Professional Documents
Culture Documents
إنسانية محمد
إنسانية محمد
إنسانية محمد
ﷺ
الدكتور
حسين صبري
جامعة زايد
دولة اإلمارات العربية املتحدة
إنسانية محمد :د .حسني صربي
اإليداع2020/14844 :
ردمك978-977-6820-97-5 :
إن منصة كتبنا للنرش الشخيص غري مسئولة عن آراء املؤلف وأفكاره ،وتعرب اآلراء الواردة يف
هذا الكتاب عن آراء املؤلف وال تعرب بالرضورة عن آراء املنصة والعاملني فيها.
اإلمييل info@kotobna.net
املوقع https://kotobna.net/en
الفيسبوك
https://www.facebook.com/kotobnabooks/
د .حسين صبري إنسانية محمد
اإلهداء
2
د .حسين صبري إنسانية محمد
3
د .حسين صبري إنسانية محمد
مقدمة الدراسة
4
د .حسين صبري إنسانية محمد
َ ئ ُ
صور ،الذي خلق "اإلنسان" ووهبه ما بسم هللا الخالق البار امل ِّ
إنسانا ويسمو في إنسانيته ،فال يكون له بعدها عند يقدر أن يكون به ً
ُ ٌ هللا – إن َّ
ضيع – حجة أو برهان.
كرم اإلنسان تمي ًزا عن سائر مخلوقاته ،وأنعم عليه وأحمده تعالى أن َّ
"اإلنسانية" وأقدره على إنفاذها ،فإن ُمراد الرحمن أن يترقى ُّ
كل واحد
من البشر إلى ُ
العلى من مراتبها.
ُ
ساالت السماء وتجارُ َّ
الفطر السوية ِّ أن اإلنسانية؛ نا ب ر متنا عل فقد
ميز التخريب عن العمران ،والقتل عن اإلحياء ،واالستخفاف عن ُت ُ
االتقان ،واإلفساد عن اإلصالح ،وجميعها في مقدور اإلنسان ،ومن
ِّنع ِّم الخالق على اإلنسانية أن جعل في الناس نماذج لالختالف
"لنفهم" ،فباملثال يكون االعتبار ُّ
ويتم اإليضاح.
ُ
والباحثون في ساحات العلم؛ ينفعلون باألحداث املعبرة عن
اإلنسانية ،يشاركون الناس شجونهم وقضاياهم ،لكنهم مختلفون في
رؤاهم ،منظوراتهم ،مناهجهم ،إجراءاتهم ،تحليالتهم ،أدلتهم،
غاياتهم ،وأحكامهم.
ُ
وقد أثيرت منذ انطلقت دعوة اإلسالم في ربوع الجزيرة العربية،
ٌ
وأحكام تم ُّ ٌ ُ
س إنسانية مسائل والزالت تثار إلى اليوم؛ من حين آلخر؛
5
د .حسين صبري إنسانية محمد
6
د .حسين صبري إنسانية محمد
7
د .حسين صبري إنسانية محمد
8
د .حسين صبري إنسانية محمد
منهج الدراسة:
سوف تتبع الدراسة لتوكيد غاياتها العلمية؛ منهجا استرداديا
استقرائيا استنباطيا مقارنا ونقديا ،حيث:
9
د .حسين صبري إنسانية محمد
10
د .حسين صبري إنسانية محمد
11
د .حسين صبري إنسانية محمد
القسم األول:
يركز على فحص "إنسانية محمد" بين مفهومي :االتساق والتمايز،
ويقدم نماذج للبرهنة على التالزم بينهما ،كالتمايز واالتساق بين
ُ
"محمد" و "الوحي" ،ويبرهن على ما أعطيه النبي من طاقات البشرية
وطاقات النبوة ،وينتقل لتحليل واستقراء دالالت لفظة "اإلنسان" في
آيات الوحي عبر السياقات القرآنية ،للوصول إلى العنصر الرئيس في
هذا القسم وهو قيمة "املفاضلة" بين محمد وسائر البشر ،ليحلل
معاييراملفاضلة وشواهدها من تاريخ الفكر اإلنساني ،وهي شواهد:
الرحمة ،الصحبة ،الفطرة ،النصفة ،الذوات السوية ،واإلجماع
العلمي ،ويتفحص املعايير التي تمايز بها نبي اإلسالم وتفرد ،في الثبات
على املبدأ ،اإلخالص ،املسئولية ،والتوسط الخلقي ،ويقدم في هذا
الفحص األدلة على الكمال اإلنساني لدى النبي محمد ،في مقدرات
بشريته ومعطيات النبوة.
القسم الثاني:
يركز على تأكيد التالزم بين املوضوعية والذاتية كضرورة إجرائية في
العمل البحثي ،ويؤكد هذا القسم أن الربط بين الذاتية وعدم
املنهجية هو ربط غير علمي ،ويثبت أن الذاتية كاملوضوعية ،هي
ٌ
معيار أساس ٌي في إقرار الروح العلمية ،وأن للذاتية – في العمل البحثي
12
د .حسين صبري إنسانية محمد
14
د .حسين صبري إنسانية محمد
مؤلف الكتاب
د .حسين صبري
أبو ظبي
في أغسطس 2020
15
د .حسين صبري إنسانية محمد
التمهيد
ملاذا اإلنسانية ......؟
د .حسين صبري إنسانية محمد
17
د .حسين صبري إنسانية محمد
18
د .حسين صبري إنسانية محمد
19
د .حسين صبري إنسانية محمد
-فهل كان إسباغ مفهوم "التنوير" مضادا للدين ،هل كان هذا
مقصودا؟
لعل من احتكروا سلطة الدين في أوروبا – لصالحهم -هم ٌ
سبب
ر ٌ
ئيس في هذا القصد ،ما يثير الدهشة أن جوهر التنوير أصبح لهذا
21
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً ُ َّ
السبب األوروبي البحت ،مركزا في إلغاء "فكرة الدين" ،بحجة "أن
الدين يحد انطالق العقل"( ،)11بل ظهر من يرى في "اإللحاد" و "إنكار
ممتدا من السوفسطائية إلى أوروبا ً ً
تنويريا ً
منحنىالنبوات" أنه "
ً
الحديثة" ( ،)12واملفارقة أن في نسيج التنوير أطيافا ،من أنصارها
متدينون ،ويحظى امللحدون بجرأة إلى جرأتهم في خضم هذا النسيج،
ً
إلى أن أصبح "اإللحاد" مشتمال ما هو أكثر من اإللحاد نفسه ،حيث
يراه أصحابه "موضع اجتماع القوة وتسلطها" ( ،)13وملا قوى هذا
املوضع واشتد بأس مؤيديه ،أنتجوا من بينهم من يؤمن بأن كل
شخص هو له ،إذ "ليس هناك نمط كلي عام لبشرية أصلية يمكن
أن يفرض على الجميع" ( ،)14في دعوة لتكريس «الفردية» بحجة إقرار
حرية كل فرد ألقص ى ما يستطيع ،حتى صار االنتحار قرا ًرا َّ
مقد ًرا،
وهناك ما يبرره ومن يدافع عنه ُويشرع له ،إلى الدرجة التي أدمن فيها
اإلنسان "إنسانيته" حتى فقد إحساسه بها ،وبدأ يسعى في تجاوزها
إلى ما بعدها.
يبدو أن اإلنسان يجرف إنسانيته بيد من العلم من جهة ،وهو يعطل
في نفسه يد التمييز من جهة أخرى ،عبر تاريخ ممتد ،في ثورة إثر ثورة،
ُ
حتى أنه ما عاد يميز بين ثورة تبنيه وأخرى تفسده ،بد ًءا من انفعاله
الفطري األول ليبقى على األرض ،إلى ثورته في بناء التحضر ،فثورته
22
د .حسين صبري إنسانية محمد
23
د .حسين صبري إنسانية محمد
24
د .حسين صبري إنسانية محمد
هوامش التمهيد:
( )1ابن منظور :لسان العرب ،تحقيق :عبد اهلل على الكثير وآخرون ،دار المعارف ،القاهرة ،المجلد
األول ،ص 147:150والرازي :مختار الصحاح ،مكتبة لبنان ،بيروت ،ط ،1986 ،1ص 11
( )2ابن منظور :لسان العرب ،المجلد األول ،ص 15
( )3شوقي ضيف وآخرون :المعجم الوسيط ،الشروق الدولية ،القاهرة ،ط ،2004 ،4ص 29
( )4التهانوي :كشاف اصطالحات الفنون ،تحقيق :علي دحروج ،مكتبة لبنان ،بيروت ،جـ ،1ص
278
( )5إبراهيم مدكور :المعجم الفلسفي ،الهيئة العامة لشئون المطابع األميرية ،القاهرة ،ط ،1983
ص 25
( )6أحمد مختار عمر :معجم اللغة العربية المعاصرة ،عالم الكتب ،القاهرة ،ط ،2008 ،1المجلد
األول ،ص 129
( )7برونوفسكي :ارتقاء اإلنسان ،ترجمة :موفق شخاشيرو ،المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب،
الكويت ،سلسلة عالم المعرفة ،العدد رقم ،39مارس ،1981الكويت ،ص 247
( )8ناهد البقصمي :الهندسة الوراثية واألخالق ،المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت،
سلسلة عالم المعرفة ،العدد رقم ،174يونيو ،1993ص 71
( )9فرنسيس فوكوياما :مستقبلنا بعد البشري :ترجمة :إيهاب عبد الرحيم محمد ،مركز اإلمارات
للدراسات والبحوث االستراتيجية ،أبو ظبي ،ط ،2006 ،1ص 101
( )10إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي :معجم مصطلحات العولمة ،نسخة إليكترونية ،ص
330:331
( )11محمد متولي الشعراوي :رداً على المالحدة والعلمانيين ،إعداد :عطية الدسوقي عمر ومحمد
عبد اهلل بدر ،دار الطباعة الحديثة ،القاهرة ،ط ،19995ص16
26
د .حسين صبري إنسانية محمد
( )12عبد الرحمن بدوي :من تاريخ اإللحاد في اإلسالم ،سينا للنشر ،القاهرة ،ط ،1993 ،2ص
263
( )13ديفيد بيرلنسكي :اإللحاد ومزاعمه ،ترجمة :عبد اهلل الشهري :مركز دالئل ،الرياض ،ط 1437
ه ،ص 33
( )14جون ماكوري :الوجودية ،ترجمة :إمام عبد الفتاح إمام ،المجلس الوطني للثقافة والفنون
واآلداب ،الكويت ،سلسلة عالم المعرفة ،العدد رقم ،58أكتوبر ،1982ص 228
( )15راتسينغر :جدلية العلمنة ،تعريب :حميد لشهب ،جداول للنشر والترجمة والتوزيع ،بيروت ،ط
،2013 ،1ص 68
( )16تشارلز باسترناك :جوهر اإلنسانية ،زينب عاطف ،مؤسسة هنداوي ،المملكة المتحدة ،ص
395
( )17إريك فورم :اإلنسان بين الجوهر والمظهر ،ترجمة :سعد زهران ،المجلس الوطني للثقافة والفنون
واآلداب ،الكويت ،سلسلة عالم المعرفة ،العدد ،140أغسطس ،1989ص 159
( )18سعيد الحفار :البيولوجيا ومصير اإلنسان ،المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت،
سلسلة عالم المعرفة ،العدد ،38نوفمبر ،1984ص 186
( )19ألكسيس كاريل :اإلنسان ذلك المجهول ،ترجمة :عادل شفيق ،الدار القومية للطباعة والنشر،
ص8
( )20علي عزت بيجوفيتش :اإلسالم بين الشرق والغرب ،ترجمة :محمد يوسف عدس ،مؤسسة
بافاريا للنشر ،ألمانيا ،ط ،1997 ،2ص 185
( )21إيريك فروم :اإلنسان بين الجوهر والمظهر ،ص 125
( )22فوكوياما :مستقبلنا بعد البشري ،ص 228:229
27
د .حسين صبري إنسانية محمد
القسم األول
إنسانية محمد بين "االتساق والتمايز"
تمهيد
التالزم بين االتساق والتمايز
" اإلنسان" من منظور قرآني
" املفاضلة" بين الناس
" الشواهد الستة" في أفضلية محمد "اإلنسانية"
د .حسين صبري إنسانية محمد
تمـ ـهيد:
صا باسم "محمد" ،في أربعةالخطاب اإللهي لنبي اإلسالم مخص ً
ُ ورد
مواضع من آيات القرآن الكريم ،وورد في مواضع أخرى ،بصفة من
صفات محمد ،من مثل:
-النبي ،الرسول ،الشاهد ،املبشر ،النذير ،الداعي ،الرؤوف،
الرحيم ،األمي ،النور ،املُذكرَّ ،
املزملَّ ،
املدثر ،الحق ،الكريم، ِّ
والولي.
عاما ،دون تخصيص باسم أو صفة. وورد الخطاب ً
وفوق ما يحمل الخطاب القرآني من أمر ونهي وه ْدي وتشريع وإخبار
وعظات وعبادات وعقائد وأحكام وأخالق ومعرفة وعلم؛ وقصص ِّ
فإن الخطاب يؤكد على قضية محورية في سياق الوحي القرآني ،هي
قضية "التالزم" بين أمرين في غاية األهمية ،هما:
• األمراألول :هو التآلف والتكامل واالنسجام ،وسوف ندل إليه
بمفهوم "االتساق".
• واألمر الثاني :هو التغاير والتقابل واالنفصال واالستقالل
أحيانا ،وسوف ندل إليه بمفهوم "التمايز". وربما التناقض ً
وكأن االتساق والتمايز وما بينهما من تالزم؛ يمثل ال ِّعقد الذي فيه وبه
تنتظم العناصر املحددة للوجود في شتى صوره ،وللمخلوقات
29
د .حسين صبري إنسانية محمد
30
د .حسين صبري إنسانية محمد
31
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
ومن طاقات النبوة؛ ما يمكنه من تمثل الوحي بين الناس ،قوال
ً ً
وتقريرا. وفعال
ولعل هذا هو ما دعا زوجات النبي والصحابة أول عهد اإلسالم ،ثم
املتأملين حال اإلسالم ونبي اإلسالم ،والباحثين واملفكرين عبر القرون
من مختلف البيئات والثقافات والديانات ،أن ينتبهوا لهذا االتساق
العجيب بين محمد والوحي ،لكي يدركوا أن في استطاعة اإلنسان أن
ً ً
يصير خليفة هلل في أرضه كما أردا له الخالق سبحانه ،ساعيا بين
الناس بخلق اإليمان واإلصالح ،ال بفوض ى الدم والخراب والفساد.
ُسئلت عائشة رض ي هللا عنها :يا أم املؤمنين ،أنبئيني عن خلق رسول
ُ
هللا ،قالت :ألست تقرأ القرآن؟ قلت :بلى .قالت :فإن خلق نبي هللا ﷺ
أخالق محمد آيات الوحي ،يظل الوحي ُ جسدت كان القرآن ( ،)2فكما َّ
عبرا عن أبعاد إنسانية محمد في بشريته ونبوتهُ ،ومو ِّث ًقا لسيرتهُم ً
كلها ،حتى يرى البعض "أن القرآن هو املصدر األول الذي نقتفي منه
أثر محمد ،وفيه أهم وسائلنا ملعرفته" ( ،)3في تعبير دقيق يركز في
محمد على أثر صفاته وسيرته وخلقه ،فليس هناك في أثر اإلنسان؛
ُُ
أعظم من خلق يتسق – هذا االتساق -مع وحي السماء.
بعضا من ففي االتساق والتمايز داللة على أن هللا تعالى اختص ً
بعضا من رسله بعطاءات ،واختص عباده بالنبوة والرسالة ،واختص ً
محمدا بما ليس لغيره ً كل إنسان بما ليس في غيره من الناس ،واختص
33
د .حسين صبري إنسانية محمد
35
د .حسين صبري إنسانية محمد
ن َ
-الخلق املادي لإلنسان من :حمـأ مسنو ،نطفة ،ساللة من طين،
صلصال كالفخار ،نطفة أمشاج ،علق ،وهي صور من املادة،
متوالية ،أو متداخلة ،أو متحولة ،أو متغيرة ،أو مؤثرة في بعضها ،أو
جميع ذلك كله ،في داللة على قهر "النزوع املادي" في اإلنسان ،وفي
إشارة إلى أن أعظم االبتالءات التي تترصد اإلنسان على األرض إنما
َّ ْ
مصدرها هذا النزوع املادي من ِّخلقته الذي يشده لألدنى في
إنسانيته.
-تقرير لصفات اإلنسان من أنه :ضعيف ،لئيم ينس ى اإلحسان،
جحود ،يئوس ،كفور ،ظلوم ،خصيم ،عجول ،مجادل ُيكذب
بالبعث ،جهول ،قنوط ،موسوس ،هلوع ،مشرك ،يطغى ،وفي خسر،
وتقديرنا أنها صفات كل "متطرف" خارج عن مرادات هللا في اإلنسان.
-الخلق النفس ي لإلنسان في كبد ،فلن تنقطع معاناته ما دام ً
حيا،
في لفتة قرآنية بديعة ،تدعو إلى التحمل والصبر واملكابدة والجهد
ً ً ً
والسعي بالخير ،نية وأداء ،انتظارا للجزاء األوفى يوم الحساب.
