Professional Documents
Culture Documents
تحولات السياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي (2002 -2007)
تحولات السياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي (2002 -2007)
بحث الدبلوم
تحت إشراف
المقدمة 1
أوالً :محددات السياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي منذ نشأة الجمهورية 2
فما هي طبيعة العالقات التركية العربية بوجه عام؟ وهل تغيرت وجهة السياسة الخارجية
التركية تجاه العالم العربي بعد العام 2002؟ وإن كانت تغيرت فما هو مدى هذا التغير؟
أوالً :محددات السياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي منذ نشأة
الجمهورية وحزب العدالة والتنمية
ثمة لغز يصادف الباحث عن محددات للسياسة التركية سواء السياسة الداخلية أم الخارجية
ينبغ هذا اللغز من شدة التناقضات التركية على جُل المستويات فهي أشبه بجسر يربط بين الشرق
والغرب بحمل كل التناقضات بينهما في آن معا ً.
أما عالقة تركيا بالعالم العربي فهي عالقة شديدة الخصوصية وتنطلق خصوصيتها هذه أيضا ً
من التناقض التركي ذاته فهناك من ينظر إلى العالم العربي باعتباره امتداداً جغرافيا ً وتاريخيا ً وثقافيا ً
إسالمياً؛ بينما يرى آخرون إال خيانة العرب لتركيا في الحرب العالمية األولى والعداء بين القومية
العربية والقومية الطورانية ويرون أن العالم العربي مستودع لتصدير األفكار الرجعية الدينية التي
تتناقض مع مبادئ أتاتورك.
حتى الحرب الباردة لم يكن لتركيا سياسة خاصة تجاه العرب؛ قد يكون ذلك صحيحا ً تجاه
كتلة إسالمية أوسع كون تركيا عضواً في منظمة المؤتمر اإلسالمي؛ أما حيال العرب فقد كانت هناك
سياسات مع دول وليس مع كتلة؛ في األساس لم يكن العرب أنفسهم جسما ً أو صوتا ً واحداً ولم تكن
لهم رغم رابطة جامعة الدول العربية سياسة واحدة مشتركة التجاه تركيا والتجاه إيران وال أي
طرف إقليمي آخر؛ وفي كل األحوال كانت النظرة التركية تحكمها العضوية في المعسكر األطلسي
وكذلك طبيعة الطبقة الحاكمة في أنقرة والتي كان يتحكم في ذهنيتها من تعقيدات التاريخ مع العرب
وضد اإلسالم ما يكفي لكي ال تستقيم أي عالقة باستثناء بعض الهوامش البسيطة.
وقد ترتب على انتهاء الحرب الباردة معطيات وتوازنات جديدة ووجدت تركيا نفسها أمام
مجموعة من التحديات والتهديدات التي تالمس هواجس تاريخية وجغرافية تتقاطع أو تفترق مع
سياسات غربية أساسية تجاه تركيا ومحيطها اإلقليمي.
بعد عام ،1995لم يعد الشرق األوسط والعالم العربي بالنسبة لتركيا كما كان خالل الحرب
الباردة ،طرفا ً بمعنى "اآلخر"؛ بينما تركيا هي الطرف المقابل .ولم تعد سياسة تركيا تجاه الشرق
األوسط واحدة :استجالب واشنطن لإلسالم عدواً بديالً عن الشيوعية وإطالق شعارات حقوق
األقليات الدينية والقومية التي انفجرت في البلقان وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق األوسط ونقل
التحديات إلى البيئة الداخلية واإلقليمية لتركيا.
وال يمكن فهم العناصر المحددة للسياسة الخارجية التركية في الشرق األوسط وتجاه العالم
العربي من دون تقديم العامل األمني المتصل بوحدة األراضي التركية على العوامل األخرى وعلى
أهمية هذه العوامل.
وتتجسد هذه األولوية في طبيعة العالقة التركية مع دول المنطقة .فحزب العمال الكردستاني
الذي كان ينشط ضد الدولة التركية ،كان في أساس التحالف التركي مع إسرائيل والسيما مع توقيع
اتفاق التعاون والتدريب العسكري بين تل أبيب وأنقره في حرب فبراير سنة 1996؛ وهذه القضية
كانت في أساس الخالف التركي مع سوريا وصول العالقات بينهما إلى حافة الحرب في نهاية صيف
سنة 1998؛ وحيث طويت مشكلة حزب العمال الكردستاني مع اتفاقية "أضنة" في 20أكتوبر من
العام نفسه ،كانت العالقت التركية – السورية تبدأ مسيرة انفتاح غير مسبوقة ،توجت في مشاركة
الرئيس التركي أحمد مجدت سيزر الذي كان قد انتخب للتو في جنازة الرئيس الراحل حافظ األسد في
يونيو من عام .2000
والمشكلة الكردية في شمال العراق كانت في أساس التعاون بين نظام صدام حسين وتركيا
التي كانت قواتها تصول وتجول بحرية في العمق الكردي ،مشكلة راعيا ً وناظما ً لخالفات البرزاني
مع طالباني وممسكة بالوضع األمني والسياسي أيضا ً هناك على امتداد التسعينيات.
خالل التسعينيات يمكن القول أن السياسة الخارجية التركية في الشرق األوسط لم تخرج
كثيراً عن سقوف سياسات الغرب والواليات المتحدة خصوصاً ،لكنها كانت تشهد بداية اهتزاز جدي
في النظرة المشتركة بين أنقرة وحلفائها الغربيين إلى بعض األمور ،والسيما بالنسبة للوضع في
شمال العراق ونشاطات حزب العمال الكردستاني والعالقة مع سوريا ،والسيما بعد اغتيال رئيس
الحكومة اللبناني األسبق رفيق الحريري في 14فبراير .)(2005
وهناك متغيرات أساسية طرأت على الساحة السياسية الدولية واإلقليمية والمحلية كان لها
بالغ األثر على السياسة الخارجية التركية تجاه محيطها اإلقليمي والقوى الدولية وتجاه العالم العربي؛
وتتمثل هذه المتغيرات في أحداث 11سبتمبر 2001واحتالل العراق 2003ووصول حزب العدالة
والتنمية إلى السلطة في خريف .2002
وضعت أحداث 11سبتمبر تركيا من جديد أمام تحدي سياسات جورج بوش ونقله المعركة
إلى داخل العالم اإلسالمي بذريعة مكافحة اإلرهاب؛ ولم تنجح تركيا من تأثيرات هذه السياسة عبر
التفجيرات التي طالتها في خريف ،2004غير أن مشروع الشرق األوسط الجديد بعناوين
الديمقراطية وحقوق اإلنسان ،كان يلحظ النموذج التركي في الديمقراطية في بلد مسلمة ،لذا كان
االحتضان األمريكي والغربي لحزب العدالة والتنمية باعتباره مثاالً تطبيقيا لما تقول أمريكا عن
اإلسالم السياسي في لحظة تبرير غزو العراق والتهويل على األنظمة العربية بتغييرها إن لم تنسجم
بشكل كامل مع المشروع األمريكي في العراق والشرق األوسط ومنعا ً لاللتباس في معنى هذا الكالم
عن االحتضان األمريكي لحزب العدالة والتنمية فهو ال يأتي بمعنى والء مقابل لحزب العدالة والتنمية
تجاه واشنطن بل إن مواقف الطرفين تتباين في عدد كبير جداً من القضايا الحساسة لتركيا.
غير أنه من سوء حظ تركيا أن يتزامن وصول العدالة والتنمية إلى السلطة مع االحتالل
األمريكي للعراق الذي أصاب – مقتالً وتغييراً – كل االستراتيجية التركية في العراق.
وقد بذلت تركيا جهداً كبيراً لمنع نشوب الحرب وبالتالي لمنع تغيير "الستاتيكو" القائم الذي
كان ينسجم مع المصالح التركية؛ وفي هذا اإلطار كان رفض البرلمان التركي في األول من مارس
2003لمذكرة الحكومة الموافقة على فتح األراضي التركية للعساكر األمريكيين ،لكن الرهان التركي
على عدم إمكانية نشوب حرب من دون تركيا سقط وسقطت معه أو على األقل أصيبت برضوض
شديدة العالقات االستراتيجية بين أنقرة وواشنطن وبالتحديد بين المؤسسة العسكرية التركية
والبنتاجون وضربت االستراتيجية التركية في العراق من بيت أبيها().
ويبدو من الواضع أنه منذ أن جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في أعقاب فوزه
المشهود في انتخابات 11نوفمبر 2002تعيش تركيا في خضم إعادة صياغة لمسارها الجيوسياسي
وفق ما تراه يحقق مصالحها القومية وتشعر أنقرة بأن الوقت قد حان لكي تسير تركيا في مسار تحدده
مصالحها الوطنية الخاصة بغض النظر عن مدى مالءمتها أو مخالفتها ألهداف قوة أخرى؛ فهي قد
لعبت اللعبة األمريكية لمصلحة األمريكان وليس لمصلحتها لسنوات طويلة وحان الوقت إلعادة
صياغة مسارها الجيوسياسي وأولوياتها الجيوسياسية وفق مصالحها هي باألساس بغض النظر عن
مخالفة ذلك ألهداف الواليات المتحدة األمريكية().
غير أن هذا االتجاه في السياسة التركية لم يكن منبعه في األساس حزب العدالة والتنمية
منفردا وإنما كذلك نبع في التيار القومي اليساري العلماني في تركيا.
فيرى جناح من المثقفين األتراك أنه لو كان مصطفى كمال أتاتورك على قيد الحياة لما كانت
تركيا لتلهث وراء أوروبا هكذا بصرف النظر عن كل شيء ،بل وما كانت لتضع مقدراتها في أيدي
الواليات المتحدة بالطريقة التي حدثت.
يحلو لهؤالء وصف أنفسهم باليساريين القوميين الملتزمين بالتحديث الغربي ولكن دون
التفريط في مصالح الدولة القومية التركية وهم يرون أن مشكلة البالد تكمن في النخب المسيطرة على
الدولة وطبيعة انتماءاتها الفكرية واالقتصادية وتحالفاتها المستقرة بقمة هرم السلطة.
يتحرك هذا النجاح ضمن عدد من تنظيمات المجتمع المدني والجمعيات الفكرية والثقافية
ويفكر في إعادة كتابة تاريخ تركيا الحديث وتاريخ الثورة الكمالية لتوعية األجيال الجديدة بجوهر
مبادئها الحقيقية التي انزوت مع الزمن وخاصة مسألة التحرر الوطني واإلرادة المستقلة وعلى الرغم
من عدم توغل هؤالء بعمق في قواعد المجتمع التركي في القرى والبلدات على امتداد األناضول
فإنهم يسعون إلى التأثير في طبقة شباب المثقفين واألجيال الناشئة الجديدة.
األهم أن بينهم من يقول أنه على الرغم مما يبدو من انفتاح وعلمانية النخبة الحاكمة في تركيا
فإنها رسمت مساراً للبالد ،وضعها خارج سياقها الطبيعي جغرافيا ً وسياسيا ً وحضاريا ً في حين أن
مكانها يوجد في إقليمها بالشرق األوسط الذي يمثل محور تفاعالتها وأ،ه لم يكن هناك ما يدعو
إلتباعها سياسات عدائية مع جاراتها بالمنطقة ،أو رهن حركتها اإلقليمية بإمالءات في غير صالحها
مفروضة عليها بدعوى "التزامات التحالف الغربي" ..ومع اإلقرار بأن صوت هؤالء ال يزال خافتا ً
– فمما ال شك فيه أن البعض يتفق في الرأي العام ،مع هذا الطرح السيما من المؤمنين بأنه تركيا
الكمالية مضت لثمانين عاما ً بإمالءات الجغرافيا وحدها دون حقائق التاريخ.
وربما هناك ما يشير إلى إدراك السياسة التركية والنخبة والرأي العام لحقائق من هذا النوع
ولو دون أي رد فعل لذلك؛ في السنوات األخيرة أجرت أنقرة تناوالً به قدر من " الموضوعية" للكثير
من القضايا السياسية؛ عندما تم طرح مشروع القرار الذي أدان إسرائيل بالجمعية العامة لألمم
المتحدة؛ بسبب بناء الجدار العازل في األراضي الفلسطينية كانت تركيا من الدول التي صوتت
لصالحه إلى جانب العديد من الدول اإلسالمية ،على الرغم من أن دول االتحاد األوروبي امتنعت عن
التصويت ،كما وصف رئيس الوزراء أردوغان العملية التي اغتالت بها إسرائيل الشيخ أحمد ياسين
زعيم حركة حماس بأنه "عمل إرهابي" ،وتحدث وزير الخارجية جول عن أن استمرار إسرائيل في
هذه األعمال قد يؤثر على العالقات بينها وبين تركيا؛ كذلك وصف عديد من الصحف التركية
العمليات العسكرية التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين بأنه "إرهاب دولة" ،بل أصبحت تحفل
بمقاالت وآراء تتحدث عن "إسرائيل صنيع الواليات المتحدة ،التي تمارس حرب إبادة ضد
الفلسطينيين".
إن هذه اآلراء لم يكن من الممكن تصور ظهورها في تركيا "الغربية" قبل ذلك بخمس
سنوات فقط.
وبسبب ما يعتقده كثيرون بتركيا عن وجود سباق بين أوروبا وأمريكا على وطنهم ألهميته
االستراتيجية ودوره في صياغة شكل المنطقة المحيطة به ،يرى البعض أن على البالد بدالً من
االنجذاب إلى هذا أو ذاك ،التقدم للعب دور مستقل في المنطقة لحساب تركيا والمنطقة ذاتها ،ويرون
أنه يلزم لنجاح هذا الدور أن يكون مقبوالً من دول المنطقة؛ خاصة العبيها الرئيسيين.
يطرح بعض هؤالء التحرك بمقدمات ثقافية لهذا الدور ،يتعين ضمنها فض إشكاليات
تاريخية ال تزال تداعياتها قائمة بين العرب واألتراك على األقل من الناحية النفسية تدور حول
مقوالت "خيانة العرب لألتراك في الحرب العالمية األولى" ..فيما ثمة قسم ال ينشغل بالبحث في
قضايا تاريخية عفا عليها الزمن ويطرح تصوراً لمستقبل يلتقي فيه الجانبان على أسس مصلحية
بحتة.
ال يبدو من السهل تجاوز مشاهد ترسخت لدى النخب التركية عن العرب دون الخوض في
التاريخ وإعادة قراءته ،كما ال يبدو استكشاف آفاق مشتركة للمستقبل مجدياً ،قبل التحرر من قيود هذه
المشاهد ومثلما قال أحد الساسة األتراك إن ملفات الحرب العالمية األولى ال تزال مفتوحة بل وعلى
مصراعيها ،وتحتاج بعد ثمانين عاما ً إلى جهد من الطرفين العربي والتركي إلغالقها مما يعد مهمة
صعبة للغاية.
تبدو قضايا مثل العراق واألكراد والشرق األوسط الكبير والجديد وأوروبا األوسع وقبرص
والسياسة األمنية والدفاعية األوروبية والناتو وعالقة اإلسالم بالغرب تتقاطع كلها بشكل مثير في
تركيا وفي السياسة التركية كل يوم؛ ويتعين على صانع القرار التركي أن يأخذ في اعتباره هذه
الحقيقة وأن يعمل على إخراج تركيا من هذا التقاطع دون خسائر فادحة ،وليس كل شيء بأي ثمن
ولن يكون هكذا بالنسبة لتركيا.
في تركيا تبدو النخبة منقسمة بين من يرون مصالح البالد في الخيار األمريكي ومن يرونها
في الخيار األوروبي ..ولكن من المفارقات أن الطرفين األمريكي واألوروبي يتفقان على حد أدنى
من أسلوب التعامل مع تركيا يقف عند خط أحمر أسمه "وجهة البالد الغربية" ،وهناك من يرى تقبل
األوروبيين لإلصالحات التي أجرتها تركيا من أجل عضوية االتحاد األوروبي مرتبطا ً بتصدع
العالقة التركية األمريكية ويستدلون على ذلك باإلشارة إلى أن البرلمان الذي رفض االنصياع
للواليات المتحدة حليف تركيا االستراتيجي في الشأن العراقي هو ذاته البرلمان الذي انصاع
لألوروبيين وأجاز تعديالت بالدستور التركي لتوفيق أوضاع البالد وفق معايير كوبنهاجن.
إن مقارنة كهذه توضح بجالء أن المرونة مع األوروبيين الصعبة بطبيعتها على األتراك
تتعلق بمصير تركيا ونخبتها الكمالية فيها تظل أي مرونة مع األمريكيين محدودة األثر على تركيا
بالمدى القريب وال ترتبط بمقولة انتمائها الغربي.
يبدو الحسم بين الواليات المتحدة وأوروبا يمثل فرضية قائمة بشواهد كثيرة ولكن ليس هناك
ما يدعو لالعتقاد في أنه سيعني أكثر من مجرد انحناء بسيط ومؤقت في الطريق ذاته الذي تسلكه
تركيا نحو " الغرب"؛ ومع كل ما يقال عن تعارض أو تقاطع أو تناقض المصالح األمريكية في تركيا
والمنطقة مع المصالح األوروبية فالشاهد أن اتفاق الجانبين األمريكي واألوروبي ليس متعذاً حتى
حول أكثر القضايا " خالفية".
بالنسبة لواشنطن يعد حفاظها على عالقات "التحالف االستراتيجي" مع تركيا هاما ً بدرجة
أكبر مما سبق؛ خاصة إذا " تهاون" األوروبيون في إدراك ما قد تعنيه خسارة الغرب لها.
قد يتضح لألتراك في خطاهم نحو االتحاد األوروبي إدراك حقيقة تقول إن الفكرة األوروبية
ذاتها تطورت عبر فترة زمنية ممتدة ومرت بمراحل نظرية وعملية متعاقبة ،أسهمت كل منها في
تشكيل وتأصيل هذه الفكرة بدءاً من الحضارة اليونانية والرومانية الغربية مروراً بعصر النهضة
والتنوير فالثورة الصناعية التي أفرزت التقدم العلمي ..الخ ،فيما لم تمر القومية التركية حديثة العهد
وال حتى األتراك العثمانيين بأي من هذه المراحل التي كانت المسيحية والكنيسة في قلبها دائما؛ إن
المسألة ترتبط بتراث روما وبيزنطة وال تنحصر ببساطة في تلبية معايير كوبنهاجن().
