Professional Documents
Culture Documents
دراسات في علم الجمال جامعة حماة 2019
دراسات في علم الجمال جامعة حماة 2019
وحين نقول( :كلية الظاهرة الجمالية) ،فنحن أمام محاولة فلسفية كلية تجريدية من جهة،
يحب أن يكون
منا ال يحب الجمال؟ ال أحد .الك ّل ّومحاولة تحليلية تفصيلية من جهة أخرىَ .من ّ
الحسي للكلمة أم بالمعنى الروحي الثقافي.
ّ اء بالمعنى
مما هو عليه سو ً
أجمل ّ
وحاال وسلو ًكاٌّ ،
وكل منا يحلم أن يعيش شكًل
مما هو عليه ً ٌّ
ً كل منا يتمنى أن يكون أفضل ّ
في وسط مًلئم له ،نحن نسعى إلى الجمال ،ليس في أبداننا وأرواحنا وسلوكنا فحسب ،بل نسعى
إلى الجمال في األوساط التي نحيا بها ،لهذا نقول :يتميز اإلنسان من الحيوانات والكائنات
األخرى بأنه كائن جمالي مثلما هو كائن اجتماعي.
الي
تماعي جم ٌّ
ٌّ بأنه كائن اج
واإلنسان فقط من بين الكائنات ،هو الوحيد الذي يمكن تعريفه ّ
منتج ،ليس اإلنسان مستهل ًكا فقط ،صحيح أنه يستهلك الطبيعة ،لكنه ينتجها في الوقت نفسه.
ونظ اًر ألهمية الجمال ،وخطورته في حياة اإلنسان ،وحضوره الدائم في ساحة شعوره بمختلف
حاالته واحتماالته ،فقد كان من الموضوعات األكثر غنى وثراء في مفهومها في كل اللغات
وخاصة اللغة العربية ،حتى أننا إذا أردنا أن نعدد المفردات الدالة على الجمال إيجاباً وسلباً،
وجدنا أنفسنا أمام سلسلة طويلة يكاد يتعذر حصرها.
فما ُيحصر في ذهن الواحد منا قليل دائماً أمام الكثير الغائب ،ومن هذه المفردات "القيم"
على سبيل المثال وسنذكرها حسب األلف بائية" :أ" األخاذ ،اآلسر ،األنيق" ،ب" البارد ،الباهر،
التهكمي" ،ت" الجامد ،الجذاب ،الجمال ،الجودة"،ح" الحسن، ُّ البديع ،البليغ ،البهي" ،ت" التافه،
الحًلوة ،الحنون" ،خ" الخًلب ،الدافئ" ،ر" الرائع ،الراقي ،الرشيق ،الرفيع ،الرقيق" ،ز" الزاهي،
"س" الساحر ،السامي ،السخيف ،السلس ،السخي" ،ش" الشامخ ،الشفاف ،الصافي ،الصبوح،
"ظ" الظريف" ،ع" العادي ،العذب ،العشوائي ،العظيم ،العميق" ،غ" الغليظ" ،ف" الفاتن ،الفارع،
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الفخم ،الفظ" ،ق" القاسي ،القبيح" ،ل" اللطيف" ،م" المأساوي ،المؤثر ،المؤلم ،المائع ،المتزن،
المتخلخل ،المتكامل ،المتناسب ،المتوازن ،المتوتر ،المختل ،المريح ،المشرق ،المشوه ،الممجوج،
المنسجم" ،ن" الناعم ،النقي" ،و" الواضح ،الوضيع" ،ي" اليانع .......الخ.
نحن هنا أمام غنى كبير في المفردات الدالة على الجمال بمختلف مستوياته وميادينه ،ونحن
عرفة له ،وأمام تنوع في أساليب التعبير
الم ِّ
أيضا أمام غنى كبير في العبارات الدالة على الجمال ُ
عن الدالالت المراد تبيانها من تعريف الجمال .لكننا إذا جردنا هذه العبارات من األعراض
والشكليات ،وحاولنا حصر المضمون أمكننا القول :إن تعريفات الجمال جميعها تدور حول فكرة
أساسية تؤكد أن الجمال هو كل ما يبهج النفس ويمتِّعها.
أما أبرز معايير تحديد الجمال فهي "1" :المتعة الجمالية " "2الحاجات الروحانية ""3
الجمال صفة خارجية " "4ارتباط الخصائص بالموضوع " "5الجمال والمضمون.
" "1المتعة الجمالية :البهجة والمتعة واللذة مفتاح أساسي من مفاتيح تحديد الجمال ،ولكنها
ليست الوحيدة وال الكافية لتحديد الجمال؛ ذلك أن البهجة واللذة والمتعة أمر يمكن أن نجده في
كثير من األمور واألشياء والموضوعات التي ال يجوز التعامل معها على أنها موضوعات جمالية
أو آثار جمالية.
فإذا تناول المرء طعاماً لذيذاً بعد جوع شعر بالمتعة واللذة ،ولكن الطعام ليس موضوعاً
كثير من المتعة
اً جمالياً ،وال تناوله كذلك ،واذا غطس المرء – مثًلً -سابحاً في يوم حار وجد
والبهجة والفرح أيضاً ،واذا كان من عشاق السباحة فإن متعته التضاهى ،ولكن السباحة ليست
حد ذاتها ،واذا استلقى المرء على ظهره مسترخياً بعد عناء يوم ثقيل من
موضوعاً جمالياً في ّ
العمل الشاق المضني شعر بنشوة عارمة ،وبهجة غامرة ،ومع ذلك فإن االستلقاء واالسترخاء
ليس موضوعاً جمالياً في حد ذاته.
انتبه كانط إلى هذه المسألة في تحليل الحكم الجمالي ،وأشار إلى أن الجمال هو ما يبعث
شعور االرتياح والرضا في النفس ،واحساسنا بالمتعة واللذة يختلف عن تلك المتعة أو اللذة التي
نشعر بها عندما نكون أمام طعام لذيذ ،فاإلحساس بلذة الطعام ينتهي بمحض االنتهاء منه
وتحقيق اإلشباع ،أما اللذة أو المتعة الجمالية فإنها لذة دائمة ،ال يصح عليها مقياس اإلشباع.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
البهجة ،أو اللذة ،أو النشوة التي يمكن أن نشعر بها من تلقي موضوع أو معايشة الموضوعات
غير الجمالية ،وهي متعة خاصة يتفق كثير من الباحثين الجماليين على أنها تختصر ضروب
المتع واللذات ،فمن يشعر بالمتعة الجمالية يحسب ّأنه يشعر بكل أنواع المتع واللذات في آن
معاً.
ويبدو في هذا الكًلم شيء من المبالغة والتطرف ،هذا صحيح ،ولكنه صحيح في صورته
ولمن اليعمل التفكير فيما يعيشه من متع جمالية في حياته اليومية أو في اللحظات الجمالية
النادرة والفريدة التي يمر بها.
لننظر إلى الموضوع من زاوية جمالية ،كم مرة سهرنا على شدو مطرب أو مطربة مبدعة
ساعات طويلة أخذتنا فيها المتعة الجمالية من أنفسنا ،حتى نسينا جوعنا ،وعطشنا ،ونسينا
احتياجاتنا البيولوجية الضرورية الغريزية ،وربما تجاهلناها عمداًُ ،مفضلين تشنيف اآلذان عليها،
على الرغم مما تمارسه علينا من ضغط وتوتر .حتى إذا ما انتهت السهرة والطرب قرصنا الجوع،
أو تحرك النعاس في جفوننا ،وانتبهنا إلى أننا كنا مأخوذين بالشدو ،حتى نسينا ما نحن فيه من
حاجات بيولوجية ضرورية؟
وكم مرة جلسنا على صخرة على الشاطئ ،أو أمام شًلل في غابة وأخذتنا النشوة ولم ننتبه
إلى أن أحداً ينادينا إال بعد تكرار النداء؟ كم مرة مرت من أمام شاب فاتنةً جعلته يتلفت حوله
حتى كاد يصطدم بعمود أو جدار أو إنسان أو ربما كادت تصدمه حافلة؟
إن ما يتسم به الجمال من سحر وفتنة يثير في النفس نشوةً عارمةً تتناسب مع شدته ،تجعلنا
هذه النشوة أو المتعة نشعر وكأننا حصلنا جميع المتع واللذات معاً.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
إذن المعيار الثاني لتحديد الجمال أنه ذلك الموضوع الذي يلبي حاجةً روحانيةً فكريةً عند
أي موضوع بالمطلق من دون تحديد ،ويثير في النفس تلك المتعة الروحانية التي
اإلنسان ،وليس ُّ
تختلف عن ضروب المتع واللذات التي تخاطب الحواس الخارجية وتلبي حاجات بيولوجية.
ولكن ثمة من سيعترض هنا بأن االحتياجات الروحانية لإلنسان أكثر سعة وامتداداً من
الجمال ،فاإليمان حاجة روحانية وفيه متعة روحانية أيضاً فهل اإليمان من الجمال أو من
الموضوعات الجمالية؟
ثمة من يحيل الجمال إلى عًلقة صوفية روحانية ،لكن اإليمان والدين ليسا موضوعاً جمالياً
على أي حال ،وان كان يشترك مع الجمال بأنه يلبي حاجات روحانية لدى اإلنسان ،ويثير فيه
متعاً روحانية.
يفترق الجمال عن اإليمان بأن الجمال يتمظهر في موضوعات حسية بينما اإليمان يتجلى
في أفكار وسلوكيات قائمة على عقائد وقناعات دينية ،قد يكون في السلوكيات الدينية شيء
جميل ،ويمكن أن يكون فيها ما ُيتعامل معه على أنه موضوع أو أثر جمالي ،ولكن لكل من
الدين واإليمان طبيعة مستقلة ،لها خصائصها ووقائعها وطبائعها التي يختلف بها عن
الموضوعات والميادين األخرى وتتميز بها عنهم.
أما الجمال فيبدو في الموضوعات الحسية على نحو يكون صفة أو حاالً ،أي يكون الجمال
صفةً دائمة للموضوعات المدركة بالحواس ،أو صفةً عابرة أو عرضية تبدو في وضعية ما أو
حال ما ،كاالبتسامة التي ترتسم على الشفتين لسبب ما ،أو كالنظرة التي يوجهها اإلنسان في
لحظة ما ألمر ما.
" "3الجمال صفة خارجية :وفق هذا المعيار الثالث الذي يمكن أن نحدد به الجمال هو ّأنه
صفة تتوضع على الهيئة الخارجية للموضوع الذي يسمى الموضوع الجمالي ،وأن تكون الصفة
صورةً خارجية للموضوع الجمالي ،بمعنى أنها قابلة لإلدراك من خًلل مجموعة المعايير
الجمالية.
ثمة اختًلف في المعايير الجمالية وفي تحديدها ،ويمكننا القول من غير جزم :إن المعايير
التي يرتسم الجمال من خًللها هي الخصائص التي ُّ
تبث الراحة في النفس وتبعث فيها النشوة أو
المتعة الجمالية ،فإذا اكتفينا بهذا التحديد ،تركنا المجال مفتوحا باإلطًلق وليس في ذلك عيب،
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
واذا حاولنا أن نحدد هذه الخصائص دخلنا في مشكلة االختًلف في مسألة تحديد المعايير
الجمالية.
والمعايير الجمالية -على أي حال -أو الخصائص التي تجعلنا نصف الموضوع ،أو األثر
حد
بأنه جميل ليست بعيدة عن البنية النفسية والعقلية لإلنسان ،إنها منسجمة معها تماما ،بل إلى ّ
كبير جداً ،فالنفس تميل إلى االنسجام والتوازن والتناظر والتناسب وتهفو إلى التميُّز والفرادة
المريحة للنفس الباعثة لبهجتها.
هذه هي صورة المعايير الجمالية والحقائق التي يجب أن يتسم بها الموضوع أو األثر حتى
ن صفه بالجمال ،ولكنها ليست الوحيدة بالتأكيد ،وال شك في أن ثمة غيرها من الحقائق والمعاني
التي يؤدي توافرها أو وجودها إلى تأكيد وصف الموضوع بالجمال ،وال نخطئ إذا قلنا إنه كلما
توافر المزيد من هذه الخصائص ،وكلما توافرت بوضوح أكبر ،استحق الموضوع أو األثر أن
يوصف بمزيد من الجمال.
والًلفت هنا أن لهذه الخصائص صفات يصعب فهمها الفهم ذاته على كل الموضوعات أو
ولكن هل يصح على
ْ اآلثار الجمالية ،فالتناظر -على سبيل المثال -يصح في الجمال البشري،
القصيدة ،أو القصة ،أو الغابة ،أو البحر؟ وإذا صح أو جاز لنا أن نقول :إنه مطلوب في
كل هذه الموضوعات الجمالية؟ هلمختلف أنواع الجمال ،فبأي معنى يمكن أن نفهم التناظر في ِّ
ً
يمكن أن نفهمه فهماً مماثًلً للتناظر في وجه اإلنسان تماماً كما هو في الغابة؟
" "4ارتباط الخصائص بالموضوع :المعيار الرابع من معايير تحديد الجمال أن الخصائص
التي ُي َدرك الجمال من خًللها مرتبطة بالموضوع أو األثر الجمالي ،وال يجوز فهمها فهماً سطحياً
أو قياسياً يجعلنا نساوي بينهما مساواةً حرفية أو تامة لدى تلقي الموضوعات الجمالية.
إن أي خصيصة من خصائص الجمال واحدة في التجريد العقلي ،ولكنها نسبية في اإلدراك
الجمالي ،مرتبطة بكل موضوع أو نمط من الموضوعات على حدة.
فالتناسب فكرة واحدة في الذهن ولكن التناسب في اللوحة غير التناسب في لوحة أخرى،
والتناسب في القصيدة غير التناسب في الجسد اإلنساني ،والتناسب في الغابة غير التناسب في
الحديقة ،الخ وهكذا في بقية الخصائص الجمالية األخرى مثل :االنسجام ،والتناظر ،والتكامل،
والفرادة ،والتميز ،وغير ذلك.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
والظاهر من خًلل كًلمنا حتى اآلن أننا نركز على الخصائص الشكلية الخارجية للموضوع
خارجي فقط؟
ٌّ أو األثر الجمالي الذي ُّ
نعده جمالياً ،فهل الجمال شكل
الحقيقة أن فًلسفة الجمال يكادون يجمعون على أن الجمال هو فقط تلك الخصائص
الخارجية التي يتصف بها الموضوع أو األثر ،وهذا الكًلم عزيز على الطّعن إذا أردنا أن نتعامل
مع الجمال تعامًلً موضوعياً ،وحتى ذاتياً ،ذلك أننا نفترض أساسا أننا نتعامل مع جمال ال
تربطنا فيه روابط عاطفية سابقة ،وال روابط منفعية لحظية ،فمشاهدتي لفاتنة أراها أول مرة من
دون أن تربطني بها روابط عاطفية أو معرفية يجعلني ال أدرك من جمالها إال الجمال الخارجي،
فكيف إذا كان األمر متعلقاً بغابة أو قصيدة أو رواية أو غير ذلك؟
فالجمال إذن -حسب هذا المعيار -شكل خارجي فقط ألنني أفترض أنني أتعامل مع
السابقَة بالمضمون ،فإذا
َ الموضوع الجمالي تعامًلً خالياً من الروابط النفعية والمصلحية والمعرفة
ما أُتيح لنا االطًلع على المضمون صرنا أمام مستوى آخر من العًلقة الجمالية.
" "5الجمال والمضمون :للمضمون أهمية في العًلقة الجمالية وقيمة ال شك في ذلك وال
ريب ،ولكنها ستخرج بالعًلقة الجمالية من التلقي الموضوعي إلى التلقي الذاتي ،لنأخذ على سبيل
المثال الفتاة التي اخترقت مخيلتي وهيمنت على انفعاالتي بجمالها األخاذ الفاتن الرائع إذا كانت
سخيفة ،أو سطحية ،أو جاهلة ،أو مجنونة الخ ....فإن جمالها الرائع سرعان ما سيتحول في
مدركاتي الحسية إلى جمال باهت ،أو بارد ،أو أطًلل جمال ،واذا كانت وقّادة اإلحساس
والفطنة ،مفعمة المشاعر ،فإن جمالها حكماً سيتحول إلى طبيعة أخرى ال ندري تماما كيف
ستكون أل ن األمر سيرتبط بالمتلقي لهذا الجمال أو المعايش لهذا الجمال ،فقد تأخذ الفطنة
والحيوية المدركات الحسية بعيداً عن الهيئة الخارجية ،وقد تربطها معاً فتزداد فتنتها فتنةً على
فتنة ،وربما غير ذلك.
األمر ذاته من حيث المبدأ ينطبق على االفتقار الجمالي ،أو على الفتاة قليلة الحسن
والجمال إذا كانت سخيفةً أو تافهةً ،فإنها ستبدو للناظر الذي أدرك سخفها وتفاهتها أنها قبيحة
وربما قبيحة جداً ،وبالمقابل إذا كانت حساسة خلوقةً رقيقةَ المشاعر ،فإن المعايش لها لن يرى
قلة الجمال هذه بعد فترة من المعايشة ،والدخول إلى باطنها أومضمونها.
و من هذا الباب تكون العًلقة بين أفراد األسرة أو األهل وبين المحبين فإنهم يتعاملون مع
قبح ابنها أبدا
األم َ
بعضهم بعضاً انطًلقاً من الداخل ،وانطًلقاً من المضمون ،ولذلك ال ترى ُ
قبح أمه مهما بلغ قبحها من مبلغ ،وكذلك األم مع األب الخ...
االبن َ
ُ مهما بلغ قبحه ،وال يرى
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
و ُّ
أشد ما يكون ذلك بين حبيب وحبيبته فإنهما ال يريان بعضهما بعضاً إال بعين القلب ،وعين
القلب خادعة في مثل هذه المشاعر ،خادعة ألنها ال تريد أن ترى في المحبوب إال ما تريد أن
تراه أو َسر النفس أن تراه ،وغالباً ما يكون ذلك من باب اإلسقاط والتخيُّل.
باختصار يقوم المضمون بدور ال يمكن إنكاره في العًلقة الجمالية من جهة التلقي والمعايشة
والتقويم ،ولذلك نحن ال ننكر ما للمضمون من قيمة ودور في تحديد الجميل ،ولكن الذي ينبغي
أال يغيب عن ذهننا هنا أن المضمون ال يكون جزءاً من العًلقة الجمالية إال إذا كان خالياً من
المتعة الحسية والمتعة المباشرة ومن العًلقة البيولوجية وغير ذلك مما ُيخرج العًلقة الجمالية عن
مهمتها ووظيفتها.
ولمصطفى صادق الرافعي قصة عنوانها "قبح جميل" تصف حب طفل ألمه القبيحة
المشوهة ،ويصف مشاعر هذا الطفل الرقيقة الشفافة تجاه أمه المشوهة ،فهو ال يراها بعينه بل
بقلبه .ومهما جاء من يقنعه أن أمه قبيحة مشوهة لن يقتنع ،ألنه ال ينظر إليها من ناحية شكلها،
بل من ناحية مضمونها .فالحب نقص يسعى إلى الكمال ،فربما أعجب شاب بفتاة ليست جميلة،
ونبهه اآلخرون على قبحها ،لكنه يراها بعين القلب بينما اآلخرون يرونها بالعين المجردة.
ولذلك إذا قبلنا المضمون جزءاً من العًلقة الجمالية قبلناه فقط في اإلنسان ،اإلنسان وحده
هو القادر على عكس مضمونه عكساً جمالياً ،واإلنسان هو الوحيد الذي نجدنا مضطرين أحياناً
إلى ربط شكله بمضمونه في عًلقتنا الجمالية معه ،أما بقية الموضوعات أو اآلثار الجمالية فمن
أي أثر يذكر في العًلقة الجمالية ،ومن ذلك على سبيل المثال
شبه المتعذر أن يكون لمضمونه ُّ
أن جمال الغزال منفصل انفصاالً تاماً عن مضمونه ألننا ال نتعامل مع مضمون إال على أنه
بيولوجي ال صلة له بالعًلقة الجمالية ،ومثله كذلك الحصان والحوت والدلفين وكذلك
ٌّ مضمون
شأن الحديقة والغابة والسهول ،وال يختلف األمر عندما نتعامل مع اللوحة أو التمثال أو العمارة،
وربما يكون للجمال في األدب بعض االستثناء ،والسبب في ذلك أن األدب صورة أخرى من
صور اإلنسان تكاد ال تنفصل عنه مهما كان موضوع األدب ومضمونه.
الجمال الطبيعي:
وفق هذا التحديد الذي وصلنا إليه نحن أمام نوعين للجمال ،جمال طبيعي وجمال فني
"صنعي" ،أي جمال خلقه اهلل وجمال صنعه اإلنسان ،وال نلحظ اختًلفاً في المبدأ بين المعايير
الجمالية التي نحكم بها على هذين النوعين من الجمال ،وان كان بين الجمالَ ْين اختًلف كبير.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
وتقف الحيوية على رأس نقاط االختًلف بين الجمال الطبيعي والجمال الفني ،والحيوية
بمختلف دالالتها هي رأس الخصائص الجمالية ولذلك نجد أن أقصى ما يمكن أن نعبر به عن
روعة جمال أثر فني هو قولنا :يكاد ينطق ،أو قولنا :ال ينقصه إال أن ينطق ،وفي هذا وحده ما
يؤكد أن الحيوية هي رأس الخصائص الجمالية ،ولذلك نجد أنه عندما تأخذنا الحيوية في إدراكنا
الموضوعات الجمالية ننسى الخصائص األخرى ،وعندما تنعدم الحيوية في الموضوعات التي
تملك الحياة تنعدم معها تلك الخصائص الجميلة األخرى.
والحقيقة أننا ال نبحث عن الحيوية بمعنى الحياة ،وال نقف عندها في عملية التقويم
الجمالي؛ ألننا نفترض وجودها في كل حركة وسكنة من الكائن الحي ،وننظر إلى تجلياتها في
ِّ
كل القسمات ،والمًلمح ،والخصائص ،والسمات ،واذا استعرنا من مدرسة االقتصاد الحديثة
أسلوبها في تحديد القيمة أمكننا أن نشرح الفكرة على الشكل التالي:
وبهذا المعنى فإن الحيوية فيما يتعلق بالموضوع الجمالي شبيهة بالهواء لإلنسان ،والهواء هو
أكثر األشياء أهمية وضرورة لإلنسان ،وألن قيمته ال تقدر بثمن فإنه بًل ثمن ،إنه بًل ثمن ألن
قيمته أكبر من كل ثمن وألنه متوافر بكم هائل ال يستطيع أن يمتلكه أحد أو يحتكره أحد.
هذا يعني من ناحية أخرى أن كل موضوعات الطبيعة قابلة ألن تكون موضوعات جمالية
بمختلف أحوالها ،وصفاتها ،وتشكًلتها وعًلقاتها مع بعضها بعضا ،الشجر مع الشجر ،والشجر
مع النهر ،والنهر مع البحر ،والغابة مع الجبل ،والجبل مع السفح ،مع اإلنسان مع الحيوان...
بكل ما يخط ُر في البال من تشكيًلت وترابطاتها ،كل ذلك قابل أن يكون موضوعات جمالية ،أي
إن الجماد أيضا مندمجا مع هذه التركيبة ومنفصًلً عنها يمكن أن يكون موضوعاً جمالياً ،عندما
تتوافر فيه الخصائص الجمالية ،أو عندما ننظر إليه بوصفه موضوعاً جمالياً.
الجمال الفني
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
هو الجمال الذي يصنعه اإلنسان ،وهو ما تم التعارف عليه حتى اآلن باسم الفن ،فالفن هو
صناعة الجمال ،وكل ما يصنعه اإلنسان صنعاً جمالياً هو فن.
ثمة اختًلف كبير في النظر إلى المنتجات اإلنسانية التي تستحق أن تسمى فناً ،هذا
االختًلف ماثل في الدرجة االرتجال الذي يتسرع به المتشدقون من غير المختصين ،ومن
أي صنعة تعجبهم على أنها فن ،مهما كانت هذه
المتطفلين ،واألدعياء ،الذين ينظرون إلى ِّ
فناً في كل ما يصنعه أو ينتجه شخص يحبونه أو ينافقون له أو هم بحاجة إليه.
الصنعة ،ويرون ّ
أما المختصون فإن الخًلف بينهم في هذا الشأن أقل ،ولكنه أعقد ،ومهما يكن شأن الخًلف
بين المختصين فهو خًلف حول إدراك أبعاد ما يختلفون فيه ومن أجله.
الفن في ُعرفهم صنعة إبداعية غايتها األساسية صناعة الجمال ،وترتبط بغاية أخرى توازيها
في األهمية ،وهي التعبير عن الذات المبدعة وقدرتها اإلبداعية ،وهذا المعنى الصريح يعني أنه
فناً مهما كان متمي اًز؛ ألن
من غير الممكن أن نعد أي صنعة فنية ،وال أي إنتاج ينتجه اإلنسان ّ
فناً. التميز وحده غير كاف ِّ
لعد المنتج ّ
نحن اصطًلحياً أمام جملة من الصنائع التي اتفق الباحثون والنقاد على ِّ
عدها فنوناً ،وهي ما
تسمى عادة بالفنون السبعة :الرسم ،النحت ،العمارة ،الشعر ،الموسيقى ،المسرح ،القصة.
ويضيف بعضهم إلى هذه الفنون الرقص ،والتمثيل ،والغناء ،وغير ذلك مما هو موضوعُ نقاش،
وقبول ،ورفض ،من باحث آلخر.
هناك الكثير من التصنيفات لهذه الفنون ،بعضها يختصر الفنون في خمس ،وبعضها يزيد،
وبعضها ّينوع في أنماط التصنيف ،ولكنها كلها تقريباً متفقة على أن هذه الفنون التي أشرنا إليها
هي فنون ،الخًلف يكمن في أن بعضهم يصنف فنوناً أخرى منها على أنه موضوع اتفاق إلى
حد ما ،كونها قد استُحدثَت مثل السينما ،ومنها ما قد يكون موضع اختًلف .ومن وجهة نظر
الدكتور عزت السيد أحمد فإنه من الممكن تقسيم الفنون إلى قسمين كبيرين هما :الفنون األدبية
التي تميل إلى تسمية العلم الذي يدرسها علم الجمال األدبي ،بوصفه فرعاً من فروع علم الجمال،
وفنون هذا القسم هي" :الشعر ،القصة ،المسرحية" .أما القسم الثاني هو الفنون البصرية كونها
درك بحاسة البصر ،وهي :الرسم ،والنحت ،والعمارة ،ويمكن إضافة الموسيقى تجاو اًز.
تُ َ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
إن هذا التقسيم يحتاج إلى وقفة أطول ،وتَعمق في فهم العًلقات الجدلية بين مختلف أنواع
الفنون ،فقراءتي للوحة قراءة ذوقية تأملية جمالية هي بالضرورة قراءة لفن بصري بأسلوب أدبي،
وان كنا ال نميل إلى هذا التقسيم مطلقاً.
ال ينفصل التعامل مع الفن والجمال الصناعي عن التعامل مع الجمال الطبيعي من ناحية
خصائص أخرى بوصفه صناعة بشرية ،وبوصفه صناعة تعنى َ التقويم الجمالي ،ولكن للفن
بصناعة الجمال .خًلفاً لموضوعات الطبيعة التي ال يشترط فيها أن تكون موضوعات جمالية
وحسب ،فمعظمها موضوعات طبيعية تصلح ألن تكون موضوعات لكثير من الميادين العلمية
والمعرفية األخرى ومنها علم الجمال.
يختص به ُّ
الفن من مسائل غير موجودة في التعامل مع الجمال الطبيعي مسألة ُّ إن أبرز ما
اإلبداع ،وهي مسألة طويلة كثيرة التشعبات والموضوعات ،والعلم الذي يدرس الفن بكل أبعاده،
وميادينه ،وموضوعاته ،وخصوصياته ،هو فلسفة الفن أو علم الجمال بوصف فلسفة الفن جزء
من علم الجمال على األقل في هذا التمهيد الذي عرضناه.
علم الجمال
علم الجمال علم حديث النشأة نسبياً ،فهو لم ينشأ عمليا -بإجماع الباحثين والدارسين
والمؤرخين الجماليين -إال في أواسط القرن الثامن عشر ،على يد الفيلسوف األلماني الكسندر
باومغارتن في كتابه "تأمًلت فلسفية في موضوعات الشعر" ،فهو بإقرار جميع المؤرخين
والباحثين الجماليين أول من وضع لفظ Estheticوحدد مفهومه ،وميدانه ،ووضع القواعد له
وللتقويم الجمالي ،فميز بين نوعين من المعرفة :معرفة حسية وهي معرفة غامضة ،ومعرفة عقلية
هي معرفة واضحة .وبينهما نوع وسط هو امتثاالت واضحة ،ولكنها ليست متميزةً ،وهي ميدان
علم الجمال.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
إن هذا اللفظ Estheticالمعروف عربيا باالستطيقا بمعنى أن علم الجمال ذو جذر التيني
هو ،Aisthesisوال غرابة في ذلك فهذه اللغة هي الجذر المباشر لمختلف اللغات األوربية الغربية
منها خاصة ،لذلك ال عجب أن تندرج هذه المفردة بعد قولبتها بمختلف اللغات األوربية ،وتعني
هذه المفردة التي هزت الدنيا وشغلت الناس الحقا في أصلها اإلحساس ،ولذلك ظن بعضهم أنها
تعني نظرية اإلحساس أو علم اإلحساس ،وهي تعني في األصل معنى واحداً يفهم بثًلثة أوجه:
-1المعرفة الحسية أو اإلدراك الحسي -2 .المظهر المحسوس -3.الصورة األولية إلحساساتنا.
واذا كان علم الجمال بوصفه مصطلحاً محددا ،حديث النشأة ظهر على يد باومغارتن ،فإن
الدراسات الجمالية ،والبحث في المشكًلت الجمالية ليست حديثة النشأة على اإلطًلق ،فكلما
توغلنا رجوعاً إلى الوراء في عمق التاريخ ،وجدنا ما يدل على أن المفكرين كانوا يتعاملون
بالموضوعات الجمالية ،ناهيك عن أن الممارسات الفنية وجدت منذ وجد اإلنسان ،كما تشير
الدراسات التاريخية واألنثروبولوجية.
وقد بلغت الدراسات الجمالية مبلغاً مهما في الحضارة اليونانية خاصة ،وخاصةً على يد
سقراط وأفًلطون وأرسطو وفيثاغورث وغيرهم ...أما في الحضارة العربية اإلسًلمية فقد حدث
انعطاف هائل في تاريخ الفكر الجمالي ،إذ وجدنا كثي اًر من أعًلم علم الجمال ،وخاصة منه علم
الجمال األدبي الذي وضعت فيه مئات بل آالف المؤلفات من عشرات األعًلم ،الذين اكتشفنا
بعضاً غير قليل منهم ،وما زال الكثير منهم ليسوا في متناول الباحثين والدارسين .ولعل أبرزهم
الجاحظ ،والتوحيدي ،وابن قتيبة ،والجرجاني ،وابن خلدون ،والماوردي ...وغيرهم ،وفي أوروبا
في العصر الوسيط اهتم الفًلسفة بالدراسات الجمالية ،وأخذت على أيديهم بعداً صوفياً إلى حد
ما ،أو بعداً أدبياً على األقل ،ومن هؤالء :توما األكويني ،وسان أنسلم ،وأوغستين وغيرهم.
أما في أوروبا العصر الحديث فنهضت الدراسات الجمالية نهضة واسعة ،ظلت تتنامى
بوتائر متسارعة حتى ظهر اصطًلح علم الجمال على يد ألكسندر باومغارتن ،وان كانت جهود
َ
ديكارت وكانط وهيغل وشبنهور عظيمة في هذا الشأن ،وخاصة جهود كل من كانط وهيغل.
وبعد هذه األجيال أخذت وتائر الفن الجمالي بالتوسع ،والتنوع ،والغنى ،واالنتشار ،حتى صارت
في القرن التاسع عشر ثم العشرين من أكثر الموضوعات شغًل للباحثين والمفكرين وحتى
الفًلسفة .حتى وجدنا في أواسط القرن التاسع عشر أحد الشعراء يقول" :ال يعج زماننا بشيء
بقدر ما يعج بعلماء الجمال" فكيف لو تقدمنا قليًلً أو نحو مئة سنة سيكون عدد هذا أكثر.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
في النهاية ،مثلما كنا أمام اختًلف في تعريف الجمال عند المفكرين والفًلسفة ،كذلك هناك
اختًلفات في تعريف علم الجمال في المعاجم ،فإذا ما فتحنا معجم الموسوعة الفلسفية للمؤلف
"الالند" وجدنا أنه يعرف علم الجمال بأنه" :علم األحكام التقويمية التي تميز بين الجميل والقبيح"،
أما قاموس "ويبستر" فإنه يعرفه بأنه" :المجال الذي يتعامل مع وصف الظواهر الفنية والخبرة
الكمالية وتفسيرها" .أما "بيرديلي" فإنه يرى أن علم الجمال" :علم يقيني تقوم من خًلله فروع
معرفية عدة بدراسة المنطقة المشتركة المتعلقة بالخبرة ،أو االستجابة الجمالية بكل ما تشتمل
عليه هذه الخبرة ،أو االستجابة من جوانب حسية وادراكية وانفعالية ومعرفية واجتماعية".
واذا فتحنا أحد أقدم المعاجم الفلسفية العربية المعاصرة ،معجم جميل صليبا ،وعنوانه:
"المعجم الفلسفي" وجدناه يعرف علم الجمال" :علم يبحث في شروط الجمال ومقاييسه ونظرياته،
وفي الذوق الفني ،وفي أحكام القيم المتعلقة باآلثار الفنية ،وهو باب من الفلسفة ،وله قسمان:
قسم نظري عام وقسم عملي خاص".
ال شك في أن هناك الكثير من التعريفات األخرى لعلم الجمال التي يمكن إفراد بحث مطول
نعرفه على نحو ميسر بأنه
لها ،ومهما يكن من أمر الكثير من هذه التعريفات ،فإنه يمكننا أن ِّ
العلم الذي يدرس الجمال ،ودراسة الجمال تعني لماذا يبدو هذا الشيء جميًلً؟ وحتى يعرف لماذا
كان جميًل؟ سيدرس خصائص الجمال ومقوماته ،وحتى يصل إلى خصائصه سيدرس لماذا
كانت هذه الخصائص والمقومات موصوفة بالجمالية ،أو مرتبطة بالجمال؟
يمكننا القول :إن علم الجمال هو العلم الذي يدرس الجمال في أًصله ،وفصله ،وصنعه،
وتجلياته ،وآثاره ،وينقسم بحثنا في الجمال تحت معطف علم الجمال إلى موضوعات وميادين،
وهذه الميادين هي الفروع الكبرى لعلم الجمال من قبيل علم الجمال النظري ،وعلم الجمال
التطبيقي ،وعلم الجمال األدبي ،والنفسي ،وغيرها.
والموضوعات هي األفكار والمفاهيم واالصطًلحات الجمالية التي يدرسها علم الجمال وتكون
موجودةً غالباً في مختلف الميادين ،ومنها على سبيل المثال :القيمة الجمالية ،التقويم الجمالي،
المقوالت الجمالية ،التذوق الجمالي ،اإلبداع الجمالي ،الفن ووظيفته...
