Professional Documents
Culture Documents
فاطمة ع في نهج البلاغة ج٢
فاطمة ع في نهج البلاغة ج٢
فاطمة ع في نهج البلاغة ج٢
الطبعة األوىل
1439هـ2018/م
املسألة األوىل :املالزمة بني قصدية منتج النص يف كونها سيدة النساء مع
احلديث النبوي .
مل تقترص األحاديث النبوية الرشيفة اخلاصة بفاطمة (عليها السالم) يف بيان
منزلتها يف األمة وإنام تعدّ هتا إىل بيان منزلتها عىل العاملني كي ال يبقى عذر ملعتذر
يف نكران فضلها ،وجحد حقها ،وهذه االحاديث اخلاصة بصفة كوهنا سيدة
مرت يف املبحث السابق اخلاص بقصدية (الصفوة) نساء العاملني وإن كانت قد ّ
واالصطفاءّ ،إل أهنا هنا داللتها وغرضها الذي قصده منتج النص (عليه السالم)
()7
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
يف ارشاد املتلقي اىل املالزمة بني قصديته (عليه السالم) واحلديث النبوي هبذا الشأن
الفاطمي وتعدد مناسباته ودوافعه فقد تعدد صدور احلديث عنه (صىل اهلل عليه
وآله) يف شأن فاطمة وخصوصية انحصار الس ّيد ّية هبا دون جتزئتها عىل بقية النساء
املنتجبات واملفضالت يف العوامل املتعددة ،ليظهر النبي االكرم (صىل اهلل عليه وآله)
هبذا البيان عن أن فاطمة وبعلها وبنيها هم خاصة رشع اهلل وأمناؤه عىل دينه ،ومحلة
وحيه ،الذي نزل به الروح األمني عىل قلب النبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم).
ولذا :ليس بالغريب عىل من تعصب للباطل ،وكره احلق وإظهاره ،أن ينكر 8
عىل آل النبي (صىل اهلل عليه وآله) كل هذا الكم الكبري من األحاديث الرشيفة
يف العرتة .ممّا دفع النبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم) -ومن خالل ما أطلعه عليه
الوحي من انقالب األمة بعد وفاته وظهور الفتن فيها وحماربة أهل بيته ومعاداهتم
أيام عداوة -أن يعمد إىل استخدام وسائل متعددة يف حث الناس عىل التمسك
بأهل بيته واتباعهم ومالزمتهم ونرصهم؛ ففي ذلك نرص اإلسالم والرشيعة.
فنجده يلتمس األوقات واألماكن املناسبة ليبث يف األمة روح اإليامن والتذكري،
كي ال يقع أحد منهم يف التهلكة أو يتبع الباطل ،وها هو القرآن يرصح بالعديد من
احلقائق التي تذكر وقائع األيام واألمم السالفة التي وقعت فيها الفتن فكانت سبب ًا
هلالكها وضياعها.
من هنا :عمد (صىل اهلل عليه وآله وسلم) إىل أساليب عديدة يف التبليغ ملا يرتضيه
اهلل تعاىل هلذه األمة ،فكانت كاآليت:
املبحث احلادي عشر :مقاصدية ضعف ّ
جتلده ..
أوالً -أخباره الناس من خالل املسجد النبوي يف بيان منزلة فاطمة (. )
«من عرف هذه فقد عرفها ،ومن مل يعرفها هي فاطمة بنت حممد ،وهي بضعة مني،
وهي قلبي الذي بني جنبي ،فمن آذاها فقد آذاين ومن آذاين فقد آذى اهلل ــ جل وعال»(((.
فكان هذا االخبار العام هو وسيلة يف نجاة األمة من الوقوع يف الفتنة وحفظ
9 حرمته (صىل اهلل عليه وآله وسلم)؛ ألن فيها حرمة اهلل وحرمة اإلسالم؛ فض ً
ال عن
ان أهل بيته ،هم آل ياسني الذين اصطفاهم اهلل لرشعه ،وجعلهم حجج ًا عىل خلقه.
ثاني ًا :اصطحابه بعض الصحابة لزيارة بيت فاطمة (. )
وكان ذلك من خالل اصطحابه لعمران بن حصني كام أخرج ابن شاهني عنه
قائالً( :خرجت يوم ًا فإذا أنا برسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم قائم فقال يل:
قال :قلت فداك أيب وأمي وأي رشف أرشف من هذا فانطلق رسول اهلل صىل اهلل
عليه وآله وسلم فانطلقت معه حتى أتى الباب فقال:
((( املحترض حلسن بن سليامن احليل :ص .234البحار للمجليس :ج ،43ص.54
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
قالت:
قال:
«ومع رسول اهلل مالءة خلقة».
ففعلت ثم قالت:
«أدخل».
فدخل ودخلت معه فقعد عند رأسها وقعدت قريب ًا منه فقال:
قالت:
«واهلل يا رسول اهلل إين لوجعة وإين ليزيدين وجع ًا إىل وجعي أن ليس عندي ما
آكل».
قال :فبكى رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) وبكت وبكيت معهام.
قال هلا« :أي بنية تلك سيدة نساء عاملها وأنت سيدة نساء عاملك والذي بعثني
باحلق لقد زوجتك سيدا يف الدنيا وسيدا يف اآلخرة ال يبغضه إالّ كل منافق»)(((.
ثالث ًا :بيانه ملنزلتها يف محضر أزواجه ويف اللحظات األخرية من حياته.
وهذا يدل عىل أمهية املوضوع الذي يتحدث عنه النبي (صىل اهلل عليه وآله)؛ ألن
اإلنسان هيتم يف هذه اللحظات بأهم األشياء لديه ،ولذا نجده (صىل اهلل عليه وآله
وسلم) ملا دخلت عليه فاطمة (عليها السالم) ،وهو يف مرضه الذي تويف فيه ،قال هلا:
11
«يا فاطمة ،أال ترضني أن تكوين سيدة نساء العاملني وسيدة نساء هذه األمة وسيدة
نساء املؤمنني؟»(((.
املسألة الثانية :قصدية احنصار السيادة على نساء العاملني بفاطمة (. )
إن الذي يرشد إليه حديث عمران بن حصني يف كون فاطمة سيدة نساء عاملها
ومريم سيدة نساء عاملها حيتاج إىل توجيه ينسجم مع نصوص أخرى واردة عن
املعصومني (عليهم السالم) السيام األحاديث النبوية الرشيفة التي تنص عىل ان
فاطمة سيدة نساء العاملني من األولني واآلخرين وهي كاآليت:
((( فضائل سيدة النساء لعمر بن شاهني :ص .25االستيعاب البن عبد الرب :ج ،4ص.1895
نظم درر السمطني للزرندي احلنفي :ص .179تاريخ ابن عساكر :ج ،42ص .134اجلوهري
للربي :ص .17تاريخ اإلسالم للذهبي :ج ،3ص .46بشارة اإلسالم ملحمد بن أيب القاسم
الطربي :ص .118ينابيع املودة للقندوزي :ج ،2ص .134ذخائر العقبى :ص .43إحياء علوم
الدين :ج ،10ص.74
((( املستدرك:ج ،3ص .156الفردوس للديلمي :ج ،3ص .145الكنز :ج ،12ص،110
ح .24232ويف اجلمع بني رجال الصحيحني :ج ،2ص .611االصابة البن حجر :ج،8
ص .56ويف سرية رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم البن سعد :ص .270ويف االستيعاب:
ج ،4ص ،1893ح.1895
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
-1عن سعيد بن جبري عن ابن عباس قال :قال النبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم):
«إن علي ًا وصيي وخليفتي ،وزوجته فاطمة سيدة نساء العاملني ابنتي ،واحلسن
واحلسني سيدا شباب أهل اجلنة ولداي ،من واالهم فقد واالين ،ومن عاداهم فقد
عاداين ،ومن ناواهم فقد ناواين ،ومن جفاهم فقد جفاين ،ومن برهم فقد برين،
وصل اهلل من وصلهم ،وقطع اهلل من قطعهم ،ونرص اهلل من أعاهنم ،وخذل اهلل من
خذهلم»(((.
12
-2عن املفضل بن عمر قال قلت أليب عبد اهلل (عليه السالم) :أخربين عن قول
رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) يف فاطمة أهنا سيدة نساء العاملني أهي سيدة نساء
عاملها؟ فقال:
«ذاك ملريم كانت سيدة نساء عاملها وفاطمة سيدة نساء العاملني من األولني
واآلخرين»(((.
-3وروى الطربيس يف مسائل اليهودي لإلمام عيل (عليه السالم) كان من بينها
قوله :فإن هذا يعقوب (عليه السالم) أعظم يف اخلري نصيبه إذ جعل األسباط من
ساللة صلبه ومريم بنت عمران من بناته قال عيل (عليه السالم):
«لقد كان كذلك ،وحممد صىل اهلل عليه وآله وسلم أعظم يف اخلري نصيباـ إذ جعل
فاطمة سيدة نساء العاملني من بناته واحلسن واحلسني من حفدته»(((.
عن ابن عباس قال ،قال رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم):
-6وذكرها (عليها السالم) ضمن سيدات أهل اجلنة أو العاملني وباللفظ الذي
13
يدل عىل اشرتاكها يف هذه السيادة كقوله (صىل اهلل عليه وآله وسلم):
«حسبك من نساء العاملني أربع ،مريم بنت عمران ،وآسية امرأة فرعون ،وخدجية
بنت خويلد ،وفاطمة بنت حممد صىل اهلل عليه وآله وسلم».
-7عن أيب هريرة قال :قال رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم):
«خري نساء العاملني أربع؛ مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخدجية بنت
خويلد وفاطمة بنت حممد صىل اهلل عليه وآله وسلم»(((.
-8وعن عائشة قالت لفاطمة (عليها السالم) :أال أبرشك ،إين سمعت رسول
اهلل (صىل اهلل عليه -وآله -وسلم) يقول:
«سيدات نساء أهل اجلنة أربع مريم بنت عمران وفاطمة بنت حممد وخدجية بنت
خويلد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»(((.
َّ
إن هذه األحاديث الرشيفة التي وردت يف حق فاطمة (صلوات اهلل عليها) وبيان
منزلتها والتي يظهر فيها اختصاصها بمنزلة السيادة عىل العاملني مرة ،واشرتاكها مع
مريم ،وخدجية ،وآسية مرة أخرى ،وجتزؤ هذه السيادة يف املرة الثالثة.
لتحتاج إىل توجيه يقرب املعنى ويوصل إىل الداللة التي ترشد إليها هذه
األحاديث والتي تقارب قصدية منتج النص يف بيان املالزمة بني غرضه وغرض
االحاديث النبوية -كام مر يف املسألة االوىل ،فض ً
ال عن قصدية انحصار الس ّيد ّية هبا
14
عىل نساء العاملني ،فكانت كاآليت:
ّ .1
إن معنى سيادهتا عىل العاملني من األولني واآلخرين مع اختصاص مريم
(عليها السالم) بذاك السيام ما جاء يف قوله تعاىل:
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اص َط َفاك َع َل ن َساء ا ْل َعا َل َ
ني﴾(((. ﴿ َيا َم ْر َي ُم إِ َّن اللََّ ْ
اص َط َفاك َو َط َّه َرك َو ْ
وبيانه (صىل اهلل عليه وآله وسلم) أن هذا االصطفاء عىل العاملني مقيد يف زماهنا
فإن مثاله كمثال الشمس والكواكب ،فكل كوكب هو سيد عامله ،لكنه بالنسبة
للشمس ال يرقى يف سيادته عىل سيادهتا ،ويف نفس الوقت تكون الشمس سيدة
عاملها ،وعامل غريها من الكواكب مع مالحظة ان اجلميع ضمن جمرة واحدة وعامل
واحد وكذا حال فاطمة (عليها السالم) فهي كالشمس يف عامل النساء مع وجود
نساء أخريات كمريم ،وخدجية ،وآسية ،ه ّن كالكواكب.
ومما يدل عىل هذا املعنى قوله تعاىل يف اصطفاء بعض األنبياء وآل األنبياء (عليهم
السالم) ،فقول سبحانه:
«أما ترضني أن تكوين سيدة نساء أهل اجلنة ،أو نساء املؤمنني»(((.
وال شك ان اجلنة جتمع نساء مجيع العوامل من األولني واآلخرين ،وهبذا تكون
فاطمة سيدة نساء العاملني.
((( سورة آل عمران ،اآلية (.)34-33
((( سورة آل عمران ،اآلية (.)110
((( صحيح البخاري ،باب :عالمات النبوة :ج ،4ص.183
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
فان ذلك يقتيض املحورية التي يرجع إليها نظم األمم وإصالحها ،وحاهلا كحال
النواة يف اخللية ،والشك من الناحية الفيزيائية ،أن الرعوية والسياد ّية يف اخللية
تكون للنواة ،وبذلك جعلها اهلل يف الوسط من املكون اخلليوي ،وكذا حال هذه 16
األمة وكذا حال فاطمة (صلوات اهلل عليها) من نساء األمة ،ونساء العاملني.
ولعل أقرب املعاين هلذه السيادة عىل العاملني ما روي عن النبي (صىل اهلل عليه
وآله وسلم) يف بيانه ملعنى اسم «الزهراء» حينام ابتىل اهلل املالئكة بظلمة شديدة فلم
تكد ترى حينها أوهلا من آخرها وحينها ضجت املالئكة إىل اهلل بالدعاء ونادت:
«إهلنا وسيدنا ،بحق األشباح التي خلقتها اال ما فرجت عنا هذه الظلمة فعند
ذلك تكلم اهلل بكلمة أخرى فخلق منها روح ًا ،فاحتمل النور الروح فخلق منه
الزهراء ،فاطمة فأقامها أمام العرش ،فأزهرت املشارق واملغارب ،فألجل ذلك
سميت الزهراء»(((.
أي :بسيادة نورها عىل املشارق واملغارب ،كام سيمر بيانه بمزيد من التفصيل يف
مقاصدية قوله (عليه السالم):
وعليه:
فإن مقاصديته كانت إللفات انتباه ذهن املتلقي اىل هذه الشأنية واملنزلة اجللية
لبضعة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ومن ثم يتضح عندها امران:
االمر االول :حجم اخلسارة التي منيت هبا هذه االمة ،فلقد افتقدت بشكل رسيع
سيدة نساء العاملني دون أن نتنفع منها يف شؤون احلياة السيام فيام ارتبط باملرأة
واالرسة ،وما ارتبط هبام من حقول معرفية متعددة يف الفقه واالقتصاد واالجتامع
17
ال عن كوهنا باب ًا من ابواب والرتبية واالخالق والنفس والسلوك وغريها ،فض ً
نزول الرمحة واللطف اإلهلي للعاملني بمقتىض البضعية التي هلا دون غريها من
العرتة النبوية ومن ثم فام للمصطفى (صىل اهلل عليه وآله) من خصائص يكون هلا
منها البضع بمقتىض حديثة (صىل اهلل عليه وآله)« :فاطمة بضعة مني »..ومن هذه
َان اللَُّ لِ ُي َع ِّذ َ ُب ْم
﴿و َما ك َ
اخلصائص رفع العذاب ومنع وقوعه عىل األمة لقوله تعاىل َ
ْت فِ ِ
يه ْم ،﴾..ففقداهنا كان خسارة لألمة وللمسلمني مجيع ًا. َو َأن َ
ومن ثم فكل ما ارتبط هبم كان بنظر اهلل وبتسديد منه لبلوغ هدف حمدد؛ إذ قد
يرتبط نوع البالء بصالح املجتمع كام يف ابتالء نبي اهلل ابراهيم (عليه السالم) حينام
ُألقي يف النار فكانت بأمر اهلل برد ًا وسالم ًا ،وهو بالء يوازي حجم الفساد العقدي
للمجتمع ،وذلك من خالل تغلغل الوثنية يف أرض الرافدين وتعدد مذاهبها ،فمن
عبادة الشمس وعبادة القمر وغريها من الكواكب ،أو عبادة األصنام وتعددها،
وظهور معتقد الثالوث البابيل((( إىل دعوت النمرود لأللوهية وغريها ،من املذاهب
الوثنية التي استدعت أن يكون حجم البالء موزي ًا حلجم اإلصالح وهو التوحيد.
بمعنى :إن الذين يعتقدون بالشمس والقمر واألوثان وبالنار وغريها آهلة ،فإهنم
ال يصمدون أمام منظر قذف إبراهيم (عليه السالم) بالنار التي تأكل احلجر والبرش؛
ومن ثم فأي قوة تلك التي عطلت النار وغريت ماهيتها وسنتها يف اإلحراق إىل
الربد الذي ال يرض أيض ًا فكانت سالم ًا عىل إبراهيم (عليه السالم).
أو كام يف حال نوح عليه السالم الذي أبتيل بطول فرتة التبليغ صابر ًا طوال هذه
السنني التي لبث فيها مئات من السنني ،فكانت كام أخرب الوحي يف حمكم التنزيل:
((( ملزيد من االطالع :ينظر كتاب (تكسري األصنام بني ترصيح النبي وتعتيم البخاري دراسة يف
امليثولوجيا والتاريخ ورواية احلديث ،ملؤلف).
()21
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
فأهلكهم اهلل مجيع ًا كي ال يضلوا من آمن وال يلدوا الفجار والكفار ،وذلك 22
لتلبس الكفر هبم وحتوهلم حتوالً تام ًا إليه فاقتىض احلكم اإلهلي إبادهتم مجيع ًا ببالء
الطوفان.
وعليه:
فحجم البالء يف مصيبة فقد فاطمة (عليها السالم) وما جرى عليها يوازي
املصلحة يف حجم بقاء االسالم ورشيعة املصطفى (صىل اهلل عليه وآله وسلم).
فلوال هذا االبتالء ملا ُع ِرف اهل الضالل وائمته ،وأهل الباطل وقادته ،ولسارت
األمة بحسب ما اراده هؤالء هلا من ارجاع الناس اىل حكم اجلاهلية وارجاسها
منتفعني من اجتامع الناس عىل كلمة ال اله إال اهلل التي جاهد من اجلها رسول اهلل
(صىل اهلل عليه وآله) فوجدوا أن العرب جمتمعة عىل هذه الكلمة متفرقة يف االيامن
هبا وهي حقيقة كشفها القرآن الكريم ،قال تعاىل:
اب َآ َمنَّا ُق ْل َل ْ ت ُْؤ ِمنُوا َو َلكِ ْن ُقو ُلوا َأ ْس َل ْمنَا َو ََّلا َيدْ ُخ ِل ْ ِ
ال َيم ُن ِف ِ
﴿ َقا َلت ْالَ ْع َر ُ
ُق ُلوبِك ُْم ،(((﴾..فأصبح هلم هبذا االجتامع عوامل قيام اململكة او السلطان او
االمارة ليتطور املصطلح مع مقتضيات مترير االمارة والتسلط املرشعن اىل مفهوم
اخلالفة؛ فهذا خليفة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) الذي له احلق -بحكم هذا
العنوان -تصدير االحكام وتفسريها بحسب اجتهاده ،ورأيه قاعدة ،فإن اخطئ
فله أجر واحد ،وإن اصاب فله أجران حتى اصبح االسالم الذي جاء به النبي
االعظم (صىل اهلل عليه وآله) وملا خلص منهم احد من املسلمني.
ولذا:
23
كان البد من وقوع ابتالء عظيم هيز الضامئر ويبث الروح فيها ويعيد االسالم اىل
جمراه الذي سنَّه اهلل تعاىل فينجو من نجى عن بينة وهيلك من هلك عن بينة فاختار
اهلل تعاىل هلذا البالء اهل دينه وخاصته من خلقه وخفائه يف ارضه فقتلت فاطمة
(عليها السالم) وانكشف حال اجلناة الذين ادعوا الصالح فأصبحوا أهل الفساد
واخلراب.
من هنا:
فإن مقاصدية منتج النص يف نقل هذا التفجع والتصرب اىل املتلقي يكمن يف
افهامه أن هذه املشاعر النفسية التي يظهرها منتج النص ال تنحرص يف الوجدانيات
يت عيل بن ايب طالب (عليه السالم) من امكانات نفسية التي
والعواطف مع ما أو َّ
اكتنزها لفظ (قل صربي) (ضعف جتلدي) -كام سيمر الحق ًا -وإنام ابتغى (عليه
السالم) نقل املتلقي اىل معرفة هذه املعادلة وهي السنّة االهلية ،اي :سنة اإلفداء بغية
﴿و َفدَ ْينَا ُه بِ ِذ ْبحٍ َعظِيمٍ﴾ فكان افداء
االبقاء عىل دين اهلل ورشعه كام يف قوله تعاىلَ :
االسالم بفاطمة وال يعرف املتلقي قيمة االسالم مامل يعرف قيمة فاطمة (عليها
السالم) التي قدمت فدا ًء لبقاء االسالم.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ومن ثم :كيف ال يتفجع امري املؤمنني (عليه السالم) ويبحث عن ما يشد به
جرحه بفقد فاطمة (عليها السالم) غري التعزي بأبيها (صىل اهلل عليه وآله) كام
سيمر الحق ًا.
املسألة الثانية :قصدية ّ
تعزيه وحزنه على رسول اهلل (. )
َّ
إن االطالع عىل سرية أمري املؤمنني اإلمام عيل (عليه السالم) وقراءة شخصيته،
وما عرف عنه من شدة البأس يف احلروب ،وجالدة النفس يف مقارعة األبطال،
24
رجالة ،يف بدر وحنني واألحزاب التي ينبئكومنازلة الشجعان ،فرسان ًا كانوا أم ّ
قتله لعمر بن عبد ود عن أخبارها ،ويكفيك يف ذاك عن البيان قوله تعاىل:
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اءوك ُْم م ْن َف ْوقك ُْم َوم ْن َأ ْس َف َل منْك ُْم َوإِ ْذ زَا َغت ْالَ ْب َص ُار َو َب َلغَت ا ْل ُق ُل ُ
وب ﴿إِ ْذ َج ُ
ُون َو ُز ْل ِز ُلوا ِز ْلز ًَال َش ِديدً ا﴾(((.
ك ا ْبت ِ َُل ا ُْل ْؤ ِمن َ
ُّون بِاللَِّ ال ُّظنُونَا * ُهنَالِ َ الن ِ
َاج َر َو َت ُظن َ َْ
فكان قتله (عليه الصالة والسالم) لصنديد األحزاب (ابن ود) كفي ً
ال يف تغيري
ميزان القوى وإحراز النرص عىل املرشكني واملنافقني.
أما شدة بأسه يف مقاتلة اليهود وفتح حصوهنم ،وقلعه لباب خيرب الذي عجز عن
حتريكه أكثر من أربعني رجالً ،وقتله ملرحب فارس فرساهنم َلشاهد آخر عن جالدة
نفسه يف املواطن التي تضعف فيها النفوسّ ،
وترق القلوب حتى تبلغ احلناجر.
فهذه الشدّ ة والصالبة والقوة التي تدل عليها (اجلالدة)((( التي ُع ِرف هبا عيل (عليه
السالم) واشتهر هبا ،فكان صفة مالزمة السمه فأينام ذكر اسمه تبادر إىل الذهن
مبارشة شجاعته وقوته وشدة بأسه ،حتى وصفه صعصعة بن صوحان قائالً:
(كان فينا كأحدنا ،لني جانب ،وشدة تواضع ،وسهولة قياد ،وكنا هنابه مهابة
األسري املربوط للسياف الواقف عىل رأسه)(((.
ووصفه قيس بن سعد بن عبادة حينام قال له معاوية بن أيب سفيان( :رحم اهلل أبا
حسن كان هش ًا بش ًا ذا دعابة) ،أي أنه ال يصلح للخالفة -وهي كلمة قاهلا من قبله
عمر بن اخلطاب ،-فرد عليه قيس بن سعد بن عبادة االنصاري قائالً:
(نعم كان رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم يمزح ويبتسم إىل أصحابه ،وأراك ترس
25
حسوا يف ارتغاء ،وتعيبه بذلك؛ أما واهلل لقد كان مع تلك الفكاهة والطالقة أهيب من
ذي لبدتني قد مسه الطوى ،تلك هيبة التقوى ،ليس كام هيابك طغام أهل الشام)(((.
وقد أراد (عليه الرمحة والرضوان) بقوله( :أهيب من ذي لبدتني قد مسه الطوى)
هو األسد الذي مسه اجلوع ،وإذا مسه اجلوع لن يقف يشء بوجهه.
إال أنه هنا يف هذا االبتالء الذي نزل به واملصيبة التي حلت فيه يقول متفجع ًا
لرسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم):
ّ
«قل يا رسول اهلل عن صفيتك صربي ،وضعف عن سيدة نساء العاملني جتلدي».
فكان حجم املصيبة يف قتل الزهراء (عليها السالم) ووفاهتا يوازي حجم شدة
بأس عيل بن أيب طالب (عليه السالم) وقوة نفسه وصالبته وشدّ ته يف املواطن كلها
فكان مصابه ببضعة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) أعظم من تلك املواطن
((( رشح هنج البالغة للمعتزيل :ج 1ص25؛ البحار للمجليس :ج 41ص147
((( رشح هنج البالغة للمعتزيل :ج 1ص.25
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وهي مصيبة حتتاج إىل ما جيربها ويستقوي عليها ،فكان ذلك متحقق ًا من خالل
التعزي بمصيبة أعظم من هذه املصيبة أال وهي مصيبته بفقد رسول اهلل (صىل اهلل
عليه وآله وسلم) فقال:
«إال إن يل يف التأيس بسنتك بعظيم فرقتك ،وفادح مصيبتك ،واحلزن الذي حل 26
يب لفراقك موضع تعزّ».
بمعنى :أن احلزن بخسارة الزهراء يقهر ويتغلب عليه باحلزن والتعزي باخلسارة
األعظم وهي فقد رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) ،وهذا ما دل عليه معنى
اب﴾ (فالعزة هي :القوة والغلبة ،ويف التنزيل احلكيم﴿ :وعز َِّن ِف ِْ
ال َط ِ ّ (التعزي)،
َ َ
اي :غلبني يف االحتجاج ،وعزه يعزه عز ًا :قهره وغلبه ،وال َع َّزا ُء :الشدّ ة)(((.
بمعنى أوضح :فإن فراق فاطمة (عليها السالم) كان له من اآلثار الكبرية عىل
نفس امري املؤمنني (عليه السالم) ما حيتاج للتغلب عليها وقهرها بام هو اعظم
واقوى ،وهو موت رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وذلك ّ
أن فراقه أعظم من فراق
فاطمة (عليها السالم) وأن حجم املصيبة يف خسارة نعمة وجوده (صىل اهلل عليه
وآله وسلم) هي أعظم اخلسارات وافجع املصائب وبذلك يقوم منتج النص (عليه
السالم) بنقل املتلقي من تعريفه بشأنية فاطمة (عليها السالم) وحجم خساراته
وما تركه مصاهبا عليه اىل تعريفه بشأنية النبي االعظم (صىل اهلل عليه وآله) ومنزلته
وما تسبب امر وفاته عن بالء عظيم عليه.
((( لسان العرب ألبن منظور :ج 5ص ،378 ،375مادة( :عزز).
املبحث الثاني عشر :مقاصدية ارتباط تفجعه لفقدها بفقد رسول اهلل . .
هيون املصاب اآلخر بضياع بضعة النبوة وبقيتها فاطمة ومن ثم :فهذا املصاب ّ
الزهراء البتول (صلوات اهلل عليها وعىل أبيها وبعلها وبنيها).
27
املبحث الثالث عشر
فامذا أراد يف ذلك (عليه الصالة والسالم) أو ماذا يدل هذا القول منه يف هذا
أمر واحد وهو حجم الظالمة املوضع الذي اجتمع فيه الزمان واملكان عىل حتديد ٍ
التي نزلت بالنبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم) وعرتته أهل بيته (عليهم السالم)؟!
ولإلجابة عىل هذه التساؤالت يلزم التوقف عند بعض احلوادث التارخيية التي
انترشت يف كتب املسلمني وثبتت عليها متعقداهتم ؛ وكأنه بذاك أراد وضع أدوات
التصحيح ملن أراد أن يلقى اهلل بقلب سليم ،فكانت هذه احلوادث واحلقائق كاآليت:
املسألة االوىل :تصحيح املسار يف حدث وفاة رسول اهلل ( )يف بيت عائشة .
َّ
إن من االمتيازات التي امتاز هبا النص هو تغلغل قصدية منتج النص يف احلوادث
املستقبلية ،ويف ميزة ينفرد هبا النص الوارد عن القرآن والعرتة النبوية عن بقية
النصوص ،إال اننا هنا يف بيان قصدية منتج النص يف هذا املورد حتديد ًا وليس يف
صدد امتيازات هذه النصوص الرشيفة.
()31
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
أراد (عليه السالم) من ذكره هلذه احلوادث وعرضه ملراسيم وفاة رسول اهلل
(صىل اهلل عليه وآله وسلم) حفظ جمهوده واختصاصه بشؤون رسول اهلل (صىل
اهلل عليه وآله) وأنه وصيه الرشعي وخليفته يف امته ،وان الصحابة تركوا نبيهم
ال عن كشف هذه االدعاءات وانرصفوا للمخاصمة واملنازعة حول اخلالفة ،فض ً
وبيان حقيقة القائلني هبا.
رصح به غري واحد ممن شهد وفاة رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم
وهو أمر ّ
فكان كاآليت:
-1قيل لعبد اهلل بن عباس( :أرأيت رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم تويف
ورأسه يف حجر أحد؟
((( صحيح البخاري ،باب ما جاء يف عذاب القرب :ج 2ص106؛ مسند أمحد ،من حديث عائشة:
ج 6ص.48
املبحث الثالث عشر:مقاصدية ذكره ملراسيم جتهيز النيب ()
قال :نعم ،تويف وإنه ملستند إىل صدر عيل عليه السالم.
فقيل له :إن عروة حيدث عن عائشة أهنا قالت :تويف بني سحري ونحري!؟
فأنكر ذلك وقال للسائل :أتعقل!؟ واهلل لتويف وإنه ملسند عىل صدر عيل وهو
الذي غسله)(((.
-2وأخرج ابن سعد عن اإلمام زين العابدين عيل بن احلسني بن عيل بن أيب طال
33 (عليه السالم) أنه قال:
-3وأخرج أبن سعد أيض ًا عن الشعبي ،أنه قال( :تويف رسول (اهلل صىل اهلل عليه
وآله وسلم) ورأسه يف حجر عيل (عليه السالم) وغسله عيل)(((.
قالت أم سلمة :فجاء بعد ،فظننت أنه إليه حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند
الباب ،وكنت من أدناهم إىل الباب ،فأكب عليه رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم)
((( الطبقات الكربى :ج 2ص51؛ القسم الثاين ط ليدن ،وج 2ص 263ط دار صادر.
((( املصدر السابق.
((( املصدر السابق.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
يساره ويناجيه ،ثم قبض من يومه (صىل اهلل عليه وآله وسلم))(((.
وجعل ّ
ولذا كان اإلمام عيل (عليه السالم) يفتخر عىل صحابة النبي (صىل اهلل عليه وآله
وسلم) بأن النبي تويف ورأسه يف حجره وكان خيطب بذاك عىل رؤوس املأل من
الناس ،فقد جاء يف خطبة له قوله (عليه السالم):
«ولقد علم املستحفظون من أصحاب رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم إين مل
أرد عىل اهلل وال عىل رسوله ساعة قط ،ولقد واسيته بنفيس يف املواطن التي تنكص
34
فيها األبطال ،وتتأخر فيها األقدام ،نجدة أكرمني اهلل هبا ،ولقد ُقبض صىل اهلل عليه
وآله وسلم ،وأن رأسه َلعىل صدري ،ولقد سالت نفسه يف كفي ،فأمررهتا عىل
فضجتّ وجهي ،ولقد وليت غسله صىل اهلل عليه وآله وسلم واملالئكة أعواين،
الدار واالفنية ،مأل هيبط ومأل يعرج ،وما فارقت سمعي هنيمة منهم يصلون عليه،
حتى واريناه يف رضحيه ،فمن ذا أحق به مني حي ًا وميت ًا»(((.
فهذه حقيقة مسار حدث وفاة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) التي قصدها منتج
النص وابتغى من ذكره هلا هو قطع الطريق عىل هؤالء املنافقني الذي سيدّ عون
اهنم كانوا بقرب رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) حني وفاته وهو أمر خاص يف
خصوصية هذا النص الرشيف ،فقد عالج االحداث ون ّبه عليها قبل وقوعها بسنني
ال عن تعرية وجوه الذين تركوا رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وهو ملعديدة ،فض ً
يدفن بعد ،يتسارعون للسقيفة كام سيمر بيانه يف املسألة القادمة.
((( املستدرك عىل الصحيحني للحاكم :ج 3ص 138أوفسيت عىل طبعة حيدر أباد ،وأقر بصحته؛
الذهبي يف تلخيصه عىل املستدرك :ج 3ص138؛ خصائص أمري املؤمنني للنسائي :ص 40ط
التقدم بمرص؛ جممع الزوائد للهيثمي :ج 9ص112؛ ترمجة اإلمام عيل عليه السالم من تاريخ
دمشق البن عساكر :ج 3ص.16
((( ربيع االبرار للزخمرشي ،باب املراثي؛ رشح هنج البالغة للمعتزيل :ج 2ص541
املبحث الثالث عشر:مقاصدية ذكره ملراسيم جتهيز النيب ()
املسألة الثانية :بيان حقيقة تـرك الصحابة دفن رسول اهلل ( )وانشغاهلم
بكرسي اخلالفة .
إن القصدية الثانية التي تتكشف يف سبب إيراده هلذه املراسيم يف دفن رسول اهلل
(صىل اهلل عليه وآله وسلم) هي بيان حقيقة ترك الصحابة دفن رسول اهلل (صىل
اهلل عليه وآله وسلم) وذهاهبم إىل سقيفة بني ساعدة للحصول عىل كريس اخلالفة.
وهي حقيقة دلت عليها كثري من املصادر اإلسالمية وحاولت غريها التغطية عليها
35 وأخرى حاول مصنفوها التامس العذر أو التربير هلذا الفعل الذي قامت به الصحابة
برتكهم جثامن نبيهم وانشغاهلم عنه بالرصاع حول كريس اخلالفة ومما يدل عليه:
(وإنه كان من خربنا حني توىف اهلل نبيه (صىل اهلل عليه -وآله -وسلم) أن األنصار
خالفونا واجتمعوا بارسهم يف سقيفة بني ساعدة وخالف عنا عيل والزبري ومن معهام)(((.
والسبب الذي جعل اإلمام عيل (عليه السالم) خيالفهم فيه ومل حيرض اجتامع
السقيفة هو انشغاله بدفن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) الذي تركه
املهاجرون واألنصار لغرض اخلالفة التي دار الرصاع حوهلا يف سقيفة بني ساعة.
ولذلك مل تعلم عائشة وال أبيها بدفن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) كام
يروي ابن هشام عنها كام يف باء.
((( صحيح البخاري ،كتاب احلدود ،باب رجم احلبىل :ج 8ص.26
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ب -تصريح عائشة بأنها لم تعلم بدفن رسول اهلل (. )
وهذا الترصيح رواه أبن هشام ،وأمحد ،والرتمذي ،وغريهم ،عن عائشة أهنا قالت:
(ما علمنا بدفن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) ،حتى سمعنا صوت
املساحي يف جوف ليلة األربعاء)(((.
ج -إن أبا بكر وعمر لم يشهدوا دفن النبي (. )
د -بيان حال األنصار يف مراسيم دفن رسول اهلل ( )برواية البخاري .
أما األنصار فلم يكن حاهلم بأحسن من حال املهاجرين يف تركهم جثامن النبي
(صىل اهلل عليه وآله وسلم) وتراكضهم لإلجتامع يف سقيفتهم عند أمريهم سعد بن
عبادة ،فقد أخرج البخاري يف صحيحه يف بيان حاهلم ،أهنم( :انحازوا بأمجعهم إىل
سقيفة بني ساعدة ،منزل سعد بن عبادة)(((.
((( السرية النبوية البن هشام :ج 4ص1078؛ مسند أمحد :ج 6ص 62و242؛ الشامئل للرتمذي:
ص204؛ السنن الكربى للبيهقي :ج 3ص409؛ املصنف البن أيب شيبة :ج 3ص227؛ املصنف
للصنعاين :ج 3ص.520
((( املصنف البن أيب شيبة :ج 7ص 432برقم .37046
((( صحيح البخاري ،باب رجم احلبىل من الزنا :ج 8ص.26
املبحث الثالث عشر:مقاصدية ذكره ملراسيم جتهيز النيب ()
ومن ثم فقد شغلهم كريس اخلالفة عن احلضور لدفن رسول اهلل (صىل اهلل عليه
وآله وسلم) ورجح فوق مواراته يف روضته املقدسة ،وهو سيد األنبياء واملرسلني
(صىل اهلل عليه وآله وسلم) وهو أمر يدفع باملسلم املنصف إىل أن يقف ملي ًا عند
هذا احلدث ويطيل البحث والدراسة حوله كثري ًا.
فلو كان امليت من عامة املسلمني لوجب إكرامه ودفنه ،فكيف به وهو سيد
األنبياء واملرسلني واملبعوث رمحة للعاملني!!
37
وعليه :فكم من سؤال وسؤال يطرق الذهن قائالً :أمل يكن بمقدورهم تأخري
البيعة ولو ليوم واحد؟!
ولكن ..أنى هلم بذلك وصدى كلامت أسيد بن حضري تطرق مسامعهم مرددةً:
(إن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم األمر ورسول اهلل يف
بيته مل يفرغ أمره ،وقد أغلق دونه الباب أهله)((( ؟!
وألجل ذلك :اختلفت القراءات حلدث السقيفة وما تبعه من اقتحام بيت فاطمة
(عليها السالم)(((.
فمنهم من عده عاصمة عصم اهلل هبا األمة((( ،ومنهم من رآه اجتناب ًا من الوقوع يف
الفتنة((( ،وتسكني نارها ،وإغامد سيفها((( ،ومنهم من قد وجده حتريك ًا هلذا التسكني(((.
بينام وجد البعض اآلخر أهنم معذورون فيام فعلوا( :ألهنم رأوا املبادرة بالبيعة من
أعظم مصالح املسلمني! وخافوا من تأخريها حصول خالف ونزاع ترتتب عليه مفاسد
عظيمة! وهلذا أخروا دفن النبي -صىل اهلل عليه وآله وسلم -حتى عقدوا البيعة!!
لكوهنا كانت أهم األمور! كيال يقع نزع يف مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصالة
38
عليه! ذلك وليس هلم من يفصل األمور فرأوا تقديم البيعة أهم األشياء)(((.
وال أدري كيف أصبح القوم أحرص من رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم)
عىل مصالح املسلمني وقد وصفه الباري عز وجل بقوله:
ِِ ِ ِ ِ ﴿ َل َقدْ جاءكُم رس ٌ ِ
ني ول م ْن َأ ْن ُفسك ُْم َع ِزي ٌز َع َل ْيه َما َعنت ُّْم َح ِر ٌ
يص َع َل ْيك ُْم بِا ُْل ْؤمن َ َ َ ْ َ ُ
يم﴾(((. رء ٌ ِ
وف َرح ٌ َ ُ
وال أدري ..كيف أصبحوا أخوف منه (صىل اهلل عليه وآله وسلم) عىل أمته من
وقوع اخلالف والنزاع برتك البيعة التي يرتتب عىل تركها مفاسد عظيمة؟!
أ َغ َفل عنها رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) والعياذ باهلل؟!.
-1إما أنه عني هلم اخلليفة ونص عليه حفاظ ًا هلم من وقوع اخلالف والنزاع وما
يرتتب عىل ترك تعيينه من مفاسد عظيمة ،لكنهم خالفوا قوله وعصوا أمره ألنه
جاءهم بام ال هتوى أنفسهم فكانوا كام قال تعاىل:
ْبت ُْم َف َف ِري ًقا ك ََّذ ْبت ُْم َو َف ِري ًقا ول بِ َم َل َ ْت َوى َأ ْن ُف ُسك ُُم ْ
اس َتك َ ْ اءك ُْم َر ُس ٌ َ
﴿..أ َف ُك َّل َم َج َ
(((
ون﴾ َت ْق ُت ُل َ
39
-2وإما أنه مل يعني هلم! ..فيكونون بذلك أوفق منه صىل اهلل عليه وآله وسلم
لصالح األمة! نستجري باهلل.
وال أدري ..وإين ملحتار فيام تناقلته مصادر املسلمني ،ومتسائالً :ترى لو مل ُي ِبق اهلل
علي ًا والعباس بن عبد املطلب عىل قيد احلياة فكم يوم ًا يبقى جثامن رسول اهلل (صىل
اهلل عليه وآله وسلم) دون أن يدفن؟! حتى يتمكن اجلميع من البيعة التي بتأخريها
عىل دفن النبي (صىل اهلل عليه وآله) ترتتب عليه مفاسد عظيمة كام يقولون؟!
وأعجب من هذا كله ..أن تعقد البيعة لغرض رفع النزاع يف دفن النبي (صىل اهلل
عليه وآله وسلم) وغسله ،والصالة عليه!!
وها هو شيخ البخاري يف مصنفه يقول( :إن أبا بكر وعمر مل يشهدا دفن النبي كانا
يف األنصار فدفن قبل أن يرجعا)(((.
وها هو ابن عبد الرب يقول( :ومل ِيل ِه إال أقاربه! وقد شغل الناس عن دفنه بشأن
األنصار)(((.
ومل يشأ ابن عبد الرب أن يسمي أحد ًا!! فنسب األمر إىل الناس؛ ومل يسأل أين
صحابة النبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم) يف هذا الوقت؟!
وها هو شيخ البخاري مرة أخرى يرصح بكل أمل وفاجعة قائالً« :إن الذي ويل
دفن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) أربعة دون الناس ،عيل ،والعباس،
والفضل ،وصالح موىل النبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم)؟!»(((.
فأين ذهب املهاجرون؟! وبامذا انشغل األنصار عن دفن نبيهم (صىل اهلل عليه
40
وآله وسلم)؟! وهل كان عنده أحد منهم حتى يكون هناك نزاع أو خالف؟!.
أو لعل اكتفاء املسلم والباحث والقارئ بقول أمري املؤمنني عيل بن أيب طالب
(عليه الصالة والسالم) يف هذا املوضع من دفنه للبضعة النبوية وهو خياطب رسول
اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) قائالً:
«فلقد وسدتّك يف ملحودة قربك ،وفاضت بني نحري وصدري نفسك ،فإنّا هلل
وإنا إليه راجعون».
فيه كفاية مل أراد أن يلقى اهلل بقلب سليم ويدرك ما نزل بآل حممد (صىل اهلل عليه
وآله وسلم) من الظلم.
((( املصنف البن أيب شيبة :ج 3ص 15برقم 11645ط مكتبة الرشد بالرياض.
املبحث الرابع عشر
ترشد إىل مقاصدية جديدة ودالالت عديدة يف بيانه (عليه السالم) خلصوصيات
فاطمة (عليها السالم) وشأنيتها وذلك من خالل حقول تتجدد فيها املعرفة التي
تنوعت يف مقتضيات هذا النص ومكوناته ومعطياته الفكرية ليخلق بذاك ثقافة
اسالمية جديدة توصلت اليها الدراسة وذلك بعد أن امتنع الكثري من الباحثني
اخلوض يف مكنونات هذه النصوص التي ارتبطت ببضعة رسول اهلل (صىل اهلل عليه
وآله وسلم) بشكل خاص ،وبالعرتة مجيع ًا بشكل عام.
-1جتنب ًا لالهتام بالغلو ،وهذه عند اخلاصة من اتباع مدرسة أل البيت (عليهم السالم).
-2أو دفع ًا لالهتام بالرفض ،وهذا عند العامة من أتباع مدرسة الصحابة.
-3أو االكتفاء بالفضائل واملناقب واجلوانب السري ّية العامة حلياة آل البيت
(عليهم السالم) وهذا عند الطرفني.
ولذا :نسأل اهلل تعاىل أن يوفقنا لدراسة هذه النصوص دراسة داللية وحتليلية
وذلك بحسب الضوابط التي يقتضيها هذا املنهج العلمي ،والفكر التداويل يف
مقاصدية النص ومقبوليته.
()43
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وعليه:
ينقلنا هذا اجلزء من احلديث إىل مسائل جديدة ،أال وهي إيراده (عليه السالم) إىل
مفردات اعتمدها الفقهاء يف املعامالت ضمن حقل (العقود) ومها (اإليداع) (والرهن).
يرشد املعنى اللغوي ملفردة (الوديعة) إىل ارتباط اليشء باحلفظ سواء كان ثمنه
معنوي أو مايل؛ وإال لكان دافع احلفظ منتفي؛ أي :لوكان اليشء فاقد ًا لقيمته
املعنوية أو املالية ،النتفت احلاجة إىل ايداعه ،أي :حفظه.
ويف هذا املعنى واملفهوم جاءت لفظة (الوديعة) يف املعاجم اللغوية هبذه األقوال:
-3قال ابن منظور( :الوديعة ،واحدة الوداع ،وهي ما استودع ،واستودعه ماالً
وأودعه إياه ليكون عنده وديعة ،واملستو َدع :املكان الذي جتعل فيه الوديعة)(((.
وهذا املعنى يرتبط بالنص القرآين املرتكز عىل مفهوم حفظ اليشء يف موضع
حمدد ،وهو كام جاء يف اآليات املباركة اآلتية:
وهنا يكون الرحم الذي يودع فيه اجلنني لكي يتم حفظه إىل حني خروجه أو يف
األصالب تودع فيها النطف فتكون مستودع ًا حلفظها وخروجها من بعد حني.