ُ
الخالق في ذكره الحكيم، -توصية لإلنسان بوالديه ،حيث أفرد لها
أكثر من موضع ،وأكثر من سياق ،وأكثر من داللة ،حتى قرنها سبحانه
بأخص درجات اإليمان وهي توحيده تعالى.
ِّ
-أوامر إلهية لإلنسان من مثل :أن ينظر مم خلق ،وأن ينظر إلى
طعامه ،وفي كل هذه األمور ٌ
محل للتدبر واالعتبار.
38
د .حسين صبري إنسانية محمد
39
د .حسين صبري إنسانية محمد
• وأن اآليات تحث على عدم االغترار وعدم االنخداع ،وتدفع إلى
اليقظة واالنتباه إلى ما في طاقات اإلنسان من نزوعات سلبية
يمكنها أن تهلكه.
• وأن أشد ما يعانيه اإلنسان ،إنما هو من نفسه ،وليس خار ًجا
عنها ،وكل ما هو خارج عنها ،إنما هو تحفيز ملا في النفس من
ٌ
ذاهب إلى العقل لالعتبار، ً
تحديدا طاقات وغرائز ،هذا الخطاب
فيه يكتمل لإلنسانية بناؤها ،لعله لهذا يلفتنا النبي الكريم أن
الجهاد األشق هو "جهاد النفس" ،يروي األلباني في سلسلته
الصحيحة من حديث أبي ذر حين سأل رسول هللا ﷺ :أي الجهاد
أفضل؟
قال :أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات هللا عز وجل ()9
40
د .حسين صبري إنسانية محمد
42
د .حسين صبري إنسانية محمد
وتلك زاوية فيها ِّجدة ،وتفرد ،جعلها ابن خلدون معيا ًرا لقياس قيمة
وقدر “اإلنسانية" ،فهناك من العلماء من وسع النظر ،وعدد الزوايا
واملعايير ،حيث يرى "اإلنسان" أبعد من أن يكون ذلك الجسد
الجامد ،فهو:
• الجثة التي شرحها البيولوجيون
• والشعور الذي الحظه علماء النفس
• والشخصية التي أظهرها التأمل الباطني
• واملواد الكيماوية التي تؤلف األنسجة وأخالط أجسامنا
• والجمهرة املذهلة من الخاليا والعصارات املغذية التي درس
الفيسيولوجيون قوانينها
• واملركب من األنسجة والشعور الذي يحاول العلماء أن يقودوه إلى
الدرجات العليا في أثناء نموه مع الزمن
• وذلك الكائن الحي العاملي
• إنه ليس فقط ذلك املخلوق الشديد التعقيد الذي تحلله فنوننا
ً
العلمية ،ولكنه أيضا تلك امليول والتكهنات وكل ما تنشده
اإلنسانية من طموح)14( .
زاوية عجيبة أخرى؛ تقيس إنسانية اإلنسان بالقدر الذي يساهم به
في تحقيق طموح اإلنسانية كلها.
43
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
مستغربا أن تنال حقيقة "اإلنسان" في القرآن الكريم هذا لهذا ليس
القدر من االهتمام ،إلى درجة اعتقاد البعض "أن اإلنسان بطبيعته
ً
مركزيا في الفكر ً
اهتماما وسلوكه ونفسيته وواجباته ومصيره ،ينال
القرآني ،بالقدر الذي تنال مسألة "هللا" ذاته" ( ،)15حيث يتساوى
ويتوازى تعلق الوحي القرآني باإلنسان مع تعلق الوحي القرآني باهلل
عز وجل ،لعله لذلك كان الجهد اإلنساني عبر الديانات والعصور
وبين األمم ،يسيرفي اتجاهين متوازيين ،ال ينفصالن:
• أولهما :فهم الخالق
• وثانيهما :فهم املخلوق ،وتحديدا؛ اإلنسان
ودراستنا تنصب بشكل مباشر وأساس ي في اتجاه فهم "اإلنسان"
وقياس قدر "إنسانيته" ،لالهتداء إلى معايير املفاضلة بين الناس،
ولتحديد:
-هل تقع هذه املعايير ضمن منظومة التالزم بين االتساق والتمايز؟
أمر؛ إنما ال تكون إال بمعاييرها.
ألن املفاضلة في أي ٍ
وتأسيس وتصنيف ثم توظيف وتطبيق املعايير ،ال يتم وفق األهواء
الخاصة واالنحيازات الضيقة ،كما ال يتم التفاضل استفزا ًزا أو
ً
استعالء ،وإنما إقرا ًرا لقانون "االستحقاق".
44
د .حسين صبري إنسانية محمد
45
د .حسين صبري إنسانية محمد
46
د .حسين صبري إنسانية محمد
ُ
شاهد الرحمة:
ٌ
دالالت على إنسانية هو شاهد له خصوصيته ،تتعهده "املرأة" ،وفيه
محمد ،ما بين لحظتي الوالدة بين يديها والوفاة بين ذراعيها.
اتصال بيولوجي نفس ي عصبي ٌ تشهد أول إنسان كان بينها وبين محمد
وإنساني؛ آمنة بنت وهب ،عندما صارحتها مرضعة محمد "حليمة"
بحادثة شق صدره ،حيث أجابت :أخشيتما عليه الشيطان ،كال وهللا
ما للشيطان عليه سبيل ،وإنه لكائن البني هذا شأن)16( .
إجابة تدعمها ثقة تامة؛ ال يفصح عنها بتلك القوة إال من امتلك
إنسانا قدر ما تعرف، ً ٌ
إنسان أدواتها وحقهاَّ ،
أسرت بها الذي ال يعرف
أمه؛ التي به حلمت ،وتمنت ،حملت ،وراقبت ،سمعت ،وأدركت،
علمت فحازت الفهم وتيقنت واستقر بجوارحها اليقين ،لذلك لم
سر الحياة التي كانت "بنت ذكرها في نفسه ،حيث يغذيه ُ ينقطع ُ
سببا لتهبه إياه ،حتى صار له الشأن الذي فهمته وتيقنته ،فلما وهب" ً
ُ
مر في عمرة الحديبية باألبواء ،أذن له في زيارة قبر أمه ،فأتاه،
فأصلحه وبكى عنده ،وبكى املسلمون لبكائه ،فقيل له ،فقال:
-أدركتني رحمتها فبكيت)17( .
48
د .حسين صبري إنسانية محمد
• اختيارالزوج
• وصالح املرأة
• و إنسانية محمد
ُ ُ
خديجة الطاهرة ،املقدمة األولى في إنسانية محمد ،املرأة السند،
ُ
حتى قبل الرؤيا الصادقة ،وقبل الخلوة ،املرأة التي تثق وتتيقن وتف ِّرج
ُوت ْفرح وتثبت وتخفف وتهون على نصيف حياتها ،وما كان مح ٌ
مد
ليجد كل هذا منها إال ملا أسبغ على بيته وأهله من ود وإخالص ،وبذل
س من دروس النبوة ُيجلى في ضمائرنا كيف من مسئولية ،وهذا در ٌ
تكون الشراكة بين الرجل واملرأة ،وكيف يكون الوفاء؟
احتواء رجلُ فاملرأة ال تسعها الدنيا -على رحابتها -قدر ما يسعها
مسئول ،ال يمسها ً
يوما بسوء أو إهانة.
كانت خديجة "أول من آمن باهلل ورسوله وصدق ما جاء به ،فخفف
شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له بذلك عن سول هللا ،ال يسمع ً
ر
وقفا على فرج هللا عنه بها" ( ،)20ولم يكن عونها ملحمد ًفيحزنه ذلك إال َّ
حفظ العشرة وأسرار النبوة ،وإنما يمتد لتدلنا على معالم مبهرة من
إنسانيته ،إذ تقول ملحمد أول نزول الوحي:
-وهللا إنك لتصل الرحم ،وتصدق الحديث ،وتحمل الكل ،وتكسب
املعدوم ،وتقري الضيف ،وتعين على نوائب الحق)21( .
49
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً ٌ
توصيف ملن فهمت و أيقنت أبعاد إنسانية من اختارته زوجا ،فاملرأة
حين تدقق في اختيار رجلها ،تملك حكمة االختيار ،وتحبه ،وتأمن
ُ ُ صحبته ،وال يمأل عينيها ٌ
أحد سواه ،فتسعده ،وت ُمده بروحها ،وال
ُ
تصفه إال بحق.
كما تشهد من مال قلب محمد لها فعدل فيما سواه بين نسائه
واستحوذت وحدها عليه ،وقد سألت الرسول ً
يوما:
-بأبي أنت وأمي يا رسول هللا ،ادع هللا أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي
وما تأخر .فدعا لها بما أرادت ،وعلم قدر فرحها بدعوته ،فقال لها:
-أما والذي بعثني بالحق ،ما خصصتك بها من بين أمتي ،وإنها
لصلواتي ألمتي في الليل والنهار ،فيمن مض ى منهم ،ومن بقي ،ومن هو
آت إلى يوم القيامة ،وأنا أدعو لهم واملالئكة يؤمنون على دعائي)22( .
50
د .حسين صبري إنسانية محمد
-ما ُخير رسول هللا بين أمرين إال أخذ أيسرهما ما لم يكن ً
إثما ،فإن
إثما كان أبعد الناس منه ،وما انتقم رسول هللا ﷺ لنفسه ،إال كان ً
أن تنتهك حرمة هللا عز وجل)23( .
ٌ
معايير ،ربما تبدو عند البعض فيدلنا الوصف على قواعد للعمل ،هي
ٌ ُ
توجيه للعقل واإلرادة على متباعدة ،لكنها محكمة االتصال ،وفيها
يض للنفس على تنقية إيمانها ،كما أنها إرادة "االختيار" ،وفيها ترو ٌ
موجهات لإلنسان عند الفعل؛ أن:
• يتأمل خياراته
• ويتبين أفضلها خيرية
• ويثق باختياره بوعي ور ّوية
• ويحسم إرادته
سرورهق • ويتجنب ما ينطوي على ُ
ع
ٍ
• وال ينتقم إال هلل تعالى
فالدين الحق ال يصطدم مع نوازع النفس اإلنسانية على طول
الخط ،ألن النفس لها أن تغضب وتنتقم كما لها أن ترض ى ،إذ ربما
كان الغضب واالنتقام من ظالم أو متعد أو غاصب دون أن يخالط
ن ُ ُ ذلك ٌ
إثم أو تعد على ما شرعه الدين والقانو وعرف األسوياء ،ربما
ً
كان ذلك إنفاذا ملقاصد الشرع.
51
د .حسين صبري إنسانية محمد
52
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
متسقا معهم محمد ً
أبدا بين الناس إال ٌ لألحقاد واالستعالء ،وما عا
تمام االتساق ،رغم تمايزه عنهم.
الص ْحبة:
شاهد ُ ُ
ً
محمدا في حياته ،وآمن بدعوته، في هذا الشاهد؛ شهادة من صحب
حيث يمدنا هذا الشاهد بكشف ألبعاد جديدة في إنسانية محمد،
وقائع ،جاءتنا في نصوص متواترة ،اتفقت في روايتها ُ
كتب تدل عليه ٌ
السيرة مما وصف به ر ُ
بيب محمد "هند بن أبي هالة" شمائل النبي ،إذ
ينقل منها صاحب الشفا ،أن منطقه كان:
-دائم الفكرة ،ليست له راحة ،وال يتكلم في غير حاجة ،طويل
السكوت ،يفتتح الكالم ويختمه بأشداقه ويتكلم بجوامع الكلم،
ً
ل
فضال ،ال فضو فيه وال تقصير) ( .
27
53
د .حسين صبري إنسانية محمد
فحق لنا أن نتدبر إنسانية إنسان هذا هو حال منطقه وهذا هو حال ُ
سكوته ،إذا اجتمعا في واحد ممن يسوس الناس اليوم ،أو يدير ً
شأنا
من شئونهم؛ كمؤسسة أو مهنة أو أسرة ،كيف يكون نتا ُج هذا الرجل
ومن معه ،وكيف يكون تحضرهم وعملهم وأخالقهم وخططهم
وعالقاتهم وإنسانيتهم ،فرادى أو مجتمعين؟
إن تحليل حالي املنطق والسكوت يدلنا على التمايز الحادث بينهما،
أيضا على اتساقهما ،ويجمعهما تالز ٌم في صفة عظمى لم يؤدها ويدلنا ً
ً ُ بحقها ٌ
الناس له طواعية أحد ،درجة ما أداها محمد ،إال الن
ً ً
وخضعوا ورضوا ،حيث يجدون فيه انشغاال دائما بهم وبحوائجهم،
مثلما يجدون إخالصه وتقديره إلنسانيتهم ،ذلك التقدير الذي يدلنا
عليه ما شهد به صحابته ،يقول أبو هريرة:
أحدا أكثر مشورة ألصحابه من رسول هللا ﷺ)29( . -ما رأيت ً
ويحدثنا ابن هشام أن الحباب بن املنذر قال قبل موقعة بدر:
ً
-يا رسول هللا ،أرأيت هذا املنزل ،أمنزال أنزلكه هللا ليس لنا أن
نتقدمه ،وال نتأخر عنه ،أم هو الرأي والحرب واملكيدة؟
قال :بل هو الرأي والحرب واملكيدة.
فقال :يا رسول هللا ،فإن هذا ليس بمنزل ،فانهض بالناس حتى نأتي
ُ
أدنى ماء من القوم ،فننزله ،ثم نغور ما وراءه من القلب ،ثم نبني عليه
ً
حوضا فنملؤه ماء ،ثم نقاتل القوم ،فنشرب وال يشربون.
54
د .حسين صبري إنسانية محمد
56
د .حسين صبري إنسانية محمد
يحكي لنا موس ى بن عقبة في «املغازي» على لسان جعفر بن أبي طالب
فيما قال عن اإلسالم ونبي اإلسالم ،أمام النجاش ي ،في أصعب لحظة
يكون فيها اإلنسان إلى املوت هو أقرب ما يكون منه إلى النجاة:
جل من أنفسنا قد عرفنا وجهه ونسبه ،بعثه هللا إلينا -جاءنا به ر ٌ
كما بعث الرسل إلى من قبلنا ،فأمرنا بالبر والصدق والوفاء وأداء
األمانة ،ونهانا أن نعبد األوثان ،وأمرنا أن نعبد هللا وحده ال نشرك به.
()33
في إقرار حاسم ينطق بما تحمله أفئدة وعقول جمع املهاجرين معه
إلى الحبشة ،فإن ِّص ْدق الرسو ِّل ص َّدق الرسالة ،حتى لم يعد لغير
سبيل في ساحة اإليمان بين محمد ومن اهتدى بهديه ٌ الصدق
ورسالته.
يقول كعب بن مالك بعد حادثة تخلفه عن غزوة تبوك ،ثم توبة هللا
عليه:
-وهللا ما أنعم هللا علي من نعمة قط بعد أن هداني لإلسالم أعظم
في نفس ي صدقي لرسول هللا ﷺ ،أال أكون كذبته فأهلك كما يهلك
الذين كذبوا)34( .
أثر صدق محمد في الناسُ ،يروى عن أبي سفيان بعد إسالمه هكذا ُ
أنه قال حين حضرته الوفاة:
-ال تبكوا علي فإني لم أتنظف – أتلطخ -بخطيئة منذ أسلمت)35( .
57
د .حسين صبري إنسانية محمد
ويروي ابن سعد في طبقاته عن أبي قتادة ،أن رسول هللا ﷺ كان
يصلي وأمامة بنت أبي العاص -ابنة زينب بنت رسول هللا – على
عاتقه ،فإذا ركع وضعها ،وإذا قام حملها ( ،)37ويسجل البيهقي على
أحدا كان أرحم بالعيال من رسول هللا"لسان أنس بن مالك "ما أيت ً
ر
ٌ ٌ
( ،)38فليست هناك عالمة فارقة في إنسانية إنسان قدر ما يدل عليها
فعله ورحمته بصغاره ،ففي "الرحمة بالصغير" تتجلى كماالت
58
د .حسين صبري إنسانية محمد
اإلنسانية ،فهي اللبنة األولى لصناعة شاب يكبر وهو يستشعر آالم
الناس ويقدر مواجعهم ،وال تغيب عن نفسه لحظة أنه مسئول ،حتى
اعيا لبيت وزوج وصغار ،أدى فيهم ما ُيرض ي هللا
إذا كبر وتزوج وصار ر ً
ورسوله ،بعد أن صرنا نسمع ونشاهد اآلباء الذين يلحقون بأوالدهم
العاهات ،وربما املوت ،ألتفه األسباب ،بل ومن غير سبب ،وآخرين
ال يملك أحدهم أقل تبعات املسئولية في بيته ،بل ويكيد بأهله،
صاحب القوامة ،وهو ال يملك – بفعله ً -أيا
ُ ُ
"الرجل" بدعوى أنه
منهما؛ ال الرجولة وال القوامة.
ْ ُ
شاهد الفطرة:
هذا الشاهد يستحق التوقف عنده مرتين اثنتين:
األولى؛ وقفة بحثية؛ نتفحص فيها بروية ،األبعاد الجديدة التي
سيضيفها هذا الشاهد إلى معايير تقدير إنسانية محمد.
والثانية؛ وقفة تأملية؛ تضيف إلى األولى وال تنتقص منها ،ألن في هذا
ً
محمدا ولم يؤمن بنبوته وال بدعوة الشاهد نتتبع شهادات من عرف
اإلسالم.
