Professional Documents
Culture Documents
رحلة عباس في سوق المال
رحلة عباس في سوق المال
رحلة عباس في سوق المال
عباس
رحلة عباس في سوق المال
الفصل األول
أصعد الدرج وأنا ألهث .يجب أن ألحق ماكينة البصمة ،قبل الثامنة والنصف ،والمصعد معطل كعادته .الطابق الثالث ،هانت.
أتمسك بإفريز الدرج ،وأعتمد بيدي عليه .أئن من وزني الثقيل ،الذي ال تستطيع قدماي أن تتحمله.مائة وثالثون من
الكيلوغرامات المتراكمة من سنوات الكسل ،والمحاشي ...فأنا َذ ّواقة أكول .أعمل محاسبا بشركة قطاع خاص بالقاهرة .عملي
يبدأ في الثامنة والنصف صباحاً ورسميا ينتهي في الرابعة والنصف ،ولكن ،غالبا ما أنصرف بعد الثامنة مساءا.
اسمي عباس ،والشهرة ِعْبس .أبي أسما أخي األكبر حمزة تيمنا باسم والده ،فلما ولدت ،قرر أن يسميني عباس ،على اسم عم
علي أقراني بالمدرسة باإلعالن المشهور أيامنا "انت دريت يا ِع ْبس ،ما فيش غير لتر
الرسول (ص) اآلخر .ولطالما تََن ّدر ّ
شويبس ” .أنتمي إلى جمهورية مصر المتوسطة .فمصرنا الحبيبة منقسمة إلى أربع جمهوريات تتشارك في أرض واحدة:
جمهورية مصر الراقية وهي تشتمل على ِعْلية القوم من األغنياء فاحشي الثراء ،أمثال ساويرس ،وغبور ...عائالت تتنعم
بالخيرات وتعيش في مناطق راقية ،لهم مطاعمهم ومسابحهم ،وشوارعهم ،ومناطقهم ،ومصايفهم ،ال يرون من مصر إال مناطق
تكاد أن تخلوا من المارة ،والتلوث .شوارعهم مرصوفة ،نظيفة تزدان باألشجار ،تخلوا من السيارات والمارة ،مؤمنة بمتاريس
وبوابات .مناطقهم الزمالك ،وبعض شوارع مصر الجديدة ،وبعض مناطق التجمع .مدارسهم أميريكية ،وفرنسية تتكلف آالف
الدوالرات بالسنة ،أوالدهم يدرسون بجامعات بالخارج ،يتأهلون ليتولوا رؤوس أموال ذويهم حين يتخرجون ،ال يتحدثون العربية
إال لماما .يقتنون سيارات فارهة ويصطافون في مصايف خاصة ،قليال ما تكون بمصر ،وغالبا ما تكون على الجانب اآلخر من
المتوسط .مالبسهم من أوربا وأمريكا ،أو مفصلة خصيصاً .منهم النباتي باالختيار .خدمهم مستوردون من البالد اآلسيوية.
جمهورية مصر المتوسطة ،والتي أنتمي إليها ،وينتمي إليها معظم العاملين في القطاع الخاص ،وهؤالء يعيشون في شوارع مليئة
بالعمارات والشقق السكنية الكبيرة ،شوارعهم غابة من السيارات ،أوالدهم بمدارس مصرية للغات ،يقتنون سيارات متوسطة،
يتقاضون من الرواتب ما يكفي ليكافحوا على إبقاء ما هم فيه .غالبا ما يعمل الزوج والزوجة ،من الصباح للمساء ،مكافحين
للمحافظة على المستوى الذين يعيشون به ،هاتف نقال متوسط ،سيارة كيا أو هيونداي ،شقة بمنطقة متوسطة ،ومدرسة خاصة
لألوالد .يعيشون من الشهر للشهر ،ويدخرون ما يكفي لتغيير السيارة كل سبع سنوات .مصايفهم بالسخنة ،والساحل .من فترة
ألخرى تمحى مدخراتهم بسبب موجة غالء ،أو تعطل شهر أو شهرين بين الوظائف .مالبسهم من الماركات األوربية واألميركية
المصنعة بمصر.
جمهورية مصر الفقيرة ،وهم كثيرون ،ويعيشون في شوارع خاصة بهم ،حوار وأزقة ،بيوت قديمة متداعية ،يعملون في وظائف
خدمية ،أوالدهم في مدارس حكومية ،يكافحون من أجل لقمة العيش .يست خدمون الميكروباص والتك تك في تنقالتهم ،نباتيون
ثمان وعشرون يوما بالشهر جبرا وقسرا ،مالبسهم من وسط البلد ،جديدهم باألعياد ،ومصايفهم بالمعمورة والشاطبي .غالبا ما
تجد كل أسرة منهم تعول أباً او أما على المعاش .كل موجة غالء تمحي مدخراتهم إن وجدت ،وكل جديد عليهم له "جمعية”.
أما جمهورية مصر المعدمة ،فهم السواد األعظم .يعيشون مكتظين في شقق إيجار قديم ،في أزقة وحوار ال تستطيع الولوج لها،
ال يدخلها الشمس ،وتفتقر لمقاييس الصحة العامة .أوالدهم يذهبون للمدارس حتى المرحلة اإلعدادية ،ثم يتحولون عن الدراسة
وهم بالكاد يستطيعون كتابة أسمائهم ،وقراءة مانشيتات الجرائد .يعيشون من يوم ليوم .أسر منتجة ،أي أن جميع أفراد األسرة
يعملون .يكدحون في وظائف شتى باليومية .يلبسون ثيابا من األسواق القديمة للمالبس المستعملة ،ويخدمون مصر المتوسطة
سواء كخدم منازل ،أو وظائف خدمية لهم مثل حالق ،ميكانيكي وخالفه.
والعجيب في هذه الجمهوريات األربع أنها تعيش في عوالم متوازية قلما تتقاطع وبتناغم عجيب ،مثلها مثل المرور في القاهرة،
بدون إشارات وال عالمات وال خطوط طريق وال التزام "،بالبركة” .تتقاطع الجمهوريات بدافع االحتياج ،ويعتمدون على بعضهم
البعض في شتى المجاالت .ويظل حقد دفين بين الجمهوريات ،يتمثل بين اآلونة واألخرى في تعليق عند مرور شاب ينتمي
للمتوسطة مسرعاً بسيارة قرب أفراد من الكادحة "طبعاً ما هو انت مش تعبان فيها"
أنتمي إلى جمهورية مصر المتوسطة ،أبا عن جد .أبي وأمي رحمهم اهلل كانوا موظفين في ديوان الحكومة الذي يكتظ بماليين
من الموظفين الذين يعملون بكد .تدرجوا في السلم الوظيفي الحكومي للجامعات حتى صاروا بوظائف مرموقة قبل طلوعهم على
المعاش .دعمونا وزوجونا حتى صرنا نعتمد على أنفسنا ،وأسلموا الراية لنا ،حتى نصل إلى أول سلم الحياة الشاق.
أخذت وأخي طريق القطاع الخاص ،وصرنا نكدح بدورنا ،وكمصريين فنحن نأخذ المسار المرسوم مسبقاً للمتوسطة والذي
يؤكد ،بما ال يدع مجاالً للشك ،أن اإلنسان مسير ،ال مخير .مدرسة ،فصراع الثانوية العامة ،بدروسها الخصوصية ،ومعاناتها،
فجامعة ،فتخرج ،فبحث عن عمل بواسطة ،فكدح ،فزواج مدبر ،فذرية ...مسار مرسوم مسبقاً ،مدفوع إليه اإلنسان دفعاً كأنه
منوم تنويما مغناطيسياً .ال تحتاج ألن تسأل عن صديقك فالن ،فقط ،تستعلم في أي مرحلة هو ،فالبعض يتأخر قليالً عن البعض
اآلخر.
أذكر أنني قرأت في كتاب ،أن األميركيين معتادون على أخذ سنة بين الثانوية والجامعة ،كسنة جامحة في رحلة أوربية ،صارت
تقليداً يسمى .Gap Yearأصابتني دهشة ،فكيف يضيع على نفسه سنة كاملة ،ويتأخر عن أقرانه في الدراسة وخالفه .كأن من
يأخذ هذه السنة كعطلة ،ال يعيشها ،ألنه خارج المسار.
تنافسية جمهورية مصر المتوسطة غير عادية ،وال تكاد تصدق .التنافسية في الدراسة قد نفهمها ،والتنافسية في عدد األوالد
متوارثة من العرب ،حسناً ،ولكن التنافسية في األمراض؟ نعم التنافسية في األمراض .إن لم تكن تصدقني ،أدعوك أن تسترق
السمع لسيدتين من الجمهورية المتوسطة في منتصف العمر أثناء حديث ،هاتفياً كان أم مباشرا ،واستمع اليهم وهم يتباهون بآالم
الروماتيزم ،والمفاصل ،وعرق النسا.
وبعد هذه المقدمة ،ال أحتاج أن أقول لك أنني متزوج ،ولدي طفالن ،فأعتقد أنك استنتجت ذلك اآلن .هل أحتاج أن أخبرك حتى
كيف تزوجت؟ ألم تفهم بعد؟ تزوجت زواجاً مدبراً كالعادة؟ ....ال ،حاشا وكال ...لم يكن زواجاً مدبراً من األهل ،كان زواجاً
مدبراً من الزوجة طبعاً ،فالمصريات بارعات في اصطياد الزوج المناسب ،واستدراجه حتى عتبة المنزل.
كأي فيلم عربي ،أمي تقول لي" ،نفسي أفرح بعيالك قبل ما أموت" وهي الكلمة الشهيرة التي تستكمل مسار التسيير المصري
للجمهورية المصرية المتوسطة ،وعندما تخرجت في كلية التجارة ،أصبحت أمي ضيفاً على الكثير من المنازل ،يكشفون عن
بضاعتهم من البنات المناسبات في سن الزواج .وأمي لديها شابان ،وليس واحد ،حمزة ،وعباس ،وبالتالي ،تحظى بضعف
الحفاوة .فالسيدات المصريات يستمتعن بترتيب الزيجات الوهمية ،وتوفيق الرؤوس في الحالل .كنت دائما ما أقول ألمي " أريدها
محجبة خفيفة الظل ،سهلة الحمل ،سمراء البشرة ،وكنت أضيف من عندي دعابة ،أعتقد أن أمي لم تفهمها ساعتها على أنها
دعابة ،وكنت أقول لها كالتالي " أريدها محجبة خفيفة الظل ،خفيفة الوزن ،خمرية البشرة ،عظيمة المؤخرة" فكانت أمي المسكينة
تذهب لتتفحص المرشحات ،وتبحث عن المؤخرة البارزة ،وتوقفت عن ذلك عندما سمعتها تسأل قريبة لنا كانت مسافرة في دولة
خليجية ،وعادت لمصر ،كي تزوج بناتها " إال قولي لي يا سعاد ،هي بنتك سمر عندها … ؟ "
بالطبع لم أتزوج عن طريق أمي ،فأنا من جيل السبعينات ،المستقل المتعلم ،لن أتزوج زواجا مرتبا عن طريق األم ،بل سأتزوج
عن طريق الحفر والردم .الحفر والردم هي سياسة إستراتيجية تتبعها بنات جيلي ،تحفر لك الفخ أوالً ،فهي تستعلم عن فريستها
حتى تتأكد أنها الفريسة المناسبة ،فتبدأ عملية التقصي
وعملية التقصي عملية معقدة للغاية .فيجب أن تتقصى عن المرشح من حيث الدخل ،واألهل ،والسيارة ،والكلية " نعم الكلية
فبعض الكليات محرم على اآلخر ،فمثالً محرم على الطبيبة أن تتزوج من أي كلية أخرى عدا الطب والهندسة ،أما الصيدلة،
فمكروه .وترتيب الكليات مثل ترتيبها في تنسيق الدولة للثانوية العامة .الطب للطب أو الهندسة (كليات قمة) كليات المرحلة
الثانية للتنسيق لها بعضها ،فالحقوق لها أن تتزوج أي كلية إلنها مرحلة تنسيق ثالثة ،التجارة يصعب عليها زواج حقوق إال إن
كان وكيل نيابة ،وهكذا.
ثم تبدأ في عملية الحفر ،ابتسامة من بعيد ،إظهار بعض المفاتن كأن ترتدي فستانا مفتوحا وتنحني قليال لتعطيك عرضاً مسبقاً لما
ستحصل عليه لو أبرمت صفقة الزواج ،أو أن تضع ساقاً على ساق ،وهي غير منتبهة لوجودك في مستوى يسمح لك برؤية ما
لم يكن مسموحاً لك برؤيته ،أو ضحكة ناعمة رنانة ،على كالم إحدى الزميالت .ثم تطبق قاعدة الخمس ثوان أو كما أحب أن
تدوق" ،بعد خمس ثوان بالتمام والكمال ،تنتبه شريفة روما إلى ما ظهر منها "عن غير قصد" وتنظر لك نظرة
أسميها " َش ّوق وال ّ
محسوبة بين اللوم والدالل .لوم على أنك نظرت إلى مفاتنها التي ال يحق لك أن تراها وكانها تقول " انت ما عندكشي إخوات
بنات" ونظرة دالل ،كإنها تقول يوجد لدي المزيد أو ".”There is more from where that came from
وبعد أن تسترعي انتباهك ،تبدأ في ترتيب اللقاء العفوي ،في إطار الزمالء ،وتسمح لك بأن تختلي بها بما ال يتعدى الخمس دقائق
فهي مهذبة ،بنت ناس ،من عائلة ،وتمهد للدلو أن ينكب على أم رأسه ،فيطلب خروجه في مكان عام ،كازينو ،مقهىٍ ،
ناد ،أو ما
شابه .طبعا ستقول لك أنها خرجت دون علم ذويها ،ولكن صدقني ،خالتها التي تعيش في أمريكا تعرف عن مقاس حذائك .ثم
تتبادل معك أرقام الهواتف.
تبدأ في المكالمات الليلية التي تطول بالساعات وال تخلوا من الهمسات والتنهدات وتنقطع فجأة عند دخول أمها (طبعاً ألن أمها ال
تعرف شيئاً عما يجري بينكما) ،وعندما تتوطد العالقة تبدأ مرحلة الردم.
تتصل عليك لتقول شيئا من ثالثة ال رابع لهما “ :رآني صديق أخي وأنا معك ،وال أستطيع لقائك"( وطبعا يجب أن يكون صديق
أخيها ،ألنه لو كان أخوها ،لكان أماتها ضرباً) أو "ال أقدر على االستمرار في هذه العالقة السرية إلنها حرام" (طبعاً إلنها متدينة
وتصلي وتعرف ربنا،أ نت أيها الشيطان من تغويها) أو ،وهذا الخيار ال يستخدم إال بحرص ،وبعد التأكد من أن الفريسة قد
الب ُر ْمبة.
استسلمت للصياد" ،تقدم فالن الفالني إبن عمي ،وأبي سيقابله اليوم ".تان تان تان .يجب أن تتحرك يا سبع ُ
وذهبت لمقابلة األهل المقابلة التمهيدية ،مع أمي لل "تعارف" (قال يعني ما
ُ الخية ،وانسكب الدلو،
وطبعاً سبع البرمبة وقع في ّ
بيعرفوني) ويقابلونا بحفاوة وترحاب ،ودهشة ،من أين نعرف المصونة صاحبة الصون و العفاف ،ثم يقول األب بتواضع شديد،
"إحنا بنشتري راجل ،وكل اللي يهمني ان بنتي تبقى مع رجل يصونها" ثم يسن السكين ،ويخرج قائمة الطلبات المعدة مسبقا ،من
شقة ،ومهر ،وأجهزة وخالفه ،وطبعاً كل هذا ألن الجوهرة المكنونة ليست بأقل من ابنة خالتها ...وتبدأ جولة المفاوضات بين
األبوين حتى تستقر البيعة ،وتقرأ الفاتحة.
وتبدأ رحلة الخطوبة التي تستمر بين العام والعامين .كل اللقاءات تكون محصورة في تحضيرات عش الزوجية ،والخروجات
بالكامل بصحبة مرافق " عيب الناس تقول ايه" ولكن كلما تململت الفريسة من براثن الصياد ،يفك عنها الحبل قليال بلمسة يد ،أو
قبلة خاطفة في المصعد ...آه يا لها من أيام.
أذكر يوم الزفاف ،قالوا لي اذهب الصطحاب خطيبتك من عند مصفف الشعر حتى تحضرا سويا للفندق .ذهبت مع صديق لي
يقود السيارة ،وأنا (على ِس ْنجة عشرة )1ثم دلفت داخل المحل المخصص للسيدات ،فخطيبتي محجبة ،وتذهب لصالون محجبات
بالطبع .دلفت داخل المحل ،فوجدت سيدة تجلس على كرسي المصفف ،فخرجت مرة أخرى حتى نادتني ،وفوجئت بأن من كانت
تجلس هي زوجتي ،التي لم أميزها بالمكياج وبدون حجاب.
أخيرا وصلت الطابق المنشود .ألهث وأتصبب عرقاً ،أمسح إصبعي كي تستطيع تمييزه تلك الماكينة الغبية ،ثم أدلف إلى مكتبي.
يسرع من خلفي عامل البوفيه ويضع القهوة التركية السادة على المكتب .كوب كبير من القهوة التركية من "بن العقيد" الذي
يحوجه لي تحويجة مخصوصة .أشم رائحة القهوة تداعب أنفي المشتاق .أجلس على مكتبي الكبير المزدحم باألوراق والملفات،
وال أرى شيئاً سوى فنجان القهوة .من ساعة استيقاظي وحتى شربي فنجان القهوة ،وأنا على نظام الطيار اآللي أو Autopilotال
أفقه شيئا مما يحدث حولي .قرابة الساعة والنصف وكل ردود أفعالي تلقائية مبرمجة مسبقاً ،حتى اإلشارات النابية التي أعطيها
للسائقين من حولي .تخطيتني ،تأخذ األوسط ،كسرت على ...بصقة وهمية ،أما القبضة الكاملة ،فأختزنها لمن يحتك بالسيارة
جانبياً.
مرؤوسيي يعرفون مزاجي قبل كوب القهوة الصباحي ،فال يقربوني حتى أفرغ منه.
أحتضن الكوب بيدي ،ثم أقربه من أنفي واشتم عبق البن المحوج الذي يندفع إلى أم رأسي وأصاب بالتنميل اللذيذ الذي يصاحب
إلي الوعي تدريجياً.
الرائحة العبقة ،وأرتشف رشفة مع نفس من سيجارتي على مهل .تتفتح األنوار تدريجياً في الغرفة ،ويعود ّ
الفصل الثاني
بابي الزجاجي مغلق ،وأتابع طقوسي اليومية الصباحية .القهوة والسيجارة مع قراءة أخبار العالم من موقعي البي بي سي و ال
سي ان ان .أطالع حظك اليوم من موقع األبراج الشهير ،ثم أقرأ بريدي الخاص .تتحرك أمعائي ،فأذهب إلى حمامي الخاص،
وأستخرج هاتفي المحمول .أبدأ اللعبة الوحيدة التي أجيدها...الطاولة ،ونوع محدد من الطاولة ...العادة .عشرة الطاولة هذه تحدد
لي مسار اليوم ،فقد الحظت تناسباً طردياً عجيباً بين لعبة الطاولة ،وحظي في ذات اليوم .كلما فزت بفارق نقاط عال ،كان حظي
وافراً في ذلك اليوم ،وإ ذا خسرت بفارق كبير ،يكون يومي زفتاً وقطراناً.
نصف ساعة ،هي كل ما لدي قبل أن يهجم على الموظفون بضوضائهم ومشاكلهم اليومية التي ال تنتهي .فواتير و مشاكل
تحصيل ،واجتماعات فارغة من أي مضمون.