ومما سبق نستنتج أن ثمة اتجاه عام في تركيا نحو االستقالل بالقرار السياسي وسواء كان
السعي التركي يتجه إلى الواليات المتحدة أو إلى أوروبا أو إلى الجمهوريات التركية أو إلى العالم
اإلسالمي أو إلى إسرائيل أحيانا ً وسواء كانت النخبة الحاكمة من القوميين العلمانيين الموالين
للمؤسسة العسكرية أو القوميين العلمانيين اليساريين أو هؤالء الخارجين من تحت العباءة اإلسالمية
فعلى ما يبدو يحكم السياسية الخارجية التركية في القرن الجديد معيار أساسي هو الحفاظ بشتى السبل
على أمن تركيا القومي واستقاللها.
في بدايات العقد األول من القرن الحادي والعشرين تبدو تركيا تتحلل من كثير من المواريث
التي كانت ثمنا ً تعين عليها دفعه للوصول إلى حالة االستقرار السياسي التي تعرفها اليوم؛ أصبح
يحكم البالد حكومة حزب واحد يمضي لتنفيذ مشروع واقعي للدولة والمجتمع والسياسة ويجتهد في
اإلنصات للمطالب الحقيقية والملحة للماليين من أبناء هذا الوطن ويحقق نجاحات اقتصادية وسياسية
كبيرة دون وصفها بالتحوالت الجذرية مثلما دأب اآلخرون على االدعاء.
بالنسبة للكثيرين من نخبة البالد العلمانية تكمن المشكلة أو المأساة في أن حزبا ً يمينيا محافظا ً
أصبح يتبنى ويعمل من أجل انضمام تركيا لالتحاد األوروبي الهدف الذي وضعته النخبة العلمانية
للبالد ويقر األوروبيون أن ما حققه على هذا الصعيد في عامين يماثل ما حققته تركيا قبله على مدى
عشرين عاما ً ويتقدمون للتفاوض معه على انضمامها ،يمثل األمر انقالبا ً في السياسة التركية وأحد
أكبر المآزق التي تعيشها حين أصبح التحديث الحقيقي يُجري على يد قوى سياسية واجتماعية
محافظة ثم وصمها من قبل في خانة رفض الجمهورية ورفض وجهتها الغربية ..إن نجاح حزب
العدالة والتنمية في مشروعه وفي تحقيق اإلنجازات خالل توليه السلطة سيمثل وال شك ضربة
موجعة لكل من قوى اليسار الموغل في علمانيته والقوى اليمينية الموغلة في قوميتها.
ومع كل المسيرة يظل السؤال األزلي المثار حول تركيا خاصة من جانب الغربيين يدور
حول مخاطر تحولها لتصبح دولة إسالمية صرفة ..الذي يبدو يصدر بتأثير الخوف المتأثر بتجربة
إيران؛ وعلى الرغم من كافة التقديرات التي تشير بإمكانية ذلك ،فإن المجتمع التركي ال يحمل بذور
مثل هذا التحول على األقل في المستقبل القريب والمتوسط.
فمن غير المقبول إغفال األثر الذي أحدثته ثمانية عقود من العلمانية حتى ولو كانت في نظر
الكثيرين متعسفة وظالمة على تركيب المجتمع والدولة والعالقة فيما بينهما وبين األفراد كما من غير
اليسير تصور ذلك اليوم الذي تغيب فيه عصا الجيش من الجميع.
كما أن اإلسالم في تركيا متأثرا بتراث صوفي مترسخ في وجدان األتراك والذي يحمل قدراً
ال بأس به من التسامح والوسطية وتقبل اآلخر.
وبصرف النظر عما سبق فالشاهد أن ما حدث في تركيا بعد الثالث من نوفمبر 2002يفتح
صفحة جديدة ليس فقط في السياسة الداخلية والخارجية للبالد وإنما أيضا ً وهو األهم في إسالم
األتراك تستلهم حقائق دينية منسية وتستشرف إمكاناتها للعمل في المجال السياسي سواء داخل تركيا
أو في سياساتها الخارجية.
بالفعل طرح حزب العدالة والتنمية مفهوما ً جديداً لتوصيف نفسه وتأصيل سياساته في الحكم
باسم "الديمقراطية المحافظة" ،التي ال يفتأ يتحدث عنها في كل مناسبة وعلى مستويات قيادية،
كحزب يؤمن بالمبادئ الديمقراطية العالمية دون التضحية بالقيم المحافظة للسكان.
حسب تعريف أردوغان نفسه يعد المفهوم وثيق الصلة بالحالة التركية بجغرافيتها وتاريخها
ونظامها السياسي وأهدافها ،فقال "إن ميراث األتراك التاريخي وقيمهم الذاتية ورغبتهم في استيعاب
وتقبل القيم المعاصرة يعد أساس مفهوم الديمقراطية المحافظة" .وإذ ال يقبل عالم اليوم الحدود
الفاصلة بين األفكار والمعتقدات واأليديولوجيات على طريقة األبيض واألسود وإنما يشهد تجارب
تمتزج فيها وتتداخل مختلف المراجع األيديولوجية والفكرية فإنه يرى أنه يتعين على تركيا تجديد
وتدعيم نظامها السياسي وفلسفته من خالل هذا المفهوم.
والحق أن مقدمات ذلك الطرح السياسية وليس الفكرية تمثلت في حقيقة إطالق الحزب
بمؤسسين من غير أعضاء الفضيلة الذين كانوا من حيث الشكل والمضمون امتداداً لحزب الرفاه؛
وفي إعالنه أن هويته تقع على يمين الوسط في السياسة التركية ..ثم في قبول شخصيات من أحزاب
يمين الوسط التقليدية ضمن صفوفه قبل انتخابات 2002ووضعها في مناصب قيادية بالحزب
والسلطة بعد االنتخابات ،ثم بخطوات وإيحاءات ذات أغراض سياسية ،كان منها تلك الزيارة التي قام
بها زعيم الحزب أردوغان بعد الفوز في االنتخابات لريس الجمهورية السابق ديميريل الزعيم
المخضرم لتيار يمين الوسط ليستمع لنصائحه مثلما قال وهو يخرج من عنده ،وليس للزعيم السابق
للتيار الذي انتمى إليه ،وهو نجم الدين أربكان ..وبعد توليه رئاسة الوزراء بدأ أردوغان بالتحدث في
جرأة أكبر عن المفهوم على المستوى المحلي والدولي ومن الناحيتين األكاديمية والسياسية في آن().
وقد أثار تعريف حزب العدالة كثيراً من التعليقات المبهمة وهذا االرتباك والتردد إزاء تحديد
سمات الحزب الجديد ظهرا بوضوح في التحليالت األولى غداة االنتخابات؛ فقد تجنبت معظم وسائل
اإلعالم استخدام لفظ "اإلسالميين" عموما ً وفضلت عليه في أغلب األحيان كلمة "اإلسالميين
المعتدلين" أو "اإلسالميين الديمقراطيين" ،وتحدثت بعض الصحف كجريدة "لوموند" الفرنسية عن
انتصار حزب "إسالمي" ،إذ كان من الصعب بالتأكيد أن تشرح في برقية قصيرة أو حتى في مقال
من مقاالت الرأي أن "اإلسالميين" الذين تولوا الحكم في تركيا قبلوا أن يلعبوا لعبة الديمقراطية.
يرفض الصحفي روشين تشاكير استخدام لفظ "اإلسالميين الديمقراطيين" ويفضل وصف
أعضاء حزب العدالة والتنمية بـ"إسالميين سابقين" Ex-islamistesكما كان يقال منذ حوالي عشر
سنوات "الشيوعيين السابقون" ex-communistesفي بلدان الشرق بعد سقوط حائط برلين إشارة
إلى الكوادر الشيوعية السابقة التي سرعان ما انتقلت إلى التنظيمات الحزبية التي تشكلت في
الديمقراطيات الحديثة على أنقاض الشيوعية؛ ومن وجهة نظر روشين تشاكير يجب الحذر من تشبيه
حزب العدالة بالديمقراطية المسيحية دون تريث إذ أن هذه المقارنة من قبيل البرهان بالمماثلة أكثر
منه تحليالً فكريا ً ألن هذه الفئة السياسية الغربية ،وإن كانت ذات حساسية دينية فهي ال تنتمي إلى
التيارات الدينية األصولية الراديكالية ولذلك قبل اتهام حزب العدالة وزعيمه رجب طيبي أردوغان
"بالشيطنة" يجدر بنا أن نبني حكمنا على أعمالهم.
ووفقا ً لتحليل يستند أكثر إلى الجانب االجتماعي يرى بعض المراقبين مثل فرحات كنتيل أن
استخدام لفظ "اإلسالميين" في الكالم عن حزب العدالة أصبح اآلن ال معنى له؛ وإذ يشير بوجه
خاص إلى أن كل الدراسات االجتماعية الجادة التي أجريت في تركيا تبين بوضوح أن نسبة أنصار
التطبيق الصارم ألكثر مبادئ اإلسالم تشددا السيما إخضاع المجتمع التركي ألحكام الشريعة
اإلسالمية ،هذه النسبة لم تتغير وهي تتراوح بين 5و - %7كما يستنتج كنتيل – وإن حزب مثل
حزب العدالة لم يسع إلى اكتساب مزيد من األصوات بين هؤالء لتحقيق النصر؛ وفي نظره يعد
تصاعد قوة حزب العدالة بمثابة إحياء وتجديد حقيقي للسياسة في بلد أصبح ال يبالي باللعبة السياسية
التقليدية كما حدث إلى حد ما في غالبية دول أوروبا الغربية قبل ذلك ،صحيح أننا رأينا في تركيا
خالل العقد األخير ،وبالتوازي مع توجه الحياة السياسية نحو االحتراف والتعددية الحزبية تزايد
"الالمباالة في السياسة" واتساع الهوة بين الرأي العام والزعماء السياسيين؛ ومنذ ذلك الوقت – وفقا ً
لفرحات كنتيل – ومع تولي حزب العدالة الحكم أصبح هناك شعور بأن السلطة أصبحت في يد حركة
سياسية تمثل القاعدة أو على أية حال تعبر عن جذور الشعب التركي وهوياته المتعددة وتطلعاته
المعاصرة وهذه الحركة تبدو قادرة – على األقل في الوقت الحالي – على إعادة الحوار بين القمة
والقاعدة وبين الرأي العام والحكومة.
أما المفكرون العلمانيون والموالون ألوروبا امثال دنيز فاردار فتحليلهم يختلف تماما ً وهو
قائم أساسا ً على علم السياسة ومراقبة التغيرات التي حدثت مؤخراً في التنظيمات الحزبية التركية،
وبالنظر إلى ذلك يعد حزب العدالة والتنمية حزبا ً محافظا ً أساسا ً يتكون من كوادر من اليمين
المتطرف الشعبوي الراديكالي سلكوا طريقهم إلى الوسط بتحولهم إلى الديمقراطية ،ويوضح دنيز
فاردار أن "هذا التقدم البطيء انطلق أصالً من حزب السالمة الوطني في السبعينيات وصوالً إلى
حزب العدالة ومروراً بحزب الرفاه وحزب الفضيلة وحزب السعادة وبقبوله الديمقراطية نهجا ً له
نجح هذا الحزب في توسيع قاعدته االنتخابية كما أنه انضم إلى االنتهازيين من أحزاب اليمين الوسط
مثل حزب الوطن األم وحزب الشروق الجديد بل وأحزاب اليمين القومي المتطرف مثل حزب
الحركة القومية أو أحزاب اليسار"؛ إضافة إلى ذلك أتم اإلسالميون القدامى مشروعهم الخاص
باكتساب االحترام وذلك باختيارهم أوروبا وبالفعل هذا االختيار وألسباب سياسية وثقافية معا ً دخلوا
بكل قوتهم في النظام().
ويمكننا أن نحكم على حزب العدالة والتنمية بشكل أكثر موضوعية من خالل أفعاله وأقواله
عن نفسه؛ وباإلطالع على الالئحة الداخلية للحزب نجد أهدافه كما يلي:
تحقيق السيادة وبدون أي قيد أو شرط للشعب التركي على الجمهورية القانونية التي تعتبر )1
الحفاظ على القيم واألخالق التي تعد بمثابة تراث للشعب التركي. )3
تحقيق الحضارة والمدنية المعاصرة في تركيا وفقا ً للطريق الذي رسمه مصطفى كمال )4
أتاتورك.
تحقيق مفهوم الدولة االجتماعية التي تتيح لألفراد العيش بالشكل االجتماعي المطلوب. )6
ويختصر برنامج الحزب في اآلتي :الدمقرطة ،التنمية ،النهوض فوق مستوى الحضارة )8
المعاصرة().
وبعد النجاح الساحق للحزب في انتخابات 2007بدا رجب طيب أردوغان وصديقه عبدهللا
جول وحزبهما في حالة أقوى بكثير من ذي قبل سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي؛ وصار
الصديقان الذين وصاال إلى أعلى قمم األناضول أكثر جرأة رغم محافظتهم دائما ً على عدم إغضاب
العسكر المتربصين؛ ويبدو هنا أردوغان وصحبه في موقف أشد صعوبة مما كان عليه آخر الخلفاء
المسلمين السلطان عبد الحميد الثاني على نفس األرض وتحت نفس السماء قبل 99عاما ً وحيداً في
قصره الذي بناه على أنقاض مقبرة لليهود على أطراف اسطنبول "يلدز" قبيل دخول قره صو
اليهودي أحد رجال انقالب سنة 1908عليه لتبليغه بإزاحته عن منصبه فماذا يستطيع العثمانيون
الجدد فعله من خالل ممارسة فن الممكن واالنطالق من أرض الواقع؟
بالنسبة للسياسة الخارجية يعلن الحزب عن تبنيه سياسة خارجية "واقعية" تتسق مع تاريخ
تركيا وموقعها الجغرافي خالية من األفكار المسبقة أو التعسفية على أن تقوم على مبدأ المصالح
المتبادلة ويلتزم الحزب في ذلك اإلطار بإعادة تعريف أولويات سياسة تركيا الخارجية في مواجهة
الحقائق اإلقليمية والدولية المتغيرة وبخلق توازن جديد بين هذه الحقائق والمصالح الوطنية؛ كما يؤكد
الحزب على قيامه بمبادرات إليجاد حلول عادلة للمشكالت القائمة مع الجيران ،وبأن يضع مزايا
تركيا الناجمة عن موقعها االستراتيجي تحت تصرف المجتمع الدولي من أجل مساهمة أفضل في
السالم الدولي والرخاء .أما القضية الكردية فإن الحزب يرى أن هناك ضرورة لالعتراف بالقضايا
السلبية التي خلقتها هذه المشكلة في الحياة االجتماعية التركية ويتعهد الحزب بإتباع سياسات تحقق
السعادة والرفاه والحقوق والحريات لكافة سكان اإلقليم بطريقة ال تخلق ضعفا ً وال تهدد وحدة
األراضي التركية().
ليس هناك من إجماع داخلي على السياسات الخارجية لسلطة حزب العدالة والتنمية سواء في )2
الشرق األوسط والعالم اإلسالمي أو تجاه العالم العربي أو تجاه االتحاد األوروبي والواليت المتحدة،
وقد برز تأثير العامل الداخلي جليا ً في التطورات التي شهدتها تركيا – وال تزال – على صعيد
الصراع بين القوى الداخلية والسيما بين المتشددين من العلمانيين والعسكر من جهة وحزب العدالة
والتنمية من جهة أخرى.
إن الخيار االستراتيجي ألنقره هو االتحاد األوروبي وهو في مفاوضات عضوية معه )3
وبالتالي فإن أي تحسن في العالقات التركية – العربية ليس بديالً عن الخيار األوروبي بل هو عامل
مكمل ومقو لخيار أنقره األوروبي.
إن تركيا عضو في حلف شمال األطلسي (ناتو) وهي مرتبطة بالسقوف التي يحددها الحلف. )4
لتركيا عالقات حيوية مع إسرائيل تتصل بحاجة تركيا للوبي اليهودي في الواليت المتحدة في )5
إن الدور التركي تبعا ً لسياسة تعدد البعد يمتلك القدرة على التواصل مع كل األطراف في )6
الشرق األوسط ،وتركيا هي الدولة الوحيدة التي لها عالقات جيدة مع الجميع دون استثناء وهو ما
يعطيها ميزة مهمة().
ومن خالل ما سبق يمكننا تفسير تحوالت السياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي بعد
سنة 2002وحتى اآلن ،وفيما يلي عرض لنماذج تطبيقه للسياسة الخارجية التركية تجاه كل من
العراق وسوريا ومواقفها تجاه الصراع العربي اإلسرائيلي مع احتفاظها بعالقات استراتيجية مع
إسرائيل وكذلك عرض للعالقات التركية المصرية في ظل تحوالت السياسة التركية فيما بعد تولي
حزب العدالة والتنمية الحكم.
ثانيا ً :السياسة الخارجية التركية تجاه العراق
ارتكزت العالقات التركية العراقية على ثالثة ركائز أساسية هي المسألة الكردية ،مشكلة
تقسيم مياه نهري دجلة والفرات ،التعاون االقتصادي واالستفادة التركية من البترول العراقي.
شهدت العالقات التركية العراقية تقدما ً ملحوظا ً من منتصف السبعينات حتى نهاية الثمانينات
على المستويين االقتصادي والسياسي فرغم صدمة تركية بارتفاع أسعار النفط مرتين في سنة 1973
وبعدها مما أثقل كاهلها بمدفوعاتها مقابل النفط العراقي ،إال أن هذه الفترة قد شهدت أيضا ً زيادة
ملحوظة في الواردات العراقية من تركيا التي بلغت في النصف األول من الثمانينات بليون دوالر
وهكذا احتلت العراق المرتبة الثانية بعد ألمانيا في التجارة الخارجية لتركيا.
وفي 1977استكمل أول خط ألنابيب البترول يصل بين كركوك في العراق ويومرطالق في
تركيا ،وافتتح الخط الثاني سنة ،1986وبذلك بلغت طاقة ضخ البترول العراقي عبر األنابيب 1.6
مليون برميل يومياً ،وصار نصف واردات تركيا من النفط ويقدر بعشرين مليونا ً يأتي من العراق
وكانت تركيا تحصل على 280مليون دوالر سنويا ً مقابل نقل النفط خالل هذه األنابيب .وبعد غزو
العراق للكويت في 2أغسطس 1990التزمت تركيا بقرارات األمم المتحدة بفرض الحظر على
العراق فتم إغالق هذه األنابيب على أن المنشآت الخاصة بنفط كركوك وخط األنابيب العراقي
التركي لم تمس بسوء أثناء حرب الخليج.