فليس هناك أعظم من شهادة إنصاف تأتيك من ُمبغض كاره
ُ
لنجاحك ،أو تميزك ،أو خلقك ،أو إيمانك ،أو تفردك ،إنها تساوي -
قدرها وأثرها -أضعاف شهادة من أحبك ،إنها تعني أن من قالها؛ في ْ
59
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
عظيما -يا أبا الفضل لقد أصبح ُ
ملك ابن أخيك الغداة
قال العباس:
-يا أبا سفيان إنها النبوة
قال:
إذا)40( .ً
-فنعم
والسطر الثالث؛ يأتينا مما ترويه املصادر فيما وقع بين أبي سفيان
وهرقل عظيم الروم ،وعلينا أن نتأمل عبارات هرقل وهي
"استنتاجات" من أقوال أبي سفيان وهي "حقائق" فال نجد إال
ً ً
اتساقا متينا بين الحقائق "املقدمات" واالستنتاجات "النتيجة" ،في
ٌ
هذه الحجة املنطقية تصنيف ُمبهر ملعايير إنسانية محمد ،تنساب في
حوار بين اثنين ،لكل منهما ٌ
شأن في قومه ،األول وهو السائل يدين
"باملسيحية" ويدافع عنها ،والثاني وهو املجيب "وثني" يعبد األصنام،
وكان هذا هو حوارهما كما يرويه البخاري:
• كيف نسبه فيكم؟ ...هو فينا ذو نسب
• فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ ...ال
• فهل كان من آبائه من ملك؟ ...ال
ُ
• فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ ...بل ضعفائهم
• أيزيدون أم ينقصون؟ ...يزيدون
61
د .حسين صبري إنسانية محمد
أحد منهم لسخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ ...ال • فهل يرتد ٌ
• فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ ...ال
• فهل يغدر؟ ...ال
• فهل قاتلتموه؟ ...نعم
• فكيف كان قتالكم إياه؟ ...الحرب بيننا سجال ،ينال منا وننال
منه
• ماذا يأمركم؟ ...يقول اعبدوا هللا وحده وال تشركوا بيه ً
شيئا،
واتركوا ما يقول آباؤكم .ويأمرنا بالصالة والصدق والعفاف
والصلة)41( .
فور أن ينتهي الحوار ،يصدر قيصر الروم الحكم "النتيجة" في
معا ،إذ يقول: إنسانية محمد ،وهو يعبر عن نبوته وبشريته ً
-لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على هللا تعالى)42( .
حوار بليغ ،لتواتره ،ومنطقيته ،ليس فيه تهوين أو تعظيم ،ويدل ٌ
على:
oاهتمام عظيم الروم آنذاك بأمر الرسول والدين الجديد ،فليس
مستبعدا أن هرقل قد اطلع على نصوص اإلنجيل التي تبشر ً
بمجيئ محمد ،أو سمعه من أحد القساوسة املخلصين ،وإال
كيف نفسر اهتمامه وطلب السؤال عن محمد؟!
62
د .حسين صبري إنسانية محمد
oإن هذا الحوار قد جاءنا عن ابن عباس؛ الذي أخذه مباشرة عن
أبي سفيان بعد اسالمه ،فلم يلجأ أبو سفيان في رواية هذا الخبر
ً
إلى التلفيق أو الكذب ،في مناسبتين :األولى أمام هرقل خوفا من
بطشه إن اكتشف كذبه إن كذب عليه ،والثانية أمام ابن عباس
لحسن إسالمه.
يفصح عن تسلسل وترابط منطقي ،إذ من غير ُ oإن هذا الحوار
املعقول أن يكون نتيجة لحظة اللقاء وعفوية الحوار ،ما يدل على
ً
أن هناك تشاو ًرا وتباحثا جد ًيا قد حدثا قبل أن يصير الحوار،
ً ً ً
فضال عن أن مجريات هذا الحوار تحمل في طياتها؛ إجماال بديعا
ٌ
لنظرة اإلسالم في بناء العقيدة واألخالق ،وفيها كشف عن مصير
اإلنسان وسعادته ،مما يدفعنا إلى التساؤل:
-هل أضافت جهود األفراد املعنيين واملؤسسات والدول الحديثة
منذ نشأتها في حفظ كرامة اإلنسان؛ من التشريعات والقوانين فوق
ما يعطينا هذا الحوار؟
في السطر الرابع؛ ينقل لنا السيوطي ما ذكرته كتب السيرة من
شهادة الوليد بن املغيرة ،وكان من ُعتاة املشركين الكارهين لإلسالم
ونبي اإلسالم ،إذ أتته قريش ترجوه أن يقول في محمد ما يدل على أنه
منكر له وكاره ،بعد أن رق حين سمع القرآن من فم النبي محمد، ٌ
63
د .حسين صبري إنسانية محمد
فأقسم لهم باهلل أن ما سمعه ليس شي ًئا من الكهانة وال الجنون وال
الشعر وال السحر ،وليس منهم من هو أعلم منه بهذا كله ،ثم قال:
-وهللا إن لقوله الذي يقول حالوة ،وإن عليه لطالوة ،و إنه ملثمر
أعاله ،ومغدق أسفله ،و إنه ليعلو وما ُيعلى عليه)43( .
64
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
فكان جواب قريش الذي ما كان إال إنفاذا لجاهليتهم:
-سحرك وهللا يا أبا الوليد بلسانه)45( .
حكرا على ُعباد األصنام ،بل امتدت ولم تكن أخالق الجاهلية هذه ً
بعضا من أهل الكتاب من يهود املدينة ،إذ يروي موس ى حتى شملت ً
بن عقبة في "املغازي" ما قاله أبو ياسر بن أخطب من اليهود -وهو
عم صفية زوج النبي محمد -عندما سمع من محمد وحادثه ثم رجع
إلى قومه ،وقال لهم:
-يا قوم أطيعوني فإن هللا عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم
تنظرون ،فاتبعوه وال تخالفوه)46( .
َّ ُ
هكذا تكون سوءات الجاهلية -وهي فوق ما تحص ى -أقلها أن تدفع
ً
صاحبها إلى رهان زائغ بدال عن اإلذعان للحق ،إذ لو ترك أحدهم األمر
ألقر هذا الحق دونما ارتباك أو تردد ،وليس هذا ببعيد ،فقد لفطرته َّ
ُ ً
واضحا فيما قالت أم معبد الخزامية -قبل أن ت ْس ِّلم -حين مر تجلى
بها النبي محمد في طريق هجرته إلى يثرب ،يستقي منها املاء واللبن،
فوصفته بأنه:
-أجمل الناس من بعيد ،وأحاله وأحسنه من قريب)47( .
66
د .حسين صبري إنسانية محمد
ٌ ُُ
دقيق ،في ال ِّخلقة والخلق ،وهذا واحد من تجليات اإلنسانية في
محمد.
ُ َ ََ
شاهد النصفة:
ننتقل مع هذا الشاهد إلى رؤية عصرية صادرة عن توجهات متباينة
بين أصحابها ،لتمدنا بنماذج من املعايير لقياس قدر املفاضلة في
إنسانية محمد عمن سواه من البشر ،لكن من منظور آخر ،أثقلته
التجربة ،وأسعفته الدقة والتصنيف ،وارتقى به العلم ،وحصنته
تطبيقات العلم ،نماذج يسودها التمايزبين أصحابها من حيث:
-خلفياتهم العلمية ،تخصصاتهم الدقيقة ،طرائقهم البحثية،
بيئاتهم ،تنشئتهم ،رصيدهم النفس ي ،حصيلتهم األخالقية ،وزادهم
اإليماني.
لنرى :هل يوصل هذا التمايزالحادث بينهم ،إلى اتساقهم في الحكم
على إنسانية محمد؟
تبدأ سطور هذا الشاهد بتأسيس متفرد ملعايير إنسانية محمد ،من
ً ً ٌ مفكر له ر ٌ
أي حر ،وله موقف ،ارتض ى العلم مقياسا ومنهجا،
واإلنصاف غاية ،نال من التفلسف -بالدرس والتحليل واملمارسة -
ً
درجاته العلى ،فما زاده التفلسف إال بغضا للتعصب ،يجأر
67
د .حسين صبري إنسانية محمد
بمسيحيته ويقرر :لن أنحاز عنها لسواها ،لم ُيصدر حكمه في إنسانية
محمد إال بعد فحص وترو وتدقيق ،وهو ينظربعينين:
األولى؛ لحقائق التاريخ ومصادر السيرة وآيات القرآن الكريم
والثانية؛ لواقع األحكام غير املنصفة لدى كثير من املستشرقين في
عموماُ .يصر هذا الباحث علىً الغرب تجاه نبي اإلسالم واإلسالم
سيجر إليه وعليه هذا الحكم ،لكنها ُّ حكمه ،وهو يعلم ً
جيدا ماذا
ُ
نقاوة اإليمان الصحيح باهلل الواحد إذا ما تمكنت من شغاف القلب،
حبا في هللا ودينه ،ليصغر في عينيه ما سيعاني ويكابد. مألته ً
نظمي لوقا؛ الباحث الفلسفي األديب ،الذي كبر على الصغائر ،وآثر
ً
كلمة الصدق ،فما قال إال ما علم ،وقال كثيرا ،وقد أدركه ببحث
ً وعلم ،وكلما مر عليه ز ٌ
من زاد تشبثا بما قال ،وفهم وأيقن ،فانتهى إلى
أحكامه في محمد ،وفي التوحيد ،وفي جوهر العقيدة اإلسالمية ،وكان
كبيرا في دراسة آيات القرآن من أخالق وعقائد وأبعاد إنسانية، تركيزه ً
مكن لنفسه ،وال لذويه ،وكانت لذويه بحكم ي لم ا ً
محمد إنه يؤمن "أن
ِّ
فسوى ذلك كله باألرض" ( ،)48فمن الجاهلية صدارة غير مدفوعةَّ ،
أجل مراتب اإلنسانية أن تسمو روح اإلنسان وفعله وخلقه
ومعامالته ،فوق فرديته ،وفوق خاصته من الناس واملصالح ،وفوق
ذويه وصحبه ،من أجل التمكين لكرامة الناس كافة ،دونما تمييز.
68
د .حسين صبري إنسانية محمد
كان "ال يشعر بالراحة إال بعد أن يتأكد من راحة الجميع ،وكان
يتوقف في الطرقات ليستمع إلى أحزان ومآس ي الفقراء والضعفاء
واملنكوبين ،وكان يقصد منازل أشد أتباعه ً
فقرا ،ليخفف عنهم،
ويريح قلوبهم" ( ،)55فهل يمكن أن يكون هناك في رحمة اإلنسان
باإلنسان؛ أبعد وأرقى وأنبل ممن ينصت إلي الناس؛ يستشعر وجعهم
ويواسيهم؟!
ُ
شاهد الذوات السوية:
ٌ
يجمع أصحاب هذا الشاهد ذاتية علمية سوية من التقدير لنموذج
اإلنسان الذي ُيمثله محمد ،هم في هذا متسقون غاية االتساق ،ال
ٌ
تمس هذه الذاتية حياديتهم في الحكم ،ألنها ذاتية "غير متطرفة"،
ٌ وحكمها في إنسانية محمد ٌ
مبني على حقائق وأدلة ،ومستنبط
ً ً
منهجيا ،كما أنهم متسقون في االنتماء لدين محمد ،وفي استنباطا
االنتماء نفسه لألرض واللسان والدم والتاريخ ،غير أنهم متمايزون في:
أنماطهم الفكرية ،ميولهم العلمية ،مشاربهم التربوية ،ومهاراتهم في
تحليل الخيوط الدقيقة التي شكلت نسيج إنسانية محمد.
ُ
أفعال يرى املؤرخ حسين مؤنس؛ أن قيمة املساواة -كما جسدتها
محمد -كانت األساس األول في بناء إنسانيته ،إذ " لم يرض رسول هللا
لصحابته إال املساواة بنفسه الكريمة ،برغم أنه كان نبيهم وهاديهم
71
د .حسين صبري إنسانية محمد
73
د .حسين صبري إنسانية محمد
74
د .حسين صبري إنسانية محمد
ّ َُْ
الفكرة ،وتميل بطبعها إلى اإلخالص واملخلصين ،وتنفر ممن يدعي
اإلخالص ،بينما الخيانة تموج في قلبه وينضح بها وجهه ولسانه.
ُ
شاهد اإلجماع العلمي:
ما كانت عملية تحليل املعايير للحكم على إنسانية محمد؛ ِّحك ًرا على
ُ
من آمن بدعوة اإلسالم عبر العصور ،بل شغلت املسألة املفكرين
والساسة والقادة واألدباء واملؤرخين والحكماء والعلماء في أرجاء
األرض ،ممن قرأ اإلسالم وعرف تاريخه ،أو اطلع سيرة محمد ،أو تأمل
أثر اإلسالم في أخالق املسلمين املخلصين ،أو استوعب حضارة
اإلسالم وقدر إبداعاتها وإنجازات علمائها وتاريخ الفكر ومدارسه في
اإلسالم ،وأيقن أثر الوحي القرآني في الفكر بين املسلمين ،لذلك فإن
عجبا ،إذ يصدر تفرد عجيب ،ويمدنا بدالالت أكثر ًهذا الشاهد له ٌ
هذا الشاهد ممن يسودهم التمايزفي:
-النطاق الجغرافي ،الحضاري ،الزمني ،التنشئة ،البيئة ،املوروث،
الثقافة ،امليول الفكرية والعلمية ،والوجهة الدينية.
ويجمعهم االتساق في:
-إيجابية الحكم على إنسانية محمد ،رغم اختالف املنظور الذي
من خالله نظر كل واحد منهم لتحليل وفهم وتقدير هذه
اإلنسانية.
76
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
فهل الحكم الذي سينتهي إليه هذا الشاهد؛ ينال درجة أعلى في
صحته من األحكام التي قدمتها الشواهد الخمسة األولى؟
ليست هكذا تكون املسألة ،إنما الشواهد ال تقدم للحكم ً
مزيدا من
الصحة ،وإنما تضيف إلى حيثيات الحكم املزيد من التوكيد والنقاء
والبيان.
محمدا ولم يؤمنً فقد تتبعنا في الشاهد الثالث شهادات من عرف
منكر وكار ٌه لدين محمد ،رغم ذلك لم يستطع بنبوته ،وكان بعضهم ٌ
حد ممن أوردناهم في هذا الشاهد أال ينطق في إنسانية محمد إال وا ٌ
الحق.
ٌ ٌ
إن إصدار الحكم في إنسانية محمد هي عملية مستقلة عن "التمايز"
ً ً ٌ
الحاصل بين أصحاب الحكم ،ألنها عملية تستلزم صحوة موضوعية
ً ً
وصحوة ذاتية ،بدونهما معا ،لن نجد الصحة التي يطمئن إليها العقل
البحثي.
نبدأ هذا الشاهد بنوع من اإلجماع العلمي ،وال نعني باإلجماع هنا
بالعصبة الصامدة حين تتوافق على حكم الداللة على الكثرة ،وإنما ُ
ٌ ٌ واحد وإن َّ
قل عددها ،في هذا اإلجماع درجة فائقة من االتساق الدال
على التئام صحوة املوضوعية بصحوة الذاتية ،في قراءة وفهم
واستنتاج املعايير التي وضعت "حجر األساس األول" في انسانية
محمد ،وهو "التوحيد" ،إذ يرى العالم الياباني "إيزوتسو" الذي أتقن
77
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
محمدا والدين الذي العربية وترجم معاني القرآن إلى اليابانية ،أن
جاء به ال يناقض بحال كل دين جاء من السماء ،فاإلسالم ً
وفقا ملا
يبينه القرآن هو "حركة إلزالة االنحرافات الدينية بقصد أن يعيد
بناء التوحيد الحقيقي في شكله الخالص األصيل" ( ،)69أراد هذا
الباحث أن يؤكد قيمة االتساق بين رساالت السماء في إقرار التوحيد
نقيا ،وفي االتجاه نفسه يؤمن املؤرخ الفرنس ي جوستاف ً
خالصا ً
لوبون؛ أن اإلسالم عن طريق التوحيد جمع بين متمايزين في اتساق
عجيب ،حيث "تشتق سهولة اإلسالم العظيمة من التوحيد املحض،
وفي هذه السهولة سر قوته" ( ،)70لقد فهم لوبون أن عظمة اإلسالم
محمدا بعقيدته في التوحيد الذي أصر عليه منذ ً في "التوحيد" ،وأن
اللحظة األولى في نبوته ،يجمع بين متمايزين :هما اليسر والقوة.
ويؤكد مارسيل بوازار؛ أن التوحيد يضفي على اإلسالم أكثر صفاته
ً
تأصال ،هي أنه "دين املطلق" ( ،)71به تستقيم حياة اإلنسان "املتغير"،
فال يفقد هذا اإلنسان راحته وال يضل مسعاه في األرض ،إال في
اللحظة التي يغادره فيها يقينه بالتوحيد الذي هو أخص خصائص
الدين الحق.
