Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 16

‫التربية الجمالية‪ :‬األسس الفلسفية و البيداغوجية (ملخص الدرس)‬

‫عبد هللا المطيع‬

‫‪ .1‬في الحاجة إلى فلسفة من أجل التربية الجمالية‬

‫ترتبط التربية الجمالية بسياق ثقافي وسياسي يحدد مكانة الفن والقيم الجمالية داخل المنظومة‬
‫التربوية‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن معالجة سؤال الحاجة إلى الفن والتربية الجمالية تقتضي صياغة تصور واضح حول‬
‫نريده ونأمله منهما‪ ،‬ألن طرح هذا السؤال قبل بناء تصور واضح للرهان الجمالي من شأنه أن يسقطنا في‬
‫أخطاء أطروحات تتوسل الفن في التربية بوصفه إضافة نوعية دون أن تحدد أي قيم جمالية نروم؟ وألجل‬
‫أي نموذج من التربية؟‬

‫تنبع حاجتنا إلى المعالجة الفلسفية لمفاهيم التربية الجمالية من قضيتين أساسيين تؤكدان مشروعية‬
‫البراديغم الجمالي‪ :‬تتعلق األولى بحاجة المدرسة والمجتمع إلى تربية جمالية تستعيد الفن والفرجة بوصفهما‬
‫رأسماال رمزيا يتعين عليها توظيفه من أجل منافسة أشكال الفرجة العنيفة التي استلبت األطفال والمراهقين‬
‫باعتمادها منطق االستثارة واالشباع المفرط للحواس على حساب الفكر النقدي‪ ،‬وتغذية الرغبة خارج إطارها‬
‫المعقول‪ ،‬مما يدعونا إلى تربية جمالية تعمل على التهذيب المزدوج للحس والخيال والعقل والنقد‪ ،‬بوصفها‬
‫الدرب األصيل نحو استعادة إنسانية افتقدناها بفعل استيالب هذه الوسائط العنيفة‪.‬‬

‫وترتبط القضية الثانية بالحاجة إلى تغيير منظورنا للممارسة التربوية التقليدية التي تركت فراغا‬
‫في الحس والعاطفة عوضه استبداد الفرجة ومشروعها االستهالكي الذي ترعاه شركات عالمية تتغذى على‬
‫المشاهدة واإلشهار‪.‬‬

‫يؤكد أالن كيرالن ‪ Alain Kerlan‬بأن تغييب الذاكرة الفلسفية والثقافية في معالجة سؤال الحاجة‬
‫إلى الفن والتربية الجمالية يؤدي إلى نتائج وخيمة‪ .‬وذلك‪" ،‬أوال‪ ،‬ألن هذا األمر من شأنه أن يفصل سؤال‬
‫الفن في التربية عن جذوره التاريخية والفلسفية والثقافية‪ ،‬وفي اآلن ذاته‪ ،‬يؤدي إلى تجاهل العمق واألهمية‬
‫السياسية واألنثربولوجية‪ .‬وثانيا‪ ،‬يؤدي تغييب الذاكرة إلى خطر تكرار وإعادة اكتشاف ساذج لما تم التفكير‬
‫فيه بشكل أفضل حول هذا السؤال"‪.1‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Kerlan, Alain. «transmettre la liberté: perspectives philosophiques et historiques.» . in Ardenne, Paule; Jean-‬‬
‫‪Marc Vernier et al. Transmettre art- pedagogie- sensible. Toulouse: éditions de l'Attribut, 2018. p.p : 23-44.‬‬
‫‪p :24.‬‬
‫اخترنا لتوضيح الجمالي االشتغال على ثالث تجارب فلسفية مؤسسة لتربية جمالية وفنية‪ ،‬حاولت‬
‫رأب صدع بين اإلحساس والعقل‪ ،‬والخيال والواقع‪ ،‬واللعب والعمل‪ ،‬والفن والحياة‪ .‬وهي‪:‬‬

‫‪ ‬فريدريك فون شيلر ‪ Friedrich Von Schiller‬في رسائله حول التربية الجمالية‪.‬‬
‫‪ ‬جون ديوي ‪ John Dewey‬ومنظوره الجمالي للتجربة الفنية والتربوية‪.‬‬
‫‪ ‬تأويليات العمل الفني عند هانز جيورج جادامير ‪.Hans-Georg Gadamer‬‬
‫إن استحضار هذه التجارب يدفعنا إلى طرح األسئلة التالية‪ :‬ماذا نريد من الفن والتربية الجمالية؟‬
‫لم الفن اآلن؟ وما حاجة الباحث والممارس التربويين إلى التربية الجمالية؟ ما العالقة بين التجربة الجمالية‬
‫والتجربة التربوية؟ وما اإلمكانات التي تتيحها األسس األنثربولوجية للعمل الفني بالنسبة إلى اإلنسان بوجه‬
‫عام والمتعلم خاصة؟‬
‫‪ .1‬التربية الجمالية حاجة إنسانية‬

‫تشكل فلسفة فريديريك فون شيلر ‪ Friedrich Von Schiller‬الجمالية فرصة لمناقشة‬
‫ماهية ودور التربية الجمالية بالنسبة إلى اإلنسان بشكل عام‪ ،‬والطفل بشكل خاص‪ ،‬ومساءلة وضعها‬
‫االعتباري في الحياة المدرسية‪ ،‬وما إذا كانت تقتصر هذه التربية الجمالية على تعلم بعض التقنيات‬
‫األولية في الفنون البصرية والتعبيرية وعلى اكتساب بعض المعارف المتعلقة بتاريخ الفنون‪ ،‬أم أنها‬
‫تهدف إلى بلوغ اإلنسان حالة من الوعي الجمالي تتمظهر في مختلف أنواع السلوك البشري‪ ،‬وتحقق‬
‫اكتمال إنسانيته وحريته؟‬

‫يقول شيلر في الرسالة الثانية‪" :‬إن النهج الذي ينبغي أن نتبعه لحل المشكل السياسي هو‬
‫اعتباره مشكال جماليا‪ ،‬إذ بالجمال نلتحق بركب الحرية"‪2‬؛ وليس هذا مجرد قول فيلسوف رومانسي‬
‫حالم بتغيير واقعه السياسي واالجتماعي البئيس‪ ،‬والذي ال نزال نعيشه‪ ،‬بل إنها نظرية جمالية في‬
‫التربية نابعة من تحليل دقيق للطبيعة البشرية‪ ،‬وللوضع الذي يعيشه اإلنسان في ظل استالب الحياة‬
‫الحسية واألخالقية نتيجة سيادة العقالنية العمياء‪ ،‬وسيادة النزعة النفعية ‪ L'utilitarisme3‬التي‬
‫عوضت الفن وقيمه‪ ،‬وانحرفت باإلنسانية نحو طغيان الوظيفية واالنحطاط األخالقي‪.‬‬

‫يعيش اإلنسان الحديث نوعا من االغتراب بين حلم بلوغ حياة أخالقية سوية وواقع مليء‬
‫باألنانية والوصولية‪ ،‬وبين طبيعة حيوانية تواقة إلى التعدد وعقل موضوعي يجسده قانون غريب عن‬
‫الذات يوحد الناس وينظم حياتهم االجتماعية؛ وبالمثل‪ ،‬تتصارع داخل الحياة المدرسية ذات واقعية‬
‫مفعمة بالغرائز واألحاسيس‪ ،‬تسعى إلى إثبات ذاتها وتفردها‪ ،‬مع نظام تجسده المؤسسة التي تحول‬
‫المتعلم والمدرس إلى وظيفتين صوريتين‪ .‬وبين هذه وتلك‪ ،‬يوجد شرخ ال يمكن رأبه إال بحالة جمالية‬
‫تجمع العقل بالحس‪ ،‬وتضمن التعدد داخل الوحدة‪ ،‬وتحدث نوعا من التوافق بين المبادئ العقلية‬
‫واالنفعاالت الحسية والوجدانية‪ .‬وبدون هذا التوافق سوف تبقى إمكانية تحقيق الحرية السياسية‬
‫واالجتماعية أمرا مؤجال وبعيد المنال‪ ،‬ولن تكون هناك إمكانية للتربية‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Traduit par Robert Leroux. Québec :‬‬
‫‪Édition numérique à Chicoutimi, 2012. p :78.‬‬