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
********************************************
القَيَم الجمالية
ُبردا ِّيت
ُرد َ وا ْن فاعلم
ْ ِب ِم ْئزر الجما ُل ليس
َ
وقالت
ْ بنت طَلح َة أنا أجم ُل منك,في كتاب األغاني القصة اآلتية( :قالت س َكين ُة لعائش َة ِ
ُ
س َكين ُة بن أبي ربيع َة ,فقال ألَق ِ
عمر ِ
أما أنت يا ُ
ْض َي َّن بينكماَّ . فاختَصمتا إلى َعائش ُة بل أناْ .
ض ْيت لي واهلل).
س َكين ُة قَ َ
أما أنت يا عائش ُة فأجم ُل منها .فقالت ُ
فأملح منها ,و َّ
ُ
تدلُّنا هذه القصة على َنوعين للحسن ،وهما المالح ُة تتصف بها ُس َكينة بنت الحسين والجما ُل
كل من هذين النوعين وجدنا ذلك في أردنا أن نتفهم معاني ٍّ
تتحلى به عائشةُ بنت طلحةَ .واذا ْ
أيضا في هذا الكتاب.
أخبار هاتين السيِّدتين ُم َدوًنا ً
لموقَ َدة).
أحسن من النار ا ُ
ُ خلت على مصعب ،وأنا قالت عن ليلة زفافها( :أ ُْد ُ
ي عنها ّأنها ُْرو َ
ف
حسن منه حتى ُعر َ شعر وكان تُصفِّف ُجمتَها تصفيفًا لم ُي َر أ ُ
(أحسن الناس ًا
َ كانت
ْ روى أنها وي َ
ُ
سمى السُّكينية).
الجمةُ تُ ّ
وكانت ُ
ْ ذلك
أن ُس َكينةَ كانت تتصف مع العفة والفَضل بنعومة األطراف نستخلص من هذا النعت ّ
شبوبة في ُروائها ،وأّنها كانت َح َسنة
الم َالمزاح وبالجاذبية التي تُشبهُ النار َ
الميل إلى ُ والظرف و َ
ب إليها. الشعر تَتزين فَتصفِّفه تصفيفًا غدا زيا في عصـرها ُي َ
نس ُ
-1ص .159السَّلمة :الناعمة األطراف ،والبرزة :بارزة المحاسن والتي تبرز للقوم يجلسون إليها ويتح َّدثون وهي عفيفةٌ.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
المًلمح
اعتدال َ ثاال حقًّا في ُ
تناسب التكوين و ْ تفيد أنها كانت َبديعة م ً
فأخبارها ُ
ُ وأما عائشةُ
العاشر من ِ
كتاب األَغاني ِ بي إ ْذ ذاك .وفي الجزِء
العر ُّ
َعضاء ،كما َيتصور الذوق َو ْانسجام األ ْ
ت بالمدينةَ تُسمى سناء ُم ِّ
غنية كان ْ كامًل على لسان امرأة َح َ
يكون ً
ُ يكاد
طلحةَ ُ َوصف لعائشةَ بنت َ
َعلمهم بأُمور
وكانت من أظرف الناس وأ ْْ المروءات،
وغيرهم من أهل ُ
اف ُ الميًلء يألَفها األَشر ُ
َ َعزة
يد ب ُن العاص.
بن عبد الرحمن بن أبي بكر وسع ُ
وعبد اهلل ُ بن ُّ
الزبير ُ صعب ُ
ُ ِّ
النساء ،فأتاها ُم
فانظُري لنا.
فقالوا :إنا َخطبنا ْ
بت؟
بن أبي عبد اهلل و َم ْن َخطَ َ
لمصعب :يا َ
فقالت ُ
طلحةَ.
بنت َ
فقال :عائشةَ َ
عثمان.
َ بنت
قال :عائشةَ َ
فسير. ِّ
جد في (عيون األخبار) ما ُيؤكد هذا الت َ
ون ُ
َ
-2كانت سكينة تُس ِّمي عائشةَ ذاتَ األُذنين .المصدر نفسه ج/4ص162؟
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
عمود الجمال وما رداؤه وما برُنسه؟
ُ قالت :ما
أبيض ،وأما
لست ب َ
ياض و ُ
فالب ُ صر ،وأما رداؤه َعمود الجمال فطو ُل القَوام وفي ق َ
ُ أما
قالّ :
ملحك كان أ َْولى).
أحًلك وما أَ َ
َ ولكن لو قلت ما
ُبرُنسه فسو ُاد الشعر وأنا أصلعُْ .
أقرب منهما إلى نو المالحة وأنهما إلى األمور المعنوية الخفية ِ
ُ هنا نجد أن الحالوةَ ص ُ
األمور الحسية الظاهرة.
(حقيقة :الجما ُل (الحقائق والرقائق) ،منها َ جده صاحب َنفح ِّ
الطيب طُرفًا من كتاب ِّ ذكر
ُ ُ وقد َ
ت المًلحة ُروح .فذلك س ُتره عليك ،وهذا س ُّره فيك{ .فَِإ َذا َ
س َّوْيتُ ُه َوَنفَ ْخ ُ ورة ،و َ
صَالحسن َ
رياش ،و ُ
3 يه ِمن ُّر ِ
وحي} . ِف ِ
ربا من الزينة,
ضً أن هذا الكالم يريد قائلُه أن ُيفرق بين الجمال الذي يعتبره َ
على َّ
المالحة التي هي باطنة خفية والتي والحسن الذي هو صورةِ ,
وبين َ
خارجيَّانَ ,
ان َالهما ظاهر َ
وك ُ ُ ُ
هي منهما بمنزلة الروح.
يم ِ ِ
ب َع ْن إ ْب َراه َ َذ َه َ كره { َفلَ َّما
روعني أي أَفزَعني .قال اهلل تعالى ذ ُ
اعني َي ُ
(يقال ر َ
المبردُ :
ِّ وقال
أحسب
وغيرهما .و ُ يكون ذلك في الرجل والفَرس ُ الر ْوعُ} .ويكون الرائعُ الجميل ،يقال َجمال رائع،
َّ
ب س َنا َب ْرِق ِه َيذ َ
ْه ُ َ اد
{ي َك ُ قال اهلل جل ثناؤهَ ،احدا أنه ُيفرط حتى َيروع ،كما َ األصل فيهما و ً
صِ ِب ْاأل َْب َ
4
ار} لإلفراط في ضيائه) .
جاء في أساس البال َغة( :وفرس رائع َيروعُ الرائي بجماله وكًلم رائع رائق وامرأة ارئعة
وقد َ ْ
بن أبي ربيعةَ:
عمر ُ
وروع .قال ُ
ونساء روائعُ ُ
ُرَّوعُ) الم ِ
دامع ُحور به تمشى ِحقب ًة كان
َ فقد
ْ َمغناها ُي ِ
قو فإن
َ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
فصًل (في ترتيب ُحسن المرأة) جاء فيه( :فإذا كان النظر ً صاحب ِفقه اللُّغة َيعقد
َ على أن
القلب أو َسو ُاده أو َمكان الفَ َزع منه .وال تَمنعُ هذه الفقرةُ
ُ الروع
الروع فهي رائعة) .و ُّ
إليها ُيس ُّـر ُّ
النابغة:
صحة اال ْشتقاق السابق .وقد قال ّ
أل ِ
َقدار ٍ
أقدار فيق
وتَ ْو َ َح ْي ًنا رضت
َع ْ نظرةً وكانت
ْ قلبي فَ ِر َ
يع
ِ
للجمال َمع َن ْي ِ
ين: أن
ويتحصل معنا َّ
َّ
الحًلوةُ ،ومنه
قترن بها َ
المًلحةُ وتَ ُ
َمعنى عام َيشتمل على أنواع ُمختلفة للم َحاسن منها َ
5
أيضا .
الروعة ً
المحاسن
ًلوة دقةُ َ
الح َ
تَ : لت عن تحقيق الكًلم فيها فَقْل ُ
ُّور وقد ُسئ ُ
باحة الص َ
ص َ (فصل في َ
تكن ثم صفات ظاهرةُ ُّور وان لم ْ الحركات وخفة اإلشارات وقبول النفس ألعراض الص َ ولُطف َ
لعة غير كل صفة على حدتها .ورب جميل الصفات على ْانفراد ٍّ القَوام َجما ُل ُّ
كل منها بارد الط َ ُ
مليح وال َح َسن وال رائع وال ُحلو.
أحاديث تُعجبك إ ّما ملي َحةٌ وإ ّما رائعةٌ )...فهو يُقابل بين المليحة والرَّائعة.
ُ -5يقو ُل ابنُ المقفع في (األدب الكبير)( :اعل ْم أنّه ستمرُّ عليك
رسائل البلغاء الطبعة الثالثة 1946ص.93
الطبعة نَصيبٌ من التَّحريف ،وقد طُبعت الرّسالةُ طبعةً ثانيةً في مص َر ،وفي َ -6مطبعة النيل بمصر 1323هـــ ،ص ،38 ،37وفي هذه ّ
المكتبة الظّاهرية َمخطوطتان لها في قسم األدب ،برقم 3181ورقم 3182ولَيْستا أفض َل من الطَّبعتَيْن.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الجمال ُمختلفةً وهي َمنثورة في ُكتب األَدب
فيد أَْلو ًانا من َ
هذا وفي اللغة العربية ألفاظ َكثيرة تُ ُ
7
الجمال
نبحث معاني َ
َ يد أن
البحث عن هذه األلفاظ .وانما نر ُ ص َدد َ
المعجمات ولسنا ههنا ب َ و َ
وس ْعًيا لتَحديد ما قد نستعمله من
َدبية َ
استنا األ ّ
وطئةً لدر َ
بعضها من بعض تَ َ َ ونميِّز
وق َيمه وأَنواعه ُ
8
مده من َوصف َوتحليل .
يضاحا لما قد َنعت ُ
ً ُمصطلحات وا
الليل َّ
النهار
الذكاء ِ
الف ْكر
الفَضيلَة الرأفة
َّ
ِ
الفاح ُم عر السوداوان و َّ الع ِ ان و َّ العينان َّ
الزرقاو ِ
الش ُ ينان َّ َ َشقر
عر األ ُ
الش ُ َ
0
دعهم
لو لم تَ ُ الرجا ُل ُيمك ُنهم أن يتسموا بال ِجنس النبيل
ِّ النساء ِجنس َجميل
ِّ
شمائلُهم النبيل ُة إلى رفض ألقاب الشرف فهم إلى َمنحها ِ َ
ضا (فص ٌل في تقسيم مثال (فص ٌل في ترتيب حُسن المرأة) وقد َذكرنا آنفًا فقرةً منه تتعلَّق بالرَّوعة .وفي هذا الكتاب أي ً -7في فقه اللغة ً
ضا َءةُ في البَشرة ،ال َجما ُل في األَنف ،ال َحالوةُ
ثعلب عن ابن األعراب ِّي وغيرهما ،الصَّباحةُ في ال َوجه ،اإل َ
َ الحُسن و ُشروطه) جاء فيه (عن
في ال َعينين ،ال َمالحةُ في الفَم ،الظَّرفُ في اللسان ،الرّشاقة في القدِّ ،اللَّباقةُ في ال ّشمائل ،كما ُل الحُسن في ال ّشعر) وث َّمة في المعجمات
األخرى ألفاظٌ كثيرةٌ ج ًّدا.
رعي تَخر ُج من بُحوثنا هنا .وكذلك عند
ُّ العقلي وأيهما ال ّش
ُّ -8في ُكتب أصول الدين فصو ٌل ضافيَةٌ في َمعاني ال َحسن والقَبيح وأيّهما
وضع آخ َر.
ٍ م
َ في بها م
ُ اإللما لنا ح
ُ صوفيّة القائلينَ بوحدَة ال ُوجود آرا ٌء في الجمال َسيتُا
الفالسفة والسيّما عند ال ّ
-9كتبَه سنة 1764أ ّما نق ُد الحُكم فكتَبَه ُمتأخ ًرا سنة 1790بع َد إصدار كتابيْه ال َمشهو َرين (نقد ال َعقل النَّظر ِّ
ي) و(نق ُد العقل ال َعمل ّي) .وفي
كتاب (نقد الحُكم) يُطبِّق أصو َل فَلسفته التي أقام دعائمها على آرائه في ال َجمال وفي الرّوعة وهي التي عَرضها في كتابه اآلنف.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
منهم إلى تلقيها.
ُ أ َْمَي ُل
َب ْي َد أن ( َك ْنت) في األَمثلة التي ذكرها قد َم َزَج بين َجمال الطبيعة وجمال الف ِّن ،مع أنه قد فرق
لشيء َجميل وانما هو تمثيلٍ مثيال
قال( :الفَ ُّن ليس تَ ً
ِّدا حين َآخر تَفريقًا جي ً
بينهما في َم ْوضع َ
ٍ
لشيء من األْشياء). جميل
ـيء
كان هذا الش ُ
الجملة ،ولو َ
ضيف إلى هذه ُ
َ مكن أن ُن
(ي ُالفرنسي شارل اللوُ :
ُّ الم ِّ
فكر ويقول ُ
َ
متعا.
كون تَصويره هذا ُم ً
يصوُر الشيء القبيحَ ،في ُ
بيحا) .وذلك ألن الفن قد ِّ
قَ ً
تعددة .وقد َعمد شارل اللو الذي كان أستا ًذا في السُّوربون إلى تصنيف
عندنا إذن ق َيم فَ ّنية ُم ّ
هذه القيم ،فنظر في هذه القيم إلى التناسب الذي تَرتك ُز عليه هل هو حاصل ُمتحقق أو َمبحوث
الجانب
عملي و َ
الجانب ال ِّ
العقلي و َ
ِّ الجانب
النفسية الثًلثةَ : ّ عنه أو َمفقود ،وذلك من جوانب الحياة
دول اآلتي:الج َ
فعالي .وعندئذ َيحص ُل عندنا تسعُ ق َيم فَ ّنية َوفق َ
االن ّالعاطفي أو ْ
ِّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
قلي ُمتحقِّق
فالجمال تنا ُسب ع ٌّ
فنية موجودة فيه بتعريفهاَ .من َمزايا هذا التصنيف أن كل قيمة ّ
جرا.
تناسب َم ْفقود أو َم ْجحود وهلم ًّ ناسب مبحوث عنه أو ُملتَ َمس و ُّ
النكتة ُ والروعة تَ ُ
ضحوكالم ْ
الضحك ،ألن َمت إليه بسبب .وهو ُيقابل ّ مكانه ُّ
ونود لو َن ُّ عجب به ونرفَع َ لجمال ُن َ
ا َ
البخل أو غير ذلك،
ون ْخرجه من َجماعتنا ل َع ْيب فيه أو قُبح كالغفلة أو ُ
ون ْزدريه ُ
خفضه َ
منه َن ُ
الجماعة.
وكأننا َن ْزُجره َبضحكنا منه ليرتد إلى داخل َحظيرة َ
الرقَّـة:
ِّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الغربيين.
المف ّكرين َ
األمر عند ُ
ُ المًلحة على الجمال .وكذلك
فضلون َ
العرب ُي ّ
َ ولقد رأينا أن
الجمال.غير َ
الرقّة ُ
أن ِّ
الجمال) وهذه إشارة إلى ّ
الرقة ألَجم ُل من َ
يقو ُل الفنتين( :إن ِّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
المنبعثة من
الحية ُ
الحركات ّ إن َحركة اآلالت مهما بلغت من الكمال واإلتقان ال تُضاهي َ
تحدث بًل اصطدام وال َجلَبة .هي عند
ُ الرشيقة الرقيقة حركة صامتة ُحلوة
الحياة .ذلك أن الحركةَ ّ
الرقيقة.
المجلبة الصخابة .لَنضرب أمثلةً للحركات ّوليست كذلك َحركة اآللة ُ
ْ الحيوان َحركة يسيرة
عنف فيهما وال اصطدام كأن
َ الهرة ملكتا الحركات ال ُينازُعهما منازع ال
إن مشية المرأة وحركة ّ
وراءهما ُمرونةً تسبغُ االنسجام وتُخفي التقطُّع.
تارة
ضوضاءَ ، صوت فيه وال َ َ تقد ًما صامتًا ال لنتأم ِل الهرةَ ،حركاتها تَفيض بالخفّةّ ،
تتقدم ُّ
كأنما تُعلِّق خطواتها في الهواء مادة َي َدها أفقية إلى
تقف َحذرة ّ
تتمهل تُمشي الهوينا وتارة تُسرع أو ُ
اإلغفال ثم تنتهي بوضع يدها على االنتباه و ْ
األمام ،فهي تجمعُ بين الحذر والتواني وتَمزج بين ْ
بدلوكثير ما تُ ّ
ًا بعا.
إص ً
بلوغه دون أن تتقدم ْ
يد َ جسمها نحو الشـيء الذي تر ُ
َ ُّ
تمد األرض .وقد
وطور
ًا تارة تدور حول ذنبها كالدائرة،
كالراقصةَ .
استنادها فتُصالب بين قائمتَْيها ّ اتّزانها ونقاطَ
أن
عند ُوصولها إلى األرض في تَو ُازن واعتدال .كان العلماء ُينكرون في السابق ّ أسها
تعطف ر َ
1
الصور العالم ماري
ُ عرض
َ فلما
لغرابة ذلكّ . دائما على قوائمها َ
ت من عل سقطت ً مي ْ
الهرة إذا ُر َ
ّ
المتن ّوع في الفضاء كان االنتصار َحليفَها .فهي تستطيعُ أن تلتوي في
الهرة ُ
لسقوط ّ
سجلة ُ الم ّ
ُ
داخلية .هي ترتكز في الفضاء على
ّ آليةً
الفضاء دون أن تعتمد على شيء ،ألن لديها مرونة ّ
ُعجوبة.
الهرة ليس حركة بل أ َ
نصفها وتُدير رأسها .إن سقوط ّ
marey -11
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
المحببة والفطرة
الحركة الرشيقة الظاهرة َحركة نفسية باطنية متصلة بالعفوية ُ
إن وراء َ
السليمة.
الرقّة مزية النفوس المولودة والدةً حسنةً .هذه النفوس هي التي تستطيع
يرى الشاعر شيلر أن ِّ
تكون ّإال فاضلةً.
السليمة وتستسلم َلنزعاتها ألن نزعاتها ال ُ تثق بفطرتها ّ
أن َ
لمجلى
لقي وا َ
الخ ُّ
الرقة عند شيلر هي التعبير الحسي للنفس الجميلة أي هي الشكل ُ
وحي للجمال.
الر ُّ
ُّ
انت
حبة ،لذلك ك ْ
كأنها ُم ّ
أن الرقّة متصلة بالحب وحافزة عليه .تلو ُح ّ
آخرون ّ
َ باحثون
َ ويرىَ
محبوبةً.
ولما كانت األلفاظ تستطيع أن تأتي بدالالتها على جميع ما في الكون فهي إشارات ورموز ّ
األدب لك ّل أنواع الرقة وأشكالها وألوانها.
ُ أمكن أن يتسع
وصور له َ
إليه ُ
ثمة في الطليعة األلفاظُ التي ُّ
تدل على صور وأشياء تتحلّى بالرقة والرشاقة واللطف أو تُوحي ّ
استعماال
ً استعملت تلك األلفاظ
َ بها .وكأن صفة الشيء تَنتق ُل إلى اللفظ الذي ُّ
يدل عليه .فإذا
أسماء األزهار البديعة
ُ ويبتدر الذهن من تلك األلفاظ
ُ سهًل.
ً سائغا
ً جوا ُح ًلوا
أنشأت ًّ
َ مًلئما
ً
فني وهو ما شرحنا ،ودين ّي وعندئ ٍذ يُقال له بالعربية النعمة عند المسيحيين. -12في اللغة الفرنسية اللفظ المقابل هو Grâceوله معنيانّ :
وقد آثرنا استعما َل لفظ اللطف ألنّه ُمشترك في الجمال ،وفي األمور الدينية.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الد ّر
وغروس النبات الطرّية كالريحان وغيره والظًلل والنسيم والماء المنساب والجداول المترقرقة و ُُ
الرونق وما شابه ذلك ،وكذلك ذكر األلفة الصبا و ّ
واليواقيت والجواهر والزينة واألشياء المؤنثة و ِّ
ثم السذاجةنو والحماية ،ألن الكائنات واألشياء الرقيقة تستدعي العطف عليها والعناية بهاّ ، الح ّ
و ُ
ي قوله( :وا ْن
تمام للبحتر ّ
وصية أبي ّ
ّ العفوية والبراءة والعاطفة المحببة .نتذ ّكر هنا من
مع الحذر و ّ
فاجعل اللفظَ رقيقًا والمعنى رشيقًا وأكث ْر فيه من َبيان الصبابة وتوجُّع الكآبة وقلق
أردت التشبيب ْ
َ
األشواق ولوعة الفراق).
بد من ذكر
األخرى .وال ّ
فوحه بألوان الجمال ُ
بي يطفح بالشعر الرقيق طُ َ
يخ الشعر العر ّ
وتار ُ
1 3
اديا:
بعض األبيات .قال الشاعر يصف و ً
الع ِ
ميم َ الغيث
ُ ف
ضاع ُ
ُم َ سقاه
َ و ٍاد الر ِ
مضاء َّ لَفحة وقانا
الفَ ِ
طيم على الم ْرضعات ُحنو علينا فَحنا َد ْو َحه َنزْلنا
ُ
للن ِ
ديم َّ دام ِة
الم َ
ُ من َّ
ألذ الال
ُز ً ظَمأ على شفنا
وأ َْر َ
الن ِ
ظيم ِ
العقد جانب تلمس
َ فَ ُ العذارى حاني َة َحصاه روعُ
تَ ُ
للن ِ
سيم ويأذن يحجبها ُّ
ُ فَ ُ اجهتْنا
وَ أنى الشمس يصد
ث
الرمضاء خارجية بالنسبة إلى الوادي ،وقد َحماهم منها فهم َي ْستسقون له الغي َ
إن لفحةَ ّ
المضاعف العميم ،ثم ّإنهم في أحضان الوادي كاألطفال في أحضان المراضع.
َ
بد من
المحبب الذي تلتصق الرقّة به .ثم ال ّ
نجد فكرة التصغير ُ الحنو والحنان ُ ّ وهذا عدا
التنويه بهذا الماء ا ُّلزالل العذب الذي رشفوه بل ّذة تُذ ّكر ل ّذة ُ
المنادمة واألنس .وكذلك حصا الوادي
وحين
الغض وبما ُي َِّ بالصبا
ِّ بدال من الغواني لإليحاء
الدر في حسنه .ويذكر الشاعر العذارى ً ُيشبه ّ
المتلَعة خوفًا
قود ُهن في أجيادهن ُ
سن ُع َ
يلم َ
نسي َن أنفسهن فَ ْ
وغ اررة تحملُهُن على أن َي ْ
به من سذاجة َ
الحصا.
انفرطت حين َيجدن أشباهَ جواهرها في َ
ْ عليها أن تكون قد
منظر الطير
ُ إن الرقّة تُشير في الغالب إلى عنصر الحذر المتصل بالخوف كما ُيوحي بذلك
لمتألّق والينابيع
الحصا ا ُ
الحلو المتألّف من الظًّلل الوارفَة و َ
الجو البديع ُ
إن هذا ّ ثم ّ
أو الظّبيّ .
نظمه
بالزينة البد فيه من نسيم ُرخاء وان رقيق شائق ليس بالكثير ُي ُ المترقرقة والصبايا الحالية ّ
-13هو أبو نصر المنازيُّ يصف وادي بُزاعة بين حلب ومنبج (وفيات األعيان و ُمعجم البلدان) أو هي حمدة ُ
بنت زياد تصف وادي أش
باألندلس (نفح الطيب).
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
بحًلوة ذلك الوادي ذلك الوادي تنظيما فًل يأ َذ ُن منه ّإال بمقدارُّ .
كل ما في هذه األبيات ُيوحي َ ً
ومًلحة النزول فيه.
َ
كون
فإن الشعر الرقيق ي ُ أما ما يتعلّق بالصناعة والقريض ّ
هذا ما يتعلق بالمعاني والصور ،و ّ
المتكلّفة .إن الرقّة إلهام
البحور المجزوءة والقطع القصيرة السهلة ال الطويلة وال ُغالبا من ُ
ً
تشف عن بارق عذب يرتسم في النفس.ُّ فكأن القطعةَ الشعرّية
قتضب قصيرّ .ُم َ
عفو
جاء َ
ت فيه ،كأنه َ
الشعر الرقيق شعر صاف متسلسل فيه غضارة وعليه طًلوة ،ال َع َن َ
يغلب الطبع فيه على ك ّل شيء.
ُ الخاطر وطَ ْوع البديهة،
َّ
منا َجرى ما ونطوي عارفنا
تَ َ اليوم من
فبالحسنى
ُ العتب من و َّ
البد كان وا ْن
َّ
عنا لكم قيل
َ كما َعنكم لنا قي َل فقد
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الجهد .وكان وصار استغنتا عن االسمين ينوب عن الجملة الكاملة ،وفي ذلك اقتصاد في ُ ُ شائع
إن
ثم ّ
ليست في حاجة إلى َمقُول القول ،وُذقتم وُذقنا ُحذف مفعوالهما للعلمّ .
ْ وقلتم وقلنا
والخبرينْ ،
فالكًلم كلُّه متسلسل ُمنسجم هيِّن ليِّن يجري برفق وحركة لطيفة
ُ وينبئ به.
اللفظ يمهّ ُد للفظ اآلخر ُ
صعوبة. ُّ
بًل تكلف وال ُ
واألمثلةُ كثيرة في هذا الميدان ،ويكفي ّأننا َجلونا هذا الطراز من الشعر و ْأوضحناه بهذا
حتاج إلى استفاضة وتوسعة.
المقدار ،وان كان البحث ال يزال ي ُ
لحموي
ابن حجة ا َ
ودعوه بالسهولة .يقو ُل ُ
السهل من البيان َاد العرب لهذا النوع ّوقد انتبه النقّ ُ
شركها قوم باالنسجام,
ِّيفاشي مضاف ًة إلى باب الظرافة ,و َ
ُّ في خزانة األدب( :السهولة ذكرها الت
سر الفصاح َة فقال في ُمجمل كالمه هو ُخلوص اللفظ من الخفاجي في ِ
كتاب ِّ ُّ ابن ِسنان
كرها ُ وَذ َ
تتميز
التيفاشي السهولة أن يأتي الشاعر بألفاظ سهلة ّ
ُّ التكلُّف والتعقيد و ُّ
التعسف في السبك .وقال
وحسن الطبع على ما سواها عند من له أدنى ذوق من أهل األدب .هي ُّ
تدل على رقّة الحاشية ُ
وية .ومن ألطف األمثلة قو ُل الشاعر:
الر ّ
وسًلمة ّ
تتوب
ُ ليلى عن بت
تُ ُ ما إذا أني قلب
ُ يا عدتَني
َو ْ أليس
َ
ذوب
تَ ُ ُذ ِك ْ
رت ُكلما لك فما ليلى حب
ِّ عن تائب أنا فها
المتماجنين) ما يلي:
(أخبار الظراف و ُ
ُ ي في ُمستهل كتابه
ابن الجوز ِّ
كتب ُ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ارمي فَشكا ذلك إليه وكان
للد ِّ
ُّود منها فلم تَنفُ ْق وكان صديقًا ّ
وبقيت الس ُ
فباعها كلّها َ
بخ ُمر َ المدينة ُ
ثم
فإني سأُنفقُها لك حتى تَبيعها أجمعّ .
فقال له :ال تهتم بذلك ّوقول الشعرَ ،
َ الغناء
َ قد َن َسك وتَرك
قال:
متعب ٍد
ِّ بر ٍ
اهب صنعت ماذا األسوِد ِ
الخمار في للمليحة قل
ْ
ِ
المسجد ببا ِب له وق ْف ِت حتى ثيابه للصالة
َّ ش َّمر
َ كان قد
َ
تبق في
ورجع عن ُنسكه فلم َ َ الدارمي
ُّ وشاع في الناس وقالوا :قد فَتَك
َ الكاتب
ُ وغنى فيه سنان
ّ
الدارمي
ُّ فلما علم بذلك
اقي منهاّ .أسود حتى َنف َد ما كان مع العر ّ
خمار َ
ًا ابتاعت
ْ المدينة ظريفة إال
1 4
ولزم المسجد) .
رجع إلى ُنسكه َ
الرقة في الخالصة متصلة برشاقة الحركة وباإلغواء واألُنوثة وبالمقادير الصغيرة اللطيفة
وتُقا ِبلها الروع ُة.
الروعة:
َّ
ولكنه
مقهور حيال ظَواهرها الرائعةّ .
ًا يجد نفسه ضعيفًا تجاه الطبيعة الواسعة
إن اإلنسان ُ
تجعل المرَء
َ تكون للروعة رسالة وهي أن
ُ يستطيع أن يشعر من خًلل ضعفه بحرّيته ،وعندئذ
-14ج 2ص 173وفي القصة إشارة إلى اعتماد األزياء على الدعاية والترويج إلى وظيفة األزياء االقتصادية التي تكمن وراءها .وقد
ت كبيرة في العصر الحاضر وذلك في البالد الرأسماليّة التي تتميز
اتسعت هذه الوظيفة االقتصادية التي لألزياء مع ما يُرافقها من دعايا ٍ
فيها الطبقات االجتماعية باالستناد إلى الثراء والغنى.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الًلمحسوس ،ومن ثَنايا الصور التي يشهدها في الغيب الذي
َ يف ّكر من خًلل المحسوس في
يتجاوزها.
َ
جوم
السماء واسعة مؤنسة في الحال الطبيعية ،والجبا َل شامخة ُمتطاولة ،والشمس والن َُ إن
ّ
ألنها في اتّساعها وك َبر مقاديرها
جميعا رائعة ّ
ً البحار ُمنبسطة ،وهي
ستقر لها ،و ُ
لم ٍّ
متألّقة تجري ُ
المؤنسة تتشقّق كاألبوابالسماء ُ
َ أما في يوم القيامة فإن
أبدعتها وكونتهاّ .
قوة هائلة َ ُّ
تشف عن ّ
ُّ
وتخف الجبا ُل فتشبه في الخفّة والزوال السراب.
ف
بي عدا ذلك أوصاف رائعة كثيرة من موضوعات شتّى ،وهذه األوصا ُهذا وفي الشعر العر ّ
تمر بنا لمحات منها.
المؤثّرة وسوف ُّ
المبالغة والصور القوية ُ
تقوم على الجزالة و ُ
ُ
بالجمال.
بالحسن أو َ
المنسجم األجزاء والمقادير ّإنما ندعوه ُ
الم ّتزن الصرف ُ
التناسب ُ
ُ بيد أن
َ
الجما ُل:
من صفات الجمال التي حلّلها الفيلسوف َك ْنت في كتابه (نقد الحكم) أنه موضوع إمتاع نزيه
ويتضح معنى ذلك عند التفريق بين الشيء الجميل والشيء الشهي أو اللذيذ ،وبينه وبين
ّ خالص.
النافع.
الجيد أو ّ
الشيء ّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
بالتناسب القائم بال هدف أو بحسب ُ أيضا أنه يتعيَّن
ومن صفات الجمال كما حلّلها َكنت ً
غاية) .وتوضيح ذلك ٍ تصور أي
لم ُح في الشيء الجميل دون ُّ تَعبير هذا الفيلسوف هو (غائية تُ َ
تفكير جليًّا ودقيقًا.
ًا ننعت الشيء بالجمال حين نفترض له غاية على ّأال ُنف ّكر في هذه الغاية ُ ّأننا
عالم نبات ف ّكر في وظائف الكأس والتَُّويج وأعضاء الزهرة مثًل فإن كان َ َينظُر المرُء إلى زهرة ً
عينة.وم ّ
كانت نظرتُه مشتملة على غاية واضحة ُ ْ المؤنثة ولم يشعر بجمال الزهرة إذا
المذكرة و ُ
ُ
أي
ومصادفة دون ّ معا مجرُد اتّفاق ُ
وعلى العكس قد يحسب ناظر آخر أن وجود هذه األجزاء ً
بين،
بين َ الفني بالجمال واقع َ
ُّ الحكم
بالجمال .و ُ
فيبتعد كذلك عن اإلحساس َ ُ أي وظيفة
غاية أو ّ
بيد ّأنها ُمبهمة ك ّأنما
بغائية دون إيضاحها وتعيينها .الغايةُ فيها موجودة َ
ّ الحدس
فهو يفترض ْ
الفني.
ِّ تغشاها سحابة من التملّي
ليست بين الغائية واآللية بل هي بين ُوضوحْ وينبغي التنبُّه إلى أن المقابلة في ِ
قول َكنت
القول قالب جديد تلوح منه الفكرةُ القديمة الزاعمة أن هذا الغائية وا ِ
َ وتحسن اإلشارة إلى ّ
ُ بهامها.
أن الجمال هو الكما ُل
الزاعمة ّ
أن الجمال هو الوحدةُ التي تُلمح من خًلل ال َكثرة أو الفكرة القديمة ّ
ّ
1 5
تصور ُمبهم لل َكمال).
بهما .يقول ليبتنز( :إن الجمال ُّ لمحا ُم ً
الملموح ً
َ
قلي
وسكون من نوع ع ّ السكون للجمال وهو هدوء ُ
وقد أشار الشاعر بودلير إلى صفة الهدوء و ُ
بارد العاطفة .ففي ديوانه (أزهار الشر)
تمثالي ساكن ُ
ٌّ متزن رزين .إن الجمال في رأيه جمال
الجمال يتكلّم فيها ويقو ُل ما معناه( :أكرهُ الحركة التي تُزيح الخطوط عن َمواضعها،
قصيدة يجعل َ
بن قُْنُبر:
الح َك ُم ُ ال أبكي وال أضحك قطُّ) .وفي تناسب األجزاء َ
يقول َ
ورّبما كان لفظ الجمال أقرب إشارة إلى ناحية الكمال والتناسب
الحسن صنوانُ ، فالجمال و ُ
فية.
ات وشائج خ ّالحسي ،والحروف في األلفاظ ذو ُ
ّ الحسن أشد مسًّا لجانب التعبير
العقلي ،ولفظ ُ
ّ
-15عرضنا صفتين من الصفات التي يذكرها كنت عند تحليله للحكم الفني المتعلق بالجمال وهما الصفتان اللتان يبحثهما من حيث الكيفية
ومن حيث اإلضافة .وث ّمة في رأيه صفة ثالثة وهي كليّة الحكم الفن ّي ينظ ُر إليها من حيث الكمية ،وصفة رابعة وهي ضرورة الحكم
الفني ينظر إليها من حيث الجهة ،واقتصرنا على الصفتين اللتين ذكرناهما ألنّهما كانتا أق ّل استهدافًا للمناقشة واالنتقاد.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
بلغ ُّ
كل جزء فيه ح ّده تناسب كامل هادئ من دون إفراط وال تفريط ،قد َ
والخًلصة أن الجمال ُ
بقية العناصر األخرى.
نسجما مع ّ
التام وائتلف ُم ً
المناسب ّ
ُ
هذا ويتحقق الجما ُل في الشعر حين ُيطابق لفظه معناه دون زيادة وال ُنقصان وحين تُوافق
لي ِ ِ
األلماني هيغل .وذلك حاصل في أغلب الشعر الجاه ّ
َّ الفيلسوف حد تعبير
الفكرة الشكل على ِّ
المقبل أمثلةً من شعره الجميل ،وكذلك
وسنذكر في الفصل ُ
ُ السيما في شعر زهير بن أبي سلمى،
و ّ
الحطيئة وجرير وبشار.
