آيات وأحاديث الأحكام-بولوح

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 102

‫جامعة الجزائر ـ ‪ 1‬ـ بن يوسف بن خدة‬

‫كليّة العلوم اإلسالمية ـ الخروبة ـ‬

‫المقياس ‪ :‬آيات وأحاديث األحكام‬


‫السنة ‪ :‬الثانية شعبة الشريعة‬
‫األفواج ‪ 1 :‬ـ ‪ 2‬ـ ‪ 3‬ـ ‪4‬‬
‫أستاذة المادة ‪ :‬فريدة بولوح‬

‫األول ‪ :‬آيات األحكام‬


‫المحور ّ‬
‫أ ّوالً ‪ :‬مدخل خاص بآيات األحكام‬
‫مفهوم آيات األحكام ‪ :‬هي اآليات القرآنية التي تُستنبط منها األحكام الفقهية ‪ .‬أو بتعبير آخر هي‬
‫‪ :‬اآليات القرآنية التي تتضمن أحكاما ً فقهية ‪ ،‬وتدلّ عليها نصا ً أو استنباطا ً (‪. )1‬‬

‫صت على حكم شرعي ‪ ،‬وهو وجوب‬ ‫ــ نصا ً ‪ :‬كقوله تعالى " وأقيموا الصالة وآتوا ّ‬
‫الزكاة " ن ّ‬
‫إقامة الصالة وإيتاء ّ‬
‫الزكاة ‪.‬‬
‫ــ استنباطا ً ‪ :‬كاستنباط علي وابن عباس رضي هللا عنهما ‪ّ :‬‬
‫أن أق ّل الحمل ستة أشهر من قوله‬
‫تعالى " وحمله وفصاله ثالثون شهرا ً " األحقاف ‪ ، 15/‬مع قوله تعالى " وفصاله في عامين "‬
‫لقمان ‪14 /‬‬

‫أن آيات األحكام في القرآن الكريم ستّة آالف ومائتا‬


‫عدد آيات األحكام (‪ : )2‬اتّفق العلماء على ّ‬
‫آية وكسر ‪ ،‬إالّ أنّهم اختلفوا في هذا الكسر ‪.‬‬

‫ــ فمنهم من جعلها أربع آيات ‪ ،‬أي ‪ 6204‬آية ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬موالي عمر ‪ ،‬التفسير الفقهي ‪ ،‬النشأة ‪ ،‬والخصائص ملتقى أهل التفسير ‪https:// vb.tafsir‬‬
‫‪.net/tafsir 3539‬‬

‫(‪ )2‬علي بن سليمان ‪ ،‬تفاسير آيات األحكام ومناهجها ‪ ،‬ص ‪ 46‬وما بعدها‬
‫ــ ومنهم من جعلها عشر آيات ‪ 6210 ،‬آية ‪.‬‬

‫ــ ومنهم من جعلها أربع عشر آية ‪ 6214‬آية ‪.‬‬

‫ــ ومنهم من جعلها سبع عشر آية ‪ 6217‬آية ‪.‬‬

‫ــ ومنهم من جعلها سبعا ً وعشرين آية ‪ 6227‬آية ‪.‬‬

‫ــ ومنهم من جعلها ست وثالثين آية ‪ 6236‬آية ‪.‬‬

‫أن النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم كان يقف على رؤوس اآليات تعليما ً ألصحابه‬ ‫وسبب الخالف ّ‬
‫أنّها رؤوس اآلي ‪ ،‬حتّى إذا علموا ذلك وصل النّبي صلّى هللا عليه وسلّم اآلية بما بعدها طلبا ً‬
‫أن ما وقف عليه النّبي صلّى هللا عليه وسلّم ليس فاصلة ‪،‬‬ ‫فيظن بعض النّاس ّ‬‫ّ‬ ‫لتمام المعنى ‪،‬‬
‫أن الجميع آية واحدة ‪ ،‬والبعض يعتبرها آية مستقلّة ‪ ،‬فال يصلها بما‬ ‫فيصلها بما بعدها معتبرا ً ّ‬
‫بعدها ‪ ،‬هذا بالنّسبة لمجموع آيات القرآن الكريم ‪ ،‬أ ّما عن عدد آيات األحكام فلقد اجتهد العلماء‬
‫في عدّها ‪ ،‬واختلفوا في ذلك على أقوال ‪:‬‬
‫أن عددها ( ّ‬
‫إن آيات األحكام مائة وخمسون آية )‬ ‫ــ فقد اعتبر ابن القيم الجوزية ّ‬

‫ــ ويرى صديق خان ( ّ‬


‫أن عددها مائتا آية )‬

‫ــ وإلى مثله ذهب الخضري فقال ‪ ( :‬وآيات األحكام فيه ال تكاد تزيد على مائتي آية)‬

‫ــ وقال الماوردي ‪ ( :‬وا ّلذي يشتمل عليه كتاب هللا من النّصوص في األحكام قيل أنّها خمسمائة‬
‫آية ‪ ...‬ث ّم قال ‪ :‬وتنقسم إلى ستّة أقسام ‪:‬‬

‫‪ /1‬العموم والخصوص ‪ :‬أي منها ما يفيد العموم والخصوص ‪.‬‬

‫‪ /2‬المجمل والمف ّسر ‪.‬‬

‫‪ /3‬المطلق والمقيّد ‪.‬‬

‫‪ /4‬اإلثبات والنّفي ‪.‬‬

‫‪ /5‬المحكم والمتشابه ‪.‬‬

‫‪ /6‬ال ّناسخ والمنسوخ ‪.‬‬

‫والرازي ( ّ‬
‫إن آيات األحكام خمسمائة آية ‪.‬‬ ‫ــ والعدد نفسه ذهب إليه الغزالي ّ‬
‫ي الكلبي ‪ّ ( :‬‬
‫إن آيات األحكام خمسمائة آية وقد تنتهي إلى أكثر من ذلك إذا‬ ‫ــ وقال ابن جن ّ‬
‫استقصي تتبّعها في مواضعها )‬

‫شيخ محمد الخضر بن الحسين اقتصار العلماء في ع ّد آيات األحكام على‬ ‫وقد علل ال ّ‬
‫خمسمائة آية ‪ ،‬فقال ‪ " :‬واقتصروا في تقديرها على هذا العدد ؛ ألنّهم رأوا مقاتل بن سليمان‬
‫وهو ّأول من أفرد آيات األحكام في تصنيف جعلها خمسمائة آية "‬

‫وقد نازعهم ابن دقيق العيد في هذا التّقدير ‪ ،‬وقال " مقدار آيات األحكام ال تنحصر في هذا‬
‫والراسخ‬
‫العدد ؛ بل هو يختلف باختالف القرائح واألذهان ‪ ،‬وما يفتحه هللا من وجوه االستنباط ‪ّ ،‬‬
‫أن من أصولها وأحكامها ما يؤخذ من موارد متعدّدة حتّى اآليات‬ ‫في علوم ال ّشريعة يعرف ّ‬
‫الواردة في القصص واألمثال "‬

‫إن سورة البقرة وحدها مشتملة على ألف أمر ‪ ،‬وألف‬ ‫ــ وقال ابن العربي عن بعض أشياخه " ّ‬
‫نهي ‪ ،‬وألف حكم ‪ ،‬وألف خبر ‪ ،‬ولعظيم فقهها أقام عبد هللا بن عمر ثمان سنين في تعلمها " (‪)1‬‬

‫ــ وقد أرجع مناع القطان سبب الخالف وعدم اتفاق العلماء على عددها بقوله ‪ ":‬ولم يتفق‬
‫العلماء الباحثون على عدد آيات األحكام نظرا ً الختالف األفهام ‪ ،‬وتفاوت وجهات الداللة " (‪.)2‬‬

‫منهج القرآن في بيان األحكام (‪ : )3‬آيات األحكام الواردة في القرآن الكريم منها المكية‬
‫والمدنية‪:‬‬
‫ّ‬
‫والحث على مكارم‬ ‫فاآليات المكية ر ّكزت أكثر على تصحيح العقيدة وإرساء قواعد الدّين‬
‫األخالق ‪ ،‬وذ ّم العادات السيّئة ا ّلتي كانت منتشرة آنذاك من سفك الدّماء ووأد البنات ‪ ،‬وكذا‬
‫سابقين ‪ .‬فاألحكام الفقهية ا ّلتي تض ّمنتها كانت قليلة جدا ً ‪ ،‬وتمثلت في وجوب إقامة‬
‫قصص ال ّ‬
‫الصالة واألمر باإلنفاق واإلحسان ‪ ،‬وحرمة التّطفيف في الكيل والميزان ‪ ،‬وتحريم ّ‬
‫الظلم وأكل‬
‫مال اليتيم واإلسراف والبغي ‪ ،‬وبعض األحكام ا ّلتي تتع ّلق بالذّبائح وغيرذلك ‪.‬‬

‫صوم والح ّج ‪ ،‬والنّهي عن أكل أموال‬ ‫ّ‬


‫كالزكاة وال ّ‬ ‫فمعظم التّشريع ورد في اآليات المدنية‬
‫الربا ‪ ،‬وأحكام المداينة ‪ ،‬كما أرسى التّشريع في هذه‬‫النّاس بالباطل ‪ ،‬وتحليل البيع وتحريم ّ‬
‫ّ‬
‫والطالق والميراث والوصية ‪،‬‬ ‫الفترة قواعد تنظيم المجتمع ‪ ،‬ووضع أحكام األسرة ؛ كالنّكاح‬
‫وعالقات األمم ‪ ،‬وصالت األفراد ‪ ،‬وفضح المنافقين ‪ ،‬ومشروعية القتال وفرضية الجهاد وما‬
‫يتبع ذلك من عهود أو فيء أو غنيمة أو أسر ‪ ،‬كما تناولت العقوبات على الجرائم الكبرى ؛‬
‫صيانة للحقوق اإلنسانية ‪ ،‬وهي الكليات الخمس ‪ ،‬كما تناولت شؤون القضاء والحكم في العدل‬
‫بين النّاس إلى غير ذلك من األحكام ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفاسير آيات األحكام ومناهجها ‪ ،‬ص ‪ ، 48‬وما بعدها ‪ /‬أحكام القرآن البن العربي ‪ ،‬ص ‪8‬‬

‫(‪ )2‬مناع القطان ‪ ،‬تاريخ التشريع اإلسالمي ‪ ،‬مكتبة وهبة ‪ ،‬ط ‪ 1422 ( 5‬هـ ‪2001 /‬م ) ص ‪69‬‬

‫(‪ )3‬مناع القطان ‪ ،‬تاريخ التشريع اإلسالمي ‪ ،‬ص ‪ 56‬إلى ‪ / 69‬محمد الخضري ‪ ،‬تاريخ التشريع اإلسالمي ‪،‬‬
‫ص ‪ / 72‬علي بن سليمان ‪ ،‬تفاسير آيات األحكام ومناهجها ‪ ،‬ص ‪. 52 ، 51‬‬
‫والتّشريع المدني ما هو إالّ امتداد للتّشريع الم ّكي ‪ ،‬كما ذكر ذلك ال ّشاطبي " المدني من‬
‫سور ينبغي أن يكون منزالً في الفهم على الم ّكي ‪ ،‬وكذلك الم ّكي بعضه مع بعض ‪ ،‬والمدني‬ ‫ال ّ‬
‫بعضه مع بعض ‪ ،‬على حسب ترتيبه في التنزيل وإالّ لم يصح " (‪. )1‬‬

‫وعلى هذا فقد وردت آيات األحكام في القرآن الكريم وفق منهج خاص كمايلي‪:‬‬

‫أوالً ‪ :‬العرض اإلجمالي لألحكام ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ ":‬وأقيموا ال ّ‬


‫صالة وآتوا الزكاة " النور ‪. 56 /‬‬ ‫ّ‬
‫ثانيا ً ‪ :‬العرض التّفصيلي لألحكام ‪ ،‬بوضوح دون إجمال فيها ؛ مثل أحكام المواريث في سورة‬
‫النّساء ‪ ، 12 ، 11 /‬وك ذا بعض أحكام الطالق في سورة الطالق ‪ ، 1 /‬وأحكام اللّعان في سورة‬
‫المحرمات من النّساء في النّكاح ‪ ،‬وذلك في سورة النساء ‪. 24 ، 22 /‬‬
‫ّ‬ ‫النّور ‪ ، 7 ، 6 /‬وكذا‬

‫ثالثا ً ‪ :‬العرض الكلّي لألحكام ‪ :‬أي ورود األحكام على شكل قواعد كلية ‪ ،‬مثل ‪:‬‬

‫ــ الشورى " وشاورهم في األمر " آل عمران ‪. 159 /‬‬

‫ــ األمر بالعدل والحكم يه " ّ‬


‫إن هللا يأمر بالعدل واإلحسان " النحل ‪90 /‬‬

‫ــ العقوبة بقدر الجريمة " وجزاء سيّئة سيّئة مثلها " الشورى ‪40 /‬‬

‫البر والتّقوى " المائدة ‪2 /‬‬


‫ــ التعاون على الخير " وتعاونوا على ّ‬

‫ــ رفع الحرج " وما جعل عليكم في الدّين من حرج " الحج ‪78 /‬‬

‫ــ الضّرورات تبيح المحظورات " فمن اضطر غير باغ وال عاد فال إثم عليه " البقرة ‪173 /‬‬

‫رابعا ً ‪ :‬توزيع آيات الحكم الواحد في القرآن الكريم ‪:‬‬

‫ال ‪ :‬أحكام الطالق ورد ذكرها في سورة البقرة والنساء والطالق ‪ .‬أحكام النكاح ورد ذكرها‬ ‫مث ً‬
‫في عدّة سور ( البقرة ‪ ،‬النساء ‪ ،‬المائدة ‪ ،‬النور ) ‪ .‬أحكام الجهاد ورد ذكرها في عدّة سور‬
‫صف)‬‫(البقرة ‪ ،‬النّساء ‪ ،‬األنفال ‪ ،‬التوبة ‪ ،‬األحزاب ‪ ،‬محمد ‪ ،‬ال ّ‬
‫خامسا ً ‪ :‬ورود أحكام القرآن الكريم معلّلة ‪:‬‬

‫ال ‪ :‬أن يذكر وصفا ً مرتبا ً عليه حكما ً فيفهم السامع ّ‬


‫أن هذا الحكم يدور مع ذلك الوصف أينما‬ ‫مث ً‬
‫وجد " الزانية والزاني فاجلدوا ك ّل واحد منهما مائة جلدة " النور‪2/‬‬

‫ــ أن يأمر بال ّشيء مبيّنا ً مصالحه ‪ ،‬أو يحرم شيئا ً مبيّنا ً مفاسده المترتبة عليه " وأعدّوا لهم ما‬
‫وعدوكم " التوبة ‪28 /‬‬
‫ّ‬ ‫عدو هللا‬
‫استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬أبو إسحاق الشّاطبي ‪ ،‬الموافقات في أصول الشّريعة ‪ ،‬تـ ‪ :‬أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان ‪ ،‬دار‬
‫ابن عفان ‪ ،‬ط ‪ 1417 ( 1‬هـ ‪1997 /‬م ) ج ‪ ، 3‬ص ‪ 275 :‬ـ ‪. 274‬‬
‫سادسا ً ‪ :‬ربط األحكام بالعقيدة أو اإليمان أو باألمر بتقوى هللا ‪ ،‬أو بالتّذكير بعلمه سبحانه ‪،‬‬
‫وربطها بشيء من معاني التّرغيب والترهيب ‪.‬‬

‫مثل ‪ " :‬الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة وال تأخذكم بهما رأفة إن كنتم تؤمنون‬
‫باهلل واليوم اآلخر " النور ‪2 /‬‬

‫تنوع أسلوب القرآن في الطلب والتخيير ‪ :‬لقد أتى أسلوب القرآن الكريم في التعبير عن‬ ‫سابعا ً ‪ّ :‬‬
‫طلب الفعل أو تركه أو التخيير فيه بطريقة متنوعة ‪ ،‬فلم يعبر دائما ً عما هو واجب بمادة‬
‫محرم بمادة الحرمة ؛ بل جاء بعدّة أساليب وتعبيرات ‪ ،‬ليكون أدعى‬ ‫ّ‬ ‫الوجوب ‪ ،‬وال عما ّ هو‬
‫للقبول ‪ ،‬وأبعث على االمتثال ‪ ،‬وترغيبا ً للعباد ‪ ،‬وتقريبا ً ألفهامهم ‪.‬‬

‫مثل ‪ " :‬كتب عليكم الصيام كما كتب على الّذين من قبلكم " البقرة ‪. 183 /‬‬

‫ــ " من ذا الّذي يقرض هللا قرضا ً حسنا ً " البقرة ‪245 /‬‬

‫ــ " حافظوا على الصلوات والصالة الوسطى " البقرة ‪238 /‬‬

‫ــ " أحلت لكم بهيمة األنعام "‬

‫التدرج في تشريع األحكام منهج قرآني في عرضه وبيانه‬ ‫ّ‬ ‫التدرج في تشريع األحكام ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ثامنا ً ‪:‬‬
‫لبعض األحكام ‪ ،‬وسمة أبرزها في العديد من األحكام ‪ ،‬وال سيما في األمور المتم ّكنة في‬
‫التدرج في‬
‫ّ‬ ‫والتدرج المقصود هنا هو‬
‫ّ‬ ‫المجتمع التي يثقل االمتثال لحكمها في ّأول األمر ‪،‬‬
‫التدرج في ال ّنزول ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التّشريع ‪ ،‬وليس‬

‫يتحول إلى ممنوع‬


‫ّ‬ ‫وذلك كان يأخذ الحكم مراحل عدّة حيث يكون مباحا ً في ّأول األمر ‪ ،‬ث ّم‬
‫الربا‬
‫التدرج في تحريم ّ‬
‫ّ‬ ‫يحرم تحريما ً قاطعا ً ‪ ،‬ومن أمثلته‬
‫في بعض األوقات ‪ ،‬أو الحاالت ‪ ،‬ث ّم ّ‬
‫( الروم ‪ ( ) 39 /‬آل عمران ‪ ( ) 130 /‬البقرة ‪ ) 275 /‬ثم (البقرة ‪ ( ) 276 /‬البقرة ‪) 278 /‬‬
‫(البقرة ‪. ) 280 /‬‬

‫التدرج في تحريم الخمر ‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬


‫ّ‬ ‫وكذلك‬

‫تفسير آيات األحكام ‪ :‬هو ذلك التفسير الّذي يعتني بجمع ودراسة اآليات ذات الصلة باألحكام‬
‫الشرعية ‪ ،‬بقصد الوقوف على ما تحتوي عليه من تشريعات عملية ‪ ،‬وبيان كيفية استنباط‬
‫األحكام منها (‪. )1‬‬

‫ويظهر من خالل هذا التعريف خطوات هذا التفسير في ‪:‬‬

‫ــ استقراء وجمع اآليات المتعلّقة باألحكام ‪.‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬علي بن سليمان العبيد ‪ ،‬تفاسير آيات األحكام ومناهجها ‪ ،‬دار التدمرية ‪ ،‬ط ‪ ، 1‬سنة ( ‪1431‬هـ‪2010/‬م)‬
‫ص ‪. 39‬‬
‫ــ العمل على تفسيرها ‪.‬‬

‫ــ استنباط األحكام منها ‪ ،‬واستخراج ما تحويه من القواعد واألصول ‪ ،‬وتخصيصها بكتاب‬
‫مستقل ‪.‬‬

‫وتفسير آيات األحكام هو خصوص من عموم تفسير القرآن الكريم ‪ ،‬الّذي هو علم أو ّ‬
‫فن له‬
‫والمتنوعة ‪ ،‬والّتي منها المنهج الفقهي ‪ ،‬أو التّفسير الفقهي ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مناهجه الكثيرة‬

‫متأخر ؛ ألنّه يحمل وجهة نظر المذاهب ‪ ،‬فعلى سبيل المثال ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫والتّفسير الفقهي تفسير شبه‬

‫صاص كتابه أحكام القرآن‬ ‫ــ من الحنفية ‪ ،‬ألّف أبو بكر ّ‬


‫الرازي المعروف بالج ّ‬
‫شافعي أبو بكر البيهقي ‪ ،‬وأبو الحسن ّ‬
‫الطبري المعروف‬ ‫ــ ومن ال ّشافعية ‪ ،‬ما جمعه عن اإلمام ال ّ‬
‫الهراسي (‪504‬هـ) وكتابه أحكام القرآن ‪.‬‬‫بإ ِ ْلكيا ّ‬
‫ــ ومن المالكية ‪ ،‬ألّف أبو بكر بن العربي كتابه أحكام القرآن ‪ ،‬وكذلك اإلمام القرطبي صاحب‬
‫كتاب الجامع ألحكام القرآن (‪. )1‬‬

‫أهمية دراسة آيات األحكام‬


‫ّ‬
‫االطالع على نماذج من األحكام الفقهية المستنبطة من آيات األحكام ‪.‬‬ ‫‪/1‬‬

‫‪ /2‬االستفادة من األحكام المستنبطة ‪ ،‬بمقاصدها ومحاولة إسقاطها على الواقع‬


‫‪ /3‬تنمية الملكة الفقهية واالستنباطية لدى ّ‬
‫الطالب‬
‫‪ /4‬تمكين ّ‬
‫الطالب من التّمييز بين اآليات القطعية الداللة والظنيّة الدّاللة ‪ ،‬والتّعامل مع اختالفات‬
‫صب والتز ّمت ‪.‬‬‫سرين بك ّل روح علمية بعيدة عن التع ّ‬
‫المف ّ‬

‫‪ /5‬منح القدرة على الموازنة بين األحكام ال ّشرعية خاصة تلك الّتي ظاهرها التّعارض ‪.‬‬

‫تاريخ نشأة تفسير آيات األحكام ‪ :‬تفسير آيات األحكام هو نوع من التّفاسير ا ّلتي عُرفت بعد‬
‫شمول إلى االختصاص ‪ ،‬وقد انعكس‬ ‫التحول الّذي عرفه علم التّفسير بانتقاله من اإلحاطة وال ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫التحول على العناوين التي عُرفت بهذا التّفسير ‪ ،‬فوجدت كتب في بيان لغة القرآن وإعرابه‬‫ّ‬ ‫ذلك‬
‫كمعاني القرآن لألخفش والز ّجاج ‪ ،‬وإعراب القرآن للنحاس ‪ ،‬وأخرى في بيان غريبه كغريب‬
‫القرآن للراغب األصفهاني ‪ ،‬ووجدت كتب تهت ّم ببيان األحكام الفقهية يطلق عليها ‪ :‬أحكام القرآن‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬مقدمة تفسير آيات األحكام ‪ ،‬محمد علي السايس ‪ ،‬المكتبة العصرية لل ّ‬
‫طباعة والنّشر ‪ ،‬بيروت ‪2002‬م ‪،‬‬
‫ص ‪( 6‬من كالم المقدم ) ‪.‬‬
‫يختص ك ّل واحد منها بجانب من جوانب القرآن في مقابل الكتب الجامعة كجامع‬
‫ّ‬ ‫‪ ،‬فهذه التّفاسير‬
‫البيان للطبري ونحوه (‪. )1‬‬

‫أن التّفسير الفقهي كان مع بيان النّبي صلّى هللا عليه وسلّم لألحكام ‪ ،‬بنا ًء على‬
‫المقرر ّ‬
‫ّ‬ ‫لكن‬
‫سر القرآن " وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما‬‫الرسول صلّى هللا عليه وسلّم هو ّأول من ف ّ‬
‫أن ّ‬‫ّ‬
‫صة وأنّهم عايشوا‬ ‫صحابة رضي هللا عنهم ذلك خا ّ‬ ‫نُ ِ ّزل إليهم " النّحل ‪ 44/‬ومن بعده تولّى ال ّ‬
‫التّنزيل ‪ ،‬وعرفوا الوقائع واألحداث الّتي كان الوحي ينزل بها ‪ ،‬فعن أبي عبد الرحمن السلمي‬
‫وهو من كبار التّابعين ‪ ،‬قال ‪ " :‬كنّا إذا تعلّمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلّم العشر بعدها حتّى‬
‫نعرف حاللها من حرامها ‪ ،‬وأمرها ونهيها " (‪. )2‬‬

‫الرقعة اإلسالمية وما استج ّد من قضايا ونوازل ازدادت الحاج‬‫ومع االتساع ا ّلذي عرفته ّ‬
‫إلى استنباط األحكام من القرآن الكريم باعتباره ّأول ما يرجع إليه المجتهد في عمليّة البحث عن‬
‫ي حكم ‪ ،‬فكثرت آيات األحكام ولم يعد الحديث عن آية وآيتين وإنّما عن آيات لألحكام جمعت‬ ‫أ ّ‬
‫صت بجمع آيات‬ ‫في مؤلّفات مستقلّة تحت عنوان تفاسير األحكام ‪ ،‬فقام العلماء بتدوين كتب اخت ّ‬
‫وتنوعت هذه الكتب خالل عصور التّدوين واتّجهت‬ ‫ّ‬ ‫األحكام في القرآن الكريم وتفسيرها ‪،‬‬
‫اتّجاهات مختلفة ‪ ،‬وهذه التّفاسير منها م هو موجود ‪ ،‬ومنه ما هو مفقود (‪. )3‬‬

‫وبعد تمييز التّفسير الفقهي عن غيره من التّفاسير ‪ ،‬اتّجه الكثير من العلماء على اختالف‬
‫أن أوائل هذه التّفاسير حسب التّرتيب ّ‬
‫الزمني‬ ‫المؤرخون (‪ّ )4‬‬
‫ّ‬ ‫مذاهبهم إلى التّأليف فيه ‪ ،‬ويذكر‬
‫فائدة ذلك في معرفة المتقدّم منهم من المتأ ّخر ‪ ،‬واستفادة المتأ ّخر من المتقدّم وذلك فيما يلي (‪: )5‬‬

‫ــ تفسير الخمسمائة آية لمقاتل بن سليمان البلخي تـ ‪ 150‬هـ ‪ .‬وهو مطبوع وموجود‬

‫صاص تـ ‪ 370‬هـ ‪ .‬وهو مطبوع وموجود ‪.‬‬


‫الرازي الج ّ‬
‫ــ أحكام القرآن ألبي بكر ّ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ ) 1‬موالي عمر بن حماد ‪ ،‬التفسير الفقهي ‪ ،‬النشأة والخصائص ‪ ،‬ملتقى أهل التفسير ‪httbs :/vb .tafsir‬‬

‫= ‪ net/tafsir 3539 .‬انظر جالل الدين السيوطي ‪ ،‬اإلتقان في علوم القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 234‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني في المصنف ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط ‪ ، 2‬سنة ‪1403‬هـ ‪ ،‬كتاب فضائل القرآن‬
‫باب تعليم القرآن وفضله ‪ ،‬رقم ‪ ، 6027 :‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 380‬‬

‫(‪ ) 3‬علي بن سليمان العبيد ‪ ،‬تفاسير آيات األحكام ‪ ،‬ص ‪ / 40‬موالي عمر بن حماد ‪ ،‬التفسير الفقهي ‪،‬‬
‫النشأة والخصائص ‪ ،‬ملتقى أهل التفسير ‪ / htbs:/vb . tafsir . net /tafsir 3539‬عيسى بوعكاز ‪،‬‬
‫التفسير الفقهي ‪ ،‬ص ‪. 25‬‬

‫(‪ ) 4‬حاجي خليفة في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ‪/ 1/1 ،‬مقدمة كتاب أحكام القرآن للكيا هراسي‬

‫(‪ )5‬تفاسير آيات األحكام ومناهجها ‪ ،‬ص ‪76‬ــ ‪75‬‬


‫ــ أحكام القرآن ألحمد بن علي الباغاتي تـ ‪ 401‬هـ وقد تم تحقيقه من طرف الباحثين‬

‫ــ أحكام القرآن لإلمام الشافعي تــ ‪ 150‬هــ جمع أبي بكرالبيهقي تـ ‪ 458‬هــ‬

‫ــ أحكام القرآن للكيا هراسي ( الشافعي ) تـ ‪ 504‬هــ ‪ ،‬وهو مطبوع وموجود ‪.‬‬

‫ــ أحكام القرآن ألبي بكر بن العربي تـ ‪ 543‬هــ ‪ ،‬وهو مطبوع وموجود ‪.‬‬

‫ــ أحكام القرآن لعبد المنعم بن الفرس (المالكي) تـ ‪ 599‬هــ وهو مطبوع وموجود ‪.‬‬

‫ــ الجامع ألحكام القرآن ألبي عبد هللا القرطبي تـ ‪ 671‬هــ ‪ ،‬وهو مطبوع وموجود ‪.‬‬

‫ــ القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي تـ ‪ 756‬هــ ‪ ،‬وهو مطبوع وموجود ‪.‬‬

‫ــ اإلكليل في استنباط التنزيل للسيوطي تــ ‪ 911‬هــ ‪ ،‬وهو مطبوع وموجود ‪.‬‬

‫ويظهر أن غالبية هذ ه الكتب قد تم تحقيقها وطبعها ‪ ،‬فهي موجودة وفي متناول الباحثين‬
‫والطلبة ‪.‬‬

‫أما بالنسبة للدراسات المعاصرة فيما يخص آيات األحكام فسيتم االقتصار على ذكر مايلي ‪:‬‬

‫ــ محمد علي السايس تـ ‪ 1396‬هـ ــ ‪ 1976‬م الذي قام بتنقيح وتصحيح التفسير المسمى " تفسير‬
‫آيات األحكام " لمؤلف غير معروف اسمه‪ ،‬وجعل الناس النسبة إليه ‪ ،‬وهذا غير صحيح ؛ بل‬
‫هو قام بإخراجه من الضياع جزاه هللا خير الجزاء ‪.‬‬

‫ــ تفسير آيات األحكام ألبي محمد مناع خليل القطان ولد سنة (‪ 1925‬هــ ) ‪.‬‬

‫ــ روائع البيان تفسير آيات األحكام لمحمد علي الصابوني ‪ ،‬ولد سنة (‪ 1928‬هـ ) ‪.‬‬

‫ــ دراسات في تفسير بعض آيات األحكام للدكتور كمال جودة أبو المعاطي مدرس الفقه المقارن‬
‫‪ ،‬بكلية الشريعة والقانون في جامعة األزهر ‪.‬‬

‫ــ تفسير آيات األحكام لعبد القادر شيبة الحمد معاصر ‪ ،‬على المذهب الحنبلي ‪ ،‬والكتاب مطبوع‬
‫بمكتبة العبيكان ‪ 1427‬هـ ‪.‬‬

‫ــ كتاب علي بن سليمان العبيد ‪ ،‬تفاسير آيات األحكام ومناهجها ‪ ،‬وهي عبارة عن رسالة‬
‫دكتوراه ‪ ،‬نوقشت بكلية أصول الدين بجامعة محمد بن سعود اإلسالمية بالرياض سنة ‪ 1407‬هـ‪.‬‬

‫ــ التفسير الفقهي ‪ ،‬للطالب عيسى بوعكاز ‪ ،‬وهي عبارة عن رسالة دكتوراه نوقشت سنة ‪2011‬‬
‫م بكلية العلوم اإلسالمية ‪ ،‬جامعة باتنة بالجزائر ‪.‬‬

‫وغيرها من المؤلفات الحديثة ‪ ،‬وتتميز هذه المؤلفات بكونها عبارة عن محاضرات ألقيت‬
‫على الطلبة أو رسائل جامعية تتعلق بمواضيع التفسير الفقهي ‪.‬‬
‫الخطوات المنهجية لدراسة آيات األحكام‬

‫‪ /1‬ــ إعطاء نبدة فقهية عن موضوع الدرس ‪ ,‬لنضع الطالب أمام صورة واضحة للموضوع‬
‫المراد عالجه ‪ ,‬ومن خالل ذ لك تثار إشكاالت الدرس ‪ ،‬وأهم ما يوضع في هذه المقدمة ‪:‬‬
‫التعريف اللغوي والشرعي للمسألة ‪ ،‬ثم الكالم عن المشروعية أو عدمها باختصار ‪.‬‬

‫‪ /2‬عرض النص القرآني إن كان واحدا في الموضوع ‪ ،‬أو عرض النصوص األخرى معه ‪.‬‬

‫‪ /3‬عرض أسباب النزول ومناسباته ‪ ،‬وال يُكتفى بذ كره ؛ بل يعلق عليه بما يعود بالفهم على‬
‫النص القرآني ‪.‬‬

‫‪ /4‬شرح األلفاظ وتحليلها ‪ ،‬إللقاء الضوء على ما يعسر فهمه من مجرد القراءة العابرة ‪.‬‬

‫‪ /5‬اإلعراب كما يفعل األئمة ‪ ،‬مما له دور في فهم المعنى ‪.‬‬

‫‪ /6‬األبحاث البالغية التي تحصل الفهم التام للمعاني المقصودة ‪.‬‬

‫‪ /7‬معرفة األحكام الفقهية المستنبطة من آيات األحكام المقررة ‪.‬‬

‫‪ /8‬اإلفادة من الحكم والعبر المستقاة من تلك اآليات وتوظيفها في الواقع المعاصر ‪.‬‬

‫ثانيا ً ‪ :‬آيات األحكام المقررة‬

‫‪ /1‬تفسير آيات الصيام‬

‫‪ /2‬تفسير آية الدين‬

‫‪ /3‬تفسير آية الشورى‬

‫‪ /4‬تفسير آية القوامة‬

‫‪ /5‬تفسير آيات األمانة‬

‫‪ /6‬تفسير آية العقود‬

‫‪ /7‬تفسير آية االستئدان‬


‫المحاضرة األولى‬
‫تفسير آيات الصيام‬
‫قال هللا تعالى ‪:‬‬

‫صيا ُم كما كُ ِتب على الَّذِين ِمن قب ِلكُم لعلَّكُم تتَّقُون (‪)183‬‬ ‫( يا أ ُّيها الَّذِين آمنُوا كُ ِتب عليكُم ال ِ ّ‬
‫ت فمن كان ِمنكُم م ِريض ٍا أو على سف ٍر ف ِع َّدةٌ من أيّا ٍم اُخر وعلى الَّذِين يُ ِطيقُونهُ‬ ‫أيَّاما ً معدُودا ٍ‬
‫ين فمن تط َّوع خيرا ً ف ُهو خي ٌر لهُ وأن تصُو ُموا خي ٌر لكُم ِإن كُنتُم تعل ُمون (‪)184‬‬ ‫فِديةٌ طعا ُم ِمس ِك ٍ‬
‫ت ِمن الهُدى والفُرقا ِن فمن ش ِهد ِمنكُ ُم‬ ‫شه ُر رمضان الَّذِي أُن ِزل فِي ِه القُرآنُ هُدًى ِللنَّ ِ‬
‫اس وبيِّنا ٍ‬
‫الشَّهر فليصُمهُ ومن كان م ِريضا ً أو على سف ٍر ف ِع َّدةٌ ِمن أيّا ٍم أُخر يُ ِري ُد هللاُ بِكُم اليُسر وال يُ ِري ُد‬
‫ِبكُم العُسر و ِلتُك ِملُوا ال ِعدَّة و ِلتُك ِبّ ُروا هللا على ما هداكُم ولعلَّكُم تشك ُُرون (‪ )185‬و ِإذا سألك‬
‫َّاع ِإذا دعا ِن فليست ِجيبُوا ِلي وليُؤ ِمنُوا ِبي لعلَّهُم‬ ‫يب دعوة الد ِ‬ ‫يب أ ُ ِج ُ‬
‫ِعبادِي عنِّي ف ِإنِّي ق ِر ٌ‬
‫س ل ُهنَّ ع ِلم ُ‬
‫هللا‬ ‫س لكُم وأنتُم ِلبا ٌ‬ ‫ث إِلى نِسائِكُم هُنَّ ِلبا ٌ‬ ‫الرفّ ُ‬ ‫يرشُدُون (‪ )186‬أ ُ ِح َّل لكُم ليلة ال ِ ّ‬
‫صيا ِم َّ‬
‫ش ُروهُنَّ وابتغُوا ما كتب هللاُ لكُم‬ ‫أنَّكُم كُنتُم تختانُون أنفُسكُم فتاب عليكُم وعفا عنكُم فاآلن با ِ‬
‫صيام ِإلى‬ ‫وكُلُوا واشربُوا حتَّى يتبيَّن لكُم الخيطُ األبيضُ من الخي ِط األسو ِد ِمن الٍفج ِر ث ُ َّم أتِ ُّموا ال ِ ّ‬
‫هللا فال تق ِربُوها كذ ِلك يُبيِّنُ هللاُ آياتِ ِه‬ ‫ش ُرهُنَّ ّوأنتُم عا ِكفُون ِفي المسا ِج ِد تِلك ُحدُو ُد ِ‬ ‫اللَّي ِل وال تُبا ِ‬
‫اس لعلَّهُم يتَّقُون (‪ )187‬البقرة ‪.‬‬ ‫للنَّ ِ‬

‫شرح األلفاظ ‪:‬‬


‫ــ كُتب ‪ :‬فُرض ‪ .‬قال الفيّومي ‪ ":‬وكتب حكم وقضى وأوجب ‪ ،‬ومنه كتب هللا ال ّ‬
‫صيام أي‬
‫أوجبه"(‪)1‬‬

‫شيء والتّرك له ‪ ،‬وفي ال ّشرع ‪" :‬اإلمساك عن‬


‫والكف عن ال ّ‬
‫ّ‬ ‫ــ الصّيا ُم ‪ :‬في اللغة ‪ :‬اإلمساك‬
‫شمس " (‪. )2‬‬‫المفطرات مع اقتران النيّة به من طلوع الفجر إلى غروب ال ّ‬

‫ــ كما كُتب على الَّذين من قبلكم ‪ :‬أي كما فُرض على من قبلكم ‪ .‬فمن المعروف ّ‬
‫أن الصوم‬
‫مشروع في جميع الملل (‪. )3‬‬

‫صوم يكسر ال ّشهوة الّتي هي مبدأ المعصية ‪ ،‬ويورث‬ ‫ــ تتّقون ‪ :‬تجتنبون المعاصي ‪ّ ،‬‬
‫فإن ال ّ‬
‫ويهون لذات الدّنيا ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التّقوى‪ ،‬ويقمع الهوى ‪ ،‬ويردع عن األشر والبطر والفواحش ‪،‬‬

‫ت ‪ :‬أيام رمضان ‪ ،‬ووصفها بقوله ( معدودات ) تسهيالً على المكلّف بأن هذه‬‫ــ أيّاما ً معدُودا ِ‬
‫األيام معدودة أي قليلة ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 524‬‬

‫(‪ )2‬تفسير القرطبي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 273‬‬

‫(‪ )3‬التفسير المنير ‪ّ ،‬‬


‫للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 128‬‬
‫ــ يُ ِطيقونهُ ‪ :‬أي يتح ّملونه بمشقّة شديدة وجهد كبير ‪ ،‬مثل الكبير الهرم ‪ ،‬والحامل والمرضع‬
‫والمريض مرضا ً ال يُرجى برؤه ‪ ،‬وهو المرض المزمن ‪.‬‬

‫ــ ِفديةٌ ‪ :‬الفدية هي إطعام مسكين عن ك ّل يوم ‪ ،‬من أوسط ما يطعم أهله في يومه ‪ ،‬أكلة واحدة‪،‬‬
‫وهو ُم ّد من غالب قوت البلد ‪ ،‬وهو يساوي ( ‪ 675‬غرام ) ‪.‬‬

‫ــ فمن تط ّوع خيرا ً ‪ّ :‬‬


‫بالزيادة على القدر المذكور في الفدية ‪ ( .‬فهو ) أي التطوع خير له ‪ .‬وقيل‬
‫في معناه ‪ :‬والصوم خير من اإلفطار والفدية ‪.‬‬

‫ــ أُن ِزل في ِه القُرآنُ ‪ :‬من اللوح المحفوظ إلى ال ّ‬


‫سماء الدّنيا في ليلة القدر ‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحق من‬ ‫ــ ُهدًى ‪ :‬هاديا من الضّاللة ( وبيّنات ) آيات واضحات ‪ ( .‬من الهدى ) م ّما يهدي إلى‬
‫األحكام ‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحق والباطل ‪.‬‬ ‫ــ والفُرقا ِن ‪ :‬م ّما يفرق بين‬
‫ــ فمن ش ِهد ‪ :‬حضر بأن كان مقيما ً غير مسافر ‪ .‬أو رأى هالل ال ّ‬
‫شهر أو علم به ‪.‬‬

‫سهولة والتّخفيف ‪ ،‬بإباحة الفطر في المرض وال ّ‬


‫سفر ‪.‬‬ ‫ــ اليُسر ‪ :‬ال ّ‬

‫صيام ‪،‬‬
‫ــ يُري ُد هللاُ يكُم اليُسر ‪ :‬تعليل لما قبله ‪ ،‬أي يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في ال ّ‬
‫وسائر ما يشرعه لكم من األحكام ‪ ،‬أن يكون دينكم يسرا تاما ً ال عسر فيه ‪.‬‬

‫سفر ؛ ألنّه يريد‬ ‫كملُوا العدّة ‪ :‬ال ّ‬


‫الم للتّعليل ‪ ،‬كأنّه قال ‪ :‬ر ّخص لكم في حالتي المرض وال ّ‬ ‫ــ و ِلت ُ ِ‬
‫سفر ‪ ،‬أكملها قضاء‬ ‫بكم اليسر ‪ ،‬وأن تك ّملوا العدّة ‪ ،‬فمن لم يكملها أداء ‪ ،‬لعذر المرض أو ال ّ‬
‫بعده‪.‬‬

‫ــ و ِلتُكبِّروا هللا ‪ :‬عند إكمال العدّة ‪.‬‬

‫ــ على ما هداكُم ‪ :‬إليه من األحكام ال ّنافعة لكم ‪ ،‬بأن تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في‬
‫إصالح عباده ‪ ،‬وأنّه يربيهم بما يشاء من األحكام ‪ ،‬ويؤدّبهم بما يختار من التّكاليف (‪. )1‬‬

‫ــ ولعلَّكُم تشكرون ‪ :‬هللا على هذه النّعم كلّها ‪ ،‬وإعطاء ك ّل من العزيمة ّ‬
‫والرخصة حقّها ‪.‬‬

‫سبب النّزول ‪:‬‬


‫م ّما ورد في سبب نزول اآلية ‪ 184‬من سورة البقرة ما أخرج ابن سعد في طبقاته عن‬
‫مجاهد قال ‪ :‬هذه اآلية نزلت في موالي قيس بن السائب ‪ " :‬وعلى الَّذين يُ ِطيقُونهُ ِفديةٌ طعا ُم‬
‫ين " فأفطر ‪ ،‬وأطعم لك ّل يوم مسكينا ً (‪. )2‬‬
‫ِمس ِك ٍ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬التفسير المنير ‪ّ ،‬‬
‫للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 129‬‬

‫(‪ )2‬الطبقات الكبرى البن سعد ‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪. 446‬‬


‫فضل الصّيام وحكمته ‪:‬‬
‫صيام ‪ ،‬كما فرض على المؤمنين‬ ‫أن هللا تعالى فرض على المؤمنين ال ّ‬ ‫تبيّن اآلية األولى ّ‬
‫أتباع الملل األخرى من لدن آدم عليه السالم ‪ ،‬وناداهم بوصف اإليمان المقتضي لالمتثال ‪،‬‬
‫صوم مطهرة للنّفس ‪ ،‬ومرضاة‬ ‫صوم فرض على جميع ال ّناس ‪ ،‬ترغيبا ً فيه ‪ ،‬ث ّم ّ‬
‫إن ال ّ‬ ‫أن ال ّ‬‫وأبان ّ‬
‫السر والعلن ‪ ،‬ويربّي اإلرادة ‪ ،‬ويعلّم ال ّ‬
‫صبر وتح ّمل المشاق‬ ‫ّ‬ ‫للرب ‪ ،‬ويع ّد ال ّنفوس لتقوى هللا في‬
‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫شهوات ‪ ،‬لذا قال النّبي صلى هللا عليه وسلم ‪( :‬الصّوم‬ ‫وضبط النّفس عند المكاره ‪ ،‬وترك ال ّ‬
‫نصف الصّبر ) (‪. )1‬‬

‫والرحمة الّتي تدعوه إلى البذل والعطاء ‪ ،‬فهو‬


‫شفقة ّ‬ ‫صوم يستدعي اإلحساس المرهف وال ّ‬ ‫وال ّ‬
‫صيام على مواساتهم ‪ ،‬وفيه تحقيق‬‫عندما يجوع يتذ ّكر من ال يجد قوتا ً من البائسين ‪ ،‬فيحمله ال ّ‬
‫معنى المساواة بين األغنياء والفقراء ‪ ،‬واألشراف والعا ّمة ‪ ،‬في أداء فريضة واحدة ‪ ،‬وهذا من‬
‫فوائد الصيام االجتماعية (‪. )2‬‬

‫صوم وقاية من المعاصي والوقوع في المحضور ؛ أل ّنه يربّي ال ّنفس وين ّمي فيها‬ ‫وفي ال ّ‬
‫الخشية من هللا وزيادة التّقوى ‪ ،‬لذا قال عليه الصالة والسالم ) الصّوم ُجنّة ) (‪. )3‬‬

‫الرواسب والتخميرات الضّارة ‪،‬‬ ‫ويقوي الص ّحة ‪ ،‬ويخلّص الجسد من ّ‬‫صوم يجدد البنية ‪ّ ،‬‬
‫وال ّ‬
‫ويقوي الذاكرة ‪ ...‬ويجمع ذلك كلّه قول النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم فيما رواه‬
‫ّ‬ ‫ويريح األعضاء ‪،‬‬
‫الطب عن أبي هريرة رضي هللا عنه ‪ (:‬صوموا تصحّوا ) (‪. )4‬‬ ‫أبو نعيم في ّ‬

‫صيام مشروطة باالعتدال في تناول‬ ‫المرجوة من ال ّ‬


‫ّ‬ ‫وك ّل الفوائد الجسدية والروحية والصحيّة‬
‫سحور ‪ ،‬وإالّ أصبح الحال عكسها ‪ ،‬وانقلب األمر ضررا ً ‪.‬‬
‫وجبات اإلفطار وال ّ‬
‫وغض البصر ‪ ،‬واالمتناع عن الغيبة والنّميمة‬
‫ّ‬ ‫صائم عفّة اللّسان ‪،‬‬
‫وفوق هذا وذاك يشترط لل ّ‬
‫الزور والعمل به ‪ ،‬فليس هلل‬ ‫واللّهو الحرام ‪ ،‬لذا قال صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ) :‬من لم يدع قول ّ‬
‫حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) (‪. )5‬‬

‫فقه األحكام ‪:‬‬


‫اشتملت هذه اآليات على أحكام كثيرة ‪ ،‬أه ّمها بإيجاز ‪:‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬اإلمام أحمد في مسنده ‪ ،‬رقم ‪ ، 23073 :‬قال شعيب األرناؤوط ‪ :‬صحيح لغيره ( ‪ ) 170/38‬ط الرسالة ‪.‬‬

‫(‪ )2‬التفسير المنير ‪ ،‬للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 131‬‬

‫(‪ )3‬سنن النسائي ‪ ،‬رقم ‪ ، 2224 :‬ج ‪. 166 ، 4‬‬

‫(‪ ) 4‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد ‪ :‬رواه الطبراني في األوسط ‪ ،‬ورجاله ثقات (‪) 179/3 ( ) 5070‬‬

‫(‪ )5‬التفسير المنير للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ . 132‬والحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي هللا عنه ‪،‬‬
‫رقم ‪ ، 1903‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 26‬‬
‫صه باإلضافة إليه ‪ ،‬كما‬ ‫‪1‬ـ للصوم فضل عظيم وثواب جسيم ‪ ،‬ويكفي في فضله ّ‬
‫أن هللا ‪ :‬خ ّ‬
‫جاء في الحديث القدسي الذي يخبر به النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم عن ربّه ‪ ":‬يقول هللا تبارك‬
‫وتعالى ‪ :‬كل عمل ابن آدم له إال الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " (‪. )1‬‬

‫صحيحين ‪( :‬يا معشر‬‫شيطان ؛ ولهذا ثبت في ال ّ‬ ‫صوم تزكية للبدن وتضييق لمسالك ال ّ‬‫وفي ال ّ‬
‫صوم فإنّه له وجاء ) (‪. )2‬‬ ‫ال ّ‬
‫شباب ‪ ،‬من استطاع منكم الباءة فليتزوج ‪ ،‬ومن لم يستطع فعليه بال ّ‬

‫‪ 2‬ـ يجوز للمريض والمسافر اإلفطار في رمضان‪ ،‬ويجب عليهما القضاء في وقت آخر‪.‬‬
‫والمرض المبيح للفطر في رأي أكثر الفقهاء‪ :‬هو الّذي يؤ ّدي إلى ضرر في ال ّنفس‪ ،‬أو زيادة في‬
‫الرخصة في‬‫ضابط هو الّذي يتّفق مع حكمة ّ‬ ‫ّ‬
‫الظن ‪ .‬وهذا ال ّ‬ ‫العلّة‪ .‬والعبرة في ذلك بما يغلب على‬
‫اآلية‪ :‬وهي إرادة اليسر ودفع العسر ‪.‬‬

‫قال القرطبي‪" :‬للمريض حالتان‪ :‬إحداهما أالّ يطيق ال ّ‬


‫صوم بحال ‪ ،‬فعليه الفطر واجبا‪.‬‬
‫صوم بضرر ومشقّة ‪ ،‬فهذا يستحب له الفطر وال يصوم إ ّ‬
‫ال جاهل ‪...‬‬ ‫الثانية ‪ :‬أن يقدر على ال ّ‬
‫وقال جمهور من العلماء‪ :‬إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه ‪ ،‬أو يخاف تماديه ‪ ،‬أو يخاف تزايده‬
‫ص ّح له الفطر‪ .‬قال ابن عطية‪ :‬وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون‪. )3(" .‬‬

‫يشق على المرء ويبلغ به وقيل‪ :‬ش ّدة المرض‬ ‫ّ‬ ‫وعند اإلمام مالك رحمه هللا هو المرض الّذي‬
‫والزيادة فيه والمشقّة الفادحة‪ .‬وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر‪ ،‬إال ما خ ّ‬
‫صه ال ّدليل من‬ ‫ّ‬
‫صداع والح ّمى ‪ ،‬والمرض اليسير الّذي ال كلفة معه في ال ّ‬
‫صيام (‪. )4‬‬ ‫ال ّ‬
‫الرباعية ‪ ،‬وقدره في رأي الجمهور‬ ‫صالة ّ‬ ‫سفر المبيح للفطر‪ :‬فهو الّذي يبيح قصر ال ّ‬ ‫وأما ّ ال ّ‬
‫شافعي عن ابن عباس‬ ‫ست ّة عشر فرسخا ً أو ثمانية وأربعون مي ً‬
‫ال هاشمية ‪ ،‬ودليلهم ما رواه ال ّ‬
‫رضي هللا عنهما قال ‪ ":‬يا أهل م ّكة ‪ ،‬ال تقصروا في أدنى من أربعة برد من م ّكة إلى عسفان»‬
‫وق ّدروها بحوالي ‪ 89‬كم ‪ ،‬وق ّدرها الحنفيّة بـ ‪ 96‬كم )‪. (5‬‬

