Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 26

‫النظرية البنائية الوظيفية‬

‫ترجع جذور فكرة و مضمون هذه النظرية إلى التراث الفكري اليوناني المنطوي‬
‫على رؤية األحداث االجتماعية بأنها مكونة من أجزاء مترابطة مفصليا و وظيفيا‬
‫بحيث يكون كل جزء مكمال لآلخر بنائيا وحركيا و وظيفيا لدرجة عدم استطاعة أي‬
‫جزء االستغناء عن وجود األجزاء األخرى عند قيامه بحركته و وظيفته على الرغم‬
‫أن حركة و وظيفة الكل مختلفة عن حركة و وظيفة أجزائه المكونة له ‪ ،‬و هذا يعني‬
‫أن األجزاء تكون متماسكة ارتباطيا و متكاملة حركيا و متكافئة وظيفيا و متناغمة‬
‫إيقاعيا ‪.‬‬

‫هذا هو معنى النسق الذي يتنفس و يحيا وجوديا و وظيفيا من خالل تكامل وظائف‬
‫أجزائه المترابطة ‪.‬‬

‫تم استعارة هذا المعنى من قبل العلوم الطبيعية و الفيزيائية و علم الضبط و نظرية‬
‫المعلومات و البحوث االجرائية و نظرية األنساق االقتصادية إذ طبقت على النسق‬
‫االلكتروني و الشمسي ( في الكون ) و العصبي ( في جسم االنسان ) ‪.‬‬

‫و إذا أردنا سبر غور معنى و أبعاد هذه النظرية فإنه من المفيد أن نستعين بتحديد‬
‫المنظر األمريكي ‪ " :‬أناتول رابو بوريك )الذي قال فيه ‪ :‬إنه شيء يتكون من‬
‫مجموعة كينونات متصلة ببعضها على أشكال بناء متكامل و مترابط و كل كينونة‬
‫تمتلك صفة خاصة بها متممة لصفات الكينونات األخرى المرتبطة بها و المتفاعلة‬
‫معها ‪.‬‬

‫و يمكن القول أن ما أصبح يعرف باالتجاه البنائي الوظيفي في النظرية االجتماعية‬


‫يمثل أكثر االتجاهات رواجا في علم االجتماع خالل الخمسين سنة األخيرة في كال‬
‫من الواليات المتحدة األمريكية و أوروبا و خالل هذه السنوات الخمسين ظهرت‬
‫مؤلفات عديدة حول هذا االتجاه النظري في علم االجتماع سواء منها ما تناولته‬
‫بالشرح أو التعديل أو و اإلضافة أو النقد ‪ ،‬و قد اعتبر هذا االتجاه من المعالم‬
‫الرئيسية لعلم االجتماع األكاديمي المعاصر ‪.‬‬

‫على الرغم من أن هناك العديد من علماء االجتماع الذين ينتمون إلى االتجاه الذي‬
‫يعرف باسم الوظيفية مثل روبرت ميرتون و جورج هومانز و تالكوت بارسونز و‬
‫ماريون ليفي و روبرت ميلز و غيرهم ‪.‬‬

‫و على الرغم مما يوجد من اختالفات بين هؤالء العلماء إال أنه يمكننا القول بصفة‬
‫عامة أن االتجاه الوظيفي يعتمد على ستة أفكار رئيسية أو مسلمات محورية هي ‪:‬‬

‫األفكار الرئيسية لالتجاه الوظيفي ‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬يمكن النظر إلى أي شيء سواء كان كائنا حيا أو اجتماعيا و سواء كان فردا‬
‫أو مجموعة صغيرة أو تنظيما رسميا أو مجتمعا أو حتى العالم بأسره على انه نسق‬
‫أو نظام ‪ ،‬و هذا النسق يتألف من عدد من األجزاء المترابطة ‪ ،‬فجسم اإلنسان نسق‬
‫يتكون من مختلف األعضاء و األجهزة و الجهاز الدوري فيه مثال عبارة عن نسق‬
‫يتكون من مجموعة من األجزاء ‪ ،‬و شخصية الفرد نسق يتكون من أجزاء مختلفة‬
‫مثل السلوك و الحالة االنفعالية و العقلية ‪ ....‬الخ و كذلك المجتمع و العالم ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬لكل نسق احتياجات أساسية ال بد من الوفاء بها و إال فإن النسق سوف يقف‬
‫أو يتغير تغيرا جوهريا ‪ ،‬فالجسم اإلنساني مثال يحتاج لألكسجين ‪ ،‬والنتروجين و‬
‫كل مجتمع يحتاج ألساليب لتنظيم السلوك ( القانون ) و مجموعة لرعاية األطفال‬
‫( األسرة ) و هكذا ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬ال بد أن يكون النسق دائما في حالة توازن و لكي يتحقق ذلك فال بد أن تلبي‬
‫أجزاءه المختلفة احتياجاته ‪ ،‬فإذا اختلت وظيفة الجهاز الدوري فإن الجسم سوف‬
‫يعتل و يصبح في حالة من الال إتزان ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬كل جزء من أجزاء النسق قد يكون وظيفيا أي يسهم في تحقيق توازن‬
‫النسق ‪ ،‬و قد يكون ضارا وظيفيا أي يقلل من توازن النسق و قد يكون غير وظيفي‬
‫أي عديم القيمة بالنسبة للنسق ‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬يمكن تحقيق كل حاجة من حاجات النسق بواسطة عدة متغيرات أو بدائل‬
‫فحاجة المجتمع لرعاية األطفال مثال يمكن أن تقوم بها األسرة و حاجة المجموعة‬
‫إلى التماسك قد تتحقق عن طريق التمسك بالتقاليد أو عن طريق الشعور بالتهديد من‬
‫عدو خارجي ‪.‬‬

‫سادسا ‪ :‬وحدة التحليل يجب أن تكون األنشطة أو النماذج المتكررة بالتحليل‬


‫االجتماعي الوظيفي ‪ ،‬ال يحاول أن يشرح كيف ترعى أسرة معينة أطفالها ‪ ،‬و لكنه‬
‫يهتم بكيفية تحقيق األسرة كنظام لهذا الهدف ‪.‬‬

‫اإلطار التصوري‪ P‬للبنائية الوظيفية ‪:‬‬

‫بمعنى مجموعة المفهومات التي يتردد استخدامها في إطار البنائية الوظيفية ‪ ،‬و‬
‫على الرغم من أن مفهوما البناء و الوظيفة باعتبارهما مفهومين رئيسين في هذا‬
‫اإلطار ‪ ،‬و قد دخال على يد كومت و سبنسر إال أن البنائية الوظيفية شهدت نمو‬
‫إطارا تصوريا ‪ ،‬يضم مفهومات مثل النسق والنظام و الدور والقيم و المعايير و‬
‫غيرها ترتبط بمفهوم البناء ‪ ،‬هذا من ناحية و من ناحية أخرى كما شهدت ظهور‬
‫مفهومات مثل الوظيفة الظاهرة و الوظيفة الكامنة ‪ ،‬و البدائل الوظيفية و المعوقات‬
‫الوظيفية ‪ ،‬و غيرها ‪ ،‬ترتبط بمفهوم الوظيفة ‪ ،‬و قد أضيفت هذه المفهومات على يد‬
‫علماء مثل ما لينوفسكي و راد كليف براون و بارسونز و ميرتون و ماريون ليفي‬
‫وغيرهم ‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬مفهوم البناء االجتماعي و المفهومات ذات الصلة ‪:‬‬


‫يذكر روبرت ريد فيلد أن من استخدموا مفهوم البناء االجتماعي لم يستخدموه بمعنى‬
‫واحد ‪ ،‬و يبدو أنهم يستخدمون عدة أفكار أو تصورات مختلفة بشأنه ‪ ،‬وحرص راد‬
‫كليف براون أحد رواد البنائية الوظيفية في محاضرته التي ألقاها ‪ 1940‬م‬
‫وعنوانها في البناء االجتماعي على حسم هذا الخالف ‪.‬‬

‫و يقصد بالبناء االجتماعي ‪ :‬مجموعة العالقات االجتماعية المتباينة التي تتكامل و‬