﴿و َما ِم ْن َدا َّب ٍة ِف ْالَ ْر ِ
ض إِ َّل َع َل اللَِّ ِر ْز ُق َها َو َي ْع َل ُم ُم ْس َت َق َّر َها -2قال تعاىلَ :
ني﴾(((. َو ُم ْست َْو َد َع َها ك ٌُّل ِف كِت ٍ
َاب ُمبِ ٍ
قال العالمة الطباطبائي (رمحه اهلل)( :الدا ّبة عىل ما يف كتب اللغة كل ما يدّ ب
ويتحرك ،ويكثر استعامله يف النوع اخلاص منه ،وقرينة املقام تقتيض كون املراد منه
العموم لظهور أن الكالم مسوق لبيان سعة علمه تعاىل ،ولذلك عقب قوله:
الصدُ ِ ِ ِ ون َو َما ُي ْعلِن َ ِ ﴿..أ َل ِحني يس َتغ ُْش َ ِ
َ
ور﴾(((. ُون إِ َّن ُه َعل ٌ
يم بِ َذات ُّ س َاب ْم َي ْع َل ُم َما ُي ُّ
ون ث َي َ ُ َ َْ
(( ( سورة األنعام ،اآلية (.)98
((( تفسري امليزان :ج 7ص.288
(( ( سورة هود ،اآلية (.)6
(( ( سورة هود ،اآلية (.)5
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وهذا املعنى ،أعني :كون ذكر وجوب رزق كل دا ّبة عىل اهلل لبيان سعة علمه لكل
دا ّبة يف مجيع أحواهلا يستوجب أن يكون قولهَ ﴿ :و َي ْع َل ُم ُم ْس َت َق َّر َها َو ُم ْست َْو َد َع َها﴾
بمنزلة عطف التفسري لقولهَ ﴿ :ع َل اللَِّ ِر ْز ُق َها﴾ فيعود املعنى :إىل أن كل دا ّبة من
دواب األرض عىل اهلل أن يرزقها ولن تبقى بدون رزق فهو تعاىل عليم هبا خبري
بحاهلا أينام كانت فإن كانت يف مستقر ال خترج منه كاحلوت يف املاء وكالصدف
فيام وقعت واستقرت فيه من األرض رزقها هناك وإن كانت خارجة من مستقرها
وهي يف مستودع سترتكه إىل مستقرها كالطري يف اهلواء أو كاملسافر الغارب عن 46
وطنه أو كاجلنني يف الرحم رزقها هناك وباجلملة هو تعاىل عامل بحال كل دا ّبة
يف األرض وكيف ال وعليه تعاىل رزقها وال يصيب الرزق املرزوق إال بعلم من
الرازق باملرزوق وخربة منه بام حل فيه من حمل دائم أو معل ومستقر أو مستودع.
ومن هنا :يظهر أن املراد باملستقر واملستودع املحل الذي تستقر فيه الدا ّبة ما دامت
تدب يف األرض وتعيش عيشة دنيوية واملحل الذي حتل فيه ثم تودعه وتفارقه)(((.
ويستفاد من هذا التفسري والبيان أن كل دا ّبة عىل األرض فرزقها حمفوظ هلا
ألن اهلل تعاىل يعلم بحاهلا سواء كانت ظاهرة للعيان أو مودعة يف حمل ،كالنمل
فمنه ما هو ظاهر يف حركته أو مسترت يف باطن األرض ومستودع فيها ،أو كحال
البكترييا بالقياس إىل غريها من الدواب ،فتكون البكترييا مستودعة وغريها مستقر
وبالنتيجة فجميع ما يتحرك فحاله معلوم عند اهلل وهذا العلم اإلهلي يقتيض إيصال
الرزق إليها يف أي حالة كانت.
﴿َ ..فإِ ْن َأ ِم َن َب ْع ُضك ُْم َب ْع ًضا َف ْل ُي َؤ ِّد ا َّل ِذي اؤْ ُت ِ َن َأ َما َن َت ُه.(((﴾..
والوديعة مشت ّقة من ودع ،يدع :إذا استقر وسكن ،يقال أودعته أودعه إذا أقررته
واسكنته ،ويروى أن النبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم) كانت عنده ودائع بمكة،
فلام أراد أن هياجر أودعها أم أيمن وأمر علي ًا (عليه السالم) بردها عىل أصحاهبا،
فإذا ثبت ذلك فالوديعة أمانة ال ضامن عىل املودع ما مل يفرط ،وقال النبي (صىل اهلل
عليه وآله وسلم):
والفرق بني تأمنه بقنطار وعىل قنطار أن معنى الباء الصاق األمانة ،ومعنى عىل
استعالء األمانة ،ومها متعاقبان يف هذا املوضع لتقارب املعنى كام يقال (مررت به
وعليه). 48
وقال مجاعة :قالت اليهود :ليس علينا فيام أصبنا من أموال العرب سبيل ألهنم
مرشكون ،وادعوا أهنم وجدوا ذلك يف كتاهبم ،وهم يعلمون أن هذا هو الكذب
عىل اهلل.
فإذا ثبت ذلك فالوديعة جائزة من الطرفني ،من جهة املودع متى شاء أن يسرتدها
فعل ،ومن جهة املودع متى شاء أن يردها فعل .فإذا ردها عىل املودع أو عىل وكيله
فال يشء عليهّ ،
وإن ردها عىل احلاكم أو عىل ثقته مع القدرة عىل الدفع إىل املودع
أو إىل وكيله فعليه الضامن ،فإن مل يقدر عىل املودع وال عىل وكيله ،فال خيلو أما أن
يكون له عذر أو مل يكن له عذر ،فإن مل يكن له عذر برده فعليه الضامن ،وإن كان له
عذر برده عىل احلاكم أو عىل ثقته فال ضامن عليه.
املبحث الرابع عشر :مقاصدية كونها وديعة عند اإلمام علي ()
«صاحب الوديعة وصاحب البضاعة مؤمتنان ،وكل ما كان من وديعة ومل تكن
مضمونة فال تلزم».
ورد الوديعة واجب متى طلبها صاحبها وهو متمكن من ردها ،وليس عليه يف
ردها رضر يؤدي إىل تلف النفس أو املال ،سواء كان املودع كافرا أو مسلام)(((.
49
ب -احملقق احللي (( )Hاملتوفى 676هـ) .
قال (عليه الرمحة والرضوان) يف كتابه املوسوم بـ(رشائع اإلسالم) كتاب الوديعة
والذي يسهب فيه ببيان األحكام الفقهية التي انطوت حتت عنوان الوديعة ،نورد
منه بعض الفقرات وملن شاء االستزادة فلرياجع املوضوع يف مضانه.
األمر األول :العقد :وهو استنابة يف احلفظ .ويفتقر إىل إجياب وقبول .ويقع بكل
عبارة دلت عىل معناه .ويكفي الفعل الدال عىل القبول.
ولو طرح الوديعة عنده ،مل يلزمه حفظها إذا مل يقبلها .وكذا لو أكره عىل قبضها،
مل ترص وديعة ،وال يضمنها لو أمهل.
وإذا استودع ،وجب عليه احلفظ .وال يلزمه دركها ،لو تلفت من غري تفريط ،أو
أخذت منه قهرا .نعم ،لو متكن من الدفع ،وجب .ولو مل يفعل ،ضمن .وال جيب
حتمل الرضر الكثري بالدفع ،كاجلرح وأخذ املال.
ولو أنكرها ،فطولب باليمني ظلام ،جاز احللف موريا ،بام خيرج به عن الكذب.
وهي عقد جائز من طرفيه ،يبطل بموت كل واحد منهام وبجنونه ،وتكون أمانة.
وحتفظ الوديعة ،بام جرت العادة بحفظها ،كالثوب والكتب يف الصندوق ،والدابة
يف اإلصطبل ،والشاة يف املراح ،أو ما جيري جمرى ذلك.
وجتب إعادة الوديعة عىل املودع مع املطالبة ،ولو كان كافرا ،إال أن يكون املودع
غاصبا هلا فيمنع منها .ولو مات فطلبها وارثه ،وجب اإلنكار ،وجيب إعادهتا عىل 50
املغصوب منه إن عرف .وإن جهل عرفت سنة ،ثم جاز التصديق هبا عن املالك.
ويضمن املتصدق إن كره صاحبها .ولو كان الغاصب مزجها بامله ،ثم أودع
اجلميع ،فإن أمكن املستودع متييز املالني ،رد عليه ماله ومنع اآلخر .وإن مل يمكن
متييزمها ،وجب إعادهتام عىل الغاصب.
أما التفريط ،فكأن يطرحها فيام ليس حيرز ،أو يرتك سقي الدابة أو علفها ،أو نرش
الثوب الذي يفتقر إىل النرش ،أو يودعها من غري رضورة ،وال إذن ،أو يسافر هبا كذلك
مع خوف الطريق ومع أمنه وطرح األقمشة يف املواضع التي تعفنها .وكذا لو ترك
سقي الدابة أو علفها مدة ال تصرب عليها يف العادة ،فامتت به.
القسم الثاين :يف التعدي :مثل أن يلبس الثوب ،أو يركب الدابة ،أو خيرجها من
حرزها لينتفع هبا ،نعم ،لو نوى االنتفاع ،مل يضمن بمجرد النية ،ولو طلبت منه،
فامتنع من الرد مع القدرة ،ضمن ،وكذا لو جحدها ،ثم قامت عليه بينة أو اعرتف
هبا ،ويضمن لو خلطها بامله ،بحيث ال يتميز)(((....الخ
وال ضامن عليه إال بالتعدي أو التفريط ،ولو أخذت منه قهرا فال ضامن ،ولو
51
متكن من الدفع وجب ما مل يؤد إىل حتمل الرضر الكثري كاجلرح وأخذ املال ،نعم
جيب عليه اليمني لو قنع هبا الظامل فيوري .وتبطل بموت كل منهام وجنونه وإغامئه،
وتبقى أمانة رشعية ال يقبل قول الودعي يف ردها إال ببينة.
ولو عني موضعا للحفظ اقترص عليه إال أن خياف تلفها فيه فينقلها وال ضامن.
وحتفظ الوديعة بام جرت العادة به كالثوب والنقد يف الصندوق ،والدابة يف
االصطبل ،والشاة يف املراح ولو استودع من طفل أو جمنون ضمن ويربأ بالرد إىل
وليهام.
وجتب إعادة الوديعة عىل املودع ولو كان كافرا ،ويضمن لو أمهل بعد املطالبة ،أو
أودعها من غري رضورة ،أو سافر هبا كذلك ،أو طرحها يف موضع تتعفن فيه)(((.
وهنا :يكون صاحب الوديعة هو رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم)،
واملستحفظ هو اإلمام عيل (عليه السالم) والوديعة هي الصديقة الطاهرة فاطمة
الزهراء (عليها السالم) ،ومن ثم يلزم أن يكون بينهام عقد بحسب مقتىض أحكام
52
الوديعة فكيف جرى العقد بينهام (صلوات اهلل وسالمه عليهام)؟
يروي العالمة املجليس (رمحه اهلل) عن عيسى الرضير ،عن اإلمام موسى بن
جعفر الكاظم عليه السالم يف ذكر خرب وفاة رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم
فمام جاء فيه ،أنه قال:
(قلت أليب :فام كان بعد خروج املالئكة عن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله
وسلم)؟.
قال :ثم دعا علي ًا وفاطمة واحلسن واحلسني (عليهم اسالم) وقال ملن يف بيته:
«أخرجوا عني».
ففعلت ثم قال:
فدنا منه فأخذ بيد فاطمة فوضعها عىل صدره طويالً ،وأخذ بيد عيل بيده األخرى
املبحث الرابع عشر :مقاصدية كونها وديعة عند اإلمام علي ()
فلام أراد رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) الكالم غلبته عربته ،فلم يقدر عىل
الكالم ،فبكت فاطمة بكاء شديد ًا وعيل واحلسن واحلسني (عليهم السالم) لبكاء
رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم).
فقالت فاطمة:
«يا رسول اهلل قد ق ّطعت قلبي ،وأحرقت كبدي لبكائك يا سيد النبيني من األولني
ّ
والذل ينزل واآلخرين ويا أمني ربه ورسوله ويا حبيبه ويا نبيه ،من لولدي بعدك؟
53 يب بعدك ،من لعيل أخيك ونارص الدين؟ من لوحي اهلل وأمره؟».
ثم بكت وأكبت عىل وجهه فقبلته وأكب عليه عيل واحلسن واحلسني (صلوات اهلل
عليهم) فرفع رأسه (صىل اهلل عليه وآله) إليهم ويدها يف يده فوضعها يف يد عيل وقال له:
«يا أبا احلسن هذه وديعة اهلل ووديعة رسوله حممد عندك ،فاحفظ اهلل واحفظني
فيها وإنك لفاعله»)(((.
واحلديث الرشيف له تتمة إال إنني توقفت عند هذا املوضع لبيان كيفية وقوع
العقد بني النبي والويص (صلوات اهلل عليهام وآهلام) ،وفيه يظهر طريف العقد وحتقق
رشوطه وهو استنابة اإلمام عيل (عليه السالم) عن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله
وسلم) يف حفظ فاطمة (صلوات اهلل عليها) وإيداعها عنده.
وهذه االستنابة يف احلفظ مل تقترص عىل كون الوديعة تعود لرسول اهلل (صىل اهلل عليه
وآله وسلم) وإنام هي يف األصل تعود إىل اهلل تعاىل؛ ولذا قال (صىل اهلل عليه وآله وسلم):
«هذه وديعة اهلل ووديعة رسوله حممد فاحفظ اهلل ،واحفظني فيها».
فام داللة كوهنا وديعة اهلل؟
سيمر جوابه يف املسألة الثالثة.
ّ
((( البحار للعالمة املجليس :ج 2ص.484
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ثانياً :هل كان موقف اإلمام علي ( )gالقبول كي يتحقق العقد الفتقاره
لإلجياب والقبول .
إن مما يتبادر إىل الذهن هو معرفة موقف اإلمام عيل (عليه السالم) من هذا العرض
وهو اإلنابة عن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) يف حفظ الوديعة كام ورد يف
الفاظ الفقهاء يف حتقق العقد بني الوادع واملودع؟
وجواب ذلك :إن فعل اإلمام عيل (عليه السالم) دليل عىل قبوله وحتقق العقد
بينه وبني رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) ويف ذلك أشار الفقهاء يف كتبهم: 54
-2قال املحقق احليل( :ويقع بكل عبارة دلت عىل معناه ،ويكفي الفعل الدال
عىل القبول).
ويرشد فعله (عليه السالم) إىل قبوله الوديعة وحتقق العقد بينه وبني رسول اهلل (صىل
اهلل عليه وآله وسلم) مما يلزم حتقيق مقتىض العقد وهو احلفظ وهو ما سنبحثه يف ثالث ًا.
رابعاً :سريان العقد بينهما بعد وفاة رسول اهلل ( )يكشف عن أحد خصائص
رسول اهلل ( )الفريدة .
ورد يف ألفاظ الفقهاء يف رشط دوام صحة العقد البقاء عىل قيد احلياة لكال
الطرفني الوادع واملودع ،وهي كاآليت:
-1قال املحقق احليل( :وهي عقد جائز من طرفيه ،يبطل بموت كل واحد منهام).
-2قال الشهيد الثاين( :وتبطل بموت كل منهام ،وجنونه ،وإغامئه ،وتبقى أمانة
55
رشعية ال يقبل قول الودعي يف ردها إال ببينة).
وبمقتىض هذا الرشط يلزم أن يكون النبي األعظم (صىل اهلل عليه وآله وسلم)
عىل قيد احلياة وهو أمر عقدي يكشف عن أن معنى وجوده واقع وأن كان جسده
(صىل اهلل عليه وآله) مغ ّيب ًا حتت الرتاب ،وإال ملا معنى لرسيان العقد بينهام ،كام ال
معنى لرد الوديعة بحسب ما ورد يف النص الرشيف عنه (عليه السالم):
وقد د ّلت كثري من النصوص عىل هذه اخلاصية الفريدة لسيد اخللق (صىل اهلل
عليه وآله وسلم) كقوله تعاىل:
ون إِ َل َع ِالِ
ت ُّد َ ﴿و ُق ِل ا ْع َم ُلوا َف َس َ َيى اللَُّ َع َم َلك ُْم َو َر ُسو ُل ُه َوا ُْل ْؤ ِمن َ
ُون َو َس ُ َ َ -1
ون﴾(((. الش َها َد ِة َف ُينَ ِّب ُئك ُْم بِ َم ُكنْت ُْم َت ْع َم ُل َ ا ْل َغ ْي ِ
ب َو َّ
الر ُس ُ
ول ُون َّ ك َج َع ْلنَاك ُْم ُأ َّم ًة َو َس ًطا لِ َتكُونُوا ُش َهدَ َاء َع َل الن ِ
َّاس َو َيك َ ﴿وك ََذلِ َ
َ -1
َع َل ْيك ُْم َش ِهيدً ا.(((﴾..
وقد ورد عنه (صىل اهلل عليه وآله وسلم) أحاديث تكشف عن هذه اخلاصية
الفريدة له ،كقوله (صىل اهلل عليه وآله وسلم): 56
وعليه :فحكم عقد الوديعة مل يزل قائم بني النبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم)
والويص (عليه السالم) ولذا :وجيب رد الوديعة ،وهو ما نص عليه الفقهاء:
- 1التعظيم :
وقد ورد هذا األمر يف قوله تعاىل:
ك َو َم ْن ُي َع ِّظ ْم َش َعائِ َر اللَِّ َفإِ َّنَا ِم ْن َت ْق َوى ا ْل ُق ُل ِ
وب﴾(((. ﴿ َذلِ َ
وعليه:
60
فكوهنا (وديعة اهلل) يلزم تعظيمها مضاف إليه معرفة أن الوديعة يف داللتها
ومعناها ومصداقها هي األمانة ومما يكسبها تعظي ًام أكرب.
وذلك الرتباطها بأمرين ،األول :إن كل أمانة هلا جانب تعظيمي يكشف عن
قيمتها املعنوية واملادية؛ واجلانب اآلخر :ارتباطها بصاحبها فتضاف عظمة املالك
إىل عظمة الوديعة.
- 2الشأنية :
ولذا :يكشف رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله وسلم بقوله« :وديعة اهلل ووديعة
رسوله» ،إهنا ذا شأن ال ُيقدّ ر بثمن وقد وجب حفظها.
- 3احلرمة :
وهذا املعنى من أكثر املعاين وضوح ًا والتصاق ًا بالوديعة وذلك ملحاكاته الضوابط
الرشعية يف ألزام ذمة املستحفظ عند ايداع الوديعة عنده ،وهبا يتجىل مصداق
األمانة ،فيكف إذا اضيفت إىل اهلل تعاىل وإىل رسوله وسيد أنبيائه ورسله (صىل اهلل
عليه وآله وسلم).
بمعنى مضاعفة حرمتها من كوهنا مرتبطة بإشغال ذمة املستحفظ ،إىل حرمة
61 صاحبا ونسبتها إليه وهو اهلل (جلت قدرته) ،إىل حرمة رسول اهلل (صىل اهلل عليه
وآله وسلم).
ومن ثمة مجعت فيها هذه احلرمات الثالثة والتي تُظهر معنى آخر يف هذه احلالة
يضاف إىل املعاين السابقة ،أي (التعظيم والشأنية واحلرمة) وهو:
وقد بني القرآن الكريم يف سورة الفيل ما جرى لتلك الفئة الباغية التي أرادت
حتطيم بيت اهلل احلرام فكشفت بدرس عميل سار به الناس لبيان حرمة هذا البيت
فرسخ يف أذهاهنم ووجداهنم هذه احلرمة والتي تدفع بالعقل والقلب إىل تقديس َّ
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
الكعبة لكوهنا (بيت اهلل) ،وقد جاءت اآليات واضحة الداللة يف ذلك قال تعاىل:
ي َع ْل َك ْيدَ ُه ْم ِف ت َْضلِ ٍ
يل * َو َأ ْر َس َل اب ا ْل ِف ِ
يل * َأ َل ْ َ ْ ك بِ َأ ْص َح ِ
ف َف َع َل َر ُّب َ َ
﴿أ َل ْ ت ََر َك ْي َ
ف م ْأك ٍٍ ح َج َار ٍة ِم ْن ِس ِّج ٍ
يهم بِ ِ ِ َع َل ْي ِه ْم َط ْ ًيا َأ َبابِ َ
ُول﴾(((. يل * َف َج َع َل ُه ْم َك َع ْص َ يل * ت َْرم ِ ْ
ب -أصحاب الناقة :
أمر آخر مشابه يف عرض احلرمة التي اكتسبتها األشياء املنسوبة إىل اهلل تعاىل يفيف ٍ
أماكن وأزمان خمتلفة كناقة نبي اهلل صالح (عليه السالم) التي ابت ِ َُل هبا قومه فكانت
62
وسيلة لالختبار يف صون احلرمات ،هذه احلرمات التي نالت هذه الصفة لنسبتها
إىل اهلل تعاىل ،كام نص القرآن الكريم بذلك ،فقال تعاىل:
وء َف َي ْأخُ َذك ُْملل و َل َتسوها بِس ٍ وها ت َْأك ُْل ِف َأ ْر ِ ﴿و َيا َق ْو ِم َه ِذ ِه نَا َق ُة ا َِّ
ض ا َِّ َ َ ُّ َ ُ لل َلك ُْم َآ َي ًة َف َذ ُر َ َ
ِ
وها َف َق َال َت َ َّت ُعوا ِف َد ِارك ُْم َث َل َث َة َأ َّيا ٍم َذل َك َو ْعدٌ َغ ْ ُي َمك ُْذ ٍ
وب يب (َ )64ف َع َق ُر َ اب َق ِر ٌ َع َذ ٌ
ح ٍة ِمنَّا َو ِم ْن ِخز ِْي َي ْو ِمئِ ٍذ إِ َّن َر َّب َك ِ (َ )65ف َلم جاء َأمرنَا نَجينَا ص ًِ
ين َآ َمنُوا َم َع ُه بِ َر ْ َ
الا َوا َّلذ َ َّ َ َ ْ ُ َّ ْ َ
ِِ ِ ِ ِ
ني﴾(((. الص ْي َح ُة َف َأ ْص َب ُحوا ِف د َي ِاره ْم َجاثم َ ين َظ َل ُموا َّ ُه َو ا ْل َق ِو ُّي ا ْل َع ِزي ُز (َ )66و َأخَ َذ ا َّلذ َ
يف حني نجد أن املغايرة بني الكعبة (بيت اهلل) وبني ناقة قوم صالح (ناقة اهلل) من
حيث الزمان واملكان والوظيفة واضحة ،إال أن عدم حفظ هذه األشياء وانتهاك
حرمتها أدى إىل اهلالك اجلامعي ،فالكل مشرتك يف اجلرم مع أن املنفذ واحد يف عقر
الناقة ،وقائد اجليش يف أصحاب الفيل واحد.
من هنا ،نجد أن فاطمة (عليها الصالة والسالم) تستشهد بناقة صالح ونسبتها
إىل اهلل تعاىل بكوهنا (ناقة اهلل) وبينها بلحاظ كوهنا (وديعة اهلل) وشتان بني احلرمتني
والشأنيتني والوظيفتني ،فاملغايرة كلية هنا ال جزئية ،فمن حيث اجلنس فاإلنسان يف
األصل مكرم عند اهلل تعاىل ومفضل عىل كثري من اخللق ،قال تعاىل:
ِ ِ ح ْلن ُ ِ ِ
َاه ْم ب َوا ْل َب ْح ِر َو َر َز ْقن ُ
َاه ْم م َن ال َّط ِّي َبات َو َف َّض ْلن ُ َاه ْم ف ا ْل َ ِّ ﴿و َل َقدْ ك ََّر ْمنَا َبني َآ َد َم َو َ َ
َ
َع َل كَثِ ٍري ِم َّ ْن َخ َل ْقنَا َت ْف ِض ًيل﴾(((.
فكيف إذا كان هذا اإلنسان ممن اصطفاهم اهلل تعاىل عىل خلقه! وقد ورد يف
احلديث الرشيف أن فاطمة (عليها السالم) سيدة نساء العاملني ،وسيدة نساء اهل
اجلنة ،ويف اجلنة مريم وخدجية وآسيا وغريهن.
63
وهذا املعنى بينته الزهراء (عليها السالم) ملا وقع عليها ما وقع من هجوم القوم
عىل دارها واخراجهم علي ًا (عليه السالم) عنو ًة كي يبايع أيب بكر يف املسجد مما دعاها
ذلك إىل اخلروج خلف ابن عمها وأبو ولدهيا (حتى انتهت إىل القرب النبوي فقالت:
ألنرشن
ّ «خلوا عن ابن عمي فواهلل الذي بعث حممد ًا باحلق إلن مل ختلوا عنه
وألرصخن إىل اهلل تعال،ى فام ناقة
ّ وألضعن قميص رسول اهلل عىل رأيس،
ّ شعري،
صالح بأكرم من ولدي».
قال احلافظ حممد بن جرير الطربي اإلمامي (املتوىف 400هـ) ،واحلافظ الطربيس
(املتوىف 548هـ) ،واملازندراين (املتوىف سنة 588هـ) عن سلامن املحمدي (رضوان
اهلل تعاىل عليه) يف بيان أثر هذه الرصخة الفاطمية أنه قال( :فرأيت واهلل أساس
حيطان املسجد تقلعت من أسفلها حتى لو أراد رجل أن ينفد من حتتها نفد ،فدنوت
منها وقلت :يا سيديت ومواليت إن اهلل تبارك وتعاىل بعث أباك رمحة فال تكني نقمة،
فرجعت احليطان حتى سطعت الغربة من أسفلها فدخلت يف خياشيمنا)(((.
وهنا :استشهدت (عليها الصالة والسالم) بناقة صالح وما حلق قومه من اهلالك
عند التعرض هلا بالسوء يف هذا املوقف إنام لبيان أهنا أعظم حرمة عند اهلل وأجل
شأن ًا فكيف سيكون حال هذه األمة التي انتهكت حرمة (وديعة اهلل)!؟
العزة ّ
جل شأنه . رب ّ ثانياً :أول من قام حبفظها ّ
َّ
إن يف العودة إىل معنى الوديعة لغة ،وعند الفقهاء ،وهو (استحفاظ الشخص،
واستنابته يف احلفظ) يكشف عن أن الوديعة هي يف األساس كانت حمفوظة عند
64
صاحبها ثم أودت عند شخص آخر لينوب عنه يف حفظها.
وعليه:
يلزم هذا املعنى أن تكون فاطمة (صلوات اهلل عليها) هي يف األصل كانت
حمفوظة عند اهلل تعاىل قبل أن تودع عند النبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم) ثم عند
امري املؤمنني اإلمام عيل (عليه السالم) ،وإال يصبح كالم أهل اللغة والفقه لغو ًا
وهذا خمالف ملقاصد الرشيعة ومداركها وأصوهلا.
ولذا:
أخرج الشيخ الصدوق (عليه الرمحة والرضوان) بسنده عن عبد الرمحن بن احلجاج عن
سدير الصرييف عن الصادق جعفر بن حممد ،عن ابيه ،عن جده (عليهم السالم) ،قال:
فقال بعض الناس :يا نبي اهلل فليست هي إنسية؟ فقال صىل اهلل عليه وآله وسلم:
«خلقها اهلل عز وجل من نوره قبل أن خيلق آدم ،إذ كانت األرواح ،فلام خلق اهلل
65 عز وجل آدم عرضت عىل آدم».
«التسبيح والتهليل والتحميد ،فلام خلق اهلل عز وجل آدم واخرجني من صلبه،
أحب اهلل عز وجل أن خيرجها من صلبي ،وجعلها تفاحة يف اجلنة وأتاين هبا جربئيل
عليه السالم فقال يل :السالم عليك ورمحة اهلل وبركاته يا حممد.
قلت :وعليك السالم ورمحة اهلل وبركاته حبيبي جربئيل ،فقال :يا حممد ،إن ربك
يقرئك السالم ،قلت منه السالم وإليه يعود السالم.
قال :يا حممد إن هذه تفاحة أهداها اهلل عز وجل إليك من اجلنة فأخذهتا وضممتها
إىل صدري ،قال يا حممد يقول اهلل جل جالله كلها.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
يا حممد مالك ال تأكل؟ كلها وال ختف ،فإن ذلك نور املنصورة يف السامء ،وهي
يف األرض فاطمة ،قلت حبيبي جربئيل ومل سميت يف السامء املنصورة ويف األرض
فاطمة؟
قال :سميت يف األرض فاطمة ألهنا فطمت شيعتها من النار وفطم اعداءها من
حبها ،وهي يف السامء املنصورة وذلك قول اهلل عز وجل: 66
َص اللَِّ ينْص من ي َشاء وهو ا ْلع ِزي ُز ِ ﴿ َو َي ْو َمئِ ٍذ َي ْف َر ُح ا ُْل ْؤ ِمن َ
يم ﴾(((.
الرح ُ
َّ ُون * بِن ْ ِ َ ُ ُ َ ْ َ ُ َ ُ َ َ
إن مما يرشد إليه النص الرشيف هو إن حجم األمانة القيمي يكشف عن حجم
اإليامن الذي يلزم تواجده يف الوديع.
بمعنى :أن الوادع لألمانة وصاحبها يكون عىل بينة ولو وجداني ًا بإيامن الوديع
الذي ستوضع عنده الوديعة ويتعاقد معه حلفظها وردها إىل مالكها عند املطالبة هبا.
وألن منزلة فاطمة (عليها السالم) وشأهنا عند اهلل تعاىل ورسوله (صىل اهلل عليه
وآله وسلم) يستلزم أن يكون الوديع بتلك املنزلة والشأنية ،وإال يكون الوادع يف
حال معرفته بحال الوديع مالم ًا.
ولقد د ّلت كثري من النصوص عىل هذه الكاشفية والتالزمية بني الوديعة والوديع،
ال ووجدان ًا أن ُيستحفظ يف
فكل يشء غال ثمنه وعظم قدره وارتفع شأنه لزم عق ً
أماكن حيرز معها قصد اإليداع ،وهو احلفظ.
من هنا:
واحلديث حيدد مالمح الوديع وصفاته وهي اإليامن فقال (صىل اهلل عليه وآله
وسلم)« :فمؤمنوا أمتي» .ومل يقل املسلمون أو أصحايب وذلك من جهة التخصيص
فاصبح اإليامن مالزم ًا حلفظ األمانة ،وهي الوديعة التي حددها هنا النبي (صىل اهلل
عليه وآله وسلم) بأهل بيته صلوات اهلل عليهم أمجعني.
ومن ثم تكون النتيجة أن املسلمني ال حيفظون أهل بيته (عليهم السالم) كام ّ
دل
عليه القرآن الكريم ،والواقع التارخيي واحليايت ،قال تعاىل:
اب َآ َمنَّا ُق ْل َل ْ ت ُْؤ ِمنُوا َو َلكِ ْن ُقو ُلوا َأ ْس َل ْمنَا َو ََّلا َيدْ ُخ ِل ْ ِ
ال َيم ُن ِف ِ
﴿ َقا َلت ْالَ ْع َر ُ
ُق ُلوبِك ُْم.(((﴾..
ثم يبني القرآن الكريم العلة من عدم دخول اإليامن وحجب هذه الرتبة عنهم
فقال عز وجل:
اب َأ َشدُّ ُك ْف ًرا َونِ َفا ًقا َو َأ ْجدَ ُر َأ َّل َي ْع َل ُموا ُحدُ و َد َما َأ ْنز ََل اللَُّ﴾(((.
﴿الَ ْع َر ُ
ْ
منصف ان يرى هذا النص ٍ أما الواقع التارخيي فيكفي بالباحث والقارئ وكل
ال قاطع ًا عىل ما القته العرتة من املنافقني
الذي وفقنا اهلل لدراسته ،فقد كفى به دلي ً
واألعراب بعد وفاة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) ،فض ً
ال عن مأساة كربالء 68
يف يوم عاشوراء فكان لرأس ابن بنت رسول اله (صىل اهلل عليه وآله) وسيد شباب
أهل اجلنة مواضع ًا متعددة يف البالد ،يف مرص ،وعسقالن ،وبعلبك ،ودمشق،
ون﴾. والكوفة﴿ :إِنَّا لَِّ َوإِنَّا إِ َل ْي ِه َر ِ
اج ُع َ
وعليه:
وإنه (عليه السالم) بموجب عقد الوديعة ولزوم إرجاعها إىل الوادع وهو رسول
اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) ،فإن اإلمام عيل (عليه السالم) يربء ذمته يف ردها
إىل صاحبها ولذا قال:
ُ
«وأخ َِذتِ الرَّهِين َُة »
ما زال احلديث يف حقل جديد من حقول املعرفة التي زخر هبا هذا النص الرشيف
اال وهو احلقل املعريف الفقهي وكاشفية هذا التامزج املعريف بينه وبني احلقل العقدي
والسريي وغري ذلك من املعارف.
والبحث يف هذا اجلزء من النص الرشيف يتفرع اىل مسائل ثالثة وهي كااليت:
(الرهن املعروف ،تقول :رهنت اليشء فالن ًا رهنا ،فاليشء مرهون ،وأرهنت
فالنا ثوابا اذا دفعته اليه لرهنه ،وأرهتنه فالن ًا اذا اخذه رهن ًا.
والرهون ،والرهان ،والرهن :مجع الرهن ،واملراهنة والرهان أن يراهن القوم عىل
سباق اخلل وغريه .وأرهنت امليت قربا :ضمنته إياه .وكل ٍ
إمرء حيتبس به يشء فهو
رهنه ،ومرهتنه ،كام أن اإلنسان رهني عمله)(((.
()71
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
(رهن) الراء واهلاء والنون ,أصل يدل عىل ثبات يشء يمسك بحق أو غريه من
ذلك الرهن اليشء يرهن .تقول رهنت اليشء رهن ًا ،وال يقال أرهنت ،واليشء
الراهن الثابت الدائم .ورهن لك اليشء اقام وارهنته لك اقمته)(((.
(الرهن) :ما وضع عىل االنسان مما ينوب مناب ما أخذت منه)(((. 72
أقول :ويمكن اجلمع بني هذه االقوال للخروج بمعنى واحد وهو :احتباس يشء
اخذ من الراهن ليثبت به حقه وينوب عنه املرهتن.
(الرهن) وهو :وثيقة لدين املرهتن ويفتقر اىل االجياب والقبول .فاإلجياب :كل
لفظ دل عىل االرهتان كقوله رهنتك او هذه وثيقة عندك أو ما أدى اىل هذا املعنى
ولو عجز عن النطق كفت اإلشارة :ولو كتب بيده واحلال هذه وعرف ذلك من
قصده جاز ،والقبول هو الرضا بذلك االجياب)(((.
يف الرهن وأركانه أربعة( :األول) :يف الرهن ،وهو وثيقة لدين املرهتن وال بد فيه
من االجياب والقبول...
(الثاين) :يف احلق ويشرتط ثبوته يف الذمة ماال كان أو منفعة.....
(الثالث) :يف الراهن ويشرتط فيه كامل العقل وجواز الترصف واالختيار....
73
(((
(الرابع) :يف املرهتن ويشرتط فيه كامل العقل وجواز الترصف...
(يف الرهن ،وهو لغة الثبات والدوام ،ويف املسالك ،وعن املصباح املنري:
ت َر ِهينَ ٌة﴾((( وأخذ
س بِ َم ك ََس َب ْ
احلبس باي سبب كان .قال اهلل تعاىل ﴿ك ُُّل َن ْف ٍ
الرهن الرشعي من هذا املعنى أنسب أن أفتقر اىل املناسبة.
قلت :ليس له معنى رشعي جديد حيمل عليه لفظه يف الكتاب والسنة كام حرر يف
حمله ،وان طفحت عباراهتم بانه رشعا( :وثيقة لدين املرهتن).
لكن ال يريدون انه بذلك حقيقة رشعية ،بل املرتد حقيقة عند املترشعة.
ولذا :نسب يف املحكي عن جممع البحرين اىل عرف الفقهاء ،وتساحموا يف تعريفه،
املقصد منه جمرد التصوير والتمييز ولو بذلك الرشائط فيه ،فال يناسب اإليراد عليه
بلزوم الدور فيه...
واملراد من الوثيقة للدين ما يستويف منها ،ال أن املراد يستويف بسبب حبسها ،وأن
مل يصلح االستيفاء منها ،كأم الولد ،والعني املوقوفة ونحومها.
((( كشف اهلوز :ج 1ص.548-540
((( سورة املدثر ،اآلية (.)38
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وال اشكال يف ثبوته :اي الرهن يف اجلملة ،بل االمجاع بقسميه عليه ،بل لعله من
رضوريات الدين واملذهب) (((.
أقول :والذي يستفاد من هذه االقوال :أن الرهينة بمعناها الرشعي يرتكز عىل
كوهنا وثيقة حلفظ حق املرهتن كي يستويف حقه من الراهن.
و ارتكاز معناها عىل كوهنا وثيقة ال ينحرص عىل تعلقها باملال فقط ،وإنام يتعداه
اىل عنواهنا األعم وهو حفظ احلقوق ،فكل ما يمكن جعله وثيقة حلفظ احلقوق
74
يصبح بمنزلة الرهينة ودليله قوله تعاىل:
ِ ِ ُون َم ْوثِ ًقا ِم َن ا َِّ
﴿ َق َال َل ْن ُأ ْر ِس َل ُه َم َعك ُْم َحتَّى ت ُْؤت ِ
اط بِك ُْم َف َل َّم
ي َلل َلت َْأ ُتنَّني بِه إِ َّل َأ ْن ُ َ
ول َوكِيل﴾(((. َآت َْو ُه َم ْوثِ َق ُه ْم َق َال اللَُّ َع َل َما َن ُق ُ
من هنا :يمكننا الوقوف عند قول منتج النص (عليه الصالة والسالم):
«اخذت الرهينة» وداللة كوهنا (عليها الصالة والسالم) بـ (رهينة) ،من خالل
عدة معاين كام يف املسألة القادمة.
َّ
(إن كل نفس رهينة عىل الوفاء بامليثاق الذي وثقاها اهلل تعاىل به ،والعهد الذي
اخذ عليها حني االهباط اىل عامل احلبس واخليال أن ترجع اليه ساملة من سخطه،
عاملة بأوامره غري منحرفة من رصاطه الوضوح عىل لسان رسوله (صىل اهلل عليه
واله) ،فأن وفيت بعهدها خرجت من وثاق الرهن وضوعف هلا االجر ،كام قال
ون اللََّ َيدُ اللَِّ َف ْو َق َأ ْي ِدهيِ ْم﴾(((.
َك إِن ََّم ُي َبايِ ُع َ
ين ُي َبايِ ُعون َ ِ
تعاىل ﴿ :إِ َّن ا َّلذ َ
وأن نكثت وارتكبت بام هنيت عنه بقيت رهينة بعملها ،كام قال تعاىل﴿ :ك ُُّل َن ْف ٍ
س
75 (((
ت َر ِهينَ ٌة﴾ ،والرهينة تصدق عىل الذكر واالنثى).
بِ َم ك ََس َب ْ
وهذا املعنى ال ينطبق عىل سيدة النساء املعصومة من الزلل واملطهرة من الرجس
يف القول والعمل.
يف حبسها بالعمل ورهنها بامليثاق والعهد الذي اخذ عليها ،وان ترجع اليه ساملة
من سخطه.
ومن ثم البد أن يكون هناك معنى آخر يدل عىل املعنى الذي جاءت به الفاظ
الفقهاء واملرتكز عىل مجلة من املعاين منها احلبس ،ويراد به هنا:
(القيومية التي ألمري املؤمنني (عليه السالم) عليها بميثاق عقد الزواج).
وذلك أن اهلل (سبحانه وتعاىل) مل جيعل عىل أهل العصمة والية أحد من الناس
يكون خارجا عن هذه الصفة.
فاألنبياء مل يكن عليهم والية أحد جتب طاعته ،ومن أوجب اهلل عليه منهم طاعة
غريه جعله كذلك معصوما ايضا ،كطاعة الوالدين وقيمومتهم و واليتهم.
كشيث ،واسامعيل ،و اسحاق ،وسليامن ،وحييى ،وعيسى ،فقد كانوا مرهونني
بوالية ابائهم االنبياء املعصومني ،وهم:
ادم ،وابراهيم ،وداوود ،وزكريا ،ومريم (عليهم السالم) ،ولعل الرجوع اىل قوله
﴿و َب ًّرا
تعاىل عىل لسان عيسى (عليه السالم) ليكفي يف بيان هذا املعنى ،قال تعاىلَ :
76
ي َع ْلنِي َج َّب ًارا َش ِق ًّيا﴾(((. ِ
بِ َوالدَ ِت َو َل ْ َ ْ
أما يف حال اسامعيل الذبيح وتعرضه ملحنة االختبار يف الطاعة لوالده يف تسليم
نفسه بني يديه صابر ًا ألمر اهلل تعاىل ليغني اللبيب يف معرفة أنه كان رهينة ألمر اهلل
يف طاعة ابيه نبي اهلل ابراهيم (عليه السالم) ،قال تعاىل عن لسان اسامعيلَ ﴿ :ق َال َيا
ِ َأب ِ
الصابِ ِر َ
ين﴾(((. َجدُ ِن إِ ْن َش َ
اء اللَُّ م َن َّ ت ا ْف َع ْل َما ت ُْؤ َم ُر َست ِ َ
وحينام نأيت اىل سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السالم) نجدها كانت رهينة
ألمر اهلل يف حبسها بميثاق عقد الزواج وما يفرضه التبعل من قيود عىل املرآة وهو ما
انفردت به عن مريم (عليها السالم) فكالمها كانتا معصومتان إال أن مريم مل جيعل
اهلل عليها قيومية عقد الزواج ومل تتعرض هلذا االختبار يف إتِّباع ما فرضه اهلل (عز
وجل) من حقوق الزوج.
يف حني أن االنبياء واملرسلني تفاوتوا يف التفضيل ملا مروا به من ابتالءات ،ففضل
منهم مخسة سامهم اهلل بأهل العزم ،ملا محلوا به من فروض وتكاليف رشعية يف امر
تبليغ الرسالة.
((( سورة مريم ،اآلية (.)32
(( ( سورة الصافات ،اآلية (.)102
املبحث اخلامس عشر :املقاصدية يف كونها رهينة وداللة األخذ
من هنا:
نجد أن فاطمة (عليها السالم) بام فضلها اهلل تعاىل عىل مريم هو أمر االبتالء
يف التكاليف الرشعية فيام يفرضه حسن التبعل فكانت رهينة هبذا االختبار الذي
خرجت منه راضية مرضية بشهادة من عيل أمري املؤمنني (عليه السالم) وذلك يف:
77 -2يف وصيتها له واقراره هلا بحسن التبعل حيث قالت له:
-3بعد تفجعه وتأمله وشكواه اىل اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه واله) بعد دفنها
وهو موضع البحث ومدار الدراسة يف الكتاب.
وعليه:
اما املعنى الثاين فهو :بقصدية الوثيقة ،وفيه دالالت متعددة ،وهو ما سنبحثه يف
املسألة القادمة.
(وثيقة لدين املرهتن) وهذا يكشف عن أن العلة يف ترشيعها هو حفظ احلقوق بني
الطرفني وان جرى العرف يف الرهن هو االنتفاع من العني املرهونة السرتداد حق املرهتن.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وهذا يرشد اىل امرين مهمني متعلقني بكون فاطمة رهينة ،فاألول أن هناك حق
بني طرفني ،والثاين ان هذا احلق قد انتهك ومل حيفظ؛ ولذا جعله الفاضل اآليب ،أي
(احلق) هو الركن الثاين من أركان حتقق عقد الرهينة ولذا :يلزم (استيفاء احلق) من
الوثيقة.
أما كوهنا وثيقة فهو كااليت:
الر ُس ِل َوك َ
َان اللَُّ ُون لِلن ِ
َّاس َع َل اللَِّ ُح َّج ٌة َب ْعدَ ُّ ين لِئ ََّل َيك َ ِ
ين َو ُمنْذ ِر َ
ش َ﴿ر ُس ًل ُم َب ِّ ِ
ُ
ِ
َع ِزيزًا َحك ًيم﴾(((.
واآليات الكريمة يف ذلك كثرية وهي تظهر أن اهلل تعاىل جعل بلطفه وحتننه
ورمحته بعباده حقوقا هلم عليه ويف املقابل جعل له حقوقا عليهم ،ومنها طاعته
واتباع رشعه يف األمتار بأوامره واالنتهاء عن نواهيه.
اءك ُْم َر ُس ٌ اق ال َّنبِيني َلا َآ َتي ُتكُم ِمن كِت ٍ ِ ٍ ﴿وإِ ْذ َأ َخ َذ اللَُّ ِمي َث َ
ول َاب َوحك َْمة ُث َّم َج َ ْ ْ ْ ِّ َ َ
ْص َّن ُه َق َال َأ َأ ْق َر ْرت ُْم َو َأ َخ ْذت ُْم َع َل َذلِك ُْم إِ ْ ِ ِ ِ ِ
صي َقا ُلوا ُم َصدِّ ٌق َلا َم َعك ُْم َلت ُْؤمن َُّن بِه َو َل َتن ُ ُ
ك ُه ُم ك َف ُأو َلئِ َ ين (َ )81ف َم ْن ت ََو َّل َب ْعدَ َذلِ َ اشهدُ وا و َأنَا معكُم ِمن َّ ِ ِ
الشاهد َ َ َ َ ْ َ َأ ْق َر ْرنَا َق َال َف ْ َ
ون﴾(((. اس ُق َ ا ْل َف ِ
وهذه اآليات تظهر خطورة امليثاق الذي أخذ اهلل عىل األنبياء ،كام تظهر شأنية
قص أحد األنبياء (عليهمرسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ومنزلته عند اهلل تعاىل فلو ّ
79 السالم) يف الوفاء هبذا امليثاق ألصبح عاصيا هلل تعاىل.
-3امليثاق الذي أخذ من ُأويل العزم (عليهم السالم) ،وهو قوله تعاىل:
ِ ِ ﴿وإِ ْذ َأ َخ ْذنَا ِمن النَّبِيني ِمي َثا َقهم و ِمن َ ِ
يسى ا ْب ِنوسى َوع َ يم َو ُم َْك َوم ْن ُنوحٍ َوإِ ْب َراه َ ُ ْ َ َ ِّ َ َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ينني َع ْن صدْ ق ِه ْم َو َأ َعدَّ ل ْلكَاف ِر َ َم ْر َي َم َو َأ َخ ْذنَا من ُْه ْم مي َثا ًقا َغلي ًظا ( )7ل َي ْس َأ َل َّ
الصادق َ
َع َذا ًبا َألِ ًيم﴾(((.
