إلمام الشهيد عبد الحميد حمادوش عالم دين جزائري ،من فضالء ،ووجهاء ,وأعيان منطقة س طيف ،فقي
ه م الكي ،ومن مجاه دي
جبهة التحرير الوطني ،استشهد دفاعاً عن الجزائر الحبيبة ،في ثورة التحرير المجيدة .... محطات تاريخية في حياة الشهيد : ولد الشهيد عبد الحميد حماد وش سنة 1919م ،وكان أصغر إخوته ،ظهرت عليه عالمات النبوغ والفطن ة والش جاعة وس رعة البديهة منذ صغره كما يروي إخوته .حفظ القرآن الكريم مبكرا ،ثم انضم إلى حلقة الشيخ المختار بن الشيخ بالمسجد فت ابع دروسه األولى في الفقه واللغة العربية . كان ابن بيئته ومجتمعه أحب الفروسية والصيد من أبيه الشيخ الطيب الفارس الحازم ومن أخيه الشيخ عبد العزيز الفارس الذي ال يشق له غبار .وأتقن سباق الخيل على يدي الفارس ":خليفي عمار من أوالد بونشاده " .كانت الفروسية في ذلك الوقت زينة األعراس واألفراح ،وكانت ميادينها حلبة لتنافس الشباب وإظه ار مه اراتهم الفروس ية على ظه ور الخي ل وإطالق الب ارود في حركات بهلوانية عجيبة .ولم يكن الشاب عبد الحميد يتخلف عن حضور المنافسات الفروسية رفقة العدي د من ش باب المنطق ة، وكان يمارس هواية الصيد بشغف ومهارة .لكن الحادث الخطير الذي وقع له في أحد األعراس -حيث وقعت به الف رس فم اتت من حينها ونجا هو بأعجوبة -جعلته يصرف اهتمامه عن الفروسية . -حاجة زاوية قجال إلى مرجع ديني : كان الشيخ محمد الصديق منذ توليه مشيخة الزاوية بعد وفاة والده الشيخ الطيب ،يفكر في مستقبل التعليم بالزاوي ة ،وحاج ة الناس إلى مرجعية دينية تتصدى ألمور الفتوى واإلرشاد والتوجيه واإلصالح بالمنطقة .وكان الشيخ محمد الصديق يظهر ه ذه الرغبة للشاب عبد الحميد ويشجعه على طلب العلم ويفتح له سببل التعرف على العلماء ويصطحبه معه في زياراته إليهم فتعرف على الشيخ البشير اإلبراهيمي رحمه اهلل،وإمام الحرمين الشيخ محمد العربي التباني ،وكانت له لقاءات م ع الش يخ الطيب زروق الذي حثه على السفر إلى تونس للدراسة بجامعة الزيتونة . في بداية األربعينيات سافر إلى تونس قضى فيها ف ترة في جامع ة الزيتون ة تج اوزت س بع س نوات م ر فيه ا بمراح ل التعليم المختلفة وأخذ عن أساتذة وشيوخ أجالء نذكر منهم :الشيخ الفاضل بن عاشور -الشيخ المهدي الوزاني -والشيخ محمد بوشربية -الشيخ عمر الهمامي -الشيخ المختار بن محمود-والشيخ البشير النيفر-والشيخ الزغواني والشيخ الع ربي العن ابي وغ يرهم من علماء تونس الخضراء .وكان من رفاق الشهيد في الدراسة بتونس السادة :عبد الحميد مه ري --ومحم د الص الح يحي اوي – وعمر شايب ومبارك شايب ومحمد الصغير قارة وغيرهم عاد األستاذ الشيخ عب د الحمي د من ت ونس لتب دأ مرحل ة جدي دة من مسيرة حياته ؛ مسيرة العطاء ،العطاء الالمحدود الذي ابتدأه ببذل ما وسعه جهده في محارب ة الجه ل ونش ر العلم والمعرف ة ، واإلصالح االجتماعي واختتمه ببذل الروح في سبيل اهلل بعد عودته في نهاية األربعيني ات وج د أن المس جد يحت اج إلى إص الح وترميم ،وكان العديد من طلبة الزاوية ينتظرون عودته الستئناف الدروس التي توقفت بع د وف اة الش يخ المخت ار بن الش يخ رحمه اهلل .