‫تتسق من خالل األدوار االجتماعية ‪ ،‬و ثمة أجزاء مرتبة و متسقة تدخل في تشكيل‬
‫الكل االجتماعي ‪ ،‬و تتحدد باألشخاص و الزمر و الجماعات و ما ينتج عنها من‬
‫عالقات ‪ ،‬وفقا ألدوارها االجتماعية التي يرسمها لها الكل و هو البناء االجتماعي ‪.‬‬

‫ويمكن إجمال المفهومات ذات الصلة بما يلي ‪:‬‬

‫‪ 1‬ــ النسق االجتماعي‬

‫و يعني النسق في أبسط معانية العالئقية أو االرتباط أو التساند ‪ ،‬و حينما تؤثر‬
‫مجموعة وحدات وظيفية بعضها في بعض فإنه يمكن القول أنها تؤلف نسقا ذلك‬
‫الذي يتسم بخصائص معينة ‪.‬‬

‫و يستطيع مفهوم النسق الوفاء بكثير من متطلبات التحليل الوظيفي ‪ ،‬و لعل أهمها‬
‫أنه يمكننا على مستوى التجريد من التعرف على النشاطات المختلفة و الخصائص‬
‫المتميزة للمجتمع ككل ‪ ،‬فالمجتمع ذاته يوصف بأنه نسق اجتماعي متفاعل ‪ ،‬و‬
‫تتضمن فكرة النسق اإلشارة إلى البيئة المحيطة به ‪ ،‬و تنطوي هذه البيئة على‬
‫أقصى درجات التفاعل و التداخل بين مختلف عناصر و مكونات النسق ‪ ،‬كذلك تثير‬
‫مسالة البيئةو مشكلة حدود النسق ‪ ،‬و الحدود هي اإلطار الذي يحيط بالنسق و‬
‫يتبادل معه التأثير و التأثر ‪.‬‬

‫‪ 2‬ــ النظام االجتماعي‬


‫يذهب عالم االجتماع سمنر إلى أن مفهوم النظام االجتماعي يتألف من جانبين ‪:‬‬
‫األول فكرة أو مبدأ مشترك بين أبناء المجتمع ‪ ،‬و الثاني هو البناء الذي هو‬
‫المؤسسات التي تمنح الفكرة و المبدأ الطابع النظامي و تضعها في موضع التطبيق‬
‫بشكل يحقق مصالح اإلنسان ‪.‬‬

‫و يؤكد سمنر أن النظم تبدأل بأساليب السلوك التي تتحول إلى عادات جماعية و هذه‬
‫األخيرة ما تلبث أن تتحول إلى قيم و معايير أخالقية بسبب ارتباطها بالفلسفة‬
‫االجتماعية للمجتمع التي تجعل منها ضرورة للصالح العام ‪.‬‬

‫و على الرغم من تعدد تعريفات النظم االجتماعية عند علماء االجتماع إال أنه يمكن‬
‫القول ‪ :‬إن هناك شبه اتفاق بين المشتغلين بعلوم االجتماع و اإلنسان ‪ ،‬على أن النظم‬
‫االجتماعية هي األساليب المقننة والمتفق عليها اجتماعيا ( سلوك و عالقات و‬
‫تفاعالت و أفكار و معايير و مفاهيم و جزاءات ) و التي تستهدف إشباع حاجات‬
‫أبناء المجتمع ‪.‬‬

‫و قد حدد مالينوفسكي مجموعة النظم األساسية التي توجد في كل مجتمع و أوضح‬


‫جذور هذه النظم في الحاجات األساسية و الوسيلية و التكاملية ‪ ،‬فاألسرة و الزواج و‬
‫القرابة مرتبطة بالحاجات األساسية إلى التناسل و اإلنجاب و تنظيم الجنس و النظم‬
‫المهنية و الفنية ترتبط بالملزمات الوسيلية ‪ ،‬أما النظم السياسية و الدينية فتتعلق‬
‫بالملزمات التكاملية ‪.‬‬

‫خصائص النظم االجتماعية ‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬لكل نظام وظيفة أو مجموعة من الوظائف يؤديها داخل المجتمع ‪ ،‬و لعل هذه‬
‫الخاصية يمكن استنتاجها من تعريف النظم بأنها أساليب مقننة جماعية لمواجهة‬
‫الحاجات اإلنسانية األساسية ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬يرتبط النظام بفكرة المعايير أو القواعد الضابطة للسلوك ‪ ،‬فهو ليس مجرد‬
‫نماذج سلوكية بل إلى جانب ذلك نماذج مقننة ‪ ،‬أي تخضع لقواعد معينة متفق‬
‫عليها ‪ ،‬و يجب على الناس االلتزام بها ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬إن التزام الناس بهذه القواعد يرتبط بفكرة الجزاءات االجتماعية ‪ ،‬فإتباع‬
‫الناس لنماذج السلوك المعترف بها في المجتمع يرجع إلى التربية أو التنشئة‬
‫االجتماعية كأساس أول ‪ ،‬و إذا فشلت فإن األساس الثاني هو الخوف من الجزاءات‬
‫االجتماعية السلبية ‪.‬‬

‫رابعا ‪ :‬إن النظام هو السلوك االجتماعي الذي يعترف به أبناء المجتمع ‪ ،‬و يحتاج‬
‫السلوك إلى فترة زمنية طويلة حتى يتم قبوله و بالتالي يستمر لفترة زمنية طويلة‬
‫أطول من أعمار األفراد ‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬أغلب النظم تتسم بدرجة عالية من التعقيد ‪ ،‬حيث يتضمن كل منها مجموعة‬
‫معقدة و متشابكة من النماذج السلوكية ‪ ،‬و ضوابط السلوك و قواعد معينة يجب أن‬
‫يتبعها إلى جانب شبكة معقدة من العالقات التي تحتاج إلى كثير من الجهد لفهمها و‬
‫تحليلها ‪.‬‬

‫‪ 3‬ــ الدور االجتماعي ‪:‬‬

‫يعد مفهوم الدور مفهوما محوريا سواء لفهم النتائج أو اآلثار أو لفهم مكونات البناء‬
‫االجتماعي ‪ ،‬فالدور هو الوظيفة ‪ ،‬بمعنى أنه السلوك الذي يؤديه الجزء من أجل‬
‫بقاء الكل ‪ ،‬و تشكل أنماط العالقات االجتماعية بين األدوار الشخصية جوهر البناء‬
‫االجتماعي ‪ ،‬وبالمثل تشكل أنماط العالقات بين النظم االجتماعية المفهوم األشمل‬
‫لبناء المجتمع ككل ‪.‬‬

‫‪ 4‬ــ نسق القيم‬


‫و يشير إلى القيم التي يتبناها المشاركون في النسق االجتماعي كموجهات لسلوكهم‬
‫و هذه القيم هي المسؤولية عن التوازن و الوحدة كما أنها تحقق التماسك و تمنح‬
‫الفعل الجماعي و تعطيه معنى ‪.‬‬

‫‪ 5‬ــ الجماعات‬

‫تشير الجماعة إلى أي تجمع من أفراد يرتبطون معا بمجموعة معينة من العالقات‬
‫االجتماعية ‪ ،‬و ال بد أن يتوفر في الجماعات عنصران أساسيان هما ‪:‬‬

‫أ ــ الوعي باألعضاء اآلخرين داخل الجماعة ‪.‬‬

‫ب ــ االستجابة المتبادلة بينهم بحيث تشكل أفعالهم سياق الجماعة ككل ‪.‬‬

‫ج ــ تتميز الجماعة بالمعنى االجتماعي بالخصائص اآلتية ‪:‬‬

‫* ــ مجموعة مميزة من العالقات االجتماعية بين أعضائها ‪.‬‬

‫* ــ االعتماد المتبادل بين أعضائها ‪.‬‬

‫* ــ الشعور بأن سلوك أي عضو من األعضاء يخص األعضاء اآلخرين ‪.‬‬

‫* ــ اإلحساس بالعضوية في الجماعة ‪ ،‬أي الشعور بالنحن ‪.‬‬

‫ثانيا مفهوم الوظيفة االجتماعية و المفهومات ذات الصلة ‪:‬‬


‫يذهب راد كليف بارون إلى أن وظيفة النظام هي الدور أو اإلسهام الذي يقدمه‬
‫الجزء من أجل النسق االجتماعي ككل ‪ ،‬و لكي يوضح هذه الفكرة استخدم المماثلة‬
‫العضوية تماما كما استخدمها هربرت سبنسر ففي الكائن الحي نجد أن العضو‬
‫البنائي ( و ليكن القلب مثال ) يؤدي دورا أو وظيفة معينة في اإلسهام الذي يقدمه‬
‫الستمرار الكل ‪ ( ،‬منح الدم إلى كافة أنحاء الجسم ) و استمرار وجود الكل يعتمد‬
‫على العالقات الوظيفية بين األجزاء فالبناء و الوظيفة و العملية هي الجوانب‬
‫المرتبطة الثالث للنسق االجتماعي ككل ‪.‬‬

