Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 117

‫جامعة حماة‬

‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬


‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬

‫معايير تحديد الجمال‬


‫شابا في مقتبل العمر‪ ،‬وعمره لم يتجاوز مئتي‬
‫علم الجمال هو آخر أبناء الفلسفة‪ ،‬ما يزال ً‬
‫تجدد دائم بسبب الوسائل والمناهج الجديدة‪.‬‬
‫سنة‪ ،‬وهو في ّ‬

‫يبق محافظًا على ك ّل التراث‬


‫أن علم الجمال خرج من معطف الفلسفة‪ ،‬غير ّأنه لم َ‬
‫وصحيح ّ‬
‫الفلسفي‪ّ ،‬إنما استفاد من عصر العلم‪ ،‬فأصبحت له مناهج‪ ،‬فهو علم بسبب اتباعه الوسائل‬
‫والمناهج والطرق العلمية‪ ,‬وهو فلسفة بسبب نظرته الكلية للظاهرة الجمالية‪.‬‬

‫وحين نقول‪( :‬كلية الظاهرة الجمالية)‪ ،‬فنحن أمام محاولة فلسفية كلية تجريدية من جهة‪،‬‬
‫يحب أن يكون‬
‫منا ال يحب الجمال؟ ال أحد‪ .‬الك ّل ّ‬‫ومحاولة تحليلية تفصيلية من جهة أخرى‪َ .‬من ّ‬
‫الحسي للكلمة أم بالمعنى الروحي الثقافي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اء بالمعنى‬
‫مما هو عليه سو ً‬
‫أجمل ّ‬
‫وحاال وسلو ًكا‪ٌّ ،‬‬
‫وكل منا يحلم أن يعيش‬ ‫شكًل‬
‫مما هو عليه ً‬ ‫ٌّ‬
‫ً‬ ‫كل منا يتمنى أن يكون أفضل ّ‬
‫في وسط مًلئم له‪ ،‬نحن نسعى إلى الجمال‪ ،‬ليس في أبداننا وأرواحنا وسلوكنا فحسب‪ ،‬بل نسعى‬
‫إلى الجمال في األوساط التي نحيا بها‪ ،‬لهذا نقول‪ :‬يتميز اإلنسان من الحيوانات والكائنات‬
‫األخرى بأنه كائن جمالي مثلما هو كائن اجتماعي‪.‬‬

‫الي‬
‫تماعي جم ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫بأنه كائن اج‬
‫واإلنسان فقط من بين الكائنات‪ ،‬هو الوحيد الذي يمكن تعريفه ّ‬
‫منتج‪ ،‬ليس اإلنسان مستهل ًكا فقط‪ ،‬صحيح أنه يستهلك الطبيعة‪ ،‬لكنه ينتجها في الوقت نفسه‪.‬‬

‫ونظ اًر ألهمية الجمال‪ ،‬وخطورته في حياة اإلنسان‪ ،‬وحضوره الدائم في ساحة شعوره بمختلف‬
‫حاالته واحتماالته‪ ،‬فقد كان من الموضوعات األكثر غنى وثراء في مفهومها في كل اللغات‬
‫وخاصة اللغة العربية‪ ،‬حتى أننا إذا أردنا أن نعدد المفردات الدالة على الجمال إيجاباً وسلباً‪،‬‬
‫وجدنا أنفسنا أمام سلسلة طويلة يكاد يتعذر حصرها‪.‬‬

‫فما ُيحصر في ذهن الواحد منا قليل دائماً أمام الكثير الغائب‪ ،‬ومن هذه المفردات "القيم"‬
‫على سبيل المثال وسنذكرها حسب األلف بائية‪" :‬أ" األخاذ‪ ،‬اآلسر‪ ،‬األنيق‪" ،‬ب" البارد‪ ،‬الباهر‪،‬‬
‫التهكمي‪" ،‬ت" الجامد‪ ،‬الجذاب‪ ،‬الجمال‪ ،‬الجودة‪"،‬ح" الحسن‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫البديع‪ ،‬البليغ‪ ،‬البهي‪" ،‬ت" التافه‪،‬‬
‫الحًلوة‪ ،‬الحنون‪" ،‬خ" الخًلب‪ ،‬الدافئ‪" ،‬ر" الرائع‪ ،‬الراقي‪ ،‬الرشيق‪ ،‬الرفيع‪ ،‬الرقيق‪" ،‬ز" الزاهي‪،‬‬
‫"س" الساحر‪ ،‬السامي‪ ،‬السخيف‪ ،‬السلس‪ ،‬السخي‪" ،‬ش" الشامخ‪ ،‬الشفاف‪ ،‬الصافي‪ ،‬الصبوح‪،‬‬
‫"ظ" الظريف‪" ،‬ع" العادي‪ ،‬العذب‪ ،‬العشوائي‪ ،‬العظيم‪ ،‬العميق‪" ،‬غ" الغليظ‪" ،‬ف" الفاتن‪ ،‬الفارع‪،‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الفخم‪ ،‬الفظ‪" ،‬ق" القاسي‪ ،‬القبيح‪" ،‬ل" اللطيف‪" ،‬م" المأساوي‪ ،‬المؤثر‪ ،‬المؤلم‪ ،‬المائع‪ ،‬المتزن‪،‬‬
‫المتخلخل‪ ،‬المتكامل‪ ،‬المتناسب‪ ،‬المتوازن‪ ،‬المتوتر‪ ،‬المختل‪ ،‬المريح‪ ،‬المشرق‪ ،‬المشوه‪ ،‬الممجوج‪،‬‬
‫المنسجم‪" ،‬ن" الناعم‪ ،‬النقي‪" ،‬و" الواضح‪ ،‬الوضيع‪" ،‬ي" اليانع ‪.......‬الخ‪.‬‬

‫نحن هنا أمام غنى كبير في المفردات الدالة على الجمال بمختلف مستوياته وميادينه‪ ،‬ونحن‬
‫عرفة له‪ ،‬وأمام تنوع في أساليب التعبير‬
‫الم ِّ‬
‫أيضا أمام غنى كبير في العبارات الدالة على الجمال ُ‬
‫عن الدالالت المراد تبيانها من تعريف الجمال‪ .‬لكننا إذا جردنا هذه العبارات من األعراض‬
‫والشكليات‪ ،‬وحاولنا حصر المضمون أمكننا القول‪ :‬إن تعريفات الجمال جميعها تدور حول فكرة‬
‫أساسية تؤكد أن الجمال هو كل ما يبهج النفس ويمتِّعها‪.‬‬

‫أما أبرز معايير تحديد الجمال فهي‪ "1" :‬المتعة الجمالية "‪ "2‬الحاجات الروحانية "‪"3‬‬
‫الجمال صفة خارجية "‪ "4‬ارتباط الخصائص بالموضوع "‪ "5‬الجمال والمضمون‪.‬‬

‫"‪ "1‬المتعة الجمالية‪ :‬البهجة والمتعة واللذة مفتاح أساسي من مفاتيح تحديد الجمال‪ ،‬ولكنها‬
‫ليست الوحيدة وال الكافية لتحديد الجمال؛ ذلك أن البهجة واللذة والمتعة أمر يمكن أن نجده في‬
‫كثير من األمور واألشياء والموضوعات التي ال يجوز التعامل معها على أنها موضوعات جمالية‬
‫أو آثار جمالية‪.‬‬

‫فإذا تناول المرء طعاماً لذيذاً بعد جوع شعر بالمتعة واللذة‪ ،‬ولكن الطعام ليس موضوعاً‬
‫كثير من المتعة‬
‫اً‬ ‫جمالياً‪ ،‬وال تناوله كذلك‪ ،‬واذا غطس المرء – مثًلً‪ -‬سابحاً في يوم حار وجد‬
‫والبهجة والفرح أيضاً‪ ،‬واذا كان من عشاق السباحة فإن متعته التضاهى‪ ،‬ولكن السباحة ليست‬
‫حد ذاتها‪ ،‬واذا استلقى المرء على ظهره مسترخياً بعد عناء يوم ثقيل من‬
‫موضوعاً جمالياً في ّ‬
‫العمل الشاق المضني شعر بنشوة عارمة‪ ،‬وبهجة غامرة‪ ،‬ومع ذلك فإن االستلقاء واالسترخاء‬
‫ليس موضوعاً جمالياً في حد ذاته‪.‬‬

‫انتبه كانط إلى هذه المسألة في تحليل الحكم الجمالي‪ ،‬وأشار إلى أن الجمال هو ما يبعث‬
‫شعور االرتياح والرضا في النفس‪ ،‬واحساسنا بالمتعة واللذة يختلف عن تلك المتعة أو اللذة التي‬
‫نشعر بها عندما نكون أمام طعام لذيذ‪ ،‬فاإلحساس بلذة الطعام ينتهي بمحض االنتهاء منه‬
‫وتحقيق اإلشباع‪ ،‬أما اللذة أو المتعة الجمالية فإنها لذة دائمة‪ ،‬ال يصح عليها مقياس اإلشباع‪.‬‬

‫فالبهجة‪ ،‬والمتعة‪ ،‬واللذة إحساسات يمكن الحصول عليها من كثير من الموضوعات‬


‫واألمور‪ ،‬لكنها ليست كلها جمالية‪ ،‬فالمتعة الجمالية‪ :‬إحساس خاص يختلف كثي ار عن المتعة‪ ،‬أو‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫البهجة‪ ،‬أو اللذة‪ ،‬أو النشوة التي يمكن أن نشعر بها من تلقي موضوع أو معايشة الموضوعات‬
‫غير الجمالية‪ ،‬وهي متعة خاصة يتفق كثير من الباحثين الجماليين على أنها تختصر ضروب‬
‫المتع واللذات‪ ،‬فمن يشعر بالمتعة الجمالية يحسب ّأنه يشعر بكل أنواع المتع واللذات في آن‬
‫معاً‪.‬‬

‫ويبدو في هذا الكًلم شيء من المبالغة والتطرف‪ ،‬هذا صحيح‪ ،‬ولكنه صحيح في صورته‬
‫ولمن اليعمل التفكير فيما يعيشه من متع جمالية في حياته اليومية أو في اللحظات الجمالية‬
‫النادرة والفريدة التي يمر بها‪.‬‬

‫لننظر إلى الموضوع من زاوية جمالية‪ ،‬كم مرة سهرنا على شدو مطرب أو مطربة مبدعة‬
‫ساعات طويلة أخذتنا فيها المتعة الجمالية من أنفسنا‪ ،‬حتى نسينا جوعنا‪ ،‬وعطشنا‪ ،‬ونسينا‬
‫احتياجاتنا البيولوجية الضرورية الغريزية‪ ،‬وربما تجاهلناها عمداً‪ُ ،‬مفضلين تشنيف اآلذان عليها‪،‬‬
‫على الرغم مما تمارسه علينا من ضغط وتوتر‪ .‬حتى إذا ما انتهت السهرة والطرب قرصنا الجوع‪،‬‬
‫أو تحرك النعاس في جفوننا‪ ،‬وانتبهنا إلى أننا كنا مأخوذين بالشدو‪ ،‬حتى نسينا ما نحن فيه من‬
‫حاجات بيولوجية ضرورية؟‬

‫وكم مرة جلسنا على صخرة على الشاطئ‪ ،‬أو أمام شًلل في غابة وأخذتنا النشوة ولم ننتبه‬
‫إلى أن أحداً ينادينا إال بعد تكرار النداء؟ كم مرة مرت من أمام شاب فاتنةً جعلته يتلفت حوله‬
‫حتى كاد يصطدم بعمود أو جدار أو إنسان أو ربما كادت تصدمه حافلة؟‬

‫إن ما يتسم به الجمال من سحر وفتنة يثير في النفس نشوةً عارمةً تتناسب مع شدته‪ ،‬تجعلنا‬
‫هذه النشوة أو المتعة نشعر وكأننا حصلنا جميع المتع واللذات معاً‪.‬‬

‫حسي‪ ،‬ولكن طبيعتها‬


‫ٌّ‬ ‫"‪ "2‬الحاجة الروحانية‪ :‬المتعة الجمالية إذن متعة خاصة أساسها‬
‫روحانية غير حسية وغير بيولوجية‪ ،‬بمعنى أن أنواع المتع واللذات األخرى كلها تقريباً مرتبطة‬
‫ارتباطاً وثيقاً بما تلبيه من حاجات بيولوجية‪ ،‬بما تداعبه من اإلحساسات المباشرة‪ .‬أما المتعة‬
‫الجمالية فإنها تدخل في باب الحواس ولكنها تلبي حاجات روحانية‪ ،‬ويضيف بعضهم الفكرية إلى‬
‫الروحانية‪ ،‬فتصير حاجات روحانية فكرية‪ ،‬األمر الذي يجعلنا نقول‪ :‬إنها متعة روحانية أو متعة‬
‫روحانية فكرية‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫إذن المعيار الثاني لتحديد الجمال أنه ذلك الموضوع الذي يلبي حاجةً روحانيةً فكريةً عند‬
‫أي موضوع بالمطلق من دون تحديد‪ ،‬ويثير في النفس تلك المتعة الروحانية التي‬
‫اإلنسان‪ ،‬وليس ُّ‬
‫تختلف عن ضروب المتع واللذات التي تخاطب الحواس الخارجية وتلبي حاجات بيولوجية‪.‬‬

‫ولكن ثمة من سيعترض هنا بأن االحتياجات الروحانية لإلنسان أكثر سعة وامتداداً من‬
‫الجمال‪ ،‬فاإليمان حاجة روحانية وفيه متعة روحانية أيضاً فهل اإليمان من الجمال أو من‬
‫الموضوعات الجمالية؟‬

‫ثمة من يحيل الجمال إلى عًلقة صوفية روحانية‪ ،‬لكن اإليمان والدين ليسا موضوعاً جمالياً‬
‫على أي حال‪ ،‬وان كان يشترك مع الجمال بأنه يلبي حاجات روحانية لدى اإلنسان‪ ،‬ويثير فيه‬
‫متعاً روحانية‪.‬‬

‫يفترق الجمال عن اإليمان بأن الجمال يتمظهر في موضوعات حسية بينما اإليمان يتجلى‬
‫في أفكار وسلوكيات قائمة على عقائد وقناعات دينية‪ ،‬قد يكون في السلوكيات الدينية شيء‬
‫جميل‪ ،‬ويمكن أن يكون فيها ما ُيتعامل معه على أنه موضوع أو أثر جمالي‪ ،‬ولكن لكل من‬
‫الدين واإليمان طبيعة مستقلة‪ ،‬لها خصائصها ووقائعها وطبائعها التي يختلف بها عن‬
‫الموضوعات والميادين األخرى وتتميز بها عنهم‪.‬‬

‫أما الجمال فيبدو في الموضوعات الحسية على نحو يكون صفة أو حاالً‪ ،‬أي يكون الجمال‬
‫صفةً دائمة للموضوعات المدركة بالحواس‪ ،‬أو صفةً عابرة أو عرضية تبدو في وضعية ما أو‬
‫حال ما‪ ،‬كاالبتسامة التي ترتسم على الشفتين لسبب ما‪ ،‬أو كالنظرة التي يوجهها اإلنسان في‬
‫لحظة ما ألمر ما‪.‬‬

‫"‪ "3‬الجمال صفة خارجية‪ :‬وفق هذا المعيار الثالث الذي يمكن أن نحدد به الجمال هو ّأنه‬
‫صفة تتوضع على الهيئة الخارجية للموضوع الذي يسمى الموضوع الجمالي‪ ،‬وأن تكون الصفة‬
‫صورةً خارجية للموضوع الجمالي‪ ،‬بمعنى أنها قابلة لإلدراك من خًلل مجموعة المعايير‬
‫الجمالية‪.‬‬

‫ثمة اختًلف في المعايير الجمالية وفي تحديدها‪ ،‬ويمكننا القول من غير جزم‪ :‬إن المعايير‬
‫التي يرتسم الجمال من خًللها هي الخصائص التي ُّ‬
‫تبث الراحة في النفس وتبعث فيها النشوة أو‬
‫المتعة الجمالية‪ ،‬فإذا اكتفينا بهذا التحديد‪ ،‬تركنا المجال مفتوحا باإلطًلق وليس في ذلك عيب‪،‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫واذا حاولنا أن نحدد هذه الخصائص دخلنا في مشكلة االختًلف في مسألة تحديد المعايير‬
‫الجمالية‪.‬‬

‫والمعايير الجمالية ‪-‬على أي حال‪ -‬أو الخصائص التي تجعلنا نصف الموضوع‪ ،‬أو األثر‬
‫حد‬
‫بأنه جميل ليست بعيدة عن البنية النفسية والعقلية لإلنسان‪ ،‬إنها منسجمة معها تماما‪ ،‬بل إلى ّ‬
‫كبير جداً‪ ،‬فالنفس تميل إلى االنسجام والتوازن والتناظر والتناسب وتهفو إلى التميُّز والفرادة‬
‫المريحة للنفس الباعثة لبهجتها‪.‬‬

‫هذه هي صورة المعايير الجمالية والحقائق التي يجب أن يتسم بها الموضوع أو األثر حتى‬
‫ن صفه بالجمال‪ ،‬ولكنها ليست الوحيدة بالتأكيد‪ ،‬وال شك في أن ثمة غيرها من الحقائق والمعاني‬
‫التي يؤدي توافرها أو وجودها إلى تأكيد وصف الموضوع بالجمال‪ ،‬وال نخطئ إذا قلنا إنه كلما‬
‫توافر المزيد من هذه الخصائص‪ ،‬وكلما توافرت بوضوح أكبر‪ ،‬استحق الموضوع أو األثر أن‬
‫يوصف بمزيد من الجمال‪.‬‬

‫والًلفت هنا أن لهذه الخصائص صفات يصعب فهمها الفهم ذاته على كل الموضوعات أو‬
‫ولكن هل يصح على‬
‫ْ‬ ‫اآلثار الجمالية‪ ،‬فالتناظر ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬يصح في الجمال البشري‪،‬‬
‫القصيدة‪ ،‬أو القصة‪ ،‬أو الغابة‪ ،‬أو البحر؟ وإذا صح أو جاز لنا أن نقول‪ :‬إنه مطلوب في‬
‫كل هذه الموضوعات الجمالية؟ هل‬‫مختلف أنواع الجمال‪ ،‬فبأي معنى يمكن أن نفهم التناظر في ِّ‬
‫ً‬
‫يمكن أن نفهمه فهماً مماثًلً للتناظر في وجه اإلنسان تماماً كما هو في الغابة؟‬

‫"‪ "4‬ارتباط الخصائص بالموضوع‪ :‬المعيار الرابع من معايير تحديد الجمال أن الخصائص‬
‫التي ُي َدرك الجمال من خًللها مرتبطة بالموضوع أو األثر الجمالي‪ ،‬وال يجوز فهمها فهماً سطحياً‬
‫أو قياسياً يجعلنا نساوي بينهما مساواةً حرفية أو تامة لدى تلقي الموضوعات الجمالية‪.‬‬

‫إن أي خصيصة من خصائص الجمال واحدة في التجريد العقلي‪ ،‬ولكنها نسبية في اإلدراك‬
‫الجمالي‪ ،‬مرتبطة بكل موضوع أو نمط من الموضوعات على حدة‪.‬‬

‫فالتناسب فكرة واحدة في الذهن ولكن التناسب في اللوحة غير التناسب في لوحة أخرى‪،‬‬
‫والتناسب في القصيدة غير التناسب في الجسد اإلنساني‪ ،‬والتناسب في الغابة غير التناسب في‬
‫الحديقة‪ ،‬الخ وهكذا في بقية الخصائص الجمالية األخرى مثل‪ :‬االنسجام‪ ،‬والتناظر‪ ،‬والتكامل‪،‬‬
‫والفرادة‪ ،‬والتميز‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫والظاهر من خًلل كًلمنا حتى اآلن أننا نركز على الخصائص الشكلية الخارجية للموضوع‬
‫خارجي فقط؟‬
‫ٌّ‬ ‫أو األثر الجمالي الذي ُّ‬
‫نعده جمالياً‪ ،‬فهل الجمال شكل‬

‫الحقيقة أن فًلسفة الجمال يكادون يجمعون على أن الجمال هو فقط تلك الخصائص‬
‫الخارجية التي يتصف بها الموضوع أو األثر‪ ،‬وهذا الكًلم عزيز على الطّعن إذا أردنا أن نتعامل‬
‫مع الجمال تعامًلً موضوعياً‪ ،‬وحتى ذاتياً‪ ،‬ذلك أننا نفترض أساسا أننا نتعامل مع جمال ال‬
‫تربطنا فيه روابط عاطفية سابقة‪ ،‬وال روابط منفعية لحظية‪ ،‬فمشاهدتي لفاتنة أراها أول مرة من‬
‫دون أن تربطني بها روابط عاطفية أو معرفية يجعلني ال أدرك من جمالها إال الجمال الخارجي‪،‬‬
‫فكيف إذا كان األمر متعلقاً بغابة أو قصيدة أو رواية أو غير ذلك؟‬

‫فالجمال إذن ‪-‬حسب هذا المعيار‪ -‬شكل خارجي فقط ألنني أفترض أنني أتعامل مع‬
‫السابقَة بالمضمون‪ ،‬فإذا‬
‫َ‬ ‫الموضوع الجمالي تعامًلً خالياً من الروابط النفعية والمصلحية والمعرفة‬
‫ما أُتيح لنا االطًلع على المضمون صرنا أمام مستوى آخر من العًلقة الجمالية‪.‬‬

‫"‪ "5‬الجمال والمضمون‪ :‬للمضمون أهمية في العًلقة الجمالية وقيمة ال شك في ذلك وال‬
‫ريب‪ ،‬ولكنها ستخرج بالعًلقة الجمالية من التلقي الموضوعي إلى التلقي الذاتي‪ ،‬لنأخذ على سبيل‬
‫المثال الفتاة التي اخترقت مخيلتي وهيمنت على انفعاالتي بجمالها األخاذ الفاتن الرائع إذا كانت‬
‫سخيفة‪ ،‬أو سطحية‪ ،‬أو جاهلة‪ ،‬أو مجنونة الخ‪ ....‬فإن جمالها الرائع سرعان ما سيتحول في‬
‫مدركاتي الحسية إلى جمال باهت‪ ،‬أو بارد‪ ،‬أو أطًلل جمال‪ ،‬واذا كانت وقّادة اإلحساس‬
‫والفطنة‪ ،‬مفعمة المشاعر‪ ،‬فإن جمالها حكماً سيتحول إلى طبيعة أخرى ال ندري تماما كيف‬
‫ستكون أل ن األمر سيرتبط بالمتلقي لهذا الجمال أو المعايش لهذا الجمال‪ ،‬فقد تأخذ الفطنة‬
‫والحيوية المدركات الحسية بعيداً عن الهيئة الخارجية‪ ،‬وقد تربطها معاً فتزداد فتنتها فتنةً على‬
‫فتنة‪ ،‬وربما غير ذلك‪.‬‬

‫األمر ذاته من حيث المبدأ ينطبق على االفتقار الجمالي‪ ،‬أو على الفتاة قليلة الحسن‬
‫والجمال إذا كانت سخيفةً أو تافهةً‪ ،‬فإنها ستبدو للناظر الذي أدرك سخفها وتفاهتها أنها قبيحة‬
‫وربما قبيحة جداً‪ ،‬وبالمقابل إذا كانت حساسة خلوقةً رقيقةَ المشاعر‪ ،‬فإن المعايش لها لن يرى‬
‫قلة الجمال هذه بعد فترة من المعايشة‪ ،‬والدخول إلى باطنها أومضمونها‪.‬‬

‫و من هذا الباب تكون العًلقة بين أفراد األسرة أو األهل وبين المحبين فإنهم يتعاملون مع‬
‫قبح ابنها أبدا‬
‫األم َ‬
‫بعضهم بعضاً انطًلقاً من الداخل‪ ،‬وانطًلقاً من المضمون‪ ،‬ولذلك ال ترى ُ‬
‫قبح أمه مهما بلغ قبحها من مبلغ‪ ،‬وكذلك األم مع األب الخ‪...‬‬
‫االبن َ‬
‫ُ‬ ‫مهما بلغ قبحه‪ ،‬وال يرى‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫و ُّ‬
‫أشد ما يكون ذلك بين حبيب وحبيبته فإنهما ال يريان بعضهما بعضاً إال بعين القلب‪ ،‬وعين‬
‫القلب خادعة في مثل هذه المشاعر‪ ،‬خادعة ألنها ال تريد أن ترى في المحبوب إال ما تريد أن‬
‫تراه أو َسر النفس أن تراه‪ ،‬وغالباً ما يكون ذلك من باب اإلسقاط والتخيُّل‪.‬‬

‫باختصار يقوم المضمون بدور ال يمكن إنكاره في العًلقة الجمالية من جهة التلقي والمعايشة‬
‫والتقويم‪ ،‬ولذلك نحن ال ننكر ما للمضمون من قيمة ودور في تحديد الجميل‪ ،‬ولكن الذي ينبغي‬
‫أال يغيب عن ذهننا هنا أن المضمون ال يكون جزءاً من العًلقة الجمالية إال إذا كان خالياً من‬
‫المتعة الحسية والمتعة المباشرة ومن العًلقة البيولوجية وغير ذلك مما ُيخرج العًلقة الجمالية عن‬
‫مهمتها ووظيفتها‪.‬‬

‫ولمصطفى صادق الرافعي قصة عنوانها "قبح جميل" تصف حب طفل ألمه القبيحة‬
‫المشوهة‪ ،‬ويصف مشاعر هذا الطفل الرقيقة الشفافة تجاه أمه المشوهة‪ ،‬فهو ال يراها بعينه بل‬
‫بقلبه‪ .‬ومهما جاء من يقنعه أن أمه قبيحة مشوهة لن يقتنع‪ ،‬ألنه ال ينظر إليها من ناحية شكلها‪،‬‬
‫بل من ناحية مضمونها‪ .‬فالحب نقص يسعى إلى الكمال‪ ،‬فربما أعجب شاب بفتاة ليست جميلة‪،‬‬
‫ونبهه اآلخرون على قبحها‪ ،‬لكنه يراها بعين القلب بينما اآلخرون يرونها بالعين المجردة‪.‬‬

‫ولذلك إذا قبلنا المضمون جزءاً من العًلقة الجمالية قبلناه فقط في اإلنسان‪ ،‬اإلنسان وحده‬
‫هو القادر على عكس مضمونه عكساً جمالياً‪ ،‬واإلنسان هو الوحيد الذي نجدنا مضطرين أحياناً‬
‫إلى ربط شكله بمضمونه في عًلقتنا الجمالية معه‪ ،‬أما بقية الموضوعات أو اآلثار الجمالية فمن‬
‫أي أثر يذكر في العًلقة الجمالية‪ ،‬ومن ذلك على سبيل المثال‬
‫شبه المتعذر أن يكون لمضمونه ُّ‬
‫أن جمال الغزال منفصل انفصاالً تاماً عن مضمونه ألننا ال نتعامل مع مضمون إال على أنه‬
‫بيولوجي ال صلة له بالعًلقة الجمالية‪ ،‬ومثله كذلك الحصان والحوت والدلفين وكذلك‬
‫ٌّ‬ ‫مضمون‬
‫شأن الحديقة والغابة والسهول‪ ،‬وال يختلف األمر عندما نتعامل مع اللوحة أو التمثال أو العمارة‪،‬‬
‫وربما يكون للجمال في األدب بعض االستثناء‪ ،‬والسبب في ذلك أن األدب صورة أخرى من‬
‫صور اإلنسان تكاد ال تنفصل عنه مهما كان موضوع األدب ومضمونه‪.‬‬

‫الجمال الطبيعي‪:‬‬

‫وفق هذا التحديد الذي وصلنا إليه نحن أمام نوعين للجمال‪ ،‬جمال طبيعي وجمال فني‬
‫"صنعي"‪ ،‬أي جمال خلقه اهلل وجمال صنعه اإلنسان‪ ،‬وال نلحظ اختًلفاً في المبدأ بين المعايير‬
‫الجمالية التي نحكم بها على هذين النوعين من الجمال‪ ،‬وان كان بين الجمالَ ْين اختًلف كبير‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫وتقف الحيوية على رأس نقاط االختًلف بين الجمال الطبيعي والجمال الفني‪ ،‬والحيوية‬
‫بمختلف دالالتها هي رأس الخصائص الجمالية ولذلك نجد أن أقصى ما يمكن أن نعبر به عن‬
‫روعة جمال أثر فني هو قولنا‪ :‬يكاد ينطق‪ ،‬أو قولنا‪ :‬ال ينقصه إال أن ينطق‪ ،‬وفي هذا وحده ما‬
‫يؤكد أن الحيوية هي رأس الخصائص الجمالية‪ ،‬ولذلك نجد أنه عندما تأخذنا الحيوية في إدراكنا‬
‫الموضوعات الجمالية ننسى الخصائص األخرى‪ ،‬وعندما تنعدم الحيوية في الموضوعات التي‬
‫تملك الحياة تنعدم معها تلك الخصائص الجميلة األخرى‪.‬‬

‫والحقيقة أننا ال نبحث عن الحيوية بمعنى الحياة‪ ،‬وال نقف عندها في عملية التقويم‬
‫الجمالي؛ ألننا نفترض وجودها في كل حركة وسكنة من الكائن الحي‪ ،‬وننظر إلى تجلياتها في‬
‫ِّ‬
‫كل القسمات‪ ،‬والمًلمح‪ ،‬والخصائص‪ ،‬والسمات‪ ،‬واذا استعرنا من مدرسة االقتصاد الحديثة‬
‫أسلوبها في تحديد القيمة أمكننا أن نشرح الفكرة على الشكل التالي‪:‬‬

‫ألي شخص بالمنفعة التي يحصل عليها من الوحدة األخيرة‪ ،‬ويمكن‬


‫أي سلعة ِّ‬
‫تتحدد قيمة ِّ‬
‫أي وحدة منها قبل اإلشباع كبيرة جداً‬‫أي سلعة‪ ،‬نظرياً‪ ،‬إلى وحدات متساوية تكون منفعةُ ِّ‬
‫تقسيم ّ‬
‫ولكن هناك سلع‬
‫ْ‬ ‫بالتناقص‪ ،‬ولذلك تحدد قيمة السِّلعة بما تلبيه الوحدة الكبيرة منها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ثم تبدأ‬
‫ثمن‪ ،‬مثل الهواء‪ .‬فما السبب؟ يقولون‪ :‬إن الهواء له منفعة‬
‫لإلنسان ولكنها من دون ُ‬
‫ُ‬ ‫ضرورية جداً‬
‫الندرة في توافره‪ ،‬ولتوافره بكميات هائلة جداً‪ ،‬فإن منفعته ِّ‬
‫الحدية تساوي‬ ‫كلية كبيرة ولكن لعدم ُّ‬
‫الصفر‪.‬‬

‫وبهذا المعنى فإن الحيوية فيما يتعلق بالموضوع الجمالي شبيهة بالهواء لإلنسان‪ ،‬والهواء هو‬
‫أكثر األشياء أهمية وضرورة لإلنسان‪ ،‬وألن قيمته ال تقدر بثمن فإنه بًل ثمن‪ ،‬إنه بًل ثمن ألن‬
‫قيمته أكبر من كل ثمن وألنه متوافر بكم هائل ال يستطيع أن يمتلكه أحد أو يحتكره أحد‪.‬‬

‫هذا يعني من ناحية أخرى أن كل موضوعات الطبيعة قابلة ألن تكون موضوعات جمالية‬
‫بمختلف أحوالها‪ ،‬وصفاتها‪ ،‬وتشكًلتها وعًلقاتها مع بعضها بعضا‪ ،‬الشجر مع الشجر‪ ،‬والشجر‬
‫مع النهر‪ ،‬والنهر مع البحر‪ ،‬والغابة مع الجبل‪ ،‬والجبل مع السفح‪ ،‬مع اإلنسان مع الحيوان‪...‬‬
‫بكل ما يخط ُر في البال من تشكيًلت وترابطاتها‪ ،‬كل ذلك قابل أن يكون موضوعات جمالية‪ ،‬أي‬
‫إن الجماد أيضا مندمجا مع هذه التركيبة ومنفصًلً عنها يمكن أن يكون موضوعاً جمالياً‪ ،‬عندما‬
‫تتوافر فيه الخصائص الجمالية‪ ،‬أو عندما ننظر إليه بوصفه موضوعاً جمالياً‪.‬‬

‫الجمال الفني‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫هو الجمال الذي يصنعه اإلنسان‪ ،‬وهو ما تم التعارف عليه حتى اآلن باسم الفن‪ ،‬فالفن هو‬
‫صناعة الجمال‪ ،‬وكل ما يصنعه اإلنسان صنعاً جمالياً هو فن‪.‬‬

‫ثمة اختًلف كبير في النظر إلى المنتجات اإلنسانية التي تستحق أن تسمى فناً‪ ،‬هذا‬
‫االختًلف ماثل في الدرجة االرتجال الذي يتسرع به المتشدقون من غير المختصين‪ ،‬ومن‬
‫أي صنعة تعجبهم على أنها فن‪ ،‬مهما كانت هذه‬
‫المتطفلين‪ ،‬واألدعياء‪ ،‬الذين ينظرون إلى ِّ‬
‫فناً في كل ما يصنعه أو ينتجه شخص يحبونه أو ينافقون له أو هم بحاجة إليه‪.‬‬
‫الصنعة‪ ،‬ويرون ّ‬

‫أما المختصون فإن الخًلف بينهم في هذا الشأن أقل‪ ،‬ولكنه أعقد‪ ،‬ومهما يكن شأن الخًلف‬
‫بين المختصين فهو خًلف حول إدراك أبعاد ما يختلفون فيه ومن أجله‪.‬‬

‫الفن في ُعرفهم صنعة إبداعية غايتها األساسية صناعة الجمال‪ ،‬وترتبط بغاية أخرى توازيها‬
‫في األهمية‪ ،‬وهي التعبير عن الذات المبدعة وقدرتها اإلبداعية‪ ،‬وهذا المعنى الصريح يعني أنه‬
‫فناً مهما كان متمي اًز؛ ألن‬
‫من غير الممكن أن نعد أي صنعة فنية‪ ،‬وال أي إنتاج ينتجه اإلنسان ّ‬
‫فناً‪.‬‬ ‫التميز وحده غير كاف ِّ‬
‫لعد المنتج ّ‬

‫نحن اصطًلحياً أمام جملة من الصنائع التي اتفق الباحثون والنقاد على ِّ‬
‫عدها فنوناً‪ ،‬وهي ما‬
‫تسمى عادة بالفنون السبعة‪ :‬الرسم‪ ،‬النحت‪ ،‬العمارة‪ ،‬الشعر‪ ،‬الموسيقى‪ ،‬المسرح‪ ،‬القصة‪.‬‬
‫ويضيف بعضهم إلى هذه الفنون الرقص‪ ،‬والتمثيل‪ ،‬والغناء‪ ،‬وغير ذلك مما هو موضوعُ نقاش‪،‬‬
‫وقبول‪ ،‬ورفض‪ ،‬من باحث آلخر‪.‬‬

‫هناك الكثير من التصنيفات لهذه الفنون‪ ،‬بعضها يختصر الفنون في خمس‪ ،‬وبعضها يزيد‪،‬‬
‫وبعضها ّينوع في أنماط التصنيف‪ ،‬ولكنها كلها تقريباً متفقة على أن هذه الفنون التي أشرنا إليها‬
‫هي فنون‪ ،‬الخًلف يكمن في أن بعضهم يصنف فنوناً أخرى منها على أنه موضوع اتفاق إلى‬
‫حد ما‪ ،‬كونها قد استُحدثَت مثل السينما‪ ،‬ومنها ما قد يكون موضع اختًلف‪ .‬ومن وجهة نظر‬
‫الدكتور عزت السيد أحمد فإنه من الممكن تقسيم الفنون إلى قسمين كبيرين هما‪ :‬الفنون األدبية‬
‫التي تميل إلى تسمية العلم الذي يدرسها علم الجمال األدبي‪ ،‬بوصفه فرعاً من فروع علم الجمال‪،‬‬
‫وفنون هذا القسم هي‪" :‬الشعر‪ ،‬القصة‪ ،‬المسرحية"‪ .‬أما القسم الثاني هو الفنون البصرية كونها‬
‫درك بحاسة البصر‪ ،‬وهي‪ :‬الرسم‪ ،‬والنحت‪ ،‬والعمارة‪ ،‬ويمكن إضافة الموسيقى تجاو اًز‪.‬‬
‫تُ َ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫إن هذا التقسيم يحتاج إلى وقفة أطول‪ ،‬وتَعمق في فهم العًلقات الجدلية بين مختلف أنواع‬
‫الفنون‪ ،‬فقراءتي للوحة قراءة ذوقية تأملية جمالية هي بالضرورة قراءة لفن بصري بأسلوب أدبي‪،‬‬
‫وان كنا ال نميل إلى هذا التقسيم مطلقاً‪.‬‬

‫أما تقسيم التصنيف للفنون‪ ،‬فيمكن تقسيمه إلى أربعة أصناف‪:‬‬

‫‪ -1‬فنون الكًلم‪ :‬يتضمن شعر‪ ،‬قصة‪ ،‬رواية‪ ،‬مسرحية‪.‬‬

‫‪ -2‬فنون بصرية ثابتة‪ :‬تتضمن رسم‪ ،‬نحت‪ ،‬عمارة‪ ،‬زخرفة‪ ،‬خط‪.‬‬

‫‪ -3‬فنون بصرية حركية‪ :‬تتضمن موسيقا‪ ،‬رقص‪ ،‬تمثيل‪ ،‬غناء‪.‬‬

‫‪ -4‬فنون مركبة‪ :‬تتضمن سينما‪ ،‬مسرح‪ ،‬إعًلن‪ ،‬إعًلم‪ ،‬إضحاك‪.‬‬

‫ال ينفصل التعامل مع الفن والجمال الصناعي عن التعامل مع الجمال الطبيعي من ناحية‬
‫خصائص أخرى بوصفه صناعة بشرية‪ ،‬وبوصفه صناعة تعنى‬ ‫َ‬ ‫التقويم الجمالي‪ ،‬ولكن للفن‬
‫بصناعة الجمال‪ .‬خًلفاً لموضوعات الطبيعة التي ال يشترط فيها أن تكون موضوعات جمالية‬
‫وحسب‪ ،‬فمعظمها موضوعات طبيعية تصلح ألن تكون موضوعات لكثير من الميادين العلمية‬
‫والمعرفية األخرى ومنها علم الجمال‪.‬‬

‫يختص به ُّ‬
‫الفن من مسائل غير موجودة في التعامل مع الجمال الطبيعي مسألة‬ ‫ُّ‬ ‫إن أبرز ما‬
‫اإلبداع‪ ،‬وهي مسألة طويلة كثيرة التشعبات والموضوعات‪ ،‬والعلم الذي يدرس الفن بكل أبعاده‪،‬‬
‫وميادينه‪ ،‬وموضوعاته‪ ،‬وخصوصياته‪ ،‬هو فلسفة الفن أو علم الجمال بوصف فلسفة الفن جزء‬
‫من علم الجمال على األقل في هذا التمهيد الذي عرضناه‪.‬‬

‫علم الجمال‬

‫علم الجمال علم حديث النشأة نسبياً‪ ،‬فهو لم ينشأ عمليا‪ -‬بإجماع الباحثين والدارسين‬
‫والمؤرخين الجماليين‪ -‬إال في أواسط القرن الثامن عشر‪ ،‬على يد الفيلسوف األلماني الكسندر‬
‫باومغارتن في كتابه "تأمًلت فلسفية في موضوعات الشعر"‪ ،‬فهو بإقرار جميع المؤرخين‬
‫والباحثين الجماليين أول من وضع لفظ ‪ Esthetic‬وحدد مفهومه‪ ،‬وميدانه‪ ،‬ووضع القواعد له‬
‫وللتقويم الجمالي‪ ،‬فميز بين نوعين من المعرفة‪ :‬معرفة حسية وهي معرفة غامضة‪ ،‬ومعرفة عقلية‬
‫هي معرفة واضحة‪ .‬وبينهما نوع وسط هو امتثاالت واضحة‪ ،‬ولكنها ليست متميزةً‪ ،‬وهي ميدان‬
‫علم الجمال‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫إن هذا اللفظ ‪ Esthetic‬المعروف عربيا باالستطيقا بمعنى أن علم الجمال ذو جذر التيني‬
‫هو‪ ،Aisthesis‬وال غرابة في ذلك فهذه اللغة هي الجذر المباشر لمختلف اللغات األوربية الغربية‬
‫منها خاصة‪ ،‬لذلك ال عجب أن تندرج هذه المفردة بعد قولبتها بمختلف اللغات األوربية‪ ،‬وتعني‬
‫هذه المفردة التي هزت الدنيا وشغلت الناس الحقا في أصلها اإلحساس‪ ،‬ولذلك ظن بعضهم أنها‬
‫تعني نظرية اإلحساس أو علم اإلحساس‪ ،‬وهي تعني في األصل معنى واحداً يفهم بثًلثة أوجه‪:‬‬
‫‪ -1‬المعرفة الحسية أو اإلدراك الحسي‪ -2 .‬المظهر المحسوس‪ -3.‬الصورة األولية إلحساساتنا‪.‬‬

‫واذا كان علم الجمال بوصفه مصطلحاً محددا‪ ،‬حديث النشأة ظهر على يد باومغارتن‪ ،‬فإن‬
‫الدراسات الجمالية‪ ،‬والبحث في المشكًلت الجمالية ليست حديثة النشأة على اإلطًلق‪ ،‬فكلما‬
‫توغلنا رجوعاً إلى الوراء في عمق التاريخ‪ ،‬وجدنا ما يدل على أن المفكرين كانوا يتعاملون‬
‫بالموضوعات الجمالية‪ ،‬ناهيك عن أن الممارسات الفنية وجدت منذ وجد اإلنسان‪ ،‬كما تشير‬
‫الدراسات التاريخية واألنثروبولوجية‪.‬‬

‫وقد بلغت الدراسات الجمالية مبلغاً مهما في الحضارة اليونانية خاصة‪ ،‬وخاصةً على يد‬
‫سقراط وأفًلطون وأرسطو وفيثاغورث وغيرهم ‪ ...‬أما في الحضارة العربية اإلسًلمية فقد حدث‬
‫انعطاف هائل في تاريخ الفكر الجمالي‪ ،‬إذ وجدنا كثي اًر من أعًلم علم الجمال‪ ،‬وخاصة منه علم‬
‫الجمال األدبي الذي وضعت فيه مئات بل آالف المؤلفات من عشرات األعًلم‪ ،‬الذين اكتشفنا‬
‫بعضاً غير قليل منهم‪ ،‬وما زال الكثير منهم ليسوا في متناول الباحثين والدارسين‪ .‬ولعل أبرزهم‬
‫الجاحظ‪ ،‬والتوحيدي‪ ،‬وابن قتيبة‪ ،‬والجرجاني‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬والماوردي ‪ ...‬وغيرهم‪ ،‬وفي أوروبا‬
‫في العصر الوسيط اهتم الفًلسفة بالدراسات الجمالية‪ ،‬وأخذت على أيديهم بعداً صوفياً إلى حد‬
‫ما‪ ،‬أو بعداً أدبياً على األقل‪ ،‬ومن هؤالء‪ :‬توما األكويني‪ ،‬وسان أنسلم‪ ،‬وأوغستين وغيرهم‪.‬‬

‫أما في أوروبا العصر الحديث فنهضت الدراسات الجمالية نهضة واسعة‪ ،‬ظلت تتنامى‬
‫بوتائر متسارعة حتى ظهر اصطًلح علم الجمال على يد ألكسندر باومغارتن‪ ،‬وان كانت جهود‬
‫َ‬
‫ديكارت وكانط وهيغل وشبنهور عظيمة في هذا الشأن‪ ،‬وخاصة جهود كل من كانط وهيغل‪.‬‬
‫وبعد هذه األجيال أخذت وتائر الفن الجمالي بالتوسع‪ ،‬والتنوع‪ ،‬والغنى‪ ،‬واالنتشار‪ ،‬حتى صارت‬
‫في القرن التاسع عشر ثم العشرين من أكثر الموضوعات شغًل للباحثين والمفكرين وحتى‬
‫الفًلسفة‪ .‬حتى وجدنا في أواسط القرن التاسع عشر أحد الشعراء يقول‪" :‬ال يعج زماننا بشيء‬
‫بقدر ما يعج بعلماء الجمال" فكيف لو تقدمنا قليًلً أو نحو مئة سنة سيكون عدد هذا أكثر‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫في النهاية‪ ،‬مثلما كنا أمام اختًلف في تعريف الجمال عند المفكرين والفًلسفة‪ ،‬كذلك هناك‬
‫اختًلفات في تعريف علم الجمال في المعاجم‪ ،‬فإذا ما فتحنا معجم الموسوعة الفلسفية للمؤلف‬
‫"الالند" وجدنا أنه يعرف علم الجمال بأنه‪" :‬علم األحكام التقويمية التي تميز بين الجميل والقبيح"‪،‬‬
‫أما قاموس "ويبستر" فإنه يعرفه بأنه‪" :‬المجال الذي يتعامل مع وصف الظواهر الفنية والخبرة‬
‫الكمالية وتفسيرها"‪ .‬أما "بيرديلي" فإنه يرى أن علم الجمال‪" :‬علم يقيني تقوم من خًلله فروع‬
‫معرفية عدة بدراسة المنطقة المشتركة المتعلقة بالخبرة‪ ،‬أو االستجابة الجمالية بكل ما تشتمل‬
‫عليه هذه الخبرة‪ ،‬أو االستجابة من جوانب حسية وادراكية وانفعالية ومعرفية واجتماعية"‪.‬‬

‫واذا فتحنا أحد أقدم المعاجم الفلسفية العربية المعاصرة‪ ،‬معجم جميل صليبا‪ ،‬وعنوانه‪:‬‬
‫"المعجم الفلسفي" وجدناه يعرف علم الجمال‪" :‬علم يبحث في شروط الجمال ومقاييسه ونظرياته‪،‬‬
‫وفي الذوق الفني‪ ،‬وفي أحكام القيم المتعلقة باآلثار الفنية‪ ،‬وهو باب من الفلسفة‪ ،‬وله قسمان‪:‬‬
‫قسم نظري عام وقسم عملي خاص"‪.‬‬

‫ال شك في أن هناك الكثير من التعريفات األخرى لعلم الجمال التي يمكن إفراد بحث مطول‬
‫نعرفه على نحو ميسر بأنه‬
‫لها‪ ،‬ومهما يكن من أمر الكثير من هذه التعريفات‪ ،‬فإنه يمكننا أن ِّ‬
‫العلم الذي يدرس الجمال‪ ،‬ودراسة الجمال تعني لماذا يبدو هذا الشيء جميًلً؟ وحتى يعرف لماذا‬
‫كان جميًل؟ سيدرس خصائص الجمال ومقوماته‪ ،‬وحتى يصل إلى خصائصه سيدرس لماذا‬
‫كانت هذه الخصائص والمقومات موصوفة بالجمالية‪ ،‬أو مرتبطة بالجمال؟‬

‫إيجابيا في النفس كظاهرة الفرح‪ ،‬والسرور‪،‬‬


‫ً‬ ‫فإذا عرفنا أنها توصف بالجمال ألنها توثر تأثي اًر‬
‫والبهجة‪ ،‬والمتعة‪ ،‬اضطررنا للبحث في التذوق الجمالي‪ ،‬ثم التقويم الجمالي‪ ،‬وألن الجمال مهم‬
‫ويبعث كل مشاعر االرتياح‪ ،‬والرضا‪ ،‬والسرور‪ ،‬والمتعة في النفس‪ ،‬سيبحث علم الجمال في‬
‫كيفية صنع الجمال‪ ،‬أي في الفن‪ ،‬وكل ما يتصل في الفن‪.‬‬

‫يمكننا القول‪ :‬إن علم الجمال هو العلم الذي يدرس الجمال في أًصله‪ ،‬وفصله‪ ،‬وصنعه‪،‬‬
‫وتجلياته‪ ،‬وآثاره‪ ،‬وينقسم بحثنا في الجمال تحت معطف علم الجمال إلى موضوعات وميادين‪،‬‬
‫وهذه الميادين هي الفروع الكبرى لعلم الجمال من قبيل علم الجمال النظري‪ ،‬وعلم الجمال‬
‫التطبيقي‪ ،‬وعلم الجمال األدبي‪ ،‬والنفسي‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫والموضوعات هي األفكار والمفاهيم واالصطًلحات الجمالية التي يدرسها علم الجمال وتكون‬
‫موجودةً غالباً في مختلف الميادين‪ ،‬ومنها على سبيل المثال‪ :‬القيمة الجمالية‪ ،‬التقويم الجمالي‪،‬‬
‫المقوالت الجمالية‪ ،‬التذوق الجمالي‪ ،‬اإلبداع الجمالي‪ ،‬الفن ووظيفته‪...‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫********************************************‬

‫القَيَم الجمالية‬

‫ُبردا‬ ‫ِّيت‬
‫ُرد َ‬ ‫وا ْن‬ ‫فاعلم‬
‫ْ‬ ‫ِب ِم ْئزر‬ ‫الجما ُل‬ ‫ليس‬
‫َ‬

‫َمجدا‬ ‫أ َْورثْ َن‬ ‫ومناقب‬


‫َ‬ ‫َمعادن‬ ‫الجما َل‬ ‫إن‬
‫َّ‬

‫عمرو بن معد يكرب‬

‫وقالت‬
‫ْ‬ ‫بنت طَلح َة أنا أجم ُل منك‪,‬‬‫في كتاب األغاني القصة اآلتية‪( :‬قالت س َكين ُة لعائش َة ِ‬
‫ُ‬
‫س َكين ُة‬ ‫بن أبي ربيع َة‪ ,‬فقال ألَق ِ‬
‫عمر ِ‬
‫أما أنت يا ُ‬
‫ْض َي َّن بينكما‪َّ .‬‬ ‫فاختَصمتا إلى َ‬‫عائش ُة بل أنا‪ْ .‬‬
‫ض ْيت لي واهلل)‪.‬‬
‫س َكين ُة قَ َ‬
‫أما أنت يا عائش ُة فأجم ُل منها‪ .‬فقالت ُ‬
‫فأملح منها‪ ,‬و َّ‬
‫ُ‬

‫تدلُّنا هذه القصة على َنوعين للحسن‪ ،‬وهما المالح ُة تتصف بها ُس َكينة بنت الحسين والجما ُل‬
‫كل من هذين النوعين وجدنا ذلك في‬ ‫أردنا أن نتفهم معاني ٍّ‬
‫تتحلى به عائشةُ بنت طلحةَ‪ .‬واذا ْ‬
‫أيضا في هذا الكتاب‪.‬‬
‫أخبار هاتين السيِّدتين ُم َدوًنا ً‬

‫فقد جاء فيه‪( :‬كانت ُس َك ْينةُ عفيفةً َسلمةً َب ْرَزةً من ِّ‬


‫النساء تُجالس األَجلة من قريش وتَجتمع‬
‫‪1‬‬
‫وكانت ظريفةً َمزاحةً) ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫اء‪،‬‬ ‫إليها ُّ‬
‫الشعر ُ‬

‫لموقَ َدة)‪.‬‬
‫أحسن من النار ا ُ‬
‫ُ‬ ‫خلت على مصعب‪ ،‬وأنا‬ ‫قالت عن ليلة زفافها‪( :‬أ ُْد ُ‬
‫ي عنها ّأنها ْ‬‫ُرو َ‬
‫ف‬
‫حسن منه حتى ُعر َ‬ ‫شعر وكان تُصفِّف ُجمتَها تصفيفًا لم ُي َر أ ُ‬
‫(أحسن الناس ًا‬
‫َ‬ ‫كانت‬
‫ْ‬ ‫روى أنها‬ ‫وي َ‬
‫ُ‬
‫سمى السُّكينية)‪.‬‬
‫الجمةُ تُ ّ‬
‫وكانت ُ‬
‫ْ‬ ‫ذلك‬

‫أن ُس َكينةَ كانت تتصف مع العفة والفَضل بنعومة األطراف‬ ‫نستخلص من هذا النعت ّ‬
‫شبوبة في ُروائها‪ ،‬وأّنها كانت َح َسنة‬
‫الم َ‬‫المزاح وبالجاذبية التي تُشبهُ النار َ‬
‫الميل إلى ُ‬ ‫والظرف و َ‬
‫ب إليها‪.‬‬ ‫الشعر تَتزين فَتصفِّفه تصفيفًا غدا زيا في عصـرها ُي َ‬
‫نس ُ‬

‫‪ -1‬ص‪ .159‬السَّلمة‪ :‬الناعمة األطراف‪ ،‬والبرزة‪ :‬بارزة المحاسن والتي تبرز للقوم يجلسون إليها ويتح َّدثون وهي عفيفةٌ‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫المًلمح‬
‫اعتدال َ‬ ‫ثاال حقًّا في ُ‬
‫تناسب التكوين و ْ‬ ‫تفيد أنها كانت َبديعة م ً‬
‫فأخبارها ُ‬
‫ُ‬ ‫وأما عائشةُ‬
‫العاشر من ِ‬
‫كتاب األَغاني‬ ‫ِ‬ ‫بي إ ْذ ذاك‪ .‬وفي الجزِء‬
‫العر ُّ‬
‫َعضاء‪ ،‬كما َيتصور الذوق َ‬‫و ْانسجام األ ْ‬
‫ت بالمدينةَ تُسمى‬ ‫سناء ُم ِّ‬
‫غنية كان ْ‬ ‫كامًل على لسان امرأة َح َ‬
‫يكون ً‬
‫ُ‬ ‫يكاد‬
‫طلحةَ ُ‬ ‫َوصف لعائشةَ بنت َ‬
‫َعلمهم بأُمور‬
‫وكانت من أظرف الناس وأ ْ‬‫ْ‬ ‫المروءات‪،‬‬
‫وغيرهم من أهل ُ‬
‫اف ُ‬ ‫الميًلء يألَفها األَشر ُ‬
‫َ‬ ‫َعزة‬
‫يد ب ُن العاص‪.‬‬
‫بن عبد الرحمن بن أبي بكر وسع ُ‬
‫وعبد اهلل ُ‬ ‫بن ُّ‬
‫الزبير ُ‬ ‫صعب ُ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫النساء‪ ،‬فأتاها ُم‬

‫فانظُري لنا‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬إنا َخطبنا ْ‬

‫بت؟‬
‫بن أبي عبد اهلل و َم ْن َخطَ َ‬
‫لمصعب‪ :‬يا َ‬
‫فقالت ُ‬

‫طلحةَ‪.‬‬
‫بنت َ‬
‫فقال‪ :‬عائشةَ َ‬

‫بن أبي أحيحة؟‬


‫فقالت‪ :‬فأنت يا َ‬
‫ْ‬

‫عثمان‪.‬‬
‫َ‬ ‫بنت‬
‫قال‪ :‬عائشةَ َ‬

‫بن الص ِّ‬


‫ِّديق؟‬ ‫قال‪ :‬فأنت يا َ‬

‫بنت زكريا بن طلحةَ‪.‬‬


‫قال‪ :‬أم القاسم َ‬

‫قالت‪ :‬يا جارية هاتي ُم ْن ُقلَ ّي تعني ُخف ْيها‪.‬‬

‫رجت‪َ ...‬فبدأت بعائشةَ بنت طلحةَ‪.‬‬


‫وخ ْ‬‫َفلبستْهما َ‬

‫وخْلقَهُ ّن فَذكروك فلم أَدر‬ ‫جمال ِّ‬


‫النساء َ‬ ‫َ‬ ‫فقالت‪ :‬فَديتُك كنا في مأدبة أو َمأتم لقُريش فَتذاكروا‬
‫ْ‬
‫للخاطبين صفات‬
‫َ‬ ‫صف‬‫علت‪ ....‬إلى آخر القصة‪ ،‬ثم ترجعُ فتَ ُ‬
‫ثياب َك‪ .‬فَفَ ْ‬
‫كيف أصفُك فَديتُك! فأَلقي َ‬
‫أحدهما‬
‫ورتها وتستثني من ذلك َع ْي َب ْين‪( ،‬أما ُ‬
‫صَ‬‫بنت طلحةَ في كمال ُ‬ ‫صف عائشةَ َ‬‫َخطيباتهم‪ ،‬وتَ ُ‬
‫‪2‬‬
‫عظم القدم‪ ،‬واألُذن) ‪.‬‬ ‫اآلخر فيواريه ُ ُّ‬
‫الخف‪ُ :‬‬ ‫ُ‬ ‫الخمار‪ ،‬وأما‬
‫ُ‬ ‫فيواريه‬

‫فسير‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫جد في (عيون األخبار) ما ُيؤكد هذا الت َ‬
‫ون ُ‬
‫َ‬

‫يوما‪ :‬ما أجملَك!‬


‫ان له ً‬
‫قالت امرأةُ خالد بن صفو َ‬
‫ْ‬

‫عمود الجمال وال علي رداؤه وال ُبرُنسه‪.‬‬


‫ُ‬ ‫قولين ذاك وما لي‬
‫قال‪ :‬ما تَ َ‬

‫‪ -2‬كانت سكينة تُس ِّمي عائشةَ ذاتَ األُذنين‪ .‬المصدر نفسه ج‪/4‬ص‪162‬؟‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫عمود الجمال وما رداؤه وما برُنسه؟‬
‫ُ‬ ‫قالت‪ :‬ما‬

‫أبيض‪ ،‬وأما‬
‫لست ب َ‬
‫ياض و ُ‬
‫فالب ُ‬ ‫صر‪ ،‬وأما رداؤه َ‬‫عمود الجمال فطو ُل القَوام وفي ق َ‬
‫ُ‬ ‫أما‬
‫قال‪ّ :‬‬
‫ملحك كان أ َْولى)‪.‬‬
‫أحًلك وما أَ َ‬
‫َ‬ ‫ولكن لو قلت ما‬
‫ُبرُنسه فسو ُاد الشعر وأنا أصلعُ‪ْ .‬‬

‫أقرب منهما إلى‬ ‫نو المالحة وأنهما إلى األمور المعنوية الخفية‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫هنا نجد أن الحالوةَ ص ُ‬
‫األمور الحسية الظاهرة‪.‬‬

‫ابن المقفَّع في األدب الصغير أ ًا‬


‫ُمور ال تَصلُح ّإال بقَرائنها‪ ،‬ومنها أنه ال َينفعُ (الجما ُل‬ ‫وعدد ُ‬
‫نفعه ويكتمل َرْونقه‪.‬‬ ‫بغير َحًلوة)‪ .‬وهذا ُّ‬
‫يتم ُ‬
‫غير الحًلوة‪ ،‬وأنه بها ُّ‬ ‫الجمال ُ‬
‫َ‬ ‫يدل على أن‬

‫(حقيقة‪ :‬الجما ُل‬ ‫(الحقائق والرقائق)‪ ،‬منها َ‬ ‫جده‬ ‫صاحب َنفح ِّ‬
‫الطيب طُرفًا من كتاب ِّ‬ ‫ذكر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقد َ‬
‫ت‬ ‫المًلحة ُروح‪ .‬فذلك س ُتره عليك‪ ،‬وهذا س ُّره فيك‪{ .‬فَِإ َذا َ‬
‫س َّوْيتُ ُه َوَنفَ ْخ ُ‬ ‫ورة‪ ،‬و َ‬
‫صَ‬‫الحسن َ‬
‫رياش‪ ،‬و ُ‬
‫‪3‬‬ ‫يه ِمن ُّر ِ‬
‫وحي} ‪.‬‬ ‫ِف ِ‬

‫ربا من الزينة‪,‬‬
‫ضً‬ ‫أن هذا الكالم يريد قائلُه أن ُيفرق بين الجمال الذي يعتبره َ‬
‫على َّ‬
‫المالحة التي هي باطنة خفية والتي‬ ‫والحسن الذي هو صورة‪ِ ,‬‬
‫وبين َ‬
‫خارجيَّان‪َ ,‬‬
‫ان َ‬‫الهما ظاهر َ‬
‫وك ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هي منهما بمنزلة الروح‪.‬‬

‫يم‬ ‫ِ ِ‬
‫ب َع ْن إ ْب َراه َ‬ ‫َذ َه َ‬ ‫كره { َفلَ َّما‬
‫روعني أي أَفزَعني‪ .‬قال اهلل تعالى ذ ُ‬
‫اعني َي ُ‬
‫(يقال ر َ‬
‫المبرد‪ُ :‬‬
‫ِّ‬ ‫وقال‬
‫أحسب‬
‫وغيرهما‪ .‬و ُ‬ ‫يكون ذلك في الرجل والفَرس‬ ‫ُ‬ ‫الر ْوعُ}‪ .‬ويكون الرائعُ الجميل‪ ،‬يقال َجمال رائع‪،‬‬
‫َّ‬
‫ب‬ ‫س َنا َب ْرِق ِه َيذ َ‬
‫ْه ُ‬ ‫َ‬ ‫اد‬
‫{ي َك ُ‬ ‫قال اهلل جل ثناؤه‪َ ،‬‬‫احدا أنه ُيفرط حتى َيروع‪ ،‬كما َ‬ ‫األصل فيهما و ً‬
‫صِ‬ ‫ِب ْاأل َْب َ‬
‫‪4‬‬
‫ار} لإلفراط في ضيائه) ‪.‬‬

‫الل واخافَ ٍة وهو َّ‬


‫الروع ُة‪.‬‬ ‫وج ٍ‬‫آخر للجمال‪ ,‬نوٍع ذي َهيبة َ‬ ‫وهذا ُّ‬
‫يدل على نوٍع َ‬

‫جاء في أساس البال َغة‪( :‬وفرس رائع َيروعُ الرائي بجماله وكًلم رائع رائق وامرأة ارئعة‬
‫وقد َ‬ ‫ْ‬
‫بن أبي ربيعةَ‪:‬‬
‫عمر ُ‬
‫وروع‪ .‬قال ُ‬
‫ونساء روائعُ ُ‬