‫صوم ‪ ،‬فيباح لهما اإلفطار‪ ،‬وعليهما القضاء‬ ‫يشق معه ال ّ‬‫ّ‬ ‫فالمسافر والمريض مرضا ً شديدا ً‬
‫الطويل فيهما مشقّة زائدة على حدود ّ‬
‫الطاقة‬ ‫سفر ّ‬ ‫ألن المرض وال ّ‬ ‫في أيّام أخر من العام ؛ ّ‬
‫البشريّة ‪ ،‬والمشقّة تجلب الت ّيسير‪ ،‬كما قال ّ‬
‫ّللا تعالى ‪ ":‬يُر ُد هللاُ بِكُم اليُسر وال يُ ِري ُد بِكُم العُسر "‬
‫[البقرة ‪. 185‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري عن أبي هريرة رضي هللا عنه ‪ ،‬رقم ‪ ، 5927 :‬ج ‪ ، 7‬ص ‪. 164‬‬

‫(‪ )2‬تفسير ابن كثير ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ ، 497‬والحديث عن ابن مسعود رضي هللا عنه في البخاري ‪ ،‬رقم ‪1905 :‬‬
‫ج ‪ ، 3‬ص ‪ ، 26‬ومسلم رقم ‪ ، 1400 :‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 1018‬‬

‫(‪ )4()3‬تفسير القرطبي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 276‬‬

‫(‪ )5‬التفسير المنير ‪ ،‬للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 136‬‬


‫سفر في رأي الجمهور قبل‬‫سفر‪ :‬أن يكون ال ّ‬ ‫‪3‬ـ ويشترط لجواز إفطار المسافر عند بدء ال ّ‬
‫الفجر‪ ،‬فلو أصبح المقيم صائما ّ فسافر‪ ،‬فال يفطر‪ ،‬تغليبا ّ لجانب الحظر؛ ألنه األصل(‪ . )1‬ولم‬
‫يشترط الحنابلة هذا الشرط ‪.‬‬

‫شيخ الهرم والمريض مرضا ً مزمنا ً ‪ ،‬والحامل‬ ‫صوم بمشقّة شديدة كال ّ‬‫والّذي يتح ّمل ال ّ‬
‫والمرضع إن خافتا على أوالدهما فقط ‪ ،‬عليه عند ال ّشافعي وأحمد القضاء و الفدية‪ :‬وهي طعام‬
‫مسكين‪ .‬فإن خافتا على أنفسهما ولو مع أوالدهما ‪ ،‬فعليهما القضاء فقط ‪.‬‬

‫‪4‬ـ من شهد أو حضر منكم ال ّ‬


‫شهر‪ ،‬وهو سليم معافى ‪ ،‬ال عذر له من سفر أو مرض ‪ ،‬فيجب‬
‫عليه الصيام ‪.‬‬

‫‪5‬ــ أما سكا ّن البالد القطبية ‪ -‬التي يتساوى فيها اللّيل والنّهار كلّ نصف عام ‪ ،‬أي يكون اللّيل‬
‫شمالي ‪ ،‬بينما يكون نهاراً في القطب الجنوبي ‪ ،‬فعليهم أن يق ّدروا‬ ‫فيها نصف سنة في القطب ال ّ‬
‫م ّدة تساوي شهر رمضان بحسب أقرب البالد المعتدلة إليهم ‪ ،‬أو بحسب م ّكة والمدينة ال ّلتين وقع‬
‫فيهما الت ّشريع (‪. )2‬‬

‫‪6‬ــ ذهب أكثر الفقهاء إلى أن اإلفطار رخصة ‪ ،‬فإن شاء صام ‪ ،‬وإن شاء أفطر ؛ ّ‬
‫ألن في‬
‫اآلية إضمارا تقديره‪ :‬فمن كان منكم مريضا ً أو على سفر فأفطر‪ ،‬فعليه ع ّدة من أيا ّم أخر‪.‬‬
‫أن حمزة األسلمي سأل النبي صلّى هللا‬ ‫وروى أبو داود في سننه عن عائشة رضي هللا عنها ‪ّ :‬‬
‫سفر؟ فقال‪( :‬صم إن شئت ‪ ،‬وأفطر إن‬ ‫ّللا ‪ ،‬هل أصوم على ال ّ‬ ‫عليه وسلّم ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ّ‬
‫ص حابة ‪ :‬ابن عباس‪ ،‬وأبي سعيد الخدري‪ ،‬وأنس بن‬ ‫شئت) (‪ . )3‬وقد ثبت عن جماعة من ال ّ‬
‫ي ص ّلى هللا عليه وسلّم ‪ :‬أنه صام‬‫مالك ‪ ،‬وجابر بن عبد هللا ‪ ،‬وأبي ال ّدرداء ‪ ،‬وسلمة ‪ ،‬عن النب ّ‬
‫ي صلّى هللا عليه وسلّم عام الفتح في رمضان ‪ ،‬ث ّم إنّه قال‬ ‫صحابة مع النب ّ‬ ‫سفر‪ ،‬وصام ال ّ‬
‫في ال ّ‬
‫لهم‪( :‬إنكم قد دنوتم من عدوكم ‪ ،‬والفطر أقوى لكم ‪ ،‬فأفطروا ) (‪. )4‬‬

‫أن ا ّلصوم للمسافر أفضل لمن قوي عليه ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ ":‬و أن‬ ‫وقرر أكثر األئمة ‪ّ :‬‬‫‪7‬ـ ّ‬
‫أن صومكم أيّها المرضى والمسافرون والّذين يطيقونه خير لكم من‬ ‫تصُو ُموا خي ٌر لكُم " (‪ )5‬أي ّ‬
‫وقوة اإليمان ‪ ،‬ومراقبة هللا ‪ .‬وذهب أحمد واألوزاعي‬ ‫الفدية ‪ ،‬لما فيه من مجاهدة النّفس ّ‬
‫وجماعة إلى ّ‬
‫أن الفطر أفضل ‪ ،‬لقول هللا تعالى ‪ " :‬يُري ُد هللاُ بِكُم اليُسر ‪ ،‬وال يُ ِري ُد بِكُم العُس ِر " ‪.‬‬
‫صوم‬‫الحض على ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫قال القرطبي في قوله تعالى " وأن تصُو ُموا خي ٌر لكُم " إنّه يقتضي‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الت ّفسير المنير ‪ ،‬للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 133‬‬

‫(‪ )2‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪. 134‬‬

‫(‪ )3‬سنن أبي داود ‪ ،‬رقم ‪ ، 2402 :‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 316‬‬

‫(‪ )4‬صحيح مسلم ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه ‪ ،‬رقم ‪ ، 1120 :‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 789‬‬

‫(‪ )5‬التفسير المنير ‪ ،‬للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 137‬‬


‫مطلقا ً(‪ )1‬أي فيه تنبيه على خيرية ال ّ‬
‫صيام ككل ‪ ،‬ال صيام المريض أو المسافر أو غيرهما ‪.‬‬

‫أن المسافر في رمضان ال يجوز له أن يب ّيت الفطر؛ ّ‬


‫ألن المسافر ال‬ ‫‪ 8‬ـ واتّفق العلماء على ّ‬
‫يكون مسافراً بالنيّة ‪ ،‬بخالف المقيم ‪ ،‬وإنّما يكون مسافرا ً بالعمل والنهوض ‪ ،‬والمقيم ال يفتقر‬
‫إلى عمل ؛ ألنّه إذا نوى اإلقامة كان مقيما ً في الحين ‪ ،‬وال خالف بينهم أيضا ً في الّذي يؤمل‬
‫سفر أنّه ال يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج (‪. )2‬‬ ‫ال ّ‬

‫الرحم ‪ ،‬وطلب‬ ‫أن المسافر سفر ّ‬


‫الطاعة ‪ ،‬كالح ّج ‪ ،‬والجهاد ‪ ،‬وصلة ّ‬ ‫‪9‬ـ وات ّفقوا على ّ‬
‫ضروري ‪ ،‬وسفر الت ّجارات ‪ ،‬والمباحات ‪ :‬له اإلفطار‪.‬‬
‫المعاش ال ّ‬

‫سفر نفسه ليس بمعصية ‪ ,‬وإنّما‬ ‫وأما سفر العاصي فيجوز له اإلفطار عند الحنفية ؛ ألن ال ّ‬
‫المعصية ما يكون بعده أو يجاوره ‪ ,‬فال يؤثّر على رخصة القصر أو الفطر ؛ وألنّه قد يتوب إذا‬
‫تذّكر نعمة هللا عليه بالسماح له بالفطر والقصر وغيرهما ‪ .‬وقال الجمهور غير الحنفية‪ :‬ال ت ُباح‬
‫سفر من القصر والجمع ‪ ،‬والفطر ونحوها ‪ ،‬لما في ا ّلرخصة من اإلعانة‬ ‫صة بال ّ‬‫الرخص المخت ّ‬‫ّ‬
‫شرع نهى عن ذلك (‪. )3‬‬ ‫على المحرم ‪ ،‬وال ّ‬

‫أن المريض أو المسافر واجبه األصلي‬ ‫‪ . 10‬د ّل قوله تعالى " ف ِع ّدةٌ ِمن أيا َّ ٍم أُخر " على ّ‬
‫صوم ‪ ِ ،‬وير ّخص له في الفطر‪ ،‬فإذا أفطر فليقض أياما ً مكان األيّام الّتي أفطر فيها ‪ ،‬وهذا‬ ‫ال ّ‬
‫ألن معنى اآلية ‪ :‬من كان منكم مريضا ً أو مسافراً فأفطر‪ ،‬فعليه صيام أيام أخر‪،‬‬ ‫رأي الجمهور؛ ّ‬
‫بعد ما أفطر‪ .‬وإذا صام أهل البلد تسعة وعشرين ‪ ،‬وفي البلد رجل مريض لم يصح‪ ،‬فإنّه‬
‫يقضي تسعة وعشرين يوما (‪. )4‬‬

‫‪. 11‬ـ ويُستحبّ في رأي الجمهور ‪ -‬وال يجب – تتابع أيّام القضاء ؛ ألن آية " ف ِع َّدةٌ ِمن أيّ ٍام‬
‫متفرقة فقد صام عدّة من أيام أخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تخص متفرقة من متتابعة ‪ ،‬وإذا أتى بها‬ ‫ّ‬ ‫أُخر " مطلقة ‪ ،‬لم‬
‫صوم‬ ‫قال ابن العربي‪ " :‬قوله تعالى ‪( :‬ف ِع ّدةٌ ِمن أيّ ٍام أُخر ﴾ البقرة‪ 184:‬يعطي بظاهره قضاء ال ّ‬
‫سلف ‪ ،‬منهم أبو هريرة رضي هللا عنه وإ نّما وجب‬ ‫متفرقا ً ‪ ،‬وقد روي ذلك عن جماعة من ال ّ‬
‫شهر لكونه معينا ً ‪ ،‬وقد عدم الت ّعيين في القضاء فجاز بك ّل حال " (‪. )5‬‬‫الت ّتابع في ال ّ‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 290‬‬

‫(‪ )2‬انظر تفسير القرطبي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 278‬‬

‫(‪ )3‬التفسير المنير ‪ ،‬للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 138‬‬

‫(‪ )4‬تفسير القرطبي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 281‬‬

‫(‪ )5‬أحكام القرآن البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 112‬‬


‫شرب في رمضان وجب عليه الك ّفارة عند المالكية‬ ‫‪. 12‬ـ من أفطر متع ّمدا ً باألكل أو ال ّ‬
‫شرب ‪ ،‬والكفّارة هي عتق رقبة‬ ‫والحنفية ‪ ،‬وقال غيرهم تجب الكفّارة في الجماع دون األكل وال ّ‬
‫فإن عجز صام شهرين متتابعين ‪ ،‬فإن عجز‬ ‫مؤمنة عند الجمهور‪ ،‬ولو غير مؤمنة عند الحنفية ‪ّ ،‬‬
‫أطعم ستين مسكينا (‪. )1‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬التفسير المنير ‪ ،‬للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 139‬‬
‫المحاضرة الثّانية‬
‫آية الدّين‬
‫قال هللا تعالى ‪:‬‬

‫ب ِبالعد ِل‬ ‫ى فاكتُبُو ُه وليكتُب بينكُم كا ِت ٌ‬ ‫" يا أ ُّيها ا ّلذِين آمنُوا ِإذا تداينتُم ِبدي ٍن ِإلى أج ٍل ُمس ّم ً‬
‫ق هللا ربَّهُ وال‬ ‫ب أن يّكتُب كما علَّمهُا هللاُ فليكتُب وليُم ِل ِل الَّذِي علي ِه الحقُّ وليت َّ ِ‬ ‫وال يأب كاتِ ٌ‬
‫يبخس منٍهُ شيئا ف ِإن كان الَّذي علي ِه الحقُّ س ِفيها ً أو ض ِعيفا ً أو ال يست ِطي ُع أن يُ ِم َّل هُو فّليُم ِلل‬
‫و ِليُّهُ ِبالعد ِل واستش ِهدُوا ش ِهيدي ِن ِمن ِرجا ِلكُم ف ِإن لم يكُونا رجُلي ِن فر ُج ٌل وامرأتا ِن ِم َّمن‬
‫ب الشُّهدا ُء إِذا ما ُدعُوا‬ ‫ترضُون ِمن الشُّهدا ِء أن ت ِض َّل إِحداهُما فتُذ ِ ّكر إِحداهُما األُخرى وال يأ ّ‬
‫هللا وأقو ُم للشَّهاد ِة وأدنى أالَّ‬ ‫وال تسأ ُموا أن تكتُبُو ُه ص ِغيرا ً أو كبِيرا ً إِلى أج ِل ِه ذ ِلكُم أقسطُ ِعند ِ‬
‫ِيرونها بينكُم فليس عليكُم جُنا ً ٌح أالَّ تكتُبُوها وأش ِهدُوا ِإذا‬ ‫ترتابُوا ِإالَّ أن تكُون تِجار ًة حا ِضر ًة تًد ُ‬
‫وهللا بِكُ ِ ّل‬
‫ُ‬ ‫ق بِكُم واتّقُوا هللا ويُع ِلّ ُمكُم هللاُ‬ ‫ب وال ش ِهي ٌد و ِإن تفعلُوا ف ِإنّهُ فُسُو ٌ‬
‫تبايعتُم وال يُضا َّر كاتِ ٌ‬
‫شيءٍ ع ِلي ٌم " البقرة ‪282 /‬‬

‫تاريخ نزول آية الدّين‬


‫آية الدّين ذات أحكام كثيرة ‪ ,‬وهي أطول آية في كتاب هللا ّ‬
‫عز وجل اشتملت على أحكام‬
‫التعامل بال ّد ْين ومتع ّلقاته حفظا لحقوق العباد ‪.‬‬

‫أن آخر ما نزل من القرآن آية ال ّد ْين ‪ ,‬قال بن جرير عن سعيد بن المسيّب‬ ‫سرون ّ‬ ‫ذكر المف ّ‬
‫أن أحدث القرآن عهدا ً بالعرش آية ال ّد ْي ن ‪ ,‬وأخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب‬ ‫أنه بلغه ّ‬
‫قال آخر القرآن عهدا ً بالعرش آية َّ‬
‫الربا وأية الدّين ‪.‬‬

‫والربا نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ؛ ألنّها‬ ‫و الظاهر ّ‬


‫أن اآليات المتعلقة بال ّد ْين ّ‬
‫صة واحدة ‪ ,‬فأخبر ك ّل راو عن بعض ما نزل بأنّه آخر ما نزل (‪. )1‬‬ ‫في ق ّ‬

‫تحليل األلفـاظ ‪:‬‬


‫قوله تعالى "يا أيها ال ّذين آمنُوا " إذا ابتدأ الخطاب بقوله ‪ " :‬يا أ ّيها الَّذين آمنُوا " فإنه كما قال‬
‫شر تنهى عنه ‪ ,‬فأرعه سمعك ‪ ,‬و‬ ‫عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه ‪ :‬إما ّ خير تؤمر به ‪ ,‬وإ ّما ّ‬
‫استمع إليه لما فيه من خير ‪ ,‬وإذا صدّر هللا الخطاب بـ " يا أيّها الَّذينَّ آمنُوا " د ّل ذالك على ّ‬
‫أن‬
‫أن مخالفته نقص في اإليمان ‪.‬‬ ‫التزام ما خوطب به من مقتضيات اإليمان ‪ ,‬و ّ‬

‫قوله تعالى ‪ " :‬إذّ تداينتُم ِبدين ٍ " ‪ :‬أي إذّ داين بعضكم بعضا ّ ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن ‪ ،‬البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 327‬‬
‫وال ّد ْين هو كلّ ما ثبت في الذّمة من ثمن بيع ‪ ,‬أو أجرة ‪ ،‬أو صداق ‪ ,‬أو قرض ‪ ,‬أو غير ذالك‪.‬‬

‫وحقيقته ‪ " :‬ك ّل أحد العوضين فيها نقدًا واآلخر في الذمة نسيئة ‪َّ ,‬‬
‫فإن العين عند العرب ما ّ‬
‫كان‬
‫كان غائبًا ‪ ...‬و المداينة مفاعلة منه ؛ َّ‬
‫ألن أحدهما يرضاه اآلخر ويلتزمه(‪)1‬‬ ‫حاضرا ‪ ,‬وال ّديْن ما َّ‬
‫ً‬

‫قوله تعالى ‪ِ " :‬إلى أج ٍل ُمس ّم ًى " ‪ :‬أي إلى مدة محدودة ‪ " ,‬فاكتُبُو ُه " ‪ :‬أي اكتبوا ال َّديْن‬
‫المؤ ّجل إلى أجله ؛ و الفاء هنا رابطة لجواب ال ّشرط في (إذ) ‪ .‬استيثاقا لل ِ ّديْن ودفعا للنزاع ‪.‬‬
‫شهود أو أحد ّ‬
‫الطرفين ذوي العالقة بدون توثيق‬ ‫الزمن مدعاة لل ّنسيان ‪ ,‬وموت ال ّ‬
‫ألن مرور ّ‬
‫للحق مدعاة لإلنكار ‪ ،‬وأكل أموال ال ّناس بالباطل ‪.‬‬
‫ّ‬

‫قوله تعالى ‪ " :‬و ليكتُب " الالّم لألمر ؛ و سُ ّكنت لوقوعها بعد الواو ؛ وهي تسكن إذَّا‬
‫طع فلينظُر " سورة‬‫و قعت بعد الواو ‪ ,‬كما هنا ؛ وبعد ثم والفاء كما في قوله تعالى ‪ " :‬ث ُ َّم ِليق َّ‬
‫الحج ‪ ,‬بخالف الم الت ّعليل ؛ فإنّها مكسورة بك ِّل حال ‪.‬‬

‫" كاتِب ِبالعد ِل " ‪ :‬أي باالستقامة و هو ضد الج ْور ‪.‬‬

‫أي وليكتب لكم كاتب عادل مأمون ال يجوز على أحد الطرفين (‪)2‬‬

‫قوله تعالى ‪ " :‬وال يأب كاتب أن يكتب " ‪ :‬أي ال يمتنع كاتب إذا طُلب منه ذلك ‪.‬‬

‫قوله تعالى ‪ " :‬كما علمه هللا " يحتمل أن تكون الكاف للتّشبيه ؛ فالمعنى حينئذ ‪ :‬أن يكتب‬
‫كتابة حسب عمله ‪,‬بحيث تكون مستوفية لما ينبغي أن تكون عليه ‪ ,‬ويحتمل أن تكون الكاف‬
‫للت ّعليل ؛ المعنى ‪ :‬أنّه ل ّما علمه هللا فليشكر نعمته عليه ‪ ,‬وال يمتنع من الكتابة ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬فليكتب " قال بعض العلماء ‪ :‬أنّها من التّوكيد؛ ّ‬
‫ألن النّهي عن إباء الكتابة‬
‫يستلزم األمر بالكتابة ؛ فهي توكيد معنوي ؛ وقيل ‪ :‬بل هي تأسيس تفيد األمر بالمبادرة إلى‬
‫الكتابة ‪.‬‬

‫قوله تعالى ‪ " :‬وليملل الذّي عليه الحقُّ " أي يملي ؛ وهما لغتان فصيحتان ؛ فـ (اإلمالل) و‬
‫(اإلمالء) بمعنى واحد ؛فتقول ‪( :‬أمليت عليه) و (أمللت عليه) لغة عربية فصحى ‪ ,‬وهي في‬
‫القرآن ‪.‬‬

‫أن الّذي‬
‫قوله تعالى ‪" :‬وليتّق هللا ربَّهُ وال يبخس منه شيئا ً " ‪ :‬ل ّما أمر هللا – عز وجل – ّ‬
‫الحق دون غيره وجه إليه أمرا ً ونهيا ً ؛ األمر ‪ " :‬وليتّق هللا ربّه " يعني‬
‫ّ‬ ‫يملي هو الّذي عليه‬
‫صدق ؛ والنّهي (وال يبخس منه شيئا) أي ال ينقص ال في‬ ‫يت ّخذ وقاية من عذاب هللا ‪ ,‬فيقول ال ّ‬
‫كميّته ‪ ،‬وال في كيفيته ‪ ،‬وال نوعه ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬مناهل العرفان ‪ ،‬للزرقاني ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 70‬‬

‫(‪ )2‬صفوة الت ّفاسير ‪ ،‬للصابوني ‪،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 161‬‬


‫ض ِعيفًا " ؛‬
‫التصرف ؛ " أو ّ‬
‫ّ‬ ‫قوله تعالى ‪ " :‬ف ِإن كانَّ الذَّي ِ علي ِه الحق س ِفي ًها ً " أي ال يحسن‬
‫ضعف هنا ضعف الجسم ‪ ,‬وضعف العقل ‪ ,‬وضعف الجسم لصغره ؛ وضعف العقل لجنونه ؛‬ ‫ال ّ‬
‫كبيرا لكنّه مجنون أو معتوه ؛ فهذا ال يملل؛‬
‫ً‬ ‫صغيرا لم يبلغ ؛ أو كان‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الحق‬ ‫كأن يكون الذّي عليه‬
‫وإنّما يملل وليه ؛ " أو ال يست ِط ُع أن يُ ِم َّل هُو " ‪ :‬أي ال يقدر أن يملي لخرس أو غيره ‪.‬‬

‫قوله تعالى ‪" " :‬فّليُم ِلل " ‪ :‬الالّم هنا الم األمر ؛ وسكنت لوقوعها بعد الفاء ؛ " ّو ِليُّهُ " أي الّذي‬
‫يتولّى شؤونه من أب ‪ ,‬أو جد ‪ ,‬أو أخ ‪ ,‬أو غيرهم ‪.‬‬
‫قوله تعالى " فليُم ِلل " يعني إمال ًء بالعدل ؛ بحيث ال يجور على من له ال ّ‬
‫حق لمحاباة قريبه ‪,‬‬
‫ّ‬
‫الحق ؛ بل يجب أن يكون إمالؤه بالعدل ؛ و " العدل "‬ ‫وال يجور على قريبه خوفًا من صاحب‬
‫صدق المطابق للواقع ؛ فال يزيد وال ينقص ‪.‬‬ ‫هنا هو ال ّ‬
‫قوله تعالى " واستش ِهدُوا ش ِهيدِين ِمن ِرجا ِلكُم " أي اطلبوا شهيدين من رجالكم و لقوله ‪" :‬‬
‫من رجالكم " الخطاب للمؤمنين ‪.‬‬

‫قوله تعالى " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " أي إن لم يكن ال ّشاهدان رجلين فرجل‬
‫الرجل والمرأتين ‪.‬‬‫وامرأتان ؛ وهذا يد ّل على التّخيير مع ترجيح الرجلين على ّ‬
‫شرط في قوله تعالى " فإن لم يكُونا " الفاء‬‫وقوله تعالى " فرج ٌل وامرأتان " الجملة جواب ال ّ‬
‫هنا رابطة للجواب ؛ و" رجل " خبر مبتدأ محذوف ؛ والتّقدير فالشاهد رجل ‪ ،‬وامرأتان ‪.‬‬

‫الرجل والمرأة‬ ‫وقوله تعالى " فرج ٌل " أي فذكر بالغ ‪ " ،‬وامرأتان " أي أنثيان بالغتان ؛ ّ‬
‫ألن ّ‬
‫إنّما يطلقان على البالغ ‪.‬‬

‫الرجل والمرأتان مرضيين عند‬ ‫ممن ترضون من الشّهداء " بحيث يكون ّ‬ ‫قوله تعالى " ّ‬
‫الناس ؛ ألنّه قد يُرضى شخص عند شخص وال يُرضى عند آخر ‪ .‬فالعبرة بالرضى عند عموم‬
‫النّاس ال برضى المشهود له ؛ ألنّه قد يرضى بمن ليس بم ْر ِ‬
‫ضى ‪ .‬والمفقود م ّمن يُرضى دينهم‬
‫ّ‬
‫ويطمئن إلى عدالتهم ‪.‬‬ ‫وأمانتهم‬

‫قوله تعالى " أن تض ّل إحداهما فتذكّر إحداهما األخرى " من التّذكير ؛ وهو تنبيه اإلنسان‬
‫النّاسي على ما نسي ‪.‬‬
‫قوله تعالى " وال يأب الشّهداء إذا ما دُعوا " أي ال يمتنع ال ّ‬
‫شهداء إذا ما دعوا لتحمل‬
‫ال ّ‬
‫شهادة ‪ ،‬أو أدائها ‪.‬‬

‫قوله تعالى " وال تسأموا أن تكتبوه صغيرا ً أو كبيرا ً إلى أجله " أي ال تملوا وال تكسلوا وال‬
‫تضجروا أن تكتبوا ال ّديْن صغيرا ً كان أو كبيرا ً إلى أجله المس ّمى ‪.‬‬

‫قوله تعالى " ذلكم " المشار إليه كلّ ما سبق من األحكام ؛ " أقسط عند هللا " أي أقوم ‪،‬‬
‫وأعدل ؛ " وأقوم للشهادة " أي أقرب إلى إقامتها ؛ " وأدنى أالّ ترتابوا " أي أقرب إلى انتفاء‬
‫الريبة عندكم ‪.‬‬
‫قوله تعالى " إال أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم " فيها قراءتان ؛ إحداهما بنصب‬
‫األول اسم ( تكون ) مستتر ‪ :‬إالّ أن تكون‬‫(تجارةً ) و (حاضرةً ) والثانية برفعهما ؛ فعلى ّ‬
‫صفقة تجارة حاضرة ‪ :‬وجملة ‪ ( :‬تُديرونها ) صفة ثانية (تجارةٌ) اسم ( تكون ) ؛ ( حاضرةً )‬ ‫ال ّ‬
‫صفة ‪ ،‬وجملة ‪ ( :‬تُديرونها ) خبر ( تكون ) ‪.‬‬

‫والتّجارة هي كلّ صفقة يراد بها ّ‬


‫الربح ؛ فتشمل البيع ‪ ،‬وال ّ‬
‫شراء ‪ ،‬وعقود اإليجارات ‪...‬‬

‫بدين ) فالحاضر ما سوى‬


‫ٍ‬ ‫وأما قوله تعالى ( حاضرةً ) فهي ض ّد قوله تعالى ( إذا تداينتم‬
‫ّ‬
‫ال ّد ْين ‪ .‬وقوله تعالى ( تُديرونها ) أي تتعاطونها بينكم بحيث يأخذ هذا سلعته ‪ ،‬واآلخر يأخذ‬
‫الثّمن ‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬

‫ح " ففي هذه الحال ليس عليكم إثم في عدم كتابتها ؛‬ ‫قوله تعالى ‪ ":‬فليس عليكُم جُنا ٌ‬
‫والضّمير في قوله تعالى ( تكتبونها ) يعود على التّجارة ؛ فهذه التّجارة المتداولة بين النّاس ليس‬
‫ألن الخطأ فيها ‪ ،‬والنّسيان بعيد ‪ ،‬إذ إنّها حاضرة تدار ‪،‬‬ ‫على اإلنسان ُجناح إذا لم يكتبها ؛ ّ‬
‫ويتعاطاها النّاس بخالف المؤ ّجلة ‪.‬‬

‫قوله تعالى ‪ ":‬وأشهدُوا إذا تبايعتم " أي باع بعضكم على بعض ‪.‬‬

‫كاتب وال شهي ٌد " مأخوذ من ‪ :‬اإلضرار ؛ يحتمل أن تكون مبنية‬


‫ٌ‬ ‫قوله تعالى ‪ ":‬وال يُضا ّر‬
‫الراء األولى ؛ أو للمفعول ؛ فيكون أصلها " يضارر"‬
‫يضارر" بكسر ّ‬‫ِ‬ ‫للفاعل ؛ فيكون أصلها "‬
‫كاتب ) و ( شهي ٌد ) بحسب بناء الفعل ؛ فإن كانت مبنية للفاعل‬
‫ٌ‬ ‫بفتحها ؛ ويختلف إعراب (‬
‫كاتب) فاعل ؛ وإن كانت للمفعول فـ (كاتب ) نائب فاعل؛ وهذا من بالغة القرآن تأتي الكلمة‬‫فـ( ٌ‬
‫صالحة للوجهين ال تنافي أحدهما اآلخر ‪.‬‬

‫قوله تعالى ‪ ":‬وإن تفعلوا " أي يضار الكاتب ‪ ،‬أو الشهيد ــ على الوجهين " ف ِإ َّن ُه " أي‬
‫ق بِكُم " أي الخروج بكم من طاعة هللا إلى معصيته ‪.‬‬
‫سو ٌ‬
‫الفعل ــ وهو المضارة ؛ " ف ُ‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬واتقُوا هللا " أي اتّخذوا وقاية من عذاب هللا ؛ وذالك بفعل أوامره ‪ ،‬واجتناب‬
‫نواهيه ‪.‬‬

‫قوله تعالى ‪ ":‬ويُعلّ ُمكُم هللاُ " الواو هنا لالستئناف ؛ وال يص ّح أن تكون معطوفة على (اتّقوا‬
‫ألن تعليم هللا لنا حاصل مع التّقوى وعدمها ‪ ،‬وإن كان العلم يزداد بتقوى هللا ‪ ،‬لكن هذا‬ ‫هللا ) ؛ ّ‬
‫يؤخذ من أدلّة أخرى ‪.‬‬

‫فــقه األحكـــــام ‪:‬‬


‫والرهن ‪،‬‬
‫شهادة ّ‬ ‫سلم بالكتابة وال ّ‬
‫أرشدت آية ال ّديْن إلى توثيق المبايعات المؤ ّجلة ‪ ،‬والدّيون وال ّ‬
‫فإن لم يكن توثيق برهن أو بكتابة جاز البيع باألمانة ‪ ،‬فالمبايعات في هذه اآلية ثالثة أنواع ‪ :‬بيع‬
‫صة ‪ ،‬ث ّم‬
‫سلم خا ّ‬‫بكتابة وشهود ‪ ،‬وبيع برهان مقبوضة ‪ ،‬وبيع باألمانة ‪ .‬وهذه اآلية نزلت في ال ّ‬
‫هي تتناول جميع المداينات إجماعا ً ‪ ،‬فالعبرة بعموم ال ّلفظ ال بخصوص ال ّ‬
‫سبب ‪.‬‬
‫وفيها أحكام كثيرة ‪ ،‬منها ‪:‬‬

‫‪ /1‬استدل بها بعض المالكية على جواز التّأجيل في القروض ‪ ،‬على ما قال مالك ؛ إذ لم يفصل‬
‫شافعية وقالوا ‪ :‬اآلية ليس فيها جواز‬ ‫بين القرض وسائر العقود في المداينات ‪ .‬وخالف في ذلك ال ّ‬
‫التأجيل في سائر ال ّديون ‪ ،‬وإنّما فيها األمر باإلشهاد إذا كان ديْنا ً مؤ ّج ً‬
‫ال ‪ ،‬أ ّما جواز الت ّأجيل في‬
‫ال ّد ْين وامتناعه فيُعلم من دالئل أخرى (‪. )1‬‬

‫‪ /2‬يستفاد من اآلية مشروعية تأجيل ال ّديون ‪ ،‬وحقيقة ال ّد ْين ‪ :‬عبارة عن ك ّل معاملة كان أح ُد‬
‫العوضين فيها نقدا ً ‪ ،‬واآلخر في الذ ّمة نسيئة ‪ .‬وتشمل اآلية كالً من بيع الع ْين بال ّد ْين ‪ ،‬كبيع‬
‫كتاب حاضر بثمن مؤجل ‪ ،‬وبيع ال ّديْن بالع ْين ‪ :‬وهو ال ّ‬
‫سلم ‪ .‬أ ّما بيع الع ْين بالع ْين كبيع سلعة‬
‫حاضرة بنقد حاضر فهو جائز‪ ،‬وأ ّما بيع ال ّد ْين بال ّديْن كبيع صاع من القمح في ذ ّمة إنسان‬
‫شعير في ذ ّمة إنسان آخر‪ ،‬فهو باطل للنّهي عنه (‪. )2‬‬ ‫بصاع ْين من ال ّ‬

‫سلم من البيوع الجائزة باالتفاق ‪ ،‬وهو مستثنى من نهيه عليه‬ ‫‪ /3‬وأجمع أهل العلم على ّ‬
‫أن ال ّ‬
‫سالم عن بيع ما ليس عندك ‪ ،‬أرخص فيه ال ّنبي صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ،‬لحاجة ال ّناس‬ ‫صالة وال ّ‬
‫ال ّ‬
‫إليه ‪ ،‬وقد س ّماه الفقهاء بيع المحاويج أو بيع المفاليس ‪.‬‬

‫سلم إلى األجل المجهول غير جائز‪ ،‬وأك ّدت‬ ‫ودلّ قوله تعالى ‪ ﴿ :‬إلى أجل مس ًّمى ﴾ على ّ‬
‫أن ال ّ‬
‫السنّة ذلك ‪ ،‬فقال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ‪ " :‬من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن‬
‫معلوم إلى أجل معلوم " (‪. )3‬‬

‫‪ /4‬واألمر في قوله تعالى ﴿ فاكتُبُوه ﴾ مصروف عن ظاهره من الوجوب إلى النّدب ‪ ،‬أو‬
‫ص ارفة منصوص عليها في اآلية ذاتها ‪ ،‬وهي‬ ‫اإلرشاد إلى ما فيه مصلحة دنيوية ‪ ،‬والقرينة ال ّ‬
‫ضكُم بعضا ً فليُؤ ِ ّد الَّذِي اؤت ُ ِمن أمانتهُ ﴾‬
‫قوله تعالى ﴿ ف ِإن أ ِمن بع ُ‬

‫الظن والتو ّهم ‪ ،‬ال على‬


‫ّ‬ ‫أن هذا األمن ال يقع إال بحسب‬ ‫شافعي‪" :‬ومعلوم ّ‬ ‫الهراسي ال ّ‬
‫ّ‬ ‫قال‬
‫شرع ‪ ،‬فإنّها لو‬
‫لحق ال ّ‬
‫ّ‬ ‫أن ال ّ‬
‫شهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه ال‬ ‫وجه الحقيقة ‪ ،‬وذلك يد ّل على ّ‬
‫فإن أمن بعضكم بعضا ) وال ثقة بأمن العباد ‪ ،‬إنّما االعتماد على‬ ‫شرع ما قال ‪ْ ( :‬‬ ‫لحق ال ّ‬
‫ّ‬ ‫كانت‬
‫شرعت في النّكاح ‪ ،‬لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم‬ ‫شهادة متى ّ‬ ‫شرع مصلحة ‪ .‬فال ّ‬ ‫ما يراه ال ّ‬
‫ّ‬
‫وألن هللا تعالى جعل لتوثيق ال ّديون طرقا ‪ :‬منها‬ ‫شرعت ّ‬
‫للطمأنينة ‪،‬‬ ‫شهادة ّ‬ ‫أن ال ّ‬
‫بعضا ‪ ،‬فد ّل ذلك ّ‬
‫الرهن مشروع‬ ‫أن ّ‬‫الرهن ‪ ،‬ومنها اإلشهاد ‪ .‬وال خالف بين علماء األمصار‪ّ ،‬‬ ‫الكتاب ‪ ،‬ومنها ّ‬
‫بطريق النّدب ال بطريق الوجوب ‪ ،‬فيُعلم من ذلك مثله في اإلشهاد ‪ .‬وما زال النّاس يتبايعون‬
‫سفرا وحضرا‪ ،‬وبرا وبحرا‪ ،‬وسهال وجبال من غير إشهاد مع علم النّاس بذلك من غير نكير‪،‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 377‬أحكام القرآن ‪ ،‬إللكيا الهراسي الشافعي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪239‬‬

‫(‪ )2‬التفسير المنير للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪117‬‬

‫سلم في كيل معلوم ‪ ،‬رقم‬


‫سلم ‪ ،‬باب ال ّ‬
‫) ‪ (3‬أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي هللا عنهما ‪ ،‬كتاب ال ّ‬
‫(‪ ) 22329‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 85‬ومسلم رقم ‪ ، 1604 :‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 1226‬‬
‫أن اإلنسان في غير البيع وال ّ‬
‫شراء‪ ،‬قد‬ ‫ولو وجب اإلشهاد لما تركوا النكير على تاركه ‪ .‬ومعلوم ّ‬
‫الرجل على ماله فال يحرم عليه ‪ ،‬ولو باعه شيئا وأسلفه الث ّمن ‪ ،‬يجوز إذا ائتمنه على‬ ‫يأتمن ّ‬
‫ثمنه‪ .‬فإذا ملك اإلنسان الث ّمن بالبيع ‪ ،‬فسواء ائتمن عليه المشترى أو اختلفا بعد استيفائه منه ‪،‬‬
‫فالك ّل واحد ‪ ،‬وذلك يدلّ على ّ‬
‫أن األمر باإلشهاد ندب " (‪. )1‬‬

‫ي عن‬‫‪ /5‬التزام العدل ‪ :‬طالبت اآلية بالتزام العدل في الكتابة ‪ ،‬وفي اإلمالء ‪ ،‬وفي إمالء الول ّ‬
‫ضعيف ‪ ،‬وهذا واضح من قوله تعالى ‪ ":‬وليكتُب بينكُم كاتِ ٌ‬
‫ب بِالعد ِل " وقوله تعالى‪":‬‬ ‫سفيه وال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫كما علَّمهُ هللاُ " وقوله تعالى ‪ ":‬وليُم ِل ِل الَّذِي علي ِه الحقُّ وليت َّ ِقي هللا ربَّهُ " وقوله تعالى ‪":‬‬
‫فليُم ِلل و ِليُّهُ ِبالعد ِل "‬

‫‪ /6‬نصاب الشهادة‪ :‬رجالن أو رجل وامرأتان ‪ ،‬وتجوز شهادة ال ّنساء مع ّ‬


‫الرجال عند المالكيّة‬
‫في األموال وتوابعها خاصة ‪ ،‬وال ت ُقبل في أحكام األبدان مثل الحدود والقصاص ‪ ،‬والنّكاح‬
‫والرجعة ‪ .‬واتّفق الفقهاء‬
‫والطالق والنّكاح ّ‬‫ّ‬ ‫لرجعة ‪ .‬وتجوز عند الحنفية في األموال‬ ‫والطالق وا ّ‬‫ّ‬
‫شهادة بسبب الت ّهمة ‪ :‬وهي الّتي تجلب للمشهود له نفعا ً أو تدفع عنه ضررا ‪.‬‬‫على ر ّد ال ّ‬

‫‪ /8‬ود ّل قوله تعالى ‪ ":‬وال يأب الشّهدا ُء ِإذا ما ُدعُوا" على منع اإلباء عن تح ّمل ال ّ‬
‫شهادة وأدائها‬
‫وإثباتها عند اللّزوم أمام القاضي ‪.‬‬

‫شهادة فرض ‪ ،‬وإن لم ت ُطلب من ال ّشاهد ‪ ،‬إذا خاف على‬ ‫أن أداء ال ّ‬
‫صحيح لدى المالكية ّ‬‫وال ّ‬
‫الحق ضياعه أو فواته ‪ ،‬سواء في حقوق هللا تعالى ‪ ،‬وحقوق اآلدميين ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ ":‬وأقِي ُموا‬‫ّ‬
‫هلل " الطالق‪. 2/‬‬
‫الشَّهادة ِ‬

‫شهادة في حقوق هللا تعالى‬ ‫أن أداء ال ّ‬


‫وفرق الحنف ّية بين حقوق هللا وحقوق العباد ‪ ،‬فذهبوا إلى ّ‬
‫ّ‬
‫شاهد قبل أن يستشهد ‪ ،‬حت ّى ال يت ّهم ال ّ‬
‫شاهد‬ ‫قبل سؤالها مطلوب ‪ ،‬أ ّما في حقوق العباد فال يشهد ال ّ‬
‫(إن خيركم قرني ‪ ،‬ث ّم الّذين يلونهم ‪ ،‬ث ّم الّذين‬ ‫صحيحان عن عمران بن حصين ‪ّ :‬‬ ‫‪ ،‬لما أخرجه ال ّ‬
‫يلونهم ‪ ،‬ثم الّذين يلونهم ‪ ،‬ث ّم يكون بعدهم قوم يشهدون وال يستشهدون ‪ ،‬ويخونون وال يؤتمنون‬
‫‪. )2( ( ...‬‬

‫أن أداء ال ّ‬
‫شهادة فرض كفاية ‪ ،‬فإذا أ ّداها اثنان واجتزأ بهما الحاكم (اكتفى‬ ‫واتفق الجميع على ّ‬
‫شهادة على اآلخر ‪.‬‬ ‫بهما القاضي ) وسقط الفرض عن الباقين ‪ ،‬وإن لم يجتزئ بهما تعيّنت ال ّ‬

‫وفي االمتناع عن ذلك إضاعة للحقوق ‪ ،‬وإذا كان حضور الكاتب وال ّ‬
‫شهيد فرض كفاية ‪،‬‬
‫شهادة فرضا ً معينا ً عليه وكذلك أداؤها ؛ ّ‬
‫لكن‬ ‫فإنّه قد يتعيّن إذا لم يوجد غيره ‪ ،‬فيكون تح ّمل ال ّ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن‪ ،‬إللكيا الهراسي الشافعي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 239/238‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه البخاري عن عمران بن حصين ‪ ،‬كتاب الشهادات ‪ ،‬باب ال يشهد على شهادة جور إذا أشهد ‪ ،‬رقم‬
‫(‪ (2651‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ ، 171‬مسلم ‪ ،‬كتاب فضائل الصّحابة ‪ ،‬باب فضل الصحابة ث ّم الذين يلونهم ‪ ،‬رقم‬
‫‪ /2533‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 1962‬‬
‫شهادة إذا احتاجت إلى األجرة ‪ ،‬إ ّما لبعد المكان الّذي يجب أداؤها‬‫للعلماء كالما ً في كلفة أداء ال ّ‬
‫يتضرر به ال ّشاهد في تعطيل مصالحه ‪ ،‬أو توقيف عمله ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فيه ‪ ،‬وإ ّما لطول مكث االنتظار الّذي‬
‫أو معيشة عياله ‪ ،‬فأجازوا له أخذ مكافأة على أداء ما تح ّمله من ال ّ‬
‫شهادة في هذه األحوال ‪.‬‬

‫‪ /9‬الكتابة مندوبة في المبايعات وال ّديون المؤ ّجلة ‪ ،‬سواء أكان المؤ ّجل صغيرا ً أم كبيرا ً‪ .‬وال‬
‫تطلب الكتابة في الت ّجارة الحاضرة الّتي يت ّم فيها التّبادل في الحال ‪ ،‬ويحدث التقابض في البدلين‬
‫عقب العقد ‪ ،‬إذ يقلّ في العادة خوف الت ّنازع ‪ ،‬وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد‪ ،‬وإذا باع بنسيئة‬
‫كتب ‪.‬‬

‫‪ /10‬ودل قوله تعالى ‪ ":‬وأش ِهدُوا إِذا تبايعتُم " على طلب اإلشهاد على صغير ذلك وكبيره ‪،‬‬
‫وهل اإلشهاد على البيع على الوجوب أو النّدب ؟ هو على النّ دب واإلرشاد ‪ ،‬ال على الحتم‬
‫صحيح ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬
‫والظاهر ال ّ‬ ‫شافعي وأهل الرأي ‪ ،‬قال ابن العربي ‪":‬‬ ‫واإللزام ‪ ،‬وهذا قول مالك وال ّ‬
‫اإلشهاد ليس واجبا ً ‪ ،‬وإنّما األمر به أمر إرشاد للتوث ّق والمصلحة " (‪. )1‬‬
‫ّ‬
‫بالحق والعدل ‪ ،‬فال يكتب الكاتب ما لم يُ ْمل عليه ‪ ،‬وال‬ ‫‪ /11‬أداء ال ّ‬
‫شهادة ‪ ،‬وكتابة الكاتب يكونان‬
‫بالزيادة أو النّقصان ‪،‬‬‫شاهد يعصيان ّ‬ ‫يزيد ال ّشاهد في شهادته وال ينقص منها ‪ ،‬فالكاتب وال ّ‬
‫ضرر بهما ‪،‬‬‫صواب ‪ ،‬فال يجوز إلحاق ال ّ‬ ‫وكذلك إذايتهما من الخصوم معصية وخروج عن ال ّ‬
‫وال إضرارهما المشهود له أو عليه ‪ ،‬إذ ال ضر وال ضرار في اإلسالم ) ‪. (2‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن ‪ ،‬البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 341‬‬

‫(‪ )2‬التفسير المنير للزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪122‬‬


‫المحاضرة الثّالثة‬
‫تفسير آية الشّورى‬
‫قال تعالى ‪:‬‬

‫ف عنهُم‬
‫ب النفضُّوا ِمن حو ِلك فاع ُ‬ ‫هللا ِلنت لهُم ولو كُنت فظا ً غ ِليظ القل ِ‬
‫" ِفيما رحم ٍة ِمن ِ‬
‫واستغ ِفر لهُم وشا ِورهُم ِفي األم ِر ف ِإذا عزمت فتوكّل على ِ‬
‫هللا ِإنَّ هللا يُ ِح ُّ‬
‫ب ال ُمتو ِ ّك ِلين" آل‬
‫عمران ‪. 59 /‬‬

‫وقال تعالى ‪:‬‬

‫" استجابُوا ِلربِّ ِهم وأقا ُموا الصَّالة وأم ُرهُم شُورى بينهُم و ِم َّما رزقنِاهُم يُن ِفقُون "‬
‫الشورى‪. 38/‬‬

‫الرسول‬‫جاءت هذه اآلية في أعقاب غزوة أحد ‪ ,‬بعد ما حدث من مخالفة الطوائف ألمر ّ‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم من مؤمنين ومنافقين ‪ ,‬وما حكي من عفو هللا عنهم فيما صنعوا ‪ .‬وكان في‬
‫تلك الواقعة المحكية باآليات ال ّسابقة مظاهر كثيرة من لين النّبي صلّى هللا عليه وسلّم للمسلمين‪,‬‬
‫حيث استشارهم في الخروج ‪ ,‬وحيث لم يع ّنفهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم في غزوة‬
‫الرسول صلّى هللا عليه وسلّم إياهم ‪ ,‬أالن هللا‬
‫أحد ‪ ,‬ول ّما كان عفو هللا عنهم يعرف في معاملة ّ‬
‫الرسول صلّى هللا عليه وسلّم تحقيقا ً لرحمته عفوه (‪. )1‬‬
‫لهم ّ‬
‫تحليل األلفاظ ‪:‬‬

‫َّللا ِلنت لهُم ) أي فبرحمة ‪ ,‬و(ما) مزيدة للتّأكيد والتّنبيه ‪ ,‬والدّاللة على‬
‫( ف ِبما رحم ٍة ِمن َّ ِ‬
‫للرفق بهم ‪ ,‬حتّى اغتم‬ ‫أن لينه لهم ما كان إالّ برحمة من هللا ‪ ,‬وهو ربطه على جأشه وتوفيقه ّ‬ ‫ّ‬
‫لهم بعد أن خالفوه ‪.‬‬
‫( ولو كُنت ف ًّ‬
‫ظا ) سيّئ الخلق جافيا ‪.‬‬

‫قال ّ‬
‫الز ّجاج ‪ :‬والفظ ‪ :‬الغليظ الجانب ‪,‬السيئ الخلق (‪. )2‬‬

‫( غ ِليظُ القل ِ‬
‫ب ) قاسيه ‪.‬‬

‫والفظاظة سوء الكالم وغلظته ؛ غلظة القلب قساوته ‪ ,‬أي ‪ :‬لو كنت سيّئ الكالم قاسي القلب‬
‫عليهم النفضوا عنك وتركوك ‪ ,‬ولكن هللا جمعهم عليك ‪ ,‬وأالن جانبك لهم تأليفا ً لقلوبهم ‪ ,‬كما‬
‫قال عبد هللا بن عمرو بن العاص ‪ ( :‬إنه رأى صفة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم في الكتب‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الت ّحرير والت ّنوير ‪ ،‬البن عاشور ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 144‬‬

‫(‪ )2‬زاد المسير في علم التفسير ‪ ،‬البن الجوزي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 339‬‬
‫المتق ّدمة ‪ :‬أنّه ليس لفظ ‪ ,‬وال س ّخاب في األسواق ‪ ,‬وال يجزي بالسيئة السيئة ‪ ,‬ولكن يعفو‬
‫ويصفح ) (‪. )1‬‬

‫( النفضُّوا ِمن حو ِلك ) لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك ‪.‬‬

‫يختص بك ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ف عنهُم ) فيما‬
‫(فاع ُ‬
‫( واستغ ِفر لهُم ) فيما هلل ‪.‬‬

‫( وشا ِور ُهم ِفي األم ِر ) أي في أمر الحرب إذ الكالم فيه ‪ ,‬أو فيما يص ّح أن يُشاور فيه ‪,‬‬
‫استظهارا ً برأيهم وتطييبا ً لنفوسهم ‪ ،‬وتمهيدا ً لسنّة المشاورة لأل ّمة ‪.‬‬

‫والمشاورة هي االجتماع على األمر ليستشير ك ّل واحد منهم صاحبه ‪ ،‬ويستخرج ما‬
‫عنده(‪.)2‬‬

‫( ف ِإذا عزمت ) العزم عقد القلب على فعل األمور (‪ , )3‬وقال ابن عاشور ‪ :‬العزم هو‬
‫الرأي على الفعل (‪. )4‬والمعنى ‪ :‬فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى ‪ .‬قال ابن‬ ‫تصميم ّ‬
‫الجوزي ‪ :‬فإذا عزمت على فعل شيء ‪,‬فتو ّكل على هللا ‪ ,‬ال على المشاورة (‪. )5‬‬

‫( فتوكَّل على هللاِ ) في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك وال تشاور فيه أحدا ‪.‬‬