‫‪ 3‬النزعة النفعية هي تيار سياسي وأخالقي وظاهرة اجتماعية‪ ،‬تقوم على مبدأ الرفع من اإلنتاج‪ ،‬وتؤسس األخالق على العمل واحترام القانون‬
‫الوضعي الذي يضمن استمرار فاعلية اإلنتاج‪ .‬تعتبر النزعة النفعية من مخرجات لحظة الحداثة وسلطة التقنية وقد انتقدها شيلر وهيدجر‪ ،‬وكذلك‬
‫مدرسة فراكفورت في إطار ما يسمى بالعقل األداتي الذي يوجه اإلنسان بوصفه وسيلة لإلنتاج ال غير‪ .‬ينبغي في هذا الصدد التمييز بين النزعة‬
‫النفعية والبراغماتية التي قادها ويليام جيمس وجون ديوي‪ ،‬ألن البراغماتية على عكس النزعة النفعية تؤسس القيم األخالقية على الواقعي والنافع‪،‬‬
‫وتضفي النسبية على القيم اإلنسانية‪ ،‬ولكن ال تلغيها على حساب المجتمع اإلنتاجي‪.‬‬
‫يكمن الحل‪ ،‬بالنسبة إلى شيلر ‪ ،‬في اعتبار المشكل السياسي واالجتماعي مشكال جماليا‪ ،‬إذ‬
‫"بالجمال نتوجه صوب الحرية"‪ .4‬فمن أجل تحقيق انتقال أخالقي حقيقي‪ ،‬يحتاج اإلنسان إلى تربية‬
‫جمالية أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬ما دامت طبيعته عاجزة لوحدها عن تحقيق التناغم بين الغريزتين‪،‬‬
‫كما أن نظام الحياة السياسية واالجتماعية الحديثة غير قادرة على تحقيق حلم حياة أخالقية حرة‪.‬‬

‫إن المهمة التي يجب أن تضطلع بها التربية الجمالية حسب شيلر‪ ،‬هي مهمة توحيد الطبيعة‬
‫البشرية‪ ،‬وتقديم الدعم الالزم للحياة السياسية من أجل تحقيق الحرية‪ .‬فالجمال هو الكفيل بحملنا إلى‬
‫عالم مكتمل ال تتصارع فيه القوى مع بعضها البعض‪ ،‬بل تتوحد داخله الغرائز المتناقضة عبر التكوين‬
‫الحسي والعقلي الذي يحول التناقض إلى تكامل‪ ،‬و يجعل اإلنسان أكثر استعدادا لتقبل التعدد الحسي‬
‫والعاطفي الذي يكتنف حياته الواقعية‪ ،‬واالرتقاء به إلى الكوني الكفيل بتحقيق "التوازن األكثر اكتماال‬
‫بين الواقع والصورة"‪.5‬‬

‫إن التجربة الجمالية هي الكفيلة بتحقيق الوحدة اإلنسانية‪ ،‬ألنها هي وحدها من يملك قوة‬
‫الربط بين الروح واإلحساس‪ ،‬لقدرتها على ربط أبعاد اإلنسان الحسية بقواعد العقل‪ ،‬وصوال إلى‬
‫تأسيس حرية إنسانية داخل حياة حسية ال يلزم عنها ضرورة التضحية بجانب من جوانب الحياة‬
‫االنسانية‪.‬‬

‫تلعب التجربة الجمالية‪ ،‬تبعا لما سلف‪ ،‬دور وسيط بيداغوجي ال مناص منه لتحقيق هذا‬
‫االنتقال األخالقي المنشود ألنها بطبيعتها تجربة مكتملة‪ ،‬إن لم نقل عنها إنها ماهية التجربة اإلنسانية‬
‫نفسها‪ ،‬خاصة وأنها تعكس الحرية في طبيعتها المزدوجة‪ :‬فالحرية اإلنسانية ليست مفهوما مجردا‬
‫يبلغه العقل بممارسة الرقابة على الحواس‪ ،‬ولن تنال بالتقاعس عن التفكير وتعطيل اإلرادة العاقلة‬
‫وترك العنان العتباطية الحواس‪ .‬وكما أنه ال وجود لحرية خارج الحياة الحسية‪ ،‬فال مجال لتحقق هذه‬
‫الحرية خارج ارتباط العقل بالحس والعاطفة‪ .‬فالعقل ال يكتسب حريته وقوته إال بارتباط الشخص‬
‫بالعالم‪ ،‬والحياة ال تكتسب معناها إال بعقلنتها وتهذيبها‪.‬‬

‫يقابل شلير بين تجربة الفنان والحرفي‪ ،‬مماثال في مناسبة أولى بين عمل الحرفي وعمل العقل‬
‫الممثل في الدولة أو المؤسسة؛ إذ تفرض قوانين الدولة على الذات تصورا قبليا للمواطن النموذجي‬
‫غير آبهة بما يميزه على المستوى الحسي والعاطفي؛ ومثلها في ذلك كمثل حرفي يحول المادة قسرا‬

‫‪4‬‬
‫‪Ibid. p : 76.‬‬
‫‪5‬‬
‫‪Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Op.cit. p :146.‬‬
‫من أجل خدمة صورة مسبقة‪ ،‬فيرد المادة إلى الصورة بغير أن يتوانى عن تعنيفها من أجل بلوغ‬
‫الكمال الذي ينتظره منها في ذهنه‪ ،‬ألن المادة "ال تستحق‪ ،‬بالنسبة إليه‪ ،‬أدنى احترام"‪.6‬‬

‫شتان بين الحرفي والفنان‪ .‬فنان شيلر هو ذلك "البيداغوجي والسياسي الذي يجعل من اإلنسان‬
‫مادته وغايته"‪ ،7‬ويمنح بخالف الحرفي‪ ،‬تقديرا أكبر للمادة ولطبيعتها‪ ،‬فال يلغي الجزء أو التعدد‬
‫على حساب الصورة‪ ،‬بل يسمح بإبراز قوة كل منهما بفضل تعاضدهما داخل العمل الفني‪.‬‬

‫إن العمل الفني الحقيقي هو الذي يكثف الشكل والمضمون داخل وحدة جمالية مركبة ال يمكن‬
‫اختزالها في الجانب الشكلي أو الروحي فقط‪ ،‬وكما يقول شيلر‪" :‬ترتقي العناصر الجزئية إلى الفكرة‪،‬‬
‫ويصير الكل في تناغم معها"‪.8‬‬

‫يعطي الفنان الصورة حياة بتحويلها إلى محسوسة متجنبا فرض قواعد صورية قبلية عليها‪.‬‬
‫تذكرنا أعماله الفنية بأن اإلنسان قادر على تكوين ذاته وإعطاء معنى للحياة‪ ،‬وذلك ما دفع شيلر إلى‬
‫أن ينسب للفنان دورا نموذجيا في التربية الجمالية‪.‬‬

‫يصور لنا شيلر من خالل استعارة الفنان نمط عيش جمالي ينطوي على سيرورة تشكيل‪،‬‬
‫يتحول بموجبه المحسوس إلى معقول‪ ،‬ويصبح المعقول‪ ،‬بدوره‪ ،‬متجسدا في الحياة الحسية‪.‬‬

