العربية ،فيصفها بأهنا عرفت الزهد وشيئا يشبه ّ
كانوا "فقراء فلم يتح هلم اللهو" .3أما مسببات هذا الفقر فريجعها الناقد إىل ما استجد يف حياة
هؤالء "و رمبا كان من احلق أن نالحظ أن هؤالء الناس من أهل البادية ،كانوا قد احتملوا أعباء يف
اإلسالم ،مل يكونوا حيتملوهنا يف اجلاهلية ،أريد أعباء الصدقة والزكاة" .4إضافة إىل هذه املسببات فقد
منع عليهم اإلسالم طرق الرزق القدمية " أضف إىل هذا شيئا آخر ،وهو أن اإلسالم قد أخذ على
أقر السالم بني
هؤالء الناس شيئا من طرق الكسب اليت كانت مألوفة يف اجلاهلية ،ألن اإلسالم ّ
القبائل البدوية وحال بينها وبني ما كانت تتخذه جمدا وشرفا ومكسبا من الغزو وضروب اإلغارة".5
ال جيد طه حسين فكاكا من ربقة التصور االستشراقي ألستاذه نالينو ،فيحذو حذوه يف الوقوف عند
مرت بنا ،وحىت يف تعليله وتفسريه ال جيد ب ّدا من أن يسايره ،حىت وإن كان
خمتلف هذه الظواهر اليت ّ
يف ذلك مساس جبانب مهم من الدين ،فالرجل مل يتحرج أبدا من ذلك ،ألن مقدماته النظرية هي
اليت أوصلته إىل نتائجه هذه ،حىت وإن كانت حتوي نوعا من التجديف ،وجتانب يف كثري من األحيان
صح التعبري -ألستاذه نالينو ما جنده عند هذا
الصواب واحلقيقة .ومن مناذج املواالة والتكرار – إن ّ
األخري من كالم يف النسيب عند األعراب يف أيام بين أمية ،من أهنم مل يفردوا له قصائد خاصة به،
يقول نالينو " :أخذ بعض شعراء أهل الوبر املعدودين يقولون القصائد يف جمرد النسيب ،بل ال
يتعاطون غريه ،وصناعتهم بعيدة عن أسلوب أشعار اجلاهلية وعن منهج الغزليني من أهل املدر فإهنم
ال يعشقون إال امرأة واحدة جعلوا عيشهم فداءها وال يتغزلون وال يفتخرون بنيل وصلها ،وإمنا
يظهرون يف شعرهم رقة القلب وشدة احلنو ...،وكل ذلك مصوغ يف قالب رشيق مرتجم بلفظ رقيق
وكالم لطيف عفيف ال يدخل فيه شيء من اخلالعة والشهوة الذاتية".1
وهو األمر نفسه عند طه حسين حينما جيد نفسه مضطرا -حبكم التأثري املمارس عليه -إلجراء
هذه املوازنة بني شعر الغزل عند األمويني ،وشعر اجلاهليني يف الغرض نفسه ليتساءل " :فبم امتازوا
عن هؤالء الشعراء؟ بشيئني اثنني فيما أعتقد :أحدمها أهنم قصروا حياهتم الفنية على الغزل .وكان
الشعراء يف العصر اجلاهلي يعنون بالغزل كما يعنون بغريه من الفنون ،ورمبا اختذوه وسيلة يف أكثر
األحيان ال غاية .أما أصحابنا هؤالء فقد اختذوا الغزل غاية ال وسيلة .مل نعرف أهنم مدحوا أو عنوا
بفن آخر من فنون الشعر إال ما كان يضطرهم إليه الغزل...واآلخر أن غزل هؤالء الشعراء
اإلسالميني أرقى بكثري من غزل اجلاهليني من حيث إن غزل اجلاهليني كان ماديا خالصا ،يف حني
كان يف غزل اإلسالميني شيء غري املادة ،وأظن أن هذا حيتاج إىل شيء من اإليضاح ...مل يكونوا
[اجلاهليون] يعنون بذكر احلب وتأثريه يف النفس وال هبذه اآلالم املختلفة اليت تنشأ عنه ،أي مل يكونوا
يعنون بدخائل نفوسهم ،وإمنا كان الغزل عندهم ضربا من الوصف ،كانوا يصفون النساء كما يصفون
اإلبل .وقلّما جتد عندهم عناية بالعاطفة أو حرصا على متثيلها".2
يبدو التأثري الكبري الذي مارسه نالينو يف تلميذه واضحا ،وتتسع دائرة االتفاق بينهما ويف
املقابل تضيق دائرة اخلالف ،يف العديد من القضايا اليت طرقها كل واحد منهما ،فيجد طه حسين
نفسه تابعا ألستاذه ،مقتفيا أثره ال يكاد حييد عن طروحاته قيد أمنلة ،فمثال عند دراسة نالينو لشعر
لبيد بن ربيعة العامري يف اإلسالم ،واليت مازالت خالفية بني النقاد ،فنالينو مير مرور الكرام يف قضية
البيت الواحد الذي قيل إن لبيدا قاله يف اإلسالم ،فقط دون أن يعطي رأيه يف ذلك قائال":أدرك
اإلسالم إال أنه مل يقل يف عهده إىل بيتا واحدا اختلفت الرواة فيه ....ومن املشهور ما يف ديوانه من
العبارات الدينية ،بل الشبيهة بالعقائد اإلسالمية ...ولكن ليس كل ما ينسب إليه يف ديوانه من هذا
الباب صحيحا بل ال اختالف يف بعض األشعار أهنا مصنوعة".1
على الرغم من شكه يف بعض األشعار اليت حتمل طابعا دينيا ،إال أنه مل يشك يف قضية البيت
الواحد ،الذي قيل أن لبيدا قاله بعد إسالمه ،ومل يتبع هذه املسألة طويال ،واألمر نفسه جنده عند طه
حسين ،فبعد أن تناول ما يروى من أن عمر بن اخلطاب -رضي اهلل عنه -كتب إىل املغرية بن
عما أحدثوه يف اإلسالم من شعر،
شعبة ،واليه على الكوفة ،ليسأل الشعراء ولبيد بن ربيعة فيهمّ ،
تاما ،فسرتى
يقول " :ولست أخفي عليك أن اطمئناين إىل هذه القصة [فيما يتصل بلبيد] ليس ّ
صحت هذهالرواة يضيفون إىل لبيد شعرا ،إن صح فقد كان لبيد إذا يقول الشعر يف اإلسالم ،وإن ّ
القصة فقد كان الرواة إذا يكذبون على لبيد ...وأكرب ظين أن لبيدا أعرض عن الشعر يف اإلسالم،
فلم يتخذه صناعة ،ومل يكثر من إنشاده ،وانصرف عنه إىل القرآن ،ولكنه قال يف اإلسالم غري
بيت".2
إن طه حسين ال جيهد نفسه عناء البحث يف هذه الظاهرة ،كما يف غريها من الظواهر ،بل
يبين آراءه على الظن فقط ،ألن أستاذه من قبل مل يكلّف نفسه مشقة البحث كذلك .فكأنه يعيد
مر بنا
ما كان قد ّقرره أستاذه من قبل ،ليس يف هذه املسألة فحسب؛ بل يف الكثري من املسائل كما ّ
من قبل .حىت عندما ش ّكك يف بعض شخصيات الشعراء يف املدن احلجازية ،مل يشذ عن قاعدة
التأثر الذي مارسه عليه أستاذه نالينو ،وغريه من األساتذة املستشرقني ،وآلية الشك آلية أثرية عند طه
حسين ،فقد ّ
جرهبا مع بعض الشعراء العذريني األمويني ،يقول عن شخصية اجملنون " :وأزعم أن
امللوح خاصة إمنا هو شخص من هؤالء األشخاص اخلياليني ،الذين خترتعهم الشعوب قيس بن ّ
امللوح شخصا شعبيا
لتمثيل فكرة خاصة ،أو حنو خاص من أحناء احلياة ،بل رمبا مل يكن قيس بن ّ
92
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
"كجحا" وإمنا كان شخصا اخرتعه نفر من الرواة ،وأصحاب القصص ليلهو به الناس أو لريضوا به
حاجة أدبية أو خلقية".1
واألمر نفسه عند أستاذه الذي شكك قبل ذلك يف شخصية اجملنون بقوله..." :فزعم بعض
الناس أنه رجل مل يكن قط ،وال عرف يف الدنيا إال باسم اجملنون ألنه وضعه الرواة" .2ومرتكزه يف
ذلك إىل روايتني تعودان إىل ابن الكليب ،مصدرمها كتاب األغاين لألصفهاين.
خنلص مما سبق إىل أن طه حسين اعتمد اعتمادا كليا على طروحات األساتذة املستشرقني،
الذين تتلمذ عليهم وأبرزهم نالينو ،إضافة إىل استثماره مقوالت املنهج التارخيي ،كما وضع أسس له
هيبوليت تين ،سانت بيف وبرونتيير ،وأنه حاول مزج النزعة املوضوعية هلذا املنهج ،بالنزعة الذاتية
اليت تتمثل يف ملكة الذوق ،اليت رمبا يرجع صداها إىل حسين المرصفي وإىل غوستاف النسون من
بعده كذلك .وهو إذ يعيد قراءة هذه املدونات ،فهو يعيد فتح مغاليق هذه النصوص ،ويفتح النص
على القراءة الثانية ،اليت ال تستبعد القراءات األخرى ،بقدر ما حتاول إثراءها؛ ألن املوروث احلضاري
جل هذه الدراسات النقدية اليت انربت له،لألمة ،مل يدرس ويقرأ بالطريقة النقدية املثلى ،إمنا كانت ّ
سطحية يف معظمها ال عمق فيها ،وتعتمد يف مجلة ما تعتمد على املالحظة العابرة ،والتفسري اللغوي
الذي يقف عند حدود اجلملة لقياس الشاهد ،وتفسري الوحدات اللغوية تفسريا ال حركية فيه .األمر
الذي دفع بطه حسين ومجلة من النقاد احملدثني من بعده ،إىل إعادة قراءة هذا الرتاث قراءة واعية،
هتدف إىل سرب أغواره ،وفك شفراته ،واستخراج مكنونه وإنطاقه مبا سكتت عنه مدوناته .لنحاول يف
الفصل الالحق تتبع املظان األساسية ،اليت جعل منها طه حسين حقال لدراسته ،يف اعتماده آليات
املناهج الفلسفية الغربية ،وسنخص بالدراسة واملساءلة والبحث ،منهج الشك الديكاريت ،وكيفية
التوليف اليت حصلت بني شك ديكارت ،وشك العميد يف الشعر اجلاهلي.
94
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تتنـزل قراءة طه حسين للعقل العريب من نزوع تفاضلي بني مجلة من العقول ،إذ يأخذ مبدأ
املفاضلة بني العقل املشرقي والعقل اليوناين ،وحياول عقد مجلة من املقارنات بينهما من دافع التحكم
والغلبة واالمتياز للعقل اليوناين يف كل شيء .خاصة عندما يستعيد الرجل قراءة بول فاليري للحياة
الدينية والسياسية للحضارة الغربية ،فيحلل العقل األوريب إىل عناصر ثالثة :حضارة اليونان وما فيها
وحث على اإلحسان ،يقول طه حسين يف من سياسة وفقه ،واملسيحية وما فيها من دعوة إىل اخلري ّ
ربطه العقل املشرقي مبصادره اليونانية " :لو أردنا أن حنلل العقل اإلسالمي يف مصر والشرق القريب،
أفرتاه ينحل إىل شيء آخر ،غري هذه العناصر اليت انتهى إليها حتليل بول فالريي؟ ...خذ نتائج العقل
اإلسالمي كلها ،فرتاها تنحل إىل هذه اآلثار األدبية والفلسفية والفنية ،اليت مهما تكن مشخصاهتا
فهي متصلة حبضارة اليونان ،وما فيها من أدب وفلسفة وفن وإىل هذه السياسة والفقه ،اللذين مهما
يكن أمرمها فهما متصالن أشد االتصال مبا كان للرومان من سياسة وفقه ،وإىل هذا الدين اإلسالمي
وحيث عليه من إحسان ،ومهما يقل القائلون ،فلن يستطيعوا أن الكرمي ،وما يدعو إليه من خري ّ
متمما ومصدقا للتوراة واإلجنيل".1
ينكروا أن اإلسالم قد جاء ّ
ذلك هو التقريب املقارين الذي هنض به الفكر النقدي عند طه حسين؛ وهو تقريب ينبين
على مبدأ التفاضل واملقايسة بني نوعني من العقول :عقل يوناين خالص وعقل مشرقي يأخذ أبعاده
املنهجية والفكرية من العقل اليوناين اخلالد.
1طه حسني :املؤلفات الكاملة ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،0022 ،ج ،0ص.58 :
95
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يقر طه حسين بأسبقية وأفضلية العقل اليوناين على باقي العقول األخرى ،سواء املتزامنة منه ّ
أو اليت سبقته يف منحى احتفايل مبنجزات اليونان الفلسفية والفكرية يف قوله" :جيب أن نالحظ أن
العقل اإلنساين ظهر يف العصر القدمي مبظهرين خمتلفني :أحدمها يوناين خالص ،وهو الذي انتصر وهو
الذي سيطر على احلياة اإلنسانية إىل اليوم ،واآلخر شرقي اهنزم مرات أمام املظهر اليوناين ،وهو اآلن
يلقي السالح ويسلّم للمظهر اليوناين تسليما ...بينما جند العقل اليوناين يسلك يف فهم الطبيعة
وتفسريها هذا املسلك الفلسفي ،الذي نشأت عنه فلسفة سقراط وأفالطون وأرسطو طاليس ،مث
فلسفة ديكارت وكنت وكمت وهيجل وسبنسر .جند العقل الشرقي يذهب مذهبا دينيّا قانعا يف فهم
للكهان يف عصوره األوىل وللديانات السماوية يف عصوره الراقية وامتاز الطبيعة وتفسريها :خضع ّ
باألنبياء كما امتاز العامل اليوناين الغريب بالفالسفة".1
إن مبدأ املفاضلة واملقايسة الذي ارتكز عليه طه حسين يف توجهه النقدي والفكري ،هو ما
النرية املشرقة للغرب ،وهو ما أوجد
أعطى تلك الصورة املظلمة القامتة للشرق يف مقابل تلك الصورة ّ
فكرا ّنريا مشبعا بالتوجه الفلسفي الفكري ،الذي ال يقنع بوصف الظواهر بل باستنطاقها وحماولة
معرفة كنه األشياء وجواهرها ،الكما يقنع العقل الشرقي مبعاينة املظاهر فحسب ،لذلك تطور العقل
األول وشاع وسيطر ،وتقهقر الثاين وتراجع .يف حني كانت ماهية العقل اليوناين الفلسفة والفكر،
كانت الكهانة والعرافة مادة العقل الشرقي – إن جاز أن يسمى عقال ،-وانطالقا من آلية املقايسة
بني العقلني تتجه عنايته النقدية مبعاينة أمهات القضايا اجلوهرية الشائكة اليت عرفتها املراحل احلضارية
اجنر عنها من
على مر العصور ،ومن أمهها مقايسة مرحلة البداوة اليونانية مبرحلة البداوة العربية وما ّ
شك يف الكثري من املسلّمات األدبية والنقدية ،اليت كانت سائدة ،وهي القضية اإلطار اليت شغلته
فرتة زمنية معينة ،وومست اجتاهه النقدي مبيسمها ،وهي اليت شكك فيها طه حسين بالكثرة املطلقة
من الشعر العريب قبل اإلسالم .انطالقا من مبدأ املقايسة بني األدب العريب واآلداب العاملية األخرى
كاليونانية والرومانية وغريها .وسريا فيما بعد على هنج الفيلسوف رنيه ديكارت()R. Descartes
يف مفتتح مؤلفه اهلام "قادة الفكر" يضع العميد قارئه أمامه حني يتناول مقومات األمم السالفة
كاألمة اليونانية ،وال جيد حرجا يف توصيف بدايات هذه األمم العقلية والفكرية ،بأهنا اعتمدت على
هذه البداوة اليت صاغت معامل الفكر لديها.
1طه حسني :قادة الفكر ،دار العلم للماليني ،بريوت ،0080 ،ص.22 :
96
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ويذهب يف مبدأ التفاضل بني األمتني العربية واليونانية ،متوخيا مبدأ املقايسة بينهما يقول طه
حسين..." :إذا فالشعراء هم قادة الفكر يف هذه األمم .تأثروا حبياهتا البدوية ،فنشئوا مالئمني هلا،
ومتيزت شخصياهتم فأثّروا فيمن حوهلم ،مث يف األجيال اليت خلفتهم ،وهل كانت توجد احلضارة
اليونانية اليت أنشأت سقراط وأرسطو طاليس ،واليت أنشأت إسكولوس وسوفوكليس ،واليت أنشأت
فيدياس وبرييكليس لو مل توجد البداوة اليونانية ،اليت سيطر عليها شعر هومريوس وخلفائه؟ وهل
كانت توجد احلضارة اإلسالمية اليت ظهر فيها من ظهر من اخللفاء والعلماء وأفذاذ الرجال ،لو مل
توجد البداوة العربية اليت سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة واألعشى وزهري من هؤالء الشعراء الذين
نبخسهم أقدارهم وال نعرف هلم حقهم".1
إن املالحظ هلذا النص تتشكل لديه قناعة معرفية بأن طه حسين ،يفاضل بني األمتني اليونانية
والعربية من مبدأ املقايسة ،اليت يريد العميد تطبيقها على الرتاث العريب انطالقا من نظريه اليوناين .غري
توصل إليها هي حمدودية تأثري الشاعر العريب يف غريه ،واحنسار الفاعلية على العرب أن النتيجة اليت ّ
فقط؛ يف حني تتجاوز تأثريات الشاعر اليوناين أمته إىل غريها من األمم حبكم إنسانية الرسالة
واإلبداع اليت ينطوي عليها الشعر اليوناين ،فكان تأثريه عامليا إنسانيا قدميا وحديثا يقول طه حسين:
" بداوة العرب أثّرت يف العرب ويف احلضارة اإلسالمية ،ومل تتجاوز احلضارة اإلسالمية إال قليال ،وإذا
فشعراء اجلاهلية العربية عرب ال أكثر وال أقل ،أما بداوة اليونان فقد أثّرت يف اليونان وأثّرت يف
الرومان وأثّرت يف العرب وأثّرت يف اإلنسانية القدمية واملتوسطة وهي تؤثر اآلن يف اإلنسانية احلديثة
وستؤثر فيها إىل ما شاء اهلل ،وإذا فشعراء البداوة اليونانية يونان ولكنهم ملك لإلنسانية كلها".2
امتاز حسبه بالسكون والرتابة وامللل والتكرار ،نازعا عنه أي سلطة عقلية ومعرفية رمبا تشفع له تقدمه
ط النعوت واألوصاف ،وكأن لسان حاله يقول أن هذا العقل سليب بامتياز، يف يوم ما ،بل ينعته بأح ّ
وحنن يف غىن عن االحتفاء به وتبجيله ،بل هو مصدر علّتنا وختلفنا وتقهقرنا نظرا ألننا مل نُسهم يف
إنتاج الوعي الفلسفي وكذا احلضاري الذي أسس له العقل اليوناين ،ورمبا هي النظرة نفسها اليت
حاول تثبيتها والدفاع عنها يف كتاب قادة الفكر ،وفلسفة ابن خلدون االجتماعية وغريها من
املدونات ،وفيها يدين طه حسين للثقافة الغربية وللعقل الغريب بأسباب التقدم والرقي يف شىت
اجملاالت خاصة جمال النقد ،ومييل إىل العقالنية األوربية سليلة العقل اليوناين الذي تدفق عرب النهر
جراء ذلك الفعل.
اخلالد ،ليزهر العامل كله ّ
.2حضور املؤثر الغربي
عرف املشروع النقدي عند طه حسين يف مرحلة تش ّكله ،مجلة من القراءات املتباينة حينا
واملتوافقة حينا آخر ،واليت أخضعت الرجل ملنطلقاهتا ،سواء على مستوى البنية املرجعية لكل قراءة أو
جل هذه القراءات كانت إسقاطية يف جمملها وحتتكم على مستوى اإلجراء النقدي املمارس .غري أن ّ
إىل مبدأ القيمية واملعيارية ،الذي ال تؤمتن عواقبه من الناحية احلكمية ،إذ ستحاول كل قراءة أن تقدح
يف نظريهتا بشىت السبل ،حىت وإن خرجت عن جماالت السجال الفكري واملعريف إىل سجاالت دينية
عقدية تروم الوصول إىل التخطيء وحىت التكفري كما هو حاصل القراءات السلفية الدينية اليت
تناولت طه حسين .يقول عبد اهلل إبراهيم حول تباين هذه القراءات وح ّدة اختالفها" :إستأثر حكم
القيمة مبكانة الصدارة املطلقة يف معظم القراءات اليت تناولت طه حسني بوصفه ناقدا ومفكرا،
والواقع إن اإلنقسام حوله مبعثه يف األساس ،استناد القراءات إىل أحكام قيمية بصدده ،أحكام
تستمد مشروعيتها النقدية من أهنا تلعب على نوع من مسار التلقي اخلاص باألفق الذي يرتتب فيه
عمل طه حسني ،فمرة تكثّف حضوره وصورته ودوره ،ومرة تقصيه وتستبعده ،ويف كل مرة تسقط
عليه فائضا من مقاصدها" .1األمر الذي أدى إىل تشييء الفكر النقدي عند طه حسين ،مبعىن أن
كل قراءة تؤسس منطلقاهتا ومفاهيمها مما أجنزت حول هذا اهلرم الكبري وهو أمر يصطبغ عادة بنوع
مهدت له.من اإليديولوجيا اليت حتاول أن جتد من يعضدها انطالقا مما ّ
واملالحظ حول هذا املشروع احلضاري والنقدي الذي هنض بعبئه طه حسين ،أنه استمد من
كل مقومات النجاح واستطاع أن يستثمر ويفيد من منجزاهتا دون أن يويل ظهره احلضارة الغربية ّ
ملنجزات احلضارة العربية اإلسالمية .األمر الذي جنم عنه تثبيت قدمه يف الرتاث مع االنفتاح على
اآلخر وحماولة اإلفادة منه.
ترتكز قراءة عبد العزيز حمودة ملشروع احلداثيني العرب من زاوية رؤية حمددة ،مت مبوجبها
معاينة هذه املشاريع يف منطلقاهتا ومراميها ،ودرس السبل اليت توخاها هؤالء احلداثيون ،ومن أهم
مرتكزاهتم :دعوهتم الصرحية إىل ممارسة القطيعة املعرفية مع الرتاث ،وهو الشرط األساس يف اعتقادهم
لقيام حداثة عربية ،وينعى حمودة على هؤالء مواقفهم االنفعالية واليت وقفت يف الكثري من األحيان
منبهرة أمام منجزات العقل الغريب ،ويف الوقت ذاته تنصلت من كل التزاماهتا جتاه الرتاث العريب،
وبرتت العالقة الرابطة بني ماضيها واملتمثل يف تراثها واتصلت بأحادية القطب ،وهو احلضارة الغربية
بكل منجزاهتا دون متحيص أو تنقية ،إمنا أخذت هذه احلضارة برمتها وكأهنا املخلّص مما حنن فيه من
ختلف وسبات ،ويف املقابل يدافع حمودة عن مجلة من التنويريني من زاوية أن معظمهم تلقى بدايات
تعليمه يف كربيات اجلامعات الفرنسية واإلجنليزية ،لكنهم رغم ذلك ،وقفوا موقف التبجيل واإلكبار
هلذا الرتاث ،ومل يديروا ظهورهم له ،إمنا جعلوه قاعدة صلبة ومرتكزا أساسيا وشرطا ضروريا لبلوغ أي
تقدم أو حداثة.
يكتب عبد العزيز حمودة عنه قائال.." :مل يسجل طه حسني مثال ،مع كل ما أثاره من
ضجة يف السنوات املبكرة ،وعلى الرغم من كل محاسه للثقافة الغربية ،احتقارا للعقل العريب ومنجزاته،
وقد تركزت الضجة اليت أحدثها طه حسني خاصة حني صدر كتابه الشهري يف الشعر اجلاهلي سنة
،0032على قراءته اجلديدة للرتاث العريب ،وليس على رفضه لذلك الرتاث أو احتقاره له".1
تتشكل قراءتنا للرتاث بشىت أنواعه من دافع اكتشاف الذات من جديد ،إذ العالقة بني الذات
واملوضوع من االلتحام ،حبيث يصعب على الباحث الفصل بينهما ،بالرغم من أن الرتاث موجود يف
ويوحد أكرب مما يفصل
نقطة ما هناك والذات القارئة موجودة يف حاضرها هنا ،إال أن ما جيمع ّ
ويفرق ،يقول علي حرب...":فالرتاث ليس موضوعا قائما بذاته منفصال عنّا متام االنفصال ،وال هو
ّ
99
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ومكون سلفا ومسبقا ينبغي علينا إزاحة النقاب عنه وكشفه ،فالكشف عن الرتاث هو معطى جاهز ّ
إعادة اكتشاف له ،وإعادة الكشف إمنا هي إعادة بناء للذات واستنهاض للوعي ،فالذات ال تنفك
عن املوضوع وكل وعي جديد باملوضوع هو داللة على تب ّدل النظرة إىل الذات واملوضوع معا".1
إذا جتاوزنا هذه اجلدلية ،الذات/املوضوع ،ووقفنا عند عتبات التماس احلاصل بينهما ،ومل
تسعفنا آلياتنا العتيقة يف املقارنة واالستنطاق ،حسن بنا األخذ من اآلخر الغريب ،دون التماهي فيه أو
مكونات اإلنسانية اليت تتالقح فيها األفكار
مكون من ّ الذوبان يف أنساقه وأعطافه ،ذلك أن اآلخر ّ
وتتقادح فيها العقول كما قال التوحيدي ،وقبله اجلاحظ ،األدب عقل غريك تضيفه إىل عقلك،
فاآلخر بثقافته وتراثه ميثل بالنسبة للذات نقطة التحول والربوز والتجاوز ،باعتبار النقالت النوعية اليت
صاغها الغرب وفق فكره وموروثه يقول علي حرب" :ذلك أن ثقافات الغري تفتح أمام األنا أبوابا
جديدة وتوقظ الذات على حقيقتهاْ ،بيد أن لكل ثقافة هويتها ولكل مغامرة عقلية أسرارها ولكل
حضارة معجزهتا واملعجزة ال ميكن القبض عليها أو قولبتها يف تفسري وحيد وشامل أو استنفادها عرب
مقولة واحدة".2
استئناسا هبذا ،ال تستطيع الذات االستغناء واالستقالل عن اآلخر ،ويف الوقت نفسه ال جيوز
هلا االنصياع له واالنبطاح أمامه والذوبان فيه والتماهي معه ،على اعتبار أن هوية الذات غري هوية
اآلخر ،لكن دون هتويل لألمر ،جيب التالقح مع هذا املك ّون الغريب واإلفادة من منجزاته العقلية
واملنهجية والعلمية ،انطالقا مما آمن به طه حسين من قبل يف النقد التارخيي املقارن واكتشافه آليات
جديدة للمثاقفة مل تتجه العناية إليها من قبل" .وموضوع الغرب بكل إشكالياته الثقافية والسياسية
واالقتصادية مل يثر عند أولئك الرواد بالطريقة اليت يثار هبا اآلن ،ومل يكن مثّة انفصال إجرائي يضعه
أولئك بينهم وبني اآلخر الغريب ،مي ّكنهم يف األقل من إجراء حوار نقدي معه ،إذ أن الفروض األولية
للتفكري الصحيح كانت مستمدة من الثقافة الغربية نفسها وسؤال النقد مبعناه الشامل مل يكن مثارا،
وإمنا كانت الدعوة للتماهي مع الغرب ،عند أولئك الرواد -ويف طليعتهم لطفي السيد وسالمة موسى
1علي حرب :مداخالت ،مباحث نقدية حول أعمال :حممد عابد اجلابري ،حسني مروة ،هشام جعيط ،عبد السالم بنعبد
العايل ،سعيد بنسعيد دار احلداثة ،بريوت ،ط ،0085 ،0ص.0 :
2املرجع نفسه ،ص.35 :
100
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الرقي
تعرب ضمنا عن إميان مطلق بأن أسلوب التق ّدم الغريب هو األسلوب الوحيد يف ّ
وطه حسنيّ -
والتطور ،وأن جتربة الغرب جيب أن حتتذى باعتبارها جتربة كونية".1
قد يكون هذا الرأي صائبا يف بعض مناحيه ،إالّ أن شدة التحامل على ّرواد النقد العريب
احلديث هو ما يبعث على هتافت هذا الطرح ،ذلك أن طه حسين مثال قد دعا إىل األخذ مبنجزات
الغرب دون التماهي فيه والذوبان يف إجنازاته ،ودعوته صرحية يف هذا الشأن ،حىت خبصوص تعامله مع
اإلجراء النقدي احلديث ،يعلّق عبد اإلله بلقزيز حول هذه القضية ويعتقد جازما يف طرحه النقدي
أن طه حسين كان أمشل وأوسع يف اطالعه على الرتاث العريب اإلسالمي من جانب ،وكذا استيعابه
العميق للمدينة األوربية من جانب آخر من جمايليه شبلي الشميل وسالمة موسى ،يقول الباحث:
"...بل لعلّه كان أوسع اطالعا منهما عليها وأعمق إدراكا لكنّه قطعا فاقهما مبا ليس يقاس يف
اإلحاطة بالتاريخ الثقايف اإلسالمي ،فكان ذلك سببا يف بنائه رؤية للحداثة أكثر "أصالة" وأقل تقليدا
ألفكار األوربيني احملدثني" ،2ويردف الباحث مربزا املكانة اليت يتمتع هبا طه حسين على ساحة
الفكر النقدي احلديث ويربؤه من تلك النقائص اليت رماه هبا خصومه ،من أنه رجل علماين إحلادي،
وأنه جتاوز املألوف يف النّيل من الدين يقول الباحث...":فهو ما ذهب يف نقد التقليد مثال إىل نقد
الشميل مدفوعا بنـزعته التطورية (الداروينية) إىل احل ّد
ط من االعتقاد الديين كما فعل ّ الدين واحل ّ
األقصى ،وال ذهب فيه مذهب سالمة موسى يف عدميته جتاه كل قدمي ،وتبشرييته املفرطة باملثال
النهضوي األوريب ،ودعوته إىل حماكاته على حنو رث .وإمنا سلك مسلك الشدياق يف األخذ
باحلسنني :مثرات املدنية احلديثة ورحيق املرياث العريب اإلسالمي الوسيط".3
1عبد اهلل إبراهيم :الثقافة العربية واملرجعيات املستعارة ،ص.02 ،02 :
2عبد اإلله بلقزيز :العرب و احلداثة ،ص.028 :
3املرجع نفسه ،ص.028 :
101
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
صاغتها مجلة من األنساق األنطولوجية حملاولة إثبات الذات يف غياب أي شك عن العلة األوىل،
الذات اإلهلية.
إن املنهج العقالين لطه حسين هو الذي صاغ وش ّكل مساره الفكري والنقدي على السواء،
انطالقا من كونيّة العقل ،واملعضد لذلك أن الرجل إمنا جعل مدوناته األكادميية والنقدية تنصرف إىل
املعري ،عقالنية ابن خلدون وعقالنية ديكارت ،ماأجل املعضالت الفلسفية إشكاال ،فلسفة ّمعاجلة ّ
مسح بربوز التيار العقالين النهضوي للعميد يف مواجهة دعاة التغريب ودعاة التكفري ،وإميانا منه
بواحدية العقل اإلنساين ،خاصة عند مقايسته بني العقل اليوناين والعقل العريب ،يعقد تلك املقارنة
املنهجية ليدلل هبا على صحة مذهبه ،وسداد منهجه ،فالعقل عند طه حسين "عقل كوين حمكوم
مببدأ التشابه اخللدوين الذي يفضي إىل الوحدة العقلية للجنس البشري ،وتباينه يعود إىل ما ختتلف
عليه الفوارق التارخيية ،فليس هناك عقل عريب وعقل أوريب ،فهما ليسا نسقني متناظرين ال يلتقيان،
مر اليونان يف هذه املرحلة يف طور
فإذا كان العقل العريب يغلفه ضباب الرؤيا الشعرية (امليثية) فإمنا ّ
بداوهتم ،قبل أن ينتقلوا إىل العقل الفلسفي (اللوغوس) وتتبدى األمهية النظرية الستقراء طه حسني
وتأسيسه لرتسيمة (شعر/فلسفة) من خالل ما حتققه من وظيفة عقالنية يف إنتاج وعي مطابق
لتحديات الواقع املعاصر فيما هو عليه ،وحاجاته إىل التغيري والتقدم".1
يستمر عبد الرزاق عيد يف دفاعه عن طروحات طه حسين النقدية والفكرية ،متوسال جبملة
من املنطلقات الفكرية ،أو إن شئنا التحديد والضبط املصطلحي ،ببعض العلل املوصلة لعالهتا ،إذ
يساير طه حسين يف كيفية مقايسته بني العقل اليوناين والعقل العريب ،وكيف اشتغل العقل اليوناين
على الفلسفة ،اليت أخرجت الناس من سياقات بدوية ميثولوجية ،إىل سياقات عقلية يكون العقل هو
رأس اهلرم ،يقول عبد الرزاق عيد" :هبذا اجلهاز املفاهيمي يتوجه طه حسني باجتاه اللحظة األوىل
برد كل
تكون العقل العريب الشعري "الشعر اجلاهلي" ليخرتقها فيلولوجيا ّ
اليت يتشكل منها وهبا بداية ّ
الظواهر إىل أصوهلا ،لقد أرسى دعائم وعي تارخيي منهجي جديد من خالل املواجهة مع كلية الشرط
تطوره العقلي والتارخيي".2
اإلنساين يف ّ
1عبد الرزاق عيد :طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية ،ص.021 :
2املرجع نفسه ،ص.002 ،003 :
102
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يرد طه حسين ختلّف مصر عن أوربا -رغم أهنما يصدران من مصدر واحد وهو الشرق
القريب ويلحق مصر بالشرق القريب ملتانة الصلة الرابطة بني العقل املصري القدمي والعقل األوريب-
جراء احلملة العثمانية وما انطوت عليه من جهل وظالم وفقر أوصلها إىل حالة من إىل ما حلق مبصر ّ
رد هذه الظروف الثقافية
التخبط والعمى ،وهو رمبا أمر فيه نوع من إعادة النظر ،ذلك أنه ال ميكننا ّ
املزرية إىل اخلارج وحده ،ونعلّق عليه أوزارنا وكأنه مشجب العار ،وإمنا األجدى أن يتم نقد هذه
املنظومة الفكرية واملعرفية داخليا ،بسرب بنياهتا ،واكتشاف غامضها وتفكيك مقوالهتا ،ومن مث إعادة
بنائها ورأب صدعها ،حىت نكون منصفني يف أحكامنا وتقييد مرامينا.
إن ثقافة أية أمة هي معيار األمسى هلويتها ،وهي كذلك مرجعيتها اليت ترتكز عليها وتصدر
منها ،غري أن ثقافة األمة العربية إمنا صنعتها وصاغتها مجلة من املؤثرات واحملطات الكربى ،واليت
ترجع يف أحد مصادرها إىل نبعها األول :النص القرآين ،الذي أراد طه حسين نزع أسطرته وجتريده
ضخه الغرب من ثقافة وافدة على هذا املشرق" .تقوم املماثلة يف من قدسيته واالحتكام من مث إىل ما ّ
فكر طه حسني على نوع من القراءة لتاريخ الغرب الذي يراه خطّا متصال صاعدا يبدأ من اليونان
فالرومان فالعصر الوسيط وصوال إىل العصر احلديث ،ومبا أن مصر والشرق متصالن بذلك التاريخ،
1
فينبغي قراءهتما يف ضوئه أوال ودجمهما فيه ثانيا".
تنطلق قراءة عبد اهلل إبراهيم للمشروع النقدي واحلضاري لطه حسين ،من دافع النزوع حنو
إثبات التهافت الفكري والنقدي واملنهجي عنده ،ألن الرجل ال يفتأ يقتطع النصوص واالستشهادات
من سياقاهتا ليثبت منحاه يف املقارنة ،وممارسة القدر الكبري من جوانب الغلط اليت رمى هبا منهج طه
حسين يف قراءة الرتاث العريب ،ومن املؤكد أن هذا النوع من القراءات يُصنّف حتت مسمى
القدحيات اليت حتاول جاهدة النّـْيل من منجزات من تنتقده.
مها اليونانية والعربية ،حملاولة إثبات وجود الروابط املعرفية والعقلية بينهما ،وهو ما وجدت آثاره
وأصداؤه يف الرتاث النقدي خاصة عند الجاحظ وقدامة وحازم وغريهم .أضف إىل ذلك أن البناء
النقدي الذي تناوله طه حسين يف تلك الفرتة كان خاضعا جلملة من األنساق الثقافية واالجتماعية
وحىت السياسية ،واليت رمبا مل تكن من النضج املعريف أو اإلبستيمي الكبري الذي تشهده الساحة
الرواد من النقاد.
النقدية اليوم .وهذا لكي ال نتحامل كثريا على ما أجنزه ّ
تستمر محلة التهويل وممارسة ذلك النوع من الغلط ،حينما يكتب عبد اهلل إبراهيم قائال:
"يكشف مبدأ املقايسة يف خطاب طه حسني عن آلية تشتغل ضمن نظام شبه ثابت ،فما أن تطرح
قضية ما يف األدب والفكر إال ويصار البحث هلا عن نظري يف الفكر الغريب ،سواء كان حديثا أو
قدميا ،وجتري مضاهاة ومقارنة بني نوعني ويُصار إىل تثبيت القضية أو نفيها يف ضوء إثبات أو نفي
1
القضية األخرى".
إن مبدأ املقايسة الذي هتافت عليه عبد اهلل إبراهيم وجعل منه املصطلح املفتاح ،يف ولوج
عامل طه حسين الفكري والنقدي ،هو الذي مسح للعميد بأن ينجز تلك املقارنات بني الفكر اليوناين
والفكر العريب ،رمبا ليس من جانب احملاكاة واالمتثال ،وإمنا من جانب بعث هذا القدمي من جديد،
وإعادة قراءته يف ضوء ما يسمح به العصر من قراءة جديدة هادفة واعية ،وحتاول يف الوقت نفسه أن
جتد هلذا الرتاث العريب التليد موضع قدم يف صناعة املعرفة اإلنسانية ،على غرار ما صنع العقل اليوناين
يف القدمي ،وال إخاهلا تنحو ذلك املنحى الذي فهمه عبد اهلل إبراهيم ،من أهنا مماثلة بل امتثال هلذا
اآلخر يف كل شيء "إن الفارق عظيم بني احلداثة وبني التقليد الرث للغرب (التغربن) .احلداثة إبداع
واقتحام جي ّذف ببطولة ضد التيار كي يؤسس للنفس مكانا ،أما التغربن فريادف التبعية الفكرية،
التسول الثقايف والتّعيّش من إبداع اآلخرين ،وحتويل املعرفة من إنتاج إىل ترمجة وترداد
والكسل املعريف و ّ
ممل ورتيب ملا قاله اآلخرون .إنه القفى املوضوعي للسلفية :كالمها يؤمن بسلفه الصاحل ويأخذ عنه
تردد األوراد واألذكار" 2.ذلك ماحاول العميد النأي عنه ليضمن ويردد "تعاليمه" كما ّ
بإفراطّ ،
ملشروعه نوعا من التأصيل النظري الذي يرد الفروع إىل أصوهلا ،يف حركة دائبة تواصل بني الرتاث
واحلداثة.
تنتظم القراءة النقدية للرتاث عند طه حسين يف شكلني متباينني متمايزين ،أوهلما قراءته بدافع
النـزوع حنو مماثلة الرتاث العريب للرتاث اليوناين ومن مث األوريب وثانيهما قراءته للشعر العريب قبل
اجنر عنه استبعاده وإقصاؤه من دائرة الباحثني امللتزمني بقضايا
اإلسالم قراءة حديثة ،األمر الذي ّ
األمة ،والذائدين عن حرماهتا ومقدساهتا ،ذلك النـزوع املعريف الذي د ّشنه العميد ،بوقوفه يف وجه
النظرة السلفية الدوغمائية للرتاث ،وحماولته نزع رداء القداسة الذي تتدثر به مثل هذه القراءات ،وهو
إذ ميضي يف مشروعه ال ينجو يف الكثري من األحيان من الوقوع يف مطبات التلفيق والتربير
الساذجني ،ألن اعتماده مبدأ املماثلة واملقايسة إمنا جىن عليه يف عدم التوافق بني مقدماته ونتائجه،
أضف إىل ذلك أن اعتماده آلية الشك الديكاريت مل يعدم من هتافت أملته التطبيقات التعسفية ورمبا
االرجتالية لتلك اآللية ،مع ما نالحظ من فروق جوهرية بني تطبيقات املنهج عند ديكارت وتطبيقاته
عند طه حسين"...من الواضح أن طه حسني يريد تفكيك هذه الكتلة املتصلّبة من التصورات
والقناعات واملقوالت ،وذلك ال يتم من وجهة نظره ،إال من خالل فعلني متزامنني أوهلما :الشك
واالرتياب بكل ما قيل وثبّت حول األدب القدمي ،وخباصة اجلاهلي باعتباره ،يف تصور القدماء،
األصل الذي حت ّدر عنه األدب العريب واللغة العربية ،وثانيهما :تعليل ماهية األدب بوصفه مرآة
تنعكس فيها مجلة الظروف الذاتية واملوضوعية ملبدعه وعصره وبيئته وطباعه وكل احملضن الثقايف الذي
1
حيتضن ظهوره".
إن بلوغ طه حسين هذا املبلغ ،واضطالعه هبذا العبء احلضاري اهلام ،إمنا تأتّى له ذلك من
متثله للثقافة الوافدة الداعمة لتحكيم فاعلية العقل يف استنطاق الظواهر األدبية والنقدية اليت يكتنـزها
الرتاث العريب ،وذلك بتوظيف هذه اإلجراءات احلديثة لتلك الغاية الكبرية ،وهي إجراءات وآليات
استثمرها بداية من متثّله لطروحات املنهج التارخيي الذي أرسى دعائمه هيبوليت تين وسانت بيف
ومن بعدمها برونتيير والقائل بضرورة االحتكام إىل ظاهرة احلتم التارخيي أو اجلرب التارخيي ،وهي اآلراء
النقدية اليت متّ توظيفها يف نقده أليب العالء ،مث يف كتابه "فلسفة ابن خلدون" ومها العمالن
التأسيسيان اللذين ظهر فيهما أثر تطبيق ذلك املنهج ،أما خبصوص تبنّيه ملقولة األدب مرآة لعصره
فتم استثمارها بطريقة نقدية تراتبية أفضت من األسباب إىل النتائج جبملة من األحكام النقدية املتبناة
ّ
من قبله .غري أن طه حسين "مل حيفل باإلعالن عن أصل الرؤية النقدية القائلة بأن األدب مرآة
للحياة ،كما احتفى باإلعالن املثري عن تبنّيه منهج الشك الديكاريت ،مع أن تلك الرؤية النقدية
1
كانت أهم العناصر الفاعلة يف فكر طه حسني النقدي وأقدمها فيه".
يرجع توجه طه حسين إىل هذا النوع من الدراسة املرآوية واليت غدت توفيقية ،إىل أثر اجلامعة
املصرية فيه متأثرا بدروس املستشرقني الذين يأيت يف طليعتهم األستاذ نالينو الذي ترك أثرا بارزا يف
3
هذا اجلانب 2يقول طه حسني ":ألول مرة تعلمنا أن األدب مرآة حلياة العصر الذي نتج فيه".
وقضية "املرآة" قضية شائعة يف جمموعة من الكتب النقدية عنده وهي كلمة أثرية عنده ،خاصة
يف مؤلفاته النقدية يف مرحلة البدايات ،وقد ذهب جابر عصفور إىل أن طه حسين ّ
يعرب عن املرآوية
أو عن عالقة األثر األديب بأصله بكلمات ثالث هي :التصوير ،التمثيل واالنعكاس ،والشك أن هذه
الكلمات ترجع إىل حقل داليل واحد ،وتشري يف معظم سياقاهتا إىل طرفني :أحدمها علة واآلخر
معلول ،الطرف األول هو األصل أما الثاين فهو صورة للطرف األول ،وال تتحقق هذه األبعاد الداللية
يردنا إىل مفهوم العمل
يف تشبيه يتصل باألدب مثلما تتحقق يف تشبيه األدب باملرآة .إ ّن هذا التشبيه ّ
األديب بوصفه صورة ألصل ْقبلي ،ذلك ألن املرآة متثل أشياء تقع خارجها ،وكما تعكس املرآة
املوضوعات املواجهة لصفحتها فتمثلها وتعرض صورهتا ،كذلك األدب ،فهو مرآة لشيء يقع خارج
4
كيانه املطبوع أو املسموع.
سبق أن ذكرنا أن قضية األدب مرآة لعصره الذي أنتج فيه ،قضية أخذها طه حسين عن
أستاذه نالينو باجلامعة املصرية وقبل أن يؤلف كتابه "يف الشعر اجلاهلي" بفرتة طويلة وهي إشكالية
عرفها النقد التارخيي على يد تين وبيف ،وحقيقة فقد أخذ الرجل مبقوالت هذا املنهج يف قراءة بعض
كاملعري وكدراسته البن خلدون.
األشعار القدمية ّ
غري أن الذي نالحظه يف فرتة الحقة من حياة طه حسين النقدية أن الرجل جتاوز هذه
املقوالت ،بل ثار عليها ألهنا يف اعتقاده آليات تقتل اإلبداع األديب ،وجتنح جنوحا سافرا حنو العلمية،
وهو أمر ال ميكن التوفيق فيه وال االطمئنان إىل نتائجه ألن " تاريخ األدب ال يستطيع بوجه من
الوجوه أن يكون (موضوعيا) صرفا ،وإمنا هو متأثر أشد التأثر وأقواه بالذوق ،وبالذوق الشخصي قبل
الذوق العام .وأنت تستطيع أن تقرأ هذه اآلثار القيّمة اليت تركها سانت بوف ،فسيكون موقفك منها
موقفك من اآليات الفنية القيّمة ،وستجد يف قراءهتا ل ّذة تعدل اللذة اليت جتدها عندما تقرأ آثار
موسيه أو ال مارتني أو فيين أو غريهم من الذين كتب عنهم سانت بوف ،ولن جتد هذه اللذة العلمية
اليت ال ختلو من جفاء محوضة عندما تقرأ هذه اآلثار ،ذلك ألن سانت بوف مل يستطع أن يكون
عاملا وال أن يستنبط قوانني...،مل يستطع أن ميحو شخصيته وال أن خيفف من تأثريها .فأنت تراه
فيما يكتب وأنت تسمعه وأنت تتحدث إليه وأنت تستكشف عواطفه وميوله وأهواءه ،وتستكشفها
يف غري مشقة وال عناء ،وأنت تعرف أنه كان متأثرا باحلب يف هذا الفصل ،وكان متأثرا بالبغض
واحلسد يف ذلك الفصل .أفتظن أنك تستطيع أن تظفر بشخصية نيوتون والمارك ودروين وباستور يف
آثارهم العلمية اخلالصة مبثل ما تظفر به من شخصية سانت بوف يف آثاره األدبية،كال ! ألن هؤالء
1
كانوا علماء ،وألن هذا كان أديبا ،والعلم شيء واألدب شيء آخر".
1طه حسني :يف األدب اجلاهلي ،دار املعارف ،مصر ،ط ،0025 ،00ص.22 ،22 :
107
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
االجتماع وإما على علم النفس وإما على اللسانيات...وهو فن حني يتطلع إىل أن جيعل من قراءة
نص من النصوص األدبية حتفة أدبية يستخلص من خالل جتسيدها عناصر اجلمال ،ومواطن االبتكار
1
ومظاهر اجل ّدة ،وخصوصا ما حيمل القارئ على اإلعجاب ،وما يغريه بالتعلق بالنص املقروء".
لقد عدل طه حسين عن نظرته العلمية للنقد حينما استثمر تلك املقوالت يف قراءة أيب العالء
متر عرب خاصية ذاتية تذوقية ،تأخذ من النظرية املعري ،لكنه أدرك أن الوصول إىل حقيقة النص ّ
وتضيف إليها ما أسبغته عليها من ميول نفسية تنشد الوصول إىل مجالية النص وشعريته .مث يضيف
موقفه من منهجي تين وبرونتيير ،ويقف املوقف نفسه الذي رآه يف هنج بوف ألنه مهما اقرتب
األدب من العل م فسيظل عاجزا عن تفسري النبوغ الذي هو جوهر ما يسعى إليه تني" ،ذلك ألنه
مهما يُقل يف البيئة والزمان واجلنس ،ومهما يقل يف تطور الفنون األدبية ،فستظل أمامه عقدة مل حتل
2
بعد ولن يوفق هو حللّها ،وهي نفسية املنتج يف األدب والصلة بينها وبني آثارها األدبية".
يتأسس اخلطاب النقدي التارخيي عند طه حسين من دافع املثاقفة مع اآلخر الغريب قصد
احملرم واملق ّدس واحملضور ،أضف
طي ّكشف خبايا الرتاث العريب اإلسالمي ،واليت ظلت أزمنة مديدة ّ
إىل ذلك حماولته الدفع هبذا الرتاث إىل احتالل مراتب ريادية كما حيتلها الفكر الغريب اليوم .ومن
منطلق إعادة قراءة الرتاث فقد تأثر باملسألة اهلومريية اليت هنض باستجالئها مجلة من النقاد الغربيني،
واألمر نفسه هنض به يف حماولته قراءة هذا املوروث الشعري ،قراءة جديدة مل تعهدها الساحة األدبية
لعل أخطرها ما ُرمي به طه حسين من اإلحلاد
العربية آنذاك ،مما ولّد ردود فعل متباينة يف حينهاّ ،
صح توصيفه
والكفر والزندقة والتجريح واالستنكار .غري أن الرجل واصل مشروعه البحثي املقارين إن ّ
هبذه الصفة ،ألنه يعي حجم التحديات اليت كان خيضع هلا آنذاك من ضرورة بعث النقد العريب
والفكر العريب من جديد ،وحماولة مسايرة الركب املتقدم.
1عبد امللك مرتاض :يف نظرية النقد -متابعة ألهم املدارس النقية املعاصرة ورصد لنظرياهتا -دار هومة ،اجلزائر،3113 ،ص:
.02 ،02
2طه حسني :يف األدب اجلاهلي ،ص.22 :
108
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يرى جابر عصفور أن طه حسين انطلق يف مشروعه هذا يف اقتفاء أثر (وولف) يف إنكار
شخصية هوميروس ،وأثر األستاذ (جابرييل) يف وصوله إىل أن سقراط شخص خرايف مل يوجد ومل
يعرفه التاريخ؛ أي أن طه حسين تواصل مع تقاليد البحث التارخيي يف اآلداب بوجه خاص ،وحاول
تطبيقها على الشعر العريب ،فبدأ بالشك يف الصورة التارخيية املأثورة عن العصر العباسي ()0033
وأعقبها بالشك يف وجود بعض شعراء الغزل اإلسالمي ( ،)0032مث تصاعد بالشك فشمل أغلب
الشعر اجلاهلي ( ،)0032وظلت دراسات وولف وجابرييل وأمثاهلما – يف اليونانيات -أقرب إليه من
Sir نتائج الدراسات االستشراقية يف الشعر العريب ابتداء من ألواردت 0823ومرورا بليال (
1
0008 )Charles Lyallوانتهاء بمرجليوث (.0035 )Margoliouth
يقول عبد القادر بوزيدة " :تأثر طه حسني يف كتابه عن األدب اجلاهلي بالغربيني دون شك،
تأثر هبم يف منهج الدراسة من جهة ،ويف احلجج اليت كان يسوقها للشك يف الشعر اجلاهلي من جهة
أخرى ،والدراسة ملثل هذه العالقات التأثرية تدخل يف إطار األدب املقارن ،ولكن املناهج اليت درست
هبا هذه العالقة بني اآلداب عموما وبني األدب العريب واآلداب الغربية خصوصا .هي مناهج تقف
من الظاهرة عند السطح وال تلج أعماقها ،تدرس الظاهرة دراسة وصفية حمضة وال حتاول أن حتللها
وتتبني أسباهبا ،وهي هلذا ال تستطيع أن تدرك الوظيفة اليت ميكن أن يلعبها العنصر األجنيب اجمللوب
يف املساعدة على طرح بعض القضايا اليت ميكن أن حيجم عن طرحها الكاتب أو املف ّكر أو األديب
أو التيار األجنيب بالذات ،وهل هي مسألة مصادفة فقط أم تتعلق بالذوق وامليل اخلاص للمفكر أو
األديب املتأثر ،أم أهنا على العكس من ذلك تأيت استجابة الحتياجات عميقة تستشعرها األمة
2
املستقبلية تبحث عن طرق لبلورهتا والتعبري عنها".
و قد الحظ عبد القادر بوزيدة بأن هناك شبها كبريا بني ما جاء عند بعض النقاد الغربيني
حول املسألة اهلومريية وبني ما ذهب إليه طه حسني يف شكه يف الشعر العريب القدمي".3
ترتكز عملية املقارنة األدبية عند طه حسني على مجلة من املعطيات املعرفية ،لعل أمهها هو
سريه على منوال من سبقه إىل هذه العملية ،أقصد رفاعة الطهطاوي الذي أجرى هذه املقارنات
املادية اليت تنأى عن الفن واخلطاب األديب النأي كله ،وال تتأكد عملية املقارنة بني الرجلني يف هذا
املنحى أو ذاك وإمنا تربز يف جمال اإلبداع األديب ،وتاريخ األدب والنقد أكثر عند طه حسين ،باعتبار
أن اخلطاب األديب يؤكد عدم وجود داللة جاهزة سلفا كما يقرر تودروف وأن " التعبري اللغوي هو
العملية اليت تكون فيها كل العناصر وكل املظاهر ذات داللة ،وإن تكن على درجات متفاوتة ،وال
وجود للمعىن قبل أن نتلفظه وندركه ،وهو يولد يف تلك اللحظة بالذات وال يقتصر على معلومة
ينقلها املظهر املرجعي للمنطوق".1
انطالقا من هذا حياول البحث أن يتبع نقاط املقارنة عند طه حسين ومدى إسهام الرجل يف
إرساء دعائم هذه املقارنات سواء بني اإلبداع أو بني النقد أو غريمها.
وعملية التتبع إمنا تنبع من حماولة حصر هذه املوضوعات يف مظاهنا األصلية دون أن ختتزهلا
على مظهر دون آخر.
يفتتح طه حسني مؤلفه "مرآة اإلسالم" مبحاولة إثبات أمر التخلف لألمة العربية باملقارنة مع
األمم األخرى ،ليثبت أمر املغايرة واملفارقة يقول ":يف أواسط القرن السادس للمسيح كانت األمة
العربية متخلفة أشد التخلف بالقياس إىل األمم اليت كانت جتاورها 2".ودائما وبضغط من خطاب
التخلف يؤكد طه حسين التبعية الشمالية واجلنوبية لإلمرباطورية الفارسية والبيزنطية قائال "..وكما أن
اإلمرباطورية البيزنطية قد محت هؤالء العرب يف الشام ،واختذت منهم حرسا للحدود بينها وبني
وسريت هلم سبل العيش ،فكذلك اجلزيرة العربية ،وجعلت منهم ملوكا وسادة ،وأجزلت هلم العطاء ّ
ت .تودروف :األدب والداللة :تر :حممد ندمي خشفة ،مركز اإلمناء احلضاري ،حلب ،ط ،0002 ،0ص.02 :
1
2طه حسني :مرآة اإلسالم ،دار املعارف ،مصر ،0050 ،ص.5 :
110
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
صنعت اإلمرباطورية الفارسية بالعرب الذين استقروا يف العراق ،اختذهتم حرسا للحدود بينها وبني
1
اجلزيرة العربية وجعلت منهم ملوكا وسادة ،وملّكت بعضهم األرض وأغدقت عليهم العطاء".
ميتلك طه حسين هذه العقلية املقارنة ،اليت ال تفتأ تقارن بني األدب العريب واألدب اليوناين
أو الروماين ،ففي حديثه عن ثراء أسرة الشاعر عمر بن أيب ربيعة مثال يقول ":وكان هلذه األسرة رقيق
2
كثري يذكرنا مبا نقرأ يف أخبار األغنياء من اليونان والرومان".
تنعقد الصلة بني طه حسين واملوضوعات األدبية اليت يقايس هبا غريها من اآلداب ،من دافع
النزوع حنو املماثلة واملطابقة ومن مث املقايسة ،ففي تعريفه لكلمة "األدب" الجيد طه حسني مانعا من
عما هلا من معىن يف
مقايستها مبا لدى األمم األخرى من تعريفات هلذه الكلمة ،ال خترج يف جمملها ّ
األدب العريب القدمي ،يقول " ...مث هل يدل " األدب " عند األمم األجنبية القدمية أو احلديثة على
شيء غري هذا الذي يدل عليه عندنا ؟ فنحن إذا ذكرنا األدب اليوناين ال نفهم منه إال مأثور الكالم
اليوناين شعرا ونثرا :نفهم من اإللياذة واألوديسة ،ونفهم منه شعرا بندار وسافو وسيمونيد ،نفهم منه
قصص الشعراء املمثلني ،ونفهم منه تاريخ هريودوت وتوسرييد ،نفهم منه نثر أفالطون وإيسوقراط،
وخطب برييكليس ودميوستني .وقل مثل هذا يف األدب الروماين ،وقل مثله يف األدب احلديث ،فال
3
يدل األدب الفرنسي إال على مأثور الكالم الفرنسي نظما ونثرا".
دائما يف عقده ملثل هذه التوازيات واملقايسات ،يعمد طه حسين إىل مقايسة تاريخ األدب
العريب بغريه من تاريخ األدب الغريب قدميه وحديثه ،مع حماولة تبيان هذه املماثلة على الصعيد املعريف
دون فقهيقول ":وكيف تريد أن تضع تاريخ األدب العريب ومل يدون للغة العربية فقهها على حنو ما ّ
اللغات احلديثة والقدمية ،ومل ينظم للغة العربية حنوها وصرفها ،على حنو ما نظم للغات احلديثة
4
والقدمية حنوها وصرفها".
يتشكل الرأي النقدي عند طه حسين ،من دافع املقارنة واملوازنة بني األدبني العريب واليوناين،
من ضرورة وجود تشابه أو قل تطابق بني بعض القضايا األدبية والفكرية ،اليت عرضها األدب اليوناين
والعريب كقضية االنتحال ،وحتت هذا العنوان" ليس النحل مقصورا على العرب" ،يدعو العميد مجيع
الباحثني إىل ضرورة االنتباه إىل مثل هذه املقارنات ،لكي يتسىن هلم الفهم السليم واالستفادة من
مثل هذه األحباث ،مبقارنة األمة العربية بغريها من األمم ،ويستعمل العميد مصطلحات من قبيل
"املقارنة " و"التأثري" و"التأثر" مما يثبت احلس النقدي املقارن عنده يف تلك املرحلة املبكرة من نقدنا
العريب احلديث ،يقول ":وإذا كان هناك شيء يؤخذ على الذين كتبوا تاريخ العرب ،وآداهبم فلم
يلموا إملاما كافيا بتاريخ هذه األمم القدمية ،أومل خيطر هلم أن يقارنوا بني
يوفقوا للحق فيه ،فهو أهنم مل ّ
األمة العربية واألمم اليت خلت قبلها ،وإّمنا نظروا إىل هذه األمة العربية ،كأهنا أمة فذة مل تعرف أحدا
ومل يعرفها أحد ،مل تشبه أحدا ومل يشبهها أحد ،مل تؤثر يف أحد ومل يؤثر فيها أحد ،قبل قيام احلضارة
1
العربية وانبساط سلطاهتا على العامل القدمي".
يضيف طه حسين معلقا على املسألة نفسها " لو درسوا تاريخ هذه األمم القدمية وقارنوا بينه
2
ميهد
لتغري بذلك تاريخ العرب أنفسهم" ،وهو ما ّ وبني تاريخ العرب لتغري رأيهم يف األمة العربية ،و ّ
لعملية املقارنة الوجودية والفكرية بني األمتني اليونانية والرومانية من جهة ،واألمة العربية من جهة ثانية
قدر هلاتني األمتني يف العصور القدمية مثل ما مع رصده لنقاط التشابه واملماثلة بينها ،يقول" :فقد ُ
قدر لألمة العربية يف العصور الوسطى :كلتامها حتضرت بعد بداوة .وكلتامها خضعت يف حياهتا
الداخلية هلذه الصروف السياسية املختلفة .وكلتامها انتهت إىل نوع من التكوين السياسي دفعها إىل
أن تتجاوز موطنها اخلاص وتغري على البالد اجملاورة وتبسط سلطاهتا على األرض .وكلتامها مل تبسط
سلطاهنا على األرض عبثا ،وإّمنا نفعت وانتفعت وتركت لإلنسانية تراثا قيّما ال تزال تنتفع به إىل
األمة العربية،
اآلن :ترك اليونان فلسفة وأدبا .وترك الرومان تشريعا ونظاما .وكذلك كان شأن ّ
حتضرت كما حتضر اليونان والرومان بعد بداوة ،وتأثّرت كما تأثر اليونان والرومان بصروف سياسية ّ
خمتلفة ،وانتهى هبا تكوينها السياسي إىل مثل ما انتهى التكوين السياسي لليونان والرومان إليه من
جتاوز احلدود الطبيعية وبسط السلطات على األرض ،وتركت كما ترك اليونان والرومان لإلنسانية تراثا
قيّما خالدا فيه أدب وعلم ودين .وليس من العجيب يف شيء أن تكون العوارض اليت عرضت حلياة
1
العرب على اختالف فروعها مشبهة للعوارض اليت عرضت حلياة اليونان والرومان من وجوه كثرية".
لقد حرصنا على تثبيت هذا النص -رغم طوله -لنحاول مرة أخرى الربهنة على أن املغزى
من هذه املقارنات ،اليت يقوم هبا طه حسين إمنا هو حماولة إثباته أن العقل العريب سواء القدمي أم
احلديث ،إّمنا هو تابع أمني للعقل اليوناين والروماين ،ومبقارنته هذه إمنا ينتزع مجلة من األحداث من
وحتضره ،وكذلك من جهة سياقاهتا اليت أتت فيها ،وذلك بعقده هذه املقايسة بني بداوة اليونان ّ
أخرى بداوة العرب وحتضرهم .وعمليات التسلط اليت كانت آنذاك ،ومتاشيا مع مبدأ املقايسة الذي
اختاره طه حسين واستنادا إىل الشاعر الفرنسي بول فاليري " فإ ّن العقل األوريب يـَُرُّد إىل عناصر
ثالثة :حضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن ،وحضارة الرومان وما فيها من سياسة وفقه،
واملسيحية وما فيها من دعوة إىل اخلري وحث على اإلحسان .وعلى هذا ،فإن احلضارة األوربية
2
احلديثة شديدة الصلة مبصادرها اإلغريقية والرومانية واملسيحية".
لكن عملية املقايسة الطاهوية إمنا تقوم يف جوهرها على شيء من التناقض ،وقع فيه العميد
يف العديد من احملطات ،خاصة يف معاجلته هلذه املسألة املتعلقة باألمة اليونانية والرومانية وأثرمها يف
األمة العربية ،فهذه املسألة تنطوي على تشيّع واضح للحضارة األوربية احلديثة على حساب احلضارة
العربية اإلسالمية ،خذ مثال قوله اآليت فيما خيص املقارنة بني العقل اليوناين الغريب والعقل العريب
الشرقي ":جيب أن نالحظ أن العقل اإلنساين ظهر يف العصر القدمي مبظهرين خمتلفني :أحدمها يوناين
خالص ،وهو الذي انتصر ،وهو الذي يسيطر على احلياة اإلنسانية إىل اليوم ،واآلخر شرقي اهنزم
ات أمام املظهر اليوناين ،وهو اآلن يلقي السالح ويسلم للمظهر اليوناين تسليما ...بينما جند مر ٍ
العقل اليوناين يسلك يف فهم الطبيعة وتفسريها هذا املسلك الفلسفي الذي نشأت عنه فلسفة
سقراط وأفالطون وأرسطاليس ،مث فلسفة ديكارت وكنت وكمت وهيجل وسبسنر ،جند العقل الشرقي
للكهان يف عصوره األوىل ،وللدياناتيذهب مذهبا دينيا قانعا يف فهم الطبيعة وتفسريها :خضع ّ
1
السماوية يف عصوره الراقية ،وامتاز باألنبياء كما امتاز العامل اليوناين الغريب بالفالسفة".
ينتصر طه حسين من خالل هذا النص للعقل الغريب ،على حساب العقل العريب الشرقي
الذي يرى فيه مصدر اخلمول والسكون ،يف حني ميور العقل الغريب هبذه احلركة احلداثية اليت تصنع
فعل التفرد ،وجتعل منه معينا ال ينضب من التساؤالت ،اليت تستبدل الشك باليقني والقلق بالسكون،
وإذا كان الغرب مصدر اإلهلام والعلم ،فإن الشرق مصدر الكهانة والدين.
غري أن طه حسني ال ينفك يعدد هذه احملاسن للعقل الغريب ،وهذه املثالب للعقل الشرقي،
"إن طه حسني ميتثل متاما لشروط القراءة املتمركزة على ذاهتا ،اليت أنتجها فكر حديث يف الغرب،
خلع على الثقافات مسات هنائية ،وصفات ثابتة ،ورّكب للشرق صورة متخيلة مشبعة بالسكون
واخلمول والتأمل واالعتبار ،وللغرب صورة متخيلة متور باحلركة واحليوية والبحث واالستنتاج ،واستبعد
الشروط التارخيية للتجارب الثقافية ،وتعامل مع غرب مطلق وشرق مطلق ،جاعال التعارض سدًّا منيعا
بني االثنني ،استنادا على القول بالتضاد يف الطبع والفكر والعرق 2"،لكنه سرعان ما يقع يف هذا
التناقض الصريح حينما يقرر أنه" ليس هناك علم شرقي وعلم غريب ،وليست هناك فلسفة شرقية
يعجز الغريب عن فهمها ،وال فلسفة غربية يقصر الشرقي عن إساغتها ،كل ذلك أثر من آثار
3
اإلسكندر ،فهو الذي قارب بني الشرق والغرب ،ومزج العقل الشرقي بالعقل الغريب".
ينتج عن هذه املقايسة سلسلة من التناقضات اليت تبحث بدورها عن هذه املقدمات
واألسباب غري املوضوعية ،واليت توقع صاحبها يف التناقض ،ذلك أن طه حسين إمنا يسقط هذه
املوازنات النظرية ليحاول إثبات طروحاته النقدية ،اليت ق ّدم هلا دوما من منطلق النزعة املقارنة اليت
يشتغل عليها.
ففي أحد أهم القضايا النقدية اليت أثارها العميد وهي قضية الشك يف الشعر اجلاهلي،
يقايس طه حسين بني اليونان والعرب من جهة والفرس من جهة أخرى ،ليحاول بلورة موقفه النقدي
من خالل هذه القضية ،يقول ":إ ّن الكثرة املطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليس من اجلاهلية يف
شيء ،وإّمنا هي منتحلة خمتلقة بعد ظهور اإلسالم ،فهي إسالمية متثل حياة املسلمني وميوهلم
وأهواءهم أكثر مما متثل حياة اجلاهليني ،وال أكاد أشك يف أن ما بقي من الشعر اجلاهلي الصحيح
قليل جدًّا ال ميثل شيئا وال يدل على شيء ،وال ينبغي االعتماد عليه يف استخراج الصورة األدبية
الصحيحة ،هلذا العصر اجلاهلي ...إ ّن ما تقرؤه على أنّه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو
عنرتة ليس من هؤالء يف شيء ،وإمنا هو انتحال الرواة أو اختالق األعراب أو صنعة النحاة ،أو
القصاص أو اخرتاع املفسرين واحملدثني واملتكلمني ...إن الشعر الذي ينسب إىل امرئ القيس تكلف ّ
أو األعشى ،أو إىل غريمها من الشعراء اجلاهليني ال ميكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون هلؤالء
1
الشعراء ،وال أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن".
تأتلف نظرة طه حسين املقارنة من أمشاج ختلّقت من دافع املقايسة بني األدبني اليوناين
والعريب ،ليصل إىل أن حىت االنتحال ،وهو قضية قدمية قدم إبداعات اإلنسان ،قد طاولت األمة
اليونانية فلماذا ال يكون األمر كذلك عند األمة العربية ،يقول طه حسين مقررا ذلك" لن تكون األمة
العربية أول أمة انتحل فيها الشعر انتحاال ومحل على قدمائها كذبا وزورا ،وإمنا انتحل الشعر يف األمة
اليونانية والرومانية من قبل ومحل على القدماء من شعرائها ،واخندع به الناس وآمنوا له ،ونشأت عن
هذا االخنداع واإلميان سنة أدبية توارثها الناس مطمئنني إليها ،حىت كان العصر احلديث وحىت استطاع
النقاد من أصحاب التاريخ واألدب واللغة والفلسفة ،أن يردوا األشياء إىل أصوهلا ما استطاعوا إىل
2
ذلك سبيال".
اجنر عن هذه املوازنة واملقايسة أن كانت قضية الشك مطية نقدية امتطاها طه حسني يف لقد ّ
كتابه "يف الشعر اجلاهلي" ،بعد أن أسس هلا يف مؤلفه "حديث األربعاء" األمر الذي نتج عنه الشك
حىت يف بعض الشعراء العذريني كاجملنون ،وعندما يعرض العالقة بني طريف املعادلة ،األمة اليونانية
والرومانية من جهة ،والعربية من جهة أخرى ،خيلص إىل" إ ّن بني العرب والرومان من جهة وبني
الفرس واليونان من جهة أخرى ،تشاهبا شديدا ،انتصر العرب على الفرس انتصارا عسكريا،وانتصر
1طه حسني :يف الشعر اجلاهلي ،دار املعارف للطباعة و النشر ،سوسة ،تونس ،ط ،3112 ،2ص.00 ،02 :
2املصدر نفسه :ص. 52 :
115
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الفرس على العرب انتصارا أدبيا ،وكذلك انتصر الرومان على اليونان انتصارا حربيا ،وانتصر اليونان
على الرومان انتصارا أدبيا ،وكان مظهر هذا االنتصار األديب يف روما ويف بغداد واحدا ،وهو أن
اليونان والفرس أخذوا الرومان والعرب بآداهبم وحضارهتم ،ومل يكتفوا بذلك بل عبثوا باآلداب
الالتينية والعربية فأدخلوا فيها وأضافوا إليها ما مل يكن هلا به عهد ،وكذلك صنعوا باألنساب،
1
وكذلك صنعوا بالتاريخ والسري".
إن طه حسين وانطالقا من عقده هذه املوازنة بني النصر األديب واهلزمية العسكرية ،يريد أن
يؤسس لرأيه املقارين حول شكه يف إمكانية وجود شعر اجملنون ،وحىت اجملنون يف ح ّد ذاته ،ويريد أن"
خيلص من هذه العالقة املتضادة بني النصر العسكري والنصر األديب ،إىل أ ّن نتائج اهليمنة األدبية
كانت أقوى من اهلزمية العسكرية" ،2ومل تتوقف عملية املقارنة عنده عند هذا احل ّد فحسب؛ بل
تع ّداها إىل إمكانية وجود هذه املقارنات واملوازنات بني اآلداب من منطلق عملية التأثري والتأثر ،اليت
هي ركيزة املدرسة الفرنسية يف األدب املقارن ،ويتجاوز ذلك إىل آلية اشتغال أخرى ،هي عملية توارد
اخلواطر أو ما يسمى باالتصال الذهين ،ففي مؤلفه "من بعيد" يعرض للعديد من هذه التقاطعات
اليت حدثت بني أعالم النقد وتاريخ األدب ،ويف تعليقه على إحدى احملاضرات اليت ألقاها املستشرق
لويس ماسينون عن أثر التصوف يف تكوين العقيدة الدينية عند املسلمني ،يتتبع طه حسين هذه
القضية ويعرض إىل مصدر التصوف هل هو عريب أم يوناين أم فارسي؟ فيهتدي إىل إمكانية التأثري
املتبادل اليت حصلت بني خمتلف هذه املصادر.
يقول" :إن ما ميكن أن جند فيه من موافقة ملا عند األمم األخرى ،مل يؤخذ عن هذه األمم
وإمنا هي املصادفة وتوارد اخلواطر ووحدة النظام العقلي يف التفكري مهما ختتلف األمم ومهما ختتلف
البيئات ،فليس حتما إذا ف ّكر العريب كما فكر اليوناين ،أن يكون العريب قد أخذ عن اليوناين ،ولكن
3
من املعقول جدًّا أن يكون اليوناين والعريب قد ف ّكرا بطريقة واحدة فاهتديا إىل نتيجة واحدة".
3طه حسني :من بعيد ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ط ،0023 ،2ص.005 :
116
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يقر طه حسين إذا بإمكانية توارد اخلواطر دون أن حيصر عملية املشاهبة يف قضية التأثري ّ
والتأثر ،وهو هنا إمنا يفرق بني إمكانية حدوث الفعل وافرتاض عملية احلدوث ،وميايز بني فريقني مها
الفالسفة واملؤرخون ،يقول ":أما املؤرخون فرييدون احلقائق الواقعة ،واليلجؤون إىل االفرتاض إال
لتفسري هذه احلقائق تفسريا مؤقتا حىت يتاح هلم استكشاف احلقائق الواقعة اليت تفسر ما لديهم".1
وينحو طه حسين منحى املؤرخ تارة ،والفيلسوف تارة أخرى ،حني يقوم مبثل هذه التفسريات اليت ترد
التصوف هي خصيصة عربية بامتياز .
صوف ،إما إىل تأثري اليونان يف العرب ،أو أ ّن ظاهرة ّ
التّ ّ
يتتبع طه حسين طروحات املدرسة الفرنسية يف األدب املقارن ،ملتزما مبا متليه الوثيقة
التارخيية مث عملية املالحظة والتجريب كمرحلة تالية لألوىل ،يقول يف ذلك ":فإذا رأينا عند العرب
فكرة صوفية أو غري صوفية توافق ما رأينا عند اليونان أو عند الفرس ،كان لنا أن نفرتض توارد
اخلواطر ،وكان لنا أن نفرتض أن العرب قد أخذوا عن اليونان أو عن الفرس ،كان لنا أن نفرتض
2
يرجح هذا الفرض أو ذاك".
عما ّ
األمرين مجيعا وأن نبحث ّ
يصل الناقد من خالل هذه الفروض إىل إثبات عملية التأثري والتأثر سريا على سنن املدرسة
الفرنسية يف حدوث عمليات التأثري ،بعد أن يزيح من حسبانه فرضية توارد اخلواطر ،لكن ال يلبث
أن يرتد ويرجع عن هذه الطروحات اليت ساقها إلثبات املقارنة على أساس التأثري ،فيكتفي بإبراز
قيمة املؤرخ والتاريخ حني يقول ":وليس جيب أن جند النص التارخيي الذي ال حيتمل الشك على أن
العرب قد أخذوا عن اليونان أو عن الفرس لتنفي توارد اخلواطر ،فكثريا ما تضيع النصوص دون أن
الصالت اليت
يكون ضياعها مصدرا لضياع احلقيقة .وليست النصوص كل شيء يف التاريخ فهناك ِّ
ختتلف قوة وضعفا ومتانة ووهنا بني األمم .وهذه الصالت إذا ثبتت ثبوتا تارخييا كافيا أباحت للمؤرخ
3
أن يرجح تأثري األمم بعضها يف بعض".
ومما حياول طه حسين الدعوة له ورّمبا إبرازه يف ثوب قشيب ،هو تصرحيه بإمكانية تأثري الفقه
الروماين يف الفقه اإلسالمي ،دون أن يلزم نفسه بإثبات هذه التبعية حلساسية املسألة من جهة ،ولعدم
توفر الوثيقة التارخيية لديه مما يثبت عملية التأثري من جهة أخرى ،غري أنه يرى أن العرب قد صبغوا
كثريا من أحكام الفقه الروماين بالصبغة اإلسالمية ،يقول ":وإذا فهناك تأثري خفي قد يكون أش ّد
وأقوى من التأثري الواضح الذي حتدثه األمم بعضها يف بعض ،ومن اإلسراف أن نقطع بأن هذا الرأي
أو هذه النظرية أثر عريب خالص أو أثر يوناين خالص ،وإمنا سبيل القصد يف ذلك -إذا مل توجد
1
يبني خطأ هذا الرتجيح".
النصوص -هو ترجيح تأثري األمم بعضها يف بعض حىت يظهر ما ّ
تأيت عملية االستنتاج هذه من نزوع طه حسين إىل حماولة الدفع بالثقافات غري العربية إىل
احتالل حيّز مرموق على الساحة الثقافية العربية .وانطالقا من هذا يدعو يف الكثري من مؤلفاته إىل
ضرورة اإلملام باللغات األجنبية األخرى ،ناهيك عن متثل اللغة العربية قصد التمكن من فك طالسم
خمتلف النصوص ،وحماولة اإلمساك بتالبيب الداللة اللغوية ،أو الدينية إملاما يؤهل الناقد وعامل اللغة
ومؤرخ األدب إىل أن حيتل املكانة املنوطة به ،وهو أحد شروط املواكبة الصحيحة ملا جيري بني األمم
األخرى؛ فالرجل داعية إىل ضرورة استثمار خمتلف اللغات يف األزهر ،باعتباره اجلامعة اإلسالمية
الكربى آنذاك ،يقول طه حسين يف دعوته هذه" ولو أن يل كلمة مسموعة بني علماء اإلسالم
القرتحت وأحلحت يف االقرتاح ،أن ندرس اللغات األجنبية اإلسالمية يف األزهر الشريف وأن تكون
هناك فصول تتخصص يف درس الفارسية وأخرى يف درس الرتكية وأخرى يف درس اللغات اإلسالمية
اليت ليست تركية وال فارسية .فمن املؤمل ومن املخزي أن ندرس كتب الدين اليت كتبت بالفارسية أو
بالرتكية أو بلغة أخرى من لغات اهلند مثال ،يف فرنسا وإجنلرتا وأملانيا وأمريكا ،وأن جيهلها علماء
هلموا أيّها
اإلسالم يف األزهر الشريف .واألزهر الشريف بعد هو اجلامعة اإلسالمية الكربىّ ...،
مفصال نافعا فإنكم
السادة العلماء طالبوا بأن تدرس اللغات اإلسالمية يف جامعتكم اإلسالمية درسا ّ
إن مل تفعلوا أضعتم على األزهر حقه يف أن يكون اجلامعة اإلسالمية الكربى ،وليس ينبغي أن تكون
2
مدرسة اللغات الشرقية يف باريس أنفع من األزهر الشريف".
هذه الدعوة اجمللجلة هي اليت ما فتئ طه حسين يكررها ،يف كل مناسبة إميانا منه بضرورة
مدرس األدب والناقد األديب ،على الكثري من لغات العامل األخرى ،دفعا لعملية
ووجوب انفتاح ّ
املثاقفة والتالقح الفكري واملعريف ،وكذا مسايرة ركب التقدم العلمي على الصعيد املعريف والنقدي؛
تصورنا " ألستاذ لألدب العريب مل يلم وال ينتظر أن يلم بلغة أجنبية وال
فالعميد يتساءل عن كيفية ّ
بأدب أجنيب ،وال مبنهج من مناهج البحث عن حياة اللغة وأطوار األدب" ،1وعملية التمثل هذه
ليست غاية يف ذاهتا يرمي إليها العميد ،إمنا لغاية تتجاوز ذلك إىل عملية استثمار هذه املعرفة ،يف
اإلحاطة مبجمل املناهج الغربية احلديثة ،قصد جتاوز السائد الكالسيكي يف عمليات النقد ،وتتكرر
الدعوة إىل دراسة اللغات األجنبية وإتقاهنا ،مرتبطة بدراسة الصالت بني اآلداب ،وتأثري بعضها يف
البعض اآلخر ،فهم يدرسونه "معتمدين يف درسه على إتقان اللغات السامية وآداهبا ،وعلى إتقان
اللغتني اليونانية والالتينية وآداهبما ،وعلى إتقان اللغات اإلسالمية وآداهبا ،مث على إتقان اللغات
2
األوربية احلديثة وآداهبا".
يعج به املستودع األوريب من معارف ،إمنا هدفها إن دعوته إىل مواكبة اجلديد ،واستثمار ما ّ
خدمة األدب العريب يف األساس ،األمر الذي حدا به إىل تأكيد هذه الضرورة بأساليب خمتلفة،
باألمر والتقرير واالستفهام ،يقول ":فمن زعم لك أن األدب العريب ميكن أن يدرس اآلن دون
االعتماد على هذا كله فهو ّإما خمدوع أو مشعوذ .وكيف السبيل إىل أن يدرس األدب العريب درسا
صحيحا إذا مل تدرس الصلة املادية واملعنوية بني اللغة العربية واللغات السامية وبني األدب العريب
واألدب السامي؟ وكيف السبيل إىل درس األدب العريب إذا مل ندرس اللغة اليونانية والالتينية
وآداهبما وكيف السبيل إىل درس األدب العريب إذا مل ندرس اللغات اإلسالمية املختلفة ،والسيما
ونتبني ما كان هلذه اللغات وآداهبا من تأثري يف أدبنا العريب الذي مل ينشأ يف برج منالفارسية منهاّ ،
العاج ،وإمنا تأثر باآلداب املختلفة وأثر فيها؟ ...وكيف السبيل إىل درس األدب العريب إذا مل ندرس
3
ونتبني تأثريها يف أدبنا احلديث؟"
اللغات األوربية احلية ّ
مؤداها أ ّن التّجلّي احلقيقي للغة ،يكون عرب
تنعقد الصلة الوثيقة بني األدب واللغة من فرضية ّ
هذه املدونات اخلالدة اليت نسميها أدبا ،وعملية دراسة هذه الصالت بني اآلداب ،إّمنا تتم عرب سبل
متعددة وطرق خمتلفة منها "الصلة بني األدب والشعب ،وبني األدب وغريه من مظاهر احلياة العقلية
والشعورية ،ويف عناية قوية بتحقيق الصلة بني آداب األمم املختلفة وما ميكن أن يكون لبعضها من
1
تأثري يف بعضها اآلخر".
إن غاية ما ترمي إليه هذه الدراسات ،هو تقفي الصالت من أجل الدراسات الصحيحة
لب الدراسات املقارنة ،اليت من شأهنا أن تقدم خدمة جليلة لألدب القومي
لألدب العريب وهو ّ
يقول ،طه حسين ":وكيف السبيل إىل أن يدرس األدب العريب درسا صحيحا إذا مل تدرس الصلة
املادية واملعنوية بني اللغة العربية واللغات السامية وبني اللغة العربية واألدب السامي؟ وهل هناك سبيل
إىل أن يدرس األدب العريب دون أن نفهم التوراة واإلجنيل؟ ...وكيف السبيل إىل درس األدب العريب
نبني مقدار ما كان حلضارة اليونان والرومان من
إذا مل ندرس اللغة اليونانية والالتينية وآداهبما ،ومل ّ
تأثري يف أدبنا وفلسفتنا وعلمنا ،ومل نتبني مكانة أدبنا العريب بالقياس إىل هذه اآلداب اليونانية
2
والالتينية".
إهنا دائما الدعوة نفسها اليت دأب العميد على تكرارها ،بغية متثل خمتلف اآلداب اإلنسانية
اخلالدة ،األمر الذي من شأنه أن خيلق جسورا من التواصل املعريف اخلالق ،ويدفع هبذه اآلداب
واللغات إىل تبوء مكانة عالية يف مساء اإلبداع والفن.
يرى الكثري من الباحثني يف جمال النقد واألدب أن طه حسين ،أخذ وتأثر جبملة من املقاالت
النقدية اليت كتبها املستشرق اإلجنليزي مرجليوث منها مثال ،مقاله "حممد وظهور اإلسالم" الصادر
سنة 0015ومقال له يف جملة اجلمعية امللكية األسبوعية سنة ،0002مث املقال املشهور سنة 0035
بعنوان "أصول الشعر العريب" ،3ويف مجلة هذه املقاالت تنبين آراء ومعتقدات مرجليوث حول بعض
وضح فيه املستشرق نزعة
القضايا اهلامة يف جمال الفكر واألدب ،إال أن املقال املشار إليه أخريا هو ما ّ
الشك اليت راودته حول صحة هذا الشعر ،وحماولته النبش يف األصول األوىل له ،يقول ناصر الدين
األسد ..." :مث استقر املوضوع بني يدي الدكتور طه حسني ،فخلق منه شيئا جديدا ،مل يعرفه
القدماء ومل يقتحم السبيل إليه العرب احملدثون من قبله ،مث أنكره بعده كثري من احملدثني إنكارا خصبا
للرد عليه ونقض كتابه ،وقد استقى الدكتور طه حسني أكثر مادته يتمثل يف هذه الكتب اليت ألّفوها ّ
-حيث يستشهد ويتمثل باألخبار والروايات -من العرب القدماء ،وسلك هبا سبيل مرجليوث يف
االستنباط واالستنتاج والتوسع يف دالالت الروايات واألخبار ،فنحن إذا بإزاء نظرية عامة مل نرها فيما
عرضنا من آراء العرب القدماء ،وحنسب أهنا مل تدر هلم ببال ولكننا رأيناها واضحة املعامل فيما
نصا صرحيا يف نص عليها ّ عرضنا من آراء مرجليوث ،ومل يكتف باإلشارة إليها إشارة عابرة وإمنا ّ
عبارات متكررة ختتلف ألفاظها وتتفق مراميها ،وجاء الدكتور طه حسني فلم يقنع كما قنع مرجليوث
1
فصل لنا القول فيها يف كتاب قائم بذاته".
بأن يدلنا عليها يف مقالة أو مقالتني وإمنا ّ
يقيم صاحب هذا النص مجلة من الفروق ،ليمايز فيها بني طروحات مرجليوث ،واستثمارات
طه حسين ،فإذا كان األول أمجل هذه األسباب بتلك النتائج وقنع بأن يثري هذه اإلشكالية يف مقالة
أو مقالتني يقف فيهما عند األصول املعرفية للشعر العريب القدمي ،فإن الثاين قد تتبع الظاهرة بعني
الناقد املتمرس احلصيف ،الذي يرد األسباب إىل نتائجها والفرضيات إىل التجريب العلمي ،الذي ال
2
يقنع بالتكهن باملظاهر وإمنا يتعمق يف األسباب املوصلة إىل الغايات.
1ناصر الدين األسد :مصادر الشعر اجلاهلي و قيمتها التارخيية ،دار املعارف ،مصر ،ط ،0028 ،5ص.281 ،220 :
2تشري العديد من الدراسات إىل أن مرجليوث كانت له مقالة عنواهنا "نشأة الشعر اجلاهلي" ،واليت نشرها يف عدد يوليو سنة
0035من "جملة اجلمعية اآلسيوية امللكية" باإلجنليزية وترمجها عبد الرمحن بدوي يف كتابه "دراسات املستشرقني حول صحة
الشعر اجلاهلي" ،ص .030،82فإذا كان من عالقة بني كتاب طه حسني "يف الشعر اجلاهلي" ومقالة مرجليوث فإهنا تتمثل
أساسا يف صدورمها عن منهج واحد يف دراسة الشعر وتقوميه ،أكثر من القول برتديد طه حسني آلراء مرجليوث ،ويتلخص هذا
املنهج يف بساطة واختصار شديدين :يف أن الشاعر مثرة البيئة اليت ينشأ فيها بظروفها املختلفة االقتصادية والسياسية
واالجتماعية ،وأن األدب مثرة األديب الذي أنتجه والبيئة اليت صنعته ..وهذا ما كان يردده طه حسني يف مقاالته عن األدب
العريب يف القسم األول من أحاديث األربعاء قبل كتابه "يف الشعر اجلاهلي" .ومما يؤكد هذه العالقة املنهجية بني مرجليوث وطه
حسني ،أن طه حسني اشتغل بالشعر اجلاهلي طوال السنة اجلامعية 0032 -0035قبل أن يؤلف كتابه سنة ،0032أي أنه
سبق نشر مقالة مرجليوث اليت مل تظهر إال يف يوليو .0035ينظر عبد الرمحان حممد :الشعر اجلاهلي -قضاياه الفنية
واملوضوعية ،دار النهضة العربية ،بريوت،0081 ،ص .023 ،020:نقال عن أمحد بوحسن :اخلطاب النقدي عند طه حسني،
هامش ،22 ،ص.003 :
121
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
وغاية طه حسين أن ينتشل العقل العريب احلديث من سطوة التخلف وبراثن اجلهل والتقديس،
يقول سيد البحراوي....":إن الشك يف الشعر اجلاهلي ...باإلضافة إىل التشكيك يف قداسة
املسلمني بعد النيب ،فيما خيتص بنحلهم للشعر اجلاهلي ...كانت عناصر هامة يف إجناز كان البد
لطه حسني وجيله من الطبقة الوسطى أن حيققوه ،حتطيم القداسة التقليدية على املستويات املختلفة،
حىت يستطيعوا أن ينتقلوا إىل جمتمعهم يف مرحلة ثقافية اجتماعية سياسية جديدة هي مرحلة
الرومانسية يف الفن والليربالية يف الفكر ومن أجل هذا كان البد من إحالل املنهج الوضعي البشري
1
حمل التفسري امليتافيزيقي لألشياء والعامل؛ أي ليقيموا مقدساهتم بدال من املقدسات السابقة".
يعترب كتاب "يف الشعر اجلاهلي" للدكتور طه حسين من بني أشهر الكتب النقدية يف القرن
العشرين ،مبا أثاره من قضايا متس األصل األول للشعر العريب وهو الشعر اجلاهلي .ولفتحه مغاليق
أي مطلب يقيين ،وهو كتاب استفزازي العقل العريب أمام الرتيث والتدبر قبل إصدار األحكام أو ّ
بكل ما حتمله الكلمة من معىن ألنه يطرح الكثري من املسلّمات واليقينيات جانبا ،ويبحث عن
مقومات الثبات واالستقرار ،وينشد يف
وينحي عن سبيله كل ّ
مناطق االضطراب والشك ويأنس هبما ّ
الوقت نفسه كل أسباب التساؤل والكشف عنها .غري أن خصومه -وأثناء تعرضهم له ولكتابه -مل
مست بالدرجة األوىل شخصيته قبل أن تتعرض حملتوى الكتاب وما ختل تدخالهتم من مساجالت ّ ُ
أثاره من قضايا جديرة بالبحث واملساءلة والقدح ،ورمبا كان دافعهم األول هو تلك القضايا اليت
تناوهلا طه حسين بشيء من االبتسار والتلفيق ،ومل تتعد الصفحات القليلة من حجم الكتاب
ومردها األول هو اجلانب الديين
الكلي ،أقول هذه القضايا اليت ألّبت عليه خصومه ،إمنا مصدرها ّ
مرة يف كتابه هذا ،وهي مالمسة أغضبت الكثري من الباحثني العقدي ،الذي المسه املؤلف غري ّ
خاصة ذوي التوجه الديين يف الكتابة ،األمر الذي دفع إىل بروز تلك املعارك الفكرية واألدبية وحىت
وجره
السياسية والدينية ،اليت كان من نتائجها مصادرة الكتاب وحرمان صاحبه من شهادته العامليّةّ ،
لعل
إىل احملاكمات املدنية كما العسكرية ،ولعل مرتكزات هؤالء اخلصوم إمنا تأتّت من مجلة نقاط ّ
أمهها:
-0أن طه حسني ك ّذب القرآن الكرمي يف إخباره عن إبراهيم وإمساعيل عليهما السالم.
-3أن طه حسني أنكر القراءات السبع اجملمع عليها ،فزعم أهنا ليست ُمن ّـزلة من اهلل تعاىل.
-2أنه أنكر لإلسالم أولويته يف بالد العرب وأنه دين إبراهيم عليه السالم.
لسنا يف موضع الدفاع عن مواقف طه حسين الشخصية والعقدية ،بقدر ما نتلمس مفاصل
الطعن اليت باشرها يف جسد الدين اإلسالمي ،غري أن مبتغى البحث ليس يف إدانة أو يف تربئة طه
حسين من هذه التهم ّ
املوجهة إليه ،بقدر ما نروم البحث يف تلك القضايا اليت أثارها هبذه الطريقة
اجلديدة ،واليت أسهمت يف تأليب العامة من الناس ،فضال عن الباحثني والعلماء ضد فكره وتوجهه،
وحماولة الدفع به إىل مناطق الظل وإبعاده عن ممارسة هذا احلق يف االختالف.
أما القضية الثانية اليت رمي هبا طه حسني ،فهي متأتية من قوله....":ونوع آخر من تأثري
الدين يف انتحال الشعر وإضافته إىل اجلاهليني وهو ما يتصل بتعظيم شأن النيب من ناحية أسرته
ونسبه من قريش ،فألمر ما اقتنع الناس بأن النيب جيب أن يكون من صفوة بين هاشم ،وأن يكون بنو
هاشم صفوة بين عبد مناف وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بين قصي ،وأن يكون قصي صفوة
قريش وقريش صفوة بين مضر ،ومضر صفوة عدنان ،وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة اإلنسانية
1
كلها".
إن ما يروم طه حسين إثباته من خالل هذا االستشهاد ،هو إبراز مجلة من الدواعي واألسباب
اليت عملت على انتحال الشعر العريب ،ومن مجلة هذه األسباب العامل الديين ،خاصة وأن السبب
الذي سبق العامل الديين كان عامال سياسيا ،من أجل إعالء مكانة قريش وصوهتا ،ألهنا من بني
قل شعرها كوهنا مل حتارب كما يذهب إىل ذلك ابن سالم؛ فالقضية قدمية من ناحية القبائل اليت ّ
إثارهتا ،غري أن جديدها هو معاجلتها هبذه الكيفية.
