Professional Documents
Culture Documents
التربية الجمالية الأسس الفلسفية والاستعمالات البيداغوجية (تسويد
التربية الجمالية الأسس الفلسفية والاستعمالات البيداغوجية (تسويد
التربية الجمالية الأسس الفلسفية والاستعمالات البيداغوجية (تسويد
ترتبط التربية الجمالية بسياق ثقافي وسياسي يحدد مكانة الفن والقيم الجمالية داخل المنظومة
التربوية .لذلك ،فإن معالجة سؤال الحاجة إلى الفن والتربية الجمالية تقتضي صياغة تصور واضح حول
نريده ونأمله منهما ،ألن طرح هذا السؤال قبل بناء تصور واضح للرهان الجمالي من شأنه أن يسقطنا في
أخطاء أطروحات تتوسل الفن في التربية بوصفه إضافة نوعية دون أن تحدد أي قيم جمالية نروم؟ وألجل
أي نموذج من التربية؟
تنبع حاجتنا إلى المعالجة الفلسفية لمفاهيم التربية الجمالية من قضيتين أساسيين تؤكدان مشروعية
البراديغم الجمالي :تتعلق األولى بحاجة المدرسة والمجتمع إلى تربية جمالية تستعيد الفن والفرجة بوصفهما
رأسماال رمزيا يتعين عليها توظيفه من أجل منافسة أشكال الفرجة العنيفة التي استلبت األطفال والمراهقين
باعتمادها منطق االستثارة واالشباع المفرط للحواس على حساب الفكر النقدي ،وتغذية الرغبة خارج إطارها
المعقول ،مما يدعونا إلى تربية جمالية تعمل على التهذيب المزدوج للحس والخيال والعقل والنقد ،بوصفها
الدرب األصيل نحو استعادة إنسانية افتقدناها بفعل استيالب هذه الوسائط العنيفة.
وترتبط القضية الثانية بالحاجة إلى تغيير منظورنا للممارسة التربوية التقليدية التي تركت فراغا
في الحس والعاطفة عوضه استبداد الفرجة ومشروعها االستهالكي الذي ترعاه شركات عالمية تتغذى على
المشاهدة واإلشهار.
يؤكد أالن كيرالن Alain Kerlanبأن تغييب الذاكرة الفلسفية والثقافية في معالجة سؤال الحاجة
إلى الفن والتربية الجمالية يؤدي إلى نتائج وخيمة .وذلك" ،أوال ،ألن هذا األمر من شأنه أن يفصل سؤال
الفن في التربية عن جذوره التاريخية والفلسفية والثقافية ،وفي اآلن ذاته ،يؤدي إلى تجاهل العمق واألهمية
السياسية واألنثربولوجية .وثانيا ،يؤدي تغييب الذاكرة إلى خطر تكرار وإعادة اكتشاف ساذج لما تم التفكير
فيه بشكل أفضل حول هذا السؤال".1
1
Kerlan, Alain. «transmettre la liberté: perspectives philosophiques et historiques.» . in Ardenne, Paule; Jean-
Marc Vernier et al. Transmettre art- pedagogie- sensible. Toulouse: éditions de l'Attribut, 2018. p.p : 23-44.
p :24.
اخترنا لتوضيح الجمالي االشتغال على ثالث تجارب فلسفية مؤسسة لتربية جمالية وفنية ،حاولت
رأب صدع بين اإلحساس والعقل ،والخيال والواقع ،واللعب والعمل ،والفن والحياة .وهي:
فريدريك فون شيلر Friedrich Von Schillerفي رسائله حول التربية الجمالية.
جون ديوي John Deweyومنظوره الجمالي للتجربة الفنية والتربوية.
تأويليات العمل الفني عند هانز جيورج جادامير .Hans-Georg Gadamer
إن استحضار هذه التجارب يدفعنا إلى طرح األسئلة التالية :ماذا نريد من الفن والتربية الجمالية؟
لم الفن اآلن؟ وما حاجة الباحث والممارس التربويين إلى التربية الجمالية؟ ما العالقة بين التجربة الجمالية
والتجربة التربوية؟ وما اإلمكانات التي تتيحها األسس األنثربولوجية للعمل الفني بالنسبة إلى اإلنسان بوجه
عام والمتعلم خاصة؟
.1التربية الجمالية حاجة إنسانية
تشكل فلسفة فريديريك فون شيلر Friedrich Von Schillerالجمالية فرصة لمناقشة
ماهية ودور التربية الجمالية بالنسبة إلى اإلنسان بشكل عام ،والطفل بشكل خاص ،ومساءلة وضعها
االعتباري في الحياة المدرسية ،وما إذا كانت تقتصر هذه التربية الجمالية على تعلم بعض التقنيات
األولية في الفنون البصرية والتعبيرية وعلى اكتساب بعض المعارف المتعلقة بتاريخ الفنون ،أم أنها
تهدف إلى بلوغ اإلنسان حالة من الوعي الجمالي تتمظهر في مختلف أنواع السلوك البشري ،وتحقق
اكتمال إنسانيته وحريته؟
يقول شيلر في الرسالة الثانية" :إن النهج الذي ينبغي أن نتبعه لحل المشكل السياسي هو
اعتباره مشكال جماليا ،إذ بالجمال نلتحق بركب الحرية"2؛ وليس هذا مجرد قول فيلسوف رومانسي
حالم بتغيير واقعه السياسي واالجتماعي البئيس ،والذي ال نزال نعيشه ،بل إنها نظرية جمالية في
التربية نابعة من تحليل دقيق للطبيعة البشرية ،وللوضع الذي يعيشه اإلنسان في ظل استالب الحياة
الحسية واألخالقية نتيجة سيادة العقالنية العمياء ،وسيادة النزعة النفعية L'utilitarisme3التي
عوضت الفن وقيمه ،وانحرفت باإلنسانية نحو طغيان الوظيفية واالنحطاط األخالقي.
