رحلة عباس في سوق المال

You might also like

You are on page 1of 241

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫عباس‬
‫رحلة عباس في سوق المال‬
‫الفصل األول‬

‫أصعد الدرج وأنا ألهث‪ .‬يجب أن ألحق ماكينة البصمة‪ ،‬قبل الثامنة والنصف‪ ،‬والمصعد معطل كعادته‪ .‬الطابق الثالث‪ ،‬هانت‪.‬‬
‫أتمسك بإفريز الدرج‪ ،‬وأعتمد بيدي عليه‪ .‬أئن من وزني الثقيل‪ ،‬الذي ال تستطيع قدماي أن تتحمله‪.‬مائة وثالثون من‬
‫الكيلوغرامات المتراكمة من سنوات الكسل‪ ،‬والمحاشي‪ ...‬فأنا َذ ّواقة أكول‪ .‬أعمل محاسبا بشركة قطاع خاص بالقاهرة‪ .‬عملي‬
‫يبدأ في الثامنة والنصف صباحاً ورسميا ينتهي في الرابعة والنصف‪ ،‬ولكن‪ ،‬غالبا ما أنصرف بعد الثامنة مساءا‪.‬‬
‫اسمي عباس‪ ،‬والشهرة ِعْبس‪ .‬أبي أسما أخي األكبر حمزة تيمنا باسم والده‪ ،‬فلما ولدت‪ ،‬قرر أن يسميني عباس‪ ،‬على اسم عم‬
‫علي أقراني بالمدرسة باإلعالن المشهور أيامنا "انت دريت يا ِع ْبس‪ ،‬ما فيش غير لتر‬
‫الرسول (ص) اآلخر‪ .‬ولطالما تََن ّدر ّ‬
‫شويبس ”‪ .‬أنتمي إلى جمهورية مصر المتوسطة‪ .‬فمصرنا الحبيبة منقسمة إلى أربع جمهوريات تتشارك في أرض واحدة‪:‬‬

‫جمهورية مصر الراقية وهي تشتمل على ِعْلية القوم من األغنياء فاحشي الثراء‪ ،‬أمثال ساويرس‪ ،‬وغبور‪ ...‬عائالت تتنعم‬
‫بالخيرات وتعيش في مناطق راقية‪ ،‬لهم مطاعمهم ومسابحهم‪ ،‬وشوارعهم‪ ،‬ومناطقهم‪ ،‬ومصايفهم‪ ،‬ال يرون من مصر إال مناطق‬
‫تكاد أن تخلوا من المارة‪ ،‬والتلوث‪ .‬شوارعهم مرصوفة‪ ،‬نظيفة تزدان باألشجار‪ ،‬تخلوا من السيارات والمارة‪ ،‬مؤمنة بمتاريس‬
‫وبوابات‪ .‬مناطقهم الزمالك‪ ،‬وبعض شوارع مصر الجديدة‪ ،‬وبعض مناطق التجمع‪ .‬مدارسهم أميريكية‪ ،‬وفرنسية تتكلف آالف‬
‫الدوالرات بالسنة‪ ،‬أوالدهم يدرسون بجامعات بالخارج‪ ،‬يتأهلون ليتولوا رؤوس أموال ذويهم حين يتخرجون‪ ،‬ال يتحدثون العربية‬
‫إال لماما‪ .‬يقتنون سيارات فارهة ويصطافون في مصايف خاصة‪ ،‬قليال ما تكون بمصر‪ ،‬وغالبا ما تكون على الجانب اآلخر من‬
‫المتوسط‪ .‬مالبسهم من أوربا وأمريكا‪ ،‬أو مفصلة خصيصاً‪ .‬منهم النباتي باالختيار‪ .‬خدمهم مستوردون من البالد اآلسيوية‪.‬‬

‫جمهورية مصر المتوسطة‪ ،‬والتي أنتمي إليها‪ ،‬وينتمي إليها معظم العاملين في القطاع الخاص‪ ،‬وهؤالء يعيشون في شوارع مليئة‬
‫بالعمارات والشقق السكنية الكبيرة‪ ،‬شوارعهم غابة من السيارات‪ ،‬أوالدهم بمدارس مصرية للغات‪ ،‬يقتنون سيارات متوسطة‪،‬‬
‫يتقاضون من الرواتب ما يكفي ليكافحوا على إبقاء ما هم فيه‪ .‬غالبا ما يعمل الزوج والزوجة‪ ،‬من الصباح للمساء‪ ،‬مكافحين‬
‫للمحافظة على المستوى الذين يعيشون به‪ ،‬هاتف نقال متوسط‪ ،‬سيارة كيا أو هيونداي‪ ،‬شقة بمنطقة متوسطة‪ ،‬ومدرسة خاصة‬
‫لألوالد‪ .‬يعيشون من الشهر للشهر‪ ،‬ويدخرون ما يكفي لتغيير السيارة كل سبع سنوات‪ .‬مصايفهم بالسخنة‪ ،‬والساحل‪ .‬من فترة‬
‫ألخرى تمحى مدخراتهم بسبب موجة غالء‪ ،‬أو تعطل شهر أو شهرين بين الوظائف‪ .‬مالبسهم من الماركات األوربية واألميركية‬
‫المصنعة بمصر‪.‬‬
‫جمهورية مصر الفقيرة‪ ،‬وهم كثيرون‪ ،‬ويعيشون في شوارع خاصة بهم‪ ،‬حوار وأزقة‪ ،‬بيوت قديمة متداعية‪ ،‬يعملون في وظائف‬
‫خدمية‪ ،‬أوالدهم في مدارس حكومية‪ ،‬يكافحون من أجل لقمة العيش‪ .‬يست خدمون الميكروباص والتك تك في تنقالتهم‪ ،‬نباتيون‬
‫ثمان وعشرون يوما بالشهر جبرا وقسرا‪ ،‬مالبسهم من وسط البلد‪ ،‬جديدهم باألعياد‪ ،‬ومصايفهم بالمعمورة والشاطبي‪ .‬غالبا ما‬
‫تجد كل أسرة منهم تعول أباً او أما على المعاش‪ .‬كل موجة غالء تمحي مدخراتهم إن وجدت‪ ،‬وكل جديد عليهم له "جمعية”‪.‬‬

‫أما جمهورية مصر المعدمة‪ ،‬فهم السواد األعظم‪ .‬يعيشون مكتظين في شقق إيجار قديم‪ ،‬في أزقة وحوار ال تستطيع الولوج لها‪،‬‬
‫ال يدخلها الشمس‪ ،‬وتفتقر لمقاييس الصحة العامة‪ .‬أوالدهم يذهبون للمدارس حتى المرحلة اإلعدادية‪ ،‬ثم يتحولون عن الدراسة‬
‫وهم بالكاد يستطيعون كتابة أسمائهم‪ ،‬وقراءة مانشيتات الجرائد‪ .‬يعيشون من يوم ليوم‪ .‬أسر منتجة‪ ،‬أي أن جميع أفراد األسرة‬
‫يعملون‪ .‬يكدحون في وظائف شتى باليومية‪ .‬يلبسون ثيابا من األسواق القديمة للمالبس المستعملة‪ ،‬ويخدمون مصر المتوسطة‬
‫سواء كخدم منازل‪ ،‬أو وظائف خدمية لهم مثل حالق‪ ،‬ميكانيكي وخالفه‪.‬‬

‫والعجيب في هذه الجمهوريات األربع أنها تعيش في عوالم متوازية قلما تتقاطع وبتناغم عجيب‪ ،‬مثلها مثل المرور في القاهرة‪،‬‬
‫بدون إشارات وال عالمات وال خطوط طريق وال التزام‪ "،‬بالبركة”‪ .‬تتقاطع الجمهوريات بدافع االحتياج‪ ،‬ويعتمدون على بعضهم‬
‫البعض في شتى المجاالت‪ .‬ويظل حقد دفين بين الجمهوريات‪ ،‬يتمثل بين اآلونة واألخرى في تعليق عند مرور شاب ينتمي‬
‫للمتوسطة مسرعاً بسيارة قرب أفراد من الكادحة "طبعاً ما هو انت مش تعبان فيها"‬
‫أنتمي إلى جمهورية مصر المتوسطة‪ ،‬أبا عن جد‪ .‬أبي وأمي رحمهم اهلل كانوا موظفين في ديوان الحكومة الذي يكتظ بماليين‬
‫من الموظفين الذين يعملون بكد‪ .‬تدرجوا في السلم الوظيفي الحكومي للجامعات حتى صاروا بوظائف مرموقة قبل طلوعهم على‬
‫المعاش‪ .‬دعمونا وزوجونا حتى صرنا نعتمد على أنفسنا‪ ،‬وأسلموا الراية لنا‪ ،‬حتى نصل إلى أول سلم الحياة الشاق‪.‬‬

‫أخذت وأخي طريق القطاع الخاص‪ ،‬وصرنا نكدح بدورنا‪ ،‬وكمصريين فنحن نأخذ المسار المرسوم مسبقاً للمتوسطة والذي‬
‫يؤكد‪ ،‬بما ال يدع مجاالً للشك‪ ،‬أن اإلنسان مسير‪ ،‬ال مخير‪ .‬مدرسة‪ ،‬فصراع الثانوية العامة‪ ،‬بدروسها الخصوصية‪ ،‬ومعاناتها‪،‬‬
‫فجامعة‪ ،‬فتخرج‪ ،‬فبحث عن عمل بواسطة‪ ،‬فكدح‪ ،‬فزواج مدبر‪ ،‬فذرية‪ ...‬مسار مرسوم مسبقاً‪ ،‬مدفوع إليه اإلنسان دفعاً كأنه‬
‫منوم تنويما مغناطيسياً‪ .‬ال تحتاج ألن تسأل عن صديقك فالن‪ ،‬فقط‪ ،‬تستعلم في أي مرحلة هو‪ ،‬فالبعض يتأخر قليالً عن البعض‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫أذكر أنني قرأت في كتاب‪ ،‬أن األميركيين معتادون على أخذ سنة بين الثانوية والجامعة‪ ،‬كسنة جامحة في رحلة أوربية‪ ،‬صارت‬
‫تقليداً يسمى ‪ .Gap Year‬أصابتني دهشة‪ ،‬فكيف يضيع على نفسه سنة كاملة‪ ،‬ويتأخر عن أقرانه في الدراسة وخالفه‪ .‬كأن من‬
‫يأخذ هذه السنة كعطلة‪ ،‬ال يعيشها‪ ،‬ألنه خارج المسار‪.‬‬

‫تنافسية جمهورية مصر المتوسطة غير عادية‪ ،‬وال تكاد تصدق‪ .‬التنافسية في الدراسة قد نفهمها‪ ،‬والتنافسية في عدد األوالد‬
‫متوارثة من العرب‪ ،‬حسناً‪ ،‬ولكن التنافسية في األمراض؟ نعم التنافسية في األمراض‪ .‬إن لم تكن تصدقني‪ ،‬أدعوك أن تسترق‬
‫السمع لسيدتين من الجمهورية المتوسطة في منتصف العمر أثناء حديث‪ ،‬هاتفياً كان أم مباشرا‪ ،‬واستمع اليهم وهم يتباهون بآالم‬
‫الروماتيزم‪ ،‬والمفاصل‪ ،‬وعرق النسا‪.‬‬
‫وبعد هذه المقدمة‪ ،‬ال أحتاج أن أقول لك أنني متزوج‪ ،‬ولدي طفالن‪ ،‬فأعتقد أنك استنتجت ذلك اآلن‪ .‬هل أحتاج أن أخبرك حتى‬

‫كيف تزوجت؟ ألم تفهم بعد؟ تزوجت زواجاً مدبراً كالعادة؟‪ ....‬ال‪ ،‬حاشا وكال‪ ...‬لم يكن زواجاً مدبراً من األهل‪ ،‬كان زواجاً‬
‫مدبراً من الزوجة طبعاً‪ ،‬فالمصريات بارعات في اصطياد الزوج المناسب‪ ،‬واستدراجه حتى عتبة المنزل‪.‬‬

‫كأي فيلم عربي‪ ،‬أمي تقول لي‪" ،‬نفسي أفرح بعيالك قبل ما أموت" وهي الكلمة الشهيرة التي تستكمل مسار التسيير المصري‬
‫للجمهورية المصرية المتوسطة‪ ،‬وعندما تخرجت في كلية التجارة‪ ،‬أصبحت أمي ضيفاً على الكثير من المنازل‪ ،‬يكشفون عن‬
‫بضاعتهم من البنات المناسبات في سن الزواج‪ .‬وأمي لديها شابان‪ ،‬وليس واحد‪ ،‬حمزة‪ ،‬وعباس‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬تحظى بضعف‬
‫الحفاوة‪ .‬فالسيدات المصريات يستمتعن بترتيب الزيجات الوهمية‪ ،‬وتوفيق الرؤوس في الحالل‪ .‬كنت دائما ما أقول ألمي " أريدها‬
‫محجبة خفيفة الظل‪ ،‬سهلة الحمل‪ ،‬سمراء البشرة‪ ،‬وكنت أضيف من عندي دعابة‪ ،‬أعتقد أن أمي لم تفهمها ساعتها على أنها‬
‫دعابة‪ ،‬وكنت أقول لها كالتالي " أريدها محجبة خفيفة الظل‪ ،‬خفيفة الوزن‪ ،‬خمرية البشرة‪ ،‬عظيمة المؤخرة" فكانت أمي المسكينة‬
‫تذهب لتتفحص المرشحات‪ ،‬وتبحث عن المؤخرة البارزة‪ ،‬وتوقفت عن ذلك عندما سمعتها تسأل قريبة لنا كانت مسافرة في دولة‬
‫خليجية‪ ،‬وعادت لمصر‪ ،‬كي تزوج بناتها " إال قولي لي يا سعاد‪ ،‬هي بنتك سمر عندها … ؟ "‬

‫بالطبع لم أتزوج عن طريق أمي‪ ،‬فأنا من جيل السبعينات‪ ،‬المستقل المتعلم‪ ،‬لن أتزوج زواجا مرتبا عن طريق األم‪ ،‬بل سأتزوج‬
‫عن طريق الحفر والردم‪ .‬الحفر والردم هي سياسة إستراتيجية تتبعها بنات جيلي‪ ،‬تحفر لك الفخ أوالً‪ ،‬فهي تستعلم عن فريستها‬
‫حتى تتأكد أنها الفريسة المناسبة‪ ،‬فتبدأ عملية التقصي‬

‫وعملية التقصي عملية معقدة للغاية‪ .‬فيجب أن تتقصى عن المرشح من حيث الدخل‪ ،‬واألهل‪ ،‬والسيارة‪ ،‬والكلية " نعم الكلية‬
‫فبعض الكليات محرم على اآلخر‪ ،‬فمثالً محرم على الطبيبة أن تتزوج من أي كلية أخرى عدا الطب والهندسة‪ ،‬أما الصيدلة‪،‬‬
‫فمكروه‪ .‬وترتيب الكليات مثل ترتيبها في تنسيق الدولة للثانوية العامة‪ .‬الطب للطب أو الهندسة (كليات قمة) كليات المرحلة‬
‫الثانية للتنسيق لها بعضها‪ ،‬فالحقوق لها أن تتزوج أي كلية إلنها مرحلة تنسيق ثالثة‪ ،‬التجارة يصعب عليها زواج حقوق إال إن‬
‫كان وكيل نيابة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫ثم تبدأ في عملية الحفر‪ ،‬ابتسامة من بعيد‪ ،‬إظهار بعض المفاتن كأن ترتدي فستانا مفتوحا وتنحني قليال لتعطيك عرضاً مسبقاً لما‬
‫ستحصل عليه لو أبرمت صفقة الزواج‪ ،‬أو أن تضع ساقاً على ساق‪ ،‬وهي غير منتبهة لوجودك في مستوى يسمح لك برؤية ما‬
‫لم يكن مسموحاً لك برؤيته‪ ،‬أو ضحكة ناعمة رنانة‪ ،‬على كالم إحدى الزميالت‪ .‬ثم تطبق قاعدة الخمس ثوان أو كما أحب أن‬
‫تدوق"‪ ،‬بعد خمس ثوان بالتمام والكمال‪ ،‬تنتبه شريفة روما إلى ما ظهر منها "عن غير قصد" وتنظر لك نظرة‬
‫أسميها " َش ّوق وال ّ‬
‫محسوبة بين اللوم والدالل‪ .‬لوم على أنك نظرت إلى مفاتنها التي ال يحق لك أن تراها وكانها تقول " انت ما عندكشي إخوات‬
‫بنات" ونظرة دالل‪ ،‬كإنها تقول يوجد لدي المزيد أو "‪.”There is more from where that came from‬‬
‫وبعد أن تسترعي انتباهك‪ ،‬تبدأ في ترتيب اللقاء العفوي‪ ،‬في إطار الزمالء‪ ،‬وتسمح لك بأن تختلي بها بما ال يتعدى الخمس دقائق‬
‫فهي مهذبة‪ ،‬بنت ناس‪ ،‬من عائلة‪ ،‬وتمهد للدلو أن ينكب على أم رأسه‪ ،‬فيطلب خروجه في مكان عام‪ ،‬كازينو‪ ،‬مقهى‪ٍ ،‬‬
‫ناد‪ ،‬أو ما‬
‫شابه‪ .‬طبعا ستقول لك أنها خرجت دون علم ذويها‪ ،‬ولكن صدقني‪ ،‬خالتها التي تعيش في أمريكا تعرف عن مقاس حذائك‪ .‬ثم‬
‫تتبادل معك أرقام الهواتف‪.‬‬

‫تبدأ في المكالمات الليلية التي تطول بالساعات وال تخلوا من الهمسات والتنهدات وتنقطع فجأة عند دخول أمها (طبعاً ألن أمها ال‬
‫تعرف شيئاً عما يجري بينكما)‪ ،‬وعندما تتوطد العالقة تبدأ مرحلة الردم‪.‬‬

‫تتصل عليك لتقول شيئا من ثالثة ال رابع لهما‪ “ :‬رآني صديق أخي وأنا معك‪ ،‬وال أستطيع لقائك"( وطبعا يجب أن يكون صديق‬
‫أخيها‪ ،‬ألنه لو كان أخوها‪ ،‬لكان أماتها ضرباً) أو "ال أقدر على االستمرار في هذه العالقة السرية إلنها حرام" (طبعاً إلنها متدينة‬
‫وتصلي وتعرف ربنا‪،‬أ نت أيها الشيطان من تغويها) أو‪ ،‬وهذا الخيار ال يستخدم إال بحرص‪ ،‬وبعد التأكد من أن الفريسة قد‬
‫الب ُر ْمبة‪.‬‬
‫استسلمت للصياد‪" ،‬تقدم فالن الفالني إبن عمي‪ ،‬وأبي سيقابله اليوم‪ ".‬تان تان تان‪ .‬يجب أن تتحرك يا سبع ُ‬

‫وذهبت لمقابلة األهل المقابلة التمهيدية‪ ،‬مع أمي لل "تعارف" (قال يعني ما‬
‫ُ‬ ‫الخية‪ ،‬وانسكب الدلو‪،‬‬
‫وطبعاً سبع البرمبة وقع في ّ‬
‫بيعرفوني) ويقابلونا بحفاوة وترحاب‪ ،‬ودهشة‪ ،‬من أين نعرف المصونة صاحبة الصون و العفاف‪ ،‬ثم يقول األب بتواضع شديد‪،‬‬
‫"إحنا بنشتري راجل‪ ،‬وكل اللي يهمني ان بنتي تبقى مع رجل يصونها" ثم يسن السكين‪ ،‬ويخرج قائمة الطلبات المعدة مسبقا‪ ،‬من‬
‫شقة‪ ،‬ومهر‪ ،‬وأجهزة وخالفه‪ ،‬وطبعاً كل هذا ألن الجوهرة المكنونة ليست بأقل من ابنة خالتها‪ ...‬وتبدأ جولة المفاوضات بين‬
‫األبوين حتى تستقر البيعة‪ ،‬وتقرأ الفاتحة‪.‬‬
‫وتبدأ رحلة الخطوبة التي تستمر بين العام والعامين‪ .‬كل اللقاءات تكون محصورة في تحضيرات عش الزوجية‪ ،‬والخروجات‬
‫بالكامل بصحبة مرافق " عيب الناس تقول ايه" ولكن كلما تململت الفريسة من براثن الصياد‪ ،‬يفك عنها الحبل قليال بلمسة يد‪ ،‬أو‬
‫قبلة خاطفة في المصعد‪ ...‬آه يا لها من أيام‪.‬‬

‫أذكر يوم الزفاف‪ ،‬قالوا لي اذهب الصطحاب خطيبتك من عند مصفف الشعر حتى تحضرا سويا للفندق‪ .‬ذهبت مع صديق لي‬
‫يقود السيارة‪ ،‬وأنا (على ِس ْنجة عشرة‪ )1‬ثم دلفت داخل المحل المخصص للسيدات‪ ،‬فخطيبتي محجبة‪ ،‬وتذهب لصالون محجبات‬
‫بالطبع‪ .‬دلفت داخل المحل‪ ،‬فوجدت سيدة تجلس على كرسي المصفف‪ ،‬فخرجت مرة أخرى حتى نادتني‪ ،‬وفوجئت بأن من كانت‬
‫تجلس هي زوجتي‪ ،‬التي لم أميزها بالمكياج وبدون حجاب‪.‬‬

‫في أبهى حلة‬ ‫‪1‬‬


‫تم الزفاف‪ ،‬وانتهى عصر التنهدات‪ ،‬وصارت خفيفة الظل ثقيلته‪ ،‬وصارت سهلة الحمل تحتاج إلى ونش المرور كي يقيمها من‬
‫األريكة‪ ،‬وتبدل عطر الكوبرا (كان مشهورا أيامنا‪ ،‬كوبرا للنساء و وون مان شو للرجال) بالبصلة‪ ،‬وتبدل الحجاب األنيق‬
‫المزركش بمنديل معقوص خلف الرأس تحته شعر مزيت‪ .‬وبالنسبة لي‪ ،‬تراجع الشعر للوراء‪ ،‬وتقدم الكرش لألمام‪ ،‬وأصبحت‬
‫مؤخرتي ضعف الحجم الذي كنت أنشده في زوجة المستقبل‪ ،‬وانحنى كتفاي‪ ،‬وزدت حكمة مع السنين بإضافة نظارة تزيد‬
‫سماكتها عاما بعد عام‪.‬‬

‫أخيرا وصلت الطابق المنشود‪ .‬ألهث وأتصبب عرقاً‪ ،‬أمسح إصبعي كي تستطيع تمييزه تلك الماكينة الغبية‪ ،‬ثم أدلف إلى مكتبي‪.‬‬
‫يسرع من خلفي عامل البوفيه ويضع القهوة التركية السادة على المكتب‪ .‬كوب كبير من القهوة التركية من "بن العقيد" الذي‬
‫يحوجه لي تحويجة مخصوصة‪ .‬أشم رائحة القهوة تداعب أنفي المشتاق‪ .‬أجلس على مكتبي الكبير المزدحم باألوراق والملفات‪،‬‬
‫وال أرى شيئاً سوى فنجان القهوة‪ .‬من ساعة استيقاظي وحتى شربي فنجان القهوة‪ ،‬وأنا على نظام الطيار اآللي أو ‪ Autopilot‬ال‬
‫أفقه شيئا مما يحدث حولي‪ .‬قرابة الساعة والنصف وكل ردود أفعالي تلقائية مبرمجة مسبقاً‪ ،‬حتى اإلشارات النابية التي أعطيها‬
‫للسائقين من حولي‪ .‬تخطيتني‪ ،‬تأخذ األوسط‪ ،‬كسرت على‪ ...‬بصقة وهمية‪ ،‬أما القبضة الكاملة‪ ،‬فأختزنها لمن يحتك بالسيارة‬
‫جانبياً‪.‬‬

‫مرؤوسيي يعرفون مزاجي قبل كوب القهوة الصباحي‪ ،‬فال يقربوني حتى أفرغ منه‪.‬‬

‫أحتضن الكوب بيدي‪ ،‬ثم أقربه من أنفي واشتم عبق البن المحوج الذي يندفع إلى أم رأسي وأصاب بالتنميل اللذيذ الذي يصاحب‬
‫إلي الوعي تدريجياً‪.‬‬
‫الرائحة العبقة‪ ،‬وأرتشف رشفة مع نفس من سيجارتي على مهل‪ .‬تتفتح األنوار تدريجياً في الغرفة‪ ،‬ويعود ّ‬
‫الفصل الثاني‬
‫بابي الزجاجي مغلق‪ ،‬وأتابع طقوسي اليومية الصباحية‪ .‬القهوة والسيجارة مع قراءة أخبار العالم من موقعي البي بي سي و ال‬
‫سي ان ان‪ .‬أطالع حظك اليوم من موقع األبراج الشهير‪ ،‬ثم أقرأ بريدي الخاص‪ .‬تتحرك أمعائي‪ ،‬فأذهب إلى حمامي الخاص‪،‬‬
‫وأستخرج هاتفي المحمول‪ .‬أبدأ اللعبة الوحيدة التي أجيدها‪...‬الطاولة‪ ،‬ونوع محدد من الطاولة‪ ...‬العادة‪ .‬عشرة الطاولة هذه تحدد‬
‫لي مسار اليوم‪ ،‬فقد الحظت تناسباً طردياً عجيباً بين لعبة الطاولة‪ ،‬وحظي في ذات اليوم‪ .‬كلما فزت بفارق نقاط عال‪ ،‬كان حظي‬
‫وافراً في ذلك اليوم‪ ،‬وإ ذا خسرت بفارق كبير‪ ،‬يكون يومي زفتاً وقطراناً‪.‬‬

‫نصف ساعة‪ ،‬هي كل ما لدي قبل أن يهجم على الموظفون بضوضائهم ومشاكلهم اليومية التي ال تنتهي‪ .‬فواتير و مشاكل‬
‫تحصيل‪ ،‬واجتماعات فارغة من أي مضمون‪.‬‬
‫بعد الطقوس الصباحية المعتادة‪ ،‬توافد على الموظفون بمشاكلهم اليومية المعتادة‪ .‬أرد بغير اكتراث‪ .‬معظم عملي هو ردود أفعال‬
‫لما يحدث‪:‬‬

‫عميل لم يدفع‪ ،‬تحويل الملف على الشئون القانونية‪ ،‬عملية جديدة تعني زيارة للبنك لتدبير التمويل‪ .‬اقتربت نهاية الشهر تعني‬
‫إعداد الرواتب‪ ،‬نهاية العام الضرائب والميزانية‪ ...‬ردود أفعال ألحداث تحدث من حولي‪ ،‬كأني حارس مرمى أصد الكرات‬
‫الملقاة في اتجاهي‪ ...‬عملي كله ردود أفعال واتقاء مشاكل‪ ،‬دون أي مبادرة‪ .‬أحضر في اليوم من ثالث إلى أربع اجتماعات‬
‫مطولة‪ ،‬ال أفهم من معظم ما يقال فيها شيئاً‪ .‬معظمه كالم فني عن السعة‪ ،‬وإ يجار القنوات‪ ،‬فالشركة التي أعمل بها تشتري سعة‬
‫من األقمار الصناعية‪ ،‬وتبيعها للقنوات التليفزيونية الخاصة‪ ،‬وكسعة انترنت‪ .‬أحضر تلك االجتماعات ألن المدير المالي يجب أن‬
‫يحضر‪ .‬ينظر إلى مديرو الشركة على أنني المسؤول عن توفير كافة األموال لهم‪ .‬معظم عمالئهم يتخلفون عن السداد‪ ،‬ويجب‬
‫على أن أوفر األموال من أجل استمرار الشركة في العمل‪ .‬قروض‪ ،‬واعتمادات‪ ،‬وجري وراء التحصيل‪ ،‬وتقليل النفقات‪،‬‬
‫واستغناء عن خدمات بعض الموظفين من آن آلخر‪ .‬أعمالهم القذرة‪.‬‬

‫ال أخفيك أنه من كان في وظيفتي‪ ،‬لديه من الفرص أن يحصل من األموال على ما يريد‪ ،‬فقط إذا غض الطرف‪ ،‬أو سار في هذا‬
‫المسار‪ .‬لكن أبي‪ ،‬يا له من أب‪ .‬علمنا عدم الكذب والنزاهة سامحه اهلل‪ .‬بدأت يومي بتحقيق في مشكلة إعدام بعض الديون‪ ،‬أو‬
‫كما نسميها‪ ،‬إطفاء خسائر‪.‬‬

‫دخل على المحاسب‪ ،‬و مدير المبيعات‪ ،‬والبائع المسؤول‪ ،‬ومدير الشئون القانونية وجلسنا على طاولة االجتماعات الصغيرة على‬
‫مكتبي‪ .‬مليونين من الجنيهات المستحقة لشركتنا سنودعها اليوم‪ .‬عميل بالعراق‪ ،‬اشترى سعة مدة عام‪ ،‬بمبلغ مائة ألف دوالر‪،‬‬
‫دفع منهم عشرين‪ ،‬وماطل حتى شارف العام على االنتهاء‪ .‬فصل خدمة القناة لن يقدم أو يؤخر اآلن‪.‬‬
‫بعد تبادل التحيات وتناول المشروبات فتحت الملف‪ ،‬وأنا أعرف جيداً ما فيه‪.‬‬

‫‪ -‬هه يا أستاذ كريم‪ ،‬ما األخبار؟‬

‫‪ -‬تمام يا أستاذ عباس‪.‬‬

‫‪ -‬عميلنا أخباره ايه‪.‬‬

‫‪ -‬قافل نقاله بقى له شهر‪.‬‬

‫‪ -‬أستاذ خالد‪ ،‬حاولت تتواصل معه عن طريق حد من عمالئنا هناك؟‬

‫تبسم مدير المبيعات خالد‪ ،‬وقال‪:‬‬


‫‪ -‬أرسلت مندوباً من شركة أخرى له‪ ،‬ووجدوا المقر مغلقاً‬

‫نظرت إلى مدير الشئون القانونية وسألته‪:‬‬

‫‪ -‬أستاذ كمال‪ ،‬نقدر نعمل حاجة هناك؟‬

‫‪ -‬ممكن نرفع قضية‪ ،‬لكنها ستستغرق الكثير من الوقت‪.‬‬

‫أسأله السؤال الذي أعرف إجابته الحتمية فهذا موضوع مكرر‪ ،‬يحدث مع إثنين بالمائة من عمالء الشركة سنوياً‬

‫‪ -‬كم من الوقت؟‬

‫‪ -‬حوالي أربع سنوات حتى نحصل على جلسة‪ ،‬إذا تمكننا من إعالنه‪.‬‬
‫نظرت للبائع‪ ،‬وأخذت أوبخه على توقيعه العقد‪ ،‬دون أخذه الضمانات الكافية‪ ،‬وهددته بالفصل‪ ،‬وعاقبته بخصم من عموالته‪ ،‬وأنا‬
‫كلي ثقة‪ ،‬أن هذا البائع غير أمين‪ ،‬ومشارك لهذا العميل الوهمي في هذه السرقة‪.‬‬

‫يسرقون األموال أمامي‪ ،‬وال أستطيع فعل شيء‪ .‬يخترعون عميالً وهمياً باالشتراك مع أحد المواطنين هناك‪ .‬يقدم أوراق شركة‬
‫وهمية‪ ،‬ويدفع الدفعة المقدمة‪ ،‬ويقدم الضمانات الكافية‪ ،‬ثم يغير بياناته‪ .‬يعيدون بيع السعة‪ ،‬وعندما نتنبه لتأخر المدفوعات‪ ،‬يكون‬
‫كل شيء قد انتهى‪ .‬البائع يريدني اآلن أن أرفته‪ ،‬حتى يحصل على مستحقاته كاملة‪ .‬لعبة قذرة أراها تحدث أمام عيني كل فترة‪،‬‬
‫وال أستطيع منعها‪ .‬يمكنني أن ألعبها ولكنها حرام‪.‬‬

‫نظرت اليهم‪ ،‬وشردت ‪...‬أخاف من الحرام‪ ،‬ألني رأيت ما يفعل الحرام بالناس‪ .‬المدير المالي السابق كان يختلس من الشركة‪.‬‬
‫تمكن من اختالس مليون جنيه أمام عيني‪ .‬صرف شيكاً من الشركة على أنه رشوة ألحد موظفي الضرائب‪ ،‬فالرشوة ال تدفع‬
‫بشيك طبعاً‪ ،‬ولكنها تدفع نقداً‪ .‬استصدر الشيك باسمه‪ ،‬دفع مبلغ الرشوة مائتي ألف جنيه‪ ،‬واحتفظ بالباقي‪ .‬كنت أعرف ما فعله‪،‬‬
‫إلن موظف الضرائب قال ألحد الزمالء المبلغ الذي قبضه فقد كان قريبه‪ .‬قام الزمالء بابتزاز المدير المالي‪ ،‬وأصبحت الشركة‬
‫عزبة لهم‪ .‬شهريا تصرف حوافز شهرية بمقدار شهر لكل منهم‪ .‬أخذت جانباً ولم أشاركهم‪ ،‬وطلبت نقلي كمدير إداري‪ .‬استمرت‬
‫عملية االبتزاز ألكثر من ثالث سنين‪ ،‬حتى تنبه أصحاب الشركة من مراجعة أحد التقارير‪ ،‬حيث وجدوا أن اإلدارة المالية‬
‫للشركة تكلف الشركة ثالثة أضعاف إدارة المبيعات‪ ،‬فقاموا باستئجار شركة تدقيق مالي أخرى‪ ،‬والتي كشفت المستور‪ .‬لم‬
‫يستطيعوا الوصول للمدير المالي‪ ،‬ألنه مات أثناء نومه‪ .‬في تحقيقات النيابة لم يرد ذكري‪ ،‬استدعوني فقلت لهم أني كنت أعرف‬
‫ما يدور ولذا طلبت نقلي‪.‬‬