أما الفرضية الثالثة أو ثالثة األثايف اليت هوجم طه حسين بسببها من قبل مجلة من األدباء
واملفكرين ورجال الدين هي قوله..":و شاعت يف العرب أثناء ظهور اإلسالم وبعده فكرة أن اإلسالم
جيدد دين إبراهيم ،ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب يف عصر من
العصور مث أعرضت عنه ملاّ أضلها به املضلون وانصرفت إىل عبادة األوثان".2
إن املبتغى من هذه القضية ومن الكتاب ككل ،ليس الطعن يف الدين اإلسالمي احلنيف،
بقدر ما كان مراده إثارة التساؤل وإشعال جذوة الشك ،وعدم االطمئنان ألي مسلّمة من شأهنا أن
جتمد االجتهاد أو تقتل البحث ،إمنا مناط القضية برمتها هي إثارة جدلية عميقة عمق القضايا اليت
ّ
عاجلها ،وهي منهجية الدراسة وخلخلة النظم الفكرية السائدة واملسيطرة على الساحة الفكرية العربية
املوجهة إليه من قبل خصومه يف اجلامعة واألزهر على آنذاك ،وبالرغم من تربئة ساحته من التّهم ّ
السواء "مل يكف أعداد طه حسني –وكانت لبعضهم أغراض سياسية متّصلة بالعداء للحزب الذي
كان ينتمي إليه طه حسني (األحرار الدستوريني) -عن اهلجوم عليه من حني آلخر ،واهتامه ليس
فقط بالطعن على اإلسالم وإمنا بالكفر واإلحلاد ،وهو األمر الذي نفاه طه حسني يف الصحف ويف
أقره عليه قرار النيابة .غري أن املؤكد أن طه حسني كان شا ّكا كما أعلن هو نفسه وأن ش ّكه
النيابة و ّ
1
شاك فيها كعامل".
قد يطال بعض النصوص الدينية ،ولكنه مؤمن هبا كمسلم ّ
يتش ّكل كتاب يف الشعر اجلاهلي من ثالثة أبواب كربى ،اختص الباب األول بإبراز منهج
الكتاب والدوافع اليت أثارت قضية الشك يف صحة الشعر اجلاهلي ،واهتم الباب الثاين بتقدمي مجلة
من األسباب املسؤولة عن انتحال الشعر اجلاهلي ،وتعددت هذه األسباب لتكون أسبابا سياسية
ودينية وشعوبية وقصص الرواة وغريها من األسباب ،وهنض الباب الثالث ليتناول عددا من الشعراء
فشك يف وجود
موضحا عدم صحة نسبة معظم الشعر إليهم بل ذهب به الشك إىل مداه البعيد؛ ّ ّ
بعض الشعراء أصال ،وهو الكتاب الذي شغل الدنيا يف ذلك الزمن ،إذ انتهج فيه طه حسين هنج
الغربيني يف نوعية الدراسات النقدية اليت أجريت على اآلداب األوربية سريا على سنّة أساتذته
املستشرقني ،ومن جهة أخرى ألنه يعي جيّدا مدى عمق النتائج اليت ميكن الوصول إليها.
بعد أن يعرض لألسباب الدافعة والداعية ملثل ذلك اإلبداع يف تلك احلقبة الزمنية يقول طه
حسين مدافعا عن توجهه النقدي اجلديد ":هذا حنو من البحث عن تاريخ الشعر العريب جديد ،مل
يألفه الناس عندنا من قبل ،وأكاد أثق أن فريقا منهم سيلقونه ساخطني عليه ،وبأن فريقا آخر
سيزورون عنه ازورارا ،ولكين على سخط أولئك وازورار هؤالء ،أريد أن أذيع هذا البحث ،أو بعبارة ّ
2
أصح أريد أن أقيّده ،فقد أذعته قبل اليوم حني حت ّدثت به إىل طاليب يف اجلامعة".
ّ
يدافع طه حسين عن توجهه النقدي منذ بداية الكتاب ،وهو ينتقل مبنهجه هذا بالبحث
األديب إىل وجهة أخرى مل يعهدها النقد األديب من قبل ،فيجعل من مقدماته سببا منطقيا لنتائجه
يتوخاها .والكتاب يف أصله مل يشتغل عليه صاحبه لفئات واسعة من الناس ،إمنا جعل لزمرة قليلة
اليت ّ
من الناس هم الذين مسّاهم طه حسين باملستنريين ،يقول...":و أنا مطمئن إىل أن هذا البحث وإن
أسخط قوما وشق على آخرين ،فسريضي هذه الطائفة القليلة من املستنريين الذين هم يف حقيقة
1
األمر ع ّدة املستقبل وقوام النهضة احلديثة وفخر األدب اجلديد".
هذه الفئة من املستنريين هي اليت ح ّفزته على القيام مبا قام به ،من خلخلة السائد وتقويض
الفكر الرجعي اإلعتقادي املسلّم ،وأبدلته بقلق التساؤل وثورة الشك ،ألن الرجل مل يرد أن يكرر ما
تراكم من قبل يف أجبديات النقد العريب القدمي ،من تلك األحكام الناجزة واليت ترتكز يف جمملها على
تلك املعيارية والقيمية ،اليت ال تصيب احلقيقة النقدية يف صميمها ،بل تبقى هكذا ختمينات تتدافع
يف كل مرة إىل جهة ما ،رمبا تكون سياسية ورمبا عقدية إىل غري ذلك من السياقات اليت كانت
تتحكم يف العملية النقدية آنذاك .بل أراد أن يدفع بالعملية النقدية برمتها إىل األمام ،وذلك
باالستلهام من الوافد الغريب مع حماولة أرضنته وتبيئته عربيا على مستوى النقد ،وذلك باالنطالق من
متس تلك املدونات الرتاثية واليت ميثل الشعر اجلاهلي أصلها األول" ،أهناك
مجلة تساؤالت جوهرية ّ
شعر جاهلي ،فإن كان هناك شعر جاهلي فما السبيل إىل معرفته،وما هو؟ وما مقداره؟ ومب ميتاز عن
غريه؟ وميضون يف طائفة من األسئلة حيتاج حلها إىل رويّة وأناة وإىل جهود اجلماعات العلمية ال إىل
2
جهود األفراد".
تش ّكل هذه التساؤالت وغريها حجر الزاوية يف نظرة طه حسين إىل الشعر اجلاهلي ،وبداية
مرحلة الشك اليت الزمته طيلة حياته النقدية والفكرية ،وانطالقا من هذه التساؤالت اليت كانت
مفاتيحا لفك طالسم هذا اإلرث احلضاري ،وحماولة معرفة كنهه وسرب أغواره ،استنتج طه حسين
احملرية واالستفزازية بالنسبة لزمانه ،واليت بقيت آثارها املعرفية بادية شاخصة إىل يوم الناس هذا
نتائجه ّ
وهي "...أن الكثرة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من اجلاهلية يف شيء ،وإمنا هي منتحلة خمتلقة بعد
3
ظهور اإلسالم ،فهي إسالمية متثّل حياة املسلمني وميوهلم وأهوائهم أكثر مما متثل حياة اجلاهليني".
هذه احلياة اليت يبحث عنها طه حسين يف الشعر اجلاهلي فلم جيد ما ميثّلها فيه ،بل الذي
عمل على بلورة حياهتم االجتماعية واالقتصادية واالجتماعية إمنا هو القرآن الكرمي والتاريخ
واألساطري ،يقول" :أنا أزعم مع هذا كله أن العصر اجلاهلي القريب من اإلسالم مل يضع ،وأنّا
نستطيع أن نتصوره تصورا واضحا قويا صحيحا ،ولكن بشرط أال نعتمد على الشعر ،بل على القرآن
من ناحية والتاريخ واألساطري من ناحية أخرى 1".هذه املصادر هي ما يعتقد طه حسني أهنا قمينة
بإبراز الصورة احلقيقية للعصر اجلاهلي ،ويتأتى هذا االعتقاد واالقتناع من مصبّات فكرية غربية عملت
على ضخ هذه النظرة النقدية لديه ،ومتثلت أساسا يف طروحات ديكارت الفلسفية ،يقول عنها طه
حسين" :أريد أن أصطنع يف األدب هذا املنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن
حقائق األشياء ّأول هذا العصر احلديث ،والناس مجيعا يعلمون أن القاعدة األساسية هلذا املنهج هي
أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل ،وأن يستقبل موضوع حبثه خايل الذهن مما قيل
2
تاما".
خلوا ّ
فيه ّ
ال جيد العميد حرجا يف التصريح باملنهج العلمي والفلسفي الذي يروم استثماره ملقاربة النص
الشعري اجلاهلي ،فوجد يف منهج الشك الديكاريت مالذا له يف إعادة قراءة هذه النصوص ،على
ضوء ما ج ّد من علم وفلسفة وجتاوز ما كان سائدا من قبل ،عسى أن يق ّدم جديدا على ساحة
يصرح يف بداية درسه لألدب اجلاهلي " ،أريد أن أقول إين سأسلك يف هذا الفكر والنقد .فالرجل ّ
النحو من البحث مسلك احملدثني من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة.
أريد أن أصطنع يف األدب هذا املنهج الفلسفي الذي استحدثه "ديكارت" للبحث عن حقائق
األشياء يف أول هذا العصر احلديث ،والناس مجيعا يعلمون أن القاعدة األساسية هلذا املنهج هي أن
يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل ،وأن يستقبل موضوع حبثه خايل الذهن مما قيل فيه
خلوا تاما .والناس مجيعا يعلمون أن هذا املنهج الذي سخط عليه أنصار القدمي يف الدين والفلسفة
يوم ظهر ،قد كان من أخصب املناهج وأقومها وأحسنها أثرا ،وأنه قد ج ّدد العلم والفلسفة جتديدا،
غري مذاهب األدباء يف أدهبم والفنانني يف فنوهنم ،وأنه هو الطابع الذي ميتاز به هذا العصر
وأنه قد ّ
احلديث .فلنصطنع هذا املنهج حني نريد أن نتناول أدبنا العريب القدمي وتارخيه بالبحث واالستقصاء،
ولنستقبل هذا األدب وتارخيه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل ،وخلصنا من كل هذه
احلرة،
األغالل الكثرية الثقيلة اليت تأخذ أيدينا وأرجلنا ورءوسنا فتحول بيننا وبني احلركة اجلسمية ّ
1
احلرة أيضا".
وحتول بيننا وبني احلركة العقلية ّ
لقد اعتمد طه حسين يف قراءته للشعر اجلاهلي مجلة من املقاييس واألسس لعل أمهها :وصف
وضعية األدب ودراسته يف مصر ،واملناهج اليت عرفتها الساحة الثقافية فيها ،مث ضرورة إصالح الوضع
األديب يف مصر ،وعرض مقاييس تاريخ األدب وتبين املقياس العلمي والفين ،وأخريا يشرتط ذلك
اجلانب من احلرية لدراسة األدب شأنه يف ذلك شأن باقي العلوم اليت تدرس لذاهتا يقول" :األدب يف
حاجة إىل هذه احلرية .هو يف حاجة إىل أال يعترب علما دينيا وال وسيلة دينية .وهو يف حاجة إىل أن
يتحرر من هذا التقديس .هو يف حاجة إىل أن يكون كغريه من العلوم قادرا على أن خيضع للبحث
والنقد والتحليل والشك والرفض واإلنكار ،ألن هذه األشياء كلها هي األشياء اخلصبة حقا .واللغة
العربية يف حاجة إىل أن تتحلل من التقديس ،هي يف حاجة إىل أن ختضع لعمل الباحثني كما ختضع
املادة لتجارب العلماء ....فلتكن قاعدتنا إذا أن األدب ليس علما من علوم الوسائل يدرس لفهم
الفين
تذوق اجلمال ّالقرآن واحلديث فقط ،وإمنا هو علم يدرس لنفسه ويقصد به قبل كل شيء إىل ّ
2
فيما يؤثر من الكالم".
يُفرد عاطف أحمد الدراسبة مبحثا خاصا لقراءة طه حسين للشعر اجلاهلي ،حتت عنوان
يتلمس مفاصل التقاطع بني قراءة هذا األخري ونظرية "مشكالت التأويل التارخيي" وحياول أن ّ
التأويل ،ذلك أن الباحث عزا فكرة املنهج يف النقد الغريب إىل أهنا كانت "استجابة للتطور املتسارع
واملتنامي يف نظرية املعرفة ،ولعل أول قراءة نقدية مغايرة للشعر اجلاهلي استشرفت آفاق املنهج هي
3
قراءة الدكتور طه حسني يف كتابه املعروف "يف الشعر اجلاهلي".
مث يواصل عملية التحليل والبسط النظرية لعملية النقد اليت مارسها على مدونة الشعر اجلاهلي،
بأهنا حماولة جريئة امتازت عن احملاوالت األخرى يف القراءة ،اليت خرجت من عملية النقد املوضوعايت
3عاطف أمحد :الدراسبة :قراءة النص الشعري اجلاهلي يف ضوء نظرية التأويل ،عامل الكتب احلديث ،األردن ،ط،3112 ،0
ص.02 :
128
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
أو التأثري إىل شكها يف فاعلية مثل هذه القراءات ،مث يأيت الباحث باألطر العامة اليت رمست معامل
القراءة الطاهوية من أهنا تنـزع إىل العلمية وفق ما وفرته نظرية املعرفة ،والتطور املتسارع للمناهج النقدية
وجدواها يف القراءة واالستنطاق ،إذ من شروط القراءة احملايدة أن تعزل النص عن سياقاته وأنساقه
مطب
اليت أنتج فيها ،ومن أوليات هذا العزل أن يتجرد الباحث من دينه وقوميته خمافة الوقوع يف ّ
احملاباة والتقديس "جيب حني نستقبل البحث عن األدب وتارخيه أن ننسى قوميتنا ونستغل عقولنا مبا
1
يالئم هذه القومية وهذا الدين".
ال ميكن أن يكون طه حسين وال حىت ديكارت صادقني يف دعوهتما إىل ّ
جترد ال ّذات القارئة
من كل مرجعياهتا ومسبقاهتا :الدين ،القومية ...،إخل ،إال على سبيل اجملاز الذي رمبا غايته االرتفاع
بالعقل إىل درجة مطلقيته ،ألن طه حسين نفسه حني يباشر قراءة هذا الزخم املعريف الضخم يقاربه
ويف نفسه كل تراكمات هذا الرتاث ،ويقاربه ويف ذهنه كل أولئك املتنورين من علماء الغرب الذين
المسوا تلك القضايا اليت يعيد مالمستها هو .يعلّق الباحث الدراسبة على مقولة طه حسين اآلنفة
بقوله":إن طه حسني يف مقولته تلك ،ال يدعو إىل التخلي عن القومية والدين وإمنا حياول أن يق ّدم
معايري للقراءة والفهم مبعزل عن اإليديولوجيا ،أي أن عمليات قراءة الرتاث وفهمه ينبغي أال ختضع
تكون الرتاث
لشرط سلطوية مفروضة عليه من اخلارج ،فالوعي بالرتاث جيب أن يتشكل وفق شروط ّ
نفسه ،ووفق معطيات املنهج" .2حياول الدراسبة أن يقايس بني عملية النقد اليت ميارسها طه حسين،
وتلك اليت تنـزع منـزعا حداثيا ،وبني منجزات الفلسفة الظواهرية اهلوسرلية" .ولذلك ليس غريبا هنا
أن نتلمس ملمحا من مالمح الظاهرية يف التفكري النقدي لدى طه حسني ،إذ جنده يضع معايري
القومية والدين بني قوسني ،أي أنه يعلّق العوامل اخلارجية ويسعى إىل قراءة الرتاث مبعزل عنها ،غري
يتطور حنو قراءة الشعر اجلاهلي بظاهرية هوسرل ،أو بشروط
أن هذا اخلطاب النقدي املتقدم رؤية مل ّ
3
املنهج الديكاريت كما زعم وإمنا أخذ ينحو منحى تارخييا وفق منهج جوستاف النسون".
جتعل املمارسة النقدية عند طه حسين من منجزات املنهج التارخيي مرتكزا هلا ،ذلك أنه بالغ
تعسفيا يف قراءة الرتاث الشعري اجلاهلي من منظور احلتمية التارخيية ،وحماولته إرجاع صورة احلياة
العقلية والدينية والسياسية واالجتماعية إىل مصدر واحد هو القرآن الكرمي ،ألن هذا الشعر ال يعكس
كل هذه الصور" .إن ما يذهب إليه طه حسني ينطوي على مشكلتني يف التأويل :إحدامها تتعلق
مبفهوم النص اجلاهلي ،واألخرى تتعلق مبوثوقية النص اجلاهلي ،فأما فيما يتعلق مبفهوم النص ،فإن
النص اجلاهلي عنده ال يُظهر وعيا جاهليا حقيقيا؛ أي أن الوجود الواقعي ال يتحقق يف بنية النص
1
الشعري".
إن النظرة اليت انطلق منها طه حسين يف مساءلته للنص الشعري اجلاهلي تتأسس على مجلة
من الدواعي هي املسؤولة عن ذلك التوجه النقدي منها ،أن النص الشعري اجلاهلي ال يعكس احلياة
الدينية اجلاهلية ،وال يعكس كذلك احلياة االقتصادية اجلاهلية ويرينا األخالق على غري ما هي عليه
يف القرآن الكرمي ،وال يتحدث هذا الشعر عن البحر الذي كان حييط باجلزيرة العربية .وانطالقا من
ذلك تشكلت تلك النظرة النقدية املريبة له حول هذا الرتاث فكانت نتائجه يف شق منها متداعية
مضطربة ،ألنه حقق استقامة منهجه الذي اتبعه على حساب النص الشعري ،الذي ال يستجيب كل
2
ما ذهب إليه يف نقده.
مسا رفيقا ،أما املذهب الثاين فيقلب العلم القدمي رأسا على عقب ميسسه يف مجلته وتفصيله إال ًّ
يصح أكثره أن ميحو منه شيئا كثريا 1".وهو مدرك متاما ما ينجم عن اتباع هذا املنهجوأخشى إن مل ّ
مر العصور -بني أمرين "إما أن جيحدواخمري -مثله مثل العلماء على ّ من أذى ونصب ،لذا فهو غري ّ
أنفسهم وجيحدوا العلم وحقوقه فريحيوا ويسرتحيوا ،وإما أن يعرفوا ألنفسهم ح ّقها ويؤدوا للعلم واجبه،
فيتعرضوا ملا ينبغي أن يتعرض له العلماء من األذى ،وحيتملوا ما ينبغي أن حيتمله العلماء من سخط
2
الساخطني".
يتتبع الباحث عاطف الدراسبة مجلة من القراءات احلديثة للنص الشعري اجلاهلي على غرار
قراءة طه حسين فيذكر منها دراسة ناصر الدين األسد ،أحمد الحوفي ،يحي الجبوري وعفيف
عبد الرحمن ،كما عرض للدراسات اليت حنت منحى أسطوريا يف دراسة الشعر اجلاهلي ،كدراسة
نصرت عبد الرحمن ،مصطفى عبد الشافي الشوري وغريها ،ووازن بينها ليخلص إىل نتيجة
مفادها أن هذه الدراسات قد أثبتت موثوقية النص الشعري اجلاهلي ،وتارخييته وأنه عكس احلياة
العقلية والدينية والسياسية للمجتمع اجلاهلي ،وأن كال القراءتني تفرضان على النص منطا تقليديا من
أمناط التأويل هو التأويل املوضوعي للنص اجلاهلي 3.وينتقد الباحث مجلة هذه الدراسات والقراءات
مجيعها ويثبت أمرا مجاليا ،أو قل نتيجة منطقية مفادها "إن مثل هذه القراءات جتعل النص اجلاهلي
بنية تارخيية جتسد احلقيقة كاملة ،وهذا األمر جيعل من النص أثرا تارخييا ينتمي إىل املاضي وحسب،
وبذلك تتحدد عمليات الفهم وتنحصر يف بعد واحد ال ينفصل بني وجودين :وجود واقعي ووجود
فين ،فاحلياة الدينية والعقلية واالجتماعية هي وجود واقعي ،يف حني أن النص الشعري املتجسد بنية
لغوية هو وجود فين وليس من املنطق أن يتجسد الوجود الواقعي بالوجود الفين جتسيدا حقيقيا .ذلك
أن الوجود الفين هو إعادة بناء وصياغة وخلق ،أو هو رؤية بنيوية أخرى للوجود الواقعي ال تقدمه
كما هو ،وإمنا يتمظهر وفق قوانني اللغة ،ووعي املؤلف وإدراك املتلقي ،ولذلك فإن عمليات الفهم
4
تكونه".
وآليات التلقي توجهها بىن النص ال قوانني الوجود الواقعي وشروط ّ
جتدر اإلشارة هنا إىل ما سنّه الفيلسوف التأويلي جورج غادامير يف احلقيقة واملنهج ،على
اعتبار أن املنهج هو اآللية أو الوسيلة اليت هتدف أو تدل على بلوغ احلقيقة يقول الباحث سعيد
توفيق...":فاملنهج لدى غادامري ليس هو الوسيلة الوحيدة لالقرتاب من احلقيقة ،كما أن احلقيقة
بدورها ليست مطلقة يقينية مكفولة الضمان من خالل أدوات املنهج ،كما لو كانت احلقيقة كنزا
يكون العثور عليه مضمونا من خالل خطّة مرسومة على حنو ما وقع يف ظن ديكارت صاحب املقال
يف املنهج حينما كان يصوغ قواعده هلداية العقل والبحث عن احلقيقة يف العلوم" ، 1وفكرة املنهج
الغادمرية هلا أصوهلا الفلسفية القدمية؛ إذ ترجع إىل العلوم الطبيعية التجريبية واستثمارها ملقولة املنهج
هبدف الوصول إىل احلقيقة العلمية "،وغادامري يعين باملنهج هنا منهج العلم احلديث ،الذي يتوخى
املوضوعية ويستبعد الذات التارخيية هبدف االستحواذ على املوضوع من خالل جمموعة من األدوات
والقواعد اليت حتاول الذات من خالهلا أن تفهم املوضوع أو الظاهرة كحالة ممثلة لقاعدة عامة ،ولكن
الذات أو الوعي هنا ال يريد أن يفهم العامل ،وإمنا يريد تغيريه أو إعادة خلقه يف صورة متخيلة،
فالفهم احلقيقي يبدأ من واقعة وجودنا يف العامل على حنو ال تنفصل فيه الذات عن املوضوع أو الوعي
عن عامله الذي حييا فيه ،من خالل خربة أولية سابقة على كل تفكري منهجي ،وعلى هذا فإن املنهج
خيلق حالة انفصال أو ثنائية بني الذات واملوضوع ،وجيعل الذات مستبعدة عن عاملها أو تنظر إليه من
2
اخلارج من خالل جمموعة من القواعد واألدوات املنهجية اليت تريد أن تفرضها عليه".
1سعيد توفيق :يف ماهية اللغة وفلسفة التأويل ،املؤسسة اجلامعية للنشر والتوزيع ،بريوت ،ط ،3113 ،0ص.01 :
2املرجع نفسه ،ص.00،01 :
132
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
النقدي ،من مرجعياته الرتاثية وروافده الغربية يف آن معا ،والشك كذلك أن بصمة أولئك املستشرقني
ظلّت واضحة جليّة حىت يف إسهاماته النقدية االنطباعية.
رمبا ال جنانب الصواب إذا خلصنا أن ما يرومه الناقد من خالل منهج قراءته للنص الشعري
يتعني عليه أن
اجلاهلي ،هو اعتباره موضوعا للقراءة بعيدا عن هذه الذات القارئة وعن أفق قراءهتا ،إذ ّ
مييّز بني ما هو ذايت وما هو موضوعي ،ألن عملية الفهم مث التفسري اليت ميارسها القارئ على النص
حتتم عليه أن ال خيلط بني تارخيية املؤلف وتارخيية النص ،يقول سعيد توفيق":ينبغي أن منيّز بني تارخيية
املؤلف وتارخيية النص ،فتارخيية املؤلف هي ظروفه وخرباته الثقافية واالجتماعية والنفسية اخلاصة به،
موجها دائما
أما تارخيية النص فهي احلقيقة التارخيية اليت يقوهلا النّص باعتبار أ ّن ما يقوله النص يكون ّ
ألناس يعيشون يف عصر ما بكل أشكاله الثقافية واالجتماعية والدينية ،ومن خالل عالقة النص
بالقارئ يدخل النص يف سياق ثقايف ،اجتماعي غريب عليه ،سياق قارئ حييا يف زمان ومكان ما
1
آخر".
توخي هذه النظرة يف قراءة النصوص وتفسريها ومن مثّ فهمنا ،فإننا نزيح كلإذا ما رمنا ّ
القراءات اليت مارسها طه حسين على الرتاث الشعري اجلاهلي ،ذلك أنه احتكم إىل تارخيية النص
اتضح له أ ّن النصوص اجلاهلية ال تعكس احلياة
من خالل تصويره ومرآويته لعصره وجيله ،وحينما ّ
وشك يف وجود أغلبية شعرائه ،وما نلتمسه من عذر له
العقلية والدينية واالجتماعية نفى ذلك الشعر ّ
هو أن مستوى القراءة النظرية والتطبيقية السائدة آنذاك ،كانت قاصرة على هذا الفهم أو على هذه
اإلسرتاتيجية يف القراءة.
رّمبا من اإلجحاف وسوء التقدير أن نرمي طه حسني بالتلفيق واالضطراب يف توظيف املنهج
املناسب لعملية القراءة ،كما يذهب إىل ذلك غري واحد من النقاد العرب احملدثني 2،ذلك أن الرجل
تقصي الوجود اجلاهلي فيما خلّفه اجلاهلي نفسه ،وذلك بدافعية املنهج التارخيي إمنا حاول جاهدا ّ
الالنسوين من ناحية ،وضغط احلتمية التارخيية من ناحية ثانية ،وكال املنهجني أثبتا هتافتهما بتط ّور
العملية النقدية اليت واكبت العصر احلديث ،وامتدت لتشمل رقعة واسعة من الثقافة العربية يف أثناء
مرحلة االستقبال ،وجرى جتاوز هذه املقوالت الكالسيكية برمتها" .إن النص األديب ،بل أي عمل
فين هو كأي ظاهرة من ظواهر العامل اخلارجي ميثل كيانا موضوعيا يقوم خارجنا وال يكون من خلق
تصوراتنا عنه ،ولكنه يف الوقت نفسه ال يكون مبثابة حقيقة موضوعية ميكن أن يتأسس معناها بشكل
مستقل عنا ،كما لو كان هناك معىن موضوعي واحد ميكن قياسه وإحصاؤه وال منلك سوى أن نتفق ّ
1
ونقر به".
عليه ّ
إن عملية القراءة اليت مارسها طه حسين على العديد من نصوص الشعر اجلاهلي ،إّمنا حنت
منحى تفسريا ال تأويليا ،ذلك أنّه مل يبحث يف األنظمة املعرفية واألنساق الفكرية اليت صاغت هذه
املدونات ،إمنا نظر إليها باعتبارها أمناطا إبداعية تعاورها الشعراء القدامى وال حيق هلا أن تتجاوز ما
ّ
هو سائد وموجود "علينا أال نستغرب حينما ظهر لنا شعر زهري منسجما مع مجيع أنساقه اللغوية
حتول النص اجلاهلي عنده إىل نسق تارخيي واالجتماعية والتارخيية ،كما ال نستغرب أيضا عملية ّ
خالص ال جيوز ماضيه ،ذلك أنه قد غاب عنه أن األنساق التارخيية واالجتماعية حتضر يف النص
ؤول فهم آلية تشكل األنساق تشكال بوصفها بىن قابلة للقراءة والتأويل ،وهنا تصبح مهمة القارئ املُ ّ
2
فنيا فضال عن حتليله الكيفية اليت انتقلت هبا األنساق من وجودها الواقعي إىل وجودها الفين".
إن ما سنّه طه حسين يف قراءته للرتاث الشعري اجلاهلي ،أنه دفع بعملية القراءة إىل ارتياد
مناطق قصيّة مل تتجه العناية إليها من قبل ،وقد ح ّفز منظورات القراءة إىل بلوغ غايات معرفية عملت
اهلوة بني الطريف والتالد ،يعرتف له يف ذلك الكثري من النقاد الذين ع ّدوه رائدا من ّرواد
على جتسري ّ
حور طرائق النقد وصاغه على غري منوال " من اإلنصاف أن يشار النقد العريب احلديث ،وهو الذي ّ
إىل أن طه حسني قد كشف عن معايري للقراءة والفهم تنسجم كثريا مع النظريات املتجهة للقارئ،
النصيّة لشعر لبيد وطرفة وزهري ...فكانت تلك ْبيد أهنا مل تأخذ حظّها من احلضور يف قراءاته ّ
اهلوة بني الذائقة املعاصرة والذائقة القدمية فضال عن
القراءات حماولة يسعى من خالهلا إىل جتسري ّ
3
سعيها إىل إزالة حالة اإلعراض عن قراءة الشعر اجلاهلي".
تكشف لنا مجلة من النصوص النقدية اليت صاغها طه حسين ،عن وعي عميق بالعملية
يفرق مثال بني
النقدية اليت رادها ،مشكال منها إطارا معرفيا متق ّدما ج ّدا بالنسبة إىل عصره ،فالرجل ّ
معيارين للقراءة مها املعيار العلمي الذي حيتاج إىل ما يعرف عند مايكل ريفاتير "بالكفاءة األدبية
واللغوية" .1واملعيار الثاين هو املعيار اجلمايل الذي يتعلق بذاتية القارئ ،يقول طه حسين" :أنا إذا
أفسره من الوجهة النحوية واللغوية ،وأزعم لك أن هذا
عامل حني أستكشف لك النص وأحققه و ّ
النص صحيح من هذه الوجهة أو غري صحيح ،ولكين لست عاملا حني أدلك على مواضع اجلمال
الفين يف هذا النص ،وإذا فليس عليك أن تقبل ما أقوله وليس لك أيضا أن تنكره ،وإمنا لك أن تنظر
2
فيه ،فإذا وافق هواك فذاك ،وإن مل يوافق هواك فلك ذوقك اخلاص".
يدعو طه حسين -يف طرقه هلذه احلقول النقدية -إىل حترير فهمنا من صنمية املنهج التقليدي
وأدواته اإلجرائية ،إىل االنفتاح عن إمكانيات القراءة وما تتيحه ملكة الذوق من أفق رحب يف
يقوض كثريا من سلطة املنهج استنطاق النص وتأويله .إن هذا الفهم الذي يستند إىل اخلربة اجلمالية ّ
ويف ّككها " والتفكيك هنا ليس نظرية أو منهجا يف القراءة ،وإمنا هو تعرية ملفاهيمنا وتصوراتنا
التقليدية ،حبيث نبقى يف جمال االنفتاح الذي يبعدنا عن جمال التمثل الذي يدرس النص هبدف
الوصول إىل معرفة تصورية ثابتة ،إن هذه العملية يف الفهم كما يرى غادامري تشبه حالة السلب اليت
يصل فيها املرء إىل حرية إزاء الكلمات ،وهي يف الوقت نفسه اليت تطلق سراح الفكر وعندئذ يبدأ
3
الفهم".
لعل من احلدود املنهجية املائزة اليت وقف طه حسين جهده النقدي عليها ،هي حماولته التمييز
ّ
األدب .مبعىن أنه وضع احلدود املفهومية ِ
األدب بني تاريخ األدب وبني العلم الذي يدرس به مؤرخ
َ
يربأ
واإلجرائية لعدم اخللط بني مؤرخ األدب وبني الناقد األديب ،فمؤرخ األدب ال سبيل له إىل " أن ّ
4
من شخصيته وذوقه ،وهذا نفسه كاف يف أن حيول بني تاريخ األدب وبني أن يكون علما".
1رامان سلدن :النظرية األدبية املعاصرة .تر :جابر عصفور ،دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط 0000 ،0ص:
.002
2طه حسني :يف األدب اجلاهلي ،ص.50 :
3سعيد توفيق :يف ماهية اللغة و فلسفة التأويل ،ص.80 :
4طه حسني :يف األدب اجلاهلي ،ص.22 :
135
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
حياول العميد عدم الوقوع يف مطب احلتمية التارخيية ،اليت ومست منجزه النقدي أثناء مرحلة
البدايات ،فهو مل يقف جهده النقدي الالحق على تفسري الظاهرة األدبية من ذلك املنظور ،فالرجل
حياول ختليص نقده منها ،متجها يف الوقت ذاته وجهة نفسية إن جاز التعبري يف حتليل وتأويل مجلة
من الظواهر األدبية اليت أخضعها للنقد واملساءلة ،فهو اليرى ب ّد من أن يربأ مؤرخ األدب من ذوقه
اخلاص ،أما إذا كان ذلك كذلك ،فإن تاريخ األدب يصبح " نوعا من الكيمياء والطبيعة واجليولوجيا،
يعىن به املختصون وحدهم وينصرف عنه املستنريون ،وقد يكون احتمال هذا يسريا لو أن تاريخ
األدب استفاد من هذا الضيق الذي يضطره إليه حرصه على أن يكون علما ،ففسر لنا الظواهر
تفسر لنا العلوم الطبيعية ظواهر الطبيعة وتستنبط لنا قوانينها .ولكنه
األدبية واستنبط لنا قوانينها ،كما ّ
لن يظفر من هذا بشيء ذي غناء .ذلك ألنه مهما يقل يف البيئة والزمان واجلنس ،ومهما يقل يف
تطور الفنون األدبية ،فستظل أمامه عقدة مل حتل بعد ولن يوفق هو حللها ،وهي نفسية املنتج يف
1
األدب والصلة بينها وبني آثارها األدبية".
يتجاوز طه حسين التوجه التارخيي واالجتماعي أثناء املقاربة النقدية اليت يباشرها على مجلة
من املتون الشعرية ،وهو هبذا يتجه اجتاها نفسيا أثناء معاجلته اجلديدة ،ليخلّص النقد من اجلفاف
الذي اعرتاه نتيجة تلك املمارسات الصنمية اليت خضع هلا طويال ،األمر الذي حدا بجابر عصفور
إىل القول بأننا إزاء ناقد "ينطوي نقده على مفارقات عجيبة فهو يفتح عقله ووجدانه لكل
االجتاهات واملذاهب واملدارس ،فيتدافع اإلعجاب بكتاباته تدافع أعمال وأمساء متباينة كل التباين
ومتنافرة كل التنافر إىل درجة تفرض األسئلة :أين يكمن االجتاه احلقيقي هلذا الناقد؟ وهل حنن إزاء
موحد يف اإلجابة أم إزاء تباين متنافر يف االستجابات؟ وهل حنن إزاء ناقد خيتار من أدب جتانس ّ
2
الغرب ،أم إزاء ناقد ينبهر بكل ما يأيت من الغرب بنفس الدرجة والقدر".
تلك إذا هي أهم التساؤالت املعرفية واملنهجية اليت وقف عندها عصفور وهو يتتبع خمتلف
القراءات النقدية اليت باشرها طه حسين جململ ّ
مدونات الرتاث العريب ،فهو ال يقنع باستثمار آليات
منهج معني ،بل يفيد من كل التيارات سواء الوافدة أو اليت هي متأصلة يف وعيه النقدي الرتاثي.
136
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
وكما تتبع طه حسين نوعية من املقاييس واملعايري وقف نفسه عليها يف قراءة الشعر اجلاهلي .تتبع
كذلك منهجا لغويا رمبا أخذه عن بعض املستشرقني حول صحة الشعر اجلاهلي ،واليت يقوم على
مجلة من اخلطوات ،لعل أمهها :أن لغة اجلنوب يف اجلزيرة العربية ختتلف عن لغة الشمال ،وأن اللغة
القرشية مل تكن سائدة يف اجلزيرة العربية كلها سيادة كاملة مما يربر وصول الشعر اجلاهلي كلّه إلينا
تصور نظري عام ،اختذ فيه بالعربية القرشية ،وهكذا جند قراءته للشعر اجلاهلي قد انطلقت من ّ
النموذج األوريب مثاال ،وسعى إىل حتقيقه يف النص العريب ،ودون إدراك هذه اخلطة املنهجية اليت سعى
إىل حتقيقها يف كتابه ،فإن قراءة الكتاب ستكون –رغم أمهيتها -قراءة جزئية ،ال تقف على مشروع
قراءة طه حسين للنص الشعري العريب يف خمتلف أبعاده " ،هذه القراءة اليت ستقوم على أساس حتقيق
اخلطة املنهجية بالوسائل اليت استعملت يف بناء التاريخ األوريب ،ولو على حساب بعض احلقائق
التارخيية الثابتة اليت كان طه حسني ضحيتها ودون اعتبار للخصوصية التارخيية لألدب العريب
1
أحيانا".
إن ما هندف الوصول إليه من خالل هذه املعاينة هو مدى إفادة طه حسين من منهج الشك
الديكاريت وماهي عالقته بديكارت؟ وهل مستوى التناول بني الرجلني متّ مبستوى واحد؟ أم أن هناك
توصل
تفاوتا على مستوى توظيف آلية الشك؟ وما هي أهم النتائج سواء السلبية أم اإلجيابية اليت ّ
إليها طه حسني يف توظيفه هلذا املنهج؟
الجي د الباحث يف جمال الفلسفة والفكر حتديدا هنائيا ملذهب الشك؛ إذ حيمل هذا األخري
جمموعة من الدالالت ختتلف باختالف مواطن البحث والتدقيق عن احلقيقة ،وال ميكن االطمئنان
لتعريف واحد يكفي بلوغ املنتهى عن معرفة ماهية الشك ،حيث ختتلف التيارات وتتباين يف توصيف
هذا املذهب ،فالفرق واضح مثال بني الشك اإلبستمولوجي واملنهجي واالعتقادي واإلحلادي وغريها.
غري أن الذي يعنينا وحنن نتحسس مفاصل نظرية املعرفة عند طه حسين يف ارتضائه الشك منهجا
فاعال يف الوصول إىل احلقيقة ،وعدم االطمئنان إىل معتقدات األمة وثوابتها املرتسخة عن الشعر
اجلاهلي مثال ،هو توظيفه هلذا الشك املعريف أو اإلبستمولوجي باعتبار أن "موضوعه املعرفة
الصحيحة ،فهو تردد جيعل صاحبه عاجزا عن إدراك حقيقة ما ،غري مطمئن إىل وجود أداة مت ّكن
صاحبها من اكتساب علم صحيح 1".غري أن هذا التوجه حيتاج منّا إىل إعادة نظر فيما ذهب إليه
صاحبه ،على اعتبار أن طه حسين شكك يف بعض معتقدات األمة وعقائدها بتجاوزه الشعر
اجلاهلي إىل قضايا جوهرية يف الدين ،إذ ميكن أن نصطلح على هذا النوع من الشك بالشك
اإلنكاري أو اإلحلادي كما يذهب صاحب النص "وموضوعه املعتقدات املسلّم هبا بني الناس ،وقد
يتجاوز الالأدرية والرتدد الذي يبدو يف تغليق احلكم إىل رتبة اإلنكار الذي يقوم على سلب االعتقاد
2
تضمن اإلنكار إصدار أحكام سلبية".
يف أمر أو نفي القول بصحته ومن هنا ّ
يع ّد العقل أداة املعرفة األمثل وذلك يف ظل وجود وسائط أخرى للمعرفة كاحلدس واحلس،
وإعمال آلية العقل يف الوصول إىل احلقيقة هو السبيل األجنع يف عرف العديد من التيارات واملذاهب
الفلسفية سواء القدمية أو احلديثة ،ومادام العقل هو احملك األساسي الذي يضع املوازين بني الصحيح
واخلاطئ ،فإن تنقيته تتطلب إفراغه من كل ما حواه ليعاد ترتيب األمور السليمة فيه وال حيصل له
ذلك إالّ إذا شكك يف معارفه القبلية ووضعها موضع مساءلة وريب ال موضع اطمئنان وتسليم ،وهو
عينه ما قام عليه أساس املنهج الديكاريت يف الشك املنهجي ،ألن " العقل عند ديكارت حافل
بأفكا ٍر بعضها خاطئ ،وال سبيل إىل تطهري العقل من األفكار اخلاطئة إال بإفراغه من مجيع ما فيه،
وهو ال يرتك العقل فارغا وإال شابه غريه من الشكاك احلقيقيني ،فهو يعيد إليه ما يراه سليما من هذه
األفكار ،ويطرح عنه اخلاطئ منها يف ضوء منهجه العقلي املعروف ،فالشك هو حمك الصحيح
3
والباطل من أفكارنا وبه يتحرر العقل من أوهامه".
مل يكن مبدأ الشك عند ديكارت كما كان عند غريه من الفالسفة الذين سبقوه أو زامنوه،
بل إن ماهية الشك عنده ترتقي يف مدارج البحث عن احلقيقة والوصول إىل اليقني ومل يفتعل الشك
لذاته ،بل جعله وسيلة ال غاية ،والبحث عن اليقني يتطلب شكا منهجيا منظّما لبلوغ املقاصد
املرجوة منه "وأضحى الشك أداة للنقد وأسلوبا يتبع يف التمييز بني الصواب واخلطأ ،أوغل يف الشك
ّ
إىل أقصى آماده من غري أن يتوقف يف منتصف الطريق ويعلن إفالسه ...،ومن هنا كان انتصار
1توفيق الطويل :أسس الفلسفة ،دار النهضة العربية ،القاهرة ،ط ،0022 ،5ص.218 :
نفسه ،ص.218 :
2
ديكارت فكشف عن الروحية واستعاد يقني احلقيقة ،واهتدى إىل اهلل ...فقيل إن مقال ديكارت عن
1
املنهج يعارض قصة هزمية بقصة انتصار".
تعتمد فلسفة ديكارت يف شقها األكرب على الشك املنهجي الذي يقوم على فكرة أساسية
مفادها عدم التسليم مبا وصل إليه األقدمون من نتائج ،إمنا جيب أن ختضع كل أعماهلم للنقد ويستند
هذا املبتغى على ثالثة خطوات أو قواعد منهجية أوهلا " أال أقبل شيئا ما على أنه حق ،ما مل أعرف
التهور والسبق إىل احلكم قبل النظر وال أدخل يف أحكامي إال
يقينا أنه كذلك مبعىن أن أجتنب بعناية ّ
2
ما يتمثل أمام عقلي يف جالء ومتيز ،حبيث ال يكون لدي أي جمال لوضعه موضع الشك".
هي القاعدة اليت حرص طه حسين على توضيحها أثناء مقاربته للنص الشعري اجلاهلي وغريه
من املتون؛ إذ مل يقف من دراسات األقدمني موقف املسلّم واملعتقد ،بل وقف منها موقف الشاك يف
مرة أخرى حني ميايز بني تراث األمة اليونانية واألمة العربية
طروحاهتا ويف نتائجها ،األمر الذي نلمسه ّ
يف قضية انتحال الشعر ،فخلص إىل أن مجلة من األمور جعلت من هذه القضية موضعا للشبه
ومحل على القدماء من بينهما؛ يقول" :وإمنا ُحنل الشعر يف األمة اليونانية واألمة الرومانية من قبل ُ
يردوا
شعرائها حىت كان العصر احلديث وحىت استطاع النقاد من أصحاب التاريخ واللغة والفلسفة أن ّ
األشياء إىل أصوهلا ما استطاعوا إىل ذلك سبيال ،وأنت تعلم أن حركة النقد هذه بالقياس إىل اليونان
غريتوالرومان مل تنته بعد ،وأهنا لن تنتهي غدا وال بعد غد ،وأنت تعلم أهنا قد وصلت إىل نتائج ّ
تاما ما كان معروفا متوارثا من تاريخ هاتني األمتني وآداهبما ،وأنت إذا ف ّكرت ستوافقين على تغيريا ّ
منشأ هذه احلركة النقدية إمنا هو يف حقيقة األمر تأثر الباحثني يف األدب والتاريخ هبذا املنهج الذي
3
دعوت إليه يف ّأول هذا الكتاب وهو منهج ديكارت الفلسفي".
تقوم هذه القاعدة على عدم التسليم واالعتقاد مبا كان سائدا من قبل يف الدراسات القدمية،
"أقسم
إمنا السبيل إىل ذلك هو الشك فيها قصد الوصول إىل اليقني ،وتقوم القاعدة الثانية على أن ّ
كل واحدة من املعضالت اليت سأختربها إىل أجزاء على قدر املستطاع وعلى قدر ما تدعوا احلاجة
إىل حلّها على خري الوجوه 1".حتتل هذه القاعدة مكانة غاية يف األمهية؛ إذ عليها مناط التحليل
وإقامة الدليل على صحة ما يذهب إليه.
ُسري أفكاري بنظام بادئا بأبسط األمور وأسهلها أما القاعدة الثالثة فيقول بشأهنا " :أن أ ّ
معرفة كي أتدرج قليال قليال حىت أصل إىل معرفة أكثر تركيبا ،بل وأن أفرض ترتيبا بني األمور اليت ال
يسبق بعضها اآلخر بالطبع 2".تعتمد هذه القاعدة على النتائج اليت توصل إليها ديكارت يف
القاعدة الثانية ،فإذا كانت هذه األخرية قاعدة حتليلية فإن القاعدة الثالثة تنهض بإعادة تركيب ما متّ
تفكيكه آنفا .يضاف إىل هذه القواعد الثالثة السالفة قاعدة رابعة وأخرية يف املنهج االستقرائي عند
ديكارت وهي اليت يرى حوهلا "أن أعمل يف كل األحوال من اإلحصاءات الكاملة واملراجعات
3
الشاملة ما جيعلين على ثقة من أنين مل أغفل شيئا".
تع ّد هذه األخرية قاعدة للتأليف والرتكيب معا ،أو ما يسميها ديكارت مبدأ االستقراء ،وهي
اليت متكن من حتقيق القاعدة السابقة ،حيث ترمي إىل استيعاب كل ما يتصل مبسألة معيّنة وترتيب
4
دجبها ديكارت ليصل مبنهجه
العناصر اليت ميكن التوصل إليها .هذا عن تلك القواعد واملبادئ اليت ّ
الفلسفي إىل نتائج يقينيّة بعد أن سرى الشك إليها .أما عن كيفية إفادة طه حسني من مجلة هذه
القواعد وكيفية استئناسه هبا يف قراءة الرتاث الشعري العريب ،فقد ذكرنا يف غري موضع من هذا الفصل
املسلم وإمنا
أن الرجل إمنا ثار على علم املتقدمني بغية مساءلته واستنطاقه ،ومل يقف منه موقف ّ
موقف الشاك الذي يروم الوصول إىل احلقيقة اعتمادا على اجلانب العقلي ،لذلك فهو ال يطمئن
مدوناته النقدية خاصة مؤلفه "يف الشعر اجلاهلي"،
لعلمهم حول تلك القضايا اليت المسها يف ّ
خاصة عندما يتساءل عن العديد من القضايا اليت كانت إىل عهد قريب منه تبدو مسلّما هبا ،ويف
املقابل لذلك يرفع من شأن احملدثني واجمل ّددين حول هذه القضايا فيقول ":والنتائج الالزمة هلذا
املذهب الذي يذهبه اجمل ّددون عظيمة جليلة اخلطر ،فهي على الثورة األدبية أقرب منها إىل كل شيء
آخر ،وحسبك أهنم يش ّكون فيما كان الناس يرونه يقينا ،وقد جيحدون ما أمجع الناس على أنه حق
الشك فيه ،وليس حظ هذا املذهب منتهيا عند هذا احلد بل هو جياوزه إىل حدود أخرى أبعد منه
مدى وأعظم أثرا فهم قد ينتمون إىل تغيري التاريخ أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ ،وهم قد ينتهون
1
إىل الشك يف أشياء مل يكن يباح الشك فيها".
أما عن املبدأ الثاين الذي يقوم على التحليل والتفكيك قصد الوصول إىل احلقيقة فنجد صداه
أو ما ميثله عند طه حسين يف تساؤالته حول ماهية الشعر اجلاهلي ،ووجوده ومتثيله حلياة العرب
آنذاك ،فينطلق للربهنة على ذلك من نفي متثيل الشعر حلياة العرب بكل مستوياهتا االجتماعية
والسياسية والعقلية واالقتصادية ،وال يطمئن إىل ما جاء يف نصوص الشعر إمنا انصب اهتمامه حول
ما جاء يف القرآن ويف نصوص الشعراء الذين عاصروا الدعوة اإلسالمية ،يقول يف ذلك" :فإذا أردت
أن أدرس احلياة اجلاهلية ....أدرسها يف القرآن ،فالقرآن أصدق مرآة للعصر اجلاهلي ،ونص القرآن
ثابت ال سبيل إىل الشك فيه ...،وأدرسها يف شعر هؤالء الشعراء الذين عاصروا النيب وجادلوه ،ويف
شعر الشعراء اآلخرين الذين جاءوا بعده ومل تكن نفوسهم قد طابت عن اآلراء واحلياة اليت ألفها
آباؤهم قبل ظهور اإلسالم ،بل أدرسها يف الشعر األموي نفسه ،فلست أعرف أمة من األمم القدمية
2
استمسكت مبذهب احملافظة يف األدب ومل جت ّدد فيه إال مبقدار كاألمة العربية".
وسريا منه على هنج ديكارت يذهب طه حسين يف مساءلة هذه النصوص اليت ذكرها ليربهن
على صحة الشعر اجلاهلي ووجوده من عدمه ،فيقف عند متثيل القرآن للحياة العقلية والدينية للعرب
قبل اإلسالم ،مث يردفها حبياهتم السياسية اليت كانت قائمة على عقد األحالف بني العرب وبني غريها
من الفرس والروم واحلبش واهلند .يقول طه حسني يف ذلك" :سرية النيب حتدثنا أن العرب جتاوزوا
بوغاز باب املندب إىل بالد احلبشة وبأهنم جتاوزوا إىل بالد الفرس والشام وفلسطني إىل مصر ،فلم
يكونوا إذا معتزلني ومل يكونوا ...بنجوة من تأثري الفرس والروم واحلبش واهلند وغريهم من األمم اجملاورة
هلم مل يكونوا يف عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إىل األمم األخرى" 3.ويتناول طه حسني جتليّات
احلياة العقلية يف القرآن بعد أن نفى متثيلها يف الشعر اجلاهلي فيقول ":والقرآن ال ميثل احلياة الدينية
وحدها ،وإمنا ميثل شيئا آخر غريها ،ال جنده يف الشعر اجلاهلي ....،ميثل حياة عقلية قوية ،ميثل قدرة
على اجلدال واخلصام ،أنفق القرآن يف جهادها حظا عظيما ،كانوا جيادلون يف الدين وفيما يتصل
بالدين من هذه املسائل املعضلة اليت ينفق الفالسفة فيها حياهتم دون أن يوفقوا حللّها يف البحث ،يف
1
اخللق ،يف إمكان االتصال بني اهلل والناس ،يف املعجزة وما إىل ذلك".
لعل القاعدة الثالثة اليت استثمرها طه حسين واملتمثلة يف االنطالق من العام إىل اخلاص أو من
ّ
الكل إىل األجزاء ،هي القاعدة اليت دفعت باملنهج الديكاريت إىل آماده يف توظيفات طه حسين،
فهو ينطلق من العام إىل اخلاص قصد التفكيك وإعادة الرتكيب ،وجند ما ميثّل ذلك يف حبثه عن
أسباب انتحال الشعر فيذهب إىل الشك يف الغالبية العظمى للشعر اجلاهلي ،مث يبدأ يف تبيان
ويفصلها مربزا بعض األشعار املنسوبة آلدم وعاد ومثود واجلن ،مث يفحص
األسباب الداعية إىل ذلك ّ
الشعر الذي يعتقد أنه خلقته العصبيات القبلية والعرقية ،لينهض باستثمار القاعدة الرابعة من قواعد
ديكارت اليت أسلفنا احلديث عنها.
لقد تأثر طه حسين باملنهج الديكاريت أو بالديكارتية يف مقاربة النص الشعري العريب القدمي،
ذلك أنه أخضع كل هذا الرتاث إىل مبدأ الشك ،حماولة منه يف انتهاج سبيل العلمية يف النقد األديب،
غري أن مجلة من النقاد والباحثني يعيبون عليه عدم فاعلية هذه اآللية-آلية الشك -يف قراءة الشعر
اجلاهلي ،وذلك ألنه مل يصب يف استثمار وتطبيق هذا املنهج الفلسفي كما هو احلال عند ديكارت،
باعتبار أن شك هذا األخري شكا منهجيا وأنطولوجيا ،بينما ال يعدو شك طه حسين أن يكون
شكاّ تارخييا" .وعلى هذا يتع ّذر احلديث عن تأثر حقيقي بديكارت إال بكثري من التحديد والتقييد،
ذلك أن شك ديكارت شك منهجي ،فيما شك طه حسني تارخيي ،ألنه ال يستهدف البحث عن
ماهيات ثابتة التارخيية ،مثل املاهيات الرياضية أو احلقائق امليتافيزيقية ،كما هو احلال عند ديكارت،
بل يستهدف من وراء ش ّكه الكشف عن دور الزمان يف بناء اللغة وهدمها ،والكشف عن دور الزمان
يف صحة الرواية األدبية وكذهبا ،والربهنة على أن املصلحة والعصبية والصراع بني األمم املختلفة داخل
الدولة العربية يف عصرها األول ،قد لعبت دورا كبريا يف تشويه الرواية" 2.وحول اإلشكالية ذاهتا،
يذهب األستاذ محمد عابد الجابري حينما سئل حول معاملة النقاد العرب للتيارات الفكرية الوافدة
مثل الديكارتية فأجاب "عندما نأخذ فكر ديكارت وانتقاله إىل العامل العريب سوف جند أنه مل ينتقل
كتيار ،وإذا تساءلنا عن أصدائه فسنجد شيئا منها عند طه حسني يف نقد الشعر اجلاهلي بشكل
1
غامض".
يتموضع حكم الجابري السالف يف حقل التفكري الفلسفي العقالين ،ذلك أن الرجل ظل
يشتغل بالفلسفة والعقالنية منذ عقود ،فمن البديهي أن يرى مثل ذلك الرأي ،إذ العداء للعقل هو
وأد للفكر وللتقدم ونكوص وتقهقر إىل الوراء وفشل يف مسايرة ركب احلضارة العاملية اليت إمنا قامت
بانتهاجها سبيل العقل يف وصوهلا إىل حقائق األشياء؛ يقول الجابري يف مشروطية احلداثة للعقالنية
"..وهل ميكن حتقيق حداثة بدون سالح العقل والعقالنية؟ هل ميكن حتقيق هنضة بدون عقل
ناهض؟ إن العداء للعقالنية أو الطعن فيها ،يف حال مثل حالنا ،سلوك ال ميكن إجياد مكان له
خارج ظالمية الالعقالنية ومن يضع رجله فيها حيكم على نفسه بالعمى ،والعقالنية مصباح يوقده
اإلنسان ،ليس وسط الظالم وحسب بل قد يضطر إىل التجوال به يف واضحة النهار 2".وتعد هذه
الدعوات من ضرورات االلتزام بالعقالنية ،أو مببادئ العقل للمضي قدما حنو احلداثة يف شىت
اجملاالت ،وبدوهنا ال ميكن للمجتمع العريب احلديث واملعاصر بكل تياراته وأطيافه أن يسلك سبيل
التقدم والرقي ،ألن العقالنية هي املفتاح األساسي لولوج هذا التيار املعريف.
لقد أيقن طه حسين أن العدل أعدل قسمة بني الناس ،وأن العقل العريب ال يقل شأنا عن
باقي العقول األخرى اليت مينح منها كما يضيف إليها ،وال سبيل لبلوغ ما بلغوا إال سبيل االهتداء
املخول بإدراك حقائق األشياء والظواهر فضال عن تفسريها
بآليات العقل والعقالنية ،على اعتبار أنه ّ
وتأويلها وحىت متثلها .إال أن قضية القضايا هي يف ختليص هذا العقل من كل الشوائب والرتسبات
اليت من شأهنا أن تعرقل مهامه ،وتثنيه عن بلوغ مراميه ومقاصده ،ذلك أن عمل العقل إمنا يتوجه
رأسا إىل حماولة إدراك هذه الظواهر وفهمها مث حماولة جتاوزها إىل إدراك غريها من الظواهر ،وطه
حسين يف احتكامه لسلطة العقل يف حتليل الظواهر األدبية والنقدية ،إمنا إمتاح هذه السلطة من
مرجعيات عديدة ومتنوعة ،عملت على صياغتها وبلورهتا مطالعاته الكثيفة واملعمقة ملدونات الرتاث
1حممد عابد اجلابري :الرتاث واحلداثة ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت ،ط ،3112 ،2ص.350 :
2املرجع نفسه ،ص.08 :
143
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
العريب من جهة ،وإطالعه املستمر على كل جديد حتمله ساحة النقد الغربية يف جمال الفكر والثقافة،
والواضح من توجهه حنو املستودع األوريب هو رمبا مسايرته للعديد من الطروحات النقدية احلديثة
مقارنة مبا هو سائد على ساحة النقد العربية آنذاك ،وحماولة التجاوز هي اليت م ّكنته من طرق العديد
من احلقول املعرفية اليت عملت على توضيح املنحى النقدي عنده ،وذلك يف حماوالت منه لدفع
العملية النقدية العربية قدما ،وعدم االكتفاء مبا توصل إليه العقل العريب آنذاك يف تفسريه مدونات
مر العصور " ،لقد أراد باصطناع املنهج الدعوة إىل العقل وحترير اإلنسان ومل يكتف اإلبداع على ّ
بالتوثيق األكادميي ألفكار ديكارت لتكون هوامش على املنت العريب الذي كادت أن تضيع كلماته
1
بفعل الزمن ،بل تفقد صفحاته الناصعة وأوراقه العقلية بفعل اجلمود والقيود واألغالل".
إن التوجه العقالين لطه حسين مل يكن وليد تأثره بالثقافة الفرنسية ّأوال ،بل ميكن الرجوع هبذا
التوجه إىل بداياته النقدية حول كتاباته عن أيب العالء والعالقة وطيدة ال حتتاج إىل كثري تدليل أو
برهنة ،من أن العالقة بني أيب العالء وطه حسني عالقة متينة صلبة ،األمر الذي جعل من أيب العالء
املثل األعلى بالنسبة له ،وهي النفسية اليت وقف العميد عندها طويال حماوال سربها ومعرفة كل
جوانبها املضيئة واملظلمة .أضف إىل ذلك ما كان قد أجنزه عن ابن خلدون حول تتبعه ملختلف
املظان الفلسفية والفكرية وكذا االجتماعية عند هذا العالّمة ،األمر الذي جنم عنه وجود متثّل كبري
آلرائه وطروحاته ،خاصة تلك القوانني اليت بىن عليها ابن خلدون معامل االجتماع وعلم العمران
البشري ،لذلك أكاد أجزم أن ما يربط طه حسين بالفيلسوف ديكارت أقل بالنظر للعالقة الوثيقة
اليت تربط الرجل بإرثه النقدي والبالغي والفلسفي العريب القدمي ،ذلك أن حمددات العملية النقدية
تشرهبا عقل الرجل من مظان عنده ،أو ما اصطلح عليه بآلية الشك يف املوروث الشعري العريب ،إمنا ّ
عديدة يف املدونات النقدية القدمية ،حىت وإن ظل خصومه ي ّدعون أنه صورة أخرى من ديكارت
على األقل يف منهج الشك ،وأجدين أذهب مع الناقد محمد برادة حني يذهب إىل القول" :إن طه
حسني يبدو بنيانا مرتاصا وكتلة مضيئة وسط بنية األدب والفكر يف خضم معارك القلم والسياسة
مبصر منذ عشرينات هذا القرن [يقصد القرن العشرين] – بكتاباته وحياته -اليت تأخذ داللتها يف
1أمحد عبد احلليم عطية :الديكارتية يف الفكر العريب املعاصر -دراسة مقارنة يف املذاهب الفلسفية الغربية والثقافة العربية
احلديثة -دار الثقافة والتوزيع ،القاهرة ،دط ،دت ،ص.20 :
144
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
كلّيتها وتقاطع حلظاهتا وكأهنا نص كتب دفعة واحدة" 1.األمر الذي جيعلنا نذهب إىل أن طه حسين
صوب مساره ودراساتهمل يتأثر كثريا بطروحات الفرنسيني وعلى رأسهم ديكارت إال بالقدر الذي ّ
وهنجها ،مبعىن أن الرجل مل يعكف على الطروحات النظرية والتطبيقية لديكارت إال بالقدر اليسري
حىت وإن أثبت هو نفسه ذلك يف غري موضع من كتبه ،بأنه اصطنع لنفسه منهج ديكارت يف
البحث واالستقصاء ،ألن الفرق واضح بني الدراستني والرجلني يف متكني الشك كآلية للقراءة
واالستنطاق واحلفر.
وقد أسلفنا أن شك الفيلسوف ديكارت كان شكا فلسفيا منهجيا ،يف حني كان شك
األديب شكا تارخييا أدبيا حمضا ،وإذا كان شك ديكارت من أجل البحث عن غاية أمسى هي :اهلل،
العامل والنفس ،وهي موضوعات الالهوت األساسية ،فإن شك طه حسين كان غري ذلك؛ حيث مل
تتجه عنايته يف البحث عن هذه املاهيات " .إن ديكارتية طه حسني املزعومة إشاعة صدرت عنه
أوال ،فقد أثبت يف أكثر من مكان من كتاباته أنه اصطنع املنهج الفلسفي الذي استخدمه
ديكارت،و يف كلمة "أصطنع" قدر كبري من التواضع فلم يقل – مثال -أنه التزم ،ومع ذلك تبقى
2
كلمة اصطنع معرض شك حني نقارن بني املنهجني".
ولعل السهم املعريف الذي أصابه طه حسين يرجع إىل تأثره رمبا بتلك الشروط والقوانني
الفلسفية العميقة اليت صاحبت نظرية ابن خلدون يف علم العمران البشري ،وكيف كانت ثورته
العقلية على معطيات التاريخ البشري خاصة ،إذ ش ّكلت دراسته حول ابن خلدون أرضية معرفية
وواجهة خلفية انطلق منها يف الثورة على الكثري من املسلّمات واليقينيّات ،اليت أسهمت يف تصلّب
العقل العريب ،ومنعته االجتهاد ،وحرمته روح املبادرة والبحث والكشف واالستقصاء ،يقول المقالح:
"...ملاذا ال يكون ابن خلدون الذي حاول إعادة تنظيم التاريخ العريب وفقا ملنهجه القائم على ربط
التاريخ بعلم االجتماع قد ترك أثرا كبريا يف توجيه الطالب طه حسني وأغراه إىل إعادة دراسة األدب
1حممد برادة :مفهوم احلداثة عند طه حسني من خالل كتايب حافظ وشوقي وحديث األربعاء -دراسات مغربية يف الفلسفة
و الرتاث الفكري العريب احلديث -املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،0085 ،ص.052 :
2عبد العزيز املقاحل :عمالقة عند مطلع القرن ،ص.51 :
145
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
العريب ،أو باألصح الشعر العريب وتنظيم املقاييس النقدية بعيدا عن األحكام العاطفية واآلراء
1
املضطربة".
إن ما حياول المقالح إثباته هو تعددية املناحي املعرفية واملصبات الفلسفية اليت عملت على
صياغة املشروع النقدي والفلسفي عند طه حسين ،ذلك أن الرجل تباينت مشاربه ومناهله من رجوع
إىل الرتاث بكل دقائقه وتفاصيله بدءا من تأثره بابن سالّم واألصمعي يف قضية االنتحال ،هذه
القضية القدمية اجلديدة ،مرورا باملعري واستلهام فلسفته وشكه وتشاؤمه وحىت عدميته ،وكذلك
اعتمادا على ابن خلدون يف ثورته على املعطيات التارخيية وحماولة صياغته نظرية يف العمران البشري
وعلم االجتماع ،ووصوال إىل استثماره منجزات احلضارة الغربية ممثلة يف املناهج احلديثة املستعملة
لقراءة النصوص وإعادة تقييمها باالحتكام إىل ما جادت به ساحة العلم من مناهج حديثة ،لعل
أمهها املنهج التارخيي وفلسفة الشك الديكاريت.
يعلل األستاذ المقالح رجوع طه حسين إىل استثمار ابن خلدون وقوانينه إىل حتمسه الشديد
هبذه الفلسفة وبنتائجها ،يقول" :من السهل إثبات األسباب اليت دعت طه حسني إىل اإلقبال على
ابن خلدون وإعداد دراسة عنه ،وإن هذا اإلقبال مل يأت عفوا أو صدفة ،وإمنا صدر عن رغبة عربية
إسالمية يف إيصال ما انقطع من حوار عريب إسالمي مع أساليب البحث القائمة على املالحظة
وحىت تنفيذها -طه حسين يف مشروعه - املوضوعية 2".تلك إذا هي املهمة اليت اضطلع بتبليغها
التنويري ،فهو يدفع إىل تأسيس منوذج ملثقف جديد ،ال ينتج وعيا مطابقا بالواقع فحسب ،بل
وسلوكا وممارسة كذلك يستلزم ضرورة تالزم النظرية واملمارسة لدى ذلك املثقف اإلصالحي
الراديكايل الذي يطمح إىل فعل التغيري.
تتشكل الرؤية النقدية له من العديد من القضايا اجلوهرية اليت ضخت خطاب النقد عنده،
وينقاد إىل تفكيك البىن املؤسسة هلذا اهليكل ،ويف الوقت نفسه حياول اإلمساك بأهم احملطات املعرفية
اليت هيمنت على ساحة النقد العريب يف زمانه ،وتتدافع إىل السطح مجلة من األحكام النقدية اليت
مشلتها املعاينة التارخيية ،ومدى إسهام الوافد الغريب يف ضخ خطاب نقدي بديل وجماوز ملا كان سائدا
على الصعيد الوجودي ،إذ أن عتاقة اآلليات القرائية القدمية مل تعد جتدي أثناء املعاينة النقدية
احلديثة ،يقول أحد الدارسني " :إن وسائل النقد التقليدية استنفذت طاقتها ومل تعد مؤهلة لإليفاء
مبشروع درس األعمال الروائية والشعرية اآلخذة بأسباب اإلبداع اجلديد وال قادرة على النفاذ إىل
أسس اإلبداع فيها وإبراز خصوصياهتا البنيوية ،فكانت احلاجة إىل البحث عن وسائل درس بديلة
1
واستدعاء ما يبدو أدعى إىل حتقيق الغاية املذكورة".
تعد قراءة طه حسين احلديثة للرتاث الشعري العريب من إحدى القراءات املتاحة له ،غري أن
التّهيّب الذي وسم جهود النقاد القدامى واحملدثني لبلوغ محى هذا املخزون العظيم ،هو ما حال
بينهم وبني فهمه واستيعابه وإعادة قراءته من جديد ،فهو الذي يدعو دائما إىل تغيري عاداتنا يف
القراءة سريا على سنّة القدامى الذين مل جيدوا حرجا يف اإلفادة من اآلخر إلثراء خمزوهنم ،يقول طه
حسين.." :وقد قامت حياتنا احلديثة على إحياء األدب العريب ودرس اآلداب األوربية ،وستقوم
دائما على هذين العنصرين من عناصر احلياة اخلصيبة ،وعلى هذين العنصرين نفسهما ،قامت حياة
العرب القدماء أو قل حياة األمة اإلسالمية القدمية على إحياء األدب العريب ،ودرس الثقافات
األجنبية اليت عرفتها يف تلك العصور ،فنحن نسلك نفس الطريق اليت سلكها القدماء نقيّم حضارتنا
2
احلديثة على ما أقام القدماء عليه حضارهتم تلك املزدهرة".
يؤكد طيب تيزيني أن عملية التأثري والتأثر اليت متارسها بعض الثقافات اإلنسانية ،ال تعين حبال
من األحوال الذوبان أو اهلجنة ،ذلك أن لكل أمة ثقافتها وخصوصيتها املعرفية واألنطولوجية ،وأن
خزان معريف خاص ختتزنه كل ثقافة أو أمة على حدة ،يقول: هذه الفرادة واخلصوصية ،إمنا تنبع من ّ
"إننا يف الوقت الذي نرى فيه أن الثقافة العربية اإلسالمية الوسيطة والفلسفة والعلوم الطبيعية منها
تكونت إىل ح ّد كبري حتت تأثري الثقافات األجنبية ،فإهنا ظلّت حمتفظة بكوهنا ثقافة
خصوصا ،قد ّ
اجملتمع العريب اإلسالمي الوسيط ،إهنا مل تكن هجينة ،كما يؤكد البعض من املثقفني العرب
1حممد الناصر العجيمي :النقد العريب احلديث ،جملة عالمات يف النقد ،جدة ،يونيو ،3115 ،ج ،52مج ،02ص.058 :
2طه حسني :خصام و نقد ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ط ،0022 ،2ص.20 ،21 :
147
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
املعاصرين ،ذلك ألن التأثر بعوامل أجنبية ال يعين إطالقا الوقوع يف واقع (هجني) إذا استطاع ممثلو
1
هذه الثقافات استيعاب هذه املسألة بعمق".
تتأسس القراءة – انطالقا من هذا النص -على املرتكزات املعرفية والفلسفية لكل أمة ،مع
ضرورة اإلفادة مبثاقفة اآلخر دون اإلحساس بتلك الدونية والصغار الذي رمبا يتسرب إىل الذات
منتقصا من جهدها الذايت واملتعدي .ولتكتسب الذات نوعا من احلضور يتعني عليها جماوزة ذلك
الرتاكم املعريف التقليدي قرائيا؛ أي مبمارسة أقصى غايات القراءة واحلفر قصد استخراج الصورة
احلقيقية لتلك املدونات اإلبداعية .يقول عز الدين إسماعيل..." :وهكذا تتنوع مداخل قراءة هذا
الشعر (اجلاهلي) فتصبح فكرة القراءة نفسها هي املنهج الذي يفرتض أنه فتح الباب لكل قراءة
ممكنة اآلن ،وفيما بعد ،ويف أي وقت ممكن ،ومن املؤكد أن هذا التنوع يف القراءات أكسب الفكر
النقدي من جهة ثراء وغىن ،وأكسب األدب نفسه من جهة أخرى ،أمهية وقيمة مل تكونا له من
قبل ،عندما كان يدرس يف ضوء البالغة السطحية البسيطة واملرصودة اليت كان الشيخ املرصفي قد
نقلها إلينا من كتب البالغة القدمية لكي يعلمنا كيف نفهم التشبيه واالستعارة والكناية ،وما إىل
ذلك ،من خالل نص شعري بسيط ،وإهنا لنقلة باهرة يف حقيقة األمر بني البداية املرصفية ،وما
2
انتهينا إليه يف جمال الدرس األديب يف زمننا الراهن".
حيسد هذا النص حالة الشرخ اليت أصابت املنظومة النقدية العربية يف العصر احلديث، رمبا ّ
بفعل الرتاكمات الثقافية العتيقة اليت مارست نوعا من االستالب الفكري على النص اإلبداعي كما
مارسته على النص النقدي ،وحرمته البوح بإمكانيات تشكل الداللة داخل رحم هذا النص،
واالطمئنان إىل أحادية الداللة اللغوية البسيطة اليت تطفو على السطح ،وجيسد هذا النص كذلك
ينجر عنه
عملية التجاذب واالستقطاب احلاصل بني جيلي العملية النقدية القدمية واحلديثة وما ّ
الحمالة من فوضى نقدية ،تصيب الرصيد الثقايف واملعريف على صعيد النقد يف مقتله ،ويعترب البعد
التارخيي للظاهرة األدبية سببا من األسباب الرئيسية يف تعدد واختالف القراءات النقدية وهو األمر
وتغريها من عصر إىل عصر ،ومن مث صفةالذي "يؤكد أن تعدد القراءة حمكوم بتعدد الشروط التارخيية ّ
1طيب تيزيين :مشروع رؤية جديدة للفكر العريب يف العصر الوسيط ،دار دمشق للطباعة والنشر ،دمشق ،ط ،0080 ،0ص:
.218
2عز الدين إمساعيل:آفاق معرفية يف اإلبداع والنقد واألدب والشعر ،النادي األديب الثقايف،جدة ،3112،ص.080 ،081:
148
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
"النسبية" اليت ليس من الضروري أن تتناقض و"املوضوعية" يف القراءة...من حيث ما تدل عليه هذه
وتتغري عالقات
الصفة من إمكانات حمتملة لدالالت النصوص املقروءة ،حني تتعدل مراكز الثقل ّ
الدوال ،ليربز إمكان داليل يف "األمامية" مزحيا غريه يف عملية حمكومة بشروط تارخيية بكل عصر من
ناحية ،وشروط معرفية خاصة بعمليات إنتاج املعرفة وعالقاهتا يف أنساق متشاهبة أو متضادة داخل
العصر من ناحية ثانية" .1هذه الشروط هي اليت ينبغي على الباحث والناقد ضبطها بشيء من
مدونة مهما كانت.
االتزان وعدم الشطط يف تفعيلها من أجل قراءة أي ّ
تكرس مبدأ الوصول إىل سرب كنه األشياء،
ومجلة اآلليات اليت يشتغل عليها الناقد هي اليت ّ
داخل نظام اللغة املتوسل هبا من قبل املبدع ،وهي اليت تدفع دالالت النص إىل الربوز والتجلّي ويف
الوقت ذاته تؤجل دالالت أخرى إىل قراءات مغايرة عن تلك اليت متت من قبل ،كل هذا جيعل من
مهمة الناقد ليس البحث عن ما قاله النص ،إمنا ما مل يقله هذا النص أو كيف قال هذا النص ما
قاله؟
ومجاع القول ،يعد طه حسين ناقدا متعدد املذاهب واالجتاهات ،بل قد راد كل املناهج
النقدية احلديثة بشيء من التحفظ تارة واجملاراة واجلراءة تارة أخرى ،الشيء الذي جيعل منه مدرسة
نقدية متعددة املناهج والتيارات ،ذلك أنه أسهم بشيء غري يسري يف إعادة بناء العملية النقدية
ودفعها ،ودفع من وراء ذلك آلية العقل لالشتغال من جديد بعد أن ركنت إىل القنوع واالستكانة
وقنعت بالقشور دون اللباب ،فأصبح عقال آليا ستاتيكيا ساكنا ،وهي العملية النقدية اليت كانت إىل
زمانه تكتفي من نقد النص اإلبداعي شعره ونثره ،قدميه وحديثه بشرح غريب ألفاظه وتفسري اليسري
من معانيه ،األمر الذي حتّم عليه ودفع به إىل حماولة إعادة قراءة هذا الرتاث الضخم قراءات
متعددة ،ال تقنع بقراءة أحادية وال ترضى بتلك النتائج اهلزيلة الظاهرة واحملدودة إذ "مل يعد اهلدف من
قراءة الرتاث – يف النمط اجلديد -استعادة املاضي ،مبا يقرتب به من قيم مجالية ومبادئ أدبية ،فقد
أضحت هذه املبادئ والقيم قرينة إطار مرجعي مرفوض .صار التمرد عليه قرين التحرر الفردي الذي
2
ينطلق من إطار مرجعي مضاد".
1جابر عصفور :قراءة الرتاث النقدي ،دار سعاد الصباح ،الكويت ،ط ،0000 ،0ص.51 ،20 :
2املرجع نفسه ،ص.0 :
149
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
هو األمر الذي نذر طه حسين نفسه القيام به ،فعملية التحرر من ربقة الرتاث بإعادة قراءته
واستنطاقه هي ما يدفع بالعملية النقدية بأمجعها إىل األمام ،وجعلها تساير كل مستجدات العصر،
وما متليه هذه املناهج الوافدة من الثقافة الغربية ،ومزاوجتها مبا للذات من إرث حضاري وثقايف
تستثمره يف حماولة النهضة ومسايرة األمم املتقدمة األخرى .لقد أصبحت قراءة الرتاث النقدي كما
يذهب جابر عصفور عملية تارخيية متكررة ّ
ومتغرية ،وذلك من حيث ارتباطها بطرح متجدد ألسئلة
أساسية ثابتة يف كل مرحلة أدبية ،أو مدرسة نقدية ،ومن حيث ارتباطها يف الوقت نفسه ،بإجابات
1
بتغري هذه املراحل واملدارس.
متغرية ّ
ّ
الباب الثاني:
شكري عياد ،احللقة النقدية الواصلة
الفصل األول :اخللفيات املعرفية-مرحلة البدايات
الفصل الثاني :بني البالغة العربية واألسلوبيات احلديثة
151
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
152
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يعترب تأثري طه حسين يف طلبته باجلامعة املصرية أعظم تأثري على مستوى بنية الفكر النقدي،
وتأسيس ذلك االنشغال الفكري الذي مل يعهده هؤالء الطلبة من ذي قبل ،فقد تغريت نظرهتم
لألدب ونقده انطالقا من تلك احملاضرات اليت كانت تلقي عليهم من قبل العميد ،والذي ش ّكل ما
ميكن اعتباره بادرة جديدة وبدعة حسنة تلقاها طلبته بكل جدية وحزم يقول شكري عياد باعتباره
أحد طلبة طه حسين يف وصفه لتلك املكانة اليت كان طه حسني يتمتع هبا بني طلبته "كان طه
حسني يتمتع بشهرة واسعة وميثل فتنة للشباب ،وحنن الذين تتلمذنا مباشرة على طه حسني ال ننسى
أننا كنا ال نعرف النظرة احلديثة إىل األدب والبحث األديب إال من خالل حماضراته وكتبه ،لقد منونا
يف ظله ،وكلنا أخذ منه شيئا أو أشياء ،ومنا من أسرف يف تقليده ال كما يقلد املرء أستاذه بل كما
يقلد الطفل أباه ،فإذا أخرج يف احلياة كان صورة من األدب ،حتتفظ بالقليل من فضائله والكثري من
1
عيوبه".
متيزت املرحلة األوىل من حياة شكري عياد بالثراء الفكري والنقدي على الساحة الفكرية
املصرية ،آنذاك وبرزت للوجود الكثري من املؤلفات اليت شكلت منعطفا حادا يف حياة الرجل،
وتنوعت هذه املدونات وتباينت أهدافها ومراميها من حيث دفاعها عن الدين اإلسالمي ،يف وجه
أولئك العلماء الذين حاولوا احلط من قدره ،والنيل من مبادئه فكانت كتابات محمد حسين هيكل
وأحمد أمين وطه حسين والعقاد من أبرز الكتابات يف تلك احلقبة ،وقد ع ّد هؤالء من أعالم
املدرسة احلديثة قبل عقدين من الزمن ،لكنهم عادوا كما يقول شكري عياد يف " أواخر أيامهم على
1شكري حممد عياد :عرض ومناقشة املرايا املتجاورة ،دراسة يف نقد طه حسني جلابر عصفور جملة فصول ،القاهرة،مج ،2ع،2
،0082ص.213 :
153
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الرتاث العريب القدمي إىل عصور اإلسالم األوىل يستمدون منها إهلامهم وكأهنم نفضوا أيديهم من
احلداثة اليت سلخوا يف الدعوة إليها .الشطر األكرب من أعمارهم ورجعوا إىل ما هنجه اجليل السابق
هلم من خطة األحياء والتجديد إال أنك تلمح يف كتاباهتم اإلسالمية نربة من احلنني إىل فردوس
1
مفقود ال جتدها عند أسالفهم".
امتدت املرحلة األوىل من حياة عياد واستظلت بضالل وارفة من النقد والفكر وخاصة الرتمجة،
اليت نقلت عيون اآلداب الغربية إىل اللغة العربية ،واضطلع هبذه املهمة مجع من املرتمجني خاصة
اجلامعني منهم ،والذين أفاد منهم عياد أّميا إفادة يف حتديد مالمح توجهه النقدي آنذاك ،وكانت
تلك الفرتة يف الثالثينيات واألربعينيات من القرن املاضي .يذكر محمد يوسف نجم أن اجلامعني قد
أسهموا يف دفع احلركة النقدية إىل جانب األعمال املرتمجة فقد" ترمجوا عددا من كتب النقد األورويب
منها ،فنون األدب لتشارلنت ترمجة زكي جنيب حممود القاهرة 0022وقواعد النقد األديب لالسل أبر
كروميب ترمجة حممد عوض حممد القاهرة 0022ومنهج البحث يف األدب لالنسون ترمجة حممد
مندور بريوت ،0022الذوق األديب الرنولد بنيت ترمجة الدكتور علي حممد اجلندي القاهرة 0052
والنقد األديب ومدارسه احلديثة هلامين ترمجة إحسان عباس وحممد يوسف جنم وترمجوا عددا من
النصوص األصلية يف النقد منها كتاب الشعر ألرسطو ترمجة إحسان عباس القاهرة وترمجة عبد
الرمحن بدوي القاهرة 0052وكتاب فن الشعر هلوراس ترمجة حممود الغول القاهرة 0025وترمجة لويس
عوض القاهرة 0022ومقالة بيفون عن األسلوب ترمجة أمحد أمحد بدوي القاهرة ،ومقالة شللي
الدفاع عن الشعر ترمجة نظمي خليل القاهرة 0022ومقالة هازلت عن الشعر ترمجة نظمي خليل
القاهرة 0022ومقدمة وردزورث للحكاية الغنائية ترمجة زكي جنيب حممود القاهرة 0052 ،وقد كانت
2
هذه الرتمجات املعني الذي استقى منه أكثر النقاد".
لقد آثرت أن أثبت النص السالف على طوله النسيب ألبرز العدد الكبري من الكتب واملقاالت،
اليت ترمجت يف الفرتة املمتدة بني الثالثينيات واخلمسينيات من القرن املاضي ،ومدى التنوع
البني على مستوى العناوين جلملة احلقول املعرفية والفكرية اليت تشتغل عليها ،وما من
واالختالف ّ
1شكري حممد عياد :األدب يف عامل متغري ،اهليئة املصرية العامة للتأليف والنشر ،دط ،دت،ص.02 :
2حممد يوسف جنم ،نظرية النقد والفنون واملذاهب األدبية يف األدب العريب احلديث ،مقدمة دليل ،دار صادر ،بريوت ،ط،3
،0085ص.53 :
154
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
شك يف أن شكري عياد قد أفاد فائدة كربى من مجلة هذه الرتمجات ،ذلك أهنا – هذه الكتب-
هي اليت وضعت األسس األوىل واملتعددة لدراسة األدب ونقده عند الرجل ،يأيت ذلك يف اعرتافه
الواضح بأمهيتها وتأثري بعضها يف مسريته النقدية ،ودورها يف إثارة القضايا النقدية الكثرية يف ذهنه منذ
املرحلة األوىل لإلطالع عليها ،ويتجلى ذلك يف اهتمامه بالرتمجة اليت قام هبا حممد مندور ألحد
الكتب الفرنسية سنة 0023يقول عياد " قرأت الرتمجة الرائعة اليت قدمها الدكتور حممد مندور
لكتاب ديهامل اهلام" دفاع عن األدب" وقرأت الدراسة املستفيضة اليت عرف هبا الناقد الكبري
"ديهامل لقراء العربية ،وعرفت أن ديهامل كاتب من أكرب الكتاب الفرنسيني املعاصرين ...أما
الكتاب نفسه "دفاع عن األدب" فلعلي ال أستطيع أن أحصي مدى تأثري به ،قد حتضرين منه فكرة
أثناء حديث أو مقال فأعزوها إليه ،ولكين ال أشك يف أن كثريا من األفكار اليت أقوهلا وال أعزوها
إليه –ألنين مل أعد أعرف أهي أفكاري أم أفكار ديهامل -قد فجرهتا يف نفسي قراءة ذلك الكتاب
1
العظيم".
أما البصمة األبرز يف حياة الرجل العقلية والنقدية إمنا استقاها من تأثره البالغ جبيل الرواد من
النقاد؛ أمثال أمين الخولي وطه حسين والعقاد وغريهم ،غري أنه يدين الدين كله يف مجلة من
مؤلفاته النقدية يف مرحلة البدايات ألستاذه الخولي ،الذي يعترب أحسن من صقل موهبة الرجل،
وأبان له طريق البحث خاصة فيما يتعلق باجلوانب الرتاثية ،يقول عياد عن أستاذه الخولي" :ينتمي
أمني اخلويل انتماء مباشرا إىل جيل الثورة العرابية ويستمد منابعه األوىل الشيخ حممد عبده وقد انفرد
أمني اخلويل عن سائر جيله ،مبا كان ينبغي أن يكون هو األصل :انفرد بالقوامة على تراث اجليل
السابق ،ينمي خري ما فيه ،يستكمل نواقصه ويصلح خطأه ،ويتطلع لتحقيق مامل يسعفهم زمنهم
بتحقيقه ،وبدال من أن يضع إحدى قدميه عل أرض الثقافة املصرية ،واألخرى على أرض الثقافة
الغربية ،آثر أن يثبت قدميه كليهما يف أرض بالده ،وميد عينيه إىل ما إىل الضفة األخرى ،فإن
2
أعجبه شيء أخذ منه بقدر ما يريد وحيتاج".
ميثل أمين الخولي منعطفا هاما على مستوى مسرية النقد األديب يف العصر احلديث ،وذلك
لتميزه عن غريه من النقاد الذي جايلوه ،فكان أن اختلف عن هذه الكوكبة من ناحية املنطلقات
النظرية والركائز املعرفية للعملية النقدية ،فكان تراثيا جدا لكن بعقلية الباحث والناقد العارف خببايا
العصر يف الوقت ذاته ،انطالقا من مقولته املشهورة "أول التجديد قتل القدمي حبثا" ،فلم يكن الخولي
ممن انبهر بالوافد من الثقافة الغربية ،بكل زمخها الفكري والفلسفي والنقدي ،بل اتسمت نظرته
بشيء غري يسري من الدعوة بالرجوع إىل األصل ،مع حماولة فهمه قصد جتاوز السائد واملتعارف عليه،
وحماولة إجياد بدالئل على مستوى النقد والتحليل جلملة من الظواهر األدبية والنقدية ،ابتداء باجلوانب
التعبريية لشؤون الدين .يتجلى ذلك يف تأطريه للعديد من البحوث اجلامعية على غرار رسالة "الفن
القصصي يف القرآن الكرمي" للدكتور حممد أمحد خلف اهلل 0050ورسالة "التفسري البياين للقرآن
الكرمي" للدكتورة عائشة عبد الرمحن .يقول عياد بشيء من املرارة عن املصري الذي آلت إليه مدرسة
التفسري األديب اليت يتزعمها الشيخ الخولي" :وال يزال املنهج الذي رمسه الشيخ وقدم غري قليل من
النماذج يف تطبيقه حمتاجا إىل أن يتجسد تفسريا أدبيا ينظر يف الكتاب اخلالد بعقلية العصر ومناهجه
1
يف الدراسة األدبية".
يظهر التحمس الشديد من قبل عياد للشيخ الخولي ومنهجه يف الدراسة املعروف بالتفسري
األديب للقرآن ،عند ما ظهرت تلك الدراسات اجلادة واحلديثة واهلادفة إىل جتاوز السائد من
الدراسات القدمية ،متمثلة يف دراسة بنت الشاطئ والدكتور محمد أحمد خلف اهلل والضجة املعرفية
اليت صاحبت صدور هذين العملني ملا عرضاه من جديد على مستوى آليات التحليل احلديثة ،اليت
تعزى يف الكثري منها إىل ابتكارات الشيخ اخلويل نظريا وصيحات املناهضني لكل عمل خالق أو
جتربة حية يقول عياد يف ذلك" :ارتبط اسم األستاذ أمني اخلويل بأكثر من دعوة واحدة يف جمال
الدراسة األدبية ،ارتبط مبا مساه التفسري األديب للقرآن الكرمي ،وأثار املشاغبون أعداء العقل ما أثاروا
من ضجيج حول هذا املنهج ،حىت نشر األستاذ أحاديثه "من هدي القرآن" ونشرت تلميذته بنت
الشاطئ كتاهبا "التفسري البياين للقرآن" بعد أن نشرت الرسالة اجلامعية األوىل يف التفسري األديب اليت
أعدت حتت إشرافه ،واليت أثري مبناسبتها كل ذلك الضجيج رسالة "الفن القصصي يف القرآن الكرمي"
للدكتور حممد أمحد خلف اهلل فعرف الناس ،أن صياح اجلامدين مل يكن خدمة للدين ،فما كانت
الدعوة إىل التفسري األديب للقرآن الكرمي ،غري دعوة إىل بذل شيء من اجلهد يف فهم الكتاب املبني
فهما ال يفق عند حدود التفاسري القدمية ،اليت ارتبطت معظمها – إن مل نقل كلها -بأساطري األمم
الغابرة ،وعقائد الفرق املتناحرة ،بل يتجاوز ذلك إىل استخدام األساليب احلديثة يف البحث اللغوي
1
واألديب ،مستعينا مبعارف العصر يف علم النفس وعلم االجتماع".
إن املنحى النقدي الذي حناه الخولي باعتباره أول اجملددين ،على مستوى البحوث الرتاثية اليت
أضحت دراسات دينية بامتياز ،هو نفسه املنحى والسبيل اليت تأثر هبا عياد يف مطارحاته الفكرية
والنقدية للمسائل الرتاثية ،مما جعل من عمليات التجاوز أمرا ال مناص منه على صعيد التحليل
واحلفر يف اخللفيات الفلسفية للرتاث العريب.
إن التشيع الواضح للخولي هو ما رجح كفة الدراسات احلديثة للنص املقدس /املعجز على
تلك الدراسات الكالسيكية له ،واليت تقنع يف العديد من املرات مبا مت التوصل إليه يف جمال التفسري،
دون أن يكلف هؤالء أنفسهم عناء البحث املثمر واجملدي ،والذي ينفتح على علوم العصر يف حماولة
فهمه وسرب أغواره وهي العلوم اليت كانت ركائز للخولي ولعياد من بعد ،يف حماولة كنه الظواهر
األدبية بنمط من الفهم يكون مغايرا ملا هو سائد ،وحماولة السري بالعملية النقدية قدما إىل مناطق
كانت جمهولة عند الكثري من النقاد والباحثني ،ويتقاطع عياد يف الدعوة إىل القراءة اجلديدة،
للنصوص مبا ألف فيما بعد على صعيد البحث والنظرية من حبوث كانت امتدادا واضحا خلطى تلك
املدرسة مدرسة اخلويل ومن بعده عياد مث نقاد آخرون.
يدافع عياد عن أستاذه يف العديد من احملطات املعرفية اليت صاغها ،ففي وقوفه إىل جانب
أستاذه فيما عرف "باملدرسة اإلقليمية لألدب" وينافح عن هذه التسمية املصطلحية مبعدا عنها أية
خصوصية وحساسية سياسية أو أيديولوجية ،يقول ":وحسب بعض الناس أن هذه الدعوة تعين
اإلقليمية السياسية وأهنا – كهذه -جيب أن ختتفي يف عصر القومية العربية ،والذين ظنوا هذا الظن
1شكري حممد عياد :جتارب يف األدب والنقد :دار الكاتب العريب للطباعة والنشر القاهرة ،0022 ،ص.22 :
157
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
هم من ختدعهم – أو تأسرهم -األمساء وال بأس عليهم أن يهامجوا املنهج اإلقليمي يف دراسة
1
األدب ،الذي ينعتونه اختصارا ب"اإلقليمية".
مث يضيف معرتفا "بأنه من أنصار هذا املنهج – اإلقليمي -سريا على خطر أستاذه يف قوله" :إىل
حد أن أصبحنا –حنن أنصار املنهج اإلقليمي يف دراسة األدب -نرى من الضروري أن نكمل هذه
الدراسات بدراسات أخرى تتتبع احلركات األدبية املشرتكة يف شىت أرجاء العامل العريب ،فليست
2
الدعوة إىل "منهج إقليمي يف دراسة األدب "إال دعوة إىل املنهج العلمي يف دراسة األدب".
رمبا يعين عياد بالدعوة إىل املنهج العلمي يف دراسة األدب إىل ما مت استقباله من دعوات
حديثة يف كيفية الدراسة واملساءلة ،وهي استبدال الدراسات التحليلية اليت تنحو منحى سياقيا إىل
تغيريها والثورة عليها ،واستبداهلا بالدراسة النسقية اليت ترى يف النص بنية مغلقة تدرس لذاهتا ومن
أجل ذاهتا ،وهي الدعوة اليت ازدهرت مع بروز جنم اللسانيات يف العامل الغريب مث ثورة مدرسة
الشكالنيني الروس الذين دعوا إىل دراسة النص بعيدا عن مجلة السياقات اليت حتيط به 3.باعتبار أن
الدراسات السابقة عن الشكالنية مل متارس النقد إمنا مارست علم االجتماع ،وعلم النفس والفلسفة
والسياسة وغريها من احلقول ،اليت ضاع النص يف غياهيبها ،فكان أن اجتهت الدراسات يف هذا
االجتاه ،وهي الدعوة إىل علمنة األدب أو علمية األدب .مبا أن الوظيفة األوىل للخطاب تكمن يف
اجلانب التواصلي التبليغي ،فزاد عنها أن ازدوجت هذه الوظيفة فأصبحت إضافة إىل عملية التواصل
والتبليغ يضطلع اخلطاب بإبراز الوظيفة النقدية أو اجلمالية ،اليت تتكشف وراء البنية الكلية له،
انطالقا من انسجام هذه البنيات واتساقها ،فلم يلبث عياد أن دعا إىل مثل هذه الدراسات تأثرا
باجلديد على الساحة النقدية العاملية ،دون أن حتصل تلك القطيعة املعرفية كما نادى هبا غريه من
النقاد العرب احملدثني.
ورمبا يقصد عياد بالدراسة العلمية لألدب ما كان دعا إليه يف مؤلفه "دائرة اإلبداع" من ضرورة
التفريق بني مناهج الدراسة األدبية ،ووقوفه بشيء من اإلسهاب عند تقسيمات النقد العاملي إىل
كالسيكي ورومانسي ،وتفريقه بني العلم والفن وبني األحكام اخلاصة واألحكام العامة ،ودراسته
لطروحات العديد من النقاد على غرار ت .س إليوت وكلينيث بروكس ومقوالهتما النقدية مما
حدى به إىل االنتصار ألصحاب املذهب الكالسيكي من غري إسراف يف ذلك.
تتميز نظرة عياد إىل مجلة االجتاهات النقدية بأهنا نظرة معتدلة يف طرحها ويف نتائجها ،ذلك
أن الرجل يقف عند كل اجتاه مبديا خطواته العامة يف قراءة النص األديب ،بدءا باالجتاه الكالسيكي
الذي ينضوي حتته ما عرف فيما بعد بالنقد اجلديد ،مبديا يف كل طرح وجهة نظره اخلاصة من مجلة
القضايا النقدية الشائكة ،وحماولة معاينة الظاهرة موضوع البحث ،واخلروج من هذه العملية بطائل
نقدي ميكن االرتكاز عليه يف تبيان حدود النظرة النقدية اليت متيزه عن غريه من النقاد.
