اول اعدادي

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 55

‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫المرحلة الثانوية‬

‫‪1‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫الدرس األول‬
‫متطلبات عصر اإلمام علي (ع)‬
‫(‪)1‬‬
‫‪‬‬

‫موقف اإلمام من بيعة السقيفة‪:‬‬


‫قال اإلمام علي بن أبي طالب(ع) مبيناً السر في موقفه الذي وقفه من الحزب الحاكم بعد مؤامرة‬
‫السقيفة ومبايعة أبي بكر على الخالفة من قبل بعض المهاجرين واألنصار‪:‬‬
‫‪(( .1‬فلما مضى (ص) تنازع المسلمون األمر من بعده‪ .‬فو اهلل ما كان يلقى في روعي وال يخطر‬
‫ببالي أن العرب تزعج هذا األمر من بعده (ص) عن أهل بيته‪ ،‬وال أتهم منحوه عني من بعده!‬
‫فما راعني إال انثيال الناس علي أبي بكر يبايعونه‪ ،‬فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن‬
‫اإلسالم يدعون إلى محق دين محمد (ص) فخشيت إن لم أنصر اإلسالم وأهله أرى فيه ثلماً أو هدماً‬
‫تكون المصيبة به علي أعظم من فوت واليتكم التي إنما هي متاع أيام قالئل‪ ...‬فنهضت في تلك‬
‫األحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه‪ .‬اكتتاب رقم‪.62‬‬
‫‪ .2‬وقال في خطبته المعروفة بالشقشقية‪ :‬فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهباً‬
‫حتى مضى األول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده‪ c...‬فصبرت على طول المدة وشدة المحنة"‪.‬‬
‫‪ .3‬وقال أيضاً‪" :‬لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري‪ ،‬وواهلل ال سلمن ماسلمت أمور المسلمين‬
‫ولم يكن فيها جور إلى علي خاصة التماساً ألجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه‬
‫وزبرجه"‪ .‬نهج البالغة‪.‬‬

‫تحليل موقف اإلمام علي (ع) من بيعة السقيفة‬


‫لعل أعظم رقم قياسي ضربه أمير المؤمنين عليه الصالة والسالم‪ c‬للتضحية في سبيل اإلسالم‬
‫واإلخالص للمبدأ إخالصاً جرده عن جميع االعتبارات الشخصية وأقام منه حقيقة سامية سمو المبدأ‬
‫ما بقي للمبدأ حياة هو الرقم الذي سجله بموقفه من خالفة الشورى وقدم بذلك في نفسه مثالً أعلى‬
‫للتفاني في المبدأ الذي صار شيئاً من طبيعته‪.‬‬
‫إن كان رسول اهلل (ص) قد تمكن من محو ضالل الوثنية‪ ،‬فقد استطاع أن يجعل من علي بما أفاض‬
‫عليه من حقائق نفسه عيناً ساهرة على القضية اإللهية‪ ،‬فنامت فيه الحياة اإلنسانية بأهوائها‬
‫ومشاعرها وصار يحيا بحياة المبدأ والعقيدة‪.‬‬
‫وإن كان للتضحية اإلنسانية الفاضلة كتاب فأعمال علي عنوان ذلك الكتاب المشع بأضواء الخلود‪.‬‬
‫وإن كان لمبادئ السماء التي جاء بها محمد (ص) تعبير عملي على وجه األرض فعلي هو تعبيرها‬
‫الحي على مدى الدهور واألجيال‪.‬‬

‫وإن كان النبي (ص) قد خلف في أمته علياً والقرآن فإنما جمع بينهما ليكون القرآن تفسيراً لمعاني‬
‫علي العظيم‪ ،‬ولتكون معاني علي أنموذجا لِمُثٌل القرآن الكريم‪c.‬‬
‫وإن كان اهلل تعالى قد جعل علياً نفس رسول اهلل (ص) في آية المباهلة فألجل أن يفهم المسلمون أنه‬
‫امتداد طبيعي لمحمد (ص) وشعاع متألق من روحه العظيمة‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وإن كان النبي (ص) قد خرج من مكة مهاجراً خائفاً على نفسه وخلف علياً على فراشه ليموت بدالً‬
‫عنه‪ ،‬فمعنى ذلك أن المبدأ المقدس هو الذي كان يرسم للعظيمين خطوط حياتهما‪ ،‬وإذ كان البد‬
‫للقضية اإللهية من شخص تظهر به وآخر يموت في سبيلها‪ ،‬فيلزم أن يبقى رجلها األول لتحيى به‪،‬‬
‫ويقدم رجلها الثاني نفسه قرباناً لتحيى به أيضاً‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫وإن كان علي هو الذي أباحت له السماء خاصة النوم في المسجد والدخول فيه جنباً فمفهوم هذا‬
‫اإلختصاص إن معانيه معنى المسجد ألن المسجد رمز السماء الصامت في دنيا المادة وعلي هو الرمز‬
‫اإللهي الحي في دنيا الروح والعقيدة‪.‬‬
‫وإن كانت السماء قد امتدحت فتوة علي وأعلنت عن رضاها عليه إذ قال المنادي‪ :‬ال سيف إال ذو الفقار‬
‫وال فتى إال علي‪ ،‬فإنها عنت بذلك أن فتوة علي وحدها هي الرجولة الكاملة التي ال يرتفع إلى مداها‬
‫إنسان وال ترقى إلى افقها بطولة األبطال وإخالص المخلصين‪.‬‬

‫ومن مهزلة األقدار أن هذه الفتوة التي قدسها الهاتف اإللهي كانت عيباً في رأي مشايخ السقيفة‬
‫ونقصاً في علي ويؤاخذ عليه وينزل به عن الصديق الذي لم يكن يمتاز عليه إال بسنين‪ c‬قضاها كافراً‬
‫مشركاً‪ .‬وأنا ال أدري كيف صار االزدواج ببين الجاهلية واإلسالم في حياة شخصٍ واحدٍ مجداً‬
‫يمتاز به عن من خلصت حياته كلها هلل ؟!‬
‫ولئن ظهرت للناس في البحوث الجديدة القوة الطبيعية التي تجعل األجسام الدائرة حول المحور‬
‫تسير على خط معين‪ ،‬فلقد ظهرت في علي قبل مئات السنين‪ c‬قوة مثلها ولكنها ليست من حقائق‬
‫الفيزياء‪،‬بل‪ c‬من قوى السماء وهي التي جعلت من علي مناعة طبيعية لإلسالم حفظت له مقامه األعلى‬
‫ما دام اإلمام حياً‪ ،‬ومحورا تدور عليه الحياة اإلسالمية لتستمد منه روحانيتها وثقافتها وروحها‬
‫وجوهرها سواء أكان على رأس الحكم أوالً‪.‬‬
‫وقد عملت هذه القوة عملها السحري في عمر نفسه‪،‬فجذبته إلى خطوطها المستقيمة مراراً حتى قال‪:‬‬
‫لوال علي لهلك عمر‪ ،‬وظهر تأثيرها الجبار في التفاف المسلمين حوله في اليوم الذي أسندت فيه‬
‫مقدرات الخالفة إلى عامة المسلمين‪ ،‬ذلك اإللتفاف الفذ الذي يقل مثيله في تأريخ الشعوب‪.‬‬

‫ونعرف من هذا أن علياً‪-‬بما جهزته السماء به من تلك القوة‪ ،-‬كان ضرورة من ضرورات اإلسالم‬
‫التي البد منها وشمساً يدور عليها الفلك اإلسالمي بعد النبي(ص) بحسب طبيعته التي ال يمكن أن‬
‫تقاوم حتى التجأ الفاروق إلى مسيرتها كما عرفت‪.‬‬

‫وتجلى لدينا أيضاً أن االنقالب الفجائي في السياسة الحاكمة لم يكن ممكناً يومئذٍ ألنه ‪-‬مع كونه‬
‫طفرة‪ -‬يناقص تلك القوة الطبيعية المركزة في شخصية اإلمام علي (ع)‪ ،‬فكان من الطبيعي أن تسير‬
‫السياسة الحاكمة في خط منحنٍ حتى تبلغ النقطة التي وصل إليها الحكم األموي‪ ،‬تفادياً من تأثير‬
‫تلك القوة الساهرة على االعتدال واالنتظام كما ينحني السائق بسيارته عندما ينحرف بها إلى نقطة‬
‫معاكسة تحذراً من القوة الطبيعية التي تفرض االعتدال في السير‪c.‬‬

‫وهذا الفصل الرائع من عظمة اإلمام يستحق دراسة وافية ومستقلة لكشف شخصية علي المعارض‬
‫للحكم والساهر على قضية اإلسالم والموفق بين حماية القوة الحاكمة من االنحراف وبين معارضتها‬
‫في نفس الوقت‪.‬‬
‫وإن كانت مواقف اإلمام كلها رائعة فموقفه من الخالفة بعد رسول اهلل (ص) من أكثرها روعة‪.‬‬
‫وإن كانت العقيدة اإللهية تريد في كل زمان بطال يفتديها بنفسه‪ ،‬فهي تريد أيضاً بطالً يتقبل‬
‫القربان ويعزز به المبدأ‪ ،‬وهذا هو الذي بعث بعلي إلى فراش الموت وبالنبي (ص) إلى مدينة النجاة‬
‫يوم الهجرة األغر‪ .‬ولم يكن ليتهيأ اإلمام في محنته بعد وفاة أخيه أن يقدم لها كال البطلين‪ ،‬ألنه لو‬

‫‪3‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫ضحى بنفسه في سبيل توجيه الخالفة إلى مجراها الشرعي في رأيه لما بقي بعده من يمسك الخيط‬
‫من طرفيه‪ ،‬وولدا رسول اهلل (ص) ]سبطاه[ طفالن ال يتهيأ لهما من األمر ما يريد‪.‬‬

‫وقف علي عند مفترق طريقين كل منهما حرج وكل منهما شديد على نفسه‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫(أحدهما)‪ :‬أن يعلن الثورة المسلحة على خالفة أبي بكر‪.‬‬
‫(واآلخر) ‪ :‬أن يسكت وفي العين قذى‪ ،‬وفي الحلق شجا‪.‬‬
‫ولكن ماذا كان يترقب للثورة من نتائج؟ هذا ما نريد أن نتبينه على ضوء الظروف التأريخية لتلك‬
‫الساعة العصيبة‪.‬‬
‫إن الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة وهم من عرفناهم حماسة وشدة في‬
‫أمر الخالفة‪ .‬ومعنى هذا أنهم سيقابلون ويدافعون‪ c‬عن سلطانهم الجديد‪ ،‬ومن المعقول جداً حينئذٍ أن‬
‫يغتنم سعد بن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً أخرى في سبيل أهوائه السياسية‪ ،‬ألننا نعلم أنه هدد الحزب‬
‫المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال‪ ( :‬ال و اهلل حتى أرميكم بما في كنانتي وأخضب سنان‬
‫رمحي وأضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني ولو اجتمع معكم اإلنس والجن ما بايعتكم))‪.‬‬
‫وأكبر الظن أنه تهيب اإلقدام على الثورة ولم يجرأ على أن يكون أول شاهر للسيف ضد الخالفة‬
‫القائمة‪ ،‬وإنما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة إعالن الحرب‪ ،‬وأخذ يترقب تضعضع‬
‫األوضاع ليشهر سيفه بين السيوف‪ ،‬فكان حرياً به أن تثور حماسته ويزول‪ c‬تهيبه ويضعف‪ c‬الحزب‬
‫القائم في نظره إذا رأى صوتاً قوياً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة ويحاول إجالء المهاجرين من‬
‫المدينة بالسيف‪ c‬كما أعلن ذلك المتكلم عن لسانه في مجلس السقيفة‪.‬‬

‫وال ننسى بعد ذلك األمويين وتكتلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان‪ ،‬وما كان لهم من نفوذ في‬
‫مكة في سنواتها الجاهلية األخيرة‪ ،‬فقد كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة اإلسالم والحكومة النبوية‪،‬‬
‫وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية أميرها المطاع في تلك الساعة‪.‬‬
‫وإذا تأملنا ما جاء في تأريخ تلك األيام من أن رسول اهلل (ص) لما توفي ووصل‪ c‬خبره إلى مكة‬
‫وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت المدينة وكاد أهلها‬
‫يرتدون‪ c،‬فقد ال نقتنع بما يعلل به رجوعهم عن االرتداد من العقيدة واإليمان‪.‬‬

‫وليس مرد ذلك التراجع إلى أنهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما‬
‫ذهب عليه بعض الباحثين‪ ،‬ألن خالفة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفي فيه رسول اهلل (ص) وأكبر‬
‫الظن أن خبر الخالفة جاءهم مع خبر الوفاة‪.‬‬
‫بل تعليل القضية أن األمير األموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتخذته أسرته في‬
‫تلك الساعة‪ ،‬فاستخفى وأشاع بذلك االضطراب حتى إذا عرف أن أبا سفيان قد رضي بعد سخط‬
‫وانتهى مع الحاكمين إلى نتائج في صالح البيت ألموي ظهر مرة أخرى للناس وأعاد األمور إلى‬
‫مجاريها‪.‬‬
‫وعليه فالصلة السياسية بين رجاالت األمويين كانت قائمة في ذلك الحين‪.‬‬

‫وهذا التقدير يفسر لنا القوة التي تكمن وراء أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً على أبي بكر‬
‫وأصحابه‪ ،‬إذ قال‪ :‬إني ألرى عجاجة ال يطفيها إال الدم‪ ،‬وقال عن علي والعباس‪ :‬أما والذي نفسي بيده‬
‫ألرفعن لهما من أعضادهما‪.‬‬
‫فاألمويّون قد كانوا متأهبين للثورة و االنقالب‪ ،‬وقد عرف عليٌ منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا‬
‫عليه أن يتزعم المعارضة و لكنه عرف أنهم ليسوا من الناس الذين يعتمد على تأييدهم‪ ،‬وإنما يريدون‬
‫الوصول إلى أغراضهم عن طريقه‪ ،‬فرفض طلبهم‪ ،‬وكان من المنتظر حينئذ أن يشقّوا عصا الطاعة‬

‫‪4‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫إذا رأوا األحزاب المسلحة تتناحر‪ ،‬و لم يطمئنوا إلى قدرة الحاكمين على ضمان مصالحهم‪ ،‬و معنى‬
‫انشقاقهم حينئذ إظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكة عن المدينة‪.‬‬

‫وإذن فقد كانت الثورة العلوية في تلك الظروف إعالناً لمعارضة دموية تتبعها معارضات دموية ذات‬
‫‪‬‬ ‫أهواء شتى‪ ،‬وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه المشاغبون ثم المنافقون‪ ،‬ولم تكن ظروف المحنة‬
‫تسمح لعلي بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم‪ ،‬بل لو فعل ذلك ألنتج ما يلي‪:‬‬

‫‪ .1‬لتناحرت ثورات شتى‪ ،‬وتقاتلت مذاهب متعددة األهداف واألغراض‪ ،‬و يضيع بذلك الكيان اإلسالمي‬
‫في اللحظة الحرجة التي يجب أن يلتف فيها المسلمون حول قيادة موحدة‪ ،‬ويركزوا‪ c‬قواهم لصد ما‬
‫كان يترقب أن تتمخض عنه الظروف الدقيقة من فتن وثورات‪.‬‬
‫إن علياً الذي كان على أتم استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع أدوار حياته منذ أن وُلد في‬
‫البيت اإللهي و إلى أن قتل فيه‪ ،‬قد ضحى بمقامه الطبيعي ومنصبه اإللهي في سبيل المصالح العليا‬
‫التي جعله رسول اهلل (ص) وصياً عليها وحارساً لها‪.‬‬

‫‪ .2‬ولفقدت بذلك الرسالة المحمدية الكبرى بعض معناها؛ فإن رسول اهلل (ص) لمّا أمره ربه بتبليغ‬
‫دعوته و اإلنذار برسالته جمع بني عبدالمطلب و أعلن عن نبوته بقوله‪( :‬إني واهلل ما أعلم شاباً في‬
‫العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به)‪ .‬وعن إمامة أخيه بقوله‪ ( :‬إن هذا أخي و وصيي و‬
‫خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا)‪ .‬و معنى ذلك أن إمامة علي تكملة طبيعية لنبوة محمد (ص)‬
‫وأن الرسالة السماوية قد أعلنت عن نبوة محمد الكبير (ص) و إمامة محمد الصغير في وقت واحد‪.‬‬

‫إن علياً الذي رباه رسول اهلل (ص) وربى اإلسالم معه ‪-‬فكانا ولديه العزيزين‪c-‬كان يشعر بأخوته لهذا‬
‫اإلسالم‪ ,‬و قد دفعه هذا الشعور إلى افتداء أخيه بكل شيء حتى أنه اشترك في حروب الردة التي أعلنها‬
‫المسلمون يومذاك‪ ،‬ولم يمنعه تزعم غيره لها عن القيام بالواجب المقدس؛ ألن أبابكر إن كان قد‬
‫ابتزه حقه ونهب تراثه‪ ،‬فاإلسالم قد رفعه إلى القمة وعرف له أخوته الصادقة وسجلها بأحرف من‬
‫نور على صفحات الكتاب الكريم‪.‬‬
‫وصمد اإلمام على ترك الثورة ولكن ماذا يفعل؟ وأي أسلوب يتخذه لموقفه؟ هل يحتج على الفئة‬
‫الحاكمة بنصوص النبي (ص) وكلماته التي أعلنت أن علياً هو القطب المعد ألن يدور عليه الفلك‬
‫اإلسالمي والزعيم الذي قدمته السماء على أهل األرض ؟؟‬
‫تردد هذا السؤال في نفسه كثيراً ثم وضع له الجواب الذي تعينه ظروف محتنه وتلزمه به طبيعة‬
‫األوضاع القائمة‪،‬فسكت عن النص إلى حين‪.‬‬

‫الخالصة ‪..‬‬
‫لقد كان موقف اإلمام علي (ع) من بيعة السقيفة بعد رفضها وعدم االقتناع بها هو السعي أوالً‬
‫إلرجاع األمة إلى الطريق الصحيح ورفع اليد عن البيعة الالمشروعة التي فرضها منطق السقيفة على‬
‫المهاجرين و األنصار ثم كان موقفه رسالياً بتمام معنى الكلمة بعد أن الحظ أن الظروف السياسية‬
‫ال تسمح بتمزق الكيان اإلسالمي‪ .‬ومن هنا فصبر وفي العين قذى وفي الحلق شجا‪ ،‬و ترك الثورة‬
‫المسلحة منتهجاً الحلول السلمية البعيدة المدى‪ .‬و بهذا أعلن للمسلمين مرة بعد أخرى أنه الزال‬
‫بطل العقيدة وقربان الرسالة كما كان في عصر الرسول(ص)‪.‬‬

‫المناقشة‬

‫‪5‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫ما هي النصوص التي تفصح عن موقف اإلمام علي (ع) من انحراف السقيفة؟‬ ‫س‪:1‬‬
‫ما هي نظرة اإلمام علي (ع) إلى الحكم والسلطة بشكل عام؟‬ ‫س‪:2‬‬
‫‪‬‬ ‫هل تنازل اإلمام علي (ع) عن حقه في الخالفة؟ ولماذا؟‬ ‫س‪:3‬‬
‫ما هي المحاوالت التي قام بها اإلمام (ع) إلرجاع األمة إلى رشدها؟‬ ‫س‪:4‬‬
‫لماذا لم ينتهج اإلمام (ع) طريق الثورة المسلحة ضد الحزب المتآمر؟‬ ‫س‪:5‬‬
‫ما هو الدليل على رسالية موقف اإلمام (ع) من بيعة السقيفة؟‬ ‫س‪:6‬‬
‫لماذا لم يستغل‪ c‬اإلمام قدرة أبي سفيان التي عرضها عليه؟‬ ‫س‪:7‬‬

‫‪6‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫الدرس الثاني‬
‫متطلبات عصر اإلمام علي (ع)‬
‫(‪)2‬‬
‫‪‬‬

‫لماذا لم يحتج اإلمام علي (ع) بالنص؟‬


‫يتبين من الصورة التي عرفناها عن تلك الظروف واألوضاع أن االعتراض بتلك النصوص المقدسة‬
‫واالحتجاج بها في ساعة ارتفع فيها المقياس الزئبقي لألفكار المحمومة واألهواء الملتهبة التي‬
‫سيطرت على الحزب الحاكم إلى الدرجة العالية‪ ،‬كان من التقدير المعقول افتراض النتائج السيئة‬
‫له؛ لما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬ألن أكثر النصوص التي صدرت من رسول اهلل (ص) في شأن الخالفة لم يكن قد سمعها إال‬
‫مواطنوه في المدينة من مهاجرين وأنصار‪ ،‬فكانت تلك النصوص إذن األمانة الغالية عند هذه الطائفة‬
‫التي البد أن تصل عن طريقهم إلى سائر الناس في دنيا اإلسالم يومئذٍ وإلى األجيال المتعاقبة‬
‫والعصور المتتالية‪ .‬ولو أحتج اإلمام على جماعة أهل المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول اهلل‬
‫(ص) في شأنه وأقام منها دليالً على إمامته وخالفته لكان الصدى الطبيعي لذلك أن يكذب الحزب‬
‫الحاكم صديق األمة في دعواه وينكر‪ c‬تلك النصوص التي تمحو من خالفة الشورى (شورى السقيفة)‬
‫لونها الشرعي وتعطل منها معنى الدين‪c.‬‬

‫وقد ال يجد الحق صوتاً قوياً يرتفع به في قبال ذلك اإلنكار؛ ألن كثيراً من قريش ‪-‬وفي مقدمتهم‬
‫األمويون‪-‬كانوا طامحين إلى مجد السلطان ونعيم الملك‪ ،‬وهم يرون في تقديم الخليفة على أساس‬
‫من النص النبوي تسجيالً لمذهب اإلمامة اإللهية‪ .‬ومتى تقررت هذه النظرية في عرف الحكم‬
‫اإلسالمي كان معناها حصر الخالفة في بني هاشم آل محمد األكرمين وخروج غيرهم من المعركة‬
‫خاسراً‪.‬‬

‫وقد نلمح هذا اللون من التفكير في قول عمر البن عباس معلالً إقصاء علي عن األمر‪( :‬إن قومكم‬
‫كرهوا أن يجمعوا لكم الخالفة والنبوة) فقد يدلنا هذا على أن إسناد األمر إلى علي في بداية األمر‬
‫كان معناه في الذهنية العامة حصر الخالفة في الهاشميين‪ ،‬وليس لذلك تفسير أولى من أن المفهوم‬
‫لجمهرة من الناس يومئذٍ من الخالفة العلوية تقرير شكل ثابت للخالفة يستمد شرعيته من نصوص‬
‫السماء ال من انتخاب المنتخبين‪ .‬فعلي إن وجد نصيراً من علية قريش يشجعه على مقاومة‬
‫الحاكمين‪ ،‬فإنه ال يجد منهم عضداً في مسألة النص إذا تقدم إلى الناس يحدثهم أن رسول اهلل (ص)‬
‫قد سجل الخالفة ألهل بيته حين قال‪ :‬إني مخلف فيكم الثقلين‪ :‬كتاب اهلل‪ ،‬وعترتي أهل بيتي‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪/‬ج‪.4‬‬

‫وأما األنصار فقد سبقوا جميع المسلمين إلى االستخفاف بتلك النصوص‪ ،‬واالستهانة بها‪ ،‬إذ حدت بهم‬
‫الشراهة إلى الحكم إلى عقد مؤتمر في سقيفة بني ساعدة ليصفقوا على يد واحد منهم‪ .‬فلن يجد علي‬
‫فيهم –إذا استدل بالنصوص النبوية‪-‬جنوداً للقضية العادلة وشهوداً عليها‪ ،‬ألنهم إذا شهدوا على ذلك‬
‫يسجلون على أنفسهم تناقضاً فاضحاً في يوم واحد وهذا ما يأبونه على أنفسهم بطبيعة الحال‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وليس في مبايعة األوس ألبي بكر أو قول من قال‪ :‬ال نبايع إال علياً مناقضة كتلك المناقضة؛ ألن‬
‫المفهوم البديهي من تشكيل‪ c‬مؤتمر السقيفة أن مسألة الخالفة مسألة انتخاب ال نص‪ ،‬فليس إلى‬
‫التراجع عن هذا الرأي في يوم إعالنه من سبيل‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫وأما اعتراف المهاجرين باألمر فال حرج فيه ألن األنصار لم يجتمعوا على رأي واحد في السقيفة‬
‫وإنما كانوا يتذاكرون ويتشاورون‪ ،‬ولذا نرى الحُباب بن المنذر يحاول بث الحماسة في نفوسهم‬
‫واالستمالة بهم إلى رأيه بما جلجل به في ذلك االجتماع من كالم وهو يوضح أنهم جُمعوا لتأييد‬
‫فكرة لم يكن يؤمن بها إال بعضهم‪.‬‬

‫وإذن فقد كان اإلمام يقدر أنه سوف يدفع الحزب الحاكم إلى إنكار النصوص واالستبسال في هذا‬
‫اإلنكار إذا جاهر بها وال يقف إلى جانبه حينئذٍ صف ينتصر له في دعواه؛ ألن الناس بين من قادهم‬
‫الهوى السياسي إلى إنكار عملي للنص يسد عليهم مجال التراجع بعد ساعات‪ ،‬وبين من يرى أن فكرة‬
‫النص تجعل من الخالفة وقفاً على بني هاشم ال ينازعهم فيها منازع‪ .‬وإذا سجلت الجماعة الحاكمة‬
‫وأنصارها إنكاراً للنص واكتفى الباقون بالسكوت في األقل فمعنى هذا أن النص يفقد قيمته الواقعية‬
‫وتضيع بذلك مستمسكات اإلمامة العلوية كلها ويؤمن العالم اإلسالمي –الذي كان بعيداً عن مدينة‬
‫النبي (ص)‪ -‬على إنكار المنكرين‪ c‬ألنه منطق القوة الغالب في ذلك الزمان‪.‬‬