بعد الطقوس الصباحية المعتادة ،توافد على الموظفون بمشاكلهم اليومية المعتادة .أرد بغير اكتراث .معظم عملي هو ردود أفعال
لما يحدث:
عميل لم يدفع ،تحويل الملف على الشئون القانونية ،عملية جديدة تعني زيارة للبنك لتدبير التمويل .اقتربت نهاية الشهر تعني
إعداد الرواتب ،نهاية العام الضرائب والميزانية ...ردود أفعال ألحداث تحدث من حولي ،كأني حارس مرمى أصد الكرات
الملقاة في اتجاهي ...عملي كله ردود أفعال واتقاء مشاكل ،دون أي مبادرة .أحضر في اليوم من ثالث إلى أربع اجتماعات
مطولة ،ال أفهم من معظم ما يقال فيها شيئاً .معظمه كالم فني عن السعة ،وإ يجار القنوات ،فالشركة التي أعمل بها تشتري سعة
من األقمار الصناعية ،وتبيعها للقنوات التليفزيونية الخاصة ،وكسعة انترنت .أحضر تلك االجتماعات ألن المدير المالي يجب أن
يحضر .ينظر إلى مديرو الشركة على أنني المسؤول عن توفير كافة األموال لهم .معظم عمالئهم يتخلفون عن السداد ،ويجب
على أن أوفر األموال من أجل استمرار الشركة في العمل .قروض ،واعتمادات ،وجري وراء التحصيل ،وتقليل النفقات،
واستغناء عن خدمات بعض الموظفين من آن آلخر .أعمالهم القذرة.
ال أخفيك أنه من كان في وظيفتي ،لديه من الفرص أن يحصل من األموال على ما يريد ،فقط إذا غض الطرف ،أو سار في هذا
المسار .لكن أبي ،يا له من أب .علمنا عدم الكذب والنزاهة سامحه اهلل .بدأت يومي بتحقيق في مشكلة إعدام بعض الديون ،أو
كما نسميها ،إطفاء خسائر.
دخل على المحاسب ،و مدير المبيعات ،والبائع المسؤول ،ومدير الشئون القانونية وجلسنا على طاولة االجتماعات الصغيرة على
مكتبي .مليونين من الجنيهات المستحقة لشركتنا سنودعها اليوم .عميل بالعراق ،اشترى سعة مدة عام ،بمبلغ مائة ألف دوالر،
دفع منهم عشرين ،وماطل حتى شارف العام على االنتهاء .فصل خدمة القناة لن يقدم أو يؤخر اآلن.
بعد تبادل التحيات وتناول المشروبات فتحت الملف ،وأنا أعرف جيداً ما فيه.
أسأله السؤال الذي أعرف إجابته الحتمية فهذا موضوع مكرر ،يحدث مع إثنين بالمائة من عمالء الشركة سنوياً
-كم من الوقت؟
-حوالي أربع سنوات حتى نحصل على جلسة ،إذا تمكننا من إعالنه.
نظرت للبائع ،وأخذت أوبخه على توقيعه العقد ،دون أخذه الضمانات الكافية ،وهددته بالفصل ،وعاقبته بخصم من عموالته ،وأنا
كلي ثقة ،أن هذا البائع غير أمين ،ومشارك لهذا العميل الوهمي في هذه السرقة.
يسرقون األموال أمامي ،وال أستطيع فعل شيء .يخترعون عميالً وهمياً باالشتراك مع أحد المواطنين هناك .يقدم أوراق شركة
وهمية ،ويدفع الدفعة المقدمة ،ويقدم الضمانات الكافية ،ثم يغير بياناته .يعيدون بيع السعة ،وعندما نتنبه لتأخر المدفوعات ،يكون
كل شيء قد انتهى .البائع يريدني اآلن أن أرفته ،حتى يحصل على مستحقاته كاملة .لعبة قذرة أراها تحدث أمام عيني كل فترة،
وال أستطيع منعها .يمكنني أن ألعبها ولكنها حرام.
نظرت اليهم ،وشردت ...أخاف من الحرام ،ألني رأيت ما يفعل الحرام بالناس .المدير المالي السابق كان يختلس من الشركة.
تمكن من اختالس مليون جنيه أمام عيني .صرف شيكاً من الشركة على أنه رشوة ألحد موظفي الضرائب ،فالرشوة ال تدفع
بشيك طبعاً ،ولكنها تدفع نقداً .استصدر الشيك باسمه ،دفع مبلغ الرشوة مائتي ألف جنيه ،واحتفظ بالباقي .كنت أعرف ما فعله،
إلن موظف الضرائب قال ألحد الزمالء المبلغ الذي قبضه فقد كان قريبه .قام الزمالء بابتزاز المدير المالي ،وأصبحت الشركة
عزبة لهم .شهريا تصرف حوافز شهرية بمقدار شهر لكل منهم .أخذت جانباً ولم أشاركهم ،وطلبت نقلي كمدير إداري .استمرت
عملية االبتزاز ألكثر من ثالث سنين ،حتى تنبه أصحاب الشركة من مراجعة أحد التقارير ،حيث وجدوا أن اإلدارة المالية
للشركة تكلف الشركة ثالثة أضعاف إدارة المبيعات ،فقاموا باستئجار شركة تدقيق مالي أخرى ،والتي كشفت المستور .لم
يستطيعوا الوصول للمدير المالي ،ألنه مات أثناء نومه .في تحقيقات النيابة لم يرد ذكري ،استدعوني فقلت لهم أني كنت أعرف
ما يدور ولذا طلبت نقلي.
استدعاني صاحب الشركة إلى مكتبه ،ودخلت عليه وأنا مرتعش .قال لي:
-إزيك يا أستاذ عباس .تفضل إجلس.
جلست على طرف الكرسي وأنا أتصبب عرقاً .أنظر إلى حذائي المترب المهتريء ،وأجده ال يتماشى مع السجادة الوثيرة
المفترشة لألرض من تحتي.
-ال تستعبط علي .أقصد الشؤون المالية .انت كنت عارف اللي بيحصل؟
-نعم يا فندم ....بس...
-يا فندم ،كنت أعرف الكثير مما يحدث ،ولكن لم يكن لدي سلطة ،وال القرائن التي تدعم ما أعرف.
وحدثت حركة تطهير واسعة .رفت جميع من يعملون بالحسابات ،وأحيلوا للتحقيق ،وأدانتهم النيابة ،كلهم إال محاسب واحد ،و
دخلوا السجن لمدد متفاوتة .وتم نقلي مجددا إلدارة الحسابات كمدير مالي وإ داري.
شكلت إدارة الحسابات من جديد ،وعاهدت نفسي على أن أحاول جاهداً أن أصون األمانة .راتبي أقل من ربع راتب المدير
المالي السابق ،وبالكاد يكفيني ،لكن حد اهلل بيني وبين الحرام.
هل سأخبر األستاذ فريد بما يحدث أمامي اآلن؟ صراع يومي ال ينتهي ،بين ما أراه من سرقات أريد منعها ،وما بين إمكانياتي
المحدودة.
الفصل الثالث
أتوق للخامسة والنصف بفارغ الصبر ،ففي الرابعة والنصف ،يبدأ الموظفون في االنصراف ،وفي الخامسة والنصف ،تبدأ
حياتي األخرى .هوايتي الوحيدة.البورصة.
ال أخفيك سراً ،فأنا مقامر مدمن ...مقامر؟ أول مرة أصارح نفسي بهذا .نعم أنا مقامر ،ولكن والعياذ باهلل ،ال أقامر ،ولكني
أضارب بالبورصة .هل هو قمار؟ نعم ،اآلن تيقنت أنه قمار ،وما أفعله هو القمار بعينه ،تحت اسم مضاربة .فالقمار حرام،
ولذلك ،توجهت إلى البورصة ،حيث القمار له مسمى آخر ،اسمه مضاربة.
مقامر سباق الخيل يدعي انه يدرس الخيل ،ويتابعه ويعرف الخيل الرابح من الخاسر ،ويعرف أسلوب كل "جووكي" وكذا
مضارب البورصة .أذكر مرة أني كنت في جلسة مع محلل مالي صديق لي منذ أيام الطفولة ،أخذ يحكي لي عن البورصة
األميركية .كنا في جلسة بين أربعة أصدقاء من أيام المدرسة االبتدائية ،وتطرق الحديث عن البورصة .كنت مستمعاً كعادتي ال
أشارك بالحديث إال بالسؤال من آن آلخر ،ومصطفى مثلي ،وكان على الطرف المقابل من الطاولة هاني (خريج السياسة
واالقتصاد) و أمجد (محلل اقتصادي) وأخذ أمجد يشرح لنا كيف يقومون بتقييم الشركات في البورصة ،وأعطى مثاالً بتاكسي.
قال لي:
قلت له :
رد مبتسماً
-حسنا أيها المحاسب ،كم ستكون قيمته بعد ثالث سنوات
رد ضاحكاً:
-خطأ يا أستاذ!
-ليس كهذا يحتسبونه ،وال يحتسبون قيمة الشركة .فهم يحتسبون قيمة الشركة على األرباح ،وليس على األصول.
-ماذا؟
-نعم ،يحتسبون القيمة على األرباح ،فلو كان هذا التاكسي يدر ربحا مقداره ألفي دوالر سنويا ،فقيمة الشركة تكون أربع
وأربعون ألف دوالر.
-كيف ذلك؟
-إلنك لو وضعت اربعا وأربعين ألف دوالر في البنك ،بعد عام ،ستدر عليك ألفي دوالراً
-بلى ،وأزيدك من الشعر بيتاً ،بعض الشركات مثل واتس أب لم تحقق أرباحاً في تاريخها ،وتقيم تقييمات بالمليارات ،وذلك
ألنهم يحتسبون قيمتها بقيمة األرباح المتوقعة لها في المستقبل!
-هذا نصب علني!
-نعم ،فال يوجد شيء اسمه التقييم العادل لسعر السهم .كله نصب في نصب.
-مضاربة يا صديقي ،مضاربة .قطيع من الخراف يندفع لشراء سهم ال يسوى شيئا .يضعون أموالهم التي كدحوا من أجل
جمعها ،أمالً في تحقيق بعض الكسب السهل اليسير.
-المفروض أن سعر السهم إما أن يرتفع أو أن ينخفض ،وبالتالي ،يقابل كل عملية شراء ،عملية بيع ،ولذا من المنطقي أن يكون
خمسون بالمائة رابحون ،وخمسون بالمائة خاسرون.
-طبعاً
-ال يا صديقي ،تسعون من المائة من المتعاملين بالبورصة يخسرون ،مقابل عشرة بالمائة فقط يربحون.
سمعت هذا غير مصدق ،وغير مكترث في آن واحد .أنا أضارب بالبورصة األميركية عن علم ،وال أكترث بما يقولون من
مهاترات .طبعاً أكذب على نفسي ،ألني مدمن على القمار ...عفوا … المضاربة.
-البورصة مثل نوادي القمار يا صاحبي ،ويجب أن تجعل الروليت تعمل في صالحها .أتعرف يا صاحبي من يربح في
البورصة؟ الرابح الوحيد ...الشركات التي تجمع أموال المغفلين أمثالكم ،و صانع السوق.
تسائل مصطفى:
-يا صاح ،صانع السوق هذا هو من يوفر السيولة ،هو شخص لديه برنامج معقد يوضح له جميع أوامر البيع والشراء ،وهو
الذي يوفر السيولة ،ويوفق بين البائع والمشتري.
وأخذ صاحبي يسرد الكثير مما لم أستوعبه جيداً .ال يهمني شيء من هذا .أريد أن أتعلم ،كي أستطيع أن أتغلب على الروليت.
درست بعض أساليب التحليل الكمي ،وتحليل البيانات ،وتحليل الرسومات البيانية التي تصدق في بعض األحيان وتخفق في
بعضها .ورثت عن والدي مبلغاً ال بأس به من المال ،جنبته ،ولم أخبر زوجتي شيئاً عنه ،و حولته في البورصة األميركية،
وأخذت أضارب .تارة أكسب ،وتارة أخسر ،وأكافح كي أعوض خسائري.
أمكث في المكتب بعد الدوام الرسمي ،و أبدأ المضاربة .قرأت الكثير وتعلمت الكثير ،وحضرت الكثير من الدورات ،وما زلت
من التسعين بالمائة الذين يخسرون.
ما إن تأتي الخامسة والربع حتى أكون قد نصبت النصبة ،وشغلت التطبيقات ،وبدأت في متابعة السوق ،متحيناً الفرصة .أرى
حركة مواتية هنا أو هناك فأضع عليها مبلغاً من المال بالضبط كمقامر ينفخ في الزهر قبل أن يلقيه متحينا األرقام التي أعلنها.
تتحرك مؤشرات األسعار كما يدور الزهر حول نفسه ،وتتشقلب األسعار كالزهر حتى يستقر تارة رابحا وتارات خاسرا.
عندما بدأت المضاربة ،قال لي مدير الحسابات آنذاك أن البورصة شيء سهل ،فإما أن تكسب جزءا من نقودك ،أو تخسر نسبة
من نقودك .ال يوجد شيئ اسمه خسارة تامة ،ولكني اكتشفت خطأ ذلك .فبالبورصة األمريكية ،يمكنك بسهولة أن تخسر أكثر مما
استثمرت بكثير.
وكما يدمن متعاطي المخدرات أدمنت ،وصار جرس تنفيذ الصفقة أحب األصوات إلى قلبي ،واللون األخضر هو لوني األوحد،
وصرت أنام وأحلم بالماليين التي سأحققها ،و أعد كلمتي أثناء لقاءاتي المتلفزة عن فنون التعامل في البورصة.
إدمان جرني إلى الكثير من المشاكل ،وصارت جلستي في المكتب الخاوي ،مع حاسوبي النقال هي متعتي الوحيدة في الدنيا.
األخبار التي أقرأها هي األخبار االقتصادية ،والمعلومات التي أجمعها هي أخبار االندماجات و االنقسامات .األسعار التي أعيها
هي أسعار الصرف.
الفصل الرابع
انتهيت من عملي الممل ،وصرفت آخر الموظفين ،وأخرجت حاسوبي الشخصي .اليوم يوم مهم فيض البورصة .يجب أن
أتخارج من صفقة قمت بها باألمس ،ألن إعالن األرباح السنوية اليوم ،وسيحدث الكثير من التقلبات في السوق ،وحتما سأخسر.
وأخذت أعد العدة ،وإ ذا بالشاشة الزرقاء تظهر على الحاسوب ،وكالم كثير باالنجليزية لم أفهمه .يا إلهي .لقد تعطل نظام
التشغيل في الحاسوب .ماذا سأفعل اآلن؟
أخذت أحاول الدخول على موقع شركة السمسرة من حاسوب العمل ،ولكن لألسف لم أستطع ،فمدير الشؤون اإلدارية اللعين
(اللي هو أنا طبعاً) أمر بقفل جميع المواقع التي ال تستخدم في العمل.
أخذت أضرب بقبضتي على المكتب ،وأنا ألعن حظي .أكاد أبكي .دخل علي الساعي ملهوفا يسألني
-حاضر يا فندم.
فتح الحاسوب ،وقال ،يبدو أن نظام تشغيل الويندوز ال يعمل .لألسف ال يوجد لدي قرص الويندوز ،فأنا ال أعمل بالويندوز.
أعمل بنظام اللينكس.
-يتوقف على البرمجيات التي تستخدمها .ليست كل البرمجيات متاحة على نظام تشغيل اللينكس.
إضطررت أن أشرح له ما أعمل ،فدخل على موقع شركة السمسرة ،ووجد أن لديهم إصدار من برمجياتهم للينكس .قلت له على
بركة اهلل ،نزل اللينكس ،لكن بسرعة أرجوك .مال كثير على المحك.
أخرج مدحت فالشة من جيبه ،وشرع يجهز الحاسوب ،وبسرعة كبيرة استطاع أن يشغل الحاسوب بنظام اللينكس ،الذي لم أفهم
من شيئا ،ولكن عندما قام بتهيئة وتشغيل برنامج المضاربة ،وجدت أن كل شيء يعمل كما في الويندوز.
تأخر الوقت ،وصارت السادسة والنصف .فتحت النظام وراجعت حسابي ووجدتني ولحسن الحظ وتوفيق من اهلل ،قد ربحت ألفي
دوالر من وراء هذا التأخير .كدت أطير فرحاً ورحت أقبله ،وقلت له ،الزم أعزمك على العشاء اليوم.
الفصل الخامس
ذهبت ومدحت إلى مطعم فرحات الشهير بالحمام .ومطعم فرحات هذا ،موجود بشارع األزهر ،وهو َم ْعلَم من معالم القاهرة.
أعتقد أنهم بعد قليل من الزمن سيصفون جامع األزهر بأنه الجامع المجاور لفرحات.
جلسنا في الشارع على كرسيين متقابلين ،وطلبت شوربة وجوز حمام لكل منا.
أخذت أتفحص مدحت بعد أن تداركت أنفاسي .مدحت طويل القامة ،ممتلىء الجسم ،أسود الشعر ،وجهه مليء بالحبوب ،ال
أدري إن كانت حب شباب أو ماذا .ألثغ اللسان ،يرتدي نظارة ،وبنطال جينز وتي شيرت.
أفهمني أن نظام اللينكس أقوى من الويندوز ،النه غير عرضة للفيروسات ،ولكنه غير منتشر لصعوبة استخدامه ،وقلة البرامج
الداعمة له.
-يا أستاذ عباس ،أنا في النهاية حرفي ،مثل أي حرفي ،وهذا ما يجعلني أعيش مطمئناً .حر نفسي ،في الصباح أعمل ،وليالً
ألتقي مع أصدقائي لماتشات الكرة.
شردت عند سماعي كلمته هذه .فعالً ،أنا لست حرفياً ،وهذا ما يجعلني دائماً غير آمن على نفسي ،أو عملي .ال أستطيع أن أعمل
لحالي .النجار أفضل حاالً مني .هو ال يحتاج `إلى كل هذه الدراسة كي يعمل ،كما أنه ال يحتاج إلى شركة كي يعمل .أنا مدير
حسابات ،كل ما أعرفه هو اإلكسل ،إعداد الميزانيات ،وبعض البرمجيات .هل أستطيع أن أعمل مستقالً حرفياً .بالتأكيد ال .فأنا
في النهاية ليس لدي حرفة .أحتاج مثلي مثل الكثير من الموظفين إلى شركة كي نعمل فيها .ماذا سيفعل موظف األرشيف بدون
أرشيف؟ ماذا سيعمل مندوب الجمارك بدون شركة وبضاعة وخالفه.
انتبهت على صوت مدحت يتحدث بلثغته الغريبة عن نظام اللينكس ،ومدى قوته و...
تراجعت في الكرسي الخشبي حتى كاد أن يقع بي ،وأنا أشبك يدي خلف رأسي
-البورصة المصرية فقط للهواة ،األمريكية للمحترفين .تحتاج للكثير من العلم كي تضارب بها.
-كيف؟
-البورصة األمريكية تسمح لك أن تكسب حتى لو كانت البورصة نفسها تخسر ،وبها شفافية أكثر كثيراً من البورصات العربية.
-كيف تكسب لو كانت البورصة تخسر؟
-ماذا؟
-البيع بالسلف ،أو short sellingهو ببساطة أن تستعير السهم الذي تتوقع أنه سيهبط .يمكنك أن تستعيره لمدة غير محددة ،ثم
تبيعه بسعر السوق اليوم .عندما يهبط السهم ،تعيد شراءه وتحتفظ بالفرق .عملية سهلة ومضمونة ،وبالتالي يمكنك أن تبيع من
األسهم ما تتوقع أنه سيهبط ،وتشتري من األسهم ما تراه سيصعد .عملية سهلة.
-ربحت مرات وخسرت مرات وكذا هي الدنيا .آمل في يوم ما أن أحقق ربحاً جيدا وأحولها لتصير مهنتي ،وأصير مثلك،
أعمل من منازلهم .اليوم فقط ،بعد هذا المكسب الغير متوقع ،استرجعت كل خسائري وعدت كما كنت حين بدأت وألول مرة إلى
األولي .عشرة آالف دوالر .أخيراً … من اآلن فصاعداً ،أي ربح سأحققه سيكون ربحاً حقيقياً.
ّ رأس مالي
ضحكت قليالً وأخذت ألتهم الحمامة اللذيذة وأمصمصها في صمت و أنا أفكر فيما قاله .فتسائل ليقطع الصمت
-وماذا كان الشيء الرهيب الذي سيحدث اليوم الذي جعلك متوتراً كل هذا التوتر؟
-أبداً كان هناك عملية يجب أن أتخارج منها قبل إعالن أرباح شركة صاحبة السهم الذي أضارب عليه .كنت حققت ربحاً قدره
200دوالر وأردت أن أبيع السهم قبل إعالن أرباح الشركة.
-أبداً ،لم أستطع البيع قبل إعالن األرباح ،ولكن الشركة أعلنت أرباحاً فوق المتوقع ،وحققت ربح 2000دوالراً.
