Professional Documents
Culture Documents
آيات وأحاديث الأحكام-بولوح
آيات وأحاديث الأحكام-بولوح
آيات وأحاديث الأحكام-بولوح
صت على حكم شرعي ،وهو وجوب ــ نصا ً :كقوله تعالى " وأقيموا الصالة وآتوا ّ
الزكاة " ن ّ
إقامة الصالة وإيتاء ّ
الزكاة .
ــ استنباطا ً :كاستنباط علي وابن عباس رضي هللا عنهما ّ :
أن أق ّل الحمل ستة أشهر من قوله
تعالى " وحمله وفصاله ثالثون شهرا ً " األحقاف ، 15/مع قوله تعالى " وفصاله في عامين "
لقمان 14 /
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1موالي عمر ،التفسير الفقهي ،النشأة ،والخصائص ملتقى أهل التفسير https:// vb.tafsir
.net/tafsir 3539
( )2علي بن سليمان ،تفاسير آيات األحكام ومناهجها ،ص 46وما بعدها
ــ ومنهم من جعلها عشر آيات 6210 ،آية .
أن النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم كان يقف على رؤوس اآليات تعليما ً ألصحابه وسبب الخالف ّ
أنّها رؤوس اآلي ،حتّى إذا علموا ذلك وصل النّبي صلّى هللا عليه وسلّم اآلية بما بعدها طلبا ً
أن ما وقف عليه النّبي صلّى هللا عليه وسلّم ليس فاصلة ، فيظن بعض النّاس ّّ لتمام المعنى ،
أن الجميع آية واحدة ،والبعض يعتبرها آية مستقلّة ،فال يصلها بما فيصلها بما بعدها معتبرا ً ّ
بعدها ،هذا بالنّسبة لمجموع آيات القرآن الكريم ،أ ّما عن عدد آيات األحكام فلقد اجتهد العلماء
في عدّها ،واختلفوا في ذلك على أقوال :
أن عددها ( ّ
إن آيات األحكام مائة وخمسون آية ) ــ فقد اعتبر ابن القيم الجوزية ّ
ــ وإلى مثله ذهب الخضري فقال ( :وآيات األحكام فيه ال تكاد تزيد على مائتي آية)
ــ وقال الماوردي ( :وا ّلذي يشتمل عليه كتاب هللا من النّصوص في األحكام قيل أنّها خمسمائة
آية ...ث ّم قال :وتنقسم إلى ستّة أقسام :
والرازي ( ّ
إن آيات األحكام خمسمائة آية . ــ والعدد نفسه ذهب إليه الغزالي ّ
ي الكلبي ّ ( :
إن آيات األحكام خمسمائة آية وقد تنتهي إلى أكثر من ذلك إذا ــ وقال ابن جن ّ
استقصي تتبّعها في مواضعها )
شيخ محمد الخضر بن الحسين اقتصار العلماء في ع ّد آيات األحكام على وقد علل ال ّ
خمسمائة آية ،فقال " :واقتصروا في تقديرها على هذا العدد ؛ ألنّهم رأوا مقاتل بن سليمان
وهو ّأول من أفرد آيات األحكام في تصنيف جعلها خمسمائة آية "
وقد نازعهم ابن دقيق العيد في هذا التّقدير ،وقال " مقدار آيات األحكام ال تنحصر في هذا
والراسخ
العدد ؛ بل هو يختلف باختالف القرائح واألذهان ،وما يفتحه هللا من وجوه االستنباط ّ ،
أن من أصولها وأحكامها ما يؤخذ من موارد متعدّدة حتّى اآليات في علوم ال ّشريعة يعرف ّ
الواردة في القصص واألمثال "
إن سورة البقرة وحدها مشتملة على ألف أمر ،وألف ــ وقال ابن العربي عن بعض أشياخه " ّ
نهي ،وألف حكم ،وألف خبر ،ولعظيم فقهها أقام عبد هللا بن عمر ثمان سنين في تعلمها " ()1
ــ وقد أرجع مناع القطان سبب الخالف وعدم اتفاق العلماء على عددها بقوله ":ولم يتفق
العلماء الباحثون على عدد آيات األحكام نظرا ً الختالف األفهام ،وتفاوت وجهات الداللة " (.)2
منهج القرآن في بيان األحكام ( : )3آيات األحكام الواردة في القرآن الكريم منها المكية
والمدنية:
ّ
والحث على مكارم فاآليات المكية ر ّكزت أكثر على تصحيح العقيدة وإرساء قواعد الدّين
األخالق ،وذ ّم العادات السيّئة ا ّلتي كانت منتشرة آنذاك من سفك الدّماء ووأد البنات ،وكذا
سابقين .فاألحكام الفقهية ا ّلتي تض ّمنتها كانت قليلة جدا ً ،وتمثلت في وجوب إقامة
قصص ال ّ
الصالة واألمر باإلنفاق واإلحسان ،وحرمة التّطفيف في الكيل والميزان ،وتحريم ّ
الظلم وأكل
مال اليتيم واإلسراف والبغي ،وبعض األحكام ا ّلتي تتع ّلق بالذّبائح وغيرذلك .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1تفاسير آيات األحكام ومناهجها ،ص ، 48وما بعدها /أحكام القرآن البن العربي ،ص 8
( )2مناع القطان ،تاريخ التشريع اإلسالمي ،مكتبة وهبة ،ط 1422 ( 5هـ 2001 /م ) ص 69
( )3مناع القطان ،تاريخ التشريع اإلسالمي ،ص 56إلى / 69محمد الخضري ،تاريخ التشريع اإلسالمي ،
ص / 72علي بن سليمان ،تفاسير آيات األحكام ومناهجها ،ص . 52 ، 51
والتّشريع المدني ما هو إالّ امتداد للتّشريع الم ّكي ،كما ذكر ذلك ال ّشاطبي " المدني من
سور ينبغي أن يكون منزالً في الفهم على الم ّكي ،وكذلك الم ّكي بعضه مع بعض ،والمدني ال ّ
بعضه مع بعض ،على حسب ترتيبه في التنزيل وإالّ لم يصح " (. )1
وعلى هذا فقد وردت آيات األحكام في القرآن الكريم وفق منهج خاص كمايلي:
ثالثا ً :العرض الكلّي لألحكام :أي ورود األحكام على شكل قواعد كلية ،مثل :
ــ العقوبة بقدر الجريمة " وجزاء سيّئة سيّئة مثلها " الشورى 40 /
ــ رفع الحرج " وما جعل عليكم في الدّين من حرج " الحج 78 /
ــ الضّرورات تبيح المحظورات " فمن اضطر غير باغ وال عاد فال إثم عليه " البقرة 173 /
ال :أحكام الطالق ورد ذكرها في سورة البقرة والنساء والطالق .أحكام النكاح ورد ذكرها مث ً
في عدّة سور ( البقرة ،النساء ،المائدة ،النور ) .أحكام الجهاد ورد ذكرها في عدّة سور
صف)(البقرة ،النّساء ،األنفال ،التوبة ،األحزاب ،محمد ،ال ّ
خامسا ً :ورود أحكام القرآن الكريم معلّلة :
ــ أن يأمر بال ّشيء مبيّنا ً مصالحه ،أو يحرم شيئا ً مبيّنا ً مفاسده المترتبة عليه " وأعدّوا لهم ما
وعدوكم " التوبة 28 /
ّ عدو هللا
استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أبو إسحاق الشّاطبي ،الموافقات في أصول الشّريعة ،تـ :أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان ،دار
ابن عفان ،ط 1417 ( 1هـ 1997 /م ) ج ، 3ص 275 :ـ . 274
سادسا ً :ربط األحكام بالعقيدة أو اإليمان أو باألمر بتقوى هللا ،أو بالتّذكير بعلمه سبحانه ،
وربطها بشيء من معاني التّرغيب والترهيب .
مثل " :الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة وال تأخذكم بهما رأفة إن كنتم تؤمنون
باهلل واليوم اآلخر " النور 2 /
تنوع أسلوب القرآن في الطلب والتخيير :لقد أتى أسلوب القرآن الكريم في التعبير عن سابعا ً ّ :
طلب الفعل أو تركه أو التخيير فيه بطريقة متنوعة ،فلم يعبر دائما ً عما هو واجب بمادة
محرم بمادة الحرمة ؛ بل جاء بعدّة أساليب وتعبيرات ،ليكون أدعى ّ الوجوب ،وال عما ّ هو
للقبول ،وأبعث على االمتثال ،وترغيبا ً للعباد ،وتقريبا ً ألفهامهم .
مثل " :كتب عليكم الصيام كما كتب على الّذين من قبلكم " البقرة . 183 /
ــ " من ذا الّذي يقرض هللا قرضا ً حسنا ً " البقرة 245 /
ــ " حافظوا على الصلوات والصالة الوسطى " البقرة 238 /
التدرج في تشريع األحكام منهج قرآني في عرضه وبيانه ّ التدرج في تشريع األحكام :
ّ ثامنا ً :
لبعض األحكام ،وسمة أبرزها في العديد من األحكام ،وال سيما في األمور المتم ّكنة في
التدرج في
ّ والتدرج المقصود هنا هو
ّ المجتمع التي يثقل االمتثال لحكمها في ّأول األمر ،
التدرج في ال ّنزول .
ّ التّشريع ،وليس
تفسير آيات األحكام :هو ذلك التفسير الّذي يعتني بجمع ودراسة اآليات ذات الصلة باألحكام
الشرعية ،بقصد الوقوف على ما تحتوي عليه من تشريعات عملية ،وبيان كيفية استنباط
األحكام منها (. )1
( )1علي بن سليمان العبيد ،تفاسير آيات األحكام ومناهجها ،دار التدمرية ،ط ، 1سنة ( 1431هـ2010/م)
ص . 39
ــ العمل على تفسيرها .
ــ استنباط األحكام منها ،واستخراج ما تحويه من القواعد واألصول ،وتخصيصها بكتاب
مستقل .
وتفسير آيات األحكام هو خصوص من عموم تفسير القرآن الكريم ،الّذي هو علم أو ّ
فن له
والمتنوعة ،والّتي منها المنهج الفقهي ،أو التّفسير الفقهي .
ّ مناهجه الكثيرة
متأخر ؛ ألنّه يحمل وجهة نظر المذاهب ،فعلى سبيل المثال :
ّ والتّفسير الفقهي تفسير شبه
/5منح القدرة على الموازنة بين األحكام ال ّشرعية خاصة تلك الّتي ظاهرها التّعارض .
تاريخ نشأة تفسير آيات األحكام :تفسير آيات األحكام هو نوع من التّفاسير ا ّلتي عُرفت بعد
شمول إلى االختصاص ،وقد انعكس التحول الّذي عرفه علم التّفسير بانتقاله من اإلحاطة وال ّ
ّ
ّ
التحول على العناوين التي عُرفت بهذا التّفسير ،فوجدت كتب في بيان لغة القرآن وإعرابهّ ذلك
كمعاني القرآن لألخفش والز ّجاج ،وإعراب القرآن للنحاس ،وأخرى في بيان غريبه كغريب
القرآن للراغب األصفهاني ،ووجدت كتب تهت ّم ببيان األحكام الفقهية يطلق عليها :أحكام القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1مقدمة تفسير آيات األحكام ،محمد علي السايس ،المكتبة العصرية لل ّ
طباعة والنّشر ،بيروت 2002م ،
ص ( 6من كالم المقدم ) .
يختص ك ّل واحد منها بجانب من جوانب القرآن في مقابل الكتب الجامعة كجامع
ّ ،فهذه التّفاسير
البيان للطبري ونحوه (. )1
أن التّفسير الفقهي كان مع بيان النّبي صلّى هللا عليه وسلّم لألحكام ،بنا ًء على
المقرر ّ
ّ لكن
سر القرآن " وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ماالرسول صلّى هللا عليه وسلّم هو ّأول من ف ّ
أن ّّ
صة وأنّهم عايشوا صحابة رضي هللا عنهم ذلك خا ّ نُ ِ ّزل إليهم " النّحل 44/ومن بعده تولّى ال ّ
التّنزيل ،وعرفوا الوقائع واألحداث الّتي كان الوحي ينزل بها ،فعن أبي عبد الرحمن السلمي
وهو من كبار التّابعين ،قال " :كنّا إذا تعلّمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلّم العشر بعدها حتّى
نعرف حاللها من حرامها ،وأمرها ونهيها " (. )2
الرقعة اإلسالمية وما استج ّد من قضايا ونوازل ازدادت الحاجومع االتساع ا ّلذي عرفته ّ
إلى استنباط األحكام من القرآن الكريم باعتباره ّأول ما يرجع إليه المجتهد في عمليّة البحث عن
ي حكم ،فكثرت آيات األحكام ولم يعد الحديث عن آية وآيتين وإنّما عن آيات لألحكام جمعت أ ّ
صت بجمع آيات في مؤلّفات مستقلّة تحت عنوان تفاسير األحكام ،فقام العلماء بتدوين كتب اخت ّ
وتنوعت هذه الكتب خالل عصور التّدوين واتّجهت ّ األحكام في القرآن الكريم وتفسيرها ،
اتّجاهات مختلفة ،وهذه التّفاسير منها م هو موجود ،ومنه ما هو مفقود (. )3
وبعد تمييز التّفسير الفقهي عن غيره من التّفاسير ،اتّجه الكثير من العلماء على اختالف
أن أوائل هذه التّفاسير حسب التّرتيب ّ
الزمني المؤرخون (ّ )4
ّ مذاهبهم إلى التّأليف فيه ،ويذكر
فائدة ذلك في معرفة المتقدّم منهم من المتأ ّخر ،واستفادة المتأ ّخر من المتقدّم وذلك فيما يلي (: )5
ــ تفسير الخمسمائة آية لمقاتل بن سليمان البلخي تـ 150هـ .وهو مطبوع وموجود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ) 1موالي عمر بن حماد ،التفسير الفقهي ،النشأة والخصائص ،ملتقى أهل التفسير httbs :/vb .tafsir
= net/tafsir 3539 .انظر جالل الدين السيوطي ،اإلتقان في علوم القرآن ،ج ، 4ص . 234
( )2أخرجه أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني في المصنف ،بيروت ،ط ، 2سنة 1403هـ ،كتاب فضائل القرآن
باب تعليم القرآن وفضله ،رقم ، 6027 :ج ، 3ص . 380
( ) 3علي بن سليمان العبيد ،تفاسير آيات األحكام ،ص / 40موالي عمر بن حماد ،التفسير الفقهي ،
النشأة والخصائص ،ملتقى أهل التفسير / htbs:/vb . tafsir . net /tafsir 3539عيسى بوعكاز ،
التفسير الفقهي ،ص . 25
( ) 4حاجي خليفة في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون / 1/1 ،مقدمة كتاب أحكام القرآن للكيا هراسي
ــ أحكام القرآن لإلمام الشافعي تــ 150هــ جمع أبي بكرالبيهقي تـ 458هــ
ــ أحكام القرآن للكيا هراسي ( الشافعي ) تـ 504هــ ،وهو مطبوع وموجود .
ــ أحكام القرآن ألبي بكر بن العربي تـ 543هــ ،وهو مطبوع وموجود .
ــ أحكام القرآن لعبد المنعم بن الفرس (المالكي) تـ 599هــ وهو مطبوع وموجود .
ــ الجامع ألحكام القرآن ألبي عبد هللا القرطبي تـ 671هــ ،وهو مطبوع وموجود .
ــ القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي تـ 756هــ ،وهو مطبوع وموجود .
ــ اإلكليل في استنباط التنزيل للسيوطي تــ 911هــ ،وهو مطبوع وموجود .
ويظهر أن غالبية هذ ه الكتب قد تم تحقيقها وطبعها ،فهي موجودة وفي متناول الباحثين
والطلبة .
أما بالنسبة للدراسات المعاصرة فيما يخص آيات األحكام فسيتم االقتصار على ذكر مايلي :
ــ محمد علي السايس تـ 1396هـ ــ 1976م الذي قام بتنقيح وتصحيح التفسير المسمى " تفسير
آيات األحكام " لمؤلف غير معروف اسمه ،وجعل الناس النسبة إليه ،وهذا غير صحيح ؛ بل
هو قام بإخراجه من الضياع جزاه هللا خير الجزاء .
ــ تفسير آيات األحكام ألبي محمد مناع خليل القطان ولد سنة ( 1925هــ ) .
ــ روائع البيان تفسير آيات األحكام لمحمد علي الصابوني ،ولد سنة ( 1928هـ ) .
ــ دراسات في تفسير بعض آيات األحكام للدكتور كمال جودة أبو المعاطي مدرس الفقه المقارن
،بكلية الشريعة والقانون في جامعة األزهر .
ــ تفسير آيات األحكام لعبد القادر شيبة الحمد معاصر ،على المذهب الحنبلي ،والكتاب مطبوع
بمكتبة العبيكان 1427هـ .
ــ كتاب علي بن سليمان العبيد ،تفاسير آيات األحكام ومناهجها ،وهي عبارة عن رسالة
دكتوراه ،نوقشت بكلية أصول الدين بجامعة محمد بن سعود اإلسالمية بالرياض سنة 1407هـ.
ــ التفسير الفقهي ،للطالب عيسى بوعكاز ،وهي عبارة عن رسالة دكتوراه نوقشت سنة 2011
م بكلية العلوم اإلسالمية ،جامعة باتنة بالجزائر .
وغيرها من المؤلفات الحديثة ،وتتميز هذه المؤلفات بكونها عبارة عن محاضرات ألقيت
على الطلبة أو رسائل جامعية تتعلق بمواضيع التفسير الفقهي .
الخطوات المنهجية لدراسة آيات األحكام
/1ــ إعطاء نبدة فقهية عن موضوع الدرس ,لنضع الطالب أمام صورة واضحة للموضوع
المراد عالجه ,ومن خالل ذ لك تثار إشكاالت الدرس ،وأهم ما يوضع في هذه المقدمة :
التعريف اللغوي والشرعي للمسألة ،ثم الكالم عن المشروعية أو عدمها باختصار .
/2عرض النص القرآني إن كان واحدا في الموضوع ،أو عرض النصوص األخرى معه .
/3عرض أسباب النزول ومناسباته ،وال يُكتفى بذ كره ؛ بل يعلق عليه بما يعود بالفهم على
النص القرآني .
/4شرح األلفاظ وتحليلها ،إللقاء الضوء على ما يعسر فهمه من مجرد القراءة العابرة .
/8اإلفادة من الحكم والعبر المستقاة من تلك اآليات وتوظيفها في الواقع المعاصر .
صيا ُم كما كُ ِتب على الَّذِين ِمن قب ِلكُم لعلَّكُم تتَّقُون ()183 ( يا أ ُّيها الَّذِين آمنُوا كُ ِتب عليكُم ال ِ ّ
ت فمن كان ِمنكُم م ِريض ٍا أو على سف ٍر ف ِع َّدةٌ من أيّا ٍم اُخر وعلى الَّذِين يُ ِطيقُونهُ أيَّاما ً معدُودا ٍ
ين فمن تط َّوع خيرا ً ف ُهو خي ٌر لهُ وأن تصُو ُموا خي ٌر لكُم ِإن كُنتُم تعل ُمون ()184 فِديةٌ طعا ُم ِمس ِك ٍ
ت ِمن الهُدى والفُرقا ِن فمن ش ِهد ِمنكُ ُم شه ُر رمضان الَّذِي أُن ِزل فِي ِه القُرآنُ هُدًى ِللنَّ ِ
اس وبيِّنا ٍ
الشَّهر فليصُمهُ ومن كان م ِريضا ً أو على سف ٍر ف ِع َّدةٌ ِمن أيّا ٍم أُخر يُ ِري ُد هللاُ بِكُم اليُسر وال يُ ِري ُد
ِبكُم العُسر و ِلتُك ِملُوا ال ِعدَّة و ِلتُك ِبّ ُروا هللا على ما هداكُم ولعلَّكُم تشك ُُرون ( )185و ِإذا سألك
َّاع ِإذا دعا ِن فليست ِجيبُوا ِلي وليُؤ ِمنُوا ِبي لعلَّهُم يب دعوة الد ِ يب أ ُ ِج ُ
ِعبادِي عنِّي ف ِإنِّي ق ِر ٌ
س ل ُهنَّ ع ِلم ُ
هللا س لكُم وأنتُم ِلبا ٌ ث إِلى نِسائِكُم هُنَّ ِلبا ٌ الرفّ ُ يرشُدُون ( )186أ ُ ِح َّل لكُم ليلة ال ِ ّ
صيا ِم َّ
ش ُروهُنَّ وابتغُوا ما كتب هللاُ لكُم أنَّكُم كُنتُم تختانُون أنفُسكُم فتاب عليكُم وعفا عنكُم فاآلن با ِ
صيام ِإلى وكُلُوا واشربُوا حتَّى يتبيَّن لكُم الخيطُ األبيضُ من الخي ِط األسو ِد ِمن الٍفج ِر ث ُ َّم أتِ ُّموا ال ِ ّ
هللا فال تق ِربُوها كذ ِلك يُبيِّنُ هللاُ آياتِ ِه ش ُرهُنَّ ّوأنتُم عا ِكفُون ِفي المسا ِج ِد تِلك ُحدُو ُد ِ اللَّي ِل وال تُبا ِ
اس لعلَّهُم يتَّقُون ( )187البقرة . للنَّ ِ
ــ كما كُتب على الَّذين من قبلكم :أي كما فُرض على من قبلكم .فمن المعروف ّ
أن الصوم
مشروع في جميع الملل (. )3
صوم يكسر ال ّشهوة الّتي هي مبدأ المعصية ،ويورث ــ تتّقون :تجتنبون المعاصي ّ ،
فإن ال ّ
ويهون لذات الدّنيا .
ّ التّقوى ،ويقمع الهوى ،ويردع عن األشر والبطر والفواحش ،
ت :أيام رمضان ،ووصفها بقوله ( معدودات ) تسهيالً على المكلّف بأن هذهــ أيّاما ً معدُودا ِ
األيام معدودة أي قليلة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ،ج ، 2ص . 524
ــ ِفديةٌ :الفدية هي إطعام مسكين عن ك ّل يوم ،من أوسط ما يطعم أهله في يومه ،أكلة واحدة،
وهو ُم ّد من غالب قوت البلد ،وهو يساوي ( 675غرام ) .
صيام ،
ــ يُري ُد هللاُ يكُم اليُسر :تعليل لما قبله ،أي يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في ال ّ
وسائر ما يشرعه لكم من األحكام ،أن يكون دينكم يسرا تاما ً ال عسر فيه .
ــ على ما هداكُم :إليه من األحكام ال ّنافعة لكم ،بأن تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في
إصالح عباده ،وأنّه يربيهم بما يشاء من األحكام ،ويؤدّبهم بما يختار من التّكاليف (. )1
ــ ولعلَّكُم تشكرون :هللا على هذه النّعم كلّها ،وإعطاء ك ّل من العزيمة ّ
والرخصة حقّها .
صوم وقاية من المعاصي والوقوع في المحضور ؛ أل ّنه يربّي ال ّنفس وين ّمي فيها وفي ال ّ
الخشية من هللا وزيادة التّقوى ،لذا قال عليه الصالة والسالم ) الصّوم ُجنّة ) (. )3
الرواسب والتخميرات الضّارة ، ويقوي الص ّحة ،ويخلّص الجسد من ّصوم يجدد البنية ّ ،
وال ّ
ويقوي الذاكرة ...ويجمع ذلك كلّه قول النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم فيما رواه
ّ ويريح األعضاء ،
الطب عن أبي هريرة رضي هللا عنه (:صوموا تصحّوا ) (. )4 أبو نعيم في ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1اإلمام أحمد في مسنده ،رقم ، 23073 :قال شعيب األرناؤوط :صحيح لغيره ( ) 170/38ط الرسالة .
( ) 4قال الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه الطبراني في األوسط ،ورجاله ثقات () 179/3 ( ) 5070
( )5التفسير المنير للزحيلي ،ج ، 2ص . 132والحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي هللا عنه ،
رقم ، 1903ج ، 3ص . 26
صه باإلضافة إليه ،كما 1ـ للصوم فضل عظيم وثواب جسيم ،ويكفي في فضله ّ
أن هللا :خ ّ
جاء في الحديث القدسي الذي يخبر به النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم عن ربّه ":يقول هللا تبارك
وتعالى :كل عمل ابن آدم له إال الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " (. )1
صحيحين ( :يا معشرشيطان ؛ ولهذا ثبت في ال ّ صوم تزكية للبدن وتضييق لمسالك ال ّوفي ال ّ
صوم فإنّه له وجاء ) (. )2 ال ّ
شباب ،من استطاع منكم الباءة فليتزوج ،ومن لم يستطع فعليه بال ّ
2ـ يجوز للمريض والمسافر اإلفطار في رمضان ،ويجب عليهما القضاء في وقت آخر.
والمرض المبيح للفطر في رأي أكثر الفقهاء :هو الّذي يؤ ّدي إلى ضرر في ال ّنفس ،أو زيادة في
الرخصة فيضابط هو الّذي يتّفق مع حكمة ّ ّ
الظن .وهذا ال ّ العلّة .والعبرة في ذلك بما يغلب على
اآلية :وهي إرادة اليسر ودفع العسر .
يشق على المرء ويبلغ به وقيل :ش ّدة المرض ّ وعند اإلمام مالك رحمه هللا هو المرض الّذي
والزيادة فيه والمشقّة الفادحة .وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر ،إال ما خ ّ
صه ال ّدليل من ّ
صداع والح ّمى ،والمرض اليسير الّذي ال كلفة معه في ال ّ
صيام (. )4 ال ّ
الرباعية ،وقدره في رأي الجمهور صالة ّ سفر المبيح للفطر :فهو الّذي يبيح قصر ال ّ وأما ّ ال ّ
شافعي عن ابن عباس ست ّة عشر فرسخا ً أو ثمانية وأربعون مي ً
ال هاشمية ،ودليلهم ما رواه ال ّ
رضي هللا عنهما قال ":يا أهل م ّكة ،ال تقصروا في أدنى من أربعة برد من م ّكة إلى عسفان»
وق ّدروها بحوالي 89كم ،وق ّدرها الحنفيّة بـ 96كم ). (5
صوم ،فيباح لهما اإلفطار ،وعليهما القضاء يشق معه ال ّّ فالمسافر والمريض مرضا ً شديدا ً
الطويل فيهما مشقّة زائدة على حدود ّ
الطاقة سفر ّ ألن المرض وال ّ في أيّام أخر من العام ؛ ّ
البشريّة ،والمشقّة تجلب الت ّيسير ،كما قال ّ
ّللا تعالى ":يُر ُد هللاُ بِكُم اليُسر وال يُ ِري ُد بِكُم العُسر "
[البقرة . 185
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري عن أبي هريرة رضي هللا عنه ،رقم ، 5927 :ج ، 7ص . 164
( )2تفسير ابن كثير ،ج ، 1ص ، 497والحديث عن ابن مسعود رضي هللا عنه في البخاري ،رقم 1905 :
ج ، 3ص ، 26ومسلم رقم ، 1400 :ج ، 2ص . 1018
شيخ الهرم والمريض مرضا ً مزمنا ً ،والحامل صوم بمشقّة شديدة كال ّوالّذي يتح ّمل ال ّ
والمرضع إن خافتا على أوالدهما فقط ،عليه عند ال ّشافعي وأحمد القضاء و الفدية :وهي طعام
مسكين .فإن خافتا على أنفسهما ولو مع أوالدهما ،فعليهما القضاء فقط .
5ــ أما سكا ّن البالد القطبية -التي يتساوى فيها اللّيل والنّهار كلّ نصف عام ،أي يكون اللّيل
شمالي ،بينما يكون نهاراً في القطب الجنوبي ،فعليهم أن يق ّدروا فيها نصف سنة في القطب ال ّ
م ّدة تساوي شهر رمضان بحسب أقرب البالد المعتدلة إليهم ،أو بحسب م ّكة والمدينة ال ّلتين وقع
فيهما الت ّشريع (. )2
6ــ ذهب أكثر الفقهاء إلى أن اإلفطار رخصة ،فإن شاء صام ،وإن شاء أفطر ؛ ّ
ألن في
اآلية إضمارا تقديره :فمن كان منكم مريضا ً أو على سفر فأفطر ،فعليه ع ّدة من أيا ّم أخر.
أن حمزة األسلمي سأل النبي صلّى هللا وروى أبو داود في سننه عن عائشة رضي هللا عنها ّ :
سفر؟ فقال( :صم إن شئت ،وأفطر إن ّللا ،هل أصوم على ال ّ عليه وسلّم ،فقال :يا رسول ّ
ص حابة :ابن عباس ،وأبي سعيد الخدري ،وأنس بن شئت) ( . )3وقد ثبت عن جماعة من ال ّ
ي ص ّلى هللا عليه وسلّم :أنه صاممالك ،وجابر بن عبد هللا ،وأبي ال ّدرداء ،وسلمة ،عن النب ّ
ي صلّى هللا عليه وسلّم عام الفتح في رمضان ،ث ّم إنّه قال صحابة مع النب ّ سفر ،وصام ال ّ
في ال ّ
لهم( :إنكم قد دنوتم من عدوكم ،والفطر أقوى لكم ،فأفطروا ) (. )4
أن ا ّلصوم للمسافر أفضل لمن قوي عليه ،لقوله تعالى ":و أن وقرر أكثر األئمة ّ :7ـ ّ
أن صومكم أيّها المرضى والمسافرون والّذين يطيقونه خير لكم من تصُو ُموا خي ٌر لكُم " ( )5أي ّ
وقوة اإليمان ،ومراقبة هللا .وذهب أحمد واألوزاعي الفدية ،لما فيه من مجاهدة النّفس ّ
وجماعة إلى ّ
أن الفطر أفضل ،لقول هللا تعالى " :يُري ُد هللاُ بِكُم اليُسر ،وال يُ ِري ُد بِكُم العُس ِر " .