‫إن واقع الممارسة الفنية ونزوعها نحو المثالية واالستقالل عن الواقع قد حد‪ ،‬في نظر شيلر‪،‬‬
‫من وقع الفن في النفوس وجعل مجاله ضيقا مقارنة بالعلم والتقنية‪ ،‬الشيء الذي آل بالفن إلى أن "يفقد‬
‫وزنه في هذا الميزان المبتذل للعصر"‪.9‬‬

‫والحال أنه ال يمكننا تغيير واقع اإلنسان الحديث التواق إلى التقنية بكيل المديح إلى الفن‪ ،‬كما‬
‫ال يمكن توقيف المجتمع وإعادة بناء مجتمع مواز يغير واقع النزعة النفعية التي ال تزال سائدة إلى‬
‫اآلن‪ ،‬وشيلر نفسه على وعي بالطبيعة المركبة للمهمة‪ ،‬إذ "ينبغي إصالح الدولة أثناء حركتها"‪،10‬‬
‫وضمان استمرار المجتمع والبحث عن الدعم في أنماط السلوك اإلنساني عندما تلتقي الغريزتان‬
‫الصورية والحسية في اللعب‪.‬‬

‫تتجلى مهمة التربية الجمالية‪ ،‬حسب شيلر‪ ،‬في تحقيق حالة من التوسط واالعتدال بين الجمال‬
‫الحيوي والمهدئ‪ ،‬وتحويل هذين الصورتين الجماليتين إلى مثال الجمال‪ ،‬وذلك عبر تهذيب غريزة‬

‫‪6‬‬
‫‪Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Op.cit. p : 85.‬‬
‫‪7‬‬
‫‪Ibid. p : 86.‬‬
‫‪8‬‬
‫‪Ibidem.‬‬
‫‪9‬‬
‫‪Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Op.cit. p :77.‬‬
‫‪10‬‬
‫‪Ibid.p : 82.‬‬
‫اللعب‪ .‬فإذا غلب الحس والعاطفة على العقل‪ ،‬استدعت التربية الجمالية اللعب المهدئ من أجل احتواء‬
‫الغريزة الحسية ضمن حدودها الجمالية‪ ،‬وإن تراخت العزيمة في النفس‪ ،‬وغابت األحاسيس عن‬
‫العمل‪ ،‬احتاجت الذات إلى دفعة طاقية من أجل تحقيق التوازن األكثر اكتماال بين الصورة والواقع‪.‬‬

‫تقود التربية الجمالية "اإلنسان العاطفي إلى الصورة والفكر‪ ،‬وتعيد ارتباط اإلنسان الروحي‬
‫بعالم المادة والحواس"‪ ،11‬فتحقق المسافة السعيدة تجاه الحواس والعقل‪ .‬ال يقلص الجمال من حدتهما‬
‫أو يغلب أحدهما على اآلخر‪ ،‬بل يوظفهما على نحو أمثل؛ إذ يتحول الفرد بالتهذيب الجمالي إلى‬
‫شخص حر في ممارسته‪ ،‬وليس عبدا لغرائزه الحسية أو العقلية‪.‬‬

‫يؤكد شيلر أن الدور الحقيقي المنوط بالتربية الجمالية هو "تهذيب الغريزتين ومنحهما معا‬
‫الحرية المناسبة"‪12‬؛ فالغريزة الحسية تتقوى من خالل فاعلية اللعب الحرة‪ .‬ألن الواقع يفقد طابعه‬
‫النفعي عندما يحول اللعب النشاط العقلي لإلنسان إلى عقالنية منفتحة على العاطفة وليس على حسابها‪،‬‬
‫ف تكتسب الغريزة العقلية حريتها وقوتها بالشغف والمتعة التي تنجم عن تحدي اللعب‪ ،‬وتكتسب الحياة‬
‫الحسية معناها بعقلنتها وتهذيبها باتباع قواعد اللعب بعيدا عن الكسل ومظاهر تعطيل التفكير‪.‬‬

‫تروم التربية الجمالية تحقيق التصالح والتضامن بين الحياة الحسية والقوانين العقلية‪ ،‬وإعادة‬
‫االعتبار للمكونين الوجداني والجسدي أثناء الممارسات التربوية‪ ،‬وإضفاء المتعة والتحدي على‬
‫النشاط التربوي بوصفه نشاطا يقوم على اللعب من حيث هو غريزة إنسانية تغذيها التربية الجمالية‪.‬‬

‫تعتبر التربية الجمالية‪ ،‬من هذا المنظور‪ ،‬مشروعا تربويا ينعكس على وعي األفراد‬
‫وممارساتهم في المدرسة‪ ،‬بوصفهم فاعلين تربويين‪ ،‬أو خارج المدرسة‪ ،‬بوصفهم مواطنين‪ ،‬وهو‬
‫مشروع يقوم على قبول التعدد والمصالحة بين العقل والجسد والعاطفة‪ ،‬وتوظيفهم الخالق من خالل‬
‫الوظيفة الجمالية للعب‪ .‬إنه مشروع بناء إنسانية متناغمة وحرة‪ :‬أي مشروع ينشد تحرير العقل والحس‬
‫من النزعة الوظيفية التي تقتل اإلبداع وتقبر االختالف‪.‬‬

‫وتبعا لذلك‪ ،‬تقدم التربية الجمالية مشروعا تربويا بديال للنموذج البيداغوجي الوضعي‪ ،‬ساعية‬
‫إلى إعادة االعتبار للجوانب الحسية والوجدانية التي غيبها هذا النموذج‪ ،‬بفعل نزعته التقنية وميوله‬
‫إلى إلغاء البعد الحسي باسم الفعالية والنجاعة‪ ،‬مما يدفعنا إلى إعادة النظر في جوانب وحساسيات‬
‫ظلت مهمشة في البحث التربوي‪ ،‬كالجنسانية‪ ،‬ولغة الجسد‪ ،‬واللعب‪ ،‬والمتعة‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪Schiller, Friedrich von. Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme. Op.cit. p :156.‬‬
‫‪12‬‬
‫‪Ibid. p : 146.‬‬
‫إن تعطيل الجسد والعاطفة أثناء الممارسة التربية ال يلغيهما‪ ،‬بل يجعلهما في صراع مع‬
‫قدرات الفرد العقلية‪ ،‬وذلك قبل أن ينتقل هذا الصراع من الذات إلى الغير لينعكس سلبا على جماعة‬
‫القسم‪ ،‬ويحول الحياة الفصلية إلى مجال للعنف المتبادل‪ ،‬أو للنفور والشرود والملل والالمباالة في‬
‫أحسن األحوال‪ .‬تمثل قيمة التربية الجمالية خيارا ضروريا من أجل تهذيب الذوق‪ ،‬واالرتقاء‬
‫األخالقي‪ ،‬وصوال إلى بناء عالقات إنسانية على أساس تحرير الذات من صراعها الداخلي بين ما‬
‫هي عليه وما تريد أن تكون عليه‪ ،‬وتقبل التعدد‪ ،‬والعيش في تناغم مع اآلخر‪ ،‬وإذكاء روح اإلبداع‪.‬‬

‫أسس شيلر مشروعا إلنسانية متناغمة ال تلغي الحس والجسد‪ ،‬بل تجعلهما طريقا لبلوغ حياة‬
‫أخالقية تقبل التعدد‪ ،‬وتؤول بهذا التعدد إلى وحدة تتصالح وتتناغم في نطاقها الغرائز اإلنسانية من‬
‫خالل تهذيب دافع اللعب‪ ،‬ألنه من الحاجيات العليا للمتعلم‪ ،‬وتقوده إلى اكتمال إنسانيته المتناغمة‬
‫والحرة على صعيد وجوده الفردي كما الجماعي‪.‬‬