وقد ظلت العالقات السياسية بين البلدين طيبة لفترة ،ففي الحرب اإليرانية العراقية ما بين
1980و 1988وقفت تركيا على الحياد ولم يكن لدى العراق ما يشكو منه من الموقف التركي بل
على العكس فإن تركيا ظلت طيلة الحرب تزود العراق بالكثير من السلع االستهالكية ،وبذلك قدمت
تركيا للعراق ميزان استراتيجية مهمة وقت الشدة؛ وفي أثناء الحرب اإليرانية العراقية هبت انتفاضة
كردية في شمال العراق وازدادت حدتها بوجه خاص سنة ،1986وقد قامت الحكومة العراقية بقمع
هذه االنتفاضة ،األمر الذي أدى إلى زحف ما يقرب من 70.000من األكراد الجئين إلى تركيا ،ولقد
بذلت تركيا قصارى جهدها لتزويد هؤالء الالجئين بالملجأ الالزم وبعد ذلك عاد هؤالء األكراد إلى
العراق بينما تحرك النصف الباقي إلى بلدان أخرى.
وفي سنة 1984وافق العراق على أن تستخدم تركيا حقها فيما عرف باسم "المطاردة
الساخنة" في تعقب أعضاء حزب العمال الكردي إلى مسافة عشرة كيلومترات داخل األراضي
العراقية؛ وذلك رداً على األعمال اإلرهابية التي كان يشنها هذا الحزب ضد تركيا؛ وبمقتضى هذا
االتفاق أجرت القوات التركية مناورات على الحدود بادئ األمر ،ثم قامت في أغسطس 1986بشن
غارات جوية على معسكرات المنظمات اإلرهابية في الجانب العراقي من الحدود.
على أنه في سنة 1989تكدرت العالقات بين تركيا والعراق ألن العراق لم يسدد بليونا من
الدوالرات المستحقة عليه كما أن صدام حسين أعلن إصراره على تقسيم مياه الفرات بين تركيا
وسوريا والعراق وال يمكن لتركيا أن تقر بمبدأ التقسيم دون األخذ في االعتبار متطلباتها للري في
مشروع األناضول الجنوبي الشرقي وفي غضون ذلك وافقت تركيا على أن تطلق قدراً كافيا ً من مياه
الفرات ( 500متر مكعب) حتى تتوصل األطراف المعنية إلى حل معقول يقوم على العدالة بين تركيا
وجاراتها العربية إلى الجنوب()؛ والجدير بالذكر أن موقف تركيا الثابت دائما ً بشأن المياه أن هذه
المياه مياه تركية وال حق ألحد في تقاسمها معها.
والواقع أنه بمرور السنوات تتناقص حصة العراق من مياه دجلة والفرات في ظل القسمة
غير العادلة بين الدول المشتركة معه في هذين النهرين (سوريا وتركيا) اللذان سعيا إلنشاء السدود
والخزانات لتحقيق األمن المائي لهما ما أثر سلبيا ً على نصيب العراق من المياه وخسارته لجزء كبير
من موارده المائية.
إن موارد العراق المائية تأتي غالبيتها من خارج حدوده فقد كان معدل الوارد المائي السنوي
من نهر الفرات للعراق خالل الفترة ( )1990 – 1930ما مقداره ( 27.4مليار متر مكعب)%88 ،
منه من تركيا و %3من سوريا والبقية من سيول الوديان داخل الحدود العراقية إال أن تركيا وسوريا
قبل إبرام أي اتفاق مع العراق على قسمة عادلة لمياه الفرات سارعتا في إنشاء سدود وخزانات مائية
عمالقة فقد أنشأت تركيا سدي كيبمان وأتاتورك حيث تبلغ طاقة سد كيبان الخزنية ( 3.6مليار متر
مكعب)؛ وقد تأخر العراق في إنشاء سد حديثة على الفرات الذي تبلغ طاقته الخزنية ( 8.24مليار
متر مكعب) حتى عام 1985بعد أن أكملت سوريا وتركيا سدودهما وإمالء خزاناتهما المائية وبهذا
التأخير فقد العراق فرصة استغالل حقه الذي تضمنه المواثيق الدولية وقد عقدت سوريا وتركيا اتفاقا ً
عام 1987تعهدت بموجبه تركيا بإمرار ( 500متر مكعب/ثانية) في الفرات إلى سوريا وبموجب
االتفاق بين العراق وسوريا عام 1990تعهدت سوريا بإمرار ( 290متراً مكعبا/ثانية) إلى العراق
من الفرات().
ويعد مشروع جدنوب شرق األناضول من أخطر المشروعات التركية التي تهدد األمن
القومي العراقي في الصميم؛ وقد اكتسب أهمية كبرى من إنجاز سد أتاتورك في العام 1992ويعد
هذا السد جزءاً من مشروع جنوب شرق األناضول Projesi Güneydoğu Aadoluالذي سيتم
فيه تغيير كل أشكال توزيع المياه في المنطقة حيث يشكل نهر الفرات الجزء األهم في هذا المشروع.
يتعيّن في هذا المشروع الذي بُدئ العمل فيه في العام 1983والذي يفترض إتمامه في العام
2010بناء 22سداً و 19محطة لتوليد الطاقة الكهربائية بالماء ،فمن المقرر أن يتم ر ّ
ي 1.7مليون
هكتار من األراضي.
كما يفترض في المستقبل أن تغطي الطاقة الكهربائية المولدة بواسطة هذه السدود ما نسبته
%22من االحتياج اإلجمالي المتوقع في تركيا.
على الجانب اآلخر يوجد مشروع بديل طرحه الرئيس التركي السابق تورجوت أوزال في
بداية التسعينيات فيما عرف باسم (مشروع خط أنابيب السالم لنقل الماء) وذلك من أجل التخفيف من
حدة الموقف المتوتر ،إذا كان ينوي في ذلك نقل الماء من النهرين التركيين "سيحان وجيجان" في
أنبوبين إلى شبه الجزيرة العربية ودول الخليج العربي.
كان من المفترض مد خط أنابيب لنقل الماء بطول 2650كيلومتر يمر عبر سوريا مع فرع
يتفرع عنه إلى إسرائيل واألردن حتى يصل إلى مكة ومد خط آخر يبلغ طوله حوالي أربعة آالف
كيلو متر يمر عبر الكويت والبحرين وقطر واإلمارات العربية المتحدة وعمان حتى يصل إلى مسقط.
لم يتحقق هذا المشروع حتى اآلن بسبب ريبة وشك الدول العربية التي لم تكن تريد إدخال
نفسها في تبعية لتركيا ومختلف الدول التي يعبرها خط األنابيب هذا مثل إسرائيل.
تقوم تركيا بغض النظر عن "خط أنابيب السالم" الذي لم يتحقق حتى اآلن باستغالل
مخزوناتها المائية من أجل تعزيز عالقاتها مع إسرائيل ..قامت إسرائيل التي مرت من العام 1998
حتى العام 2001بجفاف وقحط بالتوقيع في العام 2004بعد مفاوضات استمرت طيلة سنين على
معاهدة مع تركيا تنص على شراء إسرائيل من تركيا طيلة عشرين عاما ً خمسين مليون متر مكعب
من مياه الشرب في كل عام().
ويبدو أن االستراتيجية التركية تجاه مسألة المياه لم تتغير بمتغير الحكومات حتى ولو كانت
حكومة حزب العدالة والتنمية ذات التوجه اإلسالمي وفي هذا الصدد قدم األمين العام األسبق لألمم
المتحدة بطرس بطرس غالي في الثمانينات طرح يقول بأن "نار الحرب القادمة في الشرق األدنى لن
تندلع بسبب السياسة وإنما من أجل المياه" ...تسود حالة نقص المياه في أكثر من ثمانين دولة في
العالم غير أن هذه الحالة سوف تتفاقم حتى العام 2025بشكل مأساوي خاصة في دول الشرق
األدنى.
وفي ذلك يلعب التوزيع الجغرافي للمياه دوراً سياسيا ً مهماً؛ تحظى تركيا التي تقع فيها منابع
النهرين األكثر غنى بالمياه في الشرق األدنى – دجلة والفرات – بموقع يمكنها من احتكار المياه في
المنطقة – فال تزال كميات كبيرة من هذه المياه تجري من جبال طوروس إلى البحر من دون
استغاللها.
وفي المقابل تمتاز شبه الجزيرة العربية بمناخ صحراوي قاحل وجاف خال من الرطوبة مما
يعني أن كميات المياه التي تتبخر في هذه المنطقة الصحراوي تزيد – عما هي عليه الحال في
المناطق المعتدلة أي تزيد عن كميات مياه األمطار الهاطلة؛ لهذا السبب يعتمد أكثر من خمسين
بالمائة من السكان هناك على تحلية مياه البحر وعلى أنهار تجري في عدة دول أو على مصادر المياه
الجوفية().
وهذا ما يمكن أن تستخدمه تركيا حزب العدالة والتنمية تبعا ً لخلفية الحزب الفكرية
األيديولوجية في السعي الستعادة القيادة التركية للمنطقة العربية العالم اإلسالمي باعتبارها قادرة على
سد حاجة الدول العربية من المياه وهذا التفكير جزء مما يمكن أن نسميه العثمانية الجديدة ولم يكن
منبعه داخل التيار المحافظ في تركيا وإنما كذلك هو جزء من حلم تركي إمبراطوري ولكن على
الشاكلة العلمانية ومن منطلق اإلعالء من روح القومية التركية لدى التيارات القومية العلمانية
المتشددة أيضاً؛ وهنا يتضح أن السياسة التي تمارس على أرض الواقع ومن الناحية الفعلية تكاد تكون
واحدة بغض النظر عن التنظير األيديلوجي لهذه السياسة أو تلك؛ وفي النهاية تبقى المسألة منصبة
أساسً على ما تمليه مصلحة األمن القومي للدولة التركية وهو في هذه الحالة االستحواذ على ما يمكن
االستحواذ عليه من مصادر المياه وسط مخاوف من نشوب حروب في المستقبل بسبب المياه.
ومن أهم وأخطر الملفات في العالقة التركية العراقية قضية األكراد فمنذ قيام الجمهورية
التركية منذ أكثر من ثمانين عاما ً والقضية الكردية هي الشاغل الرئيسي للحكومات التركية المتعاقبة
بالرغم من أن العالقة بين الجانبين شهدت فترات من الهدوء النسبي ،بدأ الصراع عندما رفض
مصطفى كمال أتاتورك احترام معاهدة " سيفر" لعام 1920بين الحلفاء والدولة العثمانية.
وتعزز ذلك بمعاهدة "لوزان" لعام 1923التي لم تشر إلى مسألة إقامة دولة كردية.
وهكذا سعت النخبة التركية الكمالية منذ البداية إلى طمس الهوية الكردية واستبدالها بهوية
تركية وطنية فكان يطلق على األكراد اسم "أتراك الجبال".
ولتحقيق ذلك الهدف استخدام القادة األتراك شتى أنواع القمع ضد األقلية الكردية بتركيا.
ويعيش في تركيا حاليا ً حوالي 15مليون كردي يتركز أغلبهم جنوب شرق البالد ويشكلون
%20من تعداد السكان.
ومنذ إعالن قيام حزب العمال الكردستاني PKKعام 1979الذي اتخذ النضال المسلح
سبيالً لتحقيق هدفه بقيام دولة كردية في جنوب شرق تركيا منذ ذلك الحين والقضية الكردية هي أحد
أبرز المحددات الرئيسية لسياسة تركيا الخارجية والداخلية على حد سواء.
ففي عام 1980قام الجيش التركي بانقالب عسكري وكان فشل الحكومة في احتواء العنف
وتصاعد العمليات المسلحة الكردية أحد أهم أسباب االنقالب.
كما كان ألوضاع األكراد في دول الجوار والتغييرات التي طرأت عليها أثراً مباشراً على
الدولة التركية ففي 1979قام أكراد إيران بثورة تزامنت مع الثورة اإلسالمية ضد الشاه وأدى ذلك
إلى رفع سقف طموحات أكراد تركيا وحدوث اضطرابات على المناطق الحدودية بين الجانبين.
ومنذ منتصف السبعينات منحت العراق لألكراد الذين يعيشون على أرضها حقوقا ً اجتماعية
وثقافية ال يتمتع بها أكراد تركيا وال أي من أكراد دول الجوار وكانت نتيجة ذلك أن طالب األكراد
أنقرة بمنحهم مزيداً من حقوقهم المهدرة أسوة بإخوانهم في العراق.
وقد حاولت تركيا احتواء المشكلة الكردية من خالل تنسيق مواقفها مع دول الجوار التي
تعاني من نفس المشكلة ،ففي عام 1979قام رئيس أركان الجيش التركي الجنرال كنعان أفرن بزيارة
لبغداد أفضت إلى توقيع اتفاق بين الجانبين على قمع حركات التمرد الكردية.
وفي مرحلة ما بعد حرب تحرير الكويت عام 1991واجهت تركيا أزمة جديدة فقد حاولت
بغداد استرداد سيطرتها على مناطق الشمال فقامت بعدة عمليات عسكرية أدت إلى نزوح مئات
اآلالف من األكراد العراقيين إلى الحدود مع تركيا وهو ما لم ترحب به أنقرة نتيجة المشاكل
واالضطرابات التي سببها هؤالء النازحون.
وكان حل هذه المشكلة هو أن قامت كل من واشنطن ولندن بفرض مناطق "آمنة" Safe
Havenيحظر على القوات العراقية الدخول إليها ،ومن المفارقات أن هذا الوضع الجديد أنشأ مشكلة
أخرى بل وأكبر حجما ً ألنقرة فقد أدى انسحاب القوات العراقية من المنطقة وغياب سلطة فعلية من
بغداد إلى حدوث فراغ سياسي لم يمتلئ إال من قبل األكراد أنفسهم ،وهكذا قام األكراد العراقيون
بإنشاء أول مجلس تشريعي لهم في مدينة أربيل؛ وكان تخوف الدولة التركية أن يكون هذا المجلس
نواة لدولة كردية؛ أضف إلى ذلك عدم اكتراث األكراد العراقيون لحقيقة قيام مقاتلي حزب العمال
بعمليات ضد تركيا انطالقا من األرضي القابعة تحت سيطرتهم.
وقامت تركيا بعدد من العمليات العسكرية في شمال العراق بهدف القضاء على مقاتلي حزب
العمال الكردستاني ،ويمكن اإلشارة إلى أنه بغض النظر عن تغيير صانعي السياسة في تركيا
واختالف االئتالفات الحاكمة وتوجهاتها األيديولوجية فإن هذه العمليات شكلت سياسة مستمرة
وواضحة ألنقرة.
كما حاولت تركيا أن تربط أكراد العراق بمصالح اقتصادية معها وذلك الحتواء حزب العمال
الكردستاني بالمنطقة ويلخص الدكتور عبد هللا معوض دور تركيا تجاه األكراد في فترة التسعينيات
بأ،ه دور ذو أبعاد ثالثة "الحامي لألكراد العراقيين والوسيط بينهم والغازي أو المتحرك بإرادته
المنفردة في المنطقة دون اهتمام بأي قوانين دولية."..
كما تواجه الدولة التركية مشكلة أخرى ال تقل أهمية فهي تعتبر أن االقتصاد الكردي
بكردستان العراق أصبح يشكل تهديداً أكبر من قدرات األكراد العسكرية وذلك بعد أن أصبح األكراد
يحصلون على نسبة %13من قيمة صادرات النفط العراقية وفقا ً التفاقية النفط مقابل الغذاء مما قد
يدفعهم للسيطرة على مزيد من حقول النفط العراقية بالشمال عند اندالع الحرب.
لذلك فقد أكدت الحكومات التركية أن النفط العراقي هو ملك لدولة العراق وال يمكن أن تنتفع
منه جماعة معينة دونا عن باقي الشعب.
ويرى بعض المحللين أن تركيا ما تزال متمسكة بمطالبها في شمالي العراق خاصة مدينتي
الموصل وكركوك الغنيتين بالنفط واللتين كانتا تحت سيادة اإلمبراطورية العثمانية قبل تفككها؛ فعلى
سبيل المثال أعلن مسؤول تركي في يناير 2003أن تركيا قد تحاول استعادة هذه األراضي بالوسائل
القانونية لكن المسؤولين األتراك أكدوا في أكثر من مناسبة أن تركيا ليس لها أية مطالب في العراق
وهناك مخاوف كردية من أن تقوم القوات التركية بغزو لشمال العراق متذرعة بحماية األقلية
التركمانية التي ترتبط معها بروابط ثقافية وتاريخية؛ وقد أعلنت أنقرة موقفها بهذا إذا ما حاول
األكراد بسط نفوذهم على هذه المدينة أو غيرها من مدن الشمال العراقي.
وهكذا يمكن تلخيص سياسة تركيا تجاه العراق بعد حرب الخليج الثانية على النحو التالي:
الرفض القاطع ألي محاولة إلعادة تقسيم المنطقة جغرافيا ً انطالقا ً من مبدأ أن الوضع القائم 2003
بالرغم من سلبياته يبقى أفضل من االنعكاسات األمنية والسياسية الخطيرة الناتجة عن عملية إعادة
التقسيم ،لذلك أكدت الحكومات التركية في كل مناسبة أنها ملتزمة بوحدة العراق واستقالله وسيادته
على كامل أراضيه.
استمرار سيادة الخيار األمني العسكري على تعاطي أنقرة مع القضية الكردية. 2004
أن تركيا طالما أظهرت قلقا ً كبيراً تجاه أي تحوالت في العالقة بين األقلية الكردية في الدول 2005
المجاورة خاصة العراق – وحكومات هذه الدول السيما إذا ما أفضت هذه التحوالت إلى مزيد من
االستقاللية لألكراد وذلك تخوفا ً من قيام األقلية الكردية بتركيا بالمطالبة بنفس القدر من الحرية بل
ومحاولة االنفصال وإعالن دولة كردية في جنوب شرق البالد().
وكما يبدو فإن سياسة تركيا تجاه العراق بعد حرب الخليج الثالثة أيضا ً لم تخرج عن النقاط
السابقة مما يثبت لنا أن المصلحة التركية واحدة وما يختلف فقط هو تبرير هذه المصلحة وتوفيقها مع
األيديولوجية التي يرتديها من يحكم؛ وما يتميز به حزب العدالة والتنمية أنه وصل إلى سدة الحكم
ونجح نجاحا ً استثنائيا ً على الساحة السياسية التركية ليس ألنه متمسك بأيديولوجية ما بقدر ما هو
متمسك بالبرامجاتية كأساس لتحركاته داخليا ً وخارجيا ً في محاوالت توفيقية أثبتت نجاحها على أرض
بين بين ...علي أرض تتجلى فيها كل التوفيقيات بين جل المتناقضات على الجسر الذي يربط الشرق
بالغرب وتتقاطع عليه كل تناقضاتهما.