صومالحض على ال ّ ّ قال القرطبي في قوله تعالى " وأن تصُو ُموا خي ٌر لكُم " إنّه يقتضي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1الت ّفسير المنير ،للزحيلي ،ج ، 2ص . 133
( )4صحيح مسلم ،عن أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه ،رقم ، 1120 :ج ، 2ص . 789
سفر نفسه ليس بمعصية ,وإنّما وأما سفر العاصي فيجوز له اإلفطار عند الحنفية ؛ ألن ال ّ
المعصية ما يكون بعده أو يجاوره ,فال يؤثّر على رخصة القصر أو الفطر ؛ وألنّه قد يتوب إذا
تذّكر نعمة هللا عليه بالسماح له بالفطر والقصر وغيرهما .وقال الجمهور غير الحنفية :ال ت ُباح
سفر من القصر والجمع ،والفطر ونحوها ،لما في ا ّلرخصة من اإلعانة صة بال ّالرخص المخت ّّ
شرع نهى عن ذلك (. )3 على المحرم ،وال ّ
أن المريض أو المسافر واجبه األصلي . 10د ّل قوله تعالى " ف ِع ّدةٌ ِمن أيا َّ ٍم أُخر " على ّ
صوم ِ ،وير ّخص له في الفطر ،فإذا أفطر فليقض أياما ً مكان األيّام الّتي أفطر فيها ،وهذا ال ّ
ألن معنى اآلية :من كان منكم مريضا ً أو مسافراً فأفطر ،فعليه صيام أيام أخر، رأي الجمهور؛ ّ
بعد ما أفطر .وإذا صام أهل البلد تسعة وعشرين ،وفي البلد رجل مريض لم يصح ،فإنّه
يقضي تسعة وعشرين يوما (. )4
. 11ـ ويُستحبّ في رأي الجمهور -وال يجب – تتابع أيّام القضاء ؛ ألن آية " ف ِع َّدةٌ ِمن أيّ ٍام
متفرقة فقد صام عدّة من أيام أخر، ّ تخص متفرقة من متتابعة ،وإذا أتى بها ّ أُخر " مطلقة ،لم
صوم قال ابن العربي " :قوله تعالى ( :ف ِع ّدةٌ ِمن أيّ ٍام أُخر ﴾ البقرة 184:يعطي بظاهره قضاء ال ّ
سلف ،منهم أبو هريرة رضي هللا عنه وإ نّما وجب متفرقا ً ،وقد روي ذلك عن جماعة من ال ّ
شهر لكونه معينا ً ،وقد عدم الت ّعيين في القضاء فجاز بك ّل حال " (. )5الت ّتابع في ال ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1تفسير القرطبي ،ج ، 2ص . 290
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1التفسير المنير ،للزحيلي ،ج ، 2ص . 139
المحاضرة الثّانية
آية الدّين
قال هللا تعالى :
ب ِبالعد ِل ى فاكتُبُو ُه وليكتُب بينكُم كا ِت ٌ " يا أ ُّيها ا ّلذِين آمنُوا ِإذا تداينتُم ِبدي ٍن ِإلى أج ٍل ُمس ّم ً
ق هللا ربَّهُ وال ب أن يّكتُب كما علَّمهُا هللاُ فليكتُب وليُم ِل ِل الَّذِي علي ِه الحقُّ وليت َّ ِ وال يأب كاتِ ٌ
يبخس منٍهُ شيئا ف ِإن كان الَّذي علي ِه الحقُّ س ِفيها ً أو ض ِعيفا ً أو ال يست ِطي ُع أن يُ ِم َّل هُو فّليُم ِلل
و ِليُّهُ ِبالعد ِل واستش ِهدُوا ش ِهيدي ِن ِمن ِرجا ِلكُم ف ِإن لم يكُونا رجُلي ِن فر ُج ٌل وامرأتا ِن ِم َّمن
ب الشُّهدا ُء إِذا ما ُدعُوا ترضُون ِمن الشُّهدا ِء أن ت ِض َّل إِحداهُما فتُذ ِ ّكر إِحداهُما األُخرى وال يأ ّ
هللا وأقو ُم للشَّهاد ِة وأدنى أالَّ وال تسأ ُموا أن تكتُبُو ُه ص ِغيرا ً أو كبِيرا ً إِلى أج ِل ِه ذ ِلكُم أقسطُ ِعند ِ
ِيرونها بينكُم فليس عليكُم جُنا ً ٌح أالَّ تكتُبُوها وأش ِهدُوا ِإذا ترتابُوا ِإالَّ أن تكُون تِجار ًة حا ِضر ًة تًد ُ
وهللا بِكُ ِ ّل
ُ ق بِكُم واتّقُوا هللا ويُع ِلّ ُمكُم هللاُ ب وال ش ِهي ٌد و ِإن تفعلُوا ف ِإنّهُ فُسُو ٌ
تبايعتُم وال يُضا َّر كاتِ ٌ
شيءٍ ع ِلي ٌم " البقرة 282 /
أن آخر ما نزل من القرآن آية ال ّد ْين ,قال بن جرير عن سعيد بن المسيّب سرون ّ ذكر المف ّ
أن أحدث القرآن عهدا ً بالعرش آية ال ّد ْي ن ,وأخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب أنه بلغه ّ
قال آخر القرآن عهدا ً بالعرش آية َّ
الربا وأية الدّين .
قوله تعالى " :إذّ تداينتُم ِبدين ٍ " :أي إذّ داين بعضكم بعضا ّ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أحكام القرآن ،البن العربي ،ج ، 1ص . 327
وال ّد ْين هو كلّ ما ثبت في الذّمة من ثمن بيع ,أو أجرة ،أو صداق ,أو قرض ,أو غير ذالك.
وحقيقته " :ك ّل أحد العوضين فيها نقدًا واآلخر في الذمة نسيئة َّ ,
فإن العين عند العرب ما ّ
كان
كان غائبًا ...و المداينة مفاعلة منه ؛ َّ
ألن أحدهما يرضاه اآلخر ويلتزمه()1 حاضرا ,وال ّديْن ما َّ
ً
قوله تعالى ِ " :إلى أج ٍل ُمس ّم ًى " :أي إلى مدة محدودة " ,فاكتُبُو ُه " :أي اكتبوا ال َّديْن
المؤ ّجل إلى أجله ؛ و الفاء هنا رابطة لجواب ال ّشرط في (إذ) .استيثاقا لل ِ ّديْن ودفعا للنزاع .
شهود أو أحد ّ
الطرفين ذوي العالقة بدون توثيق الزمن مدعاة لل ّنسيان ,وموت ال ّ
ألن مرور ّ
للحق مدعاة لإلنكار ،وأكل أموال ال ّناس بالباطل .
ّ
قوله تعالى " :و ليكتُب " الالّم لألمر ؛ و سُ ّكنت لوقوعها بعد الواو ؛ وهي تسكن إذَّا
طع فلينظُر " سورةو قعت بعد الواو ,كما هنا ؛ وبعد ثم والفاء كما في قوله تعالى " :ث ُ َّم ِليق َّ
الحج ,بخالف الم الت ّعليل ؛ فإنّها مكسورة بك ِّل حال .
أي وليكتب لكم كاتب عادل مأمون ال يجوز على أحد الطرفين ()2
قوله تعالى " :وال يأب كاتب أن يكتب " :أي ال يمتنع كاتب إذا طُلب منه ذلك .
قوله تعالى " :كما علمه هللا " يحتمل أن تكون الكاف للتّشبيه ؛ فالمعنى حينئذ :أن يكتب
كتابة حسب عمله ,بحيث تكون مستوفية لما ينبغي أن تكون عليه ,ويحتمل أن تكون الكاف
للت ّعليل ؛ المعنى :أنّه ل ّما علمه هللا فليشكر نعمته عليه ,وال يمتنع من الكتابة .
قوله تعالى " :فليكتب " قال بعض العلماء :أنّها من التّوكيد؛ ّ
ألن النّهي عن إباء الكتابة
يستلزم األمر بالكتابة ؛ فهي توكيد معنوي ؛ وقيل :بل هي تأسيس تفيد األمر بالمبادرة إلى
الكتابة .
قوله تعالى " :وليملل الذّي عليه الحقُّ " أي يملي ؛ وهما لغتان فصيحتان ؛ فـ (اإلمالل) و
(اإلمالء) بمعنى واحد ؛فتقول ( :أمليت عليه) و (أمللت عليه) لغة عربية فصحى ,وهي في
القرآن .
أن الّذي
قوله تعالى " :وليتّق هللا ربَّهُ وال يبخس منه شيئا ً " :ل ّما أمر هللا – عز وجل – ّ
الحق دون غيره وجه إليه أمرا ً ونهيا ً ؛ األمر " :وليتّق هللا ربّه " يعني
ّ يملي هو الّذي عليه
صدق ؛ والنّهي (وال يبخس منه شيئا) أي ال ينقص ال في يت ّخذ وقاية من عذاب هللا ,فيقول ال ّ
كميّته ،وال في كيفيته ،وال نوعه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1مناهل العرفان ،للزرقاني ،ج ، 1ص . 70
قوله تعالى " " :فّليُم ِلل " :الالّم هنا الم األمر ؛ وسكنت لوقوعها بعد الفاء ؛ " ّو ِليُّهُ " أي الّذي
يتولّى شؤونه من أب ,أو جد ,أو أخ ,أو غيرهم .
قوله تعالى " فليُم ِلل " يعني إمال ًء بالعدل ؛ بحيث ال يجور على من له ال ّ
حق لمحاباة قريبه ,
ّ
الحق ؛ بل يجب أن يكون إمالؤه بالعدل ؛ و " العدل " وال يجور على قريبه خوفًا من صاحب
صدق المطابق للواقع ؛ فال يزيد وال ينقص . هنا هو ال ّ
قوله تعالى " واستش ِهدُوا ش ِهيدِين ِمن ِرجا ِلكُم " أي اطلبوا شهيدين من رجالكم و لقوله " :
من رجالكم " الخطاب للمؤمنين .
قوله تعالى " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " أي إن لم يكن ال ّشاهدان رجلين فرجل
الرجل والمرأتين .وامرأتان ؛ وهذا يد ّل على التّخيير مع ترجيح الرجلين على ّ
شرط في قوله تعالى " فإن لم يكُونا " الفاءوقوله تعالى " فرج ٌل وامرأتان " الجملة جواب ال ّ
هنا رابطة للجواب ؛ و" رجل " خبر مبتدأ محذوف ؛ والتّقدير فالشاهد رجل ،وامرأتان .
الرجل والمرأة وقوله تعالى " فرج ٌل " أي فذكر بالغ " ،وامرأتان " أي أنثيان بالغتان ؛ ّ
ألن ّ
إنّما يطلقان على البالغ .
الرجل والمرأتان مرضيين عند ممن ترضون من الشّهداء " بحيث يكون ّ قوله تعالى " ّ
الناس ؛ ألنّه قد يُرضى شخص عند شخص وال يُرضى عند آخر .فالعبرة بالرضى عند عموم
النّاس ال برضى المشهود له ؛ ألنّه قد يرضى بمن ليس بم ْر ِ
ضى .والمفقود م ّمن يُرضى دينهم
ّ
ويطمئن إلى عدالتهم . وأمانتهم
قوله تعالى " أن تض ّل إحداهما فتذكّر إحداهما األخرى " من التّذكير ؛ وهو تنبيه اإلنسان
النّاسي على ما نسي .
قوله تعالى " وال يأب الشّهداء إذا ما دُعوا " أي ال يمتنع ال ّ
شهداء إذا ما دعوا لتحمل
ال ّ
شهادة ،أو أدائها .
قوله تعالى " وال تسأموا أن تكتبوه صغيرا ً أو كبيرا ً إلى أجله " أي ال تملوا وال تكسلوا وال
تضجروا أن تكتبوا ال ّديْن صغيرا ً كان أو كبيرا ً إلى أجله المس ّمى .
قوله تعالى " ذلكم " المشار إليه كلّ ما سبق من األحكام ؛ " أقسط عند هللا " أي أقوم ،
وأعدل ؛ " وأقوم للشهادة " أي أقرب إلى إقامتها ؛ " وأدنى أالّ ترتابوا " أي أقرب إلى انتفاء
الريبة عندكم .
قوله تعالى " إال أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم " فيها قراءتان ؛ إحداهما بنصب
األول اسم ( تكون ) مستتر :إالّ أن تكون(تجارةً ) و (حاضرةً ) والثانية برفعهما ؛ فعلى ّ
صفقة تجارة حاضرة :وجملة ( :تُديرونها ) صفة ثانية (تجارةٌ) اسم ( تكون ) ؛ ( حاضرةً ) ال ّ
صفة ،وجملة ( :تُديرونها ) خبر ( تكون ) .
ح " ففي هذه الحال ليس عليكم إثم في عدم كتابتها ؛ قوله تعالى ":فليس عليكُم جُنا ٌ
والضّمير في قوله تعالى ( تكتبونها ) يعود على التّجارة ؛ فهذه التّجارة المتداولة بين النّاس ليس
ألن الخطأ فيها ،والنّسيان بعيد ،إذ إنّها حاضرة تدار ، على اإلنسان ُجناح إذا لم يكتبها ؛ ّ
ويتعاطاها النّاس بخالف المؤ ّجلة .
قوله تعالى ":وأشهدُوا إذا تبايعتم " أي باع بعضكم على بعض .
قوله تعالى ":وإن تفعلوا " أي يضار الكاتب ،أو الشهيد ــ على الوجهين " ف ِإ َّن ُه " أي
ق بِكُم " أي الخروج بكم من طاعة هللا إلى معصيته .
سو ٌ
الفعل ــ وهو المضارة ؛ " ف ُ
قوله تعالى " :واتقُوا هللا " أي اتّخذوا وقاية من عذاب هللا ؛ وذالك بفعل أوامره ،واجتناب
نواهيه .
قوله تعالى ":ويُعلّ ُمكُم هللاُ " الواو هنا لالستئناف ؛ وال يص ّح أن تكون معطوفة على (اتّقوا
ألن تعليم هللا لنا حاصل مع التّقوى وعدمها ،وإن كان العلم يزداد بتقوى هللا ،لكن هذا هللا ) ؛ ّ
يؤخذ من أدلّة أخرى .
/1استدل بها بعض المالكية على جواز التّأجيل في القروض ،على ما قال مالك ؛ إذ لم يفصل
شافعية وقالوا :اآلية ليس فيها جواز بين القرض وسائر العقود في المداينات .وخالف في ذلك ال ّ
التأجيل في سائر ال ّديون ،وإنّما فيها األمر باإلشهاد إذا كان ديْنا ً مؤ ّج ً
ال ،أ ّما جواز الت ّأجيل في
ال ّد ْين وامتناعه فيُعلم من دالئل أخرى (. )1
/2يستفاد من اآلية مشروعية تأجيل ال ّديون ،وحقيقة ال ّد ْين :عبارة عن ك ّل معاملة كان أح ُد
العوضين فيها نقدا ً ،واآلخر في الذ ّمة نسيئة .وتشمل اآلية كالً من بيع الع ْين بال ّد ْين ،كبيع
كتاب حاضر بثمن مؤجل ،وبيع ال ّديْن بالع ْين :وهو ال ّ
سلم .أ ّما بيع الع ْين بالع ْين كبيع سلعة
حاضرة بنقد حاضر فهو جائز ،وأ ّما بيع ال ّد ْين بال ّديْن كبيع صاع من القمح في ذ ّمة إنسان
شعير في ذ ّمة إنسان آخر ،فهو باطل للنّهي عنه (. )2 بصاع ْين من ال ّ
سلم من البيوع الجائزة باالتفاق ،وهو مستثنى من نهيه عليه /3وأجمع أهل العلم على ّ
أن ال ّ
سالم عن بيع ما ليس عندك ،أرخص فيه ال ّنبي صلّى هللا عليه وسلّم ،لحاجة ال ّناس صالة وال ّ
ال ّ
إليه ،وقد س ّماه الفقهاء بيع المحاويج أو بيع المفاليس .
سلم إلى األجل المجهول غير جائز ،وأك ّدت ودلّ قوله تعالى ﴿ :إلى أجل مس ًّمى ﴾ على ّ
أن ال ّ
السنّة ذلك ،فقال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم " :من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن
معلوم إلى أجل معلوم " (. )3
/4واألمر في قوله تعالى ﴿ فاكتُبُوه ﴾ مصروف عن ظاهره من الوجوب إلى النّدب ،أو
ص ارفة منصوص عليها في اآلية ذاتها ،وهي اإلرشاد إلى ما فيه مصلحة دنيوية ،والقرينة ال ّ
ضكُم بعضا ً فليُؤ ِ ّد الَّذِي اؤت ُ ِمن أمانتهُ ﴾
قوله تعالى ﴿ ف ِإن أ ِمن بع ُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1تفسير القرطبي ،ج ، 3ص / 377أحكام القرآن ،إللكيا الهراسي الشافعي ،ج ، 1ص 239
ي عن /5التزام العدل :طالبت اآلية بالتزام العدل في الكتابة ،وفي اإلمالء ،وفي إمالء الول ّ
ضعيف ،وهذا واضح من قوله تعالى ":وليكتُب بينكُم كاتِ ٌ
ب بِالعد ِل " وقوله تعالى": سفيه وال ّ ال ّ
كما علَّمهُ هللاُ " وقوله تعالى ":وليُم ِل ِل الَّذِي علي ِه الحقُّ وليت َّ ِقي هللا ربَّهُ " وقوله تعالى ":
فليُم ِلل و ِليُّهُ ِبالعد ِل "
/8ود ّل قوله تعالى ":وال يأب الشّهدا ُء ِإذا ما ُدعُوا" على منع اإلباء عن تح ّمل ال ّ
شهادة وأدائها
وإثباتها عند اللّزوم أمام القاضي .
شهادة فرض ،وإن لم ت ُطلب من ال ّشاهد ،إذا خاف على أن أداء ال ّ
صحيح لدى المالكية ّوال ّ
الحق ضياعه أو فواته ،سواء في حقوق هللا تعالى ،وحقوق اآلدميين ،لقوله تعالى ":وأقِي ُمواّ
هلل " الطالق. 2/
الشَّهادة ِ
أن أداء ال ّ
شهادة فرض كفاية ،فإذا أ ّداها اثنان واجتزأ بهما الحاكم (اكتفى واتفق الجميع على ّ
شهادة على اآلخر . بهما القاضي ) وسقط الفرض عن الباقين ،وإن لم يجتزئ بهما تعيّنت ال ّ
وفي االمتناع عن ذلك إضاعة للحقوق ،وإذا كان حضور الكاتب وال ّ
شهيد فرض كفاية ،
شهادة فرضا ً معينا ً عليه وكذلك أداؤها ؛ ّ
لكن فإنّه قد يتعيّن إذا لم يوجد غيره ،فيكون تح ّمل ال ّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أحكام القرآن ،إللكيا الهراسي الشافعي ،ج ، 1ص . 239/238
( )2أخرجه البخاري عن عمران بن حصين ،كتاب الشهادات ،باب ال يشهد على شهادة جور إذا أشهد ،رقم
( (2651ج ، 3ص ، 171مسلم ،كتاب فضائل الصّحابة ،باب فضل الصحابة ث ّم الذين يلونهم ،رقم
/2533ج ، 4ص . 1962
شهادة إذا احتاجت إلى األجرة ،إ ّما لبعد المكان الّذي يجب أداؤهاللعلماء كالما ً في كلفة أداء ال ّ
يتضرر به ال ّشاهد في تعطيل مصالحه ،أو توقيف عمله ، ّ فيه ،وإ ّما لطول مكث االنتظار الّذي
أو معيشة عياله ،فأجازوا له أخذ مكافأة على أداء ما تح ّمله من ال ّ
شهادة في هذه األحوال .
/9الكتابة مندوبة في المبايعات وال ّديون المؤ ّجلة ،سواء أكان المؤ ّجل صغيرا ً أم كبيرا ً .وال
تطلب الكتابة في الت ّجارة الحاضرة الّتي يت ّم فيها التّبادل في الحال ،ويحدث التقابض في البدلين
عقب العقد ،إذ يقلّ في العادة خوف الت ّنازع ،وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد ،وإذا باع بنسيئة
كتب .
/10ودل قوله تعالى ":وأش ِهدُوا إِذا تبايعتُم " على طلب اإلشهاد على صغير ذلك وكبيره ،
وهل اإلشهاد على البيع على الوجوب أو النّدب ؟ هو على النّ دب واإلرشاد ،ال على الحتم
صحيح ّ
أن ّ
والظاهر ال ّ شافعي وأهل الرأي ،قال ابن العربي ": واإللزام ،وهذا قول مالك وال ّ
اإلشهاد ليس واجبا ً ،وإنّما األمر به أمر إرشاد للتوث ّق والمصلحة " (. )1
ّ
بالحق والعدل ،فال يكتب الكاتب ما لم يُ ْمل عليه ،وال /11أداء ال ّ
شهادة ،وكتابة الكاتب يكونان
بالزيادة أو النّقصان ،شاهد يعصيان ّ يزيد ال ّشاهد في شهادته وال ينقص منها ،فالكاتب وال ّ
ضرر بهما ،صواب ،فال يجوز إلحاق ال ّ وكذلك إذايتهما من الخصوم معصية وخروج عن ال ّ
وال إضرارهما المشهود له أو عليه ،إذ ال ضر وال ضرار في اإلسالم ) . (2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أحكام القرآن ،البن العربي ،ج ، 1ص . 341
ف عنهُم
ب النفضُّوا ِمن حو ِلك فاع ُ هللا ِلنت لهُم ولو كُنت فظا ً غ ِليظ القل ِ
" ِفيما رحم ٍة ِمن ِ
واستغ ِفر لهُم وشا ِورهُم ِفي األم ِر ف ِإذا عزمت فتوكّل على ِ
هللا ِإنَّ هللا يُ ِح ُّ
ب ال ُمتو ِ ّك ِلين" آل
عمران . 59 /
" استجابُوا ِلربِّ ِهم وأقا ُموا الصَّالة وأم ُرهُم شُورى بينهُم و ِم َّما رزقنِاهُم يُن ِفقُون "
الشورى. 38/
الرسولجاءت هذه اآلية في أعقاب غزوة أحد ,بعد ما حدث من مخالفة الطوائف ألمر ّ
صلّى هللا عليه وسلّم من مؤمنين ومنافقين ,وما حكي من عفو هللا عنهم فيما صنعوا .وكان في
تلك الواقعة المحكية باآليات ال ّسابقة مظاهر كثيرة من لين النّبي صلّى هللا عليه وسلّم للمسلمين,
حيث استشارهم في الخروج ,وحيث لم يع ّنفهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم في غزوة
الرسول صلّى هللا عليه وسلّم إياهم ,أالن هللا
أحد ,ول ّما كان عفو هللا عنهم يعرف في معاملة ّ
الرسول صلّى هللا عليه وسلّم تحقيقا ً لرحمته عفوه (. )1
لهم ّ
تحليل األلفاظ :
َّللا ِلنت لهُم ) أي فبرحمة ,و(ما) مزيدة للتّأكيد والتّنبيه ,والدّاللة على
( ف ِبما رحم ٍة ِمن َّ ِ
للرفق بهم ,حتّى اغتم أن لينه لهم ما كان إالّ برحمة من هللا ,وهو ربطه على جأشه وتوفيقه ّ ّ
لهم بعد أن خالفوه .
( ولو كُنت ف ًّ
ظا ) سيّئ الخلق جافيا .
قال ّ
الز ّجاج :والفظ :الغليظ الجانب ,السيئ الخلق (. )2
( غ ِليظُ القل ِ
ب ) قاسيه .
والفظاظة سوء الكالم وغلظته ؛ غلظة القلب قساوته ,أي :لو كنت سيّئ الكالم قاسي القلب
عليهم النفضوا عنك وتركوك ,ولكن هللا جمعهم عليك ,وأالن جانبك لهم تأليفا ً لقلوبهم ,كما
قال عبد هللا بن عمرو بن العاص ( :إنه رأى صفة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم في الكتب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1الت ّحرير والت ّنوير ،البن عاشور ،ج ، 4ص . 144
( )2زاد المسير في علم التفسير ،البن الجوزي ،ج ، 1ص . 339
المتق ّدمة :أنّه ليس لفظ ,وال س ّخاب في األسواق ,وال يجزي بالسيئة السيئة ,ولكن يعفو
ويصفح ) (. )1
يختص بك .
ّ ف عنهُم ) فيما
(فاع ُ
( واستغ ِفر لهُم ) فيما هلل .
( وشا ِور ُهم ِفي األم ِر ) أي في أمر الحرب إذ الكالم فيه ,أو فيما يص ّح أن يُشاور فيه ,
استظهارا ً برأيهم وتطييبا ً لنفوسهم ،وتمهيدا ً لسنّة المشاورة لأل ّمة .
والمشاورة هي االجتماع على األمر ليستشير ك ّل واحد منهم صاحبه ،ويستخرج ما
عنده(.)2
( ف ِإذا عزمت ) العزم عقد القلب على فعل األمور ( , )3وقال ابن عاشور :العزم هو
الرأي على الفعل (. )4والمعنى :فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى .قال ابن تصميم ّ
الجوزي :فإذا عزمت على فعل شيء ,فتو ّكل على هللا ,ال على المشاورة (. )5
( فتوكَّل على هللاِ ) في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك وال تشاور فيه أحدا .
البالغة :
أمر هللا تعالى نبيه ص ّلى هللا عليه وس ّلم بهذه األوامر الّتي هي بتدريج بليغ ,وذلك أنّه أمره
بأن يعفو عنهم في ما له عليهم من تبعات وحقوق ,فل ّما صاروا في هذه ال ّدرجة أمره أن يستغفر
فيما هلل عليه من تبعة أيضا ,فإذا صاروا في هذه ال ّدرجة صاروا أهالً لالستشارة في األمور(.)6
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1تفسير ابن كثير ،ج ، 2ص / 148والحديث في صحيح البخاري ،رقم . 4838 :
( )2أحكام القرآن ،البن العربي ،ج ، 1ص ، 391ط دار الكتب العلمية ،سنة 2003م .
( )4الت ّحرير والت ّنوير ،البن عاشور ،ج ، 4ص . 144
( )5زاد المسير في علم التفسير ،البن الجوزي ،ج ، 1ص . 341
حذف متعلق (عزمت ) على المعروف من بالغة القرآن وإيجازه ؛ ألنه د ّل عليه التّرفيع
في األمر " وتقديره :فإذا عزمت على األمر بعدما تبين لك عن قوله تعالى ":شاورهم ً
سداد فتو ّكل على هللا (. )2
بالشورى وجه ال ّ
فقه األحكام:
/1اختلف العلماء في مدلول قوله ( :وشاور ُهم ) هل هو للوجوب أو للنّدب ،وهل هو
بالرسول صلّى هللا عليه وسلّم أو عام له ولوالة أمور األ ّمة كلهم ؟
خاص ّ
فذهب المالكيّة إلى الوجوب و العموم ،وهذا مذهب المالكيّة ،وذهبوا إلى العموم كما ذهبوا
الة مشاورة العلماء فيما ال يعلمون ،وفيماإلى الوجوب ،قال ابن خويز منداد :واجب على الو ّ
أشكل عليهم من أمور ال ّدين ،وجوه الجيش فيما يتع ّلق بالحرب ،ووجوه النّاس فيما يتعلّق
بالمصالح ،ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلّق بمصالح البالد وعمارتها .وكان يقال:
ما ندم من استشار ،وكان يقال :من أعجب برأيه ض ّل "( . )3وقال ابن عطية " :والشورى من
شريعة وعزائم األحكام ،ومن ال يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب ،هذا م ّما ال قواعد ال ّ
خالف فيه " (. )4
ومحمل األمر عند المالكية للوجوب ،واألصل عندهم عدم الخصوصية في التشريع إال
لدليل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1التحرير والت ّنوير ،البن عاشور ،ج ، 4ص . 151
()3تفسيرالقرطبي،ج،4ص250
( )4تفسير ابن عطية ،المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ،ج ، 1ص . 534
صاص قال في كتابه أحكام القرآن ولم ينسب العلماء للحنفية قوالً في هذا األمر إالّ ّ
أن الج ّ
عند قوله تعالى " :وأمرهم شورى بينهم " هذا يدلّ على جاللة موقع المشورة لذكرها مع
صاص يد ّل على ّ
أن صالة ،ويد ّل على أنّنا مأمورون بها .ومجموع كالم الج ّاإليمان ،وإقامة ال ّ
مذهب أبي حنيفة وجوبها ) . (1
شورى في اإلسالم الوجوب ،وهي ملزمة للحاكم ،فعليه أن يستشير أهل وعليه فحكم ال ّ
شورى ويأخذ بما استبان له من آرائهم ،ويحرم عليه أن يستب ّد ّ
بالرأي دونهم . ال ّ
/ 2مجال الشورى :وقوله تعالى ":وشاورهم في األمر " يد ّل على جواز االجتهاد في األمور
فإن هللا أذن لرسوله صلّى هللا عليه وسلّم في ذلك ).)2 ّ
بالظنون مع إمكان الوحي ّ ، واألخذ
الرسول صلّى هللا عليه وسلّم في مه ّمات أمور شورى مأمور بها ّ أن ال ّ
وقد دلت اآلية على ّ
ألن أمر الت ّشريع إن كان فيه
األ ّمة ومصالحها في الحرب وغيره ،وذلك في غير أمر الت ّشريع ؛ ّ
شورى ؛ ألن شأن االجتهاد أن وحي فال محيد عنه ،وإن لم يكن فيه وحي ،فال تدخل فيه ال ّ
يستند إلى األدلّة ال لآلراء ،والمجتهد ال يستشير غيره إالّ عند القضاء باجتهاده .فتعيّن ّ
أن
المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون األ ّمة ومصالحها ،وقد أمر هللا تعالى بها هنا
ومدحها في ذكر األنصار في قوله تعالى ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ الشورى ، 38/واشترطها
تراض منهما وتشاور فال جناح عليهما ﴾ البقرة: ٍ في أمر العائلة فقال ﴿ فإن أرادا فصاالً عن
فشرع بهاته اآليات المشاورة في مراتب المصالح كلّها :وهي مصالح العائلة ،ومصالح ّ . 233
القبيلة أو البلد ،ومصالح األ ّمة (. )3
ألن األحكام إن كانت بوحي شرعية ؛ ّ قال ابن عاشور" :والظاهر أنّها ال تكون في األحكام ال ّ
ي ص ّلى هللا عليه وسلّم في األمور
فظاهر ،وإن كانت اجتهادية -بناء على جواز االجتهاد للنب ّ
شرعية -فاالجتهاد إنما يستند لألدلّة ال لآلراء ...وقد استشار النّبي صلّى هللا عليه وسلّم
ال ّ
أصحابه في الخروج لبدر ،وفي الخروج إلى أحد ،وفي شأن األسرى يوم بدر ،واستشار عموم
الجيش في ر ّد سبي هوازن " (. )4
وقد أشار الحباب بن المنذر رضي هللا عنه يوم بدر على النّبي صلّى هللا عليه وس ّلم بالنّزول
سعدان :سعد بن معاذ ،وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك على الماء فقبل ،وأشار عليه ال ّ
صحيفة في أشياء من مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا ؛ فقبل منهم وخرق ال ّ
نحو هذا من أمور ال ّدنيا (. )5
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1التحرير والتنوير ،البن عاشور ج 4ص / 148 150أحكام القرآن للجصاص ج 3ص . 510
ي
صحابة في أمر الخليفة بعد وفاة النب ّ وقد استشار أبو بكر في قتال أهل الر ّدة ،وتشاور ال ّ
صلّى هللا عليه وسلّم ،وجعل عمر رضي هللا عنه األمر شورى بعده في ستة عيّنهم ،وجعل
شورى لخمسين من األنصار ،وكان عمر يكتب لع ّماله يأمرهم بالت ّشاور. )1(.. مراقبة ال ّ
سرون في المقصد من أمر هللا نبيّه بمشاورة أصحابه مع / 3المقصد من الشورى :ذكر المف ّ
الرأي ،تا ّم الت ّدبير ،مستغنيا بالوحي ،ذكروا أقواالً متكاملة في ال ّداللة على مقاصد
كونه كامل ّ
ال ّ
شورى :
أن المشاور إذا لم ينجح أمره ،علم أن امتناع ال ّن جاح محض قدر ،فلم /4ومن فوائد المشاورة ّ
صواب في قول غيره ،فيعلم عجز نفسه عن يلم نفسه ،ومنها أنه قد يعزم على أمر ،فيتبيّن له ال ّ
صواب بمثل المشاورة (. )2اإلحاطة بفنون المصالح ...قال بعض الحكماء :ما استُنبط ال ّ
صواب ،وما
قال ابن العربي " :الشورى ألفة للجماعة ،ومسبار للعقول ،وسبب إلى ال ّ
تشاور قوم إالّ هدوا .وقد قال حكيم :
أن هللا تعالى مدح المشاور في األمور ،ومدح القوم الّذين يمتثلون ذلك،
/ 5ومن فضل ال ّشورى ّ
ي صلّى هللا عليه وسلّم يشاور أصحابه في األمور المتع ّلقة بمصالح الحروب ،وذلك وقد كان النب ّ
في اآلثار كثير ،ولم يشاورهم في األحكام ؛ ألنّها منزلة من عند هللا على جميع األقسام :من
الفرض ،والنّدب ،والمكروه ،والمباح ،والحرام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1زاد المسير في علم التفسير ،البن الجوزي ،ج ، 1ص . 340
فاستقر رأي أبي بكر على القتال .وتشاوروا في الج ّد وميراثه ،
ّ وتشاوروا في أمر الردّة ،
وفي ح ّد الخمر وعدده على الوجوه المذكورة في كتب الفقه (. )1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أحكام القرآن البن العربي ،ج ، 4ص . 92
سوا وتُس ِّل ُموا على أه ِلها ذ ِلكُم" يا أ ُّيها ا َّلذِين آمنُوا ال تد ُخلُوا بُيُوتا ً غير بُيُ ِتكُم حتَّى تّستأ ِن ُ
خي ٌر لكُم لعلّكُم تذك َُّرون ف ِإن لَّم ت ِجدُوا فِها أحدًا ّفال تد ُخلُوها حتَّى يُؤذن لكُم و ِإن قِيل لكُم اِرجعُوا
ح أن تد ِخلُوا بُيُوت ًا غير مسكُون ٍة فار ِجعُوا هُو أزكى لكُم وهللاُ بِما تعملُون ع ِلي ٌم لَّيس عليكُم جُنا ٌ
ِفيها متاعٌ لكُم وهللاُ يعل ُم ما تبدُون وما تكت ُ ُمون " النور 27 :ــ 28ــ . 29
صص هللا سبحانه وتعالى النَّاس بالمنازل ,وسترهم فيها عن قال ابن العربي ( :خ ّ
ّ
األبصار ,وملكهم االستمتاع بها على االنفراد ,وحجز على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من
خارج أو يلجوها بغير إذن أربابها ؛ لئال يهتكوا أ ستارهم ,و يبلوا في أخبارهم .وتحقيق ذالك
طلع رجل من حجرة في حجر النبي ــ صلى صحاح عن سهل بن سعيد قال " :أ ّ ما روي في ال ّ
هللا عليه و سلم ــ ومع النّبي مدرى يحك بها رأسه ,فقال :لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في
عينك ,إنّما ُجعل االستئذان من أجل البصر" .ومن حديث أنس فيها " :فقام النَّبي ــ صلى هللاُ
ص ( , )1فكأنّي ِ أنظُ ُر إلي ِه يختِ ُل َّ
الرجُل ِليطعنهُ " ) (. )2 علي ِه وسلّم ــ إِلي ِه ِب ِمشق ٍ
أن امرأة أتت ال ّنبي ص ّلى هللا عليه وسلم ،فقالت يا رسول هللا :وإنّي أكون في أ -/ما روي ّ
بيتي على الحالة الّتي ال أحبّ أن يراني عليها أحد وال والد وال ولد فيأتيني آت فيدخل عل ّ
ي
فكيف أصنع ؟ فنزلت اآلية الكريمة " :يا أيُها الذِّين آمنُوا ال تد ُخلُوا بُيُت ًا غير بُيُتِكُم . )3( " ....