‫و كان ميرتون قد أضاف تعريفا شهيرا للوظيفة حيث قال ‪ :‬إنها تلك النتائج أو اآلثار‬
‫التي يمكن مالحظتها و التي تؤدي إلى تحقيق التكيف و التوافق في نسق معين "‬

‫و طور ميرتون بعد ذلك مجموعة تصورات بدأها بالتفرقة بين الوظائف الظاهرة و‬
‫الكامنة ‪ ،‬و دعمه بمفهوم البدائل الوظيفية ‪ ،‬و اختتم اسهامه بمفهوم المعوقات‬
‫الوظيفية ‪ ،‬كأداة لفهم التغير االجتماعي ‪.‬‬

‫و فيما يلي نستعرض بعض المفاهيم ذات العالقة بالوظيفية ‪:‬‬

‫‪1‬ــ البدائل الوظيفية ‪:‬‬

‫عندما حاول ميرتون مناقشة موضوع الجهاز السياسي ‪ ،‬كشف بجالء عن أهمية‬
‫مفهوم البدائل الوظيفية و تكمن أهمية هذا المفهوم في التحليل ‪ ،‬حينما نتخلى عن‬
‫التسليم بفكرة الوظيفية التي ينطوي عليها بناء اجتماعي معين ‪ ،‬و معنى ذلك أنه‬
‫يتعين علينا أال نسلم مثال بأن الجهاز السياسي يمثل الوسيلة الوحيدة لمواجهة حاجات‬
‫جماعية معينة مثل رجال األعمال ‪ ،‬و الطموحين من أفراد المستويات االجتماعية‬
‫الدنيا ‪.‬‬

‫إذن فمفهوم البدائل الوظيفية يركز االهتمام على مدى التنوع الممكن في الوسائل‬
‫التي تستطيع أن تحقق مطلبا وظيفيا ‪ ،‬و بذلك فهو يذيب ذاتية ما هو موجود بالفعل‬
‫و ما هو محتم أيضا ‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ المعوقات الوظيفية ‪:‬‬

‫و أخيرا نجد ميرتون يحذر من االهتمام الشديد بدراسة الجوانب االستاتيكية في‬
‫البناء االجتماعي ‪ ،‬و هو اهتمام أواله بعض من ممثلي المدرسة الوظيفية ‪ ،‬وفي هذا‬
‫الصدد يستخدم ميرتون مفهوم المعوقات الوظيفية و يشير على النتائج التي يمكن‬
‫مالحظتها و التي تحد من تكيف النسق أو توافقه ‪ ،‬فالتفرقة العنصرية مثال قد تكون‬
‫معوقا وظيفيا في مجتمع يرفع شعار الحرية و المساواة و يوضح ميرتون أهمية هذا‬
‫المفهوم بقوله ‪ :‬إن مفهوم المعوقات الوظيفية بما يتضمنه من ضغط و توتر على‬
‫المستوى البنائي يمثل أداة تحليلية هامة لفهم و دراسة ديناميات التغير ‪.‬‬

‫‪ 3‬ــ الوظائف الظاهرة و الوظائف الكامنة ‪:‬‬

‫قد ميرتون تفرقة واضحة و تمييزا قاطعا بين الوظائف الظاهرة و الكامنة و سوف‬
‫نترك الحديث حولهما لنقدمها بتفصيل أكثر عند حديثنا حول إسهامات روبرت‬
‫ميرتون ‪.‬‬

‫اإلجراءات المنهجية لالتجاه الوظيفي‬

‫اهتم نيقوال تيماشيف بتحديد اإلجراءات و التدابير التي تستخدم عند دراسة‬
‫الفروض الوظيفية و اختبارها ‪ ،‬و نظرا ألن الصياغة النظرية لالتجاه الوظيفي ذات‬
‫طابع تصوري في بعض جوانبها ‪ ،‬فقد أكد تيماشيف أن التجربة الفعلية إحدى هذه‬
‫اإلجراءات و التدابير ‪ ،‬و ذلك العتقاده بأننا نستطيع أن نقدر تصوريا و بشكل عام‬
‫ماذا سيحدث في مجتمع ما إذا ما أدى بناء جزئي وظيفته أو اضطرب في تأديتها ‪.‬‬

‫و رغم تأكيد تيماشيف على أهمية التصور أو التجربة الفعلية و مشروعيتها في‬
‫إجراء أي تحليل سببي إال أنه يستند إلى رأي " ماكس فيبر " بالنسبة للحدود و‬
‫التحفظات التي يضعها عند استخدام هذه األداة أي التصور كإجراء منهجي في‬
‫التحليل الوظيفي ‪.‬‬
‫و اإلجراء المنهجي الثاني الذي يستعان به في دراسة و اختبار الفروض الوظيفية‬
‫هو المقارنة سواء كانت على المستوى الكيفي النظري بين موقفين اجتماعيين‬
‫يختلفان بالنظر إلى وجود أو عدم وجود سمة معينة أو بناء جزئي ‪ ،‬بحيث يمكن‬
‫إظهار النتائج المتباينة التي تترتب على هذا االختالف ‪ ،‬و التي تؤثر على وجود‬
‫النسق الكلي و تدعمه ‪.‬‬

‫أما اإلجراء المنهجي الثالث الذي يستخدم في التحليل الوظيفي ‪ ،‬فيتمثل في مالحظة‬
‫و تحليل النتائج المترتبة على حدوث االضطرابات المختلفة في المجتمع ‪ ،‬تلك‬
‫االضطرابات التي قد تنجم عن أحداث داخلية أو خارجية أو عن كال العاملين معا ‪،‬‬
‫و سواء كان التأكيد على االستقراء التاريخي أو التجربة و المقارنة ‪ ،‬فإن ذلك يشير‬
‫إلى ارتباط االتجاه الوظيفي باالتجاه الوضعي في علم االجتماع ‪ ،‬و ذلك يتضح‬
‫عندما نكشف عن األصول الفكرية لالتجاه الوظيفي المعاصر و عالقته باالتجاه‬
‫البنائي الوضعي العضوي ‪ ،‬عند كال من أوجست كونت ‪ ،‬سبنسر و غيرهم ‪ ،‬و‬
‫الفائدة من تلك اإلجراءات المنهجية تتمثل في أن التجربة العقلية و المقارنة و دراسة‬
‫الحالة آلثار االضطرابات ‪ ،‬تستخدم في العديد من الدراسات و التي قد ال تنتمي‬
‫لالتجاه الوظيفي إال أنها تفيد كثيرا في دراسة و اختبار القضايا الوظيفية ‪.‬‬

‫نقد النظرية البنائية الوظيفية‬

‫ينتقد بوبوف عالم االجتماع السوفيتي النظريات الوظيفية على ساس أنها تتصور‬
‫المجتمع على أنه نظام أبدي ال يعرف التطور و االنتقال إلى وضع جديد ‪ ،‬كما أنه‬
‫يفسر الحياة االجتماعية بمتاهات من الجدل المدرسي الكالمي و التصورات‪ P‬القيمية‬
‫البعيدة و المنفصلة عن الحياة الواقعية ‪.‬‬

‫و يرى بوبوف أن الوظيفية مثل غيرها من النظريات االجتماعية الغربية التقليدية‬


‫تدور في حلقة مفرغة ال تستطيع الخروج منها و هي ‪ :‬ان وعي اإلنسان ( أي‬
‫سيكولوجيته ) تحدد وجوده ‪ ،‬و أخيرا يقرر أن النظريات الوظيفية رجعية تدافع عن‬
‫النظام الرأسمالي و عن معاييره و قيمه و أهمها الملكية الخاصة لوسائل اإلنتاج و‬
‫يستشهد بوبوف بقول عام االجتماع األمريكي زيمرمان األستاذ بجامعة هارفارد عن‬
‫فراغ الوظيفية من المضمون حيث يقول في كتابه األيدولوجيات السياسية المعاصرة‬
‫‪:‬‬