فالسياسة التركية واضحة بالنسبة للعراق حيث يجب الحفاظ على سيادته ووحدة أراضيه.
وهكذا بدى الموقف التركي في بدايته رافضا ً ألي عمل عسكري يفتقر للشرعية الدولية،
فالحكومة التركية كانت تأمل من خال ذلك أن تساعد في ثني الواليت المتحدة عن خوض حرب ضد
العراق.
لكن إصرار واشنطن ولندن على الخيار العسكري حتى بدون قرار جديد من مجلس األمن
يمنحهم هذا الحق أفضى إلى ضغوط شديدة على أنقرة.
فقد اكتشفت الحكومة التركية أنها لن تتمكن من إقناع واشنطن بالعدول عن قرارها بالحرب،
وهكذا اضطرت أنقرة لتغيير خطابها السياسي؛ ففي الحرب كما قال عبدهللا جول رئيس الوزراء في
حينها ووزير الخارجية ورئيس الجمهورية التركية حاليا ً "أنه تماشيا ً مع مصلحتنا الوطنية فإن تركيا
ستقف بجانب الواليات المتحدة حليفنا االستراتيجي".
ويرى بعض المحللين أن الحكومة التركية كان عليها أن تختار بين رفض التعاون مع
واشنطن تحت مظلة االنصياع للشرعية الدولية وهذا يعني تعريض مصالح تركيا االقتصادية
وعالقتها االستراتيجية مع واشنطن والقضية القبرصية وقضية االنضمام لالتحاد األوروبي للخطر...
أو المضي في مغامرة محفوفة بالمخاطر مع الحليف األمريكي بالمشاركة في حرب ال تخدم المصالح
التركية ..وضد الرأي العام التركي والعالمي وهذا يعني تعريض الحكومة والحزب الحاكم حزب
العدالة والتنمية لمأزق سياسي خطير"().
كما أن الضرر االقتصادي البالغ الذي لحق بتركيا جراء حرب الخليج الثانية والذي يقدر
بنحو 40مليار دوالر نتيجة توقف معامالتها التجارية مع العراق جعل تركيا تدرك أن أي حرب
أخرى بالمنطقة لن تؤدي إال لتكبين أنقرة مزيداً من الخسائر االقتصادية؛ فمن المتوقع أن يتضرر
قطاع السياحة بشدة وأن تشهد تركيا هروبا ً لرؤوس األموال واالستثمارات إلى الخارج باإلضافة
إلى احتمالية ارتفاع أسعار النفط التي سيكون لها تأثيرات مدمرة على االقتصاد التركي الذي لم
يتعافى بعد().
وهكذا دخلت أنقرة في مفاوضات شاقة مع "حليفتها" واشنطن من أجل التوصل التفاق حول
قيمة المساعدات االقتصادية ودور تركيا في الحرب وما بعدها.
وقد شملت هذه المفاوضات مواضيع عدة إلى حد أن المفاوضين األتراك طلبوا من واشنطن
أن تراقب أنقرة عملية توزيع األسلحة على المقاتلين األكراد وسحبها منهم بعد أن تضع الحرب
أوزارها.
فما الذي حدث إذا في 1مارس خلف األبواب المغلقة للبرلمان التركي وبينما تظاهر في ذلك
اليوم مئات األلوف من األتراك في شوارعها ومدنها ضد الحرب صوت البرلمان التركي بـ 264
صوتا لصالح نشر 62ألف جندي أمريكي ومعارضة 251نائبا ً وامتناع 19نائبا ً عن التصويت؛
وهكذا لم تتمكن الحكومة من تمرير القرار الذي كان يحتاج إلى أغلبية مطلقة وفقا ً للدستور التركي
من أجل نشر قوات أجنبية على أراضي تركيا ،وفي ذلك اليوم وبعد سماعهم الخبر خرج اآلالف إلى
الشوارع ليحتفلوا باالنتصار!
وقد يرى البعض أن تركيا فوتت فرصة ذهبية من أجل ملء خزائنها الخاوية من خالل
الحصول على أكبر قدر من المساعدات االقتصادية من واشنطن وتوقيعها على اتفاق تتمكن بمقتضاه
من الدخول إلى األراضي العراقية وتعزيز أهميتها الجيوسياسية كحليف استراتيجي للواليات المتحدة
باإلضافة إلى دعم واشنطن لسعيها االنضمام إلى االتحاد األوروبي.
بينما قد يرى آخرون أن تركيا اتخذت أفضل الخيارات الذي يخدم مصلحتها الوطنية وذلك
برفضها انتشار القوات األمريكية دون تحقيق ألكبر مكاسب سياسية واقتصادية ممكنة بما فيها عدم
تخلي أنقرة عن مبلغ 30مليار دوالر كدعم مالي نظير دورها في الحرب.
وحقيقة األمر أن الموقف التركي ال يمكن تفسيره من زاوية عقالنية القرار التركي برفضها
التنازل عن مصالحها الوطنية وال أيضا ً من زاوية سوء إدارة تركيا لمفاوضاتها مع واشنطن التي
أدت لتفويت هذه الفرصة النادرة.
فالبرلمان التركي كان له رأي آخر مختلف عن الحكومة ،فقد رأى بعض الساسة أن تأييد
تركيا لواشنطن بل وحتى إرسال قوات تركية إلى العراق يعد بمثابة توريط تركيا في حرب ال ناقة
لها فيها وال جمل.
وأكد هذا المعنى السيد "أمن سيرين" عضو البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية
ونائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان حيث أكد أنه صوت ضد طلب الحكومة للسماح بنشر
قوات أمريكية ألن دخول تركيا الحرب قد يؤدي الضطرابات داخلية وربما حرب أهلية تركية،
وأضاف قائالً "إن هذه الحرب ليست حربنا لذلك علينا أال نتورط فيها ..إنني أقول ال وبشدة وسأشجع
الباقين على الثبات على موقفهم" وتساءل سيرين عما قد يلحق بتركيا إذا ما قامت بغزو شمال العراق
"إذا عبرت تركيا الحدود وقتل العديد من األكراد فإن ما قد يحدث بعد ذلك سيكون أمراً مروعا ً".
وبقدر ما يعكس هذا الموقف تخوف بعض الساسة األتراك من الحرب فإنه يعكس كذلك
موقف الرأي العام الرافض وبشدة لنشر قوات أمريكية على أراضي تركيا؛ حيث أشارت
استطالعات الرأي المتواصلة في الفترة ما بين أكتوبر 2002وحتى مارس 2003أن أكثر من
%90من األتراك يرفضون الحرب ،وأكد هذا لمعنى "مراد مركان" نائب رئيس حزب العدالة
والتنمية حيث أشار أن الحكومة على دراية تامة بحالة الشارع التركي الذي يرفض وبشدة الحرب
على العراق.
وعقب قرار البرلمان خرجت صحيفة "وول ستريت جورنال" بافتتاحية انتقدت فيها فشل
أنقرة في إقناع رأيها العام والبرلمان بأهمية التصويت لصالح القرار معددة الفوائد التي كانت ستجنيها
تركيا من هذه الصفقة؛ وأضافت الصحيفة "اآلن يجب على األتراك أال يتوهموا أنهم سيحصلوا على
حصة من النفط العراقي بعد الحرب".
لكن هناك من يرى أن مماطلة الحكومة التركية ليست نابعة من الضغوطات الداخلية التي
تواجهها أو حتى من حسابات المكسب والخسارة بل انطالقا ً من موقف أيديولوجي للحكومة الحالية
وعلى رأسها أردوغان؛ أي أن هناك "بوادر لعودة تركيا إلى الشرق على عكس إرادة النخبة المهيمنة
وعلى رأسها العسكر".
وقد يجانب هذا الرأي التوفيق لعدة أسباب فالموقف الحرج الذي واجهته تركيا كان يستدعي
التعامل معه بمرونة وبراجماتية حتى لو كان خيار العودة إلى الهوية اإلسالمية هو ما ترمي إليه
الحكومة على المدى البعيد؛ وفي جميع األحوال فإن الحكومة التركية لم يكن موقفها من الثبات إزاء
األزمة العراقية بحيث يمكن القول أنه يستند إلى معايير أيديولوجية() ،وإنها كان موقفها يتأرجح بين
هذه الخلفية األيديولوجية والبراجماتية والتي ال تعني بالضرورة التعاون مع الغزو األمريكي
فالمصلحة تختلف باختالف التوجهات أيضا ً.
أما بالنسبة للجنراالت فقد التزم مجلس األمن القومي الصمت في البداية ربما ألنه ال يريد أن
يكون في واجهة التأييد للواليات المتحدة.
لكن الجنراالت خرجوا عن صمتهم عقب تصويت البرلمان ضد قرار نشر القوات األمريكية
مؤكدين أن مصلحة تركيا هي مع واشنطن فالمؤسسة العسكرية ترى أنه ال مناص من دخول القوات
التركية شمالي العراق من أجل منع قيام دولة كردية بالمنطقة وهكذا فإن على تركيا أن تنحاز
لواشنطن كي تضمن اتفاق معها بهذا الشأن؛ وأعلن الجنرال حلمي أزكوك القائد الرئيسي للجيش في
الخامس من مارس 2003أنه يقف بجانبه طلب واشنطن بنشر قواتها في تركيا وأن يتم فتح جبهة
شمالية ضد العراق انطالقا ً من األراضي التركية.
لكن الموقف التركي لم يغير من عزيمة واشنطن لخوض الحرب وفقا ً لجدولها الزمني
فأعلنت صراحة أنه حتى لو لم توافق تركيا على فتح أراضيها فإن توقيت الحرب لن يتغير – وبالفعل
لم يتغير .-
وفي 19مارس 2003أعلن كولن باول أن حزمة المساعدات المالية المباشرة لتركيا وهي
حوالي 6مليار دوالر قد تم سحبها من على الطاولة.
ويبدو أن إصرار واشنطن على الحرب وتخوف األتراك من إغضابها دفع البرلمان إلى
محاولة استرضاء األمريكيين بأي شكل وإعادة تقييم موقفهم السابق المتعلق بمسألة نشر القوات
األمريكية على األراضي التركية؛ ففي 21مارس 2003صوت البرلمان بأغلبية 332صوتا ً مقابل
202على فتح المجال الجوي التركي أمام المقاتالت األمريكية ،وكان واضحا ً دور رئيس الوزراء
رجب طيب أردوغان في حث البرلمان على الموافقة عل الطلب األمريكي فقد جاء التصويت في
أعقاب مناقشات "مطولة" بينه وبين أعضاء حزبه في البرلمان.
وقد عقب وزير الدفاع (وجدي جونول) على ذلك قائالً "إن المصلحة التركية تقتضي ذلك
وإن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أبلغ وزير الخارجية األمريكي كولن باول قرار الحكومة
التركية".
وبالرغم من أن البرلمان التركي وافق على فتح المجال الجوي التركي للمقاتالت والصواريخ
األمريكية فإنه أقر قانونا ً يسمح بإرسال قوات تركية إلى شمال العراق األمر الذي يعكس توجس أنقرة
بمختلف أطياف ساستها وقلقهم على مصير الشمال العراقي.
وهكذا جاءت زيارة باول مطلع أبريل ألنقرة في توقيت مفاجئ حتى بالنسبة لألتراك أنفسهم.
وربما يكون أحد أسباب تمكن أنقرة من تسويق ذلك االتفاق هو تقليل الساسة األتراك من شأن
التسهيالت العسكرية التي قدمتها لواشنطن والتأكيد أن أنقرة لم ولن تسمح بنشر قوات أمريكية على
أراضيها طالما رفض البرلمان ذلك؛ فقد أعلن مستشار الشؤون الخارجية في الحكومة التركية عقب
محادثات باول وجول أن تركيا أكدت على موقفها الرافض لتقسيم العراق وأشار إلى أن الواليت
المتحدة تشارك تركيا هذا الرأي.
وأكد عبد هللا جول في حديث له أن تركيا " ال تشارك في الحرب لكنها "تتعاون مع حلفائها"
وأضاف أن الحكومة ملتزمة بقرار البرلمان مشيراً إلى أن الشاحنات التي عبرت تركيا إلى الشمال
العراقي ال تحمل معدات عسكرية بل غذاء ووقود ،كما أكد جول أن بالده لن تسمح لألكراد بالسيطرة
على مناطق شمالي العراق وأن القوات التركية قد تضطر للتدخل إذا ما حدث نزوح لالجئين.
وهكذا يمكن القول أن أنقرة لم تنتهج سياسة ثابتة تجاه "األزمة العراقية" رغم ثبات موقفها
تجاه مسألة تقسيم العراق فاضطرت إلى تعديل موقفها أكثر من مرة وفقا ً للظروف وللتطورات
الداخلية والخارجية().
وسقطت بغداد العاشر من أبريل ،2003ومع االحتالل األمريكي للعراق كانت ترتسم
المتغيرات التالية:
ارتفاع منسوب التضامن واألخوة بين أكراد العراق وأكراد تركيا. 2010
خرجت تركيا من التأثير في المعادلة العراقية من الداخل إذا افتقدت أوراق التأثير المباشر،
كما افتقدت القدرة على القيام بتحريك عساكرها عبر الحدود في ظل الفيتو األمريكي على ذلك() ،رغم
قيامها مؤخراً بقصف شمال العراق بالمدفعية والصواريخ إلرجاع حزب العمال الكردستاني عن
األعمال التخريبية واالنفجارات داخل األراضي التركية وتهديد العديد من المسؤولين األتراك سواء
من الحكومة أو المؤسسة العسكرية بتوجيه ضربة عسكرية قاسمة لألكراد في شمال العراق أو الغزو
الكامل لشمال العراق مما ألهب طاولة الشطرنج بين أنقرة وواشنطن.
هذه النتائج السلبية للغزو األمريكي للعراق على المصالح التركية كانت في المقابل عامالً
لمزيد من التقارب التركي مع العالم العربي ،فالقناعة السائدة في العالم العربي أن وحدة العراق في
خطر وأن تقسيم العراق يشكل خطراً على األمن القومي العربي؛ هنا يتالقى المزاج العربي مع
الموقف التركي الرسمي والشعبي حول أهمية بقاء العراق موحداً ومعارضة كل أشكال التقسيم ،من
هنا كانت الفكرة التركية حول مؤتمر لدول الجوار العراقي لتشكيل حالة ضاغطة تحول دون استفراد
بعض العراقيين واألمريكيين بتقرير مستقبل العراق خصوصا ً في ظل الرغبة الجامحة ألكراد
العراق في االستقالل وبدعم إسرائيلي مطلق().
ووفق الرؤية التركية فإن ما يجري في العراق حاليا ً يقرب ما بين تركيا والدول العربية حيث
أن هناك أهدافا ً مشتركة للطرفين تتمثل في التالي:
تجنب قيام حرب أهلية هناك بسبب اختالف موازين القوى بين أعراقه وطوائفه. 2012
ضمان التوزيع العادل للثروة النفطية على جميع العراقيين(). 2013
ثالثا ً :السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا
من دمشق نستطيع أن نرى من زاوية أوضح حقيقة العالقة بين تركيا والعالم العربي؛ فنرى
أولى نقاط العداء عند لواء اإلسكندرونة وأولى نقاط التقارب في الجانب اآلخر من الحدود السورية
التركية عند كردستان ،نرى ذلك بالمرور على الثورة العربية ضد األتراك والتي استعرت نارها في
سوريا ومآذن دمشق واسطنبول وهي تعانق سماء واحدة ،من هنا نرى تناقضات السياسة بين التاريخ
والمستقبل بين حلف وارسو وحلف الناتو بين فتوحات اإلسالم والثورات القومية بين التحالف مع
إسرائيل ومقاومة االحتالل؛ وهنا ترتسم لنا بشكل أوضح طبيعة السياسة الخارجية التركية تجاه العالم
العربي.
بعد توقيع حلف بغداد ،1955حذت سوريا حذو مصر وراحت تتبنى سياسة التعاون مع
االتحاد السوفيتي وفي سنة 1956بدأ السوفيتيين في تزويد سوريا بالسالح وفي العام التالي في ظل
معاهدة التعاون االقتصادي قام الخبراء السوفيتيين بتشييد عدد من المنشآت في سوريا؛ وفي حرب
1967بين العرب وإسرائيل استولت إسرائيل على مرتفعات الجوالن ومنذ ذلك الوقت صار هدف
سوريا استعادة األرض المحتلة لكن المحاولة العسكرية لتحقيق الهدف قد فشلت في حرب .1973
ولقد شهدت العالقات التركية السورية بعض التقلبات بين التحسن والتدهور أثناء حكم حافظ
األسد؛ ولكي يخرج من عزلته عمل على تجنب إثارة توتر ما مع تركيا وأبدى مرونة في موقفه.
إن جوهر العقبات التي تحول دون تحسن حقيقي في العالقات بين البلدين يكمن دون شك في
تشعب ارتباطات كل من البلدين ،فما زالت ترسبات الحرب الباردة لم تبرح مكانها بعد بين سوريا
الحليف الوثيق لالتحاد السوفيتي السابق وتركيا عضو حلف الناتو.
أما مشكلة لواء (سنجق) اإلسكندرونة ،فإنه لم يكن من الوجهة العامة موضوعا ً مثاراً من قبل
سوريا؛ ولكن عندما يأتي ذكره في الصحافة السورية فإن هذا يقابل عند الرأي العام التركي بردود
فعل عنيفة.
هذا وقد ظل األمر الذي يثير حفيظة تركيا لسنين طوال هو فتح سوريا أبوابها لعناصر
الفوضويين خالل فترة السبعينات وقيامها بتدريبهم وتسليحهم ثم تسريبهم إلى داخل األراضي
التركية ،هذا إلى جانب مساعدة سوريا لإلرهابيين األرمن ،ويضاف إلى ذلك تلك الشكوك التي
حامت حول السلطات السورية في مساندتها لإلرهابيين األكراد األتراك خالل الثمانينات وكانت
سوريا مسؤولة بوجه خاص عن نقل مقر عبد هللا أوجالن من البقاع إلى دمشق.