يعيش اإلنسان الحديث نوعا من االغتراب بين حلم بلوغ حياة أخالقية سوية وواقع مليء
باألنانية والوصولية ،وبين طبيعة حيوانية تواقة إلى التعدد وعقل موضوعي يجسده قانون غريب عن
الذات يوحد الناس وينظم حياتهم االجتماعية؛ وبالمثل ،تتصارع داخل الحياة المدرسية ذات واقعية
مفعمة بالغرائز واألحاسيس ،تسعى إلى إثبات ذاتها وتفردها ،مع نظام تجسده المؤسسة التي تحول
المتعلم والمدرس إلى وظيفتين صوريتين .وبين هذه وتلك ،يوجد شرخ ال يمكن رأبه إال بحالة جمالية
تجمع العقل بالحس ،وتضمن التعدد داخل الوحدة ،وتحدث نوعا من التوافق بين المبادئ العقلية
واالنفعاالت الحسية والوجدانية .وبدون هذا التوافق سوف تبقى إمكانية تحقيق الحرية السياسية
واالجتماعية أمرا مؤجال وبعيد المنال ،ولن تكون هناك إمكانية للتربية.
2
Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Traduit par Robert Leroux. Québec :
Édition numérique à Chicoutimi, 2012. p :78.
3النزعة النفعية هي تيار سياسي وأخالقي وظاهرة اجتماعية ،تقوم على مبدأ الرفع من اإلنتاج ،وتؤسس األخالق على العمل واحترام القانون
الوضعي الذي يضمن استمرار فاعلية اإلنتاج .تعتبر النزعة النفعية من مخرجات لحظة الحداثة وسلطة التقنية وقد انتقدها شيلر وهيدجر ،وكذلك
مدرسة فراكفورت في إطار ما يسمى بالعقل األداتي الذي يوجه اإلنسان بوصفه وسيلة لإلنتاج ال غير .ينبغي في هذا الصدد التمييز بين النزعة
النفعية والبراغماتية التي قادها ويليام جيمس وجون ديوي ،ألن البراغماتية على عكس النزعة النفعية تؤسس القيم األخالقية على الواقعي والنافع،
وتضفي النسبية على القيم اإلنسانية ،ولكن ال تلغيها على حساب المجتمع اإلنتاجي.
يكمن الحل ،بالنسبة إلى شيلر ،في اعتبار المشكل السياسي واالجتماعي مشكال جماليا ،إذ
"بالجمال نتوجه صوب الحرية" .4فمن أجل تحقيق انتقال أخالقي حقيقي ،يحتاج اإلنسان إلى تربية
جمالية أكثر من أي وقت مضى ،ما دامت طبيعته عاجزة لوحدها عن تحقيق التناغم بين الغريزتين،
كما أن نظام الحياة السياسية واالجتماعية الحديثة غير قادرة على تحقيق حلم حياة أخالقية حرة.
إن المهمة التي يجب أن تضطلع بها التربية الجمالية حسب شيلر ،هي مهمة توحيد الطبيعة
البشرية ،وتقديم الدعم الالزم للحياة السياسية من أجل تحقيق الحرية .فالجمال هو الكفيل بحملنا إلى
عالم مكتمل ال تتصارع فيه القوى مع بعضها البعض ،بل تتوحد داخله الغرائز المتناقضة عبر التكوين
الحسي والعقلي الذي يحول التناقض إلى تكامل ،و يجعل اإلنسان أكثر استعدادا لتقبل التعدد الحسي
والعاطفي الذي يكتنف حياته الواقعية ،واالرتقاء به إلى الكوني الكفيل بتحقيق "التوازن األكثر اكتماال
بين الواقع والصورة".5
إن التجربة الجمالية هي الكفيلة بتحقيق الوحدة اإلنسانية ،ألنها هي وحدها من يملك قوة
الربط بين الروح واإلحساس ،لقدرتها على ربط أبعاد اإلنسان الحسية بقواعد العقل ،وصوال إلى
تأسيس حرية إنسانية داخل حياة حسية ال يلزم عنها ضرورة التضحية بجانب من جوانب الحياة
االنسانية.
تلعب التجربة الجمالية ،تبعا لما سلف ،دور وسيط بيداغوجي ال مناص منه لتحقيق هذا
االنتقال األخالقي المنشود ألنها بطبيعتها تجربة مكتملة ،إن لم نقل عنها إنها ماهية التجربة اإلنسانية
نفسها ،خاصة وأنها تعكس الحرية في طبيعتها المزدوجة :فالحرية اإلنسانية ليست مفهوما مجردا
يبلغه العقل بممارسة الرقابة على الحواس ،ولن تنال بالتقاعس عن التفكير وتعطيل اإلرادة العاقلة
وترك العنان العتباطية الحواس .وكما أنه ال وجود لحرية خارج الحياة الحسية ،فال مجال لتحقق هذه
الحرية خارج ارتباط العقل بالحس والعاطفة .فالعقل ال يكتسب حريته وقوته إال بارتباط الشخص
بالعالم ،والحياة ال تكتسب معناها إال بعقلنتها وتهذيبها.
يقابل شلير بين تجربة الفنان والحرفي ،مماثال في مناسبة أولى بين عمل الحرفي وعمل العقل
الممثل في الدولة أو المؤسسة؛ إذ تفرض قوانين الدولة على الذات تصورا قبليا للمواطن النموذجي
غير آبهة بما يميزه على المستوى الحسي والعاطفي؛ ومثلها في ذلك كمثل حرفي يحول المادة قسرا
4
Ibid. p : 76.
5
Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Op.cit. p :146.