‫استدعاني صاحب الشركة إلى مكتبه‪ ،‬ودخلت عليه وأنا مرتعش‪ .‬قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬إزيك يا أستاذ عباس‪ .‬تفضل إجلس‪.‬‬

‫جلست على طرف الكرسي وأنا أتصبب عرقاً‪ .‬أنظر إلى حذائي المترب المهتريء‪ ،‬وأجده ال يتماشى مع السجادة الوثيرة‬
‫المفترشة لألرض من تحتي‪.‬‬

‫‪ -‬الحمد هلل يا فريد بك‬

‫‪ -‬ما الذي يحدث في إدارتكم؟‬

‫‪ -‬الشؤون اإلدارية؟ بخير والحمد هلل‬

‫‪ -‬ال تستعبط علي‪ .‬أقصد الشؤون المالية‪ .‬انت كنت عارف اللي بيحصل؟‬
‫‪ -‬نعم يا فندم‪ ....‬بس‪...‬‬

‫‪ -‬بس ايه؟ لماذا لم تقل لي؟‬

‫‪ -‬يا فندم‪ ،‬كنت أعرف الكثير مما يحدث‪ ،‬ولكن لم يكن لدي سلطة‪ ،‬وال القرائن التي تدعم ما أعرف‪.‬‬

‫‪ -‬كنت تقول لي‪ ،‬وأنا أتصرف‪.‬‬

‫وحدثت حركة تطهير واسعة‪ .‬رفت جميع من يعملون بالحسابات‪ ،‬وأحيلوا للتحقيق‪ ،‬وأدانتهم النيابة‪ ،‬كلهم إال محاسب واحد‪ ،‬و‬
‫دخلوا السجن لمدد متفاوتة‪ .‬وتم نقلي مجددا إلدارة الحسابات كمدير مالي وإ داري‪.‬‬

‫شكلت إدارة الحسابات من جديد‪ ،‬وعاهدت نفسي على أن أحاول جاهداً أن أصون األمانة‪ .‬راتبي أقل من ربع راتب المدير‬
‫المالي السابق‪ ،‬وبالكاد يكفيني‪ ،‬لكن حد اهلل بيني وبين الحرام‪.‬‬
‫هل سأخبر األستاذ فريد بما يحدث أمامي اآلن؟ صراع يومي ال ينتهي‪ ،‬بين ما أراه من سرقات أريد منعها‪ ،‬وما بين إمكانياتي‬
‫المحدودة‪.‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫أتوق للخامسة والنصف بفارغ الصبر‪ ،‬ففي الرابعة والنصف‪ ،‬يبدأ الموظفون في االنصراف‪ ،‬وفي الخامسة والنصف‪ ،‬تبدأ‬
‫حياتي األخرى‪ .‬هوايتي الوحيدة‪.‬البورصة‪.‬‬

‫ال أخفيك سراً‪ ،‬فأنا مقامر مدمن‪ ...‬مقامر؟ أول مرة أصارح نفسي بهذا‪ .‬نعم أنا مقامر‪ ،‬ولكن والعياذ باهلل‪ ،‬ال أقامر‪ ،‬ولكني‬
‫أضارب بالبورصة‪ .‬هل هو قمار؟ نعم‪ ،‬اآلن تيقنت أنه قمار‪ ،‬وما أفعله هو القمار بعينه‪ ،‬تحت اسم مضاربة‪ .‬فالقمار حرام‪،‬‬
‫ولذلك‪ ،‬توجهت إلى البورصة‪ ،‬حيث القمار له مسمى آخر‪ ،‬اسمه مضاربة‪.‬‬

‫مقامر سباق الخيل يدعي انه يدرس الخيل‪ ،‬ويتابعه ويعرف الخيل الرابح من الخاسر‪ ،‬ويعرف أسلوب كل "جووكي" وكذا‬
‫مضارب البورصة‪ .‬أذكر مرة أني كنت في جلسة مع محلل مالي صديق لي منذ أيام الطفولة‪ ،‬أخذ يحكي لي عن البورصة‬
‫األميركية‪ .‬كنا في جلسة بين أربعة أصدقاء من أيام المدرسة االبتدائية‪ ،‬وتطرق الحديث عن البورصة‪ .‬كنت مستمعاً كعادتي ال‬
‫أشارك بالحديث إال بالسؤال من آن آلخر‪ ،‬ومصطفى مثلي‪ ،‬وكان على الطرف المقابل من الطاولة هاني (خريج السياسة‬
‫واالقتصاد) و أمجد (محلل اقتصادي) وأخذ أمجد يشرح لنا كيف يقومون بتقييم الشركات في البورصة‪ ،‬وأعطى مثاالً بتاكسي‪.‬‬
‫قال لي‪:‬‬

‫‪ -‬لو اشتريت هذا التاكسي‪ ،‬كم تكون قيمته؟‬

‫قلت له ‪:‬‬

‫‪-‬خمسة آالف دوالر مثالً‪.‬‬

‫رد مبتسماً‬
‫‪ -‬حسنا أيها المحاسب‪ ،‬كم ستكون قيمته بعد ثالث سنوات‬

‫قلت له كما لو كنت أجيب أستاذي في الكلية‪:‬‬

‫‪ -‬لو اإلهالك على خمس سنوات تكون قيمته ألفي دوالر‪.‬‬

‫رد ضاحكاً‪:‬‬

‫‪ -‬خطأ يا أستاذ!‬

‫نظرت له وأنا فاغر فاهي‪ ،‬فقال لي‪:‬‬

‫‪ -‬ليس كهذا يحتسبونه‪ ،‬وال يحتسبون قيمة الشركة‪ .‬فهم يحتسبون قيمة الشركة على األرباح‪ ،‬وليس على األصول‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬يحتسبون القيمة على األرباح‪ ،‬فلو كان هذا التاكسي يدر ربحا مقداره ألفي دوالر سنويا‪ ،‬فقيمة الشركة تكون أربع‬
‫وأربعون ألف دوالر‪.‬‬

‫‪-‬كيف ذلك؟‬

‫‪ -‬إلنك لو وضعت اربعا وأربعين ألف دوالر في البنك‪ ،‬بعد عام‪ ،‬ستدر عليك ألفي دوالراً‬

‫‪ -‬أو هكذا يحتسبون قيمة األسهم؟‬

‫‪-‬بلى‪ ،‬وأزيدك من الشعر بيتاً‪ ،‬بعض الشركات مثل واتس أب لم تحقق أرباحاً في تاريخها‪ ،‬وتقيم تقييمات بالمليارات‪ ،‬وذلك‬
‫ألنهم يحتسبون قيمتها بقيمة األرباح المتوقعة لها في المستقبل!‬
‫‪ -‬هذا نصب علني!‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬فال يوجد شيء اسمه التقييم العادل لسعر السهم‪ .‬كله نصب في نصب‪.‬‬

‫‪ -‬إذاً ولم يرتفع سعر السهم؟‬

‫‪ -‬مضاربة يا صديقي‪ ،‬مضاربة‪ .‬قطيع من الخراف يندفع لشراء سهم ال يسوى شيئا‪ .‬يضعون أموالهم التي كدحوا من أجل‬
‫جمعها‪ ،‬أمالً في تحقيق بعض الكسب السهل اليسير‪.‬‬

‫وأمن هاني على كالمه‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‪ -‬المفروض أن سعر السهم إما أن يرتفع أو أن ينخفض‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬يقابل كل عملية شراء‪ ،‬عملية بيع‪ ،‬ولذا من المنطقي أن يكون‬
‫خمسون بالمائة رابحون‪ ،‬وخمسون بالمائة خاسرون‪.‬‬
‫‪ -‬طبعاً‬

‫‪ -‬ال يا صديقي‪ ،‬تسعون من المائة من المتعاملين بالبورصة يخسرون‪ ،‬مقابل عشرة بالمائة فقط يربحون‪.‬‬

‫سمعت هذا غير مصدق‪ ،‬وغير مكترث في آن واحد‪ .‬أنا أضارب بالبورصة األميركية عن علم‪ ،‬وال أكترث بما يقولون من‬
‫مهاترات‪ .‬طبعاً أكذب على نفسي‪ ،‬ألني مدمن على القمار‪ ...‬عفوا … المضاربة‪.‬‬

‫‪ -‬إذن من يربح في البورصة؟‬

‫‪ -‬البورصة مثل نوادي القمار يا صاحبي‪ ،‬ويجب أن تجعل الروليت تعمل في صالحها‪ .‬أتعرف يا صاحبي من يربح في‬
‫البورصة؟ الرابح الوحيد‪ ...‬الشركات التي تجمع أموال المغفلين أمثالكم‪ ،‬و صانع السوق‪.‬‬
‫تسائل مصطفى‪:‬‬

‫‪ -‬صانع السوق؟ من هو صانع السوق هذا؟‬

‫‪ -‬يا صاح‪ ،‬صانع السوق هذا هو من يوفر السيولة‪ ،‬هو شخص لديه برنامج معقد يوضح له جميع أوامر البيع والشراء‪ ،‬وهو‬
‫الذي يوفر السيولة‪ ،‬ويوفق بين البائع والمشتري‪.‬‬

‫وأخذ صاحبي يسرد الكثير مما لم أستوعبه جيداً‪ .‬ال يهمني شيء من هذا‪ .‬أريد أن أتعلم‪ ،‬كي أستطيع أن أتغلب على الروليت‪.‬‬
‫درست بعض أساليب التحليل الكمي‪ ،‬وتحليل البيانات‪ ،‬وتحليل الرسومات البيانية التي تصدق في بعض األحيان وتخفق في‬
‫بعضها‪ .‬ورثت عن والدي مبلغاً ال بأس به من المال‪ ،‬جنبته‪ ،‬ولم أخبر زوجتي شيئاً عنه‪ ،‬و حولته في البورصة األميركية‪،‬‬
‫وأخذت أضارب‪ .‬تارة أكسب‪ ،‬وتارة أخسر‪ ،‬وأكافح كي أعوض خسائري‪.‬‬

‫أمكث في المكتب بعد الدوام الرسمي‪ ،‬و أبدأ المضاربة‪ .‬قرأت الكثير وتعلمت الكثير‪ ،‬وحضرت الكثير من الدورات‪ ،‬وما زلت‬
‫من التسعين بالمائة الذين يخسرون‪.‬‬

‫ما إن تأتي الخامسة والربع حتى أكون قد نصبت النصبة‪ ،‬وشغلت التطبيقات‪ ،‬وبدأت في متابعة السوق‪ ،‬متحيناً الفرصة‪ .‬أرى‬
‫حركة مواتية هنا أو هناك فأضع عليها مبلغاً من المال بالضبط كمقامر ينفخ في الزهر قبل أن يلقيه متحينا األرقام التي أعلنها‪.‬‬
‫تتحرك مؤشرات األسعار كما يدور الزهر حول نفسه‪ ،‬وتتشقلب األسعار كالزهر حتى يستقر تارة رابحا وتارات خاسرا‪.‬‬
‫عندما بدأت المضاربة‪ ،‬قال لي مدير الحسابات آنذاك أن البورصة شيء سهل‪ ،‬فإما أن تكسب جزءا من نقودك‪ ،‬أو تخسر نسبة‬
‫من نقودك‪ .‬ال يوجد شيئ اسمه خسارة تامة‪ ،‬ولكني اكتشفت خطأ ذلك‪ .‬فبالبورصة األمريكية‪ ،‬يمكنك بسهولة أن تخسر أكثر مما‬
‫استثمرت بكثير‪.‬‬

‫وكما يدمن متعاطي المخدرات أدمنت‪ ،‬وصار جرس تنفيذ الصفقة أحب األصوات إلى قلبي‪ ،‬واللون األخضر هو لوني األوحد‪،‬‬
‫وصرت أنام وأحلم بالماليين التي سأحققها‪ ،‬و أعد كلمتي أثناء لقاءاتي المتلفزة عن فنون التعامل في البورصة‪.‬‬
‫إدمان جرني إلى الكثير من المشاكل‪ ،‬وصارت جلستي في المكتب الخاوي‪ ،‬مع حاسوبي النقال هي متعتي الوحيدة في الدنيا‪.‬‬
‫األخبار التي أقرأها هي األخبار االقتصادية‪ ،‬والمعلومات التي أجمعها هي أخبار االندماجات و االنقسامات‪ .‬األسعار التي أعيها‬
‫هي أسعار الصرف‪.‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫انتهيت من عملي الممل‪ ،‬وصرفت آخر الموظفين‪ ،‬وأخرجت حاسوبي الشخصي‪ .‬اليوم يوم مهم فيض البورصة‪ .‬يجب أن‬
‫أتخارج من صفقة قمت بها باألمس‪ ،‬ألن إعالن األرباح السنوية اليوم‪ ،‬وسيحدث الكثير من التقلبات في السوق‪ ،‬وحتما سأخسر‪.‬‬

‫وأخذت أعد العدة‪ ،‬وإ ذا بالشاشة الزرقاء تظهر على الحاسوب‪ ،‬وكالم كثير باالنجليزية لم أفهمه‪ .‬يا إلهي‪ .‬لقد تعطل نظام‬
‫التشغيل في الحاسوب‪ .‬ماذا سأفعل اآلن؟‬

‫أخذت أحاول الدخول على موقع شركة السمسرة من حاسوب العمل‪ ،‬ولكن لألسف لم أستطع‪ ،‬فمدير الشؤون اإلدارية اللعين‬
‫(اللي هو أنا طبعاً) أمر بقفل جميع المواقع التي ال تستخدم في العمل‪.‬‬
‫أخذت أضرب بقبضتي على المكتب‪ ،‬وأنا ألعن حظي‪ .‬أكاد أبكي‪ .‬دخل علي الساعي ملهوفا يسألني‬

‫‪ -‬فيه ايه يا أستاذ عباس‬

‫‪ -‬الحاسوب اللعين تعطل‪.‬‬

‫‪ -‬أطلب لك الدعم الفني؟‬

‫‪ -‬أكيد ما فيه أحد هناك‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬أنا لسه شايف المهندس مدحت هنا‪ ،‬أجيبه لحضرتك‪.‬‬

‫‪ -‬شوفه لي اهلل يخليك‪.‬‬


‫وجرى الساعي‪ ،‬وأتى بعد فترة بالمهندس مدحت‪ ،‬وهو مهندس يعمل معنا بدوام جزئي‪ ،‬ويعمل على موقع الشركة‪ .‬مهندس‬
‫مواقع‪ ...‬أحسن من ما فيش‪.‬‬

‫‪ -‬يا أستاذ مدحت‪ ،‬ممكن تلقي نظرة على الحاسوب النقال؟‬

‫‪ -‬حاضر يا فندم‪.‬‬

‫فتح الحاسوب‪ ،‬وقال‪ ،‬يبدو أن نظام تشغيل الويندوز ال يعمل‪ .‬لألسف ال يوجد لدي قرص الويندوز‪ ،‬فأنا ال أعمل بالويندوز‪.‬‬
‫أعمل بنظام اللينكس‪.‬‬

‫‪ -‬ما هو نظام اللينكس ؟‬

‫‪ -‬نظام تشغيل أقوى من الويندوز‪ ،‬وأكثر استقرارا‪ ...‬أشبه بال "ماك"‬


‫‪ -‬طيب‪ ،‬هل تستطيع تشغيل الحاسوب بسرعة؟‬

‫‪ -‬يتوقف على البرمجيات التي تستخدمها‪ .‬ليست كل البرمجيات متاحة على نظام تشغيل اللينكس‪.‬‬

‫إضطررت أن أشرح له ما أعمل‪ ،‬فدخل على موقع شركة السمسرة‪ ،‬ووجد أن لديهم إصدار من برمجياتهم للينكس‪ .‬قلت له على‬
‫بركة اهلل‪ ،‬نزل اللينكس‪ ،‬لكن بسرعة أرجوك‪ .‬مال كثير على المحك‪.‬‬

‫أخرج مدحت فالشة من جيبه‪ ،‬وشرع يجهز الحاسوب‪ ،‬وبسرعة كبيرة استطاع أن يشغل الحاسوب بنظام اللينكس‪ ،‬الذي لم أفهم‬
‫من شيئا‪ ،‬ولكن عندما قام بتهيئة وتشغيل برنامج المضاربة‪ ،‬وجدت أن كل شيء يعمل كما في الويندوز‪.‬‬

‫تأخر الوقت‪ ،‬وصارت السادسة والنصف‪ .‬فتحت النظام وراجعت حسابي ووجدتني ولحسن الحظ وتوفيق من اهلل‪ ،‬قد ربحت ألفي‬
‫دوالر من وراء هذا التأخير‪ .‬كدت أطير فرحاً ورحت أقبله‪ ،‬وقلت له‪ ،‬الزم أعزمك على العشاء اليوم‪.‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫ذهبت ومدحت إلى مطعم فرحات الشهير بالحمام‪ .‬ومطعم فرحات هذا‪ ،‬موجود بشارع األزهر‪ ،‬وهو َم ْعلَم من معالم القاهرة‪.‬‬
‫أعتقد أنهم بعد قليل من الزمن سيصفون جامع األزهر بأنه الجامع المجاور لفرحات‪.‬‬

‫جلسنا في الشارع على كرسيين متقابلين‪ ،‬وطلبت شوربة وجوز حمام لكل منا‪.‬‬

‫أخذت أتفحص مدحت بعد أن تداركت أنفاسي‪ .‬مدحت طويل القامة‪ ،‬ممتلىء الجسم‪ ،‬أسود الشعر‪ ،‬وجهه مليء بالحبوب‪ ،‬ال‬
‫أدري إن كانت حب شباب أو ماذا‪ .‬ألثغ اللسان‪ ،‬يرتدي نظارة‪ ،‬وبنطال جينز وتي شيرت‪.‬‬

‫قلت له وأنا أضحك‬


‫‪ -‬لحقتني بالنكس بتاعك ده‬

‫‪ -‬لينكس يا أستاذ عباس‪.‬‬

‫‪ -‬لنكس‪ ،‬لينكس‪ ،‬غلطنا في البخاري يعني‪.‬‬

‫أفهمني أن نظام اللينكس أقوى من الويندوز‪ ،‬النه غير عرضة للفيروسات‪ ،‬ولكنه غير منتشر لصعوبة استخدامه‪ ،‬وقلة البرامج‬
‫الداعمة له‪.‬‬

‫‪ -‬وأين تعمل يا أستاذ مدحت؟‬


‫‪ -‬أنا "أعمل من منازلهم"‪ ،‬مستشار في بعض الشركات أقوم بتصميم وصيانة المواقع لبعض الشركات‪ ،‬منها شركة حضرتك‪.‬‬
‫فانت تعرف أن تصميم الموقع يتم مرة واحدة‪ ،‬وال يحتاج لصيانة وتحديث كثيرين‪ ،‬فمعظم الشركات تفضل التعاقد مع مهندس‬
‫بدوام جزئي‪ .‬أفضل للشركة‪ ،‬ولي‪ .‬فأنا حر نفسي وغير مقيد بمواعيد عمل‪ ،‬ولي دخل شبه ثابت ويكفيني‪.‬‬

‫‪ -‬واهلل فكرة جيدة‬

‫‪ -‬يا أستاذ عباس‪ ،‬أنا في النهاية حرفي‪ ،‬مثل أي حرفي‪ ،‬وهذا ما يجعلني أعيش مطمئناً‪ .‬حر نفسي‪ ،‬في الصباح أعمل‪ ،‬وليالً‬
‫ألتقي مع أصدقائي لماتشات الكرة‪.‬‬

‫شردت عند سماعي كلمته هذه‪ .‬فعالً‪ ،‬أنا لست حرفياً‪ ،‬وهذا ما يجعلني دائماً غير آمن على نفسي‪ ،‬أو عملي‪ .‬ال أستطيع أن أعمل‬
‫لحالي‪ .‬النجار أفضل حاالً مني‪ .‬هو ال يحتاج `إلى كل هذه الدراسة كي يعمل‪ ،‬كما أنه ال يحتاج إلى شركة كي يعمل‪ .‬أنا مدير‬
‫حسابات‪ ،‬كل ما أعرفه هو اإلكسل‪ ،‬إعداد الميزانيات‪ ،‬وبعض البرمجيات‪ .‬هل أستطيع أن أعمل مستقالً حرفياً‪ .‬بالتأكيد ال‪ .‬فأنا‬
‫في النهاية ليس لدي حرفة‪ .‬أحتاج مثلي مثل الكثير من الموظفين إلى شركة كي نعمل فيها‪ .‬ماذا سيفعل موظف األرشيف بدون‬
‫أرشيف؟ ماذا سيعمل مندوب الجمارك بدون شركة وبضاعة وخالفه‪.‬‬

‫انتبهت على صوت مدحت يتحدث بلثغته الغريبة عن نظام اللينكس‪ ،‬ومدى قوته و‪...‬‬

‫ثم سألني سؤال‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا كنت تفعل إن صح لي أن أسأل يا أستاذ عباس‪.‬‬

‫تراجعت في الكرسي الخشبي حتى كاد أن يقع بي‪ ،‬وأنا أشبك يدي خلف رأسي‬

‫‪ -‬كنت أضارب في البورصة‪.‬‬


‫‪ -‬لكن البورصة مقفلة اآلن‪.‬‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬ليست البورصة المصرية‪ ،‬لكن البورصة األمريكية‪.‬‬

‫‪ -‬البورصة األمريكية؟ لماذا؟ أليست خطرة؟‬

‫‪ -‬البورصة المصرية فقط للهواة‪ ،‬األمريكية للمحترفين‪ .‬تحتاج للكثير من العلم كي تضارب بها‪.‬‬

‫‪ -‬كيف؟‬

‫اعتدلت في مقعدي‪ ،‬وأنا أرتشف الشوربة اللذيذة‬

‫‪ -‬البورصة األمريكية تسمح لك أن تكسب حتى لو كانت البورصة نفسها تخسر‪ ،‬وبها شفافية أكثر كثيراً من البورصات العربية‪.‬‬
‫‪ -‬كيف تكسب لو كانت البورصة تخسر؟‬

‫‪ -‬العملية بسيطة‪ ،‬تبيع األسهم في عملية تسمى ‪short selling‬‬

‫‪ -‬ماذا؟‬

‫‪ -‬البيع بالسلف‪ ،‬أو ‪ short selling‬هو ببساطة أن تستعير السهم الذي تتوقع أنه سيهبط‪ .‬يمكنك أن تستعيره لمدة غير محددة‪ ،‬ثم‬
‫تبيعه بسعر السوق اليوم‪ .‬عندما يهبط السهم‪ ،‬تعيد شراءه وتحتفظ بالفرق‪ .‬عملية سهلة ومضمونة‪ ،‬وبالتالي يمكنك أن تبيع من‬
‫األسهم ما تتوقع أنه سيهبط‪ ،‬وتشتري من األسهم ما تراه سيصعد‪ .‬عملية سهلة‪.‬‬

‫‪ -‬وممن تستعير السهم؟‬

‫‪ -‬من شركة السمسرة أو ‪.broker‬‬


‫‪ -‬ومنذ متى وأنت تضارب في البورصة؟‬

‫‪ -‬منذ سنين عدة‪.‬‬

‫‪ -‬وهل حققت أرباحا؟‬

‫‪ -‬ربحت مرات وخسرت مرات وكذا هي الدنيا‪ .‬آمل في يوم ما أن أحقق ربحاً جيدا وأحولها لتصير مهنتي‪ ،‬وأصير مثلك‪،‬‬
‫أعمل من منازلهم‪ .‬اليوم فقط‪ ،‬بعد هذا المكسب الغير متوقع‪ ،‬استرجعت كل خسائري وعدت كما كنت حين بدأت وألول مرة إلى‬
‫األولي‪ .‬عشرة آالف دوالر‪ .‬أخيراً … من اآلن فصاعداً‪ ،‬أي ربح سأحققه سيكون ربحاً حقيقياً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫رأس مالي‬

‫ضحك مدحت ونظر إلى ملياً ثم قال‪.‬‬


‫‪ -‬بصراحة ال أستطيع أن أفعل مثلك‪ .‬فأنا ال أخاطر برأس مالي‪ ،‬أنا أبيع وقتي‪ ،‬وخدماتي‪ ،‬ولكن ال أخاطر برأس مالي‪ .‬أنا‬
‫أجبن من ذلك بكثير‪.‬‬

‫ضحكت قليالً وأخذت ألتهم الحمامة اللذيذة وأمصمصها في صمت و أنا أفكر فيما قاله‪ .‬فتسائل ليقطع الصمت‬

‫‪ -‬وماذا كان الشيء الرهيب الذي سيحدث اليوم الذي جعلك متوتراً كل هذا التوتر؟‬

‫‪ -‬أبداً كان هناك عملية يجب أن أتخارج منها قبل إعالن أرباح شركة صاحبة السهم الذي أضارب عليه‪ .‬كنت حققت ربحاً قدره‬
‫‪ 200‬دوالر وأردت أن أبيع السهم قبل إعالن أرباح الشركة‪.‬‬

‫‪ -‬ثم ماذا حدث؟‬

‫‪ -‬أبداً‪ ،‬لم أستطع البيع قبل إعالن األرباح‪ ،‬ولكن الشركة أعلنت أرباحاً فوق المتوقع‪ ،‬وحققت ربح ‪ 2000‬دوالراً‪.‬‬
‫صفر بفمه صفارة طويلة وقال‬

‫‪ 2000 -‬دوالر‪ ،‬دون أن تفعل شيئاً‪ .‬أي أنه لو كان جهازك يعمل‪ ،‬ما كنت حققتهم؟‬

‫ضحكت مليء شدقي وقلت له‬

‫‪ -‬نعم‪ ...‬قلّتي أحسن !!!‬

‫‪ -‬يا أستاذ عباس‪ ،‬إذا كان يمكنك أن تربح في صعود األسهم أو هبوطها‪ ،‬فكيف يخسر الناس‪ .‬أفهم أنه في البورصة المصرية‪،‬‬
‫إذا ربحت األسهم‪ ،‬وتحسن االقتصاد‪ ،‬يربح المضاربون‪ ،‬وإ ذا هبطت البورصة‪ ،‬تهبط األسهم ويخسر المضاربون‪ .‬ولكن في‬
‫البورصة األمريكية‪ ،‬إذا هبطت األسهم‪ ،‬يمكن أيضا للمضاربين أن يكسبوا‪ .‬فكيف يخسر الكثيرون أموالهم هناك أيضاً؟‬
‫‪ -‬يا مدحت‪ ،‬يا أخي‪ .‬في الواقع‪ ،‬هذا هو سؤال المليون دوالر‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬وطبقاً لإلحصائيات‪ ،‬يخسر تسعون بالمائة أموالهم‪،‬‬
‫حتى في البورصة األمريكية‪ ،‬مقابل عشرة بالمائة يربحون‪ .‬نظرية االحتماالت التي قلتها أنت تنطبق بالفعل‪ ،‬ولكن‪ ،‬إذا حسبت‬
‫رأس المال الذي يتآكل من الخسارة‪ ،‬و األرباح الغير مكتملة‪ ،‬تتضح الصورة‪.‬‬

‫‪ -‬ماذا؟‬

‫‪ -‬يعني مثالً إذا بدأت بعشرة آالف دوالر‪ ،‬وربحت في عملية مثالً مائة دوالر‪ .‬تقرر أن تتخارج من العملية مسرعاً فال تستمر‬
‫في العملية الرابحة لآلخر‪ .‬ثم تمنى بخسارة‪ ،‬مثال ثالثمائة دوالر‪ .‬بالطبيعة البشرية‪ ،‬اإلنسان ال يحب الخسارة‪ ،‬فيستمر في‬
‫االحتفاظ بالسهم أمالً في أن يعوض خسائره‪ ،‬فيخسر أكثر‪ .‬عندما يقرر أن يقفل المركز الخاسر‪ ،‬يكون قد خسر مثالً ألف دوالر‪،‬‬
‫وبالتالي صار رأس ماله تسعة آالف دوالر‪ .‬كي يعوض خسائره‪ ،‬يحب أن يجري عملية تحقق له مربح ‪ ،%12‬وهذا فارق‬
‫كبير‪ ،‬وهكذا حتى يتحقق تآكل رأس المال بالكامل‪.‬‬

‫‪ -‬ولكن إذا كانت بنظرية االحتماالت‪ ،‬لو شخص جاهل ضارب بالبورصة‪ ،‬فهناك احتمال خمسون بالمائة أن يربح‪ ،‬طيب‪ ،‬إذا‬
‫كان يقرأ شيئا‪ ،‬أو يحلل البيانات أو الرسوم البيانية كما تفعل‪ ،‬فاحتمالية نجاحه تزيد‪ ،‬يعني تصبح مثال ستين أو سبعين بالمائة‪،‬‬
‫فكيف يخسر‪.‬‬

‫‪ -‬كالمك صحيح يا صديقي‪ ،‬وأنا فعالً حوالي تسعين بالمائة من عملياتي تكون رابحة‪ ،‬ولكن العشر بالمائة الخاسرة هي التي‬
‫تحقق لي لمس األكتاف‪ .‬لوال عطل الحاسوب اليوم‪ ،‬لكنت ما زلت في الخسارة‪.‬‬

‫‪ -‬لن أستطيع أبداً فهم البورصة هذه‪ ،‬إذن فمن يربح في البورصة؟‬
‫الفصل السادس‬
‫عدت إلى المنزل في ذلك اليوم وأنا ممتلئ المعدة قرير النفس‪ .‬دلفت إلى المنزل بهدوء فال أريد أن أوقظ األوالد أو الخادمة‪.‬‬
‫تسللت بهدوء إلى غرفة النوم‪ .‬وجدت هند نائمة‪ ،‬أو تتصنع النوم‪ .‬متلحفة بجسدها البض‪ ،‬عاقصة شعرها بالمنديل الغريب الذي‬
‫تربط به شعرها حتى ال يصير كشة في الصباح‪ ،‬فشعرها من النوع الليفة‪ ،‬الذي ينتفش كلما كان الجو رطباً‪ ،‬فتلفه بالبوكل‪،‬‬
‫وتربط شعرها‪.‬‬

‫خلعت مالبسي في هدوء‪ ،‬وتسللت إلى جوارها في الفراش‪ ،‬وكلي أمل‪ .‬فرحتي بصفقة اليوم التي عوضت بعض خسائري‪،‬‬
‫باإلضافة إلى الحمام‪ ،‬فاقتربت منها بحرص من تحت البطانية‪ ،‬أتحسسها‪ ،‬فتململت وقالت‪:‬‬

‫‪ -‬عباس‪ ...‬انت جيت؟ أخلي حنان تحضر لك العشاء؟‬


‫‪ -‬ال‪ ،‬أكلت في الشغل‪ .‬كنت عايزك في موضوع تاني‪...‬‬

‫‪ -‬نام يا عباس‪ ،‬ورانا شغل باكر‪.‬‬

‫‪ -‬يا هند‪...‬‬

‫‪ -‬عباس‪ ...‬إبنك طلع روحي اليوم … و‪,,,‬‬

‫‪ -‬ابني؟ ده الولد ده بيأخذ مداعبة واهتمام من سيدتين في يوم واحد أكثر مما آخذه في شهر كامل‪.‬‬

‫وأخذت تسرد علي مغامراته في اليوم‪.‬‬


‫ْ‬ ‫ضحكت‬
‫ْ‬

‫راحت الليلة عليك يا عبس‪ ...‬يا خسارة الحمام‪...‬‬


‫الفصل السابع‬
‫استيقظت في الصباح‪ ،‬وعندي صداع من قلة النوم‪ .‬طوال الليل أحلم باألرباح التي سأحققها في األيام القادمة‪ .‬أرقام تلعب أمام‬
‫عيني‪ ،‬فال أستطيع النوم‪ .‬قمت من الفراش متثاقالً‪ ،‬صليت الفجر‪ ،‬وأديت الطقوس اليومية المعتادة وأنا شبه نائم‪ .‬أحلق ذقني‪،‬‬
‫أرتدي مالبسي‪ ،‬أقبل فاطمة وقاسم‪ ،‬وأطبع طابع البوسطة على وجنة زوجتي‪ ،‬أكافح في شوارع القاهرة المكتظة‪ ،‬حتى أصل‬
‫عملي‪.‬‬

‫يأتي صوت هند من بعيد ليتردد في رأسي‪.‬‬

‫‪ -‬ال تنسى اليوم معزومين على الغدا عند سميرة‪.‬‬


‫يادي النيلة‪ ،‬هتضيع علي اليوم‪.‬‬

‫دخلت مكتبي وأنا ألهث كالعادة‪ ،‬بدأت في طقوسي اليومية في المكتب‪ ،‬وأنا أحمل هم الزيارة التي ال بد منها الليلة لسميرة‬
‫وعادل‪ .‬سميرة صديقة زوجتي الصدوق‪ ،‬والتي ال تخفي عليها شيء‪ .‬عندما أذهب إليهم أشعر أنني عار تماماً‪ .‬أعتقد أن سميرة‬
‫تعرف عدد جواربي‪ .‬ال أمانع في صداقتهم‪ ،‬طالما ابتعدوا عني‪ ،‬لكن عادل زوجها سمج‪ ،‬ثقيل الظل‪ ،‬طبيب‪ ،‬فخور بنفسه‪،‬‬
‫موسوعة متحركة‪ ،‬ألزمهم بنظام نباتي صارم‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فالغداء اليوم سيكون نباتيا صرفاً‪ .‬قرديحي يعني‪.‬‬