‫‪ . 2‬التجربة الجمالية والتجربة التربوية‬

‫يمكننا التمييز في مشروع ديوي الفلسفي بين مطلبين أساسيين‪ :‬يتعلق األول بنقد "الفن‬
‫المتحفي"‪ ،‬ومحاولة وصل الفن واإلحساس الجمالي بالتجربة العادية واليومية التي يعيشها اإلنسان‬
‫في الحياة العملية والفكرية‪ .‬وهذا المطلب يحتاج إلى تعليل في ظل تاريخ من النظريات والمذاهب‬
‫الجمالية التي تقصي الفن من الحياة المدنية‪ ،‬وتعزله عن الممارسة العملية‪.‬‬

‫وكما يقول ديوي في كتابه "الفن خبرة" أو الفن تجربة‪" :‬ينبغي البحث في أصول الفن‬
‫وجذوره في صميم موضوعات الخبرة العادية التي ال نعدها في العادة ذات طابع جمالي‪ ،‬وحين نكون‬
‫قد تمكنا من اكتشاف تلك البذور الفعالة‪ ،‬فسيكون في وسعنا عندئذ أن نتتبع مسار نموها‪ ،‬حتى نصل‬
‫إلى أسمى صور الفن الراقي المكتمل"‪.13‬‬

‫وأما المطلب الثاني‪ ،‬فيرتبط بفن الحياة‪ ،‬ويمتد بالفن ليشمل كل مناحي الحياة العادية‪ ،‬وما‬
‫يستلزمه ذلك من تحديد لخصائص التجربة الجمالية وكيفية العيش بطريقة جمالية‪ .‬وأما هذا المطلب‬
‫فيعوقه عجز التجربة العادية عن اتخاذ صور جمالية صريحة‪ ،‬إذ كيف يمكن للعادي أن يرتقي إلى‬
‫الجمالي في ظل التشذر الذي تعرفه التجربة العادية في عصر التخصص والتقنية؟‬

‫‪ 13‬جون ديوي‪ ،‬الفن خبرة ‪ ،‬ترجمة زكرياء إبراهيم‪ ،‬تقديم ومراجعة زكرياء نجيب محمود‪ ،‬المركز القومي للترجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بدون طبعة‪،‬‬
‫‪ ،2011‬ص ‪.24‬‬
‫أ‪ .‬نقد التصور المتحفي‬
‫ينهل التصور المتحفي للفن من نظريات نقدية ومذاهب جمالية "تقصي الفن في منطقة ال‬
‫تسكنها أي خليقة غيره"‪ ،14‬وتعزل الفن بعيدا عن مختلف أنواع التجارب الفكرية والعملية التي يعيشها‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهي نظريات يعزوها ديوي إلى ظروف ال ترتبط بطبيعة العمل الفني نفسه‪ ،‬بل تمتد إلى‬
‫صميم الحياة العملية‪ ،‬لتعكس تشذر النشاط البشري في المرحلة الحديثة‪.‬‬
‫لقد كان الفن فيما مضى جزءا من الحياة العامة ومن الطقوس االحتفالية والدينية‪ ،‬وأداة لتعليم‬
‫الناس‪ ،‬ووسيلة إل حياء الروح الوطنية والدينية التي تجسد قيم الجماعات واألفراد وتحاكي الممارسة‬
‫البشرية والتجربة العادية‪.‬‬
‫تنتج الخبرة الجمالية للفنان عن تفاعل بين الفنان وبيئته "تندمج فيها العوامل الداخلية‬
‫والخارجية إلى الحد الذي يفقد معه كل منها طابعه الخاص"‪ ،15‬فال هي ذاتية خالصة نابعة من نزعة‬
‫سيكولوجية للفنان‪ ،‬وال هي موضوعية خالصة تحكمها عوامل خارجية‪ ،‬والهي ذهنية خالصة أو‬
‫حسية م حضة‪ ،‬بل هي صيرورة بناء ال يمكن الفصل فيه بين الكائن وبيئته‪.‬‬
‫كان للفن معنى وداللة ألنه كان من صميم الحياة‪ ،‬فأصبح معاقا بفعل انعزاله عنها‪ .‬وحتى‬
‫مساعي الدول والشعوب الفتتاح المتاحف وتمويل الفنون إلبراز حسن ذوقها الثقافي ‪-‬حالها حال‬
‫مدارس الفنون‪ -‬ليس إال نوعا من اإلدعاء الحضاري الذي يخفي اغتراب الفن واستالب اإلنسان في‬
‫عالم يعج بالمنبهات الميكانيكية وتأثيرات زخم الصورة‪ ،‬واألفكار السطحية والمصطنعة‪ ،‬دون أن‬
‫يكون لها إحساس عميق بالحياة‪.‬‬
‫يكتسب الفن قدرته الخالقة من تفاعل الذات مع بيئتها‪ ،‬وقدرتها على االختيار وإعادة التنسيق‪،‬‬
‫من خالل عملية تحويل‪ ،‬بين الطاقة ال صادرة عن الذات والطاقة الواردة من البيئة‪ ،‬تستحيل بموجبها‬
‫الخبرة الفنية إلى خبرة جمالية‪ .‬فالتجربة الجمالية تقوم على توازن وتناسب بين الفعل واالنفعال وبين‬
‫العمل والمعاناة‪ ،‬وبين الماضي والمستقبل‪ ،‬وتقوم‪ ،‬بالتالي‪ ،‬على استثمار هذه العناصر بشكل حيوي‬
‫ومندمج داخل التجربة الجمالية قصد توسيع إمكاناتها‪ ،‬والتي تنقطع بالتفريط بأحد حدي هذه العناصر‪.‬‬
‫إن ما يجعل الفن مثاال للتجربة الجمالية هو أنه يخلق توازنا بين الفنان وبيئته‪ ،‬وبين فكره‬
‫وأحاسيسه‪ ،‬و"إذا ما أريد للصناعة أن تصبح فنية‪ ،‬بالمعنى القاطع للكلمة‪ ،‬فيجب أن تستحيل إلى‬
‫ضرب من "التعلق" أو "الحب"‪ .16‬أما الفنان‪ ،‬فيمثل الذات المشغولة بالعالم الذي تعيش فيه‪ ،‬والساعية‬
‫إلى االنخراط الواعي في صراع حيوي ينشد ربط هذه الذات بموضوعها بنوع من االهتمام العاطفي‬

‫‪ 14‬جون ديوي‪ ،‬الفن خبرة‪ ،‬مصدر مذكور سابقا‪ ،‬ص ‪.20‬‬


‫‪ 15‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪.417‬‬
‫‪ 16‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫والوجداني دون إحباط عزيمتها في الفعل والتفكير‪ ،‬مما يكسب الفنان‪ ،‬بفعل فكره وفرط حساسيته‪،‬‬
‫طابعا خالقا‪.‬‬
‫ال تتجلى أهمية فلسفة الفن عند جون ديوي فقط في ربط الفن بالتجربة العادية السوية وإنزاله‪،‬‬
‫من ثم‪ ،‬من برجه العاجي وتصوره المتحفي‪ ،‬بل تتجلى أساسا في جعل الممارسة الفنية والتربية‬
‫الجمالية شرطا ومعيارا لكل تجربة سوية تروم االكتمال‪ ،‬والتي يجب على اإلنسان أن يسعى إلى‬
‫بلوغها في كل مناحي الفاعلية البشرية‪ ،‬سواء تعلق األمر بمجال العلم أو األخالق أو العمل‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫كيف السبيل إلى بلوغ تجربة جمالية بخصوص هذه الميادين؟ وكيف ننجح بالنأي بأفعالنا وانفعاالتنا‬
‫عن السلوكات "الالجمالية "؟ وكيف نرتقي بالتجربة التربوية لتصيرتجربة جمالية حقيقية تتجاوز‬
‫االبتذال والرتابة‪ ،‬وتوحد الحس والوجدان‪ ،‬والفكر والعمل‪ ،‬والفعل واالنفعال‪ ،‬فتصير تجربة تخدم‬
‫التربية بدل أن تقاوم نموها وتطورها؟ وإذا كانت التجربة‪ ،‬حسب جون ديوي‪ ،‬هي نتيجة تفاعل‬
‫اإلنسان مع بيئته‪ ،‬فكيف نحصل هذه التجربة الجمالية ونحققها؟‬