ُ
ويرى ه .ج .ولز؛ أن التوحيد هو فضيلة اإلسالم الكبر ،وكأنه يريد
ى
اإلشارة إلى تركيز اإلسالم على الربط املتين بين االعتقاد والعمل ،إذ
يقول أن التوحيد ليس الفضيلة الكبرى الوحيدة في اإلسالم ،إنما
78
د .حسين صبري إنسانية محمد
يعادله فضيلة كبرى أخرى هي "تبادل الرفق والرعاية بين الناس في
الحياة اليومية" ( ،)72ألن التوحيد يؤلف النوايا واألعمال والقيم
والرؤى واللسان والجوارح ويجمعها في رباط وثيق مع هللا الواحد ،مما
دائما بأن معه الخالق ،يسمع ويرى، يجعل في اإلنسان شعو ًرا ً
ويدفعه إلفشاء الرحمة والسالم بين الناس كلها ،وقد فهمت كارين
أرمسترونج؛ املعنى نفسه حين تقول " لم يكن التوحيد مجرد تأكيد
عيني ملا فوق الطبيعة عن وحدانية املقدس ،وإنما هو مثل كل تعاليم
ٌ ٌ
القرآن دعوة للعمل" ( ،)73فالتوحيد رغم أنه -في األساس -عقيدة
ٌ ٌ
موجهة للسلوك والخلق ومحد ِّدة إلنسانية من يؤمن بهاقلبية ،لكنها ِّ
ٌ
عظيم ،وأنه مخلصا ،لهذا يعتبر جاك ريسلر؛ أن التوحيد ٌ
عمل ً
"حقق في أقصر أجل أعظم أمل لحياة إنسانية" ( ،)74ويمض ي
بوسورث سميث؛ ألبعد من هذا الحد ،حيث يؤمن أن جوهر اعتقاد
محمد والذي جعله اإلنسان النموذج ومنح دينه حيويته التي ال
تنضب هو " االعتقاد الذي يسمو فوق كافة االعتقادات بأن هللا
واحد" ( ،)75ألنه ليس ضرورًيا إلقرار اإليمان في النفس وحسب ،وإنما
يمنح هذا االعتقاد مع اإليمان "القوة والثقة والسمو فوق زالت
التحيز والتورط" ( ،)76لهذا السبب فإن املؤمن املوحد هلل تعالى دون
أن تشوب توحيده شائبة؛ يتحلى بالنزاهة والحيدة ويتالفى شبهات
التحيز واندفاعات الهوى ،ألنه يتعالى باإلنسان إلى مراتب اإلحسان،
79
د .حسين صبري إنسانية محمد
املسئولية:
لقد استطاع محمد أن يحول املسئولية من فكرة وقيمة وغاية إلى
"ممارسة" ،حتى صار لها معيارية في الحكم على األفعال واملواقف
ً
والناس ،فانتقاها الباحثون معيارا للحكم على إنسانية أعظم
البشر ،يعتبر مايكل هارت أن مسئولية محمد لم تكن عن نفسه
وأهل بيته وعشيرته أو دولته ،وإنما عن دين وإنسانية ،الدين الذي
ختم به هللا تعالى رسالة األنبياء ،واإلنسانية في الناس كافة ،حيث "
إن القرآن الكريم قد نزل عليه وحده" ( ،)83فكان املسئول األول
واألوحد عن دين اإلسالم ،وعن أصول املعاملة بين الناس ،لذا كان
محمد يطلب من املسلمين " أن يظلوا على وعي دائم بوجود هللا
وخشية الحساب بعد املوت" ( ،)84فإن ً
كثيرا من موبقات هذا العصر؛
إنما سببها األكبر هو غياب الوعي بما سيصير إليه اإلنسان بعد
املوت ،يبدو أن "الثورة املعرفية الهائلة" والتطور املعلوماتي
لحظيا وبسرعة مخيفة ،يبدو أن هذا كلهً والتكنولوجي الذي يزداد
قد غيب -على عكس ما يريد العقالء -قدرات اإلنسان في التأمل
واملحاسبة واملراجعة ،فغاب معها شعوره بمسئوليته ،حتى أن
اجا بين الناس ،ربما بالقدر الذي تتطوراإلفساد صار هو األكثر رو ً
تتقدم التكنولوجيا ،بل أصبح هناك ما يمكن تسميته به املعرفة و َّ
بظاهرة "استحسان الفساد" والتباهي بفعله وتبريره ،وتغير مفهوم
82
د .حسين صبري إنسانية محمد
والتقييم ،فإن دينه قد "ارتفع شأنه على النحو الذي بلغه ،ولو كان
ً
خياال ملحمد وصحابته وأتباعه ملا تحقق له ما تحقق حتى اآلن" (،)87
وكان همه منصبا نحو "تجديد الثقافة الزائفة والباطل والغرور" (،)88
ٌ
إنجاز التي سادت جزيرة العرب والعالم ،وتحقق له في مدى قصير
كبير؛ هو التوسط بين املثالية والواقعية ،أو لنقل الجمع بينهما في
محمد في اقتالع الزيف والباطل والغرور، ٌ امتزاج فريد ،نجح فيه
وتوكيد اإليمان واإلخالص والخيرية في نفوس من آمنوا برسالته،
منا بعد زمن ،ولم يتراجع ،بل يمتد ً
يوما سببا في امتداد دينه ً فكان ً
ز
بعد يوم.
صنع محمد في "التوسط الخلقي" الذي اتخذه مسا ًرا لدعوته ،جملة
من األسس ،هي "معايير" تزن قدر إنسانيته ،وهي أكثر من أن
نحصيها ،ظلت موضع اهتمام الباحثين واستحوذت على اهتمامات
املستشرقين ممن أنصفوا ،في هذه املعايير؛ املدخل اآلمن الذي
مضيئا إلنفاذ رسالته وهو مدخل ً ارتضاه محمد لنفسه م ْعب ًرا
"الصدق" ،الذي استعصم به حتى وثق كل من تعامل معه أو اتبع
ً
دعوته من صدقه ،لهذا نجد توماس كارليل يطرح مستنكرا؛ ليدلل
على صدق محمد:
كاذبا يستطيع أن يوجد ً جال ً ً
دينا وينشره ( )89؟! -هل رأيتم قط أن ر
84
د .حسين صبري إنسانية محمد
في هذه املعايير؛ ما يرويه "ليمان" ما أجمع عليه مؤرخو السيرة في
نشأة النبي وتربيته وميله للخلوة والتأمل وتدبر أحوال الناس
ٌ َّ
والكون ،فيقرر أن آيات القرآن التي بلغها محمد "تنتقد التكبر
واألنانية" ( ،)90في إشارة إلى ما اتصف به خلق محمد من تواضع لم
ُ ُ
واالمتثال اللذين وجدهما بين جموع من آمن به. تغيره الطاعة
في هذه املعايير؛ ما يقرره املستشرق ه .ج .ولز ،أن تعاليم محمد
أسست في العالم تقاليد عظيمة للمعاملة الكريمة بين الناس ،حيث
إنها "تنفخ في الناس روح الكرم والسماحة ،كما أنها إنسانية السمة
مجتمعا أكثر تحر ًرا من أي مجتمع آخر
ً ممكنة التنفيذ ،وقد أنشأت
سبقه" ( ،)91فما كان لهذا املجتمع أن يبلغ تلك املرتبة من التحرر
اإلنساني لوال ما كان عليه محمد من حماس وإيجابية ،حتى أنه "ما
وعرف عنه نقاؤه يوما من طفولته إلى أن القى ربه" (ُ ،)92
عرف الكسل ً
إلى الدرجة التي كان فيها الباطن عنده أهم من الظاهر والخفي أفضل
من املرئي ،ويعلل "إميل درمنجهم" هذا املعيار بمسببات أخرى أدت
محمدا " كان ذا قلب خال من الكذب والغش والغرور ً إليه ،هي أن
ولم يترك العروة الوثقى بعد أن استمسك بها" ( ،)93وظل هذا النقاء
سببا في أن ال ينفصل عن حياة الناس قلب محمد ً الذي أوتيه ُ
واحدا منهم ،يفرحه ما يفرحهم وأفراحهم وأتراحهم ،بل جعله هذا ً
ويؤمله ما يؤملهم ،وكان "يقدر الفجيعة ،ويستشعر وحشة اليتم" (،)94
85
د .حسين صبري إنسانية محمد
ألن اليتم الذي عاشه منذ مولده ،أمده بإحساس مرهف بآالم الناس
ّ ً
وأوجاعهم ،وغالبا فإن الوجع يصهرصاحبه وينقيه ويكشف له ما
ً ً
ال ينكشف لغيره ،بل يهبه عقال متوقدا بالذكاء منشغال باملعرفة،
وهذا مما جعل سعيه المتالك املعرفة ال يفارقه ،فقد تيقن أن إيمانه
يشتد وينمو ويزيد بنمو معرفته ،فهي ما تنير من أمامه "درب اإليمان"
( ،)95لهذا تمحورت جميع أفكاره وأفعاله صوب وجهة واحدة هي:
"اإلصالح الديني" ( ،)96ورغم ما انزلق إليه بعض املستشرقين من
ً
نموذجا من نماذج اإلصالح الديني ،كالتي خطأ اعتبار النبي محمد
ً
عرفتها أوروبا ،رغم ذلك ،لم تكن عنايته باإلصالح إال ألن فكرة قد
استحوذت على همته ،هي أن يتم هذا اإلصالح من أجل "إنهاء هذا
الوجود املؤلم للغاية املليء بالحيرة ،الذي كان فيه العرب" ( ،)97فقد
تيقن أن اإلنسان بقدر ما يبتعد عن إيمانه السوي باهلل ،بقدر ما
ّ
ُي ْس ِّلم عقله لسيطرة الخرافة ،فال تنمو الخر افات أو تتخلق ،إال
عاية من عقو ٍل فقدت يقينها باهلل.
بر ٍ
إن ما يثير االنتباه لدى كثير من مستشرقي الغرب ،أن هذه الصفات
"املعايير" لم ينقطع أثرها بين الناس إلى اليوم ،من آمن بدعوة محمد
ومن لم يؤمن ،ربما لذلك يقول رودينسون:
-كانت حياة محمد قد انتهت في الوقت الذي كانت عظمته تبدأ)98( .
86
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
الصفات مجتمعة متسقة متناغمة متجسدة في إنسان واحد ،حتما
والبد أن يكون " ٌ
محمد" هو املقصود ،ال أحد سواه.
88
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
عند هذه النقطة من الدراسة ،ووفقا ملقتضيات البحث العلمي،
يتبادر إلى الذهن ،السؤال املنطقي التالي:
89
د .حسين صبري إنسانية محمد
90
د .حسين صبري إنسانية محمد
( )10أحمد مختار عمر :معجم اللغة العربية المعاصرة ،عالم الكتب ،القاهرة ،ط ،2008 ،1ص
130
( )11إبراهيم مدكور :المعجم الفلسفي ،الهيئة العامة لشئون المطابع األميرية ،القاهرة ،ط ،1983
ص 25
وأندريه الالند :الموسوعة الفلسفية ،تعريب :خليل أحمد خليل ،منشورات عويدات ،بيروت ،ط ،2
،2001ص 570
( )12شوقي ضيف وآخرون :المعجم الوسيط ،مكتبة الشروق الدولية ،القاهرة ،ط ،2000 ،4باب
األلف ،ص 30
( )13ابن خلدون :المقدمة ،تحقيق :عبد اهلل محمد الدرويش ،دار يعرب ،دمشق ،ط ،2004 ،1جـ
،2ص 158
( )14الكسيس كاربل :اإلنسان ذلك المجهول ،ترجمة :عادل شفيق ،الدار القومية للطباعة والنشر،
ص 13
( )15توشيهيكو إيزوتسو :اهلل واإلنسان في القرآن ،ترجمة :هالل محمد الجهاد ،مركز دراسات
الوحدة العربية ،بيروت ،ط ،2007 ،1ص 128
( )16ابن إسحاق :السيرة النبوية ،تحقيق :أحمد فريد المزيدي ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط ،1
،2004جـ ،1ص 102
( )17ابن سعد :الطبقات الكبير :تحقيق :علي محمد عمر :مكتبة الخانجي :القاهرة ،ط ،2001 ،1
جـ ،1ص 95
( )18ابن هشام :السيرة النبوية ،تحقيق :مصطفى السقا وآخرون ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت،
جـ ،1ص 200:201
( )19ابن سعد :الطبقات الكبرى ،جـ ،1ص 109
( )20ابن إسحاق :كتاب السير والمغازي ،تحقيق :سهيل زكار ،دار الفكر ،دمشق ،ط ،1978 ،1
ص 132
91
د .حسين صبري إنسانية محمد
( )21البخاري :الجامع الصحيح ،المجلد الثالث ،حديث رقم ،4953ص 327
وابن عبد البر :الدرر في اختصاص المغازي والسير ،تحقيق :شوقي ضيف ،دار المعارف ،القاهرة،
طـ ،1991 ،3ص 32
( )22محب الدين الطبري :خالصة سيد البشر ،تحقيق :محمد عبد الغفار خان ،مطبوعات دائرة
المعارف العثمانية ،ط ،2005ص 106:107
( )23مسلم :صحيح مسلم ،كتاب الفضائل ،حديث رقم ،2327 / 77ص 950
واألصبهاني :أخالق النبي ،تحقيق :صالح بن محمد الونيان ،دار المسلم للنشر والتوزيع ،الرياض،
السعودية ،ط ،1998 ،1ص 34
( )24محب الدين الطبري :خالصة سيد البشر ،ص 64:65
( )25الترمذي :الشمائل المحمدية ،تحقيقك محمد عبد العزيز الخالدي ،دار الكتب العلمية ،بيروت،
ط ،2006 ،3حديث رقم ،348ص 157:158
( )26البخاري :الجامع الصحيح ،جـ ا ،كتاب «بدء الوحي» حديث رقم ،3ص 14
( )27أبو الفضيل عياض :الشفا ،تحقيق :عبده علي كوشك ،جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم ،دولة
اإلمارات العربية المتحدة ،ط ،2013 ،1ص 203
( )28ابن سيد الناس :عيون األثر ،تحقيق :محمد العيد الخطراوي ومحي الدين متو ،مكتبة دار
التراث ،المدينة المنورة ،جـ ،2ص 427
( )29الزهري :كتاب المغازي ،تحقيق :سهيل زكار ،دار الفكر ،دمشق ،ط ،1981 ،1ص 51
( )30ابن هشام :السيرة النبوية ،جـ ،2ص 272
( )31موسى بن عقبة :المغازي ،تحقيق :محمد باقشيش أبو مالك ،كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية،
جامعة ابن زهير ،أغادير ،المملكة المغربية ،ط ،1994ص 128
( )32البخاري :الجامع الصحيح ،المجلد األول ،باب «ما جاء في العلم» ،حديث رقم ،63ص 39
( )33موسى بن عقبة :المغازي ،ص 71
92
د .حسين صبري إنسانية محمد
( )34محمد بن محمد العواجي :مرويات اإلمام الزهري ،عمادة البحث العلمي ،الجامعة اإلسالمية،
المدينة المنورة ،و ازرة التعليم العالي ،السعودية ،رقم اإلصدار ،64ط ،2004 ،1جـ ،2ص 820
( )35ابن سيد الناس :عيون األثر ،جـ ،2ص 228
( )36محب الدين الطبري :خالصة سيد البشر ،ص 75
( )37ابن سعد :الطبقات الكبير ،جـ ،15ص 39
( )38البيهقي :دالئل النبوة ،تحقيق :عبد المعطي قلعجي ،دار الريان للتراث ،القاهرة ،ط ،1988 ،1
ص 330
( )39موسى بن عقبة :المغازي ،ص 83
( )40محمد بن محمد العواجي :مرويات اإلمام الزهي ،ص 717:718
( )41البخاري :الجامع الصحيح ،المجلد األول ،كتاب الوحي ،حديث رقم ،6ص 16
( )42ابن الجوزي :الوفا بأحوال المصطفى ،تحقيق :محمد زهري النجار ،المؤسسة السعيدية،
الرياض ،جـ ،1ص 412
( )43جالل الدين السيوطي :الخصائص النبوية الكبرى ،تحقيق :عبد اهلل التليدي ،دار البشائر
اإلسالمية ،بيروت ،ط 1410 ،2ه ،جـ ،1ص 280
( )44ابن هشام :السيرة النبوية ،جـ ،1ص 320
( )45ابن هشام :السيرة النبوية ،جـ ،1ص 313:314
( )46موسى بن عقبة :المغازي ،ص 141
( )47أبو الفضل عياض :الشفا ،ص 104
( )48نظمي لوقا :محمد الرسالة والرسول ،دار الكتاب العربي ،القاهرة ،ط ،1959 ،2ص
190:191
( )49جارودي :وعود اإلسالم ،ترجمة :ذوقان قرقوط ،مكتبة مدبولي ،القاهرة ،ط ،1985 ،2ص
25
93
د .حسين صبري إنسانية محمد
( )50بودلي :الرسول؛ حياة محمد ،ترجمة :محمد محمد فرج وعبد الحميد جورة السحار ،مكتبة
مصر ،القاهرة ،ص 100
& (51) Yusef Islam: The Life of the Last Prophetm Darussalam Publishers
Distributors, Riyadh, Saudi Arabi, P. 23
( )52أحمد ديدات :محمد الخليفة الطبيعي للمسيح ،ترجمة :رمضان الصفتاوي ،دار النهضة للطباعة
اإلسالمية ،القاهرة ،1991 ،ص 65
( )53محمد إقبال :تجديد الفكر الديني ،ترجمة :محمد يوسف عدس ،دار الكتاب المصري ،القاهرة،
ط ،2011ص 15
( )54وحيد الدين خان :اإلسالم يتحدى ،ترجمة :ظفر الدين خان ،مكتبة الرسالة ،ص 160
(55) Ameer Ali Syed: The Spirit of Islam, Christophers, London, P. 112