‫‪ .2‬إن علياً لو ظفر بجماعة توافقه على دعواه‪ ،‬وتشهد له بالنصوص النبوية المقدسة‪ ،‬وتعارض إنكار‬
‫الفئة الحاكمة‪ ،‬كان معنى ذلك أن ترفض هذه الجماعة خالفة أبي بكر وتتعرض لهجوم شديد من‬
‫الحاكمين ينتهي بها إلى االشتراك في حرب مع الحزب الحاكم المتحمس لكيانه السياسي إلى حد‬
‫بعيد؛ فإنه ال يسكت عن هذا اللون من المعارضة الخطرة‪ .‬فمجاهرة علي بالنص كانت تجره إلى‬
‫المقابلة العملية‪ ،‬وقد عرفنا سابقاً أنه لم يكن مستعداً إلعالن الثورة على الوضع القائم واالشتراك‬
‫مع السلطات المهيمنة في قتال‪.‬‬

‫‪ .3‬ولم يكن لالحتجاج بالنص أثر واضح من أن تتخذ السياسة الحاكمة احتياطاتها وأساليبها الدقيقة‬
‫لمحو األحاديث النبوية من الذهنية اإلسالمية؛ ألنها تعرف حينئذ أن فيها قوة خطر على الخالفة‬
‫القائمة ومادة خصبه لثورة المعارضين في كل حين‪.‬‬

‫إن عمر لو التفت إلى ما تنبه إليه األمويون –بعد أن احتج اإلمام بالنصوص في أيام خالفته‪ ،‬واشتهرت‬
‫بين شيعته‪،-‬من خطرها الستطاع أن يقطعها من أصولها‪ ،‬ويقوم بما لم يقدر األمويون عليه من إطفاء‬
‫نورها‪ .‬وكان اعتراض اإلمام بالنص في تلك الساعة ينبهه إلى ما يجب أن ينتهجه من أسلوب فأشفق‬
‫على النصوص المقدسة أن تلعب بها السياسة وسكت عنها على مضض‪ ،‬واستغل بذلك خصومه‪ ،‬حتى إن‬
‫عمر نفسه صرح بأن علياً هو ولي كل مؤمن ومؤمنة بنص النبي (ص)‪.‬‬

‫‪ .4‬ثم ألم يكن من المعقول أن يخشى اإلمام على كرامة حبيبه وأخيه رسول اهلل (ص) أن تنتقض‬
‫وهي أغلى عنده من كل نفيس –إذا جاهر بنصوص النبي (ص)‪ -‬وهو لم ينس موقف الفاروق من‬
‫رسول اهلل (ص) حين طلب دواة ليكتب كتاباً ال يضل الناس بعده أبداً‪ ،‬فقال عمر‪( :‬إن النبي ليهجر‬
‫أو قد غلب عليه الوجع)‪ .‬وقد اعترف فيما بعد البن عباس أن رسول اهلل (ص) كان يريد أن يعين‬
‫علياً للخالفة وقد صده عن ذلك خوفاً من الفتنة؟‬

‫‪8‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وسواء أكان رسول اهلل (ص) يريد أن يحرر حق علي في الخالفة أو ال‪ ،‬فإن المهم أن نتأمل موقف‬
‫عمر من طلبه‪ ،‬فهو إذا كان مستعداً التهام النبي (ص) وجهاً لوجه بما ينزهه عنه نص القرآن‪،‬‬
‫وضرورة اإلسالم‪ ،‬خوفاً من الفتنة‪ ،‬فما الذي يمنعه عن اتهام آخر له بعد وفاته مهما تلطفنا من‬
‫تقديره؟‪ c‬فال يقل عن دعوى أن رسول اهلل (ص) لم يصدر عن أمر اهلل في موضوع الخالفة‪ ،‬وإنما‬
‫‪‬‬ ‫استخلف علياً بوحي من عاطفته‪ ،‬بل كان هذا أولى من تلك المعارضة ألن الفتنة التي تقوم بدعوى‬
‫على النص أشد مما كان يترقبه عمر من اضطراب فيما إذا كان النبي (ص) قد خلف نصاً تحريرياً‬
‫بإمامة علي يعلمه الجميع‪.‬‬
‫وإذا كان رسول اهلل (ص) قد ترك التصريح بخالفة علي في ساعته األخيرة لقول قاله عمر‪ ،‬فإن‬
‫المفهوم منه أن يترك الوصي االحتجاج بالنصوص خوفاً من قولٍ قد يقوله‪.‬‬
‫ونتيجة هذا البحث أن سكوت أمير المؤمنين عن النص إلى حين‪ ،‬كان يفرضه عليه‪:‬‬
‫‪ )1‬أنه لم يكن يجد في رجاالت تلك الساعة من يطمئن إلى شهادته بذلك‪.‬‬
‫‪ )2‬أن االعتراض بالنصوص كان من الحري به أن يلفت أنظار الحاكمين إلى قيمتها المادية‪،‬‬
‫فيستعملوا شتى األساليب لخنقها‪.‬‬
‫‪ )3‬أن معنى االعتراض بها التهيؤ للثورة بأوسع معانيها‪ ،‬وهذا ما لم يكن يريده اإلمام عليه السالم‪.‬‬
‫‪ )4‬أن اتهام النبي (ص) في آخر ساعاته عرف علياً بمقدار تفاني الحاكمين في سبيل مراكزهم‪،‬‬
‫ومدى استعدادهم لتأييدها والدفاع عنها وجعله يخاف من تكرر شيء من ذلك فيما إذا أعلن عن‬
‫نصوص إمامته‪.‬‬

‫إذن انتهى اإلمام إلى قرار حاسم‪ ،‬وهو ترك الثورة وعدم التسلح بالنصوص في وجه الحاكمين جهاراً‬
‫وعالنية إال إذا اطمأن إلى قدرته على تجنيد الرأي العام ضد أبي بكر وصاحبيه‪ ،‬وهذا ما أخذ يحاوله‬
‫علي في محنته آنذاك‪.‬‬
‫فبدأ عليه السالم يطوف سِراً على زعماء المسلمين ورجاالت المدينة‪ ،‬يعظهم ويذكرهم‪ c‬ببراهين‬
‫الحق وآياته‪ ،‬وإلى جانبه قرينته تعزز موقفه وتشاركه في جهاده السري‪ ،‬ولم يكن يقصد بذلك‬
‫التطواف إنشاء حزب يتهيأ له القتال به ألننا نعرف أن علياً كان له حزب من األنصار هتف باسمه‪،‬‬
‫وحاول االلتفاف حوله وإنما أراد أن يمهد بتلك المقابالت إلجماع الناس عليه‪.‬‬

‫وهنا تجيء مسألة فدك لتحتل الصدارة في السياسة العلوية الجديدة‪ ،‬فإن الدور الفاطمي الذي رسم‬
‫هارون النبوة خطوطه بإتقان‪ ،‬كان متفقاً مع ذلك التطواف الليلي في فلسفته‪ ،‬وجديراً بأن يقلب‬
‫الموقف على الخليفة وينهي خالفة الصديق كما تنتهي القصة التمثيلية ال كما يقوض حكم مركز‬
‫القوة والعدة‪.‬‬
‫وكان الدور الفاطمي يتلخص في أن تطالب الصديقة أبابكر بما انتزعه منها من أموال‪ ،‬وتجعل هذه‬
‫المطالبة وسيلة للمناقشة في المسألة األساسية وأعني بها مسألة الخالفة وإفهام الناس بأن اللحظة‬
‫التي عدلوا فيها عن علي (ع) إلى أبي بكر كانت لحظة هوس وشذوذ‪ ،‬وأنهم بذلك أخطأوا وخالفوا‬
‫كتاب ربهم ووردوا غير شربهم‪.‬‬

‫تخطيط اإلمام علي (ع) لمواجهة صدمة االنحراف‬


‫إن لإلمام المعصوم (ع) واجبات أساسية تتلخص في الحرص على سالمة الرسالة اإلسالمية‬
‫وديمومتها في الحياة ومقاومتها التيارات المضادة بعد غياب النبي القائد (ص) وقد دلت الشريعة على‬
‫أن اإلمام علياً (ع) ومن بعده أبناءه األحد عشر هم المعنيون بذلك‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وممارسة دور الراعي القيم لشؤون الرسالة تقتضي أن يتولى اإلمام المعصوم أعلى السلطات في‬
‫الدولة‪ ،‬ولكن بعد وفاة الرسول (ص) كما الحظنا قد استبدلت بالسلطة عناصر غير مؤهلة لفهم‬
‫وصيانة الرسالة وفي ظرف حرج جداً‪ ،‬ولم يكن ذلك ليمنع اإلمام (ع) عن ممارسة دوره الرسالي‪،‬‬
‫ولكن طبيعة الصراع كانت تقتضي أن يعمل اإلمام علي (ع) على محورين في محاولة منه إلصالح‬
‫‪‬‬ ‫االنحراف الطارئ في األمة والمحافظة على أسس بنائها وكيانها‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫المحور األول‪ :‬السعي الستالم مقاليد الحكم وزمام التجربة اإلسالمية الرائدة والنهوض باألمة‬
‫باتجاه األهداف اإللهية المرسومة لها‪ ،‬وقد عمل اإلمام (ع) على هذا المحور بعد وفاة النبي (ص)‬
‫مباشرة‪ ،‬كما عبر عن مسؤوليته تجاه هذا األمر بقوله (ص)‪( :‬لوال حضور الحاضر وقيام الحجة‬
‫بوجود الناصر وما أخذ اهلل على العلماء أن ال يقارّوا على كظّة ظالم وال سغب مظلوم أللقيت حبلها‬
‫على غاربها)‪ .‬نهج البالغة‪/‬الخطبة الشقشقية‪.‬‬
‫وكثف اإلمام (ع) جهوده لتعبئة األمة باتجاه استقرار القيادة المشروعة في محلها الالئق بها عبر‬
‫التوعية الالزمة‪ .‬ومن هنا تطلب األمر إرجاء المطالبة العاجلة باستالم زمام الحكم حتى يتم توفر‬
‫الظروف الموضوعية الكافية لذلك‪.‬‬
‫إن عدم إمكان استالم اإلمام لزمام الحكم في تلك الفترة الحرجة كان يعود إلى أسباب شتى منها‪:‬‬
‫‪ .1‬عدم وعي األمة لرزية يوم السقيفة وما جرى فيها من مؤامرات سياسية وتوجهات خاطئة كانت‬
‫خافية على شريحة كبيرة منها‪.‬‬
‫‪ .2‬عدم فهم دور ومسؤولية اإلمام وموقع اإلمامة الراشدة‪ ،‬فقد تصوروه مطلباً شخصياً وهدفاً‬
‫فردياً‪ ،‬حينما كان يكاشفهم اإلمام بأحقيته بمنصب الحكم ومباشرة السلطة‪.‬‬
‫ولكن الحقيقة أن دخول اإلمام في مواجهة الحاكمين كان بوعي رسالي وإرادة صادقة الستمرار‬
‫حركة الرسالة اإلسالمية نقية كما شرعها اهلل بعيدة عن الزيغ واالنحراف‪ ،‬ومضحياً بكل شيء من‬
‫أجل ذلك الهدف اإللهي الكبير حتى لو كان ذلك مستلزماً لغض الطرف عن حقه الشخصي‪،‬‬
‫فالمقياس عند علي (ع) هو سالمة الرسالة وديمومة حركتها على أسس الحق والعدل اإللهي وهو‬
‫القائل‪( :‬اعرف الحق تعرف أهله) وقد قال رسول اهلل (ص)‪( :‬علي مع الحق والحق مع علي)‪.‬‬

‫كما أن اإلمام علياً (ع) عمل بشمولية وعلى جميع المستويات ساعياً للتوفيق بين النظرية والتطبيق‪،‬‬
‫فربى أصحابه على أنهم أصحاب األهداف الرسالية ال أصحاب األشخاص والمطامع الذين يميلون مع‬
‫هذا الطرف أو ذاك‪ ،‬كما نالحظ أيضاً أن اإلمام قد رفض أن يستلم الحكم بشرط أن يسير‪ c‬بسيرة من‬
‫قبله‪ ،‬إذ كانت سيرتهم تتقاطع مع سالمة الرسالة والمجتمع الرسالي‪.‬‬

‫‪ .3‬إن الرواسب الجاهلية المتأصلة في فكر األمة‪ ،‬كانت تعيق األمة من فهم عمق الرسالة وعظمة‬
‫الرسول ودور اإلمام من بعده‪ ،‬من هنا فإنهم كانوا يتصورون أن عهد النبي (ص) بالوصاية لإلمام‬
‫علي (ع) إنما هو مجرد ترشيح ألحد أعضاء أسرته‪ ،‬وأنه قد يهدف إلى إحياء أمجاد أسرة متطلعة‬
‫للمجد والسلطان كما هو دأب عامة الحكام‪.‬‬

‫‪ .4‬وال نغفل عن دور المنافقين في زعزعة االستقرار األمني والتقدم االجتماعي‪ ،‬والسعي إلثارة‬
‫النوازع واألحقاد بين المسلمين‪ ،‬وتغلغلهم في صفوف الجهاز الحاكم بعد الرسول (ص)‪.‬‬

‫‪ .5‬انّ المتصدين للزعامة‪ ،‬كانوا يعانون من الشعور بالنقص تجاه اإلمام علي (ع) حيث كان اإلمام‬
‫(ع) يمثل تحدياً صارخاً لهم بوجوده‪ ،‬وبصدقه وجهاده‪ ،‬بصراحته‪ ،‬وباستبساله وبشبابه‪ .‬كما ورد‬
‫في كتاب معاوية لمحمد بن أبي بكر‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫المحور الثاني‪ :‬تحصين األمة ضد االنهيار التام وإعطاؤها القدر الكافي من المقومات كي تتمكن من‬
‫البقاء صامدة في مواجهة المحنة بعد استيالء فئة غير كفوءة على السلطة والوقوع في الخط‬
‫‪‬‬ ‫التنازلي بسبب االبتعاد عن جادة الحق والصواب‪.‬‬

‫فاجتهد اإلمام (ع) في تعميق الرسالة فكرياً وروحياً وسياسياً في صفوف أبناء األمة‪ .‬وحاول تقديم‬
‫الوجه المشرق للرسالة اإلسالمية عبر أساليب عديدة منها‪:‬‬

‫‪ .1‬التدخل االيجابي لتوجيه الزعامة المنحرفة بعد أن كانت ال تحسن معالجة كثير من القضايا‬
‫البسيطة فضالً عن المعقدة‪ .‬وإيضاح المسار الصحيح‪ ،‬فكان دور اإلمام (ع) دور الرقيب الرسالي الذي‬
‫يتدخل كلما لزم ذلك‪.‬‬
‫‪ .2‬كما أن اإلمام (ع) كان يتصدى للرد على شبهات المنحرفين‪ c‬بعد اتضاح عجز المتصدين‬
‫للزعامة‪.‬‬
‫‪ .3‬تقديم المثل األعلى لإلسالم والصورة الناصعة للحكم اإلسالمي والمجتمع الرسالي‪ ،‬وقد ظهر هذا‬
‫واضحاً في عهد الحكم العلوي‪ ،‬ومن هنا كان قبول اإلمام للحكم بعد أن رفضه‪ ،‬وقد مارس اإلمام دور‬
‫القائد المحنك والحاكم العادل إذ كان اإلنسان النموذجي الذي صاغته الرسالة اإلسالمية فكان أسوة‬
‫مثلى يحتذى بها لبلوغ أهداف الرسالة اإلسالمية وهو المعصوم عن الخطأ والزلل والدنس في الفكر‬
‫والعقيدة والعمل‪c.‬‬
‫‪ .4‬تربية ثلة صالحة من المسلمين تُعين اإلمام في حركته اإلصالحية والتغييرية‪ ،‬وذلك عبر‬
‫تحركها في وسط األمة إلنضاج أفكارها وتوسيع قاعدة الفئة الواعية والصالحة‪ ،‬لتستمر األمة في‬
‫مسيرها التكاملي عبر األجيال‪.‬‬
‫‪ .5‬إحياء سنة رسول اهلل بالحث على تداولها وتدوينها واإلهتمام بالقرآن تالوة وحفظاً وتفسيراً‬
‫وتدويناً‪ c،‬إذ أنهما عماد الشريعة‪ ،‬فالبد أن تتفهم األمة حقائق القرآن الكريم ومفاهيم السنة الشريفة‪.‬‬

‫الخالصة ‪..‬‬
‫‪ ‬لم يحتجّ اإلمام علي (ع) بالنصوص –بعد أن ترك خيار الثورة المسلحة‪-‬ألن االحتجاج بها كان‬
‫يؤدي إلى ضياعها وضياع سنة الرسول (ص) وعدم تأثيرها في الطامعين في السلطة الحريصين‬
‫عليها‪.‬‬
‫‪ ‬ومن هنا آثر اإلمام (ع) أن يوظف قضية مصادرة فدك ويعتمد على ابنة الرسول (ص) لالحتجاج‬
‫وتهيئة األرضية المناسبة للدخول في حوار واحتجاج جديد عسى أن يوقظ المسلمين ويردع الحزب‬
‫المتآمر عن التمادي في طريق الضالل‪.‬‬

‫‪ ‬وأما تخطيط اإلمام (ع) لمواجهة صدمة االنحراف فكان يتلخص في‪:‬‬
‫التخطيط الستالم زمام الحكم ولو بعد فترة يقضي فيها على جملة من عوامل االنحراف من‬ ‫‪.1‬‬
‫خالل التوعية والتثقيف ومواجهة اآلثار السلبية لهذا االنحراف بشكل محسوس‪.‬‬
‫والعمل على تخطيط بعيد المدى يحصن األمة ضد التنازل عن شخصيتها وهويتها ويعطيها‬ ‫‪.2‬‬
‫القدرة على مواجهة التحديات الطارئة‪.‬‬

‫المناقشة‬

‫‪11‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫س‪ :1‬هل كان االحتجاج بالنصوص مفيداً لردع الحزب المتآمر على اإلمام (ع)؟ ولماذا؟‬
‫‪‬‬ ‫س‪ :2‬ما هي األضرار السلبية التي كان يتركها االحتجاج بنصوص اإلمامة لمستقبل خط اإلمامة؟‬
‫س‪ :3‬كيف وظف اإلمام (ع) قضية فدك لالحتجاج على المتآمرين عليه؟‬
‫س‪ :4‬ما هي النتائج التي تركتها مواقف الزهراء (ع) من أبي بكر وعمر واألنصار؟‬
‫س‪ :5‬ما هو التخطيط الذي قام به اإلمام (ع) إليقاظ األمة المسلمة بالنسبة لفداحة االنحراف‬
‫السياسي الذي حصل بعد الرسول (ص)؟‬
‫س‪ :6‬ما هو تخطيط اإلمام (ع) لتحصين األمة ضد االنهيار الكامل؟‬

‫‪12‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫الدرس الثالث‬
‫متطلبات عصر اإلمام علي (ع)‬
‫(‪)3‬‬
‫‪‬‬

‫إنجازات‪ K‬اإلمام علي (ع)‬


‫واصل اإلمام أمير المؤمنين (ع) رسالته في القيمومة على الرسالة واألمة والدولة اإلسالمية‪ .‬ولم‬
‫تكن حصيلة التآمر الذي تم في سقيفة بني ساعدة لتعفيه عن التزاماته الرسالية التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬الحفاظ على العقيدة والشريعة اإلسالمية ومصادرها المتمثلة في الكتاب والسنة‪.‬‬
‫‪ .2‬صيانة الكيان اإلسالمي واألمة اإلسالمية من عوامل الضعف والوهن‪.‬‬
‫‪ .3‬خلق رأي عام حول الخالفة بطريقة سلمية لرفع ما التبس على المسلمين بعد السقيفة والسعي‬
‫إلقامة حكم إسالمي نموذجي‪.‬‬

‫‪ .1‬صيانة الرسالة اإلسالمية‬


‫كان اإلمام (ع) يرى نفسه المسؤول األول عن الرسالة بعد الرسول (ص)‪ .‬فكان أول عملٍ قام به هو‬
‫جمعه للقرآن الكريم‪ ،‬إذ كانت اآليات تنزل حسب الحاجة إلى ذلك‪ ،‬وكان بعض الصحابة يكتبون ما‬
‫ينزل من اآليات من تلقاء أنفسهم أو بأمر الرسول (ص)‪ ،‬ومع انقطاع الوحي بوفاة النبي (ص) وبعد‬
‫وفاته‪ ،‬لم يبقَ سوى القرآن والعترة‪ .‬فصيانة القرآن من الضياع يعني صيانة اإلسالم من عوامل‬
‫التحريف‪ c‬والتخريب‪.‬‬
‫ومن هنا كان على رأس ما قام به اإلمام علي بعد ارتحال النبي (ص) هو جمعه للقرآن فقد عكف ستة‬
‫أشهر في داره مشغوالً بهذه المهمة‪ ،‬وكان يقول لمن يطالبه بالخروج‪ c‬من البيت ومبايعة أبي بكر‪:‬‬
‫(آليت أال أرتدي علي ردائي إال لصالة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه)‪ .‬اإلتقان في علوم القرآن‪/‬ج‬
‫‪.1‬‬

‫و نقل السيوطي عن ابن حجر أنه قال‪ :‬وقد ورد عن علي (ع) أنه جمع القرآن على ترتيب نزوله بعد‬
‫وفاة الرسول‪ ،‬وذكر أيضاً أن محمد بن سيرين‪ c‬كان يقول‪ :‬لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم‪.‬‬
‫والظاهر أن اإلمام لم يكتف بجمع اآليات القرآنية بل أشار إلى عامه وخاصه ومطلقه ومقيده‬
‫ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسنته وآدابه كما أشار أيضاً إلى أسباب‬
‫النزول وأملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن وذكر لكل نوعٍ مثاالً يخصه‪ .‬راجع بحار األنوار‪/‬ج‬
‫‪92‬و‪.93‬‬

‫وبعد أن أكمل جمع القرآن أتى به يحمله على جمل فقال‪ :‬هذا القرآن قد جمعته‪ .‬تأريخ اليعقوبي‪/‬ج‬
‫‪.2‬‬
‫ثم توجه (ع) إلى عمل آخر ال يقل خطورة عن األول وهو جمع ما دونه من أحكام في كتاب واحد‬
‫سمي بالجامعة أو كتاب علي‪.‬‬

‫والجامعة كما عرفتها نصوص أهل البيت (ع) كتاب طوله سبعون ذراعاً من إمالء رسول اهلل (ص)‬
‫وخط علي مكتوب على الجلد المسمى بالرق ويبدو أن إضافة الجلود بعضها إلى البعض اآلخر كونت‬
‫منه جلداً واحداً طوله سبعون ذراعاً وقد احتوت هذه الجامعة على جميع األحكام حتى أرش الخدش‪.‬‬
‫أعيان الشيعة‪/‬ج‪.1‬‬

‫‪13‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وإذا عرفنا أن أئمة أهل البيت كانوا يتوارثون هذا الكتاب ويعتمدونه كمصدر أساسي في األحكام‬
‫الشرعية؛ أدركنا أهمية العمل الذي قام به أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع) في تدوين وجمع‬
‫األحكام الشرعية بإمالء من رسول اهلل (ص) الذي لم ينطق عن الهوى‪ ،‬ولوال هذا العمل الجبار‬
‫الندرست األحكام الشرعية التي تعتبر تفسيراً لما أشار إليه القرآن الكريم‪c.‬‬
‫‪‬‬

‫‪14‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫‪ .2‬صيانة األمة والكيان اإلسالمي‬


‫بعد غياب النبي (ص) أحدقت األخطار شيئاً فشيئاً بالكيان اإلسالمي مما دفعت باإلمام إلى العمل‬
‫باتجاه صيانة األمة والكيان اإلسالمي حتى أصبح منافسوه باألمس يستشيرونه في أمور البالد‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫والسيما عمر بن الخطاب حين أعلن قائالً‪ :‬لوال علي لهلك عمر‪ ،‬وال جعلني اهلل لمعضلةٍ ليس لها أبو‬
‫الحسن فهذه العبارة تدل على مدى ما بلغه اإلمام من اإليجابية في عالقته مع الخليفة على رغم ما‬
‫لديه من تحفظات‪ ،‬كل ذلك من أجل المصلحة العامة وانطالقاً من هذا المبدأ اتخذ اإلمام علي‬
‫سياسة لتحقيق األهداف التالية‪:‬‬
‫صيانة وحدة الصف اإلسالمي‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫إسداء النصيحة وتقديم المشورة للخلفاء‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫الدفاع عن كيان الدولة اإلسالمية‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫المراقبة المستمرة والمحاسبة البناءة‪.‬‬ ‫‪.4‬‬

‫‪ .3‬صيانة وحدة الصف اإلسالمي‬


‫توقف اإلمام علي (ع) عن المطالبة بحقوقه حتى حق زوجته في قطعة األرض التي ورثتها عن أبيها‬
‫وذلك من أجل المحافظة على وحدة الصف‪ ،‬وتغافل عن عروض أبي سفيان عندما جاءه قائالً‪ :‬يا أبا‬
‫الحسن أبسط يدك حتى أبايعك فأبى علي عليه ذلك‪.‬‬
‫إال األذّالن غَـــيرُ الـحيِّ والــوتَدُ‬ ‫ولـن يُــقيم عـــلى خســفٍ يُـــــراد بــــه‬
‫وذا يُـشجُّ فـال يبـكي لــه أحَدُ‬ ‫وهذا على الخسفِ معكوسٌ برُمّتِهِ‬