فقرر أن يكون عمله في االتجاهين :فاستأنف الدروس بمجموعة من الطلب ة منهم :الش يخ القريش ي م دني ،األس تاذ السيد إسماعيل زروق والشهيدان محمد رحال والزايدي كفي،والشيوخ الحاج زروق والمحفوظ ص فيح ،وبق اق إب راهيم ،وعلي مليزي وعمار مليري،والشريف زروق ولحسن عبد العزيز،وعبد الوهاب حمادوش ومحمد الص غير حم ادوش ،ومحم د ب وكراع وغيرهم ممن كان لهم الفضل الكبير في بعث أول مدرسة جزائرية في عهد الحرية واالستقالل .وفي نفس الوقت كون لجن ة من أجل جمع األموال إلعادة بناء مسجد الزاوية والمرافق التابعة له فكان في عون ه رج ال مخلص ون من قج ال وض واحيها من أمثال الحاج المهدي مدني وبن الفالحي والشهيد سي حمود فني ،والشهيد سي علي بن الزاي دي،وعلي حم داش والش يخ الخ ير فاضلي وهيشور بوزيد وغيرهم .وتم تجديد قاعة الصالة وحلقات الدرس وأضيف إليها مطهرة وحجرتان .وعلى األم ل معق ودا على بناء قاعة خاصة بالنساء ألداء الصلوات الخمس ومتابعة الدروس -صفات شخصية : لم يكتب لي أن أتعرف على شخصية اإلمام األستاذ الشهيد عبد الحميد في أبعادها اإلنسانية واألخالقي ة والثقافي ة واالجتماعي ة ، وذلك لصغر سني في ذلك الوقت حيث كان عمري ال يتجاوز عقده األول ،ولكن رغم ذلك م ازلت أذك ر بعض مالمح هيئت ه ذات المهابة والوقار ،كان ربعة في طوله ،ممتلئ الجسم ،رحب الصدر عريض المنكبين ، ,طلق الوجه ،مهيب النظرة ،هشا عن د اللقاء ،سريع المشية ذا أناقة ملفتة لالنتباه يرتدي قندورة –عادة -ما تكون رمادية أو زرق اء ليلي ة ويض ع على رأس ه عمام ة بيضاء .ذلك بعض ما أمكنني إعتصاره من ذاكرتي من مالمح عن شخصية الش هيد ولق د ح اولت من ذ س نوات أن أتع رف على شخصيته أكثر من خالل الحديث مع تالميذه ومع من عرفه عن قرب أو عاش معه أو كان رفيقا ل ه في دراس ة أو ص حبة في جهاد،فاجتمع لدي من ذلك كله تص ورا لبعض المع الم عن أفك اره وتوجهات ه خاص ة منه ا الدعوي ة واالجتماعي ة والثقافي ة والسياسية .وقد برزت تلكم المعالم من خالل مواقفه وتعامالته وعالقاته مع مختلف الفئات االجتماعية انطالقا من إخوته وباقي أفراد عائلته إلى طلبته ،إلى العلماء الذين كان يلتقي بهم أو ي زورهم أو يزورون ه ،إلى الرج ال ال ذين ك ان يتص ل بهم من الفالحين والتجار وأصحاب الحرف إلى مواقفه من االستعمار وأعوانه الخ . -العالم الرسالي : كان اإلمام الشهيد عبد الحميد رجل علم وتعليم ورجل تربية من الطراز األول تف انى في كس ب العلم ح تى ب رع في أص ول وفروع علوم الفقه واللغة وفنون األدب ما جعله علما من األعالم في جيل ه وفحال من فح ول البي ان من على المن ابر في ش تى المناسبات كانت خطبه في األعياد تقرع األسماع قرعا فيغدو لها في القلوب وجال وفي األنفس أث را و في العق ول ن ورا ،وعلى األلسن ذكرا طيبا .أم خطبه في التجمعات التي ك ان يعق دها الث وار من حين إلى حين في الق رى والجب ال فك انت تلهب حس الجماهير وتؤجج فيهم روح الثورة والجهاد لتحقيق إحدى الحسنيين النصر واالستقالل أو الشهادة في سبيل اهلل . كان العلم عنده رسالة نور وخير يشع بها العالم على الناس من حوله ليعرفوا ربهم العليم الكريم ويدركوا أبعاد وج ودهم في هذه الحياة ويتمكنوا من خالل النظر في آيات اهلل في القرآن المقروء وآياته في الكون المنظ ور من الس مو بإنس انيتهم روح ا وفكرا وجسدا في عملية تكاملية مستمرة ال تنفرد بالروح فتجعل من اإلنسان راهبا مبتدعا ،وال تنفرد ب الفكر فيغ دو فيلس وفا متعاليا وال تنفرد بالجسد فتخلد باإلنسان إلى األرض وكان طلبة العلم عنده قرة العين ومهجة الفؤاد ،يحرص على تربيتهم من خالل سلوكه معهم ،فال يرون منه إال ما يمأل العين ويقع في النفس موقع التأسي واالقتداء ،وال يس معون من ه إال م ا يزي دهم يقينا بالعلم ويحببهم فيه .