‫شر ال بد منه‪.‬‬
‫خرجت من الدوام في الرابعة والنصف تماماً وأنا صاغر‪ .‬لو لم أوافق على العزومة‪ ،‬سأعاقب بالمعاملة الصامتة لمدة أسبوع‬
‫على األقل‪ ،‬وإ ذا لم أتصرف بكياسة في اللقاء‪ ،‬فسيكون عقابي أسبوعين حرمان من اللقاءات الزوجية‪ .‬أخذت أفاضل بين األمرين‬
‫في ذهني‪ .‬اليوم الخميس‪ ،‬لدي فرصة جيدة في الحصول على ما لم أحصل عليه باألمس‪ ،‬ولكنه الخميس‪ ،‬آخر يوم لي في‬

‫البورصة‪ ،‬فأنا ال أضارب يوم الجمعة ألني ال أذهب للمكتب‪ ،‬وال أريد أن تعرف هند شيئا عن البورصة‪ .‬حسناً نضيع يوماً‬
‫آخر‪ .‬سنعوض يوم اإلثنين بإذن اهلل‪.‬‬

‫وصلت إلى شقتهم في عمارتهم بالدقي‪ ،‬وكافحت حتى استطعت أن أحصل على مكان ألصف السيارة‪ ،‬وأخذت أمشي الهوينى‪،‬‬
‫حتى وصلت العمارة الفارهة‪.‬‬
‫فتحت سميرة الباب‪ ،‬وعلى فمها ابتسامة واسعة‪ ،‬ونظرة متفحصة‪ ...‬ترى ماذا تفكر فيه اآلن؟ هل تعلم شيئاً عن إصابتي‬
‫بالسكر؟ طبعاً لن تخفي هند شيئاً عنها وخصوصاً وأن عادل طبيب‪ .‬سيتفزلك علي اليوم بالنظام النباتي‪.‬‬

‫دخلت المنزل وأنا أهمهم ببعض الكلمات رداً على الترحيبات‪ .‬ال أعرف كيف أرد على الترحيبات‪ ،‬وال الردود المتداولة‪ ،‬ولكني‬
‫غالباً ما أهمهم بكلمات غير مفهومة‪ ،‬وأترك المتلقي لفهم وسماع ما يريد سماعه‪.‬‬

‫دخلت غرفة الصالون الكبيرة‪ .‬طاقمين من الصالون المذهب‪ ،‬كعادة المصريين‪ ،‬غرفة ال تستعمل إال عند حضور الضيوف‪،‬‬
‫تكون غالباً مغلقة معظم أيام األسبوع‪ .‬يتكدس أفراد العائلة في غرفتين صغيرتين‪ ،‬ولكن يجب أن تكون هناك غرفة صالون حتى‬
‫يستقبلوا فيها الضيوف‪ .‬تستخرج سميرة طاقم الصيني الفاخر الذي ال يظهر إال في المناسبات‪ .‬إذا هناك ضيف آخر‪.‬‬

‫أهه‪.‬‬
‫ت بحرارة ُ‬
‫سلم ُ‬
‫يأتي عادل مرتدياً حلة كاملة ورباط عنق‪ ،‬ويسلم على‪ .‬أسلم عليه بحفاوة‪ ،‬وأنظر بطرف عيني لهند‪ْ .‬‬
‫تأتي كريمة أخت سميرة الصغرى وتسلم بهدوء وتجلس على طرف الكرسي‪ .‬كم خجولة هي‪ ...‬أتى صوت أمها يناديها من‬
‫المطبخ‪ ،‬فقامت من فورها‪.‬‬

‫ال بد مما ليس منه بد‪ .‬سأبدأ الحديث حتى أحصل على تقدير جيد في هذا اللقاء‪ .‬سهل جداً أن أفتح الدكتور عادل في أي حديث‪،‬‬
‫فهو موسوعة‪ ،‬ويحب التحدث في أي شيء‪ .‬سأبدأ بأي موضوع سخيف‪ ،‬وأسلمه طرف الحديث‪ ،‬وأتركه يتحدث‪ ،‬وأسبح أنا في‬
‫أفكاري‪ ،‬وأهمهم بالردود من فترة ألخرى‪ .‬المهم أال يسألني عن شيء‬

‫‪ -‬كيف الحال يا دكتور‬

‫‪ -‬الحمد هلل بخير يا أستاذ عباس‪.‬‬

‫‪ -‬كيف العيادة؟‬
‫‪ -‬الحمد هلل تمام‪ ،‬في نعمة وفضل‪.‬‬

‫‪ -‬إال قل لي يا دكتور‪ ،‬أنا بيجيني مغص كل لما أشرب حليب‪ ،‬من ايه ده؟‬

‫‪ -‬يا أستاذ عباس‪ ،‬أكثر من سبعين بالمائة من الناس ال يتحملون الالكتوز في الحليب ‪...lactose intolerant‬‬

‫وانطلق الدكتور عادل في شرح مضار الحليب و الالكتوز‪ ،‬وتأثير األبقار على االحتباس الحراري‪ ،‬و تغير درجات الحرارة‬
‫العالمي‪ ،‬وذوبان القطب الجليدي‪ ،‬و تأثير البالستيك و و و وأنا سابح في ملكوت اهلل‪ .‬أنظر إلى نقطة بين عينيه‪ ،‬أحدق في‬
‫َأمن على حديثه‪ ،‬سارحاً في أموري حتى جاءني سؤال أخرجني مما كنت أفكر‬
‫الفراغ خلف جبهته‪ ،‬وأهز رأسي من آن آلخر وُأ ّ‬
‫فيه‪ .‬أخذت أسترجع ما قالته سميرة‪ ،‬وما قلته أنا رداً عليها‪...‬‬
‫أذكر أنني رددت طبعاً‪ ،‬ولكن‪ ،‬ماذا كان السؤال؟ احمر وجهي وتلعثمت‪ ،‬وأخذت أردد طبعاً طبعاً وأنا أحاول تذكر ما قلته لتلك‬
‫الخبيثة‪ .‬قالت شيئاً عن كريمة‪...‬نظرت إلى منتظرة الجواب‪ ،‬فقررت أن أغير من كلمة طبعاً ألنها صارت مكررة كثيراً فقلت‪:‬‬

‫‪ -‬أكيد‬

‫‪ -‬ما هي مواصفاته؟‬

‫‪ -‬مواصفات ماذا؟‬

‫‪ -‬العريس‬

‫‪ -‬يا إلهي‪ ،‬يجب أن أفكر بسرعة‪ ،‬أكيد هي سألت عن عريس‪ ...‬لكن لمن‪ .‬أكيد ليس لها‪ ...‬إذن فهو بالطبع إما لكريمة‪ ،‬أو ألحد‬
‫من صديقاتها‪ .‬ليس مهماً اآلن‪ .‬المهم أن أخترع أي شخص قبل أن أنكشف‪.‬‬
‫‪ -‬رجل ممتاز وعلى خلق‪.‬‬

‫‪ -‬وماذا يعمل؟‬

‫لن أنجو منها‪ ...‬يجب أن أخترع شخصية اآلن‪ ،‬لكن يجب أن أبني هذه الشخصية على أحد من معارفي‪ .‬من في الدوام سعيد‬
‫الحظ غير متزوج اآلن؟ عبد الرحيم؟ ال سعيد؟ ال‪ ...‬حرام‪ ،‬الولد غلبان‪ ...‬وفجأة وجدتني أفكر في مدحت‪ ...‬أكيد هو غير‬
‫متزوج‪ ...‬أذكر ذلك‪ ،‬حسناً ليكن مدحت‪...‬‬

‫‪ -‬يعمل مهندس تصميم مواقع‬

‫‪ -‬ما اسمه؟‬

‫‪ -‬اسمه مدحت‪ ،‬وهو شاب مهذب وخلوق ورياضي‪...‬‬


‫وأخذت أسرد مواصفاته حتى أنجو بنفسي‪ .‬أضحي به‪ ،‬وأعدي الليلة‪ ،‬وبعدين نبقى نشوف إيه اللي هيحصل‪.‬‬

‫وافترقنا على وعد بأن نرتب لقاءا بين العروس‪ ،‬والمأسوف على شبابه‪.‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫ذهبت يوم األحد إلى الدوام بتوصيات من هند‪-‬التي لم تأل جهداً في مكافأتي لقاء أدائي الحسن في زيارة سميرة‪ -‬بأال أنسى‬
‫ترتيب لقاء مع عريس الغفلة‪.‬‬

‫وصلت المكتب‪ ،‬وأخذت أفكر كيف أتصل عليه‪ ،‬أو أرتب اللقاء‪ ،‬وأنا ال أعرف الرجل جيداً‪ .‬كل ما كان بيننا هو لقاء‬
‫اضطراري‪ ،‬وعشاء في فرحات‪ .‬استخرجت هاتفي النقال‪ ،‬و اتصلت عليه‪ .‬أجابني بعد تسع رنات بصوت ناعس‪:‬‬

‫‪ -‬أستاذ عباس‪ ...‬كيف الحال؟‬

‫‪ -‬أهالً يا باشمهندس‪ .‬آسف اللي صحيتك من النوم‪.‬‬


‫‪ -‬ال أبداً ما في شيء‪ .‬خير إن شاء اهلل‪.‬‬

‫‪ -‬آسف يا باشمهندس‪ ،‬بس فيه حاجة في الكمبيوتر لو ممكن تيجي تشوفها‪ ،‬أكون شاكر‪ .‬انت عارف طبعاً ان هذا حاسوبي‬
‫الشخصي‪ ،‬بس أنا سأدفع لك ما تريد‪.‬‬

‫‪ -‬عيب يا أستاذ عباس‪ .‬ال تقلق‪ .‬ضحك وقال‪ ،‬أنا بس عندي إصابة مالعب‪ ،‬فممكن أتأخر عليك شوية‪.‬‬

‫رياضي كمان‪ ...‬هايل‬

‫‪ -‬أنا بالمكتب لغاية الرابعة والنصف‪.‬‬

‫‪ -‬حسناً سأكون عندك على الثالثة مساءا‬


‫‪ -‬في انتظارك‪.‬‬

‫أخذت أفكر فيم سأفعله في الحاسوب‪ ،‬ثم قررت أن أسأله عن أي شيء في طريقة استخدام اللينكس‪ ،‬وأعزمه على العشاء‪ ،‬ثم‬
‫نتحدث في الموضوع‪.‬‬

‫في الثالثة تماماً أتى مدحت‪ ،‬حامال حقيبته‪ ،‬ونظرة جدية على مالمحه‪.‬‬

‫‪ -‬فين الجهاز؟‬

‫‪ -‬تفضل يا باشمهندس‪ ،‬تشرب ايه؟‬


‫‪ -‬قهوة سادة … خير إن شاء اهلل‬

‫‪ -‬مالك بس مستعجل ليه‪ .‬إحنا هنتعشى سوا النهاردة‪.‬‬

‫‪ -‬ال إعفيني النهارده يا أستاذ عباس‪.‬‬

‫‪ -‬يا أخي ما لها الزمة األلقاب‪ ،‬إحنا أصبحنا أصحاب‪ .‬إال قل لي‪ ،‬خير‪ ،‬إصابة مالعب ايه؟‬

‫‪ -‬أخرج كفه وأراني إصبعه‪.‬‬

‫‪ -‬هل وقعت على إصبعك؟‬

‫‪ -‬ال يا أستاذ‪ ،‬ده من الجوي ستيك‬


‫‪ -‬جوي ستيك؟‬

‫‪ -‬أيوه ماتش كرة … فيفا ‪2000‬‬

‫نظرت له مستغرباً فقال لي‪:‬‬

‫‪ -‬بالي ستيشن‪ ،‬هو حضرتك فكرتني بألعب كرة؟!‬

‫همهمت لنفسي‪ ...‬يا للمصيبة‪ ،‬أول القصيد‪ ...‬طلع مش رياضي‪.‬‬

‫افتعلت كم سؤاالً عن اللينكس‪ ،‬ثم قلت له ال بد أن نتعشى اليوم‪ ،‬وألححت‪ ،‬فقبل العزيمة‪.‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫جلسنا على مقعدين متقابلين في مطعم قدورة بالمهندسين‪ .‬فرصة أزيد الفوسفور طالما هند راضية عني اليومين دول‪ .‬طلبنا‬
‫األسماك وأخذنا نأكل السلطات وبدأت في استعراض "عريس الغفلة"‪.‬‬

‫أخذنا نتجاذب أطراف الحديث عن عمله وسكنه‪ ،‬وأصله وفصله‪ .‬بصراحة وجدته إنسانا طيب القلب‪ ،‬دمث الخلق‪ ،‬مرحا‪.‬‬

‫‪ -‬إال قل لي انت متزوج؟‬

‫‪ -‬ال لسه ما لقيت بنت الحالل‪.‬‬

‫‪ -‬يا رجل‪ .‬كيف؟ ده البلد فيها خمسين مليون أنثى‪ ،‬معقول ما لقيت واحدة مناسبة؟‬
‫ضحكت الفريسة وهي تحاول التملص من الشباك‪.‬‬

‫‪ -‬ليه‪ ،‬وانت عندك عروسة؟‬

‫‪ -‬يعني‪ ...‬لو فيه‪ ...‬إيه رأيك؟‬

‫‪ -‬واهلل يا أستاذ عباس‪ ،‬أنا ما كنت أفكر في الزواج اآلن‪ .‬بعد وفاة الوالد والوالدة ‪ ،‬ما صار لي أحد في الدنيا غير أخ وأخت‪.‬‬
‫أخ مسافر في الخليج‪ ،‬وأخت مع زوجها في أمريكا‪ .‬وأنا هنا حر نفسي‪ ،‬أخرج وقتما أخرج‪ ،‬أعمل وقتما أعمل‪ ،‬وأقابل أقراني‬
‫وقتما أريد‪.‬‬

‫‪ -‬الحياة المثالية‬

‫‪ -‬تقدر تقول كده‪.‬‬


‫‪ -‬طيب يا أخي‪ ،‬ما رأيك أن تأتي معي لزيارة بعض األصدقاء‪ .‬لديهم شابة في سن مناسبة‪ ،‬ومن يعرف؟‬

‫‪ -‬ليه بس كده يا أستاذ عباس؟‬

‫‪ -‬يا أخي انت خسران إيه‪ ،‬تعال شوف‪ ،‬وجرب حظك‪ ،‬مش ممكن تكون الفتاة المنشودة؟‬

‫‪ -‬حسنا سأفعلها‪ ،‬من أجلك أنت فقط يا أستاذ عباس‪.‬‬

‫‪ -‬حسنا‪ ...‬يوم الجمعة القادم على الغداء‪ .‬سأعطيك العنوان‪.‬‬

‫افترقنا على وعد باللقاء يوم الجمعة القادم‪.‬‬

‫عدت إلى المنزل في التاسعة مساء وزففت الخبر إلى هند منتظراً المكافأة‪.‬‬
‫الفصل العاشر‬
‫في يوم الجمعة المنشود‪ ،‬ذهبنا سوياً إلى بيت سميرة‪ .‬تركنا األوالد بالمنزل مع حنان‪ ،‬الشغالة‪ .‬وصلنا مبكراً قليالً عن الموعد‪.‬‬
‫فتحت سميرة الباب مرحبة بوجه بشوش‪.‬‬

‫بعد الترحاب المعهود‪ ،‬دلفنا إلى حجرة الصالون‪ .‬واضح أن الكثير قد تغير في البيت منذ زيارة األسبوع الماضي‪ .‬يبدو أن‬
‫سميرة قد قامت بالكثير من العمل المضني‪ ،‬من أجل مقابلة عريس الغفلة‪ .‬جاءت كريمة لتسلم علي‪ ،‬مرتدية فستاناً بسيطاً أزرق‬
‫اللون‪ .‬نظرت إليها بإمعان هذه المرة‪ ،‬فلم أكنت قد أعرتها اهتماما من قبل‪ .‬إنها في الواقع جميلة‪ .‬جميلة الجمال البسيط الذي‬
‫يجب عليك أن تفتش عنه‪ .‬الوجه األبيض المستدير المريح‪ .‬العينين السوداويتين الواسعتين‪ .‬حركات الوجه واالبتسامات غير‬
‫المتكلفة‪ .‬المالمح الحادة‪ .‬القوام الممشوق‪ .‬خير إن شاء اهلل‪.‬‬
‫جاء مدحت بعد قليل في موعده بالضبط حامال باقة زهور كبيرة‪ ،‬مرتدياً حلة زرقاء‪ ،‬ورباط عنق‪ .‬شكله بالحلة أنيق‪ .‬على‬
‫البركة‪.‬‬

‫قمت بدور التعارف وأخذت أعدد محاسن خلق مدحت‪.‬‬

‫‪ -‬الباشمهندس مدحت شاب مجتهد‪ ،‬ومن أحسن مهندسين الكمبيوتر اللي عرفتهم‪.‬‬

‫‪ -‬مصمم مواقع‬

‫‪ -‬مصمم مواقع‪ ،‬مهندس حاسوب‪ ،‬بيفهم في كله‪.‬‬

‫ابتسم بخجل وأطرق صامتاً‬


‫تدخلت سميرة وقالت‪:‬‬

‫‪ -‬كريمة خريجة آداب قسم علم نفس من جامعة القاهرة‬

‫نظر مدحت مهتماً‬

‫‪ -‬جامعة القاهرة‪ ،‬أنا كمان خريج هندسة القاهرة‪.‬‬

‫نظرت إليه كريمة باهتمام‪ ،‬وقالت بنبرة جدية‪:‬‬

‫‪ -‬يبقى أكيد ما تقابلنا‬

‫‪ -‬لماذا؟‬
‫‪ -‬ألن كلية اآلداب دوامهم بالكافيتريا !!!‬

‫ضحك مدحت وبدأ الثلج في الذوبان‪.‬‬

‫أخذنا نتحدث في أمور عامة عن األسعار والطقس‪ ،‬وأخذت األمور تسير على منحى جيد‪ ،‬وتعشمت نفسي في مكافأة سخية ‪.‬‬
‫أخذت أفكر فيما سيحدث الليلة مبتسماً في داخلي‪ ،‬وأشارك من آن آلخر في التأمين على الكالم الذي يدور من حولي بهمهماتي‬
‫المعتادة‪ ،‬حتى وجدت هند تنظر إلى شزراً حتى كدت أخر صعقاً‪ ...‬ماذا حدث؟ ال أفهم‪ ...‬هل عدت إلى عادتي في قرض‬
‫أصابعي ؟ نظرت إلى أصابعي‪ ،‬فوجدتهم جافين‪ .‬تحققت من سحاب بنطالي وأنا أتصبب عرقاً‪ ،‬كل شيء تمام‪ ....‬ماذا؟؟ هل‬
‫سرحت مجدداً ؟ هل وجه أحد سؤاالً آخر لي؟‬

‫نظرت حولي فوجدت كريمة مطرقة إلى األرض‪ ،‬ومدحت يبتسم ابتسامة عصبية‪ ،‬ووجه عادل أحمر كالطماطم‪.‬‬
‫تدخل عادل قائالً‪:‬‬

‫‪ -‬الغداء سيبرد‪ ،‬ياال يا جماعة‪ ،‬أكيد الباشمهندس عصافير بطنه بتصوصو‪.‬‬

‫قمنا وجلسنا على طاولة الطعام بالترتيب المعد سابقاً‪ .‬أخذ الحاضرون في الثناء على الطعام وتداول الصحون‪ ،‬و تداول العبارات‬
‫المقتضبة‪.‬‬

‫تناولنا الشاي بعد الوليمة مع الحلويات‪ ،‬و استأذن مدحت في تدخين سيجارة بالشرفة‪،‬وأشار لكريمة التي تبعته بالشاي‪ .‬جلسوا‬
‫بالشرفة فترة ليست بالقصيرة‪ ،‬تاركينني مع المجموعة وشعاع الليزر المصوب من هند على أم رأسي يكاد يذيبها‪.‬‬

‫عاد مدحت بعد تدخين ما يقارب على علبة السجائر‪ ،‬هو وكريمة‪ ،‬وهما يتضاحكان بانسجام‪ .‬استأذنت وهند في االنصراف‪،‬‬
‫وتبعنا مدحت‪.‬‬
‫سلمت على الحاضرين‪ ،‬وشددت على يد كل منهم‪ ،‬وأنا أتحاشى النظر في عين أي منهم‪.‬‬

‫دخلنا السيارة‪ ،‬وأنا في انتظار العاصفة‪ .‬جلست هند بجواري‪ ،‬وما إن شغلت السيارة‪ ،‬حتى انطلقت كالمدفع الرشاش‪.‬‬

‫‪ -‬انت يا راجل انت مش هتبطل العته اللي انت فيه؟‬

‫‪ -‬ايه بس‪ ،‬فيه ايه؟‬

‫‪ -‬يعني انت مش عارف؟‬

‫‪ -‬ال مش عارف‪ .‬أنا شايف كل حاجة مشيت تمام؟‬

‫‪ -‬تمام ايه؟ الولد أصغر منها بأربع سنين‪ ،‬وكمان مش عارف إنها مطلقة‪.‬‬
‫‪ -‬مطلقة؟ أنا مش عارف إنها مطلقة! وبعدين أصغر منها كيف؟ و كنت إزاي هأعرف؟ يعني أسننه؟‬

‫‪ -‬أنت ال تصلح ألي شيء‪ ،‬زي قلتك‪.‬‬

‫‪ -‬شوفي‪ ،‬أنا عملت اللي علي‪ .‬هو ده اللي عندي‪ .‬ما تبقيش تدخليني في شغل الخاطبة بتاعك ده‪.‬‬
‫الفصل الحادي عشر‬
‫يوم السبت‪ ،‬العطلة األسبوعية‪ .‬أنام حتى الحادية عشرة‪ .‬أصحو على صوت بكاء قاسم‪ ،‬وصراخ هند‪.‬‬

‫قاسم ولي العهد‪ ،‬وآخر العنقود‪ ،‬أو كما أسميه الترميناتور “‪ .”The Terminator‬عندما تزوجت‪ ،‬كانت العالقة بيني وبين زوجتي‬
‫على ما يرام‪ ،‬أو كما أسميها طبيعية‪ .‬عندما ولدت فاطمة‪ ،‬إنشغلت زوجتي مع فاطمة‪ ،‬وتضاءلت فرص لقاءاتنا‪ ،‬فكنت أسمي‬
‫فاطمة " سم العالقات أو ‪ ،”Sex Poison‬حيث كانت تتلذذ بالبكاء‪ ،‬أو الصراخ عندما تحس بنية ما ألن نخاويها‪ .2‬وعندما ولد‬
‫قاسم‪ ،‬تفنن أكثر من أخته في ذلك حتى كادت تنتهي العالقة بيننا‪ ،‬فأسميته المحطم‪ ،‬أو التيرميناتور‪.‬‬

‫ننجب لها أخا‬


‫ً‬ ‫‪2‬‬
‫أفيق ببطء و أتذكر الليلة الماضية‪ .‬أجازة نكد من أولها‪ .‬أخذت أفكر فيما سأفعله اليوم‪ .‬يجب أن أهرب من المنزل‪ .‬أي حجة‬
‫سأخترع اليوم؟ مزاج هند أكيداً نكد‪ ،‬وأنا ال أريد أن أقابل وجهها النكد طوال اليوم‪.‬سأخترع شيئاً‪ .‬هل هناك مباريات اليوم؟‬

‫أجدها تفتح باب غرفة النوم بهدوء حاملة صينية بها قهوة وكرواسون‪ ...‬قهوة وكرواسون؟ هناك شيء ما‪ ...‬يجب أن أحتاط‪ .‬ما‬
‫تاريخ اليوم؟ يا للمصيبة‪ .‬عيد خطوبتنا؟ عيد زواجنا؟ عيد أول لقاء؟ عيد ميالد أحد األوالد؟ كارثة‪ ...‬أيكون عيد ميالدها؟ لقد‬
‫أدخلت كل المناسبات على رزنامة النقال‪ ،‬مع تنبيهات قبلها بيومين‪ .‬تبا للتكنولوجيا‪.‬‬

‫ابتسمت وهي تدلف الغرفة‪ .‬الروب األحمر‪ ...‬ال‪ ...‬أنا حتماً انتهيت‪ .‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬صباح الخير يا قلبي‪.‬‬


‫قلبي؟ أنا اللي قلبي ما بين رجلي‪ ...‬ما تقولي يا ولية‪ ...‬إنها اآلن تتلذذ بتعذيب فريستها‪ .‬أحدق في عينيها وأنا متلعثم‪ ،‬ال أعرف‬
‫بماذا أرد‪ .‬أريد أن أستشف ما يوجد خلف تلك النظرة‪ .‬متى ستنقض علي؟‬

‫‪ -‬صباح النور‬

‫‪ -‬جبت لك الفطار‪ .‬تحب تفطر في السرير‪ ،‬واال تقوم على الترابيزة؟‬

‫بدون أن تنتظر ردي‪ ،‬وضعت الصينية على السرير‪ ،‬وتناولت علبة السجائر وناولتني إياها مع القداحة‪ ...‬تدخين في غرفة‬
‫النوم؟ إنها الطامة الكبرى‪ .‬واضح أنها قررت أن تجهز علي‪ ،‬وهي اآلن تحقق لي رغبتي األخيرة قبل اإلعدام‪ .‬ابتسمت ابتسامة‬
‫عصبية‪ ،‬وأنا أقول لها‬

‫‪ -‬إيه ده كله؟‬
‫ردت بصوت كله نعومة‪:‬‬

‫‪ -‬أبداً‪ ،‬حبيت أجيب لزوجي حبيبي اإلفطار في السرير‪ .‬أجرمت؟‬

‫‪ -‬ال أبداً يا حياتي‪ ،‬بس أنا ممكن أتعود على كده‪.‬‬

‫ضحكت ووضعت ساقاً فوق اآلخر‪ ،‬وقالت بدالل‪.‬‬

‫‪ -‬ما تتعود‬

‫قلت لها مبتسماً بعصبية‬

‫‪ -‬هو فيه ايه؟‬


‫قالت لي أن سميرة اتصلت عليها شاكرة إياها على اللقاء البارحة‪ ،‬وقالت لها أن كريمة أعجبت بمدحت‪ ،‬و أنهما اتفقا على لقاء‬
‫آخر‪.‬‬

‫حمدت اهلل وأخذت أرتشف قهوتي بتلذذ‪ .‬عفارم عليك يا مدحت‪ .‬رفعت رأسي‪ .‬قررت أن أستمتع بمكافأتي‪ ،‬ولم ال‪ ...‬لقد‬
‫استحققتها عن جدارة‪ .‬يكفيني الشد العصبي البارحة‪.‬‬
‫الفصل الثاني عشر‬
‫مر شهر على الزيارة العجيبة لسميرة ومدحت‪ .‬كل شيء على ما يرام على ما يبدو‪ .‬فلم أسمع شكوى من أحد‪ .‬هند تعاملني‬
‫معاملة ال بأس بها‪ ،‬أو ممتازة مقارنة بما سبق‪ .‬عدت لروتيني اليومي المعتاد‪ ،‬ومغامراتي في البورصة المعتادة‪ ،‬ما بين مكسب‬
‫قليل‪ ،‬وخسارة ثقيلة‪ .‬بعد أن عوضت خسائري‪،‬صرت أكثر حرصاً وخوفاً من أن أنزلق في خسائر أكثر مما أتحمل‪ .‬حسابي‬
‫اآلن فوق العشرة آالف دوالر‪ ،‬ولكني متوتر‪.‬‬
‫قابلت مدحت مرة واحدة خالل ذلك الشهر‪ ،‬عزمته علي قهوة في كافي بين جامعة الدول‪ ،‬وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث‪.‬‬
‫الحظت من فوري تغيره‪ .‬صار أكثر هندمة من ذي قبل‪ .‬حليق الذقن بإتقان‪ ،‬وشعره مصفف‪ .‬يتخير مالبسه بعناية أكثر‪ ،‬وألوان‬
‫متسقة‪ ،‬ومقاس يناسبه‪.‬‬

‫فتح لي قلبه‪ ،‬وقال لي أنه وحيد في هذه الدنيا‪ .‬حياته بين عمل‪ ،‬ونوم‪ ،‬ولعب البالي ستيشن مع زمالئه الذين يتساقطون واحداً‬
‫بعد اآلخر في شباك الزواج‪ ،‬ويحاول جاهداً استبدال من يسقط منهم‪ .‬كريمة مألت عليه حياته إلى حد ما‪ .‬يبدو أن شخصياتهم‬
‫متوافقة‪ .‬حيث أنها أكبر منه‪ ،‬فهي تعي جيداً وضعه ونفسيته‪ .‬تعامله كالند في الكثير من األحيان‪ .‬صارت صديقة‪ ،‬أكثر منها‬
‫خطيبة أو زوجة‪ .‬قلما يلتقيان وجهاً لوجه‪ .‬معظم حياتهم على الهاتف‪ ،‬والواتس والتشات‪ .‬تلعب معه البالي ستيشن بالساعات‪ ،‬و‬
‫يتناقشان معاً كثيراً من الوقت‪ .‬كالهما يحب القراءة‪ ،‬فأنشئا ما يماثل نادي الكتب‪ ،‬حيث يتخيران كتاباً‪ ،‬يقرآه‪ ،‬ويتناقشا فيه‪،‬‬
‫ويحلاله‪.‬‬
‫قال لي أنهما ال يتعجال أي خطوة قادمة‪ ،‬فالعمر أمامهما‪ ،‬وهي ال تتعجل شيئاً وهو ال يتعجل‪ .‬هو يعتبرها صديقاً آخر‪ ،‬وهي‬
‫تعتبره صديقاً ولكن من نوع آخر‪ .‬لهما لقاء أسبوعي في بيت سميرة‪ ،‬وآخر في كافيه‪.‬‬

‫فرحت من أجله‪ ،‬وتمنيت له الخير‪ .‬زففت البشرى لهند عند عودتي‪ ،‬بأن كل شيء على ما يرام‪ ،‬وتخيرت ألفاظي بدقة‪ ،‬فأغفلت‬
‫عدم بدئهما في تخطيط أي شيء‪.‬‬

‫ثم كان صباح يوم السبت‪ ،‬عندما أتتني رسالة واتس أب غريبة‪ ،‬من رقم غريب‪.‬‬

‫كان نص الرسالة يقول‪:‬‬

‫“أنا جيسي ليفرمور‪ ،‬أعمل في البورصة األميركية‪ ،‬لقد اخترتك من بين الماليين ألني أتوسم فيك النزاهة‪ ،‬وألنك تحاول جاهداً‬
‫أن تحقق المكسب في البورصة األمريكية بال جدوى‪ .‬ضميري يؤنبني ألن مثلك من الكادحين في دولة من دول العالم الثالث‪،‬‬
‫الذين يقدمون أموالهم التي كدحوا كثيراً من أجلها‪ ،‬ليخسروها لمضاربي البورصة في أمريكا‪ ،‬فقررت أن أغير ذلك‪ ،‬ولو على‬
‫مستوى صغير باختيار بعض صغار المضاربين من الدول النامية‪ ،‬ومدهم ببعض المعلومات التي ستساعدهم في تحقيق الثراء‬
‫الحقيقي‪ .‬لدي من المعلومات الداخلية من داخل البورصة ولكني ال أستطيع استخدامها ألني أعمل هناك‪ .‬أنا أعرفك من خالل‬
‫حسابك‪ ،‬فحسابك مع سمسار … و يحتوى على‪ 10221‬دوالراً ‪ .‬سأساعدك على أن تحقق مكسباً خيالياً في البورصة‪ ،‬وتصل‬
‫إلى االستقالل المالي الذي تنشده‪ .‬سأثبت لك ذلك‪ .‬فقط عليك أن تنفذ ما أقوله بدقة‪ .‬إن السهم ‪ XXX‬يتداول بسعر ‪ .30.37‬يوم‬
‫اإلثنين القادم‪ ،‬بع ‪ 20‬عربوناً ‪ call‬على سعر‪ strike 30‬بقيمة ‪ 1.65‬دوالراً للعقد ‪ .‬ستحتاج لحجز مبلغ ‪ 12,500‬دوالراً في‬
‫حسابك وفي خالل عشرة أيام ستحقق‪ 3300‬دوالراً أي حوالي ثالثون بالمائة من رصيدك ‪ .‬ال أطلب منك أي مقابل‪ .‬هذه‬
‫المعلومة هي عربون صداقة‪ .‬ال تحاول االتصال بي على هذا الرقم‪ ،‬فهو رقم ال يمكن تتبعه‪ .‬إذا لم تنفذ العملية‪ ،‬سأعرف‪،‬‬
‫وسأتوقف عن إرسال أية معلومات لك‪” .‬‬
‫لم أفهم شيئاً من الرسالة‪ ،‬فأنا لم أتعامل أبداً في سوق الخيارات‪ .Options Market‬كيف استطاع أن يعرف بياناتي بدقة؟ ما هو‬
‫سوق الخيارات؟ ما هو العربون ‪ Call‬؟ وماذا سيحدث لو بعته‪ .‬ما هذا السهم الذي أسماه؟‬