‫وزجره قائالً له‪ :‬إنك واهلل ما أردت بهذا إال الفتنة‪ .‬الطبري‪/‬ج‪.2‬‬
‫وواصل أبوسفيان استثارته لبني هاشم فكان يمرُّ على البيت الذي فيه علي وجمعٌ من بني هاشم ومن‬
‫صحابته فكان يُردِّد‪ c‬هذه األبيات‪:‬‬
‫والســــيما تـيــــم بــــن مـــرة أو عــــدي‬ ‫بني هاشم ال تُطمعوا الناس فيكم‬
‫ولــــيـس لها إال أبـــو حـســــن‬ ‫فـمـــا األمــر إال فــيـكــم وإلـيـكــمُ‬
‫عـــــــــلي‬
‫فـــــإنك بـــاألمـــر الــذي يُـرتجى معي‬ ‫أبــا حـسـن فـأشـدد بـها كف حازم‬
‫منيع الحمى والناس من غالب قصي‬ ‫وأي امـــرئ يــرمــي قــــصيـاً ورأيـهــا‬
‫فقال له اإلمام علي (ع)‪ :‬إنك تُريد أمراً لسناً من أصحابه‪ ،‬وقد عهد إلي رسول اهلل عهداً فأنا عليه‪.‬‬
‫شرح نهج البالغة‪/‬ج‪.2‬‬
‫وعندما يئس أبوسفيان من علي أدار بوجهه نحو العباس بن عبدالمطلب فقال له‪ :‬يا أبا الفضل أنت‬
‫أحق بميراث ابن أخيك أمدد يدك ألبايعك فال يختلف عليك الناس بعد بيعتي إياك فضحك العباس‬
‫وقال‪ :‬يا أبا سفيان يدفعها علي ويطلبها العباس فرجع أبوسفيان خائباً‪.‬‬
‫وقد وقعت حوادث كثيرة في تلك الفترة كشفت بوضوح عن عظمة الموقف الذي وقفه اإلمام علي‬
‫(ع) حيث آثر المصلحة العامة وجعلها فوق كل شيء‪ .‬فقد هبّ عتبة بن أبي لهب ليشارك بقصائده‬
‫في المعركة السياسية إلى جانب اإلمام علي (ع)‪.‬‬
‫وأخذ يستثير العواطف مُحَرِّضاً المسلمين للدفاع عن حق اإلمام علي (ع)‪.‬‬

‫عن هاشم ثم منها عـن أبي حســن‬ ‫ما كنت أحسب أن األمر منصرفٌ‬
‫ألـيـس أول مـــن صـــلى لــقــبــلـتكم وأعــلـم الــنـاس بــالـقـرآن والـسـنـن‬
‫جبريل عون له في الغسل‪ c‬والكفنِ‬ ‫وأقــرب الـنـاس عــهداً بــالـنـبي ومـن‬

‫‪15‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وليس في القوم ما فيه من الحسن‬ ‫مــا فـيـهم فـــيـهـم ال يــمــتــرون بـــــه‬
‫هــا إن ذا غُـبـنـنا مـن أعــظم الغبنِ‬ ‫مــاذا الـــذي ردّهـــم عــنــه فــنـعلـمــه‬

‫فبعث اإلمام (ع) إلى عتبة بن أبي لهب فنهاه وأمره أال يعود وقال‪ :‬سالمة الدين أحب إلينا من غيره‪.‬‬
‫‪‬‬
‫وعندما انفجرت المعركة اإلعالمية بين األنصار والمهاجرين وكادت أن تنتهي إلى حرب أهلية ال‬
‫يعرف عواقبها إال أصحاب الوعي هنا يسارع اإلمام ويُبادر إلطفاء نار الفتنة وليدافع عن األنصار‬
‫الذين هم القوة الضاربة في الدولة اإلسالمية فجاء إلى المسجد واجتمع حوله جمعٌ كثير من‬
‫قُريش فقال مخاطباً الجمع‪:‬‬

‫يا معشر قريش إن حب األنصار إيمان وبغضهم نفاقٌ وقد قضوا ما عليهم وبقي ما عليكم واذكروا أن‬
‫اهلل رغب لنبيكم عن مكة فنقله إلى المدينة وكره له قريشاً فنقله إلى األنصار ثم قدِمنا عليهم‬
‫دارهم فقاسمونا األموال وكفونا العمل فصرنا منهم بين بذل الغنى وإيثار الفقير ثم حاربنا الناس‬
‫فوقونا بأنفسهم وقد أنزل اهلل تعالى فيهم آية من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نعم فقال‪( :‬الذين‬
‫تبوأوا الدار واإليمان من قبلهم يُحبون من هاجَرَ إليهم وال يجدون في صدورهم حاجةٌ مما أوتوا‬
‫ويؤثرون‪ c‬على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون)‪.‬الحشر‪/‬‬
‫‪ ،9‬أال وإن عمرو بن العاص قد قام مقاماً آذى فيه الميت والحي‪ ،‬ساء به الواتر وسر به الموتور‬
‫فاستحق من المستمع الجواب ومن الغائب المقت وإنه من أحب اهلل ورسوله أحب األنصار فليكفف‬
‫عمرو عنا نفسه‪ .‬شرح نهج البالغة‪/‬ج‪.6‬‬

‫واعتبر اإلمام الهجوم على األنصار بمثابة الهجوم على الرسالة وبالتالي فهو أمر يعنيه وكأنه هو‬
‫المقصود بهذا الهجوم‪ .‬وكان لكلمة اإلمام هذه أثر كبير في األوساط حيث انتشر صداها بين‬
‫المسلمين وسارع البعض إلى عمرو بن العاص ليقول له‪:‬‬

‫أيها الرجل أما إذا غضب علي فاكفف‪ ،‬فاضطر عمرو بن العاص على أثر رد اإلمام على محاولته‬
‫اليائسة في تفجير الصراع بين المهاجرين واألنصار‪ ،‬إلى ترك المدينة فخرج عنها حتى رضي عنه‬
‫علي والمهاجرون‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬كان علي بن أبي طالب العين الحارسة والحريصة على وحدة المسلمين ‪ ...‬فعلي (ع) يدرك‬
‫أهمية الوحدة وأنها كانت رمز قوة المسلمين وانتصارهم‪ .‬فإذا انفرط هذا الصف الذي كان متماسكاً‬
‫على عهد النبي (ص) انكسر المسلمون سيما أن األعداء قد ازدادوا واتسعت دائرة المواجهة هذه المرة‬
‫لتشمل المرتدين المنحرفين‪ c‬عن الدين وكلهم عيونٌ مفتوحة بحثاً عن أية ثغرة تنفعهم‬
‫فيستغلونها‪.‬‬

‫ومرة أخرى يأتي اإلمام ليدافع عن األنصار المستهدفين في المؤامرة ‪ ...‬وقف في المسجد وخطب‬
‫قائالً‪:‬‬
‫يا معشر قُريش!‪ c‬إن اهلل جعل األنصار أنصاراً فأثنى عليهم في الكتاب فال خير فيكم بعدهم إنه اليزال‬
‫سفيه من سفهاء قُريش‪ c‬وَتَرَهُ اإلسالم دفعه عن الحق وأطفأ شرفه وفضل غيره عليه يقوم مقاماً‬
‫فاحشاً فيذكر األنصار فاتقوا اهلل وارعوا حقهم فواهلل لو زالوا لزلتُ معهم ألن رسول اهلل قال لهم‪:‬‬
‫أزول معكم حيثما زُلتم فقال المسلمون جميعاً‪ :‬رحمك اهلل يا أبا الحسن قُلت قوالً صادقاً‪ .‬شرح‬
‫نهج البالغة‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وظل اإلمام يذود‪ c‬عن األنصار في كل موقع وموقف فقد اعتبر أي هجوم يُشن على األنصار كأنه‬
‫هجوم موجه إلى اإلسالم ألنهم يشكلون القوة البشرية واالقتصادية والقدرة العسكرية في الكيان‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫لقد تمكن اإلمام (ع) أن يحقق من خالل مواجهته لهذه الفتنة ما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬أوجد رأياً عاماً معادياً للتمزق والفرقة‪.‬‬
‫‪ .2‬أعاد االعتبار لألنصار بشكل يحقق التوازن السياسي في المجتمع اإلسالمي بينهم وبين‬
‫المهاجرين‪.‬‬
‫‪ .3‬فضح النوايا الشريرة‪ c‬التي كان يُبيتها مثيروا الفتن والمشاكل‪.‬‬
‫‪ .4‬وكان باستطاعة اإلمام أن يستغل هذه األجواء ويُثيرها‪ c‬حرباً شعواء ضد الخليفة ومن يقف‬
‫إلى جانبه من أصحاب الزعامات القرشية لكنه (ع) لم يفعل ذلك حفاظاً على وحدة المسلمين‬
‫وكيان اإلسالم‪ .‬فلم يكن يُريد أن يتصيد في الماء العكر لو كان في المطالبة بحق ثابت ومشروع‪c‬‬
‫وهذه منقبة أخرى من مناقب اإلمام في عمله السياسي في عهد الخليفة األول‪c.‬‬
‫‪ .4‬إسداء النصيحة والمشورة للخلفاء‪K‬‬
‫وقف اإلمام علي بروحٍ مغمورة باإليجابية إزاء الخلفاء بالرغم من ابتزازهم لحقه‪ .‬وقد أوصلت هذه‬
‫الروح العظيمة اإلمام علي (ع) إلى قلوب الخلفاء حتى كان عمر بن الخطاب يقول‪ :‬يا أبا الحسن ال‬
‫أبقاني اهلل لشدة لست لها‪ ،‬وال لبلية لست فيها‪.‬‬

‫أما الموارد التي شاور فيها الخلفاء علياً (ع) فهي كثيرة منها‪:‬‬
‫‪ .1‬في خالفة أبي بكر حين أراد المسلمون غزو الروم فشاور أبوبكر جماعة من أصحاب الرسول‬
‫(ص) فرفض بعضهم الفكرة ثم إنه شاور علي بن أبي طالب فأشار إليه بأن يفعل وأخبره بنتيجة‬
‫المعركة قائالً‪:‬‬
‫إن فعلت ظفرت‪ .‬فقال أبوبكر‪ :‬بشرت بخير ‪ ...‬فاطمأن الخليفة من تحقق النصر للمسلمين من‬
‫كالم أمير المؤمنين فقام في الناس خطيباً وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم‪ .‬تأريخ اليعقوبي‪/‬ج‪.2‬‬

‫‪ .2‬عندما أراد عمر بن الخطاب غزو الفرس جمع قادة الجيش مع كبار الصحابة الذين كانوا يمثلون‬
‫مجلساً عسكرياً مهمته إسداء المشورة في األمور الحربية وكان من رأي عمر أن يتجهز ويذهب‬
‫بجيشٍ من المسلمين ويستقر بين الكوفة والشام ومن هناك تبدأ عملياته الحربية ضد الفرس‪.‬‬
‫فقام كل واحد من القادة العسكريين وأعطى رأيه وجلس ثم قام عثمان وطلب من عمر أن يكتب إلى‬
‫أهل الشام فيسيروا‪ c‬من شامهم وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ثم يسير‪ c‬عمر بجيش من أهل‬
‫الحرمين إلى الكوفة والبصرة‪.‬‬
‫وجاء الدور إلى اإلمام علي فلم يُحبذ خروج أهل الشام ألنهم محاطون باألعداء وهم الروم وليس من‬
‫السليم أيضاً خروج أهل اليمن ألنهم محاطون بأعداء كامنين لهم في بالد الحبشة‪ .‬ولم يحبذ خروج‬
‫أهل الحرمين إلى الحرب ألن العرب القابعين في األطراف يستغلون غياب القوة العسكرية فيفعلون ما‬
‫يريدون‪.‬‬

‫وكان مقترح اإلمام أن يستقر أهل األمصار في أماكن سكناهم ويُكتب إلى أهل البصرة فينقسموا إلى‬
‫ثالث فرق‪ ،‬فرقة في حُرمهم وذراريهم‪ ،‬وفرقة في أهل عهدهم حتى ال ينتفضوا ثم تسير فرقة إلى‬
‫إخوانهم بالكوفة مَدَداً لهم فقال عمر هذا هو الرأي‪ .‬الكامل في التاريخ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪ .3‬أراد الخليفة عمر أن يضع تأريخاً للمسلمين‪ c،‬فكان من رأيه أن يُكتب من والدة رسول اهلل ثم قال‬
‫من المبعث فشاور اإلمام علياً (ع)‪ ،‬فكان رأيه أن تكون بداية السنة من هجرة النبي محمد (ص) وقد‬
‫أورد ابن األثير أن كتابة التأريخ جاءت بمشورة من علي بن أبي طالب‪ .‬تأريخ اليعقوبي‪/‬ج‪.2‬‬
‫‪ .4‬شاور الخليفة عمر بن الخطاب أصحاب رسول اهلل في سواد الكوفة‪ ،‬فقال له بعضهم‪ :‬نقسمها بيننا‬
‫‪‬‬ ‫فشاور علياً فقال‪:‬‬
‫إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء ولكن تقرها في أيديهم يعملونها‪ .‬فتكون لنا ولمن‬
‫بعدنا‪ ،‬فقال‪ :‬وفقك اهلل هذا الرأي‪ .‬تاريخ اليعقوبي‪/‬ج‪.2‬‬

‫وبهذا الرأي وضع اإلمام للخليفة عمر معالم السياسة االقتصادية للدولة اإلسالمية‪ .‬فهذه السياسة‬
‫تقوم على ثالثة مبادئ‪:‬‬
‫األول‪ :‬إلغاء ملكية األرض الصالحة للزراعة التي تم االستيالء عليها‪.‬‬
‫فأرض السواد كانت أرضاً زراعية تُضيف للثروة االقتصادية موارد جديدة بشرط أن ال تُستملك‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تعزيز السياسة اإلنتاجية بوضع هذه األراضي الصالحة للزراعة في أيدي من يستطيع‬
‫استثمارها‪ .‬فهي في حوزته بشرط االستثمار‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬وضع خطة إنتاجية بعيدة المدى تستطيع أن توفر السعادة والرخاء لألجيال القادمة خالفاً‬
‫القتراح بعض الصحابة بتقسيم أرض السواد‪.‬‬

‫‪ .5‬بعد أن تم توزيع الغنائم التي غنمها المسلمون من معركة القادسية بقي بساط كبير طوله ستون‬
‫ذراعاً وعرضهُ ستون ذراعاً كانت أكاسرة الفُرس تستخدمه في الشتاء حيث يتخيلون أنهم في‬
‫أحدى الرياض‪ ،‬إذ أُقيم فوق البساط تماثيل للحيوانات والنباتات وشق فوقه األنهار من فصوص‬
‫كالدرر‪ ،‬وكانت العرب تُسميه القطيف‪ ،‬فطلب عُمر رأي الصحابة بهذا القطيف فمنهم من رأى‬
‫تفويض األمر إلى الخليفة ليرى رأيه‪ ،‬ومنهم من كان رأيه أن يكون ملكاً للخليفة ‪...‬‬

‫أما علي (ع) فقال‪ :‬لم يجعل اهلل علمك جهالً ويقينك شكاً‪ ،‬إنه ليس لك من الدنيا إال ما أعطيت‬
‫فأمضيت أو لبست فأبليت أو أقلت فأفنيت وإنك إن تُبقه على هذا اليوم لم تعدم في غدٍ من يستحق‬
‫به ما ليس له‪.‬‬
‫فقال الخليفة عمر‪ :‬صدقتني ونصحتني فقطّعهُ بينهم‪ .‬الكامل في التاريخ‪/‬ج‪.2‬‬

‫‪ .6‬واشتهر أن امرأة قد زنت وشهد عليها أربعة شهداء عدول فأجمعوا على رجمها فلما ذهبوا‬
‫ليرجموها‪ ،‬مر بهم اإلمام علي (ع) فقال‪:‬‬
‫ما شأن هذه؟! قالوا‪ :‬مجنونة بني (فالن) زنت فأُمِر بها أن تُرجم‪.‬‬
‫فانتزعها علي (ع) من أيديهم وردها إلى مأمنها فجاؤوا إلى عمر فاستغرب من عودتهم فقال ما‬
‫ردكم قالوا‪ :‬ردنا علي‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬ما فعل أبو الحسن هذا إال لشيء قد علمه فجاء اإلمام علي فسأله الخليفة ما بالك قد‬
‫رددت هؤالء فقال (ع)‪:‬‬
‫أما سمعت قول رسول اهلل (ص)‪ ،‬رفع القلم عن ثالث‪ :‬عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى‬
‫يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل فما بال هذه تُرجم؟‬
‫حينذاك جعل عمر يُكبر ويقول‪ :‬لوال علي لهلك عُمر‪.‬‬

‫‪ .7‬ودخل على عثمان وقال له‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫فاهلل اهلل في نفسك فإنك واهلل ما تُبصَّرُ من عمى وال تُعلَّم من جهالة وأن الطريق لواضح بينٌ‬
‫وأن أعالم الدين لقائمة فاعلم أن أفضل عباد اهلل عند اهلل إمام عادل هُدى‪ ،‬فأقام سنة معلومة‪ ،‬وأمات‬
‫بدعة متروكة‪ ،‬فواهلل إن كال لبيّن وإن السنن كثيرةٌ لها أعالمٌ‪ ،‬وإن البدع لقائمة لها أعالم‪ ،‬وإن‬
‫شر الناس عند اهلل إمام جائر ضل وأضلَّ‪ c،‬فأمات سنة وأحيا بدعة متروكة‪ ،‬وإني أحذرك اهلل سطواته‬
‫‪‬‬ ‫ونقماته فإن عذابه شديد أليم وأحذرك أن تكون إمام هذه األمة‪ ،‬الذي يُقتل فيفتح عليها القتل‬
‫والقتال إلى يوم القيامة ويلبس أمورها عليها ويتركها شيعاً ال يبصرون الحق لعلو الباطل يموجون‬
‫فيها موجاً ويمرجون فيها مرجاً‪.‬‬

‫فقال الخليفة عثمان‪ :‬قد علمت واهلل ليقولن الذي قُلت‪ .‬الكامل في التاريخ‪/‬ج‪.3‬‬
‫ولو عمل الخليفة عثمان بنصيحة اإلمام لما جرى عليه الذي جرى‪ ،‬ولما تألبت عليه األمصار ولما لقي‬
‫ذلك المصير الدامي الذي حذره اإلمام من وقوعه‪.‬‬

‫كان اإلمام ال يُفتي بشيء إال عن اطالعٍ عميق وبعد في النظر‪ ،‬وكان الخلفاء ينظرون إليه كأفضل‬
‫مشاور لهم‪.‬‬
‫لم يجد الخلفاء أفضل من علي في المشورة فهو الذي جرّب الناس وعرف مداخل األمور ومخارجها‬
‫فوجوده إلى جوار رسول اهلل خالل ثالثة وعشرين‪ c‬عاماً من تبليغ الرسالة منحته الخبرة واالطالع‬
‫الواسع في إدارة الدولة والمجتمع‪ ،‬وكان وجوده بالقرب من مركز القرار واستعداده الدائم إلسداء‬
‫النصح ثروة ال تعوض بأي ثمن‪ ،‬كما وأن اإلمام ‪ -‬ومن فرط حِرصِه على سالمة الكيان اإلسالمي‪-‬لم‬
‫يدخر رأياً أو فكرة إال وقدمها للخلفاء عندما وجد عندهم االستعداد الكافي لسماع آرائه والعمل بها‪.‬‬

‫إن عشر مراجعات للخليفة األول إلى اإلمام علي (ع) وتسعين مراجعة للخليفة الثاني وعشر مراجعات‬
‫للخليفة الثالث‪ ،‬إليه بالرغم من أن اإلمام (ع) لم يتول منصب القضاء رسمياً في عهد الخلفاء تفيدنا‬
‫الحقائق التالية‪:‬‬
‫إن اإلمام (ع) كان يساهم في حفظ عناصر قوة الكيان اإلسالمي‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫كما أنه كان ال يأنف من تقديم الخدمات الممكنة للدولة اإلسالمية بالرغم من إبعاده عن‬ ‫‪.2‬‬
‫منصب القيادة والخالفة‪.‬‬
‫وتشير هذه الحوادث وسواها إلى شدة مراقبة اإلمام (ع) لألوضاع القائمة والحوادث الجارية‬ ‫‪.3‬‬
‫في الدولة اإلسالمية حتى أنه كان يؤكد لهم أنه األمين على الرسالة والكيان واألمة اإلسالمية‪.‬‬

‫ومن هنا فإننا بالرغم من االعتراف بوجود دور للخلفاء في صياغة مجموعة من أحداث التأريخ‪ ،‬ولكن‬
‫الموجه غير المباشر لمجريات األمور باتجاه صيانة األمة والرسالة والكيان اإلسالمي من تزايد‬
‫االنحراف واشتداده كان هو اإلمام علي بن أبي طالب عليه السالم بالرغم من أن كثيراً من منافسي‬
‫اإلمام (ع) كانوا ال يريدون‪ c‬أن يكون له أي دور في الحياة اإلسالمية‪.‬‬
‫وسوف نالحظ أن اإلمام (ع) كيف استطاع أن يؤجل المطالبة بالحكم إلى ظرفٍ مالئم بعد أن خلق‬
‫رأياً عاماً حول جدارته للحكم مما أدى إلى انثيال الناس عليه بعد مقتل عثمان واإلصرار على‬
‫المبايعة معه على استالم زمام الخالفة وإعادة األمور إلى نصابها من جديد‪.‬‬

‫الخالصة ‪..‬‬
‫‪ ‬إن أهم إنجازات اإلمام (ع) بعد االنحراف السياسي الحاصل عقيب وفاة الرسول (ص) وإبعاده عن‬
‫مركز القيادة تتلخص فيما يلي‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫صيانة الشريعة اإلسالمية ومصادرها من أيدي العابثين‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫صيانة الكيان اإلسالمي من التصدع واالنهيار‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫صيانة األمة اإلسالمية بتحصينها ضد التحديات المقبلة‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫السعي إلقامة حكم إسالمي مشروع وسليم من التناقضات واالنحرافات‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫‪‬‬
‫وكانت لإلمام (ع) مراقبة مستمرة للجهاز الحاكم وتدخالت إيجابية للحد من االنحراف‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ولم يترك اإلمام (ع) إسداء النصح للخلفاء إذا تطلبت المصلحة اإلسالمية ذلك‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫المناقشة‬

‫ما هي إنجازات اإلمام (ع) لصيانة الشريعة ومصادرها خالل عهد الخلفاء؟‬ ‫س‪:1‬‬
‫ما هي الخطوات التي قام بها اإلمام (ع) لصيانة األمة اإلسالمية من الضياع؟‬ ‫س‪:2‬‬
‫ما هي أهم إنجازات اإلمام (ع) في مجال صيانة الكيان اإلسالمي من التفكك؟‬ ‫س‪:3‬‬
‫ما هي أهم موارد إسداء النصح للخلفاء؟‬ ‫س‪:4‬‬
‫ما هو دور اإلمام (ع) للمحافظة على وحدة الصف بين المهاجرين واألنصار؟‬ ‫س‪:5‬‬
‫ما هي األعمال اإليجابية التي قام بها اإلمام (ع) خالل عهد الخلفاء؟‬ ‫س‪:6‬‬
‫لماذا كان اإلمام يراقب األوضاع السياسية واالجتماعية والدينية باستمرار؟‬ ‫س‪:7‬‬
‫هل استطاع اإلمام (ع) أن يخلق رأياً عاماً حول خالفته هو (ع)؟ وكيف؟‬ ‫س‪:8‬‬

‫‪20‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫الدرس الرابع‬
‫مالمح عصر اإلمام الحسن (ع)‬
‫‪‬‬

‫ظروف الصلح البعيدة والقريبة‬


‫البد في قضية صلح اإلمام الحسن (ع) مع معاوية من اإلحاطة بهذا الحدث ومالبساته‪ ،‬والنظر إليه من‬
‫جميع زواياه والتنقل بين الرأي والرأي اآلخر‪ ،‬لكي تكون الصورة واضحة في معرفة المبررات‬
‫الموضوعية للصلح‪ ،‬وأثرها في خدمة الرسالة اإللهية التي شكلت الهدف األساسي من قبول اإلمام (ع)‬
‫بذلك الصلح المفروض عليه‪.‬‬

‫ظروف الحكم األموي‬


‫إن صلح اإلمام (ع) لم يكن منفصالً عن ظروفه وأسبابه البعيدة التي شكلت صراعاً داخل الجسد‬
‫اإلسالمي الواحد‪ ،‬حيث استطاع الطلقاء أن يجدوا لهم موقعاً ومركزاً حساساً في داخل الكيان‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فقد كان معاوية والياً على الشام في عهد الخلفاء وكانت له صالحيات مطلقة‪ ،‬حتى كان‬
‫عمر بن الخطاب يحاسب جميع والته غير معاوية حيث كان يقول له‪( :‬ال آمرك وال أنهاك)‪.‬‬
‫االستيعاب‪/‬ج‪ .3‬وكان يمدحه كثيراً‪ ،‬وينهى عن ذمّه ويقول‪ :‬دعونا من ذمّ فتى قريش‪ .‬مختصر‬
‫تأريخ دمشق‪/‬ج‪.25‬‬
‫كما حذر أهل الشورى من الفرقة وقال‪ :‬إياكم والفرقة بعدي فإن فعلتم‪ ،‬فاعلموا أن معاوية بالشام‪،‬‬
‫فإذا وكلتم إلى رأيكم عرف كيف يستبزها منكم‪ .‬اإلصابة‪/‬ج‪.6‬‬
‫وكان يقول أيضاً‪ :‬هذا كسرى العرب‪ .‬تأريخ الخلفاء للسيوطي‪/‬ص‪.155‬‬
‫فاستقل معاوية بالشام استقالالً حقيقياً نظراً لصالحياته المطلقة وعدم تدخل الحكام في شؤونه‪،‬‬
‫وتوسعت واليته بعد أن ضم عثمان له الشام كلها‪ .‬تأريخ الخلفاء‪/‬ص‪.156‬‬