‫" لم تخلق مدرسة التحليل البنائي الوظيفي أكثر من أطر يمكن فيها وصف النظام‬
‫االجتماعي ‪ ،‬و ال أكثر من الوصف ‪ ،‬و ما أشبهها بأن نقول الكرسي مصنوع من‬
‫الخشب و أن له أربع قوائم و وظيفته أن نجلس عليه ‪ ،‬و أن هذا الكرسي ال يؤدي‬
‫وظيفته إذا كان الجلوس عليه مستحيال ‪ ،‬و على هذا النحو يبدو النظام االجتماعي‬
‫فارغ المعنى ‪ ...‬إن هذه النظرية ال تضع في اعتبارها التغير االجتماعي و ال يمكن‬
‫أن تكون دليال في الحلول و القرارات التي يجب علينا اتخاذها ‪.‬‬

‫تعليق حول النظرية البنائية الوظيفية ‪:‬‬

‫تدور الفكرة الرئيسية لالتجاه الوظيفي حول وجود نسق يتكون من عدة أنظمة أو‬
‫عناصر ‪ ،‬و هذه العناصر ال بد لها أن تحافظ على توازن النسق من خالل أداءها‬
‫لوظائفها و أن أي تغيير في أداء هذه الوظائف سوف يؤدي إلى اختالل توازن‬
‫النسق و نشوء المشاكل فيه ‪.‬‬

‫و هذه الفكرة قد تكون مقبولة في لحظة معينة من تاريخ النسق ‪ ،‬و لكن هذه األبدية‬
‫التوازنية تبدو مستحيلة سواء على مستوى الفرد بيولوجيا أو على مستوى المجتمع ‪،‬‬
‫أن التوازن الطويل األمد ما هو في الحقيقة إال مظهر مرضي ‪ ،‬ألن التغير ال بد منه‬
‫حيث هو سنة الحياة ‪.‬‬

‫و المجتمع إذا ما استمر في حالة التوازن هذه و رفض كل جديد فسوف يتحول إلى‬
‫مجتمع أقل ما يوصف به أنه مجتمع بدائي ‪ ،‬فليس لدينا مثال أفضل من المجتمعات‬
‫البدائية في الوقت المعاصر ‪ ،‬فهي تعيش حالة من النمطية المتوارثة و الحفاظ على‬
‫العادات و التقاليد ألجيال عدة ‪ ،‬هذا لو نظرنا لداخل المجتمع و لكن عندما ننظر إليه‬
‫كجزء من هذا العالم نرى أنه يعيش حالة مرضية هي حالة انفصال عما حوله ‪ ،‬و‬
‫بالتالي هو في الحقيقة عنصر غير وظيفي ضمن النسق العالمي بل يمكن اعتباره‬
‫وقتها من المعوقات الوظيفية ‪.‬‬

‫و هذه النظرة و هي النسبية هي ما تغافل عنه االتجاه الوظيفي فهو ال يرى سوى‬
‫التوازن داخل النسق و يتناسى في نفس الوقت أن هذا النسق في الحقيقة هو أيضا‬
‫عنصر أو جزء نسبة إلى نسق ٍ أكبر ‪.‬‬

‫و كمثال على ذلك نعلم أن المرأة الحامل يحدث شيء من الالتوازن في جسمها فهل‬
‫يصح أن نطلق على هذا االختالل بأنه خلل غير وظيفي و ضار بالنسق ( الجسم )‬
‫بالطبع ال يمكن اعتبار هذا الخلل شيء مضر بالجسم بل على العكس إن هذا الخلل‬
‫يؤدي وظيفة هامة و هي إنتاج األجيال الجديدة للمجتمع ‪.‬‬

‫فلو أستمر جسم المرأة في حالة توازن مستمر لتعطلت وظيفة هامة تؤدى داخل‬
‫المجتمع ‪.‬‬

‫إذا فبما أن جسمها ( النسق األصغر ) يظل عنصرا نسبة إلى المجتمع ( النسق‬
‫األكبر ) فنخلص إلى أن التوازن‪ P‬في مجتمع ما قد يكون توازنا مرضيا نسبة للنسق‬
‫األكبر و الشيء اآلخر أنه ليس كل اختالل داخل النسق هو اختالل ضار و غير‬
‫وظيفي ‪.‬‬

‫النقطة األخرى و التي هي أيضا إحدى األفكار الرئيسية لالتجاه الوظيفي هي فكرة‬
‫البدائل الوظيفية ‪ ،‬و تعنى أن كل عنصر داخل النسق يؤدي وظيفة ما ‪ ،‬يمكن أن‬
‫يكون هناك بديل عنه إذا ما توقف عن أداء هذه الوظيفة و لكن لم يشر المنظرون‬
‫الوظيفيون ــ حسب قراءتي لما لدي من مراجع ــ أن هذا البديل الوظيفي مهما ترقى‬
‫في درجة أداء هذه الوظيفة يظل عاجزا عن أداءها بنفس أهمية وجود العنصر‬
‫األساسي المرتبط بهذه الوظيفة ‪ ،‬فاألسر البديلة مثال ال يمكن لها أن تحقق نفس‬
‫االستقرار في حياة الفرد المنتسب إليها عوضا عن األسر الحقيقية ‪ ،‬و لو حدث‬
‫بعض الشذوذ ( استقرار ) فإنه يظل الشذوذ الذي يظهر في كل قاعدة ‪.‬‬
‫أهم العلماء المساهمين في االتجاه الوظيفي‬

‫تالكوت بارسونز‬

‫سيرة تالكوت بارسونز الذاتية‬

‫ولد بارسونز عام ‪ 1902‬م في والية رادو األميركية في مدينة سبرنغ ‪ ،‬منحدرا‬
‫من أسرة متيدنة ذات ثقافة رفيعة إذ كان والده بروفيسورا و قسا بروتستانتيا في‬
‫كنيسة و رئيسا لعدة كليات جامعية صغيرة ‪.‬‬

‫حصل بارسونز على شهادة البكالوريوس‪ P‬من كلية امهارست عام ‪ 1924‬م ثم‬
‫ذهب للدراسات العليا في مدرسة لندن االقتصادية ( المملكة المتحدة البريطانية ) و‬
‫بعدها ذهب إلى مدينة هايدلبرغ األلمانية التي كان يعمل فيها ماكس فيبر و توفي‬
‫فيها قبل وصول بارسونز إليها بخمس سنوات ‪ ،‬لكن أفكار فيبر بقيت مؤثرة على‬
‫مجتمعها و ثقافتها و أنديتها حتى بعد وفاته فتأثر بها بارسونز و سجلها في‬
‫أطروحته للدكتوراة و تعامل معها بشكل واضح و بارز ‪.‬‬

‫و في عام ‪ 1927‬م عين بارسونز محاضرا في جامعة هارفارد األمريكية و بقي‬


‫فيها لجين وفاته عام ‪ 1973‬م‬

‫و في عام ‪ 1973‬م نشر كتابه الموسوم " بناء الفعل االجتماعي " الذي عكس عمله‬
‫و مساهمته في بناء النظرية االجتماعية ‪.‬‬

‫و لم يكن عمله العلمي في بداية تعيينه كثيرا بل كان مقال و لم يتثبت في منصبه‬
‫كأستاذ جامعي إال في عام ‪ 1939‬م ‪.‬‬

‫بعدها برز تقدمه بشكل ملحوظ بالذات قبل تعيينه رئيسا لقسم علم االجتماع عام‬
‫‪ 1944‬م في جامعة هارفارد و بعدها بعامين منح لقب أستاذ كرسي في قسم‬
‫العالقات االجتماعية الذي ضم متخصصين من باقي العلوم اإلنسانية و في عام‬
‫‪ 1949‬م تم انتخابه رئيسا لجمعية علماء االجتماع األمريكان ‪ ،‬و في عام ‪ 1954‬م‬
‫نشر كتابه المعروف " النسق االجتماعي " بعدها برز بارسونز عالما اميركيا المعا‬
‫في علم االجتماع ‪ ،‬بيد أنه في نهاية عام ‪ 1961‬م ‪ ،‬واجهه هجوم الذع من الجناح‬
‫المتطرف من علماء االجتماع األمريكان الذين كانوا ينظرون إليه بأنه سياسي‬
‫محافظ و أن نظريته االجتماعية محافظة أيضا لكن في الثمانينات حصل ابتعاث‬
‫لنظريته ليس فقط في الواليات المتحدة األمريكية بل في العالم بحيث وصف كال من‬
‫هلتن و تيرنر و سولي و جيرستاين في عام ‪ 1986‬م ‪ ،‬أعماله في النظرية‬
‫االجتماعية بأنها مساهمة فاقت مساهماته كال من ماركس فيبر و دور كايم بل و‬
‫حتى أكثر من مساهمات الذين أتوا من بعده من منظرين في علم االجتماع ‪.‬‬