شعر النابغة و ُ
اختًلل في
نجد الضحك الذي يقوم على ْ
ماهية الجمال ُ
التام الذي يؤلّف ّ
وفي مقابل التناسب ّ
ونشوز بينها.
تجمع األجزاء ُ
ُّ
الضحك:
طع التنفُّس على شكل دفعات زفيرّيةالحاجز تشنُّ ًجا عفويًّا ،ويتق َ
ُ جاب
في الضحك يتشنج الح ُ
اشتد
الداخلي ،واذا َ
ّ ئوي
صوتة تتخللها فترات قصيرة من الشهيق ،ويزداد الضغط الر ُّ متسلسلة َم ِّ
ويرافق الضحك تقلُّص في الوجهُ .
العُنق و َ
تقن ُ فاح َ
الدموية في الرئتينْ ،
ّ عاق الدورة
َ الضحك
كثيرا ،والصامغان أو
قليًل أو ً
وتكاد تشترك جميعُ مًلمح الوجه فيه .فالفم ينفرج ً
ُ عضًلت الوجه،
ألياف
ُ ُملتقيا ال ّشفتين ينسحبان في الجانبين إلى خلف والى أعلى .وعند بعض الناس ال تنتهي
الضاحكة جميعها إلى الصامغين حيث ترتكز عادة ،بل يقف بعضها في طريقه فيرتكز
العضلة ّ
1
قليًل ،وهو ُّ
أخف 6
الخد على حين تنفرج الشفتان ً
عند االبتسام ُغ ْن َبة في ّ على جلد ِّ
الخد فتحص ُل
تموج.
الم ِّ
يبدل خط الفم ُ
يكاد ّ
ألنه ال ُأشكاله ّ ألطف
درجات االبتسام و ُ
الخد
الخدان وتتسع صفحةُ الوجه وكأن الوجه يتناقص طُوًال ،ويرتسم على ّ
وعدا الفم يرتفع ّ
1
اءه ينتهيأحدهما يص ُل بين جناح 7األنف والصامغ والثاني ور
ُ الرتفاعه خطان أو غضنان
ببعض الغضون الدقيقة في ُمؤخر العين.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ناشئا عن تخلُّف الخدين إلى الوراء
بروزه ً
ويبرز األنف إلى األمام والى األسفل .ورّبما كان ُ
ُ
قليًل إلى الجانبين ،وتتشكل لدى بعض الناس على ظهر األنف واألعلى ،وينبسط الم ْنخران ً
عمودية.
ّ خطوط
داهما عابسة
ص ِّور الوجهُ صورتين إح ُ ألنه إذا ُتعبير عن الضحك الفَ ُم ّ ًا و ُّ
أشد هذه المًلمح
ف بين القطعتين السُّف َليين وأُلصقت
ثم خول َ
طعا نصفيًّا أفقيًّا ّ
واألخرى ضاحكة وقطعت الصُّورتان قَ ً
الفم الضاحك فيها .ومع ذلك تبين منهما أن الصورة الضاحكة ما كان ُ بعد المخالفة ّ
الصورتان َ
آلالء العين وبريقها.
َ ينقل
فإن التصوير ال يستطيعُ أن َ
ّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
أن
ولكن الضحك يتأتى خاصًّة من الفرح واالبتهاج والفوز واالنتصار والبشارة السارةّ .إال ّ
ّ
فرحا .فللضحك أسباب نفسية تستدعيه غير الفرح .نحن نضحك المرَء قد يضحك دون أن يكون ً
يهمنا هنا وهو الذي يحصل من الشعورحين نسمع نكتة أو نادرة أو فُكاهة ،وهذا هو النوع الذي ّ
ونجد له قيمةً
ُ األدبية
ّ أي حين يكون الموضوع هزليًّا .حينئذ يدخ ُل الضحك في الدراساتبالهزل ّ
فنية.
جمالية ّ
ّ
ويخمدان َجذوة
الرواءُ ،
ثمة أحوال عائقة للضحك ،الخيبة واإلخفاق ُيذهبان ّ
على العكس ّ
إن نسيا َن
يغيض االبتهاج .واألسى والحزن يسدالن الستار دون خفّة المرحّ .
ُ الخوف
ُ النفس ،و
أكبر عًلمات الترح.
الضحك ُ
الضحك:
بعض فضائل َّ مقدمة كتابه (البخًلء) يشرُح
ستمع إلى أمير الضحك الجاحظ في ّ َلن ْ
كبيرا ،وهو شيء في أصل ِّ
عظيما ومن مصلحة الطباع ً ً موقعه من ُسرور النفس
ُ (وكيف ال يكون
َ
نفسهُ ،وعليه ِّ
الصبي ،وبه تَطيب ُ
ّ يظهر من
ُ الن الضحك ّأول خير
الطباع وفي أساس التركيب! ّ
قوته.
ومادة ّ
ينبت شحمه ،ويكثُر دمه الذي هو علّة ُسروره ّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
وقصـر عنهما أحد
ّ جازهما أحد
وللضحك موضع وله مقدار ،وللمزح موضع وله مقدار ،متى َ
نقصا ،فالناس لم َيعيبوا الضحك إال بقدر ،ولم يعيبوا المزح إال
خطًل والتقصير ً
ً صار الفاضل
بقدر ،ومتى أريد بالمزح النفع ،وبالضحك الشيء الذي له ُجعل الضحك صار المزح ج ًّدا
وقارا).
والضحك ً
ضحك.
ماهية ال ّ
المفكرين والفًلسفة الوقورين منذ قديم األزمان إلى تفهُّم ّ
ولقد عمد كثير من ُ
يضحك اإلنسان أو َيعجبون له كيف ول َم يضحك؟
َ وكأنهم كانوا يستغربون أن
كتب أرسطو في كتاب (البيوطيقا) أو (فن الشعر) أن المأساة أو التراجيديا تُمثل الناس
أسفل مما هم في الواقع .فال ُمضحك يكونَ أعلى مما هم ,وأن المهزلة أو الكوميديا تمثلهم
يضر .وهكذا يكون القناع الهزل ّي الذي
يؤلم وال ُّ
خاص أو هو قبح ال ُ
ّ جزًءا من القبح ،وهو عيب
ألنه تشويه بدون ألم.
المهرج َمضح ًكا ّ
ّ يلبسه
ويذكر أبو حيان التوحيدي في (المقابسات) ّأنه سأل أستا َذه أبا سليمان المنطقي عن ُ
انية .وذلك ّأنه حال
قوة ناشئة بين قُ ّوتي النطق والحيو ّ
(الضحك ّ
َ الضحك ما هو فأملى عليه فقال:
أن االستطراف إنما هوبالنطق من جهة وذلك ّ باستطراف وارد عليها ،وهذا المعنى متعلق ّ
النفس ْ
انية عندما
القوة الحيو ّ
تتبع ّ
التعجب هو طلب السبب والعلّة لألمر الوارد .ومن جهة ّ
تعجب ،و ّ
ّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
تحركت إلى
تتحرك إلى خارج .واذا ّ تتحرك إلى داخل ،وا ّما أن ّإما أن ّ فإنها ّ
النفس ّ
تنبعث من ّ
فيحدث السـرور والفرح،
فأوًال وباعتدال ُ الغضب ،وا ّما ّأوًال ّ
ُ فيحدث منها
فإما أن تكون ُدفعةً ُ
خارج ّ
فأوًال فيحدث منها
الخوف .وا ّما ّأوًال ّ
ُ تتحرك من خارج إلى داخل ُدفعة فيحدث منها ّ واما أن
الضحك
فتحدث منها أحوال إحداها ّ ُ ومرة إلى خارج
مرة إلى داخل ّاالستهوال .وا ّما أن تتجا َذب ّ
ويسير ذلك في
ُ ومرة ّأنه ليس كذا،
مرة ّأنه كذا ّ
عند تجا ُذب القّوتين في طلب السبب ،فيحكم ّ
المتضادتين ،وتعرض منه القهقهة في الوجه
ّ الروح حتى ينتهي إلى العصب فيتحرك الحركتين ّ
2 2
لكثرة الحواس وتعلّق العصب بواحد منها) .
تبينون
ين عندما يبحثون في حقيقة الضحك وي ّالجادين الوقور َ
ّ أمثال هؤالء الفًلسفة
َ أن
وال شك ّ
الفلسفي.
ّ أسبابه ُيبعدوننا عن ظاهرة الضحك .وشتّان ما بين الظاهرة وتفسيرها
َ
األض ِ
داد احم ٍ ِمرًا ٍ
ْ تز َ من ضاحك ار لحدا
ً صار
َ قد لحد رب
َّ
يبيد
المعري الذي ُيعير شفتي
ّ نقدر في ذهن
مجرد التضاد ال يكفي لإلضحاك .وينبغي أن ّ أن ّ بيد ّ
َ
نفسه قد
أمر آخ َر وهو اختالط القيم الرفيعة بالقيم الدنية .فاللحد ُ
ابتسامته السوداء الحزينةَ ًا
َ اللحد
البر والفاجر ،وكم كانوا في الحياة الدنيا
السافل والتقي والفاتك و َ
وارى العالم والجاهل والفاضل و ّ
ُمختلفين ُمتفاوتين!
المظلم تنفرج به شفتا اللحد لهو ضحك الفيلسوف الذي فُجع بصديقه الفقيه
إن هذا الضحك ُ ّ
تعادل
نوه بزوال ك ّل شيء وب ُكأنما ُي ّ
يتأمل حقيقة الدنيا الفانية .فهو في ُمستهل مرثيته ّ
والذي ّ
سوي نوح الباكي بترنُّم الشادي وصوت النعي بصوت
الزوالّ .إنه عندما ُي ّ
تلقاء ذلك ّ
األمور كلّها َ
يد أن ينفي الفرح من أصله في هذه الحياة .وهو بذلك ال يرثي
البشير وبكاء الحمامة بغنائها ير ُ
جمعاء.
ً صديقه المتوفّى واّنما يرثي اإلنسانية
المشتمل على
اسع ُ
فالفاجعةُ في نفس ك ّل إنسان .وتتجه القصيدة هذا االتجاه الحزين الو َ
العامة:
عناصر المأساة ّ
ِ
عاد ِ
عهد من القبور فأَين ـــب الرحــ تمألُ قبورنا هذي صا ِح
ُ ُ
األج ِ
ساد ْ هذه من إال أرض الـــ أديم أظن
ُّ ما الوطء خفَّف
َ
-22ال ُمقابسات نسخة َمخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق رقمها 4803عام .أ ّما المقابسات المطبوعة فمشحونة باألخطاء .وتكفي مقابلة
هذا النصّ المأخوذ عن ال َمخطوطة بالنص ال َمطبوع ليتبيّن للقارئ مدى التحريف الفاحش في نص فلسف ّي دقي ٍ
ق.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
األجداد في شموله:
َ اآلباء و
َ فيتناول
َ يمتد إلى الماضي
والرثاء ّ
ِ
االجداد
و ِ
اآلباء ان
هو ُ ــد العهــ قدم
ُ وان بنا وقبيح
ِ
العباد ر ِ
فات على اختياال
ً ال ويدا إن استطعت في الهو ِ
اء ُر ً سر ْ
ُ ْ
و ِ
اآلباد ِ
األزمان طويل في ٍ
دفين بقايا على ٍ
ودفين
ِ
جماد من مستحدث حيوان فيه البرية ِ
حارت والذي
َ
ِ
للفساد مصيره بك ِ
ون ـــــر
ُّ يغتــ ليس َمن اللبيب واللبيب
ُ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
يقبل الوسط بل ُّ
يرده ،كذلك ال تقبل النادرة الفتور. عام ال َالفن بوجه ّ
الناس إلفراط قُبحه) وكما أن ّ
ويعقّب على ذلك ك اإلفراط في التوقّي) ُ
أيضا( :من التوقّي تر ُ
اني قولَهم ً
ي القيرو ُّ
ويذكر الحصر ُّ
المحبب والسُّقم المغبب أن تقع النادرة فاترة فتُخرج عن ُرتبة الهزل والج ّد
الموت ُ
ُ بقوله( :واّنما
غن وسط ومن ِّين هو أثق ُل من ُم ٍّ
ودرجة الح اررة والبرد إلخ )..كما ُيورد( :من أمثال البغدادي َ
ُمضحك وسط).
الفزيولوجي ,والضحك
ُّ هذا ويصنف الفيلسوف اسبينو از الضحك في ثالثة أنواع :الضحك
إما
أن الضحك األخير ّ
الدا ُل على الفرح وعلى الشعور بالخير ,وضحك السخرية والمزاح .ويرى ّ
حر مختار مع ّأنه في
نظن أن الشخص الذي نضحك منه ٌّ أن يأتي من خطأ في حسابنا حين ُّ
ألن ك ّل شيء صادر عن اهلل ،وا ّما أن يأتي من نقص في الساخر أو
جبر ّ
ضطر ُم َ
الواقع ُم ٌّ
للرحمة أ ُّ
شد ُّ
يستحق ذلك فهو ّ إن كان
ويسته أز به ْيسخر منه ُ
أن الذي َ المسخور منه ،وذلك ّ
المستهزئ. ُّ
يستحق ذلك فالنقص قائم في الشخص الساخر ُ استحقاقًا منه للسخرية ،وان كان ال
وهكذا نجد أن هذا الفيلسوف ُيفضي إلى القضاء على الضحك الهزلي.
وتكثر النظريات التي تتفهّم الضحك في الفلسفة الحديثة ،ونجتزئ باإلشارة إلى رأي برغسون
2
ثًلث 3صفات:
َ صغير في هذا الموضوع .وهو يجد للضحك ًا كتابا
فيه فقد كتب هذا المف ّكر ً
عقلي،
ٌّ -2الضاحك بعيد من االنفعال والتأثّر ،قريب من الًلمباالة ،وذلك أل ّن الضحك
يضحك المرء وصفحةُ نفسه هادئة.
-23ترجمه إلى اللغة العربية األستاذان سامي الدروبي وعبد هللا عبد الدائم.
-24قلّما يضحك اإلنسان من غير اإلنسان! ويبتدر الذهن هنا بعض ال ُملح المرويّة في كتب األدب العربي مثل هذه:
-كانت أفعى نائمةً على حُزمة شوك فحملها السيل واألفعى عليها إذ نظر إليها ثعلبٌ :فقال :مثل هذا ّ
المالح يصل ُح لهذه السفينة.
أخطأت ألنّي تعلّقت بما يتعلق بك ّل شيء.
ُ -أراد ثعلب أن يصع َد حائطًا فتعلّق بعَوْ سجة فعق َرت يده فقال :أنا
-قيل للبغل :من أبوك؟ قال :خالي الفرس ..وهل ّم ج ًّرا.
أن كل شبه للحيوان باإلنسان أو بالعكس ليس بَمضحك بل قد يكون موحيًا بالرقّة كالظب ّي وبالروعة كاألسد!
ّإال ّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
خاصة إذا كان بين فريق من
ً المجتمعُ بيئته الطبيعيةَ ،يضحك المرُء
عيُ ، -3الضحك اجتما ٌّ
ويقعقع بين الجبال.
صوت الرعد ُ
ُ الناس يضحكون ،كما ُّ
يشتد
فع االستعارة
فنه ّإنه ر َ
ث برغسون مكتوب بلغة شائقة تتخلّلها االستعارات البديعة ،قيل عن ّ
بح ُ
ْ
زوق بتلك االستعارات الممتعة،
من رتبة اإلمتاع إلى رتبة اإلقناع .وكتاب برغسون في الضحك ُم ّ
2 5
وا ْن كانت في بعض األحيان متكلّفة أو ناقضها العلم .
ممن يحبه،أحيانا َ
ً ألن المرء يضحك إن فكرة عدم التأثّر في المضحك غير صحيحةّ ،ثم ّ
ّ
حدًبا عليه ورْفقًا به ،قد يضحك المرُء إذن
كاألم قد تضحك من وليدها واألب قد يضحك من ابن َ
ُ
بالدموع.
وعيناهُ َم ْغرورقتان ّ
جهة واآللية من ٍ
جهة ثانية. يفرق برغسون بين جانبين متقابلين في المضحك :الحياةُ من ٍ
ُّ
اعا بين الفرد والمجتمع أي
يجد في الضحك صر ً
اآللية ..ثم هو ذا ُ
ثأر الحرّية من ّ
فالضحك عنده ُ
ّ
-25يضرب برغسون في ختام كتابه تشبيهًا قويًا وهو أن الضحك ينشأ في الحياة االجتماعية كما ينشأ الزبد من اصطفاق األمواج في
أن الزبد يتألف من ماء أشد ملوحة وأكثر مرارة من ماء الموج ،وكذلك الضحك الفائر من المرح إذا أقبل عليه الفيلسوف البحر ،ويرى ّ
ليتذوقه وجد في مادته مقدا ًرا غير يسير من المرارة ،ولكن التحليل الكيماوي ّ
أن ماء الزبد أق ّل ملوحة وأدنى مرارة من ماء الموج نفسه.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ألن المجتمع يفرض على األفراد القسرخفيا ّ
تناقضا ً
ً ولكن في هذا
ثأر للمجتمع من شذوذ الفردّ ،
ًا
العرف القائم لديه ،وبهذا االعتبار يبدو
حرياتهم بمقابل العادات الجارية فيه و ُ
الحد من ّ
ويحاول ّ
ثأر اآللية من الحرّية.
الضحك َ
اآللية ومعنى الحياة وفقًا لما يريد أن ُيطبقهما فيه .يستبي ُن
وسع معنى ّ ثم ّإنا نجد برغسون ُي ّ
تبحث داللَة المضحك .وعدم الكفاية هذا ال ُ عدم الكفاية في نظرية برغسون التي
لنا من هذا النقد ُ
اء
فعرضنا آر َ
ْ الكبير في كتابه .ولو تابعنا
ُ يمنع من التحليل البارع الذي صنعه هذا المف ّكر
جانبا من جوانب تلك الحقيقة دون أن
يمس ً
كًل منها ّ المفكرين اآلخرين في حقيقة الضحك َلوجدنا ً
يحيط بها.
وكذلك في حقيقة الضحك ،فنحن نرى ّأنه ُمباينة تفجأ الفكر سليمة العاقبة بالنسبة إلى
التضاد أو النشوز
ّ إن هذه المبانية أو
يخفض الضاحك بها المضحوك منه عن ُرتبتهّ .
ُ الضاحك،
تشير إليها أكثر النظريات ،وسًلمة العاقبة نجد اإلشارة إليها منذ القديم في كًلم أرسطو حين
إن خفض المضحوك منه أيًّا كان شك ُل هذا الخفض شرطثم ّغير مؤلمّ .
تشوه ُ
قال :إن المضحك ّ
يمس عالم القيم في الصميم .ففي ك ّل
أن الضحك ُّ
يكاد يوجد في جميع أنواع المضحك .ذلك ّ
ُ
لقية ،فهو
وخ ّ
اجتماعية ُ
ّ حقيقي ببعض القيم .ولذلك كان الضحك ذا وظيفة
ّ وهمي أو
ّ ضحك عبث
ويكبح ُشذوَذه كما أشار إلى ذلك برغسون وغيره .ولذلك ُّ
يرد المضحوك منه إلى سواء السبيل َ
وبالصًلح .فالضحك
ّ قي إذ قد ُيسته أز بالفضيلة
أيضا غير ُخلُ ّ
أمكن في الوقت نفسه أن يكون ً
فسادا في بعض األحوال.
ولكنه قد يعيث ً
اجتماعي ّ
ُّ حدين :هو وازع
إذن سًلح ذو ّ
صاغه وأفضى
َ المضحك في كتابه تطبيقًا للدستور الذي
إن برغسون يذكر أمثلةً كثيرةً على ُ
بي تنثال عليه األمثلة من
أن القارئ العر ّ
بيد ّ
طبيعيَ .
ّ نسي وهذا أمر
إليه ،يأخ ُذها من األدب الفر ّ
السيما في بعض المواضع .لقد ذكر الفيلسوف الفرنس ّي حين بحث في
بي و ّ
تاريخ األدب العر ّ
تشوه يمكن للشخص السليم أن ُيقلّده فهو مضحك .هيئةُ األحدب
أن كل ّ ُمضحك األشكال ّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ورضي به .من ذا
َ وكأن حدبتَه تصلّب قد اعتاده
ّ سوء الوقفة،
وكأنه ُمتكلّف َ
ألنه يبدو ّ
ُمضحكة ّ
الرومي:
ّ يذكر قول ابن
الذي يق أر هذا الوصف وال ُ
فتجمعا
َّ لها ثاني ًة أحس
و َّ أحس مرة قفاهُ ص ِفعت
ُ وكأنما
أن الجاحظ منذ القديم قد عرف للضحك صفته االجتماعية .هذا ما
أما األولى فهي تُظهر ّ
ّ
ومحاكمته وهي هذه:
َ وح ْسن بيان واضحاك من طبع البخيل
القصة من جودة عرض ُ
ّ عدا ما في
قرب منزله وكان
فلما صرت َ ليًلّ .
(صحبني محفوظ النقّاش من مسجد الجامع ً قال الجاحظَُ :
أبيت عنده .وقال :أين تذهب في هذا َ أقرب إلى مسجد الجامع من َمنزلي ،سألني أن
َ منزلُه
المطر والبرد ،ومنزلي منزلُك ،وأنت في ظُلمة ،وليس معك نار ،وعندي لبأ لم َير الناس مثله،
وتَمر ناهيك به جودة ،ال تصلُح ّإال له ،فَمْلت معه .فأبطأ ساعة ،ثم جاءني بجام لَبأ وطبق تمر.
وركوده ،ثم ليلة مطر ورطوبة .وأنتُ فلما َم َد ْدت قال :يا أبا عثمانّ ،إنه لبأ وغلظه ،وهو الليل
السن ،ولم تزل تشكو من الفالج طرفًا وما زال الغلي ُل ُيسرع إليك .وأنت في
رجل قد طعنت في ّ
باعك
تط َ وحر ْش َ أكلت اللِّبأ ولم تُبالغ كنت ال ً
آكًل وال تارًكاَ . َ لست بصاحب عشاء .فإناألصل َ
نعد
بالغت بتْنا في ليلة سوء من االهتمام بأمرك ،ولم ّ
َ قطعت األكل أشهى ما كان إليك .وان َ ثم
عت بين نابي أسد.
غدا كان وكان .واهلل قد وق ُ
تقول ً
لئًل َلك نبي ًذا وال َع َس ًًل ،واّنما قلت هذا الكًلم ّ
جئت به ولم أ ِّ
حذرك منه ولم قلتَ :بخ َل به وبدا له فيه .وان ُ
ألني لو لم أج ْئك به ،وقد ذكرتُه لكَ ، ّ
يعا .فإن ِّ
ئت إليك من األمرين جم ً
ينصح ،فقد بر ُ
علي ولم َ
قلت لم ُيشفق ّ
أذكرك ك ّل ما عليك فيه َ
شئت فأكلة وموتة ،وان شئت فبعض االحتمال ونوم على سًلمة.
َ
يتم بطريقة
ولكن هذا اإلبرَاز ّ
ّ المادة والواقع.
الفرق بين عالم الفن وعالَم ّ
َ والنادرة الثانية تُبرز
ولكن
ّ المظلم.
المادة ُ
ّ النير أعلى من عالم
الفن وهو عالم الفكر ّ
أن عالم ّ سلبية :فمن المعلوم ّ ّ
كًلما
ً ويعلي شأن المال فوق شأن الشعر ويبيع الشاعر الذي جاء يمدحه البخيل يقلب األمر ُ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
العادي الذي
ّ كًلمه
كذبا بكذب .فهو ُيدني قيمة الشعر إلى ما ُيعادل َ
حد تعبيره هوً ،
بكًلم ،وعلى ّ
كًلما
ً جرد وعد كاذب ،وهو ُيحقّر نفسه حين ال يستطيع الشعر أن يخدعه عنها فيعتبره هو ُم ّ
صة من ُمفاجأة تخرج عن العرف أي صناعة زيادةً على ما في الق ّ
أي قيمة ومن ّ
خاليا من ّ
ُمزجًّى ً
يتجسد حتى في التعبير.
ّ ومن ُش ّح
مر له
هما ،تأ ُ
بعين در ً
كاتبه فقالُ :سبحان اهلل! هذا كان يرضى منك بأر َ فأقبل عليه ُ
َ قال:
أحمق!
ُ شيئا؟ قال :ومن إنفاذ أمرك ُب ّد؟ قال :يا
بعين ألف درهم؟! قال :ويلَك! وتريد أن تُعطيه ً
بأر َ
شد من األسد،أحسن من القمر ،وأ ُّ
ُ عم ّأني
حين ز ّ
سرنا بكًلم ،وسررناهُ بكًلم .هو َ
هذا رجل ّ ّإنما
شيئا أرجعُ به
جعل في يدي من هذا ً َ السنان،
أن أمري أنف ُذ من ّ
لساني أقطعُ من السيف ،و ّ أن
وّ
ونأمر له
ُ أيضا نس ُّـره بالقول
ولكنه سرنا حين كذب لنا ،فنحن ً
نعلم ّأنه قد َكذبّ ،
إلى بيتي؟ ألسنا ُ
يكون كذب بصدق وقول َ فأما أن
فيكون كذب بكذب ،وقول بقولّ .
ُ بالجوائز ،وا ْن كان َكذًبا،
وبفعل فهذا هو الخسران المبين الذي ما سمعت به).
قدر مهارة الجاحظ في عرضه القصة ولم تذهب عليه من خصائص أن القارئ ّ
هذا ونعتقد ّ
شيئا أرجعُ به إلى بيتي) وهي تُشير
(جعل في يدي من هذا ً
َ بيانها هذه الجملة على لسان الوالي:
اسه ويده وتملؤه
كره وحو ّ المادية تستأثر به ،وتستأسره وتشغل عليه ف َ
ّ أي مدى كانت الحياة إلى ّ
صا واستمسا ًكا وحبًّا للتملُّك يد ّل عليه قوله (في يدي) و(إلى بيتي) وأمثا ُل هذا الوالي بين
ح ْر ً
ولكن مثل الجاحظ في غمار األجيال نادر قليل.
جمهرة الناس من ك ّل طبقة كثيرّ ،
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
كالبحر هازُج الجنباتُ ،مزبد
عامة منه .وهو َ عالم الضحك عالم واسع لم َن ْج ُل ّإال مًلمح ّ
إن َّ
المحببة اللطيفة الظريفة إلى عالم
بالملحة والنادرة ُ
يمتد من جانب حتى يصل ُ صخابهاُّ ،
األمواجّ ،
ُّ
ويمتد من جانب آخر حتى يصل بالته ّكم والهجاء والسُّخرية إلى عالم المًلحة والظرف والرقّة.
َ
وصنوف من الضحك ُمتفاوتة في الروعة ،ويشتم ُل فيما بين ذلك على ألوان من االبتسام ُ
المأساة و ّ
العنف ،وعناصر الفكر والعاطفةالمرَارة ،ومراتب الرفق و ُ
درجات الخفّة والثقل ،ومقادير الحًلوة و َ
والنشاط ،وأساليب التلميح والتصريح ،وما إلى ذلك من طُيوف وجواء وأفاويه وطُيوب.
ضا على نوهنا به من اتّساع عالم الضحك واقتصارنا على إبراز مًلمحه العامة ينطبق أي ً وما ّ
بيانها .وهي في ُجملتها أربع كما ذكرنا بعدد الجهات األصلية التي سلف ُ
ّ الجمالية
ّ بقية القيم
ّ
قل وتنفصل، بعضها ببعض ،وقد تست ُّ يتفرع عنها قيم إضافية كثيرة ،قد يشتبك
ُ مكن أن ّ وي ُاألربعُ ،
بعض الشيء في بحوثنا ال ُمقبلة،
َ عوًنا ولو
يكون لنا ْ
ُ المستفيض
َ الموجز
المتقدم ُ
ّ ولع ّل هذا الشرح
بي.
تطور الشعر العر ّ
السيما في دراسة ّ
و ّ
****************************************************
ذلك أن الجمال من أشد المفاهيم التصاقاً بأحاسيس اإلنسان ،ومن أكثرها قدرةً على تحريك
أي واحد للجمال ،ولكن من السهل جدا
المشاعر واالنفعاالت .سيكون من الصعب تكذيب تعريف ِّ
مناقشة هذا التعريف ،وتبيان مدى قربه أو بعده عن الداللة االصطًلحية ،وهذا يعني أننا لن
نكون أمام إجابة واحدة ،بل إن األمر الطبيعي هو أن اليكون هناك اتفاق على إجابة واحدة،
خاصة أن اإلنسان غير بعيد عن الذاتية في صًلته مع المدلوالت الجمالية عامة ،ومدلوالت
المفاهيم وجوبية األحكام ،على أن ذلك ليس يعني أن الجانب الذاتي هو الممثل الوحيد لعًلقة
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
اإلنسان مع الموضوع الجمالي ،ذلك أنا لو اقتصرنا على أحد الجانبين ،الجانب الذي يتصل
بالذات ،أو الجانب الذي يتصل بالموضوع ،لوقعنا في إشكاالت قد النستطيع تجاوزها.
أول هذه اإلشكاليات هو اختًلف أذواق الناس في تناول الموضوع الواحد ،ومن ثم تباين
أحكامهم عليه ،وثانيهما اتفاقهم في الحكم جمالي على موضوع واحد.
فلو طلبنا إلى مجموعة من األفراد الحكم على موضوع جمالي ما ،فإننا بالكاد نلقى إجابتين
تتفقان تمام االتفاق أو ربما بعضه أحياناً ،ولكن ربما أجمع الكل على اتصاف هذا الموضوع
بصفة جمالية ما ،كالجمال ،أو القبح ،أو الروعة ،أو الجًلل ،أو الرشاقة ،أو التناسب.
وطبعاً حينما نقول الجمال والقبح فإنهما أمران متًلزمان ال يمكن الفصل بينهما ،وقس على
ذلك من باب المصطلحات الجمالية ،فًل انفكاك بين الجمال والقبح على الرغم مما يبدو من
أنهما متناقضان تمام التناقض ،وهذا حق ولكن لوال هذا التًلزم والتناقض في آن معا لما كان
لدينا حكم جمالي ،بل ربما لم يكن هنالك علم جمال.
إن اختالف أذواق الناس يعني أن لكل إنسان مقاييسه وثوابته التي ينطلق منها في الحكم
على األشياء ,وأن اتفاق األذواق في إطارها العام يعني أمرين إثنين:
أولهما :أن هناك مقاييس شبه ثابتة متأصلة في النفس البشرية ال يختلف عليها الناس ،وهذه
المقاييس الثابتة تتجاوز الزمان والمكان ،بمعنى من المعاني ،ولو لم نأخذ بهذا الكًلم لما وجدنا
ما يفسر خلود الكثير من اآلثار الفنية في مختلف ضروب الفن مثل جلجامش ،واإللياذة،
والمعلقات ،والتماثيل ،والمعابد ،والمنحوتات الكثيرة جداً ،والمسرحيات ،واألشعار ،واللوحات التي
خلفها فنانون كثيرون مثًلً الموناليزا....الخ.
ثانيهما :أن الموضوع بحد ذاته يتمتع بصفات جمالية واضحة ال يمكن نكرانها ،فلوال أن هذا
الموضوع أو ذاك كان يمتاز حقاً بمزايا وخصائص معينة تجعل الموضوع يتصف بأنه جميل لما
وجدنا اتفاقا على أن هذا الموضوع جميل أو قبيح.
هذا يقودنا إلى تعقب االتجاهات الرئيسة الناظرة في مفهوم الجمال ،وتفسيره ،وفهم طبيعته
من جهة م وقعه بين الذات والموضوع ،بوصف هذه الثنائية على األقل واحدة ال أكثر من زوايا
النظر إلى الجمال لتحديد طبيعته.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
إن طبيعة المواقف تعطي نظرية تتبنى أحد الموقفين إما أن يكون الجمال في الذات ،أو في
الموضوع ،أو على األقل ترجيح أحدهما على اآلخر ترجيحاً تتفاوت شدته بتفاوت شدة اعتناق
متبنيه له ،أو باختًلف طبائع المتبنين وتنوع عقائدهم ،وتباين ثقافتهم ،وهذا بدوره يولد موقفاً
ثالثاً ،ذلك ما يمكن أن نسميه موقف الحياد ،على الرغم من أن الحياد التام أمر سيظل بحاجة
إلى برهان ،أو لنقل المذهب الذي يقر كل مذهب فيما ذهب إليه ،محتجاً بصحة كليهما معاً،
ليس ألن خير األمور أوساطها ،بل ألن هذا هو األصح فعًلً.
إن تبني االتجاه الموضوعي أو االتجاه الذاتي في فهم طبيعة الجمالي لم يكن أبداً ليلغي
الطرف األخر ،وان كان ظاهر القول عند ُج ِّل من تبنوا أياً من االتجاهين يكاد يشير إلى خًلف
ذلك.
وال حقيقة التي تكمن وراء ذلك هي أن هذا التبني لهذا االتجاه أو ذاك إنما يعطي األولوية
الكبرى للجانب المتبنى ،ويلعب الدور األكبر في توجيه هوية المذهب الفلسفي وااليدلوجية الكامنة
وراءه.
ولكن ماذا لو كان كًل االتجاهين السابقين والموقف الذي يتوسطهما يمثًلن طواعية عقائدية
تكاد تكون مطلقة؟ بمعنى أن كًل من االتجاهات الثًلثة في فهم طبيعة الجمال تستطيع االنسجام
الكامل مع أي مذهب فلسفي مهما كانت المبادئ الموجهة والمحركة له؟
يبدو أن هذه المرونة حقيقة فوق الشك ،وأكبر دليل على ذلك هو أن هذه االتجاهات الثًلثة
قد سارت في ركب دروب االتجاهات الفلسفية كلها ،باسطة تربتها الخصبة للجميع على السواء.
المدرك مستقلة
َ يرى أصحاب هذا االتجاه أن الجمال صفات حسية عينية ماثلة في الموضوع
عن العقل أو الذات التي تدركها ،وهذه مقولة مثالية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ،لكن
ذلك ال ينفي أبداً إمكانية حملها على بنية مادية واستنفاذها حتى آخر رمق ،وفق المذاهب المادية
المعروفة كلها وأنواع توجهاتها.
االتجاه الموضوعي عند الفيثاغوريين :ظهر هذا االتجاه في فهم طبيعة الجمال بصيغته
الفلسفية أول ما ظهر لدى الفًلسفة الفيثاغوريين الذين خلصوا إلى فلسفة رياضية صوفية ،من
أكثر مناحيها أهمية أنها "ربطت التأمل بالتذوق الفني للموسيقى ،وانتهى فيثاغورث من تحليله
الموسيقي إلى وضع تفسير عددي ألنغامها ،وفسر التوافق الموسيقي بأنه يرجع إلى وجود وسط
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
رياضي بين نوعين من النغم" ،وألن الفيثاغوريين فًلسفة رياضيون فقد بهرتهم تلك القوانين
الثابتة ،وهذا النظام واالنسجام والتناغم الرائع في العالم" ،لقد وجهوا االنتباه إلى التناسب والنظام
والتناغم بوصفها النغمات السائدة في الكون ،وعندما نتأمل أفكار التناسب والنظام والتناغم،
سوف نتبين بأنها مرتبطة تماماً بالعدد ،فالتناسب مثًلً يجب التعبير عنه بعًلقة رقم من األرقام
إن هو اال ذلك
برقم آخر ،وبالمثل يقاس النظام باألرقام" ،ليخلصوا من ذلك إلى أن الجمال ْ
االنسجام والتناسب الذي يتجلى في البنية الصورية لموضوعات العالم ،ذلك أن تلك الموضوعات
ما هي إال تجليات للخالق ،وأن اهلل قد صاغها وفق استحقاقاتها من التناسب واالنسجام.