كان يردد على أسماعهم الحديث الشريف " إن المالئكة لتبسط أجنحتها لط الب العلم " ليس بح بهم في ملكوت اهلل ومحبته ويمشي معهم أحيانا إلى البستان ويجول بهم بين أشجاره وهو يتلو على مسامعهم ق ول اهلل تع الى "ه و الذي جعل لكم األرض ذلوال فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"( .سورة الملك اآلية أو يحمل المعول ويض رب األرض ،وهو يردد الحديث الشريف " اليد العليا خير من اليد السفلى" في إشارة إلى قيمة اليد العامل ة المنتج ة ال تي ت رفض التسول واالستجداء .في سنة من سنوات الجفاف والحاجة عجزت ميزانية العائلة عن إطعام الطلبة فما كان من األمام إال استأذن أخاه األكبر الشيخ محمد الصديق في بيع قطعة أرض من أجل سد حاجة الطلبة من الطعام وبعد اتفاق اإلخوة باعوا قطعة أرض كانت بالقرب من دوار لخلف .وواصل بذلك الطلبة تعليمهم دون انقطاع وهكذا سجلت هذه الواقعة لألستاذ عبد الحميد موقفا جريئا يؤكد أوال علي استمرار الدور الرسالي له ولعائلته في خدمة العلم وطلبته وحفظة القرآن الكريم .ويعطي ثاني ا المث ل في البذل من أجل العلم الذي رفع اهلل من شأنه فجعل حامليه شهودا على وحدانيته وعدله رفقة المالئكة ،وباهى بطلبته المالئكة األبرار . التكامل في شخصية العالم اإلنسان الداعي إلى اهلل على بصيرة: كان اإلمام الشهيد عبد الحميد رجال حباه اهلل من األخالق الكريمة والخصال الحميدة والذكاء الحاد والبصيرة النافذة ما جعل ه مضرب المثل ،من رآه أول مرة هابه ،ومن عرفه أحبه ووقره .إذا أقبل من بعيد ه لّ لمقدم ه الحاض رون ،وانش رحت لمنظ ره الصدور ووقف الستقباله الكبير والصغير إذا جلس عظم به المجلس وحفته السكينة والوقار ،وإذا تحدث أص غت إلي ه اآلذان وإذا سئل نقع غليل السائلين .لم يُر أبدا شاكيا وال متأففا وال ساخطا على شيء من الدنيا ،يقول ما يفعل ،منفتحا على كل شخص يتوسم فيه خصائص الفطنة ،والذكاء والعفة والصدق نائيا بنفسه عن كل سفيه ضعيف العقل بليد الحس . كان شديد الورع ،ذا تقى وصالح يحمل بين جوانحه قلبا فياضا بالعواطف السليمة والمشاعر النبيل ة إذا رأى فق يرا ال ت راه إال ساعيا في مد يد العون له .اليتيم عنده أولى من ولده وأقرب إليه من نفسه . فإذا ما جئنا إلى عالقات األمام الشهيد اإلنسانية وجدناه نعم الرجل المضياف الكريم السريع النجدة يسعى في خدم ة إخوان ه وال يألوا في ذلك جهدا وال يدخر وسعا .روى لي الشيخ عمر رو ميلي وهو أحد الطلبة الذين كانوا يت ابعون الدراس ة في جامع ة الزيتونة .أنه حين سافر إلى تونس بغرض الدراسة ،ولم تكن معه الوثائق الضرورية لإلقامة فاختفى عند أحد الجزائريين خوف ا من أن تمسكه الشرطة فتعيده إلى بالده .وكان اإلمام الشهيد ه و من س عى ل ه في الحص ول على الوث ائق المطلوب ة لإلقام ة، والتسجيل بجامعة الزيتونة .أم عن سعيه في إصالح ذات البين ،فكان يبذل من أجلها الجهد والمال ،فكان كلما سمع بخصام أو نزاع حصل بين طرفين أو أط راف معين ة في مكان ما لم ينتظر حتى يأتيه طرف منهم يدعوه إلى اإلصالح بينهم بل كان يباغت الجميع في دعو الط رفين إلي ه بالزاوي ة فيكرمهم ،ويسمع من كل طرف شكواه ،ثم يعظهم بكلمات بليغة مؤثرة ،حتى يزيل من القلوب ما عل ق به ا من ض غائن وأحق اد وأطماع ووساوس ،ثم يدعوهم إلى العفو والصفح عن بعضهم البعض .