من أجل خدمة صورة مسبقة ،فيرد المادة إلى الصورة بغير أن يتوانى عن تعنيفها من أجل بلوغ
الكمال الذي ينتظره منها في ذهنه ،ألن المادة "ال تستحق ،بالنسبة إليه ،أدنى احترام".6
شتان بين الحرفي والفنان .فنان شيلر هو ذلك "البيداغوجي والسياسي الذي يجعل من اإلنسان
مادته وغايته" ،7ويمنح بخالف الحرفي ،تقديرا أكبر للمادة ولطبيعتها ،فال يلغي الجزء أو التعدد
على حساب الصورة ،بل يسمح بإبراز قوة كل منهما بفضل تعاضدهما داخل العمل الفني.
إن العمل الفني الحقيقي هو الذي يكثف الشكل والمضمون داخل وحدة جمالية مركبة ال يمكن
اختزالها في الجانب الشكلي أو الروحي فقط ،وكما يقول شيلر" :ترتقي العناصر الجزئية إلى الفكرة،
ويصير الكل في تناغم معها".8
يعطي الفنان الصورة حياة بتحويلها إلى محسوسة متجنبا فرض قواعد صورية قبلية عليها.
تذكرنا أعماله الفنية بأن اإلنسان قادر على تكوين ذاته وإعطاء معنى للحياة ،وذلك ما دفع شيلر إلى
أن ينسب للفنان دورا نموذجيا في التربية الجمالية.
يصور لنا شيلر من خالل استعارة الفنان نمط عيش جمالي ينطوي على سيرورة تشكيل،
يتحول بموجبه المحسوس إلى معقول ،ويصبح المعقول ،بدوره ،متجسدا في الحياة الحسية.
إن واقع الممارسة الفنية ونزوعها نحو المثالية واالستقالل عن الواقع قد حد ،في نظر شيلر،
من وقع الفن في النفوس وجعل مجاله ضيقا مقارنة بالعلم والتقنية ،الشيء الذي آل بالفن إلى أن "يفقد
وزنه في هذا الميزان المبتذل للعصر".9
والحال أنه ال يمكننا تغيير واقع اإلنسان الحديث التواق إلى التقنية بكيل المديح إلى الفن ،كما
ال يمكن توقيف المجتمع وإعادة بناء مجتمع مواز يغير واقع النزعة النفعية التي ال تزال سائدة إلى
اآلن ،وشيلر نفسه على وعي بالطبيعة المركبة للمهمة ،إذ "ينبغي إصالح الدولة أثناء حركتها"،10
وضمان استمرار المجتمع والبحث عن الدعم في أنماط السلوك اإلنساني عندما تلتقي الغريزتان
الصورية والحسية في اللعب.
تتجلى مهمة التربية الجمالية ،حسب شيلر ،في تحقيق حالة من التوسط واالعتدال بين الجمال
الحيوي والمهدئ ،وتحويل هذين الصورتين الجماليتين إلى مثال الجمال ،وذلك عبر تهذيب غريزة
6
Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Op.cit. p : 85.
7
Ibid. p : 86.
8
Ibidem.
9
Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Op.cit. p :77.
10
Ibid.p : 82.
اللعب .فإذا غلب الحس والعاطفة على العقل ،استدعت التربية الجمالية اللعب المهدئ من أجل احتواء
الغريزة الحسية ضمن حدودها الجمالية ،وإن تراخت العزيمة في النفس ،وغابت األحاسيس عن
العمل ،احتاجت الذات إلى دفعة طاقية من أجل تحقيق التوازن األكثر اكتماال بين الصورة والواقع.
تقود التربية الجمالية "اإلنسان العاطفي إلى الصورة والفكر ،وتعيد ارتباط اإلنسان الروحي
بعالم المادة والحواس" ،11فتحقق المسافة السعيدة تجاه الحواس والعقل .ال يقلص الجمال من حدتهما
أو يغلب أحدهما على اآلخر ،بل يوظفهما على نحو أمثل؛ إذ يتحول الفرد بالتهذيب الجمالي إلى
شخص حر في ممارسته ،وليس عبدا لغرائزه الحسية أو العقلية.
يؤكد شيلر أن الدور الحقيقي المنوط بالتربية الجمالية هو "تهذيب الغريزتين ومنحهما معا
الحرية المناسبة"12؛ فالغريزة الحسية تتقوى من خالل فاعلية اللعب الحرة .ألن الواقع يفقد طابعه
النفعي عندما يحول اللعب النشاط العقلي لإلنسان إلى عقالنية منفتحة على العاطفة وليس على حسابها،
ف تكتسب الغريزة العقلية حريتها وقوتها بالشغف والمتعة التي تنجم عن تحدي اللعب ،وتكتسب الحياة
الحسية معناها بعقلنتها وتهذيبها باتباع قواعد اللعب بعيدا عن الكسل ومظاهر تعطيل التفكير.
تروم التربية الجمالية تحقيق التصالح والتضامن بين الحياة الحسية والقوانين العقلية ،وإعادة
االعتبار للمكونين الوجداني والجسدي أثناء الممارسات التربوية ،وإضفاء المتعة والتحدي على
النشاط التربوي بوصفه نشاطا يقوم على اللعب من حيث هو غريزة إنسانية تغذيها التربية الجمالية.
تعتبر التربية الجمالية ،من هذا المنظور ،مشروعا تربويا ينعكس على وعي األفراد
وممارساتهم في المدرسة ،بوصفهم فاعلين تربويين ،أو خارج المدرسة ،بوصفهم مواطنين ،وهو
مشروع يقوم على قبول التعدد والمصالحة بين العقل والجسد والعاطفة ،وتوظيفهم الخالق من خالل
الوظيفة الجمالية للعب .إنه مشروع بناء إنسانية متناغمة وحرة :أي مشروع ينشد تحرير العقل والحس
من النزعة الوظيفية التي تقتل اإلبداع وتقبر االختالف.
وتبعا لذلك ،تقدم التربية الجمالية مشروعا تربويا بديال للنموذج البيداغوجي الوضعي ،ساعية
إلى إعادة االعتبار للجوانب الحسية والوجدانية التي غيبها هذا النموذج ،بفعل نزعته التقنية وميوله
إلى إلغاء البعد الحسي باسم الفعالية والنجاعة ،مما يدفعنا إلى إعادة النظر في جوانب وحساسيات
ظلت مهمشة في البحث التربوي ،كالجنسانية ،ولغة الجسد ،واللعب ،والمتعة.