االتجاه الموضوعي عند أوغسطين :وفي سياق آخر مشابه ،نجد أوغسطين الذي وضع بحثاً
في الجميل كان الفقد نصيبه ،ولكن أفكاره الجمالية التي تناثرت بين آثاره الباقية أوحت لنا
يقر ذلك ،ويحاول إثبات أن الجمال
بفلسفته الجمالية ،ويبدو أنه كان موضوعياً ،وهو كأفًلطون ُّ
يكمن في الموضوع ،ولكنه مع ذلك لم يستطيع إنكار دور الذات وفعاليتها في تحديد طبيعة
الجمال ،ولعل في الحوار التالي الذي اصطنعه ما يكفي دليًلً على ذلك يقول:
اء وقد رفع صفّاً من القناطر على أحد أجنحة عمارته ،لماذا يجعل صفاً مماثًلً
"لو سألنا بن ً
في الجناح اآلخر؟ فسوف يجيب من دون شك :إنه فعل ذلك كي تتناظر أجزاء عمارته جيدا فيما
بينها.
ولو سألناه لماذا يبدو هذا التناظر ضروريا؟ يجيب :إنه ضرورة يقتضيه العقل الذي يعجبه
التناظر.
نسأله لكن من أنت حتى تنصِّب نفسك حكماً على ما ينبغي أن يعجب الناس أو ال
يعجبهم؟ أو من أين تعرف أن التناظر يعجبنا؟ يجيب :أنا متأكد مما أقول ألن األشياء المنتظمة
انتظاماً كهذا تمتلك اللياقة واإلحكام واللطافة ،وبكلمة واحدةِّ :
متأكد ألن هذا جميل.
يبدو جلياً هنا كيف أن أوغسطين يدير حوا اًر على الطريقة السقراطية من أجل إثبات وجهة
نظره في طبيعة الجمال ،ولكنه هنا على أي حال لم يستطع إال أن يشير إلى دور الذات
وفعاليتها في تحديد طبيعة الجمال ،يقول" :إن الجميل هو ما يروقنا بذاته ،أما المًلئم فيرضينا
لعًلقته بشيء آخر" ،ويعقب الدكتور نايف بلوز على ذلك بقوله" :إن أوغسطين ظل يعتقد أن
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الفن ال يثير إعجابا إال إذا ذكرنا بالفكرة اإللهية ،فكل جميل هو أثر الخالق في العالم ،هو منحة
إلهية".
والعجب لذلك أن نجد أن أوغسطين ازداد اص ار اًر على موضوعية الجمال ،فيتابع حواره
المفترض مع المعمار قائًلً:
"نسأله :أنا معك ،ولكنني سأسألك أيضاً :لماذا هذا جميل؟ واذا كان سؤالي يزعجك ،بحكم أن
أساتذة ِّفنك ال يذهبون إلى هذا ِّ
الحد إالّ ناد اًر ،فسوف يناسبك من دون عناء ،على األقل أن
تختزل تَماثُ َل أجزاء عمارتك ،وتَ َساوَيها ،وتََناظُ َرها ،إلى نوع من الوحدة التي تمتع العقل.
َ
يجيب :هذا ماكنت أريد أن أقوله .أجل .لكن َح َذار ،فًل وجود قَطُّ لوحدة حقيقية في األجسام،
ألنها جميعاً مكونة من عدد ال يحصى من األجزاء التي يتكون منها أيضاً من عدد غير نهائي
من األجزاء.
فأوغسطين يدير حوا اًر على الطريقة السقراطية من أجل إثبات وجهة نظره في طبيعة الجمال،
ولكن لم يستطع إال أن يشير إلى أثر الذات وفعاليتها في تحديد طبيعة الجمال ،ولو َع َرضاً على
ْ
الع َرض ُّي لتبيان أثر ذاته
طريق إثبات الموضوعية المحض لطبيعة الجمال ،ويبدو هذا االضطرار َ
أيضاً ،وله مًلحظات جمالية عميقة ،فهو قد ميز بين الجمال والمًلءمة ،وقال" :إن الجميل هو
ما يروقنا بذاته ،أما المًلئم فيرضينا لعًلقته بشيء آخر ،إال أنه ظل "يعتقد أن الفن ال يثير
الخالق في العالم ،هو منحة إلهية ،ولذلك إعجاباً إال إذا ذكرنا بالفكرة اإللهيةُّ ،
فكل جميل هو أثر َ َ
يوجه ُخطانا في طريق الخير".
وبناء على ذلك ،إن األساس الذي استند إليه أوغسطين لإلصرار على االتجاه الموضوعي ً
الخالق
ديني ،يرنو من خًلله إلى تقديس قدرة َ ٌّ الهوتي
ٌّ في تحديد طبيعة الجمال ،هو أساس
وتمجيدها ،فهو يعتقد "أن الجمال وهو التجلي الرمزي لأللوهية ،يتمثل في نظام الوجود ،وترتيبه،
وتناسبه ،وفي وحدة الكون السارية في مختلف مظاهره ،وقوله :إن اهلل هو ينبوع الجمال في
العالَم ،معناه أن نظامه وترتيبه وتناسبه جزء من الوجود اإللهي ،وأن ما في األشياء المادية من
َ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
جمال هو إشارة رمزية إلى هذا الوحي .ولكن بما أن الشر جزء من هذا النظام فًل مفر لنا من
وصفه بالجمال أيضاً ،وهكذا يصدر الجمال عن األشياء المتعارضة مما يجعل علم الجمال جزءاً
من التسويغ الًلهوتي لوجود الشر والفساد على األرض".
االتجاه الموضوعي عند توما األكويني :أما توما األكويني فقد كان شأنه شأن رجال الدين
عامة ،الذين أروا في الطبيعة صورة من صور قدرة اهلل وتجلياً له ،وعلى خًلف هذه الرؤية في
تجلي عظمة اهلل وقدرته في خلقه فقد سعى األكويني إلى اإلقرار بجمال العالم الحسي ،والى
الكشف عن المًلمح الموضوعية للجمال ،وعد معيار الجمال قائما في أكثر صفات األشياء
شموالً :الكمال والتناسب والبهاء.
والغاية من ذلك عنده وعند رجال الدين عامة والفًلسفة من ذوي االتجاه الديني هي الوصول
إلى القول :إن الجميل هو ما أراده اهلل جميًلً ،وقدر له من خصائص الجمال ما أراد ،ولذلك ال
عجب فيما يقول األكويني" :إن هذه الصفات متحدة في األصل باهلل ،فالجميل هو ما يشبه اهلل،
واهلل هو الجمال األعلى ،ومصدر الجمال في الطبيعة والفن".
وعلى نحو مشابه لألكويني إلى حد بعيد أعلن جوتغريد ليبنتز صراحة وبصيغة فلسفية أكثر
أن اهلل -وهو العليم -يعلم تماما أنسب المقاييس وأسماها ،وأفضل النسب وأرقاها .وانطًلقا من
لق العالم وصاغه على أكمل صورة ممكنة "أفضل العوالم الممكنة".
ذلك َخ َ
وفي القرن الثامن عشر ذاته ،وفي المرحلة التاريخية ذاتها التي وجد فيها ليبنتز نجد ادموند
بوركه الذي قدم رؤية تدور في فلك االتجاه الموضوعي ،فقد قال في كتابه األساسي "أصل
مفهومي الجمال والجًلل"" :إن العواطف تنشأ من الخبرة الحسية ،وبنية الحواس عند جميع الناس
واحدة ،وهذا هو أساس الذوق العام ،ثم إن هذه الحواس متصلة بالموضوعات الخارجية ،وثمة
مًلمح موضوعية لجمال األشياء ،وهي الضآلة ،والصغر ،والصقل ،والتغير المتدرج ،والرقة،
والنعومة ،وصفاء األلوان".
ونقول هنا إن بوركه كاد يقترب من االتجاه الجدلي إلى حد ما ،أو على األقل من عدم إنكار
الذات ودورها في الوصول إلى الجمال ،لكن بوركه قطع حيث يجب الوصل ،بتوحيده الذوق العام
للناس ،ليفسح المجال أمام تنوع الموضوعات ،واستئثارها بلعب الدور الوحيد في تحديد طبيعة
الجمال ،ومن ثم قيمة الموضوع.
وقد انسحبت هذه الفكرة حتى يومنا هذا مرو اًر بالعصور الوسطى ،إذ هيمن هذا االتجاه في
فهم الجمالي هيمنة مطلقة تقف وراء ذلك سلطة الكنيسة التي كانت شديدة الحزم والبأس في
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
تعاليمها وأوامرها حتى ألجأت الناس فيما بعد إلى معاداتها والنفور منها ،ومن ثم إلى كسر حاجز
السلطة الدينية.
ولكن ،ولطالما كان األمر كذلك ،فما الذي يفسر نسبية التذوق الجمالي مع اختًلف الزمان
والمكان أو توافقهما معاً؟
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
فهو كما يرى تشيرشفسكي بقوله عنه" :تهمه العملية النفسية ذاتها وأشكالها وقوانينها ،أو
جدلية الروح إذا تحرينا اصطًلحا دقيقا" ،ولذلك أوقف تولوستوي أصالة الفن وعظمته على مدى
قدرته على إثارة انفعاالت اآلخرين ،وتحريك وجداناتهم وعواطفهم ،ويضرب لنا مثًلً أغاني
الفًلحين الروس التي أثارت انفعاالت آالف مؤلفة من الناس ،ولو نحن أحصيناهم لكانوا أكثر
بكثير ممن أثارتهم مسرحية شكسبير "الملك لير" أو سواها.
ومن ذلك يرى أن الجمال األسمى أو الفن األرقى هو الذي يحظى بأكبر عدد من المعجبين،
وال عجب أن نجد أدب تولوستوي تطبيقاً حياً أو انعكاساً صادقا لنظريته الجمالية ،وأن تظهر
أصالته وابداعه في تلك الصور الحيوية التي يلتقطها لشخصيات القصة ،ويستمد المظهر
الخارجي شكله من الحالة النفسية للبطل ،ويتلون بتلون مزاجه ويتقلب وفقه.
إن
إن الكثيرين ممن تبنوا أحد هذين االتجاهين لم يجدوا بداً من االعتراف باالتجاه اآلخرْ ،
بالتلميح والتلويح ،أو باإلفصاح والتصريح ،وللتدليل على ذلك سنبحث بعض النماذج لكل واحد
من االتجاهين.
أما االتجاه الموضوعي فيمثله أفالطون ،الذي ُّ
يعده النقاد والمؤرخون أكبر بل أبرز ممثلي
اال تجاه الموضوعي ومنظريه ،ولطالما قرأنا عباراته الواضحة الصريحة ،التي تؤكد نزعته
الموضوعية وبكل قوة ،يقول" :إنني أتحدث عن الخطوط المستقيمة والمنحنية والسطوح
والمجسمات الناشئة عنها ،وهذه األشكال ليست جميلةً جماالً نسبياً كغيرها من األشياء ،بل هي
الم
جميلة جماالً أزليا باإلطًلق" .وله غير ذلك من التلميحات والتصريحات كقوله أيضاً" :إن الع َ
آية فنية غاية في الجمال ،وال يمكن أن يكون النظام البادي فيما بين األشياء باإلجمال ،وفيما
ص ْنعُ عقل كامل توخى الخير ،ورتب
بين أجزاء كل منها بالتفصيل ،نتيجةَ علل اتفاقية ،ولكنه ُ
كل شيء عن قصد".
والحقيقة أن النقاد حكموا على أفًلطون بأنه ذو نزعة موضوعية انطًلقاً من نظريتيه في
ويقره ،وهذا حكم غير صحيح من الناحية الجمالية،
الوجود والمعرفة ،وفيلسوفنا ذاته يرى ذلك ُّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ذلك أنه سيان أ ََو َعى ذلك أم لم يعه ،لم يستطع إال أن يقر بوجود دور للذات في عملية تقويم
الجمالي.
إن الموضوعات كلها رغم اتصافها بالثبات ،وربما المطلقية ،فإنها من الناحية الجمالية تتمتع
بنوع من النسبية ،وهو وا ْن أقر ذلك على نحو شبه واع ومباشر ،فهو في أكثر من موضع لم يقل
ذلك على نحو مباشر ،ولكن سياق الكًلم ُّ
يدل على إدراكه هذه الحقيقة ،فهو عندما طرد الشع ارء
من جمهوريته قال" :واذا حل في دولتنا إنسان بارع في الظهور بكل الصور ،ومحاكاة كل شيء،
أن ليس
يم قديس باهر ،ولكننا سنخبره ْ
وأراد عرض قصائده على الجمهور ،فإننا سنكرمه تكر َ
لمثله مكان في دولتنا ،وسنقصيه إلى دولة أخرى بعد أن نسكب العطر على رأسه".
وهذا يوحي بضرب من العًلقة الجدلية بين الذات المتلقية والموضوع الجمالي ،ذلك أنه ،كما
يبدو ،كان يدرك تماماً ما يتركه األثر الفني في نفس اإلنسان من آثار سلبية أو إيجابية ،بما
يثيره من انفعاالت تنعكس على مسار حياته سيان أكان ذلك على نحو كلّي أو جزئي ،ويؤكد
ذلك في محاورة أيون قائًلً على لسان أيون" :عندما أنشد شع اًر مؤث اًر تمتلئ عيناي بالدموع،
وعندما أنشد شع اًر مخيفاً يقف شعر رأسي من الخوف ويخفق قلبي".
فالشعر ليس كله سواء ما اتصل بالشاعر أي المبدع أو الفنان من ناحية إبداعه أو بالجمهور
من جهة تلقيه ،ولذلك هاجم الشعر التمثيلي لما له من خطر وآثار سلبية .لكن أفًلطون استثنى
الشعر الغنائي والملحمي والتعليمي ،فالشاعر الحقيقي هو الشاعر الملهم من ربات الشعر
المثُل؛ ذلك أن
واآللهة ،هو الذي يحاكي الحقيقة المثالية ،فيكون أشد اقتراباً ،وأوثق اتصاالً بعالم ُ
فنه ال يأتي عن تطبيق القواعد والمهارات التي تستخدم في محاكاة المحسوس ،فتكون وهماً
وخداعاً ،ليحيلنا من خًلل ذلك إلى جدلية الحسي المجرد ،فيرى ضرورة ارتباط المحاكاة
الصحيحة وتعليقها بحقيقة مثالية أو نموذجية ،وليس بصورة حسية؛ ألن الصورة الحسية ما هي
إال صورة مشوهة عن الحقيقة المثالية ،فإذا ارتبطت المحاكاة بالحقيقة المثالية كانت معبرة عن
األصل ،وهذه المحاكاة ال يستطيع فعلها إال الفنان المتصل بربات الشعر والفن واإللهام ،وبذلك
يكون الفن بعيداً عن الخداع ،والتضليل ،واإليهام.
الجرجاني :أما أنموذجنا لًلتجاه الذاتي مع ظهور دور
االتجاه الجدلي عند عبد القادر ُ
الجرجاني ،وهو ذاتي النزعة واالتجاه في
الموضوع ،أو عدم إنكاره ،فقد نسب إلى عبد القادر ُ
تحديد طبيعة الجمال فهو يؤمن بأن الذوق المصفى هو األساس الضروري إلدراك الجمال،
ومعرفة أسبابه ،وأن ذلك طبع موهوب البد منه لمن يريد أن يميز بين النصوص جيدها ورديئها،
يدرك ما
يفرق بطريقة أو أخرى ،والى جانب الذوق الحساس يجب أن يكون هناك ذكاء لماح ْ وأن ِّ
بين العبارات من الفروق اللغوية الدقيقة التي تمتاز بها العبارات.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الجرجاني "يقترب كثي اًر من المنهج الذاتي ،إذ
وكذلك رأى الدكتور أحمد علي الدهمان أن منهج ُ
الفني للصورة
ِّ جعل الذوق ركيزةً أساسيةً في منهجه لتفسير أسرار األدب ،وبيان دقائق الصوغ
والكشف عن الفروق الكائنة بين صورة جميلة وأخرى مثلها".
والدليل قول الجرجاني في دالئل اإلعجاز عن الذوق ومزايا الجمال بأنها" :أمور خفية ومعان
روحانية ،أنت ال تستطيع أن تنبِّه السامع لها ،وتُحدث له علماً بها حتى يكون مهيأً إلدراكها،
ويكون فيه طبيعة قابلة لها ،ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه
تعرض فيها المزية على الجملة".
َ الوجوه والفروق أن
ضمه إلى
من الصعب إنكار أرجحية ذاتية الجرجاني في تحديد طبيعة الجمال ،وربما يصح ُّ
االتجاه الذاتي من دون أدنى نقاش أو جدال ،والسيما أن الذوق عنده وسيلة أساسية إلظهار
المفارقات التي تكون بالمعاني وألوان النفس التي حددت سبب اختيار الكاتب لها ،ثم تبصيرنا
باأللوان النفسية لتلك المعاني.
ولكن نزوع الجرجاني الذاتي هذا لم يستطع أن يمحِّض الذات وحدها الدور األوحد في تحديد
طبيعة الجمال ،ذلك أن الذوق -رغم كل ما أواله من أهمية وضرورة وأولوية -لن يكون في
الصوغ الفني التي
منظور الجرجاني ذاته نتيجة إحساسه بالمتعة أو اللذة ،وانما إلدراكه خصائص َّ
هي محور النقد وعماده ،فالصوغ ميدان يدخله الذوق المثقف والمعلل كي يبرز خصائصه.
صحيح أن الذوق ،الذات هي التي تحاكم الموضوع وتقلبه وتقومه في مفهوم الجرجاني إال أن
الجرجاني ،ذاته لم يستطع الهروب من الموضوع ومكانة الموضوع من عملية التقويم التي تحدد
طبيعة الجمال.
هذان األنموذجان -أفًلطون والجرجاني -في اتجاههما المتباينين ،موضوعية األول وذاتية
الثاني ،يقوداننا إلى مسألة جوهرية على غاية من األهمية كما أشرنا إليها ،وهي العًلقة الماثلة
بين االتجاهين ،واستحالة إغفالها إغفاالً مطلقاً أو تاماً ،وهي -على رغم االتجاه نحو إغفالها-
تظل قائمة تجلوها تعابير الفيلسوف صاحب االتجاه بصورة أو بأخرى.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الموضوع ،يفتقر إلى االتساق المنطقي ،وتعوزه الحجة المتماسكة والدليل المتكامل ،واذا كان من
السهل تلمس هذه الجدلية المضمرة عند بعض المفكرين الجدليين ،واقرار أنصار كل من
االتجاهين بدور االتجاه اآلخر ،فإنه ليس من الصعب تلمس بذور واضحة للعًلقة الجدلية على
مدى تاريخ الفكر الجمالي ،وحسبنا أن نقف عند أبرز المفكرين الذين أبرزوا العًلقة الجدلية بين
الذات والموضوع في تحديد طبيعة الجمال.
فقد أوشك الفيلسوف اليوناني الشهير اكسينوفان أن يلتقط أطراف العًلقة الجدلية بين الذات
والموضوع؛ عندما رأى أن القيمة الجمالية هي ذاتها معيار المنفعة األخًلقية ،وأن الجميل هو ما
يبلغ غايته على النحو األفضل ،وأن النافع جميل بالنسبة إلى من ينتفع به ،واإلنسان الجميل هو
الرفيع األخًلق ،فليس المظهر الحسي الخارجي وحده معيار كاف للجمال.
ولكن لعل أول فيلسوف استطاع أن ُيدرك هذه الحقيقة ،ويقدمها بصيغتها الفلسفية األقرب إلى
االصطًلحية ،هو "أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ" الذي أدرك أن طبيعة الجمال من جهة
موقعه بين الذات والموضوع ليست أحادية الجانب أبداً ،بل هي عًلقة تجادلية بينهما بين
الم ْدركة ،أي بين الذات والموضوع.
الم ْد َرك والذات ُ
الموضوع ُ
والسؤال االفتراضي الذي انطلق منه الجاحظ للوصول إلى العًلقة الجدلية هو :ما علة ِّ
عد
الشيء جميًلً؟ أو لنقل :ما الذي يجعل صفةً أو نعتاً أو حاالً ُيتلقى على أنه جميل؟ أهو الشيء
في طبيعته أم ألمر في الذات المتلقية؟
انطلق الجاحظ من الحديث النبوي الشريف" :خير األمور أوساطها" أساساً لتبيان العلة التي
الجميل بها جميًلً ،فرأى أن الجمال إنما ينبثق من االعتدال أو التوسط بين طرفي متراجحة
َ َن ُع ُّد
الزيادة والنقصان ،أو اإلفراط والتفريط ،فالزيادة تورث عيباً ،والنقصان يخلف شيناً ،وفي ذلك
يقول" :أما تجاوز المقدار كالزيادة في طول القامة ،أو دقة الجسم ،أو عظم الجارحة ،أو َسعة
الخْلق ،فإن هذه الزيادة متى كانت،
العين ،أو الفم ،مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في َ
فهي نقصان في الحسن ،وا ْن ُعدت زيادة في الجسم".
يوقف نظريته هذه على الجسم البشري فحسب ،فقد رأى أن االعتدال مطلب
ُ ولكن الجاحظ ال
ضروري في كل أمور الحياة ،وصور الطبيعة حتى تُوصف بالجمال ،حيث يعمم بذلك حكمه
على األخًلق ،فالخلق المحمود فيما ،يرى الجاحظ ،هو ما كان معتدالً ومتوسِّطاً بين تطرفين،
فالحدود حاصرة ألمور العالم ومحيطه بمقاديرها الموفقة لها ،فكل شيء خرج عن ِّ
الحد في َخلق
أو ُخلق حتى في الدين ،فهو قبيح ومذموم.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ثم يتابع الجاحظ شارحاً ما يريده من االعتدال والتوسط ،والسيما أن نظرية االعتدال في
الجمال قد التكون مقنعة كما هي الحال في نظرية أرسطو األخًلقية ،إن الجمال هنا يشبه العدل
بوصفه قيمة أخًلقية ال تتوسط نقيضها ،وانما هي طرف يقابله نقيض هو الجور ،فليست زيادة
ذمه؟ أو كما يقول
العدل مذمةً وال مذمومة ،فهل نستطيع القول :إن زيادة الجمال تدعو إلى ِّ
عيب حسنه اإلفراط والطعن عليه من جهة الزيادة ،كيف يرومه عاقل أو
ُ الجاحظ "فمن كان
ينقصه عالم؟".
وحتى ال يقع الجاحظ في هذا المزلق ،ذهب إلى أن مراده من االعتدال إنما هو التناسب
واالتساق بين عناصر الصورة الجمالية على حسب ما هي عليه ،فيكون الجسم جميًلً إذا تحقق
فيه التوازن واالنسجام بين أبعاد عناصره وأحجامها ،فًل يفوت منها شيء ،كالعين الواسعة
لصاحب األنف الصغير األفطس ،واألنف العظيم لصاحب العين الضيقة ،والذقن الناقص،
والرأس الضخم والوجه الفخم لصاحب البدن المجدع النضو ،والظهر الطويل لصاحب الفخذين
القصيرين ،والظهر القصير لصاحب الفخذين الطويلين ،وكسعة الجبين بأكثر من مقدار أسفل
الوجه".
ويقدم لنا أنموذجا تطبيقيا على نظريته في االعتدال والتوسط عندما يصف لنا أكثر ما يرّغب
في الصفات الجمالية للمرأة ،وكلها صفات تتوسط بين طرفي اإلفراط والتفريط ،أوالزيادة
والنقصان ،وقد استمد هذا الحكم -كما يبدو -من خبرته ومعرفته بآراء أهل عصره" .فقد وجد أن
البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابذة هذا األمر يقدمون المرأة المجدولة"،
أكثر الناس من ُ
"والمجدولة من النساء تكون في منزلة بين السمينة والممشوقة ،والبد فيها من جودة القَ ّد ،وحسن
الخ ْرط ،واعتدال المنكبين ،واست6واء الظهر ،والبد أن تكون 2كاسية العظام بين الممتلئة َ
2 7
والقضيفة " وانما يريدون بقولهم مجدولة :جودة العصب وقلة االسترخاء ،وأن تكون سليمةً من
الزوائد والفضول ،لذلك قالوا :خمصانة وسيفانة ،وكأنها جان ،وكأنها جدل عنان ،وكأنها قضيب
خيزران ،والتثني في مشيها أحسن ما فيها ،وال يمكن ذلك في الضخمة السمينة وذات الفضول
ب على السِّمان و ِّ
الضخام، والزوائد ،على أن النحافة في المجدولة أعم ،وهي بهذا المعنى تُحب ُ
وعلى الممشوقات والقضاف ،كما تحبب هذه األصناف على المجدوالت ،وقد وصفوا المجدولة
في الكًلم المنثور فقالوا" :أعًلها قضيب وأسفلها كثيب".
- 26انخرط جسمه أي دق ،وحسن الخرط أن يكون الجسم طويال من غير شطط دقيقا دونما هزال.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
نظريته في هذه االعتدال والتوسط مقصورة على الجسم اإلنساني -كما يدلوحتى ال نظن أن ّ
على ذلك أغلب قوله وكل شواهده -فقد قام بتطبيق معاييره هذه على كثير من األجسام واألشياء
الطبيعية ،كالبنفسج والزرع ،وعلى األشياء الطبيعية كاألبنية ،والفرش ،وقنوات جر المياه.
ولعل الجاحظ لم يركن إلى البت في أن الجمال محصور في التوازن والتناسب بين األج ازء
والعناصر فقط ،أي لم يطمئن إلى أن الموضوع وحده هو مصدر الجمال فهو يفتقر إلى التوازن
والتناسق ،ولكننا مع ذلك يراه جميًلً ،فيقول" :ولربما رأيت الرجل حسناً جميًلً ،وحلواً مليحاً،
معدل األجزاء ،وقد تكون أيضاً
وعتيقا رشيقا ،وفخماً نبيًلً ،ثم ال يكون موزون األعضاء ،وال َ
األقدار متساوية ،غير متقاربة وال متفاوتة ،ويكون قصدا ومقدا ار عدال ،وان كانت دقائق خفية
اليراها إال األلمعي ،ولطائف غامضة اليعرفها إال الذكي".
ثم ال يل بث الجاحظ أن يعول على الذات في إضفاء القيمة الجمالية على الموضوع ،لتبدو
الذات مصدر القيمة الجمالية من جهة انقيادها لميل أو هوى ترى به المثل الجمالية متجسدة
فيمن تحب وتهوى.
ويورد لنا شواهد كثيرة من هذا النوع فيعقب على قوله السابق" :فأما الوزن المحقق ،والتعديل
المصحح ،والتركيب الذي اليفضحه التفرس ،وال يحصره التعنت ،واليتعلل جاذبه ،واليطمع في
التمويه ناعته ،فهو الذي خصصت به دون األنام ،ودام لك على األيام" ويقول أيضاً " :أين
الحسن الخالص ،والجمال الفائق ،والملح المحض ،والحًلوة التي التستحيل ،والتمام الذي اليحيل
إال فيك أو عندك أو لك معك؟ البل أين الحسن المصمت ،والجمال المفرد ،و ُّ
القد العجيب،
والكمال الغريب ،والملح المنثور ،والفضل المشهور ،إال لك وفيك؟".
إن تأرجح الجاحظ بين االتجاهين الذاتي والموضوعي في تحديد طبيعة الجمال ،غير جانح
ألحدهما دون اآلخر ،وال ٍّ
بات في أرجحية أحدهما دون األخر آخذاً بعين النظر اختًلف أذواق
الناس ألسباب شتى ،ودور ذلك في األحكام الجمالية وتباينها حتى على األثر الجمالي الواحد،
وكذلك الشروط الموضوعية الواجب توافرها في الموضوع كي يكون جميًلً؛ يجعله رائداً أوالً
للنظرية الجدلية في تحديد طبيعة الجمال ،وأول من تبعه في ذلك هو تلميذه األكثر نجابة
الفيلسوف الجمالي العربي أبو حيان التوحيدي ,الذي أدرك أن طبيعة الجمال تمثل العًلقة
المدركة.
درك والذات ُ
الم َ
القائمة بين الموضوع ُ
ووقف على هذه الحقيقة وقوف متبصر خبير ،ولعل التوحيدي ثاني من استطاع الوقوف على
جدلية العًلقة الجمالية ،وهو الخبير بأسرار الجمال ومساربه ،فقد هذه العًلقة بصيغتها الفلسفية
مؤتلفا ،وها هو ذا يتساءل في كتابه " :الهوامل والشوامل " عن طبيعة الجمال تساؤالً
ً قداً مؤنقاً
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
صريحاً يكشف من خًلله عن مدى إدراكه هذه الحقيقة فيقول" :ما سبب استحسان الصورة
الحسنة ،وما سبب هذا الولوع الظاهر ،ويتابع مستفس اًر :أهذه كلها من آثار الطبيعة؟ أم هي من
عوارض النفس؟ أم هي من دواعي العقل؟ أم هي من سهام الروح؟ أم هي خالية من العلل جاريةً
على الهذر؟ وهل يجوز أن يوجد مثل هذه األمور الغالبة واألحوال المؤثرة على وجه العبث
طل".
الب ْ
وطريق ُ
يبدو جلياً ما في هذه التساؤالت من دالالت معاصرة ،نتعامل معها اآلن ،في تحديد طبيعة
يتصف بما هو موضوع
ُ الجمال ،فيتساءل :هل الجميل جميل ألنه بطبيعته كذلك؟ أي ألنه
للصفات الجمالية المستقلة تمام االستقًلل عن ذاتنا؟
ثم ينتقل التوحيدي إلى االتجاه الذاتي ،فيقول :أهي من عوارض النفس؟ أي أن طبيعة الجمال
هي صفات نخلعها على المواضيع باختًلف أحوال النفس وعوارضها؟ وهذا جانب ذاتي ،أي أن
طبيعة الجمال صفات نخلعها على المواضيع باختًلف أحوال النفس وعوارضها ،ثم يتابع
تساؤالته متنقًلً بين أحوال الذات والموضوع وعوارضهما.
ولكن أين يقف التوحيدي من ذلك؟ لعل في طرح هذه التساؤالت من دون الميل إلى أحد
الجانبين ،أو إغفال الجانب اآلخر أو طمس أحد معالمه يكفي للتدليل على تفهمه لهذه الصلة،
ولكنه طالما وقف على هذه العًلقة ،وما كان ينبغي له تجاوزها من دون تحديد موقفه منها ،وهذا
ما قرره في كتابه " الهوامل والشوامل " وهذا ما عرفه في كتابه بأنه "كمال في األعضاء ،وتناسب
بين األجزاء ،مقبول عند النفس".
وليس أبلغ من هذا في الداللة على قوة تًلزم العًلقة الماثلة بين الموضوع -من جهة ضرورة
كن وصفُها بالثبات بصورة أو
الم ْم ُ
اتصافه ببعض الخصائص ،التي هي المكونات الجماليةُ ،
بأخرى -والذات بأحوالها المتباينة من حين إلى آخر ،ومفاهيمها المختلفة ،هذه الذات التي
نستطيع وصفها بالحيوية والحركية ،فالتوحيدي يرى على لسان ابن مسكويه أن بين الطبيعة
صور والنفس حوا اًر مستم اًر ،فالطبيعة تتلقى أفعال النفس وآثارها ،لذلك فإنها عندما تُ ِّ
شك ُل
َ
الهيولى -أي المادة األولية لألشياء -فإنها تجع ُل هذه الصور وفق رغبة النفس ،وحسب
استعدادها لقبولها هذه الصور.
ويقف التوحيدي على هذه الحقيقة بصيغتها الناجزة هذه التي تأخذ بعين النظر اختًلف أذواق
وتباينها حتى على األثر الجمالي الواحد،
الناس ألسباب شتى ،ودور ذلك في األحكام الجمالية ُ
ويكون التوحيدي قد فرض نفسه رائداً فعلياً ثانياً للنظرية الجدلية في تحديد طبيعة الجمال.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
أما الرائد الثالث فهو ابن خلدون ,رائد الدراسات االجتماعية التي ظهرت مًلمح العًلقة
لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء ،وذلك أن اللذة كما تقرر
الجدلية عنده في قوله" :ولنبيِّن َ
للمدرك
في موضوعه هي إدراك المًلئم المحسوس ،إنما تُدرك منه كيفية ،فإذا كانت مناسبة ُ
ومًلئمة كانت ملذوذة ،واذا كانت مؤلمة".
فاإلدراك هنا هو فعالية الذات والمًلئمة للموضوع واللذة الجمالية هي الناتجة عن هذه العًلقة
الجدلية الناشئة بين الذات والموضوع ،أي أن تحديد الجمال غير مقصور على أحد الطرفين
وحسب ،وانما هو الحكم الناجم عن التجادل بين الذات والموضوع.
بهذا المعنى ،يكون الجاحظ ،والتوحيدي ،وابن خلدون -بوقوفهم على هذه الحقيقة ،حقيقة أن
تحديد طبيعة الجمال من زاوية موضعه أو هويته بين الذات والموضوع إنما هي طبيعة جدلية ال
أحادية ،ودور ذلك في أخذ اختًلف أذواق الناس ،ألسباب مختلفة وكثيرة ،بعين النظر والحسبان،
ودوره أيضا في األحكام الجمالية وتباينها ،حتى على األثر الجمالي الواحد -يكونون قد فرضوا
أنفسهم رواداً فعليين للنظرية الجدلية في تحديد طبيعة الجمال ،التي يدعي ُج ُّل المفكرين أنها لم
وسي " تشرنشفسكي" ،أو ربما في
الر ِّ
تنشأ إال مع مطالع القرن التاسع عشر على يد المفكر ُّ
وهردر.
أواخر القرن الثامن عشر في إرهاصات أولية على أيدي الفًلسفة ديدرو وشيللر ْ
الشك في أن تشرنشفسكي كان ضليعاً في الجدل ،خاصةً أن خصمه األبرز الذي جعل همه
األساسي هو دحض فلسفته أو على األقل دحض ما يرفضه من هذه الفلسفة ،ولم يكن ما
يرفضه منها قليًلً هو "هيغل" ولكنه على الرغم من ذلك ،وعلى الرغم من أن الجدل هو ميدان
تحركه الفكري ،واألساس في سجاله ونقاشه ،فإنه لم ينجح تماما في عكس العًلقة الجدلية بين
الذات والموضوع في تحديد طبيعة الجمال.
ولعل عنوان كتابه "عًلقات الفن الجمالي بالواقع" هو الذي أغرى الباحثين والنقاد إلى الميل
في تسميته رائداً لًلتجاه الجدلي في تحديد طبيعة الجمال.