وإذا تعلق األم ر بحق وق واجب ة األداء ،أم رهم بأدائه ا، وساعدهم على ذلك ما استطاع؛ ذكر لي أكثر من واحد ممن عرفوه أن طريقة الشهيد عبد الحميد في اإلصالح كان لها األث ر البالغ في النفوس .فقللت من النزاعات بين الناس،وصاروا يسعون إلى فك خصوماتهم بأنفسهم قبل أن يبل غ خبره ا إلى الش يخ عبد الحميد فيحرجهم بمباغتته لهم .ومما يتميز به اإلمام الشهيد أيضا أنه كان منفتح ا على الحي اة بجمي ع مواقعه ا وتن وع اختصاصاتها وتعدد أعمالها ووظائفها وحرفها ومهنها ،كان يدرك تماما أن العالم الذي يتصدى للدعوة إلى دين اهلل العظيم ينبغي أن يكون ملما بعالقة الدين بالحياة تلكم العالقة الدقيقة جدا والخط يرة ج دا على ال دين والحي اة مع ا ،إذا لم يكن ال وعي به ا كافيا ،فكثيرا ما ينسى الداعي الشخص المدعو أمامه وربما ال يعرف شيئا عن أحواله أو عمله أو وظيفته أو حرفته ،فيفتنه من حيث يريد إرشاده وتوجيهه أو يضله من حيث يريد له الهداية ،أو يفسده من حيث يريد له اإلصالح وهكذا يتحول الداعي بس بب جهله بعالقة الدين بالحياة ،ودور الدين في إصالح المجتمع وتنمية الحياة في كل مواقع العم ل فيه ا نح و األفض ل واألص لح واألنجع ،إلى فتان مضل مفسد دون أن يدري ،من هنا كان وعي اإلمام الشهيد عبد الحميد بالمس ألة .فك ان يتح رك في ك ل مواقع الحياة ومع الناس من مواقع المسؤولية والعمل من منطلق أن الخطاب الدعوي ختالف األشخاص وأحوالهم وأعمالهم فكان إذا أتى فالحا حدثه علي محاولة تطوير فالحته وتحسين اإلنتاج من خالل االستفادة من تجربة المعم ر في فالحت ه وربم ا ختم حديثه معه بالحديث الشريف " :إن اهلل يحب إذا عمل أحدكم عمال أن يتقنه". روي لي أحد المشتغلين بالميكانيكا أن اإلمام الشهيد كان يزوره في ورشته ،فال يحدثه عن شيء خارج دائ رة عمل ه ،ب ل ك ان يركز كالمه عن الميكانيكا وعن دورها في الحياة الجديدة ،وفي تطوير الفالحة والصناعة وكيف أن كثيرا من الص ناعات في أوروبا تطورت على يد ميكانيكيين كانت لهم ورشات مثلنا ،وكي ف أن ه ؤالء الميك انيكيين ك انوا يب ذلون الجه ود المض نية ويدفعون األموال الطائلة ،وربما بذل أحدهم كل ما يملك من أجل الوصول إلى اختراعه ،كذلك ال ذي اخ ترع طالء األواني ! حيث لم يصل إلى اختراعه إال بعد أن باع كل مقتنياته من أجل الحصول على المواد الضرورية ألجراء تجاربه ،وكان آخ ر م ا باعه كرسيه الذي يجلس عليه للعمل .و كم كانت فرحته عظيمة عندما تحصل على النتيجة بعد ما دفع آخ ر م ا يمل ك !. هكذا كان الشيخ عبد الحميد يتحرك في أوساط العمال وأصحاب الحرف ،يرشد ك ل واح د في ميدان ه ،ويق ول لهم :تعلم وا الحرف والصناعات وعلموها الناس فإنها من أعظم العبادات . -اهتمامه بالتاريخ واآلثار: لم تكن اهتمامات اإلمام الشهيد عبد الحميد محدودة ،أو محصورة في مجال التعليم والفتوى وحس ب .ب ل ك انت ل ه اهتمام ات تاريخية وفكرية وسياسية .حدثني أكثر من واحد أن اإلمام :كان يحدثنا عن تاريخ منطقة قجال ،وكان يوص ي بالمحافظ ة على ما يعثر عليه المواطنون من آثار أثناء عمليات حفر الترع أو أسس البيوت .وكانت ل ه مراس الت م ع بعض الم ؤرخين في الخارج كما اجتهد في جمع العديد من الوثائق ،ولكن مع األسف الشديد فإن كثيرا من مراسالته والوثائق التي كان يحتفظ بها لم نعثر لها على أثر .