‫( ِإنَّ هللا يُ ِح ُّ‬


‫ب ال ُمتو ِ ّك ِلين) فينصرهم ويهديهم إلى الصالح(‪. )6‬‬

‫البالغة ‪:‬‬

‫أمر هللا تعالى نبيه ص ّلى هللا عليه وس ّلم بهذه األوامر الّتي هي بتدريج بليغ ‪ ,‬وذلك أنّه أمره‬
‫بأن يعفو عنهم في ما له عليهم من تبعات وحقوق ‪ ,‬فل ّما صاروا في هذه ال ّدرجة أمره أن يستغفر‬
‫فيما هلل عليه من تبعة أيضا ‪ ,‬فإذا صاروا في هذه ال ّدرجة صاروا أهالً لالستشارة في األمور(‪.)6‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ / 148‬والحديث في صحيح البخاري ‪ ،‬رقم ‪. 4838 :‬‬

‫(‪ )2‬أحكام القرآن ‪ ،‬البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ ، 391‬ط دار الكتب العلمية ‪ ،‬سنة ‪ 2003‬م ‪.‬‬

‫(‪ )3‬مقاييس اللغة ‪ ،‬البن فارس ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 308‬‬

‫(‪ )4‬الت ّحرير والت ّنوير ‪ ،‬البن عاشور ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 144‬‬

‫(‪ )5‬زاد المسير في علم التفسير ‪ ،‬البن الجوزي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 341‬‬

‫(‪ )6‬تفسير البيضاوي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 45‬‬

‫(‪ )7‬تفسير القرطبي ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 249‬‬


‫شروع في‬ ‫في قوله ‪ ( :‬فتوكل على هللا ) التّوكل حقيقته االعتماد ‪ ,‬وهو هنا مجاز في ال ّ‬
‫الفعل مع رجاء السداد فيه من هللا ‪ ,‬وهو شأن أهل اإليمان ‪ ,‬فالتو ّكل انفعال قلبي عقلي يتوجه به‬
‫الفاعل إلى هللا راجيا اإلعانة ومستعيذا من الخيبة والعوائق ‪ ,‬وربّما رافقه قول لساني هو الدّعاء‬
‫أن قوله ‪( :‬فتوكل على هللا) دليل على جواب إذا ‪ ,‬وفرع عنه ‪ ،‬والتّقدير ‪:‬‬ ‫بذلك ‪ .‬وبذلك يظهر ّ‬
‫فإذا عزمت فبادر وال تتأ ّخر وتو ّكل على هللا ؛ ّ‬
‫ألن للتّأخر آفات ‪ ,‬والتّردد يضيع األوقات (‪. )1‬‬

‫حذف متعلق (عزمت ) على المعروف من بالغة القرآن وإيجازه ؛ ألنه د ّل عليه التّرفيع‬
‫في األمر " وتقديره ‪ :‬فإذا عزمت على األمر بعدما تبين لك‬ ‫عن قوله تعالى ‪ ":‬شاورهم ً‬
‫سداد فتو ّكل على هللا (‪. )2‬‬
‫بالشورى وجه ال ّ‬

‫فقه األحكام‪:‬‬

‫‪ /1‬اختلف العلماء في مدلول قوله ‪( :‬وشاور ُهم ) هل هو للوجوب أو للنّدب ‪ ،‬وهل هو‬
‫بالرسول صلّى هللا عليه وسلّم أو عام له ولوالة أمور األ ّمة كلهم ؟‬
‫خاص ّ‬
‫فذهب المالكيّة إلى الوجوب و العموم ‪ ،‬وهذا مذهب المالكيّة ‪ ،‬وذهبوا إلى العموم كما ذهبوا‬
‫الة مشاورة العلماء فيما ال يعلمون ‪ ،‬وفيما‬‫إلى الوجوب ‪ ،‬قال ابن خويز منداد‪ :‬واجب على الو ّ‬
‫أشكل عليهم من أمور ال ّدين ‪ ،‬وجوه الجيش فيما يتع ّلق بالحرب ‪ ،‬ووجوه النّاس فيما يتعلّق‬
‫بالمصالح ‪ ،‬ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلّق بمصالح البالد وعمارتها ‪ .‬وكان يقال‪:‬‬
‫ما ندم من استشار‪ ،‬وكان يقال ‪ :‬من أعجب برأيه ض ّل "(‪ . )3‬وقال ابن عطية ‪ " :‬والشورى من‬
‫شريعة وعزائم األحكام ‪ ،‬ومن ال يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب ‪ ،‬هذا م ّما ال‬ ‫قواعد ال ّ‬
‫خالف فيه " (‪. )4‬‬

‫ومحمل األمر عند المالكية للوجوب ‪ ،‬واألصل عندهم عدم الخصوصية في التشريع إال‬
‫لدليل ‪.‬‬

‫للرسول صلّى هللا‬


‫وعن الشافعي أن هذا األمر لالستحباب ‪ ،‬ولتقتدي به األ ّمة ‪ ،‬وهو عام ّ‬
‫عليه وسلّم وغيره ‪ ،‬تطييبا لنفوس أصحابه ورفعا ألقدارهم ‪ .‬وقال النووي‪ ،‬في صدر كتاب‬
‫صحيح عندهم وجوبها وهو المختار ‪ .‬وقال الفخر الرازي‪ :‬ظاهر‬ ‫الصالة من شرح مسلم ‪ :‬ال ّ‬
‫األمر أنّه للوجوب ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬التحرير والت ّنوير ‪ ،‬البن عاشور ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 151‬‬

‫سابق ‪ ،‬ص ‪. 144‬‬


‫(‪ )2‬المصدر ال ّ‬

‫(‪)3‬تفسيرالقرطبي‪،‬ج‪،4‬ص‪250‬‬

‫(‪ )4‬تفسير ابن عطية ‪ ،‬المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 534‬‬
‫صاص قال في كتابه أحكام القرآن‬ ‫ولم ينسب العلماء للحنفية قوالً في هذا األمر إالّ ّ‬
‫أن الج ّ‬
‫عند قوله تعالى ‪ " :‬وأمرهم شورى بينهم " هذا يدلّ على جاللة موقع المشورة لذكرها مع‬
‫صاص يد ّل على ّ‬
‫أن‬ ‫صالة ‪ ،‬ويد ّل على أنّنا مأمورون بها ‪ .‬ومجموع كالم الج ّ‬‫اإليمان ‪ ،‬وإقامة ال ّ‬
‫مذهب أبي حنيفة وجوبها ) ‪. (1‬‬

‫شورى في اإلسالم الوجوب ‪ ،‬وهي ملزمة للحاكم ‪ ،‬فعليه أن يستشير أهل‬ ‫وعليه فحكم ال ّ‬
‫شورى ويأخذ بما استبان له من آرائهم ‪ ،‬ويحرم عليه أن يستب ّد ّ‬
‫بالرأي دونهم ‪.‬‬ ‫ال ّ‬

‫‪ / 2‬مجال الشورى‪ :‬وقوله تعالى ‪ ":‬وشاورهم في األمر " يد ّل على جواز االجتهاد في األمور‬
‫فإن هللا أذن لرسوله صلّى هللا عليه وسلّم في ذلك )‪.)2‬‬ ‫ّ‬
‫بالظنون مع إمكان الوحي ‪ّ ،‬‬ ‫واألخذ‬

‫الرسول صلّى هللا عليه وسلّم في مه ّمات أمور‬ ‫شورى مأمور بها ّ‬ ‫أن ال ّ‬
‫وقد دلت اآلية على ّ‬
‫ألن أمر الت ّشريع إن كان فيه‬
‫األ ّمة ومصالحها في الحرب وغيره ‪ ،‬وذلك في غير أمر الت ّشريع ؛ ّ‬
‫شورى ؛ ألن شأن االجتهاد أن‬ ‫وحي فال محيد عنه ‪ ،‬وإن لم يكن فيه وحي ‪ ،‬فال تدخل فيه ال ّ‬
‫يستند إلى األدلّة ال لآلراء ‪ ،‬والمجتهد ال يستشير غيره إالّ عند القضاء باجتهاده ‪ .‬فتعيّن ّ‬
‫أن‬
‫المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون األ ّمة ومصالحها ‪ ،‬وقد أمر هللا تعالى بها هنا‬
‫ومدحها في ذكر األنصار في قوله تعالى ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ الشورى ‪ ، 38/‬واشترطها‬
‫تراض منهما وتشاور فال جناح عليهما ﴾ البقرة‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫في أمر العائلة فقال ﴿ فإن أرادا فصاالً عن‬
‫فشرع بهاته اآليات المشاورة في مراتب المصالح كلّها‪ :‬وهي مصالح العائلة ‪ ،‬ومصالح‬ ‫‪ّ . 233‬‬
‫القبيلة أو البلد ‪ ،‬ومصالح األ ّمة (‪. )3‬‬

‫ألن األحكام إن كانت بوحي‬ ‫شرعية ؛ ّ‬ ‫قال ابن عاشور‪" :‬والظاهر أنّها ال تكون في األحكام ال ّ‬
‫ي ص ّلى هللا عليه وسلّم في األمور‬
‫فظاهر‪ ،‬وإن كانت اجتهادية ‪ -‬بناء على جواز االجتهاد للنب ّ‬
‫شرعية ‪ -‬فاالجتهاد إنما يستند لألدلّة ال لآلراء‪ ...‬وقد استشار النّبي صلّى هللا عليه وسلّم‬
‫ال ّ‬
‫أصحابه في الخروج لبدر‪ ،‬وفي الخروج إلى أحد ‪ ،‬وفي شأن األسرى يوم بدر‪ ،‬واستشار عموم‬
‫الجيش في ر ّد سبي هوازن " (‪. )4‬‬

‫وقد أشار الحباب بن المنذر رضي هللا عنه يوم بدر على النّبي صلّى هللا عليه وس ّلم بالنّزول‬
‫سعدان ‪ :‬سعد بن معاذ ‪ ،‬وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك‬ ‫على الماء فقبل ‪ ،‬وأشار عليه ال ّ‬
‫صحيفة في أشياء من‬ ‫مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا ؛ فقبل منهم وخرق ال ّ‬
‫نحو هذا من أمور ال ّدنيا (‪. )5‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬التحرير والتنوير ‪ ،‬البن عاشور ج ‪ 4‬ص ‪/ 148 150‬أحكام القرآن للجصاص ج ‪ 3‬ص ‪. 510‬‬

‫(‪ )2‬تفسير القرطبي ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 250‬‬

‫(‪ )3‬التحرير والت ّنوير ‪ ،‬البن عاشور ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 148‬‬

‫(‪ )4‬التحرير والتنوير ‪ ،‬البن عاشور ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪ 149‬ــ ‪. 150‬‬

‫(‪ )5‬أحكام القرآن للجصاص ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 329‬‬


‫ي صلّى هللا عليه‬‫قال البخاري في كتاب االعتصام من صحيحه "‪ :‬وكانت األئمة بعد النب ّ‬
‫القراء أصحاب مشورة عمر‪ :‬كهوالً كانوا أو‬ ‫وسلّم يستشيرون األمناء من أهل العلم ‪ ،‬وكان ّ‬
‫شبانا ً ‪ ،‬وكان وقّافا ً عند كتاب هللا "‪.‬‬

‫ي‬
‫صحابة في أمر الخليفة بعد وفاة النب ّ‬ ‫وقد استشار أبو بكر في قتال أهل الر ّدة ‪ ،‬وتشاور ال ّ‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ،‬وجعل عمر رضي هللا عنه األمر شورى بعده في ستة عيّنهم ‪ ،‬وجعل‬
‫شورى لخمسين من األنصار‪ ،‬وكان عمر يكتب لع ّماله يأمرهم بالت ّشاور‪. )1(..‬‬ ‫مراقبة ال ّ‬

‫سرون في المقصد من أمر هللا نبيّه بمشاورة أصحابه مع‬ ‫‪ / 3‬المقصد من الشورى ‪ :‬ذكر المف ّ‬
‫الرأي ‪ ،‬تا ّم الت ّدبير ‪ ،‬مستغنيا بالوحي ‪ ،‬ذكروا أقواالً متكاملة في ال ّداللة على مقاصد‬
‫كونه كامل ّ‬
‫ال ّ‬
‫شورى ‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬ليستن به من بعده ‪ ،‬وهذا قول الحسن ‪ ،‬وسفيان بن عيينة ‪.‬‬

‫والربيع ‪ ،‬وابن إسحاق ‪ ،‬ومقاتل ‪ .‬قال ال ّشافعي‬


‫ّ‬ ‫والثاني‪ :‬لتطييب قلوبهم ‪ ،‬وهو قول قتادة ‪،‬‬
‫سالم " البِكر ت ُستأمر في نفسها " ‪ ،‬إنّما أراد‬‫صالة وال ّ‬‫رحمه هللا ‪ :‬نظير هذا قوله عليه ال ّ‬
‫يزوجها ‪ ،‬وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السالم‬‫استطابة نفسها ‪ ،‬فإنّها لو أ ُكرهت ‪ ،‬كان لألب أن ّ‬
‫البنه حين أُمر بذبحه ‪.‬‬

‫الضحاك (‪. )1‬‬


‫ّ‬ ‫والثالث‪ :‬لإلعالم ببركة المشاورة ‪ ،‬وهو قول‬

‫أن المشاور إذا لم ينجح أمره ‪ ،‬علم أن امتناع ال ّن جاح محض قدر‪ ،‬فلم‬ ‫‪ /4‬ومن فوائد المشاورة ّ‬
‫صواب في قول غيره ‪ ،‬فيعلم عجز نفسه عن‬ ‫يلم نفسه ‪ ،‬ومنها أنه قد يعزم على أمر‪ ،‬فيتبيّن له ال ّ‬
‫صواب بمثل المشاورة (‪. )2‬‬‫اإلحاطة بفنون المصالح‪ ...‬قال بعض الحكماء ‪ :‬ما استُنبط ال ّ‬
‫صواب ‪ ،‬وما‬
‫قال ابن العربي ‪" :‬الشورى ألفة للجماعة ‪ ،‬ومسبار للعقول ‪ ،‬وسبب إلى ال ّ‬
‫تشاور قوم إالّ هدوا ‪ .‬وقد قال حكيم ‪:‬‬

‫الرأي المشورة فاستعن ‪ ...‬برأي لبيب أو مشورة حازم‬


‫إذا بلغ ّ‬
‫وال تجعل ال ّ‬
‫شورى عليك غضاضة ‪ ...‬فإن الخوافي نافع للقوادم (‪. )3‬‬

‫أن هللا تعالى مدح المشاور في األمور‪ ،‬ومدح القوم الّذين يمتثلون ذلك‪،‬‬
‫‪ / 5‬ومن فضل ال ّشورى ّ‬
‫ي صلّى هللا عليه وسلّم يشاور أصحابه في األمور المتع ّلقة بمصالح الحروب ‪ ،‬وذلك‬ ‫وقد كان النب ّ‬
‫في اآلثار كثير‪ ،‬ولم يشاورهم في األحكام ؛ ألنّها منزلة من عند هللا على جميع األقسام ‪ :‬من‬
‫الفرض ‪ ،‬والنّدب ‪ ،‬والمكروه ‪ ،‬والمباح ‪ ،‬والحرام ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬زاد المسير في علم التفسير ‪ ،‬البن الجوزي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 340‬‬

‫سابق ‪ ،‬الصّفحة نفسها ‪.‬‬


‫(‪ )2‬المصدر ال ّ‬

‫(‪ )3‬أحكام القرآن البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 91‬‬


‫صحابة بعد استئثار هللا به علينا فكانوا يتشاورون في األحكام ‪ ،‬ويستنبطونها من‬ ‫فأ ّما ال ّ‬
‫فإن النّبي صلّى هللا عليه وسلّم لم‬
‫صحابة الخالفة ‪ّ ،‬‬
‫إن ّأول ما تشاور فيه ال ّ‬ ‫الكتاب والسنّة ؛ و ّ‬
‫ينص عليها حت ّى كان فيها بين أبي بكر واألنصار ما سبق بيانه ‪ .‬وقال عمر‪ :‬نرضى لدنيانا من‬ ‫ّ‬
‫رضيه رسول هللا ص ّلى هللا عليه وسلّم لديننا ‪.‬‬

‫فاستقر رأي أبي بكر على القتال ‪ .‬وتشاوروا في الج ّد وميراثه ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتشاوروا في أمر الردّة ‪،‬‬
‫وفي ح ّد الخمر وعدده على الوجوه المذكورة في كتب الفقه (‪. )1‬‬

‫أن التو ّكل عالمة صدق اإليمان ‪،‬‬


‫يحب المتوكلين " فائدة ‪ ،‬وهي ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ / 6‬في قوله تعالى ‪ ":‬إنّ هللا‬
‫وفيه مالحظة عظمة هللا وقدرته ‪ ،‬واعتقاد الحاجة إليه ‪ ،‬وعدم االستغناء عنه ‪ ،‬وهذا أدب عظيم‬
‫مع الخالق يد ّل على مح ّبة العبد ر ّبه فلذلك أح ّبه هللا ّ ) ‪. (2‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 92‬‬

‫(‪ )2‬الت ّحرير والتنوير البن عاشور ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 151‬‬


‫المحاضرة الرابعة‬
‫تفسير آيات االستئذان‬
‫قال تعالى ‪:‬‬

‫سوا وتُس ِّل ُموا على أه ِلها ذ ِلكُم‬‫" يا أ ُّيها ا َّلذِين آمنُوا ال تد ُخلُوا بُيُوتا ً غير بُيُ ِتكُم حتَّى تّستأ ِن ُ‬
‫خي ٌر لكُم لعلّكُم تذك َُّرون ف ِإن لَّم ت ِجدُوا فِها أحدًا ّفال تد ُخلُوها حتَّى يُؤذن لكُم و ِإن قِيل لكُم اِرجعُوا‬
‫ح أن تد ِخلُوا بُيُوت ًا غير مسكُون ٍة‬ ‫فار ِجعُوا هُو أزكى لكُم وهللاُ بِما تعملُون ع ِلي ٌم لَّيس عليكُم جُنا ٌ‬
‫ِفيها متاعٌ لكُم وهللاُ يعل ُم ما تبدُون وما تكت ُ ُمون " النور ‪ 27 :‬ــ ‪ 28‬ــ ‪. 29‬‬

‫صص هللا سبحانه وتعالى النَّاس بالمنازل ‪ ,‬وسترهم فيها عن‬ ‫قال ابن العربي ‪ ( :‬خ ّ‬
‫ّ‬
‫األبصار‪ ,‬وملكهم االستمتاع بها على االنفراد ‪ ,‬وحجز على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من‬
‫خارج أو يلجوها بغير إذن أربابها ؛ لئال يهتكوا أ ستارهم ‪ ,‬و يبلوا في أخبارهم ‪ .‬وتحقيق ذالك‬
‫طلع رجل من حجرة في حجر النبي ــ صلى‬ ‫صحاح عن سهل بن سعيد قال ‪ " :‬أ ّ‬ ‫ما روي في ال ّ‬
‫هللا عليه و سلم ــ ومع النّبي مدرى يحك بها رأسه ‪ ,‬فقال ‪ :‬لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في‬
‫عينك ‪ ,‬إنّما ُجعل االستئذان من أجل البصر" ‪ .‬ومن حديث أنس فيها ‪ " :‬فقام النَّبي ــ صلى هللاُ‬
‫ص (‪ , )1‬فكأنّي ِ أنظُ ُر إلي ِه يختِ ُل َّ‬
‫الرجُل ِليطعنهُ " ) (‪. )2‬‬ ‫علي ِه وسلّم ــ إِلي ِه ِب ِمشق ٍ‬

‫سبب النّزول ‪ :‬ذكر العلماء في نزول هذه اآلية سببين ‪:‬‬

‫أن امرأة أتت ال ّنبي ص ّلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فقالت يا رسول هللا ‪ :‬وإنّي أكون في‬ ‫أ‪ -/‬ما روي ّ‬
‫بيتي على الحالة الّتي ال أحبّ أن يراني عليها أحد وال والد وال ولد فيأتيني آت فيدخل عل ّ‬
‫ي‬
‫فكيف أصنع ؟ فنزلت اآلية الكريمة ‪ " :‬يا أيُها الذِّين آمنُوا ال تد ُخلُوا بُيُت ًا غير بُيُتِكُم ‪. )3( " ....‬‬

‫ب‪ /‬وروى ابن حاتم عن ( مقاتل ) أ ّنه ل ّما نزل قوله تعالى‪ ":‬يا أ ّيها الّذين آمنُوا ال‬
‫تد ُخلُوا‪ "...‬قال أبو بكر رضي هللا عنه ‪ :‬يا رسول هللا ‪ :‬فكيف بت ّجار قريش الّذين يختلفون من‬
‫الطريق ‪ ،‬فكيف يستأذنون‬ ‫شام ‪ ،‬وبيت المقدس ‪ ،‬ولهم بيوت معلومة على ّ‬ ‫م ّكة ‪ ،‬والمدينة ‪ ،‬وال ّ‬
‫ح أن‬‫ويُسلّمون وليس فيها سكاّن ؟ فر ّخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى ‪ ":‬لَّيس عليكُم جُنا ٌ‬
‫تد ُخلوا بُيُتا ً غير مسكون ٍة ‪. )4( " ...‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬المشقط ‪ :‬سهم ذو نصل عريض ‪ ،‬والنّصل ‪ :‬حديدة ال ّرمح وال ّ‬


‫سهم والسكّين ‪.‬‬

‫(‪ )2‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ 368‬ـ ‪. 369‬‬

‫(‪ )3‬الصّابوني ‪ ،‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 130‬‬

‫(‪ )4‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪. 129‬‬


‫وجه االرتباط بين األيات الكريمة‬

‫سورة كانت في بيان ( حكم ّ‬


‫الزنى ) وبيان ضرره وخطره ‪.‬‬ ‫اآليات ا ّلتي تقدّمت في صدر ال ّ‬
‫يستحق العذاب والنّكال ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ومحرم ّ‬
‫وأن مرتكبه‬ ‫ّ‬ ‫وبيان أنّه قبيح‬
‫ّ‬
‫واإلطالع على العورات ‪ ...‬وكان دخول ال ّناس‬ ‫الزنى طريقه النّظر ‪ ،‬والخلوة ‪،‬‬
‫ولما كان ّ‬
‫ّ‬
‫عز وج ّل عباده إلى ّ‬
‫الطريقة الحكيمة‬ ‫في بيوت غير بيوتهم م ِظنّة حصول ذلك كلّه ‪ ،‬أرشد هللا ّ‬
‫الشر الوبيل ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الّتي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت ‪ ،‬حتّى ال يقعوا في ذلك‬
‫والخطر الجسيم ‪ ،‬الّذي يقضي على أواصر المجتمع ‪ ،‬ويدمر األسر ‪ ،‬ويشيع الفحشاء بين‬
‫النّاس‪.‬‬

‫سابقة عن ( حادثة اإلفك ) الّتي اتّهمت فيها أم المؤمنين عائشة رضي‬ ‫وقد تحدّثت اآليات ال ّ‬
‫هللا عنها تلك المرأة العفيفة الطاهرة ا ّلتي ّ‬
‫برأها القرآن م ّما نسبها إليه أهل النّفاق والبهتان ‪ ،‬ولم‬
‫ال أنّها بقيت مع صفوان فيما يشبه الخلوة ‪ ،‬لذلك نهى هللا‬ ‫يكن ألصحاب اإلفك متكأ ً في رميها إ ّ‬
‫سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتّى ال يؤدّي ذلك إلى القدح في أعراض البرآء‬
‫شر الخطير (‪. )1‬‬ ‫األطهار ‪ ،‬ويكون المجتمع في منجاة عن ذلك ال ّ‬

‫شرح مفردات األية‬

‫تستأنسوا ‪ :‬ولها في اللغة ثالث معان‪ :‬وهي االستئذان ــ ضد االستيحاش ــ االستعالم ‪.‬‬
‫األول ‪ :‬قال الز ّجاج ‪ :‬بمعنى تستأذنوا ‪ ،‬وقد نقل ّ‬
‫أن ابن عباس كان يقرأها كذلك ويقول أخطأ‬ ‫ّ‬
‫الكاتب ‪.‬‬

‫ألن الّذي يطرق باب‬


‫الزمخشري ‪ :‬هو من ( االستئناس ) ضد االستيحاش ‪ ،‬وهو ّ‬ ‫الثّاني ‪ :‬قال ّ‬
‫غيره ال يدري أيؤذن له أم ال ؟ فهو كالمستوحش فإذا أذن له يستأنس ‪ .‬أو حتّى تؤنسوا أهل‬
‫البيت بالتّنحنح ‪ ،‬فيعلموا بالدّخول عليهم ؛ قاله ابن مسعود ومجاهد وغيره ‪.‬‬

‫شيء إذا أبصره ظاهرا ً مكشوفا ً ‪،‬‬‫الثّالث ‪ :‬وقال بعضهم ‪ :‬االستئناس هو االستعالم من آنس ال ّ‬
‫ومنه قوله تعالى ‪ ":‬إنّي آنست نارا ً " طه ‪ ، 10 /‬أي أبصرت نارا ً ‪ .‬ومعنى اآلية ‪ :‬حتى‬
‫تستعملوا أيريد أهلها أن تدخلوا أم ال ؟ أو حتى تعلموا أفيها من تستأذنون عليه أم ال ؛ قاله ابن‬
‫قتيبة (‪. )2‬‬

‫الطبري ‪ :‬والصواب عندي أن االستئناس استفعال من األنس ‪ ،‬وهو أن يستأذن أهل‬ ‫قال ّ‬
‫البيت في الدّخول عليهم ‪ ،‬ويؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم ‪ ،‬ويأنسوا إلى استئذانه (‪. )3‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سابق ‪ ،‬ص ‪. 129‬‬
‫(‪ )1‬المصدر ال ّ‬

‫(‪ )2‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 369 ، 368‬والصابوني ‪ ،‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 126‬‬

‫(‪ )3‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ 370‬ـ ‪ / 369‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ 126‬ـ ‪. 127‬‬
‫سالم عليكم ‪ ،‬والمراد باألهل في اآلية السكان الّذين‬ ‫وتسلّموا على أهلها ‪ :‬وذلك بقول ‪ :‬ال ّ‬
‫يقيمون في الدار ‪ ،‬سواء كانت سكناهم بالملك ‪ ،‬أو باألجرة ‪ ،‬وباإلعارة (‪. )1‬‬

‫سكنى ــ أي غير بيوتكم ا ّلتي تسكنونها ؛ ألنّه كون‬ ‫قال األلوسي ‪ :‬والمراد اختصاص ال ّ‬
‫اآلجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة االختصاص الملكي‬
‫فال حاجة إلى القول ّ‬
‫بأن ذلك خارج مخرج العادة (‪. )2‬‬

‫خير لكم ‪ :‬اإلشارة راجعة إلى االستئذان والتّسليم ــ أي دخولكم مع االستئذان والسالم خير‬
‫ذلكم ٌ‬
‫لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدّخول على ال ّناس بغتة (‪. )3‬‬

‫ووجه الخيرية فيه أنّه سبيل لصيانة عورات أهل البيوت ‪ ،‬فإ ّنهم يسترون عورتهم لو كانت‬
‫منكشفة قبل اإلذن ‪ ،‬كما ّ‬
‫أن فيه صيانة الداخل ‪ ،‬إذ لو دخل من غير استئذان ربما تقع عينه على‬
‫عورة فينجم عن ذلك ضرر خطير ‪ ،‬كما أن فيه صيانة عرض الدّاخل من أن يستراب فيه (‪. )4‬‬

‫لع ّلكم تذكّرون ‪ :‬لتتّعظو ويقع في ذاكرتكم فضل هللا عليكم بما ّ‬
‫شرعه لكم م ّما يصون أعراضكم‪،‬‬
‫الرفيعة ‪ ،‬وهي مضارع حذف منه إحدى التاءين (‪. )5‬‬‫وتعملوا بموجب تلك اآلداب ّ‬
‫أزكى لكم ‪ :‬أي أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والعناد والوقوف على األبواب ‪،‬‬
‫فالرجوع في مثل هذه الحال أشرف وأطهر لإلنسان العاقل (‪. )6‬‬
‫ّ‬
‫وهللا بما تعملون عليم ‪ :‬وعد للطائعين الّذين يتبعون أوامر هللا ويجتنبون نواهيه ‪ ،‬ووعيد‬
‫للعاصين الّذين ال يقفون عند حدود هللا ؛ ألنّه هو المطلع على خفايا القلوب ؛ وعلى ما فيها من‬
‫دوافع ومثيرات ‪. )7( ..‬‬

‫جناح ‪ :‬أي إثم وحرج ‪ ،‬أي ال إثم عليكم وال حرج في دخول البيوت غير المسكونة (‪ ، )8‬قال‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ 370‬ـ ‪ / 369‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ 126‬ـ ‪. 127‬‬

‫(‪ )2‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 127‬‬

‫(‪ )3‬المصدر نفسه ‪.‬‬

‫(‪ )4‬عبد القادر شيبة الحمد ‪ ،‬تفسير آيات األحكام ‪ ،‬مكتبة فهد الوطنية ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬ط ‪ ، 3‬سنة ‪ 1432‬هـ ‪،‬‬
‫ص ‪ 253‬ـ ‪. 250‬‬

‫(‪ )5‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 128‬‬

‫(‪ )6‬الصابوني ‪ ،‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 128‬‬

‫(‪ )7‬سيد قطب في ظالل القرآن ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ط ‪ ، 32‬سنة ‪ 1423‬هـ ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪ / 2508‬روائع‬
‫البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪132‬‬

‫(‪ )8‬الصابوني ‪ ،‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ ، 128‬عبد القادر شيبة الحمد ‪ ،‬تفسير آيات األحكام ‪ ،‬ص ‪ 253‬ـ‬
‫‪. 250‬‬
‫ح فيما أخطأتُم " األحزاب ‪. 5 /‬‬
‫تعالى ‪ ":‬وليس عليكُم جُنا ٌ‬

‫سكنى كالحمامات‬‫غير مسكونة ‪ :‬المراد البيوت العامرة الّتي تقصد لمنافع عا ّمة غير ال ّ‬
‫كالرباطات والفنادق والخانات والمدارس ‪ ،‬فهذه‬
‫تخص بسكنى أحد ّ‬ ‫ّ‬ ‫والحوانيت والبيوت الّتي ال‬
‫وأمثالها ال حرج في دخولها بغير إذن (‪. )1‬‬

‫الحر ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫متاع لكم ‪ :‬المتاع في اللغة يطلق على ( المنفعة ) أي فيها منفعة لكم كاالستظالل من‬
‫سلع واالستحمام وغيره ‪ ،‬ويطلق ويراد منه ( الغرض والحاجة ) أي فيها لكم‬ ‫الرحال وال ّ‬
‫وحفظ ّ‬
‫غرض من األغراض ‪ ،‬أو حاجة من الحاجات (‪ . )2‬وقال ابن العربي ‪ ( :‬فيها ثالثة أقوال ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أنّها أموال التجار ‪ .‬والثّاني ‪ :‬أنّها المنافع كلّها ‪ ،‬والثّالث ‪ :‬أنّها الخالء لحاجة اإلنسان(‪)3‬‬
‫ّ‬

‫المعنى اإلجمالي (‪)4‬‬

‫يؤدّب المولى تبارك وتعالى عباده المؤمنين باآلداب الجليلة ‪ ،‬ويدعوهم إلى التخلّق بك ّل أدب‬
‫ّ‬
‫وبالتلطف عند طلب االستئذان ‪،‬‬ ‫رفيع فيأمرهم باالستئذان عند إرادة الدخول إلى بيوت النّاس ‪،‬‬
‫مما يدعو إلى المحبّة والوئام ‪ ،‬وينهاهم عن الدّخول بغير‬‫ألن ذلك ّ‬‫سالم على أهل المنزل ؛ ّ‬ ‫وبال ّ‬
‫فيطلعوا على عورات النّاس أو تقع على مكروه ال يحبّه‬ ‫إذن لئالّ تقع أعينهم على ما يسوءهم ‪ّ ،‬‬
‫الريبة أو القصد السيّئ ويجعل ّ‬
‫الزائر‬ ‫سالم ما يدفع خطر ّ‬ ‫فإن في االستئذان وال ّ‬ ‫أهل المنزل ‪ّ ،‬‬
‫مكرما ً مستأنسا ً به ‪.‬‬
‫محترما ً ّ‬
‫بالرجوع فذلك خير له من الوقوف على األبواب أو اإلثقال على أهل‬
‫وإذا لم يؤذن له فعليه ّ‬
‫المنزل فقد يكون أهل البيت في شغل شاغل عن استقبال أحد من الزائرين ‪.‬‬
‫وإذا لم يكن في البيوت أحد فال يجوز الدّخول أو االقتحام ؛ ّ‬
‫ألن البيوت حرمة ‪ ،‬وال يحلّ‬
‫يطلع أحد على ما عندهم في‬‫دخولها إالّ بإذن أربابها ‪ ،‬وربّما كان أهل البيت ال يرغبون أن ّ‬
‫المنزل من مال أو متاع ‪ ،‬وربّما أدّى الدّخول إلى فقدان شيء أو ضياعه ووقعت الت ّهمة على‬
‫ذلك اإلنسان ‪.‬‬

‫أ ّما البيوت الّتي ليس بها ساكن ‪ ،‬أو الّتي فيها لإلنسان منفعة أو مصلحة فال مانع من دخولها‬
‫والرشيدة الّتي أدّب بها المؤمنين (‪. )5‬‬
‫بغير إذن ‪ ،‬ذلك هو أدب اإلسالم وتربيّته الحميدة ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 376‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 128‬‬

‫(‪ )2‬الصابوني ‪ ،‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 128‬‬

‫(‪ )3‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 376‬‬

‫(‪ )4‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 128‬‬

‫(‪ )5‬المصدر نفسه ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 129 ، 128‬‬


‫األحكام الفقهية‬

‫األول ‪ :‬حكم االستئذان وكيفيّته ‪ :‬االستئذان واجب ‪ ،‬فال يجوز أن يدخل اإلنسان بيت‬ ‫ــ الحكم ّ‬
‫غيره حتّى يستأذن ‪ ،‬والكيفيّة ا ّلتي يكون بها االستئذان هي ‪ :‬بالسالم على أهل البيت ‪ ،‬حيث‬
‫يقول ‪ ":‬السالم عليكم " ثالث مرات متتالية ‪ ،‬فإن لم يُرد عليه انصرف ‪ ،‬لئالّ يكلّفهم أو يؤذيهم ‪،‬‬
‫يضر أهل البيت ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وفي ذلك خير للمسلمين ومنفعة كبيرة ؛ ّ‬
‫ألن اإللحاح قد‬

‫صفة لالستئذان ّمما روي عن أبي سعيد الخدري قال ‪ ":‬كنت في مجلس‬ ‫وقد استفيدت تلك ال ّ‬
‫من مجالس األنصار إذ جاء أبو موسى كأنّه مذعور قال ‪ :‬استأذنت على عمر ثالثا ً ‪ ،‬فلم يأذن‬
‫لي ‪ ،‬فرجعت ‪ ،‬قال ‪ :‬ما منعك ؟ قلت ‪ :‬استأذنت ثالثا ً فلم يُأذن لي فرجعت ‪ ،‬وقال رسول هللا‬
‫ّ‬
‫لتقمن عليه بيّنة ‪.‬‬ ‫صلّى هللا عليه وسلّم ‪ :‬إذا استأذن أحدكم ثالثا ً فلم يُأذن له فليرجع ‪ ،‬فقال ‪ :‬وهللا‬
‫ي بن كعب ‪ :‬وهللا ال يقوم معك إالّ‬ ‫ي صلّى هللا عليه وسلّم ؟ قال أب ّ‬ ‫أمنكم أحد سمعه من النب ّ‬
‫ي ص ّلى هللا عليه وسلّم قال‬ ‫أصغرنا ‪ ،‬فكنت أصغرهم ‪ ،‬فقمت معه ‪ ،‬فأخبرت عمر ّ‬
‫أن النب ّ‬
‫ذلك"(‪. )1‬‬

‫ألن التّسليم كيفية في اإلذن (‪ )2‬فالغاية من‬


‫سالم مستحبّ ؛ ّ‬ ‫وإذا كان االستئذان واجبا ً ‪ّ ،‬‬
‫فإن ال ّ‬
‫االستئذان كما قال صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ":‬إنّما جُعل االستئذان من أجل النّظر " (‪ ، )3‬وذلك لئالّ‬
‫وأما السالم فهو من أجل المحبّة والمودّة كما قال‬ ‫يقع نظره على عورات النّاس فكان واجبا ً ‪ّ ،‬‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ":‬أو ال أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشو السالم بينكم " (‪، )4‬‬
‫فكان ذلك مندوبا ً ‪ ،‬وقد أرشد إليه القرآن الكريم في مواطن عديدة (‪ ، )5‬منها قوله ّ‬
‫عز وج ّل ‪:‬‬
‫"فإذا دخلتُم بُيُوتا ً فسلّموا على أنفُسكم تحيَّةٌ ِمن ِعن ِد ِ‬
‫هللا ُمباركةً طيّبة " ال ّنور‪. 61 /‬‬

‫الحكم الثّاني ‪ :‬ما الحكمة من إيجاب االستئذان ؟ نبّه هللا تعالى عليها في قوله ‪ ":‬ليس عليكُم‬
‫حرم من أجله الدّخول هو كون‬ ‫أن الّذي ّ‬ ‫ح أن تد ُخ ُ‬
‫لوا بُيُوتا ً غير مسكُون ٍة " فد ّل بذلك على ّ‬ ‫جُنا ٌ‬
‫البيوت مسكونة ‪ ،‬إذ ال يأْمن من يهجم عليها بغير استئذان أن يرى عورات ال ّناس ‪ ،‬وما ال يحلّ‬
‫الرجل مع امرأته في فراش واحد ‪ ،‬فيقع نظره عليهما ‪ ،‬وهذا بال شكّ‬ ‫النّظر إليه ‪ ،‬وربّما كان ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬حديث صحيح ‪ ،‬أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب االستئذان ‪ ،‬باب االستئذان والسالم ثالثا ً ‪ ،‬رقم ‪:‬‬
‫‪ ، 6245‬ج ‪ ، 8‬ص‪ ، 54‬ومسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب اآلذان ‪ ،‬باب االستئذان ‪ ،‬رقم ‪. 1694‬‬

‫(‪ )2‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص‪. 371‬‬

‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب االستئذان ‪ ،‬باب االستئذان من أجل البصر ‪ ،‬رقم ‪ ، 6241 :‬ج ‪، 8‬‬
‫ص ‪ / 54‬ومسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب اآلداب ‪ ،‬باب االستئذان ‪ ،‬رقم ‪. 2153 :‬‬

‫(‪ )4‬أخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب اإليمان ‪ ،‬باب بيان أنّه ال يدخل الجنّة إالّ المؤمنون وأنّ محبّة المؤمنين‬
‫سالم سببا ً لحصولها ‪ ،‬رقم ‪ ، 54 :‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 74‬‬ ‫من اإليمان وأنّ إفشاء ال ّ‬

‫(‪ )5‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 133‬‬


‫يتنافى مع اآلداب االجتماعية ا ّلتي أرشد إليها اإلسالم (‪. )1‬‬

‫سالم أم يقع بعده ؟ ‪ :‬اختلف العلماء في ذلك على قولين‬ ‫ــ الحكم الثّالث ‪ :‬هل يسبق االستئذان ال ّ‬
‫سالم يسبق االستئذان ‪.‬‬
‫سالم ‪ ,‬وقال جمهور الفقهاء بل ال ّ‬‫فقال بعضهم ‪ :‬يقدم االستئذان على ال ّ‬
‫وسبب اختالفهم ؛ ذالك الت ّعارض ّ‬
‫الظاهري بين ظاهر اآلية ال ّدال على التقديم االستئذان ‪ ,‬و‬
‫سالم ‪ ,‬أعملوا‬
‫سالم قبل الكالم " (‪ , )2‬ولذالك فالقائلين بتقديم االستئذان على ال ّ‬
‫بين حديث ‪ ":‬ال ّ‬
‫ظاهر اآلية (‪. )3‬‬

‫سالم على االستئذان ‪ ,‬استدالالً بما يلي ‪:‬‬


‫بينما ق ّدم الجمهور ال ّ‬

‫صحيح المختار تقديم الت ّسليم على االستئذان لحديث ‪ " :‬ال ّ‬
‫سالم‬ ‫‪ /1‬بالحديث ‪ ,‬قال النّوري ‪ :‬ال ّ‬
‫قبل الكالم " (‪. )4‬‬

‫أن رجالً من بني عامر استأذن على النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم وهو في البيت‬
‫‪ /2‬وبما روي َّ‬
‫فقال ‪ :‬أألج ؟ فقال النّبي صلّى هللا عليه وسلّم لخادمه أخرج إلى هذا فعلّمه االستئذان فقل له ‪:‬‬
‫سالم عليكم أأدخل (‪ )5‬؟ ‪.‬‬
‫ال ّ‬

‫‪ /3‬حديث أبي هريرة رضي هللا عنه فيمن يستأذن قبل أن يسلّم قال ‪ " :‬ال يؤذن له حت ّى‬
‫يسلّم " (‪.... )6‬‬

‫‪ /4‬وبما روي عن ( زيد بن أسلم ) قال ‪ :‬أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي هللا عنهما فجئت‬
‫فقلت ‪ :‬أألج ؟ فقال‪ :‬ادخل فلما ّ دخلت قال مرحبا ً يا ابن أخي ‪ ,‬ال تقل أألج ‪ ,‬ولكن قل ‪ :‬ال ّ‬
‫سالم‬
‫عليكم ‪ ,‬فإذا قيل ‪ :‬وعليك فقل أأدخل ؟ فإذا قالوا ‪ :‬أدخل فأدخل (‪. )7‬‬

‫‪ /5‬وبما روي أن عمر رضي هللا عنه استأذن على النّبي ص ّلى هللا عليه وسلّم فقال ‪ :‬ال ّ‬
‫سالم‬
‫على رسول هللا السالم عليكم ‪ ،‬أيدخل عمر ؟ (‪. )8‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سابق ‪ ،‬ص ‪. 136‬‬
‫(‪ )1‬المصدر ال ّ‬

‫سالم قبل الكالم ‪ ،‬رقم ‪ ، 2699 :‬ج ‪، 4‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه الت ّرمذي في سننه ‪ ،‬أبواب االستئذان واآلداب ‪ ،‬باب ال ّ‬
‫ص ‪ ، 356‬وقال ‪ :‬هذا حديث منكر ‪ ،‬ال نعرفه إالّ من هذا الوجه ‪.‬‬

‫(‪ )3‬أحكام القرآن البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 371‬روائع البيان للصابوني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 136‬‬

‫(‪ )4‬سبق تخريجه ‪.‬‬

‫(‪ )5‬أخرجه أبو داود في سننه ‪ ،‬كتاب اآلداب ‪ ،‬أبواب النوم ‪ ،‬باب كيف االستئذان ‪ ،‬رقم ‪ ، 5177‬ج ‪، 4‬‬
‫ص‪. 345‬‬

‫سالم رقم ‪. 1052‬‬


‫(‪ )6‬أخرجه البخاري في األدب المفرد ‪ ،‬باب االستئذان غير ال ّ‬

‫(‪ )7‬أحكام القرآن البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 171‬‬


‫صل الماوردي في المسألة التّفصيل التالي ‪ ":‬وهو أنّه إن وقعت عين المستأذن على من‬ ‫وف ّ‬
‫سالم وإالّ قدّم االستئذان " (‪. )1‬‬
‫في البيت قبل دخوله قدّم ال ّ‬

‫وال يشترط أن يكون اإلذن صريحا ً بلفظ ( أألج أو أأدخل ) بل يجوز بكلّ لفظ يشير إلى‬
‫االستئذان كالتّسبيح ‪ ،‬والتّكبير‪ ،‬أوالتّنحنح ‪ ،‬فقد روى ّ‬
‫الطبراني عن أبي أيّوب أنّه قال ‪ :‬قلت يا‬
‫رسول هللا أرأيت قول هللا ‪ ":‬حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها " هذا التّسليم قد عرفناه فما‬
‫االستئناس ؟ قال ‪ :‬يتكلّم ّ‬
‫الرجل بتسبيحة ‪ ،‬وتكبيرة ‪ ،‬وتحميدة ‪ ،‬ويتنحنح فيؤذن أهل البيت ‪.‬‬

‫ويقوم في عصرنا مقام االستئذان طرق الباب أو قرع الجرس ‪ ،‬فهذا نوع من االستئذان‬
‫صحابة لم يكن لها هذه الستور واألبواب (‪. )2‬‬ ‫مشروع ؛ ّ‬
‫ألن الدّور في عصر ال ّ‬

‫مرة‬
‫أن من استأذن ّ‬ ‫الحكم الرابع ‪ :‬الواجب في عدد االستئذان ؟ ‪ :‬ظاهر اآلية الكريمة يد ّل على ّ‬
‫أن االستئذان يكون ثالثا ً ‪ ،‬لما روى عن‬
‫فأجيب دخل ‪ ،‬وإالّ رجع ‪ ،‬ولكن السنّة النبويّة قد بيّنت ّ‬
‫أبي هريرة مرفوعا ً ‪ ( :‬االستئذان ثالث ‪ :‬باألولى يستنصتون ‪ ،‬وبالثّانية يستصلحون ‪،‬‬
‫وبالثّالثة يأذنون أو يردون ) (‪. )3‬‬

‫ألن المستأذن عليهم قد يكونون مشغولين ‪ ،‬فإذا استأذنت ثالثا ً ولم يرد عليك فانصرف‬ ‫وذلك ّ‬
‫تعطل نفسك ‪ ،‬وال تؤذي أهل البيت ‪ ،‬ومنه فالحكمة من التّعداد في االستئذان ّ‬
‫أن األولى‬ ‫ّ‬ ‫حتّى ال‬
‫فيها استعالم ‪ ،‬والثّانية تأكيد ‪ ،‬والثّالثة إعذار(‪. )4‬‬

‫مرة وذكر‬ ‫أن إكمال العدد ( ثالثا ً ) إ ّنما هو ّ‬


‫حق المستأذن ‪ ،‬وأ ّما الواجب فإنما هو ّ‬ ‫والراجح ّ‬
‫ّ‬
‫أن من في البيت لم يسمع (‪. )5‬‬ ‫( أبو حيان ) أنّه ال يزيد على الثالث ‪ ،‬إالّ إن تحقّق ّ‬

‫مرتين ‪ ،‬ولم ينتظر‬ ‫وقال القاضي أبو بكر الباقالني ‪ ":‬ففي هذا الحديث أن عمر رجع من ّ‬
‫حق الّذي يستأذن إن أراد استقصاءه وإالّ تركه ‪ ،‬وفيه‬ ‫الثّالثة ‪ .‬فهذا يدلّك على ّ‬
‫أن كمال التّعداد ّ‬
‫سط ‪ ،‬ال من اإلعالم الّذي تقدّم‬
‫قوله بعد الدّخول ‪ :‬أستأنس يا رسول هللا ‪ ،‬وهذا من األنس والتب ّ‬
‫في اآلية (‪. )6‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )7‬أحكام القرآن البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 171‬والحديث أخرجه أبو داود في سننه ‪ ،‬كتاب األدب ‪ ،‬أبواب‬
‫الرجل ث ّم يلقاه أيُسلّم عليه ؟ رقم ‪ ، 5201 :‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 351‬‬
‫الرجل يُفارق ّ‬
‫باب في َّ‬
‫النوم ‪ٌ ،‬‬

‫(‪ )1‬شهاب الدّين السيد محمود األلوسي ‪ ،‬دار إحياء التراث العربي ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ج ‪ ، 18‬ص ‪. 134‬‬

‫(‪ )2‬روائع البيان للصابوني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ 143‬ـ ‪. 133‬‬

‫(‪ )3‬أحكام القرآن البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 371‬‬

‫(‪ )4‬روائع البيان للصابوني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 136‬‬

‫سابق ‪ ،‬ص ‪. 135‬‬


‫(‪ )5‬المصدر ال ّ‬
‫الحكم الخامس ‪ :‬كيف يقف ّ‬
‫الزائر على الباب ؟ ‪:‬‬

‫الزائر الباب بوحهه ؛ بل يجعله عن يمينه أو‬ ‫من اآلداب ال ّشرعية في االستئذان ‪ ،‬أالّ يستقبل ّ‬
‫سالم كان إذا أتى باب القوم ‪ ,‬لم يستقبل الباب من تلقاء‬ ‫شماله ‪ ،‬فقد ص ّح أنّه عليه ال ّ‬
‫صالة وال ّ‬
‫سالم عليكم ‪ ،‬وذالك ّ‬
‫ألن‬ ‫بوجهه ‪ ,‬ولكن من ركنه األيمن أو األيسر فيقول ‪ :‬ال ّسالم عليكم ‪ ,‬ال ّ‬
‫ال ّدور لم يكن عليها حينئذ ستور ‪.‬‬

‫وروي عن سعيد بن عبادة قال ‪ :‬جئت إلى ال ّنبي صلّى هللاُ عليه وسلم وهو في بيته ‪ ،‬فقمت‬
‫مقابل الباب ‪ ،‬فاستأذنت فأشار إلي أن تباعد ‪ ,‬وقال ‪ :‬هل االستئذان إالّ من أجل النّظر (‪ . )1‬؟‬
‫وهذا األدب ينبغي ْ‬
‫أن يلتزم به المسلم في عصرنا هذا ‪ّ ،‬‬
‫فإن ال ّدور ولو كانت مغلقة األبواب‪,‬‬
‫فإن ّ‬
‫الطارق إذّا استقبلها فإنّه قد يقع نظره عند فتح الباب على ما ال يجوز أو ما يكره أهل البيت‬ ‫ّ‬
‫اطالعه عليه (‪. )2‬‬

‫سادس ‪ :‬هل يستأذن على المحارم ؟‬


‫الحكم ال ّ‬
‫أن رج ً‬
‫ال قال لل ّنبي‬ ‫سامية أن يستأذن اإلنسان على المحارم (‪ )3‬لما روي ّ‬
‫ومن اآلداب ال ّ‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم ‪ :‬أأستأذن على أمي ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬إنّها ليس لها خادم غيري ؛‬
‫أتحب أن تراها عريانة ؟ قال الرجل ‪ :‬ال‪ ,‬قال فاستأذن‬
‫ّ‬ ‫أفأستأذن عليها كما دخلت ؟ قال‬
‫عليها"‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )6‬أحكام القرآن البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 372‬والحديث سبق تخريجه ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب االستئذان ‪ ،‬باب االستئذان من أجل البصر ‪ ،‬رقم ‪ ، 6241‬ج ‪، 8‬‬
‫ص‪. 54‬‬

‫(‪ )2‬روائع البيان للصابوني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 135‬‬

‫(‪ )3‬المحارم وهم هؤالء المذكورون في سورة النّور في قوله تعالى ‪ ":‬وال يبدين زينتهنّ إال ّ لبعولتهن أو‬
‫آبائهنّ أو أبنائهنّ أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهنّ أو بني أخولتهنّ ‪ " ...‬النور‪ ، 31 /‬ويق ّ‬
‫سم‬
‫الرضاع ‪ ،‬ومحارم بسبب المصاهرة ‪.‬‬‫المحارم إلى محارم من النّسب ‪ ،‬ومحارم بسبب ّ‬