يصح هذا االعتقاد إذا كانت هذه الجدلية هي الحديث عن الجمال وتحديد طبيعته بالمعنى
االصطًلحي للجدل الذي انتشر بعد هيغل ،واذا كانت هذه الطبيعة الجدلية منصبة على اإلطار
العام للجمال أو اإلطار المفهومي على األقل.
وستكون جدلية العًلقة بين الذات والموضوع بالضرورة في الصيرورة الجدلية للعًلقة العامة.
ومن ثم يصبح من الصحيح تماماً ما ذهب إليه الدكتور نايف بلوز عندما قال" :يرى
االجتماعي ،بين
ِّ تشرنشفسكي الجميل في عًلقة جدلية متبادلة بين الوجود البيولوجي والوجود
الموضوع والذات ،بين الواقع والمثل األعلى."...
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ويصح معه كذلك قول الدكتور عدنان رشيد" :يشير تشرنشفسكي إلى العًلقة الجمالية لإلنسان
بالطبيعة التي ال تستجيب فقط للموضوع الخاص بها ،أو للواقع الموضوعي ،أو للطبيعة بل
أيضاً للذات التي تتفاعل مع ظواهر الطبيعة".
ولكن إذا وقفنا عند تشرنشفسكي عن الجدل بين الذات والموضوع خاصة ،فربما ال نجد شيئاً،
واذا وجدنا فسنجد شيئاً من الضبابية وعدم الوضوح والضبابية في تحديد العًلقة الجدلية،
وشاهدنا على ذلك هو الشاهد األبرز الذي اعتمد عليه كل من نسب الريادة إليه في هذا المجال،
ُ
وهو قوله " :إن اإلنسان ينظر إلى الطبيعة عامة بعيني المالك ،ويبدو رائعاً على هذه األرض كل
ما يتصل بالسعادة ورغد الحياة ،فالشمس ونور النهار رائعان مثًلً ألنهما مصدر كل حياة في
الطبيعة ،وألن نور في النهار يؤثر تأثي اًر طيباً مباش اًر في كل أعمال اإلنسان ،ويزيد فعاليته
العضوية ،وبالتالي يؤثر تأثي اًر طيباً حتى في مزاجه النفسي".
من المؤكد أنه سيكون من الصعب الطعن بأن تشرنشفسكي كان جدلياً في تعامله مع الجمال
وتحديد طبيعته ،وربما يكون هذا الشاهد من أقل الشواهد داللة على هذه الجدلية ،فالكتاب مليء
بالشواهد األكثر داللة ،حتى تكاد ال تخلو صفحة من كتابه من مثل هذه الشواهد.
ولكن مرة أخرى :إننا إذا أردنا أن نبحث عنده عن جدلية بين الذات والموضوع ،فمن المؤكد
أننا سنتعب من ذلك كثي اًر ،وربما من دون فائدة.
على أي حال إن القول بالجدلية أو اعتناق التفسير الجدلي للعًلقة بين الذات والموضوع في
تحديد طبيعة الجمال ،ليس ابتداعا خارقا للمألوف ،وليس كشفا فوق العادة ..إنه في حقيقة األمر
توصيف لما هو بحكم البداهة ،ألن الفصل بين الذات والموضوع في العًلقة الجدلية أمر متعذر
التخيُّل ،اللهم إال من قبيل التقسيم النظري ،التخيلي ،أما في الواقع فهو أمر غير قابل للتحقق إال
إذا تحول الموضوع إلى محض موضوع ال عًلقة له بالجمال ،كأي موضوع آخر من موضوعات
الطبيعة التي تتعامل الذات باستقًللية تامة ،كما ندرس مثًل سقوط األجسام ،أو خصائص
الضوء أو غير ذلك.
*****************************************************
التذوق الجمالي
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
صهو محور المعايشة الجمالية الناشئة بين المتلقي واألثر الجمالي ،وال نجد فيلسوفاً إال وخ ّ
هذا المبحث بمزيد من االهتمام .في الواقع ليس ثمة آلية منهجية ثابتة محددة للتذوق الجمالي؛
ذلك أنها مرتبطة أوثق االرتباط بالحالة النفسية للمرء ،فإما أن تكون حالة طارئة ،أو عادية.
مشوشة ،كما
مشوقة للمعايشة الجمالية ،وقد تكون منفرة ،وقد تكون ِّ
والحالة الطارئة قد تكون ِّ
أنها تختلف من مرحلة إلى أخرى ،ويمكن تصنيف آليات التذوق ،أو المعالجة إلى نوعين ،أولهما
مرحلي ،وثانيهما حالي ،ولكننا نجد أن الضرورة تقتضي علينا قبل ذلك أن نبين كيف تتكون آلية
التذوق الجمالي:
التذوق :
تَ َكون آلية ُّ
يولد اإلنسان ولديه بالفطرة ميل طبيعي إلى الجمال ،وقدرة على تذوقه ،ربما يكون هذا الحكم
بحكم المسلم به ،ذلك أننا الحظنا أطفاالً صغا اًر لم يؤت لهم أي تجربة جمالية كافية لتكوين آلية
تذوق جمالي ،لكنهم قادرون على إطًلق أحكام جمالية ،أو حتى على معايشة الجمال وتذوقه
تذوقاً يتجه وجهة صحيحة ضمن حدود كافية للحكم بامتًلكه هذه القدرة الفطرية على التذوق
الجمالي.
وهذه القدرة ليست نهائية وال تامة ،وهي قدرة تنمو وتصقل وتهذب وتتكامل فيما بعد ،فإذا ما
أخذنا العامل الوراثي أو الفطري بعين النظر والحسبان ،وأضفنا إليه العوامل األخرى في تكامل
التذوق الجمالي وأخذنا اآللية التي يتم بها هذا التذوق؛ أمكننا القول :إن تكون هذه اآللية يتم وفق
مجموعة من الشروط هي التي سنبين أكثرها أهمية على النحو اآلتي:
-1إن عملية تكوين التذوق وآليته هذه تضايفية متداخلة ومتكاملة ،يتعذر الفصل الزمكاني،
ولذلك فإن حديثنا عنها وعن آثارها -بوصفهما أمرين منفصلين عن بعضهما -ليس إال من قبيل
التقسيم النظري فقط أو التصوري في الذهن وحسب.
-2إذا كان موضوع حديثنا على العناصر الداخلة في تركيب التذوق الجمالي وآليته ،فإن ما
سنظهره وينصب عليه كًلمنا هو ما ينجم عنها من آثار في كيفية تلقي األثر الجمالي ،وتذوقه
من خًلل خصائصه التي هي بمعنى من المعاني مقومات الجمال.
-3إذا أخذنا مقومات الجمال أو خصائصه من تناسب ،وانسجام ،وتكامل ،وندرة ،أمكننا
القول :إن كل عنصر من هذه اآلليات له آلية تذوق خاصة ،وهذه مسألة يمكن مناقشتها في
العًلقة بين الواقع والمثل األعلى في العملية الجمالية.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
-4سنقف اآلن عند أبرز أربعة عناصر من عناصر بنية التذوق الجمالي وآليتها وهي:
البيئة ،والتربية ،واالنفعاالت ،والمعرفة ،من دون أن يعني ذلك أن هذه العناصر هي وحدها
الفاعلة والمؤثرة في عملية بناء التذوق الجمالي ،وآليته لدى اإلنسان.
الشك في أن هناك عوامل كثيرة يصعب حصرها ،وسيكون كًلمنا هنا على هذه العناصر
األربعة.
على هذا النحو يمكن رسم مًلمح آلية تكون التذوق الجمالي لدى اإلنسان ،مع ضرورة التأكيد
على أنها ال تتم في الواقع على هذا النحو المفصل والتراتبي ،وانما بتضايف تداخلي تكاملي
تجادلي.
أوالً -البيئة:
هي المحيط الذي يعيش فيه اإلنسان ،وينقسم أقساماً كثيرة تبعاً لطبيعته ،وبيئته ،وتركيبه،
وتأثيره ،والبيئة -بكل تنوعاتها وميادينها -تؤثر تأثي اًر واضحاً وكبي اًر في عملية التذوق الجمالي؛
إذ تجعل للفرد نظرته الخاصة ،ومعاييره المحددة في خصائص الجمال ،وللمجتمع أيضاً ،بوصفه
بنية متماسكة متكاملة من العادات ،والتقاليد ،واألع ارف ،والقوانين ،التي تتحكم بالمجتمع مثلما
تتحكم هذه الضوابط بالفرد ،بوصفه بنية متماسكة متكاملة من هذه الضوابط.
إن اإلنسان الذي يعيش في بيئة ريفية تنمو لديه أنماط من التذوق الجمالي ،التي ال يمكن أن
يعيها ابن المدينة أو يفهمها.
كذلك األمر بالنسبة لمن يعيش في المدينة ،واألمر عينه ينطبق على البدوي الذي يعيش في
المجتمع الصناعي ،وغير ذلك مما يحتمل وجوده من أنواع البنية الجغرافية والجيولوجية.
فيمكننا أن نفهم األسى والبؤس واالغتراب الذي وصلت إليه حال البدوية ميسون حين تزوجت
ففضلت الخيمة وقالت:
وغادرت خيمتها ،بيد أنها لم تجد الراحة وال الرفاه في القصورّ ،
ِ
منيف إلي من ٍ
قصر أحب َّ اح فيه
ُّ تخفق األرو ُ
ُ لبيت
ْ
الشفُ ِ إلي من لِ ْب ِ عباء ٍة ُّ
وف س َّ أحب َّ
ُّ وتقر عيني َ ولِ ْب ُ
س
ذاك من وطن شرِيف
فحسبي َ فما ْأبغي سوى وطني بديال
إذن هنا تمارس البيئة تأثي اًر خطي اًر في حياة اإلنسان في مختلف مستويات حياته ،ومنها الحالة
الجمالية المنبعثة في مختلف مستويات حياة اإلنسان وتفرعاته ،إنها بمنزلة حبل السرة الذي ال
يستطيع اإلنسان االنفكاك منه ،حتى إذا انفصل عنه لن يستطيع العيش من دونه ،أو هكذا يشعر
على األقل إال قليل ممن لم يؤت له هذا النعيم.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
وفي هذا ما يفسر لنا حقيقة تعلق المرء بمكان مولده ومرباه ،ألنه يشعر أنه الصدر الدافئ
الحنون الذي يظل بحاجة لًلنتماء إليه ،والشعور أمامه بالحنان ،وقد عبر كثير من الشعراء عن
هذه الصورة ،ولعل أشهر ذلك قول أبي تمام:
ما الحب إال للحبيب األول نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ألول َم ْن ِز ِل
َأبداً ِ وحني ُن ُه ٍ
منزل في األرض يألفُ ُه الفتى كم
لذلك ال يجوز أن ُنهمل أثر البيئة في صوغ الوعي الجمالي وتحديده ،وال ننظر إليه نظرة
عابرة ،فالبيئة هي التي تحبب اإلنسان ببعض األلوان دون غيرها ،وتجعله يرسم معالم المثل
األعلى لإلنسان ،كما تسهم في تحديد رؤيته وفهمه للرشاقة والتكامل والتفرد ،وكل ذلك يسهم في
المحصلة في عملية التذوق الجمالي ،ومن ثم التأويل الجمالي ،الذي هو ختام المعايشة الجمالية
وغايتها.
-2التربية:
التربية باإلطًلق إحدى ضروب النشاط اإلنساني الرامية إلى صقل خصائص شخصيات
األفراد وتهذيبها ،على نحو يؤهلهم للتعايش مع بيئاتهم الطبيعية والمجتمعية بعواملها المختلفة
الفكرية ،واألخًلقية ،واالجتماعية ،والجمالية ،والنفسية ،والدينية .إن التربية ال تنحصر في
السنوات األولى من حياة المرء ،وانما تتعدى ذلك إلى سنوات العمر كله ،التربية في اللغة النمو،
فهي تفيد في التغذية اإلنمائية ،سواء أكانت "مادية أو معنوية" ،ولذلك يقال ربيت فًلن ،ويقال
ذلك لكل ما ينمى كالزرع والولد ،هذا يعني أنها العملية االصطًلحية التقويمية التي ترافق
اإلنسان مادام على قيد الحياة ،ذلك أنه في كل يوم يصادف المرء ما يهذب فيه سلوكه ،أو
يصلح فيه أخطائه ،بمعنى أن التربية الجمالية بمقوماتها وخصائصها ،تعمل على تنمية ذائقة
الروح الجمالية المحددة في أي موضوع من الموضوعات الجمالية ،تبدأ في مرحلة الطفولة ،حيث
يتلقى الطفل توجيهات من األهل والمحيط التربوي ،فالميل إلى لون محدد ،وشكل محدد ،وتناسب
محدد ،وألوان موسيقية محددة ،والتفاعل بين هذه العملية التربوية ،وغيرها من عوامل بناء الذائقة
الجمالية ،وآلية فعلها يصوغ ذائقته الجمالية هذه الذائقة القابلة للتفاعل والتغير والتطور ،مع تغير
المعطيات والشروط للتفاعل مع عناصر بناء الذائقة األخرى.
-3االنفعاالت:
في حين تسهم البيئة في استنساخ مقوماتها وشروطها في األفراد الذين يعيشون فيها ،أي تقوم
البيئة بنسخ الجماعة في شخوصها ،فإن االنفعاالت تختص بمنح األفراد هويات استقًللية عن
الجماعة وعن البيئة ،ومشكلت نا هنا هي "العًلقة التفاعلية الجدلية العفوية" بين مختلف عناصر
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
التذوق الجمالي بيئة وانفعاالت ،فالبيئة تُمارس تأثي اًر واضحاً في تأطير االنفعاالت ،وصوغها،
وتحديد معالمها ،وقد أشار كل من ابن خلدون ،وكانط إلى أثر البيئة في األخًلق واالنفعاالت.
عد هذه المسألة إحدى اهتمامات العلم المعاصر ،االنفعاالت هي الميول ،واألهواء،
أما اليوم فتُ ّ
والتفضيًلت الشخصية التي تتحدد رويداً من الطفولة ،وتبدأ بممارسة تأثيرها منذ اتخاذها مراحل
األولى وصوالً إلى نهاية العمر ،فحب الطفل ألمه التي يرى فيها مثًلً جمالياً أعلى ،يقيس عليه
أي جمال أنثوي ،إن أَلفة الطفل في مسكنه ،تجعله يسكن باستقرار نفسي في مسكنه ،ويعد هذا
المسكن أو البيت مثاالً جمالياً للسكن ،يقيس عليه كل ما عداه من مسكن.
واذا كره الطفل صورةً ،أو شكًلً ،أو لوناً ،أدى هذا الكره إلى نفور الطفل ،ثم المرء من هذا
الشكل ،أو اللون ،أو الصورة ،وخفض عنده قيمته الجمالية.
وعندما يحب المراهق فتاةً ،فإنه غالباً يحبها ألنها تتوافق مع االنفعاالت ،والميول ،واألهواء
التي ارتسمت في قلبه ،وفي هذا ما يجعل مواصفاتها وخصائصها معيا اًر جمالياً ،يتعين عليه
جمال النساء ،وكذلك تفعل الفتاة من جهة مبدأ الفعل.
-4المعرفة :
كل ما يط أر من تطوير وتبدل على المتغير المستقل "المعرفة" ،يلزم عنه تغير أكيد في المتغير
التابع "بنية التذوق الجمالي وآليته" ،وبهذا المعنى فإن العامل المعرفي ،هو العامل الذي يفترض
فيه أن يكون دائماً النهج الموجه ،والمصحح ،والمطور آللية التذوق الجمالي ،فهو خًلف
العناصر األخرى ،التي تتسم بنوع من الثبات والسكونية ،إنه عامل متغير متبدل بين الساعة
واألخرى والمرحلة واألخرى ،ومن شخص آلخر ،ومن زمن آلخر ،فإذا لم يكن يعرف اإلنسان
شيئاً عن الموسيقى الهندية وسمعها ،فإنه ربما يجد معاناة في تذوقها وتقبلها ،واذا قبلها أو
تذوقها ،فإنه لم يفعل ذلك كما لو كان يعرف شيئاً عن الموسيقى عامة ،والموسيقى الهندية
خاصة ،واذا لم يكن يعرف اإلنسان شيئاً عن الشعر ،فإنه سيستمتع به إذا ما سمعه من شاعر
إلقاء جميًلً ،وبالتالي سيغير رأيه في هذا الموقف.
يلقي ً
يقوم اإلنسان بالتذوق الجمالي في المراحل األولى من حياته وال ينتظر حتى تكتمل منظومته
الجمالية ،ولكن آلية التذوق الجمالي تتكامل رويداً رويداً مع تكامل عناصر بنائها التي أشرنا
إليها في المحاضرة ،حتى يصير ذواقاً للجمال في مستوى من المستويات التي تتناسب مع ما
تحقق له من عناصر بناء منظومته الجمالية.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
وليس ثمة آلية منهجية ثابتة أو محددة للتذوق الجمالي ،ذلك أنها مرتبطة أوثق االرتباط
بالحالة النفسية للتذوق الجمالي ،فإما أن تكون حالة عادية أو طارئة ،والحالة الطارئة قد تكون
مشوقة للمعايشة الجمالية ،وقد تكون منفرة وقد تكون مشوشة ،وهي تختلف من مرحلة ألخرى.
فلها قبل المعايشة آليتها ،وفي أثنائها آليتها الجمالية ،وكذلك بعدها ،ولذلك فإننا سنضيف آليات
التذوق من التصنيفات :أولهما مرحلي ،ثانيهما حالي.
وألن ثمة ارتباطاً تًلزمياً بين اآللية المرحلية واآللية الحالية ،من جهة أن األولى صيرورة
زمانية ،والثانية هي الصورة الكيفية لهذه الصيرورة ،فسنقصر حديثنا على اآللية المرحلية ،أو
المراحل التي يمر بها التذوق الجمالي ،والكيفية التي يتم بها ،مبينين االختًلفات الحالية عندما
يقتضي األمر ،خاصِّين الحال الطارئة في مرحلة التذوق المباشر أو القصدي ،بفقرة منفصلة
ومستقلة.
آلية التذوق المرحلي:
تنقسم آلية التذوق المرحلي إلى مرحلتين رئيستين هما :الغائبية والشاهدية ،يغيب الموضوع أو
وي ْمثُل في األذهان وهي بهذا المعنى سابقة على المرحلة
األثر الجمالي في األولى عند األعيانَ ،
الشاهدية ،والحقة عليها ،وتمثلها المعايشة القبلية والبعدية والتخيُّلية.
أما المرحلة الثانية وهي الشاهدية ،فتتجلى في المعايشة المباشرة لألثر الفني ،وتتشعب إلى
نوعين-1 :قصدي-2 ،عفوي أو تلقائي ولكل من هذين الشرطين منظومته الخاصة:
قبل التذوق:
قد يتساءل بعضهم :أيعقل أن يكون هناك تذوق جمالي قبلي؟ أو من دون وجود موضوع أو
جد مهمة وهي أنأثر جمالي؟ الشك في أن هذا التساؤل منطقي ،ولكنه يغفل حقيقةً ّ
الموضوعات الجمالية تنتشر في كل مكان وزمان ،وأن كل شيء -مهما كانت مادته وصورته-
يمكن أن يكون موضوعاً جمالياً؛ لتغدو الرؤية الجمالية مرافقة لإلنسان في كل أحواله ،وأفعاله،
وصًلته ،وتعامله ،ولكن سنغض الطرف عن هذا الحسبان اآلن ،لنعود إليه في التذوق التلقائي.
لنفترض أننا أمام موضوع جمالي محدد ،فكيف ستكون آلية التذوق القبلي؟ في الحقيقة نحن
أمام ضربين من آلية التذوق القبلي ،أولهما :عندما يكون المرء متأهباً للتلقي الجمالي ،بمعنى أنه
يعرف أنه على أهبة االستعداد لمشاهدة لوحة ،أو منظر ،أو تمثال ،أو سماع مقطوعة موسيقية،
أو قصيدة ،أو غير ذلك .وثانيهما :أال يكون هناك أثر جمالي محدد البتّة ،حيث يتم تلقي األثر
علي أن أنقل المؤشر
الجمالي مصادفةً .فإذا أردت أن استمع إلى إرسال إذاعة دمشق ،وجب ّ
إلى رقم التردد التي تبث عليه هذه اإلذاعة ،وان لم أفعل ذلك فلن أستطيع االستماع.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
إن منظومة التذوق الجمالي تكون غائبة عن ساحة الشعور واإلرادة النشغالهما بأمور أخرى،
ي تتغير ،وهذا ماسيتضح أكثر في
فإذا لم يكن هناك أثر جمالي ظلت األمور كما هي من دون أ ّ
التذوق التلقائي ،أما إذا تهيأ اإلنسان للتلقي والمعايشة الجمالية فإن الشعور والًلشعور في بعض
الحاالت يقوم باستحضار منظومة التذوق الجمالي ،ووضعها موضع التشغيل والعمل ،وربما
يحدث نوع من المعايشة القبلية لألثر الجمالي ،واذا ما دققنا في هذا النوع األخير من التذوق،
سنخص ذكره بالتذوق التخيلي.
ُّ وجدنا إمكان إدراجه ضمن ضرب مرحلي آخر هو ما
التذوق التلقائي:
نعني به االتصال العفوي بالموضوعات الجمالية من دون معايشة جمالية حقيقية ،أي من دون
حدوث التمازج بين الذات والموضوع ،ومن ثم عدم حصول اللذة الجمالية الناجمة عن تذوق
فتقر
عابر م اً
اً األثر ،وفي األغلب األعم عدم إطًلق حكم قيمي ،لتغدو المعايشة الجمالية اتصاالً
إلى معظم خصوصيات التلقي الجمالي.
إن هذه الحال هي األكثر تك ار اًر في حياة اإلنسان ،خاصة وأن العالم ممتلئ بالموضوعات
الجمالية ،بل إن كل الموجودات يمكن أن ينظر إليها نظرة جمالية ،فاللباس ،وحركات األيدي،
واألرجل ،وااللتفاتة ،والنظرة ،والمشية ،والوقفة ،واألرض ،والسماء ،والبناء ،واألشجار ،واألحجار
....الخ ،كلها ذات مضامين جمالية ،ولكننا ناد اًر ما نتوقف عند أي شيء منها على أنه موضوع
معايشة جمالية.
ولو أردنا تفسير ذلك وايضاحه لوجدنا أنفسنا أمام الوضع اآلتي :إن اإلنسان بغض النظر عن
يكون قاعدةً هامةً شاملةً لمختلف معطيات الحياة التي يتعامل معها ،الجمالية،
ساحة اهتمامه ِّ
واألخًلقية ،والسياسية ،واالقتصادية ،والدينية ...الخ ،تقتصر على أهم معالم كل جانب أو
بعضها ،وهذه القاعدة تكون دائماً في ساحة الشعور ،وتتعامل مع مختلف الصور والمستويات في
الحالة التلقائية على درجة واحدة من العموم ،وعلى ذلك فإن المعايشة الجمالية ستبقى ناقصة.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
التذوق القصدي:
عندما يقف المرء مشدوهاً أمام منظر طبيعي خًلب ،كبضع شجيرات تشابكت أغصانهن
مظللةً ينبوع ماء تنداح تموجات تدفُّقه أنصاف دوائر رقراقة براقة كقوس قزح ،أو يستمع المرء
اقص روحه ،أو تست ُّ
مد نسج أنغامها من نسغ مترنماً طرباً إلى موسيقا عذبة يشعر أنها تر ُ
أحاسيسه ،أو أن يق أر إحدى الروايات الرائعة بتروي الرؤوم وشغف المشوق ،فًل يلبث أن يجد
وكأنه أحد شخوص هذه الراوية ،يفرح لفرحهم ويستاء الستيائهم ،وربما تأخذه النشوةُ حيناً
نفسه إال ّ
فيهم بالتدخل وتغيير الحدث ولكن المجال للتدخل.
ُّ
هذه األمثلة يمكن أن تقودنا إلى فهم معنى التذوق الجمالي القصدي الذي يقف فيه المرء أمام
الموضوع أو األثر الجمالي متأمًلً معايشاً متذوقاً ،سواء أتوجه إليه بملء إرادته ،أم شده وأسره
سم به من مزايا فذة فريدة ،فكيف تتكون آلية التذوق الجمالي القصدي؟
بما يت ُ
وإليضاح ذلك نقول :إن كل حكم مهما كان يتضمن رسالتين إعًلميتين تنبثق ثانيتهما من
األولى بالضرورة ،فعندما أقول هذه الفتاة فاتنة ،وهذا النهر ساحر ،وهذه القصيدة رائعة ،فإن ك ّل
حكم من هذه األحكام يتضمن رسالة إعًلمية أولى مصدرها الموضوع أو األثر الجمالي ،وهو
تعبر عن رأي الذات أو حكمها في هذا
هنا :الفتاة أو النهر أو القصيدة ،ورسالة إعًلمية أخرى ّ
الموضوع بعد معالجة رسالته اإلعًلمية ،والمتمثلة هنا بالفتنة والسحر والروعة ،بتعبير آخر إن
التلقي استقبال والتذوق تفاعل والتقويم إرسال.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
هذه اآللية في التذوق الجمالي تنطبق في حقيقة األمر على مختلف حاالت التذوق أو
المعايشة السابقة والًلحقة ،ولكنها متوافقة في المبدأ والبنية المنطقية ،ومتخالفة في مضمون
الفعل وطبيعته .يختلف التذوق القصدي عن مختلف أنواع التذوق بأن اإلنسان يقرر مسبقاً أن
يتوجه إلى عملية معايشة جمالية وتذوق جمالي ،والمثال الدال على ذلك هنا أن يقرر المرء
الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم معين ،أو يتابع مسلسًلً ينتظره من الحلقة إلى الحلقة مشدوداً
إليه ،ومثل ذلك أن ينهض المرء إلى مكتبة أشرطته الغنائية ليختار شريط أغنية محددة ليستمع
إليها غير تارك األمر لمصادفات المذياع واختياراته ،ومثل الحال الذهاب إلى المسرح أو معرض
لوحات لفنان ما .فالمرء في كل ما ذكر مستعد أتم االستعداد لعملية التذوق الجمالي ،وغالباً ما
يغدو المرء في مثل هذا الحال صاحب مزاج جمالي ،وتغدو المعايشة الجمالية عنده حاجة روحية
فكرية يصعب االستغناء عنها إال ضمن ظروف استثنائية غالباً ما تكون قاهرة.
التذوق البعدي:
هو اصطًلح جديد أحدثه الدكتور عزت السيد أحمد في كتابه" :علم الجمال المعلوماتي" ،فكما
أن شعور المرء في الماء أثناء السباحة يختلف عنه إثر خروجه منه ،كذلك فإن التذوق الجمالي
يختلف في أثناء االتصال المباشر عنه َبعد ُبعد األثر الجمالي .والذي يحدث هنا أن عملية
التلقي الجمالي قد توقفت ،وربما يكون التذوق الجمالي للموضوع قد تم ،وربما ال يكون المرء قد
وصل إلى هذه المرحلة ،وربما يكون الحكم أو التقويم الجمالي قد توج الحالة الجمالية ،وربما قد
ال يكون قد وصل إليها .نحن إذن أمام العيد من االحتماالت.
كثي اًر ما يحدث أن يتابع المرء مسلسًلً شيق ًا وينقطع عنه فجأة لسبب أو آخر ،ويمكن أن يذهب
ليقف أمام لوحة وما إن ينظر إليها حتى يقع حادث يقطع عليه عملية التلقي والمعايشة
والتذوق...ومثل ذلك حاالت كثيرة .هذه الحال داعية في حقيقة األمر لمحاولة تكميل الحالة الجمالية
عن طريق استرجاع األثر أو الموضوع الجمالي ،وذا نوع من أنواع التذوق البعدي .ولكن في أكثر
الحاالت تكتمل المعايشة الجمالية مارة بكل مراحلها من االستعداد وبدء التلقي إلى عملية التقويم
الجمالي.
التقويم البعدي هو استمرار التأثر بالموضوع أو األثر الجمالي ،إذ يفرض الجمال على المرء أن
يظل يفكر فيه فترة من الزمن ترتبط بقوة األثر وقوة الدافع الذي يسحب المرء من حالة التذوق البعدي
إلى حال آخر.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
لن يكون التذوق البعدي بقوة التذوق الفوري أو المباشر بحال من األحوال ،مهما بلغ األثر أو
الموضوع الجمالي من القوة ،وهنا نقول هناك فرق كبير بين أن تنظر إلى البحر هادئاً كان أو متًلطم
الموج وبين أن تدير ظهرك وتحاول إكمال اللذة أو المتعة الجمالية التي كانت تعتلج في فؤادك وأنت
ناظر إليه.
التذوق التخيلي:
التذوق التخيلي شبيه بالتذوق البعدي إلى حد بعيد ،وهو أن يسترجع المرء الموضوع بخياله،
وان يعيد صياغة األثر الجمالي بشكل أجمل ،فإن المبدع يضع تصو اًر لألثر الجمالي الذي يود
إبداعه ،ويستحضر معه منظومته التذوقية الخاصة المرتبطة بالمثل األعلى في الميدان الذي
يبدع فيه ،ليحاول إبداع األثر الجمالي قياساً لهذا المثل األعلى.
فما أكثر ماحاول المرء استرجاع مًلمح حبيبته مثًلً ،أو استرجاع مًلمح لوحة في ذهنه ،أو
حاول استحضار مشهد أو مشاهد من فيلم سينمائي أو مسلسل أو مسرحية ...بعد ذلك يحاول
وضع تصور لألثر الجمالي الذي يود إبداعه.
التذوق الطارئ:
هو خروج عن المألوف ،وهو في مجمل األمر شذوذ عن القانون ،وال غرابة أن يكون لهذه
الطارئات نتائج خاصة يقود للنتائج المتوقعة .ويمكن أن نميز بين ثًلثة أنوع من التذوق الطارئ
تقود إلى ثًلثة حاالت من االنفعاالت المتباينة:
-1االنفعاالت المشوقة:
عندما ينظر المرء إلى الموضوعات الجمالية بعين الحب ،فإنه يراها قريبة من معاييره
الجمالية ،موافقة لها بمعنى" ،كن جميًلً تر الوجود جميل".
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
فاإلنسان الذي ينظر إلى األشياء بعين المحبة ،ويعيش هذه المحبة سيجد في كل الموضوعات
الجمالية التي يصادفها من حركات اإلنسان ،ومن الحياة الكونية واالجتماعية ،سيجد فيها الجمال
الصافي.
وهذه حقيقة يدركها العشاق ويعيشونها ،وما أكثر ما قيل في ذلك ،ولعل من أطرف األمثلة
على ذلك قصة األعرابي الذي طلب منه أن يعرب عن مدى حبه لحبيبته فقال" :أرى ظل بيتها
أجمل من ظل بيت غيرها".
وكأنه هنا متمثل قول قيس بن الملوح في معشوقته ليلى حينما قال:
يتجه المرء في مثل هذه الحالة إلى إضفاء لبوس ذاتي على الموضوع الجمالي ،يرى من
خًلله مثله وقيمه الجمالية العليا متحققة في هذا الموضوع ،رغم أنه قد يكون مفتق اًر إليها في
الواقع أو ربما موجودة فيه فعًلً.
هذا يعني أن المرء المتلقي يجرد الموضوع أو األثر الجمالي من خصائصه الموضوعية
الواقعية ،أو لنقل إنه يتجاهل ما يتصف به الموضوع أو األثر الجمالي من خصائص وسمات
ومعاني ...الخ ،حيث يقوم بإسقاط المقومات والخصائص الجمالية التي يراها مثًلً أعلى على
الموضوع أو األثر الجمالي ،حتى يبدو الموضوع وكأنه يحمل فعًلً الصفات والخصائص والم ازيا
التي يحبها المرء في محبوبته ،فًل يرى الموضوع الجمالي على حقيقته وانما كما يريد أو يتمنى.
ولعلنا نذكر هنا ليلى العامرية التي فُت َن الناس بها لكثرة ما أبدع بها قيس روائع الشعر العربي،
حتى أن الخليفة استدعاها ليرى هذا الحسن والجمال ،ولكن عندما رآها ُدهش لشدة بعدها عن
الوصف الذي أورده قيس في شعره ،فقال لليلى العامرية :لست كما وصفك قيس ،فقالت :ألنك لم
ترني بعيني قيس.
هذه القصة ليست نادرة على اإلطًلق ،بل هي أكثر تك ار اًر في حياتنا ،وتبدي لنا كيف أن
الذات ال تبالغ بخصائص الموضوع أو األثر الجمالي ،ألن الذات تنظر بعين المحبة ،وتقوم
بإسقاط كل الخصائص والمزايا والسمات التي تحبها الذات وتفضلها ،ألن مشاعر الحب الجياشة
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
تدفع المرء لًلندماج بالمحبوب أو االتحاد فيه ،فإذا ما حدث ذلك يختلط على المرء بين ما يراه
وما يريده ،وما هو في الموضوع الجمالي وما هو عنده وهذا ما عبر عنه ابن خلدون بقوله:
"ولهذا تجد العاشقين مستمرين في المحبة ،يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم
بروح المحبوب ،وهذا سر تفهمه إن كنت من أهله وهو اتحاد المبدأ ".
هذا ليس مقتص اًر على العاشق والمحبوب فحسب ،بل على كل ما بين المرء ،وما يحبه من
الموضوعات الجمالية ،على اختًلف مضامينها وتباين أشكالها.
-2االنفعاالت المنفرة:
إذا كانت االنفعاالت المشوقة تدفع اإلنسان إلى رؤية كل المحاسن في المحبوب ،وفقاً لما
ارتسم في مخيلته من معاني الجمال السامية ،وبغض النظر عن المعايب ونواقصها ،فإلى أي
اتجاه ستقود هذه االنفعاالت المنفرة صاحبها ،ترى إلى فهمه كما هو ،أم إلى انتزاع صفات
الحسن من خصائصه أم إلى غير ذلك؟
يقول أبو الطيب المتنبي واصفاً اسحق بن إبراهيم التي تربطه به عداوة وكراهية قديمة:
يبدو جلياً أن االنفعاالت المنفرة ال تجنح بصاحبها إلى انتزاع صفات الحسن من الخصم
وحسب ،بل تقود إلى تصوير الخصم على نحو مسخي أو كاريكاتيري ،أي تجريد الشيء أو
الطرف المكروه من خصائصه الجمالية ،ورؤيته بمنظار المفارقة الضاحكة حيناً ،وحيناً بمنظار
التناقضات الساخرة ،حيث يقوم المرء بتجريد الموضوع من خصائصه وسماته الجمالية اإليجابية
خاصة المحاسن ،ليسقط على الموضوع بديًلً عنها كل مكروه ومفجوع بدرجة من الدرجات ،وهو
هنا ال يفهم الموضوع من الناحية الجمالية فهماً مقلوباً فحسب ،وانما يقلب فقط الخصائص
اإليجابية ،ويحل محلها قيماً سلبية بطريقة من الطرق تتناسب وشخصيته ،وعقليته ،وثقافته،
ولكنها على أي حال عملية تشويه للخصائص الجمالية للموضوع ،لتبدو متناقضة مضطربة قلقة.