يؤسس عياد ملرجعيات النقد الكالسيكي بأرسطو وتنظرياته يف جمال علم الشعر ،ويتتبع تلك
الشروط اليت جعلها أرسطو للشعراء ،قصد حتسني هذه الصناعة فتلفى يف مؤلفه عبارات من قبيل
"ينبغي للشاعر" و"جيب على الشاعر" فكانت مبثابة األسباب الرئيسية لضبط الصناعة الشعرية عند
اإلغريق ،مث من تالهم من الرومان ممثال يف أحد أتباع أرسطو وهو هوراس مث انتقاال إىل بوالو
الفرنسي وبوب اإلجنليزي ،وكل هؤالء ال يكاد نقدهم خيرج عن احلدود اليت رمسها املعلّم األول ،مث
يتتبع عياد تأثري أرسطو يف أعالم النقد العريب القدمي ،ويقف عند أصحاب املعقول ممثلني يف
طروحات قدامة بن جعفر وأصحاب املنقول الذي ال يكادون خيتلفون كثريا عن أصحاب التيار
األول ،فإذا كان أصحاب املعقول هم خري من تأثر بأرسطو ،فإن أصحاب املنقول كذلك مل خيرجوا
من موقف النقد الكالسيكي ،ذلك أهنم هم الذين وضعوا قواعد لعمود الشعراء وقوانينه ،ومل خيرجهم
تقدميهم للذوق من املوقف العام للكالسية يقول عياد " :ولعل هذه السمة املشرتكة بني الفريقني
159
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
راجعة إىل أهنم عاشوا يف ظل جمتمع ذي قيم ثابتة ،والثبات هنا ال يعين القوة دائما ،وإمنا يعين أننا ال
1
نعثر على أية حماولة جادة إلحالل قيم أخرى حمل تلك القيم".
تعترب هذه النظرة ذات أبعاد حضارية راسخة رسوخ املبادئ اليت اتكأت عليها باعتبار أن من
مهوم الناقد أو املفكر تتبع مثل هذه الظواهر ،اليت حتدد جماالت البحث دون أن تتعدى ذلك إىل
وضع قوانني تدرس مبوجبها عملية منو اجملتمعات واحنالهلا ،ويضيف عياد يف وضعه ذلك التحديد
للموقف النقدي الذي ينبع "من ظروف حضارية تشمل األحوال السياسية واالقتصادية للمجتمع
كما تشمل املعتقدات وطريقة التفكري وأمناط السلوك الشائعة فيه؛ أي أن مردها يف النهاية إىل القيم
2
السائدة يف اجملتمع".
املوجه األساسي للعملية النقدية عنده ،وبقدر ما تتميز بالثبات هذه القيم واملبادئ هي ّ
واالستقرار ،هي كذلك املدوزنة لعملية النقد ولطريقة التفكري وكذا حتديد أمناط السلوك السائدة.
ينتقل عياد إىل الوقوف عند اجتاه آخر ينضوي حتت عبارة النقد الكالسيكي – يف نظره-
وهو النقد اجلديد ،الذي محل مسات الكالسيكية على الرغم من وجوده يف عامل غري مستقر ،وجمتمع
ذي قيم غري ثابتة ،ويعلل بروز هذا االجتاه بأنه رد فعل جلملة من االجتاهات اليت أفرزهتا حركة الواقع
فهو الذي يرى " أن االضطراب السياسي واالجتماعي قد أدى إىل ظهور أشد املذاهب السياسية
االجتماعية إميانا بالسلطة ،وهو املذهب الفاشي ،فال حمل للعجب إذا من عودة الكالسية يف عصر
3
اضطربت فيه القيم األدبية والفنية اضطرابا مل يسبق له نظري".
إن ما يؤكد الناقد على تبيانه يف وصف جممل هذه االجتاهات ،هو إبراز قيمة كل اجتاه نقدي
ومرجعياته الفكرية ،اليت يستند عليها ،ودعاواه يف معاجلة النصوص األدبية ،ونوع النتائج اليت يتحصل
عليها ،كل ذلك يف بسط نظري مسهب يتناول فيه عياد مجلة هذه االجتاهات ،معرضا إياها على
حمك النقد البناء .ففي تربمه مبقوالت النقد اجلديد أو ببعض هذه املقوالت اليت بالغت يف دعوى
العلمية ،أي علمية النقد مما حتم جفاف الدراسة النقدية ،وحتت هذا الشعار يكتب عياد قائال:
1شكري حممد عياد :دائرة اإلبداع -مقدمة يف أصول النقد ،-دار إلياس العصرية ،القاهرة 0082 ،ص.32 :
2املصدر نفسه ،ص.31 :
3نفسه ،ص.32 :
160
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
"يؤخذ على النقاد اجلدد أهنم بالغوا يف تأكيد ما مسوه "أدبية األدب" إىل درجة عزل العمل األديب
عن مجيع املؤثرات اليت خترج عن نطاق األدب نفسه ،وبذلك ذهبوا يف جتريد الظاهرة األدبية إىل حد
فصلها عن القيم" اليت هي األصل يف وجودها أو ربطها بنوع واحد من القيم وهو القيم اجلمالية
(الشكلية ،مثل التوازي ،التقابل ،التكرار...اخل) مع إدعاء أن هذه القيم ال تتأثر بالتغريات
1
االجتماعية".
تعد مقولة األدبية من أشهر املقوالت النقدية عند النقاد الشكالنيني ،واليت برزت إىل عامل
النقد مع طروحات أصحاب االجتاه الشكلي مث كانت امتدادا فيما بعد مع ظهور املد البنيوي ،إذ
تعين األدبية يف أبسط تعريفاهتا كما عند رومان جاكبسون" موضوع علم األدب ليس هو األدب
ولكن األدبية ( )La littéraritéأي ما جيعل من عمل ما عمال أدبيا" 2.وذلك انطالقا من اللغة
األدبية الفنية اليت تلفت النظر إليها قبل أي شيء ،وتتجاوز اللغة العامية اليت من مهامها التبليغ
والتوصيل فقط ،والشكالنيون برتكيزهم على هذا االهتمام باجلانب الفين يف دراستهم للنصوص،
قادهم "إىل أن يعاملوا األدب بوصفه استعماال خاصا للغة حيقق هلا التمييز باحنرافه عن اللغة العملية
املشوهة" 3.وهو التباين الناجم عن منطلقات لغة الفن واللغة العامية ،أضف إىل ذلك املقاصد
واألهداف اخلاصة بكل لغة.
تعترب الدراسة من الداخل اليت نادى هبا أصحاب تيار النقد اجلديد ،من الصيحات النقدية
احلديثة اليت متايزت يف منطلقاهتا كما يف مراميها عن الدراسة اليت سبقتها ،ممثلة يف مقوالت النقد
الرومانسي ،الذي دعا أنصاره بالرجوع إىل العامل الداخلي للذات ،بعد أن فشل العلم مبوضوعيته يف
الوصول إىل احلقيقة ،ومتايزت الدراسة من الداخل كذلك عن دعوات الشكلية الروسية ،إمنا تتمحور
دعوات النقاد اجلدد حول نظرهتم إىل القصيدة مبعزل عن املؤشرات اخلارجية ،وذلك باعتبارها عاملا له
كيانه املستقل عن صاحبه وعن كل السياقات اليت حتيط به ،ومن شأهنا أن تغري نوع الدراسة املتوخاة
وكذا نوعية النتائج املتحصل عليها ،ليغدو النقد بذلك "عمال موضوعيا جيعل هدفه فحص النص
1
الشعري ،والنظر إليه على أنه كيان جديد ،خمتلف عن كل مادة أولية ميكن أن تسهم يف تكوينه".
تعترب اجتهادات شكري عياد يف جمال النظرية النقدية إسهاما جادا يف حماولته بناء منظومة
مفاهيمية ترتكز على مقوالت البالغة العربية القدمية ،وتتوق إىل بسط نفوذها املعريف على الساحة
النقدية املعاصرة ،من خالل إثراء هذه املقوالت بطروحات النقد املعاصر ،السيما ما أتت به
األسلوبيات احلديثة يف جمال التنظري والتطبيق ،غري أن هذه احملاوالت – على ثرائها وخصوبتها -يعوزها
الضبط املنهجي الدقيق ،وحماوالت التوليف بني الرتاث واحلداثة ال ختلو من مزالق التلفيق أو يف
أحسن األحوال ال تزيد عن ترمجة الوافد من الثقافة الغربية ،يقول أحد الدارسني " :مثل هذا اجلمع
كثري يف خطابات نقد النقد والتنظري وأكثر ما يكون يف بعض مناذج اخلطاب التعليمي ،الذي يتوق
إىل التنظري ،ولكنه يقع عموما يف العرض النظري ،مثل ذلك عند من يتصدى ملا يسميه "نظرية
األسلوب" اليت يتم التعبري عنها بتقدمي معلومات مفصلة حبسب املباحث (الفصول) اآلتية :فكرة
األسلوب عند األدباء ،علم اللغة ،وعلم األسلوب علم األسلوب والنقد األديب وتاريخ األدب ،علم
األسلوب وعلم البالغة ،ميادين الدراسة األسلوبية ،كيف نقرأ النص الشعري 2".تتألف النظرية من
أمشاج متفرقة من أفكار ومبادئ وتعاد صياغتها وفق رؤية معينة مما يربز نظرية مغايرة ملا تآلف سابقا
ألن النظرية ":تتأسس على (التجميع) و(الرتكيب) من أشتات متفرقة ومتباينة وقد يكون التباين بني
3
مصادر أجزائها شديدا إىل درجة التناقض فيما بينها".
انطالقا من هذا التجميع والرتكيب تتشكل النظرية وفق آلية اجلمع والتنظيم ،وإال استحال
– األمر إىل خلط وجتديف ورمبا يصل إىل حد التناقض يقول عبد اهلل الغذامي ":إن صناعة النظرية
عندي -عمل يشبه عمل الشعر عند ابن رشيق الذي يقول إن الشعر كالبحر أهون ما يكون على
1حممود الربيعي :مداخل نقدية معاصرة إىل دراسة النص األديب ،جملة عامل الفكر ،الكويت ،يوليو/سبتمرب -أكتوبر /ديسمرب
،0000مج،32ع ،0ص.22 :
2حممد الدغمومي :نقد النقد وتنظري النقد العريب املعاصر ،منشورات كلية اآلداب ،الرباط ،مطبعة النجاح اجلديدة ،ط،0
،0000ص. 038 :
عبد اهلل حممد الغذامي :ثقافة األسئلة -مقاالت يف النقد والنظرية ،-دار سعاد الصباح،الكويت،ط ،0002 ،3ص02 :
3
162
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
اجلاهل أهول مايكون على العامل وأتعب أصحابه قلبا من عرفه حق معرفته ويقول أيضا :عمل الشعر
على احلاذق به أشد من نقل الصخر ،وكذلك هو العمل يف النظرية ويف كل فكر جاد ،واليستهرت
بذلك أو يستقله إال اجلاهل كما يستهرت بالبحر .أما العامل الذي اكتوى بنار املعرفة فإنه يعرف كيف
1
يكون التعب والنصب".
وتأسيسا على ما مت ّّ ،تتعدد مفاهيم النظرية من سياق أديب أو نقدي إىل آخر ،ورمبا محل
املصطلح الكثري من املدلوالت واملعاين اليت تند عن احلصر ،فمنها مثال ما حييل إىل دالالت عامة
تعرض املصطلح إىل الكثري منومنها ما حييل إىل دالالت نسقيه تعين وجود أفكار هلا خصوصيتها ،و ّ
التخريج يف حماولة ضبط املفهوم وحصره ،إال أن حدود املصطلح بقيت عائمة وأثرية وتأىب أن تضبط
يف حدود متيزها عن غريها من املفاهيم واملصطلحات ،وال ميكن أن تكون النظرية "تامة أوكاملة،
مثلما أن اهتمام املرء ،يف احلياة اليومية ال تستنضبه ،أبدا ،الصور الزائفة ،والنماذج ،أو التجريدات
2
النظرية املستخلصة منها".
ينفي ناقد آخر أن يكون مصطلح نظرية مؤطرا تأطريا هنائيا ،حيث يلغي كل زيادة خارج
املفهوم فيقول ":ال أود أن أقول أن النظرية هي حامل احلقيقة املطلقة ،فنظرية النقد ال تظل جديرة
بامسها إال يف نقصها املستمر ،أو لنقل إن جوهر النقد يرفض كل نسق "كامل" أو متكامل ،ألن
املمارسة األدبية تظل أكثر خصبا وتنوعا من النسق النظري ،ومع ذلك ،فإن "نقص النقد" ال ينفي
3
مفاهيمه وال يلغي شرعية هذه املفاهيم وقدرهتا على إطالق األحكام".
من مجلة الشروط املعرفية اليت تواكب ميالد النظريات النقدية ،هو التمثّل الدائم ملفاهيمها
ومصطلحاهتا ،وهو األمر الذي ينجر عنه حماولة لتجاوز الراهن من العملية النقدية ،والتطلع إىل
املأمول واملنتظر منها ،دون االنتقاص من جهود األنا املنفعلة يف حماولة صياغتها لنظرياهتا ،واليت رمبا
ال تكون ذات خصوصية عالية حبكم عاملية املسألة وإمنا إسهاما منها يف صناعة املعرفة البشرية ،ألن
،0080ص.012 :
163
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
النظريات "أنظمة قابلة للتحاور ،لكن التحاور بينها مشروط ،وأي نظرية ميكن أن تنتج عن احلوار متر
عرب الوعي خبطورة التلفيقية وعدم مشروعية االنتقائية حىت يتولد مشروع ممكن يستهدف إجياد
1
"نظرية" جامعة".
غري أن عملية مسايرة اآلخر الغريب وحماولة مواكبته يف كشوفاته النظرية واملمارسية ،هو
العمل اجلوهري الذي ندب الكثري من النقاد العرب احملدثني أنفسهم على القيام به وتصريف كل
جهودهم النقدية يف إحيائه وبعثه ،وتنكشف األنا الرتاثية ممثلة يف أقطاب الفكر واملعرفة يف الرتاث
أصل له شكري عياد فمايز العريب واإلسالمي ،وتبدو جلية مالحمها يف البسط املعريف التنويري الذي ّ
بني فريقني هنضا بعبء التغيري الذي مارساه على الواقع الثقايف العريب إبان الغزو الغريب لبالد العرب،
ويلوذ الرجل بأقطاب الرتاث الفكري العريب قصد املخالفة وليس املقايسة واملماثلة ،بل بغرض الفهم
والتمثل والتجاوز ،يقول ...":وكان سالحهم الفكري األول يف هذه املعركة هو تراث العرب
العقالين ،فبهذا الرتاث وحده استطاعوا أن جياهبوا حضارة الغرب العقالنية مل تكن تستطيع أن تلقى
2
رينان إىل بعقلية ابن خلدون".
وهو حتد وقع صداه على عاتق الرواد األوائل يف عصر النهضة ،ذلك ألهنم مل ينكفئوا على
أعقاهبم بسبب وجلهم بالغريب الوافد إمنا وجدوا مالذا آمنا يف تراثهم العتيد فرجعوا إليه قصد مسايرة
الواقع وعدم الوقوع يف مطب االنبهار مبنجزات الغرب سواء املادية أو الفكرية.
يد ّشن شكري عياد نظرته إىل واقع الثقافة العربية اليوم ،من منظور الباحث احلصيف الذي ال
يألوا جهدا يف حماولة كشف أسباب النكوص ،اليت أدت إىل ضعف النتاج الفكري والثقايف لألمة
العربية يف العصر احلديث ،مربزا أهم العوامل اليت دفعت بالرواد من أمثال الطهطاوي وغريه إىل
االنبهار أوال مبا عند الغرب ،وثانيا حماولة حماكاة نتاجاته اإلبداعية واملادية يف احلياة اليومية للفرد
العريب ،وبعدما أزاح الستار عن هذه األسباب الكامنة وراء التشظي الذي أصاب الذات العربية،
وجعلها أسرية النظرة التقديسية لكل ما يصدر عن اآلخر الغريب ،بعد هذا راح يبحث عن أجنع
السبل للنهوض هبذه الذات يف جماهبة اآلخر ومن مث حماولة رسم معامل للطريق رمبا تُـيَ ّسر الدرب
التغري مطابقا
للمسري "ولكن اجملتمع العريب يسري اآلن بشحنة ضخمة من قوة اإلرادة حنو جعل ّ
1
للوعي".
إن الوعي الذي يرمي إليه عياد ،ليس الوعي الزائف أو املمكن الذي من شأنه أن يضلل الفرد
وجيعل من قيمة وجوده مفرغة من حمتواها ،بل ذلك الوعي بالذات العربية يف وجودها وإنتاجها
وفكرها ويف كل ما متتلك ،بعيدا عن اإلهبام واألوهام اليت رمبا كانت الذات العربية ضحية من
ضحاياها بعد أن م ّكن الوهم لنفسه من السيطرة عليها ،ذلك الوعي املقصود باجلانب األنطولوجي
للفرد العريب ويف كيفيات التفريق بينه وبني غريه ،ال على اعتبار أن العريب بالضرورة هو أقل حظا من
الغريب يف األخذ بأسباب التقدم والرقي ،بل يف كيفية استثمار هذه األسباب الدافعة إىل التغري من
حال إىل آخر ،األمر الذي حدا به إىل حماولة الدعوة للذود بالرتاث الفكري لألمة العربية ،والدفع به
التغري الذي يدعو له وينافح
من جديد يف عملية إحياء ملا هو قدمي قصد جماهبة الوافد بالرصني ،وهو ّ
عنه؛ ذلك ألن " :كل جديد يف ذلك التغري يزيد تنبه الوعي ويوسع قاعدته فيدفعه إىل حتقيق تغري
2
أكرب ،وهذا الدفع املتبادل الذي أشرت إليه ،وهو دليل يقظة شاملة وبناء مادي وروحي متكامل".
يعرتف عياد بصعوبة التغري املنشود باعتبار الرتاكمات املعرفية والثقافية اليت ترسبت يف الوعي
العريب عرب حقب زمنية سحيقة ،األمر الذي جيعل عملية التغري أشبه باملغامرة البطولية اليت تتطلب
نوعا من اجللد والصرب ،وحماولة التجاوز احملفوف مبعيقات التقديس ومنطية التفكري ،يقول":وألن
التغيري ال يتم بسهولة ،فهناك قدر من البطولة يلزم إلمتامه ،وهذه البطولة تتفاوت مستوياهتا كما
تتفاوت جماالهتا إال أهنا تظل دائما بطولة كلما أثبتت قدرة اإلنسان على تغيري جمتمعه وتغيري نفسه
3
أيضا".
تتعاظم النظرة النقدية الفاحصة عياد عندما يعمل آلة النقد البناءة يف كشف املخبوء واملسترت
من معهود األدب يف العامل العريب ،وتتجلى هذه النظرة يف نزع رداء التدثر عن بعض األنواع األدبية
السائدة ،فيجعل منها مسرحا لعمله النقدي احلصيف ،وحماولة بلورة وترتيب هذه األنواع تبعا للفاعلية
االجتماعية اليت تنهض مبقاربتها " فتصوير اإلنسان جبميع جوانبه هو مهمة األدب احلق ،األدب
اخلالص ،الذي يعرب عن بعض احلياة يف خيال األديب ،وهذا األدب وحده هو الذي يؤثر يف القراء
تأثريا عميقا فيجعلهم يشعرون بنبض احلياة من حوهلم كما شعر األديب هبذا النبض ...أما أدب
ميس من نفس قارئه إال السطح
الدعاية الذي يصور سطح احلياة فقط ،ليقول درسه وينتهي فإنه ال ّ
1
أيضا".
إن مصطلح األدب اخلالص الذي ّبوأه عياد مكانة هامة يف مشروعه النقدي ،وجعل منه
املنهج الواضح للخروج من ربقة األدب يف عمومه ،هو ما شكل دعوة صرحية من قبل الناقد
لالحتفاء به والتشيّع له ،ألنه ينهض على مالمسة مهوم القارئ العريب الذي جعله الناقد قطبا هاما يف
معادلة تدور حول كيفيات إصالح وتصوير اجملتمع باعتبار أن األدب بنية فوقية تؤثر ال حمالة يف
باقي البنيات األخرى ومن ضمنها اإلنتاج املادي والثقايف يف إطالقه.
أما كيفيات التصوير الكفيلة بإخراج القدمي يف ثوب اجلديد ،فهي من مهام اللغة اليت جيب أن
تتطور وتساير هذا الركب املعريف ،واليت رمبا احتاجت إىل هذا التجديد والتطوير بفعل الثورة العلمية
والفكرية لألمة يف زخم التطور احلاصل من قبل اآلخر الغريب ،وانعكاسات ذلك التطور على األنا
الشرقية ،هذه اللغة هي مفتاح املسايرة وهي الكفيلة خبروج الذات من براثن التبعية والتخلف إىل
فضاءات أرحب من املدنية املتحضرة ،ويف الوقت ذاته ال ينبغي أن تتم عملية تطوير وحتديث اللغة –
باعتبارها رمزا من رموز اهلوية -يف برتها عن أصوهلا املرتسبة منذ آالف السنني ،بل تتم هذه العملية
بفعل التغيري املتاح يف عملية مكوكية ترجع باللغة إىل أصوهلا يف حبل معريف ال يقبل االنقطاع ،ويف
الوقت نفسه تش ّد طرف احلبل إىل احلاضر واملستقبل ،وكأن املاضي هو الوصي الوحيد على عدم
ضياع هذه اهلوية " وهلذا حيتاج األدباء يف كل عصر إىل أن حيدثوا شيئا عجيبا يف اللغة ،حيتاجون أن
2
جيددوها ،وجيعلوها بنت اليوم دون أن حيطموا عالقتها األصيلة اليت ترجع إىل مئات السنني".
النقد االجتماعي لألدب كما مارسه عياد على رواية زينب ،وإبداعات وترمجات املنفلوطي هو
ما اصطلح عليه بالنقد السوسيولوجي ،ففي قراءته لرواية زينب يلجأ الناقد إىل ما توافر لديه من
آليات قرائية زاوجت بني الرتاث واحلداثة ،يف مواءمة فريدة مسحت له بتجاوز هذا الواقع املرير الذي
كشفه يف قراءته إىل حماولة الوصول بالقراءة إىل االنعطاف هبا عن ما سجلته من مواقف حادة،
شكلت زينب قطب الرحى فيها مع حماولة إثارة القارئ واستمالة عطفه ومواساته لبطلة الرواية –إن
كانت زينب بطلة مبعايري النقد السيميائي -وكيفية معاناهتا من السلطة البطريركية للمجتمع العريب
األبوي آنذاك ،يقول عياد "فهي ّ
تزوج دون إرادهتا كما تزوج عزيزة دون إرادهتا وال يفكر أحد أن
يستشريها يف أمر نفسها ،وإمنا هي كاملتاع تنقل من بيت إىل بيت وخييب أمل زينب يف احلياة وتذبل
1
نفسها احلساسة كما تذبل الزهرة الرقيقة ،ومتوت روحها قبل موت اجلسد".
غري أن الالفت للنظر يف قراءات عياد للرواية والقصة املصريتني هو احتكامه إىل حاسة الذوق
الفين ،أثناء عملية القراءة وعدم إتباع أو تطبيق آليات منهج نقدي بعينه ،إمنا هي حماولة منه إىل
الوقوف عند املناحي الفنية يف األثر انطالقا من شكلها ،أي شكلنة الواقع الفين مع إعطاء اجلانب
املضموين حصته من العملية النقدية ،اليت هي يف حقيقتها حمكومة مبرجعيات قرائية هي مزيج من
الرتاث واحلداثة ،وحتتم على القارئ الوقوف عند املنعطفات احلادة اليت متيز قراءة عن أخرى ،ويف
الكثري من األحيان يلجأ الناقد إىل حتكيم مقوالت النقد االجتماعي قصد تفسري وحتليل هذه اآلثار،
دون أن يلزم نفسه عناء املكاشفة املنهجية عند هذه األعمال ،ويف الوقت نفسه هو موقف موازن بني
هذه اآلثار من حيث الشخصيات الفاعلة ومناط احلكي حول مقابالت هذه الشخصيات يف العامل
والواقع " إن مشروع عياد السابق يف طرح مفهوم التذوق ومعرفة القيمة ،ترديد ملعطيات املنهج
التأثري واالنطباعي فضال عن اجلمايل يف النقد ...وتلك املعطيات قد ال تستطيع حتمل مشاق النقد
املعاصر أو الصرب على أعبائه ،ألن الساحة النقدية املعاصرة قد جتاوزت مفاهيم االستجابة الذاتية أي
اإلسقاط اخلارجي على النص ،واستبدلتها مبفاهيم حتليل البىن واألنساق والرتاكيب واألنظمة النصية
2
واملستويات الداللية ونظم العالمات وإحياء العالمات"
لقد اعتمد الناقد اعتمادا كليا يف إصدار أحكامه النقدية ،على ملكة الذوق بشكل مباشر،
خاصة يف مرحلة البدايات النقدية له ،ووضع مجلة من املسلمات لبلورة مشروعه النقدي وهي
كاآليت:
-0الشعور بالقيمة أصيل يف فطرة اإلنسان ،ومتميز ومتقدم على الشعور باملنفعة.
-3يرتتب على ذلك أن الشعور بالقيمة واحد يف البشر ال خيتلف جوهره وإن اختلفت
مظاهره.
-2الشعور بالقيمة قابل للتحليل حبيث ميكن فهم جوهره ،لو أن هذا الفهم يتجاوز حدود
املاهيات والوظائف.
-2الشعور بالقيمة قابل للتدريب من خالل إدراك مظاهره وإدراك عالقته بتلك املظاهر.
إال أن هذه املسلمات حتتاج إىل إعادة نظر من جانب أن اإلحساس بالقيمة شيء رمبا ال
يكون أساسيا عند اإلنسان عامة واملبدع بوجه خاص.
ويصف عياد هذه املسلمات أيضا بأهنا مسلمات علمية تسهم إسهاما هاما يف عملية
التحليل ،وأن منهجها البد أن يعتمد على التجربة اجلمالية ،وهي خربة مشرتكة بني الكاتب والقارئ
– وهنا ميكن االستفادة من طروحات نظريات االتصال والتداول ،-ورمبا تندرج هذه التجربة حتت
مصدر هام من مصادر علم اجلمال كما عند كروتشه ( )Croceوشوبنهاور (،)SHOPENHAUER
لب الرسالة اإلبداعية ،لذلك جيب الرتكيز على إضافة إىل أن التجربة اجلمالية عند عياد هي ّ
اكتشافها ومعرفتها باعتبار أن التجربة اجلمالية خاصة باملبدع كما هي خاصة باملتلقي على السواء،
وهو ما يعرف بعلم اجلمال اخلاص باملتلقي أو علم اجلمال التجرييب 1،وتعتمد التجربة اجلمالية
1ملزيد من التوضيح حول اإلجتاهات النظرية والتجريبية يف علم اجلمال احلديث ،ينظر :راوية عبد املنعم عباس ،القيم
اجلمالية ،دار املعرفة اجلامعية ،اإلسكندرية ،0082 ،الفصل اخلامس ،ص.300 ،322:
168
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
كذلك يف شق آخر على اجلانب اإلدراكي الذي يعضد جبانب تفسريي ،أي أن تتماشى عملية
1
اإلدراك مع عملية التفسري للوصول إىل معرفة أسرار عملية اإلبداع.
ومن شروط العملية اإلبداعية يف جمال النقد عند عياد أن يعتمد الناقد اعتمادا أساسيا على
الذوق ،إذ يؤكد أن الذوق ال يرتك على سجيته ،وال متنح له الدميقراطية بأبعادها ،بل أن حريته تكمن
يف تلمس القيمة أو القيم اليت متثل معان تستحسن لذاهتا ،أو تستحسن وهي متضمنة نصوصا
2
إبداعية.
ليس هناك شك يف أن املزالق اخلطرية اليت وقع فيها العلم احلديث كان خطرها كبريا على
اإلنسان ،نظرا للطابع املادي البحت الذي هنجه رواد العلم وطالبوه ،فلم يعد اإلنسان حباجة كبرية
إىل إجنازات بعض العلوم نظرا ملبدأ التشيء الذي أصاب اإلنسان جراءه ،واملؤسي يف األمر كله أن
صنمية هذه العلوم وآليتها هي ما أوصل إنسان العصر احلديث إىل نبذ هذا العلم وحماولة إجياد بدائل
الئقة لعملية البحث ،يكتب شكري عياد مربزا النافع من العلم دون أن حيصره يف اليقينيات النهائية،
يقول" :كلمة العلم ميكن أن تطلق على كل معرفة منظمة ،أو كل معرفة نافعة ،وبعض الناس
يتصورون أيضا أن املعرفة جيب أن تكون يقينية لتكون علما ،ولكن من املرجح أن جيمع كل هؤالء
على أن العلم مبوضوع ما جيب أن يشتمل على قضايا كلية ميكن أن نسميها أحكاما عامة ،أو
3
قواعد ،أو قوانني ،تنطبق على كل حالة خاصة ميكن أن تعرض مما يدخل حتت هذا املوضوع".
يتناول عياد قضية العلم احلديث من منظور الناقد احلصيف الذي يزن األمور مبيزان التبصر
والتعقل ،وال جياري أصحاب الدعوات املتعاملة يف إثبات أو نفي صفة العلمية على أمور رمبا تقبل
هذا التوصيف أو تنفيه ،وهو يؤسس لشرعية مفهوم العلم ويقيمه داخل مبادئ التفكري العلمي،
ويرمي من خالل ذلك إىل إثبات صفة العلمية على الكثري من إجنازات البالغة العربية القدمية يف
طروحاهتا املنهجية إبان عصورها الزاهية ،دون أن يقصر صفة العلم على الدراسات احلداثية فقط ،إمنا
1ينظر شكري حممد عياد :بني الفلسفة والنقد ،منشورات أصدقاء الكتاب ،القاهرة ،0001 ،ص.52 ،50 :
2ينظر شكري حممد عياد :دائرة اإلبداع ،ص.28 ،22 :
3شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،عامل املعرفة ،اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب،
الكويت ،سبتمرب ،0002ع ،022ص.05 :
169
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تنسحب العملية على رقعة زمنية واسعة ،يضيف عياد إىل أن الدارس األديب" إذا نظر إىل عمله على
أنه وضع قواعد واكتشاف قواعد كانت وجهته األوىل يف تناول األعمال األدبية اخلاصة هي تقييم
1
هذه األعمال ،أي احلكم مبدى مطابقتها للقواعد"
املوسع هذا ،يؤسس لشرعية التجريب يف العلوم رمبا جنانب الصواب إذا فهمنا أن تعريفه ّ
اإلنسانية ،غري أن ما ميكن الركون إليه هو عدم التصديق بأن هذه الشرعية تنتفي إبان القيام
بعمليات نقدية إلبداعات إنسانية موضوعها اللغة ،وهبا تتكون مادهتا األساسية ،ألن تفسري الكثري
من الظواهر األدبية أو النقدية ال ميكن فيه الوثوق بنتائج العلوم التجريبية فيها ،بقدر ما يصل الناقد
إىل تقريبات منهجية لنتائج حمتملة ألهنا ببساطة ال ختضع للتجريب والقياس العلمي كغريها من
العلوم الطبيعية أو الفيزيائية.
تتباين الطرق والسبل يف كيفية قراءة الرتاث بإطالقه ،سواء كان هذا الرتاث تراثا نقديا أم تراثا
أدبيا أم دينيا ،ألن وسائل القراءة ختتلف من منحى إىل آخر ،وتتجسد فاعلية القراءة النقدية للرتاث
من منظور أنه موجود هناك يف نقطة ما من املاضي لكنه يسكننا يف الوقت نفسه ،ويتواجد فينا
ونتواجد فيه ألن الرتاث ميثّل هذه السلطة الرمزية اليت جتعلنا نتحرك وفق ما ميليه علينا من جهة،
ووفق ظروف العصر والزمن من جهة أخرى ،يقول أدونيس عن كيفية القراءة التجاوزية ملقوالت
الرتاث" :إن جتاوز املاضي ال يعين جتاوزه على اإلطالق ،وإمنا يعين جتاوزا ألشكاله ومواقفه ومفهوماته
وقيمه اليت نشأت كتعبري تارخيي عن احلاالت واألوضاع الثقافية واإلنسانية املاضية ،واليت يتوجب
اليوم أن يزول فعلها لزوال الظروف اليت كانت سببا يف نشوئها ،فلم يعد الشاعر العريب ينظر إىل
2
املاضي كنموذج للكمال ،أو كقدسية مطلقة ،صار املاضي يهمه بقدر ما يدعوه إىل احلوار معه".
شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.02 :
1
رمبا يتأسس الوعي باملعضالت الوجودية اليت يعاجلها الشعر من منطلق مسببات القول ،ذلك
أن سياقات القول الشعري واإلبداعي عموما إمنا تتباين من حقبة إىل أخرى وتبقى عملية القراءة
كفيلة بإبراز هذه املكانة اليت يتمتع هبا املاضي على حساب ما سيأيت من إبداعات رمبا تتحرر من
ربقته ورمبا تبقى حبيسة مناذجه وأساليبه.
إن عملية التخلص من سلطة املاضي الرتاثي هي ما دعت إليه مناذج القراءة النقدية احلديثة
واملعاصرة ،باعتبار القراءة عملية حيوية وحوارية تكون بني القارئ والنص ،هذا األخري الذي خترتقه
ثغرات وفجوات جيب على هذا القارئ ملؤها وردم حفرها ،حىت يتخلق نص جديد ال يقل أمهية عن
النص اإلبداعي األول ،ورمبا يفوقه من حيث الوقوف عند أكرب قدر من الدالالت واملعاين اليت خيتزهنا
هذا النص ،وال ميكن -يف الوقت ذاته – أن ننظر إىل عملية القراءة على أهنا القبض النهائي على
كل ما حيتمله النص من معان ،إمنا تقوم هذه العملية على أطر نسبية للقبض على عدد ال بأس به
من الدالالت.
متاشيا مع ما سبق ،ال تندرج عملية القراءة وفق منظور هنائي مطلق ،وإمنا حتتكم يف عنصرها
األول إىل نوع من النسبية اليت حتكم العالقة التفاعلية بني النص كوجود مستقل عن مؤلفه ،وبني
القارئ باعتباره املنتج الثاين له .غري أن عملية القبض على احلقيقة النهائية كما ذهب إىل ذلك
أدونيس شيء من فضول الكالم أو شيء من التجديف النقدي ،ذلك أن النص اإلبداعي ال يروم
الوصول إىل احلقيقة وال يبحث عنها ،ألن ذلك من شأن العلوم التجريبية الدقيقة ،أما العلوم
اإلنسانية مبا فيها النص األديب –باعتباره علما إنسانيا -ال هتدف وصول احلقيقة ،إمنا تنشد اجلمال
الفين واإلبداعي الذي يتمايز به املبدعون بعضهم عن بعض.
إن احلقل املعريف الذي يشتغل ضمنه شكري عياد ،ال يكاد يتجاوز املقوالت البالغية القدمية
إذ حياول جاهدا التوليف بني هذه املقوالت واملفاهيم واملصطلحات الوافدة مع الدراسات األسلوبية
احلديثة ،مما جنم عنه دعوته الصرحية لعملية تأصيل مباحث األسلوبية يف الرتاث النقدي العريب لقد":
أفاد شكري عياد فائدة كربى من النقد الغريب يف بلورة (النقد التكاملي) الذي تتضافر فيه خيوط
األصالة وخيوط احلداثة ،فقدم رؤية للبالغة العربية اعتمادا على (التأصيل) ،لقد جعل انفتاح البالغة
171
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
العربية على (األسلوبية) ما يقدم يف العقل العريب ،برؤية خاصة ،أكثر منطقية ،وبالتايل أكثر قدرة
على البقاء".1
رمبا نعلل حتجيم املساحة املعرفية اليت يشتغل عليها عياد ،ونقصرها على البالغة العربية
فحسب ،ألن ذلك يرجع إىل تنوع اهتمامات الرجل بني القصة والرواية والنقد والرتمجة وغريها من
احلقول املعرفية اليت تضلّع فيها ،على الرغم من جهوده يف تأسيس خطاب نقدي عريب أقل ما يقال
عنه أنه تكاملي يف مرماه ويف أسبابه ،غري أن هاجس التأصيل هو ما دفع عياد إىل تبين هذه
التكاملية إن جاز التعبري ،يف قراءة الرتاث البالغي يف ضوء األسلوبيات احلديثة ،يقول عياد ":إ ّن
2
فكرة التأصيل ال تويل ظهرها للثقافة العربية ،بل إهنا ما كانت لتوجد لوال لقاؤنا هبذه احلضارة".
إن عملية التفاعل اخلالق والتأثري املفيد عملية ذات جدوى ،وتتأتى فاعليتها من استمدادها
من اآلخر بعض ما يزيد من شرعية األنا ،إال أ ّن عملية املثاقفة اليت تتم دوما بني اآلداب إمنا متنح
شرعيتها كذلك من مدى احملافظة على خصوصية كل طرف على حدى ،دون الذوبان فيه أو
االمنحاء يف طروحاته ،وعملية إثبات هذه الفردانية هي ما حاولت املركزية الغربية منذ زمن بعيد أن
تلغيه من دافع احلصول على هذه املرتبة الريادية اليت تؤهلها الحتالل مراتب متقدمة على مستوى
السلم احلضاري العاملي ،ويقف دعاة التغريب دوما يف حماولة إثبات ذلك الوجه االستعالئي واملتقدم
للغرب على حساب تلك املرتبة املتدنية للذات الشرقية ،وما يدور يف فلكها ألن ":احلضارة الغربية يف
العصور احلديثة ال تقنع أن تذوب الشعوب اإلسالمية والعربية يف مدنية الغرب؛ بل تريد أن تعرتف
3
هلا هذه الشعوب بالتبعية لألصول اليونانية يف القدمي ،وما الغربيون إال حفدة اليونانيني".
1إبراهيم أمحد ملحم :اخلطاب النقدي وقراءة الرتاث-حنو قراءة تكاملية،عامل الكتب احلديث ،األردن،3112 ،ص.00 :
2سعد البازعي :بني منت النقد وهامشه-شكري عياد وقلق التأصيل ،-جملة نزوى ،مسقط ،عمان ،أفريل ،3110ع 32مقال
على االنرتنيت اطلع عليه بتاريخ .3100/13/03
3عباس أرحيلة :مسألة التأثري األرسطي لدى مؤرخي النقد والبالغة العربيني ،املطبعة والوراقة الوطنية ،الرباط ،ط،0000 ،0
ص.05 :
172
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
احلديث ،ويف الوقت ذاته إثبات مصادر النقص لكل ما هو عريب إسالمي" لقد جتاهل املستشرقون
قوة الكينونة حني تكون هلا بنيتها وثوابتها وقناعاهتا وضوابطها احلضارية فتسعى أن تعانق الرتاث
أىن وجدهتا ،فتتفاعل معها يف ضوء
السابق يف حياة البشر ،وأن جتعل احلقيقة ضالتها تبحث عنها ّ
ثوابتها وضوابطها ،جتاهلوا الكينونة اإلسالمية حني استطاعت أن حتول ما ينتفع به من تراث اآلخرين
1
حتويال حضاريا وتشكله وتتمثله وهتضمه ،وتعيد إنتاجه يف ضوء حوار حضاري فعال ومثمر".
تتجاذب فرضية تأثري الفلسفة اليونانية وخباصة فلسفة أرسطو يف البالغة العربية قطبان :القطب
يقر ويسلّم بوجود ذلك التأثري حبكم الرتمجات العديدة لكتب أرسطو خاصة ،وحبكم األول ّ
التلخيصات الكثرية اليت قام هبا جمموعة من الفالسفة املسلمني يف حقب زمنية خمتلفة ،وقطب ٍ
ثان
ينفي أية صلة للبالغة العربية بطروحات ومقوالت الفلسفة اليونانية واألرسطية منها على وجه
اخلصوص ،يقول طه حسين ّ
مصوبا مقالته ألقطاب الفكر العريب احلديث ":إن البيان العريب يف طور
تكوينه قبل منتصف القرن الثالث اشرتك يف تكوينه العرب والفرس واليونان ،وبعد منتصف القرن
الثالث وجد بيانان :عريب حمافظ ال يقرب الفلسفة اليونانية إال يف كثري من التحفظ واالحرتاس،
واآلخر يوناين جيهر باألخذ من أرسطو والنتيجة أن التيار اليوناين أغرق كل شيء ،فالبيان العريب
يستلهم أرسطو ويتأثر به ،والبيان اليوناين جيهر باألخذ من أرسطو 2".تلك إذا نظرة العميد إىل
عمليات التأثري اليت مارستها الفلسفة اإلغريقية يف البيان العريب ،فالرجل مل يركن لفرضية واحدة بل
حاول تلمس معامل التأثري هذه يف شيء من الوسطية.
ينقاد شكري عياد يف حتقيقه كتاب الشعر ألرسطو منذ فاحتة الكتاب ،إىل إثبات عملية
التأثري اليت مارسها أرسطو على مقوالت النقد العريب القدمي كما احلديث ،خاصة عندما يطرح
إشكالية فهم العرب القدامى أثناء تلخيصهم أو شرحهم كتاب أرسطو ،على اعتبار أن الشعر العريب
القدمي مل يعرف يف أجبدياته مصطلحات أرسطو الفلسفية اخلاصة بالشعر كامللحمة والدراما ،وخيلص
مثل من أوضح األمثلة على التأثريات العاملية يف األدب ،أدباؤنا
الناقد إىل أن أدبنا املعاصرٌ ":
املعاصرون مل يكد يفلت واحد منهم من تأثري أدب أو آداب أجنبية ،واألشكال األدبية الكربى اليت
1
نعرفها اليوم ناظرة إىل مناذج أجنبية فعقليتنا إذا متشبعة بالتفكري يف موضوع التأثري والتأثر".
يفتح عياد أبوابا مشرعة على قضية غاية يف األمهية ،هي عملية التبادل احلضاري بني األمم
وممارسة آلية التأثري والتأثر النامجة عن غلبة أمة ألخرى ،الشيء الذي جيعلها تابعة هلا سائرة يف
فلكها.
يص ّدر عياد حتقيقه لكتاب الشعر ألرسطو بطرح مجلة من التساؤالت حول أمهية الكتاب
الشراح األوائل أو أصحاب التلخيصات خاصة من املعرفية والفكرية ،وكيفية اإلفادة منه من قبل ّ
العرب ،واإلشكالية املطروحة هي كيفية فهم العرب حملتوى الكتاب ،والنواحي املعرفية اليت فهم
يعرج على احملققني من املستشرقني من أمثال اإلجنليزي مرجليوث ،وكيف
الكتاب يف ضوئها ،مث ّ
يوازن الناقد بني النص العريب يف ترمجة متى بن يونس أو ابن سيناء أو ابن رشد ،وكيف أفاد منه
مرجليوث ويف أحيان كثرية ّ
حيور الفكرة العربية عن أصلها ما ينجم عنه غموض يف الفكرة أو
اضطراب يف املفهوم.
لقد اعتمد عياد منهجا خمالفا يف الرتمجة والتحقيق ملا كان سائدا من قبل ،منهج يهتم بالرتمجة
العربية ويركز على خصوصيتها ،وهي ترمجة كانت وليدة ظروف ثقافية معينة يف احلضارة العربية ،وهذا
املنهج يلتزم بالنص وسياقه دون أن يفرض عليه معايريا من خارجه ،سواء أكانت هذه املعايري
مستمدة من النص األرسطي أو العصر الذي يعيش فيه الباحث ،ويذهب يف ترمجته مذهبا مفاده أننا
ندرس هذا الكتاب يف ضوء دراسة قدمائنا له بغض النظر عن مسألة الفهم من عدمها .فمادام
العرب القدامى قد عرفوا صورة الكتاب وجب علينا معرفة هذه الصورة عندهم ،ونعين باملعرفة هنا أالّ
نقف عند حدود احلكم بالفهم أو عدم الفهم للكتاب األصلي ،بل نعىن باألفكار اخلاطئة واملنحرفة
مثلما نعىن باألفكار الصحيحة مادامت صور تأثري الكتاب يف الذهن العريب ،واستجابة الذهن العريب
للكتاب ،أي أننا بدال من أن نسأل :أفهموا أم مل يفهموا؟ نسأل :كيف فهموا؟
1أرسطو طاليس :فن الشعر،حققه مع ترمجة حديثة ودراسة لتأثريه يف البالغة العربية ،شكري حممد عياد ،دار الكتاب العريب
للطباعة والنشر ،القاهرة ،دط ،0022 ،ص.2 :
174
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ينساق شكري عياد يف حتقيقه لكتاب فن الشعر ألرسطو ،حنو حماولة إثبات فرضية التأثري
الذي مارسه هذا الكتاب على البالغة العربية ،ويقف عند مجلة من اإلشكاليات املعرفية اليت رمبا
أسهمت يف متكني الشعر قيّما على البالغة ،مث يستجمع كافة التساؤالت اليت من شأهنا أن تثبت أو
تدحض هذا التأثري فيسوق شروح ابن سينا والفارابي وابن رشد ومدى إسهامها يف بلورة الوعي
النقدي القدمي ،مث يعرض آلراء مجلة من الباحثني املعاصرين أمثال طه حسين الذي ينفي فهم العرب
لكتاب الشعر ألرسطو يف مقدمته كتاب نقد النثر لقدامة بن جعفر.
لقد اعتمد عياد يف عرض هذه التصورات على معطيات املنهج التارخيي يف توصيف هذه
الرؤى ،وهو املنهج الذي يرى النص يف ضوء معطياته احلضارية ال يف ضوء هذه املعطيات عند
الباحث ،وهذا املنهج التارخيي ينبع من منطلق التسليم بإمكان قيام تاريخ أديب ،أو تاريخ للنقد
خيلص لفهم املاضي ال للحكم عليه ،ومن مث معاجلة ظواهر هذا املاضي على أهنا موجودات طبيعية
هلا قوانني نشأهتا وتطورها واحندارها ،املستقلة عن الدارس الذي يرصدها أو الناقد الذي يتناوهلا،
األمر الذي م ّكنه من بعض اآلليات اليت هنضت بإبراز دور كتاب الشعر يف البالغة العربية القدمية،
عندما كانت مندجمة مع النقد القدمي ،ويق ّدم عياد حصيلة معرفية غاية يف األمهية على دور النقد
القدمي يف بلورة األصول األوىل واملصادر األساسية اليت ينهض النقد عليها يقول" :والنقد إذا مل يعن
بتأصيل األصول غلبت عليه الذاتية وكان مرجعه يف االستحسان أو ضده على الذوق وحده ...وإذا
ذكرنا "الذاتية" و"الذوق" يف هذا املقام فأرجو أال يفهم منهما معىن اهلوى املطلق ،فالذوق قدرة على
احلكم تتكون من اخلربة الطويلة ،وليس الفرق بني الذاتية واملوضوعية يف خلو األمر من كل مقياس
مشرتك ،بل يف أ ّن الناقد الذي حيكم بذوقه وحده ال يرجع إىل صورة عامة للجودة أو الرداءة ،فالكل
عنده مقرتن باجلزئي دائما ،وهو ال يفصل أحدمها عن اآلخر حني يستجيد ما يستجيد ،أو يسقط
1
ما يسقط".
يعاجل عياد من خالل هذا النص قضية من أمهات قضايا النقد العريب القدمي ،وعليها سارت
معظم اآلراء النقدية القدمية ،و ّقومت هبا األعمال اإلبداعية يف ذلك الزمان ،وهي قضية الذوق الفين
اليت حيتكم إليها الناقد القدمي يف تقومي النصوص اإلبداعية ،وما اجنر عن هذه امللكة من غلو وتطرف
أسهما يف مغالطة كربى حنو حتجيم األعمال اإلبداعية ،وأحيانا تقزميها انطالقا من أحكام ذاتية
صرفة ،ال تراعى فيها األصول املوضوعية للعملية النقدية ،إمنا تصدر هذه اآلراء نتيجة هوى يف نفس
الناقد فريفع أعماال وحيط أخرى .فعندما يستطيع التاريخ األديب أن يتخلص من األحكام املعيارية
يكرس جهوده على ظاهرة أدبية أو نقدية ما ،بأهنا صواب أو خطأ أو جيب أن تكون كذا ،وعندما ّ
للنظر إىل الظاهرة حمل الدراسة ،وفق معطياهتا اخلاصة دون أن يقصرها على شيء أو يفرض عليها
منظوره اخلاص أو منظور عصره ،عندئذ يستطيع هذا التاريخ أن يعترب تارخيا حقيقيا وعندئذ ميكنه أن
يقدم إسهامات أصيلة للبشرية.
يواصل عياد بسط آرائه حول القضايا األساسية يف النقد العريب القدميّ ،
فيعرج على التزاوج
احلاصل بني النقد والعلوم اللغوية األخرى ،كالنحو والعروض وغريها ،وعمليات التالقح اليت متت بني
هذه العلوم مجيعها ،فيسهب يف عرض إسهامات النقاد العرب القدامى كل من زاوية ،كما هو احلال
عند اآلمدي والجرجاني وغريمها ،وأساس العملية النقدية احملتكم فيها إىل اجلانب اللغوي يف اختيار
األلفاظ احلاملة للمعاين وقصر استشهاداهتم على العصر اجلاهلي واإلسالمي ،دون أن يولّوا وجوههم
شطر العصور األدبية األخرى ،ألهنا حاملة لنوع من فساد الذوق وحلن يف األساليب ،غري أن هذا مل
مينعهم كما يؤكد عياد ،من أن يتساحموا مع رواية شعر احملدثني يقول..." :لكنهم من جهة أخرى
أفلحوا يف أن يلزموا الشعر العريب كلّه أخص خصائص الشعر اجلاهلي ،أعين منهج القصيدة ،وفعلوا
ذلك يف شيء من ضيق وحرج الصدر ،إذا قورنت به حماولة أيب نواس جتديد هذا املنهج بدت لنا لونا
1
من العبث ال يراد به إال اهلزء بأولئك اجلامدين".
أما أثناء سرده اجلهود النقدية عند اآلمدي والجرجاني مثال ،فال جيد حرجا يف توصيف
العملية النقدية برمتها ،بأهنا نقل أمني ملقوالت ابن سالم الجمحي فيما مضى من كتبه ،خاصة
طبقات الشعراء ،وابن قتيبة يف الشعر والشعراء ،يقول..." :لكن خصائص النقد العريب ليست أقل
وضوحا عند اجلرجاين منها عند اآلمدي ،فالنقد عنده اليزال ذاتيا تطبيقيا ،واليزال للجانب اللغوي
فيه نصيب موفور ،وإكثاره من إيراد املختارات الشعرية ليس إال صورة مما جنده عند ابن سالم وابن
قتيبة من إيراد ما يستجاد من شعر الشاعر على سبيل الرواية ال على سبيل النقد والتحليل ،واملثل
األعلى للشعر عند اآلمدي واجلرجاين واحد ،وإن جهد كالمها يف إخفائه ليحتفظ بصفة القاضي
1
العادل :وهو املعىن الواضح يف اللفظ الرشيق".
تتعمق الرؤية النقدية عند عياد انطالقا من تتبعه اجلهود النقدية القدمية كما أسلفنا ،وجيهد
نفسه يف حتسس مفاصل التباين واالختالف العميق بني رواية نقادنا القدامى للكثري من القضايا
النقدية اهلامة ،وبني طروحات أرسطو يف مؤلفه فن الشعر ،فعلى سبيل املثال يسوق عياد مراتب
األلفاظ وشروط نظمها يف أساليب تكون وسطا بني البدوي والوحشي والساقط السوقي ،ويقرر أن
مثل هذه الشروط مل تكن من اهتمامات اآلراء النقدية يف الشعر عند أرسطو ،يقول عياد" :كان
مذهب اجلرجاين مستمدا من التجارب اخلاصة للغة العربية ،اليت عانت فرتة من الزمان اختالف لغة
البدو عن لغة احلضر ،مث عانت فرتة أخرى اختالف لغة العامة عن لغة األدب ،فكان مدار االهتمام
يف العبارة الشعرية عنده هو مادة األلفاظ ،وكان مثلها األعلى يقوم على التوسط أما أرسطو فلم
تواجهه مشكلة الغريب وال مشكلة العامية ،هبذه القوة ،فكان موضع اهتمامه طريقة استعمال
2
األلفاظ ،وكان مثله األعلى حيث على "التغيري الواضح" يف لغة الشعر لتسمو عن الكالم املألوف".
تتكثف نظرته إىل أمهات القضايا النقدية القدمية ،ويقف عند إشكالية السرقات الشعرية اليت
ش ّكلت مبحثا خاصا وثريا يف أجبديات النقد العريب القدمي ،إذ ال خيلو كتاب نقدي ما إال وتناول
هذه القضية على غرار ما حبث من قضايا ،كاللفظ واملعىن واالنتحال وغريها ،وال جيد عياد مانعا يف
إدراج هذه القضية الشائكة حول كيفيات السرقات أهي يف األلفاظ أم يف املعاين يقول ..." :وحنن
نرى يف حبث السرقات الذي شغل ما شغل من عناية اآلمدي واجلرجاين ومعاصريهما تفرعا واضحا
للتيار العريب النقدي القائم على الرواية ،املعىن باجلزئيات ،املعجب بالقدمي ،وهذا ال يعين افرتاض تأثره
باملعركة بني القدماء واحملدثني".3
إهنا القضية احملورية اليت دارت حوهلا معارك أدبية بني أنصار القدمي واحملدث ،وما جنم عنها من
تنظري وممارسة حول أحقية االستشهاد ،أو ما اصطلح عليه بعصور االحتجاج ،وهي معركة نقدية بني
متعصب للقدمي ومدافع عنه ،وبني منتسب للمحدث وذائد عنه ،الشيء الذي خلّف تراثا نقديا
هاما دار جلّه حول هذه القضايا وأمثاهلا.
ينفتح عياد على املؤثرات اخلارجية يف الثقافة العربية ،ومن خالهلا قضايا النقد العريب القدمي،
وال يشك أبدا يف إمكانية أخذ احلضارات بعضها من بعض ،وتأثري بعضها يف بعض من باب تالقح
الثقافات وتقادح العقول ،ألنه شديد اإلميان بأنه من العبث البحث يف ثقافة خلصت خلوصا تاما
من أي تأثري كان ،باعتبار التكامل املعريف والنظري الذي حتتاجه أي ثقافة إنسانية يقول..." :من
احملقق أن هذا النقد مل يكن ذا شكل واحد ،بل كان متعدد األشكال بتعدد من خاضوا فيه ،ومن
احملقق أن تيار النقد العريب كان يتبادل التأثري مع غريه من التيارات ،فهذه سنة احلياة الفكرية أبدا
ومن العسري يف غري هذه األدوار أن يدل الباحث على كتاب خلص خلوصا تاما الجتاه ما ،وجنا من
1
تأثري سائر االجتاهات ،حىت تلك اليت تريد أن حيارهبا ويهدمها".
إن ما خلص إليه الناقد من خالل هذا الطرح املعريف ينم عن قدرة فائقة ،ومعرفة بالغة مبفاصل
العملية النقدية والفكرية اليت متر هبا حضارة أية أمة من األمم ،وعياد ببصريته الثاقبة وعقله الراجح ال
جيد منقصة يف إثبات عملية التأثري اليت مورست على الثقافة العربية منذ فجرها األول ،انطالقا من
دافعية التكامل املعريف فيما بني األمم ،وبنظرة ثاقبة أيضا يعاجل عياد مالمح التأثري األرسطي يف كتب
الجاحظ ،فال جيد خمرجا ملا أورده هذا األخري حول قصر فضيلة الشعر على العرب دون سائر األمم،
إذ ال يعقل أن يكون الجاحظ جاهال بكتاب الشعر ألرسطو ،رغم ذلك التمس عياد مجلة من
األعذار ساقها للجاحظ ،يف محله هذا يقول اجلاحظ..." :و أما الشعر فحديث امليالد ،صغري
سهل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ،ومهلهل بن ربيعة ،وكتب السن ،أول من هنج سبيله و ّ
أرسطو طاليس ومعلمه أفالطون مث بطليموس ،ودميقراطس ،وفالن وفالن ،قبل بدء الشعر بالدهور
قبل الدهور ،واألحقاب قبل األحقاب...و فضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان
2
العرب".
إن ما نفهمه من هذا النص أن الجاحظ يسلك سبيل املتكلمني -وهو أحدهم -يف تعريف
البيان والداللة ،يقول عياد ":ال نكاد نشك يف أن اجلاحظ أخذ أصل الفكرة من قول أرسطو يف
أول كتاب العبارة "إن ما خيرج بالصوت دال على اآلثار اليت يف النفس وما يكتب دال على ما خيرج
بالصوت ،وكما أن الكتاب ليس هو واحدا بعينه للجميع ،كذلك ليس ما خيرج بالصوت واحدا
بعينه هلم ،إال أن األشياء اليت ما خترج بالصوت دال عليها أوال – وهي آثار النفس -واحدة بعينها
2
للجميع ،واألشياء اليت آثار النفس أمثلة هلا ،وهي املعاين ،توجد أيضا واحدة للجميع".
إن ما بىن عياد نظرته الفاحصة عليه -من أن اجلاحظ تأثر تأثرا واضحا بأرسطو -ال يرقى إىل
مرحلة اليقني بقدر ما يتبوأ منزلة الشك ،باعتبار أن اجلاحظ مل يتناول قضاياه النقدية والبالغية تناوال
فلسفيا كما عند قدامة بن جعفر مثال ،أضف إىل ذلك ما حبث فيه الجاحظ يتعدى التقنني احلريف
للفلسفة اليونانية ،ألن الرجل يتمتع بعقل موسوعي ،وال أريد أن أرمي الفلسفة اليونانية برمتها
1اجلاحظ :البيان والتبيني ،وضع هوامشه ،موفق شهاب الدين ،دار الكتب العلمية ،بريوت،مج ،0ج ،0ص.21 :
2أرسطو :فن الشعر ،ص.323 :
179
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
بالقصور بقدر ما أصبو إىل كشف احلقيقة املعرفية ،اليت أبرزها عياد من خالل عمليات احلفر
والنبش يف طبقات الرتاث النقدي والبالغي العريب ،ليصل إىل إسهامات قدامة بن جعفر يف جمال
النقد العريب القدمي ،وكيفية أخذه مقومات الفلسفة األرسطية ،خاصة قضية احلدود واملفاهيم ،فالشعر
عنده "قول موزون مقفى يدل على معىن 1"،وهو تعريف يصل بصاحبه إىل منزلة متقدمة من التأثر
بفلسفة أرسطو دون أن يطابقها ،ألنه عزل وظيفة الشعر الذاتية وخال منها خلوا تاما وهي وظيفة
احملاكاة كما عند أرسطو ،غري أن عياد يلمس ذلك التأثر الصريح بفلسفة أرسطو من خالل تقسيم
قدامة الشعر إىل مادة وصورة ،فيقرر أ ّن " :أثر الفلسفة األوىل يف هذه الفكرة ظاهر ،ولكننا ال
2
نلمح فيها أثرا مباشرا لكتاب الشعر".
هناك قضية أخرى عاجلها قدامة يف نقد الشعر ووظفها عياد ،على أهنا تأثر صريح بفلسفة
أرسطو ،دون أن خيصص كتاب الشعر بذلك ،وهي نسبة أغراض الشعر مثال على أن الرثاء لون من
ألوان املديح ،وهو ما يتقاطع فيه مع أرسطو يف تقسيمه احملاكاة إىل حماكاة لألفاضل وحماكاة
لألشرار ،وأثناء تناوله ملمح الغلو يف الشعر يقول قدامة...":هو ما ذهب إليه أهل العلم بالشعر
والشعراء قدميا ،وقد بلغين عن بعضهم أنه قال أحسن الشعر أكذبه ،وكذا نرى فالسفة اليونانيني يف
3
الشعر على مذهب لغتهم".
يعلق عياد على هذا النص موضحا أنه يقصد فالسفة اليونانيني يف الشعر وآراء أرسطو يف
الشعر على وجه الدقة ،حىت وإن مل يسمي الكتاب بامسه إال أننا – يضيف عياد " -ال نعرف
4
الوصف الذي وصفه يصدق على كتاب آخر مما ترجم إىل العربية غري هذا الكتاب".
انطالقا من تتبعه ملسار النقد العريب القدمي بكل إشكاالته ومقوالته .يصل عياد إىل حمصلة
مفادها أن معظم القوانني النظرية اليت أطّرت النقد العريب القدمي ،إمنا قتلت الروح اإلبداعية لدى
الشعراء املتأخرين ،بالنظر إىل األطر الصارمة اليت تسيّج العملية اإلبداعية نقديا يقول عياد...":واحلق
أن النقد العريب اخلالص قد وضع الشعراء والنقاد مجيعا يف مأزق فالشاعر احملدث ملزم بأن جياري
القدماء يف أوصافهم وتشبيهاهتم ،ال يستحسن إال ما استحسنوه ،وال يذم إال ما ذموه وال يشبّه إىل
على طريقتهم ،وال يستعري إال على أساليبهم ،فإذا وافق الشاعر احملدث بعد ذلك شاعرا مقدما يف
1
معىن أو أسلوب فهو آخذ وهو مسبوق ،ورمبا رمى هبذه اللفظة البشعة لفظة "السرقة".
إن تلك القوانني هي اليت ارهتنت الشاعر العريب القدمي للتقنني والتقعيد البالغيني ،وهي من
أمخد جذوة احلرية اإلبداعية عند الشعراء ،السيما املبتدئني منهم .مث ينتقل عياد إىل حماولة تبيان
جوانب التأثري العميق اليت مارسها كتاب الشعر على نقادنا القدامى ،خاصة قدامه بن جعفر الذي
يقول ":ومما جيب تقدمته وتوطيده قبل ما أريد أن أتكلم فيه ،أن املعاين كلها معرضة للشاعر ،وله أن
يتكلم منها فيما أحب وآثر من غري أن حيضر عليه معىن يروم الكالم فيه ،إذ كانت املعاين للشعر
مبنزلة املادة املوضوعة ،والشعر فيها كالصورة ،كما يوجد يف كل صناعة من أنه البد فيها من شيء
موضوع يقبل تأثري الصور منها ،مثل اخلشب للنجارة والفضة للصياغة وعلى الشاعر إذا شرع يف أي
معىن كان من الرفعة والضعة ،والرفث والنزاهة ،والبذخ والقناعة ،وغري ذلك من املعاين احلميدة أو
2
الذميمة أن يتوخى البلوغ من التجويد يف ذلك الغاية املطلوبة".
يثبت قدامة يف هذا النص العلل األربعة ألرسطو ،وكيف تتضام فيما بينها لتش ّكل يف النهاية
القصيدة واملبتغى منها ،ودون أن يشعرنا الناقد مبفاهيم أرسطو الفلسفية ،فإنه يقتفي آثاره املنطقية
والفلسفية يف التنظري للقصيدة ،واستطاع قدامة أن يبني الوظيفة اجلمالية للقصيدة بعيدة كل البعد
عن اجلانب األخالقي القيمي يف تقومي الشعر ،ألن اجلمال والقبح معياران أساسيان تنهض القصيدة
العربية باستجالئهما ،من خالل املعاين اليت حيمالهنا ،يقول عياد معلقا على مقصدية قدامة ":
أصبحت العلة املادية أو اهليوالنية عنده هي املعاين املدلول عليها باأللفاظ ،والعلة الصورية هي الشعر
نفسه ،والعلة التمامية هي التجويد واإلتقان ،واستطاع أن خيرج من ذلك بأن الشعر ال يستجاد أو
181
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يستقبح ألنه يصور فضيلة أو رذيلة ،إمنا كانت معاين الشعر الفاضلة والرذلة هي مادته فحسب ،وإمنا
1
حقيقة الشعر هي صورته ،هي فضائله اخلاصة اليت يبلغ هبا قائله درجة التجويد واإلحسان".
الشك أن املنطلق الذي باشره قدامة هو أن الشعر صناعة كباقي الصناعات األخرى،
كالنجارة والصياغة وغريها ،وهو قول مكرور تعاورته ألسنة النقاد القدامى قبله وبعده فال تعيب رداءة
الصناعة مادهتا إمنا صانعها.
يواصل عياد سرد أمساء النقاد العرب القدامى يف عالقتهم بكتاب الشعر ألرسطو ومدى
تقبلهم للطروحات الفلسفية األرسطية يف الشعر ،ويصل إىل السكاكي ،أحد أبرز البالغيني العرب
ويصفه بأنه "أقل النقاد العرب أصالة 2".ويف الوقت ذاته ينفي عنه عياد أية صلة بالتفكري اليوناين
وخاصة فلسفة أرسطو حني يقرر ":ال نستطيع القول بأن كتاب الصناعتني حيمل شيئا من طابع
التفكري اليوناين فيما عدا الولع بالتعريف والتقييم ،وليس كتاب الصناعتني يف ذلك إال كأكثر
الكتب اليت نزعت إىل الروح العلمية يف ذلك العصر ،يف البالغة وغريها .ولسنا جند يف كتاب
الصناعتني حماولة مستوعبة منتظمة لفهم الصناعة الشعرية وتقرير قوانينها كتلك اليت جندها عند
3
قدامة ،وكذلك حنن ال جند عند أيب هالل رأيا ذوقيا واضحا يف البالغة".
إن صاحب الصناعتني ال يقر له قرار حول تناوله للعديد من القضايا األساسية اليت قام عليها
النقد العريب القدمي ،كقضية اللفظ واملعىن وقضية السرقات وغريها ،لذلك نعته عياد بأنه أقل النقاد
العرب أصالة ،ألنه ال يلبث أن يأخذ عن ابن املعتز مث عن اجلاحظ مث قدامة وغريهم ،ويضطرب يف
تقرير املنحى النقدي الذي يروم الكتابة فيه ،لذلك وقع يف مطبات كبرية أوقعه فيها عدم تقيّده بتيار
نقدي وفلسفي واضح يقول عياد ":كان كتابه – من وجهة نظر التيار العريب يف نقد الشعر -ال ميثل
تقدما أساسيا بعد بديع ابن املعتز وموازنة اآلمدي ووساطة اجلرجاين ،ومن وجهة نظر التيار اليوناين
الميثل حماولة مطّردة لبناء نظرية منتظمة يف الشعر بعد كتاب قدامة ،وإمنا يلتقي التياران مجيعا ،وإمنا
1
يطّردان وميتزجان عند عبد القاهر اجلرجاين".
يقف عياد موقفا مسلّما ومعرتفا باجلهود النقدية والبالغية لإلمام عبد القاهر الجرجاني من
خالل طروحاته البالغية يف مؤلفيه "أسرار البالغة" و"دالئل اإلعجاز" ،ويتتبع مالمح التأثري األرسطي
يف عقل اإلمام بالنظر إىل القضايا البالغية الشائكة اليت عاجلها يف مؤلفيه ،منها مثال خاصية التصوير
خصص هلا حيّزا غري يسري من مؤلفه "أسرار البالغة" ،ليأيت املؤلف الثاين مبثابة النتيجة
الفين ،اليت ّ
املنطقية لعملية التصوير وهي النظم ،إضافة إىل قضية التخييل ،اليت نالت قسطا وافرا من خترجيات
اإلمام ،يقول عياد يف حماولة إثبات عملية التأثري اليت مورست على اإلمام من قبل كتاب الشعر
ألرسطو ..." :ال أنكر أن عبد القاهر قد انتفع انتفاعا كامال مبجهود رجال كاجلاحظ واآلمدي
واجلرجاين ،ممن يشري إليهم يف غري موضع من كتابيه ،ولكين أالحظ أيضا أن يف كتابيه أدلة ترجح
2
بل تقطع بأنه تأثر بعمل الفالسفة يف كتايب الشعر واخلطابة".
خنلص من كل ما سبق إىل أن تأثري الفلسفة األرسطية وخاصة كتاب فن الشعر ،كان كبريا
على جل املدونات البالغية القدمية ،إذ أسهمت هذه الكتب يف بلورة الوعي العريب النقدي بنفسه،
وحاولت التأسيس والتقنني للبالغة العربية فيما أتى من عصور ،ويأيت تقدمي عياد هلذا الثبت التارخيي
من باب االعرتاف الصريح بتأثري املنطق والفلسفة اليونانية بعامة يف حقل البالغة والنقد العريب ،يقول
عياد معرتفا...":ومهما يكن من شيء فقد شعرت احلياة األدبية للعرب شعورا قويا هبذه احملاولة من
الفكر اليوناين أن يقنن للشعر العريب ،وال غرابة يف ذلك ،فقد كانت هذه احملاولة مسايرة الجتاه احلياة
العلمية ،كلها حنو تأصيل األصول وتقعيد القواعد ،ومع أن طبيعة الشعر تنايف هذا االجتاه التقنيين
فقد كانت له يف العصر الذي نتحدث عنه هذه امليزة ،وهي أنه كان مبشرا بتخليص البالغة
املعاصرة من سلطان األقدمني إذا كان – على األقل -يقيس القدماء واحملدثني مبقياس واحد ،فال
جيعل أحد الفريقني تابعا واآلخر متبوعا ،وال جيعل فضيلة املتأخرين هي اجلري يف مضمار املتقدمني
1
يف معانيهم وأساليبهم".
بيد أن عملية االعرتاف بالتأثري اليوناين يف البالغة العربية من قبل عياد ،تصطدم بنوع من
التحفظ من هذه العملية على ناقد وبالغي عريب مارس شرح الفلسفة والتنظري النقدي ،إذ ينظر عياد
ملثل هذا التأثري أنه شكلي فقط ،وال ميس جوهر العملية النقدية عند قدامة مثال ،على الرغم من
تأكيده أن كتابه "نقد الشعر مؤلف على طريقة الفالسفة يبدأ حبد الشعر وبيان أقسامه (الفصل
األول) مث يصف نعوت كل قسم (الفصل الثاين) ،مث عيوب كل قسم (الفصل الثالث) ،وهذه حماولة
واسعة املدى لتنظيم علم الشعر تنظيما أشبه بالعلوم العقلية ،وحتويله عن الدراسة اجلزئية واملوازنات
2
اجلزئية إىل أن يكون علما معياريا ،يوقف به على متييز جيّد الشعر من رديئه بوجه عام".
يتقصد عياد نفي أي تأثري لكتاب الشعر ألرسطو يف كتاب نقد الشعر لقدامة مادام األمر
حمتكم إىل اجلانب الشكلي للشعر "كالم موزون مقفى" ،وقد خال هذا التعريف من جوهر العملية
النقدية عند أرسطو واملتمثلة يف احملاكاة ،ألجل ذلك نفى عياد أي تأثر بني الكتابني.
إن عياد يرى النص يف ضوء ثقافة العصر الذي كتب أو ترجم فيه ،فهو ال حيكم على
االختالفات بني النص األرسطي والنص العريب على أهنا أخطاء ،بل يرى أن هذه االختالفات دليل
على حماولة العرب استيعاب النص األرسطي من خالل ربطه بالثقافة العربية ،فإذا وجدوا ظاهرة يف
النص األرسطي ال يوجد هلا نظري يف الثقافة العربية نقلوا هذه الظاهرة إىل أقرب ظاهرة مشاهبة ملا
عندهم ،فمثال قام بعض املرتمجني العرب برتمجة مصطلح الرتاجيديا إىل املديح؛ ألهنم وجدوا أن
أرسطو يصف هذه الرتاجيديا بأهنا حماكاة لألخيار ،ومبا أن املديح عندهم يتناول األخيار ويصف
حماسنهم ،لذلك دجموا مصطلح الرتاجيديا مبصطلح املديح ،مما يدل على أن املرتجم العريب ال يرتجم
النص األرسطي ترمجة حرفية ،بل حياول فهمه قدر استطاعته ،مث تتم عملية نقله إىل العربية من خالل
املصطلحات اليت ميكن استساغتها يف العقلية العربية ،مما ميكننا من القول بأن االضطراب يف ترمجة
1أرسطو :فن الشعر :تح :شكري حممد عياد ،طبعة اهليئة املصرية العامة للكتاب ،0002 ،ص.200 :
نفسه ،ص.322 :
2
184
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
بعض املصطلحات يدل على أن املرتمجني كانوا يرغبون يف التنظري جلماليات القصيدة العربية ،وإخراج
النقد العريب من دائرة التهومي واالنطباعية.
ومجاع القول فقد توصل عياد إىل طريقة خاصة يف التعامل مع النص الذي يدرسه ،سواء أكان
أدبيا أم نقديا ،فهو ال حيتكم إىل أحكام معيارية مسبقة وال يفرض طريقة معينة يف تناول النصوص،
وال يقيد النص يف إطار نظرة مذهبية جامدة ،بل يرى النص يف ضوء معطياته اخلاصة ،وتتمثل هذه
الطريقة يف أنه يرى النص من خالل ثقافة العصر اليت أسهمت يف تشكيله ،أو على األقل كانت
كامنة يف خلفيته ،وثقافة العصر تشمل البيئة الثقافية بكل زمخها ومحولتها املعرفية ،وكذلك تشمل
اللغة بألفاظها وتراكيبها وأساليبها ،واأللفاظ دوال على حركية احلضارة.
تتجسد فاعلية األفضلية املطلقة حلضارة أمة على سائر احلضارات ،مبا متتلكه هذه األمة يف
جمال الثقافة سواء بشقها املادي أو املعنوي ،وتكتسب هذه األفضلية من نزوعها حنو إبراز مناطق
اجلمال يف حضارهتا ،يقول عبد السالم المسدي حول هذه املسألة" لقد عاشت اإلنسانية أمدا
مسوها على كل الثقافات األخرى ،ومل يكن طويال آمنت فيه كل جمموعة حضارية بأفضلية ثقافتها و ّ
كل ذلك إال صورة من الصور اليت جتسم فيها تعلق اإلنسان باملطلق ،مث تعميمه ملبدأ اإلطالق ،هذا
على كل ما له صلة تربط حاضره اآليت مباضيه املنقضي مث تربط حاضره مبستقبله الصائر من جهة
1
ثانية".
تأسيسا على هذا الطرح يتم تناول قضايا الرتاث وإشكاالته بالدرس واملساءلة ،بعيدا عن أي
تعصب أو ميول ذاتية من شأهنا أن جتعل دراسة الرتاث قاصرة عن بلوغ أهدافها ومراميها .يضيف
المسدي قائال حول استتباع هذا النوع من الدراسة واإلسهام بتفعيل املساءلة "اكتسب مفهوم
الرتاث –من حيث هو موروث شعيب وفنون تتناقلها األجيال من األمة الواحدة -بعده اإلنساين،
وإنسانيته هذه ال تعين أن كل موروث نوعي حيمل بالضرورة قيما شاملة لكافة اجملموعات احلضارية،
وإمنا املقصود أن كل املواريث الفنية ،والسيما ما جيمع الناس على وصفه بالفولكلوري منها ،تتساوى
1عبد السالم املسدي :ما وراء اللغة ،حبث يف اخللفيات املعرفية ،مؤسسات عبد الكرمي بن عبد اهلل للنشر والتوزيع ،تونس،
دط ،دت ،ص.052 :
185
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
قيمها العامة إذا ما نسبت إىل قيمها اخلاصة على حد نسبة املشرتك بني الناس على ما هو نوعي
1
خمصوص لدى كل جمموعة ،أو فئة ،أو جيل من األجيال".
إن املكانة اليت حيتلها شكري عياد يف جمال النقد األديب مكانة مهمة ،نظرا للجهود النقدية
الكربى اليت بذهلا الرجل يف دفع هذه العملية قدما ،والنهوض هبا قصد مواكبة هذا الزخم الفكري
والنقدي الذي متور به الساحة النقدية والفكرية العاملية ،ويعترب يف نظر بعض النقاد واملفكرين حلقة
الوصل بني جيلني :جيل الرواد من النقاد ،طه حسني والعقاد وميخائيل نعيمة وهيكل وغريهم ،وبني
جيل نقاد احلداثة العرب ،كجابر عصفور ،وكمال أبوديب ،وحممد برادة ،وعبد السالم املسدي
وغريهم ،وقلما يتمكن ناقد عريب هبذه املكانة اليت احتلها شكري عياد ،وذلك لتعدد االهتمامات
النقدية املمارسة من قبل الرجل ،فقد اختلفت احلقول املعرفية اليت طرقها ،من التأسيس لفن القصة يف
األدب العريب احلديث إىل حماولة التوليف بني البالغة العربية القدمية واألسلوبيات احلديثة ،ليخرج هبذا
املزيج الذي دعا إليه وأمساه "علم األسلوب العريب" ،إىل مواقفه من البنيوية باعتبارها آخر صيحات
النقد العريب يف وقتها ،إىل التحقيق إىل الرتمجة ،كل هذه احلقول طرقها عياد بعقل راجح وبصرية
نافذة مكنته من احتالل هذه املكانة املرموقة بني أقرانه من النقاد العرب ،وجعلته يتمتع هبذه املكانة
الرفيعة وجعلته يزاحم تلك العقول الكبرية اليت سبقته أو حىت اليت جابلته ،وحىت اليت أتت بعده.
يقول المسدي حول هذه املكانة اليت يتمتع هبا شكري عياد ":من هؤالء الرواد اجلسور يف
نقدنا العريب املعاصر الدكتور شكري عياد الذي متيز يف النقد األديب على حد ما متيز النقد األديب به،
وكان صورة ناصعة لعمق الرؤية ،وحصافة الوضع ،واتزان السري 2".جاء هذا احلكم على عياد من
منطلق ما يربط الناقدين يف جماالت النقد األديب وحىت الفلسفي ،وتوحد املواقف من بعض القضايا
اجلوهرية اليت أسها فيها على حد سواء ،وجرت بني الرجلني مجلة من املراسالت كان إحداها نتيجة
لتعليق عياد على كتاب المسدي "قضية البنيوية" يكتب املسدي قائال ":والشك أن الدكتور
شكري عياد قد وجد فيما قدمناه من نقد للبنيوية مطية سخية فبىن عليه بناء ،وأحكم صنع مساءلته
إحكاما ،ومما يرتاح إليه كل مهموم باألدب ،وكل مسكون هباجس نقده ،أن يرتادف النهج التقوميي
الذي توسل به الدكتور عياد –وهو من نقد النقد -مع النهج الذي توخيناه وحاولنا أن نؤسس
لبعض القواعد ،وهو املنهج املعريف الذي ينبش يف حفريات النظرية النقدية من حيث هي خمزون
فكري ينطلق من مصادرات فلسفية عامة وحتتكم إىل اعتبارات تتخطى حدود احلقل الذهين الواحد
1
لتجتمع بني زماماهتا مقابض الفكر النظري اخلالص".
إن ما يود المسدي التأسيس له من خالل هذا النص ،هو دعوته إىل ارتياد هذا احلقل املعريف
ممثال يف نقد النقد ،ووجد فيما تالقح به مع عياد مؤشرا واضحا إىل ما يسعى هو لتأصيله .يستمر
عرض املسدي ملا قام به الناقد شكري عياد حول كتابه فيقول ":واقتنص الدكتور شكري عياد
مقبضا آخر من مقابض الوفاق املعريف ملا عرض على القارئ يسأله :ملن يكتب النقاد؟ ..وأول ما قد
تكاشف به يف هذا املضمار هو أن الناقد البنيوي مل يعد يتجه مبا يكتبه ال إىل األديب صاحب
النص ،وال إىل قارئه الطبيعي وهو الذي خياطبه األديب بأدبه ،وإمنا أصبح يتجه بنقده إىل رفيقه الناقد
2
مقيما وإياه حوارا خاصا قد ال يشاركهما يف دواله ورموز عالماته غريمها".
يواصل المسدي التعليق على ما جاء يف مقال عياد الذي جاء بدوره تعليقا على كتاب
المسدي قائال " :فالذي استوقفنا يف مقال الدكتور شكري عياد هو يف الثوب األدائي الذي حلّى
به آراءه ،بل قل هو يف بنية خطابه النقدي ،ويف صياغة أسلوبه احلواري قبل كل شيء .فالذي
عهدناه منه أن يتكلم من مركز دائرة النقد احلديث .وهو ال يعين قطعا أنه يتبىن مقوالته تبنيا ،وال أن
يقطع بصالحها قطعا ،فضال عن أن يظن أنه ينتصب نصريا هلا .ولكن اختاذه مركز الدائرة منصة
3
على الدوام هو الضامن يف أنه ال ينتصب خصيما قاطعا ،وال ينربي نكريا قاذفا".
انطالقا من هذه النصوص النقدية أو اليت تتنزل يف مقام نقد النقد ،يتأسس اخلطاب النقدي
للمسدي على طبقة من النقد تراكمت فوق نظريهتا عند عياد مما يؤصل ملا يدعو إليه املسدي من
نقد النقد كممارسة أدائية ،دعا إليها يف بعض مؤلفاته ويف تعليقه على نص شكري عياد حول
كتابه دائما يكتب المسدي قائال":وتتواصل آلية االنسياب مبددها يف قوله":إن النقاد تغريت
أساليبهم" :فالدكتور عياد يتحدث عن النقاد بضمري مجع الغائب (هم) موحيا بأنه خارج عن ضمري
النقاد (هم) دون أن خيرج من ضمري النقد ،ألنه يريد أن حيقق متاهيا بينه وبني النقد بعد أن ينجز
االنسالل من كوكبة النقاد هؤالء ،فيكون قد سحب بساط النقد من حتت أرجلهم.وال نقد إذا إال
1
نقده".
تعد جتربة شكري محمد عياد النقدية من بني أخصب النماذج وأثراها على مر السنوات اليت
قضاها الناقد ،منقبا وحملال ومؤسسا ،حيدوه يف ذلك أمل يف دفع العملية النقدية العربية إىل أقصى
آمادها ،قصد بلوغ ذلك الشأو الذي بلغته غريها من اللغات واحلضارات ،ويف حماوالته الكثرية حملاولة
التأسيس لنقد عريب ،يرجع يف شقه األول إىل أصوله الرتاثية ويستحضرها أثناء عملية النقد ،وينفتح
يف الوقت نفسه على الوافد من الثقافة الغربية يف غري ذوبان فيه أو إحماء أمامه ،إن مايروم عياد
حتقيقه يف مشروعه النقدي الذي قارب اخلمسني عاما ،هو التأصيل ملا أمساه "علم أسلوب العريب"
يقول يف معرض تقدميه لكتابه التأسيسي "مدخل إىل علم األسلوب" " الواقع أن هذا الكتاب ال
يصدر عن رغبة يف احلداثة أو التحديث فضال عن أن حياول فتنة الناس ببدعة جديدة من بدع
الثقافة الغربية ،ولكنه حياول أن ينشئ يف ثقافتنا العربية علما جديدا مستمدا من تراثها اللغوي
واألديب ،ومستجيبا لواقع التطور يف هذا الرتاث احلي ،ومستفيدا من دراسات أهل الغرب بالقدر
2
الذي ميكن من رؤية التطور املعاصر رؤية تارخيية ،وقراءة التاريخ قراءة عصرية".
إن ما يروم عياد توضيحه لقارئ كتابه ،هو هذه احملاولة اجلادة واهلادفة إىل نوع من التالقح
الفكري واملعريف بني املوروث البالغي العريب ،وبني الوافد مما مسي فيها بعد األسلوبيات احلديثة،
وعملية التمازج هذه ،إمنا تنم عن عقل راجح وحصيف ميتاز به عياد عن غريه من النقاد الذين
جايلوه ،ولقد م ّكن له ذلك تضلعه الكبري يف علوم اللغة البالغة العربية القدمية ،وانفتاحه على
منجزات الثقافة الغربية املعاصرة " يف جتربة عياد الذي أعده رائدا للوعي ومساعي التأصيل يف املناهج
والنظريات املتقدمة ،يربز قلق املراوحة بني إمكانية تطوير نظرية نقدية تستلهم الرتاث العريب وصعوبة
التوصل إىل ذلك .فالناقد الذي سعى إىل تأسيس"علم أسلوب عريب" يف بعض دراساته هو نفسه
1
الذي أثار الشكوك حول إمكانية ذلك".
ال شك أن عياد يعي متاما صعوبة املسلك املعريف الذي رام االشتغال فيه والسري يف دربه.
ذلك أن عملية التأصيل ليست بالعملية السهلة املنال ،باعتبار تلك اخلصوصيات احلضارية اليت متيز
حضارة عن أخرى ،وثقافة عن ثقافة ،ويف الوقت ذاته يتعني على الناقد احلصيف تتبع جممل
التوجهات النقدية قصد املعاينة أوال ،مث الوعي بعمليات االشتغال ثانيا .وهو الوعي مبختلف املراحل
والتوجهات النقدية اليت تساير عمليات اإلبداع ،وتنظر هلا من منطلق اإلقرار بأن سؤال النقد سؤال
فلسفي أوال وقبل أي شيء ،ذلك أن املعرفة احلقة إمنا يهتم هبا الناقد من الوعي مبرجعيات النقد،
وخلفياته الفلسفية والفكرية واليت تعترب املادة األساسية ألي توجه نقدي ،أو منهج حتليلي يروم
الوقوف عند احلقائق املتغرية اليت حيتلها النص األديب.
يضع عياد جممل جتاربه النقدية واإلبداعية يف هناية مؤلفة "على هامش النقد" والذي محل بذور
املشروع النقدي له يف تفسريه احلضاري لألدب ،مع اإلفادة من مجلة احلقول املعرفية ذات الصلة هبذا
املشروع ،منها على سبيل اخلصوص :تاريخ األدب ونظرية األدب ،وعلم األسلوب .وهي حقول
متشابكة وملتفة حول بعضها البعض لتؤدي يف النهاية حوصلة هذه التجربة احلضارية ،يف قراءة
األدب وتفكيكه وحماولة رصد مناطق الظل والضوء فيه ،مع جتلي إرهاصات لتواجد معامل بعض
اجلهود النقدية العربية اليت تنبئ بوجود بذور هلذه النظرية يف النقد ،يقول عياد " :إنين أحاول اآلن أن
أضع خالصة دراسايت وجتاريب يف النقد وحوله ،يف مشروع نظري واحد مرتابط األجزاء يتناول طبيعة
العمل األديب ،وطبيعة العملية النقدية ،وخصائص لغة األدب ،وعالقة األدب باإلبداع احلضاري ،ويل
أبني حاجة احلياة إىل األدب حىت يستعيد األدب املكانة اليت مطمحان من وراء هذا املشروع :أن ّ
كانت له يف حياة األمة العربية على مدار التاريخ ،وأن أبث يف علوم األدب األساسية :نظرية األدب
وعلم األسلوب وتاريخ األدب ،حياة جديدة من خالل ربطها بالعلوم اإلنسانية من ناحية ،وباآلثار
2
األدبية الكربى من ناحية ثانية".
1سعد البازعي :االختالف الثقايف وثقافة االختالف ،املركز الثقايف العريب ،بريوت -الدار البيضاء ،ط 3118 ،0ص.01 :
2شكري حممد عياد:على هامش النقد ،أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط،0002 ،0ص.050 ،051 :
189
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
لكن قبل هذا بزمن ليس باليسري يقر عياد بصعوبة املهمة املنوطة بالناقد املشتغل يف حقل
النظرية ،وقلقه وشكه الدائم من إمكانية حتقيق هذا املشروع احلضاري للنظرية النقدية يقول ":أما ماال
يستطيع هذا الكتاب أن يقدمه إليك فلعل أهم ما يعنيك منه مذهب أديب تستطيع أن تتبناه وتقول
أنه مذهبك ..وال أشك ،أنك ترى ملاذا ال يستطيع هذا الكتاب أن يقدم مثل هذا املذهب،
فالكاتب الذي يظل دائما أبدا يف حوار مع نفسه ال جييب عن سؤال إال ظهر له عشرون سؤاال،
مثل هذا الكاتب قد يكون صاحب تفكري ولكنه ليس صاحب مذهب ،قصاراه أن جيعلك تفكر
1
معه أو تفكر ضده ،وإذا شئت أن تتمذهب بعد ذلك فهذا شأنك".
إن املعضلة اليت نذر الرجل نفسه ملعاينتها ومعاجلتها إمنا تشكلت وفق منطلقات حضارية يف
الزمان ،ومتثلت يف مدى استلهام ومتثّل الوافد من الثقافة الغربية وحماولة تأصيله وتبيئته يف الثقافة
العربية ،ومدى اإلفادة منه واستثماره يف عمليات التالقح الفكري يف األدب ،وإبراز فاعلية املثاقفة
اليت مبوجبها تتطور اآلداب وتزدهر ،وهو األمر نفسه الذي حصل مع األدب العريب ونقده ،إال أن
اإلشكالية الكربى اليت تقف حجرة عثرة يف وجه كل تقدم ومسايرة هو هذا العماء الفكري الذي
ميارسه طائفة من النقاد واملرتمجني العرب ،الذين أسهموا من حيث علموا أم مل يعلموا ،يف هذه
الفوضى املصطلحية واملعرفية اليت صاغوها يف مؤلفاهتم ،وينعى عياد على مجهور هؤالء النقاد
حتمسهم الشديد ملثل هذه النظريات واملصطلحات ،دون الوعي خبلفياهتا املعرفية ومرجعياهتا
الفلسفية ،يقول عياد ":لكننا نقرأ ونسمع كلمات جديدة مثل :البنيوية واألسلوب والتفكيكية
والشكالنية وتوابعها من إجرائية وحماور رأسية وأفقية ،وأصبحنا نطالع يف ثنايا النقد األديب معادالت
أشبه باملعادالت اجلربية ،وصيغا أسبه بالصيغ الكيميائية وجداول إحصائية ورسومات خطيطية،
2
فأزداد اغرتاب النقد عن األدب اإلبداعي واغرتاب كليهما عن القارئ الذكي".
إهنا ثورة فكرية من قبل الناقد على رواد وأصحاب هذا النوع اجلديد من النقد واهلالة الكبرية
اليت ألبسوها للنقد ،الذي ضاع يف حقيقة األمر يف خضم الطالسم واألشكال اهلندسية املبهمة عليه،
1شكري حممد عياد :جتارب يف األدب والنقد ،دار الكاتب العريب ،ط ،0002 ،3ص.2:
2شكري حممد عياد :على هامش النقد ،ص.032 :
190
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
واليت أدت إىل اغرتاب النقد عن فهم النص اإلبداعي ،وعدم احتفاء املبدع باآلراء النقدية للنقاد،
الذين أصبحوا ميارسون نوعا من الدجل الفكري واملعريف عوضا من أن ميارسوا النقد البناء.
يندفع عياد ملعاجلة هذه القضايا من دافع احلرص على ختليص النقد العريب احلديث واملعاصر
من كل الشوائب ،اليت قد تعلق به وحماولة تنقية النقد من العوالق هو ما يدعوه عياد "بالتأصيل" وهو
أن جيعل هلذا الوافد أصال يف ثقافتنا العربية" ال ميكن أن تعيش فكرة التأصيل إذا سيطر عليها الشعور
بالنقص ،إن فكرة التأصيل ال تويل ظهرها للثقافة الغربية بل إهنا ما كانت لتوجد لوال لقاؤنا هبذه
احلضارة 1".مث يضيف دائما حول فكرة التأصيل " ،مادامت فكرة التأصيل راجعة إىل لقاءنا باحلضارة
2
الغربية فيجب أال تتجاهل هذا اللقاء يف أي مرحلة من مراحل الفكرة".
إن احلاجة إىل اآلخر الغريب هو ما يدعو إليه عياد من خالل هذه النصوص ،إمنّا تبقى هذه
احلاجة دائما نسبية ،نسبية يف األخذ ويف الرتمجة ويف التمثل ،حىت يتسىن للذات العربية إبراز مدى
متايزها عن هذا اآلخر الغريب خبصوصيتها الذاتية الفردانية ،رغم ذلك -ومتاشيا مع روح املثاقفة اليت
يدعو إىل ارتيادها -ال يقدم لنا عياد " الوصفة املنتظرة للخروج بنظرية أو نظريات عربية يف النقد،
وفكرة التأصيل ليست أكثر من مؤشر بذلك االجتاه لكن ما يفعله عياد هو أوال أنه يرفع معدل
الوعي بإشكالية االتكاء على النظريات اجلاهزة ،مث إنه ثانيا يطرح جتربته يف مواجهة تلك اإلشكالية
3
أو التحدي".
بعد أن حيدد عياد مفهومه هلذه املفردة األساس"التأصيل" ،ال يلبث أن خيرج عن مألوف
الدعوات السابقة ،يف كيفية األخذ من الثقافات الغربية من أن خنتار املفيد وندع الرديء ،وكأن األمر
منوط بعملية اختيار منهجية واعية ،غري أنه يطرح رؤية مركبة متناقضة حول مدى فاعلية األخذ من
اآلخر ،ألن األمر يتضمن بعض املفارقات والتناقضات اليت قد تقع فيها األنا يقول " وقد ال تستطيع
1شكري حممد عياد :األدب يف عامل متغري ،اهليئة املصرية العامة للتأليف والنشر ،دط ،دث ،ص.32 :
2املرجع نفسه :ص.32 :
سعد البازعي :االختالف الثقايف ،ص03 :
3
191
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
احلضارة العربية احلديثة أن تنهض وتعيش يف جمتمع األمم اليوم إال إذا قبلت يف رحاهبا بعض
1
املتناقضات ،واستطاعت أن تصقلها بطريقتها اخلاصة".
إن عملية الوعي هبذه التناقضات هي اليت ومست جهود عياد النقدية مبيسم القلق املعريف
واحلضاري ،الذي يعي متاما صعوبة العملية وعدم الركون واالطمئنان إىل اليسري من هذه التوليفة
العجيبة بل إ ّن " القبول بالتناقض مؤشر على موقف قلق جيعل التأصيل هدفا يصعب الوصول إليه
بدال من أن يكون سهل املتناول ...وأن جزءا من أمهية النقد الذي تركه عياد هو يف هذا القلق،
الذي تتسع شواهده لتشمل الكثري من أعمال الناقد وعلى فرتات متباعدة نسبيا ،ذلك أن هلذا
القلق داللة على الوعي بأن اإلشكالية احلضارية اليت تواجهها الشعوب العربية أعقد من أن حتل
2
بتوليفة سهلة".