( )56حسين مؤنس :تاريخ موجز للفكر العربي ،دار الرشاد ،القاهرة ،ط ،1996 ،1ص 13
( )57محمد أبو زهرة :خاتم النبيين ،دار الفكر العربي ،ط ،2012ص 177
وعبد الرحمن الشرقاوي :محمد رسول الحرية ،دار الشروق ،القاهرة ،ط ،1990 ،1ص 356
( )58محمد رأفت سعيد :الرسول المعلم ،دار الوفاة ،المنصورة (مصر) ،ط ،2002 ،1ص 40
( )59على الطنطاوي :سيد رجال التاريخ ،دار المنارة للنشر والتوزيع ،السعودية ،ط ،2004ص
14
( )60مصطفى محمود :محمد ،دار المعارف ،القاهرة ،ط ،1977 ،10ص 11
( )61محمد حسين هيكل :حياة محمد ،دار المعارف ،القاهرة ،ط ،14ص 140
( )62محمد رشيد رضا :الوحي المحمدي ،مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر ،بيروت ،ط140 ،3
ه ،ص 159
( )63البخاري :الجامع الصحيح ،حديث رقم ،4406ص 174ومسلم :صحيح مسلم حديث رقم
،1679ص 695
( )64خالد محمد خالد :إنسانيات محمد ،المقطم للنشر والتوزيع ،القاهرة ،2004 ،ص 46
94
د .حسين صبري إنسانية محمد
( )65أكرم ضياء العمري :الرسالة والرسول ،ط ،1990 ،1ص 99
( ) 66طه عبد الرحمن ،سؤال األخالق ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،المغرب ،ط ،1
2000م ،ص 197
( )67سهيل زكار :من مقدمة تحقيق كتاب المغازي للزهري ،دار الفكر ،دمشق ،ط ،1981ص
17
( )68عباس محمود العقاد :عبقرية محمد ،نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ،القاهرة ،ص 81
(69) Washington Irving: Lives of Mohamet, Baudry’s Avropean Library,
Paris, 1850, P. 21
وتوشيهيكو إيزوتسو :اهلل واإلنسان في القرآن ،ص 136
( )70جوستاف لوبون :حضارة العرب ،ترجمة :عادل زعيتر ،مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة،
القاهرة ،ص 132
( )71مارسيل بوازار :إنسانية اإلسالم ،ترجمة :عفيف دمشقية ،منشورات دار اآلداب ،بيروت ،ط
،1980 ،1ص 48
( )72ه .ج .ولز :معالم تاريخ اإلنسانية ،ترجمة :عبد العزيز توفيق جاويد ،الهيئة المصرية العامة
للكتاب ،القاهرة ،ط ،1965 ،2جـ ،3ص 104
ودرمنغم :الشخصية المحمدية ،ص 109
( )73كارين أرمسترونج :محمد نبي زماننا ،ترجم :فاتن الزلباني ،مكتبة الشروق الدولية ،القاهرة ،ط
،2008 ،1ص 67
( )74جاك ريسلر :تاريخ الحضارة العربية ،ترجمة :غنيم عبدون ،الدار المصرية للتأليف والترجمة،
القاهرة ،ص 37
(75) Bosworth Smith: Mohammed and Mohammedanism, Smith Elder, Co.,
15 Waterloo Place, London, 1874, 166
95
حسين صبري.د إنسانية محمد
(76) Theodor Noldeke: Sketches from Eastern History, Translated by: John
Sutherland Black, Adam and Charles Black, London, 1982, P. 60:61
(77) Emil Dermengham: The Life of Mohamet, George Routledge & Sons,
LTD, London, 1930, P. 72
(78) Bosworth Smith: Mohammed and Mohamedanism, P.105:106
81 ص، حياة محمد:) بودلي79(
(80) Lamartine: History of Turkish, D. Appleton & Company, New York,
1885, Vol. 1, P. 69
ط، القاهرة، مكتبة اآلداب، محمد السباعي: ترجمة، محمد المثل األعلى:) توماس كارليل81(
12:13 ص،1993
(82) Reynold A. Nicholson: A Literary History of the Arabs, T. Fisher Unwin,
Adelphi Terrace, London, 1907, P. 179
ص، القاهرة، المكتب المصري الحديث، أنيس منصور: ترجمة، الخالدون مائة:) مايكل هارت83(
17
(84) Theodor Noldeke: Sketches from Eastern History, P. 64
،3 ط، القاهرة، مصرية للنشر والتوزيع، سليم قبعين: ترجمة، حكم النبي محمد:) تولستوي85(
9 ص،1987
(86) Lamartine: History of Turkich, P. 69
(87) Bosworth Smith: Mohammed and Mohaedanism, P. 82
(88) Emil Demengham: The Life of Mohamet, P. 72
55 ص، األبطال:) توماس كارليل89(
45 ص،13 جـ، بيروت، دار الجيل، محمد بدران: ترجمة، قصة الحضارة:) ول ديورانت90(
96
حسين صبري.د إنسانية محمد
97
د .حسين صبري إنسانية محمد
القسم الثاني
إنسانية محمد بين املوضوعية والذاتية
تمهيد
التالزم بين املوضوعية والذاتية
مقدمات الكتابة في السيرة النبوية
منهجية الكتابة
سيادة الروح النقدية
مقدمات الخلل في الحكم على إنسانية محمد
محددات الخلل
98
د .حسين صبري إنسانية محمد
تمهيد:
ً ُ سيرة محمد ﷺ موض ً ُ
موضوعها هدفا وعا للبحث ،ويبقى تظل
للباحثين.
ٌ ٌ
عصر ،وما خلت أمة من أثر البحث فيه ،ومن عمل فما خال
ً ً
وبشرا ُيوحى إليه.
إنساناً ، الباحثين ،منذ بعثته للناس كافة؛ رسوال
املصادر األولى واألهم للمادة التاريخية والعلمية ملوضوع ُ وتظل
ً
البحث في سيرته؛ متضمنة في آيات الوحي القرآني ،وما فصلته كتب
السنة والسيرة واملغازي والشمائل والتاريخ ،ويبقى لتلك املادة
وجودها املستقل في مصادرها ،وزم ًنا بعد زمن طالها التفصيل ُ
والتحليل والتصنيف واإلضافة ،وتلك قضايا بحثية أخرى ،ال
تتوقف عند حد ،وال تنتهي عند غاية بعينها.
والباحثون في السيرة النبوية يختلفون؛ في مناهجهم ورؤاهم ومناهل
وأخيرا يختلفون في أحكامهم ،و"اختالف ً مادتهم العلمية وأدواتهم،
ُ ُ
ى
األحكام" هذا موضع بحث علمي له األولوية القصو ،إذ تبقى سيرة
ُ
محمد هي املدخل األعظم لفهم اإلسالم ،وتظل إنسانية محمد مكو ًنا
ئيسا في فهم مكونا ر ًئيسا في فهم سيرته العطرة ،وتظل تلك اإلنسانية ً ر ً
الدين ،ألنها تجمع بين عنصرين غاية في االتساق وفي التمايز ،هما:
ُ
البشرية والنبوة ،لذا تظل داللة صحتها هي الداللة الكبرى على صحة
اإلسالم برمته.
99
د .حسين صبري إنسانية محمد
ٌ
لكل عوامل التحيز وكف لتأثيرها" ،وانتقلت هذه الداللة من اللغة
)2 (
إلى االصطالح في واقع الناس وفي إجراءات البحث ،وتم تداولها عبر
العصور والتطبيقات والتخصصات والعقول حتى صار لها قوة
أحد من الناس أو العلماء في حيواتهم اليومية الحقيقة ،وما عاد ٌ
والعلمية يسلم بدقة إجراء أو صحة حكم إال إذا اتصف بـ
"املوضوعية" وفق هذه الداللة ،وإال إذا كان نق ًيا من كل أثر للذاتية،
مع أن كافة اإلجراءات العلمية وأحكام وقوانين العلم التي أنجزها
أبداالعلماء عبر العصور هي نتاج إنساني ،أي ال تنفصل وال تعدم ً
أثر الذاتية في صناعتها وإنجازها.
فكيف ألحد أن يتصور إمكانية الفصل بين الناتج اإلنساني في البحث
وذاتية الباحث "اإلنسان" ،بدعوى التزام املوضوعية ،وكيف يمكن
ٌ
نقيض نقيض للموضوعية ،وبالتالي فهي ٌ النظر للذاتية على أنها
مضاد للعلم والدقة واملنهجية؟
فإن من يبحث ويمنهج ويحلل ويستنبط ويتحرى ويكتشف ويضيف
ويحكم ويقيم هو "إنسان" ،أي "ذاتية" هذا اإلنسان "الباحث".
فاملوضوعية التي عن طريق ضوابطها يتم الفحص الدقيق للمادة
العلمية ملوضوع البحث ،ما كان لها أن تتشكل وتوجد إال عبر "ذاتية
إنسانية".
101
د .حسين صبري إنسانية محمد
ُ
فهل من اإلنصاف – في مجال البحث العلمي -أن يظل االرتباط في
قائما بين الذاتية والبعد عن الدقة واالنفصال عن املنهجية؟ الداللة ً
ٌ
إن "الذاتية" مكون بشري في اإلنسان الباحث ،وهو محور العمليات
العقلية والنفسية التي بمقتضاها يبني الباحث أحكامه ،وفي
استطاعة هذا املكون البشري املهم أن:
يتعالى على فردتيه الضيقة ،أو يسقط فيها
ُ يخلص في إجراءاته العلمية ،أو ينتقص منها
يتأنى في فهمه ويدقق ،أو يتسرع
ُ
يستعصم بالحيادية ،أو تسيره قناعاته الخاصة وأحكامه املسبقة
يستقيم في نتائجه ويستوي ،أو يتطرف
شرا كلها ،كما أنها ليست ً
خيرا كلها. فالذاتية ليست ً
وصحة األحكام البحثية من إعمال الذاتية ،بالضبط مثلما هو
بطالنها.
عموما ،تتجمع حولً ألن كل التحديات في البحث ،وفي الفكر
عنصرين اثنين :املوضوع والذات.
حيث صار ما يرتبط مباشرة باملوضوع ،هو ما نطلق عليه
"املوضوعية" ،وصار ما يرتبط مباشرة بالباحث ،هو ما نطلق عليه
"الذاتية".
102
د .حسين صبري إنسانية محمد
103
د .حسين صبري إنسانية محمد
104
د .حسين صبري إنسانية محمد
105
د .حسين صبري إنسانية محمد
حيث يكون "طلب الحقيقة بدون تأثر برأي أو عاطفة سابقة" ( ،)4مما
مطلقا عن املعايير املوضوعية ،بالضبط ً يعني أن الذاتية ال تنتفي
مثلما ال تنفصل أ ًبدا أو ً
تماما عن املعايير الذاتية ،إذ هناك من يرى
"أن فكرة املوضوعية الكاملة في االنفصال الكامل للذات املدركة عن
ُ
املوضوع امل ْدرك مجرد أو أوهام" ( ،)5وفي رأي آخر يدعمه ويؤيده،
يقول البعض "إن الزعم بموضوعية مطلقة حتى في العلوم الطبيعية
الغيا" ( ،)6لهذا يصبح اعتبار املوضوعية هي الصحة وهما ً
قد أصبح ً
والصحة ال غيرها ،ال قبلها وال بعدها ،يصبح من ِّقبل الكالم الذي
يفقد دقته ويخرج عن أطر البحث العلمي ومعقوليته ،ألن
ٌ ٌ
للموضوعية مساحة ممتدة كما للذاتية مساحة ممتدة ،وفي كل
منهما تتراوح أحكام العلماء ما بين درجتي :الصحة التامة والبطالن
التام.
ُ لهذا ُ
فغير علمي أن تذكر املوضوعية في أي بحث علمي وكأنها وحدها
ُ
هي الصحة ،وغير علمي أن تذكر الذاتية في أي بحث علمي وكأنها
وحدها هي البطالن.
فالذاتية؛ في إجراءاتنا البحثية وفي أحكامنا ،هي املنطلق الذي يمهد
ٌ
"إنساني" متعلق للموضوعية ويقدم لها ،وألن موضوع دراستنا
بعظيم أجمع العقالء على عظمته ،حيث فيه تحققت الكماالت تامة
غير منقوصة -كما تبين في املبحث األول من الدراسة ً -
بدءا من
106
د .حسين صبري إنسانية محمد
ُ
وبأي الضوابط؛ ُيقيم الباحث إنسانية محمد ،حين تروي لنا أم
املؤمنين عائشة:
-كنت أشرب وانا حائض ،فأناوله النبي ﷺ فيضع فاه على موضع
في ،فيشربه ( )7؟
إن تشريعات حقوق املرأة التي فاقت الحصر ،والقابعة في مجلداتها
في أكوام املحاضر والجلسات والدراسات والتنظيرات واالستبانات،
التي تطالعنا صباح مساء في إكرام املرأة ،لتتضاءل أمام فعل واحد
كمال الرجولة ،كمال املحبة ،كمال التكريم،ُ كهذا الفعل ،فيه
وكمال اإلنسانية.
ُ
وبأي معيارية ،وبأي ضوابطها من التجرد ،يمكن أن يسبر البحث
العلمي حقائق إنسانية محمد حين َّأمن قومه بعد أن آذوه وسبوه
وحاصروه وأخرجوه من أحب البالد إلى قلبه ،حتى إذا عاد إليها
منتصرا قاد ًرا على القصاص ،فإذا به -نصره لدينه ال لنفسه - ً
يبسطها لهم بكمال حلمه وكمال رحمته:
-اذهبوا فأنتم الطلقاء؟
وبأي درجة من الدقة في الضبط املوضوعي والذاتي؛ نستطيع تقدير
كماالت اإلنسانية في نبي هللا محمد ،وهو ُيصر على املض ي في رسالته
نفر قليل ممن آمن ،وقريش تمأل الدنيا بجبروتها وليس معه إال ٌ
108
د .حسين صبري إنسانية محمد
109
د .حسين صبري إنسانية محمد
110
د .حسين صبري إنسانية محمد
111
د .حسين صبري إنسانية محمد
لكنه يرى أن النظريات والتنظيرات التي تستند إلى هذه الحقائق قلما
تأتي بجديد أو تصنيف ،ما أدى به إلى أن يدعو الختيار وتنظيم
واستثمار لبعض التفاصيل البارزة في تاريخ محمد على النحو الذي
ينقلها للقارئ الغربي بشكل صحيح ومركز)13( .
ورغم غموض دعوته وقصده منها ،لكنه وهو يقر بأن ما اطلعنا عليه
من حياة محمد وما ُعرف به ،إنما هي حقائق؛ فإنه يوجه ً
اتهاما
ضمنيا للمسلمين بالتقصير في اإلضافة لهذا الرصيد ،في قراءتها ثمً
االختيار والتنظيم واالستثمار فيها ،إلعادة تشكيل وعي الغرب بها.
إن سيرة النبي محمد وهي تنتقل من املعايشة إلى الحفظ الشفهي
والنقل واإلخبار ،ثم إلى التدوين في مصادرها األولى؛ كان لها تواز ٌن
نقدي على غير مثال سابق في التأريخ ألشخاص الرسل وتحليل ٌ
ٌ ٌ
منهجي
واألنبياء واملفكرين والحكماء عبر التاريخ ،ولكن املسألة لم ْ
تخل -
أحيانا درجةً لدى البعض -من املزيد من اإلضافات والتفاصيل،
املبالغة ،وربما درجة التلفيق ،عن طيب نية أو سوء قصد أو ضعف
تبصر بالنتائج ،خاصة لدى بعض املتأخرين ممن تصدوا للكتابة في
السيرة ،حيث حاد بعضهم عن الدقة في النقل واألمانة في التدوين،
مما أدى إلى أن تجنح كتاباتهم عن غاية العلم في تحليل سيرة محمد،
ُ
ودفع هذا إلى التشكيك في حقائق السيرة ،والسنة ،والطعن في كتابها،
إلى درجة املطالبة باالكتفاء بالتنزيل القرآني ،بسبب "الحرص على
112
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
تسلسل األسانيد وصحتها من دون التحرز من كونها مخالفة للكتاب
متنا" ( ،)14ولم ينتبه أصحاب هذا التشكيك -وربما انتبهوا -إلى املنزل ً
ُ ً
صحيحا ً
تاما كما أنزل على قلب محمد أن النص القرآني قد صار إلينا
بنفس هذا الحرص على التسلسل من األسانيد ،وفاتهم أن يدركوا أن
ً
سطحيا ً
ساذجا أو العقل الجمعي املسلم الذي وثق هذا النقل ما كان
للدرجة التي يصب همه كله في األسانيد من غير التحقق من متونها،
أو للحد الذي ينشغل فيه "بما يسمع" دون أن يتأكد "ممن يسمع"،
ُ
فقد أسس كتاب السيرة منذ البدء؛ منهجية التحري عن نصوص
سواء بسواء ،لكن هذا التشكيك لن يختفي ً املتون وقواعد السند
وسيطل من حين آلخر تحت دعاوى ال تنتهي ،يريد أصحابه -بدعوى ُ
النقد املوضوعي -القفز على حقائق السيرة وكفاية الحقائق عند
َّ ُ ُ
ي و
كتابها األو مثل عر ة بن الزبير والزهر وموس ى بن عقبة وابن ل
إسحاق وابن هشام ،والتركيز فقط على قليل من مصادر السيرة
مقصودا ،إلصدار أحكام مبتسرة بعيدة عن التجرد ً املتأخرة ،تركي ًزا
واملوضوعية ،ومضادة للتواتر التاريخي.