‫و كأن تأثيره واضحا على المفكرين المحافظين و على بعض الماركسيين الجدد في‬
‫النظرية االجتماعية أمثال جورجن هابرماس األلماني ‪.‬‬

‫المؤلفات التي نشرت لتالكوت بارسونز‬

‫لبارسونز عديد من المؤلفات الكالسيكية من أهمها ‪:‬‬

‫‪ 1‬ــ بناء الفعل االجتماعي عام ‪ 1937‬م‬

‫‪ 2‬ــ النسق االجتماعي عام ‪ 1951‬م‬

‫‪ 3‬ــ نحو نظرية عامة عن الفعل مع ادوارد تشيلز عام ‪ 1951‬م‬

‫‪ 4‬ــ مقاالت في النظرية االجتماعية عام ‪ 1954‬م‬

‫‪ 5‬ــ النظرية االجتماعية و المجتمع الحديث عام ‪ 1967‬م‬


‫‪ 6‬ــ األنظمة االجتماعية و تطور نظرية الفعل عام ‪ 1977‬م‬

‫االتجاه الوظيفي البنائي عند بارسونز ‪:‬‬

‫بدأت المرحلة الرابعة من مراحل تطور الفكر السوسيولوجي في الثالثينات داخل‬


‫الواليات المتحدة ‪ ،‬و تمثل األعمال األولى عند بارسونز محاولة التوفيق بين‬
‫المحتوى الروحي لالتجاه الرومانتيكي األلماني ‪ ،‬الذي يركز على التوجيه الداخلي‬
‫للفاعل ‪ ،‬و بين تراث النظرية الوظيفية الفرنسية ‪ ،‬و على أي حال فقد وجه‬
‫بارسونز اهتمامه األساسي منذ البداية إلى المحتوى الرومانتيكي الذي ظهر في‬
‫موقفه الطوعي و لذلك فإن نظريته تشتمل على اتجاهين متميزين من الناحيتين‬
‫التاريخية و الثقافية ‪ ،‬فهناك االتجاه النفعي االجتماعي الفرنسي ‪ ،‬الذي تفسر من‬
‫خالله الترتيبات االجتماعية في ضوء فائدتها و وظيفتها بالنسبة للجماعة الكبرى أو‬
‫المجتمع ‪.‬‬

‫و قد نظر إليها بوصفها نسق العوامل المرتبطة ‪ ،‬و هناك أيضا األهمية الرومانتيكية‬
‫التي تنسب إلى العوامل الخلقية أو القيمية ‪ ،‬التي تمارس وظيفتها في تدعيم‬
‫االمتثال ‪.‬‬

‫إن التكامل الذي حققه بارسونز بين االتجاه الوظيفي و االتجاه الطوعي يمثل‬
‫انعكاسا للصراع بين المنفعة و األخالق أو الحقوق الطبيعية الذي وجد في الثقافة‬
‫البورجوازية ‪ ،‬و من ثم فإن محاولة بارسونز تمثل مواجهة لهذا الصراع‪ P‬الثقافي و‬
‫محاولة حله على المستوى النظري ‪.‬‬

‫و في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تركز اهتمام بارسونز على المجتمع‬
‫بوصفه نسقا اجتماعيا مكونا من نظم متفاعلة و متضمنات أخرى متداخلة و في تلك‬
‫المرحلة أيضا ظهر تأكيد بارسونز على فكرة التدعيم الذاتي و النسق المتوازن ‪ ،‬و‬
‫هو ذلك الكل المعقد الذي يشتمل على الميكانيزمات الخاصة التي تسهم بدورها في‬
‫االستقرار الداخلي للمجتمع ‪ ،‬و من ثم كان بارسونز يهتم في فترة ما قبل الحرب‬
‫بالقيم األخالقية بوصفها بواعث داخلية على الفعل االجتماعي ‪.‬‬
‫إن هذه الفترة المبكرة كانت تركز على أهمية تدعيم النسق ‪ ،‬أما في الفترة الثانية فقد‬
‫نظر إلى استقرار النسق االجتماعي ‪ ،‬باعتباره متوقفا على محاوالته الخاصة التي‬
‫يبذلها من أجل التكامل و التوافق ‪ ،‬و ذلك بدال ص من النظر إلى إرادة األفراد و‬
‫بواعثهم و لذلك أنصب اهتمام بارسونز على أن تدعيم النسق االجتماعي لتكامله‬
‫يجعل األفراد متوافقين مع ميكانيزماته و نظمه ‪ ،‬و يعودهم باستمرار إلى أن عيدوا‬
‫النسق بما يحتاج إليه ‪.‬‬

‫و يؤلف الفعل االجتماعي بالنسبة إلى بارسونز الوحدة األساسية للحياة‬


‫االجتماعية‪ ،‬وألشكال التفاعل االجتماعي بين الناس‪ ،‬فما من صلة تقوم بين األفراد‬
‫والجماعات‪ ،‬إال وهي مبنية على الفعل االجتماعي‪ ،‬وما أوجه التفاعل االجتماعي إال‬
‫أشكال للفعل التي تتباين في اتجاهاتها وأنواعها ومساراتها‪ ،‬ولهذا يعد الفعل عنده‬
‫الوحدة التي يستطيع الباحث من خاللها رصد الظواهر االجتماعية وتفسير‬
‫المشكالت التي يعاني منها األفراد‪ ،‬وتعاني منها المؤسسات على اختالف مستويات‬
‫تطورها‪.‬‬

‫والفعل االجتماعي بالتعريف هو سلوك إرادي لدى اإلنسان لتحقيق هدف محدد‪،‬‬
‫وغاية بعينها‪ ،‬وهو يتكون من بنية تضم الفاعل بما يحمله من خصائص وسمات‬
‫تميزه من غيره من األشخاص‪ .‬وموقف يحيط بالفاعل ويتبادل معه التأثير‪.‬‬
‫وموجهات قيمية وأخالقية تجعل الفاعل يميل إلى ممارسة هذا الفعل أو ذاك‪،‬‬
‫واإلقدام على ممارسة هذا السلوك أو غيره‪.‬‬

‫ولهذا يالحظ أن بارسونز يدرس الفعل اإلنساني بوصفه منظومة اجتماعية متكاملة‪،‬‬
‫يسهم كل عنصر من عناصرها في تكوين الفعل على نحو من األنحاء‪ ،‬وهي مؤلفة‬
‫من أربع منظومات فرعية تتدرج من المنظومة العضوية إلى المنظومة الشخصية‪،‬‬
‫فاالجتماعية فالثقافية والحضارية‪.‬‬

‫وفي حين تحدد المنظومة العضوية الخصائص العضوية للفاعل‪ ،‬تتحدد من خاللها‬
‫حاجاته وإمكاناته‪ ،‬وقدراته‪ ،‬وال يستطيع المرء أن يمارس الفعل االجتماعي إال في‬
‫الحدود التي تسمح بها عضويته‪ ،‬ومكوناتها‪ .‬وتختلف عن ذلك المنظومة الشخصية‬
‫التي تحمل قدراً كبيراً من الخصائص التي تميز الفاعلين من بعضهم بعضا ً بما أوتوا‬
‫من تفاضل في القوة والتأثير والقدرة على تحمل المصاعب‪ ،‬وغير ذلك من الصفات‬
‫التي تجعل األفراد يتفاوتون أيضا ً في قدراتهم على ممارسة الفعل االجتماعي‬
‫الواحد‪.‬‬