وعملية الوعي هبذا التناقض احلضاري ،هي اليت من شأهنا أن متهد السبيل يف معرفة وكنه
االختالف عن اآلخر الغريب ،مبا حيمله من تناقضات وقد أبان عياد عن رؤية مبكرة لطبيعة هذا
االختالف احلضاري يف كتابه "جتارب يف األدب والنقد" عند قوله عن التأصيل ":إن هذه املذاهب
اليت تطور يف ظلها علم الصناعة األدبية من كالسيكية ورومانسية وواقعية ورمزية اخل .هي أصداء
لنظرة معينة إىل احلياة ،نظرة تصيبها اختالفات الزمان واملكان بكثري من التغري والتبديل ،وخيضعها
قانون رد الفعل أحيانا ملا يشبه التناقض ،ولكن األصداء املختلفة تلتقي أخريا فتكون نظر حياة
وتكشف عن روح حضارة ،فهل ميكننا أن نستعري القواعد اليت وضعتها هذه املذاهب ،دون أن
تستعري النظرة اليت بنيت عليها املذاهب نفسها ،وهي نظرة قد ال توافق كياننا النفسي وال تالئم
3
اجتاه حضارتنا".
تأسيسا على مامت تتشكل النظرة النقدية الفاحصة لعياد ،وترسم املالمح الكربى ملشروعه
النقدي واحلضاري ،يتضح ذلك من دافع نزوعه حنو سرب أغوار هذه احلضارة الوافدة ،مع مجلة هذه
املذاهب واملناهج ،وقياس مدى اختالفها عن مكونات الذات العربية ومنطلقاهتا املنهجية ،ومرتكزاهتا
املعرفية ،اليت صاغت املالمح الكربى لعملية االختالف ،وهو يف هذا خيتلف عن الكثري من النقاد
العرب احلداثيني ،ذوي االجتاه الليربايل أو التنويري ،وتتحدد نظرة عياد أكثر من خالل مجلة مدوناته
النقدية اليت ارتكزت حول صياغة مشروعه النقدي واحلضاري ،خاصة يف تصديره لطبعته الثانية من
كتابه "جتارب يف األدب والنقد" يف قوله ":كنت منذ أواخر األربعينيات أتطلع إىل التغيري وأميل إىل
االشرتاكية (وقد قرأت صدرا ال بأس به من كتابات ماركس ولينني وستالني) وكنت رغم وطنييت
املصرية الضيقة أعشق شعر املتنيب ،وأعتقد أين كنت جبانب ذلك كله مسلما صحيح اإلميان ،فلم
1
يكن ليطاوعين مهما عربد الفكر على التجديف يف آيات اهلل".
تربز نظرة عياد ملختلف املذاهب واملناهج النقدية من منظور الناقد احلصيف ،الذي خرب معظم
هذه التيارات ،ومل ينقد يوما ما حول سيلها اجلارف ،الذي ميسح كل ما مير به جاعال من أي
خصوصية حضارية أو ثقافية ،ضربا من اهلامش الذي يدور حول املركز املتمثل يف احلضارة الغربية،
هذه احلضارة اليت ش ّكلت لنفسها مركزية على مستوى الثقافة وعلى مستوى النقد ،وجعلت من
الفكاك منها أمرا ميئوسا منه ،غري أن عياد ويف مرحلة الحقة من حياته النقدية يعرب بوضوح عن
موقفه املناهض واملضاد إزاء ما عرف فيما بعد باحلداثة الغربية واليت أسهمت بشيء غري يسري يف
ظهور مايسمى باحلداثة العربية يقول " :هل نقول -أكثر من هذا -إن دعوى "عربية" احلداثة –
هذه احلداثة – دعوى زائفة ،ألهنا ال تزيد على أن تنقل إلينا مفاهيم احلداثة الغربية ،بل مفاهيم
"حداثة" معينة ،حداثة الغريب ،والالفت ،واملثري ،بعد أن انقضى عهد رواد احلداثة احلقيقيني ،أمثال
بودلري ورامبو وإزراباوند ،ود.هـ .لورنس ،وو.ب .ييتس وجيمس جويس ،وت ،س إليوت ،الذين
شككوا أبناء احلضارة الغربية يف قيم هذه احلضارة ،وهي نفسها اليت يبشر هبا حداثيونا هؤالء باسم
احلضارة اإلنسانية ،وهي بالفعل حضارة إنسانية ،ألهنا جعلت اإلنسان مصدر القيم كلها ،فانتهت
بأن أصبحت اآللة اليت اخرتعها اإلنسان لتهيئ له مزيدا من القوة أو مزيدا من السعادة ،سببا لشقائه
ورمبا لدماره؟".2
2شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،عامل املعرفة ،اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب،
الكويت ،022 ،سبتمرب ،0002 ،ص.20 :
193
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
إذا هو املوقف النقدي لعياد من منجزات احلضارة الغربية ،وإفرازاهتا على مستوى درجات
التقبل والتلقي عند النقاد العرب ،ومدى انبهارهم هبذا الوافد وتلقيهم السليب هلذه املنجزات حىت
لكأهنم تابعني ومنبطحني ال فاعلني ومستثمرين ،والسبب يف ذلك هو هذه اهلرولة الكبرية للكثري من
النقاد احلداثيني العرب ،حنو أوروبا والغرب عموما مما أوقعهم فيما أمساه إدوارد سعيد بفنطازيا
التكرار ،يف معرض حديثه عن مستويات التلقي العريب للحداثة الغربية ،حني ينعدم الوعي مبجمل
املرجعيات واخللفيات اليت صاغت هذه احلداثة يف تربتها األصل يقول إدوارد سعيد":يساورين
االنطباع بأننا يف العامل العريب نقوم بالنسخ املباشر ،ما أن يقرأ الواحد منا كتابا من تأليف فوكو
أوغرامشي حىت يرغب يف التحول إىل غرامشاوي أو فوكوي ،ال توجد حماولة لتحويل تلك األفكار
إىل شيء ذي صلة بالعامل العريب ،حنن ما نزال حتت تأثري الغرب ،من موقع اعتربته على الدوام دونيا
تأمل العدد الكبري من األفراد يف مشال إفريقيا يف املستعمرات الفرنسية السابقة ممن يكتبون
وتتلمذياّ ،
وكأهنم تالميذ فوكو أوديريدا ،أو تودوروف ،والقسط األهم راجع يف نظري وهذا جمرد انطباع ،إىل
فهم ناقص حلقيقة الغرب ،أعتقد أننا مل ننل قسطا بعد من سريورة التنوير والتحرير باملعىن الفكري،
1
وأعتقد أن اللوم يقع على املثقفني إذ ليس بوسعنا أن ننحو بالالئمة على االمربيالية والصهيونية ".
تتقاطع رؤية إدوارد سعيد النقدية مع التوجه النقدي عند شكري عياد ،إذ ما يلبث سعيد أن
يوجه هذا النقد البناء للذات ،أو قل هو نوع من اجللد الذايت ،وذلك يف حتميله املسؤولية كاملة
جلمهور النقاد احلداثيني ،وينحو بالالئمة عليهم ،نتيجة ذلك التدين والتدهور احلاصل يف جمال النقد
وسؤال النقد ،وعمليات الوعي بالتلقي العريب هلذه املدونات النقدية الغربية.
رمبا ختتلف النربة النقدية احلادة إلدوارد سعيد عن تلك النربة اهلادئة نوعا ما من قبل عياد،
يف توجيه أصابع االهتام إىل مجلة من احلداثيني ،الذين مل حيسنوا استثمار هذا الوافد ،فعميت عليهم
أمورهم فالذوا بالعودة للرتاث ،لكن بعد أن ألبسوه حلة حداثية متثلت يف دعوهتم إىل القطيعة املعرفية
معه ،يقول عياد ":أما احلداثيون فإهنم ،واحلق يقال ،أشد التفاتا إىل الرتاث من أسالفهم ،الذين
اصطلحنا على تسميتهم جبيل الرواد ،والذين مل يروا يف النقد العريب القدمي ما يستحق الوقوف عنده،
وراحوا ينقذون ما ميكن إنقاذه من الشعر والنثر ،باستخدام أساليب النقد األورويب احلديث ،فهؤالء
1حممود مريي :أسئلة النقد احلديث ،عالمات ،جملة فصلية ثقافية ،مكناس ،0002 ،ع ،2ص.035 :
194
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
احلداثيون اجلدد يأخذون بيد النقد العريب القدمي ،ويركبونه طائرة ليلتحق جبامعة أوربية أو أمريكية،
طالبا حييا متواريا يف زمحة النقد احلديث ،ال يتكلم إال حني يبتسم األستاذ مشجعا ،فيعلق تعليقه
1
الصغري واملؤدب ،مث يعود إىل االستماع والنقل".
إن مثل النقاد احلداثيني عند عياد مثل التلميذ املطيع ،الذي ال حيسن حىت االستماع والنقل
ويف أحسن األحوال حيسن بعض التعليق البسيط ،الذي ال يصيب العملية النقدية يف صميمها بل
يطمئن ملا هو سائد وموجود ،واحلق أن عياد إمنا قسم مجهور النقاد إىل حداثيني وتراثيني إلبراز مدى
درجات الوعي الفكري ،أو إبراز الفكر النقدي عند الطائفتني .فال جند بدا من مسايرة تقسيمه هذا،
مع ضرورة االنتباه إىل ذلك النقد املبطن للجمهور الثاين أقصد احلداثيني ،بعد أن وقف موقفا نقديا
من النقاد الرتاثيني الذين يلوذون باملاضي قصد االحتماء به من نوازل احلاضر ،الذي الجيد مانعا يف
إزاحة كل القيم املضادة ،والرتاثيون يف نظر عياد هم الذين يتصيدون السقطات املعرفية ،اليت يبحثون
عنها فيما يطالعونه من كتب مرتمجة ،قصد الوقوف منها موقفا مضادا ملا هو عندهم.
إن ما يلجأ له عياد يف مثل هذه النصوص ،هو نفسه الذي وقفه محمد برادة من مستويات
الوعي بالوافد الغريب ،ومدى إسهامه يف بلورة وصياغة الذات العربية معرفيا ،يقول برادة بعد أن دعا
إىل فك االرتباط مع املاضي ،ومن مث االنتقال من مراحل التبعية إىل مراحل التحرير ":معظم نقادنا،
منذ حسني املرصفي ،قد اجتهوا صوب املستودع األديب األوريب (=الغريب) حبثا عن أدوات التحليل
والتفسري ،حىت عندما حاولوا إعادة تقييم روائع الرتاث العريب ،وهذا ما ترك يف نفوسنا االنطباع ،عند
قراءة العقاد واملازين وطه حسني وهيكل ....بأهنم جيهدون يف إبراز قيمة الرتاث عن طريق إظهار
إمكانية تطبيق املناهج الغربية على جوانبه اهلامة ،حىت ال يكون خمتلفا يف شيء عن الرتاثات األدبية
2
لألمم املتقدمة".
تتأكد عالقة األنا باألخر من خالل منظورات عديدة ترمي يف مجلة ما ترمي إليه ،التخلص من
هذه التبعية ،والدعوة إىل ممارسة تلك القطيعة املعرفية مع اآلخر ،إال يف حدود التأثري والتأثر اليت جتري
كسنن الكون ،لتفادي ذلك التصاغر الذايت أمام اآلخر ،وذلك اإلحساس بالدونية .يكتب الباحث
نبيل سليمان معلقا حول عمل الناقد العريب احلداثي الذي " يستورد من اآلخر ما هو جاهز استريادا
شرعيا أو هتريبا ،حياول التوليف مع مقتضيات الواقع الفكري والنقدي واألديب ،تتصاغر ذاته أمام
1
اآلخر الكلي اجلاذبية والتفوق".
رمبا تبقى دعوات عياد لعمليات املثاقفة من أجدى الدعوات وأرشدها ،ذلك أن عمليات
املثاقفة إمنا تنتج عنها الكثري من املواقف املصاحبة اليت تندرج حتتها بدورها مواقف ذاتية ،جتعل من
عملية اخلصوصية احلضارية مسة فارقة أو عالمة مميزة هلا عن غريها ،مما يكسبها ذلك التميز والتفرد،
فالناقد ال جيد غضاضة يف االتصال باآلخر األوريب ،ودراسة منجزاتنا النقدية واإلبداعية يف ضوء
ثقافته ،لكن ما ينعاه عياد على هؤالء النقاد ،هو عمليات النقل غري الواعية مبختلف املرجعيات
واخللفيات الفلسفية اليت جتعل من عملية التلقي أو النقل ،استنساخ حريف هلذا الوافد دون حماولة
الوعي هبذه املرجعيات أو اخللفيات ،وكأهنا قدرنا احملتوم الذي ال ميكن الفكاك منه والتملص من
ربقته ،مع علمه مبدى احلاجة املاسة لضرورة اإلتصال هبذا اآلخر ،ومن الواضح أن مثل هذه
اإلشكاالت ترسل حماكمات عامة وقابلة للتعميم ،وتسم خطاب النقد العريب احلديث بالنقل
والتجريب واالستنساخ واإلسقاط والتحريف ،وانعدام متثل الركائز االبستمولوجية والدعامات
اإليديولوجية ،إال أن ذلك ال يعدم ما كان قد دعا إليه يف وقت مضي طه حسين من ضرورة
االتصال بالغرب وحماولة مسايرته يف منجزاته ،يكتب فؤاد أبو منصور قائال ":الغرب مرآة تساعدنا
على رؤية أنفسنا يف السلم احلضاري ،وحتدد لنا على أية درجة نقف ،وكيف سنتوجه وأية أدوات
2
نستعمل الستكمال مشروع املعاصرة".
انطالقا مما مت تقدميه حول عالقة النقد العريب بالنقد الغريب ،وضرورة األخذ والتبادل احلضاري
والثقايف ،خيوض عياد غمار جتربة التحديث حيدوه يف ذلك أمل يف حماولة مسايرة هذا الوافد ،ويف
الوقت ذاته يشد أزره ما كان قد بدأه بنفسه من متابعة التيار األسلويب يف النقد العريب املعاصر،
وحماولة إجياد توليفة عجيبة بني هذا الوافد ومقوالت البالغة العربية القدمية ،مع الوعي بالشروط
التارخيية اليت صاغت عمليات إجياد البدائل املصطلحية واملفهومية.
1نبيل سليمان :مسامهة يف نقد النقد األديب ،دار الطليعة للطباعة والنشر ،بريوت ،ط ،0082 ،0ص.28 :
2فؤاد أبو منصور :النقد البنيوي احلديث بني أوروبا ولبنان ،نصوص ،مجاليات ،تطلعات ،دار اجليل ،بريوت ،ط،0
،0085ص.33 :
196
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
لقد كلف عياد مبعضلة التأصيل ودعا إليها تقريبا يف جل مدوناته النقدية ،باعتبار أن عملية "
التأصيل سواء نظرنا إليها عند األديب املنشئ أو عند الناقد الدارس ،تنطوي على جدال مستمر بني
األصيل والوافد ،حبيث تبدوا األصالة عملية نسبية ومتطورة أشبه بتيار مطرد ال يتوقف أبدا ،وهنا
أيضا ميكننا أن نبحث عن املقومات الثابتة والصفات املتغرية بشرط أال نفهم من الثبات معىن اجلمود
1
واحملافظة ،وإمنا هو جماز نستعمله ونقصد به معىن الدميومة واالستمرار".
إال أنه ظل متشككا يف جدوى وفاعلية هذه احملاولة ،اليت أراد من خالهلا إما أن يؤسس لفن
أديب كالقصة القصرية أو املنهج ،كاملهج األسلويب يف حتليل اخلطابات ،ذلك أن الرجل حاول أن
يعيد صياغة هذا املنجز ،وميزجه باملوروث سواء كان إبداعا أم نقدا كالبالغة العربية.
إن عياد يضع قارئه يف مواجهة حقيقية وحامسة أمام ما يروم التوصل إليه ،داعيا إياه إىل عدم
تسليمه بتلك القناعات اجلاهزة واألفكار الناجزة ،بأن حماولة عياد هي مبثابة اإلجناز النهائي يقول يف
مقدمة إحدى كتبه ":عن هذا التصور صدرت املقاالت التالية ،فإن وافقك هذا التصور فذاك ،وإال
فكن على ثقة من شيئني :أوهلما أين مل أستمل هذا التصور من فلسفة معينة ،ولكين صغته من
معايشة طويلة لروائع األدب القدمي واحلديث ،وثانيهما أين مل أضع هذا التصور أمامي حىت شرعت
يف الدراسات اليت بني يديك ،فتستطيع أن تطمئن إىل أنك لن جتد تطبيقا آليا لنظرية ال ترضاها ،بل
إين لن أعجب إذا وجدت يف هذه الدراسات ما يناقض النظرية اليت أوضحتها لك ،إن جاز أن
نسمي مثل هذا التصور نظرية ،فلنتفق أو خنتلف حول النظريات ،سيظل جيمعنا دائما اهتمام صادق
2
هبذه األعمال العجيبة اليت تسمى األعمال األدبية".
واستكماال هلذه اجلهود النظرية ،سينهض الفصل املوايل بإبراز حمطات التماس احلاصلة ،بني
البالغة العربية القدمية ،ومنجزات األسلوبيات احلديثة ،وذلك قصد الوقوف على عمليات التوليف
املعريف اليت متت بني العلمني ،هبدف توضيح الرؤية النقدية األسلوبية عند الناقد حممد شكري عياد.
توطئة
.1املشروع األسلوبي عند عياد
.1.1إشكالية استقبال األسلوبية يف النقد العربي احلديث
.1.1معطيات شكري عياد األسلوبية
.1شكري عياد و معضلة التأصيل ألسلوبية عربية
.1مباحث األسلوب يف الرتاث العربي
.1شكري عياد و حماوالت التجديد
198
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
توطئة
تأتلف نظرة عياد إىل الرتاث العريب -ممثال يف مظانه النقدية والبالغية ،-من دافع نزوعه حنو
إعادة قراءة هذا املوروث قراءات عديدة ،من أجل إماطة اللثام ورفع الغنب الذي سيطر على هذه
احلضارة فأصاهبا نوع من الوهن ،رمبا أخرجها من دائرة احلضارات العاملية ،وجعلها ترزح حتت مظلة
التبعية املعرفية ردحا غري قليل من الزمن .ال يلبث الناقد يف العديد من مؤلفاته أن يدعو إىل ضرورة
إعادة قراءة هذا الرتاث قراءات مغايرة ملا كان سائدا ،ليس بغرض املسايرة بل بغرض التجاوز ،الذي
ينجم عنه ال حمالة إعادة اكتشاف مناطق الظل والضوء ملرات أخرى ،بغية ممارسة نوع من النقد
الذايت الذي يسمح ولو بالشيء اليسري ،بتعرية هذه األنساق ونبش تراكماهتا املكرورة ،يقول عياد يف
معرض تصديره ألحد أهم كتبه ":الغرض من هذا الكتاب إعادة النقد العريب إىل ساحة الفكر
العاملي ،وهذا مطلب ال يقوم به كتاب واحد وال كاتب واحد ،ولكننا نصدر عن اعتقاد جازم أن
1
البداية الصحيحة هتيئ لالجتاه الصحيح".
إن الناقد قد ال جيد مناصا من حماولة دفع العملية النقدية ،والقرائية بشكل عام إىل آماد بعيدة
رمبا أكسبتها نوعا من الدقة اليت تنشدها أثناء عملية القراءة ،واحلافز يف ذلك هو أن إعادة القراءة
ختضع جلملة من الضوابط والشروط اليت جتعل منها –أي عملية القراءة -عملية هادفة وذات جدوى،
غري أنه ال يصدر عن رغبة فردية جتاه هذا الكم من القضايا النقدية اليت حتتاج يف واقع األمر إىل
جهود مضاعفة وجبارة ،من أجل إجناز هذا العمل الكبري ،وعياد يف الوقت ذاته حياول إعادة دفع
وجراء ذلك
النقد العريب املعاصر إىل ساحة الفكر العاملي ،قصد االحتكاك به وحماولة حماكاته ومتثلهّ ،
يسهم هذا النقد يف إثراء الكثري من مقوالته وجهازه املصطلحي واملفهومي باجلديد الذي تزخر به
1شكري حممد عياد :اجتاهات البحث األسلويب ،أصدقاء الكتاب ،القاهرة ،ط ،0002 ،3ص.15 :
199
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الساحة النقدية العاملية ،ومن مث يضمن لنفسه حيزا ضمن هذه الفضاءات العاملية؛ ألن من شأن
استحضار الرتاث بغية حماورته وفك شفراته ومغاليقه أن يدفع بالعملية النقدية قدما ،وجيعلها ذات
جدوى وفاعلية يف حماولة قراءة أسئلة النقد العريب بشقيه القدمي واحلديث ،يقول عياد منبها لفاعلية
هذه العملية ":أردت أن أثبت أن هبذا العمل الضئيل أننا إذا نظرنا إىل تراثنا بعيون مفتوحة على ثقافة
العصر أمكننا أن نعرف قيمة ذلك الرتاث بال مبالغة ،وأن ننقده بال خجل ،وأن نعيشه بال مجود،
ذلك أن إعادة تفسري املاضي يف ضوء حاجات احلاضر وتطلعات املستقبل حتيل كتلة املاضي إىل
1
زخم يدفع احلاضر حنو املستقبل".
تعترب عملية استقبال املناهج النقدية الغربية ضرورة حتمية؛ ذلك أن عملية املثاقفة إمنا تتم
بطريقة النقل والتحوير للكثري من مقوالت الوافد إىل الثقافة العربية احلديثة واملعاصرة .وعملية التلقي
ملختلف املناهج الغربية إمنا متت وفق معايري وضوابط وأسس ال جند للنقد العريب حيادا عنها ،إال يف
بعض جماالت االستقبال اليت شهدت متاهيا كليا يف منجزات اآلخر الغريب ،على أساس أنه مركز
الفكر العاملي ونقطة إشعاع حضاري ،جيب مسايرته يف كل ما يدعو إليه .غري أن هذه املشكلة
عرفت نوعا من النكوص مارسته الذات العربية يف مقابل هذا الزخم الفكري والنقدي الذي عجت به
الساحة النقدية العاملية ،وعملية النكوص إمنا متت للتأسي مبا لدى الذات من تراث ،ميكن أن ترتد
إليه مولية ومشيحة بوجهها عن هذا الكاسح الغاشم.
يعيب صالح فضل عملية االنبهار اليت وقع ضحيتها الكثري من النقاد العرب أثناء استقباهلم
ملختلف املناهج الغربية ،وعلى رأسها األسلوبيةُ ،مرجعا املشكلة إىل قصور يف عملية الفهم ملختلف
املرجعيات الفكرية هلذا املنهج ،إضافة إىل أن مجلة من الدراسات العربية يف جمال األسلوبية اتسمت
"بعجزها عن تقنني هذه املبادئ وتأصيلها" ،2حينما حتدث فضل عن احتفاء الدارسني العرب جبملة
من املبادئ اليت اتكأت عليها األسلوبية كمنهج من مناهج حتليل اخلطابات األدبية ،ناعيا إياهم
200
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
اكتفاءهم مبا مساه "الوعي الفطري الساذج واالطمئنان إىل انفصام البالغة التقليدية عن احلياة
1
واإلشفاق من ورود منابع العلم".
الشك أن فضال يتخذ مجلة من املواقف النقدية لعملية التناول ،اليت متت من قبل بعض النقاد
العرب يف جمال األسلوبيات ،ويرجعها أحيانا إىل سوء التمثل هلذا الوافد وحماولة االقتناع بأن للذات
العربية موروثا نقديا بالغيا رمبا يصلح ليحل حمل هذا الوافد ،ويف الوقت نفسه يقتلون أي حماولة
لدمج هذه املقوالت البالغية القدمية هبذه املبادئ واملنطلقات األسلوبية احلديثة ،لتنجم عن عملية
التزاوج هذه إطارات نقدية حداثية ،ال تتماهى مع الغرب وال تنكفئ على الرتاث ،إمنا تأخذ من كل
طرف مبقدار ،أضف إىل ذلك أن هذه الدراسات العربية كما يرى صالح فضل هي خليط مشوه
وشتات مضطرب من الشروح اللغوية واملالحظات الفيلولوجية والبيانات اللغوية املشوبة بظالل
املفاهيم األسلوبية مع تفاوت يف نسب األخذ هبذا االجتاه أو ذاك ،وإذا عملية النقد قائمة على
2
إرسال أحكام جائرة خالية من النظرة العلمية املتأنية والبحث العلمي الرصني.
أما الباحث شفيق السيد فال يكاد حييد عما ذهب إليه صالح فضل ويشاطره الرأي يف
ضعف مستوى الدراسات األسلوبية العربية ،بسبب من غموض اآلليات واملصطلحات اخلاصة
باملنهج األسلويب ،ناهيك عن التعقيد الكبري واملبالغ فيه أحيانا من قبل األسلوبيني العرب ،الذين كثريا
ما تأيت أعماهلم متسمة بطابع هذا الغلو يف الغموض والتعقيد ،غري أنه استثىن من بني هؤالء
الدارسني شكري محمد عياد خاصة يف مؤلفه التأسيسي "مدخل إىل علم األسلوب" ،الذي رأى
فيه الباحث أن عياد أخذ نفسه بشيء غري قليل من األناة والرصانة يف البحث ،ويستدل على ذلك
مبا جاء يف تقدميه لدراسته املوسومة "االجتاه األسلويب يف النقد األديب" قائال" :ومل حيملنا اإليقاع
3
السريع لدورة الزمن على التنازل عما أخذت به نفسي من األناة واملثابرة وفاء حلق العلم".
2ينظر :صالح فضل ،علم األسلوب مبادئه وإجراءاته ،ص ،12 :وينظر كذلك ،حممد الناصر العجيمي :النقد العريب
احلديث ومدارس النقد الغربية ،كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية -سوسة ،ط 0008 ،0ص.020 :
3شفيق السيد :االجتاه األسلويب يف النقد األديب ،دار الفكر العريب ،القاهرة ،0082 ،ص.12 :
201
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ويذهب عبد السالم المسدي وجهة مغايرة يف حبثه عن سبب قصور الدراسات األسلوبية
العربية وال يكتفي بتشخيص احلالة املزرية ،اليت آل إليها النقد العريب املعاصر ،من سوء متثل ملختلف
املناهج الغربية مبا فيها األسلوبية ميدان اهتمام الرجل ،بل يقف عند تلمس األسباب الداعمة لفكرة
التهافت والقصور ،اليت تأتت يف نظره من مشكلية التعامل مع املفاهيم احلديثة عند الغربيني ،واصفا
إياهم بأهنم متثلوا احلداثة جيدا وتشربوها حىت خالطت كياهنم والبست وجودهم وأصبحت "منصهرة
يف بوتقة تارخيية 1".يف حني تبقى احلداثة عند العرب جمرد شعار يتناقلونه ويتهافتون على التوصيف
به ،وذلك راجع يف رأي الناقد إىل تشعب مسائل احلداثة ،وبعد الشقة بني سياقات النقد العريب
والنقد الغريب هذه السياقات هي الكفيلة بصنع تلك الفوارق اجلوهرية ،اليت تبني عن خصوصية كل
طرف.
إال أن هذا ال يعدم عملية األخذ من اآلخر الغريب ،وحماولة استثمار ما جادت به احلداثة
الغربية من مناهج نقدية ،أسهمت يف إعادة صياغة الوعي النقدي عند الغربيني والعرب على السواء،
وال جيد النقاد العرب احملدثون حرجا يف األخذ من اآلخر مبا يضمن نوعا من التطور والنمو للكثري
من مقوالتنا النقدية الرتاثية ،اليت بقيت أدراج التاريخ؛ فصالح فضل مثال يدعو -يف معرض حديثه
عن الدراسات العربية وتقوميها ومؤاخذته إياها باضطراب الرؤية واالفتقار إىل املنهج ،-إىل ضرورة
التزود بكل جديد عند الغربيني من أساليب حبث مل تعهدها الساحة النقدية من قبل ،وخيص بالذكر
األسلوبية باعتبارها منهجا نقديا حداثيا ،والتوسل مبا توفره من آليات وإجراءات حتليل دقيقة ،وهو
شرط تطور النقد العريب املعاصر ،والضامن على جتديد النظرة إىل أدبنا قدميه وحديثه ،وحتقيق ما
نصبوا إليه من نقلة نوعية تدفع مبناهج نقدنا العريب إىل مشارف العصر.
إن عملية االهتمام مبا عند الغرب من مناهج ،وحماولة استثمارها هو ما حدا بمحمد عزام
مثال يف كتابه "األسلوبية منهجا نقديا" بضرورة الدعوة إىل إثراء مناهجنا وطرقنا مبا ج ّد من أساليب
حبث غربية ،وذلك هبدف االخنراط يف حركة النقد احلديثة بكل كفاءة واقتدار .مع ضرورة الوعي مبا
لدينا من تراث زاخر وغين بكل مقومات التقدم والرقي على مستوى النقد .دون أن جيعل هذا الرتاث
سببا يف ختلفنا وتكلسنا ،حبجة أن تراثنا غين إىل احلد الذي ال ميكن إفادته مبا لدى اآلخر من
1عبد السالم املسدي :األسلوبية واألسلوب -حنو بديل ألسين يف نقد األدب ،-الدار العربية للكتاب ،0022 ،ص.02 :
202
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
منجزات ،وهو ما قنع به بعض املثقفني العرب يف العصر احلديث ،وركنوا إىل تلك القناعات الزائفة،
اليت تنم عن قصور يف النظرة وتقصري يف البحث ،غري أنه يدعو إىل حماولة سرب كنه هذه املناهج وعلى
رأسها األسلوبية ،إميانا منه بالقيمة املعرفية واإلجرائية اليت حتققها ،وما تنتجه من آليات نقدية جديرة
بتمهيد الطريق إىل مباشرة إعادة قراءة الرتاث " من منطلق التفاعل بينه وبني احلداثة" ،1الشيء الذي
يربز معه مبا للرتاث العريب من رسوخ قدم يف جمال الدراسات اللغوية ومن مث بعث املاضي يف احلاضر.
الشك أن إقبال النقاد العرب املعاصرين على تلقي هذه املناهج ،ومن بينها املنهج األسلويب يف
حتليل اخلطاب ،مرده إىل شعور بالنقص يف آليات القراءة النقدية الرتاثية ،مما يسمح بأن تتواشج
مقوالت الرتاث مع ماهو وافد من الثقافة الغربية ،لتحصل الفائدة املرجوة .األمر الذي حدا بالباحث
حمادي صمود إىل أن تنازعه نفسه يف كيفيات األخذ إما من الرتاث وإما من احلداثة ،ذلك أن
الرجل هو من ناحية "متجذر يف الرتاث باالنتماء ،مشدود إليه وحمكوم به ،حىت غدا قطعة من كيانه
اليستطيع االنعتاق منه وال االبتعاد عنه أبدا ،وهو من ناحية أخرى مدعو إىل االخنراط يف عصره
وفهمه" ،2وعملية التوفيق بني االجتاهني أو التيارين ليست بالعملية السهلة امليسورة ،إمنا تقتضي ممن
يتشبث هبا جهدا مضاعفا وأن يطيل معاشرة كال االجتاهني وأن يسلك سبيل الفهم وأن ينساق بني
أعطاف الرتاث كما احلداثة " فليس من سبيل إىل تأصيل الكيان ،والتعمق يف فهم الرتاث وتعيني ما
يقوم فيه من ناصع املعامل ومشرق األحناء إال باالنغماس يف العصر والتوسل بلغته واالهتداء مبفاهيمه،
على أن يكون ذلك معرفة عميقة ال تستسهل صعبا وال تستعجل نفعا ،معرفة جتلو اخلفايا وتربز
3
اخلصائص وحتيط باملوارد واملصادر".
2.1معطيات شكري عياد األسلوبية
تعترب األسلوبية من احلقول املعرفية والنقدية اليت ارتادها شكري عياد منذ بدايات كتاباته
النقدية ،واليت وضع فيها مجلة من املدونات اليت تتفاوت أمهيتها بتفاوت القضايا النقدية اليت يطرحها
يف كل مؤلف ففي مؤلفه "مدخل إىل علم األسلوب" يضع عياد قارئه يف صلب العملية التواصلية
1حممد عزام :األسلوبية منهجا نقديا ،منشورات وزارة الثقافة ،دمشق ،0080 ،ص.15 :
2حممد الناصر العجيمي :النقد العريب احلديث ومدارس النقد الغربية ،ص.050 :
محادي صمود :الوجه والقفا يف تالزم الرتاث واحلداثة ،الدار التونسية للنشر ،0088 ،ص12. :
3
203
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
والنقدية ويوليه من العناية ما جيعل من اخليط الرابط بينهما متينا منذ البداية ،فال يفاجئه بأن ما هو
بصدد مطالعته عن علم األسلوب هو علم جديد العهد له به ،إمنا يسايره من حيث املنطلقات
الفكرية املوضوعة أساسا يف عملية تأليف الكتاب ،ويطلعه بأن ما هو بصدد مطالعته إمنا هو من
قبيل القدمي ،الذي حفل به سابقا يقول عياد يف مفتتح الكتاب ":الكالم عن األسلوب قدمي أما علم
األسلوب فحديث ولكنين إذ أقدم إليك هذا الكتاب ال أغريك ببضاعة جديدة مستوردة ،فعلم
األسلوب ذو نسب عريق عندنا ،ألن أصوله ترجع إىل علوم البالغة ،وثقافتنا العربية تزدهر برتاث غين
1
يف علوم البالغة".
هو إذا نوع من التذكري الذي البد للمؤلف من شد انتباه قارئه منذ الوهلة األوىل ،وحماولة
استمالة فكرة وهتيئة قدراته ،لينخرط ضمن هذه املقوالت الوافدة ،واليت ال متثل مصادرة للحقوق
املوروثة عن األجداد ،الذين خلفوا هذا اإلرث البالغي اهلام ،واألمر اآلخر الذي يتغياه عياد من هذه
املصارحة واملكاشفة ،هو كذلك حماولة إقناع هذا القاريء منذ البداية ،بأن عملية االقرتاض اليت تتم
بني اآلداب والثقافات ،هي اليت من شأهنا أن تراكم هذه املعارف يف غري جفاف أو إسراف ،ويف
الوقت ذاته هي دعوة إىل عمليات املثاقفة والتالقح ،اليت تتم بني اآلداب اإلنسانية وهي شرط أي
تقدمي ورقي ،يقول عياد ":والواقع أن هذا الكتاب ال يصدر عن رغبة يف احلداثة أو التحديث ،فضال
عن أن حياول فتنة الناس ببدعة جديدة من بدع الثقافة الغربية ،ولكنه حياول أن ينشئ يف ثقافتنا
العربية علما جديدا مستمدا من تراثها اللغوي واألديب ،ومستجيبا لواقع التطور يف هذا الرتاث احلي،
ومستفيدا من دراسات أهل الغرب بالقدر الذي ميكن من رؤية التطور املعاصر رؤية تارخيية ،وقراءة
2
التاريخ قراءة عصرية".
منذ البداية ال يريد عياد -كما أسلفنا -أن يفاجئ قارئه بأشياء رمبا تكون من باب اجملهول
عليه ،إمنا يدفع الناقد بالعملية القرائية واإلبداعية والنقدية لتتالقح مبا عند اآلخر من ثقافة تؤهلها ألن
تتسامق معها يف مساء احلضارة العاملية ،ذلك أن عياد من النقاد العرب القالئل الذين وقفوا موقفا
وسطا ،وجسرا واصال بني جيلني من أجيال النقد األديب ،فالرجل مل يشح بوجهه عن تراثه التليد،
0شكري حممد عياد :مدخل إىل علم األسلوب ،أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط،0002 ،2ص.15 :
2املصدر نفسه ،ص.15 :
204
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الذي يعترب أحد أهم مقوماته النقدية واملعرفية ،ويف ذات الوقت مل ينبهر انبهار أولئك النقاد
السطحيني ،هبذا الوافد من الثقافة الغربية ،بكل ما محله من زخم فين وفكري ونقدي وإبداعي وحىت
مادي ،إمنا اتسمت نظرته باالعتدال والوسطية ،وإمساك العصا من وسطها فهو مشدود يف شقه إىل
الرتاث العريب التليد ،وهو يف شقه اآلخر منفتح بدون إسراف على منجزات احلضارة الغربية ،يف غري
غلو وال انبطاح ،لذلك نالحظ الرجل يف الكثري من مؤلفاته ينحو هذا املنحى االعتدايل ،يف جمال
النقد مما مكنّه من ارتياد مجلة هذه احلقول املعرفية ،اليت طرقها بنقده اهلادئ والرصني يف غري تسرع
وال امتثال وال تعصب ،وذلك إلميانه الراسخ أن احلضارة اإلنسانية إمنا هي مناصفة بني كل اآلداب
والشعوب ،وال ميكن حلضارة ما أن تنـزوي وتنكفئ على نفسها وتدعي األصالة .ويف الوقت ذاته ال
ميكن هلا أن تنسلخ من أصلها وترمتي يف أحضان الوافد الغريب ،فتفقد مقومات وجودها ،يقول عياد
يف معرض تشخيصه املوقف النقدي من ثنائية األصالة /املعاصرة.... " :األدهى أن اجلمع بني
األصالة واملعاصرة جيب أن يكون شيئا يف صلب الثقافة املشرتكة فلو ختصص ناس يف األصالة أي يف
قراءة الرتاث وآخرون يف املعاصرة ،أي يف دراسة الثقافات الغربية لتسرب األولون يف املاضي وذاب
1
اآلخرون يف األجنيب".
انطالقا من تقريره هذا ،يعاين الناقد بنظرته الفاحصة الكثري من مقوالت النقد الغريب احلداثي،
ويعيد صياغتها وفق منطلقات الثقافة العربية اليت ترفض االحمّاء يف هذا الوفد ومنجزاته ،سريا على أن
لكل حضارة خصوصيتها وفرادهتا على مستوى اإلبداع والنقد ،أو قل على مستوى الوعي هبذه
املقومات واملكونات ،ويتجه عياد صوب خمزونه الفكري الرتاثي ،يف مزاوجة عجيبة مع مقوالت النقد
الغريب يف أشدها حداثة ليقرر أن " القارئ اجليد ميكن أن يصبح منشئا جيدا ،والقارئ الرديء ال
يكون إال منشئا رديئا ،وإذا احنطت قيمة اإلنتاج األديب احنطت قيمة القراءة ،وإذا تعلم ّقراء األدب
2
كيف يقرؤون ،فالبد لكتابه أن يتعلموا كيف يكتبون ،أو يكفوا عن الكتابة".
إن احلاصل من هذا االستشهاد هو موضعة القارئ والكاتب عند عياد ،هذه املوضعة هي اليت
من شأهنا أن تويل نوعا من األمهية إىل ما ميكن أن ينجر عن فعل القراءة يف حد ذاته ،وتلمس تلك
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية و النقدية عند العرب والغربيني ،ص.02 :
2شكري حممد عياد :مدخل إىل علم األسلوب ،ص.2 :
205
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
األمهية واملرتبة املتقدمة اليت حيتلها القارئ يف صلب العملية النقدية عند عياد ،وذلك ألن الرجل -
كما أسلفنا -على اطالع مستمر ودائم على كل جديد يف ساحة النقد العاملية.
بعد أن قطع النقد العاملي أشواطا ومسافات زمنية ،توصف عادة بأهنا طويلة طول باع أصحاهبا
يف جمال الفلسفة وعلم اجلمال وغريها ،وبعد أن اختلفت الكثري من املدارس النقدية يف منطلقاهتا أو
نتائجها اليت ترمي الوصول إليها .نفض النقد العاملي يديه من الكثري من اليقينيات واملسلمات اليت
كانت سائدة زمنا طويال ،كاالحتكام إىل مجلة السياقات اخلارجية يف قراءة النص ،باعتبارها املفسر
الوحيد له ومع ثورة اللسانيات والشكالنية والبنيوية على هذه املسلمات ،حت ّجر النقد مرة أخرى يف
سجن اللغة ،فلم يستطع واحلال هذه أن يتحرر من هذا السجن اللغوي ،الذي فتحه البنيويون،
فكان أن تفتت وتفكك هذا الوهم مبعاول البنيويني أنفسهم مبشرين مبيالد اسرتاجتيات جديدة يف
تفكيك اخلطابات وحتليلها ،غري حمتكمني إىل أي مقوم أو رابط ،وأجنر عن ذلك فوضى مصطلحية،
كما هي فوضى يف املفاهيم ويف اآلليات ،وانبثق من جراء ذلك ما يعرف اآلن يف أجبديات النقد
الغريب املعاصر بنظريات القراءة والتلقي ،اليت أسهمت يف بلورة ريادة القارئ وإبراز أمهيته ومكانته
ومركزيته ضمن العملية النقدية ،وتقدميه على أطراف عملية اإلبداع كاملبدع والنص ،واملالحظ أن
عياد يساير يف بداية كتابه هذا جزء من طروحات هذه النظرية ،ويويل األمهية البالغة الستعدادات
القارئ ونتائجه وجيعل منه مركزا يف العملية النقدية ،ويقدمه حىت على مؤلف النص ،وجيعل من
موجه
اهتمامه به بؤرة العملية برمتها ،فهو املسؤول -القارئ -عن إنتاج أدب هادف ومجيل ،ألنه ِّ
ومقوم هلذا الكاتب الذي حيتكم يف إبداعاته إىل استنتاجات هذا القاريء وإستخالصاته .
يتلمس عياد خطاه بكل تؤدة وصرب وتعقل ،لريسم لنفسه فضاء رحبا يساوق به كل املنجزات
اللغوية والنقدية ،اليت متور هبا الساحة األدبية .فيوضح بداية أن موضوع املسائلة والدرس ،إمنا هو
دائما األسلوب الذي نبحث عنه داخل النصوص .هذا األسلوب الذي هو روح اإلبداع وعموده
1
الذي يتميز أكثر ما يتميز باخلصوصية والفردانية حىت قال بوفون أن "األسلوب هو الرجل نفسه"
وذلك دليل على تلك اخلصوصية ،اليت يتميز هبا الكتاب واألدباء فلكل فرد أسلوبه اخلاص به ،إال
أن عياد ينفي عن نفسه وعن اآلخرين كالمهم عن األسلوب ،ما مل نتجاوز تلك األحكام القيمية
االنطباعية اليت من شأهنا أن تسيء للعملية النقدية من أساسها يقول ":من الواضح أننا ال نستطيع
أن نتكلم عن األسلوب كالما مستقيما ،يتجاوز حدود االنطباعات اجلزئية أوالوقتية ،ما مل حندد
مفهومنا "لألفكار" اليت توجد يف األدب أوال توجد فيه ،وينبغي لنا عندما حناول ذلك أال ننسى أن
هذا األدب ،الذي نتحدث عنه ليس شيئا جمردا ،ولكنه سالسل من األصوات اليت نسمعها بآذاننا،
1
حسنا الداخلي إذا كنا قد تعودنا أن نقرأ قراءة صامتة".
أو ترتدد يف ّ
رمبا يتقاطع الناقد مع طروحات أخرى أذاعها يف مؤلف آخر ،ال يقل أمهية من حيث إرساءه
ملبادئ النقد األديب ،هو مؤلفه "دائرة اإلبداع" ،الذي يربز فيه ماهية األدب ومدى اكتنازه جبملة
القيم ،اليت ال خيلو منها أي عمل أديب ،وهو إذ يذهب هذا املذهب ،فإمنا ليؤكد أن األدب كغريه
2
من الفنون اإلنسانية األخرى يتمازج فيها املادي العيين باجملرد املعنوي.
وما دام األدب حيتكم إىل هذين املكونني املادي والتجريدي ،فإن العديد من النقاد العرب
احملدثني ،مل يستطيعوا أن يفرقوا حسب عياد بني اللغة األدبية واملعىن األديب ،ذلك أهنم قفزوا يف
تعريفاهتم لألسلوب األديب قفزا جعل من جهودهم تصاب بنوع من القصور ،على مستوى املعرفة
النقدية ،وحياول عياد أن يلملم أشتات هذه األفكار املتناثرة حول التمييز بني اللغة األدبية واألدب
نفسه فيصل إىل أن" األدب فن مجيل ولكنه خيتلف عن سائر الفنون اجلميلة (كالتصوير والنحت
واملوسيقى) بأنه ال ميلك أداة التعبري اخلاصة به ،بل يستمدها من اللغة اليت يستعملها الناس يف
حماوراهتم ومعامالهتم وشىت أغراض حياهتم ،فإذا بدأت مناقشة اللغة األدبية من حقيقة كوهنا أدبا،
اضطربت بني حقيقة كوهنا فنا وحقيقة كوهنا لغة ،ومن مث فال بد لك أن تبدأ من أحد الطرفني :إما
من طرف الفن وإما من طرف اللغة ،وقد تناوهلا الفالسفة من الطرف األول ضمن حبثهم يف فلسفة
اجلمال وفلسفة الفن ،فكان تفكريهم أكثر انسجاما ،ولكنه مل يعط األعمال األدبية اهتماما كافيا
من حيث هي إشارة لغوية ،ولذلك ظل مبعزل عن النقد األديب إال فيما ندر ،بقي إذا أن جنرب
3
الطريق اآلخر فندرس اللغة األدبية بادئني من حقيقة أهنا لغة".
2ينظر شكري حممد عياد :دائرة اإلبداع -،مقدمة يف أصول النقد ،-دار إلياس العصرية ،القاهرة،0082 ،ص.28 ،22 :
3شكري حممد عياد :مدخل إىل علم األسلوب ،ص.02 ،02 :
207
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يتضح جليا أن الناقد ينحو منحى الدارسات اللسانية احلديثة ،اليت تروم البحث عن اللغة
باعتبارها ظاهرة اجتماعية أو نظام من العالمات ،وجيب أن تدرس لذاهتا ومن أجل ذاهتا ،وهي
إحدى الدعوات النقدية اللغوية للعامل اللغوي سوسري ( ،)F. De Saussureومناداته بالدراسة
مهد
التعاقبية للغة ،بعد أن أزاح الدراسات التارخيية اليت كانت سائدة إبان العصور اللغوية ،مما ّ
السبيل لعياد ولغريه من النقاد احملدثني ،بأن يتجهوا يف دراستهم صوب تلك الكشوف ،اليت مت
التوصل إليها من قبل اللسانني ،ومن مث يتجه عياد يف دراسته لألسلوب اجتاها لغويا صرفا،باعتبار
اللغة هي احلاضنة األساسية والوحيدة لكل أنواع األساليب.
يتتبع عياد املظان األوىل لظهور علم األسلوب يف أوربا ،فيتعقب ذلك من باب الفتح الذي
أتت به اللسانيات يف دراسة اللغة ومناداهتا بالدراسة األفقية (اآلنية) للغة وأبعدت من اهتماماهتا
الدراسة (الرأسية) التارخيية ،أو قل أزاحتها قليال ،وقبل ذلك عّرج عياد كعادته يف طلب التأصيل
املعريف والعلمي إىل تعريف األسلوب يف الرتاث العريب ،وكيفية إرجاع هذه التعريفات حىت إىل عصور
االحتجاج ،مث تناول املفهوم كما عند العالّمة ابن خلدون الذي ّ
يعرف األسلوب بقوله ":ولنذكر هنا
سلوك األسلوب عند أهل الصناعة ،وما يريدون هبا يف إطالقهم ،فأعلم أهنا عبارة عندهم عن املنوال
الذي ينسج فيه الرتكيب ،أو القالب الذي يفرغ فيه .وال يرجع إىل الكالم باعتبار إفادته أصل املعىن
الذي هو وظيفة اإلعراب ،وال باعتبار إفادته كمال املعىن من خواص الرتاكيب ،الذي هو وظيفة
البالغة والبيان ،وال باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض .فهذه العلوم
الثالثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية ،وإّمنا ترجع إىل صورة ذهنية للرتاكيب املنتظمة كلية باعتبار
انطباقها على تركيب خاص 1".مل يؤصل ابن خلدون األسلوب على معاين النحو فقط وإمنا جعل
النحو والبالغة والعروض آليات تغذي سلوك األسلوب كما يسميه هو ،لكنه مل ميتح من معني
التقعيد الذي وقعت فيه العلوم اللغوية يف زمانه ،ألن الصناعة الشعرية يف نظره تتعدى معرفة العلوم
املذكورة وال تقوم الشاعرية عند الشاعر بإدراك هذه العلوم .إمنا ترجع الصناعة الشعرية حسب ابن
خلدون إىل " تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان الرتاكيب وأشخاصها ويصريها يف اخليال
رصا
فريصها فيه ّ
كالقالب أو املنوال مث ينتقي الرتاكيب الصحيحة عند العرب باعتبار اإلعراب والبيان ّ
النساج يف املنوال حىت يتسع القالب حبصول الرتاكيب الوافية مبقصود
كما يفعله البنّاء يف القالب أو ّ
1عبد الرمحان بن حممد بن خلدون :املقدمة ،دار صادر ،بريوت ،ط ،3111 ،0ص.221 :
208
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الكالم .ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العريب فيه ،فأن لكل فن من الكالم
1
أساليب ختتص به وتوجد فيه على أحناء خمتلفة".
إن األسلوب حسب تصوره ،صورة ذهنية تغمر النفس وتطبع الذوق ،األساس فيها الدربة
النابعة عن قراءة النصوص اإلبداعية املتفردة ،ذات البعد اجلمايل األصيل ،ومبثل ذلك تتكون وتتآلف
الرتاكيب اليت تعودنا على نعتها باألسلوب ،وإذا كانت الرتاكيب اليت يكون األساس األول فيها هو
اللغة -اليت هي األداة املثلى لتشكيل الصورة الذهنية ،-فإن الوظيفة الشعرية لألسلوب جتمل يف
حتقيق التجانس بني خمتلف الرتاكيب املنتظمة يف بنية أساسها اللغة ،وال يتحقق ذلك إال بالتوفيق بني
الرتاكيب من جهة والذوق من جهة ثانية.
يرتكز شكري عياد يف حماولته التأصيل لعلم األسلوب العريب ،بالرجوع إىل املوروث النقدي
والبالغي ،وعرض هذا الرتاث جنبا إىل جنب مع االجتاهات النقدية احلديثة واملعاصرة يف النقد
األسلويب ،وهو بذلك يُرجع العديد من املظاهر اللغوية إىل مظاهنا األساسية اليت امتاحت من البالغة
العربية القدمية ومقوالهتا ومصطلحاهتا ،ويف الوقت ذاته حياول إقصاء اجلوانب االنطباعية اليت من
شأهنا أن تضلل الباحث األسلويب أكثر من أن يستهدي هبا ،غري أنه يلزم نفسه بوضع األسس
العلمية للنقد دومنا ممارسة سلطة بطريركية ،أو مصادرة حليوية العمل األديب ،ومن شأن هذه العملية
أن تفك االرتباط املعريف وحتل التعارض بني البالغة العربية القدمية والنقد األديب املعاصر ،األمر الذي
حدا بعياد أن يقف موقفا معتدال أو وسطا بني علمية النقد األسلويب ،واملادة اخلام اليت خيضعها
للمساءلة والدراسة.
يقر عياد بسالمة التسمية اليت ارتضاها حلل هذا اإلشكال قائال" :وإذا أعطينا البحث
األسلويب يف عمومه اسم العلم ومكانته فلن نكون مسرفني ،على اعتبار أن "علم األسلوب" يدرس
اإلمكانيات التعبريية للغة ،أي الوسائل اليت ميلكها اجلهاز اللغوي نفسه ألداء معان تتجاوز األغراض
األولية للكالم ،ومن مث ميكننا – إذا ضيقنا الدائرة -أن ندرس اخلصائص األسلوبية للحداثة ،بوصفها
1
مذهبا يف الكتابة أو النظم ،كما ندرس اخلصائص األسلوبية للكتابة الرومانسية أو الواقعية".
لقد أدرك عياد -منذ مرحلة بداياته التأسيسية لوضع علم أسلوب عريب ،-أن ميزة اللغة
األدبية اليت يصدر عنها أسلوب الكاتب ،إمنا تنبع من هذه اخلاصية األساسية والسمة البارزة يف
إبداعه وهي األدبية ،باعتبار أن هذه األخرية هي التوشية الزخرفية اليت يتشح هبا النص اإلبداعي يف
عمومه ،األمر الذي جيعل من علم األسلوب ،ذلك العلم الذي يهدف الوقوف عند اجلوانب
الشخصية يف األسلوب الفردي ،أو ما يسمى باخلصوصية األسلوبية ،ويسلك الرجل طرق النقد
العلمي مع نوع من احلذر خمافة الوقوع يف مطبات هذه االجتاهات العلمية ،كما هو الشأن بالنسبة
لعلم النفس وعلم االجتماع واألنثربولوجيا ،ألهنا مل حتدد مفاهيمها ومصطلحاهتا اخلاصة هبا ،لذلك
رغب عياد عن هذه االجتاهات واجته رأسا إىل علم األسلوب الذي رآه من منظوره اخلاص ،أكثر
علمية ومناسبة لدراسة األدب ،وذلك ألن علم األسلوب ينطلق من حتليل النص األديب ،الذي كتب
وفق مبادئ علمية تنتمي إىل علم اللغة -وتعد اللغة مادته األصلية واللغة نفسها هي املادة األساسية
لألدب -دون أن يتيه يف استخدام بعض املصطلحات اليت تعج هبا تلك االجتاهات النقدية العلمية
اليت أحملنا إليها آنفا.
لكن قبل أن نتتبع املسرية التأصيلية لعياد يف حماولته إرساء قواعد علم األسلوب العريب ،حيسن
نعرج على اخللفيات املعرفية واملرجعيات النظرية والتطبيقية ،اليت ش ّكلت اإلطار العام ملشروع
بنا أن ّ
الرجل يف هذا اجملال ،فنقول إ ّن مجلة من املدونات النظرية هي اليت أسهمت يف بلورة الوعي النقدي
ويصرح يف بداية كتابه "اللغة واإلبداع" ،أنه يقع – الكتاب -يف سلسلة من الكتبلديه ،فالرجل يقر ّ
التنظريية ،اليت حتاول أن تشتغل ضمن هذا املشروع " ،أما الذي حناوله يف هذا الكتاب اجلديد فهو
وضع املبادئ األساسية لعلم األسلوب العريب كما حنتاج إليه اليوم ،ومن مث فسيكون علينا أن حنفر
عند اجلذور ،أي أننا سنبحث عن اخلصائص الفنية للغة العربية من خالل كتابات اللغويني ،قبل أن
2
نبحث عنها يف الرتاث البالغي الصرف".
شكري حممد عياد :اللغة واإلبداع -مبادئ علم األسلوب العريب ،-أنرتناشيونال ،القاهرة ،ط ،0088 ،0ص.2 ،5 :
1
حتاول هذه الدعوى أن تؤسس لعلم األسلوب العريب ،الذي يرجع يف طرف منه إىل اجلوانب
الرتاثية ممثلة يف كتابات علماء اللغة العرب ،وكذا مقوالت البالغيني القدماء .ويف طرفها الثاين تتطلع
إىل النهل من الوافد من الثقافة الغربية ما وسع األمر ،وذلك بدفع عملية املدارسة واملثاقفة إىل آمادها
البعيدة يف إحياء الرتاث وفق املقوالت احلداثية ،ومن مث " فإن جتديد البالغة العربية أو إحياؤها يف
صورة علم األسلوب العريب لن يضارا إذا اعتمدا على الدراسات اللغوية احلديثة" .1وهي الدعوة اليت
مافتئ عياد يرددها عند كل مناسبة تتحني فيها فرصة استثمار اجلديد من الثقافة الغربية ممثال يف علم
األسلوب ،إلثراء وإعادة قراءة مقوالت البالغة العربية القدمية ،يف ضوء طروحات علم األسلوب
احلديث والتكامل املعريف بينهما.
واحلق أن فكرة املزاوجة بني التيارين القدمي واحلديث إمنا استثمرها الرجل من خالل اجتهادات
أستاذيه أمين الخولي وأحمد الشايب ،فهما امللهم الفعلي يف دفعه إىل ارتياد مثل هذه الدراسات
املقارنة ،فأمين الخولي يقف يف كتابه فن القول "موقفا وسطا بني احملافظة على القدمي واحلماسة
للجديد .وعندما نصف موقف شيخنا "بالتوسط" جند املعىن الذي نريده ينبو عن هذه الكلمة وتنبو
عنه ....،إذ كيف نصف موقفا جيمع بني إعزاز القدمي وإدانته واحلماسة للجديد والتوقف فيه؟ ولكننا
قد صحبنا هذا الشيخ اجلليل أكثر من ربع قرن ،كنا نراه يزداد على تقدم السن حدة يف نقد احلاضر
2
املكبل بقيود املاضي ،وجرأة يف بناء املستقبل على مبادئ احلرية".
تلك إذا نظرة الشيخ الخولي الوسطية كما عرضها عياد ،واألمر نفسه عند األستاذ أحمد
الشايب الذي كان هدفه كذلك " أن يقتبس مناهج احملدثني ،فأراد وهو يف كلية دار املعلمني أن
يستأنف دراسة البالغة على طريقة تناسب ذوق العصر ،أو بعبارة أخرى أن يصل بني البالغة والنقد
3
األديب احلديث".
وكذلك كان مبتغى عياد يف جممل دراساته النقدية األسلوبية ،فهو يص ّدر أحد أهم كتبه قائال:
" الغرض من هذا الكتاب إعادة النقد العريب القدمي إىل ساحة الفكر العاملي" .1الشك أن مجلة
املعطيات تتباين بني دراسات الخولي والشايب من جهة ،وعياد من جهة أخرى نظرا ملستوى
التطور احلاصل يف حقول املعرفة النقدية ،فالكثري من اآلليات القرائية مل تكن متاحة من ذي قبل
تدرج يف هذه
بالنسبة للشيخني ،أما عياد فقد استهل مسريته النقدية يف القراءات األسلوبية ،بأن ّ
القضايا من البسيط إىل املعقد ،مما ش ّكل منظومة متكاملة لتأسيس موقف نقدي خاص به ،ولعل
أوىل حماوالته يف دراساته األسلوبية رسالته اليت ق ّدمها لنيل درجة املاجستري من اجلامعة املصرية بعنوان
"يوم الدين واحلساب" ،واليت تعترب عمال أسلوبيا مبكرا ،حيث كان اعتماده يف تأليف هذا الكتاب
على منهج أستاذه الشيخ أمين الخولي ،باعتباره مؤسس مدرسة التفسري األديب للقرآن الكرمي ،يقول
عياد بشأن تقسيم الكتاب " أما الباب األول فدراسة معاين املفردات كما أوضحها أستاذنا [اخلويل]،
وأما الباب الثاين فدراسة األسلوب أي طريقة التأليف بني املعاين املفردة لتأدية األغراض ،وأما الباب
الثالث فدراسة املرامي اإلنسانية واالجتماعية" .2واحلال أن تقسيم الرسالة (الكتاب) هبذه املنهجية،
يربز امليول األسلوبية يف مقاربة الظاهرة األدبية داخل النصوص اليت اعتمدها عياد ،وذلك وفق
منهجية الشيخ اخلويل يف عرضه لبحث اللغة الفنية.
أما احللقة النقدية األخرى يف سلسلة املشروع األسلويب لعياد فهو ترمجته كتاب "يف الشعر
ألرسطو" ،والذي ذيّله بدراسة معمقة حول التأثري الذي مارسه أرسطو مبنطقه يف البالغة العربية،
باعتبار هذه األخرية هي األب الشرعي لألسلوبية احلديثة على األقل يف فرتة من فرتات البحث.
تتواىل البحوث والدراسات اليت أسهمت يف تأسيس الدراسات األسلوبية احلديثة عنده وعلى
أمهيتها ،فقد كان مؤلفه "مدخل إىل علم األسلوب" إضافة جديدة يف االهتمام بدراسة اللغة الفنية،
وحماولة السري هبذا العلم قدما ،هبدف حتديده واإلسهام يف بلورة املشروع األسلويب العام .وجاء
الكتاب يف قسمني :القسم األول :نظرية األسلوب ،والقسم اآلخر دراسة تطبيقية يف قصائد خمتارة
من الشعر الوجداين احلديث ،ويأيت يف مقدمة الكتاب أن عياد" :حياول أن ينشئ يف ثقافتنا العربية
علما جديدا مستمدا من تراثها اللغوي واألديب ،ومستجيبا لواقع التطور يف هذا الرتاث احلي،
ومستفيدا من دراسات أهل الغرب بالقدر الذي ميكن من رؤية التطور املعاصرة رؤية تارخيية ،وقراءة
1
التاريخ قراءة عصرية".
لقد أبرز يف مؤلفه هذا مجلة من العناوين اليت محلت قضايا نظرية عديدة ،تناول يف أوهلا فكرة
األسلوب عند األدباء ،معرفا إياه تعريفات متفرقة تظهر حجم التباين والتمايز بني عديد احلقول
املعرفية ،اليت انتصر بعضها لألسلوب الفردي على اعتبار أن األسلوب خاصية فردانية بكل مبدع.
وانتصر الفريق اآلخر إىل معيار اجلمال واجلودة وامللكة كما ذهب نفر من النقاد القدامى كما هو
احلال عند ابن خلدون ،مث كان العنوان اآلخر "علم اللغة وعلم األسلوب" الذي حاول فيه عياد
التأسيس لعلم اللغة يف الرتاث النقدي والبالغي مع ابن خلدون ،وحىت طروحات حازم القرطاجين"
عرج على الدراساتيف تعريف األسلوب منطقيا يف ارتكازه على املصادر املنطقية الرتاثية ،مث ّ
التمهيدية لعلم اللغة مع سوسير( )F. De Saussureوحماولة تفريقه بني اللغة والكالم ،الذي يسميه
( Charles عياد القول 2.وصوال إىل الدراسات األوىل يف جمال األسلوبية مع مؤسسها شارل بالي
خص نفسه بالدراسة املنهجية للغة الطبيعية قائال" :املسألة عنده مسألة منهج ،فالعامل
)Ballyالذي ّ
اللغوي يبحث عن قوانني لغوية حتكم عملية "االختيار" اليت يقوم هبا أي شخص يستعمل اللغة ،وال
3
يبحث عن القوانني اجلمالية اليت ختص األدب دون غريه من األغراض اليت تستخدم فيها اللغة".
إن عياد يؤسس للدراسات األسلوبية احلديثة باجلهود اللغوية اليت بذهلا شارل بالي باعتباره
طوروا الدراسات اللغوية فيما بعد لتشكل لنفسها فرعا من فروع علم أحد تالمذة سوسري ،الذين ّ
اللغة ،مث حياول الناقد أن يفرق يف عنصر آخر بني مجلة من احلقول املعرفية بني علم األسلوب والنقد
األديب وتاريخ األدب؛ فيتناول الفروق اجلوهرية بني الناقد األديب والعامل اللغوي مثال ،من أجل
الوصول إىل كنه النص األديب املمثل يف شكل عالمات لغوية ،وحياول عياد التفريق بني مهمة العامل
اللغوي والناقد األديب ،انطالقا من عمل كل واحد منهما داخل النص ،يقول عياد" :النصوص
األدبية ميكن أن تدرس دراسة لغوية فقط ،أما أن تدرس دراسة لغوية أسلوبية فهذا مطلب يوشك أن
يكون مستحيال ،إمنا يستطيع أن يقوم بالدراسة األسلوبية للنصوص األدبية ناقد أديب تكون مهمته
1
متييز النص األديب من أي نص لغوي آخر ،بل من أي نص أديب آخر".
واحلق أن الفروق اجلوهرية بني علم األسلوب من جهة والنقد األديب من جهة أخرى ،أظهر من
أن يربهن عليها؛ ذلك أن األسلوبية ال تعدو أن تكون منهجا ضمن مناهج النقد األديب ،وهي عملية
نقدية ترتكز على الظاهرة اللغوية ،وتبحث يف أسس اجلمال املتضمن داخل النص اإلبداعي .يف حني
أن النقد األديب يراعي يف النص مجلة من الشروط اليت ينضوي عليها ،وذلك قصد مقاربته داخليا.
وتتيح آليات التحليل األسلويب اجملال للناقد األديب كي حيصل على أكرب قدر من الدالالت واملعاين
املكتنـزة داخل النص ،ذلك أن هذا األخري مشكل من مجلة من املستويات خيدم بعضها البعض
لتصل يف النهاية إىل بلوغ النص املرتبة السامقة اليت يتغياها املبدع ويبحث عنها الناقد ،إال أن الفارق"
بني النقد واألسلوبية يتأتى من األدوات واألهداف أو الغايات ،فإذا كانت أدوات األسلوبية تتوقف
على اللغة فحسب ،فإن النقد بعينه يعد اللغة إحدى أدواته ،وإذا كان اهلدف الذي تنشده األسلوبية
هو الكشف عن البناء اللغوي وما داخله من انزياحات عن القاعدة املعيارية ،فإن اهلدف عند النقد
2
هو اإلجابة عن أسئلة فحواها كيف وملاذا ،مستعينا بكل ما يراه من أدوات ختدم هدفه".
ألجل هذه األسباب ال ميكن أن حتل األسلوبية حمل النقد األديب أو أن تصبح نظرية نقدية،
وال تستطيع أن تزيح النقد كما فعلت مع البالغة القدمية اليت استطاعت أن تتجاوزها يف العديد من
املناطق .يقول المسدي حول الفكرة ذاهتا ":وحنن ننفي عن األسلوبية أن تؤول إىل نظرية نقدية
شاملة لكل أبعاد الظاهرة األدبية ،فضال عن أن تطمح إىل نقض النقد األديب أصوليا ،وعلة ذلك أهنا
متسك عن احلكم يف شأن األدب من حيث رسالته ...بينما رسالة النقد كامنة يف إماطة اللثام عن
رسالة األدب" .3وملا كانت األسلوبية يف إحدى مهامها تتجنب إطالق األحكام املعيارية القيمية كما
فعلت البالغة فهي "ال تطمح إال أن تكون رافدا موضوعيا يغذي النقد فيمده ببديل اختياري حيل
حمل االرتسام واالنطباع حىت تسلم أسس البناء النقدي ،فاألسلوبية إذا دعامة آنية حضورية يف كل
1
ممارسة نقدية".
يضع عياد مجلة من الشروط املعرفية والنفسية اليت جيب على الناقد األسلويب التحلي هبا ،وإال
غدا عمله قاصرا وهزيال ،وال خيدم العملية النقدية من أساسها ،ومن الضروريات اليت يتحتم على
الناقد األسلويب التحلي هبا خاصية الذوق الفين للنص املراد مساءلته ،يقول عياد ":فإذا كان عمل
الناقد األسلويب هو تبيني االرتباط بني التعبري والشعور ،فيجب أن يكون قادرا على االستجابة للقطعة
األدبية اليت يدرسها ،وإال فإهنا ستظل بالنسبة له حروفا ميتة ...إن الناقد األسلويب ال ميكن أن يدرس
عمال ال يتذوقه 2".لقد تناول عياد خاصية الذوق باعتبارها ملكة شعورية تذكي جذوة النقد عند
الناقد األسلويب ،بيد أن األمر ال يتوقف عند هذه اخلاصية نظرا ملا تنشده األسلوبية من موضوعية يف
3
ويصرح بأن على الناقد األسلويب أن يتمتع بنوع من احلدس الفين ،أو
ّ . الطرح ويف مراميها التحليلية
قل االختيار املوفق جلملة من املدونات والنصوص املراد قراءهتا ،باعتبار أن عملية االختيار حمدد من
حمددات األسلوب وملمح من مالحمه ،وإليه يعود فضل النتائج اليت يتحصل عليها الناقد األسلويب،
يقول عياد" :فالناقد الواسع األفق يتذوق أعماال خمتلفة االجتاهات واألشكال...فكل نقد جاد – ال
4
النقد األسلويب فحسب -ينطوي على حكم ضمين بأن العمل املنقود يستحق القراءة".
وهو املذهب نفسه الذي قصده عياد عندما وازن بني عمل كل من الناقد األسلويب والناقد
االنطباعي ،الذي يرتكز على مجلة من األحكام االنطباعية املعيارية أثناء مقاربته النص األديب ،على
عكس الناقد األسلويب الذي ينطوي على توجه معني للقراءة اليت تفكك النص داخليا ،وتبعد من
حسباهنا تلك املنطلقات أو السياقات اليت كانت تتحكم يف رقاب العملية النقدية ،واليت من شأهنا
أن تسيء عملية الفهم املنشودة ،وحتد من فاعلية اإلجراءات املتوخاة يف أثناء املساءلة النقدية.
"والفرق بني الناقد األسلويب والناقد االنطباعي هو أن األول أكثر موضوعية ،ألنه ينطلق من حتليل
215
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
للنص املكتوب ،قائم على مبادئ علمية ،يف حني أن الثاين ينطلق من مشاعره اخلاصة إزاء العمل،
1
وقد تعكس هذه املشاعر صورة صادقة للعمل ،ولكنها يف كثري من األحيان تكون بعيدة عنه".
ال جيد عياد بدا من أن يتوسط بني علم األسلوب والنقد األديب ،على اعتبار أن هذا األخري
حيتوي األول ويثريه يف الوقت نفسه ،وحياول جتسري اهلوة العميقة اليت فصلت العلمني عن بعضهما
البعض ،وذلك ألن علم األسلوب ما هو إال اجتاه من اجتاهات النقد األديب املعاصر ،ال ميكن بأي
يتغول على منشئه حىت وإن استقل جبملة من آلياته القرائية .ألن النقد كذلك
حال من األحول أن ّ
يسعى جاهدا المتالك هذه العملية املوضوعية يف مقاربة النصوص األدبية ،دون أن يقصر نفسه على
اجتاه آخر ،يقول يف ذلك ":لكن التميز ال يعين الفصل ،فعلم األسلوب والنقد األديب يتعاونان
ويتكامالن وإذا كان علم األسلوب قد اشتد عوده اليوم وأصبح أقرب إىل املوضوعية من شقيقه
األكرب "النقد األديب" فإنه يسيء إىل نفسه قبل أن يسيء إىل هذا الشقيق إن هو حاول أن يغتصب
مكانه ،إن النقد األديب يف طريقه إىل أن يصبح – بدوره -علما وهو قادر – حىت حبالته احلاضرة-
2
على أن يستعني بعلم األسلوب دون أن يتنازل عن حقه يف الوجود".
يكاد ينسحب األمر نفسه على تاريخ األدب ،إذ خيلص عياد إىل أن العالقة الرابطة بني تاريخ
يقر
األدب وعلم األسلوب ،تكمن يف الوعي مبستويات إنتاج النصوص األدبية وغري األدبية ،إذ ّ
الباحث باستحالة أن يلقي الباحث األسلويب أحكاما عامة على املعطيات التارخيية اليت أسهمت يف
إنتاج النص ،إذا كان غري ملم باملرجعيات واخللفيات الفكرية اليت أسهمت يف صياغة هذه الظاهرة" .
إننا إذ حنلل نصا أدبيا ما حتليال أسلوبيا – مهما يكن دقيقا وعميقا -ال نستطيع أن نقفز منه إىل
أحكام عامة عن عصره ،فالبد للوصول إىل هذه األحكام من إضافة حقائق أخرى بعضها مستمد
3
من نصوص أدبية ذات صلة بالنص األول ،وبعضها حقائق ال توصف بأهنا أدبية".
يصل عياد مجلة هذه املقاالت يف كتابه مدخل إىل علم األسلوب مبقال آخر عن علم
األسلوب وعلم البالغة ويعرض فيه لتعريف كل علم على حدا ،مث مييز بني العلمني يف مجلة من
الفروق اليت تفصل بينهما أوهلما " أن علم البالغة علم لغوي قدمي وعلم األسلوب علم لغوي
حديث...فالعلوم اللغوية القدمية تنظر إىل اللغة على أهنا شيء ثابت ،يف حني أن العلوم اللغوية
1
احلديثة تسجل ما يطرأ عليها من تغري وتطور".
مث يتناول الفرق الثاين الذي يراه فاصال بني العلمني وهو "إن علم البالغة علم معياري ،على
حني أن علم األسلوب علم وصفي" .2ال يكتفي عياد هبذين الفرقني بني علم البالغة وبني
األسلوبية ،فيضيف فرقا آخر يتجلى يف نظرة كل علم إىل ما كان يسمى مبقتضى احلال يف البالغة
العربية القدمية ،والذي اصطلح عليه مصطلح "املوقف" وكيف ربطت باحلالة العقلية للمخاطب نظرا
جل أعمال البالغيني العرب القدامى ،مما جنم عنه عمليات التقعيدلسيطرة آليات املنطق على ّ
والتقنني اليت أصابت مقوالت البالغة باجلمود والتكلس يقول عياد " :تتجلى سيطرة املنطق على
علم البالغة يف تبويب هذا العلم ،فإنه مل يكد خيرج يف هذا التبويب عن موضوعني اثنني :داللة
اللفظ اجملرد وهو ما يسميه املناطقة بالتصور...،وداللة اجلملة وهو ما يسميه املناطقة
بالتصديق....ومل تتحرر البالغة من هذا التبويب املنطقي إال حني أضافت موضوع الربط بني اجلمل
(الفصل والوصل) وموضوع اإلجياز واإلطناب ،ولكنها تركت ظواهر لغوية مهمة يعىن هبا علم
األسلوب 3".وخيتم عياد مقالته هذه بإبراز فرق آخر بني علم البالغة وعلم األسلوب يتمثل أساسا
4
يف "اتساع آفاق علم األسلوب اتساعا كبريا بالقياس إىل علم البالغة".
واحد ،وال ميزج بني العصور كما تفعل البالغة ،بل ميكن أن يتتبع تطور الظاهرة على مر العصور ،وال
يكتفي بدراسة الدالالت الوجدانية العامة الزائدة على الدالالت املباشرة ملختلف الرتاكيب اللغوية،
بل يدرس أيضا الصفات اخلاصة اليت متيز هذه الدالالت الوجدانية يف أسلوب مدرسة أدبية معينة أو
1
فن أديب معني ،أو يف أسلوب كاتب بالذات ،أو عمل أديب واحد بعينه".
إن ما خيلص له عياد هو تبيان الفروق اجلوهرية بني علم البالغة وعلم األسلوب ،على اعتبار
أن ما يفرقهما أكرب مما جيمعهما ،رغم أهنما يشرتكان يف موضوع الدراسة وهو اخلطاب األديب ،وتبقى
مجلة من الفروق واملزايا تفصل العلمني مل يتطرق هلا على األقل يف هذا املؤلف رغم أهنا متثل
منعطفات حادة على مستوى الدراسة املقارنة بني العلمني.
تزدان احللقة النقدية يف جمال الدراسة األسلوبية لعياد بكتاب هام عنوانه":اجتاهات البحث
األسلويب" الذي أصدره سنة ،0082والذي ص ّدره مبقدمة جاء فيها أن اهلدف من هذا الكتاب هو
2
"إعادة النقد العريب القدمي إىل ساحة الفكر العاملي".
واهلدف اآلخر من الكتاب كذلك هو" وضع البالغة العربية على اخلريطة العامة للدراسات األسلوبية
3
كما نعرفها اليوم".
يعترب كتاب "اجتاهات البحث األسلويب" حلقة واصلة بني الكتاب األول "مدخل إىل علم
األسلوب" والكتاب اآلخر الذي سيليه حول " اللغة واإلبداع" ،والكتاب األول املدخل كما يرى
4
عياد "مل يكن أكثر من حجر صغري ألقي يف ماء ساكن فرقرق فيه دوائر مال بثت أن اضمحلت".
و الكتاب مشروع نظري ضخم حياول عياد مسايرته بأربعة أجزاء أخرى:
ثانيها :االستعمال الفين لألشكال اللغوية واليت تشمل صيغ املفردات وأنواع الرتاكيب فهو يعىن
بالوظائف اإلضافية لألشكال النحوية.
ثالثها :يقصر على الدراسة األسلوبية للصور والرموز ،وهي الدالالت اجلوهرية اليت ّ
تكون ما
نسميه عامل القصيدة أو العمل األديب.
ورابعها :يبحث يف اخلصائص اللغوية لألشكال األدبية ويدخل يف ذلك خصائص األسلوب
الشعري واألسلوب النثري وخصائص لغة القصة ولغة املسرحية ،واخلصائص اللغوية اليت متيز مذهبا
1
أدبيا عن مذهب آخر.
غري أن هذه التقسيمات ال تزعم لنفسها الكمال وأهنا جامعة مانعة ،ألهنا حتاول أن تساير
نظريا ما كان عياد قد بدأه يف املدخل ،وعلى ذلك فالسلسلة اليت قيّدها عياد "ال ترمي إىل وضع
"علم أسلوب عريب" حمصور املسائل ،مكتمل اخلطوط ،وإمنا ترمي إىل فتح أكثر ما ميكن من األبواب
2
املغلقة".
جاءت عملية التناول عبارة عن ترمجات ألهم االجتاهات األسلوبية يف النقد الغريب مع مراعاة
خصوصية اللغة العربية أثناء التمثيل ،ومل حيصر عياد نفسه يف األخذ من املدرستني الفرنسية
ليعرف القارئ العريب املعاصر بأهم املدارس األسلوبية يف
واإلجنليزية بل اجتهد ما وسعه األمر لذلك ّ
العامل الغريب ،مع حماولة تقريبها لتساعد على عملية الفهم والتمثل ،وقد تناول عياد بالرتمجة الدقيقة
سبعة مقاالت تربز أهم أعالم النقد األسلويب الغريب واجتاهاهتم النقدية ،إضافة إىل مقالة ثامنة ضمنها
عياد الكتاب ليزيح بعض اللبس ويرفع بعض اإلشكال عن مكتسبات البالغة العربية القدمية يف
مواجهة األسلوبية احلديثة ،وقد غطّت هذه الرتمجات معظم املدارس األسلوبية يف العامل الغريب،
وجاءت على النحو التايل:
لقد متت عملية اختيار هذه املقاالت من باب احلرص الشديد من قبل عياد ،ليطلع القارئ
العريب املعاصر على معظم االجتاهات األسلوبية العاملية ،فانتقل به من االجتاه التعبريي التأسيسي
الذي جيعل من اللغة العادية اليومية حقال لدراسته ،ممثال يف مؤسسه شارل بالي مرورا باجتاه
قعد له الناقد ليو سبتزر وإبراز أوجه التقاطع والتباين اليت متيز العملني ،وتأثري
األسلوبية النفسية كما ّ
الفلسفة املثالية يف جل طروحات الرجل ،مث التعريج على اجتاه آخر ال يقل أمهية عن سابقيه وهو
االجتاه الوظيفي البنيوي ممثال يف اجتهادات ريفاتير ،قبل أن عرض لطروحات ستيفن ألمان يف
األسلوبية اليت عدها علما شابا لكنه ّبوأ لنفسه مكانة هامة يف حقل الدراسات اللغوية املعاصرة،
وقد أبان عياد عن حتكم واضح يف رسم حدود آليات هذه االجتاهات ،ومدى إسهامها يف دفع
العملية النقدية األسلوبية .دون أن نغفل دور األسلوب الذي اعتمده عياد يف ترمجة هذه املقاالت
وحماولته يف كل مرة شد انتباه القارئ إىل ضرورة مسايرته قصد اإلملام بالقدر الوايف من هذه املناهج أو
االجتاهات ،وأخريا جاءت املقالة الثامنة واألخرية اليت كتبها املرتجم نفسه لتضع البالغة العربية جنبا
إىل جنب مع هذه االجتاهات األسلوبية احلديثة دون انتقاص من شأن هذا املوروث الضخم ،ودون
غرور بأن موروثنا عايل الكعب على هذه املدارس ،إمنا تناول عياد هذه العالقة بشيء من الرزانة
واهلدوء مكنته من هذه املقارنة اليت عقدها ،وسيأيت تفصيل هذه العالقة يف الفصل املوايل عند إبراز
نقاط التماس والتوازي بني العلمني حىت يتيسر لنا إضاءة هذه العالقة بشيء من املوضوعية اليت
هتدف إىل الدراسة العلمية الوصفية للظاهرة دومنا تعصب لرأي أو إصدار حلكم.
220
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يستمر املشروع األسلويب لعياد بإصدار كتاب آخر ميثل احللقة الواصلة بني ما سبقه من
كتابات وبني مؤلفات أخرى تشاركه اهلم املعريف نفسه ،إنه كتاب "اللغة واإلبداع" -مبادئ علم
األسلوب العريب -الذي أصدره سنة ،0088والذي يعد تتوجيا للجهد النقدي السالف وجاء معززا
للمشروع األسلويب عند الرجل ،وهو مثرة طيبة لذلك اجملهود الذي بذله يف الكتابات السابقة.
يلتزم عياد منذ فاحتة الكتاب مبنهج معني يشد الكتاب إليه من جمراه إىل مرساه ،ويف الوقت
ذاته يبني العالقة الوطيدة اليت تربط هذا األخري بسابقيه فيقول" :أما الذي حناوله يف هذا الكتاب
اجلديد فهو وضع املبادئ األساسية لعلم األسلوب العريب كما حنتاج إليه اليوم ،ومن مث فسيكون
علينا أن حنفر عند اجلذور ،أي أننا سنبحث عن اخلصائص الفنية للغة العربية من خالل كتابات
1
اللغويني ،قبل أن نبحث عنها يف الرتاث البالغي الصرف".
تلك إذا الغاية من تأليف هذه احللقة ضمن هذه السلسلة وطرق املعاجلة واملساءلة اليت ينشدها
عياد يف بلوغ املرمى املنشود .أما عن قضية املنهج املتبع ملختلف املظاهر اللغوية واألسلوبية اليت هو
بصدد تعرية أنساقها واحلفر عن جذورها ،فيقول يف ذلك..." :فالتزامنا املنهجي مبا نسميه "املنظور
التارخيي" حيتم علينا أن نبتكر احللول املناسبة ملشكالتنا بقدر ما حيتم علينا أن نستلهم تراثنا وجتارب
الثقافات املعاصرة لنا ،ألن النقطة اليت نقف عليها واليت نسميها حاضرنا أو واقعنا ليست إال نقطة
ومهية يف امتداد الزمان واملكان....سنقدم يف سبيل استكمال هذا املنظور التارخيي خطوة أبعد من
تلك اليت خطوناها يف "املدخل" و"االجتاهات" فلن نكتفي باملقارنة بني البالغة وعلم األسلوب،
ولكننا سنعرض مشكالت "اللغة الفنية" يف مساق واحد ،ونضع أقوال البالغيني القدماء جبانب
2
أقوال األسلوبيني املعاصرين ،ال نفرق بني قدمي وحديث أو بني عريب وغريب".
تتنـزل عبارة املنظور التارخيي على األقل يف هذا النص ضمن ما ميكننا االصطالح عليه بالكلمة
املفتاح ( ، )Mot cléذلك أن فاعلية هذه العبارة إمنا اكتسبت هذه اخلصوصية والفرادة يف الداللة
من حقل لغوي أو لساين يتتبع الظاهرة اللغوية موضوعيا ،دون أن خيصها إلطالق األحكام اجلاهزة
الناجزة .فالباحث حياول جاهدا أن يأخذ نفسه يف هذا املؤلف بأن يعقد الصلة احلميمة والعالقة
الوطيدة بني ما كان من مؤلفات وبني هذا األخري ،وأخذ نفسه بأن عاجل مجلة القضايا املطروحة على
الساحة البالغية العربية ،ومدى مالءمتها وموازاهتا مبا متور به الساحة النقدية العاملية ،دون أن
يتعصب لقدمي أو ينبهر جبديد ،ويتيح لنفسه مبنهجه هذا أن يقارب جممل اإلشكاالت املعرفية بكل
أرحيية وموضوعية ،وبعد أن جيري نوعا من املقارنة بني النصوص احلديثة يف األسلوبيات لشارل بالي
مثال خيلص إىل أن وحدة املوضوع تقابلها وحدة العقل والفكر ،ذلك أن ميدان املعاجلة وحقل
املدارسة واحد يف كال النصني ،غري أنه خيلص إىل نتيجة مفادها أن إجراء مثل هذه املقارنات من
شأنه أن يلتبس على بعض النقاد فيذهبون مذاهب شىت يف املفاضلة بني احلضارات يقول عياد:
"على أننا نبادر إىل القول بأن اختاذ املقارنة طريقا إىل الزعم بأن الثقافة العربية سبقت ثقافة الغرب
إىل كذا أو كذا ،أمر ال حنبذه فضال عن أن منارسه أو نقول به ،فهو ال يتفق مع منهجنا ،منهج
"املنظور التارخيي" الذي يسجل املتغريات كما يسجل الثوابت ،ويعرتف بالنسيب كما يعرتف باملطلق،
1
ويرتكز على الوعي باحلاضر بدال من تقديس املاضي".
ال حيتكم الباحث إىل مثل هذه املقارنات الساذجة اليت تنحو منحى املفاضلة بني احلضارات،
مما يتسبب يف عقم النتائج اليت تتوصل إليها مثل هذه الدراسات ،فضال عن لوازم التفاوت وخيارات
املقارنة بني احلضارتني الغربية والعربية ،األمر الذي من شأنه أن يصيب األنا الدارسة بنوع من
التضخم وجيعلها تبتعد عن بلوغ احلقيقة العلمية اليت تبقى دائما تنشد املوضوعية ،وحتاول جاهدة أن
تزيح مثل هذه الدراسات املتورمة اليت ال تقدم للعملية النقدية طائال يذكر.
يعترب كتاب "اللغة واإلبداع" كتابا مفصليا مركزيا ،باعتباره واسطة العقد بني املدخل
واالجتاهات من جهة ومؤلف دائرة اإلبداع من جهة أخرى .يقول عياد ..." :إن هذا الكتاب يأيت
بعد "دائرة اإلبداع" مفصال ملا أمجل هناك عن اللغة الفنية وحماوال ،مثل سابقه ،أن يؤصل منهجا
نقر ألنفسنا بأننا بلغنا ذلك الغرض أو دنونا منه ،ولعل
للدراسات األدبية ،وهو مطلب عزيز ،وال ّ
املشقة اليت عانيناها يف هذا الكتاب كانت أعظم منها يف سابقه فنحن حناول هذه املرة أن نرسي
الدعائم لعلم جديد ،لك أن تسميه "مبادئ علم األسلوب العريب" كما مسيناه ،أو "أصول البالغة
1
العربية" إن كنت حريصا على االسم القدمي".
يتقاطع إذا هذا الكتاب مع املدخل واالجتاهات يف إبراز سريورة املشروع األسلويب عند الرجل،
وحماولة التأسيس ملشروع علم أسلوب عريب ،يتنقل فيه العلم بآلياته القرائية وجهازه املصطلحي
واملفهومي ،ومن جهة أخرى حياول جتاوز تلك املقوالت البالغية القارة ،ليس نفيا هلا أو ممارسة
القطيعة املعرفية معها ،إمنا جعلها أساسا ملنطلقات الدراسة األسلوبية احلديثة كما يرغب عياد
الوصول إليه .ومن ناحية ثانية يتقاطع اللغة واإلبداع مع مؤلف سابق جاء جممال للكثري من القضايا
واإلشكاالت اليت ختص اللغة الفنية واليت تناوهلا الباحث يف كتاب "دائرة اإلبداع" ،فعملية التماس
حصلت على مستوى الدعوة إىل التأصيل ،وجيمع بينهما العناية بدراسة اللغة الفنية حتت قبة علم
األسلوب.
لعل جممل القضايا اللغوية واألسلوبية اليت أخضعها عياد للمعاينة ومن مث املعاجلة ،تعد عملية
مهمة يف منطلقات الدرس النقدي عند الرجل ،ذلك أنه مل يكتف بعرض هذه القضايا إمجاال إمنا
حاول أن يؤسس لكل إشكالية تأسيسا ينم عن حتكم واضح يف عمليات املتابعة التارخيية حتليال
ونقدا واستقراء ،وتدل كذلك على أنه ال يتبع ذلك التسطيح الساذج يف معاجلة أمهات القضايا،
سواء كانت تراثية أم حداثية ،إمنا جيهد قدر مبتغاه إىل عملية التوليف العجيبة يف طرح القضية على
مقوالت الرتاث مث حياول إجياد البدائل املصطلحية هلا على مستوى النقد العريب احلديث واملعاصر،
دون أن جيعل هذه العملية فعال ال طائل من ورائه ،إمنا هو إعادة ترسيخ للكثري من هذه اإلشكاالت
عج هبا الرتاث اللغوي العريب.
اليت ّ
.3مباحث األسلوب :ي الرتاث العربي
يرجع عياد كعادته -يف معاينته لتعريف األسلوب -إىل مظان النقد والبالغة واإلعجاز،
ليؤسس للمصطلح مفهوماته يف العديد من احلقول املعرفية اليت أثرت املصطلح بالعديد من
الدالالت ،فيؤصل له عند علماء اإلعجاز ،على اعتبار الدراسات اليت متت ملعاينة وجه اإلعجاز يف
223
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
أسلوب النص القرآين ،وهي من املباحث التأصيلية يف معرفة املصطلح كما هو الشأن عند ابن قتيبة
يف "تأويل مشكل القرآن" ،والخطّابي يف بيان "إعجاز القرآن" والباقالني يف "إعجاز القرآن"
وغريهم ممن وقفوا اهتماماهتم ودراساهتم حول إبراز مواطن اإلعجاز يف النص القرآين ،وموازنة
األسلوب القرآين باألسلوب البشري .وال خيفى على دارس تلك النتائج القيّمة اليت توصل إليها هؤالء
العلماء.
مث يعرج على طرق املفهوم عند مجلة من النقاد والبالغيني الذين أبانوا عن اهتمام بالغ بالكثري
من القضايا النقدية والبالغية واليت شكلت حمور دراساهتم ،كالجاحظ يف الكثري من مؤلفاته الذي
وازن بني مجلة من الطرق واألساليب يف تأليف اخلطبة مثال ،لكن بقي األمر ملتبسا على العديد من
البالغيني يف تفريقهم بني النوع األديب واملوضع وطريقة الصياغة ،على أن مت هلم االستئناس مبا جاء
به عبد القاهر الجرجاني من قوله بالنظم فجمعت األخرية بني تلك اإلمكانيات اليت كانت مطروحة
ك اإلشكال وفُهم من هذه الكلمة أن األسلوب هو النظم كما ذهب على ساحة النقد والبالغة ،ف ُف ّ
إىل ذلك عبد القاهر ،وبذلك مت القضاء على هذه املشكلة اليت بقيت عالقة منذ اجلاحظ واليت
مفادها أن البالغة راجعة إىل األلفاظ أم إىل املعاين.
يقول عبد القاهر " :واعلم أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم
النحو ،وتعمل على قوانينه وأصوله ،وتعرف مناهجه اليت هنجت فعال فال تزيغ عنها ،وحتفظ الرسوم
اليت رمست لك فال ختل بشيء منها ،وذلك أنا ال نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غري أن ينظر يف
وجوه كل باب وفروقه -فينظر يف اخلرب...ويف الشرط واجلزاء ...ويف احلال...هذا هو السبيل :فلست
بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا ،وخطؤه إن كان خطأ إىل النظم ،ويدخل حتت هذا االسم-
إال وهو من معاين النحو ،قد أصيب به موضعه ووضع حقه ،أو عومل خبالف هذه املعاملة فأزيل
عن موضعه واستعمل يف غري ماينبغي له ،فال ترى كالما وصف بصحة نظم أو فساده ،أو وصف
مبزية وفضل فيه ،إال وأنت جتد مرجع تلك الصحة ،وذلك الفساد وتلك املزية ،وذلك الفضل إىل
1
معاين النحو وأحكامه ،ووجدته يدخل يف أصل من أصوله ،ويتصل بباب من أبوابه".
1عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز يف علم املعاين ،صحح أصله :اإلمام حممد عبده والشيخ الرتكزي الشنقيطي -علق
حواشيه :حممد رشيد رضا ،الناشر مكتبة القاهرة ،0020 ،ص.52 ،55 :
224
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
مث يعرض عياد للجهود البالغية أو قل املنطقية لحازم القرطاجني يف خمالفته ما ذهب إليه عبد
القاهر ،إذ النظم عند حازم هو ذلك الرتابط أو االنسجام واالتساق الذي يكون بني أجزاء النص
ككل ،وهو ما يصطلح عليه حازم باالطراد يف تسومي رؤوس املعاين ،ويشمل النص أو القصيدة من
مطلعها إىل مقطعها ،ودراسة كيفية تناسل وتوالد املعاين من بداية الشطر األول إىل مقطع القصيدة
الذي ميثل خامتتها .إضافة إىل وجود ذلك السلك املعنوي الرابط ألسباب املطلع وما ينجم عنه من
إطراء منطقي جلل األغراض اليت تأيت يف جسد القصيدة يقول حازم " :ملا كانت األغراض الشعرية
يوقع يف واحد منها اجلملة الكبرية من املعاين واملقاصد ،وكانت لتلك املعاين جهات فيها توجد
ومسائل منها تقتىن كجهة وصف احملبوب وجهة وصف اخليال وجهة وصل الطلول وجهة وصف يوم
النوى ،وما جرى جمرى ذلك يف غرض النسيب ،وكانت حتصل للنفس باالستمرار على تلك اجلهات
والنقلة من بعضها إىل بعض وبكيفية االطراد يف املعاين صورة وهيأة تسمى األسلوب ،وجب أن
تكون نسبة األسلوب إىل املعاين نسبة النظم إىل األلفاظ ،ألن األسلوب حيصل عن كيفية االستمرار
يف أوصاف جهة جهة من جهات غرض القول وكيفية االطّراد من أوصاف جهة إىل جهة .فكان
مبنزلة النظم يف األلفاظ الذي هو صورة كيفية/االستمرار يف األلفاظ والعبارات واهليئة احلاصلة عن
1
كيفية النقلة من بعضها إىل بعض وما يعتمد فيها من ضروب الوضع وأحناء الرتتيب".
مل يبق النظم عند حازم كما كان عند الجرجاني بل مت استثمار املصطلح من قبل حازم ليقوم
مقام األسلوب املتبع يف كل أحناء النص /القصيدة.