ب /وروى ابن حاتم عن ( مقاتل ) أ ّنه ل ّما نزل قوله تعالى ":يا أ ّيها الّذين آمنُوا ال
تد ُخلُوا "...قال أبو بكر رضي هللا عنه :يا رسول هللا :فكيف بت ّجار قريش الّذين يختلفون من
الطريق ،فكيف يستأذنون شام ،وبيت المقدس ،ولهم بيوت معلومة على ّ م ّكة ،والمدينة ،وال ّ
ح أنويُسلّمون وليس فيها سكاّن ؟ فر ّخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى ":لَّيس عليكُم جُنا ٌ
تد ُخلوا بُيُتا ً غير مسكون ٍة . )4( " ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سابقة عن ( حادثة اإلفك ) الّتي اتّهمت فيها أم المؤمنين عائشة رضي وقد تحدّثت اآليات ال ّ
هللا عنها تلك المرأة العفيفة الطاهرة ا ّلتي ّ
برأها القرآن م ّما نسبها إليه أهل النّفاق والبهتان ،ولم
ال أنّها بقيت مع صفوان فيما يشبه الخلوة ،لذلك نهى هللا يكن ألصحاب اإلفك متكأ ً في رميها إ ّ
سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتّى ال يؤدّي ذلك إلى القدح في أعراض البرآء
شر الخطير (. )1 األطهار ،ويكون المجتمع في منجاة عن ذلك ال ّ
تستأنسوا :ولها في اللغة ثالث معان :وهي االستئذان ــ ضد االستيحاش ــ االستعالم .
األول :قال الز ّجاج :بمعنى تستأذنوا ،وقد نقل ّ
أن ابن عباس كان يقرأها كذلك ويقول أخطأ ّ
الكاتب .
شيء إذا أبصره ظاهرا ً مكشوفا ً ،الثّالث :وقال بعضهم :االستئناس هو االستعالم من آنس ال ّ
ومنه قوله تعالى ":إنّي آنست نارا ً " طه ، 10 /أي أبصرت نارا ً .ومعنى اآلية :حتى
تستعملوا أيريد أهلها أن تدخلوا أم ال ؟ أو حتى تعلموا أفيها من تستأذنون عليه أم ال ؛ قاله ابن
قتيبة (. )2
الطبري :والصواب عندي أن االستئناس استفعال من األنس ،وهو أن يستأذن أهل قال ّ
البيت في الدّخول عليهم ،ويؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم ،ويأنسوا إلى استئذانه (. )3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سابق ،ص . 129
( )1المصدر ال ّ
( )2ابن العربي ،أحكام القرآن ،ج ، 3ص / 369 ، 368والصابوني ،روائع البيان ،ج ، 2ص . 126
( )3أحكام القرآن ،ج ، 3ص 370ـ / 369روائع البيان ،ج ، 2ص 126ـ . 127
سالم عليكم ،والمراد باألهل في اآلية السكان الّذين وتسلّموا على أهلها :وذلك بقول :ال ّ
يقيمون في الدار ،سواء كانت سكناهم بالملك ،أو باألجرة ،وباإلعارة (. )1
سكنى ــ أي غير بيوتكم ا ّلتي تسكنونها ؛ ألنّه كون قال األلوسي :والمراد اختصاص ال ّ
اآلجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة االختصاص الملكي
فال حاجة إلى القول ّ
بأن ذلك خارج مخرج العادة (. )2
خير لكم :اإلشارة راجعة إلى االستئذان والتّسليم ــ أي دخولكم مع االستئذان والسالم خير
ذلكم ٌ
لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدّخول على ال ّناس بغتة (. )3
ووجه الخيرية فيه أنّه سبيل لصيانة عورات أهل البيوت ،فإ ّنهم يسترون عورتهم لو كانت
منكشفة قبل اإلذن ،كما ّ
أن فيه صيانة الداخل ،إذ لو دخل من غير استئذان ربما تقع عينه على
عورة فينجم عن ذلك ضرر خطير ،كما أن فيه صيانة عرض الدّاخل من أن يستراب فيه (. )4
لع ّلكم تذكّرون :لتتّعظو ويقع في ذاكرتكم فضل هللا عليكم بما ّ
شرعه لكم م ّما يصون أعراضكم،
الرفيعة ،وهي مضارع حذف منه إحدى التاءين (. )5وتعملوا بموجب تلك اآلداب ّ
أزكى لكم :أي أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والعناد والوقوف على األبواب ،
فالرجوع في مثل هذه الحال أشرف وأطهر لإلنسان العاقل (. )6
ّ
وهللا بما تعملون عليم :وعد للطائعين الّذين يتبعون أوامر هللا ويجتنبون نواهيه ،ووعيد
للعاصين الّذين ال يقفون عند حدود هللا ؛ ألنّه هو المطلع على خفايا القلوب ؛ وعلى ما فيها من
دوافع ومثيرات . )7( ..
جناح :أي إثم وحرج ،أي ال إثم عليكم وال حرج في دخول البيوت غير المسكونة ( ، )8قال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أحكام القرآن ،ج ، 3ص 370ـ / 369روائع البيان ،ج ، 2ص 126ـ . 127
( )4عبد القادر شيبة الحمد ،تفسير آيات األحكام ،مكتبة فهد الوطنية ،الرياض ،ط ، 3سنة 1432هـ ،
ص 253ـ . 250
( )7سيد قطب في ظالل القرآن ،دار الشروق ،دمشق ،ط ، 32سنة 1423هـ ،ج ، 4ص / 2508روائع
البيان ،ج ، 2ص 132
( )8الصابوني ،روائع البيان ،ج ، 2ص ، 128عبد القادر شيبة الحمد ،تفسير آيات األحكام ،ص 253ـ
. 250
ح فيما أخطأتُم " األحزاب . 5 /
تعالى ":وليس عليكُم جُنا ٌ
سكنى كالحماماتغير مسكونة :المراد البيوت العامرة الّتي تقصد لمنافع عا ّمة غير ال ّ
كالرباطات والفنادق والخانات والمدارس ،فهذه
تخص بسكنى أحد ّ ّ والحوانيت والبيوت الّتي ال
وأمثالها ال حرج في دخولها بغير إذن (. )1
الحر ،
ّ متاع لكم :المتاع في اللغة يطلق على ( المنفعة ) أي فيها منفعة لكم كاالستظالل من
سلع واالستحمام وغيره ،ويطلق ويراد منه ( الغرض والحاجة ) أي فيها لكم الرحال وال ّ
وحفظ ّ
غرض من األغراض ،أو حاجة من الحاجات ( . )2وقال ابن العربي ( :فيها ثالثة أقوال :
األول :أنّها أموال التجار .والثّاني :أنّها المنافع كلّها ،والثّالث :أنّها الخالء لحاجة اإلنسان()3
ّ
يؤدّب المولى تبارك وتعالى عباده المؤمنين باآلداب الجليلة ،ويدعوهم إلى التخلّق بك ّل أدب
ّ
وبالتلطف عند طلب االستئذان ، رفيع فيأمرهم باالستئذان عند إرادة الدخول إلى بيوت النّاس ،
مما يدعو إلى المحبّة والوئام ،وينهاهم عن الدّخول بغيرألن ذلك ّسالم على أهل المنزل ؛ ّ وبال ّ
فيطلعوا على عورات النّاس أو تقع على مكروه ال يحبّه إذن لئالّ تقع أعينهم على ما يسوءهم ّ ،
الريبة أو القصد السيّئ ويجعل ّ
الزائر سالم ما يدفع خطر ّ فإن في االستئذان وال ّ أهل المنزل ّ ،
مكرما ً مستأنسا ً به .
محترما ً ّ
بالرجوع فذلك خير له من الوقوف على األبواب أو اإلثقال على أهل
وإذا لم يؤذن له فعليه ّ
المنزل فقد يكون أهل البيت في شغل شاغل عن استقبال أحد من الزائرين .
وإذا لم يكن في البيوت أحد فال يجوز الدّخول أو االقتحام ؛ ّ
ألن البيوت حرمة ،وال يحلّ
يطلع أحد على ما عندهم فيدخولها إالّ بإذن أربابها ،وربّما كان أهل البيت ال يرغبون أن ّ
المنزل من مال أو متاع ،وربّما أدّى الدّخول إلى فقدان شيء أو ضياعه ووقعت الت ّهمة على
ذلك اإلنسان .
أ ّما البيوت الّتي ليس بها ساكن ،أو الّتي فيها لإلنسان منفعة أو مصلحة فال مانع من دخولها
والرشيدة الّتي أدّب بها المؤمنين (. )5
بغير إذن ،ذلك هو أدب اإلسالم وتربيّته الحميدة ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1ابن العربي ،أحكام القرآن ،ج ، 3ص / 376روائع البيان ،ج ، 2ص . 128
األول :حكم االستئذان وكيفيّته :االستئذان واجب ،فال يجوز أن يدخل اإلنسان بيت ــ الحكم ّ
غيره حتّى يستأذن ،والكيفيّة ا ّلتي يكون بها االستئذان هي :بالسالم على أهل البيت ،حيث
يقول ":السالم عليكم " ثالث مرات متتالية ،فإن لم يُرد عليه انصرف ،لئالّ يكلّفهم أو يؤذيهم ،
يضر أهل البيت .
ّ وفي ذلك خير للمسلمين ومنفعة كبيرة ؛ ّ
ألن اإللحاح قد
صفة لالستئذان ّمما روي عن أبي سعيد الخدري قال ":كنت في مجلس وقد استفيدت تلك ال ّ
من مجالس األنصار إذ جاء أبو موسى كأنّه مذعور قال :استأذنت على عمر ثالثا ً ،فلم يأذن
لي ،فرجعت ،قال :ما منعك ؟ قلت :استأذنت ثالثا ً فلم يُأذن لي فرجعت ،وقال رسول هللا
ّ
لتقمن عليه بيّنة . صلّى هللا عليه وسلّم :إذا استأذن أحدكم ثالثا ً فلم يُأذن له فليرجع ،فقال :وهللا
ي بن كعب :وهللا ال يقوم معك إالّ ي صلّى هللا عليه وسلّم ؟ قال أب ّ أمنكم أحد سمعه من النب ّ
ي ص ّلى هللا عليه وسلّم قال أصغرنا ،فكنت أصغرهم ،فقمت معه ،فأخبرت عمر ّ
أن النب ّ
ذلك"(. )1
الحكم الثّاني :ما الحكمة من إيجاب االستئذان ؟ نبّه هللا تعالى عليها في قوله ":ليس عليكُم
حرم من أجله الدّخول هو كون أن الّذي ّ ح أن تد ُخ ُ
لوا بُيُوتا ً غير مسكُون ٍة " فد ّل بذلك على ّ جُنا ٌ
البيوت مسكونة ،إذ ال يأْمن من يهجم عليها بغير استئذان أن يرى عورات ال ّناس ،وما ال يحلّ
الرجل مع امرأته في فراش واحد ،فيقع نظره عليهما ،وهذا بال شكّ النّظر إليه ،وربّما كان ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1حديث صحيح ،أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب االستئذان ،باب االستئذان والسالم ثالثا ً ،رقم :
، 6245ج ، 8ص ، 54ومسلم في صحيحه ،كتاب اآلذان ،باب االستئذان ،رقم . 1694
( )3أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب االستئذان ،باب االستئذان من أجل البصر ،رقم ، 6241 :ج ، 8
ص / 54ومسلم في صحيحه ،كتاب اآلداب ،باب االستئذان ،رقم . 2153 :
( )4أخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب اإليمان ،باب بيان أنّه ال يدخل الجنّة إالّ المؤمنون وأنّ محبّة المؤمنين
سالم سببا ً لحصولها ،رقم ، 54 :ج ، 1ص . 74 من اإليمان وأنّ إفشاء ال ّ
سالم أم يقع بعده ؟ :اختلف العلماء في ذلك على قولين ــ الحكم الثّالث :هل يسبق االستئذان ال ّ
سالم يسبق االستئذان .
سالم ,وقال جمهور الفقهاء بل ال ّفقال بعضهم :يقدم االستئذان على ال ّ
وسبب اختالفهم ؛ ذالك الت ّعارض ّ
الظاهري بين ظاهر اآلية ال ّدال على التقديم االستئذان ,و
سالم ,أعملوا
سالم قبل الكالم " ( , )2ولذالك فالقائلين بتقديم االستئذان على ال ّ
بين حديث ":ال ّ
ظاهر اآلية (. )3
صحيح المختار تقديم الت ّسليم على االستئذان لحديث " :ال ّ
سالم /1بالحديث ,قال النّوري :ال ّ
قبل الكالم " (. )4
أن رجالً من بني عامر استأذن على النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم وهو في البيت
/2وبما روي َّ
فقال :أألج ؟ فقال النّبي صلّى هللا عليه وسلّم لخادمه أخرج إلى هذا فعلّمه االستئذان فقل له :
سالم عليكم أأدخل ( )5؟ .
ال ّ
/3حديث أبي هريرة رضي هللا عنه فيمن يستأذن قبل أن يسلّم قال " :ال يؤذن له حت ّى
يسلّم " (.... )6
/4وبما روي عن ( زيد بن أسلم ) قال :أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي هللا عنهما فجئت
فقلت :أألج ؟ فقال :ادخل فلما ّ دخلت قال مرحبا ً يا ابن أخي ,ال تقل أألج ,ولكن قل :ال ّ
سالم
عليكم ,فإذا قيل :وعليك فقل أأدخل ؟ فإذا قالوا :أدخل فأدخل (. )7
/5وبما روي أن عمر رضي هللا عنه استأذن على النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم فقال :ال ّ
سالم
على رسول هللا السالم عليكم ،أيدخل عمر ؟ (. )8
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سابق ،ص . 136
( )1المصدر ال ّ
( )3أحكام القرآن البن العربي ،ج ، 3ص / 371روائع البيان للصابوني ،ج ، 2ص . 136
( )5أخرجه أبو داود في سننه ،كتاب اآلداب ،أبواب النوم ،باب كيف االستئذان ،رقم ، 5177ج ، 4
ص. 345
وال يشترط أن يكون اإلذن صريحا ً بلفظ ( أألج أو أأدخل ) بل يجوز بكلّ لفظ يشير إلى
االستئذان كالتّسبيح ،والتّكبير ،أوالتّنحنح ،فقد روى ّ
الطبراني عن أبي أيّوب أنّه قال :قلت يا
رسول هللا أرأيت قول هللا ":حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها " هذا التّسليم قد عرفناه فما
االستئناس ؟ قال :يتكلّم ّ
الرجل بتسبيحة ،وتكبيرة ،وتحميدة ،ويتنحنح فيؤذن أهل البيت .
ويقوم في عصرنا مقام االستئذان طرق الباب أو قرع الجرس ،فهذا نوع من االستئذان
صحابة لم يكن لها هذه الستور واألبواب (. )2 مشروع ؛ ّ
ألن الدّور في عصر ال ّ
مرة
أن من استأذن ّ الحكم الرابع :الواجب في عدد االستئذان ؟ :ظاهر اآلية الكريمة يد ّل على ّ
أن االستئذان يكون ثالثا ً ،لما روى عن
فأجيب دخل ،وإالّ رجع ،ولكن السنّة النبويّة قد بيّنت ّ
أبي هريرة مرفوعا ً ( :االستئذان ثالث :باألولى يستنصتون ،وبالثّانية يستصلحون ،
وبالثّالثة يأذنون أو يردون ) (. )3
ألن المستأذن عليهم قد يكونون مشغولين ،فإذا استأذنت ثالثا ً ولم يرد عليك فانصرف وذلك ّ
تعطل نفسك ،وال تؤذي أهل البيت ،ومنه فالحكمة من التّعداد في االستئذان ّ
أن األولى ّ حتّى ال
فيها استعالم ،والثّانية تأكيد ،والثّالثة إعذار(. )4
مرتين ،ولم ينتظر وقال القاضي أبو بكر الباقالني ":ففي هذا الحديث أن عمر رجع من ّ
حق الّذي يستأذن إن أراد استقصاءه وإالّ تركه ،وفيه الثّالثة .فهذا يدلّك على ّ
أن كمال التّعداد ّ
سط ،ال من اإلعالم الّذي تقدّم
قوله بعد الدّخول :أستأنس يا رسول هللا ،وهذا من األنس والتب ّ
في اآلية (. )6
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )7أحكام القرآن البن العربي ،ج ، 3ص / 171والحديث أخرجه أبو داود في سننه ،كتاب األدب ،أبواب
الرجل ث ّم يلقاه أيُسلّم عليه ؟ رقم ، 5201 :ج ، 4ص . 351
الرجل يُفارق ّ
باب في َّ
النوم ٌ ،
( )1شهاب الدّين السيد محمود األلوسي ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت ،ج ، 18ص . 134
الزائر الباب بوحهه ؛ بل يجعله عن يمينه أو من اآلداب ال ّشرعية في االستئذان ،أالّ يستقبل ّ
سالم كان إذا أتى باب القوم ,لم يستقبل الباب من تلقاء شماله ،فقد ص ّح أنّه عليه ال ّ
صالة وال ّ
سالم عليكم ،وذالك ّ
ألن بوجهه ,ولكن من ركنه األيمن أو األيسر فيقول :ال ّسالم عليكم ,ال ّ
ال ّدور لم يكن عليها حينئذ ستور .
وروي عن سعيد بن عبادة قال :جئت إلى ال ّنبي صلّى هللاُ عليه وسلم وهو في بيته ،فقمت
مقابل الباب ،فاستأذنت فأشار إلي أن تباعد ,وقال :هل االستئذان إالّ من أجل النّظر ( . )1؟
وهذا األدب ينبغي ْ
أن يلتزم به المسلم في عصرنا هذا ّ ،
فإن ال ّدور ولو كانت مغلقة األبواب,
فإن ّ
الطارق إذّا استقبلها فإنّه قد يقع نظره عند فتح الباب على ما ال يجوز أو ما يكره أهل البيت ّ
اطالعه عليه (. )2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )6أحكام القرآن البن العربي ،ج ، 3ص / 372والحديث سبق تخريجه .
( )1أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب االستئذان ،باب االستئذان من أجل البصر ،رقم ، 6241ج ، 8
ص. 54
( )3المحارم وهم هؤالء المذكورون في سورة النّور في قوله تعالى ":وال يبدين زينتهنّ إال ّ لبعولتهن أو
آبائهنّ أو أبنائهنّ أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهنّ أو بني أخولتهنّ " ...النور ، 31 /ويق ّ
سم
الرضاع ،ومحارم بسبب المصاهرة .المحارم إلى محارم من النّسب ،ومحارم بسبب ّ
المحارم من ال ّنسب :وهم اآلباء ( آباء النّساء ) واألبناء ( أبناء النّساء ) فيدخل فيهم أوالد األوالد وإن نزلوا
من الذكور واإلناث مثل بني البنين ،وبني البنات ،وإخوانهنّ ( سواء كانوا إخوة أل ّم وأب ،أو ألب فقط أو
أل ّم فقط ) بنو إخوانهنّ ( وإن نزلوا من ذكران وإناث كبني بنات األخوات ) ،الع ّم والخال ( وهما من المحارم
من النّسب ولم يذكروا في اآلية الكريمة ألنّهما يجريان مجرى الوالدين ) .
المحارم بسبب المصاهرة :وهم الّذين يحرم عليهم نكاحها على وجه الت ّأبيد ،مثل زوجة األب ،وزوجة
االبن ،وأ ّم ال ّزوجة وقد ذكرهم هللا تعالى في آية من سورة النّور ":وال يبدين زينتهنّ إالّ لبعولتهنّ أو آبائه ّن
أو آباء بعولتهنّ أو أبنائهنّ أو أبناء بعولتهنّ "..وآباء بعولتهنّ ،وأبناء بعولتهنّ من محارم المرأة
الزينة لهم .فالمحرمبالمصاهرة ،وقد ذكرهم هللا تعالى مع آبائه ّن وأبنائهنّ وساواهم جميعا ً في حقّ إبداء ّ
أن ترك االستئذان على المحارم وإن كان غير جائز ,إ ّ
ال أنّه أيسر , الرازي " واعلم ّ قال الفخر ّ
لجواز النّظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من األعضاء ,والتّحقيق فيه أن المنع من
الهجوم على الغير إن كان ألجل أن ذلك الغير ربما كان منكشف األعضاء فهذا دخل فيه الك ّل
اطالعال بأمر يكره ّ الزوجات ) و ( ملك اليمين ) .وإن كان آلجل أنّه ربّما كان مشتغ ً إالّ ( ّ
الغير عليه وجب أن يع ّم في الك ّل ،حتّى ال يكون له أن يدخل إالّ بإذن " (. )1
ظاهر اآلية الكريمة يد ّل على أنّه يجب االستئذان على ك ّل طارق سواء كان رجالً أو امرأة,
سمع مبصراً أو أعمى ،وبهذا قال جمهور العلماء وحجتهم في ذلك ّ
أن من العورات ما يدرك بال ّ
ففي دخول األعمى على أهل بيت بغير إذنهم ما يؤذيهم فقد يستمع الدّاخل إلى ما يجري من
سالم ":إنّما جُعل االستئذان من أجل
صالة وال ّ
الرجل وزوجته ،فأ ّما قوله عليه ال ّ
الحديث بين ّ
النّظر " ( )2؛ فذلك محمول على الغالب ،وال يقصد منه الحصر .
الحكم الثّامن :هل يجب االستئذان على ال ّ
طفل الصّغير( )3؟
وقد حدّدت اآل ية السابقة ثالثة أوقات يجب على األطفال االستئذان فيها وهي ) وقت الفجر )
و( وقت ّ
الظهيرة ) و( وقت العشاء ) ؛ ألنّه وقت االستراحة الّذي يستتبع نزع اللّباس (. )4
الحكم التّاسع :ما هي الحاالت الّتي يُباح فيها الدّخول بدون إذن ؟
ظاهر اآلية يد ّل على ال ّنهي عن دخول البيوت بغير إذن في جميع األزمان واألحوال ،ولكن
يستثنى منه الحاالت الّتي تقضي بها الضّرورة ؛ وهي حاالت اضطرارية تبيح الدّخول بغير
إذن ،وذلك إذا عرض أمر في الدّار من حريق ،أو هجوم سارق ،أو ظهور منكر فاحش ّ ،
فإن
الرازي في تفسيره
لمن يعلم ذلك أن يدخلها بغير إذن أصحابها ،كما نبّه على ذلك الفخر ّ
ال ّ
شهير(. )5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بالمصاهرة بالنّسبة لزوجة األب هو ابنه من غيرها ،وبالنّسبة لزوجة االبن هو أبوه ،وبالنّسبة أل ّم
الزوج .الزوجة هو ّ
ّ
/1ذهب اإلمامان ( الشافعي وأحمد ) إلى أنّه لو فقئت عينه فهي هدر وال قصاص .
/2وذهب مالك وأبو حنيفة إلى القول بأنّها جناية يجب فيها األرش ( )1أو القصاص
طلع رجل في حجرة من حجر النّبي صلّى هللا عليه وسلّم ، ب /حديث سهل بن سعد قال " :ا ّ
ومع النّبي ِمدرى ( آلة رفيعة من حديد ) يحكّ بها رأسه فقال :لو أعلم أنّك تنظر لطعنت بها
في عينك ،إنّما جعل االستئذان من أجل النّظر " (. )3
أ /بعموم قوله تعالى ":وكتبنا عليهم فيها أنّ ال ّنفس بالنّفس والعين بالعين " ...المائدة. 45/
فمن أقدم على هذا النّحو كان جانيا ً ،وعليه القصاص ،إن كان عامدا ً ،واألرش إن كان
مخطئاً.
أن من دخل داراً بغير إذن أهلها فاعتدي عليه بعض أهلها
ب /واستدلوا بإجماع العلماء على ّ
بقلع عينه فإن ذلك يعتبر جناية تستوجب القصاص .
قالوا :فإذا كان دخول الدّار واقتحامها على أهلها مع النّظر إلى ما فيها غير مبيح لقلع عين
ذلك الدّاخل ،فال يكون النّظر وحده من ثقب الباب مبيحا ً لقلع عينه من باب أولى .
أن من ّ
اطلع في دار قوم ونظر إلى وتأولوا الحديث الّذي استدلّ به الشافعية والحنابلة على ّ
جّ /
ُحرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع وقاوم وقاتل فقلعت عينه بسبب المقاومة والمدافعة فهي هدر ؛
ألنّه ظالم معتد في هذه الحالة (. )4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1يطلق األرش في مجال الضّمانات على ما ليس له قدر من الديّة في الجراحات .
( )2أخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب األدب ،باب تحريم النّظر في بيت غيره ،رقم ، 2158 :ج ، 3
ص. 1699
( )4أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب االستئذان ،باب االستئذان من أجل البصر ،رقم ، 6241 :ج ، 8
ص . 54
المحاضرة الخامسة
تفسيــر آيــة القـوامــــة
قال تعالى :
ض و ِبما أنفُقُوا ِمن أموا ِل ِهم هللا بعضهُم على بع ٍ اء ِبما فضَّل ُ الرجا ُل ق َّوا ُمون على ال ِنّس ِ
" ِّ
ب ِبما ح ِفظ هللاُ والالَّ ِتي تخافُوا نُشُوزهُنَّ ف ِعظُوهُنَّ واهج ُُروهُنَّفالصَّا ِلحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ ِللغي ِ
اج ِع واض ِربُوهُنَّ ف ِإن أطعنكُم فال تبغُوا علي ِهنَّ سبِيالً ِإنَّ هللا كان ع ِليًّا كبِيرا ً " فِي المض ِ
النساء. 34/
الربيع مع امرأته حبيبة بنت زيد ،وكان سعد من ال ّنقباء نزلت اآلية الكريمة في سعد بن ّ
وهما من األنصار ،وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها ،فانطلق أبوها معها إلى النّبي ص ّلى هللا
لتقتص منّ ي صلّى هللا عليه وسلّم : عليه وسلّم فقال ":أفرشته كريمتي فلطمها ،فقال النب ّ
ي صلّى هللا عليه وسلّم :ارجعوا هذا جبريل لتقتص منه ،فقال النب ّ
ّ زوجها ،فانصرفت مع أبيها
ي صلّى هللا عليه وسلّم ":أردنا أمرا ً،
قوامون على النّساء " فقال النب ّالرجال ّأتاني وأنزل هللا ّ ":
وأراد هللا أمرا ً ،والّذي أراد هللا خير ورفع القصاص " (. )1
قوام ف ّعال للمبالغة ؛ من القيام على ال ّشيء واالستبداد بالنّظر فيه وحفظه ،يقال
قوامون " ّ :
ــ " ّ
قوام وقيّم ،وهو فعّال وفعيل من قال ،والمعنى هو أمين عليها يتولّى أمرها ،يقوم بتدبيرها ّ :
وتعليمها وحفظها وإصالح أمورها قاله ابن عبّاس ،وعليها له ّ
الطاعة (. )2
وهي اصطالحا ً :القيام على األمر أو المال ورعاية المصالح ،وهي نوعين ّ :
قوامة على
النّفس ّ ،
وقوامة على المال .
ّ
بالطاعة وال ّنفقة ،فال ّنفقة الزوجيّة ،كما يتح ّقق
ومفهوم القوامة يتحقّق بموجب حكم صفة ّ
الزوجية ،وهو ما أشار إليه الدّهلوي في تفسير اآلية " ّ
والطاعة من قبل ّ الرجل ،
من قبل ّ
قوام على المرأة وله طول عليها بالجبلّة الزوج ّ قوامون على النّساء " حيث بيّن ّ
أن ّ الرجال ّ
ّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيوطي ،لباب النّقول في أسباب النّزول ،ص ّححه أحمد عبد الشافي ،دار الكتب العلمية ،
( )1جالل الدين ال ّ
بيروت ( ،د ط ت ) ج ، 1ص 58ــ . 57
( )2أبو بكر بن العربي ،أحكام القرآن ،تــ :محمد عبد القادر عطا ،دار الكتب العلمية ،بيروت ــ لبنان ،
ط 1424 ، 3هـ ــ 2003م ،ج ، 3ص / 368روائع البيان ،ج ، 1ص . 463
والفطرة ؛ أل ّنه أت ّم عقالً ،وأكثر سياسة وآكد حماية وذبا للعار بالمال ،حيث أنفق عليها وكساها
فناسب ذلك أن يكون له تأديبها إن بغت ،ولكن يراعي في ذلك اللّطف واليسر (. )1
ــ " وبما أنفقوا من أموالهم " :قال ابن العربي في أحكام القرآن ":المعنى أنّي جعلت الق َّو ِميَّة
للرجل ألجل تفضيلي له عليها ،وذلك لثالثة أشياء :
على المرأة ّ
ــ " فالصّالحاتُ قانتاتٌ حافظاتٌ " :ويعني هنا مطيعات ،وهو أحد أنواع القنوت (. )3
ــ " حافظاتٌ للغيب " :يعني تحفظ غيبة زوجها ،وال تأتي في مغيبة بما يكره أن يراه منها في
حضوره (. )4
وإما بمعنى الّذي ،أي ال ّ
شيء إما مصدريّة وتقديره :بحفظ هللا ّ
لهن ّ ، ــ " بما حفظ هللا" :ما ّ ،
الّذي حفظ هللا (. )5
وحفظ هللا هو ما يخلقه للعبد من القدرة على ّ
الطاعة ؛ فإنه إذّا شاء أن يحفظ عبده لم يخلق
له إالَّ قدرة ّ
الطاعة ,فإن توالت كانت له عصمة وال تكون إالّ لألنبياء ( . )6فالمقصود من قوله
صالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ هللا هو األمر بطاعة ّ
الزوج والقيام بحقه في تعالى فال ّ
ماله وفي نفسها في حال غيبة ّ
الزوج .