11
Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Op.cit. p :156.
12
Ibid. p : 146.
إن تعطيل الجسد والعاطفة أثناء الممارسة التربية ال يلغيهما ،بل يجعلهما في صراع مع
قدرات الفرد العقلية ،وذلك قبل أن ينتقل هذا الصراع من الذات إلى الغير لينعكس سلبا على جماعة
القسم ،ويحول الحياة الفصلية إلى مجال للعنف المتبادل ،أو للنفور والشرود والملل والالمباالة في
أحسن األحوال .تمثل قيمة التربية الجمالية خيارا ضروريا من أجل تهذيب الذوق ،واالرتقاء
األخالقي ،وصوال إلى بناء عالقات إنسانية على أساس تحرير الذات من صراعها الداخلي بين ما
هي عليه وما تريد أن تكون عليه ،وتقبل التعدد ،والعيش في تناغم مع اآلخر ،وإذكاء روح اإلبداع.
أسس شيلر مشروعا إلنسانية متناغمة ال تلغي الحس والجسد ،بل تجعلهما طريقا لبلوغ حياة
أخالقية تقبل التعدد ،وتؤول بهذا التعدد إلى وحدة تتصالح وتتناغم في نطاقها الغرائز اإلنسانية من
خالل تهذيب دافع اللعب ،ألنه من الحاجيات العليا للمتعلم ،وتقوده إلى اكتمال إنسانيته المتناغمة
والحرة على صعيد وجوده الفردي كما الجماعي.
يمكننا التمييز في مشروع ديوي الفلسفي بين مطلبين أساسيين :يتعلق األول بنقد "الفن
المتحفي" ،ومحاولة وصل الفن واإلحساس الجمالي بالتجربة العادية واليومية التي يعيشها اإلنسان
في الحياة العملية والفكرية .وهذا المطلب يحتاج إلى تعليل في ظل تاريخ من النظريات والمذاهب
الجمالية التي تقصي الفن من الحياة المدنية ،وتعزله عن الممارسة العملية.
وكما يقول ديوي في كتابه "الفن خبرة" أو الفن تجربة" :ينبغي البحث في أصول الفن
وجذوره في صميم موضوعات الخبرة العادية التي ال نعدها في العادة ذات طابع جمالي ،وحين نكون
قد تمكنا من اكتشاف تلك البذور الفعالة ،فسيكون في وسعنا عندئذ أن نتتبع مسار نموها ،حتى نصل
إلى أسمى صور الفن الراقي المكتمل".13
وأما المطلب الثاني ،فيرتبط بفن الحياة ،ويمتد بالفن ليشمل كل مناحي الحياة العادية ،وما
يستلزمه ذلك من تحديد لخصائص التجربة الجمالية وكيفية العيش بطريقة جمالية .وأما هذا المطلب
فيعوقه عجز التجربة العادية عن اتخاذ صور جمالية صريحة ،إذ كيف يمكن للعادي أن يرتقي إلى
الجمالي في ظل التشذر الذي تعرفه التجربة العادية في عصر التخصص والتقنية؟
13جون ديوي ،الفن خبرة ،ترجمة زكرياء إبراهيم ،تقديم ومراجعة زكرياء نجيب محمود ،المركز القومي للترجمة ،القاهرة ،بدون طبعة،
،2011ص .24
أ .نقد التصور المتحفي
ينهل التصور المتحفي للفن من نظريات نقدية ومذاهب جمالية "تقصي الفن في منطقة ال
تسكنها أي خليقة غيره" ،14وتعزل الفن بعيدا عن مختلف أنواع التجارب الفكرية والعملية التي يعيشها
اإلنسان ،وهي نظريات يعزوها ديوي إلى ظروف ال ترتبط بطبيعة العمل الفني نفسه ،بل تمتد إلى
صميم الحياة العملية ،لتعكس تشذر النشاط البشري في المرحلة الحديثة.
لقد كان الفن فيما مضى جزءا من الحياة العامة ومن الطقوس االحتفالية والدينية ،وأداة لتعليم
الناس ،ووسيلة إل حياء الروح الوطنية والدينية التي تجسد قيم الجماعات واألفراد وتحاكي الممارسة
البشرية والتجربة العادية.
تنتج الخبرة الجمالية للفنان عن تفاعل بين الفنان وبيئته "تندمج فيها العوامل الداخلية
والخارجية إلى الحد الذي يفقد معه كل منها طابعه الخاص" ،15فال هي ذاتية خالصة نابعة من نزعة
سيكولوجية للفنان ،وال هي موضوعية خالصة تحكمها عوامل خارجية ،والهي ذهنية خالصة أو
حسية م حضة ،بل هي صيرورة بناء ال يمكن الفصل فيه بين الكائن وبيئته.
كان للفن معنى وداللة ألنه كان من صميم الحياة ،فأصبح معاقا بفعل انعزاله عنها .وحتى
مساعي الدول والشعوب الفتتاح المتاحف وتمويل الفنون إلبراز حسن ذوقها الثقافي -حالها حال
مدارس الفنون -ليس إال نوعا من اإلدعاء الحضاري الذي يخفي اغتراب الفن واستالب اإلنسان في
عالم يعج بالمنبهات الميكانيكية وتأثيرات زخم الصورة ،واألفكار السطحية والمصطنعة ،دون أن
يكون لها إحساس عميق بالحياة.