‫المحارم من ال ّنسب ‪ :‬وهم اآلباء ( آباء النّساء ) واألبناء ( أبناء النّساء ) فيدخل فيهم أوالد األوالد وإن نزلوا‬
‫من الذكور واإلناث مثل بني البنين ‪ ،‬وبني البنات ‪ ،‬وإخوانهنّ ( سواء كانوا إخوة أل ّم وأب ‪ ،‬أو ألب فقط أو‬
‫أل ّم فقط ) بنو إخوانهنّ ( وإن نزلوا من ذكران وإناث كبني بنات األخوات ) ‪ ،‬الع ّم والخال ( وهما من المحارم‬
‫من النّسب ولم يذكروا في اآلية الكريمة ألنّهما يجريان مجرى الوالدين ) ‪.‬‬

‫الرضاع ما يحرم من النّسب " ‪.‬‬


‫المحارم بسبب ال ّرضاع ‪ :‬لقوله صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ":‬يحرم من ّ‬

‫المحارم بسبب المصاهرة ‪ :‬وهم الّذين يحرم عليهم نكاحها على وجه الت ّأبيد ‪ ،‬مثل زوجة األب ‪ ،‬وزوجة‬
‫االبن‪ ،‬وأ ّم ال ّزوجة وقد ذكرهم هللا تعالى في آية من سورة النّور ‪ ":‬وال يبدين زينتهنّ إالّ لبعولتهنّ أو آبائه ّن‬
‫أو آباء بعولتهنّ أو أبنائهنّ أو أبناء بعولتهنّ ‪ "..‬وآباء بعولتهنّ ‪ ،‬وأبناء بعولتهنّ من محارم المرأة‬
‫الزينة لهم ‪ .‬فالمحرم‬‫بالمصاهرة ‪ ،‬وقد ذكرهم هللا تعالى مع آبائه ّن وأبنائهنّ وساواهم جميعا ً في حقّ إبداء ّ‬
‫أن ترك االستئذان على المحارم وإن كان غير جائز ‪ ,‬إ ّ‬
‫ال أنّه أيسر ‪,‬‬ ‫الرازي " واعلم ّ‬ ‫قال الفخر ّ‬
‫لجواز النّظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من األعضاء ‪ ,‬والتّحقيق فيه أن المنع من‬
‫الهجوم على الغير إن كان ألجل أن ذلك الغير ربما كان منكشف األعضاء فهذا دخل فيه الك ّل‬
‫اطالع‬‫ال بأمر يكره ّ‬ ‫الزوجات ) و ( ملك اليمين ) ‪ .‬وإن كان آلجل أنّه ربّما كان مشتغ ً‬ ‫إالّ ( ّ‬
‫الغير عليه وجب أن يع ّم في الك ّل ‪ ،‬حتّى ال يكون له أن يدخل إالّ بإذن " (‪. )1‬‬

‫سابع ‪ :‬هل يجب االستئذان على النّساء أو العميان ؟‬


‫الجكم ال ّ‬

‫ظاهر اآلية الكريمة يد ّل على أنّه يجب االستئذان على ك ّل طارق سواء كان رجالً أو امرأة‪,‬‬
‫سمع‬ ‫مبصراً أو أعمى ‪ ،‬وبهذا قال جمهور العلماء وحجتهم في ذلك ّ‬
‫أن من العورات ما يدرك بال ّ‬
‫ففي دخول األعمى على أهل بيت بغير إذنهم ما يؤذيهم فقد يستمع الدّاخل إلى ما يجري من‬
‫سالم ‪ ":‬إنّما جُعل االستئذان من أجل‬
‫صالة وال ّ‬
‫الرجل وزوجته ‪ ،‬فأ ّما قوله عليه ال ّ‬
‫الحديث بين ّ‬
‫النّظر " (‪ )2‬؛ فذلك محمول على الغالب ‪ ،‬وال يقصد منه الحصر ‪.‬‬
‫الحكم الثّامن ‪ :‬هل يجب االستئذان على ال ّ‬
‫طفل الصّغير(‪ )3‬؟‬

‫الرجال والنّساء ‪ ،‬وأ ّما األطفال فإنّهم غير مكلّفين بهذه‬


‫صة بالبالغين من ّ‬ ‫أحكام االستئذان خا ّ‬
‫شرعية ‪ ،‬وليس هناك محظور يخشى من جانبهم ؛ ألنّهم ال يدركون أمور العورة‬ ‫التّكاليف ال ّ‬
‫الرجال لقوله تعالى ‪ ":‬وإذا بلغ‬‫وغيرها ‪ ،‬فيجوز لهم الدّخول بدون إذن ‪ ،‬إالّ إذا بلغوا مبلغ ّ‬
‫األطفال ِمنكُ ُم الحلم فليستأ ِذنُوا كما استأذن الّذين ِمن قب ِل ِهم " النور‪59 /‬‬

‫وقد حدّدت اآل ية السابقة ثالثة أوقات يجب على األطفال االستئذان فيها وهي ) وقت الفجر )‬
‫و( وقت ّ‬
‫الظهيرة ) و( وقت العشاء ) ؛ ألنّه وقت االستراحة الّذي يستتبع نزع اللّباس (‪. )4‬‬

‫الحكم التّاسع ‪ :‬ما هي الحاالت الّتي يُباح فيها الدّخول بدون إذن ؟‬

‫ظاهر اآلية يد ّل على ال ّنهي عن دخول البيوت بغير إذن في جميع األزمان واألحوال‪ ،‬ولكن‬
‫يستثنى منه الحاالت الّتي تقضي بها الضّرورة ؛ وهي حاالت اضطرارية تبيح الدّخول بغير‬
‫إذن‪ ،‬وذلك إذا عرض أمر في الدّار من حريق ‪ ،‬أو هجوم سارق ‪ ،‬أو ظهور منكر فاحش ‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫الرازي في تفسيره‬
‫لمن يعلم ذلك أن يدخلها بغير إذن أصحابها ‪ ،‬كما نبّه على ذلك الفخر ّ‬
‫ال ّ‬
‫شهير(‪. )5‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫= بالمصاهرة بالنّسبة لزوجة األب هو ابنه من غيرها ‪ ،‬وبالنّسبة لزوجة االبن هو أبوه ‪ ،‬وبالنّسبة أل ّم‬
‫الزوج ‪.‬‬‫الزوجة هو ّ‬
‫ّ‬

‫(‪ )1‬روائع البيان للصابوني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 136‬‬

‫(‪ )2‬سبق تخريجه ‪.‬‬

‫(‪ )3‬روائع البيان للصابوني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 139‬‬

‫(‪ )5( )4‬المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪. 138‬‬


‫الحكم العاشر ‪ :‬ما حكم من ا ّ‬
‫طلع على دار غيره من غير إذنه ؟‬
‫اختلف الفقهاء في هذه المسألة ‪ :‬فإذا رأى أهل الدّار أحدا ً ّ‬
‫يطلع عليهم من ثقب الباب فطعن‬
‫أحدهم عينه فقلعها ‪ ،‬فهل يجب القصاص ؟ وما الحكم ؟‬

‫‪ /1‬ذهب اإلمامان ( الشافعي وأحمد ) إلى أنّه لو فقئت عينه فهي هدر وال قصاص ‪.‬‬

‫‪ /2‬وذهب مالك وأبو حنيفة إلى القول بأنّها جناية يجب فيها األرش (‪ )1‬أو القصاص‬

‫ــ دليل الشافعية والحنابلة ‪:‬‬


‫أ‪ /‬حديث أبي هريرة ‪ ":‬من ا ّ‬
‫طلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه " (‪. )2‬‬

‫طلع رجل في حجرة من حجر النّبي صلّى هللا عليه وسلّم ‪،‬‬ ‫ب‪ /‬حديث سهل بن سعد قال ‪ " :‬ا ّ‬
‫ومع النّبي ِمدرى ( آلة رفيعة من حديد ) يحكّ بها رأسه فقال ‪ :‬لو أعلم أنّك تنظر لطعنت بها‬
‫في عينك ‪ ،‬إنّما جعل االستئذان من أجل النّظر " (‪. )3‬‬

‫ـــ واستد ّل المالكيّة واألحناف ‪:‬‬

‫أ‪ /‬بعموم قوله تعالى ‪ ":‬وكتبنا عليهم فيها أنّ ال ّنفس بالنّفس والعين بالعين ‪ " ...‬المائدة‪. 45/‬‬
‫فمن أقدم على هذا النّحو كان جانيا ً ‪ ،‬وعليه القصاص ‪ ،‬إن كان عامدا ً ‪ ،‬واألرش إن كان‬
‫مخطئاً‪.‬‬

‫أن من دخل داراً بغير إذن أهلها فاعتدي عليه بعض أهلها‬
‫ب‪ /‬واستدلوا بإجماع العلماء على ّ‬
‫بقلع عينه فإن ذلك يعتبر جناية تستوجب القصاص ‪.‬‬

‫قالوا ‪ :‬فإذا كان دخول الدّار واقتحامها على أهلها مع النّظر إلى ما فيها غير مبيح لقلع عين‬
‫ذلك الدّاخل ‪ ،‬فال يكون النّظر وحده من ثقب الباب مبيحا ً لقلع عينه من باب أولى ‪.‬‬
‫أن من ّ‬
‫اطلع في دار قوم ونظر إلى‬ ‫وتأولوا الحديث الّذي استدلّ به الشافعية والحنابلة على ّ‬
‫ج‪ّ /‬‬
‫ُحرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع وقاوم وقاتل فقلعت عينه بسبب المقاومة والمدافعة فهي هدر ؛‬
‫ألنّه ظالم معتد في هذه الحالة (‪. )4‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يطلق األرش في مجال الضّمانات على ما ليس له قدر من الديّة في الجراحات ‪.‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب األدب ‪ ،‬باب تحريم النّظر في بيت غيره ‪ ،‬رقم ‪ ، 2158 :‬ج ‪، 3‬‬
‫ص‪. 1699‬‬

‫(‪ )3‬سبق تخريجه ‪.‬‬

‫(‪ )4‬أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب االستئذان ‪ ،‬باب االستئذان من أجل البصر ‪ ،‬رقم ‪ ، 6241 :‬ج ‪، 8‬‬
‫ص ‪. 54‬‬
‫المحاضرة الخامسة‬
‫تفسيــر آيــة القـوامــــة‬
‫قال تعالى ‪:‬‬

‫ض و ِبما أنفُقُوا ِمن أموا ِل ِهم‬ ‫هللا بعضهُم على بع ٍ‬ ‫اء ِبما فضَّل ُ‬ ‫الرجا ُل ق َّوا ُمون على ال ِنّس ِ‬
‫" ِّ‬
‫ب ِبما ح ِفظ هللاُ والالَّ ِتي تخافُوا نُشُوزهُنَّ ف ِعظُوهُنَّ واهج ُُروهُنَّ‬‫فالصَّا ِلحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ ِللغي ِ‬
‫اج ِع واض ِربُوهُنَّ ف ِإن أطعنكُم فال تبغُوا علي ِهنَّ سبِيالً ِإنَّ هللا كان ع ِليًّا كبِيرا ً "‬ ‫فِي المض ِ‬
‫النساء‪. 34/‬‬

‫سبب النّزول ‪:‬‬

‫الربيع مع امرأته حبيبة بنت زيد ‪ ،‬وكان سعد من ال ّنقباء‬ ‫نزلت اآلية الكريمة في سعد بن ّ‬
‫وهما من األنصار ‪ ،‬وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها ‪ ،‬فانطلق أبوها معها إلى النّبي ص ّلى هللا‬
‫لتقتص من‬‫ّ‬ ‫ي صلّى هللا عليه وسلّم ‪:‬‬ ‫عليه وسلّم فقال ‪ ":‬أفرشته كريمتي فلطمها ‪ ،‬فقال النب ّ‬
‫ي صلّى هللا عليه وسلّم ‪ :‬ارجعوا هذا جبريل‬ ‫لتقتص منه ‪ ،‬فقال النب ّ‬
‫ّ‬ ‫زوجها‪ ،‬فانصرفت مع أبيها‬
‫ي صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ":‬أردنا أمرا ً‪،‬‬
‫قوامون على النّساء " فقال النب ّ‬‫الرجال ّ‬‫أتاني وأنزل هللا ‪ّ ":‬‬
‫وأراد هللا أمرا ً ‪ ،‬والّذي أراد هللا خير ورفع القصاص " (‪. )1‬‬

‫شرح المفردات ‪:‬‬

‫قوام ف ّعال للمبالغة ؛ من القيام على ال ّشيء واالستبداد بالنّظر فيه وحفظه ‪ ،‬يقال‬
‫قوامون " ‪ّ :‬‬
‫ــ " ّ‬
‫قوام وقيّم ‪ ،‬وهو فعّال وفعيل من قال ‪ ،‬والمعنى هو أمين عليها يتولّى أمرها ‪ ،‬يقوم بتدبيرها‬ ‫‪ّ :‬‬
‫وتعليمها وحفظها وإصالح أمورها قاله ابن عبّاس ‪ ،‬وعليها له ّ‬
‫الطاعة (‪. )2‬‬

‫فالقوامة تطلق في اللّغة على الحفظ والكفالة واالعتناء ‪ ،‬وهي تع ّم ّ‬


‫الرجال والنّساء ‪ ،‬إالّ أنّه‬
‫ّ‬
‫وأمورهن ‪.‬‬ ‫الرجال لقيامهم بشؤون النّساء‬
‫غلب على ّ‬

‫وهي اصطالحا ً ‪ :‬القيام على األمر أو المال ورعاية المصالح ‪ ،‬وهي نوعين ‪ّ :‬‬
‫قوامة على‬
‫النّفس ‪ّ ،‬‬
‫وقوامة على المال ‪.‬‬
‫ّ‬
‫بالطاعة وال ّنفقة ‪ ،‬فال ّنفقة‬ ‫الزوجيّة ‪ ،‬كما يتح ّقق‬
‫ومفهوم القوامة يتحقّق بموجب حكم صفة ّ‬
‫الزوجية ‪ ،‬وهو ما أشار إليه الدّهلوي في تفسير اآلية "‬ ‫ّ‬
‫والطاعة من قبل ّ‬ ‫الرجل ‪،‬‬
‫من قبل ّ‬
‫قوام على المرأة وله طول عليها بالجبلّة‬ ‫الزوج ّ‬ ‫قوامون على النّساء " حيث بيّن ّ‬
‫أن ّ‬ ‫الرجال ّ‬
‫ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سيوطي ‪ ،‬لباب النّقول في أسباب النّزول ‪ ،‬ص ّححه أحمد عبد الشافي ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪،‬‬
‫(‪ )1‬جالل الدين ال ّ‬
‫بيروت ‪ ( ،‬د ط ت ) ج ‪ ، 1‬ص ‪ 58‬ــ ‪. 57‬‬

‫(‪ )2‬أبو بكر بن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬تــ ‪ :‬محمد عبد القادر عطا ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بيروت ــ لبنان ‪،‬‬
‫ط‪ 1424 ، 3‬هـ ــ ‪ 2003‬م ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 368‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 463‬‬
‫والفطرة ؛ أل ّنه أت ّم عقالً ‪ ،‬وأكثر سياسة وآكد حماية وذبا للعار بالمال ‪ ،‬حيث أنفق عليها وكساها‬
‫فناسب ذلك أن يكون له تأديبها إن بغت ‪ ،‬ولكن يراعي في ذلك اللّطف واليسر (‪. )1‬‬

‫ــ " وبما أنفقوا من أموالهم " ‪ :‬قال ابن العربي في أحكام القرآن ‪ ":‬المعنى أنّي جعلت الق َّو ِميَّة‬
‫للرجل ألجل تفضيلي له عليها ‪ ،‬وذلك لثالثة أشياء ‪:‬‬
‫على المرأة ّ‬

‫‪ /1‬كمال العقل والتّمييز ‪.‬‬


‫ّ‬
‫والطاعة في الجهاد واألمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على العموم ‪ ،‬وغير‬ ‫‪ /2‬كمال الدّين‬
‫ذلك ‪.‬‬

‫صداق والنّفقة ‪ ،‬وقد ّ‬


‫نص هللا عليها هاهنا (‪. )2‬‬ ‫‪ /3‬بذله المال من ال ّ‬

‫ــ " فالصّالحاتُ قانتاتٌ حافظاتٌ " ‪ :‬ويعني هنا مطيعات ‪ ،‬وهو أحد أنواع القنوت (‪. )3‬‬

‫ــ " حافظاتٌ للغيب " ‪ :‬يعني تحفظ غيبة زوجها ‪ ،‬وال تأتي في مغيبة بما يكره أن يراه منها في‬
‫حضوره (‪. )4‬‬
‫وإما بمعنى الّذي ‪ ،‬أي ال ّ‬
‫شيء‬ ‫إما مصدريّة وتقديره ‪ :‬بحفظ هللا ّ‬
‫لهن ‪ّ ،‬‬ ‫ــ " بما حفظ هللا" ‪:‬ما ‪ّ ،‬‬
‫الّذي حفظ هللا (‪. )5‬‬
‫وحفظ هللا هو ما يخلقه للعبد من القدرة على ّ‬
‫الطاعة ؛ فإنه إذّا شاء أن يحفظ عبده لم يخلق‬
‫له إالَّ قدرة ّ‬
‫الطاعة ‪ ,‬فإن توالت كانت له عصمة وال تكون إالّ لألنبياء (‪ . )6‬فالمقصود من قوله‬
‫صالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ هللا هو األمر بطاعة ّ‬
‫الزوج والقيام بحقه في‬ ‫تعالى فال ّ‬
‫ماله وفي نفسها في حال غيبة ّ‬
‫الزوج ‪.‬‬

‫ــ " والالتِي تخافُون نُشُوزهُنَّ " ‪ :‬قيل في معنى تخافون ‪ :‬تظنّون ‪ ,‬وقيل تتي ّقنون ؛ ولكل وجه‬
‫َّ‬
‫خروجهن عن طاعة‬ ‫َّ‬
‫عصياهن ‪ ,‬و‬ ‫معنى يأتي بيانه في تركيب ما بعده عليه (‪ . )7‬أي تخافون‬
‫األزواج ‪.‬‬

‫" نُشُوزهُنَّ " ‪ :‬يعني امتناعهن منكم ؛ عبّر عنه بالنشوز ‪ ,‬وهو من النَّشز ‪ :‬المرتفع من‬
‫األرض ( فالنشوز مشتق من النَّشز وأصل النشز ‪ :‬المكان المرتفع ‪ ،‬ومنه تلّ ناشز أي مرتفع‪) .‬‬
‫وإن ك ّل ما امتنع عليك فقد نشز عنك حت ّى ماء البئر (‪. )8‬‬
‫ّ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الدهلوي ‪ ،‬ح ّجة هللا البالغة ‪ ،‬تــ ‪ :‬سيد سابق ‪ ،‬دار الجيل ‪ ،‬ط ‪ ، 1‬سنة ‪1426‬هـ‪ ، /‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 210‬‬

‫(‪ )3( )2‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 531‬‬

‫سابق ‪ ،‬ص ‪. 532‬‬


‫(‪ )4‬المصدر ال ّ‬

‫(‪ )5‬وهبة الزحيلي ‪ ،‬التفسير المنير ‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪. 54‬‬

‫(‪ )8( )7( )6‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 532‬‬
‫طاعة وحسن العشرة لألزواج ‪ .‬قال ابن‬ ‫عليهن من ال ّ‬
‫َّ‬ ‫ــ " فعظوهنَّ " أي ذ ّكروهن بما أوجب هللا‬
‫العربي ‪ ( :‬وهو الت ّذكير باهلل في الت ّرغيب لما عنده من ثواب ‪ ,‬والت ّخويف لما لديه من عقاب ‪,‬‬
‫صحبة ‪,‬‬
‫مما يعرفها به من حسن األدب في إجمال العشرة ‪ ,‬والوفاء بتمام ال َّ‬ ‫إلى ما يتبع ذلك ّ‬
‫للزوج ‪ ,‬واالعتراف بالدَّرجة الّتي له عليها ) (‪. )1‬‬
‫الطاعة ّ‬‫والقيام بحقوق ّ‬

‫ــ " واهجروهنّ في المضاجع " ‪ :‬من الهجران ‪ ،‬وهو البعد ؛ يقال ‪ :‬هجره أي تباعد ونأى‬
‫عنه ‪ ،‬وقد اختلف العلماء في معنى الهجر في اآلية على أربعة أقوال ‪:‬‬

‫‪ /1‬يوليها ظهره في فراشه ؛ قاله ابن عباس ‪.‬‬

‫‪ /2‬ال يكلّمها ‪ ،‬وإن وطئها ؛ قاله عكرمة وأبو الضّحى ‪.‬‬

‫‪ /3‬ال يجمعها وإيّاه فراش ‪ ،‬وال وطء حتّى ترجع إلى ا ّلذي يريد ؛ قاله إبراهيم وال ّ‬
‫شعبي وقتادة‬
‫والحسن البصري ‪ ،‬ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك وغيرهم ‪.‬‬

‫‪ /4‬يكلّمها ويجامعها ‪ ،‬ولكن بقول فيه غلظ وشدّة إذا قال لها تعالي ؛ قاله سفيان (‪. )2‬‬

‫ــ " واضربوهنّ " ‪ :‬أمر هللا أن يبدأ النّساء بالموعظة ّأوالً ‪ ،‬ث ّم بالهجران ؛ فإن لم ينفعا‬
‫فالضّرب ؛ فإنّه هو الّذي يصلحها له ويحملها على توفية حقّه ‪ .‬والضّرب في هذه اآلية هو‬
‫ضرب األدب غير المبرح ‪ ،‬وهو الّذي ال يكسر عظما ً وال يشين جارحة كاللكزة ونحوها ؛ ّ‬
‫ألن‬
‫صالح ال غير ‪ .‬فال جرم إذا أدّى إلى الهالك وجب الضّمان ‪ ،‬وكذلك القول في‬ ‫المقصود منه ال ّ‬
‫ضرب المؤدب غالمه لتعليم القرآن واألدب ‪.‬‬
‫ألن ك ً‬
‫ال من‬ ‫ّ‬
‫الشق بمعنى الجانب ؛ ّ‬ ‫شقاق الخالف والعداوة ‪ ،‬وهو مأخوذ من‬‫ــ " شقاق " ‪ :‬ال ّ‬
‫المتخالفين يكون في شق غير شق اآلخر بسبب العداوة والمباينة ‪.‬‬
‫ــ " حكما ً " ‪ :‬ك ّل من له ّ‬
‫حق الفصل بين الخصمين المتنازعين ‪.‬‬

‫ــ " إن يريدا " ‪ :‬أي الزوجان أو الحكمان ‪.‬‬

‫ــ " والجار الجنب " ‪ :‬الجار البعيد أو الّذي ليس له قرابة تربطه بجاره وأصله من الجنابة ض ّد‬
‫القرابة ‪.‬‬

‫ــ " والصّاحب بالجنب " ‪ :‬هو الرفيق في السفر ‪ ،‬أو طلب العلم ‪ ،‬أو الشريك ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي‬
‫الزوجة ‪.‬‬

‫ــ " ُمختاالً ف ُخورا ً " ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬المختال البطر في مشيته ‪ ،‬والفخور المفتخر على ال ّناس‬
‫بكبره (‪. )3‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )2( )1‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ 532‬ـ ‪. 533‬‬

‫(‪ )3‬الصابوني ‪ ،‬روائع البيان ج ‪ ، 1‬ص ‪. 476‬‬


‫المعنى اإلجمالي ‪:‬‬

‫الرياسة على ال ّنساء ‪ ،‬بسبب ما منحهم هللا من العقل والتّدبير ‪،‬‬‫الرجال درجة ّ‬ ‫منح هللا تعالى ّ‬
‫صهم به من الكسب واإلنفاق ‪ ،‬فهم يقومون على شؤون النّساء كما يقوم الوالّة على ّ‬
‫الرعايا‬ ‫وخ ّ‬
‫لرجل ‪ ،‬وذكر أنهن‬ ‫صل تعالى حال النّساء تحت رياسة ا ّ‬ ‫والرعاية وتدبير ال ّ‬
‫شؤون ‪ .‬ث ّم ف ّ‬ ‫بالحفظ ّ‬
‫صالحات مطيعات‬ ‫متمردات ‪ ،‬فالنّساء ال ّ‬
‫ّ‬ ‫قسمان ‪ :‬قسم صالحات مطيعات ‪ ،‬وقسم عاصيات‬
‫ّ‬
‫أنفسهن عن الفاحشة ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫عليهن من حقوق ‪ ،‬يحفظن‬ ‫لألزواج ‪ ،‬حافظات ألوامر هللا ‪ ،‬قائمات بما‬
‫فهن عفيفات ‪ ،‬أمينات ‪ ،‬فاضالت ‪.‬‬ ‫الرجال ‪ّ ،‬‬ ‫أزواجهن عن التّبذير في غيبة ّ‬
‫ّ‬ ‫وأموال‬

‫أزواجهن ‪ ،‬اللّواتي‬
‫ّ‬ ‫المتمردات المترفّعات على‬
‫ّ‬ ‫وهن النّساء ال ّناشزات‬
‫ّ‬ ‫وأما القسم الثّاني ‪:‬‬
‫ّ‬
‫معهن طريق النّصح‬‫ّ‬ ‫الرجال أن تسلكوا‬ ‫يتكبرن ويتعالين عن طاعة األزواج ‪ ،‬فعليكم أيّها ّ‬
‫بهجرهن في الفراش مع اإلعراض والص ّد ‪ ،‬فال‬ ‫ّ‬ ‫واإلرشاد ‪ ،‬فإن لم يجد الوعظ والتّذكير فعليكم‬
‫تضربوهن ضربا ً غير‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تقربوهن ‪ ،‬فإذا لم يرتدعن بالموعظة وال بالهجران فلكم أن‬ ‫ّ‬
‫موهن وال‬ ‫تكلّ‬
‫إليذائهن ‪ّ ،‬‬
‫فإن هللا تعالى‬ ‫ّ‬ ‫مبرح ‪ ،‬ضربا ً رفيقا ً يؤلم وال يؤذي ‪ ،‬فإن أطعنكم فال تلتمسوا طريقا ً‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫عليهن ‪.‬‬ ‫العلي الكبير أعلى منكم وأكبر ‪ ،‬وهو وليّهن ينتقم م ّمن ظلمهن وبغى‬

‫الزوجة فحسب ؛ بل من‬ ‫ث ّم بيّن تعالى حالةً أخرى ‪ ،‬وهي ما إذا كان ال ّنفور ال من ّ‬
‫الزوجين‪ ،‬فأمر بإرسال ( حكمين ) عدلين ‪ ،‬واحد من أقربائها ‪ ،‬والثّاني من أقرباء ّ‬
‫الزوج ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ليجتمعا وينظرا في أمرهما ويفعال ما فيه المصلحة ‪ ،‬إن رأيا التّوفيق وفّقا ‪ ،‬وإن رأيا التّفريق‬
‫فرقا ‪ ،‬فإذا كانت النوايا صحيحة ‪ ،‬والقلوب ناصحة بورك في وساطتهما ‪ ،‬وأوقع هللا بطيب‬ ‫ّ‬
‫شرعه هللا إنّما جاء وفق الحكمة‬ ‫الزوجين ‪ ،‬وما ّ‬ ‫نفسهما وحسن سعيهما الوفاق واأللفة بين ّ‬
‫والمصلحة ؛ ألنّه من حكيم خبير ‪.‬‬

‫ث ّم ختم تعالى هذه اآليات بوجوب عبادته تعالى وعدم االشتراك به ‪ ،‬وباإلحسان إلى‬
‫الوالدين‪ ،‬وإلى األقرباء واليتامى والمساكين ‪ ،‬ومن له ّ‬
‫حق الجوار من األقارب واألباعد (‪. )1‬‬

‫األحكام الفقهية المستنبطة من اآلية ‪:‬‬

‫‪ /1‬القوامة ‪ ،‬مشروعة بالكتاب والسنّة ‪ ،‬وهي ضرورة يستلزمها حفظ نظام األسرة والقيام‬
‫بشؤونها ‪.‬‬

‫للرجل لسبب ‪ ،‬وهبي وآخر كسبي ‪ ،‬أ ّما الوهبي فهو ما فطر عليه من كمال‬ ‫‪ /2‬القوامة ثابتة ّ‬
‫بالنبوة واألمانة‬
‫ّ‬ ‫صوا‬‫والطاعات ‪ ،‬ولذلك خ ّ‬ ‫ّ‬ ‫العقل وحسن التّدبير ‪ ،‬ومزيد ّ‬
‫القوة في األعمال‬
‫سهم في الميراث ‪،‬‬ ‫شهادة في مجامع القضايا والجهاد ‪ ...‬وزيادة ال ّ‬‫شعائر ‪ ،‬وال ّ‬
‫والوالية ‪ ،‬وإقامة ال ّ‬
‫والرجعة ‪ ،‬وعدد األزواج ‪ ،‬وإليهم االنتساب (‪ ، )2‬د ّل على ذلك قوله تعالى ‪ ":‬وال تتمنّوا ما‬ ‫‪ّ ...‬‬
‫فضّل هللا به بعضكم على بعض " النساء‪. 32 /‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بتصرف ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )2( )1‬المصدر السابق ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ 466‬ـ ‪، 465‬‬
‫صهم به من الكسب واإلنفاق ‪ ،‬فالسبب الّذي وجبت به القوامة هو‬‫وأما الكسبي ‪ ،‬فهو ما خ ّ‬‫ّ‬
‫الرجل وتفير النفقات ‪ ،‬والواجبات منها ثالث ؛ اإلطعام ـ والكسوة ـ‬ ‫سعي على ّ‬ ‫وجوب ال ّ‬
‫والسكن‪ ،‬فهذه كلّها تجب على الرجل بحسب القدرة والكفاية ‪.‬‬

‫‪ /3‬إذا كانت النفقة سبب لوجوب القوامة ‪ ،‬فهي أيضا ً شرط لبقائها ‪ ،‬فتوفر النفقة شرط لثبوت‬
‫القوامة ‪ ،‬فتسقط بالعجز عن ذلك ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ ":‬وبما أنفقوا من أموالهم " ‪ ،‬فمتى ما عجز‬
‫الرجل عن توفير نفقتها لم يكن قواما عليها ‪ ،‬وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد ؛ لزوال‬
‫ّ‬
‫المقصود الّذي شرع ألجله النّكاح ‪ .‬قال ابن العربي ‪ ":‬وفيه داللة واضحة من هذا الوجه على‬
‫ثبوت فسخ النكاح عند اإلعسار بال ّنفقة والكسوة ؛ وهو مذهب مالك والشافعي ‪ .‬وقال أبو حنيفة ‪:‬‬
‫فنظرة إلى ميسرة " البقرة‪. )1( " 280 /‬‬‫ال يفسخ ؛ لقوله تعالى ‪ ":‬وإن كان ذو عُسرة ِ‬

‫‪ /4‬منع هللا تعالى النشوز ‪ ،‬وحرم على الزوجة معصية زوجها لما له عليها من الفضل‬
‫حق الزوج عليها وطاعته ‪ ،‬وقد قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ":‬لو‬
‫واإلفضال ‪ ،‬وأوجب ّ‬
‫كنت آمرا أحدا أن يسجد ألحد ألمرت المرأة أن تسجد لزوجها ‪ ،‬من عظم حقّه عليها " (‪. )2‬‬

‫قال الشافعي ‪ ":‬دالالت النشوز قد تكون قوالً ‪ ،‬وقد تكون فعالً ‪ ،‬فالقول مثل أن كانت ال‬
‫تلبيه إذا دعاها ‪ ،‬وتخضع له بالقول إذا خاطبها ‪ ،‬ث ّم تغيّرت ؛ والفعل مثل أن كانت تقوم له إذا‬
‫دخل إليها ‪ ،‬أو كانت تسارع إلى أمره ‪ ،‬وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها ‪ ،‬ث ّم إذا تغيّرت‬
‫ظن نشوزها ؛ ومقدمات هذه األحوال توجب خوف النشوز " (‪. )3‬‬ ‫فحينئذ ّ‬

‫‪ /5‬بيّنت اآلية خطوات معالجة نشوز المرأة بمايلي ‪:‬‬

‫أ‪ /‬الوعظ وال ّنصح واإلرشاد بالحكمة " ف ِعظُوهُنَّ " ‪.‬‬

‫ب‪/‬الهجران بعزل فراشه عن فراشها وترك معاشرتها لقوله تعالى‪ " :‬واهجروهن ِفي المضاجع"‬

‫المبرح بسواك ونحوه تأديبا ً لها ‪ ,‬لقوله تعالى " واضربوهن " ‪ .‬وإذا لم توجد‬ ‫ّ‬ ‫ضرب غير‬ ‫ج‪ /‬ال ّ‬
‫كل هذه الوسائل فينبغي التحكيم لقوله تعالى " فابعثوا حك ًما ِّمن أه ِل ِه وحك ًما ِّمن أه ِلها " ‪.‬‬
‫ض رب المراد في اآلية بقوله ‪ " :‬فإن فعلن فاضربوهن ضربا ً‬
‫سالم ال ّ‬
‫صالة وال ّ‬
‫وقد وضح عليه ال ّ‬
‫المبرح " (‪. )4‬‬
‫ّ‬ ‫غير‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 533‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه الترمذي في سننه ‪ ،‬أبواب الرضاع ‪ ،‬باب ما جاء في حقّ المرأة على زوجها ‪ ،‬رقم ‪، 1159 :‬‬
‫ق الزوج على المرأة ‪ ،‬رقم ‪، 1853‬‬
‫ج‪ ، 2‬ص ‪ ، 456‬وسنده جيّد ‪ .‬وابن ماجة في سننه كتاب النكاح ‪ ،‬باب ح ّ‬
‫ج ‪ ، 1‬ص ‪ ، 595‬وصححه األلباني في صحيح سنن ابن ماجة ‪.‬‬

‫بتصرف ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )3‬الصابوني ‪ ،‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪466‬‬

‫ق المرأة على زوجها ‪ ،‬رقم ‪ ، 1163‬وقال األلباني ‪:‬‬


‫(‪ )4‬أخرجه الترمذي في سننه ‪ ،‬باب ما جاء في ح ّ‬
‫صحيح ‪ /‬وابن ماجة في سننه كتاب النّكاح ‪ ،‬باب ح ّ‬
‫ق المرأة على ّ‬
‫الزوج ‪ ،‬رقم ‪. 1851 :‬‬
‫المبرح بأنّه يكون بال ّ‬
‫سواك وما يقوم مقامه من‬ ‫ّ‬ ‫وبيّن ابن عباس وعطاء معنى الضّرب غير‬
‫الوسائل الخفيفة ‪.‬‬

‫وقال قتادة ‪ :‬ضربا ً غير شائن ‪ ،‬ولذلك قال العلماء ‪ :‬ينبغي أن ال يوالي الضّرب في مح ّل‬
‫واحد وأن يتّقي الوجه فإنّه يجمع المحاسن ‪ ،‬وال يضربها بسوط وال عصا ‪ ،‬وأن يراعي‬
‫التّخفيف في هذا التّأنيب على أبلغ الوجوه ‪.‬‬

‫أن تركه أفضل لقوله صلّى هللا عليه وسلّم ‪":‬‬


‫أن الضّرب مباح فقد اتّفق العلماء على ّ‬‫ومع ّ‬
‫ولن يضرب خياركم " (‪. )1‬‬

‫ث ّم اختلف العلماء في هذه العقوبات هل هي على التّرتيب أم ال ؟‬

‫ــ قال بعضهم ‪ :‬إ ّنها على التّرتيب ‪ ،‬فالوعظ عند خوف النّشوز ‪ ،‬والهجر عند ظهور النّشوز ‪،‬‬
‫ث ّم الضّرب ‪ ،‬وال يباح الضّرب عند ابتداء النّشوز ‪ ،‬وهذا مذهب أحمد ‪.‬‬

‫ــ وقال ال ّشافعي ‪ :‬يجوز ضربها في ابتداء النشوز ‪.‬‬

‫إن ( الواو ) ال تقتضي‬‫منشأ الخالف ‪ :‬اختالف العلماء في فهم اآلية ‪ ،‬فمن رأى الترتيب قال ّ‬
‫الترتيب ؛ بل هي لمطلق الجمع ‪ ،‬فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أيا ً كانت ‪ ،‬وله أن‬
‫يجمع بينها ‪.‬‬

‫أن ظاهر اللّفظ يد ّل على التّرتيب ‪ ،‬واآلية وردت على‬ ‫ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى ّ‬
‫ي ‪ ،‬فإنّه تعالى ابتدأ بالوعظ ‪ ،‬ث ّم ترقى منه إلى الهجران ‪ ،‬ث ّم‬
‫التدرج من الضّعيف إلى القو ّ‬
‫ّ‬ ‫سبيل‬
‫ترقّى منه إلى الضّرب ‪ ،‬وذلك جار مجرى التّصريح بوجوب التّرتيب ‪ ،‬فإذا حصل الغرض‬
‫الطريق األش ّد (‪ . )2‬ولع ّل هذا هو‬‫األخف وجب االكتفاء به ‪ ،‬ولم يجز اإلقدام على ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالطريق‬
‫األرجح لظاهر اآلية الكريمة وهللا أعلم (‪. )3‬‬

‫‪ /6‬تسقط القوامة لسببين ‪ :‬في حال العجز وعدم المقدرة على القيام واإلنفاق ‪ ،‬وفي حال نقص‬
‫األهلية أو انعدامها ‪.‬‬

‫‪ /7‬ظاهر اآلية يفيد أ ّنه يشترط في الحكمين أن يكونا من األقارب ؛ لقوله تعالى ‪ ":‬حكما من‬
‫وأن ذلك على سبيل الوجوب ‪ ،‬وبه قال الشافعي رحمه هللا ؛ ألنّه من‬ ‫أهله وحكما من أهلها " ّ‬
‫الظالمات ‪ ،‬وهو من الفروض العا ّمة الواجبة على الوالة ‪ ،‬وحمله غيره من العلماء‬ ‫باب رفع ّ‬
‫على وجه االستحباب ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إذا بعث القاضي حكمين من األجانب جاز ؛ ّ‬
‫ألن فائدة الحكمين‬
‫صلح بينهما ‪ ،‬والشهادة على الظالم منهما ‪ ،‬وهذا‬ ‫التعرف على أحوال الزوجين وإجراء ال ّ‬ ‫ّ‬
‫أن األقارب أعرف بحال الزوجين ‪ ،‬طلبا ً‬ ‫الغرض يؤدّيه األجنبي كما يؤدّيه القريب ‪ ،‬إالّ ّ‬
‫لإلصالح من األجانب ‪ ،‬وأبعد عن التّهمة بالميل ألحد الزوجين ‪ ،‬لذلك كان األولى واألوفق أن‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫بتصرف ‪ ،‬والحديث أخرجه ابن ماجة في سننه‬
‫ّ‬ ‫(‪ )3( )2( )1‬الصابوني ‪ ،‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪466‬‬
‫كتاب النّكاح‪ ،‬باب ضرب النّساء ‪ ،‬رقم ‪ ، 1985 :‬ج ‪ ، 1‬ص ‪638‬‬
‫يكون أحد الحكمين من أهل ّ‬
‫الزوج واآلخر من أهل الزوجة (‪. )1‬‬

‫وخص األهل ألنّهم أطلب لل ّ‬


‫صالح ‪ ،‬وأعرف بباطن الحال ‪ ،‬وهذا على وجه‬ ‫ّ‬ ‫قال األلوسي ‪:‬‬
‫صبا من األجانب جاز (‪. )2‬‬
‫االستحباب ‪ ،‬وإن ن ّ‬
‫‪ /8‬المخاطب في اآلية الكريمة " وإن خفتم شقاق بينكما " ‪.‬‬

‫سابقة لألزواج في قوله تعالى ‪ ":‬واهجروهنّ‬ ‫هنا للحكام ؛ أل ّنه لما ّ كان الخطاب في اآلية ال ّ‬
‫الزوج ‪ ،‬جاء الخطاب هنا للحكام ‪ ،‬فإنّه تعالى لما ّ ذكر نشوز‬ ‫حق ّ‬
‫في المضاجع " وهذا من ّ‬
‫للزوج أن يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها ‪ ،‬بيّن تعالى أنّه إذا لم يبق بعد‬ ‫وأن ّ‬
‫المرأة ‪ّ ،‬‬
‫سلطان‬
‫الظالم ويتو ّجه حكمه عليها وهو ال ّ‬‫ال المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من ّ‬ ‫الضّرب إ ّ‬
‫للزوجين ‪ .‬وهذا القول مرجوح ‪.‬‬ ‫الّذي بيده سلطة الحكم والتّنفيذ ‪ .‬وروى عن السُدّي ّ‬
‫أن الخطاب ّ‬

‫‪ /9‬هل للحكمين أن يفرقا بين الزوجين بدون إذنهما ؟‬

‫ــ ذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنّه ليس للحكمين أن يفرقا إالّ برضا ّ‬
‫الزوجين ؛ ألنّهما وكيالن‬
‫عنهما ‪ ،‬والب ّد من رضا الزوجين فيما يحكمان به ‪ ،‬وهو مروي عن الحسن البصري ‪ ،‬وقتادة‬
‫وزيد بن أسلم ‪.‬‬
‫أن لهما أن يلزما ّ‬
‫الز وجين بدون إذنهما ما يريا فيه المصلحة ‪ ،‬فإن رأيا‬ ‫ــ وذهب مالك إلى ّ‬
‫التطليق طلّقا ‪ ،‬وإن رأيا أن تفتدي المرأة بشيء من مالها فعالً ‪ ،‬فهما حاكمان موليان من قبل‬
‫اإلمام ‪ ،‬وينفّذ حكمهما في الجمع والتفرقة وهو مروي عن علي وابن عباس والشعبي ‪.‬‬

‫الرأيين على اآلخر ؛ بل فيها ما‬


‫ــ وللشافعي في المسألة قوالن ‪ :‬وليس في اآلية ما يرجح أحد ّ‬
‫أن هللا تعالى لم يضف إلى الحكمين إالّ اإلصالح‬
‫األول ‪ّ :‬‬
‫للرأي ّ‬ ‫يشهد لك ّل من ّ‬
‫الرأيين ‪ .‬فالح ّجة ّ‬
‫" إن يريدا إصالحا " وهذا يقضي أن يكون ما وراء اإلصالح غير مفوض إليهما ‪ ،‬وألنّهما‬
‫وكيالن وال ينفذ حكمهما إالّ برضا الموكل ‪.‬‬
‫للرأي الثّاني ‪ّ :‬‬
‫أن هللا تعالى س ّمى كالً منهما حكما ً " فابعثوا حكما ً من أهله وحكما ً‬ ‫والح ّجة ّ‬
‫من أهلها " والحكم هو الحاكم ‪ ،‬ومن شأن الحاكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه رضي أم‬
‫سخط ‪.‬‬

‫ال أن يرضى الزوج ‪ ،‬وذلك ألنّه ال‬‫صاص ‪ ":‬قال أصحابنا ‪ :‬ليس للحكمين أن يفرقا إ ّ‬ ‫قال الج ّ‬
‫يفرق بينهما ‪ ،‬ولم يجبره الحاكم على طالقها قبل تحكيم‬
‫أقر باإلساءة إليها لم ّ‬ ‫خالف ّ‬
‫أن الزوج لو ّ‬
‫لوأقرت المرأة بالنّشوز لم يجبرها الحاكم على الخلع ‪ ،‬وال على ر ّد مهرها ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الحكمين ‪ ،‬وكذلك‬
‫الزوجين " وهو اختيار الطبري ‪.‬‬ ‫فكذلك بعد بعث الحكمين ال يجوز إالّ برضا ّ‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )2( )1‬الصّابوني ‪ ،‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 471‬‬
‫حكمة التّشريع(‪ : )1‬قضت السنّة الكونية وظروف الحياة االجتماعية ‪ ،‬أن يكون في األسرة قيّم ‪،‬‬
‫يدير شؤونها ‪ ،‬ويتع ّهد أحوالها ‪ ،‬وينفق من ماله عليها ‪ ،‬لتؤدّي رسالتها على أكمل الوجوه ‪،‬‬
‫ولتكون نواة للمجتمع اإلنساني الّذي ينشده اإلسالم ‪ ،‬إذ في صالح األسرة صالح المجتمع ‪ ،‬وفي‬
‫فساد األسرة وخرابها خراب المجتمع ‪.‬‬

‫الرجل أقدر على تح ّمل هذه المسؤولية من المرأة ‪ ،‬بما وهبه هللا من العقل ‪ ،‬وقوة‬ ‫ولما كان ّ‬
‫ّ‬
‫األحق بهذه‬ ‫سعي واإلنفاق على المرأة واألوالد ‪ ،‬كان هو‬ ‫العزيمة واإلرادة ‪ ،‬وبما كلّفه من ال ّ‬
‫القوامة ‪ ،‬الّتي هي في ال حقيقة درجة ( مسؤولية وتكليف ) ال درجة ( تفضيل وتشريف ) إذ هي‬
‫سيطرة واالستعالء ؛ إذ الب ّد لك ّل أمر هام من رئيس يتولّى‬
‫مساهمة في تحمل األعباء ‪ ،‬وليست لل ّ‬
‫حق القيام على النساء بالتّأديب والتّدبير ‪،‬‬
‫للرجال ّ‬‫شؤون التّدبير والقيادة ‪ .‬وقد جعل هللا تعالى ّ‬
‫للطعن في دين هللا ‪ ،‬زعمهم ّ‬
‫أن‬ ‫صيانة ‪ ،‬ولع ّل أخبث ما يتّخذه أعداء اإلسالم ذريعة ّ‬ ‫والحفظ وال ّ‬
‫للرجل أن يضربها ويقولون ‪ :‬كيف يسمح هللا بضرب النساء ‪،‬‬ ‫اإلسالم أهان المرأة حين سمح ّ‬
‫وكيف يحوي كتابه المقدّس هذا النّص " فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ "‬
‫(أفليس هذا اعتداء على كرامة المرأة )‬

‫والجواب ‪ :‬نعم لقد سمح القرآن بضرب المرأة ولكن متى يكون الضّرب ؟ ولمن يكون ؟‬

‫إن هذا األمر عالج ‪ ،‬والعالج إنما يحتاج إليه عند الضّرورة ‪ ،‬فالمرأة إذا أساءت عشرة‬ ‫ّ‬
‫تكف وال ترعوي عن غيّها‬ ‫ّ‬ ‫زوجها ‪ ،‬وركبت رأسها ‪ ،‬وسارت وراء الشيطان وبقيادته ‪ ،‬ال‬
‫الرجل في مثل هذه الحالة ؟ أيهجرها ‪ ،‬أم يطلّقها ‪ ،‬أم يتركها تصنع ما‬ ‫وضاللها ‪ ،‬فماذا يصنع ّ‬
‫الطرق الحكيمة في معالجة هذا‬ ‫تشاء ؟ لقد أرشد القرآن الكريم إلى الدّواء ‪ ،‬أرشد إلى اتّخاذ ّ‬
‫صبر واألناة ‪ ،‬ث ّم بالوعظ واإلرشاد ‪ ،‬ث ّم بالهجر في المضاجع ‪ ،‬فإذا‬
‫النشوز والعصيان ‪ ،‬فأمر بال ّ‬
‫لم تنفع ك ّل هذه الوسائل فال ب ّد أن نستعمل آخر األدوية وهو الضّرب ( الضّرب بسواك وما‬
‫الطالق هدم لكيان األسرة ‪ ،‬وتمزيق لشملها ‪،‬‬ ‫ألن ّ‬
‫الطالق عليها ؛ ّ‬‫أشبهه أقلّ ضرراً من إيقاع ّ‬
‫ألخف حسنا ً وجميالً ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وإذا قيس الضّرر األخف بالضّرر األعظم ‪ ،‬كان ارتكاب ا‬

‫فالضّرب ليس إهانة للمرأة ــ كما يظنون ــ وإنّما هو طريق من طرق العالج ‪ ،‬ينفع في‬
‫المتمردة ‪ ،‬الّتي ال تفهم الحسنى ‪ ،‬وال ينفع معها الجميل ‪...‬‬
‫ّ‬ ‫بعض الحاالت مع بعض النّفوس‬
‫وإن من النّساء ؛ بل من الرجال من ال يقيمه إالّ التّأديب ‪ ،‬ومن أجل ذلك وضعت العقوبات‬‫ّ‬
‫وفتحت السجون ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الصابوني ‪ ،‬روائع البيان ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 473‬‬
‫سادسة‬
‫المحاضرة ال ّ‬
‫تفسيــــر آيــــة العقــــود‬
‫قال تعالى ‪:‬‬

‫" يأ ُّيها الَّذِين آمنُوا أوفُوا ِبالعُقُو ِد أ ُ ِحلَّت لكُم ب ِهيمةُ األنع ِام ِإالّ ما يُتلى عليكُم غير ُم ِح ِلّي‬
‫الصَّي ِد وأنتُم ح ُُر ٌم ِإنَّ هللا يحكُ ُم ما يُ ِري ُد " المائدة ‪. 1 /‬‬

‫تحليل األلفاظ ‪:‬‬

‫ــ " يأ ّيها ا ّلذين آمنوا " ‪ :‬قال ابن العربي ‪ :‬قال علماؤنا ‪ :‬قال علقمة ‪ :‬إذا سمعت " يأ ّيها الّذين‬
‫آمنوا " فهي مدنيّة ‪ ،‬وإذا سمعت " يأيّها النّاس " فهي مكيّة ؛ وهذا ربّما خرج على األكثر (‪)1‬‬

‫ــ " أوفوا " ‪ :‬يقال ‪ :‬وفى وأ ْوفى ‪ .‬قال أه ُل العربيّة ‪ :‬واللّغتان في القرآن ؛ قال هللا تعالى ‪":‬‬
‫ومن أوفى بعهده من هللا " التوبة ‪. 111 /‬‬

‫الص النّجم حاديها‬


‫كما وفى ب ِق ِ‬ ‫وقال ّ‬
‫شاعر العرب ‪ :‬أ ّما ابنُ ْ‬
‫طوق فقد أوفى بذ ّمته‬

‫فجمع بين اللّغتين ‪.‬‬

‫ويقال أوفى ووفى بفتح الفاء مخ ّففة وو ّفى بتشديد الفاء بمعنى أدّى ما التزمه مع المبالغة في‬
‫حالة التشديد ‪ ،‬والك ّل ورد في القرآن " أوفوا بالعقود " و " وإبراهيم الّذي وفّى " النجم ‪. 37 /‬‬
‫وقال ال ّنبي صلّى هللا عليه وسلّم ‪ " :‬من وفَّى منكم فأجره على هللا (‪. )2‬‬

‫ــ " بالعقود " ‪ :‬العقود جمع عقد وهو في األصل الربط ‪ ،‬تقول عقدت الحبل بالحبل إذا ربطته‬
‫بالجص إذا ربطته به ‪ ،‬وتقول عقدت البيع لفالن إذا ربطت بالقول ‪ ،‬واليمين‬
‫ّ‬ ‫به ‪ ،‬وعقدت البناء‬
‫في المستقبل تسمى عقدا ً ؛ ّ‬
‫ألن الحالف ربط نفسه بالمحلوف عليه والزمها به ‪ ،‬والمراد بالعقود‬
‫هنا يشمل العهود التي عقدها هللا علينا وألزمنا بها من الفرائض والواجبات والمباحثات من‬
‫معامالتهم ومناكحتهم (‪. )3‬‬