(وا َملوثِ ْق بكرس الثناء ما يوثق به ويعتمد عليه ,واملوثق من اهلل هو أمر يوثق به
ويرتبط مع ذلك باهلل ،وإيتاء موثِق اهلي وإعطاؤه هو أن يس ّلط االنسان عىل أمر
اهلي يوثق به كالعهد ،واليمني بمنزلة الرهينة ،واملعاهدة ،والقسم بقوله (عاهدت
اهلل أن أفعل كذا باهلل ،أو باهلل ألفعلن كذا) يراهن عىل كرامة اهلل وحرمته فيضعها
يف بام قال خرس رهينته وهو مسؤول رهينة عند من يعاهده ،أو ليقسم له ،ولو مل ِ
عند اهلل ال حمالة)(((.
وعليه: 80
لزم ان يكون هناك موثقا أو وثيقة بني اهلل تعاىل وعباده الذين شملتهم رمحته تعاىل
فكانوا من ُامة حبيبه حممد (صىل اهلل عليه واله) ،والغاية منها -أي من الوثيقة-
(عز وجل) هو :حفظ احلقوق بني الطرفني ،أي بني اهلل واملسلمني فقد وىف اهلل َّ
فخصهم بخري رسله وأرشفهم فقال سبحانه: َّ لعباده
ِِ ِ ِ ِ َ ﴿-1ل َقدْ جاءكُم رس ٌ ِ
ني ول م ْن َأ ْن ُفسك ُْم َع ِزي ٌز َع َل ْيه َما َعنت ُّْم َح ِر ٌ
يص َع َل ْيك ُْم بِا ُْل ْؤمن َ َ َ ْ َ ُ
يم﴾ رء ٌ ِ
وف َرح ٌ
(((
َ ُ
ول ِمن ُْه ْم َي ْت ُلو َع َل ْي ِه ْم َآ َياتِ ِه َو ُي َزك ِ
ِّيه ْم َو ُي َع ِّل ُم ُه ُم ني َر ُس ً ﴿ه َو ا َّل ِذي َب َع َ
ث ِف ْالُ ِّم ِّي َ ُ -2
الك َْم َة َوإِ ْن كَانُوا ِم ْن َق ْب ُل َل ِفي َضلل ُمبني﴾
َ ٍ ِ ٍ ((( ا ْلكِتَاب و ِْ
َ َ
ي اللَُّ َلك ُْم َآ َياتِ ِه َّار َف َأ ْن َق َذك ُْم ِمن َْها ك ََذلِ َ
ك ُي َب ِّ ُ ﴿-3و ُكنْت ُْم َع َل َش َفا ُح ْف َر ٍة ِم َن الن ِ
َ
(((
ون﴾َل َع َّلك ُْم َ ْتتَدُ َ
ال ْس َل َم ِدينًا﴾
(((
﴿ -4ا ْل َي ْو َم َأك َْم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأ ْت َ ْم ُت َع َل ْيك ُْم نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ
يت َلك ُُم ْ ِ
وغريها من اآليات التي تبني نِ َعم اهلل الكثرية التي م َّن هبا عىل هذه االُمة والتي
تفرض عىل املتن ّعم واملستفيد منها أن يفي بام عليه من حقوق اهلل تعاىل.
(((
ش ٍء َجدَ ًل﴾ الن َْس ُ َ
ان أ ْك َث َر َ ْ َان ْ ِ
﴿وك َ
وبام أن االنسان كثري اجلدل فقال سبحانه َ
وهو من كونه اكثر يشء جدال كان خصام هلل مبني فقال تعاىل:
ِ ٍ ِ
81 ني﴾(((. ان َأنَّا َخ َل ْقنَا ُه م ْن ُن ْط َفة َفإِ َذا ُه َو َخص ٌ
يم ُمبِ ٌ َ
﴿أ َو َل ْ َي َر ْ ِ
الن َْس ُ
وكون االنسان خصيام وجمادال يكشف عن وجود حقوق بينه وبني اهلل وذلك أن
اجلدال يرجع اىل وجود حق ضائع وكذلك اخلصام واملخاصمة ،فهو ناشئ من
تضييع اخلصم للحق الذي عليه.
ولذا :لزم ان يكون بني الطرفني رهينة ،هذه الرهينة فرضها حفظ احلقوق كام
عرفها الفقهاء فقالو( :وثيقة لدين املرهتن) ،فكانت النِ َعم االهلية التي قدمها اهلل
تعاىل لعباده هي بمنزلة الدين الذي يلزم العبد بإيفائه لربه ،وبإرجاعه اليه ،ووفاء
العبد يكون بحفظ هذه النِ َعم وصوهنا وصيانة حرمتها فال تنتهك وال تضيع وال
يساء اليها ،بل يع َّظم شأهنا ومنزلتها.
وبناء ًا عليه :لزم أن تكون هذه النعم رهينة عند العبدَّ ،
وأن اهلل عليه حق اإليفاء،
قص أو فإن وىف العبد باحلقوق التي عليه اىل اهلل كان نصيبه باملقابل الزيادةْ ،
وإن َّ
اعتدى كان مصريه العقاب ،وأول العقوبات هي سلبه هذه النعمة وأخذها منه،
ودليله قوله (صىل اهلل عليه وآله):
يكشف عن أن هناك حقوق بني اهلل وهذه االمة ومها الطرفان اللذان بينهام الرهن،
وأن فاطمة هي بمنزلة الوثيقة التي هبا يتم حفظ احلقوق بني اهلل وهذه اال ّمة.
املسألة الرابعة :داللة أخذ الرهينة بقصدية عدم استيفاء االمة حلق اهلل .
إن ّ
أجل املعاين والدالالت يف الرهن والرهينة هو استيفاء احلق ،وأخذ الرهينة َّ
يدل عىل عدم الوفاء وضياع احلق.
فالراهن حينام يرهن ماال او منفعة مقابل شيئا اخذه من املرهتن فان هذا اليشء
الذي يسمى رهينة يبقى امانة حمبوسة حتى يقوم الراهن برد ما عليه من حق
للمرهتن وحينام يقوم الراهن بتضييع ما عليه من حق املرهتن وعدم وفائه فان من
حق املرهتن اخذ الرهينة ملدة اطول وتبقى حمبوسة عنده ودوام حبسها ،أي اخذها
ويعني عدم الوفاء.
املبحث اخلامس عشر :املقاصدية يف كونها رهينة وداللة األخذ
وهنا أراد اإلمام أمري املؤمنني (عليه السالم) يف خماطبته لرسول اهلل (صىل اهلل
عليه واله) بقوله «اخذت الرهينة» اظهار عدم وفاء اال ّمة بعد استشهاد رسول اهلل
(صىل اهلل عليه واله) بحق اهلل ورسوله ,وهو املعنى الثالث الذي يقارب قصدية
منتج النص (عليه السالم) بعد أن كان املعنى االول :احلبس ،والثاين :الوثيقة،
والثالث :هو عدم الوفاء ،أو بمعنى أدق كام جاء يف كتب الفقهاء( :استيفاء احلق)
لكنه بلطفه وكرمه ورأفته وحتننه عىل عباده وهو الرؤف الرحيم ،جعل هلم حقوقا
عليه كهدايتهم ملا يصلح شؤوهنم يف الدنيا ،وينجيهم من اآلخرة ،و رزقهم وغريها
من األمور التي تستقيم هبا منظومة احلياة.
ويف املقابل جعل عليهم حقوقا وواجبات وفروضا فأمر وهنى وهداهم النجدين
فإما شاكر ًا وإما كفورا ،وذلك ليحيي من حيا عن ب ّينة وهيلك من هلك عن ب ّينة.
ومن ثم :فاألصل أن كل يشء يعود اليه سبحانه ،ومن ثم يصبح الكل هلل (تعاىل
الرهينة) واملرهتن ومثاله يف قوله تعاىل:
ني َأ ْن ُف َس ُه ْم َو َأ ْم َو َُال ْم بِ َأ َّن َُل ُم َِِْ ﴿إِ َّن اللََّ ْاش َ ِ
النَّ َة﴾(((. تى م َن ا ُْل ْؤمن َ
َ
فـهنا اآلية املباركة تتحدث عن عقد من العقود التي نصت عليها الرشيعة وجرت ُ
بني الناس ،فهناك طرفان بائع ومشرتي ،وثمن ومثمن؛ فاملشرتي هو اهلل تعاىل،
والبائع املؤمنون ،والثمن اجلنة ،واملثمن انفسهم وامواهلم ،وهي هبذا تكون معاملة
صحيحة الرشوط واألركان.
ولكنها يف احلقيقة كلها ملك هلل تعاىل ،فاألنفس واألموال واملؤمنون واجلنة
ملك اهلل تعاىل ,لكنه بلطفه وكرمه منح ووهب وأعطا وأجاز وأسرتد وأفاض كرما
وتفض ً
ال وهو العزيز احلكيم.
واحلال نفسه جيري يف عقد الرهينة الذي اظهره االمام أمري املؤمنني عيل (عليه
السالم) فقال« :اخذت الرهينة» فهوأراد أن يكشف عن مسألة مهمة ارتبطت
بروح الرهينة ،وهي استيفاء احلق وعدم وفاء الراهن حلق املرهتن ،فأخذت منه
84
الرهينة ،وانطباق هذا املعنى يكون يف تضييع اال ّمة حلق اهلل ورسوله وحفظ عرتته
وذلك للدالئل االتية ،منها:
-1إن مناسبة كالم اإلمام عيل (عليه السالم) هي التظ ّلم والشكوى اىل رسول
اهلل (صىل اهلل عليه وآله) بام جرى عىل بضعته فاطمة وولداها وعليه من الظلم
واجلرائم ،ومن ثم يكفي هبذا التظلم والشكوى الذي جاء بعد وقوع جريمة قتل
اىل الزهراء (عليها السالم) دليال عىل تضييع االمة حلق اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه واله)
وعدم وفائها للحقوق التي فرضها اهلل تعاىل.
إن األصل الذي عليه الفقهاء هو أن (الرهن أمانة يف يد املرهتن) وقد ب َّلغ
َّ -2
النبي (صىل اهلل عليه واله) وأعذر يف بيانه لالمة يف حفظ أهل بيته وأ ّمنهم أمانة يف
عنق كل مسلم ،ولذا :وردت النصوص الكثرية يف ذلك ,منها:
أ -ما اخرجه مسلم يف صحيحه يف حديث الثقلني ،ومنه قوله (صىل اهلل عليه وآله):
« ُأذكّركم اهلل يف أهل بيتيُ ،أذكّركم اهلل أهل بيتيُ ،أذكّركم اهلل أهل بيتي»(((.
ب -قوله (صىل اهلل عليه وآله وسلم)« :فأنظروين بِ َم ختلفوين فيهام»(((.
ج -قوله (صىل اهلل عليه آله)« :فانظروا كيف ختلفوين فيهام»(((.
-3وصيتها لإلمام عيل (عليه السالم) بأن تدفن ليال إذا نامت العيون وهجعت
األنفس ،وأن ال يشهد جنازهتا أحد ممن ظلمها ،وأن يعفى موضع قربها ،لتجعل
من ذلك دليال قاطعا عىل مرور األيام أن االمة والسلف ظلموها واشرتكوا يف
85 قتلها ،وهضمها ،وسلبها حقها ،وهو حق اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه واله) فتحقق
بذاك عدم وفاء االمة حلق اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه واله) املرتكز عىل أخذ الرهينة
وتضييع األمانة.
املسألة اخلامسة :قصدية املالزمة بني الوديعة والرهينة واالسرتجاع واألخذ .
َّ
إن من التساؤالت التي رافقت هذا املبحث هو ايراد اإلمام أمري املؤمنني عيل
(عليه السالم) للوديعة والرهينة يف موضع واحد وكأنه يريد أن ينقل اىل السامع
قضية أساسية ومتالزمة بني االيداع والرهن ،أو حتديد ًا بني الوديعة والرهينة وقد
أن (االحكام تتبع العناوين) ،بمعنىَّ :
أن االحكام ختتلف ثبت يف قواعد الفقهاء َّ
وتتغري بتغري العناوين.
(( ( مسند امحد بن حنبل ،من مسند ايب سعيد اخلدري :ج 3ص.17
((( سنن الرتمذي ،باب :مناقب اهل البيت (عليهم السالم) :ص.329
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ففي الوديعة أردفها بام يستوجبه العنوان من أحكام رشعية فقال( :اسرتجعت)،
ويف (الرهينة) أردفها بام يستوجبه العنوان فقالُ ( :أ ِخذت) وهذا يرشد اىل امور
ثالثة ،األول مرتبط بشخص أمري املؤمنني (عليه السالم) ،والثاين مرتبط بفاطمة
(عليها السالم) ،والثالث باألمة ،وهي املقاربة األخرية يف قصدية منتج النص يف
(الوديعة والرهينة) ،فكانت هذه االمو هي ما ييل:
األمر األول :ما ارتبط بشخص علي (عليه السالم) وعنوان الوصاية .
86
ال خيفى عىل أهل العلم واملعرفة أن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) جعل اإلمام
عيل (عليه السالم) وصيا فهذا يلزم أن تكون الودائع التي كانت عند النبي (صىل اهلل
مر خالل املبحث السابق بيان أن فاطمة عليه وآله) تنتقل بعد وفاته اىل وصيه ،وقد ّ
(عليها السالم) وديعة اهلل ووديعة رسوله (صىل اهلل عليه واله) .ولذا :انتقلت اليه
كام جرى ذلك يف حياة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) حينام خرج من مكة مهاجر ًا
فقد جعل عنده الودائع.
ومن ثم يلزم ارجاع هذه الودائع اىل أصحاهبا ،وهو االمر الذي كشفه (عليه
السالم) بقوله (اسرتجعت الوديعة) فأرجع فاطمة اىل صاحبها وهو رسول اهلل
(صىل اهلل عليه واله).
اذن :يرشدنـا النص اىل بيـان هذه الكينونية وما يرتتب عليها من أحكام ،اي
(الوصاية).
87 فاالسرتجاع يكشف عن فضيلة الوفاء لألمانة ،واألخذ يكشف عن اخليانة لألمانة.
وألن احلال الذي عليه اإلمام (عليه السالم) وأهل بيته ومنطوقه وفعله يف
شكواه وتظ ّلمه ،ودفنه فاطمة رس ًا واخفائه لقربها لدليل قاطع عىل أن االمة خائنة
ملا ُأؤمتنت عليه ،ف ُا ِخذت منها الرهينة.
املبحث السادس عشر
قال اجلوهري (املتوىف سنة 336هـ) يف بيان معنى االختالس ،هو :االستالب.
(قيل :املختلس :هو الذي يأخذ املال من غري احلرز ،واملستلب :هو الذي يأخذ
جهرا وهيرب مع كونه غري حمارب )((( ،واحلرز :ما يتحرز به االنسان حلفظ ماله
كوضع االقفال وغرياها يف حفظ املال.
وللفقهاء راي اخر وتفصيل ادق واوضح يف بيان الفرق بني االختالس،
واملختلس واالستالب واملستلب ،هو كام يرد يف املسألة القادمة.
()91
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
َّاس ِم ْن َح ْو ِل ْم﴾(((. ط ُ
ف الن ُ ﴿و ُيت ََخ َّ
َ
قال الراغب االصفهاين(((:
92
خطف :اخلطف واالختطاف :االختالس بالرسعة ،يقالَ :خطِف َيطِف ،واخل ّطاف:
الطائر الذي كأنه خيطف شيئا يف طريانه ،وملا خيرج به الدلو كأنه خيتطفه ومجعه خطاطيف؛
وباز خمطف خيتطف ما يصيده.
-1قال القاضي ابن الرباج (رحمه اهلل)( ،تويف سنة 481هـ) :
املختلس :فهو الذي يستلب اليشء من الطرق والشوارع ظاهر ًا ،فإذا فعل شيئا
من ذلك ،وجب أن يعاقب عقوبة ترتدعه عن مثل ما فعله ،وذلك يكون بحسب
(( ( سورة الصافات ،اآلية (.)10
((( سورة احلج ،اآلية (.)31
(( ( سورة البقرة ،اآلية (.)20
((( سورة العنكبوت ،اآلية (.)67
((( املفردات يف غريب القرآن (ص.)150
املبحث السادس عشر :املقاصدية يف اختالسهم الزهراء ()
ما يراه اإلمام أصلح وأردع ،وال جيب عليه قطع يف ذلك عىل وجه من الوجوه(((.
-2قال ابن حمزة الطوسي (رحمه اهلل)( ،تويف سنة 560هـ) :
املختلس :من يستلب اليشء ظاهر ًا ،فإن أظهر السالح فهو حمارب ،وإن مل يظهر
(((
استحق العقوبة الرادعة دون القتل والقطع.
-3قال السيد عبد األعلى السبزواري (رحمه اهلل)( ،تويف سنة1414هـ) :
93 االختالس :هو الذي يأخذ بغري حق من غري حرز ،واالستالب ما يؤخذ
جهرة وهيرب(((.
وعند الشافعية :أخذ اليشء ظلام جماهرة واهلرب به ،واملختلس :هو من يأخذ
املال سلبا ومكابرة .وقيل :هو الذي خيطف اليشء من غري غلبة ،وهيرب ،ولو مع
معاينة املالك له.
وعند املالكية :هو الذي خيطف املال بحرضة صاحبه يف غفلته ،ويذهب برسعة جهرا (((.
-1عند االمامية االثني عرشيـة :يفرق اإلمامية بني كون املختلس شاهرا لسالحه
أم أعزل حال قيامه باالختالس ،فمع وجود السالح عُدَّ حمارب ًا ومع عدمه يعاقب
بعقوبة يراها اإلمام أصلح للمختلس يف ردعه عن فعله ،وليس عليه قطع اليد،
واستعادة املال منه (((.
-2اما حكمه عند احلنفية واملالكية والشافعية( :القطع -أي :قطع يد املختلس-
94
إذا اختلس يف الوديعة والعارية)(((.
وهذه املعاين والدالالت واألحكام ترشد اىل بيان حقيقة جديدة ارتبطت بظالمة
فاطمة (صلوات اهلل عليها) فضال عن بيان شأنيتها عند اهلل ومراحل تكوينها وبدء
خلقها كام سيمر يف املسائل القادمة.
(اختلست البتول) أو (الصديقة) أو (فاطمة) ،وإنام (الزهراء) ،مما يرشد اىل حقيقة
((( ينظر :املذهب البن الرباج ،ج 2ص554؛ املوسوعة الفقهية لالنصاري ،ج 1ص.363
(( ( جامع اخلالف لعيل بن حممد القمي ،ص.591
عز وجل ،فاطمة ،والصديقة ،واملباركة
((( قال (عليه السالم)« :لفاطمة تسعة اسامء عند اهلل ّ
والطاهرة ،والزكية ،واملرضية ،والراضية ،واملحدثة ،والزهراء» ،ينظر :اخلصال للصدوق:
ص.414
املبحث السادس عشر :املقاصدية يف اختالسهم الزهراء ()
ُاخرى من احلقائق التي ارتبطت هبذا احلدث ،أي :استشهادها (عليها السالم) أو
بشخصها وشأنيتها ،وذلك من خالل دالالت هذا التامزج بني عنوان االختالس
ومعناه ،وبني معنى الزهراء ،وهو كام ييل:
أوالًَّ :
إن مصداق االختالس هو عني مال الزهراء الذي سلب منها.
إن املعنى العام وسياق النص الرشيف ومناسبة احلدث وما يفرضه عنوان َّ
االختالس وأحكامه لدى الفقهاء يرشد اىل ان هناك ماالً لفاطمة (عليها السالم)
95
قد سلب جهر ًا ،ظاهر ًا أمام الناس من جهة ،وأمامها (عليها السالم) من جهة
اخرى وهو ما كشف عنه أمري املؤمنني (عليه السالم) من خالل هذا احلديث كام
سريد يف البحث ،وهو قوله:
«فبعني اهلل تدفن ابنتك رس ًا ،وهيضم حقها قهر ًا ،ويمنع إرثها جهر ًا».
أو من خالل ترصحيه بذلك يف مناسبات عديدة ,منها يف كتابة الذي كتبه اىل واليه
عىل البرصة عثامن بن حنيف ،فمام جاء فيه:
«بىل كانت يف أيدينا فدك من كل ما أظلته السامء ،فشحت عليها نفوس قوم،
وسخت عنها نفوس اخرين ،ونِ ْعم احلكم اهلل»(((.
وقيام أبو بكر بمصادرة أرض فاطمة (عليها السالم) وسلبها منها جهار ًا قد
أخرجه البخاري عن عائشة ،أهنا قالت:
(أن فاطمة بنت رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) أرسلت اىل أيب بكر تسأله مرياثها
من رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) مما أفاء اهلل عليه باملدينة وفدك وما بقي من مخس
خيرب) ،فقال أبو بكر:
َّ
إن رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) قال:
«ال نورث ما تركناه صدقة ،إنام يأكل ال حممد من هذا املال».
واين واهلل ال اغري شيئا من صدقة رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) من حاهلا،
وألعمل َّن فيها بام عمل به رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله).
فأبى ابو بكر ان يدفع اىل فاطمة (عليها السالم) منها شيئا ،فوجدت فاطمة عىل
ايب بكر يف ذلك فهجرته ،فلم تكلمه حتى توفيت ،وعاشت بعد النبي (صىل اهلل
96
عليه واله) ستة اشهر ،فلام توفيت دفنها زوجها عيل (عليه السالم) ليال ومل يؤذن
هبا ابا بكر وصىل عليها عيل (عليه السالم).
واحلديث رصيح يف مصادرة ايب بكر ألرض فدك واموال رسول اهلل (صىل اهلل
عليه واله) ،يف املدينة مما افاء اهلل تعاىل عليه ،وسهم خيرب من اخلمس.
ويكفي يف داللة اختالس أموال الزهراء (عليها السالم) أهنا «أرسلت اىل ايب بكر
تسأله مرياثها من رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) مما أفاء اهلل عليه باملدينة وفدك وما
بقي من مخس خيرب».
ومطالبتها بأمواهلا كان نتيجة الختالس ايب بكر هلذه األموال ّ
وإل ملا كان هناك
سببا وداعيا يدعوها للمطالبة هبذه األموال لو مل يقوم ابو بكر باختالسها جهر ًا.
وألهنا مغلوب عىل أمرها السيام واهنا ستواجه السلطة ونفوذها العسكري
احتسبت أمرها اىل اهلل تعاىل ،وماتت وهي غاضبة عىل ايب بكر واعوانه عىل الرغم
من علمهم بحرمتها عند اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه واله) الذي قال فيها« :يرىض
اهلل لرىض فاطمة ويغضب لغضبها»(((.
((( االمايل للصدوق :ص467؛ مناقب اإلمام عيل (عليه السالم) ألبن املغازيل الشافعي؛ املستدرك
عىل الصحيحني للحاكم :ج 3ص.154
املبحث السادس عشر :املقاصدية يف اختالسهم الزهراء ()
وهذا هو املعنى االول إليراده (عليه السالم) ملفردة (الزهراء) ،اما املعنى الثاين
كام يف ثاني ًا.
ثانياًَّ :
إن مصداق االختالس هو عني شخص الزهراء الذي سلب منها احلياة فقتلت .
َّ
إن مما مر يف معنى االختالس يف كتب الفقهاء ،فكان من مجلة ما قالو( :خلس
اليشء أو اختلسه ،أي :استلبه يف خفية أو اختطفه برسعة عن غفلة).
وهذا يكشف عن أن الزهراء اختطفت برسعة بحرضة عيل (عليه السالم) ،فقد
قتلت وهي يف الثامنة عرش من عمرها فكان غياهبا رسيعا فأصبحت حياة أمري
املؤمنني (عليه السالم) بفقدها ال تزهر ولذا قال:
«فام أقبح اخلرضاء والغرباء» وهو توصيف حلال الدنيا فقد أصبحت بعدها
(عليها السالم) مظلمة ال نور فيها وذلك ألهنا كانت تزهر لعيل يف اليوم ثالث
مرات -كام نصت عليه الروايات الرشيفة -ومنه كان أحد أسباب تسمتها بالزهراء
(عليها السالم) ،وهو كام سيمر يف املسألة القادمة.
أما عالقة استخدام لفظ الزهراء مع عنوان االختالس ومتازجه فريجع اىل داللته
عىل اليشء املتلئلئ الثمني ،مما يكشف عن اجلانب النفيس ملن يقدم عىل االختطاف،
فقد زهر اليشء يف نفسه وانجذب اىل اختطافه.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
املسألة الرابعة :قصدية تسميتها بالزهراء ومعناه وأثره يف متاسك النص .
يعد هذا االسم -أي :الزهراء -من أشهر أسامئها التسعة ،حتى أصبح مالصق ًا
هلا فام إن قيل فاطمة حتى ُأ ِ
ردف بالزهراء (عليها السالم)؛ وقيل يف فقه اللغة :إن
اإلنسان إذا كان أبيض بياض ًا حممود ًا أدنى صفرة كلون القمر والدر فهو أزهر ،ويف
حديث أنس يف صفة النبي (صىل اهلل عليه وآله وسلم)( :كان أزهر ومل يكن أمهق
أي شديد البياض)(((.
98
أما السبب وراء اتصافها وتسميتها بالزهراء ،فقد وردت عن العرتة النبوية بعض
األحاديث الكاشفة عن ذلك ،وهي كاآليت:
عن سلامن الفاريس قال( :كنت جالس ًا عند النبي املكرم صىل اهلل عليه وآله وسلم
إذ دخل العباس بن عبد املطلب فسلم ،فرد النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم عليه
ورحب به فقال :يا رسول اهلل بم فضل علينا عيل بن أيب طالب عليه السالم أهل
البيت واملعادن واحدة؟ فقال له النبي املكرم صىل اهلل عليه وآله وسلم:
«إذ ًا أخربك يا عم إن اهلل تبارك وتعاىل خلقني وخلق عليا وال سامء وال أرض وال
جنة وال نار وال لوح وال قلم.
وملا أراد اهلل تعاىل بدو خلقنا فتكلم بكلمة فكانت نورا ثم تكلم بكلمة ثانية
فكانت روحا فمزج فيام بينهام فاعتدال فخلقني وعليا منهام.
ثم فتق من نور عيل نور الساموات ،فعيل أجل من نور الساموات.
ثم فتق من نور احلسن نور الشمس؛ ومن نور احلسني عليه السالم نور القمر فهام
أجل من نور الشمس ومن نور القمر.
وكانت املالئكة تسبح اهلل وتقدسه وتقول يف تسبيحها :سبوح قدوس من أنوار ما
أكرمها عىل اهلل تعاىل.
99 فلام أراد اهلل جل جالله أن يبلو املالئكة أرسل عليهم سحابا من ظلمة فكانت
املالئكة ال ينظر أوهلا من آخرها ،وال آخرها من أوهلا ،فقالت املالئكة :إهلنا وسيدنا
منذ خلقنا ما رأينا مثل ما نحن فيه فنسألك بحق هذه األنوار إال ما كشفت عنا؟
فقال اهلل تبارك وتعاىل :وعزّيت وجاليل ألفعلن.
فخلق نور فاطمة عليها السالم يومئذ كالقنديل وعلقه يف قرط العرش فزهرت
الساموات السبع واألرضون السبع ومن أجل ذلك سميت فاطمة (الزهراء).
وكانت املالئكة تسبح اهلل وتقدسه فقال اهلل ع ّز وجل :وعزيت وجاليل ألجعلن
ثواب تسبيحكم وتقديسكم إىل يوم القيامة ملحبي هذه املرأة وأبيها وبعلها وبنيها»(((.
«ألن اهلل ع ّز وجل خلقها من نور عظمته فلام أرشقت أضاءت الساموات واألرض
بنورها وغشيت أبصار املالئكة وخرت املالئكة هلل ساجدين وقالوا إهلنا وسيدنا ما
هلذا النور فأوحى اهلل إليهم هذا نور من نوري أسكنته يف سامئي خلقته من عظمتي
أخرجه من صلب نبي من أنبيائي أفضله عىل مجيع األنبياء وأخرج من ذلك النور أئمة
يقومون بأمري هيدون إىل ح ّقي وأجعلهم خلفائي يف اريض بعد انقضاء وحيي»(((.
عن أبان بن تغلب قال( :قلت أليب عبد اهلل عليه السالم :يا ابن رسول اهلل مل
سميت الزهراء (عليها السالم) (زهراء)؟ فقال:
ّ
100
«ألهنا تزهر ألمري املؤمنني عليه السالم يف النهار ثالث مرات بالنور.
كان يزهر نور وجهها صالة الغداة والناس يف فرشهم فيدخل بياض ذلك النور
إىل حجراهتم باملدينة فتبيض حيطاهنم فيعجبون من ذلك فيأتون النبي صىل اهلل عليه
وآله وسلم فيسألونه عام رأوا فريسلهم إىل منزل فاطمة عليها السالم فيأتون منزهلا
فريوهنا قاعدة يف حمراهبا تصيل والنور يسطع من حمراهبا من وجهها فيعلمون أن
الذي رأوه كان من نور فاطمة.
فإذا انتصف النهار وترتبت للصالة زهر وجهها عليها السالم بالصفرة فتدخل
الصفرة حجرات الناس فتصفر ثياهبم وألواهنم فيأتون النبي صىل اهلل عليه وآله
وسلم فيسألونه عام رأوا فريسلهم إىل منزل فاطمة عليها السالم فريوهنا قائمة يف
حمراهبا وقد زهر نور وجهها عليها السالم.
فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس امحر وجه فاطمة عليها السالم فأرشق
وجهها باحلمرة فرحا وشكرا هلل عز وجل فكان يدخل محرة وجهها حجرات القوم
وحتمر حيطاهنم فيعجبون من ذلك ويأتون النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم ويسألونه
عن ذلك فريسلهم إىل منزل فاطمة فريوهنا جالسة تسبح اهلل ومتجده ونور وجهها
يزهر باحلمرة فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة عليها السالم.
فلم يزل ذلك النور يف وجهها حتى ولد احلسني عليه السالم فهو يتقلب يف
وجوهنا إىل يوم القيامة يف األئمة منا أهل البيت إمام بعد إمام»)
(((.
-1ال شك أن السياق العام للحديث يقتيض وجود أمري املؤمنني (عليه السالم)
101 يف الدار كي يتمكن القادم إىل بيت عيل وفاطمة (عليهام السالم) من االستئذان
والدخول ولكونه من األمور البدهيية لدى حياة الناس فلم يتعرض اإلمام لذكره
وبيانه يف أثناء احلديث.
-2إن القادم إىل بيت عيل (عليه السالم) لكي يدخل إىل بيت فاطمة (عليها
السالم) لريى ذلك النور إنام قدم بأمر من رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم).
ولذا :نجد من البدهيي الذي عليه حياة أمري املؤمنني (عليه السالم) أهنا قائمة عىل
االمتثال ألمره (صىل اهلل عليه وآله وسلم) ،أي :يكون أمر الدخول إىل بيت عيل وفاطمة
(عليهام السالم) قد حصل باملالزمة لطاعة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم).
-3ال شك أن خروج هذا النور ودخوله إىل بيوت القوم وبتلك الكيفية التي
أشار إليها اإلمام الصادق (عليه السالم) إنام كان الغرض منه إرشاد ّي ًا كي يعلم
الناس ما لفاطمة من الشأنية عند اهلل ومثاله مثال مريم ابنة عمران (عليها السالم)
حينام اقتضت الرضورة واحلكمة اإلهلية يف إظهار منزلتها للناس لغرض حفظ
حرمتها وعدم التعرض لتلك احلدود اإلهلية.
-4كي يعلم الناس أن فاطمة (عليها السالم) هي املخصوصة بحمل نور األئمة
كام كانت مريم خمصوصة بنور النبوة ،ولذا ملا ولدت فاطمة (عليها السالم) اإلمام
احلسني ذهب النور منها إىل ولدها اإلمام احلسني (عليه السالم) وذلك أن اإلمامة
يف صلبه فعلم الناس حينها ملا وجدوا أن هذا النور الزاهر قد انقطع من الظهور يف
بيوهتم عند والدة اإلمام احلسني (عليه السالم)؛ أي إنه هو املخصوص بحمل هذا
النور ،نور اإلمامة من بعده.
وهذا كله لغرض إلزام احلجة عىل الناس يف البيان والتذكري والبشارة والوعد 102
والوعيد يف أن هذا البيت وأهله هم أهل بيت النبوة واإلمامة والقرآن ،أي الرشيعة.
روى الصدوق عن حممد بن عامرة عن أبيه قال :سألت أبا عبد اهلل عن فاطمة مل
سميت زهراء؟ ،فقال:
ّ
«ألهنا كانت إذا قامت يف حمراهبا زهر نورها ألهل السامء كام يزهر نور الكواكب
ألهل األرض»(((.
ذكر املناوي أن السبب يف تسميتها بالزهراء« :ألهنا زهرة املصطفى (صىل اهلل عليه
وآله وسلم)»(((.
من هنا :كان إيراده (عليه السالم) هلذا االسم هو بيان األثر الذي تسببه هؤالء
املجرمون بحق اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه وآله) يف اختطاف هذا النور اإلهلي من
بيت النبوة فض ً
ال عن بيانه لتامسك النص حول هذه احلقوق التي استلبها هؤالء،
فكان التمحور حول بيان حقيقة اجلناة وما جنوه يكمن يف املفردات الثالثة التي
تتابعت يف النص ،وهي (الوديعة ،والرهينة ،والزهراء).
املسألة اخلامسة :داللة قوله (« :)فما أقبح اخلضراء والغرباء» .
أشار بعض الرشاح للنص الرشيف يف بيان معنى قوله «فام اقبح اخلرضاء» اىل أن
املراد بـ(اخلرضاء) السامء.
103
واستندوا يف ذلك اىل قول رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) يف حق ايب ذر الغفاري:
«ما أظلت اخلرضاء وما أقلت الغرباء من ذي هلجة أصدق من ايب ذر»(((.
ويف رثاء الزهراء يقول الشيخ ابراهيم املبارك (ت 1399هـ) يف رثاء الزهراء
(عليها السالم):
(( ( مسند أمحد :ج 5ص197؛ سنن الرتمذي :ج ص334؛ علل الرشايع للصدوق :ج 1ص.176
(( ( موسوعة ادب املحنة للسيد حممد عيل احللو :ص.253
(( ( مرآة العقول :ج 5ص.327
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وقد كشف احلدث الذي كان سببا لصدور هذا النص عن امري املؤمنني (عليه
104
السالم) ،أي :ما جرى عىل فاطمة منذ ان قبض رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) اىل هذه
اللحظات التي وقف فيها أمري املؤمنني خياطبه (صىل اهلل عليه وآله) ان اجلميع مشرتك
بظلم بضعته واضطهادها وقتلها؛ ولذا :مل يشهد جنازهتا ومل يؤذن هبا غري ولداها،
وسلامن املحمدي ،وعامر بن يارس ،وابو ذر ،واملقداد ،وأن هؤالء االربعة مل يتمموا
املسري يف تشيعها اىل مثواها حرصا منه (عليه الصالة والسالم) عىل تنفيذ وصيتها:
فكيف ال تكون الدنيا بسامئها وارضها قبيحة ال مجال فيها بعد فقد الزهراء
ون﴾(((. ومواراهتا الثراء؟ فــ﴿إِنَّا لَِّ َوإِنَّا إِ َل ْي ِه َر ِ
اج ُع َ
يقال :اصابه حزن شديد ،وقال ابو عمرو :إذا جاء احلزن منصوبا فتحوه ،واذا
جاء مرفوعا او مكسورا ضموا احلاء كقول اهلل عز وجل:
ت َع ْينَا ُه ِم َن ُْ
الز ِْن﴾((( ،أي :أنه يف موضع خفض. ﴿وا ْب َي َّض ْ
َ
()107
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وحزين اىل
وقال :تفيض من الدمع حزنا :اي انه يف موضع النصب ،وقال (بثي ُ
اهلل ،ضموا احلاء هنا).
وفرق قوم بني اهلم و احلزن ،وقال املناوي :احلزن ،الغم احلاصل لوقوع مكروه
أو فوات حمبوب يف املايض ،ويضاده الفرح.
(((
وقال الراغب :احلزن خشونة يف النفس ملا حيصل يف الغم
الرسمد :دوام الزمان من ليل أو هنار((( ،وليل رسمد ،اي طويل ،ويستفاد من
قوله تعاىل:
ُ
األرق(((. السها ُد
وقال اجلوهريُّ :
والسهدُ ,بضم السني واهلاء :القليل من النوم.
ُّ
وس ِهدَ بكرس اهلاء :مل ينم.
َ
رتك أن ينام(((.
يس ُهدُ :أي ال ُي َ
وفالن ّ
والذي يستفاد من هذا املعنى:أن االمام أمري املؤمنني (عليه السالم) كان ِأرق ًا
109
يقظا طول ليله ،وأن هذا احلزن الذي نزل به ال يرتكه أن ينام ،وال شك أن حزنه إنام
كان ألمر فظيع قد وقع ،وهو جريمة قتل فاطمة الزهراء (عليها السالم).
املسألة الثانية :قصدية إيراده حال حزنه بالسرمد مع الفعل (يربح) .
َّ
إن النظر اىل مفردات النص الرشيف ترشد اىل أن االمام أمري املؤمنني (عليه
السالم) يف خطابه مع رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وشكواه يريد أن يكشف
الكثري من احلقائق املرتبطة به من جهة ،ومن جهة اخرى بالصديقة الكربى فاطمة
الزهراء (عليها السالم) ،ومن جهة ثالثة بحقيقة احلدث ،بل بجزئياته املتعددة
والكثرية ،ومن هذه اجلزئيات يف هذه املفردات القليلة التي مل تتجاوز سوى بضعة
اسطر ،ومنها هنا يف هذا اجلزء من النص الرشيف ما ارتبط به شخصيا من أمل ،وما
أرتبط بعالقته القلبية والوجدانية بأم عياله فاطمة (عليها السالم) فض ً
ال عن حتفيز
املتلقي اىل التأمل وحتريك ذهنه يف البحث وتقيص احلقائق فيام وقع يف هذه الفرتة
الزمنية التي أعقبت استشهاد رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ،ومجيع هذه اجلزئيات
سنتوقف عندها ،فكانت كااليت:
ومن ثم بيان حلجم صربه الذي كان يوازي حجم ايامنه وشأنيته عند اهلل تعاىل
وذلك لقوله (صىل اهلل عليه وآله) يف حديث املنزلة(((ومقتضاه يف نزول البالء
واشتداده عليه ،وملقتىض قوله (صىل اهلل عليه واله):
وغريها من االحاديث الرشيفة التي تقتيض أن يكون أمري املؤمنني (عليه السالم)
أشد الناس بال ًء بعد سيد االنبياء واملرسلني (صىل اهلل عليه وآله) ،أي :من اشتداد
البالء هي مصيبة اقتحام بيت النبوة وحرقه ورضب بضعة الرسالة وقتلها (صلوات
اهلل عليها).
ّ
وإل فمفردة (احلزن) قد تكفي لبيان خال اإلنسان وأنّه متأمل لوقوع مكروه عليه
أو اصابته بأذى يف ماله او ولده او نفسه ،وأن هذا األمل واحلزن قد يبقى لفرتة حمددة
ختتلف باختالف األمل وأسبابه.
((( قال (صىل اهلل عليه واله) أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّ أنّه ال نبي بعدي.
((( املناقب البن شهر آشوب :ج 3ص42؛ تفسري الرازي :ج 4ص.175
املبحث السابع عشر :املقاصدية يف سرمدية حزنة (. . )
لكننا هنا أمام أمل وحزن من نوع آخر ،مل يتحدث القرآن عن شبيه له أو ما يقاربه،
ومل يرد يف سرية األنبياء نظري ًا له ،كام سيمر الحق ًا.
ولذا:
َأورد (عليه السالم) يف كاشفية هذا احلجم من األمل لفظ (الرسمد) ولفظ (يربح)
والذي يدل عىل دوام هذا احلزن وانَّه متحرك يف نفسه وغري جامد ولذلك أورده
بصيغة املضارع.
111
ثانياً :ما ارتبط بعالقته القلبية بأم عياله (. )
َّ
إن أمجل ما يمكن معرفته من صفاء الرابط الروحي والقلبي بني الزوج والزوجة
هي تلك العالقة التي كانت بني االمام عيل (عليه السالم) وفاطمة (صلوات اهلل
عليها).
إذ اعتاد الناس بنحو عام أن يستمر هبم احلزن لفقد احبائهم ،السيام فقد الزوج
أو الزوجة اىل فرتة من الزمن قابلة للزوال ومتفاوتة يف البطئ والرسعة بحسب ما
يتجدد لدى االنسان من رشيك حيايت.
بل :قد د ّلت النصوص السريية والتارخيية التي تناولت حياة أمري املؤمنني (عليه
السالم) عن جتدد هذا احلب والعالقة القلبية التي كانت تربطه بسيدة النساء فاطمة
(عليها السالم) حتى مىض شهيدا اىل لقاء ربه وأح َّبتِ ِه فاطمة وأبيها (صىل اهلل عليه
واله) عىل الرغم من جتدد احلياة الزوجية له (عليه السالم) فقد تزوج بعد فاطمة
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
(عليها السالم) لكن هذا التجدد االرسي والعاطفي مل يكن قادرا عىل اطفاء مجرة
حزنه وآالمه لفقد فاطمة (عليها السالم).
ومل خيضب حليته بالسواد أو بغريه كي يذكر الناس مجيع ًا ،املوالني له و آلل النبي
وأنم املسؤولونأن قلبه يتجمر ،ال ينقيض حزنهَّ ، (صىل اهلل عليه وآله) أم املخالفني َّ
يوم القيامة عن هذ اآلالم التي أنزلوها عىل قلبه ،والتي فاقت حزن يعقوب عىل
112
ترق اىل حجم ما نزل به من املصائب ،وهو ما سنتناوله يف املسألة القادمة.يوسف ومل َ
«انام املؤمن بمنزلة ك ّفة امليزان ،كلام زيد يف إيامنه زيد يف بالئه»(((.
«إن اهلل ع ّز وجل ليتعاهد املؤمن بالبالء كام يتعاهد الرجل أهله باهلدية»
(((
َّ
-1بيان العالقة االبوية وحنو األب عىل ولده عىل الرغم من أن يعقوب كان
لديه اكثر من ولدّ ،إل أن هذه الكثرة مل تكن لتخفف من هذه العاطفة اجتاه األبناء.
-2جتىل هذا احلس الوجداين واالنساين يف بيان حجم تأثر األب عىل فقدان ولده
الصغري مما يعكس أن حجم هذا األمل كان من اسبابه صغر سن يوسف.
إن دوام هذا احلزن والتأسف عىل فقد يوسف هو نوع من انواع الرتبية َّ -3
والتهذيب النفيس الذي اتَّبعه األب يف اصالح شأن أبناءه الذين دفعتهم رذيلة
113
احلسد اىل التخلص من يوسف وزوال ما كان يتنعم به من عاطفة ابوية ،كام يف قوله
ِ ِ ُون حر ًضا َأو َتك َ ِ
ُون م َن َْالالك َ
ني﴾ ْ ف َحتَّى َتك َ َ َ تعاىل ﴿ َقا ُلوا تَاللَِّ َت ْفت َُأ ت َْذك ُُر ُي ُ
وس َ
(((
ب -يف مقام ايامنه وبيان منزلته يف حجم صربه ،قال تعاىل:
ض َو َآ َت ْينَا َد ُاوو َد َز ُب ً
ورا﴾(((. ﴿و َل َقدْ َف َّض ْلنَا َب ْع َض النَّبِ ِّي َ
ني َع َل َب ْع ٍ َ
ومن ثم يندرج التفضيل فيام بينهم عىل حجم ما نزل هبم من البالء والصرب عليه
وعىل ما كلفوا به من تأدية الرسالة.
قال تعاىل يف مواساة رسوله االكرم (صىل اهلل عليه وآله):
ِ
ب ُأو ُلو ا ْل َع ْز ِم م َن ُّ
الر ُس ِل﴾(((. اص ِ ْ
ب ك ََم َص َ َ ﴿ َف ْ
ومن ثم فأن دراسة ما نزل بأمري املؤمنني علي ًا (عليه السالم) وما نزل بنبي اهلل
يعقوب وبيان آثاره الوجدانية وااليامنية ليكشف عن شأنية أمري املؤمنني عند اهلل
تعاىل ومنزلته لديه ،وهي كااليت:
((( سورة يوسف ،اآلية (.)83
((( سورة البقرة ،اآلية (.)253
((( سورة االرساء ،اآلية (.)55
(( ( سورة االحقاف ،اآلية (.)35
املبحث السابع عشر :املقاصدية يف سرمدية حزنة (. . )
أوالً :التفاضل بني اثار حزن علي ( )وآثار حزن يعقوب (. )
َّ
إن اخضاع تلك اآلثار اىل الدراسة يرشد اىل نتيجة مهمة تكشف عن أفضلية أمري
املؤمنني (عليه السالم) وذلك ملا ييل:
َّ -1
إن حجم األمل الذي نزل عىل قلب أمري املؤمنني (عليه السالم) أعظم مما نزل
عىل قلب نبي اهلل يعقوب (عليه السالم) ،وذلك ألن يعقوب كان يدرك بأن ولده
مل يقتل عىل ايدي اخوته وأنه عىل قيد احلياة ،وذلك باالستناد اىل عدة من القرائن
115
والدالئل التي اجتمعت لديه ،منها:
-2قد بني القرآن الكريم َّ
أن يعقوب (عليه السالم) ادرك أهنم غري صادقني فيام
يدَّ عون ،فقال عز وجل:
ب َجِ ٌ
يل َ َ يص ِه بِدَ ٍم ك َِذ ٍ
ب َق َال َب ْل َس َّو َل ْ
ت َلك ُْم أ ْن ُف ُسك ُْم أ ْم ًرا َف َص ْ ٌ
﴿وجاءوا ع َل َق ِم ِ
َ َ ُ َ
ون﴾(((. ان َع َل َما ت َِص ُف َ
َواللَُّ ا ُْل ْس َت َع ُ
فمقامه وحمله من النبوة يغنيه يف معرفة نوع الدم الذي استخدمه ابنائه ،ولذا قال
عز وجل عن لسانه:
إن اخوة يوسف انطلقوا من نفس النوع الذي ختوف منه ابيهم وهو (الذئب) َّ -3
ومن ثم فأن اعتامدهم عىل ايراد وحكاية ضياع يوسف قت ً
ال بأداة الذئب اوقعهم يف
دائرة التساؤل والشكوك ،السيام واهنم قد نفوا ألبيهم امكانية حصول مثل هذه
احلادثة وبواسطة الذئب فلو كان قد قال هلم -عىل سبيل االفرتاض -أخاف ان يقع يف
البئر لقالوا له نفس قوهلم ،أي بمعنى افرتايض آخر -ألنه وقع يف البئر ونحن عصبة.-
ولذا:
فجاءوا يسألونه عن سبب عدم ثقته هبم عىل يوسف فقالوا كام أخرب القران:
ون﴾ ،أي ال نريد له اال اخلري. ﴿ َقا ُلوا يا َأبانَا ما َل َك َل ت َْأمنَّا ع َل يوسفَ وإِنَّا َله َلن ِ
َاص ُح َ َ َ ُ ُ َ ُ َ َ َ
116
ومن ثم كان يعلم اهنم يكذبون يف مدعاهم بقتل الذئب ليوسف (عليه السالم)
مما يقدم حقيقة حجم احلزن الذي اصابه وأنه حمصور بحادثة ضياعه ال قتله ،وال
أخف وطئه وحجام من حادثة قتله ،وذلك أنه مقرون بأمل العودة
ُّ شك َّ
أن ذلك
اليه ولقائه.