صفر بفمه صفارة طويلة وقال
2000 -دوالر ،دون أن تفعل شيئاً .أي أنه لو كان جهازك يعمل ،ما كنت حققتهم؟
-يا أستاذ عباس ،إذا كان يمكنك أن تربح في صعود األسهم أو هبوطها ،فكيف يخسر الناس .أفهم أنه في البورصة المصرية،
إذا ربحت األسهم ،وتحسن االقتصاد ،يربح المضاربون ،وإ ذا هبطت البورصة ،تهبط األسهم ويخسر المضاربون .ولكن في
البورصة األمريكية ،إذا هبطت األسهم ،يمكن أيضا للمضاربين أن يكسبوا .فكيف يخسر الكثيرون أموالهم هناك أيضاً؟
-يا مدحت ،يا أخي .في الواقع ،هذا هو سؤال المليون دوالر .في الحقيقة ،وطبقاً لإلحصائيات ،يخسر تسعون بالمائة أموالهم،
حتى في البورصة األمريكية ،مقابل عشرة بالمائة يربحون .نظرية االحتماالت التي قلتها أنت تنطبق بالفعل ،ولكن ،إذا حسبت
رأس المال الذي يتآكل من الخسارة ،و األرباح الغير مكتملة ،تتضح الصورة.
-ماذا؟
-يعني مثالً إذا بدأت بعشرة آالف دوالر ،وربحت في عملية مثالً مائة دوالر .تقرر أن تتخارج من العملية مسرعاً فال تستمر
في العملية الرابحة لآلخر .ثم تمنى بخسارة ،مثال ثالثمائة دوالر .بالطبيعة البشرية ،اإلنسان ال يحب الخسارة ،فيستمر في
االحتفاظ بالسهم أمالً في أن يعوض خسائره ،فيخسر أكثر .عندما يقرر أن يقفل المركز الخاسر ،يكون قد خسر مثالً ألف دوالر،
وبالتالي صار رأس ماله تسعة آالف دوالر .كي يعوض خسائره ،يحب أن يجري عملية تحقق له مربح ،%12وهذا فارق
كبير ،وهكذا حتى يتحقق تآكل رأس المال بالكامل.
-ولكن إذا كانت بنظرية االحتماالت ،لو شخص جاهل ضارب بالبورصة ،فهناك احتمال خمسون بالمائة أن يربح ،طيب ،إذا
كان يقرأ شيئا ،أو يحلل البيانات أو الرسوم البيانية كما تفعل ،فاحتمالية نجاحه تزيد ،يعني تصبح مثال ستين أو سبعين بالمائة،
فكيف يخسر.
-كالمك صحيح يا صديقي ،وأنا فعالً حوالي تسعين بالمائة من عملياتي تكون رابحة ،ولكن العشر بالمائة الخاسرة هي التي
تحقق لي لمس األكتاف .لوال عطل الحاسوب اليوم ،لكنت ما زلت في الخسارة.
-لن أستطيع أبداً فهم البورصة هذه ،إذن فمن يربح في البورصة؟
الفصل السادس
عدت إلى المنزل في ذلك اليوم وأنا ممتلئ المعدة قرير النفس .دلفت إلى المنزل بهدوء فال أريد أن أوقظ األوالد أو الخادمة.
تسللت بهدوء إلى غرفة النوم .وجدت هند نائمة ،أو تتصنع النوم .متلحفة بجسدها البض ،عاقصة شعرها بالمنديل الغريب الذي
تربط به شعرها حتى ال يصير كشة في الصباح ،فشعرها من النوع الليفة ،الذي ينتفش كلما كان الجو رطباً ،فتلفه بالبوكل،
وتربط شعرها.
خلعت مالبسي في هدوء ،وتسللت إلى جوارها في الفراش ،وكلي أمل .فرحتي بصفقة اليوم التي عوضت بعض خسائري،
باإلضافة إلى الحمام ،فاقتربت منها بحرص من تحت البطانية ،أتحسسها ،فتململت وقالت:
-يا هند...
-ابني؟ ده الولد ده بيأخذ مداعبة واهتمام من سيدتين في يوم واحد أكثر مما آخذه في شهر كامل.
دخلت مكتبي وأنا ألهث كالعادة ،بدأت في طقوسي اليومية في المكتب ،وأنا أحمل هم الزيارة التي ال بد منها الليلة لسميرة
وعادل .سميرة صديقة زوجتي الصدوق ،والتي ال تخفي عليها شيء .عندما أذهب إليهم أشعر أنني عار تماماً .أعتقد أن سميرة
تعرف عدد جواربي .ال أمانع في صداقتهم ،طالما ابتعدوا عني ،لكن عادل زوجها سمج ،ثقيل الظل ،طبيب ،فخور بنفسه،
موسوعة متحركة ،ألزمهم بنظام نباتي صارم ،وبالتالي ،فالغداء اليوم سيكون نباتيا صرفاً .قرديحي يعني.
شر ال بد منه.
خرجت من الدوام في الرابعة والنصف تماماً وأنا صاغر .لو لم أوافق على العزومة ،سأعاقب بالمعاملة الصامتة لمدة أسبوع
على األقل ،وإ ذا لم أتصرف بكياسة في اللقاء ،فسيكون عقابي أسبوعين حرمان من اللقاءات الزوجية .أخذت أفاضل بين األمرين
في ذهني .اليوم الخميس ،لدي فرصة جيدة في الحصول على ما لم أحصل عليه باألمس ،ولكنه الخميس ،آخر يوم لي في
البورصة ،فأنا ال أضارب يوم الجمعة ألني ال أذهب للمكتب ،وال أريد أن تعرف هند شيئا عن البورصة .حسناً نضيع يوماً
آخر .سنعوض يوم اإلثنين بإذن اهلل.
وصلت إلى شقتهم في عمارتهم بالدقي ،وكافحت حتى استطعت أن أحصل على مكان ألصف السيارة ،وأخذت أمشي الهوينى،
حتى وصلت العمارة الفارهة.
فتحت سميرة الباب ،وعلى فمها ابتسامة واسعة ،ونظرة متفحصة ...ترى ماذا تفكر فيه اآلن؟ هل تعلم شيئاً عن إصابتي
بالسكر؟ طبعاً لن تخفي هند شيئاً عنها وخصوصاً وأن عادل طبيب .سيتفزلك علي اليوم بالنظام النباتي.
دخلت المنزل وأنا أهمهم ببعض الكلمات رداً على الترحيبات .ال أعرف كيف أرد على الترحيبات ،وال الردود المتداولة ،ولكني
غالباً ما أهمهم بكلمات غير مفهومة ،وأترك المتلقي لفهم وسماع ما يريد سماعه.
دخلت غرفة الصالون الكبيرة .طاقمين من الصالون المذهب ،كعادة المصريين ،غرفة ال تستعمل إال عند حضور الضيوف،
تكون غالباً مغلقة معظم أيام األسبوع .يتكدس أفراد العائلة في غرفتين صغيرتين ،ولكن يجب أن تكون هناك غرفة صالون حتى
يستقبلوا فيها الضيوف .تستخرج سميرة طاقم الصيني الفاخر الذي ال يظهر إال في المناسبات .إذا هناك ضيف آخر.
أهه.
ت بحرارة ُ
سلم ُ
يأتي عادل مرتدياً حلة كاملة ورباط عنق ،ويسلم على .أسلم عليه بحفاوة ،وأنظر بطرف عيني لهندْ .
تأتي كريمة أخت سميرة الصغرى وتسلم بهدوء وتجلس على طرف الكرسي .كم خجولة هي ...أتى صوت أمها يناديها من
المطبخ ،فقامت من فورها.
ال بد مما ليس منه بد .سأبدأ الحديث حتى أحصل على تقدير جيد في هذا اللقاء .سهل جداً أن أفتح الدكتور عادل في أي حديث،
فهو موسوعة ،ويحب التحدث في أي شيء .سأبدأ بأي موضوع سخيف ،وأسلمه طرف الحديث ،وأتركه يتحدث ،وأسبح أنا في
أفكاري ،وأهمهم بالردود من فترة ألخرى .المهم أال يسألني عن شيء
-كيف العيادة؟
-الحمد هلل تمام ،في نعمة وفضل.
-إال قل لي يا دكتور ،أنا بيجيني مغص كل لما أشرب حليب ،من ايه ده؟
-يا أستاذ عباس ،أكثر من سبعين بالمائة من الناس ال يتحملون الالكتوز في الحليب ...lactose intolerant
وانطلق الدكتور عادل في شرح مضار الحليب و الالكتوز ،وتأثير األبقار على االحتباس الحراري ،و تغير درجات الحرارة
العالمي ،وذوبان القطب الجليدي ،و تأثير البالستيك و و و وأنا سابح في ملكوت اهلل .أنظر إلى نقطة بين عينيه ،أحدق في
َأمن على حديثه ،سارحاً في أموري حتى جاءني سؤال أخرجني مما كنت أفكر
الفراغ خلف جبهته ،وأهز رأسي من آن آلخر وُأ ّ
فيه .أخذت أسترجع ما قالته سميرة ،وما قلته أنا رداً عليها...
أذكر أنني رددت طبعاً ،ولكن ،ماذا كان السؤال؟ احمر وجهي وتلعثمت ،وأخذت أردد طبعاً طبعاً وأنا أحاول تذكر ما قلته لتلك
الخبيثة .قالت شيئاً عن كريمة...نظرت إلى منتظرة الجواب ،فقررت أن أغير من كلمة طبعاً ألنها صارت مكررة كثيراً فقلت:
-أكيد
-ما هي مواصفاته؟
-مواصفات ماذا؟
-العريس
-يا إلهي ،يجب أن أفكر بسرعة ،أكيد هي سألت عن عريس ...لكن لمن .أكيد ليس لها ...إذن فهو بالطبع إما لكريمة ،أو ألحد
من صديقاتها .ليس مهماً اآلن .المهم أن أخترع أي شخص قبل أن أنكشف.
-رجل ممتاز وعلى خلق.
-وماذا يعمل؟
لن أنجو منها ...يجب أن أخترع شخصية اآلن ،لكن يجب أن أبني هذه الشخصية على أحد من معارفي .من في الدوام سعيد
الحظ غير متزوج اآلن؟ عبد الرحيم؟ ال سعيد؟ ال ...حرام ،الولد غلبان ...وفجأة وجدتني أفكر في مدحت ...أكيد هو غير
متزوج ...أذكر ذلك ،حسناً ليكن مدحت...
-ما اسمه؟
وافترقنا على وعد بأن نرتب لقاءا بين العروس ،والمأسوف على شبابه.
الفصل الثامن
ذهبت يوم األحد إلى الدوام بتوصيات من هند-التي لم تأل جهداً في مكافأتي لقاء أدائي الحسن في زيارة سميرة -بأال أنسى
ترتيب لقاء مع عريس الغفلة.
وصلت المكتب ،وأخذت أفكر كيف أتصل عليه ،أو أرتب اللقاء ،وأنا ال أعرف الرجل جيداً .كل ما كان بيننا هو لقاء
اضطراري ،وعشاء في فرحات .استخرجت هاتفي النقال ،و اتصلت عليه .أجابني بعد تسع رنات بصوت ناعس:
-آسف يا باشمهندس ،بس فيه حاجة في الكمبيوتر لو ممكن تيجي تشوفها ،أكون شاكر .انت عارف طبعاً ان هذا حاسوبي
الشخصي ،بس أنا سأدفع لك ما تريد.
-عيب يا أستاذ عباس .ال تقلق .ضحك وقال ،أنا بس عندي إصابة مالعب ،فممكن أتأخر عليك شوية.
أخذت أفكر فيم سأفعله في الحاسوب ،ثم قررت أن أسأله عن أي شيء في طريقة استخدام اللينكس ،وأعزمه على العشاء ،ثم
نتحدث في الموضوع.
في الثالثة تماماً أتى مدحت ،حامال حقيبته ،ونظرة جدية على مالمحه.
-فين الجهاز؟
-يا أخي ما لها الزمة األلقاب ،إحنا أصبحنا أصحاب .إال قل لي ،خير ،إصابة مالعب ايه؟
افتعلت كم سؤاالً عن اللينكس ،ثم قلت له ال بد أن نتعشى اليوم ،وألححت ،فقبل العزيمة.
الفصل التاسع
جلسنا على مقعدين متقابلين في مطعم قدورة بالمهندسين .فرصة أزيد الفوسفور طالما هند راضية عني اليومين دول .طلبنا
األسماك وأخذنا نأكل السلطات وبدأت في استعراض "عريس الغفلة".
أخذنا نتجاذب أطراف الحديث عن عمله وسكنه ،وأصله وفصله .بصراحة وجدته إنسانا طيب القلب ،دمث الخلق ،مرحا.
-يا رجل .كيف؟ ده البلد فيها خمسين مليون أنثى ،معقول ما لقيت واحدة مناسبة؟
ضحكت الفريسة وهي تحاول التملص من الشباك.
-واهلل يا أستاذ عباس ،أنا ما كنت أفكر في الزواج اآلن .بعد وفاة الوالد والوالدة ،ما صار لي أحد في الدنيا غير أخ وأخت.
أخ مسافر في الخليج ،وأخت مع زوجها في أمريكا .وأنا هنا حر نفسي ،أخرج وقتما أخرج ،أعمل وقتما أعمل ،وأقابل أقراني
وقتما أريد.
-الحياة المثالية
-يا أخي انت خسران إيه ،تعال شوف ،وجرب حظك ،مش ممكن تكون الفتاة المنشودة؟
عدت إلى المنزل في التاسعة مساء وزففت الخبر إلى هند منتظراً المكافأة.
الفصل العاشر
في يوم الجمعة المنشود ،ذهبنا سوياً إلى بيت سميرة .تركنا األوالد بالمنزل مع حنان ،الشغالة .وصلنا مبكراً قليالً عن الموعد.
فتحت سميرة الباب مرحبة بوجه بشوش.
بعد الترحاب المعهود ،دلفنا إلى حجرة الصالون .واضح أن الكثير قد تغير في البيت منذ زيارة األسبوع الماضي .يبدو أن
سميرة قد قامت بالكثير من العمل المضني ،من أجل مقابلة عريس الغفلة .جاءت كريمة لتسلم علي ،مرتدية فستاناً بسيطاً أزرق
اللون .نظرت إليها بإمعان هذه المرة ،فلم أكنت قد أعرتها اهتماما من قبل .إنها في الواقع جميلة .جميلة الجمال البسيط الذي
يجب عليك أن تفتش عنه .الوجه األبيض المستدير المريح .العينين السوداويتين الواسعتين .حركات الوجه واالبتسامات غير
المتكلفة .المالمح الحادة .القوام الممشوق .خير إن شاء اهلل.
جاء مدحت بعد قليل في موعده بالضبط حامال باقة زهور كبيرة ،مرتدياً حلة زرقاء ،ورباط عنق .شكله بالحلة أنيق .على
البركة.
-الباشمهندس مدحت شاب مجتهد ،ومن أحسن مهندسين الكمبيوتر اللي عرفتهم.
-مصمم مواقع
-لماذا؟
-ألن كلية اآلداب دوامهم بالكافيتريا !!!
أخذنا نتحدث في أمور عامة عن األسعار والطقس ،وأخذت األمور تسير على منحى جيد ،وتعشمت نفسي في مكافأة سخية .
أخذت أفكر فيما سيحدث الليلة مبتسماً في داخلي ،وأشارك من آن آلخر في التأمين على الكالم الذي يدور من حولي بهمهماتي
المعتادة ،حتى وجدت هند تنظر إلى شزراً حتى كدت أخر صعقاً ...ماذا حدث؟ ال أفهم ...هل عدت إلى عادتي في قرض
أصابعي ؟ نظرت إلى أصابعي ،فوجدتهم جافين .تحققت من سحاب بنطالي وأنا أتصبب عرقاً ،كل شيء تمام ....ماذا؟؟ هل
سرحت مجدداً ؟ هل وجه أحد سؤاالً آخر لي؟
نظرت حولي فوجدت كريمة مطرقة إلى األرض ،ومدحت يبتسم ابتسامة عصبية ،ووجه عادل أحمر كالطماطم.
تدخل عادل قائالً:
قمنا وجلسنا على طاولة الطعام بالترتيب المعد سابقاً .أخذ الحاضرون في الثناء على الطعام وتداول الصحون ،و تداول العبارات
المقتضبة.
تناولنا الشاي بعد الوليمة مع الحلويات ،و استأذن مدحت في تدخين سيجارة بالشرفة،وأشار لكريمة التي تبعته بالشاي .جلسوا
بالشرفة فترة ليست بالقصيرة ،تاركينني مع المجموعة وشعاع الليزر المصوب من هند على أم رأسي يكاد يذيبها.
عاد مدحت بعد تدخين ما يقارب على علبة السجائر ،هو وكريمة ،وهما يتضاحكان بانسجام .استأذنت وهند في االنصراف،
وتبعنا مدحت.
سلمت على الحاضرين ،وشددت على يد كل منهم ،وأنا أتحاشى النظر في عين أي منهم.
دخلنا السيارة ،وأنا في انتظار العاصفة .جلست هند بجواري ،وما إن شغلت السيارة ،حتى انطلقت كالمدفع الرشاش.
-تمام ايه؟ الولد أصغر منها بأربع سنين ،وكمان مش عارف إنها مطلقة.
-مطلقة؟ أنا مش عارف إنها مطلقة! وبعدين أصغر منها كيف؟ و كنت إزاي هأعرف؟ يعني أسننه؟
-شوفي ،أنا عملت اللي علي .هو ده اللي عندي .ما تبقيش تدخليني في شغل الخاطبة بتاعك ده.
الفصل الحادي عشر
يوم السبت ،العطلة األسبوعية .أنام حتى الحادية عشرة .أصحو على صوت بكاء قاسم ،وصراخ هند.
قاسم ولي العهد ،وآخر العنقود ،أو كما أسميه الترميناتور “ .”The Terminatorعندما تزوجت ،كانت العالقة بيني وبين زوجتي
على ما يرام ،أو كما أسميها طبيعية .عندما ولدت فاطمة ،إنشغلت زوجتي مع فاطمة ،وتضاءلت فرص لقاءاتنا ،فكنت أسمي
فاطمة " سم العالقات أو ،”Sex Poisonحيث كانت تتلذذ بالبكاء ،أو الصراخ عندما تحس بنية ما ألن نخاويها .2وعندما ولد
قاسم ،تفنن أكثر من أخته في ذلك حتى كادت تنتهي العالقة بيننا ،فأسميته المحطم ،أو التيرميناتور.
أجدها تفتح باب غرفة النوم بهدوء حاملة صينية بها قهوة وكرواسون ...قهوة وكرواسون؟ هناك شيء ما ...يجب أن أحتاط .ما
تاريخ اليوم؟ يا للمصيبة .عيد خطوبتنا؟ عيد زواجنا؟ عيد أول لقاء؟ عيد ميالد أحد األوالد؟ كارثة ...أيكون عيد ميالدها؟ لقد
أدخلت كل المناسبات على رزنامة النقال ،مع تنبيهات قبلها بيومين .تبا للتكنولوجيا.
ابتسمت وهي تدلف الغرفة .الروب األحمر ...ال ...أنا حتماً انتهيت .قالت:
-صباح النور
بدون أن تنتظر ردي ،وضعت الصينية على السرير ،وتناولت علبة السجائر وناولتني إياها مع القداحة ...تدخين في غرفة
النوم؟ إنها الطامة الكبرى .واضح أنها قررت أن تجهز علي ،وهي اآلن تحقق لي رغبتي األخيرة قبل اإلعدام .ابتسمت ابتسامة
عصبية ،وأنا أقول لها
-إيه ده كله؟
ردت بصوت كله نعومة:
-ما تتعود
حمدت اهلل وأخذت أرتشف قهوتي بتلذذ .عفارم عليك يا مدحت .رفعت رأسي .قررت أن أستمتع بمكافأتي ،ولم ال ...لقد
استحققتها عن جدارة .يكفيني الشد العصبي البارحة.
الفصل الثاني عشر
مر شهر على الزيارة العجيبة لسميرة ومدحت .كل شيء على ما يرام على ما يبدو .فلم أسمع شكوى من أحد .هند تعاملني
معاملة ال بأس بها ،أو ممتازة مقارنة بما سبق .عدت لروتيني اليومي المعتاد ،ومغامراتي في البورصة المعتادة ،ما بين مكسب
قليل ،وخسارة ثقيلة .بعد أن عوضت خسائري،صرت أكثر حرصاً وخوفاً من أن أنزلق في خسائر أكثر مما أتحمل .حسابي
اآلن فوق العشرة آالف دوالر ،ولكني متوتر.
قابلت مدحت مرة واحدة خالل ذلك الشهر ،عزمته علي قهوة في كافي بين جامعة الدول ،وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث.