‫وفيه خمسة أقوال (‪ /1 : )4‬العقود ‪ :‬العهود ؛ قاله ابن عبّاس (‪. )5‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 523‬‬

‫(‪ )2‬المصدر السابق الصفحة نفسها ‪ /‬محمد علي السايس ‪ ،‬تفسير آيات األحكام ‪ ،‬ج ‪ ، 2/1‬ص ‪. 334‬‬

‫(‪ )3‬تفسير آيات األحكام ‪ ،‬ج ‪ ، 2/1‬ص ‪. 332‬‬

‫(‪ )4‬ابن العربي أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 524‬‬

‫(‪ )5‬في أحكام الجصاص ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ ، 282‬روي عن ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬ومطرف ‪ ،‬والربيع ‪،‬‬
‫والض ّحاك ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وابن جريج ‪ ،‬والثّوري ‪.‬‬
‫‪ /2‬حلف الجاهليّة ؛ قاله قتادة ‪ .‬وروي عن ابن عباس ‪ ،‬وضحاك ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والثّوري ‪.‬‬

‫‪ /3‬الّذي عقد هللا عليكم وعقدتم بعضكم على بعض ؛ قاله الزجاج ‪.‬‬

‫‪ /4‬عقد النكاح والشركة واليمين والعهد والحلف ‪ ،‬وزاد بعضهم البيع ؛ قاله زيد ابن أسلم ‪.‬‬
‫‪ /5‬الفرائض ؛ قاله الكسائي ؛ وروى ّ‬
‫الطبري أنّه أمر بالوفاء بجميع ذلك ‪.‬‬

‫قال ابن العربي(‪ : )1‬وهذا الّذي قاله الطبري صحيح ‪ ،‬ولكنّه يحتاج إلى تتقيح ‪:‬‬

‫الربط والوثيقة ‪ ،‬قال‬


‫شيء ‪ ،‬وأصل العقد ّ‬ ‫أن أصل ( ع ه د ) في اللغة اإلعالم بال ّ‬
‫ــ وذلك ّ‬
‫سبحانه وتعالى ‪ ":‬ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ً " طه ‪. 115 /‬‬

‫وقال عبد هللا بن عمر ‪ :‬الدينار بالدينار والدّرهم بالدّرهم ال فضل بينهما ‪ ،‬هذا عهد نبيّنا‬
‫إلينا وعهدنا إليكم ‪.‬‬

‫وتقول العرب ‪ :‬عهدنا أمر كذا وكذا ؛ أي عرفناه ‪ ،‬وعقدنا أمر كذا وكذا ؛ أي ربطناه‬
‫بالقول كربط الحبل بالحبل ؛ قال ال ّ‬
‫شاعر( الحطيئة ) ‪:‬‬

‫شدوا العناج (‪ )2‬وشدوا فوقه الكربا‬ ‫قوم إذا عقدوا عقدا ً لجارهم‬

‫وعه ُد هللا إلى الخلق إعالمه بما ألزمهم وتعاهد ‪ .‬وتعاهد القوم ‪ :‬أي أعلن بعضهم لبعض بما‬
‫التزمه له وارتبط معه إليه وأعلمه به ؛ فبهذا دخل أحد اللّفظين في اآلخر ‪ ،‬فإذا عرفت هذا‬
‫صواب هو أبو إسحاق الزجاج ‪ ،‬فك ّل عهد هلل سبحانه أعلمنا به‬ ‫أن الّذي قرطس(‪ )3‬على ال ّ‬ ‫علمت ّ‬
‫ابتدا ًء ‪ ،‬والتزمناه نحن له ‪ ،‬وتعاقدنا فيه بيننا ‪ ،‬فالوفاء به الزم بعموم هذا القول ال ُمطلق الوارد‬
‫منه سبحانه علينا في األمر بالوفاء به ‪.‬‬

‫ال أن يري د أنه إذا لزم الوفاء به ‪ ،‬وهو من عقد‬‫قوة له إ ّ‬


‫خص حلف الجاهلية فال ّ‬
‫ّ‬ ‫ــ وأ ّما من‬
‫الجاهلية ؛ فالوفاء بعقد اإلسالم أولى ‪ ،‬وقد أمر هللا سبحانه الوفاء به ؛ قال تعالى ‪ ":‬والّذين‬
‫عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " ؛ قال ابن عباس ‪ :‬يعني من النّصيحة والرفادة والنّصرة ‪.‬‬

‫ــ وأ ّما من قال عقد البيع وما ذكر معه فإنّما أشار إلى عقود المعامالت وأسقط غيرها وعقود هللا‬
‫والنذور ؛ وهذا تقصير ‪.‬‬

‫ــ وأ ّما قول الكاسائي الفرائض ؛ فهو أخو قول الزجاج ‪ ،‬ولكن قول الزجاج أوعب ؛ إذ دخل فيه‬
‫الفرض المبتدأ والفرض الملتزم والنّدب ‪ ،‬ولم يتض ّمن قول الكسائي ذلك كله ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ 525‬ــ ‪. 526‬‬

‫(‪ )2‬العناج ‪ :‬خيط أو سير يش ّد في أسفل الدّلو ‪ ،‬ث ّم يش ّد في عروتها ‪ .‬والكرب ‪ :‬الحبل الّذي يش ّد على الدّلو‬
‫األول ‪ .‬وهذه أمثال ضربها الحطيئة إليفائهم بالعهد ‪.‬‬
‫بعد الحبل ّ‬

‫(‪ )3‬يقال رمى فقرطس ‪ :‬أي أصاب القرطاس ‪ .‬والرمية التي تصيب ‪ :‬مقرطسة ( اللسان )‬
‫إذا ثبت هذا فربطُ العقد تارة يكون مع هللا ‪ ،‬وتارة يكون مع اآلدمي ‪ ،‬وتارة يكون بالقول ‪،‬‬
‫صالة‬‫وتارة بالفعل ؛ فمن قال ‪ ":‬هلل عل ّي صوم يوم " فقد عقده بقوله مع ربّه ‪ ،‬ومن قام إلى ال ّ‬
‫صوم ‪ ،‬ويلزم هذا تمام الصالة ‪ّ ،‬‬
‫ألن كلّ‬ ‫فنوى وكبّرفقد عقدها لربه بالفعل ‪ ،‬فيلزم األول ابتداء ال ّ‬
‫واحد منهما قد عقدها مع ربّه ‪ ،‬والتزم ‪ .‬والعقد بالفعل أقوى منه بالقول ‪ .‬وكما قال سبحانه ‪":‬‬
‫شره مستطيرا " اإلنسان ‪ . 7 /‬كذلك قال تعالى ‪ ":‬يأيّها الّذين‬ ‫يوفّون بالنّذر ويخافون يوما ً كان ّ‬
‫ي‬
‫آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وال تبطلوا أعمالكم " محمد ‪ . 33 /‬وما قال القائل ‪ :‬عل ّ‬
‫صوم يوم أو صالة ركعتين إالّ ليفعل ‪ ،‬فإذا فعل كان أقوى من القبول ؛ فإن القول عقد وهذا نقد‪.‬‬

‫ــ " أحلّت لكم بهيمة األنعام " ‪ :‬األنعام جمع نعم بفتحتين وأكثر ما يطلق على اإلبل ‪ ،‬ولكن‬
‫المراد به هنا ما يشمل اإلبل والبقر والغنم (‪ . )1‬والبهيمة ‪ :‬قال ابن عباس المراد بها هنا أجنّة‬
‫األنعام ‪ ،‬فهي حالل متى ذ ّكيت أ ّمهاتها ‪ .‬وهو مذهب الشافعية ‪ ،‬وإنّما لم يقل أحلّت لكم األنعام‬
‫ليشير إلى أن ما يماثل األنعام مثلها في الح ّل كالضباء وبقر الوحش ما لم يدلّ الدّليل على‬
‫حرمته(‪. )2‬‬

‫قال ابن العربي (‪ : )3‬اختلف فيها على ثالثة أقوال ‪:‬‬

‫‪ /1‬أنّه ك ّل األنعام ؛ قاله السدي ‪ّ ،‬‬


‫والربيع ‪ ،‬والض ّحاك ‪.‬‬

‫‪ /2‬أنّه اإلبل ‪ ،‬والبقر ‪ ،‬والغنم ؛ قاله ابن عباس ‪ ،‬والحسن ‪.‬‬


‫‪ /3‬أنّه ّ‬
‫الظباء ‪ ،‬والبقر ‪ ،‬والحمر الوحشيان ‪.‬‬

‫الرأي المختار ‪:‬‬


‫ّ‬
‫أن النّعم عند بعض‬ ‫أ ّما من قال ‪ :‬هي اإلبل والبقر والغنم فقد علمت ص ّحة ذلك دلي ً‬
‫ال ‪ ،‬وهو ّ‬
‫خاص لإلبل يذ ّكر ويؤ ّنث ؛ قاله ابن دُريد وغيره ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أهل اللغة اسم‬

‫ــ الدليل ‪ /1‬قوله تعالى ‪ ":‬واألنعام خلقها لكم فيها دف ٌء ومناف ُع ومنها تأكلون ‪ .‬ولكم فيها‬
‫جما ٌل حين تريحون وحين تسرحون ‪ .‬وتحمل أثقالكم " النحل ‪ ، 5 /‬وما بعدها‬

‫ــ الدليل ‪ /2‬قوله تعالى ‪ ":‬ومن األنعام حمولةً وفرش ٍا ‪ ،‬كلوا م ّما رزقكم هللا ةال تتّبعوا ُخطوات‬
‫ّأن اثنين ومن المعز اثنين "األنعام ‪142 /‬‬ ‫الشّيطان ‪ ،‬إنّه لكم ٌّ‬
‫عدو ُمبين ‪ .‬ثمانية أزواج من الض ِ‬
‫ــ الدليل ‪ /3‬قوله تعالى ‪ ":‬ومن اإلبل اثنين ومن البقر اثنين "‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )2( )1‬تفسير آيات األحكام ‪ ،‬ج ‪ ، 2/1‬ص ‪. 334‬‬

‫(‪ )3‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ 529‬ــ ‪. 530‬‬


‫فهذا مرتبط بقوله ‪ " :‬ومن األنعام حمولة وفرشا ً " أي خلق جنات وخلق من األنعام حمولة‬
‫سرها فقال ‪ :‬ثمانية أزواج ‪ ...‬إلى قوله " أم كنتم شهداء إذ‬ ‫وفرشا ً ‪ ،‬يعني كبارا وصغارا ‪ ،‬ث ّم ف ّ‬
‫وصّاكم هللا بهذا " األنعام ‪ . 144‬وقال تعالى ‪ ":‬وجعل لكم من جلود األنعام بيوتا ً تستخ ّفونها‬
‫يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ‪ ،‬ومن أصوافها ــ وهي الغنم ــ وأوبارها ــ وهي اإلبل ــ وأشعارها ــ‬
‫وهي المعزى ــ أثاثا ً ومتاعا ً إلى حين " النحل ‪. 80 /‬‬

‫فهذه ثالثة أد ّلة تنبّئ عن تض ّمن اسم ال ّنعم لهذه األجناس الثالثة ‪ :‬اإلبل والبقر والغنم ‪،‬‬
‫فأما الوحشية فلم أعلمه إلى اآلن إالّ اتّباعا ً ألهل اللّغة ‪.‬‬
‫لتأنيس ذلك كلّه ‪ّ ،‬‬
‫محرم في كتاب هللا تعالى ‪ ،‬أو سنّة نبيّه‬
‫ّ‬ ‫ــ " إالّ ما يتلى عليكم " ‪ :‬الصحيح أنّه من قوله في ك ّل‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم (‪ . )1‬والمقصود ما يستثنى من ح ّل بهيمة األنعام ‪ ،‬ما يتلى عليكم آية‬
‫فإن كلّ هذا حرام ما لم تدرك ذكاته ‪ ،‬وهو حي بالتفصيل‬ ‫تحريمه من الميتة والمنخنقة الخ ؛ ّ‬
‫الذي يأتي (‪. )2‬‬

‫ــ " غير ُمحلّي الصّيد " ‪ :‬حال من الكاف في أحلت لكم بهيمة األنعام (‪. )3‬‬

‫قال ابن العربي (‪ : )4‬فيه ثالثة أقوال ‪:‬‬

‫القول ‪ /1‬معناه أوفوا بالعقود غير ُمحلّي ال ّ‬


‫صيد ‪ ،‬اختاره الطبري واألخفش ‪.‬‬

‫القول ‪ /2‬أح ّلت لكم بهيمة األنعام الوحشية غير محلّي ال ّ‬


‫صيد وأنتم ُحرم ‪.‬‬

‫القول ‪ /3‬أحلّت لكم بهيمة األنعام إالّ ما يُتلى عليكم إالّ ما كان منها وحشيا فإنّه صيد ال يحلّ‬
‫لكم وأنتم حرم ‪.‬‬

‫ث ّم قال ابن العربي بعد تنقيحه لألقوال المذكورة ‪ ":‬إنّما ينبغي أن يقال تقديره ( أحلت لكم‬
‫بهيمة األنعام إالّ ما يتلى عليكم ‪ ،‬غير محلين صيدها وأنتم حرم ) ‪ ،‬فيص ّح المعنى ‪ ،‬ويقلّ‬
‫فضول الكالم‪ ،‬ويجري على قانون النّحو " ‪.‬‬

‫ــ " وأنتم حرم " ‪ :‬ال ُح ُرم جمع حرام ‪ ،‬بمعنى محرم كعناق وهي األنثى من ولد المعز ‪ ،‬وعنق‬
‫بالضم (‪. )5‬‬

‫ــ " إنّ هللا يحكم ما يريد " ‪ :‬أي ّ‬


‫شرع ما يشاء من تحليل وتحريم بحسب ما تقتضيه حكمته‬
‫البالغة (‪. )6‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 531‬‬

‫سايس ‪ ،‬ج ‪ ، 2/1‬ص ‪. 330‬‬


‫(‪ )3( )2‬تفسير آيات األحكام ‪ ،‬لمحمد ال ّ‬

‫(‪ )4‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 532‬‬

‫(‪ )6( )5‬تفسير آيات األحكام ‪ ،‬لمحمد السايس ‪ ،‬ج ‪ ، 2/1‬ص ‪. 334‬‬
‫فقه األحكام (‪ : )1‬يؤخذ من اآلية الكريمة ‪:‬‬

‫‪ /1‬وجوب الوفاء بالتكاليف اإلسالمية ‪.‬‬

‫‪ /2‬وجوب الوفاء بالعقود ا ّلتي يجريها النّاس بعضهم مع بعض فيما هو مأذون فيه ؛ كالقيام بأداء‬
‫المهور والنّفقات في باب النّكاح ‪ ،‬والمحافظة على مال المستأمن ونفسه في باب األمان‪،‬‬
‫والمحافظة على الوديعة والعارية والعين المرهونة وردّها على أصحابها سالمة وما أشبه ذلك‬
‫وكذا الوفاء بالنّذور ‪.‬‬

‫المحرمات ؛ فال يجب الوفاء به وبمثله‬


‫ّ‬ ‫‪ /3‬العقود الّتي يجب الوفاء بها ال تشمل التعاقد على‬
‫حلف الجاهليّة على الباطل ؛ كحلفهم على التناصر والميراث بأن يقول أحد الطرفين لآلخر إذا‬
‫حالفه ‪ :‬دمي دمك ‪ ،‬وهدمي هدمك ‪ ،‬وترثني وأرثك ؛ فيتعاقدان بذلك على النّصرة والحماية‬
‫ّ‬
‫بحق أم بباطل فأبطل اإلسالم التناصر على الباطل بقوله تعالى ‪ ":‬وال تعاونوا على‬ ‫سواء أكانت‬
‫اإلثم والعدوان " المائدة‪ ، 2/‬وقوله صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ":‬ال ضرر وال ضرار " (‪ ، )2‬وأبطل‬
‫هذا التوارث بآية المواريث ‪ ،‬وبقوله تعالى ‪ ":‬وأولوا األرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب‬
‫هللا" األنفال ‪. 75 /‬‬

‫‪ /4‬عقد اليمين هل يجب الوفاء به طالما فيه كفّارة لتحقّق المصلحة عند الحنث ؟ الجواب ‪ :‬أنّه ال‬
‫مما يجب الوفاء باليمين ‪ ،‬وكيف ال يجب الوفاء به وهو عقد أ ُ ِ ّكد باسم‬
‫يجب الوفاء بشيء أكثر ّ‬
‫البر ‪ ،‬وخلفا ً من‬ ‫هللا سبحانه ؟ لكن ال ّشرع أذن رحمة ورخصة في إخراج الكفارة بدالً من ّ‬
‫الحنث ‪.‬‬ ‫المعقود عليه الّذي ّ‬
‫فوته ِ‬

‫‪ /5‬في قوله تعالى " إالّ ما يتلى عليكم " دليل على جواز تأخير البيان عن وقت ال يفتقر فيه إلى‬
‫تعجيل الحاجة ‪ ،‬وهي مسألة أصوليّة ‪.‬‬

‫‪ /6‬حلّ ذبائح األنعام من جهة االنتفاع بلحومها وجلودها وعظامها وأصوافها ‪.‬‬

‫صيد في حال اإلحرام ‪.‬‬


‫‪ /7‬حرمة ال ّ‬

‫‪ /8‬هل جنين النّاقة والبقرة والشاة أو نحوها يعتبر من بهيمة األنعام المحلّلة ؟ للعلماء في ذلك‬
‫ثالثة أقوال ‪:‬‬

‫ــ أنّه حالل بك ّل حال ؛ قاله ال ّشافعي ‪.‬‬

‫ــ أنّه حرام بك ّل حال ‪ ،‬إالّ أن يذ ّكى ؛ قاله أبو حنيفة ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سايس ‪ ،‬ج ‪ ، 2/1‬ص ‪ / 335‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ج ‪، 2‬ص ‪528‬‬
‫(‪ )1‬تفسير آيات األحكام ‪ ،‬محمد ال ّ‬
‫ــ ‪ 532‬ــ ‪. 535‬‬

‫(‪ )2‬صحيح ‪ ،‬رواه اإلمام أحمد في مسنده (‪ 326/5‬ـ ‪ ) 327‬ورواه ابن ماجة في سننه (‪ )2340‬انظر إرواء‬
‫الغليل لأللباني (‪. )896‬‬
‫ــ الفرق بين أن يكون قد استقلّ ونبت شعره ‪ ،‬وبين أن يكون بضْعة ( قطعة من اللّحم ) كالكبد‬
‫ّ‬
‫والطحال ؛ قاله مالك ‪.‬‬

‫وتع ّلق بعضهم بالحديث المشهور ‪ ":‬ذكاةُ الجنين ذكاةُ أ ّمه " ‪ .‬ولم يص ّح عند األكثر ‪،‬‬
‫وص ّححه الدارقطني ‪.‬‬

‫األول الثّاني ‪ ،‬وال‬


‫ث ّم من أخذ به اختلفوا في ذكر ( ذكاة ) الثّانية هل هي برفع التّاء ؛ فيكون ّ‬
‫األول غير الثّاني ‪ ،‬ويفتقر إلى الذّكاة ‪.‬‬
‫يفتقر الجنين إلى ذكاة ‪ .‬أم هو بنصب التّاء فيكون ّ‬
‫كما ّ‬
‫أن الجنين هل هو جزء من أجزاء أ ّمه ؟ أم هو مستق ّل بنفسه ؟ المسألة مبسوطة في‬
‫كتب فقه الخالف ‪.‬‬

‫المعنى اإلجمالي (‪: )1‬‬

‫في هذه اآلية دعا هللا تعالى المؤمنين ‪ ،‬وناداهم بوصف اإليمان ليحثّهم على امتثال ما يك ّلفهم‬
‫شأن في المؤمنين االنقياد لما يك ّلفون به من قبل هللا تعالى ‪ ،‬وطالبهم بالوفاء بالعقود ‪،‬‬ ‫فإن ال ّ‬
‫به ‪ّ ،‬‬
‫أي التكاليف ا ّلتي أعلمهم بها والتزموها بقبولهم اإليمان الّذي يعتبر تع ّهدا ً منهم بالعمل بمبادئه‬
‫والوقوف عند حدوده ‪ ،‬ومن هذه التكاليف ما يعقد النّاس بعضهم مع بعض من األمانات‬
‫محرمات اإلحرام ‪ ":‬أحلّت لكم بهيمة‬ ‫ّ‬ ‫والمعامالت ‪ ،‬ث ّم قال تعالى تمهيدا ً للنّهي عن بعض‬
‫األنعام" أي من اإلبل والبقر والضّأن والماعز ‪ ،‬والبهيمة في األصل ك ّل حي ال يميز سمى‬
‫بذلك؛ ألنّه أبهم عن أن يميّز ‪ ،‬أي حجب فهو عام يشمل األنعام وغيرها سواء أكانت من ذوات‬
‫األربع أو ال ‪ ،‬وإضافة للبيان أي بهيمة هي األنعام ‪ ،‬وخرج بها غير األنعام سواء كان من‬
‫ذوات الحافر كالخيل والبغال والحمير ‪ ،‬أم من غيرها مثل األسد والنّمر والذّئب ‪ ،‬وقيل البهيمة‬
‫حرم عليهم فيما بعد من‬ ‫خاص بذوات األربع ‪ ،‬ث ّم قال ‪ :‬إالّ ما يتلى عليكم ‪ ،‬وهو استثناء لما ّ‬
‫الميتة والمنخنقة الخ ‪ ...‬والذي يجب أن يمتنعوا عنه ويمتثلوا ‪ ،‬وأن يتنعّموا بما أح ّل لهم من‬
‫يشرع ما يشاء بحسب ما تقتضيه حكمته‬ ‫صيد في حالة اإلحرام ‪ ،‬وهو سبحانه ّ‬ ‫النّعم مع اتّقاء ال ّ‬
‫فيتصرف فيها كما يشاء بحكمته وحسن تدبيره‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫دون اعتراض عليه ؛ ألنّه مالك األشياء وخالقها‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬ابن العربي ‪ ،‬أحكام القرآن ‪ ،‬ص ‪. 334‬‬
‫جامعة الجزائر ـ ‪ 1‬ـ بن يوسف بن خدة‬
‫كليّة العلوم اإلسالمية ـ الخروبة ـ‬

‫المقياس ‪ :‬آيات وأحاديث األحكام‬


‫السنة ‪ :‬الثانية ـ شعبة الشريعة‬
‫األفواج ‪ 1 :‬ـ ‪ 2‬ـ ‪ 3‬ـ ‪4‬‬
‫أستاذة المادة ‪ :‬فريدة بولوح‬

‫المحور الثّاني ‪ :‬أحاديث األحكام‬


‫أوال ً ‪ :‬مدخل خاص بأحاديث األحكام ‪:‬‬
‫ّ‬
‫نتناول في هذا المدخل‪ ،‬التعريف بأحاديث األحكام ‪ ،‬ثم نشأة هذا النوع من علوم الحديث‬
‫والتأليف فيه ‪ ،‬ثم بيان لمنهجية دراسة أحاديث األحكام ‪.‬‬

‫‪ /1‬التعريف بأحاديث األحكام ‪ :‬أحاديث األحكام كما هو معلوم ‪ ،‬علم من علوم الحديث يعتني‬
‫بدراسة فقه متن الحديث ‪ ،‬ويعرف في بعض الكتب الحديثة باسم فقه الحديث‪ ،‬أو فقه السنة ‪.‬‬

‫أــ تعريف أحاديث األحكام ‪ :‬نعرفعه كمركب إضافي ‪ ،‬ثم كعلم قائم بنفسه ‪.‬‬

‫ــ تعريفه كمركّب إضافي ‪ :‬أحاديث األحكام مفهوم مركب من كلمة ‪ :‬أحاديث وأحكام ‪.‬‬

‫ـ األحاديث لغة (‪ : )1‬جمع حديث ‪ ،‬ويرد بعدة معاني ‪ :‬بمعنى الخبر ‪.‬‬

‫وبمعنى ضد القديم ‪.‬‬

‫والمعنى األول هو المراد ‪ ،‬أي ما نقل إلينا مما أخبر به النبي صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬

‫ـ الحديث اصطالحا ً ‪ :‬هو كل ما ورد عن النبي صلى هللا عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل‬
‫أو تقرير (‪. )2‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬ابن منظور ‪ ،‬لسان العرب ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪ / 54‬زين الدين الرازي ‪ ،‬مختار الصّحاح ‪ ،‬تـ ‪ :‬يوسف الشيخ‬
‫محمد ‪ ،‬المكتبة العصرية ـ الدار النموذجية ‪ ،‬بيروت ـ صيدا ‪1420 ،‬هـ‪1999/‬م ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 68‬‬

‫(‪ )2‬محمد الصالح الصدّيق ‪ ،‬مقاصد القرآن ‪ ،‬دار البعث ‪ ،‬قسنطينة ‪ ،‬ط ‪ 1403 ، 2‬م ‪ ،‬ص ‪. 367‬‬
‫فالقول ‪ :‬مثل قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬إنّما األعمال بالنيات " (‪. )1‬‬

‫والفعل ‪ :‬وهو ما صدر عن النبي صلى هللا عليه وسلم من األفعال ؛ ومنها كيفية وضوءه‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وأدائه للصالة ‪ ،‬وأدائه لمناسك الحج ‪ ،‬و‪...‬فقال صلى هللا عليه وسلم ‪":‬‬
‫صلّوا كما رأيتموني أصلّئ " (‪ " ، )2‬هذا وضوئي ووضوء األنبياء من قبلي ‪ ،‬فمن زاد على‬
‫ذلك أو نقص فقد أساء وتعدّى وظلم " (‪. )3‬‬

‫والتقرير ‪ :‬وهو سكوته صلى هللا عليه وسلم عن إنكار الفعل ‪ ،‬أو قول صدر من أحد من‬
‫أصحابه في حضرته أو غيبته وعلم به صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬ومثاله ‪ :‬عن عمرو بن العاص‬
‫سالسل ‪ ،‬فأشفقت إن اغتسلت أن‬ ‫رضي هللا عنه قال ‪ ":‬احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات ال ّ‬
‫أهلك ‪ ،‬فتي ّممت ث ّم صلّيت بأصحابي الصّبح ‪ ،‬فذكروا ذلك للنّبي صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ،‬فقال يا‬
‫عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فأخبرته بالّذي منعني من االغتسال ‪ ،‬وقلت إنّي سمعت‬
‫هللا يقول ‪ ( :‬وال تقتلوا أنفسكم إنّ هللا كان بكم رحيما ) فضحك رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلّم‪ ،‬ولم يقل شيئا " (‪. )4‬‬

‫ـ األحكام لغة ‪ :‬جمع حكم ‪ ،‬ويطلق على معان متعددة ‪ ،‬وهو إثبات أمر ألمر أو نفيه عنه‬
‫بواسطة ‪ ،‬فإن كانت الواسطة هي العقل كان الحكم عقليا ً ‪ ،‬وإن كانت الواسطة هي العادة‬
‫والتجربة ؛ كان الحكم عاديا ً ‪ ،‬وإن كانت الواسطة هي الشرع ؛ كان الحكم شرعيا ً (‪. )5‬‬

‫ـ الحكم اصطالحا ً ‪ :‬خطاب هللا تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء ‪ ،‬أو تخييرا ً ‪ ،‬أو وضعا ً(‪)6‬‬

‫ـ فمعناه اإلجمالي ‪ :‬هو ما ورد عن النبي صلى هللا عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ‪،‬‬
‫يتضمن خطابا ً شرعيا ً يفهم منه طلب فعل ‪ ،‬أو الكف عنه ‪ ،‬أو جعل شيء سببا ً أو شرطا ً لشيء‬
‫أو مانعا ً منه (‪. )7‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬ستأتي تخريجه الحقا ً ‪.‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب أخبار اآلحاد ‪ ،‬باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في اآلذان‬
‫والصالة والصّوم والفرائض واألحكام ‪ ،‬رقم ‪ ، 6857 :‬ج ‪ ، 9‬ص ‪. 86‬‬

‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود في سننه ‪ ،‬كتاب ال ّ‬


‫طهارة ‪ ،‬باب الوضوء ثالثا ثالثا ‪ ،‬برقم ‪ ، 135 :‬ج ‪ ، 1‬ص ‪/ 179‬‬
‫والزيلعي ‪ ،‬نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية ‪ ،‬كتاب الطهارات ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 82‬‬

‫(‪ )4‬أخرجه أبو داود في سننه ‪ ،‬كتاب ال ّ‬


‫طهارة ‪ ،‬باب إذا خاف الجنب البرد أيتي ّمم ؟ برقم ‪ ، 334 :‬ج ‪، 1‬‬
‫ص‪ ، 92‬وحكم عليه األلباني بأنّه صحيح ‪.‬‬

‫(‪ )5‬الرازي ‪ ،‬مختار الصّحاح ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 78‬‬

‫(‪ ) 6‬محمد بن علي الشوكاني ‪ ،‬إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول ‪ ،‬تـ ‪ :‬أحمد عزو عنابة ‪ ،‬دار‬
‫الكتاب العربي ‪ ،‬ط ‪1419 ، 1‬هـ‪1999/‬م ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 25‬‬

‫(‪ ) 7‬محمود طحان ‪ ،‬تيسير مصطلح الحديث ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬دار الفكر ‪( ،‬دت ن) ص ‪. 14‬‬
‫ـ الحكم الوضعي (سبب) ‪ :‬مثاله قوله صلى هللا عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤئته‬
‫"(‪. )1‬‬

‫ـ الحكم الوضعي (مانع) ‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬ليس لقاتل ميراث " (‪. )2‬‬

‫ــ تعريف أحاديث األحكام بالمعنى اللّقبي ‪ :‬تعريف أحاديث األحكام كلقب دال على علم قائم‬
‫بنفسه لم ينقل عن أحد من العلماء ‪ ،‬لكن استنتج من أقوال بعضهم (‪. )3‬‬

‫التعريف ‪" : 1‬هو استخراج الحكم واألحكام من نصوصه ومعانيه ‪ ،‬وجالء مشكل ألفاظه على‬
‫أحسن تأويلها ‪ ،‬ووفق مختلفها على الوجوه المفصلة تنزيلها " (‪. )4‬‬

‫التعريف ‪ " : 2‬هو ما تضمنه متن الحديث من األحكام واآلداب المستنبطة " (‪. )5‬‬

‫التعريف ‪ " : 3‬هو استنباط معاني الحديث واستخراج لطائفه وأحكامه ‪ ،‬من الحديث وتراجم‬
‫األبواب الدالة على ما له وصلة بالحديث المروي فيه " (‪. )6‬‬

‫ومن هذه األقوال يمكن الخلوص إلى التعريف التالي (هو العلم باألحاديث المتعلّقة باألحكام‬
‫الشرعية العملية واستنباط األحكام والمعاني واآلداب والفوائد منها ) ‪.‬‬

‫مالحظة ‪ :‬وأحاديث األحكام منها ما يكون مؤكدا ً ألحكام القرآن الكريم ‪ ،‬وموافقا ً له من حيث‬
‫اإلجمال والتفصيل ‪ ،‬ومنها ما يكون مبينا ً ألحكام القرآن من تخصيص العام ‪ ،‬وتقييد المطلق ‪،‬‬
‫وتبيين المجمل ‪...‬ومنها ما يدل على حكم سكت عنه القرآن ـ أي منشئة لحكم جديد ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن ماجة في سننه ‪ ،‬كتاب الصيام ‪ ،‬باب ما جاء في صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ‪ ،‬برقم‬
‫‪ / 6541:‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 529‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه ابن ماجة في سننه ‪ ،‬كتاب الفرائض ‪ ،‬باب ميراث القاتل ‪ ،‬برقم ‪ ، 2735 :‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 914‬‬

‫(‪ )3‬أبو حميد عبد الملك بن ظافر الماجوني الكوسوفي ‪ ،‬علم فقه الحديث ‪ ،‬مقال منشور بمجلة الجامعة‬
‫األردنية ـ األردن ‪ ،‬العدد ‪ ،‬ص ‪ 3‬ـ ‪. 5‬‬

‫(‪ )4‬القاضي عياض ‪ ،‬اإللماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ‪ ،‬تـ ‪ :‬السيد أحمد صقر ‪ ،‬دار التراث ـ‬
‫المكتبة العتيقة ـ القاهرة ‪ ،‬تونس ‪ ،‬ط ‪1379 ، 1‬هـ‪1970/‬م ‪ ،‬ص ‪. 5‬‬

‫(‪ )5‬شرف الدين ال ّ‬


‫طيبي ‪ ،‬الخالصة في معرفة الحديث ‪ ،‬تـ ‪ :‬أبو عاصم الشوامي ‪ ،‬المكتبة اإلسالمية ‪ ،‬ط‪1430 ، 1‬هـ ‪،‬‬
‫‪2009‬م ‪ ،‬ص ‪. 69‬‬

‫(‪ )6‬ابن حجر العسقالني ‪ ،‬فتح الباري شرح صحيح البخاري ‪ ،‬دار المعرفة ــ بيروت ‪ ،‬د ط ‪ ، 1379 ،‬فتح الباري ج ‪1‬‬
‫ص ‪. 11‬‬
‫‪ /2‬نشأة علم أحاديث األحكام والتأليف فيه ‪ :‬السنة النبوية هي األصل الثاني للتشريع ‪ ،‬دورها‬
‫الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك‬
‫تبليغ وبيان ما ورد في القرآن الكريم ‪ ،‬قال تعالى " يا أيّها ّ‬
‫وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته وهللا يعصمك من النّاس " المائدة‪. 67/‬‬

‫فأدى النبي صلى هللا عليه وسلم األمانة وبلغ الرسالة ‪ ،‬وذلك تمثل في الكم الهائل من أقواله‬
‫وأفعاله وتقريراته عليه الصالة والسالم ‪.‬‬

‫ونظرا ً ألهمية ما جاءت به السنة النبوية اهتم العلماء بدراستها متنا ً وإسنادا ً ‪ ،‬فشملت تلك‬
‫الدراسة أنواعا ً متعددة من أنواع علم الحديث ‪ ،‬كعلم مصطلح الحديث ‪ ،‬وهو ما يسمى بعلم‬
‫أصول الحديث الذي يهتم بدراسة إسناد الحديث وروايته ‪ .‬ودراسة متن الحديث وذلك باالهتمام‬
‫بالجانب الفقهي منه و شرحه وفهم مداركه واستنباط أحكامه ‪ ،‬ومعرفة الناسخ من منسوخه وغير‬
‫ذلك ‪.‬‬

‫إذن فقه الحديث هو أحد علوم الحديث كما سبق بيانه والذي يتعلق موضوعه بدراسة متن‬
‫الحكم‬
‫الحديث وفقهه وفهم كل ما جاء به الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فعن طريقه نعرف ِ‬
‫واألحكام المستنبطة من األحاديث ؛ فمعرفة أحكام الشرع اإلسالمي مرتبط بفهم الحديث النبوي‪.‬‬

‫قال الخطابي تـ (‪ ": )388‬بعد معرفة صحة الحديث ‪ ،‬يجب االشتغال بفهمه ‪ ،‬إذ هو ثمرة‬
‫هذا العلم ‪ ،‬فإن األساس بدون البناء بيت خرب " (‪. )1‬‬

‫وقال اإلمام البخاري مبينا ً أهمية دراسة هذا النوع من الحديث ‪ ،‬فقال ‪ ... " :‬فعليك بالفقه‬
‫قار ساكن ‪ ،‬ال تحتاج إلى بعد األسفار ووطء الديار‪ ،‬وركوب‬‫الذي يُمكنك تعلمه وأنت في بيتك ٌّ‬
‫البحار ‪ ،‬وهو مع ذا ثمرة الحديث ‪ .‬وليس ثواب الفقيه بدون ثواب المحدث في اآلخرة ‪ ،‬وال‬
‫عزة بأقل من ِعز المحدث " (‪. )2‬‬

‫لهذا كان ألحاديث األحكام حظ وافر من جهود العلماء المتقدمين والمتأخرين ‪ ،‬فألف في‬
‫شرحها عدد من المصنفات أغلبها شروح على كتب السنة عموما ً ‪ ،‬ثم اختص بعضها باألحاديث‬
‫المتعلقة باألحكام ‪ ،‬فرتبت بترتيب األبواب الفقهية ‪.‬‬

‫ومن أبرز الكتب المتخصصة في دراسة أحاديث األحكام حسب الترتيب الزمني مايلي ‪:‬‬

‫ــ األحكام الشرعية الكبرى ـ الوسطى ـ والصغرى ‪ ،‬كلها ألبي محمد عبد الحق ابن عبد الرحمن‬
‫األشبيلي المعروف بابن الخراط (تـ ‪581‬هـ) ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬محمد ضياء الرحمن األعظمي ‪ ،‬معجم مصطلحات الحديث ولطائف األسانيد ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬مكتبة أضواء‬
‫سنن ‪ ،‬وهو شرح سنن أبي داود ‪،‬‬ ‫السلف ‪ ،‬ط ‪1420 ، 1‬هـ ‪1999/‬م ‪ ،‬ص ‪ / 296‬والخطابي ‪ ،‬معالم ال ّ‬
‫المطبعة العلمية ‪ ،‬حلب ‪،‬ط‪1351 ، 1‬هـ ‪1932/‬م ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 3‬‬

‫(‪ )2‬عبد الهادي نجا بن رضوان األبياري ‪ ،‬نيل األماني في توضيح مقدمة القسطالني لشرحه على صحيح‬
‫البخاري ‪ ،‬إخراج وضبط وتعليق أحمد معبود ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ص ‪. 149‬‬
‫ــ األحكام لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (‪600‬هـ) ‪ ،‬وهو كتاب ضخم في ستة أجزاء ‪.‬‬

‫ــ عمدة األحكام عن سيد األنام ‪ ،‬لعبد الواحد أيضا ً ‪ ،‬والذي شرحه العديد من العلماء حتى بلغت‬
‫شروحه سبعة شروح ‪.‬‬

‫ــ إحكام اإلحكام شرح عمدة األحكام لمحمد ابن علي المعروف بابن دقيق العيد (تـ‪702‬هـ)‪ ،‬فيه‬
‫أربعة أجزاء ‪.‬‬

‫ــ العدّة على شرح العمدة ‪ ،‬لمحمد بن إسماعيل الصنعاني ‪ ،‬وهو حاشية على إحكام اإلحكام في‬
‫أربعة مجلدات ‪.‬‬

‫ــ تيسير المرام في شرح عمدة األحكام ‪ ،‬البن مرزوق التلمساني المالكي (تـ ‪ ، )781‬وذلك في‬
‫خمسة مجلدات ‪ ،‬قال ابن حجر ‪ :‬جمع فيه كالم ابن دقيق العيد والفاكهاني وابن العطار وغيرهم‬

‫ــ اإلمام في معرفة أحاديث األحكام ‪ ،‬البن دقيق العيد ‪ ،‬ثم اختصره في كتاب آخر سماه ‪:‬‬

‫ــ اإللمام بأحاديث األحكام ‪ ،‬وبلغ عدد أحاديثه ‪ 1473‬حديثا ً ‪ ،‬طبع في جزء واحد ‪ ،‬ثم شرحه ‪،‬‬
‫ثم شرحه ابن دقيق نفسه في كتاب آخر سماه ‪:‬‬

‫ــ اإلمام شرح اإللمام في أحاديث األحكام ‪ ،‬شرح فيه بعضا ً من اإللمام شرحا ً عظيما ً حافالً ‪،‬‬
‫قالوا عنه ‪ ( :‬لو كمل لما كان في اإلسالم نظيره ) ‪.‬‬

‫وقال عنه الذهبي ‪ " :‬لو كمل تصنيف اإلمام وتبييضه لجاء في ‪ 15‬مجلدا ً " ‪ ،‬ولم يصلنا‬
‫شيء من هذا اإلمام ‪.‬‬

‫ــ المنتقى في األحكام لمجد الدين عبد السالم بن عبد هللا بن تيمية الحراني (تـ ‪652‬هـ) ‪ ،‬وهو‬
‫الذي شرحه الشوكاني في نيل األوطار شرح منتقى األخبار ‪.‬‬

‫ــ بلوغ المرام من أدلة األحكام للحافظ ‪ ،‬أحمد بن علي بن حجر العسقالني (تـ ‪ ،)852‬وقد‬
‫اشتمل هذا المتن على أصول األدلة الحديثية األحكام الشرعية ‪ ،‬وحرره مؤلفه تحريرا ً بالغا ً ‪،‬‬
‫ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغا ً ويستعين به الطالب المبتدئ ‪ ،‬وال يستغني عنه الراغب‬
‫المنتهي ‪ .‬كما ذكر في مقدمته ‪ ،‬وقد بلغ مجموع أحاديث هذا المتن (‪ )1596‬حديثا ً ‪ .‬ولهذا المتن‬
‫ميزات كثيرة ‪ ،‬ذكر منها في كتاب الروض البسام من ترجمة بلوغ المرام لمؤلفه الشيخ حسن‬
‫بن صديق خان ‪ .‬نشرته دار الصميعي في الرياض سنة ‪1411‬هـ ‪.‬‬

‫وقد شرح هذا المؤلف غير واحد من العلماء ومنهم الصنعاني شرف الدين الحسين بن محمد‬
‫بن سعيد بن عيسى العربي اليمني من علماء الزيدية ‪1119‬هـ باليمن في ‪:‬‬

‫ــ البدر التمام في شرح بلوغ المرام ‪ ،‬وكان شرحه حافل لم يكتف فيه بشرح الحديث وداللته‪.‬‬

‫ــ سبل السالم شرح بلوغ المرام ‪ ،‬لمحمد بن إسماعيل بن صالح األمير الكحالني الصنعاني (تـ‬
‫‪1182‬هـ)‬
‫ــ إعالم األنام شرح بلوغ المرام ‪ ،‬لنور الدين عتر‪ ،‬وهو من المعاصرين ‪.‬‬

‫ــ توضيح األحكام من بلوغ المرام ‪ ،‬للشيخ عبد هللا بن عبد الرحمن البسام ‪.‬‬

‫‪ /3‬كيفية دراسة أحاديث األحكام ‪ :‬يستفاد من الدراسات السابقة القديمة والحديثة منها فيما‬
‫يخص كيفية دراسة أحاديث األحكام مايلي ‪:‬‬

‫ــ في البداية إعطاء مقدمة للدرس تحتوي على ‪ :‬التعريف اللغوي والشرعي للمسألة ‪ ،‬ثم الكالم‬
‫عن المشروعية أو عدمها باختصار ‪.‬‬

‫ــ عرض نص الحديث مع سنده إن كان الوحيد في الباب ‪ ،‬ثم ذكر ما يشهد له وما يخصصه أو‬
‫يقيده أو يعارضه من األحاديث في الموضوع الواحد ‪ ،‬وهذا ما يستفاد من صنيع صاحب منتقى‬
‫األخبار (ابن تيمية الجد) وشارحه اإلمام الشوكاني في نيل األوطار ‪.‬‬

‫ــ بيان من خرج الحديث من األئمة باختصار ‪ ،‬كما فعل العسقالني في بلوغ المرام ‪ ،‬ثم تفصيل‬
‫التخريج في الهامش ‪.‬‬

‫ــ التعريف الموجز بالصحابي راوي الحديث ‪.‬‬

‫ــ دراسة اإلسناد والروايات ‪ ،‬والغاية من ذلك ليست التحقق من أجل قبول الحديث فحسب ؛ بل‬
‫لتحصيل الدراية للطالب على البحث المنهجي أيضا ً ‪.‬‬

‫ــ التطرق لسبب ورود الحديث إن وجد ‪ ،‬وال يُكتفى بذكره ‪ ،‬بل يعلق عليه بما يعود على نص‬
‫الحديث بالفهم ‪.‬‬

‫ــ التعرض لشرح غريب الحديث ‪ ،‬إللقاء الضوء على ما يعسر فهمه من مجرد القراءة العابرة‪.‬‬

‫ــ التعرض لإلعراب ‪ ،‬كما يفعل األئمة السابقون كالصنعاني والشوكاني وغيرهم ‪ ،‬مما له دور‬
‫في فهم المعنى ‪.‬‬

‫ــ التعرض للجانب البالغي للحديث ‪ ،‬لتحصيل الفهم التام للمعنى المقصود ‪.‬‬

‫ــ التعرض لمش َكل الحديث ومبهمه إن وجد ‪.‬‬

‫ــ وأخيراً القيام بأهم شيء في الدراسة وهو استنباط األحكام والفوائد والمقاصد ‪.‬‬

‫اقتراحات علمية ومنهجية في دراسة أحاديث الحكام‪ :‬تفضل بها أحد أساتذاتنا الكرام اعتمادا‬
‫على الدراسات السابقة ‪ ،‬وتدريسه للمادة ‪:‬‬

‫‪ /1‬تتناول الدراسة المنهجية األصول من األحاديث في أبواب مختلفة كنماذج ‪.‬‬


‫‪ /2‬استقراء األحاديث في الموضوع الواحد ودراستها قبوالً وردا ً ‪ ،‬ووضوحها في الداللة‬
‫وإجماالً ‪ ،‬ومقارنة الروايات المختلفة ؛ ألن بعضها يفسر بعضا ً ‪.‬‬

‫‪ /3‬بيان المقاصد والحكم الكامنة وراء النصوص ‪.‬‬

‫‪ /4‬ضبط المذاهب الفقهية واالتجاهات واآلراء ‪.‬‬

‫‪ /5‬العناية بأسباب ورود الحديث الشربف ومناسباته ‪ ،‬ومواطن تطبيقاته عند الصحابة والتابعين‪.‬‬

‫‪ /6‬العناية بالقواعد األصولية في استنباط األحكام ‪.‬‬

‫‪ /7‬الربط بين األحاديث واآليات القرآنية في االستنباط ‪.‬‬

‫‪ /8‬العناية بالتعليل الفقهي للحديث النبوي (وهو موضوع واسع جدا) ‪.‬‬

‫‪ /9‬الخالصة والترجيح ‪ :‬بعد أن يتعرض الباحث للخالف الفقهي البد أن يصل إلى خالصة‬
‫وترجيح بعض األقوال على بعض ‪ ،‬وذلك إذا كان التعارض على سبيل التمانع ‪ ،‬أما إذا كان‬
‫الخالف على سبيل التنوع فال سبيل إلى الترجيح ‪.‬‬

‫المقررة ‪ :‬وهي‬
‫ّ‬ ‫ثانيا ً ‪ :‬دراسة تطبيقية لألحاديث‬

‫‪ /1‬حديث ‪ :‬إنما األعمال بالنيات ‪.‬‬

‫‪ /2‬حديث ‪ :‬الحالل بين والحرام بين ‪.‬‬

‫‪ /3‬حديث السواك ‪.‬‬

‫‪ /4‬حديث ‪ :‬خيار المجلس ‪.‬‬

‫‪ /5‬حديث ‪ :‬القضاة ثالثة ‪.‬‬

‫‪ /6‬حديث ‪ :‬ال نكاح إال بولي ‪.‬‬

‫المحاضرة األولى‬
‫شرح حديث (إنّما األعمال بالنيّات)‬

‫عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم يقول ‪ " :‬إنّما األعمال بالنيّات ‪ ،‬وإنّما لك ّل امرئ ما نوى ‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى هللا‬
‫ورسوله ‪ ،‬فهجرته إلى هللا ورسوله ‪ ،‬ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها‬
‫فهجرته إلى ما هاجر إليه " متفق عليه ‪.‬‬

‫أوالً ‪ :‬التّعريف براوي الحديث (‪ : )1‬هو أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي هللا‬ ‫ّ‬
‫عنه بن نفيل القرشي العدوي ‪ .‬أسلم في السنة السادسة من البعثة ‪ ،‬والمسلمون يومئذ بضعة‬
‫وثالثون يجتمعون في دار األرقم بن أبي األرقم المخزومي ‪ ،‬وكان إسالمه كسبا ً كبيراً‬
‫للمسلمين‪ ،‬ودعما ً لدعوة الحق ‪.‬‬

‫قال عبد هللا بن مسعود ‪ ":‬كان إسالم عمر فتحا ً ‪ ،‬وكانت هجرته نصرا ً ‪ ،‬وكانت إمارته‬
‫رحمة ‪ ،‬لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر ‪ ،‬فلما أسلم عمر قاتلهم حتى‬
‫تركونا فصلينا " (‪. )2‬‬

‫فكانت شخصية عمر المتعددة الجوانب ‪ ،‬وعبقريته ‪ ،‬وبعد نظره ‪ ،‬ودقة فهمه ‪ ،‬وصدق‬
‫فراسته في معرفة الرجال عوامل أساسية جعلت منه الخليفة العادل ‪ ،‬والمدبر الحسن ألمور‬
‫المسلمين ‪ ،‬والقوام بمصالحهم ‪ ،‬فكان بحق كما قال عليه الصالة والسالم ‪ ":‬فلم أر عبقريا من‬
‫النّاس يفري فريهُ " (‪ . )3‬وهو كما أنه رجل الفقه والعلم ‪ ،‬فقد روي له عن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ :‬خمسمائة وسبعة وثالثون حديثا ً ‪ ،‬لذلك ال يقدر أحد على أن يصنع مثل صنيعه ‪،‬‬
‫فهو كما قال العقاد ‪ ":‬نمط ال يتكرر ‪ ... ،‬فالعدل والرحمة والغيرة والفطنة واإليمان الوثيق‬
‫صفات مكينة فيه ال تخفى على ناظر ‪. )4( " ...‬‬

‫ثانيا ً ‪ :‬درجة الحديث ‪ :‬روي هذا الحديث في الصحيح بروايات مختلفة ‪( :‬العمل بالنية) ‪( ،‬إنما‬
‫األعمال بالنية) وغيرها ‪ ،‬والمعنى واحد ‪ ،‬فإذا أفرد العمل أو النية فالمراد الجنس ‪ ،‬فتتفق رواية‬
‫اإلفراد مع رواية الجمع (‪. )5‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬انظر سير أعالم النبالء للذهبي ‪ ،‬مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط ‪1405 ، 3‬هـ ‪1985/‬م في السيرة‬
‫النبوية ‪ ،‬ص‪ ، 141‬وص ‪ 71‬وما بعدها في سيرة الخلفاء الراشدين ‪ /‬وأيضا ً حلية األولياء وطبقات األصفياء‬
‫ألبي نعيم األصبهاني ‪ ،‬دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ (د ط ت ) ج ‪ ، 1‬ص ‪ 38‬وما بعدها ‪ /‬وأيضا ً الطبقات‬
‫الكبرى ألبي عبد هللا بن سعد ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬ط ‪1410 ، 1‬هـ‪1990/‬م ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ 201‬وما بعدها ‪.‬‬

‫(‪ )2‬أسد الغابة في معرفة الصحابة ‪ ،‬البن األثير ‪ ،‬دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط ‪1415 ، 1‬هـ‪1994/‬م ‪ ،‬ج‪4‬‬
‫ص ‪. 137‬‬

‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب أصحاب النبي صلّى هللا عليه وسلّم ‪ ،‬باب مناقب عمر بن الخطاب ‪،‬‬
‫برقم ‪ / 3512 :‬ومسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة ‪ ،‬باب من فضائل عمر رضي هللا عنه ‪ ،‬برقم ‪:‬‬
‫‪. 2393‬‬

‫(‪ )4‬عبقرية عمر ‪ ،‬عباس محمود العقاد ‪ ،‬المكتبة التجارية الكبرى بمصر ‪ ،‬مطبعة االستقامة ‪( ،‬د ط)‬
‫‪1361‬هـ‪1942/‬م ‪ ،‬ص ‪ 23‬وما بعدها ‪.‬‬

‫(‪ )5‬شرح األربعون النووية ‪ ،‬صالح بن عبد العزيز آل الشّيخ ‪ ،‬ص ‪. 22‬‬
‫فهذا الحديث في أول إسناده فرد ‪ ،‬واشتهر من عند يحي بن سعيد ؛ ألنه تفرد به عمر ‪،‬‬
‫إذ لم يروه عن النبي صلى هللا عليه وسلم إال هو ‪ ،‬وال عن عمر إال من رواية علقمة بن وقاص‪،‬‬
‫وال عن علقمة إال من رواية محمد بن إبراهيم التيمي ‪ ،‬وال عن محمد إال من رواية يحي بن‬
‫سعيد األنصاري ‪ ،‬وعن يحي انتشر فرواه أكثر من مائتين أكثرهم أئمة ‪.‬‬

‫فقال العلماء ‪ :‬ولم يصح هذا الحديث عن النبي صلى هللا عليه وسلم إال من رواية عمر بن‬
‫الخطاب ‪ ،‬وقال األئمة ‪ :‬هو ليس متواترا ً وإن كان مشهورا ً عند الخاصة والعامة ؛ ألنه فقد‬
‫شرط التواتر في أوله (‪. )1‬‬

‫ثالثا ً ‪ :‬تخريج الحديث ‪:‬‬

‫ــ أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬أول كتاب في بدء الوحي ‪ ،‬باب كيف كان بدء الوحي ‪. 6/1‬‬

‫ــ أخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب الطهارة ‪ ،‬باب قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬إنما األعمال‬
‫بالنيات " ‪. 48/6‬‬

‫ــ أخرجه النسائي في سننه ‪ ،‬كتاب الطهارة ‪ ،‬باب النية في الوضوء ‪ 58/1‬ـ ‪ 60‬و ‪ 14/1‬ـ ‪13‬‬

‫ــ أخرجه الترمذي في سننه ‪ ،‬كتاب فضائل الجهاد ‪.‬‬

‫ــ أخرجه أبو داود في سننه ‪ ،‬كتاب الطالق ‪ ،‬باب ما عني به الطالق والنيات فيه ‪. 179/4 ،‬‬

‫رابعا ً ‪ :‬شرح األلفاظ ‪:‬‬

‫ــ إنّما ‪ :‬وهي مكونة من (إن) حرف توكيد ونصب ‪ ،‬و(ما) التي تسمى الكافة المكفوفة ‪ ،‬أي‬
‫التي ال عمل لها ‪ ،‬وتمنع إن من عملها ‪.‬‬

‫فإنما أداة حصر ؛ والحصر هو ‪ :‬تخصيص أحد األمرين باآلخر وحصره فيه ‪ .‬أي إثبات‬
‫الحكم في المحصور ‪ ،‬ونفيه عما عداه ‪ .‬وإذا ثبت أنها للحصر ‪ :‬فتارة تقتضي الحصر المطلق ‪،‬‬
‫وتارة تقتضي حصرا ً مخصوصا ً ‪ ،‬ويفهم ذلك بالقرائن والسياق (‪. )2‬‬

‫ــ األعمال ‪ :‬جمع عمل ‪ ،‬وهو محلى باأللف والالم الذي يفيد االستغراق ‪ ،‬فيشمل كل ما يصدر‬
‫عن المكلف ‪ ،‬فيدخل فيه األقوال واألفعال ‪ ،‬واالعتقاد ‪.‬‬

‫ــ بالنيّات ‪ :‬جمع نية ‪ ،‬وهي لغة ‪ :‬بكسر النون المشددة ‪ ،‬وفتح الياء المشددة ‪ ،‬من نوى ينويه‬
‫نية‪ :‬قصده ‪ ،‬والتشديد هو المشهور ‪ ،‬وورد فيها التخفيف (نية) ‪ :‬عزم القلب على أمر من‬
‫األمور ‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 52‬‬

‫(‪ )2‬إحكام اإلحكام شرح عمدة األحكام ‪ ،‬البن دقيق العيد ‪ ،‬مطبعة السنّة المحمديّة ‪( ،‬د ط ت) ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 59‬‬
‫وشرعا ً ‪ :‬ال يختلف المعنى الشرعي للنية عن معناها اللغوي ‪ ،‬وهو القصد والعزم ‪ ،‬إال‬
‫أنهما يختلفان من حيث أن المعنى الشرعي للنية ينحصر بالقصد المتوجه إلى هللا تعالى فقط ‪.‬‬

‫والنية نوعان ‪ :‬نية متعلقة بالعبادة ‪ ،‬وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض ‪ ،‬تمييز الصالة‬
‫عن الصيام ‪ ،‬تمييز الصالة المفروضة عن النفل ‪ .‬والنية المتوجهة للمعبود ؛ والمقصود بها‬
‫اإلخالص ـ إخالص القلب ـ إخالص العمل هلل تعالى ‪ ،‬والحديث يشمل النوعين معا ً ‪.‬‬

‫ومعنى إنما األعمال بالنيات ؛ أي كل عمل بنية ‪ ،‬فال عمل إال بنية ‪ ،‬فاألعمال مشروطة‬
‫بإرادة القلب وقصده ‪ .‬والبد من تقدير مضاف للمحصور ‪ ،‬فقدره األكثرون بالصحة ‪ :‬أي إنما‬
‫صحة األعمال بالنيات ‪ ،‬وقدره اآلخرون بالكمال ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬تقديره إنما كمال األعمال ‪ ،‬واألول‬
‫أرجح (‪. )1‬‬

‫ــ لك ّل امرئ مانوى ‪ :‬بكسر الراء ‪ ،‬أي لكل رجل ‪ ،‬والمراد هنا لكل امرئ وامرأة ما نوت ‪.‬‬

‫أي إنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه ‪ ،‬فتكون الجملة األولى ( إنما األعمال‬
‫بالنيات) متعلقة بصحة العمل ‪ ،‬والجملة الثانية (لكل امرئ ما نوى) يراد بها الثواب على العمل‪.‬‬

‫ــ إلى دنيا يصيبها ‪ :‬تشبيه ‪ ،‬وهو للداللة على مشاركة أمر ألمر في معنى أو في وصف من‬
‫أوصاف أحدهما في نفسه كالشجاعة في األسد ‪ ،‬والمراد باإلصابة الحصول والتقدير ‪ ،‬فمن‬
‫كانت هجرته إلى تحصيل الدنيا فهجرته حاصلة ألجل الدنيا غير مفيدة له في اآلخرة ‪ ،‬فكأنه‬
‫شبه تحصيل الدنيا بإصابة الغرض بالسهم (‪. )2‬‬

‫ــ دنيا ‪ :‬بضم الدال مقصورة على وزن فعلى ‪ ،‬من الدنو ‪ ،‬وهي كل المخلوقات من الجواهر‬
‫واألعراض الموجودة قبل اآلخرة (‪. )3‬‬

‫ــ فهجرته ‪ :‬الهجر ترك الشيء واإلعراض عنه ‪ ،‬والهجرة ترك البلد إلى غيره ‪ ،‬والمراد هنا‬
‫الهجرة المعنية المشهورة في التاريخ ‪ ،‬وهي الهجرة من مكة إلى المدينة التي أرخ بها تاريخ‬
‫اإلسالم ‪.‬‬

‫ــ إلى هللا ‪ :‬أي الباعث لهجرته هو ابتغاء وجه هللا ونصرة رسوله عليه الصالة والسالم ‪.‬‬

‫ــ فهجرته إلى هللا ورسوله ‪ :‬أي كتبت له عم ٌل صالح ‪ .‬والهجرة هنا هي االنتقال من بلد الكفر‬
‫إلى بلد اإلسالم ‪.‬‬

‫قال ابن دقيق العيد ‪ ":‬المتقرر عند أهل العربية ‪ :‬أن الشرط والجزاء والمبتدأ أو الخبر ‪،‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬انظر إحكام اإلحكام البن دقيق ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 61‬‬

‫(‪ )2‬دراسات تطبيقية في الحديث النبوي ‪ ،‬نور الدين عتر ‪ ،‬كلية الشريعة ‪ ،‬جامعة دمشق ‪ ،‬ط ‪، 1995 ، 6‬‬
‫ص‬

‫(‪ )3‬المرجع نفسه ‪.‬‬


‫البد وأن يتغايرا ‪ ،‬وهاهنا وقع االتحاد في قوله (فمن كانت هجرته إلى هللا ورسوله فهجرته إلى‬
‫هللا ورسوله) وجوابه ‪ :‬أن التقدير ؛ فمن كانت هجرته إلى هللا ورسوله نيةً وقصداً ؛ فهجرته إلى‬
‫هللا ورسوله حكما ً وشرعا ً " (‪. )1‬‬

‫المعنى اإلجمالي ‪ :‬حديث إنما األعمال بالنيات ‪ ،‬حديث جليل الموقع عظيم المكانة ‪ ،‬وهو أحد‬
‫األحاديث التي عليها مدار اإلسالم ‪ ،‬وجاء هذا الحديث ليؤكد عدة معاني ‪:‬‬

‫األول ‪ :‬ابتداء الحديث بذلك التعميم الشامل الجامع ‪ ،‬ليشمل األفعال واألقوال ‪ ،‬وسائر‬
‫ــ المعنى ّ‬
‫التصرفات ‪ ،‬ويجعلها مرتبطة بالنية ‪ ،‬حتى المباحات من الطعام والشراب والملبس ‪ ،‬إذا‬
‫تعاطاها اإلنسان بنية صالحة كالتقوي على واجباته التي تلزمه فإنه يثاب عليها وتكون طاعة ‪،‬‬
‫وإن قصد التفاخر والتكبر كان معاقبا ً عليه ‪ ،‬وهكذا كل شأن من درس وعلم وتعلم وتعاطى‬
‫حرفة أو شيء ‪ ،‬فقد شمل الحديث كل جوانب الحياة ‪ ،‬ووجه اإلنسان إلى التسامي بمقاصده في‬
‫كل شيء منها إلى المعالي ‪ ،‬ورفعه عن التصرفات التلقائية أو المندفعة بعامل الغريزة المجردة‬
‫أو غير ذلك ‪ .‬وقد أكد هذا المعنى ما أفاده هذا الشمول في الحديث بالحصر الذي أفاده "إنما" ‪.‬‬
‫ــ المعنى الثاني ‪ :‬في قوله ‪ ":‬وإنما لكل امرئ ما نوى " أفاد هذا العموم لكل الناس رجاالً‬
‫ونساء بأن لكل امرئ منهم الذي نواه فقط ‪ .‬ال يتجاوز حظه من عمله نيته ؛ بل على حسب نيته‬
‫يكون ثوابه ويقدر ‪ ،‬وهذا حكم جديد غير األول ‪.‬‬

‫ــ المعنى الثّالث ‪ :‬االنتقال من التعميم إلى التخصيص ؛ حيث انتقل الحديث من ذلك التعميم‬
‫لجميع األعمال ليذكر عمالً واحدا ً منها ‪ ،‬ذلك العمل الجليل الذي سجله التاريخ في صفحات‬
‫الخلود ‪ ،‬وهو الهجرة (‪. )2‬‬

‫وتظهر مناسبة تخصيص الهجرة جلية وبصورة أقوى إذا الحظنا مناسبة واقعية سوى‬
‫المناسبة العامة لذكر الخاص بعد العام ‪ ،‬تلك المناسبة الواقعية هي ما اشتهر أن سبب ورود هذا‬
‫الحديث قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات ‪ ،‬من‬
‫رواية األعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال ‪ :‬كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها ‪ :‬أم‬
‫قيس ‪ ،‬فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر ‪ ،‬فهاجر فتزوجته ‪ .‬قال فكنا نسميه مهاجر أم قيس ‪.‬‬

‫هذا التخصيص للمرآة بعد الدنيا من بين الدوافع ‪ ،‬وهو ما يسميه العلماء بالتنصيص على‬
‫الخاص بعد العام ‪.‬‬

‫وهنا يظهر السر البالغي واضحا ً ‪ ،‬وهو االهتمام ‪ ،‬وإبراز مزيد االعتناء بهذا الدافع على‬
‫الخصوص ؛ ألن التأثر به أشد ‪ .‬فإذا تأثر به إنسان في عمل جليل ؛ بل عمل من أجل األعمال‬
‫في تاريخ اإلنسانية ‪ ،‬وكان يظهر قصد الهجرة خالصا ً هلل ‪ ،‬وهو في الواقع ال يقصدها وحدها ؛‬
‫بل يقصد معها رغبته الخاصة ومراد نفسه ‪ .‬فإنه يستوجب الذم بذلك ؛ ألنّه أظهر خالف ما أبطن‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬إحكام اإلحكام البن دقيق العيد ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 62‬‬

‫(‪ )2‬دراسات تطبيقية في الحديث النبوي ‪ ،‬العبادات لنور الدين عتر ‪ ،‬ص‬
‫وقد عبر الحديث هنا بما يدل على غاية التعظيم في مقام اإلخالص حين قال ‪ :‬فتكلم عن‬
‫األول بما يفيد التعظيم " فهجرته إلى هللا ورسوله" وعبر في الثانية بما يفيد غاية التحقير حتى‬
‫كأنه ال يصلح أن يعبر عنه بشيء سوى نفسه " فهجرته إلى ما هاجر إليه " (‪. )1‬‬

‫خامسا ً ‪ :‬فقه الحديث ‪ :‬يستفاد من الحديث عدة أحكام ‪:‬‬

‫‪ /1‬النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا ً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حاالً أو‬
‫مآالً ‪ ،‬والشرع خصصه باإلرادة المتوجهة نحو الفع ل البتغاء رضاء هللا وامتثال حكمه ‪ .‬نقله في‬
‫الفتح عن البيضاوي (‪. )2‬‬

‫والمعنى ال عمل إال بالنية ‪ ،‬فليس المراد نفي ذات العمل ؛ ألنه قد يوجد بغير نية ؛ بل‬
‫المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال ‪ ،‬لكن الحمل على نفي الصحة أولى ؛ ألنه أشبه بنفي‬
‫الشيء نفسه ؛ وألن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح ‪ ،‬وعلى نفي الصفات بالتبع ‪ ،‬فلما منع‬
‫الدليل نفى الذات بقيت داللته على نفي الصفات مستمرة ‪.‬‬

‫‪ /2‬فيه دليل على أن الطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم ال تصح إال بالنية ‪ ،‬وكذلك الصالة‬
‫والزكاة والصوم والحج واالعتكاف وسائر العبادات ‪ ،‬أما إزالة النجاسة فالمشهور أنها ال تفتقر‬
‫إلى نية ؛ ألنها من باب التروك ‪ ،‬والترك ال يحتاج إلى نية ‪.‬‬

‫‪ /3‬ال تشترط النية في التروك ‪ ،‬كترك السرقة ‪ ،‬وترك شرب الخمر وغيرها ‪ ،‬فإن الترك ال‬
‫يحتاج إلى نية لحصول المقصود منها ‪ ،‬وهو اجتناب المنهى عنه ؛ ولكن إذا نوى بتركها التقرب‬
‫إلى هللا تعالى كان مأجورا ً ‪.‬‬

‫‪ /4‬وال تشترط النية في قضاء الديون ‪ ،‬ورد الودائع ‪ ،‬والنفقة على العيال وغيرها ‪ ...‬؛ ألن‬
‫صورتها كافية في تحصيل مصلحتها ‪ ،‬واستحضار النية فيها يعظم األجر ‪.‬‬

‫‪ /5‬األعمال الخارجة عن العبادة ال تفيد الثواب إال إذا نوى بها فاعلها القربة ‪ ،‬كاألكل والنوم إذا‬
‫نوى بهما التقوي على الطاعة ‪.‬‬

‫‪ /6‬وهذا الحديث أصل للقاعدة الفقهية (األمور بمقاصدها) ‪ ،‬يعني الحكم الذي يترتب على أمر‬
‫يكون على مقتضى ما هو المقصود من ذلك األمر ‪ .‬فاألمور بمقاصدها ـ أي الشؤون مرتبطة‬
‫بنياتها ‪ ،‬وأن الحكم الذي يترتب على فعل المكلف ينظر فيه إلى مقصده ‪ ،‬فعلى حسبه يترتب‬
‫الحكم تملكا ً وعدمه ‪ ،‬ثوابا ً وعدمه ‪ ،‬عقابا ً وعدمه ‪ ،‬مؤاخذة وعدمها ‪ ،‬ضمانا ً وعدمه (‪. )3‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬دراسات تطبيقية في الحديث النبوي العبادات ‪ ،‬نور الدين عتر ‪ ،‬ص‬

‫(‪ )2‬فتح الباري البن حجر ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 13‬‬

‫(‪ )3‬القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب األربعة ‪ ،‬لوهبة الزحيلي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 64‬‬
‫كره على تصرف من التصرفات التي لم يقصدها مثل بيعه ‪ ،‬وقرضه ‪ ،‬ورهنه ‪،‬‬ ‫‪ /7‬من أ ُ ِ‬
‫ونكاحه ‪ ،‬وطالقه ‪ ،‬ورجعته ‪ ،‬ونذره ‪ ،‬وشهادته ‪ ،‬وحكمه ‪ ،‬وإقراره ‪ ،‬وردته ‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫أقواله ‪ ،‬فإن هذه األقوال كلها منه ملغاة مهدرة باإلجماع ‪ ،‬فالمكره أتى باللفظ المقتضي للحكم ‪،‬‬
‫ولم يثبت حكم اللفظ ؛ ألنه لم يقصده ‪ ،‬وإنما قصد دفع األذى عن نفسه (‪. )1‬‬

‫‪ /8‬إن المقاصد معتبرة في التصرفات من العقود وغيرها ‪ ،‬وهذا إبطال للحيل التي يراد بها‬
‫التوصل إلى المحرمات ؛ ألن المحتال ال يقصد بالتصرف مقصوده الذي جعل ألجله ؛ بل يقصد‬
‫به استحالل محرم ‪ ،‬أو إسقاط واجب ‪ ،‬أو نحوه ذلك ‪. )2( ...‬‬

‫‪ /9‬وتدخل النية في الطالق ‪ ،‬ومعنى دخولها أنها إذا قارنت كناية صارت كالصريح ‪ ،‬بمعنى إن‬
‫ذكر لفظا ً محتم ً‬
‫ال ‪ ،‬ونوى به الطالق فإنه يقع طالقه ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سابق ‪ ،‬ص ‪. 70‬‬
‫(‪ )1‬المرجع ال ّ‬

‫(‪ )2‬المرجع السابق ‪ ،‬الصفحة نفسها ‪.‬‬


‫المحاضـــــرة الثّانيــــــــة‬
‫سواك‬
‫شرح حديث ال ّ‬

‫عن النعمان بن بشير رضي هللا عنهما قال ‪ :‬سمعت ررسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول ‪":‬‬
‫إن الحالل ب ّين ‪ ،‬وإنّ الحرام بيّن ‪ ،‬وبينهما أمور مشتبهات ‪ ،‬ال يعلمهنّ كثير من النّاس ‪ ،‬فمن‬
‫اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ‪ ،‬ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام ‪ّ ،‬‬
‫كالراعي‬
‫يرعى حول الحمى ويشك أن يرتع فيه ‪ ،‬أال وإنّ لك ّل ملك حمى ‪ ،‬أال وإنّ حمى هللا محارمه ‪،‬‬
‫أال وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه ‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ‪ ،‬أال وهي‬
‫القلب " متفق عليه ‪.‬‬

‫أوالً ‪ :‬درجة الحديث من الصحّة وطرقه ‪:‬‬


‫ّ‬
‫هذا الحديث صحيح ‪ ،‬متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير ‪ ،‬وفي‬
‫ألفاظه بعض الزيادة والنقصان ‪ ،‬والمعنى واحد أو متقارب ‪.‬‬

‫وقد روي عن النبي صلى هللا عليه وسلم من حديث ابن عمر ‪ ،‬وعمار بن ياسر ‪ ،‬وجابر ‪،‬‬
‫وابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس رضي هللا عنهم أجمعين ‪ ،‬وحديث النعمان أصح أحاديث الباب (‪.)1‬‬

‫ثانيا ً ‪ :‬تخريج الحديث‬

‫ــ أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب اإليمان ‪ ،‬باب فضل من استبرأ لدينه ‪ ،‬برقم ‪،1 :‬‬
‫‪20/51‬‬

‫ــ وأخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب المساقاة ‪ ،‬باب أخذ الحالل وترك الشبهات ‪ ،‬برقم ‪،3 :‬‬
‫‪. 1219/1599‬‬

‫ــ وأخرجه ابن ماجة في سننه ‪ ،‬كتاب الفتن ‪ ،‬باب الوقوف عند الشبهات ‪ ،‬رقم ‪. 3984 :‬‬

‫ــ وأخرجه أبو داود في سننه بلفظ مغاير ‪ ،‬كتاب البيوع ‪ ،‬باب في اجتناب الشبهات ‪ ،‬برقم ‪:‬‬
‫‪. 3329‬‬

‫ــ وفي سنن الترمذي برقم ‪. 1205 :‬‬

‫ــ وفي سنن النسائي برقم ‪. 5710 ،4453 :‬‬

‫ــ وسنن الدارمي برقم ‪. 2573 :‬‬

‫ــ ومسند أحمد برقم ‪.18347،18368،18374،18384،18412،18418 :‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬جامع العلوم والحكم البن رجب الحنبلي ‪ ،‬دار السالم ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ط‪1424 ،2‬هـ‪2004/‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪. 19‬‬
‫ثالثا ً ‪ :‬ترجمة راوي الحديث‬

‫النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة ‪ ،‬ويكنى أبا عبد هللا األنصاري الخزرجي ‪ ،‬األمير العالم‬
‫الشاعر الصحابي ابن الصحابي ‪ ،‬ووالده بشير بن ثعلبة من أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وهو أول مولود لألنصار بعد الهجرة ‪ ،‬إذ ولد في شهر ربيع اآلخر بعد الهجرة ‪ ،‬على‬
‫رأس أربعة عشر شهرا ً من هجرة الرسول صلى هللا عليه وسلم ولد ؛ أي قبل وفاة الرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم بثماني سنين وسبعة أشهر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بست سنين ‪ ،‬واألول أصح ‪ .‬وقتل سنة‬
‫‪65‬هـ رضي هللا عنه ‪.‬‬

‫وهو ابن أخت عبد هللا بن رواحة ‪ ،‬الذي سلك مسلكه في صبغ الشعر بالصبغة القرآنية‬
‫الربانية ‪.‬‬

‫كان النعمان يتمتع بمواهب متعددة ‪ ،‬منها ‪ :‬الشعر‪ ،‬والخطابة ‪ ،‬وحفظ الحديث ‪ ،‬وقد روى‬
‫مائة وأربعة عشر حديثا ً ‪ ،‬وعُرف بكرمه وجوده وشجاعته ‪ ،‬رحمه هللا رحمة واسعة ‪ ،‬يعده‬
‫المؤرخون من الصبيان باتفاق (‪. )1‬‬

‫رابعا ً ‪ :‬شرح وتحليل األلفاظ‬

‫ــ "الحالل بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات ال يعلمهنّ كثير من النّاس " ‪:‬أي أن‬
‫الحالل المحض بين ال اشتباه فيه ‪ ،‬وكذلك الحرام المحض ‪ ،‬ولكن بين األمرين أمور تشتبه على‬
‫كثير من الناس ‪ ،‬أهي من الحالل أم من الحرام ؟ وأما الراسخون في العلم فال يشتبه عليهم ذلك‪،‬‬
‫ويعلمون من أي القسمين هي ‪.‬‬

‫فأما الحالل المحض ‪ :‬فمثل أكل الطيبات من الزروع ‪ ،‬والثمار وبهيمة األنعام ‪ ،‬وشرب‬
‫الشعر أو الحرير‬
‫األشربة الطيبة ‪ ،‬ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان ‪ ،‬أو الصوف ‪ ،‬أو ِ‬
‫للنساء ‪ ،‬وكالنكاح ‪ ،‬وكسب المال بالطرق المشروعة من بيع أو ميراث ‪ ،‬أو هبة ‪.‬‬

‫والحرام المحض ‪ ،‬مثل أكل الميتة ‪ ،‬والد م ‪ ،‬ولحم الخنزير ‪ ،‬وشرب الخمر ‪ ،‬ونكاح‬
‫المحارم ‪ ،‬ولباس الحرير والذهب للرجال ‪ ،‬ومثل األكساب المحرمة كالربا ‪ ،‬والميسر وثمن ما‬
‫ال يحل بيعه ‪ ،‬والسرقة ‪ ،‬ونهب المال العام ‪ ،‬بسرقة أو غصب ‪ ،‬أو تزوير ‪ ،‬أو نحو ذلك ‪.‬‬

‫وأما المشتبه ‪ :‬فمثل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه ‪ ،‬إما من األعيان كالخيل والبغال‬
‫والحمير ‪ ،‬والضب ‪ ،‬وشرب ما اختلف في تحريمه من األنبذة التي يسكر كثيرها ‪ ،‬ولبس ما‬
‫اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها ‪ ،‬وإما من المكاسب المختلف فيها ‪ ،‬كمسائل‬
‫العينة والتورق ونحو ذلك (‪. )2‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬سير أعالم النبالء لل ّذهبي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ 411‬وما بعدها ‪ /‬طبقات ابن سعد ‪ ،‬ج ‪ ، 6‬ص ‪ / 53‬أسد الغابة‬
‫في معرفة الصحابة ‪ ،‬البن األثير ‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪. 118‬‬

‫(‪ )2‬جامع العلوم والحكم ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 194‬‬


‫شبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ‪ ،‬ومن وقع في الشّبهات ‪ ،‬وقع في‬ ‫ــ " فمن اتّقى ال ّ‬
‫الحرام"‪ :‬فمعنى استبرأ ‪ :‬طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين ‪ ،‬والعرض ‪ :‬هو‬
‫موضع المدح والذم من اإلنسان ‪ ،‬وما يحصل له بذكره بالجميل مدح ‪ ،‬وذكره بالقبيح قدح ‪ ،‬وقد‬
‫يكون ذلك تارة في نفس اإلنسان ‪ ،‬وتارة في سلفه ‪ ،‬أو في أهله ‪ ،‬فمن اتقى األمور المشتبهة‬
‫واجتنبها ‪ ،‬فقد حصن عرضه من القدح والشين الداخل على من ال يجتنبها ‪.‬‬

‫"كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ‪ ،‬أال وإنّ لك ّل ملك حمى وإنّ حمى هللا‬
‫ّ‬ ‫ــ‬
‫محارمه " ‪:‬‬

‫ــ الحمى بكسر الحاء ‪ ،‬هو الكأل الذي منع عنه الناس ‪ ،‬مع تهديد ووعيد من دخله ورعى فيه ‪.‬‬
‫والمراد به كل محمي محظور على غير صاحبه (‪. )1‬‬

‫هذا مث ٌل ضربه النبي صلى هللا عليه وسلم لمن وقع في الشبهات ‪ ،‬وأنه يقرب وقوعه في‬
‫الحرام المحض ‪ ،‬فجعل النبي صلى هللا عليه وسلم مث ُل المحرمات كالحمى الذي يحميه الملوك ‪،‬‬
‫ويمنعون غيرهم من قربانه ‪.‬‬

‫وقد جعل النبي صلى هللا عليه وسلم من يرعى حول الحمى ‪ ،‬جديرا ً بأن يدخل الحمى‬
‫ويرتع فيه ‪ ،‬فلذلك من تعدى الحالل ووقع في الشبهات ‪ ،‬فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة ‪،‬‬
‫فما أخلفه بأن يخالط الحرام المحض ويقع فيه ‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن‬
‫المحرمات ‪ ،‬وأن يجعل اإلنسان بينه وبينها حاجزا ً ‪ .‬وقد خرج الترمذي وابن ماجة من حديث‬
‫عبد هللا بن يزيد ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ " :‬ال يبلغ العبد أن يكون من المتّقين‬
‫حتّى يدع ما ال بأس به حذرا ً م ّما به بأس " ‪.‬‬

‫ألحب أن أدع بيني وبين الحرام سُترة من الحالل ال‬


‫ّ‬ ‫وروي عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ " :‬إنّي‬
‫للرجل الحالل حتّى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا ً‬
‫أخرقها " وقال ميمون بن مهران ‪ :‬ال يسلم ّ‬
‫من الحالل ‪.‬‬

‫ــ " أال إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه ‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ‪ ،‬أال‬
‫وهي القلب "‬

‫ــ المضغة ‪ ،‬قطعة من اللحم ‪ ،‬سميت بذلك ألنها تمضغ في الفم لصغرها (‪. )2‬‬

‫فيه إشارة إلى أن صالح حركات العبد بجوارحه ‪ ،‬واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب‬
‫صالح حركة قلبه ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬شرح النّووي على صحيح مسلم ‪ ،‬ج ‪ ، 11‬ص ‪. 28‬‬

‫(‪ )2‬المصدر نفسه ‪ ،‬الصفحة نفسها ‪.‬‬


‫خامسا ً ‪ :‬المعنى اإلجمالي‬

‫بين النبي صلى هللا عليه وسلم ألمته في هذا الحديث ‪ ،‬أنه تعالى قد تولى في كتاب هللا وفي‬
‫سنة رسوله تبيان الحالل البين والحرام البين ‪ ،‬في المطعم والمشرب والملبس وغيرهما من‬
‫الشؤون ‪ ،‬وبين لهم أن هناك أمور مشتبهات ال يدري عامة الناس أهي من الحالل أم من‬
‫الحرام؛ ألن حكمها غير موجود فيما هو منصوص من األدلة ‪ ،‬وأنه ينبغي اللجوء في معرفة‬
‫حكم هذه المشتبهات إلى العلماء الذين يعلمون حكمها من خالل النظر في األدلة ‪ ،‬والقياس‬
‫عليها‪ ،‬وإلحاق األشباه بالنظائر ‪ ،‬ففي قوله صلى هللا عليه وسلم (فمن اتقى الشبهات) فيه إشارة‬
‫إلى أن المطلوب من المكلفين هو تحري الحالل وتجنب الحرام ‪ ،‬ومن تحراهما (فقد استبرأ‬
‫لدينه وعرضه) فتحصل لهم السالمة ‪ ،‬ويأمنوا من أن يُمس دينهم وأعراضهم ‪ ،‬ويُنال منهما ‪،‬‬
‫وهذا التحري واالجتناب الستبراء الدين والعرض يتطلب الورع والتقوى ‪ ،‬ولذلك أشار طبيب‬
‫األمة إلى إصالح القلب ‪ ،‬وتنقيته بالطاعة والذكر والتسبيح ومخالطة األخيار ؛ ألن في صالح‬
‫القلب صالح الجسد كله ‪ ،‬وقد خص القلب ؛ ألنه أمير البدن ‪ ،‬وبصالح األمير تصلح الرعية ‪،‬‬
‫وبفساده تفسد ‪.‬‬

‫وبين في ختام الحديث العالقة بين تحري الحالل واجتناب الحرام ‪ ،‬وصالح القلب وفساده ‪،‬‬
‫ليكشف ذلك عن سر عظمة هذا الحديث ‪ .‬قال المازري ‪‬وإنما نبه أهل العلم على عظم هذا‬
‫الحديث ؛ ألن اإلنسان إنما يعبد بطهارة قلبه وجسمه ‪ ،‬فأكثر المذام المحظورات إنما تنبعث من‬
‫القلب ‪ ،‬وأشار صلى هللا عليه وسلم إلصالحه ‪ ،‬ونبه على أن إصالحه هو إصالح الجسم ‪ ،‬وأنه‬
‫األصل ‪ ،‬وهذا صحيح يؤمن به حتى من ال يؤمن بالشرع ‪ ،‬وقد نص عليه الفالسفة واألطباء ‪،‬‬
‫واألحكام والعبادات آلة يتصر ف اإلنسان عليها بقلبه وجسمه فيما يقع في مشكالت وأمور‬
‫ملتبسات تكسب التساهل فيها ‪ ،‬وتعويد النفس الجراءة عليها ‪ ،‬وتكسب فساد الدين والعرض ‪،‬‬
‫فنبه صلى هللا عليه وسلم على توقي هذه ) (‪. )1‬‬

‫فاالبتعاد عن محارم هللا ‪ ،‬والحذر منها هو الدليل على صالح القلب ‪ ،‬وصالح القلب مع‬
‫العمل هو أساس الدين ‪ ،‬وقد قال صلى هللا عليه وسلم ‪‬إنّ هللا ال ينظر إلى صوركم ‪ ،‬وال إلى‬
‫أموالكم ‪ ،‬ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) (‪. )2‬‬

‫سادسا ً ‪ :‬فقه الحديث‬

‫‪ /1‬في هذا الحديث دليل على أن من ارتكب الشبهات ‪ ،‬فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن ‪ ،‬كما‬
‫قال بعض السلف ‪ :‬من عرض نفسه للتهم ‪ ،‬فال يلومن من أساء به الظن ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬شرح السيوطي لسنن النسائي ‪ ،‬كتاب البيوع ‪ ،‬باب اجتناب الشبهات في الكسب ‪ ،‬رقم ‪ ، 4453‬دار‬
‫البشائر اإلسالمية ‪ ،‬ط ‪1406‬هـ‪1986/‬م ‪.‬‬

‫البر والصّلة وا آلداب ‪ ،‬باب تحريم ظلم المسلم وخذله ‪ ،‬واحتقاره ودمه وعرضه‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب ّ‬
‫وماله ‪ ،‬برقم ‪. 2564 :‬‬
‫‪ /2‬وفيه دليل على أن طلب البراءة لل ِعرض ممدوح كطلب البراءة للدين ‪ ،‬ولهذا ورد " أن ما‬
‫وقى به المرء عرضه ‪ ،‬فهو صدقة " ‪ .‬وفي رواية في الصحيحين في هذا الحديث ‪ ":‬فمن ترك‬
‫ما يشتبه عليه من اإلثم ‪ ،‬كان لما استبان أترك " يعني ‪ :‬أن من ترك اإلثم مع اشتباهه عليه ‪،‬‬
‫وعدم تحققه ‪ ،‬فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم ‪ ،‬وهذا إذا كان تركه تحرزاً من اإلثم ‪ ،‬فأما‬
‫من يقصد التصنع للناس ‪ ،‬فإنه ال يترك إال ما يظن أنه ممدوح عندهم تركه ‪.‬‬

‫‪ /3‬الناس في األمور المشتبهة قسمان ‪ :‬أحدهما من يتقي هذه الشبهات ‪ ،‬الستباهها عليه ‪ ،‬فهذا قد‬
‫استبرأ لدينه وعرضه ‪.‬‬

‫والثاني ‪ :‬من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده ‪ ،‬فأما من أتى شيئا ً مما يظنه الناس‬
‫شبهة ‪ ،‬لعلمه بأنه حالل في نفس األمر ‪ ،‬فال حرج عليه من هللا في ذلك ‪ ،‬لكن إذا خشي من‬
‫طعن الناس عليه بذلك كان تركها حينئذ استبراء لعرضه ‪ ،‬فيكون حسنا ً ‪ ،‬وهذا كما قال النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم لمن رآه واقفا ً مع صفية ‪ ":‬إنّما هي صفية بنت حيي " (‪ . )1‬يقصد زوجته‬
‫أم المؤمنين ‪.‬‬

‫‪ /4‬وإن أتى ذلك العتقاده أنه حالل ‪ ،‬إما باجتهاد سائغ ‪ ،‬أو تقليد سائغ ‪ ،‬وكان مخطئا ً في‬
‫اعتقاده‪ ،‬فحكمه حكم الذي قبله ‪ ،‬فإن كان االجتهاد ضعيفا ً ‪ ،‬أو التقليد غير سائغ ‪ ،‬وإنما حمل‬
‫عليه مجرد اتباع الهوى ‪ ،‬فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه ‪ ،‬والذي يأتي الشبهات مع‬
‫اشتباهها عليه ‪ ،‬قد أخبر عنه النبي صلى هللا عليه وسلم أنه وقع في الحرام ‪.‬‬

‫واختلف العلماء ‪ :‬هل يطيع والديه في الدخول في شيء من الشبهة أم ال يطيعهما ؟ فقال‬
‫البعض ‪ :‬ال طاعة لهما في الشبهة ‪ ،‬وقال آخرون يطيعهما ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬يداريهما ‪.‬‬

‫‪ /5‬من أسباب االشتباه أن قد يكون النص عليه خفيا ً لم ينقله إال قليل من الناس ‪ ،‬فلم يبلغ جميع‬
‫حملة العلم ‪ .‬ومنها أنه قد ينقل فيه نصان ‪ ،‬أحدهما ‪ :‬بالتحليل ‪ ،‬واآلخر ‪ :‬بالتحريم ‪ ،‬فيبلغ طائفة‬
‫منهم أحد النصين دون اآلخر فيتمسكون بما بلغهم ‪ ،‬أو يبلغ النصان معا ً من لم يبلغه التاريخ ‪،‬‬
‫فيقف لعدم معرفته بالناسخ (‪. )2‬‬

‫‪ /6‬ومنها ما ليس فيه نص صريح ‪ ،‬وإنما يُؤخذ من عموم أو مفهوم أوقياس ‪ ،‬فتختلف أفهام‬
‫العلماء في هذا كثيراً ‪ .‬ومن ها ما يكون فيه أمر ‪ ،‬أو نهي ‪ ،‬فيختلف العلماء في حمل األمر على‬
‫الوجوب أو الندب ‪ ،‬وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه ‪ ،‬وأسباب االختالف كثيرة ‪.‬‬

‫‪ /7‬وقد يقع االشتباه في الحالل والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر ‪ ،‬وهو أن من‬
‫األشياء ما يُعلم سبب حله وهو الملك المتيقن ‪ ،‬ومنها ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير‬
‫عليه ‪ ،‬فاألول ال تزول إباحته إال بيقين زوال الملك عنه ‪ ،‬والثاني ‪ :‬ال يزول تحريمه إال بيقين‬
‫العلم بانتقال الملك فيه ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ‪ ،‬كتاب االعتكاف ‪ ،‬باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد ‪ ،‬رقم ‪. 2035‬‬

‫(‪ )2‬جامع الجوامع والحكم ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 196‬‬


‫‪ /8‬ما أصله اإلباحة كطهارة الماء ‪ ،‬والثوب ‪ ،‬واألرض ‪ ،‬إذا لم يتيقن زوال أصله ‪ ،‬فإنه يجوز‬
‫استعماله ‪ ،‬وما أصله الحظر كاألبضاع ولحوم الحيوان ‪ ،‬فال تحل إال بيقين حله من التذكية‬
‫والعقد ‪ ،‬فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى األصل فبنى عليه ‪ ،‬فيبنى فيما‬
‫أصله الحرمة على التحريم ولهذا " نهى النبي صلى هللا عليه وسلم عن أكل الصيد الذي يجد فيه‬
‫الصائد أثر سهم غير سهمه ‪ ،‬أو كلب غير كلبه ‪ ،‬أو يجده قد وقع في ماء وعلل بأنه ال يدري ‪:‬‬
‫هل مات من السبب المبيح له أو من غيره " فيرجع فيما أصله الحل إلى الحل ‪ ،‬فال ينجس الماء‬
‫واألرض والثوب بمجرد ظن النجاسة ‪ ،‬وكذلك البدن إذا تحقق طهارته وشك ‪ :‬هل انتقضت‬
‫بالحدث عند جمهور العلماء خالفا ً لمالك رحمه هللا إذا لم يكن قد دخل في الصالة ‪ ،‬وقد صح‬
‫الرجل يخيّل إليه أنّه يجد الشّيء في الصالة ‪،‬‬
‫عن النبي صلى هللا عليه وسلم ) أنّه شكى إليه ّ‬
‫فقال ‪ :‬ال ينصرف حتّى يسمع صوتا ً أو يجد ريحا ً ) (‪. )1‬‬

‫‪ /9‬إن وجد سبب قوي يغلب معه على الظن نجاسة ما أصله الطهارة ‪ ،‬مثل أن يكون الثوب‬
‫يلبسه كافر ال يتحرز من النجاسات ‪ ،‬فهذا محل اشتباه ‪ ،‬فمن العلماء من رخص فيه أخذا ً‬
‫باألصل ‪ ،‬ومنهم من كرهه تنزيها ً ‪ ،‬فمنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة ‪ ،‬مثل أن يكون‬
‫الكافر ممن ال تباح ذبيحته ‪ ،‬أو يكون مالقيا ً لعورته كالسراويل والقميص ‪.‬‬

‫‪ /10‬ومن ذلك معاملة من في ماله حالل وحرام مختلط ‪ ،‬فإن كان أكثر ماله الحرام ؛ فينبغي أن‬
‫يتجنبه ‪ ،‬إال أن يكون شيئا ً يسيراً أو شيئا ً ال يعرف ‪ ،‬واختلفوا هل هو مكروه أو محرم ؟ على‬
‫وجهين ‪ .‬ف إن كان أكثر ماله الحالل ‪ ،‬جازت معاملته واألكل من ماله ‪ .‬وقد روى الحارث عن‬
‫علي رضي هللا عنه أنه قال في جوائز السلطان ‪ :‬ال بأس بها ‪ ،‬ما يعطيكم من الحالل أكثر مما‬
‫يعطيكم من الحرام ‪.‬‬

‫‪ /11‬وقد يقع االشتباه في الحكم ‪ ،‬لكون الفرع مترددا ً بين أصول تجتذبه ‪ ،‬كتحريم الرجل‬
‫زوجته ‪ ،‬فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى ‪ ،‬وبين تحريم الطلقة‬
‫الواحدة بانقضاء عدتها الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد ‪ ،‬وبين تحريم الطالق الثالث الذي ال‬
‫تباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة ‪ ،‬وبين تحريم الرجل عليه ما أحله هللا له من الطعام‬
‫والشراب الذي ال يحرمه ‪ ،‬وإنما يوجب الكفارة الصغرى ‪ ،‬أو ال يوجب شيئا ً على اختالف في‬
‫ذلك ‪ ،‬فمن هاهنا كثر االختالف في هذه المسألة من زمن الصحابة فمن بعدهم ‪ .‬وبكل حال ‪،‬‬
‫فاألمور المشتبهة التي ال تتبين أنها حالل وال حرام لكثير الناس ‪ ،‬كما أخبر به النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬قد يتبين لبعض الناس أنها حالل أو حرام ‪ ،‬لما عنده من ذلك من مزيد علم ‪ ،‬وكالم‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها ‪ ،‬وكثير منهم ال‬
‫يعلمها فدخل فيمن ال يعلمها نوعان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬من يتوقف فيها ‪ ،‬الشتباهها عليه ‪ .‬والثاني ‪ :‬من‬
‫يعتقدها على غير ما هي عليه ‪ ،‬ودل كالمه على أن غير هؤالء يعلمها ‪ ،‬ومراده أنه يعلمها على‬
‫ما هي عليه في نفس األمر من تحليل أو تحريم ‪.‬‬

‫‪ /12‬استدل العلماء بهذا الحديث على مبدأ سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها ‪،‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيح ‪ ،‬كتاب الوضوء ‪ ،‬باب من ال يتوضّأ من الشكّ حت ّى يستيقن ‪ ،‬رقم‪. 137 :‬‬
‫وأن من ذلك ‪ ،‬تحريم قليل ما يسكر كثيره ‪ ،‬وتحريم الخلوة باألجنبية ‪ ،‬وتحريم الصالة بعد‬
‫الصبح وبعد العصر سدا ً لذريعة الصالة عند طلوع الشمس وعند غروبها ‪.‬‬

‫‪ /13‬قال العلماء من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره ‪ ،‬فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع ؛‬
‫ألنه مفرط بإرسالها ‪.‬‬

‫‪ /14‬في الحديث إشارة إلى أن صالح حركات العبد بجوارحه ‪ ،‬واجتنابه المحرمات واتقاءه‬
‫للشبهات بحسب صالح حركة قلبه ‪ .‬فإذا كان قلبه سليما ً ‪ ،‬ليس فيه إال محبة هللا ومحبة مايحبه‬
‫هللا ‪ ،‬وخشية هللا وخشية الوقوع فيما يكرهه ‪ ،‬صلحت حركات الجوارح كلها ‪ ،‬ونشأ عن ذلك‬
‫اجتناب المحرمات كلها ‪ ،‬وتوق للشبهات حذرا ً من الوقوع في المحرمات ‪ .‬وإن كان القلب‬
‫فاسدا ً‪ ،‬قد استولى عليه اتباع هواه ‪ ،‬وطلب ما يحبه ولو كرهه هللا ‪ ،‬فسدت حركات الجوارح‬
‫كلها ‪ ،‬وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب ‪ .‬ولهذا يقال القلب ملك‬
‫األعضاء ‪ ،‬وبقية األعضاء جنوده ‪ ،‬فإن كان الملك صالحا ً كانت هذه الجنود صالحة ‪ ،‬وإن كان‬
‫فاسدا ً كانت جنوده فاسدة ‪ .‬وفي مسند اإلمام أحمد عن أنس ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫قال ‪‬ال يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ) (‪ ، )1‬وقال الحسن البصري لرجل ‪ :‬داو قلبك ؛‬
‫فإن حاجة هللا إلى العباد صالح قلوبهم ‪ :‬يعني أن مراده منهم ومطلوبه صالح قلوبهم ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬مسند أحمد بن حنبل ‪ ،‬رقم ‪. 13048 :‬‬


‫المحاضرة الثّالثة‬
‫سواك‬
‫شرح حديث ال ّ‬

‫عن أبي هريرة رضي هللا عنه ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ ":‬لو ال أن أشقّ على‬
‫سواك عند ك ّل صالة ‪ " .‬وفي رواية ‪ ":‬عند ك ّل وضوء " ‪.‬‬
‫أ ّمتي؛ ألمرتهم بال ّ‬

‫أوالً ‪ :‬تخريج الحديث ‪:‬‬


‫ّ‬
‫ــ اإلمام البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب الجمعة ‪ ،‬باب السواك يوم الجمعة ‪ ،‬رقم ‪ ، 6813 :‬وفي‬
‫كتاب التمني ‪ ،‬باب ما يجوز في اللو ‪.‬‬

‫ــ اإلمام مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب الطهارة ‪ ،‬باب السواك ‪ ،‬وهذا اللفظ لمسلم ‪ ،‬رقم ‪. 252 :‬‬

‫ــ وهو في السنن األربعة أيضا ً (‪. )1‬‬

‫ــ والرواية الثانية ‪ :‬ذكرها البخاري تعليقا ً ‪ ،‬باب سواك الرطب واليابس للصائم ‪. 31/3‬‬

‫ثانيا ً ‪ :‬درجة الحديث وطرقه ‪:‬‬

‫قال الشوكاني ‪ ":‬الحديث إسناده صحيح ومجمع على صحته ‪ ،‬وقال النووي ‪ :‬غلط بعض‬
‫األئمة الكبار فزعم أن البخاري لم يخرجه ‪ ،‬وهو خطأ منه ‪ ،‬وقد أخرجه من حديث مالك عن‬
‫أبي الزناد عن األعرج عن أبي هريرة ‪ ،‬وليس هو في الموطأ من هذا الوجه ؛ بل هو فيه عن‬
‫سواك مع ك ّل‬
‫ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ ‬لوال أن أشقّ على أ ّمتي ألمرتهم بال ّ‬
‫وضوء ) ولم يصرح برفعه ‪ .‬قال ابن عبد البر ‪ :‬وحكمه الرفع ‪ ،‬وقد رواه الشافعي عن مالك‬
‫مرفوعا ً ‪ ،‬وفي الباب عن زيد بن خالد عند الترمذي وأبي داود ‪ ،‬وعن علي عند أحمد ‪ ،‬وعن أم‬
‫حبيبة عند أحمد أيضا ً ‪ ،‬وعن عبد هللا بن عمرو وسهل بن سعد وجابر وأنس عند أبي نعيم ‪ .‬قال‬
‫الحافظ ‪ :‬وإسناد بعضها حسن ‪ .‬وعن ابن الزبير عند الطبراني ‪ ،‬وعن ابن عمر وجعفر بن أبي‬
‫طالب عند الطبراني أيضا ً (‪. )2‬‬

‫ثالثا ً ‪ :‬ترجمة راوي الحديث‬

‫أبو هريرة ‪ ،‬هو عبد الرحمن بن صخر ‪ ،‬وهو دوسي النسب ‪ ،‬نسبة إلى دوس ‪ ،‬كان اسمه‬
‫في الجاهلية عبد شمس ‪ ،‬فسمي في اإلسالم عبد الرحمن ‪ ،‬وكنيته أبو هريرة ‪ ،‬أسلم عام خيبر ‪،‬‬
‫وشهدها مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬ثم لزمه وواظبه رغبة في العلم ‪ ،‬وكان يدور معه‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬العدّة في شرح العمدة في أحاديث األحكام ‪ ،‬البن العطار ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 145‬‬

‫(‪ )2‬نيل األوطار ‪ ،‬للشوكاني ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 136‬‬


‫حيثما دار ‪ ،‬وكان من أحفظ أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وقد شهد له رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم بأنه حريص على العلم والحديث ‪ ،‬وقال له ‪ :‬يا رسول هللا ! إني سمعت‬
‫منك حديثا ً كثيرا ً ‪ ،‬وإني أخشى أن أنساه ‪ ،‬ف قال ‪ ":‬ابسط رداءك " ‪ ،‬فبسطته ‪ ،‬فغرف بيده فيه ‪،‬‬
‫ثم قال ‪ ":‬ضمه " ‪ ،‬فضممته ‪ ،‬فما نسيت شيئا ً بعد ‪ ( .‬ينظر صحيح البخاري ) ‪.‬‬

‫روى عنه أكثر من ثمانية رجل من بين صاحب وتابع ‪ ،‬وممن روى عنه من الصحابة ‪:‬‬
‫ابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وجابر بن عبد هللا ‪ ،‬وأنس ‪ ،‬وواثلة بن األسقع ‪ ،‬وروى عنه من‬
‫التابعين ‪ :‬أبو سلمة ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬واألعرج ‪ ،‬وأبو صالح ‪ ،‬وسعيد المقبري ‪ ،‬وابن‬
‫سيرين ‪ ،‬وعكرمة ‪.‬‬

‫استعمله عمر على البحرين ‪ ،‬ثم عزله ‪ ،‬ثم أراده على العمل فأبى ‪ ،‬ولم يزل يسكن المدينة‪،‬‬
‫وبها كانت وفاته سنة سبعة وخمسين للهجرة ‪.‬‬