يكتسب الفن قدرته الخالقة من تفاعل الذات مع بيئتها ،وقدرتها على االختيار وإعادة التنسيق،
من خالل عملية تحويل ،بين الطاقة ال صادرة عن الذات والطاقة الواردة من البيئة ،تستحيل بموجبها
الخبرة الفنية إلى خبرة جمالية .فالتجربة الجمالية تقوم على توازن وتناسب بين الفعل واالنفعال وبين
العمل والمعاناة ،وبين الماضي والمستقبل ،وتقوم ،بالتالي ،على استثمار هذه العناصر بشكل حيوي
ومندمج داخل التجربة الجمالية قصد توسيع إمكاناتها ،والتي تنقطع بالتفريط بأحد حدي هذه العناصر.
إن ما يجعل الفن مثاال للتجربة الجمالية هو أنه يخلق توازنا بين الفنان وبيئته ،وبين فكره
وأحاسيسه ،و"إذا ما أريد للصناعة أن تصبح فنية ،بالمعنى القاطع للكلمة ،فيجب أن تستحيل إلى
ضرب من "التعلق" أو "الحب" .16أما الفنان ،فيمثل الذات المشغولة بالعالم الذي تعيش فيه ،والساعية
إلى االنخراط الواعي في صراع حيوي ينشد ربط هذه الذات بموضوعها بنوع من االهتمام العاطفي
ينطوي كل تفاعل على فعل وانفعال بين اإلنسان وبيئته ،علما أن جون ديوي استلهم مفهومه
عن "البيئة" من البيولوجيا وعلم النبات ،ومن صراع الكائنات الحية من أجل التكيف والبقاء.
تعكس "التجربة السوية " صيرورة الكائن الحي وتحوالته في مجرى صراع حيوي يعتبر
عصب الحياة ،في حين تعتبر "التجربة غير السوية " استسالما وفناء ،أو هي ،في أحسن الحاالت،
تجربة تكرار آلي جامد يلغي بذور كل صراع حيوي.
وتبعا لذلك ،ال يمكن للصورة الجمالية أن تتحقق إال ببلوغ الكائن الحي حالة من التوازن
الحركي بين طاقته الخاصة وطاقة بيئته ،وهو توازن إيقاع حياة جميع الكائنات الحية ،بما فيها
اإلنسان .وإن زاد الطابع المركب للوضع البشري من شدة إيقاع هذه الحياة بالنسبة إلى اإلنسان نتيجة
الصعوبات والمعيقات اإلضافية التي تفرضها عليه بيئته الطبيعية واالجتماعية والتاريخية ،فإن ضبط
إيقاع حياته يستدعي جهدا وممارسة واعية .مثله في ذلك كمثل لحن بهيج ال يتألف إال بضبط إيقاعات
النوتات الموسيقية.
ليست "الخبرة" استالما للفوضى التي يثيرها زخم البيئة في النفس ،بل هي انسجام يسعى
إليه اإلنسان في صراعه الحيوي مع بيئته وعالمه قبل أن تصير خبرة جمالية حقيقية ،مصداقا لقول
جون ديوي" :فحين تصبح الخبرة خبرة حقيقية ،بكل ما تنطوي عليه الكلمة من داللة ،فإنها تستحيل
إلى [خبرة] حيوية من أعلى الدرجات ،بحيث ال يبقى معناها داال على انعزال المرء في نطاق مشاعره
وأحاسيسه الخاصة ،بل تتخذ معنى اتصال المرء بالعالم اتصاال واعيا .ودونما ذلك ،تتخذ الخبرة،
عندما تصل إلى ذروتها ،معنى تتداخل فيه الذات تداخال تاما مع عالم الموضوعات واألحداث".17
يقدم جون ديوي ،من خالل مثال الطفل وطريقة تنظيمه ألنماط نشاطه األولية ،نموذجا
تفسيريا لكيفية ارتقاء اإلنسان من االنفعال التلقائي إلى الفعل التعبيري الواعي .فعندما يعي الطفل آثار
انفعاالته التلقائية ،كالبكاء واالبتسام ،على اآلخرين المحيطين به ،فإنه سرعان ما يعمل على تنظيم
هذا االنفعال من أجل تحصيل حاجياته ومكتسباته من البيئة المحيطة .هكذا" ،يشرع الطفل في تدبير
وتنظيم ضروب أنشطته واضعا نصب عينيه ما سيترتب عنها من نتائج .وألنه يدرك العالقة بين
الفعل واالنفعال ،وبين النشاط الفاعل والنشاط المنفعل ،فإن الطفل يجعل من النتائج المتقبلة ،بوصفها
آثارا ألفعال ،معاني أو دالالت يدمجها في صميم األفعال الالحقة ".18
يمكننا التمييز ،استنادا إلى هذا المثال ،بين نوعين من السلوك :ما يعبر عن االنفعال التلقائي،
وهو سلوك ينبع مما يمتلكه الفرد من دوافع ذاتية فطرية أو مكتسبة ،على غرار االبتسامة الطبيعية
مثال؛ وما يعتبر فعال تعبيريا ،وهو سلوك يقوم على التأليف الواعي بين الطبيعي والحضاري ،ويروم
االرتقاء بالتجربة وذلك بإضفاء الخصوبة على التواصل البشري ،وتحقيق التناغم المستمر مع البيئة،
"كاألنغام التي ال تستحيل إلى موسيقى إال بفعل انتظامها في صورة لحن (ميلوديا) ".19
تلعب الذات دور ضابط إيقاع الحياة التي تعيشها عندما تتملك انفعاالتها ،وليس عندما تغيبها،
وعندما تكيف هذه االنفعاالت مع إيقاع بيئتها عبر فعل تعبيري يستهدف بناء خبرة متكاملة تستند إلى
تفاعل واع بين ظروف الذات وطاقتها ،من جهة ،وظروف البيئة وطاقتها ،من جهة أخرى .وال تبلغ
الذات هذه المرتبة من التناغم الجمالي إال "عندما يمتزج الطبيعي والحضاري لكي يؤلفا حقيقة واحدة،
فهنالك ال بد ألفعال التواصل االجتماعي تستحيل اعماال فنية " ،20حصيلة تفاعل مستمر وطويل
المدى بين ما ينبعث من الذات وما تمتلكه من إمكانات وراكمته من مكتسبات ،وبين الظروف
الموضوعية التي تقتضيها التغيرات االجتماعية المحيطة من جهة أخرى .هكذا تتحول الفاعلية
البشرية إلى تجربة جمالية مشحونة بالمعاني الوجدانية.