‫ُرَّوعُ)‬ ‫الم ِ‬
‫دامع‬ ‫ُحور‬ ‫به‬ ‫تمشى‬ ‫ِحقب ًة‬ ‫كان‬
‫َ‬ ‫فقد‬
‫ْ‬ ‫َمغناها‬ ‫ُي ِ‬
‫قو‬ ‫فإن‬
‫َ‬

‫‪ -3‬ج‪3‬ص‪ 167‬بوالق ‪1279‬هــ‪ .‬يذكر المقّري مق ّدمة ج ّده لكتابه‪:‬‬


‫ق بالرَّقائق‪ ،‬و َمزجت المعنى الفائق باللفظ الرائق‪ ،‬فهو زبدة التذكير و ُخالصة المعرفة و َ‬
‫صفوة العلم ونَقاوة‬ ‫(هذا كتابٌ َشفَ َعت فيه الحقائ َ‬
‫ظ بما يُوحيه إليك فهو الدلي ُل وعلى هللا قص ُد السبيل)‪.‬‬ ‫العمل فاحْ تف ْ‬

‫‪ -4‬رغبة اآلمل من كتاب الكامل ج‪7‬ص‪ 88‬الطبعة األولى‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫فصًل (في ترتيب ُحسن المرأة) جاء فيه‪( :‬فإذا كان النظر‬ ‫ً‬ ‫صاحب ِفقه اللُّغة َيعقد‬
‫َ‬ ‫على أن‬
‫القلب أو َسو ُاده أو َمكان الفَ َزع منه‪ .‬وال تَمنعُ هذه الفقرةُ‬
‫ُ‬ ‫الروع‬
‫الروع فهي رائعة)‪ .‬و ُّ‬
‫إليها ُيس ُّـر ُّ‬
‫النابغة‪:‬‬
‫صحة اال ْشتقاق السابق‪ .‬وقد قال ّ‬

‫أل ِ‬
‫َقدار‬ ‫ٍ‬
‫أقدار‬ ‫فيق‬
‫وتَ ْو َ‬ ‫َح ْي ًنا‬ ‫رضت‬
‫َع ْ‬ ‫نظرةً‬ ‫وكانت‬
‫ْ‬ ‫قلبي‬ ‫فَ ِر َ‬
‫يع‬

‫ِ‬
‫للجمال َمع َن ْي ِ‬
‫ين‪:‬‬ ‫أن‬
‫ويتحصل معنا َّ‬
‫َّ‬

‫الحًلوةُ‪ ،‬ومنه‬
‫قترن بها َ‬
‫المًلحةُ وتَ ُ‬
‫َمعنى عام َيشتمل على أنواع ُمختلفة للم َحاسن منها َ‬
‫‪5‬‬
‫أيضا ‪.‬‬
‫الروعة ً‬

‫قصة عائشةَ بنت طَلحةَ‪.‬‬


‫كره في ّ‬
‫الممتع كما َسلف ذ ُ‬
‫ام ُ‬‫ب الت ُ‬
‫ناس ُ‬
‫ومعنى خاص وهو التّ ُ‬
‫َ‬

‫حزم (رسال ًة في مداواة ُّ‬


‫النفوس وتهذيب األخالق و ُّ‬
‫الزهد في‬ ‫ابن ٍ‬ ‫ِ‬
‫الحافظُ ُ‬ ‫الوزير‬
‫ُ‬ ‫ب َ‬ ‫وقد َكتَ َ‬
‫الرذ ِائل) جاء فيها‪:‬‬

‫المحاسن‬
‫ًلوة دقةُ َ‬
‫الح َ‬
‫ت‪َ :‬‬ ‫لت عن تحقيق الكًلم فيها فَقْل ُ‬
‫ُّور وقد ُسئ ُ‬
‫باحة الص َ‬
‫ص َ‬ ‫(فصل في َ‬
‫تكن ثم صفات ظاهرةُ‬ ‫ُّور وان لم ْ‬ ‫الحركات وخفة اإلشارات وقبول النفس ألعراض الص َ‬ ‫ولُطف َ‬
‫لعة غير‬ ‫كل صفة على حدتها‪ .‬ورب جميل الصفات على ْانفراد ٍّ‬ ‫القَوام َجما ُل ُّ‬
‫كل منها بارد الط َ‬ ‫ُ‬
‫مليح وال َح َسن وال رائع وال ُحلو‪.‬‬

‫سن هو شيء ليس له في اللغة‬ ‫الح ُ‬


‫أيضا الفَراهةُ والعتْق‪ُ .‬‬
‫بهاء األعضاء الظاهرة وهي ً‬
‫الروعة ُ‬
‫الوجه‬ ‫النفوس باتِّفاق ِّ‬
‫ولكنه َمحسوس في ُّ‬
‫كسو على َ‬‫كل َم ْن رآه‪ .‬وهو َبرد َم ٌّ‬ ‫اسم يعبِّر عنه‪ّ ،‬‬
‫استحسانه‪ ،‬وان لم تكن هناك صفات جميلة‬ ‫اء على ْ‬‫القلوب نحوه‪ ،‬فتَجتمعُ اآلر ُ‬ ‫واشراق َيستمي ُل ُ‬
‫وكأنه شيء في‬
‫طائًل‪ّ ،‬‬ ‫لت الصفات إفر ًادا لم تَر‬
‫تحس َنهُ وقَبلَه حتى إذا تأم َ‬ ‫ُّ‬
‫ً‬ ‫اس َ‬ ‫فكل َمن رآه ارقَه و ْ‬
‫اء بعد هذا فم ْن‬ ‫جده نفس الرائي‪ .‬وهذا ُّ‬
‫ختلف األهو ُ‬
‫باحة‪ .‬ثم تَ ُ‬ ‫أجل مراتب الص َ‬ ‫ئي َي ُ‬
‫نفس المر ّ‬
‫المًلحةُ اجتماعُ‬ ‫وجدنا ً ُّ‬ ‫ُم ِّ‬
‫المنفرَد‪َ .‬‬
‫أحدا قَط ُيفَضل القَو َام ُ‬ ‫للحًلوة وما ْ‬ ‫فضل للروعة وم ْن ُمفضل َ‬
‫‪6‬‬
‫كرنا) ‪.‬‬
‫شيء بشـيء مما َذ ْ‬

‫أحاديث تُعجبك إ ّما ملي َحةٌ وإ ّما رائعةٌ‪ )...‬فهو يُقابل بين المليحة والرَّائعة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -5‬يقو ُل ابنُ المقفع في (األدب الكبير)‪( :‬اعل ْم أنّه ستمرُّ عليك‬
‫رسائل البلغاء الطبعة الثالثة ‪ 1946‬ص‪.93‬‬
‫الطبعة نَصيبٌ من التَّحريف‪ ،‬وقد طُبعت الرّسالةُ طبعةً ثانيةً في مص َر‪ ،‬وفي‬ ‫‪َ -6‬مطبعة النيل بمصر ‪1323‬هـــ‪ ،‬ص‪ ،38 ،37‬وفي هذه ّ‬
‫المكتبة الظّاهرية َمخطوطتان لها في قسم األدب‪ ،‬برقم ‪ 3181‬ورقم ‪ 3182‬ولَيْستا أفض َل من الطَّبعتَيْن‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الجمال ُمختلفةً وهي َمنثورة في ُكتب األَدب‬
‫فيد أَْلو ًانا من َ‬
‫هذا وفي اللغة العربية ألفاظ َكثيرة تُ ُ‬
‫‪7‬‬
‫الجمال‬
‫نبحث معاني َ‬
‫َ‬ ‫يد أن‬
‫البحث عن هذه األلفاظ‪ .‬وانما نر ُ‬ ‫ص َدد َ‬
‫المعجمات ولسنا ههنا ب َ‬ ‫و َ‬
‫وس ْعًيا لتَحديد ما قد نستعمله من‬
‫َدبية َ‬
‫استنا األ ّ‬
‫وطئةً لدر َ‬
‫بعضها من بعض تَ َ‬ ‫َ‬ ‫ونميِّز‬
‫وق َيمه وأَنواعه ُ‬
‫‪8‬‬
‫مده من َوصف َوتحليل ‪.‬‬
‫يضاحا لما قد َنعت ُ‬
‫ً‬ ‫ُمصطلحات وا‬

‫أطرفًا من تَحليلهم ثم‬


‫الحديثين َفنتبين ا‬
‫المفكرين َ‬
‫بعض ُبحوث ُ‬
‫َ‬ ‫حتاج إلى أن َنمس‬
‫على ّأننا َن ُ‬
‫حدد هذه المعاني عندنا‪.‬‬‫عود ُلن ِّ‬
‫َن ُ‬

‫األلماني ( َك ْنت)‪ ,‬وذلك‬


‫ُّ‬ ‫يلسوف‬
‫ُ‬ ‫ع الفَ‬
‫تناول هذا الموضو َ‬
‫أهم باحث في تاريخ الفلسفة الحديثة َ‬ ‫و ُّ‬
‫الحكم)‪ .‬وليس هنا َمجا ُل َع َرض آرائه وتَلخيص كتابه هذا‪.‬‬
‫قد ُ‬‫(ن ُ‬
‫في كتابه َ‬

‫الحكم) وهو (اعتبارات حو َل‬


‫(نقد ُ‬ ‫آخر ُم ِّ‬
‫تقدم على كتاب َ‬ ‫نعتم َد على كتاب له َ‬
‫حب أن َ‬ ‫ولكننا ُن ُّ‬
‫‪9‬‬
‫مال وعلى الروعة كما يلي‪:‬‬‫الج‬
‫سرد فيه أمثلةً على َ‬ ‫ُّ‬
‫بالجمال وبالروعة) َف َي ُ‬
‫الشعور َ‬

‫ف‬ ‫من األمور الرائعة‪ :‬الجبا ُل الشامخة والعو ِ‬


‫اص ُ‬ ‫رصعة باألَ ْزهار‬
‫الم َّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫روج ُ‬
‫الم ُ‬
‫الجميلة‪ُ :‬‬
‫األمور َ‬ ‫من‬

‫لممل َكة الجحيم‬ ‫و ُ ِ‬ ‫صف هوميروس َّ‬


‫صف ملتون َ‬ ‫َ‬ ‫لزنار فينوس‬ ‫َو ُ‬

‫الليل‬ ‫َّ‬
‫النهار‬

‫الذكاء‬ ‫ِ‬
‫الف ْكر‬

‫الفَضيلَة‬ ‫الرأفة‬
‫َّ‬

‫ِ‬
‫الفاح ُم‬ ‫عر‬ ‫السوداوان و َّ‬ ‫الع ِ‬ ‫ان و َّ‬ ‫العينان َّ‬
‫الزرقاو ِ‬
‫الش ُ‬ ‫ينان َّ‬ ‫َ‬ ‫َشقر‬
‫عر األ ُ‬
‫الش ُ‬ ‫َ‬

‫‪0‬‬
‫دعهم‬
‫لو لم تَ ُ‬ ‫الرجا ُل ُيمك ُنهم أن يتسموا بال ِجنس النبيل‬
‫ِّ‬ ‫النساء ِجنس َجميل‬
‫ِّ‬
‫شمائلُهم النبيل ُة إلى رفض ألقاب الشرف فهم إلى َمنحها‬ ‫ِ‬ ‫َ‬

‫ضا (فص ٌل في تقسيم‬ ‫مثال (فص ٌل في ترتيب حُسن المرأة) وقد َذكرنا آنفًا فقرةً منه تتعلَّق بالرَّوعة‪ .‬وفي هذا الكتاب أي ً‬ ‫‪ -7‬في فقه اللغة ً‬
‫ضا َءةُ في البَشرة‪ ،‬ال َجما ُل في األَنف‪ ،‬ال َحالوةُ‬
‫ثعلب عن ابن األعراب ِّي وغيرهما‪ ،‬الصَّباحةُ في ال َوجه‪ ،‬اإل َ‬
‫َ‬ ‫الحُسن و ُشروطه) جاء فيه (عن‬
‫في ال َعينين‪ ،‬ال َمالحةُ في الفَم‪ ،‬الظَّرفُ في اللسان‪ ،‬الرّشاقة في القدِّ‪ ،‬اللَّباقةُ في ال ّشمائل‪ ،‬كما ُل الحُسن في ال ّشعر) وث َّمة في المعجمات‬
‫األخرى ألفاظٌ كثيرةٌ ج ًّدا‪.‬‬
‫رعي تَخر ُج من بُحوثنا هنا‪ .‬وكذلك عند‬
‫ُّ‬ ‫العقلي وأيهما ال ّش‬
‫ُّ‬ ‫‪ -8‬في ُكتب أصول الدين فصو ٌل ضافيَةٌ في َمعاني ال َحسن والقَبيح وأيّهما‬
‫وضع آخ َر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫في‬ ‫بها‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫اإللما‬ ‫لنا‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫صوفيّة القائلينَ بوحدَة ال ُوجود آرا ٌء في الجمال َسيتُا‬
‫الفالسفة والسيّما عند ال ّ‬
‫‪ -9‬كتبَه سنة ‪ 1764‬أ ّما نق ُد الحُكم فكتَبَه ُمتأخ ًرا سنة ‪ 1790‬بع َد إصدار كتابيْه ال َمشهو َرين (نقد ال َعقل النَّظر ِّ‬
‫ي) و(نق ُد العقل ال َعمل ّي)‪ .‬وفي‬
‫كتاب (نقد الحُكم) يُطبِّق أصو َل فَلسفته التي أقام دعائمها على آرائه في ال َجمال وفي الرّوعة وهي التي عَرضها في كتابه اآلنف‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫منهم إلى تلقيها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أ َْمَي ُل‬

‫الرجال َمكارم األَ ْخًلق‪.‬‬


‫عنين بجمالهن‪ ،‬ولذلك َيلتم ْسن عند ّ‬ ‫ويرى ( َك ْنت) أن ِّ‬
‫النساء ُي َ‬ ‫َ‬

‫األخًلق‪ ،‬لذلك يلتمسون عند ِّ‬


‫النساء‬ ‫ومكارم ْ‬ ‫بعضا في ُنبل الشمائل َ‬‫ً‬ ‫بعضهم‬
‫ُ‬ ‫قدر‬‫الرجا ُل ُي ِّ‬
‫و ِّ‬
‫ساء َجما ًال فَوق َجمالهن حين‬ ‫فوق ُنْبلهم و ِّ‬
‫الن َ‬ ‫بًل َ‬
‫جال ُن ً‬
‫الر َ‬
‫الجمال‪ .‬وغايةُ الطبيعة أن تَحبو ِّ‬ ‫صفةَ َ‬
‫كًل من الفريقين َيميل إلى اآلخر‪.‬‬ ‫علت ًّ‬‫َج ْ‬

‫جاء في كتابه (نقد‬


‫الجمال‪ .‬وقد َ‬ ‫الخلُقية بأمور َ‬ ‫عند هذا الفيلسوف األُمور ُ‬ ‫وهكذا تَشتبك َ‬
‫َمعن في‬
‫كر إليهما وأ َ‬
‫ًلال دائ َم ْين َيزدادان كلما اتّجهَ الف ُ‬
‫وج ً‬‫إعجابا َ‬
‫ً‬ ‫الحكم)‪َ ( :‬شيئان َيمآلن النفس‬
‫ُ‬
‫لقي في ُنفوسنا)‪.‬‬
‫الخ ُّ‬
‫القانون ُ‬
‫ُ‬ ‫ذات ُّ‬
‫النجوم خارجةً عنا و‬ ‫ماء ُ‬
‫أملهما وهما الس ُ‬ ‫تَ ُّ‬

‫َب ْي َد أن ( َك ْنت) في األَمثلة التي ذكرها قد َم َزَج بين َجمال الطبيعة وجمال الف ِّن‪ ،‬مع أنه قد فرق‬
‫لشيء َجميل وانما هو تمثيل‬‫ٍ‬ ‫مثيال‬
‫قال‪( :‬الفَ ُّن ليس تَ ً‬
‫ِّدا حين َ‬‫آخر تَفريقًا جي ً‬
‫بينهما في َم ْوضع َ‬
‫ٍ‬
‫لشيء من األْشياء)‪.‬‬ ‫جميل‬

‫ـيء‬
‫كان هذا الش ُ‬
‫الجملة‪ ،‬ولو َ‬
‫ضيف إلى هذه ُ‬
‫َ‬ ‫مكن أن ُن‬
‫(ي ُ‬‫الفرنسي شارل اللو‪ُ :‬‬
‫ُّ‬ ‫الم ِّ‬
‫فكر‬ ‫ويقول ُ‬
‫َ‬
‫متعا‪.‬‬
‫كون تَصويره هذا ُم ً‬
‫يصوُر الشيء القبيح‪َ ،‬في ُ‬
‫بيحا)‪ .‬وذلك ألن الفن قد ِّ‬
‫قَ ً‬

‫تعددة‪ .‬وقد َعمد شارل اللو الذي كان أستا ًذا في السُّوربون إلى تصنيف‬
‫عندنا إذن ق َيم فَ ّنية ُم ّ‬
‫هذه القيم‪ ،‬فنظر في هذه القيم إلى التناسب الذي تَرتك ُز عليه هل هو حاصل ُمتحقق أو َمبحوث‬
‫الجانب‬
‫عملي و َ‬
‫الجانب ال ِّ‬
‫العقلي و َ‬
‫ِّ‬ ‫الجانب‬
‫النفسية الثًلثة‪َ :‬‬ ‫ّ‬ ‫عنه أو َمفقود‪ ،‬وذلك من جوانب الحياة‬
‫دول اآلتي‪:‬‬‫الج َ‬
‫فعالي‪ .‬وعندئذ َيحص ُل عندنا تسعُ ق َيم فَ ّنية َوفق َ‬
‫االن ّ‬‫العاطفي أو ْ‬
‫ِّ‬

‫َمفقود‬ ‫َمبحوث عنه‬ ‫ُمتحقِّق‬ ‫التَّ ُ‬


‫ناسب‬

‫ُن ْكتة‬ ‫َرْوعة‬ ‫َجمال‬ ‫قلي‬


‫َع ّ‬

‫تَهريج‬ ‫َمأساة‬ ‫َج ازلَة (فَخامة)‬ ‫ملي‬


‫َع ّ‬

‫فُكاهة‬ ‫درامة‬ ‫رقّة‬ ‫عاطفي‬


‫ّ‬

‫‪ -10‬يستعمل ( َك ْنت) لفظَ النّبيل ً‬


‫بدال من ال ّرائع‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫قلي ُمتحقِّق‬
‫فالجمال تنا ُسب ع ٌّ‬
‫فنية موجودة فيه بتعريفها‪َ .‬‬‫من َمزايا هذا التصنيف أن كل قيمة ّ‬
‫جرا‪.‬‬
‫تناسب َم ْفقود أو َم ْجحود وهلم ًّ‬ ‫ناسب مبحوث عنه أو ُملتَ َمس و ُّ‬
‫النكتة ُ‬ ‫والروعة تَ ُ‬

‫جد ُم َس ِّو ًغا لهذا الحصر‪ .‬ث ّم إن َجوانب‬


‫حصر هذه الق َي َم في تسع وال َن ُ‬
‫غير أن هذا التصنيف َي ُ‬
‫نعا‪.‬‬
‫ط ً‬‫صَ‬
‫داخًل من هذا التقسيم الذي َيبدو لنا ُم ْ‬ ‫أكثر تَ ُ‬ ‫اإلنسانية ُّ‬
‫أشد ا ْشتبا ًكا و ُ‬ ‫ّ‬ ‫النفس‬

‫بًل َجدليًّا‪ ،‬وهي‬


‫أصلية ُمتقابلة َمثنى َمثنى تَقا ً‬
‫ّ‬ ‫آخر أبسطَ يشمل ْأربع ق َيم‬
‫صنيفًا َ‬
‫ولذلك نقترح تَ ْ‬
‫فنية أُخرى دون َحصر‪ ،‬فنضع تلك‬ ‫جاال أللوان كثيرة ّ‬ ‫الرقّة والضحك‪ ،‬ويفسح َم ً‬‫الجمال والروعة و ِّ‬
‫َ‬
‫المحاسن كما في الشكل اآلتي‪.‬‬ ‫ندعوها بدائرة َ‬
‫الق َيم في جوانب دائرة ْ‬

‫ضحوك‬‫الم ْ‬
‫الضحك‪ ،‬ألن َ‬‫مت إليه بسبب‪ .‬وهو ُيقابل ّ‬ ‫مكانه ُّ‬
‫ونود لو َن ُّ‬ ‫عجب به ونرفَع َ‬ ‫لجمال ُن َ‬
‫ا َ‬
‫البخل أو غير ذلك‪،‬‬
‫ون ْخرجه من َجماعتنا ل َع ْيب فيه أو قُبح كالغفلة أو ُ‬
‫ون ْزدريه ُ‬
‫خفضه َ‬
‫منه َن ُ‬
‫الجماعة‪.‬‬
‫وكأننا َن ْزُجره َبضحكنا منه ليرتد إلى داخل َحظيرة َ‬

‫المزمجرة‪ ،‬وهي تُقاب ُل ال ّرقّة التي‬


‫ويخيف كالجبال الشاهقة والعواصف ُ‬
‫وال ّروعة جمال ُيدهش ُ‬
‫كجمال األطفال أو َجمال‬ ‫ونريد أن َنحميه َ‬
‫ونشفق عليه ُ‬
‫هي َجمال لَطيف نخشى عليه األذى ُ‬
‫األُنوثة‪.‬‬

‫تمدين على ما جاء بشأنها عند‬ ‫ِّ‬


‫بعض التّحليل ُمع َ‬
‫َ‬ ‫بع‬
‫فضل أن ُنحلل هذه الق َي َم الفنية األر َ‬
‫ون ّ‬
‫ُ‬
‫بأشد‬
‫لحديثة وذلك ّ‬ ‫مية ا َ‬
‫الدراسات العل ّ‬
‫ناسبا أو بما تيسر من ّ‬
‫كملين إياه بما َنراه ُم ً‬ ‫وم ِّ‬
‫خاصة َ‬
‫ّ‬ ‫العرب‬
‫الغرض من ذكر هذه‬ ‫اسعا وألن َ‬
‫ألن الكًلم في هذه القيم أصبح في العصر الحديث و ً‬‫اإليجاز‪ّ ،‬‬
‫بي ال بحثها وال االستفاضة فيه‪.‬‬
‫مجرد إيضاحها واشاعتها وتطبيقها في دراسات األدب العر ّ‬
‫القيم ّ‬

‫الرقَّـة‪:‬‬
‫ِّ‬

‫الحالوة‪ ,‬وقد َسبقت اإلشارةُ‬


‫كالمالحة و َ‬
‫الجمال َ‬
‫يشمل ألو ًانا متقاربة من َ‬
‫اخترنا هذا اللفظ هنا لَ َ‬
‫ْ‬
‫إليهما‪ ،‬واللُّطف في األفعال و ِّ‬
‫الصفات‪ ،‬والرشاقة في الحركات‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الغربيين‪.‬‬
‫المف ّكرين َ‬
‫األمر عند ُ‬
‫ُ‬ ‫المًلحة على الجمال‪ .‬وكذلك‬
‫فضلون َ‬
‫العرب ُي ّ‬
‫َ‬ ‫ولقد رأينا أن‬
‫الجمال‪.‬‬‫غير َ‬
‫الرقّة ُ‬
‫أن ِّ‬
‫الجمال) وهذه إشارة إلى ّ‬
‫الرقة ألَجم ُل من َ‬
‫يقو ُل الفنتين‪( :‬إن ِّ‬

‫عند اليونان تُمثّله‬


‫أن الجمال َ‬‫اليونانية ما معناه ّ‬
‫ّ‬ ‫بعض األساطير‬ ‫ًّ‬
‫مستغًل‬ ‫ويقو ُل الشاعر شيلر‬
‫َ‬
‫تعارت‬
‫ْ‬ ‫الرقّة ُيمثّلها ُزَّنار فينوس‪ ،‬وعندما أر َادت جونون أن تَسبي جوبتير وتَفت َنه ْ‬
‫اس‬ ‫فينوس وأن ِّ‬
‫الجمال وتنفك عنه كما‬ ‫مكن أن تنفصل عن َ‬ ‫الرقّة ُي ُ‬
‫أيضا إلى أن ِّ‬
‫من فينوس زّنارها‪ .‬وهذه إشارة ً‬
‫اإلغراء‪.‬‬
‫ك عن الخصـر‪ ،‬والى أن الرقّة موطن ْ‬
‫ينفص ُل الزّنار وينف ّ‬

‫دت َزوجها األعرَج في َع َرجه‬


‫ت بالقُبح‪ُ .‬يروى أن فينوس قلّ ْ‬
‫يزداد َرْونق الرقّة إذا قُرَن ْ‬
‫ُ‬ ‫وكثير ما‬
‫ًا‬
‫ظة أو‬ ‫أن الغل َ‬
‫بالرقّة‪ .‬وقد لَحظ أفًلطون منذ القديم الخاصة اآلتية وهي ّ‬ ‫مملوءا ّ‬‫ً‬ ‫تقليدها‬
‫فكان ُ‬
‫كون‬
‫ظة القُصوى ينبغي لتستحق اسمها أن ت َ‬ ‫أن الغل َ‬
‫دائما و ّ‬
‫ف يبدو رقة ً‬ ‫الجفاء إذا تُ ُع ِّم َد أو تُكلِّ َ‬
‫دائما في أشكال نساء فهي ُمتصلة باألُنوثة‬
‫إن الرقّة تُمثلها األساطير اليونانية ً‬ ‫غير إرادية‪ .‬ثم ّ‬ ‫َ‬
‫وحية بها‪.‬‬
‫وم َ‬ ‫ُ‬

‫نو الحركة‪ .‬ونحن عندئذ ندعوها‬


‫أن الرقّة ص ُ‬
‫يكادون ُيجمعون على ّ‬
‫َ‬ ‫الباحثين‬
‫َ‬ ‫على أن أكثر‬
‫بالرشاقة كما ذكرنا‪.‬‬
‫أيضا ّ‬
‫ً‬

‫هينة‪ ،‬لّينة‪ ،‬ال‬


‫الرقّة أو الرشاقة صفة الحركات اللطيفة إذ تجري هذه الحركات سهلة يسيرة‪ّ ،‬‬
‫سًل جارًيا‬
‫تًلحقًا رقيقًا ُمتَسل ً‬
‫ُ‬ ‫تتًلحق أجزاؤها‬
‫َ‬ ‫فوا‪،‬‬
‫كأنما تصدر َع ً‬
‫صب ّ‬ ‫للن َ‬
‫للجهد فيها وال ّ‬
‫أثر َ‬
‫َ‬
‫بعضها ُينبئ عن بعض ويمهِّد له في حرّية واسعة‪.‬‬ ‫بعضا أو كأن َ‬
‫بعضها ُي ْسلم ً‬
‫كأن َ‬
‫كالماء‪ّ ،‬‬

‫االستسًلم فيقو ُل ما‬


‫تموجة تُعرب عن ْ‬ ‫المف ّكر رافيسون أن الحركات الرقيقة حركات ُم ّ‬
‫ويرى ُ‬
‫موج هو التعبير المحسوس عن االستسًلم الذي فيه يبدو الطِّيب وتثوي الرقّة‪.‬‬
‫معناه أن التّ ُّ‬

‫وف سبنسـر‬ ‫شاهد الفيلس ُ‬


‫َ‬ ‫اق‪.‬‬
‫العنف والجهد ال ّش ّ‬
‫القوة الظّاهرة ونائبة عن ُ‬
‫الرقّة بعيدة عن ّ‬
‫ّ‬
‫أن حركتَها كانت تغدو رقيقةً رشيقةً عندما تَبدو خفيفةً لطيفةً ال‬
‫راقصةً ترقص على المسرح فوجد ّ‬
‫لمردود‬
‫اقتصادا في الطّاقة المبذولة بالنسبة إلى ا َ‬
‫ً‬ ‫كأن ثمة‬
‫الجهد إال أقله وأدناه‪ّ ،‬‬
‫تتطلب من ُ‬
‫الحركي الظّاهر‪.‬‬
‫ّ‬

‫الم ْرتطمة الجافية التي تكشف‬


‫وتبتعد عن الحركات العنيفة و ُ‬
‫ُ‬ ‫المردود السيِّئ‬
‫الرقة إذن و َ‬
‫تَتنافى ّ‬
‫ُّ‬
‫وتشف عن ضيق أو َح َرج‪.‬‬ ‫عن ُجهد‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫المنبعثة من‬
‫الحية ُ‬
‫الحركات ّ‬ ‫إن َحركة اآلالت مهما بلغت من الكمال واإلتقان ال تُضاهي َ‬
‫تحدث بًل اصطدام وال َجلَبة‪ .‬هي عند‬
‫ُ‬ ‫الرشيقة الرقيقة حركة صامتة ُحلوة‬
‫الحياة‪ .‬ذلك أن الحركةَ ّ‬
‫الرقيقة‪.‬‬
‫المجلبة الصخابة‪ .‬لَنضرب أمثلةً للحركات ّ‬‫وليست كذلك َحركة اآللة ُ‬
‫ْ‬ ‫الحيوان َحركة يسيرة‬
‫عنف فيهما وال اصطدام كأن‬
‫َ‬ ‫الهرة ملكتا الحركات ال ُينازُعهما منازع ال‬
‫إن مشية المرأة وحركة ّ‬
‫وراءهما ُمرونةً تسبغُ االنسجام وتُخفي التقطُّع‪.‬‬

‫تارة‬
‫ضوضاء‪َ ،‬‬ ‫صوت فيه وال َ‬ ‫َ‬ ‫تقد ًما صامتًا ال‬ ‫لنتأم ِل الهرة‪َ ،‬حركاتها تَفيض بالخفّة‪ّ ،‬‬
‫تتقدم ُّ‬
‫كأنما تُعلِّق خطواتها في الهواء مادة َي َدها أفقية إلى‬
‫تقف َحذرة ّ‬
‫تتمهل تُمشي الهوينا وتارة تُسرع أو ُ‬
‫اإلغفال ثم تنتهي بوضع يدها على‬ ‫االنتباه و ْ‬
‫األمام‪ ،‬فهي تجمعُ بين الحذر والتواني وتَمزج بين ْ‬
‫بدل‬‫وكثير ما تُ ّ‬
‫ًا‬ ‫بعا‪.‬‬
‫إص ً‬
‫بلوغه دون أن تتقدم ْ‬
‫يد َ‬ ‫جسمها نحو الشـيء الذي تر ُ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫تمد‬ ‫األرض‪ .‬وقد‬
‫وطور‬
‫ًا‬ ‫تارة تدور حول ذنبها كالدائرة‪،‬‬
‫كالراقصة‪َ .‬‬
‫استنادها فتُصالب بين قائمتَْيها ّ‬ ‫اتّزانها ونقاطَ‬
‫أن‬
‫عند ُوصولها إلى األرض في تَو ُازن واعتدال‪ .‬كان العلماء ُينكرون في السابق ّ‬ ‫أسها‬
‫تعطف ر َ‬
‫‪1‬‬
‫الصور‬ ‫العالم ماري‬
‫ُ‬ ‫عرض‬
‫َ‬ ‫فلما‬
‫لغرابة ذلك‪ّ .‬‬ ‫دائما على قوائمها َ‬
‫ت من عل سقطت ً‬ ‫مي ْ‬
‫الهرة إذا ُر َ‬
‫ّ‬
‫المتن ّوع في الفضاء كان االنتصار َحليفَها‪ .‬فهي تستطيعُ أن تلتوي في‬
‫الهرة ُ‬
‫لسقوط ّ‬
‫سجلة ُ‬ ‫الم ّ‬
‫ُ‬
‫داخلية‪ .‬هي ترتكز في الفضاء على‬
‫ّ‬ ‫آليةً‬
‫الفضاء دون أن تعتمد على شيء‪ ،‬ألن لديها مرونة ّ‬
‫ُعجوبة‪.‬‬
‫الهرة ليس حركة بل أ َ‬
‫نصفها وتُدير رأسها‪ .‬إن سقوط ّ‬

‫أهيف ممشوق‪ ،‬واأل َْيطًلن أو الخاصرتان‬‫الجيد أتلعُ دقيق َمرن‪ ،‬والجسم َ‬


‫ُ‬ ‫لنتأمل اآلن الغزال‪.‬‬
‫تات الرأس والجيد ا ْرتعاش‬
‫ائم دقيقة لطيفة‪ ،‬لَفَ ُ‬
‫َنحيفتان) والقَرنان عاليان في استقامة الجبهة‪ ،‬والقو ُ‬
‫المفاجئ‪ ،‬دقّة ال َمفاصل ُمًلئمة‬
‫تهيئ للنفار أو االندفاع ُ‬‫حي متوثب ُم ّ‬
‫العصبي ٌّ‬
‫ُّ‬ ‫الجهاز‬
‫ُ‬ ‫تجسد‪،‬‬‫ُم ّ‬
‫ظائف مختلفة‪ .‬أما الغزال ف ُّ‬
‫كل ما فيه‬ ‫الحركة‪ُّ .‬‬
‫اتفاقية بين َو َ ُ‬
‫ّ‬ ‫كأنه‬
‫كل حيوان يلوح جسمه ّ‬ ‫لسرعة َ‬ ‫ُ‬
‫وجوده يبدو أعجوبةً‪ .‬هذا اللّطف ورقّة األطراف وهذا‬‫َ‬ ‫ب في نشاط واحد‪ .‬حتى إن‬ ‫ص ٌّ‬
‫كأنه ُم ْن َ‬
‫الجهد‬
‫قاومة وعدم احتمال ُ‬ ‫ُّ‬
‫الم َ‬
‫الهّيكل الذي َيكاد ينكسر ألدنى ُعنف كل ذلك ُيشير إلى قلّة ُ‬
‫للسعي الطويل‪.‬‬
‫للنفار ال ّ‬
‫ق ّ‬‫كأنه ُخل َ‬
‫نهك قُواه الغزال ّ‬
‫تطاو َل َ‬
‫الركض إذا َ‬
‫ُ‬ ‫المستمر‪ .‬حتى‬ ‫ُ‬

‫ألنها جليد‪ .‬هي‬‫األرض هنا من نوع طريف جديد‪ّ ،‬‬


‫ُ‬ ‫ومن الحركات الرشيقة التزلّج على الجليد‪،‬‬
‫العقبات والمقاومات‪ .‬ك ُّل خطوة إذا‬
‫مستوية تمام االستواء متجانسة كل التجانس كالمرآة خالية من َ‬
‫طها‬
‫الخطا والحركات كأن ُخطو َ‬ ‫المعتادة‪ .‬وتتوالى أشكا ُل ُ‬ ‫ُّ‬
‫وتمتد وراء ُحدودها ُ‬ ‫تستمر‬
‫ُّ‬ ‫ابتدأت‬
‫ْ‬
‫النور بانضمام بعضها إلى بعض طاقةُ أزهار‪.‬‬ ‫المرسومة في الهواء و ّ‬

‫‪marey -11‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫المحببة والفطرة‬
‫الحركة الرشيقة الظاهرة َحركة نفسية باطنية متصلة بالعفوية ُ‬
‫إن وراء َ‬
‫السليمة‪.‬‬

‫الرقّة مزية النفوس المولودة والدةً حسنةً‪ .‬هذه النفوس هي التي تستطيع‬
‫يرى الشاعر شيلر أن ِّ‬
‫تكون ّإال فاضلةً‪.‬‬
‫السليمة وتستسلم َلنزعاتها ألن نزعاتها ال ُ‬ ‫تثق بفطرتها ّ‬
‫أن َ‬

‫فضائل معدودةً بل‬


‫َ‬ ‫ك‬‫الخلقي‪ ،‬وال تمل ُ‬
‫ُّ‬ ‫لقانون‬
‫ألن طبيعتَها ا ُ‬
‫مسمى ّ‬‫لقي ّ‬‫هي ال تقوم بعمل ُخ ّ‬
‫كلية الواجب وذاتية الفطرة وبالمًلئمة بين‬
‫تملك الفضيلة ذاتَها‪ .‬الرقّة إذن تحيا بالتوفيق بين ّ‬
‫العقلي لدى اإلنسان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الجانب العاطفي والجانب‬

‫لمجلى‬
‫لقي وا َ‬
‫الخ ُّ‬
‫الرقة عند شيلر هي التعبير الحسي للنفس الجميلة أي هي الشكل ُ‬
‫وحي للجمال‪.‬‬
‫الر ُّ‬
‫ُّ‬

‫انت‬
‫حبة‪ ،‬لذلك ك ْ‬
‫كأنها ُم ّ‬
‫أن الرقّة متصلة بالحب وحافزة عليه‪ .‬تلو ُح ّ‬
‫آخرون ّ‬
‫َ‬ ‫باحثون‬
‫َ‬ ‫ويرى‬‫َ‬
‫محبوبةً‪.‬‬

‫(نحس بنوع من االستسًلم لدى ك ّل‬


‫ُّ‬ ‫ويعلّق برغسون على رأي رافيسون في الرقّة بما يلي‪:‬‬
‫ُ‬
‫فنان استشف‬ ‫بعين ْي ّ‬
‫الكون َ‬
‫َ‬ ‫تأمل‬
‫فمن ّ‬ ‫ما هو رقيق لطيف كأن لهذا االستسًلم تعطُّف منه ُّ‬
‫وتنزل‪َ .‬‬
‫التكرم الذي هو‬
‫اإلحسان من خًلل الرقة‪ .‬ولم تُخطئ اللغة حين دعت رقة الحركة التي تشاهد و ُّ‬
‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬
‫شيء واحد عند‬ ‫اني بلفظ واحد وهو اللّطف وهذان المعنيان هما‬
‫اص اإلحسان الرّب ّ‬
‫من خو ّ‬
‫رافيسون)‪.‬‬

‫مشاهد كثيرة تقتضـي التحليل والتنويع‬


‫َ‬ ‫ثمة‬
‫ولكن ّ‬
‫ّ‬ ‫لقد ذكرنا أمثلةً متنوعة إليضاح فكرة الرقّة‪،‬‬
‫خاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المراد هنا تبيُّن فكرة الرقة في الشعر العربي‬
‫وال يتسع المجال لها‪ .‬و ُ‬

‫ولما كانت األلفاظ تستطيع أن تأتي بدالالتها على جميع ما في الكون فهي إشارات ورموز‬ ‫ّ‬
‫األدب لك ّل أنواع الرقة وأشكالها وألوانها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أمكن أن يتسع‬
‫وصور له َ‬
‫إليه ُ‬
‫ثمة في الطليعة األلفاظُ التي ُّ‬
‫تدل على صور وأشياء تتحلّى بالرقة والرشاقة واللطف أو تُوحي‬ ‫ّ‬
‫استعماال‬
‫ً‬ ‫استعملت تلك األلفاظ‬
‫َ‬ ‫بها‪ .‬وكأن صفة الشيء تَنتق ُل إلى اللفظ الذي ُّ‬
‫يدل عليه‪ .‬فإذا‬
‫أسماء األزهار البديعة‬
‫ُ‬ ‫ويبتدر الذهن من تلك األلفاظ‬
‫ُ‬ ‫سهًل‪.‬‬
‫ً‬ ‫سائغا‬
‫ً‬ ‫جوا ُح ًلوا‬
‫أنشأت ًّ‬
‫َ‬ ‫مًلئما‬
‫ً‬

‫فني وهو ما شرحنا‪ ،‬ودين ّي وعندئ ٍذ يُقال له بالعربية النعمة عند المسيحيين‪.‬‬‫‪ -12‬في اللغة الفرنسية اللفظ المقابل هو ‪ Grâce‬وله معنيان‪ّ :‬‬
‫وقد آثرنا استعما َل لفظ اللطف ألنّه ُمشترك في الجمال‪ ،‬وفي األمور الدينية‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الد ّر‬
‫وغروس النبات الطرّية كالريحان وغيره والظًلل والنسيم والماء المنساب والجداول المترقرقة و ُ‬‫ُ‬
‫الرونق وما شابه ذلك‪ ،‬وكذلك ذكر األلفة‬ ‫الصبا و ّ‬
‫واليواقيت والجواهر والزينة واألشياء المؤنثة و ِّ‬
‫ثم السذاجة‬‫نو والحماية‪ ،‬ألن الكائنات واألشياء الرقيقة تستدعي العطف عليها والعناية بها‪ّ ،‬‬ ‫الح ّ‬
‫و ُ‬
‫ي قوله‪( :‬وا ْن‬
‫تمام للبحتر ّ‬
‫وصية أبي ّ‬
‫ّ‬ ‫العفوية والبراءة والعاطفة المحببة‪ .‬نتذ ّكر هنا من‬
‫مع الحذر و ّ‬
‫فاجعل اللفظَ رقيقًا والمعنى رشيقًا وأكث ْر فيه من َبيان الصبابة وتوجُّع الكآبة وقلق‬
‫أردت التشبيب ْ‬
‫َ‬
‫األشواق ولوعة الفراق)‪.‬‬

‫بد من ذكر‬
‫األخرى‪ .‬وال ّ‬
‫فوحه بألوان الجمال ُ‬
‫بي يطفح بالشعر الرقيق طُ َ‬
‫يخ الشعر العر ّ‬
‫وتار ُ‬
‫‪1‬‬ ‫‪3‬‬
‫اديا‪:‬‬
‫بعض األبيات‪ .‬قال الشاعر يصف و ً‬

‫الع ِ‬
‫ميم‬ ‫َ‬ ‫الغيث‬
‫ُ‬ ‫ف‬
‫ضاع ُ‬
‫ُم َ‬ ‫سقاه‬
‫َ‬ ‫و ٍاد‬ ‫الر ِ‬
‫مضاء‬ ‫َّ‬ ‫لَفحة‬ ‫وقانا‬

‫الفَ ِ‬
‫طيم‬ ‫على‬ ‫الم ْرضعات‬ ‫ُحنو‬ ‫علينا‬ ‫فَحنا‬ ‫َد ْو َحه‬ ‫َنزْلنا‬
‫ُ‬
‫للن ِ‬
‫ديم‬ ‫َّ‬ ‫دام ِة‬
‫الم َ‬
‫ُ‬ ‫من‬ ‫َّ‬
‫ألذ‬ ‫الال‬
‫ُز ً‬ ‫ظَمأ‬ ‫على‬ ‫شفنا‬
‫وأ َْر َ‬
‫الن ِ‬
‫ظيم‬ ‫ِ‬
‫العقد‬ ‫جانب‬ ‫تلمس‬
‫َ‬ ‫فَ ُ‬ ‫العذارى‬ ‫حاني َة‬ ‫َحصاه‬ ‫روعُ‬
‫تَ ُ‬
‫للن ِ‬
‫سيم‬ ‫ويأذن‬ ‫يحجبها‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬ ‫فَ ُ‬ ‫اجهتْنا‬
‫وَ‬ ‫أنى‬ ‫الشمس‬ ‫يصد‬

‫ث‬
‫الرمضاء خارجية بالنسبة إلى الوادي‪ ،‬وقد َحماهم منها فهم َي ْستسقون له الغي َ‬
‫إن لفحةَ ّ‬
‫المضاعف العميم‪ ،‬ثم ّإنهم في أحضان الوادي كاألطفال في أحضان المراضع‪.‬‬
‫َ‬

‫بد من‬
‫المحبب الذي تلتصق الرقّة به‪ .‬ثم ال ّ‬
‫نجد فكرة التصغير ُ‬ ‫الحنو والحنان ُ‬ ‫ّ‬ ‫وهذا عدا‬

‫التنويه بهذا الماء ا ُّلزالل العذب الذي رشفوه بل ّذة تُذ ّكر ل ّذة ُ‬
‫المنادمة واألنس‪ .‬وكذلك حصا الوادي‬
‫وحين‬
‫الغض وبما ُي َ‬‫ِّ‬ ‫بالصبا‬
‫ِّ‬ ‫بدال من الغواني لإليحاء‬
‫الدر في حسنه‪ .‬ويذكر الشاعر العذارى ً‬ ‫ُيشبه ّ‬
‫المتلَعة خوفًا‬
‫قود ُهن في أجيادهن ُ‬
‫سن ُع َ‬
‫يلم َ‬
‫نسي َن أنفسهن فَ ْ‬
‫وغ اررة تحملُهُن على أن َي ْ‬
‫به من سذاجة َ‬
‫الحصا‪.‬‬
‫انفرطت حين َيجدن أشباهَ جواهرها في َ‬
‫ْ‬ ‫عليها أن تكون قد‬

‫منظر الطير‬
‫ُ‬ ‫إن الرقّة تُشير في الغالب إلى عنصر الحذر المتصل بالخوف كما ُيوحي بذلك‬
‫لمتألّق والينابيع‬
‫الحصا ا ُ‬
‫الحلو المتألّف من الظًّلل الوارفَة و َ‬
‫الجو البديع ُ‬
‫إن هذا ّ‬ ‫ثم ّ‬
‫أو الظّبي‪ّ .‬‬
‫نظمه‬
‫بالزينة البد فيه من نسيم ُرخاء وان رقيق شائق ليس بالكثير ُي ُ‬ ‫المترقرقة والصبايا الحالية ّ‬

‫‪ -13‬هو أبو نصر المنازيُّ يصف وادي بُزاعة بين حلب ومنبج (وفيات األعيان و ُمعجم البلدان) أو هي حمدة ُ‬
‫بنت زياد تصف وادي أش‬
‫باألندلس (نفح الطيب)‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫بحًلوة ذلك الوادي‬ ‫ذلك الوادي تنظيما فًل يأ َذ ُن منه ّإال بمقدار‪ُّ .‬‬
‫كل ما في هذه األبيات ُيوحي َ‬ ‫ً‬
‫ومًلحة النزول فيه‪.‬‬
‫َ‬

‫كون‬
‫فإن الشعر الرقيق ي ُ‬ ‫أما ما يتعلّق بالصناعة والقريض ّ‬
‫هذا ما يتعلق بالمعاني والصور‪ ،‬و ّ‬
‫المتكلّفة‪ .‬إن الرقّة إلهام‬
‫البحور المجزوءة والقطع القصيرة السهلة ال الطويلة وال ُ‬‫غالبا من ُ‬
‫ً‬
‫تشف عن بارق عذب يرتسم في النفس‪.‬‬‫ُّ‬ ‫فكأن القطعةَ الشعرّية‬
‫قتضب قصير‪ّ .‬‬‫ُم َ‬

‫عفو‬
‫جاء َ‬
‫ت فيه‪ ،‬كأنه َ‬
‫الشعر الرقيق شعر صاف متسلسل فيه غضارة وعليه طًلوة‪ ،‬ال َع َن َ‬
‫يغلب الطبع فيه على ك ّل شيء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الخاطر وطَ ْوع البديهة‪،‬‬

‫اء امتازوا بهذا اللون‬


‫نجد شعر َ‬
‫بي نموذجات كثيرة من هذا النوع‪ُ .‬‬‫وفي تاريخ الشعر العر ّ‬
‫مور‬
‫شعر أبي العتاهية كله‪ ،‬ففيه ُسهولة كبيرة ويتناول أ ًا‬
‫يذكر َ‬
‫المطبوع السهل‪ .‬وال شك أن القارئ ُ‬
‫بمضي كلٍ شيء واالنتهاء إلى الزوال‪ .‬وهذا‬
‫ِّ‬ ‫ينوهُ‬
‫هدياته نجده ّ‬
‫تُوحي باألنوثة واللين‪ ،‬حتى في ُز ّ‬
‫ضيها كما ينساب الما ُء ويجري‬ ‫وم ّ‬
‫وجريانها ُ‬
‫كلّه يؤ ّكد فكرة الرقّة التي تًُلئم انسياب األمور َ‬
‫كر‬ ‫ويمضي وكما ُّ‬
‫يهب النسيم ويتًلشى‪ ،‬وتتنافى مع المقادير الضخمة الثابتة الراسخة‪ .‬وكذلك َيذ ُ‬
‫ي وابن خفاجةَ وشعراء‬‫وشيئا من شعر أبي ُن ّواس وابن المعتز والبحتر ّ‬
‫ً‬ ‫اس بن األحنف‬
‫العب َ‬
‫القارئ ّ‬
‫المو ّشحات‪.‬‬

‫أشعارهم بالرقّة واللطف وال َمًلحة‬


‫ُ‬ ‫هير يأتي في طليعة الشعراء الذين تتسم‬
‫ولكن البهاء ز ًا‬ ‫ّ‬
‫ستمع إلى هذه‬
‫فصيحا‪ .‬لن ْ‬
‫ً‬ ‫ولكنه يبقى‬
‫السهولة‪ .‬وك ّل شعره من هذا النوع الذي يكاد ُيحسب عاميًّا ّ‬‫و ُ‬
‫القطعة الغز ّلية التي تَحكي كًلم األطفال‪:‬‬

‫َّ‬
‫منا‬ ‫َجرى‬ ‫ما‬ ‫ونطوي‬ ‫عارفنا‬
‫تَ َ‬ ‫اليوم‬ ‫من‬

‫قُ ْلنا‬ ‫وال‬ ‫لتم‬


‫ُق ْ‬ ‫وال‬ ‫صار‬ ‫وال‬ ‫كان‬
‫َ‬ ‫فال‬

‫فبالحسنى‬
‫ُ‬ ‫العتب‬ ‫من‬ ‫و َّ‬
‫البد‬ ‫كان‬ ‫وا ْن‬

‫َّ‬
‫عنا‬ ‫لكم‬ ‫قيل‬
‫َ‬ ‫كما‬ ‫َعنكم‬ ‫لنا‬ ‫قي َل‬ ‫فقد‬

‫ُذقْنا‬ ‫وقد‬ ‫قتم‬


‫ُذ ْ‬ ‫وقد‬ ‫َه ْج ٍر‬ ‫من‬ ‫كان‬
‫َ‬ ‫ما‬ ‫كفى‬

‫ُكنا‬ ‫كما‬ ‫صل‬


‫للو ْ‬
‫َ‬ ‫ــــع‬
‫َ‬ ‫نر ِجـــ‬ ‫أن‬ ‫أحسن‬
‫َ‬ ‫وما‬

‫الكف في كثير من‬


‫ّ‬ ‫حاف‬
‫مجزوءا‪ .‬وقد دخله ز ُ‬
‫ً‬ ‫فالبحر قصير وهو الهزج الذي ال يستعمل إال‬
‫ُ‬
‫وبعضها‬
‫ُ‬ ‫ورشاقة‪ ،‬واأللفاظُ غاية في السهولة‪،‬‬
‫بحت مفاعيلن مفاعيل‪ ،‬فزاده ذلك خفّة َ‬
‫مواضعه فأص ْ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الجهد‪ .‬وكان وصار استغنتا عن االسمين‬ ‫ينوب عن الجملة الكاملة‪ ،‬وفي ذلك اقتصاد في ُ‬ ‫ُ‬ ‫شائع‬
‫إن‬
‫ثم ّ‬
‫ليست في حاجة إلى َمقُول القول‪ ،‬وُذقتم وُذقنا ُحذف مفعوالهما للعلم‪ّ .‬‬
‫ْ‬ ‫وقلتم وقلنا‬
‫والخبرين‪ْ ،‬‬
‫فالكًلم كلُّه متسلسل ُمنسجم هيِّن ليِّن يجري برفق وحركة لطيفة‬
‫ُ‬ ‫وينبئ به‪.‬‬
‫اللفظ يمهّ ُد للفظ اآلخر ُ‬
‫صعوبة‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫بًل تكلف وال ُ‬

‫واألمثلةُ كثيرة في هذا الميدان‪ ،‬ويكفي ّأننا َجلونا هذا الطراز من الشعر و ْأوضحناه بهذا‬
‫حتاج إلى استفاضة وتوسعة‪.‬‬
‫المقدار‪ ،‬وان كان البحث ال يزال ي ُ‬

‫لحموي‬
‫ابن حجة ا َ‬
‫ودعوه بالسهولة‪ .‬يقو ُل ُ‬
‫السهل من البيان َ‬‫اد العرب لهذا النوع ّ‬‫وقد انتبه النقّ ُ‬
‫شركها قوم باالنسجام‪,‬‬
‫ِّيفاشي مضاف ًة إلى باب الظرافة‪ ,‬و َ‬
‫ُّ‬ ‫في خزانة األدب‪( :‬السهولة ذكرها الت‬
‫سر الفصاح َة فقال في ُمجمل كالمه هو ُخلوص اللفظ من‬ ‫الخفاجي في ِ‬
‫كتاب ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ابن ِسنان‬
‫كرها ُ‬ ‫وَذ َ‬
‫تتميز‬
‫التيفاشي السهولة أن يأتي الشاعر بألفاظ سهلة ّ‬
‫ُّ‬ ‫التكلُّف والتعقيد و ُّ‬
‫التعسف في السبك‪ .‬وقال‬
‫وحسن الطبع‬ ‫على ما سواها عند من له أدنى ذوق من أهل األدب‪ .‬هي ُّ‬
‫تدل على رقّة الحاشية ُ‬
‫وية‪ .‬ومن ألطف األمثلة قو ُل الشاعر‪:‬‬
‫الر ّ‬
‫وسًلمة ّ‬

‫تتوب‬
‫ُ‬ ‫ليلى‬ ‫عن‬ ‫بت‬
‫تُ ُ‬ ‫ما‬ ‫إذا‬ ‫أني‬ ‫قلب‬
‫ُ‬ ‫يا‬ ‫عدتَني‬
‫َو ْ‬ ‫أليس‬
‫َ‬

‫ذوب‬
‫تَ ُ‬ ‫ُذ ِك ْ‬
‫رت‬ ‫ُكلما‬ ‫لك‬ ‫فما‬ ‫ليلى‬ ‫حب‬
‫ِّ‬ ‫عن‬ ‫تائب‬ ‫أنا‬ ‫فها‬

‫المتماجنين) ما يلي‪:‬‬
‫(أخبار الظراف و ُ‬
‫ُ‬ ‫ي في ُمستهل كتابه‬
‫ابن الجوز ِّ‬
‫كتب ُ‬

‫القد وَنظافة الجسم والثوب وبالغة اللسان‬‫باحة الوجه ورشاقة ِّ‬ ‫ص َ‬


‫يكون في َ‬
‫ُ‬ ‫(الظرف‬
‫يكون في ِخفة الحركة‬
‫المستهجنة و ُ‬ ‫التقزز من األقْذار واألفعال ُ‬
‫نطق ِ‬
‫وطيب الرائحة و ُّ‬ ‫وعذوبة الم ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الخصال‬‫وقُوة الذهن ومالحة الفكاهة والمزاح ويكون في الكرم والجود والع ْفو وغير ذلك من ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫الوعاء‪ ,‬فكأنه ِوعاء لكل لطيف‪ .‬وقد ُيقال‬
‫اللطيفة‪ .‬وكأن الظريف َمأخوذ من الظرف الذي هو ِ‬
‫بعض هذه الخصال)‪.‬‬
‫حصل فيه ُ‬ ‫َ‬ ‫ظريف لمن‬

‫ورود لفظ الرشاقة وخفّة الحركة والخصال اللطيفة فيه كما‬


‫َ‬ ‫النص يلحظُ‬
‫ّ‬ ‫يتأمل هذا‬
‫والذي ّ‬
‫بقية الصفات كلها مما يأخ ُذ بمجامع القلوب ويستميلها ويستأسرها‪.‬‬
‫أن ّ‬
‫يلحظُ ّ‬

‫ق بالرقّة والظّرف الزينة واتباع‬


‫استطعنا أن ُنلح َ‬
‫بعض الشيء ْ‬
‫َ‬ ‫واذا أردنا أن نخرَج عن ِّ‬
‫الفن‬
‫تاجر من أهل الكوفة قَد َم‬
‫(أن ًا‬ ‫صة التي وردت في كتاب األغاني‪ ،‬وهي ّ‬
‫األزياء‪َ .‬نروي هنا الق ّ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ارمي فَشكا ذلك إليه وكان‬
‫للد ِّ‬
‫ُّود منها فلم تَنفُ ْق وكان صديقًا ّ‬
‫وبقيت الس ُ‬
‫فباعها كلّها َ‬
‫بخ ُمر َ‬ ‫المدينة ُ‬
‫ثم‬
‫فإني سأُنفقُها لك حتى تَبيعها أجمع‪ّ .‬‬
‫فقال له‪ :‬ال تهتم بذلك ّ‬‫وقول الشعر‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫الغناء‬
‫َ‬ ‫قد َن َسك وتَرك‬
‫قال‪:‬‬

‫متعب ٍد‬
‫ِّ‬ ‫بر ٍ‬
‫اهب‬ ‫صنعت‬ ‫ماذا‬ ‫األسوِد‬ ‫ِ‬
‫الخمار‬ ‫في‬ ‫للمليحة‬ ‫قل‬
‫ْ‬

‫ِ‬
‫المسجد‬ ‫ببا ِب‬ ‫له‬ ‫وق ْف ِت‬ ‫حتى‬ ‫ثيابه‬ ‫للصالة‬
‫َّ‬ ‫ش َّمر‬
‫َ‬ ‫كان‬ ‫قد‬
‫َ‬

‫تبق في‬
‫ورجع عن ُنسكه فلم َ‬ ‫َ‬ ‫الدارمي‬
‫ُّ‬ ‫وشاع في الناس وقالوا‪ :‬قد فَتَك‬
‫َ‬ ‫الكاتب‬
‫ُ‬ ‫وغنى فيه سنان‬
‫ّ‬
‫الدارمي‬
‫ُّ‬ ‫فلما علم بذلك‬
‫اقي منها‪ّ .‬‬‫أسود حتى َنف َد ما كان مع العر ّ‬
‫خمار َ‬
‫ًا‬ ‫ابتاعت‬
‫ْ‬ ‫المدينة ظريفة إال‬
‫‪1‬‬ ‫‪4‬‬
‫ولزم المسجد) ‪.‬‬
‫رجع إلى ُنسكه َ‬

‫الرقة في الخالصة متصلة برشاقة الحركة وباإلغواء واألُنوثة وبالمقادير الصغيرة اللطيفة‬
‫وتُقا ِبلها الروع ُة‪.‬‬

‫الروعة‪:‬‬
‫َّ‬

‫احتفاظه باإلمتاع ّإال ّأنه إمتاع‬‫للحدود مع ْ‬


‫تجاوز ُ‬
‫الروعة كما َسلَف َجمال ُمفرط َيبدو ُم ًا‬
‫بالرهبة والقلق‪ّ .‬إنه ُيثير اإلعجاب العميق ويبلغُ حد اإلدهاش‬
‫الجًلل ُمتصل ّ‬‫محفوف بالهيبة و َ‬
‫نكاد نستطيع أن ُنحيط باتّساع المشهد الرائع وال بإد ارك‬
‫السمو‪ .‬نحن ال ُ‬
‫بالنبل و ّ‬
‫ويوحي ّ‬ ‫واإلخافةَ ُ‬
‫جميع أجزائه‪َ .‬نذكر هنا في الطبيعة الجبا َل الشاهقة في أجواز الفضاء كما ذكر (كنت)‪ ،‬والبحر‬
‫المرصعة بالكواكب والنجوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اسع البعيد المدى المتصل باألُفق‪ ،‬والسماء العميقة الغور‬
‫ضم الو َ‬
‫الخ َ‬
‫دوي‬
‫بالبروق وتُ ّ‬
‫أمثالها‪ ،‬وكذلك العاصفة التي تتشقّق ُ‬ ‫المذنبات و َ‬
‫المجرة و ّ‬
‫ّ‬ ‫النظم الشمسية ونهر‬ ‫و ُّ‬
‫كاد تبتلع‬
‫أصبح ُهوة بعيدةَ األ ْغوار ت ُ‬
‫َ‬ ‫البحر‬
‫َ‬ ‫الزوبعة في عباب البحر الهائج كأن‬ ‫بالرعود‪ ،‬و ّ‬
‫دمدم ُّ‬
‫وتُ ْ‬
‫تحدرة الكبيرة‪.‬‬
‫الم ّ‬
‫بالحمم‪ ،‬وال ّش ًّلالت ُ‬
‫ك ّل شيء والبراكين الثائرة القاذفة ُ‬

‫تقوم في المقابلة بين المتناهي والًلمتناهي والمحدود والًلمحدود‪،‬‬


‫فالروعة في هذه المشاهد ُ‬ ‫ّ‬
‫إمتاع المشاعر تُرافقه دهشةُ العقل‪.‬‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫أن الل ّذة عندئذ تقترن باأللم وكما ّ‬
‫كما ّ‬

‫ولكنه‬
‫مقهور حيال ظَواهرها الرائعة‪ّ .‬‬
‫ًا‬ ‫يجد نفسه ضعيفًا تجاه الطبيعة الواسعة‬
‫إن اإلنسان ُ‬
‫تجعل المرَء‬
‫َ‬ ‫تكون للروعة رسالة وهي أن‬
‫ُ‬ ‫يستطيع أن يشعر من خًلل ضعفه بحرّيته‪ ،‬وعندئذ‬

‫‪ -14‬ج‪ 2‬ص‪ 173‬وفي القصة إشارة إلى اعتماد األزياء على الدعاية والترويج إلى وظيفة األزياء االقتصادية التي تكمن وراءها‪ .‬وقد‬
‫ت كبيرة في العصر الحاضر وذلك في البالد الرأسماليّة التي تتميز‬
‫اتسعت هذه الوظيفة االقتصادية التي لألزياء مع ما يُرافقها من دعايا ٍ‬
‫فيها الطبقات االجتماعية باالستناد إلى الثراء والغنى‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الًلمحسوس‪ ،‬ومن ثَنايا الصور التي يشهدها في الغيب الذي‬
‫َ‬ ‫يف ّكر من خًلل المحسوس في‬
‫يتجاوزها‪.‬‬
‫َ‬