ال عن هبوط جربائيل (عليه السالم) وأخباره بحال يوسفّ ،إل أنه ال يؤذن
فض ً
له بالكشف عن حمل وجوده لبيان صربه وايامنه.
يف حني كان حزن أمري املؤمنني (عليه السالم) أعظم أثر ًا وأشد أمل ًا وذلك ملا ييل:
َّ -1
إن فاطمة (عليها السالم) مل تغيب عن حياة عيل (عليه السالم) باخلطف وانام
بالقتل ،وشتان بني من غاب عن العني وتصلك أخباره وبني من غيب يف الثرى قتيالً.
إن حادثة قتل فاطمة كانت حقيقة ومل تكن بدم كذب ،بل غطت بدمائها وقدَّ -2
ك ُِس ضلعها و ُأ ِ
سقط جنينها املحسن (عليه السالم).
َّ -3
إن جريمة حرق الباب واهلجوم عىل بيت النبوة وعرص البضعة النبوية بني
احلائط والباب وما تبعه من أحداث ،كان بمرأى من عيل (عليه السالم) وبمحرضه
املبحث السابع عشر :املقاصدية يف سرمدية حزنة (. . )
وال شك َّ
أن ذلك ال يقاس بغريه من احلوادث التي تشهدها العني فتبقى صورة ما
جرى راسخة يف ذهن الرائي ال تفارق باله وال تزول من قلبه ،ولذا قال (عليه السالم):
ف َو َأ ِخ ِيه َو َل َت ْيئ َُسوا ِم ْن َر ْوحِ اللَِّ إِ َّن ُه َل َي ْيئ َُس ِ ِ
﴿ َيا َبن َّي ا ْذ َه ُبوا َفت ََح َّس ُسوا م ْن ُي ُ
وس َ
(((
ون﴾ ِم ْن َر ْوحِ اللَِّ إِ َّل ا ْل َق ْوم ا ْلكَافِ ُر َ
وذلك كاشف عن أمله بعودة يوسف اليه وأنه عىل قيد احلياة ويف حال جيدة،
وشتان بني حال نبي اهلل يعقوب وأمري املؤمنني عيل (عليه السالم) مما يرجح من خالل
الدراسة افضليته يف حجم االبتالء باحلزن وما ترتب عليه من آثار نفسية وقلبية.
والكمدة :بالضم تغري اللون وذهاب صفائه ،واحلزن الشديد ومرض القلب(((.
بّ -
اهلم يف اللغة .
واهتم به ).
َّ مهه فاهتممه ًا وأ ّ
مهه األمر ّ
ذكر ابن منظور( :اهلم :احلزن ،ومجعه مهوم ،و ّ
السقم
ُ مه ُه
واهتم له بأمره ،و ّ
َّ مهني األمر ،إذا اقلقك و حزنك ،واالهتامم :االغتامم،
(وا َّ
مه ًا اذابه َ
وأذهب حلمه)(((. هيمه ّّ 118
وقال الطربيس (رمحه اهلل) :اهلم :هو الفكر الذي يغم ،ومجعه مهوم ،وامهه االمر
إذا عني به فحدَّ ث نفسه به.
اهلم باليشء والقصد اليه ،أنه قد هيم باليشء قبل أن يريده ويقصده
والفرق بني ّ
بأن حيدث نفسه به وهو مع ذلك مقبل عىل فعله(((.
وخيلص مما تقدم أن أمري املؤمنني عيل بن أيب طالب (عليه السالم) كان حزنه
مكتوم بقلبه ومالزم له ال يزول عنه ،وغري مفارق له ،وحارق للقلب ،يتقلب بسببه
عىل جوانبه يف الليل فال نوم لديه؛ فليله مسهد وهو مع حاله هذه مشغول الفكر
مهتام بام جرى عىل فاطمة من املصائب مهموما هبا؛ وهذا يدل عىل أن صربه كان
أعظم من صرب نبي اهلل يعقوب لقوله تعاىل عن لسان ابنائه:
ِ ِ ُون حر ًضا َأو َتك َ ِ
ُون م َن َْالالك َ
ني﴾(((. ْ ف َحتَّى َتك َ َ َ ﴿ َقا ُلوا تَاللَِّ َت ْفت َُأ ت َْذك ُُر ُي ُ
وس َ
(( ( جممع البحرين للطرحيي ،ج 3ص 137ــــ لسان العرب البن منظور ،ج 3ص.212
((( لسان العرب ،ج 12ص.620
((( تفسري جممع البيان ،ج 3ص.292
((( سورة يوسف ،اآلية (.)85
املبحث السابع عشر :املقاصدية يف سرمدية حزنة (. . )
بمعنى َّ
أن يعقوب (عليه السالم) كان كثري الشكوى ملا أصابه من حزن لفراق
ولده يوسف (عليه السالم)؛ وبمعنى أدق :كان يظهر حزنه ألبنائه وألرسته بدوام
بكاءه وذكره ليوسف ،يف حني كان االمام أمري املؤمنني عيل (عليه السالم) حزنه يف
قلبه مكتوم وهو ما عرب عنه بلفظ (الكمد) ،فإذا جن عليه الليل ال جيد للنوم طعام.
أن كتامن األمل واحلزن واهلم يف القلب وعدم اظهاره مع دوامهومما ال ريب فيه َّ
أذى وأمل ًا عىل االنسان ،مما يتطلب حج ًام أكرب من الصرب
يف القلب والنفس ألعظم ً
119
واجلالدة والتحمل وذلك َّ
(أن اهلم :حزن يذيب االنسان ،فهو أخص من احلزن)(((.
وهبذا تكشف الدراسة عن أن صرب أمري املؤمنني (عليه السالم) عىل قتل فاطمة
(عليها السالم) اعظم من صرب يعقوب عىل فقد يوسف (عليهام السالم).
ففي قوله عز وجل وهو يوايس عن شأن حبيبه املصطفى (صىل اهلل عليه واله):
وقولهَ ﴿ :ق َال إِن ََّم َأ ْشكُو َب ِّثي َو ُحز ِْن إِ َل اللَِّ َو َأ ْع َل ُم ِم َن اللَِّ َما َل َت ْع َل ُم َ
ون﴾(((.
خري بيان عن ادهبم (عليهم السالم) مع اهلل تعاىل ،وصالبة ايامهنم ،وحسن هدهيم
وهدايتهم الناس لرشيعة رهبم كي ال خيرجهم ما ينزل هبم من املصائب واآلالم عن
عقيدهتم وايامهنم باهلل تعاىل.
ويف ذلك يقول الطبطبائي يف بيان معنى قول اهلل تعاىل عىل لسان أوالد يعقوب
وتذمرهم من شكواه املستمر عىل فقد ولده يوسف (عليهام السالم):
ِ ِ ُون حر ًضا َأو َتك َ ِ 120
ُون م َن َْالالك َ
ني (َ )85ق َال ْ ف َحتَّى َتك َ َ َ وس َ ﴿ َقا ُلوا تَاللَِّ َت ْفت َُأ ت َْذك ُُر ُي ُ
ون﴾(((.إِن ََّم َأ ْشكُو َب ِّثي َو ُحز ِْن إِ َل اللَِّ َو َأ ْع َل ُم ِم َن اللَِّ َما َل َت ْع َل ُم َ
إن مداومتي عىل ذكر يوسف شكاية من سوء حايل إىل اهلل ولست (يقول لبنيهَّ :
بائس من رمحة ريب أن يرجعه ،أي :من حيث ال حيتسب ،وذلك أن من أدب األنبياء
مع رهبم أن يتوجهوا يف مجيع أحواهلم إىل رهبم ،ويوردوا عامة حركاهتم وسكناهتم
يف سبيله ،فإن اهلل سبحانه ينص عىل أنه هداهم إليه رصاطا مستقيام ،قال﴿ :أولئك
وب ﴿و َو َه ْبنَا َل ُه إِ ْس َح َ
اق َو َي ْع ُق َ الذين هدى اهلل﴾(((؛ وقال يف خصوص يعقوبَ :
ك ًُّل َهدَ ْينَا﴾((( ،ثم ذكر أن اتباع اهلوى ضالل عن سبيل اهلل ،فقال تعاىل:
واألنبياء (عليهم السالم) إذ كانوا مهديني إىل اهلل ال يتبعون اهلوى كانوا عىل ذكر
من رهبم ال يقصدون بحركة أو سكون غريه تعاىل ،وال يقرعون بحاجة من حوائج
121 حياهتم باب غريه من األسباب بمعنى أهنم إذا تعلقوا بسبب مل ينسهم ذلك رهبم
وأن االمر إليه تعاىل ال اهنم ينفون األسباب نفيا مطلقا ال يبقى مع ذلك هلا وجود
يف التصور مطلق ًا ،فإن ذلك مما ال مطمع فيه ،وال أهنم يرون ذوات األشياء وينفون
عنها وصفة السببية فإن يف ذلك خروجا عن رصاط الفطرة االنسانية بل التعلق به
أن ال يرى لغريه استقالالً ،ويضع كل يشء موضعه الذي وضعه اهلل فيه.
وإذ كان حاهلم (عليهم السالم) ما ذكرنا من تعلقهم باهلل حق التعلق متكن منهم
هذا األدب اإلهلي ان يراقبوا مقام رهبم ويراعوا جانب ربوبيته فال يقصدوا شيئا إال
اهلل ،وال يرتكوا شيئا إال هلل ،وال يتعلقوا بسبب اال وهم متعلقون برهبم قبله ومعه
وبعده ،فهو غايتهم عىل كل حال.
فقوله (عليه السالم)« :إنام أشكوا بثي وحزين إىل اهلل» يريد به أن ذكري املستمر
ليوسف وأسفي عليه ليس عىل حد ما يلغو أحدكم إذا اصابته مصيبة ففقد نعمة
من نعم اهلل فيذكرها ملن ال يملك منه نفعا وال رضا بجهل منه ،وانام ذلك شكوى
مني إىل هلل فيام دخلني من فقد يوسف ،وليس ذلك مسألة مني يف أمر ال يكون فإين
اعلم من اهلل ما ال تعلمون)(((.
من هنا:
نجد َّ
أن شكوى أمري املؤمنني (عليه السالم) من اجلانب العقدي تكشف عن
التجائه اىل حمل نزول الفيض والروح االمني (عليه السالم) موضع رضا اهلل رب
العاملني وغضبه وسخطه ،وهو مقام حبيبه املصطفى املختار عىل العاملني (صىل اهلل
عليه واله وسلم) ،فهو حمل الشكوى ومنه اىل اهلل تعاىل تعرج املالئكة باألعامل
وح فِ َيها بِإِ ْذ ِن َر ِّبِ ْم ِم ْن ك ُِّل َأ ْم ٍر﴾ وبني يديه ِ
واليه تنزل باألمور ﴿ َتنَز َُّل ا َْل َلئ َك ُة َو ُّ
الر ُ
122
األعامل معروضة ،واألحوال مشهودة ،واهلل خري الشاهدين.
لذا :قال (عليه السالم) «رسعان ما فرق بيننا فإىل اهلل اشكو».
أي :حينام كان أمري املؤمنني (عليه السالم) يبث حزنه ويشكو امله ومهه ومصابه
اىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) فهو يف احلقيقة إنام يشكو اىل اهلل ،ولذلك وقف
بني يديه خماطبا واليه شاكيا قتل بضعته فاطمة (عليها السالم) مواظبا عىل شكواه
باكيا بلواه اىل ان خيتار اهلل له داره الذي هبا مقيم( ،أو) خيتار اهلل له داره الذي هبا
مقيم ،والفرق بينهام أي :بني قوله (اىل أن خيتار اهلل) (او خيتار اهلل) يكشف عن
حجم حزنه وبالئه بمصاب فاطمة (عليها السالم) كام سيمر يف املبحث القادم.
املبحث الثامن عشر
املسألة األوىل :قصدية (إىل) و (أو) يف البقاء بعد فاطمة (. )
أوالً :قصدية (إىل) وداللتها يف بقاء احلزن .
()125
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
َّ
إن هذا اهلم الذي أصاب قلبه ال ينتهي من حياته ،وهو دائم معه اىل الوقت الذي
ينتهي به عمره ،فهو دائم بدوام بقائه يف احلياة الدنيا مقرون مع هذا البقاء الذي هو
بيد اهلل ،فقد يبقى يف احلياة الدنيا ،بعد فقد الزهراء (عليها السالم) عام واحد ،او
مائة عام او اكثر من ذلك ،فطول السنني او قرصها ال عالقة له هبذا احلزن.
وعليه :تصبح الداللة يف هذه احلالة كاشفة عن الزمن وآثاره يف تغيري األحوال.
وأما يف احلالة الثانية فـالكاشفية والداللة ختتلف ،وهي كام ييل يف ثاني ًا.
ثانياً :داللة قوله «أو خيتار اهلل لي» وكاشفية «أو» .
يكشف هذا اللفظ هبذه الصيغة «أو خيتار اهلل» يل عن حالة مغايرة للحالة السابقة،
ففي األوىل كاشفيتها عن تعطيل عامل الزمن واثاره من جهة ،وعن صالبة صربه
وحتمله من جهة ثانية.
ويف هذه احلالة يكشف اللفظ عن متني املوت مما يرشد اىل حجم األثر الذي أنزله
مصاب الزهراء ومصيبتها عىل قلبه اىل احلد الذي يتمنى فيه املوت.
املبحث الثامن عشر :املقاصدية يف قوله «اىل أن خيتار اهلل لي» . .
وذلك ّ
أن الفظ مل ترد فيه اي داللة للزمن ،وال يرغب بالبقاء بعد مصابه بقتل
فاطمة الزهراء (عليها السالم) ،وألن أمر احلياة واملوت بيد اهلل تعاىل فقد فوض
مهه دائم ،وإن اختار له
أمره اىل اهلل يف حياته أو مماته؛ فإن اختار له البقاء فحزنه و ّ
املوت ففيه فرجه.
وقد ارشدت النصوص عن متنيه للموت وشوقه لاللتحاق بدار اآلخرة يف موارد
كثرية ،واشتهر عنه قوله (صلوات اهلل وسالمه عليه):
127
(((
«متى يبعث اشقاها فيغضب هذه من هذه»
وقد أشار اىل رأسه وحليته؛ أي :تتغضب حليته بدم رأسه.
وعليه :يكشف ايراده للفظ «او» اىل حجم أثر هذه املصيبة عىل قلبه الذي افقده
رصح به يف هذا اخلطاب مع رسول اهلل (صىل
طعم احلياة والرغبة يف البقاء ،وهو ما ّ
اهلل عليه واله) حينام قال:
َّ
«قل يا رسول اهلل عن صفيتك صربي ،وعفا وضعف عن سيدة نساء العاملني جتلدي».
فهذه املصيبة اضعفت جتلده وقوة قلبه الذي قارع به صناديد العرب وشجعاهنا
وفرسان احلرب ورجاهلا ،يطحنهم طحن الرحى ،ويذرهم كعصف مأكولّ ،أل أنه
هنا بفقد الزهراء يتمنى الرحيل اىل اآلخرة اىل دار املصطفى (صىل اهلل عليه واله).
وهو مع هذا التمني والتفويض يف أمره هلل رب العاملني حيدد موضع نزوله يف
االخرة موقن ًا وعارف ًا أين سيكون ،وهو أمر ينفرد به االمام عيل (عليه السالم)،
وهو ما سنتناوله فيام ييل.
((( مناقب االمام عيل (عليه السالم) :ملحمد بن سليامن الكويف :ج 2ص.63
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
املسألة الثانية :قصدية االختيار يف قوله «خيتار اهلل لي» مبعنى «التفويض»
أو التعيني .
يرشد قوله (عليه الصالة والسالم):
«خيتار اهلل يل دارك التي انت هبا مقيم» اىل معنيني ،ومها:
«التفويض» و «التعيني» وكالمها يكشفان عن حقائق خاصة بشخصه (عليه
السالم) وشأنيته عند اهلل تعاىل وتقارب قصديته (عليه السالم) يف انجاز العملية
128
التواصيل مع املتلقي.
وهذه الرتبة من القطع يف بيان مكانه يف اآلخرة هي خاصة بشخص االمام عيل (عليه
السالم) ،إذ يدرك االنسان موضعه املحدد بعينه كام هو حال االمام (عليه السالم).
نعم قد جاء القرآن الكريم واالحاديث النبوية ببيان مكان الشهداء والصديقني
واألنبياء والصاحلني بنحو العموم ،وهي اجلنة.
أما بنحو اخلصوص فهذا خاص بعيل بن ايب طالب (عليه السالم) فمكانه مالزم
َّ
ماحل رسول اهلل (صل اهلل عليه واله) ملكان رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ،فأين
129
حيل معه االمام عيل (عليه السالم) ،سواء كان داره الذي فيه مقيم يف جنة عدن ّ
التي خلقها اهلل حلبيبه املصطفى (صىل اهلل عليه وآله) كام روي عنه(((َ ،أم كان يف جنة
فدار عيل (عليه السالم)
الفردوس ،أو غري ذلك مما مل يرد فيه نص عىل نحو التعينيُ ،
هي دار رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله).
املسألة الرابعة :قصدية اإلقامة يف دار رسول اهلل ( )الربزخية أم الفردوسية .
ينتقل أمري املؤمنني (عليه الصالة والسالم) اىل بيان حقيقة عقدية جديدة يف هذا
اجلزء من خطابه مع رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ،وشكايته له بام نزل به من
املصائب والبالء بعد وفاته (صىل اهلل عليه واله وسلم).
وهنا :يظهر (عليه السالم) حقيقة عقدية مرتبطة بشأنية رسول اهلل (صىل اهلل عليه
وآله) عند اهلل تعاىل واملحل الذي لديه ،فيظهر أن النبي األعظم (صىل اهلل عليه
وآله) بعد انقضاء مدته يف عامل الشهادة واحلياة الدنيوية قد انتقل اىل داره يف اجلنة.
ّإل َّ
أن السؤال املطروح :هل هو مقيم يف داره يف جنة الربزخ أم يف جنة الفردوس
التي يدخلها أهلها بعد انقضاء عمر الدنيا وقيام يوم احلساب؟!
((( وهو قوله (صىل اهلل عليه واله) :من اراد ان حييى حيايت ويموت ممايت ويسكن جنة عدن.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
إ َّن كال األمرين يعاضده جمموعة من النصوص التي ترشد اىل قصديه حتققه ،وهي كام ييل:
ت َق ْو ِمي َي ْع َل ُم َ
ون ( )26بِ َم َغ َف َر ِل َر ِّب يل ا ْد ُخ ِل َْ
ال َّن َة َق َال َيا َل ْي َ -1قوله تعاىلِ :
﴿ق َ 130
ِ ِ ِ
(((
ني﴾ َو َج َع َلني م َن ا ُْلك َْرم َ
-2قوله (صىل اهلل عليه واله)« :إذا مات ابن آدم قامت قيامته».
-3قوله (صىل اهلل عليه واله)« :بني قربي ومنربي روضة من رياض اجلنة».
ومن ثم فداره (صىل اهلل عليه واله) التي قصدها أمري املؤمنني (عليه السالم) هي
الدار الربزخية؛ ومن ثم فمحل االمام عيل (عليه السالم) بعد استشهاده يف جنة
الربزخ يف دار رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) التي هبا مقيم ومقامهام ودارمها واحد.
وهذه شأنية وحدانية ومنزلة فردانية مل حيض هبا ال نبي مبعوث وال رسول
مصطفى أن يكون داره ومقامه مع سيد اخللق امجعني (صىل اهلل عليه وآله).
-1قال (صىل اهلل عليه واله)« :خلقت أنا وعيل من نور واحد»(((.
-2وحياهتام يف مكة واملدينة متالزمة ويف ذلك يقول امري املؤمنني (عليه السالم):
اب ُم َ َّم ٍد (صىل اهلل عليه وآله)َ -أ ِّن َل ْ َأ ُر َّد َع َل ون ِم ْن َأ ْص َح ِ «و َل َقدْ َع ِل َم ا ُْل ْست َْح َف ُظ َ
ِ ِ ِ ِ ِ
يهاُص ف َ اس ْيتُه بِنَ ْفس ِف ا َْل َواط ِن -ا َّلتي َتنْك ُ ول َع َل َر ُسوله َسا َع ًة َق ُّط -و َل َقدْ َو َ اللَّ َ
ول اللَّ (صىل األَ ْب َط ُال -و َتت ََأ َّخ ُر فِ َيها األَ ْقدَ ا ُم ن َْجدَ ًة َأك َْر َمنِي اللَّ ِ َبا -و َل َقدْ ُقبِ َض َر ُس ُ
اهلل عليه وآله) وإِ َّن َر ْأ َسه َل َع َل َصدْ ِري -و َل َقدْ َسا َل ْت َن ْف ُسه ِف َك ِّفي َف َأ ْم َر ْر ُ َتا َع َل
يت ُغس َله (صىل اهلل عليه وآله) وا َْل َل ِئ َك ُة َأ ْعو ِانَ -ف َضج ِ
131 ت الدَّ ُار َّ َ َو ْج ِهي -و َل َقدْ ُو ِّل ُ ْ
أل َي ْع ُر ُج -و َما َف َار َق ْت َس ْم ِعي َه ْين ََم ٌة ِمن ُْه ْمُ -ي َص ُّل َ
ون َع َل ْيه أل َ ْيبِ ُط و َم ٌواألَ ْفنِ َي ُةَ -م ٌ
حيهَ -ف َم ْن َذا َأ َح ُّق بِه ِمنِّي َح ّي ًا و َم ِّيت ًا»(((.ض ِ َحتَّى َو َار ْينَاه ِف َ ِ
-3يف الربزخ مكاهنام واحد وهو ما دل عليه قوله (عليه السالم)« :دارك التي
أنت هبا مقيم».
-4يف اجلنة الفردوسية كذلك لقوله (صىل اهلل عليه واله) لفاطمة (عليها السالم):
«وان واي ِ
اك ومها وهذا الراقد -وقد اشار اىل عيل (عليه السالم) -يف مكان واحد ّ ّ
يف اجلنة»(((.
بمعنى اخر:
إنَّه (عليه السالم) أراد أن يدل عىل معنى آخر ينسجم مع شأنية رسول اهلل (صىل
اهلل عليه واله) ومنزلته التي تقتيض حياة ما بعد عامل الدنيا وله مهام يقوم هبا وهو ما
أرشد اليه القرآن يف مجلة من اآليات التي بينت قصدية اإلقامة.
من هنا:
مقتىض السالم عىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) يف التشهد من الصالة،
والصالة عليه يف كل حال أن يسمع السالم ويرد اجلواب فهذا يف حاسة السمع،
كام ورد يف النص الرشيف( :أشهد أنك تسمع كالمي وترد جوايب)(((.
﴿و ُق ِل ا ْع َم ُلوا َف َس َ َيى اللَُّ َع َم َلك ُْم َو َر ُسو ُل ُه َوا ُْل ْؤ ِمن َ
ُون﴾(((. َ
وغريها من اآليات التي ترشد اىل قصدية احلياة وليس املوت الذي خص به
رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) ،وهو الدافع الذي كان -من االصل -يف خماطبته
والشكوى اليه والتظلم بني يديه ألخذ القصاص من اجلناة والظاملني.
أن منتهى ذهاب احلزن يكون يف اجلنة اآلخروية النتهاء مراحل الربزخ ّإل َّ
والبعث والنشور واحلساب والقيامة وامليزان وتطاير الصحف والرصاط وغريها
من أهوال اآلخرة التي ذكرها رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) ،بــ «مائة
هول ،أهوهنا املوت»(((.
وبناء ًا عليه:
يبني القران هذه احلقيقة يف اختصاص ذهاب احلزن باجلنة ،فقال تعاىل:
«ال يربح احلزن من قلبي اىل ان (أو) خيتار اهلل يل دارك التي انت هبا مقيم». 134
املسألة اخلامسة :قصدية سرعة التفريق بينه وبني فاطمة (. )
إن من البداهة التي يفرضها النص الرشيف أن االمام أمري املؤمنني (صلوات اهلل َّ
عليه وسلم) يف خطابه لرسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) أنه كان يتظلم بني يديه،
ويبث حزنه واالمه بحرضته ،ويكشف من خالل هذا التظلم حقيقة ما جرى عليه
وعىل فاطمة (عليهام السالم) ،كي ال يتعذر املتعذرون ،ويدلسون املخالفون ،ويكذب
املنافقون يف نفي حقيقة قتل البضعة النبوية فاطمة (صلوات اهلل وسالمه عليها).
من هنا :جاءت األلفاظ يف النص الرشيف كاشفة عن هذه احلقيقة ،وقاطعة للطريق
الذي حياول أن يسلكه البعض عىل مر السنني يف نفي هذه اجلريمة والرزية العظيمة.
من هنا:
يستعمل أمري املؤمنني (عليه السالم) مفردة خاصة تدل عىل حقيقة احلدث وترشد
(-فرق بيننا) -فام داللة اللفظ وكاشفيته
ّ السائل اليها ،وهي قوله (عليه السالم)
جلزيئات احلدث؟
أوالً :معنى ّ
(فرق) يف اللغة .
وعليه:
(فرق) هو لبيان ّ
أن االمر مل يكن بفعله يكون إيراده (عليه السالم) هلذا الفعل َّ
(عليه السالم) ،وإنام بفعل خارجي وهذا ما سنتناوله يف ثانيا.
فاملرض وبحسب النصوص التارخيية غري مطروح يف سريهتا وحياهتا وبيان حاهلا
بعد وفاة رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) ،بل نصت هذه الروايات عىل حزهنا الشديد
ال عن وبكائها املستمر عىل فقد ابيها رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) ،فض ً
ذلك فأن هذه االسباب املحتملة يف وفاهتا ال تتبعها شكوى اإلمام عيل أمري املؤمنني
(عليه السالم) ،أفيعقل أن يتقدم االمام أمري املؤمنني (عليه السالم) بشكواه اىل اهلل
ألن فاطمة (عليها السالم) كانت مريضة؟ ورسوله (صىل اهلل عليه وآله) ّ
حاشا هلل ما هذا شأن الويص ،وال حال الويل وهو حجة اهلل عىل خلقه وأمينه 136
يف أرضه أن يشكو هلل موت فاطمة باملرض أو احلزن أو غريها من االسباب التي
يقدرها اهلل تعاىل ويبتيل العباد هبا ،وانام شكواه اىل اهلل ألهنا قتلت؛ فقد فرق االعداء
بينها وبينه (عليهام السالم) وأرسعوا يف االنقضاض عليها رضب ًا وتلويع ًا وتكسري ًا
وقتالً ،فامتت هي وجنينها املحسن (عليهام السالم).
فعىل هذا يشكو االمام عيل (عليه السالم) اىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ما
نزل به ،وحاله يف هذا الشأن واحلدث الكاشف عن فعل اجلناة حال نبي اهلل يعقوب
حينام جعل سبب بث حزنه وشكواه اىل اهلل ما فعله ابنائه يف التفريق بينه وبني ولده
يوسف (عليهام السالم) ،ثم أت َبعوا ذلك بفراق ولده بنيامني ،وبالرجوع اىل اآليات
أن األنبياء واألوصياء ال يشكون من املوت وال املرض وال غريه، املباركة يتضح ّ
إنام يشكون ما ينزل هبم من الظلم وانتهاك حرمتهم ،قال تعاىل:
ولذا:
نجده (عليه السالم) يف تعميق هذه احلقيقة يردف شكواه ببيان ُيظهر فيه ما فعلته
الصحابة بفاطمة وبه ،فيقول:
املسألة االوىل :معنى النبأ لغة وما هو الفرق بينه وبني اخلرب .
أوالً :النبأ ً
لغة .
قال الفراهيدي (ت 175هـ):
النبأ ،مهموز :اخلرب ،وان فالن ُن ِّبأ ،أي :خربا ،والفعل :نبأته ،وانبأته ،واستنبأته،
واجلمع :األنباء.
والنبوة والنباوة :ما ارتفع من االرض ،فإن جعلت النبي مأخوذ منه ،أي أنه
رشف عىل سائر اخللق فأصله غري اهلمزة ،وهو فعيل بمعنى مفعول ،وتصغريه ِّ
نبي ،واجلمع انبياء .
(((
()141
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
قال سيبويه :ليس أحد من العرب اال ويقول :تنبأ مسيلمة ،باهلمزة ،غري اهنم
تركوا اهلمزة يف النبي تركوها يف الذرية والربية واخلابيةّ ،إل أهل مكة ،فإهنم
هيمزون هذه األحرف وهيمزون غريها ،وخيالفون العرب يف ذلك.
قال :واهلمزة يف النبيء لغة رديئة ،يعني لقلة استعامهلا ال الن القياس يمنع من
ذلك.
أال ترى اىل قول سيدنا رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم) وقد قيل ،يا نبيء 142
نبي اهلل.
اهلل فقال له :ال تنرب باسمي فإنام انا ُّ
نبي اهلل».
ويف رواية ،فقال« :لست بنبيء اهلل ولكني ُّ
وذلك أنه (صىل اهلل عيه وآله) أنكر اهلمزة يف اسمه فرده عىل قائله ألنه مل يدر بام
سامه ،فأنشق ان يمسك عىل ذلك ،وفيه يشء يتعلق بالرشح فيكون باإلمساك عنه
مبيح حمظور أو حارض مباح(((.
ّإل أن هذه املعاين للفظ (النبأ) مل توصل اىل داللة قوله (عليه السالم)« :وستنبئك
ابنتك» ،بمعنى :لو كان معنى (النبأ) :اخلرب ،لقال (عليه السالم) وستخربك
ابنتك ،وهذا ال ينسجم مع منطوق اإلمام عيل (عليه السالم) الذي عرفه العرب
بأنه سيد البلغاء.
ولذا :هناك فرق بني (النبأ) و (اخلرب) وان الفرق بينهام يدل عىل معنيني:
قال أبو هالل (أ ّيده اهلل) :وهلذا يقال :سيكون لفالن نبأ وال يقال خرب هبذا املعنى؛
اء َما كَانُوا بِ ِه َي ْست َْه ِزئ َ
ُون﴾ ،أنباؤه تأويله وقال الزجاج يف قوله تعاىل ﴿ َف َس َي ْأتِ ِ
يه ْم َأ ْن َب ُ
واملعنى سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم .قلنا وإنام يطلق عليه هذا ملا فيه من عظم
الشأن؛ قال أبو هالل :واالنباء عن اليشء أيضا قد يكون بغري محل النبأ عنه تقول
هذا االمر ينبئ بكذا ،وال تقول خيرب بكذا الن االخبار ال يكون إال بحمل اخلرب)(((.
َاك َن َب ُأ َْ
ال ْصمِ﴾(((. ﴿و َه ْل َأت َ
وقولهَ :
ون * َع ِن ال َّن َبإِ ا ْل َعظِيمِ﴾(((.
اء ُل َ
وقوله تعاىلَ ﴿ :ع َّم َيت ََس َ
فوصفه بالعظمة ،وصف كاشف عن حقيقة.
وقال الراغب:
النبأ :اخلرب ذو فائدة عظيمة حيصل به علم او غلبة ظن .وال يقال للخرب نبأ حتى
يتضمن هذه االشياء ،وحق اخلرب الذي قال فيه نبأ لن يتعرى عن الكذب كاملتواتر، 144
وخرب اهلل عز وجل وخرب النبي (صىل اهلل عليه واله)(((.
أن هذه الفروق ترشد اىل أربعة دالالت ،وهي( :اخبار املتلقي بأمور ويف الواقع ّ
ال يعلمها ،اخباره بأمور عظيمة ،حتقق فائدة عظيمة ،تعري اخلرب عن الكذب)
فهذه الفوارق جمتمعة يف النبأ ،وعليه:
فهذه الدالالت تكشف عن حقائق مهمة انضوت حتت قوله (عليه السالم):
«وستنبك ابنتك» ،وتقارب املتلقي من قصدية منتج النص (عليه السالم) ،وهو
ما سنتعرض له يف املسألة القادمة.
ّ
والسريية . املسألة الثانية :قصدية تنبيئ رسول اهلل ( )Jوداللته العقدية
اكتنز قوله (صلوات اهلل وسالمه عليه):
«وستنبئك ابنتك» عىل أربعة دالالت ترشد اىل حقائق مهمة ارتبطت هبذه احلادثة
االليمة ،وهي كااليت:
((( سورة ص ،اآلية (.)21
(( ( سورة النبأ ،اآلية ( )1و (.)2
((( الفروق اللغوية ،ص.530
املبحث التاسع عشر :املقاصدية يف تنبيئ النيب ( )بتظافر ّ
أمته . .
وهذه الداللة مع أمهيتها ّإل ّأنا حتتاج اىل بيان خاص وذلك أن شأنية سيد االنبياء
(صىل اهلل عليه وآله وسلم) وما اظهره القرآن الكريم من شأنية علمه ،كقوله تعاىل:
قد ال يتقبلها الفكر مع اخبارها (عليها السالم) بأمور ال يعلمها رسول اهلل (صىل
145 اهلل عليه واله)؟ وجواب ذلك:
«واين ملا رأيتها ذكرت ما يضع هبا بعدي ،كأين هبا وقد دخل الذل بيتها،
انتهكت حرمتها وغصب حقها ومنعت ارثها وكرس جنبها واسقط جنينها وهي
تنادي يا حممداه فال جتاب ،وتستغيث فال تغاث ،فال تزال بعدي حمزونة مكروبة
باكية.(((».....
-2يؤملني ما يؤملها.
ومن ثم فهذه النصوص ترشد اىل أنه (صىل اهلل عليه واله) كان يعلم هبذه
األحداث ،وقد أخربه هبا جربائيل عىل نحو العموم ال عىل نحو اخلصوص،
والتفصيل جلزيئات احلدث وهو ما يتناسب مع بقية األحاديث التي كانت تتحدث
عن املستقبل كام يف استشهاد االمام عيل (عليه السالم) ،وانه ُيرضب عىل رأسه
ويغضب بدمه(((.
ّ
ومنها مما تعلق باستشهاد عامر بن يارس((( ،ومما يصيب األ ّمة من الشجرة امللعونة
(((
((( اخرج املوصيل يف مستنده :ج 1ص377؛ والطرباين املعجم الكبري :ج 8ص38؛ والزيلعي يف
خترجيه لالحاديث :ج 1ص.464
قال عيل (عليه السالم) قال يل رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) :من اشقى االولني؟ قلت :عاقر الناقة،
قال :صدقت ،فمن اشقى االخرين؟ قلت :ال علم يل يا رسول اهلل قال :الذي يرضبك عىل هذه،
واشار بيده اىل يافوخه؛ وكان يقول :وددت انه قد انبعث اشقاكم خمضب هذه من هذه ،يعني
حليته من دم رأسه.
((( وهو قوله (صىل اهلل عليه واله)( :ويح عامر تقتله الفئة الباغية) :صحيح البخاري ،كتاب اجلهاد
والسري ،ج 3ص.207
((( اخرج ابن مردوية عن عائشة اهنا قالت ملروان بن احلكم :سمعت رسول اهلل يقول البيك وجدك
املبحث التاسع عشر :املقاصدية يف تنبيئ النيب ( )بتظافر ّ
أمته . .
بني امية وبني العاص((( ،او أخباره باستشهاد االمام احلسني (عليه السالم)((( ،او
حال أصحابه يوم القيامة(((.
فهذه األحاديث وغريها كلها عىل كيفية واحدة وهي أخباره (صىل اهلل عليه واله)
بوقوع احلدث ،أما جزيئاته فغالبا مل يكشفها النبي (صىل اهلل عليه واله).
وهذا ال يتقاطع من الناحية العقدية مع كونه ﴿ َع َّل َم ُه َش ِديدُ ا ْل ُق َوى﴾ وانه عامل
هبذه االحداث عىل نحو العموم او بعض اجلزيئات والشؤون اخلاصة بحسب ما
147
يراه (صىل اهلل عليه واله) مناسب ًا.
(انكم الشجرة امللعونة يف القرآن) ينظر :مناقب عيل بن ايب طالب البن مردوية ،ص،164
الش َج َر َة ا َْل ْل ُعو َن َة ِف َاك إِلَّ فِ ْتنَ ًة لِلن ِ
َّاس َو َّ الرؤْ َيا ا َّلتِي َأ َر ْين َ
﴿و َما َج َع ْلنَا ُّ ((( وجاء يف تفسري قوله تعاىل َ
ا ْل ُق ْر َآ ِن﴾ ينظر تفسري القرطبي ،ج 10ص283؛ تفسري الرازي ،ج 20ص.236
((( مسند امحد ،ج 6ص( 294حديث بعض ازواج النبي (صىل اهلل عليه واله)؛ مستدرك احلاكم عىل
الصحيحني ،ج 4ص398؛ منتخب مسند عبد بن محيد ،ص.443
(( ( اخرجه البخاري يف صحيح عنه (صىل اهلل عليه واله) ...( :وان اناسا من اصحايب يؤخذ هبم ذات
الشامل فأقول اصحايب أصحايب!! فيقال :اهنم مل يزالوا مرتدين عىل اعقاهبم منذ فاقتهم ،فأقول كام
يه ْم) ينظر كتاب بدء اخللق ،ج 4ص.110 ت فِ ِ ْت َع َل ْي ِه ْم َش ِهيدً ا َما ُد ْم ُ
(و ُكن ُ
قال العبد الصالحَ :
((( كتاب الغدير للشيخ االميني :ج 7ص.235
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ولذا فقد َح َجب عنه جربائيل جزيئات مصيبة قتل فاطمة وتفاصيلها الدقيقة،
وما جرى عليها من األ ّمة من بعده حتى حلقت به ،مما تطلب اخباره بام ال يعلم من
هذه التفاصيل ،وهو ما ستُنب ُئه به فاطمة (عليها السالم).
وهذان األمران ستخرب فاطمة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) هبام مع امور
عظيمة اخرى مل يرد ذكرها يف هذا النص الرشيف ،ولذلك يطلب (عليه السالم)
من رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) أن «يستخربها» احلال و «حي ّفها السؤال».
والسبب يف ذلك ّأنا (صلوات اهلل عليها) وقعت عليها من املصائب واآلالم
رصح عنه االمام عيل (عليه
ما مل تكشفها ألحد حتى لعيل (عليه السالم) وهو ما ّ
السالم) قائالً:
«فكم من غليل مقبلح بصدرها مل جتد اىل ِ
بثه سبيال».
وهذه األمور كلها عظيمة وداخلة ضمن دالالت قوله (عليها السالم):
الفائدة االوىل :بيان حال االمة وبعض الصحابة بشكل خاص .
إن أعظم كاشف عن حال األ ّمة جلميع املسلمني سواء من شهدوا احلدث ومصيبة ّ
149 قتل الزهراء ورزية اقتحام دارها وحرقه ،أو سواء من مل يشهدوا ذلك من األجيال
املتعاقبة.
فإن اعظم كاشف عن حال األ ّمة آنذاك وحال بعض الصحابة السيام تلك الرموز
التي تولت اجللوس يف جملس رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) لقيادة االمة وهم
اخللفاء الثالثة وغريهم ممن التف هبم وشايعهم ونارصهم واعاهنم عىل هذه الرزية؛
إن خري كاشف لكل ذلك هو حال فاطمة وما جرى عليها ،ومن ثم فقد حددت هذه ّ
احلادثة مسار احلق وأهله والباطل وأهله ،أي :مسار رضا اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه
وأن هذه احلـالة لو ُأرجـعتوآله) وغضب اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه واله)؛ السيام ّ
اىل القـرآن الكـريم والسـنة يف بيـان حـال مـن عـىص اهلل ورسوله((( ،واغضبهام(((،
واذامها((( سيخرج بفائدة عظيمة يدرك من خالهلا وبيقني قاطع اين سيضع قدمه،
وما هو مساره ،ومن أين يأخذه دينه الذي سيقبل به عىل اهلل تعاىل يوم القيامة.
وذلك ّ
أن اخللق مجيعا مسئولون وهو قوله تعاىل:
ومن الفوائد التي اختص هبا النبأ الذي ستقوله فاطمة لرسول اهلل (صىل اهلل عليه
وأنا صاحبة الظالمة األعظم
واله) وهو شهوديتها عىل األ ّمة يوم القيامة ،السيام ّ
التي تشاطرت فيها مع عيل و ولدهيا (صلوات اهلل وسالمه عليهم). 150
ولذا:
«وستقول وحيكم اهلل واهلل خري احلاكمني» ،كام سيمر بيانه مفص ً
ال إن شاء اهلل تعاىل.
الشك أن حجم االيامن ورتبته لدى األنبياء واملرسلني واألولياء (عليهم السالم)
مقرون بحجم الصرب عىل البالء واملصائب ،فكلام عال االيامن رتبة عال معه البالء
واالذى ،لغرض كاشفية الصرب الذي هو من االيامن منزلة الرأس من اجلسد كام
قال امري املؤمنني (عليه السالم):
«وعليكم بالصرب ،فإن الصرب من االيامن كالرأس من اجلسد ،وال خري يف جسد ال
رأس معه ،وال يف ايامن ال صرب معه»
(((
ومن ثم فإن النبأ الذي ستقوله الزهراء (عليها السالم) حيمل هذه الفوائد وغريها.
151
الداللة الرابعة :تعري اخلرب عن الكذب .
أ ّما الداللة األخرية التي يكشف عنها لفظ (النبأ) ويمتاز به عن لفظ (اخلرب) وهو
أن النبأ يكون متعري ًا عن الكذب ،فهو صادق ال يشوبه اي كذب ،بعكس اخلرب فهو ّ
حيتمل الصدق والكذب مع ًا.
أما النبأ فيكون كاملتواتر الذي عرفه الناس بأنه صدق ،ولكن هنا أراد االمام أمري
أن بضعة املصطفى (صىل اهلل عليهاملؤمنني أن يقدم للمتلقي داللة اخرى ،وذلك ّ
واله) هي صادقة يف االصل.
إن شأهنا وما خصها اهلل به من العصمة ال يقتيض ّإل الصدق ،فهي
بمعنىّ :
الصديقة الكربى ،ومن ثم فكل ما تقوله هو الصدق بعينه سواء ما تعلق بحاهلا
ومصاهبا أو سواء ما تعلق بعموم حديثها (صلوات اهلل عليها).
ولذلك :فقد أراد االمام أمري املؤمنني (عليه السالم) مع هذه املس َّلامت ايصال معنى
آخر وداللة ثانية ،وهي ما احيط بنفس احلدث الذي نزل ببضعة املصطفى (.)
َّ
بمعنى:إن التكذيب يكون يف األ ّمة منذ وقوع ما نزل برزية عرصها بني الباب
واحلائط وقتل جنينها املحسن (عليه السالم) وحرق دارها واىل يومنا هذا ،بل
وسيستمر تكذيب األ ّمة بام وقع عىل الزهراء من مصائب عىل أيدي أصحاب السقيفة.
ّ
وإن هذا التكذيب للحدث مجلة وتفصيال مل يقترص عىل أشياع الشيخني ايب بكر
وعمر ،وانام يتعداه اىل املتشيعة ،فكم من متشيع يتبجح بنكران املصيبة وما وقع
عىل بضعة املصطفى (صىل اهلل عليه واله) بغض النظر عن مستوى هذا املتشيع يف
152
املجتمع خطيبا كان أم باحثا ،أم طالب ًا للعلم ،أم من العامة.
ولذا:
يرشد النص اىل قصدية االمام عيل (عليه السالم) من خالل استخدامه للفظ
(النبأ) فقال لرسول اهلل (صىل اهلل عليه واله):
أن هذا الذي ستقوله فاطمة «وستنبئك ابنتك» ومل يقل له «ستخربك ابنتك» ّ
ّ
وستكذبه األ ّمة. (عليها السالم) وهي الصادقة الصدّ يقة قد ّ
كذبته
لكن الشاهد عىل ما ستقول من أنباء هو اهلل تعاىل ،وهو خري الشاهدين ،ولفاطمة
(عليها السالم) يف ذلك أسوة بحال رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) فقد كذبه قومه
وهو الصادق االمني ،وشهد اهلل له بالصدق و عيل بن ايب طالب (عليه السالم).
قال تعاىل:
فسالم من اهلل وصلوات عىل املظلومة املهضومة املتضافر عليها باألذى واهلضم
من أمة ابيها (صىل اهلل عليه وآله).
املسألة الثالثة :قصدية تضافر األمة على علي وفاطمة (. )
ّ
إن املعاين التي احتواها لفظ «الضفر» تكشف عن قصدية منتج النص وتظهر
153 مكنون ما أراد بيانه سيد البلغاء واملتكلمني من خالل التامزج بني هذه املعاين
يف لفظ (الضفر) وبني املعاين يف لفظ (النبأ) وتكامل البنية املفامهية يف كشف
جمريات احلدث.