وهذا ما نجده على نحو واحد في اآلثار التهكمية الًلذعة التي خلفها لنا الجاحظ والتوحيدي
وبرناردشو وموليير وغيرهم ،من ذلك ما أورده التوحيدي:
-قُ ِّد َم ألبي العيناء يوماً ق ْدر ،فوجدها كثيرة العظام ،فقال :هذه ق ْدر أم ْقبر؟
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ك أثْ َق ُل؟ قال :مافيهُم َب ْع َد الكبير أثق ُل من الصغير
أي بني َ
-سئل أبو عمارة ،قاضي الكوفةُّ :
إالّ األوسط.
سمع أعرابي دابة تعتلف في جوف الليل ،فقال" :إني ألراك تسهرين في مالي والناس -
نيام ،واهلل ال تصبحين عندي وباعها".
-قال ابن الجصاص الصوفي :دخلت على أحمد بن روح األهوازي فقال :ما تقول في
من ُخول؟
سمن ،على حافتيها ُكثبان من السكر ال ْ صحفة أ َُرز مطبوخ ،فيها نهر من ْ
َ
قلت :أبكي شوقاً إليه ،جعلنا اهلل واياك من الواردين عليه
الك؟ ُ
فدمعت عيناي ،فقالَ :م َ
ْ
إلبهام،
قلت :الغواصة :ا ُ بالغواصة والرد َادتَين ،فقال لي :ما الغواصةُ والردادتان؟ ُ
والردادتان :السبابة والوسطى...
الش َبع؟ قال :الشبعُ حرام ُكلُّهُ ،وانما أحل اهلل من األكل ما نفى َ
الخ َوى، حد ِّ -قيل لبخيل :ما ُّ
لناس في
هلك ا ُ
بين اإلنسان وبين المرح .وهل َ وحال َ
َ ق،
أمسك الرَم َ
الصداع ،و َ
َ وسك َن
َ
ط َنة واالحت َشاء؟ ضلُّع والب ْ الدنيا إال ِّ
بالش َبع والت َ الدين و ُّ
ِّ
قد يمر المرء بحاالت من التشتت الذهني ،وفقدان القدرة على التركيز ،كما قد يكون في حالة
غضب ،أو هيجان ،أو قلق ،أو حيرة ،أو سوى ذلك ،فًل يتاح له الحكم الصحيح الطبيعي على
ما يتلقاه من موضوعات جمالية ،أو أخًلقية ،أو اجتماعية ،ففي أي نحو تسير آلية التذوق
الجمالي أثناء التعرض لًلنفعاالت المشوشة؟
الحق أننا أمام آلتين من آليات التذوق الجمالي ،ذلك أن الذي يتلقى أث اًر جمالياً ،إما أن يأسره
الجمال ،أو أن يغلبه االنفعال.
وقد ذهب أرسطو ،وابن خلدون ،وشارل اللو إلى أن المعايشة الجمالية تلعب دو اًر كبي اًر في
تطهير االنفعال ،ويمكننا أن نضيف امتصاص حدة القلق والهيجان ،وتهيئة النفس لًلعتدال
والتوازن ،بدفعها إلى االستقرار ودفع التوتر االنفعالي على اختًلف أنواعه.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
وقد بدا هذا مؤكداً من خًلل العديد من األبحاث ،واتجه الباحثون النفسيون واالجتماعيون إلى
الحديث عن أثر هذه الظاهرة في التنشئة االجتماعية ،وضبط االنفعاالت وتوجيهها ،فماذا يعني
ذلك من ناحية التذوق الجمالي؟
قد يكون من التسرع االعتقاد بأن المعايشة الجمالية هنا حالة خاصة من حاالت االنفعاالت
المشوشة بمعنى أن المرء يجرد الموضوع أو األثر الجمالي من خصائصه وسماته ومزاياه
الجمالية ،ليسبغ عليها قيمه المستحبة المفضلة كما ّبينا قبل قليل ،أي على ما ترغبه الذات
وتتوخاه ،ألن في هذا ما يفسر لنا تخامد الهجيان ،أو خفة حدة القلق والغضب وتراخي الحيرة
بحصول المرء على شيء مرغوب محبب ،بمعنى أن الحقائق العلمية ال تناقض االعتقاد بأن
المعايشة الجمالية تسهم في التخفيف من حدة االنفعال.
لقد أثبتت بعض التجارب أن المعايشة الجمالية في أثناء االنفعال ،تسهم في توسع األوردة
الدموية التي تكون في حالة من االنقباض والتشنج اثناء الغضب ،األمر الذي يخفف من حدة
االنفعال ،ومن ثم تًلشيه خًلل وقت قصير وكأن األثر الجمالي يسري في الكيان سريان الدم في
أوعيته.
وهذا يعني أن األثر الجمالي بخصائصه ومزاياه ،هو الذي يفرغ الذات من خصائصها
وسماتها المكونة لمنظومتها التكوينية والتقويمية ،واعادة بنائها آنية على شاكلتها.
إن قيام عملية التذوق الجمالي على هذا النحو الذي تفرض خصائص الموضوع الجمالي ذاتها
على المتلقي ،وهيمنتها عليه ،أو على منظومة التذوق الجمالي لديه ،لتصدر حكماً مطابقاً لما
هو عليه الموضوع ،ليس يعني موضوعية الحكم الجمالي بالمعنى االصطًلحي ،بل بمعنى
الخصائص والصفات الجمالية التي يجتازها الموضوع الجمالي التي غدت بالنسبة للذات المتلقية
لهذه الحالة االنفعالية هي القيم العليا ،وكأنها هي القيم التي اصطنعها لتحاكم من خًللها
الموضوعات الجمالية.
وهذا ما يفسر لنا إعجاب المرء ببعض اآلثار الجانبية ،وأضرارها التي تحذو حذوها أو
تشابهها ،فقد يستمع المرء إلى أغنية ما وهو قلق ،وتخفف عنه بعض همه وقلقه ،فًل يلبث أن
تصبح هذه أغنية من المفضًلت لديه ،هي وما شابهها كًلماً وأنغاماً.
هذه الحالة ليست دائمة الحدوث عند الفرد كما أنها ال تنطبق على كل األفراد ،وانما تكاد
تنحصر بذواقة الجمال المختصين ،خاصة منهم الفنانين ،أي إن االنفعال الثاني هنا هو الذي
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
يغلب المرء على أمره ،وال يترك للجمال مجاالً ولذلك ال نستطيع القول :إن ثمة معايشة جمالية البتّة هنا،
ومن ثم فإن التذوق الجمالي يكون حتماً تذوقاً ناقصاً ،والحكم الًلزم عن ذلك يفتقر إلى العناصر
الخاصة في كل ضرب من أضراب التذوق الجمالي ،وان كان أقرب شيء إلى التذوق التلقائي،
إالّ أنه أشد ضبابية وغموضاً.
أي إن الرسائل المعلوماتية الواردة من الموضوع ال تصل كاملة وال واضحة ،ويمكن القول :إن
منظومة التقويم الجمالي ال تكون في ساحة الشعور الجمالي في أثناء التلقي.
**************************************************
وشما على كتفه أو على يده فهو يتزّين به ،ويدلل من خًلله على عشيرته الرجل حين يضع ً
التي ينتمي إليه ،إلى اآلن البدو يقومون بالوشم في الظهر أو الوجه أو الذقن ،ولك ّل قبيلة وشم
أيضا. ًّ
ودينيا ً جانبا سحرًّيا
أن فيها ً
خاص بها ،ولو عدنا إلى أصل الوشوم لوجدنا ّ
ٌّ
الوشم قد يقي من األرواح الشريرة ،عندما َيش ُم الرجل كتفه أو يده فسيشفى من األرواح أو من
معين.
الوشم رمز ديني إلله ّ
الشياطين ،و ُ
في الوشم وحده نحن أمام جملة من التأويًلت منها :الجمال ،السحر ،الدين ،االنتساب لهذه
القبيلة أو تلك.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
كائنا مختلفًا عن بقية
إ ًذا الجمال صاحب اإلنسان منذ بداياته األولى ،ومنذ أن وعى نفسه ً
ثًل
الكائنات األخرى حوله ،والجمال ليس في الشكل فقط ,إنما في السلوك ،فطريقة المشي م ً
معين ،عندما ندخل إلى كنيسة أو إلى جامع فيجب أن ندخل بطريقة معينة ،أي
تدل على ذوق ّ
إن احترامنا للمكان يجب أن ينعكس في السلوك ،وهذا يدخل في إطار الذوق االجتماعي الذي
يرتب طبيعة الجمال ويحددها في الحركات والسلوك والكًلم.
زميًل لنا؟
كبير كما نحادث ً
اما ًا
هل يجوز أن نتحدث مع من نحترمه احتر ً
هذا كلّه يدخل في الدرس الجمالي باإلضافة إلى الشعر ,الرسم ,الموسيقا ,النحت ,الزخرفة,
العمارة.
شد أنظارنا ،ننصرف عنها ،نحن حين نتلقى الفنون فهذا ألننا نحب أن
اللوحة الفنية التي ال ت ّ
نتلقى الجمال ،والفنون الجميلة تجعلنا ًّ
ثقافيا نسعى إلى الجمال ،أما الفنون التطبيقية فتجعلنا
نعيش في وسط جمالي فهي تحسن حياتنا وتجملها.
لدينا األفق ،السماء ،النجوم ،الشجر ،الغابات ،كل ما يحيط بنا في الطبيعة يدخل في إطار
أحيانا نستحضر البحر أو النهر
أحيانا نستحضر الطبيعة كلها في أصيص من الورد ،و ً
الجمال ،و ً
من خًلل بحرة صغيرة في البيت ،والبيوت العربية في دمشق وحلب وحماة...إلخ كانت كلها
تشتمل على بحرة في المنتصف.
إ ًذا الجمال موجود في األرض وفي السماء ،وعلى علم الجمال أن يحدده وأن يوضحه بوصفه
مادةً نظرية تجريدية ،أي نحن سنجرد الجمال من ثيابه ،وسنقدم الجمال بوصفه فكرة ،لذلك
مما هو عليه.
جماال ّ
ً سيكون أق ّل
لو أتينا بلوحة ،ووضعناها على السبورة ،وحاولنا أن نتأملها يمكن أن نستمتع بخطوطها،
لكن لو سألتكم عنها دون أن تكون موجودة ،فستقولون :البألوانها ،وبتناسقات األحجام فيهاْ ،
الكًلم على الجمال يحتاج إلى مقدرة نظرية معينة.
َ ألن
نعرف ،لماذا؟ ّ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
نعبر عنه إال إذا امتلكنا مقدرة
لكن في الغالب ال نستطيع أن ّ
نحن نستطيع أن نعيش الجمالْ ،
حسي أي من خًلل معرفية تذوقية عالية وهم قلة ،والشعراء والفنانون يستطيعون التعبير بشكل ّ
لنحات
سألت الشاعر أو الروائي أو الفنان التشكيلي أو ا ّ
َ لكن حتى لو
اإلنتاج ،ينتجون الجمالْ ،
لماذا فعلت ذلك؟ لماذا قلت هذه الصورة الفنية؟ ربما تلكأ في اإلجابة ،لماذا؟
ألنه كان في حالة تجربة انفعالية ال تسمح له بأن يفكر فيها نظريًّا ،إنما يعيشها ويقدمها
ّ
للجمهور.
أيضا
ك ّل فتاة لديها تصور عن فارس األحًلم بمواصفات جمالية عديدة ،مثلما يحلم الشاب ً
بمثَل أعلى في الجمال.َ
ديدا.
أن هنالك إربا ًكا ش ً
الحقيقة ّ
جميًل ،ولو سلمنا بهذا فيكون كل األبناء بعيون أمهاتهم جميلين مع أنهم قد
ً قد ال يكون
يكونون قبحاء!
جميًل
ً أحيانا أنا أرى هذا الشيء
قبيحا بالنسبة إليك ،و ً
أحيانا ما هو جميل بالنسبة إلي قد يكون ً
ً
قبيحا ًّ
جدا ،فسيكون هناك جميًل ًّ
جدا وأنت تراه ً ً كنت أرى الشيء
عاديا ،لكن إذا ُ ًّ
جدا وأنت تراه ًّ
إرباك ومشكلة ،هناك مساحة يتحرك فيها الذوق ،فبعض األشياء يبرز فيها الذوق الفردي ،وتبرز
فيها الرغبات والمشاعر الخاصة بقوة ،وهنالك مساحة يشترك فيها جماعة كبيرة من الناس،
وهنالك مساحة يشترك فيها المجتمع ،وهنالك مساحة تشترك فيها اإلنسانية جمعاء.
ِ
الجمال: نسبية
أن الجمال بالنسبة إلي غيره بالنسبة إليك ،وغيره بالنسبة إلى
مقولة (الجمال نسبي) قد توحي ّ
حد ال نستطيع فيه أن نتحدث عن جمال عام؛ بل نتحدث عن جمالنا الذي غيرنا...إلخ ،إلى ٍّ
نحبه ،وعندما نتحدث عن الجمال الذي نحبه ،فنحن ال نتحدث في العلم ،نتحدث في األشياء
والمشاعر الشخصية.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الجمال بالتأكيد فيه مساحة نسبية ،ولكن ليس كله نسبيًّا ،فيمكن أن أنصرف إليه بنسبة كبيرة
أيضا هنالك مساحة يمكن أن نطلق
قبيحاً ، ًّ
جدا ،يأتي آخر فينصرف إليه بنسبة أقل ،لكنه ال يراه ً
قبيحا.
جميًل وليس ً
ً عليها مصطلح الحياد ،أي ما ليس
تشد انتباهنا ،وقد تشد انتباه سوانا. هناك أشياء نعدها جميلة ًّ
جدا وهناك أشياء ال ّ
ليست الذاتية بالمعنى الفردي الدقيقّ ،إنما الذاتية االجتماعية ،فالمجتمعات لها أذواقها
وتفضيًلتها المعينة ،الذاتية ال ينبغي أن نفهمها على أنها فردية بحتة ،إنما على أنها اجتماعية،
هذا المجتمع يفضل هذه الجماالت وذاك المجتمع يفضل تلك الجماالت ،بهذا المعنى نحن أمام
ًّ
يابانيا فسنقف أمامه محتارين، نسبية ،نحن اعتدنا في بيئتنا على وجه معين عندما نرى وجهًا
جميًل قد ال نراه
ً وكذلك الزنوج نستغرب شكلهم؛ لكن يصعب أن نقول :إنهم قبحاء فما ال نراه
قبيحا في الوقت نفسه.
ً
إن الشكل األجمل هو الشكل البرونزي ،في حين أن في أوربة الشكل األجمل
يمكن أن نقولّ :
هو األبيض ،وبالتأكيد الشكل األجمل هو السمرة التي تقترب من البياض لدى الهنود الحمر،
واللون األجمل بالنسبة لألفريقي هو اللون األسود اللماع ،الذي لكثرة سواده يلمع.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
-2الجمال في الفنون الجميلة التطبيقية.
الجمال المطلق:
مجرد ال نستطيع أن نلمسه ،وليس ثمة جمال مطلق إال اهلل سبحانه وتعالى،
المطلق ّ
ُ الجمال
أن الجمال اإللهي المطلق ليس مادة للدرس ،نحن معنيون بالجمال
وما سواه ليست مطلقات غير ّ
أن الجمال النسبي له مستويات.
النسبي غير ّ
نسبي يكاد أن يكون مطلقًا عبر التاريخ وكذلك جمال القمر والسماء الصافية
ّ جمال الشجرة
أن اإلطًلقيةَ هنا
عموما عبر تاريخ البشرية كانت جميلة أو جليلة بمعنى ّ
ً والبحر ،والطبيعة
إنسانية وليست إلهيةً.
ّ إطًلقية
الجمال المطلق هو الجمال اإللهي وما سواه جماالت وجًلالت نسبية ،بعضها يصل إلى حد
إنسانيا بمعنى أنها عبر تاريخ اإلنسانية ع ّدت جميلة ،وبعضها ال يصل.
ً اإلطًلقية
الجميع يحب البحر ،هنالك من يخاف البحر ،هذا مريض والمريض ال يقاس عليه ،وكذلك
صة
األمر بالنسبة إلى السماء الصافية أو المتكدرة بالغيوم محبوبة ،ألن هذه تولد مشاعر خا ّ
أيضا.
وتلك تولد مشاعر خاصة ً
فالسماء يمكن أن تكون جميلة ويمكن أن تكون جليلة ،وال يمكن أن تكون قبيحة ،وكذلك حال
البحر والنهر والشجر .ويمكن لشجرة أن تكون أجمل من أخرى ،لكن ال يمكن أن تكون قبيحة،
تجاور لقيمتين
ًا ًّ
جماليا بل يمكن أن نرى فيه النسبية ال تعني أننا أمام شيء ،يمكن أن ُيلغى
كالجميل والجليل.
فمثًل نحن أبناء المناطق السهلية نندهش بارتفاع الجبال ،وأبناء المناطق الجرداء يندهشون
ً
بمناطق الخضرة الممتدة على الجبال ،ابن الجبل قد يندهش في ذلك االمتداد في السهل أو في
الصحراء.
الصحراء قد تكون مخيفة ،لكنها ليست قبيحة ،المشكلة أننا نخلط بين المصطلحات فنع ّد
قبيحا ،المخيف إذا نظرت إليه من خًلل شاشة التلفزيون هل يبقى مخيفًا؟ أال يعود
المخيف ً
جميًل؟ بلى.
ً
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
أنت ال يمكن أن تقف أمام وحش مفترس ،وتقول :هذا جميل ،إذا وقفت أمامه فلن تستطيع أن
تقدر جماله أو جًلله ،ألنك مشغول بالهرب ،لكن لو رأيته من وراء بلور أو من خًلل فيديو هل
تخاف منه أم تتأمل فيه؟ تتأمل بمعزل عن الخوف.
هذا ما يجعلنا نقول :الخائف ال يقوم جماليا ,والجائع ال يقوم جماليا .والمثل يقول :الجوع
قيمه ألن الجائع يأكل ويرى كل ما يأكله ًّ
شهيا لذي ًذا ،هو ال ي ّ أمهر طباخ في العالم ،لماذا؟ ّ
تخير ،ويبدأ يفكر بالجمال.
أصًل ،لكن بعد أن يشبع يبدأ يال ّ
ً
حب األم البنها ال ينطبق عليه الموقف الجمالي ،ألنها تنطلق بدافع غريزيٍّ ،إ ًذا المشاعر
ّ
القاهرة والحاجات الغريزية تبعدنا عن الموقف الجمالي وكذلك مسألة االستمًلك ،بمجرد ما
شيئا وحدي فأنا ما شعرت بجماله بقدر ما أحببت أن أعبر عن أنانيتي.
تملكت ً
سنحاول اإلجابة عن تساؤالت علم الجمال ،وبالتأكيد لن نستطيع أن نجيب عنها كلها ،ألن
كثير من األشياء وليس كلّها ،منها
الفصل ال يسمح لنا بقول ك ّل شيء إنما يسمح لنا بأن نتلمس ًا
مثًل:
ً
مسألة الجميل والنافع ،هل النافع جميل؟ هل هو جميل ،ألنه نافع؟ هل نلبس هذا اللباس ألنه
جميل أم ألمر آخر؟
***********************************
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
مديدا ،وهي تعيش الجمال من غير أن تعيه ومن غير أن تفكر فيه ،فع ًّليا
دهر ًعاشت البشرية ًا
لم يبدأ التفكير في مفهوم الجمال إال مع الفلسفة والفكر النظري عامة ،أي قبل الميًلد بقرون
ي عن
سلوكي أو تصور ٍّ
ٍّ فني أو
قليلة فقط ،في حين أن ما قبل الفلسفة كان عبارة عن تعبير ٍّ
ًّ
فلسفيا. تفكير نظرًّيا تأمليًّا
الجمال ،لكنه ليس ًا
إ ًذا نزعم أن الجمال أصل من أصول العًلقات اإلنسانية ،لم تشهد العًلقات عبر تاريخها
معبر عنه لدى أقدم الشعوب التي وصلتنا
دائما نجد الجمال معا ًشا أو ًا
يابا ألصل الجمال فيهاً ،
غ ً
آثارها عبر علم اآلثار ،أو عبر ما وصلنا عنها من خًلل األساطير والحكايات.
جمالي.
ٌّ ما يهمنا في علم الجمال ّأنه ٌّ
كائن
أن اإلنسان كائن اجتماعي فنعني أنه الكائن الوحيد الذي يعيش بالجمال ويبدعحين تحدد ّ
الجمال ،ويفكر فيه ،ليس بإمكان الحيوانات األخرى أن تعيش الجمال أو أن تبدعه ،هنالك غريزة
فيزيولوجية ،وهي أنها تتصرف تصرفًا ما في أشهر معينة ،هذا ليس موقفًا جماليًّا ،إنما تعبير
عن غريزة عضوية تهدف إلى التواصل الجنسي الستكمال النسل واستم ارره.
الغريزة هي غريزة ،والموقف الجمالي موقف مضاف على الغريزة ،ال العصافير وال الطيور وال
غيرها لديها موقف جمالي ،نحن نستمتع بصوتها ،لكنها ال تعرف ،واإلنسان هو الكائن الوحيد
الذي يبدع ،ويعبر عن الجمال.
هذه الحساسية الجمالية لدى اإلنسان ال نستطيع أن نتحدث عن بدايتها ،ضع في اعتبارك أ ّن
شيئا قد يصل إلى مليون سنة.
طويًل من الزمن عاشته البشرية ال نعرف عنه ً
ً دحا
رً
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ال نعرف عن البشرية إال ما بعد العصور الحجرية ،أي من عشرة آالف سنة قبل الميًلد ،بل
ال نعرف عن البشرية معرفة دقيقة إال ما بعد العصر الحجري الحديث ،أي في القرن الرابع
ولخامس قبل الميًلد .أما الحضارات الكتابية مثل :بابل ،أوغاريت ،فهذه ال تعود إال إلى ثًلثة
آالف سنة قبل الميًلد.
نحن ال نستطيع أن نتحدث عن اإلنسان منذ نشأته األولى فذلك في علم الغيب ،ألن اآلثار
معدومة في تلك الفترة ،نعرف أشياء بسيطة من خًلل بعض اللقى األثرية ،أو بعض األدوات
المستخدمة كالسكين وما يتعلق بالصيد والقطاف...إلخ.
بناء على ما بين أيدينا من آثار ولقًى تعود إلى العصور الحجرية.
نحن نستطيع أن نتوقع ً
مستقًل عن
ً السكين ليس من الطبيعة ،إنما من صنع اإلنسان ،لكن بمجرد صنعه أصبح
الطبيعة وعن اإلنسان.
في العصر الحجري السكين كان من الحجر ،وفي العصر البرونزي كان السكين من البرونز.
-3ألنه ذو رموز فنية جمالية ،وعدد من المشتغلين بعلم اإلنسان (األنثروبولوجيا) يرون أ ّن
اإلنسان كائن ذو رموز ،لماذا؟ ألنه أحاط حياته بالرموز ،أبدع الرموز وعاش فيها ،نحن اليوم
نعيش بالرموز ،اللغة رموز ،اللباس الذي نحن فيه رمز ،اللحية أو عدمها رمز ،الشارب أو عدمه
رمز ،العمامة أو عدمها رمز.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
معمما نقول :هذا شيخ أو هذا رجل دين ،نحن نرى الظاهرة وما ترمز إليه، ً بمجرد أن نرى
لكننا نقول :الكائن ذو رموز فنية ،أي يبدع الرموز ويتعامل معها ًّ
فنيا.
كأن هذا اللباس أصبح جزًءا من المهنة نفسها أو االختصاص نفسه ،وهنالك طرفة من
حتى ّ
فنانا كان له (سكسوكة) وحين حلقها لم يعد يعرف الرسم ،وهي طرفة تدل
أن ً أيام غوار وهي ّ
كأنه هو الفن نفسه.
أن هذا الشكل أصبح ّعلى ّ
شخصيا أزعم
ً -4ألنه منذ وعى وجوده على هذه األرض وعى نفسه بوصفه كائ ًنا جماليا:
أن الجمال هو أص ُل األصول حتى في الديانات ،حتى الدين الجما ُل أصل فيه ،ما ال تعتقده
ّ
عباد اهلل تعالى ،في الحالتين الجمال
جميًل ال تعبده سواء أكنت من عبدة األوثان أم كنت من ّ
ً
أصل األصول.
هذا ما يقوله ابن الدباغ المتصوف األندلسي الشهير :األقوام األولى عبدت النار أو الحيوان أو
النبات بسبب ما رأته فيها من جمال ،أي لو لم َتر األقوام القديمة في النار والحيوان والنبات
جماال لما عبدتها.
ً
قنوات الجمال:
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
قبيحا ,يمكنه أن يؤدي
ً جميال أو كان
ً يمكن للشيء نفسه أن يؤدي الغرض إذا كان
الوظيفة ,لكن اإلنسان لم يكن يكتفي بالوظيفة إنما عمد إلى تحسين الشكل الذي يؤدي
الوظيفة.
ما وصلنا عن عًلقة اإلنسان من حوله هو الفن ،ولو أردنا أن نسترجع اللقى الصغيرة والكبيرة
من المواقع األثرية لعرفنا أن اإلنسان ما صنع تلك األدوات إال وفي ذهنه أن تكون جميلةً وأن
تؤدي وظيفتها.
أدوات الزينة وطرقها هي تعبير مباشر عن مفهوم الجمال عند القدامى ،اإلنسان ذاك الحين
في سعيه إلى التزين صنع أدوات جميلةً للزينة ،هو يتزين بأدوات جميلة وهو في الوقت نفسه
يتزين ضمن اعتقاداته السحرية ،حتى الزينة ال نستطيع أن ُن ِّبرئها من الجانب السحري.
الوشم شكل من أشكال الزينة ،كان القدامى يشمون أجسادهم وأجساد أطفالهم العتبارات قبلية
معينا يدل على قبيلة معينة ،لكن الوشم بطريقة خاصة يمكن أن يكون داللة سحرية ضد
وشما ً
ً
تعبير عن الجمال في الوقت نفسه ،فهو تعبير عن:
األرواح الشريرة ،كما يمكن أن يكون ًا
-1النسب.
-3الجمال.
علما أن اإلنسان القديم أكثر تز ًينا من اإلنسان الحديث بكثير ،اإلنسان القديم يضع الحلق في
ً
عجيبا ،وهناك قبائل كانت
ً تبيضا
ً أذنيه وأنفه وخديه وشفتيه ،وهناك قبائ ُل كانت تَُبِّيض األسنان
سود األسنان ،وهناك عادة برد األسنان.
تُ ّ
تظهر بعض األفًلم التي تتحدث عن الهنود الحمر بعض الرجال دون أسنان أمامية ،هي
عادات تتصل بالجمال.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
لو بحثت في الشبكة عن عادات الشعوب لوجدت العجب ،وفي الرأس وحده هناك الشيء
قديما كان الوشم بحسب الحاجة السحرية
أيضا الوشوم ،كل الجسد يمكن أن يوشمً ، العجيبً ،
وبحسب وظيفته التي تطرد األمراض األوجاع والشياطين ،وما إلى ذلك لدينا.
في هذه المرحلة ال نستطيع أن نتحدث عن الجمال صرفًا صحيح أننا قلنا :الجمال أصل
األصول ،لكننا ال نزعم أنه كان بر ًيئا من التداخل مع أشكال الوعي األخرى فالجمال ال يخلو من
جوانب سحرية أو دينية أو نفعية ذاك الحين.
ُّ
فالفن قناة أساسية في إذا أردنا أن نتعرف إلى الجماليات التي كان اإلنسان القديم يعتقد بها
ذلك ،بل لعل الفن أولى تلك القنوات التي وصلتنا.
إن األسطورة هي الشكل الديني السردي ،في األسطورة نرى آلهةً نعرفه باألسطورة؛ أي ّ
وبشرا ،فاألسطورة هي القناة الثانية التي
اما ً
أنصاف آلهة ومًلئكةً وشياطين وعماليق وم َردةً وأقز ً
َ و
حملت الوعي الجمالي بالنسبة إلى اإلنسان القديم ،حملت ذلك بعد الفن ،وهذا ال يعني أن بينها
طويًل من الزمن.
ً ردحا
وبين الفن ً
يعد إلى األساطير البابلية والمصرية القديمة واإلغريقية فسوف يفاجأ بأن األسطورة حملت
من ْ
ًّ
لغويا أشكال اآللهة وجمالها وجًللها وأشكال المردة والشياطين وقباحاتهم وفظاعاتهم.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
تعرف الجمال والقبح والفظاعة في الوقت
الحظوا االنتقال من الجميل إلى القبيح ،هذه أسطورة ّ
اضحا في الطبيعة واألنهار.
نفسه ،هنالك الكثير من األساطير التي تقدم الجمال و ً
الينبوع له حورية للطافته ،وال يعقل أن يكون له إله جبار ،أما البحر فقاس ،ولذلك ُرمز له بإله
جبار.
نعطي أمثلة :إنسان ما قبل التاريخ حين كان يرسم غزًاال على جدار الكهف ،هل كان يرسم
الغزال العتبار الجمال البحت أم العتبارات أخرى؟
اإلنسان القديم يرسم الغزال العتبار التعبد أو للتأثير سحرًّيا ،أو للتدرب على الرمي
حجر على رسم الغزال كأنهم سحروا الغزال وبمجرد أن
واالصطياد ،يعتقدون أنهم بمجرد أن رموا ًا
يرموه بحجر فسوف يقع ويصبح صيدهم ،كانوا يتدربون من غير أن يعرفوا ذلك وكانوا يظنون
أنهم يسحرونه فقط.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
8
ألنه طوطم بالنسبة إليه.
ننحن نميل إلى أنه كان يرسمه لًلعتبارات الثًلثة ،وقد يرسمه ّ
علما
مسألة التداخل بين الجمالي والسحري والديني تكاد تكون مؤكدة في تاريخ اإلنسان القديمً ،
أن هناك فرقًا بين السحر والدين ،السحر يتوجه إلى الجزئيات ،أما الدين فيتوجه إلى الكليات.
لذلك ال تناقض بين السحر والدين في األديان القديمة ،السحر يذهب إلى التأثير المباشر في
أما الدين فهو وعي كلي للحياة ،لهذا قد تلتبس علينا بعض الطقوس ،األديان تقوم
هذا الموضوعّ ،
على الطقوس ،الصًلة والحج والصوم طقوس.
ضيا ،في
سماويا أم أر ً
ً متدينا سواء أكان الدين
ً البد أن تقوم بالطقوس أو الشعائر إذا كنت
ُ
خاصة ،الكاهن كان يقوم
ّ مرحلة التداخل بين السحري والجمالي والديني كانت هناك طقوس
ببعض الحركات لتوليف القبيلة على الدين أو المعتقد ،وهذه الطقوس السحرية أو الدينية فيها
جوانب جمالية ،لماذا؟
ألنها تؤدى بطريقة خاصة بها ،وتستطيع أن تعزز أو تخلف الرهبة أو المحبة أو الطمأنينة، ّ
ما قيمة الدين إذا لم يخلف طمأنينة فينا؟ ال شيء.
تلك الطقوس تؤدى بطريقة جمالية تعبير عن الطمأنينة والرهبة وعن جملة من المشاعر.
*************************************
-28الطوطم :كلمة هندية ،تعني الشيء المعبود من النبات أو الحيوان ،ولكل قبيلة رمز طوطمي ،وهناك مرحلة تُس َّمى
الطوطمية ،وال يجوز لعبّاد الطوطم أن يتزاوجوا.
- 29شاعر وكاتب فرنسي شهير ،اشتهر ببساطة كلماته وسالسة قصائده ،كما اشتهر بكتابته للقصص القصيرة وسيناريوهات األفالم،
وترجمت أعماله إلى عشرات اللغات.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
كيف نستنشق الجمال؟ كيف نعيشه؟ ما الذي يشدنا إليه؟ ما المشاعر التي تنتابنا أمامه؟
نشير إشارة سريعة إلى أن الجمالي يحدد بكلمتين أساسيتين هما :المثير الحسي االنفعالي.
كيف نستقبل هذا المثير؟ هل نستقبله بمعناه أم نستقبله بشكله؟ لماذا أحسستم بالغرابة؟ ما
الذي شدكم في هذا المشهد؟ الذي يثيرنا يخلف فينا لذةً ما ،إما األنس أو الطمأنينة أو ألم النفور،
انفعالي ينعكس لذة فينا.
ٌّ قبيحا نمتعض ،وهذا المحيط أثر
شيئا ًفعندما نرى ً
اللذة الجمالية:
ليست لذة الطعام والشراب التي هي لذة حسية عضوية صرف ،يتلذذ بها اإلنسان مثلما يتلذذ
بها الحيوان ،اللذة الجمالية حسية في األصل ،إذا لم نلتق ًّ
حسيا مع األشياء ال نحس اتجاهها
بإحساس اللذة أو األلم.
اللذة الحسية تشملنا كليًّا ،في الطعام والشراب نتلذ شهويًّا بحاسة الذوق ،أما حاستا البصر أو
السمع فنلتذ بهما ،لكن ليس بالمعنى الحسي للكلمة ،إنما نلتذ بالمعنى النفسي الروحي.
أنت تعيش لذة الحواس ،اللذة التي يخلفها الجمال عضوية بحت ،ثم تنعكس راحة نفسية ،أي
معنى
إن هذا الشكل مريح لي نفسيًّا ،بعض األشكال نلتذ بها ،لكنها ال تشكل راحة ،ألنها تحمل ً
غير مرغوب بالنسبة إلينا ،في اللذة الروحية نحس بتخيًلت وتصورات تنسجم مع ما نحلم به
َ
حسيا ونفسيا وروحيا.
ونتمناه .الجمال يحقق وجودنا كله ً
الحواس التي لدينا ُخلقت لكي تستوعب العالم كله من حولنا ،ليس هنالك معطًى من معطيات
هذا العالم المادية إال وله مقابل في حواسنا .العالم ينقسم إلى روائح ،طعوم ،مسموعات ،مرئيات،
المرئي المسموع ،الملموس .انظر إلى الطبيعة فسوف تحس بأحاسيس متنوعة ،أمامك المبصرات
ات
خاص فينا ،نهاي ُ
ّ كلها ،ولديك النسمة اللطيفة التي لها عًلقة بالملمس ،واللمس ليس له عضو
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
األعصاب اللمسية تتوزع في كل جسدنا ،فنحس بالنسمة أينما جاءت على جسدنا بعكس حاسة
الذوق والشم.
الشكل:
نحن نستمتع باألشكال ،أشكال المادة ،مشهد الحركة يشد انتباهنا ،ويشعرنا براحة ما ،نحن
نحس بهذا االمتداد الذي أمامنا ،االمتداد شكل ،ألننا نراه ،بمجرد لمسناه أو تذوقناه أو أحسسنا به
فهو شكل ،السماء كلها شكل ونستوعبها كلها.
سموا ،نحن أمام مفهوم جمالي خاص هو السامي ،يجعلنا نتسامى نندهش
فالسماء تمثل ً
نعجب بهذا الشكل الكبير مع شيء من الغرابة.
ولو كانت السماء مضطربةً بالغيوم السوداء التي تكاد تدخل في حرب فيما بينها لما شعرنا
بهذا اإلحساس ،هذه السماء غير تلك بالمعنى الجمالي.
ًّ
جماليا ،ألن أي إضافة إلى األشياء سوف تعني إضافة جمالية ولذوية ،إذا كنا نحن نتحدث
خاصا يختلف عن إحساسنا عندما نكون في
ًّ إحساسا
ً أمام مكان فارغ فسنحس باألشياء واألشكال
الصفاء ومن حيث
ُ مكان مزدحم .السماء هي هي من حيث االرتفاع لكنها ليست نفسها من حيث
التجهم .تصوروا الحديقة خالية من المارة سيكون لها إيقاع نفسي خاص.