ــ " والالتِي تخافُون نُشُوزهُنَّ " :قيل في معنى تخافون :تظنّون ,وقيل تتي ّقنون ؛ ولكل وجه
َّ
خروجهن عن طاعة َّ
عصياهن ,و معنى يأتي بيانه في تركيب ما بعده عليه ( . )7أي تخافون
األزواج .
" نُشُوزهُنَّ " :يعني امتناعهن منكم ؛ عبّر عنه بالنشوز ,وهو من النَّشز :المرتفع من
األرض ( فالنشوز مشتق من النَّشز وأصل النشز :المكان المرتفع ،ومنه تلّ ناشز أي مرتفع) .
وإن ك ّل ما امتنع عليك فقد نشز عنك حت ّى ماء البئر (. )8
ّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1الدهلوي ،ح ّجة هللا البالغة ،تــ :سيد سابق ،دار الجيل ،ط ، 1سنة 1426هـ ، /ج ، 2ص . 210
( )8( )7( )6ابن العربي ،أحكام القرآن ،ج ، 1ص . 532
طاعة وحسن العشرة لألزواج .قال ابن عليهن من ال ّ
َّ ــ " فعظوهنَّ " أي ذ ّكروهن بما أوجب هللا
العربي ( :وهو الت ّذكير باهلل في الت ّرغيب لما عنده من ثواب ,والت ّخويف لما لديه من عقاب ,
صحبة ,
مما يعرفها به من حسن األدب في إجمال العشرة ,والوفاء بتمام ال َّ إلى ما يتبع ذلك ّ
للزوج ,واالعتراف بالدَّرجة الّتي له عليها ) (. )1
الطاعة ّوالقيام بحقوق ّ
ــ " واهجروهنّ في المضاجع " :من الهجران ،وهو البعد ؛ يقال :هجره أي تباعد ونأى
عنه ،وقد اختلف العلماء في معنى الهجر في اآلية على أربعة أقوال :
/3ال يجمعها وإيّاه فراش ،وال وطء حتّى ترجع إلى ا ّلذي يريد ؛ قاله إبراهيم وال ّ
شعبي وقتادة
والحسن البصري ،ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك وغيرهم .
/4يكلّمها ويجامعها ،ولكن بقول فيه غلظ وشدّة إذا قال لها تعالي ؛ قاله سفيان (. )2
ــ " واضربوهنّ " :أمر هللا أن يبدأ النّساء بالموعظة ّأوالً ،ث ّم بالهجران ؛ فإن لم ينفعا
فالضّرب ؛ فإنّه هو الّذي يصلحها له ويحملها على توفية حقّه .والضّرب في هذه اآلية هو
ضرب األدب غير المبرح ،وهو الّذي ال يكسر عظما ً وال يشين جارحة كاللكزة ونحوها ؛ ّ
ألن
صالح ال غير .فال جرم إذا أدّى إلى الهالك وجب الضّمان ،وكذلك القول في المقصود منه ال ّ
ضرب المؤدب غالمه لتعليم القرآن واألدب .
ألن ك ً
ال من ّ
الشق بمعنى الجانب ؛ ّ شقاق الخالف والعداوة ،وهو مأخوذ منــ " شقاق " :ال ّ
المتخالفين يكون في شق غير شق اآلخر بسبب العداوة والمباينة .
ــ " حكما ً " :ك ّل من له ّ
حق الفصل بين الخصمين المتنازعين .
ــ " والجار الجنب " :الجار البعيد أو الّذي ليس له قرابة تربطه بجاره وأصله من الجنابة ض ّد
القرابة .
ــ " والصّاحب بالجنب " :هو الرفيق في السفر ،أو طلب العلم ،أو الشريك ،وقيل :هي
الزوجة .
ــ " ُمختاالً ف ُخورا ً " :قال ابن عباس :المختال البطر في مشيته ،والفخور المفتخر على ال ّناس
بكبره (. )3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )2( )1ابن العربي ،أحكام القرآن ،ج ، 1ص 532ـ . 533
الرياسة على ال ّنساء ،بسبب ما منحهم هللا من العقل والتّدبير ،الرجال درجة ّ منح هللا تعالى ّ
صهم به من الكسب واإلنفاق ،فهم يقومون على شؤون النّساء كما يقوم الوالّة على ّ
الرعايا وخ ّ
لرجل ،وذكر أنهن صل تعالى حال النّساء تحت رياسة ا ّ والرعاية وتدبير ال ّ
شؤون .ث ّم ف ّ بالحفظ ّ
صالحات مطيعات متمردات ،فالنّساء ال ّ
ّ قسمان :قسم صالحات مطيعات ،وقسم عاصيات
ّ
أنفسهن عن الفاحشة ، ّ
عليهن من حقوق ،يحفظن لألزواج ،حافظات ألوامر هللا ،قائمات بما
فهن عفيفات ،أمينات ،فاضالت . الرجال ّ ، أزواجهن عن التّبذير في غيبة ّ
ّ وأموال
أزواجهن ،اللّواتي
ّ المتمردات المترفّعات على
ّ وهن النّساء ال ّناشزات
ّ وأما القسم الثّاني :
ّ
معهن طريق النّصحّ الرجال أن تسلكوا يتكبرن ويتعالين عن طاعة األزواج ،فعليكم أيّها ّ
بهجرهن في الفراش مع اإلعراض والص ّد ،فال ّ واإلرشاد ،فإن لم يجد الوعظ والتّذكير فعليكم
تضربوهن ضربا ً غير
ّ ّ
تقربوهن ،فإذا لم يرتدعن بالموعظة وال بالهجران فلكم أن ّ
موهن وال تكلّ
إليذائهن ّ ،
فإن هللا تعالى ّ مبرح ،ضربا ً رفيقا ً يؤلم وال يؤذي ،فإن أطعنكم فال تلتمسوا طريقا ًّ
ّ
عليهن . العلي الكبير أعلى منكم وأكبر ،وهو وليّهن ينتقم م ّمن ظلمهن وبغى
الزوجة فحسب ؛ بل من ث ّم بيّن تعالى حالةً أخرى ،وهي ما إذا كان ال ّنفور ال من ّ
الزوجين ،فأمر بإرسال ( حكمين ) عدلين ،واحد من أقربائها ،والثّاني من أقرباء ّ
الزوج ، ّ
ليجتمعا وينظرا في أمرهما ويفعال ما فيه المصلحة ،إن رأيا التّوفيق وفّقا ،وإن رأيا التّفريق
فرقا ،فإذا كانت النوايا صحيحة ،والقلوب ناصحة بورك في وساطتهما ،وأوقع هللا بطيب ّ
شرعه هللا إنّما جاء وفق الحكمة الزوجين ،وما ّ نفسهما وحسن سعيهما الوفاق واأللفة بين ّ
والمصلحة ؛ ألنّه من حكيم خبير .
ث ّم ختم تعالى هذه اآليات بوجوب عبادته تعالى وعدم االشتراك به ،وباإلحسان إلى
الوالدين ،وإلى األقرباء واليتامى والمساكين ،ومن له ّ
حق الجوار من األقارب واألباعد (. )1
/1القوامة ،مشروعة بالكتاب والسنّة ،وهي ضرورة يستلزمها حفظ نظام األسرة والقيام
بشؤونها .
للرجل لسبب ،وهبي وآخر كسبي ،أ ّما الوهبي فهو ما فطر عليه من كمال /2القوامة ثابتة ّ
بالنبوة واألمانة
ّ صواوالطاعات ،ولذلك خ ّ ّ العقل وحسن التّدبير ،ومزيد ّ
القوة في األعمال
سهم في الميراث ، شهادة في مجامع القضايا والجهاد ...وزيادة ال ّشعائر ،وال ّ
والوالية ،وإقامة ال ّ
والرجعة ،وعدد األزواج ،وإليهم االنتساب ( ، )2د ّل على ذلك قوله تعالى ":وال تتمنّوا ما ّ ...
فضّل هللا به بعضكم على بعض " النساء. 32 /
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف .
ّ ( )2( )1المصدر السابق ،ج ، 1ص 466ـ ، 465
صهم به من الكسب واإلنفاق ،فالسبب الّذي وجبت به القوامة هووأما الكسبي ،فهو ما خ ّّ
الرجل وتفير النفقات ،والواجبات منها ثالث ؛ اإلطعام ـ والكسوة ـ سعي على ّ وجوب ال ّ
والسكن ،فهذه كلّها تجب على الرجل بحسب القدرة والكفاية .
/3إذا كانت النفقة سبب لوجوب القوامة ،فهي أيضا ً شرط لبقائها ،فتوفر النفقة شرط لثبوت
القوامة ،فتسقط بالعجز عن ذلك ،لقوله تعالى ":وبما أنفقوا من أموالهم " ،فمتى ما عجز
الرجل عن توفير نفقتها لم يكن قواما عليها ،وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد ؛ لزوال
ّ
المقصود الّذي شرع ألجله النّكاح .قال ابن العربي ":وفيه داللة واضحة من هذا الوجه على
ثبوت فسخ النكاح عند اإلعسار بال ّنفقة والكسوة ؛ وهو مذهب مالك والشافعي .وقال أبو حنيفة :
فنظرة إلى ميسرة " البقرة. )1( " 280 /ال يفسخ ؛ لقوله تعالى ":وإن كان ذو عُسرة ِ
/4منع هللا تعالى النشوز ،وحرم على الزوجة معصية زوجها لما له عليها من الفضل
حق الزوج عليها وطاعته ،وقد قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ":لو
واإلفضال ،وأوجب ّ
كنت آمرا أحدا أن يسجد ألحد ألمرت المرأة أن تسجد لزوجها ،من عظم حقّه عليها " (. )2
قال الشافعي ":دالالت النشوز قد تكون قوالً ،وقد تكون فعالً ،فالقول مثل أن كانت ال
تلبيه إذا دعاها ،وتخضع له بالقول إذا خاطبها ،ث ّم تغيّرت ؛ والفعل مثل أن كانت تقوم له إذا
دخل إليها ،أو كانت تسارع إلى أمره ،وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها ،ث ّم إذا تغيّرت
ظن نشوزها ؛ ومقدمات هذه األحوال توجب خوف النشوز " (. )3 فحينئذ ّ
أ /الوعظ وال ّنصح واإلرشاد بالحكمة " ف ِعظُوهُنَّ " .
ب/الهجران بعزل فراشه عن فراشها وترك معاشرتها لقوله تعالى " :واهجروهن ِفي المضاجع"
المبرح بسواك ونحوه تأديبا ً لها ,لقوله تعالى " واضربوهن " .وإذا لم توجد ّ ضرب غير ج /ال ّ
كل هذه الوسائل فينبغي التحكيم لقوله تعالى " فابعثوا حك ًما ِّمن أه ِل ِه وحك ًما ِّمن أه ِلها " .
ض رب المراد في اآلية بقوله " :فإن فعلن فاضربوهن ضربا ً
سالم ال ّ
صالة وال ّ
وقد وضح عليه ال ّ
المبرح " (. )4
ّ غير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1ابن العربي ،أحكام القرآن ،ج ، 1ص . 533
( )2أخرجه الترمذي في سننه ،أبواب الرضاع ،باب ما جاء في حقّ المرأة على زوجها ،رقم ، 1159 :
ق الزوج على المرأة ،رقم ، 1853
ج ، 2ص ، 456وسنده جيّد .وابن ماجة في سننه كتاب النكاح ،باب ح ّ
ج ، 1ص ، 595وصححه األلباني في صحيح سنن ابن ماجة .
بتصرف .
ّ ( )3الصابوني ،روائع البيان ،ج ، 1ص 466
وقال قتادة :ضربا ً غير شائن ،ولذلك قال العلماء :ينبغي أن ال يوالي الضّرب في مح ّل
واحد وأن يتّقي الوجه فإنّه يجمع المحاسن ،وال يضربها بسوط وال عصا ،وأن يراعي
التّخفيف في هذا التّأنيب على أبلغ الوجوه .
ــ قال بعضهم :إ ّنها على التّرتيب ،فالوعظ عند خوف النّشوز ،والهجر عند ظهور النّشوز ،
ث ّم الضّرب ،وال يباح الضّرب عند ابتداء النّشوز ،وهذا مذهب أحمد .
إن ( الواو ) ال تقتضيمنشأ الخالف :اختالف العلماء في فهم اآلية ،فمن رأى الترتيب قال ّ
الترتيب ؛ بل هي لمطلق الجمع ،فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أيا ً كانت ،وله أن
يجمع بينها .
أن ظاهر اللّفظ يد ّل على التّرتيب ،واآلية وردت على ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى ّ
ي ،فإنّه تعالى ابتدأ بالوعظ ،ث ّم ترقى منه إلى الهجران ،ث ّم
التدرج من الضّعيف إلى القو ّ
ّ سبيل
ترقّى منه إلى الضّرب ،وذلك جار مجرى التّصريح بوجوب التّرتيب ،فإذا حصل الغرض
الطريق األش ّد ( . )2ولع ّل هذا هواألخف وجب االكتفاء به ،ولم يجز اإلقدام على ّ ّ ّ
بالطريق
األرجح لظاهر اآلية الكريمة وهللا أعلم (. )3
/6تسقط القوامة لسببين :في حال العجز وعدم المقدرة على القيام واإلنفاق ،وفي حال نقص
األهلية أو انعدامها .
/7ظاهر اآلية يفيد أ ّنه يشترط في الحكمين أن يكونا من األقارب ؛ لقوله تعالى ":حكما من
وأن ذلك على سبيل الوجوب ،وبه قال الشافعي رحمه هللا ؛ ألنّه من أهله وحكما من أهلها " ّ
الظالمات ،وهو من الفروض العا ّمة الواجبة على الوالة ،وحمله غيره من العلماء باب رفع ّ
على وجه االستحباب ،وقالوا :إذا بعث القاضي حكمين من األجانب جاز ؛ ّ
ألن فائدة الحكمين
صلح بينهما ،والشهادة على الظالم منهما ،وهذا التعرف على أحوال الزوجين وإجراء ال ّ ّ
أن األقارب أعرف بحال الزوجين ،طلبا ً الغرض يؤدّيه األجنبي كما يؤدّيه القريب ،إالّ ّ
لإلصالح من األجانب ،وأبعد عن التّهمة بالميل ألحد الزوجين ،لذلك كان األولى واألوفق أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف ،والحديث أخرجه ابن ماجة في سننه
ّ ( )3( )2( )1الصابوني ،روائع البيان ،ج ، 1ص 466
كتاب النّكاح ،باب ضرب النّساء ،رقم ، 1985 :ج ، 1ص 638
يكون أحد الحكمين من أهل ّ
الزوج واآلخر من أهل الزوجة (. )1
سابقة لألزواج في قوله تعالى ":واهجروهنّ هنا للحكام ؛ أل ّنه لما ّ كان الخطاب في اآلية ال ّ
الزوج ،جاء الخطاب هنا للحكام ،فإنّه تعالى لما ّ ذكر نشوز حق ّ
في المضاجع " وهذا من ّ
للزوج أن يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها ،بيّن تعالى أنّه إذا لم يبق بعد وأن ّ
المرأة ّ ،
سلطان
الظالم ويتو ّجه حكمه عليها وهو ال ّال المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من ّ الضّرب إ ّ
للزوجين .وهذا القول مرجوح . الّذي بيده سلطة الحكم والتّنفيذ .وروى عن السُدّي ّ
أن الخطاب ّ
ــ ذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنّه ليس للحكمين أن يفرقا إالّ برضا ّ
الزوجين ؛ ألنّهما وكيالن
عنهما ،والب ّد من رضا الزوجين فيما يحكمان به ،وهو مروي عن الحسن البصري ،وقتادة
وزيد بن أسلم .
أن لهما أن يلزما ّ
الز وجين بدون إذنهما ما يريا فيه المصلحة ،فإن رأيا ــ وذهب مالك إلى ّ
التطليق طلّقا ،وإن رأيا أن تفتدي المرأة بشيء من مالها فعالً ،فهما حاكمان موليان من قبل
اإلمام ،وينفّذ حكمهما في الجمع والتفرقة وهو مروي عن علي وابن عباس والشعبي .
ال أن يرضى الزوج ،وذلك ألنّه الصاص ":قال أصحابنا :ليس للحكمين أن يفرقا إ ّ قال الج ّ
يفرق بينهما ،ولم يجبره الحاكم على طالقها قبل تحكيم
أقر باإلساءة إليها لم ّ خالف ّ
أن الزوج لو ّ
لوأقرت المرأة بالنّشوز لم يجبرها الحاكم على الخلع ،وال على ر ّد مهرها ،
ّ الحكمين ،وكذلك
الزوجين " وهو اختيار الطبري . فكذلك بعد بعث الحكمين ال يجوز إالّ برضا ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )2( )1الصّابوني ،روائع البيان ،ج ، 1ص . 471
حكمة التّشريع( : )1قضت السنّة الكونية وظروف الحياة االجتماعية ،أن يكون في األسرة قيّم ،
يدير شؤونها ،ويتع ّهد أحوالها ،وينفق من ماله عليها ،لتؤدّي رسالتها على أكمل الوجوه ،
ولتكون نواة للمجتمع اإلنساني الّذي ينشده اإلسالم ،إذ في صالح األسرة صالح المجتمع ،وفي
فساد األسرة وخرابها خراب المجتمع .
الرجل أقدر على تح ّمل هذه المسؤولية من المرأة ،بما وهبه هللا من العقل ،وقوة ولما كان ّ
ّ
األحق بهذه سعي واإلنفاق على المرأة واألوالد ،كان هو العزيمة واإلرادة ،وبما كلّفه من ال ّ
القوامة ،الّتي هي في ال حقيقة درجة ( مسؤولية وتكليف ) ال درجة ( تفضيل وتشريف ) إذ هي
سيطرة واالستعالء ؛ إذ الب ّد لك ّل أمر هام من رئيس يتولّى
مساهمة في تحمل األعباء ،وليست لل ّ
حق القيام على النساء بالتّأديب والتّدبير ،
للرجال ّشؤون التّدبير والقيادة .وقد جعل هللا تعالى ّ
للطعن في دين هللا ،زعمهم ّ
أن صيانة ،ولع ّل أخبث ما يتّخذه أعداء اإلسالم ذريعة ّ والحفظ وال ّ
للرجل أن يضربها ويقولون :كيف يسمح هللا بضرب النساء ، اإلسالم أهان المرأة حين سمح ّ
وكيف يحوي كتابه المقدّس هذا النّص " فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ "
(أفليس هذا اعتداء على كرامة المرأة )
والجواب :نعم لقد سمح القرآن بضرب المرأة ولكن متى يكون الضّرب ؟ ولمن يكون ؟
إن هذا األمر عالج ،والعالج إنما يحتاج إليه عند الضّرورة ،فالمرأة إذا أساءت عشرة ّ
تكف وال ترعوي عن غيّها ّ زوجها ،وركبت رأسها ،وسارت وراء الشيطان وبقيادته ،ال
الرجل في مثل هذه الحالة ؟ أيهجرها ،أم يطلّقها ،أم يتركها تصنع ما وضاللها ،فماذا يصنع ّ
الطرق الحكيمة في معالجة هذا تشاء ؟ لقد أرشد القرآن الكريم إلى الدّواء ،أرشد إلى اتّخاذ ّ
صبر واألناة ،ث ّم بالوعظ واإلرشاد ،ث ّم بالهجر في المضاجع ،فإذا
النشوز والعصيان ،فأمر بال ّ
لم تنفع ك ّل هذه الوسائل فال ب ّد أن نستعمل آخر األدوية وهو الضّرب ( الضّرب بسواك وما
الطالق هدم لكيان األسرة ،وتمزيق لشملها ، ألن ّ
الطالق عليها ؛ ّأشبهه أقلّ ضرراً من إيقاع ّ
ألخف حسنا ً وجميالً .
ّ وإذا قيس الضّرر األخف بالضّرر األعظم ،كان ارتكاب ا
فالضّرب ليس إهانة للمرأة ــ كما يظنون ــ وإنّما هو طريق من طرق العالج ،ينفع في
المتمردة ،الّتي ال تفهم الحسنى ،وال ينفع معها الجميل ...
ّ بعض الحاالت مع بعض النّفوس
وإن من النّساء ؛ بل من الرجال من ال يقيمه إالّ التّأديب ،ومن أجل ذلك وضعت العقوباتّ
وفتحت السجون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1الصابوني ،روائع البيان ،ج ، 1ص . 473
سادسة
المحاضرة ال ّ
تفسيــــر آيــــة العقــــود
قال تعالى :
" يأ ُّيها الَّذِين آمنُوا أوفُوا ِبالعُقُو ِد أ ُ ِحلَّت لكُم ب ِهيمةُ األنع ِام ِإالّ ما يُتلى عليكُم غير ُم ِح ِلّي
الصَّي ِد وأنتُم ح ُُر ٌم ِإنَّ هللا يحكُ ُم ما يُ ِري ُد " المائدة . 1 /
ــ " يأ ّيها ا ّلذين آمنوا " :قال ابن العربي :قال علماؤنا :قال علقمة :إذا سمعت " يأ ّيها الّذين
آمنوا " فهي مدنيّة ،وإذا سمعت " يأيّها النّاس " فهي مكيّة ؛ وهذا ربّما خرج على األكثر ()1
ــ " أوفوا " :يقال :وفى وأ ْوفى .قال أه ُل العربيّة :واللّغتان في القرآن ؛ قال هللا تعالى ":
ومن أوفى بعهده من هللا " التوبة . 111 /
ويقال أوفى ووفى بفتح الفاء مخ ّففة وو ّفى بتشديد الفاء بمعنى أدّى ما التزمه مع المبالغة في
حالة التشديد ،والك ّل ورد في القرآن " أوفوا بالعقود " و " وإبراهيم الّذي وفّى " النجم . 37 /
وقال ال ّنبي صلّى هللا عليه وسلّم " :من وفَّى منكم فأجره على هللا (. )2
ــ " بالعقود " :العقود جمع عقد وهو في األصل الربط ،تقول عقدت الحبل بالحبل إذا ربطته
بالجص إذا ربطته به ،وتقول عقدت البيع لفالن إذا ربطت بالقول ،واليمين
ّ به ،وعقدت البناء
في المستقبل تسمى عقدا ً ؛ ّ
ألن الحالف ربط نفسه بالمحلوف عليه والزمها به ،والمراد بالعقود
هنا يشمل العهود التي عقدها هللا علينا وألزمنا بها من الفرائض والواجبات والمباحثات من
معامالتهم ومناكحتهم (. )3
وفيه خمسة أقوال ( /1 : )4العقود :العهود ؛ قاله ابن عبّاس (. )5
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )2المصدر السابق الصفحة نفسها /محمد علي السايس ،تفسير آيات األحكام ،ج ، 2/1ص . 334
( )5في أحكام الجصاص ،ج ، 3ص ، 282روي عن ابن عباس ،ومجاهد ،ومطرف ،والربيع ،
والض ّحاك ،والسدي ،وابن جريج ،والثّوري .
/2حلف الجاهليّة ؛ قاله قتادة .وروي عن ابن عباس ،وضحاك ،ومجاهد ،والثّوري .
/3الّذي عقد هللا عليكم وعقدتم بعضكم على بعض ؛ قاله الزجاج .
/4عقد النكاح والشركة واليمين والعهد والحلف ،وزاد بعضهم البيع ؛ قاله زيد ابن أسلم .
/5الفرائض ؛ قاله الكسائي ؛ وروى ّ
الطبري أنّه أمر بالوفاء بجميع ذلك .
قال ابن العربي( : )1وهذا الّذي قاله الطبري صحيح ،ولكنّه يحتاج إلى تتقيح :
وقال عبد هللا بن عمر :الدينار بالدينار والدّرهم بالدّرهم ال فضل بينهما ،هذا عهد نبيّنا
إلينا وعهدنا إليكم .
وتقول العرب :عهدنا أمر كذا وكذا ؛ أي عرفناه ،وعقدنا أمر كذا وكذا ؛ أي ربطناه
بالقول كربط الحبل بالحبل ؛ قال ال ّ
شاعر( الحطيئة ) :
شدوا العناج ( )2وشدوا فوقه الكربا قوم إذا عقدوا عقدا ً لجارهم
وعه ُد هللا إلى الخلق إعالمه بما ألزمهم وتعاهد .وتعاهد القوم :أي أعلن بعضهم لبعض بما
التزمه له وارتبط معه إليه وأعلمه به ؛ فبهذا دخل أحد اللّفظين في اآلخر ،فإذا عرفت هذا
صواب هو أبو إسحاق الزجاج ،فك ّل عهد هلل سبحانه أعلمنا به أن الّذي قرطس( )3على ال ّ علمت ّ
ابتدا ًء ،والتزمناه نحن له ،وتعاقدنا فيه بيننا ،فالوفاء به الزم بعموم هذا القول ال ُمطلق الوارد
منه سبحانه علينا في األمر بالوفاء به .
ــ وأ ّما من قال عقد البيع وما ذكر معه فإنّما أشار إلى عقود المعامالت وأسقط غيرها وعقود هللا
والنذور ؛ وهذا تقصير .
ــ وأ ّما قول الكاسائي الفرائض ؛ فهو أخو قول الزجاج ،ولكن قول الزجاج أوعب ؛ إذ دخل فيه
الفرض المبتدأ والفرض الملتزم والنّدب ،ولم يتض ّمن قول الكسائي ذلك كله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أحكام القرآن ،ج ، 2ص 525ــ . 526
( )2العناج :خيط أو سير يش ّد في أسفل الدّلو ،ث ّم يش ّد في عروتها .والكرب :الحبل الّذي يش ّد على الدّلو
األول .وهذه أمثال ضربها الحطيئة إليفائهم بالعهد .
بعد الحبل ّ
( )3يقال رمى فقرطس :أي أصاب القرطاس .والرمية التي تصيب :مقرطسة ( اللسان )
إذا ثبت هذا فربطُ العقد تارة يكون مع هللا ،وتارة يكون مع اآلدمي ،وتارة يكون بالقول ،
صالةوتارة بالفعل ؛ فمن قال ":هلل عل ّي صوم يوم " فقد عقده بقوله مع ربّه ،ومن قام إلى ال ّ
صوم ،ويلزم هذا تمام الصالة ّ ،
ألن كلّ فنوى وكبّرفقد عقدها لربه بالفعل ،فيلزم األول ابتداء ال ّ
واحد منهما قد عقدها مع ربّه ،والتزم .والعقد بالفعل أقوى منه بالقول .وكما قال سبحانه ":
شره مستطيرا " اإلنسان . 7 /كذلك قال تعالى ":يأيّها الّذين يوفّون بالنّذر ويخافون يوما ً كان ّ
ي
آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وال تبطلوا أعمالكم " محمد . 33 /وما قال القائل :عل ّ
صوم يوم أو صالة ركعتين إالّ ليفعل ،فإذا فعل كان أقوى من القبول ؛ فإن القول عقد وهذا نقد.
ــ " أحلّت لكم بهيمة األنعام " :األنعام جمع نعم بفتحتين وأكثر ما يطلق على اإلبل ،ولكن
المراد به هنا ما يشمل اإلبل والبقر والغنم ( . )1والبهيمة :قال ابن عباس المراد بها هنا أجنّة
األنعام ،فهي حالل متى ذ ّكيت أ ّمهاتها .وهو مذهب الشافعية ،وإنّما لم يقل أحلّت لكم األنعام
ليشير إلى أن ما يماثل األنعام مثلها في الح ّل كالضباء وبقر الوحش ما لم يدلّ الدّليل على
حرمته(. )2
ــ الدليل /1قوله تعالى ":واألنعام خلقها لكم فيها دف ٌء ومناف ُع ومنها تأكلون .ولكم فيها
جما ٌل حين تريحون وحين تسرحون .وتحمل أثقالكم " النحل ، 5 /وما بعدها
ــ الدليل /2قوله تعالى ":ومن األنعام حمولةً وفرش ٍا ،كلوا م ّما رزقكم هللا ةال تتّبعوا ُخطوات
ّأن اثنين ومن المعز اثنين "األنعام 142 / الشّيطان ،إنّه لكم ٌّ
عدو ُمبين .ثمانية أزواج من الض ِ
ــ الدليل /3قوله تعالى ":ومن اإلبل اثنين ومن البقر اثنين "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذه ثالثة أد ّلة تنبّئ عن تض ّمن اسم ال ّنعم لهذه األجناس الثالثة :اإلبل والبقر والغنم ،
فأما الوحشية فلم أعلمه إلى اآلن إالّ اتّباعا ً ألهل اللّغة .
لتأنيس ذلك كلّه ّ ،
محرم في كتاب هللا تعالى ،أو سنّة نبيّه
ّ ــ " إالّ ما يتلى عليكم " :الصحيح أنّه من قوله في ك ّل
صلّى هللا عليه وسلّم ( . )1والمقصود ما يستثنى من ح ّل بهيمة األنعام ،ما يتلى عليكم آية
فإن كلّ هذا حرام ما لم تدرك ذكاته ،وهو حي بالتفصيل تحريمه من الميتة والمنخنقة الخ ؛ ّ
الذي يأتي (. )2
ــ " غير ُمحلّي الصّيد " :حال من الكاف في أحلت لكم بهيمة األنعام (. )3
القول /3أحلّت لكم بهيمة األنعام إالّ ما يُتلى عليكم إالّ ما كان منها وحشيا فإنّه صيد ال يحلّ
لكم وأنتم حرم .
ث ّم قال ابن العربي بعد تنقيحه لألقوال المذكورة ":إنّما ينبغي أن يقال تقديره ( أحلت لكم
بهيمة األنعام إالّ ما يتلى عليكم ،غير محلين صيدها وأنتم حرم ) ،فيص ّح المعنى ،ويقلّ
فضول الكالم ،ويجري على قانون النّحو " .
ــ " وأنتم حرم " :ال ُح ُرم جمع حرام ،بمعنى محرم كعناق وهي األنثى من ولد المعز ،وعنق
بالضم (. )5
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1ابن العربي ،أحكام القرآن ،ج ، 2ص . 531
( )6( )5تفسير آيات األحكام ،لمحمد السايس ،ج ، 2/1ص . 334
فقه األحكام ( : )1يؤخذ من اآلية الكريمة :
/2وجوب الوفاء بالعقود ا ّلتي يجريها النّاس بعضهم مع بعض فيما هو مأذون فيه ؛ كالقيام بأداء
المهور والنّفقات في باب النّكاح ،والمحافظة على مال المستأمن ونفسه في باب األمان،
والمحافظة على الوديعة والعارية والعين المرهونة وردّها على أصحابها سالمة وما أشبه ذلك
وكذا الوفاء بالنّذور .