‫روي له عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬خمسة آالف وثالثمائة وأربعة‬
‫وسبعون(‪ )5374‬حديثا ً ‪ ،‬اتفق البخاري ومسلم على ثالثمائة وخمسة وعشرين(‪ ، )325‬وانفرد‬
‫البخاري بثالثة وتسعين(‪ ، )93‬ومسلم بمائة وتسعين(‪. )1( )190‬‬

‫رابعا ً ‪ :‬شرح األلفاظ وتحليلها‬

‫ــ لوال ‪ :‬تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره ؛ ألنها نفت وجوب السواك لوجود المشقة ‪.‬‬

‫ــ أن أشقّ ‪ :‬أن مصدرية ‪ ،‬الشق ‪ ،‬بكسر الشين ‪ :‬الجهد والمشقة ‪ ،‬والمعنى لوال خشية وقوع‬
‫المشقة عليهم ألمرتهم أي وجوبا ً ‪.‬‬

‫ــ على أ ّمتي ‪ :‬أي أمة اإلجابة ؛ ألنهم هم الذين يُؤمرون بهذه السنن ‪ ،‬وألن األمة تُطلق في‬
‫النصوص على أمة الدعوة ‪ ،‬وهم الكفار بجميع أصنافهم ‪ ،‬ممن يدعون إلى اإلسالم ‪ ،‬وتطلق‬
‫على أمة اإلجابة ممن أجاب النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وتطلق إطالقا ً ثالثا ً إطالقا ً خاصا ً على‬
‫أمة االتباع ‪ ،‬الذين يتبعون ويهتدون بهديه في كل شيء عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وهم أخص من‬
‫أمة اإلجابة ‪.‬‬

‫ــ ألمرتهم ‪ :‬جواب لوال ‪.‬‬

‫سواك ‪ :‬قال أهل اللغة ‪ :‬السواك بكسر السين ‪ ،‬وهو يطلق على الفعل ‪ ،‬وعلى العُود الذي‬ ‫ــ بال ّ‬
‫نتسوك به ‪ ،‬وهو مذكر ‪ ،‬وقيل يذكر ويؤنث ‪ ،‬واألول هو الصحيح ‪ ،‬يقال ‪ :‬ساك فاه ‪ ،‬يسوكه‬
‫سوكا ً ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬استاك ‪ ،‬لم تذكر الفم ‪ .‬وقيل ‪ :‬إن السواك مأخوذ من ساك ‪ :‬إذا دلك (‪. )2‬‬

‫وهو في اصطالح العلماء ‪ :‬استعمال عُود ونحوه في األسنان ؛ لتذهب الصفرة وغيرها‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رياض األفهام في شرح عمدة األحكام ‪ ،‬للفاكهاني ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 35، 39‬‬

‫سابق ‪ ،‬ص ‪. 246‬‬


‫(‪ )2‬المصدر ال ّ‬
‫عنها (‪. )1‬‬

‫ــ عند ك ّل صالة ‪ :‬وعند معناها ‪ :‬حضور الشيء ‪ ،‬ودنوه ‪ ،‬وهي ‪ :‬ظرف مكان وزمان ؛ ال‬
‫يدخل عليها من حروف الجر ‪ ،‬إال ‪( :‬من) ‪.‬‬

‫خامسا ً ‪ :‬فقه الحديث‬

‫أن األصل في داللة األمر هو الوجوب ‪ ,‬وهو‬ ‫‪ /1‬استدل أهل األصول بهذا الحديث على َّ‬
‫الصحيح ‪ ,‬ما لم تقترن به قرينة تصرفه عن ذلك ‪ ,‬فكلمة (لوال) تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره‪،‬‬
‫وهاهنا تفيد انتفاء األمر لوجود المشقة ‪ .‬فهذا الحديث يدل على أنه لم يوجد األمر بالسواك عند‬
‫مأمورا به لكان األمر قائ ًما عند‬
‫ً‬ ‫كل صالة ‪ ,‬واالجماع قائم على أنه مندوب ‪ ,‬فلو كان المندوب‬ ‫ِ‬
‫أن األمر للوجوب ‪ ،‬لم‬ ‫أن المندوب غير مأمور به ‪ .‬و لوال َّ‬ ‫كل صالة ‪ .‬فلما لم يوجد األمر علمنا َّ‬
‫ِ‬
‫يكن لقوله صلى هللا عليه و سلم معنى ؛ ألنه إذا أمر به ‪ ,‬ولم يجب ال تترتب عليه مشقة ! فثبت‬
‫أنه ‪ :‬للوجوب ‪ ,‬ما لم يقم دليل على خالفه (‪. )2‬‬

‫قال العظيم آبادي في معناه ‪ :‬لوال مخافة المشقة عليهم ألمرتهم به ‪ ,‬لكن لم آمر به ولم أفرضه‬
‫عليهم ألجل خوف المشقة (‪. )3‬‬

‫‪ /2‬ومذهب جميع العلماء استحبابهُ ‪.‬‬

‫كل حال ‪ ,‬وقال ‪ :‬إنَّما ذلك لتغير الفَم (‪ . )4‬وحكى الشيخ‬


‫قال ابن العربي ‪ :‬استحبه مالكٌ في ِ‬
‫أبو حامد اإلسفرايني ‪ ،‬والماوردي ‪ ،‬عن داود بن علي الظاهري الوجوب ‪ ،‬لكن قال الماوردي‬
‫صاحب (الحاوي) عنه ‪ :‬إن تركه ال يبطل الصالة ‪ ،‬وحكى عن إسحاق ابن راهويه ‪ :‬أنه واجب‬
‫‪ ،‬وأن تركه عمدا ً يبطلها (‪ . )5‬وأنكر المتأخرون من أصحاب الشافعي عليهما هذا النقل عن‬
‫داود ؛ بل المنقول عنه ‪ :‬أنه سنة ‪ ،‬ولو صح لم يكن خارقا ً لإلجماع (‪. )6‬‬

‫‪ /3‬ووقته أربع مراتب ‪ :‬عند القيام من النوم ‪ ،‬وعند اإلمساك عن الطعام ‪ ،‬وعند كل وضوء وإن‬
‫لم يُصل ‪ ،‬أو لكل صالة وإن لم يتوضأ (‪. )7‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رياض األفهام في في شرح عمدة األحكام ‪ ،‬لتاج الدين الفاكهاني ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 247‬‬

‫(‪ )2‬يُنظر إرشاد الفحول للشوكاني ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 251‬‬

‫(‪ )3‬عون المعبود ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 59‬‬

‫(‪ )4‬المسالك في شرح المو ّ‬


‫طأ ‪ ،‬البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 305‬‬

‫(‪ )5‬الحاوي الكبير للماوردي ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 83‬‬

‫(‪ )6‬العدة في شرح العمدة في أحاديث األحكام ‪ ،‬البن العطار ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ / 146‬وانظر شرح صحيح مسلم‬
‫للنووي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 142‬‬

‫(‪ )7‬المسالك في شرح الموطأ ‪ ،‬البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 305‬‬


‫قال النووي ‪ " :‬ويتأكد استحبابه في خمسة أوقات ‪:‬‬

‫األول ‪ :‬عند الصالة ‪ ،‬سواء كان متطهر بماء ‪ ،‬أو تراب ‪ ،‬أو غير متطهر ؛ كمن لم يجد ماء‬
‫ــ ّ‬
‫وال ترابا ‪.‬‬

‫ــ الثّاني ‪ :‬عند الوضوء ‪ .‬ــ الثّالث ‪ :‬عند قراءة القرآن ‪.‬‬

‫ــ الرابع ‪ :‬عند االستيقاظ من النوم ‪ .‬ــ الخامس ‪ :‬عند تغير الفم ‪ ،‬وتغيره يكون بأشياء ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫ترك األكل والشرب ‪ ،‬ومنها ‪ :‬ما له رائحة كريهة ‪ ،‬ومنها ‪ :‬طول السكوت ‪ ،‬ومنها ‪ :‬كثرة‬
‫الكالم " (‪. )1‬‬

‫‪ /4‬وفيه دليل على جواز االجتهاد للنبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فيما لم يرد فيه نص من هللا‬
‫تعالى‪ ،‬وهو مذهب الفقهاء ‪ ،‬وأصحاب األصول ‪ ،‬وهو الصحيح المختار عندهم ‪ .‬فإنه صلى هللا‬
‫عليه وسلم جعل المشقة سببا ً لعدم أمره صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬ولو كان الحكم موقوفا ً على‬
‫النص؛ لكان سبب انتفاء أمره صلى هللا عليه وسلم عدم ورود النص به ‪ ،‬وال وجود المشقة(‪. )2‬‬

‫‪ /5‬وفيه بيان ما كان عليه صلى هللا عليه وسلم من الشفقة والرفق بأمته ‪.‬‬

‫‪ /6‬وفيه دليل على استحبابه عند كل صالة ؛ سواء كانت فريضة ‪ ،‬أو نافلة ‪ ،‬متكررة في زمان؛‬
‫كالتراويح ‪ ،‬والضحى ‪ ،‬أو متفرقة ؛ كالفرائض ‪ ،‬وتحية المسجد ‪ ،‬وسنة الوضوء ‪.‬‬

‫والسر في ذلك أنا مأمورون ـ في كل حال من أحوال التقرب هلل تعالى ـ أن نكون على حالة‬
‫كمال ونظافة ؛ إظهارا ً لشرف العبادة ‪ ،‬وقد قيل في حكمة السواك ‪ :‬إن األمر هنا متعلق‬
‫بالمالئكة ؛ فإن الملك يضع فاه على فم القارئ ‪ ،‬وهو يتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ؛ من الرائحة‬
‫الكريهة ؛ فسن له السواك ألجل ذلك (‪. )3‬‬

‫قال المبارك فوري ‪ :‬أي عند وضوئها ‪ ،‬لقوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬لوال أن أشقّ على‬
‫سواك عند ك ّل وضوء " ولخبر أحمد وغيره ‪‬لوال أن أشق على أمتي‬ ‫أ ّمتي ألمرتهم بال ّ‬
‫طهور) ‪ ،‬فتبين موضع السواك عند كل صالة ‪ ،‬والشافعية يجمعون‬ ‫سواك عند ك ّل ُ‬ ‫ألمرتهم بال ّ‬
‫بين الحديثين بالسواك في ابتداء كل منهما ‪ ،‬وألن علماءنا لم يروا أنه صلى هللا عليه وسلم‬
‫سواك عند ك ّل‬‫استاك عند قيامه إلى الصالة ‪ ،‬فيُجعل قوله صلى هللا عليه وسلم (ألمرتهم بال ّ‬
‫صالة) على كل وضوء ‪ ،‬بدليل رواية أحمد ‪ :‬ألمرتهم بالسواك عند كل وضوء " (‪. )4‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬انظر شرح صحيح مسلم للنووي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 143 ، 142‬‬

‫(‪ )2‬إحكام األحكام شرح عمدة األحكام ‪ ،‬البن دقيق العيد ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 108 ، 107‬‬

‫(‪ )3‬المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪. 107‬‬

‫(‪ )4‬تحفة األحوذي ‪ ،‬للمبارك فوري ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 29‬‬


‫‪ /7‬وفيه استحباب السواك لكل صالة ‪ ،‬سواء كان المصلي متطهرا ً بالماء ‪ ،‬أو التراب ‪ ،‬أو‬
‫عادمهما ‪ ،‬واستحبابه لصالة الجنازة ‪ ،‬ولركعة الوتر ‪ ،‬والمنذورة (‪. )1‬‬

‫‪ /8‬استحباب االستياك عند كل صالة ‪ ،‬فيدخل في ذلك الظهر والعصر للصائم وغيره ‪ ،‬ورأى‬
‫الشافعية كراهية االستياك للصائم بعد الزوال ‪ ،‬وهو قول ضعيف (‪. )2‬‬

‫‪ /9‬يستحب البداءة بالجانب األيمن من الفم بالسواك ‪ ،‬ويُستحب أن يكون بعود من أراك ؛ لورود‬
‫بعض األحاديث فيه ‪ ،‬وفيه منافع كثيرة ذكرها العلماء ‪ ،‬وهو المتعارف باالستياك ‪ .‬وقال‬
‫العلماء‪ :‬وبأي شيء استاك ـ مما يزيل التغيير ـ حصل ‪.‬‬

‫‪ /10‬والسواك الرطب مكروه عند المالكية ؛ ألنه طيب وذوق ومائع ‪ ،‬ويجوز اليابس (‪. )3‬‬

‫‪ /11‬ويُستحب أن يستاك بعرض األسنان ال بعرض الفم ؛ لئال يدمي لحم أسنانه ؛ فلو استاك‬
‫بعرض الفم حصل االستياك مع الكراهة ‪ ،‬ويُستحب إمرار السواك على طرف لسانه ‪ ،‬وكراسي‬
‫أضراسه ‪ ،‬وسقف حلقه إمرارا ً لطيفا ً (‪. )4‬‬

‫‪ /12‬من فوائد السواك ‪ :‬أنه مطهرة للفم ‪ .‬ومرضاة للرب ‪ ،‬ومطردة للشيطان ‪ ،‬ومفرحة‬
‫للمالئكة ‪ ،‬ويُذهب الحفر ‪ ،‬ويجلو البصر ‪ ،‬ويكفر الخطيئة ‪ ،‬وأسنده الدارقطني إلى ابن عباس‬
‫رضي هللا عنهما ‪ ":‬في السواك عشر خصال ‪ :‬يُذهب الحفر ‪ ،‬ويجلو البصر ‪ ،‬ويش ّد اللثّة ‪،‬‬
‫الرب تبارك وتعالى ‪ ،‬ويوافق‬ ‫ويطيّب الفم ‪ ،‬وينقّي البلغم ‪ ،‬وتفرح له المالئكة ‪ ،‬ويرضي ّ‬
‫السنّة ‪ ،‬ويزيد في حسنات الصّالة ‪ ،‬ويصحّ الجسم " وزاد الحكيم الترمذي ‪ :‬ويزيد الحافظ‬
‫حفظا ‪ ،‬وينبت الشعر ‪ ،‬ويصفي اللون (‪. )5‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬العدّة في شرح العمدة في أحاديث األحكام ‪ ،‬البن العطار ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 149‬‬

‫(‪ )2‬رياض األفهام في شرح عمدة األحكام ‪ ،‬للفاكهاني ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 251‬‬

‫(‪ )3‬المسالك في شرح موطأ مالك ‪ ،‬البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 240‬‬

‫(‪ ) 4‬العدّة في شرح العمدة في أحاديث األحكام ‪ ،‬البن العطار ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 150‬‬

‫(‪ )5‬رياض األفهام في شرح عمدة األحكام ‪ ،‬للفاكهاني ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 248‬‬
‫الرابعة‬
‫المحاضرة ّ‬
‫شرح حديث خيار المجلس‬
‫عن عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما‪ ,‬عن رسول هللا صلى هللا عليه و سلم ‪ :‬أنه قال‪ِ " :‬إذ‬
‫اح ٍد ِم ْن ُه َما بِا ْل ِخيَ ِار َما لَ ْم يَتَفَرقَا ‪َ ,‬و َكانَا ج َِم ْيعًا ‪ ,‬أو يُ َخيِّر أَ َح ُدهُ َما اآل َخ َر ‪,‬‬
‫تَبَايَ َع الرج َُال ْن فَكُ ُّل َو ِ‬
‫َب البَ ْي ُع ‪َ ,‬وإِ ْن تَفَرقَا بَ ْع َد أ َ ْن يَتَبَايَعَا َولَ ْم يَتْ ُر ْك‬ ‫فَ ِإ ْن َخي َر أ َ َح ُد ُه َما اآل َخ َر فَتَبَايَعَا َ‬
‫علَى ذَ ِلكَ ‪ ,‬فَقَ ْد َوج َ‬
‫َب البَ ْي ُع " متفق عليه ‪.‬‬ ‫اح ٌد ِم ْن ُه َما البَ ْي َع ‪ ,‬فَقَ َد َوج َ‬‫َو ِ‬

‫أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال " ال َب ِّيعان بالخيار ما لم‬‫وفي لفظ عن حكيم بن حزام ‪َّ ،‬‬
‫يفترقا أو قال ‪ :‬حت ّى يفترقا ‪ ،‬فإن صدّقا وبَينَا بُورك لهما في بيعهما ‪ ,‬وإن كذّبا وكتما ُم َحقَتْ‬
‫بركةُ بي ِعهما " متفق عليه ‪.‬‬

‫أوالً ‪ :‬تخريج الحديث‬


‫ّ‬
‫ــ أخرجه اإلمام البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب البيوع ‪ ،‬باب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع ‪،‬‬
‫رقم ‪. 2112 :‬‬

‫ــ وأخرجه اإلمام مسلم في صحيحه واللفظ له ‪ ،‬كتاب البيوع ‪ ،‬باب ثبوت خيار المجلس‬
‫للمتبايعين ‪ ،‬رقم ‪. 1531 :‬‬

‫ــ والرواية الثانية ‪ ،‬أخرجه اإلمام البخاري في صحيحه ‪ ،‬باب إذا بين البيعان ولم يكتما‬
‫ونصحا‪ ،‬رقم ‪. 2079 :‬‬

‫ــ وأخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب البيوع ‪ ،‬باب الصدق في البيع والبيان ‪ ،‬رقم ‪. 1532 :‬‬

‫ثانيا ً ‪ :‬الت ّعريف ّ‬


‫بالراويين ‪:‬‬

‫ابن عمر ‪ :‬هو عبد هللا بن عمر بن خطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد هللا بن‬
‫قرط بن رزاح بن عدي بن كعب ‪ ,‬القرشي ‪ ,‬العدوي ‪.‬‬

‫كنيته ‪ :‬أبو عبد الرحمان ‪ ,‬كان من فقهاء الصحابة ومفتيهم ‪ ,‬وزهادهم ‪ ,‬ومتورعيهم ‪,‬‬
‫وممن اعتزل الفتنة ‪ ,‬فلم يقاتل مع أحد من الفريقين تورعا ً ‪ ,‬ولم يكن يختلف عن سرية من‬
‫سرايا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ,‬واستصغره النبي صلى هللا عليه وسلم عام أ ُ ُحد ‪ ,‬وهو‬
‫ابن أربع عشرة ‪ ,‬وأجازه في الخندق ‪ ,‬وهو ابن خمس عشرة سنة ‪.‬‬

‫روى ابن وهب عن مالك ‪ :‬أنه قال ‪ :‬بلغ ابن عمر ستا ً وثمانين سنة ‪ ,‬وأفتى في اإلسالم‬
‫ستسن سنة ‪ ,‬وروى عنه نافع علما ج ًّما ‪.‬‬

‫وذكر غير واحد من العلماء ‪ :‬أنه توفي بمكة سنة ثالث وسبعين للهجرة ‪.‬‬
‫روى عنه ‪ :‬أوالده ‪ :‬سالم ‪ ,‬حمزة ‪ ,‬ونافع مواله ‪ ,‬وعبد هللا بن دينار ‪ ,‬وزيد بن أسلم ‪,‬‬
‫وعروة بن الزبير ‪ ,‬وال قاسم بن محمد ‪ ,‬وطاوس بن كيسان اليماني ‪ ,‬ومجاهد بن َجبْر ‪ ,‬وسعيد‬
‫بن المسيِب ‪ ,‬وأبو سلمة بن عبد الرحمان ‪ ,‬وعمرو بن دينار ‪ْ ,‬‬
‫وخل ٌق سواهم ‪.‬‬

‫ُروي له عن الرسول صلى هللا عليه وسلم ألف وستمائة وثالثون حديثًا (‪ , )1630‬اتفق‬
‫الشيخان على مائة وسبعين حديث ًل (‪ ، )170‬وانفرد البخاري بثمانين حديثًا (‪ , )80‬ومسلم بواحد‬
‫وثالثين حديثًا(‪. )1( )31‬‬

‫وحكيم بن حزام ‪ ,‬هو ابن خلويد بن عبد العزى بن قصي بن كالب القريشي ‪ ,‬األسدي ‪.‬‬

‫يكنى ‪ :‬أبا خالد ‪ ,‬وهو بن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬

‫ولد في جوف الكعبة ‪ ,‬وكان من أشرف قريش ووجوهها في الجاهلية واإلسالم ‪.‬‬

‫بثالث عشر سنة ‪ ,‬وشهد بدرا مشاركا ‪ ,‬وكان إذَّا اجتهد في دعائه قال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫كان مولده قبل الفيل‬
‫الذي نجاني أن كون قتيال يوم بدر !‬

‫وهو من مسلمة الفتح هو وبنوه ‪ :‬عبد هللا ‪ ,‬وخالد ‪ ,‬ويحيى ‪ ,‬وهشام ‪ ,‬وكلهم صحب النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬

‫وعاش حكيم بن حزام مئة وعشرينَ سنة ؛ ستين في الجاهلية ‪ ,‬وستين في اإلسالم ‪ ,‬وكان‬
‫عاقال شريفا ‪ ,‬فاضال تقيا ‪ ,‬سيدًا غنيا بماله ‪.‬‬

‫ُروي له عن الرسول هللا صلى هللا عليه وسلم أربعون حديثًا ‪ ,‬اتفق الشيخان منها على‬
‫أربعة ‪ ,‬روى عنه ‪ :‬سعيد بن المسيب ‪ ,‬و عورة بن الزبير ‪ ,‬وموسى بن طلحة بن عبد هللا ‪.‬‬
‫وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين للهجرة (‪. )2‬‬

‫ثالثا ً ‪ :‬شرح األلفاظ ‪:‬‬

‫ضا‪.‬‬
‫البيع ‪ :‬مصدر باع ‪ ,‬والبيع يستعمل بمعنى ‪ :‬الشراء أي ً‬

‫ضا اشتراه فهو من األضداد ‪.‬‬ ‫تقول العرب ‪ :‬باع الشيء يبيعه بيعًا ومبيعًا ‪ :‬شراه وباعه أي ً‬
‫وفي الحديث ‪ " :‬ال يخطب الرجل على خطبة أخيه ‪ ،‬وال يبع على بيع أخيه " أي ال يشتر على‬
‫شراء أخيه فإنما وقع النَّهي على المشتري ال على البائع ‪ .‬ويقال ‪ :‬للبائع والمشتري (بيِّعان) (‪)3‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رياض األفهام في شرح عمدة األحكام ‪ ،‬للفاكهاني ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ / 210. 206‬وانظر ترجمته في الطبقات‬
‫الكبرى ‪ ،‬البن سعد ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 142‬واالستعاب ‪ ،‬البن عبد البر ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 950‬أسد الغابة ‪ ،‬البن‬
‫األثير ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 336‬اإلصابة في تمييز الصّحابة ‪ ،‬البن حجر ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪ / 181‬سير أعالم النبالء ‪،‬‬
‫للذهبي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 203‬‬

‫(‪ )2‬انظر ترجمته في االستعاب ‪ ،‬البن عبد البر ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ / 362‬أسد الغابة ‪ ،‬البن عبد األثير ‪ ،‬ج ‪، 2‬‬
‫ص‪ / 58‬واإلصابة في تمييز الصحابة ‪ ،‬البن حجر ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 112‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى ‪َ " :‬وش ََر ْوهُ بِث َ َم ٍن بَ ْخ ٍس َد َرا ِهم َم ْعدُو َد ٍة وكا َنُ ْوا فِ ْي ِه ِم ْن الزا ِه ِدنَ "‬
‫يوسف‪ , 22/‬قال المفسرون ‪ :‬أي ‪ :‬باعوه (‪. )1‬‬

‫قال اإلمام المازري ‪ :‬لما كانت األمالك تنتقل عن أيدي مالكيها بعوض وبغير عوض ‪،‬‬
‫سموا المنتقل بعوض بيعا ً ‪ .‬فحقيقة البيع نقل الملك بعوض ‪ ،‬ولكن المعاوضة إن كانت على‬
‫الرقاب ‪ ،‬سموها بتسمية البيع ‪ ،‬وإن كانت على المنافع ‪ ،‬سموها بتسمية اإلجارة (‪. )2‬‬

‫ــ بالخيار ‪ :‬الخيار اسم من االختيار أو التخيير ‪ ،‬وهو طلب خير األمرين من إمضاء البيع أو‬
‫فسخه ‪ ،‬والمراد بالخيار هنا ‪ :‬خيار المجلس ‪ .‬ومعناه أن كال من البائع والمشتري له الحق في‬
‫إمضاء عقد البيع وعدم إمضائه (‪. )3‬‬

‫يتفرقا ‪ :‬أي ما لم يغادرا مجلس البيع ‪ ،‬أي مكانه ‪ ،‬واختلف في معنى التفرق بين‬ ‫ّ‬ ‫ــ ما لم‬
‫الحقيقة والمجاز (أي بالكالم أم باألبدان) ‪ ،‬كما سيأتي ‪ ،‬ومعناه أن الخيار ينقطع بالتفرق ‪،‬‬
‫والتفرق هنا هو إما التفرق باألبدان العرفي ‪ ،‬أو التفرق باألقوال (‪. )4‬‬

‫ــ أو يخيّر أحدهما اآلخر ‪ :‬أي يطلب منه أن يختار بين إمضاء العقد أو التراجع عنه ‪ .‬والمراد‬
‫بذلك أنهما بالخيار ما لم يتفرقا إال أن يتخايرا ولو قبل التفرق ‪ ،‬وإال أن يكون البيع بشرط الخيار‬
‫ولو بعد التفرق ‪.‬‬

‫قال النووي ‪ :‬معناه أن يقول ‪ :‬اختر إمضاء البيع ‪ ،‬فإذا اختار وجب البيع ‪ ،‬أي لزم‬
‫وانبرم(‪ . )5‬وفي إعرابه وحهان ‪:‬‬

‫أحدهما ‪ :‬جزم (يخير) عطفا ً على (ما لم يتفرقا) ‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬نصب (يخير) ‪ ،‬بأن مضمرة بعد أو ‪ ،‬والمعنى ‪ :‬إال أن يخير أحدهما اآلخر ‪.‬‬

‫والمعنى أنه ‪ :‬إن خير أحدهما اآلخر ‪ ،‬أي إذا اشترط أحدهما الخيار مدة معلومة فإن الخيار‬
‫ال ينقضي بالتفرق ؛ بل يبقى حتى يمضي مدة الخيار التي شرطها ‪ ،‬وقيل ‪ :‬المراد إذا اختار‬
‫إمضاء البيع قبل التفرق لزمه البيع حينئذ وبطل اعتبار التفرق (‪. )6‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫للرازي ‪ ،‬ص ‪. 43‬‬
‫(‪ )3‬مختار الصّحاح ‪ّ ،‬‬

‫(‪ )1‬رياض األفهام في شرح عمدة األحكام ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 173‬‬

‫(‪ )2‬المعلم بفوائد مسلم ‪ ،‬للمازري المالكي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 236 ، 235‬‬

‫(‪ )3‬نيل األوطار ‪ ،‬للشوكاني ‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪. 219‬‬

‫(‪ )6( )4‬سبل السالم ‪ ،‬للصنعاني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 45‬‬

‫(‪ )5‬شرح النووي على مسلم ‪ ،‬النّووي ‪ ،‬دار إحياء التراث العربي ـ بيوت ‪ ،‬ط ‪1392 ، 2‬هـ ‪ ،‬ج ‪، 10‬‬
‫ص‪. 175‬‬
‫ــ وجب البيع ‪ :‬ثبت ولزم الطرفين ‪.‬‬

‫ــ فإن صدّقا وبيّنا ‪ :‬أي صدق البائع في إخبار المشتري ‪ ،‬وبين العيب إن كان في السلعة ‪،‬‬
‫وصدق المشتري في قدر الثمن ‪ ،‬وبين العيب إن كان في الثمن ‪ ،‬ويحتمل أن يكون الصدق‬
‫والبيان بمعنى واحد ‪ ،‬وذكر أحدهما تأكيد لآلخر ‪.‬‬

‫ــ محقت بركة بيعهما ‪ :‬أي ذهبت بركته وهي زيادته ونماؤه ‪ ،‬ويحتمل أن يكون على ظاهره ‪،‬‬
‫وأن شؤم التدليس والكذب وقع في ذلك العقد فمحق بركته (‪. )1‬‬

‫رابعا ً ‪ :‬المعنى اإلجمالي للحديث‬

‫أباح الشارع الحكيم الخيار بين الناس استيفا ًء للمودَّة بينهم ‪ ,‬وقط ًعا للضغائن واألحقاد من‬
‫يتسرع أحد المتعاقَ َديْن في اإليجاب والقبول لظرف خاص يحيط به من غير أن‬ ‫َّ‬ ‫أنفسهم ‪ ,‬إذ قد‬
‫ونظرا‬
‫ً‬ ‫جراء التسرع في العقد الذي يتطلب رو َّيةً‬ ‫يلقي باالً لعواقب األمور التي تحصل من َّ‬
‫عدم إنفاذ العقد ‪ ,‬فيتولَّد‬
‫َ‬ ‫أن مصلحته تقتضي‬‫وتمكثًا ‪ ,‬بحيث يندم لزوال ذلك الظرف ‪ ,‬ث َّم يرى َّ‬
‫ضغينةٌ وحق ٌد ‪ ,‬ثم يعقبه تنازعٌ وتخاص ٌم ‪ ،‬األمر الذي يترتب عليه مفاسد‬ ‫من هذا الندم غيظٌ ف َ‬
‫ومضار حذر منها الشارع ‪ ،‬وقطع السبيل إليها ‪.‬‬

‫لذلك نجد الشارع الحكيم قد منح ـ في هذا الحديث ـ لكل من المتعاقدين حق الخيار لتدارك‬
‫ما عسى أن يكون قد فاته بالتسرع في إبقاء العقد وإمضائه أو في إبطاله وإلغائه ما داما في‬
‫مجلس العقد ‪ ،‬شريطة أن ال يختارا إمضاء البيع وعدم فسخه قبل التفرق (أي يتبايعان على أنه‬
‫ال خيار) ‪ ،‬وفي هذه الصورة يجب البيع ويستقر ويبطل اعتبار التفرق ‪.‬‬

‫وبهذا يراعي الشارع مصلحة المتعاقدين بتشريع الخيار لهما من حهة ‪ ،‬ويحافظ ـ من جهة‬
‫أخرى ـ على قيمة العقد بتقييده بشروط تمنعه من أن يكون عرضةً للنقص واإلبطال من غير‬
‫ب صحيح ‪.‬‬ ‫سب ِ‬
‫وذلك أن األصل في البيع اللزوم ؛ ألن القصد من البيع هو نقل الملك ‪ ،‬وهو فرع اللزوم ‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد أثبت الشارع في البيع الخيار رفقا ً بالمتعاقدين ‪ ،‬ودفعا ً الحتماالت الظلم أو الغبن أو‬
‫التغرير ‪ ،‬أو غير ذلك مما ينعدم فيه الرضا من العاقدين أو أحدهما (‪. )2‬‬

‫خامسا ً ‪ :‬فقه الحديث‬

‫‪ /1‬اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث ‪ ،‬فذهب الشافعي والثوري في أحد قوليه والليث‬
‫والعنبري واألوزاعي ‪ ،‬وأهل الظاهر ‪ ،‬وسفيان بن عيينة ‪ ،‬وابن المبارك ‪ ،‬وفقهاء أصحاب‬
‫الحديث ‪ ،‬وابن حبيب من المالكية إلى األخذ بظاهره ‪ ،‬وأن المراد منه االفتراق باألبدان ‪ ،‬وهو‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬نيل األوطار ‪ ،‬للشوكاني ‪ ،‬ج ‪. 222 ، 5‬‬

‫(‪ )2‬المؤنس في اعتبار خيار المجلس ‪ ،‬لمحمد علي فركوس ‪ ،‬الجمعة ‪ 29‬ربيع األول ‪1440‬هـ ‪2018 /‬م ‪،‬‬
‫‪https://ferkous.com/home/?q-ahkam-3 ، 20:43‬‬
‫قول سعيد بن المسيب ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وابن أبي ذئب من المدنيين ‪ ،‬وجماعة من الصحابة‬
‫والتابعين ‪ ،‬وأن المتبايعين إذا عقدا بيعا ً فهما بالخيار ما داما في مجلسهما ‪.‬‬

‫وذهب مالك وأبو حنيفة وصاحباه ‪ ،‬والثوري في رواية عنه ‪ ،‬وربيعة ‪ ،‬وروي عن‬
‫النخعي‪ ،‬وحكي عن شريح ‪ :‬إلى ترك العمل بظاهره ‪ ،‬وحملوا التفرق فيه على التفرق باألقوال‪،‬‬
‫وأنهما إذا عقدا البيع ‪ ،‬لم يكن ألحدهما خيار حتى لو بقيا في مجلسهما ‪.‬‬

‫ومن هؤالء من قال ‪ :‬هو على ظاهره ‪ ،‬لكن على الندب والترغيب ‪ ،‬ال على الوجوب ‪.‬‬

‫وواضح أن الفريق األول أخذ بظاهر اللفظ ‪ ،‬وهو المتبادر إلى الذهن من لفظ التفرق ‪ ،‬وهو‬
‫التفرق الحسي ‪ ،‬أي التفرق باألبدان ‪ ،‬والحديث نص في إثبات خيار المجلس ‪ ،‬وتأويل التفرق‬
‫من الظاهر الحسي إلى المعنى المحتمل خالف األصل كما هو مقرر في أصول الفقه ‪ ،‬وال يُلجأ‬
‫إلى التأويل إال عند موجبه من التعارض أو نحوه ‪ ،‬فإن لم يأت ما يعارضه ‪ ،‬فاألخذ بالظاهر أو‬
‫النص أولى ‪.‬‬

‫قال القاضي عياض ‪ :‬وهذا التأويل ال يساعده ظاهر الحديث ‪ .‬فإن الحديث نص في إثبات‬
‫خيار المجلس ‪ ،‬والتأويل خالفه ‪ ،‬وال حاجة بنا إلى التأويل إال عند التعارض ‪ ،‬ولم يجيء حديث‬
‫آخر يعارضه ‪ ،‬فاألخذ بالظاهر أو النص أولى (‪. )1‬‬

‫يتفرقا وكانا‬
‫ــ ومن األدلة على إرادة التفرق باألبدان قوله في حديث ابن عمر المذكور ‪ ":‬ما لم ّ‬
‫جميعا ً " وكذلك قوله " وإن ّ‬
‫تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع " فقد وجب البيع ‪،‬‬
‫فإن فيه البيان الواضح أن التفرق بالبدن ‪.‬‬

‫قال الخطابي ‪ :‬وعلى هذا وجدنا أمر الناس في عرف اللغة ‪ ،‬وظاهر الكالم ‪ ،‬فإذا قيل ‪:‬‬
‫تفرق الناس كان المفهوم منه التمييز باألبدان ‪ ،‬قال ‪ :‬ولو كان تأويل الحديث على الوجه الذي‬
‫صار إليه النخ عي لخال الحديث عن الفائدة ‪ ،‬وسقط معناه ‪ ،‬وذلك أن العلم محيط بأن المشتري ما‬
‫لم يوجد منه قبول البيع فهو بالخيار ‪ ،‬وكذلك البائع خياره ثابت في ملكه قبل أن يعقد البيع ‪،‬‬
‫وهذا من العلم العام الذي قد استقر بيانه (‪. )2‬‬

‫وبهذا تمسك من أثبت خيار المجلس ؛ وهو جماعة من الصحابة‪ :‬منهم علي وأبو برزة‬
‫األسلمي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم رضي هللا عنهم ‪ ،‬ومن التابعين شريح‬
‫والشعبي وطاوس وعطاء وابن أبي مليكة ‪ ،‬نقل ذلك عنهم البخاري ‪ ،‬ونقل ابن المنذر القول به‬
‫أيضا ً عن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة ‪ ،‬وعن الحسن البصري‬
‫واألوزاعي وابن جريج وغيرهم ‪ ...‬وحكاه أيضا ً عن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ‪.‬‬

‫وذهب المالكية إال ابن حبيب والحنفية كلهم وإبراهيم النخعي إلى أنها إذا وجبت الصفقة فال‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬انظر المعلّم في شرح صحيح مسلم ‪ ،‬للمازري ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ / 255‬وإكمال المعلّم للقاضي عياض ‪ ،‬ج ‪،5‬‬
‫ص ‪ / 159‬إحكام األحكام شرح عمدة األحكام ‪ ،‬البن دقيق العيد ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 104‬‬

‫سنن ‪ ،‬للخطابي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 119‬نيل األوطار ‪ ،‬للشوكاني ‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪. 220‬‬
‫(‪ )2‬معالم ال ّ‬
‫خيار (‪. )1‬‬

‫وللمالكية والحنفية أجوبة عن األحاديث القاضية بثبوت خيار المجلس ‪ ،‬فمنهم من رده لكونه‬
‫معارضا ً لما هو أقوى منه ‪ ،‬نحو قوله تعالى ‪ ":‬ياأيّها الّذين آمنوا ال تأكلوا أموالكم بينكم‬
‫بالباطل إالّ أن تكون تجارة عن تىاض منكم " النساء‪ ، 29/‬فإنها تدل على أنه بمجرد الرضا يتم‬
‫لبيع ‪.‬‬

‫قال القاضي عياض ‪ :‬وقد استدل أ صحابنا وموافقوهم بهذه اآلية ‪ ،‬فقال مالك وأبو حنيفة ‪:‬‬
‫تمام التراضي ‪ ،‬أي أن يعقد البيع باأللسنة ‪ ،‬فتنجزم العق دة بذلك ‪ ،‬ويرتفع الخيار ‪.‬‬

‫وقال الشافعي ‪ :‬بل تمام التراضي وجزمه بافتراق األبدان بعد عقد البيع ‪ ،‬أو بأن يقول‬
‫أحدهما لصاحبه ‪ :‬اختر ‪ ،‬فيقول ‪ :‬اخترت ‪ ،‬وذلك بعد العقدة أيضا ً ‪ ،‬فيجزم حينئذ (‪. )2‬‬

‫كما تمسك النافون لخيار المجلس بقوله تعالى ‪ ":‬أوفوا بالعقود " المائدة‪ ، 1/‬والراجع عن‬
‫بف به ‪ ،‬ومن ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬المسلمون على‬ ‫موجب العقد قبل التفرق لم ِ‬
‫شروطهم " والخيار بعد العقد يفسد الشرط ‪ ...‬وال يخفى أن هذه األدلة على فرض شمولها لمحل‬
‫النزاع أعم مطلقا ً ‪ ،‬فيبنى العام على الخاص ‪ ،‬والمصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع غير‬
‫جائز ‪.‬‬

‫ومن أهل القول الثاني من أجاب عن أحاديث خيار المجلس بأنها منسوخة بهذه األدلة ‪ .‬قال‬
‫في الفتح ‪ ":‬وال حجة في شيء من ذلك ؛ ألن النسخ ال يثبت باإلحتمال ‪ ،‬والجمع بين الدليلين‬
‫مهما أمكن ال يصار معه إلى الترجيح ‪ ،‬والجمع هنا ممكن بين األدلة المذكورة بغير تعسف وال‬
‫تكلف "(‪. )3‬‬

‫وأجاب بعضهم بأن إثبات خيار المجلس مخالف للقياس الجلي في إلحاق ما قبل التفرق بما‬
‫بعده ‪ ،‬وهو قياس فاسد االعتبار لمصادمته النص ‪.‬‬

‫وأجاب بعضهم بأن التفرق باألبدان محمول على االستحباب تحسينا ً للمعاملة مع المسلم ‪،‬‬
‫ويجاب عنه بأنه خالف الظاهر فال يُصار إليه إال لدليل ‪ ...‬وقيل ‪ :‬المراد بالمتبايعين المتساومان‬
‫قال في الفتح ‪" :‬ورد بأنه مجاز ‪ ،‬والحمل على الحقيقة أو ما يقرب منها أولى ‪ ...‬قال‬
‫البيضاوي‪ :‬ومن نفى خيار المجلس ارتكب مجازين لحمله التفرق على األقوال ‪ ،‬وحمله‬
‫للمتبايعين على المتساومين ‪ ،‬وأيضا ً فكالم الشارع يصان عن الحمل عليه ؛ ألنه يصير تقديره‬
‫أن المتساومين إن شاءا عقدا البيع ‪ ،‬وإن شاءا لم يعقداه ‪ ،‬وهو تحصيل حاصل ؛ ألن كل واحد‬
‫يعرف ذلك (‪. )4‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬نيل األوطار ‪ ،‬للشوكاني ‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪. 220‬‬

‫(‪ )2‬انظر رياض األفهام ‪ ،‬للفاكهاني ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 191‬‬

‫(‪ )4( )3‬فتح الباري ‪ ،‬البن حجر ‪ ،‬ج ‪ / 331 ، 330 ، 4‬ونيل األوطار للشوكاني ‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪. 221 ، 220‬‬
‫‪ /3‬وقد اختلف القائلون بان المراد بالتفرق تفرق األبدان ‪ ،‬هل له حد ينتهي إليه أم ال ؟‬
‫والمشهور الراجح من مذاهب العلماء على ما ذكره الحافظ ابن حجر أن ذلك موكول إلى‬
‫عد في العرف تفرقا ُحكم به وما ال فال (‪. )1‬‬
‫العرف‪ ،‬فكل ما ُ‬

‫‪ /4‬وقد أجاب المالكية بأن هذا الحديث معارض إلجماع أهل المدينة وعملهم ‪.‬وما كان كذلك‬
‫يقدم عليه العمل ‪ .‬فهذا يقدم عليه العمل ‪ .‬أما األول ‪ :‬فألن مالكا ً قال عقيب روايته ‪ ":‬وليس لهذا‬
‫عندنا حد معلوم ‪ .‬وال أمر معمول به فيه " وأما الثاني ‪ :‬فلما اختص به أهل المدينة من سكناهم‬
‫في مهبط الوحي ووفاة الرسول صلى هللا عليه وسلم بين أظهرهم ‪ ،‬ومعرفتهم بالناسخ‬
‫والمنسوخ ‪ ،‬فمخالفتهم لبعض األخيار تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل به من ناسخ أو دليل‬
‫راجح ‪ ،‬وال تهمة تلحقهم فيتعين اتباعهم ‪ .‬وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعملهم ‪.‬‬

‫وأجاب المثبتون لخيار المجلس ؛ بأن لفظ مالك ليس مصرحا ً بأن المسألة إجماع أهل‬
‫المدينة ‪ .‬ويعرف ذلك بالنظر في ألفاظه ‪ .‬وحتى لو كان هذا إجماعا ً فهو منتقص ‪ ،‬فإن ابن أبي‬
‫ذئب ـ من أقران مالك ومعاصريه ـ قد خالف مالكا ً رحمه هللا ‪.‬‬

‫قال القاضي عياض ‪ :‬وأما قول بعض أصحابنا أي المالكية ‪ :‬إنه مخالف للعمل ‪ ،‬فقال اإلمام‬
‫المازري ‪ :‬ال يعول عليه ؛ ألن العمل إذا لم يرد به عمل األمة بأسرها ‪ ،‬أو عمل من يجب‬
‫الرجوع إلى عمله ‪ ،‬فال حجة فيه ‪ ،‬قال ‪ :‬وكذلك حم ُل هذا على الندب بعيد ؛ ألنه نص على‬
‫إثبات الخيار في المجلس من غير أن يذكر استقالة ‪ ،‬وال علق ذلك بشرط (‪. )2‬‬

‫قال ابن العربي رحمه هللا ‪ ":‬والذي قصد مالك من المعنى ؛ قوله ‪ :‬هو أن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم لما جعل المتعاقدين بالخيار بعد تمام البيع ما لم يتفرقا ‪ ،‬ولم تكن لتفرقتهما وانفصال‬
‫أحدهما عن اآلخر وقت معلوم وال غاية معروفة إال أن يقوموا ‪ ،‬أو يقوم أحدهما على مذهب‬
‫المخالف ‪ ،‬وهذه جهالة يقف عليها انعقاد البيع فيصير من بيع المنابذة والمالمسة ‪ ،‬بأن يقول له ‪:‬‬
‫إن لمسته فقد وجب البيع ‪ ،‬وإذا نبذته أو نبذت الحصاة فقد وجب البيع ‪ ،‬وهذه صفة مقطوع‬
‫بفسادها في العقد ‪ ،‬فال يتردد الحديث ولم يتحصل المراد منه ‪ ،‬وإن كان فسره بما يبين الجهالة‬
‫فيه فيدخل تحت النهي عن الغرر عموما ً ‪ ،‬وتحت النهي عن بيع المالمسة والمنابذة تنبيها ً ‪،‬‬
‫وليس من قول النبي صلى هللا عليه وسلم وال تفسيره ‪ ،‬وإنما هو من فهم ابن عمر وتقديره‬
‫وأصل الترجيح أن يقدم المقطوع به على المظنون ‪ ،‬واألكثر رواية على األقل ‪ ،‬فهذا الذي قصد‬
‫مالك مما ال يدركه إال مثله ‪ ،‬وال يتفطن له أحد قبله وال بعده ‪ ،‬وهو إمام األمة غير ُمدافع في‬
‫ذلك " (‪. )3‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬نيل األوطار ‪ ،‬للشوكاني ‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪. 222 ، 221‬‬

‫(‪ )2‬انظر المعلم في شرح صحيح مسلم ‪ ،‬للمازري ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ / 255‬وإكمال المعلم ‪ ،‬للقاضي عياض ‪،‬‬
‫ج‪ ،5‬ص ‪ /، 159‬وانظر رياض األفهام ‪ ،‬للفاكهاني ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 190 ، 188‬‬

‫(‪ )3‬عارضة األحوذي ‪ ،‬البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 6‬ص ‪. 6‬‬


‫‪ /5‬المقصد الشرعي من إثبات خيار المجلس أن البيع يقع بغتة من غير ترو ‪ ،‬وقد يحصل الندم‬
‫بعد الشروع فيه ‪ .‬فيناسب إثبات الخيار لكل واحد من المتعاقدين ‪ ،‬دفعا ً لضرر الندم (‪. )1‬‬

‫‪ /6‬وفي الحديث الثاني داللة على ثبوت البركة للمتبايعين إذا صدقا وبينا ‪ ،‬وكأن المراد بالتبيين‬
‫هنا ‪ :‬تبيين عيب إن كان بالسلعة ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬وذلك بالنسبة إلى كل واحد منهما ‪ :‬البائع‬
‫والمشتري ‪.‬‬

‫وقد قال العلماء ‪ :‬إنه يجب أن يذكر من أمر سلعته ما إذا ذكره للبائع قلت رغبته فيها ‪،‬‬
‫والقصد ‪ :‬أن ال يقدما في تبايعهما على غش وال خديعة ‪ ،‬فقد جاء في الحديث ‪ ":‬من غشّنا‬
‫فليس منّا " (‪ )2‬؛ أي ‪ :‬ليس متبعا لسنتنا ‪ ،‬وال مهتديا ً بهدينا ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬إحكام األحكام شرح عمدة األحكام ‪ ،‬البن دقيق العيد ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 106‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب اإليمان ‪ ،‬باب قول النّبي صلّى هللا عليه وسلّم (من غشّنا فليس منّا) من‬
‫حديث أبي هريرة رضي هللا عنه ‪ ،‬برقم ‪. 101 :‬‬
‫المحاضرة الخامسة‬

‫عن بريدة رضي هللا عنه قال ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬القضاة ثالثة ‪ :‬اثنان‬
‫في النّار وواحد في الجنّة ‪ ،‬رجل عرف الحقّ فقضى به فهو في الجنّة ‪ ،‬ورجل عرف الحقّ فلم‬
‫يقض به وجار في الحكم فهو في النّار ‪ ،‬ورجل لم يعرف الحقّ فقضى للنّاس على جهل فهو‬
‫في النّار " أخرجه األربعة ‪ ،‬وهو صحيح ‪.‬‬

‫أوالً ‪ :‬تخريج الحديث‬


‫ّ‬

‫ــ أخرجه اإلمام أحمد في مسنده ‪. 230 ، 365/2 ،‬‬

‫ــ وأخرجه أبو داود في سننه ‪ ،‬رقم ‪. 3571 :‬‬

‫ــ وأخرجه الترمذي في سننه ‪ ،‬رقم ‪. 1326 :‬‬

‫ــ وأخرجه ابن ماجة في سننه ‪ ،‬رقم ‪. 2308 :‬‬

‫ثانيا ً ‪ :‬درجة الحديث وطرقه‬

‫حديث بريدة هذا حديث جيد وله طرق ‪ ،‬وجاء في بعض الطرق من طريق رواية خلف بن‬
‫خليفة بن صاعد األشجعي ‪ ،‬وهو قد اختلط وادعى أنه رأى عمرو بن حريث الصحابي رضي‬
‫هللا عنه ‪ ،‬وقد أنكر عليه ذلك اإلمام أحمد والجماعة ‪ ،‬وأن هذا من تخليطه ‪ ،‬وقد تابعه بعض‬
‫الرواة الثقاة عند أبي داود ‪ ،‬وهو حديث جيد ‪ ،‬وهذا الحديث صححه الحاكم ‪. )1( 90/4 :‬‬

‫ثالثا ً ‪ :‬ترجمة راوي الحديث‬

‫هو الصحابي أبو سهل بريدة بن الحصيب بن عبد هللا بن الحارث بن األعرج األسلمي‬
‫المدني ‪ ،‬يكنى بأبي عبد هللا ‪ ،‬وقيل بأبي سهل ‪ ،‬أسلم عام الهجرة بعد مرور النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم بهم مهاجر إلى المدينة هو ومن معه وكانوا نحو ثمانين ‪ ،‬وشهد الحديبية ‪ ،‬وبيعة‬
‫الرضوان ‪ ،‬وغزوة خيبر والفتح ‪ ،‬وحمل لواء األمير أسامة حين غزا أرض البلقاء إثر وفاة‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬استعمله النبي صلى هللا عليه وسلم على صدقة قومه ‪ .‬سكن‬
‫المدينة ثم تحول إلى البصرة وأقام بها ‪ ،‬وذهب غازيا ً إلى خراسان ونزل بمرو ‪ ،‬ونشر العلم بها‬
‫وأقام بها إلى أن توفي بها سنة ‪ 63‬هـ ودفن بها ‪ ،‬له جملة أحاديث (‪. )2‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سنن ‪ ،‬أبو محمد الحسين البغوي ‪ ،‬تـ ‪ :‬شعيب األرناؤوط ‪ ،‬المكتب اإلسالمي ‪ ،‬دمشق ‪،‬‬
‫(‪ )1‬مختصر شرح ال ّ‬
‫ط‪1403 ، 2‬هـ‪1983/‬م ‪ ،‬ج ‪ ، 10‬ص ‪ / 118‬سبل السالم شرح بلوغ المرام ‪ ،‬للصنعاني ‪ ،‬دار الحديث (دط‬
‫ت) كتاب القضاة ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ / 565‬مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ‪ ،‬للشربيني ‪ ،‬مطبعة مصطفي‬
‫محمد ‪ ،‬ج ‪. 372 ، 4‬‬
‫رابعا ً ‪ :‬شرح األلفاظ‬