يمكن ألي إنسان ،مهما كان وضعه وعمله ،أن يبلغ هذه التجربة الجمالية إذا استطاع أن
يقرب المسافة بين انفعاالته واهتماماته الذاتية ،وما تقتضيه بيئته وعمله ألجل تحقيق االندماج،
وإضفاء صبغته الذاتية على عمله .وألجل ذلك ،فهو بحاجة إلى تقبل الصراع وتحويله والتكيف معه
بحب مثلما يفعل الفنان ،وهي خبرة يستوي فيها المدرس والعالم والرسام واالسكافي وكل من تعلقوا
.3تأويليات الفن والبعد اإلنساني والتربوي للممارسة الفنية :اللعب والرمز واالحتفال
يقول جادامير في كتابه "الحقيقة والمنهج "" :إن العمل الفني لعب :أي أن وجوده الفعلي ال
ينفصل عن عرضه ،وفي هذا العرض تنبثق وحدة وهوية بنية ما" .21يعرف جادامير الفن بوصفه
لعبة تأويل تستدمج الفنان والمتلقي باعتبارهما طرفي اللعبة ومشاركين فعليين فيها متى أصبحت
عرضا واحتفاال للتعرف والفهم ،واستحالت إلى وحدة كلية تكثف المعاني واألحاسيس اإلنسانية بشكل
رمزي أصيل .آنذاك تتحقق الهوية الهرمنوطيقية للتجربة الجمالية.
يعتبر اللعب على مر األزمان نشاطا مميزا لإلنسان" ،فال يمكن تصور حضارة ما بدون هذا
العنصر [يقصد اللعب] " .22ينشأ عن الطبيعة الغريزية الدافعة إلى تصريف فائض النشاط ،مثلما
يتمظهر بشكل ضمني في الممارسات الطقسية والدينية لإلنسان .ويتميز اللعب عن سائر األنشطة
البشرية بدافعيته الحرة وقدرته على احتواء مشاعرنا وتفكيرنا عندما نكون منهمكين في غمرة اللعبة،
حتى أننا نست قل عن كل غرض خارجي يمكنه أن يوجهها.
تمار س اللعبة سحرها وجاذبيتها على الذوات ،وتدفعهم إلى التحدي والمجازفة من أجل
تحصيل المتعة باتباع قواعد اللعبة" .فليست الذات هي التي تلعب ،وإنما هي اللعبة نفسها التي تجذب
الالعب إلى نفوذها وتجرها إلى اللعب.23
21هانز جيورج جادامير ،الحقيقة والمنهج ،الخطوط األساسية لتأويلية فلسفية ،ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ،دار أويا ،طرابلس الطبعة
األولى ،2007 ،ص .197
22هانز جيورج جادامير ،تجلي الجميل ،تحرير روبرت برناسكوني ،ترجمة سعيد توفيق ،المجلس األعلى للثقافة ،المشروع القومي للترجمة،
القاهرة ،الطبعة األولى ،1997 ،ص .77
23هانز جيورج جادامير ،الحقيقة والمنهج ،المصدر المذكور سابقا ،ص .173
يسلك الالعب ،حسب جادامير ،سلوكا منتظما تحكمه قواعد اللعبة ،وال يعوض مهمته في
اللعبة أي غرض خارجها ،ألن إتمامها يقتضي التفاعل مع تنظيمها وفق اإلمكانات التي تطرحها،
وتكريس كل قدراته الذهنية والجسدية والوجدانية من أجل رفع التحدي ،ومن أجل اكتشاف ذاته
واآلخرين والعالم وفق نظامها ومنظارها.
تمنح اللعبة المشارك هامشا من الحرية للتحدي والمشاركة ،لكن فعل المشاركة نفسه يقتضي
أداء مهمة تحول قدراته وأغراضه وذاتيته داخل اللعبة ،إذ "ليس بمقدرة المتمتع بحرية [اللعب]
استنفاذ قدراته من دون تحويل أهداف سلوكه الغرضي إلى مجرد أهداف للعب" .24يمتص اللعب
اإلنساني الالعب داخله ،ويحتوي قدرته على تحديد أهداف خارجه.
يتضمن اللعب عقالنية الزمة تفترض نشاطا وطموحا والتزاما بقواعد اللعبة .وكما يقول
جادامير " :فالخاصية اإلنسانية التي توجد على وجه الخصوص في اللعب الذي نمارسه ،إنما هي
الترتيب الذاتي والنظام الذي نفرضه على حركتنا أثناء اللعب ،تماما كما لو كانت هناك أغراض
25
خاصة متضمنة في ممارستنا للعب ".
تنشأ الداللة المستقلة للعب في العمل الفني عن طريق تحرير الفكر من التصورات القبلية
واألشكال النفعية المباشرة التي يقتضيها اليومي ،وتستدعي نوعا من المسافة تجاه الواقع من أجل
تحقيق "الالتمايز الجمالي " .26ويعبر مفهوم الالتمايز الجمالي ،حسب غادامير ،عن وحدة العمل
الفني الذي يشمل الالعب واللعبة داخل مناخ لعبي تنصهر فيه الذوات الالعبة والمتفرجة بوصفها
جزءا من اللعب ،مما يجعل العمل الفني كال في صلب الذات يدعوها إلى فهم أصيل من داخل اللعب،
وإلى التخلي عن كل التفسيرات الخارجية والتجزيئية للعمل.