‫السماوية والسيما ما جاء فيها من وصف مشاهد‬


‫ّ‬ ‫تلمسنا الروعة في البيان ابتدرتنا ال ُكتب‬
‫واذا ّ‬
‫لوي‬
‫الع ّ‬
‫ولكن بًلغته السامية وبي َانه ُ‬
‫ّ‬ ‫أدبي‪،‬‬
‫ديني ال كتاب ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫القيامة‪ .‬هذا وان القرآن الكريم كتاب‬
‫ونصه المحفوظَ تجع ُل كًلمه فوق الشعر وفوق النثر وفوق ك ّل كًلم‪ .‬فإذا استشهدنا ههنا ببعض‬
‫ّ‬
‫السمو والتكريم والتقديس‬
‫العلو و ّ‬
‫فًلبد من أن نشير إلى الفرق الكبير بينها في ّ‬ ‫ّ‬ ‫اآليات الكريمة‬
‫ك في صناعتهما َبنو البشر‪.‬‬
‫وبين جميع الشعر والنثر اللذين يشتر ُ‬

‫جوم‬
‫السماء واسعة مؤنسة في الحال الطبيعية‪ ،‬والجبا َل شامخة ُمتطاولة‪ ،‬والشمس والن ُ‬‫َ‬ ‫إن‬
‫ّ‬
‫ألنها في اتّساعها وك َبر مقاديرها‬
‫جميعا رائعة ّ‬
‫ً‬ ‫البحار ُمنبسطة‪ ،‬وهي‬
‫ستقر لها‪ ،‬و ُ‬
‫لم ٍّ‬
‫متألّقة تجري ُ‬
‫المؤنسة تتشقّق كاألبواب‬‫السماء ُ‬
‫َ‬ ‫أما في يوم القيامة فإن‬
‫أبدعتها وكونتها‪ّ .‬‬
‫قوة هائلة َ‬ ‫ُّ‬
‫تشف عن ّ‬
‫ُّ‬
‫وتخف الجبا ُل فتشبه في الخفّة والزوال السراب‪.‬‬

‫ف‬
‫بي عدا ذلك أوصاف رائعة كثيرة من موضوعات شتّى‪ ،‬وهذه األوصا ُ‬‫هذا وفي الشعر العر ّ‬
‫تمر بنا لمحات منها‪.‬‬
‫المؤثّرة وسوف ُّ‬
‫المبالغة والصور القوية ُ‬
‫تقوم على الجزالة و ُ‬
‫ُ‬

‫بالجمال‪.‬‬
‫بالحسن أو َ‬
‫المنسجم األجزاء والمقادير ّإنما ندعوه ُ‬
‫الم ّتزن الصرف ُ‬
‫التناسب ُ‬
‫ُ‬ ‫بيد أن‬
‫َ‬

‫الجما ُل‪:‬‬

‫من صفات الجمال التي حلّلها الفيلسوف َك ْنت في كتابه (نقد الحكم) أنه موضوع إمتاع نزيه‬
‫ويتضح معنى ذلك عند التفريق بين الشيء الجميل والشيء الشهي أو اللذيذ‪ ،‬وبينه وبين‬
‫ّ‬ ‫خالص‪.‬‬
‫النافع‪.‬‬
‫الجيد أو ّ‬
‫الشيء ّ‬

‫رورا‪ ،‬وقد نح ُكم عليه‬


‫وس ً‬ ‫أمكن أن يجلب ل ّذة ُ‬ ‫َ‬ ‫فقد َنح ُكم على شيء فنقو ُل شهي أو لذيذ إذا‬
‫نصدر‬
‫ُ‬ ‫عوز أو يقضي مأرًبا‪ .‬ولكنا في ُح ْك َمينا هذين ّإنما‬‫جيد أو نافع إذا استطاع أن يسد ًا‬‫فنقو ُل ّ‬
‫وي ْرضيان‬
‫ألن اللذيذ والنافع يًلئمان َرغباتنا ُ‬ ‫بر أو نزيهًا ّ‬‫الحكمين ُم أ‬
‫طمع أو لُبانة فليس كًل ُ‬
‫عن َم َ‬
‫تأمل‬
‫الحكم الصادر عن الذوق الفنّي ُمجرد من هذه الشوائب حاصل في حالة ّ‬
‫أن ُ‬
‫بيد ّ‬
‫ُميولنا‪َ .‬‬
‫ولكنا إذ ذاك‬
‫للشم‪ّ ،‬‬
‫العبق ِّ‬
‫للتذوق والى هصر الزهر َ‬
‫الشهي ّ‬‫ّ‬ ‫تتوق إلى قطف الثمر‬
‫ُ‬ ‫محض‪ .‬قد‬
‫أُولو أغراض غير ُمبرئين من أوشاب الرغبات‪ .‬وبالعكس يكون ُحكمنا نزيهًا إذا نظرنا إلى صورة‬
‫تمثيًل فنيًّا فتملينا هذه الصورة وآثرنا صنعتَها على ما دلّت‬
‫ً‬ ‫هر‬
‫ثمر أو ز ًا‬
‫صناع تُمثّل ًا‬
‫رسمتها يد َ‬
‫عليه الطبيعة‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫بالتناسب القائم بال هدف أو بحسب‬ ‫ُ‬ ‫أيضا أنه يتعيَّن‬
‫ومن صفات الجمال كما حلّلها َكنت ً‬
‫غاية)‪ .‬وتوضيح ذلك‬ ‫ٍ‬ ‫تصور أي‬
‫لم ُح في الشيء الجميل دون ُّ‬ ‫تَعبير هذا الفيلسوف هو (غائية تُ َ‬
‫تفكير جليًّا ودقيقًا‪.‬‬
‫ًا‬ ‫ننعت الشيء بالجمال حين نفترض له غاية على ّأال ُنف ّكر في هذه الغاية‬ ‫ُ‬ ‫ّأننا‬
‫عالم نبات ف ّكر في وظائف الكأس والتَُّويج وأعضاء الزهرة‬ ‫مثًل فإن كان َ‬ ‫َينظُر المرُء إلى زهرة ً‬
‫عينة‪.‬‬‫وم ّ‬
‫كانت نظرتُه مشتملة على غاية واضحة ُ‬ ‫ْ‬ ‫المؤنثة ولم يشعر بجمال الزهرة إذا‬
‫المذكرة و ُ‬
‫ُ‬
‫أي‬
‫ومصادفة دون ّ‬ ‫معا مجرُد اتّفاق ُ‬
‫وعلى العكس قد يحسب ناظر آخر أن وجود هذه األجزاء ً‬
‫بين‪،‬‬
‫بين َ‬ ‫الفني بالجمال واقع َ‬
‫ُّ‬ ‫الحكم‬
‫بالجمال‪ .‬و ُ‬
‫فيبتعد كذلك عن اإلحساس َ‬ ‫ُ‬ ‫أي وظيفة‬
‫غاية أو ّ‬
‫بيد ّأنها ُمبهمة ك ّأنما‬
‫بغائية دون إيضاحها وتعيينها‪ .‬الغايةُ فيها موجودة َ‬
‫ّ‬ ‫الحدس‬
‫فهو يفترض ْ‬
‫الفني‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫تغشاها سحابة من التملّي‬

‫ليست بين الغائية واآللية بل هي بين ُوضوح‬‫ْ‬ ‫وينبغي التنبُّه إلى أن المقابلة في ِ‬
‫قول َكنت‬
‫القول قالب جديد تلوح منه الفكرةُ القديمة الزاعمة‬ ‫أن هذا‬ ‫الغائية وا ِ‬
‫َ‬ ‫وتحسن اإلشارة إلى ّ‬
‫ُ‬ ‫بهامها‪.‬‬
‫أن الجمال هو الكما ُل‬
‫الزاعمة ّ‬
‫أن الجمال هو الوحدةُ التي تُلمح من خًلل ال َكثرة أو الفكرة القديمة ّ‬
‫ّ‬
‫‪1‬‬ ‫‪5‬‬
‫تصور ُمبهم لل َكمال)‪.‬‬
‫بهما ‪ .‬يقول ليبتنز‪( :‬إن الجمال ُّ‬ ‫لمحا ُم ً‬
‫الملموح ً‬
‫َ‬

‫قلي‬
‫وسكون من نوع ع ّ‬ ‫السكون للجمال وهو هدوء ُ‬
‫وقد أشار الشاعر بودلير إلى صفة الهدوء و ُ‬
‫بارد العاطفة‪ .‬ففي ديوانه (أزهار الشر)‬
‫تمثالي ساكن ُ‬
‫ٌّ‬ ‫متزن رزين‪ .‬إن الجمال في رأيه جمال‬
‫الجمال يتكلّم فيها ويقو ُل ما معناه‪( :‬أكرهُ الحركة التي تُزيح الخطوط عن َمواضعها‪،‬‬
‫قصيدة يجعل َ‬
‫بن قُْنُبر‪:‬‬
‫الح َك ُم ُ‬ ‫ال أبكي وال أضحك قطُّ)‪ .‬وفي تناسب األجزاء َ‬
‫يقول َ‬

‫َك َمال‬ ‫ذا‬ ‫أن‬


‫َّ‬ ‫لو‬ ‫َك ُملَت‬ ‫له‬ ‫ُيقال‬ ‫ما‬ ‫فيه‬ ‫ليس‬
‫َ‬

‫َمثال‬ ‫ُحسنه‬ ‫في‬ ‫كائن‬ ‫َمحاسنها‬ ‫من‬ ‫شيء‬ ‫ُّ‬


‫كل‬

‫َبدال‬ ‫َنفسها‬ ‫من‬ ‫تُ ِرْد‬ ‫لم‬ ‫َمتاعتها‬ ‫في‬ ‫َّ‬


‫تمنت‬ ‫لو‬

‫ورّبما كان لفظ الجمال أقرب إشارة إلى ناحية الكمال والتناسب‬
‫الحسن صنوان‪ُ ،‬‬ ‫فالجمال و ُ‬
‫فية‪.‬‬
‫ات وشائج خ ّ‬‫الحسي‪ ،‬والحروف في األلفاظ ذو ُ‬
‫ّ‬ ‫الحسن أشد مسًّا لجانب التعبير‬
‫العقلي‪ ،‬ولفظ ُ‬
‫ّ‬

‫دائما فيه معاني‬


‫للجمال وكانا يستشفّان ً‬
‫تأملهما َ‬
‫ينفد ُّ‬
‫ولهذا التناسب كان الفكر والبصر ال ُ‬
‫المتناسبة‪.‬‬
‫يقاعا بين أجزائه ُ‬
‫ترديدا وا ً‬
‫ً‬ ‫جديدة ُمتولّدة ويجتليان‬

‫‪ -15‬عرضنا صفتين من الصفات التي يذكرها كنت عند تحليله للحكم الفني المتعلق بالجمال وهما الصفتان اللتان يبحثهما من حيث الكيفية‬
‫ومن حيث اإلضافة‪ .‬وث ّمة في رأيه صفة ثالثة وهي كليّة الحكم الفن ّي ينظ ُر إليها من حيث الكمية‪ ،‬وصفة رابعة وهي ضرورة الحكم‬
‫الفني ينظر إليها من حيث الجهة‪ ،‬واقتصرنا على الصفتين اللتين ذكرناهما ألنّهما كانتا أق ّل استهدافًا للمناقشة واالنتقاد‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫بلغ ُّ‬
‫كل جزء فيه ح ّده‬ ‫تناسب كامل هادئ من دون إفراط وال تفريط‪ ،‬قد َ‬
‫والخًلصة أن الجمال ُ‬
‫بقية العناصر األخرى‪.‬‬
‫نسجما مع ّ‬
‫التام وائتلف ُم ً‬
‫المناسب ّ‬
‫ُ‬

‫هذا ويتحقق الجما ُل في الشعر حين ُيطابق لفظه معناه دون زيادة وال ُنقصان وحين تُوافق‬
‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األلماني هيغل‪ .‬وذلك حاصل في أغلب الشعر الجاه ّ‬
‫َّ‬ ‫الفيلسوف‬ ‫حد تعبير‬
‫الفكرة الشكل على ِّ‬
‫المقبل أمثلةً من شعره الجميل‪ ،‬وكذلك‬
‫وسنذكر في الفصل ُ‬
‫ُ‬ ‫السيما في شعر زهير بن أبي سلمى‪،‬‬
‫و ّ‬
‫الحطيئة وجرير وبشار‪.‬‬
‫شعر النابغة و ُ‬

‫كانه في القصيدة حتى‬


‫التام بين األجزاء كان لك ّل لفظ َم ُ‬
‫ولما كان الجمال يتّصف بالتناسب ّ‬ ‫ّ‬
‫ّإنه ليتع ّذر استبدا ُل لفظ بلفَظ‪.‬‬

‫اختًلل في‬
‫نجد الضحك الذي يقوم على ْ‬
‫ماهية الجمال ُ‬
‫التام الذي يؤلّف ّ‬
‫وفي مقابل التناسب ّ‬
‫ونشوز بينها‪.‬‬
‫تجمع األجزاء ُ‬
‫ُّ‬

‫الضحك‪:‬‬

‫طع التنفُّس على شكل دفعات زفيرّية‬‫الحاجز تشنُّ ًجا عفويًّا‪ ،‬ويتق َ‬
‫ُ‬ ‫جاب‬
‫في الضحك يتشنج الح ُ‬
‫اشتد‬
‫الداخلي‪ ،‬واذا َ‬
‫ّ‬ ‫ئوي‬
‫صوتة تتخللها فترات قصيرة من الشهيق‪ ،‬ويزداد الضغط الر ُّ‬ ‫متسلسلة َم ِّ‬
‫ويرافق الضحك تقلُّص في‬ ‫الوجه‪ُ .‬‬
‫العُنق و َ‬
‫تقن ُ‬ ‫فاح َ‬
‫الدموية في الرئتين‪ْ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عاق الدورة‬
‫َ‬ ‫الضحك‬
‫كثيرا‪ ،‬والصامغان أو‬
‫قليًل أو ً‬
‫وتكاد تشترك جميعُ مًلمح الوجه فيه‪ .‬فالفم ينفرج ً‬
‫ُ‬ ‫عضًلت الوجه‪،‬‬
‫ألياف‬
‫ُ‬ ‫ُملتقيا ال ّشفتين ينسحبان في الجانبين إلى خلف والى أعلى‪ .‬وعند بعض الناس ال تنتهي‬
‫الضاحكة جميعها إلى الصامغين حيث ترتكز عادة‪ ،‬بل يقف بعضها في طريقه فيرتكز‬
‫العضلة ّ‬
‫‪1‬‬
‫قليًل‪ ،‬وهو ُّ‬
‫أخف‬ ‫‪6‬‬
‫الخد على حين تنفرج الشفتان ً‬
‫عند االبتسام ُغ ْن َبة في ّ‬ ‫على جلد ِّ‬
‫الخد فتحص ُل‬
‫تموج‪.‬‬
‫الم ِّ‬
‫يبدل خط الفم ُ‬
‫يكاد ّ‬
‫ألنه ال ُ‬‫أشكاله ّ‬ ‫ألطف‬
‫درجات االبتسام و ُ‬

‫الخد‬
‫الخدان وتتسع صفحةُ الوجه وكأن الوجه يتناقص طُوًال‪ ،‬ويرتسم على ّ‬
‫وعدا الفم يرتفع ّ‬
‫‪1‬‬
‫اءه ينتهي‬‫أحدهما يص ُل بين جناح‪ 7‬األنف والصامغ والثاني ور‬
‫ُ‬ ‫الرتفاعه خطان أو غضنان‬
‫ببعض الغضون الدقيقة في ُمؤخر العين‪.‬‬

‫‪ -16‬هي ما ندعوه الغ ّمازة بالعامية‪ .‬والصامغان طرفا الشفتين‪.‬‬


‫ضا الضّفاريطُ وهي ُكسور بين الخ ّد واألنف وعند اللّحاظين وأحدهما ضُفروطٌ‪ ،‬وكذلك الضماريط‪ .‬وهي ألفاظ‬
‫‪ -17‬هذه ال ُغضون تُسمى أي ً‬
‫ليست رشيقة‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ناشئا عن تخلُّف الخدين إلى الوراء‬
‫بروزه ً‬
‫ويبرز األنف إلى األمام والى األسفل‪ .‬ورّبما كان ُ‬
‫ُ‬
‫قليًل إلى الجانبين‪ ،‬وتتشكل لدى بعض الناس على ظهر األنف‬ ‫واألعلى‪ ،‬وينبسط الم ْنخران ً‬
‫عمودية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫خطوط‬

‫قليًل وتتطاوالن حتى يكاد البياض فيهما َيحتجب‬


‫ائدا وتصغران ً‬ ‫لمعانا خاصًّا ز ً‬
‫ً‬ ‫وتلمعُ العينان‬
‫غير إنسان العين‪ .‬وتنبسط أسار ُير الجبين حتى‬
‫الملون منهما‪ُ ،‬‬
‫غير القسم ّ‬ ‫وحتى ال يكاد يبدو ُ‬
‫أحيانا تشترك األذنان في‬ ‫أصبح هذا التعبير في اللغة من باب الكناية ًّ‬
‫داال على االبتهاج‪ .‬و ً‬
‫قليًل‪.‬‬
‫الضحك فتتحركان ً‬

‫داهما عابسة‬
‫ص ِّور الوجهُ صورتين إح ُ‬ ‫ألنه إذا ُ‬‫تعبير عن الضحك الفَ ُم ّ‬ ‫ًا‬ ‫و ُّ‬
‫أشد هذه المًلمح‬
‫ف بين القطعتين السُّف َليين وأُلصقت‬
‫ثم خول َ‬
‫طعا نصفيًّا أفقيًّا ّ‬
‫واألخرى ضاحكة وقطعت الصُّورتان قَ ً‬
‫الفم الضاحك فيها‪ .‬ومع ذلك‬ ‫تبين منهما أن الصورة الضاحكة ما كان ُ‬ ‫بعد المخالفة ّ‬
‫الصورتان َ‬
‫آلالء العين وبريقها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ينقل‬
‫فإن التصوير ال يستطيعُ أن َ‬
‫ّ‬

‫المف ِرط‪.‬‬ ‫ِ‬


‫المعتدل‪ ,‬والضحك ُ‬
‫ُيصنف داروين الضَّحك في ثالث مراتب‪ :‬االبتسام‪ ,‬والضحك ُ‬
‫ولكن اللغة العر ّبية أكثر ُمواتاةً في تبيُّن أصناف الضحك و ُّ‬
‫أشد دقةً في حسن الداللة عليها‪ .‬جاء‬
‫اإلهًلس وهو إخفاؤه ‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫عالبي ما يلي‪( :‬التبسُّم ّأول مراتب الضحك‪ّ ،‬‬
‫في فقه اللغة للثّ ِّ‬
‫ثم‬ ‫سن‪ ،‬ثم ال َكت َكتة ُّ‬
‫أشد منهما‪ ،‬ثم القَ ْهقهة والقَ ْرقرة وال َك ْركرة‪ّ ،‬‬ ‫الح ُ‬
‫االنكًلل وهما الضحك َ‬
‫اال ْفترار و ْ‬
‫ثم اإلهزاق والزهزقة وهي أن يذهب‬ ‫ثم الطخطخة وهي أن تقول‪ :‬طيخ‪ ،‬طيخ‪ّ ،‬‬ ‫االستغراب‪ّ ،‬‬
‫‪1‬‬ ‫‪9‬‬
‫الضحك به كل مذهب )‪.‬‬

‫الحسية كالدغدغة أو بفعل‬


‫ّ‬ ‫ك ببعض التأثيرات‬
‫متعددة‪ ،‬فهو يضح ُ‬
‫ّ‬ ‫َيضحك المرُء بأسباب‬
‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪0‬‬
‫العصبية وبعض األمراض ‪.‬‬ ‫المخ ّدرات ‪ ،‬وفي بعض الحاالت‬
‫بعض ُ‬

‫‪ -18‬بالعامية نقول ضحك بعبّه إذا أخفى الضحك‪.‬‬


‫‪ -19‬ث ّمة ألفاظ أخرى في اللغة العربية تذ ُكرها ال ُمعجمات وكتبُ اللغة واألدب‪ .‬انظر ً‬
‫مثال (المخصّص) و(الساق على الساق فيما هو‬
‫الفارياق)‪.‬‬
‫‪ -20‬مثل الغاز المضحك وهو أكسي ُد اآلزوتي أو أوّل أكسيد اآلزوت )‪ )N2O‬فإذا استنشقه اإلنسانُ تخ ّدر وسر وغلب عليه الضحك‪.‬‬
‫‪ -21‬يعلل ضحك اإلنسان في بعض الحاالت العصبية بصرف نصيب من الطاقة العصبية في أسهل طُرق المقاومة وهو تقلّص بعض‬
‫العضالت اللطيفة في الوجه‪ .‬وعند ذلك يكون تفري ًغا للشحنة العصبية‪ ،‬فهو بذلك تنفيس وتفريج‪ .‬وكذلك األمر في الهزل‪ .‬وهذا هو السر‬
‫ألن في كل تخفيفًا‪ ،‬فقد يؤدي السرور الهاجم إلى البكاء‪ ،‬كما قد يضحك اإلنسان من األلم‪.‬‬
‫الذي يربط بين الضحك والبكاء ّ‬
‫أما األمراض التي تستدعي الضحك ف َكنَوبة الهستيريا‪ ،‬والضحك غبّ الوقوع على ق ّمة الرأس إنذا ٌر خطر‪ ،‬هذا وفي سياق الموت قد تعلو‬
‫وجه المائت رعشة قريبة من االبتسامة‪.‬‬
‫أن التعويل على‬ ‫ّ‬
‫منظفًا للصدر أو إلدخال بعض األدوية إلى أقاصي الرئة‪ّ .‬إال ّ‬ ‫وقد يعمد فن المداواة إلى اإلضحاك إذ يستعمل الضحك‬
‫ذلك خط ٌر في بعض األحوال كآفات القلب وذات الجنب والتهاب الصفاق إلخ‪.‬‬
‫إن الضحك المتواصل إذا أف َرط واشت ّد قد يجلب الموتَ والسيّما عند األطفال والشيوخ‪ .‬ويُظنُّ ّ‬
‫أن الموتَ يحصُل إذا ذاك من انقطاع‬ ‫ث ّم ّ‬
‫بعض األوعيةَ الدمويّة في القلب‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫أن‬
‫ولكن الضحك يتأتى خاصًّة من الفرح واالبتهاج والفوز واالنتصار والبشارة السارة‪ّ .‬إال ّ‬
‫ّ‬
‫فرحا‪ .‬فللضحك أسباب نفسية تستدعيه غير الفرح‪ .‬نحن نضحك‬ ‫المرَء قد يضحك دون أن يكون ً‬
‫يهمنا هنا وهو الذي يحصل من الشعور‬‫حين نسمع نكتة أو نادرة أو فُكاهة‪ ،‬وهذا هو النوع الذي ّ‬
‫ونجد له قيمةً‬
‫ُ‬ ‫األدبية‬
‫ّ‬ ‫أي حين يكون الموضوع هزليًّا‪ .‬حينئذ يدخ ُل الضحك في الدراسات‬‫بالهزل ّ‬
‫فنية‪.‬‬
‫جمالية ّ‬
‫ّ‬

‫الجيد السائغ الخفيف‬


‫يسره وتحفز عليه كالصحة والطعام ّ‬ ‫وثمة أحوال ُموائمة للضحك تُ ّ‬
‫هذا ّ‬
‫بدال من أن يأسره‬
‫الودي‪ .‬وهي كلّها أمور تيسِّر طًلقة الفكر وعبثه ً‬
‫ّ‬ ‫والهواء الطلق والسير والجو‬
‫لميل إلى‬
‫قوي ا َ‬‫االجتماعي ُي ّ‬
‫ُّ‬ ‫الجو‬
‫لحة أو ألم دفين‪ .‬وكذلك ّ‬ ‫ُشغل شاغل أو تستبد به حاجة ُم ّ‬
‫إن الظفر والّنجاح‬
‫ثم ّ‬‫النفسية‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫العدوى‬
‫المحاكاة و َ‬
‫شدته على طريق اإليحاء و ُ‬‫الضحك ويزيد من ّ‬
‫قًلء قلّما يضحكون‪،‬‬‫يقع‪ .‬الناس الثّ ُ‬
‫اإلفًلت من خطر كاد أن َ‬
‫ُ‬ ‫ُيغريان الفكر ويحفزانه‪ ،‬ومثلهما‬
‫ثقيًل‪ .‬يقول ملتون‪ :‬االبتسام ناشئ عن العقل ال تعرفُه ال ُعلوج‪.‬‬
‫واذا ضحكوا كان ضحكهم ً‬

‫البشر والبشاشة‪ .‬ويستمسك بهما الياباني ّون حتى في ِّ‬


‫أشد الحاالت‬ ‫حبذ‬
‫التربية االجتماعية تُ ّ‬
‫كثرة الضحك داللة على الخفّة والطيش وقلّة التهذيب‪.‬‬ ‫أن‬
‫يد ّ‬
‫ألما وأسى‪َ .‬ب َ‬
‫الشخصية ً‬
‫ّ‬

‫ويخمدان َجذوة‬
‫الرواء‪ُ ،‬‬
‫ثمة أحوال عائقة للضحك‪ ،‬الخيبة واإلخفاق ُيذهبان ّ‬
‫على العكس ّ‬
‫إن نسيا َن‬
‫يغيض االبتهاج‪ .‬واألسى والحزن يسدالن الستار دون خفّة المرح‪ّ .‬‬
‫ُ‬ ‫الخوف‬
‫ُ‬ ‫النفس‪ ،‬و‬
‫أكبر عًلمات الترح‪.‬‬
‫الضحك ُ‬

‫الضحك‪:‬‬
‫بعض فضائل ّ‬‫َ‬ ‫مقدمة كتابه (البخًلء) يشرُح‬
‫ستمع إلى أمير الضحك الجاحظ في ّ‬ ‫َلن ْ‬
‫كبيرا‪ ،‬وهو شيء في أصل‬ ‫ِّ‬
‫عظيما ومن مصلحة الطباع ً‬ ‫ً‬ ‫موقعه من ُسرور النفس‬
‫ُ‬ ‫(وكيف ال يكون‬
‫َ‬
‫نفسهُ‪ ،‬وعليه‬ ‫ِّ‬
‫الصبي‪ ،‬وبه تَطيب ُ‬
‫ّ‬ ‫يظهر من‬
‫ُ‬ ‫الن الضحك ّأول خير‬
‫الطباع وفي أساس التركيب! ّ‬
‫قوته‪.‬‬
‫ومادة ّ‬
‫ينبت شحمه‪ ،‬ويكثُر دمه الذي هو علّة ُسروره ّ‬

‫وببسام وبطَْلق وبطَليق‪ ،‬وقد‬


‫ّ‬ ‫الدها بالض ّحاك‬
‫سمي أو َ‬
‫ولفضل خصال الضحك عند العرب تُ ّ‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلّم ومزح‪ ،‬وضحك الصالحون ومزحوا‪ ،‬واذا مدحوا قالوا‪ :‬هو‬ ‫ّ‬ ‫ضحك‬
‫ذموا قالوا‪ :‬هو‬
‫يحية واهتزاز‪ ،‬واذا ّ‬
‫وهش إلى الضيف‪ ،‬وذو أر ّ‬ ‫العشيات‪ٌّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وبسام‬
‫السن‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ضحوك‬
‫ومقبض الوجه‪،‬‬ ‫أبدا‪ ،‬وهو كريه‪ُ ،‬‬
‫كفهر ً‬
‫المحيا‪ ،‬وهو ُم ٌّ‬
‫ّ‬ ‫عبوس‪ ،‬وهو كالح‪ ،‬وهو قطوب‪ ،‬وهو شتيم‬
‫وكأنما وجهه بالخ ّل منضوح‪.‬‬
‫وحامض الوجه‪ّ ،‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫وقصـر عنهما أحد‬
‫ّ‬ ‫جازهما أحد‬
‫وللضحك موضع وله مقدار‪ ،‬وللمزح موضع وله مقدار‪ ،‬متى َ‬
‫نقصا‪ ،‬فالناس لم َيعيبوا الضحك إال بقدر‪ ،‬ولم يعيبوا المزح إال‬
‫خطًل والتقصير ً‬
‫ً‬ ‫صار الفاضل‬
‫بقدر‪ ،‬ومتى أريد بالمزح النفع‪ ،‬وبالضحك الشيء الذي له ُجعل الضحك صار المزح ج ًّدا‬
‫وقارا)‪.‬‬
‫والضحك ً‬

‫ضحك‪.‬‬
‫ماهية ال ّ‬
‫المفكرين والفًلسفة الوقورين منذ قديم األزمان إلى تفهُّم ّ‬
‫ولقد عمد كثير من ُ‬
‫يضحك اإلنسان أو َيعجبون له كيف ول َم يضحك؟‬
‫َ‬ ‫وكأنهم كانوا يستغربون أن‬

‫سر غامض في نظر الفًلسفة!‬


‫أي األشياء ال يبدو ذا ٍّ‬ ‫الضحك يبدو لهم ُملتفًّا ٍّ‬
‫بسر غامض‪ .‬و ُّ‬ ‫ّ‬
‫بالم ْن َعكس كما يظهر ذلك عند‬
‫أن للضحك من جهة صفةَ ما ُيدعى في علم الغريزة ُ‬ ‫ذلك ّ‬
‫نفسي وليس حسيًّا كما في الدغدغة‪ .‬وعاملُه‬
‫ٌّ‬ ‫عقلي‬
‫ٌّ‬ ‫ولكنه من جهة ثانية منعكس عامله‬
‫الدغدغة ّ‬
‫وطوًار يد ّل على عيب‬
‫العقلي هذا مشتبك العناصر‪ ،‬تارة يشتمل على خروج عن العادة والمألوف‪ْ ،‬‬
‫ّ‬
‫آداب اللياقة والسلوك‪،‬‬
‫َ‬ ‫فجأُ بمخالفته‬
‫وحينا َي َ‬
‫ً‬ ‫جرا‪،‬‬
‫وهلم ًّ‬
‫البخل ّ‬ ‫في الطباع كالغفلة أو الحمق أو ُ‬
‫جرا‪.‬‬
‫ومرة ُيومئ إلى تحقير وهجاء‪ ،‬وهلّم ًّ‬

‫تفسيرا‪ ،‬وجدناها تكاد‬


‫ً‬ ‫لي‬
‫ولكنا إذا أقبلنا على هذه النظريات الفلسفية التي تلتمس للضحك الهز ّ‬
‫ّ‬
‫نشوزا‪.‬‬
‫لمضحك يشمل في ثناياه وبين عناصره ُمباينة أو ً‬ ‫أن ا ُ‬
‫جميعا في بيان ّ‬
‫ً‬ ‫تشترك‬

‫نوهنا بها أو أشرنا إليها ما استرعى انتباهَ الباحثي َن واستأثر‬


‫الفنية التي ّ‬
‫وليس بين القيم ّ‬
‫بأفكارهم وأقًلمهم كالضحك بأنواعه‪ .‬ويتع ّذر علينا هنا أن نعرض آراء جميع المف ّكرين منذ الزمن‬
‫البد‬ ‫تفسير ًّ‬
‫جليا ولك ْن ّ‬ ‫ًا‬ ‫المضحك وحاولَوا أن يجدوا له‬
‫القديم حتى العصـر الحديث‪ ،‬ممن َبحثوا في ُ‬
‫من أن نذكر بعض األمثلة‪.‬‬

‫كتب أرسطو في كتاب (البيوطيقا) أو (فن الشعر) أن المأساة أو التراجيديا تُمثل الناس‬
‫أسفل مما هم في الواقع‪ .‬فال ُمضحك يكون‬‫َ‬ ‫أعلى مما هم‪ ,‬وأن المهزلة أو الكوميديا تمثلهم‬
‫يضر‪ .‬وهكذا يكون القناع الهزل ّي الذي‬
‫يؤلم وال ُّ‬
‫خاص أو هو قبح ال ُ‬
‫ّ‬ ‫جزًءا من القبح‪ ،‬وهو عيب‬
‫ألنه تشويه بدون ألم‪.‬‬
‫المهرج َمضح ًكا ّ‬
‫ّ‬ ‫يلبسه‬

‫ويذكر أبو حيان التوحيدي في (المقابسات) ّأنه سأل أستا َذه أبا سليمان المنطقي عن‬ ‫ُ‬
‫انية‪ .‬وذلك ّأنه حال‬
‫قوة ناشئة بين قُ ّوتي النطق والحيو ّ‬
‫(الضحك ّ‬
‫َ‬ ‫الضحك ما هو فأملى عليه فقال‪:‬‬
‫أن االستطراف إنما هو‬‫بالنطق من جهة وذلك ّ‬ ‫باستطراف وارد عليها‪ ،‬وهذا المعنى متعلق ّ‬
‫النفس ْ‬
‫انية عندما‬
‫القوة الحيو ّ‬
‫تتبع ّ‬
‫التعجب هو طلب السبب والعلّة لألمر الوارد‪ .‬ومن جهة ّ‬
‫تعجب‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫تحركت إلى‬
‫تتحرك إلى خارج‪ .‬واذا ّ‬ ‫تتحرك إلى داخل‪ ،‬وا ّما أن ّ‬‫إما أن ّ‬ ‫فإنها ّ‬
‫النفس ّ‬
‫تنبعث من ّ‬
‫فيحدث السـرور والفرح‪،‬‬
‫فأوًال وباعتدال ُ‬ ‫الغضب‪ ،‬وا ّما ّأوًال ّ‬
‫ُ‬ ‫فيحدث منها‬
‫فإما أن تكون ُدفعةً ُ‬
‫خارج ّ‬
‫فأوًال فيحدث منها‬
‫الخوف‪ .‬وا ّما ّأوًال ّ‬
‫ُ‬ ‫تتحرك من خارج إلى داخل ُدفعة فيحدث منها‬ ‫ّ‬ ‫واما أن‬
‫الضحك‬
‫فتحدث منها أحوال إحداها ّ‬ ‫ُ‬ ‫ومرة إلى خارج‬
‫مرة إلى داخل ّ‬‫االستهوال‪ .‬وا ّما أن تتجا َذب ّ‬
‫ويسير ذلك في‬
‫ُ‬ ‫ومرة ّأنه ليس كذا‪،‬‬
‫مرة ّأنه كذا ّ‬
‫عند تجا ُذب القّوتين في طلب السبب‪ ،‬فيحكم ّ‬
‫المتضادتين‪ ،‬وتعرض منه القهقهة في الوجه‬
‫ّ‬ ‫الروح حتى ينتهي إلى العصب فيتحرك الحركتين‬ ‫ّ‬
‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬
‫لكثرة الحواس وتعلّق العصب بواحد منها) ‪.‬‬

‫تبينون‬
‫ين عندما يبحثون في حقيقة الضحك وي ّ‬‫الجادين الوقور َ‬
‫ّ‬ ‫أمثال هؤالء الفًلسفة‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫وال شك ّ‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أسبابه ُيبعدوننا عن ظاهرة الضحك‪ .‬وشتّان ما بين الظاهرة وتفسيرها‬
‫َ‬

‫أن تزاحم األضداد سبب للضحك‪:‬‬


‫رضا في مرثيته المشهورة إلى ّ‬
‫ي َع ً‬
‫ويشير أبو العًلء المعر ّ‬
‫ُ‬

‫األض ِ‬
‫داد‬ ‫احم‬ ‫ٍ‬ ‫ِمرًا‬ ‫ٍ‬
‫ْ‬ ‫تز َ‬ ‫من‬ ‫ضاحك‬ ‫ار‬ ‫لحدا‬
‫ً‬ ‫صار‬
‫َ‬ ‫قد‬ ‫لحد‬ ‫رب‬
‫َّ‬
‫يبيد‬
‫المعري الذي ُيعير شفتي‬
‫ّ‬ ‫نقدر في ذهن‬
‫مجرد التضاد ال يكفي لإلضحاك‪ .‬وينبغي أن ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫بيد ّ‬
‫َ‬
‫نفسه قد‬
‫أمر آخ َر وهو اختالط القيم الرفيعة بالقيم الدنية‪ .‬فاللحد ُ‬
‫ابتسامته السوداء الحزينةَ ًا‬
‫َ‬ ‫اللحد‬
‫البر والفاجر‪ ،‬وكم كانوا في الحياة الدنيا‬
‫السافل والتقي والفاتك و َ‬
‫وارى العالم والجاهل والفاضل و ّ‬
‫ُمختلفين ُمتفاوتين!‬

‫المظلم تنفرج به شفتا اللحد لهو ضحك الفيلسوف الذي فُجع بصديقه الفقيه‬
‫إن هذا الضحك ُ‬ ‫ّ‬
‫تعادل‬
‫نوه بزوال ك ّل شيء وب ُ‬‫كأنما ُي ّ‬
‫يتأمل حقيقة الدنيا الفانية‪ .‬فهو في ُمستهل مرثيته ّ‬
‫والذي ّ‬
‫سوي نوح الباكي بترنُّم الشادي وصوت النعي بصوت‬
‫الزوال‪ّ .‬إنه عندما ُي ّ‬
‫تلقاء ذلك ّ‬
‫األمور كلّها َ‬
‫يد أن ينفي الفرح من أصله في هذه الحياة‪ .‬وهو بذلك ال يرثي‬
‫البشير وبكاء الحمامة بغنائها ير ُ‬
‫جمعاء‪.‬‬
‫ً‬ ‫صديقه المتوفّى واّنما يرثي اإلنسانية‬

‫المشتمل على‬
‫اسع ُ‬
‫فالفاجعةُ في نفس ك ّل إنسان‪ .‬وتتجه القصيدة هذا االتجاه الحزين الو َ‬
‫العامة‪:‬‬
‫عناصر المأساة ّ‬

‫ِ‬
‫عاد‬ ‫ِ‬
‫عهد‬ ‫من‬ ‫القبور‬ ‫فأَين‬ ‫ـــب‬ ‫الرحــ‬ ‫تمألُ‬ ‫قبورنا‬ ‫هذي‬ ‫صا ِح‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األج ِ‬
‫ساد‬ ‫ْ‬ ‫هذه‬ ‫من‬ ‫إال‬ ‫أرض‬ ‫الـــ‬ ‫أديم‬ ‫أظن‬
‫ُّ‬ ‫ما‬ ‫الوطء‬ ‫خفَّف‬
‫َ‬
‫‪ -22‬ال ُمقابسات نسخة َمخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق رقمها ‪4803‬عام‪ .‬أ ّما المقابسات المطبوعة فمشحونة باألخطاء‪ .‬وتكفي مقابلة‬
‫هذا النصّ المأخوذ عن ال َمخطوطة بالنص ال َمطبوع ليتبيّن للقارئ مدى التحريف الفاحش في نص فلسف ّي دقي ٍ‬
‫ق‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫األجداد في شموله‪:‬‬
‫َ‬ ‫اآلباء و‬
‫َ‬ ‫فيتناول‬
‫َ‬ ‫يمتد إلى الماضي‬
‫والرثاء ّ‬

‫ِ‬
‫االجداد‬
‫و‬ ‫ِ‬
‫اآلباء‬ ‫ان‬
‫هو ُ‬ ‫ــد‬ ‫العهــ‬ ‫قدم‬
‫ُ‬ ‫وان‬ ‫بنا‬ ‫وقبيح‬

‫ِ‬
‫العباد‬ ‫ر ِ‬
‫فات‬ ‫على‬ ‫اختياال‬
‫ً‬ ‫ال‬ ‫ويدا‬ ‫إن استطعت في الهو ِ‬
‫اء ُر ً‬ ‫سر ْ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬

‫نجد هذا األلم الدفين الذي‬


‫العين في إفراط السُّرور كذلك بالمقابل ُ‬
‫ُ‬ ‫فتدمعُ‬
‫أحيانا بالبكاء َ‬
‫ً‬ ‫يتصل الفرُح‬
‫وكما ّ‬
‫اج أفواه اللحود‬
‫أي ضحك! ّإنه انفر ُ‬ ‫المخيف و ّ‬‫بالضحك ُ‬ ‫َ‬ ‫نفس الشاعر الفيلسوف يتصل‬ ‫تعتلج به ُ‬
‫انية‪ .‬وال ندري‬
‫وتفاوت أعمالهم منذ تاريخ اإلنس ّ‬
‫تباين منازلهم واختًلف أقدارهم ُ‬
‫لتلقي الموتى على ُ‬
‫أيضا من لقاء الردى على ميعاد‪:‬‬
‫اكب التي هي ً‬
‫تشعر بمجيئهم وذهابهم وآالمهم تلك الكو ُ‬
‫ُ‬ ‫هل‬

‫و ِ‬
‫اآلباد‬ ‫ِ‬
‫األزمان‬ ‫طويل‬ ‫في‬ ‫ٍ‬
‫دفين‬ ‫بقايا‬ ‫على‬ ‫ٍ‬
‫ودفين‬

‫بالد‬ ‫من‬ ‫وآنسا‬ ‫قَبيل‬ ‫من‬ ‫أحسا‬


‫َّ‬ ‫عمن‬
‫َّ‬ ‫دي ِن‬
‫الفَ ْرقَ ْ‬ ‫ِ‬
‫فاسأل‬

‫روعة وحيرة الفكر المشدوه الذي يلجأ في النهاية‬


‫الم ّ‬
‫بعمق العاطفة ُ‬
‫إلى آخر هذا البيان ينبض ُ‬
‫ستسلما إلى‬
‫ً‬ ‫تكسر ُم‬
‫المصطَخب في أعماق البحار ُم ًا‬ ‫إلى اإلذعان المحاذر كما ينتهي المو ُج ُ‬
‫الساحل‪:‬‬

‫ِ‬
‫جماد‬ ‫من‬ ‫مستحدث‬ ‫حيوان‬ ‫فيه‬ ‫البرية‬ ‫ِ‬
‫حارت‬ ‫والذي‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫للفساد‬ ‫مصيره‬ ‫بك ِ‬
‫ون‬ ‫ـــــر‬
‫ُّ‬ ‫يغتــ‬ ‫ليس‬ ‫َمن‬ ‫اللبيب‬ ‫واللبيب‬
‫ُ‬

‫القوية على عمد‪ ،‬وذلك لكي‬


‫لقد استطردنا بعض الشيء في شرح جوانب من هذه القصيدة ّ‬
‫دائما ُمنفصلة ُمستقلّة‪ ،‬بل تبدو في‬
‫تكون ً‬
‫ُ‬ ‫أن تلك القيم التي حلّلناها ووصفناها ال‬
‫ُنشير إلى ّ‬
‫شف‬
‫ي الذي ي ّ‬ ‫بعض األحيان ُمشتبكة متداخلة‪ ،‬ولًلشتباك والتداخل هذين آثرنا التصنيف الدائر ّ‬
‫بيت‬
‫احدا‪ .‬و ُ‬
‫كًل و ً‬‫التفرق واالختًلف ًّ‬
‫عن اتصال جوانب النفس بعضها ببعض ويبديها على رغم ُّ‬
‫أبي العًلء كان فرصةً انتهزناها لبيان معنى الضحك عنده وإلظهار لون من اشتباك تلك القيم‬
‫حد ذاتها بعيدة ًّ‬
‫جدا من الضحك متصلة بالمأساة والروعة‪.‬‬ ‫وتداخلها‪ ،‬وان كانت المر ّثية في ّ‬
‫ُ‬

‫يبحث في الفُكاهة والنوادر عدا ال ُكتب‬


‫ُ‬ ‫بي القديم أكثرها ال يخلو من باب‬
‫و ُكتب األدب العر ّ‬
‫الجد الذي‬‫المقصورة عليها‪ .‬وقد ضحك العرب القدماء ما استطاعوا أن يضحكوا على رغم ّ‬
‫اني (ذيل زهر اآلداب أو جمع الجواهر في الُملَح‬ ‫ي القيرو ّ‬‫صـر ُّ‬
‫الح ْ‬
‫اتصفوا به‪ .‬وألّف أبو إسحاق ُ‬
‫مقدمته إلى بيان‬
‫عمد المؤلف في ّ‬ ‫والنوادر)‪ ،‬وعنوان هذا الكتاب كاف في الداللة على موضوعه‪َ .‬‬
‫المضحك وشروطه فأشار إلى قيمة القبح في النادرة وذكر ّأنهم (قالوا‪ّ :‬إنما َملُح القرد عند‬
‫ْ‬ ‫أصول‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫يقبل الوسط بل ُّ‬
‫يرده‪ ،‬كذلك ال تقبل النادرة الفتور‪.‬‬ ‫عام ال َ‬‫الفن بوجه ّ‬
‫الناس إلفراط قُبحه) وكما أن ّ‬
‫ويعقّب على ذلك‬ ‫ك اإلفراط في التوقّي) ُ‬
‫أيضا‪( :‬من التوقّي تر ُ‬
‫اني قولَهم ً‬
‫ي القيرو ُّ‬
‫ويذكر الحصر ُّ‬
‫المحبب والسُّقم المغبب أن تقع النادرة فاترة فتُخرج عن ُرتبة الهزل والج ّد‬
‫الموت ُ‬
‫ُ‬ ‫بقوله‪( :‬واّنما‬
‫غن وسط ومن‬ ‫ِّين هو أثق ُل من ُم ٍّ‬
‫ودرجة الح اررة والبرد إلخ‪ )..‬كما ُيورد‪( :‬من أمثال البغدادي َ‬
‫ُمضحك وسط)‪.‬‬

‫الفزيولوجي‪ ,‬والضحك‬
‫ُّ‬ ‫هذا ويصنف الفيلسوف اسبينو از الضحك في ثالثة أنواع‪ :‬الضحك‬
‫إما‬
‫أن الضحك األخير ّ‬
‫الدا ُل على الفرح وعلى الشعور بالخير‪ ,‬وضحك السخرية والمزاح‪ .‬ويرى ّ‬
‫حر مختار مع ّأنه في‬
‫نظن أن الشخص الذي نضحك منه ٌّ‬ ‫أن يأتي من خطأ في حسابنا حين ُّ‬
‫ألن ك ّل شيء صادر عن اهلل‪ ،‬وا ّما أن يأتي من نقص في الساخر أو‬
‫جبر ّ‬
‫ضطر ُم َ‬
‫الواقع ُم ٌّ‬
‫للرحمة أ ُّ‬
‫شد‬ ‫ُّ‬
‫يستحق ذلك فهو ّ‬ ‫إن كان‬
‫ويسته أز به ْ‬‫يسخر منه ُ‬
‫أن الذي َ‬ ‫المسخور منه‪ ،‬وذلك ّ‬
‫المستهزئ‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫يستحق ذلك فالنقص قائم في الشخص الساخر ُ‬ ‫استحقاقًا منه للسخرية‪ ،‬وان كان ال‬

‫وهكذا نجد أن هذا الفيلسوف ُيفضي إلى القضاء على الضحك الهزلي‪.‬‬

‫وتكثر النظريات التي تتفهّم الضحك في الفلسفة الحديثة‪ ،‬ونجتزئ باإلشارة إلى رأي برغسون‬
‫‪2‬‬
‫ثًلث ‪3‬صفات‪:‬‬
‫َ‬ ‫صغير في هذا الموضوع ‪ .‬وهو يجد للضحك‬ ‫ًا‬ ‫كتابا‬
‫فيه فقد كتب هذا المف ّكر ً‬

‫خاصة اإلنسان أو عرضه الًلزم‬


‫ّ‬ ‫أن الضحك‬
‫وجد الفًلسفة القدماء ّ‬
‫إنساني‪ .‬لقد َ‬
‫ٌّ‬ ‫‪ّ -1‬إنه‬
‫تاما وهو ما تركب من جنس‬‫رسما ً‬
‫(ودعوا هذا التعريف ً‬
‫بأنه حيوان ضاحك َ‬ ‫فعرفوا اإلنسان ّ‬
‫ّ‬
‫اإلنسان‬
‫ُ‬ ‫الشيء القريب وخواصه الًلزمة)‪ ،‬ويزيد عليهم برغسون ّأنه حيوان َمضحك إذ ال يضحك‬
‫اتفق أن ضحك من الحيوان أو من غيره فبمقدار‬
‫من الجماد وال من النبات وال من الحيوان‪ .‬واذا ّ‬
‫‪2‬‬ ‫‪4‬‬
‫ما ُيشبه اإلنسان في بعض الحاالت ‪.‬‬

‫عقلي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫‪ -2‬الضاحك بعيد من االنفعال والتأثّر‪ ،‬قريب من الًلمباالة‪ ،‬وذلك أل ّن الضحك‬
‫يضحك المرء وصفحةُ نفسه هادئة‪.‬‬

‫‪ -23‬ترجمه إلى اللغة العربية األستاذان سامي الدروبي وعبد هللا عبد الدائم‪.‬‬
‫‪ -24‬قلّما يضحك اإلنسان من غير اإلنسان! ويبتدر الذهن هنا بعض ال ُملح المرويّة في كتب األدب العربي مثل هذه‪:‬‬
‫‪ -‬كانت أفعى نائمةً على حُزمة شوك فحملها السيل واألفعى عليها إذ نظر إليها ثعلبٌ ‪ :‬فقال‪ :‬مثل هذا ّ‬
‫المالح يصل ُح لهذه السفينة‪.‬‬
‫أخطأت ألنّي تعلّقت بما يتعلق بك ّل شيء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬أراد ثعلب أن يصع َد حائطًا فتعلّق بعَوْ سجة فعق َرت يده فقال‪ :‬أنا‬
‫‪ -‬قيل للبغل‪ :‬من أبوك؟ قال‪ :‬خالي الفرس‪ ..‬وهل ّم ج ًّرا‪.‬‬
‫أن كل شبه للحيوان باإلنسان أو بالعكس ليس بَمضحك بل قد يكون موحيًا بالرقّة كالظب ّي وبالروعة كاألسد!‬
‫ّإال ّ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫خاصة إذا كان بين فريق من‬
‫ً‬ ‫المجتمعُ بيئته الطبيعية‪َ ،‬يضحك المرُء‬
‫عي‪ُ ،‬‬ ‫‪ -3‬الضحك اجتما ٌّ‬
‫ويقعقع بين الجبال‪.‬‬
‫صوت الرعد ُ‬
‫ُ‬ ‫الناس يضحكون‪ ،‬كما ُّ‬
‫يشتد‬

‫آتيا من نوع من‬


‫يجده ً‬
‫هذه صفات ثًلث للضحك‪ ،‬ولكن ما منشأ الضحك؟ إن برغسون ُ‬
‫ق‬
‫وكالخرق في العمل والغفلة والمعايب التي هي عوائ ُ‬
‫ُ‬ ‫الصًلبة كالذي يركض فيتعثّر ويسقُط‪،‬‬
‫عمد‬
‫(آلية ُم َلبسة للحياة) وي ُ‬
‫تقف دون ُمرونة الحياة‪ .‬ثم ينتهي إلى دستور عام للضحك وهو ّأنه ّ‬
‫بعد صوغ هذا الدستور إلى بيان تطبيقات المضحك في األشكال واإلشارات والحركات والظروف‬
‫تفصيل ذلك في الكتاب نفسه‪.‬‬
‫َ‬ ‫يجد‬
‫والكلمات والطباع‪ .‬ويستطيع القارئ أن َ‬

‫فع االستعارة‬
‫فنه ّإنه ر َ‬
‫ث برغسون مكتوب بلغة شائقة تتخلّلها االستعارات البديعة‪ ،‬قيل عن ّ‬
‫بح ُ‬
‫ْ‬
‫زوق بتلك االستعارات الممتعة‪،‬‬
‫من رتبة اإلمتاع إلى رتبة اإلقناع‪ .‬وكتاب برغسون في الضحك ُم ّ‬
‫‪2‬‬ ‫‪5‬‬
‫وا ْن كانت في بعض األحيان متكلّفة أو ناقضها العلم ‪.‬‬

‫اآللية والحياة‪ .‬وهو‬


‫إن دستور المضحك الذي انتهى برغسون إليه ُيشير إلى التباين بين ّ‬ ‫ّ‬
‫تعميمه وال يصحُّ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫جانب من جوانب المضحك ال يسوغُ‬

‫ألن التعثّر ال‬


‫أن الراكض إذا تعثّر فسقطَ كان َمضح ًكا‪ ،‬وهذا غير صحيح‪ّ ،‬‬
‫يذكر برغسون ّ‬
‫ُ‬
‫لم َلبس‬
‫بليغا‪ .‬وليس اآللي ا ُ‬
‫جرحا ً‬
‫وجرح ً‬
‫السيما إذا سقط المتعثّر ُ‬
‫يضحك في كثير من األحيان و ّ‬
‫دائما وبالضرورة‪ .‬بل على العكس قد ُيرهب كالجيش عند العرض حركتُه اآللية‬
‫للحياة يضحك ً‬
‫الم َلبسة‬
‫تكون اآللية ُ‬
‫ُ‬ ‫الستهدف للضحك‪ ،‬وقد‬
‫أحد الجنود فكان مرًنا ْ‬
‫هي المطلوبة‪ ،‬ولو شذ عنها ُ‬
‫يقمن بحركات مرسومة‪.‬‬
‫سببا للرقّة كفوج الراقصات في المسرح َ‬
‫للحياة ً‬

‫المضحك الحياة ُم َلبسة‬


‫تقدم‪ ،‬فقد يكون ُ‬
‫أيضا لسبب ما ّ‬ ‫ُّ‬
‫يصح ً‬ ‫إن عكس دستور برغسون‬
‫لآللية‪.‬‬
‫ّ‬

‫ممن يحبه‪،‬‬‫أحيانا َ‬
‫ً‬ ‫ألن المرء يضحك‬ ‫إن فكرة عدم التأثّر في المضحك غير صحيحة‪ّ ،‬‬‫ثم ّ‬
‫ّ‬
‫حدًبا عليه ورْفقًا به‪ ،‬قد يضحك المرُء إذن‬
‫كاألم قد تضحك من وليدها واألب قد يضحك من ابن َ‬
‫ُ‬
‫بالدموع‪.‬‬
‫وعيناهُ َم ْغرورقتان ّ‬

‫جهة واآللية من ٍ‬
‫جهة ثانية‪.‬‬ ‫يفرق برغسون بين جانبين متقابلين في المضحك‪ :‬الحياةُ من ٍ‬
‫ُّ‬
‫اعا بين الفرد والمجتمع أي‬
‫يجد في الضحك صر ً‬
‫اآللية‪ ..‬ثم هو ذا ُ‬
‫ثأر الحرّية من ّ‬
‫فالضحك عنده ُ‬
‫ّ‬
‫‪ -25‬يضرب برغسون في ختام كتابه تشبيهًا قويًا وهو أن الضحك ينشأ في الحياة االجتماعية كما ينشأ الزبد من اصطفاق األمواج في‬
‫أن الزبد يتألف من ماء أشد ملوحة وأكثر مرارة من ماء الموج‪ ،‬وكذلك الضحك الفائر من المرح إذا أقبل عليه الفيلسوف‬ ‫البحر‪ ،‬ويرى ّ‬
‫ليتذوقه وجد في مادته مقدا ًرا غير يسير من المرارة‪ ،‬ولكن التحليل الكيماوي ّ‬
‫أن ماء الزبد أق ّل ملوحة وأدنى مرارة من ماء الموج نفسه‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ألن المجتمع يفرض على األفراد القسر‬‫خفيا ّ‬
‫تناقضا ً‬
‫ً‬ ‫ولكن في هذا‬
‫ثأر للمجتمع من شذوذ الفرد‪ّ ،‬‬
‫ًا‬
‫العرف القائم لديه‪ ،‬وبهذا االعتبار يبدو‬
‫حرياتهم بمقابل العادات الجارية فيه و ُ‬
‫الحد من ّ‬
‫ويحاول ّ‬
‫ثأر اآللية من الحرّية‪.‬‬
‫الضحك َ‬

‫اآللية ومعنى الحياة وفقًا لما يريد أن ُيطبقهما فيه‪ .‬يستبي ُن‬
‫وسع معنى ّ‬ ‫ثم ّإنا نجد برغسون ُي ّ‬
‫تبحث داللَة المضحك‪ .‬وعدم الكفاية هذا ال‬ ‫ُ‬ ‫عدم الكفاية في نظرية برغسون التي‬
‫لنا من هذا النقد ُ‬
‫اء‬
‫فعرضنا آر َ‬
‫ْ‬ ‫الكبير في كتابه‪ .‬ولو تابعنا‬
‫ُ‬ ‫يمنع من التحليل البارع الذي صنعه هذا المف ّكر‬
‫جانبا من جوانب تلك الحقيقة دون أن‬
‫يمس ً‬
‫كًل منها ّ‬ ‫المفكرين اآلخرين في حقيقة الضحك َلوجدنا ً‬
‫يحيط بها‪.‬‬

‫عناصر مختلفة أشار إليها‬


‫َ‬ ‫انتقائيا في تعريف الضحك يشتم ُل على‬ ‫ً‬ ‫ويمكننا أن نقترح رًأيا‬
‫ُ‬
‫جميعها بحسب األحوال حصل الضحك‪ .‬ويكون‬ ‫ُ‬ ‫بعضها أو‬
‫ُ‬ ‫ومسوها فيه‪ ،‬إذا توافر‬
‫ّ‬ ‫المف ّكرون‬
‫بائي المتّصل مث ًًل وصفه‬
‫التيار الكهر ّ‬
‫عرف ّ‬ ‫اإليجابي الذي إذا أراد أن ُي ّ‬
‫ّ‬ ‫شأننا في ذلك شأن العالم‬
‫المادة القابلة للتحليل‬
‫ّ‬ ‫بالظواهر الجارية لدى انطًلقه كانحراف اإلبرة المغناطيسية وتحلُّل‬
‫الضوئي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بائي واستنارة المصباح‬
‫الكهر ّ‬

‫وكذلك في حقيقة الضحك‪ ،‬فنحن نرى ّأنه ُمباينة تفجأ الفكر سليمة العاقبة بالنسبة إلى‬
‫التضاد أو النشوز‬
‫ّ‬ ‫إن هذه المبانية أو‬
‫يخفض الضاحك بها المضحوك منه عن ُرتبته‪ّ .‬‬
‫ُ‬ ‫الضاحك‪،‬‬
‫تشير إليها أكثر النظريات‪ ،‬وسًلمة العاقبة نجد اإلشارة إليها منذ القديم في كًلم أرسطو حين‬
‫إن خفض المضحوك منه أيًّا كان شك ُل هذا الخفض شرط‬‫ثم ّ‬‫غير مؤلم‪ّ .‬‬
‫تشوه ُ‬
‫قال‪ :‬إن المضحك ّ‬
‫يمس عالم القيم في الصميم‪ .‬ففي ك ّل‬
‫أن الضحك ُّ‬
‫يكاد يوجد في جميع أنواع المضحك‪ .‬ذلك ّ‬
‫ُ‬
‫لقية‪ ،‬فهو‬
‫وخ ّ‬
‫اجتماعية ُ‬
‫ّ‬ ‫حقيقي ببعض القيم‪ .‬ولذلك كان الضحك ذا وظيفة‬
‫ّ‬ ‫وهمي أو‬
‫ّ‬ ‫ضحك عبث‬
‫ويكبح ُشذوَذه كما أشار إلى ذلك برغسون وغيره‪ .‬ولذلك‬ ‫ُّ‬
‫يرد المضحوك منه إلى سواء السبيل َ‬
‫وبالصًلح‪ .‬فالضحك‬
‫ّ‬ ‫قي إذ قد ُيسته أز بالفضيلة‬
‫أيضا غير ُخلُ ّ‬
‫أمكن في الوقت نفسه أن يكون ً‬
‫فسادا في بعض األحوال‪.‬‬
‫ولكنه قد يعيث ً‬
‫اجتماعي ّ‬
‫ُّ‬ ‫حدين‪ :‬هو وازع‬
‫إذن سًلح ذو ّ‬

‫صاغه وأفضى‬
‫َ‬ ‫المضحك في كتابه تطبيقًا للدستور الذي‬
‫إن برغسون يذكر أمثلةً كثيرةً على ُ‬
‫بي تنثال عليه األمثلة من‬
‫أن القارئ العر ّ‬
‫بيد ّ‬
‫طبيعي‪َ .‬‬
‫ّ‬ ‫نسي وهذا أمر‬
‫إليه‪ ،‬يأخ ُذها من األدب الفر ّ‬
‫السيما في بعض المواضع‪ .‬لقد ذكر الفيلسوف الفرنس ّي حين بحث في‬
‫بي و ّ‬
‫تاريخ األدب العر ّ‬
‫تشوه يمكن للشخص السليم أن ُيقلّده فهو مضحك‪ .‬هيئةُ األحدب‬
‫أن كل ّ‬ ‫ُمضحك األشكال ّ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ورضي به‪ .‬من ذا‬
‫َ‬ ‫وكأن حدبتَه تصلّب قد اعتاده‬
‫ّ‬ ‫سوء الوقفة‪،‬‬
‫وكأنه ُمتكلّف َ‬
‫ألنه يبدو ّ‬
‫ُمضحكة ّ‬
‫الرومي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يذكر قول ابن‬
‫الذي يق أر هذا الوصف وال ُ‬

‫ُيصفَعا‬ ‫أن‬ ‫تربص‬


‫ُم ِّ‬ ‫فكأنه‬ ‫قَذالُه‬ ‫وطال‬
‫َ‬ ‫أخادعه‬
‫ُ‬ ‫ـرت‬
‫قص ْ‬‫ُ‬

‫فتجمعا‬
‫َّ‬ ‫لها‬ ‫ثاني ًة‬ ‫أحس‬
‫و َّ‬ ‫أحس‬ ‫مرة‬ ‫قفاهُ‬ ‫ص ِفعت‬
‫ُ‬ ‫وكأنما‬