وال شك ّ
أن حجم هذه اجلريمة وختيل الناس عن عيل (عليه السالم) وحتزهبم
ألرباب السقيفة والسلطة التي رضبت بالسيف والنار ،وتكليفه الرشعي بحفظ
االسالم وحفظ أبناء رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) احلسن واحلسني (عليهام
السالم) ،وغري ذلك من املوانع التي أجربته عىل اختاذ مجلة من املواقف للتعامل مع
الواقع اجلديد مع عدم التخيل عن بيان ما وقع من ظلم واجلور عىل بضعة املصطفى
(صىل اهلل عليه واله) كل ذلك جعله خيتار من األلفاظ يف خطابه مع رسول اهلل
(صىل اهلل عليه واله) وتظلمه له ما حيقق كشف اجلريمة واملجرمني دون ان يرصح
باألسامء أو خيوض يف التفاصيل.
ومن ثم فقد قطع الطريق عىل املنافقني واملتخاذلني املداهنني وانصاف املثقفني أو
املتفيهقني يف نفي احلدث ،أو تبسيطه أو إعذار املجرمني.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وعليه:
نجده (عليه الصالة والسالم) أردف مفردة (النبأ) وداللتها الكاشفة عن:
(عظمة قوهلا (عليها السالم) الذي ستقوله ألبيها (صىل اهلل عليه واله) ،والذي
مل يكن يعلمه من قبل ،وحتقيق فائدة عظمية من هذا القول الذي ال يقبل الشك او
الظن او الكذب) ،فكان قوهلا بمقتىض داللة (النبأ) الذي يتلقاه رسول اهلل (صىل
اهلل عليه واله) وقد أردفه منتج النص (عليه السالم) بمفردة مكملة هلذه املنظومة
154
املفاهيمية التي أراد أن يقدمها للمسلمني الذين يسمعون حديثة مع رسول اهلل
(صىل اهلل عليه واله).
فبي ّ
أن هذا النبأ بدالالته اجلامعة ومصاديقه يرشد السامع -وإن مل يكن من أهل ّ
البحث واخلوض يف مكنونات معاين اللفظ ودالالته -اىل ّ
أن مجيع املسلمني الذين
أدركوا فاطمة هم مشرتكون هبضمها وايذائها؛ وهذا بحد ذاته حيقق جانبا مهام من
البيان يف كشف اجلريمة واملجرمون الظاملون لبضعة النبوة (عليها السالم).
الضفر :نسج الشعر وغريه عريض ًا ،ويقال :انضفر احلبالن اذا التويا معا وتضافروا
عىل اليشء تعاونوا عليه(((.
(ضفر) :الضاد والفاء والراء أصل صحيح وهو ضم اليشء اىل اليشء نسج ًا أو
غريه عريض ًا ،ومن الباب ضفائر الشعر وهي كل شعر ضفر حتى يصري ذؤابة.
واصله عندي :من ضافر الشعر وهو أن يتقاربوا حتى كأن كل واحد منهم قد شد
155 ضفريته بضفرية االخر ،وهذا قياس حسن يف املساعدة واملظاهرة وغريمها.
ويقال اكنانة ممتلئة ،وأصلها من تضافر ما فيها من السهام ،وهو جتمعها (((.
(الضفرة كالعقدة ومجعها ضفر ،والضفرية قطعة بني احلبلني تنقاد وتنبت الشجر
وهو الضفر)(((.
الضفر :نسج الشعر وغريه ،والضفر الفتل ،وانضفر احلبالن اذا التويا ،يقال:
تضافر القوم عىل فالن وتضافروا عليه وتظاهروا ،كله بمعنى واحد اذا تعاونوا
وجتمعوا عله وتألبوا وتصابروا(((.
املضافرة :هي عندي مفاعلة ،اي املعاودة واملالبسة ،واملعاونة كام يف حديث عيل
(عليه السالم):
وهذه املعاين ترشد اىل دالالت تبني حقيقة ما حدث وهو ما سنتناوله يف ثانيا.
ثانياً :قصدية تضافر االمة على علي ( )وبها تتضح مصاديق اللفظ وداللته .
عند الرجوع اىل معاين لفظ (الضفر) يف اللغة وحتديد هذه املعاين ودالالهتا
نجد اهنا ترشد اىل مجلة من املصاديق يف وقوع احلدث وجمرياته من اإلعداد له،
واالشرتاك فيه وتنفيذه ،وما نتج عنه من آثار عىل العرتة النبوية بشكل خاص، 156
وعىل االسالم بشكل عام ،وهذه املعاين يف اللفظ وداللتها ختص االمام عيل (عليهام
السالم) وفاطمة يف مصري واحد.
ولذا قال (عليه الصالة والسالم) :خمربا عن هذا التضافر الذي حدث من اال ّمة
بقوله:
((( النهاية يف غريب احلديث ،ج 3ص 92ــ تاج العروس ،ج 7ص.129
املبحث التاسع عشر :املقاصدية يف تنبيئ النيب ( )بتظافر ّ
أمته . .
اجللوس بمجلس رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) ويكفي يف ذلك من املصاديق عىل
هذا التضافر والتعاون بني القطبني هو قول عمر بن اخلطاب يف يوم السقيفة موقفه
من اجتامع األنصار فيها ،وهم يريدون تنصيب شيخهم سعد بن عبادة فعارضتهم
قريش من املهاجرين بقوهلم:
(منا أمري ومنكم أمري ولن نرىض بدون هذا األمر ابدا)(((.
فلام سمعها عمر منهم أقبل اىل منزل رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) فأرسل اىل
157
ايب بكر ،و ابو بكر يف الدار ،فقال عمر بن اخلطاب أتيناهم وقد كنت زويت كالما
أردت أن أقوم به فيهم ،فلام أن دفعت إليهم ذهبت ألبتدئ املنطق فقال يل أبو بكر:
رويدا حتى أتكلم ثم أنطق بعد بام أحببت ،فنطق؛ فقال عمر :فام يشء كنت أردت
(((
أن أقوله إال وقد أتى به أو زاد عليه)
وهذا يكشف عن اجتامع األقطاب وتعاوهنم عىل إبعاد عيل (عليه السالم) عن
اخلالفة عىل مستوى من االرصار من تضافرمها احلقيقي هو قوله:
فضال عن ذلك فقد روى سليم بن قيس اهلاليل (تويف يف القرن االول للهجرة)
يف خماطبة االمام عيل (عليه السالم) ألقطاب السقيفة بعد ان خرجوا من داره كي
يبايع فقال (عليه لسالم) هلم:
«إن قتل اهلل حممد ًا أو مات لتزوون هذا األمر عنا أهل البيت».
ْ
أنت يا زبري ،وأنت يا سلامن ،وأنت يا أبا ذر ،وأنت يا مقداد ،أسألكم باهلل أما
سمعتم رسول اهلل (صل اهلل عليه وآله) يقول ذلك وأنتم مستمعون (أن فالنا
وفالنا حتى عد هؤالء اخلمسة قد كتبوا بينهم كتابا وتعاهدوا فيه وتعاقدوا ايامنا 158
عىل ما صنعوا إن ُقتلت أو مت)؟
فقالوا :اللهم نعم ،سمعنا رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) يقول ذلك:
(إهنم تعاهدوا وتعاقدوا عىل ما صنعوا ،وكتبوا بينهم كتابا إن ُقتلت أو مت أن
يتظاهروا عليك وأن يزووا هذا عنك يا عيل)(((.
وهذا أحد املصاديق والدالالت التي اكتنزها لفظ (الضفر ،والتضافر عليه).
وتظاهروا حتى اصبحوا كالنسيج يف دفع عيل (عليه السالم) عن حقه ،ويتضح
هذا املصداق عىل ارض الواقع حينام خرج االمام عيل (عليه السالم) اىل املسجد
وخاطب ايب بكر وعمر ومن نارصمها وحتزب هلام ونادى فيهم بأعىل صوته:
«اهيا الناس اين مل ازل منذ قبض رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) مشغوال يغسله
ثم بالقرآن حتى مجعته كله يف هذا الثوب الواحد ،فلم ينزل اهلل عىل رسوله اية منه
اال ووقد مجعتها ،وليست منه آية ّإل وقد أقرأنيها رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله)
159 وعلمني تأويلها ،ثم قال عيل (عليه السالم) ّ
لئل تقولوا غدا ،إنا كنا عن هذا غافلني.
ثم قال هلم عيل (عليه السالم) :ال تقولوا يوم القيامة إين مل أدعكم إىل نرصيت ،ومل
أذكركم حقي ،ومل أدعكم إىل كتاب اهلل من فاحتته إىل خامتته ،فقال له عمر :ما أغنانا
بام معنا من القرآن عام تدعونا إليه ،ثم دخل عيل (عليه السالم) بيته وقال عمر أليب
بكر :أرسل إىل عيل فليبايع ،فانا لسنا يف يشء حتى يبايع ،ولو قد بايع أمناه ،فأرسل
إليه أبو بكر أجب خليفة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ،فأتاه الرسول فقال له
ذلك ،فقال له عيل (عليه السالم) :سبحان اهلل ما أرسع ما كذبتم عىل رسول اهلل
(صىل اهلل عليه وآله) ،إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أن اهلل ورسوله مل يستخلفا
غريي ،وذهب الرسول فأخربه بام قال له ،فقال :اذهب فقل له أجب أمري املؤمنني
أبا بكر ،فأتاه فأخربه بام قال :فقال عيل (عليه السالم) :سبحان اهلل! ما -واهلل -طال
العهد فينسى ،واهلل إنه ليعلم أن هذا االسم ال يصلح إال يل ،ولقد أمره رسول اهلل
(صىل اهلل عليه وآله) وهو سابع سبعة فسلموا عيل بإمرة املؤمنني فاستفهم هو
وصاحبه من بني السبعة فقاال :أمر من اهلل ورسوله؟ فقال هلم رسول اهلل (صىل اهلل
عليه وآله) :نعم حقا من اهلل ورسوله ،إنه أمري املؤمنني ،وسيد املسلمني ،وصاحب
لواء الغر املحجلني ،يقعده اهلل عز وجل يوم القيامة عىل الرصاط فيدخل أولياءه
اجلنة وأعداءه النار ،فانطلق الرسول فأخربه بام قال فسكتوا عنه يومهم ذلك .قال:
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
فلام كان الليل محل عيل (عليه السالم) فاطمة (عليها السالم) عىل محار وأخذ
بيد ابنيه احلسن واحلسني (عليهام السالم) فلم يدع أحد ًا من أصحاب رسول اهلل
(صىل اهلل عليه وآله) إال أتاه يف منزله ،فناشدهم اهلل حقه ،ودعاهم إىل نرصته ،فام
استجاب منهم رجل غرينا أربعة فإنّا حلقنا رؤوسنا وبذلنا له نرصتنا ،وكان الزبري
أشدنا بصرية يف نرصته ،فلام أن رأى عيل (عليه السالم) خذالن الناس إياه وتركهم
نرصته ،واجتامع كلمتهم مع أيب بكر ،وتعظيمهم إياه ،لزم بيته)(((.
وقد روى ابن قتيبة واجلوهري وغريهم خروج االمام عيل (عليه السالم) مع 160
بنت رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) وولدهيام احلسن واحلسني (عليهام السالم)
وفاطمة تناشد االصحاب لنرصة االمام (عليه السالم) فيمتنعون من ذلك فكان
صورة جلية يف تعاوهنم وتقارهبم يف العقيدة والراي عىل خذالن عيل ومنارصة
اصحاب السقيفة(((.
واللفظ للجوهري ،قال :حدثنا ابو عوف عبد اهلل بن عبد الرمحن عن ايب جعفر
حممد بن عيل (عليهام السالم):
ال اىل بيوت االنصار يسأهلم النرصة«إن علي ًا محل فاطمة عىل محار وسار هبا لي ً
َّ
وتسأهلم فاطمة االنتصار له ،فكانوا يقولون :يا بنت رسول اهلل ،قد مضت بيعتنا هلذا
الرجل ،لو كان ابن عمك سبق الينا ابا بكر ما عدلنا به .فقال عيل (عليه السالم):
اكنت اترك رسول اهلل ميتا يف بيته ال اجهزه واخرج اىل الناس انازعهم يف سلطانه،
وقالت فاطمة :ما صنع ابو احلسن اال ما كان ينبغي له ،وصنعوا هم ما اهلل حسبهم عليه»(((.
ويتضح مصاديق اللفظ بصورة جلية حينام يقرن بمعنى اهلضم وداللته وهو
االصل يف حتقق تضافر االمة عىل االمام عيل (عليه السالم) وفاطمة (صلوات اهلل
وسالمه عليها) وهو ما سنتناوله يف املسألة القادمة.
تناول علامء اللغة مفردة (اهلضم) وأوضحوا معانيها فجاءت يف كتبهم عىل
النحو االيت:
161
-1قال الجوهري (تويف سنة 393هـ) :
هضمت اليشء :كرسته ،يقال هضمه حقه واهتضمه ،اذا ظلمه وكس عليه حقه
وهضمت لك من حقي طائفة ،اي تركته؛ وهتضمه :ظلمه.
اهلضم يدل عىل كرس وضغط وتداخل ،وهضمت اليشء هضام :كرسته(((.
اهلضم :مصدر هضمه اهضمه ،اذا ظلمته ،واهلضيمة :أن يتهضمك القوم شيئا،
اي يظلمونك(((.
ان اهلضم نقصان بعض احلق وال يقال ملن اخذ مجيع حقه قد ظلم(((.
ويدل معنى (اهلضم) كام اورده علامء اللغة يف الداللة واملعنى والبالغة ،والفقه
عىل ثالثة معان اساسية تتكشف معها حقيقة ما جرى عىل بضعة رسول اهلل (صىل
اهلل عليه واله) وما ارتكبته االمة بعد استشهاد نبيها االعظم (صىل اهلل عليه واله
وسلم) وهي كااليت:
قال تعاىل:
اها (َ )12ف َق َال َُل ْم َر ُس ُ
ول اللَِّ نَا َق َة ث َأ ْش َق َ ت َث ُمو ُد بِ َطغ َْو َاها ( )11إِ ِذ ا ْن َب َع َ ﴿ك ََّذ َب ْ
وها َفدَ ْمدَ َم َع َل ْي ِه ْم َر ُّ ُب ْم بِ َذ ْنبِ ِه ْم َف َس َّو َاها (َ )14و َل اها (َ )13فك ََّذ ُبو ُه َف َع َق ُر َ
اللَِّ َو ُس ْق َي َ
(((
اف ُع ْق َب َ
اها﴾ ي ُ ََ
وتكشف اآليات بشكل جيل أن املذنب واحد وهو عاقر الناقة فكان (أشقاها)،
أي :اشقى االمة لكن الذنب كان قد شمل اجلميع ،فقال سبحانه ( َفدَ ْمدَ َم َع َل ْي ِه ْم
َر ُّ ُب ْم بِ َذ ْنبِ ِه ْم َف َس َّو َاها) فأصبحوا يف احلد واحلكم والعقاب سواء.
ويف موضع اخر يظهر القرآن الكريم اهنم مجيعا ظاملون فقال عز وجل:
وعليه:
فإن حال املسلمني بعد وفاة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) يف احلكم سواء كحال
قوم نبي اهلل صالح (عليه السالم) ،فالذي انبعث حلرق بيت فاطمة (صلوات اهلل
عليها) واحد ،فقيل :إن يف الدار فاطمة ،فقال: 164
ْ
«وإن»(((.
ويف لفظ آخر اخرجه شيخ البخاري ،ابن ايب شيبة الكويف (تويف سنة 235هـ) أن
عمر بن اخلطاب قال:
(وايم اهلل ما ذاك بامنعي إن اجتمع هؤالء النفر عندك ان امرهتم ان حيرق عليهم
البيت)(((.
فحرق بيت بضعة املصطفى (صىل اهلل عليه واله) وكرس جنبها واجهض جنينها
املسمى باملحسن فمضت اىل رهبا ورسوله (صىل اهلل عليه واله) تشكو اليهام ما نزل هبا.
فوقع اخلالف بينهم ،وتفل بعضهم يف وجه البعض وكفروهم واحلوا دمائهم
وامواهلم واعراضهم((( ويكفيك ذلك من ذاك قتلهم اليب بكر بالسم وهو خليفتهم
االول ،وبقر بطن خليفتهم الثاين عمر بن اخلطاب وهجومهم عىل دار خليفتهم
الثالث عثامن بن عفان وقتله بني نساءه ،ومحل جثته عىل خشبة ليدفن يف مقابر
اليهود يف كوكب.
بعد أن تضافروا عىل ظلم بنت رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) وهضمها حقها،
فجرت فيهم سنة الذين ظلموا انبيائهم واوليائهم من قبلهم كعاقر ناقة نبي اهلل
165 ك بِ َظ َّل ٍم لِ ْلعبِ ِ
يد﴾(((. َ ﴿و َما َر ُّب َ
صالح (عليه السالم) َ
وقد تكشف هذا املعنى من خالل تعاون اال ّمة عىل حجب حق بضعة النبي (صىل
اهلل عليه واله) يف بادئ األمر يف ممارسة حقها يف كوهنا جز ًء مه ًام ومكون اساس من
مكونات املنظومة الفكرية يف االسالم ،فض ً
ال عن حقها يف االرث ،وسهم النبي
(صىل اهلل عليه واله) وامواله ،وأرض فدك وغريها مما سنتناوله الحقا يف مبحث
قوله (صلوات اهلل وسالمه عليه):
«فبعني اهلل تدفن ابنتك رسا ،وهيضم حقها قهرا ،ويمنع ارثها جهرا».
لكننا هنا يف صدد بيان هضمها حقها يف املنظومة الفكرية وذلك فيام ييل:
أ -منع حديثها ومعارفها وروايتها عن ابيها (صلى اهلل عليه واله) .
ّ
إن اول مظاهر املنع الذي اجتمعت عىل هضم حق فاطمة هو منع حديثها ومعارفها
وروايتها عن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ،إال ما قدر من البيان الذي ال يتناسب
مع منزلتها وشأهنا وهي سيدة نساء العاملني وخري شاهد عىل ذلك صحاح املسلمني
ومسانيدهم ومستدركاهتم وسننهم التي حرصوا عىل ايراد ماغث وسمن من اقوال
بعض النساء وحديثهن عن رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله).
166
ب -تفضيل أزواج النبي (صلى اهلل عليه وآله) .
إن تفضيل نساء النبي (صىل اهلل عليه واله) عليها السيام عائشة وعدَّ ذلك منَّ
يرصح به البعض من علامء األُمة ّإل ما خرج من يديه من تصانيف
املس ّلامت وإن مل ِّ
وتعبئتها بأحاديث عائشة يغني عن الترصيح يف تفضيله لعائشة عىل سيدة نساء
العاملني وابنة سيد املرسلني (صىل اهلل عليه واله).
إن الرتيض والتويل لقتلها وظامليها وتعظيمهم قد رسى يف معظم األ ّمة كابر ًا
َّ
بعد كابر وخلف ًا بعد سلف حتى أصبحوا وكأن ال ظالمة هلم لنبيهم (صىل اهلل
عليه واله) وكأن فاطمة (صلوات اهلل وسالمه عليها) من بنات االعاجم وال هلا
يف أعناقهم فرض املودة واالتباع ،فتضافروا عىل نكراهنا وداوموا عىل هجراهنا،
وسيكون هلم النبي (صىل اهلل عليه واله) يوم القيامة ألنكر ،وعند احلرش واحلساب،
وتطاير الصحف ،وطلب الشفاعة ،وسيدرك املبطلون مغبة ما أسسه األولون.
املبحث التاسع عشر :املقاصدية يف تنبيئ النيب ( )بتظافر ّ
أمته . .
وجوابهّ :إنا (صلوات اهلل عليها) قد ال تتحدث عن كثري مما جرى عليها وذلك
امتناعا من ادخال األذى عىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) الذي يؤذيه ما يؤذهيا
كام أخرب النبي (صىل اهلل عليه واله) وتناقلته كتب احلديث(((.
ومن ثم فإن حبها لرسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) سيمنعها من احلديث عام
جرى عليها من القوم ،ولذلك يطلب االمام (عليه السالم) من رسول اهلل (صىل
اهلل عليه وآله) انتزاع الكالم من فاطمة (عليها السالم) وبذلك يضمن االمام (عليه
السالم) اخباره (صىل اهلل عليه واله) بام جرى بعد ان يندفع املانع يف سكوهتا وهو
إن تكلمت آذت النبي (صىل اهلل عليه واله) ،يف حني أنه هو الذي سيحفها خوفها ْ
بالسؤال.
وهبذه الطريقة ستتحدث فاطمة كام قال (عليه السالم) بعد ايراده الطلب بأهنا:
«ستقول وسيحكم اهلل وهو خري احلاكمني».
((( اخرجه البخاري عن املسور بن خمرمة يف كتاب النكاح ،ج 6ص / 158عنه (صىل اهلل عليه واله):
« ...فإنام هي بضعة مني يربيني ما اراهبا ويؤذيني ما اذاها».
()171
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ولكن السؤال املطروح :ملاذا جاء االمام (عليه السالم) بلفظ «احلف» فام هي
قصديته ،وما هي داللة اللفظ؟
وهذه القصدية يستدل عليها من خالل قول العرب (حف سمعه) :أي ،ذهب
كله فلم يبق منه يشء(((؛ أي :عدم ترك ٍ
يشء مما وقع عىل جسدها إلّ وسيسأل النبي
(صىل اهلل عليه وآله) عنه الزهراء ،وهذه القصدية ترشد اىل أن ما يراه النبي (صىل
اهلل عليه واله) من حاهلا سيكون عظي ًام ،مما سيدفعه اىل أنه سيسأل عن مجيع ما وقع
عليها فال يبقي شيئ ًا اال وسيعرفه.
بمعنىّ :
إن هيئتها الكاشفة عن حجم االرضار التي وقعت عليها حتقق هذه
القصدية وهو أمر وجداين ،فاصفرار الوجه يدل عىل املرض او االرهاق واالجهاد
والتعب ،اما امحرار الوجه كاشف عن اخلجل او الغضب وكذلك بقية صور هيئة
االنسان وشكله.
وعليه :فإن رؤية النبي (صىل اهلل عليه واله) حلال فاطمة وهيئتها وصورهتا ستدفع
النبي (صىل اهلل عليه واله) اىل التدقيق يف السؤال.
ولذلك جاء معنى قوهلم (حف سمعه) مرتبطا هبيئة االنسان وظواهره اجلسدية
ومنها حاسة السمع.
وعليه:
173 أن حاهلا تغري ونزل بجسدها ارضار عطلت موضع ًا أو عضو ًا أو
يكشف النص َّ
حاسة أو ذهاب عافيتها وصحتها مجيعا فلم تبق هلا صحة يف جسدها فأصبحت
عليلة اجلسد.
وعلة اجلسد ال تقع ّإل بحدث كبري يكون وقوعه مبارش ًا عىل اجلسد كاهلجوم
عليها يف حادثة الباب ،وكرس ضلعها وما تسبب يف اتالف جسدها واعالله،
والسيام أن رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) قد فارقها وهي عىل حال حسن ،ويف
عافية؛ ومن ثم فأن مصيبة فقدها لرسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) وإن عظمت ال
جتعلها عليلة أو قد أت َلفت مصيبته (صىل اهلل عليه وآله) أحد حواسها او أعضائها،
مما يرشد اىل قصدية قوله (عليه السالم)« :فأحفها السؤال» وضمن سياق الداللة
والقصدية االوىل للفظ ،وهي( :اختصاص ذهاب هيئتها التي كانت عىل عهد
رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله)) مما يستلزم معرفة ما جرى عليها وغيَّ حاهلا،
وأرض بجسدها ،وسلب عافيتها؛ وهو ما سريد يف هذه الدراسة الحق ًا.
َّ
القصدية الثانية :يف بيان مقبولية تلقي االسئلة وردود االجابة .
َّ
إن ما سيسمعه النبي (صىل اهلل عليه وآله) من فاطمة (عليها السالم) له دوي عىل
مسامعه ويظهر حجم اآلثار التي سترتتب عىل ما تقوله فاطمة (عليها السالم).
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ويستدل عىل هذه القصدية لقول العرب (حف الفرس ،حيف حفيفا ،واحففته أنا
إذا محلته عىل أن يكون له حفيف ،وهو دوي جرتيه ،وكذلك حفيف جناح الطائر،
وحفيف الريح يف كل ما مرت به)(((.
إن تلقي فاطمة (عليها السالم) لألسئلة سيكون له وهذا يرشد اىل أمرين ،األولّ :
دوي ،وهو يكشف عن حال رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) حينام يرى فاطمة هبذه
احلال ،فسيكون ألسئلته يف الكثرة والتعدد كالدوي عىل مسامع فاطمة ،فيكون هنا
الكاشف عن مقبولية فاطمة هلذه االسئلة. 174
واألمر الثاين :يكون املتلقي هو رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) ،وهذا يرشد
أن ما سيسمعه النبي االعظم (صىل اهلل عليه واله) من إجابات فاطمة (عليهااىل َّ
السالم) له دوي وذلك لشدة هول وفداحة ما نزل هبا ،أي الكاشفية عن عظيم
املصيبة والرزية.
بمعنى :ترددات ما تقوله الزهراء (عليها السالم) عىل مسامع النبي (صىل اهلل
عليه واله) وما سيتبعه من آثار خارجية سيكون له دوي كصوت الريح يف كل ما
مرت به.
ومن املقاصد التي اكتنزها اللفظ هو الطريقة التي يعتمدها النبي (صىل اهلل عليه
واله) يف طرح االسئلة عىل فاطمة (عليها السالم) ملعرفة ما جرى عليها هو الذهاب
والعودة يف طرح السؤال بمعنى :قد ال تتكلم فاطمة (عليها السالم) بمجرد سامعها
للسؤال وذلك خشية انزال األذى عىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) أو حيا ًء منه،
او أرجاء االمر اىل يوم القيامة ،فعند أعادة السؤال الواحد عليها مرات عدة كطريقة
175 تركها لفرتة ثم تسأل مرة اخرى نفس السؤال؛ وهذه احلالة يمكن مالحظتها يف كثري
من املواقع احلياتية ،يف البيت ،يف املدرسة ،يف اجلامعة ،يف احلوارات واملناقشات،
ويف حاالت التحقيق والبحث سواء يف مواقع احلكم والقضاء ،او يف مواقع البحث
والتحقيق والتأمل والتفكري فيام يبحث عنه االنسان و يدرسه؛ فنجده يعيد تكرار
الكرة حتى يصل
السؤال الواحد ملرات عديدة ،ويف فرتات زمنية متفاوتة ،ويعاود ّ
اىل االجابة ،وحيصل عىل مبتغاه.
وهذا املعنى يرشد اىل قصدية منتج النص يف مبتغاه من احلف بالسؤال ،أي :يا
رسول اهلل ال تبقي يشء ّإل وسل فاطمة عنه حتى تأيت عىل مجيع املواضيع واألسئلة
176
فتجيب عليها.
وهذه القصدية مأخوذة من خالل انتزاع الشعر عن الوجه بواسطة اخليط يف حف
املرآة لوجهها.
وعليه:
سيكون االمام أمري املؤمنني (عليه السالم) قد حقق َت َك ُّلم فاطمة (عليها السالم)
وقوهلا لرسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) بام جرى عليها من مصائب قد أتْبعتها مهوم ًا
عظيمة مألت صدرها وأحرقت قلبها ،فكتمتها عن عيل (عليه السالم) وأوالدها
تفرج عن هذه االالم واهلموم واالحزان.
فلم ّ
ويبقى السؤال قائام :ما هي هذه اهلموم ،وما هو حجمها ،وما هو اثرها عىل حال
سنتعرض له يف املسألة القادمة.
ّ فاطمة (عليها السالم)؟! هذا ما
من هنا:
ينقل املتلقي اىل مقاصد اخرى جاءت يف لفظ (االستخبار) وأصله (االستفعال)
وهو طلب الفعل.
وقد ورد عن الشيخ الطويس (املتوىف سنة 460هـ) يف بيان معنى استوقد فقال:
(معناه :أوقد نار ًا كام يقال استجاب بمعنى أجاب؛ الوقود :احلطب والوقود:
مصدر وقدت النار وقودا ،واالستيقاد :طلب الوقود)(((.
الر ِجيمِ﴾(((.
ان َّ است َِع ْذ بِاللَِّ ِم َن َّ
الش ْي َط ِ -3وقال تعاىلَ ﴿ :فإِ َذا َق َر ْأ َت ا ْل ُق ْر َ
آن َف ْ
واالستعاذة :طلب املعاذ ،استفعال من العوذ والعياذ(((.
-1روى امحد عن ابن مدرك قال :سمعت أبا زرعة حيدث عن جرير وهو جده عن
النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم قال يف حجة الوداع( :يا جرير استنصت الناس)(((.
-2روى أمحد عن عامر بن يارس (عليه الرمحة والرضوان) أن رسول اهلل صىل اهلل
عليه وآله وسلم قال:
-3روى البخاري عن يونس بن جبري ،سألت ابن عمر فقال :طلق ابن عمر
امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم قال:
قال العيني( :استحمق ،إشارة إىل أنه تكلف احلمق بام فعله من تطليق امرأته
وهي حائض)(((.
جاءت صيغة االستفعال يف بعض اقوال الفقهاء :وقد بينوا داللة الصيغة ما ترشد
اليه قصدية ومعنى ،وهذا بعض اقواهلم يف ذلك:
-1قال الشيخ الطويس (رمحه اهلل) يف اخلالف( :ان لفظ االستفعال ان يطلب منه
اخلدمة هذا موضوعها يف اللغة)(((.
-2قال الشهيد الثاين يف الروضة( :إن صيغة االستفعال موضوعة غالب ًا للطلب كام 180
يقال :استخرج املاء استوطن البلد ،أي طلب خروج املاء ،وطلب التوطن يف املدينة)(((.
-3وقال أيضا( :إن االستفعال حقيقة يف طلب الفعل فال يصدق بدون الطلب)(((.
-4وله أيض ًا( :وقع االستفعال بمعنى الفعل لغة كام يف قوله تعاىل:
بمعنى أوقد)(((.
((( اخلالف للطويس :ج ،6ص181؛ الزائر البن ادريس :ج ،3ص.56
((( الروضة البهية :ج ،7ص.13
((( مسالك اإلفهام للشهيد الثاين :ج ،11ص.167
((( سورة البقرة ،اآلية (.)17
((( مسالك اإلفهام :ج ،11ص.267
املبحث العشرون :املقاصدية يف َ
احل ّف واالستخبار واالعتالج . .
هذه الكلمة عىل هذه القاعدة يف اصطالح األصوليني ،فبأي اعتبار أن العامل هبا
يتخذ ما يتقن به سابق ًا صحبيا له إىل الزمان الالحق يف مقام العمل)(((.
-7قال السيد حممد سعيد احلكيم يف معنى االستصحاب( :وينبغي التمهيد له
بذكر أمور.
وأما هيأة االستفعال فهي :ألف :تارة :تفيد طلب املادة ،كام هو يف االستغفار،
واالستشارة واالسرتفاد ،واألخرى :تفيد جعلها وحتقيقها خارج ًا بوجه ،كام يف
استعامل اليشء واالستكثار من اخلري.
وثاني ًا :تفيد ادعاءها واحلكم هبا والبناء عليها كام يف االستكبار واالستحسان
واالستقذار)(((.
(فإن هناك مجاعة من اللغويني يقولون بجواز اخرتاع ألفاظ وكلامت يف اللغة
العربية عىل وزن األلفاظ والكلامت املوجودة فيها ،كام يقولون بجواز الزيادة
والنقيصة فيها عىل حسب الزوائد أو النقائص اللغوية األخرى ،مثل رصف الباب
الثالثي إىل باب االنفعال ،أو التفعيل ،أو املفاعلة ،أو االستفعال ،وكذلك أبواب
الرباعيات ونحوها)(((.
وعليه :نستدل بام ورد يف القرآن الكريم واحلديث النبوي الرشيف وأقوال
الفقهاء أن أصل صيغة االستفعال ترتكز عىل إرادة الطلب سواء كان هذا الطلب
رصحي ًا أو تقديري ًا.
وهنا يريد االمام أمري املؤمنني (عليه السالم) من النبي األعظم (صىل اهلل عليه
واله) معرفة حال فاطمة (عليها السالم) وأن يطلب خرب ما جرى عليها فغري حاهلا.
وذلك ان (احلال هو كينَة اإلنسان وهو ما كان عليه من خري أو رش ،يذكر ويؤنث، 182
واجلمع أحوال وأحولة).
ومن ثم معرفة هذا التغيري املفجع الذي أصبحت عليه فاطمة (عليها السالم)
وهو يقدم بذاك صورة اىل السامع ّ
أن من يرى فاطمة (عليها السالم) قبل وفاة
رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) ويراها بعد وفاته اىل يوم استشهادها سيفجع بام
يرى من تغري حاهلا ،وسيندفع بال أدنى شك اىل السؤال والطلب يف معرفة ما غري
حاهلا هذا التغيري املفجع!!
وعليه:
فال بد من معرفة األسباب والدالالت واآلثار التي أدت اىل هذا احلال ،وهو ما
سنتناوله يف دالالت قوله (عليه السالم):
«فكم من غليل معتلج بصدرها مل جتد اىل بثه سبيال» وقصديته من هذا القول.
املبحث العشرون :املقاصدية يف َ
احل ّف واالستخبار واالعتالج . .
إن هذه املقدمات من املعاين ومقاصدها وااللفاظ وداللتها جاءت باملتلقي تقوده ّ
أسري ًا اليها للوصول اىل هذا املطلب الذي اكتنزه قوله (عليه السالم)« :فكم من غليل».
أن ما جرى عليها مل يكن أمر ًا واحد ًا ظاهرا للعيان أو خمفيا عنهم وانام هيمبينا ّ
امور كثرية كان واقعها وحقيقة أمرها مجر ًا متلهبا مل يزل حيرق ما حييط به وإن
183
كان مغط ًا بالرماد مستور ًا عن الناظر حتى يظنه بارد ًا وساكن ًا ،كام جرى ذلك يف
قصدية احلالة النفسية وما ترتب عليها من آثار ب ّينها القرآن الكريم يف حال نبي اهلل
زكريا (عليه السالم) وقد جاء ذلك ظاهر ًا لدى القارئ العارف بدالالت األلفاظ
ومقاصدها ،فقال تعاىل مبينا حاله يف حمكم كتابه:
الر ْأ ُس﴾(((.
﴿و ْاش َت َع َل َّ
َ
وهنا يورد االمام أمري املؤمنني (عليه السالم) حال فاطمة وما جرى عليها من
رزايا و مصائب وارضار ًا نفسية وجسدية يف إيراده ملفردات (الغليل) و (املعتلج)
أن ما وقع عىل بضعة املصطفى ليقدم بذلك اىل كل عاقل منصف عارف بلغة العرب ّ
(صىل اهلل عليه واله) من ارضار عىل يد بعض الصحابة ال يمكن أن تنصفه أ ْل ِسنَ ُة
الرواة وان جادت قرائحهم بالبيان وشهدته اعينهم من جمريات للحدث ،فهم غري
ورضها؛ وأنّى هلم بذلك قادرين عىل معرفة ما أصاهبا وعاجزين عن ادراك اآلمها ّ
والزهراء البتول قد كتمته عن ابن عمها وابو ولدهيا ومل تقوله الحد.
كاشفا عن البيان يف حجم األرضار اجلسدية واآلالم النفسية التي أنزهلا القوم هبا،
وذلك بمقتىض ما ّ
يدل عليه لفظ (الغليل) من داللة كام ورد بيانه يف اللغة.
حر اجلوف(((.
فالغليلّ :
وجاء يف الصحاح :الغ ّلة :حرارة العطش ،والغليلّ :
تقول منه(((.
والسيام وأن النبي األعظم (صىل اهلل عليه واله) قد ركز فيام خيص العرتة النبوية وبضعته
عىل وجه اخلصوص باألمل النفيس واألذى القلبي ،فقال يف موارد وألفاظ متعددة:
«يؤذيني ما آذاها».
«يؤملني ما يؤملها».
«يبسطني ما يبسطها».
والبسط هو حالة خمصوصة بالنفس يف الفرح واإلرتياح والتي يقابلها القبض يف موارد
احلزن واألمل بام يقع عىل االنسان يف اخلارج وبام يراه من أحداث أو يسمعه من كالم.
ومن ثم فان هذه اآلالم النفسية مل تزل كاجلمر يف داخلها حتى حلقت بأبيها رسول
اهلل (صىل اهلل عليه وآله وسلم).
وهذه األرضار التي كانت من خالل احلواس الثالثة قد نصت عليها بعض
النصوص التارخيية واحلديثية.
أ -حماولة اغتيال النبي (صىل اهلل عليه وآله) األعظم يف أيام مرضه يف حادثة ال ّلد
التي أقدمت عليها بعض أزواجه(((.
ج -ترك الصحابة جلثامن النبي (صىل اهلل عليه واله) وتسابقهم اىل اخلالفة
((( ملزيد من االطالع عىل جمريات احلدث ينظر كتابنا املوسوم بــ (وفاة النبي وموضع قربه وروضته).
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وغري ذلك لكثري ولكن هذا بعض ما ذكرته النصوص وسنقف عنده إن شاء اهلل
تعاىل يف بحوث هذه الدراسة.
أ -هتديد عمر بن اخلطاب هلا بحرق دارها عىل من فيه إن دخل عليها بعض 186
الصحابة كام يرويه شيخ البخاري بن أيب شيبة الكويف((( وغريه.
ب -قول عمر بن اخلطاب هلا ملا سألته وقد جاء بالنار ليرضمها يف احلطب ،فقالت:
عيل بايب»؟!
«أتَراك حمرق َّ
فرد قائالً:
ج -بعد ان القت فاطمة (عليها السالم) خطبتها يف املسجد ،صعد ابو بكر املنرب
فر ّد عليها ،فقال:
(يستعينون بالضعفة ،ويستنرصون بالنساء ،كأم طحال أحب أهلها اليها البغي !!!((()...
(( ( املصنف :ج 8ص572؛ املذكر والتذكري البن ايب عاصم :ص91؛ االستيعاب البن عبد الرب:
ج 3ص975؛ فضائل الصحابة ألبن حنبل :ج 1ص.364
(( ( انساب االرشف للبالذري :ج 1ص586؛ الشايف يف االمامة للرشيف املرتىض :ج 3ص.241
(( ( السقيفة وفدك للجواهري :ص104؛ رشح هنج البالغة للمعتزيل :ج 16ص.215
املبحث العشرون :املقاصدية يف َ
احل ّف واالستخبار واالعتالج . .
أما بخصوص حاسة اللمس والتي ارتبطت باجلسد وما يصيبه من آالم ،فقد
نقلت النصوص ّأنا تعرضت اىل:
وغري ذلك.
وقد خلفت هذه األداث واملجريات من األرضار النفسية ما جعل قلبها حيرتق
ونفسها تلتهب نار ًا مكمودة؛ ومن ثم فإن هذا الكمد والكتامن لألمل كان له صورة
ّ
(الغل) وهو ما سنتعرض له يف القصدية القادمة. اخرى عرفتها العرب يف مقاصد
القصدية الثانية :يف بيان حجم االضرار اجلسدية وارتباطها باألمل الدائم .
يظهر ابن فارس (تويف سنة 395هـ) يف داللة اللفظ ما عنته العرب يف قوهلم:
غللت اليشء ،وظهور قصدية النص الرشيف اتكا ًء عىل هذه الداللة فيقول:
(غل) :الغني والالم أصل صحيح يدل عىل ختلل يشء وثبات يشء يغرز؛ ومن
ذلك قول العرب:
أن هناك أرضار ًا وقعت عىل اجلسد قد خلفت آالم ًا دائمة من حني
وبه يظهر ّ
وقوعها اىل حني استشهاد فاطمة (عليها السالم) وهو ما يدل عىل حقيقة ما وقع
عليها من:
اوالً :كرس ضلعها ،وهو األلصق هلذا املعنى واألقوى داللة هلذه القصدية يف غرز
الضلع يف اللحم عند كرسه.
ثاني ًا :إصابة صدرها باملسامر ،وهذا من أصدق الدالالت التي اكتنزها ّ
الغل ،فقد
غرز املسامر يف صدرها واثبت فيه ،ومل يزل أمله دائام ومستمر ًا اىل حني حلاقها بأبيها 188
(صىل هلل عليه واله).
ثالثا :إصابة عينها باللطمة التي وجهها اليها قنفذ ملا خرجت خلفهم تنادي (خ ّلو
ابن عمي) كام يروي سليم بن قيس اهلاليل ذلك فقال:
رابعا :تلويعها بالسوط عىل يدها حتى أصبح كالدملج وهو ما نص عليه
احلديث....
وعليه :تكون هذه األرضار اجلسدية كاشفة عن قصدية االمام أمري املؤمنني (عليه
(الغل) ،فقد غرزت هذه اآلالم يف جسدها ونفسها.ّ السالم) يف إيراده للفظ
القصدية الثالثة :يف بيان كثرة األضرار وتعددها ودوامها حتى ماتت (. )
إن الرتابط يف داللة «الغليل واملعتلج» تكشف عن قصدية جديدة ،وهي أن هذه َّ
األرضار كانت متنوعة وعميقة يف النفس ودائمة وضارة جدا ،فآالمها مل تتوقف ،بل
ّأنا كانت يف ازدياد ،وهو عكس ما يتوقعه البعض يف تغيري أحوال االنسان بمرور
الوقت ،فإن كان اليوم قد حزن من أمر أو غصب عىل إمرء فللوقت وللزمن أثره يف
تبديل االحوال وتغيري األمزجة وهو أمر حاول ابو بكر وعمر احلصول عليه.
املبحث العشرون :املقاصدية يف َ
احل ّف واالستخبار واالعتالج . .
فقد حاوال الدخول عليها يف أيامها األخرية وقد اشتدّ هبا املرض كي يسرتضياهنا،
ال عن أن ما وقع أصبح واقع حال ضن ًا منهام أن الوقت كفيل بتبديل األحوال ،فض ً
وقد استقرت امور اخلالفة والبيعة ،فجاءا اىل عيل (عليه السالم) كي يطلب هلام
االذن يف الدخول عليها (عليها السالم) واسرتضائها ،فدخل عليها امري املؤمنني
(عليه السالم) قائالً:
ِ
عليك فام ترين؟ احلرة ،فالن وفالن بالباب ،يريدان أن يس ّلام
«أيتها ّ
189
قالت (عليها السالم) :البيت بيتك ،واحلرة زوجتك ،فافعل ما تشاء.
قاال :نعم.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
فرفعت يدها إىل السامء فقالت( :اللهم إهنام قد آذياين ،فأنا أشكومها إليك وإىل
رسولك؛ ال واهلل ال أرىض عنكام أبدا حتى ألقى أيب رسول اهلل (صىل اهلل عليه
وآله) وأخربه بام صنعتام ،فيكون هو احلاكم فيكام»(((.
-5نقـي معتـلج الـريب :وهو من اعتـلجت األمواج إذا التـطمت ،أو من
اعتلجت األرض.
فيكون بذلك ّ
أن هذه األرضار مل تكن آنية وقليلة الرضر أو لفرتة حمدودة ،بل
كانت كبرية وبالغة ودائمة ويف تزايد يف حجمها وآثارها عىل النفس والقلب
واجلسد حتى حلقت برسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله).
((( كتاب سليم بن قيس :ص392؛ الدر النظيم للمشغري العاميل :ص484؛ البحار للمجليس:
ج 28ص.303
((( لسان العرب ،مادة( :علج).
املبحث العشرون :املقاصدية يف َ
احل ّف واالستخبار واالعتالج . .
ولكن السؤال املطروح ملاذا تكتمت فاطمة عىل هذه االالم ومل تبح ومل تبح هبا اىل
أحد حتى زوجها أمري املؤمنني (عليه السالم) وهو ما نص عليه قوله:
املسألة الرابعة :مقاصدية بث الغليل وتعذر السبيل «مل جتد اىل بثه سبيال» .
ُيرجع اإلمام أمري املؤمنني (عليه السالم) السامع والقارئ للنص الرشيف
اىل مقاصد جديدة اكتنزها لفظ (البث) ،وذلك ارتكاز ًا عىل جمموعة من املعاين
191
والدالالت التي فهمتها العرب واستخدمتها يف خطاهبا وحوارها مع بعضها.
ومن ثم فهناك مجلة من اآلثار التي حركت ذهن املتلقي اىل قصدية منتج النص
الرشيف (عليه السالم) فكانت كااليت:
وهذه املعاجلة واالزالة تبدأ أوال بتفريغ هذه اآلالم واهلموم وجتزئتها بعد أن
التفت وتشابكت كام يف النباتات املتشابكة يف أغصاهنا ،فهي حتتاج يف البدء اىل
التفريق بني هذه األغصان أو التعريف بني هذه الرمال التي تراكمت فوق بعضها.
وهنا يف حالة فاطمة (عليها السالم) البد هلا أوال من تفريق هذه اهلموم وفك
تشابكها وجتزئتها ،إذ قالت العرب يف هذا املعنى:
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
(بث اليشء ،واخلرب َي ُب ُّث ُه ويب ُثه بث ًا بمعنى فانبث فرقة فتفرق)(((.
بمعنى:
وإن فاطمة (عليها السالم) كانت يف كل يوم ولع َّله وهو األصح يف كل ساعة متر
َّ
عليها كانت آالمها وآحزاهنا ومهومها تزداد وترتاكم كرتاكم الرمال بعضها فوق بعض.
192
ولعل الرجوع اىل قوهلا (عليها السالم) عند دخول جمموعة من نساء املهاجرين
مر ذكرها ،أي ّأنا كانت يف كل ساعة
واألنصار لعيادهتا حيقق هذه الصورة التي ّ
تزداد مهه ًا وآالم ًا.
ولذا:
ِ
أصبحت يا بنت رسول اهلل: قالت هل ّن بعد أن سألنها :كيف
وهذا النص الرشيف اثار يف نفوس املتلقي املعاين املكونة للصورة احلقيقة التي
كان عليها حال املسلمني والصحابة وما جنته ايدهيم.
وعليه :فهذه اهلموم املرتاكمة واملتشابكة حتتاج أوالً اىل التفرقة والتجزئة وهو
املرحلة االوىل من زواهلا وتغري حال فاطمة (عليها السالم).
القصدية الثانية :نشر هذه اآلالم بني الناس ملعرفة حقيقة ما جرى .