‫فاستطاع أن يكون جيشاً مطيعاً مستسلماً‪ ،‬عن طريق الخداع والتضليل وشراء الضمائر بأموال‬
‫المسلمين‪ ،‬وكان يوجهه توجيهاً خاصاً عن طريق الوعّاظ والرواة المتملقين‪ ،‬وكان معزوالً عن‬
‫بقية األمصار‪ ،‬فال يعرف غير معاوية وبيت أبي سفيان‪ ،‬وال يعرف من اإلسالم إال ما يوجهه به معاوية‪،‬‬
‫من حيث تأريخ اإلسالم‪ ،‬وتأريخ رجاله‪ ،‬فكان الناس يفهمون أن معاوية خال المؤمنين‪ c،‬وموضع ثقة‬
‫الخلفاء السابقين‪ ،‬وابن عم الخليفة عثمان‪ ،‬إضافة إلى ما نسبه وعّاظ السالطين إليه من فضائل بعد‬
‫غياب الوعي وعدم االختالط ببقية األمصار‪.‬‬
‫وتربص معاوية بعثمان حتى قتل‪ ،‬فلم ينصره في حياته‪ ،‬وإنما استغل مقتله للتمرد على خالفة علي‬
‫أمير المؤمنين (ع)‪ ،‬ومن ثم اإلستقالل الكامل بالشام بعد حرب صفين‪.‬‬
‫فكان أهل الشام مستسلمين له وحده‪ ،‬ومنقادين لقيادة واحدة‪ ،‬وليس له في الشام من ينافسه على‬
‫الحكم واإلمرة‪.‬‬
‫ومما ساعد على تقوية كيان األمويين هو عدم تأمير أحد من بني هاشم في عهد أبي بكر وعمر‬
‫وعثمان‪ .‬النزاع والتخاصم‪/‬ص‪.84‬‬

‫‪21‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫شخصية معاوية‬
‫أسلم معاوية بعد فتح مكة بعد أن اشترك في مواجهات مسلحة مع رسول اهلل (ص) طيلة العهد المكي‬
‫والمدني‪ ،‬لذا لم يكن إسالمه انقياداً حقيقياً هلل ولرسوله‪ ،‬ولم يتفاعل مع مفاهيم اإلسالم وقيمه‬
‫فكرياً وعاطفياً وسلوكياً‪ ،‬مع كل هذا التأريخ القاتم فقد مارس شتى األسالييب غير المشروعة‬
‫‪‬‬ ‫لتثبيت حكمه وتقوية كيانه‪ ،‬كحاكم مسلم وكان منها‪:‬‬
‫تزوير األحاديث المتضمنة بيان فضله وفضل أهل الشام‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫اختالق األحاديث التي تشوه سمعة اإلمام علي أمير المؤمنين (ع) وأهل البيت (ع)‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫انفاق األموال في شراء الضمائر‪ ،‬وتوسيع القاعدة الشعبية له‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫استغالل المفاهيم العامة للتمويه على األمة‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫حكمه برأيه دون الرجوع إلى الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫‪.5‬‬

‫واستطاع من خالل هذه التصرفات أن يجعل نفسه شخصية مقدسة في نفوس اهل الشام‪ ،‬وقد تمرن‬
‫على المناورة السياسية لعدم تقيده بالشريعة‪ c،‬وكان مستعداً للدخول في أي معركة متوقعة أو‬
‫مفاجأة‪ ،‬ألن أوامره نافذة في جيشه‪ ،‬فال يوجد له منافس في أهل الشام‪ ،‬ليقوم بتثبيط الناس أو صرف‬
‫والئهم عنه‪.‬‬

‫ظروف الحكم العلوي‬


‫عاد الحق إلى أهله بعد ربع قرن من رحيل رسول اهلل (ص)‪ ،‬إذ تولى اإلمام علي (ع) الخالفة بعد فتنة‬
‫تصارعت فيها األهواء واصطدمت فيها المصالح‪ ،‬وانتشر المنافقون والمتربصون بأهل البيت (ع) في‬
‫جميع الميادين االجتماعية والسياسية‪ c،‬وكانوا يتحينون‪ c‬الفرص إلعادة الجاهلية من جديد إلى واقع‬
‫األمة‪ ،‬لذا انخرطوا تحت جميع الرايات والشعارات التي رفعت في مواجهة حكومة أمير المؤمنين (ع)‪،‬‬
‫بعد أن أيقنوا أن الخالفة عادت إلى أصحابها الذين ال تأخذهم في اهلل لومة الئم في تطبيق العدالة‬
‫اإلسالمية والمساواة بين الطبقات وإعطاء كل ذي حق حقه‪ ،‬وتوزيع المناصب واألكفاء‪.‬‬

‫وفي بداية خالفته (ع) تمرد ثالثة ممن اشتهر بالصحبة مع رسول اهلل (ص) وهم عائشة وطلحة‬
‫والزبير‪ ،‬ولم ينته تمردهم إال بمقتل جماعة من الطرفين‪ ،‬إضافة إلى عدد كبير من الجرحى‬
‫والمعوقين‪.‬‬
‫واستثمر معاوية ظروف حرب الجمل وظروف مقتل عثمان‪ ،‬فحارب أمير المؤمنين (ع) وانتهت‬
‫المعركة بمجموعة كبيرة من القتلى‪ ،‬من ضمنهم كبار الشخصيات الموالية ألهل البيت (ع)‪.‬‬
‫وأفرزت المعركة ظاهرة االنشقاق في جيش أمير المؤمنين (ع) حيث تمردت عليه جماعة عرفت‬
‫فيما بعد بالخوارج وقاموا بخلق البلبلة واالضطراب في داخل قوات اإلمام (ع)‪.‬‬

‫وكان معاوية يشن الغارات المتوالية على أطراف دولته (ع)‪ ،‬ويقوم بقتل كل موالٍ له واالستيالء‬
‫على ممتلكاته‪.‬‬
‫ولم تسمح الظروف ألمير المؤمنين (ع) كي يبني دولته وجيشه بناءً عقائدياً وسلوكياً‪.‬‬
‫وكان أغلب المكيين وأهل البصرة ال يدينون بالوالء له‪.‬‬

‫وإضافة إلى كل ذلك أن المنخرطين في جيشه لم ينخرطوا والءً له‪ ،‬وإنما تابعوه ألنه على رأس‬
‫دولة‪ ،‬فهم تبع ألي حاكم؛ ال يفرقون بين أمير المؤمنين (ع) وبين غيره من الحكام‪ ،‬وقد يكون‬
‫أقصى تقييمهم أنه (ع) أفضل من معاوية فقط‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫ولم تستمر خالفته سوى أربع سنين حتى اغتالته أيدي المتآمرين‪ ،‬للحيلولة دون أن يقوم بإكمال‬
‫المسيرة التي تحتاج إلى زمن طويل في بناء دولة وكيان‪ ،‬وتأسيس جيش عقائدي متماسك‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫ظروف وأوضاع جيش اإلمام الحسن (ع)‬


‫لم يكن جيش اإلمام الحسن (ع) موحداً في أفكاره وعواطفه‪ ،‬ووالئه‪ ،‬بل كان خليطاً من والءات‬
‫متعددة‪ ،‬وآراء مختلفة‪ ،‬وقد عبر اإلمام الحسن (ع) عنه قائالً‪ :‬رأيت أهل الكوفة قوماً ال يثق بهم‬
‫أحدٌ أبداً إال غُلب‪ ،‬ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي وال هوى‪ ،‬مختلفين‪ ،‬ال نية لهم في خير وال‬
‫شر‪ .‬الكامل في التأريخ‪/‬ج‪.3‬‬
‫فقد بين (ع) تعدد اآلراء واألهواء واالتجاهات والنوايا‪ ،‬وهي كافية لخلق البلبلة واالضطراب وعدم‬
‫الوصول إلى وحدة في التخطيط والتنسيق والتنفيذ‪.‬‬
‫فمنهم أهل الطمع وعددهم عشرون ألفاً‪ ،‬ومنهم أتباع كل ناعق‪ ،‬ومنهم الخوارج ومنهم من يوالي‬
‫األمويين كعمر بن سعد وغيره‪ ،‬ومنهم الذين يقاتلون طلباً للثأر ال عن عقيدة وإدراك لألحداث‪ ،‬وهم‬
‫مزيج من عرب مكة والمدينة واليمن إضافة إلى عدد كبير من الموالي ‪-‬غير العرب‪-‬التابعين‬
‫ألسيادهم وللقبائل التي تحالفوا معها‪ .‬ومنهم من كان يرى أن الصراع قائم بين قبيلتين من قريش؛‪c‬‬
‫بين بني أمية وبني هاشم‪ ،‬أو بين شخصيتين‪ :‬معاوية والحسن (ع)‪ ،‬فال يكترثون بمن يقودهم‪ ،‬وال‬
‫يفرقون بين باطل معاوية وحق اإلمام الحسن (ع)‪.‬‬

‫وقد لعبت األهواء والشهوات والمنافع الذاتية دوراً كبيراً في تبدل النوايا عما كانت عليه من قبل‪،‬‬
‫وقد وصف اإلمام الحسن (ع) هذه الظاهر قائالً‪( :‬كنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام‬
‫دنياكم‪ ،‬وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم)‪ c.‬الكامل في التأريخ‪/‬ج‪.3‬‬
‫فحينما يصبح أمر الدنيا مقدماً على أمر الدين وحاكماً عليه؛ فإنه يغير من معادلة الصراع ومعادلة‬
‫الموقف‪ ،‬ويصبح المقاتل تبعاً لمصالحه الذاتية التي تغير من والئه ومواقفه العملية‪.‬‬

‫فلم تبق إال القلة المخلصة في والئها لإلمام الحسن (ع) ولنهجه السليم كحجر بن عدي وقيس بن‬
‫سعد وآخرين‪ ،‬حيث إن معركة صفين قد أدت إلى فقدان الكثير منهم‪ ،‬إضافة إلى قيام معاوية بقتل‬
‫اآلخرين منهم كمحمد بن أبي بكر ومالك األشتر‪.‬‬

‫وأفرز تعدد الوالءات وتعدد اآلراء إضافة إلى تقديم الدنيا على الدين الظواهر السلبية التالية‪:‬‬
‫عدم اإلخالص في القتال‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫ضعف القدرة على الثبات والصمود إلى آخر المعركة‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫عدم االنقياد للقيادة الصالحة والتعاطف مع معاوية‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫االستعداد الفعلي للغدر والخيانة‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫التأثر باإلشاعات والحرب النفسية‪.‬‬ ‫‪.5‬‬

‫وقد تحقق ذلك بالفعل بااللتحاق بجيش معاوية‪ ،‬واالستعداد لتسليم اإلمام (ع) إليه‪ ،‬إضافة إلى‬
‫محاوالت اغتياله (ع)‪.‬‬

‫شخصية اإلمام الحسن (ع)‬


‫وجد اإلمام الحسن (ع) نفسه أمام مرحلة طويلة من اإلعداد‪ ،‬وإصالح وترميم كثيرٍ من المواقع‬
‫السياسية والعسكرية‪ c،‬وحتى االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬وهو يرى أنه يقود جيشاً منهاراً عسكرياً‬
‫ومعنوياً‪ ،‬ال يمكن جعله منقاداً إال باستخدام وسائل وأساليب كالتي يستخدمها معاوية‪ ،‬وهو (ع) غير‬

‫‪23‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫مستعد الستخدام تلك الوسائل واألساليب غير المشروعة كالخداع والتضليل وشراء الضمائر‬
‫بأموال المسلمين وإنفاقها على جماعة خاصة كرؤساء القبائل وقادة الجيش‪ ،‬فاإلمام (ع) مقيد بقيود‬
‫شرعية حاكمة على جميع ممارساته ومواقفه‪ .‬وليس‪ c‬هدفه البقاء في السلطة اآلنية‪ ،‬وإنما هو جزء‬
‫من حركة إصالحية تنظر إلى الحاضر من زاوية المستقبل‪ ،‬لكي تبقى المفاهيم والقيم اإلسالمية هي‬
‫‪‬‬ ‫الحاكمة على أفكار المسلمين وعواطفهم وممارساتهم العملية على طول الحركة التأريخية لهم‪.‬‬

‫وكان (ع) حريصاً على المصلحة اإلسالمية الكبرى‪ ،‬ومصلحة الجماعة الصالحة‪ ،‬وهي المصالح‬
‫الحاكمة على جميع مواقفه‪ ،‬فقد وجد (ع) أنه ال يستطيع ‪-‬حسب الظروف القائمة‪-‬أن يحسم الموقف‬
‫لصالح الوجود اإلسالمي‪ ،‬وال يستطيع القضاء على رأس الفتنة التي كان يقودها معاوية‪ ،‬فأصبح أمام‬
‫خيارين هما‪ :‬االستمرار في معركة خاسرة تؤدي إلى إضعاف الكيان اإلسالمي ككل أمام التحديات‬
‫الخارجية أو الميل إلى الصلح وحقن الدماء‪ ،‬والمحافظة على الوجود اإلسالمي ثم ممارسة اإلصالح‬
‫من الداخل‪.‬‬
‫وفي غير ذلك فالمعركة إما أن تؤدي إلى استيالء معاوية على الحكم دون قيد أو شرط بعد مقتل‬
‫اإلمام الحسن (ع) وأهل بيته (ع) والخيرة من أصحابه‪ ،‬وإما أن تؤدي إلى قيام دولتين إحداهما في‬
‫الكوفة وأخرى في الشام وتبقى كل واحدة منهما في حالة صراع دائم‪ ،‬وتنشغل عن مواجهة األعداء‬
‫الخارجيين‪ ،‬وبالتالي إلى إنهاء الوجود والكيان اإلسالمي الذي جاهد الرسول (ص) وخيرة صحابته‬
‫وأهل بيته من أجل بنائه‪.‬‬
‫فاختار (ع) الصلح على االستمرار في المعركة‪ ،‬مقيداً بشروط فيها مصلحة الكيان اإلسالمي وكيان‬
‫الجماعة الصالحة التي تضمن للشريعة بقاءها واستمرار حياتها‪.‬‬

‫الخالصة ‪..‬‬
‫‪ o‬لكي تكون صورة صلح اإلمام الحسن (ع) واضحة في األذهان‪ ،‬البد من اإلحاطة بظروف الحدث‬
‫الذي دخل مرحلة التنفيذ على الرغم من اعتراض مجموعة من المسلمين عليه‪ .‬فقد كان الصلح‬
‫نتيجة تصرف معاوية المعتدي ومن يحيطون‪ c‬به‪ ،‬إذ وجدوا في هذا الصلح مبرّراً الستقرار الحكم‬
‫األموي في البالد اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ o‬ومن خالل سياسة الخداع التي مارسها معاوية استطاع أن يكون جيشاً مطيعاً له عن طريق شراء‬
‫الضمائر الميتة التي ال تعي موقفاً وال يملك أصحابها إرادة وال صنع قرارٍ‪ .‬وقد أدى الوعاظ‬
‫والرواة المتملقون السائرون في ركاب السياسة األموية دوراً خطيراً في تثبيت دعائم هذا‬
‫النظام‪ ،‬األمر الذي استطاع من خالله معاوية أن يستبد في السلطة وأن يسلط سيف جوره‬
‫واستبداده على رقاب األمة‪ .‬فكان الوعاظ يروجون أن معاوية خال المؤمنين‪ ،‬وموضع ثقة الخلفاء‬
‫السابقين‪ ،‬وابن عم الخليفة عثمان وأنه كان كاتب وحي رسول اهلل (ص)‪.‬‬
‫‪ o‬ولم تكن عودة الحكم إلى أهله فترة حكم اإلمام علي (ع) كافية‪ ،‬لألمة التي أغرتها السياسة‬
‫األموية بأالعيبها الخبيثة لمعرفة األمة دينها‪ .‬فما برحت حتى فاجأها القدر باستشهاد اإلمام علي‬
‫(ع)‪ ،‬واضطراب األمور بعد ذلك‪ .‬فقد غابت شرعية الخالفة عن الساحة‪،‬وحجبت القيادة الحقة‬
‫عن النور‪،‬وكان المنافقون يساندون الحكم األموي لتحقيق مآربهم‪.‬‬
‫‪ o‬ولم يكن جيش اإلمام الحسن (ع)‪ ،‬موحداً في أفكاره ووالئه‪ ،‬بل كان خليطاً من والءات متعددة‪،‬‬
‫وقد لعبت المنافع الذاتية دوراً منحرفاً في تمزيق الصف وتثبيط العزائم‪ .‬فوجد اإلمام (ع)‬
‫نفسه أمام مرحلة شاقة من الصراعات السياسية والعسكرية واالقتصادية‪ ،‬وتحيط بها النزاعات‬
‫والمطامع‪ ،‬ولكنه بحكمته وإيمانه وبثقته بنفسه‪ ،‬وصبره استطاع فضح مؤامرات األعداء‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪ o‬وكان هدفه جزء من حركة إصالحية تنظر من زاوية المستقبل لكي تبقى المفاهيم والقيم‬
‫اإلسالمية هي المهيمنة على ذهنية وأفكار المسلمين‪ ،‬وعواطفهم وممارساتهم العملية على طول‬
‫خط الحركة الفكرية والتأريخية لهم‪ .‬فاختار الصلح على القتال بشروط‪ c‬أعطت ثمارها‪ ،‬في‬
‫المستقبل القريب والبعيد معاً‪.‬‬
‫‪‬‬

‫المناقشة‬
‫ما هي الظروف التي استثمرها معاوية لبناء كيانه؟‬ ‫س‪:1‬‬
‫ما هي العوامل التي شجعت معاوية للتفكير في الوصول إلى الحكم؟‬ ‫س‪:2‬‬
‫ما هي العوامل التي أدت إلى تفرد معاوية في سلطته على الشام؟‬ ‫س‪:3‬‬
‫ما هي األسباب التي أعاقت أمير المؤمنين (ع) عن بناء دولته وجيشه بناءً محكماً؟‬ ‫س‪:4‬‬
‫ما هي مظاهر التعددية في جيش اإلمام الحسن (ع)؟‬ ‫س‪:5‬‬
‫ما هي أهم الظواهر السلبية التي اتصف بها جيش اإلمام الحسن (ع)؟‬ ‫س‪:6‬‬
‫ما هي أهم الفوارق بين جيش اإلمام الحسن (ع) وجيش معاوية؟‬ ‫س‪:7‬‬
‫ما هي النتائج المتوقعة في حالة استمرار اإلمام الحسن (ع) في القتال؟‬ ‫س‪:8‬‬

‫‪25‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫الدرس الخامس‬
‫متطلبات عصر اإلمام الحسن (ع)‬
‫‪‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫أسباب وعوامل الصلح‬


‫هنالك أسباب وعوامل عديدة اجتمعت وتضافرت لتجعل اإلمام الحسن (ع) مضطراً لقبول الخيار‬
‫الصعب من بين الخيارات المطروحة‪ ،‬والتي منها‪ :‬االستمرار في القتال ثم التضحية بالنفس في حال‬
‫عدم إحراز النصر العسكري‪.‬‬

‫أسباب عدم اختيار موقف التضحية‬


‫إن موقف اإلمام الحسن (ع) البد وأن يكون منسجماً مع األهداف المرحلية والبعيدة المدى لمنهج‬
‫أهل البيت (ع) ولحركة اإلسالم العامة‪ ،‬لِتستتبعه نتائج إيجابية للمنهج والوجود اإلسالمي معاً‪،‬‬
‫فاتخاذالموقف بجميع ألوانه في سِلمِ أو تضحية مقيد بقيود المصلحة اإلسالمية العليا‪ ،‬وتبعُ لها‪،‬‬
‫ومن هنا اختار اإلمام الحسن (ع) موقف التوقف عن القتال المؤدي إلى التضحية لألسباب التالية‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬إن معاوية أحكم خطته وأظهر نفسه بمظهر المسالم المحب للصلح‪ ،‬وحقن الدماء‪ ،‬وإعادة األلفة‬
‫بين المسلمين‪ ،‬وأراد أن يُلصق باإلمام الحسن (ع) رغبته في القتال وإراقة الدماء‪ ،‬وقد استطاع أن‬
‫يُدخل في عقول المسلمين هذه المغالطات‪ ،‬فلو لم يستجب اإلمام الحسن (ع) للصلح لكان مخطط‬
‫معاوية سيجد له قبوالً ورواجاً‪ ،‬وسيلقي المسلمون بالالئمة على اإلمام (ع) وينسبون‪ c‬إليه حبه‬
‫للقتال وإراقة الدماء‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬إن الظروف التي كانت تحيط باإلمام الحسن (ع) لم تكن في صالحه‪ ،‬فإن استمرار القتال‬
‫سيؤدي إلى قتله من قِبَل عمالء معاوية المندسين في جيشه‪ ،‬وسيتنصل رؤساء بعض العشائر أو قادة‬
‫الجيش‪ ،‬وفي جميع التقادير سيكون معاوية هو الغالب‪ ،‬كما ورد ذلك في قول اإلمام (ع)‪ :‬يزعمون‬
‫أنهم لي شيعة‪ ،‬ابتغوا قتلي وانتهبوا ثِقْلي وأخذوا مالي‪ .‬واهلل لئن أخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي‬
‫وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني‪ ،‬فيضيع أهل بيتي وأهلي‪ .‬واهلل لو قاتلت معاوية؛ ألخذوا بعنقي‬
‫حتى يدفعوني إليه سِلماً‪ ،‬فواهلل لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره‪ c،‬أو يمن علي‬
‫فتكون سُبة على بني هاشم إلى آخر الدهر‪ .‬بحار األنوار‪/‬ج‪.44‬‬

‫ثالثاً‪ :‬إن تضحية اإلمام الحسن (ع) ستكون بال صدى‪ ،‬وذلك لقدرة معاوية على احتواء آثارها‬
‫وتشويه أهدافها‪ ،‬وما دام كثير من المسلمين ال يعي طبيعة الصراع‪ ،‬ويسمع اإلشاعات المستمرة بأن‬
‫اإلمام الحسن (ع) كان يقاتل من أجل السلطة‪ ،‬أو بدوافع قبلية موروثة في الصراع بين بني هاشم‬
‫وبني أمية‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬إن التضحية ستؤدي إلى القضاء على اإلمامين الحسن والحسين‪( c‬ع) وبقية بني هاشم‪،‬‬
‫والصفوة الخيرة الصالحة من أتباع أهل البيت (ع)‪ ،‬وبالتالي ستخلو الساحة لمعاوية وأنصاره دون‬
‫معارضين ودون‪ c‬غيورين ومصلحين‪ ،‬وخلو الساحة يشجع معاوية وأتباعه على قلب المفاهيم‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وتغيير‪ c‬القيم‪ ،‬وإعادة الجاهلية بلباس إسالمي من جديد‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫وتكفي هذه األسباب ولئال يستمر اإلمام (ع) في القتال المؤدي إلى القضاء على رموز المنهج‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وإلى تسلط معاوية على رقاب المسلمين دون قيدٍ أو شرط‪ ،‬ودون رادع أو معارض‪ ،‬فلم‬
‫يبق له خيار إال الصلح الذي اضطر إليه تحت ضغط الظروف واألوضاع‪ c‬التي عرفناها بالتفصيل‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫وتتلخص األسباب التي فرضت الصلح على اإلمام (ع) فيما يلي‪:‬‬
‫‪ ‬أوالً‪ :‬عدم رغبة جيشه في القتال‪.‬‬
‫‪ ‬ثانياً‪ :‬التواطؤ مع معاوية من قبل الكثير من القادة والجنود‪.‬‬
‫‪ ‬ثالثاً‪ :‬الخيانات الفعلية المتكررة‪ ،‬والمتمثلة بااللتحاق بمعاوية‪ ،‬أو الفرار من المعسكرات‪.‬‬
‫‪ ‬رابعاً‪ :‬شيوع البلبلة واالضطراب في صفوف القادة والجنود‪.‬‬
‫‪ ‬خامساً‪ :‬عدم اإلخالص للقيادة الشرعية‪.‬‬

‫وقد عبر اإلمام (ع) عن األسباب التي أجبرته على القبول بالصلح في كثير من أقواله‪ ،‬كما ركز‬
‫(ع) على قلة األنصار الذين ينهض بهم للقتال‪ ،‬فقال (ع)‪ :‬واهلل ما سلمت األمر إليه إال أني لم أجد‬
‫أنصاراً‪ ،‬ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري‪ .‬بحار األنوار‪/‬ج‪.44‬‬
‫وقال (ع) في موقف آخر‪ :‬وقد خذلتني األمة وبايعتك يا ابن حرب‪ ،‬ولو وجدت عليك أعواناً‬
‫يخلصون ما بايعتك‪.‬‬

‫شروط اإلمام (ع) ووعود معاوية‬


‫إن الصلح الذي قرر اإلمام (ع) قبوله قد أحاط بشروطٍ‪ c‬تجعل اإلمام (ع) في موقع القوة دائماً‬
‫ومعاوية في موقع الضعف على المدى القريب والمدى البعيد معاً سواء كان معاوية يفي بالشروط‪ c‬أم‬
‫ال يفي بها‪ ،‬فإن عدم الوفاء بها يتضمن لإلمام (ع) ولخط أهل البيت (ع) نصراً على المدى البعيد ال‬
‫محالة‪.‬‬

‫وقد وعد معاوية اإلمام الحسن (ع) بوعود عديدة نذكر منها ما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬لك األمر من بعدي‪.‬‬
‫‪ .2‬لك ما في بيت مال العراق من مالٍ بالغاً ما يبلغ تحمله إلى حيث أحببت‪.‬‬
‫‪ .3‬لك خراج أي كور العراق شئت‪ ،‬معونة لك على نفقتك‪ ،‬يجبيها أمينك ويحملها إليك في‬
‫كل سنة‪.‬‬
‫لك أال نستولي عليك باإلساءة‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫ال نقضي دونك األمور‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫ال نعصيك في أمر أردت به طاعة اهلل‪.‬‬ ‫‪.6‬‬