‫ــ القضاة ‪ :‬جمع قاضي ‪ ،‬والفعل منه قضى ‪ ،‬وهو لغة ‪ :‬لفظ مشترك بين إحكام الشيء والفراغ‬
‫منه ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪ ":‬فقضاهنّ سبع سماوات " فصلت ‪ . 12/‬وإمضاء األمر " وقضينا إلى‬
‫بني إسرائيل " اإلسراء‪ ، 4/‬بمعنى حكم وفصل والحتم واإللزام ‪ ،‬وقد يطلق على األمر ‪ ،‬قال‬
‫تعالى ‪ ":‬وقضى ر ّبك " اإلسراء ‪ ، 23/‬والقضاء ‪ :‬الوالية المعروفة ‪.‬‬

‫واصطالحا ً ‪ ،‬عرف بعدة تعاريف ‪:‬‬

‫ـ عرفه األحناف بأنه ‪ " :‬فصل الخصومات ‪ ،‬وقطع النزاعات ‪ ،‬وبأنه قول ملزم صادر عن‬
‫والية عامة " (‪. )1‬‬

‫ـ وعرفه ابن عرفة ‪ " :‬القضاء صفة حكمية توجب لموصفها نفوذ حكمه الشرعي ‪ ،‬ولو بتعديل‬
‫أو تجريح ‪ ،‬ال في عموم مصالح المسلمين " (‪. )2‬‬

‫ـ وقال ابن تيمية ‪ ":‬تبيين الحكم الشرعي ‪ ،‬واإللزام به ‪ ،‬وفصل الخصومات " (‪. )3‬‬

‫ـ وقال الصنعاني ‪ ":‬إلزام ذي الوالية بعد الترافع ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو اإلكراه بحكم الشرع في الوقائع‬
‫الخاصة لمعين أو جهة ‪ ،‬والمراد بالجهة كالحكم لبيت المال أو عليه " (‪. )4‬‬

‫ــ فجار في الحكم ‪ :‬أي مال عن الحق وظلم ‪ ،‬عالما ً به متعمدا ً له ‪.‬‬

‫ــ على جهل ‪ :‬حال من فاعل قضى ‪ ،‬أي قضى للناس جاهالً ‪.‬‬

‫خامسا ً ‪ :‬المعنى اإلجمالي للحديث‬

‫القضاء من أعظم الفروض الواجبة ‪ ،‬لفصل النزاع والخصومات ‪ ،‬ولهذا جاءت األدلة ببيان‬
‫خطره مع عظيم منزلته ‪ .‬ومنها هذا الحديث الذي يتضمن التحذير من الجور في القضاء ‪ ،‬أو‬
‫التعرض له مع الحهل ‪.‬‬

‫فنص على أن القضاة ثالثة ‪ :‬قاض واحد في الج ّنة ‪ :‬وهو القاضي الذي عرف الحق‬
‫وقضى به ‪ ،‬فهو لذلك في الجنة ‪ ،‬والمراد بالحق ما وافق أحكام القرآن والسنة ‪ ،‬أو مستنبط‬
‫منهما استنباطا ً شرعيا ً ممن له أهلية ‪ ،‬لذلك فإن اجتهد في قضية وفق الشرع ‪ ،‬مستغرقا ً الوسع‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬حاشية ابن عابدين ‪ ،‬ج ‪ ، 21‬ص ‪. 260‬‬

‫(‪ )2‬شرح حدود ابن عرفة ‪ ،‬محمد بن قاسم األنصاري ‪ ،‬المكتبة العلمية ‪ ،‬ط ‪1350 ، 1‬هـ ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪433‬‬
‫‪ /‬القوانين الفقهية ‪ ،‬البن جزي ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط ‪( ، 2‬د ت) ج ‪ ، 6‬ص ‪. 219‬‬

‫(‪ )3‬كشاف القناع عن متن اإلقناع ‪ ،‬منصور بن يونس البهوتي ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بيروت (د ط د ت) ج‬
‫‪ ،6‬ص ‪. 285‬‬

‫(‪ )4‬سبل السالم ‪ ،‬للصنعاني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 565‬‬


‫فيها ‪ ،‬عالما ً باألحكام ‪ ،‬قضا ًء وفقها ً نال الجنة لعدله وإنصاف الظالم من المظلوم ‪ ،‬وإعطاء كل‬
‫ذي حق حقه ‪.‬‬

‫والقاضي الثّاني ‪ ،‬هو من قضى بالجهل مع عدم المعرفة ‪ ،‬فهو متوعد بالنار ؛ ألنه بجهله‬
‫يكون ظالما ً لنفسه ؛ ألنه ليس أهالً لذلك ولغيره ؛ حيث بجهله ال يحقق العدل لمستحقه وال‬
‫يوصله إليه ‪ ،‬وال تنقطع المنازعات ‪.‬‬

‫والقاضي الثّالث ‪ ،‬وهو من يقضي بغير الحق مع العلم ‪ ،‬وهو متوعد بالنار ؛ ألنه يقضي‬
‫بالظلم وهو عارف بذلك فيكون ظالما ً لنفسه ولغيره ؛ حيث بجوره ال يحقق العدل لمستحقه‬
‫المطلوب منه شرعا ً وال يوصله إليه ‪ .‬فاستحق بذلك الوعيد بالنار ‪.‬‬

‫ولهذا الوعيد تحاشى القضاء كبار أهل العلم والفضل ‪ ،‬فكانوا يفرون منه خوفا ً من أن ال‬
‫يستوفوا الحق ‪ ،‬أو يحصل شيء يلحقهم فيه تقصير ‪ ،‬فقال النووي ‪ ":‬هذا أص ٌل عظيم في‬
‫اجتناب الوالية السيما لمن كان فيه ضعف ‪ ،‬وهو في حق من دخل فيها بغير أهليه ولم يعدل‬
‫فإنه يندم على ما فرط فيه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة ؛ وأما من كان أهالً لها ‪ ،‬وعادل فيها ؛‬
‫فأجره عظيم كما تضافرت به األخبار ‪ ،‬ولكن في الدخول فيها خطر عظيم ‪ ،‬ولذلك امتنع‬
‫األكابر منها ‪ ،‬فامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب ‪ ،‬وامتنع منه أبو‬
‫حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه ؛ والذين امتنعوا من األكابر جماعة كثرون " (‪. )1‬‬

‫قال ابن القيم ‪ ":‬ولهذا جاء في القاضي من الوعيد والتخويف ما لم يأت نظيره في المفتي ‪،‬‬
‫كما رواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة رضي هللا عتها ‪ ،‬أنها ذكر عندها القضاة فقالت‬
‫سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول ‪ ":‬يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدّة‬
‫الحساب ما يتمنّى أنّه لم يقض بين اثنين في تمرة قط " وروى الشعبي عن مسروق عن عبد‬
‫هللا يرفعه ‪ ":‬ما من حاكم يحكم بين النّاس إالّ وك ّل به ملك آخذ بقفاه حتّى يقف به على شفير‬
‫جهنّم ‪ ،‬فيرفع رأسه إلى هللا فإن أمره أن يقذفه قذفه في مهوى أربعين خريفا ً " ‪.‬‬

‫وقال عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ‪ ":‬ويل لد ّيانَ َم ْن في األرض ِم ْن د ّيانَ َم ْن في‬
‫هوى ‪ ،‬وال على‬ ‫يقض على ً‬‫ِ‬ ‫يلقونه ‪ ،‬إالّ َم ْن أمر بالعدل ‪ ،‬وقضى بالحقّ ‪ ،‬ولم‬ ‫سماء ‪ ،‬يوم ْ‬ ‫ال ّ‬
‫ب ‪ ،‬وجعل كتاب هللا مرآةً بين عينيه " وفي سنن أبي داود من‬ ‫ب وال وع ٍ‬ ‫قراب ٍة ‪ ،‬وال على ر َ‬
‫غ ٍ‬
‫حديث أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ " :‬من طلب قضاء المسلمين حتّى‬
‫يناله ث ّم غلب عدله جوره فله الجنّة ‪ ،‬ومن غلب جوره عدله فله النّار " وفي سنن البيهقي من‬
‫حديث ابن جريج عن عطاء ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬هللا مع‬
‫القاضي ما لم يَج ُْر ‪ ،‬فإذا جار برئ هللا منه ‪ ،‬ولزمه الشّيطان " وفيه من حديث حسين المعلم‬
‫عن الشيباني عن ابن أبي أوفى قال ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬إنّ هللا مع القاضي‬
‫ما لم يجر ‪ ,‬فإذا جار وكله إلى نفس ِه " ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ‪ ،‬علي بن سلطان محمد القري ‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬ط ‪، 1‬‬
‫‪1422‬هـ‪2002/‬م ‪ ،‬كتاب اإلمارة والقضاء ‪ ،‬ج ‪ ، 6‬ص ‪ / 2427‬ابن باز ‪ ،‬شرح بلوغ المرام ‪،‬‬
‫‪. https//binbaz.org.sa‬‬
‫وفي السنن األربعة من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه ‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫‪ ":‬من ق ّعد قاضيا ً بين المسلمين فقد ذبح نفسه بغير سكين " وفي سنن البيهقي من حديث أبي‬
‫حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ ":‬ويل لألمراء ‪ ،‬وويل للعُرفاء ‪،‬‬
‫وويل لألمناء ‪ ،‬ليتمنّين أقوام يوم القيامة أنّ نواصيَهم كانت معلّقة بالثريّا يتجلجلون بين‬
‫سماء واألرض ‪ ,‬وأنّهم لم يلوا عمالً " (‪. )1‬‬
‫ال ّ‬
‫سادسا ً ‪ :‬فقه الحديث‬

‫‪ /1‬حكم القضاء ‪ :‬القضاء من الفروض الواجبة على الكفاية ‪ ,‬مثلها مثل األمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر ‪,‬وإقامة الحدود ‪ ,‬بغرض إنصاف المظلومين ‪ ,‬إذا قام به الكفء ‪ ,‬ويتعين‬
‫على واحد في حال عدم وجود غيره ‪ ،‬أو عدم وجود األصلح فيجب عليه وجبًا عينيا ‪ ,‬ويعان‬
‫ويؤجر (‪. )2‬‬
‫‪ /2‬شروط القاضي ‪ :‬اشترط العلماء في القاضي شرو ً‬
‫طا كثيرة منها (‪: )3‬‬

‫اإلسالم ‪ ,‬والتكليف ‪ ,‬والعدالة ‪ ,‬والذكورة ‪ ,‬والبلوغ ‪ ,‬وأن يكون سليم الحواس ‪ ،‬واشترط‬
‫البعض منهم العلم ‪ ،‬قال في مختصر شرح السنة ‪:‬‬

‫" إنه ال يجوز لغير المجتهد أن يتقلد القضاء ‪ ،‬وال يجوز لإلمام توليته قال ‪ :‬والمجتهد من‬
‫جمع خمسة علوم ‪ :‬علم كتاب هللا ‪ ,‬وعلم سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ,‬وأقاويل علماء‬
‫السلف من إجماعهم واختالفهم ‪ ,‬وعلم اللغة ‪ ,‬وعلم القياس ‪ ،‬وهو طريق استنباط الحكم من‬
‫الكتاب والسنة إذا لم يجده صري َحا في نص كتاب أو سنة أو إجماع ؛ فيجب أن يعلم من علم‬
‫سر‪ ,‬والخاص والعام ‪ ،‬والمحكم والمتشابه ‪ ،‬والكراهة‬ ‫الكتاب الناسخ والمنسوخ ‪ ،‬والمجمل والمف َّ‬
‫والتحريم ‪ ،‬واإلباحة والندب ‪ ,‬ويعرف من السنة هذه األشياء ‪ ,‬ويعرف منها الصحيح‬
‫والضعيف‪ ،‬والمسند والمرسل ‪ ,‬ويعرف ترتيب السنة على الكتاب وبالعكس حتى إذا وجد حديثًا‬
‫ال يوافق ظاهره الكتاب اهتدى إلى وجه محمله ‪ ،‬فإن السنة بيان للكتاب فال تخالفه ‪ ,‬إنما تجب‬
‫معرفة ما ورد منها من أحكام الشرع دون ما عداها من القصص واألخبار والمواعظ ‪ ,‬وكذا‬
‫يجب أن يعرف من علم اللغة ما أتى في الكتاب والسن ة من أمور األحكام دون اإلحاطة بجميع‬
‫لغات العرب ‪ ,‬ويعرف أقاويل الصحابة والتابعين في األحكام ‪ ،‬ومعظم فتوى فقهاء األمة حتى‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬إعالم الموقّعين ‪ ،‬البن القيم الجوزية ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 30‬‬

‫(‪ )2‬المجموع لل ّنووي ‪ ،‬تـ ‪ :‬محمد نجيب المطيعي ‪ ،‬دار إحياء التراث العربي ‪ ،‬بيروت ـ لبنان ـ ط ‪( ، 1‬دت)‬
‫ج ‪ ، 22‬ص ‪. 215‬‬

‫(‪ ) 3‬المحلى ‪ ،‬البن حزم ‪ ،‬تـ ‪ :‬أحمد محمد شاكر ‪ ،‬دار الفكر ـ بيروت ـ (دط ت) ‪ ،‬ج ‪ ، 8‬ص ‪ ، 528‬كتاب‬
‫األقضية ‪ ،‬مسألة ما يجب فيمن يلي القضاء ‪ /‬تحفة المحتاج بشرح المنهاج ‪ ،‬ط العلمية ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪/ 344‬‬
‫شرح حدود ابن عرفة ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ / 440‬بدائع الصنائع ‪ ،‬للكاساني ‪ ،‬تـ ‪ :‬علي محمد عوض ‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط ‪1406 ، 2‬هـ ـ ‪1986‬م ‪ ،‬ج ‪ ، 7‬ص ‪ 3‬وما بعدها ‪ /‬كشاف القناع ‪ ،‬للباهوتي ‪ ،‬ج ‪، 6‬‬
‫ص ‪. 294‬‬
‫ال يقع حكمه مخالفا ً ألقوالهم فيأمن فيه خرق اإلجماع ‪ ,‬فإذا عرف كل نوع من هذه األنواع فهو‬
‫مجتهد ‪ ،‬وإذا لم يعرفها فسبيله التقليد ‪. )1( )...‬‬

‫‪ /3‬حكم تولّي المرأة القضاء ‪ :‬اختلف العلماء في هذه المسألة على ثالثة أقوال ‪:‬‬

‫األول ‪ :‬وهو مذهب الجمهور (الشافعية (‪ ، )2‬والحنابلة (‪ ، )3‬وجمهور المالكية (‪)4‬‬


‫القول ّ‬
‫وغيرهم) ذهب هذا المذهب إلى عدم جواز والية المرأة في أي نوع من أنواع القضاء ‪ ،‬سواء‬
‫أكانت في قضايا األموال ‪ ،‬أم في قضايا القصاص والحدود ‪ ،‬أم في غير ذلك من القضايا ‪ ،‬ولو‬
‫وليت ‪ ،‬كان َمن والها آثما ً ‪ ،‬وال ينفذ قضاؤها ‪ ،‬ولو كان موافقا ً للحق ‪ .‬واستدلوا بما يلي‪:‬‬

‫قوامون على ال ّنساء " ووجه الداللة منه حصر ال ِقوامة في‬‫الرجال ّ‬‫ــ استدلوا بقوله تعالى ‪ّ ":‬‬
‫الرجال دون النساء ‪ ،‬فعلى هذا ال تصح والية المرأة للقضاء ؛ ألن في قضائها قوامة على‬
‫الرجال ‪ ،‬وهذا مما يتعارض مع اآلية الكريمة (‪. )5‬‬

‫ــ عن أبي بكرة رضي هللا عنه ‪ ،‬قال ‪ ":‬لقد نفعني هللا بكلمة سمعتها من رسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلّم أيّام الجمل ‪ ،‬بعدما كدتُ أن ألحق بأصحاب الجمل ‪ ،‬فأقاتل معهم ‪ ،‬قال ‪ :‬ل ّما بلغ‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم أنّ أهل فارس ملّكوا عليهم بنت كسرى ‪ ،‬قال ‪ ":‬لن يفلح قوم‬
‫ولوا أمرهم امرأة " (‪. )6‬‬

‫فهوظاهر في منع المرأة من جميع األمور والشؤون ‪ ،‬فتكون شاملة للقضاء وسائر‬
‫الواليات األخرى ‪ ،‬حتى ولو كانت واليات خاصة ؛ لكن اإلجماع قام على استثناء الواليات‬
‫الخاصة كالوصايا على اليتامى ‪ ،‬والوالية األسرية ‪ ،‬فجاز إسنادها للمرأة ‪ ،‬وتبقى الواليات‬
‫العامة على عموم الدليل ‪ ،‬وهو المنبع ‪ ،‬فتكون المرأة ممنوعة من الواليات العامة ومنها‬
‫القضاء‪ ،‬دون الواليات الخاصة (‪. )7‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬مختصر شرح الس ّنة ‪ ،‬أبو محمد الحسين البغوي ‪ ،‬تـ ‪ :‬شعيب األرناؤوط ‪ ،‬المكتب اإلسالمي ‪ ،‬دمشق ‪،‬‬
‫ط‪1403 ، 2‬هـ ـ ‪1983‬م ‪ ،‬ج ‪ ، 10‬ص ‪ / 76‬سبل السالم للصنعاني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 565‬‬

‫(‪ )2‬شرح السنّة ‪ ،‬للبغوي ‪ ،‬ج ‪ ، 10‬ص ‪ / 77 ، 76‬سبل السالم ‪ ،‬للصنعاني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪/ 575‬المجموع ‪،‬‬
‫للنووي ‪ ،‬ج ‪ ، 22‬ص ‪. 215‬‬

‫(‪ )3‬كشاف القناع ‪ ،‬للبهوتي ‪ ،‬ج ‪ ، 6‬ص ‪. 294‬‬

‫(‪ )4‬أحكام القرآن ‪ ،‬البن العربي ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ / 484 ، 483‬القوانين الفقهية ‪ ،‬البن جوزي ‪ ،‬ص ‪ / 221‬نيل‬
‫األوطار للشوكاني ‪ ،‬ج ‪ ، 9‬ص ‪. 167‬‬

‫المكرمة ‪( ،‬دط د ت) ص ‪ / 65‬الجامع ألحكام‬


‫ّ‬ ‫(‪ )7( )5‬األحكام السلطانية ‪ ،‬للماوردي ‪ ،‬دار الباز ‪ ،‬مكّة‬
‫القرآن ‪ ،‬للقرطبي ‪ ،‬تـ هشام سمير البخاري(د ط) ‪2003‬م ‪،‬دار عالم الكتب ‪،‬الرياض ـالسعودية ‪،‬ج‪ 3‬ص‪112‬‬

‫ي صلّى هللا عليه وس ّلم إلى كسرى‬


‫(‪ )6‬أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب المغازي ‪ ،‬باب ‪ :‬كتاب النب ّ‬
‫وقيصر‪ ،‬برقم ‪ / 4425 :‬والنسائي في سننه ‪ ،‬كتاب آداب القضاة ‪ ،‬باب النهي عن استعمال النساء في الحكم‪،‬‬
‫برقم ‪. 5388 :‬‬
‫ــ حديث بريدة بن الحصيب السابق ‪ :‬ووجه الداللة من الحديث أنه نص على كون القاضي‬
‫رجالً ‪ ،‬فيدل الحديث بمفهومه المخالف على خروج المرأة ‪ ،‬وعدم صالحيتها للقضاء ‪.‬‬

‫القول الثاني ‪ :‬وهو مذهب الحنفية (‪ : )1‬الذين يُنسب إليهم جواز تولي المرأة القضاء ‪ ،‬لكن في‬
‫األمور التي يصح لها أن تشهد فيها ‪ ،‬وهي ما عدا مسائل الحدود والقصاص ‪ ،‬فيجوز أن تتولى‬
‫القضاء فيما يتعلق باألموال ‪.‬‬

‫قال في بدائع الصنائع ‪ ":‬وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد (التعيين) في الجملة ؛‬
‫ألن المرأة من أهل الشهادات في الجملة ‪ ،‬إال أنها ال تقضي بالحدود والقصاص ؛ ألنه ال شهادة‬
‫لها في ذلك ‪ ،‬وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة " (‪ ، )2‬وقالوا ‪ :‬إن وافق قضاؤها الحق‬
‫وحصول اإلثم لمن والها ‪.‬‬

‫واستدلوا بحديث ‪ ":‬لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " على صحة ما قضت به في غير‬
‫مسائل القصاص والحدود ‪ ،‬وكان استداللهم بالقياس ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إن القضاء يُشارك الشهادة في باب‬
‫الوالية ‪ ،‬والمرأة يصح لها أن تشهد في غير الحدود والقصاص ‪ ،‬فيصح أن تكون قاضية في‬
‫غير الحدود والقصاص ‪.‬‬

‫واستدلوا لذلك بمايلي ‪:‬‬

‫ــ بحديث " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " على صحة ما قضت به في غير مسائل القصاص‬
‫والحدود ‪.‬‬

‫ــ وقوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬والمرأة راعية في بيت زوجها " ووجه االستدالل ‪ :‬أنهم قالوا‬
‫بما أن النبي صلى هللا عليه وسلم قد جعل لها الوالية في بيت زوجها ‪ ،‬فهذا دليل على أنها أهل‬
‫للوالية ‪.‬‬

‫ــ القياس ‪ ،‬وذلك بقياس القضاء على الشهادة فــ(أهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة ) ؛ فقالوا‪:‬‬
‫إن القضاء يشارك الشهادة في باب الوالية ‪ ،‬والمرأة يصح لها أن تشهد في غير الحدود‬
‫والقصاص ‪ ،‬فيصح أن تكون قاضية في غير الحدود والقصاص (‪ .. )3‬وهو من أقوى أدلتهم ‪.‬‬

‫القول الثالث ‪ :‬وهو مذهب ابن جرير الطبري ‪ ،‬وابن حزم الظاهري ‪ ،‬ومحمد بن الحسن من‬
‫الحنفية ‪ ،‬والمازري من المالكية ‪ ،‬القائل بجواز تولية المرأة القضاء مطلقا ً ‪.‬‬

‫قال ابن حزم (‪( : )4‬مسألة ‪ :‬وجائز أن تلي المرأة الحكم ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ‪ .‬وقد روي‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬بدائع الصنائع ‪ ،‬للكاساني ‪ ،‬ج ‪ ، 7‬ص ‪. 3‬‬

‫(‪ )2‬المصدر السابق ‪ ،‬الصفحة نفسها ‪.‬‬

‫(‪ )3‬بدائع الصنائع ‪ ،‬للكاساني ‪ ،‬ج ‪ ، 7‬ص ‪. 3‬‬

‫(‪ )4‬المحلّى ‪ ،‬البن حزم ‪ ،‬كتاب الشهادات ‪ ،‬مسألة تولي المرأة الحكم ‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة ‪. 527/8 ،‬‬
‫عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ‪ ،‬أنه ولى الشفاء (‪ )1‬امرأة من قومه السوق ‪ .‬فإن قيل‪ :‬قد‬
‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬لن يفلح قو ٌم ولوا أمرهم امرأة " ‪ .‬قلنا ‪ :‬إنما قال ذلك‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في األمر العام الذي هو الخالفة ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الشفاء بنت عبد هللا بن عبد شمس ‪ ، ...‬القرشية العدوية ‪ ،‬أم سليمان بن خيثمة ‪ ،‬وقيل اسمها ليلى ‪،‬‬
‫وقيل إنّها من المبايعات والمهاجرات األوائل ‪ ،‬أ ّمها فاطمة بنت وهب ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنّ رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلّم كان يقيل عندها ‪ ،‬وكان عمر رضي هللا عنه يقدمها في الري ‪ ،‬ويرضاها ‪( .‬أسد الغابة ‪ ،‬ج ‪ ، 7‬ص‬
‫‪. 177‬‬
‫سادسة‬
‫المحاضرة ال ّ‬
‫شرح حديث شرط الولي في عقد الزواج‬

‫عن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه ‪ ،‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ‪ ":‬ال‬
‫نكاح إالّ بول ّ‬
‫ي " صحيح ‪.‬‬

‫وعن عائشة رضي هللا عنها أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ‪ ":‬أيّما امرأة نكحت‬
‫بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ‪ ،‬فنكاحها باطل ‪ ،‬فنكاحها باطل " صحيح ‪.‬‬

‫أوالً ‪ :‬تخريج الحديث‬


‫ّ‬

‫األول ‪:‬‬
‫‪ /1‬الحديث ّ‬

‫ــ أخرجه اإلمام أحمد في مسنده ‪ ،‬ج ‪ ، 66 ، 4‬قال أحمد شاكر ‪ :‬إسناده صحيح ‪.‬‬

‫ــ وأخرجه أبو داود في سننه ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬باب في الولي ‪ ،‬برقم‪. 2085 :‬‬

‫ــ وأخرجه الترمذي في سننه ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬باب ال نكاح إال بولي ‪ ،‬برقم ‪ ، 1101 :‬وقال فيه‬
‫اختالف ‪.‬‬

‫ــ وأخرجه ابن حبان في صحيحه ‪ ،‬برقم ‪ 4075 :‬وصححه ‪.‬‬

‫ــ وابن ماجة في سننه ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬باب ال نكاح إال بولي ‪ ،‬برقم ‪ ، 1،1881،1537 :‬وقال‬
‫األلباني صحيح ‪.‬‬

‫‪ /2‬الحديث الثّاني ‪:‬‬

‫ــ أخرجه أبو داود في سننه ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬باب في الولي ‪ ،‬برقم ‪ ،2083 :‬وقال األلباني‬
‫صحيح ‪.‬‬

‫ــ والترمذي في سننه ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬باب ال نكاح إال بولي ‪ ،‬برقم ‪،14005،1102 :‬وقال ‪:‬‬
‫حسن ‪.‬‬

‫ــ وابن ماجة في سننه ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬باب ال نكاح إال بولي ‪ ،‬برقم ‪ ، 1879 ، 1536 :‬وقال‪:‬‬
‫صحيح ‪.‬‬

‫ــ والبيهقي في السنن الكبرى ‪ ، 105/7‬وقال ‪ :‬صحيح ‪.‬‬

‫ــ وابن حبان في صحيحه ‪ ،‬برقم ‪. 4074 :‬‬


‫ثانيا ً ‪ :‬ترجمة أبو موسى األشعري‬

‫واسمه ‪ :‬أبو موسى عبد هللا بن قيس األشعري ‪ ،‬هو صحابي جليل ‪ ،‬واله النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم على كل من زبيد وعدن ‪ ،‬كما قد واله عمر بن الخطاب على البصرة ‪ ،‬أما في عهد‬
‫عثمان بن عفان فقد تولى مدينة الكوفة ‪ ،‬وقد شهد العديد من الغزوات مع النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم ومع الصحابة الكرام رضي هللا عنهم ‪ .‬ينتمي أبو موسى عبد هللا بن قيس األشعري إلى‬
‫قبيلة األشعريين القحطانية اليمانية ‪ ،‬حيث قدم أبو موسى األشعري إلى مكة قبل اإلسالم ‪ ،‬وقد‬
‫أسلم في مكة المكرمة ‪ ،‬وقد رحل إلى قبيلته في اليمن ‪.‬‬

‫وتعتبر غزوة خيبر هي أولى المعارك التي شهدها أبو موسى األشعري مع النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬كما أنه شارك في أوطاس التي بعثها النبي صلى هللا عليه وسلم بعد غزوة حنين‬
‫والتي قادها أبو عامر األشعري عم أبي موسى لقتال فلول هوازن بقيادة دريد بن الصمة ‪ ،‬والتي‬
‫قُتل فيها أبا عامر ‪ ،‬وقد قتل أبو موسى قاتله ‪ ،‬فدعا لهما النبي صلى هللا عليه وسلم عند عودته‬
‫عامر " حتى رأيت بياض إبطه ‪ ،‬ثم قال " الله ّم‬
‫ٍ‬ ‫من خالل قوله ‪ ":‬الله ّم اغفر لعُبي ٍد ‪ ،‬أبي‬
‫اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك " ‪.‬‬

‫ويشار إلى أنه بعد وفاة النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬شارك أبو موسى في الفتح اإلسالمي‬
‫للشام ‪ ،‬كما أنه قد شهد وفاة أبو عبيدة بن الجراح ‪ ،‬وخطبة عمر بن الخطاب بالجابية التي كانت‬
‫والرها ‪ ،‬وسميساط وما‬‫ُ‬ ‫سنة ‪17‬هـ ‪ ،‬باإلضافة إلى ذلك فقد شارك في فتح كل من تستر ‪،‬‬
‫حولهم‪.‬‬

‫وعندما استخلف عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب عزل عثمان بن عفان أبا‬
‫موسى عن البصرة ‪ ،‬وتولى مكانه عبد هللا بن عامر بن كريز ‪ ،‬وقد خرج أبو موسى من‬
‫البصرة وما معه سوى ‪ 600‬درهم عطاء عياله ‪ ،‬وفيما بعد انتقل إلى الكوفة ‪ ،‬وأقام بها حتى‬
‫أُخرج سعيد بن العاص من ها ‪ ،‬وقد طلب أهل الكوفة من عثمان أن يستعمل أبا موسى عليهم ‪،‬‬
‫فاستعمله ‪ ،‬وبقي واليا ً عليها حتى قُتل عثمان ‪.‬‬

‫وفيما بعد عزله علي بن أبي طالب رضي هللا عنه عن مدينة الكوفة ‪ ،‬وعند اندالع فتنة‬
‫مقتل عثمان بن عفان رضي هللا عنه ‪ ،‬اختار أبو موسى االنضمام إلى حزب علي بن أبي طالب‬
‫رضي هللا عنه ‪ ،‬الذي اختاره ليكون محكما ً في جلسة التحكيم التي لجأ إليها الفريقان بعد وقعة‬
‫صفين ‪.‬‬

‫وتختلف الروايات في وفاة أبي موسى ؛ فقيل ‪ :‬مات سنة ‪42‬هـ ‪ ،‬وقيل سنة ‪44‬هـ ‪،‬‬
‫باإلضافة إلى وجود خالف حول مكان وفاته ‪ ،‬حيث قيل مات بالثوية على ميل من الكوفة ‪،‬‬
‫وقيل مات في مكة (‪. )1‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬سير أعالم النبالء ‪ ،‬لل ّذهبي ‪ ،‬ج ‪ 380 ، 2‬وما بعدها ‪ /‬الطبقات الكبرى ‪ ،‬البن سعد ‪ ،‬ج‪، 4‬ص‪ 78‬وما‬
‫بعدها ‪ /‬أسد الغابة في معرفة الصحابة ‪ ،‬البن األثير ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 364‬‬
‫ترجمة عائشة أ ّم المؤمنين‬

‫عائشة بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن‬
‫مرة بن كعب بن لؤي ‪ ،‬القرشية ‪ ،‬التيمية ‪ ،‬المكية ‪ ،‬أم المؤمنين ‪ ،‬زوجة النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وأمها أم رومان بنت عمير بن عامر بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك ‪ ،‬بن‬
‫كنانة(‪. )1‬‬

‫ولدت عائشة رضي هللا عنها بعد البعثة بأربع أو خمس سنين ‪ ،‬وتزوجها النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم في شوال سنة عشر ‪ ،‬أو إحدى عشر من النبوة بعد سودة بعام ‪ ،‬وهي بنت ست‬
‫سنين‪ ،‬وبقيت عنده تسع سنين ‪ ،‬ولم يتزوج بكرا ً غيرها ‪ .‬قال هشام بن عروة ‪ ،‬عن ابيه عن‬
‫تزوجني رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم قبل الهجرة ‪ ،‬وأنا ابنة ستّ ‪،‬‬
‫عائشة ‪ ،‬قالت ‪ّ ":‬‬
‫وأدخلت عليه وأنا ابنة تسع سنين " (‪. )2‬‬

‫وقالت ‪ ":‬فُضلت على نساء النب ّ‬


‫ي صلّى هللا عليه وسلّم بعشر ‪ ،‬قيل ‪ :‬ما هنّ يا أ ّم‬
‫ط غيري ‪ ،‬ولم ينكح امرأة أبواها مهاجران غيري ‪ ،‬وأنزل‬ ‫المؤمنين ؟ قالت ‪ :‬لم ينكح بكرا ً ق ّ‬
‫سماء ‪ ،‬وجاءه جبريل بصوتي من السماء في حريرة ‪ ،‬وقال ‪:‬‬ ‫عز وج ّل براءتي من ال ّ‬‫هللا ّ‬
‫تزوحها ‪ ،‬فإنّها امرأ تك ‪ ،‬فكنت اغتسل أنا وهو من إناء واحد ‪ ،‬ولم يكن يفعل ذلك بأحد من‬
‫نسائه غيري ‪ ،‬وكان ينزل عليه الوحي وهو معي ‪ ،‬ولم يكن ينزل عليه وهو مع أحد من‬
‫نسائه غيري ‪ ،‬وقبض هللا نفسه وهو بين سحري ونحري ‪ ،‬ومات في اللّيلة الّتي يدور عل ّي‬
‫فيها ‪ ،‬ودُفن في بيتي (‪. )3‬‬

‫قال صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬فضل عائشة على النساء ‪ ،‬كفضل الثريد على سائر‬
‫الطعام"متفق عليه ‪.‬‬

‫تُعد رضي هللا عنها من المكثرين من رواية الحديث ‪ ،‬وبلغ مسندها ألفين ومائتين وعشرة‬
‫أحاديث (‪ ، )2210‬اتفق الشيخان على مائة وأربعة وسبعين حديثا ً (‪ ، )174‬انفرد البخاري‬
‫بأربعة وخمسين (‪ ، )54‬وانفرد مسلم بتسعة وستين (‪. )69‬‬

‫كانت رضي هللا عنها غزيرة العلم ‪ ،‬موسوعية المعارف ‪ ،‬أفقه نساء األمة على اإلطالق ‪،‬‬
‫وهو ما دل عليه قول أبي موسى األشعري ‪ ":‬ما أشكل علينا ــ أصحاب رسول هللا ‪ ،‬صلّى هللا‬
‫عليه وسلّم حديث ق ّ‬
‫ط ‪ ،‬فسألنا عائشة عنه إالّ وجدنا عندها منه علما ً " (‪. )4‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬سير أعالم النبالء ‪ ،‬للذهبي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ 135‬وما بعدها ‪ /‬طبقات ابن سعد ‪ ،‬ج ‪ ، 8‬ص ‪ 46‬وما بعدها ‪/‬‬
‫أسد الغابة البن األثير ‪ ،‬ج ‪ ، 7‬ص ‪. 186‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬باب استئذان الثيّب في النّكاح بالنّطق ‪ ،‬والبكر بالسكوت ‪،‬‬
‫برقم‪. 1422،1039 :‬‬

‫(‪ )3‬الطبقات الكبرى البن سعد ‪ ،‬ج ‪ ، 8‬ص ‪ / 50‬سير أعالم النبالء ‪ ،‬للذهبي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 147‬‬

‫(‪ ) 4‬صفة الصفوة ‪ ،‬لجمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي ‪ ،‬دار الكتب العلمية ـ بيروت ‪،‬ط ‪1419‬هـ ‪.‬‬
‫وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن ‪ ،‬قال ‪ ":‬ما رأيت أحدا ً أعلم بسنن رسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلّم ‪ ،‬وال أفقه في رأي إن احتيج إلى رأيه ‪ ،‬وال أعلم بآية فيما نزلت ‪ ،‬وال فريضة ‪،‬‬
‫من عائشة أم المؤمنين " (‪. )1‬‬

‫توفيت رضي هللا عنها سنة ‪57‬هـ ‪ ،‬وقيل سنة ‪58‬هـ ‪ ،‬وهذا ما قاله هشام بن عروة ‪ ،‬وأحمد‬
‫بن حنبل وغيرهم ‪ ،‬وقد صلى عليها أبو هريرة رضي هللا عنه بعد الوتر في شهر رمضان ‪،‬‬
‫ودُفنت بالبقيع (‪. )2‬‬

‫ي) كذلك جماعة من الصحابة ‪ ،‬منهم ‪ :‬علي بن أبي‬ ‫وروى هذا الحديث (ال نكاح إالّ بول ّ‬
‫طالب ‪ ،‬وعبد هللا بن عباس ‪ ،‬ومعاذ بن جبل ‪ ،‬وعبد هللا بن عمر ‪ ،‬وأبي ذر الغفاري ‪ ،‬والمقداد‬
‫بن األسود ‪ ،‬وعبد هللا بن مسعود ‪ ،‬وجابر بن عبد هللا ‪ ،‬وأبي هريرة ‪ ،‬وعمران بن الحصين ‪،‬‬
‫وعبد هللا بن عمرو ‪ ،‬وا لمسور بن مخرمة ‪ ،‬وأنس بن مالك رضي هللا عنهم ‪ ،‬وأكثرها‬
‫صحيحة‪ ،‬وقد صحت الروايات فيه عن أزواج النبي صلى هللا عليه وسلم عائشة ‪ ،‬وأم سلمة ‪،‬‬
‫وزينب بنت جحش رضي هللا عنهم أجمعين (‪. )3‬‬

‫ثالثا ً ‪ :‬شرح األلفاظ‬

‫ي ‪ :‬قال ابن فارس (ت ‪395‬هـ) ‪ " :‬الواو والالم أصل صحيح يدل على قرب من ذلك‬‫ــ الول ّ‬
‫الولي " (‪. )4‬‬

‫فمادة الوالية تدور حول القرابة وما يتصل بها من المعاني التي ذكرها اللغويون ؛ فتطلق‬
‫على المحبة والنصرة والمواالة والصداقة والتابع وتدبير األمور ‪.‬‬

‫ــ وعرفها ابن عرفة بقوله ‪ ":‬الولي في الزواج من له على المرأة ملك أو أبوة أو تعصب أو‬
‫ايصاء أو كفالة أو سلطة أو ذو إسالم " (‪. )5‬‬

‫ومنه الوالية في الزواج هي ‪ :‬قيام ولي المرأة بمباشرة عقد زواج موليته ‪.‬‬

‫رابعا ً ‪ :‬فقه الحديث‬

‫‪ /1‬حكم اشتراط الولي في الزواج ‪ :‬اختلف العلماء في حكم الولي في الزواج على مذهبين ‪:‬‬

‫األول ‪ :‬وهو مذهب جمهور العلماء ‪ ،‬منهم مالك والشافعي وأحمد على أنه ال يجوز‬
‫المذهب ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬طبقات ابن سعد ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 375‬‬

‫(‪ )2‬سير أعالم النبالء ‪ ،‬للذهبي ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 193‬‬

‫(‪ )3‬الحاكم في المستدرك ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬وأما حديث أبي عوانة ‪ ،‬برقم ‪. 2717 :‬‬

‫(‪ )4‬معجم مقاييس اللّغة ‪ ،‬ج ‪ ، 6‬ص ‪. 141‬‬

‫(‪ )5‬شرح حدود ابن عرفة ‪ ،‬لألنصاري ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪. 158‬‬


‫للمرأة أن تعقد عقد زواجها بنفسها دون ولي ‪ ،‬ومنه فال بد للمرأة من ولي يعقد لها عقد زواجها‪،‬‬
‫أو يأذن لمن يعقد لها ‪ ،‬وهذا ال يلغي أمره باستئمارها إذا كانت ثيبا ً واستئذانها إذا كانت بكراً‬
‫عند الجمهور ‪.‬‬

‫ــ المذهب الثّاني ‪ :‬وهو مذهب الحنفية في المقابل إلى على أنه يجوز للمرأة أن تعقد عقد‬
‫زواجها بنفسها دون ولي ‪ ،‬فإذا عقدت عقد زواجها بنفسها جاز ‪ ،‬وترتبت عليه آثاره الشرعية ‪.‬‬

‫ولكل فريق أدلته ‪ ،‬فاستدل الفريق األول بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والمعقول ‪ ،‬سنكتفي‬
‫بذكر أهمها ‪:‬‬

‫أ‪ /‬قوله سبحانه وتعالى ‪ ":‬وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فال تعضلوهنّ أن ينكحن‬
‫أزواجهنّ "البقرة‪. 232/‬‬

‫فهذا خطاب لألولياء ‪ ،‬إذ ال يصح العضل إال لمن إليه العقد ‪ .‬ويؤكد ما ذهبوا إليه ما ورد‬
‫زوجت أختا ً‬‫في سبب نزول اآلية ؛ فيما رواه البخاري أنها نزلت في معقل بن يسار الذي قال‪ّ ":‬‬
‫زوجتك ‪ ،‬وفرشتك ‪،‬‬ ‫لي من رجل ‪ ،‬فطلّقها حتّى إذا انقضت عدّتها جاء يخطبها ‪ ،‬فقلت له ‪ّ :‬‬
‫وأكرمتك ‪ ،‬فطلّقتها ‪ ،‬ث ّم جئت تخطبها ‪ ،‬ال وهللا ال تعود إليها أبدا ً ‪ ،‬وكان رجالً ال بأس به ‪،‬‬
‫وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه ‪ ،‬فأنزل هللا هذه اآلية (فال تعضلوهنّ ) فقلت ‪ :‬اآلن أفعل يا‬
‫فزوجتها إيّاه " (‪. )1‬‬
‫رسول هللا ‪ .‬قال ‪ّ :‬‬
‫قال ابن حجر ‪ ":‬وهو من أقوى الحجج هذا السبب المذكور في نزول هذه اآلية المذكورة ‪،‬‬
‫وهي أصرح دليل على اعتبار الولي ‪ ،‬وإال لما كان لعضله معنى ؛ وألنها لو كان لها أن تزوج‬
‫نفسها لم تحتج إلى أخيها ‪ ،‬ومن كان أمره إليه ال يقال إن غيره منعه منه " (‪. )2‬‬

‫ب‪ /‬وبقوله تعالى ‪ ":‬وانكحوا األيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم " النور‪. 31/‬‬

‫ج‪ /‬وبقوله سبحانه ‪ ":‬وال تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا " البقرة‪ . 220 /‬وهو خطاب في كلتا‬
‫اآليتين للرجال ‪ ،‬ولم يخاطب به النساء ‪ ،‬فكأنه قال ‪ :‬ال تنكحوا أيها األولياء مولياتكم للمشركين‪.‬‬

‫د‪ /‬ومن الس ّنة ‪ ،‬عن أبي موسى أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ ":‬ال نكاح إالّ بول ّي " والنفي‬
‫في الحديث يتجه إلى الصحة ‪ ،‬فيكون الزواج بغير ولي باطالً ‪ ،‬وهو ما دل عليه حديث عائشة‬
‫رضي هللا عنها التالي ‪.‬‬

‫هـ‪ /‬وعن عائشة رضي هللا عنها أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ‪ " :‬أيّما امرأة نكحت‬
‫بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ‪ ،‬فنكاحها باطل ‪ ،‬فنكاحها باطل " ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب تفسير القرآن ـ سورة البقرة ـ باب إذا طلّقتم النّساء فال تعضلوهنّ‬
‫أن ينكحن أزواجهنّ ‪.‬‬

‫(‪ )2‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري ‪ ،‬البن حجر ‪ ،‬المكتبة السلفية ‪ ،‬ط ‪1407 ، 9‬هـ ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 98‬‬
‫و‪ /‬أ ّما من المعقول ‪ :‬أن الزواج له مقاصد متعددة ‪ ،‬والمرأة كثيرا ً ما تخضع لحكم العاطفة ‪ ،‬فال‬
‫ت ُحسن االختيار ‪ ،‬فيفوتها حصول هذه المقاصد ‪ ،‬فمنعت من مباشرة العقد وجعل إلى وليها ‪،‬‬
‫لتحصل على مقاصد الزواج على الوجه األكمل ‪.‬‬

‫أما أصحاب القول الثاني فاستدلوا بما يأتي ‪:‬‬

‫أ‪ /‬قوله تعالى ‪ ":‬فإن طلّقها فال تح ّل له من بعد حتّى تنكح زوجا ً غيره " البقرة‪. 230/‬‬

‫ب‪ /‬وقوله تعالى ‪ ":‬وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فال تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ "‬
‫اليقرة‪ . 232/‬ففي هاتين اآليتين تم إسناد الزواج إلى المرأة ‪ ،‬واألصل في اإلسناد أن يكون إلى‬
‫الفاعل الحقيقي ‪.‬‬

‫ي مع الث ّيب أمر " (‪ . )1‬وهذا قطع والية الولي عنها ‪.‬‬
‫ج‪ /‬قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬ليس للول ّ‬
‫د‪ /‬وقوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ":‬األ ِّي ُم أحقّ بنفسها من ول ّيها ‪ ،‬وال ِبكر ت ُستأذنُ في نفسها ‪،‬‬
‫وإذنها صُماتُها " (‪ . )2‬واأليم اسم المرأة ال زوج لها ‪.‬‬

‫هـ‪ /‬من المعقول ‪ :‬أنها لما بلغت عن عقل وحرية فقد صارت ولية نفسها في النكاح ‪ ،‬فال تبقى‬
‫موليا عليها كالصبي العاقل إذا بلغ ‪.‬‬

‫ثم إنها تستقل بعقد البيع وغيره من العقود ‪ ،‬فمن حقها أن تستقل بعقد زواجها ‪ ،‬إذ ال فرق‬
‫بين عقد وعقد ‪.‬‬

‫وعقد الزواج وإن كان ألوليائها حق فيه فهو لم يلغ ؛ إذ اعتبر في حالة ما إذا أساءت‬
‫التصرف ‪ ،‬وتزوجت من غير كفء ؛ إذ أن سوء تصرفها يلحق عاره أولياءها ‪ .‬وهذا عند أبي‬
‫حنيفة خالفا ً لهما ‪.‬‬

‫‪ /2‬هل الوالية ركن في عقد الزواج أم شرط صحّة ؟‬

‫ذهب كثير من العلماء إلى أن الوالية شرط في صحة العقد (‪ ، )3‬فيما اعتبره بعضهم كابن‬
‫الحاجب ‪ ،‬وصاحب توضيح األحكام ركنا من أركان النكاح األربعة (وهي الزوج والزوجة‬
‫والولي والصداق والشاهدين) ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب النكاح ‪ ،‬باب استئذان الثيّب في النّكاح بالنّطق ‪ ،‬والبكر بال ّ‬
‫سكوت ‪،‬‬
‫رقم‪. 1419 :‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬كتاب النّكاح ‪ ،‬باب استئذان الثيّب في النكاح بالنّطق ‪ ،‬والبكر بال ّ‬
‫سكوت ‪،‬‬
‫رقم‪. 1421 :‬‬

‫(‪ )3‬الكافي في فقه اإلمام أحمد ‪ ،‬لموفق الدين ابن قدامة ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬ط ‪1414 ، 1‬هـ ‪ ،‬ج ‪، 3‬‬
‫ص‪. 10‬‬
‫بينما لم يعتبر الحنفية الولي شرطا ً لصحة النكاح ‪ ،‬وإنما هو شرط كمال ‪ ،‬واعتبروا عدم‬
‫وجوده خالف المستحب ‪.‬‬

‫فقالوا يصح أن تباشر المرأة عقد النكاح بنفسها ‪ ،‬إال أنه خالف المستحب ‪ ،‬ولألولياء حق‬
‫االعتراض إذا لم يكن الزوج كفؤا ً لها ‪ .‬وهو قول أبي حنيفة في المشهور عنه (‪. )1‬‬

‫قال ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد ‪ ":‬اختلف العلماء هل الوالية شرط من‬
‫شروط صحة النكاح ‪ ،‬أم ليست بشرط ؟ فذهب مالك إلى أنه ال يكون النكاح إال بولي ‪ ،‬وأنها‬
‫شرط في الصحة في رواية أشهب عنه ‪ .‬وبه قال الشافعي ‪ ،‬وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي‬
‫والزهري‪ :‬إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤاً جاز " (‪. )2‬‬

‫فإن زوجت نفسها بغير كفء ‪ ،‬وبغير رضا وليها العاصب ‪ ،‬فالمروي عن أبي حنيفة وأبي‬
‫يوسف ‪ ،‬والمفتى به في مذهب الحنفية عدم صحة زواجها ‪ ،‬إذ ليس كل ولي يحسن المرافعة ‪،‬‬
‫وال كل قاض يعدل ‪ ،‬فأفتوا بعدم صحة الزواج سدا ً لباب الخصومة (‪. )3‬‬

‫ي ‪ :‬وقد اشترط العلماء فيمن يتولى هذه الوالية شروطا ً لتصح منه ‪ ،‬وتتحقق‬ ‫‪ /4‬شروط الول ّ‬
‫مقاصد تشريعها نجملها فيما يلي ‪:‬‬

‫ــ اإلسالم ‪ :‬إذا تقرر شرعا ً أنه ال والية للكافر على المسلم ‪ ،‬فال يجوز للكافر تولي عقد زواج‬
‫المسلمة ‪.‬‬

‫ــ البلوغ ‪ :‬ال يصح من غير البالغ ؛ ألنه ال يملك عقد نفسه فكيف يلي عقد غيره ‪.‬‬

‫ــ الذكورة ‪ :‬وذلك عند الجمهور ‪ ،‬فال تصح والية المرأة على نفسها ‪ ،‬وال على غيرها ‪.‬‬

‫ــ العقل ‪ :‬فال يصح من المجنون والمعتوه ومن في حكمهما ‪.‬‬

‫ــ الحريّة ‪ :‬فال تصح من المملوك ‪ ،‬وأما المكاتب (وهو من كاتبه سيده واتفق معه على أن يكون‬
‫حرا ً إذا أدى قدرا ً معينا ً من المال) فهذا يجوز له تولي عقد نكاح أمته ‪.‬‬

‫ــ عدم اإلحرام ‪ :‬لما صح عن الرسول صلى هللا عليه وسلم أنه قال ‪ ":‬ال ينكح المحرم وال ينكح‬
‫وال يخطب " (‪. )4‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬بدائع الصّنائع ‪ ،‬للكاساني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ / 247‬حاشية ابن عابدين ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪. 57 ، 56 ، 55‬‬

‫(‪ )2‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد ‪ ،‬البن رشد ‪ ،‬دار الحديث ـ القاهرة ‪( ،‬د ط) ‪1425‬هـ ـ ‪2004‬م ‪ ،‬ج ‪، 3‬‬
‫ص ‪. 36‬‬

‫(‪ )3‬بدائع الصنائع ‪ ،‬للكاساني ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪. 247‬‬

‫(‪ )4‬أخرجه البخاري في صحيحه ‪ ،‬كتاب الح ّج ‪ ،‬باب الت ّزويج المحرم ‪ ،‬برقم ‪ / 1837 :‬ومسلم في صحيحه ‪،‬‬
‫كتاب النكاح ‪ ،‬باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته ‪ ،‬برقم ‪. 1409 :‬‬
‫مالحظة ‪ :‬يرجى من طلبتي االستعداد لالمتحان ‪ ،‬وذلك بالتّركيز الجيّد على مجموعة من‬
‫المحاضرات والمتمثّلة في ‪:‬‬

‫يخص آيات األحكام ‪ :‬تفسير آيات الصّيام ــ ــ تفسير آية القوامة ــ تفسير آيات‬
‫ّ‬ ‫ــ فيما‬
‫االستئذان ‪.‬‬

‫يخص أحاديث األحكام ‪ :‬شرح حديث النيّة ــ شرح حديث خيار المجلس ــ شرح حديث‬
‫ّ‬ ‫ــ وفيما‬
‫اشتراط الولي في النكاح ‪.‬‬

You might also like