منهجية الكتابة:
ُ ٌ
لقد صار للسيرة في عناية علمائها؛ لغة مشتركة متداولة ،تحفظ عن
َّ ظهر قلب ،ما جعلها تبلغ ً
حدا من التواتر مكنها من "املحافظة على
113
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
في التدوين لحظة بلحظة وبروايات متقاربة ،وعلى ضوابط ذاتية في
ُ
أمانة النقل ،ألن "الصحة في اإلسناد ال تعرف إال برواية الثقة والعدل
عن العدل" ( ،)21هذه األمانة وإن تبدو للوهلة األولى معيا ًرا
ً ُ ٌ ً
موضوعيا ،لكنها أيضا معبرة عن الذاتية السوية ،حيث "تتعلق
أساسا بالضمير العلمي ،والقيم الذاتية للباحث" ( ،)22ألجل ذلك؛ ً
فإن القول بموضوعية منفصلة عن ذاتية الباحث في أي إجراء بحثي،
إنما هو من قبيل الخطأ الذي ليس له مسوغ لصحته سوى أنه شاع
بين أوساط الباحثين.
قديما ،نت ً
سير مصلحيهم ِّ في الكتابة من ا ف عرفت البشرية مع اإلغريق ً ِّ
وعلمائهم وفالسفتهم وقادتهم ،لكنها ما أوصلتهم إلى بناء منهجية لها
ٌ
شفهي ٌ
تدوين قواعد وأصو ٌل وتطبيق ،وكان للعرب في الجاهلية ٌ
لقصصهم وأيامهم وأمثالهم ،برعوا في حفظها وتناقلها من جيل آلخر
نص واالستشهاد بها في سائر أحوالهم ،فلما كان اإلسالم؛ صنع ال ُ
ً ً القر ُ
آني في أفهام العرب ملكة جديدة في الحفظ والتدوين والتطبيق
العملي لآليات القرآنية في مواقفهم وأحداث حياتهم ،خاصة بعدما
أدركوا قيمة الربط الذي ينشده القرآن بين اإليمان والعمل ،فمما
الر ُسو ُل ف ُخ ُذ ُوه وما نه ُاك ْم ع ْنهُ
ورد في الوحي القرآني أن ﴿وما آت ُاك ُم َّ
ُ ُ ْ
فانت ُهوا﴾ الحشر ،7 /فكانت اللفتة املنهجية من النص القرآني
املحكم ،أن التالزم بين الرسول والرسالة ال ينفصم .وظلت هذه من
115
د .حسين صبري إنسانية محمد
جهدا وحر ً
صا لزما ،وبذل املسلمون في جمعها ونقلها ً
"صارت معيا ًرا ُم ً
بالغين" ( ،)24فقد علموا وأدركوا وأحبوا فعل النبي ﷺ ،قوله ،تقريره،
صفته ،نومه ،يقظته ،حله ،ترحاله ،صومه ،صالته ،غسله،
وضوءه ،ذكره ،قيامه ،دعاءه ،اتصاله بالوحي ،صفة بدنه ،تفاصيل
ِّخلقته ،شعر رأسه ولحيته ،وصف صدره ،مشيته ،كتفيه ،هيئته،
كفيه ،أصابعه ،وقاره ،رداءه ،بصره ،مصافحته ،نبرة صوته،
ضبته ،رحمته ،بكاءهِّ ،حلمه ،عفوه ،سماحته ،هيبته ،أكله، غ ْ
مشربه ،صدقه ،أمانته ،طهارته ،حكمته ،تأمله ،خلوته ،صمته،
منطقه ،فضله ،تصدقه ،عدله ،إحسانه ،برهُ ،وده ،إكرامه،
معاناته ،رعيه للغنم ،تجارته ،إسراءه ،معراجه إلى السماء ،طفولته،
شبابه ،أزواجه ،بناته ،أوالده ،عماته ،أعمامه ،خاالته ،أخواله،
أجداده ،وامتد االهتمام حتى درسوا مكة وطرقاتها ودورها والكعبة،
بيته ومرقده ومقامه فيها ،يثرب وطرقاتها ودورها ومسجده وغرف
أزواجه ،متاعه وزهده ،سعيه وبأسه ،شجاعته ،قتاله ،حجة
وعمرته ،صحابته ،وصف صحابته ،ألقابهم ،مكانتهم ،فرسه،
عصاه ،ناقته ،عمامته ،آنيته ،خاتمه ،غزواته وسراياه ،وفادات
ٌ
متعلق به إال ع ِّلموه، العرب إليه ،عطاياه ،حتى لم يبق هناك ش ٌيء
فقد صدقوا ،وأدركوا أن اإليمان الحق بمحمد هو نصيف ينضاف
أحد على الرسول إلى نصفه اآلخر وهو اإليمان بالرسالة ،ولم ينكر ٌ
117
د .حسين صبري إنسانية محمد
119
د .حسين صبري إنسانية محمد
تسد الباب في وجه كل تطرف ،وتوصد مسارات فإن كفاية الحقائق؛ ُّ
االنحراف.
ذبا وزو ًرا – الخطاب باسم
وهذه رسالة؛ ملن يثق فيمن يحتكر – ك ً
الدين ،ليمأل فراغ العامة من حقائق اإلسالم بأباطيل وضالالت ،من
وتلقبوا بأسماء وصفات وادعوا شعارات ،هي ُمكو ٌن ٌ
حق من تكنوا َّ
َّ
ِّ
ً ً
إفسادا للدين ،ومسخا ألثر اإليمان موروثنا ،لكنهم ما فعلوا ذلك إال
ً
وتشويها لحقائق اإلسالم النقية. في النفوس،
-من أين يأتي الخلل ،وملاذا ،في كثيرمن األحكام الصادرة عن نبي
اإلسالم محمد؛ بشرا نبيا ،سيرة وسنة؟
مقدمات الخلل في الحكم على إنسانية محمد:
ً ً ً بعد أن قهر اإلسالم أوروبا ً
و
غربا وشرقا و ضع له فيها قدما راسخة
ُ
انتباه األوربيين إلى بقوة الفتح الديني ،والعلمي ،واألخالقي؛ تحول
اإلسالم ونبي اإلسالم ،وطوال القرون التي تلت هذا الوجود؛ صدرت
أحكام عدة ،تصدى إلقرارها بعض الذين كانت لهم مكانتهم الدينية ٌ
ً
وأحيانا العلمية ،كانت في أغلبها مضادة للحقائق املتواترة والسياسية
عموما ،ومضادة لصحة إسنادها وكفايتهافي سيرة محمد وفي اإلسالم ً
ودقة إثباتها ،أطلقها أصحابها بدعوى التجرد واملوضوعية ،الغريب
أن هذه األحكام قد صار لها نفوذها فانتقلت من جيل إلى جيل ،ومن
جزءا من موروثهم الفكري ،مع أنبقعة ألخرى ،حتى كادت أن تصبح ً
املوضوعية في بحث وتحليل سيرة محمد عليه السالم ،ليست في
االنفصال عن األهواء وامليول والعصبيات الضيقة ،وليست في
الثقافات السائدة وأنماط النشأة والتربية ،وإنما في كفاية الحقائق
واتساقها وحجيتها ،أما ادعاء التجرد واملوضوعية فهو من قبيل
ً ُ
"الحق الذي أريد به باطال" ،فحقيقته راجعة إلى ذوات أصحاب هذه
األحكام التي تطرفت في حكمها على اإلسالم وعلى نبي اإلسالم بأثر من
124
د .حسين صبري إنسانية محمد
وتلك هي املغالبة بالعصبية كالتي آمن بها ابن خلدون عندما قرر بأن
"الغلب إنما يكون بالعصبية" ( ،)43لكننا نعني املغالبة بالعلم وحيادية
البحث ونزاهة األحكام.
أيضا مع الجنوح للمجاملة أو املواربة ،بنفس القدر الذي نريد ولسنا ً
به الكشف عن أساليب اإلجحاف في هذه األحكام ،فما نسعى إليه
هو الحرص على التئام الضوابط املوضوعية والذاتية في تقرير أي
حكم يمس إنسانية محمد عليه السالم.
ُ ٌ
هناك مساحة تتقاطع فيها املوضوعية والذاتية ،ال ترى ويصعب
ٌ
تقديرها أو تحديدها ،هي مساحة إيمانية ،تدعو الباحث في العلم أن
يفسح املجال لبصيرته لتحري الحق وبناء ُحكمه ،بقوة العلم ال بقوة
املوروث من األفكار والتربية ،فلعل جوهر اإلشكالية في هذا اإلطار
اجع إلى أن أغلب الجهد بين العلماء في أوروبا منذ بدء النهضة ،قد ر ٌ
ضيق الخناق على البصيرة لحساب البصر والحس املادي ،حتى كانت
السطوة لهذا املادي فوق ما يملك العلماء من حدس ،ومقتضيات
ُ
العلم تأبى أن تتضخم ثقة العلماء إلى هذا الحد بما هو مادي ،كما ال
ٌ
وجود في العلم ملا يسمى بفكرة "العزة باإلثم"، ينبغي أن يكون هناك
فالعزة في العلم ال تؤخذ إال بعلم وليس بالجرأة على العلم وضوابط
البحث ،إن من يتجرأ على كفاية النص التاريخي وصحة سنده وقوة
حجته ،ال يؤسس جرأته على حق ،إنما يؤسسها على مغالطة ،ويلجأ
127
د .حسين صبري إنسانية محمد
محددات الخلل:
إن الخلل الحاصل في أحكام العلماء حول "محمد"؛ ال يخرج عن
محددات ثالثة:
oاألول؛ مبعثه هو "الخلل النفس ي" الذي يعطل الضوابط
الذاتية ويؤثر في مداخل العلماء لفهم موضوع البحث
ومصادر املعلومات ووقائعها الدالة عليها ،هذه الضوابط
الذاتية لها ٌ
أبعاد عدة ،من مثل :األمانة ،التواضع ،اإلخالص،
والتقدير كأبعاد أخالقية ،والثقة ،والرغبة كأبعاد نفسية،
والنشأة والقناعات واملوجهات كأبعاد تربوية ،إضافة إلى
القدرة ببعديها العلمي واللغوي ،وهذه األبعاد تتصل
بالباحث "اإلنسان" ،ولها استقاللها عن موضوع البحث،
لذلك فهي ذاتية ،ويدلنا وجودها على درجة االستواء أو
التطرف في الحكم.
129
د .حسين صبري إنسانية محمد
محمدا "لم يكن سوى رجل ً األربعين" ( ،)51يؤيده نيكلسون في أن
قرش ي عادي ،وبالكاد يمكن اعتبار أي ش يء يتعلق به قبل ذلك
يخيا ،باستثناء زواجه من السيدة خديجة"( ،)52وسار الحدث تار ً
الباحث الفرنس ي جاك ريسلر في الوجهة نفسها حين يستنتج أننا "ال
نملك الكثير من الشواهد املؤكدة عن حياة محمد ط ًفال أو ً
شابا،
وكانت قبيلته تطلق عليه األمين" ( ،)53وبتحليل بسيط لهذا الحكم
الذي يحمل تناقضاته في طياته؛ ندرك قدر التعسف في الفهم الذي
ً
يقفز فوق الوقائع التي دونتها واتفقت عليها مصادر السيرة ،بدءا من
والدة النبيُ ،ي ْت ِّمه ،رضاعته ،ذهابه للبادية ،تعففه عن عبادة
األصنام ،رفضه اللهو والشراب الذين كانا من العادات األصيلة
لعامة قريش ،احتكام سادة قريش إليه في وضع الحجر األسود ،ثقة
ً
قريش في أمانته على ودائعهم ،وصدقه فيهم ووصفه اتفاقا بينهم أنه
ً
"الصادق األمين" ،كما تضمن هذا التعسف تجاوزا لحقائق مؤكدة،
شديدا في صنعه ،يقول ً يبدو أن للموروث الفكري والتربوي ً
أثرا
لوبون في "حضارة العرب" :إن التاريخ لم يخبرنا عن سيرة محمد في
السنين الخمس عشر التي انقضت بعد زواجه بخديجة ،وبعدها
بسطر واحد يكمل بقوله " لم يتكلم محمد عن بعثته إال بعد بلوغه
قائما يتحنث على جبل حراء الذي األربعين من عمره ،بعد أن كان ً
يبعد ثالثة أميال من مكلة ،مثلما يفعل كل سنة" ( ،)54فهل تغافل -
132
د .حسين صبري إنسانية محمد
رغم ميله لإلنصاف -عن أن يعي أن نبوة محمد ليست من صنعه وال
محمدا ظل يتحنث طوال السنين التي انقضت بعد ً من ترتيبه ،وأن
زواجه من خديجة حتى لحظة تكليفه بالرسالة ؟!
يخيا – بحكم ينطوي على كل هذا علميا وتار ً
فكيف يمكن الثقة – ً
التعسف في الفهم ،وعلى تجاوز لحقائق ،وإنكار ألخرى؟!
( )2إنكارالحقائق:
من بديهيات البحث العلمي ،أن يتخذ تفكير الباحث مسا ًرا عل ً
ميا "ال
ً ً
قانونا أو نظرية ،إذ ال بد أن تكون يكتفي باملالحظات ليصنع منها
ٌ ُ
الوقائع كافية" ( ،)55إن كفاية الحقائق مؤكدة ومبررة لصحة الحكم،
ٌ
هذه الكفاية هي ضابط موضوعي ،فإذا ما صدر حكم ال تدعمه
الكفاية من الحقائق املعبرة عن وقائعه ،فقد علميته وانقطع عن
أسانيد صحته ،مثلما يحدث في ساحات القضاء حال عدم كفاية
األدلة.
ٌ ُ
ونبوة محمد حقيقة ،وبكل املقاييس ،مبينة على توثيق تاريخي وعلمي،
ُ ً ً ً ً
ديني وأخالقي ،وإنكارها – تجاهال أو تغافال ،سهوا أو قصدا -يفقد
أي حكم يطال النبي محمد شروط صحته ،ففي هذا اإلنكار ٌ
خلل
ٌ
وخلل معرفي، متكامل ،نفس ٌي في املقام األول ،يسانده ٌ
خلل منهجي
ات تدل عليه ،يقول ول ديور انت:ولهذا اإلنكار إشا ٌ
ر
133
د .حسين صبري إنسانية محمد
134
د .حسين صبري إنسانية محمد
ُ
املمالك والبلدان ،وكراهية الناس فيها ملعتقداتهم البالية التي أجبروا
على اعتناقها.
وعدم ضبط معايير املقارنة التاريخية بين امبراطوريتي الروم
واإلسالم ،اللذين تزامنا لسنوات طوال ،فقد توقف الباحث عند
"زمن" التأسيس والقوة في الحضارتين ،وتجاهل بقية املقارنة في
"زمن" االستمرار والبقاء ،إذا بينما ضعفت إمبراطورية الروم وتوارت
في مائة عام ألسباب عدة على رأسها االنحالل األخالقي ،فإن الحضارة
اإلسالمية -ورغم عثراتها -لم ينقطع وجودها وأثرها ألكثر من أربعة
عشر ً
قرنا.
فهل لم تفصح تلك املقارنة للباحث عن ش يء؟
مجرد سؤال -تقتضيه ضرورة العمل البحثي ُ -
الظن أنه من قبيل
األسئلة التي تحمل في طياتها إجاباتها.
دليل على وجود الخلل في بحث ما؛ مثلما يدل عليه إنكار فليس هناك ٌ
كثير من الباحثين بإنكارهم نبوةحقائق جوهرية ،كالتي وقع فيها ٌ
محمد ،يتساءل فنسنك:
مستعدا الختصار اإلسالم إما في عبارة ً ٌ
محمد نفسه -هل كان
موجزة أو في عقيدة ؟ ،لقد رأينا أنه على ما يبدو لم يكن يريد أن يفعل
135
د .حسين صبري إنسانية محمد
136
د .حسين صبري إنسانية محمد
137
د .حسين صبري إنسانية محمد
139
د .حسين صبري إنسانية محمد
جوهر اإلسالم ليس هناك إال التطابق والتالزم التام بين الظاهر
والباطن ،رغم تمايزهما.