الحظت من فوري تغيره .صار أكثر هندمة من ذي قبل .حليق الذقن بإتقان ،وشعره مصفف .يتخير مالبسه بعناية أكثر ،وألوان
متسقة ،ومقاس يناسبه.
فتح لي قلبه ،وقال لي أنه وحيد في هذه الدنيا .حياته بين عمل ،ونوم ،ولعب البالي ستيشن مع زمالئه الذين يتساقطون واحداً
بعد اآلخر في شباك الزواج ،ويحاول جاهداً استبدال من يسقط منهم .كريمة مألت عليه حياته إلى حد ما .يبدو أن شخصياتهم
متوافقة .حيث أنها أكبر منه ،فهي تعي جيداً وضعه ونفسيته .تعامله كالند في الكثير من األحيان .صارت صديقة ،أكثر منها
خطيبة أو زوجة .قلما يلتقيان وجهاً لوجه .معظم حياتهم على الهاتف ،والواتس والتشات .تلعب معه البالي ستيشن بالساعات ،و
يتناقشان معاً كثيراً من الوقت .كالهما يحب القراءة ،فأنشئا ما يماثل نادي الكتب ،حيث يتخيران كتاباً ،يقرآه ،ويتناقشا فيه،
ويحلاله.
قال لي أنهما ال يتعجال أي خطوة قادمة ،فالعمر أمامهما ،وهي ال تتعجل شيئاً وهو ال يتعجل .هو يعتبرها صديقاً آخر ،وهي
تعتبره صديقاً ولكن من نوع آخر .لهما لقاء أسبوعي في بيت سميرة ،وآخر في كافيه.
فرحت من أجله ،وتمنيت له الخير .زففت البشرى لهند عند عودتي ،بأن كل شيء على ما يرام ،وتخيرت ألفاظي بدقة ،فأغفلت
عدم بدئهما في تخطيط أي شيء.
ثم كان صباح يوم السبت ،عندما أتتني رسالة واتس أب غريبة ،من رقم غريب.
“أنا جيسي ليفرمور ،أعمل في البورصة األميركية ،لقد اخترتك من بين الماليين ألني أتوسم فيك النزاهة ،وألنك تحاول جاهداً
أن تحقق المكسب في البورصة األمريكية بال جدوى .ضميري يؤنبني ألن مثلك من الكادحين في دولة من دول العالم الثالث،
الذين يقدمون أموالهم التي كدحوا كثيراً من أجلها ،ليخسروها لمضاربي البورصة في أمريكا ،فقررت أن أغير ذلك ،ولو على
مستوى صغير باختيار بعض صغار المضاربين من الدول النامية ،ومدهم ببعض المعلومات التي ستساعدهم في تحقيق الثراء
الحقيقي .لدي من المعلومات الداخلية من داخل البورصة ولكني ال أستطيع استخدامها ألني أعمل هناك .أنا أعرفك من خالل
حسابك ،فحسابك مع سمسار … و يحتوى على 10221دوالراً .سأساعدك على أن تحقق مكسباً خيالياً في البورصة ،وتصل
إلى االستقالل المالي الذي تنشده .سأثبت لك ذلك .فقط عليك أن تنفذ ما أقوله بدقة .إن السهم XXXيتداول بسعر .30.37يوم
اإلثنين القادم ،بع 20عربوناً callعلى سعر strike 30بقيمة 1.65دوالراً للعقد .ستحتاج لحجز مبلغ 12,500دوالراً في
حسابك وفي خالل عشرة أيام ستحقق 3300دوالراً أي حوالي ثالثون بالمائة من رصيدك .ال أطلب منك أي مقابل .هذه
المعلومة هي عربون صداقة .ال تحاول االتصال بي على هذا الرقم ،فهو رقم ال يمكن تتبعه .إذا لم تنفذ العملية ،سأعرف،
وسأتوقف عن إرسال أية معلومات لك” .
لم أفهم شيئاً من الرسالة ،فأنا لم أتعامل أبداً في سوق الخيارات .Options Marketكيف استطاع أن يعرف بياناتي بدقة؟ ما هو
سوق الخيارات؟ ما هو العربون Call؟ وماذا سيحدث لو بعته .ما هذا السهم الذي أسماه؟
أخذت الرسالة تلعب في مخيلتي ،وتؤرقني .هل هذا الشخص فعالً يعمل بالبورصة؟ هل هي مزحة؟ تساؤالت كثيرة أخذت تؤرق
على مضجعي .قد تكون هذه هي الفرصة التي أنتظرها.
قررت أن أفهم ماذا يريد هذا الرجل مني ،فاتصلت على مجموعة المدرسة ،آمالً أن أحصل على تفسير من أمجد أو هاني.
تقابلنا في نفس الكافيه المعتاد .ذهبت مبكراً حتى أختار طاولة جانبية في الطابق الثاني بعيداً عن مسترقي السمع ،هادئة حتى
أستطيع فهم كل ما سيقال .ضبطت هاتفي النقال على وضع تسجيل حتى أستطيع استرجاع ما سيقولونه من طالسم.
أتى األصدقاء ،وبعد تبادل التحيات المعتادة ،والسؤال عن صحة األهل واألصدقاء ،شرعت أسأل أمجد.
-ما هو سوق الخيارات؟
ضحك أمجد وقال ،لو كنت آخذ ربع جنيه على كل مرة أرد بها على هذا السؤال كان زماني اآلن مليونيراً
-شوف يا سيدي ،سوق الخيارات هو سوق مواز لسوق البورصة ،ولكنه أخطر بكثير .مثال لو لدينا سهماً اسمه أ ،يمكنك بدالً
من أن تشتري السهم مثال بمائة دوالر ،أن تشتري عربون لشراءه Callعلى سعر مائة دوالر .العربون قيمته مثالً خمسة
دوالرات .والعربون محدد المدة ،أي أنه ينتهي بنهاية الشهر ،فتكون أنت قد اشتريت حق شراء السهم على مائة دوالر أياً كان
سعر السهم في ذلك الوقت .لو صار سعر السهم عند آخر الشهر مائتي دوالراً تكون أنت قدر ربحت خمساً وتسعين دوالراً
باستثمار قدره خمسة دوالرات (سعر العربون أو ال , )Callوإ ذا انخفض سعر السهم عن مائة دوالر ،فقط تخسر قيمة
العربون ،ألنك لن تستخدمه ،ألن سعره اليوم أقل من مائة دوالر.
-طيب ،لو ظل سعره على مائة دوالر ،أو ارتفع قليالً مثال مائة واثنين؟
-آه ،هذا ما يفعله المخضرمون في البورصة .مثالً لو بعت عربوناً على سعر مائة دوالر ،بقيمة خمسة دوالرات ،فأنت ملتزم
ببيع السهم عند سعر المائة دوالر .فعندما تتوقع أن يهبط السهم عن مائة دوالر ،أو يظل على سعر المائة ،فانت تبيع عربوناً
على هذا السعر .إذا انخفض السهم ،تصبح قيمة العربون ملكاً لك .تخيلها كما لو كانت شقة أو قطعة أرض .إذا اشتريت شقة
بمبلغ مائة ألف جنيه آمالً في أن تبيعها بمائتي ألف ،فأنت تخاطر بمائة ألف جنيه ،كي تحقق مائة ألف ،ولكنك تجمد مائة ألف
جنيه كاملة ،كي تستفيد من الزيادة ،إن تحققت .لكنك لو ذهبت إلى صاحب الشقة ،و قلت له :سأشتري منك الشقة بمائة ألف
جنيه ،وهاك عربون بألف جنيه دليالً على المصداقية ،احتفظ لي بالشقة حتى آخر الشهر .لن يستطع صاحب الشقة بيعها ،وتظل
على اسمك حتى آخر الشهر .عند حلول األجل ،لو استطعت أن تبيع الشقة بمائة وعشرين ألف جنيه ،تكون قد حققت مربحاً
قدره عشرون ألف جنيه ،باستثمار قدره ألف جنيه فقط .لو انخفضت قيمة الشقة عن المائة ألف جنيه ،مثالً وصلت تسعين ألف
جنيه ،تخسر عربونك الذي دفعته ،أي تخسر مائة بالمائة مما استثمرته.
-آه فهمت اآلن شراء العربون ،ولكن بيع العربون هذا ...كيف أبيع عربوناً وأنا ال أملك حتى الشقة.
-هذا أعقد قليالً ،ولكنه مثل بيع أسهم ال تمتلكها . Short sellingتخيل أنك ذهبت لصاحب الشقة وقلت له احجز لي الشقة
سأبيعها لك بمبلغ مائة ألف جنيه .ثم تبيع عربوناً بالشراء لشخص ما ،صالحاً حتى نهاية الشهر .إذا انخفضت قيمة الشقة عن
مائة ألف جنيه ،يصبح العربون حاللك ،ألن من اشترى منك العربون ،لن يستغل حقه في الشراء على مائة ألف إذا كان سعرها
بتسعين ألفاً اآلن .أما إذا انخفضت قيمة الشقة عن مائة ألف جنيه ،مثالً صارت تسعين ألف جنيه ،تذهب مثل الشاطر ،تشتري
الشقة بمائة ألف جنيه ،وتبيعها له بتسعين ألف جنيه ،وتكون قد خسرت تسعة آالف جنيه .يعني في هذه الحالة استثمرت ألف
جنيه ،وخسرت تسعة آالف جنيه أي %900مما استثمرته ،ولذا سوق الخيارات سوق خطير ،قد تخسر أكثر بكثير مما
استثمرته.
-ال putهو تأمين وهو عكس العربون بالضبط .أي أنه تأمين .تخيل أن لديك شقة بمائة ألف جنيه ،وأنت تخاف على أن
تنخفض قيمتها عن مائة ألف جنيه ،فتشتري تأمينا (أي تشتري )putعلى سعر مائة ألف جنيه .يمكنك أن تشتريه مثالً بألفي
جنيه .هنا ،إذا انخفض سعر الشقة عن مائة ألف جنيه ،من باعك هذا التأمين ملتزم بشرائها عند سعر مائة ألف أياً كان سعر
الشقة في ذلك الوقت.
-ليس مغفالً يا صاحبي .فإذا ظل سعر الشقة مائة ألف ،أو ارتفع سعرها ،يصبح التأمين ملكاً لمن باعه لك .فهو يراهن على
أن سعر الشقة سيرتفع أو يظل كما هو ،وبالتالي يصبح قيمة التأمين صفراً عند نهاية العقد.
-نعم العربون حالل في اإلسالم ،ولكن المشكلة الشرعية في عرابين البورصة أنها ال تختصم من قيمة ما تشتريه.
-ماذا؟
-نعم ،فتخيل مثال الشقة ،إذا دفعت عربوناً بقيمة ألف جنيه لشقة بمقدار مائة ألف جنيه ،فعند شرائك للشقة ،تدفع تسعاً وتسعين
ألف جنيه ،مختصماً قيمة العربون ،وهذا ما ال يحدث في حالة سوق الخيارات .إذا ارتفعت قيمة الشقة إلى مائة وخمسين ألف
جنيها ،تدفع مائة ألف جنيه ،كما في العقد ،بصرف النظر عن العربون المدفوع .العربون هنا كأنه رسوم حجز غير قابلة
لالسترداد.
-إذاً دعني أكرر ما فهمته .إذا بعت عرابين على سهم بسعر مائة دوالراً بمبلغ عشرة آالف دوالر فأنا سأحقق عشرة آالف
دوالر إذا ظل السهم تحت المائة دوالر عند نهاية العقد؟
-نعم ،وقد تخسر العشرة آالف دوالر كلها إذا ارتفع السهم عن سعر المائة دوالر ،وفي كل األحوال ،هذا حرام شرعاً.
-لكن سوق الخيارات يجعلني أحقق مكسباً حتى لو ظل سعر السهم مكانه.
-نعم ،ولكنه ليس بالسهولة التي تتخيلها ،فسوق الخيارات واألسهم متقلب بدرجة رهيبة لدرجة أنه يصعب التنبؤ بما سيحدث في
الدقيقة المقبلة .أستطيع أن أعدد لك العديد من الناس الذين أفلسوا تماماً من وراء سوق الخيارات .هذا ليس لعبة يا صاحبي.
الفصل الثالث عشر
لم أنم ليلتي ،وأنا أفكر فيما قاله هاني وأمجد .يبدو أنني كنت أضارب في البورصة بشكل خطأ طوال حياتي .يبدو أن سوق
الخيارات أفضل من سوق األسهم .يمكنني أن أحقق مكاسب إذا هبط السهم ،أو ظل في مكانه إذا بعت عربوناً أو أحقق مكاسب
إذا صعد السهم أو ظل مكانه ،إذا بعت تأميناً ...صحيح أنهما قاال أنه حرام ،ولكنهما ليسا مفتي الجمهورية .أكيد ستجد شيخاً في
مكان ما من العالم اإلسالمي يحلل الخيارات بطريقة أو بأخرى .حطها في ظهر عالم واخرج منها سالم !
أخذت أحاول أن أضعها في ظهر عالم بأي طريقة حتى قرأت :
فالخيارات من أدوات المجازفة على األسعار ،وهي من ضمن العقود التي جعلت االقتصادي الفرنسي موريس آليه يصف
البورصات العالمية بأنها "كازينوهات قمار ضخمة" ،وذلك أن حقيقة القمار هي أن يربح أحد الطرفين على حساب اآلخر ،وهذا
بالضبط ما يحصل في عقود االختيارات في األسواق الدولية.
أخذت أفكر وأفكر .حاولت الوصول إلى رأي يقول أنها حالل ،ولم أستطع الوصول إليه ،إال من بعض آراء في بعض المنتديات
التي وضع أصحابها آراؤهم الشخصية دون فتاوى شرعية.
أخذت أبحث عن اسم جيسي ليفرمور ،فوجدت أنه كان تاجر أسهم أمريكي ،أسطورة اشتهر بربحه وخسارته الماليين من
الدوالرات والبيع على المكشوف خالل انهيار السوق المالي بين عامي 1907و .1929كنت متأكداً من أنه اسم مستعار ولكني
كنت أتعشم أن أجد من بهذا االسم في لينكدإن . Linkedin
قمت من فراشي في السادسة والنصف بعد ما جافاني النوم ،ولم أحصل على أي قسط من الراحة .ذهبت إلى عملي ،وأنا أفكر
وأفكر .أنا أحتاج لمساعدة فعالً في البورصة .قد يفيدني هذا الليفرمور إذا كان يستطيع أن يعطيني نصيحة من الداخل .الكثير
من المضاربين بالبورصة لهم مصادر من الداخل تعطيهم معلومات عن األسهم .في إنجلترا وحدها وصلت الغرامات
للمضاربين في البورصة من معلومات داخلية ما يربو على الخمسين مليون جنيها استرلينيا في عام .2009هذا ما تم ضبطه،
غير ما لم يتم ضبطه.
ماذا لو كان نصاباً .الكثير من النصابين موجودون على اإلنترنت اآلن .لكن ،لو كان نصاباً فماذا سيستفيد منها .إنه لم يطلب
شيئاً ...ال إنه ليس نصاباً.
طيب ،والحرمانية؟
مشايخنا كانوا يقولون على أرباح البنوك أنها ربا ،واآلن يقولون العكس ،بل ويوجبون زكاة %10على األرباح .قد يتغير رأيهم
في المستقبل .على األقل لم يقولوا أنه ربا.
ماذا عن الخطورة؟ إن مبلغ عشرة آالف دوالر مبلغ كبير كي أقامر به على عملية واحدة ،يا طابت يا إثنين عور؟ هذا كثير
علي...
أأفعلها ؟ أم ال أفعلها ...لو لم أفعلها لندمت طيلة عمري قائالً ماذا لو...
-ما رأيك فيما سأقوله لك اآلن يا صديقي؟ أريد أن أستشيرك في موضوع هام.
-آمرني
-جاءني شخص يعمل بالبورصة األمريكية ،وقال لي أنه مستعد أن يعطيني تعليمات دقيقة للمضاربة في سوق الخيارات.
معلومات داخلية.
أحسست بغباء إن قلت أنني أعرفه عن طريق الواتس أب ،فقررت أن أغير القصة قليالً
-مقابل ماذا؟
-هو لم يطلب مقابل ،لكن بالطبع سأعطيه شيئاً إن تحقق ذلك بالطبع.
ضحك هاني ،وعدل من نظارته ،وقال ...عربون صداقة ...ما مدى صداقتك به؟
فتسائل هاني
إن السهم XXXيتداول بسعر .30.37يوم اإلثنين القادم ،بع 20عربوناً على سعر 30بقيمة 1.65دوالراً للعقد .ستحتاج
لحجز مبلغ 12,500دوالراً في حسابك وفي خالل عشرة أيام ستحقق 3300دوالراً أي حوالي ثالثون بالمائة من رصيدك.
أخذ هاني يفكر ملياً وطلب مني أن أفتح الحاسوب ،وأوصله على االنترنت ،وجلس بجواري ،وأخذ يتنقل بين الكثير من المواقع،
ويسجل مالحظات في ورقة خارجية ،وبعد ربع ساعة قال لي:
-شوف يا سيدي ،باختصار ،هو يريد منك أن تزيد المبلغ في حسابك إلى 12500دوالراً ،ويبدو من العملية التي يريدك أن
تنفذها أنه يتوقع أن سعر السهم لن يتعدى الثالثين يوم الجمعة.
-يوم الجمعة؟
-نعم فالعربون الذي اختاره صديقك ستنتهي صالحيته يوم الجمعة .عقود الخيارات تنتهي صالحيتها في ثالث جمعة من الشهر.
نظرت له بغباء فاغراً فاهي ،ويبدو أنه قد بدأ ينفد صبره فتنهد وقال لي:
-يعني بالعربي ،لو السهم XXXيوم الجمعة كان سعره 30دوالر أو أقل ،ستحقق مكسباً قدره ثالثون بالمائة من مالك.
-طب لو زاد؟
-لو زاد عن 31.60ستدفع الفرق ،لذلك مطلوب منك أن تحجز حوالي إثني عشر ألفاً وخمسمائة دوالراً لتغطية الخسائر
المحتملة للعملية .فكل عقد عربون يمثل مائة سهم ،وأنت بهذا العقد تلتزم ببيع ألفي سهم على سعر ثالثين دوالراً ،وبما أنك
ستحصل على ثالثة آالف وثالثمائة دوالر ثمناً للعربون الذي بعته ،فستدفع الفرق.
-وما رأيك أنت؟
-واهلل مش عارف .إن هذا سهم متذبذب للغاية .لو قلنا بنظرية االحتماالت انه %33سيصعد %33سيهبط %33 ،سيظل في
مكانه ،فاحتمالية نجاح العملية ستكون في حدود ال 66بالمائة .إذا كنت متأكداً من صاحبك هذا ،نفذها ،ولكن يجب أن تزيد من
رأس المال حتى تسمح لك شركة السمسرة بتنفيذ العملية.
ورسم
هاني
لي
رسمة
بيانية
توضح
المكسب والخسارة مقابل سعر السهم.
وزادت الحيرة .أخذت أفكر وأفكر ،ثم أفكر وأفكر ....ماذا سأفعل .هاني صعبها علي أكثر .كنت متوقعاً منه أن يقول لي أنها
تجربة فاشلة ،ولكن ست وستون بالمائة احتمال نجاح ،مغر للغاية .في تجاربي في البورصة ،كنت أختار األسهم بطريقة
عشوائية .أقرأ عن سهم ،أو أسمع عن شركة ما فأشتري سهمها ،ثم أظل محتفظاً به فترة حتى يصعد ،والفترة قد تطول ألشهر،
وأحياناً أبيع السهم على خسارة ،طمعاً في مكسب من سهم آخر ،ولكن هذه العملية مواتية .ثالث وثالثون بالمائة في غضون
أسبوع ،وباحتمال نجاح ست وستون بالمائة .يا إلهي...
وصلت المكتب ،وأنا أكاد أنهار من التعب .بعد أداء طقوسي اليومية المعتادة ،تأكدت من حظي اليوم بطريقتين مختلفتين ،حظي
على الموقع ،وحظي بلعبة الطاولة .كان ال بأس به في كليهما ،فدخلت على موقع البنك الخاص بي ،وحولت أربعة آالف دوالر
جديدة على حسابي في البورصة .لم أتخذ قراري بعد ،ولكن التحويل يستغرق بين يومين إلى ثالثة أيام .على األقل أكون
مستعداً.