تقتضي التجربة الجمالية االنخراط في اللعب ،واستعادة العالم الذي نعيشه في العمل الفني،
وكأننا نلتقي به أول مرة ،بدهشة تطرح سؤال المعنى وتسعى إلى الفهم بعد أن تخلت الذات عن
مركزيتها واستقلت نسبيا عن وضعها البشري.
يختلف اللعب الفني عن لعب األطفال من حيث هو عرض يقدم نفسه إلى اآلخر المتلقي
بوصفه جزءا من اللعبة .ال يمكن للعب الفني أن يكون مجرد عرض ذاتي لحركة منظمة من أجل
هانز جيورج جادامير ،تجلي الجميل ،مصدر مذكور سابقا ،ص .99 25
ال تكتمل بنية العمل الفني إال بالعرض :أي بمشاركة المتلقي الذي ينتمي بشكل فعلي إلى لعبة
الفن ،وشرط مشاركة المتلقي نسيانه لذاته أمام ما يشاهد ،وانخراطه في التأويل وفق قواعد اللعب.
إن "العرض هو صيغة وجود العمل الفني" ،28وإن هويته ال تتحقق إال أثناء العرض ،بل أنها ال
تتحقق عندما تنتفي المسافة التي تصل بين الشخص الذي يلعب والشخص الذي يشاهد اللعب ،وكأن
العرض ممارسة طقسية وقصدية ال يدرك كنهها إال المتعبد.
يتغيى الفن إقحام المتفرج في اللعب ،أي أن يضع مسافة تجاه ذاته وعالمه ونظامه االعتيادي،
ويقبل تحدي النظام الذي يفرضه العرض على أحاسيسه ونمط وعيه ،ويتحول من أجل االنخراط في
اللعب كما لو كان حياة أخرى عليه أن يعيشها وفق نظام معين ،ولكن بوجود مجال لحرية األداء
والفعل وملء الفراغات والتعرف والفهم.
يقصد جادامير بالهوية الهرمينوطيقية أن هناك فرجة تجسد عالما مقدما للفهم والمشاركة ،إذ
"يعلن العمل [الفني] تحديا ينتظر منا التصدي له" ،29مثلما تدعونا القصيدة إلى تأمل صورها،
والمعزوفة إلى تذوق إيقاعاتها ،ويدعو اللعب الطفل إلى نسيان من يحيطون به النهماكه في اللعب.
وال فرق بين أن نشاهد أو نلعب ألنه ،في كلتا الحالتين ،يستنفذ نشاطنا العقلي وانتباهنا وحواسنا في
التعرف على هذا العالم وفهمه ،مع أننا نعجز ،في المقابل ،عن فهم فوضى الواقع الذي نعيشه لجهلنا
بقوانينه ،أو ألن هذا الواقع ،باألحرى ،سديم يفتقد إلى نظام يحدده.
تتطلب الفرجة من المتلقي أداء إيجابيا يتجاوز القشرة المحسوسة لألشياء والمسافة
الموضوعية المزعومة إلى حالة من الوعي الجمالي الذي يكمل هوية العمل الفني و يمأل فراغاته:
فالحالة التي يفقد فيها المتفرج نفسه " هي بالضبط الحالة التي تطالبه بإدراك استمرارية المعنى".30
وال يمكن للمتفرج أو المتلقي أن ينتمي إلى هذه الحالة دون أن يحقق نوعا من الحضور خارج الذات،
وينسى ذاته أمام ما يشاهده.
تتطلب اللغة اإلبداعية فعال تأليفيا متضمنا في الفن ،ومسافة جمالية تجاه الواقع وما يؤسسه
من معارف وقيم سابقة .نمارس الفن وكأننا نلعب ،وبه نتحرر من كل غرض نفعي أو قناعة ذاتية.
تقتلع قوة العمل الفني المشارك الفعال خارج سياق حياته ،لكنها تعيد إليه ارتباطه بكلية
وجوده ،وتفتح أمامه إمكانات جديدة للتعرف والفهم ،وتجعله يضفي من جديد المعنى على حياته بعد
أن استحالت إلى سديم.
يعتبر اللعب شرطا أساسيا ،وإن لم يكن سببا كافيا عند جادامير ،لجعل الذات تتخلى عن
واقعها ألجل خوض التجربة الجمالية .فهو يمتلك القدرة على فتح الذات على عوالم أكثر غنى وكثافة
من الواقع من حيث هو خبرة تجعل العالم عندئذ يصبح أكثر إشراقا وأخف ثقال " .31فما الذي يملكه
الفن حتى يجعل العرض يتجاوز مجرد المحاكاة البسيطة أو التقليد الطبيعي إلى تمثيل الوجود تمثيال
كليا يتيح إعادة اكتشاف الذات داخله؟
يربط جادامير العمل الفني بالرمز حسب معناه االشتقاقي اليوناني األصلي :بمعنى "عالمة
الضيافة " 32التي يقدمها المضيف للضيف وهي عبارة عن نصف آنية تبقى لدى الضيف لتذكرهما
متى التقيا بوحدة اللقاء وبالعاطفة المشتركة بينهما ،وهو مفهوم مثقل بالداللة الحميمية والعاطفية التي
تجعله أصيال عن باقي الصحون.
تتضمن هذه االستعارة بعدين أساسين يجب توفرهما في العمل الفني ،يتجلى أولهما في شحنته
العاطفية التي تجعل مدلوله متميزا عن باقي األشياء التي تشبهه ،مما يجعله متميزا عن كل اإلنتاجات
الصناعية .فيما يتجلى البعد الثاني في أنه يذكر بالوحدة واللقاء والحب ،وهي دافعية للتواصل بدون
منفعة مرجوة ،اللهم تلك الوحدة نفسها وما تعنيه بالنسبة إلى شخص افتقدها وعاش الشتات.