هل هي عند من أودع عندهم كتبه قبل التحاقه بالثورة ؟ أم هي من الوثائق التي أخذها الم ؤرخ المه دي البوعبدلي -اهتمامه بالصحافة كهدف لنشر الوعي: أما عن اهتماماته السياسية فكانت تتجلى في متابعته للصحف والمجالت العربية مثل البصائر واأله رام المص رية ومجل ة ل واء اإلسالم ومجلة الدعوى التابعة لإلخوان المسلمين أما الصحف الناطقة بالفرنسية فكان يقرأها ل ه ابن أخي ه الن ذير ال ذي ك ان يتقن اللغة الفرنسية .أما األخبار اإلذاعية فقد جلب اإلمام مذياعا خاصا ب ه وص رنا نت ابع األخب ار رفقت ه وكم كن ا نس تمتع باألغاني واألناشيد الوطنية المنبعثة من صوت الجزائر أو صوت العرب وكان األستاذ يبدي إعجابه الشديد باألناشيد التي تمج د الثورة الجزائرية .كان اهتمام اإلمام باألخبار وسيلة لنشر الوعي الوطني في أوساط الشباب الجزائري ومتابعة تطورات الثورة في الداخل والخارج .ذكر لي العمري بن غذفة :أن اإلمام كان دائم الزيارة له في دكان ه المتواض ع داخ ل الح ارة المقابل ة لصيدلية فرحات عباس سابقا حيث كان يشتغل خياطا رفقة الطالب سي ساعد كتفي الملقب بالروج .كان اإلمام يت ابع األخب ار والبرامج الثقافية ،ويحاول أن يشرح للحاضرين معه ما صعب عليهم فهمه من كلمات وجمل ومصطلحات ،وأخبار ،وبهذا يؤدي دوره اإلعالمي والتثقيفي في أوساط المواطنين -موقف اإلمام يوم زيارة الحاكم الفرنسي نيجالن : كان ذلك في ربيع سنة 1950م حيث أعدت اإلدارة االستعمارية الفرنسية بالتعاون مع أعوانها من القياد والمنتخ بين احتف اال ضخما الستقبال الحاكم العام أدمون نيجالن الذي قدم لتدشين مدرسة قجال ،وقررت اإلدارة أن تكلف الشيخ عبد الحمي د حم اد وش بإلقاء كلمة الترحيب التي أعدت من طرف اإلدارة االستعمارية .فاقترح عليهم الشيخ عبد الحميد أن يح رر الكلم ة بنفس ه فلما رُفض طلبه قال لهم ":ال أرضى لنفسي أن أكون بوقا لغيري ،وال أن يقولني أحد ما ال أريد أن أقوله " وقد ح اول أح د المقربين من اإلدارة االستعمارية أن يخوفه فقال له :يا عبد الحميد إنك تخاف على نفسك ،فكان جواب ه ال خ وف إال من اهلل . وقد أحدث موقف اإلمام هذا ضجة كبيرة ،وطالبت بعض األطراف معاقبته ،وقال الذين ينظرون إلى المسألة من موقع الحض وة لدى فرنسا :لقد جاءه العز إلى أنفه فرفضه .ولوال عناية اهلل تعالى باإلمام وت دخل أخي ه األك بر الش يخ الص ديق ل دى بعض المعارف ،لكان مصيره السجن . -انخراطه في الثورة : ظل اإلمام سيدي عبد الحميد بعد ذلك يؤكد قناعته تجاه االستعمار إلى أن قامت الثورة.ولنترك تلميذه الشيخ القريشي م دني يحدثنا عن انخراط اإلمام في الثورة ،وكيف كان عمله في بدايتها " …وكان رحمه اهلل من السباقين باالنضمام إلى ثورة أول نوفمبر 1954وأظهر نشاطا مكثفا في توعية المواطنين والتعريف باألهداف التي ترمي إليها الثورة ،وشرع في جمع األس لحة من المواطنين وكذا جمع التبرعات لفائدة الثورة .