أمضيت اليوم شارداً ،كالزومبي الذي ال بفقه ما حوله .الحمد هلل أن اليوم هو يوم تسيير أعمال كما أسميه .ال توجد اجتماعات
هامة ،وال تقارير وال إعداد ميزانيات.
اتصلت على مدحت في الواحدة ظهراً وطلبت منه أن يمرني في المكتب مساء اليوم .قررت أن أفاتح مدحت في موضوع
الرسالة ،عله يجد لي طريقة للتأكد من مصداقيتها ،أو التعرف على مرسلها.
ابتسم وقال:
أخذنا نتجاذب أطراف الحديث وأنا على الوضع اآللي في الرد على المجامالت واألسئلة المعتادة عن الصحة ،واألوالد ،والعمل،
ثم جاءت لحظة الصمت التي كنت أخشاها.
تناول الهاتف المحمول وأخذ يقرأ الرسالة مراراً وتكراراً ،ثم قال لي
-بصراحة ال أفهم شيئاً من المذكور فيها عن المضاربة ،فهذا بعيد كل البعد عن مجالي.
قلت له:
-أنا ال أسأل عن المضاربة ،وال عن المعلومات الفنية بها .أريد أن أعرف ،هل هذه الرسالة حقيقية؟
فتسائل
-حقيقية؟
-نعم ،أريد أن أعرف الشخص الذي أرسلها ،من هو وكيف عرفني ،وماذا يريد مني ،هل بالفعل يعمل بالبورصة؟ ما مدى
وصوله للمعلومات الداخلية؟
-لو تقدر.
-ال ،أحتاج إنترنت من مكتبي .إنترنت مؤمنة ،كما أحتاج لحواسيبي بالمنزل.
-ال ،معي سيارتي ،اتبعني بسيارتك ،العنوان سهل ،شارع العباسية مقابل المدرسة الحسينية الثانوية.
نزلنا الدرج ،وذهبت معه إلى سيارته ،ثم تبعته حتى وصلنا إلى العنوان المنشود .أشار لي بأن أصف سيارتي ،ثم تبعته حتى
صعدنا إلى العمارة.
عمارة كبيرة ،عشرة طوابق ،بها مصعدان .عمارة من أيام الستينات ،ولكنها واضح أنها ما زالت تحتفظ بحالتها ،ويبدو أنها في
أيامها كانت أفخم عمارة في المنطقة .فتح الباب ،ودلفنا إلى الصالة .صالة كبيرة مزدانة بثريا .على حائط منها شاشة تلفاز 52
بوصة على األقل ،أمامه طاولة و أريكة وعليها جهاز بالي ستيشن وسماعات و جوي ستيك .ضحك وقال ،مرحباً بك في
الملعب.
الشقة رحبة فسيحة ،ومهندمة ومرتبة بدرجة لم أكن أتخيلها .لوحات جميلة تزين الحوائط ،وتناسق ألوان جميل .جو هادئ،
وإ ضاءة غير مباشرة ،يتحكم بها من ريموت .موسيقى تنساب ال أعرف من أين.
أشار لي بأن أدخل إلى الغرفة المقابلة .وقاد الطريق وسألني ،ماذا تشرب.
داع
-قلت له ال ٍ
بجوار الباب توجد طاولة عليها ماكينة قهوة و كبسوالت صغيرة بها كل أنواع القهوة التي يمكن تخيلها.
-هذا طاقم صالون أمي ،جددته ،ألحس بهم بجواري ،و في هذا الركن ،أعمل .هذه شقة أمي وأبي .تركها لي إخوتي،
واحتفظت بها .إيجارها أربعون جنيها بالشهر ،لقطة.
ناولني االسبرسو ،ثم ارتسمت على وجهه عالمة الجدية ،وجلس على الكرسي المقابل للحائط األيسر ،وطلب مني النقال .أعطيته
النقال ،فسألني:
وصل الجهاز على كابل ،ثم حرك فأرة فعادت شاشة إلى الحياة ،فتح شاشة سوداء ،وأخذ يطبع أشياء باإلنجليزية بسرعة مجنونة
و تتابع أسطر بسرعة على الشاشة ال أكاد أستطيع تمييز الحروف بها ،ثم استخرج فالشة جديدة من درج ،ووضعها في
حاسوب ،وما هي إال دقائق حتى أعطاها لي وقال:
-حافظ عليها ،هذه محتويات هاتفك النقال .لو خربنا الهاتف اآلن ،يمكننا استعادته من الملف الموجود هنا.
-حسناً ،هذا جيد ،ال توجد برامج تجسس ،اآلن نبحث عن برامج تسلل.
ثم ظهر برنامج آخر يبحث عن برامج تسلل .توقف البرنامج وأخذت الشاشة اللون األحمر و مكتوب عليها وجد برنامج كذا
للتسلل ،وظهر أسماء ما يربو على المائتين من الملفات .ارتسمت مالمح الجدية عليه ،وأخذ يقرأ شيئاً على الشاشة ثم ضحك
وقال .ال بأس سنمحوهم.
-تمحي ماذا
-إن هذه المواقع توفر الصور بالمجان ،إلنها تضع برمجيات خبيثة في هذه الصور ،وهذه البرمجيات تستخدم هاتفك النقال في
التعدين عن العمالت االفتراضية ،وإ رسال السبام .أكيد كنت تحس بأن هاتفك يسخن من فترة لألخرى ،واستخدام اإلنترنت في
هاتفك يفوق المعقول.
-حسناً ،ال تغير الهاتف .ستشعر حتما بالفرق ،ولكن ال تفتح هذه المواقع مرة أخرى.
وأخذ يطبع بعض األوامر على الجهاز ،واسودت الشاشة ،ثم ظهرت من جديد وعليها سفينة فضاء معطوبة ،وترس يتحرك ،ثم
بعد حوالي النصف ساعة ،عاد الجهاز للعمل مرة أخرى.
فتح الرسالة على الشاشة ،نقل الرقم اآلتية منه الرسالة وتناول هاتفاً آخر ،واتصل منه على الرقم .جاءت صفارة من الطرف
اآلخر ،داللة على عدم صحة الرقم.
-ليس بالضرورة .توجد بعض الشركات األمريكية التي تبيع هذه األرقام أون الين.
-قطيع الخراف؟
-نعم ،قد تكون هذه رسالة سبام ترسل آلالف الناس ،أمالً في أن يقوموا كلهم بشراء السهم في نفس الوقت ،فيرتفع.
-هناك احتماالن لذلك ،إما انه لديه برنامج تجسس على حاسوبك ،أو هاتفك النقال ،وهذا االحتمال غير وارد ،ألنني غيرت
نظام التشغيل بالكامل على حاسوبك ،الغياً كل شيء ،وكل البرمجيات الموجودة عليه ،وبالنسبة للهاتف ،لقد حدثته ،وتأكدت
بنفسي من أنه ال توجد أية برمجيات تجسس.
-ماذا تقصد؟
-أقصد أن لديه طريقة أخرى للدخول على حسابك ،ومعرفتك معرفة شخصية .إما أنه يستطيع الدخول على حساب البورصة
الخاص بك من برنامج المتاجرة ،وهذا صعب جداً الن اختراق هذه البرمجيات التي تعتمد على كلمة المرور التي تتغير كل
ثالثين ثانية يكاد يكون شبه مستحيل ،أو أنه يستطيع الدخول على حساب البورصة الخاص بك من شركة السمسرة.
ارتميت على المقعد ،وأنا واجم ،شارد الذهن ،ال أنبس ببنت شفة .أخذ مدحت يرمقني وعلى فمه ابتسامة باهتة ،وهو ال يعرف
ماذا يقول.
الفصل السادس عشر
دخلت للمنزل في الحادية عشر مساءا .الكل نيام .ذهبت إلى المطبخ ،وأعددت لنفسي ساندويتشاً ضخماً ،وجلست مع علبة الكوال
العمالقة في الصالة المظلمة بهدوء .لو تناولت وجبة دسمة ،حتماً سيساعدني ذلك على الخلود للنوم .أخذت أقلب األحداث في
علي أاّل أفعل شيئاً وسينتهي هذا الكابوس .إذا لم أقم
داخلي .إن الوضع ليس بهذا السوء .إذا أردت أن أنتهي من كل هذا ،كل ما ّ
بالعملية التي طلب مني أن أنفذها جيسي ،فستنتهي عالقتي به.
ماذا لو كان صادقاً؟ ماذا لو كانت هذه هي فرصة عمري؟ كم من الفرص ضيعت في حياتي ،واآلن أندم عليها .أرض الساحل
الذي رجاني أخي حمزة أن أشتريها بسعر عشرين جنيهاً للمتر .علبة سجائر بأسعار اليوم .اشتراك النادي الذي كان بألف جنيه،
شقة مدينة الشروق ،مقدمتها كانت راتب ثالثة أشهر ،و...و...
لو لم يكن أبي قد ترك لي بعض األموال ،ما استطعت أن أقوم بحياتي اآلن ...ماذا سأفعل ألوالدي؟ ماذا سأفعل لباقي حياتي؟
أنا اآلن أعمل بشركة قطاع خاص .أعيش من الراتب للراتب .لدي بعض األموال بالبنك ،تكفيني بالكاد ستة أشهر بدون دخل.
زوجتي تكدح معي ولكن كما نقول " الجاي على قد اللي رايح" بين مصاريف الحياة المتزايدة ،والغالء المطرد ،والحياة
االستهالكية التي نعيشها ،وتطور مغريات الحياة ،ومصارف اإلنفاق المتزايدة .ال وجود لشيء اسمه ادخار .أيام أبي وأمي،
كانت الحياة أبسط وأسهل كثيراً ...أيام التليفون أبو قرص .اآلن ،كل فرد في العائلة يغير نقاله كل سنتين .هل هذه هي الفرصة
التي أنتظرها لتحقيق شيئ ذي معنى في حياتي؟
دخلت غرفة النوم ،خلعت مالبسي ،ووقفت تحت الدش الساخن ،وتركت الماء الحار ينساب على جسدي بقوة ،يذيبني ،ويخدرني.
فرصة عمري في عمل شيء بحياتي .شخص يدعي أنه يعمل بالبورصة األمريكية اختارني ليعطيني نصائح قد تجعلني
مليونيراً ،وشرطه الوحيد ،أن أنفذ ما أقوله بدقة .يعرف عني وعن بيانات حسابي ما ال يجعلني أستطيع التملص منه .لم يطلب
شيئا في المقابل حتى اآلن .إذا تبعت نصيحته ،سأجازف بكل ما ادخرته من أجل تحقيق ثلث ما أملك في غضون أسبوع .طريقة
المضاربة التي يطلبها مني حرام .حرام ولكني لن أسرق من أحد .حرام ولكنها ليست ربا .حرام ولكن حتى التصوير في بعض
فتاوانا حرام.
كيف وصل جيسي إلى بيانات حسابي؟ الشيء الوحيد الذي تغير علي هو اللينكس .هل اللينكس هو السبب؟
ما إن وصلت المكتب ،حتى طلبت موظف من موظفي الدعم الفني .أخرجت حاسبي المحمول ،و جاءني شاب اسمه رامي.
أجلسته على طاولة االجتماعات ،وفتحت حاسبي المحمول ،وأنا أقول له.
-أريدك أن تتفحص جهازي هذا .أريدك أن تفحص إن كان به برامج تجسس أو خالفه.
جلس بصمت ،ونظر إلى الجهاز وهو يبدأ في العمل ،ثم تهللت أساريره عندما رآه لينكس.
-أفضل شيء يا أستاذ عباس هو نظام اللينكس ،فهو آمن بكثير من األنظمة األخرى.
-ممكن تتفحصه؟
فتح الشاشة السوداء ،وأخذ يطبع الكثير من األوامر ،وأنا أرمقه من فوق كتفه ،محاوالً الوصول لم يفعل.
-الجهاز ممتاز ،وال يوجد شيء مريب .إذا أردت ،يمكنني أن أنزل لك برنامج يجعلك ترى بالضبط كل ما يخرج من جهازك
من معلومات ،وإ لى أي جهة.
-أيمكن ذلك.
حسناً اآلن يمكنني التأكد من أن جيسي هذا يتجسس على أو أنه بالفعل يعمل بالبورصة ،أو لدى شركة السمسرة.
الفصل السابع عشر
في الرابعة والنصف مساءا ،قررت المرور على صوت العقل .أخي حمزة .اليوم األحد ،وال يوجد لدي وقت ،باكر بإذن اهلل يوم
االثنين ،اليوم المنشود .إما أن أنفذ الصفقة ،أوأضع كل شيء وراء ظهري ،وأضع تلك الفرصة ،في درج الفرص الضائعة
بجوار إخوتها من أرض الساحل ،وشقة الشروق ،و....
وصلت إلى عمارته بالشروق .نفس العمارة التي كنت سأحجز فيها الشقة إياها .أذكر أن جاءني أخي في يوم من خمسة عشر
عاماً وقال لي أن هناك مدينة جديدة على مشارف القاهرة اسمها الشروق ،تصميمها هايل ،وأسعار الشقق بها رخيصة .أخذني
من يدي لشركة المقاوالت التي تبنيها ،و أرونا المخططات .كل عمارة أربعة أدوار ،كل دور شقتين مائة وعشرون متراً للشقة.
قال لي يمكننا أن نأخذ شقتين متقابلتين ،ونصير جيراناً .ترددت كثيراً ،قال لي أنه يمكنه أن يقرضني مقدم الشقة ،ولكني
تراجعت في آخر لحظة ،و أنا أتحجج ببعد المسافة ،وما زلت أذكرني وأنا أقول " إيه اللي يقعدنا في آخر الدنيا؟" واآلن صارت
الشروق من أفخم المجمعات السكنية ،بمدارسها ،وأسواقها ...إشترى أخي شقتين متقابلتين بالطابق الثاني ،وجعلهم شقة واحدة،
ثم اشترى الشقتين السفليتين ،و جعلها فيال من طابقين .وقام بتعديل في العمارة ،ففتح لنفسه مدخالً خاصاً ،وصارت الحديقة
المقابلة له.
تحت مظلة نزلت من سيارتي ،ودخلت من البوابة ،ألجده يحمل خرطوم المياه ،يسقي الزرع .جلسنا في الحديقة على الطاولة
من تكعيبة عنب بديعة ،تهف بنا الرياح الباردة ،وال نسمع إال زقزقة العصافير ،و مرور سيارة من آن آلخر من بعيد .رائحة
الهواء مختلفة ،منعشة ،وبها الكثير من األكسجين الذي نفتقده في العاصمة المكتظة الملوثة .جاءت باكينام زوجته بعودها
الممشوق وشعرها الذهبي الذي يرفرف من حولها لتسلم علينا .من خلفها أتت الخادمة الفلبينية حاملة الشاي بالنعناع .ضحك
حمزة وهو يقول:
-نعناع أورغانيك من انتاجنا ،وأشار إلى مساحة ال تتعدى المتر المربع أمامنا مزروعة بالنعناع.
تبادلنا التحيات والمجامالت المعتادة ثم جاءت سهى ونهى وهدى بناته .طبعت كل منهما قبلة على خدي .النقطة الوحيدة التي
تفوقت فيها عليه،أنجبت الولد...
دخلت المنزل في الثامنة مساءا ،و بدلت مالبسي ،وجلست مع العائلة أتأملهم .قاسم يحبو على السجادة في الصالة ،ومعه حنان
الخادمة تشجعه ،وتناوله األلعاب من آن آلخر .فاطمة تجلس في الزاوية األخرى من الصالة ،تشاهد فيلماً على األيباد وكلها
تركيز .أطالع وزوجتي مسلسالً أجنبياً .غداً قد تتغير حياتنا لألبد .خطوة قد تغير مسار هذه العائلة الصغيرة.
وأخذت أتحضر للنوم.
ُ ت غرفة النوم،
انتهينا من المسلسل وتناول الفاكهة ،وتجاذب أطراف الحديث عن عملها وصديقاتها .دخْل ُ
وقلت:
ُ تبسمت
ُ دخلت السرير وأنا أنظر لهند نظرة ذات معنى...
تبسمت وقالت:
قمت من صباحي ،وكلي نشاط .أخذت دشاً ساخنا ،وصليت الفجر ونزلت لعملي .قررت أن أسلك طريقاً مختلفاً للعمل حتى
أخرج من وضع الطيار اآللي .أخذت أنظر من حولي للطريق ،وما يحيط بي من معالم لم أنتبه لها.
الطريق أطول قليالً ولكنه أمتع .أشجار تحف بي ،و النيل من جواري على طول الطريق .فتحت الشباك ،وأغلقت مكيف
السيارة ،وأخذت أستمتع بالهواء النقي.
وصلت المكتب ،وأديت الطقوس الصباحية المعتادة .فزت بعشرة الطاولة بعدد نقاط كبير ...حسناً ،عالمة جيدة.
وصلني إشعار بريدي بحظي اليوم " صفقة رابحة في الطريق إليك" … .رائع.
أمضيت اليوم بمزاج معتدل ،أسير األعمال كالعادة .صرفت آخر الموظفين بالخامسة مساءا ،ثم أعددت العدة.
فتحت برنامج المضاربة .أخرجت الرسالة من هاتفي المحمول ،وبيد مرتعشة ،بعد البسملة والحوقلة ،طبعت أمر التنفيذ للعملية.
استغرق التنفيذ أكثر من ربع الساعة ،ألن األسعار كانت أقل من األسعار التي ذكرها جيسي في الرسالة ،لكن تم تنفيذه في
النهاية .فتحت الرسم البياني للسهم المنشود ،وأخذت أطالعه .سعر السهم متذبذب للغاية ،مثله مثل أسهم التكنولوجيا ،تارة
يصعد ،وتارة يهبط .يتحرك في كل مكان بسرعة عالية مثل قطار المالهي المسمى األفعوانية المجنونة .المهم أال يصل إلى
31.60حتى ال أبدأ في الخسارة .أرجو أن يظل تحت الثالثين حتى أحقق المكسب األكبر .أخذت أراقبه لبعض الوقت ،ثم قمت
وعدت للمنزل .ال فائدة من جلوسي أمامه ،فقد عقدت العزم على أن أكمل التجربة لآلخر ،أيا كانت تكلفتها علي .الحمد هلل ،هذا
المبلغ ال احتاجه اآلن ،وال تعرف هند عنه شيئاً.
أعود للمنزل شارداً … قد تتعدل األمور بعد حين ،لكني عاهدت نفسي أال أمس المركز أيا كانت العواقب .تصالحت مع نفسي.
هذا هو الطريق الذي سأسلكه أيا كانت العواقب.
دخلت المنزل في السادسة والنصف مساء .بدلت مالبسي ،و أخذت أالعب قاسم وفاطمة ،حتى أنسى ما أنا فيه من هم.
كانت ليلتي ليالء .أقاوم الرغبة في فتح حاسبي المحمول ،ومراقبة المركز .على الفجر ،فتحت موقع أخبار البورصة من هاتفي
النقال ،و ألقيت نظرة على سعر السهم عند اإلقفال .كان السعر . 32.07ال بأس .خسارة ليست بالكبيرة.
قمت من صباحي من السرير ،وبعد صالة الجمعة ،تركنا األوالد لنذهب في زيارة تعذيبية إلى سميرة.
وصلنا في الخامسة مساء .فتحت سميرة الباب باشة مرحبة .رحبت بي ترحيباً مبالغ فيه .عندما دخلنا من الباب ،وجدنا مدحت
وكريمة عندهم .لم أكن أعرف أنني سأالقيهم اليوم ،ولكني أحسست بنوع من االرتياح لرؤية مدحت .على األقل لن أكون وحيداً
في مواجهة الدكتور موسوعة.
جلسنا في حجرة الصالون ،نتجاذب أطراف الحديث .وجدت مدحت وعادل منغمسين في مناقشة محمومة عن البيتكوين .عادل
يدلي بدلوه عن معرفته بالبيتكوين ،ويقول كأنما يسمع صفحة من الويكيبيديا عن تعريفها ،ومدحت يدافع بشراسة عنها ،كأنها بنت
خالته.
-هل يجب على العملة أن تكون غير قابلة لالختراق؟ ما رأيك يا أستاذ عباس .أنت دارس لالقتصاد.
يادي النيلة ،مالكم ومالي بس .ما تسيبوني في حالي .قررت أن أرد عليهم وأخلص.