‫أخذت الرسالة تلعب في مخيلتي‪ ،‬وتؤرقني‪ .‬هل هذا الشخص فعالً يعمل بالبورصة؟ هل هي مزحة؟ تساؤالت كثيرة أخذت تؤرق‬
‫على مضجعي‪ .‬قد تكون هذه هي الفرصة التي أنتظرها‪.‬‬

‫قررت أن أفهم ماذا يريد هذا الرجل مني‪ ،‬فاتصلت على مجموعة المدرسة‪ ،‬آمالً أن أحصل على تفسير من أمجد أو هاني‪.‬‬

‫تقابلنا في نفس الكافيه المعتاد‪ .‬ذهبت مبكراً حتى أختار طاولة جانبية في الطابق الثاني بعيداً عن مسترقي السمع‪ ،‬هادئة حتى‬
‫أستطيع فهم كل ما سيقال‪ .‬ضبطت هاتفي النقال على وضع تسجيل حتى أستطيع استرجاع ما سيقولونه من طالسم‪.‬‬

‫أتى األصدقاء‪ ،‬وبعد تبادل التحيات المعتادة‪ ،‬والسؤال عن صحة األهل واألصدقاء‪ ،‬شرعت أسأل أمجد‪.‬‬
‫‪ -‬ما هو سوق الخيارات؟‬

‫ضحك أمجد وقال‪ ،‬لو كنت آخذ ربع جنيه على كل مرة أرد بها على هذا السؤال كان زماني اآلن مليونيراً‬

‫‪ -‬شوف يا سيدي‪ ،‬سوق الخيارات هو سوق مواز لسوق البورصة‪ ،‬ولكنه أخطر بكثير‪ .‬مثال لو لدينا سهماً اسمه أ‪ ،‬يمكنك بدالً‬
‫من أن تشتري السهم مثال بمائة دوالر‪ ،‬أن تشتري عربون لشراءه ‪ Call‬على سعر مائة دوالر‪ .‬العربون قيمته مثالً خمسة‬
‫دوالرات‪ .‬والعربون محدد المدة‪ ،‬أي أنه ينتهي بنهاية الشهر‪ ،‬فتكون أنت قد اشتريت حق شراء السهم على مائة دوالر أياً كان‬

‫سعر السهم في ذلك الوقت‪ .‬لو صار سعر السهم عند آخر الشهر مائتي دوالراً تكون أنت قدر ربحت خمساً وتسعين دوالراً‬
‫باستثمار قدره خمسة دوالرات (سعر العربون أو ال ‪ , )Call‬وإ ذا انخفض سعر السهم عن مائة دوالر‪ ،‬فقط تخسر قيمة‬
‫العربون‪ ،‬ألنك لن تستخدمه‪ ،‬ألن سعره اليوم أقل من مائة دوالر‪.‬‬
‫‪ -‬طيب‪ ،‬لو ظل سعره على مائة دوالر‪ ،‬أو ارتفع قليالً مثال مائة واثنين؟‬

‫‪ -‬تخسر قيمة العربون أو تخسر قيمة الفرق أيضاً‬

‫‪ -‬ولكن ماذا يحدث إذا بعت العربون؟‬

‫‪ -‬آه‪ ،‬هذا ما يفعله المخضرمون في البورصة‪ .‬مثالً لو بعت عربوناً على سعر مائة دوالر‪ ،‬بقيمة خمسة دوالرات‪ ،‬فأنت ملتزم‬

‫ببيع السهم عند سعر المائة دوالر‪ .‬فعندما تتوقع أن يهبط السهم عن مائة دوالر‪ ،‬أو يظل على سعر المائة‪ ،‬فانت تبيع عربوناً‬
‫على هذا السعر‪ .‬إذا انخفض السهم‪ ،‬تصبح قيمة العربون ملكاً لك‪ .‬تخيلها كما لو كانت شقة أو قطعة أرض‪ .‬إذا اشتريت شقة‬
‫بمبلغ مائة ألف جنيه آمالً في أن تبيعها بمائتي ألف‪ ،‬فأنت تخاطر بمائة ألف جنيه‪ ،‬كي تحقق مائة ألف‪ ،‬ولكنك تجمد مائة ألف‬
‫جنيه كاملة‪ ،‬كي تستفيد من الزيادة‪ ،‬إن تحققت‪ .‬لكنك لو ذهبت إلى صاحب الشقة‪ ،‬و قلت له‪ :‬سأشتري منك الشقة بمائة ألف‬
‫جنيه‪ ،‬وهاك عربون بألف جنيه دليالً على المصداقية‪ ،‬احتفظ لي بالشقة حتى آخر الشهر‪ .‬لن يستطع صاحب الشقة بيعها‪ ،‬وتظل‬

‫على اسمك حتى آخر الشهر‪ .‬عند حلول األجل‪ ،‬لو استطعت أن تبيع الشقة بمائة وعشرين ألف جنيه‪ ،‬تكون قد حققت مربحاً‬
‫قدره عشرون ألف جنيه‪ ،‬باستثمار قدره ألف جنيه فقط‪ .‬لو انخفضت قيمة الشقة عن المائة ألف جنيه‪ ،‬مثالً وصلت تسعين ألف‬
‫جنيه‪ ،‬تخسر عربونك الذي دفعته‪ ،‬أي تخسر مائة بالمائة مما استثمرته‪.‬‬

‫‪ -‬آه فهمت اآلن شراء العربون‪ ،‬ولكن بيع العربون هذا‪ ...‬كيف أبيع عربوناً وأنا ال أملك حتى الشقة‪.‬‬

‫‪ -‬هذا أعقد قليالً‪ ،‬ولكنه مثل بيع أسهم ال تمتلكها ‪ . Short selling‬تخيل أنك ذهبت لصاحب الشقة وقلت له احجز لي الشقة‬
‫سأبيعها لك بمبلغ مائة ألف جنيه‪ .‬ثم تبيع عربوناً بالشراء لشخص ما‪ ،‬صالحاً حتى نهاية الشهر‪ .‬إذا انخفضت قيمة الشقة عن‬
‫مائة ألف جنيه‪ ،‬يصبح العربون حاللك‪ ،‬ألن من اشترى منك العربون‪ ،‬لن يستغل حقه في الشراء على مائة ألف إذا كان سعرها‬
‫بتسعين ألفاً اآلن‪ .‬أما إذا انخفضت قيمة الشقة عن مائة ألف جنيه‪ ،‬مثالً صارت تسعين ألف جنيه‪ ،‬تذهب مثل الشاطر‪ ،‬تشتري‬
‫الشقة بمائة ألف جنيه‪ ،‬وتبيعها له بتسعين ألف جنيه‪ ،‬وتكون قد خسرت تسعة آالف جنيه‪ .‬يعني في هذه الحالة استثمرت ألف‬
‫جنيه‪ ،‬وخسرت تسعة آالف جنيه أي ‪ %900‬مما استثمرته‪ ،‬ولذا سوق الخيارات سوق خطير‪ ،‬قد تخسر أكثر بكثير مما‬
‫استثمرته‪.‬‬

‫‪ -‬طيب وما هو ال ‪put‬؟‬

‫‪ -‬ال ‪ put‬هو تأمين وهو عكس العربون بالضبط‪ .‬أي أنه تأمين‪ .‬تخيل أن لديك شقة بمائة ألف جنيه‪ ،‬وأنت تخاف على أن‬
‫تنخفض قيمتها عن مائة ألف جنيه‪ ،‬فتشتري تأمينا (أي تشتري ‪ )put‬على سعر مائة ألف جنيه‪ .‬يمكنك أن تشتريه مثالً بألفي‬
‫جنيه‪ .‬هنا‪ ،‬إذا انخفض سعر الشقة عن مائة ألف جنيه‪ ،‬من باعك هذا التأمين ملتزم بشرائها عند سعر مائة ألف أياً كان سعر‬
‫الشقة في ذلك الوقت‪.‬‬

‫‪ -‬ولماذا يبيع هذا المغفل قيمة التأمين؟‬

‫‪ -‬ليس مغفالً يا صاحبي‪ .‬فإذا ظل سعر الشقة مائة ألف‪ ،‬أو ارتفع سعرها‪ ،‬يصبح التأمين ملكاً لمن باعه لك‪ .‬فهو يراهن على‬
‫أن سعر الشقة سيرتفع أو يظل كما هو‪ ،‬وبالتالي يصبح قيمة التأمين صفراً عند نهاية العقد‪.‬‬

‫فتدخل هاني قائال‪:‬‬


‫‪ -‬باختصار‪ ،‬سوق الخيارات هو سوق مراهنات على أن السعر سيظل في حدود معينة‪ ،‬وهو وسيلة ألن تحقق أضعاف ما‬
‫تستثمره إذا كان هذا يسمى استثماراً‪ .‬بالنسبة للشركات الكبيرة‪ ،‬هي وسيلة لضمان ثبات األسعار عند حد معين‪ ،‬وبالنسبة لصغار‬
‫المضاربين هي وسيلة لتحقيق مكسباً ضخماَ باستثمار قليل‪.‬‬

‫‪ -‬وهل هذا حالل؟‬

‫فرد هاني و أمجد في نفس واحد‪ ...‬ال‪ ،‬حرام‪.‬‬

‫نظرت لهم وأنا غير فاهم‪.‬‬

‫‪ -‬كيف؟ أعتقد أن العربون حالل في اإلسالم‪.‬‬

‫‪ -‬نعم العربون حالل في اإلسالم‪ ،‬ولكن المشكلة الشرعية في عرابين البورصة أنها ال تختصم من قيمة ما تشتريه‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬فتخيل مثال الشقة‪ ،‬إذا دفعت عربوناً بقيمة ألف جنيه لشقة بمقدار مائة ألف جنيه‪ ،‬فعند شرائك للشقة‪ ،‬تدفع تسعاً وتسعين‬
‫ألف جنيه‪ ،‬مختصماً قيمة العربون‪ ،‬وهذا ما ال يحدث في حالة سوق الخيارات‪ .‬إذا ارتفعت قيمة الشقة إلى مائة وخمسين ألف‬
‫جنيها‪ ،‬تدفع مائة ألف جنيه‪ ،‬كما في العقد‪ ،‬بصرف النظر عن العربون المدفوع‪ .‬العربون هنا كأنه رسوم حجز غير قابلة‬
‫لالسترداد‪.‬‬

‫‪-‬إذاً دعني أكرر ما فهمته‪ .‬إذا بعت عرابين على سهم بسعر مائة دوالراً بمبلغ عشرة آالف دوالر فأنا سأحقق عشرة آالف‬
‫دوالر إذا ظل السهم تحت المائة دوالر عند نهاية العقد؟‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬وقد تخسر العشرة آالف دوالر كلها إذا ارتفع السهم عن سعر المائة دوالر‪ ،‬وفي كل األحوال‪ ،‬هذا حرام شرعاً‪.‬‬
‫‪ -‬لكن سوق الخيارات يجعلني أحقق مكسباً حتى لو ظل سعر السهم مكانه‪.‬‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬ولكنه ليس بالسهولة التي تتخيلها‪ ،‬فسوق الخيارات واألسهم متقلب بدرجة رهيبة لدرجة أنه يصعب التنبؤ بما سيحدث في‬
‫الدقيقة المقبلة‪ .‬أستطيع أن أعدد لك العديد من الناس الذين أفلسوا تماماً من وراء سوق الخيارات‪ .‬هذا ليس لعبة يا صاحبي‪.‬‬
‫الفصل الثالث عشر‬
‫لم أنم ليلتي‪ ،‬وأنا أفكر فيما قاله هاني وأمجد‪ .‬يبدو أنني كنت أضارب في البورصة بشكل خطأ طوال حياتي‪ .‬يبدو أن سوق‬
‫الخيارات أفضل من سوق األسهم‪ .‬يمكنني أن أحقق مكاسب إذا هبط السهم‪ ،‬أو ظل في مكانه إذا بعت عربوناً أو أحقق مكاسب‬
‫إذا صعد السهم أو ظل مكانه‪ ،‬إذا بعت تأميناً‪ ...‬صحيح أنهما قاال أنه حرام‪ ،‬ولكنهما ليسا مفتي الجمهورية‪ .‬أكيد ستجد شيخاً في‬
‫مكان ما من العالم اإلسالمي يحلل الخيارات بطريقة أو بأخرى‪ .‬حطها في ظهر عالم واخرج منها سالم !‬

‫أخذت أحاول أن أضعها في ظهر عالم بأي طريقة حتى قرأت ‪:‬‬
‫فالخيارات من أدوات المجازفة على األسعار‪ ،‬وهي من ضمن العقود التي جعلت االقتصادي الفرنسي موريس آليه يصف‬
‫البورصات العالمية بأنها "كازينوهات قمار ضخمة"‪ ،‬وذلك أن حقيقة القمار هي أن يربح أحد الطرفين على حساب اآلخر‪ ،‬وهذا‬
‫بالضبط ما يحصل في عقود االختيارات في األسواق الدولية‪.‬‬

‫أخذت أفكر وأفكر‪ .‬حاولت الوصول إلى رأي يقول أنها حالل‪ ،‬ولم أستطع الوصول إليه‪ ،‬إال من بعض آراء في بعض المنتديات‬
‫التي وضع أصحابها آراؤهم الشخصية دون فتاوى شرعية‪.‬‬

‫أخذت أبحث عن اسم جيسي ليفرمور‪ ،‬فوجدت أنه كان تاجر أسهم أمريكي‪ ،‬أسطورة اشتهر بربحه وخسارته الماليين من‬
‫الدوالرات والبيع على المكشوف خالل انهيار السوق المالي بين عامي ‪ 1907‬و‪ .1929‬كنت متأكداً من أنه اسم مستعار ولكني‬
‫كنت أتعشم أن أجد من بهذا االسم في لينكدإن ‪. Linkedin‬‬
‫قمت من فراشي في السادسة والنصف بعد ما جافاني النوم‪ ،‬ولم أحصل على أي قسط من الراحة‪ .‬ذهبت إلى عملي‪ ،‬وأنا أفكر‬
‫وأفكر‪ .‬أنا أحتاج لمساعدة فعالً في البورصة‪ .‬قد يفيدني هذا الليفرمور إذا كان يستطيع أن يعطيني نصيحة من الداخل‪ .‬الكثير‬
‫من المضاربين بالبورصة لهم مصادر من الداخل تعطيهم معلومات عن األسهم‪ .‬في إنجلترا وحدها وصلت الغرامات‬
‫للمضاربين في البورصة من معلومات داخلية ما يربو على الخمسين مليون جنيها استرلينيا في عام ‪ .2009‬هذا ما تم ضبطه‪،‬‬
‫غير ما لم يتم ضبطه‪.‬‬

‫ماذا لو كان نصاباً‪ .‬الكثير من النصابين موجودون على اإلنترنت اآلن‪ .‬لكن‪ ،‬لو كان نصاباً فماذا سيستفيد منها‪ .‬إنه لم يطلب‬
‫شيئاً‪ ...‬ال إنه ليس نصاباً‪.‬‬

‫طيب‪ ،‬والحرمانية؟‬
‫مشايخنا كانوا يقولون على أرباح البنوك أنها ربا‪ ،‬واآلن يقولون العكس‪ ،‬بل ويوجبون زكاة ‪ %10‬على األرباح‪ .‬قد يتغير رأيهم‬
‫في المستقبل‪ .‬على األقل لم يقولوا أنه ربا‪.‬‬

‫ماذا عن الخطورة؟ إن مبلغ عشرة آالف دوالر مبلغ كبير كي أقامر به على عملية واحدة‪ ،‬يا طابت يا إثنين عور؟ هذا كثير‬
‫علي‪...‬‬

‫أأفعلها ؟ أم ال أفعلها‪ ...‬لو لم أفعلها لندمت طيلة عمري قائالً ماذا لو‪...‬‬

‫يا إلهي‪ ...‬ماذا أفعل؟‬


‫دخلت على موقع البورصة‪ ،‬وأخذت أتفحص السهم الذي قال عنه جيسي ليفرمور‪ .‬إذا اشتريت العربون‪ ،‬يحتاج السهم الذي قال‬
‫لي عنه‪ .‬إنه سهم متذبذب للغاية‪ ،‬من أسهم التكنولوجيا‪ ،‬وهو سهم طالما تحاشيته ألنه يتصرف مثل األفعوانية المجنونة‪ .‬لم أفهم‬
‫ما ذكره لي من الخيارات‪ ،‬وال كيف أنفذ أمر البيع حتى‪ .‬أحتاج الستشارة صديق ليفسر لي هذه الطالسم‪.‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬
‫أكاد أجن‪ .‬اتصلت على هاني‪ ،‬وطلبت مقابلته وحدنا حتى أتناقش معه في األمر‪ .‬اخترت هاني‪ ،‬ألني أعرف رأي أمجد مسبقاً في‬
‫سوق الخيارات‪ ،‬سيقول لي أنه حرام‪ ،‬وإ نساه‪ .‬جلسنا في المقهى ذاته متقابلين‪ .‬أمامي الحاسوب المحمول‪ ،‬و دفتر مالحظاتي‬
‫الذي ال يفارقني‪ .‬قررت أن أخبره بكل شيء‪ ،‬وآخذ رأيه‪ .‬كل شيء ولكن بتصرف‪.‬‬

‫‪ -‬ما رأيك فيما سأقوله لك اآلن يا صديقي؟ أريد أن أستشيرك في موضوع هام‪.‬‬

‫‪ -‬آمرني‬
‫‪ -‬جاءني شخص يعمل بالبورصة األمريكية‪ ،‬وقال لي أنه مستعد أن يعطيني تعليمات دقيقة للمضاربة في سوق الخيارات‪.‬‬
‫معلومات داخلية‪.‬‬

‫سكت طويالً وهو ينظر إلى ملياً ثم قال‪:‬‬

‫‪ -‬هل تعرفه معرفة شخصية؟‬

‫أحسست بغباء إن قلت أنني أعرفه عن طريق الواتس أب‪ ،‬فقررت أن أغير القصة قليالً‬

‫‪ -‬هو قريبي من بعيد‪.‬‬

‫‪ -‬مقابل ماذا؟‬
‫‪ -‬هو لم يطلب مقابل‪ ،‬لكن بالطبع سأعطيه شيئاً إن تحقق ذلك بالطبع‪.‬‬

‫‪ -‬لم يطلب شيئاً … غريب‪ .‬أمتأكد أنت من ذلك؟‬

‫‪ -‬هو قال لي عربون صداقة‪.‬‬

‫ضحك هاني‪ ،‬وعدل من نظارته‪ ،‬وقال‪ ...‬عربون صداقة‪ ...‬ما مدى صداقتك به؟‬

‫‪ -‬ليست قوية في الحقيقة‪.‬‬

‫فتسائل هاني‬

‫‪ -‬ما هي العملية بالضبط؟‬


‫‪ -‬كنت سآتي لهذا اآلن‪ ،‬ألنني بصراحة ال أفهم شيئاً مما يقول‪ .‬هو يقول‪:‬‬

‫وفتحت دفتر مذكراتي وقرأت عليه‬

‫إن السهم ‪ XXX‬يتداول بسعر ‪ .30.37‬يوم اإلثنين القادم‪ ،‬بع ‪ 20‬عربوناً على سعر ‪ 30‬بقيمة ‪ 1.65‬دوالراً للعقد ‪ .‬ستحتاج‬
‫لحجز مبلغ ‪ 12,500‬دوالراً في حسابك وفي خالل عشرة أيام ستحقق‪ 3300‬دوالراً أي حوالي ثالثون بالمائة من رصيدك‪.‬‬

‫أخذ هاني يفكر ملياً وطلب مني أن أفتح الحاسوب‪ ،‬وأوصله على االنترنت‪ ،‬وجلس بجواري‪ ،‬وأخذ يتنقل بين الكثير من المواقع‪،‬‬
‫ويسجل مالحظات في ورقة خارجية‪ ،‬وبعد ربع ساعة قال لي‪:‬‬

‫‪ -‬شوف يا سيدي‪ ،‬باختصار‪ ،‬هو يريد منك أن تزيد المبلغ في حسابك إلى ‪ 12500‬دوالراً‪ ،‬ويبدو من العملية التي يريدك أن‬
‫تنفذها أنه يتوقع أن سعر السهم لن يتعدى الثالثين يوم الجمعة‪.‬‬
‫‪ -‬يوم الجمعة؟‬

‫‪ -‬نعم فالعربون الذي اختاره صديقك ستنتهي صالحيته يوم الجمعة‪ .‬عقود الخيارات تنتهي صالحيتها في ثالث جمعة من الشهر‪.‬‬

‫نظرت له بغباء فاغراً فاهي‪ ،‬ويبدو أنه قد بدأ ينفد صبره فتنهد وقال لي‪:‬‬

‫‪ -‬يعني بالعربي‪ ،‬لو السهم ‪ XXX‬يوم الجمعة كان سعره ‪ 30‬دوالر أو أقل‪ ،‬ستحقق مكسباً قدره ثالثون بالمائة من مالك‪.‬‬

‫‪ -‬طب لو زاد؟‬

‫‪ -‬لو زاد عن ‪ 31.60‬ستدفع الفرق‪ ،‬لذلك مطلوب منك أن تحجز حوالي إثني عشر ألفاً وخمسمائة دوالراً لتغطية الخسائر‬
‫المحتملة للعملية‪ .‬فكل عقد عربون يمثل مائة سهم‪ ،‬وأنت بهذا العقد تلتزم ببيع ألفي سهم على سعر ثالثين دوالراً‪ ،‬وبما أنك‬
‫ستحصل على ثالثة آالف وثالثمائة دوالر ثمناً للعربون الذي بعته‪ ،‬فستدفع الفرق‪.‬‬
‫‪ -‬وما رأيك أنت؟‬

‫‪ -‬واهلل مش عارف‪ .‬إن هذا سهم متذبذب للغاية‪ .‬لو قلنا بنظرية االحتماالت انه ‪ %33‬سيصعد ‪ %33‬سيهبط‪ %33 ،‬سيظل في‬
‫مكانه‪ ،‬فاحتمالية نجاح العملية ستكون في حدود ال ‪ 66‬بالمائة‪ .‬إذا كنت متأكداً من صاحبك هذا‪ ،‬نفذها‪ ،‬ولكن يجب أن تزيد من‬
‫رأس المال حتى تسمح لك شركة السمسرة بتنفيذ العملية‪.‬‬
‫ورسم‬
‫هاني‬
‫لي‬
‫رسمة‬
‫بيانية‬
‫توضح‬
‫المكسب والخسارة مقابل سعر السهم‪.‬‬

‫وزادت الحيرة‪ .‬أخذت أفكر وأفكر‪ ،‬ثم أفكر وأفكر‪ ....‬ماذا سأفعل‪ .‬هاني صعبها علي أكثر‪ .‬كنت متوقعاً منه أن يقول لي أنها‬
‫تجربة فاشلة‪ ،‬ولكن ست وستون بالمائة احتمال نجاح‪ ،‬مغر للغاية‪ .‬في تجاربي في البورصة‪ ،‬كنت أختار األسهم بطريقة‬
‫عشوائية‪ .‬أقرأ عن سهم‪ ،‬أو أسمع عن شركة ما فأشتري سهمها‪ ،‬ثم أظل محتفظاً به فترة حتى يصعد‪ ،‬والفترة قد تطول ألشهر‪،‬‬
‫وأحياناً أبيع السهم على خسارة‪ ،‬طمعاً في مكسب من سهم آخر‪ ،‬ولكن هذه العملية مواتية‪ .‬ثالث وثالثون بالمائة في غضون‬
‫أسبوع‪ ،‬وباحتمال نجاح ست وستون بالمائة‪ .‬يا إلهي‪...‬‬

‫عدت إلى المنزل وأنا أكلم نفسي‪.‬‬


‫الفصل الخامس عشر‬
‫ثاني ليلة بدون نوم‪ .‬أفكر في االحتماالت‪ ،‬والرسوم البيانية ال تفارق مخيلتي‪ .‬أحلم بتحقيق مكاسب مبهرة‪ ،‬وأخاف من خسران‬
‫كل شيء‪ ،‬بين نارين‪.‬‬

‫وصلت المكتب‪ ،‬وأنا أكاد أنهار من التعب‪ .‬بعد أداء طقوسي اليومية المعتادة‪ ،‬تأكدت من حظي اليوم بطريقتين مختلفتين‪ ،‬حظي‬
‫على الموقع‪ ،‬وحظي بلعبة الطاولة‪ .‬كان ال بأس به في كليهما‪ ،‬فدخلت على موقع البنك الخاص بي‪ ،‬وحولت أربعة آالف دوالر‬
‫جديدة على حسابي في البورصة‪ .‬لم أتخذ قراري بعد‪ ،‬ولكن التحويل يستغرق بين يومين إلى ثالثة أيام‪ .‬على األقل أكون‬
‫مستعداً‪.‬‬
‫أمضيت اليوم شارداً‪ ،‬كالزومبي الذي ال بفقه ما حوله‪ .‬الحمد هلل أن اليوم هو يوم تسيير أعمال كما أسميه‪ .‬ال توجد اجتماعات‬
‫هامة‪ ،‬وال تقارير وال إعداد ميزانيات‪.‬‬

‫اتصلت على مدحت في الواحدة ظهراً وطلبت منه أن يمرني في المكتب مساء اليوم‪ .‬قررت أن أفاتح مدحت في موضوع‬
‫الرسالة‪ ،‬عله يجد لي طريقة للتأكد من مصداقيتها‪ ،‬أو التعرف على مرسلها‪.‬‬

‫دخل في تمام الخامسة مبتسماً ماداً يده‪.‬‬

‫‪ -‬كيف الحال يا أستاذ عباس؟‬

‫‪ -‬واهلل الحمد هلل‪ ،‬كيف حالك‪ ،‬كيف أمورك؟‬

‫‪ -‬واهلل الحمد هلل‪ ،‬نعمة وفضل من اهلل‪.‬‬


‫‪ -‬كيف العروس؟‬

‫ابتسم وقال‪:‬‬

‫‪ -‬الحمد هلل كل شيء تمام‪.‬‬

‫أخذنا نتجاذب أطراف الحديث وأنا على الوضع اآللي في الرد على المجامالت واألسئلة المعتادة عن الصحة‪ ،‬واألوالد‪ ،‬والعمل‪،‬‬
‫ثم جاءت لحظة الصمت التي كنت أخشاها‪.‬‬

‫‪ -‬خير يا أستاذ عباس‪ ،‬كنت عايزني في موضوع‪.‬‬


‫ٍ‬
‫وغال أن يجعل‬ ‫استجمعت قواي‪ ،‬واستعددت في الوضع الدفاعي عن قواي العقلية‪ ،‬ثم أخرجت نقالي‪ .‬أحلفته بكل عزيز‬
‫الموضوع سراً بيننا‪ ،‬ألن كريمة ال يبل في فمها فولة‪ ،‬وستقول لسميرة‪ ،‬التي بدورها ستقول لهند كالمثل العربي “إذا بغيت‬
‫الخبر يذيع اعطه أم بزيع"‪ ،‬و أريته الرسالة العجيبة‪.‬‬

‫تناول الهاتف المحمول وأخذ يقرأ الرسالة مراراً وتكراراً‪ ،‬ثم قال لي‬

‫‪-‬بصراحة ال أفهم شيئاً من المذكور فيها عن المضاربة‪ ،‬فهذا بعيد كل البعد عن مجالي‪.‬‬

‫قلت له‪:‬‬

‫‪ -‬أنا ال أسأل عن المضاربة‪ ،‬وال عن المعلومات الفنية بها‪ .‬أريد أن أعرف‪ ،‬هل هذه الرسالة حقيقية؟‬

‫فتسائل‬
‫‪ -‬حقيقية؟‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬أريد أن أعرف الشخص الذي أرسلها‪ ،‬من هو وكيف عرفني‪ ،‬وماذا يريد مني‪ ،‬هل بالفعل يعمل بالبورصة؟ ما مدى‬
‫وصوله للمعلومات الداخلية؟‬

‫‪ -‬حيلك حيلك يا أستاذ‪ .‬كل هذه المعلومات من رسالة؟‬

‫‪ -‬لو تقدر‪.‬‬

‫‪ -‬ال أستطيع ذلك من هنا‪ .‬أحتاج إلنترنت‪.‬‬

‫‪ -‬اتصل على االنترنت من هنا‪.‬‬


‫فضحك وقال‪:‬‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬أحتاج إنترنت من مكتبي‪ .‬إنترنت مؤمنة‪ ،‬كما أحتاج لحواسيبي بالمنزل‪.‬‬

‫فنظرت إليه بعصبية‪ ،‬وقلت له‬

‫‪ -‬الموضوع هام جداً بالنسبة لي وال يتحمل التأخير‪.‬‬

‫فنظر إلى نظرة مترددة وقال‬

‫‪ -‬الموضوع يحتاج إلى وقت ومجهود كما سأحتاج لهاتفك النقال‬

‫‪ -‬هاتفي؟ ال أستطيع االستغناء عنه‪.‬‬


‫‪ -‬حسناً‪ ،‬لم ال تأتي معي إلى منزلي‪ ،‬نحتسي القهوة هناك‪ ،‬ونحاول أن نستنبط ما يمكننا استنباطه‪.‬‬

‫‪ -‬جيد‪ ،‬هيا بنا‪ ،‬سنأخذ سيارتي‪.‬‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬معي سيارتي‪ ،‬اتبعني بسيارتك‪ ،‬العنوان سهل‪ ،‬شارع العباسية مقابل المدرسة الحسينية الثانوية‪.‬‬

‫‪ -‬ولكني أحذرك من اآلن‪ ،‬بيتي بيت عزاب‪ ،‬وفي حالة فوضوية‪.‬‬

‫نزلنا الدرج‪ ،‬وذهبت معه إلى سيارته‪ ،‬ثم تبعته حتى وصلنا إلى العنوان المنشود‪ .‬أشار لي بأن أصف سيارتي‪ ،‬ثم تبعته حتى‬
‫صعدنا إلى العمارة‪.‬‬

‫عمارة كبيرة‪ ،‬عشرة طوابق‪ ،‬بها مصعدان‪ .‬عمارة من أيام الستينات‪ ،‬ولكنها واضح أنها ما زالت تحتفظ بحالتها‪ ،‬ويبدو أنها في‬
‫أيامها كانت أفخم عمارة في المنطقة‪ .‬فتح الباب‪ ،‬ودلفنا إلى الصالة‪ .‬صالة كبيرة مزدانة بثريا‪ .‬على حائط منها شاشة تلفاز ‪52‬‬
‫بوصة على األقل‪ ،‬أمامه طاولة و أريكة وعليها جهاز بالي ستيشن وسماعات و جوي ستيك‪ .‬ضحك وقال‪ ،‬مرحباً بك في‬
‫الملعب‪.‬‬

‫الشقة رحبة فسيحة‪ ،‬ومهندمة ومرتبة بدرجة لم أكن أتخيلها‪ .‬لوحات جميلة تزين الحوائط‪ ،‬وتناسق ألوان جميل‪ .‬جو هادئ‪،‬‬
‫وإ ضاءة غير مباشرة‪ ،‬يتحكم بها من ريموت‪ .‬موسيقى تنساب ال أعرف من أين‪.‬‬

‫أشار لي بأن أدخل إلى الغرفة المقابلة‪ .‬وقاد الطريق وسألني‪ ،‬ماذا تشرب‪.‬‬

‫داع‬
‫‪ -‬قلت له ال ٍ‬

‫‪ -‬قال لي كل شيء موجود‪ .‬اسبرسو‪ ،‬كابتشينو‪ ،‬التيه‪.‬‬


‫فتح باب الغرفة فإذا بها غرفة كبيرة من غرف المنازل القديمة‪ ،‬واضح أنها كانت حجرة الصالون‪ .‬خمسة أمتار بخمسة أمتار‪،‬‬
‫مربعة‪ ،‬بها مكتبين‪ .‬مكتب بالزاوية المقابلة‪ ،‬يواجه الباب‪ ،‬و على الحائط األيمن مكتب بطول ثالثة أمتار عليه ست شاشات‬
‫كبيرة معلقة على الحائط متصلة بحواسيب وأمام المكتب كرسي بعجالت‪ .‬أما الحائط األيسر‪ ،‬فأمامه ثالثة كراسي وكنبة مذهببن‪،‬‬
‫واضح أنهم طاقم الصالون القديم‪ .‬إذا نظرت عن يمينك تجد الطاولة الكبيرة والست شاشات الضخمة‪ ،‬وتحس أنك في سفينة‬
‫فضاء من القرن القادم‪ ،‬وإ ذا نظرت عن شمالك تحس أنك عدت ثالثين سنة للوراء‪ ،‬أيام الحياة البسيطة السهلة‪ ،‬وأفالم األبيض‬
‫واألسود‪ .‬غرفة عجيبة‪.‬‬

‫بجوار الباب توجد طاولة عليها ماكينة قهوة و كبسوالت صغيرة بها كل أنواع القهوة التي يمكن تخيلها‪.‬‬

‫أخذت أدور بعيني في الغرفة شادهاً‪ .‬ضحك وقال لي‪:‬‬


‫كل من يدخل الغرفة يكون هذا رد فعله األول‪.‬‬

‫‪ -‬بصراحة‪ ،‬غرفة عجيبة‪.‬‬

‫‪ -‬هذا طاقم صالون أمي‪ ،‬جددته‪ ،‬ألحس بهم بجواري‪ ،‬و في هذا الركن‪ ،‬أعمل‪ .‬هذه شقة أمي وأبي‪ .‬تركها لي إخوتي‪،‬‬
‫واحتفظت بها‪ .‬إيجارها أربعون جنيها بالشهر‪ ،‬لقطة‪.‬‬