‫‪ 2.2‬تحصيل التجربة الجمالية‬

‫ينطوي كل تفاعل على فعل وانفعال بين اإلنسان وبيئته‪ ،‬علما أن جون ديوي استلهم مفهومه‬
‫عن "البيئة" من البيولوجيا وعلم النبات‪ ،‬ومن صراع الكائنات الحية من أجل التكيف والبقاء‪.‬‬
‫تعكس "التجربة السوية " صيرورة الكائن الحي وتحوالته في مجرى صراع حيوي يعتبر‬
‫عصب الحياة‪ ،‬في حين تعتبر "التجربة غير السوية " استسالما وفناء‪ ،‬أو هي‪ ،‬في أحسن الحاالت‪،‬‬
‫تجربة تكرار آلي جامد يلغي بذور كل صراع حيوي‪.‬‬
‫وتبعا لذلك‪ ،‬ال يمكن للصورة الجمالية أن تتحقق إال ببلوغ الكائن الحي حالة من التوازن‬
‫الحركي بين طاقته الخاصة وطاقة بيئته‪ ،‬وهو توازن إيقاع حياة جميع الكائنات الحية‪ ،‬بما فيها‬
‫اإلنسان‪ .‬وإن زاد الطابع المركب للوضع البشري من شدة إيقاع هذه الحياة بالنسبة إلى اإلنسان نتيجة‬
‫الصعوبات والمعيقات اإلضافية التي تفرضها عليه بيئته الطبيعية واالجتماعية والتاريخية‪ ،‬فإن ضبط‬
‫إيقاع حياته يستدعي جهدا وممارسة واعية‪ .‬مثله في ذلك كمثل لحن بهيج ال يتألف إال بضبط إيقاعات‬
‫النوتات الموسيقية‪.‬‬
‫ليست "الخبرة" استالما للفوضى التي يثيرها زخم البيئة في النفس‪ ،‬بل هي انسجام يسعى‬
‫إليه اإلنسان في صراعه الحيوي مع بيئته وعالمه قبل أن تصير خبرة جمالية حقيقية‪ ،‬مصداقا لقول‬
‫جون ديوي‪" :‬فحين تصبح الخبرة خبرة حقيقية‪ ،‬بكل ما تنطوي عليه الكلمة من داللة‪ ،‬فإنها تستحيل‬
‫إلى [خبرة] حيوية من أعلى الدرجات‪ ،‬بحيث ال يبقى معناها داال على انعزال المرء في نطاق مشاعره‬
‫وأحاسيسه الخاصة‪ ،‬بل تتخذ معنى اتصال المرء بالعالم اتصاال واعيا‪ .‬ودونما ذلك‪ ،‬تتخذ الخبرة‪،‬‬
‫عندما تصل إلى ذروتها‪ ،‬معنى تتداخل فيه الذات تداخال تاما مع عالم الموضوعات واألحداث"‪.17‬‬
‫يقدم جون ديوي‪ ،‬من خالل مثال الطفل وطريقة تنظيمه ألنماط نشاطه األولية‪ ،‬نموذجا‬
‫تفسيريا لكيفية ارتقاء اإلنسان من االنفعال التلقائي إلى الفعل التعبيري الواعي‪ .‬فعندما يعي الطفل آثار‬
‫انفعاالته التلقائية‪ ،‬كالبكاء واالبتسام‪ ،‬على اآلخرين المحيطين به‪ ،‬فإنه سرعان ما يعمل على تنظيم‬
‫هذا االنفعال من أجل تحصيل حاجياته ومكتسباته من البيئة المحيطة‪ .‬هكذا‪" ،‬يشرع الطفل في تدبير‬
‫وتنظيم ضروب أنشطته واضعا نصب عينيه ما سيترتب عنها من نتائج‪ .‬وألنه يدرك العالقة بين‬
‫الفعل واالنفعال‪ ،‬وبين النشاط الفاعل والنشاط المنفعل‪ ،‬فإن الطفل يجعل من النتائج المتقبلة‪ ،‬بوصفها‬
‫آثارا ألفعال‪ ،‬معاني أو دالالت يدمجها في صميم األفعال الالحقة "‪.18‬‬
‫يمكننا التمييز‪ ،‬استنادا إلى هذا المثال‪ ،‬بين نوعين من السلوك‪ :‬ما يعبر عن االنفعال التلقائي‪،‬‬
‫وهو سلوك ينبع مما يمتلكه الفرد من دوافع ذاتية فطرية أو مكتسبة‪ ،‬على غرار االبتسامة الطبيعية‬
‫مثال؛ وما يعتبر فعال تعبيريا‪ ،‬وهو سلوك يقوم على التأليف الواعي بين الطبيعي والحضاري‪ ،‬ويروم‬
‫االرتقاء بالتجربة وذلك بإضفاء الخصوبة على التواصل البشري‪ ،‬وتحقيق التناغم المستمر مع البيئة‪،‬‬
‫"كاألنغام التي ال تستحيل إلى موسيقى إال بفعل انتظامها في صورة لحن (ميلوديا) "‪.19‬‬
‫تلعب الذات دور ضابط إيقاع الحياة التي تعيشها عندما تتملك انفعاالتها‪ ،‬وليس عندما تغيبها‪،‬‬
‫وعندما تكيف هذه االنفعاالت مع إيقاع بيئتها عبر فعل تعبيري يستهدف بناء خبرة متكاملة تستند إلى‬
‫تفاعل واع بين ظروف الذات وطاقتها‪ ،‬من جهة‪ ،‬وظروف البيئة وطاقتها‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬وال تبلغ‬
‫الذات هذه المرتبة من التناغم الجمالي إال "عندما يمتزج الطبيعي والحضاري لكي يؤلفا حقيقة واحدة‪،‬‬
‫فهنالك ال بد ألفعال التواصل االجتماعي تستحيل اعماال فنية "‪ ،20‬حصيلة تفاعل مستمر وطويل‬
‫المدى بين ما ينبعث من الذات وما تمتلكه من إمكانات وراكمته من مكتسبات‪ ،‬وبين الظروف‬
‫الموضوعية التي تقتضيها التغيرات االجتماعية المحيطة من جهة أخرى‪ .‬هكذا تتحول الفاعلية‬
‫البشرية إلى تجربة جمالية مشحونة بالمعاني الوجدانية‪.‬‬
‫يمكن ألي إنسان‪ ،‬مهما كان وضعه وعمله‪ ،‬أن يبلغ هذه التجربة الجمالية إذا استطاع أن‬
‫يقرب المسافة بين انفعاالته واهتماماته الذاتية‪ ،‬وما تقتضيه بيئته وعمله ألجل تحقيق االندماج‪،‬‬
‫وإضفاء صبغته الذاتية على عمله‪ .‬وألجل ذلك‪ ،‬فهو بحاجة إلى تقبل الصراع وتحويله والتكيف معه‬
‫بحب مثلما يفعل الفنان‪ ،‬وهي خبرة يستوي فيها المدرس والعالم والرسام واالسكافي وكل من تعلقوا‬

