(الفصل الثالث :مسلك الجغرافيا) األستاذ :محمد اوبلوهو مقدمة: لقد بدا تأثير اوكست كونت واضحا حينما أثمر في توجيه تفكير اميل دوركايم (Emile )1917-1858 Durkheimنحو وضع أسس منهجية واضحة وصارمة تحدد عمل العالم السوسيولوجي وذلك من خالل مؤلفه األساس ي les règles de la méthode sociologique :حيث سعى إلى إرساء قواعد تماثل ما هو عيه األمر في مجال العلوم الطبيعة قواعد تنحو في اتجاه الكونية والضرورة غايتها تفسير الظواهر االجتماعية. لقد اعتبرا دوركايم علم االجتماع وعلى غرار سلفه اوكست كونت علما وضعيا مستقال بذاته ،سواء من حيث موضوعه أو منهجه .وفي هذا السياق حاول دوركايم حصر موضوع السوسيولوجيا عندما ربطه أساسا بالواقعة االجتماعية le fait socialعلى اعتبار املوضوع في مجال العلم هو الشرط املوضوعي بل هو املبرر الوجودي ألي علم من العلوم .كما حاول أيضا دوركايم أن يحرر علم االجتماع من كثير من األفكار والراء املسبقة prénotionsالتي يمكن أن تكون بمثابة عائق أمام تأسيس تصور علمي موضوعي للظاهرة االجتماعية. الو اقعة االجتماعية باعتبارها موضوعا لعلم االجتماع عند دوركايم: وبالنسبة للوقائع االجتماعية التي يعتبرها دوركايم موضوعا لعلم االجتماع يقدم لنا أمثلة متعددة عن ذلك مثل :القواعد القانونية واألخالقية والدينية .وكذلك القواعد املرتبطة باألنظمة املالية في أي مجتمع من املجتمعات .وما يميز الواقعة االجتماعية بالنسبة لدوركايم كونها بمثابة سلطة قهرية الزامية تفرض فرضا على الفرد من قبل سلطة خارجية ،بحيث يعرض كل خرق للقاعدة االجتماعية الفرد للعقوبة أو املقاومة التي قد يتعرض لها الفرد كلما حاول خرق هذه القواعد االجتماعية .وعليه فالقاعدة االجتماعية هي التي تحدد لألفراد طريقة سلوكاتهم .وتتخذ القاعدة االجتماعية بحسب دوركايم شكلين ،فإما أن تكون ثابتة كما هو الحال بالنسبة للقوانين أو تكون غير ثابتة من خالل مجموعة من املواضعات أو األعراف االجتماعية. كما ألح دوركايم على ضرورة اعتبار الوقائع االجتماعية على أنها أشياء chosesأي تشييء الظاهرة االجتماعية .وهذا التصور املنهجي للظاهرة االجتماعية يبين مدى تأثر دوركايم باملنهج الوضعي وبمناهج العلوم الطبيعية .يقول دوركايم" :إن الظواهر االجتماعية هي أشياء وينبغي تناولها على هذا األساس ".معتبرا هذه الظواهر املعطى الوحيد l’unique datumاملتوفر للباحث السوسيولوجي .إن هذا التصور املوضوعي للظاهرة االجتماعية يجعلها تتخذ طابعا ماديا خارجيا .وقد سمح هذا التصور لدوركايم بأن يضع مماثلة بين علم االجتماع وعلم البيولوجيا وعلم الكيمياء ،مادام أن علم االجتماع هو أيضا دراسة للتركيب العضوي la composition organiqueللظاهرة االجتماعية. مفهوم التضامن االجتماعي عند دوركايم. وإلى جانب تحديد طبيعة القاعدة االجتماعية التي هي موضوع السوسيولوجيا اهتم دوركايم أيضا ببعض القضايا ذات الطبيعة السوسيولوجية ،ومن جملتها تقسيم الشغل الذي خصص له أحد مؤلفاته وهو De .la Division du Travail Socialففي هذا الكتاب سيتوقف دوركايم عند قيمة اجتماعية أساسية وهي قيمة التضامن باعتبارها مجموعة من القواعد األخالقية التي تحدد أفعال األشخاص .