-قبل العملة ،كان االنسان يتبادل الخدمات المقايضة ،ثم ظهرت العملة كوسيلة لالستغناء عن تبادل الخدمات ،فأصبح كل إنسان
يقدر خدماته مقابل معدن نفيس ،ال يتلف ،وال يفنى ،وصار التبادل بهذا المعدن (الذهب والفضة والنحاس) مقابل الخدمات .ثم
استبدلت الدول الذهب والفضة مقابل صكوك ورقية لتسهيل التداول ،ضامنة استبدال الصك النقدي بالذهب .في عام ،1972
ونتيجة للضغوط االقتصادية على الواليات المتحدة ،قررت طباعة العملة بدون سند من الذهب ،خالقة بذلك تضخماً غير مسبوق.
حذت حذوها الكثير من الدول ،وأصبحت العمالت الورقية بال سند ذهبي ،ولكنها تستند إلى الميزان التجاري ،وأرصدة الدولة
من العمالت األخرى .البيتكوين هي معادلة حسابية ليس إال .ال أصل ،وال سند وال قيمة .نصب في نصب.
رفعت رأسي اليهم بعد أن انتهيت من الجملتين التين قلتهما ،ألجدهم ينظرون إلى نظرة غير المصدق .تشاغلت باللعب في
سبحتي ،كأني لم أقل شيئاً.
سميرة ال تألوا جهداً في حشو معدتنا بالطعام النباتي ،وقد تفننت في عمل بدائل للحوم بأصناف مليئة بالبهارات ،وسلطات.
نثني على الطعام كالضيوف المثاليين .بعد الطعام ،تنشغل السيدات في رفع الطعام عن المائدة وإ عداد الشاي .أقوم ومدحت إلى
الشرفة لندخن ،تاركين عادل مع أم سميرة.
أسأله
مباراة مصر اليوم في تصفيات ال أعرف ما هي .جلسنا حول التلفاز الضخم ،متابعين المباراة ،وطبعاً كعادتنا كمصريين ،تحول
كل منا إلى مدرب خبير في علوم الكرة ،وفنونها وأساليبها ،ونعلق تعليقات سلبية على أداء المدرب الذي كان من المفروض أن
يلعب بخطة . 3-5-5متى سيقتنع المصريون أنه ال أمل لنا في الكرة سوى أن نلعب كمشجعين .الفساد المستشري في الرياضة
لن يسمح بصعود إال بعض المواهب الفردية التي لن تنجح إال إذا استثمر فيها أحد وربى الموهبة بالخارج .عموماً أدينا بنتسلى.
انتهت المباراة بالتعادل السلبي لحسن الحظ .قمنا بعد المباراة لننصرف .شددت على يدي الحاضرين ،وتوجهنا نحو السيارة.
جلست هند بجواري في السيارة ،وقد استعدت ما أنا فيه من مصيبة .أدرت محرك السيارة ،وبدأت في االستعداد للشرود ،عندما
وجدتها تتشبث بذراعي األيمن .نظرت لها وأنا غير فاهم لما يحدث .نظرت لي نظرة ،أعرف مغزاها جيداً وأترقبها من الشهر
للشهر .أسرعت بالسيارة بسرعة جنونية قبل أن تغير من رأيها.
دخلنا المنزل في العاشرة والربع ،آملين أن يكون األوالد قد ناموا .وجدنا األنوار مطفأة فانطلقنا إلى حجرة النوم ،وكانت ليلة
ليالء .أدت هند فيها أداء أفضل من هند رستم في زمانها .لم أرها بمثل هذا الغنج من قبل .قامت حركات وأتت بأصوات لم أكن
أعرف بأنه بإمكان أية امرأة في العالم أن تؤديها إال تمثيالً في فيلم رخيص .تمنيت أن تدوم الليلة حتى آخر العمر.
دخلت الحمام وأنا أتصبب عرقاً .فتحت الدش البارد وتلمست الصابونة ،وإ ذا بهند تنضم إلى تحت الدش ،وضمتني إليها بقوة.
استحممنا ألول مرة سوياً.
دلفت إلى فراشي ،وجسمي خدر ،متعب أريد أن أنام .وجدت هاتفي يضيء داللة على وصول رسالة واتس أب .كانت من
جيسي
“مبروك عليك ال 3400دوالر ،ألقاك على خير يوم كذا .توقع مني رسالة األسبوع القادم .ال تنفذ أي عمليات أخرى حتى تأتيك
مني التعليمات”.
فتحت موقع أخبار البورصة متلهفاً فإذا بي أجد السعر النهائي للسهم قد أقفل على .29.90
فقلت لها
فاطمة تحاول أن تردد له نفس األغنية ،وال تستطيع تذكر الكلمات ،فتدندن بما تذكره منها .هند ابتسامتها من األذن لألذن.
نصل إلى الفيوم بجوار بحيرة قارون .رأيت لوحة لزيارة القرية التونسية .تونسية في مصر؟ ماشي ،وماله .دخلنا القرية
التونسية فإذ به قرية أسستها سويسرية اسمها إيفونا ،لصناعة الخزف .أدخلت في المكان مدرسة للخزف ،يعرضون طريقة صنع
الخزف من البداية للنهاية .تخليدا لذكرى اليوم ،اشتريت أكواب خزفية عليها أسماؤنا ،صنعت أمامنا.
ثم ذهبنا إلى وادي الريان ،حيث الشالل .والشالل بألف والم التعريف هو شالل صغير ،ولكنه الوحيد في مصر ،فالتقطنا بعض
الصور ،ولم نقرب المياه ،ألنها مشكوك بها ...شكلها مليئة بالطحالب .الجو شتوي جميل ،فتوجهنا نحو بحيرة قارون.
نسمة الهواء البارد جميلة تحت شمس الفيوم الدافئة ،فقررت هند أن تفرج عن شعرها ،ووضعت اإليشارب وضعاً فوق رأسها
كالحجاب اإليراني ،مغطياً عنقها ،والثلث األخير من رأسها ،وشعرها األسود الفاحم يلتمع تحت الشمس ،وتتطاير خصلة منه
على عينيها وتدخل تحت النظارة الشمسية.
استأجرنا فلوكة ،وهي قارب صغير ،وأخذناها في رحلة داخل البحيرة .المراكبي يجدف وهو يدندن بأغنية
جاء وقت الغداء ،فذهبنا إلى مطعم .طبعاً أكلنا بط فيومي ،وسمك ،وحلينا بمشلتت .كان يوماً ال ينسى ،الجو جميل ،والمزاج
ٍ
عال .فاطمة ال تفارقني .أحملها على كتفي طوال اليوم ،وهي مستمتعة .عندما أنزلها ،وتمشي قليالً تشدني من بنطالي وتقول
لي:
-أنمشي؟
فأرد عليها قائالً -بل نطيييير ...وأنقض عليها وأحملها من تحت إبطيها حتى تستقر على كتفي .أمسكها حتى ال تقع .تحرك
رأسي يميناً كي أستدير يميناً ،و تشد رأسي شماالً فأستدير شماالً .يغير قاسم منها ،وهو ال يستطيع الكالم ،فيهمهم ،ويمد يديه
فأحمله ،وفاطمة ما زالت متشبثة برأسي .تقتنص هند الفرصة ،وتأخذ في تصويرنا صوراً تمأل ألبومين .تدندن حنان بإهزيجة
الفلوكة ،فيهتز قاسم جيئة وذهاباً بين يدي ،وفاطمة تكافح من أجل البقاء على كتفي مثل مصارع الروديو الذي يكافح من أجل
البقاء فوق ظهر ثور هائج.
ألول مرة منذ زمن أحس بنعمة العائلة .بالماضي ،كنت أحس أنني مدفوع دفعاً لتكوين األسرة .أعمل من الصباح للمساء كي
أعيلهم ،و بالكاد أوفي احتياجاتهم .في اإلجازة األسبوعية ،أكون منهكاً بدرجة ال أستطيع معها المكوث معهم إال قليالً .أتناول
عشائي كل يوم ،وهم من حولي يحاولون شد انتباهي ،وأنا شارد أرد بعبارات مقتضبة .ضيعت حياتي وأحلى سنين عمري بين
عمل ال يسمن وال يغني من جوع ،ومشاهدة حلقات فارغة على التلفاز ،وزيارات ومجامالت فارغة ،وضيعت على نفسي تلك
اللحظات الجميلة التي هي كل ما يبقى لنا في ذاكرتنا.
أنظر إلى فاطمة ،ذات السبع سنوات ،و أقول لنفسي :متى كبرت هذه الفتاة .ال أذكرها عندما كانت مثل قاسم ...ال توجد بيني
وبينها أية ذكريات .كيف أضعت على نفسي كل ذلك؟
اليوم الذي يمر بين استيقاظ وعمل فأكل فنوم هو يوم مر من حياتنا ،بال بصمة ،يوم هرب من حياتنا ...يوم ضائع .أي يوم ال
يمكننا تذكره هو يوم ضائع ،ال يمكننا استعادته.
قاربت الشمس على المغيب ،فلملمنا من أنفسنا ،وجلسنا في السيارة .نام الطفالن من فورهما ،وأغمضت حنان عينها .تراجعت
هند في الكرسي ،وأسندت رقبتها على المخدع ،وتمسكت بيدي اليمنى ،ال تفارقها حتى وصلنا المنزل .أنمنا الطفلين ،وتسللنا
كالعاشقين تحت جنح الظالم نرتشف من الكأس التي ذقناها باألمس .كانت ليلة ليست كالليلة الماضية .كانت ليلة دافئة ،مليئة
بالنظرات والقبل واألحضان .لم نتبادل كلمة واحدة ،كل ما أردنا أن نقوله كنا نعبر عنه في ضمة طويلة ،استيقظنا ونحن على
نفس وضعنا ،متعانقين متداخلين.
الفصل الواحد والعشرون
أفقت من صباحي قبل المنبه ،وكلي نشاط .تململت هند في الفراش ،ونظرت لي بعيون ناعسة ،وابتسامة جميلة .شعرها الغجري
المجنون ،يغطي الوسادة ،ويحيط بوجهها في عشوائية جميلة .أنظر اليها بدون مساحيق تجميل ،وأتأملها بوجهها األبيض
الطويل ،وأحس برغبة محمومة في أن أقبلها حتى ال أدع مساحة قيد أنملة ،دون أن أطبع عليها قبلة حنون .أنظر إلى عينيها
السوداوين ،وأغرق في بحر من الكلمات والعتابات الصامتة .أضع رأسها المستسلم بين مرفقي وساعدي وأربت على شعرها
وأملس عليه وهي تنظر لي مستسلمة .تغمض عينها مع كل لمسة لرأسها ،وتفتح عينيها كلما فارقت يدي رأسها.
مكثنا طويالً على هذا الحال ،نتبادل النظرات واللمسات ،دون أن أقول شيئاً .تركت ليدي أن تعبر عما أحس به بتلك اللمسات
الحانية الخفيفة التي ال تكاد تمسها .أجدها تهتز بتناغم تحت إيقاع لمساتي .أجد نفسي أدندن بإيقاع أنشودة الفلوكة بصوت ال
يسمع ،فقط اإليقاع
ثم دفعتني على الفراش ،وانقضت على تلثمني بالقبالت وقالت كلمة واحدة:
-دورك
وقامت بأداء حركات لم أرها في أجرأ األفالم التي كنت أشاهدها ...استسلمت لغفوة وأنا أهتز.
قمت من غفوتي ،ألجدها آتية للغرفة بصينية القهوة ،وباقي المشلتت من رحلة األمس.
جلست على طرف الفراش ،ووضعت الصينية على السرير وأشعلت لي السيجارة بفمها ،ثم ناولتني إيها وهي تقول...
الطريق شبه خال من السيارات ،ولكني أقود السيارة بسرعة بطيئة نسبياً .أفتح النافذة وأستمتع بهواء الشتاء النقي.
أفكر فيما حدث لي في األيام القليلة الماضية .ماذا تغير في حتى صرت في هذا الحال؟ إلى متى سأظل شخصاً بال قرار ،تأخذني
األمواج المتالطمة من حولي ،وتحرك حياتي كيفما شاءت .إلى متى سأظل سلبياً إلى هذا الحد؟ أخاف من المخاطرة بأي شيء
خوفاً من المجهول ،وطلباً للمضمون؟ أتقوقع في داخلي ،متحمالً إساءات اآلخرين من حولي .أما آن األوان ألن أتغير؟ يستغلني
كل من حولي وكأني ممسحة الباب ،يمسحون فيها أقدامهم بغير نظر إليها.
وصلت المكتب في العاشرة والنصف .نظرت إلى ماكينة البصمة ،وابتسمت ابتسامة صفراء .مررت بالموظفين الذين نظروا لي
باستغراب .أول مرة أتأخر عن العمل .أدخل مكتبي ،يلحقني الساعي بالقهوة .يتراص الموظفون أمام باب المكتب ،فأصرفهم
بإشارة مني ،وأستدعي كل من كريم وكمال.
يأتي كريم أوالً ،يدخل المكتب مبتسماً .أتشاغل بتصفح بعض األوراق من ملف العميل العراقي .يجلس على الكرسي المقابل
للمكتب ،فأقول له دون أن أرفع نظري عن األوراق التي أمامي:
أجلس على مكتبي ،وأنظر اليهم وهم جالسين على طاولة االجتماعات من بعيد .أحدق في كريم طويالً دون أن أتكلم .ال يجرؤ
أحد على التكلم ،ويخيم على الغرفة صمت ثقيل.
-تقريبا …
-الوالد ساعدني
-والدك كان بيشتغل هنا في الشركة ،وآخر راتب له كان 7000جنيه شهرياً ،وقبل ما تقول المكافأة ،كانت مكافأة نهاية الخدمة
له 50ألف جنيه .أبوك مستلف عشان يجوز أختك من سنة .يعني مش محوش .راتبه التقاعدي من نقابة التجاريين والتأمينات ما
بيكمل 5000جنيه.
ينظر إلى نظرة حائرة ويتلعثم ،وتغمر جبينه حبات من العرق البارد.
-من أين لك هذا هو قانون يتيح للنيابة أن تحقق معك في حساباتك ،ويجب عليك حينئذ أن تفسر من أين أتاك كل مبلغ في
حسابك .تليفون واحد لألستاذ فريد ،بنجيب النيابة هنا ،وحبايبه كثيرين ...عارف هيعملوا معك ايه؟
هيطلعوا كل حساباتك ،واألصول اللي عندك ،شقة التجمع ،السيارة ،الفلوس اللي في البنك و ه "يناقشوك" مناقشة أخوية
بأساليبهم ويعرفوا بالضبط انت جايب الفلوس منين.
يتدخل كمال
-من فضلك ما تقاطعنيش ،وأنا مش عبس بالنسبة لك .أنا األستاذ عباس .إحنا مش قاعدين على القهوة.
-يا أستاذ كريم .أنا بأعطيك فرصة أخيرة .عندك خمس دقائق ،لو خرجت من مكتبي من غير ما نتفق ،سأبدأ إجراءات لن
تكلفني شيئاً لكنها ستكلفك مستقبلك ...فكر كويس قبل ما ترد علي … عملية العراق ...من العميل ،وفين الفلوس.
تراجعت في كرسي ،منتظر الرد ،وأنا أنتفض.
أطرق ببصره في األرض ،و انهمرت دموع صامتة من عينيه ،حتى تساقطت على الطاولة.
خيم صمت مطبق لفترة ليست بالوجيزة في الغرفة .إذا ألقيت اإلبرة ،ترن .يتعالى صوت الساعة المعلقة على الجدار ،معلنة
الثانية بالثانية .صمت مطبق ،تظلم فيه الغرفة تدريجياً.
-األستاذ زياد يبقى معرفة األستاذ خالد .أنا كنت بأنفذ األوامر ،ونسبتي كانت أقل نسبة فيهم .األستاذ خالد هو اللي قال لي إحنا
نبيع السعة على شركة األستاذ زياد ،وهو يبيعها على قناة شرق الفرات مقدم كاش .أنا بعت السعة من األستاذ زياد لقناة شرق
الفرات بأقل من سعرها عشان يدفعوا مقدم كاش .قناة شرق الفرات ما لهم دخل .بعدها األستاذ زياد حل الشركة ،وغير نقاله.
األستاذ خالد قال لي إن ده حقنا ألن الشركة ما بتدفع لنا عموالت ،وبتسرقنا كل شوية في العموالت ،بحساب الكوتا ،وتطلعنا
مقصرين ،وإ حنا الزم نعمل فلوس لنفسنا .يعني الفلوس دي فلوسنا .مش هتؤثر على الشركة ،النها عملية صغيرة .في النهاية،
الشركة هتعدم الديون الن ما في حد هيقدر يروح العراق و يعمل مشاكل هناك ،وكمان قناة شرق الفرات مش هنقدر نفصل
عنهم السعة ألننا لو وصلنا لنهاية العقد ،هنبقى عايزين نجدد مع القناة نفسها ،بدون وسيط .األستاذ كمال ساعدنا في العقد ،وقبول
الضمانات اللي قدمها األستاذ زياد ،وأخذ خمسين ألف جنيه .أنا مش لوحدي ،ولو هأقع ،مش هأقع لوحدي.
-انت مجنون؟ انت بتقول ايه؟ يا مغفل ،قانون من أين لك هذا ده بينطبق على الموظفين العموميين يا مغفل .أسكت.
وقف متردداً ،ثم عاد ووقف بجوار طاولة االجتماعات ،فقلت له.
-أنتم موقوفون عن العمل حتى إشعار آخر .سنفتح تحقيقاً في الموضوع وفلوس العملية دي هترجع يعني هترجع.
وأخرجت هاتفي النقال الذي سجلت عليه كل شيء ،وقلت لهم ،اعترافاتكم مسجلة فما فيش داعي لإلنكار.
نظر إلي نظرة كلها حقد .أشرت اليهم باالنصراف ،واتصلت على فريد بك.
-يا فريد بك ،فيه سرقات في الشركة ،وأنا حابب أبلغ حضرتك بها ،وخلينا نشوف ممكن نتصرف إزاي.
أخذت أشرح لفريد بك كيف يقومون بسرقة الشركة عيني عينك ،وقلت له الوسيلة ،وأخبرته بأنه لدي األدلة على ذلك .نظر إلى
وهو غير مصدق إلى أي مدى تفتق ذهنهم عن هذه الخطة.
-رأيي إننا ما نسكت على الموضوع ده .نعمل تحقيق ،ونحاول نجيب اللي نقدر نجيبه منهم ،ونوقفهم عن العمل ونرفتهم.
-لكن هذا سيسبب هزة كبيرة للشركة .أنت تعرف جيداً أن هزة مشكلة الحسابات التي حدثت منذ ثالث سنوات قد أثرت على
مركز الشركة في السوق.
-أخاف من دخول النيابة مرة أخرى الشركة .مازلت أسدد الجمايل من الكبوة السابقة.
-يا فريد بك ،يجب أن نأخذ خطوة إيجابية ،وإ ال ستتفشى السرقات.
نظر لي فريد طويالً وهو يفكر .العملية بالنسبة له ليست صفر و واحد كما هي لي .هناك اعتبارات أخرى كثيرة .سمعة
الشركة ،الضجة التي ستحدث من وراء هذه الفضيحة .العقود التي سنخسرها بسبب معارف خالد وكريم...
-من سنثق به اآلن؟ إذا كان مدير الشؤون القانونية متورط في الموضوع؟
آه كنت أخشى من هذا ...خالد يتفاوض مع شركة تيلينور للحصول على سعة من قمر في نفس مدار النيل سات ،وهذه العملية
حساسة ،وستحدد مسار الشركة في الخمس سنوات القادمة.
قلت له ،وكلي ثقة.
-يا فريد بك ،لو خليت األستاذ خالد زي ما هو مدير مبيعات ،صدقني ،عملية تيلينور هتبقى خاسرة .الفاسد فاسد ،والحرامي
حرامي .لو هو ماسك العملية دي ،أكيد هيطلع منها عمولة محترمة .حجم السعة اللي بنشتريها حوالي 5مليون دوالر ،بندفعهم
مقدم ،وبعدين نعيد بيعها .ممكن يطلب منهم عمولة كبيرة ،والخسارة هتكون خسارتنا في اآلخر.
تركت الكالم الذي قلته معلقاً في الهواء ،يتردد في صدى الغرفة لفترة .اعتدل بعدها فريد في كرسيه ،وقال:
-عندك جق .اوقفهم عن العمل ،وابدأ تحقيق في الموضوع ،بس حاول تحتوي الموضوع على قد ما تقدر.
الفصل الثالث والعشرون
شغلت السيارة وأنا واجم .خطتي نجحت ،وكشفت السرقات ،ولكن ،لماذا لم أحس بارتياح؟ أخذت كلمة كريم تتردد في ذهني.