مث يقف عياد عند جهود العالمة ابن خلدون يف تفعيل هذا املصطلح وكيفية اشتغاله على
أكثر من حقل معريف ،فاألسلوب عنده يرجع إىل ما يصطلح عليه الصناعة الشعرية اليت يقول عنها:
"اعلم أهنا عبارة عندهم عن املنوال الذي ينسج فيه الرتاكيب ،أو القالب الذي يفرغ فيه .وال يرجع
إىل الكالم باعتبار إفادته أصل املعىن الذي هو وظيفة اإلعراب ،وال باعتبار إفادته كمال املعىن من
خواص الرتاكيب الذي هو وظيفة البالغة والبيان ،وال باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو
وظيفة العروض ،فهذه العلوم الثالثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية ،وإمنا يرجع إىل صورة ذهنية
1حازم القرطاجين :منهاج البلغاء وسراج األدباء ،تح ،حممد احلبيب بن اخلوجة ،دار الغرب اإلسالمي ،بريوت ،لبنان ،ط،3
،0080ص.222 :
225
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
للرتاكيب املنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص ،وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان
ويصريها يف اخليال كالقالب أو املنوال مث ينتقي الرتاكيب الصحيحة عند العرب
الرتاكيب وأشخاصها ّ
1
النساج يف املنوال".
باعتبار اإلعراب والبيان فريصها فيه رصا كما يفعله البناء يف القالب أو ّ
يعلق عياد على تعريف ابن خلدون بقوله" :هذا التحديد ملعىن األسلوب ومكانه من الصنعة
األدبية مع نزعته التعليمية الواضحة ،هو أدق وأوضح ما جنده لدى النقاد العرب يف هذا الباب.2".
ويف صنيعه هذا إمنا حياول عياد أن يعاين أكرب قدر ممكن من احلقول املعرفية اليت تناولت
املصطلح يف الرتاث العريب ،ضمن بيئة علماء اإلعجاز مرورا بالنقاد والبالغيني وانتهاء باملناطقة
واملفكرين ،يكون الرجل قد أوضح احلدود املفهومية للمصطلح يف هذه البيئات كلها ،ليتسىن له
واحلال هذه أن يعاين املصطلح يف الثقافات األوربية احلديثة ليمر إىل اجلهود اللغوية لألسلوب يف
الثقافة العربية احلديثة واملعاصرة ،فقد تناوله يف الثقافات األوربية مرجعا إياه حىت إىل اللغات الالتينية
األم .ويتتبع املصطلح صعودا حينما كان مرادفا للبالغة ( )Rhétoriqueوذلك ألنه يربز ما اصطلح
عليه عياد مبستويات التعبري ،ويتدرج يف التقريب هلذا املصطلح حىت يصرح بأن "مفهوم
األسلوب( )Styleعندهم ال خيتلف اختالفا أساسيا عنه عندنا 3".على اعتبار املساواة التامة اليت
حصلت بني األسلوب والبالغة يف الثقافة الغربية القدمية.كما يذهب إىل ذلك عياد عندما يقف
خصوه مبعىن أضيق
على أن "األسلوب Styleعندهم رمبا جعلوه مرادفا للبالغة ( )Rhetoricورمبا ّ
من ذلك وهو "مستوى التعبري" وعندهم ثالثة مستويات أو أساليب ،القريب واملتوسط والرفيع ،وقد
ربطوها باملستويات االجتماعية من جهة ،وبالفنون األدبية من جهة ثانية ،وباحملسنات البيانية من
4
جهة ثالثة".
إال أن امليزة األساسية ملصطلح "أسلوب" يف هذه الثقافة ،هي اخلصوصية الفردية لكل أسلوب
فردي انطالقا من مقولة بوفون" :األسلوب هو الرجل ذاته" فأصبح يدل على اجلانب الفردي أو
الشخصي للفرد املتكلم أو املبدع ،حىت أن بعضهم شبه األسلوب ببصمة األصبع ،وهي اخلاصية اليت
تناوهلا عياد بشيء من اإلسهاب مربزا أن لكل إنسان أسلوبه اخلاص الذي خيتلف بالضرورة عن
إنسان آخر.
يصل عياد إىل تناول مباحث األسلوب عند اجملددين األوائل للبالغة ،وقبل أن خيضع هذه
اجلهود التجديدية للمعاينة والكشف ،يقف عند بعض املطبات املعرفية اليت أسهمت يف تكلس
وحتجر الدرس اللغوي عندنا ،الشيء الذي أبطأ عجلة التقدم أو أوقفها يقول" :واحلق أن الدراسة
البالغية كما عرفت قدميا مل تكن لتفي حباجة العصر ،فأبرز عيوهبا أهنا أشكال لغوية ال يربطها
رابط ...هلذا كان التحليل البالغي عاجزا عن إعطاء تفسري ذي داللة لألعمال األدبية ،بقدر ما كان
النقد األديب –الرومنسي -الذي بين على تقسيمات عريضة مبهمة ،واعتمد على أحكام انطباعية
1
سريعة ،عاجزا عن إسباغ شيء من املوضوعية على مناهج البحث األديب يف البيئات اجلامعية".
حياول عياد أن يربط بني منجزات الثقافة األوربية – يف حماولة تنزيل مباحث األسلوب منزلة
البالغة القدمية– وبني احملاوالت األوىل يف الثقافة العربية احلديثة ،اليت رامت التجديد املعريف للكثري
من املقوالت البالغية ،وتطفو إىل السطح تلك احملاولتني الرائدتني يف أحباث التجديد ممثلة يف جهود
الشيخ أمين الخولي يف كتابه "فن القول" أما احملاولة الثانية فهي لألستاذ أحمد الشايب يف مؤلفه
"األسلوب".
يقف عياد عند مظان التجديد الذي ابتغاه الخولي يف "فن القول" فيبدأ بتغيري اسم البالغة
تبوأها الشيخ بني إعزازه للقدميإىل فن القول من قبل الشيخ ،ويتناول عملية التوسط املنهجي اليت ّ
ويف الوقت ذاته محاسته للجديد ،يقول عياد" :وقد بىن كتابه هذا على املقارنة بني البالغة العربية
التقليدية وبالغة احملدثني - ،أي األوربيني -اليت مسوها "علم األسلوب" ،واعتمد يف رسم صورة
البالغة العربية التقليدية -اليت أحاط برتاثها املعروف إحاطة كاملة متعمقة -على "شروح
التلخيص" ...أما "بالغة احملدثني" فقد اعتمد فيها على كتاب ملؤلف إيطايل امسه "لباريين" وعنوان
الكتاب "األسلوب اإليطايل" "Lo stileia Italianoوهو كتاب غري معروف لدينا".1
إال أن الذي ش ّد انتباه الناقد يف حماوالت التجديد اليت باشرها الخولي ،هو إصراره على فنية
البالغة العربية من جهة ،ومناداته بالدراسة املوضوعية من جهة أخرى ،فيتساءل عياد " كيف اشتبه
عليه األمر يف الدراسة البالغية اليت يريدها موضوعية ،فجعلها "فنا" كفن الشاعر أو الكاتب
املبدع؟" 2ويتابع عياد بأن الشيخ لزم نفسه خباصية الذوق يف نقد األعمال اإلبداعية وقراءهتا - ،ما
دامت البالغة يف عرفه ال ميكن أن ترقى إىل مصاف العلوم ،-ألن الشيخ يرفض علمية البالغة وإمنا
يسلم األمر إىل األفكار الذوقية اليت من شأهنا أن تتبع مواطن اجلمال يف النص األديب.
مث يتناول عياد احملاولة الثانية لألستاذ الشايب الذي حاول " أن يصل بني البالغة والنقد
األديب احلديث 3".غري أن مرجعيات األستاذ من الثقافة الغربية كانت قاصرة على رفده باجلديد على
ساحة النقد األسلويب ،وذلك بالنظر إىل ما ميتلكه األستاذ من ثقافة تراثية كانت مزجيا بني البالغة
والنقد ،فانطلق الشايب يف إعادة صياغة البالغة على منهج الشيخ الخولي إال أنه باينه يف النظر
التحليلي ملكونات البالغة بل كان اعتماده "على ما قرره ابن خلدون عن األسلوب ،وبىن عليه نقاشا
4
طويال حول كون األسلوب نظاما لفظيا أو نظاما معنويا".
إال أن الشايب ال حيصر جل اهتمامه يف مقاربة البالغة العربية القدمية معتمدا على جهود
القدماء ،إمنا جيد لنفسه مكانا هاما عندما يقيم هذه الصلة احلميمة بني البالغة القدمية باعتبارها
جمموعة من القواعد ،وبني النقد احلديث (الرومنسي) الذي جيعل حمور اهتمامه التجربة الذاتية ،فهل
جنح األستاذ يف عقد مثل هذه الصالت؟ يقول عياد مربزا اجلهود التجديدية لألستاذ يف النقد
احلديث "الواقع أن األستاذ الشايب جيد نفسه مضطرا ،يف الفصل الذي يعقده بعنوان "تكوين
األسلوب" إىل االعتماد على مفاهيم البالغة القدمية دون غريها .فتوسيع مفهوم األسلوب حبيث
يشمل كل عناصر العمل األديب اليت حتدث عنها األستاذ الشايب يف أصول النقد ،وهي الفكرة
والعاطفة واخليال إىل جانب العبارة ،حري أن يلقي بالناشئ يف خضم ال هناية له ما دام املعيار
الوحيد للعناصر الثالثة األوىل هو التجربة اإلنسانية مطلقة من كل قيد .وإذا فالبد من االلتزام
1
باملفهوم الضيق لألسلوب الذي حيصره يف العبارة وحدها".
يتدرج الناقد – عياد -يف بسطه ملفاهيم األسلوب يف الثقافة العربية املعاصرة ،بعد أن أسس
للمفهوم يف الثقافة العربية القدمية بشيء من اإلسهاب ،فيجد أن الكلمة تفاوت مدلوهلا بني بيئة
وأخرى مما أسهم يف إغناء داللتها وثرائها .واألمر اآلخر هو أن مفهوم األسلوب سواء يف القدمي أم
يف احلديث ،إمنا يرتكز على مكتسبات العلوم اللغوية القدمية منها واحلديثة ،يقول " :إن القدماء –
بوجه عام -تناولوا ظاهرة األسلوب من مدخل التقاليد الفنية ،وأن احملدثني تناولوها من مدخل
التجربة النفسية والتعبري عن الذاتية .وكال املدخلني ال يأخذنا إىل قلب الظاهرة .فإذا نظرنا إىل كل
ذلك احلشد من األفكار والنظريات عن األسلوب وجدناها ال جتمع إال على شيء واحد وهو أن
األسلوب يعتمد على اللغة .يف وسعنا إذا أن نقول إن األسلوب ظاهرة لغوية ،وأن نشرع يف تفسريه
2
على هذا األساس".
غري أن مرجعيات علم األسلوب احلديث إمنا تتباين مظاهنا من املرجعيات اللغوية إىل
الدراسات األدبية ،اليت أسهمت يف بلورة جممل الدراسات األسلوبية يف العامل الغريب ،ومن مث حتديد
ط خطواته األوىل إال حني املنطلقات النظرية لربوز هذا العلم اجلديد "والواقع أن علم األسلوب مل خي ُ
ارتكز على علم اللغة وكان هذا التحول انقالبا يف الدراسات األدبية ،ولكنه مل يصدر عن علم اللغة،
بل جاء من قلب الدراسات األدبية نفسها 3".وسنده يف ذلك عمليات التحول اليت مورست على
حتليل النص األديب بعد أن أخذ النقد االنطباعي يف الرتاجع ،واختاذ منهج حتليل النص مبعزل عن
شخصية صاحبه ،بديال شرعيا يف عملية التحليل ،على اعتبار أن الشخصية األساسية واحملورية يف
النص هي اللغة املتوسل هبا.
يربز عياد العالقة املتينة اليت تربط علم األسلوب بعلم اللغة احلديث ،ومدى الرتابط الوثيق
الذي جيمع بني العلمني على ساحة النقد العاملي املعاصر ،فيقول " :بدأ علم األسلوب احلديث
األصح أن نقول إن الناقد يف هذا
ّ علما لغويا ،ولكن النقاد ما لبثوا أن اسرتدوه من علماء اللغة ،ولعل
العصر أصبح ناقدا ولغويا فهو يشبه الناقد القدمي من هذه الناحية ،ولكن مع مالحظة الفروق املهمة
بني املفاهيم اللغوية القدمية واحلديثة ،وأصبحت معظم الدراسات النقدية احلديثة در ٍ
اسات أسلوبية
1
كما انصبت معظم الدراسات األسلوبية على لغة األدب".
تشكل الدراسات اللغوية ،اخللفية األساسية واملرجعية اهلامة النطالق الدراسات األسلوبية
وحلوهلا بديال للكثري من مناهج الدراسة النقدية ،وأصبح علم األسلوب – على حداثة سنه -ميثل
البؤرة املركزية للدراسات اللغوية واألدبية العاملية ،ويشاطر عياد ما ذهب إليه الناقد اللغوي ستيفن
ألمان من أن علم األسلوب علم شاب مليء باحليوية والنشاط ،لكنه ينعى على الكثري من نقادنا
وباحثينا املعاصرين عملية االستقبال العريب هلذه املناهج ،من منطلق حمدودية عملية الفهم والتمثل،
كوهنما مها السبب الرئيس يف اضطراب الرؤية النقدية وهزاهلا ،ذلك أن اجلهل بالشيء ال يعين عدم
وجوده .أضف إىل ذلك ما صاحب استقبال هذه املناهج من تشكيك يف فاعليتها ،وما أصاب
املنظومة الفكرية واملعرفية من شرخ أسهم يف خلخلة مستويات القراءة والفهم.
يقول عياد مربزا هلذا اهلم املعريف الذي يصدر عنه "إ ّن هذه الصورة شبيهة مبا جنده عندنا –
والسيما يف هذه السنوات األخرية -من اختالط األفكار وافتقاد املنهج ،ولكن ال خندعن أنفسا:
فشتان ما بني اضطراب ناشئ عن اجلهل وفقدان الثقة بالعقل وقعود اهلمة عن الطلب ،واضطراب
ناشئ عن احلرية العقلية اليت ال تفتأ تنبش عن املشكالت وجترب كل احللول وتناقش كل الفروض،
2
مغرى بارتياد ذلك اجملهول".
إن علم هذا العصر كعامل هذا العصر :جمهول دائم وعقل ّ
يستمر عياد يف تتبع املسار النظري ملشروعه األسلويب ،من دافع تبيان مجلة من القضايا اهلامة
اليت تربط علم األسلوب بعلوم اللغة ،وهاجسه دائما هو الوقوف عند الصالت والروابط اليت تلتحم
بني البالغة العربية من جهة ،والدراسات اللغوية احلديثة من جهة أخرى .ويف ربطه الوظائف النحوية
القدمية بالوظائف البالغية يقول عياد مربزا هذه الروابط" :إن علماء األسلوب يف عصرنا هذا عنوا
بإيضاح مسألة بقيت غامضة مشوشة لدى بالغيينا القدماء ،وهي عالقة القواعد النحوية بالفن
1
القويل ،وهذا شرط ضروري لتحديد الظاهرة األسلوبية".
وحتديد مثل هذه العالقات من شأنه أن يدفع بالتحليل األسلويب إىل كشف الكثري من الروابط
والعالقات اليت تُسهم يف إثراء داللة النص ،وعدم االكتفاء بالدالالت السطحية له ،إمنا حماولة احلفر
يف أعماق هذا النص من أجل البوح بالقدر الكايف من املعاين اليت كانت متسرتة على القارئ أثناء
مباشرته عملية القراءة.
مل يكتف عياد بإبراز نوع واحد من الدالالت اليت خيتزهنا النص ،وإمنا حاول جاهدا أن يربز
أنواعا شىت من الدالالت اليت حيتملها النص األديب عندما خيضع لعمليات التحليل األسلويب ،مع
تفاوت يف حجم هذه الدالالت ،إذ ال ميكن حسبه أن نطمئن إىل الداللة األحادية للغة بل جيب
البحث عن خمتلف الدالالت احملتملة ،ويُرجع عياد اهتمام أوائل األسلوبيني كشارل بالي مثال
وتالمذته بأنواع الدالالت ،إىل أن جيري بينها ذلك التماثل ،كما هو موجود عندنا يف كتب البالغة
تصور بايل علم األسلوب على أنه علم لغوي صرف ،يكمل النحو ،وال خيتلط والنحو يقول" :لقد ّ
بالبالغة أو فن الكتابة وسار تلميذاه ماروزو وكريسو على الدرب حىت منتهاه ،فكتب كالمها كتابا يف
علم األسلوب موزعا على أبواب تشبه أبواب النحو ،ابتداء باحلروف أو األصوات وانتهاء باجلملة أو
2
العبارة ،وميكن أن نشبه هذا النوع من التأليف بكتب البالغة عندنا".
ال يعدو األمر أن يكون عملية إسقاط أو متاثل وتوازي للجهود األسلوبية الغربية وموازنتها مبا
هو موجود عندنا يف البالغة العربية ،األمر الذي حدا بعياد أن مير بالكثري من املسائل اللغوية ممثلة يف
مقوالت النحو التوليدي التحويلي عند تشومسكي ( )Noam Chomskyومدى مالئمة تلك
القضايا النحوية للمسائل اللغوية املوجودة يف الرتاث اللغوي العريب ،أضف إىل ذلك ،تلك
التحسينات اليت تعج هبا البالغة يف موازاهتا مع مقولة البنية السطحية والبيئة العميقة عند
تشومسكي ،يقول عياد مفاضال بني األصلني العريب والغريب " :يالحظ أن البالغة التقليدية عند
العرب واألوربيني على السواء قد ميّزت بني حتسينات راجعة إىل أصل التعبري وأخرى إضافية تأيت بعد
األوىل يف القيمة ( فهذا أساس التفرقة بني علمي املعاين والبيان من ناحية وعلم البديع من ناحية
أخرى) ولكن التفرقة املبنية على النحو التوليدي التحويلي تبدو أكثر منطقية 1".وهنا ينتصر عياد
حليوية النحو التوليدي التحويلي على خالف الثبات السكوين للكثري من مقوالت البالغة العربية،
اليت ال تتيح للمبدع الكثري من إمكانيات التعبري بسبب تلك القواعد والتقنينات اليت مارست نوعا
من التقييد الكابح لروح اإلبداع.
وانطالقا من ذلك يصل عياد إىل بلورة مفهوم تلك السمة املميزة للنص األديب ،واليت تصنع
فرادته وخصوصيته ،ومن مث إبداعيته وهو ما اصطلح عليه بأدبية األدب .يقول عياد " :الفنان اللغوي
ال يتعامل مع مادة أدبية خمتلطة ،ولكنه يتعامل مع أعراف لغوية متعدد ،خيضعها مرة وخيضع هلا مرة،
ويؤلف بني بعضها وبعض مرة ،ويضرب بعضها ببعض مرة ،لكي حيدث نظاما جديدا متميزا،خاصا،
هو النظام الذي حنسه معىن جمردا كامنا حتت النص األديب ،وهو نظام اليشبه نظام أي نص أديب
2
آخر".
إن ما يروم عياد إثباته هنا هو تلك اخلصوصية الفنية اليت يتميز هبا نص عن آخر ،وذلك وفق
اإلمكانيات اليت تتيحها اللغة للمبدع ،غري أن هذه العملية تكون حمكومة جبملة من املعايري واألعراف
اليت ال جيوز للمبدع خرقها أو جتاهلها ،ورمبا خضع هلا الفنان أو املبدع انطالقا من ميول مجاعية
وليست فردية ،على اعتبار أن عملية االختيار إمنا حتتكم إىل شروط خاصة كما حتتكم إىل شروط
عامة ،ومن شأن هذه املعايري أن تسهم يف صياغة اجلانب الشخصي للنص األديب ،وتصنع فرادته
انطالقا من تلك االحنرافات أو اخلروقات اليت يأتيها املبدع رمبا عن قصد أو عن غري قصد ،األمر
الذي جيعل من عملية اإلبداع يف حد ذاهتا حمكومة سلفا هبذه املعايري والشروط اليت ميتثل هلا املبدع يف
النهاية.
جيري عياد نوعا من التقريب املنهجي أو التحليلي لظاهرة األسلوب ،وكيفيات التحديد
وإمكانيات التحليل إذا انضوى األسلوب حتت فلسفة من الفلسفات احلديثة ،يقول" :إن األسلوب
إذا نُظر إليه يف ضوء الفلسفة الرومنسية على أنه السمة اليت متيّز كاتبا عن كاتب ،فلن نستطيع يف
هذه احلالة أن نتحدث عن علم يسمى علم األسلوب ،ألنه سيكون كال متفردا غري قابل للتجزئة
ولكننا لو استطعنا أن حنلل عناصره حتليال علميا (رياضيا) ألمكننا أن منيز بني األساليب املختلفة
1
حبسب اختالف مكونات كل منها".
تنم هذه املعاجلة الدقيقة عن هاجس التأصيل النقدي الذي يتغياه شكري عياد ،فال يلبث أن
جيري تلك املوازنات واملقارنات بني اإلرث احلضاري العريب ممثال يف البالغة والنقد والنحو ،وبني هذه
املكتسبات أو املنجزات اللغوية الغربية ،حماوال إماطة اللثام عن الكثري من القضايا اليت تقع يف
الصميم من العملية النقدية األسلوبية ،وهو بذلك يتجاوز الكثري من النقاد والباحثني واللغويني
العرب ،الذين أسهموا يف دفع عمليات النقد العريب احلديث واملعاصر ،وجعلها ترتاد مناطق رمبا مل
تتجه إليها العناية من قبل ،ومت اكتشاف هذه اجملاهيل اجلديدة اليت أسبغت على مثل هذه الدراسات
نوعا من الريادة والتبجيل واالحتفاء.
لقد صرف الناقد جهدا ليس باليسري يف تتبع جممل املظاهر اللغوية والنقدية اليت عرفتها ساحة
فطوف عند
النقد األديب املعاصر ،ومارس نوعا من الذكاء يف تشريح هذه القضايا واإلشكاالتّ .
ثنائيات سوسير ومقوالت نظرية االتصال ،وخلص إىل أن اإلبداع ذو طابع شخصي ،وال ميكن أن
يكون إال كذلك ،وأن الظاهرة األسلوبية فريدة فرادة اإلبداع الذايت للمبدع ،سواء كان شاعرا أو ناثرا
وأن مسة الفردية تتجاوز املقول إىل القائل ،وهذا رمبا خيرج عن ضوابط البحث األسلويب املعاصر ،إذ
الشأن منصب بداية وهناية حول النص /الظاهرة موضوع املساءلة والدرس ،وأن النقد األسلويب فرض
نفسه كأحسن بديل للنقاد املعاصرين ملا يتيحه من آليات تنهض بإبراز مسات األدبية واالنزياح داخل
النص.
ختتلف عملية حتديد هذه الظواهر األسلوبية باختالف مناهج الدرس والتحليل ،فإذا كان النقاد
األسلوبيون الرواد -بايل على سبيل التمثيل -يقفون عند حتديد اللغة الطبيعية أو اللغة املستعملة بني
األفراد يف حديثهم اليومي ،فإن النقاد األسلوبيون اآلن يعنون بإبراز مجاليات النصوص املكتوبة وبيان
أوجه التأثري الفين اليت متارسها هذه النصوص على مجهور النقاد .وهكذا "أصبح علم األسلوب ،يف
نظر معظم ممارسيه اليوم مرتبطا بدراسة النصوص األدبية ،بعد أن كان يف أول نشأته منصبا على
1
دراسة جانب من جوانب اللغة الطبيعية ،أي اللغة املستعملة يف شؤون احلياة العادية".
ختضع عملية حتديد الظاهرة األسلوبية داخل النص ،إىل مجلة من الشروط لعل من أمهها معاينة
مبدأ االختيار الذي امتثل له املبدع ،إال أن هذه العملية ال تؤدي بالضرورة إىل التحليل األمثل
للنص ،وذلك الكتفاء مجلة من النقاد األسلوبيني بالبحث عن جزئيات يسرية داخل النص ،أو قل
يعمي النصالعمل على تفتيت النص وجتزيئه إىل أصوات وحقول داللية وغريها ،األمر الذي رمبا ّ
ويعتمه أكثر مما يضيئه ،بل إن الدراسة األمثل لتوظيف القدر الكايف من إمكانيات التحليل ،إمنا
تتطلب "منهجا خاصا لدراسة الظاهرة األسلوبية اليت حتدد معناها عند معظم الدارسني يف الوقت
احلاضر باالستعمال األديب للغة ،وبناء على ذلك ،ينبغي أن حناول وصف هذه الظاهرة بتعيني
2
اخلصائص اليت متيزها عن االستعماالت األخرى".
ال حيتفي شكري عياد كثريا بالدراسة التجزيئية للنص ،وذلك العتبارات عديدة لعل من أمهها،
أن مثل هذه الدارسات متارس نوعا من التضليل على فهم القارئ ،أما الطريقة األمثل حسبه فهي
دراسة جممل االختيارات اليت يصدر عنها املبدع ،ليتسىن للدارس األسلويب ممارسة التحليل وفق مبدأ
مر بنا أن االختيار
االختيار ،باعتباره أوىل حمددات األسلوب باإلضافة إىل الرتكيب واالنزياح .وقد ّ
خيضع جلملة من الضوابط الفردية واجلماعية اليت تؤطره ،لتجعل املبدع ميتح من اللغة -كمدونة
كربى -ما يناسب مبتغاه من القول ،هذه الضوابط أو الشروط حتكم عملية االختيار وال ترتكها على
إطالقها ،فالشرطان األساسان لعملية االختيار مها مراعاة اجلوانب الذاتية وكذا املوضوعية ،أثناء
عملية االختيار مما يكسب العملية اإلبداعية مجالية راقية تنأى بنفسها عن املكرور واملبتذل.
ومهما يكن ،فإن األسلوب يكتسب قوته من طبيعة الشخصية اليت استخدمته "ومن عبارات
كان هلا أثرها يف النفوس مل تكن لتحدث هذا األثر لو مل تصدر عن شخصية بذاهتا ،إن األديب ذو
الشخصية القوية املؤثرة خيلق للكلمة -باستخدامها إياها -جماال واسعا ،وال يلبث الكثريون أن جيدوا
أنفسهم واقعني يف إسارها ،فمن حيوية الشخصية وقوهتا تستمد الكلمة وهي هبذه احليوية والقوة تؤثر
1
يف اآلخرين وتفرض نفسها عليهم".
تتفاوت فاعلية االختيار من مبدع إىل آخر ،نظرا للمستويات املعرفية أو اإلبداعية اليت تفصل
بينهما؛ فما يوفق فيه مبدع قد يفشل فيه آخر ،وذلك راجع إىل مقتضيات القول ومبتغى الرسالة أو
النص ،لكن جناح أحدمها مرهون حبسن توظيف اختياراته وفق مبادئ أو معايري معينة "ومهما يكن،
فإن حتديد األسلوب على أنه اختيار حمور أساسي من حماور الدراسات األسلوبية ،اليت قدمت
األسلوب على أنه متصل بوعي املبدع وبذاتيته اليت متيزه عن الذوات األخرى ،فتفاوت األسلوب رمبا
2
يكون قائما على طبيعة االختيار الذي عد عنصرا أساسيا من عناصر عملية اإلبداع".
يقف عياد عند هذا احملدد بشيء من اإلسهاب ،ملا له من أمهية بالغة يف معرفة واكتشاف
بواطن النص اإلبداعي ،والوقوف عند مدى توفيق املبدع يف اختياراته ،اليت تنأى يف العادة عن
توظيف اللغة العادية البسيطة ،وتطلب نوعا من االستعمال اجملازي يقول عياد" :أما أوسع أبواب
االختيار أمام الشاعر أو الكاتب فال شك أنه التعبريات اجملازية".3
انطالقا من هذه االستعماالت اجملازية خيلق املبدع ما يعرف بالصورة يف أجبديات النقد العريب
سواء القدمي أم احلديث ،وللصورة أمهيتها البالغة من الناحية األسلوبية أو اجلمالية ،وحىت من ناحية
التلقي املوجب للقارئ ،ذلك أهنا ختلق نوعا من األرحيية ونوعا من الفضول يتتبعه القارئ قصد فك
طالمسها وتعرية أنساقها ،يقول عياد..." :جيب أن ال ننسى أن الصورة – هبذا املعىن الضيق -هي
جزء من نسيج عمل أديب وأن العمل األديب يراد به دائما إحداث أثر فين لدى املتلقي ،ومن مث
ختتلف صنعة الصورة األدبية من مدرسة إىل أخرى ،وأبرز ما يتضح فيه هذا االختالف هو مدى
4
التباعد بني طريف الصورة".
1عز الدين امساعيل :األدب وفنونه -دراسة ونقد ،-دار الفكر العريب ،القاهرة ،ط ،0028 ،2ص.22 :
2يوسف أبو العدوس :األسلوبية -الرؤية والتطبيق ،-ص.020 :
3شكري حممد عياد :اللغة واإلبداع ،ص.28 :
4املصدر نفسه ،ص.21 :
235
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تلك إذا هي أهم اجلهود النظرية اليت اضطلع هبا شكري عياد ،عرب مسريته النقدية ،واليت
يشكل البحث األسلويب أهم مرتكزاهتا وأعمدهتا ،لينهض الفصل املوايل بإبراز خمتلف املواقف النقدية
اليت عاينها عياد ،خاصة تلك املتعلقة مبوقفه من موجة احلداثة الغربية والعربية ،وحتسسه أزمة احلداثة
العربية ومناهضته للحداثيني العرب ،إضافة إىل حماولة تأسيسه ملشروع حداثي عريب.
236
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
237
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تعترب إشكالية تلقي املنهج النقدي من أهم اإلشكاليات املعرفية ،إن مل تكن أمهها؛ ذلك أن
املنهج هو املفتاح اإلجرائي( ، )clé opérateurالذي بوساطته تفتح مغاليق النصوص ،وتنـزع أردية
التدثر عن املعاين املكتنزة داخل هذه النصوص ،وتتوقف فاعلية اإلجراءات النقدية على حسن
توظيفها ومتثلها ،وحسن استثمارها من قبل الباحث أو الناقد ،األمر الذي ينسحب عنه نتائج قمينة
باالحتفاء والتبجيل ،وجيعل من النص كنـزا مشعا مبختلف الدالالت واملعاين ،إال أن املعضلة احلقيقية
اليت وقع فيها النقد العريب احلديث واملعاصر ،هي مدى اإلفادة من مناهج النقد الغربية اليت مت
استقباهلا يف بيئة النقد العريب .ففي كثري من األحيان يتم اخللط بني التطبيق اآليل الصنمي آلليات
املناهج وبني سوء توظيفها ،مما جيعلها آليات هدم بعدما كانت يف األساس آليات بناء ،مما يزيد يف
عتمة النص ومتنّعه عن اإلفصاح مبخبوءه ومكنونه ،وذلك راجع باألساس إىل عدم املعرفة باخللفيات
املعرفية واملرجعيات الفلسفية اليت صاغت هذه املناهج .واملنهج "طريقة يف التعامل مع الظاهرة
موضوع الدراسة ،تعتمد على أسس نظرية ذات أبعاد فلسفية وأيديولوجية بالضرورة ،ومتلك -هذه
الطريقة -أدوات إجرائية دقيقة ومتوافقة مع األسس النظرية املذكورة ،وقادرة على حتقيق اهلدف من
1
الدراسة".
وترتيبا على هذا فقد وقع الكثري من نقادنا احملدثني ضحية االنبهار والتسرع يف استثمار الوافد
من الثقافة الغربية ،انطالقا من مقولة املغلوب مولع بتقليد الغالب ،فلم حيسن النقاد العرب احملدثني
1سيد البحراوي :البحث عن املنهج يف النقد العريب احلديث ،دار شرقيات ،القاهرة ،ط ،0002 ،0ص.0 :
238
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يف الكثري من األحيان التعامل مع هذا الوافد ،وال الوعي هبذه املرجعيات الفلسفية اليت تقبع وراء كل
منهج أديب أو نقدي ،إمنا متّ التعامل معها وكأهنا إسقاطات آلية أو مسلمات مشاعة بني كل
األجناس.
وإمعانا يف إظهار احلقيقة ومدى اخلطورة املعرفية على الذات من قبل اآلخر ،يسعى البحث
إىل التعريف بعلم من أعالم نقدنا احلديث واملعاصر وحماولة إضاءة مشروعه النقدي ،الذي خيص به
مجلة من القضايا اليت تنوعت بني قضايا تراثية وأخرى حداثية ،فهل كان مستوى التناول والتمثل
مبستوى التحديات؟ وما هي املواقف النقدية اليت انربى الرجل للذود عنها؟ وهل اجلهاز املفهومي
واملصطلحي الذي توسل به عياد يف مقاربة هذه املتون كفيل بإضاءة كل هذه النصوص؟ وما هي
اآلليات القرائية املعتمدة من قبله يف عملية احلفر واالستنطاق؟ كل هذه التساؤالت وغريها هو ما
سيحاول البحث اإلجابة عنها وبسطها.
ترتكز كل عملية قراءة -هتدف الوصول إىل سرب كنه النص وفك شفراته وفتح مغاليقه ونزع
أستار احلجب عن معانيه -على منهج نقدي معني ترتاد به هذه املتون ،وحتاول مستعينة به تفكيك
البىن اللغوية الكربى والوصول إىل دالالت تقع يف العمق من العملية اإلبداعية ،وال مناص ألي
باحث من االحتكام آلليات منهج معني ،بغية الوصول إىل كشف احلقيقة/املعىن/الظاهرة ،املنطوية يف
شكل نص أو إبداع واملنهج هبذا الطرح " يتعدد بتعدد أمناط املعرفة ،وأنه يلحق هبا وال يسبقها ،وأنه
معرض للتطور والتج ّدد والنسبية يف كل ذلك ،وأنه هبذا ال يقبل الوصف بالشمولية تبعا لذلك ّ
واإلطالق ،وال حيتمل أن يفرض أو يعمم أو يلصق بأي جمال معريف -كيفما كان – ينقل إليه أو
1
تبىن فيه".
يُ ّ
منبت الصلة باحلاضنة الثقافية احلاملة له ،وال ميكن عزله عن
تأسيسا على هذا ال يعترب املنهج ّ
احلقل املعريف الذي أنتج فيه ،وال عن خلفياته الفكرية ومرجعياته الفلسفية اليت عملت على بلورته
ونضجه إذ " ميكن النظر يف علم املناهج بصفته نظرية عامة شاملة للمناهج املفردة ،أي املناهج
عباس اجلراري :خطاب املنهج ،منشورات النادي اجلراري ،8الرباط ،ط ،0005 ،3ص.02 :
1
239
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
املوظفة واملستمرة يف خمتلف العلوم وحقول املعرفة...،وترتيبا على ذلك يفضي البحث يف املنهج إىل
جمال فلسفة العلوم أو نظرية املعرفة أو ما ميكن تسميته اختصارا :االبستيمولوجيا وهو ما يتولد عنه
1
خطاب نظري من درجة ثانية يصطلح عليه باخلطاب النظري الواصف أو ما بعد النظري".
إن حماولة تأصيل مناهج البحث والدراسة األدبية هي ما يرومه عدد غري قليل من نقادنا
احملدثني ،وعملية التأصيل يف حقيقتها هي البحث عن أصل هلذه املناهج يف الرتاث النقدي والبالغي
العريب ،أو أرضنتها وتبيّئتها يف احلقل النقدي العريب املعاصر ،غري أن األمر ال ميكن التسليم به هبذه
البساطة ،فالكثري من القضايا النقدية احلديثة واملعاصرة مل جتد ما مياثلها على الصعيد الفكري
والفلسفي تراثيا ،والكثري من املقوالت البالغية والنقدية القدمية أثبتت عقمها وعدم جدواها على
الساحة النقدية املعاصرة ،ما أدى إىل التوجه رأسا صوب احلضارة الغربية يف حماولة الستثمارها
واإلفادة منها ،يقول محمد برادة":معظم نقادنا منذ حسني املرصفي قد اجتهوا صوب املستودع
األديب األوريب (=الغريب) حبثا عن أدوات التحليل والتفسري ،حىت عندما حاولوا إعادة تقييم روائع
الرتاث العريب ،وهذا ما ترك يف نفوسنا االنطباع عند قراءة العقاد واملازين وطه حسني وهيكل ...بأهنم
جيهدون يف إبراز قيمة الرتاث عن طريق إظهار إمكانية تطبيق املناهج الغربية على جوانبه اهلامة ،حىت
2
ال يكون خمتلفا يف شيء عن الرتاثات األدبية لألمم املتقدمة".
واستتباعا ملا مت تقدميه حول العالقة بني النقد العريب احلديث والنقد الغريب ،وما جنم عن
عمليات املثاقفة اليت ال غىن للنقد العريب عنها ،وعمليات التالقح اليت متت بني االجتاهني العريب
والغريب ،فإن هذه العالقة منذ مرحلة البدايات ،أو بداية التواصل كانت عالقة األستاذ بالتلميذ ،أو
التابع باملتبوع ،واإلقرار بذلك يدخل يف صميم العملية النقدية واحلضارية اليت من شأهنا أن تدفع
بالتيارات النقدية واألدبية إىل مزيد من التقدم على الصعيد املعريف .وال نغايل يف االعرتاف بأن مرحلة
النقل واالستنساخ واإلسقاط مثلت مرحلة قامتة يف تاريخ النقد العريب احلديث ،ذلك أن الكثري من
النقاد العرب سار يف اجتاه األخذ من الغرب دون وعي مبختلف املرجعيات واخللفيات ،إمنا حصلت
عملية تدافع حنو املنجز الغريب وحماولة حماكاته باعتباره املثال والنموذج واملركز.
1عبد اجلليل بن حممد األزدي :أسئلة املنهج يف النقد العريب احلديث ،املديرية اجلهوية لوزارة الثقافة ،مراكش ،ط،3110 ،1
ص.23 :
2حممد برادة :حممد مندور وتنظري النقد األديب ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء -بريوت ،0085 ،ص.5 :
240
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يقول نبيل سليمان مربزا عملية التدافع احلاصلة الستثمار الوافد الغريب ،أن الناقد العريب
"يستورد من اآلخر ما هو جاهز ،استريادا شرعيا أو هتريبا حياول التوليف مع مقتضيات الواقع
الفكري والنقدي واألديب ،تتصاغر ذاته أمام اآلخر الكلي اجلاذبية والتفوق" ،1إال أن تلك املنجزات
الغربية على صعيد املنهج والنظرية واإلجراء والرؤية ،جتعل من عملية األخذ والتمثل حقا البد من
استثماره ،وحماولة صهره مبا لدى الذات العربية من أصول تراثية بغية اخلروج من العملية النقدية
بطائل ،فعملية املثاقفة هي وحدها الكفيلة بتعرف الذات على مثالبها وحمامدها ،يقول فؤاد أبو
منصور بشيء من االعرتاف الذي يبطن نوعا من احلسرة "الغرب مرآة تساعدنا على رؤية أنفسنا يف
السلم احلضاري ،وحتدد لنا على أية درجة نقف ،وكيف سنتوجه ،وأية أدوات نستعمل الستكمال
2
مشروع املعاصرة".
الواقع أن العالقة مع اآلخر على صعيد إنتاج املعرفة إمنا جتد مسارها الصحيح عند بعض
النقاد حتت مسمى "املقارنة" ،أي مقارنة منجزات الغريب مبا لدى الذات العربية على الصعيد الرتاثي،
عندما تنكفئ هذه الذات إىل ماضيها علّها جتد فيه ما يثبت حضورها على الصعيد املعريف يف جماهبة
هذا اآلخر الغريب ،الذي أعطى لنفسه مركزية تامة ورمى غريه إىل مدارات اهلامش ،واحلال أن عملية
املقارنة يف مثل هذه األمور ال تستقيم أبدا ،نظرا حلجم الفوارق والتباينات احلاصلة على عدد غري
يسري من احلقول املعرفية ،إال إذا رمنا التبسيط واالختزال والتجديف فإننا نقر مبثل هذه املقارنات":
إن االخنراط حتت لواء املقارنة ملراقبة التأثريات والتأثرات وضبط درجات متثل النقاد العرب للمناهج
الغربية ،مل ينتج سوى جمموعة من املقايسات الشكلية اجملردة اليت حتاكم املمارسات النقدية العربية
مبنطق "أستاذي"يوزع بأقساط غري متساوية نياشني الفهم وعالمات التمثل وفق معيار االقرتاب
من/االبتعاد عن املثال النموذج".3
إن عملية االحتذاء واملقايسة هي اليت أسهمت يف وقت ما يف صياغة متطلبات املرحلة النقدية
وعجلت يف الوقت ذاته بإصدار عدد ال بأس به من املدونات النقدية ،اليت راعى فيها العربيةّ ،
أصحاهبا تلك اخلصوصية الذاتية ،اليت بال شك ختتلف عن املظان األم لتلك األعمال ،وانطالقا من
1نبيل سليمان :مسامهة يف نقد النقد األديب ،دار الطليعة ،بريوت ،ط ،0082 ،0ص.28 :
2فؤاد أبو منصور :النقد البنيوي احلديث بني أوربا ولبنان ،دار اجليل ،بريوت ،ط ،0085 ،0ص.83 :
3عبد اجلليل بن حممد األزدي :أسئلة املنهج يف النقد العريب احلديث ،ص.83 :
241
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
هذا بات الناقد العريب مسهما ولو بالقسط اليسري يف صياغة الوعي النقدي للذات العربية ،ومسهما
كذلك يف بلورة العديد من وجهات النظر اخلاصة به ومبشاريعه النقدية ،يقول توفيق الزيدي":ظاهرة
التصرف يف املناهج واضحة ،فال جند اتباعا كليا لتلك املناهج ،وإمنا استلهم نقادنا مبادئها العامة
كوجوب استنطاق النص واالنطالق من مبناه للوصول إىل معناه ،أو تفكيك النص مث تركيبه أو
استغالل جهاز التواصل بوظائفه الست...ولعل هذه الظاهرة جتعل نقدنا اللساين يتسم
1
بالسطحية".
اتسمت املرحلة النقدية العربية احلديثة واملعاصرة بنوع من االستالب ،مارسه اخلطاب الغريب
ومعرضا إياها لنوع من على الذات العربية ،واقتحمها داخليا مفككا أسسها اإليديولوجية واملعرفية ّ
التش ظي ،الذي أسهم فيما بعد يف اغرتاهبا عن مهوم عصرها وجمتمعها ،ودون وعي منها خبطورة
األزمة ،تالشت مقومات هذه الذات ،وأصبحت معول هدم النتمائها احلضاري الذي كان باإلمكان
أن تكون لبنة بناء يف صرح جمتمعها ،ودون أن نلقي بالالئمة فقط على احلضارة الغربية وإفرازاهتا،
جيب أن نقف موقف نقد هلذه الذات وكيف استلهمت هذه احلضارة ،وكيف ارمتت يف أحضاهنا،
وكيف أقصت كل اعتبار حضاري خلصوصيتها العربية.
ميتلك شكري محمد عياد حاسة نقدية دقيقة متكنه من التعرف على مواطن اخللل يف الثقافة
العربية ،ويستطيع ببصريته الثاقبة أن يعاجل الكثري من املزالق اخلطرية اليت رمبا وقعت فيها الثقافة ،أثناء
مقاربتها للتيارات الوافدة عليها من أرض الغرب ،وعندما يتحسس بواطن هذا الوافد يقف منه موقف
الناقد الذي ال يألوا جهدا يف التعرف على خباياه وكشف مستوره ،خاصة فيما يتعلق مبسببات أو
شروط احلداثة عندنا وعندهم ،يقول عياد" :ولكن القارئ الذي خيوض يف هذه املذاهب ال حيسن به
أن ينسى أن مثة خالفات ماثلة بيننا وبينهم ،فالظروف اليت يعيش فيها القارئ العريب والكاتب العريب
تتسم بفراغ هائل ،يف الغرب والشرق هناك خيارات واضحة تفرضها نظم سياسية حديثة قوية ،هلا
تقاليدها كما أن هلا تطلعاهتا ،ويفرضها تراث ثقايف حي تعهدته أجيال من العلماء بالتحقيق
1توفيق الزيدي :أثر اللسانيات يف النقد العريب احلديث من خالل بعض مناذجه ،الدار العربية للكتاب ،تونس-ليبيا ،ط،0
،0082ص.052 :
242
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
والدرس ،أما يف عاملنا العريب ،فالقدمي جمهول أو شبه جمهول واجلديد ضعيف مرتنح ،األرض عنيدة
والسماء شحيحة ،الكاتب كصارخ يف برية ،والقارئ كضال يف صحراء التحديات ،ال حد لكثرهتا
1
وال لضخامتها".
ال يقف شكري عياد موقفا مريبا من احلداثة الغربية فحسب ،بل حي ّذر من انعكاساهتا
وتبعاهتا على كل املؤسسات ،سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو حىت دينية ،ذلك أن
الكثري من مقوالت احلداثة الغربية تنطوي على شيء ليس بالقليل من تفكيك كل املسلمات
واملعتقدات ،وتدعو يف اآلن نفسه إىل مصادرة املوروث العقدي أو ما اصطلح عليه "أنسنة الدين"،
وحيذر من كل تلك الدعوات اليت نادى هبا دريدا أو بارث وغريمها ،من ضرورة تفكيك املؤسسات
جبميع أشكاهلا باعتبارها جمموعة من السلطات القمعية اليت تقهر الذات وتكبّل حريتها ،إن حتذيراته
من إفرازات احلداثة الغربية هو ما دفعه إىل الرتيث يف األخذ هبا ،وإتباعها كمنهجيات له يف الثقافة
واألدب والدين وغريها ،ويركز عياد على مبدأ اخلصوصية اليت ّ
تفرق ثقافة عن ثقافة وأمة عن أمة ،وال
جنانب الصواب إذا ذهبنا معه يف مذهبه االستباقي من أن لكل أمة خصوصيتها الثقافية واللغوية
والدينية واملعرفية ،وإال وجدنا أنفسنا مهددين حىت يف وجودنا ،يقول ..." :أننا أخذنا نشهد يف
النصف الثاين من هذا القرن مرحلة تارخيية جديدة ،أصبح فيها الكيان القومي مهددا بالفناء"،2
ويرى أن ثورية احلداثة متثلت يف حماولة احلداثيني العرب اخلروج عن كل ما هو مألوف لدى اجلماهري
العربية ،والنأي هبم إىل مسافات أخرى أكثر رحابة يف ظنهم ،ويذهب إىل أن هذه الثورية اليت عرفها
الشعر احلر مثال ،متثلت أساسا يف "اإليغال يف الغموض والتجريب ،أي االبتعاد عن األشكال
الفنية املعروفة ،وهو اجتاه يرجع إىل أن الشاعر -باعتباره منتجا يف جمتمع استهالكي وليس رائيا أو
نبيا -يقدم سلعة إىل مجهور حمدود من األفراد الذين مييلون بطبعهم إىل العزلة وقد ميكنهم أن يشاركوا
3
يف لعبة البحث عن معىن وراء الصور املهشمة اليت ينقضها الالشعور".
1شكري عياد :دائرة اإلبداع :مقدمة يف أصول النقد ،دار إلياس ،القاهرة ،0082 ،ص.82 :
2شكري حممد عياد : :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،عامل املعرفة ،اجمللس الوطين للثقافة والفنون
واآلداب ،الكويت ،0002 ،ع ،022ص.203 :
3نفسه :ص.28 ،22 :
243
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
رمبا يؤسس عياد لنظرته النقدية من خلفية معرفية صاغتها اهتماماته النقدية املعاصرة اليت
واكبت بروز موجة الشعر احلر أو ما أصبح يسمى بشعر التفعيلة ،خاصة وأن هذا النوع من اإلبداع
الشعري سلك طريقا مغايرا ملا ألفه مجهور القراء من قبل ،ذلك أن هذا النوع من اإلبداع موغل يف
الغموض والتجريد ،األمر الذي عكس وجود فئة معينة من القراء هي اليت اهتمت به وحاولت
جاهدة مسايرة الشعراء املعاصرين يف كشف مرادهم ،وفهم إشكاليات الفرد العريب املعاصر وما يعانيه
من مشاكل رمبا تقف املشاكل االجتماعية والسياسية يف مقدمتها ،وينفرد عياد عن باقي النقاد
العرب املعاصرين بتشخيص الداء املعريف والوجودي للناقد العريب احلديث واملعاصر ،وحياول أن
يكشف بواطن اخللل اليت استحكمت يف الذات العربية املعاصرة ،وجعلتها ترزح حتت نري التخلف
الفكري على أصعدة عديدة ،لعل أمهها مسألة األخذ من اآلخر ،وكيفية استثمار الوافد من الثقافة
الغربية ومدى إسهام الذات العربية يف بلورة وعي نقدي عريب ،ينأى هبا عن الذوبان يف اآلخر من
جهة ويدفع هبا حنو نوع من االستقالل عن تراثها من جهة ثانية ،ألن مسألة األصالة واملعاصرة تتحد
بقدر ما تتنابذ وتتعارض ،ألن االنكفاء على املاضي هو سبب التسرب فيه واملوت حتت سلطانه،
واالستنجاد بالغريب هو ذوبان فيه ونسخ للذات وهبت ملعاملها.
يشرح عياد -انطالقا من هذه اإلشكالية -وضع احلداثيني العرب ويتتبع حضورهم على الساحة
النقدية والفكرية العربية ،فمنهم من يبدو غريبا عن وطنه وانتمائه ألنه حيضر بعقله يف عامل قدمي أو
جيد نفسه يعاجل قضايا أمته الراهنة بعقل قدمي ،وينتج عن هذا الشرخ نوع من التشظي يصيب الذات
بنوع من االنكسار واالنشقاق على مستوى الوعي ويدفع هبا إىل حالة من الذهول وعدم التبيني،
ومنهم من ينبهر خبطاب احلداثة الغربية يف حالة غريبة أقل مايقال عنها أهنا نوع من الذهول أمام
الوافد الغريب .يقول عياد" :إن احلداثي العريب له حضوران حيرص عليهما قدر استطاعته ،حضور يف
جمتمعه العريب وحضور أمام مراكز الثقافة الغربية ،وحضوره يف الثقافة العربية واضح ،فهو حيارب
التخلف واجلمود يف النظم واملؤسسات ،كما حيطم التقاليد اللغوية والفنية وميارس أقصى ما يستطيع
1
من حرية يف التشكيل معربا عن شهوة اإلبداع وغرام االكتشاف يف كل جتربة جديدة".
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.02 ،05 :
244
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
غري أن فاعلية احلضور واملمارسة من قبل احلداثي العريب تدفع به إىل السقوط يف حوق
االحندار الثقايف الذي ميارسه عليه اخلطاب النقيض ،حماوال احتواءه داخليا والنيل منه معرفيا ،وتعترب
عملية احلضور اإلجيايب للحداثي العريب يف بيئته عملية ال بديل عنها ،خاصة إذا رمنا احلديث عن
إسهام احلداثيني العرب يف دفع عجلة التقدم يف بلداهنم ،إال أن ما ينعاه عياد عن هؤالء احلداثيني
أهنم مشتتون ومنقسمون على ذواهتم ،فهم يعيشون غربة حىت يف أوطاهنم نتيجة عدم الفهم املنتشرة
يف أوساط قرائهم يف الثقافة األم ،يرى عياد أن ":احلداثي العريب يف حميطه العريب يقف ضد اجلمود
والتخلف ،ويف حضوره الغريب يقف ضد الثقافة التجارية الرأمسالية ،أو حيب أن يقف ضدها ،اخلطر
يف بيئته العربية وعند قرائه العرب ،يأتيه من كونه غري مفهوم ،يف حني أن اخلطر عند أنداده الغربيني
يأتيه من إغراء االحندار إىل السوقية ،ويظل احلداثي العريب عندهم وعند قرائهم غري مفهوم أيضا ،ألنه
1
حيطم قيودا ال يشعرون هبا ،ويهاجم حمرمات مل تعد عندهم مبحرمات".
إن ما يقرره عياد بكل جرأة نقدية هو عمق األزمة املعرفية والنقدية اليت تشهدها الساحة
األدبية يف العامل العريب ،واليت مؤداها إىل أزمة مصطلحية أوال وأزمة مفهومية ثانيا نتجت عن
اختالف جذري بني حضارتني ،لكل منهما خصوصيته اليت مينح منها حداثته ،أضف إىل هذا ،ذلك
االغرتاب واالستالب الذي حيياه احلداثي العريب داخل جمتمعه فهو ال يكاد يفهم حىت من قبل أبناء
جلدته نظرا لغياب قنوات التواصل الثقايف بينه وبني مجهور قرائه ،ما حيتم وجود خلل يف اجلهاز
املفهومي بالنسبة للقارئ العريب ،ألن األزمة تتفرع إىل أزمة مصطلح نقدي ،وأزمة مفاهيم جمردة
اقتطعت من سياقاهتا احلضارية لتفرغ من كل إحالة معرفية عربية ،األمر الذي سبب حالة من
الفوضى املعرفية ،أو قل االضطراب والغموض املعريف الذي جنم عنه أزمة يف الفهم كما يف التفسري،
ويصل األمر إىل أزمة حىت يف مستوى الكتابة سواء كانت إبداعية أم نقدية ،يقول عياد مربزا تلك
األزمة اليت تعصف بكتابات املبدعني والنقاد" :فالكاتب منتم بفكره أو األنا العليا إىل العامل الغريب
احلديث ،بينما هو منتم بعالقاته االجتماعية أي األنا إىل اجملتمع العريب ،وبناء على ذلك فلن يكون
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.02 :
245
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
أمامه خيار حني يكتب إال أن يكتب لقارئ على شاكلته قارئ عريب ينتمي بفكره إىل العامل الغريب
1
احلديث".
إن املعضلة اليت يعاجلها عياد هي هوة االختالف العميق بني بنية الفكر العريب املعاصر ،وبنية
الفكر الغريب ،ألن منطلقات الثقافة الغربية ومرجعياهتا متمايزة ومتباينة عن نظريهتا العربية ،وعملية
النقل واالقتباس احلريف ملنجزات هذه احلضارة هي ما يوقع الفرد العريب بل احلداثي العريب يف حالة من
الضياع املعريف ،نتيجة عدم الوعي مبختلف املرجعيات واخللفيات اليت صاغت هذه احلضارة وعملت
على منوها ونضجها ،فإفرازات هذه احلضارة بالتأكيد تكون مغايرة ملا تعاوره الفكر العريب ومنا عليه،
هذه املرجعيات واخللفيات هي اليت أوقعت احلداثي العريب يف نوع من التيه جعله يعاين استالبا على
مستوى الفكر وآخر على مستوى الوجود ،األمر الذي أوقع احلداثة العربية فيما يشبه القلق وااللتباس
لعدم تكافؤ منجزات الذات العربية مع نظريهتا الغربية ،إضافة إىل عمليات احلضور املعريف على ساحة
النقد العاملية "احلداثي العريب هو يف هناية األمر جزء من موقف عاملي ملتبس :موقف عامل يريد أن
يتوحد ،ولكن االختالفات بني أجزائه هائلة حبيث خيشى أن يفرض التوحيد عليه فرضا ،وجزء من
موقف قومي ملتبس :موقف ثقافة تريد أن تشارك يف صنع العامل الواحد ولكنها ال تدري كيف
2
تدخله ،وأين مكاهنا فيه وكال املوقفني نابع من ظروف تارخيية معينة".
يعرتف عياد صراحة بأن هذه الذات القومية اليت تبحث هلا عن مكان ما يف خضم هذا
الزخم املعريف العاملي ،إمنا يعسر عليها ذلك بل يستحيل يف ظل هذا البون الشاسع يف معايري القيم
احلضارية للذات الغربية يف جماهبة الذات العربية ،وإذ يضع يده على موطن الداء يف جسد احلضارة
العربية ،فإنه يف الوقت نفسه يرفد هذا اهلرم املعريف بأساسات متينة ،رمبا تبوؤه مكانته املنوطة به على
صعيد صناعة املعرفة ،واإلسهام يف دفع احلضارة العربية إىل مسايرة احلضارة الغربية يف عديد اجملاالت.
لعل ما حيرص عليه عياد كثريا يف تشخيصه ملسببات أزمة احلداثة العربية -باعتباره املنطلق
األول ألي عملية مثاقفة ومقارنة -هي قضية املصطلح النقدي ،اليت تعترب من أهم القضايا الشائكة
اليت تواجه فكر احلداثة وما بعد احلداثة يف اخلطاب النقدي العريب املعاصر ،ذلك أن أزمة نقل
246
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
املصطلح وترمجته ال تكمن فقط يف ترمجته من لغة إىل لغة أخرى حبمولته املعرفية والثقافية ،بل ألن
املصطلح حامل لقيمة معرفية أسهمت مجلة من الشروط واملعطيات يف بلورهتا وإبرازها ،وحامل لفكر
ترسخ يف الضمري اجلمعي والفردي لألمة اليت أنتجت ذلك املصطلح ،لكن أهم شرطني جيب معني ّ
توافرمها يف املصطلح أثناء الرتمجة أو حىت أثناء التواضع عليه مها" :االتفاق واملناسبة ،أي اتفاق
1
الطرفني اللذين يستخدمان املصطلح على داللته ،أما املناسبة فتعين دقة الداللة".
يتتبع محمد عناني إشكالية املصطلح سواء يف الرتمجة أو التوظيف يف اخلطاب النقدي العريب
احلديث واملعاصر ،من واقع األزمة املعرفية اليت تعصف بأسس هذا النقد ،وما متسه األزمة املصطلحية
على صعيد املمارسة والرتمجة ،يقول " :وقد استفحل األمر حىت أصبح موضة فلم يعد أحد يستخدم
كلمة "مشكل" أو "مشكلة" على اإلطالق تفضيال لكلمة "اإلشكالية" وهي مصدر صناعي من
املادة نفسها وهلا معناها احملدد باعتبارها ترمجة لكلمة أجنبية هي ( Problematicاملأخوذة عن
الفرنسية لفظا ومعىن) ،واليت قد تعين القضية اليت جتمع بني املتناقضات ،فهو يفضلها لغرابتها
وطرافتها ،ظانا أنه بذلك ينمق أسلوبه أو ينبئ عن العلم واحلجا ،ومل يعد البعض يستخدم كلمة
"التناول" أو "املعاجلة" أو املنهج ال بل وال دراسة ،مفضال كلمة "املقاربة" وهي ترمجة غريبة لكلمة
Approachاإلجنليزية اليت ال تعين أكثر من أي من هذه الكلمات ،وإن كانت قد توحي للقارئ
2
بفيض عميم من املعرفة والتبحر يف املذاهب احلديثة".
يتأتى اخلالف واجلدل دائما من نسبية احلاالت املراد معاجلتها ،خاصة إذا تعلق األمر
باملصطلحات وكيفية داللتها ،إذ تبقى العملية نسبية دائما ،وال توجد مبادئ أو هنايات قارة عند نقل
املصطلح أو ترمجته ،الشيء الذي تنبه إليه شكري عياد وهو يعاجل أهم مصطلحني الحا له ،وهو
بصدد متابعة ومعاينة األصول املعرفية للمصطلحات والبيئة اليت أجنبت مثلها ،ومع قناعته الراسخة
بنسبية املسألة يف وجود هذين املصطلحني يتساءل قائال" :وهل يصح مع وجود هذا االختالف ،أن
نتحدث عن الكالسيكية أو الرومنسية ..إخل دون أن نقيدها بأدب قومي معني وعصر معني ،ما دمنا
نسلم أننا بصدد أمساء جمردة فيجب أن نسلم أيضا بأن االختالف وارد ،فلم حيدث أن اجتمع عدد
من الناس ليقروا شروطا معينة يف األعمال األدبية اليت تسمى كالسيكية أو رومنسية...،إخل .ولو
فرضنا أن ذلك حدث ،فهل ميكننا أن نفرض أيضا أن مجيع الكتاب يف اللغات اليت تريد أن تدخل
حلبة ما يسمى األدب العاملي أعلنوا موافقتهم على هذه الشروط والتزموا هبا يف كتاباهتم 1".إن حتديد
املفاهيم الفكرية ملثل هذه املصطلحات إمنا يتأتى عند عياد من احلمولة الفلسفية لكل مصطلح على
حدى ،األمر الذي ينجر معه عدم وضوح الفروق املائزة هلذه املصطلحات لعدم وضوح العتبات
األوىل ملفاهيمها.
يعرف محمد غنيمي هالل املذهب األديب بقوله" :املذهب األديب جمموعة مبادئ وأسس فنية
ّ
يدعو إليها النقاد ،ويلتزم هبا الكتاب يف إنتاجهم ،تربط األدب يف شكله ومضمونه مبطالب العصر
وتياراته الفكرية ،وهي لدى الداعي إليها واملنتجني على مقتضاها مبثابة العقيدة املمثلة لروح العصر،
2
وهي لذلك مفروضة على الكتاب والنقاد من خارج العمل األديب ومطالب مجهوره املتوجه به إليه".
إن النظرة املتأنية اليت ميارسها عياد على سريورة املراحل النقدية احلديثة ،تنبئ أن الرجل ّ
مترس
مر هبا النقد العريب احلديث خاصة يفيف غري انبهار بالوافد الغريب ،مما جعله يشرح الوضعيات اليت ّ
مصر ،فريجع يف بداية األمر ،غياب منهج نقدي واضح يف تلك املرحلة ،إىل ما كان معتمدا من قبل
اجلامعة املصرية آنذاك ،وهو مقدمة طه حسين لكتابه "يف األدب اجلاهلي" ،وهو الذي ظل مسيطرا
على الساحة النقدية مدة زمنية ليست باليسرية ،مع أنه كان باإلمكان أن تتجه العناية إىل مؤلف
أحمد ضيف "مقدمة لدراسة بالغة العرب" السابق زمنيا وفكريا عن مؤلف طه حسني ،مث يتناول
عياد موجة الرتمجة العاتية اليت اجتاحت الساحة النقدية املصرية آنذاك ،واآلثار املوجبة اليت تركتها يف
املنشغلني هبذا احلقل املعريف ،إىل أن وصل به األمر إىل اإلرهاصات األوىل للنقد اجلديد مع بداية
األربعينيات حىت الستينيات ،ومعه أصبح ما كان يعرف بأنه نقد جديد أصبح قدميا حبكم عمليات
التجدد الكربى اليت مرت هبا الساحة الفكرية والنقدية آنذاك ،ويعدد عياد املؤلفات النقدية يف جمال
املد البنيوي ويكتب قائال ":وأخذ املتحمسون هلذا املذهب اجلديد يطبقونه على نصوص من األدب
العريب بدءا بامرئ القيس وانتهاء بأحدث احملدثني ،وظهرت جملة فصول يف القاهرة عندما كان هذا
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.052 ،052 :
2حممد غنيمي هالل :قضايا معاصرة يف األدب و النقد ،دار هنضة مصر للطبع و النشر ،دط ،دت ،ص.5 :
248
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
النشاط يف عنفوانه ( )0081ففتحت صدرها له ،وقرأ الناس نقدا ال يشبه ما عرفوه أو ما ظنوا أهنم
1
عرفوه ،فاختلطت األمور عليهم ،وساء ظنهم باألدب اجلاد ،فنزلوا عنه راضني إىل ثلة من املثقفني".
انطالقا من هذا النص ،نعي متاما قيمة املشكلة املعرفية واملنهجية واملصطلحية اليت عاقت
سريورة العملية النقدية العربية يف تلك املرحلة ،فالبيئة العربية اليت استقبلت الوافد الغريب بكل زمخه
ومحولته املعرفية ومرجعياته الفكرية ،مل تقم بتنقية هذا الوافد من كل ما من شأنه أن جيعل املثقف
العريب يف غربة واستالب فكري ،ذلك أن املناهج على اختالفها هلا خصوصياهتا الفكرية واملعرفية اليت
البد أن تراعى أثناء عملية النقل أو الرتمجة أو التعريب ،وعياد حبكم متثله هلذه اإلشكالية يفحص
الوضع العريب الراهن بعني الناقد احلصيف ،الذي ال يألوا جهدا يف تقدمي املفيد والنافع مع التحذير
من الزائف والضار ،فهو حيدثنا عن غياب املنهج العلمي يف اجلامعة العربية يف حقبة زمنية مفصلية،
وعندما يكتب عياد ذلك فهو من باب وصف ما هو كائن ووضع القارئ العريب يف الصورة النقدية
اليت كان عليها الوضع آنذاك ،ولكي ال جيعل القارئ العريب والطالب على وجه اخلصوص يف وضعية
املضطرب فكريا ومعرفيا ،بل يريد أن يكون حمور العملية النقدية اليت تروم البحث يف املغيّب
واملسكوت عنه ،يقول عياد ":كان تقديري أن أنتهي من هذا الكتاب يف بضعة أشهر ،ولكين تبينت
أن متامه كان يقتضي سياحات طويلة يف الفلسفة والعلوم اإلنسانية ،فضال عن األدب ونقده وأهم
من ذلك أين كنت مصمما على أن أكتب كتابا عربيا لقارئ عريب ،وأن يكون هذا الكتاب كتايب،
وأن يكون هذا القارئ مثقفا عربيا يألف تراثه ،ويعيش حاضره ،ويتطلع إىل أفاق جديدة
2
للمستقبل".
تتأسس نظرة شكري عياد إلشكالية احلداثة العربية ،من دافع النزوع حنو القراءة الواعية
واهلادفة إىل معرفة اخللفيات الفكرية واملرجعيات الفلسفية اليت صاغت مقوالت احلداثة الغربية،
وأفرزت هذا الزخم املعريف اهلام من املناهج واملذاهب األدبية والنقدية ،ويضع يف حسبانه أن املذهب
أو املنهج النقدي الغريب ال جيب أن يؤخذ أو يستقبل يف الرتبة العربية دون الوعي مبختلف املرجعيات
اليت أسست لظهوره يف أوربا ،وال ينبغي واحلال كذلك أن نقطع الصلة الرابطة بني املذهب األديب
وأصوله الفلسفية ،ألن ذلك من شأنه أن يضع تلقينا له يف خانة القصور؛ ذلك ألن لكل مذهب أو
منهج خصوصيته احلضارية واملعرفية اليت يرجع إليها ،واحلال أن عياد يعي متاما تلك األزمة املعرفية
واملصطلحية واملنهجية اليت صاحبت ظهور ما يسمى باحلداثة العربية.
يستهل عياد حديثه عن املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،جبملة من النصوص
لعدد من النقاد واألدباء العرب ،يف وقوفهم عند حاالت االستقبال اليت متت للمشروع احلداثي
الغريب ،وإبراز نقاط الضعف يف عملية االستقبال هذه ،ينقل عياد مقولة للعقاد جاء فيها " :ومن
اخلري أن تدرس املذاهب الفكرية بل األزياء الفكرية كلما شاع منها يف أوربة مذهب جديد ،ولكن
من الشر أن تدرس بعناوينها وظواهرها دون ما وراءها من عوامل املصادفة العارضة والتدبري
املقصود" ،1مث يعرض عياد نصا آخر للعقاد كذلك ،وكأنه املتمم املكمل للنص السابق يف كيفية
إبراز معامل اهلوية واخلصوصية الذاتية يف مقابل اآلخر الغريب يقول العقاد" :وقد تبني أن اهلوية الواقية
كانت ألزم للعامل العريب يف هذا الدور (النصف الثاين من القرن العشرين) مما كانت يف مجيع األدوار
املاضية منذ ابتداء النهضة يف العصر احلديث ،فإن الدعوات العاملية خليقة أن جتور على كل كيان
2
القومية وأن تؤول هبا إىل فناء كفناء املغلوب يف الغالب".
انطالقا من هذين النصني الذين افتتح هبما عياد حديثه عن املذاهب األدبية والنقدية ،نلحظ
ذلك الوعي املبكر للعقاد مبدى خطورة االقتباس األعمى والتهافت الكبري على عناوين املذاهب
الغربية ،دون الوعي مبصادرها وأصوهلا يف أرض النشأة ،ألن اخلطورة الكربى إمنا تكمن يف نظر العقاد
يف االستئناس بقشور هذه املذاهب دون لباهبا ،وحيذر من سوء العاقبة هلذا النقل الظاهري ،ألن من
شأن ذلك أن جيعل الذات مستلبة داخليا وخارجيا ،وجيعلها يف عملية تبعية دائمة انطالقا من مقولة
املغلوب مولع بتقليد الغالب ،الشيء الذي يقتل فيها كل حماولة لإلبداع واالبتكار ،وكل جتربة حية
أو إبداع أصيل .وما ينجر عنه كذلك هو إحساس هذه الذات بالدونية والتصاغر أمام هذا اآلخر
املتعايل ،الذي يبقى يف نظر هذه الذات رمزا لكل تقدم ورقي ،باعتباره املركز يبقى يف مدارات
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.00 :
2املصدر نفسه ،ص.00 :
250
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
اهلامش ،وجيعل واحلال كذلك هذه الذات حتس بنوع من االحتواء واالغرتاب ،وتتجرد من أصلها
وتتبىن تبنيا مفرطا مشروع اآلخر وحىت أهنا تدافع عنه.
مث يعرض عياد نصوصا أخرى ليوسف الخال ،ال تقل أمهية عن نصوص العقاد من ناحية
عرضها هلذه األزمة املعرفية ،وحىت الوجودية اليت تتخبط فيها احلداثة العربية ،نتيجة قلة الوعي أو
انعدامه بتلك اخلصوصية احلضارية اليت متيّز الثقافة الغربية ومن مث حداثتها عن الثقافة العربية بكل
فرادهتا ،ويربز الخال اخلطورة الكبرية اليت تداهم احلداثة العربية يف عقر دارها ،نتيجة تلك املركزية اليت
جر هذه الثقافات إىل مداراته ليضمن تبعيتها الدائمة له ،ومن مث يتبوؤها الغرب اإلمربيايل حماوال ّ
يتسىن له إعادة تشكيلها وصياغتها كيفما شاء ،ويربز الخال كذلك حالة الشرخ والتمزق اليت يشعر
هبا احلداثي العريب ،وهو حياول توطني ذاته يف عامل حديث مع أنه ينتمي اجتماعيا إىل عامل قدمي ،مما
ينجر عنه حالة من القلق املعريف اليت من شأهنا أن تزيد من حالة اإلرباك واالغرتاب ،ألن هذا
احلداثي يعيش يف العامل القدمي بفكر حديث ويعيش عقليا يف العامل احلديث مبشكالت عامل قدمي،
وهي املعضلة اليت هنض الخال ملعاينتها ومعاجلتها مبا تتيح له وسائل البحث والتمحيص ،ويتساءل
عياد بدوره عن حالة هذا احلداثي املأزوم وعالقته بقارئه قائال" :إذا كتب فكيف يكتب وملن يكتب؟
هل يكتب للقارئ العريب الذي يعيش مشكالت عامله القدمي فيكون أدبه بال قيمة لدى القارئ
احلديث (وهو القارئ الغريب بطبيعة احلال) أم يكتب أدبا "حديثا" جيده القارئ العريب غريبا عليه،
1
ويصمه بأنه مستورد؟"
الشك أن أزمة احلداثي العريب تكمن أساسا يف كيفية التعامل مع هذا الوافد من الثقافة
الغربية ،إضافة إىل حسن توظيفه وتناوله الشيء الذي جنم عنه – مبا أن سوء التعامل هو السائد-
تأزم يف التناول وأزمة يف املعاجلة أو اإلبداع ،مما مسح بروز نوع مغاير للعالقة اليت تربطه بقارئه،
فنتجت هذه األزمة القرائية اليت من شأهنا أن ختلق أزمة على مستوى الوعي ،األمر الذي عجل هبذا
التمزق احلاصل على مستوى بنية الفكر وهو "متزق يف االنتماء ،فالكاتب منتم بفكره أو باألنا العليا
إىل العامل الغريب احلديث ،بينما هو منتم بعالقاته االجتماعية ،أي باألنا ،إىل اجملتمع العريب وبناء
1شكري حممد عياد :املذاهب،األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.02 :
251
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
على ذلك فلن يكون أمامه خيار حني يكتب ،إال أن يكتب لقارئ على شاكلته ،قارئ عريب ينتمي
1
بفكره إىل العامل الغريب احلديث".
تتكثف رؤية عياد إلشكالية احلداثة العربية ،فيصل من خالل حتليالته العميقة هلذه
اإلشكالية إىل أن احلداثة العربية بقيت منضوية حتت سلطة الغرب مبا حتمله هذه الكلمة من رأمسالية
فاجنر عن ذلك
وإمربيالية جعلت احلداثة العربية ال حتيد عن املسار الذي رمسته هلا احلداثة الغربيةّ ،
خضوع كلي هلذه املنجزات ،و ّاحماء شامل أمام هذا الوافد الذي شكل لنفسه مركزية استطاعت أن
تنفي ما عداها إىل مدار اهلامش .ومادام األمر كذلك فإن هذه احلداثة العربية حاولت جاهدة
التخلص من أصوهلا الرتاثية ،بداعي أن الرتاث مصدر اجلمود وأ ّن جمرد التفكري فيه يصيب الذات
العربية بالعقم والكسل ،ناهيك عن استحالة مسايرة اآلخر يف منجزاته ،غري أن هذه احلداثة رغم ما
تدعيه من جتاوزية ،بقيت مشدودة حببل متني إىل املاضي ،ومل تستطع الفكاك منه واالنعتاق من
ربقته .وقبل ذلك تتبادر إىل الذهن مجلة من التساؤالت رمبا وضعت حجر األساس يف معاجلة هذه
اإلشكالية .فهل احلداثة يف نسختها العربية هي حماولة لكسر هذه الصنمية والدعوة إىل المركزية
الفكر واألدب؟ وهل احلداثة العربية حداثة هنضوية؟ وإذا كان ذلك كذلك هل دعواها بالتخلص من
الرتاث والقطيعة معه هو سبيل االنطالق إىل احلداثة العاملية؟ أليس الرتاث مقوما أساسيا من مقومات
احلداثة؟ مبا ميدها من تأصيل وتأسيس للكثري من املقوالت واالصطالحات.
وسريا على النهج نفسه يتساءل عياد تساؤال جوهريا يف حتديد ماهية احلداثة العربية قائال "إذا
كانت احلداثة استمرارا للنهضة فهل تنتمي هذه النهضة إىل املاضي الذي جيب علينا أن نتخلص
2
منه ،أم إىل املستقبل الذي حناول أن نبنيه؟"
تعيش احلداثة العربية أزمة حقيقية ،باعتبار البون الشاسع الذي يفصل مقوالت احلداثيني
العرب عن النتائج اليت يرمون الوصول إليها ،وذلك يف دعواهم االنسالخ التام من أصوهلم وتراثهم
ليتسىن هلم جماهبة اآلخر الغريب ،لكن أليس ذلك نوعا من املركزية القهرية اليت توازي يف مركزيتها
الغرب وما يدعيه؟ وكيف يواجه احلداثيون العرب حداثة الغرب وهو مبتورو الصلة مباضيهم وتراثهم؟
أال ميثل ذلك نوعا من املراوغة اليت ميارسها احلداثيون العرب وحياولوا من خالهلا اإلتيان بالكثري من
احلجج ،حىت يربروا وقوعهم يف قبضة اآلخر الغريب واإلنبطاح أمام منجزاته.
يقف عياد من خالل قراءته للحداثة العربية ،موقف املقوم لتلك املشاريع اليت تدعي أهنا
يعري مجلة من األنساق اليت
حداثية ،ويربز مواطن التهافت والقصور يف مجلة هذه املشاريع ،بعد أن ّ
رآها كفيلة بإبراز األسباب الداعية إىل هذا القلق وهذه األزمة ،من منطلق أن احلداثة العربية مارست
يف الوعيها خطابا نقيضا ملا ت ّدعيه علنا ،أي أن جانب املسكوت عنه أو النصوص الغائبة هلا ،تكاد
تبني أن دعوهتا إىل تبين املشروع احلداثي الغريب ،هو احلل الذي يبدو مستحيال حسب عياد ألنه
"نوع من رد الفعل العاطفي العشوائي ،وكأنه سلوك قهري بتعبري علم النفس املرضي ،فهو ال يستند
إىل معرفة علمية بقوة اإلسالم ،وال بنقاط الضعف احلقيقية يف احلضارة الغربية ،وال بشروط الصراع
1
وأهدافه يف العامل املعاصر ،حىت ميكنه أن يكون كفئا للمعركة".
تنبين نظرة عياد يف معاجلته جلملة هذه القضايا ،من إميانه العميق بأن الذات العربية ال سبيل
أمامها يف بلوغ ركب التقدم والتحديث ،إال عن طريق البحث املتعمق الذي من شأنه أن يستخرج
مكنونات الرتاث اخلالدة وحيللها بكل موضوعية وحياد ،ومن جهة أخرى يلتفت إىل املعاصرة
باعتبارها عنصرا فاعال ضمنها ،فيحاول حماورهتا دون أن ميّحي فيها ،ألن عملية املزج بني االجتاهني
(الرتاث واحلداثة) ليست بالعملية السهلة املنال ،وألن احلضارة الغربية هلا خصوصيتها اليت ال تتمثل
بسهولة للذات العربية ،ويبدو األمر صعبا ألن احلضارة الغربية "تبدو للنظر املوضوعي الصرف،
منوذجا غري جدير باالحتذاء إذا نظرنا إىل شخصية اإلنسان على أهنا اهلدف احلقيقي والنهائي ألية
حضارة ،وقصة األمراض النفسية الشائعة يف العامل الغريب قصة معروفة وهي عالمة واحدة من
2
عالمات كثرية على قصور هذه احلضارة".
حيذر الناقد من مغبة االنغماس يف أصناف احلداثة الغربية ،من دافع احلرص على عدم الذوبان
مسوغاهتا يف بروز هذه احلداثة ،اليت أتت كنتيجة لثورة معرفية طالت العديد
يف هذه احلضارة اليت هلا ّ
من املواقع واملرافق وأسهمت يف إعادة تشكيل اإلنسان الغريب بكل مكونات وجوده .ويقف موقف
احلياد يف تشخيص احلالة املرضية – إن جاز التعبري -للحداثي العريب ،ومربزا دوره يف جمتمعه القطري
وكذا يف الساحة العاملية بقوله" :إن احلداثي العريب له حضوران حيرص عليهما قدر استطاعته :حضور
يف جمتمعه العريب وحضور أمام مراكز الثقافة الغربية ،وحضوره يف الثقافة العربية واضح ،فهو حيارب
التخلف واجلمود يف النظم واملؤسسات كما حيطم التقاليد اللغوية والفنية وميارس أقصى ما يستطيع
من حرية يف التشكيل معربا عن شهوة اإلبداع وغرام االكتشاف يف كل جتربة جديدة...ولكن حضوره
يف الثقافة الغربية غري بارز وال مميز ،ألن هذه الثقافة متر منذ فرتة غري قصرية بعصر من التجريب يف
كل ميادين الفكر والفن ،يقابله انتشار غري مسبوق للثقافة املعلّبة عن طريق وسائل اإلعالم
1
اجلماهريية".
يصرح عياد يف غري موضع من مدوناته النقدية ،أن احلداثة الغربية مغايرة متاما ومتمايزة عن ّ
نظريهتا العربية ،لبعد الشقة بني احلداثتني من حيث األسباب والعلل املوجدة لكل واحدة منهما،
وخلصوصية احلضارة الغربية يف إفراز هذه احلداثة ،فاملالحظ أن التباين هو سيد املوقف بني احلداثتني،
أضف إىل ذلك أن اخللفيات الفكرية واملنطلقات الفلسفية للحداثة الغربية ،جتعلها غري قابلة
لالحتذاء واحملاكاة ،لسعة اهلوة الفاصلة بني احلداثة الغربية ونظريهتا العربية ،غري أن ما كان من أمر
احلداثة العربية إمنا هو تقليد يف معظم األحيان ،للكثري من األفكار الوافدة دون وعي هبذه املنطلقات
واملرجعيات ،ما حدا بعياد إىل إثبات أن "احلداثة عند القوم حداثة ثورية ،منبتها يف املاركسية
والوجودية والالسلطوية اليت ترمجناها حسب ميلنا الفطري بكلمة "الفوضوية" ،وأصحاب احلداثة
عندهم يعدون أنفسهم ثوريني يف الفن ،ويدخلون أحيانا يف أحالف مع الثوريني السياسيني ،أما
حداثتنا فقد نبتت يف تربة الضياع ،وترعرعت يف ظل االستبداد السياسي ،وجرت يف ذيل األساليب
الفنية الضعيفة ،فهي ال متلك القدرة وال اجلرأة على نقض شيء من الواقع ،إمنا قصاراها أن تفقأ
1
عينها فال تراه ،وهي مع ذلك تتبع كل ناعق ،وتلقي بنفسها من الرأس إىل القدمني يف كل تيار".
إن هذه اخلصوصية اليت تتسم هبا احلداثة الغربية ،هي اليت أفرزت هؤالء احلداثيني ذوي
االنتماءات السياسية احلزبية املتباينة ،على عكس ما هو عليه العامل العريب احلديث واملعاصر من
تقليد أعمى ملختلف املنجزات الغربية ،األمر الذي جيعل من حماولة التفرد صعبة وعسرية ،وذلك
الختالف الرؤى واألهداف ،ويضيف عياد إىل أن من مجلة األسباب احلقيقية مليالد احلداثة العربية
املأزومة ،هو انتكاسة 0022وما صاحبها من تشظ ٍي على مستوى بنية الوعي والفكر العريب ،ما
جعل الشك ينسرب إىل كيان الفرد العريب ويفقده الثقة يف نفسه ويف قادته .األمر الذي جعل املثقف
العريب ينتهج سبيل الغموض واإللغاز سبيال للتعبري عن سخطه ونفوره من هذا الواقع املزري ،باعتبار
أن التعبري عن احلقيقة غدا أمرا مستعصيا بل مستحيال يقول عياد" :هذا القلق الفكري لدى األديب
الشاب ،قلق يقرب من الشك يف وجود احلقيقة أو إمكان الوصول إليها ،يوازيه قلق فين نابع من أن
الشكل القادر على التعبري عن أفكاره ،وهو شكل معقد بالضرورة ،ال يصل إىل اجلماهري العريضة
(رضوى عاشور كاتبة قصة) وكثري من الكتاب الشبان يشعرون بعبثية الكتابة عن قضايا اجلماهري يف
2
حني أن اجلماهري ال تعرف القراءة".
إشكال آخر يتناوله عياد بشيء من احلسرة ،على تلك القامات الفارعة يف مساء األدب
والنقد العربيني الذين مل حيسن استغالهلم وانبتّت الصلة بني اجليل األول أو جيل الرواد ،وبني جيل
الشباب ،مما ولّد حالة من الضياع املعريف على كافة األصعدة .وجنم عنه هتوين من شأن هؤالء فبات
منتوجهم بضاعة كاسدة نافقة يقول عياد على لسان غالي شكري" :إن مثة انقطاعا تارخييا بني هذا
وطوره كما تلقف نعمان اجليل واألجيال السابقة ،لقد تلقف مندور يف املاضي حلم طه حسني ّ
عاشور حلم توفيق احلكيم وطوره ،ولكن اجليل اجلديد أقبل واألحالم تتساقط الواحد بعد اآلخر هذا
إذن جيل ثورة 53وهذا قدره التارخيي .لقد بدأ يلعب بالقلم حني كان اجلو مليئا بالصياح والتهليل،
وعندما ثبت القلم بني أصابعه كان اجلو مليئا بالصراخ والعويل ،وكان عليه أن حيمل أوزار السابقني
1
ويسري بال دليل".
إن هذه القطيعة املعرفية من شأهنا أن تنشئ جيال من األدباء ،ال هم ينتمون إىل جيل الرواد
بتطلعاهتم وآرائهم ،وال هم أسسوا ألنفسهم موضعا نقديا يسريون عليه ،إمنا تقطعت هبم األسباب
فال هم اقتدوا وال قادوا.
يتتبع عياد مظان احلداثة العربية سواء احلداثة الشعرية أم احلداثة النقدية ،فيؤسس ملرحلة
البدايات اليت عرفتها الساحة اإلبداعية العربية فيعدد الكثري من املنابر العلمية واجملالت والدوريات
اليت أسهمت يف بلورة وإشاعة ما عرف فيما بعد حبداثة الشعر يف مصر ولبنان ،بصفتهما موطن
احلداثة العربية بال منازع ،ويستقصي األسباب الكامنة وراء بلورة هذا الوعي اجلديد انطالقا من
مر بإرهاصات أولية م ّكنت فيمامعطيات مغايرة ملا كان سائدا ،على اعتبار أن مولد احلداثة العربية ّ
بعد من ظهور هذا التيار ،وأول ما ظهر يف لبنان يقول عياد ":وكانت الرتبة اللبنانية هي األكثر
مناسبة لنمو حداثة عربية ،فقد كان لبنان طوال اخلمسينيات والستينيات بل وإىل بدء متزقه يف أواسط
السبعينيات معرضا متجددا وباهرا لكل املذاهب الفكرية واألدبية اجلديدة ،ولذلك استطاع أن
2
يتجذب األصوات الشابة يف شىت األقطار العربية".
كما يرى عياد أن ميالد احلداثة العربية إمنا مت يف ظروف مغايرة متاما ملا هو حاصل يف أوربا،
بل إن األمر ليبدو مناقضا متاما ملا هو عند اآلخر الغريب .ويف حتديده ملاهية املذهب األديب وكيفية
اتساعه ليشمل التيار احلر الذي تكوثر فيما بعد حتت مسمى الشعر احلر ،يكتب عياد قائال" :ال
يتم معىن املذهب كحركة أدبية ما حىت تكون هلا نظرة معينة إىل الكون واجملتمع وموقف الشاعر أو
الكاتب املبدع منهما ،وهلذا يقوم النقد بوظيفة مهمة يف تكوين املذهب ،إذ إنه يشارك اإلبداع يف
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.50 :
2نفسه ،ص.21 :
256
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
حتديد النظرة واملوقف" .1مث يوضح عياد ماهية احلداثة إ ْن على الصعيد الفكري أو االجتماعي
ويدفع من جراء ذلك إىل عدم اخللط بني حدود املفاهيم واملصطلحات فيقول...":فاحلداثة مثل
الواقعية االشرتاكية وخبالف الشعر احلر ،مذهب أديب له جذوره الفكرية وليس جمرد منط شكلي لغوي
2
أو ظاهرة اجتماعية أدبية".
لعل ما ينعاه عياد على يوسف الخال -باعتباره رائدا من رواد احلداثة العربية على الصعيد
اإلبداعي والنقدي -هو دعوة الخال مجاهري احلداثيني إىل التمسك جبملة من املبادئ األساسية ،اليت
صاغها عقب توليه رئاسة حترير "جملة شعر" ،ومن ضمن هذه املبادئ "وعي الرتاث الروحي – العقلي
العريب وفهمه على حقيقته وإعالن هذه احلقيقة وتقييمها كما هي دومنا خوف أو مسايرة أو تردد
والغوص إىل أعماق الرتاث الروحي العقلي األوريب وفهمه وكونه ،والتفاعل معه وكذلك اإلفادة من
التجارب الشعرية اليت حققها أدباء العامل واالمتزاج بروح الشعب ال بالطبيعة ،فالشعب مورد حياة ال
3
تنضب أما الطبيعة فحالة زائلة".
ال جيد عياد بدا من التعليق على هذه املبادئ ،اليت دعا إليها الخال من ضمن املبادئ اليت
احتكمت إليها "جملة شعر" باعتبارها من أوليات احلداثة العربية على مستوى اإلبداع الشعري ،غري
أن ما يأخذه عياد على الخال هو هذا التماهي واالحماء والذوبان يف منجزات اآلخر الغريب ،بدعوى
أهنا من لوازم تطور اإلبداع والنقد .واحلال أن عياد يرفض رفضا قاطعا هذا السلوك مع الرتاث الغريب
ويرى أن مسألة سرب كنه الرتاث قضية قدمية قدم احلركات النقدية العربية يقول ":لكن الدعوة إىل أن
صرح هبا صاحبايصبح األدب العريب جزءا من األدب اإلنساين وال يبقى منعزال يف تراثه ،دعوة قدمية ّ
الديوان يف تقدميهما هلذا الكتاب -املشروع سنة ،0030غري أننا نالحظ اختالف النربة ،فهي هنا
أكثر حدة ،مع شبه اهتام للرتاث العريب ،فالدعوة لفهم الرتاث مقرتنة بالدعوة إىل تقييمه "دومنا خوف
أو مسايرة أو تردد" وكأن املتوقع إدانة ال تقييم ،يف حني أن الدعوة إىل االتصال بالرتاث األوريب ال
تقنع مبا دون "الغوص إىل أعماقه" ،حبيث ينتهي فهمنا إياه إىل أن "نكونه" أي أن نصبح جزءا منه،
وهذا أشد ما يكون من "التفاعل" ...وإذا أصبح إبداعنا الشعري جزءا من الرتاث الفعلي الروحي
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.23 :
2نفسه ،ص.23 :
3نفسه ،ص.22 ،22 :
257
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
العقلي األوريب فسيكون من الطبيعي أن نفيد من التجارب اليت حققها الشعراء األوربيون ،أي أن
1
حنتذيها ،ألهنا ،وقد "حتققت" أصبحت هلا قوة النموذج بالنسبة لتجاربنا اليت مل تتحقق بعد".
ال يقف عياد عند عتبات التحذير من خطورة االنبطاح أمام اآلخر الغريب بكل ما يصاحب
هذه العملية من دونية وصغار ،إمنا يشن حربا على أولئك الشعراء احلداثيني العرب الذي ظلوا
يبشرون هبذه احلداثة الغربية ،وكأهنا اخلالص األزيل لكل معضالت اإلبداع عندنا ،أضف إىل ذلك أن
عياد ال جيد مسوغا معرفيا لكي نسقط تبعات هذه احلداثة الغربية على إبداعاتنا العربية ،ويرجع ذلك
يف نظره إىل تباين مسببات الظهور ،فاحلداثة الغربية إمنا كانت نتاجا هلذه الثورة اليت أحدثها اإلنسان
على مجلة من القيم كانت سببا يف ختلفه وشقائه ،فكانت الثورة إذن مبثابة املخلّص من براثن هذه
التقاليد والطقوس.
أما حداثتنا املزعومة فتختلف عن هذه احلداثة يف األسباب كما يف املرامي واألهداف ،إذ
املسوغات الغربية
السؤال الذي يلح على اإلجابة هنا هو :ما مربرات احلداثيني العرب أمام تلك ّ
لظهور احلداثة عندهم؟ وهل حقيقة قام احلداثيون العرب بثورة حىت يتسىن هلم التشدق هبذه املنجزات
رده على دعاوى أدونيس اليت هي أصال منجزات مهربة من اآلخر الغريب .يقول عياد يف معرض ّ
برفضه شعر احملافل اليت كانت تنظمها أجهزة اإلعالم ،على اعتبار أن الشعر التجرييب العريب هو
وحده الشعر الثوري ،يقول عياد" :هل نقول إذن إن احلداثة العربية انطوت على شيء من خداع
النفس؟ هل نقول إن هذه احلداثة إذ تصف نفسها بالثورية ال تريد يف احلقيقة إال أن تتخذ واجهة
مناسبة أمام النظم "الثورية" يف العامل العريب؟ هل نقول إن شعراء احلداثة العربية ،وهم شعراء النخبة
(واقع الميارون فيه) إمنا يقدمون زادا كالميا هلذه النخبة(مبختلف انتماءاهتا الطبقية والوطنية) تغذي به
سخطها على واقع اجتماعي تعلم-رغم متتعها فيه -أنه فاسد ومرشح لالهنيار؟ هل نقول -أكثر
من هذا -إن دعوى "عربية" احلداثة -هذه احلداثة -دعوى زائفة ،ألهنا ال تزيد على أن تنقل إلينا
مفاهيم احلداثة الغربية ،بل مفاهيم "حداثة" معينة ،حداثة الغريب ،والالفت ،واملثري ،بعد أن انقضى
عهد ّرواد احلداثة احلقيقيني أمثال :بودلري ورامبو وإزراباوند ،ود.هـ .لورنس ،ووب.ييتس ،وجيمس
جويس ،وت.س .إليوت ،الذين شككوا أبناء احلضارة الغربية يف قيّم هذه احلضارة ،وهي نفسها اليت
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.22 :
258
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
يبشر هبا حداثيونا هؤالء باسم احلضارة اإلنسانية ،وهي بالفعل حضارة إنسانية،ألهنا جعلت اإلنسان
مصدر القيم كلها ،فانتهت بأن أصبحت اآللة اليت اخرتعها اإلنسان لتهيئ له مزيدا من القوة أو
1
مزيدا من السعادة ،سببا لشقائه ورمبا لدماره".
آثرنا أن نثبت هذا النص -على طوله -لنربز مدى تربم عياد هبذه الصيحات النابية اليت
يتنكبها بعض احلداثيني العرب يف كيفية النهل من اآلخر ،وإن كانت تلك العملية نوع من املصادرة
والتجديف الذي قد تقع فيه الذات الناقلة ،بعد أن أثبتت هذه احلضارة حمدودية روايتها ،ومن مث
إعادة الثورة عليها حىت من قبل أبنائها لتذمرهم من منجزاهتا وإفرازاهتا ،حىت أصبح اإلنسان الذي
كان مصدرا لكل القيم واملبادئ ،عبارة عن آلة تسببت يف دفعه حنو أتون الشقاء بل قل الدمار كما
ذهب إىل ذلك عياد.
تتجه عناية الناقد إىل حتسس مفاصل التواشج اليت تربط بني احلداثة يف نسختها العربية ،وبني
بعض ما دعت إليه يف الواقع من دافع التجاوز والتطور ،ألن من األهداف األساسية هلذه الصيحة
اإلبداعية أو النقدية ،أن تقف جسرا واصال بني ما مت إجنازه يف املاضي وما ينتظر أن ينجز من قبلها.
ذلك ألن من مقاصد الفن هو خلق هذه االسرتاتيجيات اجلمالية اليت ختلق من الواقع فنا ،لكنه فن
يتجاوز ما هو موجود ويتطلع إىل ما جيب أن يكون ،فاألدب "احلداثي مهما يكن مضمونه ،أدب
رافض ،والرفض معناه أال نستسلم للواقع الكاحل ،واحلداثة – من املنظور الفين أيضا -ظاهرة صحية،
ألهنا تعطي الفن قيمته احلقيقية ،قيمته التنبؤية ،الكشفية ،اجلسور وتنتشله من وهدة الدعاية
الرخيصة ،ولكن ما فيها من صحة هو ما وجد ويوجد دائما يف كل فن جيد ،وما انفردت به من
2
غرابة أو إدهاش أو غموض مفتعل هو بعض مظاهر حضارة القرن اليت لن تدوم".