وكان الذي يعينه في جمع األسلحة والذخيرة الحربية الش هيد س ي حم ود فني رحمه اهلل ،وأول مدفع رشاش دخل جبل بوطالب كان على يدي اإلمام الش هيد عب د الحمي د ،ك ان ه ذا الرش اش اقتن اه المجاهد خليفة فالحي من عهد الحرب العالمية الثانية ،واحتفظ به إلى أن اندلعت الث ورة فب اح ب ه إلى اإلم ام عب د الحمي د ، فكلفني أنا بأخذ هذا الرشاش ،من هذا المواطن ،وس لمته ب دوري إلى المجاه دين وك ان رحم ه اهلل كتوم ا للس ر إلى أبع د الحدودوكان يقول :إن الثورة تنجح بالكتمان ال بإفشاءاألسرار…وكان رحمه اهلل لم يخامره أدنى ش ك في نج اح الث ورة وال يتردد في عمله الثوري أبدا مهما كلفه ذلك من تضحياتوكان يقول لي :إن الثورة ستنتصر بإذن اهلل وإن الجزائر ستس تقل ال محالة ،وال أدري أتطول بي الحياة وأعيش حتى أرى االستقالل أم استشهد وال أرى االستقالل …" أم ا ش هادة أبن أخت ه الش يخ إسماعيل زروق الذي كان مودع سره وبريده مع بعض المجاهدين ،فإن اإلمام الشهيد كانت له عالق ات واتص االت م ع قي ادات كبيرة في الثورة في بدايتها وكانت تصله مراسالت من القائد العمروي .ويوسف يعالوي وغيرهم . -آخر صالة صالها بالناس : في سنة 1956توسعت الثورة ،وبدأ يظهر عملها في سطيف وض واحيها ،وأحس االس تعمار ب ذلك وب دأت محاوالت ه في تعقب تحركات المواطنين واستفزاز هم وتخويفهم .وكانت أولى تحرشاته بأهل قجال في عيد الفطر لسنة 1374هجري ة المواف ق لشهر ماي 1956حيث كانت آخر صالة صالها اإلمام بالناس ،وفي الوقت الذي ك ان المص لون ملتفين ح ول اإلم ام لس ماع خطبة العيد فإذا بالعدو يطوقهم بثالث دبابات ومجنزرة وطائرة استكشافية تحلق فوق رؤوسهم ،تنبه اإلمام لذلك فق ال :أيه ا الناس ال تتفرقوا علي عادتكم من هنا ،حتى ال يؤذينا العدو ،بل عودوا إلى المسجد .فعاد الناس جميعا إلى المسجد .ثم بعد ذلك خرجوا عائدين إلى بيوتهم وانتهى األمر بسالم بعد ذلك توقفت الدراسة بالزاوية وغادرها الطلب ة فمنهم من التح ق ب الثورة ، ومنهم من هاجر إلى فرنسا والتحق الشيخ القريشي مدني بالثورة أما نحن الصغار فت ولى تعليمن ا س يدي إس ماعيل زروق أم ا األستاذ عبد الحميد فقد وصل عمله السري ،ولم يكن يطلع أحدا على اتصاالته إال سيدي إسماعيل زروق الذي كان واس طته م ع بعض المجاهدين من أمثال الشيخ قدور كسكاس والشهيد أحمد الضحوي رحمهما اهلل . -ال للخروج من أرض الجهاد : واستمر األمر كذلك حتى سنة ، 1958حيث كثف االستعمار مخابراته واستعان بجواسيسه وأعوانه للكشف عن الثوار .ولعله ارتاب في أمر اإلمام ،أو تأكد من دروه في الثورة ولكنه لم يجد ما يبرر له القبض عليه .فحاول أن يجعل ه في خدمت ه فش دد عليه الحراسة ،فكان يأتيه أحيانا ويستدعيه حينا آخر ويهدده مرة أخرى ،حتى يلزمه بالتعاون مع اإلدارة االس تعمارية .وف رض عليه الحضور اليومي إلى مركز الدرك للتوقيع .وهنا يسجل اإلمام موقفا آخر من مواقف اإليمان واالحتساب هلل تعالى؛ روى لي ابن أخيه عبد الوهاب أنه بعد رجوعه في يوم من تلك األيام العصيبة من مركز ال درك االس تعماري في رأس الم اء ع رج على بيت أخيه سيدي عبد العزيز رحمه اهلل ،فاقترح عليه أن يسافر إلى ت ونس حرص ا على نفس ه وحيات ه بم ا تمثل ه من مس تقبل المرجعية الدينية للمنطقة والتعليم بالزاوية .فكان رد اإلمام ":أتريدني يا سيدي عبد العزي ز أن أولي األدب ار ،وأف ر من أرض الجهاد،فأبوء بغضب اهلل تعالى "! -التحاقه بالجبل : واشتد األمر عليه ،وتأكد أن قوة العدو ستظل وراءه حتى تنال منه ما تريد أو تقضي عليه فقرر أن يلتحق بالجبل .وفي صباح ذلك اليوم عاد إلى بيته بقجال،وكان قد ترك المبيت فيه منذ مدة فال يأتيه إال نهارا .