في الثمانينات دأب أوجالن على دس إرهابيين أكراد داخل مناطق الجنوب الشرقي
لألناضول بعد أن تم تدريبهم في وادي البقاع اللبناني والذي كان تحت سيطرة سوريا.
وقد أنكرت سوريا ما نسب إليها من تدريب وتسليح لهؤالء اإلرهابيين أو تقديم تسهيالت لهم،
ولكن أنقرة كانت متيقنة من عكس ما يقوله السوريون.
ورغم ما سبق إال أن االتصاالت الرسمية بين البلدين لم تنقطع بما في ذلك مناقشة بعض
القضايا ومن أهمها مشكلة اإلرهاب ففي 1972قام وزير الخارجية التركي "خلوق باي أولكن"
بزيارة دمشق وفي العام التالي قام نظيره السوري خدام برد الزيارة ألنقرة وفي 1979و 1983تبادل
وزيرا الخارجية الزيارة أيضاً ،وفي مارس 1987قام رئيس الوزراء التركي أوزال بزيارة إلى
دمشق وبعدها بشهرين قدم قدورة نائب رئيس الوزراء السوري في زيارة لتركيا؛ وفي هذه اللقاءات
المتكررة طرحت بعض القضايا المشتركة من قبيل مشاكل التهريب والهاربين عبر الحدود ومشاكل
االتجار عبر الحدود وسبل تنمية التجارة بين البلدين كما حظيت مسألة تنظيم تقسيم مياه الفرات
باهتمام خاص().
وبالنسبة لمشكلة تقاسم المياه بين تركيا وسوريا فقد مرت بأطوار عدة بين التأزم واالنفراج؛
فال يقدم القانون الدولي المتعلق بالمياه جوابا ً واضحا ً على السؤال عن ماهية الحقوق في الماء التي
يمكن أن تطالب بها الدول التي يقع فيها المجرى العلوي والمجرى السفلي لنهر ما؛ لقد تم فقط تطوير
مبادئ يمكن أن تشير إلى اإلجابة عن هذا السؤال ،بيد أن هذه المبادئ ال تشكل حتى اآلن آية
التزامات قانونية.
وقدِّرت في مارس 2004فرص التعاون ما بين تركيا وسوريا على أنها جيدة جداً ،في
ورشة عمل عقدها بعض الخبراء في مركز أبحاث التنمية في بون حول موضوع الماء والتنمية
والعمل المشترك ،ويكمن سبب ذلك – حسب الخبراء المشاركين في الورشة – في أن تركيا التي
تسعى إلى إظهار وزنها في المنطقة وتسعى لزيادة جاذبيتها بالنسبة لالتحاد األوروبي قد أبدت
استعداداً كبيراً للحوار.
لقد ثبتت صحة هذا التقدير مع التوقيع على معاهدة للتجارة الحرة بين سوريا وتركيا في
ديسمبر 2004؛ فثمة خطوات أولى قد قطعت في طريق العمل المشترك ،لكن المشكلة ال تزال قائمة
حيث أن سوريا والعراق ال يزاال يشعران بالظلم باإلضافة إلى أن تركيا نفسها تعاني النقص في المياه
في المناطق ذات الكثافة السكانية فوق المتوسطة مثل منطقة اسطنبول الكبرى().
وفي سنة 1987توصلت الدولتان إلى معاهدة حول قواعد الترحيل وفي أثناء زيارة أوزال
إلى دمشق في يوليو من نفس العام وقع الطرفان بروتوكول التعاون في القضايا األمنية وقد نص على
منع ومراقبة تهريب البضائع واألفراد واالتجار عند الحدود بعملة مزيفة واتفق أيضا ً على ترحيل
الهاربين إلى أوطانهم مع اتخاذ اإلجراءات الكفيلة للحيلولة دون أنشطة الجماعات واألفراد الذي
يضمرون نية التخريب ضد أمن واستقرار البلدين المعنيين ،كماأتفق الطرفان على مواصلة اللقاءات
سنويا ً لمعالجة كل هذه القضايا.
على أن تدخل سوريا في لبنان سنة 1976أحدث ردود فعل سلبية في تركيا كما أن مساندة
سوريا إليران أثناء حربها مع العراق كان متعارضا ً مع الموقف المحايد الذي اتخذته أنقرة ،إذ كانت
تتحسب كثيراً من هذا الموقف السوري الذي يزيد من مضاعفات األمور في المنطقة ويجعلها أكثر
تعقيداً.
لقد كان لألحداث التي وقعت في 1989/1990داخل البلدان الشيوعية في شرق أوروبا ثم
انزواء االتحاد السوفيتي داخل قوقعته نتيجة لهذه التطورات ،كان لهذا كله أبعد اآلثار المقلقة بالنسبة
لسوريا ،ولعل أشد ما بات يشغل دمشق في السنوات األخيرة أمر تخفيض كم السالح الذي كان
االتحاد السوفيتي يمد به سوريا إلى جانب السماح لليهود السوفيتي بالهجرة إلى إسرائيل ،وأمام هذه
المتغيرات عندما اندلعت الحرب عقب غزو العراق للكويت في 2أغسطس 1990تحركت سوريا
مقتربة من الموقف المصري إلى جانب الغرب أثناء الحرب.
وعندما قام وزير الخارجية السوري فاروق الشرع بزيارة رسمية لتركيا يونيو 1990
طُرحت القضيتان األساسيتان وهما المياه واألكراد ،وصرح الشرع أن سوريا جادة في إرساء قواعد
الصداقة والتفهم مع تركيا وبأن حكومته عازمة على التعاون مع تركيا على مختلف األصعدة مع
اهتمام خاص من الجانب السوري بمسألة مياه الفرات والتي ينبغي على حكومة أنقرة أن تنظر إليها
بتفهم أرحب ،وأثناء زيارته التالية السطنبول في أغسطس 1991للمشاركة في اجتماع منظمة
المؤتمر اإلسالمي العشرين على مستوى وزراء الخارجية لفتت تركيا نظر الشرع إلى مسألة إرهاب
األكراد وإلى األعمال التي ارتكبوها ،األمر الذي استتبع قيام تركيا بعملية عسكرية على الحدود أثناء
زيارة الشرع ،وقد رد الشرع على مطلب تركيا بضرورة أن تتخذ سوريا إجراءات وقائية ضد قواعد
األكراد في سوريا بقوله إن وادي البقاع وإن كان يقع تحت رقابة عسكرية سورية إال أن القوات
العسكرية السورية ال يمكنها أن تتدخل في شؤون سلطات األمن في المنطقة وبأي حال لم تكن هذه
الحجج السورية مقنعة لتركيا.
وقد شكل اتساع نطاق التدخل التركي في شمال العراق خصوصا ً إبان عملية "فوالذ – "97
التي قامت بها القوات التركية في شمال العراق – وفي إطار تنامي التحالف التركي – اإلسرائيلي
مصدراً رئيسيا ً لتوتر العالقت السورية – التركية ومن أبرز الوقائع الدالة على ذلك إدعاء أرول
أوغسناك أمين عام رئاسة األركان التركية في 6/6/1997بعد إسقاط حزب العمال الكردستاني
PKKطائرتي هليكوبتر تركيتين في شمال العراق إبان هذه العملية باستخدام صواريخ سام 7مما
أدى إلى مصرع 13ضابطا ً وجنديا ً" :أن ست دول تتصدرها سوريا ثم إيران واليونان وصربيا
وقبرص اليونانية وأرمينيا قامت بتزويد متمردي الـ PKKبهذه الصواريخ وتدريبهم على
استخدامها".
ومن جانبها جددت سوريا رفضها لهذه االتهامات على أساس أن المشكلة األساسية لألكراد
داخل تركيا ويجب أن تعالج داخلها وأال يُلقى اللوم على اآلخرين وأن سوريا يهمها وحدة تركيا
وسالمة أراضيها وال مصلحة لها في غير ذلك ولكن هناك من يحرك المؤسسة العسكرية التركية
(إسرائيل) لتوتير األجواء مع سوريا دون مبرر وفقا ً لتصريحات وزير خارجيتها فاروق الشرع في
21/6/1997و13/7/1997؛ كذلك فقد اتسع النطاق الجغرافي لعملية "فوالذ "97إلى قرب الحدود
السورية العراقية حيث شهدت تلك العملية خصوصا ً في الفترة من 28/5/1997-18تحركات برية
وقصفا ً جويا ً تركيا قرب هذه الحدود بحجة منع حزب العمال الكردستاني PKKمن تحريك
تعزيزات من قواعده داخل سوريا؛ وعلى الرغم من أن سوريا لم ترد على هذه التحرشات بحشود
عسكرية على حدودها مع تركيا إال أن ضخامة حجم القوات التركية المشاركة في هذه العملية
وتوغلها في الشمال العراقي قرب مشارف أربيل والموصل وتعاونها مع البارزاني وعدم انسحابها
بالكامل في 21/6/1997والتأييد األمريكي واإلسرائيلي للعملية وزيادة احتماالت تحركها إلقامة
منطقة عازلة وهو ما تحقق الحقا ً في 22/10/1997أثار مخاوف سوريا وقلقها من أن تكون هذه
العملية بداية تحرك تركي مدعوم إسرائيليا ً وأمريكيا ً لتقسيم العراق ومن بعده دول عربية أخرى،
ولزيادة الضغط عليها عبر تطويقها من الشمال بتركيا ومن الجنوب بإسرائيل ومن الشمال الشرقي
بمنطقة أمنية تركية أو قوات مشتركة تركية – كردية من حزب البازاني فضالً عن مخاوفها من أن
تشكل هذه العملية خطوة على طريق مشروع صهيوني قديم يثار من وقت آلخر بشأن توطين
الفلسطينيين في شمال العراق().
فبرغم حرص سوريا على مصالح العالقات التاريخية بين شعبي تركيا وسوريا بما ينسجم
مع روح التضامن ويخدم مصالح الشعبين؛ إال أن مجلس الوزراء السوري أكد في سبتمبر 1998أن
أي تحالف عسكري مع إسرائيل يعتبر مساندة الستمرار احتالل إسرائيل للقدس الشريف ولبقية
األراضي العربية وتعطيالً إلقامة السالم العادل والشامل في المنطقة ،واعتبر أن التحالف العسكري
التركي اإلسرائيلي يشكل خطراً على أمن المنطقة واستقرارها وعلى المصالح العربية التركية
المشتركة.
وحذر ناصر قدور وزير الدولة السوري للشؤون الخارجية آنذاك من أن التحالف التركي
اإلسرائيلي أخطر من األحالف السابقة في المنطقة ألن إسرائيل محوره وهي دولة توسعية عدوانية
وأكد أن مصلحة تركيا مع الدول العربية؛ وأكدت صحيفة "البعث" الناطقة بلسان الحكومة أن التعاون
العسكري التركي اإلسرائيلي يعتبر استبداالً للسالم بـ"األحالف العدوانية المشبوهة" وأن هذا لحلف
سوف يوتر األوضاع في المنطقة ولن يتسبب في الضغط على العرب وتحديداً سوريا.
والمعروف أن العالقات التركية السورية يشوبها بعض التوتر بسبب اتهام أنقرة لدمشق بدعم
حزب العمال الكردستاني باإلضافة إلى الخالف حول حصص مياه نهر الفرات وتخشى سوريا من
أن يؤدي هذا التحالف إلى الضغط عسكريا عليها عن طريق مراقبتها بواسطة أجهزة تنصت توضع
على الحدود التركية باإلضافة إلى إتاحة مجال عمل وعمق أكبر للقوات الجوية اإلسرائيلية.
وقد شكل التعاون العسكري التركي اإلسرائيلي واحدة من أسباب التوتر بين تركيا وسوريا،
وأبدت دمشق قلقا ً شديداً من المناورات المشتركة التركية اإلسرائيلية حيث اعتبرتها سوريا تهديداً
مباشراً لها وشككت في طابعها السلمي؛ وقال وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في
" 18/9/1997إن هذه المناورات يمكن أن تعتبر من أجل االرتقاء واألبحاث لكنها يمكن أن تتحول
إلى عملية عسكرية تهدد أمن المنطقة وتهدد أطرافها في أية لحظة مناسبة" ،وأضاف الشرع أن هذه
المناورات "تشكل تهديداً لألمن القومي العربي"().
وقبيل الغزو األمريكي للعراق وبعده وبعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة
والموقف التركي من حرب الخليج الثالثة كل ذلك بدى وكأنه يقرب ما بين تركيا وسوريا على وجه
الخصوص وبقية العالم العربي بوجه عام.
فكانت سوريا تشاطر تركيا قلقها من تقسيم العراق حيث أنها تعاني أيضا ً من مشكلة األكراد
حيث يقطن بها ما يربو على المليون والنصف مليون نسمة من األكراد يعانون من االضطهاد ولهم
نزعات انفصالية وهذا ما يفسر عدم تردي العالقات التركية – السورية رغم الضغوط األمريكية
والعربية بعد اغتيال رفيق الحريري لوقف التحسن المطرد بين البلدين.
ولكن ال تزال توجد قضايا خالفية عالقة بين البلدين حيث تريد تركيا من سوريا اعترافا ً
بسيادتها على لواء اإلسكندرونة أو إعادة ترسيم الحدود وبذريعة ،أنه مع تطوير العالقات مع سوريا
بصفتها جاراً يجب على كل جار أن يعرف حدوده أوالً؛ وكذلك موقف تركيا من مسألة الفرات ودجلة
حيث أكدت تركيا على أن لها السيادة على النهرين واالستفادة القصوى من مياه أنهارها الوطنية حتى
آخر نقطة حدودية ورفض وصف النهرين بأنهما مشتركان مع الدول العربية التي يمران بها ،إال أن
الهم الكردي قرَّب من مواقف تركيا مع سوريا وإيران رغم عدم موافقة الواليات المتحدة األمريكية
على ذلك حيث ّ
حذر ريتشارد بيرل تركيا من إقدامها على آراء مخالفة لدواعي القلق األمريكي من
إيران وسوريا().
وعلى صعيد آخر فقد حملت حرب تموز يوليو 2006من ضمن ما حملت في جعبتها قضية
تماس أخرى هذه المرة في لبنان عندما عرضت تركيا المشاركة في قوات حفظ السالم الدولية
(اليونيفيل) بلبنان؛ ولم يستطع إجماع األنظمة العربية على محاولة عزل سوريا وكسر حزب هللا أن
يشكل حافزاً لتركيا لقراءة خادعة لحقائق الواقع اللبناني والقفز عن العامل السوري في المعادلة
اللبنانية وإن زيارة عبد هللا جول وزير الخارجية التركي إلى دمشق 22أغسطس 2006مؤشر
إيجابي إلى واقعية في السياسة الخارجية التركية ،إن التنسيق الكامل بين تركيا وسوريا في المسألة
اللبنانية أكثر من ضروري لتجنب أي تدهور في العالقات العربية – التركية ،التي تبعا ً للحقائق
الجغرافية تشكل سوريا بوابتها الحتمية().
رابعا ً :السياسة الخارجية التركية
تجاه الصراع العربي – اإلسرائيلي
كانت ومازالت القضية الفلسطينية عامالً حاسما ً في عالقات تركيا بالعالم العربي الذي كان
يقيّم عالقاته مع تركيا ومع سائر الدول األخرى من زاوية العامل الفلسطيني اإلسرائيلي؛ وال يمكن
القول أن هذا التقييم قد أثر كثيراً على تركيا ،ألن موقف تركيا تجاه العالم العربي حتى الستينات من
القرن الماضي وقع تحت تأثير عالقات تركيا بالغرب ،هذا وال يمكن االدعاء أن سياسة تركيا تجاه
إسرائيل قد وقعت برمتها تحت تأثير هذا االتجاه ،أي أن موقف تركيا نحو إسرائيل قد انفصل من
حين آلخر عن هذا العامل الغربي الذي لعب دوراً مهما ً في سياسة تركيا الخارجية.
من جهة أخرى فقد رغبت تركيا ابتدا ًء من أوائل الخمسينات في القيام بدور مهم في الشرق
األوسط وبذلت جهدها لتأسيس نظام أمني في المنطقة موجها ً أصالً إلى العالم العربي فجعل ذلك من
غير الممكن إعطاء تركيا إلسرائيل أهمية كبيرة ألنها تشكل عامل تفرقة بين تركيا والعالم العربي،
وأصبح ذلك واضحا ً في حلف بغداد ،1955فلم تتردد تركيا في تبني القضية العربية تجاه إسرائيل
وأبدت بعد ذلك مزيداً من الحذر والدقة في عالقاتها مع إسرائيل والسيما من حيث ردود فعل الدول
العربية.
وبالرغم من ذلك ال يمكن القول أن سياسة تركيا نحو إسرائيل كانت مستقلة تماما ً عن
الغرب ،فقد كانت الواليات المتحدة خاصة ذات تأثير واضح على موقف تركيا نحو إسرائيل ،وظلت
تركيا مجبرة على إتباع الحذر في سياستها نحو إسرائيل ويعود ذلك إلى العالقات التركية –
األمريكية التي ظلت قوية واتصفت بالتعاون خاصة في المجال العسكري ،ونخص بالذكر ارتباط
المساعدات األمريكية بالكونجرس األمريكي وضرورة موافقته عليها باستمرار وكانت تركيا تبدي
رد فعل واضح عندما ترتكب إسرائيل أفعاالً أو اعتداءات تسبب ظهور رد فعل قوي في الرأي العام
العالمي ،لكنها دائما ً تجنبت الوصول إلى حد القطيعة في عالقاتها بإسرائيل؛ لذا قامت تركيا بتخفيض
مستوى عالقاتها مع إسرائيل بالتدريج منذ - 1956كرد فعل على العدوان على مصر -؛ ولكنها لم
تفكر قط في قطع عالقاتها الدبلوماسية معها ،وال يمكن إنكار فعالية العامل األمريكي في هذا المجال.
بالمقابل ال يمكن إنكار دور القضية القبرصية في العالقات التركية العربية والسياسية التركية
تجاه القضية الفلسطينية حيث أن قضية قبرص بالنسبة لتركيا والشعب التركي مهمة بقدر أهمية
قضية فلسطين بالنسبة للعرب؛ هذا وقد أصيب الشعب التركي بخيبة أمل مستمرة بسبب عدم دعم
العالم العربي لتركيا في هذه القضية؛ ال بل ودعمه للقبارصة اليونانيين "المسيحيين" ضد األتراك
"المسلمين" ،وفي المجتمع التركي يحدث أن ينتقد مؤيد والعالم العربي سياسة تركيا نحو إسرائيل
فيبني الفريق اآلخر مقارنة بين القضية الفلسطينية والقضية القبرصية ،ويضع موقف العرب نحو
القضية القبرصية جوابا ً على ذلك االنتقاد ،والحقيقة أن دعم تركيا للقضية الفلسطينية فاق كثيراً الدعم
العربي للقضية القبرصية().