‫الكًلم لو تعقّبنا برغسون أو أمثاله من الباحثين في تحليلهم وأردنا أن نورد في‬


‫ُ‬ ‫ويطول بنا‬
‫بد من أن نذكر هنا نادرتين مما‬
‫ولكننا ال ّ‬
‫بي‪ّ ،‬‬‫مناسبات هذا التحليل ُملَ ًحا ونوادر من األدب العر ّ‬
‫أورده الجاحظ في كتابه (البخًلء)‪:‬‬
‫َ‬

‫أن الجاحظ منذ القديم قد عرف للضحك صفته االجتماعية‪ .‬هذا ما‬
‫أما األولى فهي تُظهر ّ‬
‫ّ‬
‫ومحاكمته وهي هذه‪:‬‬
‫َ‬ ‫وح ْسن بيان واضحاك من طبع البخيل‬
‫القصة من جودة عرض ُ‬
‫ّ‬ ‫عدا ما في‬
‫قرب منزله وكان‬
‫فلما صرت َ‬ ‫ليًل‪ّ .‬‬
‫(صحبني محفوظ النقّاش من مسجد الجامع ً‬ ‫قال الجاحظُ‪َ :‬‬
‫أبيت عنده‪ .‬وقال‪ :‬أين تذهب في هذا‬ ‫َ‬ ‫أقرب إلى مسجد الجامع من َمنزلي‪ ،‬سألني أن‬
‫َ‬ ‫منزلُه‬
‫المطر والبرد‪ ،‬ومنزلي منزلُك‪ ،‬وأنت في ظُلمة‪ ،‬وليس معك نار‪ ،‬وعندي لبأ لم َير الناس مثله‪،‬‬
‫وتَمر ناهيك به جودة‪ ،‬ال تصلُح ّإال له‪ ،‬فَمْلت معه‪ .‬فأبطأ ساعة‪ ،‬ثم جاءني بجام لَبأ وطبق تمر‪.‬‬
‫وركوده‪ ،‬ثم ليلة مطر ورطوبة‪ .‬وأنت‬‫ُ‬ ‫فلما َم َد ْدت قال‪ :‬يا أبا عثمان‪ّ ،‬إنه لبأ وغلظه‪ ،‬وهو الليل‬
‫السن‪ ،‬ولم تزل تشكو من الفالج طرفًا وما زال الغلي ُل ُيسرع إليك‪ .‬وأنت في‬
‫رجل قد طعنت في ّ‬
‫باعك‬
‫تط َ‬ ‫وحر ْش َ‬ ‫أكلت اللِّبأ ولم تُبالغ كنت ال ً‬
‫آكًل وال تارًكا‪َ .‬‬ ‫َ‬ ‫لست بصاحب عشاء‪ .‬فإن‬‫األصل َ‬
‫نعد‬
‫بالغت بتْنا في ليلة سوء من االهتمام بأمرك‪ ،‬ولم ّ‬
‫َ‬ ‫قطعت األكل أشهى ما كان إليك‪ .‬وان‬ ‫َ‬ ‫ثم‬
‫عت بين نابي أسد‪.‬‬
‫غدا كان وكان‪ .‬واهلل قد وق ُ‬
‫تقول ً‬
‫لئًل َ‬‫لك نبي ًذا وال َع َس ًًل‪ ،‬واّنما قلت هذا الكًلم ّ‬
‫جئت به ولم أ ِّ‬
‫حذرك منه ولم‬ ‫قلت‪َ :‬بخ َل به وبدا له فيه‪ .‬وان ُ‬
‫ألني لو لم أج ْئك به‪ ،‬وقد ذكرتُه لك‪َ ،‬‬ ‫ّ‬
‫يعا‪ .‬فإن‬ ‫ِّ‬
‫ئت إليك من األمرين جم ً‬
‫ينصح‪ ،‬فقد بر ُ‬
‫علي ولم َ‬
‫قلت لم ُيشفق ّ‬
‫أذكرك ك ّل ما عليك فيه َ‬
‫شئت فأكلة وموتة‪ ،‬وان شئت فبعض االحتمال ونوم على سًلمة‪.‬‬
‫َ‬

‫جميعا فما هضمه ّإال الضحك والنشاط‬


‫ً‬ ‫حكت قطّ كضحكي تلك الليلة‪ .‬ولقد أكلتُه‬
‫ض ُ‬‫فما َ‬
‫لي‪،‬‬ ‫والسرور فيما ُّ‬
‫علي الضحك أو لقضى ع ّ‬‫طيب ما تكلّم به ألتى ّ‬
‫َ‬ ‫أظن‪ .‬ولو كان معي من يفهم‬
‫ضحك من كان وحده ال يكون على شطر مشاركة األصحاب)‪.‬‬ ‫ولكن َ‬

‫يتم بطريقة‬
‫ولكن هذا اإلبرَاز ّ‬
‫ّ‬ ‫المادة والواقع‪.‬‬
‫الفرق بين عالم الفن وعالَم ّ‬
‫َ‬ ‫والنادرة الثانية تُبرز‬
‫ولكن‬
‫ّ‬ ‫المظلم‪.‬‬
‫المادة ُ‬
‫ّ‬ ‫النير أعلى من عالم‬
‫الفن وهو عالم الفكر ّ‬
‫أن عالم ّ‬ ‫سلبية‪ :‬فمن المعلوم ّ‬ ‫ّ‬
‫كًلما‬
‫ً‬ ‫ويعلي شأن المال فوق شأن الشعر ويبيع الشاعر الذي جاء يمدحه‬ ‫البخيل يقلب األمر ُ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫العادي الذي‬
‫ّ‬ ‫كًلمه‬
‫كذبا بكذب‪ .‬فهو ُيدني قيمة الشعر إلى ما ُيعادل َ‬
‫حد تعبيره هو‪ً ،‬‬
‫بكًلم‪ ،‬وعلى ّ‬
‫كًلما‬
‫ً‬ ‫جرد وعد كاذب‪ ،‬وهو ُيحقّر نفسه حين ال يستطيع الشعر أن يخدعه عنها فيعتبره‬ ‫هو ُم ّ‬
‫صة من ُمفاجأة تخرج عن العرف‬ ‫أي صناعة زيادةً على ما في الق ّ‬
‫أي قيمة ومن ّ‬
‫خاليا من ّ‬
‫ُمزجًّى ً‬
‫يتجسد حتى في التعبير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ومن ُش ّح‬

‫الفن والطبيعة تفرقَة مباشرة‪،‬‬


‫فرق فيها بين ّ‬
‫جيدة للفيلسوف (كنت) ُي ّ‬
‫لقد ذكرنا فيما سلف كلمة ّ‬
‫كتب‬
‫َ‬ ‫القصة تحصل التفرقَة بينهما بصورة غير مباشرة وعلى طريق الفُكاهة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وهنا في هذه‬
‫إما أن يكون‬ ‫محمد بن يسير عن َوال كان بفارس ّ‬
‫ُ‬ ‫حدثني به‬
‫الجاحظُ‪( :‬ومث ُل هذا الحديث ما ّ‬
‫وما في مجلس‪ ،‬وهو مشغول بحسابه وأمره وقد‬ ‫قال‪َ :‬بينا هو َي ً‬
‫غيره‪َ ،‬‬
‫خالدا (أخا) َم ْهرويه‪ ،‬أو َ‬
‫ً‬
‫ومجده‪ .‬فلما فرغ قال‪:‬‬
‫وقرظه ّ‬‫مدحه فيه ّ‬
‫عر َ‬‫نجم شاعر من بين يديه‪ ،‬فأن َشده ش ًا‬
‫بجهده‪ ،‬إذ َ‬ ‫احتجب ُ‬
‫ستطار‬
‫ُ‬ ‫رحا قد ُي‬
‫أقبل على كاتبه فقال‪ :‬أعطه عشـرةَ آالف درهم‪ .‬ففرح الشاعر فَ ً‬
‫سنت‪ .‬ثم َ‬ ‫قد أح َ‬
‫ألف درهم‪.‬‬
‫الموقع! اجعْلها عشري َن َ‬
‫وقع منك هذا َ‬
‫له‪ .‬فلما رأى حالَه قال‪ :‬واّني أل ََرى هذا القو َل قد َ‬
‫ف على قدر‬ ‫ليتضاع ُ‬
‫َ‬ ‫رحك‬
‫أضعف قال‪ :‬وا ّن ف َ‬
‫َ‬ ‫فرحه قد‬
‫فلما رأى َ‬‫يخرج من جلده‪ّ .‬‬ ‫فكاد الشاعر ُ‬ ‫َ‬
‫فًلن أربعين ألفًا‪ .‬فكاد الفرُح يقتلُه‪.‬‬
‫تضاعف القول! أعطه يا ُ‬
‫ُ‬

‫أعلم أنك كلما رأيتَني قد‬


‫علت فداك! رجل كريم‪ ،‬وأنا ُ‬ ‫نفسه قال له‪ :‬أنت‪ُ ،‬ج ُ‬‫رج َعت إليه ُ‬ ‫فلما َ‬
‫وخرج‪.‬‬ ‫يكون إال من قلّة ال ُشكر‪ .‬ثم دعا له َ‬
‫فرحا زْدتَني في الجائزة‪ ،‬وقبو ُل هذا منك ال ُ‬
‫ددت ً‬
‫ْاز ُ‬

‫مر له‬
‫هما‪ ،‬تأ ُ‬
‫بعين در ً‬
‫كاتبه فقال‪ُ :‬سبحان اهلل! هذا كان يرضى منك بأر َ‬ ‫فأقبل عليه ُ‬
‫َ‬ ‫قال‪:‬‬
‫أحمق!‬
‫ُ‬ ‫شيئا؟ قال‪ :‬ومن إنفاذ أمرك ُب ّد؟ قال‪ :‬يا‬
‫بعين ألف درهم؟! قال‪ :‬ويلَك! وتريد أن تُعطيه ً‬
‫بأر َ‬
‫شد من األسد‪،‬‬‫أحسن من القمر‪ ،‬وأ ُّ‬
‫ُ‬ ‫عم ّأني‬
‫حين ز ّ‬
‫سرنا بكًلم‪ ،‬وسررناهُ بكًلم‪ .‬هو َ‬
‫هذا رجل ّ‬ ‫ّإنما‬
‫شيئا أرجعُ به‬
‫جعل في يدي من هذا ً‬ ‫َ‬ ‫السنان‪،‬‬
‫أن أمري أنف ُذ من ّ‬
‫لساني أقطعُ من السيف‪ ،‬و ّ‬ ‫أن‬
‫وّ‬
‫ونأمر له‬
‫ُ‬ ‫أيضا نس ُّـره بالقول‬
‫ولكنه سرنا حين كذب لنا‪ ،‬فنحن ً‬
‫نعلم ّأنه قد َكذب‪ّ ،‬‬
‫إلى بيتي؟ ألسنا ُ‬
‫يكون كذب بصدق وقول‬ ‫َ‬ ‫فأما أن‬
‫فيكون كذب بكذب‪ ،‬وقول بقول‪ّ .‬‬
‫ُ‬ ‫بالجوائز‪ ،‬وا ْن كان َكذًبا‪،‬‬
‫وبفعل فهذا هو الخسران المبين الذي ما سمعت به)‪.‬‬

‫قدر مهارة الجاحظ في عرضه القصة ولم تذهب عليه من خصائص‬ ‫أن القارئ ّ‬
‫هذا ونعتقد ّ‬
‫شيئا أرجعُ به إلى بيتي) وهي تُشير‬
‫(جعل في يدي من هذا ً‬
‫َ‬ ‫بيانها هذه الجملة على لسان الوالي‪:‬‬
‫اسه ويده وتملؤه‬
‫كره وحو ّ‬ ‫المادية تستأثر به‪ ،‬وتستأسره وتشغل عليه ف َ‬
‫ّ‬ ‫أي مدى كانت الحياة‬ ‫إلى ّ‬
‫صا واستمسا ًكا وحبًّا للتملُّك يد ّل عليه قوله (في يدي) و(إلى بيتي) وأمثا ُل هذا الوالي بين‬
‫ح ْر ً‬
‫ولكن مثل الجاحظ في غمار األجيال نادر قليل‪.‬‬
‫جمهرة الناس من ك ّل طبقة كثير‪ّ ،‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫كالبحر هازُج الجنبات‪ُ ،‬مزبد‬
‫عامة منه‪ .‬وهو َ‬ ‫عالم الضحك عالم واسع لم َن ْج ُل ّإال مًلمح ّ‬
‫إن َ‬‫ّ‬
‫المحببة اللطيفة الظريفة إلى عالم‬
‫بالملحة والنادرة ُ‬
‫يمتد من جانب حتى يصل ُ‬ ‫صخابها‪ُّ ،‬‬
‫األمواج‪ّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫ويمتد من جانب آخر حتى يصل بالته ّكم والهجاء والسُّخرية إلى عالم‬ ‫المًلحة والظرف والرقّة‪.‬‬
‫َ‬
‫وصنوف من الضحك ُمتفاوتة في‬ ‫الروعة‪ ،‬ويشتم ُل فيما بين ذلك على ألوان من االبتسام ُ‬
‫المأساة و ّ‬
‫العنف‪ ،‬وعناصر الفكر والعاطفة‬‫المرَارة‪ ،‬ومراتب الرفق و ُ‬
‫درجات الخفّة والثقل‪ ،‬ومقادير الحًلوة و َ‬
‫والنشاط‪ ،‬وأساليب التلميح والتصريح‪ ،‬وما إلى ذلك من طُيوف وجواء وأفاويه وطُيوب‪.‬‬

‫ضا على‬ ‫نوهنا به من اتّساع عالم الضحك واقتصارنا على إبراز مًلمحه العامة ينطبق أي ً‬ ‫وما ّ‬
‫بيانها‪ .‬وهي في ُجملتها أربع كما ذكرنا بعدد الجهات‬ ‫األصلية التي سلف ُ‬
‫ّ‬ ‫الجمالية‬
‫ّ‬ ‫بقية القيم‬
‫ّ‬
‫قل وتنفصل‪،‬‬ ‫بعضها ببعض‪ ،‬وقد تست ُّ‬ ‫يتفرع عنها قيم إضافية كثيرة‪ ،‬قد يشتبك‬
‫ُ‬ ‫مكن أن ّ‬ ‫وي ُ‬‫األربع‪ُ ،‬‬
‫بعض الشيء في بحوثنا ال ُمقبلة‪،‬‬
‫َ‬ ‫عوًنا ولو‬
‫يكون لنا ْ‬
‫ُ‬ ‫المستفيض‬
‫َ‬ ‫الموجز‬
‫المتقدم ُ‬
‫ّ‬ ‫ولع ّل هذا الشرح‬
‫بي‪.‬‬
‫تطور الشعر العر ّ‬
‫السيما في دراسة ّ‬
‫و ّ‬

‫****************************************************‬

‫الجمال بين الذات والموضوع‬


‫ال أحد يجد عضاضة في زعمه أنه خبير في الجمال‪ ،‬وأنه من أقدر الناس على تقويم‬
‫الجمال‪ ،‬وال عيب في ذلك على أي حال‪ ،‬ولكن إذا سألنا أي واحد‪ :‬ما الجمال؟ لَهَم بالتسرع في‬
‫اإلجابة واضطر على الفور إلى التوقف‪ ،‬وربما الشرود والتأفف ليس لعجز عن اإلجابة‬
‫بالضرورة‪ ،‬ولكن ألنه اعتاد أن يعيش الجمال ويتذوقه‪ ،‬ال أن يحاول فهمه أو فهم أسباب‬
‫استمتاعه به‪ ،‬وقديماً كان أفًلطون يستوقف الناس ويسألهم عن مفردات تبدو للسامع أنها‬
‫واضحة ومفهومة‪ ،‬سألهم عن الخير‪ ،‬والحق‪ ،‬والجمال‪ ،‬والكل يهم باإلجابة لكنه ال يكمل اإلجابة‪،‬‬
‫ألنهم اعتادوا عيش هذه المفردات ال فهمها‪.‬‬

‫ذلك أن الجمال من أشد المفاهيم التصاقاً بأحاسيس اإلنسان‪ ،‬ومن أكثرها قدرةً على تحريك‬
‫أي واحد للجمال‪ ،‬ولكن من السهل جدا‬
‫المشاعر واالنفعاالت‪ .‬سيكون من الصعب تكذيب تعريف ِّ‬
‫مناقشة هذا التعريف‪ ،‬وتبيان مدى قربه أو بعده عن الداللة االصطًلحية‪ ،‬وهذا يعني أننا لن‬
‫نكون أمام إجابة واحدة‪ ،‬بل إن األمر الطبيعي هو أن اليكون هناك اتفاق على إجابة واحدة‪،‬‬
‫خاصة أن اإلنسان غير بعيد عن الذاتية في صًلته مع المدلوالت الجمالية عامة‪ ،‬ومدلوالت‬
‫المفاهيم وجوبية األحكام‪ ،‬على أن ذلك ليس يعني أن الجانب الذاتي هو الممثل الوحيد لعًلقة‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫اإلنسان مع الموضوع الجمالي‪ ،‬ذلك أنا لو اقتصرنا على أحد الجانبين‪ ،‬الجانب الذي يتصل‬
‫بالذات‪ ،‬أو الجانب الذي يتصل بالموضوع‪ ،‬لوقعنا في إشكاالت قد النستطيع تجاوزها‪.‬‬

‫أول هذه اإلشكاليات هو اختًلف أذواق الناس في تناول الموضوع الواحد‪ ،‬ومن ثم تباين‬
‫أحكامهم عليه‪ ،‬وثانيهما اتفاقهم في الحكم جمالي على موضوع واحد‪.‬‬

‫فلو طلبنا إلى مجموعة من األفراد الحكم على موضوع جمالي ما‪ ،‬فإننا بالكاد نلقى إجابتين‬
‫تتفقان تمام االتفاق أو ربما بعضه أحياناً‪ ،‬ولكن ربما أجمع الكل على اتصاف هذا الموضوع‬
‫بصفة جمالية ما‪ ،‬كالجمال‪ ،‬أو القبح‪ ،‬أو الروعة‪ ،‬أو الجًلل‪ ،‬أو الرشاقة‪ ،‬أو التناسب‪.‬‬

‫وطبعاً حينما نقول الجمال والقبح فإنهما أمران متًلزمان ال يمكن الفصل بينهما‪ ،‬وقس على‬
‫ذلك من باب المصطلحات الجمالية‪ ،‬فًل انفكاك بين الجمال والقبح على الرغم مما يبدو من‬
‫أنهما متناقضان تمام التناقض‪ ،‬وهذا حق ولكن لوال هذا التًلزم والتناقض في آن معا لما كان‬
‫لدينا حكم جمالي‪ ،‬بل ربما لم يكن هنالك علم جمال‪.‬‬

‫إن اختالف أذواق الناس يعني أن لكل إنسان مقاييسه وثوابته التي ينطلق منها في الحكم‬
‫على األشياء‪ ,‬وأن اتفاق األذواق في إطارها العام يعني أمرين إثنين‪:‬‬

‫أولهما‪ :‬أن هناك مقاييس شبه ثابتة متأصلة في النفس البشرية ال يختلف عليها الناس‪ ،‬وهذه‬
‫المقاييس الثابتة تتجاوز الزمان والمكان‪ ،‬بمعنى من المعاني‪ ،‬ولو لم نأخذ بهذا الكًلم لما وجدنا‬
‫ما يفسر خلود الكثير من اآلثار الفنية في مختلف ضروب الفن مثل جلجامش‪ ،‬واإللياذة‪،‬‬
‫والمعلقات‪ ،‬والتماثيل‪ ،‬والمعابد‪ ،‬والمنحوتات الكثيرة جداً‪ ،‬والمسرحيات‪ ،‬واألشعار‪ ،‬واللوحات التي‬
‫خلفها فنانون كثيرون مثًلً الموناليزا‪....‬الخ‪.‬‬

‫ثانيهما‪ :‬أن الموضوع بحد ذاته يتمتع بصفات جمالية واضحة ال يمكن نكرانها‪ ،‬فلوال أن هذا‬
‫الموضوع أو ذاك كان يمتاز حقاً بمزايا وخصائص معينة تجعل الموضوع يتصف بأنه جميل لما‬
‫وجدنا اتفاقا على أن هذا الموضوع جميل أو قبيح‪.‬‬

‫هذا يقودنا إلى تعقب االتجاهات الرئيسة الناظرة في مفهوم الجمال‪ ،‬وتفسيره‪ ،‬وفهم طبيعته‬
‫من جهة م وقعه بين الذات والموضوع‪ ،‬بوصف هذه الثنائية على األقل واحدة ال أكثر من زوايا‬
‫النظر إلى الجمال لتحديد طبيعته‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫إن طبيعة المواقف تعطي نظرية تتبنى أحد الموقفين إما أن يكون الجمال في الذات‪ ،‬أو في‬
‫الموضوع‪ ،‬أو على األقل ترجيح أحدهما على اآلخر ترجيحاً تتفاوت شدته بتفاوت شدة اعتناق‬
‫متبنيه له‪ ،‬أو باختًلف طبائع المتبنين وتنوع عقائدهم‪ ،‬وتباين ثقافتهم‪ ،‬وهذا بدوره يولد موقفاً‬
‫ثالثاً‪ ،‬ذلك ما يمكن أن نسميه موقف الحياد‪ ،‬على الرغم من أن الحياد التام أمر سيظل بحاجة‬
‫إلى برهان‪ ،‬أو لنقل المذهب الذي يقر كل مذهب فيما ذهب إليه‪ ،‬محتجاً بصحة كليهما معاً‪،‬‬
‫ليس ألن خير األمور أوساطها‪ ،‬بل ألن هذا هو األصح فعًلً‪.‬‬

‫إن تبني االتجاه الموضوعي أو االتجاه الذاتي في فهم طبيعة الجمالي لم يكن أبداً ليلغي‬
‫الطرف األخر‪ ،‬وان كان ظاهر القول عند ُج ِّل من تبنوا أياً من االتجاهين يكاد يشير إلى خًلف‬
‫ذلك‪.‬‬

‫وال حقيقة التي تكمن وراء ذلك هي أن هذا التبني لهذا االتجاه أو ذاك إنما يعطي األولوية‬
‫الكبرى للجانب المتبنى‪ ،‬ويلعب الدور األكبر في توجيه هوية المذهب الفلسفي وااليدلوجية الكامنة‬
‫وراءه‪.‬‬

‫ولكن ماذا لو كان كًل االتجاهين السابقين والموقف الذي يتوسطهما يمثًلن طواعية عقائدية‬
‫تكاد تكون مطلقة؟ بمعنى أن كًل من االتجاهات الثًلثة في فهم طبيعة الجمال تستطيع االنسجام‬
‫الكامل مع أي مذهب فلسفي مهما كانت المبادئ الموجهة والمحركة له؟‬

‫يبدو أن هذه المرونة حقيقة فوق الشك‪ ،‬وأكبر دليل على ذلك هو أن هذه االتجاهات الثًلثة‬
‫قد سارت في ركب دروب االتجاهات الفلسفية كلها‪ ،‬باسطة تربتها الخصبة للجميع على السواء‪.‬‬

‫أوالً ‪ -‬االتجاه الموضوعي‪:‬‬

‫المدرك مستقلة‬
‫َ‬ ‫يرى أصحاب هذا االتجاه أن الجمال صفات حسية عينية ماثلة في الموضوع‬
‫عن العقل أو الذات التي تدركها‪ ،‬وهذه مقولة مثالية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى‪ ،‬لكن‬
‫ذلك ال ينفي أبداً إمكانية حملها على بنية مادية واستنفاذها حتى آخر رمق‪ ،‬وفق المذاهب المادية‬
‫المعروفة كلها وأنواع توجهاتها‪.‬‬

‫االتجاه الموضوعي عند الفيثاغوريين‪ :‬ظهر هذا االتجاه في فهم طبيعة الجمال بصيغته‬
‫الفلسفية أول ما ظهر لدى الفًلسفة الفيثاغوريين الذين خلصوا إلى فلسفة رياضية صوفية‪ ،‬من‬
‫أكثر مناحيها أهمية أنها "ربطت التأمل بالتذوق الفني للموسيقى‪ ،‬وانتهى فيثاغورث من تحليله‬
‫الموسيقي إلى وضع تفسير عددي ألنغامها‪ ،‬وفسر التوافق الموسيقي بأنه يرجع إلى وجود وسط‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫رياضي بين نوعين من النغم"‪ ،‬وألن الفيثاغوريين فًلسفة رياضيون فقد بهرتهم تلك القوانين‬
‫الثابتة‪ ،‬وهذا النظام واالنسجام والتناغم الرائع في العالم‪" ،‬لقد وجهوا االنتباه إلى التناسب والنظام‬
‫والتناغم بوصفها النغمات السائدة في الكون‪ ،‬وعندما نتأمل أفكار التناسب والنظام والتناغم‪،‬‬
‫سوف نتبين بأنها مرتبطة تماماً بالعدد‪ ،‬فالتناسب مثًلً يجب التعبير عنه بعًلقة رقم من األرقام‬
‫إن هو اال ذلك‬
‫برقم آخر‪ ،‬وبالمثل يقاس النظام باألرقام"‪ ،‬ليخلصوا من ذلك إلى أن الجمال ْ‬
‫االنسجام والتناسب الذي يتجلى في البنية الصورية لموضوعات العالم‪ ،‬ذلك أن تلك الموضوعات‬
‫ما هي إال تجليات للخالق‪ ،‬وأن اهلل قد صاغها وفق استحقاقاتها من التناسب واالنسجام‪.‬‬

‫االتجاه الموضوعي عند أوغسطين‪ :‬وفي سياق آخر مشابه‪ ،‬نجد أوغسطين الذي وضع بحثاً‬
‫في الجميل كان الفقد نصيبه‪ ،‬ولكن أفكاره الجمالية التي تناثرت بين آثاره الباقية أوحت لنا‬
‫يقر ذلك‪ ،‬ويحاول إثبات أن الجمال‬
‫بفلسفته الجمالية‪ ،‬ويبدو أنه كان موضوعياً‪ ،‬وهو كأفًلطون ُّ‬
‫يكمن في الموضوع‪ ،‬ولكنه مع ذلك لم يستطيع إنكار دور الذات وفعاليتها في تحديد طبيعة‬
‫الجمال‪ ،‬ولعل في الحوار التالي الذي اصطنعه ما يكفي دليًلً على ذلك يقول‪:‬‬

‫اء وقد رفع صفّاً من القناطر على أحد أجنحة عمارته‪ ،‬لماذا يجعل صفاً مماثًلً‬
‫"لو سألنا بن ً‬
‫في الجناح اآلخر؟ فسوف يجيب من دون شك‪ :‬إنه فعل ذلك كي تتناظر أجزاء عمارته جيدا فيما‬
‫بينها‪.‬‬

‫ولو سألناه لماذا يبدو هذا التناظر ضروريا؟ يجيب‪ :‬إنه ضرورة يقتضيه العقل الذي يعجبه‬
‫التناظر‪.‬‬

‫نسأله لكن من أنت حتى تنصِّب نفسك حكماً على ما ينبغي أن يعجب الناس أو ال‬
‫يعجبهم؟ أو من أين تعرف أن التناظر يعجبنا؟ يجيب‪ :‬أنا متأكد مما أقول ألن األشياء المنتظمة‬
‫انتظاماً كهذا تمتلك اللياقة واإلحكام واللطافة‪ ،‬وبكلمة واحدة‪ِّ :‬‬
‫متأكد ألن هذا جميل‪.‬‬

‫يعجب أم يعجب ألنه جميل؟ يجيب ببساطة‬


‫ُ‬ ‫نسأله‪ :‬حسن‪ ،‬لكن َقلي‪ :‬أهذا جميل ألنه‬
‫يعجب ألنه جميل"‪.‬‬

‫يبدو جلياً هنا كيف أن أوغسطين يدير حوا اًر على الطريقة السقراطية من أجل إثبات وجهة‬
‫نظره في طبيعة الجمال‪ ،‬ولكنه هنا على أي حال لم يستطع إال أن يشير إلى دور الذات‬
‫وفعاليتها في تحديد طبيعة الجمال‪ ،‬يقول‪" :‬إن الجميل هو ما يروقنا بذاته‪ ،‬أما المًلئم فيرضينا‬
‫لعًلقته بشيء آخر"‪ ،‬ويعقب الدكتور نايف بلوز على ذلك بقوله‪" :‬إن أوغسطين ظل يعتقد أن‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الفن ال يثير إعجابا إال إذا ذكرنا بالفكرة اإللهية‪ ،‬فكل جميل هو أثر الخالق في العالم‪ ،‬هو منحة‬
‫إلهية"‪.‬‬

‫والعجب لذلك أن نجد أن أوغسطين ازداد اص ار اًر على موضوعية الجمال‪ ،‬فيتابع حواره‬
‫المفترض مع المعمار قائًلً‪:‬‬

‫"نسأله‪ :‬أنا معك‪ ،‬ولكنني سأسألك أيضاً‪ :‬لماذا هذا جميل؟ واذا كان سؤالي يزعجك‪ ،‬بحكم أن‬
‫أساتذة ِّفنك ال يذهبون إلى هذا ِّ‬
‫الحد إالّ ناد اًر‪ ،‬فسوف يناسبك من دون عناء‪ ،‬على األقل أن‬
‫تختزل تَماثُ َل أجزاء عمارتك‪ ،‬وتَ َساوَيها‪ ،‬وتََناظُ َرها‪ ،‬إلى نوع من الوحدة التي تمتع العقل‪.‬‬
‫َ‬

‫يجيب‪ :‬هذا ماكنت أريد أن أقوله‪ .‬أجل‪ .‬لكن َح َذار‪ ،‬فًل وجود قَطُّ لوحدة حقيقية في األجسام‪،‬‬
‫ألنها جميعاً مكونة من عدد ال يحصى من األجزاء التي يتكون منها أيضاً من عدد غير نهائي‬
‫من األجزاء‪.‬‬

‫نسأله‪ :‬إذن‪ ،‬أين ترى هذه الوحدة التي ِّ‬


‫توجهك في تكوين رسمك‪ ،‬هذه الوحدة التي تراها في‬
‫ِّفنك قانوناً ال يمكن انتهاكه‪ ،‬هذه الوحدة التي يجب أن يحاكيها بناؤك كي يكون واحداً بصورة‬
‫كاملة؟ فماذا نستنتج من ذلك؟ أال يجب االعتراف بأن فوق عقولنا وحدةً أصيلةً ساميةً خالدةً‪،‬‬
‫هي القاعدة الجوهرية للجميل التي تبحث عنها في ِّفنك؟"‪.‬‬

‫فأوغسطين يدير حوا اًر على الطريقة السقراطية من أجل إثبات وجهة نظره في طبيعة الجمال‪،‬‬
‫ولكن لم يستطع إال أن يشير إلى أثر الذات وفعاليتها في تحديد طبيعة الجمال‪ ،‬ولو َع َرضاً على‬
‫ْ‬
‫الع َرض ُّي لتبيان أثر ذاته‬
‫طريق إثبات الموضوعية المحض لطبيعة الجمال‪ ،‬ويبدو هذا االضطرار َ‬
‫أيضاً‪ ،‬وله مًلحظات جمالية عميقة‪ ،‬فهو قد ميز بين الجمال والمًلءمة‪ ،‬وقال‪" :‬إن الجميل هو‬
‫ما يروقنا بذاته‪ ،‬أما المًلئم فيرضينا لعًلقته بشيء آخر‪ ،‬إال أنه ظل "يعتقد أن الفن ال يثير‬
‫الخالق في العالم‪ ،‬هو منحة إلهية‪ ،‬ولذلك‬ ‫إعجاباً إال إذا ذكرنا بالفكرة اإللهية‪ُّ ،‬‬
‫فكل جميل هو أثر َ‬ ‫َ‬
‫يوجه ُخطانا في طريق الخير"‪.‬‬

‫وبناء على ذلك‪ ،‬إن األساس الذي استند إليه أوغسطين لإلصرار على االتجاه الموضوعي‬ ‫ً‬
‫الخالق‬
‫ديني‪ ،‬يرنو من خًلله إلى تقديس قدرة َ‬ ‫ٌّ‬ ‫الهوتي‬
‫ٌّ‬ ‫في تحديد طبيعة الجمال‪ ،‬هو أساس‬
‫وتمجيدها‪ ،‬فهو يعتقد "أن الجمال وهو التجلي الرمزي لأللوهية‪ ،‬يتمثل في نظام الوجود‪ ،‬وترتيبه‪،‬‬
‫وتناسبه‪ ،‬وفي وحدة الكون السارية في مختلف مظاهره‪ ،‬وقوله‪ :‬إن اهلل هو ينبوع الجمال في‬
‫العالَم‪ ،‬معناه أن نظامه وترتيبه وتناسبه جزء من الوجود اإللهي‪ ،‬وأن ما في األشياء المادية من‬
‫َ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫جمال هو إشارة رمزية إلى هذا الوحي‪ .‬ولكن بما أن الشر جزء من هذا النظام فًل مفر لنا من‬
‫وصفه بالجمال أيضاً‪ ،‬وهكذا يصدر الجمال عن األشياء المتعارضة مما يجعل علم الجمال جزءاً‬
‫من التسويغ الًلهوتي لوجود الشر والفساد على األرض"‪.‬‬

‫االتجاه الموضوعي عند توما األكويني‪ :‬أما توما األكويني فقد كان شأنه شأن رجال الدين‬
‫عامة‪ ،‬الذين أروا في الطبيعة صورة من صور قدرة اهلل وتجلياً له‪ ،‬وعلى خًلف هذه الرؤية في‬
‫تجلي عظمة اهلل وقدرته في خلقه فقد سعى األكويني إلى اإلقرار بجمال العالم الحسي‪ ،‬والى‬
‫الكشف عن المًلمح الموضوعية للجمال‪ ،‬وعد معيار الجمال قائما في أكثر صفات األشياء‬
‫شموالً‪ :‬الكمال والتناسب والبهاء‪.‬‬

‫والغاية من ذلك عنده وعند رجال الدين عامة والفًلسفة من ذوي االتجاه الديني هي الوصول‬
‫إلى القول‪ :‬إن الجميل هو ما أراده اهلل جميًلً‪ ،‬وقدر له من خصائص الجمال ما أراد‪ ،‬ولذلك ال‬
‫عجب فيما يقول األكويني‪" :‬إن هذه الصفات متحدة في األصل باهلل‪ ،‬فالجميل هو ما يشبه اهلل‪،‬‬
‫واهلل هو الجمال األعلى‪ ،‬ومصدر الجمال في الطبيعة والفن"‪.‬‬

‫وعلى نحو مشابه لألكويني إلى حد بعيد أعلن جوتغريد ليبنتز صراحة وبصيغة فلسفية أكثر‬
‫أن اهلل‪ -‬وهو العليم‪ -‬يعلم تماما أنسب المقاييس وأسماها‪ ،‬وأفضل النسب وأرقاها‪ .‬وانطًلقا من‬
‫لق العالم وصاغه على أكمل صورة ممكنة "أفضل العوالم الممكنة"‪.‬‬
‫ذلك َخ َ‬

‫وفي القرن الثامن عشر ذاته‪ ،‬وفي المرحلة التاريخية ذاتها التي وجد فيها ليبنتز نجد ادموند‬
‫بوركه الذي قدم رؤية تدور في فلك االتجاه الموضوعي‪ ،‬فقد قال في كتابه األساسي "أصل‬
‫مفهومي الجمال والجًلل"‪" :‬إن العواطف تنشأ من الخبرة الحسية‪ ،‬وبنية الحواس عند جميع الناس‬
‫واحدة‪ ،‬وهذا هو أساس الذوق العام‪ ،‬ثم إن هذه الحواس متصلة بالموضوعات الخارجية‪ ،‬وثمة‬
‫مًلمح موضوعية لجمال األشياء‪ ،‬وهي الضآلة‪ ،‬والصغر‪ ،‬والصقل‪ ،‬والتغير المتدرج‪ ،‬والرقة‪،‬‬
‫والنعومة‪ ،‬وصفاء األلوان"‪.‬‬

‫ونقول هنا إن بوركه كاد يقترب من االتجاه الجدلي إلى حد ما‪ ،‬أو على األقل من عدم إنكار‬
‫الذات ودورها في الوصول إلى الجمال‪ ،‬لكن بوركه قطع حيث يجب الوصل‪ ،‬بتوحيده الذوق العام‬
‫للناس‪ ،‬ليفسح المجال أمام تنوع الموضوعات‪ ،‬واستئثارها بلعب الدور الوحيد في تحديد طبيعة‬
‫الجمال‪ ،‬ومن ثم قيمة الموضوع‪.‬‬
‫وقد انسحبت هذه الفكرة حتى يومنا هذا مرو اًر بالعصور الوسطى‪ ،‬إذ هيمن هذا االتجاه في‬
‫فهم الجمالي هيمنة مطلقة تقف وراء ذلك سلطة الكنيسة التي كانت شديدة الحزم والبأس في‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫تعاليمها وأوامرها حتى ألجأت الناس فيما بعد إلى معاداتها والنفور منها‪ ،‬ومن ثم إلى كسر حاجز‬
‫السلطة الدينية‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬ولطالما كان األمر كذلك‪ ،‬فما الذي يفسر نسبية التذوق الجمالي مع اختًلف الزمان‬
‫والمكان أو توافقهما معاً؟‬

‫ثانياً‪ -‬االتجاه الذاتي‪:‬‬


‫انطًلقاً من هذه الفكرة ذاتها‪ ،‬وليس باالستناد إليها‪ ،‬كانت الوالدة الفلسفية لًلتجاه الذاتي في‬
‫فهم الجمال‪ ،‬وكان ذلك على أيدي السفسطائيين الذين اتخذوا الحس أساسا في المعرفة‪ ،‬حتى‬
‫مال معظمهم إلى التوحيد بين المعرفة واإلدراك الحسي‪.‬‬
‫وانطًلقا من ذلك فقد أرجعوا طبيعة الجمال إلى أنه ظاهرة إنسانية محض‪ ،‬يفهمها كل إنسان‬
‫وفقاً لظروفه الزمانية والمكانية‪ ،‬التي ربما لم ولن يتفق فيها اثنان‪.‬‬
‫ويؤكد ذلك المقولة الشهيرة التي أطلقها بروتاغوراس حيث يقول‪" :‬اإلنسان مقياس األشياء‬
‫جميعا‪ ،‬هو مقياس وجود ما يوجد منها‪ ،‬ومقياس الوجود ما ال يوجد" أي أن اإلنسان مقياس‬
‫األشياء جميعا‪.‬‬
‫ويتفق معه من جهة النتيجة تمام االتفاق قطب السفسطة الثاني الشهير جورجياس‪ ،‬الذي أرى‬
‫أنه ال يوجد حقيقة أبدا‪ ،‬وان وجدت فاإلنسان قاصر عن إدراكها‪ ،‬وان افترضنا أن إنسانا ما‬
‫استطاع أن يدركها‪ ،‬فإنه عاجز عن نقلها إلى اآلخرين‪.‬‬
‫والظاهر أن الموقفين على أتم التناقض وهذا صحيح بالفعل‪ ،‬ولكنهما يتفقان تماماً من جهة‬
‫النتيجة التي ترد كل الحقائق التي تقبل وتفهم إلى اإلنسان الفرد ال إلى الماهية‪ ،‬ومن ثم فإن‬
‫الجمال ليس صفةً ثابتةً أو مطلقة‪ ،‬بل هو معنى عقلي يفهمه كل إنسان وفق مقاييسه وثوابته‬
‫التي فطر عليها أو اكتسبها من بيئته أو تربيته‪.‬‬
‫وفي نهاية القرن التاسع عشر أطل عالم الفن والجمال الروائي الروسي ليون تولوستوي في‬
‫كتابه "ما الفن؟" الذي عرض فيه لطبيعة الجمال‪ ،‬وحمل بشدة على أصحاب االتجاه الموضوعي‪،‬‬
‫ورأى أن قيمة الجمال إنما تقوم أوالً وأخي اًر على مدى تأثيرها في المتلقي فاعتمد على الذات‬
‫وانفعاالتها في التقويم الجمالي‪ ،‬ومنح الموضوع الصفة الجمالية‪.‬‬
‫وال عجب أن َي ُعد تولوستوي ‪-‬وهو المتطرف في نزعته الذاتية‪ -‬أن النجاح في نقل الشعور‬
‫والعواطف التي تختلج في أعماق النفس إلى اآلخرين‪ ،‬إنما هو الفن األصيل‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫فهو كما يرى تشيرشفسكي بقوله عنه‪" :‬تهمه العملية النفسية ذاتها وأشكالها وقوانينها‪ ،‬أو‬
‫جدلية الروح إذا تحرينا اصطًلحا دقيقا"‪ ،‬ولذلك أوقف تولوستوي أصالة الفن وعظمته على مدى‬
‫قدرته على إثارة انفعاالت اآلخرين‪ ،‬وتحريك وجداناتهم وعواطفهم‪ ،‬ويضرب لنا مثًلً أغاني‬
‫الفًلحين الروس التي أثارت انفعاالت آالف مؤلفة من الناس‪ ،‬ولو نحن أحصيناهم لكانوا أكثر‬
‫بكثير ممن أثارتهم مسرحية شكسبير "الملك لير" أو سواها‪.‬‬

‫ومن ذلك يرى أن الجمال األسمى أو الفن األرقى هو الذي يحظى بأكبر عدد من المعجبين‪،‬‬
‫وال عجب أن نجد أدب تولوستوي تطبيقاً حياً أو انعكاساً صادقا لنظريته الجمالية‪ ،‬وأن تظهر‬
‫أصالته وابداعه في تلك الصور الحيوية التي يلتقطها لشخصيات القصة‪ ،‬ويستمد المظهر‬
‫الخارجي شكله من الحالة النفسية للبطل‪ ،‬ويتلون بتلون مزاجه ويتقلب وفقه‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬الجدلية المضمرة‪:‬‬


‫كما أشرنا إن أياً من الطرفين "الموضوعي والذاتي" غير قادر وحده على تفسير الجمال فيما‬
‫لو أغفل الطرف اآلخر‪ ،‬وليس بدعاً من الخيال أن يقال‪ :‬إن التجادل الماثل بين الطرفين هو‬
‫الوحيد القادر على تفسير طبيعة الجمال تفسي اًر مقارباً أكثر لحقيقته‪ ،‬ذلك أن كًل من الموضوعية‬
‫والذاتية إنما أضمرت في ذاتها بذرة الطرف اآلخر‪ ،‬ولكن األيديولوجية تأبى إال أن تترك بصماتها‬
‫القوية دائماً على آثارها حتى تؤكد ذاتها وكأنها أغفلت ماسواها من االتجاهات‪.‬‬

‫إن‬
‫إن الكثيرين ممن تبنوا أحد هذين االتجاهين لم يجدوا بداً من االعتراف باالتجاه اآلخر‪ْ ،‬‬
‫بالتلميح والتلويح‪ ،‬أو باإلفصاح والتصريح‪ ،‬وللتدليل على ذلك سنبحث بعض النماذج لكل واحد‬
‫من االتجاهين‪.‬‬
‫أما االتجاه الموضوعي فيمثله أفالطون‪ ،‬الذي ُّ‬
‫يعده النقاد والمؤرخون أكبر بل أبرز ممثلي‬
‫اال تجاه الموضوعي ومنظريه‪ ،‬ولطالما قرأنا عباراته الواضحة الصريحة‪ ،‬التي تؤكد نزعته‬
‫الموضوعية وبكل قوة‪ ،‬يقول‪" :‬إنني أتحدث عن الخطوط المستقيمة والمنحنية والسطوح‬
‫والمجسمات الناشئة عنها‪ ،‬وهذه األشكال ليست جميلةً جماالً نسبياً كغيرها من األشياء‪ ،‬بل هي‬
‫الم‬
‫جميلة جماالً أزليا باإلطًلق"‪ .‬وله غير ذلك من التلميحات والتصريحات كقوله أيضاً‪" :‬إن الع َ‬
‫آية فنية غاية في الجمال‪ ،‬وال يمكن أن يكون النظام البادي فيما بين األشياء باإلجمال‪ ،‬وفيما‬
‫ص ْنعُ عقل كامل توخى الخير‪ ،‬ورتب‬
‫بين أجزاء كل منها بالتفصيل‪ ،‬نتيجةَ علل اتفاقية‪ ،‬ولكنه ُ‬
‫كل شيء عن قصد"‪.‬‬
‫والحقيقة أن النقاد حكموا على أفًلطون بأنه ذو نزعة موضوعية انطًلقاً من نظريتيه في‬
‫ويقره‪ ،‬وهذا حكم غير صحيح من الناحية الجمالية‪،‬‬
‫الوجود والمعرفة‪ ،‬وفيلسوفنا ذاته يرى ذلك ُّ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ذلك أنه سيان أ ََو َعى ذلك أم لم يعه‪ ،‬لم يستطع إال أن يقر بوجود دور للذات في عملية تقويم‬
‫الجمالي‪.‬‬

‫إن الموضوعات كلها رغم اتصافها بالثبات‪ ،‬وربما المطلقية‪ ،‬فإنها من الناحية الجمالية تتمتع‬
‫بنوع من النسبية‪ ،‬وهو وا ْن أقر ذلك على نحو شبه واع ومباشر‪ ،‬فهو في أكثر من موضع لم يقل‬
‫ذلك على نحو مباشر‪ ،‬ولكن سياق الكًلم ُّ‬
‫يدل على إدراكه هذه الحقيقة‪ ،‬فهو عندما طرد الشع ارء‬
‫من جمهوريته قال‪" :‬واذا حل في دولتنا إنسان بارع في الظهور بكل الصور‪ ،‬ومحاكاة كل شيء‪،‬‬
‫أن ليس‬
‫يم قديس باهر‪ ،‬ولكننا سنخبره ْ‬
‫وأراد عرض قصائده على الجمهور‪ ،‬فإننا سنكرمه تكر َ‬
‫لمثله مكان في دولتنا‪ ،‬وسنقصيه إلى دولة أخرى بعد أن نسكب العطر على رأسه"‪.‬‬
‫وهذا يوحي بضرب من العًلقة الجدلية بين الذات المتلقية والموضوع الجمالي‪ ،‬ذلك أنه‪ ،‬كما‬
‫يبدو‪ ،‬كان يدرك تماماً ما يتركه األثر الفني في نفس اإلنسان من آثار سلبية أو إيجابية‪ ،‬بما‬
‫يثيره من انفعاالت تنعكس على مسار حياته سيان أكان ذلك على نحو كلّي أو جزئي‪ ،‬ويؤكد‬
‫ذلك في محاورة أيون قائًلً على لسان أيون‪" :‬عندما أنشد شع اًر مؤث اًر تمتلئ عيناي بالدموع‪،‬‬
‫وعندما أنشد شع اًر مخيفاً يقف شعر رأسي من الخوف ويخفق قلبي"‪.‬‬
‫فالشعر ليس كله سواء ما اتصل بالشاعر أي المبدع أو الفنان من ناحية إبداعه أو بالجمهور‬
‫من جهة تلقيه‪ ،‬ولذلك هاجم الشعر التمثيلي لما له من خطر وآثار سلبية‪ .‬لكن أفًلطون استثنى‬
‫الشعر الغنائي والملحمي والتعليمي‪ ،‬فالشاعر الحقيقي هو الشاعر الملهم من ربات الشعر‬
‫المثُل؛ ذلك أن‬
‫واآللهة‪ ،‬هو الذي يحاكي الحقيقة المثالية‪ ،‬فيكون أشد اقتراباً‪ ،‬وأوثق اتصاالً بعالم ُ‬
‫فنه ال يأتي عن تطبيق القواعد والمهارات التي تستخدم في محاكاة المحسوس‪ ،‬فتكون وهماً‬
‫وخداعاً‪ ،‬ليحيلنا من خًلل ذلك إلى جدلية الحسي المجرد‪ ،‬فيرى ضرورة ارتباط المحاكاة‬
‫الصحيحة وتعليقها بحقيقة مثالية أو نموذجية‪ ،‬وليس بصورة حسية؛ ألن الصورة الحسية ما هي‬
‫إال صورة مشوهة عن الحقيقة المثالية‪ ،‬فإذا ارتبطت المحاكاة بالحقيقة المثالية كانت معبرة عن‬
‫األصل‪ ،‬وهذه المحاكاة ال يستطيع فعلها إال الفنان المتصل بربات الشعر والفن واإللهام‪ ،‬وبذلك‬
‫يكون الفن بعيداً عن الخداع‪ ،‬والتضليل‪ ،‬واإليهام‪.‬‬
‫الجرجاني‪ :‬أما أنموذجنا لًلتجاه الذاتي مع ظهور دور‬
‫االتجاه الجدلي عند عبد القادر ُ‬
‫الجرجاني‪ ،‬وهو ذاتي النزعة واالتجاه في‬
‫الموضوع‪ ،‬أو عدم إنكاره‪ ،‬فقد نسب إلى عبد القادر ُ‬
‫تحديد طبيعة الجمال فهو يؤمن بأن الذوق المصفى هو األساس الضروري إلدراك الجمال‪،‬‬
‫ومعرفة أسبابه‪ ،‬وأن ذلك طبع موهوب البد منه لمن يريد أن يميز بين النصوص جيدها ورديئها‪،‬‬
‫يدرك ما‬
‫يفرق بطريقة أو أخرى‪ ،‬والى جانب الذوق الحساس يجب أن يكون هناك ذكاء لماح ْ‬ ‫وأن ِّ‬
‫بين العبارات من الفروق اللغوية الدقيقة التي تمتاز بها العبارات‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الجرجاني "يقترب كثي اًر من المنهج الذاتي‪ ،‬إذ‬
‫وكذلك رأى الدكتور أحمد علي الدهمان أن منهج ُ‬
‫الفني للصورة‬
‫ِّ‬ ‫جعل الذوق ركيزةً أساسيةً في منهجه لتفسير أسرار األدب‪ ،‬وبيان دقائق الصوغ‬
‫والكشف عن الفروق الكائنة بين صورة جميلة وأخرى مثلها"‪.‬‬
‫والدليل قول الجرجاني في دالئل اإلعجاز عن الذوق ومزايا الجمال بأنها‪" :‬أمور خفية ومعان‬
‫روحانية‪ ،‬أنت ال تستطيع أن تنبِّه السامع لها‪ ،‬وتُحدث له علماً بها حتى يكون مهيأً إلدراكها‪،‬‬
‫ويكون فيه طبيعة قابلة لها‪ ،‬ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه‬
‫تعرض فيها المزية على الجملة"‪.‬‬
‫َ‬ ‫الوجوه والفروق أن‬
‫ضمه إلى‬
‫من الصعب إنكار أرجحية ذاتية الجرجاني في تحديد طبيعة الجمال‪ ،‬وربما يصح ُّ‬
‫االتجاه الذاتي من دون أدنى نقاش أو جدال‪ ،‬والسيما أن الذوق عنده وسيلة أساسية إلظهار‬
‫المفارقات التي تكون بالمعاني وألوان النفس التي حددت سبب اختيار الكاتب لها‪ ،‬ثم تبصيرنا‬
‫باأللوان النفسية لتلك المعاني‪.‬‬
‫ولكن نزوع الجرجاني الذاتي هذا لم يستطع أن يمحِّض الذات وحدها الدور األوحد في تحديد‬
‫طبيعة الجمال‪ ،‬ذلك أن الذوق‪ -‬رغم كل ما أواله من أهمية وضرورة وأولوية‪ -‬لن يكون في‬
‫الصوغ الفني التي‬
‫منظور الجرجاني ذاته نتيجة إحساسه بالمتعة أو اللذة‪ ،‬وانما إلدراكه خصائص َّ‬
‫هي محور النقد وعماده‪ ،‬فالصوغ ميدان يدخله الذوق المثقف والمعلل كي يبرز خصائصه‪.‬‬

‫صحيح أن الذوق‪ ،‬الذات هي التي تحاكم الموضوع وتقلبه وتقومه في مفهوم الجرجاني إال أن‬
‫الجرجاني‪ ،‬ذاته لم يستطع الهروب من الموضوع ومكانة الموضوع من عملية التقويم التي تحدد‬
‫طبيعة الجمال‪.‬‬

‫هذان األنموذجان‪ -‬أفًلطون والجرجاني‪ -‬في اتجاههما المتباينين‪ ،‬موضوعية األول وذاتية‬
‫الثاني‪ ،‬يقوداننا إلى مسألة جوهرية على غاية من األهمية كما أشرنا إليها‪ ،‬وهي العًلقة الماثلة‬
‫بين االتجاهين‪ ،‬واستحالة إغفالها إغفاالً مطلقاً أو تاماً‪ ،‬وهي‪ -‬على رغم االتجاه نحو إغفالها‪-‬‬
‫تظل قائمة تجلوها تعابير الفيلسوف صاحب االتجاه بصورة أو بأخرى‪.‬‬

‫رابعا‪ -‬االتجاه الجدلي‪:‬‬


‫على الرغم من تأكيدنا أن الجدلية في تحديد طبيعة الجمال ماثلة في فكر كل فيلسوف أو‬
‫مفكر يحاول تحديد طبيعة الجمال‪ ،‬ليس من جهة موقعه بين الذات والموضوع‪ ،‬بل من جهة دور‬
‫الذات والموضوع منفصلين أو مجتمعين‪ ،‬فإننا لن ننفي أن يكون هناك أنصار لكل من االتجاهين‬
‫الذاتي والموضوعي‪ ،‬يؤكد كل منهما اتجاهه تأكيداً يكاد ينفي معه االتجاه اآلخر‪ ،‬وربما ينفيه نفياً‬
‫قطعياً في بعض األحيان‪ ،‬ولكننا وجدنا أن النفي المطلق ألحد طرفي العًلقة الجدلية الذات أو‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الموضوع‪ ،‬يفتقر إلى االتساق المنطقي‪ ،‬وتعوزه الحجة المتماسكة والدليل المتكامل‪ ،‬واذا كان من‬
‫السهل تلمس هذه الجدلية المضمرة عند بعض المفكرين الجدليين‪ ،‬واقرار أنصار كل من‬
‫االتجاهين بدور االتجاه اآلخر‪ ،‬فإنه ليس من الصعب تلمس بذور واضحة للعًلقة الجدلية على‬
‫مدى تاريخ الفكر الجمالي‪ ،‬وحسبنا أن نقف عند أبرز المفكرين الذين أبرزوا العًلقة الجدلية بين‬
‫الذات والموضوع في تحديد طبيعة الجمال‪.‬‬
‫فقد أوشك الفيلسوف اليوناني الشهير اكسينوفان أن يلتقط أطراف العًلقة الجدلية بين الذات‬
‫والموضوع؛ عندما رأى أن القيمة الجمالية هي ذاتها معيار المنفعة األخًلقية‪ ،‬وأن الجميل هو ما‬
‫يبلغ غايته على النحو األفضل‪ ،‬وأن النافع جميل بالنسبة إلى من ينتفع به‪ ،‬واإلنسان الجميل هو‬
‫الرفيع األخًلق‪ ،‬فليس المظهر الحسي الخارجي وحده معيار كاف للجمال‪.‬‬
‫ولكن لعل أول فيلسوف استطاع أن ُيدرك هذه الحقيقة‪ ،‬ويقدمها بصيغتها الفلسفية األقرب إلى‬
‫االصطًلحية‪ ،‬هو "أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ" الذي أدرك أن طبيعة الجمال من جهة‬
‫موقعه بين الذات والموضوع ليست أحادية الجانب أبداً‪ ،‬بل هي عًلقة تجادلية بينهما بين‬
‫الم ْدركة‪ ،‬أي بين الذات والموضوع‪.‬‬
‫الم ْد َرك والذات ُ‬
‫الموضوع ُ‬
‫والسؤال االفتراضي الذي انطلق منه الجاحظ للوصول إلى العًلقة الجدلية هو‪ :‬ما علة ِّ‬
‫عد‬
‫الشيء جميًلً؟ أو لنقل‪ :‬ما الذي يجعل صفةً أو نعتاً أو حاالً ُيتلقى على أنه جميل؟ أهو الشيء‬
‫في طبيعته أم ألمر في الذات المتلقية؟‬
‫انطلق الجاحظ من الحديث النبوي الشريف‪" :‬خير األمور أوساطها" أساساً لتبيان العلة التي‬
‫الجميل بها جميًلً‪ ،‬فرأى أن الجمال إنما ينبثق من االعتدال أو التوسط بين طرفي متراجحة‬
‫َ‬ ‫َن ُع ُّد‬
‫الزيادة والنقصان‪ ،‬أو اإلفراط والتفريط‪ ،‬فالزيادة تورث عيباً‪ ،‬والنقصان يخلف شيناً‪ ،‬وفي ذلك‬
‫يقول‪" :‬أما تجاوز المقدار كالزيادة في طول القامة‪ ،‬أو دقة الجسم‪ ،‬أو عظم الجارحة‪ ،‬أو َسعة‬
‫الخْلق‪ ،‬فإن هذه الزيادة متى كانت‪،‬‬
‫العين‪ ،‬أو الفم‪ ،‬مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في َ‬
‫فهي نقصان في الحسن‪ ،‬وا ْن ُعدت زيادة في الجسم"‪.‬‬
‫يوقف نظريته هذه على الجسم البشري فحسب‪ ،‬فقد رأى أن االعتدال مطلب‬
‫ُ‬ ‫ولكن الجاحظ ال‬
‫ضروري في كل أمور الحياة‪ ،‬وصور الطبيعة حتى تُوصف بالجمال‪ ،‬حيث يعمم بذلك حكمه‬
‫على األخًلق‪ ،‬فالخلق المحمود فيما‪ ،‬يرى الجاحظ‪ ،‬هو ما كان معتدالً ومتوسِّطاً بين تطرفين‪،‬‬
‫فالحدود حاصرة ألمور العالم ومحيطه بمقاديرها الموفقة لها‪ ،‬فكل شيء خرج عن ِّ‬
‫الحد في َخلق‬
‫أو ُخلق حتى في الدين‪ ،‬فهو قبيح ومذموم‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ثم يتابع الجاحظ شارحاً ما يريده من االعتدال والتوسط‪ ،‬والسيما أن نظرية االعتدال في‬
‫الجمال قد التكون مقنعة كما هي الحال في نظرية أرسطو األخًلقية‪ ،‬إن الجمال هنا يشبه العدل‬
‫بوصفه قيمة أخًلقية ال تتوسط نقيضها‪ ،‬وانما هي طرف يقابله نقيض هو الجور‪ ،‬فليست زيادة‬
‫ذمه؟ أو كما يقول‬
‫العدل مذمةً وال مذمومة‪ ،‬فهل نستطيع القول‪ :‬إن زيادة الجمال تدعو إلى ِّ‬
‫عيب حسنه اإلفراط والطعن عليه من جهة الزيادة‪ ،‬كيف يرومه عاقل أو‬
‫ُ‬ ‫الجاحظ "فمن كان‬
‫ينقصه عالم؟"‪.‬‬
‫وحتى ال يقع الجاحظ في هذا المزلق‪ ،‬ذهب إلى أن مراده من االعتدال إنما هو التناسب‬
‫واالتساق بين عناصر الصورة الجمالية على حسب ما هي عليه‪ ،‬فيكون الجسم جميًلً إذا تحقق‬
‫فيه التوازن واالنسجام بين أبعاد عناصره وأحجامها‪ ،‬فًل يفوت منها شيء‪ ،‬كالعين الواسعة‬
‫لصاحب األنف الصغير األفطس‪ ،‬واألنف العظيم لصاحب العين الضيقة‪ ،‬والذقن الناقص‪،‬‬
‫والرأس الضخم والوجه الفخم لصاحب البدن المجدع النضو‪ ،‬والظهر الطويل لصاحب الفخذين‬
‫القصيرين‪ ،‬والظهر القصير لصاحب الفخذين الطويلين‪ ،‬وكسعة الجبين بأكثر من مقدار أسفل‬
‫الوجه"‪.‬‬
‫ويقدم لنا أنموذجا تطبيقيا على نظريته في االعتدال والتوسط عندما يصف لنا أكثر ما يرّغب‬
‫في الصفات الجمالية للمرأة‪ ،‬وكلها صفات تتوسط بين طرفي اإلفراط والتفريط‪ ،‬أوالزيادة‬
‫والنقصان‪ ،‬وقد استمد هذا الحكم‪ -‬كما يبدو‪ -‬من خبرته ومعرفته بآراء أهل عصره‪" .‬فقد وجد أن‬
‫البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابذة هذا األمر يقدمون المرأة المجدولة"‪،‬‬
‫أكثر الناس من ُ‬
‫"والمجدولة من النساء تكون في منزلة بين السمينة والممشوقة‪ ،‬والبد فيها من جودة القَ ّد‪ ،‬وحسن‬
‫الخ ْرط ‪ ،‬واعتدال المنكبين‪ ،‬واست‪6‬واء الظهر‪ ،‬والبد أن تكون‪ 2‬كاسية العظام بين الممتلئة‬ ‫َ‬
‫‪2‬‬ ‫‪7‬‬
‫والقضيفة " وانما يريدون بقولهم مجدولة‪ :‬جودة العصب وقلة االسترخاء‪ ،‬وأن تكون سليمةً من‬
‫الزوائد والفضول‪ ،‬لذلك قالوا‪ :‬خمصانة وسيفانة‪ ،‬وكأنها جان‪ ،‬وكأنها جدل عنان‪ ،‬وكأنها قضيب‬
‫خيزران‪ ،‬والتثني في مشيها أحسن ما فيها‪ ،‬وال يمكن ذلك في الضخمة السمينة وذات الفضول‬
‫ب على السِّمان و ِّ‬
‫الضخام‪،‬‬ ‫والزوائد‪ ،‬على أن النحافة في المجدولة أعم‪ ،‬وهي بهذا المعنى تُحب ُ‬
‫وعلى الممشوقات والقضاف‪ ،‬كما تحبب هذه األصناف على المجدوالت‪ ،‬وقد وصفوا المجدولة‬
‫في الكًلم المنثور فقالوا‪" :‬أعًلها قضيب وأسفلها كثيب"‪.‬‬