يتحدث العمل الفني إلينا بوصفه رمزا ال رسالة فقط ،ألن الرسالة أهم من الحامل .أما الرمز،
ففيه يتوحد الشكل والمضمون والذوات التي يخاطبها العمل الفني .تتجلى أصالة الرمز في أنه "يتميز
31هانز جيورج جادامير ،تجلي الجميل ،مصدر المذكور سابقا ،ص 104
32المصدر المذكور ،ص .113
بخاصية عدم قابلية االستبدال ،وأنه ليس مجرد حامل للمعنى كما لو كان هذا المعنى قابل للنقل إلى
حامل آخر".33
يؤسس الرمز عالقة حميمية ووحدة أصيلة يبن الشكل والمعنى تغمرنا داخلها بشكل فريد فور
مثول العمل أمامنا وانخراطنا في لعبه .ال يدل التمثيل الرمزي على نيابة شيء عن شيء آخر
كتعويض نسخة كتاب لنسخة أخرى ،أو صورة شخص للوجود الفعلي لهذا الشخص .فليس الرمز
مجرد عالمة تذكارية أو إشارة لوجود واقعي ،بل هو تكثيف لمعاني الوجود في الرمز المحسوس
على النحو الذي "يكون فيه ماثال بالفعل في وفرة محسوسة ( )...أي ممثال في الشكل المكثف إلبداع
خاص وفريد )...( ،يطالبنا بأن نمعن النظر فيه لينال رضانا في فعل من أفعال التعرف ".34
تكمن ماهية الرمزي في كونه غير مرتبط بمعنى نهائي يمكن تحصيله بواسطة منهج معين
بشكل واضح ومتميز ألن لغته اإليحائية تستدعي النهائية التأويل ،كما أن فعل التأويل ذاته لن يتحقق
دون انخراط الذات في العمل من أجل اكتشاف دالالتها الخاصة .يتيح فعل التأويل لكل فرد أن يتعرف
فيه على ذاته وعلى ما راكمته التجربة اإلنسانية عبر تاريخها ،ويصوغ بنيات جديدة وتأويالت جديدة
من أجل تحقيق نوع من التناغم الذاتي ،واستعادة النظام الذي افتقد معناه في اليومي والعادي والمبتذل.
إن الرمز هو بوابة ولوج الفرد إلى إنسانيته المستلبة ألنه يدفع الفرد ليلعب سواء من أجل
تحقيق ذاته وفهمه الخاص للعالم ،أو في عالقته باآلخرين الذين يوحدهم نظام اللعب الفني أثناء
العرض .إن رحلة البحث عن الذات في العمل الفني تتم مع الغير وألجل الغير ولكن بشكل مستقل
عن العالقات االجتماعية التي يفرضها الوضع القائم .فنحن نمثل ألجل شخص ما ومع شخص ما
نشاركه لحظة االحتفال من حيث هي لحظة اكتمال العمل الفني ،ومن حيث هي كذلك حالة وجود
خارج الذات التي تمكن من الوجود كليا مع اآلخرين.
ج .االحتفال
ليس االحتفال مجرد استراحة من العمل أوتفريغا ل فائض النشاط ،بل هو نشاط قصدي من
أجل كل شخص .ولذلك ،فعندما "يعجز شخص ما عن المشاركة [في االحتفال] ،نقول إنه قد استبعد
نفسه عن الظاهرة االحتفالية" ،35حتى لو كان موجودا لحظة ومكان االحتفال فهو خارج الجماعة
المحتفلة.
يختلف زمن االحتفال عن الزمن العادي ،ألن النشاط االعتيادي توجهه أهداف خارج الذات،
وغايات ال تخضع لتصرفنا .فنحن ال نتحكم في هذا النشاط أوندبره أونقسمه ألنه يلعب بنا ،بل ويستنفذ
إحساسنا بالملل من الفراغ والتعب من ضغط العمل .أما زمن االحتفال ،فيعتبر عند غادمير زمنا
مفارقا ألن غايته الزمة" ،وزمانيته مستقلة " .36يأخذنا إيقاعه الخاص ليجسد نوعا آخر من الحضور
تنمحي فيه المسافات بين األفراد والطبقات والمراحل التاريخية ،وتتجلى فيه أكثر المشاعر اإلنسانية
صدقا.
يمثل االحتفال الفني لحظة متميزة لإلنسان يتخلى فيها عن أغراضه الشخصية ،وعن األدوار
الجزئية التي يجد نفسه فيها على الدوام مقيدا بحدود زمانية ،من أجل نوع من التشارك الرمزي للحظة
مكتملة ومستقلة زمانيا ال تخضع ألية مهمة أو أهداف خارجها .هكذا ،يحولنا االحتفال ويحول الواقع
من حولنا ،مستحضرا أمامنا إمكانات ما كنا لنبلغها في وضعنا العادي بسبب بقائنا غارقين في اليومي،
وفي نمط عيش هالمي يسلب منا ،لبقائنا خاضعين "للناس " ،تفردنا واستقاللنا الذاتي.
تسقط األقنعة والمراتب في حضرة العمل الفني ،ألنه يسمح لنا بأن نتصرف من تلقاء أنفسنا،
ويدفعنا إلى االرتباط من جديد بتجربتنا الخاصة ،وبما نرغب وما نكره .فنحن ال نتخلص من عبء
المثيرات التي تحيط بنا إال إذا التقينا بذواتنا في تفاعلها الحيوي مع الجماعة التي تجمعنا وإياها هذه
األجواء االحتفالية ،والتي من خاللها نحتفل باستعادتنا لذواتنا مع آخر ،يبقى هو اآلخر مغمورا باللعب
واالحتفال ،ال نخشى تأثيراته.
يكمن الطابع االحتفالي للعمل الفني فيما يتيحه لنا من خبرة ذاتية داخل جماعة مستقلة عن
اليومي ،وتواقة الستعادة ذاتها ،واكتشاف إمكانات أخرى للوجود أكثر حرية وعمقا .الشيء الذي
يسمح لنا بتجديد نظرتنا للماضي ،وما يتضمنه من إمكانات لتأويل وضعنا الحالي.