نحن نغالطهم في العموالت ،وبالتالي هم يسرقوننا للحصول على حقهم من العموالت .قانون العموالت في الشركة قانون قديم،
يحتم على البائع أن يبيع بمبلغ ضخم ،مقابل راتبه قبل احتساب أية عموالت .يعني لو راتبه ألف جنيه مثالً ،يجب أن يبيع بمليون
جنيه ،ال تحتسب عليها عمولة ،ونحتسب له العمولة بعد ذلك بنصف بالمائة من أرباح المبيعات التي تفوق المليون جنيه .وهنا،
عند احتساب األرباح ،نخصم منها جميع التكاليف .وفي التكاليف ،تكمن المشكلة ،ال نحمله بالتكاليف المباشرة للعملية ،ولكن
نحتسب عليه تكاليف إضافية ،مكتب فريد ،إيجار الشركة ،مصروفات إدارية ،سيارات اإلدارة ،ضرائب ،ضرائب مبيعات،
رشى ،ضيافة ...كم عظيم من التكاليف ،تحت بند التكلفة غير المباشرة ،لدرجة أن عملية المبيعات التي ال يتعدى فيها الربح
خمسة عشرة بالمائة ،تكون خاسرة عند احتساب العموالت.
إنها دورة السرقة المعروفة .المدرس ال يكفيه راتبه ،فال يشرح بالحصة ،ويجبر الطلبة على أخذ دروس خصوصية .إبن أمين
الشرطة ،يأتي له ويطلب منه درساً خصوصياً ألن المدرس ال يشرح ،ويضربه في الصف .ال يكفي راتب أمين الشرطة آلخر
الشهر ،فيضطر إلى أن يخالف السيارات طمعاً في رشوة ليزيل المخالفة .يخالف موظف حكومة ،الذي بدوره يتقاضى رشوة من
أجل إنجاز معاملة من المدرس .حلقة محكمة من الرشا والسرقة ،منغمسة فيها البلد بطريقة ،ال أعرف كيف نكسرها.
أخذت تتردد في ذهني اآلية "فأوفوا الكيل والميزان" وكيف شرحها لي أبي رحمه اهلل .قال لي كل منا يؤدي خدمة أو يبيع سلعة
واحدة ،ويشتري باقي خدماته وسلعه من آخرين .إذا كان يبدو أني أتربح من بخس الناس أشيائهم ،سواء بسرقات أو برشاً،
فسوف أخسر أكثر بكثير عند شرائي باقي السلع والخدمات التي احتاجها.سأدفع أضعاف ما سرقته ممن بعتهم الخدمة المنقوصة.
كان موظفاً حكومياً في منصب كبير ،وكان مسؤوالً عن إدارة بها الكثير من مصارف الرشوة ،ولم يتقاض رشوة في حياته.
ورزقه اهلل من وسع ،ومن خير دون رشوة .كان كلما أمسك شيئاً تحول إلى ذهب .وجد في مرة زميل له يقول له " أحتاج مبلغاً
من المال ،لم ال تشتري مني قطعة أرض اشتريتها في الصحراء ،بمبلغ أربعة عشر جنيهاً للمتر؟ قال له والدي :يمكنني أن
أقرضك المبلغ ،وال تبيع األرض ،فرد عليه الزميل ،ال .فأنا ال احتاجها .اشترى والدي منه األرض ،التي كانت في منطقة
صحراوية ،صارت مدينة 6أكتوبر ،وصار المتر بخمسة آالف جنيه في غضون بضعة أعوام .وجدت أمي أوراق األرض مرة،
فأرتها له ،فنظر إليها مستغرباً ،وتذكر بعد فترة .أخذنا لرؤية األرض ،ووصلناها بعد جهد جهيد ،وتكالب عليه السماسرة حتى
بسعر ٍ
مجز .كان اهلل يعوضه عن نزاهته وأمانته .ومثل ذلك مثل الكثير مما كان يحدث له .كان كما يقولون ميداس... ٍ باعها
يحول التراب لذهب ،ولم يكن أحد يدري ما سره.
أذكر أن سمعت الشيخ الشعراوي رحمه اهلل يرد على سؤال وجه إليه في مناقشة:
قال له السائل:
-بلى
-كيف يقدر اهلل لإلنسان رزقاً من حرام؟ وكيف يحاسبه على رزق حرام إذا كان قد كتبه عليه.
وصلت المنزل ،وألقيت كل شيء وراء ظهري .لي عائلة يجب أن أستمتع بهم.
الفصل الرابع والعشرون
ذهبت من صباحي للعمل ،وكلي تصميم .يجب أن أصلح المنظومة بالكامل .عكفت على كتابة تقرير طويل بالئحة العموالت
للشركة .عدلت الالئحة لكي يكون احتساب العمولة على أساس األرباح المباشرة للعملية ،ودون كوتا .طبعت األوراق ،وذهبت
لفريد بك.
-يا فريد بك ،الموظفون ال يحصلون على حقوقهم ،وبالتالي يحسون بالغبن ،الذي يجعل بعضهم يفكر في أساليب ملتوية من
أجل أن يحصل على ما يظن أنه حقه.
لدهشتي الشديدة ،لم يعلق ،ولم يسأل عن الكلفة اإلضافية للعموالت .أخرج قلمه الذهبي من جيب سترته ،ووقع األوراق وهو
يقول:
-ابقى خلي حد منهم يسرق تاني.
عدت إلى مكتبي فرحاً .على األقل أصلحت مكاني وقمت بدوري.
الفصل الخامس والعشرون
جاءتني رسالة من جيسي يوم االثنين صباحاً.
“صديقي .سنبدأ اآلن في المخاطرة فقط بأرباحنا .بعد هذه العملية ،ستسحب العشرة آالف التي استثمرتها في البورصة،
وستضارب باألرباح فقط .بع condor 20للسهم ذاته كالتالي
كانت العملية الطلوب تنفيذها أعقد قليالً من العملية السابقة ،ولكني كنت قد سجلت المواقع التي دخل عليها هاني ،فدخلت عليها
واستطعت أن أرسم الرسم البياني الذي رسمه .هذه العملية تبدو أصعب من التي سبقتها تسمى باالنجليزية condorوبالعربية
تعني النسر االمريكي وذلك من شكل منحنى الربح والخسارة الذي يشبه النسر ،وتبدو لي أنها منطقية إلى حد كبير .تحقق
أربعين ألف دوالرا مكسباً بمخاطرة قدرها أربعة آالف فقط .تعتمد على خليط من بيع وشراء عرابين على أسعار مختلفة حتى
نحصل على هذا الشكل.
تحقق مكسبا إذا
كان سعر السهم
ساعة اإلقفال
في أي سعر
عدا بين 31.5
و .32.5وسعر
السهم اآلن
ثالثون دوالراً.
أي أنه يمكنني تحقيق عشرة أضعاف ما أستثمره بنسبة تتجاوز السبعين بالمائة .أي استثمار يمكن أن يجلب عشرة أضعاف قيمته
في أسبوع بنسبة تحقق سبعين بالمائة؟
اقتنعت من فوري بالعملية ،وقررت تنفيذها دون الرجوع لهاني .حتى إذا خسرت ،فالمبلغ المستثمر هو تقريباً من األرباح.
انتظرت حتى الخامسة والنصف ،واتصلت على شركة السمسرة ،ألني لم أعرف كيف يمكنني تنفيذ هذه العملية المعقدة ،فساعدني
موظف خدمة العمالء على تنفيذ العملية المعقدة .حاول أن يشرح لي كيف أنفذها ،أو كيف ألغيها ،ولكن هذا كان فوق طاقة
استيعابي.
بعد أن تأكدت من تنفيذ العملية ،ذهبت إلى البيت وأنا أكثر اطمئناناً
الفصل السادس والعشرون
يوم الثالثاء ،ألتقي مع أصدقاء الطفولة .الجميع موجودون ،أمجد ومصطفى وهاني .نجلس كعادتنا في كوفي بين جامعة الدول
العربية في الطابق الثاني .بعد التحيات والسالمات المعتادة ،يبدأ هاني في سؤالي عن البورصة.
-قلت له ،يا أمجد يا حبيبي ،طلع تليفونك ودور على الحكم الشرعي في التصوير
لم انتظر إجابته ،وأخرجت هاتفي النقال ،وبحثت عن الفتوى وقرأتها له:
ما رأيكم فيمن يقول" :إن التصوير الفوتوغرافي لإلنسان جائز ،أما التصوير الذي يكون برسم اليد فهو الحرام"؟ وما نصيحتكم
لألخوات الالتي يتقدمن للفتوى بغير علم؟
الجواب:
التصوير ال يجوز ،ال باليد وال بغير اليد ،التصوير كله منكر ،والرسول عليه الصالة والسالم لعن المصورين ،وقال ﷺ :أشد
عذابا يوم القيامة المصورون ،وقال :كل مصور في النار والمصور :يعذب بكل صورة صورها لنفسه في نار جهنم.
الناس ً
ولما رأى النبي صورة في قرام لعائشة ،قبضه ومزقه وقال :إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ،ويقال لهم :أحيوا ما
خلقتم .فالواجب على كل مسلم أن يحذر التصوير ،وقد ثبت عنه أنه لعن آكل الربا ،ولعن موكله ،ولعن المصور ،ولعن الواشمة
والمستوشمة ،يعني الحذر من هذا ،فآكل الربا ،والواشمة ،وتصوير ذوات األرواح كتصوير حمام أو دجاج أو بعير أو إنسان أو
عصفور أو غيره كل هذا فيه روح ال يجوز تصويره ،ال في األوراق ،وال في الخرق ،وال في الخشب ،وال في غيره ،وال
مجسم كذلك ال يجوز.
جميعا ،يجب على كل إنسان أن يتقي اهلل ،وعلى كل امرأة أن تتقي اهلل،
ً ويجب الحذر من الفتوى بغير علم على الرجال والنساء
وأال يفتي كل منهما إال بعلم ،فال يجوز أن يقول على اهلل بغير علم ،الواجب على كل مسلم أن يحذر من ذلك؛ ألن الفتوى بغير
علم خطرها عظيم ،الواجب على المؤمن أن يحذر ذلك وأال يقول إال بعلم ،وأن يستغفر اهلل على ما سلف منه.
انتهيت من قراءتي ثم قلت له ،يا أخي .انهم يفتون إلينا فتاوى تكاد أن تكون مستحيلة .كيف نحمل بطاقات مدنية ،أو جوازات
سفر بدون صور نستدل بها على الشخص؟ كيف تكون الجرائد بدون صور وفيديوهات تدعمها؟ كيف يتقدم الطب بدون تصوير
اإلنسان؟ كييف يدرس طالب الطب التشريح بدون صور؟ كيف نعلم الطفل أسماء األشياء بدون صور؟ تخيل كتاب الصف األول
االبتدائي بدون صور؟ طيب التاريخ؟
-انت ما فيش فايدة فيك؟ يعني كارنيه الباص ،واشتراك المترو هيكون بالبصمة؟ تعال نمسك الخيارات .إذا كنت أريد أن
أضارب بالبورصة ،لو اشتريت أسهم فهي حالل ،ونسبة نجاح الشراء هي خمسين بالمائة ،أي أنني أحقق مكسباً فقط إذا صعد
السهم ،أما إذا بعت تأميناً ( )putفأنا أربح عند صعود السهم أو بقاءه مكانه ،أي في ست وستين بالمائة بدون تحليل ،وتقول لي
حرام؟ ده أنا بأقول لك حرام إني أشتري سهم لو كان عندي طريقة أضمن الستثمار أموالي.
-أنا لست مفتياً كي أحكم على موضوع التصوير ،ولست عالماً حتى أفتيك فيه ،ولكني متأكد أن هناك فتوة ما للضرورة تبيح
التصوير للوثائق الرسمية ،لكن بالنسبة للبورصة األمر واضح ،وخاصة بالنسبة لسوق الخيارات.
أخذت أشرح لهم النسر أو الكوندور وأرسمه لهم وكلي فخر .فنظر أمجد لهاني وضحكا في آن واحد وقال أمجد:
-هل تعتقد أنه فعالً نسبة تحقق العملية 66أو ثمانين بالمائة؟
-يا أخي ،ركز معي ،وسأقول لك على السر .السر في العرض والطلب ،والروليت!
-نعم .ما تراه أنت من سعر للعرابين والتأمين ما هي إال مراهنات المغفلين الذين يراهنون على سعر السهم وتوقعاتهم لحركته.
إذا توقع الكثير منهم أنه سيصعد ،يشترون عرابين مراهنين على صعوده ،وبالتالي يرتفع سعر العربون .وإ ذا توقع الكثير منهم
هبوط السهم يبيعون عرابين ،متوقعين أن تنتهي مدتها والسهم تحت سعر التنفيذ.
-حسناً ،هذا ما أفهمه.
-إذن يا صديقي ،ما تراه هو ترجمة سعر لرهانات المراهنين .وبالتالي ،ففي حالتك األولى ،كان أكثر المراهنين يراهنوا على
هبوط السهم .أتعرف ممن يشتروا أو يبيعوا هذه العقود؟
-ال ،غالباً ما يشتروا العقد من صانع السوق ،وصانع السوق لديه السيولة واألموال الطائلة التي تجعله يتحكم في سعر السهم
يوم انتهاء العقود ،وبالتالي ،وحيث أنه ال يريد أن يخسر ،يشتري أو يبيع السهم الذي يتحكم فيه ،حتى يجعله يستقر عند السعر
الذي يجعله الرابح األكبر ،ويجعل المضاربين الخاسر األكبر ،ولذا ،فعندما تكون عملية مثل التي أريتنا إياها ،والتي تحقق عشرة
أضعاف المبلغ المستثمر هي في الحقيقة بنسبة نجاح %10فقط وليس .% 66إنها بالضبط كأنك تراهن على حصان ضعيف.
فنسبة المربح في هذا الحصان تكون 10:1ألن احتمالية فوزه ضئيلة.
نظرت إليه وقد أفحمني ...ظللت أجادل ،ولكنه زرع الشك في نفسي.
قال هاني:
-على أفضل األحوال ،أي عملية بالبورصة ،تكون نسبة نجاحها %50على األحسن ،ولكن الروليت...
-تاني الروليت؟
-يا أخي العزيز ،قاعدة الروليت هي أهم قاعدة يجب أن تستوعبها إذا كنت تريد أن تضارب بالبورصة .أتعرف كيف يفتش
األمريكيون على نوادي القمار حتى يتأكدوا من أن النوادي ال تغش زبائنهم؟
-ال ،ما حصل لي الشرف.
-الروليت يجب أن تعمل لمصلحة النادي أو ال houseوبالتالي ،فهم يسمحون للنادي أن تكون له األفضلية .ونسبة األفضلية
48/52أي %52بالمائة يكون الكازينو رابحاً مقابل %48يكون الكازينو خاسراً ،وبالتالي يستطيع االستمرار بالعمل.
فتدخل هاني
-عالقته يا صديقي أن البورصة مثلها مثل الروليت ،ونوادي القمار ،يجب أن تتحرك في مصلحة نادي القمار .صانع السوق
يجب أن يربح رغماً عن أنف اآلخرين ،وذلك عن طريق أنه يغش .يرى كل أوامر الشراء ،وكل أوامر البيع ،و معه مليارات
الدوالرات ،ويستطيع تحريك سعر السهم في حدود %10صعوداً أو هبوطاً دون وقف المضاربة عليه .إذا كانت صفقتك
الماضية نجحت ،فقد نجحت ألن حظك أنك كنت في حدود السعر الذي يريده صانع السوق ،وال يمكنك التأكد من ذلك في كل
مرة .هي %50-%50على أحسن تقدير.
فأردف أمجد
أتعرف يا صديقي لماذا البورصة في نظري حرام؟ ألن حركة البورصة ال عالقة لها بأداء االقتصاد .إذا تحولنا كلنا للبورصة،
فأين اإلنتاج؟ إنها مقامرة في سبيل الحصول على كسب سهل سريع ،دون إنتاج .إنها سوق قمار مواز بال أية إنتاجية أو أي
فائدة تعود على المجتمع .و غالباً ما يخسر معظم المضاربون لصالح قلة.
نظرت له أريد أن أقفز من كرسي وأهجم عليه وأعتصر عنقه بين يدي ،ولكني تمالكت نفسي ،وابتسمت.
فتح مدحت الباب ،وسلم علي .البيت بيته خالص .كريمة تقيم مع أمها ،ولكن يبدو أنهم يلتقون كثيراً في بيت سميرة .مدحت
يرتدي مالبس مريحة ...خالص انتهى وقت البدل !!
سلمت عليه بحرارة .لم أره منذ قرابة الشهر .سلمت على الدكتور عادل وكريمة وأمها ،وخال كريمة األستاذ مروان .رجل
طيب دمث الخلق ،أشيب الشعر ،ضابط شرطة على المعاش .مبتسم دائماً ،يعتمد على عكاز رباعي األطراف .أخذ يحكي لنا
عن سبب إصابته ،حتى أماتنا ضحكاً .سبب إصابته الحقيقي ،وليس المذكور في التقارير ،كان عسكري الخدمة ،في معسكر
األمن المركزي الذي كان يخدم به ،أخرج رصاصة خطأ ،فأصابته في مؤخرته ،وهو بعده مالزم أول .خيروه بين التقاعد
المبكر ،واألعمال اإلدارية ،فاختار التقاعد المبكر .ومن ساعتها وهو متقاعد ،يتقاضى معاشاً تقاعدياً مناسباً ،مع مكافأة نهاية
خدمة جيدة ،الن إصابته أثناء الخدمة ،وبسببها.
كنت مهتماً بمعرفة ماذا يفعل هذا الرجل بحياته ،وهو متقاعد منذ أن كان في الثامنة والعشرين من عمره .أخذت أحاول تحريك
المناقشة في ذلك االتجاه ،وصدقني ،كانت مهمة انتحارية في وجود د .عادل الموسوعة المتحركة.
-خرجت من الخدمة ،ومعي مبلغاً جيداً ومعاشاً تقاعدياً ال يسمن وال يغني من جوع .أيامها كانت رواتب الشرطة ضعيفة
للغاية .والدي نصحني بأن أضع نقودي بالبنك ،وأتعيش من العائد.
ضحك ،فضحك الحاضرون وقد انجذبوا إلى طريقته في السرد .فاستطرد قائالً
-كانت رحلة ليست بالسهلة ،ولكن كلها خبرة وعبر .بدأت بالشيء السهل ،تغيير العملة .أيامها كان هناك سعرين للدوالر ،وال
يمكنك الحصول على الدوالر إال من السوق الموازية .بدأت بشراء وبيع الدوالر ،وحققت بعض المكاسب ،ولكني لم أكن
مرتاحاً .أتعامل نقداً وأحمل مبالغ كبيرة في منزلي ،وأتعامل مع أشخاص أشك في أساليبهم ،وأغراضهم للحصول على النقد
األجنبي .بعضهم يريد أن يسافر ،ويريد بعض النقود ،والبعض اآلخر يتاجر تجارة غير مشروعة ،وكضابط سابق ،يمكنني أن
أشتم الرائحة العفنة من بعيد .فقررت العزوف عن هذه التجارة.
واعتدل في مقعده معتمداً على عكازه ثم قال.
-ثم توجهت إلى سوق السيارات .أيامها كان محظوراً استيراد السيارات من الخارج إال من بعض الوكاالت الشحيحة ،لقرب
أصحابها من دائرة النخبة السياسية ،ولم يكن هناك أي نوع من أنواع التمويل لشراء السيارات .من اآلخر كان عدد السيارات
الموجود بمصر ال يزيد ،وكان المصريون يتفننون في إبقاء السيارات على قيد الحياة ،في ظل حظر استيراد المكونات ،وقطع
الغيار ،والسيارات نفسها .كانت هناك مهنة تجديد السيارات ،وهي أن تشتري سيارة شبه معدمة ،ثم تقوم بإعادة تجهيزها،
وتشغيلها ومن ثم تعيد بيعها بمكسب .لم أكن أفهم شيئاً في السيارات ،فكنت أصطحب معي ميكانيكي ،ليفحص السيارة ،ثم أبدأ
في تجديدها ،مروراً بالكثير من الورش ،ثم أبيعها .تصادقت مع معظم الحرفيينن وبدأت أتقن لغتهم.