ونظرا للطبيعة املعقدة لهذه القيمة فقد حاول دوركايم مقاربة قيمة التضامن من خالل رموزها القابلة للمشاهدة les symboles .visibles ومن جملة هذه الرموز ،هناك تلك املرتبطة بالقانون الذي يعتبر تجسيدا فعليا للقيم األخالقية وتعبيرا ماديا عن القاعدة االجتماعية ،إلى جانب كونه يعتبر شكال غير مادي للتضامن االجتماعي .ويالحظ دوركايم أن الحياة االجتماعية حيثما وجدت تنحو دائما ألن تتجسد من خالل بناء منظم ،وهذا البناء املنظم ألي تنظيم اجتماعي من حيث دقته وثباته ليس شيئا آخر غير القانون .ومن هنا يعطي دوركايم للقوانين مكانة مركزية في فهم التنظيمات االجتماعية. والواقع أن القاعدة القانونية هي في الوقت ذاته قاعدة اجتماعية كما أنها أيضا قاعدة زجرية بحيث تترتب عنها مجموعة من العقوبات متى تم خرقها .ويالحظ أن دوركايم يعطي للقوانين مكانة مهمة في البحث السوسيولوجي ،لدرجة جعلته يتخذ من القواعد القانونية إطارا من بين أطر البحث السوسيولوجي .وبما أن القوانين تمتد لتشمل كل العالقات اإلنسانية في مختلف مستوياتها فهذا ربما يعفي السوسيولوجي البحث عن قضايا خارج إطار القواعد القانونية باعتبارها أسمى تجل للنظام اإلجتماعي وللعالقات االجتماعية، خاصة وان القوانين تواكب تطور املجتمع في كل تفاصيله. وبما أن تطور املجتمع رهين بتطور تقسيم الشغل ،فإن العالقات االجتماعية تزداد تعقيدا كلما تعقدت أنظمة الشغل ،مما يجعل واقع التضامن يتحول من تضامن ميكانيكي إلى تضامن عضوي .وهذا ما ينعكس على القوانين التي تصبح بدورها أكثر تطورا وأكثر تخصصا وأكثر إجرائية .وكل ذلك بطبيعة الحال سينعكس بدوره على موضوع السوسيولوجيا. وإلى جانب القوانين ،هنالك مظهر آخر للرموز القابلة للمشاهدة للتضامن االجتماعي ،وهو الدين .ويشكل الدين أحد أهم األطر االجتماعية ا التي اكتست مكانة مهمة عند دوركايم .وقد خصص له أحد مؤلفاته وهو: .Les Formes Elémentaires de la Vie Religieuseفاألديان تشكل بالنسبة له نسقا من القواعد واإلكراهات وفي نفس الوقت تمكنه من فهم أصل هذه القواعد. ومن خالل دراسته ملجموعة من األديان بما فيها بعض املعتقدات التي تعود إلى الهنود الحمر أو املعتقدات الوثنية عند بعض الشعوب االفريقية واألسترالية سيستخلص دوركايم جملة من األفكار منها :أن هذه املعتقدات هي بمثابة سلطة تفرض على األفراد وتوجه سلوكاتهم .وعليه فاملبادئ التي تتأسس عليها الطوطمية ما هي إال قوى اجتماعية ،بحيث تصبح املمارسات الدينية مناسبة لتجسيد هذه القوى على أرض الواقع بحسب كل ظرف من الظروف .وهكذا فكل مجتمع أيا تكن طبيعته خاضع لقوى محددة تختلف طبيعتها بحسب العصور والثقافات والشروط املادية .ويضيف دوركايم بأن املجتمع بدوره يخضع لقوانين الطبيعة شانه في ذلك شان سائر الظواهر الكونية .وال يمكن للمجتمع أن يخرج عن هذا االطار. ويضيف دوركايم عنصرا آخر إلى الرموز القابلة للمشاهدة للتضامن االجتماعي والذي يتمثل في األنظمة التربوية .هذه األنظمة التي ترتبط أساسا بالتنشئة االجتماعية بحيث تصبح معها القاعدة االجتماعية جزءا من كيان الفرد بعد ان تعود عليها وتآلف معها .