يقول سيدي إس ماعيل :في ذل ك الي وم طلب مني اإلمام أن أشتري له شفرات حالقة من دكان الطيب بوقزولة الدكان الوحيد بقج ال يومئ ذ ،وم ا ك دت أع ود إلي ه بشفرات الحالقة ،حتى وجدت آليات العدو قد أحاطت بدوار قجال والطريق الم ؤدي إلى مدين ة س طيف وأخرج وا ك ل أف راد العائلة ،وس ألوا عن س يدي عب د الحمي د ،وكن ا ق د علمن ا بمغادرت ه ال بيت نح و ب ير االبيض .فقلن ا لهم:لق د توج ه إلى سطيف ،فتركوا القرية وتوجهوا نحو مدينة سطيف أما سيدي عبد الحميد فقد اختفى عند الشيخ موسى حلتيم .فلما غادر ك ل عساكر العدو المنطقة أسرع إليه الطيب بوقزولة بسيارته وتوجه به نحو أم الحلي .وكان آخر ما قاله في صباح ذلك الي وم البنه محمد الهادي ذي األربع سنوات الذي تعلق بساقه وكأنه يودعه الوداع األخير فقال له ":أبوك الذي تالحقه فرنسا لم يع د له بقاء معكم" .ومنذ ذلك اليوم لم تقع أعيننا عليه حتى بلغنا خبر استشهاده -يومياته بين الشعاب والجبال والكازمات : فيما يلي مجموعة أحداث ووقائع وأخبار عن الشهيد سجلتها ذاكرة بعض المجاهدين أثناء مرافق ة اإلم ام أو االلتق اء ب ه بع د التحاقه بالجبل .سجلتها من أفواههم ،وأكتبها منسوبة إلى أصحابها . - 1بعد مغادرة بيته بقجال ،انطلق صوب أم الحلي ،وفي مشتة الشطاطحه التقى بالمجاهد قويدر درغال.،فقال له ":ياسي قويدر عهد التخفي انتهى " يقول المجاهد قويدر ثم طلب مني أن اشتري له كراسات وأقالما ومحفظ ة .وفي نفس الي وم أدى زي ارة إلى الشيخ عرا س فني -رحمه اهلل – المعروف بمحبته للشيخ عبد الحميد وإخوته والزاوية ،وولعه الشديد بالقرآن وطلبة العلم وحرصه على خدمة بيوت العلم بكل ما يملك . -2بعد التحاقه بالجبل عين اإلمام في بداية سنة 1958قاضيا لمنطقة سطيف ،وفي حفل تنص يبه حض رت وف ود من القي ادات العليا للثورة ،وبعد إلقاء الكلمات المعهودة في مثل هذه المناسبات ،جاءت كلمة اإلمام معبرة عن وعي كبير بالمرحل ة الدقيق ة التي تمر بها الثورة ،وتصور واضح لما يجب أن تكون عليه القيادات من االلتزام واألداء لتستمر الثورة في خطها التصاعدي نح و تحقيق االستقالل الوطني ،وقد أثرت تلك الكلمة في الحضور حتى تناقلتها األسماع وتحدثت بها األلسن من منطقة إلى أخرى . وأكد لي الشيخ القريشي مدني هذه الواقعة وأضاف أنه كان من بين الحاضرين امرأة تعمل ممرضة علقت بعد س ماعها كلم ة األستاذ قائلة " :كيف تتركون هذا الرجل في مثل هذه المناطق الخطرة ؟ إن الث ورة ستخس ر ك ل ش يء إذا لم تحاف ظ على رجالها العظام " - 3أخبرني سي عبد العزيز لنقر أن اإلمام الشيخ عبد الحميد ظل لمدة وإلى يوم استشهاده يتردد على بيتهم بع د انته اء أعمال ه الجهادية في الجبال ومناطق الثورة المختلفة ومن المعروف أن هذا البيت هو بيت الشيخ عب د اهلل لنق ر بيت الق رآن والص الح وبيت الشهيد سي التونسي رحمه اهلل ومن المؤكد أن اإلمام الشهيد ما اختار اإلقامة في هذا البيت إال لما وج د في ه من العف اف والطهر و االحترام والتقدير .ومن المناسب في هذا المقام أن أسجل ما حفظه عنه تلميذه المخلص الشيخ عبد القادر ف ني .