‫وفي رواية كتب إليه‪ :‬إني صالحتك على أن لك األمر من بعدي ولك عهد اهلل وميثاقه وذمته‪ ...‬ال‬
‫أبغيك غائلة وال مكروهاً‪ ،‬وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال‪ ،‬وعلى أن‬
‫لك خراج (منسا) و (دار أبجرد) تبعث إليها عمالك وتصنع بهما ما بدا لك‪ .‬أنساب األشراف‪/‬ج‪.3‬‬
‫وأهم ما في الوعود هو جعل الخالفة لإلمام (ع) من بعده‪ .‬اإلصابة‪/‬ج‪.2‬‬

‫وأما شروط‪ c‬اإلمام الحسن (ع) فيمكن تحديدها بما يلي‪:‬‬


‫‪ .1‬أن يعمل معاوية بكتاب اهلل وسنة رسول اهلل (ص) وسيرة الخلفاء الصالحين‪.‬‬
‫‪ .2‬ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد ألحدٍ من بعده عهداً‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪ .3‬الناس آمنون حيث كانوا في العراق والشام والحجاز وتهامة‪.‬‬
‫‪ .4‬أمان شيعة وأصحاب علي (ع) على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأوالدهم‪.‬‬
‫‪ .5‬أن ال يبغي للحسن وال ألحد من أهل بيته غائلة سراً وعالنية‪ ،‬وال يخيف‪ c‬أحد منهم في أفق من‬
‫اآلفاق‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ .6‬أن تكون الخالفة لإلمام الحسن (ع) من بعده‪ .‬أسد الغابة‪/‬ج‪.1‬‬
‫‪ .7‬أن ال يسميه أمير المؤمنين‪c.‬‬
‫‪ .8‬أن ال يقيم عنده شهادة‪.‬‬
‫‪ .9‬أن يضمن نفقة أوالد الشهداء من أصحاب اإلمام علي (ع)‪.‬‬
‫‪ .10‬ترك سب اإلمام علي (ع) والعدول عن القنوت عليه في الصالة‪.‬‬
‫‪ .11‬أن ال يتعرض لشيعته بسوء‪ ،‬ويوصل‪ c‬إلى كل ذي حق حقه‪.‬‬

‫الدور اإليجابي للوعود والشروط‬


‫إن الوعود والشروط الممضاة من قبل الطرفين‪ c،‬تفرض منطقياً على كل من يفاضل بين الحرب‬
‫والصلح‪ ،‬أن يختار الصلح مع تلك الظروف والموازنة العسكرية غير المتكافئة‪ ،‬وإال فإن معاوية‬
‫سيتسلم السلطة إما بانتصاره العسكري أو بقتل اإلمام (ع) من قبل عمالئه المندسين في جيش اإلمام‬
‫(ع)‪ ،‬وستؤول السلطة إليه دون شروط‪ c‬أو قيود تقيده أمام المسلمين‪.‬‬
‫بينما أخذ اإلمام (ع) عهوداًَ ومواثيق مقرونة بأيمانٍ مغلظة من قبل معاوية على أن يفي بها‪.‬‬
‫فإن وفى بما تعهد به‪ ،‬فإن األمر سيعود إلى اإلمام من بعده‪ ،‬وستكون ألتباع اإلمام (ع) مطلق الحرية‬
‫في أداء دورهم اإلصالحي والتغييري‪.‬‬
‫وإن شرط عدم تسميته بأمير المؤمنين يسلب عنه شرعية الخالفة وإمرة المؤمنين‪ ،‬ويبقى مجرد‬
‫حاكم أو ملك في أنظار المسلمين‪.‬‬
‫وإذا لم يفِ معاوية بالشروط‪ c‬فإن األمة ستنكشف لها حقيقة معاوية والحكم األموي‪ ،‬وأنه مجرد‬
‫طالب سلطة منذ أول شعار أعلنه حين مطالبته بدم عثمان‪ ،‬وبالتالي فإن األمة ستشخص قادتها‬
‫الحقيقين وهم أهل البيت (ع) وستعود إلى مواالتهم في الحاضر أو في المستقبل‪.‬‬

‫اإلمام الحسن (ع) والمبادرة إلى الصلح‬


‫ذكر جماعة من المؤرخين أن اإلمام الحسن (ع) علم أنه لن تغلب إحدى الفئتين حتى يقتل أكثر‬
‫األخرى‪ ،‬ورأى تفرق األمر عنه فبادر إلى الصلح مع معاوية‪ ،‬ففرح معاوية بذلك وأجابه طبقاً‬
‫للشروط التي وضعها الحسن (ع)‪ .‬بحار األنوار‪/‬ج‪.44‬‬
‫وهذا الرأي له وجاهة وقبول‪ ،‬فاإلمام الحسن (ع) وإن تفرق عنه كثير من قادة جيشه‪ ،‬وحاول‬
‫بعضهم اغتياله‪ ،‬إال أنه كان يشكل‪ c‬خطراً حقيقياً على معاوية‪ ،‬وهذا ما عبر عنه معاوية في قوله‬
‫لعمرو بن العاص ‪-‬في شأن قيس بن سعد‪-‬على رَسْلِكَ‪ ،‬فإنا ال نخلص إلى قتلهم حتى يقتلوا أعدادهم‬
‫من أهل الشام‪ ،‬فما خير العيش بعد ذلك؟ فإني واهلل ال أقاتله أبداً حتى ال أجد من قتاله بدّاً‪ .‬تأريخ‬
‫الطبري‪/‬ج‪.5‬‬

‫و على هذا فإن اإلمام (ع) قد صالح من موقع القوة‪ ،‬فإن معاوية كان يعلم أن اإلمام (ع) إن استمر‬
‫على القتال فإنه سيخسر كثيراً من قادته وجنوده‪ c،‬وال يستطيع معاوية حسم المعركة إال بتضحيات‬
‫جسيمة يخرج منها منهوكاً ال يقوى على النهوض‪.‬‬

‫ويمكن أن نستشهد بشخصية معاوية أيضاً وذلك أن معاوية كان متيقناً من صعوبة حسم الموقف‬
‫لصالحه إال بتقديم خسائر جسيمة‪ ،‬إذ لو كان يرى سهولة القضاء على جيش اإلمام (ع) لما كان‬

‫‪28‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫يصالح اإلمام (ع) ويقيد نفسه بشروط‪ c‬وقيود صعبة‪ ،‬فشخصيته ترفض أن يكون لها نذّ يعارضها‪ ،‬أو‬
‫ينافسها في مجاالت الحياة المختلفة‪ ،‬وبالخصوص في مجال الحكم والرئاسة‪ ،‬وترفض أيضاً أن يمنح‬
‫الحرية لمعارضيه‪.‬‬
‫فمن المنطقي أن يكون اإلمام الحسن (ع) قد فوت الفرصة على معاوية ألن يظهر بمظهر المصلح‬
‫‪‬‬ ‫والمحب لحقن الدماء‪ ،‬ويكون له قَصب السَبْق في ذلك‪.‬‬
‫ومما يؤيد ذلك أن اإلمام (ع) كان قد اشترط على المبايعين له بعد استشهاد أبيه (ع) أن يستسلموا‬
‫ألوامره إن حارب أو سالم‪.‬‬
‫وعلى كال الرأيين‪ c‬فإن اإلمام (ع) قد اتخذ الصلح من أجل حقن الدماء والتفرغ للعمل اإلصالحي‬
‫والتغييري بعده‪ ،‬وبناء القاعدة الشعبية التي انهكتها حروب ثالث في أقل من أربع سنين‪ c.‬الكامل في‬
‫التأريخ‪/‬ج‪.3‬‬

‫‪29‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫الخالصة ‪..‬‬
‫تظافرت عدة عوامل أدت إلى أن يقبل اإلمام الحسن (ع) الخيار الصعب من بين الخيارات الماثلة أمامه‬
‫وهي‪ :‬االستمرار في الحرب التي تنتهي بتصفيته جسدياً وتمزيق جيشه‪ ،‬أو الصلح‪ ،‬والحكمة التي‬
‫‪‬‬ ‫تقف وراءه اقتضت أن يختاره –وهو موقف ينسجم‪ c‬مع المصلحة اإلسالمية في أجمل صورها‪ ،‬وبذلك‬
‫خسر معاوية ما كان يخطط له‪ .‬وقد تظاهر بمظهر المسالم المحب‪ ،‬وأشاع بأنه أراد بذلك حقن‬
‫دماء المسلمين‪ ،‬وهي مغالطة وقع في هوتها‪ ،‬فقد سار إلى حتفه بيده‪ ،‬وتظاهر وكأنه هو المنتصر‪،‬‬
‫وكان يقدّر قبل ذلك أن القتال إذا استمر سيسلم المقاتلون اإلمام الحسن (ع) إليه وبذلك يربح‬
‫طرفي المعركة اجتماعياً وعسكرياً‪ .‬ولكن الصلح لم يحقق أهدافه إذ في إطار هذا الصلح حقق‬
‫اإلمام (ع) مجموعة من المكاسب والتي كان في مقدمتها حفظ بيضة اإلسالم‪ ،‬والحفاظ على أصحابه‪،‬‬
‫وإال فلو وقعت الحرب ألتت على كل شيء يتطلع إليه الحكم األموي‪.‬‬

‫المناقشة‬

‫ما هي العوامل التي تحدد الموقف السياسي في نظر أهل البيت (ع)؟‬ ‫س‪:1‬‬
‫ما هي األسباب التي دفعت اإلمام (ع) لعدم االستمرار في القتال؟‬ ‫س‪:2‬‬
‫لو كان اإلمام (ع) قد ضحى بنفسه فهل كانت تترتب آثار إيجابية على هذه التضحية؟‬ ‫س‪:3‬‬
‫ما هي األسباب التي أكرهت اإلمام (ع) على قبول الصلح؟‬ ‫س‪:4‬‬
‫ما هي أهم الوعود التي قطعها معاوية على نفسه؟‬ ‫س‪:5‬‬
‫ما هي أهم الشروط‪ c‬التي اشترطها اإلمام الحسن (ع) على معاوبة؟‬ ‫س‪:6‬‬
‫هل اعترف اإلمام (ع) بشرعية معاوية أم ال؟ وما هو الدليل على ذلك؟‬ ‫س‪:7‬‬
‫ما هو الدور اإليجابي لشروط اإلمام الحسن (ع)؟‬ ‫س‪:8‬‬

‫‪30‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫الدرس السادس‬
‫متطلبات عصر اإلمام الحسن (ع)‬
‫‪‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫الصلح ومراعاة المصلحة اإلسالمية‬


‫إن موقف اإلمام المعصوم (ع) تحدده عدة عوامل‪ ،‬راعاها اإلمام الحسن (ع) في صلحه ومن أهمها‪:‬‬

‫‪ .1‬شرعية الموقف والقرار‬


‫وهذا األمر بديهي في السيرة التأريخية لحركة اإلسالم وقادته الصالحين‪ ،‬فالشريعة هي الحاكمة‬
‫على الموقف وهي التي تحدده في جميع الظروف واألحوال‪ ،‬فقد صالح رسول اهلل (ص) قريشاً في‬
‫الحديبية وهم كفار‪ ،‬وصالح اليهود والنصارى في أكثر من واقعة‪ ،‬وصالح أمير المؤمنين (ع)‬
‫معاوية في وقته‪.‬‬

‫‪ .2‬الظروف‬
‫الظروف بنوعيها‪ :‬اإليجابي والسلبي هي التي تحدد الموقف وتكون حاكمة عليه‪ ،‬وهذا واضح من‬
‫خالل سيرة رسول اهلل (ص) وسيرة أمير المؤمنين (ع)‪ ،‬فرسول اهلل (ص) لم يجاهد قريشاً في‬
‫المرحلة المكية ألن الظروف ال تسمح بذلك‪ ،‬وحينما تغيرت في المرحلة المدنية غير (ص) موقفه‬
‫واستمر في جهاده إلى أن انتصر على جميع قوى الشرك في المدينة والحجاز واليمن‪ ،‬وكذلك أمير‬
‫المؤمنين (ع) في سيرته مع الخلفاء الذين سبقوه‪ ،‬ومع المتمردين عليه في خالفته‪.‬‬

‫المصلحة اإلسالمية‬
‫من أساسيات المنهج اإلسالمي أن ألي حكم شرعي مصلحة يتضمنها‪ ،‬فمن باب أولى أن يكون ألخطر‬
‫موقف –وهو الصلح وفي تلك الظروف الحساسة‪-‬مصلحة على المدى القريب والبعيد‪ c،‬فالصلح انطوى‬
‫على عدة مصالح آنية ومستقبلية راعاها اإلمام (ع) قبل اتخاذه القرار‪ ،‬بعضها متعلق بالمصلحة العامة‬
‫بالمسلمين‪ ،‬واآلخر متعلق بمصلحة منهج أهل البيت (ع) في حركته الواقعية في المسيرة التأريخية‪.‬‬
‫وقد عبر اإلمام (ع) عن صلحه بالقول‪( :‬ال تعذلوني فإن فيها مصلحة)‪ .‬مناقب آل أبي طالب‪/‬ج‪.4‬‬

‫المصلحة العامة للمسلمين‬


‫إن اإلمام الحسن (ع) قدم مصلحة المسلمين العامة على جميع االمتيازات األخرى‪ ،‬ألنه مكلف‬
‫بالحفاظ على كيان المسلمين االجتماعي والسياسي‪ ،‬وقد تبلورت المصلحة العامة في صلحه بالنقاط‬
‫التالية‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬وحدة الدولة واألمة‬


‫إن استمرار التصادم العسكري ينتهي حتماً إلى إحدى النتيجتين‪ :‬وهي قيام دولتين أحدهما في العراق‬
‫وما وراءه من جهة الشرق كالحجاز وخراسان والريّ‪ ،‬واألخرى في الشام وما وراءه من جهة الغرب‬
‫كأفريقيا وما بعدها‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫والنتيجة األخرى‪ :‬انتصار أحد الطرفين وخروجه من المعركة ضعيفاً ال يقوى على مواجهة األعداء‬
‫في الخارج أو بناء الدولة اإلسالمية في الداخل‪ ،‬وكالهما خسارة فادحة للمسلمين‪.‬‬
‫فمن أجل وحدة الدولة والمجتمع صالح اإلمام (ع) بعد أن رأى المصلحة في (جمع الكلمة وترك‬
‫القتال)‪ ،‬فنزل عن الخالفة وجعل الملك بيد معاوية حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد‪.‬‬
‫‪‬‬

‫‪32‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫ثانياً‪ :‬إفشال المخططات‪ K‬الخارجية‬
‫إن الكيان اإلسالمي معرض في كل حين لمؤامرات خارجية تسعى للقضاء على الكيان اإلسالمي منهجاً‬
‫وسلوكاً ووجوداً‪ ،‬وإذا كان لكل معركة استحقاقاتها الخاصة‪ ،‬فإن دخول اإلمام (ع) في معركة مع‬
‫معاوية يعني وضع جميع اإلمكانيات والطاقات العسكرية واالقتصادية في صراع داخلي ينهك القوى‬
‫‪‬‬ ‫ويجعل الكيان اإلسالمي يتهاوى لمجرد أية ضربة متوقعة من الخارج أو فتنة من الداخل‪ ،‬وعليه فإنه‬
‫صالح ألنه وجد أن الكيان اإلسالمي يواجه خطر األعداء إلى جانب خطر المفروضين‪ c‬عليه باسمه‪.‬‬
‫فقد أفشل (ع) مخططات األعداء؛ ومنع من تفكيرهم في اإلنقضاض على الوجود اإلسالمي أو تحجيمه‬
‫في بقعه جغرافية محدودة‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬حقن الدماء‬


‫إن حقن دماء المسلمين بالتخلي عن معركة خاسرة هي موقف يستوجب النظر إليه في إطار‬
‫المسؤولية والحرص على كيان األمة‪ ،‬وقد أدرك اإلمام (ع) النتائج من أن وضع المسلمين ال يحتمل‬
‫صراعاً من هذا النوع‪ ،‬لذا صالح حقناً للدماء وإصالح األوضاع‪ ،‬وأن يكون موقفه وقراره حجة على‬
‫الطامعين في السلطة‪ ،‬والذين‪ c‬يضحون بإمكانيات األمة من أجلها‪.‬‬
‫وقد عبر (ع) عن هذه المصلحة في كثير من أقواله ومواقفه‪ ،‬قال (ع)‪( :‬وإن معاوية نازعني حقاً‬
‫هو لي‪ ،‬فتركته لصالح األمة وحقن دمائها ‪ ...‬ورأيت أن حقن الدماء خير من سفكها وأردت صالحكم‪،‬‬
‫وأن يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا األمر)‪ .‬أنساب األشراف‪/‬ج‪.3‬‬
‫وقال (ع) للمعترضين على صلحه‪( :‬رأينا أن حقن دماء المسلمين خير من إهراقها)‪ .‬البداية‬
‫والنهاية‪/‬ج‪.8‬‬
‫وقد قدر (ع) ضحايا المعركة –لو حدثت‪-‬بسبعين ألفاً‪ ،‬وهي خسارة كبيرة حيث قال‪ :‬ولكني خشيت‬
‫أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً‪ ،‬تشخب أوداجهم دماً كلهم يستعدي اهلل فيم أهرق دمه‪ .‬شرح نهج‬
‫البالغة‪/‬ج‪.16‬‬
‫وعبر (ع) عن صلحه في موقع آخر قائالً‪( :‬طالت الفتنة وسفكت فيها الدماء‪ ،‬وقطعت فيها األرحام‪،‬‬
‫وقطعت السُبل‪ c،‬وعطلت الثغور)‪ .‬تهذيب تاريخ دمشق‪/‬ج‪.4‬‬

‫رابعاً‪ :‬إدامة مسؤولية اإلصالح والتغيير‬


‫إن الظروف التي عاشتها األمة من قبل جعلتها تتجه نحو اإلبتعاد عن المنهج اإلسالمي عقيدة‬
‫وسلوكاً‪ ،‬حيث تغيرت بعض المفاهيم والقيم‪ ،‬وقام الوالة والمنحرفون بتشويه المفاهيم والحقائق‪،‬‬
‫وقلب الموازين‪ ،‬وإشاعة األحاديث الكاذبة‪.‬‬
‫ومن هنا فإن األمة بحاجة إلى وجود عدد كبير من المصلحين والمغيرين‪ c‬إلعادتها إلى االستقامة في‬
‫الفكر والعاطفة والسلوك‪ ،‬بعد خطوات دائمة من التحرك في مختلف ميادينها وأوساطها‪ ،‬وهذا‬
‫يستدعي بقاء الجماعة الصالحة والمحافظة على حياتها لتؤدي مسؤوليتها في األمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر‪ ،‬ومن أجل ذلك قام اإلمام (ع) باتخاذ قرار الصلح‪ ،‬وقد عبر عن ذلك بالقول‪( :‬إني لمّا‬
‫رأيتكم ليس بكم عليهم قوة سلمت األمر‪ ،‬ألبقى أنا وأنتم بين أظهرهم‪ ،‬كما عاب العالم السفينة لتبقى‬
‫ألصحابها‪ ،‬وكذلك نفسي وأنتم لتبقى بينهم)‪ .‬تحف العقول‪.227/‬‬
‫وهذا ال يتم إال بالصلح وبقاء الجماعة الصالحة يمنع معاوية من كثير من ممارساته التي تستهدف‬
‫تشويه الحقائق وقلب الموازين‪ ،‬وتمنعه من تحريف الكتاب والسنة‪ ،‬وتمنعه من التفرغ لتنفيذ‬
‫مخططاته لعودة الجاهلية من جديد‪.‬‬

‫خامسا ً ‪ :‬مصلحة الجماعة‪ K‬الصالحة‪K‬‬

‫‪33‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫لقد واجهت الجماعة الصالحة بقيادة أهل البيت (ع) ومنذ اللحظات األولى لوفاة رسول اهلل (ص)‬
‫محاوالت كثيرة لتحديد وتحجيم دورها الريادي في األمة‪ ،‬خالفاً لوصايا رسول اهلل (ص) الصريحة‬
‫على ضرورة تفعيل دور اإلمامة في الحياة اإلسالمية‪ ،‬وتمكينها من واقع المسلمين بما يحفظ وجود‬
‫الكيان اإلسالمي وديمومة المنهج السليم‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫وحيث أن القاعدة العريضة من األمة المندرجة في كيان الجماعة تحتاج إلى القائد الذي يوجه‬
‫حركتها وسلوكها نحو أهداف اإلسالم الكبرى‪ ،‬فإن وجود القائد اإلمام المعصوم بعد من أوليات‬
‫حفظ هذه الجماعة وتدعيم حركتها نحو وضع التحرك اإلسالمي العام في إطاره الصحيح‪.‬‬
‫ومن خالل الصلح بقيت القيادة المعصومة حاضرة في األحداث وفي المسيرة بما يحفظ الشرعية‬
‫الواعية لألمة وتوجيه الدولة واألمة صوب المسار الصحيح لحركتها‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى الحفاظ على وجود اإلمام الحسن (ع) ووجود اإلمام الحسين‪( c‬ع) وامتداد خط اإلمامة‬
‫بهما‪ ،‬فإن مصلحة الجماعة الصالحة تمثلت في المظاهر التالية‪:‬‬

‫‪ .1‬حقن دماء أفراد الجماعة الصالحة‬


‫استطاع اإلمام (ع) من خالل اتخاذ قرار الصلح حقن دماء أفراد الجماعة الصالحة‪ ،‬والحيلولة دون‬
‫إراقة دمائها‪ ،‬وقد عبر (ع) عن هذه المصلحة المتوخاة من قراره‪ ،‬ففي جوابه لمن اعترض عليه قال‪:‬‬
‫(إنما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم)‪ .‬أنساب األشراف‪/‬ج‪.3‬‬
‫وقال أيضاً‪( :‬فلو كنت بالجزم في أمر الدنيا أعمل‪ ،‬ولسلطانها أربض وألحب‪ ،‬ما كان معاوية بأبأس‬
‫مني بأساً ‪ ...‬وما أردت فيما فعلت إال حقن الدماء ‪ c.)....‬أنساب األشراف‪/‬ج‪.3‬‬
‫وقال (ع)‪( :‬ولوال ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه األرض إال قتل)‪ .‬علل الشرائع‪/‬ص‪.211‬‬

‫‪ .2‬استمرار الدعوة من قبل الجماعة‪ K‬الصالحة‪K‬‬


‫الهدف من وجود الجماعة الصالحة هو إقرار المنهج اإللهي في الواقع‪ ،‬بالدعوة إلى مفاهيمه العقائدية‬
‫وقيمه التشريعية‪ ،‬وتحقيقها في صورة عملية وواقع موضوعي ذي معالم منظورة‪ ،‬تترجم فيها‬
‫النصوص والمفاهيم النظرية إلى حركات وأعمال وممارسات وأوضاع وارتباطات‪ ،‬واالنتقال من‬
‫مرحلة التأثر الوجداني بالفكر والعقيدة إلى مرحلة العمل اإليجابي وفق هذا التأثر تحقيقاً للمنهج‬
‫الذي أراده اهلل تعالى‪.‬‬
‫وال يتحقق ذلك إال بالحفاظ على وجود الجماعة الصالحة‪ ،‬فهي الكفيلة بالدعوة إلى المنهج السليم‬
‫وإقراره في الواقع‪ ،‬وفي هذا الصدد فال اإلمام (ع)‪( :‬إني لما رأيت الناس تركوا ذلك إال أهله؛‬
‫خشيت أن يجتثوا عن وجه األرض‪ ،‬فأردت أن يكون للدين في األرض ناعٍ)‪ .‬مختصر تأريخ دمشق‪/‬ج‪.7‬‬
‫أحرز اإلمام (ع) من خالل الصلح حرية أتباعه وأنصاره‪ ،‬حيث جعلها شرطاً من شروطه‪ ،‬والحرية‬
‫المنشودة هي فرض على معاوية ال يستطيع التنصل عنه بسهولة ما دام يخشى من المواجهة المسلحة‬
‫من جديد‪ ،‬ومن مظاهر الحرية عدم متابعة من له دور كبير في معركة صفين أو التحريض‪ c‬على‬
‫معارضة عثمان‪ ،‬ومن مظاهرها أيضاً حرية االعتراض على معاوية‪ ،‬وحرية التحرك باتجاه األمة‬
‫وتصحيح فهمها لألفكار واألشخاص واألحداث‪.‬‬

‫‪ .3‬إعادة بناء الجماعة الصالحة‬


‫إن األحداث التي ابتدأت منذ أواخر عهد عثمان مروراً بثالث معارك طاحنة إلخماد تمرد أصحاب‬
‫الجمل و صفين والنهروان أدت إلى تصدع الطاقات واإلمكانيات التي تتمتع بها الجماعة الصالحة‪ ،‬حيث‬
‫أن سرعة األحداث وشدتها أدت إلى حدوث الكلل واإلرهاق داخل الجماعة الصالحة‪ ،‬فهي بحاجة إلى‬
‫استراحة نسبية من أجل إعادة بنائها وتمتين قوتها‪ ،‬وتوسيع قاعدتها ورفدها بعناصر جديدة‪ ،‬وجميع‬