‫ناولني االسبرسو‪ ،‬ثم ارتسمت على وجهه عالمة الجدية‪ ،‬وجلس على الكرسي المقابل للحائط األيسر‪ ،‬وطلب مني النقال‪ .‬أعطيته‬
‫النقال‪ ،‬فسألني‪:‬‬

‫‪ -‬متى آخر مرة عملت تخزين إحتياطي ‪Backup‬؟‬

‫‪ -‬وهل المفروض أن أعمل ‪backup‬؟‬


‫ضحك وقال حسناً فلنبدأ إذن‪.‬‬

‫وصل الجهاز على كابل‪ ،‬ثم حرك فأرة فعادت شاشة إلى الحياة‪ ،‬فتح شاشة سوداء‪ ،‬وأخذ يطبع أشياء باإلنجليزية بسرعة مجنونة‬
‫و تتابع أسطر بسرعة على الشاشة ال أكاد أستطيع تمييز الحروف بها‪ ،‬ثم استخرج فالشة جديدة من درج‪ ،‬ووضعها في‬
‫حاسوب‪ ،‬وما هي إال دقائق حتى أعطاها لي وقال‪:‬‬

‫‪ -‬حافظ عليها‪ ،‬هذه محتويات هاتفك النقال‪ .‬لو خربنا الهاتف اآلن‪ ،‬يمكننا استعادته من الملف الموجود هنا‪.‬‬

‫ثم بدأ يعمل باحترافية وتركيز شديدين‪.‬‬

‫‪ -‬أوال دعنا نبحث عن برامج تجسس على هاتفك‪.‬‬


‫ظهرت شاشة الهاتف على شاشة كبيرة على الحائط‪ ،‬ومؤشر يعمل‪ ،‬وكلمات باالنجليزية تقول‪ :‬جار البحث عن برنامج تتبع كذا‪،‬‬
‫جار البحث عن … ال يوجد‬

‫‪ -‬حسناً‪ ،‬هذا جيد‪ ،‬ال توجد برامج تجسس‪ ،‬اآلن نبحث عن برامج تسلل‪.‬‬

‫ثم ظهر برنامج آخر يبحث عن برامج تسلل‪ .‬توقف البرنامج وأخذت الشاشة اللون األحمر و مكتوب عليها وجد برنامج كذا‬
‫للتسلل‪ ،‬وظهر أسماء ما يربو على المائتين من الملفات‪ .‬ارتسمت مالمح الجدية عليه‪ ،‬وأخذ يقرأ شيئاً على الشاشة ثم ضحك‬
‫وقال‪ .‬ال بأس سنمحوهم‪.‬‬

‫‪-‬تمحي ماذا‬

‫‪ -‬بعض الصور التي أنا متأكد أنك ال تريدهم‪.‬‬


‫وظهرت على الشاشة بعض الصور من مواقع إباحية كنت فتحتها من قبل‪ .‬احمر وجهي خجالً‪ ،‬ولكنه تحدث باحترافية كسرت‬
‫حاجز الخجل‪.‬‬

‫‪ -‬إن هذه المواقع توفر الصور بالمجان‪ ،‬إلنها تضع برمجيات خبيثة في هذه الصور‪ ،‬وهذه البرمجيات تستخدم هاتفك النقال في‬
‫التعدين عن العمالت االفتراضية‪ ،‬وإ رسال السبام‪ .‬أكيد كنت تحس بأن هاتفك يسخن من فترة لألخرى‪ ،‬واستخدام اإلنترنت في‬
‫هاتفك يفوق المعقول‪.‬‬

‫‪ -‬بلى‪ ،‬الحظت ذلك‪ ،‬وكنت أريد تغيير الهاتف بالفعل‪.‬‬

‫‪ -‬حسناً‪ ،‬ال تغير الهاتف‪ .‬ستشعر حتما بالفرق‪ ،‬ولكن ال تفتح هذه المواقع مرة أخرى‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى فحص نظام التشغيل‪.‬‬


‫‪ -‬متى آخر مرة قمت بتحديث نظام التشغيل؟‬

‫‪ -‬لم أحدثه منذ اشتريت الجهاز‪.‬‬

‫فضحك ملء شدقيه وقال‪:‬‬

‫‪ -‬طبيعي‪ ،‬فقط أحب أن أسأل هذا السؤال‪.‬‬

‫وأخذ يطبع بعض األوامر على الجهاز‪ ،‬واسودت الشاشة‪ ،‬ثم ظهرت من جديد وعليها سفينة فضاء معطوبة‪ ،‬وترس يتحرك‪ ،‬ثم‬
‫بعد حوالي النصف ساعة‪ ،‬عاد الجهاز للعمل مرة أخرى‪.‬‬

‫نظر إلى وقال‬


‫‪ -‬اآلن‪ ،‬نبدأ في تحديث الواتس أب‬

‫وشرع يطبع بعض األوامر‪ ،‬وينزل بعض البرمجيات‪ ،‬ثم قال‬

‫‪ -‬اآلن‪ ،‬ونحن متأكدون من أن جهازك نظيف‪ ،‬فلنفحص الرسالة‪.‬‬

‫فتح الرسالة على الشاشة‪ ،‬نقل الرقم اآلتية منه الرسالة وتناول هاتفاً آخر‪ ،‬واتصل منه على الرقم‪ .‬جاءت صفارة من الطرف‬
‫اآلخر‪ ،‬داللة على عدم صحة الرقم‪.‬‬

‫‪ -‬طبيعي‪ ،‬يبدو أن جيسي صاحبك قد اشترى رقما افتراضياً‬

‫‪ -‬رقما افتراضياً؟ أليس من المفروض أن يقابل كل حساب واتس أب رقما حقيقياً؟‬


‫‪ -‬ال يا صاحبي‪ .‬يحتاج الواتس أب إلى رقم يستطيع استقبال رسالة نصية فقط‪ ،‬وهذا سهل من أي رقم مؤقت أو كما يسمونه‬
‫باالنجليزية ‪.burner phone‬‬

‫‪ -‬هل يعني على األقل أنه اشترى هذا الرقم من أمريكا؟‬

‫‪ -‬ليس بالضرورة‪ .‬توجد بعض الشركات األمريكية التي تبيع هذه األرقام أون الين‪.‬‬

‫‪ -‬أيمكننا على األقل معرفة من اشترى هذا الرقم؟‬

‫‪ -‬صعب للغاية‪ .‬يبدو أن صاحبك هذا يخفي آثاره جيداً‬

‫‪ -‬وما العمل اآلن؟‬


‫‪ -‬يا أستاذ عباس‪ ،‬هناك بعض االحتماالت لما يحدث‪ ،‬قد يكون جيسي هذا شخص حقيقي‪ ،‬يريد أن يساعدك على تحقيق مكاسب‬
‫كما يدعي‪ ،‬أوأنه يريد رفع سعر سهم معين بطريقة قطيع الخراف‪.‬‬

‫‪ -‬قطيع الخراف؟‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬قد تكون هذه رسالة سبام ترسل آلالف الناس‪ ،‬أمالً في أن يقوموا كلهم بشراء السهم في نفس الوقت‪ ،‬فيرتفع‪.‬‬

‫‪ -‬لكنه يعرف بالضبط من أنا‪ ،‬ويعرف ما بحسابي بالضبط‪.‬‬

‫‪ -‬هناك احتماالن لذلك‪ ،‬إما انه لديه برنامج تجسس على حاسوبك‪ ،‬أو هاتفك النقال‪ ،‬وهذا االحتمال غير وارد‪ ،‬ألنني غيرت‬
‫نظام التشغيل بالكامل على حاسوبك‪ ،‬الغياً كل شيء‪ ،‬وكل البرمجيات الموجودة عليه‪ ،‬وبالنسبة للهاتف‪ ،‬لقد حدثته‪ ،‬وتأكدت‬
‫بنفسي من أنه ال توجد أية برمجيات تجسس‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تقصد؟‬

‫‪ -‬أقصد أن لديه طريقة أخرى للدخول على حسابك‪ ،‬ومعرفتك معرفة شخصية‪ .‬إما أنه يستطيع الدخول على حساب البورصة‬
‫الخاص بك من برنامج المتاجرة‪ ،‬وهذا صعب جداً الن اختراق هذه البرمجيات التي تعتمد على كلمة المرور التي تتغير كل‬
‫ثالثين ثانية يكاد يكون شبه مستحيل‪ ،‬أو أنه يستطيع الدخول على حساب البورصة الخاص بك من شركة السمسرة‪.‬‬

‫‪ -‬أي أنه يعمل بشركة السمسرة بأمريكا؟‬

‫‪ -‬إما بشركة السمسرة‪ ،‬أو بالبورصة نفسها‪.‬‬

‫ارتميت على المقعد‪ ،‬وأنا واجم‪ ،‬شارد الذهن‪ ،‬ال أنبس ببنت شفة‪ .‬أخذ مدحت يرمقني وعلى فمه ابتسامة باهتة‪ ،‬وهو ال يعرف‬
‫ماذا يقول‪.‬‬
‫الفصل السادس عشر‬
‫دخلت للمنزل في الحادية عشر مساءا‪ .‬الكل نيام‪ .‬ذهبت إلى المطبخ‪ ،‬وأعددت لنفسي ساندويتشاً ضخماً‪ ،‬وجلست مع علبة الكوال‬
‫العمالقة في الصالة المظلمة بهدوء‪ .‬لو تناولت وجبة دسمة‪ ،‬حتماً سيساعدني ذلك على الخلود للنوم‪ .‬أخذت أقلب األحداث في‬
‫علي أاّل أفعل شيئاً وسينتهي هذا الكابوس‪ .‬إذا لم أقم‬
‫داخلي‪ .‬إن الوضع ليس بهذا السوء‪ .‬إذا أردت أن أنتهي من كل هذا‪ ،‬كل ما ّ‬
‫بالعملية التي طلب مني أن أنفذها جيسي‪ ،‬فستنتهي عالقتي به‪.‬‬

‫ماذا لو كان صادقاً؟ ماذا لو كانت هذه هي فرصة عمري؟ كم من الفرص ضيعت في حياتي‪ ،‬واآلن أندم عليها‪ .‬أرض الساحل‬
‫الذي رجاني أخي حمزة أن أشتريها بسعر عشرين جنيهاً للمتر‪ .‬علبة سجائر بأسعار اليوم‪ .‬اشتراك النادي الذي كان بألف جنيه‪،‬‬
‫شقة مدينة الشروق‪ ،‬مقدمتها كانت راتب ثالثة أشهر‪ ،‬و‪...‬و‪...‬‬
‫لو لم يكن أبي قد ترك لي بعض األموال‪ ،‬ما استطعت أن أقوم بحياتي اآلن‪ ...‬ماذا سأفعل ألوالدي؟ ماذا سأفعل لباقي حياتي؟‬

‫أنا اآلن أعمل بشركة قطاع خاص‪ .‬أعيش من الراتب للراتب‪ .‬لدي بعض األموال بالبنك‪ ،‬تكفيني بالكاد ستة أشهر بدون دخل‪.‬‬
‫زوجتي تكدح معي ولكن كما نقول " الجاي على قد اللي رايح" بين مصاريف الحياة المتزايدة‪ ،‬والغالء المطرد‪ ،‬والحياة‬
‫االستهالكية التي نعيشها‪ ،‬وتطور مغريات الحياة‪ ،‬ومصارف اإلنفاق المتزايدة‪ .‬ال وجود لشيء اسمه ادخار‪ .‬أيام أبي وأمي‪،‬‬
‫كانت الحياة أبسط وأسهل كثيراً‪ ...‬أيام التليفون أبو قرص‪ .‬اآلن‪ ،‬كل فرد في العائلة يغير نقاله كل سنتين‪ .‬هل هذه هي الفرصة‬
‫التي أنتظرها لتحقيق شيئ ذي معنى في حياتي؟‬

‫دخلت غرفة النوم‪ ،‬خلعت مالبسي‪ ،‬ووقفت تحت الدش الساخن‪ ،‬وتركت الماء الحار ينساب على جسدي بقوة‪ ،‬يذيبني‪ ،‬ويخدرني‪.‬‬

‫دخلت الفراش خامداً ونمت ليلة بال أحالم‪.‬‬


‫استيقظت على منبه هاتفي النقال في السادسة والنصف‪ .‬جلست في الفراش متذكراً أحداث أمس‪ ،‬ثم قمت وارتديت مالبسي‪.‬‬
‫ذهبت للعمل كالروبوت‪ … ،‬ذهني مشغول يعمل بجميع االحتماالت‪.‬‬

‫فرصة عمري في عمل شيء بحياتي‪ .‬شخص يدعي أنه يعمل بالبورصة األمريكية اختارني ليعطيني نصائح قد تجعلني‬
‫مليونيراً‪ ،‬وشرطه الوحيد‪ ،‬أن أنفذ ما أقوله بدقة‪ .‬يعرف عني وعن بيانات حسابي ما ال يجعلني أستطيع التملص منه‪ .‬لم يطلب‬
‫شيئا في المقابل حتى اآلن‪ .‬إذا تبعت نصيحته‪ ،‬سأجازف بكل ما ادخرته من أجل تحقيق ثلث ما أملك في غضون أسبوع‪ .‬طريقة‬
‫المضاربة التي يطلبها مني حرام‪ .‬حرام ولكني لن أسرق من أحد‪ .‬حرام ولكنها ليست ربا‪ .‬حرام ولكن حتى التصوير في بعض‬
‫فتاوانا حرام‪.‬‬

‫كيف وصل جيسي إلى بيانات حسابي؟ الشيء الوحيد الذي تغير علي هو اللينكس‪ .‬هل اللينكس هو السبب؟‬
‫ما إن وصلت المكتب‪ ،‬حتى طلبت موظف من موظفي الدعم الفني‪ .‬أخرجت حاسبي المحمول‪ ،‬و جاءني شاب اسمه رامي‪.‬‬

‫‪ -‬صباح الخير يا أستاذ عباس‬

‫‪ -‬صباح النور‪ ،‬تفضل يا باشمهندس رامي‪.‬‬

‫أجلسته على طاولة االجتماعات‪ ،‬وفتحت حاسبي المحمول‪ ،‬وأنا أقول له‪.‬‬

‫‪ -‬أريدك أن تتفحص جهازي هذا‪ .‬أريدك أن تفحص إن كان به برامج تجسس أو خالفه‪.‬‬

‫جلس بصمت‪ ،‬ونظر إلى الجهاز وهو يبدأ في العمل‪ ،‬ثم تهللت أساريره عندما رآه لينكس‪.‬‬

‫‪ -‬أفضل شيء يا أستاذ عباس هو نظام اللينكس‪ ،‬فهو آمن بكثير من األنظمة األخرى‪.‬‬
‫‪ -‬ممكن تتفحصه؟‬

‫فتح الشاشة السوداء‪ ،‬وأخذ يطبع الكثير من األوامر‪ ،‬وأنا أرمقه من فوق كتفه‪ ،‬محاوالً الوصول لم يفعل‪.‬‬

‫بعد حوالي النصف ساعة‪ ،‬قال لي‪:‬‬

‫‪ -‬الجهاز ممتاز‪ ،‬وال يوجد شيء مريب‪ .‬إذا أردت‪ ،‬يمكنني أن أنزل لك برنامج يجعلك ترى بالضبط كل ما يخرج من جهازك‬
‫من معلومات‪ ،‬وإ لى أي جهة‪.‬‬

‫‪ -‬أيمكن ذلك‪.‬‬

‫‪ -‬بالطبع فهذا لينكس‪ .‬العملية سهلة‪.‬‬


‫نزل لي البرنامج وأراني كيف أستخدمه‪.‬‬

‫حسناً اآلن يمكنني التأكد من أن جيسي هذا يتجسس على أو أنه بالفعل يعمل بالبورصة‪ ،‬أو لدى شركة السمسرة‪.‬‬
‫الفصل السابع عشر‬
‫في الرابعة والنصف مساءا‪ ،‬قررت المرور على صوت العقل‪ .‬أخي حمزة‪ .‬اليوم األحد‪ ،‬وال يوجد لدي وقت‪ ،‬باكر بإذن اهلل يوم‬
‫االثنين‪ ،‬اليوم المنشود‪ .‬إما أن أنفذ الصفقة‪ ،‬أوأضع كل شيء وراء ظهري‪ ،‬وأضع تلك الفرصة‪ ،‬في درج الفرص الضائعة‬
‫بجوار إخوتها من أرض الساحل‪ ،‬وشقة الشروق‪ ،‬و‪....‬‬

‫اتصلت به‪ ،‬فجائني صوته الرخيم من الطرف اآلخر‪.‬‬

‫‪ -‬مساء الخير يا حمزة‬

‫‪ -‬مساء الفل يا عبس‪ ،‬أخبارك إيه؟‬


‫‪ -‬الحمد هلل تمام‪ .‬ممكن أمرك على الساعة الخامسة والنصف مساءا؟‬

‫‪ -‬تشرف‪ ،‬حياك اهلل‪ .‬لوحدك واال مع الحكومة؟‬

‫‪ -‬ال لوحدي‪ .‬كنت عايز أستشيرك في موضوع‪.‬‬

‫‪ -‬تفضل يا أخي‪ .‬الساعة المباركة‪.‬‬

‫وصلت إلى عمارته بالشروق‪ .‬نفس العمارة التي كنت سأحجز فيها الشقة إياها‪ .‬أذكر أن جاءني أخي في يوم من خمسة عشر‬
‫عاماً وقال لي أن هناك مدينة جديدة على مشارف القاهرة اسمها الشروق‪ ،‬تصميمها هايل‪ ،‬وأسعار الشقق بها رخيصة‪ .‬أخذني‬
‫من يدي لشركة المقاوالت التي تبنيها‪ ،‬و أرونا المخططات‪ .‬كل عمارة أربعة أدوار‪ ،‬كل دور شقتين مائة وعشرون متراً للشقة‪.‬‬
‫قال لي يمكننا أن نأخذ شقتين متقابلتين‪ ،‬ونصير جيراناً‪ .‬ترددت كثيراً‪ ،‬قال لي أنه يمكنه أن يقرضني مقدم الشقة‪ ،‬ولكني‬
‫تراجعت في آخر لحظة‪ ،‬و أنا أتحجج ببعد المسافة‪ ،‬وما زلت أذكرني وأنا أقول " إيه اللي يقعدنا في آخر الدنيا؟" واآلن صارت‬
‫الشروق من أفخم المجمعات السكنية‪ ،‬بمدارسها‪ ،‬وأسواقها‪ ...‬إشترى أخي شقتين متقابلتين بالطابق الثاني‪ ،‬وجعلهم شقة واحدة‪،‬‬
‫ثم اشترى الشقتين السفليتين‪ ،‬و جعلها فيال من طابقين‪ .‬وقام بتعديل في العمارة‪ ،‬ففتح لنفسه مدخالً خاصاً‪ ،‬وصارت الحديقة‬
‫المقابلة له‪.‬‬

‫تحت مظلة‬ ‫نزلت من سيارتي‪ ،‬ودخلت من البوابة‪ ،‬ألجده يحمل خرطوم المياه‪ ،‬يسقي الزرع‪ .‬جلسنا في الحديقة على الطاولة‬
‫من تكعيبة عنب بديعة‪ ،‬تهف بنا الرياح الباردة‪ ،‬وال نسمع إال زقزقة العصافير‪ ،‬و مرور سيارة من آن آلخر من بعيد‪ .‬رائحة‬
‫الهواء مختلفة‪ ،‬منعشة‪ ،‬وبها الكثير من األكسجين الذي نفتقده في العاصمة المكتظة الملوثة‪ .‬جاءت باكينام زوجته بعودها‬
‫الممشوق وشعرها الذهبي الذي يرفرف من حولها لتسلم علينا‪ .‬من خلفها أتت الخادمة الفلبينية حاملة الشاي بالنعناع‪ .‬ضحك‬
‫حمزة وهو يقول‪:‬‬

‫‪ -‬نعناع أورغانيك من انتاجنا‪ ،‬وأشار إلى مساحة ال تتعدى المتر المربع أمامنا مزروعة بالنعناع‪.‬‬

‫تبادلنا التحيات والمجامالت المعتادة ثم جاءت سهى ونهى وهدى بناته‪ .‬طبعت كل منهما قبلة على خدي‪ .‬النقطة الوحيدة التي‬
‫تفوقت فيها عليه‪،‬أنجبت الولد‪...‬‬

‫بعد تناول الشاي‪ ،‬وتبادل الترحيبات المعتادة‪ ،‬سألني‬

‫‪ -‬خير يا عباس‪ ،‬كنت عايز تأخذ رأيي في موضوع‪.‬‬

‫‪ -‬أبداً يا حمزة يا أخي‪ ،‬كنت واحشني وعايز أشوفك‪.‬‬


‫‪ -‬انت كويس؟‬

‫‪ -‬واهلل الحمد هلل بخير‪ .‬كان عندي هم وراح‪.‬‬


‫الفصل الثامن عشر‬
‫عدت إلى منزلي‪ ،‬وقد عقد العزم‪ .‬ارتياح غريب سرى في نفسي‪ ،‬وقناعة بأنني يجب أن أخوض المغامرة أيا كانت عواقبها‪ .‬تأكد‬
‫من البرنامج الذي نزله لي رامي من أن حاسوبي المحمول نظيف‪ ،‬وال يوجد به أية برامج للتجسس‪ .‬تأكدت من جميع المعلومات‬
‫التي تخرج من حسابي‪ ،‬أنها لمواقع موثوق بها‪ ،‬وأعرفها‪ .‬لم الخوف إذن‪.‬‬

‫دخلت المنزل في الثامنة مساءا‪ ،‬و بدلت مالبسي‪ ،‬وجلست مع العائلة أتأملهم‪ .‬قاسم يحبو على السجادة في الصالة‪ ،‬ومعه حنان‬
‫الخادمة تشجعه‪ ،‬وتناوله األلعاب من آن آلخر‪ .‬فاطمة تجلس في الزاوية األخرى من الصالة‪ ،‬تشاهد فيلماً على األيباد وكلها‬
‫تركيز‪ .‬أطالع وزوجتي مسلسالً أجنبياً‪ .‬غداً قد تتغير حياتنا لألبد‪ .‬خطوة قد تغير مسار هذه العائلة الصغيرة‪.‬‬
‫وأخذت أتحضر للنوم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ت غرفة النوم‪،‬‬
‫انتهينا من المسلسل وتناول الفاكهة‪ ،‬وتجاذب أطراف الحديث عن عملها وصديقاتها‪ .‬دخْل ُ‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫تبسمت‬
‫ُ‬ ‫دخلت السرير وأنا أنظر لهند نظرة ذات معنى‪...‬‬

‫‪ -‬إحنا مش ليلتنا فل واال ايه؟‬

‫‪ -‬تصبح على خير يا عباس‪..‬‬

‫تبسمت وقالت‪:‬‬

‫‪ -‬ايه يا عباس … مالك؟‬

‫قلت لها وأنا مستلق في منتصف السرير‬


‫‪ -‬انت مش هتراوديني عن نفسي؟ يا ولية اغتصبيني‪....‬‬

‫ضحكت ضحكة كلها ميوعة‪ ،‬وانضمت إلى لتدفئني‪.‬‬

‫قمت من صباحي‪ ،‬وكلي نشاط‪ .‬أخذت دشاً ساخنا‪ ،‬وصليت الفجر ونزلت لعملي‪ .‬قررت أن أسلك طريقاً مختلفاً للعمل حتى‬
‫أخرج من وضع الطيار اآللي‪ .‬أخذت أنظر من حولي للطريق‪ ،‬وما يحيط بي من معالم لم أنتبه لها‪.‬‬

‫الطريق أطول قليالً ولكنه أمتع‪ .‬أشجار تحف بي‪ ،‬و النيل من جواري على طول الطريق‪ .‬فتحت الشباك‪ ،‬وأغلقت مكيف‬
‫السيارة‪ ،‬وأخذت أستمتع بالهواء النقي‪.‬‬

‫وصلت المكتب‪ ،‬وأديت الطقوس الصباحية المعتادة‪ .‬فزت بعشرة الطاولة بعدد نقاط كبير‪ ...‬حسناً‪ ،‬عالمة جيدة‪.‬‬
‫وصلني إشعار بريدي بحظي اليوم " صفقة رابحة في الطريق إليك" …‪ .‬رائع‪.‬‬

‫أمضيت اليوم بمزاج معتدل‪ ،‬أسير األعمال كالعادة‪ .‬صرفت آخر الموظفين بالخامسة مساءا‪ ،‬ثم أعددت العدة‪.‬‬

‫فتحت برنامج المضاربة‪ .‬أخرجت الرسالة من هاتفي المحمول‪ ،‬وبيد مرتعشة‪ ،‬بعد البسملة والحوقلة‪ ،‬طبعت أمر التنفيذ للعملية‪.‬‬
‫استغرق التنفيذ أكثر من ربع الساعة‪ ،‬ألن األسعار كانت أقل من األسعار التي ذكرها جيسي في الرسالة‪ ،‬لكن تم تنفيذه في‬
‫النهاية‪ .‬فتحت الرسم البياني للسهم المنشود‪ ،‬وأخذت أطالعه‪ .‬سعر السهم متذبذب للغاية‪ ،‬مثله مثل أسهم التكنولوجيا‪ ،‬تارة‬
‫يصعد‪ ،‬وتارة يهبط ‪ .‬يتحرك في كل مكان بسرعة عالية مثل قطار المالهي المسمى األفعوانية المجنونة‪ .‬المهم أال يصل إلى‬
‫‪ 31.60‬حتى ال أبدأ في الخسارة‪ .‬أرجو أن يظل تحت الثالثين حتى أحقق المكسب األكبر‪ .‬أخذت أراقبه لبعض الوقت‪ ،‬ثم قمت‬
‫وعدت للمنزل‪ .‬ال فائدة من جلوسي أمامه‪ ،‬فقد عقدت العزم على أن أكمل التجربة لآلخر‪ ،‬أيا كانت تكلفتها علي‪ .‬الحمد هلل‪ ،‬هذا‬
‫المبلغ ال احتاجه اآلن‪ ،‬وال تعرف هند عنه شيئاً‪.‬‬

‫عدت للمنزل من نفس الطريق الطويل‪ ،‬سارحاً فيما يمكن أن يحدث‪.‬‬


‫الفصل التاسع عشر‬
‫يوم الخميس‪ ،‬الساعة الخامسة والنصف مساء‪ .‬أفتح برنامج المضاربة‪ ،‬و أنظر إلى حسابي‪ .‬حسابي بالسالب‪ .‬ناقص ‪2000‬‬
‫دوالر‪ .‬أبتسم في خيبة أمل‪ .‬بدالً من أن ينخفض السهم‪ ،‬ارتفع حتى صار ‪ 32‬دوالراً‪ ،‬أي بخسارة قدرها أربعون سنتاً في السهم‪.‬‬
‫الخسارة إذا أقفل غداً على هذا الرقم ستصبح ثمانمائة دوالر‪ .‬لكن نتيجة لزيادة سعر عقد العرابين‪ ،‬تظهر الخسارة كألفي دوالر‪.‬‬
‫أبتلع ريقي في صمت‪ ،‬أرتشف كوب الماء الذي أمامي‪ ،‬وأنا أتجرع خسارتي‪ .‬سأحتفظ بالمركز الحالي ال محالة‪ .‬سأجرب‬
‫حظي‪ .‬بدالً من االعتراف بالخطأ اآلن أنتظر حتى الغد‪.‬‬
‫أنظر للرسم البياني بشغف‪ .‬يتحرك قطار الموت بعنف‪ ،‬صعوداً‪ ،‬وينغمس حسابي في األحمر أكثر وأكثر‪ .‬أعصابي لم تعد‬
‫تتحمل‪ .‬نتيجة للصعود الكبير للسهم‪ ،‬تزايدت قيمة العربون من المقامرين الطامعين في أن يقتنصوا الفرصة‪ .‬أحس كأنني ذبيحة‬
‫يقطع رقبتها جزار غشيم بسكين ثلمة‪ .‬أغلق شاشة الحاسوب‪ ،‬ووجهي أحمر كلون الدم‪ .‬أمتلئ بالغيظ‪ ،‬حتى يكاد يفيض مني‪.‬‬

‫أعود للمنزل شارداً … قد تتعدل األمور بعد حين‪ ،‬لكني عاهدت نفسي أال أمس المركز أيا كانت العواقب‪ .‬تصالحت مع نفسي‪.‬‬
‫هذا هو الطريق الذي سأسلكه أيا كانت العواقب‪.‬‬

‫دخلت المنزل في السادسة والنصف مساء‪ .‬بدلت مالبسي‪ ،‬و أخذت أالعب قاسم وفاطمة‪ ،‬حتى أنسى ما أنا فيه من هم‪.‬‬

‫كانت ليلتي ليالء‪ .‬أقاوم الرغبة في فتح حاسبي المحمول‪ ،‬ومراقبة المركز‪ .‬على الفجر‪ ،‬فتحت موقع أخبار البورصة من هاتفي‬
‫النقال‪ ،‬و ألقيت نظرة على سعر السهم عند اإلقفال‪ .‬كان السعر‪ . 32.07‬ال بأس‪ .‬خسارة ليست بالكبيرة‪.‬‬
‫قمت من صباحي من السرير‪ ،‬وبعد صالة الجمعة‪ ،‬تركنا األوالد لنذهب في زيارة تعذيبية إلى سميرة‪.‬‬

‫وصلنا في الخامسة مساء‪ .‬فتحت سميرة الباب باشة مرحبة‪ .‬رحبت بي ترحيباً مبالغ فيه‪ .‬عندما دخلنا من الباب‪ ،‬وجدنا مدحت‬

‫وكريمة عندهم‪ .‬لم أكن أعرف أنني سأالقيهم اليوم‪ ،‬ولكني أحسست بنوع من االرتياح لرؤية مدحت‪ .‬على األقل لن أكون وحيداً‬
‫في مواجهة الدكتور موسوعة‪.‬‬

‫جلسنا في حجرة الصالون‪ ،‬نتجاذب أطراف الحديث‪ .‬وجدت مدحت وعادل منغمسين في مناقشة محمومة عن البيتكوين‪ .‬عادل‬
‫يدلي بدلوه عن معرفته بالبيتكوين‪ ،‬ويقول كأنما يسمع صفحة من الويكيبيديا عن تعريفها‪ ،‬ومدحت يدافع بشراسة عنها‪ ،‬كأنها بنت‬
‫خالته‪.‬‬

‫‪ -‬ال يمكن بأي حال من األحوال اختراق البيتكوين‬


‫فيرد عليه عادل‬

‫‪ -‬هل يجب على العملة أن تكون غير قابلة لالختراق؟ ما رأيك يا أستاذ عباس‪ .‬أنت دارس لالقتصاد‪.‬‬

‫يادي النيلة‪ ،‬مالكم ومالي بس‪ .‬ما تسيبوني في حالي‪ .‬قررت أن أرد عليهم وأخلص‪.‬‬

‫‪ -‬قبل العملة‪ ،‬كان االنسان يتبادل الخدمات المقايضة‪ ،‬ثم ظهرت العملة كوسيلة لالستغناء عن تبادل الخدمات‪ ،‬فأصبح كل إنسان‬
‫يقدر خدماته مقابل معدن نفيس‪ ،‬ال يتلف‪ ،‬وال يفنى‪ ،‬وصار التبادل بهذا المعدن (الذهب والفضة والنحاس) مقابل الخدمات‪ .‬ثم‬
‫استبدلت الدول الذهب والفضة مقابل صكوك ورقية لتسهيل التداول‪ ،‬ضامنة استبدال الصك النقدي بالذهب‪ .‬في عام ‪،1972‬‬
‫ونتيجة للضغوط االقتصادية على الواليات المتحدة‪ ،‬قررت طباعة العملة بدون سند من الذهب‪ ،‬خالقة بذلك تضخماً غير مسبوق‪.‬‬
‫حذت حذوها الكثير من الدول‪ ،‬وأصبحت العمالت الورقية بال سند ذهبي‪ ،‬ولكنها تستند إلى الميزان التجاري‪ ،‬وأرصدة الدولة‬
‫من العمالت األخرى‪ .‬البيتكوين هي معادلة حسابية ليس إال‪ .‬ال أصل‪ ،‬وال سند وال قيمة‪ .‬نصب في نصب‪.‬‬

‫رفعت رأسي اليهم بعد أن انتهيت من الجملتين التين قلتهما‪ ،‬ألجدهم ينظرون إلى نظرة غير المصدق‪ .‬تشاغلت باللعب في‬
‫سبحتي‪ ،‬كأني لم أقل شيئاً‪.‬‬

‫ابتسم عادل واضعاً حداً للمناقشة وقال بترحاب‪:‬‬

‫‪ -‬تفضلوا‪ ...‬الغدا جاهز‪.‬‬


‫جلسنا على طاولة الطعام‪ ،‬وهند ترمقني بنظرة فخورة‪ ،‬لم أرها منها من قبل‪ .‬أخذت أرمق مدحت وكريمة من طرف عيني‪.‬‬
‫يتهامسان سوياً‪ ،‬وواضح أنهما طورا لغة خاصة بهم‪ .‬تنظر إليه‪ ،‬فيغمض طرف عينيه قليالً فتقوم لتناوله الشوربة‪ .‬يتحرك لألمام‬
‫في الكرسي‪ ،‬فتصب له الماء‪ .‬يشيح بوجهه قليالً فتناوله ملعقة‪ .‬وفي كل مرة يكافئها بابتسامة جذابة‪ .‬واضح أن بينهما تناغما‪.‬‬