‫‪ 17‬جون ديوي‪ ،‬الفن خبرة‪ ،‬مصدر مذكور سابقا‪ ،‬ص‪.36-35 ،‬‬


‫‪ 18‬جون ديوي‪ ،‬الفن خبرة‪ ،‬مصدر مذكور سابقا‪ ،‬ص ‪.108‬‬
‫‪ 19‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ 20‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪. 110‬‬
‫ببيئتهم وعملهم ومعاناتهم‪ .‬فهم‪ ،‬وإن اختلفت مواد اشتغالهم‪ ،‬قد خبروا جميعا فن الحياة وأضفوا‬
‫أسلوبهم عليها‪.‬‬

‫‪ .3‬تأويليات الفن والبعد اإلنساني والتربوي للممارسة الفنية‪ :‬اللعب والرمز واالحتفال‬

‫اهتم هانز جيورج جادامير ‪ Hans-Georg Gadamer‬بدراسة المصادر االنثروبولوجية‬


‫للعمل الفني وشروط تحققه بوصفه نشاطا مميزا لإلنسان؛ وهي دراسة‪ ،‬وإن لم تخصص للتربية الفنية‬
‫الجمالية بشكل مباشر‪ ،‬فإنها تفتح لنا طريقا للكشف عن أسس تربية جمالية وفنية أصيلة تتجاوز‬
‫التسطيح الشكلي‪ ،‬وتبرز اإلمكانات البيداغوجية والتربوية التي يتضمنها اللعب والرمز واالحتفال‪.‬‬

‫يقول جادامير في كتابه "الحقيقة والمنهج "‪" :‬إن العمل الفني لعب‪ :‬أي أن وجوده الفعلي ال‬
‫ينفصل عن عرضه‪ ،‬وفي هذا العرض تنبثق وحدة وهوية بنية ما"‪ .21‬يعرف جادامير الفن بوصفه‬
‫لعبة تأويل تستدمج الفنان والمتلقي باعتبارهما طرفي اللعبة ومشاركين فعليين فيها متى أصبحت‬
‫عرضا واحتفاال للتعرف والفهم‪ ،‬واستحالت إلى وحدة كلية تكثف المعاني واألحاسيس اإلنسانية بشكل‬
‫رمزي أصيل‪ .‬آنذاك تتحقق الهوية الهرمنوطيقية للتجربة الجمالية‪.‬‬

‫أ‪ .‬الفن لعب تأويلي‬

‫يعتبر اللعب على مر األزمان نشاطا مميزا لإلنسان‪" ،‬فال يمكن تصور حضارة ما بدون هذا‬
‫العنصر [يقصد اللعب] "‪ .22‬ينشأ عن الطبيعة الغريزية الدافعة إلى تصريف فائض النشاط‪ ،‬مثلما‬
‫يتمظهر بشكل ضمني في الممارسات الطقسية والدينية لإلنسان‪ .‬ويتميز اللعب عن سائر األنشطة‬
‫البشرية بدافعيته الحرة وقدرته على احتواء مشاعرنا وتفكيرنا عندما نكون منهمكين في غمرة اللعبة‪،‬‬
‫حتى أننا نست قل عن كل غرض خارجي يمكنه أن يوجهها‪.‬‬

‫تمار س اللعبة سحرها وجاذبيتها على الذوات‪ ،‬وتدفعهم إلى التحدي والمجازفة من أجل‬
‫تحصيل المتعة باتباع قواعد اللعبة‪" .‬فليست الذات هي التي تلعب‪ ،‬وإنما هي اللعبة نفسها التي تجذب‬
‫الالعب إلى نفوذها وتجرها إلى اللعب‪.23‬‬

‫‪ 21‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬الحقيقة والمنهج‪ ،‬الخطوط األساسية لتأويلية فلسفية‪ ،‬ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح‪ ،‬دار أويا‪ ،‬طرابلس الطبعة‬
‫األولى‪ ،2007 ،‬ص ‪.197‬‬
‫‪ 22‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬تجلي الجميل‪ ،‬تحرير روبرت برناسكوني‪ ،‬ترجمة سعيد توفيق‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬المشروع القومي للترجمة‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1997 ،‬ص ‪.77‬‬
‫‪ 23‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬الحقيقة والمنهج‪ ،‬المصدر المذكور سابقا‪ ،‬ص ‪.173‬‬
‫يسلك الالعب‪ ،‬حسب جادامير‪ ،‬سلوكا منتظما تحكمه قواعد اللعبة‪ ،‬وال يعوض مهمته في‬
‫اللعبة أي غرض خارجها‪ ،‬ألن إتمامها يقتضي التفاعل مع تنظيمها وفق اإلمكانات التي تطرحها‪،‬‬
‫وتكريس كل قدراته الذهنية والجسدية والوجدانية من أجل رفع التحدي‪ ،‬ومن أجل اكتشاف ذاته‬
‫واآلخرين والعالم وفق نظامها ومنظارها‪.‬‬

‫تمنح اللعبة المشارك هامشا من الحرية للتحدي والمشاركة‪ ،‬لكن فعل المشاركة نفسه يقتضي‬
‫أداء مهمة تحول قدراته وأغراضه وذاتيته داخل اللعبة‪ ،‬إذ "ليس بمقدرة المتمتع بحرية [اللعب]‬
‫استنفاذ قدراته من دون تحويل أهداف سلوكه الغرضي إلى مجرد أهداف للعب"‪ .24‬يمتص اللعب‬
‫اإلنساني الالعب داخله‪ ،‬ويحتوي قدرته على تحديد أهداف خارجه‪.‬‬

‫يتضمن اللعب عقالنية الزمة تفترض نشاطا وطموحا والتزاما بقواعد اللعبة‪ .‬وكما يقول‬
‫جادامير‪ " :‬فالخاصية اإلنسانية التي توجد على وجه الخصوص في اللعب الذي نمارسه‪ ،‬إنما هي‬
‫الترتيب الذاتي والنظام الذي نفرضه على حركتنا أثناء اللعب‪ ،‬تماما كما لو كانت هناك أغراض‬
‫‪25‬‬
‫خاصة متضمنة في ممارستنا للعب "‪.‬‬

‫تنشأ الداللة المستقلة للعب في العمل الفني عن طريق تحرير الفكر من التصورات القبلية‬
‫واألشكال النفعية المباشرة التي يقتضيها اليومي‪ ،‬وتستدعي نوعا من المسافة تجاه الواقع من أجل‬
‫تحقيق "الالتمايز الجمالي "‪ .26‬ويعبر مفهوم الالتمايز الجمالي‪ ،‬حسب غادامير‪ ،‬عن وحدة العمل‬
‫الفني الذي يشمل الالعب واللعبة داخل مناخ لعبي تنصهر فيه الذوات الالعبة والمتفرجة بوصفها‬
‫جزءا من اللعب‪ ،‬مما يجعل العمل الفني كال في صلب الذات يدعوها إلى فهم أصيل من داخل اللعب‪،‬‬
‫وإلى التخلي عن كل التفسيرات الخارجية والتجزيئية للعمل‪.‬‬

‫تقتضي التجربة الجمالية االنخراط في اللعب‪ ،‬واستعادة العالم الذي نعيشه في العمل الفني‪،‬‬
‫وكأننا نلتقي به أول مرة‪ ،‬بدهشة تطرح سؤال المعنى وتسعى إلى الفهم بعد أن تخلت الذات عن‬
‫مركزيتها واستقلت نسبيا عن وضعها البشري‪.‬‬

‫يختلف اللعب الفني عن لعب األطفال من حيث هو عرض يقدم نفسه إلى اآلخر المتلقي‬
‫بوصفه جزءا من اللعبة‪ .‬ال يمكن للعب الفني أن يكون مجرد عرض ذاتي لحركة منظمة من أجل‬

‫المصدر المذكور‪ ،‬ص‪.179 ،‬‬ ‫‪24‬‬

‫هانز جيورج جادامير‪ ،‬تجلي الجميل‪ ،‬مصدر مذكور سابقا‪ ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪25‬‬