إن الوضع الوجداين الذي عليه الناس رجاالً ونساء ًا حينام يصاب احدهم ًَ
بأحزان ومهوم واالم تسبب يف وقوعها شخص ما ،أو جمموعة من االشخاص،
هو حاجتهم اىل نرش هذه اهلموم واآلالم كي يطلع السامع أو املتلقي عىل حقيقة ما
جرى عىل املظلوم من ظلم واذى ،فينترص له ولو من قبيل اطالع املتلقي عىل حجم
الظلم الذي نزل بالضحية وما جنته أيدي اجلناة.
193 بمعنى:
مقتىض داللة اللفظ ومعناه هنا يكون نرش اخلرب وذياعه بني الناس وال يقترص اإلخبار
عىل شخص واحد؛ وذلك أن بعض هذه اهلموم واألحزان واآلالم حتتاج اىل نرشها
بني الناس ،وبعضها اآلخر -أي هذه اآلالم -حتتاج أن تذكر اىل شخص واحد.
ولذا:
نجده (عليه الصالة والسالم) قال« :كم من غليل» بمعنى :مل يكن مه ًا واحد ًا
وال أمل ًا واحد ًا أو حزن ًا أو مصاب ًا واحدا؛ وانام هناك كثرة يف هذه اآلالم واهلموم
واالحزان وهي بحاجة اىل النرش؛ لكن ليست كلها يمكن أن ي ّطلع عليها الناس،
فبعضها ال يمكن البوح هبا ّإل اىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله).
ولذلك:
أردفه (عليه السالم) بلفظ (السبيل) ،وهذه القصدية يف النرش بني الناس مع كثرة
اآلالم واهلموم جاءت من خالل قوله تعاىل:
القصدية الثالثة :اختصاص اللفظ بكاشفية حال املرض واحلزن ودرجته .
وهذه القصدية جاءت من خالل قول العرب ملن يفيض هبمه وحزنه اىل صاحبه
بــ (ال َب ُّث).
و (ال َب ُّث) يف األصل شدة احلزن واملرض الشديد ،كأنه من شدته يبثه اىل صاحبه(((.
وهو كاشف عن حال فاطمة (عليها السالم) وما اصحاهبا من احلزن واظهار
حجم هذا احلزن واملرض الذي نزل هبا.
بمعنى قد يتبادر اىل ذهن املتلقي من خالل النصوص التارخيية واحلديثة بأهنا
كانت مريضة وحزينة لكن هذه النصوص غري قادرة عىل بيان درجة هذا احلزن
واملرض ومن ثم اراد االمام امري املؤمنني (عليه السالم) من خالل قوله «مل جتد اىل
بثه سبيال» بيان حجم املرض واحلزن ،أي :قصد يف ذلك حال املرض وانعكاسه
عىل فاطمة ،فاحلزن شديد ،واملرض شديد ،اىل احلد الذي أصبحت فيه بحاجة اىل
أن تتكلم عن مرضها.
195 بمعنى :بلغ هبا احلزن واملرض اىل درجة ال تستطيع التحمل معه؛ ومن ثم البد أن
تتكلم وتتحدث عن هذا احلزن واملرض.
ولكن هذا احلال الذي بلغ أعىل درجات التحمل ،مل جتد فاطمة (عليها السالم)
من ختربه به؛ أو أهنا وجدت من ختربه بحزهنا ومرضها لكنها مل تفعل ألسباب أكرب
من هذا املرض واحلزن وهو ما سنتناوله بعد ايراد القصدية الرابعة يف قوله «مل جتد
اىل بثه سبيال».
ً
أسرارا مل يكن ليطلع عليها غري رسول اهلل (. ) القصدية الرابعةّ :
إن لديها
وهذه القصدّ ية التي أكتنزها (البث) يف معانيه وداللته جاءت من خالل اضافة
أهل اللغة األلف اىل اللفظ ،فيقالَ ( :أ َب َثثت فالنا رسي ابثاثا ،أي :اطلعته عليه
وأظهرته له)(((.
أن النصوص وإن كانت نقلت جانبا من ظواهر وهو أمر يف غاية االمهية وذلك ّ
احلدث ّإل ّأنا لن تستطيع بأي شكل من االشكال أن ت ّطلع عىل دقائق االمور
السيام ّ
وأن األمر مرتبط ببنت رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) والذي يلزم أن حتاط
بجملة من احلدود الرشعية التي جاء هبا القرآن والنبي (صىل اهلل عليه واله).
اال احلدث كشف عن حقيقة ايامن هذه الزمرة التي اقتحمت أقدس بيت يف
الوجود ،فهو مهبط األمالك ومنزل الوحي ومزار األنبياء ومعدن الرسالة وأصل
النبوة وغريها من الشؤون االهلية ،ولكن احلدث كان كفي ً
ال بتعري تلك الوجوه
عن حقيقة ارتباطها باإلسالم ونبيه (صىل اهلل عليه واله).
ومن ثم :يعد احلدث بجملته كاشفا عن رسائر النفوس التي اجرتمت واجرتأت
عىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) وهذا هو الرس األول الذي ستبثه فاطمة اىل
رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله). 196
من هنا :نجد القرآن والنبي االكرم (صىل اهلل عليه واله) قد كشفا جانبا من هذه
االرسار التي تبثها فاطمة اىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) ،فالوحي اخرب عن
حال بعض هؤالء يف اكثر من موضع كام يف قوله تعاىل:
وستُطلع فاطمة أبيها (صىل اهلل عليه وآله) عىل أولئك األصحاب الذين ارتدّ وا منذ
َ
أن فارقهم رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) ستقول له (فالن وفالن) وتعدّ له أسامئهم.
إن فاطمة (عليها السالم) كتمتها عىل عيل (عليه السالم) وعىل أوالدها ،ومل تطلع ّ
أحد ًا عليها ،ومنها لطمها عىل خدها ،واصابة عينها بغمد السيف الذي كان بيد
قنفذ ،حين ًا وبكف عمر بن اخلطاب حين ًا ،اخر عندما خرجت خلف القوم ،وهم
يقودون االمام عيل (عليه السالم) اىل ايب بكر كي يبايعه عىل أنه اخلليفة عنوة وقهر ًا
197
والن القوم اقتحموا الدار بعد أن أرضموا النار فيه؛ والن عمر بن اخلطاب كان
قد هددها من قبل بحرق دارها بمن فيه إن دخل عليها بعض الصحابة الرافضني
للسقيفة وبيعة اخلليفة كام يروي ابن شيبة الكويف(((.
والن عمر بن اخلطاب ملا جاء بالنار قيل له( :يا أبا حفص ّ
إن يف الدار فاطمة)،
فر َّد قائالً« :وإن»(((.
وهلذا وغريه كان احلدث عند فاطمة يف قتلهم لعيل (عليه السالم) أقرب اىل
البداهة يف الوقوع ،السيام وقد خذله النارص ،وختىل عنه القريب ،وقيده الصرب
عىل ما نزل به ،وأوثقه حفظ االسالم ،وإن مدوا عنقه حينها ليرضبوه فلن ِ
يبال،
ومل يكن لريفع بوجههم السيف وهو القادر عىل ابادهتم وجتزيرهم كاألضاحي،
املجرب يف ساحات الوغى واملتمرس ّ فرياكم اجسادهم ويبعثر رؤوسهم ،وهو
عىل مقارعة الشجعان وان تكاثروا؛ فكيف به يف مواجهة خوانع العرب وجبنائها،
ويكفيك يف ذاك من عاد يوم خيرب جيبن الناس وجيبنونه.
((( املصنف ،ج 8ص572؛ املذكر والتذكري البن ايب عاصم ،ص91؛ فضائل الصحابة ألمحد بن
حنبل ،ج 1ص.364
((( اإلمامة والسياسة البن قتيبة بتحقيق الزيني :ج 1ص.19
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وعليه:
فأن فاطمة (عليها السالم) خرجت خلف عيل (عليه السالم) ال لعدم معرفتها
بعيل وصوالته ،وانام لعلمها قاطعة بطاعته وموالته لرسول اهلل (صىل اهلل عليه
أن علي ًا (عليه السالم)
واله) وإن مقتىض احلال الذي أصبح عليه االسالم واهله ّ
لن يرفع السيف بوجه أحد منهم ،ولذا خرجت (عليها السالم) خلفه كي تدافع
عن إمامها وتضحي بنفسها من أجله إن أقدمت الصحابة عىل قتله.
198
أو لعلها خرجت خلف عيل (عليه السالم) لتحرك الرجولة فيهم فريون ّأنا
إمرأة جاءت تذود عن زوجها القتل وتدفع عنه رشهم وجرمهم ،لكنها تلقت
منهم رضبة بغمد السيف عىل وجهها ،فقد أرادوا عدم قدومها خشية انقالب
الناس عليهم وهم ينظرون اىل بنت رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) تذود عن عيل
(عليه السالم).
من هنا:
كانت قد كتمت عىل أمري املؤمنني (عليه السالم) ما حلق بعينها وخدها من ارضار
بفعل رضبة ابن اخلطاب.
القصدية اخلامسة :تعذر السبيل مع وجود االمام علي ( )فسكتت (. )
ّ
إن النبي األعظم (صىل اهلل عليه واله) كان قد أخربها واالمام عيل (عليه السالم)
وولدامها بام جيري عليها ،ولكن هذا البيان مل يكشف عن حجم األرضار ،أو أنه مل
يكشف عن اجلزئيات الدقيقة.
كام يروي الشيخ الصدوق (عليه الرمحة والرضوان) عن االمام عيل (عليه السالم) قال:
املبحث العشرون :املقاصدية يف َ
احل ّف واالستخبار واالعتالج . .
«بينام أنا وفاطمة واحلسن واحلسني عند رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) إذ ألتفت
الينا فبكى ،فقلت:
ما يبكيك يا رسول اهلل؟
فقال :أبكي مما يصنع بكم بعدي.
فقلت :وما ذاك يا رسول اهلل؟
199 قال :أبكي من رضبتك عىل القرن ،ولطم فاطمة خدها ،وطعنة احلسن يف الفخذ
والسم الذي يسقى ،وقتل احلسني.
قال :فبكى أهل البيت مجيعا ،فقلت يا رسول اهلل:
ما خلقنا ربنا ّإل للبالء؟ ،قال:
أبرش يا عيل ،فإن اهلل عز وجل قد عهد ا َّيل أنّه ال حيبك ّإل مؤمن وال يبغضك ّإل
منافق»(((.
ولذا :مل جتد اىل (بثه سبيال) ،أي َّ
أن القصدية يف فقدان السبيل يف بث هذه االالم
وما جرى عليها من أرضار كانت تكمن يف االسباب االتية:
-1أن ب َّثته اىل عيل (عليه السالم) أدخلت عليه االذى وألهنا انموذج الزوجة
أن ذلك من أشد ما يتعرض له الصاحلة كتمت عن زوجها أحزاهنا وهي العاملة ّ
الرجل حينام ترضب زوجته.
ّ -2
إن االمام عيل (عليه السالم) كان يدرك حاهلا ولكن مل يطلب منها أن تتحدث
كي ال هييج اآلمها وأوجاعها كاجلمر الذي غ ّطاه الرماد فأي حرمة لرفع الرماد
يظهر نار اجلمر.
فكان يتجنب اذاها ،علام منه بجاللة قدرها ،وأن هذا األمل سيدخل عىل قلب
رسول اهلل (صىل اهلل عليه واله) فكيف له أن يعيص اهلل طرفة عني.
-3إن تكلمت فاطمة (عليها السالم) لزم من عيل االنتصار هلا ممن ظلمها،
أن واجبه ليس القصاص ممن ظلمها وإنام العمل بام أوصاه به النبي وألهنا تدرك ّ
(صىل اهلل عليه واله) بالصرب عىل ما نزل هبم آل البيت حتى حيكم اهلل؛ فلذا سكتت
ومل جتد السبيل اىل الكالم.
200
ّ -4إنا عملت بتكليفها الرشعي يف اعانة عيل (عليه السالم) عىل حفظ اهلدف
األكرب وهو االسالم ،فهي واإلمام عيل رشكاء يف حفظ دين النبي (صىل اهلل عليه
واله) ،فهي حتملت ما نزل هبا وصربت عىل كتمه عن عيل (عليه السالم) ،وهو
كتم ما نزل به من االعتداء عىل فاطمة عىل حليلته و ُأم عياله ومل تأخذه احلم ّية عىل
االنتصار ممن ظلمها عىل احلمية عىل الدين وحفظه.
ومما ال ريب فيه أن لفاطمة كثري من األرسار التي ستطلع أبيها عليها ،وتبثها له
(صىل اهلل عليه وآله) فهو السبيل الوحيد ملا اعتلج بصدرها من غليل أحرق قلبها.
ولذا:
لتكتمل بذلك قصديته فيام يعقب هذا القول من آثار أراد بياهنا لدى املتلقي وهو
ما سنتناوله يف املبحث القادم إن شاء اهلل تعاىل.
املبحث احلادي والعشرون
ْكمُ َّ
الله» «وسَ َت ُق ُ
ول ويَح ُ
يرشد النص الرشيف يف هذا املوضع اىل الرتكيز يف تأثري ما تقدم عىل املتلقي،
وذلك ّ
أن املتلقي للنص كان يسري معه يف ثالثة امور ،وهي:
أوالً -بيانه (عليه الصالة والسالم) لشأنية فاطمة وبيان منزلتها عند رسول اهلل
(صىل اهلل عليه وآله) ضمن الدالالت االتية:
(ابنتك ،حبيبتك ،قرة عينك ،زائرتك ،النازلة يف جوارك ،البائتة الثرى ببقعتك،
صفيتك ،سيدة نساء العاملني).
ثانيا -بيانه آلثار وفاة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وفقده وما قام به (عليه
السالم) من جتهيز رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وأن مصابه برسول اهلل (صىل
هون عليه مصابه بفقد فاطمة (عليها السالم) كام جاء يف املفرداتاهلل عليه وآله) ّ
االتية:
ثالثا -بيانه آلثار مصيبة فقد الزهراء عليه ،وما نزل به من االمل واحلزن لفقدها
مقرونا ذلك ببيان بعض شانيتها عند اهلل تعاىل ورسوله (صىل اهلل عليه وآله) كام
جاءت به املفردات االتية:
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
«أما حزين فرسمد ،وأما لييل فمسهد ،ال يربح احلزن من قلبي اىل أن خيتار اهلل يل
دارك التي أنت هبا مقيم».
هذه املقاطع الثالثة كانت ترشد اىل حقلني معرفيني أساسيني لدى املتلقي ،ومها:
أ -االثار املعنوية املرتبطة بشأنيتها ومنزلتها ،وهي ختتص بحقل املعارف العقدية. 204
ومن ثم فإن هذان احلقالن املعرفيان كانا متهيدا ملا سيأيت من بيان حول تاريخ
األمة وما عملته الصحابة بعد وفاة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) واجتامعهم عىل
سلب حق العرتة (عليهم السالم) وانتهاك حدود اهلل تعاىل من جهة ،ومن جهة
اخرى ما يتبع هذه االفعال من أثار عىل احلياة االجتامعية واالقتصادية والعقدية.
بمعنى:
فتح (عليه السالم) ذهن املتلقي اىل حقلني معرفيني جديدين مها:
-2احلقل القانوين والقضائي واجلزائي يف معاقبة اجلناة ومن رىض هبذه اجلرائم
ووقف مع الظامل ومل ينرص املظلوم.
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
والسريي والسيايس:
ّ اوالً -يف احلقل التارخيي
املسألة االوىل :قصدية االستقبال القريب بني قوهلا واحلكم االهلي «ستقول
وحيكم اهلل» .
ّ
إن حلرف السني يف االستعامل الداليل يف اللغة تفيد يف وقوع األمر أو الفعل يف
الزمن احلارض أو الزمن القريب؛ وال يفيد التأخري أو التأجيل كام تدل (سوف).
ولذا:
يدل النص الرشيف يف تقديم الـ(سني) يف الفعل (تقول) وعطف الفعل «حيكم»
اىل املالزمة يف داللة معنى الفعلني ووقوعهام الزمني ،بمعنى:
أهنا ( عليها السالم) األن تقول ويالزمه احلكم يف نفس الوقت من حني صدور
قوهلا ،وهذا يكشف عن القصدية يف هذه املالزمة بني قول فاطمة وصدور احلكم
االهلي واملحددة هنا بأمرين:
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
األمر األول :رضا اهلل لرضا فاطمة (عليها السالم) وغضبه عز وجل لغضبها.
األمر الثاين :مصاديق املالزمة يف صدور العقوبة االهلية يف القرآن والتاريخ وبيان
األمرين ،كام ييل:
أوالً :املالزمة بني غضب اهلل تعاىل وغضب فاطمة (. )
إن ما بني جتليات املقاصدية التي اكتنزها النص يف (ستقول وحيكم) هو أن ّ
السنة األوىل (العدمية يف
املالزمة بني القول واحلكم كان نتيجة لسنتني اهليتنيُّ ، 206
والسنة اآلخرى (العدمية يف التحويل).
التبديل)ُّ ،
وقد جاء ذلك يف قوله تعاىل:
وقد نص القران الكريم عىل أن أذى النبي (صىل اهلل عليه وآله) هو أذى اهلل تعاىل
وإن النتيجة هلذه املالزمة يف استحقاق اآلثار وتبعات األذى هي اللعنة اإلهلية
والعذاب األليم ،قال تعاىل:
.(((
ًا﴾ ن ي ون اللََّ َو َر ُسو َل ُه َل َعن َُه ُم اللَُّ ِف الدُّ ْن َيا َو ْالَ ِخ َر ِة َو َأ َعدَّ َُل ْم َع َذا ًبا ُم ِ
ه َ ين ُي ْؤ ُ
ذ َ
﴿إِ َّن ا َّل ِ
ذ
207
وعليه:
فإن من السنن األهلية أن يرىض اهلل تعاىل لرىض فاطمة (عليها السالم) ويغضب
لغضبها ،ومن ثم أين تكمن العالقة ،وأين تكون املغايرة بني غضب اخلالق وغضب
املخلوق ،أي بني غضب اهلل تعاىل وغضب فاطمة (عليها السالم)؟
-1البد أوالً من التفريق بني املغايرة التي يراد هبا اتصاف اخلالق باملخلوق ،وبني
املغايرة التي يراد هبا الرشيعة ،يعني :أننا حينام نريد أن نصف الغضب من حيث
كونه غضب ًا فالبد أن نلتفت إىل أن هناك تغايرا يف منشئ الغضب وظهوره وحتققه
يف اخلارج ،بحيث يلحق منشئ الغضب لدى اإلنسان وظهوره وحتققه يف اخلارج
عز وجل وهذا ال جيوز رشع ًا ،فغضب اخلالق مغاير بالكلية لغضب املخلوق. باخلالق ّ
((( صحيح البخاري ،باب مناقب املهاجرين :ج( )3ص( ،)219صحيح مسلم ،باب فضائل فاطمة :ج()7
ص(.)141
((( صحيح البخاري ،باب النكاح :ج( )6ص( ،)158صحيح مسلم ،باب فضائل فاطمة؛ ج()7
ص(.)141
((( سورة االحزاب ،اآلية (.)57
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
أما أن يكون غضب األنبياء واملرسلني احلادث النتهاك الرشيعة ،وتعدي احلدود
اإلهلية ،فهو يف الواقع غضب اهلل تعاىل وبه تنشئ العالقة بني الغضبني والرضاءين،
ألن املحرك هلذا الغضب هو احلكم الرشعي.
إالّ أن تبعات هذا الغضب والرضا بني اخلالق سبحانه واملخلوق خمتلفة؛ ومغايرة،
وهي املغايرة الرشعية ،بمعنى :أن تبعات غضب اخلالق سبحانه :هو الدخول يف
النار ،وتبعات رضاه ،هو الدخول يف اجلنة ،أما األنبياء واملرسلون واألئمة فهم ال
208
يملكون جنة وال نار وإنام هم السبل املؤدية إىل اجلنة والنار.
وهذا املعنى قد ّ
دل عليه احلديث الرشيف لإلمام الصادق (عليه السالم) يف بيانه
لقول اهلل تعاىل:
ّ
(إن اهلل تبارك وتعاىل ال يأسف كأسفنا ،ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون
ويرضون ،وهم خملوقون مدبرون ،فجعل رضاهم لنفسه رىض ،وسخطهم لنفسه
سخطا ،وذلك ألنه جعلهم الدعاة إليه واألدالء عليه ،فلذلك صاروا كذلك،
وليس أن ذلك يصل إىل اهلل كام يصل إىل خلقه ،ولكن هذا معنى ما قال من ذلك،
وقد قال أيضا :من أهان يل وليا فقد بارزين باملحاربة ودعاين إليها ،وقال أيضا:
وقال أيضا:
ون اللََّ َيدُ اللَِّ َف ْو َق َأ ْي ِدهيِ ْم َف َم ْن َنك َ
َث َفإِن ََّم َينْك ُ
ُث َك إِن ََّم ُي َبايِ ُع َ
ين ُي َبايِ ُعون َ ِ
﴿إِ َّن ا َّلذ َ
اهدَ َع َل ْي ُه اللََّ َف َس ُي ْؤتِ ِيه َأ ْج ًرا َعظِ ًيم﴾(((. ِ ِ
َع َل َن ْفسه َو َم ْن َأ ْو َف بِ َم َع َ
وكل هذا وشبهه عىل ما ذكرت لك ،هكذا الرضا والغضب وغريمها من األشياء
مما يشاكل ذلك ولو كان يصل إىل املكون األسف والضجر وهو الذي أحدثهام
وأنشأمها جلاز لقائل أن يقول :إن املكون يبيد يوما ما ،ألنه إذا دخله الضجر
والغضب دخله التغيري وإذا دخله التغيري مل يؤمن عليه اإلبادة ،ولو كان ذلك كذلك 209
مل يعرف املكون من املكون ،وال القادر من املقدور ،وال اخلالق من املخلوق ،تعاىل
اهلل عن هذا القول علوا كبريا ،هو اخلالق لألشياء ال حلاجة ،فإذا كان ال حلاجة
استحال احلد والكيف فيه ،فافهم ذلك إن شاء اهلل)(((.
واحلديث الرشيف واضح الداللة واملعنى يف بيان العالقة بني غضب اهلل تعاىل
وبني غضب أولياءه ،وإن املناط يف ذلك هو احلكم الرشعي فهؤالء األنبياء
واملرسلني واألئمة غضبهم هلل ورضاهم له ولذلك جعلهم لنفسه سبحانه.
-2ال يكون الغضب من اهلل تعاىل إال هبتك احلرمات ،وحرمات اهلل تعاىل حتددها
الرشائع الساموية بحسب الرضورة الرشعية واملصالح الدينية التي حيددها اهلل تعاىل
لكل نبي من األنبياء وإن كانوا مجيع ًا قد بعثوا ملحاربة الوثنية واإلرشاك باهلل تعاىل
وقاموا بالدعوة إىل التوحيد.
فكان انتهاك هذه احلرمات وتعدي حدود اهلل تعاىل هي املوجبة للغضب اإلهلي
وهبا ينزل العذاب عىل املقرتفني هلذه االنتهاكات ،وبصوهنا تنزل الرمحة وتفتح
أبواب السامء وينال رضا اهلل تعاىل.
ولقد حتدث القرآن الكريم عن هذه احلقيقة يف مواضع كثرية تظهر اختالف هذه
احلرمات من دين إىل دين آخر حتى إذا جئنا إىل اإلسالم كانت احلرمات التي ذكرها
القرآن مخسة ،وهي:
(البيت احلرام ،واملسجد احلرام ،والبلد احلرام ،والشهر احلرام ،واملحرم حتى حيل)(((.
ثم كان التعظيم هلذه احلرمات فقال سبحانه:
اص َف َم ِن ا ْعتَدَ ى َع َل ْيك ُْم َفا ْعتَدُ وا الرم ُ ِ الش ْه ِر َْ ال َرا ُم بِ َّ
ات ق َص ٌ ال َرا ِم َو ُْ ُ َ ﴿الش ْه ُر َْ
َّ
210
ِ ِ ِ
ني﴾(((. َع َل ْيه بِم ْث ِل َما ا ْعتَدَ ى َع َل ْيك ُْم َوا َّت ُقوا اللََّ َوا ْع َل ُموا َأ َّن اللََّ َم َع ا ُْلتَّق َ
كي يبتىل املسلم يف هذه احلرمات فريى اهلل سبحانه كيف يعظمها عباده فيختربهم
ويمتحنهم هبا كام امتحن الذين من قبلهم.
وهذه احلقيقة واحلكمة يف هذا االبتالء ب ّينها اإلمام أيب جعفر الباقر (عليه السالم) حينام
حتدث عن القرآن ومن تكلم فيه من الناس بدون علم وال هدى فقال (عليه السالم):
«إن ناسا تكلموا يف هذا القرآن بغري علم وذلك أن اهلل تبارك وتعاىل يقول:
اتاب ٌ َاب َو ُأ َخ ُر ُمت ََش ِ َ مك ََم ٌت ُه َّن ُأ ُّم ا ْلكِت ِ َاب ِمنْ ُه َآ َي ٌ
ات ُ ْ ﴿هو ا َّل ِذي َأ ْنز ََل ع َلي َ ِ
ك ا ْلكت َ َ ْ ُ َ
َاء ت َْأ ِويلِ ِه َو َما َي ْع َل ُم ون ما ت ََشابه ِمنْه ابتِغ ِ ِ ِ
َاء ا ْلف ْتنَة َوا ْبتغ َََ ُ ْ َ ين ِف ُق ُل ِ
وبِ ْم َز ْيغٌ َف َي َّتبِ ُع َ َ
ِ
َف َأ َّما ا َّلذ َ
ون َآ َمنَّا بِ ِه ك ٌُّل ِم ْن ِعن ِْد َر ِّبنَا َو َما َي َّذك َُّر إِ َّلون ِف ا ْل ِع ْل ِم َي ُقو ُل َ اسخُ َ ت َْأ ِوي َله إِ َّل اللَُّ والر ِ
َ َّ ُ
اب﴾(((. ُأو ُلو ْالَ ْل َب ِ
ثم دعاهم إىل اهلل وحده وأن يعبدوه وال يرشكوا به شيئا ،ثم بعث األنبياء (عليهم
السالم) عىل ذلك إىل أن بلغوا حممدا (صىل اهلل عليه وآله) فدعاهم إىل أن يعبدوا
اهلل وال يرشكوا به شيئا وقال:
ِ ِ ِ ِ (ش َع َلك ُْم ِم َن الدِّ ِ
يمُوحا َوا َّلذي َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي َك َو َما َو َّص ْينَا بِه إِ ْب َراه َ ين َما َو َّص بِه ن ً ََ
وه ْم إِ َل ْي ِه
ني َما تَدْ ُع ُش ِك َ َب َع َل ا ُْل ْ ِ ِ ِ ِ
يسى َأ ْن َأق ُ
يموا الدِّ ي َن َو َل َت َت َف َّر ُقوا فيه ك ُ َ
ِ
وسى َوع َ َو ُم َ
211 ِ ِ ِ ِ
يب)(((.يتَبِي إِ َل ْيه َم ْن َي َشا ُء َو َ ْيدي إِ َل ْيه َم ْن ُين ُاللَُّ َ ْ
فبعث األنبياء إىل قومهم بشهادة أن ال إله إال اهلل واإلقرار بام جاء (به) من عند اهلل
فمن آمن خملصا ومات عىل ذلك أدخله اهلل اجلنة بذلك ،وذلك أن اهلل ليس بظالم
للعبيد ،وذلك أن اهلل مل يكن يعذب عبدا حتى يغلظ عليه يف القتل واملعايص التي
أوجب اهلل عليه هبا النار ملن عمل هبا ،فلام استجاب لكل نبي من استجاب له من
قومه من املؤمنني ،جعل لكل نبي منهم رشعة ومنهاجا ،والرشعة واملنهاج سبيل
وسنة وقال اهلل ملحمد (صىل اهلل عليه وآله) :إنا أوحينا إليك كام أوحينا إىل نوح
والنبيني من بعده.
وأمر كل نبي باألخذ بالسبيل والسنة وكان من السنة والسبيل التي أمر اهلل عز
وجل هبا موسى (عليه السالم) أن جعل اهلل عليهم السبت وكان من أعظم السبت
ومل يستحل أن يفعل ذلك من خشية اهلل ،أدخله اهلل اجلنة ومن استخف بحقه
واستحل ما حرم اهلل عليه من عمل الذي هناه اهلل عنه فيه ،أدخله اهلل عز وجل النار
وذلك حيث استحلوا احليتان واحتبسوها وأكلوها يوم السبت ،غضب اهلل عليهم
من غري أن يكونوا أرشكوا بالرمحن وال شكوا يف يشء مما جاء به موسى (عليه
السالم) ،قال اهلل عز وجل:
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ني﴾(((. ين ا ْعتَدَ ْوا منْك ُْم ِف َّ
الس ْبت َف ُق ْلنَا َُل ْم كُونُوا ق َر َد ًة َخاسئ َ ﴿و َل َقدْ َعل ْمت ُُم ا َّلذ َ
َ
ثم بعث اهلل عيسى (عليه السالم) بشهادة أن ال إله إال اهلل واالقرار بام جاء به من
عند اهلل وجعل هلم رشعة ومنهاجا فهدمت السبت الذي أمروا به أن يعظموه قبل
ذلك وعامة ما كانوا عليه من السبيل والسنة التي جاء هبا موسى فمن مل يتبع سبيل
212
عيسى أدخله اهلل النار وإن كان الذي جاء به النبيون مجيعا أن ال يرشكوا باهلل شيئا،
ثم بعث اهلل حممدا (صىل اهلل عليه وآله) وهو بمكة عشـر سنني فلم يمت بمكة يف
تلك العرش سنني أحد يشهد أن ال إله إال اهلل وأن حممدا (صىل اهلل عليه وآله) رسول
اهلل إال أدخله اهلل اجلنة بإقراره وهو إيامن التصديق ومل يعذب اهلل أحدا ممن مات
وهو متبع ملحمد (صىل اهلل عليه وآله) عىل ذلك إال من أرشك بالرمحن وتصديق
ذلك أن اهلل عز وجل أنزل عليه يف سورة بني إرسائيل بمكة:
ِ ِ ِ ِ ِ ِ َ
ها ب َأ َحدُ ُ َ ِ ِ
﴿و َق َض َر ُّب َك أ َّل َت ْع ُبدُ وا إ َّل إ َّيا ُه َوبا ْل َوالدَ ْي ِن إ ْح َسانًا إ َّما َي ْب ُلغ ََّن عنْدَ َك ا ْلك َ َ َ
ف و َل َتنْهر ُها و ُق ْل َُلم َقو ًل ك َِريم ( )23و ْ ِ ِ
َاحاخف ْض َُل َم َجن َ َ ً َ ْ َْ َ َ ها َف َل َت ُق ْل َُل َم ُأ ٍّ َ َأ ْو ك َل ُ َ
وسك ُْم الذ ِّل ِمن الرح ِة و ُق ْل رب ارحهم كَم ربي ِان ص ِغريا ( )24ربكُم َأع َلم بِم ِف ُن ُف ِ ُّ
َ ُّ ْ ْ ُ َ َ َّ ْ َ َ َ ِّ ْ َ ْ ُ َ َ َ َّ َ َ ً
ِ ِ ِ َان لِ ْ َ
ني َفإِ َّن ُه ك َ ِ
ني َوا ْب َن ورا (َ )25و َآت َذا ا ْل ُق ْر َبى َح َّق ُه َوا ْل ْسك َ ني َغ ُف ً ل َّوابِ َ إِ ْن َتكُونُوا َصال َ
ان لِ َر ِّب ِه
الش ْي َط ُ َان َّني َوك َ الش َياطِ ِان َّ ين كَانُوا إِ ْخ َو َ ِ
يل َو َل ُت َب ِّذ ْر َت ْبذ ًيرا ( )26إِ َّن ا ُْل َب ِّذ ِر َ السبِ َِّ
ِ ٍ ِ
ورا وها َف ُق ْل َُل ْم َق ْو ًل َم ْي ُس ً حة م ْن َر ِّب َك ت َْر ُج َ ورا (َ )27وإِ َّما ُت ْع ِر َض َّن َعن ُْه ُم ا ْبتغ َ
َاء َر ْ َ َك ُف ً
ِ ِ
ورا م ُس ً وما َ ْ (َ )28و َل َ ْت َع ْل َيدَ َك َم ْغ ُلو َل ًة إِ َل ُعنُق َك َو َل َت ْب ُس ْط َها ك َُّل ا ْل َب ْسط َف َت ْق ُعدَ َم ُل ً
اد ِه َخبِ ًريا َب ِص ًريا﴾(((. َان بِ ِعب ِ ِ ِ
اء َو َي ْقد ُر إِ َّن ُه ك َ َ الرز َْق َل ْن َي َش ُ ( )29إِ َّن َر َّب َك َي ْب ُس ُط ِّ
((( سورة البقرة ،اآلية (.)65
((( سورة اإلرساء ،اآليات ( 23ــ.)30
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
أدب وعظة وتعليم وهني خفيف ومل يعد عليه ومل يتواعد عىل اجرتاح يشء مما هنى
عنه وأنزل هنيا عن أشياء حذر عليها ومل يغلظ فيها ومل يتواعد عليها وقال:
َان ِخ ْطئًا ﴿و َل َت ْق ُت ُلوا َأ ْو َل َدك ُْم َخ ْش َي َة إِ ْم َل ٍق ن َْح ُن ن َْر ُز ُق ُه ْم َوإِ َّياك ُْم إِ َّن َق ْت َل ُه ْم ك َ َ
اء َسبِ ًيل (َ )32و َل َت ْق ُت ُلوا ال َّن ْف َس َكبِريا ( )31و َل َت ْقربوا ال ِّزنَا إِ َّنه ك َ ِ
َان َفاح َش ًة َو َس َ ُ َُ َ ً
ف ِف ِ ِ ِ
وما َف َقدْ َج َع ْلنَا ل َول ِّيه ُس ْل َطانًا َف َل ُي ْ ِ ِ ا َّلتِي َح َّر َم اللَُّ إِ َّل بِ َْ
س ْ ال ِّق َو َم ْن ُقت َل َم ْظ ُل ً
ورا (َ )33و َل َت ْق َر ُبوا َم َال ا ْل َيتِي ِم إِ َّل بِا َّلتِي ِه َي َأ ْح َس ُن َحتَّى َي ْب ُلغَ َان َمن ُْص ً ا ْل َقت ِْل إِ َّن ُه ك َ
213
ُول (َ )34و َأ ْو ُفوا ا ْل َك ْي َل إِ َذا كِ ْلت ُْم َو ِزنُوا َان َم ْسئ ً َأ ُشدَّ ُه َو َأ ْو ُفوا بِا ْل َع ْه ِد إِ َّن ا ْل َع ْهدَ ك َ
ك بِ ِه ِع ْل ٌم ف َما َل ْي َس َل َ ك َخ ْ ٌي َو َأ ْح َس ُن ت َْأ ِو ًيل (َ )35و َل َت ْق ُ اس ا ُْل ْست َِقي ِم َذلِ َ بِا ْل ِق ْس َط ِ
ضش ِف ْالَ ْر ِ ُول (َ )36و َل َت ْ ِ َان َعنْ ُه َم ْسئ ً كك َ ص َوا ْل ُف َؤا َد ك ُُّل ُأو َلئِ َ الس ْم َع َوا ْل َب َ َإِ َّن َّ
َان َس ِّي ُئ ُه ِعنْدَكك َ ول ( )37ك ُُّل َذلِ َ ال َب َال ُط ً َّك َل ْن َ ْت ِر َق ْالَ ْر َض َو َل ْن َت ْب ُلغَ ِْ َم َر ًحا إِن َ
الك َْم ِة َو َل َ ْت َع ْل َم َع اللَِّ إِ ًَلا َآ َخ َر ك ِمن ِْ
ك َر ُّب َ َ ك ِمَّا َأ ْو َحى إِ َل ْي َ وها (َ )38ذلِ َ ك َمك ُْر ً َر ِّب َ
ورا﴾(((. َف ُت ْل َقى ِف َج َهن ََّم َم ُل ً
وما َمدْ ُح ً
وأنزل يف:
الذك ََر َو ْالُ ْن َثى ( )3إِ َّن ار إِ َذا َ َت َّل (َ )2و َما َخ َل َق َّ ﴿وال َّل ْي ِل إِ َذا َيغ َْشى (َ )1والن ََّه َِ
ِ َس ْع َيك ُْم َل َشتَّى (َ )4ف َأ َّما َم ْن َأ ْع َطى َوا َّت َقى (َ )5و َصدَّ َق بِ ُْ
سى س ُه ل ْل ُي ْ َ
ال ْسنَى (َ )6ف َسنُ َي ِّ ُ
ِ خ َل َو ْاس َت ْغنَى (َ )8وك ََّذ َب بِ ُْ ( )7و َأما من ب ِ
سى (َ )10و َما س ُه ل ْل ُع ْ َ ال ْسنَى (َ )9ف َسنُ َي ِّ ُ َ َّ َ ْ َ
ول ()13 ل ِخ َر َة َو ْالُ َ ُيغْنِي َعنْ ُه َما ُل ُه إِ َذا ت ََر َّدى ( )11إِ َّن َع َل ْينَا َل ْل ُهدَ ى (َ )12وإِ َّن َلنَا َل ْ َ
َارا َت َل َّظى (َ )14ل َي ْص َل َها إِ َّل ْالَ ْش َقى ( )15ا َّل ِذي ك ََّذ َب َوت ََو َّل﴾(((. َف َأن َْذ ْر ُتك ُْم ن ً
تت (َ )2وإِ َذا ْالَ ْر ُض ُمدَّ ْت (َ )3و َأ ْل َق ْ َت لِ َر ِّ َبا َو ُح َّق ْت (َ )1و َأ ِذن ْ الس َم ُء ان َْش َّق ْ﴿إِ َذا َّ
ك َاد ٌح إِ َل َر ِّب ََّك ك ِ ان إِن َ ت (َ )5يا َأ ُّ َيا ْ ِ
الن َْس ُ َت لِ َر ِّ َبا َو ُح َّق ْ ت (َ )4و َأ ِذن ْ َما فِ َيها َو َ َت َّل ْ
ب ِح َسا ًبا َي ِس ًريا ()8 اس ُ
ي َ
ف َُ وت كِتَا َب ُه بِ َي ِمين ِ ِه (َ )7ف َس ْو َ ُ ِ َ ِ ِ
كَدْ ًحا َف ُم َلقيه (َ )6فأ َّما َم ْن أ َ
ف َيدْ ُعو وت كِتَا َب ُه َو َر َاء َظ ْه ِر ِه (َ )10ف َس ْو َ ُ ِ َ
ورا (َ )9وأ َّما َم ْن أ َ س ً
َ ِِ
ب إِ َل أ ْهله َم ْ ُ
ِ
َو َينْ َقل ُ
ُثبورا ( )11ويص َل س ِعريا ( )12إِ َّنه ك َ ِ َ ِ ِ
ور
ي َ ورا ( )13إِ َّن ُه َظ َّن َأ ْن َل ْن َ ُ س ً َان ف أ ْهله َم ْ ُ ُ ََ ْ َ ً ُ ً
َان بِ ِه َب ِص ًريا﴾(((. (َ )14ب َل إِ َّن َر َّب ُه ك َ 214
فهذا مرشك وأنزل يف (سورة) تبارك:
ظ ُك َّل َم ُأ ْل ِق َي فِ َيها َف ْو ٌج َس َأ َُل ْم َخ َز َنت َُها َأ َل ْ َي ْأتِك ُْم ن َِذ ٌير (َ )8قا ُلوا
﴿ َتكَاد َتي ُز ِمن ا ْل َغي ِ
ُ َ َّ َ ْ
ش ٍء إِ ْن َأ ْنت ُْم إِ َّل ِف َض َل ٍل َكبِ ٍري﴾(((. ِ ِ
اءنَا نَذ ٌير َفك ََّذ ْبنَا َو ُق ْلنَا َما َنز ََّل اللَُّ م ْن َ ْ
َب َل َقدْ َج َ
فهؤالء مرشكون وأنزل يف الواقعة:
الضا ِّلني (َ )92فنُز ٌُل ِمن حِي ٍم ( )93وتَصلِي ُة ج ِ ﴿و َأما إِ ْن ك َ ِ
حيمٍ﴾(((. َ ْ َ َ ْ َ ني َّ َ َان م َن ا ُْلك َِّذبِ َ َ َّ
فهؤالء مرشكون وأنزل يف احلاقة:
وت كِتَابِ َي ْه (َ )25و َل ْ َأ ْد ِر َما ِح َسابِ َي ْهول َيا َل ْيتَنِي َل ْ ُأ َ وت كِتَا َب ُه بِ ِش َملِ ِه َف َي ُق ُُ ِ ََ
﴿وأ َّما َم ْن أ َ
ك َعنِّي ُس ْل َطانِ َي ْه اض َي َة (َ )27ما َأ ْغنَى َعنِّي َمالِ َي ْه (َ )28ه َل َ َت ا ْل َق ِ ( )26يا َ ليتَها كَان ِ
َ ْ َ
ونيم َص ُّلو ُه (ُ )31ث َّم ِف ِس ْل ِس َل ٍة َذ ْر ُع َها َس ْب ُع َ الح َ
(ُ )29خ ُذوه َف ُغ ُّلوه (ُ )30ثم َْ ِ
َّ ُ ُ
ِ ِ
َان َل ُي ْؤم ُن بِاللَِّ ا ْل َعظيمِ﴾(((. اس ُلكُو ُه ( )32إِ ّن ُه ك َ ِ
ذ َرا ًعا َف ْ
ليس فيهم اليهود الذين قالوا :عزير ابن اهلل ،وال النصارى الذين قالوا :املسيح ابن اهلل.
ك َقو ُلم بِ َأ ْفو ِ
اه ِه ْم ِ ِ ِ ِ
﴿و َقا َلت ا ْل َي ُهو ُد ُع َز ْي ٌر ا ْب ُن اللَِّ َو َقا َلت الن ََّص َارى ا َْلس ُ
يح ا ْب ُن اللَِّ َذل َ ْ ْ َ َ
ين َك َف ُروا ِم ْن َق ْب ُل َقا َت َل ُه ُم اللَُّ َأنَّى ُي ْؤ َفك َ
ُون﴾(((. ِ
ُون َق ْو َل ا َّلذ َ
ي َض ِ
اهئ َ ُ
إذ دعونا إىل سبيلهم ذلك قول اهلل عز وجل فيهم حني مجعهم إىل النار:
فيفلتوا من عظيم ما نزل هبم وليس بأوان بلوى وال اختبار وال قبول معذرة والت
حني نجاة واآليات وأشباههن مما نزل به بمكة وال يدخل اهلل النار إال مرشكا ،فلام
أذن اهلل ملحمد (صىل اهلل عليه وآله) يف اخلروج من مكة إىل املدينة بني االسالم عىل
مخس :شهادة أن ال إله إال اهلل وأن حممدا (صىل اهلل عليه وآله) عبده ورسوله وإقام
الصالة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان وأنزل عليه احلدود وقسمة
الفرائض وأخربه باملعايص التي أوجب اهلل عليها وهبا النار ملن عمل هبا وأنزل يف
بيان القاتل:
لل َع َل ْي ِه َو َل َع َن ُه َو َأ َعدَّ
ب ا َُّ ِ ِ ِ ِ
﴿و َم ْن َي ْقت ُْل ُم ْؤمنًا ُم َت َع ِّمدً ا َف َج َزاؤُ ُه َج َهن َُّم َخالدً ا ف َيها َو َغض َ
َ
َل ُه َع َذا ًبا َعظِ ًيم﴾(((.
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلام إنام وذلك أن آكل مال اليتيم جييء يوم القيامة
والنار تلتهب يف بطنه حتى خيرج هلب النار من فيه حتى يعرفه كل أهل اجلمع أنه
آكل مال اليتيم وأنزل يف الكيل:
ِ ِ
﴿و ْي ٌل ل ْل ُم َط ِّفف َ
ني﴾(((. َ
ومل جيعل الويل الحد حتى يسميه كافرا ،قال اهلل عز وجل:
وأنزل يف العهد:
ك َل َخ َل َق َُل ْم ِف ْالَ ِخ َر ِة ون بِ َع ْه ِد اللَِّ َو َأ ْي َم ِ ِن ْم َث َمنًا َقلِ ًيل ُأو َلئِ َ ِ
ت َ ﴿إِ َّن ا َّلذ َ
ين َي ْش َ ُ
ِ َو َل ُي َك ِّل ُم ُه ُم اللَُّ َو َل َينْ ُظ ُر إِ َل ْي ِه ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة َو َل ُي َزك ِ
يم﴾(((. اب َأل ٌ ِّيه ْم َو َُل ْم َع َذ ٌ
واخلالق :النصيب ،فمن مل يكن له نصيب يف اآلخرة فبأي يشء يدخل اجلنة
وأنزل باملدينة:
ش َك ًة َوالزَّانِ َي ُة َل َينْكِ ُح َها إِ َّل ز ٍ
َان َأ ْو ُم ْ ِ
ش ٌك َو ُح ِّر َم َّان َل َينْكِ ُح َّإل زَانِ َي ًة َأ ْو ُم ْ ِ
﴿الز ِ 218
ِِ َذلِ َ
ني﴾(((. ك َع َل ا ُْل ْؤمن َ
فلم يسم اهلل الزاين مؤمنا وال الزانية مؤمنة وقال رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله):
ليس يمرتي فيه أهل العلم أنه قال:
«ال يزين الزاين حني يزين وهو مؤمن وال يرسق السارق حني يرسق وهو مؤمن
فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه اإليامن كخلع القميص» .ونزل باملدينة:
ني َج ْلدَ ًة ِ َات ُثم َل ي ْأتُوا بِ َأربع ِة ُشهدَ اء َف ِ ون ا ُْلحصن ِ ِ
وه ْم َث َمن َاجلدُ ُ ََْ َ َ ْ َّ ْ َ ين َي ْر ُم َ ْ َ ﴿وا َّلذ ََ
ك ين تَا ُبوا ِم ْن َب ْع ِد َذلِ َ ِ
ون ( )4إِ َّل ا َّلذ َ
ك هم ا ْل َف ِ
اس ُق َ ِ
َو َل َت ْق َب ُلوا َُل ْم َش َها َد ًة َأ َبدً ا َو ُأو َلئ َ ُ ُ
ِ
يم﴾(((. ور َرح ٌ َو َأ ْص َل ُحوا َفإِ َّن اللََّ َغ ُف ٌ
فربأه اهلل ما كان مقيام عىل الفرية من أن يسمى بااليامن ،قال اهلل عز وجل:
َان َف ِ
اس ًقا َل َي ْست َُو َ
ون﴾(((. َان ُم ْؤ ِمنًا ك ََم ْن ك َ َ
﴿أ َف َم ْن ك َ
َات ُل ِعنُوا ِف الدُّ ْن َيا َو ْالَ ِخ َر ِة ت ا ُْل ْؤ ِمن ِ َات ا ْلغَافِ َل ِ ون ا ُْلحصن ِ ِ
﴿إِ َّن ا َّلذ َ
ين َي ْر ُم َ ْ َ
يم (َ )23ي ْو َم ت َْش َهدُ َع َل ْي ِه ْم َأ ْل ِسنَت ُُه ْم َو َأ ْي ِدهيِ ْم َو َأ ْر ُج ُل ُه ْم بِ َم كَانُواِ
اب َعظ ٌَو َُل ْم َع َذ ٌ
َي ْع َم ُل َ
ون﴾(((.