ومثلما يدل "عدم التمييز بين املفاهيم" على خلل منهجي معرفي ،فإنه
ً
ل
يدل أيضا على خلل نفس ي ،يقو نولدكه "إن فكرة محمد عن اإلله
هي في األساس تلك الفكرة املوجودة في العهد القديم" ( ،)63رغم أن
أحدا – لآلن -لم يأت بدليل واحد على هذا التصور الذي شاع بين ً
ً ً
محمدا قد اطلع العهد القديم ،فضال عن املستشرقين ويدعي أن
كافة األدلة التي توثق أمية النبي محمد ،فإن املفهوم الدال على
"اإلله" في العهد القديم لم يبق على حاله كما تلقاه موس ى ،ويوثق
علماء مقارنة األديان هذا االختالف ،إضافة إلى أن األديان املنزلة
اتفقت وتطابقت في مفهوم "التوحيد" املنزه عن كل تمثيل أو تشبيه
أو تجسيم ،وما تلقاه محمد عن هللا سبحانه لم يكن "فكرة"؛ وإنما
عقيدة تكاملت بشكل تجاوز كل ما ورد في األديان املنزلة السابقة على
محمد ،ليؤكد ختامية الرسالة وختامية الرسل ،وهذا ٌ
دال على أن
ٌ
هذا الباحث أصابه خلط شديد في دالالت املفاهيم ،ما أدى به إلى
هذا الخلل النفس ي في الحكم.
وأحيانا تدفع قدرة الباحث املتدنية في التمييز بين املفاهيم ،إلىً
االدعاء بقدرته على الكشف عن مقاصد الناس ونواياهم وما يعتمل
ٌ
معطل للمنهجية ألنه في ضمائرهم ،هذا الكشف وبهذه الطريقة "
140
د .حسين صبري إنسانية محمد
يضع الدارس في نفس الحلبة مع كاتب من كتاب املاض ي ،ثم يدعي أن
تلقائيا" ( ،)64من ذلك ما وثقه جورج بوش في شهادتهً ً
تفاهما بينهما
أن أتباع محمد كانوا ُيمجدون إحسانه وإنكاره لذاته ليصبح بذلك
ً ُ ً ً
ن
قدوة ومثال يحتذى به ،ويقولو أنه نادرا ما كان يملك أي أموال في
كافيا إلعالة أسرته ،ثم يعطي بو بيته ولم يحتفظ بأكثر مما كان ً
لنفسه "حق الكشف" ليس عن ضمائر كتاب السيرة وحسب ،وإنما
عن ضمير النبي محمد صاحب السيرة ،ليقرر أنه " قد يكون هذا
صحيحا ،لكنه في تكوين حكمنا لعرض هذه السمات األخالقية ،فال ً
ٌ ٌ ً
غايات خاصة يلبيها" ،
)65 ( محمدا كان لديه يمكننا أن نتناس ى أن
فأوصله هذا الحكم إلى خلط بين املفاهيم الدالة على صور اإلحسان
في اإلسالم ،وخلط بين األسلوب التقريري بقوله " كان أتباع محمد
يمجدون إحسانه" واألسلوب التقديري في قوله " كانوا يقولون إنه
ناد ًرا ما كان يملك في بيته أي أموال" ،وعدم التمييز بين "إحسان
محمد" و "الغايات الخاصة" التي أدعى وجودها -دون دليل -حين
يقول " ال يمكننا أن نتناس ى أنه كان لديه غايات خاصة يلبيها" ،فما
هي "الغايات الخاصة" تلك ،وأين ما يؤكد وجودها ،عند من يقض ي
وتقريرا ،إيماناً
ً ً ً
عمره -دون هوادة -في إحسان ال ينقطع؛ قوال وفعال
وممارسة ؟!
141
د .حسين صبري إنسانية محمد
143
د .حسين صبري إنسانية محمد
144
د .حسين صبري إنسانية محمد
146
د .حسين صبري إنسانية محمد
العقل النقدي حيث تكون أشق مهمة يمكن أن يضطلع بها هي
"فحص ذاته ،وامتحان قواه الخاصة ،والحكم على قدراته الذاتية"
( ،)74لهذا يجب أال ننتظر من مثل هذا الباحث نتائج علمية ُيعتد بها،
وهو ال يستطيع فحص ذاته وقواه الخاصة ،وال يستطيع تقييم
قدراته كما ينبغي ،مما يوصله إلى حال من الضبابية في الفهم ،من
ذلك ما اعتقده جورج بوش:
-أن أسرة محمد كانت صاحبة الزعامة والسلطة في مكة ،وموت
والده ويتمه حاال بينه وبين تلك الزعامة ،لذلك كان عليه أن يختلق
األسباب ليتمكن من خالل ثروته وتأثيره اللذين نالهما بعد زواجه من
خديجة ليظل في مراتب الشرفاء ،ويصل للزعامة التي فقدها.
ً
محمدا: ويرى أن
-كان كثير السفر والترحال في بالده والبالد األجنبية ،وقد كان من
شأن هذه األسفار ،بطبيعة الحال ،أن تطلعه على مبادئ مختلف
الطوائف في العالم الديني ،السيما اليهود واملسيحيين.
وأنه:
حكيما ألحوال الرجال ،وما كانت عينه الفاحصة ً -كان مر ً
اقبا
لتفشل في إدراك الشتات الذي يعتري األديان املوجودة)75( .
148
د .حسين صبري إنسانية محمد
ما افترضه؛ تو ً
هما
وما استنتجه؛ ابتسا ًرا
وتجلت في رفضه املطلق لحقائق تاريخية يقينية ،هي:
تعدد الزعامات في قريش وتنوعها
رفض النبي محمد الزعامة حين ُعرضت عليه مقابل التخلي
عن دعوته
محدودية الرحالت التي قام بها النبي قبل بدء بعثته بالرسالة
وتجلت في غياب قدرة الباحث -وهذه نقيصة كبرى -على:
التفرقة بين الدين ومعتنقي هذا الدين
وتجلت في ترويجه لفكرة ،لم يقدم على صدقها دليال واحدا ،أن:
ً
محمدا استقى دينه من اليهود والنصارى
وتجلت في إصراره على ما استنتج وجدانه -بغضا ال تحليال علميا -
في:
ً
محمدا نه ٌاز للفرص ،تدفعه نوازع التملك وشهوة السلطة. أن
وتجلت في إنكاره ملا اجتمع عليه العقالء في كل عصر:
ُُ ً
محمدا ما تخلى في جميع أفعاله عن خلق الكرام الذي أن
والفطر السوية.
أقرته الشرائع املنزلة والفلسفات األصيلة ِّ
149
د .حسين صبري إنسانية محمد
151
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
آثما بين اإلسالم واملسلمين ،ولم ُيرد أن يستوعب خلطا ً وخلط
تمايزهما ،كما خلط بين العلم والفلسفة والفن والحضارة ،ليس
لش يء إال الرتباط كل مفهوم منها بالعرب أو باإلسالم.
ً
صحيحا لدى أفراد من املسلمين - وانتقل بحكم جزئي -ربما كان
وهو االحتقار الشديد للمعارف والعلم ولكل ما يشكل العقل
ً
قسريا تعميم هذا الحكم على جميع أفراد املسلمين، األوروبي؛ وأراد
مما أوقعه في نطاق التعميمات الساذجة ،وأبعده عن أصول
االستقراء العلمي الصحيح.
وأراد أن يوهم سامعيه؛ أن ما ر َّسخ هذا األثر بين املسلمين هو
"العقيدة اإلسالمية" ،من غير أن يؤكد املقومات التاريخية والعلمية
واملنطقية التي استند إليها في هذا الحكم.
ً
معتمدا على إثارة الحماسة بين وتطرف في اختالق أحكامه
سامعيه ،فأهدر الضوابط الذاتية الواجبة لضمان صحة األحكام،
ً
واشتط متجاوزا مقتضيات النزاهة والحيادية ،فعبر عن ذاتية
متطرفة ،ال سوية فيها.
وأبان تحامله الشديد على اإلسالم واملسلمين عن خلل منهجي
ونفس ي؛ تمثل في تأثره بأفكاره املسبقة وما نشأ عليه ،من غير أن يعزز
موقفه بدليل من العلم.
152
د .حسين صبري إنسانية محمد
ً
واضحا ليس من املصادر غير اإلسالمية فقط -إن هذا األمر يبدو
ولكن مما ذكره ابن إسحاق ،حيث أخبرنا أن نقطة التحول الكبرى في
حياة محمد جاءت عندما قام بمهاجمة آلهة أسالفه من قريش وشهر
بهم)78( .
محمدا بمهاجمته آلهة قريش ،قد هاجمً وتتصدى لتفسير ذلك بأن
أهم أسس وجود القبيلة ،وليس بسبب الزعم بأن دعوته للتوحيد
كانت تهدد مكانة كعبة مكة أو تجارتها ،دون أن تقدم نص ابن
إسحاق الصريح الذي يتضمن ادعاءها ،ودون أن تدلنا إلى العالقة
بين ما قال ابن إسحاق وما تدعيه ،إضافة إلى أن ما نسبته البن
ً ً ً
اقتباسا من مصدر ليس لها أصال ،فضال عن ذلك كله؛ إسحاق كان
ُ
فإن ما نسب البن إسحاق ليس فيه أي داللة على أن دعوة محمد هي
ٌ
برنامج سياس ٌي.
وقد تولت الباحثة آمال الروبي -التي اضطلعت بمهمة ترجمة كتاب
باتريشيا -عملية تفنيد افتراضات هذه املستشرقة بمنهج علمي
يستند إلى تخصص ومنطق وتوثيق تاريخي ،تخبرنا في مقدمة عملها
أن "أسهل طريقة لتمرير أي قضية غير منطقية ليبتلعها القارئ أن
تبدأ بافتراض شكل منطقي له ومقنع من الخارج ،وجوهرة في
الحقيقة باطل" ( ،)79مما يدلنا على نوع جديد من املغالطات في
الحكم ،ال نجد له ً
نظيرا في البحث إال عندما يتعلق األمر باإلسالم
154
د .حسين صبري إنسانية محمد
دون أن يتساءل:
العيب في السنة ،أم فيمن يوظف منهجه االنتقائي لالنتصار ُ -هل
لرأي معين :ديني أو سياس ي؟
ً
-فضال عن أن هذا التوظيف ليس مقصو ًرا على الحديث وحده،
بل طال هذا األمر ،اآليات القرآنية ومذاهب املفكرين املسلمين
ً
مستمرا إلى اليوم. ومناهجهم ،والزال
فاملشكلة إذن؛ ليست في اآليات وال في األحاديث ،وإنما في التوظيف،
وفي املنهج ،وفي الذاتية التي يريد صاحبها أن يوهمنا بأن ما يفهمه –
هو وحده – هو الصحيح.
يواصل هذا الباحث أحكامه ،فيقول:
156
د .حسين صبري إنسانية محمد
157
د .حسين صبري إنسانية محمد
ويستدل -في اعتقاده -على هذا التراكم ،بأن ابن هشام في سيرته لم
يذكر إال عشر معجزات ،تضاعفت على يد املاوردي ،ثم البيهقي ،ثم
القاض ي عياض ،الذي جعلها مائة وعشرين في "الشفاء" ،ثم وصلت
إلى مرحلة خطيرة في القرن الحادي عشر الهجري في "السيرة
الحلبية".
وقد فات هذا الباحث أن يوضح:
ُ
-ملاذا تجاوز أجيال كتاب السيرة من جيلها األول فالذي يليه،
ً
تحديدا ،وملاذا توقف عند مسألة ليتوقف عند "السيرة الحلبية"
"املعجزات املادية" ،وملاذا تجاوز "معجزة القرآن" وما فيها من دالئل
باهرة على كل مستويات اإلعجاز ،وملاذا تجاوز "معجزة النبوة"؟
أال تدل هذه األسئلة على أن هذا الباحث قد وقع في "الخلل املنهجي"
الذي يعيبه على اآلخرين ،وهو التوظيف االنتقائي؟!
إنه ال يفرق بين السيرة والسنة ،ويخلط ً
كثيرا بين العلمين ،ويطعن - ِّ
دون أن يصرح بذلك – في صاحب السيرة والسنة ،النبي الكريم
محمد ،ويتنقل هذا الباحث بين أحكامه ،ومنها ما أطلق عليه
ٌ
"األحاديث الغيبية" ،ويرى أنها في نظره مرفوضة؛ ملخالفتها القرآن
الكريم واملعارف اإلبستمولوجية التي بين أيدينا ،ولو يكن القصد
منها أكثر من التفاخر بين الرواة في أيهم أكثر غزارة في الحفظ ،ويعتقد
نوعا آخر من األحاديث ،أخطر من األحاديث العينية ،هو: أن هناك ً
158
د .حسين صبري إنسانية محمد
159
د .حسين صبري إنسانية محمد
هذا التوصيف ّ
يؤصل تجذر وتسلط "الضبابية" في فهمه وتحليله
ونتائجه وأحكامه ،ألنه:
يمارس "التوظيف االنتقائي" ملصادر معلوماته ،إذ يقبل منها
ويهمل دون اعتبار تاريخي أو علمي ،إنما العتبار وحيد؛ هو ما يؤكد
ويوافق مذهبه فقط.
يعمد إلى خطاب وعظي إنشائي مضاد للعلم واللغة وأصولها،
ويتغافل عن مقتضيات املنهج البحثي ،ويركز على إثارة وجدان
القارئ ،بما ليس له أي عالقة بإجراءات وضوابط التحقق في العلم.
ٌ
صحيح، يستغل ذكاءه في اصطياد فكرة أو حدث معين ،هو
لينطلق منه في بناء تعميم كلي ساذج ،وهو يقنعنا في كل كلمة يكتبها
ٌ
تعميم علمي مبني على "استقراء تام" لجميع حاالته. أنه
ً
ُ يتقن مهارة متميزة في صياغة أحكام كلية تطال "الحديث"
و"السنة" و"تاريخ اإلسالم" و"حضارة اإلسالم" ،ويوصف مشكالت
املسلمين الراهنة بـ "التخلف" و"الدوران حول الذات" و "عدم القدرة
على التفاهم مع اآلخر".
يبتدع من غير تأصيل تاريخي أو علمي ملفاهيم غريبة ،ليس لها
سابقة في تاريخ الفكر اإلسالمي ،من مثل" :صناعة الحديث"
و"األحاديث الغيبية" و"األحاديث السياسية" و"املنظومة املعرفية
160
د .حسين صبري إنسانية محمد
161
د .حسين صبري إنسانية محمد
162
د .حسين صبري إنسانية محمد
سلكته أوروبا منذ القرن الخامس امليالدي ،ولم يضف لها إال
اغترابا عن الدين الصحيح.