تستمر هذه املعاجلة النقدية من قبل عياد يف تبيان مدى إسهام احلداثة يف نقل عملية الوعي
من املمكن إىل الكائن ،وذلك بإبراز مجلة من احملاسن اليت من شأهنا أن تدفع بالعملية النقدية
واإلبداعية إىل ارتياد مناطق قصية مل تتجه العناية إليها من قبل ،وهذه العملية اليت أسهمت يف
تشكيل منظورات مغايرة ملا هو سائد واستبداهلا الشك باليقني واالبتداع بالتقليد .غري أن األمر ال
يسري دائما حنو هذه الغايات إذ قد تقتل احلداثة "نفسها عندما ترسخ قدمها ،فمعىن ذلك أن تصبح
القراء والكتاب ،أي أن تصبح تقليدا ،وإذا أصبحت احلداثة تقليدا فإهنا لن
هلا قواعدها املتعارفة عند ّ
تفقد معناها فقط ،بل ستشيع يف اجلمهور اليأس من كل شيء ،احلداثة معرب إىل تقاليد أفضل ،أو
هناية ملذهب وبداية ملذهب آخر ،ولعل مجيع عصور األدب شهدت حداثة من نوع ما ،ولكن حداثة
1
عصرنا طالت أكثر من العادة ألننا نعيش يف فرتة خماض طويل".
تعد احلداثة إذن من منظور عياد ذلك األلق الذي يومض دوما ،بل يذهب يف تعليله هلا على
أهنا وجدت عرب كل عصور األدب بشيء من التفاوت واألمهية واإلسرتاتيجية ،ومن مث تتباين
مفهوماهتا بني باحث وآخر وبني ناقد وناقد آخر ،ذلك أهنا – أي احلداثة -ترفض االستقرار
والثبات ،وإال أصبحت منطا قتل نفسه بنفسه ،إمنا تعرف احلداثة حركية دائمة ودائبة ألجل عملية
التجاوز والعبور وهي يف الوقت ذاته حركة ال هتدأ ،وما إن تتجاوز حىت ختلق من ذاهتا مذهبا أو
اجتاها يريد هو نفسه أن يعرب ويتجاوز ما هو كائن ،واحلداثة هبذا املعىن ليست حركة آنية ارتبط
ظهورها بظروف معينة ،بل دعوة إىل التمرد على كل قاعدة أو مذهبية ،ألن حتديدها يوازي موهتا
والقضاء على روح اإلبداع واالبتكار فيها ،أو هي ذلك املشروع الذي مل يكتمل" .إن احلداثة نزوع
دائم لالبتكار وجوهر متواصل قابل لالستئناف والتواتر واالطّراد ،إن احلداثة هبذا املعىن تظل
2
مصطلحا شامال يضم حتت قبته الواسعة أغلب حركات التجديد يف األدب والفن".
ومادامت احلداثة يف حركة دائمة ،فإهنا ال تعرف االستقرار واهلدوء ،ألهنا نتاج فرتات زمنية
متباعدة فيما بينها ،ومل تعرف الظروف نفسها للوجود ،على اعتبار أهنا وليدة ظروف معينة خاصة يف
أوربا ،أملتها تلك السياقات الدينية الكنسية (حماكم التفتيش) ،ويف األدب هي ثورة على تلك
املمارسات الشعرية اجلامدة ،بعدما حتول اإلنسان إىل آلة أو قطعة غيار أو قل تشيأ وفقد جانبه
الروحي ،ما حدا باملبدع الفرد إىل أن حييا غريبا يف جمتمعه فكان دائما "جيد هبجة يف االلتحام ببعض
االجتاهات الفلسفية التشاؤمية الصوفية والنزعات اإلشراقية السرية والنهلستية (العدمية) والعبثية
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.22 :
2فاضل ثامر :مدارات نقدية (يف إشكالية النقد و احلداثة و اإلبداع) ،دار الشؤون الثقافية العامة ،العراق ،ط،0082 ،0
ص.081 :
260
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
والوجودية وغريها" .1إذ من أهم اإلجتاهات الفلسفية احلداثية ،هذه التيارات العقلية ،والعبثية اليت
2
تؤطر احلداثة الغربية.
تعترب حركة النقد األديب من أكثر احلركات تطورا ومنوا على الساحة العربية كما الساحة العاملية،
وذلك بسبب تطور املناهج النقدية واملذاهب األدبية ،اليت تدفع بالعملية النقدية إىل ارتياد مناطق
جديدة واستكشاف جماهيل حديثة مل تتجه العناية إليها من قبل ،ضمن املناهج اليت يتم جتاوزها،
باعتبار أن املناهج تتفاوت فيما بينها من ناحية قصور اآلليات وجناعتها وفاعليتها ،وحتتل حركة النقد
العريب احلديث واملعاصر أمهية بالغة من حيث املنطلقات والغايات ،ذلك أهنا من أثرى فرتات النقد
العريب على إطالقه إضافة إىل حجم املادة النقدية املؤلفة يف هذا العصر أقصد القرن العشرين ،وهو ما
وقف عنده صالح فضل ضمن دراسة أجراها على مدونات النقد العريب وعدد نقاده عرب العصور
األدبية فتوصل إىل نتيجة مفادها" أن هناك عصرين ذهبيني للنقد األديب ،مها القرن الرابع اهلجري
والعشرون امليالدي ،تكثفت فيهما نسبيا أعداد النقاد وتعددت مؤلفاهتم يف دراسة األدب وظواهره
3
املختلفة".
وهي نتيجة توصل إليها الناقد من خالل عملية إحصاء شاملة لكل عصور النقد األديب
العريب ،فكانت مبثابة املفاجأة للكثري من النقاد العرب ويأيت صالح فضل على رأس هؤالء ،والسبب
كما هو ّبني من هذه احلركة النقدية اليت ال تكاد هتدأ يف كل مناهج الدراسات ،سواء ما كان منها
مشدودا إىل الرتاث أو ما متّ تلقيه من اآلخر الغريب ،ولنا يف املوجة األخرية ملناهج النقد العريب خري
دليل ،حيث قطعت أوربا أشواطا كبرية يف جمال النقد األديب ،من اللساين إىل األسلويب مرورا بالبنيوي
مث السيميائي مث ما بعد احلداثي ،ممثال يف اسرتاتيجية التفكيك ونظريات القراءة والتلقي إىل غري ذلك
من مناهج قد تند عن احلصر .وقد متت عملية مواكبة هذا الزخم الفكري والنقدي من قبل النقاد
العرب احملدثني ،فمنهم من انبهر هبذا الوافد إىل حد التماهي معه والذوبان فيه ،ومنهم -وهم القلة-
من مت له معاينة هذا الوافد ووضعه على حمك النقد املوضوعي الذي ينسلخ عن تراثه ،ويف الوقت ذاته
ال يتشبث به حبيث يصري عبدا له ،إمنا كانت العملية النقدية عند بعض النقاد احملدثني ،مبثابة اجلسر
الواصل بني القدمي واجلديد أو بني األصالة واملعاصرة ،وقلة هم كذلك النقاد الذين رأوا يف عملية
املزاوجة مبا للذات من تراث مع ما عند اآلخر الغريب ،لينتج عنه مسايرة هذا الوافد دون إحداث
قطيعة معرفية مع تراثه ،باعتباره رمز أصالته وانتمائه .ونسري مع الدكتور صالح فضل يف نتيجته اليت
مؤداها" أن كبار النقاد العرب ،املؤثرين يف تطوير اخلطاب النقدي ملن جاء بعدهم ميثلون غالبا أحواال
"مفصلية"واضحة ،تلتقي فيها األعراف الثقافية املهجنة ،البعيدة عن نظرية الصفاء الفكري واألصالة
الرافضة للتطعيم ،فأكثر العلماء حرصا وحفاظا على التقاليد القومية املتوارثة ال يضيف شيئا يعتد
به،وال يعترب عالمة دالة على مسار التطور العلمي واملعريف،وأصحاب التأثري احلقيقي هم الذين تتم
1
على أيديهم أبرز التحوالت املعرفية واملنهجية".
يصدر صالح فضل عن رؤية تقابلية بني منطني من النقاد العرب ،فئة تلوذ باملاضي بكل ما
ينطوي عليه هذا املاضي من تراث وأصالة دون أن حتيد عنه ،وفئة رأت اخلالص واملالذ فيما عند
اآلخر الغريب من منجزات فولّت وجهها شطره ،وميمت حنوه ،وتبقى الفئة الثالثة اليت ال ترى يف تراثها
عيبا من شأنه أن ميارس نوعا من النكوص على الذات ومل تشح بوجهها عن منجزات هذا اآلخر
الغريب ،إمنا حاولت جاهدة التوفيق بني ما لديها وما لدى اآلخر ،لتسهم يف حركة النقد األديب
العاملي من منطلق سنة التطور اإلنساين ،وال جيد صالح فضل أية فائدة فيمن يرفض تطعيم الثقافة
الغربية ويلوذ دائما قافال إىل املاضي التليد ،ألن من شأن أمثال هؤالء أن يصيبوا حركة النقد بنوع من
التكلس واجلمود املفضي إىل املوت ،بل جنده ينتصر ولو ضمنا ألولئك النقاد اجلسور الذين أسهموا
يف جمال النقد فتميز النقد هبم كما متيزوا هم به .يأيت من بني هؤالء يف اجليل األول أو جيل الرواد،
الدكتور طه حسين ويليه ناقد من النقاد اجلسور الذين ربطوا املاضي باحلاضر والرتاث باحلداثة وهو
الدكتور شكري حممد عياد.
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.20 :
263
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ومن هنا كان اللقاء بني احلداثة –ممثلة يف السريالية ،مث رفضها للسريالية والرتتسكية ،كما التقت-
1
بوصفها إيديولوجية النخبة بالفاشية وإزراباوند أوضح مثال".
ال يتسرب أي شك بأن احلداثة يف نسختها العربية انطالقا من نظرة عياد إليها هي حداثة
مأزومة ،ووجه األزمة يكمن يف كيفية صياغة حداثة عربية تنفي عن نفسها كل أسباب الرجعية
والدوغمائية ،بل ما هو منوط بالنخبة العربية هو عملية التجاوز والتحاور ،أعين بالتجاوز حماولة
التقدم وعدم االلتفات كثريا إىل املاضي الذي رمبا كان السبب يف انتكاسة وتراجيدية العقل العريب
احلديث واملعاصر ،باعتبار الطابع القداسي الذي حظي به مستوى التناول ،والذي كان يف الكثري من
األحيان انكفاء عنه وتكلس فيه .وأعين بالتحاور كيفية استثمار املنجزات الغربية على الصعيد
املصطلحي والنقدي والثقايف.
إن موضع الداء الذي يروم عياد معاجلته يف وقوفه على مكامن األزمة ومظاهنا ،يكمن يف
"ازدواجية الوالء" كما يقول عبد العزيز حمودة2؛ ذلك أن احلداثيني العرب مل يستطيعوا التحرر من
سلطان املركزية الغربية على صعيد املصطلح والنقد واألدب والثقافة ،فهم مل يوفقوا إىل هذا التجاوز
املدعى أو املنشود ،بل باتوا مقلدين للمركزية الغربية يف الكثري من منجزاهتا ،وعالجا هلذه األزمة بل
وتعريفا هبا.
أعتقد أن أزمة احلداثي العريب كما عاجلها شكري عياد -بلباقة وذكاء -هي أزمة وجود
(انطولوجيا) ،وجود احلداثي العريب يف ثقافته وأمته ،ووجوده هناك يف العامل الغريب ،فإذا كان التيار
األول جنح يف ختطي احلدود اجلغرافية والثقافية ،واستلب ماهيات هذه األمم املغلوبة ،فإن الضفة
األخرى مل تنجح حىت على أرضها وأمام قرائها يف بلورة مفاهيمها الطالمسية وإلغازها املغرق يف
التجريد ،ألن األزمة مل تعد يف كيفية أن نكون حداثيني أو ال ،إمنا يف عملية متثل اآلخر وصهره يف
ثقافة الذات مبا خيرجها من مستنقعها اآلسن ،لكن شيئا من هذا مل حيدث يف اعتقاد عياد ،الذي
راح يشرح أسباب األزمة انطالقا من حضور كل حداثي يف موطنه وانطالقا من وظيفته ثانيا أمام أمته
وثقافته وثالثا على مستوى ماهية األمة العربية وتركيبتها االقتصادية والعقدية.
ترجع مجلة من املواقف النقدية عند شكري عياد إىل متثله مقوالت احلداثة الغربية ،وفهمها
بعيدا عن كل اإلكراهات واإلرغامات العقدية والدينية ،فالرجل يعي متاما املنطلقات الفكرية
والفلسفية هلذه احلداثة ،ويف الوقت نفسه يفقه وجودها انطالقا من تفكيكها داخليا ،ألن مبتغى
احلداثة الغربية عنده ونتائجها اليت توصلت إليها ،أهنا أحلت اإلنسان حمل الدين ،يقول":حىت أمكن
أن نفهم العقيدة املسيحية حول صلب املسيح وقيامته فهما أسطوريا على أهنا ترمز إىل جتديد احلياة،
أو اقرتان املوت باحلياة ،على أن هذا التحول الفكري اخلطري يف الثقافة الغربية مل يقف عند هذا
احلد ،بل اندفع بتأثري التقدم املذهل يف العلوم البيولوجية إىل حد إرجاع املقدسات والغيبيات إىل
1
جسم اإلنسان".
أقره عياد من حقائق -بغض النظر عن موافقتنا له أم ال -تربز اإلشكالية وسريا على ما ّ
األساس يف فكر احلداثة الغربية ،وأزمة الوجود اإلنساين والعقل الغريب ،ذلك أن مقوالت احلداثة
الغربية راعت مجلة السياقات الثقافية لإلنسان الغريب ،وأزمته العقلية فكانت احلداثة بالنسبة له –
اإلنسان الغريب -مبثابة املخلص من تراكمات العصور األوربية األخرية حيث يرجع األمر إىل ثالثة
قرون خلت ،فالسياق الثقايف األوريب ،والغريب بشكل عام ،غري السياق الثقايف العريب على اإلطالق،
وما ميايز السياقني أكثر مما جيمعهما ،ذلك أن أزمة الفكر الغريب أزمة عقل وإنسان وفلسفة ،يف حني
أن أزمة اإلنسان العريب أزمة هوية وثقافة ووجود يف آن.
وتأسيسا على هذا ،ينربي عياد مناهضا للمشروع املتشظي للحداثيني العرب ،ويقف موقفا
مقوما وممحصا جتارهبم يف النقد واألدب ،وهو موقف أقل ما يقال عنه أنه واع حبقيقة األزمة املعرفية
واملفهومية اليت طالت املشاريع األدبية احلداثية ،هذه األزمة اليت أبانت عن شرخ عظيم بني دعاة
احلداثة العرب ومجهور متلقيهم وقرائهم ،إذ تزداد اهلوة عمقا بني املبدع وقارئه ،الذي يف أحوال كثرية
يكون هو يف واد ومتلقي إبداعه يف واد آخر ،ملن يكتب املبدع؟ كيف يقرأ القارئ النص اإلبداعي
احلداثي؟ ما هي لغة اإلبداع احلداثية؟ كل هذا ما جعل عياد يقرر":بأن الكاتب منتم بفكره أو األنا
العليا إىل العامل الغريب احلديث ،بينما هو منتم بعالقاته االجتماعية أي باألنا إىل اجملتمع العريب ،وبناء
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.22 ،22 :
265
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
على ذلك فلن يكون أمامه خيار حني يكتب ،إال أن يكتب لقارئ على شاكلته ،قارئ عريب ينتمي
1
بفكره إىل العامل الغريب احلديث".
إن هذه االزدواجية يف التمثل واملمارسة هي ما خلق حالة من العمى النقدي واإلبداعي يف
املشروع احلداثي العريب ،وهي األزمة ذاهتا اليت طالت كل مشاريع التحديث العربية ،نظرا للحاجز
املعريف واملفهومي بني قطيب العملية التواصلية ،الكاتب والقارئ ،وبني مرتكزات الثقافة العربية احلديثة
واملعاصرة ،ممثلة بأهم مصطلحني تتداوهلما الساحة النقدية العربية يف املدة األخرية ،األصالة/املعاصرة.
الشك أن هذين املصطلحني قد أسيء فهمها من قبل العديد من احلداثيني العرب ،ذلك أن
املصادرة اليت حلقت باملعىن والداللة املرتبطة بكال املصطلحني ،والفوضى املعرفية اليت صاحبت
وجودمها ،نتج عنها حالة من التأزم يف ضبط املفهوم وحصره ،وبقي املفهومان عائمان يف دوامة
الالمعىن والالمفهوم ،وانزاح تعرفيهما -بوصفهما مصطلحني مركزيني -إىل مراتب خلفية أرجعت
املعىن إىل المعىن ،يقول عياد ..." :فهذه األقلية اليت يردد الكثري من أفرادها ،شعار األصالة
واملعاصرة ال حتقق معىن هاتني الكلمتني وال كيفية اجلمع بينهما بأكثر من حرف العطف ،ورمبا أصبح
2
هذا الشعار مبتذال عند أكثرهم اآلن ولكنهم ال يقدمون لنا عوضا عنه شيئا أفضل".
يرتكز شكري عياد يف تفريقه بني مفهوم األصالة واملعاصرة على كم معريف هام ،عملت
حقول شىت على بلورته وإبرازه ألن الناقد ميتح من روافد تراثية صاغت رؤيته النقدية ملثل هذه
املفاهيم ،ويعي متاما حجم األزمة املصطلحية اليت يتخبط فيها النقد العريب املعاصر اليوم ،انطالقا من
دعوى النـزوع إىل النظرة املستقبلية اليت ما فتئ احلداثيون العرب يرددوهنا على أمساع قرائهم طيلة
نصف قرن من الزمن ،غري أن هذه اجلدلية املفهومية املتمثلة يف األصالة واملعاصرة ،يرجعها مفكر
عريب آخر إىل استحالة التمييز والتفريق بينهما ،إذ املفهومات من التالحم والتشاكل حيث يعسر
الفصل بينهما ،يقول علي حرب ..":التعاصر ال يعين بالضرورة تكبيل الفكر وتقييده ،فاألصالة هي
مبتدأ املعاصرة وماضيها الذي ال ينفك حيضر ،وهي أساسها الراسخ وغورها األعمق ،واملعاصرة هي
البعد اجملهول يف األصول وإمكاهنا الالمرئي ،ومعانيها املكنونة وزمنها اآليت ،إهنا األصول منظورا إليها
266
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
بعني جديدة ،فاملعاصرة منتهى األصالة ،واألصالة جوهر املعاصرة ولذا فإن التقدم هو استكمال
1
واستعادة".
إن املعاجلة النظرية واملمارسية تكشف ال حمالة عن الجدوى التشدق مبصطلحات حداثية
غريبة عن ثقافتنا وهويتنا ،األمر الذي ينجر عنه ضياع املعامل البارزة ملوروثنا النقدي والبالغي واألديب،
بدعوى القطيعة االبستيمية على الرتاث ،وهو حال أغلب احلداثيني العرب.
إن النربة احلامسة اليت أدىل هبا عياد تنم عن وعي مبدى األزمة اليت يعانيها نقاد احلداثة اليوم.
غري أنه ال يكلف نفسه معاجلة هذه اإلشكالية ،األصالة املعاصرة ،معاجلة شاملة تضع احلدود
املفهومية والتجريدية بني املفهومني اللغزين ،إمنا يكتفي مبعاينة األزمة وصفيا ،أما يف الشق الفكري
فإن علي حرب يف رده على الجابري حول إشكالية ّ
تكون العقل العريب ،فينفذ إىل جوهر القضية
ويتحسس وشائج التضام اليت تلتحم فيها األصالة باملعاصرة من جانب منطقي حبت ومن باب
2
التجربة اإلنسانية كذلك.
.1موقفه من احلداثة العربية
ينفرد شكري عياد يف موقفه من احلداثة العربية باعتباره الناقد العريب الرصني ،الذي وقف
موقفا وسطا من إجنازات العقل العريب يف اتصاله مبنجزات احلضارة الغربية ،ويف معرض حديثه عن
تعريفات احلداثة العربية ممثلة يف أعمال بعض احلداثيني العرب ،ويف تعقيبه عن ردود فعل البعض
منهم يكتب ردا على يوسف الخال ،عندما أثبت حالة الفصام احلاد بني املاضي واحلاضر ويؤكد أن
" التناقض بني كوننا شكال يف العامل احلديث وكوننا جوهرا يف خارجه يضطرنا إىل معاناة قضايا
3
جمتمع قدمي يف عامل حديث ومعاناة عامل حديث يف جمتمع قدمي".
يكتب عياد عن حالة الشرخ اليت أصابت األنا جراء عملية التماس األوىل من االحتكاك
باحلداثة الغربية ،واليت جنم عنها ازدواجية يف املواقف النقدية وكذلك اإلبداعية ،يقول عياد "فالقاعدة
أن الكاتب يكتب لنوع واحد من القراء ،إذا وجد نفسه يفكر يف نوعني خمتلفني إىل حد التناقض
فالبد أن يشعر بالتمزق حقا ،ولكن هذا التمزق مل يبدأ من وقت الكتابة ،لقد وجد من قبل ذلك
حتما ،وميكننا أن نقول إنه متزق يف االنتماء ،فالكاتب منتم بفكره أو باألنا العليا إىل العامل الغريب
احلديث بينما هو منتم بعالقاته االجتماعية أي باألنا يف اجملتمع العريب ،وبناء على ذلك فلن يكون
أمامه خيار حني يكتب إال أن يكتب لقارئ على شاكلته ،قارئ عريب ينتمي بفكره إىل العامل الغريب
احلديث".1
تتنـزل مقوالت عياد حول انبهار املثقف العريب مبنجزات اآلخر الغريب ،يف حقل معريف يؤول
إىل وقوف األنا منبهرة هبذا الوافد الغريب فتنبطح يف استقباله وتلقيه ،بينما يلوذ فريق آخر مبنجزات
الرتاث العريب النقدي والبالغي قصد االحتماء به والفرار إليه ،بصفته املخلّص من حلظات الضياع
والفراغ والتشظي اليت متارس على هذه األنا ،ويف الوقت نفسه تقف طائفة أخرى موقف الوسطية من
هذه القضية فتأخذ من الرتاث دون أن تتصنم فيه ويف منجزاته ،وتأخذ كذلك من منجزات احلضارة
الغربية يف غري إسراف وابتذال ،إمنا تؤخذ األمور مبقدار بني هذا وذاك ،ويف السياق ذاته يكتب رافضا
كل تعصب للقدمي بصفته السابق إىل هذه املنجزات ألنه "ال يتفق مع منهجنا ،منهج "املنظور
التارخيي" الذي يسجل املتغريات كما يسجل الثوابت ،ويعرتف بالنسيب كما يعرتف باملطلق ،ويرتكز
2
على الوعي باحلاضر بدال من تقديس املاضي".
ما من شك يف أن دعوة عياد إىل األخذ مبنجزات الرتاث ،إمنا جتلت يف دفاعه الدائم عن هذا
املوروث وعدم الذوبان يف هذا الوافد ،لكن بشرط أن ال تتحجر يف هذه الرتاثيات بدعوى األصالة،
إمنا جيب التجاوز مبا خيدم احلضارة العربية من قدميها إىل حديثها ،يصف عياد حالة الفوضى
واالضطراب اليت حصلت مع بدايات املد احلداثي البنيوي ،واليت كانت سببا يف تبادل التهم والرزايا
ووسم بعضهم بعضا بشىت أساليب النعوت النابية" :فهنا اقرتبنا من دائرة "املصاحل" حيث ال رمحة وال
إنصاف ،هنا تتبادل االهتامات بسهولة فيكون "إليوت" ومن حنا حنوه رجعيني ،ويكون الواقعيون
االشرتاكيون عبيدا ،ويكون الوجوديون طغمة من الربجوازية الصغرية املتعفنة والصورة أشبه بتلك
الرسوم املختلطة اليت تقدمها الصحف يف أركان التسلية ،حتتاج إىل شيء من احلذق ،وأن يكون يف
يدك قلم رصاص حىت تتبني معامل األرنب والذئب واحلمل...وال تلبث أن تكشف ما هو أطرف،
1شكري حممد عياد :املذاهب األدبية والنقدية عند العرب والغربيني ،ص.02 :
شكري حممد عياد :اللغة واإلبداع ،ص.0 :
2
268
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
فكل فريق يتعمد التشويش على خصمه باستخدام مصطلحاته نفسها فاإلليوتيون والوجوديون
1
يتهمون املاركسيني بأهنم رجعيون ،واملاركسيون يرمون خصومهم مجيعا بأهنم خدام السلطة".
إن حالة الفوضى واالضطراب اليت رمسها الرجل ،جتلت أكثر مما كانت عليه يف السابق،
خاصة عندما اشتد الصراع بني أقطاب هذه االجتاهات واملدارس ،وجتلى ذلك مع ظهور جملة فصول
القاهرية اليت واكبت هذا التحول يف بداياته ،فكانت مسرحا رحبا هلذه االهتامات وقبل ذلك كانت
مرتعا خصبا لتجريب آليات هذه املناهج على تراثنا العريب القدمي ،يؤرخ عياد هلذا بقوله..." :وأخذ
املتحمسون هلذا املذهب اجلديد يطبقونه على نصوص من األدب العريب ،بدءا بامرئ القيس وانتهاء
بأحدث احملدثني وظهرت جملة فصول يف القاهرة عندما كان هذا النشاط يف عنفوانه 0081ففتحت
صدرها له ،وقرأ الناس نقدا ال يشبه ما عرفوه ،أو ما ظنوا أهنم عرفوه ،فاختلطت األمور عليهم ،وساء
2
ظنهم باألدب اجلاد ،فنـزلوا عنه راضني إىل ثلة من املثقفني".
اجنر عن هذه الوضعية سوء فهم كبري ،أسهم يف اغرتاب النقد عن القارئ العريب يف تلك
لقد ّ
احلقبة وحىت اآلن ،نظرا للخلط الكبري على مستوى اجلهاز املفاهيمي واملصطلحي ،الذي أسس له
سوء الفهم والتمثل ،وحماولة ركوب موجة احلداثة من قبل الكثري من النقاد احلداثيني العرب يف
بدايات األمر ،الشيء الذي انسرب عنه استباحة حلمى الرتاث وحماولة تقطيع أوصاله.
يف الوقت الذي حصلت فيه عملية االنبهار بكل ما هو وافد من اآلخر الغريب ،وقع احلداثيون
العرب يف احملظور – املغلوب مولع بتقليد الغالب -فكان أن أدار احلداثيون العرب ظهورهم للرتاث
متعالني عليه ،ألنه يف نظرهم مصدر التخلف واالحندار ،فنادوا مبمارسة تلك القطائع املعرفية معه
لعلهم يظفرون بشيء من الرقي يوصلهم إىل مصاف احلضارات الراقية.
يعلق عبد العزيز حمودة حول حالة الشرخ اليت أصابت العقل العريب ممثال يف حداثييه قائال:
"إن التحول يف اجتاه احلداثة مث ما بعد احلداثة الغربيتني خلق الفراغ بقدر ما أكده ،فشعار القطيعة
املعرفية مع الرتاث خلق فراغا أدى إىل تبين الفكر الغريب كبديل مللء الفراغ اجلديد ،ويف الوقت نفسه
خلو الساحة الثقافية العربية من فكر لغوي ونقدي ناضج ،مث إن
فإن التحول احلداثي كان يعين ّ
1
الفوضى اليت جاءت مع احلداثة وما بعد احلداثة ،خلقت هي األخرى فراغا جديدا وأكدته".
إال أن هناك فريقا آخر من النقاد العرب احملدثني يرى يف عملية التبادل الفكري والتالقح
الثقايف عملية تأسيسية مليالد حداثة عربية ،تستثمر ما لديها وتتلقى ما لدى اآلخر ،لتشكل لديها
نوعا من الفعالية والوجود" :ليست احلداثة تقليدا أعمى (للغرب يف حالتنا) كما أهنا ليست إنكارا
واستبعادا لآلخر ،إهنا إعادة تكوين األنا والذات ،بغية انتعاشها اإلنساين وتفتحها ،إهنا حوار مستمر
مع اآلخر ،بغية تطوير هذه األنا وهذه الذات ،حبيث حيقق هذا احلوار مع اآلخر جوهر الصفات
2
اإلنسانية ويرقى باألنا وباآلخر إىل اإلحياء واالنبعاث".
.1كيف يكون النقد علما
يرتكز موقف عياد من قضايا النقد احلديث من دافع النزوع حنو توصيف منهجي للعملية
النقدية برمتها ،إذ بعد أن يسرد مواقف النقاد من العمليات التحليلية والتقوميية اليت خيضعوهنا
للفحص والتحليل ،وبعد أن يقف موقفا متباينا بني نقاد من طراز إليوت وإيفورونترز حول ماهية
النقد عند كل واحد منهما ،وكذا وظائف النقد املنوطة به ،خيلص إىل أن من وصل إىل مشكلة
علمية النقد هو الناقد اإلجنليزي نورثروب فراي الذي باشر قضية علمية النقد بدقة ،دون أن مينع
نفسه من الوقوع يف مطب إصدار بعض األحكام املبهمة يف نظر عياد.
يشدد عياد على ضرورة أن يضع الناقد يف حسبانه مجلة من الضوابط والشروط هي اليت ترهن
العملية النقدية برمتها ،ويضع عياد ثالثة أزواج أو ثنائيات هي الكفيلة بإبراز العملية النقدية ،وهي
على التوايل :العلم ،الفن ،األحكام العامة ،األحكام اخلاصة ،التقومي ،التفسري .مث ال يلبث أن جيري
بعض التقابل بني هذه األزواج ،من قبيل وضع العلم مع األحكام العامة مع التقومي ويف املقابل يضع
الفن مع األحكام اخلاصة مع التفسري مع شيء من الشرح املستفيض ،الذي ينم عن حتكم واطالع
واسعني يف جمال النقد وارتباطه بالفن من جهة والعلم من جهة أخرى ،مزاوجا بني علمية النقد
وقيميته ،مراوحا بني الفن والعلم يف الكثري من األحيان ذلك ":أن كل فن -مهما يكن ذاتيا أو
مجال شحيد ،وليد قصاب:خطاب احلداثة يف األدب األصول واملرجعية ،دار الفكر،دمشق ،ط،3115،0ص.80 ،88 :
2
270
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
مستهدفا ملتعة منتجه أو مستهلكه -البد له من االعتماد على جتارب سابقة ،وحصيلة هذه
التجارب هي اليت ينظمها العامل يف قواعد أو قوانني ،ولكن النقد -رمبا خلصوصية يف مادته وهي
األعمال األدبية – ال يقر دائما بضرورة هذه القوانني ،ومن مث يستبدل هبا الناقد الفنان معيارا وسطا
1
بني الذاتية واملوضوعية ،بني التجديد واإلطالق وهو معيار الذوق".
أما حني يتناول قضية عالقة النقد جبملة القيم اليت تدور يف فلكه ،فإنه ينفي عن نفسه
-باعتباره ناقدا قيميا -كل ّاحماء يف بوتقة املاركسية أو النقد املاركسي ،الذي يتناول النقد على أساس
أنه مجلة من القيم مرتبطة بعالقات اإلنتاج االقتصادي ،يقول عياد" ينبغي أن ال يفهم من ربطنا
رد القيم إىل علة واحدة وهي عالقات القيم حبالة اجملتمع أننا ملتزمون مبا يلتزم به املاركسيون من ّ
اإلنتاج يف اجمل تمع ،فليس يف كالمنا ما مينع من أن تكون للقيم حقيقة ثابتة وإن تدخل اجملتمع يف
2
إظهار بعضها وإخفاء بعضها اآلخر وتشويهه".
خيلص عياد يف تناوله هلذه الثنائيات النقدية متمثلة يف الفن والعلم واألحكام العامة واخلاصة
والتقومي والتفسري ،إىل أن هذه القضايا ال ميكن أن تعاجل أفقيا وسطحيا وإمنا جتب املعاجلة رأسيا
وعموديا ،ليتسىن للناقد الباحث الوقوف عند كل اجلزئيات اليت تعاجلها موقفا ،متأنيا حيتاج معه
الناقد إىل بسط كل قدراته وكفاءاته يف حماولة التفريق حينا ،والتوليف أحيانا أخرى بني هذه املسائل
اليت متس الصميم من العملية النقدية ،يقول ":ال يكون املسلك الصحيح يف تناول هذه املسائل
أفقيا :العلمية أو الفنية ،مث األحكام العامة أو األحكام اخلاصة ،مث التقييم أو التفسري ،بل يف تناوهلا
بطريقة رأسية حبسب موقف الناقد :فهناك موقف علمي تعميمي تقييمي ،وهناك موقف فين
ختصيصي تفسريي ،وكال املوقفني نابع من ظروف حضارية تشمل األحوال السياسية واالقتصادية
مردها يف النهاية
للمجتمع كما تشمل املعتقدات وطريقة التفكري وأمناط السلوك الشائعة فيه ،أي أ ّن ّ
3
إىل القيم السائدة يف اجملتمع".
مييز عياد بني منطلقات العملية النقدية الكالسيكية ونظريهتا الرومنسية ،بل حىت مرامي كل
مدرسة منهما ناهيك عن منطلقاهتا املعرفية ،فإذا كانت الكالسيكية حتتكم إىل مجلة من الشرائط
271
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
والقواعد يف عملية النقد ،وتنظر يف مدى مسايرة املبدعني والشعراء هلذه القواعد وعدم اخلروج عنها،
فإن الرومنسية ختلصت من هذه الشروط والقواعد ،وأبقت على املبدع حرا يتمتع بقسط غري يسري
من تداعي األفكار ،قصد سرب غور النص وحماولة الوقوف عند اجلماليات املنثنية دخل رحم هذه
النصوص..." .والرومنسية ،مثل الكالسيكية ليست موقفا نقديا أو أدبيا فحسب ،ولكنها فكر
وفلسفة وسياسة وأخالق أيضا ونظرهتا التحررية – املعاكسة للنظرة الكالسية -تعرب عن موقف
1
إنساين قابل ألن يتكرر كلما هتيأت الظروف املناسبة لظهوره".
حتت عنوان النقد الكالسي ،يتتبع عياد املؤثرات املنطقية والفكرية اليت عمل أرسطو على
مر العصور ،وتلك القواعد الصارمة اليت جيب االحتذاء هبا ،ألهنا متثل
إشاعتها بني مجهور النقاد على ّ
النواة أو حجر الزاوية يف جل العملية النقدية الكالسيكية ،ويسهب يف حتديد تلك اآلثار اليت خلفها
كتاب "فن الشعر" ألرسطو يف قوافل النقاد العرب بدءا بقدامة بن جعفر ومرورا بالقاضي الجرجاني
يعرج عياد
وانتهاء بحازم القرطاجني ،ويف كل مرحلة من هذه املراحل املهمة يف تاريخ نقدنا العريبّ ،
على أهم املقوالت النقدية اليت صاغتها عملية التأثري األرسطي يف هؤالء النقاد العرب ،وكذا إبراز
مناحي التأثري ،خاصة على مستوى التنظري النقدي للشعر العريب ،مربزا يف الوقت ذاته القسمني
البارزين لفريق النقاد العرب مقسمني إىل نقاد نقليني وعقليني ،وموضحا بشيء من اإلسهاب مواقف
الفريقني ومواطن القوة والضعف اليت طبعت أعماهلم النقدية ،غري أن عياد جيعل من كال الفريقني
مسوه جمموعة من القواعد اليت جيب أن يلتزمها
كالسيني "...أي أهنم يتصورون النقد علم الشعر كما ّ
الشعراء كلهم ،ولعل هذه السمة املشرتكة بني الفريقني راجعة إىل أهنم عاشوا يف ظل جمتمع ذي قيم
ثابتة ،والثبات هنا ال يعين القوة دائما ،وإمنا يعين أننا ال نعثر على أية حماولة جادة إلحالل قيم أخرى
2
حمل تلك القيم".
عرج على قضية النقد الكالسي والنقد الرومنسي ،-قضية أخرى غاية يف يعاجل عياد -بعد أن ّ
األمهية على مستوى العملية التطورية للنقد ،وهو ما يقصده بعلمية النقد ،اليت اصطلح عليها النقاد
األوربيون يف احلضارة الغربية من أيام شكسبير وهوجو ،ما أصبح يشكل عائقا يف تالحم التفسري مع
التقييم .وبعد أن نفض عياد يديه من تلك املقابالت احلادة (التقييم/التفسري ،األحكام اخلاصة/
272
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
األحكام العامة ،العلم /الفن .خيلص إىل نتيجة مؤداها " إن هناك درجات من العلمية ،كما أن هناك
درجات من التعميم ودرجات من التقييم ،وإن مقاييس العلمية والتعميم والتقييم ميكن أن تتغري ،مع
افرتاض أهنا -بوجه عام ،-تتغري حنو األفضل حبكم تقدم العقل البشري .وهكذا ميكننا -من املنظور
التارخيي -أن نالحظ قرب النقد إىل حد كبري من درجة "العلمية" لدى الكالسيني ،وقربه من هذه
1
الدرجة إىل حد أقل لدى الكالسيني اجلدد ،مع بقاء املقياس واحدا يف احلالني"
.1مفهوم الذوق
ال يبتعد عياد كثريا يف معاينته لقضية علمية النقد من عدمها ،حىت يطرق حقال معرفيا ال يقل
أمهية عن سابقه ذلك ما عاينه الناقد حتت مسمى "الذوق" وهل يشكل الذوق مانعا يف ممارسة
العملية النقدية على النصوص اإلبداعية؟ أم أن هذا االصطالح ملتحم حبيث يصعب معه الفصل
بني العلم والذوق ،يكتب عياد موضحا ماهية الذوق ،ومكانته وكذا خطورته إن صح القول":
فالذوق عند اجلميع معيار للنقد وهدف يف الوقت نفسه :معيار مرن ،ويف هذا تكمن مزيته وخطورته
معا ،وهدف ألن وظيفة الناقد غري وظيفة احملكم يف املسابقات األدبية ،فالناقد كاتب يتجه إىل
2
مجهور ،ومهمته هي أن يساعد هذا اجلمهور على تذوق األعمال األدبية ،أو أن يريب ذوقه".
تتحدد من خالل هذا النص ماهية النقد عند عياد باعتباره أساسا للمعرفة النقدية ،وال ميكن
أن يستغين عنه أي ناقد مهما أويت من آليات املناهج احلداثية ،فإن هذه امللكة تبقى ذات قيمة ال
ميكن جتاوزها أو حتييدها ،وبعد أن يبسط عياد رؤيته حول املناهج النقدية ،يصرح بأن النقد األديب
يف طريقه ألن يصبح علما وذلك بتطوير مفهوم الذوق ،وبعد أن فصل القول يف النظريات الكالسية
والرومنسية خلص إىل أن عملية الفصل بني الذوق والعلم ال تتم هبذه البساطة الساذجة ،وإال بقيت
عملية النقد مبهمة ال تفي بالغرض املنوط هبا ويصل إىل أن "دراسة األدب عند الكثرة الغالبة من
طالبه وأساتذته دراسة علمية بائسة يائسة :فإما أن تكون عربدة فكرية صرحية باسم "الذوق" ،وإما
أن تكون هروبا من درس النصوص األدبية نفسها إىل ما يتعلق هبا من أحوال ميكن أن تدرس دراسة
3
موضوعية".
273
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
األمر الذي ينجم عنه جهل مبنطلقات هذه امللكة وما يرتتب عنه من سوء فهم هلا ،لذلك
يشرتط عياد فهما موسعا خلاصية الذوق ،وإال بقي النقد جمرد أحكام وآراء تقييمية وتقوميية ال تستند
إىل مرجعية ،وذلك ما أقر به عياد يف معرض تفصيله القول عند إبرازه أمهية الذوق يف العملية النقدية
وخلص إىل مفهوم ":الذوق -على الرغم من مكانته اجلوهرية يف النقد األديب –مل ُحيَلّل حتليال علميا
من قبل النقاد حىت اآلن .لقد قبلوا – ببساطة -األفكار الشائعة يف علم النفس ،من احلديث عن
"امللكات" إىل احلديث عن القدرات العقلية وأثر التدريب فيها ،ومل ينظروا إىل الذوق على أنه وظيفة
معرفية مرتبطة بوجود اإلنسان ،وأن األدب هو التعبري األهم عن هذه الوظيفة ،ومن مث فعليهم -ال
1
على غريهم -أن يبحثوا عن شروطه ويستكشفوا أبعاده .فبدون هذا البحث ال يكون النقد علما".
تتجلى أمهية الذوق يف العملية النقدية برمتها عند الناقد -إذ ال حميص له عنها -لكن الذي
عاينه عياد هو أن هذه امللكة مل حتض بالعناية والدراسة الالزمة من قبل نقاد األدب ،األمر الذي
هنض به عياد ،ألن يف تطور خاصية الذوق ،تطور للعملية النقدية برمتها ،وهي املهمة األساسية اليت
قام هبا عياد يف مجلة مدوناته النقدية ،فقد حظي الذوق مبكانة أساسية وهامة يف جهود الرجل
النقدية ،وغدا من بني أهم املصطلحات املتداولة لديه ،لذا جعل منه حجر الزاوية يف جناح أي عملية
نقدية فهو يصرح قائال " :بأن الذوق ينبغي أن يعتمد أساسا لنقد علمي .وقد حددنا الذوق بأنه
معيار وسط بني العلم والفن ،وبني األحكام العامة واألحكام اجلزئية ،وبني التفسري والتقييم ،ولذلك
فهو جيمع بني هذه الوظائف الستة اليت عىن هبا النقاد دائما .ونبهنا إىل أن الذوق الذي نتحدث عنه
جيب أال يلتبس بامليل الفردي أو الوقيت .فالذوق يعين ممارسة احلكم على أعمال معينة بناء على
مرجع عام ،هذا املرجع ال ميكن حتديده إال بأنه "قيمة" أو "قيم" ما .فاحلكم يستند إىل القيمة أي
2
أنه معلل بالقيمة ،وإن كانت القيمة نفسها غري معلّلة".
يتضح جليا من خالل هذا النص أن خاصية الذوق خاصية غاية يف األمهية ،باعتبار املوقع
الذي حتتله ،فهي تتوسط بني العلم والفن لتمنع صنمية الدرس وجفافه النقدي ،بذريعة العلمية وال
تسمح خاصية الذوق بتمييع العملية النقدية بدعوى الفنية ،ويتوسط الذوق كذلك بني األحكام
العامة واألحكام اجلزئية ،ليتمكن من إعطاء مجلة من احللول املناسبة اليت يعىن هبا النقاد دوما،
274
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
والشرط األساسي يف متكني الذوق من هذه املهمات هو بعده عن كل األهواء وامليول الشخصية أو
الفردية ،ألن من مهمات الذوق إصدار نوع من األحكام حيتكم إىل قيمة مرجعية ،من شأهنا أن
تسدد عملية الذوق وحتددها ،والبد من ربط الذوق بالقيمة ألن " الذوق – يف هذا املفهوم املرتبط
بالقيمة -ال يرجع إىل املزاج الشخصي ،بل هو نقيضه ،إن مرجعه النهائي هو استعداد مستقر يف
الطبيعة البشرية ،مثله مثل املنطق ،والكشف عن طبيعة هذا االستعداد هو من قبيل الكشف عن
العلل األوىل ،أي أنه ضرب من الفكر الفلسفي احلر القائم على املشاهدة واخلربة ،وقد يسميه البعض
1
علم اجلمال أو فلسفة الفن ،ولكننا نفضل أن يرتبط بالنقد األديب ويكون جزءا أساسيا منه".
حيل الذوق حمل علم اجلمال والفلسفة ،باعتبار أن هذين األخريين يهتمان بالبحث عن
احلقيقة امليتافيزيقية اليت ختص خمتلف الفنون واجملاالت ،أما النقد فيختص بدراسة األعمال األدبية
ويقف عند استجالء مكامن اجلمال فيها ،ويضبط مظان االستعماالت املتعددة للغة اليت من شأهنا
حتفيز مجلة املدركات فتجعلها تتضام وتتواشج قصد بلوغ خمتلف املرامي اليت ينشدها اإلبداع األديب،
يف الوقت الذي مل يعدل عياد عن تسمية األشياء مبسمياهتا ،فال ينـزاح عن الذوق إىل باقي
املسميات األخرى ،ولكنه يشعر أن الذوق حباجة إىل توضيح من حيث ارتباطه بالقيمة ،ألنه
مصطلح أسيء فهمه كثريا من قبل النقاد ،وغالبا ما متّ ربطه باألهواء واألمزجة الشخصية ،اليت من
شأهنا أن تسيء إليه وإىل الغايات اليت ينشدها.
ترتاوح النظرة النقدية عند عياد إىل مجلة من القيم اليت يتغياها الذوق من باب التمييز بني هذه
القيم اجلمالية ،واليت حتتكم إىل مبدأ النسبية ،خبالف ما يرومه الفيلسوف مثال ،الذي تتسم نظرته
إىل هذه القيم من دافع حبثه عن اختيار مناذج نقية يتمثل فيها هذا الشعور .غري أن الناقد يصدر عن
نظرة مشولية خاصة بتلك األعمال العظيمة السامية ،اليت ال ختتلف فيها أذواق الناس ،وذلك بسبب
محلها مجلة من القيم اجلمالية ،اليت تبقى يف صميم عملييت القراءة واإلبداع ،يقول عياد ":لكن
ضرورة إثبات هذه القيم اليت تتضح من أن هناك أشياء يتفق البشر مجيعا على اإلعجاب هبا ،وينطبق
هذا الوصف على األعمال األدبية العظيمة ،فعظمتها الفنية ترتبط بعامليتها وخلودها ،وكثري من
2
األعمال األدبية أو الفنية املعاصرة لنا ال هتزنا كما يهزنا أثر قدمي رائع".
275
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تتنـزل هذه الرؤية من دافع النزوع حنو إثبات هذه القيم اجلمالية اليت تكتنـزها النصوص
اإلبداعية ،سواء كانت قدمية أو حديثة ،غري أن عياد يويل أمهية بالغة لتلك النصوص القدمية اليت
تتسم بالعظمة ألهنا تصدر عن رؤية عميقة للعامل واألشياء .والناقد مشدود حببل متني إىل هذه
املدونات الرتاثية اليت متثل عصب احلياة ونسغ الوجود من العملية اإلبداعية والنقدية ،اليت يرتادها
عياد يف كل مرة ،ويصدر الناقد كذلك عن رؤية نابعة من مقولة " األذواق ال تناقش" لكن مع شيء
غري يسري من النسبية يف عملية الذوق وآثارها املوجبة على عملية النقد األديب ،إال أن ما ينبه إليه
عياد يف طرحه فكرة اكتناز النصوص هبذا الزخم من القيم اجلمالية ،هو ضرورة البحث عنها – أي
القيم اجلمالية -ضمن خمتلف النصوص اليت تنتمي بدورها إىل أنواع متباينة من األجناس األدبية،
ويعقد الناقد مقارنة نقدية بني من يفضل الشكل املسرحي على الشكل امللحمي أو العكس،
ويتساءل استنكاريا حول جدوى وفاعلية هذه املقارنة .إال أنه يطمئن قارئه بأن هذه اجلدوى أو
الفاعلية هي ما يسميه هو بالقيم اجلمالية ،يقول عياد "....ولكي تصح مثل هذه املقارنة جيب على
الناقد أن يتجاوز الشكل امللحمي أو الشكل املسرحي ،إىل شيء مشرتك بينهما وأكثر أصالة من
كليهما ،هذا الشيء املشرتك هو ما نسميه القيمة الفنية أو القيمة اجلمالية ،وقد عجز النقد العريب
احلديث عجزا مبينا حىت اليوم يف عقد مقارنة صحيحة بني الشعر العريب والشعر األوريب ألن نقادنا
1
وقفوا عند األشكال ومل يستطيعوا جتاوزها إىل القيمة اجلمالية".
يتجاوز عياد هذه املنظورات السائدة اليت تقف عند العتبات اخلارجية للنص وتدعي عملية
يصرح بأن مثل هذه املمارسات لن تقدم شيئا ذا بال للعملية النقدية ،باعتبار أن
القراءة والنقد ،بل ّ
الكثري من النقد العريب احلديث عجز عن عقد مثل هذه الدراسات واملقارنات اليت يدعو عياد إىل
يشرع بابا يف جماالت ما يعرف باآلداب املقارنة ،وحىت أنه يف عقده ملثل هذه
ارتيادها ،وهو يف ذلك ّ
الدراسات يتجاوز ما تعاور عليه النقد من أن املقارنة تتم داخل اجلنس األديب الواحد ،كالرواية مثال
أو املسرحية ،أما أن جترى مثل هذه املقارنات بني امللحمة مثال واملسرح ،فهو ما يعترب حديثا بالنظر
إىل زمن كتابة هذه اآلراء من قبل الناقد ،وهي دعوة إىل احماء احلدود بني خمتلف األجناس األدبية،
ألن األدب أو اإلبداع مل يعد فيصال معرفيا يف التفريق بني أنواعه وأجناسه بقدر ما هو تشرب
276
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
واستثمار هلذه األجناس بعضها من بعض .وهو ما يعرف اليوم يف ساحة النقد األديب املعاصر
بالتفاعل النصي ،أو التناص (.)Intertextualité
277
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
278
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
279
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تتأسس املعرفة النقدية باحلداثة من دافع النزوع حنو جتاوز السائد واملألوف والتطلع إىل ما جيب
تتأىب على الوصف و التمييز ،وهي يف الوقت ذاته حلظة خارج الزمان أن يكون ،واحلداثة حلظة زمنية ّ
واملكان ،إهنا نقطة ما يف الالزمين ،لذلك جيب فهم هذه الظاهرة ووعيها يف إطار من النقد واملعرفة
الكفيلة بإبراز أبسط دالالت احلداثة سواء كانت شعرية أم نقدية أم إيديولوجية ،فهي يف أبسط
دالالهتا تعين " :االتساق مع العصر والضرورة واحلاجة ،وهي يف حركة تطور وتقدم مستمرين ...هي
ذلك النمط احلضاري اخلاص ،الذي يتعارض مع النمط السابق عليه".1
غري أن املقصود باالتساق مع العصر ،حسب ما ذهب إليه الباحث ليس الركون ومسايرة
منجزات احلاضر دون حماولة جماوزته وختطيه ،بقدر ما هي حماولة وعيه واستيعابه ،ومن مث تطويع الزمن
أو العصر لتلك املنجزات الفاعلة فيه واملش ّكلة لبنائه فهي " انقطاع عن املاضي من أجل احلاضر،
وانفصام عن احلاضر من أجل املستقبل".2
إهنا مبثابة الثورة على كل ما هو مألوف وسائد وحماولة التطلع إىل جماوزته قصد فهمه
واستيعابه ،وإذ نذهب هذا املنحى ال نقصد أبدا ما يدعيه أدعياء القطيعة املعرفية مع الرتاث ،بقدر
ما ندعو إىل جماوزته ،وعملية التجاوز ال تعين اإللغاء أو االمنّحاء أمام هذا املد احلضاري الوافد ،بقدر
ما ترمي إىل دفعه حنو مسايرة الركب على مجيع األصعدة سواء ما خيص العلوم التجريبية أو اإلنسانية
1إبراهيم القهواجيي :تأمالت يف احلداثة األدبية ،جملة أفق املغرب ،0002 ،السنة ،2ع ،0ص.22 :
2كمال أبو ديب :احلداثة ،السلطة ،النص ،جملة فصول القاهرة ،0082 ،ع، 2ص.20 :
280
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
من فن وإبداع وأدب ألن " ،املعرفة اإلنسانية تتقدم وتتضاعف بسرعة هائلة ،وهذا ما سيجعل هذه
1
اجملاالت ومنها الفن واألدب عرضة لرياح احلداثة".
يذهب أدونيس يف الطرح نفسه من أن رياح احلداثة ستهب على كافة اجملاالت وستدخل
مبدئيا يف نوع من الشراكة فيما بينها وفق حقيقة أساسية " هي أن احلداثة رؤيا جديدة ،وهي جوهريا
رؤيا تساؤل واحتجاج ،تساؤل حول املمكن واحتجاج على السائد ،فلحظة احلداثة هي حلظة التوتر،
أي التناقض والتصادم بني البىن السائدة يف اجملتمع وما تتطلبه حركته العميقة التغيريية من البىن اليت
2
تستجيب هلا وتتالءم معها".
ارتبطت احلداثة بظهور تلك التغريات احلاصلة على مستوى بنية الفكر البشري ،احلاصل من
جمموع املؤثرات والتطورات اليت حتقق وجودها يف اجملتمعات الغربية (البورجوازية) إبان القرن التاسع
اجنر عنه بالضرورة تطور اإلنسان الغريب يف عديد اجملاالت وفق سنة التطور اليت
عشر ،األمر الذي ّ
تالزم اإلنسان الفرد واجملتمع ،وعملية التطور يف حد ذاهتا هي مثرة من مثار احلداثة الغربية ،اليت
أصبحت فيما بعد قيمة إنسانية عليا ،خاصة عندما توفرت الشروط املوضوعية اليت أسهمت يف ذلك
التطور والتحول الذي وسم بالعاملية أو احلضارة الكونية ،بعد أن ألغت هذه احلداثة مجيع احلدود
املائزة بني الدول والشعوب ودعوهتا إىل كوهنا حضارة إنسانية؛ فلقد " كانت احلداثة حركة عاملية
ولّدهتا قوى خمتلفة بلغت ذراها يف دول خمتلفة وأزمان خمتلفة ،كان مكوثها يف بعض األقطار طويال
ويف بعضها اآلخر مؤقّتا ،يف بعض األقطار أساءت احلداثة إىل تراثها املوروث ،كالرتاث الرومنسي،
والفيكتوري والواقعي ،واالنطباعي ،ويف أقطار أخرى ع ّدت نفسها تطورا لذلك الرتاث ،للحداثة يف
احلقيقة ،مفاهيم خمتلفة ،ال حتددها سوى جغرافية املكان ،وما يقال عن املكان ميكن أن يقال عن
3
الزمان".
3مالكم براد بري وجيمس ماكفارلن :احلداثة -0021 ،0801 -دراسات مشرتكة :تر :مؤيد حسن فوزي ،دار املأمون
للرتمجة والنشر ،بغداد ،0082ص.20 ،21 :
281
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
واحلقيقة أن ميالد احلداثة الغربية كان نتاج ظروف خاصة مرت هبا أوروبا يف مرحلة معينة
وخلصائص وسياقات خاصة ،األمر الذي جيعل من عمليات التأصيل اليت يتغياها النقاد العرب اليوم
عملية حمفوفة باملخاطر واملزالق اليت قد تأيت على العملية برمتها؛ ذلك أن نشأة احلداثة الغربية كانت
رهنا مبعطيات التطور التأرخيي يف أوروبا ،وما الزمها من جتاذبات مهدت لعصر النهضة ،وما أصبح
يعرف فيما بعد بالرأمسالية بعد أن متكنت أوروبا من اإلنعتاق من الربقة الدوغماثية للكنيسة
األرثوذوكسية ،إن احلداثة مبعناها العام " تعين فرتة زمنية يف تاريخ الثقافة الغربية ،يعود تأرخيها إىل
عصر النهضة يف إيطاليا مع اإلصالح الديين ،أو من بداية تطور الظواهر العلمية والرياضية يف القرن
1
السابع عشر إىل الثورات السياسية يف أواخر القرن الثامن عشر".
تصور جديد للحياة والفن وهي إضافة إىل ذلك ،وعي آخر بتجليات انطالقا من هذا فاحلداثة ّ
احلياة ،ومروق وخروج عن السائد واملألوف ،ومغادرة تلك الثوابت ،واليقينيات اليت رزح حتتها العقل
البشري عقودا من الزمن ،هذه األخرية اليت جتعل من العقل اإلنساين ومن إبداعه ،عملية مكررة
وليست جديدة ألهنا تقتل فيه روح املبادرة وفاعلية التطور اإلنساين فكريا وفنيا وإيديولوجيا ،فاحلداثة
كما يقول املديين " :ليست تقليعة أو فلتة ،بل هي تأريخ حضاري (سياسي واجتماعي ) وثقايف
(فلسفي وإبداعي )".2
إضافة إىل هذا فاحلداثة مبفهومها الشامل " أدب التكنولوجيا والفن املتأيت من عدم االعرتاف
باألمور الواقعية التقليدية ،ومن حتطيم تكامل الشخصية الفردية ،إهنا الفن الذي ولّدته الفوضى
اللغوية القائمة على استهجان الظواهر العامة للغة ،إهنا الفن الذي حول الواقع إىل خيال نسيب ،إذا
احلداثة هي فن "التحديث" فن االبتعاد الصارم عن اجملتمع ،إهنا ،يعتقد الفنانون التعبرييون ،فن
الالفن الذي حيطم األطر التقليدية ويتبىن رغبات اإلنسان الفوضوية اليت ال حيدها حد ،هبذا املعىن ال
تكون احلداثة فن احلرية (فحسب) بل فن الضرورة ،لقد ودعت احلداثة العوامل الواقعية واحلضارية اليت
قام عليها فن القرن التاسع عشر ،واعتمدت بدال منها العوامل الغنائية املوغلة يف اخليال والتهكم اليت
1عبد اهلل املهنا :احلداثة و بعض العناصر احملدثة يف القصيدة العربية املعاصرة ،جملة عامل الفكر،اجمللس الوطين للثقافة والفنون
واآلداب ،الكويت ،مج ،00ع 2ص.12 :
2أمحد املديين :الصمت – احلداثة ،عزلة النص و هرطقة التنظري ،احلداثة األخرى ،جملة كتابات معاصرة،بريوت ،حزيران
،0002مج ،5ع ،08ص.50 :
282
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
متتلك القدرة على اإلبداع والتحطيم يف آن واحد 1".وال جمال للشك يف أن احلداثة يف نسختها
العربية هي امتداد طبيعي للحداثة الغربية ،وال مناص من عمليات املثاقفة اليت ترمي إىل إثراء الذات
مبا لدى اآلخر الغريب من عدة وعتاد ويتأتى ذلك من واقع إثبات اهلوية احلضارية ،وهذا ال ميكن
التغاضي عنه حبكم التحوالت الراهنة للعصر وهيمنة الصورة احلضارية اليت جتعل من عمليات التأثري
والتأثر حتمية ال حميص عنها ،وتنسحب عمليات التالقح احلضاري إىل األمة العربية كما األمم
األخرى ،باعتبار احلداثة مشروعا إنسانيا وعامليا جيعل من عمليات التهرب بال جدوى وال فائدة،
أضف إىل ذلك أن مبدأ التخطي واالنزياح عما هو سائد جيعل من عملية تصور احلداثة مغايرة ملا هو
متعارف عليه ،إ ْن على مستوى الشكل أو املضمون ،خاصة إذا كانت الدعوة للحداثة على مستوى
اإلبداع ،خاصة اإلبداع الشعري منه ألن احلداثة " يف كل شيء ال يف الشعر وحده ،موقف كياين من
احلياة يف املرحلة اليت جتتازها فهي ليست أشكاال يقتبسها اإلنسان أو زيا يتزين به ،ألن املهم هو ما
وراء األشكال واألزياء ،هذا املاوراء هو ما نسميه بالعقلية ،فإما أن تكون ذا عقلية حديثة أو ال
تكون ،مبعىن أن تأخذ باجلوهر ال باملنظر". 2
إ ّن ما يبتغي يوسف الخال تبيانه هنا هو إبراز أمهية اللحظة احلداثية يف عقل اإلنسان العريب
ينصب
ّ فال ميكن أن تعيش بعقل مشدود إىل املاضي وتدعي حداثتك ،إذ مناط األمر ومجاعه إمنا
حول هذا الوعاء (العقل) الذي هو أصدق قسمة بني الناس ،واحلداثة هبذا املفهوم ال تكون يف مكان
دون غريه ،إمنا الزمان واملكان مبثابة البوتقة اليت تنصهر فيها هذه احلداثة ،ومها الوعاء الذي تنوجد
فيه الذات ،وإذا سلمنا جدال مع أدونيس أن احلداثة جتربة ،ورؤيا تفرتض نشوء حقائق عن األشياء
والعامل جديدة مل يعرفها القدم ،فإ ّن من شأهنا أي الذات أن حتقق املعىن املقصود من احلداثة ،وهي
هبذا املفهوم الثاين ليست نقدا للقدمي فحسب إمنا هي خروج عليه ،وال تقتضي احلداثة تلك احلرية
املطلقة للفكر إمنا تتضمن أيضا حريات واسعة من ضمنها حرية اجلسد ،إهنا بصورة ما انفجار
3
املكبوت وحترره.
متاشيا مع هذا الطرح جتد احلداثة العربية ذاهتا ،يف كوهنا رؤيا إبداعية ،تتنصل من الثوابت
وتدعو إىل هدمها ونسفها وجتاوزها ،ألهنا تقتلع القارئ واملبدع على السواء من مجود العادة لتدفع به
إىل ارتياد مناطق جديدة مل يتم التفكري فيها من ذي قبل ،وأثناء عملية الدفع تلك تبعث فيه احلداثة
روح التجاوز والشك واالضطراب الذي جيب أن يستبدل به الفرد العريب ما كان مطمئنا إليه من
ثوابت ومعتقدات ،لتحصل يف النهاية عملية خلخلة ورجة لتلك املسلمات واليقينيات لتفكر الذات
مبا مل يتم التفكري فيه ،وتكتب ما مل تكتبه من قبل.
أحست
تتحدد عملية التالقح الفكري واحلضاري بني الذات واآلخر ،يف اللحظة التارخيية اليت ّ
يكمل هذا
اجنر عنه تطلّعها إىل ما ّ
فيها الذات بنوع من النقص على مستويات عديدة ،األمر الذي ّ
يعوضه على الصعيد املعريف والثقايف ،فانشطرت الذات نصفني والذت بالفرار زمنيا إىل النقص و ّ
املاضي ومكانيا إىل الغرب ،غري أن ما ميكن توصيفه حضاريا بعمليات املثاقفة إمنا متت يف إطار عام
أقل ما يقال عنه أنه شعور بالدونية والتخلف وعجز عن مسايرة هذه األمناط احلضارية والثقافية الذي
امتاز هبا الغرب معرفيا ،وانطالقا من هذا ال تكمن " أمهية املمارسة النقدية وخطورهتا وفاعليتها ..يف
مدى ج ّدهتا وج ّديتها و عمقها فحسب ،بل تكمن إضافة إىل ذلك يف مدى استجابتها حلركة الواقع
املتغرية ،فالثقافة املنشودة هي تلك اليت تسهم يف حلاملعيش وتلبية حاجاته األساسية املستج ّدة ّ
اإلشكاليات احلضارية لألمة".1
إ ّن عمليات التثاقف إمنا متت انطالقا من مسوغات حضارية ومعرفية ،أسهمت يف بلورة نوع
من الوعي النقدي الذي أسهم هو بدوره يف حماولة مسايرة الذات ملستجدات احلضارة السائدة ،األمر
الذي اجنر عنه ،حماولة صياغة أمشاج من النقد متت يف فرتات متباعدة ذلك أ ّن " التعامل املنهجي
النقدي ال ينحصر يف دراسة النصوص األدبية وحتليلها وكيفية تناوهلا بل ميتد ليوضح رؤية ما للفعل
البشري ومفهوما ما لإلنسان ،فاحلديث مثال عن وظيفة األدب يفضي بالضرورة للحديث عن مهمة
2
اإلنسان".
1شكري عزيز ماضي :من إشكاليات النقد العريب اجلديد-البنيوية-النقد األسطوري-مورفولوجيا السرد-مابعد البنيوية،
املؤسسة العربية للدراسات و النشر ،بريوت ،ط ،0002 ،0ص.081 ،020 :
2املرجع نفسه ،ص.080 :
284
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
إ ّن ما يش ّكل هذا النوع من الوعي إمنا هو احلرص على بلوغ مرحلة متقدمة مما بلغه الفكر
العاملي ،الذي استبدل الشك باليقني ،والتساؤل بالركون والقلق بالثبات ،األمر الذي حدا بالعديد
من الباحثني العرب احلداثيني _ وال نقول بكليتهم _ إىل حماولة املسايرة أوال والتمثل ثانيا واالستثمار
ثالثا ،هلذا الوافد اجلديد الذي زخرت به الساحة النقدية الغربية ،وما متخضت عنه من مناهج حداثية
على مستوى النقد ،والذي جتاوزت فيه الكثري من الطروحات النقدية الناجزة اجلاهزة ،واليت رزح حتتها
النقد السياقي طويال ،األمر الذي جعل من جماوزة هذا النمط من املناهج النقدية ضرورة ملحة أملتها
أسست ملرحلةمستجدات العصر وظروفه ،ومحلت معها طرائق جديدة يف عملية التناول النقديّ ،
تالية ومهمة يف آن معا ،طرحت على إثرها ما تداوله النقاد يف مرحلة النقد السياقي لتدفع بالعملية
النقدية قدما مما جعلها ترتاد مناطق أخرى مل يكن هلا عهد هبا.
تتأسس املعاجلة املعرفية إلشكالية تأصيل احلداثة يف اخلطاب النقدي العريب املعاصر ،من دافع
النزوع لتحقيق الذات العارفة جلملة من األهداف والغايات ،اليت جتعل من عملية إدراك األنا
خلصوصيتها الثقافية واملعرفية مبتغى ترمي الوصول إليه ،وحتقيقا هلذا املأرب يتحسس جابر عصفور
مفاصل احلداثة العربية بقوله " :احلداثة هي اللحظة اليت تتمرد فيها الذات العارفة ،فردا أو مجاعة
على طرائقها املعتادة يف اإلدراك ،شاعرة أهنا البد أن تبدأ يف فعل مساءلة جذرية لكل ما حوهلا،
على كل املستويات ،غري غافلة عن وضع نفسها هي موضع املساءلة ،ولذلك فاحلداثة تبدأ من
اللحظة اليت تنقسم فيها الذات العارفة على نفسها لتغدو فاعال للمساءلة ومفعوال هبا ،وذلك يف
الوقت الذي جتعل من العامل الذي تدركه موضوعا للمساءلة نفسها وال حداثة هبذا املعىن إال من
1
منظور هذه الداللة املتكاملة اليت جتمع بني الذات وموضوعها يف األنا والعامل".
تنعقد الصلة بني الذات واملوضوع يف اللحظة اليت تنمحي فيها احلدود املائزة بينهما فيغدو فعل
املعرفة متبادال بل متماهيا يف ثوب ظاهرايت لتغدو الذات موضوعا واملوضوع ذاتا .هذا ما يؤسس إىل
ميالد حداثة فاعلة متمردة رافضة للثبات والسكون ،مما حدا بالناقد إىل التأكيد بقوله" :ال ميكن
التحدث عن احلداثة من حيث هي فعل معريف جذري وشامل إال من منظور متردها ورفضها اجلذري
1جابر عصفور :حنو ثقافة مغايرة ،الدار املصرية اللبنانية ،ط ،3118 ،0ص.02 :
285
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الشامل لكل شيء ،ال باملعىن العبثي ،أو التمرد من أجل التمرد ،وإمنا باملعىن القصدي الذي يهدف
إىل االنتقال بكل شيء من شروط الضرورة إىل آفاق احلرية ،من واقع التخلف إىل إمكانات التقدم،
من اإلظالم إىل االستنارة ،من احلجر إىل حرية الفكر إىل إطالق سراح الفكر بال قيود".1
إن اللحظة احلداثية هبذا الطرح إمنا متنح لنفسها أفقا معرفيا خاصا هبا ،ما جيعلها ترفض املهادنة
والرتويض قصد األلفة والعادة ،إمنا حصل هلا شبه انقطاع معريف لكل ما هو موجود والتطلع دائما
لنبذ املاضي وكل ما يتصل به من ناحية أو أخرى .ويف رفضه هلذا الرتاث بكل زمخه ومحولته املعرفية،
ونصرته لكل ما هو جديد ووافد قصد حتقيق الغاية من احلداثة ،يكتب عصفور قائال ":العالمة
األوىل للحظة احلداثة هي القياس على إمكانات الزمن القادم وليس القياس على واقع احلاضر
الساكن أو مرياث املاضي الثابت" ،2وهو األمر الذي دأب عصفور إىل املناداة به يف كل مناسبة من
مناسبات الكتابة النقدية عنده.
يعرج على اجتاهات احلداثة يف مظاهنا القدمية ،فإنه ال جيد مانعا من تعداد أربعة أما عندما ّ
مذاهب أواجتاهات يرى بأهنا صنعت لنفسها يف زماهنا نسقا فكريا ومعرفيا ،بغض الناظر عن بعده
عن العقل أو قربه منه ،فيقول " :ميكن أن نتحدث يف تراثنا العريب ،مثال عن أربعة تيارات :تيار
العقالنية الذي ميثله املعتزلة والفالسفة ،والتيار اإلنساين الروحي الذي ميثله املتصوفة ،والتيار العلمي
التجرييب الذي ميثله أشباه :جابر بن حيان واحلسن بن اهليثم وغريمها ،وأخريا ،التيار الذي يضم أهل
السنة مبذاهبهم األربعة من ناحية ،والتيار السلفي الذي حتول إىل تيار إتباعي جامد ،حيول دون
التقدم من ناحية مقابلة".3
غري أن جابر عصفور ال يلبث على رأي نقدي ومعريف ،حىت يعود أدراجه إىل نقضه أو يف
حاالت أخرى إىل تعديله وحتويره ،ففي شروط احلداثة ولوازمها الفاعلة ينكفئ عصفور الئذا بالرتاث
لعلمه بثرائه وغناه؛ فعلى الكثري من املستويات اليت تدفع بالذات إىل حماولة اجملاوزة ،وحىت مسايرة
ركب احلداثيني سواء كانوا غربا أم عربا ،يكتب قائال... ":ال تنفصل عن املعرفة بالرتاث -يف هذا
اجلانب -املعرفة باللحظة التارخيية اليت يتحرك فيها وهبا فعل احلداثة ،وذلك بكل شروطها السياسية
واالجتماعية والثقافية ،اليت البد من االنطالق منها ،والبحث عن صيغ جديدة فاعلة ملواجهتها من
ناحية ،وجماوزهتا من ناحية مقابلة ،ويعين ذلك عدم القفز على املراحل التارخيية ،أو حرقها ،أو
جتاهلها :فال ميكن االنتقال من فكر جمتمع تقليدي ،غارق يف التخلف ،إىل فكر جمتمع ما بعد
حداثي ،وحنن مل ندخل أبواب احلداثة أو نقرع أبواهبا بعد ،وال نزال نعيش يف زمن ما قبل القبل من
1
احلداثة".
تتأكد فاعلية الوعي باللحظة التارخيية يف مدى إسهامها يف التأثري مبنجزاهتا النظرية
واملمارساتية ،لذلك تباينت عمليات التأثري من علم عريب إىل آخر ،انطالقا من نسبة التمثل والوعي
بإشكاليات الراهن ،ومدى اإلسهام يف بلورة حلول ناجعة ناجحة .ومن لوازم احلداثة وشرائطها
كذلك كما يتصور جابر عصفور " أن الوعي النقدي وروح املساءلة ميكن أن تكون مدخال أوليا
2
جملاوزة هذا القصور املعيب ،فنحن لسنا يف حاجة إىل صور مكرورة وإمنا إىل عقول مبدعة".
يتموضع النقد الذي وجهه "عبد العزيز محودة" إىل مجلة من النقاد العرب احلداثيني ،من
وتلمس مواطن األصالة فيهم ،من ّقبا يف اآلن نفسه
منطلق التعريف بانتماءاهتم الفكرية واإليديولوجيةّ ،
عن إسهاماهتم األكادميية واملعرفية يف مقاربتهم للرتاث النقدي والبالغي العريب ،ومدى فاعلية هذه
قل أن جند له مثيال عند غريهم ،يقول محودة":املقاربات ،وما أضفته على الساحة املعرفية من ثراء ّ
...فانبهار جابر عصفور مثال بإجنازات العقل الغريب منذ تفتحت عيناه ،كما يقول عام 0022على
البنيوية ،ال يقابله احتقار أو تقليل من شأن الرتاث النقدي العريب ،ودراسات الرجل يف الرتاث
النقدي ملا يقرب من ثالثني عاما يف ذلك اجملال تعترب من بني أعمق الدراسات األكادميية وأكثرها
جدية واحرتاما للعقل العريب ،لكنه ال خيتلف كثريا عن بقية احلداثيني العرب يف انبهارهم بالثقافة
3
الغربية عامة واحلداثة خاصة".
يقف جابر عصفور موقفا ال خيلو من أي شك -رغم ما شابه من ضبابية -من شروط احلداثة
يصرح بأن من أسباب جناح احلداثة يف نسختها الغربية
العربية ومنطلقاهتا وأجهزهتا املفاهيمية ،عندما ّ
هو التخلص من عبء الرتاث القدمي بكل ما حتمله هذه العبارة من معىن ،واستبدال احلاضر باملاضي
وخاصة املواضع الثابتة فيه ،وتتمازج رؤيته مع الرؤية املعهودة عند أدونيس لتشكال معا تناسقا تاما
- على مستوى االصطالح أو املفاهيم ،يقول جابر عصفور ... " :مل يعد اهلدف من قراءة الرتاث
يف النمط اجلديد -استعادة املاضي بكل ما يقرتن به من قيم مجالية وأدبية ،فقد أضحت هذه
املبادئ والقيم قرينة إطار مرجعي مرفوض ،صار التمرد عليه قرين التحرر الفردي الذي ينطلق من
إطار مرجعي مضاد ... ،وإذا كان اإلطار املرجعي اجلديد يعين استبدال احلاضر باملاضي ،والغرب
املتقدم بالشرق املتخلف ،فإنه كان يعين بداية أو قطيعة جادة مع الرتاث بوجه عام ،ومن مثّ بداية
تعويل الناقد العريب احلديث على أصول نقدية ليست من صنعه ،وال من تراثه ،بل من صنع الغرب
1
املتق ّدم الذي أصبح اللحاق به -منذ ذلك الوقت – حالّ ألزمة التخلف".
إن هذه البدائل اليت يطرحها عصفور ما كانت لتكون لو أن الناقد التفت حقيقة إىل ذلك
الزخم املعريف الذي ميثله الرتاث العريب ،والنظر إليه نظرة املتلهف عليه والذائد عنه ،ال نظرة املسرتيب
به والشاك بإمكاناته ،وهو ما حدا به أن يذهب املذهب نفسه الذي أعلنه قسطاكي الحمصي يف
صرح قائال ":مل يكن النقد من العلوم املعرفية عند العرب يف عصر من مطلع القرن العشرين حني ّ
العصور ،مع أن االنتقاد من الغرائز اليت عرفوا هبا يف كل زمن ،فلم حيددوا له رمسا وال اشتقوا من امسه
2
فنا ،غري ما هو معلوم عندهم من نقد الدراهم ،أي متييز ّجيدها من رديئها".
األويل واملبدئي ملاهية النقد ،هو ماجعل جابر عصفور ينعى على الثقافة العربية
إ ّن هذا الفهم ّ
عدم انفتاحها على اآلخر الغريب واالستعارة منه ما من شأنه أن حيقق مطاحمها يف بلوغ مراتب سامقة
يف مدارج النقد واملعرفة ،ذلك أن الرجل يدفع بعملية األخذ واملثاقفة إىل آمادها البعيدة ،وجيعل من
1جابر عصفور :قراءة الرتاث النقدي ،دار سعاد الصباح ،الكويت ،ط ،0003 ،0ص.28 ،22 :
2قسطاكي احلمصي :منهل الوراد يف علم االنتقاد ،القاهرة ،0012،ج ،0ص ،00 :نقال عن جابر عصفور :قراءة الرتاث
النقدي ،ص.000 :
288
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
ينجر عنه حصول ملكة الفهم عملية استحضار الرتاث عملية ذات قيمة معرفية وثقافية ،األمر الذي ّ
واالستيعاب ،ومن مث املسايرة ال من أجل الثبات واإلستكانة إمنا من أجل التجاوز املثمر واملفيد ،وهو
ما جعله يقتنع جازما أن" هذا االشتباك بني "اآلخر" و"الرتاث" يف وعينا جيعل من حضورمها حضورا
متبادال ،على حنو تغدو معه كل قراءة للرتاث قراءة لآلخر ،وكل قراءة لآلخر قراءة للرتاث يف الوقت
نفسه ،إذ بقدر ما يؤثر الرتاث يف تعرفنا اآلخر وإدراكه فإن اآلخر – بدوره -يؤثر يف تعرفنا الرتاث
1
وإدراكه".
يعترب جابر عصفور من بني النقاد احلداثيني العرب األوائل ،الذين انفتحوا واستقبلوا احلداثة
الغربية وعملوا على استيعاهبا وتوصيلها للقارئ العريب ،سواء أكان ناقدا أم مبدعا ،وما من شك يف
تلك القدرات املعرفية والفكرية واملؤهالت العلمية اهلائلة اليت يتوفر عليها الرجل ،سواء يف جمال الرتمجة
أو االستيعاب املعريف والنقدي لطروحات احلداثة الغربية ،أو مقوالت الرتاث يف شقه البالغي
والنقدي ،إال أن الرجل " مثقف يفهم ما يقرأ ويعرف جيدا ما يكتب لكنه خيتار عن وعي كامل أن
2
يتحدى قدرات القارئ على الفهم ،أي خيتار الغموض واإلهبام واملراوغة منهجا يف الكتابة".
وسواء اتفقنا مع هذا الطرح الذي انتهجه حمودة أم ال ،يبقى جابر عصفور من بني أهم
النقاد العرب املعاصرين يف جمال التنظري واملمارسة ،فقد تعددت مؤلفات الرجل بني كتابات تراثية
تبحث يف العمق من قضايا الرتاث ،خاصة النقدي منه ،ومؤلفات أخرى جارى فيها كوكبة النقاد
الغربيني والعرب ،الذين تعمقوا جنس الرواية أو الشعر بالدراسة والتمحيص واالستنطاق ويوظفوا
عددا ال يستهان به من املناهج النقدية اليت عجت هبا ساحة النقد العاملي املعاصر.
فعند تناوله قضية نقد النقد أو تاريخ النقد األديب ،يلجأ جابر عصفور إىل استعمال لغة مغايرة
ملا ألفه قارئه ،إذ تتبدى لغته غامضة جراء االستعمال املهمش للغة الواصفة ،ورمبا يرجع ذلك إىل
انبهاره مبنجزات احلضارة الغربية ممثلة يف هذه اإلفرازات احلداثية على مستوى االستعمال والتداول
اللغوي ،يقول... ":فما نعرفه من تاريخ النقد األديب بوجه عام هو أن كل تغيري حاسم يف جمال
املعرفة األدبية ،يقرتن بعملية انقطاع معريف ،وأن هذا االنقطاع ال يتأسس إال بانعكاس النقد على
289
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
نفسه ،وازدواج حركته اليت يتحول هبا من لغة واصفة ملوضوع هو غريها إىل لغة واصفة ملوضوع هو
إياها ،باملعىن الذي يغدو معه النقد لغة واصفة ،موضوعها هو عني ذاهتا وذاهتا هي عني موضوعها،
1
الذي يدخل عصرا جديدا أو مرحلة جديدة ،بتغري نظرة الذات إليه أو حتديقها فيه".
إ ّن نظرة فاحصة ملفردات هذا االقتباس جتعل القارئ يرتبك جراء متاثالت هذا االستعمال
اللغوي وانزياحاته ،فال يسلس له فهم املبتغى من وراء ذلك إال بعد جهد رمبا يكون مضاعفا ،وما
2
من شك يف أن هذا اإلدعاء فلسفي دون وجود أي فلسفة حقيقية أو عمق يف التناول.
يكتب عصفور عن منوذج حداثي ممثال يف قراءة كمال أبي ديب لعبد القاهر الجرجاني
قائال ":ولكنه الوصل الذي سرعان ما ينقطع ليتأكد حضور القارئ يف حدث اتصال فعال ،يثبت
دور املستقبل هلذه الرسالة ،ومن مث دور القارئ املعاصر يف عملية جتعل اهلدف من القراءة مرهونا
بغائية املشروع البنيوي كله ،وذلك هو ما واجه ناقدا مثل كمال أيب ديب إىل إعادة قراءة نظرية
اجلرجاين يف الصورة الشعرية ،0020ليثبت أن عبد القاهر هو الناقد الذي يؤسس عمله مدخال فذا
إىل بنية اللغة التعبريية بوجه عام والصورة الشعرية بوجه خاص ،فعبد القاهر يف قراءة كمال أيب ديب
هو الناقد الذي يرتكز اهتمامه يف املنهج احملايث للتحليل األديب ،وليس املنهج اخلارجي وعمله منوذج
مفيد للناقد البنيوي ،خصوصا ما جيده هذا الناقد من اهتمام عميق بالبنية الشعرية عند عبد القاهر
حيث الرتكيز على القصيدة بوصفها نشاطا لغويا ومجاعا من العالمات أو بوصفها نسقا من عالمات
1
لغوية دالة".
إ ّن ما يروم عصفور إثباته من خالل هذا االقتباس الطويل نسبيا ،هو ادعاءه صحة االجتاه
البنيوي ،وليس إلثبات أن النقد العريب القدمي -ممثال يف عبد القاهر اجلرجاين -ميثّل مدرسة نقدية
قائمة بذاهتا ،واحلال أن قراءته تكشف عن انزالقات خطرية يف املشروع البنيوي أليب ديب ،الذي
يهد ف إىل ممارسة تغييب الرتاث من العملية النقدية احلداثية ،مبعىن أن الرجل يريد أن يثبت توجهه
البنيوي باالتكاء واالعتماد على الرتاث ممثال يف طروحات عبد القاهر البالغية ،دون أن يكلّف نفسه
عناء البحث عن اجلذور الرتاثية ملا مسي فيما بعد بالبنيوية ،واختذ من الصورة يف البحث البالغي عند
عبد القاهر منطلقا لتوجهه البنيوي واستثماره جلهود هذا البالغي ،إمنا هي من قبيل الوسيلة وليس
الغاية ،إال أن قراءة عصفور تنم عن وسيلة معرفية يف ضبط هذه القضايا النقدية ،ألن عصفور كما
يكتب عبد العزيز حمودة " :من بني أفضل من قدموا قراءات مستنرية للرتاث النقدي العريب
وأغزرهم إنتاجا يف هذا االجتاه ... ،مل يتوقف كثريا أو قليال عند خطورة قراءة أيب ديب للجرجاين،
وعلى الرغم من أنه يف أكثر من مناسبة يؤكد أمهية الوسطية اليت تفرض القطيعة املعرفية مع الرتاث،
وهي حينما تفعل ذلك فإن اهلدف هو فهم املاضي بصورة أفضل من ناحية ،وحتقيق فهم أفضل يف
الوقت نفسه للرتاث ذاته عن طريق استخدام املنهجيات واآلليات احلديثة يف التعامل معه من ناحية
2
أخرى".
إن دعوة عصفور هلذه الوسطية أملتها عليه ظروف االستقبال اآليل الصمين ملختلف آليات
املناهج الغربية من قبل بعض النقاد احلداثيني العرب ،الذين صاغوا توجهاهتم النقدية بناء على هذه
اإلفرازات املعرفية من الثقافة الغربية ،فلم جيد عصفور بدًّا من أن يدعو إىل وسطية يف العملية النقدية
ليطعم به خمزونه الذايت،
متسك بالرتاث ومنجزاته بيد وبيد أخرى ما أتى به الوافد من الثقافة الغربيةّ ،
غري أن ما يالحظ على هذه الدعوة أهنا تسقط يف الكثري من األحيان يف فخ التلفيق الذي جير إىل
حد التناقض ،كما يكتب عبد العزيز حمودة متتبعا قراءة عصفور ملثل هذه املشاريع... " :مل ينزلق
إىل فخ قراءة الرتاث هبدف تأسيس شرعية البنيوية أو احلداثة ،وإذا كنا يف بعض األحيان نرصد عنده
بعض التناقضات فذلك ألن تناقضاته هي تناقضات جيل احلداثيني بأكمله تقريبا بعد أن وجدوا
أنفسهم يتبنون احلداثة بتمردها على القدمي واملألوف ،ودعوهتا للقطيعة مع املاضي مع الرغبة يف حتقيق
1
األصالة مهما اختلفنا على معناها ودرجتها".
استتباعا هلذا فإن الكثرة املطلقة من هذه املصطلحات املثارة يف هذا اجلدل ،مل يتم التعامل
معها بشكل مستقيم على األقل عند باقي احلداثيني اآلخرين ،إال أن عصفور ويف تبنيه هلذه الوسطية
املعرفية يعي متاما احلدود الفاصلة واملائزة بني األصالة مثال واملعاصرة ،بني الرتاث واحلداثة ،وهي حدود
الردة يف حقها بل بإيالئها االهتمام كله ،واإلفادة مما عند
ال ميكن القفز عليها إلظهار هذا النوع من ّ
اآلخر من أدوات وآليات ،تساعد على بلورة الوعي النقدي ،خاصة املمارسي منه كما هو احلال يف
استقبال هذه االستعارات اليت تزيد من وعينا برتاثنا ،يقول... ":ويبدو أنه يلزم يل -حىت أستبعد أي
سوء فهم -تأكيد الوجه املوجب ألمثال هذه االستعارات من حيث كوهنا أدوات ضرورية ال سبيل
إىل االستغناء عنها أو جتاهلها ،أو اجلهل هبا يف تطوير كل معرفة قائمة بالرتاث ،أو إنتاج أي معرفة
جديدة به ،على األقل إىل أن تستطيع ثقافتنا أن تصل إىل الطور الذي ميكنها من اإلنتاج الذايت ملثل
هذه األدوات ،وحىت لو وصلت ثقافيا إىل هذا الطور ،فإن اجلدل مع "اآلخر" املنتج هلذه االستعارات
سيظل -كما كان دائما -شرطا أساسيا الكتمال وعي األنا بنفسها من ناحية ،وقدرهتا على تطوير
2
نفسها باحلوار مع غريها من ناحية ثابتة".
ولعل من أهم املصطلحات واملفاهيم اليت نالت حظّها يف التجربة النقدية عند جابر عصفور
وجعلته يقارب الرتاث العريب مقاربة متميزة جند مصطلح "الذاكرة" اليت تعمل دائما على إعادة
استحضار نقاط مهمة يف الرتاث بغية قراءهتا واستثمارها نظرا للحاجة امللحة لذلك فالذاكرة " ال
تستبقي إال ما سبق أن أثارها يف هذه اللحظة أو تلك من حلظات تارخيها املتعاقب ،وال تسرتجع إال
ما يتجسد يف وعيها نتيجة فعل االستعادة ...ولذلك فهي ال تتحرك من حاضرها إىل ماضيها إال ما
ينجذب من خمزون هذا املاضي إىل مواقف احلاضر وأحداثه 3".تنتقل الذاكرة أثناء القيام بعملها بني
3جابر عصفور :ذاكرة الشعر ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،مصر ، 3115 ،ص.02 :
292
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
حمطات كثرية ،ويف عملية االستعادة هذه يكون عملها انتقاليا وانتقائيا يف الوقت نفسه ،ألهنا قد
حتتوي على عناصر اإلتباع ،وذلك نتيجة ما حيفزها من حمطات احلاضر ،حتفزها على القيام هبذه
احلركة االرتدادية من احلاضر إىل املاضي والعكس ،لتحرك خمزوهنا املاضي الذي يبقى النبع الذي يزود
احلاضر مبا حيتاج إليه.
وعملية اإلستعادة هذه هي اليت رفدت بعض الشعراء اإلحيائيني إىل إعادة بعث الرتاث
واملاضي من جديد ،ولكن يف ثوب آخر ،ما يؤسس يف مرحلة الحقة ملا عرف يف أجبديات اللغويات
احلديثة عند دي سوسير ) )F. De Saussureوحىت عند رائد إسرتاتيجية التفكيك جاك دريدا
( )J.Derridaبثنائية احلضور والغياب ،على أساس أن ما تستعيده الذاكرة من خطاب يكون
حاضرا ويف الوقت نفسه يوحي إىل نقيضه الغائب ،وبضدها تتباين األشياء كما يقال ،أما عمليات
اإلحياء اليت نادى هبا بعض شعراء التيار اإلحيائي ،فإهنا ترمي إىل إعادة بعث تلك الكنوز الدفينة،
وهي دعوة إىل اسرتجاع ذلك املاضي الزاهر والتأسي بأجماده ،إال أن ذلك كله حسب جابر عصفور
يدخل حتت مسمى آخر ،نادى به النقد املعاصر وهو ما عرف بـ"التناص" )(Intertextualité
الذي برز إىل سطح الدراسات احلداثية -والسيميائية على وجه اخلصوص -يف أعقاب املد البنيوي،
واملناداة بفتح الدوال على تعددية املدلوالت ،مبا أصبح يعرف بالعالمات على مستوى اللغة ،واليت
يتجسد الدال مبدلوله األحادي ،أما على مستوى اخلطاب فإن واحدية الدوال ال يقابلها بالضرورة
واحدية املدلوالت ،إمنا تعددية أو الهنائية الدالالت كما نادى بذلك أصحاب إسرتاتيجية
التفكيك 1.والتناص بذلك غياب للمعىن األصلي وهو " تلك التعالقات املتنامية -على حنو ملموس
أو خفي -لنصوص جملوبة أو متسربة يف الالوعي ،حتل يف نص حاضر ،ومتنحه من محولتها اليت
ميتصها أو يتقاطع معها أو يتجاوزها ،عرب خربة حاضرة وتفاعل مستمر ،مينح النص إنتاجية عالية،
ويدفع به إىل مناطق رؤياوية جديدة وخصبة 2".ويغدوا النص انطالقا من هذا التعريف شبكة من
العالقات اليت ختتزن مجلة من النصوص سواء أكان صاحبها واعيا هبا أم كانت متسربة يف ال وعيه،
1ينظر :عمر مهيبل :البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر ،ديوان املطبوعات اجلامعية ،اجلزائر ،ط ،3101 ،2ص 322 :إىل
.322
2عبد العزيز محودة :املرايا احملدبة -من البنيوية إىل التفكيك ،-عامل املعرفة ،اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت،
،0008ع ،323ص.223 :
293
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
األمر الذي حدا بجابر عصفور إىل نفي أي عملية تطابق بني التناص وعملية اإلحياء اليت واكبت
جهود مجلة من الشعراء العرب احملدثني ،ذلك أن التماثل أو التطابق يلغي الوظيفة اجلمالية واملعرفية
آللية التناص ويسلخ العملية اإلبداعية والنقدية على السواء من أي مؤثر فين ومجايل ،والسبب يف نظر
عصفور " يرجع إىل أن التناص أمشل من أن خيتزله املعىن الضيق للتقليد ،وأعقد من أن تستوعبه
التقنيات احملدودة لوسائل التضمني أو اإلقتباس أو اإلستلحاق أو املعارضة أو املوازنة اليت ينطوي
1
عليها البعد الرتاثي من شعر اإلحياء".
تتباين داللة املصطلحني تباينا جليا ،فالتناص أمشل من اإلحياء ،ألن األخري فعل اسرتجاع
سليب للرتاث وهو تقليد الالحق للسابق ،يف حني أن التناص نظرية معرفية من نظريات احلداثة الغربية
صري هذه النظرية نقدية وأدبية فيما بعد.
ترجع يف أصوهلا إىل مرجعيات فلسفية وفكرية هي من ّ
تتأسس نظرة جابر عصفور النقدية هلذه املصطلحات من أمهية التمييز بينها ،وحماولة وعي
منطلقاهتا وأساساهتا املعرفية واملفهومية ،وحياول أن يسرتشد بأهم الطروحات النقدية املعاصرة اليت تروم
التقييد ملثل هذه املصطلحات ،ويعود السبب إىل تأكيده وجود التناص يف شعر اإلحيائيني إىل
املفهوم املعاصر ملصطلح النص الذي استثمر معناه من بارت ( . 2)R.Barthesهذا النص الذي
يقتضي جمموعة من النصوص املتداخلة واملتشابكة واليت تش ّكل نسيجا من االقتباسات السابقة عليه.
أما املفهوم املصطلحي للتناص عنده ،فيستثمر املفهوم الذي نادت به جوليا كريستيفا
( )J.Kristevaيقول " :وأعرتف ابتداء أنين أفهم التناص مبعىن قريب إىل ح ّد ما ،ومع بعض
حتول من نسق (أواالحرتاس ،من املعىن الذي حددته جوليا كريستيفا ( ، )Julia Kristevaفالتناص ّ
أنساق) عالمة إىل نسق آخر (أو أنساق) على حنو يستلزم منطوقا جديدا ،منطوقا حتدده العالقة
إن التناص يعمل على حتييد صاحب النص مما يفتح الباب واسعا حنو تعددية الداللة ،بل ال
هنائيتها خاصة عند أصحاب إسرتاتيجية التفكيك ،ويف عملية العزل هذه يغيب املعىن العام للنص،
الذي يرتاجع تدرجييا حنو اخللف مفسحا اجملال لتبوء القارئ مكانة مرموقة تؤهله إىل حماولة فك
شفرات النص الراهن ،والتأسيس مليالد نص جديد يكون بؤرة مشعة ملختلف التأويالت والدالالت،
وتنتقل فيه الداللة من الوجود بالقوة إىل الوجود بالفعل.
غري أن املفهوم السابق للتناص كما ذهب إىل ذلك عصفور متأثرا بتعريفات جوليا كريستيفا،
يرتاجع عنه يف تعريف آخر له ،عندما يذهب إىل عدم التطابق بني مفهوم التناص واإلحياء فيقول":
وأنا ال أشري إىل التناص مبعناه اخلاص ،الذي أسسته جوليا كريستيفا ،وكانت تعين به التحول من
نظام (أو أنظمة) عالمة إىل نظام آخر (أو أنظمة) حبيث يستلزم التحول منطوقا جديدا ،وإمنا باملعىن
متضمنا وفرة من نصوص مغايرة ميثلها بقدر ما يتحدد هبا على مستوياتالعام الذي جيعل كل نص ّ
متعددة ...فالتناص حركة مركبة يف النص تنطوي على السلب أو اإلجياب ،وتكد عالقات املشاهبة
بالنصوص أو املخالفة القصدية هلا 2".انطالقا من هذا التعريف اجلديد للتناص نلحظ نقضا واضحا
للتعريف األول ،الذي ارتضاه عصفور للتناص ،فالرجل يذهب مذهبا آخر يف مطابقة مفهوم التناص
ملفهوم اإلحياء على أساس من تلك العالقات احلضورية واملشاهبة بينهما.