‫المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫‪26‬‬


‫تفريغ الطاقة الزائدة لالعب كما يفعل األطفال (والحيوانات) بشكل غريزي‪" .‬فالعرض‪ ،‬من حيث‬
‫اإلمكان‪ ،‬تمثيل من أجل شخص ما‪ ،‬وهذه اإلمكانية المقصودة سمة تميز الفن "‪.27‬‬

‫ال تكتمل بنية العمل الفني إال بالعرض‪ :‬أي بمشاركة المتلقي الذي ينتمي بشكل فعلي إلى لعبة‬
‫الفن‪ ،‬وشرط مشاركة المتلقي نسيانه لذاته أمام ما يشاهد‪ ،‬وانخراطه في التأويل وفق قواعد اللعب‪.‬‬
‫إن "العرض هو صيغة وجود العمل الفني"‪ ،28‬وإن هويته ال تتحقق إال أثناء العرض‪ ،‬بل أنها ال‬
‫تتحقق عندما تنتفي المسافة التي تصل بين الشخص الذي يلعب والشخص الذي يشاهد اللعب‪ ،‬وكأن‬
‫العرض ممارسة طقسية وقصدية ال يدرك كنهها إال المتعبد‪.‬‬

‫يتغيى الفن إقحام المتفرج في اللعب‪ ،‬أي أن يضع مسافة تجاه ذاته وعالمه ونظامه االعتيادي‪،‬‬
‫ويقبل تحدي النظام الذي يفرضه العرض على أحاسيسه ونمط وعيه‪ ،‬ويتحول من أجل االنخراط في‬
‫اللعب كما لو كان حياة أخرى عليه أن يعيشها وفق نظام معين‪ ،‬ولكن بوجود مجال لحرية األداء‬
‫والفعل وملء الفراغات والتعرف والفهم‪.‬‬

‫يقصد جادامير بالهوية الهرمينوطيقية أن هناك فرجة تجسد عالما مقدما للفهم والمشاركة‪ ،‬إذ‬
‫"يعلن العمل [الفني] تحديا ينتظر منا التصدي له"‪ ،29‬مثلما تدعونا القصيدة إلى تأمل صورها‪،‬‬
‫والمعزوفة إلى تذوق إيقاعاتها‪ ،‬ويدعو اللعب الطفل إلى نسيان من يحيطون به النهماكه في اللعب‪.‬‬
‫وال فرق بين أن نشاهد أو نلعب ألنه‪ ،‬في كلتا الحالتين‪ ،‬يستنفذ نشاطنا العقلي وانتباهنا وحواسنا في‬
‫التعرف على هذا العالم وفهمه‪ ،‬مع أننا نعجز‪ ،‬في المقابل‪ ،‬عن فهم فوضى الواقع الذي نعيشه لجهلنا‬
‫بقوانينه‪ ،‬أو ألن هذا الواقع‪ ،‬باألحرى‪ ،‬سديم يفتقد إلى نظام يحدده‪.‬‬

‫تتطلب الفرجة من المتلقي أداء إيجابيا يتجاوز القشرة المحسوسة لألشياء والمسافة‬
‫الموضوعية المزعومة إلى حالة من الوعي الجمالي الذي يكمل هوية العمل الفني و يمأل فراغاته‪:‬‬
‫فالحالة التي يفقد فيها المتفرج نفسه " هي بالضبط الحالة التي تطالبه بإدراك استمرارية المعنى"‪.30‬‬
‫وال يمكن للمتفرج أو المتلقي أن ينتمي إلى هذه الحالة دون أن يحقق نوعا من الحضور خارج الذات‪،‬‬
‫وينسى ذاته أمام ما يشاهده‪.‬‬

‫تتطلب اللغة اإلبداعية فعال تأليفيا متضمنا في الفن‪ ،‬ومسافة جمالية تجاه الواقع وما يؤسسه‬
‫من معارف وقيم سابقة‪ .‬نمارس الفن وكأننا نلعب‪ ،‬وبه نتحرر من كل غرض نفعي أو قناعة ذاتية‪.‬‬

‫‪ 27‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬الحقيقة والمنهج‪ ،‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪.180‬‬


‫‪ 28‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬الحقيقة والمنهج‪ ،‬المصدر المذكور سابقا‪ ،‬ص ‪.189‬‬
‫‪ 29‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬تجلي الجميل‪ ،‬مصدر المذكور سابقا‪ ،‬ص ‪.104‬‬
‫‪ 30‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬الحقيقة والمنهج‪ ،‬المصدر المذكور سابقا‪ ،‬ص ‪.204‬‬
‫نقبل التحدي طواعية وبقصد الزم للعمل الفني نتحدى فيه ذواتنا على مستوى اإلنجاز والتفكير‪ ،‬ونقبل‬
‫قواعده الخاصة لنرى العالم بمنظور لعبة الفن وكأنه يتبدى لنا ألول مرة ألنه حقق وجوده الكلي عندما‬
‫عرض علينا أو باألحرى اشتركنا في عرضه‪.‬‬

‫تقتلع قوة العمل الفني المشارك الفعال خارج سياق حياته‪ ،‬لكنها تعيد إليه ارتباطه بكلية‬
‫وجوده‪ ،‬وتفتح أمامه إمكانات جديدة للتعرف والفهم‪ ،‬وتجعله يضفي من جديد المعنى على حياته بعد‬
‫أن استحالت إلى سديم‪.‬‬

‫يعتبر اللعب شرطا أساسيا‪ ،‬وإن لم يكن سببا كافيا عند جادامير‪ ،‬لجعل الذات تتخلى عن‬
‫واقعها ألجل خوض التجربة الجمالية‪ .‬فهو يمتلك القدرة على فتح الذات على عوالم أكثر غنى وكثافة‬
‫من الواقع من حيث هو خبرة تجعل العالم عندئذ يصبح أكثر إشراقا وأخف ثقال "‪ .31‬فما الذي يملكه‬
‫الفن حتى يجعل العرض يتجاوز مجرد المحاكاة البسيطة أو التقليد الطبيعي إلى تمثيل الوجود تمثيال‬
‫كليا يتيح إعادة اكتشاف الذات داخله؟‬

‫ب‪ .‬الرمز الفني‬

‫يربط جادامير العمل الفني بالرمز حسب معناه االشتقاقي اليوناني األصلي‪ :‬بمعنى "عالمة‬
‫الضيافة "‪ 32‬التي يقدمها المضيف للضيف وهي عبارة عن نصف آنية تبقى لدى الضيف لتذكرهما‬
‫متى التقيا بوحدة اللقاء وبالعاطفة المشتركة بينهما‪ ،‬وهو مفهوم مثقل بالداللة الحميمية والعاطفية التي‬
‫تجعله أصيال عن باقي الصحون‪.‬‬

‫تتضمن هذه االستعارة بعدين أساسين يجب توفرهما في العمل الفني‪ ،‬يتجلى أولهما في شحنته‬
‫العاطفية التي تجعل مدلوله متميزا عن باقي األشياء التي تشبهه‪ ،‬مما يجعله متميزا عن كل اإلنتاجات‬
‫الصناعية‪ .‬فيما يتجلى البعد الثاني في أنه يذكر بالوحدة واللقاء والحب‪ ،‬وهي دافعية للتواصل بدون‬
‫منفعة مرجوة‪ ،‬اللهم تلك الوحدة نفسها وما تعنيه بالنسبة إلى شخص افتقدها وعاش الشتات‪.‬‬

‫يتحدث العمل الفني إلينا بوصفه رمزا ال رسالة فقط‪ ،‬ألن الرسالة أهم من الحامل‪ .‬أما الرمز‪،‬‬
‫ففيه يتوحد الشكل والمضمون والذوات التي يخاطبها العمل الفني‪ .‬تتجلى أصالة الرمز في أنه "يتميز‬