‫‪ - 26‬انخرط جسمه أي دق‪ ،‬وحسن الخرط أن يكون الجسم طويال من غير شطط دقيقا دونما هزال‪.‬‬

‫‪ - 27‬القضيف‪ :‬الدقيق العظم القليل الجسم‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫نظريته في هذه االعتدال والتوسط مقصورة على الجسم اإلنساني‪ -‬كما يدل‬‫وحتى ال نظن أن ّ‬
‫على ذلك أغلب قوله وكل شواهده‪ -‬فقد قام بتطبيق معاييره هذه على كثير من األجسام واألشياء‬
‫الطبيعية‪ ،‬كالبنفسج والزرع‪ ،‬وعلى األشياء الطبيعية كاألبنية‪ ،‬والفرش‪ ،‬وقنوات جر المياه‪.‬‬
‫ولعل الجاحظ لم يركن إلى البت في أن الجمال محصور في التوازن والتناسب بين األج ازء‬
‫والعناصر فقط‪ ،‬أي لم يطمئن إلى أن الموضوع وحده هو مصدر الجمال فهو يفتقر إلى التوازن‬
‫والتناسق‪ ،‬ولكننا مع ذلك يراه جميًلً‪ ،‬فيقول‪" :‬ولربما رأيت الرجل حسناً جميًلً‪ ،‬وحلواً مليحاً‪،‬‬
‫معدل األجزاء‪ ،‬وقد تكون أيضاً‬
‫وعتيقا رشيقا‪ ،‬وفخماً نبيًلً‪ ،‬ثم ال يكون موزون األعضاء‪ ،‬وال َ‬
‫األقدار متساوية‪ ،‬غير متقاربة وال متفاوتة‪ ،‬ويكون قصدا ومقدا ار عدال‪ ،‬وان كانت دقائق خفية‬
‫اليراها إال األلمعي‪ ،‬ولطائف غامضة اليعرفها إال الذكي"‪.‬‬

‫ثم ال يل بث الجاحظ أن يعول على الذات في إضفاء القيمة الجمالية على الموضوع‪ ،‬لتبدو‬
‫الذات مصدر القيمة الجمالية من جهة انقيادها لميل أو هوى ترى به المثل الجمالية متجسدة‬
‫فيمن تحب وتهوى‪.‬‬
‫ويورد لنا شواهد كثيرة من هذا النوع فيعقب على قوله السابق‪" :‬فأما الوزن المحقق‪ ،‬والتعديل‬
‫المصحح‪ ،‬والتركيب الذي اليفضحه التفرس‪ ،‬وال يحصره التعنت‪ ،‬واليتعلل جاذبه‪ ،‬واليطمع في‬
‫التمويه ناعته‪ ،‬فهو الذي خصصت به دون األنام‪ ،‬ودام لك على األيام" ويقول أيضاً‪ " :‬أين‬
‫الحسن الخالص‪ ،‬والجمال الفائق‪ ،‬والملح المحض‪ ،‬والحًلوة التي التستحيل‪ ،‬والتمام الذي اليحيل‬
‫إال فيك أو عندك أو لك معك؟ البل أين الحسن المصمت‪ ،‬والجمال المفرد‪ ،‬و ُّ‬
‫القد العجيب‪،‬‬
‫والكمال الغريب‪ ،‬والملح المنثور‪ ،‬والفضل المشهور‪ ،‬إال لك وفيك؟"‪.‬‬
‫إن تأرجح الجاحظ بين االتجاهين الذاتي والموضوعي في تحديد طبيعة الجمال‪ ،‬غير جانح‬
‫ألحدهما دون اآلخر‪ ،‬وال ٍّ‬
‫بات في أرجحية أحدهما دون األخر آخذاً بعين النظر اختًلف أذواق‬
‫الناس ألسباب شتى‪ ،‬ودور ذلك في األحكام الجمالية وتباينها حتى على األثر الجمالي الواحد‪،‬‬
‫وكذلك الشروط الموضوعية الواجب توافرها في الموضوع كي يكون جميًلً؛ يجعله رائداً أوالً‬
‫للنظرية الجدلية في تحديد طبيعة الجمال‪ ،‬وأول من تبعه في ذلك هو تلميذه األكثر نجابة‬
‫الفيلسوف الجمالي العربي أبو حيان التوحيدي‪ ,‬الذي أدرك أن طبيعة الجمال تمثل العًلقة‬
‫المدركة‪.‬‬
‫درك والذات ُ‬
‫الم َ‬
‫القائمة بين الموضوع ُ‬
‫ووقف على هذه الحقيقة وقوف متبصر خبير‪ ،‬ولعل التوحيدي ثاني من استطاع الوقوف على‬
‫جدلية العًلقة الجمالية‪ ،‬وهو الخبير بأسرار الجمال ومساربه‪ ،‬فقد هذه العًلقة بصيغتها الفلسفية‬
‫مؤتلفا‪ ،‬وها هو ذا يتساءل في كتابه‪ " :‬الهوامل والشوامل " عن طبيعة الجمال تساؤالً‬
‫ً‬ ‫قداً مؤنقاً‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫صريحاً يكشف من خًلله عن مدى إدراكه هذه الحقيقة فيقول‪" :‬ما سبب استحسان الصورة‬
‫الحسنة‪ ،‬وما سبب هذا الولوع الظاهر‪ ،‬ويتابع مستفس اًر‪ :‬أهذه كلها من آثار الطبيعة؟ أم هي من‬
‫عوارض النفس؟ أم هي من دواعي العقل؟ أم هي من سهام الروح؟ أم هي خالية من العلل جاريةً‬
‫على الهذر؟ وهل يجوز أن يوجد مثل هذه األمور الغالبة واألحوال المؤثرة على وجه العبث‬
‫طل"‪.‬‬
‫الب ْ‬
‫وطريق ُ‬
‫يبدو جلياً ما في هذه التساؤالت من دالالت معاصرة‪ ،‬نتعامل معها اآلن‪ ،‬في تحديد طبيعة‬
‫يتصف بما هو موضوع‬
‫ُ‬ ‫الجمال‪ ،‬فيتساءل‪ :‬هل الجميل جميل ألنه بطبيعته كذلك؟ أي ألنه‬
‫للصفات الجمالية المستقلة تمام االستقًلل عن ذاتنا؟‬
‫ثم ينتقل التوحيدي إلى االتجاه الذاتي‪ ،‬فيقول‪ :‬أهي من عوارض النفس؟ أي أن طبيعة الجمال‬
‫هي صفات نخلعها على المواضيع باختًلف أحوال النفس وعوارضها؟ وهذا جانب ذاتي‪ ،‬أي أن‬
‫طبيعة الجمال صفات نخلعها على المواضيع باختًلف أحوال النفس وعوارضها‪ ،‬ثم يتابع‬
‫تساؤالته متنقًلً بين أحوال الذات والموضوع وعوارضهما‪.‬‬
‫ولكن أين يقف التوحيدي من ذلك؟ لعل في طرح هذه التساؤالت من دون الميل إلى أحد‬
‫الجانبين‪ ،‬أو إغفال الجانب اآلخر أو طمس أحد معالمه يكفي للتدليل على تفهمه لهذه الصلة‪،‬‬
‫ولكنه طالما وقف على هذه العًلقة‪ ،‬وما كان ينبغي له تجاوزها من دون تحديد موقفه منها‪ ،‬وهذا‬
‫ما قرره في كتابه " الهوامل والشوامل " وهذا ما عرفه في كتابه بأنه "كمال في األعضاء‪ ،‬وتناسب‬
‫بين األجزاء‪ ،‬مقبول عند النفس"‪.‬‬
‫وليس أبلغ من هذا في الداللة على قوة تًلزم العًلقة الماثلة بين الموضوع ‪-‬من جهة ضرورة‬
‫كن وصفُها بالثبات بصورة أو‬
‫الم ْم ُ‬
‫اتصافه ببعض الخصائص‪ ،‬التي هي المكونات الجمالية‪ُ ،‬‬
‫بأخرى‪ -‬والذات بأحوالها المتباينة من حين إلى آخر‪ ،‬ومفاهيمها المختلفة‪ ،‬هذه الذات التي‬
‫نستطيع وصفها بالحيوية والحركية‪ ،‬فالتوحيدي يرى على لسان ابن مسكويه أن بين الطبيعة‬
‫صور‬ ‫والنفس حوا اًر مستم اًر‪ ،‬فالطبيعة تتلقى أفعال النفس وآثارها‪ ،‬لذلك فإنها عندما تُ ِّ‬
‫شك ُل‬
‫َ‬
‫الهيولى‪ -‬أي المادة األولية لألشياء‪ -‬فإنها تجع ُل هذه الصور وفق رغبة النفس‪ ،‬وحسب‬
‫استعدادها لقبولها هذه الصور‪.‬‬

‫ويقف التوحيدي على هذه الحقيقة بصيغتها الناجزة هذه التي تأخذ بعين النظر اختًلف أذواق‬
‫وتباينها حتى على األثر الجمالي الواحد‪،‬‬
‫الناس ألسباب شتى‪ ،‬ودور ذلك في األحكام الجمالية ُ‬
‫ويكون التوحيدي قد فرض نفسه رائداً فعلياً ثانياً للنظرية الجدلية في تحديد طبيعة الجمال‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫أما الرائد الثالث فهو ابن خلدون‪ ,‬رائد الدراسات االجتماعية التي ظهرت مًلمح العًلقة‬
‫لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء‪ ،‬وذلك أن اللذة كما تقرر‬
‫الجدلية عنده في قوله‪" :‬ولنبيِّن َ‬
‫للمدرك‬
‫في موضوعه هي إدراك المًلئم المحسوس‪ ،‬إنما تُدرك منه كيفية‪ ،‬فإذا كانت مناسبة ُ‬
‫ومًلئمة كانت ملذوذة‪ ،‬واذا كانت مؤلمة"‪.‬‬
‫فاإلدراك هنا هو فعالية الذات والمًلئمة للموضوع واللذة الجمالية هي الناتجة عن هذه العًلقة‬
‫الجدلية الناشئة بين الذات والموضوع‪ ،‬أي أن تحديد الجمال غير مقصور على أحد الطرفين‬
‫وحسب‪ ،‬وانما هو الحكم الناجم عن التجادل بين الذات والموضوع‪.‬‬
‫بهذا المعنى‪ ،‬يكون الجاحظ‪ ،‬والتوحيدي‪ ،‬وابن خلدون‪ -‬بوقوفهم على هذه الحقيقة‪ ،‬حقيقة أن‬
‫تحديد طبيعة الجمال من زاوية موضعه أو هويته بين الذات والموضوع إنما هي طبيعة جدلية ال‬
‫أحادية‪ ،‬ودور ذلك في أخذ اختًلف أذواق الناس‪ ،‬ألسباب مختلفة وكثيرة‪ ،‬بعين النظر والحسبان‪،‬‬
‫ودوره أيضا في األحكام الجمالية وتباينها‪ ،‬حتى على األثر الجمالي الواحد‪ -‬يكونون قد فرضوا‬
‫أنفسهم رواداً فعليين للنظرية الجدلية في تحديد طبيعة الجمال‪ ،‬التي يدعي ُج ُّل المفكرين أنها لم‬
‫وسي " تشرنشفسكي"‪ ،‬أو ربما في‬
‫الر ِّ‬
‫تنشأ إال مع مطالع القرن التاسع عشر على يد المفكر ُّ‬
‫وهردر‪.‬‬
‫أواخر القرن الثامن عشر في إرهاصات أولية على أيدي الفًلسفة ديدرو وشيللر ْ‬
‫الشك في أن تشرنشفسكي كان ضليعاً في الجدل‪ ،‬خاصةً أن خصمه األبرز الذي جعل همه‬
‫األساسي هو دحض فلسفته أو على األقل دحض ما يرفضه من هذه الفلسفة‪ ،‬ولم يكن ما‬
‫يرفضه منها قليًلً هو "هيغل" ولكنه على الرغم من ذلك‪ ،‬وعلى الرغم من أن الجدل هو ميدان‬
‫تحركه الفكري‪ ،‬واألساس في سجاله ونقاشه‪ ،‬فإنه لم ينجح تماما في عكس العًلقة الجدلية بين‬
‫الذات والموضوع في تحديد طبيعة الجمال‪.‬‬

‫ولعل عنوان كتابه "عًلقات الفن الجمالي بالواقع" هو الذي أغرى الباحثين والنقاد إلى الميل‬
‫في تسميته رائداً لًلتجاه الجدلي في تحديد طبيعة الجمال‪.‬‬
‫يصح هذا االعتقاد إذا كانت هذه الجدلية هي الحديث عن الجمال وتحديد طبيعته بالمعنى‬
‫االصطًلحي للجدل الذي انتشر بعد هيغل‪ ،‬واذا كانت هذه الطبيعة الجدلية منصبة على اإلطار‬
‫العام للجمال أو اإلطار المفهومي على األقل‪.‬‬
‫وستكون جدلية العًلقة بين الذات والموضوع بالضرورة في الصيرورة الجدلية للعًلقة العامة‪.‬‬
‫ومن ثم يصبح من الصحيح تماماً ما ذهب إليه الدكتور نايف بلوز عندما قال‪" :‬يرى‬
‫االجتماعي‪ ،‬بين‬
‫ِّ‬ ‫تشرنشفسكي الجميل في عًلقة جدلية متبادلة بين الوجود البيولوجي والوجود‬
‫الموضوع والذات‪ ،‬بين الواقع والمثل األعلى‪."...‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ويصح معه كذلك قول الدكتور عدنان رشيد‪" :‬يشير تشرنشفسكي إلى العًلقة الجمالية لإلنسان‬
‫بالطبيعة التي ال تستجيب فقط للموضوع الخاص بها‪ ،‬أو للواقع الموضوعي‪ ،‬أو للطبيعة بل‬
‫أيضاً للذات التي تتفاعل مع ظواهر الطبيعة"‪.‬‬
‫ولكن إذا وقفنا عند تشرنشفسكي عن الجدل بين الذات والموضوع خاصة‪ ،‬فربما ال نجد شيئاً‪،‬‬
‫واذا وجدنا فسنجد شيئاً من الضبابية وعدم الوضوح والضبابية في تحديد العًلقة الجدلية‪،‬‬
‫وشاهدنا على ذلك هو الشاهد األبرز الذي اعتمد عليه كل من نسب الريادة إليه في هذا المجال‪،‬‬
‫ُ‬
‫وهو قوله‪ " :‬إن اإلنسان ينظر إلى الطبيعة عامة بعيني المالك‪ ،‬ويبدو رائعاً على هذه األرض كل‬
‫ما يتصل بالسعادة ورغد الحياة‪ ،‬فالشمس ونور النهار رائعان مثًلً ألنهما مصدر كل حياة في‬
‫الطبيعة‪ ،‬وألن نور في النهار يؤثر تأثي اًر طيباً مباش اًر في كل أعمال اإلنسان‪ ،‬ويزيد فعاليته‬
‫العضوية‪ ،‬وبالتالي يؤثر تأثي اًر طيباً حتى في مزاجه النفسي"‪.‬‬
‫من المؤكد أنه سيكون من الصعب الطعن بأن تشرنشفسكي كان جدلياً في تعامله مع الجمال‬
‫وتحديد طبيعته‪ ،‬وربما يكون هذا الشاهد من أقل الشواهد داللة على هذه الجدلية‪ ،‬فالكتاب مليء‬
‫بالشواهد األكثر داللة‪ ،‬حتى تكاد ال تخلو صفحة من كتابه من مثل هذه الشواهد‪.‬‬
‫ولكن مرة أخرى‪ :‬إننا إذا أردنا أن نبحث عنده عن جدلية بين الذات والموضوع‪ ،‬فمن المؤكد‬
‫أننا سنتعب من ذلك كثي اًر‪ ،‬وربما من دون فائدة‪.‬‬
‫على أي حال إن القول بالجدلية أو اعتناق التفسير الجدلي للعًلقة بين الذات والموضوع في‬
‫تحديد طبيعة الجمال‪ ،‬ليس ابتداعا خارقا للمألوف‪ ،‬وليس كشفا فوق العادة‪ ..‬إنه في حقيقة األمر‬
‫توصيف لما هو بحكم البداهة‪ ،‬ألن الفصل بين الذات والموضوع في العًلقة الجدلية أمر متعذر‬
‫التخيُّل‪ ،‬اللهم إال من قبيل التقسيم النظري‪ ،‬التخيلي‪ ،‬أما في الواقع فهو أمر غير قابل للتحقق إال‬
‫إذا تحول الموضوع إلى محض موضوع ال عًلقة له بالجمال‪ ،‬كأي موضوع آخر من موضوعات‬
‫الطبيعة التي تتعامل الذات باستقًللية تامة‪ ،‬كما ندرس مثًل سقوط األجسام‪ ،‬أو خصائص‬
‫الضوء أو غير ذلك‪.‬‬

‫*****************************************************‬

‫التذوق الجمالي‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ص‬‫هو محور المعايشة الجمالية الناشئة بين المتلقي واألثر الجمالي‪ ،‬وال نجد فيلسوفاً إال وخ ّ‬
‫هذا المبحث بمزيد من االهتمام‪ .‬في الواقع ليس ثمة آلية منهجية ثابتة محددة للتذوق الجمالي؛‬
‫ذلك أنها مرتبطة أوثق االرتباط بالحالة النفسية للمرء‪ ،‬فإما أن تكون حالة طارئة‪ ،‬أو عادية‪.‬‬
‫مشوشة‪ ،‬كما‬
‫مشوقة للمعايشة الجمالية‪ ،‬وقد تكون منفرة‪ ،‬وقد تكون ِّ‬
‫والحالة الطارئة قد تكون ِّ‬
‫أنها تختلف من مرحلة إلى أخرى‪ ،‬ويمكن تصنيف آليات التذوق‪ ،‬أو المعالجة إلى نوعين‪ ،‬أولهما‬
‫مرحلي‪ ،‬وثانيهما حالي‪ ،‬ولكننا نجد أن الضرورة تقتضي علينا قبل ذلك أن نبين كيف تتكون آلية‬
‫التذوق الجمالي‪:‬‬
‫التذوق ‪:‬‬
‫تَ َكون آلية ُّ‬
‫يولد اإلنسان ولديه بالفطرة ميل طبيعي إلى الجمال‪ ،‬وقدرة على تذوقه‪ ،‬ربما يكون هذا الحكم‬
‫بحكم المسلم به‪ ،‬ذلك أننا الحظنا أطفاالً صغا اًر لم يؤت لهم أي تجربة جمالية كافية لتكوين آلية‬
‫تذوق جمالي‪ ،‬لكنهم قادرون على إطًلق أحكام جمالية‪ ،‬أو حتى على معايشة الجمال وتذوقه‬
‫تذوقاً يتجه وجهة صحيحة ضمن حدود كافية للحكم بامتًلكه هذه القدرة الفطرية على التذوق‬
‫الجمالي‪.‬‬
‫وهذه القدرة ليست نهائية وال تامة‪ ،‬وهي قدرة تنمو وتصقل وتهذب وتتكامل فيما بعد‪ ،‬فإذا ما‬
‫أخذنا العامل الوراثي أو الفطري بعين النظر والحسبان‪ ،‬وأضفنا إليه العوامل األخرى في تكامل‬
‫التذوق الجمالي وأخذنا اآللية التي يتم بها هذا التذوق؛ أمكننا القول‪ :‬إن تكون هذه اآللية يتم وفق‬
‫مجموعة من الشروط هي التي سنبين أكثرها أهمية على النحو اآلتي‪:‬‬
‫‪ -1‬إن عملية تكوين التذوق وآليته هذه تضايفية متداخلة ومتكاملة‪ ،‬يتعذر الفصل الزمكاني‪،‬‬
‫ولذلك فإن حديثنا عنها وعن آثارها‪ -‬بوصفهما أمرين منفصلين عن بعضهما‪ -‬ليس إال من قبيل‬
‫التقسيم النظري فقط أو التصوري في الذهن وحسب‪.‬‬

‫‪ -2‬إذا كان موضوع حديثنا على العناصر الداخلة في تركيب التذوق الجمالي وآليته‪ ،‬فإن ما‬
‫سنظهره وينصب عليه كًلمنا هو ما ينجم عنها من آثار في كيفية تلقي األثر الجمالي‪ ،‬وتذوقه‬
‫من خًلل خصائصه التي هي بمعنى من المعاني مقومات الجمال‪.‬‬
‫‪ -3‬إذا أخذنا مقومات الجمال أو خصائصه من تناسب‪ ،‬وانسجام‪ ،‬وتكامل‪ ،‬وندرة‪ ،‬أمكننا‬
‫القول‪ :‬إن كل عنصر من هذه اآلليات له آلية تذوق خاصة‪ ،‬وهذه مسألة يمكن مناقشتها في‬
‫العًلقة بين الواقع والمثل األعلى في العملية الجمالية‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫‪ -4‬سنقف اآلن عند أبرز أربعة عناصر من عناصر بنية التذوق الجمالي وآليتها وهي‪:‬‬
‫البيئة‪ ،‬والتربية‪ ،‬واالنفعاالت‪ ،‬والمعرفة‪ ،‬من دون أن يعني ذلك أن هذه العناصر هي وحدها‬
‫الفاعلة والمؤثرة في عملية بناء التذوق الجمالي‪ ،‬وآليته لدى اإلنسان‪.‬‬
‫الشك في أن هناك عوامل كثيرة يصعب حصرها‪ ،‬وسيكون كًلمنا هنا على هذه العناصر‬
‫األربعة‪.‬‬
‫على هذا النحو يمكن رسم مًلمح آلية تكون التذوق الجمالي لدى اإلنسان‪ ،‬مع ضرورة التأكيد‬
‫على أنها ال تتم في الواقع على هذا النحو المفصل والتراتبي‪ ،‬وانما بتضايف تداخلي تكاملي‬
‫تجادلي‪.‬‬
‫أوالً ‪ -‬البيئة‪:‬‬

‫هي المحيط الذي يعيش فيه اإلنسان‪ ،‬وينقسم أقساماً كثيرة تبعاً لطبيعته‪ ،‬وبيئته‪ ،‬وتركيبه‪،‬‬
‫وتأثيره‪ ،‬والبيئة‪ -‬بكل تنوعاتها وميادينها‪ -‬تؤثر تأثي اًر واضحاً وكبي اًر في عملية التذوق الجمالي؛‬
‫إذ تجعل للفرد نظرته الخاصة‪ ،‬ومعاييره المحددة في خصائص الجمال‪ ،‬وللمجتمع أيضاً‪ ،‬بوصفه‬
‫بنية متماسكة متكاملة من العادات‪ ،‬والتقاليد‪ ،‬واألع ارف‪ ،‬والقوانين‪ ،‬التي تتحكم بالمجتمع مثلما‬
‫تتحكم هذه الضوابط بالفرد‪ ،‬بوصفه بنية متماسكة متكاملة من هذه الضوابط‪.‬‬
‫إن اإلنسان الذي يعيش في بيئة ريفية تنمو لديه أنماط من التذوق الجمالي‪ ،‬التي ال يمكن أن‬
‫يعيها ابن المدينة أو يفهمها‪.‬‬
‫كذلك األمر بالنسبة لمن يعيش في المدينة‪ ،‬واألمر عينه ينطبق على البدوي الذي يعيش في‬
‫المجتمع الصناعي‪ ،‬وغير ذلك مما يحتمل وجوده من أنواع البنية الجغرافية والجيولوجية‪.‬‬

‫فيمكننا أن نفهم األسى والبؤس واالغتراب الذي وصلت إليه حال البدوية ميسون حين تزوجت‬
‫ففضلت الخيمة وقالت‪:‬‬
‫وغادرت خيمتها‪ ،‬بيد أنها لم تجد الراحة وال الرفاه في القصور‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫منيف‬ ‫إلي من ٍ‬
‫قصر‬ ‫أحب َّ‬ ‫اح فيه‬
‫ُّ‬ ‫تخفق األرو ُ‬
‫ُ‬ ‫لبيت‬
‫ْ‬
‫الشفُ ِ‬ ‫إلي من لِ ْب ِ‬ ‫عباء ٍة ُّ‬
‫وف‬ ‫س َّ‬ ‫أحب َّ‬
‫ُّ‬ ‫وتقر عيني‬ ‫َ‬ ‫ولِ ْب ُ‬
‫س‬
‫ذاك من وطن شرِيف‬
‫فحسبي َ‬ ‫فما ْأبغي سوى وطني بديال‬

‫إذن هنا تمارس البيئة تأثي اًر خطي اًر في حياة اإلنسان في مختلف مستويات حياته‪ ،‬ومنها الحالة‬
‫الجمالية المنبعثة في مختلف مستويات حياة اإلنسان وتفرعاته‪ ،‬إنها بمنزلة حبل السرة الذي ال‬
‫يستطيع اإلنسان االنفكاك منه‪ ،‬حتى إذا انفصل عنه لن يستطيع العيش من دونه‪ ،‬أو هكذا يشعر‬
‫على األقل إال قليل ممن لم يؤت له هذا النعيم‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫وفي هذا ما يفسر لنا حقيقة تعلق المرء بمكان مولده ومرباه‪ ،‬ألنه يشعر أنه الصدر الدافئ‬
‫الحنون الذي يظل بحاجة لًلنتماء إليه‪ ،‬والشعور أمامه بالحنان‪ ،‬وقد عبر كثير من الشعراء عن‬
‫هذه الصورة‪ ،‬ولعل أشهر ذلك قول أبي تمام‪:‬‬
‫ما الحب إال للحبيب األول‬ ‫نقل فؤادك حيث شئت من الهوى‬

‫ألول َم ْن ِز ِل‬
‫َأبداً ِ‬ ‫وحني ُن ُه‬ ‫ٍ‬
‫منزل في األرض يألفُ ُه الفتى‬ ‫كم‬

‫لذلك ال يجوز أن ُنهمل أثر البيئة في صوغ الوعي الجمالي وتحديده‪ ،‬وال ننظر إليه نظرة‬
‫عابرة‪ ،‬فالبيئة هي التي تحبب اإلنسان ببعض األلوان دون غيرها‪ ،‬وتجعله يرسم معالم المثل‬
‫األعلى لإلنسان‪ ،‬كما تسهم في تحديد رؤيته وفهمه للرشاقة والتكامل والتفرد‪ ،‬وكل ذلك يسهم في‬
‫المحصلة في عملية التذوق الجمالي‪ ،‬ومن ثم التأويل الجمالي‪ ،‬الذي هو ختام المعايشة الجمالية‬
‫وغايتها‪.‬‬
‫‪ -2‬التربية‪:‬‬

‫التربية باإلطًلق إحدى ضروب النشاط اإلنساني الرامية إلى صقل خصائص شخصيات‬
‫األفراد وتهذيبها‪ ،‬على نحو يؤهلهم للتعايش مع بيئاتهم الطبيعية والمجتمعية بعواملها المختلفة‬
‫الفكرية‪ ،‬واألخًلقية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والجمالية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬والدينية‪ .‬إن التربية ال تنحصر في‬
‫السنوات األولى من حياة المرء‪ ،‬وانما تتعدى ذلك إلى سنوات العمر كله‪ ،‬التربية في اللغة النمو‪،‬‬
‫فهي تفيد في التغذية اإلنمائية‪ ،‬سواء أكانت "مادية أو معنوية"‪ ،‬ولذلك يقال ربيت فًلن‪ ،‬ويقال‬
‫ذلك لكل ما ينمى كالزرع والولد‪ ،‬هذا يعني أنها العملية االصطًلحية التقويمية التي ترافق‬
‫اإلنسان مادام على قيد الحياة‪ ،‬ذلك أنه في كل يوم يصادف المرء ما يهذب فيه سلوكه‪ ،‬أو‬
‫يصلح فيه أخطائه‪ ،‬بمعنى أن التربية الجمالية بمقوماتها وخصائصها‪ ،‬تعمل على تنمية ذائقة‬
‫الروح الجمالية المحددة في أي موضوع من الموضوعات الجمالية‪ ،‬تبدأ في مرحلة الطفولة‪ ،‬حيث‬
‫يتلقى الطفل توجيهات من األهل والمحيط التربوي‪ ،‬فالميل إلى لون محدد‪ ،‬وشكل محدد‪ ،‬وتناسب‬
‫محدد‪ ،‬وألوان موسيقية محددة‪ ،‬والتفاعل بين هذه العملية التربوية‪ ،‬وغيرها من عوامل بناء الذائقة‬
‫الجمالية‪ ،‬وآلية فعلها يصوغ ذائقته الجمالية هذه الذائقة القابلة للتفاعل والتغير والتطور‪ ،‬مع تغير‬
‫المعطيات والشروط للتفاعل مع عناصر بناء الذائقة األخرى‪.‬‬
‫‪ -3‬االنفعاالت‪:‬‬

‫في حين تسهم البيئة في استنساخ مقوماتها وشروطها في األفراد الذين يعيشون فيها‪ ،‬أي تقوم‬
‫البيئة بنسخ الجماعة في شخوصها‪ ،‬فإن االنفعاالت تختص بمنح األفراد هويات استقًللية عن‬
‫الجماعة وعن البيئة‪ ،‬ومشكلت نا هنا هي "العًلقة التفاعلية الجدلية العفوية" بين مختلف عناصر‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫التذوق الجمالي بيئة وانفعاالت‪ ،‬فالبيئة تُمارس تأثي اًر واضحاً في تأطير االنفعاالت‪ ،‬وصوغها‪،‬‬
‫وتحديد معالمها‪ ،‬وقد أشار كل من ابن خلدون‪ ،‬وكانط إلى أثر البيئة في األخًلق واالنفعاالت‪.‬‬

‫عد هذه المسألة إحدى اهتمامات العلم المعاصر‪ ،‬االنفعاالت هي الميول‪ ،‬واألهواء‪،‬‬
‫أما اليوم فتُ ّ‬
‫والتفضيًلت الشخصية التي تتحدد رويداً من الطفولة‪ ،‬وتبدأ بممارسة تأثيرها منذ اتخاذها مراحل‬
‫األولى وصوالً إلى نهاية العمر‪ ،‬فحب الطفل ألمه التي يرى فيها مثًلً جمالياً أعلى‪ ،‬يقيس عليه‬
‫أي جمال أنثوي‪ ،‬إن أَلفة الطفل في مسكنه‪ ،‬تجعله يسكن باستقرار نفسي في مسكنه‪ ،‬ويعد هذا‬
‫المسكن أو البيت مثاالً جمالياً للسكن‪ ،‬يقيس عليه كل ما عداه من مسكن‪.‬‬
‫واذا كره الطفل صورةً‪ ،‬أو شكًلً‪ ،‬أو لوناً‪ ،‬أدى هذا الكره إلى نفور الطفل‪ ،‬ثم المرء من هذا‬
‫الشكل‪ ،‬أو اللون‪ ،‬أو الصورة‪ ،‬وخفض عنده قيمته الجمالية‪.‬‬

‫وعندما يحب المراهق فتاةً‪ ،‬فإنه غالباً يحبها ألنها تتوافق مع االنفعاالت‪ ،‬والميول‪ ،‬واألهواء‬
‫التي ارتسمت في قلبه‪ ،‬وفي هذا ما يجعل مواصفاتها وخصائصها معيا اًر جمالياً‪ ،‬يتعين عليه‬
‫جمال النساء‪ ،‬وكذلك تفعل الفتاة من جهة مبدأ الفعل‪.‬‬
‫‪ -4‬المعرفة ‪:‬‬

‫كل ما يط أر من تطوير وتبدل على المتغير المستقل "المعرفة"‪ ،‬يلزم عنه تغير أكيد في المتغير‬
‫التابع "بنية التذوق الجمالي وآليته"‪ ،‬وبهذا المعنى فإن العامل المعرفي‪ ،‬هو العامل الذي يفترض‬
‫فيه أن يكون دائماً النهج الموجه‪ ،‬والمصحح‪ ،‬والمطور آللية التذوق الجمالي‪ ،‬فهو خًلف‬
‫العناصر األخرى‪ ،‬التي تتسم بنوع من الثبات والسكونية‪ ،‬إنه عامل متغير متبدل بين الساعة‬
‫واألخرى والمرحلة واألخرى‪ ،‬ومن شخص آلخر‪ ،‬ومن زمن آلخر‪ ،‬فإذا لم يكن يعرف اإلنسان‬
‫شيئاً عن الموسيقى الهندية وسمعها‪ ،‬فإنه ربما يجد معاناة في تذوقها وتقبلها‪ ،‬واذا قبلها أو‬
‫تذوقها‪ ،‬فإنه لم يفعل ذلك كما لو كان يعرف شيئاً عن الموسيقى عامة‪ ،‬والموسيقى الهندية‬
‫خاصة‪ ،‬واذا لم يكن يعرف اإلنسان شيئاً عن الشعر‪ ،‬فإنه سيستمتع به إذا ما سمعه من شاعر‬
‫إلقاء جميًلً‪ ،‬وبالتالي سيغير رأيه في هذا الموقف‪.‬‬
‫يلقي ً‬

‫آلية التذوق الجمالي‪:‬‬

‫يقوم اإلنسان بالتذوق الجمالي في المراحل األولى من حياته وال ينتظر حتى تكتمل منظومته‬
‫الجمالية‪ ،‬ولكن آلية التذوق الجمالي تتكامل رويداً رويداً مع تكامل عناصر بنائها التي أشرنا‬
‫إليها في المحاضرة‪ ،‬حتى يصير ذواقاً للجمال في مستوى من المستويات التي تتناسب مع ما‬
‫تحقق له من عناصر بناء منظومته الجمالية‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫وليس ثمة آلية منهجية ثابتة أو محددة للتذوق الجمالي‪ ،‬ذلك أنها مرتبطة أوثق االرتباط‬
‫بالحالة النفسية للتذوق الجمالي‪ ،‬فإما أن تكون حالة عادية أو طارئة‪ ،‬والحالة الطارئة قد تكون‬
‫مشوقة للمعايشة الجمالية‪ ،‬وقد تكون منفرة وقد تكون مشوشة‪ ،‬وهي تختلف من مرحلة ألخرى‪.‬‬
‫فلها قبل المعايشة آليتها‪ ،‬وفي أثنائها آليتها الجمالية‪ ،‬وكذلك بعدها‪ ،‬ولذلك فإننا سنضيف آليات‬
‫التذوق من التصنيفات‪ :‬أولهما مرحلي‪ ،‬ثانيهما حالي‪.‬‬
‫وألن ثمة ارتباطاً تًلزمياً بين اآللية المرحلية واآللية الحالية‪ ،‬من جهة أن األولى صيرورة‬
‫زمانية‪ ،‬والثانية هي الصورة الكيفية لهذه الصيرورة‪ ،‬فسنقصر حديثنا على اآللية المرحلية‪ ،‬أو‬
‫المراحل التي يمر بها التذوق الجمالي‪ ،‬والكيفية التي يتم بها‪ ،‬مبينين االختًلفات الحالية عندما‬
‫يقتضي األمر‪ ،‬خاصِّين الحال الطارئة في مرحلة التذوق المباشر أو القصدي‪ ،‬بفقرة منفصلة‬
‫ومستقلة‪.‬‬
‫آلية التذوق المرحلي‪:‬‬

‫تنقسم آلية التذوق المرحلي إلى مرحلتين رئيستين هما‪ :‬الغائبية والشاهدية‪ ،‬يغيب الموضوع أو‬
‫وي ْمثُل في األذهان وهي بهذا المعنى سابقة على المرحلة‬
‫األثر الجمالي في األولى عند األعيان‪َ ،‬‬
‫الشاهدية‪ ،‬والحقة عليها‪ ،‬وتمثلها المعايشة القبلية والبعدية والتخيُّلية‪.‬‬
‫أما المرحلة الثانية وهي الشاهدية‪ ،‬فتتجلى في المعايشة المباشرة لألثر الفني‪ ،‬وتتشعب إلى‬
‫نوعين‪-1 :‬قصدي‪-2 ،‬عفوي أو تلقائي ولكل من هذين الشرطين منظومته الخاصة‪:‬‬
‫قبل التذوق‪:‬‬

‫قد يتساءل بعضهم‪ :‬أيعقل أن يكون هناك تذوق جمالي قبلي؟ أو من دون وجود موضوع أو‬
‫جد مهمة وهي أن‬‫أثر جمالي؟ الشك في أن هذا التساؤل منطقي‪ ،‬ولكنه يغفل حقيقةً ّ‬
‫الموضوعات الجمالية تنتشر في كل مكان وزمان‪ ،‬وأن كل شيء‪ -‬مهما كانت مادته وصورته‪-‬‬
‫يمكن أن يكون موضوعاً جمالياً؛ لتغدو الرؤية الجمالية مرافقة لإلنسان في كل أحواله‪ ،‬وأفعاله‪،‬‬
‫وصًلته‪ ،‬وتعامله‪ ،‬ولكن سنغض الطرف عن هذا الحسبان اآلن‪ ،‬لنعود إليه في التذوق التلقائي‪.‬‬

‫لنفترض أننا أمام موضوع جمالي محدد‪ ،‬فكيف ستكون آلية التذوق القبلي؟ في الحقيقة نحن‬
‫أمام ضربين من آلية التذوق القبلي‪ ،‬أولهما‪ :‬عندما يكون المرء متأهباً للتلقي الجمالي‪ ،‬بمعنى أنه‬
‫يعرف أنه على أهبة االستعداد لمشاهدة لوحة‪ ،‬أو منظر‪ ،‬أو تمثال‪ ،‬أو سماع مقطوعة موسيقية‪،‬‬
‫أو قصيدة‪ ،‬أو غير ذلك‪ .‬وثانيهما‪ :‬أال يكون هناك أثر جمالي محدد البتّة‪ ،‬حيث يتم تلقي األثر‬
‫علي أن أنقل المؤشر‬
‫الجمالي مصادفةً‪ .‬فإذا أردت أن استمع إلى إرسال إذاعة دمشق‪ ،‬وجب ّ‬
‫إلى رقم التردد التي تبث عليه هذه اإلذاعة‪ ،‬وان لم أفعل ذلك فلن أستطيع االستماع‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫إن منظومة التذوق الجمالي تكون غائبة عن ساحة الشعور واإلرادة النشغالهما بأمور أخرى‪،‬‬
‫ي تتغير‪ ،‬وهذا ماسيتضح أكثر في‬
‫فإذا لم يكن هناك أثر جمالي ظلت األمور كما هي من دون أ ّ‬
‫التذوق التلقائي‪ ،‬أما إذا تهيأ اإلنسان للتلقي والمعايشة الجمالية فإن الشعور والًلشعور في بعض‬
‫الحاالت يقوم باستحضار منظومة التذوق الجمالي‪ ،‬ووضعها موضع التشغيل والعمل‪ ،‬وربما‬
‫يحدث نوع من المعايشة القبلية لألثر الجمالي‪ ،‬واذا ما دققنا في هذا النوع األخير من التذوق‪،‬‬
‫سنخص ذكره بالتذوق التخيلي‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وجدنا إمكان إدراجه ضمن ضرب مرحلي آخر هو ما‬

‫التذوق التلقائي‪:‬‬

‫نعني به االتصال العفوي بالموضوعات الجمالية من دون معايشة جمالية حقيقية‪ ،‬أي من دون‬
‫حدوث التمازج بين الذات والموضوع‪ ،‬ومن ثم عدم حصول اللذة الجمالية الناجمة عن تذوق‬
‫فتقر‬
‫عابر م اً‬
‫اً‬ ‫األثر‪ ،‬وفي األغلب األعم عدم إطًلق حكم قيمي‪ ،‬لتغدو المعايشة الجمالية اتصاالً‬
‫إلى معظم خصوصيات التلقي الجمالي‪.‬‬

‫إن هذه الحال هي األكثر تك ار اًر في حياة اإلنسان‪ ،‬خاصة وأن العالم ممتلئ بالموضوعات‬
‫الجمالية‪ ،‬بل إن كل الموجودات يمكن أن ينظر إليها نظرة جمالية‪ ،‬فاللباس‪ ،‬وحركات األيدي‪،‬‬
‫واألرجل‪ ،‬وااللتفاتة‪ ،‬والنظرة‪ ،‬والمشية‪ ،‬والوقفة‪ ،‬واألرض‪ ،‬والسماء‪ ،‬والبناء‪ ،‬واألشجار‪ ،‬واألحجار‬
‫‪....‬الخ‪ ،‬كلها ذات مضامين جمالية‪ ،‬ولكننا ناد اًر ما نتوقف عند أي شيء منها على أنه موضوع‬
‫معايشة جمالية‪.‬‬

‫ولو أردنا تفسير ذلك وايضاحه لوجدنا أنفسنا أمام الوضع اآلتي‪ :‬إن اإلنسان بغض النظر عن‬
‫يكون قاعدةً هامةً شاملةً لمختلف معطيات الحياة التي يتعامل معها‪ ،‬الجمالية‪،‬‬
‫ساحة اهتمامه ِّ‬
‫واألخًلقية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والدينية ‪ ...‬الخ‪ ،‬تقتصر على أهم معالم كل جانب أو‬
‫بعضها‪ ،‬وهذه القاعدة تكون دائماً في ساحة الشعور‪ ،‬وتتعامل مع مختلف الصور والمستويات في‬
‫الحالة التلقائية على درجة واحدة من العموم‪ ،‬وعلى ذلك فإن المعايشة الجمالية ستبقى ناقصة‪.‬‬

‫يشدنا ويجذب اهتمامنا ويستوقفنا من هذه الكثرة هو الجمال ُّ‬


‫الفذ الفريد الذي ال يتكرر‪،‬‬ ‫إن ما ُّ‬
‫ُ‬
‫أو قل أن يتكرر‪ ،‬أو أنه ليس جماالً عادياً على األقل‪ ،‬فإذا ما تأتّى ذلك لإلنسان استحضر‬
‫معاييره الجمالية أو منظومته الجمالية في التذوق الجمالي والتقويم الجمالي كي يحلل الموضوع‬
‫مالي‪،‬‬
‫أو األثر الجمالي الذي يتم تلقيه ومعايشته‪ ،‬وال يختلف في ذلك عمن تهيأ لمعايشة أثر ج ّ‬
‫وهذا ما ينقلنا إلى المرحلة التالية‪ ،‬مرحلة التذوق القصدي‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫التذوق القصدي‪:‬‬

‫عندما يقف المرء مشدوهاً أمام منظر طبيعي خًلب‪ ،‬كبضع شجيرات تشابكت أغصانهن‬
‫مظللةً ينبوع ماء تنداح تموجات تدفُّقه أنصاف دوائر رقراقة براقة كقوس قزح‪ ،‬أو يستمع المرء‬
‫اقص روحه‪ ،‬أو تست ُّ‬
‫مد نسج أنغامها من نسغ‬ ‫مترنماً طرباً إلى موسيقا عذبة يشعر أنها تر ُ‬
‫أحاسيسه‪ ،‬أو أن يق أر إحدى الروايات الرائعة بتروي الرؤوم وشغف المشوق‪ ،‬فًل يلبث أن يجد‬
‫وكأنه أحد شخوص هذه الراوية‪ ،‬يفرح لفرحهم ويستاء الستيائهم‪ ،‬وربما تأخذه النشوةُ حيناً‬
‫نفسه إال ّ‬
‫فيهم بالتدخل وتغيير الحدث ولكن المجال للتدخل‪.‬‬
‫ُّ‬

‫هذه األمثلة يمكن أن تقودنا إلى فهم معنى التذوق الجمالي القصدي الذي يقف فيه المرء أمام‬
‫الموضوع أو األثر الجمالي متأمًلً معايشاً متذوقاً‪ ،‬سواء أتوجه إليه بملء إرادته‪ ،‬أم شده وأسره‬
‫سم به من مزايا فذة فريدة‪ ،‬فكيف تتكون آلية التذوق الجمالي القصدي؟‬
‫بما يت ُ‬

‫ي أو النتيجة المنطقية للمعايشة‬


‫بداية البد أن نؤكد أن التذوق الجمالي ما هو إال التتويج النظر ُّ‬
‫الجمالية‪ ،‬وفي الحقيقة إن األمثلة السابقة تحاول فقط أن تصف المعايشة الجمالية‪ ،‬التي يمكن‬
‫القول‪ :‬إنها تتضمن تذوقاً جمالياً‪ ،‬في حين أن التذوق الجمالي هو إصدار الحكم القيمي على‬
‫الموضوع أو األثر الجمالي‪.‬‬

‫تلق للموضوع الجمالي أو األثر الجمالي‪ ،‬وهذا التلقِّي هو في‬


‫تمث ُل المعايشة الجمالية عملية ٍّ‬
‫كم من المعلومات التي يبثها الموضوع أو األثر الجمالي‪ ،‬أما التذوق‬
‫حقيقة األمر عمليةُ استقبال ٍّ‬
‫الجمالي فهو الخطوة الًلحقة على بدء التلقي‪ ،‬إنه عملية التفاعل المباشر مع الموضوع أو األثر‬
‫الجمالي‪ ،‬واإلحساس بما ينطوي عليه الموضوع أو األثر الجمالي من قدرات مثيرة للنفس‬
‫ومحرضة لها من ناحية النشوة أو مانصطلح عليه بمفهوم اللذة الجمالية أو المتعة الجمالية‪ ،‬وهذه‬
‫ِّ‬
‫المرحلة هي المرحلة السابقة على الفور لعملية االرتداد من الذات إلى األثر الجمالي بعملية‬
‫الحكم أو التقويم الجمالي‪.‬‬

‫وإليضاح ذلك نقول‪ :‬إن كل حكم مهما كان يتضمن رسالتين إعًلميتين تنبثق ثانيتهما من‬
‫األولى بالضرورة‪ ،‬فعندما أقول هذه الفتاة فاتنة‪ ،‬وهذا النهر ساحر‪ ،‬وهذه القصيدة رائعة‪ ،‬فإن ك ّل‬
‫حكم من هذه األحكام يتضمن رسالة إعًلمية أولى مصدرها الموضوع أو األثر الجمالي‪ ،‬وهو‬
‫تعبر عن رأي الذات أو حكمها في هذا‬
‫هنا‪ :‬الفتاة أو النهر أو القصيدة‪ ،‬ورسالة إعًلمية أخرى ّ‬
‫الموضوع بعد معالجة رسالته اإلعًلمية‪ ،‬والمتمثلة هنا بالفتنة والسحر والروعة‪ ،‬بتعبير آخر إن‬
‫التلقي استقبال والتذوق تفاعل والتقويم إرسال‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫هذه اآللية في التذوق الجمالي تنطبق في حقيقة األمر على مختلف حاالت التذوق أو‬
‫المعايشة السابقة والًلحقة‪ ،‬ولكنها متوافقة في المبدأ والبنية المنطقية‪ ،‬ومتخالفة في مضمون‬
‫الفعل وطبيعته‪ .‬يختلف التذوق القصدي عن مختلف أنواع التذوق بأن اإلنسان يقرر مسبقاً أن‬
‫يتوجه إلى عملية معايشة جمالية وتذوق جمالي‪ ،‬والمثال الدال على ذلك هنا أن يقرر المرء‬
‫الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم معين‪ ،‬أو يتابع مسلسًلً ينتظره من الحلقة إلى الحلقة مشدوداً‬
‫إليه‪ ،‬ومثل ذلك أن ينهض المرء إلى مكتبة أشرطته الغنائية ليختار شريط أغنية محددة ليستمع‬
‫إليها غير تارك األمر لمصادفات المذياع واختياراته‪ ،‬ومثل الحال الذهاب إلى المسرح أو معرض‬
‫لوحات لفنان ما‪ .‬فالمرء في كل ما ذكر مستعد أتم االستعداد لعملية التذوق الجمالي‪ ،‬وغالباً ما‬
‫يغدو المرء في مثل هذا الحال صاحب مزاج جمالي‪ ،‬وتغدو المعايشة الجمالية عنده حاجة روحية‬
‫فكرية يصعب االستغناء عنها إال ضمن ظروف استثنائية غالباً ما تكون قاهرة‪.‬‬

‫التذوق البعدي‪:‬‬

‫هو اصطًلح جديد أحدثه الدكتور عزت السيد أحمد في كتابه‪" :‬علم الجمال المعلوماتي"‪ ،‬فكما‬
‫أن شعور المرء في الماء أثناء السباحة يختلف عنه إثر خروجه منه‪ ،‬كذلك فإن التذوق الجمالي‬
‫يختلف في أثناء االتصال المباشر عنه َبعد ُبعد األثر الجمالي‪ .‬والذي يحدث هنا أن عملية‬
‫التلقي الجمالي قد توقفت‪ ،‬وربما يكون التذوق الجمالي للموضوع قد تم‪ ،‬وربما ال يكون المرء قد‬
‫وصل إلى هذه المرحلة‪ ،‬وربما يكون الحكم أو التقويم الجمالي قد توج الحالة الجمالية‪ ،‬وربما قد‬
‫ال يكون قد وصل إليها‪ .‬نحن إذن أمام العيد من االحتماالت‪.‬‬

‫كثي اًر ما يحدث أن يتابع المرء مسلسًلً شيق ًا وينقطع عنه فجأة لسبب أو آخر‪ ،‬ويمكن أن يذهب‬
‫ليقف أمام لوحة وما إن ينظر إليها حتى يقع حادث يقطع عليه عملية التلقي والمعايشة‬
‫والتذوق‪...‬ومثل ذلك حاالت كثيرة‪ .‬هذه الحال داعية في حقيقة األمر لمحاولة تكميل الحالة الجمالية‬
‫عن طريق استرجاع األثر أو الموضوع الجمالي‪ ،‬وذا نوع من أنواع التذوق البعدي‪ .‬ولكن في أكثر‬
‫الحاالت تكتمل المعايشة الجمالية مارة بكل مراحلها من االستعداد وبدء التلقي إلى عملية التقويم‬
‫الجمالي‪.‬‬

‫التقويم البعدي هو استمرار التأثر بالموضوع أو األثر الجمالي‪ ،‬إذ يفرض الجمال على المرء أن‬
‫يظل يفكر فيه فترة من الزمن ترتبط بقوة األثر وقوة الدافع الذي يسحب المرء من حالة التذوق البعدي‬
‫إلى حال آخر‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫لن يكون التذوق البعدي بقوة التذوق الفوري أو المباشر بحال من األحوال‪ ،‬مهما بلغ األثر أو‬
‫الموضوع الجمالي من القوة‪ ،‬وهنا نقول هناك فرق كبير بين أن تنظر إلى البحر هادئاً كان أو متًلطم‬
‫الموج وبين أن تدير ظهرك وتحاول إكمال اللذة أو المتعة الجمالية التي كانت تعتلج في فؤادك وأنت‬
‫ناظر إليه‪.‬‬

‫التذوق التخيلي‪:‬‬

‫التذوق التخيلي شبيه بالتذوق البعدي إلى حد بعيد‪ ،‬وهو أن يسترجع المرء الموضوع بخياله‪،‬‬
‫وان يعيد صياغة األثر الجمالي بشكل أجمل‪ ،‬فإن المبدع يضع تصو اًر لألثر الجمالي الذي يود‬
‫إبداعه‪ ،‬ويستحضر معه منظومته التذوقية الخاصة المرتبطة بالمثل األعلى في الميدان الذي‬
‫يبدع فيه‪ ،‬ليحاول إبداع األثر الجمالي قياساً لهذا المثل األعلى‪.‬‬

‫فما أكثر ماحاول المرء استرجاع مًلمح حبيبته مثًلً‪ ،‬أو استرجاع مًلمح لوحة في ذهنه‪ ،‬أو‬
‫حاول استحضار مشهد أو مشاهد من فيلم سينمائي أو مسلسل أو مسرحية‪ ...‬بعد ذلك يحاول‬
‫وضع تصور لألثر الجمالي الذي يود إبداعه‪.‬‬

‫التذوق الطارئ‪:‬‬

‫هو خروج عن المألوف‪ ،‬وهو في مجمل األمر شذوذ عن القانون‪ ،‬وال غرابة أن يكون لهذه‬
‫الطارئات نتائج خاصة يقود للنتائج المتوقعة‪ .‬ويمكن أن نميز بين ثًلثة أنوع من التذوق الطارئ‬
‫تقود إلى ثًلثة حاالت من االنفعاالت المتباينة‪:‬‬

‫‪ -1‬االنفعاالت المشوقة‪ :‬كالميل‪ ،‬والحب‪ ،‬والهوى‪ ،‬والرغبة‪...‬الخ مما هناك من انفعاالت‬


‫مشابهة لها‪.‬‬

‫‪ -2‬االنفعاالت المضمرة‪ :‬كالكره‪ ،‬والنفور‪ ،‬وغيرها من االنفعاالت المشابهة في اآللية‬


‫والطبيعة‪.‬‬

‫‪ -3‬االنفعاالت المشوشة‪ :‬كالغضب‪ ،‬والهيجان‪ ،‬والكبت‪.‬‬

‫‪ -1‬االنفعاالت المشوقة‪:‬‬

‫عندما ينظر المرء إلى الموضوعات الجمالية بعين الحب‪ ،‬فإنه يراها قريبة من معاييره‬
‫الجمالية‪ ،‬موافقة لها بمعنى‪" ،‬كن جميًلً تر الوجود جميل"‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫فاإلنسان الذي ينظر إلى األشياء بعين المحبة‪ ،‬ويعيش هذه المحبة سيجد في كل الموضوعات‬
‫الجمالية التي يصادفها من حركات اإلنسان‪ ،‬ومن الحياة الكونية واالجتماعية‪ ،‬سيجد فيها الجمال‬
‫الصافي‪.‬‬

‫وهذه حقيقة يدركها العشاق ويعيشونها‪ ،‬وما أكثر ما قيل في ذلك‪ ،‬ولعل من أطرف األمثلة‬
‫على ذلك قصة األعرابي الذي طلب منه أن يعرب عن مدى حبه لحبيبته فقال‪" :‬أرى ظل بيتها‬
‫أجمل من ظل بيت غيرها"‪.‬‬

‫وكأنه هنا متمثل قول قيس بن الملوح في معشوقته ليلى حينما قال‪:‬‬

‫أقبل ذا الجدار وذا الجدار‬ ‫أمر على الديار ديار ليلى‬

‫ولكن حب من سكن الديار‬ ‫وما حب الديار شغفن قلبي‬

‫كيف تكون آلية التذوق الجمالي في مثل هذه الحالة؟‬

‫يتجه المرء في مثل هذه الحالة إلى إضفاء لبوس ذاتي على الموضوع الجمالي‪ ،‬يرى من‬
‫خًلله مثله وقيمه الجمالية العليا متحققة في هذا الموضوع‪ ،‬رغم أنه قد يكون مفتق اًر إليها في‬
‫الواقع أو ربما موجودة فيه فعًلً‪.‬‬

‫هذا يعني أن المرء المتلقي يجرد الموضوع أو األثر الجمالي من خصائصه الموضوعية‬
‫الواقعية‪ ،‬أو لنقل إنه يتجاهل ما يتصف به الموضوع أو األثر الجمالي من خصائص وسمات‬
‫ومعاني ‪...‬الخ‪ ،‬حيث يقوم بإسقاط المقومات والخصائص الجمالية التي يراها مثًلً أعلى على‬
‫الموضوع أو األثر الجمالي‪ ،‬حتى يبدو الموضوع وكأنه يحمل فعًلً الصفات والخصائص والم ازيا‬
‫التي يحبها المرء في محبوبته‪ ،‬فًل يرى الموضوع الجمالي على حقيقته وانما كما يريد أو يتمنى‪.‬‬

‫ولعلنا نذكر هنا ليلى العامرية التي فُت َن الناس بها لكثرة ما أبدع بها قيس روائع الشعر العربي‪،‬‬
‫حتى أن الخليفة استدعاها ليرى هذا الحسن والجمال‪ ،‬ولكن عندما رآها ُدهش لشدة بعدها عن‬
‫الوصف الذي أورده قيس في شعره‪ ،‬فقال لليلى العامرية‪ :‬لست كما وصفك قيس‪ ،‬فقالت‪ :‬ألنك لم‬
‫ترني بعيني قيس‪.‬‬

‫هذه القصة ليست نادرة على اإلطًلق‪ ،‬بل هي أكثر تك ار اًر في حياتنا‪ ،‬وتبدي لنا كيف أن‬
‫الذات ال تبالغ بخصائص الموضوع أو األثر الجمالي‪ ،‬ألن الذات تنظر بعين المحبة‪ ،‬وتقوم‬
‫بإسقاط كل الخصائص والمزايا والسمات التي تحبها الذات وتفضلها‪ ،‬ألن مشاعر الحب الجياشة‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫تدفع المرء لًلندماج بالمحبوب أو االتحاد فيه‪ ،‬فإذا ما حدث ذلك يختلط على المرء بين ما يراه‬
‫وما يريده‪ ،‬وما هو في الموضوع الجمالي وما هو عنده وهذا ما عبر عنه ابن خلدون بقوله‪:‬‬
‫"ولهذا تجد العاشقين مستمرين في المحبة‪ ،‬يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم‬
‫بروح المحبوب‪ ،‬وهذا سر تفهمه إن كنت من أهله وهو اتحاد المبدأ "‪.‬‬

‫هذا ليس مقتص اًر على العاشق والمحبوب فحسب‪ ،‬بل على كل ما بين المرء‪ ،‬وما يحبه من‬
‫الموضوعات الجمالية‪ ،‬على اختًلف مضامينها وتباين أشكالها‪.‬‬

‫‪ -2‬االنفعاالت المنفرة‪:‬‬

‫إذا كانت االنفعاالت المشوقة تدفع اإلنسان إلى رؤية كل المحاسن في المحبوب‪ ،‬وفقاً لما‬
‫ارتسم في مخيلته من معاني الجمال السامية‪ ،‬وبغض النظر عن المعايب ونواقصها‪ ،‬فإلى أي‬
‫اتجاه ستقود هذه االنفعاالت المنفرة صاحبها‪ ،‬ترى إلى فهمه كما هو‪ ،‬أم إلى انتزاع صفات‬
‫الحسن من خصائصه أم إلى غير ذلك؟‬

‫يقول أبو الطيب المتنبي واصفاً اسحق بن إبراهيم التي تربطه به عداوة وكراهية قديمة‪:‬‬

‫صرم‬ ‫ِ‬ ‫مطروفة أو َّ‬


‫فت فيها ح ُ‬ ‫وجفونه ما تستقر كأنها‬

‫قرد يقهقه أو عجوز تلطم‬ ‫محدثاً فكأنه‬


‫واذا أشار ِّ‬

‫يبدو جلياً أن االنفعاالت المنفرة ال تجنح بصاحبها إلى انتزاع صفات الحسن من الخصم‬
‫وحسب‪ ،‬بل تقود إلى تصوير الخصم على نحو مسخي أو كاريكاتيري‪ ،‬أي تجريد الشيء أو‬
‫الطرف المكروه من خصائصه الجمالية‪ ،‬ورؤيته بمنظار المفارقة الضاحكة حيناً‪ ،‬وحيناً بمنظار‬
‫التناقضات الساخرة‪ ،‬حيث يقوم المرء بتجريد الموضوع من خصائصه وسماته الجمالية اإليجابية‬
‫خاصة المحاسن‪ ،‬ليسقط على الموضوع بديًلً عنها كل مكروه ومفجوع بدرجة من الدرجات‪ ،‬وهو‬
‫هنا ال يفهم الموضوع من الناحية الجمالية فهماً مقلوباً فحسب‪ ،‬وانما يقلب فقط الخصائص‬
‫اإليجابية‪ ،‬ويحل محلها قيماً سلبية بطريقة من الطرق تتناسب وشخصيته‪ ،‬وعقليته‪ ،‬وثقافته‪،‬‬
‫ولكنها على أي حال عملية تشويه للخصائص الجمالية للموضوع‪ ،‬لتبدو متناقضة مضطربة قلقة‪.‬‬

‫وهذا ما نجده على نحو واحد في اآلثار التهكمية الًلذعة التي خلفها لنا الجاحظ والتوحيدي‬
‫وبرناردشو وموليير وغيرهم‪ ،‬من ذلك ما أورده التوحيدي‪:‬‬

‫‪ -‬قُ ِّد َم ألبي العيناء يوماً ق ْدر‪ ،‬فوجدها كثيرة العظام‪ ،‬فقال‪ :‬هذه ق ْدر أم ْقبر؟‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ك أثْ َق ُل؟ قال‪ :‬مافيهُم َب ْع َد الكبير أثق ُل من الصغير‬
‫أي بني َ‬
‫‪ -‬سئل أبو عمارة‪ ،‬قاضي الكوفة‪ُّ :‬‬
‫إالّ األوسط‪.‬‬

‫سمع أعرابي دابة تعتلف في جوف الليل‪ ،‬فقال‪" :‬إني ألراك تسهرين في مالي والناس‬ ‫‪-‬‬
‫نيام‪ ،‬واهلل ال تصبحين عندي وباعها"‪.‬‬

‫‪ -‬قال ابن الجصاص الصوفي‪ :‬دخلت على أحمد بن روح األهوازي فقال‪ :‬ما تقول في‬
‫من ُخول؟‬
‫سمن‪ ،‬على حافتيها ُكثبان من السكر ال ْ‬ ‫صحفة أ َُرز مطبوخ‪ ،‬فيها نهر من ْ‬
‫َ‬
‫قلت‪ :‬أبكي شوقاً إليه‪ ،‬جعلنا اهلل واياك من الواردين عليه‬
‫الك؟ ُ‬
‫فدمعت عيناي‪ ،‬فقال‪َ :‬م َ‬
‫ْ‬
‫إلبهام‪،‬‬
‫قلت‪ :‬الغواصة‪ :‬ا ُ‬ ‫بالغواصة والرد َادتَين‪ ،‬فقال لي‪ :‬ما الغواصةُ والردادتان؟ ُ‬
‫والردادتان‪ :‬السبابة والوسطى‪...‬‬