‫‪34‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫ذلك حققه اإلمام (ع) بصلحه‪ ،‬وقد عبر عن ذلك قائالً‪( :‬أردت صالحكم وكفّ بعضٍ عن بعض‪،‬‬
‫فارضوا بقدر اهلل وقضائه‪ ،‬حتى يستريح برٌ أو يستراح من فاجر)‪ .‬شرح نهج البالغة‪/‬ج‪.16‬‬
‫وجميع المصالح التي تحققت من صلح اإلمام (ع) هي التي جعلت اإلمام (ع) يدفع الحرب بالصلح‬
‫على أساس خدمة األهداف اإلسالمية الكبرى‪ ،‬فقد ضحى (ع) بالسلطة الفوقية من أجل سالمة البنى‬
‫‪‬‬ ‫التحتية‪.‬‬
‫وقد عبر اإلمام الباقر (ع) عن هذه المصالح قائالً‪( :‬واهلل‪ ،‬للذي صنعه الحسن بن علي (ع) كان‬
‫خيراً لهذه األمة مما طلعت عليه الشمس)‪ .‬الكافي‪/‬ج‪.8‬‬

‫‪35‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫الخالصة ‪..‬‬
‫‪ ‬إن شرعية الموقف والقرار الذي اتخذه اإلمام اتجاه عملية الصلح مع معاوية‪ ،‬والظروف التي‬
‫أحدقت بقرار الصلح‪ ،‬ومن فوقها المصلحة اإلسالمية العليا كانت كلها مبرراً عملياً وموقفاً عاماً‬
‫‪‬‬ ‫لتقرير أسلوب الصلح ليكون أسلوباً عملياً في حياة األمة متى ما دعت الحاجة إليه‪ .‬وال غرو في أن‬
‫ما جنح اإلمام (ع) إليه إبان توقيعه على وثيقة الصلح إنما يمثل منعطفاً تأريخياً لمسيرة األمة في‬
‫كل زمان باعتباره منهجاً سياسياً وفكرياً وقيادياً تتعامل األمة على أساسه كلما أرادت أن تتخذ‬
‫قراراً إلى صالح اإلسالم‪.‬‬

‫‪ ‬وتقديم المصلحة اإلسالمية يظل مناراً لألمة ترجع إليه في إزهاق الباطل‪ ،‬وتثبيت الحق‪،‬‬
‫وتتبلور تلك المصلحة حينما يكون وعي األمة طاغياً على تفكيرها وآفاقها النفسية‪ .‬وإذا كانت‬
‫وحدة األمة هي المحور لتحركها في بناء كيانها؛ فال ريب أن التضحية من أجلها هو الثمن لنجاحها‪.‬‬
‫فإذا حفظت األمة كيانها وموقعها كان ذلك كفيالً في حقن الدماء‪ ،‬وإفشال المخططات لإلطاحة‬
‫بنظامها السياسي والفكري وحفظ وحدتها‪ .‬فطالما تتعرض حياة أكثر من أمة حينما تفقد‬
‫شخصيتها‪ ،‬وموقعها القيادي‪.‬‬

‫‪ ‬ولو قدر لإلمام (ع) اتخاذ قرار الحرب‪ ،‬وهو يخوضها مع جيش متخاذل طامع في أموال معاوية؛‬
‫لكانت نتيجة ذلك ضياع اإلسالم‪ ،‬وانتصار الباطل على الحق في الساحة العسكرية‪ c،‬ألن الظروف التي‬
‫عاشتها األمة وهي تتابع طغيان حكم معاوية‪ ،‬جعلتها تعتزل حياة المواجهة مع العدو لكثرة عدده‪ ،‬وقلة‬
‫الناصرين لجبهة الحق‪.‬‬

‫‪ ‬وغياب القيادة الشرعية عن الساحة الميدانية والعسكرية بقتل اإلمام (ع) يؤدي إلى فقدان األمة‬
‫للقائد الذي يقود مسيرتها ويوجه أفكارها وحركتها وسلوكها‪ ،‬فإقرار المنهج اإلسالمي‪ ،‬وحقن دماء‬
‫األمة‪ ،‬وإحراز حرية الجماعة الصالحة‪ ،‬والثبات على المبدأ من معطيات عملية الصلح التي مارسها‬
‫اإلمام (ع) ودافع بعد ذلك عنها‪ .‬وإذا كان اتخاذ القرار منطلقاً للعمل من أجل تقرير المصلحة‬
‫اإلسالمية العليا‪ ،‬فال مجال للتنصل عنه حينما ال يروق ذلك لمن ال يحلم إال بتحقيق مآربه‪.‬‬

‫‪ ‬وقد عبر اإلمام الباقر (ع) عن هذه المصالح قائالً‪( :‬واهلل لَلذي صنعه الحسن بن علي (ع) كان‬
‫خيراً لهذه األمة مما طلعت عليه الشمس)‪.‬‬

‫المناقشة‬

‫ما هو دور المصلحة في اتخاذ قرار الصلح؟‬ ‫س‪:1‬‬


‫لماذا لم يقم اإلمام الحسن (ع) بتشكيل حكومته في الكوفة‪ ،‬وترك الشام لمعاوية؟‬ ‫س‪:2‬‬
‫ما هو دور الصلح في إفشال المؤامرات الخارجية على الكيان اإلسالمي؟‬ ‫س‪:3‬‬
‫ما هو المقصود من قول اإلمام (ع)‪ :‬وأن يكون ما صنعت حجّة على من كان يتمنى هذا‬ ‫س‪:4‬‬
‫األمر؟‬
‫ما هو المقصود من قول اإلمام (ع)‪ :‬سلمت األمر؛ ألبقى أنا وأنتم بين أظهرهم؟‬ ‫س‪:5‬‬
‫ما هو المقصود من قول اإلمام (ع)‪ :‬أردت أن يكون للدين في األرض ناعٍ؟‬ ‫س‪:6‬‬
‫ما هو الهدف من محافظة اإلمام (ع) على نفسه من القتل؟‬ ‫س‪:7‬‬

‫‪36‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫من أهداف اإلمام (ع) حقن دماء أنصاره‪ ،‬ما هو الضمان لذلك في حال سيطرة معاوية على‬ ‫س‪:8‬‬
‫الحكم؟‬
‫ما هي أهم األضرار التي ستلحق بالجماعة الصالحة‪ ،‬في حال االستمرار في القتال؟‬ ‫س‪:9‬‬
‫س‪ :10‬كيف تفسر قول اإلمام محمد الباقر (ع)‪ :‬للذي صنعه الحسن بن علي (ع) كان خيراً‬
‫‪‬‬ ‫لهذه األمة مما طلعت عليه الشمس؟‬

‫الدرس السابع‬
‫الثورة‪ K‬الحسينية (‪)1‬‬

‫]العوامل واألهداف[‬

‫‪ .1‬لماذا وقّت اإلمام الحسين (ع) ثورته بموت معاوية؟‬


‫بعد استشهاد اإلمام الحسن (ع) واغتياله من قبل معاوية ونقض معاوية لبنود الصلح تحركت الشيعة‬
‫وطالبت اإلمام الحسين‪( c‬ع) بالتحرك والثورة ضد معاوية‪ ،‬حيث إن الحسين‪( c‬ع) كان يملك الدليل‬
‫المقبول لثورته‪ .‬ولكنه لم يستجب لطلباتهم وآثر السكون ما دام معاوية حياً‪.‬‬

‫والسر ‪ -‬كما يبدو‪-‬كان يكمن في أمرين على األقل‪:‬‬


‫األول‪ :‬إن الوفاء بالعهد خُلق إسالمي رفيع يمثله اإلمام المعصوم أحسن تمثيل‪ ،‬وال يسوغ اإلمام‬
‫لنفسه أن يهبط إلى مستوى معاوية في نقضه للعهد‪ ،‬بالرغم من أن نقض العهد من قِبل معاوية مسوغ‬
‫شرعي وأخالقي للخروج من تعهده‪ ،‬ولكن معاوية كان بإمكانه أن يستغل‪ c‬هذا النقض كورقة رابحة‬
‫يستعملها ضد اإلمام الحسين(ع) ويضلل به الرأي العام‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬إن السبب الذي من أجله عقد اإلمام الحسن (ع) الصلح مع معاوية ما دام مستمراً ونافذ‬
‫المفعول‪ ،‬فاإلمام الحسين‪( c‬ع) ال يتحرك وال يثور‪ ،‬إال إذا تهيأت الظروف الموضوعية التي تضمن‬
‫لثورته تحقيق أهدافها‪.‬‬
‫وكان السبب في إبرام الصلح مع معاوية أن األمة اإلسالمية ‪-‬والسيما القطاع الواسع من الموالين‬
‫ألهل البيت (ع) ‪-‬كانت قد سيطرت عليه حالة الشك في رسالية خط أهل البيت (ع) حينما الحظوا‬
‫مرارة الصراع بين معاوية واإلمام علي (ع)‪ ،‬وطلحة والزبير وعائشة مع علي (ع) والخوارج مع علي‬
‫(ع) وأنزلوا علياً (ع) إلى مستوى معاوية الذي كان يرمي للوصول إلى الحكم بكل سبب‪ ،‬ولم يكن‬
‫لهذا التصدي منه والحرص على استالم السلطة أي مسوغ رسالي‪ ،‬وقد سرى هذا الشك في مدى‬
‫رسالية حروب اإلمام (ع) إلى جمع من الموالين ألهل البيت (ع) حتى أنهم استبعدوا أن يكون مثل‬
‫عائشة أو طلحة أو الزبير على باطل‪ ،‬فكيف يقاتلهم اإلمام علي (ع) وكلهم صحابة رسول اهلل (ص)؟‬

‫وحينما يستفحل هذا الشك ويتحول إلى حالة مرضية‪-‬كما حدث ذلك في عصر اإلمام الحسن (ع) ‪-‬‬
‫لم يكن باإلمكان عالجها حتى بالتضحية‪ ،‬بل البد من الصبر والتأني ليتضح لعامة المسلمين مدى دجل‬
‫معاوية ومدى تظاهره باإلسالم والتزام أهل البيت (ع) بمبادئهم الرسالية‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وقد فضح معاوية نفسه وكشف عن واقعه بعد نقضه لكل بنود الصلح مع اإلمام الحسن (ع) وكان‬
‫البد للشاكين في سالمة خط أهل البيت (ع) من االكتواء بلظى النار التي سعّرها لهم معاوية وأخذ‬
‫يؤججها بكل ضراوة‪ .‬وكان ترشيح يزيد‪ c‬وفرض البيعة له بالخالفة هو آخر الخط لمعاوية وقد مهد‬
‫لذلك باغتيال اإلمام الحسن (ع) ليخلو له الجو‪ ،‬وقد ذكر له التأريخ أكثر من محاولة ومراوغة‬
‫‪‬‬ ‫لتحقيق مأربه هذا وتحكيم‪ c‬الجاهلية بثوبٍ جديد في ربوع الدولة اإلسالمية‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫‪ .2‬ما هي الدوافع الحقيقية للثورة الحسينية؟‬


‫‪ .3‬ولماذا لم يكتف اإلمام بالموعظة أو المقاطعة للسلطة؟‬

‫‪‬‬ ‫هناك أكثر من دافع وسبب قد ذكره المؤرخون لتعليل النهضة الحسينية ولكن هذه األسباب متداخلة‬
‫ومترتبة فيما بينها حيث يكون بعضها سبباً أعمق أو كاشفاً عن سبب‪.‬‬
‫وهناك أسباب مقبولة لدى عامة المسلمين وقاطعة للعذر بينما ال تكون أسباباً حقيقية ونهائية‪.‬‬
‫واألسباب الحقيقية البد أن نستلهمها من صاحب الثورة نفسه وال يكفي أن نستند فيها إلى تحليالت‬
‫اآلخرين عنها‪.‬‬

‫وقد الحظنا نصوص اإلمام الحسين‪( c‬ع) حين أعلن في أكثر من مشهد‪ ،‬ومنذ بداية تحركه وحتى‬
‫نهاية الشوط من حياته‪ :‬أنه إنما قام لطلب اإلصالح في أمة جده‪ ،‬واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫المتمثل في التصدي للحاكم الجائر المستحل لحرمات اهلل وحيث ال يتحقق هذا المستوى من األمر‬
‫بالمعروف‪ c،‬والسيما إذا كان تركه يؤدي إلى محق الشريعة وضياع الرسالة التي ال شيء أغلى منها‬
‫في ميزان اهلل تعالى‪.‬‬

‫وللوصول إلى الجواب التفصيلي –الذي كان يحتم على اإلمام الحسين‪( c‬ع) اختيار طريق التضحية‬
‫والشهادة بالنحو الذي اختاره‪ ،‬فضالً عن تنبؤات الرسول (ص) وإخباراته التي كانت تفصح عن‬
‫األسباب الكامنة في واقع األمة ومدى ترديها وهبوطها‪-‬البد أن نقف على أبعاد المشكلة الحقيقية التي‬
‫كانت تعانيها األمة اإلسالمية في عصر اإلمام الحسن (ع) لتتضح لنا مدى سالمة هذا الطريق أنه هو‬
‫الطريق الوحيد الذي كان يستطيع اإلمام (ع) أن يختاره من أجل معالجة هذه المشكلة‪.‬‬

‫لقد عرفنا أن اإلمام الحسن (ع) قد عالج بصلحه مشكلة التشكيك في مدى رسالية خط أهل البيت‬
‫(ع)‪ ،‬ولكن بعد أن اكتوت األمة بنار المأساة التي أججها الحكم األموي‪-‬وقد عرفنا أساليبه التي‬
‫استخدمها لتمييع شخصية أبناء األمة وسلب إرادتها وإباحة كرامتها وتخديرها‪-‬حتى أصبحت تدرك‬
‫الخطر ولكنها ال تقدر على مجابهته‪ .‬وكلمة الفرزدق المعروفة لإلمام الحسين‪( c‬ع)‪( :‬قلوبهم معك‬
‫وسيوفهم عليك) تعبر عن تصوير دقيق وواقعي لهذه الحالة االجتماعية المرضيّة التي انتابت‬
‫المجتمع اإلسالمي في عصر الحكم األموي‪.‬‬
‫إن هناك أكثر من مشهد لتصوير مدى عمق مرض فقدان اإلرادة في جسم األمة وعلى مختلف‬
‫المستويات والقطاعات االجتماعية بدءً بأقرب الناس إلى أهل البيت (ع) وانتهاءً بالبُعداء عنهم وعن‬
‫ثقافتهم‪.‬‬

‫والبد أن نستعرض بعض النماذج لرسم صورة عن هذا الواقع المؤلم الذي كان يلمسه اإلمام الحسين‪c‬‬
‫(ع) بكل وضوح‪c.‬‬
‫‪ .1‬لقد أجمعت كلمة عقالء المسلمين على تخويفه ‪-‬يوم صمم الحسين (ع) أن يرفض بيعة يزيد‬
‫ويثور عليه باعتباره معلناً بفسقه مستحالً لحرمات اهلل‪-‬وكانوا يمنّونه السالمة ويقترحون عليه‬
‫الحلول التي ال تنتهي به إلى الشهادة وكانوا ال يتصورون أن التضحية يمكن أن تكون بديالً للحياة‪.‬‬
‫ولم يتلق اإلمام (ع) هذه النصائح من عوام الناس بل من سادة المسلمين أمثال‪ :‬محمّد بن الحنفية‬
‫وعبداهلل بن جعفر وعبداهلل بن عباس وعبداهلل بن عمر‪ .‬لقد كانت تعبر هذه النصائح عن نوعٍ من‬
‫االنهيار النفسي الذي شمل زعماء المسلمين فضالً عن الجماهير التي كانت تعيش هذا االنهيار‬
‫مضاعفاً في أخالقها وسلوكها وأطماعها‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫‪ .2‬موقف عامة زعماء البصرة الموالين لخط اإلمام علي (ع) الذين كاتبهم اإلمام الحسين‪( c‬ع)‬
‫واستنصرهم بعد أن أشعرهم بالخطر الذي تواجهه األمة اإلسالمية‪.‬‬
‫لقد كان رد الفعل لعامتهم هو عدم االستجابة لنداء اإلمام الحسين‪( c‬ع) بل نرى أثر االنهيار التام‬
‫‪‬‬ ‫كان بادياً على عبداهلل بن مسعود النهشلي الذي سلم الرسول والرسالة إلى ابن زياد ال حُباً به بل‬
‫حفاظاً على نفسه‪ ،‬ولئال يكتشف ابن زياد فيجعله نقطة ضعفٍ عليه‪ ،‬فلكي يوفر كل ضمانات البقاء‬
‫الذليل قام بهذا الرد الخياني وتسبب في قتل رسول الحسين‪( c‬ع)‪.‬‬
‫وأما األحنف بن قيس الذي تربى على يدي اإلمام علي (ع) فقد أجاب اإلمام (ع) بآية واحدة فقط‬
‫يأمره فيها بالتصبّر والتريّث‪ ،‬ونلمس في هذا الجواب أن إقدام الحسين‪( c‬ع) كان يُعد عند هؤالء‬
‫نوعاً من العجلة وقلة األناة والخفّة والالتعقّل‪ .‬وهذه هي أخالقية الهزيمة النفسية التي تقع فيها‬
‫األمة بالتدريج‪.‬‬

‫‪ .3‬حينما لقي اإلمام الحسين‪( c‬ع) عبيداهلل بن الحرّ الجعفي استنصره‪ ،‬وكان عبيداهلل ممّن عرف‬
‫الحسين (ع) وعرف خط الحسين‪( c‬ع) فعّز عليه أن يقدّم قطرة من دمه في سبيل اهلل لكنّه كان‬
‫مستعداً ألن يقدم فرسه لمواله‪.‬‬

‫‪ .4‬ذهب حبيب بن مظاهر األسدي ليدعو عشيرته بني أسد لنصرة سيّده الحسين (ع)‪ ،‬وما كان من‬
‫العشيرة إال أن غادرت بأجمعها تلك الليلة المنطقة وخشيت أن تبقى حيادية ال إلى الحسين (ع) وال‬
‫على عدو الحسين‪( c‬ع)‪ ،‬وهل هذه إال الهزيمة النفسية التي مُنيت بها قطاعات األمة بمختلف مستوياتها‬
‫يومذاك؟‬

‫‪ .5‬لقد استطاع عبيداهلل بن زياد خالل أسبوعين أو ثالثة بعد مقتل مسلم بن عقيل أن يجند األلوف‬
‫من أبناء الكوفة –ممن كانوا يحملون الوالء لعلي (ع) وبنيه‪-‬ضدّ الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)‬
‫وهم كانوا قد حابوا إلى جانب أبيه (ع) في صفين والجمل والنهروان‪.‬‬

‫وإذا كانت الهزيمة النفسية لألمة هي الحالة المضّية العامة التي قد تعرضت لها األمة المسلمة في‬
‫عصر الحسين (ع)‪ ،‬فالحسين (ع) حين يريد‪ c‬معالجة هذا المرض المستشري في جسمها البد له أن‬
‫يقدم الموقف النظري والعملي معاً تجاه الوضع القائم ويضع النقاط على الحروف بنحوٍ ينتهي إلى‬
‫اجتثاث جذور هذا المرض الخبيث‪.‬‬
‫ومن هنا كانت الثورة المسلحة بالشكل المثير جداً والذي يستنهض النفوس الميتة ويحييها من‬
‫سباتها ويبدِّل جُبنها إلى الشجاعة ووهنها إلى اإلقدام هو الحلّ الوحيد لألزمة التي حلّت باألمة‬
‫المسلمة بعد رسول اهلل (ص)‪.‬‬

‫وتفصيل ذلك‪ :‬أن الحسين‪( c‬ع) كانت أمامه عدة حلول ممكنة بعد أن طلب يزيد منه البيعة وهدده‬
‫بالقتل إن لم يبايع‪.‬‬
‫الموقف األول‪ :‬أن يبايع يزيد‪ c‬كما بايع عليٌ أبابكر وعمر وعثمان‪.‬‬
‫الموقف الثاني‪ :‬أن يرفض البيعة ويبقى في مكة أو المدينة‪.‬‬
‫الموقف الثالث‪ :‬أن يلجأ إلى بلد من بالد العالم اإلسالمي كما اقترح عليه أخوه محمد بن الحنفية‪.‬‬
‫الموقف الرابع‪ :‬أن يتحرك ويذهب إلى الكوفة مستجيباً للرسائل التي وردته من أهلهل ثم يستشهد‬
‫بالطريقة التي وقعت‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وكان اختياره للموقف الرابع قائماً على أساس إدراكه لطبيعة الظرف الذي يعيشه‪ ،‬فإنه كان عليه‬
‫أن يقف موقفاً يعالج فيه عدة أقسام من أفراد األمة اإلسالمية‪:‬‬
‫القسم األول‪- :‬وكان يشكل‪ c‬جزءاً كبيراً من األمة ‪-‬كان قد فقد خالل عهد معاوية بن أبي سفيان‬
‫إرادته وقدرته على مواجهة الوضع القائم وهو يشعر الذل واالستكانة‪ ،‬وأن خسارة كبيرة تحيق‬
‫‪‬‬ ‫باألمة اإلسالمية وهي تبديل الخالفة إلى كسروية وهرقلية‪.‬‬
‫القسم الثاني‪- :‬من األمة‪-‬هان عليه اإلسالم‪ ،‬فلم يهد يهتم بالرسالة بقدر اهتمامه بمصالحه الشخصية‪،‬‬
‫وتضاءلت أمامه الرسالة وكبر أمامه وجوده ومصالحه واعتباراته‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬كان من المغفلين الذين كان باإلمكان أن تنطلي عليهم حيلة بني أمية لو سكت صحابة‬
‫الرسول عن تحويل الخالفة إلى قيصرية وكسروية ‪ ..‬فإن الخالفة وإن انحرفت عن خطها المستقيم‬
‫منذ توفي الرسول (ص) لكن بقي مفهومها هو مفهوم لخالفة غاية األمر اغتصبه أبوبكر ومن ثم‬
‫عمر وعثمان‪ .‬بينما في عهد معاوية ابن أبي سفيان طرأ على نفس المفهوم تغير أساسي إذ لم تعد‬
‫الخالفة حكماً لألمة وإنما حولها معاوية إلى حكم كسرى وقيصر‪ ،‬وهو تحويل خطير في المفهوم‬
‫أراد معاوية أن يلبسه ثوب الشرعية ولو كان هذا التحويل‪ c‬يواجه بسكوت من قبل الصحابة ألمكن أن‬
‫تنطلي حيلة معاوية على الكثير من السذّج والبسطاء إذ يرون‪ c‬في سكوت الصحابة مضاءً له ‪..‬‬

‫القسم الرابع‪ :‬وهو ما يرتبط بتنازل اإلمام (ع) عن المعركة مع معاوية وإعالنه الهدنة باعتباره هو‬
‫األسلوب الوحيد الذي كان يحتمه على اإلمام الحسن (ع) موقعه ومركزه كأمين على اإلسالم‬
‫والمسلمين –فإن هذا الواقع لم يكن مكشوفاً‪-‬بالدرجة الواضحة إال داخل دائرة الجماهير التي كانت‬
‫تعيش المأساة عن قرب كالعراق بشكل عام دون من كان يعيش في أطراف العالم اإلسالمي كأقاصي‬
‫خراسان حيث لم يعش المحنة يوماً بعد يوم ولم يكتوِ بالنار التي اكتوى بها اإلمام الحسن (ع) في‬
‫الكوفة من قواعده وأعدائه‪ ،‬وإنما كانت تصله األخبار عبر المسافات الشاسعة بين الكوفة وأطراف‬
‫خراسان مثالً‪ ..‬فهو لم يميز أن هذا التنازل هل هو اعتراف بشرعية األطروحة األموية أو هو تصرف‬
‫اقتضته الضرورة والظروف الموضوعية التي كان يعيشها اإلمام الحسن (ع)؟‬

‫فكان البد لإلمام الحسين‪( c‬ع) أن يختار موقفاً يعالج فيه مشكلة كل واحد من هذه األقسام األربعة‬
‫من األمة‪ ،‬وليس هذا تقسيماً حدّياً بحيث ال يمكن أن ينطبق قسمان منهما على فرد واحد‪ ،‬بل يمكن أن‬
‫يتصادق عنوانان منها على فرد أو أفراد من األمة اإلسالمية‪.‬‬

‫فكان البدّ أن يختار الموقف الذي يرجع فيه للقسم األول إرادته التي فقدها بالتميّع األموي‪ ،‬وإلى‬
‫القسم الثاني إيمانه بالرسالة وشعوره بأهمية اإلسالم‪ ،‬وأن يسلب الدليل عن معاوية على تحويل‬
‫الخالفة إلى كسروية وقيصرية‪ ،‬وذلك عن طريق معارضة الصحابة –المتمثلة فيه وفي البقية‬
‫الباقية من الصحابة والتابعين‪-‬لعملية التحويل هذه‪ ..‬وأن يختار الموقف الذي يشرح‪ c‬فيه ‪-‬حتى لمن‬
‫كان بعيداً عن األحداث‪-‬أن تنازل اإلمام الحسن (ع) لم يكن إمضاء لعملية التحويل‪c.‬‬

‫وتقويم المواقف األربعة من حيث قدرة كل منها على تحقيق األهداف المُشار إليها كما يلي‪:‬‬
‫أما الموقف األول‪- :‬وهو أن يبايع يزيد‪ c‬بن معاوية‪-‬فهو ال يحقق مكسباً على مستوى معالجة تلك‬
‫األقسام من األمة‪ ...‬ألنه لم تكن قصة يزيد‪ c‬قصة أبي بكر وعمر وعثمان‪ ،‬ألن التحويل‪ c‬هنا على‬
‫مستوى المفهوم‪ ،‬ولم يكن باإلمكان أن تمضي دون أن يقف أهل البيت الذين هم القادة الحقيقيون‬
‫لألمة الموقف الديني الواضح المحدد من عملية التغيير‪ c‬هذه‪c..‬‬