‫‪ 31‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬تجلي الجميل‪ ،‬مصدر المذكور سابقا‪ ،‬ص ‪104‬‬
‫‪ 32‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫بخاصية عدم قابلية االستبدال‪ ،‬وأنه ليس مجرد حامل للمعنى كما لو كان هذا المعنى قابل للنقل إلى‬
‫حامل آخر"‪.33‬‬

‫يؤسس الرمز عالقة حميمية ووحدة أصيلة يبن الشكل والمعنى تغمرنا داخلها بشكل فريد فور‬
‫مثول العمل أمامنا وانخراطنا في لعبه ‪ .‬ال يدل التمثيل الرمزي على نيابة شيء عن شيء آخر‬
‫كتعويض نسخة كتاب لنسخة أخرى‪ ،‬أو صورة شخص للوجود الفعلي لهذا الشخص‪ .‬فليس الرمز‬
‫مجرد عالمة تذكارية أو إشارة لوجود واقعي‪ ،‬بل هو تكثيف لمعاني الوجود في الرمز المحسوس‬
‫على النحو الذي "يكون فيه ماثال بالفعل في وفرة محسوسة (‪ )...‬أي ممثال في الشكل المكثف إلبداع‬
‫خاص وفريد‪ )...( ،‬يطالبنا بأن نمعن النظر فيه لينال رضانا في فعل من أفعال التعرف "‪.34‬‬

‫تكمن ماهية الرمزي في كونه غير مرتبط بمعنى نهائي يمكن تحصيله بواسطة منهج معين‬
‫بشكل واضح ومتميز ألن لغته اإليحائية تستدعي النهائية التأويل‪ ،‬كما أن فعل التأويل ذاته لن يتحقق‬
‫دون انخراط الذات في العمل من أجل اكتشاف دالالتها الخاصة‪ .‬يتيح فعل التأويل لكل فرد أن يتعرف‬
‫فيه على ذاته وعلى ما راكمته التجربة اإلنسانية عبر تاريخها‪ ،‬ويصوغ بنيات جديدة وتأويالت جديدة‬
‫من أجل تحقيق نوع من التناغم الذاتي‪ ،‬واستعادة النظام الذي افتقد معناه في اليومي والعادي والمبتذل‪.‬‬

‫إن الرمز هو بوابة ولوج الفرد إلى إنسانيته المستلبة ألنه يدفع الفرد ليلعب سواء من أجل‬
‫تحقيق ذاته وفهمه الخاص للعالم‪ ،‬أو في عالقته باآلخرين الذين يوحدهم نظام اللعب الفني أثناء‬
‫العرض‪ .‬إن رحلة البحث عن الذات في العمل الفني تتم مع الغير وألجل الغير ولكن بشكل مستقل‬
‫عن العالقات االجتماعية التي يفرضها الوضع القائم‪ .‬فنحن نمثل ألجل شخص ما ومع شخص ما‬
‫نشاركه لحظة االحتفال من حيث هي لحظة اكتمال العمل الفني‪ ،‬ومن حيث هي كذلك حالة وجود‬
‫خارج الذات التي تمكن من الوجود كليا مع اآلخرين‪.‬‬

‫ج‪ .‬االحتفال‬

‫ليس االحتفال مجرد استراحة من العمل أوتفريغا ل فائض النشاط‪ ،‬بل هو نشاط قصدي من‬
‫أجل كل شخص‪ .‬ولذلك‪ ،‬فعندما "يعجز شخص ما عن المشاركة [في االحتفال]‪ ،‬نقول إنه قد استبعد‬
‫نفسه عن الظاهرة االحتفالية"‪ ،35‬حتى لو كان موجودا لحظة ومكان االحتفال فهو خارج الجماعة‬
‫المحتفلة‪.‬‬

‫‪ 33‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬تجلي الجميل‪ ،‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪.104‬‬


‫‪ 34‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪121‬‬
‫‪35‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬تجلي الجميل‪ ،‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪.127‬‬
‫يتطلب االحتفال المشاركة بقصدية المحتفل‪ :‬أي تخليد وجوده الخاص مع الجماعة دون أن‬
‫ينعزل أو أن يؤدي وظيفة نفعية خاصة؛ فالنادل ال يحتفل رغم أنه يحضر الحفل ما دام انتباهه منصرفا‬
‫تحديدا إلى العمل‪ ،‬وإذن‪ ،‬إلى الزمن العادي‪.‬‬

‫يختلف زمن االحتفال عن الزمن العادي‪ ،‬ألن النشاط االعتيادي توجهه أهداف خارج الذات‪،‬‬
‫وغايات ال تخضع لتصرفنا‪ .‬فنحن ال نتحكم في هذا النشاط أوندبره أونقسمه ألنه يلعب بنا‪ ،‬بل ويستنفذ‬
‫إحساسنا بالملل من الفراغ والتعب من ضغط العمل‪ .‬أما زمن االحتفال‪ ،‬فيعتبر عند غادمير زمنا‬
‫مفارقا ألن غايته الزمة‪" ،‬وزمانيته مستقلة "‪ .36‬يأخذنا إيقاعه الخاص ليجسد نوعا آخر من الحضور‬
‫تنمحي فيه المسافات بين األفراد والطبقات والمراحل التاريخية‪ ،‬وتتجلى فيه أكثر المشاعر اإلنسانية‬
‫صدقا‪.‬‬

‫يمثل االحتفال الفني لحظة متميزة لإلنسان يتخلى فيها عن أغراضه الشخصية‪ ،‬وعن األدوار‬
‫الجزئية التي يجد نفسه فيها على الدوام مقيدا بحدود زمانية‪ ،‬من أجل نوع من التشارك الرمزي للحظة‬
‫مكتملة ومستقلة زمانيا ال تخضع ألية مهمة أو أهداف خارجها‪ .‬هكذا‪ ،‬يحولنا االحتفال ويحول الواقع‬
‫من حولنا‪ ،‬مستحضرا أمامنا إمكانات ما كنا لنبلغها في وضعنا العادي بسبب بقائنا غارقين في اليومي‪،‬‬
‫وفي نمط عيش هالمي يسلب منا‪ ،‬لبقائنا خاضعين "للناس "‪ ،‬تفردنا واستقاللنا الذاتي‪.‬‬

‫تسقط األقنعة والمراتب في حضرة العمل الفني‪ ،‬ألنه يسمح لنا بأن نتصرف من تلقاء أنفسنا‪،‬‬
‫ويدفعنا إلى االرتباط من جديد بتجربتنا الخاصة‪ ،‬وبما نرغب وما نكره‪ .‬فنحن ال نتخلص من عبء‬
‫المثيرات التي تحيط بنا إال إذا التقينا بذواتنا في تفاعلها الحيوي مع الجماعة التي تجمعنا وإياها هذه‬
‫األجواء االحتفالية‪ ،‬والتي من خاللها نحتفل باستعادتنا لذواتنا مع آخر‪ ،‬يبقى هو اآلخر مغمورا باللعب‬
‫واالحتفال‪ ،‬ال نخشى تأثيراته‪.‬‬

‫يكمن الطابع االحتفالي للعمل الفني فيما يتيحه لنا من خبرة ذاتية داخل جماعة مستقلة عن‬
‫اليومي‪ ،‬وتواقة الستعادة ذاتها‪ ،‬واكتشاف إمكانات أخرى للوجود أكثر حرية وعمقا‪ .‬الشيء الذي‬
‫يسمح لنا بتجديد نظرتنا للماضي‪ ،‬وما يتضمنه من إمكانات لتأويل وضعنا الحالي‪.‬‬

‫‪ 36‬هانز جيورج جادامير‪ ،‬تجلي الجميل‪ ،‬المصدر المذكور‪ ،‬ص ‪.136‬‬

You might also like