‫الش َبع؟ قال‪ :‬الشبعُ حرام ُكلُّهُ‪ ،‬وانما أحل اهلل من األكل ما نفى َ‬
‫الخ َوى‪،‬‬ ‫حد ِّ‬ ‫‪ -‬قيل لبخيل‪ :‬ما ُّ‬
‫لناس في‬
‫هلك ا ُ‬
‫بين اإلنسان وبين المرح‪ .‬وهل َ‬ ‫وحال َ‬
‫َ‬ ‫ق‪،‬‬
‫أمسك الرَم َ‬
‫الصداع‪ ،‬و َ‬
‫َ‬ ‫وسك َن‬
‫َ‬
‫ط َنة واالحت َشاء؟‬ ‫ضلُّع والب ْ‬ ‫الدنيا إال ِّ‬
‫بالش َبع والت َ‬ ‫الدين و ُّ‬
‫ِّ‬

‫لت حركاتُ َك‪،‬‬‫سان َك‪ ،‬وثَُق ْ‬


‫وب َك َم ل ُ‬
‫عيناك‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫ظت‬ ‫ماحد ِّ‬
‫الش َبع؟ قال‪ :‬إذا َج َح ْ‬ ‫ُّ‬ ‫‪ -‬قيل ل َسمرقَنديِّ‪:‬‬
‫فأنت في أوائل ِّ‬
‫الش َبع‪ ،‬قيل‪ :‬إذا كان هذا أولَهُ‪ ،‬فما آخرهُ؟ قال‪ :‬أن تَْن َشق‬ ‫و ْار َجحن ع ْقلُ َك َ‬
‫نصفين‪.‬‬
‫ْ‬
‫‪ -3‬االنفعاالت المشوشة‪:‬‬

‫قد يمر المرء بحاالت من التشتت الذهني‪ ،‬وفقدان القدرة على التركيز‪ ،‬كما قد يكون في حالة‬
‫غضب‪ ،‬أو هيجان‪ ،‬أو قلق‪ ،‬أو حيرة‪ ،‬أو سوى ذلك‪ ،‬فًل يتاح له الحكم الصحيح الطبيعي على‬
‫ما يتلقاه من موضوعات جمالية‪ ،‬أو أخًلقية‪ ،‬أو اجتماعية‪ ،‬ففي أي نحو تسير آلية التذوق‬
‫الجمالي أثناء التعرض لًلنفعاالت المشوشة؟‬

‫الحق أننا أمام آلتين من آليات التذوق الجمالي‪ ،‬ذلك أن الذي يتلقى أث اًر جمالياً‪ ،‬إما أن يأسره‬
‫الجمال‪ ،‬أو أن يغلبه االنفعال‪.‬‬

‫وقد ذهب أرسطو‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬وشارل اللو إلى أن المعايشة الجمالية تلعب دو اًر كبي اًر في‬
‫تطهير االنفعال‪ ،‬ويمكننا أن نضيف امتصاص حدة القلق والهيجان‪ ،‬وتهيئة النفس لًلعتدال‬
‫والتوازن‪ ،‬بدفعها إلى االستقرار ودفع التوتر االنفعالي على اختًلف أنواعه‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫وقد بدا هذا مؤكداً من خًلل العديد من األبحاث‪ ،‬واتجه الباحثون النفسيون واالجتماعيون إلى‬
‫الحديث عن أثر هذه الظاهرة في التنشئة االجتماعية‪ ،‬وضبط االنفعاالت وتوجيهها‪ ،‬فماذا يعني‬
‫ذلك من ناحية التذوق الجمالي؟‬

‫قد يكون من التسرع االعتقاد بأن المعايشة الجمالية هنا حالة خاصة من حاالت االنفعاالت‬
‫المشوشة بمعنى أن المرء يجرد الموضوع أو األثر الجمالي من خصائصه وسماته ومزاياه‬
‫الجمالية‪ ،‬ليسبغ عليها قيمه المستحبة المفضلة كما ّبينا قبل قليل‪ ،‬أي على ما ترغبه الذات‬
‫وتتوخاه‪ ،‬ألن في هذا ما يفسر لنا تخامد الهجيان‪ ،‬أو خفة حدة القلق والغضب وتراخي الحيرة‬
‫بحصول المرء على شيء مرغوب محبب‪ ،‬بمعنى أن الحقائق العلمية ال تناقض االعتقاد بأن‬
‫المعايشة الجمالية تسهم في التخفيف من حدة االنفعال‪.‬‬

‫لقد أثبتت بعض التجارب أن المعايشة الجمالية في أثناء االنفعال‪ ،‬تسهم في توسع األوردة‬
‫الدموية التي تكون في حالة من االنقباض والتشنج اثناء الغضب‪ ،‬األمر الذي يخفف من حدة‬
‫االنفعال‪ ،‬ومن ثم تًلشيه خًلل وقت قصير وكأن األثر الجمالي يسري في الكيان سريان الدم في‬
‫أوعيته‪.‬‬

‫وهذا يعني أن األثر الجمالي بخصائصه ومزاياه‪ ،‬هو الذي يفرغ الذات من خصائصها‬
‫وسماتها المكونة لمنظومتها التكوينية والتقويمية‪ ،‬واعادة بنائها آنية على شاكلتها‪.‬‬

‫إن قيام عملية التذوق الجمالي على هذا النحو الذي تفرض خصائص الموضوع الجمالي ذاتها‬
‫على المتلقي‪ ،‬وهيمنتها عليه‪ ،‬أو على منظومة التذوق الجمالي لديه‪ ،‬لتصدر حكماً مطابقاً لما‬
‫هو عليه الموضوع‪ ،‬ليس يعني موضوعية الحكم الجمالي بالمعنى االصطًلحي‪ ،‬بل بمعنى‬
‫الخصائص والصفات الجمالية التي يجتازها الموضوع الجمالي التي غدت بالنسبة للذات المتلقية‬
‫لهذه الحالة االنفعالية هي القيم العليا‪ ،‬وكأنها هي القيم التي اصطنعها لتحاكم من خًللها‬
‫الموضوعات الجمالية‪.‬‬

‫وهذا ما يفسر لنا إعجاب المرء ببعض اآلثار الجانبية‪ ،‬وأضرارها التي تحذو حذوها أو‬
‫تشابهها‪ ،‬فقد يستمع المرء إلى أغنية ما وهو قلق‪ ،‬وتخفف عنه بعض همه وقلقه‪ ،‬فًل يلبث أن‬
‫تصبح هذه أغنية من المفضًلت لديه‪ ،‬هي وما شابهها كًلماً وأنغاماً‪.‬‬

‫هذه الحالة ليست دائمة الحدوث عند الفرد كما أنها ال تنطبق على كل األفراد‪ ،‬وانما تكاد‬
‫تنحصر بذواقة الجمال المختصين‪ ،‬خاصة منهم الفنانين‪ ،‬أي إن االنفعال الثاني هنا هو الذي‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫يغلب المرء على أمره‪ ،‬وال يترك للجمال مجاالً ولذلك ال نستطيع القول‪ :‬إن ثمة معايشة جمالية البتّة هنا‪،‬‬
‫ومن ثم فإن التذوق الجمالي يكون حتماً تذوقاً ناقصاً‪ ،‬والحكم الًلزم عن ذلك يفتقر إلى العناصر‬
‫الخاصة في كل ضرب من أضراب التذوق الجمالي‪ ،‬وان كان أقرب شيء إلى التذوق التلقائي‪،‬‬
‫إالّ أنه أشد ضبابية وغموضاً‪.‬‬

‫أي إن الرسائل المعلوماتية الواردة من الموضوع ال تصل كاملة وال واضحة‪ ،‬ويمكن القول‪ :‬إن‬
‫منظومة التقويم الجمالي ال تكون في ساحة الشعور الجمالي في أثناء التلقي‪.‬‬

‫**************************************************‬

‫عالقة اإلنسان بالجمال‬


‫تاريخ اإلنسان يدلّل على جماليته التي ليست رهن شكله فقط‪ّ ،‬إنما قائمة حتى في األشكال‬
‫جمالي‪ ،‬ليست الزينة التي نجمل بها أنفسنا هي المقصودة‪ ،‬إّنما‬
‫ٌّ‬ ‫الّتي يبدعها‪ ،‬فالزينة شكل‬
‫فكل شخص ح ّر‬ ‫المقصود األدوات التي نستخدمها‪ ،‬نحن نظهر أمام الناس بما يليق‪ ،‬أما األكل ُّ‬
‫يأكل ما يريد‪ ،‬فنحن نحاول أن نتصف بالجمال بأشكالنا العضوية‪ ،‬بلباسنا‪ ،‬بزينتنا‪ ،‬قد يظ ّن‬
‫بعضنا أن المرأة هي األكثر زينة‪ ،‬لكن الرجل في مرحلة من المراحل كان أكثر زينة من المرأة‬
‫العتبارات جمالية من جهة وسحرية من جهة أخرى‪.‬‬

‫تداخال بين الجمال والقبيح‪.‬‬


‫ً‬ ‫تداخال بين الجمال والسحر‪,‬‬
‫ً‬ ‫في تاريخ اإلنسان نجد‬

‫وشما على كتفه أو على يده فهو يتزّين به‪ ،‬ويدلل من خًلله على عشيرته‬ ‫الرجل حين يضع ً‬
‫التي ينتمي إليه‪ ،‬إلى اآلن البدو يقومون بالوشم في الظهر أو الوجه أو الذقن‪ ،‬ولك ّل قبيلة وشم‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ًّ‬
‫ودينيا ً‬ ‫جانبا سحرًّيا‬
‫أن فيها ً‬
‫خاص بها‪ ،‬ولو عدنا إلى أصل الوشوم لوجدنا ّ‬
‫ٌّ‬

‫الوشم قد يقي من األرواح الشريرة‪ ،‬عندما َيش ُم الرجل كتفه أو يده فسيشفى من األرواح أو من‬
‫معين‪.‬‬
‫الوشم رمز ديني إلله ّ‬
‫الشياطين‪ ،‬و ُ‬

‫في الوشم وحده نحن أمام جملة من التأويًلت منها‪ :‬الجمال‪ ،‬السحر‪ ،‬الدين‪ ،‬االنتساب لهذه‬
‫القبيلة أو تلك‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫كائنا مختلفًا عن بقية‬
‫إ ًذا الجمال صاحب اإلنسان منذ بداياته األولى‪ ،‬ومنذ أن وعى نفسه ً‬
‫ثًل‬
‫الكائنات األخرى حوله‪ ،‬والجمال ليس في الشكل فقط‪ ,‬إنما في السلوك‪ ،‬فطريقة المشي م ً‬
‫معين‪ ،‬عندما ندخل إلى كنيسة أو إلى جامع فيجب أن ندخل بطريقة معينة‪ ،‬أي‬
‫تدل على ذوق ّ‬
‫إن احترامنا للمكان يجب أن ينعكس في السلوك‪ ،‬وهذا يدخل في إطار الذوق االجتماعي الذي‬
‫يرتب طبيعة الجمال ويحددها في الحركات والسلوك والكًلم‪.‬‬

‫زميًل لنا؟‬
‫كبير كما نحادث ً‬
‫اما ًا‬
‫هل يجوز أن نتحدث مع من نحترمه احتر ً‬

‫منا سنًّا أو ًا‬


‫قدر من المفترض أن نحادثه وأن‬ ‫ال نستطيع‪ ،‬دخل في ذهنيتنا ّأنه َم ْن هو أكبر ّ‬
‫لغوي‪.‬‬
‫حركي وجانب ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫نجلس أمامه بطريقة معينة‪ ،‬فلدينا هنا جانب‬

‫هذا كلّه يدخل في الدرس الجمالي باإلضافة إلى الشعر‪ ,‬الرسم‪ ,‬الموسيقا‪ ,‬النحت‪ ,‬الزخرفة‪,‬‬
‫العمارة‪.‬‬

‫كنا متلقين لها‪ ،‬فمن‬


‫كنا قد أنتجناها أو ّ‬
‫هي كلها تعبيرات عن الجمال وعن النزوع إليه سواء أ ّ‬
‫أنتجها‪ ،‬في ذهنه أن ينتج الجمال‪ ،‬ومن تلقاها في ذهنه أن يتلقى الجمال‪.‬‬

‫شد أنظارنا‪ ،‬ننصرف عنها‪ ،‬نحن حين نتلقى الفنون فهذا ألننا نحب أن‬
‫اللوحة الفنية التي ال ت ّ‬
‫نتلقى الجمال‪ ،‬والفنون الجميلة تجعلنا ًّ‬
‫ثقافيا نسعى إلى الجمال‪ ،‬أما الفنون التطبيقية فتجعلنا‬
‫نعيش في وسط جمالي فهي تحسن حياتنا وتجملها‪.‬‬

‫لدينا األفق‪ ،‬السماء‪ ،‬النجوم‪ ،‬الشجر‪ ،‬الغابات‪ ،‬كل ما يحيط بنا في الطبيعة يدخل في إطار‬
‫أحيانا نستحضر البحر أو النهر‬
‫أحيانا نستحضر الطبيعة كلها في أصيص من الورد‪ ،‬و ً‬
‫الجمال‪ ،‬و ً‬
‫من خًلل بحرة صغيرة في البيت‪ ،‬والبيوت العربية في دمشق وحلب وحماة‪...‬إلخ كانت كلها‬
‫تشتمل على بحرة في المنتصف‪.‬‬

‫إ ًذا الجمال موجود في األرض وفي السماء‪ ،‬وعلى علم الجمال أن يحدده وأن يوضحه بوصفه‬
‫مادةً نظرية تجريدية‪ ،‬أي نحن سنجرد الجمال من ثيابه‪ ،‬وسنقدم الجمال بوصفه فكرة‪ ،‬لذلك‬
‫مما هو عليه‪.‬‬
‫جماال ّ‬
‫ً‬ ‫سيكون أق ّل‬

‫لو أتينا بلوحة‪ ،‬ووضعناها على السبورة‪ ،‬وحاولنا أن نتأملها يمكن أن نستمتع بخطوطها‪،‬‬
‫لكن لو سألتكم عنها دون أن تكون موجودة‪ ،‬فستقولون‪ :‬ال‬‫بألوانها‪ ،‬وبتناسقات األحجام فيها‪ْ ،‬‬
‫الكًلم على الجمال يحتاج إلى مقدرة نظرية معينة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ألن‬
‫نعرف‪ ،‬لماذا؟ ّ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫نعبر عنه إال إذا امتلكنا مقدرة‬
‫لكن في الغالب ال نستطيع أن ّ‬
‫نحن نستطيع أن نعيش الجمال‪ْ ،‬‬
‫حسي أي من خًلل‬ ‫معرفية تذوقية عالية وهم قلة‪ ،‬والشعراء والفنانون يستطيعون التعبير بشكل ّ‬
‫لنحات‬
‫سألت الشاعر أو الروائي أو الفنان التشكيلي أو ا ّ‬
‫َ‬ ‫لكن حتى لو‬
‫اإلنتاج‪ ،‬ينتجون الجمال‪ْ ،‬‬
‫لماذا فعلت ذلك؟ لماذا قلت هذه الصورة الفنية؟ ربما تلكأ في اإلجابة‪ ،‬لماذا؟‬

‫ألنه كان في حالة تجربة انفعالية ال تسمح له بأن يفكر فيها نظريًّا‪ ،‬إنما يعيشها ويقدمها‬
‫ّ‬
‫للجمهور‪.‬‬

‫أيضا‬
‫ك ّل فتاة لديها تصور عن فارس األحًلم بمواصفات جمالية عديدة‪ ،‬مثلما يحلم الشاب ً‬
‫بمثَل أعلى في الجمال‪.‬‬‫َ‬

‫هل الجمي ُل جميل‪ ،‬ألننا نحبه أم أننا ُّ‬


‫نحبه ألنه جميل؟‬

‫أيهما أسبق هنا أننا نحبه أم أنه جميل؟‬

‫ديدا‪.‬‬
‫أن هنالك إربا ًكا ش ً‬
‫الحقيقة ّ‬

‫مثًل هل ابنها جميل‪ ،‬ألنها تحبه؟‬


‫األم ً‬

‫جميًل‪ ،‬ولو سلمنا بهذا فيكون كل األبناء بعيون أمهاتهم جميلين مع أنهم قد‬
‫ً‬ ‫قد ال يكون‬
‫يكونون قبحاء!‬

‫جميًل‬
‫ً‬ ‫أحيانا أنا أرى هذا الشيء‬
‫قبيحا بالنسبة إليك‪ ،‬و ً‬
‫أحيانا ما هو جميل بالنسبة إلي قد يكون ً‬
‫ً‬
‫قبيحا ًّ‬
‫جدا‪ ،‬فسيكون هناك‬ ‫جميًل ًّ‬
‫جدا وأنت تراه ً‬ ‫ً‬ ‫كنت أرى الشيء‬
‫عاديا‪ ،‬لكن إذا ُ‬ ‫ًّ‬
‫جدا وأنت تراه ًّ‬
‫إرباك ومشكلة‪ ،‬هناك مساحة يتحرك فيها الذوق‪ ،‬فبعض األشياء يبرز فيها الذوق الفردي‪ ،‬وتبرز‬
‫فيها الرغبات والمشاعر الخاصة بقوة‪ ،‬وهنالك مساحة يشترك فيها جماعة كبيرة من الناس‪،‬‬
‫وهنالك مساحة يشترك فيها المجتمع‪ ،‬وهنالك مساحة تشترك فيها اإلنسانية جمعاء‪.‬‬

‫ِ‬
‫الجمال‪:‬‬ ‫نسبية‬

‫أن الجمال بالنسبة إلي غيره بالنسبة إليك‪ ،‬وغيره بالنسبة إلى‬
‫مقولة (الجمال نسبي) قد توحي ّ‬
‫حد ال نستطيع فيه أن نتحدث عن جمال عام؛ بل نتحدث عن جمالنا الذي‬ ‫غيرنا‪...‬إلخ‪ ،‬إلى ٍّ‬
‫نحبه‪ ،‬وعندما نتحدث عن الجمال الذي نحبه‪ ،‬فنحن ال نتحدث في العلم‪ ،‬نتحدث في األشياء‬
‫والمشاعر الشخصية‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الجمال بالتأكيد فيه مساحة نسبية‪ ،‬ولكن ليس كله نسبيًّا‪ ،‬فيمكن أن أنصرف إليه بنسبة كبيرة‬
‫أيضا هنالك مساحة يمكن أن نطلق‬
‫قبيحا‪ً ،‬‬ ‫ًّ‬
‫جدا‪ ،‬يأتي آخر فينصرف إليه بنسبة أقل‪ ،‬لكنه ال يراه ً‬
‫قبيحا‪.‬‬
‫جميًل وليس ً‬
‫ً‬ ‫عليها مصطلح الحياد‪ ،‬أي ما ليس‬

‫تشد انتباهنا‪ ،‬وقد تشد انتباه سوانا‪.‬‬ ‫هناك أشياء نعدها جميلة ًّ‬
‫جدا وهناك أشياء ال ّ‬

‫غالبا في منطقة الحياد‪ ،‬أي أنا أرى هذا الجمال ًّ‬


‫عاديا وسواي ي اره فائقًا‪.‬‬ ‫إ ًذا النسبية تدخل ً‬

‫الجمال ذو صفة موضوعية وذو صفة ذاتية‪:‬‬

‫ليست الذاتية بالمعنى الفردي الدقيق‪ّ ،‬إنما الذاتية االجتماعية‪ ،‬فالمجتمعات لها أذواقها‬
‫وتفضيًلتها المعينة‪ ،‬الذاتية ال ينبغي أن نفهمها على أنها فردية بحتة‪ ،‬إنما على أنها اجتماعية‪،‬‬
‫هذا المجتمع يفضل هذه الجماالت وذاك المجتمع يفضل تلك الجماالت‪ ،‬بهذا المعنى نحن أمام‬
‫ًّ‬
‫يابانيا فسنقف أمامه محتارين‪،‬‬ ‫نسبية‪ ،‬نحن اعتدنا في بيئتنا على وجه معين عندما نرى وجهًا‬
‫جميًل قد ال نراه‬
‫ً‬ ‫وكذلك الزنوج نستغرب شكلهم؛ لكن يصعب أن نقول‪ :‬إنهم قبحاء فما ال نراه‬
‫قبيحا في الوقت نفسه‪.‬‬
‫ً‬

‫ييبس صنع له فرًنا ووضعه في‬


‫شكًل يشبهه ولكي َ‬‫جاء في األسطورة أن إلهاً أراد أن يصنع ً‬
‫الفرن‪ ،‬وأغلق عيه الباب‪ ،‬وبعد فترة طويلة تذكره‪ ،‬فذهب إلى الفرن وفتحه واذ به قد احترق فكان‬
‫شكًل شبيهًا بالذي صنعه أول مرة‪ ،‬وضعه‬ ‫جانبا وراح يصنع ً‬
‫العرق األسود‪ ،‬وألنه احترق تركه ً‬
‫في الفرن وراقبه كي ال يحترق‪ ،‬وأخرجه قبل أن ينضج فكان العرق األبيض‪ ،‬ثم في المرة الثالثة‬
‫امتلك الخبرة‪ ،‬وضع الشكل الثالث في الفرن وأخرجه في الوقت المناسب فكان العرق البرونزي‬
‫األصفر‪ ،‬هذه أسطورة شرقية تدل على العرق األصفر‪.‬‬

‫إن الشكل األجمل هو الشكل البرونزي‪ ،‬في حين أن في أوربة الشكل األجمل‬
‫يمكن أن نقول‪ّ :‬‬
‫هو األبيض‪ ،‬وبالتأكيد الشكل األجمل هو السمرة التي تقترب من البياض لدى الهنود الحمر‪،‬‬
‫واللون األجمل بالنسبة لألفريقي هو اللون األسود اللماع‪ ،‬الذي لكثرة سواده يلمع‪.‬‬

‫إ ًذا النسبية هنا اجتماعية وليست فردية‪.‬‬

‫تنوع شديد‪ ،‬لدينا الجمال في الطبيعة‪ ،‬الجمال في‬


‫كل هذا يدخل في علم الجمال‪ ،‬نحن أمام ّ‬
‫الفن الذي ينقسم إلى‪:‬‬

‫‪ -1‬الجمال في الفنون الجميلة‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫‪ -2‬الجمال في الفنون الجميلة التطبيقية‪.‬‬

‫الجمال المطلق‪:‬‬

‫مجرد ال نستطيع أن نلمسه‪ ،‬وليس ثمة جمال مطلق إال اهلل سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫المطلق ّ‬
‫ُ‬ ‫الجمال‬
‫أن الجمال اإللهي المطلق ليس مادة للدرس‪ ،‬نحن معنيون بالجمال‬
‫وما سواه ليست مطلقات غير ّ‬
‫أن الجمال النسبي له مستويات‪.‬‬
‫النسبي غير ّ‬

‫نسبي يكاد أن يكون مطلقًا عبر التاريخ وكذلك جمال القمر والسماء الصافية‬
‫ّ‬ ‫جمال الشجرة‬
‫أن اإلطًلقيةَ هنا‬
‫عموما عبر تاريخ البشرية كانت جميلة أو جليلة بمعنى ّ‬
‫ً‬ ‫والبحر‪ ،‬والطبيعة‬
‫إنسانية وليست إلهيةً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إطًلقية‬

‫الجمال المطلق هو الجمال اإللهي وما سواه جماالت وجًلالت نسبية‪ ،‬بعضها يصل إلى حد‬
‫إنسانيا بمعنى أنها عبر تاريخ اإلنسانية ع ّدت جميلة‪ ،‬وبعضها ال يصل‪.‬‬
‫ً‬ ‫اإلطًلقية‬

‫الجميع يحب البحر‪ ،‬هنالك من يخاف البحر‪ ،‬هذا مريض والمريض ال يقاس عليه‪ ،‬وكذلك‬
‫صة‬
‫األمر بالنسبة إلى السماء الصافية أو المتكدرة بالغيوم محبوبة‪ ،‬ألن هذه تولد مشاعر خا ّ‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وتلك تولد مشاعر خاصة ً‬

‫لكن إذا كانت السماء مكدرة الغيوم فيها مضطربة‬


‫فإذا كنا أمام سماء صافية فنحس بالصفاء؛ ْ‬
‫فنحس بالجًلل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫خصوصا في الشتاء‬
‫ً‬ ‫سوداء تكاد تتحارب مع بعضها‬

‫فالسماء يمكن أن تكون جميلة ويمكن أن تكون جليلة‪ ،‬وال يمكن أن تكون قبيحة‪ ،‬وكذلك حال‬
‫البحر والنهر والشجر‪ .‬ويمكن لشجرة أن تكون أجمل من أخرى‪ ،‬لكن ال يمكن أن تكون قبيحة‪،‬‬
‫تجاور لقيمتين‬
‫ًا‬ ‫ًّ‬
‫جماليا بل يمكن أن نرى فيه‬ ‫النسبية ال تعني أننا أمام شيء‪ ،‬يمكن أن ُيلغى‬
‫كالجميل والجليل‪.‬‬

‫فمثًل نحن أبناء المناطق السهلية نندهش بارتفاع الجبال‪ ،‬وأبناء المناطق الجرداء يندهشون‬
‫ً‬
‫بمناطق الخضرة الممتدة على الجبال‪ ،‬ابن الجبل قد يندهش في ذلك االمتداد في السهل أو في‬
‫الصحراء‪.‬‬

‫الصحراء قد تكون مخيفة‪ ،‬لكنها ليست قبيحة‪ ،‬المشكلة أننا نخلط بين المصطلحات فنع ّد‬
‫قبيحا‪ ،‬المخيف إذا نظرت إليه من خًلل شاشة التلفزيون هل يبقى مخيفًا؟ أال يعود‬
‫المخيف ً‬
‫جميًل؟ بلى‪.‬‬
‫ً‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫أنت ال يمكن أن تقف أمام وحش مفترس‪ ،‬وتقول‪ :‬هذا جميل‪ ،‬إذا وقفت أمامه فلن تستطيع أن‬
‫تقدر جماله أو جًلله‪ ،‬ألنك مشغول بالهرب‪ ،‬لكن لو رأيته من وراء بلور أو من خًلل فيديو هل‬
‫تخاف منه أم تتأمل فيه؟ تتأمل بمعزل عن الخوف‪.‬‬

‫هذا ما يجعلنا نقول‪ :‬الخائف ال يقوم جماليا‪ ,‬والجائع ال يقوم جماليا‪ .‬والمثل يقول‪ :‬الجوع‬
‫قيمه‬ ‫ألن الجائع يأكل ويرى كل ما يأكله ًّ‬
‫شهيا لذي ًذا‪ ،‬هو ال ي ّ‬ ‫أمهر طباخ في العالم‪ ،‬لماذا؟ ّ‬
‫تخير‪ ،‬ويبدأ يفكر بالجمال‪.‬‬
‫أصًل‪ ،‬لكن بعد أن يشبع يبدأ يال ّ‬
‫ً‬

‫كنا نذهب بزورق إلى أرواد كنا‬ ‫ًّ‬


‫جماليا والخائف كذلك‪ ،‬عندما ّ‬ ‫يقيم‬
‫الجائع ال يستطيع أن ّ‬
‫نستمع بالجمال‪ ،‬لكن إذا جاءت موجة قاسية فسنشعر بالخوف واإلرباك‪ ،‬ولذلك الموقف الجمال ّي‬
‫جميًل بالضرورة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ينبغي أن يكون منع ًزال عن الحاجة‪ ،‬ولذلك ليس المحبوب‬

‫حب األم البنها ال ينطبق عليه الموقف الجمالي‪ ،‬ألنها تنطلق بدافع غريزيٍّ‪ ،‬إ ًذا المشاعر‬
‫ّ‬
‫القاهرة والحاجات الغريزية تبعدنا عن الموقف الجمالي وكذلك مسألة االستمًلك‪ ،‬بمجرد ما‬
‫شيئا وحدي فأنا ما شعرت بجماله بقدر ما أحببت أن أعبر عن أنانيتي‪.‬‬
‫تملكت ً‬

‫سنحاول اإلجابة عن تساؤالت علم الجمال‪ ،‬وبالتأكيد لن نستطيع أن نجيب عنها كلها‪ ،‬ألن‬
‫كثير من األشياء وليس كلّها‪ ،‬منها‬
‫الفصل ال يسمح لنا بقول ك ّل شيء إنما يسمح لنا بأن نتلمس ًا‬
‫مثًل‪:‬‬
‫ً‬

‫مسألة الجميل والنافع‪ ،‬هل النافع جميل؟ هل هو جميل‪ ،‬ألنه نافع؟ هل نلبس هذا اللباس ألنه‬
‫جميل أم ألمر آخر؟‬

‫***********************************‬

‫اإلنسـان كـائـن جمـالـي‬


‫ُ‬
‫عيش الجمال هو الهدف األسمى‬ ‫ُ‬ ‫الجمال نستطيع أن نعيشه‪ ،‬لكننا ال نستطيع أن نعرفه‪،‬‬
‫ومتعبا بالنسبة إلى‬
‫ً‬ ‫للبشرية أفر ًادا وجماعات؛ غير أن الكًلم على الجمال هو الذي يبدو شاقًّا‬
‫قديما وحديثًا على السواء‪.‬‬
‫كثيرين ً‬

‫أيضا‪ ،‬ويمكن أن نبدعه‬


‫فني ً‬‫حياتي مثلما هو سؤال ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫في مثلما هو سؤال‬
‫ما الجمال؟ سؤال معر ٌّ‬
‫ًّ‬
‫فنا ويمكن أن نعيشه سلو ًكا‪ ،‬ويمكن أن نتأمله وأن نفكر فيه على الصعيد الفلسفي‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫مديدا‪ ،‬وهي تعيش الجمال من غير أن تعيه ومن غير أن تفكر فيه‪ ،‬فع ًّليا‬
‫دهر ً‬‫عاشت البشرية ًا‬
‫لم يبدأ التفكير في مفهوم الجمال إال مع الفلسفة والفكر النظري عامة‪ ،‬أي قبل الميًلد بقرون‬
‫ي عن‬
‫سلوكي أو تصور ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫فني أو‬
‫قليلة فقط‪ ،‬في حين أن ما قبل الفلسفة كان عبارة عن تعبير ٍّ‬
‫ًّ‬
‫فلسفيا‪.‬‬ ‫تفكير نظرًّيا تأمليًّا‬
‫الجمال‪ ،‬لكنه ليس ًا‬

‫إ ًذا نزعم أن الجمال أصل من أصول العًلقات اإلنسانية‪ ،‬لم تشهد العًلقات عبر تاريخها‬
‫معبر عنه لدى أقدم الشعوب التي وصلتنا‬
‫دائما نجد الجمال معا ًشا أو ًا‬
‫يابا ألصل الجمال فيها‪ً ،‬‬
‫غ ً‬
‫آثارها عبر علم اآلثار‪ ،‬أو عبر ما وصلنا عنها من خًلل األساطير والحكايات‪.‬‬

‫اإلنسان كائن جمالي‪:‬‬

‫ف تعريفات كثيرةً مختلفةً‪ ،‬هناك من عرفه بأنه حيوان ناطق‪ ،‬وهذا‬


‫تعرفون أن اإلنسان ُع ّر َ‬
‫أيضا بأنه‬
‫تحديدا‪ ،‬إذ ليس هناك إال اإلنسان يمتلك إمكانيات النطق‪ ،‬لكنه ُعرف ً‬
‫ً‬ ‫بسبب اللغة‬
‫تجمع‪ ،‬هنالك كثير‬
‫بأنه يعيش في مجتمع‪ ،‬وليس في ّ‬
‫اجتماعي أو حيوان اجتماعي‪ ،‬يتميز ّ‬
‫ٌّ‬ ‫كائن‬
‫من الكائنات تعيش في تجمعات‪ ،‬والمجتمع يختلف عن التجمع‪.‬‬

‫سياسي وال نقصد العمل‬


‫ٌّ‬ ‫اإلنسان يتميز بالنطق وبأنه اجتماعي‪ ،‬وألنه كذلك فهو كائن‬
‫بالسياسة‪ ،‬إنما نقصد بالسياسي أنه يدير المجتمع الذي هو فيه حتى لو كنا أمام أسرة صغيرة‪،‬‬
‫إدارة األسرة تحتاج إلى سياسة معينة‪.‬‬

‫جمالي‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫ما يهمنا في علم الجمال ّأنه ٌّ‬
‫كائن‬

‫أن اإلنسان كائن اجتماعي فنعني أنه الكائن الوحيد الذي يعيش بالجمال ويبدع‬‫حين تحدد ّ‬
‫الجمال‪ ،‬ويفكر فيه‪ ،‬ليس بإمكان الحيوانات األخرى أن تعيش الجمال أو أن تبدعه‪ ،‬هنالك غريزة‬
‫فيزيولوجية‪ ،‬وهي أنها تتصرف تصرفًا ما في أشهر معينة‪ ،‬هذا ليس موقفًا جماليًّا‪ ،‬إنما تعبير‬
‫عن غريزة عضوية تهدف إلى التواصل الجنسي الستكمال النسل واستم ارره‪.‬‬

‫الغريزة هي غريزة‪ ،‬والموقف الجمالي موقف مضاف على الغريزة‪ ،‬ال العصافير وال الطيور وال‬
‫غيرها لديها موقف جمالي‪ ،‬نحن نستمتع بصوتها‪ ،‬لكنها ال تعرف‪ ،‬واإلنسان هو الكائن الوحيد‬
‫الذي يبدع‪ ،‬ويعبر عن الجمال‪.‬‬

‫هذه الحساسية الجمالية لدى اإلنسان ال نستطيع أن نتحدث عن بدايتها‪ ،‬ضع في اعتبارك أ ّن‬
‫شيئا قد يصل إلى مليون سنة‪.‬‬
‫طويًل من الزمن عاشته البشرية ال نعرف عنه ً‬
‫ً‬ ‫دحا‬
‫رً‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ال نعرف عن البشرية إال ما بعد العصور الحجرية‪ ،‬أي من عشرة آالف سنة قبل الميًلد‪ ،‬بل‬
‫ال نعرف عن البشرية معرفة دقيقة إال ما بعد العصر الحجري الحديث‪ ،‬أي في القرن الرابع‬
‫ولخامس قبل الميًلد‪ .‬أما الحضارات الكتابية مثل‪ :‬بابل‪ ،‬أوغاريت‪ ،‬فهذه ال تعود إال إلى ثًلثة‬
‫آالف سنة قبل الميًلد‪.‬‬

‫نحن ال نستطيع أن نتحدث عن اإلنسان منذ نشأته األولى فذلك في علم الغيب‪ ،‬ألن اآلثار‬
‫معدومة في تلك الفترة‪ ،‬نعرف أشياء بسيطة من خًلل بعض اللقى األثرية‪ ،‬أو بعض األدوات‬
‫المستخدمة كالسكين وما يتعلق بالصيد والقطاف‪...‬إلخ‪.‬‬

‫بناء على ما بين أيدينا من آثار ولقًى تعود إلى العصور الحجرية‪.‬‬
‫نحن نستطيع أن نتوقع ً‬

‫أصًل فيه‪ ،‬وما جاءنا من تلك اآلالت التي استخدمت‬


‫ً‬ ‫اإلنسان منذ نشأته األولى كان الجمال‬
‫يبق من إنسان من قبل التاريخ إال الجمال‪.‬‬
‫كأنما لم َ‬
‫قبل الميًلد كله يدخل في باب الجمال‪ّ ،‬‬

‫لماذا اإلنسان كائن جمالي؟‬

‫إن األشياء والظواهر من‬ ‫ٍ‬


‫‪ -1‬ألنه ذو حساسية ذوقية اتجاه األشياء والظواهر من حوله؛ أي ّ‬
‫حسيا ًّ‬
‫نفسيا في الوقت نفسه‪ ،‬وتجعله يتعامل معها بذوقية ما فردية واجتماعية في‬ ‫حوله تؤثر فيه ًّ‬
‫الوقت نفسه‪.‬‬

‫يجودها بما يرضي ذوقه وبما‬ ‫ٍ‬


‫‪ -2‬ألنه صانعُ أدوات فنيَّة؛ أي حين يصنع األداة يحاول أن ّ‬
‫يرضي األذواق المحيطة به‪ ،‬وهو الوحيد الذي يصنع األدوات أو سواها‪ ،‬وهو صانع أدوات فنية‬
‫مستقلة بنفسها‪ ،‬أي األداة بمجرد صنعها استقلت عنه وعن الطبيعة المحيطة به‪.‬‬

‫مستقًل عن‬
‫ً‬ ‫السكين ليس من الطبيعة‪ ،‬إنما من صنع اإلنسان‪ ،‬لكن بمجرد صنعه أصبح‬
‫الطبيعة وعن اإلنسان‪.‬‬

‫في العصر الحجري السكين كان من الحجر‪ ،‬وفي العصر البرونزي كان السكين من البرونز‪.‬‬

‫‪ -3‬ألنه ذو رموز فنية جمالية‪ ،‬وعدد من المشتغلين بعلم اإلنسان (األنثروبولوجيا) يرون أ ّن‬
‫اإلنسان كائن ذو رموز‪ ،‬لماذا؟ ألنه أحاط حياته بالرموز‪ ،‬أبدع الرموز وعاش فيها‪ ،‬نحن اليوم‬
‫نعيش بالرموز‪ ،‬اللغة رموز‪ ،‬اللباس الذي نحن فيه رمز‪ ،‬اللحية أو عدمها رمز‪ ،‬الشارب أو عدمه‬
‫رمز‪ ،‬العمامة أو عدمها رمز‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫معمما نقول‪ :‬هذا شيخ أو هذا رجل دين‪ ،‬نحن نرى الظاهرة وما ترمز إليه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بمجرد أن نرى‬
‫لكننا نقول‪ :‬الكائن ذو رموز فنية‪ ،‬أي يبدع الرموز ويتعامل معها ًّ‬
‫فنيا‪.‬‬

‫رمز للجمال‪ ،‬وهنالك من‬


‫خاليا من التقويم الجمالي‪ ،‬هنالك من يرى فيها ًا‬
‫رمز ً‬‫العمامة ليست ًا‬
‫خاصة كمن‬
‫ّ‬ ‫غالبا ما تكون ألبستها‬
‫يرى فيها غير ذلك‪ ،‬وهنالك فئات اجتماعية مختصة بشأن ما ً‬
‫يعمل بالشؤون الدينية‪ ،‬كذلك من يشتغل بالفن‪ ،‬الكثير من المشتغلين ٍّ‬
‫بفن ما يميلون إلى طريقة‬
‫معينة باللباس‪.‬‬

‫كأن هذا اللباس أصبح جزًءا من المهنة نفسها أو االختصاص نفسه‪ ،‬وهنالك طرفة من‬
‫حتى ّ‬
‫فنانا كان له (سكسوكة) وحين حلقها لم يعد يعرف الرسم‪ ،‬وهي طرفة تدل‬
‫أن ً‬ ‫أيام غوار وهي ّ‬
‫كأنه هو الفن نفسه‪.‬‬
‫أن هذا الشكل أصبح ّ‬‫على ّ‬

‫شخصيا أزعم‬
‫ً‬ ‫‪ -4‬ألنه منذ وعى وجوده على هذه األرض وعى نفسه بوصفه كائ ًنا جماليا‪:‬‬
‫أن الجمال هو أص ُل األصول حتى في الديانات‪ ،‬حتى الدين الجما ُل أصل فيه‪ ،‬ما ال تعتقده‬
‫ّ‬
‫عباد اهلل تعالى‪ ،‬في الحالتين الجمال‬
‫جميًل ال تعبده سواء أكنت من عبدة األوثان أم كنت من ّ‬
‫ً‬
‫أصل األصول‪.‬‬

‫أن اإلنسان هو الجمال‪.‬‬


‫كأنما نقول‪ :‬األديان قد وجدت لتأ ّكد ّ‬
‫ّ‬

‫هذا ما يقوله ابن الدباغ المتصوف األندلسي الشهير‪ :‬األقوام األولى عبدت النار أو الحيوان أو‬
‫النبات بسبب ما رأته فيها من جمال‪ ،‬أي لو لم َتر األقوام القديمة في النار والحيوان والنبات‬
‫جماال لما عبدتها‪.‬‬
‫ً‬

‫قنوات الجمال‪:‬‬

‫يخية عديدة‪ ،‬وأول تعبير عن الجمال عبر تاريخ اإلنسانية كان‬


‫جاءنا الجمال عبر قنوات تار ّ‬
‫بالفن‪ ،‬أي بصنع األدوات الفنية‪ ،‬نحن لم يصلنا من تلك المراحل األولى إال اآلثار أو الشواهد‬
‫الفنية حين راح اإلنسان يعبر عما يعتقد من خًلل بعض الدمى التجسيدية‪ ،‬وحين راح اإلنسان‬
‫يعبر عن حاجاته الجمالية واالقتصادية من خًلل صنع األدوات التي تعينه على حياته صنعها‬
‫فنية خاصة‪.‬‬
‫بطريقة ّ‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫قبيحا‪ ,‬يمكنه أن يؤدي‬
‫ً‬ ‫جميال أو كان‬
‫ً‬ ‫يمكن للشيء نفسه أن يؤدي الغرض إذا كان‬
‫الوظيفة‪ ,‬لكن اإلنسان لم يكن يكتفي بالوظيفة إنما عمد إلى تحسين الشكل الذي يؤدي‬
‫الوظيفة‪.‬‬

‫ما وصلنا عن عًلقة اإلنسان من حوله هو الفن‪ ،‬ولو أردنا أن نسترجع اللقى الصغيرة والكبيرة‬
‫من المواقع األثرية لعرفنا أن اإلنسان ما صنع تلك األدوات إال وفي ذهنه أن تكون جميلةً وأن‬
‫تؤدي وظيفتها‪.‬‬

‫أدوات الزينة وطرقها هي تعبير مباشر عن مفهوم الجمال عند القدامى‪ ،‬اإلنسان ذاك الحين‬
‫في سعيه إلى التزين صنع أدوات جميلةً للزينة‪ ،‬هو يتزين بأدوات جميلة وهو في الوقت نفسه‬
‫يتزين ضمن اعتقاداته السحرية‪ ،‬حتى الزينة ال نستطيع أن ُن ِّبرئها من الجانب السحري‪.‬‬

‫الوشم شكل من أشكال الزينة‪ ،‬كان القدامى يشمون أجسادهم وأجساد أطفالهم العتبارات قبلية‬
‫معينا يدل على قبيلة معينة‪ ،‬لكن الوشم بطريقة خاصة يمكن أن يكون داللة سحرية ضد‬
‫وشما ً‬
‫ً‬
‫تعبير عن الجمال في الوقت نفسه‪ ،‬فهو تعبير عن‪:‬‬
‫األرواح الشريرة‪ ،‬كما يمكن أن يكون ًا‬

‫‪ -1‬النسب‪.‬‬

‫‪ -2‬ضد األرواح الشريرة‪.‬‬

‫‪ -3‬الجمال‪.‬‬

‫علما أن اإلنسان القديم أكثر تز ًينا من اإلنسان الحديث بكثير‪ ،‬اإلنسان القديم يضع الحلق في‬
‫ً‬
‫عجيبا‪ ،‬وهناك قبائل كانت‬
‫ً‬ ‫تبيضا‬
‫ً‬ ‫أذنيه وأنفه وخديه وشفتيه‪ ،‬وهناك قبائ ُل كانت تَُبِّيض األسنان‬
‫سود األسنان‪ ،‬وهناك عادة برد األسنان‪.‬‬
‫تُ ّ‬

‫تظهر بعض األفًلم التي تتحدث عن الهنود الحمر بعض الرجال دون أسنان أمامية‪ ،‬هي‬
‫عادات تتصل بالجمال‪.‬‬

‫مثًل كان يعامل معاملة خاصة عبر الجدائل أو القص أو‬


‫الزينة شملت اإلنسان كله‪ ،‬ال َش ْع ُر ً‬
‫الرفع‪ ،‬أو وضع الدهون‪ ،‬القدامى كانوا يضعون الدهون بشكل كبير ويضعون الورود‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫لو بحثت في الشبكة عن عادات الشعوب لوجدت العجب‪ ،‬وفي الرأس وحده هناك الشيء‬
‫قديما كان الوشم بحسب الحاجة السحرية‬
‫أيضا الوشوم‪ ،‬كل الجسد يمكن أن يوشم‪ً ،‬‬ ‫العجيب‪ً ،‬‬
‫وبحسب وظيفته التي تطرد األمراض األوجاع والشياطين‪ ،‬وما إلى ذلك لدينا‪.‬‬

‫في هذه المرحلة ال نستطيع أن نتحدث عن الجمال صرفًا صحيح أننا قلنا‪ :‬الجمال أصل‬
‫األصول‪ ،‬لكننا ال نزعم أنه كان بر ًيئا من التداخل مع أشكال الوعي األخرى فالجمال ال يخلو من‬
‫جوانب سحرية أو دينية أو نفعية ذاك الحين‪.‬‬

‫ُّ‬
‫فالفن قناة أساسية في‬ ‫إذا أردنا أن نتعرف إلى الجماليات التي كان اإلنسان القديم يعتقد بها‬
‫ذلك‪ ،‬بل لعل الفن أولى تلك القنوات التي وصلتنا‪.‬‬

‫كيف نعرف المعتقد الديني؟‬

‫إن األسطورة هي الشكل الديني السردي‪ ،‬في األسطورة نرى آلهةً‬ ‫نعرفه باألسطورة؛ أي ّ‬
‫وبشرا‪ ،‬فاألسطورة هي القناة الثانية التي‬
‫اما ً‬
‫أنصاف آلهة ومًلئكةً وشياطين وعماليق وم َردةً وأقز ً‬
‫َ‬ ‫و‬
‫حملت الوعي الجمالي بالنسبة إلى اإلنسان القديم‪ ،‬حملت ذلك بعد الفن‪ ،‬وهذا ال يعني أن بينها‬
‫طويًل من الزمن‪.‬‬
‫ً‬ ‫ردحا‬
‫وبين الفن ً‬

‫أيضا‪ ،‬منذ أن بدأ‬


‫موجودا ً‬
‫ً‬ ‫إ ًذا األسطورة هي الحامل الثاني‪ ،‬لكن في زمن األسطورة كان الفن‬
‫الفن وحتى يوم الناس هذا هو قائم‪ ،‬لكن األسطورة تًلشت أو تراجعت‪ ،‬رغم أنها في السابق نقلت‬
‫جليًل وجمي ًًل‬
‫ً‬ ‫تصورات اإلنسان القديم ونزوعه الجمالي ونقلت اآللهة والشياطين أي ما تراه‬
‫وفظيعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وقبيحا‬
‫ً‬

‫يعد إلى األساطير البابلية والمصرية القديمة واإلغريقية فسوف يفاجأ بأن األسطورة حملت‬
‫من ْ‬
‫ًّ‬
‫لغويا أشكال اآللهة وجمالها وجًللها وأشكال المردة والشياطين وقباحاتهم وفظاعاتهم‪.‬‬

‫مثًل أسطورة‬ ‫جدا أو قبيحة ًّ‬


‫جدا‪ً ،‬‬ ‫عندما نق أر األساطير نعرف أن هذه الشخصية جميلة ًّ‬
‫"ميدوزا" تتحدث عن ميدو از الصبية الجميلة‪ ،‬حتى إن ربة األرباب زوجة اإلله زيوس غارت من‬
‫اجا‪ ،‬فحولتها إلى شكل قبيح غاية في‬
‫جمالها‪ ،‬وخافت على زوجها من أن يتزوجها‪ ،‬ألنه كان م ْزَو ً‬
‫جدا التي كانت تسحر األلباب‬‫الفظاعة‪ ،‬تحول شعرها الطويل إلى أفاع‪ ،‬وعيونها الجميلة ًّ‬
‫أصبحت بمجرد أن يقع نظرها على شيء يتحجر‪ ،‬وكل من يراها بشكل مباشر يتحجر‪ ،‬لذلك‬
‫أحد األبطال حين قتلها لم يستطع أن يقتلها وجهًا لوجه‪ ،‬إنما أمسك بالترس ورأى وجه ميدو از في‬
‫المرآة‪ ،‬وقطعه دون أن ينظر بشكل مباشر‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫تعرف الجمال والقبح والفظاعة في الوقت‬
‫الحظوا االنتقال من الجميل إلى القبيح‪ ،‬هذه أسطورة ّ‬
‫اضحا في الطبيعة واألنهار‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬هنالك الكثير من األساطير التي تقدم الجمال و ً‬

‫جبارا‪ ،‬وللينابيع ولألنهار حوريات‬


‫ً‬ ‫اإلغريق والشعوب القديمة كانوا يعتقدون أن للبحر إلهًا‬
‫جميلةً‪.‬‬

‫الينبوع له حورية للطافته‪ ،‬وال يعقل أن يكون له إله جبار‪ ،‬أما البحر فقاس‪ ،‬ولذلك ُرمز له بإله‬
‫جبار‪.‬‬

‫التداخل بين الجمالي والسحري والديني‪:‬‬

‫وتقديسا‪ ،‬الشكل الجميل يمكن أن يكون ذا بعد‬


‫ً‬ ‫وسحر‬
‫ًا‬ ‫جماال‬
‫ً‬ ‫اإلنسان يصنع األدوات ويرى فيها‬
‫قدسي وديني‪ ،‬ويمكن أن يكون ذا بعد سحري‪ ،‬يصنع األداة لكي يؤثر سحريًّا فيما يحيط به أو‬
‫في الموضوع الذي يريد أن يحصل عليه‪.‬‬

‫نعطي أمثلة‪ :‬إنسان ما قبل التاريخ حين كان يرسم غزًاال على جدار الكهف‪ ،‬هل كان يرسم‬
‫الغزال العتبار الجمال البحت أم العتبارات أخرى؟‬

‫ألن الشكل يمكن أن‬


‫مقدسا بالنسبة إليه‪ ،‬وربما يرسم الغزال لكي يسحره‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ربما يكون الغزال‬
‫داال على المضمون‪.‬‬
‫يكون ً‬

‫االسم في االعتقادات القديمة جزء من الشخصية‪ ،‬وفي األمثال نقول‪ٍّ ( :‬‬


‫لكل من اسمه نصيب)‬
‫أن الشكل هو‬‫أن االسم هو الشخصية نفسها‪ ،‬ويعتقد ّ‬
‫وديني يعتقد ّ‬
‫ٍّ‬ ‫ي‬
‫وهذا يدل على وعي سحر ٍّ‬
‫شيئا من أثر اإلنسان فكأننا‬
‫أيضا‪ ،‬وعندما نحضر ً‬
‫اإلنسان نفسه‪ ،‬ولهذا اللباس هو اإلنسان ً‬
‫نحضره‪.‬‬

‫اإلنسان القديم يرسم الغزال العتبار التعبد أو للتأثير سحرًّيا‪ ،‬أو للتدرب على الرمي‬
‫حجر على رسم الغزال كأنهم سحروا الغزال وبمجرد أن‬
‫واالصطياد‪ ،‬يعتقدون أنهم بمجرد أن رموا ًا‬
‫يرموه بحجر فسوف يقع ويصبح صيدهم‪ ،‬كانوا يتدربون من غير أن يعرفوا ذلك وكانوا يظنون‬
‫أنهم يسحرونه فقط‪.‬‬

‫إ ًذا رسم الغزال هل كان للتقديس أم للسحر أم للجمال؟‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫‪8‬‬
‫ألنه طوطم بالنسبة إليه‪.‬‬
‫ننحن نميل إلى أنه كان يرسمه لًلعتبارات الثًلثة‪ ،‬وقد يرسمه ّ‬

‫علما‬
‫مسألة التداخل بين الجمالي والسحري والديني تكاد تكون مؤكدة في تاريخ اإلنسان القديم‪ً ،‬‬
‫أن هناك فرقًا بين السحر والدين‪ ،‬السحر يتوجه إلى الجزئيات‪ ،‬أما الدين فيتوجه إلى الكليات‪.‬‬

‫لذلك ال تناقض بين السحر والدين في األديان القديمة‪ ،‬السحر يذهب إلى التأثير المباشر في‬
‫أما الدين فهو وعي كلي للحياة‪ ،‬لهذا قد تلتبس علينا بعض الطقوس‪ ،‬األديان تقوم‬
‫هذا الموضوع‪ّ ،‬‬
‫على الطقوس‪ ،‬الصًلة والحج والصوم طقوس‪.‬‬

‫ضيا‪ ،‬في‬
‫سماويا أم أر ً‬
‫ً‬ ‫متدينا سواء أكان الدين‬
‫ً‬ ‫البد أن تقوم بالطقوس أو الشعائر إذا كنت‬
‫ُ‬
‫خاصة‪ ،‬الكاهن كان يقوم‬
‫ّ‬ ‫مرحلة التداخل بين السحري والجمالي والديني كانت هناك طقوس‬
‫ببعض الحركات لتوليف القبيلة على الدين أو المعتقد‪ ،‬وهذه الطقوس السحرية أو الدينية فيها‬
‫جوانب جمالية‪ ،‬لماذا؟‬

‫ألنها تؤدى بطريقة خاصة بها‪ ،‬وتستطيع أن تعزز أو تخلف الرهبة أو المحبة أو الطمأنينة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ما قيمة الدين إذا لم يخلف طمأنينة فينا؟ ال شيء‪.‬‬

‫تلك الطقوس تؤدى بطريقة جمالية تعبير عن الطمأنينة والرهبة وعن جملة من المشاعر‪.‬‬

‫*************************************‬

‫الجما ُل والطبيع ُة‬


‫‪2‬‬ ‫‪9‬‬
‫يقول الشاعر الفرنسي جاك بريفير في إحدى قصائده‪:‬‬

‫صباحا إلى العمل‪ .‬فتح الباب‪ ,‬فوجئ بنسمات ربيعية‬


‫ً‬ ‫"ارتدى بزته الزرقاء‪ ,‬ونوى الخروج‬
‫قليال لفت انتباهه أصوات المارة‪ ,‬دخل الحديقة فذهل بالربيع‪,‬‬
‫دافئة تلفح وجهه‪ .‬مشى بالشارع ً‬
‫أرضا‪ .‬وقال‪ :‬أليس من العار أن يذهب‬
‫باألطفال والشيوخ والنساء‪ .‬خلع بزته الزرقاء‪ ,‬ورماها ً‬
‫رب العمل؟!"‪.‬‬
‫هذا الصباح الربيعي إلى جيوب ِّ‬

‫‪ -28‬الطوطم‪ :‬كلمة هندية‪ ،‬تعني الشيء المعبود من النبات أو الحيوان‪ ،‬ولكل قبيلة رمز طوطمي‪ ،‬وهناك مرحلة تُس َّمى‬
‫الطوطمية‪ ،‬وال يجوز لعبّاد الطوطم أن يتزاوجوا‪.‬‬
‫‪ - 29‬شاعر وكاتب فرنسي شهير‪ ،‬اشتهر ببساطة كلماته وسالسة قصائده‪ ،‬كما اشتهر بكتابته للقصص القصيرة وسيناريوهات األفالم‪،‬‬
‫وترجمت أعماله إلى عشرات اللغات‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫كيف نستنشق الجمال؟ كيف نعيشه؟ ما الذي يشدنا إليه؟ ما المشاعر التي تنتابنا أمامه؟‬

‫نشير إشارة سريعة إلى أن الجمالي يحدد بكلمتين أساسيتين هما‪ :‬المثير الحسي االنفعالي‪.‬‬

‫انفعاال يمكن أن يدخل من حيث المبدأ بالجمال‪ .‬المثير قد يثيرنا‬


‫ً‬ ‫المثير الحسي ينعكس فينا‬
‫سلبي‪ ،‬ألننا ننفر منه‪ ،‬ويمكن أن نع ّده جماليًّا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حسي مثير‪ ،‬هو مثير‬
‫ٌّ‬ ‫سلبيًّا‪ ،‬المشهد القبيح مشهد‬
‫لكن ضمن إطار جمالية القبح‪.‬‬

‫كيف نستقبل هذا المثير؟ هل نستقبله بمعناه أم نستقبله بشكله؟ لماذا أحسستم بالغرابة؟ ما‬
‫الذي شدكم في هذا المشهد؟ الذي يثيرنا يخلف فينا لذةً ما‪ ،‬إما األنس أو الطمأنينة أو ألم النفور‪،‬‬
‫انفعالي ينعكس لذة فينا‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫قبيحا نمتعض‪ ،‬وهذا المحيط أثر‬
‫شيئا ً‬‫فعندما نرى ً‬

‫اللذة الجمالية‪:‬‬

‫ليست لذة الطعام والشراب التي هي لذة حسية عضوية صرف‪ ،‬يتلذذ بها اإلنسان مثلما يتلذذ‬
‫بها الحيوان‪ ،‬اللذة الجمالية حسية في األصل‪ ،‬إذا لم نلتق ًّ‬
‫حسيا مع األشياء ال نحس اتجاهها‬
‫بإحساس اللذة أو األلم‪.‬‬

‫اللذة الحسية تشملنا كليًّا‪ ،‬في الطعام والشراب نتلذ شهويًّا بحاسة الذوق‪ ،‬أما حاستا البصر أو‬
‫السمع فنلتذ بهما‪ ،‬لكن ليس بالمعنى الحسي للكلمة‪ ،‬إنما نلتذ بالمعنى النفسي الروحي‪.‬‬

‫سمعيا أو بصرًّيا وفي الوقت نفسه نشعر بالراحة‬


‫ًّ‬ ‫الشكل الذي أمامنا شكل مريح لذيذ‬
‫أيضا‪ ،‬أنت‬ ‫ًّ‬
‫معنويا ً‬ ‫واالغتباط‪ ،‬هذا المشهد ينعكس في تخيًلت لديك عما هو األجمل‪ ،‬ينعكس‬
‫حين تلتقي بالجمال تعيش ثًلث لذائذ‪ ،‬وليس لذة واحدة كلذة الطعام والشراب‪.‬‬

‫أنت تعيش لذة الحواس‪ ،‬اللذة التي يخلفها الجمال عضوية بحت‪ ،‬ثم تنعكس راحة نفسية‪ ،‬أي‬
‫معنى‬
‫إن هذا الشكل مريح لي نفسيًّا‪ ،‬بعض األشكال نلتذ بها‪ ،‬لكنها ال تشكل راحة‪ ،‬ألنها تحمل ً‬
‫غير مرغوب بالنسبة إلينا‪ ،‬في اللذة الروحية نحس بتخيًلت وتصورات تنسجم مع ما نحلم به‬
‫َ‬
‫حسيا ونفسيا وروحيا‪.‬‬
‫ونتمناه‪ .‬الجمال يحقق وجودنا كله ً‬

‫الحواس التي لدينا ُخلقت لكي تستوعب العالم كله من حولنا‪ ،‬ليس هنالك معطًى من معطيات‬
‫هذا العالم المادية إال وله مقابل في حواسنا‪ .‬العالم ينقسم إلى روائح‪ ،‬طعوم‪ ،‬مسموعات‪ ،‬مرئيات‪،‬‬
‫المرئي المسموع‪ ،‬الملموس‪ .‬انظر إلى الطبيعة فسوف تحس بأحاسيس متنوعة‪ ،‬أمامك المبصرات‬
‫ات‬
‫خاص فينا‪ ،‬نهاي ُ‬
‫ّ‬ ‫كلها‪ ،‬ولديك النسمة اللطيفة التي لها عًلقة بالملمس‪ ،‬واللمس ليس له عضو‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫األعصاب اللمسية تتوزع في كل جسدنا‪ ،‬فنحس بالنسمة أينما جاءت على جسدنا بعكس حاسة‬
‫الذوق والشم‪.‬‬

‫الشكل‪:‬‬

‫نحن نستمتع باألشكال‪ ،‬أشكال المادة‪ ،‬مشهد الحركة يشد انتباهنا‪ ،‬ويشعرنا براحة ما‪ ،‬نحن‬
‫نحس بهذا االمتداد الذي أمامنا‪ ،‬االمتداد شكل‪ ،‬ألننا نراه‪ ،‬بمجرد لمسناه أو تذوقناه أو أحسسنا به‬
‫فهو شكل‪ ،‬السماء كلها شكل ونستوعبها كلها‪.‬‬

‫سموا‪ ،‬نحن أمام مفهوم جمالي خاص هو السامي‪ ،‬يجعلنا نتسامى نندهش‬
‫فالسماء تمثل ً‬
‫نعجب بهذا الشكل الكبير مع شيء من الغرابة‪.‬‬

‫ولو كانت السماء مضطربةً بالغيوم السوداء التي تكاد تدخل في حرب فيما بينها لما شعرنا‬
‫بهذا اإلحساس‪ ،‬هذه السماء غير تلك بالمعنى الجمالي‪.‬‬

‫إحساسا بالسمو الرتفاعها من جهة‪ ،‬والمتدادها من جهة أخرى‪ ،‬أما‬


‫ً‬ ‫السماء الصافية تخلّف فينا‬
‫تلك السماء فكأن غيومها تنذر بالحرب فيما بينها‪ ،‬فنحس أمامها بمفهوم جمالي خاص هو‬
‫الجالل‪.‬‬