/4عقد اليمين هل يجب الوفاء به طالما فيه كفّارة لتحقّق المصلحة عند الحنث ؟ الجواب :أنّه ال
مما يجب الوفاء باليمين ،وكيف ال يجب الوفاء به وهو عقد أ ُ ِ ّكد باسم
يجب الوفاء بشيء أكثر ّ
البر ،وخلفا ً من هللا سبحانه ؟ لكن ال ّشرع أذن رحمة ورخصة في إخراج الكفارة بدالً من ّ
الحنث . المعقود عليه الّذي ّ
فوته ِ
/5في قوله تعالى " إالّ ما يتلى عليكم " دليل على جواز تأخير البيان عن وقت ال يفتقر فيه إلى
تعجيل الحاجة ،وهي مسألة أصوليّة .
/6حلّ ذبائح األنعام من جهة االنتفاع بلحومها وجلودها وعظامها وأصوافها .
/8هل جنين النّاقة والبقرة والشاة أو نحوها يعتبر من بهيمة األنعام المحلّلة ؟ للعلماء في ذلك
ثالثة أقوال :
ــ أنّه حرام بك ّل حال ،إالّ أن يذ ّكى ؛ قاله أبو حنيفة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سايس ،ج ، 2/1ص / 335ابن العربي ،أحكام القرآن ،ج ، 2ص 528
( )1تفسير آيات األحكام ،محمد ال ّ
ــ 532ــ . 535
( )2صحيح ،رواه اإلمام أحمد في مسنده ( 326/5ـ ) 327ورواه ابن ماجة في سننه ( )2340انظر إرواء
الغليل لأللباني (. )896
ــ الفرق بين أن يكون قد استقلّ ونبت شعره ،وبين أن يكون بضْعة ( قطعة من اللّحم ) كالكبد
ّ
والطحال ؛ قاله مالك .
وتع ّلق بعضهم بالحديث المشهور ":ذكاةُ الجنين ذكاةُ أ ّمه " .ولم يص ّح عند األكثر ،
وص ّححه الدارقطني .
في هذه اآلية دعا هللا تعالى المؤمنين ،وناداهم بوصف اإليمان ليحثّهم على امتثال ما يك ّلفهم
شأن في المؤمنين االنقياد لما يك ّلفون به من قبل هللا تعالى ،وطالبهم بالوفاء بالعقود ، فإن ال ّ
به ّ ،
أي التكاليف ا ّلتي أعلمهم بها والتزموها بقبولهم اإليمان الّذي يعتبر تع ّهدا ً منهم بالعمل بمبادئه
والوقوف عند حدوده ،ومن هذه التكاليف ما يعقد النّاس بعضهم مع بعض من األمانات
محرمات اإلحرام ":أحلّت لكم بهيمة ّ والمعامالت ،ث ّم قال تعالى تمهيدا ً للنّهي عن بعض
األنعام" أي من اإلبل والبقر والضّأن والماعز ،والبهيمة في األصل ك ّل حي ال يميز سمى
بذلك؛ ألنّه أبهم عن أن يميّز ،أي حجب فهو عام يشمل األنعام وغيرها سواء أكانت من ذوات
األربع أو ال ،وإضافة للبيان أي بهيمة هي األنعام ،وخرج بها غير األنعام سواء كان من
ذوات الحافر كالخيل والبغال والحمير ،أم من غيرها مثل األسد والنّمر والذّئب ،وقيل البهيمة
حرم عليهم فيما بعد من خاص بذوات األربع ،ث ّم قال :إالّ ما يتلى عليكم ،وهو استثناء لما ّ
الميتة والمنخنقة الخ ...والذي يجب أن يمتنعوا عنه ويمتثلوا ،وأن يتنعّموا بما أح ّل لهم من
يشرع ما يشاء بحسب ما تقتضيه حكمته صيد في حالة اإلحرام ،وهو سبحانه ّ النّعم مع اتّقاء ال ّ
فيتصرف فيها كما يشاء بحكمته وحسن تدبيره. ّ دون اعتراض عليه ؛ ألنّه مالك األشياء وخالقها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1ابن العربي ،أحكام القرآن ،ص . 334
جامعة الجزائر ـ 1ـ بن يوسف بن خدة
كليّة العلوم اإلسالمية ـ الخروبة ـ
/1التعريف بأحاديث األحكام :أحاديث األحكام كما هو معلوم ،علم من علوم الحديث يعتني
بدراسة فقه متن الحديث ،ويعرف في بعض الكتب الحديثة باسم فقه الحديث ،أو فقه السنة .
أــ تعريف أحاديث األحكام :نعرفعه كمركب إضافي ،ثم كعلم قائم بنفسه .
ــ تعريفه كمركّب إضافي :أحاديث األحكام مفهوم مركب من كلمة :أحاديث وأحكام .
ـ األحاديث لغة ( : )1جمع حديث ،ويرد بعدة معاني :بمعنى الخبر .
والمعنى األول هو المراد ،أي ما نقل إلينا مما أخبر به النبي صلى هللا عليه وسلم .
ـ الحديث اصطالحا ً :هو كل ما ورد عن النبي صلى هللا عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل
أو تقرير (. )2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1ابن منظور ،لسان العرب ،ج ، 4ص / 54زين الدين الرازي ،مختار الصّحاح ،تـ :يوسف الشيخ
محمد ،المكتبة العصرية ـ الدار النموذجية ،بيروت ـ صيدا 1420 ،هـ1999/م ،ج ، 1ص . 68
( )2محمد الصالح الصدّيق ،مقاصد القرآن ،دار البعث ،قسنطينة ،ط 1403 ، 2م ،ص . 367
فالقول :مثل قوله صلى هللا عليه وسلم ":إنّما األعمال بالنيات " (. )1
والفعل :وهو ما صدر عن النبي صلى هللا عليه وسلم من األفعال ؛ ومنها كيفية وضوءه
صلى هللا عليه وسلم ،وأدائه للصالة ،وأدائه لمناسك الحج ،و...فقال صلى هللا عليه وسلم ":
صلّوا كما رأيتموني أصلّئ " ( " ، )2هذا وضوئي ووضوء األنبياء من قبلي ،فمن زاد على
ذلك أو نقص فقد أساء وتعدّى وظلم " (. )3
والتقرير :وهو سكوته صلى هللا عليه وسلم عن إنكار الفعل ،أو قول صدر من أحد من
أصحابه في حضرته أو غيبته وعلم به صلى هللا عليه وسلم ،ومثاله :عن عمرو بن العاص
سالسل ،فأشفقت إن اغتسلت أن رضي هللا عنه قال ":احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات ال ّ
أهلك ،فتي ّممت ث ّم صلّيت بأصحابي الصّبح ،فذكروا ذلك للنّبي صلّى هللا عليه وسلّم ،فقال يا
عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فأخبرته بالّذي منعني من االغتسال ،وقلت إنّي سمعت
هللا يقول ( :وال تقتلوا أنفسكم إنّ هللا كان بكم رحيما ) فضحك رسول هللا صلّى هللا عليه
وسلّم ،ولم يقل شيئا " (. )4
ـ األحكام لغة :جمع حكم ،ويطلق على معان متعددة ،وهو إثبات أمر ألمر أو نفيه عنه
بواسطة ،فإن كانت الواسطة هي العقل كان الحكم عقليا ً ،وإن كانت الواسطة هي العادة
والتجربة ؛ كان الحكم عاديا ً ،وإن كانت الواسطة هي الشرع ؛ كان الحكم شرعيا ً (. )5
ـ الحكم اصطالحا ً :خطاب هللا تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء ،أو تخييرا ً ،أو وضعا ً()6
ـ فمعناه اإلجمالي :هو ما ورد عن النبي صلى هللا عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ،
يتضمن خطابا ً شرعيا ً يفهم منه طلب فعل ،أو الكف عنه ،أو جعل شيء سببا ً أو شرطا ً لشيء
أو مانعا ً منه (. )7
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1ستأتي تخريجه الحقا ً .
( )2أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب أخبار اآلحاد ،باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في اآلذان
والصالة والصّوم والفرائض واألحكام ،رقم ، 6857 :ج ، 9ص . 86
( ) 6محمد بن علي الشوكاني ،إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول ،تـ :أحمد عزو عنابة ،دار
الكتاب العربي ،ط 1419 ، 1هـ1999/م ،ج ، 1ص . 25
( ) 7محمود طحان ،تيسير مصطلح الحديث ،بيروت ،دار الفكر ( ،دت ن) ص . 14
ـ الحكم الوضعي (سبب) :مثاله قوله صلى هللا عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤئته
"(. )1
ـ الحكم الوضعي (مانع) :قوله صلى هللا عليه وسلم ":ليس لقاتل ميراث " (. )2
ــ تعريف أحاديث األحكام بالمعنى اللّقبي :تعريف أحاديث األحكام كلقب دال على علم قائم
بنفسه لم ينقل عن أحد من العلماء ،لكن استنتج من أقوال بعضهم (. )3
التعريف " : 1هو استخراج الحكم واألحكام من نصوصه ومعانيه ،وجالء مشكل ألفاظه على
أحسن تأويلها ،ووفق مختلفها على الوجوه المفصلة تنزيلها " (. )4
التعريف " : 2هو ما تضمنه متن الحديث من األحكام واآلداب المستنبطة " (. )5
التعريف " : 3هو استنباط معاني الحديث واستخراج لطائفه وأحكامه ،من الحديث وتراجم
األبواب الدالة على ما له وصلة بالحديث المروي فيه " (. )6
ومن هذه األقوال يمكن الخلوص إلى التعريف التالي (هو العلم باألحاديث المتعلّقة باألحكام
الشرعية العملية واستنباط األحكام والمعاني واآلداب والفوائد منها ) .
مالحظة :وأحاديث األحكام منها ما يكون مؤكدا ً ألحكام القرآن الكريم ،وموافقا ً له من حيث
اإلجمال والتفصيل ،ومنها ما يكون مبينا ً ألحكام القرآن من تخصيص العام ،وتقييد المطلق ،
وتبيين المجمل ...ومنها ما يدل على حكم سكت عنه القرآن ـ أي منشئة لحكم جديد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أخرجه ابن ماجة في سننه ،كتاب الصيام ،باب ما جاء في صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ،برقم
/ 6541:ج ، 1ص . 529
( )2أخرجه ابن ماجة في سننه ،كتاب الفرائض ،باب ميراث القاتل ،برقم ، 2735 :ج ، 2ص . 914
( )3أبو حميد عبد الملك بن ظافر الماجوني الكوسوفي ،علم فقه الحديث ،مقال منشور بمجلة الجامعة
األردنية ـ األردن ،العدد ،ص 3ـ . 5
( )4القاضي عياض ،اإللماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ،تـ :السيد أحمد صقر ،دار التراث ـ
المكتبة العتيقة ـ القاهرة ،تونس ،ط 1379 ، 1هـ1970/م ،ص . 5
( )6ابن حجر العسقالني ،فتح الباري شرح صحيح البخاري ،دار المعرفة ــ بيروت ،د ط ، 1379 ،فتح الباري ج 1
ص . 11
/2نشأة علم أحاديث األحكام والتأليف فيه :السنة النبوية هي األصل الثاني للتشريع ،دورها
الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك
تبليغ وبيان ما ورد في القرآن الكريم ،قال تعالى " يا أيّها ّ
وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته وهللا يعصمك من النّاس " المائدة. 67/
فأدى النبي صلى هللا عليه وسلم األمانة وبلغ الرسالة ،وذلك تمثل في الكم الهائل من أقواله
وأفعاله وتقريراته عليه الصالة والسالم .
ونظرا ً ألهمية ما جاءت به السنة النبوية اهتم العلماء بدراستها متنا ً وإسنادا ً ،فشملت تلك
الدراسة أنواعا ً متعددة من أنواع علم الحديث ،كعلم مصطلح الحديث ،وهو ما يسمى بعلم
أصول الحديث الذي يهتم بدراسة إسناد الحديث وروايته .ودراسة متن الحديث وذلك باالهتمام
بالجانب الفقهي منه و شرحه وفهم مداركه واستنباط أحكامه ،ومعرفة الناسخ من منسوخه وغير
ذلك .
إذن فقه الحديث هو أحد علوم الحديث كما سبق بيانه والذي يتعلق موضوعه بدراسة متن
الحكم
الحديث وفقهه وفهم كل ما جاء به الرسول صلى هللا عليه وسلم ،فعن طريقه نعرف ِ
واألحكام المستنبطة من األحاديث ؛ فمعرفة أحكام الشرع اإلسالمي مرتبط بفهم الحديث النبوي.
قال الخطابي تـ ( ": )388بعد معرفة صحة الحديث ،يجب االشتغال بفهمه ،إذ هو ثمرة
هذا العلم ،فإن األساس بدون البناء بيت خرب " (. )1
وقال اإلمام البخاري مبينا ً أهمية دراسة هذا النوع من الحديث ،فقال ... " :فعليك بالفقه
قار ساكن ،ال تحتاج إلى بعد األسفار ووطء الديار ،وركوبالذي يُمكنك تعلمه وأنت في بيتك ٌّ
البحار ،وهو مع ذا ثمرة الحديث .وليس ثواب الفقيه بدون ثواب المحدث في اآلخرة ،وال
عزة بأقل من ِعز المحدث " (. )2
لهذا كان ألحاديث األحكام حظ وافر من جهود العلماء المتقدمين والمتأخرين ،فألف في
شرحها عدد من المصنفات أغلبها شروح على كتب السنة عموما ً ،ثم اختص بعضها باألحاديث
المتعلقة باألحكام ،فرتبت بترتيب األبواب الفقهية .
ومن أبرز الكتب المتخصصة في دراسة أحاديث األحكام حسب الترتيب الزمني مايلي :
ــ األحكام الشرعية الكبرى ـ الوسطى ـ والصغرى ،كلها ألبي محمد عبد الحق ابن عبد الرحمن
األشبيلي المعروف بابن الخراط (تـ 581هـ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1محمد ضياء الرحمن األعظمي ،معجم مصطلحات الحديث ولطائف األسانيد ،الرياض ،مكتبة أضواء
سنن ،وهو شرح سنن أبي داود ، السلف ،ط 1420 ، 1هـ 1999/م ،ص / 296والخطابي ،معالم ال ّ
المطبعة العلمية ،حلب ،ط1351 ، 1هـ 1932/م ،ج ، 1ص . 3
( )2عبد الهادي نجا بن رضوان األبياري ،نيل األماني في توضيح مقدمة القسطالني لشرحه على صحيح
البخاري ،إخراج وضبط وتعليق أحمد معبود ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ص . 149
ــ األحكام لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (600هـ) ،وهو كتاب ضخم في ستة أجزاء .
ــ عمدة األحكام عن سيد األنام ،لعبد الواحد أيضا ً ،والذي شرحه العديد من العلماء حتى بلغت
شروحه سبعة شروح .
ــ إحكام اإلحكام شرح عمدة األحكام لمحمد ابن علي المعروف بابن دقيق العيد (تـ702هـ) ،فيه
أربعة أجزاء .
ــ العدّة على شرح العمدة ،لمحمد بن إسماعيل الصنعاني ،وهو حاشية على إحكام اإلحكام في
أربعة مجلدات .
ــ تيسير المرام في شرح عمدة األحكام ،البن مرزوق التلمساني المالكي (تـ ، )781وذلك في
خمسة مجلدات ،قال ابن حجر :جمع فيه كالم ابن دقيق العيد والفاكهاني وابن العطار وغيرهم
ــ اإلمام في معرفة أحاديث األحكام ،البن دقيق العيد ،ثم اختصره في كتاب آخر سماه :
ــ اإللمام بأحاديث األحكام ،وبلغ عدد أحاديثه 1473حديثا ً ،طبع في جزء واحد ،ثم شرحه ،
ثم شرحه ابن دقيق نفسه في كتاب آخر سماه :
ــ اإلمام شرح اإللمام في أحاديث األحكام ،شرح فيه بعضا ً من اإللمام شرحا ً عظيما ً حافالً ،
قالوا عنه ( :لو كمل لما كان في اإلسالم نظيره ) .
وقال عنه الذهبي " :لو كمل تصنيف اإلمام وتبييضه لجاء في 15مجلدا ً " ،ولم يصلنا
شيء من هذا اإلمام .
ــ المنتقى في األحكام لمجد الدين عبد السالم بن عبد هللا بن تيمية الحراني (تـ 652هـ) ،وهو
الذي شرحه الشوكاني في نيل األوطار شرح منتقى األخبار .
ــ بلوغ المرام من أدلة األحكام للحافظ ،أحمد بن علي بن حجر العسقالني (تـ ،)852وقد
اشتمل هذا المتن على أصول األدلة الحديثية األحكام الشرعية ،وحرره مؤلفه تحريرا ً بالغا ً ،
ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغا ً ويستعين به الطالب المبتدئ ،وال يستغني عنه الراغب
المنتهي .كما ذكر في مقدمته ،وقد بلغ مجموع أحاديث هذا المتن ( )1596حديثا ً .ولهذا المتن
ميزات كثيرة ،ذكر منها في كتاب الروض البسام من ترجمة بلوغ المرام لمؤلفه الشيخ حسن
بن صديق خان .نشرته دار الصميعي في الرياض سنة 1411هـ .
وقد شرح هذا المؤلف غير واحد من العلماء ومنهم الصنعاني شرف الدين الحسين بن محمد
بن سعيد بن عيسى العربي اليمني من علماء الزيدية 1119هـ باليمن في :
ــ البدر التمام في شرح بلوغ المرام ،وكان شرحه حافل لم يكتف فيه بشرح الحديث وداللته.
ــ سبل السالم شرح بلوغ المرام ،لمحمد بن إسماعيل بن صالح األمير الكحالني الصنعاني (تـ
1182هـ)
ــ إعالم األنام شرح بلوغ المرام ،لنور الدين عتر ،وهو من المعاصرين .
ــ توضيح األحكام من بلوغ المرام ،للشيخ عبد هللا بن عبد الرحمن البسام .
/3كيفية دراسة أحاديث األحكام :يستفاد من الدراسات السابقة القديمة والحديثة منها فيما
يخص كيفية دراسة أحاديث األحكام مايلي :
ــ في البداية إعطاء مقدمة للدرس تحتوي على :التعريف اللغوي والشرعي للمسألة ،ثم الكالم
عن المشروعية أو عدمها باختصار .
ــ عرض نص الحديث مع سنده إن كان الوحيد في الباب ،ثم ذكر ما يشهد له وما يخصصه أو
يقيده أو يعارضه من األحاديث في الموضوع الواحد ،وهذا ما يستفاد من صنيع صاحب منتقى
األخبار (ابن تيمية الجد) وشارحه اإلمام الشوكاني في نيل األوطار .
ــ بيان من خرج الحديث من األئمة باختصار ،كما فعل العسقالني في بلوغ المرام ،ثم تفصيل
التخريج في الهامش .
ــ دراسة اإلسناد والروايات ،والغاية من ذلك ليست التحقق من أجل قبول الحديث فحسب ؛ بل
لتحصيل الدراية للطالب على البحث المنهجي أيضا ً .
ــ التطرق لسبب ورود الحديث إن وجد ،وال يُكتفى بذكره ،بل يعلق عليه بما يعود على نص
الحديث بالفهم .
ــ التعرض لشرح غريب الحديث ،إللقاء الضوء على ما يعسر فهمه من مجرد القراءة العابرة.
ــ التعرض لإلعراب ،كما يفعل األئمة السابقون كالصنعاني والشوكاني وغيرهم ،مما له دور
في فهم المعنى .
ــ التعرض للجانب البالغي للحديث ،لتحصيل الفهم التام للمعنى المقصود .
ــ وأخيراً القيام بأهم شيء في الدراسة وهو استنباط األحكام والفوائد والمقاصد .
اقتراحات علمية ومنهجية في دراسة أحاديث الحكام :تفضل بها أحد أساتذاتنا الكرام اعتمادا
على الدراسات السابقة ،وتدريسه للمادة :
/5العناية بأسباب ورود الحديث الشربف ومناسباته ،ومواطن تطبيقاته عند الصحابة والتابعين.
/8العناية بالتعليل الفقهي للحديث النبوي (وهو موضوع واسع جدا) .
/9الخالصة والترجيح :بعد أن يتعرض الباحث للخالف الفقهي البد أن يصل إلى خالصة
وترجيح بعض األقوال على بعض ،وذلك إذا كان التعارض على سبيل التمانع ،أما إذا كان
الخالف على سبيل التنوع فال سبيل إلى الترجيح .
المقررة :وهي
ّ ثانيا ً :دراسة تطبيقية لألحاديث
المحاضرة األولى
شرح حديث (إنّما األعمال بالنيّات)
عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ،قال :سمعت رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم يقول " :إنّما األعمال بالنيّات ،وإنّما لك ّل امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى هللا
ورسوله ،فهجرته إلى هللا ورسوله ،ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها
فهجرته إلى ما هاجر إليه " متفق عليه .
أوالً :التّعريف براوي الحديث ( : )1هو أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي هللا ّ
عنه بن نفيل القرشي العدوي .أسلم في السنة السادسة من البعثة ،والمسلمون يومئذ بضعة
وثالثون يجتمعون في دار األرقم بن أبي األرقم المخزومي ،وكان إسالمه كسبا ً كبيراً
للمسلمين ،ودعما ً لدعوة الحق .
قال عبد هللا بن مسعود ":كان إسالم عمر فتحا ً ،وكانت هجرته نصرا ً ،وكانت إمارته
رحمة ،لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر ،فلما أسلم عمر قاتلهم حتى
تركونا فصلينا " (. )2
فكانت شخصية عمر المتعددة الجوانب ،وعبقريته ،وبعد نظره ،ودقة فهمه ،وصدق
فراسته في معرفة الرجال عوامل أساسية جعلت منه الخليفة العادل ،والمدبر الحسن ألمور
المسلمين ،والقوام بمصالحهم ،فكان بحق كما قال عليه الصالة والسالم ":فلم أر عبقريا من
النّاس يفري فريهُ " ( . )3وهو كما أنه رجل الفقه والعلم ،فقد روي له عن رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم :خمسمائة وسبعة وثالثون حديثا ً ،لذلك ال يقدر أحد على أن يصنع مثل صنيعه ،
فهو كما قال العقاد ":نمط ال يتكرر ... ،فالعدل والرحمة والغيرة والفطنة واإليمان الوثيق
صفات مكينة فيه ال تخفى على ناظر . )4( " ...
ثانيا ً :درجة الحديث :روي هذا الحديث في الصحيح بروايات مختلفة ( :العمل بالنية) ( ،إنما
األعمال بالنية) وغيرها ،والمعنى واحد ،فإذا أفرد العمل أو النية فالمراد الجنس ،فتتفق رواية
اإلفراد مع رواية الجمع (. )5
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1انظر سير أعالم النبالء للذهبي ،مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط 1405 ، 3هـ 1985/م في السيرة
النبوية ،ص ، 141وص 71وما بعدها في سيرة الخلفاء الراشدين /وأيضا ً حلية األولياء وطبقات األصفياء
ألبي نعيم األصبهاني ،دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ (د ط ت ) ج ، 1ص 38وما بعدها /وأيضا ً الطبقات
الكبرى ألبي عبد هللا بن سعد ،دار الكتب العلمية ،ط 1410 ، 1هـ1990/م ،ج ، 3ص 201وما بعدها .
( )2أسد الغابة في معرفة الصحابة ،البن األثير ،دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط 1415 ، 1هـ1994/م ،ج4
ص . 137
( )3أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب أصحاب النبي صلّى هللا عليه وسلّم ،باب مناقب عمر بن الخطاب ،
برقم / 3512 :ومسلم في صحيحه ،كتاب فضائل الصحابة ،باب من فضائل عمر رضي هللا عنه ،برقم :
. 2393
( )4عبقرية عمر ،عباس محمود العقاد ،المكتبة التجارية الكبرى بمصر ،مطبعة االستقامة ( ،د ط)
1361هـ1942/م ،ص 23وما بعدها .
( )5شرح األربعون النووية ،صالح بن عبد العزيز آل الشّيخ ،ص . 22
فهذا الحديث في أول إسناده فرد ،واشتهر من عند يحي بن سعيد ؛ ألنه تفرد به عمر ،
إذ لم يروه عن النبي صلى هللا عليه وسلم إال هو ،وال عن عمر إال من رواية علقمة بن وقاص،
وال عن علقمة إال من رواية محمد بن إبراهيم التيمي ،وال عن محمد إال من رواية يحي بن
سعيد األنصاري ،وعن يحي انتشر فرواه أكثر من مائتين أكثرهم أئمة .
فقال العلماء :ولم يصح هذا الحديث عن النبي صلى هللا عليه وسلم إال من رواية عمر بن
الخطاب ،وقال األئمة :هو ليس متواترا ً وإن كان مشهورا ً عند الخاصة والعامة ؛ ألنه فقد
شرط التواتر في أوله (. )1
ــ أخرجه البخاري في صحيحه ،أول كتاب في بدء الوحي ،باب كيف كان بدء الوحي . 6/1
ــ أخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب الطهارة ،باب قوله صلى هللا عليه وسلم ":إنما األعمال
بالنيات " . 48/6
ــ أخرجه النسائي في سننه ،كتاب الطهارة ،باب النية في الوضوء 58/1ـ 60و 14/1ـ 13
ــ أخرجه أبو داود في سننه ،كتاب الطالق ،باب ما عني به الطالق والنيات فيه . 179/4 ،
ــ إنّما :وهي مكونة من (إن) حرف توكيد ونصب ،و(ما) التي تسمى الكافة المكفوفة ،أي
التي ال عمل لها ،وتمنع إن من عملها .
فإنما أداة حصر ؛ والحصر هو :تخصيص أحد األمرين باآلخر وحصره فيه .أي إثبات
الحكم في المحصور ،ونفيه عما عداه .وإذا ثبت أنها للحصر :فتارة تقتضي الحصر المطلق ،
وتارة تقتضي حصرا ً مخصوصا ً ،ويفهم ذلك بالقرائن والسياق (. )2
ــ األعمال :جمع عمل ،وهو محلى باأللف والالم الذي يفيد االستغراق ،فيشمل كل ما يصدر
عن المكلف ،فيدخل فيه األقوال واألفعال ،واالعتقاد .
ــ بالنيّات :جمع نية ،وهي لغة :بكسر النون المشددة ،وفتح الياء المشددة ،من نوى ينويه
نية :قصده ،والتشديد هو المشهور ،وورد فيها التخفيف (نية) :عزم القلب على أمر من
األمور .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )2إحكام اإلحكام شرح عمدة األحكام ،البن دقيق العيد ،مطبعة السنّة المحمديّة ( ،د ط ت) ،ج ، 1ص . 59
وشرعا ً :ال يختلف المعنى الشرعي للنية عن معناها اللغوي ،وهو القصد والعزم ،إال
أنهما يختلفان من حيث أن المعنى الشرعي للنية ينحصر بالقصد المتوجه إلى هللا تعالى فقط .
والنية نوعان :نية متعلقة بالعبادة ،وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض ،تمييز الصالة
عن الصيام ،تمييز الصالة المفروضة عن النفل .والنية المتوجهة للمعبود ؛ والمقصود بها
اإلخالص ـ إخالص القلب ـ إخالص العمل هلل تعالى ،والحديث يشمل النوعين معا ً .
ومعنى إنما األعمال بالنيات ؛ أي كل عمل بنية ،فال عمل إال بنية ،فاألعمال مشروطة
بإرادة القلب وقصده .والبد من تقدير مضاف للمحصور ،فقدره األكثرون بالصحة :أي إنما
صحة األعمال بالنيات ،وقدره اآلخرون بالكمال ،وقالوا :تقديره إنما كمال األعمال ،واألول
أرجح (. )1
ــ لك ّل امرئ مانوى :بكسر الراء ،أي لكل رجل ،والمراد هنا لكل امرئ وامرأة ما نوت .
أي إنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه ،فتكون الجملة األولى ( إنما األعمال
بالنيات) متعلقة بصحة العمل ،والجملة الثانية (لكل امرئ ما نوى) يراد بها الثواب على العمل.
ــ إلى دنيا يصيبها :تشبيه ،وهو للداللة على مشاركة أمر ألمر في معنى أو في وصف من
أوصاف أحدهما في نفسه كالشجاعة في األسد ،والمراد باإلصابة الحصول والتقدير ،فمن
كانت هجرته إلى تحصيل الدنيا فهجرته حاصلة ألجل الدنيا غير مفيدة له في اآلخرة ،فكأنه
شبه تحصيل الدنيا بإصابة الغرض بالسهم (. )2
ــ دنيا :بضم الدال مقصورة على وزن فعلى ،من الدنو ،وهي كل المخلوقات من الجواهر
واألعراض الموجودة قبل اآلخرة (. )3
ــ فهجرته :الهجر ترك الشيء واإلعراض عنه ،والهجرة ترك البلد إلى غيره ،والمراد هنا
الهجرة المعنية المشهورة في التاريخ ،وهي الهجرة من مكة إلى المدينة التي أرخ بها تاريخ
اإلسالم .
ــ إلى هللا :أي الباعث لهجرته هو ابتغاء وجه هللا ونصرة رسوله عليه الصالة والسالم .
ــ فهجرته إلى هللا ورسوله :أي كتبت له عم ٌل صالح .والهجرة هنا هي االنتقال من بلد الكفر
إلى بلد اإلسالم .
قال ابن دقيق العيد ":المتقرر عند أهل العربية :أن الشرط والجزاء والمبتدأ أو الخبر ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1انظر إحكام اإلحكام البن دقيق ،ج ، 1ص . 61
( )2دراسات تطبيقية في الحديث النبوي ،نور الدين عتر ،كلية الشريعة ،جامعة دمشق ،ط ، 1995 ، 6
ص
المعنى اإلجمالي :حديث إنما األعمال بالنيات ،حديث جليل الموقع عظيم المكانة ،وهو أحد
األحاديث التي عليها مدار اإلسالم ،وجاء هذا الحديث ليؤكد عدة معاني :
األول :ابتداء الحديث بذلك التعميم الشامل الجامع ،ليشمل األفعال واألقوال ،وسائر
ــ المعنى ّ
التصرفات ،ويجعلها مرتبطة بالنية ،حتى المباحات من الطعام والشراب والملبس ،إذا
تعاطاها اإلنسان بنية صالحة كالتقوي على واجباته التي تلزمه فإنه يثاب عليها وتكون طاعة ،
وإن قصد التفاخر والتكبر كان معاقبا ً عليه ،وهكذا كل شأن من درس وعلم وتعلم وتعاطى
حرفة أو شيء ،فقد شمل الحديث كل جوانب الحياة ،ووجه اإلنسان إلى التسامي بمقاصده في
كل شيء منها إلى المعالي ،ورفعه عن التصرفات التلقائية أو المندفعة بعامل الغريزة المجردة
أو غير ذلك .وقد أكد هذا المعنى ما أفاده هذا الشمول في الحديث بالحصر الذي أفاده "إنما" .
ــ المعنى الثاني :في قوله ":وإنما لكل امرئ ما نوى " أفاد هذا العموم لكل الناس رجاالً
ونساء بأن لكل امرئ منهم الذي نواه فقط .ال يتجاوز حظه من عمله نيته ؛ بل على حسب نيته
يكون ثوابه ويقدر ،وهذا حكم جديد غير األول .
ــ المعنى الثّالث :االنتقال من التعميم إلى التخصيص ؛ حيث انتقل الحديث من ذلك التعميم
لجميع األعمال ليذكر عمالً واحدا ً منها ،ذلك العمل الجليل الذي سجله التاريخ في صفحات
الخلود ،وهو الهجرة (. )2
وتظهر مناسبة تخصيص الهجرة جلية وبصورة أقوى إذا الحظنا مناسبة واقعية سوى
المناسبة العامة لذكر الخاص بعد العام ،تلك المناسبة الواقعية هي ما اشتهر أن سبب ورود هذا
الحديث قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات ،من
رواية األعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال :كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها :أم
قيس ،فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر ،فهاجر فتزوجته .قال فكنا نسميه مهاجر أم قيس .