وليست تشهد اجلوارح عىل مؤمن إنام تشهد عىل من حقت عليه كلمة العذاب،
فأما املؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال اهلل عز وجل:
ك ي ْقرء َ ِ ِ ِ ِِ َاس بِإِم ِام ِهم َفمن ُأ ِ ِ
َاب ْم َو َل
ون كت َ ُ وت كتَا َب ُه بِ َيمينه َف ُأو َلئ َ َ َ ُ ُ
﴿ َي ْو َم َندْ ُعوا ك َُّل أن ٍ َ ْ َ ْ َ
ون َفتِ ًيل﴾(((.
ُي ْظ َل ُم َ
أنزلت بعد سورة النساء وتصديق ذلك أن اهلل عز وجل أنزل عليه يف سورة النساء:
فكانت طاعته (صىل اهلل عليه وآله) طاعة اهلل التي ينال هبا رضاه وجنته؛ ومعصيته
(صىل اهلل عليه وآله) هي معصية اهلل تعاىل التي ينزل هبا سخط اهلل وتوجب اخللود
يف النار والعياذ باهلل.
ألن العايص ألمر رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) يكون قد هتك أعظم احلرمات
وذلك لعظم حرمة اإلسالم عند اهلل تعاىل؛ وأن املطيع ألمر رسول اهلل (صىل اهلل
عليه وآله) يكون قد صان أعظام حلرمات عند اهلل تعاىل.
-7وإن اهلل جعل العطاء واخلري والرزق وما حيتاجه العباد هو من اهلل ورسوله
فقال سبحانه: 222
َاه ُم اللَُّ َو َر ُسو ُل ُه َو َقا ُلوا َح ْس ُبنَا اللَُّ َس ُي ْؤتِينَا اللَُّ ِم ْن َف ْضلِ ِه
﴿و َل ْو َأ َّنُ ْم َر ُضوا َما َآت ُ
َ
ون﴾(((. ورسو ُله إِنَّا إِ َل اللَِّ ر ِ
اغ ُب َ َ ََ ُ ُ
-10وقد سخط اهلل عىل أهل الكتاب فأخرجهم من ديارهم ،وقذف يف قلوهبم
الرعب ،وجعلهم يقدمون عىل ختريب بيوهتم بأيدهيم وأيدي املؤمنني ،وأجالهم من
األرض والسبب يف ذلك أهنم شاقوا رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) .فقال سبحانه:
ِ ِ
َّار ال َل َء َل َع َّذ َ ُب ْم ِف الدُّ ْن َيا َو َُل ْم ِف ْالَخ َرة َع َذ ُ
اب الن ِ ﴿و َل ْو َل َأ ْن َكت َ
َب اللَُّ َع َل ْي ِه ُم َْ َ
اب﴾(((. اق اللََّ َفإِ َّن اللََّ َش ِديدُ ا ْل ِع َق ِ (َ )3ذلِ َ
ك بِ َأ َّنُ ْم َشا ُّقوا اللََّ َو َر ُسو َل ُه َو َم ْن ُي َش ِّ
وغريها من اآليات الكريمة التي تظهر أن أعظم احلرمات عند اهلل تعاىل هي
حرمة رسوله األعظم حممد (صىل اهلل عليه وآله) ،وأن بطاعته يكون املسلم قد 223
صان أعظم احلرمات ،وأن بمعصيته (صىل اهلل عليه وآله) يكون العايص قد هتك
أعظم احلرمات.
قال تعاىل:
ِِ ﴿إِ َّل َب َل ًغا ِم َن اللَِّ َو ِر َس َالتِ ِه َو َم ْن َي ْع ِ
ين ص اللََّ َو َر ُسو َل ُه َفإِ َّن َل ُه ن َ
َار َج َهن ََّم َخالد َ
فِ َيها َأ َبدً ا﴾(((.
واآلية ال تنطق بعقوبة اإلرشاك باهلل تعاىل ومل تتحدث عن الصالة والصوم واحلج
والزكاة واجلهاد وغريها من الفروع وإنام مطلق املعصية هلل ورسوله (صىل اهلل عليه
وآله) تدخل العايص النار وتقيض عليه باخللود فيها.
فكيف بمن آذى رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ماذا سيكون مصريه يف الدنيا واآلخرة.
قال تعاىل:
ون اللََّ َو َر ُسو َل ُه َل َعن َُه ُم اللَُّ ِف الدُّ ْن َيا َو ْالَ ِخ َر ِة َو َأعَدَّ َل ُ ْم َع َذا ًبا ُم ِهينًا﴾(((.
﴿إِ َّن ا َّل ِذي َن ُي ْؤ ُذ َ
وأي أذى أكرب من أن تقتل فاطمة بنت رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وفيها
يقول النبي:
قد ال يبقى جمال لدى البعض يف نكران أن اهلل تعاىل يغضب لغضب فاطمة (عليها
السالم) بعد أن ثبت يف األحاديث الصحيحة أن النبي يغضب لغضبها ويتأذى
ألذاها ،والسؤال املطروح هل أن اهلل تعاىل سيجعل انفكاك ًا وجتز ًء بني رضا رسوله
(صىل اهلل عليه وآله) ورضا بضعته فاطمة (عليها السالم) بعد كل هذا البيان
الذي نزل به الوحي يف حمكم الكتاب يف إظهار حرمة رسول اهلل (صىل اهلل عليه
وآله) وبيان هذا التالزم بني طاعة اهلل ومعصيته وحربه ،وشقاقه ،وحداده ،وأذاه،
ورضاه ،وبني رسوله (صىل اهلل عليه وآله) ،الذي ال ينفك وال يتجزأ عن رضا
بضعته وقلبه وروحه التي بني جنبيه فاطمة صلوات اهلل عليها وعىل أبيها وبعلها
وبنيها؟
((( صحيح البخاري ،باب :مناقب املهاجرين :ج ،3ص219؛ صحيح مسلم ،باب :فضائل فاطمة عليها
السالم :ج ،7ص.141
((( صحيح البخاري ،باب :النكاح :ج ،6ص158؛ صحيح مسلم ،باب :فضائل فاطمة عليها السالم :ج،7
ص.141
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
إذن:
العلة يف أن اهلل تعاىل يغضب لغضب فاطمة ويرىض لرضاها ألن رسول اهلل
(صىل اهلل عليه وآله) يغضب لغضب فاطمة ويرىض لرضاها ،ويتأمل ألملها ،ويتأذى
آلذاها ،ويفرح لفرحها ،وغري ذلك مما حييط هبا صلوات اهلل عليها وعىل أبيها
وبعلها وبنيها.
فقوم لوط مل يتعدوا عىل املالئكة ولكن بمجرد عزمهم عىل إنتهاك حدود اهلل يف
االعتداء عىل ضيوف نبي اهلل لوط (عليه السالم) عاجلهم اهلل تعاىل يف العقوبة
وهي من خالل العرض القرآين تكون العقوبة االرسع يف الوقوع ان مل تستغرق
سوى بضع ساعات بني العزم عىل الفعل وبني رميهم بحجارة من سجيل جزاء
عىل اجتامعهم عىل نية واحدة ،فضال عن أن هذا العزم يف أحتاد نياهتم كان نتيجة
لتلبس السيئات فيهم حتى وصلوا مجيع ًا اىل شاكلة واحدة بسبب فعلهم السيئات.
وهو ثالثة ايام وذلك حينام يتعلق االمر بالرضا بانتهاك احلرمات واملقدسات االهلية
كام جاء ذلك يف قضية نبي اهلل صالح وعقر الناقة ،حيث قال تعاىل:
ض اللَِّ و َل َتسوها بِس ٍ وها ت َْأك ُْل ِف َأ ْر ِ ِِ
وء َ َ ُّ َ ُ ﴿و َيا َق ْو ِم َهذه نَا َق ُة اللَِّ َلك ُْم َآ َي ًة َف َذ ُر َ َ
ك َو ْعدٌ وها َف َق َال َت َ َّت ُعوا ِف َد ِارك ُْم َث َل َث َة َأ َّيا ٍم َذلِ َ
يب (َ )64ف َع َق ُر َ اب َق ِر ٌ َف َي ْأ ُخ َذك ُْم َع َذ ٌ
ح ٍة ِمنَّا َو ِم ْن ِ وب (َ )65ف َلم جاء َأمرنَا نَجينَا ص ًِ
ين َآ َمنُوا َم َع ُه بِ َر ْ َ الا َوا َّلذ َ َّ َ َ ْ ُ َّ ْ َ َغ ْ ُي َمك ُْذ ٍ
الص ْي َح ُة َف َأ ْص َب ُحوا ِ ِخز ِْي َي ْو ِمئِ ٍذ إِ َّن َر َّب َ
ين َظ َل ُموا َّ ي ا ْل َع ِزي ُز (َ )66و َأ َخ َذ ا َّلذ َ ك ُه َو ا ْل َق ِو ُّ
227 ني﴾(((. ِِ ِف ِدي ِ ِ
اره ْم َجاثم َ َ
وقد بني نبي اهلل صالح لقومه تعجيل العقوبة حينام يرتبط االمر بانتهاك املقدسات
واشرتاكهم مجيعا فيه وان كان الفاعل واحدا يف عقر الناقة كام جاء يف قوله تعاىل:
اها (َ )12ف َق َال َُل ْم َر ُس ُ
ول اللَِّ نَا َق َة ث َأ ْش َق َ ت َث ُمو ُد بِ َطغ َْو َاها ( )11إِ ِذ ا ْن َب َع َ ﴿ك ََّذ َب ْ
وها َفدَ ْمدَ َم َع َل ْي ِه ْم َر ُّ ُب ْم بِ َذ ْنبِ ِه ْم َف َس َّو َاها (َ )14و َل اها (َ )13فك ََّذ ُبو ُه َف َع َق ُر َ
اللَِّ َو ُس ْق َي َ
اف ُع ْق َب َ
اها﴾(((. ي ََُ
وها﴾ وهو ارشاكهم يف الفعل وإن اها﴾ ،وقوله﴿ َف َع َق ُر َ وبني قوله ﴿إِ ِذ ا ْن َب َع َ
ث َأ ْش َق َ
كان املنفذ واحد ًا؛ وبني قوله ﴿ َفدَ ْمدَ َم َع َل ْي ِه ْم َر ُّ ُب ْم بِ َذ ْنبِ ِه ْم﴾ بيان لوقوع العقوبة
واختصاص اجلميع هبا حينام يتعلق االمر بالسكوت والرضا عىل انتهاك ما ارتبط
وجوده باهلل تعاىل واختص به ،كبيت اهلل ،وشهر اهلل ،وناقة اهلل ،وهذا كله يف الوجود
سل اهلل ،و أولياء اهلل ،فالعقوبة ور ُ املعنوي ،أما الوجود الذوايت كأنبياء اهلل تعاىلّ ،
((( سورة هود ،اآلية (.)67-64
((( سورة الشمس ،اآلية (.)15-11
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
أشد وأرسع مامل يتم ترجيح بقاء اإلمة أو القوم الذين وقعت بني ظهرانيهم اجلريمة
يف انتهاك املقدسات كقوم النمرود ورميهم إلبراهيم يف النار أو يف عزمهم عىل قتل
عيسى بن مريم؛ وإيذائهم للنبي األعظم (صىل اهلل عليه وآله) ،ومن ثم:
-1يعرض القرآن الكريم استحقاق الظاملني للعقاب ونزوله ووقوعهم فيه يف
داللة الزمن القريب هو ثالثة ايام وان الفاصل الزمني للعقوبة وبني اجلرم يتحدد
بحسب قدسية اليشء من جهة وبني تقديم املصلحة يف جتزئة العقوبة وتوقيتاهتا
التنفيذية بني عقد النية اجلامعية. 228
-2والرضا اجلامعي باجلريمة.
وذلك من خالل حتديدها (عليها السالم) للعقوبات التي استحقها اجلناة يف
خطبتها التي ألقتها يف املسجد وقد اردفتها (عليها السالم) يف اظهار قصدية الزمن
مر بيانه يف املسألة السابقة يف اظهار الزمن يف وقوع العقوبة كام يف
يف وقوعها كام ّ
الرضا بوقوع اجلرم بعقر الناقة.
ومن ثم فإن هذه االنتهاكات واالعتداء عىل احلرمات واملقدسات التي وقعت
عىل بيت النبوة بعد وفاة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) البد هلا من بيان يربط بنوع
العقوبات وحتديد الزمن الذي يعقب وقوع اجلريمة فكان البيان لذلك من خالل
خطبتها (عليها الصالة والسالم) يف املسجد ،فكانت عىل النحو االيت:
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
أوالً :حتديد الزمن الذي أعقب وقوع اجلرم وصدور احلكم وتنفيذه .
خيتلف الزمن يف حتديده من حيث املدة التي أعقبت انتهاك حرمة بيت النبوة
واالعتداء عىل بضعة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) كام حيددها قول امري املؤمنني
سنتعرض له
ّ (عليه السالم) يف هذا النص الرشيف -موضع البحث -والذي
مفصال من خالل مجلة من املسائل.
ومن ثم فإن املدة الزمنية التي أعقبت هذه االعتداءات واالنتهاكات للحرمات
229
مر سابقا والعلة يف ذاك تعود
واملقدسات ختتلف عن الذي أظهره القرآن الكريم كام َّ
اىل مجلة من األسباب ،منها:
-1إن اإلسالم هو خامتة األديان ومن ثم ال يكون التعجيل يف العقوبة مثلام كانت
االديان السابقة واالمم املاضية إذ جرت السنّة األهلية بتعاقب االديان ونسخها
ملا يأيت من بعدها ،أما دين اإلسالم فهو خاتم األديان ولذا ال يكون التعجيل يف
العقوبة.
﴿و َما
-2إن النبي (صىل اهلل عليه وآله) كان وجوده يرفع العذاب لقوله تعاىلَ :
ون﴾((( .ومن ثم َان اللَُّ ُم َع ِّذ َ ُب ْم َو ُه ْم َي ْس َتغ ِْف ُر َ ْت فِ ِ
يه ْم َو َما ك َ َان اللَُّ لِ ُي َع ِّذ َ ُب ْم َو َأن َ
ك َ
وجود النبي (صىل اهلل عليه وآله) يرفع العذاب وكذا االستغفار؛ واالول متحقق
بعد وفاة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) بوجود نفس النبي وهو االمام عيل (عليه
السالم) بنص اية املباهلة يف قوله تعاىل (وانفسنا وانفسكم) فلم خيرج معه يف
االختصاص باألنفس غري اإلمام عيل (عليه السالم) ملباهلة نصارى نجران.
فوجود اإلمام عيل (عليه السالم) يف هذه اخلاصية لرفع العذاب العاجل يف األمة
متحقق ومانع لوقوعه يف االمة واحلال هذا جيري جمرى املعصومني من بعده فهم
األمناء عىل اخللق يف رفع العذاب العاجل بإذن اهلل تعاىل.
إالّ إن هذه االنتهاكات لبيت النبوة وان كانت العقوبات متحققة كام سيمر إالّ أهنا
خارجة عن نطاق التعجيل يف العذاب ،وعليه:
يصبح حتديد الزمن متفاوت إالّ أنه لن يطول كثريا كام بينته الزهراء يف خطبتها يف
موضعني ،ومها: 230
املوضع الثاني -قوله (( )أما لعمري لقحت فنظرة ريثما تنتج)(((.
وهذه القصدية يف حتديد املدة الزمنية لنزول العقاب حددته (عليها الصالة
والسالم) يف بضع شهور كام هي العادة يف لقاح النبات حتى تثمر وتنتج ،أو يف
احليوان واإلنسان إذ األمر غالبا يف معظم احليوانات مل يتعد السنة السيام يف املألوف
من احليوان عند العرب كاألغنام واألبقار واإلبل ،وغري ذلك مما ألف الناس رؤيته
ومعايشته.
231
وعليه :فاملدة الزمنية التي اعقبت تنفيذ العقوبات االهلية يف اجلناة واالمة كانت
بضع شهور.
«ثم احتلبوا ملئ القعب دم ًا عبيطا وذعاف ًا مبيدا ،هناك خيرس املبطلون ،ويعرف
التالون غب ما أسسه األولون ثم طيبوا عن دنياكم انفسا ،واطمئنوا للفتنة جأشا.
وابرشوا بسيف صارم ،وسطوة معتد غاشم ،وهبرج شامل ،واستبداد من الظاملني،
يدع فيئكم زهيدا ،ومجعكم حصيدا ،فيأرصه لكم ،وانى بكم وقد عميت عليكم ﴿
ون﴾»(((. وها َو َأ ْنت ُْم َلا ك ِ
َار ُه َ َأ ُن ْل ِز ُمك ُُم َ
ويتضح من ذلك مجلة من العقوبات االهلية هلذه االنتهاكات واالعتداءات عىل
املقدسات ،وهو كااليت:
-2املوت الغاشم.
-3اهلرج الشامل.
-4استبداد الظاملني.
-5الفرقة الدائمة.
املسألة الثالثة :قصدية إظهار اآلثار النفسية اليت يعيشها اجلناة .
ينقلنا النص الرشيف يف قوله (عليه السالم)« :ستقول وحيكم اهلل» اىل قصدية
جديدة مرتبطة باآلثار النفسية التي يعيشها اجلناة بعد ارتكاهبم اجلرم ،وخاصة
حينام يدركون أن العقاب واقع هبم الحمالة السيام إذا كان األمر مرتبط ًا بالضحية
من جهة ،ومن جهة ثانية مرتبط بنوع العقوبة ،وهو ما سنتناوله يف هذه املسألة.
إن االرتدادات النفسية التي يعيشها اجلناة تتعاظم كلام تعاظم شأنبمعنىّ :
الضحية واألمثلة عىل ذلك يف احلياة متعددة وعىل مر الزمان ،ومنها:
ومن ثم يعيش اجلاين أو املعتدي عىل شأن امللك واحلاكم أو الوزير معاناة نفسية أكرب
مما يعيشها نفس اجلاين فيام لو أعتدى عىل موظف صغري يف عنوانه الوظيفي يف دائرة
ال يف بلدية لناحية من النواحي التابعة لالقضية.من الدوائر اخلدمية كأن يكون عام ً
إذ االختالف قائم ولو كان من هذا العنوان ،بمعنىّ :
إن العامل يف نظافة قرص
امللك ولو كان عنوانه الوظيفي حام ً
ال للقاممة إال أنه ال يقاس بنفس الشأنية التي
حيملها من حيمل القاممة من شوارع الناحية التي تعود يف نظامها اإلداري للقضاء،
وهذا القضاء خاضع للمحافظة.
من هنا:
ختتلف املعاناة النفسية التي يعيشها اجلاين أو املعتدي يف حالة الرتقب لوقوع
العقاب والقصاص باختالف شأن الضحية ومنزلتها يف احلياة الدنيا وذلك ليقينه
أن العقوبة ستكون كبرية يف اإلعتداء عىل اخلادم يف قرص امللك وال تقاس يف حجمها
يف االعتداء عىل عامل للنظافة يف قرية من القرى.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وذلك من خالل إمهاهلم للوقت الفاصل بني وقوع اجلريمة وتنفيذ العقوبة ولقد
كان من شأن االنبياء (عليهم السالم) بيان الزمن الفاصل بني وقوع اجلريمة وتنفيذ
مر بيانه سابقا؛ كقوله تعاىل:
العقوبة كام َّ 234
ِ
الص ْب ُح َأ َل ْي َس ُّ
الص ْب ُح بِ َق ِر ٍ
يب﴾(((. ﴿ -1إِ َّن َم ْوعدَ ُه ُم ُّ
وخالل هذه الساعات التي يعيشها اجلناة فإن الدقائق التي متيض عليهم كلام
أنقضت دقيقة منها أزداد معها حاالت الرتقب لوقوع العقوبة ،وهذا الرتقب هو يف
حد ذاته عقوبة شديدة للنفس فقد عاشت معاناة األمل النفيس يف اإلنتظار وأن هذه
املعاناة تزداد كلام كانت الضحية عظيمة الشأن عند اهلل تعاىل.
عىل الرغم من أن اجلناة والظاملني وإن كانوا يتظاهرون باجلالدة والعزة باإلثم
والتحدي لوقوع العقوبة إال أن احلقيقة النفسية أهنم يف معاناة نفسية نتيجة تلك
اإلرتدادات التي خيلفها الزمن املحدد لوقوع العقوبة السيام إذا كانت العقوبة
باإلعدام أو أهنا تكون جمهولة وهي يف هذه احلالة تكون أكثر أثر ًا عىل النفس إذ
يزداد معها الرتقب جلهالة اجلناة بنوع العقوبة.
وهذه املعاناة النفسية كشفها القرآن الكريم من خالل حتديده للزمن الذي
يسبق تنفيذ العقوبة فضال عن اخفائه نوع العقوبة اذ ال يعلم اجلناة كام يف حادثة
خروج أبرهة لتهديم بيت اهلل وكقوم لوط عن نوع العقوبة ،إذ مل يكونوا يعلمون
أهنم سيعاقبون برميهم بحجارة من سجيل كام مل يكن كثري من االمم يعلمون
أهنم سيعاقبون بنوع حمدد ،يف حني كان غريهم قد أخربوا بذلك كقوم صالح ﴿
ني﴾. ِِ َف َأصبحوا ِف ِدي ِ ِ
اره ْم َجاثم َ َ ْ َ ُ
235
وعليه:
هو بيانه واظهاره للمعاناة النفسية التي يعيشها اجلناة الذين انتهكوا حرمة اهلل
ورسوله (صىل اهلل عليه وآله) وحرمة سيدة نساء العاملني هذه املعانة النفسية للجناة
مر بيانه.
تكون من جهة العقوبة وزمان تنفيذها كام َّ
ثانياً :ترقب اجلناة لسكوت الضحية أو نطقها يزيد يف عقوبة املعاناة النفسية .
وهلا وجهة نظر ثانية تزيد يف حجم املعاناة النفسية للجناة وهي من جهة الضحية
نفسها وهل أهنا ستتكلم أم أهنا ستسكت وذلك أن سكوهتا يمنع وقوع العقوبة أو
عىل أقل التقادير إنه خيفف يف حجمها وذلك بلحاظ ما يمكن أن تتكلم به الضحية
أمام القضاء.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وعليه:
فقوله( :ستقول وحيكم اهلل) ،بمعنى :رفع التوهم وقطع الظنون لدى اجلناة
والظاملني من أهنا (عليها السالم) ملم تتكلم عام جرى عليها ولن تتحدث عام
اجرتموا بحقها وذلك أهنم عايشوها فرتة من الزمن فوجدوها ساكتة مل تألب
الناس عليهم أو مل تدفع فحل الفحول وجمندل صناديد العرب اإلمام عيل (عليه
مر بيانه يف سبب كتامهنا ما جرى عليها حتى عن عيل السالم) لألخذ بحقها كام َّ
(عليه السالم) وهو ما بحثناه يف قوله (عليه السالم): 236
ومن ثم قد أصبح لدى الظاملني واجلناة قناعة بأهنا لن تتكلم ومل حترك ساكنا سوءا لدى
عيل (عليه السالم) أو لدى بني هاشم بلحاظ ما تفرضه القوانني العشائرية من قوانني
املطالبة بحق ابن العشرية يف االعتداء عليه وهذا يف اقل التقادير أو سواء عىل املستوى
اجلامهريي بتحريك الناس وهس التي متتلك من الوسائل التي متكنها من تأجيج
املجتمع وقيادة احلراك اجلامهريي ضد أصحاب السقيفة إال أهنا اختارت السكوت
يف أغلب حاهلا وإن كانت (عليها السالم) قد قادت احلراك السيايس واجلهادي ضد
السلطة من خالل خروجها اىل املسجد وألقاء خطبتها اإلجتامعية فيه أو من خالل
خطبتها يف جممع من نساء األنصار واملهاجرين حينام جئن لزيارهتا يف مرضها.
إال أهنا يف أصل املوضوع كانت ساكتة عن الكثري مما جرى عليها منه جاء قوله
(عليه السالم)« :فكم من غليل معتلج بصدرها مل جتد اىل بثه سبيال».
وعليه :فاإلمام امري املؤمنني (عليه السالم) يقطع طريق عىل اجلناة يف رفعهم هلذه املعانة
ودفعهم حلاالت الرتقب من خالل عدم اطمئناهنم بأهنا لن تتكلم مبني أهنا (:)
«ستقول وحيكم اهلل».
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
أي نقلهم اىل املعاناة النفسية ملا اقرتفوه يف التعدي وانتهاك حرمتها.
من هنا :اجتمع عليهم مجلة من االثار النفسية كام مر بيانة ،وهي:
-2اآلثار النفسية املرتبطة بالزمن الفاصل بني وقوع اجلريمة و وقوع العقوبة.
-3اآلثار النفسية املرتبطة بام تقوله الضحية ،أي فاطمة (عليها السالم).
237
-4اآلثار النفسية املرتبطة بنوع العقوبة االهلية.
ومنها ما أرتبط بأصحاب اجلريمة واجلناة االساسيني الذين اقرتفوا جريمة قتلها
كام سيمر الحقا؛ ومنها ما أرتبط باألمة ،والذي حددته الزهراء (عليها السالم)
بجملة من العقوبات العامة التي ستقع يف االمة لسكوهتا عىل اجلريمة ورضاها
بفعل اجلناة ومشايعتهم وهو ما سنتناوله يف املسالة القادمة.
«وحيكم اهلل» يف اختالف احلكم اىل شقني أو قسمني ،القسم األول خاص باجلناة
االساسيني أصحاب السقيفة وبعض الذين تعرضوا مبارشة لالعتداء عىل بيت
النبوة وانتهاك حرمة بضعة النبي (صىل اهلل عليه وآله) وهؤالء كانت العقوبات
الدنيوية بحقهم خمتلفة عن العقوبات التي حلقت باألمة مجيعا ،فأما العقوبات
االوىل اخلاصة باجلناة فكانت عىل النحو االيت:
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
القصدية االوىل :ظهور احلكم االهلي يف اجلناة االساسيني الذين انتهكوا حرمة
بيت النبوة .
بمعنى الوقوف عند تلك اللحظات االخرية التي ودعوا فيها احلياة الدنيا ليطأوا
أول أعتاب احلياة االخرة السيام حاالت االحتضار والكيفية التي ماتوا هبا وختموا
238
حياهتم ،ومن ثم:
تقديم صورة واضحة املعامل عن عاقبة اجلناة االساسيني الذين ظلموا فاطمة
(صلوات اهلل عليها) ،فقد ذكرت النصوص التارخيية واحلديثية هتديد عمر بن
اخلطاب لفاطمة (عليها السالم) يف حرق دارها بمن فيه واقدامه من بعد ذلك عىل
تنفيذ التهديد.
وذكرت النصوص أيضا أن اآلمر باهلجوم واقتحام بيت النبوة كان بأمر من أيب بكر
ومن ثم ال بد من اجراء السنة االهلية يف اختصاص اهل هذا البيت بالنبي االعظم
(صىل اهلل عليه وآله) ،أي :حتقيق مصداق قوله (صىل اهلل عليه وآله):
(هؤالء اهل بيتي؛ اين سلم ملن ساملهم وحرب ملن حارهبم)(((.
وعليه :فإن عاقبة هؤالء القادة واجلناة االساسيني الذين ظلموا فاطمة (عليها
السالم) كانت وبحسب مقتىض قوله (عليه السالم):
((( مسند أمحد:ج 2ص442؛ سنن الرتمذي :ج 5ص360؛ مستدرك احلاكم :ج 3ص.149
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
ألف -كيف كانت عاقبة ابي بكر يف آخر أيام حياته وماذا قال يف احتضاره ؟
أختلفت الروايات يف كيفية موت أيب بكر ،فمنها ما جعلت سبب الوفاة فنسبته
بالسل(((.
إىل دس السم إليه فقىض مسموما ؛ ومنها ما قيل :إنه تويف ّ
(((
ومنها ما قيل :إنه مرض بسبب لسعة احلية التي لسعته ليلة الغار(((.
لكن األشهر عند املؤرخني ،إنه مات مسموم ًا ،وقد احترض فدخل عليه عبد
الرمحن بن عوف فسمع منه اعرتافه وندمه عىل ما فعل ببيت فاطمة (عليها السالم) 239
وكم متنى أنه مل يقتحم هذا الدار ومل يؤمر باقتحامه ،قائ ً
ال له( :وودت أين مل أكن
كشفت عن بيت فاطمة ،وتركته ولو أغلق عىل حرب.((()...
باء -كيف كانت عاقبة عمر بن اخلطاب يف آخر حياته؟ وماذا قال يف احتضاره ؟
قبل وصول عمر بن اخلطاب إىل اللحظات األخرية من عمره كان له موقف ًا مع
رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) فيام مىض وقد سأله رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله)
عن حاله يف القرب وحضور امللكان إليه ليسأالنه عن التوحيد والنبوة واإلمامة فام
كان جوابه.
«كيف أنت إذا كنت يف أربع أذرع يف ذراعني ،ورأيت منكر ًا ونكري ًا؟».
قال :قلت يا رسول اهلل وما منكر ونكري؟ قال (صىل اهلل عليه وآله):
«نعم». 240
قلت :أكفيكهام(((.
والسؤال املطروح ملاذا يتوجه النبي (صىل اهلل عليه وآله) بالسؤال إىل عمر عن
حال القرب وحضور منكر ًا ونكري ًا ويصفهام له ومن ثم ّ
يبي له النبي (صىل اهلل عليه
وآله) بنا ًء عىل سؤاله أنه عىل حاله هذه فقد كفيهام لكنه بعد ترويعه لفاطمة بتهدهيا
يف حرق دارها بمن فيه ،أي القضاء عىل أهل البيت النبوي وابادهتم ،ومل يثنه يشء
من حرقه لبيت النبوة واقتحامه له وقتله للمحسن وأمه ،وترويع احلسن واحلسني
(عليهام السالم) ،قطع ًا قد تغري حاله ،هذا احلال اجلديد يف القرب أخرب عنه عمر بن
اخلطاب حينام رآه أحد الناس يف املنام بعد قتله عىل يد أيب لؤلؤة وكان قد طعنه يف
بطنه فبقرها.
إهنا حاالً جديدة قال عنها ابن اخلطاب :حينام سئل يف الرؤيا( :كاد ُي َث ُّل عريش)
وهو مثل يرضب للرجل إذا ذل وهلك(((.
أما حاله يف االحتضار فقد أخرب عنها البخاري عن املسور بن خمرمة ،إنه قالّ :
(إن
جيزعه فرد عليه عمر قائالً:
عمر ملا طعن جعل يأمل ،فقال له ابن عباس وكأنّه ّ
((( الدر املنثور للسيوطي :ج ،4ص .82كنز العامل للهندي :ج ،15ص.741
((( النهاية يف غريب احلديث البن األثري :ج ،1ص ،220ط دار إحياء الرتاث.
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
أ -ظهور حروب الردة عند االيام االوىل لتولي الخالفة و وقوع السيف بني
املسلمني .
إن أول مظهر من مظاهر معاقبة الذين ظلموا فاطمة عليها السالم هي وقوع
السيف بني املسلمني بعد وفاة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وذلك حينام قام
أبو بكر بتجهيز جيش بقيادة خالد بن الوليد إلجبار املسلمني عىل بيعته بحجة
ارتداد هؤالء عن اإلسالم أو امتناعهم من إعطاء الزكاة إىل السلطة اجلديدة.
فكان ما كان من أمر خالد بن الوليد وقتله للمسلمني السيام قتله ملالك بن النويرة
واملبيت مع زوجة مالك يف نفس الليلة التي قتل خالد فيها زوجها(((.
((( صحيح البخاري ،باب مناقب املهاجرين :ج ،4ص.201
((( الطبقات الكربى البن سعد :ج ،3ص360؛ أنساب األرشاف للبالذري :ج ،10ص.437
((( مرآة اجلنان لليافعي :ج ،1ص .55اإليضاح للفضل بن شاذان :ص .134االستيعاب البن عبد الرب:
ج ،3ص .1362فتوح البلدان للبالذري :ج ،1ص.117
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
والسؤال املطروح :ماذا سمي هذا املبيت هل هو اغتصاب ،أم زواج مدين ،أم
نكاح جاهيل ،أم زنى؟! ال أحد يعلم ما كانت الرشيعة التي أتبعها خالد بن الوليد
آنذاك سوى الذي نصبه قائد ًا عىل اجليش ولذلك مل يعاقبه.
ب -عمر بن الخـطاب يغتـال سيـد األنصـار سـعد بن عـبادة بـعد حـادثة
السقيفة .
إن من اآلثار التي ظهرت يف األمة بعد قيامها بظلم فاطمة بضعة رسول اهلل (صىل
اهلل عليه وآله) وظلم بعلها عيل بن أيب طالب (عليه السالم) ،هو وقوع القتل لسيد 242
األنصار سعد بن عبادة الذي جلس يف سقيفة بني ساعدة يتفاوض يف أمر البيعة
واخلالفة بعد رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) والذي مل حيرك ساكن ًا وهو يرى
انتهاك حرمة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) حينام اقتحم عمر بن اخلطاب بيت
فاطمة (عليها السالم) بعد أن أرضم النار فيه.
هذا السكوت عن الظلم وترك نرصة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وعرضه
وحرمته كان من نتائجه أن ُيقتل سعد بن عبادة غيلة بسهم أصابه من رجل بعثه
إليه عمر بن اخلطاب كمرحلة من مراحل اإلنقالب وتصفية رموز املعارضة.
(بعث عمر رج ً
ال إىل الشام فقال :أ ْدعه إىل البيعة ،وامحل له بكل ما قدرت عليه،
فقدم الرجل الشام ،فلقيه بحوران يف حائط(((() ،فدعاه إىل البيعة ،فقال :ال أبايع
قرشي ًا أبد ًا.
وعن ابن سريين قال :رمي سعد بن عبادة بسهم فوجد دفينا يف جسده ،فامت؛
243
فبكته اجل ّن فقالت:
وال خيفى عىل أهل البحث والفكر أن هذين البيتني إنام قيال كي يضيع معهام دم
سعد بن عبادة فتقيد اجلريمة ضد جمهول؛ وتربء ساحة عمر بن اخلطاب الذي كان
الباعث واملدبر لوقوع هذه اجلريمة؛ أو لعل عمر كان له أعوان ًا من اجلن ينفذون
أوامره بقتل املخالفني له سواء كانوا من املهاجرين أم من األنصار وإهنم ،أي
هؤالء اجلن كانوا حيسنون الرمي وقول الشعر ليكون فعل اجلن يشد االنتباه أكثر
من وقوع اجلريمة فيشغل الرواة باجلن ويرتكون الضحية كام وقع لسعد بن عبادة
زعيم األنصار وسيدهم!!
((( العقد الفريد البن عبد الرب األندليس :ج ،2ص ،74وج ،4ص 259ــ .260
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ال شك أن الساكت عن الظلم كالعامل به ،وال شك أن آثار الظلم لترسي يف
املجتمع كام يرسي النار يف اهلشيمُّ ،سنة اهلل يف خلقه ولن جتد لسنة اهلل حتويال وال
جتد هلا تبديال.
فالذين سكتوا عن ظلم فاطمة (عليها السالم) ورضوا بفعل عمر بن اخلطاب قد 244
إبتالهم اهلل بعمر بن اخلطاب فأذاقهم الذل كام أخرب بذلك خليفة املسلمني عثامن
بن عفان فقال:
(إن لكل يشء آفة ،وإن لكل نعمة عاهة ،وإن عاهة هذا الدين عيابون ظنانون
يظهرون لكم ما حتبون ويرسون ما تكرهون ،يقولون لكم وتقولون طغام مثل
النعام يتبعون أول ناعق أحب مواردهم إليهم النازح.
عيل ولكنه وقمكم وقمعكم وزجركم لقد أقررتم البن اخلطاب بأكثر مما نقمتم ّ
جزر النعام املخزمة ،واهلل إين ألقرب نارص ًا وأعز نفر ًا وأقمن ــ إن قلت ــ هلم ــ أن
جتاب دعويت من عمر هل تفقدون من حقوقكم شيئ ًا فام يل ال أفعل يف احلق ما أشاء
إذا فلم كنت إماما)(((.
وله موقف آخر مع الصحابة وأبنائهم حينام أراد توسعة مسجد النبي (صىل اهلل
عليه وآله) فقال له مروان بن احلكم:
((( إعجاز القرآن للباقالين :ص 216ــ ،217ط دار املعارف بمرص؛ البيان والتبيني للجاحظ :ج،1
ص.377
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
(فداك أيب وأمي أمر خري لو فعلته ومل تذكر هلم ،فقال وحيك! إين أكره أن يروا إين
استبدّ عليهم باألمور ،فقال مروان :فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك
ضب
هلم؟ فقال :أسكت إن عمر أشتد عليهم فخافوه ،حتى لو أدخلهم ُح ْج َر ٍّ
دخلوا ،وإين لنت هلم حتى أصبحت أخشاهم ،قال مروان بن احلكم :فداك أيب
وأمي ال ُيسمع هذا منك فيجرتأ عليك)(((.
(وكانت عائشة بمكة ،خرجت قبل أن يقتل عثامن ،فلام قضت حجها أنرصفت
راجعة ،فلام صارت يف بعض الطريق لقيها ابن أم كالب ،فقالت له :ما فعل عثامن؟
قال :قتل! قالت :بعدا وسحق ًا! قالت :فمن بايع الناس؟ قال :طلحة ،قالت :أهيا
ذو األصبح.
ثم لقيها آخر ،فقالت :ما فعل الناس؟ قال :بايعوا علي ًا.
قالت :واهلل ما كنت أبايل أن تقع هذه عىل هذه ،ثم رجعت إىل مكة ،وأقام عيل
أيام ًا ،ثم أتاه طلحة والزبري فقاال :إنا نريد العمرة ،فأذن لنا يف اخلروج.
فقالت هلا أم سلمة :إن عامد الدين ال يقام بالنساء ،محاديات النساء غض األبصار،
وخفض األطراف ،وجر الذيول.
إن اهلل وضع عني وعنك هذا ،ما أنت قائلة لو أن رسول اهلل عارضك بأطراف
الفلوات قد هتكت حجابا قد رضبه عليك؟ فنادى منادهيا :إال إن أم املؤمنني
مقيمة ،فأقيموا.
وأتاها طلحة والزبري وأزاالها عن رأهيا ،ومحالها عىل اخلروج ،فسارت إىل
البرصة خمالفة عىل عيل ،ومعها طلحة والزبري يف خلق عظيم ،وقدم يعىل بن منية
بامل من مال اليمن قيل :إن مبلغه أربعامئة ألف دينار ،فأخذه منه طلحة والزبري،
فاستعانا به ،وسارا نحو البرصة.
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
ومر القوم يف الليلة بامء يقال له :ماء احلوأب ،فنبحتهم كالبه ،فقالت عائشة:
َّ
ما هذا املاء؟ قال بعضهم :ماء احلوأب ،قالت :إنا هلل وإنا إليه راجعون! ردوين
ردوين! هذا املاء الذي قال يل رسول اهلل :ال تكون التي تنبحك كالب احلوأب،
فأتاها القوم بأربعني رجالً ،فأقسموا باهلل أنه ليس بامء احلوأب)(((.
فأحدث هذا اخلروج رشخ ًا عميق ًا يف رصح اإلسالم مل تزل األمة تدفع رضيبته
من دماء املسلمني ولن ينتهي ،وذلك أن سنة ظلم فاطمة صلوات اهلل عليها مل تتغري
247
ومل تتبدل حتى يغري اهلل تعاىل حال األمة.
«وهو خري احلاكمني» اىل مجلة من األمور يمكن مجعها يف حقلني معرفيني وهبام
ستتضح مالمح القصدية يف قوله (عليه السالم).
احلقل االول :يف إظهار اآلثار العقدية يف ارجاء احلكم هلل تعاىل ،وثانيا :يف احلقل
السريية يف زمن احلادثة وكاشفيتها للنجاة يف املستقبل فيام
السريي ،أي أظهار اآلثار ّ
ّ
سينزل بالظاملني واملشايعني هلم والراضني بفعاهلم ،وهذا من خالل العقوبات التي
تبعت احلادثة وشملت أولئك ومن خالل القصاص الذي سينزل هبم يف حمكمة
ابن فاطمة (عليها السالم) املهدي املنتظر (عجل اهلل تعاىل فرجه الرشيف) كام ورد
يف النصوص الرشيفة.
أوالً :اآلثار العقدية اليت تظهر قصدية القول يف ضوء القرآن الكريم .
عند الرجوع اىل القرآن الكريم للوقوف عىل دالالت هذه الصفة ،أي أنه تعاىل
(خري احلاكمني) نجدها قد جاءت يف ثالثة مواضع:
-1إن املجال الذي تدور يف فلكه اآليات هو احلقوق وانحصار هذه احلقوق إما
فيام بني الناس واألنبياء يف تبليغ الرسالة؛ وأما بني اهلل واالنبياء(عليهم السالم).
فإما بني اهلل واالنبياء (عليهم السالم) فقد بني القرآن اهنم ال حيكمون ألنفسهم
وان كانوا قادرين عىل ذلك ولكن هم عباد اهلل املكلفون بتبليغ رشعه اىل الناس،
ومن ثم فاملعرتض عليهم يف التبليغ للرشيعة فهو معرتض عىل صاحب الرشيعة
أي اهلل عز وجل وهو سبحانه املتكفل باالنتصار لرشيعته وهبذا االنتصار ينترص
ألنبيائه ورسله (عليهم السالم).
وعليه :مل يكن األنبياء يقتصون من فئة أو مجاعة أو أشخاص حينام يتعلق األمر
249
بالرسالة فاألمر اىل اهلل تعاىل وحده والشواهد عىل ذلك كثرية ومتعددة وإن اظهرت
هذه الشواهد القرآنية دعوة بعض االنبياء عىل قومهم وأممهم كام يف دعوة نوح (عليه
السالم) عىل قومه ،قال تعاىل:
ِ ﴿و َق َال نُوح رب َل ت ََذر ع َل ْالَر ِ ِ
ض م َن ا ْلكَاف ِر َ
ين َد َّي ًارا﴾. ْ ْ َ ٌ َ ِّ َ
واآلية مل تكشف حتديده للعقوبة واالقتصاص؛ ومل يكن نوح قد علم بام سيحكم
اهلل عليهم كأن يكون العقاب باخلسف أو املسخ أو الصيحة أو الطوفان حتى
أستجاب اهلل دعوته فأمره ببناء السفينة وغري ذلك من العقوبات التي مل يتحدث
عنها القرآن.
وأما أن يكون األمر بني األنبياء والناس؛ أي لألنبياء (عليهم السالم) حقوقا عىل
الناس وان التعرض هلذه احلقوق يتبعها قضاء وقصاص وان احلاكم يف ذلك هو اهلل
تعاىل كام سيمر بيانه.
-2ترشد اآليات املباركة اىل االقرتان واملالزمة بني حكم اهلل تعاىل والصرب فقد
ورد اللفظ يف اآليات الثالثة ظاهرا ومستورا:
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وهنا كان الصرب مستورا ،إذ مقتىض احلال يلزم ان يكون صابر حتى يأذن به نبي
اهلل يعقوب بالرجوع أو لعله ال يأذن له بالرجوع وإنام سيظهر اهلل احلق فيام ينسب
إليهم من رسقة صواع امللك. 250
-3الداللة الثالثة هي العهود واملواثيق التي جاءت أيضا ظاهرة ومستورة ،ففي
اآلية التي خترب عن قوم نبي اهلل شعيب (عليه السالم) جاءت العهود واملواثيق
مستورة ،قال تعاىل:
ٍ ِ
اء ْتك ُْم ﴿وإِ َل َمدْ َي َن َأ َخ ُ
اه ْم ُش َع ْي ًبا َق َال َيا َق ْو ِم ا ْع ُبدُ وا اللََّ َما َلك ُْم م ْن إِ َله َغ ْ ُي ُه َقدْ َج َ َ
اء ُه ْم َو َل ُت ْف ِسدُ وا ِف َّاس َأ ْش َي َ
َان َو َل َت ْبخَ ُسوا الن َ َب ِّينَ ٌة ِم ْن َر ِّبك ُْم َف َأ ْو ُفوا ا ْل َك ْي َل َوا ْلِيز َ
ِِ ِ ِ ْالَ ْر ِ
ني﴾(((. ض َب ْعدَ إِ ْص َلح َها َذلك ُْم َخ ْ ٌي َلك ُْم إِ ْن ُك ْنت ُْم ُم ْؤمن َ
﴿ َق َال َكبِ ُري ُه ْم َأ َل ْ َت ْع َل ُموا َأ َّن َأ َباك ُْم َقدْ َأ َخ َذ َع َل ْيك ُْم َم ْوثِ ًقا ِم َن اللَِّ﴾.
«وهو خري احلاكمني» يف آثارها العقدية يف ضوء اآليات املباركة أن األمر مرتبط بام ييل:
أ -التعدي عىل احلقوق التي أوجبها اهلل تعاىل عىل العباد يف حفظ الرشيعة وإن
التعرض للمصطفني لرشع اهلل انام هو تعرض هلل تعاىل« ،وهو خري احلاكمني».