لو كان لي أن أختار بين شجرة النخيل والشجرة المنسقة الخترت شجرة النخيل ،ألنها تركت
تنمو بحريتها ،شكلها يبدو عشو ًّ
ائيا ،وهو ليس كذلك ،بينما الشجرة المنسقة ما عادت شجرة.
الشكل في ذاته هو المثير األول لالستمتاع الجمالي ,ما ال شكل له ال نستطيع أن نتخذ منه
موقفًا جماليا.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
لوح الخشب أو األنابيب أو األسًلك هي مشهد ال يثير ،هو مجرد شكل غفل غير مثير ،ال
نحس اتجاهه بأي إحساس ،بينما أي شكل آخر أمامنا يشد انتباهنا بزخارفه وألوانه وتكوينه العام
وجزئياته.
قد ُّ
ننشد إلى الحجر النافر األملس والى لونه المتدرج ،التدرج باللون والشكل والكتلة هو ما
إحساسا جماليا ما.
ً يجعل المشهد يؤثر فينا
نحن بشر ،وألننا بشر نرى أن األشكال ذات إيحاءات أو ذات دالالت ،أو ذات معان ،ما من
عنى وداللة .فالشكل الذي يشد انتباهنا سوف يوحي
شيء يقع عليه ذهن اإلنسان إال ويصبح ذا م ً
إلينا بشيء ما.
قبل قليل تحدثنا عن السماء التي تكاد غيومها تحترب فيما بينها ،هذه الداللة التي وصلتني
من هذه السماء المتجهمة ما كان لها أن تكون لوال تلك الحرب التي عشناها.
عندما تقول( :الحرب اللطيفة) فهذا موقف جمالي ،وهذه السخرية تعني أنك تعبر عن رفضك
للحرب ،ال يمكن أن نسخر ممن نحبه ،قد تمزح مع أبيك من غير أن تسخر ،فالسخرية هي
موقف جمالي من العالم حولنا.
المشكلة أن نتوجه إلى الشكل بحسب معناه ،نحكم على الشكل من المعنى فيكون المنطلق
معنويا وليس ًّ
حسيا ،وأتمنى أال يذهب ذهنكم إلى مسألة اللفظ والمعنى التي مرت بكم في النقد ًّ
العربي القديم.
نحن نتحدث عن شكل نحن أعطيناه المعنى/الداللة ،عندما نتوجه إلى الشكل لنحقق المعنى
فنحن نرتكب خطأ ،التوجه الجمالي توجه إلى الشكل ثم إلى استبيان الداللة ،يجب أن نستبين
داللة هذا الشكل.
المزارع ال يعنيه من الشجرة إال ما تثمره ،أما المتنزه فقد ال تعنيه الشجرة المثمرة ،إنما تعنيه
الشجرة التي توحي إليه إيحاءات خاصةً ،هو يتوجه إلى الشجرة من غير النظر إلى ثمارها .نحن
اآلن متنزهون ،ما الذي يعيننا إذا كانت الشجرة مزهرة؟! إزهار الشكل يضيف إلى الشكل ،فهي
أيضا.
أغصانا فقط ،إنما هي أزهار ً
ً اق و
ليست أور ً
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ًّ
بستانيا ال يعنيه شكل الشجرة إال إن كان شكلها يعني أنها سوف تثمر ،أو إن المزارع بوصفه
كان شكلها يدل على نفعها .لكن البستاني نفسه قد تأتيه لحظات يرتاح فيها من التعب فيتأمل
أما إن جلس يحسب كم ًّ
جمالياّ ، األشجار ،فيقول :سبحان اهلل ما أجملها! عندها يكون قد عايشها
ستثمر له عندها نكون أمام الحالة النفعية ،هذا يحصل في العلم ،فالطالب ال يهمه إال المعلومة
واالمتحان ،ما الذي يمنع أن يأخذ الطالب المعلومة ويتوسع بها ويستمتع ويتنور؟!
ال تناقض بين المعلومة واالستمتاع .حديثنا كله أساسه ما أحسسنا به ،ال السماء وال الحديقة
ستؤثر بنا إذا خرجنا من االمتحان منزعجين.
البد من توجه قصدي ،اتجاه الجمال ال نشعر بالجمال إال إذا قعدنا
األلم يبعدنا عن الجمالُ ،
شهويا وليس جماليًّا،
ًّ في أحضانه ،فاإلحساس بالجمال إحساس قصدي ،بعض من يأكل يستمتع
لكن منظره مثير حسيًّا و ًّ
انفعاليا.
في الفن نحن أمام حاسة واحدة ،أما بقية الحواس فتعمل من خًلل الذاكرة ،أنا أستمع إلى
تحديدا ،وليس من الممكن أن أستمع إليها
ً سورة قرآنية ،قصيدة معينة ،أستمع إليها بحاسة السمع
بالبصر.
لكل حاسة ذاكرة حسية ،عندما نمسك وردة ونشمها أال تذكرنا بعطر معين ،بوردة معينة كنا قد
مررنا بها ،حاسة الشم عندما تتلقى األشياء تتلقاها من خًلل خبرتها ،ولذلك نقول :هذه الرائحة
تشبه رائحة القرنفل .إ ًذا للحواس ذواكر ،هذه الذواكر تعمل في الفن بوصفها مساعداً للسمع أو
البصر.
هنالك فنون ال نستطيع أن نتعامل معها إال بحاسة البصر ،هناك فنون ال نستطيع أن نتعامل
إال بحاسة السمع ،أما في الطبيعة فالحواس كلّها تعمل .نحن اآلن نرى ،نسمع ،نشم ،نتأذى
ربما ،نستمتع بأشعة الشمس ،كم حاسة استخدمنا؟ (البصر ،السمع ،الشم ،اللمس).
اس في الوقت نفسه في هذا الموقف ،هذا يعني أن دخول الطبيعة إلينا متعدد األقانين
أربعُ حو ّ
(القنوات) ،لذلك قد يصعب علينا التركيز أمامه على شيء جمالي معين .فنحن نحار هل
سنتأمل بصرًّيا أو نلتفت إلى الروائح أو النسمات اللطيفة أو نستمتع باألصوات؟
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
صحيح أننا نفتقد التركيز بنسبة ما ،لكننا نعيشه ،في الفن التركيز أعلى والتخيل كذلك ،في
ألن الذواكر تعمل باإلضافة إلى قوة التصور.
الفن نركز ونتخيل لماذا؟ ّ
أجمل األشكال هي األقواس ،أما األشكال الحادة فهي بعيدة عن الجمال ،وهذا ما يجعل جلسة
الطًلب اآلن رائعة ًّ
جدا ،األقواس جميلة ألنها لينة ومرنة.
البن له رائحة خاصة ،الكمون له رائحة خاصة ،وكذلك الفلفل والبهارات بأنواعها ،كل نوع له
رائحة خاصة به .سألت نفسي ما هي دالالت هذه الروائح؟ فلم أجد إجابة ،قررت أن أذهب إلى
العطار ،ذهبت إليه وسألته عن دالالت الروائح المختلفة ففوجئ بسؤالي ،وقال :لم يخطر ببالي
كبير يبيع العطور فكررت السؤال ،فذهلرجًل ًا
هذا األمر إطًلقًا ،ثم ذهبت بعد فترة ،فوجدت ً
لسؤالي ،وقال :سأحاول أن أبحث عن إجابة .نستنتج من هذا أن الروائح ال دالالت ثقافية لها
على اإلطًلق.
***********************************************
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
تجسيدا في الفن ،ألن األسطورة هي الجانب التأملي
ً فرس وله أجنحة ،هذه الشخصيات نجد لها
أن الفن هو تعبير مادي حسي (الحجر, من الحياة ,وهذا الجانب يكون سرديا ولغويا في حين َّ
البرونز) بحسب العصر.
إ ًذا كان هناك تداخل في التعبير عن الواقع بين الفن واألسطورة ,األمر نفسه نالحظه في
مشابها للوريث (األسطورة) ,فكأن األدب َو ِر َ
ث الحالة ً الحامل الثالث ,وهو األدب ,األدب جاء
التعبيرية في األسطورة ,لكنه راح يعبر عما هو حياتي دنيوي ,بينما األسطورة تعبير عما هو
خارق إلهي متفوق ما ورائي.
يعبر عن اليوميات وعن البشر ،هذا الحامل الجمالي نزل خطوات مما هو علوي إلىاألدب ّ
اجتماعي.
ٌّ طبيعي
ٌّ مادي
ٌّ ما هو دنيوي ،مما هو (ما ورائي) إلى ما هو
األسطورية تهتم باأللوهي ,أما المالحم فتتحدث عن شخصيات خارقة إنسانية ،فالنزول هو
من عالم األلوهية الخارق إلى عالم اإلنسان الخارق.
هنالك نوع دنيوي من األدب لك يكن يهتم بما هو خارق ،كالشاعر الذي يتحدث عن ألم
أسنانه ،هذا النوع نزل خطوة أخرى باتجاه ما هو حياتي ،فالقصيدة التي تتحدث عن ألم األسنان
قصيدة غنائية ،تتحدث عما هو جزئي صغير يومي .لدينا تحول مما هو علوي خارق إلى ما هو
عادي.
ٌّ يومي
ٌّ إنساني
ٌّ إنساني خارق ،ثم إلى ما هو
األدب حامل جمالي خرج من معطف التعاويذ والتراتيل الدينية ،األدب لم يخرج من معطف
أن التعاويذ والتراتيل كانت تتناول كل شيء
األسطورة ،خرج من التعاويذ والتراتيل ،يجب أن نعلم ّ
وردا أو تراتيل كلما فعل أي شيء ،اإلنسان القديم كان يستخدم
في الحياة كالمتدين الذي يق أر ً
التراتيل بكثرة مع الزمن تحولت هذه التراتيل إلى شعر غنائي .إذا كانت األساطير قد أورثتنا
المالحم األدبية فإن التراتيل قد أورثتنا الشعر الغنائي ,والفارق األساسي بين األساطير
أن هاتيك لها أبعاد دينية أو سحرية ,في حين المالحم والقصائد الغنائية لها جانب
والمالحم َّ
دنيوي.
إ ًذا تطور األدب مما هو ديني في تعبيره إلى ما هو دنيوي ،وانقطعت الصلة مع تطور األيام
بين المًلحم واألساطير وبين القصائد الغنائية والتراتيل .بقيت التعاويذ كما هي وراح األدب
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
خاص ،وكذلك األسطورة تطورت باتجاه الملحمة التاريخية البطولية ،ثم جاء يوم
ّ يتطور باتجاه
تطورت فغدت رواية.
واألساطير األلوهية تطورت إلى مًلحم تاريخية بطولية خارقة ،ثم تطورت هذه المًلحم إلى
3
ثم تطورت السير الشعبية 0إلى الرواية. السير الشعبية (قصص الرومانس)
لدينا تطور من األساطير األلوهية إلى الرواية اإلنسانية التي تتضمن شخصيات من الحياة،
عما هو إنساني عادي ،حيث ال نجد فوارق ،ال في الشخصيات وال في األحداث وال في ِّ
وتعبر ّ
األمكنة ،والحياة هي هي.
بين األسطورة والرواية لدينا ( )4000سنة ،هذا التطور مما هو ألوهي إلى ما هو إنساني
تطور بطيء أخذ فترة طويلة من الزمن.
المًلحم ،السير الشعبية ،الرواية حوامل جمالية أدبية تتفاوت في مسألة الخارق ،بخًلف
األسطورة التي هي حامل جمالي غير أنها ألوهية.
لدينا التعاويذ والتراتيل الدينية والسحرية هذه تتطور في نهاية المطاف إلى الشعر الغنائي،
ولكن ليس قفزة واحدة.
ضع في اعتبارك أن التعاويذ والتراتيل ليست فردية ،أقولها أنا ويقولها غيري ،أستخدمها رغبة
أن المجموعة
في شيء ما ،وغيري يستخدمها فيما يريد ،لكنها لم تكتب لي ،فهي جماعية ،بمعنى ّ
ترددها في الطقوس العامة ،وجماعية بمعنى أنها لم تكتب لفرد بعينه ،األفراد هم الذين يرددونها
للدفاع عن أنفسهم ،لذلك ال نعرف من هو مؤلفها وتدخل في المرحلة الشفهية ،ال نعرف إن كان
أحدا لم يكن يهتم بالمؤلف.
لها مؤلف أو ال ،بالتأكيد لها مؤلف ،لكن ً
فتحس أنها ناقصة فتكملها ،ويأتي آخر فيكملها ،فهي ليست إنتاج
ّ كذلك الطرائف ،تسمع طرفة
شخص بعينه ،تحذف وتعدل ويضاف إليها.
-30مثل قصص الفروسية ،فارس يدافع عن قلعة األمير ،يشد انتباه حبيبته ،والقصص السيرية أمرها مختلف من مثل :سيرة عنترة.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
كذلك التعاويذ الدينية والتراتيل ال يعرف قائلها ،وال يعنينا قائلها ،يعنينا أنها كانت تُستخدم
العتبارات دينية تأثيرية بحت.
كنا قد ذكرنا أن الجانب الديني هو كلي والجانب السحري جزئي ،فالسحر يقع على الجزء
ّ
والدين يقع على الكل.
بدأنا نسمع عن شعراء يبرز لديهم الشعر الديني وهو شعر غنائي ،لكن المخاطب فيه هو
اإلله ،ولذلك ظهرت في اليونان الشاعرة الكاهنة (سافو) التي راحت تنظم قصائدها باتجاه
أفروديت ،وقبل سافو بألف سنة هنالك شاعرة آكادية وهي ابنة ملك ،هي شاعرة كاهنة ترتل
تماما كما رددت سافو التراتيل ألفروديت.
قصائدها لآللهة اآلكاديين ً
مع الشعر الغنائي دخلنا في األدب الدنيوي ،الشاعر يعبر عن نفسه أو عن واقعه بمشاعر
دنيوية ،وليس بمشاعر دينية كما نجد في شعرنا العربي قبل اإلسًلم ،الشعر توجه إلى الحياة
التي يعيشها اإلنسان في تلك الفترة.
مكتمًل ،لم يصلنا عبر تدرجات كثيرة ،رغم الكًلم على سجع الكهان ،إال أننا ال
ً الشعر وصلنا
إن الشعر العربي خرج من سجع الكهان لسبب بسيط هو أننا نعرفنستطيع أن نتكهن ونقولّ :
الشعر العربي وسجع الكهان في مرحلة متزامنة ،لو كنا نعرف سجع الكهان قبل ( )500سنة،
إن هذا تطور من ذاك.
من معرفتنا للشعر الجاهلي لقلناّ :
عموما،
ً شعبي ،لكنه متزامن مع الشعر الجاهلي
ٌّ مكتمًل ،شعر الرجز شعر
ً فما وصلنا وصل
لذلك ال نستطيع أن نتحدث عن التطور في شعرنا العربي قبل اإلسًلم.
لكن إذا أردنا أن نتحدث بمنطق التطور نفسه الذي وجدناه فيما قبل التاريخ ،إلى العصور
التاريخية ،إلى ما بعد الميًلد وما بعد الهجرة ،نقول :ما يسري على الشعر اآلكادي والبابلي
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
واإلغريقي يسري على الشعر العربي قبل اإلسًلم ،لكننا ال نعرف األصول التي انطلق منها
الشعر الجاهلي فقط.
هذه مفارقة طريفة حين نتحدث عن الشعر الجاهلي فنحن نتحدث عن 400سنة ،أي باألمس
وحين نتحدث عن السومريين فنحن نتحدث عن 3000سنة قبل الميًلد.
كيف نتحدث بتلك الجرأة عن اآلكاديين والسومريين قبل 3000سنة في حين ال نستطيع أن
نتحدث عن الشعر العربي وهو في 400سنة؟
السبب في ذلك علم اآلثار .حفريات علم اآلثار العظمية أعطتنا معرفة رائعة بما في األرض
من كنوز لشعوب عاشت هنا .الحفريات اآلثارية هي السبب في أن نعرف عن اآلكاديين
3
يتعلق ببادية عن العرب قبل اإلسًلم1 ،في حقيقة األمر ما نعرفه والسومريين أكثر مما نعرف
الشام (تدمر) ،أما الجزيرة العربية فًل نعرف عن تطور الفن فيها رغم وجود أماكن أثرية مثل:
مدائن صالح وعرعر ،لكن يمنع االقتراب من هذه المناطق.
إ ًذا حصلت تطورات في األدب ،وهذا كله يدخل في إطار حامل جمالي مهم ًّ
جدا ،األدب هو
ألن مادته اللغة.
األكثر قدرة على التعبير عما هو جمالي في المجتمع والطبيعة ّ
اللغة أكثر قدرة على التعبير من األشكال المادية ،في الفن التشخيصي (النحت ،الرسم) لدينا
تعبير ،لكنه يختلف عن تعبير القصيدة الغنائية ،لماذا يختلف؟
أن الحجر
ثانيا ،في حين ّ
بسبب طبيعة المادة المستخدمة ،اللغة وجدت للتواصل أوًال ،وللتعبير ً
مثًل ما وجد لهذا األمر.
ً
تعبير عما هو جمالي لدى اإلنسان والمجتمعات ،األسطورة جاءت أعلى ًا األدب هو األكثر
تعبير من األسطورة عن الجمال ,ولذلك جاء األدب
ًا تعبير من الفنون عن الجمالي ,واألدب أكثر
ًا
ذروة التعبيرات الجمالية.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
تطور األسطورة إلى الفلسفة:
تاريخ طويل حملت األسطورة فيه عبء التفكير في عالم اإلنسان ،وكانت طريقة وعي البشرية
منذ نشأتها حتى وقت قريب ًّ
جدا.
في األسطورة ال يوجد صح وخطأ ،هي فقط طريقة في التفكير ،اإلنسان بطبيعته يمزج بين
الواقعي والخيالي وقد يطغى أحدهما على اآلخر ،لكن الخيال أساسه الواقع.
الكائنات المختلطة (حصان وجوانح ،إنسان جزء سمكة وجزء إنسان ،إنسان بعين واحدة في
الجبهة ،شخص بأربعة أوجه ،شخص له أربعة عيون ،) 2هذه الشخصيات غير 33ممكنة
التحقق ،لكنها جاءت عبر مزج الواقعي بالخيالي ،المادة من الواقع لكنها ليست واقعية فحتى
الخياالت أساسها الواقع.
قوما صالحين
ابن الكلبي في كتابه األصنام يقول :إن (ود ،يغوث ،سواع ،نسر ،يعوق) ،كانوا ً
طويًل ،جاء أحدهم فقال لهم :هل أصنع
ً حدادا
ماتوا في شهر واحد فجزع عليهم أقاربهم ،ونصبوا ً
روحا فيهم ،فقالوا:
(تمثاال) على أشكالهم فتتذكرونهم؟ لكني ال أستطيع أن أضع ً
ً أصناما
ً لكم
أصناما على أشكالهم ،مرت سنوات طويلة ،الناس كانوا يجلسون عند األصنام
ً فلتفعل ،صنع
ألنها أصبحت بمنزلة األب لهم ،ثم أصبحت بمنزلة أجدادهم ،ثم تحولت إلى األلوهية.
مرت سنوات أصبح الناس يأتون إليها ،وكأنها تمثل آباءهم ،وفيما بعد
إ ًذا صنع خمسة أصنامّ ،
فشيئا تطور األمر فأصبحوا آلهةً.
شيئا ً
أصبحت تمثل أجدادهم ،ثم ً
- 32اإلله آمور إله اآلموريين من أجدادنا نحن -ويُس َّمون (العموريين) -له تمثال بأربعة أوجه ،وهذا رمز على أنه يعرف كل شيء ،هذا
تجسيد للمعرفة ،وامرأته بأربعة أوجه أيضًا.
-33أسطورة يونانية ،تنام عينان ،وتبقى عينان من غير نوم.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
بصرف النظر عما يقوله ابن الكلبي في كتابه نقول :كل األشكال األلوهية التي تتشخص
بشيء ما لها أصل من الواقع ،اإلنسان لم يستطع أن يفسر ما حوله فابتكر آلهة يفسر بها ما
حوله ،واألسطورة هي شكل التفكير التأملي األول آلهة (الماء والنار) ،كلها جاءت للتفسير ،النار
كانت معبودة والماء كذلك.
بد
معا ,وما لم ُيعبد هنا ُع َ
وعبد ً
ما من شيء على وجه هذه األرض إال أُكل أو ُعبد ,أو أُكل ُ
هناك ,وما لم ُيؤكل اآلن ,أُكل أمس.
كل ما على هذه األرض ُعبد ،النجوم عبدت ،الجرذان عبدت ،نحن نأنف أكل حيوانات معينة
وعبد،
أن أكلها حًلل ،سوانا يأكلها ،الضفادع أُكلت ،البقرة ُعبدت وأُكلت حتى اإلنسان أُكل ُ
رغم ّ
هناك أقوام أكلت لحم البشر ،إلى اليوم هناك من يعتبر وجبة الجنين المجهض وجبة لذيذة ج ًّدا.
اإلنسان أعجب مما نتخيل ,ما يهمنا أن هذه اآللهة والمعبودات هي تمثيالت جمالية ودينية
لألشياء التي حولنا.
هذا خلط بين الجمالي والديني عبر اآللهة وعبر األشياء نفسها ،مع الفلسفة دخلنا في التفكير
المنطقي ،لم يعد الجمال إلهًا أو آنيةً مزخرفة ،لم يعد الجمال قصة أو قصيدةً ،أصبح سؤا ًال ،في
حين كان من قبل آنية من فخار أو إلهًا...إلخ.
هدف األسطورة وعي العالم ولكن بطريقة تأملية أولية ،وأسطورة سيزيف هي أسطورة الوجود
كله ،هو ملك اختلف مع اآللهة فعاقبته بوساطة صخرة يحملها إلى أعلى الجبل وعندما يصل
إلى ذروة الجبل تسقط ،فيعود ليحملها إلى ما ال نهاية.
هذه األسطورة تريد أن تتحدث عن أبدية العذاب ويجب أال نخلط بين األسطورة والخرافة.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
مقدما ،ألنها نتيجة لكسل العقل البشري ،أما األسطورة فهي
ً معنى
في قصص الجن ال نجد ً
تعبير عن النشاط البشري.
*****************************************************
المشكلة أن المنافع تسيطر علينا فًل نستطيع أن نتأمل ،لذلك عندما يغيب األمر عنا نقول:
كيف فوتنا هذه الفرصة؟ وكيف أضعنا هذه األشياء؟!
تحدثنا عن الحوامل الجمالية (الفن ،األسطورة ،األدب) ،وكانت هذه الحوامل كلها فنيةً ،في
حقيقة األمر حتى األسطورة لو دققنا فيها لما وجدناها دينية فقط ،إنما هي دين وأدب في الوقت
نفسه.
هي حوامل فنية ألنها تعيد إنتاج الجميل في الواقع أو الحلم بطريقة فنية جديدة( .الفن ،الرسم،
النحت ،النقش ،األسطورة) كلها تعيد إنتاج الجمال الواقعي والمتخيل في الوقت نفسه ،أي تقدم لنا
ًّ
إضافيا وفق رؤية الفنان أو المجتمع ،وبهذا نكون حصلنا على جمال الحياة وجمال الفن. جماال
ً
لذلك يقال( :الفن يضاعف الحياة) فأنت حين تق أر رواية كأنك تعيش الحياة مرتين ،عندما
سلسًل كأننا نضاعف عيشنا.
فيلما أو م ً
نشاهد ً
إ ًذا هذه الحوامل ذات طبيعة فنية تعيد إنتاج الحياة ،وكلها كانت أمينة إلى حد كبير في تمثيل
الواقع وفي تمثيل عقلية اإلنسان ومعتقداته في الوقت نفسه.
تحدثنا سابقًا عن اإلله (آمور) الذي يملك أربعة وجوه ،تدل على معرفة العالم والسيطرة عليه،
نحن أمام تمثيل لعقلية الشعب الذي يعتقد بآمور.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
نحن أمام حالة مختلفة مع الحامل الرابع الفلسفة ،لم نعد أمام جمال مبتكر يعيد إنتاج جمال
نعد أمام تجسيد أو تشخيص أصبحنا أمام تجريد فلسفي ،لم يعد الجمال آنية أو واقعي سابق ،لم ْ
قصة أو لوحة أصبح سؤ ًاال معر ًّ
فيا.
أصبح سؤال ما الجمال؟ يحتاج إلى إجابة طويلة ،اآلنية قدمت لنا الجمال مزخرفًا ،والقصيدة
مكتوبا.
ً تقدمه
كبير من األسئلة التي طرحتها الفلسفة على نفسها وعلينا ،وبهذه األسئلة الجمال عددا ًا سنطرح ً
الممتع أصبح متع ًبا بأسئلته ،لكنه التعب اللذيذ .هو التعب اللذيذ ،لماذا؟ ألنه ال أَلذ من المعرفة،
هي لذة معرفية وليست لذة جمالية .ال غرابة أن يقول الغزالي" :إن المعرفة أخص خصائص
أخص من القدرة حتى ،وتذكروا (آمور) الذي يحيط بالعالم.
ّ الربوبية" ،أي
أن اإلنسان ال يحس باإلساءة إلى كرامته إال إذا اتهم بأنه ال يعرف ،لو اتهم
الغزالي يشير إلى ّ
بأنه ال يقدر وال يستطيع فسيتحمل ،عندما يأتي شخص يكنس المكان تقول له( :أال تستطيع
تكنيس المكان كله) ال ينزعج ،لكن أن تقول له( :أنت ال تعرف أن تكنس) فسينزعج .عندما
يرض أحد برزقه لكن عندما قسمت العقول الجميع كان ر ًّ
اضيا. قسمت األرزاق لم َ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
عد سلة المهمًلت أجمل منجميًل ،سقراط ّ
ً بعضهم قال :ال ،ما ال ينفعني ال يمكن أن أع ّده
الدرع الذهبية ألنها تقوم بوظيفتها .األشياء تنقسم إلى مفيد وضار بالنسبة إلى اإلنسان .من
احدا للمفيد
مستوى و ً
ً الطبيعي أن آنس بما هو مفيد ،وأمتعض مما هو ضار؟ هل يمكن أن نضع
والضار؟ ال يمكن.
أحيانا تكون
أحيانا تبدو مفيدة و ً
ً هو نفسه قال :األشياء ال تكون هي هي في كل الحاالت،
ضارة ،لذلك هي جميلة حين تفيد ،وقبيحة حين تضر ،وبذلك ال يكون سقراط قد صنف العالم
ًّ
قطعيا بأنه مفيد أو ضار أو جميل ،أو قبيح ،بل يكون قد صنف المنطق الذي ينبغي كله تصنيفًا
أن نتعامل به مع األشياء ،وهو أن نربط بين المفيد والضار من غير أن نعد أن هذا المفيد جميل
لألبد وأن ذاك الضار قبيح لألبد.
قطعة الزجاج المزخرفة التي نجدها مرمية نقف أمامها مندهشين ،لكن حينما نمسك الزجاجة
ونجرح يدنا ،الزجاجة تتحول إلى القبح.
سقراط ليس عديم الذوق ليقول :الحاوية بالشارع أجمل من لوحة إعًلنية ضخمة ،هو قال:
ينبغي أن ننظر إلى األشياء بما يفيد ويضر.
إ ًذا مسألة الجميل والنافع مسألة معقدة ،في الحقيقة النفع مستويات ،سلة القمامة فيها مستوى
من النفع ،لكن الذهب له منافعه الكثيرة ًّ
جدا ،والنفع الذي تقدمه سلة المهمًلت يختلف عن النفع
الذي يقدمه الطعام والشراب ،فالنافع مستويات.
ُّ
الحب مسألة شخصية ،الجمال أكبر مما هو شخصي ،األم التي ليس الجما ُل مسألة شخصية،
جميًل ،هذا ال عًلقة له بالجمال.
ً تقسم أن ابنها جميل هي تعرف ّأنه ليس
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ثقوا بأن أجمل الجمًلء لن يكون أعز بالنسبة لألم من ابنها القبيح ،المسألة تتعلق بالذوق
العام ،ما الذي يقره الذوق العام في هذه المرحلة التاريخية؟
إما أن يأتي شخص أحبته أمه أو حبيبته فهذه مسألة تتعلق بالعواطف ال بالجماالت .قد يكون
كنت أحب األشياء األجمل فأنا ال أحب.
قبيحا وليس هناك مشكلة إطًلقًا .إذا ُ
حبيبي ً
أنا أحب ما يتناغم مع روحي وليس ما هو أجمل ،واال فسوف أتنقل من حبيب إلى حبيب ألن
األجمل ال ينتهي ،ليس هنالك عًلقة عضوية واضحة بين الجمال والحب ،الجميل محبوب ،ألن
جميًل ،فًل رابط بين الجمال والحب
ً كل الناس تطمئن بالجمال ،وتلتذ به ،وليس كل محبوب
بحيث يبدو أن الجمال هو الحب والحب هو الجمال.
في أول لقاء بين الحواس (السمع والبصر والذوق واللمس) مع األشياء نحس بأن هناك لذة
أحس؟
عضوية ما ،عندما أضع راحة كفي على المقعد ماذا ّ
أحس بالراحة ،ما أحس بالنعومة والبرودة ،لكنها ليست برودة مزعجة ،هي لطيفة ًّ
جدا بحيث ّ
أحس بالنعومة والبرودة.
إن وضعت كفّي فس ّ
حديدا فسنرفع يدنا مباشرة ،ألننا نشعر باأللم المتصل بحاسة اللمس ،هذا ً إذا كان المقعد
إحساسا جماليًّا ،وال يحتاج إلى تفكير ،إنما ال إرادي.
ً إحساس (بيولوجي) وليس
الخطوة الثانية بعد اللمسة سوف نسأل :ما الذي يمثله هذا؟ هل هذه النعومة ترمز لصورة
معينة أو شكل؟
مقاما.
هناك خًلف كبير بين العلماء بين السمع والبصر ،أيهما أعلى ً
حاسة السمع:
األصوات من حولنا تنقسم إلى أصوات مريحة ،وأصوات مزعجة ،عندما يكون الصوت مؤلفًا
فسنن َش ّد إلى حالة التأليف ،والصوت الجميل إذا تكرر نفسه فسنملّه.
طا َ
تأليفًا بسي ً
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
وعندما يكون مؤلفًا من تأليفات مختلفة نستمر باإلصغاء عندها نكون قد دخلنا الوعي
الجمالي ،ما إن أدركنا اإلحساس دخلنا في مرحلة اللذة الجمالية وهذه ال تكون إال إذا وعينا ما
بين أيدينا.
اإلدراك :نفسي ذهني لكنه جزئي ،إحساسي بالمقعد ونعومته تحول إلى إدراك بأنه كله بارد،
باإلدراك عرفنا أن الصفة الحسية تشمل المكان ،فاإلدراك أوسع من اإلحساس.
نعود إلى الغزالي الذي قال :المعرفة أخص خصائص الربوبية أو المعرفة هي اللذة القصوى.
تساؤالت الفلسفة :ما العًلقة بين الجمال على هذه األرض وتصوراتنا نحن الدينية؟ هل الجمال
صناعة ربانية؟ هذه المسألة ال عًلقة بالكفر واإليمان ،إنما لها عًلقة بفهمنا للجمال .لماذا
جميًل؟
ً قبيحا وغيري يراه
الشكل نفسه أنا أراه ً
المسألة مسألة أذواق وتصورات وممارسات .هنالك اعتقاد لدى بعض المتصوفة والفًلسفة أن
الجمال على هذه األرض منحة إلهية ال نستطيع أن نستمتع به إال إذا عددناه منحة إلهية ،أي إال
إذا توجهنا إليه توجهًا ًّ
دينيا ،واذا فعلنا ذلك فأحاسيسنا ستكون دينية.
الشعور الديني :يحدث بوجود الشيء وغيابه ،وهو شعور حول ما وراء الشيء.
الشعور الجمالي :يحدث بوجود الشيء ،وهو شعور اتجاه خصائص الشيء نفسه.
نحن في لحظة من اللحظات بحاجة إلى الشعور الديني الذي يعزز صلتي بالخالق.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
القضية هي هل نتوجه إلى األشياء مباشرة أو نتوجه إلى ما وراء األشياء؟
ًّ
سياسيا ومرة لدينا وعي سياسي وأخًلقي وجمالي وحقوقي وعلمي وديني ،نحن مرة نفكر
ًّ
أخًلقيا ،ومرة أخرى...إلخ ،بحسب المواقف التي نحن فيها.
علينا أن نميز بين أشكال الوعي ،حتى بين الديني واألخًلقي يجب أال نخلط رغم أنها
وعيا ًّ
دينيا بمعنى رحت أتعبد أو أسبح اهلل سبحانه وتعالى. متقاربان ،قد أجد نفسي وعيت ً
جميًل نقول :سبحان اهلل ،وهذا يعني ما أجمله ،كلمة (سبحان اهلل) هي
ً مشهدا
ً عندما نرى
موقف جمالي وديني.
جميًل نقول :ما شاء اهلل .جماله أثارنا وجعلنا نقول( :سبحان اهلل) ولكن لو
ً طفًل
عندما نرى ً
سيئ عندها لن نسبح اهلل.
جاء الطفل بلباس ّ
معا (الديني والجمالي) ال يهدفان إلى استهًلك الموضوع ،عندما أتعبد ال أقصد أنني
الشعوران ً
أيضا.
أيضا غير نفعي ً سوف آكل ،فالشعور الديني شعور غير نفعي ،والشعور الجمالي ً
هذان الشعوران يختلفان عن كل أشكال الوعي األخرى ،كًلهما يقعان على الموضوع ،أحدهما
يمد برأسه إلى ما وراء الموضوع واآلخر يبقى في الموضوع نفسه ،وكًلهما ليسا نفعيين.
الشعور الديني ينتهي بالخشوع أو المحبة ,الشعور الجمالي ينتهي بالرهبة أو األ نس،
فالجميل مؤنس ،والجليل مرهب ،وتظهر مًلمح الخشوع بوساطة الوجه.
نحن ال نفاضل بين الوعي الديني أو الوعي الحقوقي نحن بحاجة لكل أشكال الوعي ،ال
نستطيع أن نعيش بالوعي الجمالي فقط فنحن نحتاج إلى األكل والشرب.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
صباحا بحالة ومساء أراه بحالة أخرى ،عندما نفكر بالجمال فنحن نفكر ً الشيء نفسه أراه
أعم ،سقراط لم يكن يعبر عن شعوره ،بالتأكيد لن يقول لسلة المهمًلت :يا حبيبتي ،لكن قد
بشكل ّ
يقول للدرع الذهبية :يا حبيبتي.
شكسبير في إحدى المسرحيات يقول :يمكن للعاشق أن يبقى عمره وهو يبكي على فقد حبيبته،
حب
في ُّ
حب لذاته أما المال ُ
لكن ال يمكن للبخيل أن يكتب قصيدة في فقده للمال .الحبيب ُي ُّ
لسواه.
***************************************************
مع الفلسفة ال نستطيع أن نتحدث عن علم الجمالّ ،إنما نستطيع أن نتحدث عن الفلسفة
الجمالية.