إن النص املتناص عند جابر عصفور" فسيفساء من االقتباسات واإلمياءات والعالمات
والشفرات واإلشارات اليت تضعه يف موضعه الذي حيدد هويته اخلالفية ،حىت يف أحوال تشاهبه مع
3
غريه داخل الشبكة اهلائلة اليت ال ح ّد هلا من النصوص اإلبداعية وغري اإلبداعية".
حياول عصفور النأي بنفسه عن تلك األحكام الناجزة اجلاهزة واإلسقاطات الفجة ،اليت ترجع
كل ما لدى الغرب إىل أصول عربية ،وحياول أن ينصف هذه القسمة ولو على مستوى املفاضلة بني
كل ما هو العقلني الغريب والعريب ،األمر الذي جعله ال يقف موقفا منحازا إىل كل ما هو عريب ضد ّ
غريب ،لذلك ال يطابق بني هذه املفاهيم -التناص ،اإلحياء...-اخل .ويذهب إىل أن " أي مقاربة
للرتاث تتم من داخل اجملتمع ال من خارجه ،ويف حلظة تارخيية هلا خصوصيتها وأن هلذه املقاربة
جانب من احلياة الفكرية هلذا اجملتمع ،ومن مثّة احلياة االجتماعية ككل ...وبداية ذلك أن نكف عن
التوجه إليه بوصفه األصل األمثل ،الذي البد أن نعود إليه لنستمد منه املربر ملا حولنا وما يستجد يف
1
حياتنا ،إنه جهد بشري متغاير اخلواص".
لكل حضارة وثقافة خصوصيتها وفرادهتا اليت هبا تتغاير وتتمايز ،فالرتاث العريب له ظروفه
التارخيية والسياقية ،اليت أوجدته وله سياقاته الفكرية والعلمية اليت نقاربه هبا ،واآلخر الغريب له ظروفه
اليت أنتجت إجراءاته وآلياته .فال جمال للمزايدة واملفاخرة اليت من شأهنا أن تقتل كل إبداع ونقد بنّاء.
إ ّن ما حياول عصفور الدعوة إليه يف تتبعه ملثل هذه املفاهيم واملصطلحات الثقافية العربية
والغربية ،إمنا هو إبراز فاعلية القراءة النقدية اهلادفة إىل التأصيل النظري ،والسري به حنو مواكبة سري
احلضارة الراقية ،إذ بالقراءة اهلادفة والتجاوزية وحدها نتحرر من أسر الرتاث ،وإطباقه على رقابنا مما
جيعل من عملية املساءلة ذات جدوى وفاعلية ،فكلما جعلنا تلك املسافة الواقية اليت متنعنا الذوبان
واالمنحاء فيه ،كلما ضمنا تلك النتائج القمينة بإبراز كنوزه ونفائسه ،ألننا ال نبحث يف الرتاث عن
آمالنا ورغباتنا فحسب ،إمنا نبحث فيه عن استقالله عنا واستقاللنا عنه .األمر الذي ميكننا من
مقاربته مقاربة موضوعية هادفة ،وذلك ما يؤسس إىل إبراز حداثتنا العربية اليت رمبا تتغاير عن نظريهتا
الغربية ،لكننا يف النهاية نسهم يف صناعة حداثة إنسانية عامة مع كل الفاعلني يف ساحة احلضارة،
اإلحماء يف اآلخر انطالقا من مع مراعاة جوانب اخلصوصية والتميز والتفرد اليت متنع عملية الذوبان و ّ
أ ّن " العالقة بني مفاهيم احلداثة األوربية ومفاهيم احلداثة العربية ال تنطوي على تشابه األصل
والصورة إال عند من يؤمن -واعيا أو غري واع -بدونية األنا يف حضرة اآلخر من ناحية ،ومن يفرغ
كل حداثة من سياقها التارخيي من ناحية ثانية 2".ذلك ألن عملية التفرد هي من تصنع للذات
كينونتها ووجودها،
يتلمس جابر عصفور مفاصل التماس يف تأثري احلضارة الغربية يف نظريهتا العربية ،وحياول
جاهدا أن ينفي أي مرآوية يف عملية التأثري املعريف للحداثة الغربية ،ألن األمر حسب نظره جيعل من
اآلخر الغريب فاعال واألنا العربية منفعال ،وهو ما ال يقول به عصفور على األقل يف الوقت الراهن،
فكل حداثة هلا شرطها التارخيي وحلظتها الزمنية اليت أسهمت يف بلورهتا وإجيادها ،وانطالقا من هذا
فإن " لكل حداثة منوذجها اخلاص ،نسقها املعريف املتميز ،أسئلتها اليت ارتبطت هبمومها املتعينة،
وهي ال تتشابه مع غريها من احلداثات أو تتجاوب ،أو تؤثر ،إال من خصوصيتها اليت حتدد مالحمها
1
العامة اليت تلتقي فيها وغريها".
يف تتبعه إلسهامات جابر عصفور النقدية خاصة ما تعلق منها بطروحاته النقدية ملسألة
احلداثة ،يذهب عبد العزيز حمودة إىل اعتباره من بني النقاد األوائل الذين أسهموا يف بلورة وعي
نقدي مب ّكر بإشكالية تأصيل احلداثة يف اخلطاب النقدي العريب املعاصر ،يقول حمودة " :كان قد
أصبح يف أثناءها من أكرب الداعني للحداثة واملروجني هلا كمدخل لالستنارة ،األمر الذي جعله عن
جدارة أكثر الوجوه ألفة يف احملافل العلمية يف العامل األديب ،ويف نفس الوقت استطاع أن يتقن
2
أساليب اللغة املراوغة اليت أصبحت الزمة من أهم لوازم نقد احلداثة وما بعد احلداثة".
غري أن هذا االعرتاض من قبل عبد العزيز حمودة هو يف حقيقة األمر من قبيل حتصيل
احلاصل ،ذلك أن جابر عصفور حقيقة يع ّد من أبرز النقاد العرب احملدثني ،الذين نادوا باحلداثة يف
الثقافة والنقد العربيني ،وال سبيل إىل إنكار ذلك أو جحوده ،إال أ ّن مدار القضية يعود يف أساسها
إىل مدى فاعلية طروحاته يف نقل الدراسات النقدية احلداثية العربية ،ومدى إسهامه يف بلورة
مفاهيمها ومقوالهتا ،وحماولة إجياد البدائل املصطلحية واملفاهيمية للعملية النقدية برمتها ،مث يتتبع
حمودة التعريفات التأسيسية اليت تناوهلا الناقد ملصطلح احلداثة الشعرية ،ومدى اإلضافة النوعية اليت
ميكن أن نعثر عليها يف هذه التعريفات.
غري أن األمر ال يعدو كونه تكرارا وإعادة ملقوالت عامة يف تعريف الشعر تراثيا ،يقول جابر
عصفور ... ":لنقل إن احلداثة يف الشعر ال تقوم على ثنائية يتعارض فيها املاضي مع احلاضر ،يف
حمور زمين فحسب ،بل تقوم على أساس من تعارض آخر يف احلاضر نفسه ،على مستويات متعددة،
والشاعر احملدث هبذا الفهم ،هو الشاعر الذي يبدع يف احلاضر مقابل الشاعر الذي أبدع يف املاضي،
كما أنّه الشاعر الذي يرتبط جبانب متقدم يف احلاضر مقابل الشاعر الذي يرتبط جبانب ثابت،
تغري يف عالقات احلاضر،
تغري يف اإلدراك نتج عن ّواالرتباط باجلانب املتقدم من احلاضر يشري إىل ّ
التغري يف العالقات ،حياول صياغته إبداعا ،فإنه يدخل يف تعارض له
ومبجرد أن يعي الشاعر هذا ّ
1
أكثر من جانب".
رمبا ال أجانب الصواب إذا نفيت عن هذا التعريف أي صفة حداثية ،فاألمر وما فيه ترديد
لتعريف قدمي قدم اإلبداع الشعري ،أو معاودة لفظية توحي جب ّدهتا على الرغم من أ ّن مضموهنا
وداللتها عتيقة قدمية ،قدم التعريفات التأسيسية للعملية الشعرية والنقدية على السواء ،وال أجد دافعا
يف هذا املقام لتكرار جمموعة كبرية جدا من التعريفات الرتاثية للعملية اإلبداعية ،فالكتب الرتاثية سواء
كانت عربية أم أجنبية تعج مبثل هذه التعريفات ،فهل بعد هذا نقنع أنفسنا أننا أمام تعريف حداثي
مر بنا؟ ال أظن ذلك بالقدر الذي ال أشك فيه بأ ّن الشراب القدمي يبقى قدميا وإن وضع يف كالذي ّ
زجاجة جديدة.
تقصي املالمح احلداثية يف تعريفات جابر عصفور للحداثة ،وحياول يواصل عبد العزيز حمودة ّ
عبثا حتسس مفاصل التالحم بني التعريفات القدمية للشعر والتعريفات اجلديدة له ،فال يقع من ذلك
على طائل يذكر ،إذ بعد فرتة زمنية تنيف عن الثالثة عشر عاما من التعريف األول للشعر الذي
جاء به يعود لتعريف احلداثة الشعرية ،لكن الرجل ال يكاد يضيف شيئا ذال بال ،ذلك أنه اقتطع
تعريفه من مصادرته للتقاليد الشعرية العربية املتوارثة ،أو ما اصطلح عليه بالقطيعة املعرفية مع الرتاث،
وهو الشرط األساس ليكون الشاعر حداثيا ،مما سبّب خلال بيّنا يف موازنة املعادلة أصالة/معاصرة
ووضع القضية برمتها موضع الشك واالرتياب.
1جابر عصفور :تعارضات احلداثة ،جملة فصول ،القاهرة ،أكتوبر ،0081مج ،0ع ،0ص.25 :
298
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تقصاها حمودة بالنسبة لجابر عصفور ،ال تضيف شيئا يذكر يف جمال إن التعريفات اليت ّ
النقد ،وذلك انطالقا من التخبط الذي أصاب اجلهاز املفاهيمي للناقد ،ومل يستطع ضبطه داخل
منظومته املعرفية ،شأنه يف ذلك شأن الكثري من النقاد العرب احلداثيني ،الذين انبهروا باملنجزات
الغربية ،دون حماولة كنه ماهيات األشياء ،إذ ال ميكن أن نقتطع ونبتسر احلداثة بتعقيداهتا وشرائطها
عن املهاد الفلسفي الفكري ،الذي أنتجت فيه هناك يف أرض النشأة ،أضف إىل ذلك مستوى
الوعي الذي صاحب عملية التلقي واالستقبال العربيني ملقوالت احلداثة ،هذا الوعي الذي مل يكتمل
بنقد األسس املرجعية للحداثة الغربية ،فجرى انفعال وانبطاح أمام مقوالهتا ومنجزاهتا دون متحيص
وغربلة هلا ،وعدم مراعاة اخلصوصية العرقية والثقافية لكل أمة من األمم.
إذا كان جابر عصفور ال يستقر على رأي فيما خيص نظرته إىل اإلشكاليات املعرفية اخلاصة
باستقبال احلداثة الغربية ،فإ ّن أدونيس مثال يضع هلذه احلداثة تعريفات متمايزة أحيانا ومتشاهبة
أحيانا أخرى ،فاحلداثة يف الفكر النقدي عند أدونيس ليست فصال أو برتا يصيب العملية اإلبداعية
عند املبدع ،فيفصل مبوجبها ماضيه عن حاضره ،إمنا هي استمرار وتواصل ومن مثّ جتاوز هلذا املفهوم
وحماولة بسط اجلديد يف ثوب مغاير ملا هو سالف ،وال يشرتط أدونيس للحداثة زمنا معينا أو وحيدا
تقاس عليه اللحظات األشد حداثة من غريها ،إمنا زمنها كذلك مستمر ومتواصل من الزمن املاضي
يف خيط تسلسلي إىل الزمن املستقبلي ،يقول ":إن زمن احلداثة هو الزمن العمودي أو هو التزامن
حيث تتالقى األزمنة وتتآلف ،يف حلظة واحدة هي حلظة اإلبداع ،هكذا ال تعود القصيدة فضاء
1
خيطيا واحدا ،وإمنا تصبح تآلف من فضاءات عديدة".
رمبا مل تكن هذه املرة هي األوىل اليت عاجل فيها أدونيس مشكلة احلداثة سواء كانت شعرية أم
نقدية؛ فقد رسم هلا الناقد مجلة من األوهام أثبتها يف مؤلف آخر كان سابقا عن هذا الكتاب،2
ليضع القارئ يف صلب اإلشكالية ومربزا يف ذات الوقت ما انطوت عليه نظرة احلداثيني العرب من
سذاجة وهتافت يف فهم ووعي مثل هذه اإلشكاليات املعرفية ،فالرجل ينعى على هؤالء احلداثيني
و فيها حتدث عن مخسة أوهام تصيب احلداثة :الزمنية ،املغايرة ،املماثلة ،التشكيل النثري واالستحداث املوضوعي .ينظر:
أدونيس :فاحتة لنهايات القرن ،ص.205 . 202 :
299
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
قصورهم املعريف والفكري يف معاجلة هذه القضايا ،وينعى عليهم مجلة من اإلشكاليات اليت مرت هبا
األمة العربية ،ويف مقدمة هذه اإلشكاالت ال يتورع عن ذكر تلك الثنائيات اليت رمست خريطة الفكر
العريب القدمي واحلديث ومنها طرق القراءة املوظفة يف قراءة الرتاث سواء كان دينيا أم أدبيا إبداعيا،
يقول " :إن القراءة اليت سادت واليت ال تزال سائدة هي قراءة الفقهاء ،وإن الثقافة العربية السائدة
1
اليوم هي ثقافة الفقهاء ،السلطة للنص ال للرأي".
رمبا ينطلق أدونيس من خلفية معرفية ومرجعية علمانية هي من دفعه الوقوف مثل هذا املوقف،
بشر هبا ال يقابلها على مستوى التلقي واحدية القارئ أو املتلقي ،بل غري أن واحدية القراءة اليت ّ
على العكس من ذلك متاما ،فلقد انفصلت هذه األنواع القرائية وتعددت بتعدد االهتمامات واملنازع،
فأصبحت القراءة الفقهية والقراءة اليسارية والقراءة العلمانية وغريها ،دون أن حنشر كل هذه األنواع
يف زمرة واحدة وندعي أن السلطان كله للنص على حساب العقل .مث ما املانع من االحتكام إىل
القراءة الفقهية اليت تناوهلا أدونيس خاصة إذا كانت املسألة املثارة دينية أو فقهية؟ رمبا ترجع هذه
القناعة إىل مرتكزات معرفية يسارية أو ميينية حتدد املبتغى أو الغاية من هذه املنازع.
ال جيد أدونيس مانعا يف معاجلة قضايا الرتاث على غرار الكثري من املفكرين العرب الذين
جايلوه أو الذين سبقوه يف طرح أفكارهم وآرائهم حول هذه املسألة ،على غرار ،محمد أركون
ومحمد عابد الجابري و طه عبد الرحمان والطيب تيزيني وحسن حنفي وجابر عصفور
وغريهم .غري أن أدونيس يربط قضية الرتاث ربطا وثيقا وشرطيا بقضية السياسة والسلطة ،وال جيد له
فكاكا منها ،يقول " :إن مسألة الرتاث أي مسألة االرتباط به أو االنفصال عنه ،إمنا هي مسألة
2
سياسية ،فهي قضية السلطة ال قضية املبدع سواء كان شاعرا أو كاتبا أو مفكرا".
ميارس الرتاث سطوة معرفية هامة على أي مفكر أو شاعر ،وال جيد منه فكاكا حىت وإن كان
من دعاة احلداثة ،فأدونيس مثال ،يعرتف صراحة وضمنا هبذه السلطة املعرفية للماضي وعدم
ينجر عنه حماولة املهادنة معه قصد االستمرار وعدم االنقطاع ،يقول يف
االنفصال عنه ،األمر الذي ّ
تعريفه للحداثة العربية ..." :احلداثة العربية تسبح يف اإلبداعات العربية املاضية ،وحني نقول بتجاوز
املاضي فإننا نعين جتديدا ،جتاوزا لتصورات معينة للماضي ،أو لفهم معني ،أو لبىن تعبريية معينة أو
لعالقات معينة ،أو ملعايري وقيم معينة ،وال يعين إطالقا أننا ننفك وننفصل عنه كأنه أصبح عضوا ميتا
زال وتالشى ،فهذا حمال عدا أ ّن القول به جهل كامل ،وال باملاضي وحده ،بل أيضا بطبيعة اإلنسان
1
وطبيعة اإلبداع".
يتضح من هذا النص أن املاضي ميارس نوعا من الضغط ،واحلضور الدائم على الفرد املبدع
قصد عدم اخلروج عن املتعارف واملتداول وحماولة الرسم على املنوال واالحتذاء بالقدمي ،كما هو
معروف يف أجبديات نظرية الشعر القدمية ،إمنا الذي البد منه هو عدم االعرتاف مبرجعية املاضي
على مستوى اإلبداع يف عرف أدونيس وكأ ّن الرجل يقول القول ونقيضه يف آن ،يقول يف موضع
آخر " :إذا كان املاضي أصال مرجعيا ،من الناحية الدينية ،فهو من الناحية الثقافية أفق معرفة
وتساؤل ،أي جمموعة اختبارات ،وكشوف ومعارف ،ال تتسم بأي طابع مرجعي ،وليس فيها أي
2
إلزام".
إن مثل هذه الدعوة وهذا الطرح ينسف نظرية من أشهر نظريات النقد احلديث واملعاصر ،أال
وهي نظرية التناص ( )Intertextuelitéوكيفية أخذ الالحق من السابق يف جمال اإلبداع والنقد
على السواء ،وهي إضافة إىل ذلك حماولة لكسر القناة الرابطة بني املاضي واحلاضر ،والعمل على منع
استمرارية املاضي يف هذا احلاضر وتغذيته ،وجعل هذا احلاضر وليدا للحظة الراهنة وال سلطة ألحد
عليه إال من سلطته على نفسه ،وكأن املاضي هناك يف نقطة معينة وال سلطة له على أي نقطة تقع
خارجه ،كما أن هذا احلاضر مبتور الصلة بكل ما عداه ،وال يرجع إال على نفسه وال ينطلق إال من
إشكالياته ،رغم أن الرتاث موجود فينا وأن ربقته تش ّد خبناقنا شئنا ذلك أم أبينا ،وهو من يصنع
حاضرنا وليس مبتورا عنه ،ويرجع أدونيس مرة أخرى على عقبيه حني يعرتف بأن " الرتاث ليس
النتاج كله الذي أنتج يف املاضي ،وإمنا هو الطاقة اإلبداعية اليت جتسدت يف منجزات ال تستنفد ،بل
3
فعالة متوهجة وجزء من حركية التاريخ".
تظل ّ
ّ
تؤسس مجلة هذه النصوص ملقولة احلداثة تراثيا وحداثيا ،ذلك أن احلداثة ليست حداثة واحدة
بل هناك حداثات بعدد اجملاالت واملكامن اليت ترومها ،وإذا كانت احلداثة العلمية هي إعادة النظر
يف الطبيعة قصد السيطرة عليها ،كما يذهب إىل ذلك أدونيس فإن " احلداثة فنيا ،تساؤال جذريا
يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها ،وافتتاح آفاق جتريبية جديدة يف املمارسة الكتابية ،وابتكار طرق
للتعبري تكون يف مستوى هذا التساؤل وشرط هذا كله الصدور عن نظرة شخصية فريدة لإلنسان
والكون 1".األمر الذي ينسحب معه الوقوف عندها موقف املتسائل الشكاك ال املستكني املذعن.
يقول جابر عصفور... " :ومن املؤكد أننا لسنا إزاء حداثة واحدة هلا جتليات متنوعة ...ولسنا إزاء
عناصر ثابتة مطلقة وأخرى متغرية نسبية ،داخل حداثة كونية واحدة مفارقة ...إن وضع فعل الوعي
الذي يصوغ احلداثة داخل سياقه التارخيي يؤكد أننا إزاء حداثات متعددة على املستوى املتزامن(
2
السنكروين) واملتعاقب ( الدياكروين ) على السواء".
تأسيسا على هذا القول ،ال ميكن أن نطمئن إىل وجود حداثة عاملية تنبثق منها كل احلداثات
بل على العكس من ذلك متاما ،فاحلداثة وليدة اللحظة التارخيية اخلاصة هبا واملميزة هلا عن سواها،
فلو امتلك العرب حداثتهم -باملفهوم العصفوري -ملا كان هناك دافع هلذا اجلدل احملتدم حول نقادنا
يف إمكانية التوصيف باحلداثة من غريه .أما مادام األمر كذلك فالناقد -أقصد عصفور -حياول أن
ينجر عنه شعور بالدونية والقصور ،وهو ما مل يقع
ينأى بنفسه عن هذه التبعية لآلخر األمر الذي ّ
جابر عصفور يف حبالته ،إذ يستمد حداثته من جذور حداثية يف الرتاث العريب ،الشيء الذي جعلنا
يقرب جابر عصفور من قارئه يقول... " : نذهب مذهبا موازيا ملا اجته إليه عبد العزيز حمودة وهو ّ
فانبهار جابر عصفور مثال بإجنازات العقل الغريب منذ تفتحت عيناه كما يقول عام 0022على
البنيوية ،ال يقابله احتقار أو تقليل من شأن الرتاث النقدي العريب ،ودراسات الرجل يف الرتاث
النقدي ،ملا يقرب من الثالثني عاما يف ذلك اجملال تعترب من بني أعمق الدراسات األكادميية وأكثرها
جدلية واحرتاما للعقل العريب ،لكنه ال خيتلف كثريا عن بقية احلداثيني العرب يف انبهارهم بالثقافة
الغربية عامة واحلداثة خاصة".3
إذا أمكننا التسليم بواقعية ما ذهب إليه عبد العزيز حمودة فإن ذلك رمبا راجع إىل سالمة
الطرح النقدي عنده ،فحقيقة يعترب جابر عصفور من بني النقاد احلداثيني الذين وقفوا موقفا وسطا
بني الوافد من الثقافة الغربية وبني ذلك الزخم املعريف الذي ميثله الرتاث بكل أنواعه وتفريعاته ،ألن
عملية االنبهار تتمايز ال حمالة عن عملية االحتقار ،والفرق جل ّي واضح بني املفهومني ،فحني نضع
يف حسابنا الغرب باعتباره منوذجا للمقارنة ،فليس ذلك راجعا إىل سلطة ميتافيزيقية ،أو من موقع
الغرب كمستعمر ،بل من موقعه املعريف الذي ينتظم يف سياق عقالين ،ذلك " العقل الذي يسعى إىل
اكتمال املعرفة ،واكتمال املعرفة ال ميكن أن يتحقق بالنقل أو التقليد ،ألن األول إلغاء لوجود الناقل،
والثاين إلغاء لعقله 1".فالغرب مل يقطع الصلة املعرفية الوثيقة مع تراثه القدمي ،إمنا استثمر هذه
املقوالت يف عملية القراءة اليت مكنته فيما بعد من احتالل هذه املناطق الواسعة يف عملية املعرفة
والتقدم.
إال أن جابر عصفور مل تكن عودته للرتاث من منطلق املكوث عنده والبكاء على مناطق النور
يف قداسته ،إمنا مت له ذلك باملوازاة مع عملية التبجيل واالنبهار اليت واكبت استثماره هلذا الوافد
اجلديد ،الذي رمبا مارس عليه نوعا من الغواية ،ومصطلح الغواية مصطلح أثري عنده ،يقول يف ذلك:
" ...ولكن اآلخر األوريب ينطوي على غواية خاصة تفنت احلداثة العربية املعاصرة وتتسرب "املركزية
األوربية" بني أعطاف هذه الغواية ،مراوغة ،خماتلة ،مه ّددة بتدمري اخلصوصية يف غري حالة ،على حنو
تعلو معه أصوات املودرنيزم اخلاصة بغرب أوربا على كل صوت غريها ،وذلك قبل أن تبدأ ما بعد
املودرنيزم ( )Post modernismوتتكرر أمثولة ولع املغلوب بتقليد الغالب ،ونقرأ تنظريات عربية عن
احلداثة كأهنا ترمجات لدراسات معروفة عن املودرنيزم األوربية ،على حنو تنقلب معه الغواية إىل خماتلة
2
أيديولوجية تنتفي معها هوية األنا ويغرتب عنها زماهنا ومكاهنا".
يعرتف عصفور صراحة من خالل هذا النص مبا متارسه احلضارة الغربية من غواية على الذات
العربية القارئة له واملستقبلة ملنجزاته ،ويف الوقت ذاته حي ّذر من تسرب مقوالت املركزية الغربية وما تروم
ينجر عنها من تلك النظرة املخايلة ،اليت رمبا حتجب اخلطر الداهم الذي يواكبها ،ويف تكريسه وما ّ
1جابر عصفور :قراءة الرتاث النقدي ،مؤسسة عيبال ،ط ،0000 ،0ص.032 :
2جابر عصفور :هوامش على دفرت التنوير ،ص.20، 28 :
303
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
األخري ال جيد فكاكا من الدعوة إىل ارتياد احلوارية أو النقد احلواري سبيال لعمليات املثاقفة والتالقح
بني أدبنا العريب واألدب الغريب.و هي متييز لنظرتنا إليه " ذلك أن جنيالوجيا الذات هي يف نفس
الوقت جنيالوجيا اآلخر ،فالسؤال عن "النحن" يعين أيضا السؤال كيف أصبح غرينا "اآلخر" ،وما
هي أشكال الغرب :اليت صنعها اخلطاب العريب 1".وهو ما تتضمنه اهلوية اخلالفية عن اآلخر والتميز
عنه؛ إذ باإلختالف نتجاوز مفهوم النموذج ( )Modèleواملعرفة الواحدة ونؤسس ما يصطلح عليه
اخلصوصية احلضارية للذات ،اليت تأىب الذوبان واالمنحاء يف منجزات اآلخر ،يقول الجابري":
اللحظة الراهنة يف تارخينا العريب احلديث مازالت حلظة هنضوية ،مازلنا حنلم بالنهضة ...والنهضة ال
تنطلق من فراغ بل البد فيها من االنتظام يف تراث .والشعوب الحتقق هنضتها باالنتظام يف تراث
غريها بل باالنتظام يف تراثها هي .تراث "الغري" ،صانع احلضارة احلديثة ،تراث ماضيه وحاضره،
ضروري لنا فعال ،ولكن ال كـ"تراث" نندمج فيه ونذوب يف دروبه ومتعرجاته ،بل كمكتسبات
إنسانية ،علمية ومنهجية ،متجددة ومتطورة ،البد منها يف عملية االنتظام الواعي العقالين النقدي
يف تراثنا" ،2وهو األمر الذي وقع فيه ما يسمى باخلطاب السلفي الذي انكفأ على نفسه فقط،
وأغلق كل سبل اإلتصال باآلخر ليتعرف على منجزاته وما تزخر به الساحة النقدية العاملية ،من
كشوفات جديدة.
إذا كانت العودة إىل الرتاث يف حركة ورائية وخلفية واحتمائية هو مانعاه جابر عصفور على
أصحابه ،فإنه ينعى يف الوقت نفسه تلك احلركة اإلنبطاحية ،اليت تغرتب يف دروب اآلخر ويستلبها
داخليا وهو األمر الذي حدا به إىل إبراز خطاب متميز تتجلى أمهيته يف كونه استطاع أن يتجاوز
مسألة اهلوية والتأصيل ،إىل مسألة االختالف الذي يهدف إىل إبراز خصوصيات الذات يف مقابل
اآلخر ،والبحث عن منط جديد ال يكون بالضرورة مثال غربيا ،بل حياول تأسيس اختالفه مع الغرب
وهو ما سعى جابر عصفور التأسيس له عند عودته لقراءة الرتاث باعتباره مصدرا البد من اإلفادة
منه ،إلبراز مفهوم اهلوية والتأصيل العريب.
1عبد السالم بن عبد العايل :الرتاث واالختالف ،املركز الثقايف العريب ،بريوت -الدار البيضاء ،0085 ،ص.05 :
حممد عابد اجلابري :الرتاث واحلداثة -دراسات ومناقشات ،-مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت ،ط،3112 ،2ص.22 :
2
304
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تسىن له البحث عن صورة علمية دقيقة انطلقت وعند عودته إىل النصوص احملققة حتقيقا علميا ّ
من آلية الشك واملساءلة لبلوغ غايات معرفية يف عمليات البحث ،وهو يف هذا مطّلع ماهر على
النتاج الغريب يف جمال الدراسات وفلسفات املناهج بغية االرتقاء بالرتاث العريب إىل مستوى إنتاج
املعرفة ،اليت من شأهنا أن تستوعب املعرفة الغربية ونظريهتا الرتاثية إن الرتاث ينسرب إىل النصوص
الزعم أن مؤدى هذا الفتور هو هيمنة املوروث السياسي والشعري والديين املعاصرة ،وميكننا ّ
والفلسفي ،إضافة إىل أن مقوالت األخذ عن الغرب بات حتمية ال مناص منها ورمبا هو كذلك
املسؤول عن الكثري من اإلحباطات ،اليت وقع ضحيتها الفكر العريب احلديث واملعاصر ،غري أن
األسباب تأيت من اجلهل بالشروط التارخيية واملرجعيات الفلسفية واملعرفية ،اليت أحاطت بعملية
االستقبال ،دون أن جتعل من هذه األسباب مانعا وس ّدا لعملية التأثري والتأثر اليت متارس بني
اآلداب .إن العيب ال يكمن يف اإلطالع على النتاج الغريب ،بل يف غياب الوعي خبطورة املفاهيم
واملناهج ومحولتها ملا ختتزنه من شحنة معرفية تش ّكلت عرب مراحل طويلة من الرتاكم املعريف ،وانطالقا
من هذا " ال سبيل إىل بناء هنضة فكرية إال مىت اقتنعت جمتمعاتنا بأهنا يف ظروفها الراهنة جمتمعات
1
ال تنمي املعرفة".
إن عملية العودة إىل الرتاث هي يف احلقيقة حبث عن املشروعية واملرجعية ،وحماولة الدفع به إىل
هذه املناطق القصيّة من الفكر اليت تشهدها الساحة النقدية اليوم ،ومن مثّ توظيف جوهره خللق
الطاقة اليت مت ّكن من الدفع به لألمام وضخ اجلديد من اخلطابات بني أعطافه وأنساغه لضمان نوع
من البعث واحلياة ،إال أن املناخ الذي نشأت فيه العلوم واملعارف العربية مازال حاضرا فيها ،سواء
تعلّق األمر بالبالغة أو علم الكالم أو النحو أو غريها ،حيث ما تزال هذه العلوم حبيسة ذلك املناخ
التقليدي والتاريخ العريب القدمي ،ومل يتم تناوهلا بالقدر الذي يضمن هلا حياة جديدة تواكب ما
استجد على ساحة الفكر العاملي " ،غري أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذه األصول ،كما يؤكد
هايدغر( )M. Heideggerمرة أخرى ،ال تعرض علينا نفسها بقدر ما ختفيها وتغلفها ،فالرتاث ال
2
يوجد وجودا تارخييا وهو ليس حمفوظا بني دفات كتب األصول يف الوعيه".
محادي صمود :حوار مع محادي صمود ،جملة احلياة الثقافية ،تونس ،0088 ،العددان ،20 ،28ص.20 :
1
إن العودة إىل الرتاث هي مبثابة الوقوف عند أخطاء الذات القارئة للمقروء ،وهي مراجعة هلا
ولتارخيها فال فكاك من هذه السطوة والسلطة اليت ميارسها الرتاث واليت تتغياها الذات " فما من
شك أن هناك هيمنة قوية للموروث القدمي على فكرنا ،الشيء الذي جعل أدوات إنتاجنا الفكري
ختضع ،إن قليال أو كثريا ،هلذا املوروث القدمي بوصفه بنية عامة ،سواء أردنا أن منارس تفكريا عقالنيا
أو العقالنيا ،ولكن ممارسة العقالنية أو التفكري العقالين جتعل صاحبها يعي أكثر فأكثر هذه
حترر هنائيا من
اهليمنة ،وحياول أن يتحرر منها ،هذا شيء طبيعي ،وال أحد يستطيع االدعاء بأنه ّ
املوروث القدمي بكل سلبياته وبكل إجيابياته 1".واستتباعا هلذا خيضع الرتاث بكل طرقه إىل قراءة
كانت يف وقت ما تكريس للمكرور واملعاد ،وهو ما ميكن االصطالح عليه بالقراءة الرتاثية للرتاث،
وهي القراءة اليت ال ميكنها جتاوز السائد واملألوف وإمنا النكوص دائما إىل اخللف والتغين مبا للذات
من مفاخر وأجماد ،األمر الذي أصاب املنظومة الفكرية واملعرفية العربية ،يف زماهنا بنوع من التّكلّس
التحجر ودفع هبا إىل حوق اجلهل والظالمية.غري أن القراءة الثرية للرتاث هي اليت تنطلق منه ال و ّ
وضخ اجلديد من آليات التحليل اخلطاب له. للركون إليه،بل لتجاوزه وحماولة إحياء أنظمته املعرفية ّ
ترتبط احلداثة األدبية عند جابر عصفور" باملغامرة الدائمة يف اللغة وباللغة ،لصياغة التساؤل الذي
ال ينقطع ،واكتشاف األفق الذي ال ينغلق ،وجتريب األداة اليت ال تفارق هاجس التوتر والتغري
والتجدد" ،2فاحلداثة إذا من زاوية نظرته تساؤل أزيل ال حي ّده زمان وال مكان ،وثّابة دائمة التش ّكك
التعرف الطمأنينة والركون وإمنا دائمة الرتحال والتطواف ،وهي كما يقول أدونيس ":رؤيا جديدة،
وهي ،جوهريا ،رؤيا تساؤل واحتجاج ،تساؤل حول املمكن ،واحتجاج على السائد ،فلحظة احلداثة
هي حلظة التوتر ،أي التناقض والتصادم بني البىن السائدة يف اجملتمع ،وما تتطلبه حركته العميقة من
3
البىن اليت تستجيب هلا وتتالءم معها".
هذه الصياغة اجلديدة للمفهوم هي اليت ربطت احلداثة بشقها املعنوي بالتحديث يف شقه
املادي اآليل ،ولكن قبل ذلك ربط جابر عصفور مصطلح احلداثة مبا كان متواترا يف القرن الثاين
اهلجري عندما ظهرت ما يسمى طبقة املولّدين يف الشعر ،وثورهتم على تقاليد القصيدة القدمية أو ما
كان يعرف بعمود الشعر ،واستبدال تلك املقدمات اجلديدة باملقدمات الطللية اليت رمست طويال
معامل القصيدة القدمية ،ال لشيء إال أ ّن هذه املقدمات مل تعد ماثلة أمام الشعراء احملدثني يف العصر
العباسي كأيب نواس ،وبشار بن برد وأيب العالء املعري وغريهم .ومل تعد املقدمة الطللية تواكب ما
استجد يف حياة الشعراء يف ذلك العصر ،مما جعل هؤالء الشعراء يتحررون بل يسخرون من تلك
املقدمة ومن يلزمها إبداعيا " .فاالجتهاد يف الشعر ،والسعي وراء تصورات جديدة خمالفة للقدمي
1
أجدى على الشاعر من متابعة بالغة األطالل".
املسوغ الوحيد لجابر عصفور لكي يناصر تلك الثورة اليت قام هبا هؤالء
إن هذا الطرح هو ّ
الشعراء يف العصر العباسي ،ومتردهم على الكثري من الثوابت واملسلمات مما جعل مجلة من النقاد
العرب املعاصرين يؤرخ هبم لبداية احلداثة العربية الشعرية ،كما يذهب إىل ذلك أدونيس يف اعرتاف
صريح بأصالته الرتاثية وانفتاحه على اآلخر يف قوله" :أحب هنا أن أعرتف بأنين كنت بني من أخذوا
بثقافة الغرب ،غري أنين كنت ،كذلك ،بني األوائل الذين ما لبثوا أو جتاوزوا ذلك ،فقد تسلحوا بوعي
ومفهومات متكنهم من أن يعيدوا قراءة موروثهم بنظرة جديدة ،وأن حيققوا استقالهلم الثقايف الذايت،
ويف هذا اإلطار ،أحب أن أعرتف أيضا أنين مل أتعرف على احلداثة الشعرية العربية ،من داخل
غريت معرفيت بأيب نواس، النظام الثقايف العريب السائد ،وأجهزته املعرفية،فقراءة بودلري هي اليت ّ
وكشفت يل عن شعريته وحداثته ،وقراءة ماالرميه هي اليت أوضحت يل أسرار اللغة الشعرية وأبعادها
احلديثة عند أيب متّام ،وقراءة رامبو ونرفال وبريتون هي اليت قادتين إىل اكتشاف التجربة الصوفية،
بفرادهتا وهبائها ،وقراءة النقد الفرنسي احلديث هي اليت دلّتين على حداثة النظر النقدي عند
2
اجلرجاين".
عندما ننصت لجابر عصفور يف قضية احلداثة والتحديث ،فالرجل كثريا ما خيلط بني
املصطلحني؛ فيستعمل التحديث الذي يدفع حسب رأيه مبجتمع ما من التخلف إىل التقدم ويقصد
بذلك احلداثة ،وال مانع لديه من استعمال املصطلحني مبفهوم واحد يف قوله ...":فاحلداثة
مترد دائم على كل ما حيجر أدوات إنتاج اجملتمع وعالقاته يف قيود اإلتباع اليت تعين
كالتحديث ّ
التخلف ،والتحديث كاحلداثة تطلّع دائم إىل املستقبل الذي يعد بالتقدم الالهنائي 1".هذا التمرد
صح القول هو ما تؤسس له احلداثة والتحديث حسب وجهة نظر جابر عصفور، والعصيان إن ّ
وهي املسؤولة عن الدفع بالذات حنو التقدم ومسايرة الركب وعدم الرضا والقناعة مبا متتلكه هذه
الذات معرفيا ،وكل هذا مرتبط يف البداية والنهاية مبساءلة الرتاث واآلخر ،وفعل املساءلة هو املسؤول
عن تغيري عادات الذات يف القراءة ،وعدم االطمئنان ملا هو سائد وكائن ويف الوقت نفسه يروم –
عصفور -تبيّئة وأرضنة هذه احلداثة عربيا ،رمبا ليشبع ميوله الليربالية متاشيا مع مذهب أستاذه طه
حسين ،يقول جابر عصفور حول فعل املساءلة ":وإحلاحي على املساءلة -يف مثل هذه السياقات-
وسريا على النهج نفسه يف إثبات دور الوعي بكل اخلصوصيات احلضارية والثقافية للذات
القارئة ينخرط أدونيس يف النهج نفسه قائال ... ":أ ّكدت الفاعلية اإلبداعية العربية على أن ثقافة
شعب ما ،ال تقوم بذاهتا ولذاهتا يف معزل عن ثقافات الشعوب األخرى ،وإمنا هي ،تأثر وتأثري ،أخذ
وعطاء ،وأكدت يف الوقت نفسه أن الشرط األول هلذه احلركة من التفاعل أن تتسم باإلبداعية
واخلصوصية معا ،وهذا املزيج اإلبداعي اخلصوصي هو ما نقلته الفاعلية العربية اإلسالمية يف ذروة
نضجه إىل الغرب ،عرب األندلس".1
يواصل أدونيس تشرحيه لواقع احلال العريب ومسألة وعيه باللحظة التارخيية ،اليت تتأكد فيها
فاعلية التأثر والتأثري الذي ميارسه اآلخر الغريب على الذات العربية يف نوع من االستالب؛ ويؤسس
بذلك نوعا من اخلصوصية والفردانية اليت جيب أن تعيها هذه الذات لتمتلك خاصية التميز ،يقول
يف ذلك ...":فإعادة النظر مبثل هذا الوعي هي وحدها اجلديرة بأن تفتح لنا األفق الصحيح لفهم
الذات واآلخر على السواء ،وتتيح لنا إمكان رؤية جديدة ألنفسنا وللعامل ،وهتيئ الطريق اليت جيب
أن نسلكها يف بناء املستقبل ،دون ذلك ستظل احلداثة يف اجملتمع العريب "جملوبة" بنوع من "احليلة"
أو "السرقة" وسيظل اجملتمع العريب يبدو كأنه عربة تتجرجر مرتحنة عالقة بقطار اهليمنة الغربية ،ضائعا
بني اقتباس عشوائي يستلب ذاتيته ،ومتسك عشوائي بقيم املاضي التقليدية ،يستلب إبداعيته
وحضوره يف الواقع احلي" .2األمر الذي جيعل من إجنازات الذات العربية صورة مستنسخة لعمل
اآلخر الغريب ،وذلك ألن خصوصية هذه الذات هي وحدها الكفيلة بدفع هذه اهليمنة املطلقة
للمركزية الغربية على األقل على مستوى إسهام هذه الذات يف صنع فرادهتا نقديا وإبداعيا وفلسفيا.
310
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
تشكلت القناعة النقدية لجابر عصفور يف ضرورة األخذ من اآلخر الغريب ،نتيجة امل ّد
التوسعي الذي عرفته البنيوية يف النصف األخري من القرن العشرين ،وإن شئنا الدقة إىل فتنته هبا
حوايل سنة 0022أي عندما ألف عصفور كتابه النقدي املهم يف قراءة الرتاث الشعري "مفهوم
الشعر" يكتب قائال " :إ ّن إثراء الرتاث النقدي هبذا املعىن يؤدي إىل إثراء حياتنا النقدية نفسها ،كما
يؤدي إىل إضفاء األصالة على اجلدية يف هذه احلياة ،ويف ذلك يكمن احملك وراء كل حركة صوب
املاضي ،ومثة فرق بالتأكيد بني من يعود إىل املاضي ليثبت وضعا متخلفا يف احلاضر ،ومن يعود إىل
1
يطور احلاضر نفسه".
املاضي ليؤصل وضعا جديدا قد ّ
ترجع إشكالية اإلفادة من الرتاث أو إقصاؤه ،إىل مدى فاعلية القراءة املتوافرة يف الراهن ،أي
إذا كان القارئ يريد أن يلوذ باملاضي ليثبت أمرا ما يف احلاضر وأعوزته آلياته الرتاثية ،فإنه ال حمالة
سيتجه رأسا إىل هذه املنجزات املعرفية اهلائلة اليت متور هبا الساحة النقدية املعاصرة ،والعكس هو
الصحيح ،ألن مبدأ الوسطية يف واقع احلال ال يقدم حال جوهريا هلذه املعضلة ،إمنا ميارس أصحاب
هذا التوجه عملية متويه ثقايف على املقروء قصد إعادة صياغة الدعوى إىل القطيعة املعرفية مع الرتاث،
أو االرهتان إىل منجزات اآلخر الغريب.
غري أن ما يؤسس جلدوى القراءة الفاعلة للرتاث هو االنطالق منه كمطية أساسية قصد بلوغ
أقاصي احلداثة الغربية كما يكتب الجابري " :فمن جهة حترص هذه القراءة على جعل املقروء
معاصرا لنفسه على صعيد اإلشكالية واحملتوى املعريف واملضمون اإليديولوجي ،ومن هنا معناه بالنسبة
1جابر عصفور :مفهوم الشعر -،دراسة يف الرتاث النقدي ،-جمموعة أعمال جابر عصفور ،دار الكتاب املصري ،القاهرة-
دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،ط ،3112 ،0ص.10 :
311
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
حمليطه اخلاص ،ومن جهة أخرى حتاول هذه القراءة أن جتعل املقروء معاصرا لنا ،ولكن فقط على
صعيد الفهم واملعقولية ،ومن هنا معناه بالنسبة لنا حنن ،إن إضفاء املعقولية على املقروء من طرف
القارئ معناه نقل املقروء إىل جمال اهتمام القارئ ،الشيء الذي قد يسمح بتوظيفه من طرف هذا
األخري يف إغناء ذاته ،أو حىت يف إعادة بناءها ،وجعل املقروء معاصرا لنفسه معناه فصله عنّا ،وجعله
1
معاصرا معناه وصله بنا".
يؤسس له الجابري يف هذا النص هو العالقة الطردية بالرتاث ،وهي العالقة اليت ترتاوح بني
ما ّ
اجنرت عنها
االتصال واالنفصال ،بني احلضور والغياب ،فال نكاد حنصل على عالقة أحادية به ،إال و ّ
عالقة أخرى يف تعدد سياقات األخذ منه أو االبتعاد عنه ،ألن الرتاث هناك يف نقطة ما ،غري أننا
نفكر فيه كما نفكر به ،واستحضارنا إياه يكون من باب التعظيم أو التبجيل والتقديس ،ال من باب
التحجر واجلمود ،إمنا من باب التجاوز واالستمرارية ،وهو األمر نفسه الذي يثبته جابر عصفور ّ
عندما يربز عالقتنا بالرتاث فيقول ":هذا الفهم جيرنا إىل املشكلة الثانية ،حيث تتحول عالقة القارئ
باملقروء إىل عالقة اتصال وانفصال يف آن ،وإذا كان القارئ ينتمي إىل عصره واملقروء ينتمي إىل
عصره املقابل ،فإن العالقة بينهما عالقة انفصال ال حمالة ،لكن هذا االنفصال سرعان ما يتحول إىل
اتصال على مستوى البعد القيمي الذي ينطقه النص املقروء ،والذي يتجاوب أو يتنافر مع البناء
القيمي لعامل القارئ ،ولكن املشكلة ليست على هذا النحو من البساطة الظاهرة ،فالنص املقروء هو
بعض ثقافة القارئ ،بعض خمزونه الثقايف الذي تعلمه والذي صار جانبا من عامل وعيه املعاصر ،ومن
هنا فإن القارئ املعاصر عندما يقرأ عبد القاهر اجلرجاين مثال ،فإنه يقرأ عبد القاهر الذي يعيش يف
القرن اخلامس للهجرة وعبد القاهر الذي ينام حتت جلدة وعيه يف القرن اخلامس عشر للهجرة،
فكأنه يقرأ عبد القاهر الذي "هناك" وعبد القاهر الذي "هنا" أي نص عبد القاهر الذي يقع
2
خارجه ،ونص عبد القاهر الذي يقع داخله".
مثة واقع معريف موجود يريد جابر عصفور إثباته هبذه املراوحة يف إبراز العالقات القائمة بيننا
وبني الرتاث ،إ ْذ ال ختلو عالقتنا به من هذه احلركة الدؤوب اليت توسم مبيسم الرتاث واملعاصرة ،غري
حممد عابد اجلابري :حنن والرتاث -قراءة معاصرة يف تراثنا الفلسفي ،-املركز الثقايف العريب ،بريوت ،0083 ،ص.02 :
1
312
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
أن ذلك ال يعين بأي حال من األحوال النكوص إىل املاضي واالعتكاف عليه ،دون حماولة مسايرة
احلاضر بكل مستجداته املعرفية والفكرية ،وحماولة فهم كل ما يتعلق هبذا الوافد ،سواء تعلق األمر
مبناهج البحث أم مبقوالت الفلسفة والفكر أو بآليات وإجراءات املناهج النقدية الغربية ،وما حتمله
من ج ّدة يف جانب وتوليف يف جانب آخر ،يقول جابر عصفور عن إشكالية االستعارة من اآلخر،
مربزا خطرها على الذات املستعرية " :واحلق أن األثر السليب هلذه االستعارات املعرفية قرين غياب
الوعي النقدي هبا ،وتقبلها مبنطق االستهالك ( الذي يقوم على الرتمجة والتلخيص والنقل ) ،وليس
منطق اإلسهام يف إعادة اإلنتاج ،أعين التسليم اإلتباعي بسالمة االستعارة دون استدالل على
صحتها واختبار لتناسبها ،أو فحص إلمكاناهتا على مستويني :مستواها الذايت املقرتن بسياقها
التارخيي ونسقها املعريف الذي أنتجت ضمن عالقاته ،ومستواها األدائي الوظيفي حني يستخدمها
القارئ يف سياق تارخيي مغاير ،أو نسق معريف ينطوي على إشكاليات مغايرة ،ولألسف ما يبدو
الفتا إىل اآلن أن وعي الذات القارئة هبذه االستعارات يعجز -غالبا -عن التأمل احملايد هلا ...
واإلضافة املنتجة إىل عناصرها ،وذلك حبكم املرحلة احلضارية اليت يعيشها وعالقات التبعية اليت
1
حنياها".
تنهض قراءة جابر عصفور إىل هذا الشق من األخذ واالستعارة ،على ضرورة الوعي بكل
اخللفيات الفكرية واملرجعيات الفلسفية واملعرفية ،اليت انطلقت منها هذه األفكار ،قصد إعادة بلورهتا
حتول األمر إىل استهالك واتّباع دون
وما يتوافق مع الرصيد الفكري واحلضاري للذات الناقلة ،وإال ّ
وعي مبزالق هذه العملية ،ويف الوقت نفسه تنطوي عملية النقل على استالب داخلي يلغي الذات من
املشاركة يف العملية املعرفية من أساسها ،وينسف ما قد يتبادر إىل األذهان على أنه عملية متحيص
وتدقيق وأهنا تدخل يف باب األخذ ،الذي ينضوي حتت مبدأ التأثري والتأثر ،غري أن عملية االستعارة
دون وعي بكل تلك السياقات املعرفية ،والشرائط الفكرية اليت أنتجت مثل هذا النوع من األفكار
هي اليت متارس على الذات نوعا من التدجني ،الذي ال خيلو من استالب واغرتاب داخل إطارها
احلضاري.
313
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
غري أ ّن عصفور ال يكاد يطمئن إىل توجه نقدي فريد ،أو حىت على رأي واحد ،ألن تشيّعه
للمنهج البنيوي يزداد يوما بعد يوم ،خالل مسريته النقدية يف املراحل األوىل من عمره النقدي،
فالرجل جيعل من اتباع النقد األوريب شرطا من شروط املعرفة النقدية احلداثية ،والناقد العريب احلداثي
من منظوره ميارس نوعا من التعويض النفسي ملعرفة ذاته من خالل اآلخر ،وينعى على النقاد العرب
عودهتم للرتاث لالستلهام املباشر منه وكأهنم كائنات باثولوجية ،يكتب قائال " :وليس ذلك كله من
قبيل تصاعد التقليد ،أو مراوغته فحسب يف غيبة فحص دقيق ودرس مقارن ملقوالت التشابه والتضاد
- بني دي سوسري ( ومن بعده النقد الفرنسي البنيوي ) وعبد القاهر ،وإمنا هو -فضال عن ذلك
وضع مؤس ي ّذكر املرء بأولئك الذين مل يق ّدروا روائيا مثل جنيب حمفوظ إال بعد أن ق ّدر على أيدي
الفرجنة يف الغرب وبعد أن حصل على أكرب جوائزهم ،وهو وضع يكشف -يف النهاية -عن عرض
من أعراض "تعويض" نفسي تتحول معه عالقة الناقد العريب املعاصر برتاثه النقدي إىل عالقة تضاد
عاطفي ،هو انعكاس لعالقته بالنقد األوريب الذي ال ميلك هذا الناقد سوى أن يتبعه وال يستطيع -
1
يطور أدوات إنتاج معرفته النقدية والرتاثية -سوى أن حيلم -عاجزا -باالستقالل عنه".
ما مل ّ
ال يضري عصفور أن ينتصر ويتشيّع لطروحات النقد الغريب ،من منظور عالقات التأثري والتأثر
بني اآلداب واملناهج ،غري أن ما يؤخذ عليه هو ارهتانه كليا لتلك املشاريع احلداثية ،اليت غ ّذت يف
وقت الحق مقوالت اإلستشراق ،وجعلت من الذات الشرقية برمتها والعربية على وجه اخلصوص،
حقال خصبا لدراستها وجتارهبا ،إال أن ما حيسب له باعتباره ناقدا حداثيا ،هو وقوفه عند نقاط
الفصل بني ما ندعيه و ما نقوم به ،فإعادة اهتمامنا مبنجزاتنا الرتاثية ال يتم يف واقع احلال إال إذا متّ
استحضارها من قبل اآلخر الغريب ،وإال بقيت هذه اآلثار يف طي النسيان ،إىل أن يتم استحضارها
مبوجب منعكس شرطي ،ألن اآلخر الغريب تذكرها أو اكتشفها ،فنجيب محفوظ مل يكن ذا قيمة
معرفية كربى قبل حصوله على أغلى جائزة أدبية ،وهو األمر نفسه الذي حييل إليه عبد الفتاح
كيليطو يف ربطه بني منجزات املثقف العريب واآلخر الغريب وكيفية االسرتشاد ،اليت يهتدي إليها
العريب جراء اهتمام املثقف الغريب به.2
تنطوي اللغة النقدية لجابر عصفور على كثري من املسلمات وكثري من املفارقات يف آن معا.
ذلك أن الناقد يعرتف صراحة باستيالء الرتاث على وعينا النقدي ،كما استوىل الشيخ على السندباد
إثر خدعة عاطفية م ّكنته منه ،لكنه يضع القارئ يف صلب اإلشكالية أو املعضلة ،كما أحلّ على
يسرينا مبشيئته القدسية ،غري أنه
أساس أن الرتاث منا وحنن منه وليس موجودا هناك يف التاريخ لكنه ّ
ال يلبث أن يقرر أن الرتاث " خيادعنا عن أنفسنا ،أو خنادع أنفسنا عنه ،نقبل عليه بأوهام سرعان ما
جتعلنا عبيدا له ،أو جتعل منه حضورا يقبض بأطرافه على رقابنا ،فيعرقل خطونا ،ويقودنا إىل حيث
1
يشاء يف أحد أزمانه ،بدل أن نقوده حنن إىل ما نشاء من أزماننا".
تعترب هذه القصة اليت مثّل هبا جابر عصفور منوذجا حيا الستحكام الرتاث فينا ،وقدرته علينا
مسريا
يف الكثري من األحيان حيث يغدو من الصعب الفكاك من ربقته وتسلّطه ،ويصبح واحلالة هذه ّ
لنا ومصادرا حلرياتنا ،لكن ما يروم الرجل التنبيه إليه يف هناية القصة هو حتذيرنا من التعامل مع الرتاث
كما تعامل السندباد مع الشيخ حينما رمى به بعيدا وختلص منه ،وهي رمزية عالية من قبل الناقد
تدل على عدم التسليم هبذا الرتاث ورميه يف طي النسيان ،بل يكون احلل أن نسري بالرتاث إىل زماننا
ال إىل زمانه ،حني نستثمر مقوالته ،ونفيد منها يف مقاربتنا ملنجزات اآلخر الغريب.
انطالقا من هذا يتضح جليا أن موقفنا من الرتاث ال ينبغي أن يسري حنو متجيده والتقوقع حول
منجزاته واالعتزاز به فقط؛ بل جيب أن يكون هذا املوقف موقف الواعي به وبكل زمخه املعريف وإرثه
الفلسفي الفكري ،لكي ال يكون سببا يف تأخرنا ،بل يسهم هو بدوره يف دفعنا إىل األمام حنو بناء
الفعال،
املستقبل املشرق .إن هذا ما جيعلنا نستحضر الرتاث بإجيابية ال سلبية ،نستحضر الرتاث ّ
الذي نتخطى به ظلمات املاضي إىل احلاضر ،وليس العكس مثلما ذهب إىل ذلك يوسف الخال
حني وصف احلالة الراهنة للعرب وهي مبثابة العيش يف املاضي بأجساد يف احلاضر أو كأن جنعل أعيننا
يف قفانا دون أن نفيد من هذا الرتاث يف شيء ،علما أن عمليات اإلفادة من الرتاث تتم كما يكتب
عصفور قائال ...":ميكن أن نفيد منه دون أن خنسر وجودنا ،ونتقبله بعضا من وعينا التارخيي ...
ونقاربه مقاربة العقل النقدي الذي يبدأ من أسئلته هو دون أن يستعري أسئلة غريه ،والذي جياوز
1
نفسه بنفسه عندما يسقط وعيه الضدي على مكنوناته ذاهتا".
يدفع عصفور بقارئ الرتاث إىل تبوء مكانة مرموقة يف فضاء النقد واملساءلة ،ال لشيء إال من
أجل جماوزة هذا الرتاث ونزع عباءات القداسة عنه ،قصد فهمه ومتثّله والوعي بكل تساؤالته
تكون يف
وإشكاالته ،ويف الوقت ذاته حماولة صياغة أسئلته هو ال أن نستعري من اآلخر أسئلته اليت ّ
احملصلة النهائية ذاته وخصوصيته ،وانطالقا من ذلك نفحص هذا الرتاث وحنلله قصد احلكم عليه، ّ
مادامت األسئلة اليت أجاب عنها من صميم الذات املمثلة له ،وهنا تربز خصوصية تراث كل أمة من
دافع احلرص على بلوغ املرامي املرجوة ،ويربز معها الوعي الذي تتبدى فيه الذات إىل موضوع فتغدو
ذاتا وموضوعا يف آن معا.
ال شك أن هذه النظرة العقلية ملعاجلة قضايا الرتاث هي املسؤولة عن نزع قداسة هذا الرتاث
وتبجيله عند املفكرين الجابري و أركون اللذين يتجهان توجها عقليا يف مساءلة الرتاث ،وضرورة
الوقوف منه موقف الناقد ال املسلّم بكل منجزاته ،األمر الذي يتحول مع مرور الوقت إىل مفاخرة
الضعة يف الوقت نفسه ،عندما
فخ اإلعجاب ،لكن بشعوره بالدونية و ّ به ،جتعل من الناقد يسقط يف ّ
يرى إجنازات الغرب ألنه بلغ أسباب الرقي والتقدم ،ال لشيء إال ألنه قام مبساءلة تراثه دون أن
يتحجر فيه ،أو يقف عند عتباته ،بل جتاوزه عندما أيقن أنه ال ميكن الركون فقط مبا لدى الرتاث من
منجزات ،بل بالعكس عند جعله مطية إىل التقدم والرقي.
لقد وقف جابر عصفور املوقف نفسه من الرتاث حينما حاول مقاربته مقاربة عقلية ،متحيزا
يف ذلك إىل التيارات العقلية يف الرتاث ممثلة يف املعتزلة وموقفهم يف الكثري من القضايا اإلشكالية،
دون أن حيبس نفسه على ذكر احملاسن واحملامد بل يف الكثري من األحيان يعدد اجلوانب السالبة ،اليت
ومست أعماهلم قصد استخالص الدروس والعرب من هذه األخطاء ،ومن مجلة مواقفه من نقائص
التيار االعتزايل قوله " :على أن مسلك املعتزلة هذا حول نظرهتم إىل اجملاز -دون أن يعوا -نظرة
جامدة عقيم ،ألنك إذا استعدت كل اجلوانب احلسية من التعبري اجملازي وأرجعته إىل عالقات حمضة
تؤدي معاين جمردة ،فإنك ختنق القدرات الثرية للمجاز ،وتقضي على كل ما ميكن أن يثريه يف خميلة
1
املتلقي".
ترتكز نظرة جابر عصفور للرتاث يف زاوية أن لكل أمة تراثها وأن ال أفضلية ألمة عن أمة
أخرى ،وحىت لو حاولت هذه األمة إثبات أن تراثها أفضل تراث وأنقاه ،ألن مسة األفضلية إمنا
يتجسد وجودها من مبدأ النفع العام وفاعليته لإلنسانية كلها ،وهو األمر الذي حاول عصفور
جتْ لِلنَّاسِ﴾ اآلية .دونخيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِ َ جاهدا تبيانه ،من خالل تأويل آي القرآن الكرمي ﴿ ُ
كْنتُمْ َ
أن يتناسى خامتة اآلية اليت تؤكد ما بدأته وتشرتط مفعولية اآلية وأصالتها مبا جاء خامتة هلا ،وبعد هذا
كله ال جيد عصفور أي فرق بني نقادنا القدامى ونقادنا احملدثني ،يف نظرهتم التقديسية املتعالية للرتاث
العريب ،إذ يصدح كل ناقد بأن األفضلية لرتاثنا القدمي مهما بلغت درجة املعرفة والفكر والوعي هبما
مبلغهما ،يقول... " :وال فرق بني ناقد سلفي قدمي لألدب أو ناقد تنويري حديث يف هذه النظرة،
فابن املعتز الناقد الشاعر القدمي على سبيل املثال ،يضين نفسه يف كتابه البديع ،ليثبت أن املذهب
1جابر عصفور :الصورة الفنية يف الرتاث النقدي و البالغي عند العرب ،املركز الثقايف العريب ،بريوت،ط ،0003 ،2ص:
.025
317
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
اجلديد الذي أتى به احملدثون من أمثال "بشار" و"أيب نواس" و"أيب متام" مل يسبقوا إليه ،بل كثُر يف
أشعارهم فعرف يف زماهنم فحسب ،وطه حسني الناقد احلديث والتنويري اجلليل كمثال مقابل ،مل
يروض به غرابة كل مسموع جديد، ينج من أسر هذه النظرة ،فظل يفتش يف حمفوظه القدمي عما ّ
فردهم إىل تراثه الذي ينفيهكذا تناول حداثة "كافكا" و"كامي" و "سارتر" ومذهبهم يف العبثّ ،
حىت أعجمية "العبث" ،ورد "كافكا" على وجه اخلصوص إىل شاعره األثري "أيب العالء" موقنا أن "أبا
1
العالء" يذهب يف تشاؤمه املذهب نفسه الذي يذهبه "كافكا" املتشائم األوريب احلديث".
فالقراءة اليت يتغياها عصفور إمنا تؤسس لنمط معريف مغاير ملا دأب عليه الفكر العريب احلديث
واملعاصر ،حيث اختذ من علوم اآلخر وتراثه منوذجا حيتذيه ،و يف الوقت ذاته ضاربا بعرض احلائط
الرتاث باعتباره سببا يف ختلف الذات العربية ،غري أنه يدعو إىل االنفتاح املشروط حبقائق ما للذات
العربية من متايز وخصوصية ،األمر الذي جيعلها مستقلة نسبيا عن هذا اآلخر ،وال متّحي فيه وال
تذوب يف منجزاته ،وهو يف الوقت عينه يدعو إىل تكرار هذه العملية ،اليت قفز هبا السلف الرتاثي مع
احلضارات اجملايلة له كحضارة اليونان والفرس وغريها ،عندما أفادت هذه الذات الرتاثية من هذه
املنجزات وزادت يف عملية تطويرها " ،ألن العقل إذ ينظر يف األصل ويقرأ النص إمنا يتأمل تراثه
وتارخيه ،ومغايرته لنفسه ،إمنا يعين يف الوقت نفسه إعادة اكتشاف لألصل وإعادة بناء للذات،
2
فالتجديد هو حقا إعادة بناء".
هذه اإلشكالية اليت دأب جل املفكرين و النقاد العرب احملدثني ،تفعيلها وفق شروط النهضة
املعرفية اليت تنشدها األمة العربية يف كافة اجملاالت واألصعدة ،األمر الذي حدا بعلي حرب مثال أن
ينظر إىل العالقة القائمة بني الذات القارئة وتراثها نظرة نسبية وتكميلية يف آن معا ،خاصة إذا زالت
احلدود املائزة بني هذه الذات وموضوعها وغدا املوضوع هو الذات ،والتحامهما هو من يصنع هذا
النسق التصاعدي للفكر واجملاوزة واالستمرار ،يكتب علي حرب قائال ... ":إذا كانت املعرفة تفرض
اجملاوزة واملغايرة ،مغايرة الذات لذاهتا ،فال حميص ملن ينظر يف الرتاث من أن يقف على مسافة من
موضوعه ،أي من ذاته ووعيه ،وهذه املسافة متلؤها زمانية الكائن اإلنساين ،مبا يعنيه ذلك من
1
االنشقاق واجملاوزة والقلق واملغايرة".
تتأكد فاعلية القراءة اهلادفة للرتاث من منطلق األمهية الكربى اليت يتمتع هبا هذا األخري على
ساحة الفكر املعاصر وباعتبار الرتاث أي تراث سواء أكان فلسفيا أو نقديا أو دينيا ،فتتجاوز الذات
موضوعها وخترج من شرنقتها لتجعل من املوضوع ذاتا ومن الذات موضوعا ،يف قراءة جتعل هذا اهلرم
الفكري واملعريف مبثابة احليّز القابل للقراءة واملساءلة ،وإعادة التأويل يف منطوقاته ومسلّماته قصد كنه
أسراره وخباياه ،ألن الرتاث من موجودات الذات ومن الركائز األساسية اليت متنح الذات منها وجودها
وفاعليتها إذ " ال ميكن للثقافة أن تتجدد ما مل يقف العقل على مسافة من نفسه ،وما مل حيصل له
وعي مغاير بذاته ،فريت ّد على تراثه وتارخيه من خالل راهنيته ،بكل شروطها وأبعادها ويرجع إىل نفسه
2
بعد صريورته ومغايرته".
ينتصر علي حرب هلذا النوع من القراءة التأويلية للرتاث ،اليت تلغي الفوارق بني الذات
واملوضوع وتنفي التمايز على أساس إيديولوجي أو مذهيب أو انتماء عقدي أو ديين ،ذلك أن القراءة
التأويلية " تستبعد التصنيفات الشائعة واملألوفة لألفكار والنصوص وللعلماء واملؤلفني ،إىل عقلي
ونقلي ،وأصيل ودخيل ،وأصالة وحداثة ،ومثايل ومادي ،وذايت وموضوعي ،وعلمي وغري علمي،
ورجعي وتقدمي ،ليس ألن هذه الثنائيات ال حقيقة هلا وال تعرب البتة عن واقع الفكر ،بل ألن هذه
1
تتأوهلا وتعيد بذلك تعريف املصطلحات واملفاهيم".
القراءة تتحدى تلك التصنيفات إذ تتأملها بل ّ
يعاجل جابر عصفور الكثري من القضايا النقدية سواء كانت قدمية أم حديثة ،وال يألو جهدا يف
وضع يده على مواضع الداء واخللل يف املنظومة الفكرية أو املعرفية العربية ،خاصة عندما يكون بصدد
تبيان موقفه النقدي من بعض القضايا اهلامة على الساحة النقدية ،ففي قضية الشكل واملضمون على
سبيل التمثيل ،يويل الناقد عناية بالغة هبذه القضية ،دون أن يسري على وترية النقد العريب القدمي؛ ألن
هذه القضية من أمهات القضايا يف النقد العريب القدمي ،ومل يفاضل جابر عصفور بني طريف هذه
اإلشكالية ،ومل يتعسف يف القيام بذلك ،إمنا رأى عملية الفصل بينهما عدمية اجلدوى يف أجبديات
النقد العريب املعاصر ،يقول جابر عصفور... ":فليس مثة شيء ميكن أن يسمى شكال إال من قبيل
التعسف أيضا ،فال شيء له وجود متعني غري القصيدة نفسها باعتبارها موازاة رمزية تفصح عن
موقف ال وجود له خارجها بأي حال ،واملوقف الذي تقدمه القصيدة هو ضرب من اإلدراك اجلمايل
2
للواقع يتميز متيزا نوعيا عن أي إدراك آخر ،وإال ملا كان للفن خاصية النوعية".
أما فيما خيص اخللفيات املعرفية والفلسفية لناقد الشعر حسب جابر عصفور ،فيدرجها ضمن
حتمية املواءمة بني التنظري الفلسفي واملنحى النقدي اللغوي ،والذي ال يتأتى لناقد الشعر أن يتصرف
من دوهنما يف نقده للقصيدة ،يقول " :ومن املنطق أال تربز صفة علم الشعر على هذا النحو إال يف
مرحلة فكرية ناضجة ،ومن املنطقي – أيضا -أن حتتاج حماولة تأسيس علم الشعر إىل ثقافة فلسفية
تتجاوز الثقافة اللغوية ،وإن استعانت هبا لدرس األداة ،فتفيد احملاولة _ يف هذا التجاوز _ من طريقة
الفلسفة يف صياغة املفاهيم والتصورات ،ويف صياغة الرتابط املنطقي بني املفاهيم والتصورات ،كما
تفيد من معطيات الفلسفة ،فيما يتصل بإجنازها يف نظرية الفن بعامة ،وخباصة جمال الشعر ،الذي
درسه الفالسفة ضمن أقسام املنطق والسياسة والنفس واألخالق ...واإلفادة من الفلسفة يف مشوهلا
تعلّم ناقد الشعر ضرورة ارتباط مفهومه عن الشعر مبفاهيم أخرى متكاملة عن احلياة 3".ليس من
شك يف أن جابر عصفور يضع يده على مفصل هام من مفاصل العملية النقدية يف جمال صناعة
"علم الشعر" وهي املزاوجة بني املنحى الفلسفي واالجتاه اللغوي ،ومها ثنائيتان ال غىن عنهما ألي
ناقد فيما يرى عصفور.
تأسيسا على مامت ،لعل التساؤل األثري الذي يزاحم غريه من التساؤالت ،قصد الربوز على
ساحة الفكر النقدي العريب احلداثي اليوم هو ،ملاذا العودة إىل الرتاث يف هذه الفرتة بالذات؟ كيف
نقرأ هذا الرتاث؟ وملاذا نقرؤه؟ .وطبيعي ج ّدا أن تطرح هذه القضية يف سياقات خمتلفة ومتباينة تنبئ
عن غاية يتغياها الباحث يف الرتاث وعن كيفيات القراءة اليت يسرتشد هبا ،والعودة إىل الرتاث من هذا
املنظور إمنا تفتح جماالت التساؤل وحتاول فك مغاليق النصوص الرتاثية اليت ما تلبث أن حتضر يف
يعرب عن مهومنا وآمالنا وآالمنا
هذه اللحظات الزمنية العصيبة ،وإال ملاذا نسرتجع الرتاث وهو ال ّ
احلاضرة ،ألنه اهنزم ومضى هو وأهله.
القضية وما ترمي إليه أن هناك فرقا " بني من يعود إىل املاضي ليثبّت أو يؤكد وضعا متخلفا
يطور احلاضر نفسه ،وينفي بعض ما
ليؤصل وضعا جديدا قد ّ يف احلاضر ،وبني من يعود إىل املاضي ّ
فيه من ختلّف .وتأصيل اجلديد يعين أن "نقتله علما" ،لنعرف أصله الذي جاء منه ،وأصولنا اليت
ميكن أن تتقبله وتدعمه ،ومبثل ذلك يؤصل اجلديد ،أي يصبح له أصل ،ويتحول إىل قوة مؤثرة كل
التأثري ،بعد أن وجدت أصال تضرب جبذورها الفتية فيه".1
إن عملية العودة إىل الرتاث تكتسي أمهية بالغة على الصعيد املعريف والثقايف ،ذلك أن الرتاث
معني ال ينضب ،وبالرجوع إليه إمنا نؤسس خلطاب نقدي جديد حياول اإلجابة عن التساؤالت املهمة
اليت نطرحها عليه ،قصد إعادة كتابته من جديد ،وما دمنا نؤكد على احلضور الرتاثي فينا ويف
خطاباتنا ،فإن االنشغال به والعودة إليه متثل يف النهاية جزء من االنشغال مبشروعنا وتأصيال للهويتنا
الثقافية.2
اجته جابر عصفور صوب املستودع الرتاثي مسائال إياه ومن ّقبا عن أهم احملطات املعرفية
وعالمات الطريق البارزة اليت من شأهنا أن ترشد الباحث يف ثناياه ،وقد أفرد هلذا الزخم الفكري
مسافة شاسعة من دراساته النقدية ،مربزا أمهية العودة إىل الرتاث يف اللحظة الراهنة من أجل احملافظة
على اخلصوصية الفردية وعدم الوقوع يف شرك االمنحاء والذوبان يف اآلخر .فالرتاث عنده مبثابة
تسرب اآلخر يف هذه الذات حمال نفسه احلصن املنيع الذي يذود عن الذات وعن هويتها ومينع من ّ
حملّها ،وهو -أي الناقد -إذ يلوذ قافال إىل الرتاث ال يروم يف الوقت نفسه االنغالق والتحجر على
منجزاته ،بل يروم االنفتاح سبيال للمشاركة يف صنع احلضارة اإلنسانية ،شريطة أن يتم الوعي به -أي
الرتاث -وباآلخر ويف الوقت نفسه تتجلى األمهية الكربى لقراءة الرتاث عند جابر عصفور يف قوله:
"منذ سنوات طويلة ،وأنا منشغل بعملية قراءة الرتاث النقدي ،بوصفها عملية ملحة هلا أمهيتها يف
ذاهتا ،وبوصفها عملية صغرى مرتبطة بعملية كربى هي قراءة الرتاث بوجه عام .وبقدر ما كنت أدرك
أن اإلحلاح على قراءة الرتاث هو الوجه اآلخر من اإلحلاح على قراءة الواقع ،أو احلاضر ،كنت أزداد
اقتناعا أنه ال توجد قراءة بريئة ،أوحمايدة للرتاث ،ذلك ألننا عندما نقرأ الرتاث ننطلق من مواقف
فكرية حمددة ،ال سبيل إىل جتاهلها ،ونفتش يف الرتاث عن عناصر للقيمة املوجبة أو السالبة ،باملعىن
الذي يتحدد إطاره املرجعي باملواقف الفكرية اليت ننطلق منها".1
وتأسيسا على هذا القول يتضح جليا أن الرتاث ميارس نوعا من الضغط على الذات القارئة
قصد مساءلته وبعثه ،ألن احلاضر بكل إشكاالته هو من فرض هذه العودة ،دون أن ينسلخ القارئ
للرتاث من توجهه الذي يصدر عنه وعن مبادئه اليت ينتصر هلا ويؤمن هبا ،وانطالقا من هذا تش ّكل
عملية العودة إىل الرتاث حبثا عن معامل للطريق قد تسرتشد هبا الذات يف املستقبل ،وجتد يف هذا
الرتاث حال للعديد من إشكالياهتا ومشكالهتا اليت طفت على سطح الفكر واملعرفة ،ولعل من مجلة
الدوافع اليت تكمن وراء العودة إىل الرتاث واإلحتماء به ،االحنطاط احلضاري الذي عاشه اإلنسان
العريب على امتداد زمن طويل ،إضافة إىل الصدمة احلضارية اليت جتسدت يف الغياب التام للممارسة
املعرفية أو التقنية ،اليت ميكن لإلنسان العريب أن يق ّدمها ،فضال عن تساؤل اإلنسان العريب ،ومراجعة
واقعه وطبيعة املرحلة اليت يعيشها ،فهناك فارق واضح أصبح يفرض نفسه ،وهو التقدم املذهل للغرب
يف مقابل التأخر الفاضح للعرب ،ملعاناهتم من سيطرة العقل اخلرايف.
انطالقا من هذه العلل والدوافع أسس جابر عصفور مشروعه النقدي يف قراءة الرتاث ،مثريا
العديد من القضايا اهلامة على الصعيد املعريف والفلسفي ،فعندما يثري قضية العالقة بني النقد والبالغة
ونشأة ما يسمى بالنقد احملدث ،يذهب إىل أن النقد ال ينفصل عن البالغة وال تنفصم عرامها ،حلاجة
األول لآلخر وألن احلدود املعرفية بينهما كانت غري واضحة املعامل ،فال يكاد يذكر أحدمها إال وي ّذكر
باآلخر ،أما النشأة الفعلية اليت أسست النقد العريب احملدث فريجعها عصفور إىل الرتكيبة الفكرية اليت
صاحبت االختالط القومي وما تبعه من جدل وخصومة بني القدمي واحملدث ،فيقول ...":وبقدر ما
كان هذا الوجه اإلبداعي قرين الوجه الفكري يف رؤية متّحدة ،تسعى إىل التحول عن عامل قدمي
وابتداع عامل تارخيي جديد ،كانت الصلة وثيقة بني املستويات املتعددة هلذه الرؤية ،على حنو جعل
أهل العقل يف الفكر سندا لطرائق احملدثني يف اإلبداع ،بالقدر الذي جتاوبت به دوال اإلبداع ودوال
الفكر لتنطق داللة املنظور اإلجتماعي املتحول الذي حيتوي الفكر واإلبداع معا ،بل على حنو التقى
فيه الفكر واإلبداع يف مستوى يتوسط بينهما ،فتولد نقد أديب "حمدث" صاغ فيه أهل العقل األصول
1
ومربرين حركتها يف الوقت نفسه".
اجلديدة إلبداع أقراهنم من احملدثني ،مدافعني عنها ّ
ترجع هذه النربة املتحفظة لعصفور من خالل هذا االقتباس إىل عدم حتمسه ملا أصبح يعرف
بالنقد األديب احملدث ،فجاءت تسميته له بالتنكري بدل التعريف به ،غري أن ما هو مؤكد من املعرفة
النقدية بني الفريقني القدمي واحملدث هو عملية التقنني والتقعيد العلمي ،اليت مارسها بعض النقاد،
الشيء الذي قد يضر بالعملية النقدية من أساسها ،وأسهم يف تأجيج نار اخلالف بني أنصار
الفريقني أنصار العقل من املتكلمني ،وما أوجده أصحاب اإلبداع يف تلك الفرتة ،وأثناء حتسسه
مفاصل البالغة العربية القدمية ،وأوليات تعريف علم الشعر فيها ،يقف عصفور عند التعريف
القاعدي للشعر كما ذهب إىل ذلك قدامة بن جعفر مع شيء من االقتدار املعريف فيه ،وذلك
التعريف الذي مل خيالطه شيء من منطق أرسطو أو فلسفة اليونان كما كان احلال مع غريه ممن أتى
بعده ،كحازم القرطاجني وابن خلدون ،يعرف قدامة الشعر بقوله ":قول موزون مقفى يدل على
معىن" مث يأيت تفصيل ذلك وبيانه على النحو التايل ":فقولنا (قول) دال على أصل الكالم الذي هو
323
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
مبنزلة اجلنس للشعر وقولنا (موزون) يفصله مما ليس مبوزون ،إذ كان من القول موزون وغري موزون،
وقولنا (مقفى) فصل بني ما له من الكالم املوزون قواف وبني ما ال قوايف له وال مقاطع وقولنا (يدل
على معىن) ،يفصل ما جرى من القول على قافية ووزن مع داللة على معىن مما جرى على ذلك من
غري داللة على معىن".1
سر وجوده ،أوهلا السياق التارخيي الذي مثّة معايري حت ّكمت يف إبراز هذا التعريف ودافعت عن ّ
تنزل فيه هذا التعريف رغم قصوره وهتافته يف العديد من املناحي ،إذ ال يشفع املنظور التارخيي هلذا
ّ
التعريف بأن يقبل كتعريف جامع مانع للشعر ،سار على الرقعة البالغية يف القرون األوىل ،إال أ ّن
مأتى القصور يندرج يف رأي جابر عصفور من ...":أنه ال ينطوي على ّ
أي حتديد للقيمة ،وال مييز ما
جمرد النظم
عما ليس كذلك ،أو -بعبارة أخرى ،-ال مييز الشعر عن ّ
ميكن أن نسميه "الشعر احلق" ّ
الوزين".2
تأيت مربرات القصور يف هذا التعريف من منـزع القيمة اليت يربطها جابر عصفور رمبا بالفائدة
من قول الشعر سواء يف شكله أو مضمونه ،وعلى ذلك األساس يستطيع الناقد أن مييز بني الشعر
حل من الشاعرية يضيف عصفور نقده لتعريف قدامة احلق وباقي األجناس املنظومة ،اليت هي يف ّ
شارحا مقصوده من القيمة املرغوبة أو املطلوبة قائال ":ولكي يتم حتديد القيمة أو التمييز بني الشعر
املعرفة -وهي القول املوزون املقفى
والنظم ينبغي البحث عن اخلصائص املميزة اليت إذا تعاورت املادة ّ
الدال على معىن -صارت املادة يف غاية اجلودة ،فتصبح شعرا حبق ،أو يف غاية الرداءة ،فتصبح جمرد
نظم بال قيمة ،أو تندرج بني هذين الطرفني ،فتتحدد قيمتها تبعا ملوقعها من هذين النقيضني -
اجلودة املطلقة والرداءة املطلقة".3
هناك حلقة أخرى من احللقات املهمة يف التعريف بعلم الشعر يف البالغة العربية ،وهي حلقة
موصولة باإلرث البالغي لقدامة يف تعريفه للشعر ،دون أن خيرج عنه إال ما جتاوز فيه ابن طباطبا،
قدامة من إعطاء األمهية الكربى لعامل الطبع والصنعة يف العملية اإلبداعية للشعر ،يقول ابن طباطبا
1قدامة بن جعفر :نقد الشعر ،تح عبد املنعم خفاجي ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،دت ،ص.22 :
2جابر عصفور :مفهوم الشعر ،ص.05 :
3املصدر نفسه ،ص. 05 :
324
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
خص به
" الشعر -أسعدك اهلل -كالم منظوم بان عن املنثور الذي يستعمله الناس يف خماطباهتم مبا ّ
من النظم الذي إن عدل به عن جهته جمّته األمساع وفسد على الذوق ،ونظمه معلوم حمدود ،فمن
صح طبعه وذوقه مل حيتج إىل االستعانة على نظم الشعر بالعروض اليت هي ميزاته ،ومن اضطرب ّ
عليه الذوق مل يستغن عن تصحيحه وتقوميه مبعرفة العروض واحلذق هبا حىت تصري معرفته املستفادة
كالطبع الذي ال تكلّف معه".1
مما نالحظه حول هذا التعريف أنه يدور يف فلك التعريف اإلطار الذي أسسه قدامة بن
جعفر ،إال ما أضافه ابن طباطبا حول إشكالية الطبع والصنعة والتكلف الواضح من قبل بعض
الشعراء ،وهو تعريف ال ينأى بنفسه عن الوظيفة اجلمالية اليت يرومها كل شاعر مبدع ،ألن السياق
التارخيي الذي أفرز هذا التعريف ومن خالله الكتاب بكامله ،غري السياق التارخيي الذي ألّف فيه
قدامة كتابه ،يكتب جابر عصفور معلّقا حول كتاب عيار الشعر قائال ":إ ّن الكتاب ليس كتابا يف
نسميه بالنقد التطبيقي ،الذي يرتكز حول النقد املوضعي معتمدا على املوازنة ،أو قياس األشباه
ما ّ
على النظائر ،وإمنا هو كتاب يف النقد النظري ،الذي يعىن بتحديد أصول الفن ،وتوضيح قواعده،
2
وبالتايل حتديد معيار للقيمة".
تلتئم الدائرة بأقطاهبا الثالثة من رواد البالغة العربية يف تأسيسهم لعلم الشعر ،يقوم حبصر
األقوال الشعرية اإلبداعية وخيرج منها ما يند عنها ،إن القطب األخري من هذه األقطاب جعل لنفسه
حيزا ضمن العقول الكبرية اليت زامحته وتأثّر هبا يف الوقت نفسه ،ما حدى به إىل كشف وإبراز نواة
نظرية التخييل يف الرتاث البالغي والنقدي عند العرب ،متأثرا بتعريفات عبد القاهر الجرجاني حول
حتديده ملاهية النظم ويف الشق اآلخر تأثريات ابن خلدون يف التخييل ،إال أن مادفع حازما إىل تبيان
ذلك هو السياق التارخيي الذي عاشته األمة يف تلك احلقبة ،وتردي اإلبداع وتقهقره يف موضوعاته
كما يف أشكاله ،وازدراء الناس لإلبداع وكل حقول املعرفة يف تلك احلقبة يقول حازم واصفا تلك
احلال ...":بل كثري من أنذال العامل -وما أكثرهم -يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة ،وكان القدماء
من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيه ،عندما اعتقد هؤالء الزعانفة على حال قد نبّه عليها أبو
1ابن طباطبا :عيار الشعر ،تح عبد العزيز بن ناصر املانع ،إحتاد الكتاب العرب ،دمشق ،دط،3115 ،ص.2 ،5 :
2جابر عصفور :مفهوم الشعر ،ص.30 :
325
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
علي ابن سينا فقال :كان الشاعر يف القدمي ينـزل منـزلة النيب ،فيعتقد قوله ،ويصدق حكمه ،ويؤمن
بكهانته ،فانظر إىل تفاوت ما بني احلالني ،حال كان ينـزل فيها منـزلة أشرف العامل وأفضلهم ،وحال
صار ينـزل فيها منـزلة أخس العامل وأنقصهم".1
ال جند داعيا لتفريع وتبسيط هذا التعريف املسهب حول مكانة الشاعر ودوره يف األمم
2
نود التأسيس على هذا التعريف ملعرفة وظيفة الشعر عنده كما اقتبسها من
السالفة* بقدر ما ّ
الفلسفة اإلغريقية ،بقرهنا بني اجلانب اخللقي للشعر متجسدا يف حدي القضية من فضيلة ورذيلة،
واليت ينهض الشعر بإبرازها ،إما حمببا فيها أو داعيا إىل الزهد هبا ،يقول حازم يف تعريفه للشعر
والذي نتلمس فيه دور قدامة وتأثريه ال حمالة عليه كما أثر يف غريه من الالحقني عليه ،يقول
حازم ":الشعر كالم موزون مقفى من شأنه أن حيبب إىل النفس ما قصد حتبيبه إليها ،ويكره إليه ما
قصد تكريهه لتحمل بذلك على طلبه أو اهلرب منه ،مبا يتضمن من حسن ختييل له وحماكاة مستقلة
بنفسها أو مقصورة حبسن هيئة تآليف الكالم،أو قوة صدقه أو قوة شهرته أو مبجموع ذلك".3
يتضح التأثري العقلي لقدامة جليا من خالل هذا التعريف ،إال أن اجلديد فيه هو احتكامه
ملبدأ املفاضلة األخالقية اليت ينهض الشعر بإبرازها أو التنفري منها ،وهو مبدأ ما فتئ يرسخه حازم
فيما سيأيت من عملية التأصيل اليت ميارسها يف حقل علم الشعر والبالغة اليت يروم التأسيس هلا ،غري
أن هناك فروقا جوهرية وجلية بني طروحات حازم لتعريف الشعر ومهمته ومعضلة اللفظ واملعىن يف
1حازم القرطاجين:منهاج البلغاء وسراج األدباء ،تح :حلبيب بن خوجة ،دار الغرب اإلسالمي ،تونس ،ط ،0080 ،3ص:
.032
2يذهب جابر عصفور إىل أن الشاعر العريب يف العصر اجلاهلي كان حيضى مبكانة النيب يف قومه ،ويسوق يف هذا الصدد
كلمة منسوبة أليب عمرو بن العالء تقول" :كانت الشعراء عند العرب يف اجلاهلية ،مبنزلة األنبياء من األمم" ينظر:جابر
عصفور ،غواية الرتاث،كتاب العريب ،وزارة اإلعالم ،الكويت ،ط ،3115 ،0ع ، 23ص .02:وهو توجه حيتاج إىل إعادة النظر
يف املقدمات والنتائج ،ذلك أن العرب رفضوا النبوة متمثلة يف شخص النيب حممد ،يف الوقت الذي مل يكونوا يرفضون فيه
الشعر وال الشعراء ،بل كيف اهتموه بأنه ليس نبيا بل شاعرا لو كان الشعر هو نفسه النبوة عندهم ،إهنم باهتامهم النيب
بالشعر ،إمنا كانوا ينكرون النبوة من جانب ،وحياولون التحقري من شأنه من جانب آخر ،فاألمر الذي جاء به حممد -يف
نظرهم -عادي جدا ،فهو ليس إال واحدا من هؤالء الشعراء الذين غصت هبم اجلزيرة العربية ،إذن فالكالم عن النبوة ليس هو
نفسه الكالم عن الشعر.
3حازم القرطاجين :منهاج البلغاء وسراج األدباء ص.20 :
326
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الرتاث النقدي والبالغي .وما كان قد أرسى دعائمه قدامة وابن طباطبا نظرا للتأثري الفلسفي اجللي
على الرجل يف تلك احلقبة ،يقول جابر عصفور مربزا فاعلية التأثري اإلنعكاسي اليت طرأت على
حازم ":هناك تباعد زمين يصل إىل حوايل ثالثة قرون يفصل ما بني حازم وبني ابن طباطبا وقدامة.
وقد كان هذا التباعد يف جانب حازم ،ألنه أتاح له االطالع على ما مل يطّلع عليه سلفاه اللذان
سبقاه يف احملاولة ،وأعين إجنازات الفالسفة والنقاد التطبيقيني الذي قدموا إجنازهم منذ النصف الثاين
من القرن الرابع ،كما أتاح له االطّالع على إجنازات النقاد التظريني الذين كتبوا بعد قدامة بن جعفر.
ومن املؤكد أن حازما القرطاجين كان يعرف قدامة جيدا ،فقد ذكره -يف األجزاء اليت وصلت من
"منهاج البلغاء وسراج األدباء" ،-غري مرة ذكرا ينطوي على إجالل وتقدير .صحيح أن حازما خيتط
لنفسه منهجا يف التأليف غري منهج قدامة ،ولكنه -وهذا هو املهم -يتابع قدامة يف حماولة تأصيل
مفهوم للشعر غري مفارق لفكرة "علم الشعر" اليت سعى إليها قدامة يف القرن الرابع".1
ينقاد جابر عصفور وراء التأثري الكبري الذي ميارسه السياق التارخيي يف كشف النظريات ويف
أفوهلا يف الوقت نفسه ،ويُرجع إليه -أي السياق التارخيي -ازدهار الكشوف العلمية اليت تتميز هبا
حقبة على أخرى وأمة على أخرى ،فهو يرى مثال أن احلقبة التارخيية اليت نشأ هبا قدامة كانت
"تعاين فوضى األحكام النقدية" ،2وأن املرحلة اليت جاء فيها حازم أي القرن السابع كانت " تعاين
من فوضى القيم واضطراهبا املصاحب لسقوط احلضارة واهنيار اجلماعة ،وهي معاناة مرتبطة بوضع
أكثر تعقيدا من الوضع الذي عاناه قدامة".3
يسرتسل جابر عصفور مربزا أمهية السياق التارخيي الذي اجنر عنه ذلك الوضع قائال" :لقد
كان قدامة يؤلف كتابه يف فرتة ازدهار مل تكن قائمة يف عصر حازم على مستويات عدة .وبالتايل
كانت مشكلة قدامة يف نقد الشعر ،هي حتديد علم يضبط خطى االزدهار ،ويكشف عن عناصر
القيمة الثابتة يف كل شعر أصيل .أما حازم فكان عليه أن يواجه اإلحساس العام هبوان الشعر وقلة
غض من إجناز املاضي ،وكان على
جدواه ،يف جمتمع ينهار كل ما فيه من أصالة ،ويذبل فيه كل ّ
حازم – أيضا -أن ينفي صفة الشعر عن كثري من منظومات عصره ،يف حالة من الوعي ،أدرك معها
أن تصحيح وضع الشعر يعين تصحيح وضع اجملتمع يف جانب من جوانبه".1
ترتبط وظيفة الشعر عند حازم مبدى قدرة الشعر على جتاوز الواقع املهني الذي يرزح حتته
اجملتمع العريب ويف الوقت ذاته يربز من خالل هذا النص أن حازما استطاع أن يصوغ اجلهود العقلية
والنقلية املوجودة يف ذلك الوقت ،ليشكل مفهوما متكامال لعلم البالغة والشعر يف عصر أىب عن كل
إبداع ونأى عن كل اجتهاد ،لقد استطاع العقل العريب ممثال يف جمهودات حازم أن يتجاوز ما هو
موجود على مستوى الرتكيبة العقلية املنحطة ،وما تبعها من احنطاط على مستوى الواقع السياسي
واالجتماعي ،على األقل أن ينجز من منظوره اخلاص حماولة ملّ شتات نظرية الشعر يكون جوهرها
التخييل وماهيتها احملاكاة.
مل يتغاض جابر عصفور عن عملية التأثري اليت مارسها العقل اليوناين على العقل العريب يف
مراحل التأسيس ،ومل يتجاهل كذلك ،مبدأ األخذ من اآلخر يف شكل تفاعل وليس يف شكل
انفعال ،إمنا تتم عملية األخذ بوعي كامل بفحوى هذا الوافد ،وحياول أن ميارس نوعا من التأريخ
لفعل التأصيل النظري للشعر يف الثقافة العربية اإلسالمية يكتب قائال " :الشك أن التأصيل النظري
للشعر كان يكتسب عمقا مستمرا باإلفادة من االطراد املتواصل يف حماولة الفالسفة التوفيق بني
طور ابن اهليثم -يف هذا اجملال -حماوالت أفكار اليونان عن الشعر وطبيعة الشعر العريب ،ولقد ّ
الكندي والفارايب وابن سينا برسالته الضائعة عن صناعة الشعر "ممتزجة من اليوناين والعريب" وواصل
ابن رشد هذه احملاولة حىت وصل هبا إىل خامتتها الطبيعية يف شرحه كتايب "الشعر" و"اخلطابة"
ألرسطو ،أو يف شرحه "مجهورية أفالطون" ولقد قدمت هذه احملاولة املتواصلة للفالسفة مادة خصبة،
أفاد منها حازم القرطاجين يف القرن السابع ،واستغلها يف متابعة التأصيل النظري ملفهوم الشعر،
2
فأعانته على الوصول إىل مفهوم متكامل ،ال جند له مثيال يف الرتاث النقدي".
يتتبع عصفور عملية احملاكاة الشعرية تتبعا جادا ويضع مجلة من املعايري والشروط لنجاح عملية
احملاكاة يف الشعر ،غري أن الذي لفت انتباهه أكثر من غريه ،ما كان يصطلح عليه يف الرتاث النقدي
مبحاكاة املشاهبة "باعتبارها أساس اإلبداع وحيث إن اللغة يف احملاكاة هي أداة التخييل ،املباشر وغري
حمورة أي
املباشر ،فإن اإلبداع يعتمد بالدرجة األوىل على االستخدام اخلاص للغة حمرفة أو ّ
1
استخدامها على اجملاز حىت تبتعد عن مباشرة الداللة باملواضعة أو على احلقيقة".