وبوجه عام فإن السياسة التركية بعد احتالل األراضي العربية 1967انصبَّت في النقاط
التالية:
عدم تأمين السمعة السياسية أو المزايا أو المنافع السياسية بنفس الشكل. )2
عدم استخدام مسألة االستيالء على األراضي لفرض حل من جانب واحد. )5
ومع ذلك فقد ظلت العالقات التركية اإلسرائيلية عالقات وثيقة فتركيا هي أول دولة إسالمية
تعترف بدولة إسرائيل ومنذ 1958أقامت تركيا وإسرائيل نوعا ً من التحالف العسكري تحت ما سُمي
"االتفاق اإلطاري" في أعقاب قيام الوحدة بين مصر وسوريا؛ تضمن بنوداً للتعاون العسكري وتبادل
المعلومات والتدريب المشترك بجانب مساهمة اإلسرائيليين في بناء بعض المطارات في تركيا
وتضمن تعهدات إسرائيلية لدعم المطالب التركية المتعلقة بقبرص؛ وفي نفس العام أيضا ً وقعت
الدولتان اتفاقا ً سريا ً يكفل تعاون في المجاالت العسكرية واالستخباراتية .وفي العام نفسه وقعت اتفاقية
للتعاون األمني بين تركيا وإسرائيل وإيران (الشاه) سميت "الرمح الثالثي" نصت على تبادل
المعلومات األمنية وعقد اجتماعات دورية بين رؤساء األجهزة االستخباراتية الثالث وبموجبها أسس
"الموساد" مركزاً استخباراتيا ً في تركيا مقابل التقنية االستخباراتية التي قدمتها إسرائيل لتركيا.
وفي عام 1982وبعد الغزو اإلسرائيلي للبنان جرى تعاون أمنى بين إسرائيل وتركيا حيث
أهدت إسرائيل تركيا وثائق تم الحصول عليها من بعض المواقع الفلسطينية وكانت تحوي أسرار عن
العالقات بين منظمات فلسطينية وجماعات تركية يسارية وأرمينية وكردية ،وذلك باإلضافة إلى
تسليم تركيا لـ 290تركيا تم القبض عليهم أثناء عملية "سالم الجليل".
واستمر التعاون بين إسرائيل وتركيا في الثمانينات بينما أرسيت في التسعينات أسس التعاون
األمني والعسكري بين إسرائيل وتركيا ،فعندما بدأت عملية السالم في مدريد 1991تم تشكيل
مجموعة العمل التركية اإلسرائيلية هناك والتي قامت بإعداد برنامج التعاون المشترك.
وإزاء ذلك قام قائد سالح الجو اإلسرائيلي هرتسل بردينفر بزيارة رسمية لتركيا بحث خاللها
مع نظيره التركي إمكانية التعاون في الحرب ضد "اإلرهاب" ،إضافة للصناعات األمنية ومساهمة
إسرائيل في تحديث سالح الجو التركي.
وفي عام 1994أقدمت تانسو تشيللر رئيسة الوزراء التركية بالتعاون مع إسرائيل باإلعداد
لتنفيذ عملية اغتيال عبد هللا أوجالن في البقاع اللبناني لكن العملية ُألغيت نتيجة خالفات داخلية في
الحكومة التركية وفي 31مارس من نفس العام وقعُت البلدين "اتفاقية األمن والسرية" والتي تعتبر
وليد جهازي المخابرات في البلدين ثم بدأت المناورات المشتركة بين البلدين وتزويد تركيا بوسائل
عسكرية من صناعة إسرائيلية وتوصلت البلدان التفاق بإجراء تدريبات في األراضي التركية واتفاق
آخر ينص على تعاون وثيق بين سالحي الجو في البلدين؛ وذلك كان يدخل حسب ما أعلنه مدير معهد
الدراسات االستراتيجية في تل أبيب "مارتن جرامر" في إطار استراتيجية إقليمية وقائمة تمثلها
إسرائيل لمواجهة التهديدات المحتملة ،وأيضا ً اعتبر اسحاق موردخاي وزير الدفاع اإلسرائيلي آنذاك
أن التعاون العسكري بين إسرائيل وتركيا يمكن أن يكون بمثابة "قوة ردع" لمواجهة أي هجوم قد
تفكر بشنه دولة مثل إيران أو العراق أو سوريا().
وفي 1996وقع البلدان أخطر اتفاق للتعاون العسكري وعلى رغم أن االتفاق التركية كافة
يتعين عرضها على لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان طبقا ً للدستور إال أن هذا االتفاق بالذات ثم
توقيعه خفية عن هذه اللجنة احتماء بإجراءات أمنية تشمل االتفاقات العسكرية لحماية أمن البالد
واستقرارها؛ وبالنظر إلى الثقل الخاص للجيش في تركيا ،فقد مرت المسألة في هدوء دون إحاطة
البرلمان بشيء مما حدث وحظي هذا االتفاق منذ البداية بتأييد رئاستي الجمهورية والحكومة.
ولم يتم اإلعالن عن هذا االتفاق إال بعد زيارة الرئيس ديميريل إلسرائيل في مارس 1996
وال يزال الغموض يكتنف هذا االتفاق نتيجة عدم وضوح التفسيرات التركية الرسمية المقدمة حتى
اآلن للبلدان العربية وغيرها (إيران) بشأن هذا االتفاق وما تبعه من توقيع اتفاق الحق في عهد
حكومة أربكان بشأن تحديث طائرات حربية تركية في إسرائيل ،فضالً عن التضارب في تقدير
طبيعة هذا االتفاق وأهدافه حتى من جانب المسؤولين األتراك ..بيد أن هذا الغموض قد يشكل على
األرجح ما يسمى "بالغموض البناء" والهادف إلى "تشتيت انتباه الجانب العربي أو امتصاص ردود
فعله األولية" كما أن التطمينات التركية الرسمية للبلدان العربية بشأن طبيعة هذا االتفاق ال تنفي
حقيقة ما ينطوي عليه األخير من مخاطر وتهديدات لألمن القومي العربي عموما ً وأمن بلدان عربية
معينة كسوريا والعراق خصوصاً ،وال سيما في ظل ما واكب إعالن هذا االتفاق وما تبعه مباشرة من
تحرك السياسة األمريكية على صعيد إقامة تحالفات جديدة مع إسرائيل واألردن ،مما قد يعني أن هذا
االتفاق يشكل مقدمة إلعادة المنطقة العربية إلى معاناة تجربة األحالف العسكرية والتحالفات اإلقليمية
"بمشروعات الدفاع عن الشرق األوسط" التي عاشتها في الخمسينيات ،مع مراعاة أن التجربة
الجديدة في حالة اكتمال فصولها ستكون أشد وطأة على العالم العربي نتيجة التغيرات واالختالالت
في توازنات القوى اإلقليمية والدولية().
وعندما تولى نجم الدين أربكان رئاسة الحكومة في تركيا أقر في 1/12/1996اتفاقا ً مع
إسرائيل بقيمة 600مليون دوالر لتطوير طائرات F4تابعة لسالح الجو التركي؛ ثم قام وزير الدفاع
"تورهان تابان" بزيارة إلى إسرائيل ثم تبعه رئيس األركان العامة التركية بزيارة مماثلة على رأس
وفد يتألف من 20من كبار الضباط وذلك لمناقشة اتفاق التدريب العسكري بين البلدين إلقرار خطط
عام 1997وتفاصيل المناورات المقررة وتحديث طائرات سالح الجو التركي ودبابات M60
التركية وإعادة تجهيز 48طائرة مقاتلة تركية ،وكذلك موضوع الطائرة "فالكون" اإلسرائيلية لإلنذار
والمبكر.
وفي مايو عام 1997انخرطت الواليات المتحدة للمرة األولى بشكل مباشر في جلسات
الحوار االستراتيجي اإلسرائيلي التركي بمشاركة ضباط أمريكيين في المحادثات بين وزير الدفاع
اإلسرائيلي ونائب رئيس هيئة األركان التركي ،وتم االتفاق خالل هذه الزيارة على إنتاج مشترك
لصواريخ جو أرض من طراز بوباي ح وفي 13أكتوبر 1997زار رئيس أركان الجيش
اإلسرائيلي الجنرال أمنون شاحاك تركيا لمدة أربعة أيام بدعوة من نظيره التركي إسماعيل قارداي
وذلك لبحث جميع المسائل المتعلقة بالحلف العسكري االستراتيجي بين إسرائيل وتركيا ومناقشة
المناورات المشتركة بينهما ،ثم أعقب ذلك قيام إسرائيل بنصب محطات تصنت قرب حدود إيران ثم
تعهد القادة العسكريون اإلسرائيليون لنظرائهم األتراك بدراسة طلب مساعدة أنقرة في مجال الصناعة
النووية العسكرية بما في ذلك إنشاء مفاعل نووي وأثناء زيارة وزير الدفاع اإلسرائيلي إلى تركيا في
أواخر 1997تناول مسائل تتعلق بإقامة قاعدة لالستخبارات اإلسرائيلية "الموساد" في اسطنبول.
وتم أيضا ً خالل هذه الزيارة بحث التعاون في مجال الفضاء بحيث تحصل تركيا على صور
من األقمار الصناعية اإلسرائيلية لمناطق في الدول المجاورة بجانب إطالق قمراً صناعيا ً مشتركا ً
لألغراض العسكرية ومراقبة األجواء السورية واإليرانية والعراقية.
وفي بداية عام 1998وصلت سفن حربية أمريكية وتركية إلى ميناء حيفا استعداداً
للمناورات المشتركة حيث بدأت مناورات "الحورية المتمكنة" بين إسرائيل وتركيا بمشاركة
الواليات المتحدة واألردن والتي أعلنت أن هدفها التدريب على التعاون المشترك في مجاالت اإلنقاذ
البحري ،في حين اعترف الجانب اإلسرائيلي بالطابع األمني واالستراتيجي لهذه المناورات؛ وجاءت
هذه المناورات للتأكيد على إقامة محور أنقرة – تل أبيب الذي يشكل أساس الترتيبات األمنية
المطلوبة أمريكيا ً في الشرق األوسط في إطار السعي لتغيير موازين القوى لصالح هذا المحور
وممارسة المزيد من الضغوط ضد سوريا وإيران ثم تعاقبت على ذلك المساعدة اإلسرائيلية لتحديث
القوات البحرية التركية ثم زيارات متتالية لمسئولين عسكريين في البلدين لبحث سبل تعزيز التعاون
العسكري في شتى المجاالت ثم بدأت بين البلدين في أبريل 1998مناورات جوية عسكرية في أجواء
فلسطين المحتلة تنفيذاً لالتفاق العسكري التركي اإلسرائيلي ثم كانت زيارة الجنرال شفيق بير لتل
أبيب لبحث إمكانية التعاون في مجال إنتاج صاروخ متوسط المدى ،وفي يوليو من نفس العام أكدت
مصادر أمريكية على وجود اتفاق سري إسرائيلي تركي بإقامة قاعدة جوية إسرائيلية شرق تركيا
بالقرب من الحدود السورية العراقية لتسهيل التجسس على البلدين وقصف مواقع منهما إذا دعت
الحاجة لذلك مستقبالً وفي سبتمبر 1998وقعت شركة صناعة الطائرات اإلسرائيلية المملوكة للدولة
مع القوات الجوية التركية على اتفاقيات نهائية لتطوير مقاتلة من طراز F55بمبلغ 75مليون دوالر.
وفي أثناء نشوب أزمة بين تركيا وسوريا وتوتر األجواء بين البلدين إثر االتهامات المتبادلة
بينهما فيما يتعلق بدعم سوريا لحزب العمال الكردستاني ،لم يكن خافيا ً الدور اإلسرائيلي الذي قام به
الخبراء العسكريون مع القوات المحتشدة على الحدود السورية التركية ،فقد أرسل وزير الدفاع
اإلسرائيلي إسحاق موردخاي إلى أنقرة مسئوالً عسكريا ً تابعا ً للمخابرات العسكرية اإلسرائيلية
"أمان" حامالً صوراً حديثة التقطها القمر الصناعي اإلسرائيلي "أفق "4تعطي صوراً واضحة
للجيش التركي عن القوات السورية الموجودة على الحدود وصوراً أخرى عن الوضع العسكري العام
في األراضي السورية بجانب معلومات حديثة عن الجيش السوري ،وكان مدير عام وزارة الدفاع
اإلسرائيلية قد زار أنقرة قبل أسبوعين من اندالع األزمة للتنسيق مع األتراك حيال السوريين() .إال أن
رياح التغيير العاتية التي هبت على الشرق األوسط منذ 11سبتمبر 2001مروراً بفوز حزب العدالة
والتنمية في انتخابت تركيا التشريعية 2002ثم الغزو األمريكي للعراق 2003والحرب السادسة في
مسلسل الحروب العربية اإلسرائيلية صيف 2006أتت هذه الرياح بما ال تشتهيه السفن اإلسرائيلية
فيما يخص العالقات التركية العربية واإلسالمية عموما ً والتركية السورية خصوصا ً وأصيبت
العالقات التركية اإلسرائيلية بشرخ ما يبدو أنه كان له وجود منذ بداية العالقة بين البلدين وكان
مستعداً لإلنشقاق في اللحظة المناسبة يكمن هذا الشرخ أساسا ً في التناقض الحضاري بين تركيا التي
يمثل المسلمون بها ما يقرب من %99من سكانها والتي كانت حاضرة الخالفة اإلسالمية وبين
إسرائيل التي تنتمي حضاريا ً للغرب وقد امتصت منه كل ما حوى من ثقافة عنصرية واستعمارية
وزادت.
بدأت ما يمكن وصفها بأزمة بين تركيا وإسرائيل عقب الهجوم اإلسرائيلي على غزة ورفح
أواخر مايو 2004عندما أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الثاني من يونيو من
نفس العام أمام مؤتمر دولي تنظمه الرابطة العالمية للصحف في اسطنبول أن شارون قد دفن
عروض تركيا للوساطة بين إسرائيل والفلسطينيين بسياسة االغتياالت والهجمات التي لم تترك مجاالً
لجهود السالم التي تبذلها تركيا.
وفي مقابلة مع صحيفة هآرتس اإلسرائيلية في اليوم التالي جدد أردوغان انتقاداته إلسرائيل
واصفا ً الحملة اإلسرائيلية على مخيم رفح بأنها "إرهاب دولة" وشبّه أردوغان معاملة إسرائيل
للفلسطينيين بما تعرض له اليهود في إسبانيا في عهد "محاكم التفتيش" من تعذيب وطرد من ديارهم
وقال" :كان اليهود في ذلك العهد مضطهدين ..واليوم مع األسف أصبح الفلسطينيون مضطهدين،
وشعب إسرائيل يعامل الفلسطينيين كما عومل هو منذ 500عام".
وكان أردوغان قد أدان من قبل قيام إسرائيل باغتيال الشيخ أحمد ياسين مؤسس "حماس"
وزعيمها الروحي في 22مارس 2004ووصف العملية بأنها عمل إرهابي وشجب تعهد إسرائيل
بمواصلة سياسة اغتيال قادة حماس؛ وعقب اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في 27أبريل
2007رفض أردوغان مقابلة وفد رجال أعمال إسرائيليين يقومون بزيارة أنقرة والمقرر أن يقوم بها
إلى إسرائيل خالل نفس العام.
لكن الذي أثار أنقرة أكثر من الالزم هو ما الحظه بعض مسئوليها األمنيين في شمال العراق
من وجود مجموعة صغيرة من الضباط اإلسرائيليين يشرفون على تدريبات عسكرية هناك ،فاتصل
مكتب وزير الخارجية التركي عبد هللا جول بالصحفي األمريكي سيمورهيرش ودعوه لتناول اإلفطار
مع الوزير في 27مايو 2004وهكذا صدرت مجلة نيويوركر في نهاية يونيو 2004وفيها تفاصيل
التحركات اإلسرائيلية في شمال العراق ورغم أن إسرائيل نفت الخبر إال أنها لم تستطع أن تخفف من
القلق التركي تجاه النشاط اإلسرائيلي – الكردي في شمال العراق.
وفي منتصف يوليو 2004وصل إيهود أولمرت وكان ال يزال نائبا ً لشارون إلى أنقرة في
زيارة مؤجلة من شهر مايو من نفس العام ورفض أردوغان استقباله منذ رعا ً بقضاء عطلة قصيرة
في حين بادر إلى استقبال ناجي عطري رئيس الوزراء السوري الذي تزامنت زيارته ألنقرة مع
زيارة أولمرت ،وقال أردوغان في مؤتمر صحفي مشترك مع عطري :إن حالً عادالً للصراع
الفلسطيني اإلسرائيلي هو الشرط األساسي للسالم في الشرق األوسط.
غير أن أولمرت لم يستطع أن يهضم هذه المعاملة ،فصرح قبل مغادرته أنقرة بأنه ليس في
استطاعة تركيا أو أي دولة أخرى في هذه المرحلة أن تساهم في رعاية السالم ما بين إسرائيل
وجيرانها في الشرق األوسط "ألن تل أبيب ليست بصدد التفاوض مع الفلسطينيين وال ترى أن
خالفها مع سوريا يحتل أولوية في اهتماماتها"؛ ثم دافع أولمرت عن بناء الجدار العازل الذي انتقدته
تركيا وقال :إن قرار محكمة العدل الدولية كان "نصيحة سيئة" قررت إسرائيل عدم األخذ بها().
ونستطيع القول أن هناك مستجدات طرأت بالفعل على العالقات التركية اإلسرائيلية؛ هذه
المستجدات ساهمت في تحوالت السياسة الخارجية التركية بوجه عام وتجاه العالم العربي واإلسالمي
بوجه خاص ومن ثم أثرت سلبا ً على العالقة االستراتيجية مع إسرائيل التي تعتبر أن المحيط العربي
اإلسالمي الذي تعيش وسطه ما هو إال محيط معاد ويشكل في كل وقت وفي أي مكان منه خطراً
حقيقيا ً على األمن القومي اإلسرائيلي بشكل مباشر ،كما يقول شمعون بيريس أن "أمن إسرائيل
القومي يمتد من باكستان حتى المغرب".