ب -انتهاكهم للعهود واملواثيق التي يفرضها وجود املعصوم سواء كان نبيا ام
رسوال أم إماما ،أم خمصوصا ومنصوصا عليه بالعصمة كفاطمة (عليها السالم)
وإن اهلل تعاىل قد فرض هذه العهود واملواثيق عىل الناس أمجعني سواء آمنوا أم مل
يؤمنوا كوجوب التوحيد عىل مجيع الناس وأن كفروا وانكروا فإن نكراهنم وكفرهم
251 مل يعفهم عن حق التوحيد هلل تعاىل.
ومن ثم تصبح املعرفة تالزمية مع حق التوحيد فكلام ازداد اإلنسان معرفة باهلل
ازداد التوحيد الرتبي به عز وجل.
وعليه :فالذين عايشوا النبي (صىل اهلل عليه وآله) وصحبوه وسمعوا حديثه ورأوا
فعله ال يعذرون يف التهاون هبذه احلقوق التي فرضها اهلل تعاىل عليهم يف حفظ
رشيعته وأهلها ،وهم حممد (صىل اهلل عليه وآله) وعرتته (عليهم السالم) السيام
بضعته النبوية وقلبه وروحه التي بني جنبيه وأن األمة أنتهكت العهود واملواثيق
التي اخذت عليهم يف حفظ عرتة النبي (صىل اهلل عليه وآله) ومواالهتم واتباعهم.
بل قد اقدموا عىل ترويعهم وقتلهم ،كام اقدمت بنو ارسائيل عىل قتل انبيائهم
فاستوجبوا القصاص والعقاب من اهلل.
جّ -إنم ،أي :العرتة النبوية صربوا كام صرب األنبياء واملرسلني (عليهم السالم)
ملا اضطهدوا وحوربوا ،أي أن فاطمة واإلمام عيل (عليهام السالم) كانوا عىل صرب
كبري وحتمل غري حمدود ملا جرى عليهم من املصائب وذلك الهنم فوضوا االمر يف
العقاب والقصاص اىل اهلل تعاىل (وهو خري احلاكمني).
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ّ
احلكام واألحكام لكن اهلل خري احلاكمني . ثانياً :تعدد
يرشد النص اىل قصدية مهمة وهي أن اإلمام عيل (عليه السالم) كان قادرا عىل ان
حيكم لكن اهلل خري احلاكمني؛ كام أن الوضع الطبيعي ملا يفرضه العرف العشائري
يف اإلقتصاص ممن يتعرض ألحد أبناء العشرية يعد هو اآلخر أحد احلكام يف
املجتمعات العربية.
ومن ثم :يصبح لدينا جمموعة من األحكام يف قضية الزهراء (عليها السالم)
وظالمتها ،وهم كااليت: 252
-1اإلمام عيل (عليه السالم) وهو صاحب احلق األول لكوهنا زوجته وأم ولده.
-3بنو زهرة ،وهم أخواهلا وهلم احلق يف املطالبة بحق فاطمة (عليها السالم).
-4االنصار الذين بايعوا الرسول (صىل اهلل عليه وآله) يف العقبة االوىل والثانية عىل
حفظه يف نفسه وماله واهله وقدموا العهود واملواثيق له بذلك فهاجر اليهم من مكة.
-5املهاجرون فلهم احلق يف حماكمة من قام بانتهاك حرمة فاطمة (عليها السالم)
فهم قرابتها من قريش.
-6املسلمون مجيعا هلم احلق أيضا يف حماكمة ظاملي فاطمة (عليها السالم).
-7ابناؤها وذريتها.
-9التأريخ وهو احلاكم الذي ال يرحم وأن طال الزمان وتعددت األقالم
وتلونت بتلون وجوه أصحاهبا ،لكنه يف النهاية حاكام من احلكام.
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
وعليه:
تعدد احلكام ويف تعددهم تتعدد األحكام لكن حكم اهلل تعاىل هو األعدل و
األقص يف العقاب ألنه كام قال امري املؤمنني (عليه السالم):
ّ
السريية يف قصدية النص . ثالثاً :اآلثار
يف اآلثار السري ّية الكاشفة عن حقيقة احلدث ،وهو ضمن ًا يكشف عن قصدية 253
النص الرشيف يف هذا اجلزء منه ،أي قوله (وهو خري احلاكمني) ،أي :غياب من
ينترص هبم أهل البيت عليهم السالم فوضوا ظالمتهم اىل اهلل تعاىل؛ كانت هذه
اآلثار عىل النحو االيت:
واال لو كان للعرتة نارصا ملا سكتوا عن املطالبة بحقوقهم ،بل ملا جترأ اقطاب
التجري العظيم عىل اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه وآله)
ّ سقيفة بني ساعدة من هذا
وعليه:
يودي ذلك يف جممل احلوادث يف احلياة عند فقدان املعني والنارص اىل السكوت
واالنتظار حتى حيكم اهلل وهو خري احلاكمني.
ويف املقابل يصبح الشاهدون للحدث دون مد يد العون لدفع الظلم عن املظلوم
رشكاء يف عمل الظامل كام مر بيانه يف حادثة عقر الناقة وفصيلها فعاقبهم اهلل مجيعا.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
من هنا:
نجد بضعة املصطفى (صىل اهلل عليه وآله) ختاطب االمام عيل (عليه السالم)
ّملا رجعت من املسجد النبوي وقد ألقت خطبتها يف مجع من املهاجرين واالنصار
خماطبة أيب بكر وهو اخلليفة الذي بايعه املسلمون فلم جتد حينها معينا أو نارصا
فقالت خماطب ًة اإلمام عيل (عليه السالم):
(مات العمد ،ووهن العضد ،شكواي اىل أيب وعدواي اىل ريب؛ ال ّلهم ّ
إنك أشد 254
(((
منهم قوة وحوالً ،وأشد بأس ًا وتنكيال)
تتكشف اآلثار السري ّية يف مقاصدية النص من خالل رصيح قول فاطمة (صلوات
اهلل عليها) يف خطبتها يف املسجد النبوي فقد كشفت عني حقيقة اشرتاك االنصار
واملهاجرين يف ظالمتها وحتديدها للكيفية يف االشرتاك هبذا الظلم ،فقالت لعيل
(عليه السالم) تشكوا تظلمها وآالمها مما القته من أيب بكر وقد اظهرت احلجج
القاطعة يف املطالبة بحقها:
(هذا ابن ايب قحافة يبتزين نحلة أيب وبلغة أبني لقد أجهد يف خصامي ،وألفيته
َألدَّ يف كالمي حتى حسبتني قيلة نرصها ،واملهاجرة وصلها ،وخضت اجلامعة دوين
طرفها ،فال دافع وال مانع ،خرجت كاظمة وعدت راغمة).
والنص الرشيف مع وضوحه ورصاحته يف بيان التظ ّلم من الصحابة فقد حدد
بالدقة نوع الظلم الذي مارسه القوم بحقها ،فكان عىل النحو االيت:
((( االمايل للطويس :ص()683؛ االحتجاج للطربيس :ج( )1ص()145؛ املناقب البن شهر :ج()2ص(.)51
املبحث احلادي والعشرون :مقاصدية املالزمة بني قوله فاطمة (. . )
-1ختيل االنصار عن عهودهم يف نرص النبي (صىل اهلل عليه وآله) وعرتته بعد أن
قدموا تلك العهود يف بيعة العقبتني فاكتسبوا بذلك لقب (االنصار) ،ولذا:
نجد الزهراء (عليها السالم) قد أرجعتهم اىل نسبهم للمدينة ،وهم بني قيلة وكان
دورهم مرتكز ًا عىل نرص الرسول (صىل اهلل عليه وآله) إذا ما تعرض للحرب أو املخاصمة.
وهنا :تكشف الزهراء (عليها السالم) أهنا يف حرب قد سلب حقها وحتتاج اىل
من ينرصها عىل عدوها وخصمها.
255
أي :كان الواجب الرشعي الذي ألقي يف أعناق الصحابة من أهل املدينة (بنو
قيلة) نرص بضعة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) لكنهم حبسوا النرص وتركوها
رصحت بذلك. للعدو واخلصم الذي هو َّألدَّ يف خصام فاطمة (عليها السالم) كام ّ
-2الشك ان لبضعة املصطفى (صىل اهلل عليه وآله) عىل قريش حق صلة الرحم
وان حق الرحم يقتيض يف الرشع والعرف واخللق دفع الظلم عن الرحم والوقوف
معها يف وجه العدو ومنعه من االستمرار يف عدوانه إال أن الواقع السريي للحادثة
يكشف عن أن املهاجرين قطعوا الرحم وامتنعوا عن الوقوف بجانب بضعة النبي
(صىل اهلل عليه وآله).
(واملهاجرة وصلها)
-3ختيل مجيع املسلمني ممن مل يكونوا من أهل املدينة أو مكة من بضعة نبيهم (صىل
اهلل عليه وآله) لتواجه خصمها الذي أبتزها أرضها وسهم ولدهيا احلسن واحلسني
(عليهام السالم) من واردات هذه االرض وأموال رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله).
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
وعليه:
وهذا التكرار الشك يرشد اىل مقاصدية ودالالت أرادها اإلمام أمري املؤمنني
(عليه السالم) ،وللوقوف عىل هذه املقاصدية والدالالت نورد املسائل االتية:
وتكرار :عطف.
ً يكر كر ًا ،وكرور ًا
كر عليهُّ :
(الكر :الرجوع ،وهو مصدر َّ
ُّ
وكرره :اعادة مرة بعد اخرى ومنه
وكر اليشء ّ
وكرر اليشء َّ
وكر عنه :رجع؛ َّ
َّ
التكرار)(((.
()259
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ومنه جاء املعنى يف وصف اسلوب القاتل يف احلروب بالكر والفر ،أي معاودة
اهلجوم والرجوع اىل املنازلة.
من هنا:
كان التكرار مصب اهتامم املشتغلون بعلم اللغة العربية منذ القرن الثالث
اهلجري ،فقد اشار اخلطايب (ت388هـ) اىل امهية التكرار واثره يف توكيد املعنى
لدى املتلقي مشافهة او تدوينا وجاذبا اهتاممه مبتعد ًا ورود الغلط لديه او النسيان
260
ملا يريده صاحب النص(((.
واتساقا هلذا املعنى املرادف من وجود التكرار ،قال ابن جني (ت 392هـ):
ان العرب تلجئ اىل التكرار يف االلفاظ يف كالمها حينام تريد معن ًا حمدد ًا بغية
حرص ذهن املتلقي يف هذا املعنى(((.
ومل ينحرص االمر يف هذه الرؤية لدى علامء اللغة القدماء ،بل تبعهم عىل ذلك كثري
من املعنيني هبا يف الوقت احلارض.
فقد ذهب (ديفاتري) اىل بيان امهية التكرار يف ايصال املعنى الذي قصده الناص يف
ذهن املتلقي ولذا فهو للم يقع اعتباطا يف النص ،فيقول:
(لو ان الظواهر االسلوبية تقع اعتباطا دون عرف ترد اليه ملا امكن ادراكها)(((.
وذهبت احدى الدراسات املعارصة اىل اكتناز ظاهرة التكرار يف وجودها عىل
حتقيق قاعدتني:
الثانية :اهتامم املتلقي وشد انتباهه اىل امهية هذا الكالم بحيث ال يمكن ان يغفل
مراد الناص أو املتكلم(((.
261 وعليه:
يكون أثر التكرار يف املفردات او املضامني ضمن النص الرشيف مرتكزا يف حتديد
مجلة من الوظائف ،منها:
-2بلورة القضية االساس يف سبب صدور النص؛ وتكون هنا حادثة قتل الزهراء
(عليها السالم) وظالمتها.
(( ( لسانيات النص مدخل اىل انسجام النص ملحمد اخلطايب :ص( )179طبع ونرش املركز الثقايف
العريب ،بريوت ط السنة .1991
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
عيل داري)؟!!
(أو حمرق َّ
قال( :نعم ،وذاك ألقوى فيام جاء به أبوك)(((.
إن إخراج عيل (عليه السالم) من داره ومن كان معه ليبايعوا أيب بكر بمعنىّ :
هو افضل مما جاء به رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وأقوى لديه من تقوية كريس
االمارة الذي سيجلس عليه خلف ًا أليب بكر،والعلة فيه هو ليس مجع املسلمني عىل
بيعة أيب بكر وإنّام كي يليهم من بعده ،فامللك عند ابن اخلطاب أفضل مما جاء به
رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) بدليل قوله الذي مل يفتأ يرصح به وجياهر به بني
الصحابة ،وهو قوله:
((( أنساب االرشاف :ج 6ص586؛ الشايف يف االمامة للرشيف الريض :ج 3ص.241
((( تاريخ الطربي :ج 2ص.457
املبحث الثاني والعشرون :مقاصدية التكرار يف السالم على رسول اهلل (. . )
(واهلل ما أدري أخليفة أنا أم ملك ،فإن كنت ملك ًا فقد ورطت يف ٍ
أمر عظيم)(((.
فالرجل كان رصحيا يف إظهار مكنون نفسه وقصديته يف اهلجوم عىل بيت النبوة
والرسالة إال أن كثري ًا من الناس يلتمسون له العذر فيام فعل فكانوا رشكاء له يف عمله.
وعليه:
ألف -يف تضييع االمة حلق علي بن أبي طالب (عليه السالم) .
قال (عليه السالم):
عيل وعىل هضمها حقها فأحفها السؤال و (وستنبئك أبنتك بتظافر أمتك َّ
عيل) و (هضمها حقها) (ستخربها احلال) فكان التضمني يف (تضافر أمتك َّ
يكشفان عن حال األمة يف االنقالب والتعدي عىل قطبي بيت النبوة عيل وفاطمة
ضمن احلقل العام وهو التجري عىل اهلل ورسوله (صىل اهلل عليه وآله).
املبحث الثاني والعشرون :مقاصدية التكرار يف السالم على رسول اهلل (. . )
باء -يف التضمني الداللي إلظهار ما جنته األمة واشرتاكهم يف ظلم فاطمة (عليها السالم).
قال (عليه السالم):
(فأحفها السؤال واستخربها احلال فكم من غليل معتلج بصدرها مل جتد اىل بثه
سبيال ،وستقول وحيكم اهلل ،وهو خري احلاكمني).
ونالحظ هنا:
265 (احفها ،استخربها ،الغليل ،املعتلج ،ستقول ،وحيكم ،وهو خري احلاكمني).
ويف هذه الشبكة من الدالالت داخل النص العام قال (عليه السالم) إلظهار
مصائبه وما نزل به من الرزايا لفقد الزهراء وما أصاهبا مكررا ذلك فيقول:
( -1قل يا رسول اهلل عن صفيتك صربي ،وضعف عن سيدة النساء جتلدي
التأس بسنتك بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك ،واحلزن الذي حل يب أن يل يف ّإال ّ
لفراقك موضع تعز ،فلقد وسدتك يف ملحودة قربك ،وفاضت بني نحري وصدري
نفسك ،وغمضتك بيدي ،وتوليت أمرك بنفيس ،بىل ويف كتاب اهلل أنعم القبول إنا
هلل وإنا إليه راجعون).
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ونالحظ هنا هذه الدالالت التي تضمنها النص العام (قل صربي ،ضعف
جتلدي ،عظيم فرقتك ،فادح مصيبتك ،احلزن الذي حل يب لفراقك ،إنا هلل وإنا اليه
راجعون).
-2وتكرار هذا التضمني الداليل ببيانه ملا نزل به يف املصيبة وعظيم الرزية فيقول:
(يا رسول اهلل أما حزين فرسمد ،وأما لييل فمسهد ،ال يربح احلزن من قلبي اىل أن
خيتار اهلل يل دارك التي أنت هبا مقيم ،رسعان ما فرق بيننا فإىل اهلل أشكو).
266
ونالحظ هنا الدالالت االتية:
(رسمد ،مسهد ،ال يربح من قلبي ،فإىل اهلل اشكو)؛ ثم يأخذ بأنفاس املتلقي
للخطاب يف حالة وجدانية خاصة فيزيد من حجم التأثري النفيس والعاطفي لديه يف
تصعيد شجونه وهو يكشف عن حجم األمه (عليه السالم) فيقول:
(آه ،آه ،واه واها ،لوال غلبة املستولني علينا جلعلت املقام عند قربك لزاما ،والتلبث
معكوفا ،و ألعولت أعوال الثكىل عىل جليل الرزية).
ومن ثم:
كان هذا النص الرشيف بام تضمنه من حقول معرفية وشبكات من الدالالت
ليكشف الغطاء عن احلدث الذي وقع يف بيت النبوة وبعد وفاة رسول اهلل (صىل
اهلل عليه وآله) بساعات أو أيام ال تتجاوز أصابع اليد الواحدة كام سيمر بيانه من
خالل هذا النص الرشيف.
وعليه:
267
تكون بقية املوارد من التضمني الداليل واضحة وبينة وليست بحاجة اىل الرسد
مر انف ًا.
والبيان كام ّ
ثانياً :أثر احلقل الداللي يف تكوين املعنى واتساق النص .
تناول الدارسون لعلم اللسانيات تكرار املضامني ضمن متطلبات اتساق النص
وبناء املعنى.
ويمثل احلقل الداليل (سياجا عميقا للمعنى حيث يشتمل عىل مفردات ذات
سامت داللية عامة تتسع وتضيق بحسب مكوناهتا الداللية وهلا رابط داليل جيمعها،
وهنا ال نقصد فقط اعادة استعامل مفردة بعينها ،وانام يشمل ذلك استعامل مفردات
او الفاظ ترتبط هبا معنويا)(((.
والنص الرشيف -موضع الدراسة -حشد جمموعة من احلقول الداللية ضمن
فكرة واحدة وهي العمود الفقري للنص وهو ظالمة رسول اهلل (صىل اهلل عليه
وآله) وانه املقصود هبذه احلرب عىل بيت فاطمة وعيل وولدامها (عليهم السالم).
فبني احلقل الداليل املخصوص بظلم الزهراء (عليها السالم) وضياع حقها
واستشهادها كقوله (عليه السالم):
((( اثر التكرار يف التامسك النيص :ص 60بترصف.
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
«اسرتجعت الوديعة ،وأخذت الرهينة ،واختلست الزهراء فام أقبح اخلرضاء والغرباء».
وقوله:
«وستنبئك أبنتك بتظافر أمتك عيل وعىل هضمها حقها ،فأحفها السؤال
واستخربها احلال فكم من غليل معتلج بصدرها مل جتد اىل بثه سبيال وستقول
وحيكم اهلل وهو خري احلاكمني».
«اما حزين فرسمد واما لييل فمسهد ال يربح احلزن من قلبي اىل ان [أو] خيتار اهلل يل
دارك التي أنت هبا مقيم».
«آه آه لوال غلبة املستولني علينا جلعلت املقام عند قربك لزام ًا ،والتلبث معكوف ًا ،و
ألعولت عوال الثكىل عىل جليل الرزية».
وبني احلقل الداليل اخلاص ببيان منزلة فاطمة (عليها السالم) كقوله (عليه
السالم) يف بيان هذه املنازل يف كوهنا (أبنة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ،وصفيته
وحبيبته ،وقرة عينه ،وسيدة نساء العاملني ،الوديعة ،والرهينة والزهراء) وغريها من
احلقول ليوردها ضمن الفكرة االساس والعمود الفقري لقوام النص وبناءه وهو
املبحث الثاني والعشرون :مقاصدية التكرار يف السالم على رسول اهلل (. . )
ظالمة رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وانه هو املقصود هبذه احلرب فنجده (عليه
السالم) حيشد هذه الدالالت يف النص منذ بدايته واىل هنايته ،فنالحظ اخلطاب
املوجه له (صىل اهلل عليه وآله) قائالً« :السالم عليك يا رسول اهلل عني والسالم
عليك عن ابنتك» ثم نالحظ خطابه للنبي (صىل اهلل عليه وآله):
«ابنتك ،قرة عينك ،زائرتك ،النازلة يف جوارك ،البائتة يف الثرى ببقعتك ،الرسيعة
اللحاق بك ،صفيتك ،ستنبئك ،امتك» ،وقوله:
269
«احفها ،استخربها»
وقوله« :ومل يتباعد بك العهد ،ومل خيلولق منك الذكر ،فإىل اهلل يا رسول اهلل
املشتكى ،وفيك امجل العزاء».
ويف هذا يرشد (عليه السالم) اىل أن احلقيقة التي أراد إخفائها الظاملون هي
احلرب املفتوحة عىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) ،وهو الفكرة األساس يف هذا
النص الرشيف.
ونجد هنا (القال ،والسئم ،وامللل) الفاظ مرتادفة لتأكيد املعنى يف حدود الزيارة،
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
ونجد هنا:
جاءت يف هذا التكرار لتأكيد املعنى يف البقاء عند قرب رسول اهلل (صىل اهلل عليه
270
وآله)؛ وإنه هو املعني فيام جرى عىل عرتته وأهل بيته (عليهم السالم).
وإن هلذا البقاء أو املكوث حدودا ورشائطا تعبدية جتعل املسلم يدرك معنى أنه
بني يدي سيد اخللق امجعني (صىل اهلل عليه وآله) كام سيمر بمزيد من البيان يف
املسألة القادمة.
املسألة الثالثة :القصدية يف تكرار السالم على رسول اهلل (. )
ّ
إن دراسة النص الرشيف ترشد اىل إن اإلمام أمري املؤمنني (عليه السالم) كان
قد أورد السالم عىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) يف موارد ثالثة من اخلطاب،
املورد االول :يف بداية خطابه فقد بدأ بالسالم عىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله)،
واملورد الثاين :وسط خطابه ،وقد أرشنا اىل موضعه يف املسألة السابقة ،ويف املورد
الثالث :كان يف هناية خطابه مع رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) والذي سيمر بيانه
إن شاء اهلل.
وال شك أن هناك قصدية يف هذا االيراد وتكرار السالم عىل رسول اهلل (صىل اهلل
عليه وآله) ،وهو ما سنتناوله يف النقاط االتية:
املبحث الثاني والعشرون :مقاصدية التكرار يف السالم على رسول اهلل (. . )
القصدية األوىل :ربط املتلقي برسول اهلل ( )وأنه امللجأ يف التظلم .
يشعر املتلقي للنص الرشيف بحالة وجدانية تربطه برسول اهلل (صىل اهلل عليه
وآله) ،هذه احلالة يفرضها سياق النص من خالل تكرار األلفاظ واإلشارات منذ
أول النص اىل هنايته برسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) السيام فيام يتعلق بالسالم عليه
مر يف املسألة السابقة من تكرار الضمري يف املفردات: وقصده يف اخلطاب كام ّ
(أبنتك ،حبيبتك ،قرة عينك ،زائرتك ،جوارك ،بقعتك ،للحاق بك ،صفيتك،
271
فرقتك ،فراقك ،وسدّ تك ،قربك ،نفسك ،غمضتك ،أمرك ،دارك ،ستنبئك ،ومل
يتباعد بك).
َفـاخلطاب كله موجه لرسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وانه املعني االول بام جرى
وجيري يف األمة وإنه امللجأ يف التظلم ،وهو احلاكم الذي يقتص من الظلمة.
وهذا اإلعتقاد قد أسس له القرآن الكريم والناكر له يكون قد أخل بإيامنه باهلل تعاىل.
أن املؤمن جيب عليه االعتقاد بأن احلاكم يف أموره والقاص الذي يقتص بمعنىّ :
من الظاملني يف إصدار االحكام ورفعها هلل تعاىل هو رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله)
وك فِ َيم َش َج َر
يك ُِّم َ ك َل ُي ْؤ ِمن َ
ُون َحتَّى ُ َ كام أمر القرآن بذلك ،قال تعاىل ﴿ َف َل َو َر ِّب َ
ت َو ُي َس ِّل ُموا ت َْسلِي ًام﴾(((.
َب ْين َُه ْم ُث َّم َل َيِدُ وا ِف َأ ْن ُف ِس ِه ْم َح َر ًجا ِمَّا َق َض ْي َ
واآلية املباركة واضحة الداللة واحلكم يف اإلعتقاد يف كونه احلاكم الذي يقيض
فيام شجر بني الصحابة وانه (صىل اهلل عليه وآله) بمقتىض اآلية املرجع الذي يرجع
اليه املسلمون يف اخلصومات سواء يف حياته أو بعد مماته كام فعل أمري املؤمنني (عليه
السالم) يف خطابه وشكى إليه كام ورد رصحيا يف قوله (عليه السالم).
ّإل أن الفارق بني املقامني إنه (صىل اهلل عليه وآله) يف احلياة الدنيا يصدر حكمه
وقضائه فيام بينهم بمسمع منهم فمن س ّلم منهم حلكمه (صىل اهلل عليه وآله) ومل جيد
حرجا مما قىض رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) كان مؤمن ًا.
ومن وجد حرجا يف نفسه من هذا القضاء ومل يس ّلم له كان غري مؤمن باهلل ورسوله
(صىل اهلل عليه وآله).
ولذا :نجد اهلل سبحانه وتعاىل يقدم القسم يف أول اآلية املقرون بالنفي قبل القسم
272
وبعده ،فقال:
ك َل ُي ْؤ ِمن َ
ُون﴾. ﴿ َف َل َو َر ِّب َ
فتكرر النفي لإليامن داللة عىل خطورة التعامل مع سيد االنبياء واملرسلني (صىل
اهلل عليه وآله) وأن حكمه وقضاءه وهو حكم اهلل وقضائه.
ثم :فإن القصدّ ية األوىل يف تكرار السالم عىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه
ومن َّ
وآله) هو املقبولية لدى املتلقي وربطه بمقتضيات اآلية الكريمة يف كونه (صىل اهلل
مر أو بعد مماته والفارق بعد مماته أنه
عليه وآله) امللجأ يف التظلم سواء يف حياته كام ّ
(صىل اهلل عليه وآله) يقتيض باألمر عىل نحوين:
النحو االول :يكون من خالل رفع األمر اىل اهلل تعاىل وذلك إنه سبحانه قد فوض
اىل النبي (صىل اهلل عليه وآله) احلكم فيام يشجر من خالفات بني املسلمني فيكون
قضاءه (صىل اهلل عليه وآله) بينهم هو عينه قضاء اهلل تعاىل؛ لكن تنفيذ العقوبة
واختيار الزمان واملكان واأللية يف ذلك يكون هلل تعاىل وان اقتىض عنوان القايض
وما جرى يف االعراف ويف القوانني الوضعية والرشائع ان حتديد الزمان واملكان
واأللية هي من صالحيات القضاة.
املبحث الثاني والعشرون :مقاصدية التكرار يف السالم على رسول اهلل (. . )
﴿ل ُي ْس َأ ُل َع َّم َي ْف َع ُل َو ُه ْم ُي ْس َأ ُل َ
ون﴾(((. إالّ أن األمر هلل من قبل ومن بعدَ ،
فيكون من خالل الويص الرشعي واخلليفة املنصوص عليه من قبل اهلل تعاىل
ورسوله (صىل اهلل عليه وآله) وهنا يكون احلاكم فيام شجر بني الصحابة واملسلمني
هو اإلمام عيل ابن أيب طالب (عليه السالم) لو كانوا مؤمنني باهلل تعاىل ورسوله
(صىل اهلل عليه وآله) واليوم االخر.
273
ومن بعده يكون احلاكم هم األئمة األحد عرش أوهلم ولداه احلسن واحلسني
(عليهام السالم) ثم التسعة من بعد احلسني (عليهم السالم).
القصدية الثانية :اآلثار يف سالم املقبل على رسول اهلل ( )غري سالم املودّع له .
يفتح لنا هذا اجلزء من النص الرشيف باب ًا معرفيا جديدا ،وهو آثار السالم عىل
رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) اثناء االقبال عليه وبيان قصدية هذه االثار وكذا
اثار السالم يف الوداع واالنرصاف عنه ضمن داللة جديدة:
أن يستحرض يف قلبه حاجته ،وأن املس ّلم ملا سيحكم ويقيض يف أموره وحاجتهْ -2
(صىل اهلل عليه وآله) ،وال جيد حرج ًا يف قضاء حاجته أم حبسها أم تأخريها.
ّ -3
إن هذا اإلعتقاد يدعم االيامن باهلل تعاىل ورسوله (صىل اهلل عليه وآله) واليوم
اآلخر ،ومن ثم فاملس ّلم بحاجة حلفظ إيامنه أن يكون دائم االتصال برسول اهلل
(صىل اهلل عليه وآله) يف مجيع أموره وشؤونه.
-2دوام النية وهذا يكشف عن قبول العمل أو احباطه عند انقطاع النية ،أي: 274
أن تكرار السالم يف أول احلضور بني يديه (صىل اهلل عليه وآله) ويف وسط اخلطاب
ويف ختامه ناتج عن استمرار النية يف الزيارة ودواعي حضور القلب يف قصد القربة
هلل تعاىل ،فام زال احلارض يف عبادة ،وان صحة العبادة متوقفة عىل النية الدائمة.
املسألة الرابعة :زيارة قرب رسول اهلل ( )بني حدود االقامة واالنصراف
وشرائطهما .
ّ
إن املتأمل يف النص الرشيف جيد أن اإلمام أمري املؤمنني (عليه السالم) ينقل
املتلقي اىل معارف جديدة مع كل مفردة ينطق هبا.
واملعارف اجلديدة التي أفاضها بلطفه عىل املتلقي يف هذا املوضوع من خطابة هي
حدود االقامة واالنرصاف عن قرب رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) والتي سنتعرض
هلا يف ما ييل من املفردات:
املبحث الثاني والعشرون :مقاصدية التكرار يف السالم على رسول اهلل (. . )
-3املاللة:
قال الفراهيدي :امللل واملالل ،ان متل شيئ ًا وتعرض عنه(((.
قال ابن املنظور :امللل :املالل وهو ان متل شيئ ًا وتعرض عنه ،قال الشاعر :واقسم
ما بني من جفاء وال ملل.
فالزائر مقيد بالنظر اىل حد القلة ،أي يلزم أن ال يكون بقائه قلي ً
ال فيرسع باخلروج
مما يؤثر عىل روحية الزائر فيحرم من االستفادة من النفحات الرمحانية التي حتيط
باملكان وتشمل احلارضين فيه.
فض ً
ال عن أن ذلك يدفع بالنفس اىل التهاون بمقام سيد اخللق (صىل اهلل عليه
277 وآله) فال يلتفت اىل انه بني يديه ويف حمرضه ،ومن ثم قد جرت العادة واألعراف
يف زيارة العظامء وامللوك واألمراء وكل من لديه شأنية عظيمة أن يفرض عىل
الزائرين واحلارضين وقتا حمددا يف البقاء أو االنرصاف وذلك من خالل احلاجب
او املسؤول عن الترشيفات ،فأما أن يأذن هو بنفسه للزائر أو احلارض باإلنرصاف،
وأما أن يأذن له بالدخول وبام أن الزائر هنا يب يدي رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله)
فيكون االمر وجدانيا وحمددا بام هو مقرر باألعراف اإلجتامعية يف حدود الوقت
الذي يبذله االنسان عند الزيارة.
ولذا:
يسلم اإلمام أمري املؤمنني (عليه السالم) عىل رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) عند
االنرصاف مبينا أنه يطلب االذن يف ذلك ،وأنه ملتزم بحدود الزيارة وأنه غري ٍ
مقل
بوقت احلضور بني يديه (صىل اهلل عليه وآله).
-2حد البقاء بني يدي رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله).
بعد بيانه (عليه السالم) حد االنرصاف من الزيارة وانه يلزم ان ال يعد عرفا بالقلة
او القليل من الوقت ،ينتقل (عليه السالم) اىل بيان حد البقاء فيقيده بام ييل:
الباب األول -الفصل األول :قصدية النص يف دفنه فاطمة وداللته وحتليله
الف -عدم الشعور بالثقل بالحضور فيندفع اىل ترك الزيارة .
ّ
إن االقامة إذا جتاوزت احلد العريف يف الزيارة فإهنا تقود اىل الضجر فتدفع النفس
اىل امللل فينرصف االنسان وقد َّ
مل البقاء بني يديه (صىل اهلل عليه وآله).
يظهر من خالل الداللة التي اكتنزها لفظ (السأم ــ وامللل) إن املؤمن يف حالة
زيارته لرسو اهلل (صىل اهلل عليه وآله) يلزمه اإللتفات اىل قلبه فرياقبه وهو املناط
والضابطة يف زيارته (صىل اهلل عليه وآله) ،فيشغل قلبه بذكر اهلل والصالة عىل
رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) كي ال يقع القلب يف امللل أو الضجر حينام يكون
فارغا من الذكر.
املبحث الثاني والعشرون :مقاصدية التكرار يف السالم على رسول اهلل (. . )
كام أن اإلقالل من الذكر والصالة عىل النبي (صىل اهلل عليه وآله) تقود اىل تقصري
االقامة ومن ثم هيم االنسان باخلروج مما يرتك اثرا سيئا عىل االيامن وحيرم االنسان
من اخلري والرمحة واملغفرة والتوفيق يف احلياة الدنيا.
من هنا:
279
نجد اإلمام أمري املؤمنني (عليه الصالة والسالم) كان يكثر من السالم والصالة
عىل النبي يف هذا اخلطاب كي جيعل القلب مشغوال باملقام الذي هو فيه وإنه بني
يدي سيد اخللق أمجعني مستزيد ًا هبذه الصالة من اخلري الوفري الذي حيف بالزائر
لقربه (صىل اهلل عليه وآله) فضال عن ذلك فقد أرشد (عليه الصالة والسالم) اىل
بعض الرشائط التي يتحقق هبا هذا األستحقاق الرباين يف فضل الزيارة والصالة
عىل النبي واله ،ومن هذه الرشائط:
ألف -اإلعتقاد مبقـام الشهودية اليت جعلها اهلل للنيب األعـظم ( )كما نص عليهـا
القرآن الكريم.
قال تعاىل:
إذ لوال هذا اإلعتقاد ملا جاء اإلمام عيل (عليه السالم) اىل قرب رسول اهلل (صىل
اهلل عليه وآله) وخياطبه هبذه الكلامت التي اكتنزت الكثري من احلقائق واملعارف
واملجريات التي جرت بعد وفاته (صىل اهلل عليه وآله) وليكون الشهيد الذي شهد
حال االمة بعد وفاة نبيها (صىل اهلل عليه وآله) ويؤتى به يوم القيام مع االنبياء
واملرسلني وهم يشهدون عىل اممهم ويكون االمام عيل (عليه السالم) من بينهم
شهيدا عىل االمة وما جرى فيها بعد وفاة رسول اهلل ليكون املصطفى هو الشهيد
عىل هؤالء الشهداء.
280
ولعل سائل يقول :كيف للشهودية قبل بعثته (صىل اهلل عليه وآله) ان تتحقق؟
وجوابه:
-1اما ان يكون ذلك من خالل نوره الذي سبق خلق اخلالئق فهو اول ما خلق اهلل
تعاىل((( ،فيكون نور النبوة املحمدية شاهدا النوار االنبياء واملرسلني (عليه السالم).
-2وإما ان جربائيل (عليه السالم) كان قد عرض عليه سرية االنبياء واملرسلني
واعامل االمم كافة ،كام جاء يف قوله تعاىل:
ُوح ِيه إِ َل ْي َ
ك﴾(((. بن ِ ك ِمن َأ ْنب ِ
اء ا ْل َغ ْي ِ ِ
أَ ﴿ -ذل َ ْ َ
ك ِم ْن َق ْب ِل ْت َت ْع َل ُم َها َأن َ
ْت َو َل َق ْو ُم َ بن ِ
ُوح َيها إِ َل ْي َ
ك َما ُكن َ ك ِمن َأ ْنب ِ
اء ا ْل َغ ْي ِ ب﴿ -ت ْل َ ْ َ
ِ
ِ ِ ِ
ب إِ َّن ا ْل َعاق َب َة ل ْل ُمتَّق َ
ني﴾(((. اص ِ ْ
َه َذا َف ْ
ك ِمن َْها َقائِ ٌم َو َح ِصيدٌ ﴾(((. ك ِمن َأ ْنب ِ
اء ا ْل ُق َرى َن ُق ُّص ُه َع َل ْي َ ِ
جَ ﴿ -ذل َ ْ َ
اء َك ِف َه ِذ ِه َْ
ال ُّق اء الرس ِل ما ُن َثب ُ ِ
ت بِه ُف َؤا َد َك َو َج َ
ِ د﴿ -وك ًُّل َن ُقص ع َلي َ ِ
ك م ْن َأ ْن َب ُّ ُ َ ِّ ُّ َ ْ َ
ِ ِِ ِ ِ
ني﴾(((.َو َم ْوع َظ ٌة َوذك َْرى ل ْل ُم ْؤمن َ
وغريها من اآليات التي تبني حتقق مقام الشهودية عىل مجيع االمم.
-3وأما من خالل كل القرآن الكريم الذي أخرب اهلل عن إحاطته لكل يشء ،فقال
عز وجل:
وعليه:
يلزم االعتقاد هبذا املقام الذي خص اهلل تعاىل به حبيبه املصطفى (صىل اهلل عليه
وآله) وإال ملا وقف أمري املؤمنني بني يديه.
وذلك ّ
أن القرآن الكريم يظهر يف مجلة من اآليات املباركة خطورة التعامل مع مقام
مر يف املبحث االول
رسول اهلل (صىل اهلل عليه وآله) وشأنيته عند اهلل تعاىل؛ وقد ّ
من الدراسة عرض هلذه املسألة مفص ً
ال وذكرنا أن اهلل تعاىل فرض مجلة من احلدود
282
يف التعامل معه (صىل اهلل عليه وآله) وذلك من خالل كيفية احلديث معه والتأدب
بمحرضه أو تعظيمه و أجالله وغريها من األمور التي ربطها القرآن الكريم ربطا
تالزميا مع االيامن باهلل تعاىل وهذه اآليات كام جاءت بتلك احلدود ،فمنها:
ِ ِِ ِ
يعي َيدَ ِي اللَِّ َو َر ُسوله َوا َّت ُقوا اللََّ إِ َّن اللََّ َسم ٌ َ ﴿ -1يا َأ ُّ َيا ا َّلذ َ
ين َآ َمنُوا َل ُت َقدِّ ُموا َب ْ َ
ت النَّبِ ِّي َو َل َ ْت َه ُروا َل ُه علِيم ( )1يا َأيا ا َّل ِذين َآمنُوا َل تَر َفعوا َأصوا َتكُم َفو َق صو ِ
ْ ُ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ ُّ َ َ ٌ
ين ِ
ون ( )2إِ َّن ا َّلذ َ ض َأ ْن َ ْت َب َط َأ ْع َم ُلك ُْم َو َأ ْنت ُْم َل ت َْش ُع ُر َبِا ْل َق ْو ِل ك ََج ْه ِر َب ْع ِضك ُْم لِ َب ْع ٍ
وب ْم لِل َّت ْق َوى َُل ْم َمغ ِْف َر ٌة
ين ْامت ََح َن اللَُّ ُق ُل َ ُ
ول اللَِّ ُأو َلئِ َ ِ
ك ا َّلذ َ ون َأ ْص َو َاتم ِعنْدَ رس ِ
َ ُ ُْ َيغ ُُّض َ
ِ
يم﴾(((. َو َأ ْج ٌر َعظ ٌ
ي ن َْج َواك ُْم َصدَ َق ًة َذلِ َ
ك ي َيدَ ْ الر ُس َ
ول َف َقدِّ ُموا َب ْ َ َاج ْيت ُُم َّ
ِ
َ ﴿ -2يا َأ ُّ َيا ا َّلذ َ
ين َآ َمنُوا إِ َذا ن َ
ِ َخ ْي َلك ُْم َو َأ ْط َه ُر َفإِ ْن َل َ ِ
يم﴾(((. ور َرح ٌ تدُ وا َفإِ َّن اللََّ َغ ُف ٌ ْ ٌ
واآليات الرشيفة تظهر مجلة من املحاذير التي تربط بمصري االنسان يف االخرة
واثر هذه املحاذير عىل القلب وتقواه.
ومن ثم فإن االخالل يف الزيارة والشعور بالسأم وامللل الباعث عىل االنرصاف
يؤديان اىل مرض القلب وذهاب االجر ان مل يؤدي اىل احباط العمل دون ان يشعر
االنسان.
283
احملتويات
املسألة االوىل :املالزمة بني قصدية منتج النص يف كوهنا سيدة النساء مع احلديث النبوي 7..................
املسألة الثانية :قصدية انحصار السيادة عىل نساء العاملني بفاطمة (11................................... )
املسألة االوىل :تصحيح املسار يف حدث وفاة رسول اهلل ( )يف بيت عائشة 31............................
املسألة الثانية :بيان حقيقة تـرك الصحابة دفن رسول اهلل ( )وانشغاهلم بكريس اخلالفة 35................
املبحث الرابع عشر
مقاصدية كوهنا وديعة عند اإلمام علي ()
املسألة األوىل :قصدية (إىل) و (أو) يف البقاء بعد فاطمة (125......................................... )
ثاني ًا :داللة قوله «أو خيتار اهلل يل» وكاشفية «أو» 126......................................................
املسألة الثانية :قصدية االختيار يف قوله «خيتار اهلل يل» بمعنى «التفويض» أو التعيني 128....................
املسألة الرابعة :قصدية اإلقامة يف دار رسول اهلل ( )الربزخية أم الفردوسية 129.........................
املسألة اخلامسة :قصدية رسعة التفريق بينه وبني فاطمة (134......................................... )
أوالً :معنى ّ
(فرق) يف اللغة 135..........................................................................
املسألة االوىل :معنى النبأ لغة وما هو الفرق بينه وبني اخلرب 141............................................
أوالً :النبأ لغ ًة 141.......................................................................................
املسألة الثانية :قصدية تنبيئ رسول اهلل ( )Jوداللته العقدية والسري ّية 144..............................
الداللة االوىل :اخبار رسول اهلل ( )بأمور ال يعلمها وقعت من بعده 145...............................
املسألة الثالثة :قصدية تضافر األمة عىل عيل وفاطمة (153............................................ )
ثاني ًا :قصدية تضافر االمة عىل عيل ( )وهبا تتضح مصاديق اللفظ وداللته 156..........................
املسألة الرابعة :قصدية هضم األ ّمة حلق فاطمة ( )Bوداللته 161.......................................
املبحث العشرون
املقاصدية يف احلف واالستخبار واالعتالج وداللة سكوت فاطمة ()
القصدية الثانية :يف بيان مقبولية تلقي االسئلة وردود االجابة 173.........................................
املسألة الثالثة :الغليل املعتلج وقصدية آثاره النفسية واجلسدية وحكمه يف الرشيعة 183.....................
القصدية األوىل :يف بيان حجم األرضار النفسية دون غريها 184...........................................
القصدية الثانية :يف بيان حجم االرضار اجلسدية وارتباطها باألمل الدائم 187...............................
القصدية الثالثة :يف بيان كثرة األرضار وتعددها ودوامها حتى ماتت (188............................. )
املسألة الرابعة :مقاصدية بث الغليل وتعذر السبيل «مل جتد اىل بثه سبيال» 191..............................
القصدية األوىل :التعريف والتجزيء لألمل 191...........................................................
القصدية الثانية :نرش هذه اآلالم بني الناس ملعرفة حقيقة ما جرى 193.....................................
القصدية الثالثة :اختصاص اللفظ بكاشفية حال املرض واحلزن ودرجته 194..............................
إن لدهيا أرسار ًا مل يكن ليطلع عليها غري رسول اهلل (195............................ )
القصدية الرابعةّ :
القصدية اخلامسة :تعذر السبيل مع وجود االمام عيل ( )فسكتت (198............................ )
املسألة االوىل :قصدية االستقبال القريب بني قوهلا واحلكم االهلي «ستقول وحيكم اهلل» 205................
أوالً :املالزمة بني غضب اهلل تعاىل وغضب فاطمة (206.............................................. )
ثاني ًا :مصاديق املالزمة يف إحلاق العقوبة ملنتهكي احلدود اإلهلية يف القرآن والتاريخ 225.....................
املسألة الثانية :فاطمة ( )حتدد العقوبات التي استحقها اجلناة وقصدية الزمن يف وقوعها 228.............
أوالً :حتديد الزمن الذي أعقب وقوع اجلرم وصدور احلكم وتنفيذه 229...................................
ثاني ًا :نوع العقوبات التي استحقها اجلناة 231.............................................................
املسألة الثالثة :قصدية إظهار اآلثار النفسية التي يعيشها اجلناة 232.........................................
أوالً :شأنية الضحية ومنزلتها تزيد يف املعاناة النفسية للجناة 232...........................................
ثاني ًا :ترقب اجلناة لسكوت الضحية أو نطقها يزيد يف عقوبة املعاناة النفسية 235............................
املسألة الرابعة :القصدية يف تنوع احلكم االهلي 237........................................................
القصدية االوىل :ظهور احلكم االهلي يف اجلناة االساسيني الذين انتهكوا حرمة بيت النبوة 238..............
القصدية الثانية :معاقبة من رضا بظلمها فكانت العقوبة اجلامعية 241......................................
والسري ّية 247.....................
املسألة اخلامسة :القصدية يف قوله (وهو خري احلاكمني) وآثارها العقدية ّ
أوالً :اآلثار العقدية التي تظهر قصدية القول يف ضوء القرآن الكريم 248................................. .
ثاني ًا :تعدد احلكّام واألحكام لكن اهلل خري احلاكمني 252..................................................
ثالث ًا :اآلثار السري ّية يف قصدية النص 253.................................................................
املبحث الثاني والعشرون
قصدية التكرار يف السالم على رسول اهلل ( )وأثره يف متاسك النص
املسألة الثانية :أثر التضمني الداليل يف اظهار قصدية التعامل مع قرب رسول اهلل (262.................. )
ِ
معان حمددة 263........................................... أوالً :التضمني الداليل وقصدية التمحور حول
ثاني ًا :أثر احلقل الداليل يف تكوين املعنى واتساق النص 267...............................................
املسألة الثالثة :القصدية يف تكرار السالم عىل رسول اهلل (270........................................ )
القصدية األوىل :ربط املتلقي برسول اهلل ( )وأنه امللجأ يف التظلم 271..................................
القصدية الثانية :اآلثار يف سالم املقبل عىل رسول اهلل ( )غري سالم املو ّدع له 273........................
املسألة الرابعة :زيارة قرب رسول اهلل ( )بني حدود االقامة واالنرصاف ورشائطهام 274..................