هذا التخصيص للمرآة بعد الدنيا من بين الدوافع ،وهو ما يسميه العلماء بالتنصيص على
الخاص بعد العام .
وهنا يظهر السر البالغي واضحا ً ،وهو االهتمام ،وإبراز مزيد االعتناء بهذا الدافع على
الخصوص ؛ ألن التأثر به أشد .فإذا تأثر به إنسان في عمل جليل ؛ بل عمل من أجل األعمال
في تاريخ اإلنسانية ،وكان يظهر قصد الهجرة خالصا ً هلل ،وهو في الواقع ال يقصدها وحدها ؛
بل يقصد معها رغبته الخاصة ومراد نفسه .فإنه يستوجب الذم بذلك ؛ ألنّه أظهر خالف ما أبطن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1إحكام اإلحكام البن دقيق العيد ،ج ، 1ص . 62
( )2دراسات تطبيقية في الحديث النبوي ،العبادات لنور الدين عتر ،ص
وقد عبر الحديث هنا بما يدل على غاية التعظيم في مقام اإلخالص حين قال :فتكلم عن
األول بما يفيد التعظيم " فهجرته إلى هللا ورسوله" وعبر في الثانية بما يفيد غاية التحقير حتى
كأنه ال يصلح أن يعبر عنه بشيء سوى نفسه " فهجرته إلى ما هاجر إليه " (. )1
/1النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا ً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حاالً أو
مآالً ،والشرع خصصه باإلرادة المتوجهة نحو الفع ل البتغاء رضاء هللا وامتثال حكمه .نقله في
الفتح عن البيضاوي (. )2
والمعنى ال عمل إال بالنية ،فليس المراد نفي ذات العمل ؛ ألنه قد يوجد بغير نية ؛ بل
المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال ،لكن الحمل على نفي الصحة أولى ؛ ألنه أشبه بنفي
الشيء نفسه ؛ وألن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح ،وعلى نفي الصفات بالتبع ،فلما منع
الدليل نفى الذات بقيت داللته على نفي الصفات مستمرة .
/2فيه دليل على أن الطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم ال تصح إال بالنية ،وكذلك الصالة
والزكاة والصوم والحج واالعتكاف وسائر العبادات ،أما إزالة النجاسة فالمشهور أنها ال تفتقر
إلى نية ؛ ألنها من باب التروك ،والترك ال يحتاج إلى نية .
/3ال تشترط النية في التروك ،كترك السرقة ،وترك شرب الخمر وغيرها ،فإن الترك ال
يحتاج إلى نية لحصول المقصود منها ،وهو اجتناب المنهى عنه ؛ ولكن إذا نوى بتركها التقرب
إلى هللا تعالى كان مأجورا ً .
/4وال تشترط النية في قضاء الديون ،ورد الودائع ،والنفقة على العيال وغيرها ...؛ ألن
صورتها كافية في تحصيل مصلحتها ،واستحضار النية فيها يعظم األجر .
/5األعمال الخارجة عن العبادة ال تفيد الثواب إال إذا نوى بها فاعلها القربة ،كاألكل والنوم إذا
نوى بهما التقوي على الطاعة .
/6وهذا الحديث أصل للقاعدة الفقهية (األمور بمقاصدها) ،يعني الحكم الذي يترتب على أمر
يكون على مقتضى ما هو المقصود من ذلك األمر .فاألمور بمقاصدها ـ أي الشؤون مرتبطة
بنياتها ،وأن الحكم الذي يترتب على فعل المكلف ينظر فيه إلى مقصده ،فعلى حسبه يترتب
الحكم تملكا ً وعدمه ،ثوابا ً وعدمه ،عقابا ً وعدمه ،مؤاخذة وعدمها ،ضمانا ً وعدمه (. )3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1دراسات تطبيقية في الحديث النبوي العبادات ،نور الدين عتر ،ص
( )3القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب األربعة ،لوهبة الزحيلي ،ج ، 1ص . 64
كره على تصرف من التصرفات التي لم يقصدها مثل بيعه ،وقرضه ،ورهنه ، /7من أ ُ ِ
ونكاحه ،وطالقه ،ورجعته ،ونذره ،وشهادته ،وحكمه ،وإقراره ،وردته ،وغير ذلك من
أقواله ،فإن هذه األقوال كلها منه ملغاة مهدرة باإلجماع ،فالمكره أتى باللفظ المقتضي للحكم ،
ولم يثبت حكم اللفظ ؛ ألنه لم يقصده ،وإنما قصد دفع األذى عن نفسه (. )1
/8إن المقاصد معتبرة في التصرفات من العقود وغيرها ،وهذا إبطال للحيل التي يراد بها
التوصل إلى المحرمات ؛ ألن المحتال ال يقصد بالتصرف مقصوده الذي جعل ألجله ؛ بل يقصد
به استحالل محرم ،أو إسقاط واجب ،أو نحوه ذلك . )2( ...
/9وتدخل النية في الطالق ،ومعنى دخولها أنها إذا قارنت كناية صارت كالصريح ،بمعنى إن
ذكر لفظا ً محتم ً
ال ،ونوى به الطالق فإنه يقع طالقه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سابق ،ص . 70
( )1المرجع ال ّ
عن النعمان بن بشير رضي هللا عنهما قال :سمعت ررسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول ":
إن الحالل ب ّين ،وإنّ الحرام بيّن ،وبينهما أمور مشتبهات ،ال يعلمهنّ كثير من النّاس ،فمن
اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ،ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام ّ ،
كالراعي
يرعى حول الحمى ويشك أن يرتع فيه ،أال وإنّ لك ّل ملك حمى ،أال وإنّ حمى هللا محارمه ،
أال وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه ،وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ،أال وهي
القلب " متفق عليه .
وقد روي عن النبي صلى هللا عليه وسلم من حديث ابن عمر ،وعمار بن ياسر ،وجابر ،
وابن مسعود ،وابن عباس رضي هللا عنهم أجمعين ،وحديث النعمان أصح أحاديث الباب (.)1
ــ أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب اإليمان ،باب فضل من استبرأ لدينه ،برقم ،1 :
20/51
ــ وأخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب المساقاة ،باب أخذ الحالل وترك الشبهات ،برقم ،3 :
. 1219/1599
ــ وأخرجه ابن ماجة في سننه ،كتاب الفتن ،باب الوقوف عند الشبهات ،رقم . 3984 :
ــ وأخرجه أبو داود في سننه بلفظ مغاير ،كتاب البيوع ،باب في اجتناب الشبهات ،برقم :
. 3329
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1جامع العلوم والحكم البن رجب الحنبلي ،دار السالم ،القاهرة ،ط1424 ،2هـ2004/م ،ج ،1ص. 19
ثالثا ً :ترجمة راوي الحديث
النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة ،ويكنى أبا عبد هللا األنصاري الخزرجي ،األمير العالم
الشاعر الصحابي ابن الصحابي ،ووالده بشير بن ثعلبة من أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ،وهو أول مولود لألنصار بعد الهجرة ،إذ ولد في شهر ربيع اآلخر بعد الهجرة ،على
رأس أربعة عشر شهرا ً من هجرة الرسول صلى هللا عليه وسلم ولد ؛ أي قبل وفاة الرسول
صلى هللا عليه وسلم بثماني سنين وسبعة أشهر ،وقيل :بست سنين ،واألول أصح .وقتل سنة
65هـ رضي هللا عنه .
وهو ابن أخت عبد هللا بن رواحة ،الذي سلك مسلكه في صبغ الشعر بالصبغة القرآنية
الربانية .
كان النعمان يتمتع بمواهب متعددة ،منها :الشعر ،والخطابة ،وحفظ الحديث ،وقد روى
مائة وأربعة عشر حديثا ً ،وعُرف بكرمه وجوده وشجاعته ،رحمه هللا رحمة واسعة ،يعده
المؤرخون من الصبيان باتفاق (. )1
ــ "الحالل بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات ال يعلمهنّ كثير من النّاس " :أي أن
الحالل المحض بين ال اشتباه فيه ،وكذلك الحرام المحض ،ولكن بين األمرين أمور تشتبه على
كثير من الناس ،أهي من الحالل أم من الحرام ؟ وأما الراسخون في العلم فال يشتبه عليهم ذلك،
ويعلمون من أي القسمين هي .
فأما الحالل المحض :فمثل أكل الطيبات من الزروع ،والثمار وبهيمة األنعام ،وشرب
الشعر أو الحرير
األشربة الطيبة ،ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان ،أو الصوف ،أو ِ
للنساء ،وكالنكاح ،وكسب المال بالطرق المشروعة من بيع أو ميراث ،أو هبة .
والحرام المحض ،مثل أكل الميتة ،والد م ،ولحم الخنزير ،وشرب الخمر ،ونكاح
المحارم ،ولباس الحرير والذهب للرجال ،ومثل األكساب المحرمة كالربا ،والميسر وثمن ما
ال يحل بيعه ،والسرقة ،ونهب المال العام ،بسرقة أو غصب ،أو تزوير ،أو نحو ذلك .
وأما المشتبه :فمثل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه ،إما من األعيان كالخيل والبغال
والحمير ،والضب ،وشرب ما اختلف في تحريمه من األنبذة التي يسكر كثيرها ،ولبس ما
اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها ،وإما من المكاسب المختلف فيها ،كمسائل
العينة والتورق ونحو ذلك (. )2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1سير أعالم النبالء لل ّذهبي ،ج ، 3ص 411وما بعدها /طبقات ابن سعد ،ج ، 6ص / 53أسد الغابة
في معرفة الصحابة ،البن األثير ،ج ، 5ص . 118
"كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ،أال وإنّ لك ّل ملك حمى وإنّ حمى هللا
ّ ــ
محارمه " :
ــ الحمى بكسر الحاء ،هو الكأل الذي منع عنه الناس ،مع تهديد ووعيد من دخله ورعى فيه .
والمراد به كل محمي محظور على غير صاحبه (. )1
هذا مث ٌل ضربه النبي صلى هللا عليه وسلم لمن وقع في الشبهات ،وأنه يقرب وقوعه في
الحرام المحض ،فجعل النبي صلى هللا عليه وسلم مث ُل المحرمات كالحمى الذي يحميه الملوك ،
ويمنعون غيرهم من قربانه .
وقد جعل النبي صلى هللا عليه وسلم من يرعى حول الحمى ،جديرا ً بأن يدخل الحمى
ويرتع فيه ،فلذلك من تعدى الحالل ووقع في الشبهات ،فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة ،
فما أخلفه بأن يخالط الحرام المحض ويقع فيه ،وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن
المحرمات ،وأن يجعل اإلنسان بينه وبينها حاجزا ً .وقد خرج الترمذي وابن ماجة من حديث
عبد هللا بن يزيد ،عن النبي صلى هللا عليه وسلم ،قال " :ال يبلغ العبد أن يكون من المتّقين
حتّى يدع ما ال بأس به حذرا ً م ّما به بأس " .
ــ " أال إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه ،وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ،أال
وهي القلب "
ــ المضغة ،قطعة من اللحم ،سميت بذلك ألنها تمضغ في الفم لصغرها (. )2
فيه إشارة إلى أن صالح حركات العبد بجوارحه ،واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب
صالح حركة قلبه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1شرح النّووي على صحيح مسلم ،ج ، 11ص . 28
بين النبي صلى هللا عليه وسلم ألمته في هذا الحديث ،أنه تعالى قد تولى في كتاب هللا وفي
سنة رسوله تبيان الحالل البين والحرام البين ،في المطعم والمشرب والملبس وغيرهما من
الشؤون ،وبين لهم أن هناك أمور مشتبهات ال يدري عامة الناس أهي من الحالل أم من
الحرام؛ ألن حكمها غير موجود فيما هو منصوص من األدلة ،وأنه ينبغي اللجوء في معرفة
حكم هذه المشتبهات إلى العلماء الذين يعلمون حكمها من خالل النظر في األدلة ،والقياس
عليها ،وإلحاق األشباه بالنظائر ،ففي قوله صلى هللا عليه وسلم (فمن اتقى الشبهات) فيه إشارة
إلى أن المطلوب من المكلفين هو تحري الحالل وتجنب الحرام ،ومن تحراهما (فقد استبرأ
لدينه وعرضه) فتحصل لهم السالمة ،ويأمنوا من أن يُمس دينهم وأعراضهم ،ويُنال منهما ،
وهذا التحري واالجتناب الستبراء الدين والعرض يتطلب الورع والتقوى ،ولذلك أشار طبيب
األمة إلى إصالح القلب ،وتنقيته بالطاعة والذكر والتسبيح ومخالطة األخيار ؛ ألن في صالح
القلب صالح الجسد كله ،وقد خص القلب ؛ ألنه أمير البدن ،وبصالح األمير تصلح الرعية ،
وبفساده تفسد .
وبين في ختام الحديث العالقة بين تحري الحالل واجتناب الحرام ،وصالح القلب وفساده ،
ليكشف ذلك عن سر عظمة هذا الحديث .قال المازري وإنما نبه أهل العلم على عظم هذا
الحديث ؛ ألن اإلنسان إنما يعبد بطهارة قلبه وجسمه ،فأكثر المذام المحظورات إنما تنبعث من
القلب ،وأشار صلى هللا عليه وسلم إلصالحه ،ونبه على أن إصالحه هو إصالح الجسم ،وأنه
األصل ،وهذا صحيح يؤمن به حتى من ال يؤمن بالشرع ،وقد نص عليه الفالسفة واألطباء ،
واألحكام والعبادات آلة يتصر ف اإلنسان عليها بقلبه وجسمه فيما يقع في مشكالت وأمور
ملتبسات تكسب التساهل فيها ،وتعويد النفس الجراءة عليها ،وتكسب فساد الدين والعرض ،
فنبه صلى هللا عليه وسلم على توقي هذه ) (. )1
فاالبتعاد عن محارم هللا ،والحذر منها هو الدليل على صالح القلب ،وصالح القلب مع
العمل هو أساس الدين ،وقد قال صلى هللا عليه وسلم إنّ هللا ال ينظر إلى صوركم ،وال إلى
أموالكم ،ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) (. )2
/1في هذا الحديث دليل على أن من ارتكب الشبهات ،فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن ،كما
قال بعض السلف :من عرض نفسه للتهم ،فال يلومن من أساء به الظن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1شرح السيوطي لسنن النسائي ،كتاب البيوع ،باب اجتناب الشبهات في الكسب ،رقم ، 4453دار
البشائر اإلسالمية ،ط 1406هـ1986/م .
البر والصّلة وا آلداب ،باب تحريم ظلم المسلم وخذله ،واحتقاره ودمه وعرضه
( )2أخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب ّ
وماله ،برقم . 2564 :
/2وفيه دليل على أن طلب البراءة لل ِعرض ممدوح كطلب البراءة للدين ،ولهذا ورد " أن ما
وقى به المرء عرضه ،فهو صدقة " .وفي رواية في الصحيحين في هذا الحديث ":فمن ترك
ما يشتبه عليه من اإلثم ،كان لما استبان أترك " يعني :أن من ترك اإلثم مع اشتباهه عليه ،
وعدم تحققه ،فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم ،وهذا إذا كان تركه تحرزاً من اإلثم ،فأما
من يقصد التصنع للناس ،فإنه ال يترك إال ما يظن أنه ممدوح عندهم تركه .
/3الناس في األمور المشتبهة قسمان :أحدهما من يتقي هذه الشبهات ،الستباهها عليه ،فهذا قد
استبرأ لدينه وعرضه .
والثاني :من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده ،فأما من أتى شيئا ً مما يظنه الناس
شبهة ،لعلمه بأنه حالل في نفس األمر ،فال حرج عليه من هللا في ذلك ،لكن إذا خشي من
طعن الناس عليه بذلك كان تركها حينئذ استبراء لعرضه ،فيكون حسنا ً ،وهذا كما قال النبي
صلى هللا عليه وسلم لمن رآه واقفا ً مع صفية ":إنّما هي صفية بنت حيي " ( . )1يقصد زوجته
أم المؤمنين .
/4وإن أتى ذلك العتقاده أنه حالل ،إما باجتهاد سائغ ،أو تقليد سائغ ،وكان مخطئا ً في
اعتقاده ،فحكمه حكم الذي قبله ،فإن كان االجتهاد ضعيفا ً ،أو التقليد غير سائغ ،وإنما حمل
عليه مجرد اتباع الهوى ،فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه ،والذي يأتي الشبهات مع
اشتباهها عليه ،قد أخبر عنه النبي صلى هللا عليه وسلم أنه وقع في الحرام .
واختلف العلماء :هل يطيع والديه في الدخول في شيء من الشبهة أم ال يطيعهما ؟ فقال
البعض :ال طاعة لهما في الشبهة ،وقال آخرون يطيعهما ،وقال آخرون :يداريهما .
/5من أسباب االشتباه أن قد يكون النص عليه خفيا ً لم ينقله إال قليل من الناس ،فلم يبلغ جميع
حملة العلم .ومنها أنه قد ينقل فيه نصان ،أحدهما :بالتحليل ،واآلخر :بالتحريم ،فيبلغ طائفة
منهم أحد النصين دون اآلخر فيتمسكون بما بلغهم ،أو يبلغ النصان معا ً من لم يبلغه التاريخ ،
فيقف لعدم معرفته بالناسخ (. )2
/6ومنها ما ليس فيه نص صريح ،وإنما يُؤخذ من عموم أو مفهوم أوقياس ،فتختلف أفهام
العلماء في هذا كثيراً .ومن ها ما يكون فيه أمر ،أو نهي ،فيختلف العلماء في حمل األمر على
الوجوب أو الندب ،وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه ،وأسباب االختالف كثيرة .
/7وقد يقع االشتباه في الحالل والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر ،وهو أن من
األشياء ما يُعلم سبب حله وهو الملك المتيقن ،ومنها ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير
عليه ،فاألول ال تزول إباحته إال بيقين زوال الملك عنه ،والثاني :ال يزول تحريمه إال بيقين
العلم بانتقال الملك فيه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أخرجه البخاري ،كتاب االعتكاف ،باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد ،رقم . 2035
/9إن وجد سبب قوي يغلب معه على الظن نجاسة ما أصله الطهارة ،مثل أن يكون الثوب
يلبسه كافر ال يتحرز من النجاسات ،فهذا محل اشتباه ،فمن العلماء من رخص فيه أخذا ً
باألصل ،ومنهم من كرهه تنزيها ً ،فمنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة ،مثل أن يكون
الكافر ممن ال تباح ذبيحته ،أو يكون مالقيا ً لعورته كالسراويل والقميص .
/10ومن ذلك معاملة من في ماله حالل وحرام مختلط ،فإن كان أكثر ماله الحرام ؛ فينبغي أن
يتجنبه ،إال أن يكون شيئا ً يسيراً أو شيئا ً ال يعرف ،واختلفوا هل هو مكروه أو محرم ؟ على
وجهين .ف إن كان أكثر ماله الحالل ،جازت معاملته واألكل من ماله .وقد روى الحارث عن
علي رضي هللا عنه أنه قال في جوائز السلطان :ال بأس بها ،ما يعطيكم من الحالل أكثر مما
يعطيكم من الحرام .
/11وقد يقع االشتباه في الحكم ،لكون الفرع مترددا ً بين أصول تجتذبه ،كتحريم الرجل
زوجته ،فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى ،وبين تحريم الطلقة
الواحدة بانقضاء عدتها الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد ،وبين تحريم الطالق الثالث الذي ال
تباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة ،وبين تحريم الرجل عليه ما أحله هللا له من الطعام
والشراب الذي ال يحرمه ،وإنما يوجب الكفارة الصغرى ،أو ال يوجب شيئا ً على اختالف في
ذلك ،فمن هاهنا كثر االختالف في هذه المسألة من زمن الصحابة فمن بعدهم .وبكل حال ،
فاألمور المشتبهة التي ال تتبين أنها حالل وال حرام لكثير الناس ،كما أخبر به النبي صلى هللا
عليه وسلم ،قد يتبين لبعض الناس أنها حالل أو حرام ،لما عنده من ذلك من مزيد علم ،وكالم
النبي صلى هللا عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها ،وكثير منهم ال
يعلمها فدخل فيمن ال يعلمها نوعان :أحدهما :من يتوقف فيها ،الشتباهها عليه .والثاني :من
يعتقدها على غير ما هي عليه ،ودل كالمه على أن غير هؤالء يعلمها ،ومراده أنه يعلمها على
ما هي عليه في نفس األمر من تحليل أو تحريم .
/12استدل العلماء بهذا الحديث على مبدأ سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أخرجه البخاري في صحيح ،كتاب الوضوء ،باب من ال يتوضّأ من الشكّ حت ّى يستيقن ،رقم. 137 :
وأن من ذلك ،تحريم قليل ما يسكر كثيره ،وتحريم الخلوة باألجنبية ،وتحريم الصالة بعد
الصبح وبعد العصر سدا ً لذريعة الصالة عند طلوع الشمس وعند غروبها .
/13قال العلماء من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره ،فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع ؛
ألنه مفرط بإرسالها .
/14في الحديث إشارة إلى أن صالح حركات العبد بجوارحه ،واجتنابه المحرمات واتقاءه
للشبهات بحسب صالح حركة قلبه .فإذا كان قلبه سليما ً ،ليس فيه إال محبة هللا ومحبة مايحبه
هللا ،وخشية هللا وخشية الوقوع فيما يكرهه ،صلحت حركات الجوارح كلها ،ونشأ عن ذلك
اجتناب المحرمات كلها ،وتوق للشبهات حذرا ً من الوقوع في المحرمات .وإن كان القلب
فاسدا ً ،قد استولى عليه اتباع هواه ،وطلب ما يحبه ولو كرهه هللا ،فسدت حركات الجوارح
كلها ،وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب .ولهذا يقال القلب ملك
األعضاء ،وبقية األعضاء جنوده ،فإن كان الملك صالحا ً كانت هذه الجنود صالحة ،وإن كان
فاسدا ً كانت جنوده فاسدة .وفي مسند اإلمام أحمد عن أنس ،عن النبي صلى هللا عليه وسلم ،
قال ال يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ) ( ، )1وقال الحسن البصري لرجل :داو قلبك ؛
فإن حاجة هللا إلى العباد صالح قلوبهم :يعني أن مراده منهم ومطلوبه صالح قلوبهم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي هريرة رضي هللا عنه ،عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ":لو ال أن أشقّ على
سواك عند ك ّل صالة " .وفي رواية ":عند ك ّل وضوء " .
أ ّمتي؛ ألمرتهم بال ّ
ــ اإلمام مسلم في صحيحه ،كتاب الطهارة ،باب السواك ،وهذا اللفظ لمسلم ،رقم . 252 :
ــ والرواية الثانية :ذكرها البخاري تعليقا ً ،باب سواك الرطب واليابس للصائم . 31/3
قال الشوكاني ":الحديث إسناده صحيح ومجمع على صحته ،وقال النووي :غلط بعض
األئمة الكبار فزعم أن البخاري لم يخرجه ،وهو خطأ منه ،وقد أخرجه من حديث مالك عن
أبي الزناد عن األعرج عن أبي هريرة ،وليس هو في الموطأ من هذا الوجه ؛ بل هو فيه عن
سواك مع ك ّل
ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة ،قال لوال أن أشقّ على أ ّمتي ألمرتهم بال ّ
وضوء ) ولم يصرح برفعه .قال ابن عبد البر :وحكمه الرفع ،وقد رواه الشافعي عن مالك
مرفوعا ً ،وفي الباب عن زيد بن خالد عند الترمذي وأبي داود ،وعن علي عند أحمد ،وعن أم
حبيبة عند أحمد أيضا ً ،وعن عبد هللا بن عمرو وسهل بن سعد وجابر وأنس عند أبي نعيم .قال
الحافظ :وإسناد بعضها حسن .وعن ابن الزبير عند الطبراني ،وعن ابن عمر وجعفر بن أبي
طالب عند الطبراني أيضا ً (. )2
أبو هريرة ،هو عبد الرحمن بن صخر ،وهو دوسي النسب ،نسبة إلى دوس ،كان اسمه
في الجاهلية عبد شمس ،فسمي في اإلسالم عبد الرحمن ،وكنيته أبو هريرة ،أسلم عام خيبر ،
وشهدها مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ثم لزمه وواظبه رغبة في العلم ،وكان يدور معه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1العدّة في شرح العمدة في أحاديث األحكام ،البن العطار ،ج ، 1ص . 145
روى عنه أكثر من ثمانية رجل من بين صاحب وتابع ،وممن روى عنه من الصحابة :
ابن عباس ،وابن عمر ،وجابر بن عبد هللا ،وأنس ،وواثلة بن األسقع ،وروى عنه من
التابعين :أبو سلمة ،وسعيد بن المسيب ،واألعرج ،وأبو صالح ،وسعيد المقبري ،وابن
سيرين ،وعكرمة .
استعمله عمر على البحرين ،ثم عزله ،ثم أراده على العمل فأبى ،ولم يزل يسكن المدينة،
وبها كانت وفاته سنة سبعة وخمسين للهجرة .
روي له عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :خمسة آالف وثالثمائة وأربعة
وسبعون( )5374حديثا ً ،اتفق البخاري ومسلم على ثالثمائة وخمسة وعشرين( ، )325وانفرد
البخاري بثالثة وتسعين( ، )93ومسلم بمائة وتسعين(. )1( )190
ــ لوال :تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره ؛ ألنها نفت وجوب السواك لوجود المشقة .
ــ أن أشقّ :أن مصدرية ،الشق ،بكسر الشين :الجهد والمشقة ،والمعنى لوال خشية وقوع
المشقة عليهم ألمرتهم أي وجوبا ً .
ــ على أ ّمتي :أي أمة اإلجابة ؛ ألنهم هم الذين يُؤمرون بهذه السنن ،وألن األمة تُطلق في
النصوص على أمة الدعوة ،وهم الكفار بجميع أصنافهم ،ممن يدعون إلى اإلسالم ،وتطلق
على أمة اإلجابة ممن أجاب النبي صلى هللا عليه وسلم ،وتطلق إطالقا ً ثالثا ً إطالقا ً خاصا ً على
أمة االتباع ،الذين يتبعون ويهتدون بهديه في كل شيء عليه الصالة والسالم ،وهم أخص من
أمة اإلجابة .
سواك :قال أهل اللغة :السواك بكسر السين ،وهو يطلق على الفعل ،وعلى العُود الذي ــ بال ّ
نتسوك به ،وهو مذكر ،وقيل يذكر ويؤنث ،واألول هو الصحيح ،يقال :ساك فاه ،يسوكه
سوكا ً ،فإن قلت :استاك ،لم تذكر الفم .وقيل :إن السواك مأخوذ من ساك :إذا دلك (. )2
وهو في اصطالح العلماء :استعمال عُود ونحوه في األسنان ؛ لتذهب الصفرة وغيرها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رياض األفهام في شرح عمدة األحكام ،للفاكهاني ،ج ، 1ص . 35، 39
ــ عند ك ّل صالة :وعند معناها :حضور الشيء ،ودنوه ،وهي :ظرف مكان وزمان ؛ ال
يدخل عليها من حروف الجر ،إال ( :من) .
أن األصل في داللة األمر هو الوجوب ,وهو /1استدل أهل األصول بهذا الحديث على َّ
الصحيح ,ما لم تقترن به قرينة تصرفه عن ذلك ,فكلمة (لوال) تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره،
وهاهنا تفيد انتفاء األمر لوجود المشقة .فهذا الحديث يدل على أنه لم يوجد األمر بالسواك عند
مأمورا به لكان األمر قائ ًما عند
ً كل صالة ,واالجماع قائم على أنه مندوب ,فلو كان المندوب ِ
أن األمر للوجوب ،لم أن المندوب غير مأمور به .و لوال َّ كل صالة .فلما لم يوجد األمر علمنا َّ
ِ
يكن لقوله صلى هللا عليه و سلم معنى ؛ ألنه إذا أمر به ,ولم يجب ال تترتب عليه مشقة ! فثبت
أنه :للوجوب ,ما لم يقم دليل على خالفه (. )2
قال العظيم آبادي في معناه :لوال مخافة المشقة عليهم ألمرتهم به ,لكن لم آمر به ولم أفرضه
عليهم ألجل خوف المشقة (. )3
/3ووقته أربع مراتب :عند القيام من النوم ،وعند اإلمساك عن الطعام ،وعند كل وضوء وإن
لم يُصل ،أو لكل صالة وإن لم يتوضأ (. )7
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رياض األفهام في في شرح عمدة األحكام ،لتاج الدين الفاكهاني ،ج ، 1ص . 247
( )6العدة في شرح العمدة في أحاديث األحكام ،البن العطار ،ج ، 1ص / 146وانظر شرح صحيح مسلم
للنووي ،ج ، 3ص . 142
األول :عند الصالة ،سواء كان متطهر بماء ،أو تراب ،أو غير متطهر ؛ كمن لم يجد ماء
ــ ّ
وال ترابا .
ــ الثّاني :عند الوضوء .ــ الثّالث :عند قراءة القرآن .
ــ الرابع :عند االستيقاظ من النوم .ــ الخامس :عند تغير الفم ،وتغيره يكون بأشياء ،منها :
ترك األكل والشرب ،ومنها :ما له رائحة كريهة ،ومنها :طول السكوت ،ومنها :كثرة
الكالم " (. )1
/4وفيه دليل على جواز االجتهاد للنبي صلى هللا عليه وسلم ،فيما لم يرد فيه نص من هللا
تعالى ،وهو مذهب الفقهاء ،وأصحاب األصول ،وهو الصحيح المختار عندهم .فإنه صلى هللا
عليه وسلم جعل المشقة سببا ً لعدم أمره صلى هللا عليه وسلم ،ولو كان الحكم موقوفا ً على
النص؛ لكان سبب انتفاء أمره صلى هللا عليه وسلم عدم ورود النص به ،وال وجود المشقة(. )2
/5وفيه بيان ما كان عليه صلى هللا عليه وسلم من الشفقة والرفق بأمته .
/6وفيه دليل على استحبابه عند كل صالة ؛ سواء كانت فريضة ،أو نافلة ،متكررة في زمان؛
كالتراويح ،والضحى ،أو متفرقة ؛ كالفرائض ،وتحية المسجد ،وسنة الوضوء .