ونستطيع حصر هذه التحويالت التي أثرت على السياسة الخارجية التركية تجاه إسرائيل
وبالتالي أثرها على القضية الفلسطينية والصراع العربي اإلسرائيلي بوجه عام في النقاط التالية:
تعاني تركيا من هاجس فقدان األهمية االستراتيجية وهو الهاجس الذي بدأ بعد نهاية الحرب 3
الباردة وانهيار االتحاد السوفيتي السابق وتعزز بعد توسع حلف الناتو إلى دول أوروبا الشرقية
وتكرس بعد االحتالل األمريكي للعراق لذلك راح التفكير التركي البرجماتي يقلب األوراق جيداً بعد
قراءة متأنية للواقع اإلقليمي والدولي وانكشاف عوالم جديدة في أسيا الوسطى والقوقاز والبلقان
والشرق األوسط ،فما كان من أنقرة إال أن حثت الخطى باتجاه االستفادة من عوامل القوة لديها
الجغرافية والسياسية واالقتصادية ،وفي هذا اإلطار فإن االستراتيجية التركية تحاول أن تقيم توازنا ً
دقيقا ً بين مختلف التيارات والمصالح واالتجاهات األمريكية واألوروبية والعربية واإلسالمية عبر
إقامة عالقات جيدة مع الجميع؛ بحيث تخرج تركيا من أن تكون طرفا ً في سياسة محاور لتكون على
مسافة واحدة من الجميع وهو ما يعبر عنه بأن تكون تركيا بلداً محوريا ً قادراً على التأثير في
مجريات األحداث ال مجرد شاهد أو ُمتل ٍّ
ق لها.
وانطالقا ً من هذه االستراتيجية الجديدة كان االنفتاح التركي على سوريا وإيران والعالم
اإلسالمي ،كما على أوروبا واليونان وروسيا وتأييد خطة األمم المتحدة في قبرص بصورة فاجأت
العالم()؛ وموقفها األخير من حرب يوليو 2006وإدانتها للعدوان اإلسرائيلي على لبنان من أبرز
األمثلة مع وجود فاروق محوري وهو أن الطرف األساسي في الصراع هو حزب لبناني ُذو
انتماءات مذهبية شيعية ،بخالف طبيعة حزب العدالة والتنمية السُنية ،ويعكس توجهات أصولية
(بالمفهوم التركي التقليدي) تواجه في تركيا حمالت شديدة من جانب القوى المتشددة ،وهي التوجهات
النقيض للصورة المعتدلة التي يحاول حزب العدالة والتنمية تقديم نفسه فيها.
إن النظام في تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية يبقى جزءاً من النظام العام في العالم
اإلسالمي الذي يعتمد في صوغ توجهاته األساسية على المقاربة السعودية لألمور كون الرياض هي
صاحبة الكلمة األولى في منظمة المؤتمر اإلسالمي ،لذا فإن زيارة مثل التي قام بها الملك عبد هللا بن
عبد العزيز آل سعود إلى أنقرة في ذروة العدوان اإلسرائيلي على لبنان ال تنفصل عن سياسة
المحاور التي يراد أن تتشكل في المرحلة المقبلة على ُأسس مذهبية والتي هيّأ لها بعض العرب
األرضية النفسية والمادية من خالل الحديث عن هالل شيعي وعدم انتماء الشيعة إلى أوطانهم ومن ثم
تحميل حزب هللا مسؤولية العدوان اإلسرائيلي على لبنان وعدم السعي الجدي لدى جامعة الدول
العربية ومنظمة المؤتمر اإلسالمي إلى وقف العدوان الذي طال لمدة 33يوما ً ولم تتوقف بعد أشكاله
األخرى ،وترتفع التساؤالت بالنسبة إلى تركيا مع تولي شخصية تركية األمانة العامة لمنظمة المؤتمر
اإلسالمي (أكمل الدين إحسان أوغلو).
ذكرت صحف تركية أن الهدف األساسي الذي جاء من أجله الملك عبد هللا إلى أنقرة هو
إقامة تحالف سُني في مواجهة حزب هللا وإيران (الشيعة) ،وهذا ما يتناقض بشكل كامل مع الدعم
الشعبي في الشارع العربي السني لحزب هللا الذي أقام األفراح النتصار حزب هللا العربي المسلم –
بغض النظر عن المذاهب – على إسرائيل عدو العرب والمسلمين الحقيقي واعتبر البعض أن السيد
حسن نصر هللا جمال عبد الناصر الجديد باعتباره عربيا ً بغض النظر حتى عن الدين فقد ناصره
الكثير من المسيحيين في جميع أنحاء العالم العربي وداخل لبنان؛ إن تركيا من هذه الزاوية تقف على
طرفي نقيض مع مزاج ومواقف الشارع العربي()؛ وال يخفى أن تقسيم المنطقة إلى محاور بين السنة
والشيعة ما هو إال مخطط صهيوني أمريكي لضرب المنطقة بعضها ببعض من خالل الضغط على
األنظمة العربية التي ال تعمل في األسس إال لمصلحة الكراسي والعروس وزرع الخوف الشديد من
هو أحس بعضها حقيقي عن الخطر اإليراني على العرب لتشكيل محورين األول المحور الشيعي
ويتشكل من (إيران ،سوريا ،حزب هللا ،ثم حركة المقاومة اإلسالمية في فلسطين حماس ،باإلضافة
إلى مليشيات الشيعة في العراق التابعة إليران)؛ أما المحور الثاني وهو المحور السني ويتشكل من
(دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها السعودية ،مصر ،األردن ،وبالطبع في حالة حدوث
التصادم سوف تساهم إسرائيل بكل ما يلزم هذا المعسكر الذي يعترف بإسرائيل رسميا ً أو ضمنيا ً
ويبادر إلى السالم في كل وقت).
وقد نُظر إلى السعي التركي للمشاركة في القوة الدولية لحفظ السالم بجنوب لبنان بشكل يهز
الصورة التركية أمام الشارع العربي باعتبار أن هذه القوة الدولية مشكوك في حقيقة مهمتها أهي حقا ً
لتحقيق السالم أم لنزع سالح حزب هللا ،لكن وبوجه عام كانت السياسة التركية تجاه حرب يوليو
2006تتصف باالتزان وإدانة العدوان وبلورة موقف يستقل وينأى بنفسه عن االستراتيجية األمريكية
والسياسية العربية كما أ،ه ال يتحيز بشكل تام ألي من األطراف الفاعلة؛ وقد اكتفت تركيا الرسمية
بعد عدة أيام على بدء العدوان باستنكار أعمال استهداف المدنيين من جانب إسرائيل...
والتوتر في العالقات مع إسرائيل ما هو إال نتيجة طبيعية للسياسة التركية الجديدة ،ألن هذه
العالقات كانت متضخمة وأقرب إلى التحالف منها إلى أي شيء آخر ،مما كان يفضي إلى توترات
وشكوك بالنيات التركية تجاه كل المحيط العربي واإلسالمي المعادي إلسرائيل وإخضاع هذا الجسم
لعملية "ريجيم" قاسية حتى تستقيم االستراتيجية الجديدة.
هناك ترابط كامل بين درجة حرارة العالقات التركية األمريكية ودرجة حرارة العالقات التركية 4
– اإلسرائيلية ولهذا السبب فإن اضطراب العالقات بين واشنطن وأنقرة بسبب ملف العراق تواكب
معه تدهور في العالقات التركية – اإلسرائيلية بعدما اتخذت تركيا موقفا ً عنيفا ً ضد إسرائيل وناقداً
لسياساتها في مواجهة الفلسطينيين.
هذا الموقف التركي أثار دهشة كبرى في العالم العربي ،ألنه بالمقارنة بمواقف الحكومات
العربية وبسياق المجرى العادي للعالقات التركية – اإلسرائيلية يلفت االنتباه ،وبدون التقليل من
أهمية هذا الموقف ،إال أنه اتخذ في وقت ظهر فيه رئيس الوزراء التركي شخصيا ً في وسائل اإلعالم
العربية يدعو إلى انتخاب المرشح التركي أمينا ً عاما ً لمنظمة المؤتمر اإلسالمي خالل اجتماع وزراء
خارجيتها باسطنبول في منتصف يونيو 2004؛ وهو ما أدى إلى تفسير الموقف التركي في العالم
العربي على أنه مغازلة للحكومات العربية حتى تؤيد هذا الترشيح ،باعتبار أ ،المجموعة العربية
تشكل أقوى المجموعات الثالث في المنظمة إلى جانب المجموعة اإلفريقية واآلسيوية.
التدهور العربي الحاصل منذ انتهاء الحرب الباردة وحرب الخليج الثانية وانهيار االتحاد 14
السوفيتي السابق وأخيراً الغزو األمريكي للعراق الذي كان يشكل أحد أقوى دعائم النظام العربي
واألمن القومي العربي؛ مما أفضى إلى حدوث نوع من الفراغ الجيو-استراتيجي في منطقة الشرق
األوسط؛ وهنا تبدو تركيا وإسرائيل من أكثر القوى مالحظة لهذا التطور الفارق رغبة في التحرك
لالستفادة منه وتوجيهه لمصلحتهما .فالوضع اإلقليمي بعد غزو العراق وتداعياته ،معطوفا ً على
حديث الشرق األوسط الكبير ،أفضى إلى إفراز ما يمكن تسميته بصراع "الريادة أو القيادة أو
المكانة" بين أنقرة وتل أبيب على المنطقة .ويمكن التمثيل لهذا الصراع أو التدافع على المستوى
الجزئي في كردستان العراق ،إن عين أنقرة ال يمكن أن تغفل عن تعدي تل أبيب للخطوط الحمراء
في تحركاتها مع الدائرة الكردية في هذه المنطقة المجاورة بينما ترى تل أبيب أن توثيق الصالت بهذه
الدائرة أ÷م مكاسب فوضى العراق بعد الغزو األمريكي فمن المعروف أن المشروع اإلسرائيلي في
المنطقة يستهدف تفتيت الدول الكبيرة التي تتمتع بسلطة مركزية قوية ليسهل بعد ذلك تحويل المنطقة
برمتها إلى دويالت صغيرة تقوم على طائفية أو عرقية أو دينية تبدو إسرائيل وسطها دولة طبيعية –
بل وأقوى دولة بل ودولة مركز في محيط متخلف يغوص في الفوضى – فهذا التفتيت هو ..وهو
وحده الكفيل بتحقيق األمن اإلسرائيلي بمعناه المطلق ،وذلك لسبب بسيط ،هو أن التفوق العسكري
الكاسح إلسرائيل على باقي الدول العربية مجتمعة والمنطقة بأ:ملها لن يدوم إلى األبد() ،خوصا ً مع
وجود دول مركزية تسعى المتالك القوة ومع التطور التكنولوجي العسكري خاصة فيما يخص
الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى "الباليستية" والتي ال تعترف بالحدود الجيوسياسية وقد جربت
إسرائيل هذه االستراتيجية في لبنان في بداية الثمانينات وفشلت بعد أن انتهت الحرب األهلية وتم
توقيع اتفاق الطائف ومازالت إسرائيل تسعى إلى إسقاط لبنان في الفخ ثانية بشكل واضح منذ اغتيال
رفيق الحريري وسلسلة األعمال التخريبية واالغتياالت وحرب يوليو 2006لكنها فشلت حتى اآلن،
ويبدو أن العراق سقط بسهولة في نفس الفخ؛ بينما ال يمكن لتركيا أن تتسامح مع هذا التوجه وفي
العراق تحديداً؛ فهذه نقطة خالف ساخنة تبرز الحذر التركي من السياسة اإلسرائيلية في العراق ،عبر
األكراد ،وتذكر تل أبيب بأن لدى أنقرة ما تؤلم به الشريك اإلسرائيلي المشاكس من المدخل العربي
والفلسطيني()؛ وهذا ما حدث بالفعل في أكثر من مناسبة ويكفي استقبال خالد مشعل رئيس المكتب
الخارجي لحركة حماس واالعتراف بحكومة حماس التي ال تعترف بإسرائيل بل والوقوف بجانبها
في أكثر من مرة والتصريح بعدم الرضا عن الخالفات بين فتح وحماس ..الخ.
على أن قضية التدافع أو التنافس المفترضة بين أنقرة وتل أبيب تتجلى أكثر على المستوى
اإلقليمي العام؛ الرسالة التركية في هذا الخصوص أنه إذا كانت إسرائيل تأنس في نفسها إمكانية
تطبيق النزوع القديم لزعامة الشرق األوسط الجديد أو الكبير بعد زعزعة أركان النظام العربي
المتداعي أو تقويضه بالكامل فإن تركيا ربما كانت أولى بهذا األمر ،المسوغات المؤهلة الحافزة على
هذا التفكير كثيرة وبكل المعاني المحتملة جغرافيا ً وتاريخيا ً وثقافيا ً وكذلك أفضلية النظام السياسية
المتداولة في أروقة دول الشرق األوسط.
تركيا تحت نموذج حكم حزب العدالة والتنمية بالذات تستطيع االدعاء بأحقية أن تُحتذى
ويُهتدى بتجربتها القائمة على التوفيق بين األصالة والمعاصرة بين العلمانية واإلسالم؛ أما إسرائيل
بمحتواها الديني اليهودي الفائض حاليا ً فال تملك ذلك عالوة على أن درجة قبولها إقليميا ً تبقى بكل
المعاني ومن األصل محالً للشك().
خامسا ً :السياسة الخارجية التركية تجاه مصر
تتسم العالقات التركية – المصرية بالنديّة ،فالسلطان سليم األول الذي توجه إلى القاهرة
غازيا ً ما اضطر إلى ذلك إال لمنافسة الدولة المصرية المملوكية للدولة العثمانية على زعامة العالم
اإلسالمي (السني) وفي ظل الحكم العثماني تبلورت في مصر دولة شبه مستقلة قامت على األسس
الحديثة لبناء الدولة أثناء حكم محمد علي الذي أعلن تمرده على الباب العالي وهدد بإسقاط الدولة
العثمانية؛ كما توسعت الدولة المصرية في عهده وعهد الخديو إسماعيل حتى وصلت حدود الحبشة
وبحيرة فيكتوريا فكانت مصر إمبراطورية تعيش اسميا ً تحت كنف إمبراطورية أخرى ،كما أن
البناءين والصنُاع المهرة الذين شيدوا و شكلوا مآذن اسطنبول الشامخة جُلبوا من قاهرة المعز.
بعد سقوط الدولة العثمانية وما استتبعه من سقوط الخالفة اإلسالمية كمرجعية سياسية للعالم
اإلسالمي 1924كان من أبرز ردود الفعل قيام حركة اإلخوان المسلمين في مصر 1928إلقامة
الخالفة اإلسالمية ،واستعادة القاهرة لزعامة العالم اإلسالمي؛ وبوصول كمال أتاتورك إلى سدة
الحكم في تركيا ابتعدت تركيا تماما ً عن العالم العربي واإلسالمي الذي أصبحت تنظر إليه باعتباره
عالم متخلف.
وقد بدأ الحوار بين تركيا ومصر بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي إحسان
صبري جاغليان كيل إلى القاهرة سنة 1970وبزيارة نظيره المصري محمود رياض ألنقر في العام
التالي؛ وكانت هذه أول زيارة رسمية متبادلة لرجال السياسة بين البلدين منذ 1920؛ وفي ذلك الحين
كانت كل من مصر وتركيا تتبعان مسارات سياسية متباعدة فمصر كانت من الدول الرائدة لحركة
عدم االنحياز ،وكانت تعتمد أساسا ً في تسليحها واقتصادها على االتحاد السوفيتي ،كما أ ،مصر
اتبعت آنذاك خطا ً سياسيا ً عرف "باالشتراكية العربية" والذي كانت الدولة بمقتضاه تهيمن على جميع
الجوانب االجتماعية واالقتصادية().
وقد كانت مصر وال تزال دولة أفراد ال دولة مؤسسات فالحاكم في مصر هو الدولة ظل ذلك
كل من الملك فاروق والرئيس جمال
منذ بداية تبلور الكيان المصري الشبه مستقل والمستقل في عهد ٍ
عبد الناصر والسادات ومبارك.
أما تركيا فلم تختلف كثيراً عن مصر في هذه النقطة األخيرة خاصة في بداية مرحلة تكوّن
الجمهورية التركية الحديثة على يد أتاتورك الذي كان شخصه يُمثل الدولة التركية الحديثة بكل ما
فيها ومع ازدياد العشق التركي ألوروبا تحولت الدولة بشكل تدريجي حذر إلى الديمقراطية التي
كانت نتيجتها معاكسة دائما ً لألسس األتاتوركية بفوز اإلسالميين مجدداً أو العثمانيين الجدد في شكل
حزب العدالة والتنمية.
تركيا في شكلها الخارجي دولة عضو في حلف الناتو لها عالقات متميزة مع الواليات
المتحدة خاصة في فترة الحرب الباردة حيث كانت على خط المواجهة ضد المد الشيوعي السوفيتي؛
ومن هنا كان اختالف السياسة الخارجية لدولتين في الخمسينيات والستينيات منبعا ً لخالفت حقيقية؛
ولكن لم يعن هذا استحالة قيام التعاون بينهما؛ ولقد كان من مصلحة الطرفين أن يحل التعاون بينهما
بدالً من المواجهة ولم يكن هذا يتطلب أكثر من النوايا الحسنة والتفكير السديد لبلورة هذا التعاون؛ وقد
وضحت ثمار محاوالت التقارب المصرية التركية حتى قبل نهاية عهد عبد الناصر ،ففي أثناء
وأعقاب حرب ( 1967الحرب الثالثة في الصراع العربي اإلسرائيلي) والتي كانت كارثة عظمى
على مصر؛ أعلنت تركيا صراحة تأييدها للعرب؛ وفي 10يونيو 1967صرح وزير الخارجية
التركي أن بالده تعارض االستيالء على األرض أو كسب المغانم السياسية عن طريق استخدام القوة
وقوبل هذا الموقف بالترحيب من كافة العرب ومصر ،ويعتبر هذا التاريخ عالمة فارقة في السياسة
التركية تجاه العالم العربي وقضاياه فمنذ ذلك التاريخ وتركيا تساند القضاي العربية في المحافل
الدولية؛ وفي هذا المناخ الودي تمت الزيارات المتبادلة لوزيري الخارجية المصري والتركي ألنقرة
والقاهرة تباعاً ،ويالحظ أن مصر قد عدلت إلى حد ما من موقفها المساند لمكاريوس واليونان بالنسبة
لمشكلة قبرص ،فلقد أدلت مصر وقتها بتصريحات تعارض فيها حركة أنوسس ،وطالبت باالعتراف
بحقوق المواطنين األتراك في جزيرة قبرص وإن كانت مصر قد ظلت في األمم المتحدة تؤيد جميع
القرارات ارصادرة في صف مكاريوس().