أن الفنون التطبيقية ال تحصى ،ألنها تشمل مجمل الفنون الجميلة محددة العدد في حين ّ
كثير ما نسمع عن الفن السابع وهو السينما.
قطاعات الحياة واإلنتاج اإلنسانيً ،ا
4
ما هي الفنون التي كانت قبل الفن السابع؟ األدب (الشعر) .
هذه هي الفنون المعتمدة عبر التاريخ اإلنساني ما عدا السينماُ ،مورست منذ أن وعى اإلنسان
ًّ
جماليا. تعبير ًّ
حسيا عبر عن نفسه ًا نفسه على هذه األرض ،ومنذ أن بدأ ُي ِّ
َ
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
اإلنسان عبر باللغة عن مكنوناته ،عبر عن دينه ،أخًلقه ،مشاعره بكل هذه الفنون ،مرة عبر
بشكل فردي فكان الشعر الغنائي ،ومرة عبر بشكل جماعي فكان الرقص.
الطقوس الدينية كانت جماعية ،نذهب إلى الجامع أو إلى الكنيسة بصورة جماعية ،فاإلنسان
يمارس دينه ضمن الجماعة ،واألديان القديمة كانت تعتمد الفنون في التعبير عن نفسها ،وربما
أن العرب كانوا يحجون عراة ويرقصون ،ما كانوا يقومون بعمل ال أخًلقي ،بل كانواسمعتم ّ
تعبير عن الدين ،األخًلق ،الممارسات.
يمارسون دينهم ،هذه الفنون كانت ًا
ما يستطيعه األدب ال تستطيعه الموسيقا ،وما تستطيعه الموسيقا ال يستطيعه األدب ،وكذلك
اص إن هذا الفن ُّ
يسد َمسد ذاك الفن ،لكل ف ٍّن قطاع خ ٌّ بقية الفنون ،وعليه ال نستطيع أن نقولّ :
ُّ
يسد حاجةً من حاجات الفرد.
حتى إذا ما ُوجد من يحرم هذا أو ذاك من الفنون فهو مضطر إلى استبداله بفن آخر ،ليس
جمالية.
ّ العتبارات دينية ،لكن العتبارات
هناك من يحرم الغناء وهو صوت ،ويستبدله بالتًلوة أو اإلنشاد ،فن التًلوة فيه مدارس،
مدرسة عبد الباسط تختلف عن مدرسة غيره
اإلنسان بحاجة الموسيقا فإما أن تكون وترية كالمزهر أو الدف ،أو صوتية باألصوات
اإلنسانية.
فنحن عندما نتحدث عن هذه الفنون الستة ونقول :إنها استوعبت تاريخ اإلنسان وحضارته
وحياته ،نؤكد على أنها ما استوعبت هذا إال ألنها تعبير عن حاجات أصيلة في اإلنسان.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
6 5
حول الكعبة ووثنا
ً هناك فنون كنحت (األصنام) ،بحسب البخاري يوجد ( )360صن ًما
وحدها ،أما أوثان العرب وأصنامهم فًل تكاد تحصى.
وال يعقل أن يكونوا قد استوردوا كل هذا من الخارج ،كان هنالك الرقص والغناء والعمارة
كثير عن فن العمارة لدى العرب قبل اإلسًلم ،لكننا نعرف أن
والزخرفة ،صحيح أننا ال نعرف ًا
الكعبة مبنية بشكل معين ،ونعرف أن الزخرفة والتصوير والرسم كانت موجودة داخل الكعبة ،ومن
تلك الرسومات صورة إلبراهيم الخليل ،وصورة للسيد المسيح.
العربي قبل اإلسًلم لديه شعر وموسيقا ورسم ونحت وفن العمارة ،ولو استعرضت الفنون عند
كل القبائل والشعوب لما افتقدت ًّ
فنا من هذه الفنون.
فن العمارة ُيقصد به البناء المعتنى به ،ويتعلق بالقصدية الجمالية التي يبنى بها هذا القصر أو
مجرد كًلم بل هو مقصود به الجمال.البد من قصدية جمالية مثلما أن الشعر ليس ّ المعبد ،أي ُ
نشير إلى أن المعبد هو أول األبنية التي تم االعتناء بها أوًال في فن العمارة ،ثم جاءت قصور
اصا.
األمراء والملوك والقادة ،فالمعبد كان يمثل الجًلل والجمال ،لذلك كان االعتناء ببنائه خ ًّ
يما
واالعتناء اآلن هو بحسب اإلمكانيات لذلك تختلف العمارة من مجتمع إلى آخر ،المعابد قد ً
جمالي ،داخل المعبد هناك
ٌّ فني
المعبد مركز ٌّ
َ دائما تحتوي على الفنون األخرى ،وكأن
كانت ً
تماثيل (النحت) وداخله صور (الرسم) ،وتنشد التراتيل داخله (األدب والموسيقا) ،فالمعبد جامع
قديما كان االعتقاد أن المعبد ال ينبغي أن يبنى إال على تل ،وهذا
للفنون ،وخزان لكل الفنونً ،
صرة العالم أي له قيمة دينية.
التل ُينظر إليه على أنه ّ
هناك فنون ُمنعت بسبب السياسات ،الدولة الرومانية كان المسرح عدوها اللدود ،وهناك فنون
ُحِّرمت دينيًّا ،الدولة الرومانية دولة استبدادية ،والمسرح يعبر عن الواقع لذلك كان عدوها.
الفنون التطبيقية ال تكاد تحصى ،وهي تتعلق بمجمل قطاعات اإلنتاج اإلنسانية واالستهًلكية.
هنالك فن الديكور ،هنالك فنون صناعية ،فن الطبخ ،فن المائدة ،فن قائم بذاته ،فن تصفيف
أن الرجل أكثر زينةً من المرأة.
حكر على النساء ،التاريخ يثبت ّ
الشعر ليس ًا
-35حجر.
-36خشب معدن.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
من يعد إلى التاريخ ُيفاجأ بأن الزينة لم تكن من أجل الزينة فقط ،كانت من أجل عدم وقوع
انتماء لقبيلة معينة ،وهي تَطَلّب ديني.
ً السحر وكانت تعني
عندما تذهب لشراء جهاز اتصال تحتار ،وتختار بعد تفكير طويل ،وهذا يدخل في الفن
الصناعي التكنولوجي.
فنا الخط والزخرفة يقعان بين الفنون الجميلة والتطبيقية ،فن الزخرفة عريق وقديم قدم اإلنسان
أن حضارة ما تقدمه أو تؤخره إلى الوراء.
نفسه ،غير ّ
تم اكتشافها التي تعود إلى ( )500سنة قبل الميًلد ُوجد فيها زخرفة ،وال
المعابد األولى التي ّ
نقصد الزخرفة الحالية ،مجرد وجود خطوط معينة ،هي تمثل الزخرفة في ذاك العصر ،في
المعابد كانت تغمس اليد بالدم وتطبع على الجدار ،وهذا العتبارات عديدة.
فن العمارة طريقة التفنن فيه ليست نفعية ،نحن نضع األشكال العتبارات جمالية ،وليس
العتبار نفعي.
-2الفنون التطبيقية فنون مؤقتة مرحلية ,والفنون الجميلة دائمة نسبيا ,أي إ َّنها وجدت
لتدوم:
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
الفنون الجميلة فهي ثقافيَّة بمستويات
ُ غير مباشرٍة ,أما
الفنون التطبيقيَّة فنون ثقافيَّة ُ
ُ -3
كثيرة:
األدب أعلى الفنون ،ألن مادته اللغة ،مجرد أن تفتح المعجم فستتلقى معرفة بشكل مباشر ،وال
غرابة في أن يكون األدب هو األعلى على الصعيد المعرفي الثقافي.
وبسبب أن الموسيقا أقل معرفة فهي صوت عالمي ،هي أصوات ال معاني لها ،لكن لها
إيحاءات.
معنىُّ ،
فن الزخرفة ُوجد ليبقى ،ولكن ال قيمة فن الخط ال معرفة فيه ،ولكنه ككلمات يغدو له ً
معرفية له ،يمكن لنا أن نتكهن سبب وجود الزخرفة بطريقة معينة ،الدائرة في فن الزخرفة لها
حضور ،في المولوية يدور الرجل حول نفسه ،وحول شيخه.
أن األكوان التي خلقها اهلل تدور حول نفسها ،وكلها تدور حوله ،هذا مجرد وهذا تعبير عن ّ
تأويل ،لكن الرقصة في ذاتها ال قيمة معرفية فيها ،إذا أردنا أن نحلل العمارة اإلسًلمية فنحلل بما
منخفضا بعضهم يقول :هو منخفض لكي ينحني الضيف إذا
ً يروق لنا ،سابقًا كان باب الدار
دخل إلى البيت فكأنه ينحني لسكان البيت.
وقديما كانوا يبنون البيوت بحيث ال يدخل الخيل إليها أثناء الحرب.
ً
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
واليوم نحن نقف أمام األواني الفخارية باحترام ،لكن صاحبها لم يكن كذلك ،نحن نحترمها
ألنها تدل على زمن معين.
********************************************
الحاجات الجمالية
الحس الجمالي لدى اإلنسان غريزي ،ومن يقول هذا
ّ لعلنا أشرنا إلى أن هنالك من يرى أن
أيضا لديه هذا الحس.
الكًلم يرى أن الحيوان ً
سميه الحاجة الجمالية ،وهي حاجة حسية نفسية روحية ،أي إنها حاجة مكتسبة نحن ُن ِّ
اجتماعيًّا ،ليست غريزيةً ،الطف ُل ال يولد وهو يحمل الحاجة الجمالية.
من تاريخية ممارستها اإلنسانية القديمة تحولت مع الزمن لتشبه الغريزة في أصالتها ،لكنها
ليست غريزية ،أي لم تخلق معنا ،حتى وان كانت الحواس قد خلقت لكي تستوعب العالم ،الحاجة
الجمالية تنبني على الحواس ،الحواس غريزية غير أن الحاجة اجتماعية ،وألننا سوف نخصص
تعبير فنيًّا عن الحاجات الجمالية ،فنقول:
حديثنا بوصفه ًا
-1الحاجة الغنائية.
-2الحاجة الملحمية.
-3الحاجة الدرامية.
ًّ
جماليا عبر ممارستنا الحياتية ،أو عبر ممارستنا الفنية أي إننا نحن نهفو إلى إشباعها
(القراءة ،اإلبداع ،الكتابة).
البد من التفريق
إ ًذا هي حاجات من المفترض أن تُشبع ،والفنون تأتي إلشباع هذه الحاجات ،و ُ
بين الحاجة والوعي.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
اجتماعي ،ليس هنالك بين
ٌّ الحاجة يمكن إشباعها بطرائق عدة ،وهي إنسانية ،واشباعها
اإلنساني واالجتماعي في السياق الذي نحن فيه فرق.
عندما أقول :الحاجة الجمالية حاجة اجتماعية وليست غريزية فأنا أميز بين االجتماعي
اإلنساني وبين الغريزي اإلنساني.
ائنا
عموما بوصفه ك ً
ً اجتماعي قصدت أن اإلنسان
ٌّ وعندما قلت :الحاجة إنسانية واشباعها
ًّ
اجتماعيا لديه هذه الحاجة ،لكن طريقة إشباع هذه الحاجة مرهونة بالظروف التي يحياها هذا
اإلنسان.
مرة نسجل حياتنا بطريقة غنائية بالشعر ،ومرة نسجل حياتنا بطريقة درامية بالشعر ،ومرة
نسجل حيانا بطريقة ملحمية بالشعر.
ائي معتمد
مسرحي ،وكذلك ال يوجد لدينا فن رو ٌّ
ٌّ في أدبنا العربي القديم ال يوجد لدينا فن
ًّ
رسميا ،فهو ديوان العرب ،في الشعر هنالك ميل إلى معتمدا
ً رسميا ،لكن لدينا الشعر بوصفه ًّ
فنا ًّ
الحوار ،والصراع كمشاهد الصيد هذا الصراع نراه في المسرح.
يتم إشباع الحاجة الملحمية أو الدرامية بالشعر ،لكن هذا ال يعني أنهما لم تشبعا إال عبر
ّ
الشعر.
القصص واألساطير التي كان العرب يتداولونها حول الجن فيها جوانب ملحمية واضحة،
واألسطورة جزء من التعبير الملحمي ،والخرافة كذلك ،فالعرب لديهم أساطيرهم التي كانت تشبع
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
معتمدا ،وقبل المقامة
ً الحاجة الملحمية ،مع تطور الزمن أصبح لديهم فن المقامة ،وأصبح ًّ
فنا
كان هنالك القصص القرآني ،والقصص القرآني سرد.
العرب أعطوا أهمية للشعر الغنائي ،واإلغريق أعطوا أهمية إلى المسرح ،والفرس أعطوا
أيضا كانت تميل إلى التعبير الملحمي ،فشعوب مالت إلى هذا ،وشعوب
أهمية للملحمة ،والهند ً
مالت إلى ذاك ،إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم.
المادة:
بعضهم رأى أن تطور المسرح لدى اإلغريق هو بسبب الديمقراطية ،الصراع ُي ُّ
حل بالحوار في
شكًل من أشكال هذه الديمقراطية. المسرح ،وال ُي ُّ
حل بالعنف ،فكان المسرح ً
الدولة الرومانية التي جاءت بعد اإلغريق ألغت المسرح بسبب دكتاتوريتها ،جاءت الكنيسة
لتعتبر المسرح هرطقة ،عندما يمنع التمثيل فسيرتبك تطوره.
ال نستطيع أن ننكر أن التقنيات الحالية نشأت في الغرب ،التقنيات تنشأ في مكان ما ،لكن
الفن ينشأ لدى اإلنسان ،قبل القرن التاسع عشر ليس لدينا أعمال روائية ،ولكن هل كان لدى
الغرب قبل القرن الثامن عشر أعمال روائية؟! إطًلقًا.
كان لديهم أعمال تُسمى بالرومانس أو بالسير الشعبية ،مثلما لدينا نحن سير شعبية وأساطير
وحكايات.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
السرد موجود لدى الشعوب كافة ،وتحول السرد إلى فن يحتاج إلى
ُ نميز بين السرد والرواية:
أسباب كثيرة.
بي ،بل التقنيات هي من نشأت في الغرب ،السرد موجود منذ إن الرواية ٌّ
فن غر ٌّ ال يمكن القولّ :
أن خلق اهلل اإلنسان.
نجد السرد في األحاديث النبوية الشريفة ،عندما يأتي صحابي ويسأل ويجيب النبي الكريم فهذا
أن الفن جاءنا من هنا أو هناك.
سرد ،الشعوب كلها لديها حاجة ملحمية ،وليست القصة في ّ
الشيء نفسه بالنسبة إلى علم الجمال ،قبل القرن التاسع عشر لم يكن هنالك شيء اسمه علم
كتابا بهذا العنوان ثم
الجمال ،جاء الكسندر بومجارتن وأطلق مصطلح (األستيطقا) وأصدر ً
علما.
تطورت آراؤه ،حتى أصبحت ً
ألن هذا العلم نشأ عند الغرب؟ ال .هم باألمس اكتشفوه ،ونحن باألمس اكتشفناه،
هل نحزن َ
لكن مفهوم الفكر الجمالي موجود لدى الشعوب كافة ،وليس من شعب إال ولديه فكر جمالي،
حتى الشعوب البدائية لديها فكر جمالي.
نحن أمام قطبين :قطب التعبير الذاتي ،هنا نعبر بطريقة الـ (أنا) .وقطب التعبير الموضوعي،
هنا نعبر بطريقة الـ (آخر).
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
تعبر عن
موضوعا ,و ِّ
ً -2الحاجة الدرامية تغدو فيها الذات هي الـ(آخر) وتغدو الذات
نفسها ,فهي خلط بين الغنائي والدرامي ,فيها يظهر الغنائي والملحمي.
أساسا على الشخصيات ،هذه الشخصيات تقول قول المؤلف ،لكن تقوله بطريقة
ً المسرحية تقوم
ذاتية ،المؤلف تخبأَ تحت الشخصيات وراح يقول :هنا نجد الغنائي والملحمي.
ضمائر الـ(أنا) هي التي تظهر ،بمجرد أن يخفف من الضمائر العائدة إليه ،يكون قد مال إلى
الملحمية.
جدنا امرؤ القيس مرة يرتفع ضمير الـ(أنا) عنده ،ومرة يرتفع ضمير الـ(هو) ،مرة يقول:
ومرة يقول:
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
جميعا ،بعض األطفال بارعون في القص ،يكذبون وكذبهم جميل ،الطفل ً النزعة الملحمية لدينا
ال يكذب ،إنما يتخيل ،وكلما تعمق خياله استطاع أن ِّ
يعبر أكثر ،الدرامية لها عًلقة بالمحاكاة،
سهرتنا نقول للولد :قلِّد أباك ،وقلِّد عمك ،وبعض األطفال لديهم براعة في التقليد.
في ا
نحن بحاجة إلى أن نقلِّ َد الـ(آخر) فنغدو (هو) ،وفي الحقيقة لسنا (هو) ،إنما (نحن).
هذه الحاجات موجودة لدينا ،ومنذ الطفولة تبرز الحاجة إلى التعبير عن الـ(أنا) ،وتبرز الحاجة
إلى المحاكاة.
القص ،ويأتي
ّ عندما نوسع هذه الحاجات تتحول إلى فنون ،لكن أن يأتي زيد ويكون أبرع في
طبيعي.
ٌّ عمرو ويكون أبرع من زيد في الشعر ،فهذا
قد يبرع شعب في القص وآخر في الشعر ،والشعب الذي ال يبرع في القص ال يعني هذا
دائما هنالك طبقات ولكل طبقة أدباؤها ،هنالك طرائف تجد
غياب هذا الفن عنده ،في المجتمع ً
فيها السياسي ،األخًلقي ،الجنسي ،التجاري ،ولكل طرفة طبيعتها ،ولكن كلها موجودة ،إذا جئنا
وحاولنا أن ندرس الطرائف ال نكون قد ابتكرناها ،إنما درسناها فقط.
الحاجات والفنون:
فنونا مختلفة:
في هذه الحاجات نجد ً
الشعر العربي شعر غنائي ,وان اشتمل على مالمح ملحمية أو درامية ,وكذلك الخاطرة.
ُ
نائي،
شعر ،في الحقيقة هي خواطر ،وهي تعبير غ ٌّ عندما ِّ
نعبر عن مشاعرنا نتوهم أننا نكتب ًا
وكذلك األغاني (الغزل ،الطربية) كلها تعبيرات غنائية ،بعضهم يذهب إلى أن الشعر أص ُل
األنواع بين األجناس األدبية ،بعضهم يذهب إلى أن القصة أصل األنواع بين األجناس األدبية.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
ب -الحاجة الملحمية:
هي أعرض الحاجات( :األسطورة ,الخرافة ,السيرة الشعبية ,الحكايات الشعبية ,المقامة,
الملحمة ,الرواية ,القصة ,القصة القصيرة ,القصة القصيرة جدا ,حكايات األمثال الشعبية,
الطرائف أحيا ًنا).
ني.
األسطورةُ لها جانب دي ٌّ
الخرافة لها جانب سحري ،وال عًلقة لها بالدين ،وربما لها عًلقة بالوعي االجتماعي الديني،
وهذا موجود.
المسرح ,السيناريو.
ص على الخشبة ،المسرحية ينبغي أن تُمث َل ،في حين أن السيناريو المسرحية :مادة لغوية تُ َشخ ُ
فن حديث جاء نتيجة التطور هو المادة اللغوية لألعمال التلفزيونية السينمائية اإلذاعية ،السيناريو ٌّ
في العصر الحديث.
هذه األجناس األدبية كلها تعبير عنا نحن ،وتعبير عن حاجاتنا الجمالية المتوزعة على ثًلث
حاجات.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
هو مفهومنا نحن فقط عن الجمال أو مفهوم سوانا ،حين نتحدث عن الجميل فنحن نتحدث
عن شيء حسي مسموع ملموس...إلخ ،أي عبر الحواس الخمس ،فما ال يدخل في الحواس
مثًل :مفهوم
عاماً ،
يصعب أن نقول عنه :جميل أو قبيح ،قد تدخله في الجمال أو القبح إذا كان ً
ًّ
جماليا الظلم فينبغي أن يتمثل ًّ
أخًلقيا أو الظلم مفهوم سلبي نرفضه هو معنى ،لو أردنا أن نقوم
الظلم بظالم.
فهوما، ًّ
جماليا إال بوصفه م ً نقول عن الظالم :ال أخًلقي قبيح بشع ،لكن الظلم يستحيل تقويمه
حسي ،نقصد الجمالي الذي نقومه بعد تجربة معه ،أما الجمالي كمعنى
ٌّ عندما نقول :الجمالي
إن عناصره تمثل الجمال.
فنقولّ :
تماما كالمثل األعلى هو غير ملموس ومحسوس ،لذلك يمكن أن يشتمل على كل عناصر ً
الجمال ال نستطيع أن نمارسه في الحياة ،لذلك نقول :هو عام جامع لعناصر الجمال ،ولكن على
أرض الواقع ال وجود له ،ال وجود للظلم على أرض الواقع ،الجمال كمفهوم غير موجود ،الموجود
أشخاص هم أو هن جميلون ،فاألشياء موجودة مفاهيمها غير موجودة على أرض الواقع.
لسنا بحاجة إلى الحواس في عًلقتنا بالمفاهيم -وال نقصد كل الحواس -أي لسنا بحاجة إلى
شيئا بالحاسة ،نحن بحاجة إلى وعي والى تصور وآراء.
نختبر ً
األشياء المحسوسة تحتاج إلى حواسنا ،في الحواس -وهي خمس كما تعلمون -ال وجود
مجاز ،أجدادنا كانوا يقولون عنها :الحس المشترك ،أي جماع الحواس
ًا لحاسة سادسة ،هي تقال
الخمس .هذه الحواس هل هي رسلنا إلى الجمال؟ هذه الحواس هل هي قنواتنا إلى الجمال أم أ ّن
بعضها له عًلقة بالجمال ،وبعضها ال عًلقة له؟
منذ القرن التاسع عشر أطلق علم الجمال اسم (الحواس الجمالية) ويقصد المسمع والبصر
جميعا تشترك في التلقي
ً وهناك من يعترض على نظرية الحواس الجمالية ،ويقول :الحواس
الجمالي.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
أن مفهوم الحواس
إذا كان علم الجمال المعاصر قد اقترح هذا المصطلح فهذا ال يعني ّ
موجودا قبل ذلك.
ً الجمالية لم يكن
الفًلسفة والمتصوفة تحدثوا عن هذا األمر ،إخوان الصفا ينشؤون صفحات حول آراء الفًلسفة
أي الحاستين أفضل؟ وأي الحاستين توصلنا إلى األشياء بدقائقها؟
في ِّ
وحين عرض إخوان الصفا إلى اآلراء كانوا يحاولون تفضيل واحدة على أخرى ،فمفهوم
موجودا منذ القديم.
ً الحواس الجمالية كان
في تراثنا اعتبرت الحواس رسلنا إلى الجمال المبدد على صفحات الكون بتعبير ابن الدباغ،
رسًل فهي التي توصلنا إلى الجمال ،هي التي تبلور
هذه الحواس موجودة لدى الحيوان ،إذا كانت ً
الجمال ،هل الحيوان يحس بالجمال؟ في تراثنا تمت اإلجابة بنعم ،وهناك كثير من اآلراء تؤكد
ذلك .تحدثوا عن الحداة الذين كانوا يغنون للناقة كي تسرع ،وعن الصفير الذي يقومون به لكي
تشـرب الخيل ،وهنالك من يتحدث عن الطيور التي تأنس بتغريدها ،وهنالك نفوس تهدأ بمجرد
المتعب قد يهدأ أو يتعب بالموسيقا.
َ سماع تغريد الطير .ويقولون:
ليست مسألة الجمال أن يكون لدي حاسة توصلني إليه ،إنما الحاسة يجب أن تربط بتصور
عن الجمال ،فحواسنا تساعدنا بتلمس تصورنا عن الجمال ،لكن مجرد االتصال دون مفهوم سابق
يعني أننا أمام أشياء حسية واتصال بيولوجي فقط.
عندما أضع يدي على الطاولة أحس بالنعومة أو بالخشونة ،أوال أحس ال بهذا وال بذلك ،هذه
حلوا ،فهو
حامضا أو ً
ً طعما
ً تماما كما لو تذوقت
أحاسيس غير جمالية ،إنما بيولوجية بحتً ،
أيضا
إحساس بيولوجي عضوي له عًلقة بعضويتنا التي تميل باتجاه الحلو وتنفر من الحامضً ،
الحيوان ينفر من روائح معينة ،هذه المسائل ليست وحدها التي تشكل الجمال.
عندما نمتلك الحواس بالتأكيد سنتواصل مع األشياء ،لكن حين يكون هناك تصور أو مفهوم
عن الجمال فسوف يرتقي إحساسنا بالجمال.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
أما االتصال الحسي المباشر فهو عضوي أو بيولوجي يدلل على وجود الشـيء وعلى سًلمة
مكانا فيه روائح طيبة وال نشمها فالمشكلة في حواسنا ،لكن حين تكون
حواسنا ،عندما ندخل ً
الحواس سليمة نشم.
الحواس ليست كلها بالسوية نفسها ،الحواس الخمس تقوم بواجبها على أفضل وجه توصلنا
بالمسموعات بالمذوقات بالمشمومات بالمرئيات بالملموسات ،بحيث تغطي الكون كله حسيًّا.
لكن ما تغطيه حاسة البصر تغطيه حاسة السمع ،أجدادنا اعتبروا أن أشرف الحواس السمع
والبصـر واختلفوا في أي الحاستين أشرف من األخرى؟
أسًلفنا ميزوا بين حاستي السمع والبصر والحواس الثًلث األخرى ،وفي علم الجمال المعاصر
اعتبرت الحواس جمالية وغير جمالية.
هنالك من يقول :الحواس الثًلث ال عًلقة لها بالجمال ،إنما توصلنا باألشياء فحسب ،توصلنا
مثًل ،والروائح ال معنى لها .بعض الروائح تثير فينا عًلقة ما ،هناك من تذكره
بالروائح ً
بشخص ،أو بلحظة عاشها ،العطر الجميل الذي شممته في لحظة عذاب كلما شممته ستتذكر
أيضا ال داللة ثقافية لها.
لحظة العذاب ،معطيات حاسة الذوق ً
القرآن الكريم فيه كل المعاني ،لكن كلما سمعنا قرًآنا نقول :من مات؟ هل يتصل القرآن
بالموت؟ إطًلقًا.
ًّ
جماليا ،وهنالك تفسيرات لعدم اعتماد الحواس إ ًذا السمع والبصر هما الحاستان المعتمدتان
األخرى ،والسمع والبصر لهما أبعاد ثقافية تعكس الحواس األخرى ،ويتصًلن بالمعطيات عن
البد من االتصال ،حتى في حاسة الشم ،فكلما َب ُعد اإلنسان عن
بعد ،في حين مع الذوق واللمس ُ
الرائحة تتًلشى الرائحة ،في حين حاسة البصر كلما ابتعد اإلنسان عن المشهد استوعب أكثر،
فنونا خارج هاتين الحاستين.
هاتان الحاستان تتصل بهما الفنون كلها ،ال نجد ً
ليس لدينا فنون الشم وفنون الذوق ،فن الطبخ لًلستهًلك ،وهو فن تطبيقي ُيستهلك بسـرعة
غالبا
عموما تلمس ،والسمعيات ال تلمس .و ًً كبيرة ،النحت فن بصـري نلمسه ،والبصـريات
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
البصـريات تلمس ،ولو ذهبت حاسة السمع لدينا نكون قد فقدنا السمع بشكل كامل في حين إذا
افتقدنا حاسة البصر فيمكن أن نلمس ما ال نستطيع أن نبصره.
حين نتحدث عن الحواس ليس الغاية فقط المتعة الجمالية ،ألن هذه الحواس لها قيمة في
الوصول إلى الفن.
اإلنسان كائن ثقافي ،وكل ما يتصل به اإلنسان يغدو ذا بعد ثقافي اجتماعي ،وهذه الحواس
ألما.
ذات الدالالت الثقافية إما أن تقدم لنا في اتصالها باألشياء لذةً أو ً
في تراثنا القديم ُعرفت اللذة بناء على تعريف أرسطو بأنها إدراك المًلئم في حين أن األلم
إدراك المنافي أو المنافر.
اللذة تتصل بالمًلئم واأللم يتصل بالمنافي أو المنافر .ما المقصود بالمنافي أو المنافر؟ حين
تشم رائحة طيبة تلتذ ،وحين تشم رائحة كريهة تنفر.
إذا أُصبت بالزكام هل أستطيع أن أشم؟ ال ،نحن نتحدث عن الحواس السليمة التي ال
يعترضها أي شيء ،بالرغم من أن المتكلمين في تراثنا أكدوا أن كل األشياء إما أنها مًلئمة أو
منفرا.
مًلئما أو ً
ً منافرة إال أن معظمهم أشار إلى وجود ما ليس
لو قلنا ذلك لقزمنا الجمال ،الجمال أوسع من أن نرتاح أو أن نلتذ ،الجمال يمأل علينا كلنا
وروحا ،يأخذنا بكاملنا.
ً ونفسا
حاسة ً
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
المتعة الجمالية مغايرة بنسبة ما عن اللذة البيولوجية ،وليست مناقضة ،أي اللذة البيولوجية قد
أحيانا ال أتمتع باللذيذ فقط بل أتمتع بالمؤلم.
تكون مستوى أوليًّا ،و ً
الجمال أنواع ومستويات فيه حزن وبهجة ولذة ،ال نستطيع أن نصنف الجمال بحقل شعوري
واحد ،وكل تصنيف بحقل واحد هو تقزيم له.
علينا أن نحدد الجمال باللذة والراحة ،لو لم نكن على مستوى الجمال لما بقينا نتابع المسلسل.
إ ًذا المتعة الجمالية أوسع من مسألة اللذة والراحة ،ألنهما يبقيان في المستوى البيولوجي في حين
المتعة تتعلق بما هو روحي.
أوًال :إن تلقي السمع والبصر من بعد بخًلف الحواس األخرى مما يؤدي إلى فقدان المسافة
النفسية أو التنزه عن الغرض.
ثانيا :السمع والبصر أشد رهافة وحساسية من الحواس األخرى فهما تميزان االختًلفات على
ً
نحو أدق.
ثالثًا :تفتقر الحواس الدنيا إلى وسيط فني ،ولذلك فهي بدائية ًّ
ثقافيا.
الحواس العليا تميز االختًلفات النوعية فأستطيع أن أميز بين لونين مهما كانت درجة
ضئيًل ،أما
ً االختًلف بينهما ،وأستطيع أن أميز بين الخطوط واألشكال واأللوان مهما كان الفارق
في الروائح فًل أستطيع أن أمسك بالفرق النوعي بين رائحتين.
عندما نتذوق نقول :ربما يحتاج الشاي إلى مزيد من السكر ،في حين في السمع نميز بين
ضئيًل وهو أمر غير متاح في
ً أصوات األصدقاء وأبناء الحي مهما كان الفرق بين أصواتهم
حاسة الشم.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
المسافة التأملية :التلقي من بعد يجعل بيننا وبين الشيء مسافة نفسية ،إذ نستطيع أن نتلقى
الشـيء بشكل أفضل ،ما نلتحم به ال نعاينه بشكل جيد ،وهذا في البصر ،في حين ال أستطيع
أن أفصل نفسـي عن الرائحة ،فًل مسافة نفسية مع الرائحة ،في حين في السمع والبصر نتأمل
األشياء عن بعد.
لذلك نرفض إغًلق التلفاز عندما نتألم ،ألننا أمام استقًلل نفسي ،لكن لو جاءت رائحة كريهة
لكنا ابتعدنا مباشرة.
التنزه في الغرض :هو أال يكون منفعة فيما أسمع وفيما أرى في حين في التذوق يكون هناك
منفعة بسبب التداخل بين النافع واللذيذ.
جميًل لن آكله ،لكن حين أشتم رائحة طعام لذيذ فسآكل وعلى األقل
ً عندما أسمع صوتًا
سأتذوق.
دائما ،امرؤ القيس شاعر ،ما خلّده ليس أنه شاعر ،إنما قصائده هي
عمًل ً
الفن هو ما ينتج ً
حاضرا.
ً البد من القصيدة حتى يكون الشاعر
التي بقيت وهي التي خلدتهُ ،
اللذة البيولوجية:
هي لذة حسية غريزية فطرية بحت ،لذة غير مستقلة عن موضوعها ،أو ال مسافة بينها وبين
موضوعها ،عًلوة على أنها في شطر كبير منها تتم عبر استهًلك الموضوع ،مثل لذة الطعام
ولذة الشـراب ،واللذائذ الشهوية األخرى أو مثل لذة الشوق والملمس فمنها ما يتعلق بسد الحاجة
ومنها ما يتعلق بالحصول على الراحة ،وبالرغم من أن اللذيذ والمريح يدخًلن في تكوين الممتع
ًّ
جماليا فإنهما ال يستنفدانه إطًلقًا.
المتعة الجمالية:
3 7
اجتماعي وفردي
ومما هو موضوعي و هي متعة متركبة مما هو حسي ونفسي وروحي،
ولذلك فهي ذات شحنة انفعالية عالية تستولي على الذات فتجعلها تذهل عما وعمن حولها ،فهي
إ ًذا متعة حسية الستلذاذها بالموضوع ومتعة نفسية النفعالها بالموضوع ,ومتعة روحية
المتالئها القيمي الروحي.
-37نقصد بالروحي هنا خالصة الثقافي ،ونميز عادة بين الروحي والروحاني ،الروحي له عالقة بالثقافة ،والروحاني لها
عالقة باإليمانيات.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب
جامعة حماة
كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية
الدكتور ياسر عبد الرحيم دراسات في علم الجمال قسم اللغة العربية س 4
المتعة الجمالية تختلف عن اللذة ،ألن لها جانب نفسي وروحي ،فهي أشمل وأعم من مسألة
اللذة أو مسألة الراحة ،وهي أعظم من أن يستطيع الحيوان اإلحساس بها.
الحيوان يلتذ بطعم أو برائحة أو يرتاح بصوت ،لكن أن يستمتع جماليًّا فهذه خاصة إنسانية
بحت ،عندما نقول هذا :ال ننفي عن الحيوان التلذذ إنما نقول :المتعة الجمالية خاصة باإلنسان،
لذلك كلما استمتعت بالجمال حققت إنسانيتك بالجمال نحقق وجودنا عبر المتعة والحضور وعبر
معرفة األشياء.
المتعة الجمالية تتصل بالمعرفة وال نقصد بالمعرفة ما هو نظري ،أنا ال أستطيع أن أستمتع
شيئا دون أن أعرفه.
بشـيء أو أن أحب ً
ًّ
جماليا ،وكيف ستقول عن شيء ما :إنه جميل ما نجهله ال نستطيع أن نستمتع به وأن نقومه
وأنت ال تحيط به وال تعرفه.
يشوه المتعة الجمالية ،أسمع قصيدة فأفكر بأن هذه الكلمة صحيحة ،وتلك غير
أحيانا العلم ّ
ً
صحيحة.
دراسات في علم الجمال إعداد الدكتور ياسر عبد الرحيم أستاذ مساعد مادة علم الجمال في جامعة حلب كلية اآلداب