‫‪41‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وأما الموقف الثاني‪ :‬فهو ال يحقق ذلك المكسب الذي يريده‪ c‬الحسين‪( c‬ع) أيضاً‪ ،‬وذلك ألن اإلمام‬
‫الحسين (ع) كان يؤكد ‪ -‬والظروف الموضوعية كانت تشهد على طبق تأكيده‪-‬أنه لو بقي في‬
‫المدينة أو في مكة رافضاً للبيعة لقتل من قِبل بني أمية حتى ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة‪ ..‬وهذا‬
‫القتل ليس كالقتل الذي استطاع أن يحرك‪ c‬البقية الباقية من عواطفهم ومشاعرهم ال يمكن خالل‬
‫‪‬‬ ‫قتلٍ عابرٍ سهلٍ من هذا لقبيل‪ ،‬بل البد من أن تحشد له كل المثيرات والمحركات‪.‬‬

‫وأما الموقف الثالث‪ :‬فهو وإن كان أسلم من األول والثاني على الخط القصير ألنه يمكنه أن يعتصم‬
‫بشيعته في اليمن مثالً إلى برهة معينة لكنه سوف ينعزل ويحيط نفسه إطار منغلق عن مسرح‬
‫األحداث بينما البد أن يباشر عمله التغييري على مسرح األحداث الذي كان وقتئذ هو الشام والعراق‬
‫ومكة والمدينة كي يمكن لهذا العملي أن يؤثر تربوياً وروحياً وأخالقياً في كل العالم اإلسالمي‪.‬‬

‫وعليه كان البد أن يختار الموقف الرابع الذي استطاع أن يهز به ضمير األمة من ناحية‪ ،‬ويشعرها‬
‫بأهمية اإلسالم وكرامة هذا الدين من ناحية ثانية‪ .‬وأن يدحض عملية تحويل الخالفة إلى كسروية‬
‫وقيصرية من ناحية ثالثة‪ ،‬وأن يوضح لكل المسلمين مفهوم التنازل عند اإلمام الحسن (ع) وأنه لم‬
‫يكن موقفاً إمضائياً وإنما كان أسلوباً تمهيدياً لموقف اإلمام الحسين‪( c‬ع)‪.‬‬

‫الخالصة ‪..‬‬
‫‪ ‬لم يتحرك اإلمام الحسين (ع) ‪-‬بعد موت معاوية ألن الحسين‪( c‬ع) لم يكن مستعداً لنقض بنود‬
‫الصلح الموقعة في زمن اإلمام الحسن (ع) بحالٍ من األحوال وهو كان ينتظر توفر كل الشروط‬
‫الالزمة للثورة التي لم تكن متوفرة على استشهاد اإلمام الحسن (ع)‪.‬‬
‫‪ ‬ويعود الدافع الحقيقي للثورة بهذا الشكل الذي تحقق ‪-‬وإن لم يكن فيها أي مكسب آني من حيث‬
‫الوصول إلى الحكم‪-‬إلى أن إرادة األمة كانت قد أصبحت ميتة بعد أن عرفت حقيقية خط أهل البيت‬
‫(ع)‪.‬‬
‫‪ ‬ولم يكن أي إجراء بقادر على تحريك ضميرها إال الشهادة والتضحية التي تغرس في أعماق‬
‫وجودها عظمة الدين ورخص النفس والحياة المادية بالنسبة على دين اهلل الذي جاء بكرامة اإلنسان‬
‫واستهداف إيصاله إلى الكمال الالئق به‪.‬‬

‫المناقشة‬

‫س‪ :1‬ما هي األسباب المباشرة وغير المباشرة التي منعت اإلمام الحسين‪( c‬ع) من الثورة على‬
‫معاوية؟‬
‫س‪ :2‬إلى أي مدى وصلت حالة الشك لدى األمة بعد سيطرة معاوية على الحكم؟‬
‫س‪ :3‬لماذا مزّق معاوية وثيقة الصلح التي أبرمها مع اإلمام الحسن (ع)؟‬
‫س‪ :4‬ما هو رأيك في اعتراضات بعض األطراف على اإلمام الحسين‪( c‬ع) عندما أعلن الخروج إلى‬
‫العراق؟‬
‫س‪ :5‬كيف كانت األمة تنظر إلى الدين في عصر اإلمام الحسين (ع)؟‬
‫س‪ :6‬ما هو واجب المسلم إذا واجه منكراً‪ ،‬أو رأى سلطاناً جائراً مستحالً لحرم اهلل؟‬

‫‪42‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫الدرس الثامن‬
‫الثورة‪ K‬الحسينية (‪)2‬‬
‫‪‬‬

‫]المقومات‪ ،‬الخصائص‪ ،‬النتائج[‬

‫المقومات والخصائص‬
‫نستطيع أن نحدد الموقف العملي للحسين (ع) بأنه موقف مبني على ضوء النظرة اإلسالمية للحكم؛‬
‫ألن النظرية اإلسالمية في الحكم تبتني على أساس األطروحة المنفذة في الواقع والمتجسدة في‬
‫الخطوات العملية للسلطة‪ ،‬فإن كانت تلك األطروحة إسالمية فهي وإال فال قيمة إلسالمية الحاكم‪،‬‬
‫وصالته وتعبده‪ ،‬ألن المعنى العبادي الحقيقي البد أن ينعكس على سلوك الفرد ومشاعره وأعماله‪.‬‬
‫ومن هنا فال قيمة إلسالمية يزيد‪ c‬أو غيره من حكام الجور وال معنى للشعائر التي يؤدونها‪.‬‬

‫وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬والحكام األمويون ال يطبقون شريعة السماء‪ ،‬فعلى الحسين‪( c‬ع) باعتباره‬
‫أفضل إنسان يجسد اإلسالم يومذاك وعلى المسلمين جميعاً الوقوف بوجه هؤالء الطغاة والتصدي له‬
‫ألنهم يريدون حكم الجاهلية ويحاربون شريعة السماء‪.‬‬
‫ولكن هذه الجاهلية ارتدت ثوباً جديداً هذه المرة يخفي حقيقتها عن األنظار‪ ،‬ولقد ثار الحسين‪( c‬ع)‬
‫ليكشف لألمة اختفاء الحكام خلف اسم الدين‪ c،‬وليفضح أمام المسلمين حقيقية الطواغيت الذين حكموا‬
‫الناس باسم خالفة الرسول (ص)‪.‬‬

‫لم تكن واقعة الطف قضية مأساوية عابرة حدثت في مرحلة معينة من التأريخ فحسب؛ بل هي صورة‬
‫متكاملة لتجسيد الصراع بين الحق والباطل‪ ،‬هي مسرحية واقعية تنبض بالحياة‪ ،‬أدى أدوارها كل‬
‫صنف من أصناف البشر وبمختلف األعمار واألجناس‪ ،‬فيها المعصوم الذي ال يخطأ ساهياً‪ ،‬والمجرم‬
‫الذي ال يتورع عن فعل أدنى األفعال وأبشعها‪ ،‬فيها المرأة والطفل الرضيع والصبي والشيخ العجوز‪،‬‬
‫فيها التائب والعاصي‪ ،‬فيها السمو والرفعة‪ ،‬وفيها أيضاً الدناءة والخسّة‪.‬‬

‫وهي وإن لم تعبر عن مرحلة تأريخية لكنها عبرت عن حالة أمة‪ ،‬انحرف بها الحكام عن جادة الصواب‬
‫وأبعدوها عن رسالتها وعقيدتها‪ ،‬حتى أصبحت أمة ميتة‪ ،‬ال تفكر إال بهذا المقدار من النفس الصاعد‬
‫النازل‪ ،‬هذه األمة التي بلغ بها الخوف حداً ال يوصف‪ ،‬فهي تعرف أن الحق ال يعمل به والمنكر ال‬
‫يتناهى عنه‪ ،‬تدرك ذلك وال تحرك ساكناً‪ ،‬إن هذه األمة جاءها أجلها فماتت‪ ،‬وإن كانت األجساد‬
‫متحركة‪.‬‬

‫وجاءت واقعة الطف كقضية مأساوية مثيرة‪ ،‬لتحرك في األمة ضميرها وتعيدها نحو رسالتها وتبعث‬
‫شخصيتها العقائدية من جديد‪ ،‬وكان من الالزم أن يقوم بهذا الدور مجموعة من الناس قادرة بما‬
‫تمتلك من قدرات ومقومات تجعل دورها فاعالً ومؤثراً في حياة هذه األمة الميتة‪ ،‬كما صور ذلك‬
‫الفرزدق بقوله لإلمام الحسين‪( c‬ع)‪ :‬الناس سيوفهم عليك وقلوبهم معك‪.‬‬

‫وكانت أهم هذه المقومات (التي اجتمعت في ثورة الحسين (ع) الفريدة) ما يلي‪:‬‬

‫‪43‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪ .1‬المقومات الشخصية للثائر‪:‬‬
‫إن الثائر الذي يقود جبهة الحق كان إماماً معصوماً يمتلك كل المواصفات القدسية بنص حديث‬
‫الرسول (ص)‪( :‬الحسن والحسين‪ c‬إمامان قاما أو قعدا)‪ ،‬فهذه الصفة القدسية التي يمتلكها الحسين‪c‬‬
‫(ع) تدركها األمة‪ ،‬خصوصاً مع وجود عدد غير قليل من الصحابة الذين عاصروا الرسول (ص)‬
‫‪‬‬ ‫وسمعوا منه تلك األحاديث بشأن هذا اإلمام (ع)‪.‬‬

‫وباإلضافة إلى ذلك فاإلمام (ع) يمتلك عنصر النسب الذي ال تشوبه شائبة وال يناله شك‪ :‬أبوه علي‬
‫(ع) وأمه فاطمة (ع) وجده الرسول (ص)‪ ،‬والصحابة يتذكرون حديث الرسول (ص) بشأنه‪:‬‬
‫(حسين مني وأنا من حسين)‪ ،‬يدركون هذا التمازج الروحي والتمازج النسبي‪ ،‬والحسين‪( c‬ع) يمتلك‬
‫الجاه والشرف‪ c،‬كيف ال؟! وهو محط أنظار المسلمين وكهف المستغيثين والالجئين‪ ،‬ويمتلك‬
‫اإلمام المال الثروة‪ .‬أتذكرون يوم عاشوراء حينما خاطب ‪-‬سالم اهلل عليه‪-‬أخته الحوراء قائالً‪:‬‬
‫ناوليني مالبس استبدل بها مالبسي هذه لئال يطمع القوم فيها فيسلبونها فلما أعطته مالبس رديئة‬
‫بالية قال لها مستنكراً (أو يلبس ابن أبيك مثل هذا؟) فلو كان لباسه األول عادياً لقبل تلك الخرق‬
‫البالية‪ ،‬فالبد أن يكون لباسه في أول األمر من أفخر األلبسة وأثمنها‪ ،‬والروايات تذكر أن القافلة‬
‫الهاشمية كانت محملة باألموال الكثيرة‪ ،‬فالحسين (ع) كان يمتلك كل المقومات الشخصية‬
‫للقداسة‪ ،‬والشرف والجاه‪ ،‬الغنى والثروة‪ ،‬والعصمة‪.‬‬

‫‪ .2‬الحجة‪:‬‬
‫ولكي ال تكون الثورة هامشية‪ ،‬فال تعطي ثمرتها المرجوة‪ ،‬فقد كان الثائر يمتلك الوثائق الكفيلة‬
‫بإضفاء المشروعية على هذه الثورة وأنها الحل الوحيد والخيار الذي ال بديل له‪ .‬فقد كانت الرسائل‬
‫الواردة من زعماء العراق ومن الكوفة خاصة تطلب من اإلمام (ع) بإلحاح القدوم إلى العراق‪ ،‬وكان‬
‫مضمون هذه الرسائل ‪-‬كما تنقل الروايات‪ :-‬أقدِم على جند لك مجندة‪ ،‬فقد طاب الجنان واخضر‬
‫المقام‪.‬‬
‫والشك أن عدم تلبية اإلمام لهذه الطلبات ‪-‬التي تقدر على أقل الروايات باثني عشر ألف رسالة‪-‬سيلزم‬
‫اإلمام (ع) الحجة في تفويته للفرصة‪ ،‬وبالعكس فإن المجيء سيُلزم األمة الحجة إن هي خانت‪.‬‬
‫واألمر اآلخر إن اإلمام (ع) كان أمامه التهديد األموي إن هو لم يبايع‪ ،‬ولو بايع فإنه سيعطي في مثل‬
‫هذه الحالة الوثيقة الشرعية للحكام األمويين الظلمة‪ ،‬وسيطفئ بالتالي بصيص األمل الذي ترصده‬
‫األمة في تلك الشخصية المعارضة‪ ،‬أعني شخصية اإلمام (ع)‪.‬‬

‫وفي حالة رفضه فإنه أمام خيارين‪ ،‬إما الموت الذي قرره األمويون له ‪-‬ولو كان متعلقاً بأستار‬
‫الكعبة‪-‬وإما الرحيل إلى إحدى المناطق التي يمتلك فيها شعبية وشيعة‪ ،‬وال تتعدى هذه المناطق‬
‫اليمن‪ ،‬الكوفة والبصرة‪ ،‬ومن المعلوم أن الطلب األموي سوف يالحقه في هذه المناطق بال فرق‪ ،‬وما‬
‫دامت الكوفة تحتوي أكثر القواعد الشعبية المؤيدة له ‪-‬سالم اهلل عليه‪-‬باإلضافة إلى الطلب الشديد‬
‫من قبل أهلها‪ ،‬فإن الخيار الصحيح البد أن يكون بالرحيل إلى الكوفة عاصمة أبيه أمير المؤمنين (ع)‪.‬‬
‫ولهذا رفض اإلمام (ع) إلحاح أخيه محمد بن الحنفية وممانعته من الذهاب إلى الكوفة‪ ،‬كما رفض‬
‫طلب ابن عباس (رحمه اهلل) الذي أشار على اإلمام (ع) بالذهاب إلى اليمن‪.‬‬

‫‪ .3‬الشعار‪:‬‬
‫ولكي ال تشوّه هذه الثورة‪ ،‬خصوصاً وأن اإلمام (ع) قد علم بخيانة أهل الكوفة‪ ،‬وكيف قتلوا رسوله‬
‫مسلم بن عقيل (عليه السالم) وصاحبه هاني بن عروة‪ ،‬وشردوا بقية األنصار واعتقلوا قسماً منهم‪ .‬إن‬
‫هذه الصورة جعلت الحسين (ع) أمام مواجهة عسكرية ال مناص له منها‪ ،‬ولكي ال تشوّه هذه الثورة‬
‫فقد أعلن الحسين عن أهدافها وطرح شعاراتها ابتداءً من المدينة حتى يوم المجزرة الكربالئية‪ ،‬فهو‬

‫‪44‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫يقول‪( :‬واهلل إني ما خرجت أشراً وال بطراً وال ظالماً وال مفسداً وإنما خرجت لطلب اإلصالح في‬
‫أمة جدي آلمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) ثم أنه وضع األمة أمام الخيارات التي ال مناص منها‬
‫ليجعل من ثورته األسلوب الوحيد أمام التحديات الكافرة‪ ،‬فبعد أن التقى الحر بن يزيد الرياحي‬
‫(رضي اهلل عنه) قال (ع)‪ :‬هذه أرض اهلل واسعة فدعوني أذهب في شأني‪ ،‬أو ما يقارب هذه العبارة‪،‬‬
‫‪‬‬ ‫وفي الكلمة ‪-‬في أقل تقدير‪-‬أن يُترك اإلمام (ع) يختار حياة العزلة‪ ،‬ولكن جيش الحرّ رفض التخلي‬
‫عن أوامر السلطة الجائرة فجعجعوا به إلى كربالء‪ ،‬وهناك أيضاً وضع أصحابه أمام الخيار فلم يرد‬
‫إقحامهم في معركة خاسرة من الناحية العسكرية‪ c،‬لذا جمعهم ليلة العاشر من المحرّم ثم خطبهم‬
‫وقال‪:‬‬
‫إن هذا الليل قد أرخى سدوله فاتخذوه‪ c‬جمالً‪ ،‬ليس عليكم منّي ذمام‪ .‬ولقد رفض هؤالء األخيار هذا‬
‫الطلب‪ ،‬حينما قام زهير بن القين‪ ،‬فقال‪ :‬ماذا نقول للعرب ‪-‬أو‪ :‬لجدك‪-‬أيقتل ابن بنت رسول اهلل ونظل‬
‫أحياء؟ّ ال واهلل ال نفعل ذلك أبداً‪ .‬وقال غيره مثل قوله‪.‬‬
‫ولمّا كانت المواجهة حتمية وأن السيف هو الحكم الفصل؛ أصرّ الحسين (ع) على خوض هذه‬
‫الحرب قائالً‪ :‬إن كان دين محمد لم يستقم إال بقتلي فيا سيوف خذيني‪.‬‬
‫وعلى كل حال فقد وضع اإلمام الحسين (ع) أهداف الثورة أمام عينيه منذ حركته من المدينة حتى‬
‫مصرعه في الطف‪ ،‬بل واصلت أخته الحوراء (ع) حمل تلك الرسالة فكانت الوسيلة اإلعالمية التي‬
‫تذيع أخبار الثورة‪ ،‬والمِعوَل الهدّام في العرش األموي الحاكم‪.‬‬

‫‪ .4‬المقوّم العاطفي‪:‬‬
‫وهي عملية إثارة المشاعر في نفوس المسلمين الذين لم تحرك األفكار المنطقية عقولهم‪.‬‬

‫ويالحظ المقوّم العاطفي في الثورة الحسينية من خالل أُسلوبين‪:‬‬


‫أولهما‪ :‬إشراك العقائل من الهاشميات في الثورة باإلضافة إلى اشتراك األطفال بالدرجة التي يساهم‬
‫فيها رضيع وُلد في اليوم العاشر من المحرم أثناء المعركة؛ فإن وجود نساء البيت العلوي ومخدرات‬
‫الهاشميين في خضّم هذه المحنة البد أن يثير في النفوس العطف وفي القلوب االنكسار مهما كانت‬
‫تلك النفوس متوحشة والقلوب قاسية‪ .‬أما األطفال فقد قدمتهم الثورة كدليل على أن هؤالء القوم‬
‫يحاربون خوفاً وطمعاً قد بلغ األمر حينما نسوا اهلل فأنساهم ذكر أنفسهم‪ ،‬بلغ بهم األمر حداً ال‬
‫يوصف من الدناءة والوضاعة واللؤم‪ ،‬فلهذا خاطبهم الحسين (ع) بقوله‪( :‬إن كان الذنب ذنب الكبار‬
‫فما هو ذنب هؤالء األطفال؟) وبهذه المشاركة أضاف للثورة رصيداً عاطفياً ضخماً جعلها تحتل‬
‫مركز القمة بين الفواجع على طول التأريخ وتحرك مشاعر المسلمين وعواطفهم وأحاسيسهم إلى‬
‫يومنا هذا‪.‬‬

‫واألسلوب الثاني‪ :‬هو أسلوب التذكير والوعظ الذي استخدمه اإلمام (ع) وصحبه (رضوان اهلل‬
‫عليهم) فلقد ذكّر اإلمام القوم بقوله‪( :‬انسبوني من أنا‪ ،‬ألست ابن بنت نبيكم؟ ثم يقول لِمَ‬
‫تحاربونني‪ ،‬ألسنّةٍ غيرتها أم لبدعةٍ ابتدعتها؟) وفي موضع آخر يقول‪ :‬إن لم يكن لكم دين وكنتم‬
‫عُرباً ‪-‬كما تزعمون‪ ،-‬فكونوا أحراراً في دنياكم‪ ،‬كان ذلك في إشارة منه للقوم حينما هجموا على‬
‫بيوت عقائل الرسالة‪ ،‬إال أنهم وصلوا حداً لم ينسوا‪ c‬دينهم فحسب‪ ،‬بل نسوا حتّى أعرافهم العربية التي‬
‫تعودوها وتسالموا عليها‪ ،‬ولهذا أيضاً نجد اإلمام (ع) يصف حال الناس بقوله‪ :‬والدين‪ c‬لعق على‬
‫ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا مُحِصوا بالبالء قل الديّانون‪.‬‬
‫وعلى ضوء ما سبق نكون قد رسمنا صورة موجزة لمقوّمات الثورة من جهة ولحالة األمة أيضاً‪،‬‬
‫فاألمة ‪-‬كما قلنا‪-‬بلغت حالة االحتضار أو الموت‪ ،‬بحيث ال تقوى على المعارضة إذ كانت تعيش أزمة‬

‫‪45‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫معقدة من الخوف في الوقت الذي كان يحاول الحكام جرّ األمة إلى الهاوية‪ ،‬وقتل روح العزّة‬
‫والكرامة لديها‪ ،‬وتفتيت كيانها الحضاري وإبعادها عن رسالتها رسالة السمحاء‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪46‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫الدرس التاسع‬
‫الزهراء (ع) بعد أبيها رسول هللا (ص)‬
‫‪‬‬

‫انشغل‪ c‬عليٌ وفاطمة (ع) وبنو هاشم ومعهم بعض الصحابة األجالء بفاجعة رحيل الرسول (ص)‬
‫وتجهيزه ودفن جسده الطاهر‪.‬‬
‫بينما تسارع أبوبكر وعمر وأبو عبيدة إلى سقيفة بني ساعدة وتنافسوا وتصارعوا مع األنصار على‬
‫الخالفة رافعين شعار القرابة ووراثة السلطة‪ ،‬ومهددين‪ c‬كل معارض بالموت كما يتجلى ذلك‬
‫بوضوح في النص الذي اشتهر عن لسان منظِّر الحزب الفائز‪( :‬من ذا ينازعنا سلطان محمد وميراثه؟‬
‫ونحن أولياؤه وعشيرته إال مدلٍ بباطلٍ أو متجانف إلثم أو متورط في هلكة)‪ .‬اإلمامة والسياسة‪/‬ج‬
‫‪.1‬‬

‫وبهذا التهديد خرج الحزب القرشي ظافراً على منافسيه من األنصار للغاية‪ ،‬لم تشهد األمة اإلسالمية‬
‫تنافساً وتكالباً على هذا الحطام أحزّ في النفس منه‪ ،‬حتى قال عمر بن الخطاب فيما بعد معبراً عن‬
‫شدة التنافس ومرراته‪( :‬كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اهلل المسلمين شرّها‪ ..‬أال ومن عاد إلى مثلها‬
‫فاقتلوه)‪ .‬تأريخ الطبري‪/‬ج‪.3‬‬
‫لقد هدد سعد بن عبادة بالقتل وقُتل فيما بعد‪،‬كما هُدد عليٌ وذووه‪ c‬بالقتل أيضاً حينما تخلفوا عن‬
‫بيعة أبي بكر‪.‬‬
‫لقد انتهت مناورات السقيفة الصاخبة بظهور أبي بكر على مسرح الخالفة وفرض على األمة أن تبايعه‬
‫حتى كان الحزب الظافر ال يمرون بأحد إال خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر‬
‫يبايعه شاء ذلك أو أبى‪ .‬شرح نهج البالغة‪/‬ج‪.1‬‬

‫وبهذا تحققت أول مؤامرة على السلطة بعد وفاة رسول اهلل (ص) ‪-‬بعد أن فشل المنافقون في أكثر‬
‫من موقف للتخلص من سلطة الرسول (ص) بالتآمر على قتله‪-‬وتحققت نبوءة الرسول (ص) بتظافر‬
‫القوم ضد علي إلبعاده عن مسرح القيادة التي نالها بالتنصيب اإللهي‪-‬كما الحظنا ذلك في يوم غدير‬
‫خمّ‪.‬‬
‫وقد أحكم الحزب الظافر قبضته على زمام الحكم مستغالً حراجة الظرف الذي كانت تمر به الدولة‬
‫واألمة اإلسالمية بعد وفاة الرسول (ص) بالرغم من أن عامة المهاجرين واألنصار لم يكونوا يشكون‬
‫أن علياً هو صاحب األمر بعد رسول اهلل (ص) على حد تعبير ابن إسحاق‪.‬‬

‫وكان من الطبيعي أن يرفض علي بن أبي طالب (ع) بيعة أبي بكر‪ ،‬كما كان من الطبيعي أن يرفضها‬
‫كل من سمع بتنصيب الرسول لعلي (ع) وآمن بهذا التنصيب اإللهي‪.‬‬
‫ومن هنا انطلقت االحتجاجات الصارخة من قبل علي وفاطمة والصحابة المؤمنين بإمامته‪.‬‬

‫الموقف العملي إلعادة الخالفة إلى علي (ع)‬


‫لقد وقفت فاطمة (ع) إلى جانب علي (ع) ال بدافع العاطفة الزوجية؛ وإنما الواجب الشرعي هو الذي‬
‫كان يملي عليها بعد اطالعها على وصية رسول اهلل (ص) في إمامة علي (ع)‪ ،‬وكانت (ع) تخرج مع‬
‫علي (ع) إلى مجالس األنصار وتسألهم النصرة‪ ،‬فكانوا يقولون‪ :‬يا بنت رسول اهلل قد مضت بيعتنا لهذا‬

‫‪47‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫الرجل‪ ،‬ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر‪ ،‬ما عدلنا به‪ ،‬فيقول علي (ع)‪( :‬أفكنت أدع‬
‫رسول اهلل (ص) في بيته لم ادفنه‪ ،‬وأخرج أنازع الناس سلطانه؟)‪.‬‬
‫وكانت فاطمة تقول‪( :‬ما صنع أبو الحسن إال ما كان ينبغي له‪ ،‬ولقد صنعوا ما اهلل حسيبهم‬
‫وطالبهم)‪ .‬اإلمامة والسياسة‪/‬ج‪.1‬‬
‫‪‬‬ ‫واستمرت فاطمة (ع) برفقة علي (ع) تدعو األنصار إلى نصرة زوجها‪ ،‬ولكن لم تجد معيناً على‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وكان خالد بن سعيد غائباً فقدم فأتى علياً (ع) فقال‪( :‬هلم أبايعك‪ ،‬فواهلل ما في الناس أحد أولى‬
‫بمقام محمد منك)‪ ،‬واجتمع جماعة إلى علي (ع) يدعونه إلى بيعته‪ .‬فقال لهم‪ :‬اغدوا عليّ هذا‬
‫محلقين الرؤوس‪ ،‬فلم يغد عليه إال ثالثة نفر‪ .‬تأريخ اليعقوبي‪/‬ج‪.2‬‬
‫وبقي بيت فاطمة (ع) مقراً للموالين إلى عليّ (ع) يخططون إلعادة الخالفة إليه‪ ،‬لكن الحزب‬
‫الحاكم كان مصمماً على ضرب المعارضة أنى كانت ومهما كلف األمر‪ ،‬ومن هنا تجرأوا على‬
‫اقتحام بيت الزهراء (ع) وعلي (ع) مهددين بالحرق ومتحدين ابنة رسول اهلل (ص) بكل قوة‬
‫وأكرهوا علياً ومن معه على البيعة وهددوهم بالقتل إن لم يبايعوا‪.‬‬