توفى جمال عبد الناصر 1970وخلفه محمد أنور السادات الذي قام في العام الثاني لحكمه
بتصفية التسهيالت العسكرية السوفيتية ثم قام بطرد الخبراء السوفييت ،ولقد قوبلت هذه الخطوات
بالترحيب في المعسكر الغربي فقام بذلك بتقريب العالقات المصرية مع تركيا وسول المعسكر
الغربي في الشرق.
وعلى أثر ذلك قام وزير الخارجية التركي خلوق باي أولكن بزيارة لمصر والسادات في
سبتمبر 1973وسط جو من الود والصداقة وجاء الرد على هذه الزيارة بزيارة محمود رياض وزير
الدولة للشؤون الخارجية إلى تركيا في مايو 1976عند انعقاد منظمة المؤتمر اإلسالمي على مستوى
وزراء الخارجية في اسطنبول.
وقد كان النتصار مصر في حرب أكتوبر ( 1973الحرب الرابعة في الصراع العربي
اإلسرائيلي) أثراً كبيراً في استعادة مصر لقدر من مكانتها من جديد ولقد ساندت تركيا العرب أثناء
هذه الحرب بأن حالت دون استخدام الواليات المتحدة لقواعد حلف األطلنطي (ناتو) في أطنة ،وفي
نفس الوقت سمحت للطائرات السوفيتية التي كانت تحمل اإلمدادات للعرب بالتحليق في األجواء
التركية ،وبعد وقف إطالق النار وفقا ً لقرار مجلس األمن رقم 338الصادر في 22أكتوبر 1973
عقد مؤتمر للسالم في جنيف في 21ديسمبر تحت إشراف الواليات المتحدة واالتحاد السوفيتي
بحضور ممثلين عن األطراف المعنية (إسرائيل ومصر واألردن بينما رفضت سوريا الحضور) إلى
جانب ممثل عن األمم المتحدة وكان المؤتمر بداية لنشاط دبلوماسي بقصد إيجاد حل عادل ودائم
واستمرت الجهود حتى توقيع اتفاق كامب ديفيد سنة 1978بين مصر وإسرائيل ،وكانت تركيا قد
أيدت قرار مجلس األمن رقم 242منذ البداية (والذي لم يُنفذ حتى اآلن وال تزال تركيا كذلك تؤيده)
كما أيدت القرار رقم 338الذي أعاد تأكيد القرار السابق ووضع األسس لمؤتمر جنيف وتم إبرام
اتفاق السالم المصري اإلسرائيلي 26مارس 1979وبعدها بشهور تبادلت مصر وإسرائيل العالقات
الدبلوماسية.
وبينما رحب الغرب بهذا االتفاق؛ أصيب العالم العربي بحالة من التمزق الشديد ،فلقد قطعت
الدول العربية – ما عدا السودان وعمان – عالقاتها الدبلوماسية مع مصر ،كما علقت عضويتها في
جامعة الدول العربية وتم نقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس تأسست جبهة ضد مصر سميت بـ
"جبهة الرفض" من سوريا والعراق وليبيا واليمن الجنوبي والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية
يساندها في ذلك غالبية الدول األعضاء في جامعة الدول العربية وكان هدفها الوقوف ضد أية مبادرة
سالم أخرى مع إسرائيل؛ وتم تعليق عضوية مصر في منظمة المؤتمر اإلسالمي.
في خالل ذلك كانت العالقات التركية المصرية آخذة في التطور إلى األفضل ،وكان موقف
تركيا محايداًَ بالنسبة لتطور العالقات المصرية اإلسرائيلية واتفاق كامب ديفيد؛ إذ انتظرت الحكومة
التركية لترقب تطور األحداث قبل أن تفصح عن رأيها في مبادرة مصر للسالم؛ وقد عبر وزير
الخارجية التركي أوكشون في حكومة بولند أجاويد التي كانت تتولى زمام الحكم آنذاك في خطابه
أمام الجمعية العامة لألمم المتحدة في 3أكتوبر 1978عن ذلك بقوله" :إن الوقت ال يزال مبكراً
لتقييم اتفاق كامب ديفيد ،والمهم هو أن تنسحب إسرائيل إلى حدود 1967وأنه ال يمكن تصور حل
معقول في المفاوضات مادامت منظمة التحرير الفلسطينية غير ممثلة".
وأصدرت الحكومة التركية في اليوم التالي لتوقيع اتفاق واشنطن بيانا ً يقول "ينبغي أن تحل
مشكلة الشرق األوسط بالوسائل السلمية وللوصول إلى حل شامل البد من إيجاد اتفاق دائم ولتحقيق
ذلك يتحتم على إسرائيل أن تجلو عن األراضي العربية والقطاع العربي من القدس المحتل مع
االعتراف بالحقوق المشروعة للفلسطينيين بما في ذلك حقهم في إقامة دولة لهم"().
ولم تقدم تركيا بحال على إدانة مصر ،وبعد اعتراف مصر بإسرائيل لم تعد تركيا هي الدولة
اإلسالمية الوحيدة التي تعترف بإسرائيل وصارت مصر شريكا ً لها في (العار المشين) تحمل أعباء
االنتقادات عبر العالم اإلسالمي؛ ومع توجه مصر صوب الغرب تولدت العالقات المصرية التركية
أكثر فأكثر.
اغتيل السادات 1981وخلفه محمد حسني مبارك الذي عمل على إرساء السالم والحفاظ
على االستقرار في منطقة الشرق األوسط وتجنب الحروب والتقى في ذلك مع المصالح التركية التي
تتطلب ذلك للمحافظة على أمنها القومي باعتبارها من أكبر دول المنطقة.
وفي نوفمبر 1982قام نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية المصري كمال حسن علي
بزيارة لتركيا أسفرت عن فتح مجاالت عديدة للتعاون بين البلدين ولقد كان للجهود الدبلوماسية التي
بذلها الرئيس التركي كنعان أفرين في قمة المؤتمر اإلسالمي المنعقدة بالدار البيضاء في يناير 1984
السترداد مصر لعضويتها في منظمة المؤتمر اإلسالمي أطيب اآلثار في نفوس المصريين؛ أما زيارة
مبارك لتركيا فكانت األولى من نوعها لرئيس مصري وكانت بهذا المعنى نقطة تحول مهمة في
العالقات التركية المصرية وقام أفرين بزيارة مصر في العام التالي؛ ثم تبع ذلك سلسلة من الزيارات
المتبادلة على مستوى الوزراء لتنسيق التعاون بين البلدين في شتى المجاالت وفي أثناء زيارة الرئيس
مبارك لتركيا أدلى الدكتور الباز مستشار الرئيس للشؤون السياسية بتصريح هام للغاية نستطيع من
خالله فهم التوجهات التركية نحو العالم العربي واإلسالمي بوجه عام ومصر على وجه الخصوص
حيث قال" :إن اهتمامات تركيا بالشرق األوسط والعالم اإلسالمي قد أخذت في االزدياد الملحوظ إن
هي قورنت بالماضي؛ إن التوجه األوروبي لتركيا ليس موضع تساؤل ،ولكننا نرغب في التنبيه إلى
أبعاد جديدة لها األولوية في تقديرنا؛ لقد بدأت تركيا تضطلع بدور أكثر فاعلية في العالم اإلسالمي
ولقد كان للمتغيرات الجديدة أثرها في هذا التحول وال يمكن مقارنة المتغيرات التي جدت على الساحة
بالسياسات الجامدة التي كانت ترتكز على فروض بالية وعتيقة ،نحن نعلم أن تركيا مرتبطة بالغرب،
أما نحن فلسنا مرتبطين بالقرب ،إذ أننا نعتقد أن استقاللية مصر تحفظ لها دوراً حراً تتحرك من
خالله بعيداً عن استقطاب القوى العظمى ،إن موقعنا االستراتيجي والجغرافي مختلف عن موقعكم في
تركيا ،ولكننا ندرك تماما ً أن دور تركيا ومصر في المنطقة ينبغي أن ينأى عن خلق تكتالت جديدة
وعليه فإن دورنا معا ً ينبغي أن يتركز على دعم االستقرار وحل مشكالت المنطقة ،ولهذا السبب فإننا
نرحب بعين الرضا بكل جهد تبذله تركيا لمساعدتنا في حل مشاكلنا ،ونحن نعتقد أيضا ً أنت تخفيف
حدة التوتر في المنطقا سوف يخدم المصالح التركية وعلى هذا فإن تعاوننا يجب أال يكون تكتالً ضد
طرف ثالث وإنما هدفنا ببساطة هو أن يعين كل منا اآلخر ،وأن نعمل معا ً من أجل تدعيم قواعد
السالم واالستقرار في المنطقة وأ ،نوثق الروابط بين بلدينا المسلمين ،ولكي نحقق هذا المقصد يجب
أن ننطلق من مفهوم جديد وفعّال يرتكز على المصلحة الوطنية بعيداً عن اإليديولوجيات الجامدة".
في أثناء ذلك عندما تبادلت مصر وإسرائيل السفراء في تل أبيب والقاهرة أوفدت الحكومة
التركية وزيراً مفوضا ً إلى إسرائيل رافعة بذلك تمثيلها الدبلوماسي من سكرتير ثان إلى قائم باألعمال
س.1986 ’،
ولما انفجرت أزمة الخليج في ( 1991 – 1990حرب الخليج الثانية) استمرت االتصاالت
بين البلدين على مختلف المستويات وكان واضحا ً أن الخط السياسي الذي سبق شرحه ظل هو المرشد
للدولتين().
وقد كان لمصر موقفا ً واضحا ً من التحالف العسكري التركي اإلسرائيلي فمع القيام بأول
مناورة جوية مشتركة بين إسرائيل وتركيا من 13إلى 18سبتمبر 1998وجهت الدعوة لمصر
للمشاركة فيها لكن مصر رفضت المشاركة في هذه المناورات.
وأكد عمرو موسى وزير الخارجية المصري آنذاك خطورة سياسة األحالف والمحاور على
أ/ن المنطقة وأضاف أن مصر لن تشارك في المناورات المشتركة التي تثير عالمة استفهام كبيرة
حول المغزى من إجرائها بهذه الصورة التي تؤثر سلبيا ً على المصالح العربية التركية.
وبصرف النظر عن توصيف هذه العالقات تعاون أو تحالف فإن مصر تبدو أيضا ً مستهدفة
وليس سوريا والعراق فحسب وإنما يستهدف أيضا ً تضيّق الخناق على مصر بحكم امتدادها التاريخي
ماديا ً ومعنويا ً وسياسيا ً واقتصاديا ً وثقافيا ً وعسكريا ً جهة الشرق وذلك بالرغم من معاهدة السالم بين
مصر وإسرائيل وعالقات مصر السياسية واالقتصادية الطيّبة مع تركيا().
وفي ظل توجهات حزب العدالة والتنمية نحو العالم العربي والعالم اإلسالمي خاصة
والتغيرات التي تشهدها المنطقة منذ سقوط بغداد؛ تسعى تركيا إلى التنسيق مع مصر حيث أ،ها
وتركيا من أ:بر دول منطقة الشوق خاصة مع الواليات المتحدة األمريكية مع اختالف درجة هذه
الخصوصية؛ تتفق مصر وتركيا في ناحية أخرى أساسية فرضتها عوامل متعددة تتصدرها
خصوصية الوضع الجيوبولتيكي لكل منها؛ ويقصد بذلك تعدد دوائر اهتمامات السياسة الخارجية
وتحركاتها مع اختالف أولوية هذه الدوائر من منظور صانعي القرار في كل من البلدين في حالة
تركيا الدوائر األوروبية والغربية األطلسية والشرق أوسطية واآلسيوية (أسيا الوسطى والقوقاز)
واإلسالمية والبحر األسود والبلقان وفي حالة مصر الدوائر العربية واألفريقية واإلسالمية
واألوسطية والمتوسطية والعالم الثالث؛ وقد اكتسبت زيارة مبارك ألنقرة في 11فبراير 2004
أهميتها مع البيئة االستراتيجية الجديدة في الشرق األوسط التي فرضها االحتالل األمريكي للعراق
وتداعيات ذلك على أمن المنطقة واستقرارها ،فالدولتان حاولتا مع دول الجوار للعراق منع الحرب –
ك ٌل على طريقته – واستمرتا في التنسيق عبر اجتماعات استمرت بعد االحتالل.
أما الهدف المشترك الذي يجمعهما اآلن هو المحافظة على وحدة العراق وسالمته اإلقليمية
ورفض تقسيمه والدولتان عضوان في مجموعة الثماني الكبار اإلسالمية للتنمية التي تضم باإلضافة
إليهما إيران وباكستان وبنجالديش وأندونيسيا وماليزيا ونيجيريا؛ وقد انعقدت قمتها األولى التأسيسية
في اسطنبول في 15يونيو 1997واستضافتها مصر في بدايات 2001؛ وقد أشار مبارك إلى دعم
مصر لهذه المجموعة التي تتصف بسمات تميزها عن سائر تجمعات العالم الثالث وبتراث مشترك
يربط بين دولها التي تتمتع بآفاق كبيرة للتعاون في المجاالت االقتصادية بما يؤهل المجموعة ألن
تكون بداية تعاون أشمل في المستقبل إليجاد تجمع اقتصادي أكبر مع عدم تعارض آلية التعاون بين
هذه الدول مع أي ترتيبات إقليمية وثنائية أخرى تشارك فيها مصر().
ومما سبق نلحظ أن العالقات المصرية التركية تسير في منحنى تصاعدي منذ سنة 1970
وحتى اآلن حيث تجتذب مصر المستثمرين األتراك وتزداد العالقات االقتصادية وثوقاً؛ وقد ازداد
هذا المنحنى الصاعد صعوداً منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة والظروف اإلقليمية التي
صاحبت ذلك وأبرزها على اإلطالق سقوط بغداد تحت االحتالل األمريكي وما صاحبه من تهديد
ألمن المنطقة بأكملها.
الخاتمة
نستطيع التأكيد اآلن على وجود دعائم أساسية تقوم عليها السياسة الخارجية التركية بصفة
عامة كانت موجودة وظلت قبل وبعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002؛ مثل
السعي الدائم لالنضمام إلى االتحاد األوروبي والتودد إلى الواليات المتحدة والتقارب من إسرائيل
واإلتكاء على التراث والتاريخ المشترك عند التعامل مع العالم العربي واإلسالمي وسعي ضمير
الدولة التركية لبناء شخصية مستقلة وأجندة خاصة ليس من حق أحد اإلطالع عليها تتعلق هذه
األجندة تحديداً بمستقبل عالقة تركيا بأوروبا من جهة ومن جهة أخرى تتعلق بعالقة تركيا بالعالم
العربي والشرق األوسط.
لكن ما حدث من تغير في السياسة الخارجية التركية خاصة تجاه العالم العربي بعد وصول
حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا؛ هو فقط توظيف كل ما سبق بشكل براجماتي ونجاح
الحزب في خلق توفيقية جديدة استطاع من خاللها أن يقترب من الجميع دون أن يبتعد عن أحد ..وهذه
التوفيقية الجديدة كما ُأسميّها هي التي جعلت من هذا الحزب نقطة ّ
جذابة للكثير من الباحثين والعاملين
بالحقل السياسي؛ فاختلفت حوله اآلراء بين العلمانيين واإلسالميين والعالم العربي وإسرائيل وإيران
والواليات المتحدة وهذا هو أقوى األدلة على نجاحه الذي برز جليا ً داخليا ً وخارجيا ً خاصة بعد
انتصار عبد هللا جول بالرئاسة التركية وكذلك فقد جاء الحزب بعد فترة ساكنة في تركيا لم يكن
مطروحا ً على الساحة خاللها سوى بعض الساسة المعروفون بفسادهم بشكل أو بأخر وغرق البالد
في األزمات االقتصادية.
أ.د /أكمل الدين إحسان أوغلو ،د /صالح سعداوي" :العالقات العربية التركية فمن منظور 5
تركي" ،الجزء الثاني ،معهد البحوث والدراسات العربية – مركز األبحاث للتاريخ والفنون والثقافة
اإلسالمية باسطنبول.1993 ،
د /جالل عبد هللا معوض" :صناعة القرار في تركيا والعالقات العربية التركية" ،مركز دراسات 6
د /عمرو الشوبكي ،د /جان ماركو" :إسالميون وديمقراطيون إشكاليات بناء تيار إسالمي 7
ياسر أحمد حسن" :تركيا ..البحث عن مستقبل" ،سلسلة العلوم االجتماعية ،الهيئة المصرية 8
" 9دليل الحركات اإلسالمية في العالم" ،مركز األهرام للدراسات السياسية واالستراتيجية،
القاهرة ،مارس .2006
أحمد دياب" :تركيا وإسرائيل ..أزمة عابرة أم منافسة قادمة؟" ،مجلة السياسة الدولية ،العدد رقم 4
،158أكتوبر .2004
د /جهاد عودة" :التحالف العسكري التركي – اإلسرائيلي" ،مجلة السياسة الدولية ،العدد رقم 5
،153يوليو .2003
عبد العظيم محمود حنفي" :اتجاهات جديدة في السياسة الخارجية التركية" ،مجلة السياسة 6
د /محمد نور الدين" :التداعيات اإلقليمية ..تركيا" ،مجلة المستقبل العربي ،العدد رقم ،653 7
أغسطس .2006
د /محمد نور الدين" :تركيا والعالم العربي ..عالقات محسوبة" ،مجلة السياسة الدولية ،العدد رقم 8
،169يوليو .2007
هاني عادل ديمتري" :معضالت سياسة تركيا الخارجية تجاه األزمة العراقية" ،مجلة السياسة 9
عواطف مدلول" :متى يحصل العراق على حقه التاريخي في دجلة والفرات؟" ،جريدة الصباح 3
www.alsabaah.com
كالوديا موالور ،ترجمة /رائد الباس" :سوريا والعراق في مواجهة تركيا صراح على مياه دجلة 6
www.qantara.delweb.com
الفهرس
الصفحة الموضوع
المقدمة 2 ...........................................................................................
:محددات السياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي منذ نشأة الجمهورية
وحزب العدالة والتنمية 3 ........................................................................