163
د .حسين صبري إنسانية محمد
164
د .حسين صبري إنسانية محمد
(13) George Buch: The Life of Mohammed, J. Harper, 82 Cliff. ST., New
York, 1982, P. 4
( )14محمد شحرور :السنة الرسولية والسنة النبوية ،دار الساقي ،بيروت ،ط ،2012 ،1ص 25
( )15محمد العيد الخطراوي ومحب الدين متو :من مقدمة تحقيق كتاب «الفصول في سيرة الرسول»
البن كثير ،مؤسسة علوم القرآن ،دمشق ،ط 1403 ،3ه ،ص 26
( )16محمد الغزالي :فقه السيرة ،دار الكتب الحديثة ،القاهرة ،ط ،1965 ،6ص 4
( )17محمد عابد الجابري :الدين والدولة ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ،ط ،1996 ،1
ص 11
( )18رشدي فكار :لمحات عن منهجية الحوار والتحدي اإلعجازي لإلسالم ،مكتبة وهبة ،القاهرة،
ط ،1982 ،1ص 1
(19) Emile Dermengham: The Life of Mohamed P. viii
( )20القسطالني :لطائف اإلشارات ،تحقيق :عامر السيد عثمان وعبد الصبور شاهين ،المجلس
األعلى للشئون اإلسالمية ،القاهرة ،جـ ،1ص 173
( )21السمعاني :أدب اإلمالء ،تحقيق :على زيعور ،مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر ،ط ،1
،1993ص 78
( ) 22عبد الفتاح خضر :أزمة البحث العلمي ،نسخة مكتبة الملك عبد العزيز العامة ،الرياض ،ط
،1992 ،3ص 26
(23) Reynold A. Nicholson: A Literary History of the Arabs, P. 143
( )24مونتجمري وات :فضل اإلسالم على الحضارة الغربية ،ترجمة :حسين أحمد أمين ،مكتبة
مدبولي ،القاهرة ،ط ،1983 ،1ص 21
( ) 25عبد الرحمن بدوي :دفاع عن محمد ،ترجمة :كمال جاد اهلل ،الدار العالمية للكتب والنشر،
ص 24
( )26محمد عثمان بخاتي :القرآن وعلم النفس ،دار الشروق ،القاهرة ،ط ،2001 ،7ص 150
165
د .حسين صبري إنسانية محمد
( )27ألبرت ماكومب ونشستر :موضوع «العلوم تدعم إيماني» المنشور ضمن كتاب «اهلل يتجلى
في عصر العلم» ،ترجمة :الدمرداش عبد المجيد سرحان ،مراجعة :محمد جمال الدين الفندي ،دار
القلم ،بيروت ،ص 118
( )28محمود شاكر :رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،ص 33
( )29بودلي :الرسول ،ص 97
And K. S. Rama Krishnna: Muhammad Prophet of Islam, P. 7
(30) Nicholson: A Literary History of the Arabs, P. 146
( )31حسين مؤنس :تاريخ موجز للفكر العربي ،دار الرشاد ،القاهرة ،ط ،1996 ،1ص 105
( )32كارين أرمسترونج :محمد نبي وماننا ،ص 22
( )33حاكم المطيري :عروة بن الزبير وكتاب المغازي ،دراسة محكمة في مجلة «كلية الدراسات
اإلسالمية والعربية» ،جامعة األزهر ،اإلسكندرية ،العدد ،26ص 3
( )34عبد الرحمن التميمي :كتاب الجرح والتعديل ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط ،1953جـ ،1
ص5
( )35الحاكم النيسابوري :كتاب معرفة علوم الحديث ،تحقيق ،السيد معظم حسين ،منشورات المكتبة
العلمية ،المدينة المنورة ،ط ،1977 ،2ص 6
( )36أسد رستم :مصطلح التاريخ ،مركز تراث البحوث والدراسات ،القاهرة ،ط ،2015 ،1ص 53
( )37كارين أرمسترونج :محمد نبي زماننا ،ص 22
( ) 38أكرم ضياء العمري :منهج النقد عند المحدثين ،دار أشبيليا للنشر والتوزيع ،الرياض ،ط ،1
،1997ص 33
( )39المرجع نفسه ،ص 22
( )40زكريا إبراهيم :الفلسفة النقدية :مكتبة مصر :القاهرة ،ط ،1972 ،2ص 230
رواد الشك المنهجي ،دار الضياء ،أبو ظبي ،ط ،2011 ،1ص 59
( )41حسين صبريّ :
( )42محمود شاكر :رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ،ص 64
166
د .حسين صبري إنسانية محمد
( )43ابن خلدون :المقدمة ،تحقيق :عبد اهلل محمد الدرويش ،دار يعرب ،دمشق ،ط ،2004 ،1جـ
،1ص 261
( )44نظمي لوقا :محمد الرسالة والرسول ،ص 25
( )45عبد الستار إبراهيم :اإلنسان وعلم النفس ،من سلسلة «عالم المعرفة» إصدار المجلس الوطني
للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت ،العدد رقم ،86فبراير ،1978ص 211
(46) Joseph Neisser: The Science of Subjectivity, Palgrave Macmillan, UK,
2015, P.14
( )47أحمد أمين :النقد األدبي ،دار الكتاب العربي ،بيروت ،ط ،1967 ،4ص 9
( )48زيجرد هونكه :شمس العرب تسطع على الغرب ،ص 9
( )49مونتجمري وات :فضل اإلسالم ،ص 112
( )50رجاء دويدري :البحث العلمي ،ص 24
(51) Margoliouth: Mohammed and the Rise of Islam, G.P. Putnam’s Sons,
New York, 1905, P.72
(52) Reynold A. Necholson: A literary of the Arabs, P. 148
( )53جاك ريسلر :الحضارة العربية ،ترجمة :غنيم عبدون ،مراجعة :أحمد فؤاد األهواتي ،الدار
المصرية للتأليف والترجمة ،القاهرة ،ص 26
( )54جوستاف لوبون :حضارة العرب ،ترجمة :عادل زعيتر ،مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة،
القاهرة ،ص 108:109
( )55عبد الستار ابراهيم :أسس علم النفس ،دار المريخ للنشر ،الرياض ،ط ،1987ص 32
( )56ول ديورانت :قصة الحضارة ،جـ ،13ص 13
(57) George Buch: The Life of Mohammed, P. 156
(58) A. J. Wensinck: The Muslim Creed, Barnes & Noble, Inc., New York,
Second Edition, 1965, P.17
167
د .حسين صبري إنسانية محمد
168
د .حسين صبري إنسانية محمد
169
د .حسين صبري إنسانية محمد
خاتمة الدراسة
النتائج والتوصيات
170
د .حسين صبري إنسانية محمد
قاعدة "التالزم":
إن جوهر إنسانية محمد؛ يكمن في "التالزم" الذي يجمع بين
"االتساق" بين صفات بشريته وصفات نبوته ،و"التمايز" لكل صفة
ُُ
أو خلق أو قدرة اتصف بها ،إلى حد االنسجام التام بين االتساق
والتمايز في وحدة إنسانية ُمعبرة عن أكمل خلق هللا ﷺ ،هذا التالزم
هو ُسنة كونية تحكم وجود الكائنات في األرض وأصناف الناس،
وألوان املشاعر ،ومجموعات العمل ،والدرس املستفاد أن ُس َّنة
هدما أو"التنوع" هي من إرادات هللا في الكون ،ال ينبغي املساس بها ً
تحقيرا أو استهانة ،وقد حرص النبي محمد على إنفاذ سنة ً ً
تخريبا أو
التنوع في شتى مناحي الحياة في املجتمع اإلسالمي ،ومن وصاياه؛
تقدير قيمة التنوع ،ألنه هو املوصل إلى التكامل.
171
د .حسين صبري إنسانية محمد
قاعدة "املفاضلة":
إن الذي يؤسس لتقييم األداء اإلنساني؛ هو اإلقرار باختالف الناس
في طاقاتهم ُومقدراتهم وأرزاقهم ومواهبهم ومجهوداتهم ،والدرس
املستفاد أن املالحظة املباشرة وإن دلت على التفاوت بين الناس،
لكنهم متساوون في اإلنسانية والكرامة والخلقة واملواهب والحظوظ
ُ
وإن اختلفوا في نسبة ما أعطوا من كل عنصر منها ،الدرس املستفاد
أن ما ُيمكن اإلنسان من حيازة "األفضلية" هو جهده ،وما ُيخلص من
نوايا ،وما يأخذ من أسباب الكسب والتدريب والتطوير وإعمال
العقل ،وبسط املعروف في الناس.
وإن استقراء الشواهد على أفضلية محمد عليه السالم؛ استندت إلى
معايير مقننة هي "حيثيات" ،ودراستنا حين عمدت إلى تحليل هذه
الشواهد ،لم يكن إال لغرض بحثي بحت ،فإن الشواهد ومعاييرها ال
تضيف للنبي الكريم محمد ،وال توجد له ً
حقا ما كان ليأتيه لوالها،
ً
وضوحا إلشباع العقل البحثي ،فإن من إنما هي من باب زيادة الواضح
مقتضيات "األفضلية" بين الناس ،أال يكون انتزاعها عنوة ،وإنما
ُ
بحقها من الخلق اإلنساني والجهد واألثر.
172
د .حسين صبري إنسانية محمد
ضبط املفاهيم:
إن من ضرورات العلم؛ ضبط املفاهيم املستخدمة كمقدمة أولى في
أي إجراء بحثي ،وقد كان سقراط يشترط ذلك الضبط قبل الشروع
في أي بناء فكري مع طالبه أو مع خصومه ،والدرس املستفاد أن
نؤسس بشكل منهجي للمفاهيم التي يؤدي الخالف بشأنها إلى تضييع
جهدنا في الحوار والتواصل ،من مثل :اعتبار سب النبي محمد داللة
على التحرر ،واعتبار الشذوذ واالنحراف واالنتحار داللة على الحق
ً
وضعفا داللة على الحداثة الوجودي لإلنسان ،واعتبار اإليمان ً
تخلفا
والتنوير ،لذلك توص ي الدراسة بإعادة تحديد مفهوم "التطرف"
الذي الزال يداور في دالالت بعينها ،قصرها البعض على هذه الدالالت
عمدا – لإلساءة إلى اإلسالم ،وتوص ي بضرورة فك دون غيرها – ً
الربط التعسفي بين الذاتية وغياب املنهجية ،ألن للذاتية صورتان؛
السوية واملتطرفة ويتصالن بالباحث ،وللموضوعية صورتان؛ كفاية
الحقائق واألدلة وعدم كفايتهما ويتصالن بموضوع البحث ،وأي منهما
– الذاتية واملوضوعية -يمكن أن يقود أحكام الباحث إلى الصحة أو
إلى البطالن ،وليس وجود الحكم العلمي الباطل ر ً
اجعا إلى الذاتية
وحسب ،فقد يعود إلى املوضوعية في عدم كفاية الحقائق واألدلة.
173
د .حسين صبري إنسانية محمد
صناعة اإلشكالية:
بعضا من مفكري اإلسالم قد جلبوا من الغرب نماذج من الفكر إن ً
والفلسفة والعلم وتقنيات العلوم ،وأسسوا لها في مجتمعاتنا
اإلسالمية ،على أنها قاطرتنا إلى التطوير ،وملا رحنا نتعامل معها
ونوظفها بقيمها التي ُبنيت عليها؛ أفرز في واقعنا اإلسالمي؛ ً
عديدا من
اإلشكاليات ،كالصراع بين األجيال ،وشيوع النمط االستهالكي،
والعلمانية ،والوجودية ،والتفسيرات املادية ،وملا زادت حدة هذه
ً اإلشكاليات ونغصت علينا ،رحنا نسعي ً
سعيا حثيثا نفتش لها عن
حلول إسالمية ،مع أن أساسها وحقيقتها ٌ
بعيد عن هويتنا وأخالقنا
ومقاصد ديننا الحنيف ،الدرس املستفاد في بحوثنا العلمية
ومناهجنا التعليمية وخطابنا الديني واإلعالمي؛ هو بناء عقلية لديها
الثقة بما لديها من تاريخ وتراث ودين وقيم ،وقدرة على التميز
الحضاري.
محدد "الخطر":
إن تفحص واقعنا الفكري والديني – كما بينت تفاصيل دراستنا –
عبر القرون الثالثة األخيرة؛ يوضح أن مكامن الخطر على نبي اإلسالم
ورسالته وأمة املسلمين؛ ال يخرج عن مسارات ثالثة:
174
د .حسين صبري إنسانية محمد
أمانة التعميم:
هناك باحثون كانوا منصفين في كثير من أحكامهم على اإلسالم ونبي
اإلسالم والقرآن وحضارة املسلمين ،غير أنه قد جانبهم الصواب في
طريقة تناولهم لجانب محدد او جزئية محددة ،هذا ال يعطي
لدراستنا الحق في بناء تعميم كلي على جملة أعمال هذا الباحث،
175
د .حسين صبري إنسانية محمد
املشروع:
إن اإلساءة للدين والرسول والسنة والسيرة وكل رمز إسالمي؛ يعبر
عن مشروع واضح محدد ومتفق على إجراءاته وأهدافه وأدواته،
والدرس املستفاد أن يؤسس له مشروع مضادٌ ،
مبني على جهد علمي
مؤسس ي دائب ومتواصل ،له آلياته ومراجعاته التي ال تنقطع وال
ُ
تتوقف ،من إجراءاته تنقية كتب السيرة والسنة بضبط شرعي منهجي
ً
علمي ودقيق ،هذا ما سيسجل لنا حق "اإلضافة" بديال عن النقد
السلبي واإلساءة لرموز الحضارة اإلسالمية ،فإن من صنع هذا
التحضر من فكر وأدب وشعر وفقه وكالم وتفسير وسيرة وتصوف
وأخالق وعلم طبيعي وعلم إنساني وتطبيقات ومراصد ومعاجم
ُ
وقواميس وموسوعات وفهارس ونظم وقوانين وعمران وفنون ،من
صنع هذا كله ولقرون ممتدة ،سعى واجتهد وأعمل فكره ونقل وترجم
176
د .حسين صبري إنسانية محمد
177
د .حسين صبري إنسانية محمد
قاعدة "االستحقاق":
إن ما يقنن األمور ويصنع األحكام بين الناس في دوافعهم ومشاعرهم
وعالقاتهم ،هو قانون االرتياح أو االرتياب؛ الذي له مقدماته وأسبابه
العقلية والوجدانية واملادية ،فكيف وقد علمنا استحقاق نبينا
الكريم على كافة معايير "األفضلية" ونقبل تعطيل هذا القانون في
178
د .حسين صبري إنسانية محمد
179
د .حسين صبري إنسانية محمد
املصادرواملراجع
180
د .حسين صبري إنسانية محمد
املصادرواملراجع
أوال :املصادرالعربية
ابن إسحاق :السيرة النبوية ،تحقيق :أحمد فريد املزيدي ،دار .1
الكتب العلمية ،بيروت ،ط 2004 ،1
ابن إسحاق :كتاب السير واملغازي ،تحقيق :سهيل زكار ،دار .2
الفكر ،دمشق ،ط 1978 ،1
ابن الجوزي :الوفا بأحوال املصطفى ،تحقيق :محمد زهري .3
النجار ،املؤسسة السعيدية ،الرياض
ابن خلدون :املقدمة ،تحقيق :عبد هللا محمد الدرويش ،دار .4
يعرب ،دمشق ،ط 2004 ،1
ابن سعد :الطبقات الكبير :تحقيق :علي محمد عمر :مكتبة .5
الخانجي :القاهرة ،ط 2001 ،1
ابن سيد الناس :عيون األثر ،تحقيق :محمد العيد الخطراوي .6
ومحي الدين متو ،مكتبة دار التراث ،املدينة املنورة
ابن عبد البر :الدرر في اختصاص املغازي والسير ،تحقيق: .7
شوقي ضيف ،دار املعارف ،القاهرة ،طـ 1991 ،3
ابن منظور :لسان العرب ،تحقيق :عبد هللا على الكثير .8
وآخرون ،دار املعارف ،القاهرة
181
د .حسين صبري إنسانية محمد
186
د .حسين صبري إنسانية محمد
187
د .حسين صبري إنسانية محمد
188
د .حسين صبري إنسانية محمد
189
د .حسين صبري إنسانية محمد
190
د .حسين صبري إنسانية محمد
ُ
ثالثا :الكتب املترجمة
.1أحمد ديدات :محمد الخليفة الطبيعي للمسيح ،ترجمة:
رمضان الصفتاوي ،دار النهضة للطباعة اإلسالمية ،القاهرة،
1991
.2إريك فورم :اإلنسان بين الجوهر واملظهر ،ترجمة :سعد
زهران ،سلسلة عالم املعرفة ،العدد ،140أغسطس 1989
.3ألبرت ماكومب ونشستر :موضوع «العلوم تدعم إيماني»
املنشور ضمن كتاب «هللا يتجلى في عصر العلم» ،ترجمة:
الدمردا عبد املجيد سرحان ،مراجعة :محمد جمال الدين
الفندي ،دار القلم ،بيروت
.4ألفونس دي المارتين :مختارات من كتاب «حياة محمد»،
ترجمة :محمد قوبعة ،مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود
البابطين لإلبداع الشعري ،الكويت ،ط 2006 ،1
.5ألكسيس كاريل :اإلنسان ذلك املجهول ،ترجمة :عادل شفيق،
الدار القومية للطباعة والنشر
.6أندريه الالند :املوسوعة الفلسفية ،تعريب :خليل أحمد
خليل ،منشورات عويدات ،بيروت ،ط 2001 ،2
.7باتريشيا كرون :تجارة مكة وظهور اإلسالم ،ترجمة :آمال
محمد الروبي ،املجلس األعلى للثقافة ،مصر ،ط 2005
191
د .حسين صبري إنسانية محمد
193
د .حسين صبري إنسانية محمد
كتب باإلنجليزية:رابعا
1. J. Wensinck: The Muslim Creed, Barnes & Noble, Inc.,
New York, Second Edition, 1965
2. Ameer Ali Syed: The Spirit of Islam, Christophers,
London
3. Annie Besant: The Life and Teaching of Muhammad,
Theosophical Publishing House, Adyar, India, 1932
4. Arther Wallaston: The Sward of Islam, EP. Dutton and
Company, New Yourk, 1905
5. Bosworth Smith: Mohammed and Mohammedanism,
Smith Elder, Co., 15 Waterloo Place, London, 1874
6. Emil Dermengham: The Life of Mohamet, George
Routledge & Sons, LTD, London, 1930
195
حسين صبري.د إنسانية محمد
196
حسين صبري.د إنسانية محمد
197
د .حسين صبري إنسانية محمد
198
د .حسين صبري إنسانية محمد
املؤهالت العلمية:
دكتوراه اآلداب في الفكر الفلسفي اإلسالمي بمرتبة الشرف
األولى ،جامعة بنها -مصر 2003 -
عن موضوع "رؤية هللا في االسالم بين علماء الكالم والفالسفة
واملتصوفة"
ماجستير اآلداب في الفكر الفلسفي اإلسالمي بدرجة امتياز،
جامعة الزقازيق – مصر1999-
عن موضوع "الشك وعالقته باليقين بين املعتزلة (مع املقارنة
مع بقية الفرق اإلسالمية)"
تمهيدي املاجستير في الفلسفة – جامعة الزقازيق – مصر.
ليسانس اآلداب في الدراسات الفلسفية واالجتماعية "شعبة
الفلسفة" ،جامعة اإلسكندرية – مصر.
الخبرات العملية:
تدريس مساقات "الحضارة اإلسالمية" ،جامعة زايد ،أبو ظبي،
2009وحتى تاريخه.
تدريس مساق "الدراسات اإلمارتية" ،جامعة زايد ،أبو ظبي،
2009وحتى تاريخه.
200
د .حسين صبري إنسانية محمد
202
د .حسين صبري إنسانية محمد
204
د .حسين صبري إنسانية محمد
205
د .حسين صبري إنسانية محمد
التعليمية 2005
جائزة "امللتقى التربوي الثالث" أبو ظبي ،غرفة تجارة وصناعة
ظبي1999 ،
جائزة "يوم الوفاء" من السيد /وزير التربية ،دولة اإلمارات،
207
د .حسين صبري إنسانية محمد
لسنة 1988
إسهامات وشهادات تقدير:
ُ
للمؤلف مقاالت عدة في الفكر اإلسالمي ،كما نشر له الكثير
209
د .حسين صبري إنسانية محمد
210
د .حسين صبري إنسانية محمد
التمهيد
القسم الأول
القسم الثاني
211