‫أما المنظومة االجتماعية في الفعل فتنطوي على نظم التفاعل والروابط التي يقيمها‬
‫الناس بين بعضهم بعضاً‪ ،‬ويستطيعون من خاللها ممارسة الفعل على النحو الذي‬
‫يصيرون فيه قادرين على ممارسة الفعل‪ ،‬فهم يتوزعون المواقع االجتماعية التي‬
‫تتيح لكل منهم ممارسة الفعل على نحو مختلف تبعا ً للموقع االجتماعي الذي يشغله‬
‫في بنية المنظومة االجتماعية‪ ،‬فالمرء ال يستطيع أن يمارس األفعال االجتماعية إال‬
‫في الحدود التي تسمح بها المواقع والمهام التي يشغلها في بنية التنظيم‪.‬‬

‫وتأتي المنظومة الحضارية والثقافية في أعلى مستويات منظومة الفعل‪ ،‬حيث‬


‫تنطوي على القيم واألخالق والمبادئ العامة التي توحد تنوعات المنظومة‬
‫االجتماعية‪ ،‬ومنها يستقي األفراد المعاني والدالالت التي تنطوي عليها األفعال‪،‬‬
‫ومن خاللها يستطيع المرء أن يميز أشكال الفعل‪ ،‬ويحكم على صالحيتها بالنسبة إلى‬
‫ثقافته وحضارته‪.‬‬

‫وتتجلى وحدة المجتمع بوحدة المنظومة الثقافية والحضارية التي تؤلف مصدر تقويم‬
‫األفعال وتوجيهها‪ ،‬وبفضل وحدة المنظومة الثقافية أيضا ً يتحقق للتنظيم االجتماعي‬
‫توازنه واستقراره‪ ،‬وليس من اليسير أن تتغير معالم المنظومة الثقافية بين عشية‬
‫وضحاها‪ ،‬بل تتأكد من خاللها شخصية التنظيم االجتماعي وهويته‪ ،‬ومن خاللها‬
‫يظهر التباين بين المجتمعات اإلنسانية والحضارات المتعددة‪P.‬‬

‫ويشير بارسونز إلى جملة من اآلليات (الضوابط)‪ P‬التي تسهم في حفظ النظام‬
‫وتوازنه مع اختالف الزمن والمراحل التي يمر بها التنظيم االجتماعي‪ ،‬ومن ذلك‬
‫التنشئة االجتماعية التي ُي َل ّقن من خاللها الفرد‪ ،‬منذ صغره‪ ،‬القيم والمعايير الثقافية‬
‫التي يعود لها الفضل في ضبط السلوك وأشكال الفعل وتوجيهها‪.‬‬
‫كما يعود استقرار التنظيم االجتماعي وبقاؤه إلى قدرته على التكيف مع التغيرات‬
‫التي تطرأ على تفاعله مع المحيط‪ ،‬وتلبية الحاجات التي تدعو إليها عمليات التغيير‪،‬‬
‫وخاصة بالنسبة إلى كل مكون من مكونات التنظيم‪ ،‬وبذلك يحقق التنظيم االجتماعي‬
‫وظيفتين بآن واحد‪ ،‬تكيفه مع البيئة المحيطة به من جهة‪ ،‬وتكامل مكوناته من جهة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫وتسهم نظرية الفعل االجتماعي التي عمل بارسونز على تطويرها في توضيح‬
‫الكثير من القضايا االجتماعية‪ ،‬مما جعل هذه النظرية تأخذ موقعا ً متقدما ً في‬
‫دراسات علم االجتماع في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬وفي معظم دول العالم‪،‬‬
‫والسيما الدول األوربية‪ ،‬بالنظر إلى ما تحتويه من قدرات تحليلية تمكن الباحث من‬
‫معالجة الكثير من القضايا االجتماعية وقضايا علم االجتماع ‪.‬‬

‫المتغيرات النمطية عند بارسونز‬

‫أبرز البعض اسهامات بارسونز بالنسبة للنظرية الوظيفية و حصرها في فكرته عن‬
‫البدائل النمطية ‪ ،‬للتوجيهات القيمية و التي تنحصر في متغيرات النمط الخمس و‬
‫المتمثلة في ‪:‬‬

‫‪ 1‬ــ الوجدانية في مقابل الحياد الوجداني حيث يعتبر النمو وجدانيا إذا كان تتيح‬
‫اإلشباع المباشر لحاجة الفاعل بينما يعتبر محايدا من الناحية الوجدانية إذا كان‬
‫يفرض النظام ‪ ،‬و يتطلب التخلي عن الخاص ‪ ،‬عن الخاص من أجل مصالح‬
‫اآلخرين ‪.‬‬

‫‪ 2‬ــ المصلحة الذاتية في مقابل المصلحة الجمعية ‪ ،‬فقد تعتبر المعايير االجتماعية‬
‫أنه من المشروع سعي الفرد وراء مصالحه الخاصة أو تجبره على العمل من أجل‬
‫مصالح الجماعة ‪.‬‬

‫‪3‬ــ العمومية مقابل الخصوصية و يشير المتغير األول إلى مستويات القيمة التي‬
‫على درجة كبيرة من العمومية بينما يشير الثاني إلى المستويات التي لها داللة لفرد‬
‫معين في عالقات معينة مع أشخاص معينين ‪.‬‬

‫‪ 4‬ــ األداء في مقابل النوعية و كان بارسونز يسميها أوال الوراثة في مقابل‬
‫االكتساب و يعني بها تلك المعالجة ا األولية لشيء على أساس ماهيته في حد ذاته‬
‫أي حقيقة مواصفات الشيء ‪ ،‬أو أن يكون الفعل على أساس تحقيق أهداف معينة‬
‫موضوعة و هذا هو األداء ‪.‬‬

‫‪ 5‬ــ التخصص في مقابل االنتشار ‪ :‬فيمكن أن تعرض مصلحة ما على وجه‬


‫التخصيص ‪ ،‬بحيث ال يكون هناك ثمة إلزام أبعد من تلك الحدود المرسومة أو‬
‫تعرف بشكل عام بحيث ال تتجاوز االلتزامات حدود التعريف الظاهر الذي يفترض‬
‫وجوده ‪.‬‬

‫و يعتقد بارسونز أن الفاعل يهدف الوصول إلى أكبر إرضاء و الفروض من‬
‫الناحية الواقعية ال يمكن أن يرغب في الحصول على كل شيء ‪ ،‬و لذلك ال بد من‬
‫أن يقف محايدا إزاء بعض األشياء ‪ ،‬و من تحليله لهذه البدائل النمطية استطاع أن‬
‫يصل إلى فكرته عن متغيرات النمط الخمس والتي ترتبط بنظرية األنساق لبارسونز‬
‫‪ ،‬كما أن بارسونز أوضح أيضا وظيفة البناءات ‪ ،‬فذهب إلى أن التحليل البنائي‬
‫الوظيفي يتطلب معالجة منظمة ألدوار و مراكز الفاعلين في موقف اجتماعي معين‬
‫و باإلضافة إلى معالجة النظم االجتماعية المتضمنة لها ‪.‬‬
‫و يشير المركز على مكان الفاعل في نسق عالقات اجتماعية ينظر إليها باعتبارها‬
‫بناء و الدور رغم ارتباطه بالمركز إال أنه بمثابة الوجه الدينامي له ‪ ،‬كما أنه يشير‬
‫إلى سلوك الفاعل في عالقته باآلخرين ‪ ،‬أما األنماط النظامية في التوقعات النمطية‬
‫أو البنائية فهي التي تحدد السلوك الثقافي المناسب لألشخاص الذين يقومون بأدوار‬
‫اجتماعية متعددة و مختلفة ‪.‬‬

‫الضروريات الوظيفية‬

‫أشار بارسونز إلى أنه باإلمكان تحليل المجتمعات باعتبارها أنساقا اجتماعية و أنه‬
‫إذا كان على أي نسق اجتماعي أن يستمر عليه أن يعمل على تحقيق أربعة شروط‬
‫أساسية أو بعبارة أخرى عليه أن يتغلب على أربعة مشاكل أساسية ‪ ،‬و لقد أطلق‬
‫على هذه المشكالت أو الشروط المتطلبات الوظيفية أو الضروريات الوظيفية و هذه‬
‫المتطلبات ال تهم التنظيم االجتماعي فقط و إنما تتعلق بالحاجات الشخصية ألعضاء‬
‫المجتمع أيضا و هذه‬