‫تأميم فدك وموقف الزهراء (ع)‬


‫قرر الحزب الحاكم أن يصادر فدكاً ليشل كل مصادر القوة المادية التي قد يستفيد منها علي (ع)‬
‫ضد السلطة إلحباط المؤامرة‪ ،‬ولهذا سارع إلصدار قرار بتأميم فدك وسلبها من فاطمة (ع)‪ ،‬فلما‬
‫بلغها ذلك أرسلت من يطالب بحقها من أبي بكر ثم قررت أن تواجهه بنفسها‪ ،‬ولهذا قدِمت ومعها‬
‫بعض النساء فدخلت على أبي بكر‪ ،‬فأنت أنةً أجهش لها القوم بالبكاء‪ ،‬فلما سكتوا خطبت فيهم خطبة‬
‫طويلة قالت في آخرها‪( :‬فاتقوا اهلل حق تقاته‪ ،‬وأطيعوه فيما أمركم به‪ ...‬ونحن وسيلته في خلقه‪،‬‬
‫ونحن خاصته‪ ،‬ومحل قدسه‪ ،‬ونحن حجته في غيبه‪ ،‬ونحن ورثة أنبيائه‪...‬‬
‫ثم أنتم تزعمون أن ال إرث ألبي‪ ...‬أفي كتاب اهلل أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك‪ ،‬وال أرث أبي؟! لقد‬
‫جئت شيئاً فريّاً! فدونكها مخطوطة مرحولة تلقاك يوم حشرك‪ ،‬فنِعمَ الحَكمُ اهلل‪ ،‬والزعيم محمد‪،‬‬
‫والموعد القيامة‪ ،‬وعند الساعة يخسر المبطلون‪ ،‬ولكل نبأٍ مستقرّ‪ ،‬وسوف تعلمون من يأتيه عذاب‬
‫يخزيه ويحل‪ c‬عليه عذابٌ مقيم!)‪.‬‬
‫ثم التفتت إلى قبر رسول اهلل (ص) فتمثلت بقول هند بنت أثاثة‪:‬‬
‫لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‬ ‫قــد كــان بــعدك أنـباء وهـنبثة‬
‫لمّــا قـضـيــت وحـالـت دونــك الـكتــب‬ ‫أبدت رجال لنا نجوى صدورهم‬
‫إذ غـبـت عـنـّا فـنـحـن الـيـوم‬ ‫تـجهـّمتنا رجـــال واسـتـُخف بـنـــا‬
‫نـُغـتَصَبُ‬

‫ثم عدلت إلى جمع األنصار فقالت‪:‬‬


‫يا معشر البقية‪ ،‬وأعضاد الملّة‪ ،‬وحضنة اإلسالم‪ ،‬ما هذه الفترة عن نصرتي‪ ،‬والنية عن معونتي‪،‬‬
‫والغمزة في حقي‪ ،‬والسِّنة عن ظالمتي‪)...‬؟ شرح نهج البالغة‪/‬ج‪.16‬‬
‫وحينما احتج أبوبكر بحديث نسبه إلى رسول اهلل (ص)‪( :‬إن األنبياء ال يورثون)‪ ،‬قالت (ع)‪ :‬إن فدكاً‬
‫وهبها لي رسول اهلل (ص)‪ ،‬وشهد علي (ع) وأم أيمن بذلك‪ ،‬وشهد عمر وعبدالرحمن بن عوف بأن‬
‫رسول اهلل (ص) كان يقسّمها‪ ،‬فأخذ بقول عمر‪.‬‬
‫وقد طلبتها (ع) بالميراث تارة وبالنحلة أخرى فدُفعت عنها‪.‬‬

‫وفي رواية‪ :‬جاءت تطلب ميراثها من رسول اهلل (ص)‪ :‬أرضه من فدك‪ ،‬وسهمه من خيبر‪ ،‬فلم يجبها‬
‫أبوبكر لما طلبت‪ ،‬فهجرته ولم تكلمه في ذلك حتى ماتت‪ .‬تأريخ الطبري‪/‬ج‪.3‬‬

‫‪48‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫وبقيت فدك حقاً مغتصباً تُعاد إلى ولد فاطمة ثم تؤخذ منهم تبعاً لطبيعة الحاكم وعالقته مع أهل‬
‫البيت‪.‬‬
‫ولم تكن فاطمة (ع) تطالب بفدك لكونها أرضاً بل تعبيراً عن الحق المغتصب‪ ،‬وقد وضح اإلمام‬
‫موسى الكاظم (ع) هذه الحقيقة لهارون الرشيد العباسي‪ ،‬حينما أراد إرجاعها له فقال (ع)‪( :‬ال آخذها‬
‫‪‬‬ ‫إال بحدودها)‪ ،‬وقد جعل حدودها جميع أراضي الدولة اإلسالمية‪ .‬ربيع األبرار‪/‬ج‪.1‬‬

‫‪49‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫مقاطعة فاطمة (ع) ألبي بكر وعمر‬


‫قال عمر ألبي بكر‪ :‬انطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها‪ ،‬فلم تأذن لهما‪ ،‬فأتيا علياً فكلماه‪ ،‬فأدخلهما‬
‫عليها‪ ،‬فلمّا قعدا عندها‪ ،‬حولت وجهها إلى الحائط ‪ ...‬وقالت‪ :‬نشدتكما اهلل ألم تسمعا رسول اهلل‬
‫‪‬‬ ‫يقول‪( :‬رضا فاطمة من رضاي‪ ،‬وسخط فاطمة من سخطي؟)‪c...‬‬
‫قال أبوبكر‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فإني أُشهد اهلل ومالئكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني‪ ،‬ولئن لقيت النبي (ص) ألشكونكما‬
‫إليه‪.‬‬
‫فقال أبوبكر‪ :‬أنا عائذ باهلل تعالى من سخطه وسخطكِ يا فاطمة‪ ،‬ثم انتحب يبكي‪ ...‬وهي تقول‪:‬‬
‫(واهلل ألدعونَّ اهلل عليك في كل صالة أُصليها)‪ .‬اإلمامة والسياسة‪/‬ج‪.1‬‬
‫وهجرته فاطمة (ع) ولم تكلمه حتى ماتت‪ .‬تأريخ الطبري‪/‬ج‪.3‬‬

‫تحليل حركة الزهراء ضد السلطة الحاكمة‪K‬‬


‫لقد كانت الزهراء تلك الشجرة اليانعة في بيت النبوة ومهبط الوحي وكانت تعيش المحنة مع‬
‫اإلمام علي (ع) فكان يقلقها مصير الدعوة‪ ،‬ويؤلمها انحراف األمة‪ ،‬وما كان يؤخرها شيء عن الدفاع‬
‫عن شجرة اإلسالم الباسقة‪ ،‬وحق علي (ع) في الخالفة‪ ،‬فتحركت مع اإلمام يحدوها األمل في إيقاظ‬
‫ضمير األمة ويدفعها الحرص أن ترى رسالة اإلسالم تمتد في آفاق األرض متمثلة ألوامره مطيعة له‬
‫في أهل بيته‪.‬‬

‫وكان دور الزهراء (ع) دوراً مهماً وكبيراً حيث تمثل في مطالبتها أبابكراً بما انتزعه منها من‬
‫أموال‪ .‬حيث جعلت المطالبة وسيلة للمناقشة في مسألة الخالفة وإفهام الناس بأن اللحظة التي عدلوا‬
‫فيها عن علي (ع) إلى أبي بكر كانت لحظة غير واعية وبعيدة عن خط الرسالة اإلسالمية ومخالفة‬
‫لكتاب اهلل وسنة رسوله (ص)‪.‬‬
‫كانت حركة الزهراء (ع) مخططة ومدروسة قد أعدها اإلمام (ع) منسجمة مع الظروف السياسية‬
‫المعقدة؛ إذ رأى في حركة الزهراء (ع) فعالية أكبر‪ ،‬وتأثيراً أشد‪.‬‬

‫فقد كان (ع) يريد أن يُسمع المسلمين صوته من دون أن يدخل ميدان المعترك السياسي مباشرة‪،‬‬
‫منتظراً بذلك اللحظة المناسبة والفرصة السانحة ليتخذ فيها القرار المناسب‪ ،‬وهو في الوقت ذاته‬
‫يُظهر لألمة بطالن الخالفة القائمة وعدم شرعيتها‪ ،‬وينذر األمة بخطورة الموقف‪ .‬فعبّرت الزهراء‬
‫(ع) عن فكرة اإلمام خير تعبير وأدت دورها خير أداء‪.‬‬

‫لقد توفرت للزهراء ناحيتان لم تتوفرا لإلمام (ع) فيما لو كان قد تحرك بصورة مباشرة‪:‬‬
‫األولى‪ :‬أن الزهراء (ع) كانت تستطيع أن تثير عواطف الجماهير وتذكرهم بأبيها (ص) ومواقفهم‬
‫معه ووصاياه لهم لما لها من مكانة عند رسول اهلل (ص) من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى أنها كانت صاحبة‬
‫الحق المغتصب (فدك) وهذه أول خطوة غير مشروعة في مسيرة الخالفة الجديدة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن منازعة الزهراء (ع) للسلطة الحاكمة مهما بلغت من الشدة فلن تكتسب طابع الحرب‬
‫المسلحة ما دامت المطالبة امرأة‪ ،‬وما دام اإلمام علي (ع) ملتزماً بالهدنة ‪-‬التي أعلنها‪-‬مع السلطة‬
‫الحاكمة حتى تتحرك الجماهير وتجتمع عليه‪.‬‬

‫وبقي اإلمام مراقباً للموقف ليتدخل متى شاء‪ ،‬متزعماً للثورة إذا بلغت حدّها األعلى‪ ،‬أو مهدئاً‬
‫للفتنة إذا لم يتهيأ له الظرف الذي يريده‪c.‬‬

‫‪50‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫فالزهراء (ع) بحركتها هذه إما أن تحقق انتفاضاً جماعياً على خالفة السقيفة وإما أن ال تخرج عن‬
‫دائرة الجدال والنزاع‪ c‬وال تجرّ إلى فتنة وانشقاق‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪51‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬

‫فنهضت الزهراء (ع) للمعارضة ضمن خطوات متدرجة كما يلي‪:‬‬


‫أوالً‪ :‬قامت بإرسال رسول يطالب أبابكراً في مسألة الميراث ويطالب بحقوقها‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬قررت مواجهتها بنفسها ألبي بكر في اجتماع خاص كان يضم عدداً من الصحابة وشددت في‬
‫‪‬‬ ‫طلبها بحقوقها من الخمس وفدك وغيرهما‪.‬‬
‫والخطوة الثالثة‪ :‬خطابها في المسجد النبوي وقد خرجت ومعها نساء المهاجرين واألنصار يُحطن‪c‬‬
‫بها‪ ،‬وأوضحت في خطابها الذي سمعه جمهور المهاجرين واألنصار العديد من مظاهر عظمة اإلمام‬
‫(ع) ومؤهالته الشخصية ودروه في إقامة الدين وإشادة صرح الحكومة اإلسالمية‪ .‬وقالت من جملة ما‬
‫قالت‪( :‬فأنقذكم اهلل تبارك وتعالى بمحمد (ص) بعد اللتيا والّتي‪ ،‬وبعد أن مُني ببُهم الرجال‬
‫وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب‪ ،‬كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اهلل أو نجم قرن الشيطان‪ ،‬وفغرت‬
‫فاغرة من المشركين‪ c،‬قذف أخاه في لهواتها‪ .‬فال ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه‪ ،‬ويخمد لهبها‬
‫بسيفه مكدوداً في ذات اهلل‪ ،‬مجتهداً في سبيل اهلل‪ ،‬قريباً من رسول اهلل (ص) سيد أولياء اهلل‪ ،‬مشمراً‬
‫ناصحاً مجدّاً كادحاً‪ ،‬وأنتم في رفاهية العيش وادعون فاكهون آمنون)‪.‬‬
‫ثم اتهمت السلطة الحاكمة بالتآمر واالنحراف عن الدعوة اإلسالمية وقدحهم نار الفتنة‪ .‬وأنذرتهم‬
‫بسوء عاقبة هذا االنحراف‪.‬‬

‫(تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون األخبار) ‪ ...‬ثم قالت‪:‬‬


‫فوسمتم غير إبلكم‪ ،‬وأوردتم غير شربكم هذا والعهد قريب‪ ،‬والكلم رحيب‪ ،‬والجرح لمّا يندمل‬
‫والرسول لمّا يقبر‪ ،‬أبِداراً زعمتم خوف الفتنة؟ أال في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‪c.‬‬
‫أما لعمر اهلل لقد لقحت فنظرة ريثما تُحلب ثمّ احتلبوها طالع القعب دماً عبيطاً هنالك يخسر‬
‫المبطلون ويعرف التالون غبّ ما أسّس األولون ثمّ طيبوا عن أنفسكم نفساً وابشروا بسيف صارم‬
‫وهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة عليكم)‪.‬‬

‫الخطوة الرابعة‪ :‬حديثها مع أبي بكر وعمر حينما زاراها بقصد االعتذار منها وإعالنها عن غضبها‬
‫عليهما وتسجيل‪ c‬غضب اهلل ورسوله عليهما‪.‬‬

‫الخطوة الخامسة‪ :‬خطابها الذي ألقته على نساء المهاجرين واألنصار في أواخر أيام حياتها‪.‬‬

‫الخطوة السادسة‪ :‬وصيتها أن ال يحضر تجهيزها ودفنها أحد ممّن آذاها من خصومها‪ ،‬وإبهام موضع‬
‫قبرها كاحتجاج مستمر يمثل نقمتها على الخالفة القائمة‪.‬‬
‫لم تتمكن الزهراء (ع) في حركتها أن تطيح بالحكومة القائمة؛ ألن الخليفة كان يملك حنكة‬
‫سياسية ولباقة واضحة وقدرة على استيعاب الظروف‪ ،‬وإن تطلب الموقف المباالةً أو تضييعاً لحقّ‪.‬‬
‫ومن جانب آخر نجحت الزهراء في خطواتها السترداد حقها‪ ،‬فقد أعطت لمسيرة تصحيح االنحراف‬
‫قوة قاهرة وطاقة على االستمرار في النضال وذلك في محاورتها مع أبي بكر وعمر عند زيارتهما‬
‫لها‪ .‬حيث ثبتت عليهما الموقف السلبي لهما من اهلل ورسوله‪ .‬وهكذا سجّلت النجاح في حركتها‬
‫كلّها‪ ،‬نجاحاً مؤكداً في حساب العقيدة والدين‪c.‬‬

‫حزن فاطمة (ع) المتواصل‬


‫تكالبت عوامل الحزن على فاطمة (ع) فلم تفارقها‪ ،‬وأصبح األلم واألسى وذرف الدموع مرافقاً لها‬
‫من حين وفاة رسول اهلل (ص) إلى حين ارتحالها إلى الرفيق األعلى‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫فقد حزنت على رسول اهلل (ص) وانقطاع الوحي‪ ،‬وعلى ما طرأ على الرسالة من تشويه وتزييف‬
‫وتحريف‪ c،‬وإلى اتفاق األكثرية على إقصاء علي (ع) من منصبه‪ ،‬حقداً وحسداً وخوفاً من عدالته‬
‫وشدته في ذات اهلل‪ ،‬ونفاقاً من بعضهم‪ ،‬والتظافر على هضمها واغتصاب حقوقها مع قلة الناصر‬
‫وضعف المعين‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫وقد عبرت (ع) عن عظم المأساة التي عاشتها بالقول‪:‬‬
‫(اللهم ألحق روحي بروحه‪ ،‬واشفعني بالنظر إلى وجهه‪ ،‬وال تحرمني أمره وشفاعته يوم القيامة)‪،‬‬
‫وأخذت تربةً من تراب قبر رسول اهلل (ص) فشمتها ثم أنشأت تقول‪:‬‬
‫أن ال يَشمَّ مدى الزمانِ غواليا‬ ‫ماذا على من شمَّ تُربةَ أحمدٍ‬
‫صـُبت عـلى األيام صِرن لَياليا‬ ‫صُـبـت عـليَّ مـصائـب لـو أنها‬
‫تاريخ الخميس‪/‬ج‪.2‬‬

‫وقد تقدمت الرواية من أنها لم تُرَ ضاحكة بعد رسول اهلل (ص)‪.‬‬

‫وفي ذات مرّة طلبت من بالل أن يؤذن ‪-‬وقد امتنع من األذان بعد رسول اهلل (ص)‪-‬فاستجاب لها‪ ،‬فلمّا‬
‫بلغ قوله‪ :‬أشهد أن محمداً رسول اهلل (ص) شهقت فاطمة (ع) وسقطت على وجهها وغشي عليها‪.‬‬
‫بحار األنوار‪/‬ج‪.43‬‬
‫وكانت تبكي أباها ليالً ونهاراً‪ ،‬فقال لها عليّ (ع)‪ :‬إن شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إمّا أن‬
‫تبكي أباك ليالً أو تبكيه نهاراً‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬يا أبا الحسن‪ c،‬ما أقل مكثي بينهم‪ ،‬وما أقرب مغيبي من بين أظهرهمّ‬
‫فبنى لها (ع) بيتاً خلف البقيع وسمّاه (بيت األحزان)‪ ،‬فإذا أصبحت قَدَّمت الحسن والحسين‪( c‬ع)‬
‫أمامها وخرجت إليه‪ ،‬وهي تمر على البقيع باكية‪ ،‬فإذا جاء الليل أقبل علي (ع) ورافقها إلى منزلها‪.‬‬
‫وكان لبكائها دور كبير في كشف الواقع المنحرف الذي عاشته (ع)‪.‬‬

‫الرحيل إلى الرفيق األعلى‬


‫لم يراع المتصدون للحكم حق علي وحق فاطمة (ع)‪ ،‬وخالفوا النص على اإلمامة‪ ،‬واغتصبوا فاطمة‬
‫حقها‪ ،‬وبدأ االنحراف عن النهج السليم واضحاً‪ ،‬وانتهى باالعتداء عليها في دارها‪ ،‬واجتمعت عليها‬
‫المصائب واآلالم الجسدية والنفسية‪ ،‬فبدأت حياتها تقترب من الموت‪.‬‬
‫وفي أواخر حياتها أوصت علياً (ع) ببعض الوصايا ومنها‪ :‬أن ال يحضر جنازتها أبوبكر وعمر وأن ال‬
‫يصلياً عليها‪.‬‬
‫وفي يوم وفاتها اغتسلت ثم لبست ثياباً جدداً‪ ،‬ثم قالت ألم رافع‪ :‬اجعلي فراشي وسط البيت‪،‬‬
‫فاضطجعت عليه واستقبلت القبلة‪ ،‬وقالت‪ :‬يا أمه! إني مقبوضة الساعة‪ ،‬فماتت وحملها علي ودفنها‬
‫بغسلها ليالً ولم يشعر بذلك أبوبكر وال من اغتصبها حقها‪.‬‬
‫واختلف المؤرخون في مدة بقائها بعد رسول اهلل (ص)‪ ،‬فقيل‪ :‬أربعون يوماً‪ ،‬وقبل‪ :‬خمسة وسبعون‬
‫يوماً‪ ،‬وقيل‪ c:‬ثالثة أشهر‪ ،‬وقيل‪ c‬خمسة أو ستة أشهر‪ ،‬والثابت أو المشهور أنها توفيت بعده (ص)‬
‫بثالثة أشهر في جمادي اآلخرة سنة إحدى عشرة من الهجرة‪.‬‬
‫وتركت لنا ثروة علمية‪ ،‬فقد روى عنها علي والحسنان‪( c‬ع)‪ ،‬وأُم رافع‪ ،‬وعائشة وأم سلمة‪ ،‬وأنس بن‬
‫مالك وعدد من التابعين‪ ،‬وأحفادها (ع)‪.‬‬
‫وتركت لنا مقياساً في تشخيص الرجال وتشخيص األحداث والمواقف بعد رسول اهلل (ص) حتى‬
‫يومنا هذا‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫ومما جاء في تأبين علي لها قوله‪ ...( :‬وستنبؤك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها‪ ،‬فأحفِها السؤال‬
‫واستخبرها الحال‪ ،‬هذا ولم يطل العهد‪ ،‬ولم يخل‪ c‬منك الذكر)‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫الخالصة ‪..‬‬


‫‪ ‬لقد انشغلت فاطمة (ع) مع علي وبني هاشم وبعض الصحابة بفاجعة موت رسول اهلل (ص)‪ ،‬وما‬
‫تخلل هذا الظرف بالذات من اجتماع بعض األنصار في سقيفة بني ساعدة لتداول أمر الخالفة‪ ،‬وما‬
‫حدث في داخل هذا االجتماع من نزاع وسجال وتنافس قبلي حولها‪ ،‬حيث احتج عمر بالقرابة من‬
‫رسول اهلل‪ ،‬وقول الحبّاب لنعيدنها جدعة‪ ،‬وبرز المنطق الجاهلي في هذا االجتماع‪ .‬وأخيراً انتهى‬
‫بترشيح أبي بكر بسعي متحمس من قبل عمر‪ ،‬في الوقت الذي تخلّفا هو وأبوبكر عن اللحاق بجيش‬
‫أسامة الذي أمر الرسول بالذهاب معه‪ ،‬وتركا رسول اهلل جنازة وذهبا الجتماع السقيفة طمعاً‬
‫بالرّئاسة‪.‬‬

‫‪ ‬ولم يترك رسول اهلل موقع الخالفة من بعده هدراً؛ وإنما كان المرتكز في أذهان األمة أن‬
‫الخليفة هو اإلمام علي من بعد رسول اهلل‪ ،‬جاء ذلك لكثرة األحداث وسيرة الرسول (ص) التي عمّقت‬
‫هذا األمر في أذهان األمة‪.‬‬

‫‪ ‬حتى أنه لما بويع أبوبكر ندم كثير من األنصار على بيعته والم بعضهم بعضاً وكان موقف‬
‫اإلمام علي وفاطمة (ع) من بيعة أبي بكر هو الرفض تمسكاً باالختبار اإللهي بالنصوص الثابتة عن‬
‫رسول اهلل (ص)‪ ،‬ولم تكن السقيفة هي األسلوب الشرعي حيث لم يشارك فيها أهل الرأي كعلي وبني‬
‫هاشم وسائر المهاجرين واألنصار‪.‬‬

‫‪ ‬من هنا نجد فاطمة قد احتجت حينما هجموا على دارها بالقول (ال عهد لي بقوم أسوأ محضر‬
‫منكم‪ )...‬وهكذا وقفت فاطمة إلى جنب علي (ع) توضح مظلوميته قائلة (ما صنع أبو الحسن إال ما‬
‫كان ينبغي له) وبقي بيت فاطمة مقراً للموالين لإلمام علي (ع) ممّا اضطر أبابكراً وعمراً أن‬
‫يداهما بيت اإلمام الخليفة الشرعي بعد رسول اهلل (ص)‪ ،‬وأخيراً أقدما على غصب حق فاطمة وإرثها‬
‫من أبيها (فدك) خوفاً من أن يكون دعماً للمعارضة واتخذت فاطمة موقفاً سلبياً من الخليفة أبي‬
‫بكر جرّاء هذه الممارسات‪ ،‬وكشفت الواقع المنحرف وتبنت مقام اإلمام علي‪ ،‬وبقيت حزينة مهضومة‬
‫مظلومة حتى توفيت (ع)‪.‬‬

‫المناقشة‬

‫س‪ :1‬ما الدليل على أن موقف فاطمة (ع) من علي (ع) كان موقفاً مبدئياً وليس عاطفياً؟‬
‫س‪ :2‬ما هو نص احتجاج فاطمة (ع) على إثبات إمامة علي (ع)؟ وما هو الدليل الصريح على إمامته‬
‫(ع)؟‬
‫ما هي أهم مظاهر مساندة فاطمة لعلي (ع) إلعادة الخالفة إليه؟‬ ‫س‪:3‬‬
‫أذكر دليلين على هجوم القوم على دار فاطمة‪.‬‬ ‫س‪:4‬‬
‫ما هو الدليل النقلي والعقلي على ملكية فاطمة (ع) لفدك؟‬ ‫س‪:5‬‬
‫ما هي األسباب وراء عدم رضا فاطمة (ع) عن أبي بكر وعمر؟‬ ‫س‪:6‬‬

‫‪54‬‬
‫‪‬مقرر سيرة ‪311‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫س‪ :7‬ما هي مظاهر االنحراف التي شخصتها فاطمة (ع) في أقوالها؟‬
‫س‪ :8‬كيف عبّرت فاطمة (ع) عن مظلوميتها؟‬
‫س‪ :9‬لماذا لم يحضر أبوبكر وعمر في تشييع فاطمة (ع) ودفنها؟‬
‫س‪ :10‬ارتحلت فاطمة (ع) إلى الرفيق األعلى وهي في سن الثامنة عشرة‪ ،‬ما هي األسباب والعوامل‬
‫‪‬‬ ‫التي أدت إلى قصر عمرها؟‬

‫‪55‬‬

You might also like