‫ًّ‬
‫جماليا‪ ،‬ألن أي إضافة إلى األشياء سوف تعني إضافة جمالية ولذوية‪ ،‬إذا كنا‬ ‫نحن نتحدث‬
‫خاصا يختلف عن إحساسنا عندما نكون في‬
‫ًّ‬ ‫إحساسا‬
‫ً‬ ‫أمام مكان فارغ فسنحس باألشياء واألشكال‬
‫الصفاء ومن حيث‬
‫ُ‬ ‫مكان مزدحم‪ .‬السماء هي هي من حيث االرتفاع لكنها ليست نفسها من حيث‬
‫التجهم‪ .‬تصوروا الحديقة خالية من المارة سيكون لها إيقاع نفسي خاص‪.‬‬

‫إحساسا‪ ،‬كأنها تريد‬


‫ً‬ ‫نحن نتوجه إلى األشكال ال نتوجه إلى المعاني‪ ،‬الشجرة الحلزونية تعطينا‬
‫االرتفاع إلى السماء‪ ،‬نحن نتعامل مع األشكال المنسقة الموجودة في الكلية على أنها سور‪ ،‬ألن‬
‫شكلها شكل سور‪ ،‬وليس شكل شجرة‪ ،‬نحن نتوقف عند الشكل الخارجي‪ ،‬وعند شكل األشياء‪ ،‬هذا‬
‫الشكل لماذا هو جميل؟ بسبب االنسجام أو التناظر أو التناسب‪.‬‬

‫لو كان لي أن أختار بين شجرة النخيل والشجرة المنسقة الخترت شجرة النخيل‪ ،‬ألنها تركت‬
‫تنمو بحريتها‪ ،‬شكلها يبدو عشو ًّ‬
‫ائيا‪ ،‬وهو ليس كذلك‪ ،‬بينما الشجرة المنسقة ما عادت شجرة‪.‬‬

‫الشكل في ذاته هو المثير األول لالستمتاع الجمالي‪ ,‬ما ال شكل له ال نستطيع أن نتخذ منه‬
‫موقفًا جماليا‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫لوح الخشب أو األنابيب أو األسًلك هي مشهد ال يثير‪ ،‬هو مجرد شكل غفل غير مثير‪ ،‬ال‬
‫نحس اتجاهه بأي إحساس‪ ،‬بينما أي شكل آخر أمامنا يشد انتباهنا بزخارفه وألوانه وتكوينه العام‬
‫وجزئياته‪.‬‬

‫قد ُّ‬
‫ننشد إلى الحجر النافر األملس والى لونه المتدرج‪ ،‬التدرج باللون والشكل والكتلة هو ما‬
‫إحساسا جماليا ما‪.‬‬
‫ً‬ ‫يجعل المشهد يؤثر فينا‬

‫نحن بشر‪ ،‬وألننا بشر نرى أن األشكال ذات إيحاءات أو ذات دالالت‪ ،‬أو ذات معان‪ ،‬ما من‬
‫عنى وداللة‪ .‬فالشكل الذي يشد انتباهنا سوف يوحي‬
‫شيء يقع عليه ذهن اإلنسان إال ويصبح ذا م ً‬
‫إلينا بشيء ما‪.‬‬

‫قبل قليل تحدثنا عن السماء التي تكاد غيومها تحترب فيما بينها‪ ،‬هذه الداللة التي وصلتني‬
‫من هذه السماء المتجهمة ما كان لها أن تكون لوال تلك الحرب التي عشناها‪.‬‬

‫عندما تقول‪( :‬الحرب اللطيفة) فهذا موقف جمالي‪ ،‬وهذه السخرية تعني أنك تعبر عن رفضك‬
‫للحرب‪ ،‬ال يمكن أن نسخر ممن نحبه‪ ،‬قد تمزح مع أبيك من غير أن تسخر‪ ،‬فالسخرية هي‬
‫موقف جمالي من العالم حولنا‪.‬‬

‫الداللة في الشكل الجمالي‪:‬‬

‫البد منها‪ ،‬أين المشكلة بين الداللة والمعنى وبين الشكل؟‬


‫مسألة الداللة في الشكل الجمالي ُ‬

‫المشكلة أن نتوجه إلى الشكل بحسب معناه‪ ،‬نحكم على الشكل من المعنى فيكون المنطلق‬
‫معنويا وليس ًّ‬
‫حسيا‪ ،‬وأتمنى أال يذهب ذهنكم إلى مسألة اللفظ والمعنى التي مرت بكم في النقد‬ ‫ًّ‬
‫العربي القديم‪.‬‬

‫نحن نتحدث عن شكل نحن أعطيناه المعنى‪/‬الداللة‪ ،‬عندما نتوجه إلى الشكل لنحقق المعنى‬
‫فنحن نرتكب خطأ‪ ،‬التوجه الجمالي توجه إلى الشكل ثم إلى استبيان الداللة‪ ،‬يجب أن نستبين‬
‫داللة هذا الشكل‪.‬‬

‫المزارع ال يعنيه من الشجرة إال ما تثمره‪ ،‬أما المتنزه فقد ال تعنيه الشجرة المثمرة‪ ،‬إنما تعنيه‬
‫الشجرة التي توحي إليه إيحاءات خاصةً‪ ،‬هو يتوجه إلى الشجرة من غير النظر إلى ثمارها‪ .‬نحن‬
‫اآلن متنزهون‪ ،‬ما الذي يعيننا إذا كانت الشجرة مزهرة؟! إزهار الشكل يضيف إلى الشكل‪ ،‬فهي‬
‫أيضا‪.‬‬
‫أغصانا فقط‪ ،‬إنما هي أزهار ً‬
‫ً‬ ‫اق و‬
‫ليست أور ً‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ًّ‬
‫بستانيا ال يعنيه شكل الشجرة إال إن كان شكلها يعني أنها سوف تثمر‪ ،‬أو إن‬ ‫المزارع بوصفه‬
‫كان شكلها يدل على نفعها‪ .‬لكن البستاني نفسه قد تأتيه لحظات يرتاح فيها من التعب فيتأمل‬
‫أما إن جلس يحسب كم‬ ‫ًّ‬
‫جماليا‪ّ ،‬‬ ‫األشجار‪ ،‬فيقول‪ :‬سبحان اهلل ما أجملها! عندها يكون قد عايشها‬
‫ستثمر له عندها نكون أمام الحالة النفعية‪ ،‬هذا يحصل في العلم‪ ،‬فالطالب ال يهمه إال المعلومة‬
‫واالمتحان‪ ،‬ما الذي يمنع أن يأخذ الطالب المعلومة ويتوسع بها ويستمتع ويتنور؟!‬

‫ال تناقض بين المعلومة واالستمتاع‪ .‬حديثنا كله أساسه ما أحسسنا به‪ ،‬ال السماء وال الحديقة‬
‫ستؤثر بنا إذا خرجنا من االمتحان منزعجين‪.‬‬

‫البد من توجه قصدي‪ ،‬اتجاه الجمال ال نشعر بالجمال إال إذا قعدنا‬
‫األلم يبعدنا عن الجمال‪ُ ،‬‬
‫شهويا وليس جماليًّا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫في أحضانه‪ ،‬فاإلحساس بالجمال إحساس قصدي‪ ،‬بعض من يأكل يستمتع‬
‫لكن منظره مثير حسيًّا و ًّ‬
‫انفعاليا‪.‬‬

‫الحواس والتلقي الجمالي‪:‬‬

‫في الفن نحن أمام حاسة واحدة‪ ،‬أما بقية الحواس فتعمل من خًلل الذاكرة‪ ،‬أنا أستمع إلى‬
‫تحديدا‪ ،‬وليس من الممكن أن أستمع إليها‬
‫ً‬ ‫سورة قرآنية‪ ،‬قصيدة معينة‪ ،‬أستمع إليها بحاسة السمع‬
‫بالبصر‪.‬‬

‫لكل حاسة ذاكرة حسية‪ ،‬عندما نمسك وردة ونشمها أال تذكرنا بعطر معين‪ ،‬بوردة معينة كنا قد‬
‫مررنا بها‪ ،‬حاسة الشم عندما تتلقى األشياء تتلقاها من خًلل خبرتها‪ ،‬ولذلك نقول‪ :‬هذه الرائحة‬
‫تشبه رائحة القرنفل‪ .‬إ ًذا للحواس ذواكر‪ ،‬هذه الذواكر تعمل في الفن بوصفها مساعداً للسمع أو‬
‫البصر‪.‬‬

‫هنالك فنون ال نستطيع أن نتعامل معها إال بحاسة البصر‪ ،‬هناك فنون ال نستطيع أن نتعامل‬
‫إال بحاسة السمع‪ ،‬أما في الطبيعة فالحواس كلّها تعمل‪ .‬نحن اآلن نرى‪ ،‬نسمع‪ ،‬نشم‪ ،‬نتأذى‬
‫ربما‪ ،‬نستمتع بأشعة الشمس‪ ،‬كم حاسة استخدمنا؟ (البصر‪ ،‬السمع‪ ،‬الشم‪ ،‬اللمس)‪.‬‬

‫اس في الوقت نفسه في هذا الموقف‪ ،‬هذا يعني أن دخول الطبيعة إلينا متعدد األقانين‬
‫أربعُ حو ّ‬
‫(القنوات)‪ ،‬لذلك قد يصعب علينا التركيز أمامه على شيء جمالي معين‪ .‬فنحن نحار هل‬
‫سنتأمل بصرًّيا أو نلتفت إلى الروائح أو النسمات اللطيفة أو نستمتع باألصوات؟‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫صحيح أننا نفتقد التركيز بنسبة ما‪ ،‬لكننا نعيشه‪ ،‬في الفن التركيز أعلى والتخيل كذلك‪ ،‬في‬
‫ألن الذواكر تعمل باإلضافة إلى قوة التصور‪.‬‬
‫الفن نركز ونتخيل لماذا؟ ّ‬

‫أجمل األشكال هي األقواس‪ ،‬أما األشكال الحادة فهي بعيدة عن الجمال‪ ،‬وهذا ما يجعل جلسة‬
‫الطًلب اآلن رائعة ًّ‬
‫جدا‪ ،‬األقواس جميلة ألنها لينة ومرنة‪.‬‬

‫خاصا به‪ ،‬شعورنا الخاص هو مشترك بنسبة ما مع‬ ‫ًّ‬ ‫إحساسا‬


‫ً‬ ‫ليس هناك أحد يمكنه أن يحس‬
‫اآلخرين‪ ،‬هناك أشياء نعيشها‪ ،‬ال نستطيع التعبير عنها‪ ،‬إما لعجزنا عن التعبير أو أن التعبير‬
‫عنها معجز‪.‬‬

‫البن له رائحة خاصة‪ ،‬الكمون له رائحة خاصة‪ ،‬وكذلك الفلفل والبهارات بأنواعها‪ ،‬كل نوع له‬
‫رائحة خاصة به‪ .‬سألت نفسي ما هي دالالت هذه الروائح؟ فلم أجد إجابة‪ ،‬قررت أن أذهب إلى‬
‫العطار‪ ،‬ذهبت إليه وسألته عن دالالت الروائح المختلفة ففوجئ بسؤالي‪ ،‬وقال‪ :‬لم يخطر ببالي‬
‫كبير يبيع العطور فكررت السؤال‪ ،‬فذهل‬‫رجًل ًا‬
‫هذا األمر إطًلقًا‪ ،‬ثم ذهبت بعد فترة‪ ،‬فوجدت ً‬
‫لسؤالي‪ ،‬وقال‪ :‬سأحاول أن أبحث عن إجابة‪ .‬نستنتج من هذا أن الروائح ال دالالت ثقافية لها‬
‫على اإلطًلق‪.‬‬

‫***********************************************‬

‫الحـوامــل الجـمـالـيـة‪ :‬األدب واألسطورة‬


‫يانا أن‬ ‫ًّ‬
‫جماليا‪ ،‬إنما نتوجه إليها للتنزه فقط‪ .‬يحدث أح ً‬ ‫نحن قلّما نتوجه إلى الطبيعة توجهًا‬
‫ميعا‬
‫جمالي‪ ،‬لكن أن نبقى ج ً‬
‫ٌّ‬ ‫بعضنا ينفرد عن اآلخرين‪ ،‬ويذهب ويعاين الطبيعة بمفرده‪ ،‬هذا فعل‬
‫ًّ‬
‫تأمليا‪ .‬الجمال يحتاج إلى التأمل بشكل‬ ‫ًّ‬
‫جماليا‬ ‫اجتماعي وليس سلو ًكا‬ ‫مع بعضنا فهو سلوك‬
‫ّ‬
‫ثم نعود‬
‫ذاتي فردي‪ ،‬محاضرة الطبيعة كانت ناقصة‪ ،‬كان يجب أن يتجول كل منا في الحديقة ّ‬
‫ونجتمع‪ .‬كنا قد تحدثنا عن حوامل الجمال عبر التاريخ‪ ،‬وتوقفنا عند الفن (التماثيل‪ ،‬الفنون‬
‫ثم انتقلنا إلى األسطورة وهي الحامل الثاني‪.‬‬
‫التطبيقية‪ ،‬أدوات الزينة)‪ّ ،‬‬

‫تكامًل بين الفن واألسطورة لدى الشعوب القديمة‪ ،‬شعوب ما‬


‫ً‬ ‫األسطورة والفن‪ :‬قلنا‪ :‬إن هناك‬
‫قبل التاريخ (العصر الشفهي) والشعوب التاريخية (عصر الكتابة)‪.‬‬

‫أحيانا هل األسطورة توكيد للفن أم الفن توكيد لألسطورة؟! أي إن الكثير من‬


‫ً‬ ‫فًل ندري‬
‫إنساني وجناحي طائر أو‬
‫ٍّ‬ ‫مثًل من جسد‬
‫شخصيات األساطير والكائنات المختلطة التي تتألف ً‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫تجسيدا في الفن‪ ،‬ألن األسطورة هي الجانب التأملي‬
‫ً‬ ‫فرس وله أجنحة‪ ،‬هذه الشخصيات نجد لها‬
‫أن الفن هو تعبير مادي حسي (الحجر‪,‬‬ ‫من الحياة‪ ,‬وهذا الجانب يكون سرديا ولغويا في حين َّ‬
‫البرونز) بحسب العصر‪.‬‬

‫إ ًذا كان هناك تداخل في التعبير عن الواقع بين الفن واألسطورة‪ ,‬األمر نفسه نالحظه في‬
‫مشابها للوريث (األسطورة)‪ ,‬فكأن األدب َو ِر َ‬
‫ث الحالة‬ ‫ً‬ ‫الحامل الثالث‪ ,‬وهو األدب‪ ,‬األدب جاء‬
‫التعبيرية في األسطورة‪ ,‬لكنه راح يعبر عما هو حياتي دنيوي‪ ,‬بينما األسطورة تعبير عما هو‬
‫خارق إلهي متفوق ما ورائي‪.‬‬

‫يعبر عن اليوميات وعن البشر‪ ،‬هذا الحامل الجمالي نزل خطوات مما هو علوي إلى‬‫األدب ّ‬
‫اجتماعي‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫طبيعي‬
‫ٌّ‬ ‫مادي‬
‫ٌّ‬ ‫ما هو دنيوي‪ ،‬مما هو (ما ورائي) إلى ما هو‬

‫بشر إال ما ندر‪ ،‬إنما نجد آلهة وأنصاف آلهة‪ ،‬أو‬


‫وهذا نلحظه في األساطير‪ ،‬حيث ال نجد ًا‬
‫كائنات مختلطة من كائنين أو أكثر‪ ،‬أما في األدب فنجد شخصيات بطوليةً خارقة‪.‬‬

‫األسطورية تهتم باأللوهي‪ ,‬أما المالحم فتتحدث عن شخصيات خارقة إنسانية‪ ،‬فالنزول هو‬
‫من عالم األلوهية الخارق إلى عالم اإلنسان الخارق‪.‬‬

‫هنالك نوع دنيوي من األدب لك يكن يهتم بما هو خارق‪ ،‬كالشاعر الذي يتحدث عن ألم‬
‫أسنانه‪ ،‬هذا النوع نزل خطوة أخرى باتجاه ما هو حياتي‪ ،‬فالقصيدة التي تتحدث عن ألم األسنان‬
‫قصيدة غنائية‪ ،‬تتحدث عما هو جزئي صغير يومي‪ .‬لدينا تحول مما هو علوي خارق إلى ما هو‬
‫عادي‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫يومي‬
‫ٌّ‬ ‫إنساني‬
‫ٌّ‬ ‫إنساني خارق‪ ،‬ثم إلى ما هو‬

‫األدب حامل جمالي خرج من معطف التعاويذ والتراتيل الدينية‪ ،‬األدب لم يخرج من معطف‬
‫أن التعاويذ والتراتيل كانت تتناول كل شيء‬
‫األسطورة‪ ،‬خرج من التعاويذ والتراتيل‪ ،‬يجب أن نعلم ّ‬
‫وردا أو تراتيل كلما فعل أي شيء‪ ،‬اإلنسان القديم كان يستخدم‬
‫في الحياة كالمتدين الذي يق أر ً‬
‫التراتيل بكثرة مع الزمن تحولت هذه التراتيل إلى شعر غنائي‪ .‬إذا كانت األساطير قد أورثتنا‬
‫المالحم األدبية فإن التراتيل قد أورثتنا الشعر الغنائي‪ ,‬والفارق األساسي بين األساطير‬
‫أن هاتيك لها أبعاد دينية أو سحرية‪ ,‬في حين المالحم والقصائد الغنائية لها جانب‬
‫والمالحم َّ‬
‫دنيوي‪.‬‬

‫إ ًذا تطور األدب مما هو ديني في تعبيره إلى ما هو دنيوي‪ ،‬وانقطعت الصلة مع تطور األيام‬
‫بين المًلحم واألساطير وبين القصائد الغنائية والتراتيل‪ .‬بقيت التعاويذ كما هي وراح األدب‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫خاص‪ ،‬وكذلك األسطورة تطورت باتجاه الملحمة التاريخية البطولية‪ ،‬ثم جاء يوم‬
‫ّ‬ ‫يتطور باتجاه‬
‫تطورت فغدت رواية‪.‬‬

‫واألساطير األلوهية تطورت إلى مًلحم تاريخية بطولية خارقة‪ ،‬ثم تطورت هذه المًلحم إلى‬
‫‪3‬‬
‫ثم تطورت السير الشعبية ‪0‬إلى الرواية‪.‬‬ ‫السير الشعبية (قصص الرومانس)‬

‫لدينا تطور من األساطير األلوهية إلى الرواية اإلنسانية التي تتضمن شخصيات من الحياة‪،‬‬
‫عما هو إنساني عادي‪ ،‬حيث ال نجد فوارق‪ ،‬ال في الشخصيات وال في األحداث وال في‬ ‫ِّ‬
‫وتعبر ّ‬
‫األمكنة‪ ،‬والحياة هي هي‪.‬‬

‫بين األسطورة والرواية لدينا (‪ )4000‬سنة‪ ،‬هذا التطور مما هو ألوهي إلى ما هو إنساني‬
‫تطور بطيء أخذ فترة طويلة من الزمن‪.‬‬

‫المًلحم‪ ،‬السير الشعبية‪ ،‬الرواية حوامل جمالية أدبية تتفاوت في مسألة الخارق‪ ،‬بخًلف‬
‫األسطورة التي هي حامل جمالي غير أنها ألوهية‪.‬‬

‫لدينا التعاويذ والتراتيل الدينية والسحرية هذه تتطور في نهاية المطاف إلى الشعر الغنائي‪،‬‬
‫ولكن ليس قفزة واحدة‪.‬‬

‫ضع في اعتبارك أن التعاويذ والتراتيل ليست فردية‪ ،‬أقولها أنا ويقولها غيري‪ ،‬أستخدمها رغبة‬
‫أن المجموعة‬
‫في شيء ما‪ ،‬وغيري يستخدمها فيما يريد‪ ،‬لكنها لم تكتب لي‪ ،‬فهي جماعية‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫ترددها في الطقوس العامة‪ ،‬وجماعية بمعنى أنها لم تكتب لفرد بعينه‪ ،‬األفراد هم الذين يرددونها‬
‫للدفاع عن أنفسهم‪ ،‬لذلك ال نعرف من هو مؤلفها وتدخل في المرحلة الشفهية‪ ،‬ال نعرف إن كان‬
‫أحدا لم يكن يهتم بالمؤلف‪.‬‬
‫لها مؤلف أو ال‪ ،‬بالتأكيد لها مؤلف‪ ،‬لكن ً‬

‫تماما كما األمثال الشعبية‪،‬‬


‫آخر عدل عليها‪ً ،‬‬
‫تعويذة قالها شخص بطريقة ما‪ ،‬جاء شخص ُ‬
‫ثم يتم اعتمادها كصيغة لغوية تدل على معنى‪.‬‬
‫والطرائف التي يتم تعديلها مرات عدة ّ‬

‫فتحس أنها ناقصة فتكملها‪ ،‬ويأتي آخر فيكملها‪ ،‬فهي ليست إنتاج‬
‫ّ‬ ‫كذلك الطرائف‪ ،‬تسمع طرفة‬
‫شخص بعينه‪ ،‬تحذف وتعدل ويضاف إليها‪.‬‬

‫‪ -30‬مثل قصص الفروسية‪ ،‬فارس يدافع عن قلعة األمير‪ ،‬يشد انتباه حبيبته‪ ،‬والقصص السيرية أمرها مختلف من مثل‪ :‬سيرة عنترة‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫كذلك التعاويذ الدينية والتراتيل ال يعرف قائلها‪ ،‬وال يعنينا قائلها‪ ،‬يعنينا أنها كانت تُستخدم‬
‫العتبارات دينية تأثيرية بحت‪.‬‬

‫كنا قد ذكرنا أن الجانب الديني هو كلي والجانب السحري جزئي‪ ،‬فالسحر يقع على الجزء‬
‫ّ‬
‫والدين يقع على الكل‪.‬‬

‫سميه بالقصائد الدينية أو الشعر الديني الذي هو عبارة عن تراتيل‬


‫من هذه التراتيل سيوجد ما ُن ِّ‬
‫أيضا‪ ،‬لكنها فردية‪ ،‬أصبحنا أمام شاعر يقول قصائد يخاطب فيها رّبه ويناجيه‪.‬‬‫ً‬

‫القصائد الدينية الغنائية‪:‬‬

‫بدأنا نسمع عن شعراء يبرز لديهم الشعر الديني وهو شعر غنائي‪ ،‬لكن المخاطب فيه هو‬
‫اإلله‪ ،‬ولذلك ظهرت في اليونان الشاعرة الكاهنة (سافو) التي راحت تنظم قصائدها باتجاه‬
‫أفروديت‪ ،‬وقبل سافو بألف سنة هنالك شاعرة آكادية وهي ابنة ملك‪ ،‬هي شاعرة كاهنة ترتل‬
‫تماما كما رددت سافو التراتيل ألفروديت‪.‬‬
‫قصائدها لآللهة اآلكاديين ً‬

‫خًل بين‬‫أدبا‪ ،‬لكن في القصائد الدينية نجد تدا ً‬


‫في التعاويذ والتراتيل والقصائد الدينية نجد ً‬
‫طغيانا من األدبي‪ ،‬لكنها تقوم أص ًًل‬
‫ً‬ ‫تماما مثل شعر الزهد‪ ،‬صحيح أن الديني أكثر‬
‫األدب والدين ً‬
‫على التداخل بينهما‪.‬‬

‫مع الشعر الغنائي دخلنا في األدب الدنيوي‪ ،‬الشاعر يعبر عن نفسه أو عن واقعه بمشاعر‬
‫دنيوية‪ ،‬وليس بمشاعر دينية كما نجد في شعرنا العربي قبل اإلسًلم‪ ،‬الشعر توجه إلى الحياة‬
‫التي يعيشها اإلنسان في تلك الفترة‪.‬‬

‫مكتمًل‪ ،‬لم يصلنا عبر تدرجات كثيرة‪ ،‬رغم الكًلم على سجع الكهان‪ ،‬إال أننا ال‬
‫ً‬ ‫الشعر وصلنا‬
‫إن الشعر العربي خرج من سجع الكهان لسبب بسيط هو أننا نعرف‬‫نستطيع أن نتكهن ونقول‪ّ :‬‬
‫الشعر العربي وسجع الكهان في مرحلة متزامنة‪ ،‬لو كنا نعرف سجع الكهان قبل (‪ )500‬سنة‪،‬‬
‫إن هذا تطور من ذاك‪.‬‬
‫من معرفتنا للشعر الجاهلي لقلنا‪ّ :‬‬

‫عموما‪،‬‬
‫ً‬ ‫شعبي‪ ،‬لكنه متزامن مع الشعر الجاهلي‬
‫ٌّ‬ ‫مكتمًل‪ ،‬شعر الرجز شعر‬
‫ً‬ ‫فما وصلنا وصل‬
‫لذلك ال نستطيع أن نتحدث عن التطور في شعرنا العربي قبل اإلسًلم‪.‬‬

‫لكن إذا أردنا أن نتحدث بمنطق التطور نفسه الذي وجدناه فيما قبل التاريخ‪ ،‬إلى العصور‬
‫التاريخية‪ ،‬إلى ما بعد الميًلد وما بعد الهجرة‪ ،‬نقول‪ :‬ما يسري على الشعر اآلكادي والبابلي‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫واإلغريقي يسري على الشعر العربي قبل اإلسًلم‪ ،‬لكننا ال نعرف األصول التي انطلق منها‬
‫الشعر الجاهلي فقط‪.‬‬

‫هذه مفارقة طريفة حين نتحدث عن الشعر الجاهلي فنحن نتحدث عن ‪ 400‬سنة‪ ،‬أي باألمس‬
‫وحين نتحدث عن السومريين فنحن نتحدث عن ‪ 3000‬سنة قبل الميًلد‪.‬‬

‫كيف نتحدث بتلك الجرأة عن اآلكاديين والسومريين قبل ‪ 3000‬سنة في حين ال نستطيع أن‬
‫نتحدث عن الشعر العربي وهو في‪ 400‬سنة؟‬

‫السبب في ذلك علم اآلثار‪ .‬حفريات علم اآلثار العظمية أعطتنا معرفة رائعة بما في األرض‬
‫من كنوز لشعوب عاشت هنا‪ .‬الحفريات اآلثارية هي السبب في أن نعرف عن اآلكاديين‬
‫‪3‬‬
‫يتعلق ببادية‬ ‫عن العرب قبل اإلسًلم‪1 ،‬في حقيقة األمر ما نعرفه‬ ‫والسومريين أكثر مما نعرف‬
‫الشام (تدمر)‪ ،‬أما الجزيرة العربية فًل نعرف عن تطور الفن فيها رغم وجود أماكن أثرية مثل‪:‬‬
‫مدائن صالح وعرعر‪ ،‬لكن يمنع االقتراب من هذه المناطق‪.‬‬

‫بادية الشام فيها كثير من الكنوز‪ ،‬تدمر حضارة كبيرة ًّ‬


‫جدا‪ ،‬سبب وجودها التجارة‪ ،‬لكن داخل‬
‫نجد والحجاز (مكة‪ ،‬المدينة‪ ،‬الطائف) الحفريات اآلثارية ممنوعة وربما يأتي الحقًا من يخبرنا‬
‫عما هو موجود‪.‬‬

‫إ ًذا حصلت تطورات في األدب‪ ،‬وهذا كله يدخل في إطار حامل جمالي مهم ًّ‬
‫جدا‪ ،‬األدب هو‬
‫ألن مادته اللغة‪.‬‬
‫األكثر قدرة على التعبير عما هو جمالي في المجتمع والطبيعة ّ‬

‫اللغة أكثر قدرة على التعبير من األشكال المادية‪ ،‬في الفن التشخيصي (النحت‪ ،‬الرسم) لدينا‬
‫تعبير‪ ،‬لكنه يختلف عن تعبير القصيدة الغنائية‪ ،‬لماذا يختلف؟‬

‫أن الحجر‬
‫ثانيا‪ ،‬في حين ّ‬
‫بسبب طبيعة المادة المستخدمة‪ ،‬اللغة وجدت للتواصل أوًال‪ ،‬وللتعبير ً‬
‫مثًل ما وجد لهذا األمر‪.‬‬
‫ً‬

‫تعبير عما هو جمالي لدى اإلنسان والمجتمعات‪ ،‬األسطورة جاءت أعلى‬ ‫ًا‬ ‫األدب هو األكثر‬
‫تعبير من األسطورة عن الجمال‪ ,‬ولذلك جاء األدب‬
‫ًا‬ ‫تعبير من الفنون عن الجمالي‪ ,‬واألدب أكثر‬
‫ًا‬
‫ذروة التعبيرات الجمالية‪.‬‬

‫‪ -31‬أتحدث عن معرفتنا لتطور الفن تحديدًا‪ ،‬وليس عن المجتمع‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫تطور األسطورة إلى الفلسفة‪:‬‬

‫فإنها انشقت إلى الفلسفة‪ ،‬أي الجانب‬


‫أن األسطورة انشقت إلى األدب بوساطة المًلحم ّ‬ ‫مثلما ّ‬
‫دبا‪.‬‬
‫التأملي في األسطورة تطور إلى أن يكون فلسفة‪ ،‬الجانب السردي في األسطورة تطور ليكون أ ً‬

‫نسبيا‪ ،‬هي قبل الميًلد‬


‫أيضا من معطف األسطورة‪ ،‬الفلسفة حديثة ً‬ ‫كأنما نقول‪ :‬خرجت الفلسفة ً‬
‫بفترة وجيزة‪ ،‬األسطورة ما جاءت عبثًا‪ ،‬إنما بقيت شعوب العالم كلها تعتقدها وتعتمدها في فهم‬
‫العالم من حولها‪.‬‬

‫تاريخ طويل حملت األسطورة فيه عبء التفكير في عالم اإلنسان‪ ،‬وكانت طريقة وعي البشرية‬
‫منذ نشأتها حتى وقت قريب ًّ‬
‫جدا‪.‬‬

‫نسخر من األساطير‪ ،‬ألنها كانت وعاء التفكير‪ ،‬أطول فترة في تاريخ‬


‫َ‬ ‫ليس من العلم أن‬
‫اإلنسان وعتها األسطورة‪.‬‬

‫في األسطورة ال يوجد صح وخطأ‪ ،‬هي فقط طريقة في التفكير‪ ،‬اإلنسان بطبيعته يمزج بين‬
‫الواقعي والخيالي وقد يطغى أحدهما على اآلخر‪ ،‬لكن الخيال أساسه الواقع‪.‬‬

‫الكائنات المختلطة (حصان وجوانح‪ ،‬إنسان جزء سمكة وجزء إنسان‪ ،‬إنسان بعين واحدة في‬
‫الجبهة‪ ،‬شخص بأربعة أوجه ‪ ،‬شخص له أربعة عيون‪ ،) 2‬هذه الشخصيات غير ‪ 33‬ممكنة‬
‫التحقق‪ ،‬لكنها جاءت عبر مزج الواقعي بالخيالي‪ ،‬المادة من الواقع لكنها ليست واقعية فحتى‬
‫الخياالت أساسها الواقع‪.‬‬

‫قوما صالحين‬
‫ابن الكلبي في كتابه األصنام يقول‪ :‬إن (ود‪ ،‬يغوث‪ ،‬سواع‪ ،‬نسر‪ ،‬يعوق)‪ ،‬كانوا ً‬
‫طويًل‪ ،‬جاء أحدهم فقال لهم‪ :‬هل أصنع‬
‫ً‬ ‫حدادا‬
‫ماتوا في شهر واحد فجزع عليهم أقاربهم‪ ،‬ونصبوا ً‬
‫روحا فيهم‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫(تمثاال) على أشكالهم فتتذكرونهم؟ لكني ال أستطيع أن أضع ً‬
‫ً‬ ‫أصناما‬
‫ً‬ ‫لكم‬
‫أصناما على أشكالهم‪ ،‬مرت سنوات طويلة‪ ،‬الناس كانوا يجلسون عند األصنام‬
‫ً‬ ‫فلتفعل‪ ،‬صنع‬
‫ألنها أصبحت بمنزلة األب لهم‪ ،‬ثم أصبحت بمنزلة أجدادهم‪ ،‬ثم تحولت إلى األلوهية‪.‬‬

‫مرت سنوات أصبح الناس يأتون إليها‪ ،‬وكأنها تمثل آباءهم‪ ،‬وفيما بعد‬
‫إ ًذا صنع خمسة أصنام‪ّ ،‬‬
‫فشيئا تطور األمر فأصبحوا آلهةً‪.‬‬
‫شيئا ً‬
‫أصبحت تمثل أجدادهم‪ ،‬ثم ً‬

‫‪ - 32‬اإلله آمور إله اآلموريين من أجدادنا نحن ‪ -‬ويُس َّمون (العموريين)‪ -‬له تمثال بأربعة أوجه‪ ،‬وهذا رمز على أنه يعرف كل شيء‪ ،‬هذا‬
‫تجسيد للمعرفة‪ ،‬وامرأته بأربعة أوجه أيضًا‪.‬‬
‫‪ -33‬أسطورة يونانية‪ ،‬تنام عينان‪ ،‬وتبقى عينان من غير نوم‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫بصرف النظر عما يقوله ابن الكلبي في كتابه نقول‪ :‬كل األشكال األلوهية التي تتشخص‬
‫بشيء ما لها أصل من الواقع‪ ،‬اإلنسان لم يستطع أن يفسر ما حوله فابتكر آلهة يفسر بها ما‬
‫حوله‪ ،‬واألسطورة هي شكل التفكير التأملي األول آلهة (الماء والنار)‪ ،‬كلها جاءت للتفسير‪ ،‬النار‬
‫كانت معبودة والماء كذلك‪.‬‬

‫بد‬
‫معا‪ ,‬وما لم ُيعبد هنا ُع َ‬
‫وعبد ً‬
‫ما من شيء على وجه هذه األرض إال أُكل أو ُعبد‪ ,‬أو أُكل ُ‬
‫هناك‪ ,‬وما لم ُيؤكل اآلن‪ ,‬أُكل أمس‪.‬‬

‫كل ما على هذه األرض ُعبد‪ ،‬النجوم عبدت‪ ،‬الجرذان عبدت‪ ،‬نحن نأنف أكل حيوانات معينة‬
‫وعبد‪،‬‬
‫أن أكلها حًلل‪ ،‬سوانا يأكلها‪ ،‬الضفادع أُكلت‪ ،‬البقرة ُعبدت وأُكلت حتى اإلنسان أُكل ُ‬
‫رغم ّ‬
‫هناك أقوام أكلت لحم البشر‪ ،‬إلى اليوم هناك من يعتبر وجبة الجنين المجهض وجبة لذيذة ج ًّدا‪.‬‬

‫اإلنسان أعجب مما نتخيل‪ ,‬ما يهمنا أن هذه اآللهة والمعبودات هي تمثيالت جمالية ودينية‬
‫لألشياء التي حولنا‪.‬‬

‫جمالي‪ ،‬تم تصعيد البحر‬


‫ّ‬ ‫جبارا‪ ،‬وللنهر حورية جميلة فهذا موقف‬
‫عندما نعتقد أن للبحر إلهًا ً‬
‫إلى إله جبار‪ ،‬والعذوبة في النهر صارت آلهة أو حورية‪.‬‬

‫هذا خلط بين الجمالي والديني عبر اآللهة وعبر األشياء نفسها‪ ،‬مع الفلسفة دخلنا في التفكير‬
‫المنطقي‪ ،‬لم يعد الجمال إلهًا أو آنيةً مزخرفة‪ ،‬لم يعد الجمال قصة أو قصيدةً‪ ،‬أصبح سؤا ًال‪ ،‬في‬
‫حين كان من قبل آنية من فخار أو إلهًا‪...‬إلخ‪.‬‬

‫مع الفلسفة انتهت المتعة الجمالية ودخلنا بالسؤال المعرفي‪.‬‬

‫هدف األسطورة وعي العالم ولكن بطريقة تأملية أولية‪ ،‬وأسطورة سيزيف هي أسطورة الوجود‬
‫كله‪ ،‬هو ملك اختلف مع اآللهة فعاقبته بوساطة صخرة يحملها إلى أعلى الجبل وعندما يصل‬
‫إلى ذروة الجبل تسقط‪ ،‬فيعود ليحملها إلى ما ال نهاية‪.‬‬

‫هذه األسطورة تريد أن تتحدث عن أبدية العذاب ويجب أال نخلط بين األسطورة والخرافة‪.‬‬

‫األسطورة‪ :‬شكل من أشكال وعي العالم‪.‬‬

‫الخرافة‪ :‬هي نتيجة الكسل الذهني‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫مقدما‪ ،‬ألنها نتيجة لكسل العقل البشري‪ ،‬أما األسطورة فهي‬
‫ً‬ ‫معنى‬
‫في قصص الجن ال نجد ً‬
‫تعبير عن النشاط البشري‪.‬‬

‫*****************************************************‬

‫الحـوامــل الجـمـالـيـة‪( :‬الفلسفة)‬


‫نغض النظر عن‬
‫ّ‬ ‫مما حولنا يستحق أن نتوقف عنده‪ ،‬لكن المشاغل اليومية تجعلنا‬
‫هناك كثير ّ‬
‫تماما للجمال فننسى كل‬
‫هذا أو ذاك من الجوانب الجمالية‪ ،‬ثم تأتي لحظات نكون فيها مستعدين ً‬
‫أحيانا في‬
‫أحيانا نستمع لألغنية نفسها عشرات المرات ال نحس بحميمية اتجاهها‪ ،‬و ً‬ ‫ً‬ ‫مشاغلنا‪،‬‬
‫أحيانا نتأمل وردة فتقول‪ :‬يا اهلل كم هي جميلة!‬
‫ً‬ ‫بعض اللحظات نستمع لها فنشعر بالدهشة‪،‬‬

‫المشكلة أن المنافع تسيطر علينا فًل نستطيع أن نتأمل‪ ،‬لذلك عندما يغيب األمر عنا نقول‪:‬‬
‫كيف فوتنا هذه الفرصة؟ وكيف أضعنا هذه األشياء؟!‬

‫جميًل كله‪ ،‬لكن الذكرى هي من تج ّمل‬


‫ً‬ ‫جميًل‪ ،‬والحقيقة أنه ليس‬
‫ً‬ ‫الماضي يكون بالنسبة لنا‬
‫الماضي حيث تضيف إليه أطيافًا وجدانية تجعلنا مغتبطين لما كان بين أيدينا‪.‬‬

‫تحدثنا عن الحوامل الجمالية (الفن‪ ،‬األسطورة‪ ،‬األدب)‪ ،‬وكانت هذه الحوامل كلها فنيةً‪ ،‬في‬
‫حقيقة األمر حتى األسطورة لو دققنا فيها لما وجدناها دينية فقط‪ ،‬إنما هي دين وأدب في الوقت‬
‫نفسه‪.‬‬

‫هي حوامل فنية ألنها تعيد إنتاج الجميل في الواقع أو الحلم بطريقة فنية جديدة‪( .‬الفن‪ ،‬الرسم‪،‬‬
‫النحت‪ ،‬النقش‪ ،‬األسطورة) كلها تعيد إنتاج الجمال الواقعي والمتخيل في الوقت نفسه‪ ،‬أي تقدم لنا‬
‫ًّ‬
‫إضافيا وفق رؤية الفنان أو المجتمع‪ ،‬وبهذا نكون حصلنا على جمال الحياة وجمال الفن‪.‬‬ ‫جماال‬
‫ً‬

‫لذلك يقال‪( :‬الفن يضاعف الحياة) فأنت حين تق أر رواية كأنك تعيش الحياة مرتين‪ ،‬عندما‬
‫سلسًل كأننا نضاعف عيشنا‪.‬‬
‫فيلما أو م ً‬
‫نشاهد ً‬

‫إ ًذا هذه الحوامل ذات طبيعة فنية تعيد إنتاج الحياة‪ ،‬وكلها كانت أمينة إلى حد كبير في تمثيل‬
‫الواقع وفي تمثيل عقلية اإلنسان ومعتقداته في الوقت نفسه‪.‬‬

‫تحدثنا سابقًا عن اإلله (آمور) الذي يملك أربعة وجوه‪ ،‬تدل على معرفة العالم والسيطرة عليه‪،‬‬
‫نحن أمام تمثيل لعقلية الشعب الذي يعتقد بآمور‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫نحن أمام حالة مختلفة مع الحامل الرابع الفلسفة‪ ،‬لم نعد أمام جمال مبتكر يعيد إنتاج جمال‬
‫نعد أمام تجسيد أو تشخيص أصبحنا أمام تجريد فلسفي‪ ،‬لم يعد الجمال آنية أو‬ ‫واقعي سابق‪ ،‬لم ْ‬
‫قصة أو لوحة أصبح سؤ ًاال معر ًّ‬
‫فيا‪.‬‬

‫أصبح سؤال ما الجمال؟ يحتاج إلى إجابة طويلة‪ ،‬اآلنية قدمت لنا الجمال مزخرفًا‪ ،‬والقصيدة‬
‫مكتوبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تقدمه‬

‫مم تكون؟ ما الخصائص األساسية أو الفرعية التي‬


‫الفلسفة توجهت للجمال بالسؤال ما أنت؟ َ‬
‫تتكون منها؟‬

‫كبير من األسئلة التي طرحتها الفلسفة على نفسها وعلينا‪ ،‬وبهذه األسئلة الجمال‬ ‫عددا ًا‬ ‫سنطرح ً‬
‫الممتع أصبح متع ًبا بأسئلته‪ ،‬لكنه التعب اللذيذ‪ .‬هو التعب اللذيذ‪ ،‬لماذا؟ ألنه ال أَلذ من المعرفة‪،‬‬
‫هي لذة معرفية وليست لذة جمالية‪ .‬ال غرابة أن يقول الغزالي‪" :‬إن المعرفة أخص خصائص‬
‫أخص من القدرة حتى‪ ،‬وتذكروا (آمور) الذي يحيط بالعالم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الربوبية"‪ ،‬أي‬

‫أن اإلنسان ال يحس باإلساءة إلى كرامته إال إذا اتهم بأنه ال يعرف‪ ،‬لو اتهم‬
‫الغزالي يشير إلى ّ‬
‫بأنه ال يقدر وال يستطيع فسيتحمل‪ ،‬عندما يأتي شخص يكنس المكان تقول له‪( :‬أال تستطيع‬
‫تكنيس المكان كله) ال ينزعج‪ ،‬لكن أن تقول له‪( :‬أنت ال تعرف أن تكنس) فسينزعج‪ .‬عندما‬
‫يرض أحد برزقه لكن عندما قسمت العقول الجميع كان ر ًّ‬
‫اضيا‪.‬‬ ‫قسمت األرزاق لم َ‬

‫جمالية‪ ،‬هذه الفلسفة هي التي فتحت‬


‫َّ‬ ‫معرفية وليس أمام ٍ‬
‫لذة‬ ‫َّ‬ ‫نحن مع الفلسفة أمام ٍ‬
‫لذة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫(أبواب جهنم) على األسئلة المتعلقة بالجماليات‪ ،‬فتحت أذهاننا على ما لم نكن نتخيل أننا نفكر‬
‫مثًل‪ :‬سؤال (ما الجمال)؟ يحيل على سؤال آخر (ما الجًلل)؟ عندما أقول‪( :‬ما الجمال)؟‬
‫فيه‪ً .‬‬
‫بم هما‬
‫هذا يفترض سؤال (ما القبح)؟ الجمال والجًلل هل هما متفرقان؟ واذا كانا متشابهين ف َ‬
‫متفرقان؟ إذا كان الجمال يولد ما له عًلقة باألنس فالجًلل ما الذي يولّده؟ يولد حالة رهيبة‪.‬‬
‫فظيعا؟‬
‫ً‬ ‫جليًل أم‬
‫الرهبة هل لها عًلقة بالخوف؟ هل ما أخافه أع ّده ً‬

‫يعا لكان لكل منا‬


‫الخوف غريزي‪ ،‬لو سمعنا صوتًا مر ً‬
‫ُ‬ ‫ليس هناك تطابق بين الخوف والرهبة‪,‬‬
‫ردة فعل مختلفة عن اآلخر‪ .‬مجرد حركة صغيرة تحول الجمال أو الجًلل أو القبح إلى كوميديا‪.‬‬
‫الرهبة معنوية‪ ,‬أنا ال أرهب إال مما احترمه‪ ,‬بين الخوف والرهبة فرق دقيق‪.‬‬

‫الجميل والنافع‪ :‬الجمال ما عًلقته بالنفع؟ هل كل نافع جميل؟ هل كل جميل نافع؟‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫عد سلة المهمًلت أجمل من‬‫جميًل‪ ،‬سقراط ّ‬
‫ً‬ ‫بعضهم قال‪ :‬ال‪ ،‬ما ال ينفعني ال يمكن أن أع ّده‬
‫الدرع الذهبية ألنها تقوم بوظيفتها‪ .‬األشياء تنقسم إلى مفيد وضار بالنسبة إلى اإلنسان‪ .‬من‬
‫احدا للمفيد‬
‫مستوى و ً‬
‫ً‬ ‫الطبيعي أن آنس بما هو مفيد‪ ،‬وأمتعض مما هو ضار؟ هل يمكن أن نضع‬
‫والضار؟ ال يمكن‪.‬‬

‫المفيدات متفاوتات ًّ‬


‫جدا‪ ،‬وكذلك الضارات‪ ،‬ولهذا عندما فكر سقراط بمثل هذا السؤال كان‬
‫يضع باعتباره ّأنه إذا قال عن سلة المهمًلت‪ :‬قبيحة‪ ،‬فسيضطر أن يقول عن أشياء كثيرة ًّ‬
‫جدا‬
‫عد المفيد‬ ‫ًّ‬
‫منطقيا للفصل بين ما هو مفيد وما هو ضار‪ ،‬ف ّ‬ ‫تقوم بوظيفتها‪ :‬قبيحة‪ ،‬لذلك اضطر‬
‫قبيحا‪.‬‬
‫جميًل‪ ،‬والضار ً‬
‫ً‬

‫أحيانا تكون‬
‫أحيانا تبدو مفيدة و ً‬
‫ً‬ ‫هو نفسه قال‪ :‬األشياء ال تكون هي هي في كل الحاالت‪،‬‬
‫ضارة‪ ،‬لذلك هي جميلة حين تفيد‪ ،‬وقبيحة حين تضر‪ ،‬وبذلك ال يكون سقراط قد صنف العالم‬
‫ًّ‬
‫قطعيا بأنه مفيد أو ضار أو جميل‪ ،‬أو قبيح‪ ،‬بل يكون قد صنف المنطق الذي ينبغي‬ ‫كله تصنيفًا‬
‫أن نتعامل به مع األشياء‪ ،‬وهو أن نربط بين المفيد والضار من غير أن نعد أن هذا المفيد جميل‬
‫لألبد وأن ذاك الضار قبيح لألبد‪.‬‬

‫قطعة الزجاج المزخرفة التي نجدها مرمية نقف أمامها مندهشين‪ ،‬لكن حينما نمسك الزجاجة‬
‫ونجرح يدنا‪ ،‬الزجاجة تتحول إلى القبح‪.‬‬

‫سقراط ليس عديم الذوق ليقول‪ :‬الحاوية بالشارع أجمل من لوحة إعًلنية ضخمة‪ ،‬هو قال‪:‬‬
‫ينبغي أن ننظر إلى األشياء بما يفيد ويضر‪.‬‬

‫إ ًذا مسألة الجميل والنافع مسألة معقدة‪ ،‬في الحقيقة النفع مستويات‪ ،‬سلة القمامة فيها مستوى‬
‫من النفع‪ ،‬لكن الذهب له منافعه الكثيرة ًّ‬
‫جدا‪ ،‬والنفع الذي تقدمه سلة المهمًلت يختلف عن النفع‬
‫الذي يقدمه الطعام والشراب‪ ،‬فالنافع مستويات‪.‬‬

‫الجميل والمحبوب‪ :‬هل كل جميل محبوب؟ هل كل محبوب جميل؟ هل نستطيع أن نقول‪:‬‬


‫محبوبا وكل محبوب يكون‬
‫ً‬ ‫هناك وحدة عضوية بين الجمال والمحبة بحيث كل جميل يكون‬
‫جميًل؟‬
‫ً‬

‫ُّ‬
‫الحب مسألة شخصية‪ ،‬الجمال أكبر مما هو شخصي‪ ،‬األم التي‬ ‫ليس الجما ُل مسألة شخصية‪،‬‬
‫جميًل‪ ،‬هذا ال عًلقة له بالجمال‪.‬‬
‫ً‬ ‫تقسم أن ابنها جميل هي تعرف ّأنه ليس‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ثقوا بأن أجمل الجمًلء لن يكون أعز بالنسبة لألم من ابنها القبيح‪ ،‬المسألة تتعلق بالذوق‬
‫العام‪ ،‬ما الذي يقره الذوق العام في هذه المرحلة التاريخية؟‬

‫إما أن يأتي شخص أحبته أمه أو حبيبته فهذه مسألة تتعلق بالعواطف ال بالجماالت‪ .‬قد يكون‬
‫كنت أحب األشياء األجمل فأنا ال أحب‪.‬‬
‫قبيحا وليس هناك مشكلة إطًلقًا‪ .‬إذا ُ‬
‫حبيبي ً‬

‫أنا أحب ما يتناغم مع روحي وليس ما هو أجمل‪ ،‬واال فسوف أتنقل من حبيب إلى حبيب ألن‬
‫األجمل ال ينتهي‪ ،‬ليس هنالك عًلقة عضوية واضحة بين الجمال والحب‪ ،‬الجميل محبوب‪ ،‬ألن‬
‫جميًل‪ ،‬فًل رابط بين الجمال والحب‬
‫ً‬ ‫كل الناس تطمئن بالجمال‪ ،‬وتلتذ به‪ ،‬وليس كل محبوب‬
‫بحيث يبدو أن الجمال هو الحب والحب هو الجمال‪.‬‬

‫في أول لقاء بين الحواس (السمع والبصر والذوق واللمس) مع األشياء نحس بأن هناك لذة‬
‫أحس؟‬
‫عضوية ما‪ ،‬عندما أضع راحة كفي على المقعد ماذا ّ‬

‫أحس بالراحة‪ ،‬ما‬ ‫أحس بالنعومة والبرودة‪ ،‬لكنها ليست برودة مزعجة‪ ،‬هي لطيفة ًّ‬
‫جدا بحيث ّ‬
‫أحس بالنعومة والبرودة‪.‬‬
‫إن وضعت كفّي فس ّ‬

‫لو كانت البرودة منخفضة ًّ‬


‫جدا؟ ما الذي يحصل؟ سأرفع يدي مباشرة‪.‬‬

‫حديدا فسنرفع يدنا مباشرة‪ ،‬ألننا نشعر باأللم المتصل بحاسة اللمس‪ ،‬هذا‬ ‫ً‬ ‫إذا كان المقعد‬
‫إحساسا جماليًّا‪ ،‬وال يحتاج إلى تفكير‪ ،‬إنما ال إرادي‪.‬‬
‫ً‬ ‫إحساس (بيولوجي) وليس‬

‫الخطوة الثانية بعد اللمسة سوف نسأل‪ :‬ما الذي يمثله هذا؟ هل هذه النعومة ترمز لصورة‬
‫معينة أو شكل؟‬

‫علما أن اللمس من أقل الحواس‬


‫ربما هذه اللمسة تحيلنا إلى شيء جميل لمسناه من قبل‪ً ،‬‬
‫طا بالجمال‪.‬‬
‫ارتبا ً‬

‫مقاما‪.‬‬
‫هناك خًلف كبير بين العلماء بين السمع والبصر‪ ،‬أيهما أعلى ً‬

‫حاسة السمع‪:‬‬

‫األصوات من حولنا تنقسم إلى أصوات مريحة‪ ،‬وأصوات مزعجة‪ ،‬عندما يكون الصوت مؤلفًا‬
‫فسنن َش ّد إلى حالة التأليف‪ ،‬والصوت الجميل إذا تكرر نفسه فسنملّه‪.‬‬
‫طا َ‬
‫تأليفًا بسي ً‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫وعندما يكون مؤلفًا من تأليفات مختلفة نستمر باإلصغاء عندها نكون قد دخلنا الوعي‬
‫الجمالي‪ ،‬ما إن أدركنا اإلحساس دخلنا في مرحلة اللذة الجمالية وهذه ال تكون إال إذا وعينا ما‬
‫بين أيدينا‪.‬‬

‫ينبغي أن نميز بين‪ :‬الحس‪ ,‬اإلدراك‪ ,‬الوعي‪.‬‬

‫الحس‪ :‬مباشر بيولوجي يحتاج إلى اتصال‪ ،‬وهو جزئي‪.‬‬

‫اإلدراك‪ :‬نفسي ذهني لكنه جزئي‪ ،‬إحساسي بالمقعد ونعومته تحول إلى إدراك بأنه كله بارد‪،‬‬
‫باإلدراك عرفنا أن الصفة الحسية تشمل المكان‪ ،‬فاإلدراك أوسع من اإلحساس‪.‬‬

‫الوعي‪ :‬هو أشمل‪ ،‬ألننا نكون قد وعينا الظاهرة‪.‬‬

‫نعود إلى الغزالي الذي قال‪ :‬المعرفة أخص خصائص الربوبية أو المعرفة هي اللذة القصوى‪.‬‬

‫أمام إحساس بيولوجي‬


‫ما إن نعرف فهذا يعني أننا بدأنا نستمتع بالجمال‪ ،‬قبل أن نعرف نحن َ‬
‫غير واع‪.‬‬

‫تساؤالت الفلسفة‪ :‬ما العًلقة بين الجمال على هذه األرض وتصوراتنا نحن الدينية؟ هل الجمال‬
‫صناعة ربانية؟ هذه المسألة ال عًلقة بالكفر واإليمان‪ ،‬إنما لها عًلقة بفهمنا للجمال‪ .‬لماذا‬
‫جميًل؟‬
‫ً‬ ‫قبيحا وغيري يراه‬
‫الشكل نفسه أنا أراه ً‬

‫معا‪ ,‬وما لم ُيعبد هنا‬


‫وعبد ً‬
‫قلنا‪ :‬ما من شيء على وجه هذه األرض إال أُكل أو ُعبد‪ ,‬أو أُكل ُ‬
‫بد هناك‪ ,‬وما لم ُيؤكل اآلن‪ ,‬أُكل أمس‪.‬‬
‫ُع َ‬

‫المسألة مسألة أذواق وتصورات وممارسات‪ .‬هنالك اعتقاد لدى بعض المتصوفة والفًلسفة أن‬
‫الجمال على هذه األرض منحة إلهية ال نستطيع أن نستمتع به إال إذا عددناه منحة إلهية‪ ،‬أي إال‬
‫إذا توجهنا إليه توجهًا ًّ‬
‫دينيا‪ ،‬واذا فعلنا ذلك فأحاسيسنا ستكون دينية‪.‬‬

‫يجب أن نميز بين الشعور الديني والشعور الجمالي‪:‬‬

‫الشعور الديني‪ :‬يحدث بوجود الشيء وغيابه‪ ،‬وهو شعور حول ما وراء الشيء‪.‬‬

‫الشعور الجمالي‪ :‬يحدث بوجود الشيء‪ ،‬وهو شعور اتجاه خصائص الشيء نفسه‪.‬‬

‫نحن في لحظة من اللحظات بحاجة إلى الشعور الديني الذي يعزز صلتي بالخالق‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫القضية هي هل نتوجه إلى األشياء مباشرة أو نتوجه إلى ما وراء األشياء؟‬

‫ًّ‬
‫سياسيا ومرة‬ ‫لدينا وعي سياسي وأخًلقي وجمالي وحقوقي وعلمي وديني‪ ،‬نحن مرة نفكر‬
‫ًّ‬
‫أخًلقيا‪ ،‬ومرة أخرى‪...‬إلخ‪ ،‬بحسب المواقف التي نحن فيها‪.‬‬

‫علينا أن نميز بين أشكال الوعي‪ ،‬حتى بين الديني واألخًلقي يجب أال نخلط رغم أنها‬
‫وعيا ًّ‬
‫دينيا بمعنى رحت أتعبد أو أسبح اهلل سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫متقاربان‪ ،‬قد أجد نفسي وعيت ً‬

‫ألن الجميل والقبيح من خلق اهلل وبالتالي أسبح برغبة دينية‪،‬‬


‫في هذه الحالة ال يعنيني الجمال‪ّ ،‬‬
‫نوعا من التسبيح هو تسبيح ديني جمالي‪.‬‬
‫لكن هناك ً‬

‫جميًل نقول‪ :‬سبحان اهلل‪ ،‬وهذا يعني ما أجمله‪ ،‬كلمة (سبحان اهلل) هي‬
‫ً‬ ‫مشهدا‬
‫ً‬ ‫عندما نرى‬
‫موقف جمالي وديني‪.‬‬

‫جميًل نقول‪ :‬ما شاء اهلل‪ .‬جماله أثارنا وجعلنا نقول‪( :‬سبحان اهلل) ولكن لو‬
‫ً‬ ‫طفًل‬
‫عندما نرى ً‬
‫سيئ عندها لن نسبح اهلل‪.‬‬
‫جاء الطفل بلباس ّ‬

‫يغ صياغة دينية‪ ،‬هنالك تقارب شديد بين الشعور الديني‬


‫جمالي ص َ‬
‫ٌّ‬ ‫لحظة التسبيح هي موقف‬
‫والجمالي‪ ،‬ألن الشعورين يقعان على الشيء نفسه بالرغم من أن الشعور الديني يهتم بما وراء‬
‫الشيء (اهلل)‪ ،‬والجمالي يهتم بالشيء نفسه‪.‬‬

‫معا (الديني والجمالي) ال يهدفان إلى استهًلك الموضوع‪ ،‬عندما أتعبد ال أقصد أنني‬
‫الشعوران ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫أيضا غير نفعي ً‬ ‫سوف آكل‪ ،‬فالشعور الديني شعور غير نفعي‪ ،‬والشعور الجمالي ً‬

‫هذان الشعوران يختلفان عن كل أشكال الوعي األخرى‪ ،‬كًلهما يقعان على الموضوع‪ ،‬أحدهما‬
‫يمد برأسه إلى ما وراء الموضوع واآلخر يبقى في الموضوع نفسه‪ ،‬وكًلهما ليسا نفعيين‪.‬‬

‫الشعور الديني ينتهي بالخشوع أو المحبة‪ ,‬الشعور الجمالي ينتهي بالرهبة أو األ نس‪،‬‬
‫فالجميل مؤنس‪ ،‬والجليل مرهب‪ ،‬وتظهر مًلمح الخشوع بوساطة الوجه‪.‬‬

‫نحن ال نفاضل بين الوعي الديني أو الوعي الحقوقي نحن بحاجة لكل أشكال الوعي‪ ،‬ال‬
‫نستطيع أن نعيش بالوعي الجمالي فقط فنحن نحتاج إلى األكل والشرب‪.‬‬

‫بعيدا عن الجانب الجمالي‪ ،‬فعندما أفكر‬


‫أرسطو‪ ،‬في حديثه عن سلة المهمًلت كان يفكر ً‬
‫بالجمال أحاول أن أوجد كل األسباب التي تعزز وقوع الجمال أو حصول الشعور به‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫صباحا بحالة ومساء أراه بحالة أخرى‪ ،‬عندما نفكر بالجمال فنحن نفكر‬ ‫ً‬ ‫الشيء نفسه أراه‬
‫أعم‪ ،‬سقراط لم يكن يعبر عن شعوره‪ ،‬بالتأكيد لن يقول لسلة المهمًلت‪ :‬يا حبيبتي‪ ،‬لكن قد‬
‫بشكل ّ‬
‫يقول للدرع الذهبية‪ :‬يا حبيبتي‪.‬‬

‫شكسبير في إحدى المسرحيات يقول‪ :‬يمكن للعاشق أن يبقى عمره وهو يبكي على فقد حبيبته‪،‬‬
‫حب‬
‫في ُّ‬
‫حب لذاته أما المال ُ‬
‫لكن ال يمكن للبخيل أن يكتب قصيدة في فقده للمال‪ .‬الحبيب ُي ُّ‬
‫لسواه‪.‬‬

‫***************************************************‬

‫الفنون الجميلة والفنون التطبيقية‬


‫تحدثنا عن حوامل الجمال أو الوعي الجمالي (الفن‪ ،‬األسطورة‪ ،‬األدب‪ ،‬الفلسفة)‪ ،‬حديثنا عن‬
‫موجز عنها‪ ،‬ألننا سنتحدث فيها طوال الفصل‪.‬‬
‫ًا‬ ‫الفلسفة كان حديثًا‬

‫مع الفلسفة ال نستطيع أن نتحدث عن علم الجمال‪ّ ،‬إنما نستطيع أن نتحدث عن الفلسفة‬
‫الجمالية‪.‬‬

‫في حديثنا الماضي توقفنا ًّ‬


‫مليا أمام الفنون وأمام األدب‪ ،‬سنتحدث اليوم عن الفنون التي‬
‫استوعبت الجمال الواقعي والجمال اإلنساني عبر التاريخ‪ .‬تنقسم الفنون عادة إلى قسمين‪-1:‬‬
‫الفنون الجميلة‪ -2.‬الفنون التطبيقية‪.‬‬

‫أن الفنون التطبيقية ال تحصى‪ ،‬ألنها تشمل مجمل‬ ‫الفنون الجميلة محددة العدد في حين ّ‬
‫كثير ما نسمع عن الفن السابع وهو السينما‪.‬‬
‫قطاعات الحياة واإلنتاج اإلنساني‪ً ،‬ا‬

‫‪4‬‬
‫ما هي الفنون التي كانت قبل الفن السابع؟ األدب (الشعر) ‪.‬‬

‫الموسيقا‪ ,‬الرسم‪ ,‬النحت‪ ,‬الرقص‪ ,‬العمارة‪ ,‬السينما‪.‬‬

‫هذه هي الفنون المعتمدة عبر التاريخ اإلنساني ما عدا السينما‪ُ ،‬مورست منذ أن وعى اإلنسان‬
‫ًّ‬
‫جماليا‪.‬‬ ‫تعبير ًّ‬
‫حسيا‬ ‫عبر عن نفسه ًا‬ ‫نفسه على هذه األرض‪ ،‬ومنذ أن بدأ ُي ِّ‬
‫َ‬