والسر في ذلك أنا مأمورون ـ في كل حال من أحوال التقرب هلل تعالى ـ أن نكون على حالة
كمال ونظافة ؛ إظهارا ً لشرف العبادة ،وقد قيل في حكمة السواك :إن األمر هنا متعلق
بالمالئكة ؛ فإن الملك يضع فاه على فم القارئ ،وهو يتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ؛ من الرائحة
الكريهة ؛ فسن له السواك ألجل ذلك (. )3
قال المبارك فوري :أي عند وضوئها ،لقوله صلى هللا عليه وسلم ":لوال أن أشقّ على
سواك عند ك ّل وضوء " ولخبر أحمد وغيره لوال أن أشق على أمتي أ ّمتي ألمرتهم بال ّ
طهور) ،فتبين موضع السواك عند كل صالة ،والشافعية يجمعون سواك عند ك ّل ُ ألمرتهم بال ّ
بين الحديثين بالسواك في ابتداء كل منهما ،وألن علماءنا لم يروا أنه صلى هللا عليه وسلم
سواك عند ك ّلاستاك عند قيامه إلى الصالة ،فيُجعل قوله صلى هللا عليه وسلم (ألمرتهم بال ّ
صالة) على كل وضوء ،بدليل رواية أحمد :ألمرتهم بالسواك عند كل وضوء " (. )4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1انظر شرح صحيح مسلم للنووي ،ج ، 3ص . 143 ، 142
( )2إحكام األحكام شرح عمدة األحكام ،البن دقيق العيد ،ج ، 1ص . 108 ، 107
/8استحباب االستياك عند كل صالة ،فيدخل في ذلك الظهر والعصر للصائم وغيره ،ورأى
الشافعية كراهية االستياك للصائم بعد الزوال ،وهو قول ضعيف (. )2
/9يستحب البداءة بالجانب األيمن من الفم بالسواك ،ويُستحب أن يكون بعود من أراك ؛ لورود
بعض األحاديث فيه ،وفيه منافع كثيرة ذكرها العلماء ،وهو المتعارف باالستياك .وقال
العلماء :وبأي شيء استاك ـ مما يزيل التغيير ـ حصل .
/10والسواك الرطب مكروه عند المالكية ؛ ألنه طيب وذوق ومائع ،ويجوز اليابس (. )3
/11ويُستحب أن يستاك بعرض األسنان ال بعرض الفم ؛ لئال يدمي لحم أسنانه ؛ فلو استاك
بعرض الفم حصل االستياك مع الكراهة ،ويُستحب إمرار السواك على طرف لسانه ،وكراسي
أضراسه ،وسقف حلقه إمرارا ً لطيفا ً (. )4
/12من فوائد السواك :أنه مطهرة للفم .ومرضاة للرب ،ومطردة للشيطان ،ومفرحة
للمالئكة ،ويُذهب الحفر ،ويجلو البصر ،ويكفر الخطيئة ،وأسنده الدارقطني إلى ابن عباس
رضي هللا عنهما ":في السواك عشر خصال :يُذهب الحفر ،ويجلو البصر ،ويش ّد اللثّة ،
الرب تبارك وتعالى ،ويوافق ويطيّب الفم ،وينقّي البلغم ،وتفرح له المالئكة ،ويرضي ّ
السنّة ،ويزيد في حسنات الصّالة ،ويصحّ الجسم " وزاد الحكيم الترمذي :ويزيد الحافظ
حفظا ،وينبت الشعر ،ويصفي اللون (. )5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1العدّة في شرح العمدة في أحاديث األحكام ،البن العطار ،ج ، 1ص . 149
( )2رياض األفهام في شرح عمدة األحكام ،للفاكهاني ،ج ، 1ص . 251
( )3المسالك في شرح موطأ مالك ،البن العربي ،ج ، 4ص . 240
( ) 4العدّة في شرح العمدة في أحاديث األحكام ،البن العطار ،ج ، 1ص . 150
( )5رياض األفهام في شرح عمدة األحكام ،للفاكهاني ،ج ، 1ص . 248
الرابعة
المحاضرة ّ
شرح حديث خيار المجلس
عن عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما ,عن رسول هللا صلى هللا عليه و سلم :أنه قالِ " :إذ
اح ٍد ِم ْن ُه َما بِا ْل ِخيَ ِار َما لَ ْم يَتَفَرقَا َ ,و َكانَا ج َِم ْيعًا ,أو يُ َخيِّر أَ َح ُدهُ َما اآل َخ َر ,
تَبَايَ َع الرج َُال ْن فَكُ ُّل َو ِ
َب البَ ْي ُع َ ,وإِ ْن تَفَرقَا بَ ْع َد أ َ ْن يَتَبَايَعَا َولَ ْم يَتْ ُر ْك فَ ِإ ْن َخي َر أ َ َح ُد ُه َما اآل َخ َر فَتَبَايَعَا َ
علَى ذَ ِلكَ ,فَقَ ْد َوج َ
َب البَ ْي ُع " متفق عليه . اح ٌد ِم ْن ُه َما البَ ْي َع ,فَقَ َد َوج ََو ِ
أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال " ال َب ِّيعان بالخيار ما لموفي لفظ عن حكيم بن حزام َّ ،
يفترقا أو قال :حت ّى يفترقا ،فإن صدّقا وبَينَا بُورك لهما في بيعهما ,وإن كذّبا وكتما ُم َحقَتْ
بركةُ بي ِعهما " متفق عليه .
ــ وأخرجه اإلمام مسلم في صحيحه واللفظ له ،كتاب البيوع ،باب ثبوت خيار المجلس
للمتبايعين ،رقم . 1531 :
ــ والرواية الثانية ،أخرجه اإلمام البخاري في صحيحه ،باب إذا بين البيعان ولم يكتما
ونصحا ،رقم . 2079 :
ــ وأخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب البيوع ،باب الصدق في البيع والبيان ،رقم . 1532 :
ابن عمر :هو عبد هللا بن عمر بن خطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد هللا بن
قرط بن رزاح بن عدي بن كعب ,القرشي ,العدوي .
كنيته :أبو عبد الرحمان ,كان من فقهاء الصحابة ومفتيهم ,وزهادهم ,ومتورعيهم ,
وممن اعتزل الفتنة ,فلم يقاتل مع أحد من الفريقين تورعا ً ,ولم يكن يختلف عن سرية من
سرايا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ,واستصغره النبي صلى هللا عليه وسلم عام أ ُ ُحد ,وهو
ابن أربع عشرة ,وأجازه في الخندق ,وهو ابن خمس عشرة سنة .
روى ابن وهب عن مالك :أنه قال :بلغ ابن عمر ستا ً وثمانين سنة ,وأفتى في اإلسالم
ستسن سنة ,وروى عنه نافع علما ج ًّما .
وذكر غير واحد من العلماء :أنه توفي بمكة سنة ثالث وسبعين للهجرة .
روى عنه :أوالده :سالم ,حمزة ,ونافع مواله ,وعبد هللا بن دينار ,وزيد بن أسلم ,
وعروة بن الزبير ,وال قاسم بن محمد ,وطاوس بن كيسان اليماني ,ومجاهد بن َجبْر ,وسعيد
بن المسيِب ,وأبو سلمة بن عبد الرحمان ,وعمرو بن دينار ْ ,
وخل ٌق سواهم .
ُروي له عن الرسول صلى هللا عليه وسلم ألف وستمائة وثالثون حديثًا ( , )1630اتفق
الشيخان على مائة وسبعين حديث ًل ( ، )170وانفرد البخاري بثمانين حديثًا ( , )80ومسلم بواحد
وثالثين حديثًا(. )1( )31
وحكيم بن حزام ,هو ابن خلويد بن عبد العزى بن قصي بن كالب القريشي ,األسدي .
يكنى :أبا خالد ,وهو بن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى هللا عليه وسلم .
ولد في جوف الكعبة ,وكان من أشرف قريش ووجوهها في الجاهلية واإلسالم .
بثالث عشر سنة ,وشهد بدرا مشاركا ,وكان إذَّا اجتهد في دعائه قال :
َ كان مولده قبل الفيل
الذي نجاني أن كون قتيال يوم بدر !
وهو من مسلمة الفتح هو وبنوه :عبد هللا ,وخالد ,ويحيى ,وهشام ,وكلهم صحب النبي
صلى هللا عليه وسلم .
وعاش حكيم بن حزام مئة وعشرينَ سنة ؛ ستين في الجاهلية ,وستين في اإلسالم ,وكان
عاقال شريفا ,فاضال تقيا ,سيدًا غنيا بماله .
ُروي له عن الرسول هللا صلى هللا عليه وسلم أربعون حديثًا ,اتفق الشيخان منها على
أربعة ,روى عنه :سعيد بن المسيب ,و عورة بن الزبير ,وموسى بن طلحة بن عبد هللا .
وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين للهجرة (. )2
ضا.
البيع :مصدر باع ,والبيع يستعمل بمعنى :الشراء أي ً
ضا اشتراه فهو من األضداد . تقول العرب :باع الشيء يبيعه بيعًا ومبيعًا :شراه وباعه أي ً
وفي الحديث " :ال يخطب الرجل على خطبة أخيه ،وال يبع على بيع أخيه " أي ال يشتر على
شراء أخيه فإنما وقع النَّهي على المشتري ال على البائع .ويقال :للبائع والمشتري (بيِّعان) ()3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رياض األفهام في شرح عمدة األحكام ،للفاكهاني ،ج ، 1ص / 210. 206وانظر ترجمته في الطبقات
الكبرى ،البن سعد ،ج ، 3ص / 142واالستعاب ،البن عبد البر ،ج ، 3ص / 950أسد الغابة ،البن
األثير ،ج ، 3ص / 336اإلصابة في تمييز الصّحابة ،البن حجر ،ج ، 4ص / 181سير أعالم النبالء ،
للذهبي ،ج ، 3ص . 203
( )2انظر ترجمته في االستعاب ،البن عبد البر ،ج ، 1ص / 362أسد الغابة ،البن عبد األثير ،ج ، 2
ص / 58واإلصابة في تمييز الصحابة ،البن حجر ،ج ، 2ص . 112
ومن ذلك قوله تعالى َ " :وش ََر ْوهُ بِث َ َم ٍن بَ ْخ ٍس َد َرا ِهم َم ْعدُو َد ٍة وكا َنُ ْوا فِ ْي ِه ِم ْن الزا ِه ِدنَ "
يوسف , 22/قال المفسرون :أي :باعوه (. )1
قال اإلمام المازري :لما كانت األمالك تنتقل عن أيدي مالكيها بعوض وبغير عوض ،
سموا المنتقل بعوض بيعا ً .فحقيقة البيع نقل الملك بعوض ،ولكن المعاوضة إن كانت على
الرقاب ،سموها بتسمية البيع ،وإن كانت على المنافع ،سموها بتسمية اإلجارة (. )2
ــ بالخيار :الخيار اسم من االختيار أو التخيير ،وهو طلب خير األمرين من إمضاء البيع أو
فسخه ،والمراد بالخيار هنا :خيار المجلس .ومعناه أن كال من البائع والمشتري له الحق في
إمضاء عقد البيع وعدم إمضائه (. )3
يتفرقا :أي ما لم يغادرا مجلس البيع ،أي مكانه ،واختلف في معنى التفرق بين ّ ــ ما لم
الحقيقة والمجاز (أي بالكالم أم باألبدان) ،كما سيأتي ،ومعناه أن الخيار ينقطع بالتفرق ،
والتفرق هنا هو إما التفرق باألبدان العرفي ،أو التفرق باألقوال (. )4
ــ أو يخيّر أحدهما اآلخر :أي يطلب منه أن يختار بين إمضاء العقد أو التراجع عنه .والمراد
بذلك أنهما بالخيار ما لم يتفرقا إال أن يتخايرا ولو قبل التفرق ،وإال أن يكون البيع بشرط الخيار
ولو بعد التفرق .
قال النووي :معناه أن يقول :اختر إمضاء البيع ،فإذا اختار وجب البيع ،أي لزم
وانبرم( . )5وفي إعرابه وحهان :
الثاني :نصب (يخير) ،بأن مضمرة بعد أو ،والمعنى :إال أن يخير أحدهما اآلخر .
والمعنى أنه :إن خير أحدهما اآلخر ،أي إذا اشترط أحدهما الخيار مدة معلومة فإن الخيار
ال ينقضي بالتفرق ؛ بل يبقى حتى يمضي مدة الخيار التي شرطها ،وقيل :المراد إذا اختار
إمضاء البيع قبل التفرق لزمه البيع حينئذ وبطل اعتبار التفرق (. )6
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للرازي ،ص . 43
( )3مختار الصّحاح ّ ،
( )2المعلم بفوائد مسلم ،للمازري المالكي ،ج ، 2ص . 236 ، 235
( )5شرح النووي على مسلم ،النّووي ،دار إحياء التراث العربي ـ بيوت ،ط 1392 ، 2هـ ،ج ، 10
ص. 175
ــ وجب البيع :ثبت ولزم الطرفين .
ــ فإن صدّقا وبيّنا :أي صدق البائع في إخبار المشتري ،وبين العيب إن كان في السلعة ،
وصدق المشتري في قدر الثمن ،وبين العيب إن كان في الثمن ،ويحتمل أن يكون الصدق
والبيان بمعنى واحد ،وذكر أحدهما تأكيد لآلخر .
ــ محقت بركة بيعهما :أي ذهبت بركته وهي زيادته ونماؤه ،ويحتمل أن يكون على ظاهره ،
وأن شؤم التدليس والكذب وقع في ذلك العقد فمحق بركته (. )1
أباح الشارع الحكيم الخيار بين الناس استيفا ًء للمودَّة بينهم ,وقط ًعا للضغائن واألحقاد من
يتسرع أحد المتعاقَ َديْن في اإليجاب والقبول لظرف خاص يحيط به من غير أن َّ أنفسهم ,إذ قد
ونظرا
ً جراء التسرع في العقد الذي يتطلب رو َّيةً يلقي باالً لعواقب األمور التي تحصل من َّ
عدم إنفاذ العقد ,فيتولَّد
َ أن مصلحته تقتضيوتمكثًا ,بحيث يندم لزوال ذلك الظرف ,ث َّم يرى َّ
ضغينةٌ وحق ٌد ,ثم يعقبه تنازعٌ وتخاص ٌم ،األمر الذي يترتب عليه مفاسد من هذا الندم غيظٌ ف َ
ومضار حذر منها الشارع ،وقطع السبيل إليها .
لذلك نجد الشارع الحكيم قد منح ـ في هذا الحديث ـ لكل من المتعاقدين حق الخيار لتدارك
ما عسى أن يكون قد فاته بالتسرع في إبقاء العقد وإمضائه أو في إبطاله وإلغائه ما داما في
مجلس العقد ،شريطة أن ال يختارا إمضاء البيع وعدم فسخه قبل التفرق (أي يتبايعان على أنه
ال خيار) ،وفي هذه الصورة يجب البيع ويستقر ويبطل اعتبار التفرق .
وبهذا يراعي الشارع مصلحة المتعاقدين بتشريع الخيار لهما من حهة ،ويحافظ ـ من جهة
أخرى ـ على قيمة العقد بتقييده بشروط تمنعه من أن يكون عرضةً للنقص واإلبطال من غير
ب صحيح . سب ِ
وذلك أن األصل في البيع اللزوم ؛ ألن القصد من البيع هو نقل الملك ،وهو فرع اللزوم .
ومع ذلك فقد أثبت الشارع في البيع الخيار رفقا ً بالمتعاقدين ،ودفعا ً الحتماالت الظلم أو الغبن أو
التغرير ،أو غير ذلك مما ينعدم فيه الرضا من العاقدين أو أحدهما (. )2
/1اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث ،فذهب الشافعي والثوري في أحد قوليه والليث
والعنبري واألوزاعي ،وأهل الظاهر ،وسفيان بن عيينة ،وابن المبارك ،وفقهاء أصحاب
الحديث ،وابن حبيب من المالكية إلى األخذ بظاهره ،وأن المراد منه االفتراق باألبدان ،وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1نيل األوطار ،للشوكاني ،ج . 222 ، 5
( )2المؤنس في اعتبار خيار المجلس ،لمحمد علي فركوس ،الجمعة 29ربيع األول 1440هـ 2018 /م ،
https://ferkous.com/home/?q-ahkam-3 ، 20:43
قول سعيد بن المسيب ،والزهري ،وابن أبي ذئب من المدنيين ،وجماعة من الصحابة
والتابعين ،وأن المتبايعين إذا عقدا بيعا ً فهما بالخيار ما داما في مجلسهما .
وذهب مالك وأبو حنيفة وصاحباه ،والثوري في رواية عنه ،وربيعة ،وروي عن
النخعي ،وحكي عن شريح :إلى ترك العمل بظاهره ،وحملوا التفرق فيه على التفرق باألقوال،
وأنهما إذا عقدا البيع ،لم يكن ألحدهما خيار حتى لو بقيا في مجلسهما .
ومن هؤالء من قال :هو على ظاهره ،لكن على الندب والترغيب ،ال على الوجوب .
وواضح أن الفريق األول أخذ بظاهر اللفظ ،وهو المتبادر إلى الذهن من لفظ التفرق ،وهو
التفرق الحسي ،أي التفرق باألبدان ،والحديث نص في إثبات خيار المجلس ،وتأويل التفرق
من الظاهر الحسي إلى المعنى المحتمل خالف األصل كما هو مقرر في أصول الفقه ،وال يُلجأ
إلى التأويل إال عند موجبه من التعارض أو نحوه ،فإن لم يأت ما يعارضه ،فاألخذ بالظاهر أو
النص أولى .
قال القاضي عياض :وهذا التأويل ال يساعده ظاهر الحديث .فإن الحديث نص في إثبات
خيار المجلس ،والتأويل خالفه ،وال حاجة بنا إلى التأويل إال عند التعارض ،ولم يجيء حديث
آخر يعارضه ،فاألخذ بالظاهر أو النص أولى (. )1
يتفرقا وكانا
ــ ومن األدلة على إرادة التفرق باألبدان قوله في حديث ابن عمر المذكور ":ما لم ّ
جميعا ً " وكذلك قوله " وإن ّ
تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع " فقد وجب البيع ،
فإن فيه البيان الواضح أن التفرق بالبدن .
قال الخطابي :وعلى هذا وجدنا أمر الناس في عرف اللغة ،وظاهر الكالم ،فإذا قيل :
تفرق الناس كان المفهوم منه التمييز باألبدان ،قال :ولو كان تأويل الحديث على الوجه الذي
صار إليه النخ عي لخال الحديث عن الفائدة ،وسقط معناه ،وذلك أن العلم محيط بأن المشتري ما
لم يوجد منه قبول البيع فهو بالخيار ،وكذلك البائع خياره ثابت في ملكه قبل أن يعقد البيع ،
وهذا من العلم العام الذي قد استقر بيانه (. )2
وبهذا تمسك من أثبت خيار المجلس ؛ وهو جماعة من الصحابة :منهم علي وأبو برزة
األسلمي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم رضي هللا عنهم ،ومن التابعين شريح
والشعبي وطاوس وعطاء وابن أبي مليكة ،نقل ذلك عنهم البخاري ،ونقل ابن المنذر القول به
أيضا ً عن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة ،وعن الحسن البصري
واألوزاعي وابن جريج وغيرهم ...وحكاه أيضا ً عن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور .
وذهب المالكية إال ابن حبيب والحنفية كلهم وإبراهيم النخعي إلى أنها إذا وجبت الصفقة فال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1انظر المعلّم في شرح صحيح مسلم ،للمازري ،ج ، 2ص / 255وإكمال المعلّم للقاضي عياض ،ج ،5
ص / 159إحكام األحكام شرح عمدة األحكام ،البن دقيق العيد ،ج ، 2ص . 104
سنن ،للخطابي ،ج ، 3ص / 119نيل األوطار ،للشوكاني ،ج ، 5ص . 220
( )2معالم ال ّ
خيار (. )1
وللمالكية والحنفية أجوبة عن األحاديث القاضية بثبوت خيار المجلس ،فمنهم من رده لكونه
معارضا ً لما هو أقوى منه ،نحو قوله تعالى ":ياأيّها الّذين آمنوا ال تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل إالّ أن تكون تجارة عن تىاض منكم " النساء ، 29/فإنها تدل على أنه بمجرد الرضا يتم
لبيع .
قال القاضي عياض :وقد استدل أ صحابنا وموافقوهم بهذه اآلية ،فقال مالك وأبو حنيفة :
تمام التراضي ،أي أن يعقد البيع باأللسنة ،فتنجزم العق دة بذلك ،ويرتفع الخيار .
وقال الشافعي :بل تمام التراضي وجزمه بافتراق األبدان بعد عقد البيع ،أو بأن يقول
أحدهما لصاحبه :اختر ،فيقول :اخترت ،وذلك بعد العقدة أيضا ً ،فيجزم حينئذ (. )2
كما تمسك النافون لخيار المجلس بقوله تعالى ":أوفوا بالعقود " المائدة ، 1/والراجع عن
بف به ،ومن ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم ":المسلمون على موجب العقد قبل التفرق لم ِ
شروطهم " والخيار بعد العقد يفسد الشرط ...وال يخفى أن هذه األدلة على فرض شمولها لمحل
النزاع أعم مطلقا ً ،فيبنى العام على الخاص ،والمصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع غير
جائز .
ومن أهل القول الثاني من أجاب عن أحاديث خيار المجلس بأنها منسوخة بهذه األدلة .قال
في الفتح ":وال حجة في شيء من ذلك ؛ ألن النسخ ال يثبت باإلحتمال ،والجمع بين الدليلين
مهما أمكن ال يصار معه إلى الترجيح ،والجمع هنا ممكن بين األدلة المذكورة بغير تعسف وال
تكلف "(. )3
وأجاب بعضهم بأن إثبات خيار المجلس مخالف للقياس الجلي في إلحاق ما قبل التفرق بما
بعده ،وهو قياس فاسد االعتبار لمصادمته النص .
وأجاب بعضهم بأن التفرق باألبدان محمول على االستحباب تحسينا ً للمعاملة مع المسلم ،
ويجاب عنه بأنه خالف الظاهر فال يُصار إليه إال لدليل ...وقيل :المراد بالمتبايعين المتساومان
قال في الفتح " :ورد بأنه مجاز ،والحمل على الحقيقة أو ما يقرب منها أولى ...قال
البيضاوي :ومن نفى خيار المجلس ارتكب مجازين لحمله التفرق على األقوال ،وحمله
للمتبايعين على المتساومين ،وأيضا ً فكالم الشارع يصان عن الحمل عليه ؛ ألنه يصير تقديره
أن المتساومين إن شاءا عقدا البيع ،وإن شاءا لم يعقداه ،وهو تحصيل حاصل ؛ ألن كل واحد
يعرف ذلك (. )4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1نيل األوطار ،للشوكاني ،ج ، 5ص . 220
( )4( )3فتح الباري ،البن حجر ،ج / 331 ، 330 ، 4ونيل األوطار للشوكاني ،ج ، 5ص . 221 ، 220
/3وقد اختلف القائلون بان المراد بالتفرق تفرق األبدان ،هل له حد ينتهي إليه أم ال ؟
والمشهور الراجح من مذاهب العلماء على ما ذكره الحافظ ابن حجر أن ذلك موكول إلى
عد في العرف تفرقا ُحكم به وما ال فال (. )1
العرف ،فكل ما ُ
/4وقد أجاب المالكية بأن هذا الحديث معارض إلجماع أهل المدينة وعملهم .وما كان كذلك
يقدم عليه العمل .فهذا يقدم عليه العمل .أما األول :فألن مالكا ً قال عقيب روايته ":وليس لهذا
عندنا حد معلوم .وال أمر معمول به فيه " وأما الثاني :فلما اختص به أهل المدينة من سكناهم
في مهبط الوحي ووفاة الرسول صلى هللا عليه وسلم بين أظهرهم ،ومعرفتهم بالناسخ
والمنسوخ ،فمخالفتهم لبعض األخيار تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل به من ناسخ أو دليل
راجح ،وال تهمة تلحقهم فيتعين اتباعهم .وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعملهم .
وأجاب المثبتون لخيار المجلس ؛ بأن لفظ مالك ليس مصرحا ً بأن المسألة إجماع أهل
المدينة .ويعرف ذلك بالنظر في ألفاظه .وحتى لو كان هذا إجماعا ً فهو منتقص ،فإن ابن أبي
ذئب ـ من أقران مالك ومعاصريه ـ قد خالف مالكا ً رحمه هللا .
قال القاضي عياض :وأما قول بعض أصحابنا أي المالكية :إنه مخالف للعمل ،فقال اإلمام
المازري :ال يعول عليه ؛ ألن العمل إذا لم يرد به عمل األمة بأسرها ،أو عمل من يجب
الرجوع إلى عمله ،فال حجة فيه ،قال :وكذلك حم ُل هذا على الندب بعيد ؛ ألنه نص على
إثبات الخيار في المجلس من غير أن يذكر استقالة ،وال علق ذلك بشرط (. )2
قال ابن العربي رحمه هللا ":والذي قصد مالك من المعنى ؛ قوله :هو أن النبي صلى هللا
عليه وسلم لما جعل المتعاقدين بالخيار بعد تمام البيع ما لم يتفرقا ،ولم تكن لتفرقتهما وانفصال
أحدهما عن اآلخر وقت معلوم وال غاية معروفة إال أن يقوموا ،أو يقوم أحدهما على مذهب
المخالف ،وهذه جهالة يقف عليها انعقاد البيع فيصير من بيع المنابذة والمالمسة ،بأن يقول له :
إن لمسته فقد وجب البيع ،وإذا نبذته أو نبذت الحصاة فقد وجب البيع ،وهذه صفة مقطوع
بفسادها في العقد ،فال يتردد الحديث ولم يتحصل المراد منه ،وإن كان فسره بما يبين الجهالة
فيه فيدخل تحت النهي عن الغرر عموما ً ،وتحت النهي عن بيع المالمسة والمنابذة تنبيها ً ،
وليس من قول النبي صلى هللا عليه وسلم وال تفسيره ،وإنما هو من فهم ابن عمر وتقديره
وأصل الترجيح أن يقدم المقطوع به على المظنون ،واألكثر رواية على األقل ،فهذا الذي قصد
مالك مما ال يدركه إال مثله ،وال يتفطن له أحد قبله وال بعده ،وهو إمام األمة غير ُمدافع في
ذلك " (. )3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1نيل األوطار ،للشوكاني ،ج ، 5ص . 222 ، 221
( )2انظر المعلم في شرح صحيح مسلم ،للمازري ،ج ، 2ص / 255وإكمال المعلم ،للقاضي عياض ،
ج ،5ص /، 159وانظر رياض األفهام ،للفاكهاني ،ج ، 4ص . 190 ، 188
/6وفي الحديث الثاني داللة على ثبوت البركة للمتبايعين إذا صدقا وبينا ،وكأن المراد بالتبيين
هنا :تبيين عيب إن كان بالسلعة ،ونحو ذلك ،وذلك بالنسبة إلى كل واحد منهما :البائع
والمشتري .
وقد قال العلماء :إنه يجب أن يذكر من أمر سلعته ما إذا ذكره للبائع قلت رغبته فيها ،
والقصد :أن ال يقدما في تبايعهما على غش وال خديعة ،فقد جاء في الحديث ":من غشّنا
فليس منّا " ( )2؛ أي :ليس متبعا لسنتنا ،وال مهتديا ً بهدينا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1إحكام األحكام شرح عمدة األحكام ،البن دقيق العيد ،ج ، 2ص . 106
( )2أخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب اإليمان ،باب قول النّبي صلّى هللا عليه وسلّم (من غشّنا فليس منّا) من
حديث أبي هريرة رضي هللا عنه ،برقم . 101 :
المحاضرة الخامسة
عن بريدة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ":القضاة ثالثة :اثنان
في النّار وواحد في الجنّة ،رجل عرف الحقّ فقضى به فهو في الجنّة ،ورجل عرف الحقّ فلم
يقض به وجار في الحكم فهو في النّار ،ورجل لم يعرف الحقّ فقضى للنّاس على جهل فهو
في النّار " أخرجه األربعة ،وهو صحيح .
حديث بريدة هذا حديث جيد وله طرق ،وجاء في بعض الطرق من طريق رواية خلف بن
خليفة بن صاعد األشجعي ،وهو قد اختلط وادعى أنه رأى عمرو بن حريث الصحابي رضي
هللا عنه ،وقد أنكر عليه ذلك اإلمام أحمد والجماعة ،وأن هذا من تخليطه ،وقد تابعه بعض
الرواة الثقاة عند أبي داود ،وهو حديث جيد ،وهذا الحديث صححه الحاكم . )1( 90/4 :
هو الصحابي أبو سهل بريدة بن الحصيب بن عبد هللا بن الحارث بن األعرج األسلمي
المدني ،يكنى بأبي عبد هللا ،وقيل بأبي سهل ،أسلم عام الهجرة بعد مرور النبي صلى هللا عليه
وسلم بهم مهاجر إلى المدينة هو ومن معه وكانوا نحو ثمانين ،وشهد الحديبية ،وبيعة
الرضوان ،وغزوة خيبر والفتح ،وحمل لواء األمير أسامة حين غزا أرض البلقاء إثر وفاة
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،استعمله النبي صلى هللا عليه وسلم على صدقة قومه .سكن
المدينة ثم تحول إلى البصرة وأقام بها ،وذهب غازيا ً إلى خراسان ونزل بمرو ،ونشر العلم بها
وأقام بها إلى أن توفي بها سنة 63هـ ودفن بها ،له جملة أحاديث (. )2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سنن ،أبو محمد الحسين البغوي ،تـ :شعيب األرناؤوط ،المكتب اإلسالمي ،دمشق ،
( )1مختصر شرح ال ّ
ط1403 ، 2هـ1983/م ،ج ، 10ص / 118سبل السالم شرح بلوغ المرام ،للصنعاني ،دار الحديث (دط
ت) كتاب القضاة ،ج ، 2ص / 565مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ،للشربيني ،مطبعة مصطفي
محمد ،ج . 372 ، 4
رابعا ً :شرح األلفاظ
ــ القضاة :جمع قاضي ،والفعل منه قضى ،وهو لغة :لفظ مشترك بين إحكام الشيء والفراغ
منه ،ومنه قوله تعالى ":فقضاهنّ سبع سماوات " فصلت . 12/وإمضاء األمر " وقضينا إلى
بني إسرائيل " اإلسراء ، 4/بمعنى حكم وفصل والحتم واإللزام ،وقد يطلق على األمر ،قال
تعالى ":وقضى ر ّبك " اإلسراء ، 23/والقضاء :الوالية المعروفة .
ـ عرفه األحناف بأنه " :فصل الخصومات ،وقطع النزاعات ،وبأنه قول ملزم صادر عن
والية عامة " (. )1
ـ وعرفه ابن عرفة " :القضاء صفة حكمية توجب لموصفها نفوذ حكمه الشرعي ،ولو بتعديل
أو تجريح ،ال في عموم مصالح المسلمين " (. )2
ـ وقال ابن تيمية ":تبيين الحكم الشرعي ،واإللزام به ،وفصل الخصومات " (. )3
ـ وقال الصنعاني ":إلزام ذي الوالية بعد الترافع ،وقيل :هو اإلكراه بحكم الشرع في الوقائع
الخاصة لمعين أو جهة ،والمراد بالجهة كالحكم لبيت المال أو عليه " (. )4
ــ فجار في الحكم :أي مال عن الحق وظلم ،عالما ً به متعمدا ً له .
ــ على جهل :حال من فاعل قضى ،أي قضى للناس جاهالً .
القضاء من أعظم الفروض الواجبة ،لفصل النزاع والخصومات ،ولهذا جاءت األدلة ببيان
خطره مع عظيم منزلته .ومنها هذا الحديث الذي يتضمن التحذير من الجور في القضاء ،أو
التعرض له مع الحهل .
فنص على أن القضاة ثالثة :قاض واحد في الج ّنة :وهو القاضي الذي عرف الحق
وقضى به ،فهو لذلك في الجنة ،والمراد بالحق ما وافق أحكام القرآن والسنة ،أو مستنبط
منهما استنباطا ً شرعيا ً ممن له أهلية ،لذلك فإن اجتهد في قضية وفق الشرع ،مستغرقا ً الوسع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1حاشية ابن عابدين ،ج ، 21ص . 260
( )2شرح حدود ابن عرفة ،محمد بن قاسم األنصاري ،المكتبة العلمية ،ط 1350 ، 1هـ ،ج ، 1ص 433
/القوانين الفقهية ،البن جزي ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط ( ، 2د ت) ج ، 6ص . 219
( )3كشاف القناع عن متن اإلقناع ،منصور بن يونس البهوتي ،دار الكتب العلمية ،بيروت (د ط د ت) ج
،6ص . 285
والقاضي الثّاني ،هو من قضى بالجهل مع عدم المعرفة ،فهو متوعد بالنار ؛ ألنه بجهله
يكون ظالما ً لنفسه ؛ ألنه ليس أهالً لذلك ولغيره ؛ حيث بجهله ال يحقق العدل لمستحقه وال
يوصله إليه ،وال تنقطع المنازعات .