‫المتطلبات األربعة هي ‪:‬‬

‫التكيف مع البيئة‬

‫على كل مجتمع أن يحقق الحاجات الطبيعية ألعضائه إذا كان عليه أن يستمر ‪ ،‬و‬
‫لكي يحقق ذلك عليه أن يضع الترتيبات الالزمة مع بيئته الطبيعية ‪ ،‬ويعتبر الغذاء و‬
‫المأوى بمثابة حد أدنى من هذه المتطلبات ـ و عادة ما يشتمل مجالها على األنساق‬
‫الفرعية الخاصة باإلنتاج و التوزيع ‪.‬‬

‫انجاز الهدف ‪:‬‬

‫ينبغي على أي مجتمع أن يتوصل إلى بعض االتفاق المشترك بين أعضائه حول‬
‫أهدافهم و أولوياتهم و هكذا عليهم أن يوفروا الترتيبات الضرورية للتعرف على و‬
‫اختيار تحديد هذه األهداف الجمعية و توفير الترتيبات البنائية الضرورية لبلوغ هذه‬
‫األهداف ‪.‬‬

‫المحافظة على النمط و إدارة التوتر ‪:‬‬

‫على كل مجتمع أن يتأكد من أن أعضائه متحفزين ما فيه الكفاية ألداء األدوار‬


‫الضرورية‪ P‬المطلوبة و لتحقيق االلتزام الضروري بالقيم في هذا المجتمع و عليهم‬
‫أيضا أن يكونوا قادرين على إدارة التوترات‪ P‬االنفعالية التي يمكن أن تظهر بين‬
‫األعضاء خالل التفاعالت االجتماعية اليومية ‪.‬‬

‫التكامل‬

‫لكي يحافظ أي مجتمع على وجوده عليه أن يضمن قدرا من التعاون و الضبط بين‬
‫العناصر الداخلية لألجزاء المختلفة من النسق االجتماعي ‪ ،‬و تتعامل المشكلتان‬
‫األولى و الثانية ‪ ،‬التكيف مع البيئة و انجاز األهداف الجمعية مع ظروف و‬
‫متطلبات تتحقق من خارج النسق و على هذا يمكن النظر إليها على أنها أدائية إلى‬
‫حد كبير بمعنى أنها تتطلب أداء مهام مثل تعبئة الوسائل من أجل بلوغ األهداف ذات‬
‫القيمة ‪.‬‬

‫و تترتب مشكالت المحافظة على النمط و التحكم في التوتر ‪ ،‬و العمل على التكامل‬
‫بين أفعال األعضاء ‪ ،‬تترتب على الحقيقة التي مؤداها أنه يوجد هناك دائما أكثر من‬
‫شخص واحد في النسق االجتماعي ‪ ،‬و بعبارة أخرى من المعترف به أن التفاعل‬
‫االجتماعي ذاته يثير مشكالت من داخل المجتمع ‪.‬‬

‫و هاتان المشكلتان ينظر إليهما على أنهما يتعلقان بالجوانب التعبيرية إلى حد‬
‫كبير ‪ ،‬بمعنى المحافظة على القيم االجتماعية و ضبط التغيرات االنفعالية ‪ ،‬و على‬
‫أن مجتمع لكي يحل هذه المشكالت و يحافظ بالتالي على وجوده أن يوفر أربعة‬
‫سمات بنائية رئيسية ‪ ،‬و هذه السمات البنائية في نظر بارسونز تتمثل في األنساق‬
‫الفعرية الرئيسية المتعلقة باالقتصاد و السياسة و القرابة و التنظيمات الثقافية و‬
‫المحلية ‪.‬‬

‫و تؤدي النظم القرابية وظائف المحافظة على األنماط المتوقعة للتفاعل االجتماعي‬
‫و تساعد على ضبط التوترات الشخصية المتبادلة إلى حد ٍ كبير من خالل عملية‬
‫التنشئة االجتماعية ‪ ،‬و الواقع أن عملية التنشئة االجتماعية هي التي تشكل‬
‫شخصيات من يلعبون األدوار بالدافعية الكافية و اإللتزام بقيم المجتمع ‪.‬‬

‫أما النظم الثقافية و المحلية مثل الدين المنظم و التعليم و وسائل االتصال فهي تقوم‬
‫بوظيفة العمل على التكامل بين العناصر المتباينة في النسق االجتماعي ‪.‬‬

‫و هذه النظم بإمكانها أن تشكل القيم االجتماعية و تعمل على تدعيمها في الوقت‬
‫نفسه ‪ ،‬و قد تكون هذه النظم في حاجة إلى مساعدة تتلقاها من الهيئات الرسمية‬
‫الخاصة بالضبط االجتماعي ‪ ،‬مثل قوة البوليس و الجيش أو من نظم قانونية خاصة‬
‫بالمحاكم و التشريع خاصة إذا اتضح عدم كفاية هذه النظم الثقافية ‪.‬‬

‫و يتأثر الشكل الخاص الذي تأخذه هذه األنساق البنائية الفرعية أو النظم في أي‬
‫مجتمع بنسق القيم الخاص بهذا المجتمع و كان بارسونز متأثرا إلى ح ٍد كبير بأعمال‬
‫دور كايم ‪ ،‬ألن كال منهما كان يعتبر المجتمع في أساسه بمثابة كيان أخالقي ‪ ،‬و‬
‫عندما يشير بارسونز إلى بناء المجتمع بمعنى البناء االجتماعي ‪ ،‬فإنه يشير إلى‬
‫البناء المعياري بمعنى أنه يشير إلى بناء التوقعات الذي يتجسد في عملية لعب‬
‫األدوار وكل األنساق النظامية الفرعية مثل القرابة و االقتصاد و السياسة المشار‬
‫إليها سلفا تتكون من أدوار ‪.‬‬

‫االنتقادات‬

‫بدأت حملة من االنتقادات توجه إلى بارسونز و تتساءل عما إذا كان نسق‬
‫المفهومات عند بارسونز يرتبط بأحداث تقع في العالم الحقيقي ‪.‬‬
‫ال جدال أن هذا االتجاه النقدي الموجه إلى بارسونز له أهميته ‪ ،‬ألن إستراتيجية‬
‫بارسونز تفترض أنه من الضروري أن نصيغ نسقا محكما من المفهومات ‪ ،‬يدرك‬
‫إدراكا مالئما السمات الظاهرة للعالم االجتماعي ‪ ،‬و منه تبرز مجموعة من القضايا‬
‫النهائية ‪ ،‬و التحدي األكبر الذي يواجه استراتيجيته و جوهر شكل التنظير الوظيفي‬
‫عند بارسونز هو التأكيد بأن النسق الكامل النضج للمفهومات ال يعكس إال سمات‬
‫غير مالئمة عن األنساق االجتماعية الواقعية ‪.‬‬

‫و قد صاغ لنا دارندوف مجموعة من االنتقادات عندما شبه النزعة الوظيفية‬


‫باليوتوبيا ‪ ،‬و أكد دارندوف أن مفهومات بارسونز تشبه كثيرا السمات البارزة في‬
‫عالم اليوتوبيا االجتماعية ألنها تشير إلى عالم ‪ :‬أ ) جماد ال يتطور‬

‫ب ) يؤكد على االتفاق حول القيم و المعايير فقط ‪.‬‬

‫ج ) يعرض درجة عالية من التكامل بين عناصره ‪.‬‬

‫د ) و يشير إلى أساليب تحافظ على الوضع الراهن ‪ ,‬بإيجاز فإن صورة المجتمع‬
‫التي عرضها بارسونز هي صورة يوتوبية ‪ ،‬ألنها تستبعد حدوث ظواهر مثل‬
‫االنحراف و الصراع و التغير ‪.‬‬

‫و رغم ضعف الدليل على إثبات هذه التأكيدات فإنه ألمر طبيعي أن تقلقنا مصادر‬
‫النقد ‪ ،‬و لقد تزايدت حملة االتهمات بعد نشر كتاب النسق االجتماعي ‪ ،‬الذي عرض‬
‫فيه بارسونز عرضا واضحا لفكرة تكامل األنساق االجتماعية ‪ ،‬وبطريقة تماثل ما‬
‫عرضه راد كليف بارون و دور كايم من أن التأكيد على الحاجة أو لزوميات‬
‫التكامل في األنساق االجتماعية يؤدي في راي النقاد إلى اهتمام غير مناسب و غير‬
‫متوازن بتلك العمليات التي تحدث داخل األنساق االجتماعية ليواجه و يشبع هذه‬
‫الحاجة إلى التكامل ‪.‬‬