حيث كان كلما زار مكانا أو أقام فيه وشعر في ه بالراح ة والهن اء والتق دير يق ول ":إن المك ان ال ذي يعيش في ه الم رء عزي ز الجانب،موفور الكرامة تستطيبه النفس ويهنأ به البال " -4رغم كل ما كانت تفرضه يوميات الثورة من أعباء ومسؤوليات جهادية،وما كانت تستدعيه ترصدات العدو بالثورة ورجاله ا من احتياطات أمنية وتنقالت تكتيكية ،فإن الشيخ عبد الحميد كان يتحين كل فرصة ممكنة ،لتقديم درس أو موعظ ة أو توجي ه في موضوع مناسب لألحوال التي يعيشها الثوار في الجبال والش عاب والكه وف والمخ ابئ وذل ك من أج ل رب ط القل وب باهلل تعالى .ودفعها إلى تحمل المشاق والصعاب ومدافعة الخوف والقلق ونوازع النفس إلى الدعة والراحة واشتياق القلب إلى الزوجة والولد .كانت أغلب دروسه ومواعظه حول اإليمان والصبر واالحتس اب هلل تع الى والقض اء والق در وك انت أمثلت ه من جه اد الرسول صلي اهلل عليه وآله وسلم وجهاد آل بيته عليهم السالم وجهاد الصحابة المنتجبين رضي اهلل تعالى عنهم ،وجه اد رج ال المقاومة الوطنية رحمهم اهلل .كان كلما جلس في مكان واجتمع حوله اثنان أو ثالثة لم يترك لهم فرصة للغ و والكالم ال ذي ال يرجى منه نفع فيبادرهم بدرس أو سرد واقعة فيها عبرة أو شرح آية إلخ .ومن أطرف ما يذكر عن اإلمام في هذا الموضوع ما يرويه المجاهد الميلود بالقندوز من عين الحجر .يقول أنه حضر يوما درسا من دروس اإلمام عبد الحميد ،وك ان موض وعه القضاء والقدر .وبينما كان اإلمام يلقي درسه .يقول سي الميلود بالقندوز تكلمت خارج الدرس فصفعني صفعة دمعت لها عيني ،ولم أقل شيئا .وبعد انتهاد الدرس ،ناداني اإلمام وقال لي :أتعرف لماذا صفعتك؟ فقلت له :نعم .فقال لي إن ه ذا ال درس ال ذي تأخذه أنت بال مقابل تغربت أنا من أجله السنين وكنت أدفع مقابل تعلمه الثمن الباهظ". -استشهاده: كان ذلك في اليوم التاسع من شهر يونيو . 1959جاءت معلومات عن تحركات قوات للع دو الفرنس ي< مؤلف ة من دباب ات ومجنزرات تصحبها طائرات نحو المنطقة القربية من جبل قطيان .وكان اإلمام رفقة تسعة من الجنود المس لحين اق ترب منهم العدو وأخذ يطاردهم وهم يردون عليه حتى قضى على أكثرهم ،وظل اإلمام يواجه العدو مقبال غير مدبر ،حتى استشهد وفاضت روحه الطاهرة إلى ربها راضية مرضية .لقد وفقه اهلل إلى الشهادة كما كان يطلبها دائما ويؤكد لرفقائ ه أن ال يول وا الع دو أدبارهم أبدا وعليهم أن يواجهوا العدو بصدورهم حتى الشهادة مصداقا لقوله تعالى ":يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فال تولوهم األدبار ومن يولهم يومئذ دبره إال متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من اهلل ومأواه جهنم وبئس المصير" ( اآلية األنفال وقد دفن حيث استشهد رفقة الجنود الذين كانوا معه ولم ينج منهم إال المجاهد عصار عمار الذي توفي منذ أشهر .وما إن بلغ خبر استشهاد الشيخ اإلمام عبد الحميد قيادة القوات الفرنس ية بمرك ز "برقن وس "ب رأس الم اء ،ح تى سارعت إلى نشره بالمنطقة كلها ،للتعبير عن انتقامها من المجاه دين وإظه ار التش في والش ماتة ،وبث ال رعب والخ وف في األوساط الشعبية .كان ذلك فعلها كلما تمكنت من أسر أو قتل مجاهد ؛ ومازلت أذكر مساء ذلك اليوم الذي فاجأ في ه قائ د قوات العدو الشيخ سيدي محمد الصديق حيث قدم بسيارة جيبت " وبسياقة جنونية دار عدة دورات حول البيت مثيرا فينا ال رعب والفزع ثم توقف أمام الشيخ سيدي محمد الصديق .و في يده صورة للشهيد ملطخ ة بال دماء .ك ان منظره ا مرعب ا للغاي ة ! وبعنجهية وغطرسة رمى الصورة أمام الشيخ قائال :هذا مصير كل الفالق ة ،لن يفلت من ا أح د،س نأتي بهم أين م ا ك انوا ،ثم انصرف.