ذكرت أن عصفور يستعرض مفهومه حملاكاة املشاهبة بقوله... ":أما احملاكاة التشبيهية فتجعلنا
نتعرف املوضوع من خالل غريه ،أو تدل عليه بلفظ غريه ،أي إهنا ال تعرضه يف عزلة واكتفاء ذاتيني،
وإمنا تعرضه بواسطة سلسلة من اإلشارات إىل موضوع آخر متميز عن ذلك املوضوع ،ولكنه ميكن أن
يرتبط به بنحو من األحناء .ومعىن ذلك أن احملاكاة التشبيهية تقوم على ضرب متميز من العالقات
اجملازية ،تربط بني طرفني أو أكثر .هذه العالقات يسميها حازم "االقرتان" ،ويراه خاصية أساسية يف
احملاكاة التشبيهية ما دامت تقرن الشيء بغريه" :ونظري ذلك من احملاكاة يف حسن االقرتان أن يقرن
2
بالشيء احلقيقي يف الكالم ما جيعل مثاال له مما هو شبيه على جهة من اجملاز متثيلية أو استعارية".
تتسع الرؤية النقدية عند جابر عصفور من خالل تتبعه للمسار النقدي الرتاثي خاصة عند
حازم القرطاجني ،الذي ميثل بالنسبة ملسار النقد العريب القدمي اكتمال املفهوم من خالل طروحاته
النقدية اليت جعلت من القضايا الفلسفية أعمدة أقيمت عليها صروح النقد العريب ،ويقف عصفور
عند هذه املنجزات موقف املشدوه هبا يف خضم احلركة النقدية الفكرية اليت متور هبا الساحة العربية
آنذاك ،ويقر بعصرية حازم حىت أمام أكثر القامات احلديثة عصرنة ،يقول يف مفهوم الشعر حتت
عنوان الشاعر واملتلقي..":ال يعين هذا أن الشاعر عليه أن مير بكل جتربة يعاجلها يف إبداعه .إن
مر هبا بشكل أو بآخر ،حبيث خيلق منها القدرة التخيلية متكن الشاعر من إعادة تشكيل جتاربه اليت ّ
جتارب جديدة ،قد ال يكون عاناها واقعيا ،وإن عاناها ختيليا ،ومن هنا جيعل حازم أوىل قوى الطبع
هي القوة على التشبيه فيما ال جيري على السجية وال يصدر عن قرحية مبا جيري على السجية ويصدر
عن قرحية .ومن املهم أن نفهم "القوة على التشبيه" باملعىن الشامل الذي يقرهنا بقدرة الشاعر على
جتاوز ذاته ،يف فعل من أفعال "التعاطف" و"التقمص" ،ال يفارق قدرة التخيل على خلق جتارب
1
مستقلة ،ال تتطابق حرفيا مع حياة الشاعر املتعينة".
ما يرومه عصفور من خالل هذا النص ،أن حازما قد أوىل العناية البالغة مللكة التخييل ،يف
صنع عوامل جديدة من قبل الشاعر ،وليس شرطا أن يكون إبداعه صورة معكوسة حلياته أو جتاربه،
بل يكفي أن حيسن التخيل يف ما يروم الوصول إليه ،وجيانس بني ذلك وبني القوة اليت يتمتع هبا
الشاعر على مستوى التشبيه باعتباره آلية من آليات صناعة الصورة الشعرية إن مل يكن أمهها؛ فلهذه
امللكة القدرة على التشبيه ،وهي من ينقل الشاعر من املعىن البسيط إىل املعاين السامقة اليت تعلو
مساء الصورة .الشيء الذي مي ّكنه من خلق وإبداع عوامل جديدة على مستوى ختييله حىت ولو مل جتد
ما مياثلها على صعيد التجربة الشخصية للشاعر.
بعدما يقف عصفور عند خاصية التخييل واحملاكاة عند حازم ،يضع املقاييس العلمية ملهمة
الشعر وبعد أن يستجلي مكامن العملية النقدية الرتاثية برمتها ،يقف عند حدود التعريفات اهلامة اليت
عاينها تراثيا خاصة ما تعلق منها بتعريفات حازم الدقيقة واملضبوطة ،ففي إحدى تعريفاته لوظيفة
الشعر يكتب قائال ":األقاويل الشعرية ...القصد هبا استجالب املنافع واستدفاع املضار ،ببسطها
عما يراد ،مبا خييل هلا فيه من خري أو شر 2".إن هذا التعريف
النفوس إىل ما يراد من ذلك وقبضها ّ
هو املفتتح للفصل الثالث من كتاب جابر عصفور "مفهوم الشعر" ،والذي يقع حتت عنوان:
تبوء لنفسها مكانة"األساس األخالقي ملهمة الشعر" ،يكتب شارحا تعريف حازم يف لغة تكاد ّ
ومنـزلة وسطا يف ابتعادها عن جتسيدها ،بل إىل ما يطمح إليه من عمليات التجاوز اجلمايل والفين،
يقول " :والنافع يف الفن البد أن يكون نافعا يف احلياة ،ألنه ال ميكن أن يتعارض النافع يف الفن مع
النافع يف احلياة ،مادامت غاية الفن تعني على حتقيق غاية احلياة من زاوية تكامل اجلوانب اإلنسانية
يف احلياة .النافع يف احلياة شبيه بالنافع يف الفن ،كالمها أشبه بوجهي العملة لشيء واحد متصل بغاية
اإلنسان وسعيه وراء الكمال".3
إن ربط الناقد لوظيفة الشعر بالنفع والضرر ،قضية حتتاج إىل إعادة نظر ،خاصة إذا علمنا أن
الفن هو التعبري اجلميل عن احلياة بكل مظاهرها املادية واملعنوية ،ألن الغاية املرجوة من اإلبداع
الشعري لدى الشاعر هي الفن أوال مث التعبري عما جتيش به نفسه من عواطف وانفعاالت ثانيا ،وإذا
سلّمنا جدال أن غاية اإلبداع الشعري هي جلب النفع ودرء الضرر ،حكمنا على الكثري من هذه
املدونات بغاية أحادية ضيقة ال تتسع ملا هو منوط بتشكيلها فنيا ،أضف إىل ذلك السعي احلثيث
للمبدع خاصة ،واإلنسان على وجه العموم إىل بلوغ درجات الكمال ،كما أثبت عصفور ،والكمال
كما نعلم درجة أعلى من اجلمال وحىت اجلالل ،فالشاعر يبتغي الكمال حىت ولو على مستوى الفن
إذ الكمال خاصية من خواص اجلمال املطلق.
يسرتسل عصفور يف استجالء مكامن وظيفة الشعر ومهمته بعيدا عن ما كان بسطه من ذكر
ملظان النفع والضرر ،ويقف عند قيمة أخرى أرقى وأمسى من سابقتها ،وهي قيمة األساس اجلمايل،
بعد أن يربطه بقيم اخلري والشر ،اليت ينهض الشعر بإبرازها ،عند كل عملية إبداعية ،يقول عصفور":
ومادام الشعر نشاطا إنسانيا يرتبط بسعي البشر حنو الكمال ،فإنه ال ميكن إال أن يكون أحد
األنشطة اإلنسانية الراقية ،ألن رقي الغاية يبسط ظله على كل وسيلة تؤدي إليه ،وبذلك تصبح
القيمة األخالقية مصاحبة للقيمة اجلمالية وغري مفارقة هلا .إن اجلميل خري بالضرورة ،واألفعال
اجلميلة قرينة الفضائل ،واألمجل هو الوجه اآلخر لألنفع ،ماداما قد ارتبطا بالكيفية اليت تعني الكائن
اإلنساين على الوصول إىل الكمال .ومن املنطقي -واألمر كذلك -أن يش ّد الشعر إىل إطار من القيم
اخللقية قائم بالضرورة خارج جمال الفن ،وأن حتدد مهمة الشعر يف ضوء خمطط أخالقي ميثل إطار
القيم املسلم بقيمتها ،ويبدأ هذا اإلطار بالثنائية اليت تفصل ما بني النفس والبدن ،وترفع من شأن
1
األوىل على حساب الثاين ،مستندة يف ذلك إىل تراث ميكن التوفيق بني ما فيه من حكمة وشريعة".
رمبا ال نساير جابر عصفور يف الكثري مما ذهب إليه يف هذا النص ،ألن الفن باعتباره تعبريا
مجيال عن احلياة ال ميكن أن يكون وسيلة لغرض آخر سوى اجلمال الكامن فيه ،ذلك أن الفن أو
اإلبداع مىت انزاح عن هذه القيمة فقد كل مسوغ أنطولوجي له ،فالفن ال ميكن قرنه وربطه هبذه القيم
331
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
اخلارجة عن إطاره ،قيم اخلري والشر واملنفعة والضرر وغريها ،إمنا الغاية الوحيدة فيه هي التعبري اجلمايل
عن الوجود ،ويقف الكثري من النقاد اجلماليني ضد من قال بأن وظيفة الفن هي خدمة احلياة
واحلاجات اإلنسانية ،ألن يف هذا فروض خترج على طبيعة الفن بوصفه إبداعا ال ميكن له أن ينجح
حتت ظل هذه القيود ،كما أنه ال يتيح للفنان احلرية يف صياغة هذا النموذج اجلمايل ،يقول طه
حسين يف املنحى نفسه...":فاألدب ليس وسيلة وال ينبغي أن يكون وسيلة ،واألديب ال ينشئ أدبه
لتحقيق هذا الغرض أو ذاك وال ليبلغ هذه الغاية أو تلك ،وإمنا األدب غاية يف نفسه واألديب
يسخر األدب فيكون وسيلة من وسائل اإلصالح يكتب ألنه ال يستطيع إال أن يكتب ...فأما أن ّ
أو سبيال من سبل التغيري يف حياة الشعوب ،فهذا تفكري ال ينبغي أن نساق إليه وال نتورط فيه".1
يُرجع طه حسين السبب يف ربط الفن باجملتمع وجعله وسيلة لإلصالح أو اخلري أو ما إىل
ذلك إىل تأثر أصحاب هذا االجتاه بالفلسفات املادية ،فيقول " :كل ما يؤخذ به هؤالء السادة الذين
يدعون إىل أن ينشأ األدب يف سبيل احلياة ،هو أهنم يريدون أ ْن ينزلوا باألدب فيجعلوه وسيلة بعد أن
كان غاية ،وينكرون أن يكون األدب أول ما يكون وقبل كل شيء غذاء األرواح ،وتوشك املادية
احلديثة اجلاحمة أن تضطرهم إىل جعل اإلنسان كله أداة وأن تضطرهم إىل أن ينكروا ما يف اإلنسان
من روح ،من حقه أن يقدم له الغذاء الذي يالئمه" ،2فهو يرى يف ذلك حطّا من قيمة األدب
خلو اجلميل من املنفعة
واإلبداع وال ميكن أن يصري وسيلة بل هو غاية يف ح ّد ذاته ،ويبدو أن ضرورة ّ
قد دخلت إىل علم اجلمال عن طريق فلسفة كانط( )Kantإذ تبني " :أ ّن احملاكمة اجلمالية حتمل
طابعا نقيّا خالصا ال عالقة له ألحد ،أي أهنا متحررة من األخالق والسياسة" ،3وهبذا تتحدد مهمة
الفن بتوليد اجلمال مما جيعل من النص األديب يف ذاته أساسا للحكم اجلمايل ،فاحلكم اجلمايل على
هذا يرتبط بالنص نفسه ،وتستبعد كل العناصر اخلارجية املتعلقة بالفنان أو حياته أو الغرض من
النص ،ويصبح اجلمايل املعيار الوحيد الذي تقاس به قيمة العمل األديب ،إن القيمة اليت تعطى للنص
ناجتة عن مدى قدرته على أن يولّد فينا الشعور باجلمال ،يقول عبد الحميد يونس " ّأما الفن فريتبط
1طه حسني :خصام ونقد ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ط ،0028 ،8ص.58 :
نفسه ،ص.22 :
2
3عماد حامت :مدخل إىل تاريخ اآلداب األوربية -اآلداب األوربية حىت القرن التاسع عشر ،-الدار العربية للكتاب ،ليبيا،
تونس ،0020 ،ص.281 :
332
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
باجلمال ،وهذا اجلمال ال عالقة له باخلري ،من طريق مباشر وال عالقة له كذلك باحلق من قريب أو
بعيد" ، 1وهذا ما حيدد العالقة بني الفن واجلمال؛ أي أ ّن الوظيفة اجلمالية هي املهمة األساسية للفن
وهي كذلك الغاية اليت يتغياها ،وهو ما تشري إليه رؤية كانط عندما مييز بني اجلمال واخلري واحلق،
2
تفرق بينه وبني احلكم الفعلي واخللقي.
فريى أن احلكم اجلمايل ميتاز خبصائص ّ
فلكل من هذه األحكام شروطه وموضوعه ،فاحلكم اجلمايل لديه حكم خاص ال يرتبط
باملنفعة ،ومن مجلة خصائصه " أن يصدر عن رضا من الذوق ال تدفعه إليه منفعة؛ أي أن املتعة
الفنية ال هتتم بقيمة موضوعها وحتقيقه..،و ..إ ّن كل شيء له غاية تدرك أو يظن وجودها فيه ،إال
حنس أمامه مبتعة تكفينا السؤال عن الغاية منه ،حبيث لو وجد عامل ليس فيه سوى اجلمال فإننا ّ
اجلمال كان غاية يف ذاته".3
جل اآلراء اليت ترى يف الفن غاية يف ذاته ،أو أهنا تعطي اعتبارات
وتأسيسا على هذا بنيت ّ
اجلمال األولوية يف احلكم على اإلبداع األديب.
لقد حظيت الدراسات البالغية العربية القدمية باهتمام بالغ من قبل النقاد والبالغيني الذين
اقتصرت اهتماماهتم حول قراءة املظاهر اإلبداعية القدمية يف شىت جماالت اإلبداع ،وحماولة استكناه
واستكشاف جماهيل جديدة مل تتجه العناية إليها من قبل يف الدراسات البالغية ،واحنصرت
اهتمامات البالغيني يف رافدين أساسني أسهما يف توجيه تلك الدراسات ،إىل الوجه اليت هي عليه
اآلن ،يقول عبد العزيز حمودة حول استحكام هذين العنصرين يف رفد العملية النقدية ّ
برمتها تراثيا:
"...إ ّن البالغي العريب كان يتحرك وينتج على حمورين :حمور الدين الذي بدأت البالغة موظفة يف
خدمته وتبيان إعجاز كتابه السماوي ،وحمور التأثري األجنيب الذي ج ّد فيما بعد ،وخاصة نظرية
شق
احملاكاة ومبادئ املنطق كما ق ّدمها أرسطو ،والواقع التارخيي ،أيضا ،يؤكد أن البالغي العريب ّ
1عبد احلميد يونس :األسس الفنية للنقد األديب ،دار املعرفة ،القاهرة ،ط ،0058 ،0ص.82 :
2ينظر :حممد غنيمي هالل :النقد األديب احلديث ،دار الثقافة ،بريوت ،0022 ،ص.211 :
3حممد غنيمي هالل :األدب املقارن ،دار النهضة ،مصر ،ط ،2دت ،ص.221 ،220 :
333
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
وطور موقفا
طريقه بني احملورين يف براعة واضحة مكنته من حتاشي الصدام احملتمل يف أكثر من موقع ّ
وسطا ناضجا".1
تلك إذن املهام املنوطة بالدراسات البالغية القدمية وحقل اشتغاهلا حول النص القرآين كما
اإلبداعات الشعرية ،وهي يف حقيقة أمرها حقول دراسية أسهمت يف م ّد جسور التواصل بني جيلني
القدمي واحلديث ،إذ بفضل تلك اجلهود العظيمة من لدن بالغيينا كان مدار الرؤية ومناط البحث
حول ما ج ّد من قضايا على ساحة الفكر والنقد واإلبداع ،األمر الذي م ّكن من توظيف تلك
املقوالت بعد أن رفدهتا الطروحات احلداثية يف جمال الدراسات اللغوية واللسانية ،ويستعرض عبد
مر العصور ،حىت ملا كانتالعزيز حمودة تلك اإلجنازات الكربى اليت حققتها البالغة العربية على ّ
مبنأى عن تأثري الفلسفة اليونانية ،خاصة فلسفة أرسطو ،ويدافع دفاعا شديدا عن كل الطروحات
واملقوالت البالغية والنقدية اليت زخرت هبا الساحة األدبية العربية ،وحياول أن يلغي أو على األقل
يقلل من شأن التأثري الفكري للعقل اليوناين يف العقل العريب قائال" :إ ّن ما أنتجه العقل العريب عن
الطبيعة اإلبداعية لألدب ،وبرغم كل ذلك االنشغال الواضح بالفكر اليوناين :يف الشعر واخلطابة
واملنطق ،ختطى مبراحل كثرية كل ما كتبه أرسطو حول الطبيعة اإلبداعية للمحاكاة وبصورة جتعل من
2
البني إرجاع إجنازات البالغة العربية إىل التأثري األرسطي".
الظلم ّ
إن املبتغى األساسي لحمودة من إجراء هذا االقتباس هو إثبات املكانة السامية للعقل العريب
ودفع كل شبهة عن ختلفه وتبعيته للعقل اليوناين ،فالرجل حياول جاهدا إثبات هذا التمايز بني العقلني
من منطلق اخلصوصية املائزة اليت تفصل بني عقل وآخر ،ويف الوقت ذاته يثبت مدى إسهام العقل
العريب القدمي يف صناعة املعرفة خاصة اإلبداعية منها ،إذا سلمنا أن اإلبداع ضرب من ضروب املعرفة.
نعود إىل جابر عصفور وكيفية قراءته واستثماره للرتاث العريب يف حل الكثري من املعضالت
النقدية واملعرفية والفكرية؛ فالرجل ال جيد فكاكا من تعريفه للشعر كما ذهب إىل ذلك الجاحظ إبّان
القرن الثاين اهلجري ،من أ ّن ماهية الشعر تتشكل من مجاع الطبع والصنعة وترجع قيمته إىل اجلهد
وختري اللفظ وجودة السبك "بعد أن تتوافر للشاعر
اإلنساين الذي يكابده الشاعر يف إقامة الوزن ّ
تتآلف إذن خاصية الطبع والصنعة يف تشكيل املادة الشعرية ،ودون إقصاء ألحدمها ،أو إلغاء
لألخرى ،ذلك أن هذه املعاين املطروحة يف الطريق كما يقرر الجاحظ ال تصنع شعرا مبفردها مطلقا،
مادامت تفتقد إىل عملية سبك األلفاظ وتآلفها وتعالقها ،لتتشكل يف النهاية عملية اإلبداع الشعري
من مزاوجة الطبع والصنعة يف تناسق وتآلف يضمن صريورة العملية الشعرية من الشاعر إىل القارئ،
وما جتدر اإلشارة إليه يف قراءة عصفور هو حماولة مزجه بني املوهبة والصنعة يف استنطاق تعريف
الجاحظ للشعر باعتباره صناعة كباقي الصناعات يف مقارنته املعروفة بني الفضة والذهب ،واخلامت
الذي يصنع من أحد املعدنني ،إذ الفضل ال يكمن يف املعدن بقدر ما يتجسد يف صناعة الصانع هلذا
املعدن ،واألمر كذلك بالنسبة للشاعر يف تعامله مع املعاين.
تتباين عمليات العودة إىل الرتاث واستنطاقه واستثماره يف آن بني العديد من الباحثني ويف
الكثري من اجملاالت ،فكل واحد من هؤالء الباحثني له غاية يرجو الوصول إليها وله هدف يرمي
ارتياده ،وانطالقا من هذا كانت النتائج املتوصل إليها متمايزة عند مجلة هؤالء الباحثني والنقاد ،مما
مردها إىل " املاضي وحده ،أوأثرى العمليات النقدية اليت رادت الرتاث ،وعمليات اإلختالف ليس ّ
الرتاث يف ذاته ،وإّمنا هو خالف مصدره إىل جانب املاضي أو الرتاث ،احلاضر ،القارئ بشروطه
اخلاصة يف إنتاج املعرفة ،وعالقات أنساقها ومستويات هذا اخلطاب ،ذلك أ ّن العائد إىل الرتاث ال
إذن فالقارئ حمكوم باللحظة التارخيية اليت ينتمي إليها وال يستطيع أن يتحكم هو يف التاريخ؛
بل األخري من يتحكم فيه ،ويف الوقت ذاته ليس التاريخ زمنا متعاليا عن الوعي البشري ،بل هو
جمموع التجارب اليت خاضها اإلنسان ،والوجود اإلنساين تارخيي ومعاصر يف اآلن نفسه ،وسيكون
من الصعب عليه جتاوز أفقه الراهن يف فهم الظاهرة التارخيية؛ إذ ال يستطيع أن يتحول إىل املاضي
ليشارك فيه ويفهمه مبوضوعية . 2وانطالقا من هذا فإ ّن "عالقتنا بالتاريخ تقوم على اجلدل واحلوار ال
على اإلنصات السليب ،متاما كما أ ّن تل ّقينا للعمل الفين عملية جدلية تقوم على ما يطرحه علينا من
أسئلة هي اليت ش ّكلت وجوده .إ ّن التاريخ مثله مثل الشكل يف العمل الفين وسيط ميكن املشاركة يف
فهمه" . 3
يقتضي احلديث عن تارخيية النص ،البحث فيه ومساءلته الدائمة قصد تسهيل فهمه ومتثله
يسهل عملية فهم الرتاث تارخييا،
واملساءلة الدائمة ملقوالت التاريخ واملاضي وتفكيكها ،هي ما ّ
خصوصا أن عملية القراءة لنص ما تستدعي تأويله ،وهبذا وجب القول إن القراءة تأويل ،والتأويل
حبث يف الدالالت املمكنة اليت خيتزهنا النص ،وبه يتم اختبار عمق النص وقوته ،ألن النص املتعدد
يصعب من عملية القبض عليه؛ إذ هو منفلت عن قبضة زمنه ،وعن سياقه التارخيي. الدالالت ّ
ويساير جابر عصفور يف ربطه عالقة املاضي باحلاضر ما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد الذي يرى
أن الباحث ينطلق " من موقعه الراهن ومهومه املعاصرة حماوال إعادة اكتشاف املاضي ،والباحث يف
حق احلاضر يف فهم املاضي يف هذه احلالة يسلم مبا يربطه باملاضي من عالقة جدلية ،وينطلق من ّ
ضوء مهومه" ،4وعملية استحضار املاضي يف احلاضر وقراءته هي الكفيلة بتشرحيه ووضعه على حمك
النقد ونزع أردية القداسة عنه ،وحماولة كنه مهومه ومهوم احلاضر فيه ،وعملية قراءة الرتاث انطالقا من
هذا ال تتم وفق اآلليات الرتاثية القدمية ،بل بتجديد هذه اإلجراءات وحتكيم آليات النقد املعاصر اليت
1جابر عصفور :قراءة الرتاث النقدي ،مؤسسة عيبال ،ط 0000 ،0ص.0 :
2ينظر :نصر حامد أبو زيد :إشكاليات القراءة وآليات التأويل ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،ط ،0003 ،0ص.23:
3املرجع نفسه ،ص.23 :
4نفسه ،ص.338 :
336
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
من خالهلا نلج عامل النص الرتاثي ،ونتعمق فهمه ونزداد منه قربا؛ ألن عملية االرتباط بني املاضي
واحلاضر واستحضار هذه اآلليات اإلجرائية هي ما جعل عصفور يؤكد على "العالقة املتبادلة بني
جهاز قراءة الرتاث النقدي من ناحية وأجهزة النقد العريب املعاصر من ناحية ثانية ،فاألول هو بعض
الثانية ،وما حترزه الثانية من نتائج ينعكس على ما يقوم به األول" ،1وال ميكن أن يدرس الرتاث إال
باآلليات اإلجرائية اليت تنتمي لزمن القارئ ،ألن االحتكام إىل آليات الرتاث يف القراءة يصيب العملية
برمتها بنوع من القصور والتهافت ،األمر الذي جعله ينفي عنها هذه اجلدوى والفاعلية " ألسباب
أي تأمل نقدي متعددة أبرزها أن هذه الدراسات ختلو من أي وعي نظري مبوضوعها ،خلوها من ّ
ملنهجها". 2
إن ارتباط القراءة بالوعي أمر غاية يف األمهية عند عصفور ،ذلك أن الوعي بإشكاليات الرتاث
هو وحده الكفيل بإخراجه وإبرازه للذات القارئة قصد فك شفراته ونزع أردية التدثر عن معانيه،
وعزل قداسته اليت كانت حائال عن بلوغ مرامي الدراسات املختلفة ،ويلح على وضع النص الرتاثي يف
كقراء فهم العالقات التبادلية بيننا وبينه ،وجيعل من املسافة الفاصلة بيننا
سياقه التارخيي ليتسىن لنا ّ
فعالة يف عملية الفهم والتمثّل ،يقول " :فعندما نضعه يف سياقه التارخيي أو مواضعه التارخيية
تكون ّ
املخالفة ملوضعنا ،فإننا نبقي على حضوره املغاير حلضورنا ،وحنفظ ألنفسنا كياننا املستقل عن وجوده،
فنحرره من أوهامنا عنه ،ونتحرر من خوف أن حيكم قيده على رقابنا".3
حي ّذر عصفور من عملية حضور الرتاث يف سياقنا احلاضر؛ إذ من شأن هذه العملية أن جتعل
الرتاث حيكم قبضته علينا وجيعلنا حبيسي سياقه العام ،ونسقه املعريف ،ينهج عصفور حنو املغايرة ،ألن
سياق القارئ غري سياق النص املقروء ،لكل سياقه اخلاص القارئ واملقروء ،وهو ما يثبت االختالف
بينهما ،إال أن القضية اليت رمبا تكون غائبة عن وعيه هي ما يعرف باملسافة الزمنية بني القارئ
والنص ،ألن التأويل ال يتحقق إال بالفهم العميق للنصوص ،كما أنه يسعى إىل أن يصري هو نفسه
أداة فهم للنصوص اليت تكون قيد الدراسة ،واستتباعا هلذا تطرح النصوص الرتاثية قضية املسافة الزمنية
اليت تفصل الدارس عنها؛ إذ كلما ازداد بعدا إال وازداد غموضا وتطلّب ذلك جتديدا لقراءاته ،ألن
النص الذي يكتفي بالقراءة الواحدة يتوقف عن االستمرار والنمو ومن مث ُحيكم عليه باملوت ،وهو ما
حدث مع القراءات اليت ارتبطت باملستوى السطحي للنصوص ،إن كل الشروح والتفسريات تظل
واحدة وال ترقى إىل مستوى القراءة والتأويل ،وال ميثل فهم النصوص وتأويلها جمال العلم فقط،
1
ولكنهما ميتحان من التجربة العامة اليت خيلقها اإلنسان مع العامل.
إن عملية القراءة املعاصرة للنص الرتاثي هي اليت تسهم يف جعله مألوفا وليس غريبا عن هذا
القارئ الذي يشتغل على جممل األنساق املعرفية للنص املقروء ،وهكذا ينبغي أن تتم قراءة النصوص
انطالقات من الفرتة التارخيية املعاصرة للقارئ؛ أي احلاضر الراهن ،ال احلاضر املاضي ،مع مراعاة
السياق العام الذي تش ّكل النص يف إطاره ،كما ال ميكن للتأويالت أن تكون على حساب حقيقة
النص ،بل جيب أن تستنطقه وتبحث عن حفرياته املشكلة له ،إىل جانب ذلك تبقى ضرورة البحث
يف النص عن ما يقوله ،باإلحالة إىل عنصر االنسجام السياقي اخلاص ،وإىل حالة األنساق الداللية
اليت تشكل مرجعيته ،وعن ما جيده املرسل إليه ( )Destinataireباإلحالة إىل أنساقه الداللية
اخلاصة 2.لذلك ال ميكن الركون والطمأنينة للظاهر النصي أثناء عملية القراءة ،وإال صارت العملية
إىل وجود نص ميت؛ ألن املهم يف القضية كلها هو إبراز جانب املسكوت عنه يف هذه النصوص،
باعتبار النص عاملا مكثفا من الرموز ميارس دائما لعبة التغيب واإلظهار ،اخلفاء والتجلي.
كان السؤال احملوري واجلوهري الذي ندب عصفور نفسه لإلجابة عنه منذ عقود هو مالرتاث
النقدي؟ ملاذا نقرؤه؟ كيف نقرؤه؟ وهي أسئلة غاية يف األمهية ألهنا تنفتح على بعضها البعض ،فإذا
كان السؤال األول ينهض بإبراز املاهية والكينونة ،فإن الثاين يبحث يف العلة من قراءة هذا الزخم،
واالطالع إىل الفائدة املرجوة من وراء ذلك ويضطلع السؤال الثالث بآليات وكيفيات القراءة نفسها
والوقوف عند فاعليتها وجدواها .ورمبا كانت هذه األسئلة " متكررة الطرح متغرية اإلجابة ،ذلك أهنا
1
Voir: H.G.Gadamer:Vérité et méthode, Ed.seuil- 2eme Edition, 1976, p: 20.
2
Voir: U.Eco. Les limites de l'interprétation, Traduit de l'Italien par .Myriam Bouzaher. Bernard
Grasset.1992 .p:29,30.
338
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
أسئلة متضمنة بالضرورة ،وإن اختلف ترتيبها ،يف كل اجتاه نقدي ...إن ثبات األسئلة يرتبط
حبضورها الضمين يف كل حركة أدبية (نقدية) تتكامل جوانبها النظرية والتطبيقية".1
جتسد هذه األسئلة مجلة املناحي القرائية اليت تطبع كل قراءة ومتيزها عن غريها ،على مستوى
مر بنا أن أسئلة الرتاث تتباين وتتمايز تبعا للغايات واملرامي
الطرح النظري أو املمارسة التطبيقية ،وقد ّ
تغري يصيب األجهزة القرائية للرتاث ينجر عنه بالضرورة تغري جراء العملية النقدية؛ فكل ّ
املقصودة من ّ
يف النتائج .وال جمال ألن تتشابه وتتماثل مجلة القراءات اليت أخضعت الرتاث للمساءلة ،فكل قراءة
تنتهج سبيال مغايرا لألخرى وذلك انطالقا من اآلليات القرائية املتوسل هبا أو الغايات املنشودة من
جراء تلك القراءة ،ولعل من مجلة الدواعي اليت جعلت عصفور يتجه صوب املستودع الرتاثي قصد
مساءلته ،هي رغبته يف حماولة حل بعض اإلشكاالت املعرفية اليت أثقلت كاهل الراهن القرائي العريب،
مما جعله أسري تلك األنساق والسياقات اليت أسهمت يف معاناته مما حتّم العودة إىل الرتاث لعل هذا
أي
املعني وهذا الصرح أن يفيد يف حل هذه القضايا العالقة اليت كبّلت العقل العريب وحبسته عن ّ
عملية تطور منشودة.
غري أن القضية األساس يف قراءة هذا الزخم تكمن يف مدى فاعلية وجناعة اآلليات املستعملة
يف عملية القراءة واحلفر ،وكيف لنص قدمي امنحت كل األسباب والسياقات اليت أوجدته أن يسرتجع
ويقرأ قراءة موضوعية هادفة إىل توخي احلياد والعلمية ،ويف اآلن نفسه كيف لقارئ الرتاث أن يستكنه
مضامينه ،اليت بعدت عنه؟ لعل هذه األسئلة وغريها هي ما جييب عنها البحث يف حمطاته الالحقة،
خاصة عندما يقف عند العالمات الفارقة اليت صنعت التجربة النقدية عند عصفور وهو يستعيد قراءة
الرتاث النقدي ،ومن مجلة اآلليات اليت توسل هبا عصفور يف عمله هذا :آلية التفسري ،اليت من شأهنا
أن تزيل كل أسباب الغموض واالغرتاب وجتعل النص -حىت وإن كان بعيدا عنا -مفهوما للقارئ،
فالتفسري هو"حماولة لتجاوز حالة من اإلغرتاب نستشعرها إزاء موضوع ما لكونه غري مفهوم بالنسبة
2
لنا ،وبالتايل النشعر بنوع من األلفة والتواصل معه".
إن الرتاث يبدأ يف االشتغال ،منذ اللحظة اليت يبدأ فيها فعل القراءة مساءلة نصوصه
أي إن دراسةواستقرائها ،والكشف عن خلفياهتا وموجهاهتا ،إذ القراءة حتيني()Actualisation؛ ْ
النص الرتاثي - ،أيًّا كانت طبيعته -هي تفكيك وله وحماولة إضاءة البنيات املشتغلة فيه ،ورصد
حتركاهتا وطرائق اشتغاهلا ،وهي عملية ال تكون غاية يف ذاهتا بقدر ما تش ّكل العتبة األوىل اليت
بواسطتها يتمكن القارئ للرتاث من فهم النص وآلياته.
تنعقد الصلة الوثيقة بني املاضي واحلاضر عند عصفور يف حركة ارتدادية يتم مبوجبها
استحضار املاضي يف احلاضر،ومساءلته بآليات العصر؛ ألن عملية حضور الرتاث فينا ال حتتاج إىل
يقرر...":لن نستطيع أن نفصل موقفنا من احلاضر كثري بيان ،يذهب عصفور املذهب ذاته عندما ّ
عن موقفنا من املاضي....لسبب بسيط مؤداه أن الرتاث موجود بنا وفينا يف الوقت نفسه...،رغم
بعده التارخيي ،مازال يؤثر فينا بالقدر الذي نؤثر فيه ،كأنه يش ّكلنا بقدر ما نشكله".1
خيتزل هذا النص العالقة املطّردة بني احلاضر واملاضي ،ويبحث يف زوال احلدود والفواصل
الزمنية اليت تفصل بني احلاضر واملاضي ،وتؤسس يف الوقت ذاته إلمكانية تبادل األدوار اليت يشتغل
عليها الرتاث ،فهو املاضي لكن ليس املنصرم واملنقطع ،بل هو املوجود فينا ،ويف املقابل حنن
موجودون فيه على اعتبار أن املاضي جسر للحاضر ،ومن ال ماضي له ال حاضر له بالضرورة،
احملرك واحمل ّفز هلذه الذات لبلوغ مراتب
وىل عهدها ،إمنا هو ّ
فالرتاث ليس نقطة زمنية هناك يف املاضي ّ
التقدم والرقي إن هي أحسنت استثمار تلك احملطات املعرفية املشعة يف الرتاث.
إن الرتاث هو النسق املعريف العام الذي تأسس يف مرحلة تارخيية كان فيها العلماء يسهمون يف
كل متكامل يشكل يف جمموعه خطابا منسجما يتغذى باإلختالف الذي أثرى به إنتاج املعرفة ،إنه ّ
العلماء تصوراهتم وأفكارهم ،وال ميكن أن ننفي التأثري الذي ميارسه املاضي علينا ،ألننا لسنا سوى
جزء منه ،فهو حاضر فينا ،سواء عن وعي أو غري وعي " فما فينا أو معنا من حاضرنا ،من جهة
2
اتصاله باملاضي ،هو تراث أيضا".
يظل الرتاث -مبا هو معني من املعارف والتجارب واألفكار -مشعا علينا وال تنقضي عطاياه
وتأثرياته على الذات املعاصرة ،األمر الذي جيعلها مبنأى عن اهلزات واالضطرابات اخلارجية اليت من
شأهنا أن تأيت عليها ،فاإلحتماء به هو مبثابة املنجاة هلذه الذات دون أن تتشرنق حول نفسها
وتراثها ،وتدفع كل عملية تالقح فكري بينها وبني اآلخر الغريب ،فإن ما ميكننا التعامل معه من حيث
هو معرفة ماضية ليس الرتاث كما عاشه املتقدمون -أو كما وصلنا -بل إن الرتاث هو املعرفة اليت
ظلت صاحلة ،وبإمكاهنا أن تسهم يف تطوير معرفتنا وبلورة مشاغلنا ،علما من أنه هو نفسه يظل
قابال لإلغناء والتطوير،1
القراء لنصوص الرتاثغري أن هناك منط آخر من االستحضار الذي مارسه مجلة من النقاد و ّ
بعدما رأت فيه منوذجا يتوفر على مسة الكمال ،فإذا كانت الدواعي اليت أرجعته إىل الرتاث دو ٍاع
حضارية يسعى من خالهلا إىل البحث عن خمرج ألزمته الراهنة ،فإن السبيل اليت سيأخذ هبا تدفع به
إىل نوع من التكرار ،األمر الذي من شأنه أن يكرس مبدأ القداسة اليت حيتمي هبا الرتاث ،دون
حماكمته وتفكيكه وبعثه حداثيا ،وذلك يف مساءالت ال تنتهي وال تركن إىل يقني اجلواب .وقد كانت
هذه العودة احتماء باملاضي وانطواء على الذات ،ومن هذا املنظور تصبح األصالة رديفة اإلتباع ال
اإلبداع ،والسري على منوال النموذج الرتاثي املتجسد يف مفهوم السلف الصاحل ،وال يكفي الشاعر
مثال أن يكون عربيا أصيال ،وإمنا صار عليه مع هذا اخلطاب أن يكتب على غرار القدامى وبروحهم،
وهكذا صارت األصالة تكرارا لألشكال القدمية ،وليست إبداعا ألشكال جديدة مغايرة تعمق الوعي
2
وتغين األشكال القدمية.
تتأسس نظرة جابر عصفور إىل العودة للرتاث من العالقة اليت ربطها بيننا وبني الرتاث ،وهي
النظرة اليت أخذ معاملها من غادمير الذي يصف لنا تلك العالقة والرابطة احلميمة بني املاضي
"...بأي حال فإن عالقتنا العادية باملاضي ال تتميز بابتعادنا عن الرتاث ،وحتررنا
ّ واحلاضر يف قوله:
منه ،بل إننا باألحرى ،متموقعون ضمن الرتاث ،ومتوقعنا هنا ليس متوقعا بإزاء موضوع فنحن ال
نتصور الرتاث شيئا آخر ،أو شيئا غريبا عنّا ،فالرتاث دائما جزء منّا ،كنموذج أو كمثال أو كنوع من
ّ
1ينظر :حممد عابد اجلابري ،حنن والرتاث ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،ط ،0082 ،0ص.22 :
2ينظر :أدونيس :الثابت واملتحول -حبث يف االتباع واالبتداع عند العرب -2 -صدمة احلداثة ،دار الفكر للطباعة والنشر
والتوزيع ،بريوت ،ط ،0082 ،5ص.022 :
341
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
اإلشارة املميزة اليت تفيد أنه من الصعب حلكمنا التارخيي أن يعترب نوعا من املعرفة ،بل هو صلة
روحية محيمة بالرتاث".1
إن غادمير ينفي من خالل هذا االقتباس التقسيم الثنائي التقليدي ذات/موضوع ،فهو يرفض
هذا التقسيم وجيعل الذات موضوعا واملوضوع ذاتا ،ويرفض كذلك حكمنا على الرتاث بأنه زمن
مضى وانقضى ،وذلك على اعتبار أننا جزء منه وهو جزء منا ،وهو ما كان قد ذهب إليه جابر
عصفور انطالقا مما أحملنا إليه آنفا .إال أن نفي ذلك التقسيم الذي رفضه غادمير
( )H.G.Gadamerسابقا ،رمبا يؤسس إللغاء املوضوعية يف املساءلة الرتاثية ،واملوضوعية أحد أهم
مبتغيات الدراسة العلمية للعلوم اإلنسانية.
إن مبدأ النسبية الذي احتكم إليه غادمير يهز القيمة املوضوعية للدراسة الرتاثية عندما تلتحم
وتتحد الذات باملوضوع ،األمر الذي رامه جابر عصفور وهو يلحق هذه الصفة ،صفة النسبية بصفة
املوضوعية يف قوله" :وال جمال -واألمر كذلك -للحديث عن حياد موهوم أو انفصال زائف بني
الذات واملوضوع ،فعندما يكون القارئ بعض املقروء ،واملوضوع بعض أزمة الذات ،فإن القراءة لن
تكون بريئة أو حمايدة حبال... ،وال تعارض بني اتصاف قراءة الرتاث بأهنا قراءة غري بريئة وحرص كل
قراءة على أن تكون موضوعية يف الوقت نفسه".2
ينفي عصفور عملية احلياد باعتبار التداخل التام بني الذات واملوضوع ،وعملية املوضوعية
املطلوبة يف هذا النوع من الدراسات تكاد تدخل يف باب املتعذر ،إن مل يكن من املستحيل ،غري أن
هذا ال ميكن فهمه بانتفاء املوضوعية متاما وحلول الذاتية حملها ،مما جيعل القارئ متسلطا نوعا ما يف
أحكامه على قراءة الرتاث باعتبار أن ال وجود لقراءة بريئة متاما.
إن عصفور وهو يرتاد هذه املناطق الشاسعة من الرتاث ،إمنا يقارهبا من نزوعه حنو بلوغ مناطق
قصية منه ،وإعادة بعثها من جديد يف ثوب مغاير ملا كانت عليه سلفا .غري أن ما ميكن مالحظته
حول عملية قراءة الرتاث واستحضاره هو مدى تسلّح هذه الذات القارئة مبعارفها ومدركاهتا
1هانز جيورج غادمري :احلقيقة واملنهج - ،اخلطوط األساسية لتأويلية فلسفية .-تر :حسن ناظم ،علي حاكم صاحل ،راجعه
عن األملانية :جورج كثورة .دار أويا للطباعة ،اجلماهريية العظمى ،طرابلس ،ط ،3112 ،0ص.288 :
2جابر عصفور :قراءة الرتاث النقدي ،ص.22 ،25 :
342
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
وأحكامها املسبقة ،وإسقاطها على هذه املدونة الكبرية ،أم إن العملية الحتتاج كل تلك اخللفيات
واملرجعيات القرائية للذات؟ ما من شك يف أن عملية القراءة إمنا تتم وفق ما متلكه هذه الذات من
إمكانات ومعارف وتوجهات هي من خيوهلا طرق باب الرتاث والغوص فيه قصد استخراج خمبوءه
أي عملية قراءة هكذا دون هذه املعارف السابقة ،حىت ولو مل يكن للقارئ
وكنوزه ،وال ميكن أن تتم ّ
يسري عملية القراءة
مر الزمن هي من ّ أي معرفة مسبقة بالرتاث ،فإ ّن معارفه اليت تراكمت على ّ
ّ
أىن شاء ،األمر الذي مل ينفه جابر عصفور حول القارئ الذي يباشر قراءته وهو منط ٍو ويصريها ّ
ّ
سلفا على أنساق قبلية ،سابقة على حدث القراءة ذلك "أن القارئ الذي يقرأ ملقروء ال يقوم بفعل
تعرف بكر على ما يقرأ... ،ومعىن ذلك أننا ال نبدأ من درجة صفر القراءة ألن هذه الدرجة غري
موجودة ابتداء ،وال تعاين -أبدا -يف هذا احلال من التعرف البكر".1
سبق أن قررنا أنه ال توجد قراءة بريئة وقراءة حمايدة بنسبة عالية من املوضوعية ،فالقضية إذن
حتتكم إىل املاقبليات القرائية للذات القارئة وأحكامها املسبقة اليت جاءت مزودة هبا وهي تقارب هذه
النصوص من الرتاث ،إال أن التساؤل املشروع هو :هل تنفي هذه املعارف واألحكام السابقة أي
قراءة حمايدة وموضوعية للنص الرتاثي؟ أال تتدخل هذه األحكام يف تعديل وحتوير معاين النص يف
عني القارئ؟
توجه هذه املدركات السابقة عملية القراءة دون أن تكون ظال للمعاين املختزنة داخل النص ّ
"فالشخص الذي حياول أن يفهم شيئا ما لن يكيّف نفسه منذ البداية على االتكال على معانيه
املسبقة العرضية ،متجاهال بثبات وعناد ممكنني املعىن الفعلي للنص ،إىل أن يصبح هذا النص
مسموعا على حنو دائم حبيث أن (النص) يتغلب عن الصورة اليت يتخيلها املؤول عنه ،بل يف احلقيقة
نصا ما هو شخص يهيئ نفسه للنص كي خيربه شيئا ما ،وهذا إن الشخص الذي حياول أن يفهم ّ
هو السبب يف وجوب أن يكون الوعي موجه تأويليا وعيا حساسا باملضمون ،وال يتضمن منذ البداية
آلخرية النص ،بَـْي َد أ ّن هذا النوع من احلساسية ال يتضمن (احليادية) فيما يتعلق نكران املرء ذاته ،بل
يتضمن منح املرء الصدارة ملعانيه وأحكامه املسبقة وتكيفها ،والشيء املهم أن يعي املرء احنيازه
اخلاص ،وبذلك يستطيع النص أن يق ّدم نفسه من حيث آخريته ،وهكذا يؤكد حقيقته اخلاصة مبقابل
معاين املرء املسبقة".1
إن عملية االقرتاب من النص تتم وفق ما متتلكه هذه الذات من مدركات مسبقة واليت تسهم
يف توجيه مسار القراءة دون أن تسقط هذه الذات أحكامها آليا على النص املقروء ،وإال ما جدوى
العملية من أساسها .ال شك أن النص يتمنع بعض التمنع على قارئه ويرفض االنصياع إىل أوامره،
ويغدو فلوتا جاحما على البوح بأسراره هلذا القارئ ،األمر الذي جيعل من عملية املهادنة والرتويض أمرا
ال مناص منه ،والغرابة اليت تكون بني النص والقارئ هي من حيتم على هذا األخري االقرتاب منه
وسرهّ .أما عملية تكييف النص فهي من يدفع القارئ حنو أكثر ،قصد محله على البوح مبخبوءه ّ
بأي حال من األحوال أن تنكرها الذات القارئة.
استكناه أسراره ودفعه ملمارسة فاعليته ،اليت ال ميكن ّ
يعرتف جابر عصفور صراحة يف أكثر من موضع بوجود هذه األحكام املسبقة أو ما يسميه
هو "القراءات السابقة" واليت يؤكد على ضرورة التمييز بني صحيحها وزائفها بقوله... " :املتوسطات
البد من تقرير حضورها السالب قبل املوجب يف أيّة قراءة للرتاث النقدي ألهنا تؤدي -يف غيبة الوعي
النقدي هبا -إىل قراءة "تقليد" يتحول معها القارئ إىل نقلي دون أن ينتبه ،عندما يستسلم إىل
الصيغ التفسريية املرتاكمة داخل القراءات السابقة ،فيستقبلها استقباال آليا ،ويعيد إرساهلا
الشعوريا" .2يؤكد عصفور على ضرورة الوعي هبذه القراءات السابقة واألحكام املاقبلية ليتسىن للذات
القارئة متييز جيّدها من رديئها ،و سالبها من موجبها ألن مناط القضية هو االبتعاد عن ذلك النوع
من القراءات السلفية التكرارية اليت تضيف للعملية النقدية شيئا ذا بال ،فضال عن أهنا متارس نوعا
من االستيالب واالغرتاب على الذات القارئة واملقروء يف الوقت نفسه ،ليكون احلاصل قراءة اتباعية
تقليدية تعمل على وأد كل قراءة فاعلة.
لعل ما ذهب إليه غادامير يف إبراز دور األحكام املسبقة يف توجيه عملية القراءة هو
التعريف الذي ميكن الركون إليه بشيء من الراحة ،يقول...":و لكن ال شيء من هذا يغري من
مسوغات العقل باعتبار العقل أعدل قسمة بني الناس كما حيتكم غادامير يف هذا النص إىل ّ
يذهب إىل ذلك الفالسفة ،فالعقل وحده هو الكفيل مبنع النفس الزيغ واخلطأ إذا احتكمت إىل
مبادئه ،والنتيجة أنه ال ميكن احلديث بصورة جازمة عن إمكانية تغييب احلاضر أثناء العودة إىل
املاضي ،وذلك وضع معريف يفيد منه قارئ الرتاث النقدي ،من حيث هو مؤرخ آخر يكتب تارخيه
بعيين احلاضر ،ومن منظور مشكالته ،أي باألدوات املعرفية لعصره ،وداخل عالقاته وبأساليبها اليت
يستعني هبا على فهم تراثه فهما واقعيا غري جمرد ،وهو فهم يتنـزه عن ادعاء نزعة علمية وضعية ،تفصل
الرتاث املقروء عن الوعي ،أو النزعة الذاتية اليت تفصل الرتاث املقروء عن عصره؛ فعندما يعود القارئ
إىل الرتاث ،فإنه ينطلق من فهمه اخلاص الذي تتفاعل فيه مكونات سياقه العام ، 2مبعىن أنه حمكوم
بأفق انتظارات تصدر عن طبيعة التساؤالت والقضايا املطروحة ،وهذا تش ّكل كل حلظة للقراءة جدال
بني أفق مستقبل فارغ ينبغي أن ميأل ،وأفق قد حتقق وال يتوقف عن االمنحاء.3
يتجلى مما سبق أ ّن فعل القراءة هو ذلك التفاعل بني القارئ والنص ،وحماولة ضبط آفاق كل
منهما ،فالرتاث ليس ما كان ينتمي إىل فرتة تارخيية انتهت ،ولكنه باألحرى يظل مستوى من
مستويات الوعي املعاصر ،فال يتحقق وجوده إال حني يتم القيام بإبرازه وحتيينه ( )Actualiserعرب
ممارسة القراءة والفهم اللذين من شأهنما أن جيعال النص حاضرا ،وليس جعل احلاضر حاضرا يف
املاضي بل بالتحيني ميكن أن جنعل النص معاصرا لنا .وعليه فإن حماولة فهمنا للنص الرتاثي تقتضي
حماولة الوصول إىل املغزى العام واملعاصر للنص الرتاثي ،وليس الوصول إىل هذا املغزى باألمر
االختياري حبيث تتحقق القراءة يف احلاضر بكل ما تعنيه الكلمة من وجود ثقايف إيديولوجي ،ومن
أفق معريف وخربة حمددين .1األمر الذي يدفع إىل وجود تأويالت والبحث عن دالالت أخرى يكتنـزها
النص الرتاثي.
إن النص عامل مكتف بذاته إذا رمنا حتليله انطالقا من إمكانات احلاضر املعاصر ،أي زمن
قراءته ،ذلك أنه أعتق نفسه من كل سلطة خارجة عن إطاره ،ويف الوقت ذاته فهو مليء بالفجوات
واليتم االهتمام بالرتاث
ّ والثغرات اليت حيتاج على إثرها لقارئ ميلؤها ويس ّد حاجة السؤال فيه،
ونصوصه وتأويلها مبجرد أنه ٍ
ماض ،لكن أمهيته تكمن يف السعي حنو القبض على داللته ومعانيه ،وال
يتم ذلك إال إذا جتاوز القارئ مرحلة الفهم إىل مرحلة التأويل ،الذي يتيح إمكانية ولوج النص بأكثر
من سبيل ،قصد الوقوف عند أكرب قدر ممكن من الدالالت وتفكيكها.
وانطالقا من هذا يش ّكل الفهم والتأويل أهم اآلليات املوظفة يف فعل القراءة وميثالن يف اآلن
نفسه الوجه اآلخر واخلفي هلا ،والتأويل مبا هو آلية يف االشتغال على النصوص وفك ثغراهتا ال يعين
فقط املعطيات احملددة سلفا واليت هلا وجود خارجي عن املتلقي الذي يروم الفهم؛ إذ بني "املتلقي
والنص األديب شيئا مشرتكا هو جتربة احلياة ،هذه التجربة ذاتية عند املتلقي ،ولكنها حتدد له الشروط
املعرفية اليت ال يستطيع جتاوزها .وهذه التجربة -من جانب آخر -موضوعية يف العمل األديب ،وعملية
الفهم تقوم على نوع من احلوار بني جتربة املتلقي الذاتية والتجربة املوضوعية املتجلية يف األدب من
خالل الوسط املشرتك" ،2وعليه تعمل القراءة على إضاءة النص الرتاثي إضاءة هادفة إىل استثماره
وإعادة بعثه ،قصد جتاوز حالة الشرخ الذي تعانيه الذات معرفيا.
متاشيا مع هذا تأيت أمهية التأويل يف كونه يفتح النص على الكثري من احتماالت املعىن والداللة
اليت توضع أمام القارئ للنصوص الرتاثية ،باعتبار النص هو احلقل املعريف الذي يشتغل عليه التأويل
"والنص عامل مهول من العالقات املتشابكة ،يلتقي فيه الزمن بكل أبعاده ،حيث يتأسس يف رحم
املاضي ،ويؤهل نفسه كإمكانية مستقبلية للتداخل مع نصوص آنية" 3.ليس هناك أدىن شك يف أن
استثمار الرتاث قرائيا هو ما يضمن للذات القارئة نوعا من احلضور املعريف إضافة إىل حضورها
1ينظر :نصر حامد أبو زيد :إشكاليات القراءة وآليات التأويل ،ص .12
2نصر حامد أبو زيد :إشكاليات القراءة وآليات التأويل ،ص.32 :
3عبد اهلل الغذامي :اخلطيئة والتكفري -من البنيوية إىل التشرحيية ،-النادي األديب الثقايف ،جدة ،ط ،0085 ،0ص.02 :
346
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
األنطولوجي ،ذلك أن املغزى من قراءته هو إضافة هذه املعارف املودعة فيه واملكتنـزة داخله واليت
تبحث عن من يرتادها وخيرجها ،إذ ال قيمة هلذا الرتاث إذا مل يسهم يف حل وفك هذه اإلشكاالت
اليت تعاين منها الذات املعاصرة ،ويف اآلن نفسه ال قيمة لقراءة ال تسمن وال تغين يف مساءلتها إياه،
األمر الذي يفتح بابا مشرعا من التأويل والتأويل املضاعف هلذه القضايا اليت يزخر الرتاث هبا؛ إذ به
– التأويل -تُفهم نصوص الرتاث بعد أن يتم حتيينها يف سياقها التارخيي ،الذي أُنتجت فيه إضافة إىل
سياقها الذي جيب أن تُقرأ فيه ،خصوصا أن النص كيفما كانت طبيعته يظل جماال لتعدد القراءات،
والنصوص اليت تتميز بانفتاحها الداليل ،تظل منفتحة على عدد ال م ٍ
نته من القراءات املمكنة.1 ُ
يف األخري ال يسعنا إال أن نساير جابر عصفور يف مسعاه ومنطلقه حول قراءة الرتاث النقدي
اليت متثل جزء من مشروع قراءة الرتاث العريب ،واليت ال ميكنها أن تتقدم إال إذا متكن القارئ من
الوعي بالتمييز بني الذات واملوضوع ،إىل درجة يصبح معها الوعي قادرا على تأمل نفسه يف عالقته
مبعطيات الرتاث املقروء ،والكيفية اليت يدرك هبا هذه املعطيات ،ليدرك أن جهاز قراءته قد كشف يف
النص الذي قرأ عن معىن ذي داللة يف السياق التارخيي وأفقه الزمين ،وذي داللة يف السياق التارخيي
2
هلذا القارئ وأفقه الزمين اخلاص يف اآلن نفسه.
1
Voir : U.Eco. Les limites de l’interprétation, p:130.
2ينظر جابر عصفور :قراءة الرتاث النقدي ،ص.002 :
347
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
7
بعد أن مت استهالك أثر رؤية هذا البحث ،نستخلص مجلة من النتائج واخلالصات املعرفية اليت
وقف البحث عندها ،وهو إذ يرصد خمتلف هذه النتائج ،ال يدعي إطالقا أهنا نتائج هنائية ومغلقة
على نوع من احلقائق ،إذ العمل يف جمال النقد والنظرية النقدية ال ميكن أن ينتهي إىل غاية حمددة،
فحسبه التجربة واحملاولة ،ألن مثله كمثل عملية التأويل اليت ال تنتهي بقدر ما تعلن بداية القراءة
والتأويل ،لكن رغم ذلك رصد البحث مجلة من النتائج صاغها على النحو اآليت:
تنوعت مجلة املصادر واخللفيات املعرفية ،وتعددت بني خلفيات تراثية وأخرى حداثية ،يف
بلورة الوعي النقدي لطه حسني مما رسم معامل الطريق أمامه يف تلك الفرتة املبكرة من حياته العقلية.
صاغت خمتلف احلقول املعرفية اليت ارتادها طه حسني توجهه النقدي يف مرحلة البدايات،
فكانت ممثلة يف تأثره بالبيئة األزهرية من ناحية ،وبيئة اجلامعة من ناحية أخرى ،مث بيئة العامل الغريب
خمتزال يف السوربون.
عملت هذه املؤثرات الفكرية اليت تشرهبا طه حسني منذ التحاقه باجلامعة وتربمه من األزهر
وتقاليده البالية على تأثره بأساتذته املستشرقني الذين بصموه ببصمتهم من أمثال كارلو نالينو
وسانتيالنا يف مصر والنسون ودوركامي يف فرنسا.
348
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
شكلت بدايات كتاباته النقدية ما ميكن أن نعتربه مدرسة طه حسني النقدية يف الربع
االول من القرن العشرين عندما ألف مدونتيه النقديتني ،جتديد ذكرى أيب العالء املعري ،وفلسفة ابن
خلدون ،االجتماعية ،واليت عملت على توطيد العالقة بينه وبني املنهج التارخيي الذي بشر به طه
حسني أثناء مرحلة االستقبال األوىل للنقد العريب احلديث.
كانت حبوثه املنشورة يف اجملالت والدوريات مبثابة النواة الصلبة لتوجهه النقدي فيما بعد
مرحلة التأليف ،كبحوثه اليت مجعت فيما بعد يف مؤلف حديث األربعاء.
كان اطالعه على الرتاث اإلنساين العاملي ممثال يف الفلسفة اليونانية وفلسفة أرسطو بشكل
خاص عامال أساسيا يف نقل أمهات هذه الكتب الفكرية ،يف حركة ترمجة واسعة ،أسهم العميد على
مراحلها مما زود القارئ العري عامة واملصري على وجه اخلصوص مبختلف املتون الفلسفية الغربية اليت
دعا من خالهلا إىل مزيد من اإلنفتاح على اآلخر الغريب دون التنصل من تراث هذه األمة.
كان طه حسني تراثيا أكثر من الرتاثيني ،وحداثيا أكثر من احلداثيني املعاصرين ،نظرا ألنه
مل يشح بوجهه عن منجزات الرتاث ويف الوقت نفسه انفتح على الثقافة الغربية انفتاح العامل بأسرارها
وخباياها.
إن املشروع النقدي لطه حسني يف قراءته للرتاث الشعري اجلاهلي ما كان له أن ينحو ذلك
املنحى التصاعدي التكفريي لوال تلك العقليات الدوغمائية اليت صدر عنها كل خصومه ومناوئيه،
ذلك أن الرجل خبلخلته هذه ،أحدث رجة على مستوى التفكري وعلى مستوى املنهج العلمي
والنقدي الذي كان متبعا آنذاك.
هنج طه حسني سبيل البحث العلمي يف الكشف عن حقائق األشياء سواء باملنهج
التارخيي الذي يعاين الظاهرة يف صريورهتا التارخيية واالجتماعية أو أثناء احتكامه ملنهج الشك الذي
ينشد اليقني قبل تغيري املسالك النقدية القدمية بأخرى حداثية.
349
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
كان تأثر طه حسني بديكارت جزئيا حسب ما وصل إليه البحث ومبدئيا ،ألن التأثري
األويل والنهائي إمنا كان بالقوانني الفلسفية البن خلدون من جهة ولطروحات ابن سالم يف الرتاث
النقدي من جهة ثانية.
استطاع طه حسني أن يشكل مدرسة نقدية متتاح من طروحاهتا باقي املدارس ،اليت أتت
بعده ،فكان تأثريه واضحا فيمن أتى بعده أمثال شكري عياد وجابر عصفور فيما بعد.
يعد املشروع النقدي لطه حسني مشروعا عقليا ألنه دفع العقلية العربية احلديثة واملعاصرة إىل
تغيري عاداهتا يف القراءة واالستنطاق واحلفر يف طبقات الرتاث.
وصل البحث إىل أن احللقة النقدية الواصلة اليت يضطلع مبهمتها شكري عياد إمنا متتاح من
معني الرتاث بقدر ما تضفي عليه من مقوالت احلداثة ،على اعتبار أن آليات القراءة عند شكري
عياد متعددة ومتنوعة منها الرتاثية ومنها احلداثية .إضافة إىل ماميثله عياد على ساحة النقد العريب
احلديث واملعاصر ،فالرجل مبثابة اخليط املعنوي الرابط والواصل بني جيل الرواد واجليل الذي يليهم.
شكلت مرحلة البدايات النقدية عنده املعامل األوىل لرسم خارطة التوجه النقدي الذي
يستكمله عياد ضمن مسريته النقدية.
تعد التجربة الرائدة اليت كلف هبا عياد أثناء توليفه بني البالغة العربية القدمية ومقوالت
األسلوبيات احلديثة من التجارب الرائدة يف ساحة النقد العريب املعاصر.
تعددت املواهب القرائية لعياد من كاتب للقصة إىل مرتجم إىل حمقق إىل كاتب مقال
صحفي إىل ناقد أديب مما يصعب مهمة البحث يف إجنازات الرجل.
شكلت سلسلة شكري عياد النقدية يف جمال األسلوبيات مباحث هامة يف جمال النقد
األسلويب الغريب والغريب ،وشكلت تطبيقاته األسلوبية مرحلة بدايات بالنسبة للتوجه األسلويب العريب،
إضافة إىل أمساء نقدية أخرى.
تراوح موقف عياد من احلداثيني العرب من مقبل عليهم إىل مشيح على إجنازاهتم ،ذلك أن
الرجل يعي حجم املزالق املعرفية اليت قد توقع صاحبها يف مطبات اإلنبهار والتسرع واإلنبطاح.
350
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
رغم ذلك استطاع شكري عياد أن ينفذ إىل مقوالت هذه احلداثة من حيث منطلقاهتا
النظرية والفلسفية وصياغاهتا النظرية النهائية ،وحياول تأسيس مشروع حداثة عربية تأخذ من الرتاث
نقاطه املضيئة بقدر ماتضيف إليه من الثقافة الغربية الوافدة ،مبا خيدم خصوصيات األنا العربية
وثوابتها
سجل البحث مقاربة الرتاث من داخل منظومته الفكرية عند جابر عصقور ،لكنه تبني أن
الرجل يستحضر مجلة من املصطلحات يف قراءته كالتناص مبفهومه عند باختني وجوليا كريستيفا
والكتابة كما عند التفكيكيني.
مل يربط جابر عصفور احلداثة النقدية كما احلداثة الشعرية بزمن معني لكنها حسبه قرينة
اللحظة التارخيية اليت تفرزها وتطبعها بطابعها اخلاص.
رفض جابر عصفور إبداعية النقد اليت حتول معها النقد من غاية إىل وسيلة للتباهي باللغة
اليت تنشد نزعة التطاوس واللغة املتعاملة.
وقف جابر عصفور عند نظرية الشعر الرتاثية مستحضرا آلياهتا النقدية واملقوالتية كما هو
الشأن عند قدامة وحازم وابن خلدون ،مما يشكل عودة إىل ذلك األصل الذي يبقى حيتاج إىل
حماوالت جادة ورائدة للدفع به إىل مصاف الرتاثات العاملية ،اليت تسهم يف خلق حداثة ّأمتهم بشكل
من األشكال.
ش ّكلت قراءة الرتاث بشقيه الشعري و النقدي حمورا هاما من احملاور النقدية عند جابر
عصفور ،و اهلدف منها هو صياغة نظرية لكيفية قراءة هذا الرتاث ،تتنوع بني القراءة التأويلية
والقراءة التارخيية له.
سجلت نظرية القراءة و التلقي حضورا الفتا يف املشروع النقدي عند جابر عصفور،ّ
وذلك الرتباط الفعل القرائي بالقارئ ،الذي حياور أنساق النص الرتاثي ،كما مل يهمل عصفور
351
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
مقوالت التأويلية أو اهلرمينوطيقا مبا هي نظرية للفهم و التفسري ،خاصة مفاهيم غادمير الذي ش ّكل
سؤال الرتاث أمهية بالغة يف مشروعه التأويلي.
هذا و ال ن ّدعي أن هذه اخلامتة ستغلق عليها باب الزيادة و االجتهاد ،بقدر ما تدعو إىل
مغايرة البحث يف مثل هذه القضايا اليت شكلت الساحة النقدية العربية احلديثة و املعاصرة ،و تعمل
على تنقية األجواء البحثية اليت هتدف الوصول إىل مناطق قصية مل تعهدها الساحة النقدية من قبل،
و يف الوقت نفسه يبقى سؤال النقد و سؤال النظرية منفتحا على غريه من التساؤالت املعرفية اليت
تصوغ غريها من اإلجابات ،وحسب هذه اخلامتة أهنا وقفت عند النقاط البارزة اليت ش ّكلت معامل
واضحة سرتتكز عليها.
352
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
فهرس األعالم
أمحد لطفي السيد :0022-0823 :ولد سنة 0823و حفظ القرآن يف كتاب قريته ،مث التحق
مبدرسة املنصورة االبتدائية مث مبدرسة اخلديوية ،ويف سنة 0802حصل على اإلجازة يف احلقوق،
وبعدها اشتغل وكيال للنيابة ،مث باحملاماة ،مث تفرغ للعمل الصحفي والسياسي ،وساهم يف إنشاء
صحيفة " اجلريدة" يف 10مارس ،0012وبقي رئيسا لتحريرها حىت توقفت يف 31سبتمرب ،0002
ساهم يف امليدان السياسي ،فكان فيلسوف حزب األحرار الدستوريني وشغل منصب وزارة املعارف،
وأصبح عضوا يف جملس الشيوخ كما ساهم يف توجيه احلياة التعليمية املصرية ،إذ شغل منصب وكيل
اجلامعة املصرية القدمية ومديرا للجامعة املصرية مث توىل بعد ذلك رئاسة "جممع اللغة العربية" .ومن
أهم مؤلفاته ترمجته آلثار أرسطو الذي كان معجبا به " :األخالق" "الطبيعة" "الكون والفساد"
"السياسة" وله" :تأمالت يف الفلسفة واألدب والسياسة واالجتماع" مجعه إمساعيل مظهر ،و"مذهب
احلرية -إىل نوابنا" وهي جمموعة مقاالت نشرها لطفي السيد يف اجلريدة ،مجعها أمحد مصطفى
وإمساعيل زهدي ،و" املنتخبات" مجعها إمساعيل مظهر.ينظر املرجع السابق ،ص.020 :
اجنتسيو(اغناطيوس) جويدي ( )0025 -0822( )Ignazio Guidiأو جويدي الكبري متييزا له
من ابنه ميكلنجلو .مستشرق إيطايل ،ولد يف روما من أسرة عريقة ،وتعلم العربية وعلمها يف
جامعتها ،وهو من أبرز علماء اللغات السامية ،توىل التدريس يف جامعة روما ما يزيد على أربعني
عاما ،زار مالطة ومصر وفلسطني ودمشق واستانبول ،ودعي يف عامي 0018و 0010للتدريس يف
اجلامعة املصرية القدمية ،فدرس األدب العريب وفقه اللغات العربية اجلنوبية بالعربية ،وكان طه حسني
من أبرز تالميذه ،وكان عضوا يف اجملمع العلمي العريب بدمشق ،توزعت اهتماماته على مخسة
جماالت :األدب العريب اإلسالمي ،واآلداب املسيحية يف املشرق ،واللغة احلبشية وآداهبا ،واللغة العربية
والكتاب املقدس ،ولغات جنوب اجلزيرة العربية .وله فيها مؤلفات وحبوث وحتقيقات كثرية منها:
353
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
حماضرات أدبيات اجلغرافية والتاريخ واللغة عند العرب باعتبار عالقتها بأوربا وخصوصا بإيطاليا و
"جداول كتاب األغاين" ينظر ،املرجع السابق :ص.02:
أرسطو 233ق م282 -ق م ( َّ )Aristoteولد أرسطو سنة 282ق.م يف بلدة ستاجريوس من
أعمال "خالقيديا" وكان أبوه نيقوماخوس طبيبا للملك أمينافس الثاين ملك مقدونيا ،وقد تويف والده
وهو صغري .تكفله وقام على تربيته رجل يدعى بروكسينوس .جاء أرسطو أثينا ليتم تعليمه يف سنة
222ق م .وانتظم يف سلك تالميذ أفالطون ،وأقام عشرين عاما تلميذا جمدا يف األكادميية ،وبعد أن
مات أستاذه أفالطون سنة 322ق.م ترك أرسطو أثينا وتوجه إىل ميسا حيث قضى مدة طويلة يف
خدمة هريمياس طاغية أتارينوس وكان هذا األمري صديقا ألفالطون من قبل .وملا قتل هريمياس سنة
222.223ق.م رحل أرسطو إىل بالط امللك فيليب الثاين ،ملك مقدونية الذي دعاه ليكون معلم
اإلسكندر .مث عاد بعد ذلك إىل أثينا سنة 221.222ق.م .وأقام هبا ،فأنشأ مجاعة جديدة مشاهبة
لألكادميية مسيت مدرسته بالليكيون ،وهي عني الكلمة الفرنسية الليسية ،وقد قضى أرسطو مثانية
عشر عاما يف أثينا مشتغال بالتدريس والتصنيف ،وتويف سنة 233ق.م .ألف أرسطو كتبا عدة ولكنها
طه حسني ،وألف يف نقد النثر، ضاعت ومل يبق منها إال كتاب نظام األثينيني الذي ترمجه
كتاب " فن اخلطابة" ويف نقد الشعر "،فن الشعر" و" السياسة" وغريها.ينظر املرجع السابق ،ص:
.080
ألفونس أوالر ( )A. Aulardمؤرخ فرنسي .أهم آثاره "التاريخ السياسي للثورة الفرنسية وهو
مؤسس جملة :الثورة الفرنسية .ينظر عبد اجمليد حنون ،املرجع السابق ص .157
جوستاف جلوتز ( )Gustave Glotzمؤرخ فرنسي خريج املدرسة العليا لألساتذة ،أستاذ األدب
اليوناين بالسربون منذ ،1897له مجلة من املؤلفات منها" :التعذيب يف بالد اليونان البدائية وتضامن
األسرة يف القانون اجلنائي باليونان 1991والعمل عند اليونان قدميا .ينظر عبد اجمليد حنون ،املرجع
نفسه ،ص.156 :
جوستاف بلوك )Gustave Bloch( :باحث فرنسي درس يف ليون وباريس التاريخ الروماين الذي
ألّف فيه عدة مؤلفات أشهرها :أصول جملس الشيوخ الروماين .ينظر عبد اجمليد حنون ،املرجع نفسه،
ص .156
354
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
وترمجته لقسم من تاريخ ابن مسكويه "جتارب األمم" ،0031وله مقاالت أخرى عن األدب العريب.
ينظر:أمحد بوحسن :اخلطاب النقدي عند طه حسني ،ص.002-003 :
رينيه ديكارت ( )0251 -0502( )R. Descartesفيلسوف ورياضي وفيزيائي فرنسي ،جتول
يف أوربا ،كعسكري ،عام ،0030مث أقام يف هولندا عشرين عاما ،رحل يف أثنائها مرة واحدة إىل
الدامنرك وثالثا إىل فرنسا ،يعود إليه ابتكار " علم اهلندسة التحليلية" ،ومن أهم كتبه " :طريقة
املنهج"و" تأمالت ميتافيزيقية"و" مبادئ الفلسفة"و" معاجلة أهواء النفس".
سانت بيف ( )0802 -0812( )Sainte Beuveمن أكرب النقاد أصحاب املنحى النفسي ،كان
معنيا يف البدايات ،بدراسة العلوم إذ كان ينوي دراسة الطب ،اتصلت العالقة بينه وبني "فكتور
هوجو" بعد أن كتب مقالني حول ديوانه ،درس يف جامعة "لوزان" بسويسرا ،وجامعة "لييج" ببلجيكا
مث انتخب عضوا يف األكادميية الفرنسية عام ،0822وعني أستاذا مبدرسة املعلمني العليا ،فعضوا يف
جملس الشيوخ ،له آثار قيمة عن "شاتوبريان" و"بور رويال" من أشهر كتبه "أحاديث اإلثنني".
سيد بن علي املرصفي )0020-.....( :عامل باألدب واللغة ،كان من مجاعة كبار العلماء باألزهر،
درس يف األزهر إىل أن شاخ وكسرت ساقه فاعتكف يف منزله بالقاهرة وجعل يعقد حلقات الدرس
للطالب الذين كانوا يقصدونه إىل أن تويف.من آثاره ( رغبة األمل من كتاب الكامل) و( أسرار
احلماسة) .ينظر املرجع السابق ،ص.02 :
شارل ديهل )C. Diehl( :باحث فرنسي خريج املدرسة العليا لألساتذة .متخصص يف التاريخ
البيزنطي ،له مؤلفات منها :إغريقيا البيزنطية و"وجوه بيزنطية وتاريخ اإلمرباطورية البيزنطية .ينظر عبد
اجمليد حنون ،املرجع السابق ،ص156 :
356
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
شارل سينيوبوس )C. Seignobos ( :مؤرخ فرنسي ،تأثر باملدرسة التارخيية األملانية ،له عدة
مؤلفات أشهرها :تاريخ احلضارة و"مدخل إىل الدارسات التارخيية و"التاريخ السياسي ألوربا احلديثة
وكانت طريقته النقدية املوسومة بالوضعية تعىن أساسا باحلدث التارخيي املادي .ينظر عبد اجمليد
حنون :املرجع السابق ص.156 :
كارلو ألفونسو نالينو ( )0028 -0823( )Carlo Alfonso Nallinoولد يف تورينو ()Torino
ونشأ وتلقى دروسه األولية ومبادئ العربية والسريانية والعربية يف أوديين ( )Udineخترج من جامعة
تورينو ،ودرس يف جامعة روما ،أشرف على جمليت " الدراسات الشرقية"و"الشرق احلديث" ومها
باإليطالية ،كان علمه غزيرا يف اجلغرافية والفلك عند العرب ،وكان عارفا باإلسالم ومذاهبه ،ذهب إىل
غري بلد عريب ،وكان عضوا يف جممع علمي عريب وغري عريب ،له كتب وحبوث باإليطالية والعربية.
راجع يوسف بكار:أوراق نقدية جديدة عن طه حسني ،دار املناهل ،بريوت ،ط ،0000 ،0ص:
.10
كااانوفا )P. Casanova( :مستشرق فرنسي درس يف الكوليج دي فرانس اللغة العربية وآداهبا،
انتدبته اجلامعة املصرية سنة 1915لتدريس فقه اللغة ،تويف يف مصر سنة .1916له دراسات متعددة
يف جماالت متخصصة حول خمتلف أوجه احلضارة العربية .ينظر عبد اجمليد حنون :الالنسونية وأثرها
يف رواد النقد العريب احلديث ،ص.156 :
هيبوليت تني ( )0802 -0838( )Hypolyte Taineمن كبار علماء القرن التاسع عشر يف
فرنسا ،تلقى تعليمه األويل يف بعض مدارس باريس ،عاش فرتة من قلمه مبا كان يكتبه يف اجملالت
حول النقد والتاريخ ،أصبح عضوا يف األكادميية الفرنسية عام ،0881ومن مؤلفاته (فالسفة فرنسا
يف القرن التاسع عشر) و ( تاريخ األدب اإلجنليزي) و( فلسفة الفن).
357
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
بيبليوغرافيا البحث
.1إبراهيم أمحد ملحم:اخلطاب النقدي وقراءة الرتاث، ،عامل الكتب احلديث،األردن.3112 ،
.2ابن طباطبا:عيار الشعر،تح عبد العزيز بن ناصر املانع،إحتاد الكتاب العرب،دمشق،دط.3115 ،
.3أمحد بوحسن :اخلطاب النقدي عند طه حسني ،املركز الثقايف العريب،الدار البيضاء،ط.0085 ،0
.4أمحد عبد احلليم عطية :الديكارتية يف الفكر العريب املعاصر ،دراسة مقارنة يف املذاهب الفلسفية
الغربية والثقافة العربية احلديثة ،دار الثقافة للنشر والنوزيع ،القاهرة ،دط.3113 ،
.11أرسطو طاليس :فن الشعر،حققه مع ترمجة حديثة و دراسة لتأثريه يف البالغة العربية ،شكري
حممد عياد ،دار الكتاب العريب للطباعة و النشر ،القاهرة ،دط.0022 ،
.11أرسطو :فن الشعر :تح :شكري حممد عياد ،طبعة اهليئة املصرية العامة للكتاب.0002 ،
358
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.13ت ،تودروف وآخرون :يف أصول اخلطاب النقدي اجلديد ،ترمجة وتقدمي :أمحد املديين ،دار
الشؤون الثقافية العامة ،وزارة الثقافة ،بغداد.0082 ،
.14توفيق الزيدي :أثر اللسانيات يف النقد العريب احلديث من خالل بعض مناذجه،الدار العربية
للكتاب ،تونس ،ليبيا ،ط.1891 ،1
.15توفيق الطويل :أسس الفلسفة ،دار النهضة العربية ،القاهرة ،ط.0022 ،5
.16جابر عصفور :الصورة الفنية يف الرتاث النقدي والبالغي عند العرب،املركز الثقايف العريب،
بريوت -الدار البيضاء ،ط.0003 ،2
.17جابر عصفور :ذاكرة الشعر ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،مصر .3115،
.21جابر عصفور :حنو ثقافة مغايرة ،الدار املصرية اللبنانية ،ط.3118 ،0
.22جابر عصفور :أوراق ثقافية ،ثقافة املستقبل ومستقبل الثقافة ،املركز العريب،القاهرة،دط.3112 ،
.24جابر عصفور :قراءة الرتاث النقدي ،دار سعاد الصباح ،الكويت ،ط.0000 ،0
.25جابر عصفور :هوامش على دفرت التنوير ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،ط.0002 ،0
.26اجلاحظ :البيان والتبيني ،وضع هوامشه موفق شهاب الدين،دار الكتب العلمية ،بريوت ،مج،0
ج ،0ط.3112 ،3
359
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.29جوستاف النسون :منهج البحث يف تاريخ األدب ،تر :حممد مندور ،ضمن كتاب النقد
املنهجي عند العرب ،دار هنضة مصر للطباعة و النشر ،دط.
.31حازم القرطاجين :منهاج البلغاء وسراج األدباء ،تح :حلبيب بن خوجة ،دار الغرب اإلسالمي ،تونس،
ط.0080 ،3
.31حسني مجعة :طه حسني ،القامة والظل ،دار ابن هانئ للدراسات والنشر ،دمشق ،ط.0002 ،0
.32حلمي مرزوق :تطور النقد والتفكري األديب احلديث يف الربع األول من القرن العشرين ،دار
الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ،اإلسكندرية ،ط.3112 ،0
.33محادي محود :الوجه والقفا يف تالزم الرتاث واحلداثة ،الدار التونسية للنشر.0088 ،
.34محدي السكوت ومارسيدن جونز :أعالم األدب املعاصر يف مصر ( )0طه حسني ،قسم النشر
باجلامعة األمريكية ،القاهرة.0025 ،
.35ديكارت :مقال يف املنهج ،تر :حممود حممد اخلضريي ،دار الكاتب العريب ،القاهرة ،ط.0028 ،3
.37روالن بارت :نقد وحقيقة،تر :منذر عياشي،مركز اإلمناء احلضاري ،حلب ،سورية ،ط.0002 ،0
.38رامان سالدن :النظرية األدبية املعاصرة ،تر :سعيد الغامني ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر
بريوت ،ط.0002 ،0
.39سامح كرمي :ماذا يبقى من طه حسني ،دار القلم ،بريوت ،ط.0022 ،3
.41سامح كرمي :معارك طه حسني األدبية والفكرية ،دار القلم بريوت ،ط.0022 ، 3
.41سامي الكيايل :مع طه حسني ،دار املعارف ،مصر ،ط ،3إقرأ ح ،00ج.0
360
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.42سعد البازعي :االختالف الثقايف وثقافة االختالف ،املركز الثقايف العريب ،بريوت -الدار
البيضاء ،ط.3118 ،0
.43سعد البازعي :استقبال اآلخر ،الغرب يف النقد العريب احلديث ،املركز الثقايف العريب ،بريوت،
الدار البيضاء ،ط.3112 ،0
.44سعيد توفيق:يف ماهية اللغة وفلسفة التأويل ،املؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر والتوزيع،
بريوت ،ط.3113 ،0
.45سيد البحراوي:البحث عن املنهج يف النقد العريب احلديث ،دار شرقيات ،القاهرة،ط.0002 ،0
.46سيد البحراوي:قضايا النقد و اإلبداع العريب ،اهليئة العامة لقصور الثقافة،مصر،3113،ع .030
.47شفيق السيد :االجتاه األسلويب يف النقد األديب ،دار الفكر العريب ،القاهرة.0082 ،
.48شكري عزيز ماضي :يف نظرية األدب ،دار احلداثة ،بريوت ،ط.0082 ،0
.49شكري عزيز ماضي :من إشكاليات النقد العريب اجلديد ،البنيوية ،النقد األسطوري ،مورفولوجيا
السرد ،ما بعد البنيوية،املؤسسة العربية للدراسات والنشر،بريوت ،ط.0002 ،0
.51شكري حممد عياد:األدب يف عامل متغري،اهليئة املصرية العامة للتأليف والنشر.0020 ،
ط0002 ،3 .51شكري حممد عياد :اجتاهات البحث األسلويب ،،أصدقاء الكتاب ،القاهرة،
.52شكري حممد عياد :بني الفلسفة و النقد ،منشورات أصدقاء الكتاب ،القاهرة.0001 ،
.53شكري حممد عياد :جتارب يف األدب والنقد ،دار الكاتب العريب للطباعة والنشر،القاهرة.0022 ،
.54شكري حممد عياد :املذاهب األدبية و النقدية عند العرب و الغربيني ،عامل املعرفة ،اجمللس
الوطين للثقافة والفنون و اآلداب ،الكويت ،0002 ،ع .022
.55شكري حممد عياد :دائرة اإلبداع :مقدمة يف أصول النقد،دار إلياس العصرية ،القاهرة.0082 ،
361
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.56شكري حممد عياد:مدخل إىل علم األسلوب،أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع،القاهرة ،ط.0002 ،2
.57شكري عياد :الرؤيا املقيدة،دراسات يف التفسري احلضاري لألدب ،اهليئة املصرية العامة للكتاب،
دط.0028 ،
.58شكري حممد عياد :اللغة واإلبداع -مبادئ علم األسلوب العريب -ط.0088 ،0
.59شكري عياد:على هامش النقد ،أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط.0002 ،0
ط0081 ،0 .61شكري حممد عياد :يوم الدين واحلساب ،دار الوحدة ،بريوت،
.61صالح فضل :شفرات النص ،دراسة سيميولوجية يف شعرية القص و القصيد،دار اآلداب،
بريوت ،ط.0000 ،0
.62صالح فضل:علم األسلوب مبادئه وإجراءاته ،دار الشروق ،القاهرة ،ط.0008 ،0
.63صالح فضل :يف النقد األديب ،منشورات احتاد الكتاب العرب ،دمشق .3112
.64طه حسني :خصام ونقد ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ط.0028 ،8
.67طه حسني :من بعيد ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ط.0023 ،2
.68طه حسني :األيام ،مركز األهرام للرتمجة والنشر ،القاهرة ،ط ،3112 ،3مج.0
.69طه حسني :املؤلفات الكاملة ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،0022 ،ج.0
.71طه حسني :جتديد ذكرى أيب العالء ،اجملموعة الكاملة ملؤلفات الدكتور طه حسني ،الشركة
العاملية للكتاب ،مكتبة املدرسة ،بريوت ،ط ،0082 ،3مج ،01ج.0
362
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.72طه حسني :جتديد ذكرى أيب العالء ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ط ،0022 ،0مج.2
.73طه حسني :جنة الشوك ،اجملموعة الكاملة ،دار الكتاب اللبناين ،ط ،0بريوت ،0022 ،مج.00
.75طه حسني :خصام و نقد ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ط.0022 ،2
.76طه حسني :فصول يف األدب و النقد ،اجملموعة الكاملة ،دار الكتاب اللبناين ،0022 ،مج.5
.78طه حسني :يف األدب اجلاهلي ،دار املعارف ،مصر ،ط.0025 ،00
.79طه حسني :يف الشعر اجلاهلي ،دار املعارف للطباعة والنشر ،سوسة-تونس ،ط.3112 ،2
.83طه حسني :مستقبل الثقافة يف مصر :اجملموعة الكاملة ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،ط،0
،0022مج.0
.84طيب تيزيين :مشروع رؤية جديدة للفكر العريب يف العصر الوسيط ،دار دمشق للطباعة
والنشر ،دمشق ،ط.0080 ،0
.85عاطف أمحد الدراسبة :قراءة النص الشعري اجلاهلي يف ضوء نظرية التأويل،عامل الكتب
احلديث ،األردن ،ط.3112 ،0
.86عباس أرحيلة :مسألة التأثري األرسطي لدى مؤرخي النقد والبالغة العربية ،املطبعة والوراقة
الوطنية ،الرباط ،ط.0000 ،0
363
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.87عباس أرحيلة :األثر األرسطي يف النقد و البالغة العربيني إىل حدود القرن الثاين اهلجري،
منشورات كلية اآلداب و العلوم اإلنسانية ،الرباط ،ط.0000 ،0
.88عباس اجلراري :خطاب املنهج .منشورات النادي اجلراري ،9الرباط ،ط.1881 ،2
.91عبد اجلليل بن حممد األزدي:أسئلة املنهج يف النقد العريب احلديث ،املديرية اجلهوية لوزارة
الثقافة ،مراكش ،ط.2008 ،1
.91عبد احلميد يونس :األسس الفنية للنقد األديب ،دار املعرفة ،القاهرة ،ط.0058 ،0
.92عبد الرزاق عيد :طه حسني رائد العقالنية الليربالية العربية ،رؤية للنشر والتوزيع ،القاهرة ،ط،0
.3118
.93عبد الرزاق عيد :طه حسني ،العقل والدين ،حبث يف مشكلة املنهج ،مركز اإلمناء احلضاري
حلب ،سوريا ،ط،0005 ،0
.94عبد السالم الشاذيل :األسس النظرية يف مناهج البحث األديب العريب احلديث،دار احلداثة،
بريوت ،ط.0080 ،0
.95عبد السالم املسدي :األسلوبية واألسلوب حنو بديل ألسين يف نقد األدب ،الدار العربية
للكتاب.0022 ،
.96عبد السالم املسدي :ما وراء اللغة ،حبث يف اخللفيات املعرفية ،مؤسسات عبد الكرمي بن عبد
اهلل للنشر والتوزيع ،تونس ،دط ،دت.
.97عبد السالم بن عبد العايل :الرتاث و االختالف ،املركز الثقايف العريب ،بريوت .0085
.98عبد العزيز املقاحل :عمالقة عند مطلع القرن ،دار اآلداب بريوت ،ط.0088 ،3
364
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.99عبد العزيز محودة :املرايا احملدبة -من البنيوية إىل التفكيك -عامل املعرفة ،اجمللس الوطين للثقافة
والفنون واآلداب الكويت ،0008 ،ع .323
.111عبد العزيز محودة :املرايا املقعرة -حنو نظرية نقدية عربية -عامل املعرفة ،اجمللس الوطين للثقافة
والفنون واآلداب ،الكويت ،3110 ،ع .323
.111عبد العزيز شرف :طه حسني و زوال اجملتمع التقليدي ،اهليئة املصرية العامة للكتاب.0022 ،
.112عبد الفتاح كيليطو :األدب واالرتياب ،دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء ،ط.3112،0
.113عبد اهلل الغذامي :خلطيئة والتكفري،من البنيوية إىل التشرحيية ،النادي األديب الثقايف،جدة،ط.0085 ،0
.114عبد اجمليد حنون :الالنسونية وأثرها يف رواد النقد العريب احلديث ،اهليئة املصرية العامة
للكتاب ،القاهرة ،دط.0002 ،
.115عز الدين إمساعيل :آفاق معرفية يف اإلبداع و النقد و األدب و الشعر ،النادي األديب
الثقايف ،جدة.3112 ،
.116عز الدين إمساعيل :األدب و فنونه دراسة و نقد ،دار الفكر العريب ،القاهرة ،ط.0028 ،2
.117عز الدين األمني :نشأة النقد األديب احلديث يف مصر ،دار املعارف ،مصر ،دط.
.118علي أومليل :سؤال الثقافة،الثقافة العربية يف عامل متحول ،املركز الثقايف العريب ،الدار
البيضاء-بريوت ،ط.3115 ،0
.119علي حرب:التأويل واحلقيقة،قراءات تأويلية يف الثقافة العربية ،دار التنوير للطباعة والنشر،
بريوت ،ط.0085 ،0
.111علي حرب :نقد النص ،املركز الثقايف العريب ،بريوت-الدار البيضاء ،ط. ،3115 ،2
365
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.112عماد حامت :مدخل إىل تاريخ اآلداب األوربية -اآلداب األوربية حىت القرن التاسع عشر،-
الدار العربية للكتاب ،ليبيا ،تونس.0020 ،
.114فاضل ثامر :مدارات نقدية (يف إشكالية النقد و احلداثة و اإلبداع) ،دار الشؤون الثقافية
العامة ،العراق ،ط.0082 ،0
.115فؤاد أبو منصور :النقد البنيوي احلديث بني أوربا و لبنان ،نصوص -مجاليات ،تطلعات ،دار
اجليل ،بريوت ،ط.1891 ،1
.116قدامة بن جعفر :نقد الشعر ،تح عبد املنعم خفاجي ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،دت.
.117كارلو نالينو :تاريخ اآلداب العربية من اجلاهلية حىت عصر بين أمية ،دار املعارف ،مصر ،ط،3
.0021
.118ماجد السامرائي :الثقافة واحلري ،قراءة يف فكر طه حسني ،األهايل للطباعة والنشر والتوزيع،
ط.0002 ،0
.119مالكم براد بري و جيمس ماكفارلن :احلداثة ،دراسات مشرتكة ،تر :مؤيد حسن فوزي،
دار املأمون للرتمجة والنشر ،بغداد .0082
.121حممد أركون :قضايا يف نقل العقل الديين ،كيف نفهم اإلسالم اليوم ،تر :هاشم صاحل ،دار
الطليعة للطباعة والنشر ،بريوت ،ط.3111 ،3
.121حممد الدغمومي :نقد النقد و تنظري النقد العريب املعاصر ،منشورات كلية اآلداب ،الرباط،
مطبعة النجاح اجلديدة ،ط.0000 ،0
.122حممد برادة :حممد مندور وتنظري النقد األديب ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،الدار البيضاء .1891
366
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.123حممد برادة :مفهوم احلداثة عند طه حسني من خالل كتايب حافظ و شوقي و حديث
األربعاء -دراسات مغربية يف الفلسفة و الرتاث الفكري العريب احلديث -املركز الثقايف العريب،
الدار البيضاء.0085 ،
.124حممد سامل سعد اهلل :ما وراء النص :دراسات يف النقد املعريف املعاصر ،12عامل الكتب
احلديث ،إربد.األردن ،ط.3118 ،0
.125حممد عابد اجلابري :إشكاليات الفكر العريب املعاصر ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت،
ط.3115 ،5
.126حممد عابد اجلابري :الرتاث واحلداثة ،دراسات ومناقشات،مركز دراسات الوحدة العربية،
بريوت ،ط.3112 ،2
.127حممد عابد اجلابري :حنن والرتاث -قراءات معاصرة يف تراثنا الفلسفي -املركز الثقايف العريب،
الدار البيضاء ،ط.0082 ،0
.128حممد عزام :األسلوبية منهجا نقديا ،منشورات وزارة الثقافة ،دمشق.0080 ،
.129حممد عناين :املصطلحات األدبية احلديثة ،دراسة ومعجم إجنليزي عريب ،الشركة املصرية
العاملية للنشر لوجنمان ،القاهرة.0002 ،
.131حممد غنيمي هالل :األدب املقارن ،دار النهضة ،مصر ،ط ،2دت.
.131حممد غنيمي هالل :قضايا معاصرة يف األدب والنقد ،دار هنضة مصر للطبع والنشر ،دط ،دت.
.132حممد غنيمي هالل :النقد األديب احلديث ،دار الثقافة ،بريوت.0022 ،
ط.2 .133حممد مندور :يف امليزان اجلديد ،مكتبة مطبعة هنضة مصر ،القاهرة،
.134مصطفى عبد الغين :حتوالت طه حسني ،اهليئة املصرية العامة للكتاب،0001 ،
367
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.135حممد يوسف جنم :نظرية النقد والفنون واملذاهب األدبية يف األدب العريب احلديث -مقدمة
ودليل -دار صادر ،بريوت ،ط.0085 ،3
.136ناصر الدين األسد :مصادر الشعر اجلاهلي و قيمتها التارخيية ،دار املعارف ،مصر ،ط.0028 ،5
.137نبيل سليمان :مسامهة يف نقد النقد األديب ،دار الطليعة ،بريوت ،ط.1891 ،1
.138نصر حامد أبو زيد:إشكاليات القراءة وآليات التأويل ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،الدار
البيضاء ،ط.0003 ،0
.139نصر حامد أبو زيد :إشكاليات القراءة وآليات التأويل ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء-
بريوت،ط.0002 ،2
.141هانز جيورج غادمري :احلقيقة و املنهج ،اخلطوط األساسية لتأويلية فلسفية .تر :حسن ناظم،
علي حاكم صاحل ،راجعه عن األملانية :جورج كثورة ،دار أويا للطباعة ،اجلماهريية العظمى،
طرابلس ،ط.3112 ،0
.141هانز جيورج غادمري :جتلي اجلميل ،تر :سعيد توفيق ،اجمللس األعلى للثقافة،مصر.
.142يوسف أبو العدوس :األسلوبية-الرؤية و التطبيق ،-دار امليسرة ،عمان ،ط.3112 ،0
.143يوسف اخلال :احلداثة يف الشعر ،دار الطليعة للطباعة والنشر ،بريوت ،ط.0028 ،0
368
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
.154عامل الفكر ،اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت ،مج ، 00ع .2
.157جملة عامل الفكر ،اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت ،مج ،32ع ،0أكتوبر،
ديسمرب.0002 ،
369
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
u
02 ................................................................................................................ .................... مقدمة
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني
الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
19 ................................................................................................................. .1مرحلة البدايات
11 ....................................................................................................... .1.1يف الريف املصري
11 .1.1يف األزهر ............................................................................................ .......................
370
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
371
الباب األول :اخلطاب النقدي عند طه حسني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفصل األول :مرجعيات القراءة عند طه حسني
الباب الثالث :أامة املنهج :ي اخلطاب النقدي عند جابر عصفور
الفصل األول :خطاب احلداثة عند جابر عصفور
179 .1يف مفهوم احلداثة
...............................................................................................................
372