والقاضي الثّالث ،وهو من يقضي بغير الحق مع العلم ،وهو متوعد بالنار ؛ ألنه يقضي
بالظلم وهو عارف بذلك فيكون ظالما ً لنفسه ولغيره ؛ حيث بجوره ال يحقق العدل لمستحقه
المطلوب منه شرعا ً وال يوصله إليه .فاستحق بذلك الوعيد بالنار .
ولهذا الوعيد تحاشى القضاء كبار أهل العلم والفضل ،فكانوا يفرون منه خوفا ً من أن ال
يستوفوا الحق ،أو يحصل شيء يلحقهم فيه تقصير ،فقال النووي ":هذا أص ٌل عظيم في
اجتناب الوالية السيما لمن كان فيه ضعف ،وهو في حق من دخل فيها بغير أهليه ولم يعدل
فإنه يندم على ما فرط فيه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة ؛ وأما من كان أهالً لها ،وعادل فيها ؛
فأجره عظيم كما تضافرت به األخبار ،ولكن في الدخول فيها خطر عظيم ،ولذلك امتنع
األكابر منها ،فامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب ،وامتنع منه أبو
حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه ؛ والذين امتنعوا من األكابر جماعة كثرون " (. )1
قال ابن القيم ":ولهذا جاء في القاضي من الوعيد والتخويف ما لم يأت نظيره في المفتي ،
كما رواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة رضي هللا عتها ،أنها ذكر عندها القضاة فقالت
سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول ":يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدّة
الحساب ما يتمنّى أنّه لم يقض بين اثنين في تمرة قط " وروى الشعبي عن مسروق عن عبد
هللا يرفعه ":ما من حاكم يحكم بين النّاس إالّ وك ّل به ملك آخذ بقفاه حتّى يقف به على شفير
جهنّم ،فيرفع رأسه إلى هللا فإن أمره أن يقذفه قذفه في مهوى أربعين خريفا ً " .
وقال عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ":ويل لد ّيانَ َم ْن في األرض ِم ْن د ّيانَ َم ْن في
هوى ،وال على يقض على ًِ يلقونه ،إالّ َم ْن أمر بالعدل ،وقضى بالحقّ ،ولم سماء ،يوم ْ ال ّ
ب ،وجعل كتاب هللا مرآةً بين عينيه " وفي سنن أبي داود من ب وال وع ٍ قراب ٍة ،وال على ر َ
غ ٍ
حديث أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم ،قال " :من طلب قضاء المسلمين حتّى
يناله ث ّم غلب عدله جوره فله الجنّة ،ومن غلب جوره عدله فله النّار " وفي سنن البيهقي من
حديث ابن جريج عن عطاء ابن عباس قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ":هللا مع
القاضي ما لم يَج ُْر ،فإذا جار برئ هللا منه ،ولزمه الشّيطان " وفيه من حديث حسين المعلم
عن الشيباني عن ابن أبي أوفى قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ":إنّ هللا مع القاضي
ما لم يجر ,فإذا جار وكله إلى نفس ِه " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ،علي بن سلطان محمد القري ،دار الفكر ،ط ، 1
1422هـ2002/م ،كتاب اإلمارة والقضاء ،ج ، 6ص / 2427ابن باز ،شرح بلوغ المرام ،
. https//binbaz.org.sa
وفي السنن األربعة من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه ،عن النبي صلى هللا عليه وسلم
":من ق ّعد قاضيا ً بين المسلمين فقد ذبح نفسه بغير سكين " وفي سنن البيهقي من حديث أبي
حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ":ويل لألمراء ،وويل للعُرفاء ،
وويل لألمناء ،ليتمنّين أقوام يوم القيامة أنّ نواصيَهم كانت معلّقة بالثريّا يتجلجلون بين
سماء واألرض ,وأنّهم لم يلوا عمالً " (. )1
ال ّ
سادسا ً :فقه الحديث
/1حكم القضاء :القضاء من الفروض الواجبة على الكفاية ,مثلها مثل األمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ,وإقامة الحدود ,بغرض إنصاف المظلومين ,إذا قام به الكفء ,ويتعين
على واحد في حال عدم وجود غيره ،أو عدم وجود األصلح فيجب عليه وجبًا عينيا ,ويعان
ويؤجر (. )2
/2شروط القاضي :اشترط العلماء في القاضي شرو ً
طا كثيرة منها (: )3
اإلسالم ,والتكليف ,والعدالة ,والذكورة ,والبلوغ ,وأن يكون سليم الحواس ،واشترط
البعض منهم العلم ،قال في مختصر شرح السنة :
" إنه ال يجوز لغير المجتهد أن يتقلد القضاء ،وال يجوز لإلمام توليته قال :والمجتهد من
جمع خمسة علوم :علم كتاب هللا ,وعلم سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ,وأقاويل علماء
السلف من إجماعهم واختالفهم ,وعلم اللغة ,وعلم القياس ،وهو طريق استنباط الحكم من
الكتاب والسنة إذا لم يجده صري َحا في نص كتاب أو سنة أو إجماع ؛ فيجب أن يعلم من علم
سر ,والخاص والعام ،والمحكم والمتشابه ،والكراهة الكتاب الناسخ والمنسوخ ،والمجمل والمف َّ
والتحريم ،واإلباحة والندب ,ويعرف من السنة هذه األشياء ,ويعرف منها الصحيح
والضعيف ،والمسند والمرسل ,ويعرف ترتيب السنة على الكتاب وبالعكس حتى إذا وجد حديثًا
ال يوافق ظاهره الكتاب اهتدى إلى وجه محمله ،فإن السنة بيان للكتاب فال تخالفه ,إنما تجب
معرفة ما ورد منها من أحكام الشرع دون ما عداها من القصص واألخبار والمواعظ ,وكذا
يجب أن يعرف من علم اللغة ما أتى في الكتاب والسن ة من أمور األحكام دون اإلحاطة بجميع
لغات العرب ,ويعرف أقاويل الصحابة والتابعين في األحكام ،ومعظم فتوى فقهاء األمة حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1إعالم الموقّعين ،البن القيم الجوزية ،ج ، 1ص . 30
( )2المجموع لل ّنووي ،تـ :محمد نجيب المطيعي ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت ـ لبنان ـ ط ( ، 1دت)
ج ، 22ص . 215
( ) 3المحلى ،البن حزم ،تـ :أحمد محمد شاكر ،دار الفكر ـ بيروت ـ (دط ت) ،ج ، 8ص ، 528كتاب
األقضية ،مسألة ما يجب فيمن يلي القضاء /تحفة المحتاج بشرح المنهاج ،ط العلمية ،ج ، 4ص / 344
شرح حدود ابن عرفة ،ج ، 1ص / 440بدائع الصنائع ،للكاساني ،تـ :علي محمد عوض ،دار الكتب
العلمية ،بيروت ،ط 1406 ، 2هـ ـ 1986م ،ج ، 7ص 3وما بعدها /كشاف القناع ،للباهوتي ،ج ، 6
ص . 294
ال يقع حكمه مخالفا ً ألقوالهم فيأمن فيه خرق اإلجماع ,فإذا عرف كل نوع من هذه األنواع فهو
مجتهد ،وإذا لم يعرفها فسبيله التقليد . )1( )...
/3حكم تولّي المرأة القضاء :اختلف العلماء في هذه المسألة على ثالثة أقوال :
قوامون على ال ّنساء " ووجه الداللة منه حصر ال ِقوامة فيالرجال ّــ استدلوا بقوله تعالى ّ ":
الرجال دون النساء ،فعلى هذا ال تصح والية المرأة للقضاء ؛ ألن في قضائها قوامة على
الرجال ،وهذا مما يتعارض مع اآلية الكريمة (. )5
ــ عن أبي بكرة رضي هللا عنه ،قال ":لقد نفعني هللا بكلمة سمعتها من رسول هللا صلّى هللا
عليه وسلّم أيّام الجمل ،بعدما كدتُ أن ألحق بأصحاب الجمل ،فأقاتل معهم ،قال :ل ّما بلغ
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم أنّ أهل فارس ملّكوا عليهم بنت كسرى ،قال ":لن يفلح قوم
ولوا أمرهم امرأة " (. )6
فهوظاهر في منع المرأة من جميع األمور والشؤون ،فتكون شاملة للقضاء وسائر
الواليات األخرى ،حتى ولو كانت واليات خاصة ؛ لكن اإلجماع قام على استثناء الواليات
الخاصة كالوصايا على اليتامى ،والوالية األسرية ،فجاز إسنادها للمرأة ،وتبقى الواليات
العامة على عموم الدليل ،وهو المنبع ،فتكون المرأة ممنوعة من الواليات العامة ومنها
القضاء ،دون الواليات الخاصة (. )7
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1مختصر شرح الس ّنة ،أبو محمد الحسين البغوي ،تـ :شعيب األرناؤوط ،المكتب اإلسالمي ،دمشق ،
ط1403 ، 2هـ ـ 1983م ،ج ، 10ص / 76سبل السالم للصنعاني ،ج ، 2ص . 565
( )2شرح السنّة ،للبغوي ،ج ، 10ص / 77 ، 76سبل السالم ،للصنعاني ،ج ، 2ص / 575المجموع ،
للنووي ،ج ، 22ص . 215
( )4أحكام القرآن ،البن العربي ،ج ، 3ص / 484 ، 483القوانين الفقهية ،البن جوزي ،ص / 221نيل
األوطار للشوكاني ،ج ، 9ص . 167
القول الثاني :وهو مذهب الحنفية ( : )1الذين يُنسب إليهم جواز تولي المرأة القضاء ،لكن في
األمور التي يصح لها أن تشهد فيها ،وهي ما عدا مسائل الحدود والقصاص ،فيجوز أن تتولى
القضاء فيما يتعلق باألموال .
قال في بدائع الصنائع ":وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد (التعيين) في الجملة ؛
ألن المرأة من أهل الشهادات في الجملة ،إال أنها ال تقضي بالحدود والقصاص ؛ ألنه ال شهادة
لها في ذلك ،وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة " ( ، )2وقالوا :إن وافق قضاؤها الحق
وحصول اإلثم لمن والها .
واستدلوا بحديث ":لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " على صحة ما قضت به في غير
مسائل القصاص والحدود ،وكان استداللهم بالقياس ،قالوا :إن القضاء يُشارك الشهادة في باب
الوالية ،والمرأة يصح لها أن تشهد في غير الحدود والقصاص ،فيصح أن تكون قاضية في
غير الحدود والقصاص .
ــ بحديث " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " على صحة ما قضت به في غير مسائل القصاص
والحدود .
ــ وقوله صلى هللا عليه وسلم ":والمرأة راعية في بيت زوجها " ووجه االستدالل :أنهم قالوا
بما أن النبي صلى هللا عليه وسلم قد جعل لها الوالية في بيت زوجها ،فهذا دليل على أنها أهل
للوالية .
ــ القياس ،وذلك بقياس القضاء على الشهادة فــ(أهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة ) ؛ فقالوا:
إن القضاء يشارك الشهادة في باب الوالية ،والمرأة يصح لها أن تشهد في غير الحدود
والقصاص ،فيصح أن تكون قاضية في غير الحدود والقصاص ( .. )3وهو من أقوى أدلتهم .
القول الثالث :وهو مذهب ابن جرير الطبري ،وابن حزم الظاهري ،ومحمد بن الحسن من
الحنفية ،والمازري من المالكية ،القائل بجواز تولية المرأة القضاء مطلقا ً .
قال ابن حزم (( : )4مسألة :وجائز أن تلي المرأة الحكم ،وهو قول أبي حنيفة .وقد روي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1بدائع الصنائع ،للكاساني ،ج ، 7ص . 3
( )4المحلّى ،البن حزم ،كتاب الشهادات ،مسألة تولي المرأة الحكم ،دار اآلفاق الجديدة . 527/8 ،
عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ،أنه ولى الشفاء ( )1امرأة من قومه السوق .فإن قيل :قد
قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ":لن يفلح قو ٌم ولوا أمرهم امرأة " .قلنا :إنما قال ذلك
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في األمر العام الذي هو الخالفة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1الشفاء بنت عبد هللا بن عبد شمس ، ...القرشية العدوية ،أم سليمان بن خيثمة ،وقيل اسمها ليلى ،
وقيل إنّها من المبايعات والمهاجرات األوائل ،أ ّمها فاطمة بنت وهب ،وقيل :إنّ رسول هللا صلّى هللا عليه
وسلّم كان يقيل عندها ،وكان عمر رضي هللا عنه يقدمها في الري ،ويرضاها ( .أسد الغابة ،ج ، 7ص
. 177
سادسة
المحاضرة ال ّ
شرح حديث شرط الولي في عقد الزواج
عن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه ،أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ":ال
نكاح إالّ بول ّ
ي " صحيح .
وعن عائشة رضي هللا عنها أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ":أيّما امرأة نكحت
بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ،فنكاحها باطل ،فنكاحها باطل " صحيح .
األول :
/1الحديث ّ
ــ أخرجه اإلمام أحمد في مسنده ،ج ، 66 ، 4قال أحمد شاكر :إسناده صحيح .
ــ وأخرجه أبو داود في سننه ،كتاب النكاح ،باب في الولي ،برقم. 2085 :
ــ وأخرجه الترمذي في سننه ،كتاب النكاح ،باب ال نكاح إال بولي ،برقم ، 1101 :وقال فيه
اختالف .
ــ وابن ماجة في سننه ،كتاب النكاح ،باب ال نكاح إال بولي ،برقم ، 1،1881،1537 :وقال
األلباني صحيح .
ــ أخرجه أبو داود في سننه ،كتاب النكاح ،باب في الولي ،برقم ،2083 :وقال األلباني
صحيح .
ــ والترمذي في سننه ،كتاب النكاح ،باب ال نكاح إال بولي ،برقم ،14005،1102 :وقال :
حسن .
ــ وابن ماجة في سننه ،كتاب النكاح ،باب ال نكاح إال بولي ،برقم ، 1879 ، 1536 :وقال:
صحيح .
واسمه :أبو موسى عبد هللا بن قيس األشعري ،هو صحابي جليل ،واله النبي صلى هللا
عليه وسلم على كل من زبيد وعدن ،كما قد واله عمر بن الخطاب على البصرة ،أما في عهد
عثمان بن عفان فقد تولى مدينة الكوفة ،وقد شهد العديد من الغزوات مع النبي صلى هللا عليه
وسلم ومع الصحابة الكرام رضي هللا عنهم .ينتمي أبو موسى عبد هللا بن قيس األشعري إلى
قبيلة األشعريين القحطانية اليمانية ،حيث قدم أبو موسى األشعري إلى مكة قبل اإلسالم ،وقد
أسلم في مكة المكرمة ،وقد رحل إلى قبيلته في اليمن .
وتعتبر غزوة خيبر هي أولى المعارك التي شهدها أبو موسى األشعري مع النبي صلى هللا
عليه وسلم ،كما أنه شارك في أوطاس التي بعثها النبي صلى هللا عليه وسلم بعد غزوة حنين
والتي قادها أبو عامر األشعري عم أبي موسى لقتال فلول هوازن بقيادة دريد بن الصمة ،والتي
قُتل فيها أبا عامر ،وقد قتل أبو موسى قاتله ،فدعا لهما النبي صلى هللا عليه وسلم عند عودته
عامر " حتى رأيت بياض إبطه ،ثم قال " الله ّم
ٍ من خالل قوله ":الله ّم اغفر لعُبي ٍد ،أبي
اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك " .
ويشار إلى أنه بعد وفاة النبي صلى هللا عليه وسلم ،شارك أبو موسى في الفتح اإلسالمي
للشام ،كما أنه قد شهد وفاة أبو عبيدة بن الجراح ،وخطبة عمر بن الخطاب بالجابية التي كانت
والرها ،وسميساط وماُ سنة 17هـ ،باإلضافة إلى ذلك فقد شارك في فتح كل من تستر ،
حولهم.
وعندما استخلف عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب عزل عثمان بن عفان أبا
موسى عن البصرة ،وتولى مكانه عبد هللا بن عامر بن كريز ،وقد خرج أبو موسى من
البصرة وما معه سوى 600درهم عطاء عياله ،وفيما بعد انتقل إلى الكوفة ،وأقام بها حتى
أُخرج سعيد بن العاص من ها ،وقد طلب أهل الكوفة من عثمان أن يستعمل أبا موسى عليهم ،
فاستعمله ،وبقي واليا ً عليها حتى قُتل عثمان .
وفيما بعد عزله علي بن أبي طالب رضي هللا عنه عن مدينة الكوفة ،وعند اندالع فتنة
مقتل عثمان بن عفان رضي هللا عنه ،اختار أبو موسى االنضمام إلى حزب علي بن أبي طالب
رضي هللا عنه ،الذي اختاره ليكون محكما ً في جلسة التحكيم التي لجأ إليها الفريقان بعد وقعة
صفين .
وتختلف الروايات في وفاة أبي موسى ؛ فقيل :مات سنة 42هـ ،وقيل سنة 44هـ ،
باإلضافة إلى وجود خالف حول مكان وفاته ،حيث قيل مات بالثوية على ميل من الكوفة ،
وقيل مات في مكة (. )1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1سير أعالم النبالء ،لل ّذهبي ،ج 380 ، 2وما بعدها /الطبقات الكبرى ،البن سعد ،ج، 4ص 78وما
بعدها /أسد الغابة في معرفة الصحابة ،البن األثير ،ج ، 3ص . 364
ترجمة عائشة أ ّم المؤمنين
عائشة بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن
مرة بن كعب بن لؤي ،القرشية ،التيمية ،المكية ،أم المؤمنين ،زوجة النبي صلى هللا عليه
وسلم ،وأمها أم رومان بنت عمير بن عامر بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك ،بن
كنانة(. )1
ولدت عائشة رضي هللا عنها بعد البعثة بأربع أو خمس سنين ،وتزوجها النبي صلى هللا
عليه وسلم في شوال سنة عشر ،أو إحدى عشر من النبوة بعد سودة بعام ،وهي بنت ست
سنين ،وبقيت عنده تسع سنين ،ولم يتزوج بكرا ً غيرها .قال هشام بن عروة ،عن ابيه عن
تزوجني رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم قبل الهجرة ،وأنا ابنة ستّ ،
عائشة ،قالت ّ ":
وأدخلت عليه وأنا ابنة تسع سنين " (. )2
قال صلى هللا عليه وسلم ":فضل عائشة على النساء ،كفضل الثريد على سائر
الطعام"متفق عليه .
تُعد رضي هللا عنها من المكثرين من رواية الحديث ،وبلغ مسندها ألفين ومائتين وعشرة
أحاديث ( ، )2210اتفق الشيخان على مائة وأربعة وسبعين حديثا ً ( ، )174انفرد البخاري
بأربعة وخمسين ( ، )54وانفرد مسلم بتسعة وستين (. )69
كانت رضي هللا عنها غزيرة العلم ،موسوعية المعارف ،أفقه نساء األمة على اإلطالق ،
وهو ما دل عليه قول أبي موسى األشعري ":ما أشكل علينا ــ أصحاب رسول هللا ،صلّى هللا
عليه وسلّم حديث ق ّ
ط ،فسألنا عائشة عنه إالّ وجدنا عندها منه علما ً " (. )4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1سير أعالم النبالء ،للذهبي ،ج ، 2ص 135وما بعدها /طبقات ابن سعد ،ج ، 8ص 46وما بعدها /
أسد الغابة البن األثير ،ج ، 7ص . 186
( )2أخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب النكاح ،باب استئذان الثيّب في النّكاح بالنّطق ،والبكر بالسكوت ،
برقم. 1422،1039 :
( )3الطبقات الكبرى البن سعد ،ج ، 8ص / 50سير أعالم النبالء ،للذهبي ،ج ، 2ص . 147
( ) 4صفة الصفوة ،لجمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي ،دار الكتب العلمية ـ بيروت ،ط 1419هـ .
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن ،قال ":ما رأيت أحدا ً أعلم بسنن رسول هللا صلّى هللا
عليه وسلّم ،وال أفقه في رأي إن احتيج إلى رأيه ،وال أعلم بآية فيما نزلت ،وال فريضة ،
من عائشة أم المؤمنين " (. )1
توفيت رضي هللا عنها سنة 57هـ ،وقيل سنة 58هـ ،وهذا ما قاله هشام بن عروة ،وأحمد
بن حنبل وغيرهم ،وقد صلى عليها أبو هريرة رضي هللا عنه بعد الوتر في شهر رمضان ،
ودُفنت بالبقيع (. )2
ي) كذلك جماعة من الصحابة ،منهم :علي بن أبي وروى هذا الحديث (ال نكاح إالّ بول ّ
طالب ،وعبد هللا بن عباس ،ومعاذ بن جبل ،وعبد هللا بن عمر ،وأبي ذر الغفاري ،والمقداد
بن األسود ،وعبد هللا بن مسعود ،وجابر بن عبد هللا ،وأبي هريرة ،وعمران بن الحصين ،
وعبد هللا بن عمرو ،وا لمسور بن مخرمة ،وأنس بن مالك رضي هللا عنهم ،وأكثرها
صحيحة ،وقد صحت الروايات فيه عن أزواج النبي صلى هللا عليه وسلم عائشة ،وأم سلمة ،
وزينب بنت جحش رضي هللا عنهم أجمعين (. )3
ي :قال ابن فارس (ت 395هـ) " :الواو والالم أصل صحيح يدل على قرب من ذلكــ الول ّ
الولي " (. )4
فمادة الوالية تدور حول القرابة وما يتصل بها من المعاني التي ذكرها اللغويون ؛ فتطلق
على المحبة والنصرة والمواالة والصداقة والتابع وتدبير األمور .
ــ وعرفها ابن عرفة بقوله ":الولي في الزواج من له على المرأة ملك أو أبوة أو تعصب أو
ايصاء أو كفالة أو سلطة أو ذو إسالم " (. )5
ومنه الوالية في الزواج هي :قيام ولي المرأة بمباشرة عقد زواج موليته .
/1حكم اشتراط الولي في الزواج :اختلف العلماء في حكم الولي في الزواج على مذهبين :
األول :وهو مذهب جمهور العلماء ،منهم مالك والشافعي وأحمد على أنه ال يجوز
المذهب ّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1طبقات ابن سعد ،ج ، 2ص . 375
( )3الحاكم في المستدرك ،كتاب النكاح ،وأما حديث أبي عوانة ،برقم . 2717 :
ــ المذهب الثّاني :وهو مذهب الحنفية في المقابل إلى على أنه يجوز للمرأة أن تعقد عقد
زواجها بنفسها دون ولي ،فإذا عقدت عقد زواجها بنفسها جاز ،وترتبت عليه آثاره الشرعية .
ولكل فريق أدلته ،فاستدل الفريق األول بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والمعقول ،سنكتفي
بذكر أهمها :
أ /قوله سبحانه وتعالى ":وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فال تعضلوهنّ أن ينكحن
أزواجهنّ "البقرة. 232/
فهذا خطاب لألولياء ،إذ ال يصح العضل إال لمن إليه العقد .ويؤكد ما ذهبوا إليه ما ورد
زوجت أختا ًفي سبب نزول اآلية ؛ فيما رواه البخاري أنها نزلت في معقل بن يسار الذي قالّ ":
زوجتك ،وفرشتك ، لي من رجل ،فطلّقها حتّى إذا انقضت عدّتها جاء يخطبها ،فقلت له ّ :
وأكرمتك ،فطلّقتها ،ث ّم جئت تخطبها ،ال وهللا ال تعود إليها أبدا ً ،وكان رجالً ال بأس به ،
وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه ،فأنزل هللا هذه اآلية (فال تعضلوهنّ ) فقلت :اآلن أفعل يا
فزوجتها إيّاه " (. )1
رسول هللا .قال ّ :
قال ابن حجر ":وهو من أقوى الحجج هذا السبب المذكور في نزول هذه اآلية المذكورة ،
وهي أصرح دليل على اعتبار الولي ،وإال لما كان لعضله معنى ؛ وألنها لو كان لها أن تزوج
نفسها لم تحتج إلى أخيها ،ومن كان أمره إليه ال يقال إن غيره منعه منه " (. )2
ب /وبقوله تعالى ":وانكحوا األيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم " النور. 31/
ج /وبقوله سبحانه ":وال تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا " البقرة . 220 /وهو خطاب في كلتا
اآليتين للرجال ،ولم يخاطب به النساء ،فكأنه قال :ال تنكحوا أيها األولياء مولياتكم للمشركين.
د /ومن الس ّنة ،عن أبي موسى أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ":ال نكاح إالّ بول ّي " والنفي
في الحديث يتجه إلى الصحة ،فيكون الزواج بغير ولي باطالً ،وهو ما دل عليه حديث عائشة
رضي هللا عنها التالي .
هـ /وعن عائشة رضي هللا عنها أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال " :أيّما امرأة نكحت
بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ،فنكاحها باطل ،فنكاحها باطل " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب تفسير القرآن ـ سورة البقرة ـ باب إذا طلّقتم النّساء فال تعضلوهنّ
أن ينكحن أزواجهنّ .
( )2فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،البن حجر ،المكتبة السلفية ،ط 1407 ، 9هـ ،ج ، 3ص . 98
و /أ ّما من المعقول :أن الزواج له مقاصد متعددة ،والمرأة كثيرا ً ما تخضع لحكم العاطفة ،فال
ت ُحسن االختيار ،فيفوتها حصول هذه المقاصد ،فمنعت من مباشرة العقد وجعل إلى وليها ،
لتحصل على مقاصد الزواج على الوجه األكمل .
أ /قوله تعالى ":فإن طلّقها فال تح ّل له من بعد حتّى تنكح زوجا ً غيره " البقرة. 230/
ب /وقوله تعالى ":وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فال تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ "
اليقرة . 232/ففي هاتين اآليتين تم إسناد الزواج إلى المرأة ،واألصل في اإلسناد أن يكون إلى
الفاعل الحقيقي .
ي مع الث ّيب أمر " ( . )1وهذا قطع والية الولي عنها .
ج /قوله صلى هللا عليه وسلم ":ليس للول ّ
د /وقوله صلى هللا عليه وسلم ":األ ِّي ُم أحقّ بنفسها من ول ّيها ،وال ِبكر ت ُستأذنُ في نفسها ،
وإذنها صُماتُها " ( . )2واأليم اسم المرأة ال زوج لها .
هـ /من المعقول :أنها لما بلغت عن عقل وحرية فقد صارت ولية نفسها في النكاح ،فال تبقى
موليا عليها كالصبي العاقل إذا بلغ .
ثم إنها تستقل بعقد البيع وغيره من العقود ،فمن حقها أن تستقل بعقد زواجها ،إذ ال فرق
بين عقد وعقد .
وعقد الزواج وإن كان ألوليائها حق فيه فهو لم يلغ ؛ إذ اعتبر في حالة ما إذا أساءت
التصرف ،وتزوجت من غير كفء ؛ إذ أن سوء تصرفها يلحق عاره أولياءها .وهذا عند أبي
حنيفة خالفا ً لهما .
ذهب كثير من العلماء إلى أن الوالية شرط في صحة العقد ( ، )3فيما اعتبره بعضهم كابن
الحاجب ،وصاحب توضيح األحكام ركنا من أركان النكاح األربعة (وهي الزوج والزوجة
والولي والصداق والشاهدين) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1أخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب النكاح ،باب استئذان الثيّب في النّكاح بالنّطق ،والبكر بال ّ
سكوت ،
رقم. 1419 :
( )2أخرجه مسلم في صحيحه ،كتاب النّكاح ،باب استئذان الثيّب في النكاح بالنّطق ،والبكر بال ّ
سكوت ،
رقم. 1421 :
( )3الكافي في فقه اإلمام أحمد ،لموفق الدين ابن قدامة ،دار الكتب العلمية ،ط 1414 ، 1هـ ،ج ، 3
ص. 10
بينما لم يعتبر الحنفية الولي شرطا ً لصحة النكاح ،وإنما هو شرط كمال ،واعتبروا عدم
وجوده خالف المستحب .
فقالوا يصح أن تباشر المرأة عقد النكاح بنفسها ،إال أنه خالف المستحب ،ولألولياء حق
االعتراض إذا لم يكن الزوج كفؤا ً لها .وهو قول أبي حنيفة في المشهور عنه (. )1
قال ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد ":اختلف العلماء هل الوالية شرط من
شروط صحة النكاح ،أم ليست بشرط ؟ فذهب مالك إلى أنه ال يكون النكاح إال بولي ،وأنها
شرط في الصحة في رواية أشهب عنه .وبه قال الشافعي ،وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي
والزهري :إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤاً جاز " (. )2
فإن زوجت نفسها بغير كفء ،وبغير رضا وليها العاصب ،فالمروي عن أبي حنيفة وأبي
يوسف ،والمفتى به في مذهب الحنفية عدم صحة زواجها ،إذ ليس كل ولي يحسن المرافعة ،
وال كل قاض يعدل ،فأفتوا بعدم صحة الزواج سدا ً لباب الخصومة (. )3
ي :وقد اشترط العلماء فيمن يتولى هذه الوالية شروطا ً لتصح منه ،وتتحقق /4شروط الول ّ
مقاصد تشريعها نجملها فيما يلي :
ــ اإلسالم :إذا تقرر شرعا ً أنه ال والية للكافر على المسلم ،فال يجوز للكافر تولي عقد زواج
المسلمة .
ــ البلوغ :ال يصح من غير البالغ ؛ ألنه ال يملك عقد نفسه فكيف يلي عقد غيره .
ــ الذكورة :وذلك عند الجمهور ،فال تصح والية المرأة على نفسها ،وال على غيرها .
ــ الحريّة :فال تصح من المملوك ،وأما المكاتب (وهو من كاتبه سيده واتفق معه على أن يكون
حرا ً إذا أدى قدرا ً معينا ً من المال) فهذا يجوز له تولي عقد نكاح أمته .
ــ عدم اإلحرام :لما صح عن الرسول صلى هللا عليه وسلم أنه قال ":ال ينكح المحرم وال ينكح
وال يخطب " (. )4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1بدائع الصّنائع ،للكاساني ،ج ، 2ص / 247حاشية ابن عابدين ،ج ، 3ص . 57 ، 56 ، 55
( )2بداية المجتهد ونهاية المقتصد ،البن رشد ،دار الحديث ـ القاهرة ( ،د ط) 1425هـ ـ 2004م ،ج ، 3
ص . 36
( )4أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب الح ّج ،باب الت ّزويج المحرم ،برقم / 1837 :ومسلم في صحيحه ،
كتاب النكاح ،باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته ،برقم . 1409 :
مالحظة :يرجى من طلبتي االستعداد لالمتحان ،وذلك بالتّركيز الجيّد على مجموعة من
المحاضرات والمتمثّلة في :
يخص آيات األحكام :تفسير آيات الصّيام ــ ــ تفسير آية القوامة ــ تفسير آيات
ّ ــ فيما
االستئذان .
يخص أحاديث األحكام :شرح حديث النيّة ــ شرح حديث خيار المجلس ــ شرح حديث
ّ ــ وفيما
اشتراط الولي في النكاح .