قررت أن أتعلم ميكانيكا السيارات وتركيب السيارات .وجدت سمكري توسمت فيه الصدق واألمانة ،وتشاركت معه في ورشة
صغيرة بإمبابة لسمكرة السيارات .بدأنا بورشة صغيرة ،للسمكرة فقط ،ثم توسعنا بإضافة أقسام أخرى للدوكو ،و زينة السيارات
وتعديلها .كنت حريصاً على إدخال الجديد في تجديد السيارات ،فكنت أول من أدخل فرن صباغة السيارات في مصر ،فحص
الكمبيوتر ،وخالفه.
وجدت أن السوق يفتقر ألشياء أساسية ،كان التعامل مع الحرفيين من أصعب ما يمكن .فركزت على خدمة العمالء ،من مقايسات
سعر واضحة ،ودقيقة ،مواعيد تسليم دقيقة ،ضمان على عمليات اإلصالح .كسبت ثقة العمالء ،وتزايد عدد العمالء.
واجهت مشكلة نقص قطع الغيار ،ألن معظم السيارات التي كانت موجودة في مصر أيامها ،قد توقف إنتاجها منذ سنين عدة،
وتوقف أنتاج قطع الغيار ،فاستوردت قوالب ومقصات صاج ،وبدأت في إنتاج أجزاء الهياكل الخارجية للسيارة .طبلة باب سيارة
مرسيدس موديل 1961؟ موجود ...رفرف سيارة بيجو 504موديل 1971؟ الرف الثالث على اليمين.
تغيرت السيارات ،وتم فتح االستيراد ،وتطورت مع السوق .أصبحت هياكل السيارات تصنع من البالستيك ،والكاربون فيبر
واللدائن ،اشتريت طابعة ثالثية األبعاد ،وصرت أصمم األجزاء ،وأصنعها عندي.
واآلن والحمد هلل ،لدي ورشتين متكاملتين لتجديد السيارات ،من كهرباء وميكانيكا ،وإ عادة تجديد السيارات ،ومصنعاً إلنتاج
قطع السيارات ،وآخر لتصنيع قطع سيارات الزينة.
-يا إلهي 1322أسرة يرزقون من ورائك .يعني حوالي ستة آالف نفس.
-تخيل يا دكتور لو كنت لسه حاطط الفلوس في الريان ،أو بأشتغل في العملة.
سأله مدحت:
-الطباعة ثالثية األبعاد معجزة .يمكنك أن تصنع أي قطعة تريدها ومن أي مادة ،لدي حوالي ثالثين طابعة لطباعة أي شيء،
من بالستيك ،لمعدن ،أللياف الكربون.
-عفوا سيد مروان .هذا سؤال سخيف ،ولكن كم كانت مكافأة نهاية الخدمة التي بدأت بها؟
ضحك مروان كثيراً ،وقال
-كانت ثالثين ألف جنيه ،لكنها كانت أيامها ثالثون ألف دوالر .أيامها كانت تدر دخالً شهريا من البنك خمسمائة جنيه .كانت
الخمسمائة جنيه تساوي أيامها خمسمائة دوالر ،وكانت ثالثة أضعاف معاشي التقاعدي .تخيل لو كنت أخذت بنصيحة أبي رحمه
اهلل ،كنت سأصرف الدخل الشهري ،على اعتبار أنه أرباح ،وأحافظ على رأس المال ،وكان زماني اآلن معي ألف وخمسمائة
دوالراً كرأس مال بدالً من ثالثين ألف دوالر .يا بني ،أرباح البنوك ليست أرباحاً ،إنها فقط تعويض للتضخم.
قمنا لتناول الغداء ،وبعد الغداء ،جلسنا مرة أخرى في الصالون ،وعرفت المناسبة التي أتت باألستاذ مروان .قراءة فاتحة كريمة
على مدحت.
افترشت طاولة الطعام ،جالسا على الكرسي المقابل للكرسي الذي أجلس فيه ،بحيث يكون ظهري للحائط ،حتى ال ترى هند شيئاً
من شاشة الحاسوب ،وفتحت برنامج المضاربة.
اليوم الجمعة .يوم انتهاء العقود .أفتح الرسم البياني ألسعار السهم ،فأجده يتحرك بعنف .حرب شعواء بين طلبات البيع والشراء،
ويتحرك الرسم البياني كأفعوانية المالهي المسماة قطار الموت صعوداً وهبوطاً .يتغير سعر السهم واحد بالمائة كل خمسة دقائق.
قفزات غريبة ،وغير مبررة .تتحرك معه قيمة حسابي صعوداً وهبوطاً .أحس بدوران الروليت ،وال أعرف على أي لون
ستستقر.
الساعة الحادية عشرة والنصف ،تأتيني رسالة واتس أب ،أفتحها متلهفاً .من جيسي
“مبروك عليك العشرة آالف دوالر ،ألقاك على خير يوم كذا .اسحب رأس مالك بالكامل اآلن ،واترك فقط األرباح .توقع مني
رسالة األسبوع القادم .ال تنفذ أي عمليات أخرى حتى تأتيك مني التعليمات”.
واصطحبتهم في رحلة عفوية إلى اإلسماعيلية .ساعة بالسيارة ،والكل شبه نيام .وصلنا إلى قرية من القرى السياحية المنتشرة
على طريق البالجات .الجوي شتوي مشمس جميل ،ومعظم الشاليهات شبه خاوية في هذا الوقت من العام .حجزنا شاليهاً على
بحيرة التمساح مباشرة.
دخلنا المطعم في الثامنة صباحاً وأخذنا نتناول طعام اإلفطار .هند تنظر لي مبتسمة ،وآثار النوم على عينيها ،وآثار الليلة
الماضية تبدو على عنقها.
-لألحسن طبعاً خلي لهم عبس القديم ،أنا عاجبني عبس الجديد المتجدد ده.
أصرت فاطمة على ارتداء المايوه ،و اندفعت نحو المياه الباردة وهي تصرخ من فرط برودتها .انطلقت وراءها .قاسم يصرخ
بكلمات غير مفهومة ،فتحمله حنان إلى طرف الشاطئ وتغمس قدميه الصغيرتين في ماء البحر البارد ،فيرفعهم من فوره،
يضحك ،ثم يعود لغمسهم في الماء.
أندفع خلف فاطمة ،وأرشها بالماء ،فترشني ،وتضحك .تشمر هند من بنطالها حتى الركبة ،وتمشي في المياه تتابعنا .ثم تذهب،
وتشتري كرة ماء من الفندق ( بعشرين ضعف سعرها األصلي) ونتقاذفها .من آن آلخر يصرخ قاسم فنقذفها له.
نعتاد على برودة المياه ،أو تسخنها شمس الشتاء الدافئة ،ال أدري أيهما يحدث أوالً ،وبعد حوالي الساعة ،جميع أفراد العائلة
بطريقة أو بأخرى داخل المياه.
في الواحدة ظهراً ،نرتدي مالبسنا ،ونذهب لتناول وجبة الغداء في أحد مطاعم السمك على طريق البالجات .يتناول قاسم أول
قطعة سمك في حياته.
نتمشى في شارع مصر ،ونشترى بعض ألعاب األطفال .نجلس على بضعة كراسي بجوار عربة إلعداد أم الخلول ،3والتي
يقدمونها مع شوربة وليمون .أول مرة في حياتي أتناولها .لذيذة.
-لماذا
وأنتظر الصغيرة حتى ترتدي مالبسها ،و آخذ حقيبتها المدرسية ،ونذهب سوياً للسيارة .تركب في المقعد الخلفي ،بجوارها
حقيبتها الثقيلة ،وآثار النوم ما زالت في عينيها.
أطلب منها أن تغني لي ،فتبدأ بترديد أغنية من أغاني المدرسة ،وهي فخورة .يتطاير النوم من عينيها ،وتنطلق تحدثني عن
مدرساتها ،ومن منهم تحبها أكثر من األخرى ،وتنقلني مباشرة إلى عالمها الصغير الجميل.
ثم تشرع في الحديث عن الديناصورات ،ديناصورها المفضل هو كيرتوسوراس ،النه نباتي ،غير مؤذ ،ولكنها تصارحني ،في
شبه اعتراف ،أن ال تي ركس هو أحلى ديناصور .تقلد أصوات الديناصورات المختلفة ثم تقول لي
-أتعرف لم انقرضت؟
-لقد انخفضت درجة حرارة الكرة األرضية ،حتى صارت صعبة على الديناصورات المعيشة بها ،وجاء العصر الجليدي،
وتغطت األرض بالثلج ،وانقرضت الديناصورات.
-من اليوتيوب
تذكرت االيباد الخاص بها ،والذي ال يفارقها صباحاً ومساء.
وصلنا المدرسة .أوقفت السيارة ،ونزلت معها واصطحبتها حتى باب المدرسة .المدرسة التي دخلتها مرة واحدة في حياتي ،عند
تسجيل البنت للدخول أول مرة.
أوصلتها لباب المدرسة وقفلت راجعاً .أخذت طريقاً جديداً للدوام ،وأخذت أفكر في أمور البورصة ،والمركز السابق وتعليمات
جيسي .قررت أن أتبع تعليماته بدقة ،ألنه مطلع على حسابي ،وسيعرف ما أفعله بالضبط .يبدو أن جيسي هذا يعمل كصانع
سوق للسهم هذا ،إلنه تحكم في سعر اإلقفال ،وأغلق السهم ليلتها على سعر أقل من ثالثين دوالراً ،وبالتالي حققت العشرة آالف
دوالر.
أخذت أفكر فيما حدث في الشركة األسبوع الماضي .ضحكت عند تذكري للمناورة التي قمت بها لجعل كريم ينهار ويعترف.
كذبت؟ نعم كذبت .أعرف جيدا أن قانون من أين لك هذا ال ينطبق إال على الموظفين في وظائف عمومية ،ولكن ماذا كنت
سأفعل؟
أخذت أراجع المبالغ التي حققها كريم وخالد من مبيعاتهم وعموالتهم ...أحسست بحقد يعتمل في داخلي .كان كريم يحقق ضعف
ما أحققه من دخل شهري ،وخالد يحقق أربعة أضعاف ما أحققه.
“ لقد حققت معي الربح ،واآلن أنت تعي تماما أنني أتحكم في البورصة ،وليست البورصة من تتحكم بي .بعد أن تنفذ العملية
القادمة ،أطلب منك أن تحول لي نصف األرباح ،وهي عشرون ألف دوالر على الحساب رقم كذا على بنك كذا بحوالة ويسترن
يونيون .أنا أتوسم فيك األمانة وأعرف أنك ستحول المبلغ ،ولكن إذا تحكم بك شيطانك ،وأحجمت عن تحويل نصيبي من
األرباح ،فسامحني ،لن أتصل بك بعد اآلن"
أخذت أقرأ الرسالة مراراً ،وأفكر كثيراً .العملية المطلوب تنفيذها تبدو خطرة جداً .مقامرة بكل المبلغ الموجود بالحساب في
مقابل أربعين ألف دوالراً .عشرون ألفاً له ،وعشرون ألفاً لي .إذا أضفنا المبلغ الموجود بالحساب ،فبعد العملية ،يكون لدي
ثالثون ألف دوالر .ليس سيئاً ،وإ ذا خسرت ،سأكون قد خسرت األرباح التي حققتها .ال بأس.
دخل علي مدير الشؤون القانونية الجديد ،األستاذ سمير .قمت مرحباً ماداً يدي.
-هايل
-وأتممنا التحقيق .التزم السيد /كريم بتوريد مليون جنيه للشركة ،مع إخالء طرفه .يطلب مهلة أسبوع ليبيع بعض األصول.
-تمام
-والتزم السيد /خالد بتوريد أربعة ماليين جنيه مقابل إخالء طرفه وإ عفائه من المسائلة القانونية ،وسيودع الشيك المصدق ،حال
توقيع إخالء طرفه.
-ممتاز
-واألستاذ كمال مدير الشئون القانونية ،قال أنه يريد تقسيط المبلغ على سنتين.
-ال ،عفواً هي ليست مكافأة ،هي حق اكتسبته ،بسبب تفانيك في العمل .سأزيد راتبك لثالثة أضعافه اآلن ،وسنرى أداؤك في
نهاية العام .سأضعك على كشف الحوافز مع إدارة الشركة .أعتقد أن هذا العام سيكون جيداً للشركة.
وحزين في آن واحد .فرح ألنني تحصلت على زيادة شهرية تأتي في وقت احتاجه ،حزين
ٌ ومهموم
ٌ فرح
شكرته ،وتركته ،وأنا ٌ
ألنهم لم يقدروني من قبل .مهموم للمسؤولية التي تقع على عاتقي.
الفصل الثاني والثالثون
مرت ثمانية أشهر على رسالة جيسي ،تضاعفت األرباح من عمليات خطرة ،ناجحة ،واحدة تلو األخرى ،حتى صار حسابي مائة
وخمسون ألف دوالر .صرت أكثر ثقة في تعليماته.
زيادة الراتب ساعدتني أن أوسع على أهلي في اإلنفاق .تحسنت عالقتي بهند كثيراً حتى جاءتني الرسالة من جيسي:
فتحت الرسالة بيد مرتعشة ،وأخذت أقرأها ،وعين عليها ،وعين أخرى على شاشة الحاسوب ،أتابع الرسم البياني.
أكتب لك هذه الرسالة من الطائرة مع زوجتي كريمة ،لقضاء شهر العسل ،ال تحاول الوصول إلى ،فأنا كما تعرف ،خبير في
إخفاء آثاري .هذه هي آخر رسالة ستصلك مني ،ومن اآلن فصاعداً أنت مسؤول عن نفسك ومضارباتك .إذا قررت االكتفاء فهذا
أفضل.
أتذكر عندما قلت لي أن نظرية االحتماالت تجعلك تربح في خمسين بالمائة من العمليات ،و تخسر في خمسين بالمائة من
العمليات ،ولكن في الواقع ،يخسر تسعون بالمائة من المضاربين بالبورصة ويربح فقط عشرة بالمائة؟ لقد استنبطت أنا الطريقة
المثلى للمضاربة بالبورصة بنسبة مائة بالمائة وباحتمال خسارة صفر بالمائة ،وهذا كما رأيت أنت بأم عينك .أتريد أن تعرف
كيف؟ سأقول لك ،ولكن عدني أال تفعلها ،وأال تحقد علي.
إذا ربحت العملية األخيرة ،فحالل عليك المكسب ،ال تحول إلى شيء من األرباح ،وإ ذا خسرت العملية ،فعلى األقل رأس مالك
كما هو ،ولم تخسر شيئاً ،فال تحزن .أنصحك أن تسحب أموالك من البورصة ،وتتوب عن المضاربة لألبد.
طورت برنامج بسيط يجرب كلمة المرور نفسها على البريد اإللكتروني فمعظم الناس يستخدمون نفس كلمة المرور ألكثر من
موقع ،ومن هنا صارت عندي الرؤية الكاملة .أعرف عنهم كل شيء ،وصدقني ،من البريد اإللكتروني ،يمكنك استنباط الكثير
عن الشخص الذي تستهدفه.
أخذت مع كريمة نناقش كيف نستفيد من ذلك ،وكريمة محللة نفسية ممتازة .وجدنا أخيراً الطريقة المثلى للخطة الجهنمية .
اخترت من قاعدة البيانات خمسمائة وإ ثني عشر شخصاً موزعين على مناطق مختلفة جغرافية في العالم العربي .خمسمائة واثنا
وعشر مضاربا بالبورصة األمريكية ،يتابعون أخبارها ،وقد تأكدت من ذلك من بريدهم اإللكتروني ،فشركات السمسرة ترسل
رسالة إلكترونية تأكيدية عند إتمام كل عملية.
ولكي أحبك العملية تماما ،أغير حظك اليوم لهم في اإلشعارات البريدية ،بأن الظروف مواتية لهم لمكسب جيد.
وهنا بدأت العملية الكبرى .بدأت في إرسال رسالة واتساب من هاتف مسجل برقم وهمي في أمريكا ،ال يمكن تتبعه .أرسل
لنصفهم بأن السهم سيرتفع ،والنصف اآلخر بأن السهم سيهبط .مع نصفهم سأكون صادقاً.
بدأت العملية بدون طلب أية مطالب منهم إلثبات حسن النية .صدقت مع نصفهم ،أسقطت النصف اآلخر ،وهكذا حتى وصلت
إلى الرقم مائتين وست وخمسين .وهنا بدأت طلب مقابل لخدماتي نصف األرباح .عند رقم مائتين وست وخمسين ،صدقت نبؤتي
في ثالث مرات.
أنتظر تحويل األموال منهم ،وأنا متأكد أن جشعهم سيجبرهم أن يحولوا نصيبي من األرباح ،ليحصلوا على المزيد من األرباح.
فما ال تعرفه يا صديقي ،أنه بالرغم من أن النفس البشرية يحركها الجشع والخوف ،فالجشع أقوى بكثير من الخوف.
مستغال جشعهم ،استمررت مع المائة والثمان والعشرين الذين صدقت معهم ،أسقطت اآلخرين من حسابي .زدت المبلغ ألنهم
جربوني ،وآمنوا بي ،ثم كررتها مع أربعة وستين ،ثم إثنين وثالثين ،ثم ستة عشر ،ثم ثمانية ،وهكذا في متوالية حتى وصلت
إلى إثنين .هنا وصلت لنهاية اللعبة .أنت وشخص آخر ،كالكما وصلته الرسالة ،كالكما نفذ العملية أحدكما سيحظى بالجائزة
الكبرى ،واآلخر سيخسر كل شيء.
الحمد هلل معي اآلن ما يقارب المليوني دوالر في حساب سري في سويسرا.
وضعت الهاتف النقال بجواري ،وأخذت أتصبب عرقاً وأنا أتابع المؤشر المجنون وهو يصعد ويهبط كاألفعوانية المجنونة.
تعقيب
عزيزي القارئ،
أرجو أن تكون قد استمتعت بقراءة كتاب "عباس ،رحلة عباس في سوق المال".
أحب أن أتوجه بالشكر للسيد /جمال الرفاعي على مراجعته اللغوية ،والشيخة /شيخة الصباح على دعمها لمشروع الكتاب .أشكر
الناشر شركة عين للتكنولوجيا على المساعدة في إصدار الكتاب وإ خراجه في هذه الصورة .كما أشكر زوجتي زينب حسن على
مساعدتها لي في تنقيح الفكرة ومناقشاتها التي طالما أثرت محتوى الكتاب.
كانت رحلة شاقة لعباس في سوق المال ،تعلم منها الكثير ،وأثرت على حياته الشخصية ،وحتى شخصيته .تساؤالت كثيرة دارت
في خاطر عباس ،ومن حوله ،هل البورصة حالل أم حرام؟ هل هي فرصة لالستثمار؟ هل هي طريقة لجني األموال؟ بالتأكيد
البورصة بها فرص لتحقيق بعض المكاسب ،ولكن السؤال األهم ،هل البورصة تعود بالنفع العام؟ هل هي مهنة تمتهن؟ بالطبع،
توجد بعض االستراتيجيات والوسائل لتحقيق بعض المكاسب من البورصة ،ولكن ….
هل سوق الخيارات حالل؟ أم حرام؟ الفتاوى الحالية تقول أنه حرام .ال أستطيع الجزم ولست مؤهالً للفتوى ،ولكن من وجهة
نظري ،الموضوع يحتاج إلى البحث من جوانب عدة .من وجهة نظري ،سوق الخيارات ،إذا أحسن استخدامه ،يمكنه أن يكون
آمن بكثير من سوق األسهم ،فمثالً عند الرغبة في شراء سهم ما وهو اآلن عند ثالثين دوالراً ،هناك طريقة أربح لشرائه عن
طريق بيع عربون على سعر ثالثين دوالراً ،بذا أكون قد التزمت بشراء السهم على سعر ثالثين دوالر .لو بعت العربون على
دوالرين مثالً ،يكون صافي سعر السهم ثمان وعشرين دوالراً ،أي بخصم دوالرين عن سعره الحالي .أليس ذلك أفضل؟ وإ ذا
كان قراري خاطئ ،وبدالً من أن يرتفع السهم هبط ،في هذه الحالة أكون قد حققت مكسباً (قيمة العربون) .هل هذا حرام؟ ال
أعرف ...أعتقد كما قلت أن الموضوع يحتاج لبعض البحث.
السؤال المهم ،هل ربح عباس في عمليته األخيرة أم خسر؟ سنعرف ذلك في الكتاب القادم بإذن اهلل ،ولكن ،ال يهم إذا كان قد
ربح أم خسر ،فهناك مقابل ربحه ،شخص آخر خسر.
ككاتب مستقل ،أحتاج غلى تعليقك على الكتاب وتقييمك على أمازون .دعمك لنا سيساعدنا على االستمرار.
شكراً