‫سميرة ال تألوا جهداً في حشو معدتنا بالطعام النباتي‪ ،‬وقد تفننت في عمل بدائل للحوم بأصناف مليئة بالبهارات‪ ،‬وسلطات‪.‬‬

‫نثني على الطعام كالضيوف المثاليين‪ .‬بعد الطعام‪ ،‬تنشغل السيدات في رفع الطعام عن المائدة وإ عداد الشاي‪ .‬أقوم ومدحت إلى‬
‫الشرفة لندخن‪ ،‬تاركين عادل مع أم سميرة‪.‬‬

‫أشاكس مدحت قائالً‬

‫‪ -‬ايه يا عم الشياكة دي؟‬


‫فيرد على متلعثماً‬

‫‪ -‬بعض مما عندكم يا أستاذ عباس‬

‫أسأله‬

‫‪ -‬ايه أخبار العروس؟‬

‫يحمر خجالً وهو يقول‪:‬‬

‫‪ -‬زي ما حضرتك شايف‬

‫يأتينا صوت عادل من الداخل‬


‫‪ -‬ياال يا جماعة الماتش هيبدأ‬

‫مباراة مصر اليوم في تصفيات ال أعرف ما هي‪ .‬جلسنا حول التلفاز الضخم‪ ،‬متابعين المباراة‪ ،‬وطبعاً كعادتنا كمصريين‪ ،‬تحول‬
‫كل منا إلى مدرب خبير في علوم الكرة‪ ،‬وفنونها وأساليبها‪ ،‬ونعلق تعليقات سلبية على أداء المدرب الذي كان من المفروض أن‬
‫يلعب بخطة ‪ . 3-5-5‬متى سيقتنع المصريون أنه ال أمل لنا في الكرة سوى أن نلعب كمشجعين‪ .‬الفساد المستشري في الرياضة‬
‫لن يسمح بصعود إال بعض المواهب الفردية التي لن تنجح إال إذا استثمر فيها أحد وربى الموهبة بالخارج‪ .‬عموماً أدينا بنتسلى‪.‬‬

‫انتهت المباراة بالتعادل السلبي لحسن الحظ‪ .‬قمنا بعد المباراة لننصرف‪ .‬شددت على يدي الحاضرين‪ ،‬وتوجهنا نحو السيارة‪.‬‬
‫جلست هند بجواري في السيارة‪ ،‬وقد استعدت ما أنا فيه من مصيبة‪ .‬أدرت محرك السيارة‪ ،‬وبدأت في االستعداد للشرود‪ ،‬عندما‬
‫وجدتها تتشبث بذراعي األيمن‪ .‬نظرت لها وأنا غير فاهم لما يحدث‪ .‬نظرت لي نظرة‪ ،‬أعرف مغزاها جيداً وأترقبها من الشهر‬
‫للشهر‪ .‬أسرعت بالسيارة بسرعة جنونية قبل أن تغير من رأيها‪.‬‬

‫دخلنا المنزل في العاشرة والربع‪ ،‬آملين أن يكون األوالد قد ناموا‪ .‬وجدنا األنوار مطفأة فانطلقنا إلى حجرة النوم‪ ،‬وكانت ليلة‬
‫ليالء‪ .‬أدت هند فيها أداء أفضل من هند رستم في زمانها‪ .‬لم أرها بمثل هذا الغنج من قبل‪ .‬قامت حركات وأتت بأصوات لم أكن‬
‫أعرف بأنه بإمكان أية امرأة في العالم أن تؤديها إال تمثيالً في فيلم رخيص‪ .‬تمنيت أن تدوم الليلة حتى آخر العمر‪.‬‬

‫دخلت الحمام وأنا أتصبب عرقاً‪ .‬فتحت الدش البارد وتلمست الصابونة‪ ،‬وإ ذا بهند تنضم إلى تحت الدش‪ ،‬وضمتني إليها بقوة‪.‬‬
‫استحممنا ألول مرة سوياً‪.‬‬
‫دلفت إلى فراشي‪ ،‬وجسمي خدر‪ ،‬متعب أريد أن أنام‪ .‬وجدت هاتفي يضيء داللة على وصول رسالة واتس أب‪ .‬كانت من‬
‫جيسي‬

‫“مبروك عليك ال‪ 3400‬دوالر‪ ،‬ألقاك على خير يوم كذا‪ .‬توقع مني رسالة األسبوع القادم‪ .‬ال تنفذ أي عمليات أخرى حتى تأتيك‬
‫مني التعليمات‪”.‬‬

‫فتحت موقع أخبار البورصة متلهفاً فإذا بي أجد السعر النهائي للسهم قد أقفل على ‪.29.90‬‬

‫نظرت إلى هند‪ ،‬وقالت خير‪ ،‬فيه حاجة ؟ مالك؟‬

‫فقلت لها‬

‫‪ -‬خير وألف خير‪ ،‬تعالي أما أقول لك كلمة قليلة األدب‪.‬‬


‫ضحكت بدالل‪ ،‬فهجمت عليها للمرة الرابعة‪.‬‬
‫الفصل العشرون‬
‫استمتعت بإجازتي األسبوعية‪ ،‬كما لم أستمتع من قبل‪ .‬خرجنا يوم السبت مع العائلة في نزهة إلى الفيوم‪ .‬أخذنا السيارة من‬
‫صباحنا في رحلة عفوية إلى بحيرة قارون‪ .‬جلست هند بجواري‪ ،‬وحنان وفاطمة وقاسم في الخلف‪ .‬قاسم يهمهم بكلمات غير‬
‫مفهومة‪ ،‬وأنا أغني له أغنية فؤاد المهندس " رايح أجيب الديب من ديله‪ ،‬وأقلق نومه في نص الليل‪ ،‬وإ ن ما قدرتش أجيبه‬
‫ُّ‬
‫سكت يصرخ طالباً إعادتها‪.‬‬ ‫هأسيبه‪ ،‬وأرجع أقول ما لقيت له ديل‪ ".‬وكلما‬

‫فاطمة تحاول أن تردد له نفس األغنية‪ ،‬وال تستطيع تذكر الكلمات‪ ،‬فتدندن بما تذكره منها‪ .‬هند ابتسامتها من األذن لألذن‪.‬‬
‫نصل إلى الفيوم بجوار بحيرة قارون‪ .‬رأيت لوحة لزيارة القرية التونسية‪ .‬تونسية في مصر؟ ماشي‪ ،‬وماله‪ .‬دخلنا القرية‬
‫التونسية فإذ به قرية أسستها سويسرية اسمها إيفونا‪ ،‬لصناعة الخزف‪ .‬أدخلت في المكان مدرسة للخزف‪ ،‬يعرضون طريقة صنع‬
‫الخزف من البداية للنهاية‪ .‬تخليدا لذكرى اليوم‪ ،‬اشتريت أكواب خزفية عليها أسماؤنا‪ ،‬صنعت أمامنا‪.‬‬

‫ثم ذهبنا إلى وادي الريان‪ ،‬حيث الشالل‪ .‬والشالل بألف والم التعريف هو شالل صغير‪ ،‬ولكنه الوحيد في مصر‪ ،‬فالتقطنا بعض‬
‫الصور‪ ،‬ولم نقرب المياه‪ ،‬ألنها مشكوك بها‪ ...‬شكلها مليئة بالطحالب‪ .‬الجو شتوي جميل‪ ،‬فتوجهنا نحو بحيرة قارون‪.‬‬

‫نسمة الهواء البارد جميلة تحت شمس الفيوم الدافئة‪ ،‬فقررت هند أن تفرج عن شعرها‪ ،‬ووضعت اإليشارب وضعاً فوق رأسها‬
‫كالحجاب اإليراني‪ ،‬مغطياً عنقها‪ ،‬والثلث األخير من رأسها‪ ،‬وشعرها األسود الفاحم يلتمع تحت الشمس‪ ،‬وتتطاير خصلة منه‬
‫على عينيها وتدخل تحت النظارة الشمسية‪.‬‬
‫استأجرنا فلوكة‪ ،‬وهي قارب صغير‪ ،‬وأخذناها في رحلة داخل البحيرة‪ .‬المراكبي يجدف وهو يدندن بأغنية‬

‫ياريس البحر خدني معاك علمني‬

‫اتعلم الكار بدل العارعلمني‬

‫من صغر سني وانا ريس وبداري‬

‫ريس مباني واجيب الفن من بالي‬

‫ومثل سمعنا من اللي قبلنا قالوه‪........‬‬


‫يهتز قاسم جيئة وذهاباً وهو جالس في حضن حنان مستمتعاً باألغنية‪ ،‬مغلقاً عينيه من ضوء الشمس الذي لم يعتد عليه‪ .‬فاطمة‬
‫تحاول أن تلتقط بعض كلمات األغنية وتحاول أن ترددها معه‪ .‬حنان تصفق‪ ،‬فيصفق معها قاسم تصفيقات غير مسموعة‬
‫ويضحك‪ .‬تنازلت هند عن الحجاب اإليراني‪ ،‬وتركت شعرها ينساب في الهواء‪ ،‬حراً طليقاً‪.‬‬

‫جاء وقت الغداء‪ ،‬فذهبنا إلى مطعم‪ .‬طبعاً أكلنا بط فيومي‪ ،‬وسمك‪ ،‬وحلينا بمشلتت‪ .‬كان يوماً ال ينسى‪ ،‬الجو جميل‪ ،‬والمزاج‬
‫ٍ‬
‫عال‪ .‬فاطمة ال تفارقني‪ .‬أحملها على كتفي طوال اليوم‪ ،‬وهي مستمتعة‪ .‬عندما أنزلها‪ ،‬وتمشي قليالً تشدني من بنطالي وتقول‬
‫لي‪:‬‬

‫‪ -‬أنمشي؟‬
‫فأرد عليها قائالً‪ -‬بل نطيييير‪ ...‬وأنقض عليها وأحملها من تحت إبطيها حتى تستقر على كتفي‪ .‬أمسكها حتى ال تقع‪ .‬تحرك‬
‫رأسي يميناً كي أستدير يميناً‪ ،‬و تشد رأسي شماالً فأستدير شماالً‪ .‬يغير قاسم منها‪ ،‬وهو ال يستطيع الكالم‪ ،‬فيهمهم‪ ،‬ويمد يديه‬
‫فأحمله‪ ،‬وفاطمة ما زالت متشبثة برأسي‪ .‬تقتنص هند الفرصة‪ ،‬وتأخذ في تصويرنا صوراً تمأل ألبومين‪ .‬تدندن حنان بإهزيجة‬
‫الفلوكة‪ ،‬فيهتز قاسم جيئة وذهاباً بين يدي‪ ،‬وفاطمة تكافح من أجل البقاء على كتفي مثل مصارع الروديو الذي يكافح من أجل‬
‫البقاء فوق ظهر ثور هائج‪.‬‬

‫ألول مرة منذ زمن أحس بنعمة العائلة‪ .‬بالماضي‪ ،‬كنت أحس أنني مدفوع دفعاً لتكوين األسرة‪ .‬أعمل من الصباح للمساء كي‬
‫أعيلهم‪ ،‬و بالكاد أوفي احتياجاتهم‪ .‬في اإلجازة األسبوعية‪ ،‬أكون منهكاً بدرجة ال أستطيع معها المكوث معهم إال قليالً‪ .‬أتناول‬
‫عشائي كل يوم‪ ،‬وهم من حولي يحاولون شد انتباهي‪ ،‬وأنا شارد أرد بعبارات مقتضبة‪ .‬ضيعت حياتي وأحلى سنين عمري بين‬
‫عمل ال يسمن وال يغني من جوع‪ ،‬ومشاهدة حلقات فارغة على التلفاز‪ ،‬وزيارات ومجامالت فارغة‪ ،‬وضيعت على نفسي تلك‬
‫اللحظات الجميلة التي هي كل ما يبقى لنا في ذاكرتنا‪.‬‬

‫أنظر إلى فاطمة‪ ،‬ذات السبع سنوات‪ ،‬و أقول لنفسي‪ :‬متى كبرت هذه الفتاة‪ .‬ال أذكرها عندما كانت مثل قاسم‪ ...‬ال توجد بيني‬
‫وبينها أية ذكريات‪ .‬كيف أضعت على نفسي كل ذلك؟‬

‫اليوم الذي يمر بين استيقاظ وعمل فأكل فنوم هو يوم مر من حياتنا‪ ،‬بال بصمة‪ ،‬يوم هرب من حياتنا‪ ...‬يوم ضائع‪ .‬أي يوم ال‬
‫يمكننا تذكره هو يوم ضائع‪ ،‬ال يمكننا استعادته‪.‬‬
‫قاربت الشمس على المغيب‪ ،‬فلملمنا من أنفسنا‪ ،‬وجلسنا في السيارة‪ .‬نام الطفالن من فورهما‪ ،‬وأغمضت حنان عينها‪ .‬تراجعت‬
‫هند في الكرسي‪ ،‬وأسندت رقبتها على المخدع‪ ،‬وتمسكت بيدي اليمنى‪ ،‬ال تفارقها حتى وصلنا المنزل‪ .‬أنمنا الطفلين‪ ،‬وتسللنا‬
‫كالعاشقين تحت جنح الظالم نرتشف من الكأس التي ذقناها باألمس‪ .‬كانت ليلة ليست كالليلة الماضية‪ .‬كانت ليلة دافئة‪ ،‬مليئة‬
‫بالنظرات والقبل واألحضان‪ .‬لم نتبادل كلمة واحدة‪ ،‬كل ما أردنا أن نقوله كنا نعبر عنه في ضمة طويلة‪ ،‬استيقظنا ونحن على‬
‫نفس وضعنا‪ ،‬متعانقين متداخلين‪.‬‬
‫الفصل الواحد والعشرون‬
‫أفقت من صباحي قبل المنبه‪ ،‬وكلي نشاط‪ .‬تململت هند في الفراش‪ ،‬ونظرت لي بعيون ناعسة‪ ،‬وابتسامة جميلة‪ .‬شعرها الغجري‬
‫المجنون‪ ،‬يغطي الوسادة‪ ،‬ويحيط بوجهها في عشوائية جميلة‪ .‬أنظر اليها بدون مساحيق تجميل‪ ،‬وأتأملها بوجهها األبيض‬
‫الطويل‪ ،‬وأحس برغبة محمومة في أن أقبلها حتى ال أدع مساحة قيد أنملة‪ ،‬دون أن أطبع عليها قبلة حنون‪ .‬أنظر إلى عينيها‬
‫السوداوين‪ ،‬وأغرق في بحر من الكلمات والعتابات الصامتة‪ .‬أضع رأسها المستسلم بين مرفقي وساعدي وأربت على شعرها‬
‫وأملس عليه وهي تنظر لي مستسلمة‪ .‬تغمض عينها مع كل لمسة لرأسها‪ ،‬وتفتح عينيها كلما فارقت يدي رأسها‪.‬‬
‫مكثنا طويالً على هذا الحال‪ ،‬نتبادل النظرات واللمسات‪ ،‬دون أن أقول شيئاً‪ .‬تركت ليدي أن تعبر عما أحس به بتلك اللمسات‬
‫الحانية الخفيفة التي ال تكاد تمسها‪ .‬أجدها تهتز بتناغم تحت إيقاع لمساتي‪ .‬أجد نفسي أدندن بإيقاع أنشودة الفلوكة بصوت ال‬
‫يسمع‪ ،‬فقط اإليقاع‬

‫ياريس البحر خدني معاك علمني‬

‫اتعلم الكار بدل العارعلمني‬

‫من صغر سني وانا ريس وبداري‬

‫ريس مباني واجيب الفن من بالي‬

‫أغمضت عينيها واستسلمت للمساتي‬


‫فتحت عينيها ونظرت إلى نظرة لم أرها من قبل‪ .‬بؤبؤ عينيها متسعين بدرجة خفت منهما أن يبتلعاني‪ .‬أغوص في أعماقهم‪.‬‬
‫قامت متكاسلة من بين أحضاني‪ ،‬وهي تقول لي‪:‬‬

‫‪ -‬انت مالك يا راجل اليومين دول؟‬

‫ثم دفعتني على الفراش‪ ،‬وانقضت على تلثمني بالقبالت وقالت كلمة واحدة‪:‬‬

‫‪ -‬دورك‬

‫وقامت بأداء حركات لم أرها في أجرأ األفالم التي كنت أشاهدها‪ ...‬استسلمت لغفوة وأنا أهتز‪.‬‬

‫قمت من غفوتي‪ ،‬ألجدها آتية للغرفة بصينية القهوة‪ ،‬وباقي المشلتت من رحلة األمس‪.‬‬
‫جلست على طرف الفراش‪ ،‬ووضعت الصينية على السرير وأشعلت لي السيجارة بفمها‪ ،‬ثم ناولتني إيها وهي تقول‪...‬‬

‫‪ -‬مشلتت من إمبارح‪ ...‬واضح ان سره باتع‪.‬‬

‫فرددت عليها قائال‬

‫‪ -‬ده انت اللي سرك باتع …‬


‫الفصل الثاني والعشرون‬
‫ألول مرة منذ بدأت حياتي العملية‪ ،‬أذهب إلى العمل متأخراً‪ .‬نزلت من المنزل في التاسعة‪ ،‬وأخذت الطريق الطويل‪ .‬أدندن‬

‫ياريس البحر خدني معاك علمني‬

‫اتعلم الكار بدل العارعلمني‬

‫من صغر سني وانا ريس وبداري‬

‫ريس مباني واجيب الفن من بالي‬


‫أتأمل النيل والقوارب الصغيرة التي تجوبه بصياديهم‪ ،‬ملقين بشباكهم في النيل منتظرين رزقاً آتيهم ال محالة‪ ،‬فقد توكلوا على اهلل‬
‫حق تكاله فرزقهم كما يرزق الطير‪ ،‬تغدو خماصاً وتروح بطاناً‪.‬‬

‫الطريق شبه خال من السيارات‪ ،‬ولكني أقود السيارة بسرعة بطيئة نسبياً‪ .‬أفتح النافذة وأستمتع بهواء الشتاء النقي‪.‬‬

‫أفكر فيما حدث لي في األيام القليلة الماضية‪ .‬ماذا تغير في حتى صرت في هذا الحال؟ إلى متى سأظل شخصاً بال قرار‪ ،‬تأخذني‬
‫األمواج المتالطمة من حولي‪ ،‬وتحرك حياتي كيفما شاءت‪ .‬إلى متى سأظل سلبياً إلى هذا الحد؟ أخاف من المخاطرة بأي شيء‬
‫خوفاً من المجهول‪ ،‬وطلباً للمضمون؟ أتقوقع في داخلي‪ ،‬متحمالً إساءات اآلخرين من حولي‪ .‬أما آن األوان ألن أتغير؟ يستغلني‬
‫كل من حولي وكأني ممسحة الباب‪ ،‬يمسحون فيها أقدامهم بغير نظر إليها‪.‬‬
‫وصلت المكتب في العاشرة والنصف‪ .‬نظرت إلى ماكينة البصمة‪ ،‬وابتسمت ابتسامة صفراء‪ .‬مررت بالموظفين الذين نظروا لي‬
‫باستغراب‪ .‬أول مرة أتأخر عن العمل‪ .‬أدخل مكتبي‪ ،‬يلحقني الساعي بالقهوة‪ .‬يتراص الموظفون أمام باب المكتب‪ ،‬فأصرفهم‬
‫بإشارة مني‪ ،‬وأستدعي كل من كريم وكمال‪.‬‬

‫يأتي كريم أوالً‪ ،‬يدخل المكتب مبتسماً‪ .‬أتشاغل بتصفح بعض األوراق من ملف العميل العراقي‪ .‬يجلس على الكرسي المقابل‬
‫للمكتب‪ ،‬فأقول له دون أن أرفع نظري عن األوراق التي أمامي‪:‬‬

‫‪ -‬حد قال لك تقعد؟‬

‫فيقوم واقفاً وعلى وجهه عالمات الدهشة‪.‬‬


‫يأتي األستاذ كمال مدير الشؤون القانونية‪ ،‬أسلم عليه‪ ،‬ثم أشير لهم أن يتوجهوا إلى طاولة االجتماعات‪ .‬رأيت الساعي من بعيد‬
‫يحاول أن يقترب من الباب‪ ،‬فأشرت له أن ينصرف‪.‬‬

‫أجلس على مكتبي‪ ،‬وأنظر اليهم وهم جالسين على طاولة االجتماعات من بعيد‪ .‬أحدق في كريم طويالً دون أن أتكلم‪ .‬ال يجرؤ‬
‫أحد على التكلم‪ ،‬ويخيم على الغرفة صمت ثقيل‪.‬‬

‫أتنحنح بعد خمس دقائق‪ ،‬ثم أقول لكريم‪:‬‬

‫‪ -‬يا أستاذ كريم‪ ،‬كيف السيارة الجديدة؟‬

‫نظر لي وهو متلعثم‪ ،‬مضطرب وجهه أحمر‬

‫‪ -‬الحمد هلل يا أستاذ عباس‬


‫‪ -‬بكم السيارة دي دلوقتي الني بأفكر أغير السيارة؟‬

‫‪ -‬يعني‪ ،‬يتوقف على الحالة يا أستاذ‪.‬‬

‫‪ BMW M7 60LI -‬بحوالي ‪ 2‬مليون جنيه‪ ،‬مش كده؟‬

‫‪ -‬تقريبا …‬

‫‪ -‬طيب ممكن أعرف جبت فلوسها منين؟‬

‫‪ -‬حوشتهم‪ ،‬والوالد ساعد‪.‬‬


‫‪ -‬من راتبك‪ ،‬وعموالتك؟ راتبك وعموالتك في األربع سنين اللي اشتغلتهم معنا ‪ 816‬ألف جنيه‪ .‬يعني لو حوشتهم كلهم مش‬
‫هتجيب نصها‪.‬‬

‫‪ -‬الوالد ساعدني‬

‫‪ -‬والدك كان بيشتغل هنا في الشركة‪ ،‬وآخر راتب له كان ‪ 7000‬جنيه شهرياً‪ ،‬وقبل ما تقول المكافأة‪ ،‬كانت مكافأة نهاية الخدمة‬
‫له ‪ 50‬ألف جنيه‪ .‬أبوك مستلف عشان يجوز أختك من سنة‪ .‬يعني مش محوش‪ .‬راتبه التقاعدي من نقابة التجاريين والتأمينات ما‬
‫بيكمل ‪ 5000‬جنيه‪.‬‬

‫ينظر إلى نظرة حائرة ويتلعثم‪ ،‬وتغمر جبينه حبات من العرق البارد‪.‬‬

‫أحدق فيه بنظرة نارية‪ ،‬ثم أقول له‪:‬‬


‫‪ -‬شوف يا أستاذ كريم‪ ،‬انت عارف ايه اللي حصل في الشركة من ثالث سنوات‪ .‬ممكن أكرر ده تاني‪ .‬انت عارف قانون من‬
‫أين لك هذا؟‬

‫يحاول األستاذ كمال التدخل‪ ،‬فأشير له أن يصمت‪.‬‬

‫ينظر إلى كريم بنظرة متسائلة‬

‫‪ -‬من أين لك هذا هو قانون يتيح للنيابة أن تحقق معك في حساباتك‪ ،‬ويجب عليك حينئذ أن تفسر من أين أتاك كل مبلغ في‬
‫حسابك‪ .‬تليفون واحد لألستاذ فريد‪ ،‬بنجيب النيابة هنا‪ ،‬وحبايبه كثيرين‪ ...‬عارف هيعملوا معك ايه؟‬

‫هيطلعوا كل حساباتك‪ ،‬واألصول اللي عندك‪ ،‬شقة التجمع‪ ،‬السيارة‪ ،‬الفلوس اللي في البنك و ه "يناقشوك" مناقشة أخوية‬
‫بأساليبهم ويعرفوا بالضبط انت جايب الفلوس منين‪.‬‬
‫يتدخل كمال‬

‫‪ -‬هو فيه ايه يا عبس؟‬

‫فنظرت إليه شذراً وعيني تطلق شراراً‬

‫‪ -‬من فضلك ما تقاطعنيش‪ ،‬وأنا مش عبس بالنسبة لك‪ .‬أنا األستاذ عباس‪ .‬إحنا مش قاعدين على القهوة‪.‬‬

‫يتقوقع في كرسيه صامتاً‬

‫‪ -‬يا أستاذ كريم‪ .‬أنا بأعطيك فرصة أخيرة‪ .‬عندك خمس دقائق‪ ،‬لو خرجت من مكتبي من غير ما نتفق‪ ،‬سأبدأ إجراءات لن‬
‫تكلفني شيئاً لكنها ستكلفك مستقبلك‪ ...‬فكر كويس قبل ما ترد علي … عملية العراق‪ ...‬من العميل‪ ،‬وفين الفلوس‪.‬‬
‫تراجعت في كرسي‪ ،‬منتظر الرد‪ ،‬وأنا أنتفض‪.‬‬

‫أطرق ببصره في األرض‪ ،‬و انهمرت دموع صامتة من عينيه‪ ،‬حتى تساقطت على الطاولة‪.‬‬

‫خيم صمت مطبق لفترة ليست بالوجيزة في الغرفة‪ .‬إذا ألقيت اإلبرة‪ ،‬ترن‪ .‬يتعالى صوت الساعة المعلقة على الجدار‪ ،‬معلنة‬
‫الثانية بالثانية‪ .‬صمت مطبق‪ ،‬تظلم فيه الغرفة تدريجياً‪.‬‬

‫بعد دقيقتين من الدموع الصامتة‪ ،‬إنهار كريم تماماً‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪ -‬األستاذ زياد يبقى معرفة األستاذ خالد‪ .‬أنا كنت بأنفذ األوامر‪ ،‬ونسبتي كانت أقل نسبة فيهم‪ .‬األستاذ خالد هو اللي قال لي إحنا‬
‫نبيع السعة على شركة األستاذ زياد‪ ،‬وهو يبيعها على قناة شرق الفرات مقدم كاش‪ .‬أنا بعت السعة من األستاذ زياد لقناة شرق‬
‫الفرات بأقل من سعرها عشان يدفعوا مقدم كاش‪ .‬قناة شرق الفرات ما لهم دخل‪ .‬بعدها األستاذ زياد حل الشركة‪ ،‬وغير نقاله‪.‬‬
‫األستاذ خالد قال لي إن ده حقنا ألن الشركة ما بتدفع لنا عموالت‪ ،‬وبتسرقنا كل شوية في العموالت‪ ،‬بحساب الكوتا‪ ،‬وتطلعنا‬
‫مقصرين‪ ،‬وإ حنا الزم نعمل فلوس لنفسنا‪ .‬يعني الفلوس دي فلوسنا‪ .‬مش هتؤثر على الشركة‪ ،‬النها عملية صغيرة‪ .‬في النهاية‪،‬‬
‫الشركة هتعدم الديون الن ما في حد هيقدر يروح العراق و يعمل مشاكل هناك‪ ،‬وكمان قناة شرق الفرات مش هنقدر نفصل‬
‫عنهم السعة ألننا لو وصلنا لنهاية العقد‪ ،‬هنبقى عايزين نجدد مع القناة نفسها‪ ،‬بدون وسيط‪ .‬األستاذ كمال ساعدنا في العقد‪ ،‬وقبول‬
‫الضمانات اللي قدمها األستاذ زياد‪ ،‬وأخذ خمسين ألف جنيه‪ .‬أنا مش لوحدي‪ ،‬ولو هأقع‪ ،‬مش هأقع لوحدي‪.‬‬

‫نظر اليه كمال وانتفض غاضباً‬

‫‪ -‬انت مجنون؟ انت بتقول ايه؟ يا مغفل‪ ،‬قانون من أين لك هذا ده بينطبق على الموظفين العموميين يا مغفل‪ .‬أسكت‪.‬‬

‫واستبق كمال باب الغرفة‪ ،‬فقلت له‪:‬‬


‫‪ -‬كمال‪ ،‬لو طلعت من الغرفة تبقى بتقضي على نفسك‪.‬‬

‫وقف متردداً‪ ،‬ثم عاد ووقف بجوار طاولة االجتماعات‪ ،‬فقلت له‪.‬‬

‫‪ -‬أنتم موقوفون عن العمل حتى إشعار آخر‪ .‬سنفتح تحقيقاً في الموضوع وفلوس العملية دي هترجع يعني هترجع‪.‬‬

‫وأخرجت هاتفي النقال الذي سجلت عليه كل شيء‪ ،‬وقلت لهم‪ ،‬اعترافاتكم مسجلة فما فيش داعي لإلنكار‪.‬‬

‫نظر إلي نظرة كلها حقد‪ .‬أشرت اليهم باالنصراف‪ ،‬واتصلت على فريد بك‪.‬‬

‫‪ -‬يا فريد بك‪ ،‬كنت عايزك في موضوع‪.‬‬

‫‪ -‬تفضل‪ ،‬حياك اهلل‪.‬‬


‫دخلت على األستاذ فريد المكتب‪ ،‬فقام وسلم علي‪ .‬شددت على يده‪ ،‬وجلست على الطرف اآلخر من المكتب‪.‬‬

‫‪ -‬خير يا أستاذ عباس‪.‬‬

‫‪ -‬يا فريد بك‪ ،‬فيه سرقات في الشركة‪ ،‬وأنا حابب أبلغ حضرتك بها‪ ،‬وخلينا نشوف ممكن نتصرف إزاي‪.‬‬

‫أخذت أشرح لفريد بك كيف يقومون بسرقة الشركة عيني عينك‪ ،‬وقلت له الوسيلة‪ ،‬وأخبرته بأنه لدي األدلة على ذلك‪ .‬نظر إلى‬
‫وهو غير مصدق إلى أي مدى تفتق ذهنهم عن هذه الخطة‪.‬‬

‫تنحنح وقال لي‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا سنفعل اآلن يا أستاذ عباس؟‬


‫‪ -‬واهلل األمر أمرك يا فريد بك‪.‬‬

‫‪ -‬انت رأيك ايه؟‬

‫‪ -‬رأيي إننا ما نسكت على الموضوع ده‪ .‬نعمل تحقيق‪ ،‬ونحاول نجيب اللي نقدر نجيبه منهم‪ ،‬ونوقفهم عن العمل ونرفتهم‪.‬‬

‫‪ -‬لكن هذا سيسبب هزة كبيرة للشركة‪ .‬أنت تعرف جيداً أن هزة مشكلة الحسابات التي حدثت منذ ثالث سنوات قد أثرت على‬
‫مركز الشركة في السوق‪.‬‬

‫ت على هذه السرقة؟‬


‫‪ -‬بلى‪ ،‬ولكن َأن ْس ُك ْ‬

‫‪ -‬أخاف من دخول النيابة مرة أخرى الشركة‪ .‬مازلت أسدد الجمايل من الكبوة السابقة‪.‬‬
‫‪ -‬يا فريد بك‪ ،‬يجب أن نأخذ خطوة إيجابية‪ ،‬وإ ال ستتفشى السرقات‪.‬‬

‫نظر لي فريد طويالً وهو يفكر‪ .‬العملية بالنسبة له ليست صفر و واحد كما هي لي‪ .‬هناك اعتبارات أخرى كثيرة‪ .‬سمعة‬
‫الشركة‪ ،‬الضجة التي ستحدث من وراء هذه الفضيحة‪ .‬العقود التي سنخسرها بسبب معارف خالد وكريم‪...‬‬

‫‪-‬من سنثق به اآلن؟ إذا كان مدير الشؤون القانونية متورط في الموضوع؟‬

‫‪ -‬مثلما عملنا في السابق‪ .‬نأتي بغيره‪ ،‬ونفتح تحقيقاً موسعاً في الموضوع‪.‬‬

‫‪ -‬و سعة تيلينور؟‬

‫آه كنت أخشى من هذا‪ ...‬خالد يتفاوض مع شركة تيلينور للحصول على سعة من قمر في نفس مدار النيل سات‪ ،‬وهذه العملية‬
‫حساسة‪ ،‬وستحدد مسار الشركة في الخمس سنوات القادمة‪.‬‬
‫قلت له‪ ،‬وكلي ثقة‪.‬‬

‫‪ -‬يا فريد بك‪ ،‬لو خليت األستاذ خالد زي ما هو مدير مبيعات‪ ،‬صدقني‪ ،‬عملية تيلينور هتبقى خاسرة‪ .‬الفاسد فاسد‪ ،‬والحرامي‬
‫حرامي‪ .‬لو هو ماسك العملية دي‪ ،‬أكيد هيطلع منها عمولة محترمة‪ .‬حجم السعة اللي بنشتريها حوالي ‪ 5‬مليون دوالر‪ ،‬بندفعهم‬
‫مقدم‪ ،‬وبعدين نعيد بيعها‪ .‬ممكن يطلب منهم عمولة كبيرة‪ ،‬والخسارة هتكون خسارتنا في اآلخر‪.‬‬