‫‪ -34‬نقول الشعر‪ ،‬ألن األدب قدي ًما كان يُكتب شعرًا‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫اإلنسان عبر باللغة عن مكنوناته‪ ،‬عبر عن دينه‪ ،‬أخًلقه‪ ،‬مشاعره بكل هذه الفنون‪ ،‬مرة عبر‬
‫بشكل فردي فكان الشعر الغنائي‪ ،‬ومرة عبر بشكل جماعي فكان الرقص‪.‬‬

‫الطقوس الدينية كانت جماعية‪ ،‬نذهب إلى الجامع أو إلى الكنيسة بصورة جماعية‪ ،‬فاإلنسان‬
‫يمارس دينه ضمن الجماعة‪ ،‬واألديان القديمة كانت تعتمد الفنون في التعبير عن نفسها‪ ،‬وربما‬
‫أن العرب كانوا يحجون عراة ويرقصون‪ ،‬ما كانوا يقومون بعمل ال أخًلقي‪ ،‬بل كانوا‬‫سمعتم ّ‬
‫تعبير عن الدين‪ ،‬األخًلق‪ ،‬الممارسات‪.‬‬
‫يمارسون دينهم‪ ،‬هذه الفنون كانت ًا‬

‫كل فن من تلك الفنون يستطيع أن يعبر عن جانب من جوانب اإلنسان‪.‬‬

‫ما يستطيعه األدب ال تستطيعه الموسيقا‪ ،‬وما تستطيعه الموسيقا ال يستطيعه األدب‪ ،‬وكذلك‬
‫اص‬ ‫إن هذا الفن ُّ‬
‫يسد َمسد ذاك الفن‪ ،‬لكل ف ٍّن قطاع خ ٌّ‬ ‫بقية الفنون‪ ،‬وعليه ال نستطيع أن نقول‪ّ :‬‬
‫ُّ‬
‫يسد حاجةً من حاجات الفرد‪.‬‬

‫حتى إذا ما ُوجد من يحرم هذا أو ذاك من الفنون فهو مضطر إلى استبداله بفن آخر‪ ،‬ليس‬
‫جمالية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العتبارات دينية‪ ،‬لكن العتبارات‬

‫هناك من يحرم الغناء وهو صوت‪ ،‬ويستبدله بالتًلوة أو اإلنشاد‪ ،‬فن التًلوة فيه مدارس‪،‬‬
‫مدرسة عبد الباسط تختلف عن مدرسة غيره‬

‫اإلنسان بحاجة الموسيقا فإما أن تكون وترية كالمزهر أو الدف‪ ،‬أو صوتية باألصوات‬
‫اإلنسانية‪.‬‬

‫نقزم أو نحدد‪ ،‬ال ُب ّد من الفن‪ ،‬أَ ْخرجه من الباب فسيدخل من‬


‫ال ُبد من الفن‪ ،‬مهما حاولنا أن ّ‬
‫الشباك‪ ،‬ألننا كبشر مصممون على أن نحس بالجمال صوتًا أو صورةً أو حركةً‪...‬إلخ‪.‬‬

‫فنحن عندما نتحدث عن هذه الفنون الستة ونقول‪ :‬إنها استوعبت تاريخ اإلنسان وحضارته‬
‫وحياته‪ ،‬نؤكد على أنها ما استوعبت هذا إال ألنها تعبير عن حاجات أصيلة في اإلنسان‪.‬‬

‫يميل مجتمع من المجتمعات إلى فن‬


‫يحدث أن َ‬
‫ُ‬ ‫ما يغطيه األدب ال تغطيه الموسيقا وال الرسم‪،‬‬
‫يتبلور فن ويتراجع فن آخر‪ ،‬أو يبقى في اإلطار غير المعتمد‬
‫َ‬ ‫أكثر من آخر‪ ،‬أو يحدث أن‬
‫كثير ما نذكر أن الشعر ديوان العرب‪ ،‬هل كان الشعر هو الفن الوحيد؟ ال‪ .‬إنما كان‬ ‫ًّ‬
‫رسميا‪ً .‬ا‬
‫الفن األكثر قيمة‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫‪6‬‬ ‫‪5‬‬
‫حول الكعبة‬ ‫ووثنا‬
‫ً‬ ‫هناك فنون كنحت (األصنام)‪ ،‬بحسب البخاري يوجد (‪ )360‬صن ًما‬
‫وحدها‪ ،‬أما أوثان العرب وأصنامهم فًل تكاد تحصى‪.‬‬

‫وال يعقل أن يكونوا قد استوردوا كل هذا من الخارج‪ ،‬كان هنالك الرقص والغناء والعمارة‬
‫كثير عن فن العمارة لدى العرب قبل اإلسًلم‪ ،‬لكننا نعرف أن‬
‫والزخرفة‪ ،‬صحيح أننا ال نعرف ًا‬
‫الكعبة مبنية بشكل معين‪ ،‬ونعرف أن الزخرفة والتصوير والرسم كانت موجودة داخل الكعبة‪ ،‬ومن‬
‫تلك الرسومات صورة إلبراهيم الخليل‪ ،‬وصورة للسيد المسيح‪.‬‬

‫العربي قبل اإلسًلم لديه شعر وموسيقا ورسم ونحت وفن العمارة‪ ،‬ولو استعرضت الفنون عند‬
‫كل القبائل والشعوب لما افتقدت ًّ‬
‫فنا من هذه الفنون‪.‬‬

‫فن العمارة ُيقصد به البناء المعتنى به‪ ،‬ويتعلق بالقصدية الجمالية التي يبنى بها هذا القصر أو‬
‫مجرد كًلم بل هو مقصود به الجمال‪.‬‬‫البد من قصدية جمالية مثلما أن الشعر ليس ّ‬ ‫المعبد‪ ،‬أي ُ‬

‫نشير إلى أن المعبد هو أول األبنية التي تم االعتناء بها أوًال في فن العمارة‪ ،‬ثم جاءت قصور‬
‫اصا‪.‬‬
‫األمراء والملوك والقادة‪ ،‬فالمعبد كان يمثل الجًلل والجمال‪ ،‬لذلك كان االعتناء ببنائه خ ًّ‬

‫يما‬
‫واالعتناء اآلن هو بحسب اإلمكانيات لذلك تختلف العمارة من مجتمع إلى آخر‪ ،‬المعابد قد ً‬
‫جمالي‪ ،‬داخل المعبد هناك‬
‫ٌّ‬ ‫فني‬
‫المعبد مركز ٌّ‬
‫َ‬ ‫دائما تحتوي على الفنون األخرى‪ ،‬وكأن‬
‫كانت ً‬
‫تماثيل (النحت) وداخله صور (الرسم)‪ ،‬وتنشد التراتيل داخله (األدب والموسيقا)‪ ،‬فالمعبد جامع‬
‫قديما كان االعتقاد أن المعبد ال ينبغي أن يبنى إال على تل‪ ،‬وهذا‬
‫للفنون‪ ،‬وخزان لكل الفنون‪ً ،‬‬
‫صرة العالم أي له قيمة دينية‪.‬‬
‫التل ُينظر إليه على أنه ّ‬

‫هناك فنون ُمنعت بسبب السياسات‪ ،‬الدولة الرومانية كان المسرح عدوها اللدود‪ ،‬وهناك فنون‬
‫ُحِّرمت دينيًّا‪ ،‬الدولة الرومانية دولة استبدادية‪ ،‬والمسرح يعبر عن الواقع لذلك كان عدوها‪.‬‬

‫الفنون التطبيقية ال تكاد تحصى‪ ،‬وهي تتعلق بمجمل قطاعات اإلنتاج اإلنسانية واالستهًلكية‪.‬‬

‫هنالك فن الديكور‪ ،‬هنالك فنون صناعية‪ ،‬فن الطبخ‪ ،‬فن المائدة‪ ،‬فن قائم بذاته‪ ،‬فن تصفيف‬
‫أن الرجل أكثر زينةً من المرأة‪.‬‬
‫حكر على النساء‪ ،‬التاريخ يثبت ّ‬
‫الشعر ليس ًا‬

‫‪-35‬حجر‪.‬‬

‫‪ -36‬خشب معدن‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫من يعد إلى التاريخ ُيفاجأ بأن الزينة لم تكن من أجل الزينة فقط‪ ،‬كانت من أجل عدم وقوع‬
‫انتماء لقبيلة معينة‪ ،‬وهي تَطَلّب ديني‪.‬‬
‫ً‬ ‫السحر وكانت تعني‬

‫ميًل إلى التزين‪ ،‬كان يريد أن‬


‫السواك زينة‪ ،‬لكنه يستخدم العتبارات دينية‪ ،‬فالرجل كان أكثر ً‬
‫يحمي نفسه من األخطار التي يمكن أن يتعرض لها (األرواح الشريرة‪ ،‬الحيوانات‪...‬إلخ) فالزينة‬
‫أنواع يدخل فيها فن الخياطة‪ ،‬التطريز‪ ،‬لدينا فن البستنة (الحدائق)‪.‬‬

‫عندما تذهب لشراء جهاز اتصال تحتار‪ ،‬وتختار بعد تفكير طويل‪ ،‬وهذا يدخل في الفن‬
‫الصناعي التكنولوجي‪.‬‬

‫فنا الخط والزخرفة يقعان بين الفنون الجميلة والتطبيقية‪ ،‬فن الزخرفة عريق وقديم قدم اإلنسان‬
‫أن حضارة ما تقدمه أو تؤخره إلى الوراء‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬غير ّ‬

‫تم اكتشافها التي تعود إلى (‪ )500‬سنة قبل الميًلد ُوجد فيها زخرفة‪ ،‬وال‬
‫المعابد األولى التي ّ‬
‫نقصد الزخرفة الحالية‪ ،‬مجرد وجود خطوط معينة‪ ،‬هي تمثل الزخرفة في ذاك العصر‪ ،‬في‬
‫المعابد كانت تغمس اليد بالدم وتطبع على الجدار‪ ،‬وهذا العتبارات عديدة‪.‬‬

‫الفرق بين الفنون الجميلة والفنون التطبيقية‪:‬‬

‫الفنون الجميلة غير نفع ٍ‬


‫ية‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫التطبيقية نفعية‪ ,‬و‬
‫َّ‬ ‫الفنون‬
‫ُ‬ ‫‪-1‬‬
‫ُ‬

‫الصناعي غايتُه الترويج‪ ،‬وفي ِّ‬


‫فن الديكور كلما كان المكان‬ ‫ُّ‬ ‫فن المائدة النفعُ فيه واضح‪ ،‬والفن‬
‫ُ‬
‫أدبا لكي ننتفع‪،‬‬
‫إقباال عليه‪ ،‬الفنون الجميلة غير نفعية‪ ،‬ال نرسم وال نكتب ً‬
‫جميًل كان الناس أكثر ً‬ ‫ً‬
‫نحن نهدف إلى إنتاج الجمال أوًال‪ ،‬حتى لو انتفعنا‪ ،‬فالفن في ذاته غير نفعي‪.‬‬

‫فن العمارة طريقة التفنن فيه ليست نفعية‪ ،‬نحن نضع األشكال العتبارات جمالية‪ ،‬وليس‬
‫العتبار نفعي‪.‬‬

‫‪ -2‬الفنون التطبيقية فنون مؤقتة مرحلية‪ ,‬والفنون الجميلة دائمة نسبيا‪ ,‬أي إ َّنها وجدت‬
‫لتدوم‪:‬‬

‫أنتج قصيدةً فغايتُه أن‬


‫قصر عظيم بني ليبقى فترة طويلة‪ ،‬ثم جاء زلزال وهدمه‪ ،‬الشاعر إذا َ‬
‫تدوم‪ ،‬والفنون التطبيقية سريعةُ االنتهاء فهي ُوجدت لتُستهلك‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫الفنون الجميلة فهي ثقافيَّة بمستويات‬
‫ُ‬ ‫غير مباشرٍة‪ ,‬أما‬
‫الفنون التطبيقيَّة فنون ثقافيَّة ُ‬
‫ُ‬ ‫‪-3‬‬
‫كثيرة‪:‬‬

‫ما القيمة الثقافية في قص الشعر أو تصفيفه؟‬

‫ما القيمة الثقافية التي يقدمها السور األخضر؟‬

‫الفنون التطبيقية عن ثقافة ما‪ ،‬لكنها ال تقدم معرفةً‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ربما تُ ِّ‬
‫عبر‬

‫جدا‪ ،‬وبعضها ذو قيمة معرفية ضئيلة ًّ‬


‫جدا‪.‬‬ ‫الفنون الجميلة بعضها ذو قيمة معرفية كبيرة ًّ‬

‫فيا هو األدب وأدناها الموسيقا‪ ،‬تكاد تكون الموسيقا فًنا ثقافيًّا‬


‫ثقافيا ومعر ًّ‬
‫أعلى الفنون الجميلة ًّ‬
‫غير معرفي‪ ،‬وال نقصد أن الفنون الجميلة لها نفس السوية المعرفية‪ ،‬ففن النحت يختلف عن‬
‫الرسم‪.‬‬

‫األدب أعلى الفنون‪ ،‬ألن مادته اللغة‪ ،‬مجرد أن تفتح المعجم فستتلقى معرفة بشكل مباشر‪ ،‬وال‬
‫غرابة في أن يكون األدب هو األعلى على الصعيد المعرفي الثقافي‪.‬‬

‫وبسبب أن الموسيقا أقل معرفة فهي صوت عالمي‪ ،‬هي أصوات ال معاني لها‪ ،‬لكن لها‬
‫إيحاءات‪.‬‬

‫الفنون الجميلة فهي معرفية‪:‬‬


‫ُ‬ ‫التطبيقية غير معرفية‪ ,‬أما‬
‫َّ‬ ‫الفنون‬
‫ُ‬ ‫‪-4‬‬

‫معنى‪ُّ ،‬‬
‫فن الزخرفة ُوجد ليبقى‪ ،‬ولكن ال قيمة‬ ‫فن الخط ال معرفة فيه‪ ،‬ولكنه ككلمات يغدو له ً‬
‫معرفية له‪ ،‬يمكن لنا أن نتكهن سبب وجود الزخرفة بطريقة معينة‪ ،‬الدائرة في فن الزخرفة لها‬
‫حضور‪ ،‬في المولوية يدور الرجل حول نفسه‪ ،‬وحول شيخه‪.‬‬

‫أن األكوان التي خلقها اهلل تدور حول نفسها‪ ،‬وكلها تدور حوله‪ ،‬هذا مجرد‬ ‫وهذا تعبير عن ّ‬
‫تأويل‪ ،‬لكن الرقصة في ذاتها ال قيمة معرفية فيها‪ ،‬إذا أردنا أن نحلل العمارة اإلسًلمية فنحلل بما‬
‫منخفضا بعضهم يقول‪ :‬هو منخفض لكي ينحني الضيف إذا‬
‫ً‬ ‫يروق لنا‪ ،‬سابقًا كان باب الدار‬
‫دخل إلى البيت فكأنه ينحني لسكان البيت‪.‬‬

‫وقديما كانوا يبنون البيوت بحيث ال يدخل الخيل إليها أثناء الحرب‪.‬‬
‫ً‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫واليوم نحن نقف أمام األواني الفخارية باحترام‪ ،‬لكن صاحبها لم يكن كذلك‪ ،‬نحن نحترمها‬
‫ألنها تدل على زمن معين‪.‬‬

‫********************************************‬

‫الحاجات الجمالية‬
‫الحس الجمالي لدى اإلنسان غريزي‪ ،‬ومن يقول هذا‬
‫ّ‬ ‫لعلنا أشرنا إلى أن هنالك من يرى أن‬
‫أيضا لديه هذا الحس‪.‬‬
‫الكًلم يرى أن الحيوان ً‬

‫سميه الحاجة الجمالية‪ ،‬وهي حاجة حسية نفسية روحية‪ ،‬أي إنها حاجة مكتسبة‬ ‫نحن ُن ِّ‬
‫اجتماعيًّا‪ ،‬ليست غريزيةً‪ ،‬الطف ُل ال يولد وهو يحمل الحاجة الجمالية‪.‬‬

‫اجتماعيا عبر التاريخ‬


‫ً‬ ‫الحاجة الجمالية متأصلة ليس بوصفها غريزية‪ ،‬إنما بوصفها مكتسبة‬
‫حتى بدت كأنها غريزية‪.‬‬

‫من تاريخية ممارستها اإلنسانية القديمة تحولت مع الزمن لتشبه الغريزة في أصالتها‪ ،‬لكنها‬
‫ليست غريزية‪ ،‬أي لم تخلق معنا‪ ،‬حتى وان كانت الحواس قد خلقت لكي تستوعب العالم‪ ،‬الحاجة‬
‫الجمالية تنبني على الحواس‪ ،‬الحواس غريزية غير أن الحاجة اجتماعية‪ ،‬وألننا سوف نخصص‬
‫تعبير فنيًّا عن الحاجات الجمالية‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫حديثنا بوصفه ًا‬

‫لدينا ثًلث حاجات جمالية‪:‬‬

‫‪ -1‬الحاجة الغنائية‪.‬‬

‫‪ -2‬الحاجة الملحمية‪.‬‬

‫‪ -3‬الحاجة الدرامية‪.‬‬

‫ًّ‬
‫جماليا عبر ممارستنا الحياتية‪ ،‬أو عبر ممارستنا الفنية‬ ‫أي إننا نحن نهفو إلى إشباعها‬
‫(القراءة‪ ،‬اإلبداع‪ ،‬الكتابة)‪.‬‬

‫البد من التفريق‬
‫إ ًذا هي حاجات من المفترض أن تُشبع‪ ،‬والفنون تأتي إلشباع هذه الحاجات‪ ،‬و ُ‬
‫بين الحاجة والوعي‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫اجتماعي‪ ،‬ليس هنالك بين‬
‫ٌّ‬ ‫الحاجة يمكن إشباعها بطرائق عدة‪ ،‬وهي إنسانية‪ ،‬واشباعها‬
‫اإلنساني واالجتماعي في السياق الذي نحن فيه فرق‪.‬‬

‫عندما أقول‪ :‬الحاجة الجمالية حاجة اجتماعية وليست غريزية فأنا أميز بين االجتماعي‬
‫اإلنساني وبين الغريزي اإلنساني‪.‬‬

‫ائنا‬
‫عموما بوصفه ك ً‬
‫ً‬ ‫اجتماعي قصدت أن اإلنسان‬
‫ٌّ‬ ‫وعندما قلت‪ :‬الحاجة إنسانية واشباعها‬
‫ًّ‬
‫اجتماعيا لديه هذه الحاجة‪ ،‬لكن طريقة إشباع هذه الحاجة مرهونة بالظروف التي يحياها هذا‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫الوعي‪ :‬يمكن أن نعي الحاجة الجمالية فيكون لها ٌّ‬


‫فن من الفنون‪ ،‬ويمكن أن نعي الحاجة‬
‫البد من التعبير عنها‪ ،‬نحن‬ ‫ًّ‬
‫غنائيا‪ ،‬الحاجة ُ‬ ‫فنا غنائيًّا‪ ،‬ويمكن أال نعيها فًل نقدم ًّ‬
‫فنا‬ ‫الغنائية فنقدم ًّ‬
‫العرب لدينا الحاجة الجمالية الغنائية‪ ،‬ولدينا الوعي الغنائي‪ ،‬رحنا نعبِّر بالشعر فقيل‪ :‬الشعر‬
‫ديوان العرب‪ ،‬ألننا نسجل حياتنا بالشعر‪.‬‬

‫مرة نسجل حياتنا بطريقة غنائية بالشعر‪ ،‬ومرة نسجل حياتنا بطريقة درامية بالشعر‪ ،‬ومرة‬
‫نسجل حيانا بطريقة ملحمية بالشعر‪.‬‬

‫فن‪ ،‬والوعي الملحمي هو الذي يحول‬


‫الوعي الغنائي هو الذي يحول الحاجة الغنائية إلى ّ‬
‫الحاجة الملحمية إلى فن‪.‬‬

‫إذا لم يكن هنالك وعي بالحاجة فيمكن التعبير عن تلك الحاجة ٍ‬


‫بفن آخر كما حصل قدي ًما‪,‬‬
‫إذ لم يكن هنالك وعي درامي وملحمي‪ ,‬فتم التعبير عن الحاجتين الملحمية والد ارمية بالشعر‬
‫الغنائي‪.‬‬

‫ائي معتمد‬
‫مسرحي‪ ،‬وكذلك ال يوجد لدينا فن رو ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫في أدبنا العربي القديم ال يوجد لدينا فن‬
‫ًّ‬
‫رسميا‪ ،‬فهو ديوان العرب‪ ،‬في الشعر هنالك ميل إلى‬ ‫معتمدا‬
‫ً‬ ‫رسميا‪ ،‬لكن لدينا الشعر بوصفه ًّ‬
‫فنا‬ ‫ًّ‬
‫الحوار‪ ،‬والصراع كمشاهد الصيد هذا الصراع نراه في المسرح‪.‬‬

‫يتم إشباع الحاجة الملحمية أو الدرامية بالشعر‪ ،‬لكن هذا ال يعني أنهما لم تشبعا إال عبر‬
‫ّ‬
‫الشعر‪.‬‬

‫القصص واألساطير التي كان العرب يتداولونها حول الجن فيها جوانب ملحمية واضحة‪،‬‬
‫واألسطورة جزء من التعبير الملحمي‪ ،‬والخرافة كذلك‪ ،‬فالعرب لديهم أساطيرهم التي كانت تشبع‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫معتمدا‪ ،‬وقبل المقامة‬
‫ً‬ ‫الحاجة الملحمية‪ ،‬مع تطور الزمن أصبح لديهم فن المقامة‪ ،‬وأصبح ًّ‬
‫فنا‬
‫كان هنالك القصص القرآني‪ ،‬والقصص القرآني سرد‪.‬‬

‫شعبا في الميل إلى‬


‫شعبا سبق ً‬
‫كل الشعوب لديها قصص ولديها تلك الحاجات‪ ،‬لكن هنالك ً‬‫إ ًذا ُّ‬
‫هذا الفن وأعطى أهمية لهذا الفن أكثر من غيره‪.‬‬

‫العرب أعطوا أهمية للشعر الغنائي‪ ،‬واإلغريق أعطوا أهمية إلى المسرح‪ ،‬والفرس أعطوا‬
‫أيضا كانت تميل إلى التعبير الملحمي‪ ،‬فشعوب مالت إلى هذا‪ ،‬وشعوب‬
‫أهمية للملحمة‪ ،‬والهند ً‬
‫مالت إلى ذاك‪ ،‬إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم‪.‬‬

‫المادة‪:‬‬

‫الب َّد من الحديث عن المادة‪ :‬مادة العمارة الحجر‪ ،‬ومادة النحت‬


‫تحدثنا عن الحاجة والوعي‪ ,‬و ُ‬
‫الحجر‪ ،‬إذا لم نكن في منطقة حجرية فلن نستطيع أن نبني بناء حجريًّا‪ ،‬واذا لم يكن لدينا أدوات‬
‫ًّ‬
‫موسيقيا‪ ،‬فهنالك ظروف حضارية اجتماعية تؤثر في إنتاج ٍّ‬
‫فن‬ ‫موسيقية فلن نستطيع أن نبدع ًّ‬
‫فنا‬
‫بعينه‪.‬‬

‫بعضهم رأى أن تطور المسرح لدى اإلغريق هو بسبب الديمقراطية‪ ،‬الصراع ُي ُّ‬
‫حل بالحوار في‬
‫شكًل من أشكال هذه الديمقراطية‪.‬‬ ‫المسرح‪ ،‬وال ُي ُّ‬
‫حل بالعنف‪ ،‬فكان المسرح ً‬

‫الدولة الرومانية التي جاءت بعد اإلغريق ألغت المسرح بسبب دكتاتوريتها‪ ،‬جاءت الكنيسة‬
‫لتعتبر المسرح هرطقة‪ ،‬عندما يمنع التمثيل فسيرتبك تطوره‪.‬‬

‫كثير ما يقال‪ :‬إن‬


‫طبيعي‪ً ،‬ا‬
‫ٌّ‬ ‫اليوم الشعوب كلها لديها الرواية وبقية كل الفنون‪ ،‬وهذا تطور‬
‫بي‪.‬‬
‫الرواية ليست عربية‪ ،‬إنما هي فن عر ٌّ‬

‫ال نستطيع أن ننكر أن التقنيات الحالية نشأت في الغرب‪ ،‬التقنيات تنشأ في مكان ما‪ ،‬لكن‬
‫الفن ينشأ لدى اإلنسان‪ ،‬قبل القرن التاسع عشر ليس لدينا أعمال روائية‪ ،‬ولكن هل كان لدى‬
‫الغرب قبل القرن الثامن عشر أعمال روائية؟! إطًلقًا‪.‬‬

‫كان لديهم أعمال تُسمى بالرومانس أو بالسير الشعبية‪ ،‬مثلما لدينا نحن سير شعبية وأساطير‬
‫وحكايات‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫السرد موجود لدى الشعوب كافة‪ ،‬وتحول السرد إلى فن يحتاج إلى‬
‫ُ‬ ‫نميز بين السرد والرواية‪:‬‬
‫أسباب كثيرة‪.‬‬

‫بي‪ ،‬بل التقنيات هي من نشأت في الغرب‪ ،‬السرد موجود منذ‬ ‫إن الرواية ٌّ‬
‫فن غر ٌّ‬ ‫ال يمكن القول‪ّ :‬‬
‫أن خلق اهلل اإلنسان‪.‬‬

‫مدحا‪ ،‬لم يكن المجتمع بحاجة لها‪ ،‬كان بحاجة‬


‫وعدم وجود الرواية في تراثنا ليس منقصة وال ً‬
‫إلى الغنائيات والى حكايات سردية خرافية أسطورية‪.‬‬

‫نجد السرد في األحاديث النبوية الشريفة‪ ،‬عندما يأتي صحابي ويسأل ويجيب النبي الكريم فهذا‬
‫أن الفن جاءنا من هنا أو هناك‪.‬‬
‫سرد‪ ،‬الشعوب كلها لديها حاجة ملحمية‪ ،‬وليست القصة في ّ‬

‫معتمدا‪ ،‬وعندما التفتنا إلى الوراء‪،‬‬


‫ً‬ ‫ًّ‬
‫رسميا‬ ‫ملحمي‪ ،‬لكننا ما اعترفنا بها ًّ‬
‫فنا‬ ‫ٌّ‬ ‫الحكاية الشعبية ٌّ‬
‫فن‬
‫سردي كبير‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫قلنا‪ :‬لدينا ٌّ‬
‫فن‬

‫الشيء نفسه بالنسبة إلى علم الجمال‪ ،‬قبل القرن التاسع عشر لم يكن هنالك شيء اسمه علم‬
‫كتابا بهذا العنوان ثم‬
‫الجمال‪ ،‬جاء الكسندر بومجارتن وأطلق مصطلح (األستيطقا) وأصدر ً‬
‫علما‪.‬‬
‫تطورت آراؤه‪ ،‬حتى أصبحت ً‬

‫ألن هذا العلم نشأ عند الغرب؟ ال‪ .‬هم باألمس اكتشفوه‪ ،‬ونحن باألمس اكتشفناه‪،‬‬
‫هل نحزن َ‬
‫لكن مفهوم الفكر الجمالي موجود لدى الشعوب كافة‪ ،‬وليس من شعب إال ولديه فكر جمالي‪،‬‬
‫حتى الشعوب البدائية لديها فكر جمالي‪.‬‬

‫اجتماعي ينبني على ما هو‬


‫ٌّ‬ ‫حس‬
‫ك ّل الشعوب تمارس ممارسات جماليةً‪ ،‬ألن الحس الجمالي ٌّ‬
‫الخمس)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫غريزي (الحواس‬

‫الفرق بين الحاجات‪:‬‬

‫‪ -1‬تتحدد الحاجة الغنائية بالرغبة في التعبير عن الذات بطريقة ذاتية‪.‬‬

‫الحاجة الملحمية (الموضوعية‪ ,‬السردية) هي التعبير عن الذات بطريقة موضوعية أي عبر‬


‫الـ(آخر)‪.‬‬

‫نحن أمام قطبين‪ :‬قطب التعبير الذاتي‪ ،‬هنا نعبر بطريقة الـ (أنا)‪ .‬وقطب التعبير الموضوعي‪،‬‬
‫هنا نعبر بطريقة الـ (آخر)‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫تعبر عن‬
‫موضوعا‪ ,‬و ِّ‬
‫ً‬ ‫‪ -2‬الحاجة الدرامية تغدو فيها الذات هي الـ(آخر) وتغدو الذات‬
‫نفسها‪ ,‬فهي خلط بين الغنائي والدرامي‪ ,‬فيها يظهر الغنائي والملحمي‪.‬‬

‫في المسرح من الذي يظهر لديك؟ الشخصيات‪.‬‬

‫أساسا على الشخصيات‪ ،‬هذه الشخصيات تقول قول المؤلف‪ ،‬لكن تقوله بطريقة‬
‫ً‬ ‫المسرحية تقوم‬
‫ذاتية‪ ،‬المؤلف تخبأَ تحت الشخصيات وراح يقول‪ :‬هنا نجد الغنائي والملحمي‪.‬‬

‫أما في الشعر فالشاعر عندما يتغزل فهو بمن يتغزل؟‬

‫ضمائر الـ(أنا) هي التي تظهر‪ ،‬بمجرد أن يخفف من الضمائر العائدة إليه‪ ،‬يكون قد مال إلى‬
‫الملحمية‪.‬‬

‫بعض الدارسين قالوا‪:‬‬

‫الغنائي يقوم على الـ (أنا)‪.‬‬

‫الملحمي يقوم على الـ (هو)‪.‬‬

‫الدرامي يقوم على الـ (أنت)‪.‬‬

‫جدنا امرؤ القيس مرة يرتفع ضمير الـ(أنا) عنده‪ ،‬ومرة يرتفع ضمير الـ(هو)‪ ،‬مرة يقول‪:‬‬

‫وأَيقَ َن أَنا ِ‬ ‫ِ‬


‫قان ِبقَ َ‬
‫يص ار‬ ‫الح ِ‬ ‫َ‬ ‫رب دوَن ُه‬
‫الد َ‬
‫صاحبي لما َرأى َ‬ ‫َبكى‬

‫ومرة يقول‪:‬‬

‫وم ِل‬ ‫ين َ ِ‬ ‫ِب ِس ِ‬


‫قط اللِّوى َب َ‬ ‫نز ِل‬ ‫بك ِمن ِذكرى َح ٍ‬
‫بيب َو َم ِ‬ ‫ِقفا َن ِ‬
‫الدخول فَ َح َ‬

‫لوجدت نوازعَ ملحمية درامية بغًلف غنائي‪ ،‬وهذا طبيع ٌّي‪،‬‬


‫َ‬ ‫تفصل في الملحمة‪،‬‬
‫لو أردت أن ِّ‬
‫نحن كبشر بحاجة إلى كل أشكال التعبير‪ ،‬قد نحتاج إلى التعبير بطريقة الـ(أنا) وبطريقة الـ(هو)‬
‫أو بكليهما‪.‬‬

‫ذاتي‪ ،‬والطفل عندما يكسر اللعبة يقول‪( :‬هي‬


‫الطفل عندما تأخذ منه لعبة يصرخ‪ ،‬هذا تعبير ٌّ‬
‫انكسرت ما دخلني) تعبير ملحم ٌّي‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫جميعا‪ ،‬بعض األطفال بارعون في القص‪ ،‬يكذبون وكذبهم جميل‪ ،‬الطفل‬ ‫ً‬ ‫النزعة الملحمية لدينا‬
‫ال يكذب‪ ،‬إنما يتخيل‪ ،‬وكلما تعمق خياله استطاع أن ِّ‬
‫يعبر أكثر‪ ،‬الدرامية لها عًلقة بالمحاكاة‪،‬‬
‫سهرتنا نقول للولد‪ :‬قلِّد أباك‪ ،‬وقلِّد عمك‪ ،‬وبعض األطفال لديهم براعة في التقليد‪.‬‬
‫في ا‬

‫نحن بحاجة إلى أن نقلِّ َد الـ(آخر) فنغدو (هو)‪ ،‬وفي الحقيقة لسنا (هو)‪ ،‬إنما (نحن)‪.‬‬

‫هذه الحاجات موجودة لدينا‪ ،‬ومنذ الطفولة تبرز الحاجة إلى التعبير عن الـ(أنا)‪ ،‬وتبرز الحاجة‬
‫إلى المحاكاة‪.‬‬

‫القص‪ ،‬ويأتي‬
‫ّ‬ ‫عندما نوسع هذه الحاجات تتحول إلى فنون‪ ،‬لكن أن يأتي زيد ويكون أبرع في‬
‫طبيعي‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫عمرو ويكون أبرع من زيد في الشعر‪ ،‬فهذا‬

‫قد يبرع شعب في القص وآخر في الشعر‪ ،‬والشعب الذي ال يبرع في القص ال يعني هذا‬
‫دائما هنالك طبقات ولكل طبقة أدباؤها‪ ،‬هنالك طرائف تجد‬
‫غياب هذا الفن عنده‪ ،‬في المجتمع ً‬
‫فيها السياسي‪ ،‬األخًلقي‪ ،‬الجنسي‪ ،‬التجاري‪ ،‬ولكل طرفة طبيعتها‪ ،‬ولكن كلها موجودة‪ ،‬إذا جئنا‬
‫وحاولنا أن ندرس الطرائف ال نكون قد ابتكرناها‪ ،‬إنما درسناها فقط‪.‬‬

‫الحاجات والفنون‪:‬‬

‫فنونا مختلفة‪:‬‬
‫في هذه الحاجات نجد ً‬

‫أ‪ -‬الحاجة الغنائية‪:‬‬

‫الشعر (القصيد)‪ ,‬الخاطرة‪ ,‬الزجل‪ ,‬الغناء‪.‬‬

‫الشعر العربي شعر غنائي‪ ,‬وان اشتمل على مالمح ملحمية أو درامية‪ ,‬وكذلك الخاطرة‪.‬‬
‫ُ‬

‫نائي‪،‬‬
‫شعر‪ ،‬في الحقيقة هي خواطر‪ ،‬وهي تعبير غ ٌّ‬ ‫عندما ِّ‬
‫نعبر عن مشاعرنا نتوهم أننا نكتب ًا‬
‫وكذلك األغاني (الغزل‪ ،‬الطربية) كلها تعبيرات غنائية‪ ،‬بعضهم يذهب إلى أن الشعر أص ُل‬
‫األنواع بين األجناس األدبية‪ ،‬بعضهم يذهب إلى أن القصة أصل األنواع بين األجناس األدبية‪.‬‬

‫أتفاعل مع شاعر عندما أقرؤه‪ ،‬ألنني أراه ِّ‬


‫يعبر عن ذاتي‪ ،‬طريقة تلقي الشعر مثلما هي‬
‫طريقة إبداع الشعر‪ ,‬وهذا ليس مبالغة‪ ,‬القصيدة كانت على الرف وأنت من أنتجها وكتبها‬
‫مجددا‪.‬‬
‫ً‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫ب‪ -‬الحاجة الملحمية‪:‬‬

‫هي أعرض الحاجات‪( :‬األسطورة‪ ,‬الخرافة‪ ,‬السيرة الشعبية‪ ,‬الحكايات الشعبية‪ ,‬المقامة‪,‬‬
‫الملحمة‪ ,‬الرواية‪ ,‬القصة‪ ,‬القصة القصيرة‪ ,‬القصة القصيرة جدا‪ ,‬حكايات األمثال الشعبية‪,‬‬
‫الطرائف أحيا ًنا)‪.‬‬

‫فهي األعرض‪ ،‬ألنه يتم فيها تخفيف الـ(أنا) عن الـ(آخر)‪.‬‬

‫ني‪.‬‬
‫األسطورةُ لها جانب دي ٌّ‬

‫الخرافة لها جانب سحري‪ ،‬وال عًلقة لها بالدين‪ ،‬وربما لها عًلقة بالوعي االجتماعي الديني‪،‬‬
‫وهذا موجود‪.‬‬

‫أمام تنويعات‪ ،‬نجد‬


‫هذا االتساع منتظم وفق قاعدة واحدة هي السرد‪ ،‬وفي الحاجة نفسها نحن َ‬
‫مًلمح غنائيةً‪ ،‬مثلما نجد مًلمح درامية‪.‬‬
‫َ‬ ‫تعبير عن الذات‪ ،‬ونجد‬
‫ار ونجد ًا‬
‫حو ًا‬

‫مثًل‪ :‬فيها ضمير الـ(هو)‪ ،‬لكن بضمير الـ (هو)‬


‫ال يوجد نقاء تام في كل الفنون‪ ،‬الرواية ً‬
‫ُيستخدم الـ(أنا) في الحوار بين شخصتين‪ ،‬في لحظة من اللحظات الشخصية تتحدث عن نفسها‬
‫هذا ُيسمى المونولوج‪ ،‬فنكون أمام حس غنائي‪ ،‬الشاعر في حالة مونولوج دائم إال حين يدخل في‬
‫الديالوج وهو الحوار الخارجي (حوار بين اثنين)‪.‬‬

‫ج‪ -‬الحاجة الدرامية‪:‬‬

‫المسرح‪ ,‬السيناريو‪.‬‬

‫ص على الخشبة‪ ،‬المسرحية ينبغي أن تُمث َل‪ ،‬في حين أن السيناريو‬ ‫المسرحية‪ :‬مادة لغوية تُ َشخ ُ‬
‫فن حديث جاء نتيجة التطور‬ ‫هو المادة اللغوية لألعمال التلفزيونية السينمائية اإلذاعية‪ ،‬السيناريو ٌّ‬
‫في العصر الحديث‪.‬‬

‫هذه األجناس األدبية كلها تعبير عنا نحن‪ ،‬وتعبير عن حاجاتنا الجمالية المتوزعة على ثًلث‬
‫حاجات‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬

‫الحواس والمتعة الجمالية‬


‫للجمالي إال أن‬
‫ّ‬ ‫سنتحدث اليوم عن الحواس والمتعة الجمالية‪ ،‬كنا قد أشرنا إلى أنه ال يمكن‬
‫يتبدى بشكل‪ ،‬خارج الشكل ال نتحدث عن جمالي أو جميل‪ ،‬إنما نتحدث عن مفهوم الجمال‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يتبدى بأي صورة‪.‬‬
‫والمفهوم عادة ال ّ‬

‫هو مفهومنا نحن فقط عن الجمال أو مفهوم سوانا‪ ،‬حين نتحدث عن الجميل فنحن نتحدث‬
‫عن شيء حسي مسموع ملموس‪...‬إلخ‪ ،‬أي عبر الحواس الخمس‪ ،‬فما ال يدخل في الحواس‬
‫مثًل‪ :‬مفهوم‬
‫عاما‪ً ،‬‬
‫يصعب أن نقول عنه‪ :‬جميل أو قبيح‪ ،‬قد تدخله في الجمال أو القبح إذا كان ً‬
‫ًّ‬
‫جماليا الظلم فينبغي أن يتمثل‬ ‫ًّ‬
‫أخًلقيا أو‬ ‫الظلم مفهوم سلبي نرفضه هو معنى‪ ،‬لو أردنا أن نقوم‬
‫الظلم بظالم‪.‬‬

‫فهوما‪،‬‬ ‫ًّ‬
‫جماليا إال بوصفه م ً‬ ‫نقول عن الظالم‪ :‬ال أخًلقي قبيح بشع‪ ،‬لكن الظلم يستحيل تقويمه‬
‫حسي‪ ،‬نقصد الجمالي الذي نقومه بعد تجربة معه‪ ،‬أما الجمالي كمعنى‬
‫ٌّ‬ ‫عندما نقول‪ :‬الجمالي‬
‫إن عناصره تمثل الجمال‪.‬‬
‫فنقول‪ّ :‬‬

‫تماما كالمثل األعلى هو غير ملموس ومحسوس‪ ،‬لذلك يمكن أن يشتمل على كل عناصر‬ ‫ً‬
‫الجمال ال نستطيع أن نمارسه في الحياة‪ ،‬لذلك نقول‪ :‬هو عام جامع لعناصر الجمال‪ ،‬ولكن على‬
‫أرض الواقع ال وجود له‪ ،‬ال وجود للظلم على أرض الواقع‪ ،‬الجمال كمفهوم غير موجود‪ ،‬الموجود‬
‫أشخاص هم أو هن جميلون‪ ،‬فاألشياء موجودة مفاهيمها غير موجودة على أرض الواقع‪.‬‬

‫لسنا بحاجة إلى الحواس في عًلقتنا بالمفاهيم ‪-‬وال نقصد كل الحواس‪ -‬أي لسنا بحاجة إلى‬
‫شيئا بالحاسة‪ ،‬نحن بحاجة إلى وعي والى تصور وآراء‪.‬‬
‫نختبر ً‬

‫األشياء المحسوسة تحتاج إلى حواسنا‪ ،‬في الحواس ‪-‬وهي خمس كما تعلمون‪ -‬ال وجود‬
‫مجاز‪ ،‬أجدادنا كانوا يقولون عنها‪ :‬الحس المشترك‪ ،‬أي جماع الحواس‬
‫ًا‬ ‫لحاسة سادسة‪ ،‬هي تقال‬
‫الخمس‪ .‬هذه الحواس هل هي رسلنا إلى الجمال؟ هذه الحواس هل هي قنواتنا إلى الجمال أم أ ّن‬
‫بعضها له عًلقة بالجمال‪ ،‬وبعضها ال عًلقة له؟‬

‫منذ القرن التاسع عشر أطلق علم الجمال اسم (الحواس الجمالية) ويقصد المسمع والبصر‬
‫جميعا تشترك في التلقي‬
‫ً‬ ‫وهناك من يعترض على نظرية الحواس الجمالية‪ ،‬ويقول‪ :‬الحواس‬
‫الجمالي‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫أن مفهوم الحواس‬
‫إذا كان علم الجمال المعاصر قد اقترح هذا المصطلح فهذا ال يعني ّ‬
‫موجودا قبل ذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫الجمالية لم يكن‬

‫الفًلسفة والمتصوفة تحدثوا عن هذا األمر‪ ،‬إخوان الصفا ينشؤون صفحات حول آراء الفًلسفة‬
‫أي الحاستين أفضل؟ وأي الحاستين توصلنا إلى األشياء بدقائقها؟‬
‫في ِّ‬

‫وحين عرض إخوان الصفا إلى اآلراء كانوا يحاولون تفضيل واحدة على أخرى‪ ،‬فمفهوم‬
‫موجودا منذ القديم‪.‬‬
‫ً‬ ‫الحواس الجمالية كان‬

‫في تراثنا اعتبرت الحواس رسلنا إلى الجمال المبدد على صفحات الكون بتعبير ابن الدباغ‪،‬‬
‫رسًل فهي التي توصلنا إلى الجمال‪ ،‬هي التي تبلور‬
‫هذه الحواس موجودة لدى الحيوان‪ ،‬إذا كانت ً‬
‫الجمال‪ ،‬هل الحيوان يحس بالجمال؟ في تراثنا تمت اإلجابة بنعم‪ ،‬وهناك كثير من اآلراء تؤكد‬
‫ذلك‪ .‬تحدثوا عن الحداة الذين كانوا يغنون للناقة كي تسرع‪ ،‬وعن الصفير الذي يقومون به لكي‬
‫تشـرب الخيل‪ ،‬وهنالك من يتحدث عن الطيور التي تأنس بتغريدها‪ ،‬وهنالك نفوس تهدأ بمجرد‬
‫المتعب قد يهدأ أو يتعب بالموسيقا‪.‬‬
‫َ‬ ‫سماع تغريد الطير‪ .‬ويقولون‪:‬‬

‫تم اعتبار الجمال‬


‫إ ًذا في تراثنا تم توكيد أن الحيوان يحس بالجمال‪ ،‬ومع علم الجمال الحديث ّ‬
‫سمة إنسانية‪ ،‬وأنه ال يمكن للحيوان أن يكون لديه تصور عن الجمال‪.‬‬

‫ليست مسألة الجمال أن يكون لدي حاسة توصلني إليه‪ ،‬إنما الحاسة يجب أن تربط بتصور‬
‫عن الجمال‪ ،‬فحواسنا تساعدنا بتلمس تصورنا عن الجمال‪ ،‬لكن مجرد االتصال دون مفهوم سابق‬
‫يعني أننا أمام أشياء حسية واتصال بيولوجي فقط‪.‬‬

‫عندما أضع يدي على الطاولة أحس بالنعومة أو بالخشونة‪ ،‬أوال أحس ال بهذا وال بذلك‪ ،‬هذه‬
‫حلوا‪ ،‬فهو‬
‫حامضا أو ً‬
‫ً‬ ‫طعما‬
‫ً‬ ‫تماما كما لو تذوقت‬
‫أحاسيس غير جمالية‪ ،‬إنما بيولوجية بحت‪ً ،‬‬
‫أيضا‬
‫إحساس بيولوجي عضوي له عًلقة بعضويتنا التي تميل باتجاه الحلو وتنفر من الحامض‪ً ،‬‬
‫الحيوان ينفر من روائح معينة‪ ،‬هذه المسائل ليست وحدها التي تشكل الجمال‪.‬‬

‫عندما نمتلك الحواس بالتأكيد سنتواصل مع األشياء‪ ،‬لكن حين يكون هناك تصور أو مفهوم‬
‫عن الجمال فسوف يرتقي إحساسنا بالجمال‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫أما االتصال الحسي المباشر فهو عضوي أو بيولوجي يدلل على وجود الشـيء وعلى سًلمة‬
‫مكانا فيه روائح طيبة وال نشمها فالمشكلة في حواسنا‪ ،‬لكن حين تكون‬
‫حواسنا‪ ،‬عندما ندخل ً‬
‫الحواس سليمة نشم‪.‬‬

‫دخًل لنقول‪ :‬هذه روائح طيبة وغير طيبة‪ ،‬بمجرد أن ربطناها‬


‫هذا التوصيف الدقيق ليس إال م ً‬
‫معنى آخر‪ ،‬أما قبل ذلك فهي روائح نتلقاها بشكل بيولوجي‬
‫بروائح الحبيب عندها تأخذ الرائحة ً‬
‫بحت ال نستطيع أن نطلق عليها قبيحة أو جميلة‪.‬‬

‫الحواس ليست كلها بالسوية نفسها‪ ،‬الحواس الخمس تقوم بواجبها على أفضل وجه توصلنا‬
‫بالمسموعات بالمذوقات بالمشمومات بالمرئيات بالملموسات‪ ،‬بحيث تغطي الكون كله حسيًّا‪.‬‬

‫لكن ما تغطيه حاسة البصر تغطيه حاسة السمع‪ ،‬أجدادنا اعتبروا أن أشرف الحواس السمع‬
‫والبصـر واختلفوا في أي الحاستين أشرف من األخرى؟‬

‫أسًلفنا ميزوا بين حاستي السمع والبصر والحواس الثًلث األخرى‪ ،‬وفي علم الجمال المعاصر‬
‫اعتبرت الحواس جمالية وغير جمالية‪.‬‬

‫هنالك من يقول‪ :‬الحواس الثًلث ال عًلقة لها بالجمال‪ ،‬إنما توصلنا باألشياء فحسب‪ ،‬توصلنا‬
‫مثًل‪ ،‬والروائح ال معنى لها‪ .‬بعض الروائح تثير فينا عًلقة ما‪ ،‬هناك من تذكره‬
‫بالروائح ً‬
‫بشخص‪ ،‬أو بلحظة عاشها‪ ،‬العطر الجميل الذي شممته في لحظة عذاب كلما شممته ستتذكر‬
‫أيضا ال داللة ثقافية لها‪.‬‬
‫لحظة العذاب‪ ،‬معطيات حاسة الذوق ً‬

‫القرآن الكريم فيه كل المعاني‪ ،‬لكن كلما سمعنا قرًآنا نقول‪ :‬من مات؟ هل يتصل القرآن‬
‫بالموت؟ إطًلقًا‪.‬‬

‫ًّ‬
‫جماليا‪ ،‬وهنالك تفسيرات لعدم اعتماد الحواس‬ ‫إ ًذا السمع والبصر هما الحاستان المعتمدتان‬
‫األخرى‪ ،‬والسمع والبصر لهما أبعاد ثقافية تعكس الحواس األخرى‪ ،‬ويتصًلن بالمعطيات عن‬
‫البد من االتصال‪ ،‬حتى في حاسة الشم‪ ،‬فكلما َب ُعد اإلنسان عن‬
‫بعد‪ ،‬في حين مع الذوق واللمس ُ‬
‫الرائحة تتًلشى الرائحة‪ ،‬في حين حاسة البصر كلما ابتعد اإلنسان عن المشهد استوعب أكثر‪،‬‬
‫فنونا خارج هاتين الحاستين‪.‬‬
‫هاتان الحاستان تتصل بهما الفنون كلها‪ ،‬ال نجد ً‬

‫ليس لدينا فنون الشم وفنون الذوق‪ ،‬فن الطبخ لًلستهًلك‪ ،‬وهو فن تطبيقي ُيستهلك بسـرعة‬
‫غالبا‬
‫عموما تلمس‪ ،‬والسمعيات ال تلمس‪ .‬و ً‬‫ً‬ ‫كبيرة‪ ،‬النحت فن بصـري نلمسه‪ ،‬والبصـريات‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫البصـريات تلمس‪ ،‬ولو ذهبت حاسة السمع لدينا نكون قد فقدنا السمع بشكل كامل في حين إذا‬
‫افتقدنا حاسة البصر فيمكن أن نلمس ما ال نستطيع أن نبصره‪.‬‬

‫حين نتحدث عن الحواس ليس الغاية فقط المتعة الجمالية‪ ،‬ألن هذه الحواس لها قيمة في‬
‫الوصول إلى الفن‪.‬‬

‫اإلنسان كائن ثقافي‪ ،‬وكل ما يتصل به اإلنسان يغدو ذا بعد ثقافي اجتماعي‪ ،‬وهذه الحواس‬
‫ألما‪.‬‬
‫ذات الدالالت الثقافية إما أن تقدم لنا في اتصالها باألشياء لذةً أو ً‬

‫في تراثنا القديم ُعرفت اللذة بناء على تعريف أرسطو بأنها إدراك المًلئم في حين أن األلم‬
‫إدراك المنافي أو المنافر‪.‬‬

‫اللذة تتصل بالمًلئم واأللم يتصل بالمنافي أو المنافر‪ .‬ما المقصود بالمنافي أو المنافر؟ حين‬
‫تشم رائحة طيبة تلتذ‪ ،‬وحين تشم رائحة كريهة تنفر‪.‬‬

‫إذا أُصبت بالزكام هل أستطيع أن أشم؟ ال‪ ،‬نحن نتحدث عن الحواس السليمة التي ال‬
‫يعترضها أي شيء‪ ،‬بالرغم من أن المتكلمين في تراثنا أكدوا أن كل األشياء إما أنها مًلئمة أو‬
‫منفرا‪.‬‬
‫مًلئما أو ً‬
‫ً‬ ‫منافرة إال أن معظمهم أشار إلى وجود ما ليس‬

‫قبيحا‪ ،‬لذلك أصبح هناك تداخل بين اللذيذ‬


‫جميًل‪ ،‬واعتبر كل مؤلم ً‬
‫ً‬ ‫في تراثنا اعتبر كل ملذ‬
‫والجميل وبين المؤلم والقبيح‪.‬‬

‫قبيحا‪ ،‬وما يلذني هو ما ينفعني‪ ،‬وما‬


‫جميًل‪ ،‬وكل ما يؤلمني اعتبره ً‬‫ً‬ ‫كل ما يلذني اعتبره‬
‫جماال مؤل ًما‪ ،‬في‬
‫ً‬ ‫يؤلمني هو ما يضرني‪ ،‬ويمكن تعريف الجمال بأنه الملذ‪ ,‬لكن ماذا لو وجدنا‬
‫القصائد والفنون المحزنة والمبكية إيًلم حقيقي‪ ،‬لكننا أمام جمال‪ ،‬كيف نستطيع أن نجمع بين فن‬
‫يؤلمنا وبين جماله؟! ال نستطيع أن نعد اللذة كافية كشرط لتعريف الجمال‪.‬‬

‫غالبا ما يتعلق بالبصر أو بالسمع‪ ،‬ال نلتذ بالمشاهد‬


‫هناك مستوى آخر هو الراحة‪ ،‬المريح ً‬
‫شيئا ما ونحس ببرودته ال نحس بلذته إنما نحس‬ ‫الجميلة كما نلتذ ونحن نأكل‪ ،‬حين نلمس ً‬
‫براحة‪ .‬نحن أمام مريح ولذيذ‪ ،‬هل نستطيع أن نقول‪ :‬كل شيء نرتاح ونلتذ فيه فهو جميل!‬

‫لو قلنا ذلك لقزمنا الجمال‪ ،‬الجمال أوسع من أن نرتاح أو أن نلتذ‪ ،‬الجمال يمأل علينا كلنا‬
‫وروحا‪ ،‬يأخذنا بكاملنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ونفسا‬
‫حاسة ً‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫المتعة الجمالية مغايرة بنسبة ما عن اللذة البيولوجية‪ ،‬وليست مناقضة‪ ،‬أي اللذة البيولوجية قد‬
‫أحيانا ال أتمتع باللذيذ فقط بل أتمتع بالمؤلم‪.‬‬
‫تكون مستوى أوليًّا‪ ،‬و ً‬

‫فعًل نتألم حقيقة ألوقفنا المشاهدة‪،‬‬


‫مسلسًل نبكي ونستمر في المشاهدة‪ ،‬لو كنا ً‬
‫ً‬ ‫أحيانا نشاهد‬
‫ً‬
‫جمالي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لكن هذا إيًلم‬

‫الجمال أنواع ومستويات فيه حزن وبهجة ولذة‪ ،‬ال نستطيع أن نصنف الجمال بحقل شعوري‬
‫واحد‪ ،‬وكل تصنيف بحقل واحد هو تقزيم له‪.‬‬

‫علينا أن نحدد الجمال باللذة والراحة‪ ،‬لو لم نكن على مستوى الجمال لما بقينا نتابع المسلسل‪.‬‬
‫إ ًذا المتعة الجمالية أوسع من مسألة اللذة والراحة‪ ،‬ألنهما يبقيان في المستوى البيولوجي في حين‬
‫المتعة تتعلق بما هو روحي‪.‬‬

‫الفوارق بين الحواس‪:‬‬

‫أوًال ‪ :‬إن تلقي السمع والبصر من بعد بخًلف الحواس األخرى مما يؤدي إلى فقدان المسافة‬
‫النفسية أو التنزه عن الغرض‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬السمع والبصر أشد رهافة وحساسية من الحواس األخرى فهما تميزان االختًلفات على‬
‫ً‬
‫نحو أدق‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬تفتقر الحواس الدنيا إلى وسيط فني‪ ،‬ولذلك فهي بدائية ًّ‬
‫ثقافيا‪.‬‬

‫ابعا‪ :‬تفتقر منبهات الحواس الدنيا إلى الدالالت الرمزية والروحية‪.‬‬


‫رً‬

‫الحواس العليا تميز االختًلفات النوعية فأستطيع أن أميز بين لونين مهما كانت درجة‬
‫ضئيًل‪ ،‬أما‬
‫ً‬ ‫االختًلف بينهما‪ ،‬وأستطيع أن أميز بين الخطوط واألشكال واأللوان مهما كان الفارق‬
‫في الروائح فًل أستطيع أن أمسك بالفرق النوعي بين رائحتين‪.‬‬

‫عطر آخر بهذا تغلق حاسة الشم‪ ،‬ولم نعد قادرين‬


‫ًا‬ ‫عطر‪ ،‬ثم نضع‬
‫ًا‬ ‫نذهب إلى العطار ونضع‬
‫على التمييز ألن الروائح اختلطت‪.‬‬

‫عندما نتذوق نقول‪ :‬ربما يحتاج الشاي إلى مزيد من السكر‪ ،‬في حين في السمع نميز بين‬
‫ضئيًل وهو أمر غير متاح في‬
‫ً‬ ‫أصوات األصدقاء وأبناء الحي مهما كان الفرق بين أصواتهم‬
‫حاسة الشم‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫المسافة التأملية‪ :‬التلقي من بعد يجعل بيننا وبين الشيء مسافة نفسية‪ ،‬إذ نستطيع أن نتلقى‬
‫الشـيء بشكل أفضل‪ ،‬ما نلتحم به ال نعاينه بشكل جيد‪ ،‬وهذا في البصر‪ ،‬في حين ال أستطيع‬
‫أن أفصل نفسـي عن الرائحة‪ ،‬فًل مسافة نفسية مع الرائحة‪ ،‬في حين في السمع والبصر نتأمل‬
‫األشياء عن بعد‪.‬‬

‫لذلك نرفض إغًلق التلفاز عندما نتألم‪ ،‬ألننا أمام استقًلل نفسي‪ ،‬لكن لو جاءت رائحة كريهة‬
‫لكنا ابتعدنا مباشرة‪.‬‬

‫التنزه في الغرض‪ :‬هو أال يكون منفعة فيما أسمع وفيما أرى في حين في التذوق يكون هناك‬
‫منفعة بسبب التداخل بين النافع واللذيذ‪.‬‬

‫جميًل لن آكله‪ ،‬لكن حين أشتم رائحة طعام لذيذ فسآكل وعلى األقل‬
‫ً‬ ‫عندما أسمع صوتًا‬
‫سأتذوق‪.‬‬

‫دائما‪ ،‬امرؤ القيس شاعر‪ ،‬ما خلّده ليس أنه شاعر‪ ،‬إنما قصائده هي‬
‫عمًل ً‬
‫الفن هو ما ينتج ً‬
‫حاضرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫البد من القصيدة حتى يكون الشاعر‬
‫التي بقيت وهي التي خلدته‪ُ ،‬‬

‫اللذة البيولوجية‪:‬‬

‫هي لذة حسية غريزية فطرية بحت‪ ،‬لذة غير مستقلة عن موضوعها‪ ،‬أو ال مسافة بينها وبين‬
‫موضوعها‪ ،‬عًلوة على أنها في شطر كبير منها تتم عبر استهًلك الموضوع‪ ،‬مثل لذة الطعام‬
‫ولذة الشـراب‪ ،‬واللذائذ الشهوية األخرى أو مثل لذة الشوق والملمس فمنها ما يتعلق بسد الحاجة‬
‫ومنها ما يتعلق بالحصول على الراحة‪ ،‬وبالرغم من أن اللذيذ والمريح يدخًلن في تكوين الممتع‬
‫ًّ‬
‫جماليا فإنهما ال يستنفدانه إطًلقًا‪.‬‬

‫المتعة الجمالية‪:‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪7‬‬
‫اجتماعي وفردي‬
‫ومما هو موضوعي و‬ ‫هي متعة متركبة مما هو حسي ونفسي وروحي‪،‬‬
‫ولذلك فهي ذات شحنة انفعالية عالية تستولي على الذات فتجعلها تذهل عما وعمن حولها‪ ،‬فهي‬
‫إ ًذا متعة حسية الستلذاذها بالموضوع ومتعة نفسية النفعالها بالموضوع‪ ,‬ومتعة روحية‬
‫المتالئها القيمي الروحي‪.‬‬

‫‪ -37‬نقصد بالروحي هنا خالصة الثقافي‪ ،‬ونميز عادة بين الروحي والروحاني‪ ،‬الروحي له عالقة بالثقافة‪ ،‬والروحاني لها‬
‫عالقة باإليمانيات‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬
‫جامعة حماة‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫الدكتور ياسر عبد الرحيم‬ ‫دراسات في علم الجمال‬ ‫قسم اللغة العربية س ‪4‬‬
‫المتعة الجمالية تختلف عن اللذة‪ ،‬ألن لها جانب نفسي وروحي‪ ،‬فهي أشمل وأعم من مسألة‬
‫اللذة أو مسألة الراحة‪ ،‬وهي أعظم من أن يستطيع الحيوان اإلحساس بها‪.‬‬

‫الحيوان يلتذ بطعم أو برائحة أو يرتاح بصوت‪ ،‬لكن أن يستمتع جماليًّا فهذه خاصة إنسانية‬
‫بحت‪ ،‬عندما نقول هذا‪ :‬ال ننفي عن الحيوان التلذذ إنما نقول‪ :‬المتعة الجمالية خاصة باإلنسان‪،‬‬
‫لذلك كلما استمتعت بالجمال حققت إنسانيتك بالجمال نحقق وجودنا عبر المتعة والحضور وعبر‬
‫معرفة األشياء‪.‬‬

‫المتعة الجمالية تتصل بالمعرفة وال نقصد بالمعرفة ما هو نظري‪ ،‬أنا ال أستطيع أن أستمتع‬
‫شيئا دون أن أعرفه‪.‬‬
‫بشـيء أو أن أحب ً‬

‫شيئا في االمتحان وأستمتع به هذه متعة المعرفة وليست متعة جمالية‪.‬‬


‫وقد أكتب ً‬

‫ًّ‬
‫جماليا‪ ،‬وكيف ستقول عن شيء ما‪ :‬إنه جميل‬ ‫ما نجهله ال نستطيع أن نستمتع به وأن نقومه‬
‫وأنت ال تحيط به وال تعرفه‪.‬‬

‫يشوه المتعة الجمالية‪ ،‬أسمع قصيدة فأفكر بأن هذه الكلمة صحيحة‪ ،‬وتلك غير‬
‫أحيانا العلم ّ‬
‫ً‬
‫صحيحة‪.‬‬

‫دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب‬

You might also like