وقد تناول دوركايم مسألة التربية والتنشئة االجتماعية في مؤلفين هما L’Education Morale :و L’Evolution Pédagogique en Franceحاول من خاللها أن يبين بأن مسألة التنشئة االجتماعية تكتس ي طبعا مؤسساتيا .فاألنظمة التربوية بحسب دوركايم لها دور حاسم في التنشئة اإلجتماعية وفق نمط تحدده املؤسسات حتى تضمن تكريس نمط معين من السلوك يكون مطابقا ملا هو سائد داخل املجتمع. وإلى جانب هذه العناصر الثالث للتضامن االجتماعي ،توقف أيضا دوركايم عند ظاهرة االنتحار التي خص لها أحد مؤلفاته وهو le suicideحيث حاول من خالله تناول النتائج املباشرة للقواعد االجتماعية .ويظهر من خالل أعماله أنه ركز على الظواهر املادية مستبعدا مجموعة من القضايا التي كان يعتبرها غير ذات جدوى بالنسبة للبحث السوسيولوجي. عوائق التحليل السيوسيولوجي: لقد توقف أيضا دوركايم عند تلك العوائق التي تقف امام الدراسة العلمية للظواهر االجتماعية والتي اطلق عليها les prénotionsوهي مجموعة من األفكار العفوية التي نكونها عن الوقائع من دون ان تكون خاضعة للنقد والتحليل العلمي وهي تحجب عنا الرؤية الصحيحة لألشياء وتجعلنا ندركها على نحو خاطئ، معتقدا أن كل العلوم قبل أن تصبح علمية كانت هنالك عوائق جعلت االنسان يتناولها تناوال غير علمي مثل علم التنجيم الذي كان عبارة عن معتقدات وهمية حول االجرام السماوية قبل ظهور علم الفلك وفق أسس علمية؛ وكذلك بالنسبة لعلم السيمياء مقارنة بعلم الكيمياء. وهكذا فإن علم االجتماع عانى بدوره من تلك األفكار الخاطئة التي تكونت لدى االنسان وجعلته يتناول الظواهر االجتماعية تناوال أيديولوجيا وليس علميا ،ومن هنا وجب تجاوز كل تلك التصورات واألفكار الغير علمية وتركها جانبا والتي ظلت تعيق أي تطور للفكر العلمي بشأن الظواهر االجتماعية. وهذه العوائق كثيرة حول املجتمع حيث إن اللغة بدورها مليئة بمصطلحات وألفاظ لها ايحاءات مضللة حول كثير من األمور سواء تلك املتعلقة باألسرة أو السلطة وغيرها من القضايا املرتبطة بالواقع االجتماعي. ولهذا يدعو دوركايم عالم االجتماع إلى كثير من الحذر وعدم التسرع واالبتعاد عن العفوية عند تحليله للظواهر االجتماعية .من هنا وجب عليه التسلح بالروح النقدية وكذلك التوقف كثيرا عند دالالت االلفاظ وتحليلها على نحو منطقي حتى يستطيع تجنب الوقوع في فخ تلك العوائق والتمثالت املضللة. خاتمة: يبدو من خالل سوسيولوجيا دوركايم أن االندماج االجتماعي يتم من خالل خضوع الفرد لسلطة القواعد االجتماعية ،وذلك بتضافر كل من التنشئة واالجتماعية ووسائل الرقابة االجتماعية .لكن حينما تغيب سلطة هذه القواعد أو ضعفها فإن حالة من الشذوذ واالضطراب تسود املجتمع من خالل انفالت للرغبات الفردية التي لم تعد تحتكم إلى أية قواعد أو ضوابط .وتشكل سوسيولوجيا دوركايم لحظة أساسية في تطور هذا العلم حيث استطاع ان يحصل ألول مرة على كرس ي لتقديم السوسيولوجيا باعتبارها علما مستقال بذاته داخل الجامعة الفرنسية ويمنحها بذلك وضعا اكاديميا يليق بها بين سائر العلوم األخرى باإلضافة لتأسيسه ألول مجلة علمية متخصصة في علم االجتماع L’année sociologiqueسنة .1896