‫تركت الكالم الذي قلته معلقاً في الهواء‪ ،‬يتردد في صدى الغرفة لفترة‪ .‬اعتدل بعدها فريد في كرسيه‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪ -‬عندك جق‪ .‬اوقفهم عن العمل‪ ،‬وابدأ تحقيق في الموضوع‪ ،‬بس حاول تحتوي الموضوع على قد ما تقدر‪.‬‬
‫الفصل الثالث والعشرون‬
‫شغلت السيارة وأنا واجم‪ .‬خطتي نجحت‪ ،‬وكشفت السرقات‪ ،‬ولكن‪ ،‬لماذا لم أحس بارتياح؟ أخذت كلمة كريم تتردد في ذهني‪.‬‬
‫نحن نغالطهم في العموالت‪ ،‬وبالتالي هم يسرقوننا للحصول على حقهم من العموالت‪ .‬قانون العموالت في الشركة قانون قديم‪،‬‬
‫يحتم على البائع أن يبيع بمبلغ ضخم‪ ،‬مقابل راتبه قبل احتساب أية عموالت‪ .‬يعني لو راتبه ألف جنيه مثالً‪ ،‬يجب أن يبيع بمليون‬
‫جنيه‪ ،‬ال تحتسب عليها عمولة‪ ،‬ونحتسب له العمولة بعد ذلك بنصف بالمائة من أرباح المبيعات التي تفوق المليون جنيه‪ .‬وهنا‪،‬‬
‫عند احتساب األرباح‪ ،‬نخصم منها جميع التكاليف‪ .‬وفي التكاليف‪ ،‬تكمن المشكلة‪ ،‬ال نحمله بالتكاليف المباشرة للعملية‪ ،‬ولكن‬
‫نحتسب عليه تكاليف إضافية‪ ،‬مكتب فريد‪ ،‬إيجار الشركة‪ ،‬مصروفات إدارية‪ ،‬سيارات اإلدارة‪ ،‬ضرائب‪ ،‬ضرائب مبيعات‪،‬‬
‫رشى‪ ،‬ضيافة‪ ...‬كم عظيم من التكاليف‪ ،‬تحت بند التكلفة غير المباشرة‪ ،‬لدرجة أن عملية المبيعات التي ال يتعدى فيها الربح‬
‫خمسة عشرة بالمائة‪ ،‬تكون خاسرة عند احتساب العموالت‪.‬‬

‫إنها دورة السرقة المعروفة‪ .‬المدرس ال يكفيه راتبه‪ ،‬فال يشرح بالحصة‪ ،‬ويجبر الطلبة على أخذ دروس خصوصية‪ .‬إبن أمين‬
‫الشرطة‪ ،‬يأتي له ويطلب منه درساً خصوصياً ألن المدرس ال يشرح‪ ،‬ويضربه في الصف‪ .‬ال يكفي راتب أمين الشرطة آلخر‬
‫الشهر‪ ،‬فيضطر إلى أن يخالف السيارات طمعاً في رشوة ليزيل المخالفة‪ .‬يخالف موظف حكومة‪ ،‬الذي بدوره يتقاضى رشوة من‬
‫أجل إنجاز معاملة من المدرس‪ .‬حلقة محكمة من الرشا والسرقة‪ ،‬منغمسة فيها البلد بطريقة‪ ،‬ال أعرف كيف نكسرها‪.‬‬

‫أخذت تتردد في ذهني اآلية "فأوفوا الكيل والميزان" وكيف شرحها لي أبي رحمه اهلل ‪ .‬قال لي كل منا يؤدي خدمة أو يبيع سلعة‬
‫واحدة‪ ،‬ويشتري باقي خدماته وسلعه من آخرين‪ .‬إذا كان يبدو أني أتربح من بخس الناس أشيائهم‪ ،‬سواء بسرقات أو برشاً‪،‬‬
‫فسوف أخسر أكثر بكثير عند شرائي باقي السلع والخدمات التي احتاجها‪.‬سأدفع أضعاف ما سرقته ممن بعتهم الخدمة المنقوصة‪.‬‬
‫كان موظفاً حكومياً في منصب كبير‪ ،‬وكان مسؤوالً عن إدارة بها الكثير من مصارف الرشوة‪ ،‬ولم يتقاض رشوة في حياته‪.‬‬

‫ورزقه اهلل من وسع‪ ،‬ومن خير دون رشوة‪ .‬كان كلما أمسك شيئاً تحول إلى ذهب‪ .‬وجد في مرة زميل له يقول له " أحتاج مبلغاً‬
‫من المال‪ ،‬لم ال تشتري مني قطعة أرض اشتريتها في الصحراء‪ ،‬بمبلغ أربعة عشر جنيهاً للمتر؟ قال له والدي‪ :‬يمكنني أن‬
‫أقرضك المبلغ‪ ،‬وال تبيع األرض‪ ،‬فرد عليه الزميل‪ ،‬ال ‪ .‬فأنا ال احتاجها‪ .‬اشترى والدي منه األرض‪ ،‬التي كانت في منطقة‬
‫صحراوية‪ ،‬صارت مدينة ‪ 6‬أكتوبر‪ ،‬وصار المتر بخمسة آالف جنيه في غضون بضعة أعوام‪ .‬وجدت أمي أوراق األرض مرة‪،‬‬
‫فأرتها له‪ ،‬فنظر إليها مستغرباً‪ ،‬وتذكر بعد فترة‪ .‬أخذنا لرؤية األرض‪ ،‬ووصلناها بعد جهد جهيد‪ ،‬وتكالب عليه السماسرة حتى‬
‫بسعر ٍ‬
‫مجز ‪ .‬كان اهلل يعوضه عن نزاهته وأمانته‪ .‬ومثل ذلك مثل الكثير مما كان يحدث له‪ .‬كان كما يقولون ميداس‪...‬‬ ‫ٍ‬ ‫باعها‬
‫يحول التراب لذهب‪ ،‬ولم يكن أحد يدري ما سره‪.‬‬
‫أذكر أن سمعت الشيخ الشعراوي رحمه اهلل يرد على سؤال وجه إليه في مناقشة‪:‬‬

‫قال له السائل‪:‬‬

‫‪ -‬أليس اهلل بمقدر األرزاق حتى قبل أن يخلق اإلنسان؟‬

‫‪ -‬بلى‬

‫‪ -‬كيف يقدر اهلل لإلنسان رزقاً من حرام؟ وكيف يحاسبه على رزق حرام إذا كان قد كتبه عليه‪.‬‬

‫فرد عليه الشيخ الشعراوي رداً صار دستور حياتي‬


‫‪ -‬اهلل سبحانه قدر للص رزقا قدره مثالً مائة جنيه‪ .‬إذا سرقها فقد تعجل على رزقه‪ ،‬وإ ذا صبر‪ ،‬ستأتيه المائة جنيه من باب آخر‬
‫حالل‪ .‬لكن تعجله الرزق بالحرام‪ ،‬حجب عنه الرزق الحالل‪.‬‬

‫هل عدت إلى الشرود مرة أخرى؟‬

‫وصلت المنزل‪ ،‬وألقيت كل شيء وراء ظهري‪ .‬لي عائلة يجب أن أستمتع بهم‪.‬‬
‫الفصل الرابع والعشرون‬
‫ذهبت من صباحي للعمل‪ ،‬وكلي تصميم‪ .‬يجب أن أصلح المنظومة بالكامل‪ .‬عكفت على كتابة تقرير طويل بالئحة العموالت‬
‫للشركة‪ .‬عدلت الالئحة لكي يكون احتساب العمولة على أساس األرباح المباشرة للعملية‪ ،‬ودون كوتا‪ .‬طبعت األوراق‪ ،‬وذهبت‬
‫لفريد بك‪.‬‬

‫طلبت مقابلته من السكرتيرة‪ ،‬فوافق ‪ ،‬ودخلت عليه‪.‬‬

‫أطلعته على الالئحة الجديدة‪ ،‬فقرأها ثم قال لي‬

‫‪ -‬ما هذا يا أستاذ عباس؟‬


‫‪ -‬الئحة العموالت الجديدة بالشركة‪.‬‬

‫‪ -‬وما الجديد فيها‪ ،‬ال أرى شيئاً غير منطقي‪.‬‬

‫أخرجت الالئحة القديمة من ملف‪ ،‬وأريته التعديالت‬

‫‪ -‬يا فريد بك‪ ،‬الموظفون ال يحصلون على حقوقهم‪ ،‬وبالتالي يحسون بالغبن‪ ،‬الذي يجعل بعضهم يفكر في أساليب ملتوية من‬
‫أجل أن يحصل على ما يظن أنه حقه‪.‬‬

‫لدهشتي الشديدة‪ ،‬لم يعلق‪ ،‬ولم يسأل عن الكلفة اإلضافية للعموالت‪ .‬أخرج قلمه الذهبي من جيب سترته‪ ،‬ووقع األوراق وهو‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ابقى خلي حد منهم يسرق تاني‪.‬‬

‫عدت إلى مكتبي فرحاً‪ .‬على األقل أصلحت مكاني وقمت بدوري‪.‬‬
‫الفصل الخامس والعشرون‬
‫جاءتني رسالة من جيسي يوم االثنين صباحاً‪.‬‬

‫“صديقي‪ .‬سنبدأ اآلن في المخاطرة فقط بأرباحنا‪ .‬بعد هذه العملية‪ ،‬ستسحب العشرة آالف التي استثمرتها في البورصة‪،‬‬
‫وستضارب باألرباح فقط‪ .‬بع ‪ condor 20‬للسهم ذاته كالتالي‬

‫تبيع عربونا على سعر ‪31‬‬

‫تشتري عربوناً على سعر ‪31.50‬‬

‫تشتري عربوناً على سعر ‪32‬‬


‫تبيع عربوناً على سعر ‪32.50‬‬

‫قد يدعم السمسار الخاص بك إجراء العملية كلها مرة واحدة‪.‬‬

‫اترك الكوندور لنهاية العقد‪ ،‬وال تقلق‪.‬‬

‫كانت العملية الطلوب تنفيذها أعقد قليالً من العملية السابقة‪ ،‬ولكني كنت قد سجلت المواقع التي دخل عليها هاني‪ ،‬فدخلت عليها‬
‫واستطعت أن أرسم الرسم البياني الذي رسمه‪ .‬هذه العملية تبدو أصعب من التي سبقتها تسمى باالنجليزية ‪ condor‬وبالعربية‬
‫تعني النسر االمريكي وذلك من شكل منحنى الربح والخسارة الذي يشبه النسر‪ ،‬وتبدو لي أنها منطقية إلى حد كبير‪ .‬تحقق‬
‫أربعين ألف دوالرا مكسباً بمخاطرة قدرها أربعة آالف فقط‪ .‬تعتمد على خليط من بيع وشراء عرابين على أسعار مختلفة حتى‬
‫نحصل على هذا الشكل‪.‬‬
‫تحقق مكسبا إذا‬
‫كان سعر السهم‬
‫ساعة اإلقفال‬
‫في أي سعر‬
‫عدا بين ‪31.5‬‬
‫و ‪ .32.5‬وسعر‬
‫السهم اآلن‬
‫ثالثون دوالراً‪.‬‬
‫أي أنه يمكنني تحقيق عشرة أضعاف ما أستثمره بنسبة تتجاوز السبعين بالمائة‪ .‬أي استثمار يمكن أن يجلب عشرة أضعاف قيمته‬
‫في أسبوع بنسبة تحقق سبعين بالمائة؟‬

‫اقتنعت من فوري بالعملية‪ ،‬وقررت تنفيذها دون الرجوع لهاني‪ .‬حتى إذا خسرت‪ ،‬فالمبلغ المستثمر هو تقريباً من األرباح‪.‬‬

‫انتظرت حتى الخامسة والنصف‪ ،‬واتصلت على شركة السمسرة‪ ،‬ألني لم أعرف كيف يمكنني تنفيذ هذه العملية المعقدة‪ ،‬فساعدني‬
‫موظف خدمة العمالء على تنفيذ العملية المعقدة‪ .‬حاول أن يشرح لي كيف أنفذها‪ ،‬أو كيف ألغيها‪ ،‬ولكن هذا كان فوق طاقة‬
‫استيعابي‪.‬‬

‫بعد أن تأكدت من تنفيذ العملية‪ ،‬ذهبت إلى البيت وأنا أكثر اطمئناناً‬
‫الفصل السادس والعشرون‬
‫يوم الثالثاء‪ ،‬ألتقي مع أصدقاء الطفولة‪ .‬الجميع موجودون‪ ،‬أمجد ومصطفى وهاني‪ .‬نجلس كعادتنا في كوفي بين جامعة الدول‬
‫العربية في الطابق الثاني‪ .‬بعد التحيات والسالمات المعتادة‪ ،‬يبدأ هاني في سؤالي عن البورصة‪.‬‬

‫‪ -‬واهلل الحمد هلل تمام‬

‫‪ -‬ايه أخبار العملية بتاعة األوبشنز؟‬

‫‪ -‬واهلل تمت على خير‬

‫فتسائل أمجد أوبشنز ايه؟‬


‫فقال له هاني أن قريب لي نصحني بعملية في البورصة األمريكية في سوق الخيارات‪ .‬نظرت إلى أمجد متحفزاً فقال لي أمجد‬

‫‪ -‬انت عارف إنها حرام‪.‬‬

‫‪ -‬قلت له‪ ،‬يا أمجد يا حبيبي‪ ،‬طلع تليفونك ودور على الحكم الشرعي في التصوير‬

‫لم انتظر إجابته‪ ،‬وأخرجت هاتفي النقال‪ ،‬وبحثت عن الفتوى وقرأتها له‪:‬‬

‫ما رأيكم فيمن يقول‪" :‬إن التصوير الفوتوغرافي لإلنسان جائز‪ ،‬أما التصوير الذي يكون برسم اليد فهو الحرام"؟ وما نصيحتكم‬
‫لألخوات الالتي يتقدمن للفتوى بغير علم؟‬

‫الجواب‪:‬‬
‫التصوير ال يجوز‪ ،‬ال باليد وال بغير اليد‪ ،‬التصوير كله منكر‪ ،‬والرسول عليه الصالة والسالم لعن المصورين‪ ،‬وقال ﷺ‪ :‬أشد‬
‫عذابا يوم القيامة المصورون‪ ،‬وقال‪ :‬كل مصور في النار والمصور‪ :‬يعذب بكل صورة صورها لنفسه في نار جهنم‪.‬‬
‫الناس ً‬

‫ولما رأى النبي صورة في قرام لعائشة‪ ،‬قبضه ومزقه وقال‪ :‬إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة‪ ،‬ويقال لهم‪ :‬أحيوا ما‬
‫خلقتم‪ .‬فالواجب على كل مسلم أن يحذر التصوير‪ ،‬وقد ثبت عنه أنه لعن آكل الربا‪ ،‬ولعن موكله‪ ،‬ولعن المصور‪ ،‬ولعن الواشمة‬
‫والمستوشمة‪ ،‬يعني الحذر من هذا‪ ،‬فآكل الربا‪ ،‬والواشمة‪ ،‬وتصوير ذوات األرواح كتصوير حمام أو دجاج أو بعير أو إنسان أو‬
‫عصفور أو غيره كل هذا فيه روح ال يجوز تصويره‪ ،‬ال في األوراق‪ ،‬وال في الخرق‪ ،‬وال في الخشب‪ ،‬وال في غيره‪ ،‬وال‬
‫مجسم كذلك ال يجوز‪.‬‬
‫جميعا‪ ،‬يجب على كل إنسان أن يتقي اهلل‪ ،‬وعلى كل امرأة أن تتقي اهلل‪،‬‬
‫ً‬ ‫ويجب الحذر من الفتوى بغير علم على الرجال والنساء‬
‫وأال يفتي كل منهما إال بعلم‪ ،‬فال يجوز أن يقول على اهلل بغير علم‪ ،‬الواجب على كل مسلم أن يحذر من ذلك؛ ألن الفتوى بغير‬
‫علم خطرها عظيم‪ ،‬الواجب على المؤمن أن يحذر ذلك وأال يقول إال بعلم‪ ،‬وأن يستغفر اهلل على ما سلف منه‪.‬‬

‫انتهيت من قراءتي ثم قلت له‪ ،‬يا أخي‪ .‬انهم يفتون إلينا فتاوى تكاد أن تكون مستحيلة‪ .‬كيف نحمل بطاقات مدنية‪ ،‬أو جوازات‬
‫سفر بدون صور نستدل بها على الشخص؟ كيف تكون الجرائد بدون صور وفيديوهات تدعمها؟ كيف يتقدم الطب بدون تصوير‬
‫اإلنسان؟ كييف يدرس طالب الطب التشريح بدون صور؟ كيف نعلم الطفل أسماء األشياء بدون صور؟ تخيل كتاب الصف األول‬
‫االبتدائي بدون صور؟ طيب التاريخ؟‬

‫نظر إلى وقال‪:‬‬


‫‪ -‬بدل الجواز نستخدم البصمة‬

‫‪ -‬انت ما فيش فايدة فيك؟ يعني كارنيه الباص‪ ،‬واشتراك المترو هيكون بالبصمة؟ تعال نمسك الخيارات‪ .‬إذا كنت أريد أن‬
‫أضارب بالبورصة‪ ،‬لو اشتريت أسهم فهي حالل‪ ،‬ونسبة نجاح الشراء هي خمسين بالمائة‪ ،‬أي أنني أحقق مكسباً فقط إذا صعد‬
‫السهم‪ ،‬أما إذا بعت تأميناً (‪ )put‬فأنا أربح عند صعود السهم أو بقاءه مكانه‪ ،‬أي في ست وستين بالمائة بدون تحليل‪ ،‬وتقول لي‬
‫حرام؟ ده أنا بأقول لك حرام إني أشتري سهم لو كان عندي طريقة أضمن الستثمار أموالي‪.‬‬

‫ابتسم أمجد‪ ،‬وتالعب بلحيته الكثة‪ ،‬ثم عدل من نظارته وقال‪:‬‬

‫‪ -‬أنا لست مفتياً كي أحكم على موضوع التصوير‪ ،‬ولست عالماً حتى أفتيك فيه‪ ،‬ولكني متأكد أن هناك فتوة ما للضرورة تبيح‬
‫التصوير للوثائق الرسمية‪ ،‬لكن بالنسبة للبورصة األمر واضح‪ ،‬وخاصة بالنسبة لسوق الخيارات‪.‬‬
‫أخذت أشرح لهم النسر أو الكوندور وأرسمه لهم وكلي فخر‪ .‬فنظر أمجد لهاني وضحكا في آن واحد وقال أمجد‪:‬‬

‫‪ -‬هل تعتقد أنه فعالً نسبة تحقق العملية ‪ 66‬أو ثمانين بالمائة؟‬

‫‪ -‬بلى‪ ،‬فالسهم إما سيصعد‪ ،‬أو يظل مكانه ‪ ،‬أو يهبط‬

‫‪ -‬يا أخي‪ ،‬ركز معي‪ ،‬وسأقول لك على السر‪ .‬السر في العرض والطلب‪ ،‬والروليت!‬

‫‪ -‬العرض والطلب والروليت؟‬

‫‪-‬نعم‪ .‬ما تراه أنت من سعر للعرابين والتأمين ما هي إال مراهنات المغفلين الذين يراهنون على سعر السهم وتوقعاتهم لحركته‪.‬‬
‫إذا توقع الكثير منهم أنه سيصعد‪ ،‬يشترون عرابين مراهنين على صعوده‪ ،‬وبالتالي يرتفع سعر العربون‪ .‬وإ ذا توقع الكثير منهم‬
‫هبوط السهم يبيعون عرابين‪ ،‬متوقعين أن تنتهي مدتها والسهم تحت سعر التنفيذ‪.‬‬
‫‪ -‬حسناً ‪ ،‬هذا ما أفهمه‪.‬‬

‫‪ -‬إذن يا صديقي‪ ،‬ما تراه هو ترجمة سعر لرهانات المراهنين‪ .‬وبالتالي‪ ،‬ففي حالتك األولى‪ ،‬كان أكثر المراهنين يراهنوا على‬
‫هبوط السهم‪ .‬أتعرف ممن يشتروا أو يبيعوا هذه العقود؟‬

‫‪ -‬ممن؟ من بعضهم البعض؟‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬غالباً ما يشتروا العقد من صانع السوق‪ ،‬وصانع السوق لديه السيولة واألموال الطائلة التي تجعله يتحكم في سعر السهم‬
‫يوم انتهاء العقود‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬وحيث أنه ال يريد أن يخسر‪ ،‬يشتري أو يبيع السهم الذي يتحكم فيه‪ ،‬حتى يجعله يستقر عند السعر‬
‫الذي يجعله الرابح األكبر‪ ،‬ويجعل المضاربين الخاسر األكبر‪ ،‬ولذا‪ ،‬فعندما تكون عملية مثل التي أريتنا إياها‪ ،‬والتي تحقق عشرة‬
‫أضعاف المبلغ المستثمر هي في الحقيقة بنسبة نجاح ‪ %10‬فقط وليس ‪ .% 66‬إنها بالضبط كأنك تراهن على حصان ضعيف‪.‬‬
‫فنسبة المربح في هذا الحصان تكون ‪ 10:1‬ألن احتمالية فوزه ضئيلة‪.‬‬

‫نظرت إليه وقد أفحمني‪ ...‬ظللت أجادل‪ ،‬ولكنه زرع الشك في نفسي‪.‬‬

‫قال هاني‪:‬‬

‫‪-‬على أفضل األحوال‪ ،‬أي عملية بالبورصة‪ ،‬تكون نسبة نجاحها ‪ %50‬على األحسن‪ ،‬ولكن الروليت‪...‬‬

‫‪ -‬تاني الروليت؟‬

‫‪ -‬يا أخي العزيز‪ ،‬قاعدة الروليت هي أهم قاعدة يجب أن تستوعبها إذا كنت تريد أن تضارب بالبورصة‪ .‬أتعرف كيف يفتش‬
‫األمريكيون على نوادي القمار حتى يتأكدوا من أن النوادي ال تغش زبائنهم؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ما حصل لي الشرف‪.‬‬

‫‪ -‬الروليت يجب أن تعمل لمصلحة النادي أو ال ‪ house‬وبالتالي‪ ،‬فهم يسمحون للنادي أن تكون له األفضلية‪ .‬ونسبة األفضلية‬
‫‪ 48/52‬أي ‪ %52‬بالمائة يكون الكازينو رابحاً مقابل ‪ %48‬يكون الكازينو خاسراً‪ ،‬وبالتالي يستطيع االستمرار بالعمل‪.‬‬

‫‪ -‬وما عالقة هذا بالبورصة يا أمجد‪ ،‬ما تتوهنيش‪.‬‬

‫فتدخل هاني‬

‫‪ -‬عالقته يا صديقي أن البورصة مثلها مثل الروليت‪ ،‬ونوادي القمار‪ ،‬يجب أن تتحرك في مصلحة نادي القمار‪ .‬صانع السوق‬
‫يجب أن يربح رغماً عن أنف اآلخرين‪ ،‬وذلك عن طريق أنه يغش‪ .‬يرى كل أوامر الشراء‪ ،‬وكل أوامر البيع‪ ،‬و معه مليارات‬
‫الدوالرات‪ ،‬ويستطيع تحريك سعر السهم في حدود ‪ %10‬صعوداً أو هبوطاً دون وقف المضاربة عليه‪ .‬إذا كانت صفقتك‬
‫الماضية نجحت‪ ،‬فقد نجحت ألن حظك أنك كنت في حدود السعر الذي يريده صانع السوق‪ ،‬وال يمكنك التأكد من ذلك في كل‬
‫مرة‪ .‬هي ‪ %50-%50‬على أحسن تقدير‪.‬‬

‫فأردف أمجد‬

‫أتعرف يا صديقي لماذا البورصة في نظري حرام؟ ألن حركة البورصة ال عالقة لها بأداء االقتصاد‪ .‬إذا تحولنا كلنا للبورصة‪،‬‬
‫فأين اإلنتاج؟ إنها مقامرة في سبيل الحصول على كسب سهل سريع‪ ،‬دون إنتاج‪ .‬إنها سوق قمار مواز بال أية إنتاجية أو أي‬
‫فائدة تعود على المجتمع‪ .‬و غالباً ما يخسر معظم المضاربون لصالح قلة‪.‬‬

‫نظرت له أريد أن أقفز من كرسي وأهجم عليه وأعتصر عنقه بين يدي‪ ،‬ولكني تمالكت نفسي‪ ،‬وابتسمت‪.‬‬

‫‪ -‬على األقل اآلن ألعب بفلوسهم‪.‬‬


‫الفصل السابع والعشرون‬
‫اليوم الجمعة‪ ،‬بالرغم من أنه يوم انتهاء العقود‪ ،‬قررت أن أذهب مع زوجتي إلى سميرة‪ .‬لم ال؟ هو حرق أعصاب وبس؟ لماذا‬
‫أفتح الحاسوب وأجلس أمام الشاشة‪ ،‬أراقب األسعار‪ ،‬وأحرق دمي‪ ،‬وال أملك أن أفعل شيئاَ‪ .‬المركز المفتوح معقد لدرجة أنني ال‬
‫أستطيع أن أغلقه بنفسي‪ .‬يجب أن أتصل بالشركة في أمريكا‪ ،‬وأنتظر قرابة الثلث ساعة حتى أستطيع أن أتحدث ألحد‪.‬‬

‫فتح مدحت الباب‪ ،‬وسلم علي‪ .‬البيت بيته خالص‪ .‬كريمة تقيم مع أمها‪ ،‬ولكن يبدو أنهم يلتقون كثيراً في بيت سميرة‪ .‬مدحت‬
‫يرتدي مالبس مريحة‪ ...‬خالص انتهى وقت البدل !!‬

‫سلمت عليه بحرارة‪ .‬لم أره منذ قرابة الشهر‪ .‬سلمت على الدكتور عادل وكريمة وأمها‪ ،‬وخال كريمة األستاذ مروان‪ .‬رجل‬
‫طيب دمث الخلق‪ ،‬أشيب الشعر‪ ،‬ضابط شرطة على المعاش‪ .‬مبتسم دائماً‪ ،‬يعتمد على عكاز رباعي األطراف‪ .‬أخذ يحكي لنا‬
‫عن سبب إصابته‪ ،‬حتى أماتنا ضحكاً‪ .‬سبب إصابته الحقيقي‪ ،‬وليس المذكور في التقارير‪ ،‬كان عسكري الخدمة ‪ ،‬في معسكر‬
‫األمن المركزي الذي كان يخدم به‪ ،‬أخرج رصاصة خطأ‪ ،‬فأصابته في مؤخرته‪ ،‬وهو بعده مالزم أول‪ .‬خيروه بين التقاعد‬
‫المبكر‪ ،‬واألعمال اإلدارية‪ ،‬فاختار التقاعد المبكر‪ .‬ومن ساعتها وهو متقاعد‪ ،‬يتقاضى معاشاً تقاعدياً مناسباً‪ ،‬مع مكافأة نهاية‬
‫خدمة جيدة‪ ،‬الن إصابته أثناء الخدمة‪ ،‬وبسببها‪.‬‬

‫جلسنا في حجرة الصالون وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث‪.‬‬

‫كنت مهتماً بمعرفة ماذا يفعل هذا الرجل بحياته‪ ،‬وهو متقاعد منذ أن كان في الثامنة والعشرين من عمره‪ .‬أخذت أحاول تحريك‬
‫المناقشة في ذلك االتجاه‪ ،‬وصدقني‪ ،‬كانت مهمة انتحارية في وجود د‪ .‬عادل الموسوعة المتحركة‪.‬‬

‫‪ -‬يا أستاذ مروان‪ ،‬طيب انت بتعمل ايه دلوقتي؟‬


‫‪ -‬مستني الغدا‬

‫فانفجر القعود في موجة ضحك‪ ،‬فأعدت سؤالي‪:‬‬

‫‪ -‬يعني بعد ما تقاعدت من الشرطة في سن صغير؟‬

‫نظر إلى مبتسماً وقال‬

‫‪ -‬خرجت من الخدمة‪ ،‬ومعي مبلغاً جيداً ومعاشاً تقاعدياً ال يسمن وال يغني من جوع‪ .‬أيامها كانت رواتب الشرطة ضعيفة‬
‫للغاية‪ .‬والدي نصحني بأن أضع نقودي بالبنك‪ ،‬وأتعيش من العائد‪.‬‬

‫‪ -‬وكانت فكرة جيدة؟‬


‫‪ -‬أيامها كانت العوائد على الجنيه المصري عالية‪ ،‬ألن البنوك كانت في منافسة شرسة مع شركات توظيف األموال أيامها مثل‬
‫السعد والريان‪ .‬لمقاومة شركات توظيف األموال‪ ،‬بدأت فتاوى تحليل عوائد البنوك‪ .‬أيامها لم أكن ملتزماً ولكني لم أقتنع بها‪.‬‬
‫بصراحة إغراء الريان كان أقوى‪ .‬ليسوا بنوكاً ربوية‪ ،‬فهم كما يقولون شركات توظيف أموال‪ ،‬غير البنوك‪ ،‬تحرك النقود‬
‫وتستثمرها‪ .‬وها أنا ذا‪ ،‬شاب في مقتبل العمر‪ ،‬لدي مبلغاً من المال‪ ،‬هو كل ما يمكنني أن أطمح فيه‪ ،‬كل ما أملك‪ ،‬وأضعه في يد‬
‫من يضارب لي به‪ ،‬من أجل أن يعطيني بعض األرباح التي أتعيش منها‪ ،‬وأظل مقعداً كما أنا‪.‬‬

‫فتساءلت بحسرة‪ ،‬هازاً رأسي‪:‬‬

‫‪ -‬ووضعت نقودك في الريان؟‬


‫‪ -‬لمدة أسبوع‪ ،‬وسحبتهم مرة أخرى‪ .‬قررت أنه بدالً من أن أعطي نقودي لشخص آخر ليخاطر بها ويخسرها‪ ،‬فألخسرها بيدي‬
‫أنا أولى‪ .‬على األقل‪ ،‬سأتعلم وأنا أخسرها‪.‬‬

‫ضحك ‪ ،‬فضحك الحاضرون وقد انجذبوا إلى طريقته في السرد‪ .‬فاستطرد قائالً‬

‫‪ -‬كانت رحلة ليست بالسهلة‪ ،‬ولكن كلها خبرة وعبر‪ .‬بدأت بالشيء السهل‪ ،‬تغيير العملة‪ .‬أيامها كان هناك سعرين للدوالر‪ ،‬وال‬
‫يمكنك الحصول على الدوالر إال من السوق الموازية‪ .‬بدأت بشراء وبيع الدوالر‪ ،‬وحققت بعض المكاسب‪ ،‬ولكني لم أكن‬
‫مرتاحاً‪ .‬أتعامل نقداً وأحمل مبالغ كبيرة في منزلي‪ ،‬وأتعامل مع أشخاص أشك في أساليبهم‪ ،‬وأغراضهم للحصول على النقد‬
‫األجنبي‪ .‬بعضهم يريد أن يسافر‪ ،‬ويريد بعض النقود‪ ،‬والبعض اآلخر يتاجر تجارة غير مشروعة‪ ،‬وكضابط سابق‪ ،‬يمكنني أن‬
‫أشتم الرائحة العفنة من بعيد‪ .‬فقررت العزوف عن هذه التجارة‪.‬‬
‫واعتدل في مقعده معتمداً على عكازه ثم قال‪.‬‬

‫‪ -‬ثم توجهت إلى سوق السيارات‪ .‬أيامها كان محظوراً استيراد السيارات من الخارج إال من بعض الوكاالت الشحيحة‪ ،‬لقرب‬
‫أصحابها من دائرة النخبة السياسية‪ ،‬ولم يكن هناك أي نوع من أنواع التمويل لشراء السيارات‪ .‬من اآلخر كان عدد السيارات‬
‫الموجود بمصر ال يزيد‪ ،‬وكان المصريون يتفننون في إبقاء السيارات على قيد الحياة‪ ،‬في ظل حظر استيراد المكونات‪ ،‬وقطع‬
‫الغيار‪ ،‬والسيارات نفسها‪ .‬كانت هناك مهنة تجديد السيارات‪ ،‬وهي أن تشتري سيارة شبه معدمة‪ ،‬ثم تقوم بإعادة تجهيزها‪،‬‬
‫وتشغيلها ومن ثم تعيد بيعها بمكسب‪ .‬لم أكن أفهم شيئاً في السيارات‪ ،‬فكنت أصطحب معي ميكانيكي‪ ،‬ليفحص السيارة‪ ،‬ثم أبدأ‬
‫في تجديدها‪ ،‬مروراً بالكثير من الورش‪ ،‬ثم أبيعها‪ .‬تصادقت مع معظم الحرفيينن وبدأت أتقن لغتهم‪.‬‬
‫قررت أن أتعلم ميكانيكا السيارات وتركيب السيارات‪ .‬وجدت سمكري توسمت فيه الصدق واألمانة‪ ،‬وتشاركت معه في ورشة‬
‫صغيرة بإمبابة لسمكرة السيارات‪ .‬بدأنا بورشة صغيرة‪ ،‬للسمكرة فقط‪ ،‬ثم توسعنا بإضافة أقسام أخرى للدوكو‪ ،‬و زينة السيارات‬
‫وتعديلها‪ .‬كنت حريصاً على إدخال الجديد في تجديد السيارات‪ ،‬فكنت أول من أدخل فرن صباغة السيارات في مصر‪ ،‬فحص‬
‫الكمبيوتر‪ ،‬وخالفه‪.‬‬

‫وجدت أن السوق يفتقر ألشياء أساسية‪ ،‬كان التعامل مع الحرفيين من أصعب ما يمكن‪ .‬فركزت على خدمة العمالء‪ ،‬من مقايسات‬
‫سعر واضحة‪ ،‬ودقيقة‪ ،‬مواعيد تسليم دقيقة‪ ،‬ضمان على عمليات اإلصالح‪ .‬كسبت ثقة العمالء‪ ،‬وتزايد عدد العمالء‪.‬‬
‫واجهت مشكلة نقص قطع الغيار‪ ،‬ألن معظم السيارات التي كانت موجودة في مصر أيامها‪ ،‬قد توقف إنتاجها منذ سنين عدة‪،‬‬
‫وتوقف أنتاج قطع الغيار‪ ،‬فاستوردت قوالب ومقصات صاج‪ ،‬وبدأت في إنتاج أجزاء الهياكل الخارجية للسيارة‪ .‬طبلة باب سيارة‬
‫مرسيدس موديل ‪1961‬؟ موجود‪ ...‬رفرف سيارة بيجو ‪ 504‬موديل ‪1971‬؟ الرف الثالث على اليمين‪.‬‬