‫كما كان من ضمن االنتقادات التي وجهت لبارسونز مشكلة الحشو و تكرار المعنى‬
‫و هي إحدى االنتقادات األساسية التي تعترض منظور بارسونز الوظيفي ‪ ،‬و‬
‫المقصود بالحشو و تكرار المعنى في فكر بارسونز نجده في صياغة بارسونز عن‬
‫الحاجات األربعة للنظام حيث نجد أنها مبنية على افتراض أن تلك الحاجات غير‬
‫محققة و لذلك فإن بقاء النظام يكون مهددا أو معرضا للخطر ‪ ،‬و مع ذلك فعندما‬
‫طبق بارسونز هذا االفتراض أصبح من الضروري التعرف على مستوى الفشل في‬
‫مقابلة كال من هذه الحاجات إلبراز أزمة النظام من أجل البقاء ‪ ،‬كيف يستطيع الفرد‬
‫أن يحدد متى ال تكون حاجات التكيف مقابلة للنظام ‪.‬‬

‫إنه لما لم يكن هناك بعض الطرق لتحديد ما يعين على بقاء النظام أو عدم بقاءه فإن‬
‫االفتراضات المدعمة بالوثائق عن مشاركة إو إسهام البنود بالنسبة لمقابلة حاجات‬
‫البقاء تصبح حشوا أو تكرارا للمعنى ‪ ،‬فالجزء أو العنصر يقابل حاجات بقاء أو عدم‬
‫بقاء النظام ‪ ،‬ألن النظام موجود و بناء على ذلك يجب على النظام أن يكون باقيا ‪.‬‬

‫إذا فبارسونز لم يقدم إجابة على التساؤالت المتعلقة بمشكلة الحشو و تكرار المعنى‬
‫حيث أنه لم يعطي إجابات على المستويات أو المعايير التي بواسطتها يمكننا التعرف‬
‫على مدى قابلية النظام للحاجات الوظيفية األربعة من أجل الحفاظ على بقائه و‬
‫استمراره ‪ ،‬فعلينا أن نعرف متى تكون حاجات النظام متقابلة أو غير متقابلة ‪.‬‬

‫و بجانب ذلك فإنه كان على بارسونز أن يمدنا بالمستويات الدنيا المطلوبة لمقابلة‬
‫كل حاجة من حاجات النظام األربعة لبقائه ‪ ،‬و بمعنى آخر عند أي حد يمكننا القول‬
‫بأن النظام يمكن مقابلة حاجاته التكاملية و عند أي وضع يمكننا من خالله تحديد بقاء‬
‫النظام أو فشله ‪ ،‬ألن المستويات الدنيا المطلوبة لحاجاته تكون متقابلة ‪.‬‬

‫فأي افتراض عن بقاء النظام بواسطة مقابلة حاجاته األربعة األساسية يكون عديم‬
‫المعنى أو االستعمال ‪ ،‬ما لم يتوافر لدينا بعض المعايير التي بواسطتها نستطيع‬
‫التعرف على المستويات الدنيا الالزمة لمقابلة حاجات النظام ‪ ،‬و ما يترتب على ذلك‬
‫من بقائه أو عدم بقائه ‪.‬‬

‫و يبدو أن بارسونز كان لديه وعي بهذه المشكلة الخاصة بمنهجه و لكنه كان غير‬
‫قادر على حلها و التغلب عليها ‪.‬‬
‫اإلسهامات التي قدمها روبرت ميرتون للنظرية البنائية الوظيفية‬

‫أوال ‪ :‬سيرة روبرت ميرتون الذاتية ‪:‬‬

‫تأثر ميرتن بشكل مباشر بأساتذته الذين درسوه علم االجتماع بعد مرحلة‬
‫البكالوريوس‪ ( P‬الماجستير والدكتوراة‪ ) P‬أمثال بيرتم سوروكن و تالكوت بارسونز و‬
‫هاندرسون ل ‪ .‬ج و جاي ف ‪ .‬و جورج سارتون ‪ ،‬إذا اكتسب من سوروكن األفكار‬
‫االجتماعية األةربية ( الذي هاجر من روسيا إلى أمريكا حامال معه رؤى و مناهج‬
‫أوروربية تختلف عن األمريكية ) لكن مرتن لم يقتف ِ خطى أستاذه في البحث‬
‫االجتماعي ألن بداية أستاذه كانت في العقد الثالث من هذا القرن و طموحات مرتن‬
‫غير ذلك ‪ ،‬إال أنه يشعر أنه قريب منه في الفكر والتفكير ‪.‬‬

‫أما أستاذه الثاني ( تالكوت بارسونز ) فقد طعـّم فكرة بمصطلحاته البنائية و‬
‫الوظيفية و التي ساعدته في تأليف مؤلفه " البناء االجتماعي للفعل االجتماعي "‬

‫أما هاندرسون ( صاحب الخلفية الكيميائية ) أستاذ علم االجتماع فقد تعلم منه أصول‬
‫البحث العلمي ‪ ،‬و تعلم األسس االقتصادية في التطور و النمو من أستاذه المخصص‬
‫في التاريخ االقتصادي البروفسور جاي ‪ .‬ف ‪.‬‬

‫أخيرا استافد من توجيهات و إرشادات عميد تاريخ العلوم البروفسور جورج‬


‫سارتون فيما يخص أصول البحث العلمي ‪.‬‬

‫أما معلموه غير المباشرين فهم اميل دور كايم و جورج زيمل و جلبرت موري ‪ ،‬ثم‬
‫تعلم في مراحل حياته األخيرة األشياء الكثيرة من زمالئه في العمل أمثال بول‬
‫الزفيلد الذي استفاد منه في مناقشاته و محاوراته معه التي استمرت أكثر من ثالثين‬
‫عاما قضاها معه في جامعة هارفارد ‪.‬‬
‫كانت أمنية مرتن تقديم نظرية علمية في علم االجتماع ذات حبكة فكرية و تماسك‬
‫منهجي متميز و بالذات في دراسة البناء االجتماعي للفعل االجتماعي و التفكير‬
‫الثقافي لتساعده على دراسة المؤسسات االجتماعية و سمات الحياة االجتماعية ‪.‬‬

‫أما االتجاهات العلمية التي طبعات اهتماماته و أعماله فقد ظهرت في العقد الثالث‬
‫من هذا القرن حول العلم و التكنولوجيا إبان القرن السابع عشر في بريطانيا ‪.‬‬

‫لكن في العقد الرابع أنصب ولعه العلمي على دراسة السلوك المنحرف و العمل‬
‫البيروقراطي‪ ( P‬الديواني ) و اإلقناع الجمعي و وسائل االتصال في الحياة‬
‫االجتماعية العصرية ‪ ،‬و دور المثقف في المجتمع و مؤسساته الرسمية ‪.‬‬

‫و في العقد الخامس تميز عمله بالتفاتة إلى بناء نظرية اجتماعية في علم االجتماع‬
‫كأساس للبناء االجتماعي متضمنا األدوار و المواقع و الجماعة المرجعية ‪.‬‬

‫و في هذا العقد أيضا ( الخامس ) تعاون مع زمالئه في وضع اللبنات األساسية‬


‫للتربية الصحية أمثال جورج ريدر و باتريشا كيندل ‪ ،‬بينما كان اهتمامه في العقدين‬
‫السادس و السابع منصبا على العودة إلى النظرية و المناهج االجتماعية و إرساء‬
‫القواعد النظرية لهيكل الفعل االجتماعي و البناء اإلدراكي ‪ ،‬ثم بزغ عنده اهتمام‬
‫جديد يدعو إلى حقل جديد يدعى علم اجتماع العلم ‪.‬‬

‫ثانيا إسهاماته ‪:‬‬

‫اقترح روبروت ميرتون إدخال بعض التعديالت على النظرية الوظيفية و لكنه بدأ‬
‫من نفس المسلمات النظرية و االيدولوجية التي يبدأ بها كل أصحاب االتجاه الوظيفي‬
‫و أصحاب االتجاه العضوي من قبلهم ‪ ،‬و أهم هذه المسلمات أن البناء االجتماعي‬
‫في حالة ثبات و أن هناك تكامال بين عناصر هذا البناء ‪ ،‬و أن هناك اجماعا عاما‬
‫بين أعضاء المجتمع على قيم معينة ‪ ،‬و أن هناك توازن‬

You might also like