‫تغيرت السيارات‪ ،‬وتم فتح االستيراد‪ ،‬وتطورت مع السوق‪ .‬أصبحت هياكل السيارات تصنع من البالستيك‪ ،‬والكاربون فيبر‬
‫واللدائن‪ ،‬اشتريت طابعة ثالثية األبعاد‪ ،‬وصرت أصمم األجزاء‪ ،‬وأصنعها عندي‪.‬‬

‫واآلن والحمد هلل‪ ،‬لدي ورشتين متكاملتين لتجديد السيارات‪ ،‬من كهرباء وميكانيكا‪ ،‬وإ عادة تجديد السيارات‪ ،‬ومصنعاً إلنتاج‬
‫قطع السيارات‪ ،‬وآخر لتصنيع قطع سيارات الزينة‪.‬‬

‫نظر إلى بفخر وقال‪:‬‬


‫‪ -‬لدي اآلن ‪ 1322‬عامالً في الورش والمصنعين‪ ،‬والحمد هلل‪.‬‬

‫أنظر إلى عادل‪ ،‬فأجده صامتاً على غير عادته فأداعبه‪:‬‬

‫‪ -‬مالك يا دكتور‪ .‬ال أسكت اهلل لك حساً‬

‫فقال وهو ما زال شارداً‬

‫‪ -‬يا إلهي ‪ 1322‬أسرة يرزقون من ورائك‪ .‬يعني حوالي ستة آالف نفس‪.‬‬

‫فرد عليه مروان‬

‫‪ -‬تخيل يا دكتور لو كنت لسه حاطط الفلوس في الريان‪ ،‬أو بأشتغل في العملة‪.‬‬
‫سأله مدحت‪:‬‬

‫‪ -‬وأي نوع من الطابعات الثالثية األبعاد؟‬

‫فرد عليه مروان‪:‬‬

‫‪ -‬الطباعة ثالثية األبعاد معجزة‪ .‬يمكنك أن تصنع أي قطعة تريدها ومن أي مادة‪ ،‬لدي حوالي ثالثين طابعة لطباعة أي شيء‪،‬‬
‫من بالستيك‪ ،‬لمعدن‪ ،‬أللياف الكربون‪.‬‬

‫سأل عادل ألول مرة منذ جلستنا‪.‬‬

‫‪ -‬عفوا سيد مروان‪ .‬هذا سؤال سخيف‪ ،‬ولكن كم كانت مكافأة نهاية الخدمة التي بدأت بها؟‬
‫ضحك مروان كثيراً‪ ،‬وقال‬

‫‪ -‬كانت ثالثين ألف جنيه‪ ،‬لكنها كانت أيامها ثالثون ألف دوالر‪ .‬أيامها كانت تدر دخالً شهريا من البنك خمسمائة جنيه‪ .‬كانت‬
‫الخمسمائة جنيه تساوي أيامها خمسمائة دوالر‪ ،‬وكانت ثالثة أضعاف معاشي التقاعدي‪ .‬تخيل لو كنت أخذت بنصيحة أبي رحمه‬
‫اهلل‪ ،‬كنت سأصرف الدخل الشهري‪ ،‬على اعتبار أنه أرباح‪ ،‬وأحافظ على رأس المال‪ ،‬وكان زماني اآلن معي ألف وخمسمائة‬
‫دوالراً كرأس مال بدالً من ثالثين ألف دوالر‪ .‬يا بني‪ ،‬أرباح البنوك ليست أرباحاً‪ ،‬إنها فقط تعويض للتضخم‪.‬‬

‫قمنا لتناول الغداء‪ ،‬وبعد الغداء‪ ،‬جلسنا مرة أخرى في الصالون‪ ،‬وعرفت المناسبة التي أتت باألستاذ مروان‪ .‬قراءة فاتحة كريمة‬
‫على مدحت‪.‬‬

‫يا خسارة‪ ،‬كان راجل طيب!‬


‫الفصل الثامن والعشرون‬
‫عدنا إلى المنزل في الحادية عشر مساء‪ .‬لم أستطع مقاومة إغراء فتح موقع البورصة‪ ،‬فقلت لهند أن لدي بعض األعمال التي‬
‫يجب أن أنجزها‪.‬‬

‫افترشت طاولة الطعام‪ ،‬جالسا على الكرسي المقابل للكرسي الذي أجلس فيه‪ ،‬بحيث يكون ظهري للحائط‪ ،‬حتى ال ترى هند شيئاً‬
‫من شاشة الحاسوب‪ ،‬وفتحت برنامج المضاربة‪.‬‬

‫اليوم الجمعة‪ .‬يوم انتهاء العقود‪ .‬أفتح الرسم البياني ألسعار السهم‪ ،‬فأجده يتحرك بعنف‪ .‬حرب شعواء بين طلبات البيع والشراء‪،‬‬
‫ويتحرك الرسم البياني كأفعوانية المالهي المسماة قطار الموت صعوداً وهبوطاً‪ .‬يتغير سعر السهم واحد بالمائة كل خمسة دقائق‪.‬‬
‫قفزات غريبة‪ ،‬وغير مبررة‪ .‬تتحرك معه قيمة حسابي صعوداً وهبوطاً‪ .‬أحس بدوران الروليت‪ ،‬وال أعرف على أي لون‬
‫ستستقر‪.‬‬

‫أغلق الحاسوب‪ ،‬وأذهب لهند‪ ،‬ألتمس عندها الحضن والدفء والمواساة‪.‬‬

‫الساعة الحادية عشرة والنصف‪ ،‬تأتيني رسالة واتس أب‪ ،‬أفتحها متلهفاً‪ .‬من جيسي‬

‫“مبروك عليك العشرة آالف دوالر‪ ،‬ألقاك على خير يوم كذا‪ .‬اسحب رأس مالك بالكامل اآلن‪ ،‬واترك فقط األرباح‪ .‬توقع مني‬
‫رسالة األسبوع القادم‪ .‬ال تنفذ أي عمليات أخرى حتى تأتيك مني التعليمات‪”.‬‬

‫تنفست الصعداء‪ .‬رحت أقبل هند كالمجنون‪.‬‬


‫قمت من صباحي نشطاً‪ ،‬وأيقظت العائلة واحداً وراء اآلخر‪.‬‬

‫‪ -‬البسوا يا كسالى‪ ،‬ياال‪ ،‬هنطلع نفطر بره‪.‬‬

‫واصطحبتهم في رحلة عفوية إلى اإلسماعيلية‪ .‬ساعة بالسيارة‪ ،‬والكل شبه نيام‪ .‬وصلنا إلى قرية من القرى السياحية المنتشرة‬
‫على طريق البالجات‪ .‬الجوي شتوي مشمس جميل‪ ،‬ومعظم الشاليهات شبه خاوية في هذا الوقت من العام‪ .‬حجزنا شاليهاً على‬
‫بحيرة التمساح مباشرة‪.‬‬

‫دخلنا المطعم في الثامنة صباحاً وأخذنا نتناول طعام اإلفطار‪ .‬هند تنظر لي مبتسمة‪ ،‬وآثار النوم على عينيها‪ ،‬وآثار الليلة‬
‫الماضية تبدو على عنقها‪.‬‬

‫‪ -‬أنت متأكد انك عبس؟‬


‫‪ -‬مالك يا هند؟ طبعاً عبس‬

‫‪ -‬ال انت أكيد غيرك ال ‪( aliens‬زوار الفضاء)‪.‬‬

‫‪ -‬لألحسن واال لألوحش؟‬

‫‪ -‬لألحسن طبعاً خلي لهم عبس القديم‪ ،‬أنا عاجبني عبس الجديد المتجدد ده‪.‬‬

‫بدلنا مالبسنا‪ ،‬وذهبنا على الشاطئ الخاص للفندق‪.‬‬

‫أصرت فاطمة على ارتداء المايوه‪ ،‬و اندفعت نحو المياه الباردة وهي تصرخ من فرط برودتها‪ .‬انطلقت وراءها‪ .‬قاسم يصرخ‬
‫بكلمات غير مفهومة‪ ،‬فتحمله حنان إلى طرف الشاطئ وتغمس قدميه الصغيرتين في ماء البحر البارد‪ ،‬فيرفعهم من فوره‪،‬‬
‫يضحك ‪ ،‬ثم يعود لغمسهم في الماء‪.‬‬
‫أندفع خلف فاطمة‪ ،‬وأرشها بالماء‪ ،‬فترشني‪ ،‬وتضحك‪ .‬تشمر هند من بنطالها حتى الركبة‪ ،‬وتمشي في المياه تتابعنا‪ .‬ثم تذهب‪،‬‬
‫وتشتري كرة ماء من الفندق ( بعشرين ضعف سعرها األصلي) ونتقاذفها‪ .‬من آن آلخر يصرخ قاسم فنقذفها له‪.‬‬

‫نعتاد على برودة المياه‪ ،‬أو تسخنها شمس الشتاء الدافئة‪ ،‬ال أدري أيهما يحدث أوالً‪ ،‬وبعد حوالي الساعة‪ ،‬جميع أفراد العائلة‬
‫بطريقة أو بأخرى داخل المياه‪.‬‬

‫في الواحدة ظهراً‪ ،‬نرتدي مالبسنا‪ ،‬ونذهب لتناول وجبة الغداء في أحد مطاعم السمك على طريق البالجات‪ .‬يتناول قاسم أول‬
‫قطعة سمك في حياته‪.‬‬
‫نتمشى في شارع مصر‪ ،‬ونشترى بعض ألعاب األطفال‪ .‬نجلس على بضعة كراسي بجوار عربة إلعداد أم الخلول‪ ،3‬والتي‬
‫يقدمونها مع شوربة وليمون‪ .‬أول مرة في حياتي أتناولها‪ .‬لذيذة‪.‬‬

‫مع مغيب الشمس‪ ،‬نبدأ رحلتنا نحو العاصمة المصطخبة‪.‬‬

‫الفصل التاسع والعشرون‬


‫أستيقظ من نومي نشطاً بالرغم من قلة الوقت الذي نمته‪ .‬أنهض‪ ،‬أصلي‪ ،‬وأؤدي طقوسي الصباحية‪ .‬تقوم هند ونتشارك الحمام‪.‬‬
‫أقول لها‪ ،‬سأوصل فاطمة اليوم‪.‬‬

‫‪ -‬لماذا‬

‫قواقع بحرية‬ ‫‪3‬‬


‫‪ -‬أبداً سأوصلها اليوم‬

‫وأنتظر الصغيرة حتى ترتدي مالبسها‪ ،‬و آخذ حقيبتها المدرسية‪ ،‬ونذهب سوياً للسيارة‪ .‬تركب في المقعد الخلفي‪ ،‬بجوارها‬
‫حقيبتها الثقيلة‪ ،‬وآثار النوم ما زالت في عينيها‪.‬‬

‫أطلب منها أن تغني لي‪ ،‬فتبدأ بترديد أغنية من أغاني المدرسة‪ ،‬وهي فخورة‪ .‬يتطاير النوم من عينيها‪ ،‬وتنطلق تحدثني عن‬
‫مدرساتها‪ ،‬ومن منهم تحبها أكثر من األخرى‪ ،‬وتنقلني مباشرة إلى عالمها الصغير الجميل‪.‬‬

‫ثم تشرع في الحديث عن الديناصورات‪ ،‬ديناصورها المفضل هو كيرتوسوراس‪ ،‬النه نباتي‪ ،‬غير مؤذ‪ ،‬ولكنها تصارحني‪ ،‬في‬
‫شبه اعتراف‪ ،‬أن ال تي ركس هو أحلى ديناصور‪ .‬تقلد أصوات الديناصورات المختلفة ثم تقول لي‬

‫‪ -‬هل تعرف يا بابا أن الديناصورات قد انقرضت؟‬


‫‪ -‬نعم‬

‫‪ -‬أتعرف لم انقرضت؟‬

‫لم أعرف كيف أجيبها‪ ،‬فاجابتني مفتخرة‪:‬‬

‫‪ -‬لقد انخفضت درجة حرارة الكرة األرضية‪ ،‬حتى صارت صعبة على الديناصورات المعيشة بها‪ ،‬وجاء العصر الجليدي‪،‬‬
‫وتغطت األرض بالثلج‪ ،‬وانقرضت الديناصورات‪.‬‬

‫‪ -‬من أين عرفت كل هذه المعلومات؟‬

‫‪ -‬من اليوتيوب‬
‫تذكرت االيباد الخاص بها‪ ،‬والذي ال يفارقها صباحاً ومساء‪.‬‬

‫وصلنا المدرسة‪ .‬أوقفت السيارة‪ ،‬ونزلت معها واصطحبتها حتى باب المدرسة‪ .‬المدرسة التي دخلتها مرة واحدة في حياتي‪ ،‬عند‬
‫تسجيل البنت للدخول أول مرة‪.‬‬

‫أوصلتها لباب المدرسة وقفلت راجعاً‪ .‬أخذت طريقاً جديداً للدوام‪ ،‬وأخذت أفكر في أمور البورصة‪ ،‬والمركز السابق وتعليمات‬
‫جيسي‪ .‬قررت أن أتبع تعليماته بدقة‪ ،‬ألنه مطلع على حسابي‪ ،‬وسيعرف ما أفعله بالضبط‪ .‬يبدو أن جيسي هذا يعمل كصانع‬
‫سوق للسهم هذا‪ ،‬إلنه تحكم في سعر اإلقفال‪ ،‬وأغلق السهم ليلتها على سعر أقل من ثالثين دوالراً‪ ،‬وبالتالي حققت العشرة آالف‬
‫دوالر‪.‬‬
‫أخذت أفكر فيما حدث في الشركة األسبوع الماضي‪ .‬ضحكت عند تذكري للمناورة التي قمت بها لجعل كريم ينهار ويعترف‪.‬‬
‫كذبت؟ نعم كذبت‪ .‬أعرف جيدا أن قانون من أين لك هذا ال ينطبق إال على الموظفين في وظائف عمومية‪ ،‬ولكن ماذا كنت‬
‫سأفعل؟‬

‫أخذت أراجع المبالغ التي حققها كريم وخالد من مبيعاتهم وعموالتهم ‪...‬أحسست بحقد يعتمل في داخلي‪ .‬كان كريم يحقق ضعف‬
‫ما أحققه من دخل شهري‪ ،‬وخالد يحقق أربعة أضعاف ما أحققه‪.‬‬

‫وحولت كامل المبلغ الموجود في حسابي البورصة إلى حسابي البنكي‪،‬‬


‫ما إن دخلت المكتب‪ ،‬حتى دخلت على موقع البورصة‪ّ ،‬‬
‫تاركاً عشرة آالف دوالر‪ .‬اآلن رسمياً ألعب بفلوسهم‪.‬‬
‫الفصل الثالثون‬
‫جاءتني الرسالة الخامسة وكانت بها تعليمات لعملية معقدة أخرى‪ ،‬وبها تعليمات في آخرها‪:‬‬

‫“ لقد حققت معي الربح‪ ،‬واآلن أنت تعي تماما أنني أتحكم في البورصة‪ ،‬وليست البورصة من تتحكم بي‪ .‬بعد أن تنفذ العملية‬
‫القادمة‪ ،‬أطلب منك أن تحول لي نصف األرباح‪ ،‬وهي عشرون ألف دوالر على الحساب رقم كذا على بنك كذا بحوالة ويسترن‬
‫يونيون‪ .‬أنا أتوسم فيك األمانة وأعرف أنك ستحول المبلغ‪ ،‬ولكن إذا تحكم بك شيطانك‪ ،‬وأحجمت عن تحويل نصيبي من‬
‫األرباح‪ ،‬فسامحني‪ ،‬لن أتصل بك بعد اآلن"‬
‫أخذت أقرأ الرسالة مراراً‪ ،‬وأفكر كثيراً‪ .‬العملية المطلوب تنفيذها تبدو خطرة جداً‪ .‬مقامرة بكل المبلغ الموجود بالحساب في‬
‫مقابل أربعين ألف دوالراً‪ .‬عشرون ألفاً له‪ ،‬وعشرون ألفاً لي‪ .‬إذا أضفنا المبلغ الموجود بالحساب‪ ،‬فبعد العملية‪ ،‬يكون لدي‬
‫ثالثون ألف دوالر‪ .‬ليس سيئاً‪ ،‬وإ ذا خسرت‪ ،‬سأكون قد خسرت األرباح التي حققتها‪ .‬ال بأس‪.‬‬

‫دخل علي مدير الشؤون القانونية الجديد‪ ،‬األستاذ سمير‪ .‬قمت مرحباً ماداً يدي‪.‬‬

‫‪ -‬تفضل يا أستاذ سمير‬

‫جلس سمير‪ ،‬و عدل من رباط عنقه‪ ،‬وقال لي‪:‬‬

‫‪ -‬أرسلت تعميماً بالئحة العموالت الجديدة‪.‬‬

‫‪ -‬هايل‬
‫‪ -‬وأتممنا التحقيق‪ .‬التزم السيد ‪ /‬كريم بتوريد مليون جنيه للشركة‪ ،‬مع إخالء طرفه‪ .‬يطلب مهلة أسبوع ليبيع بعض األصول‪.‬‬

‫‪ -‬تمام‬

‫‪ -‬والتزم السيد‪ /‬خالد بتوريد أربعة ماليين جنيه مقابل إخالء طرفه وإ عفائه من المسائلة القانونية‪ ،‬وسيودع الشيك المصدق‪ ،‬حال‬
‫توقيع إخالء طرفه‪.‬‬

‫‪ -‬ممتاز‬

‫‪ -‬واألستاذ كمال مدير الشئون القانونية‪ ،‬قال أنه يريد تقسيط المبلغ على سنتين‪.‬‬

‫‪ -‬تقسيط؟ أيظن أنه سيعمل من جديد هنا؟‬


‫‪ -‬هو طلع لفريد بك‪ ،‬واستعطفه‪ ،‬فقرر فريد بك نقله لشركة المقاوالت‪.‬‬

‫‪ -‬مش مهم‪ ،‬المهم ما أشوفش وشه تاني‪.‬‬

‫شكرته‪ ،‬ولما خرج‪ ،‬أخرجت ورقة بيضاء وشرعت أخط استقالتي‪.‬‬


‫الفصل الواحد والثالثون‬
‫استدعاني فريد بك‪ ،‬فقمت من فوري إلى مكتبه‬

‫‪ -‬خير يا أستاذ عباس‪ ،‬ايه اللي أنا شايفه ده‪.‬‬

‫‪ -‬أنا دوري انتهى هنا في الشركة يا فريد بك‬

‫‪ -‬إنتهى؟ ده لسه بيبدأ‬

‫‪ -‬يا فريد بك‪ ،‬أنا قررت أبدأ عمل خاص‪.‬‬


‫‪ -‬كالم فاضي‪ .‬أوالً لو تركت الشركة اآلن‪ ،‬في نفس الوقت الذي يترك فيه هؤالء اللصوص‪ ،‬سيقترن اسمك بهم وفضائحهم‪،‬‬
‫وال أريد لك ذلك‪ ،‬ثانياً‪ ،‬انت لك عندي مكافأة كويسة‪.‬‬

‫‪ -‬أشكرك يا فريد بك‪ ،‬لكني لم أكن أفعل ذلك من أجل المكافأة‪.‬‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬عفواً هي ليست مكافأة‪ ،‬هي حق اكتسبته‪ ،‬بسبب تفانيك في العمل‪ .‬سأزيد راتبك لثالثة أضعافه اآلن‪ ،‬وسنرى أداؤك في‬
‫نهاية العام‪ .‬سأضعك على كشف الحوافز مع إدارة الشركة‪ .‬أعتقد أن هذا العام سيكون جيداً للشركة‪.‬‬

‫وحزين في آن واحد‪ .‬فرح ألنني تحصلت على زيادة شهرية تأتي في وقت احتاجه‪ ،‬حزين‬
‫ٌ‬ ‫ومهموم‬
‫ٌ‬ ‫فرح‬
‫شكرته‪ ،‬وتركته‪ ،‬وأنا ٌ‬
‫ألنهم لم يقدروني من قبل‪ .‬مهموم للمسؤولية التي تقع على عاتقي‪.‬‬
‫الفصل الثاني والثالثون‬
‫مرت ثمانية أشهر على رسالة جيسي‪ ،‬تضاعفت األرباح من عمليات خطرة‪ ،‬ناجحة‪ ،‬واحدة تلو األخرى‪ ،‬حتى صار حسابي مائة‬
‫وخمسون ألف دوالر‪ .‬صرت أكثر ثقة في تعليماته‪.‬‬

‫زيادة الراتب ساعدتني أن أوسع على أهلي في اإلنفاق‪ .‬تحسنت عالقتي بهند كثيراً حتى جاءتني الرسالة من جيسي‪:‬‬

‫فتحت الرسالة بيد مرتعشة‪ ،‬وأخذت أقرأها‪ ،‬وعين عليها‪ ،‬وعين أخرى على شاشة الحاسوب‪ ،‬أتابع الرسم البياني‪.‬‬

‫صديقي العزيز عبس‪.‬‬


‫لقد حققت بسببي الكثير من األرباح حتى اآلن‪ ،‬و قد حققت معك الكثير من األرباح كذلك‪ .‬أحب أن أعترف لك بسر‪ .‬أنا ال‬
‫أعمل بالبورصة‪ ،‬وال حتى أفقه شيء فيها‪ .‬أنا مجرد مهندس تصميم مواقع ليس إال‪ .‬لقد أعطيتني فرصة عمري‪ ،‬وأحب أن‬
‫أشكرك عليها‪ .‬باإلضافة إلى تعريفي على شريكة عمري‪ ،‬فأحب أن أشكرك على الفرصة الذهبية التي أتحتها لي بسبب البورصة‬
‫وولعك بها‪.‬‬

‫أكتب لك هذه الرسالة من الطائرة مع زوجتي كريمة‪ ،‬لقضاء شهر العسل‪ ،‬ال تحاول الوصول إلى‪ ،‬فأنا كما تعرف‪ ،‬خبير في‬
‫إخفاء آثاري‪ .‬هذه هي آخر رسالة ستصلك مني‪ ،‬ومن اآلن فصاعداً أنت مسؤول عن نفسك ومضارباتك‪ .‬إذا قررت االكتفاء فهذا‬
‫أفضل‪.‬‬
‫أتذكر عندما قلت لي أن نظرية االحتماالت تجعلك تربح في خمسين بالمائة من العمليات‪ ،‬و تخسر في خمسين بالمائة من‬
‫العمليات‪ ،‬ولكن في الواقع‪ ،‬يخسر تسعون بالمائة من المضاربين بالبورصة ويربح فقط عشرة بالمائة؟ لقد استنبطت أنا الطريقة‬
‫المثلى للمضاربة بالبورصة بنسبة مائة بالمائة وباحتمال خسارة صفر بالمائة‪ ،‬وهذا كما رأيت أنت بأم عينك‪ .‬أتريد أن تعرف‬
‫كيف؟ سأقول لك‪ ،‬ولكن عدني أال تفعلها‪ ،‬وأال تحقد علي‪.‬‬

‫إذا ربحت العملية األخيرة‪ ،‬فحالل عليك المكسب‪ ،‬ال تحول إلى شيء من األرباح‪ ،‬وإ ذا خسرت العملية‪ ،‬فعلى األقل رأس مالك‬
‫كما هو‪ ،‬ولم تخسر شيئاً‪ ،‬فال تحزن‪ .‬أنصحك أن تسحب أموالك من البورصة‪ ،‬وتتوب عن المضاربة لألبد‪.‬‬

‫سأقول لك اآلن كيف استطعت أن أحقق الربح في مائة بالمائة من الحاالت‪.‬‬


‫أنت تعرف أنني مصمم مواقع‪ ،‬وهذا أتاح لي الدخول على قواعد بيانات مواقع عدة‪ .‬مواقع لشركات كثيرة منها أهم موقعين‪،‬‬
‫موقع أخبار البورصة‪ ،‬وموقع حظك اليوم الذي سجلت أنت فيهما‪ .‬وبالتالي كان لدي قاعدة بيانات المسجلين في الموقعين‪ ،‬وفيها‬
‫أرقام هواتف المسجلين‪ ،‬وعناوينهم وأسمائهم‪ ،‬وبريدهم اإللكتروني‪ .‬أتذكر جلستنا عند فرحات عندما شرحت لي البورصة‬
‫األمريكية؟ لقد استفدت كثيراً من هذا اللقاء‪ .‬أخذت أفكر في طريقة مناسبة كي أستفيد من ذلك‪ .‬تفحصت قاعدة البيانات بإمعان‪.‬‬
‫لدي اسم المستخدم وكلمة المرور والبريد اإللكتروني‪ .‬واألهم من هذا‪ ،‬أنها قاعدة بيانات لمغفلين يحلمون بالثراء السريع السهل‪،‬‬
‫دون بذل أي مجهود‪ ،‬وكذا يؤمنون بالخرافات‪.‬‬

‫طورت برنامج بسيط يجرب كلمة المرور نفسها على البريد اإللكتروني فمعظم الناس يستخدمون نفس كلمة المرور ألكثر من‬
‫موقع‪ ،‬ومن هنا صارت عندي الرؤية الكاملة‪ .‬أعرف عنهم كل شيء‪ ،‬وصدقني‪ ،‬من البريد اإللكتروني‪ ،‬يمكنك استنباط الكثير‬
‫عن الشخص الذي تستهدفه‪.‬‬
‫أخذت مع كريمة نناقش كيف نستفيد من ذلك‪ ،‬وكريمة محللة نفسية ممتازة‪ .‬وجدنا أخيراً الطريقة المثلى للخطة الجهنمية ‪.‬‬
‫اخترت من قاعدة البيانات خمسمائة وإ ثني عشر شخصاً موزعين على مناطق مختلفة جغرافية في العالم العربي‪ .‬خمسمائة واثنا‬
‫وعشر مضاربا بالبورصة األمريكية‪ ،‬يتابعون أخبارها‪ ،‬وقد تأكدت من ذلك من بريدهم اإللكتروني‪ ،‬فشركات السمسرة ترسل‬
‫رسالة إلكترونية تأكيدية عند إتمام كل عملية‪.‬‬

‫ولكي أحبك العملية تماما‪ ،‬أغير حظك اليوم لهم في اإلشعارات البريدية‪ ،‬بأن الظروف مواتية لهم لمكسب جيد‪.‬‬

‫وهنا بدأت العملية الكبرى‪ .‬بدأت في إرسال رسالة واتساب من هاتف مسجل برقم وهمي في أمريكا‪ ،‬ال يمكن تتبعه‪ .‬أرسل‬
‫لنصفهم بأن السهم سيرتفع‪ ،‬والنصف اآلخر بأن السهم سيهبط‪ .‬مع نصفهم سأكون صادقاً‪.‬‬
‫بدأت العملية بدون طلب أية مطالب منهم إلثبات حسن النية‪ .‬صدقت مع نصفهم‪ ،‬أسقطت النصف اآلخر‪ ،‬وهكذا حتى وصلت‬
‫إلى الرقم مائتين وست وخمسين‪ .‬وهنا بدأت طلب مقابل لخدماتي نصف األرباح‪ .‬عند رقم مائتين وست وخمسين‪ ،‬صدقت نبؤتي‬
‫في ثالث مرات‪.‬‬

‫أنتظر تحويل األموال منهم‪ ،‬وأنا متأكد أن جشعهم سيجبرهم أن يحولوا نصيبي من األرباح‪ ،‬ليحصلوا على المزيد من األرباح‪.‬‬
‫فما ال تعرفه يا صديقي‪ ،‬أنه بالرغم من أن النفس البشرية يحركها الجشع والخوف‪ ،‬فالجشع أقوى بكثير من الخوف‪.‬‬

‫مستغال جشعهم‪ ،‬استمررت مع المائة والثمان والعشرين الذين صدقت معهم‪ ،‬أسقطت اآلخرين من حسابي‪ .‬زدت المبلغ ألنهم‬
‫جربوني‪ ،‬وآمنوا بي‪ ،‬ثم كررتها مع أربعة وستين‪ ،‬ثم إثنين وثالثين‪ ،‬ثم ستة عشر‪ ،‬ثم ثمانية‪ ،‬وهكذا في متوالية حتى وصلت‬
‫إلى إثنين ‪.‬هنا وصلت لنهاية اللعبة‪ .‬أنت وشخص آخر‪ ،‬كالكما وصلته الرسالة‪ ،‬كالكما نفذ العملية أحدكما سيحظى بالجائزة‬
‫الكبرى‪ ،‬واآلخر سيخسر كل شيء‪.‬‬

‫الحمد هلل معي اآلن ما يقارب المليوني دوالر في حساب سري في سويسرا‪.‬‬

‫إذا ربحت‪ ،‬فاذكرني بالخير‪ ،‬وإ ذا خسرت‪ ،‬اذكرني بالخير أيضاً‬

‫شكراً يا صديقي‪ ،‬وداعاً ‪ ،‬إلى لقاء‪.‬‬

‫وضعت الهاتف النقال بجواري‪ ،‬وأخذت أتصبب عرقاً وأنا أتابع المؤشر المجنون وهو يصعد ويهبط كاألفعوانية المجنونة‪.‬‬
‫تعقيب‬
‫عزيزي القارئ‪،‬‬

‫أرجو أن تكون قد استمتعت بقراءة كتاب "عباس‪ ،‬رحلة عباس في سوق المال"‪.‬‬

‫أحب أن أتوجه بالشكر للسيد‪ /‬جمال الرفاعي على مراجعته اللغوية‪ ،‬والشيخة‪ /‬شيخة الصباح على دعمها لمشروع الكتاب‪ .‬أشكر‬
‫الناشر شركة عين للتكنولوجيا على المساعدة في إصدار الكتاب وإ خراجه في هذه الصورة‪ .‬كما أشكر زوجتي زينب حسن على‬
‫مساعدتها لي في تنقيح الفكرة ومناقشاتها التي طالما أثرت محتوى الكتاب‪.‬‬
‫كانت رحلة شاقة لعباس في سوق المال‪ ،‬تعلم منها الكثير‪ ،‬وأثرت على حياته الشخصية‪ ،‬وحتى شخصيته‪ .‬تساؤالت كثيرة دارت‬
‫في خاطر عباس‪ ،‬ومن حوله‪ ،‬هل البورصة حالل أم حرام؟ هل هي فرصة لالستثمار؟ هل هي طريقة لجني األموال؟ بالتأكيد‬
‫البورصة بها فرص لتحقيق بعض المكاسب‪ ،‬ولكن السؤال األهم‪ ،‬هل البورصة تعود بالنفع العام؟ هل هي مهنة تمتهن؟ بالطبع‪،‬‬
‫توجد بعض االستراتيجيات والوسائل لتحقيق بعض المكاسب من البورصة‪ ،‬ولكن …‪.‬‬

‫هل سوق الخيارات حالل؟ أم حرام؟ الفتاوى الحالية تقول أنه حرام‪ .‬ال أستطيع الجزم ولست مؤهالً للفتوى‪ ،‬ولكن من وجهة‬
‫نظري‪ ،‬الموضوع يحتاج إلى البحث من جوانب عدة‪ .‬من وجهة نظري‪ ،‬سوق الخيارات‪ ،‬إذا أحسن استخدامه‪ ،‬يمكنه أن يكون‬
‫آمن بكثير من سوق األسهم‪ ،‬فمثالً عند الرغبة في شراء سهم ما وهو اآلن عند ثالثين دوالراً‪ ،‬هناك طريقة أربح لشرائه عن‬
‫طريق بيع عربون على سعر ثالثين دوالراً‪ ،‬بذا أكون قد التزمت بشراء السهم على سعر ثالثين دوالر‪ .‬لو بعت العربون على‬
‫دوالرين مثالً‪ ،‬يكون صافي سعر السهم ثمان وعشرين دوالراً‪ ،‬أي بخصم دوالرين عن سعره الحالي‪ .‬أليس ذلك أفضل؟ وإ ذا‬
‫كان قراري خاطئ‪ ،‬وبدالً من أن يرتفع السهم هبط‪ ،‬في هذه الحالة أكون قد حققت مكسباً (قيمة العربون)‪ .‬هل هذا حرام؟ ال‬
‫أعرف‪ ...‬أعتقد كما قلت أن الموضوع يحتاج لبعض البحث‪.‬‬

‫السؤال المهم‪ ،‬هل ربح عباس في عمليته األخيرة أم خسر؟ سنعرف ذلك في الكتاب القادم بإذن اهلل‪ ،‬ولكن‪ ،‬ال يهم إذا كان قد‬
‫ربح أم خسر‪ ،‬فهناك مقابل ربحه‪ ،‬شخص آخر خسر‪.‬‬

‫ككاتب مستقل‪ ،‬أحتاج غلى تعليقك على الكتاب وتقييمك على أمازون‪ .‬دعمك لنا سيساعدنا على االستمرار‪.‬‬

‫إلى اللقاء في الكتاب القادم‪ ...‬عباس على الفيس‪.‬‬

‫شكراً‬

You might also like