Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 200

‫طبيب عرب الزمن‬

‫نظرات ت�شخي�صية يف التاريخ والأدب والرتبية‬

‫من�صور اجلابري‬
‫�شركة العبيكان للتعليم‪1436 ،‬هـ‬
‫فهر�سة مكتبة امللك فهد الوطنية �أثناء الن�شر‬

‫حقوق الطباعة حمفوظة للنا�شر‬

‫الطبعة الأولى‬

‫للن�شر‬ ‫النا�شر‬
‫اململكة العربية ال�سعودية ‪ -‬الريا�ض ‪ -‬املحمدية ‪ -‬طريق الأمري تركي بن عبدالعزيز الأول‬
‫هاتف‪ 4808654 :‬فاك�س‪� 4808095 :‬ص‪.‬ب‪ 67622 :‬الريا�ض ‪11517‬‬
‫موقعنا على الإنرتنت‬
‫‪www.obeikanpublishing.com‬‬
‫على �أبل‬ ‫متجر‬
‫‪http://itunes.apple.com/sa/app/obeikan-store‬‬

‫امتياز التوزيع �شركة مكتبة‬


‫اململكة العربية ال�سعودية ‪ -‬الريا�ض ‪ -‬املحمدية ‪ -‬طريق الأمري تركي بن عبدالعزيز الأول‬
‫هاتف‪ - 4808654 :‬فاك�س‪� 4889023 :‬ص‪ .‬ب‪ 62807 :‬الريا�ض ‪11595‬‬

‫جميع احل �ق��وق حمفوظة للنا�شر‪ .‬وال ي�سمح ب ��إع��ادة �إ� �ص��دار ه��ذا ال�ك�ت��اب �أو نقله يف �أي �شكل‬
‫�أو وا�سطة‪� ،‬سواء �أك��ان��ت �إلكرتونية �أو ميكانيكيـــة‪ ،‬مبا يف ذل��ك الت�صوير بالن�سخ «فوتوكوبي»‪،‬‬
‫�أو الت�سجيل‪� ،‬أو التخزين واال�سرتجاع‪ ،‬دون �إذن خطي من النا�شر‪.‬‬
‫مقدمة ‪123 .............................................................‬‬
‫تقدمي بقلم �أ‪.‬د‪� .‬أمين عبده ‪123 .......................................‬‬
‫‪ -1‬ال�سكر يحقق ر�ؤيا هارون الر�شيد ‪123 ..............................‬‬
‫�أ‪ -‬ق�صة هارون الر�شيد ‪123 ........................................‬‬
‫ب‪ -‬حتقيق �سبب الوفاة ‪123 ........................................‬‬
‫ج‪� -‬إ�ضاءات طبية ‪123 ..............................................‬‬
‫د‪ -‬تعبري الر�ؤى ‪123 ................................................‬‬
‫‪ -2‬زائرة املتنبي ‪123 ....................................................‬‬
‫�أ‪ -‬ق�صة املتنبي ‪123 ................................................‬‬
‫ب‪ -‬حتقيق �سبب احلمى ‪123 .......................................‬‬
‫ج‪� -‬إ�ضاءات طبية ‪123 ..............................................‬‬
‫د‪ -‬متالزمة املتنبي ‪123 .............................................‬‬
‫‪ -3‬ابن الرومي‪ :‬النزف يغتال وا�سطة العقد ‪123 ......................‬‬
‫�أ‪ -‬ق�صة ابن الرومي ‪123 ...........................................‬‬
‫ب‪ -‬حتقيق �سبب الوفاة ‪123 ........................................‬‬
‫ج‪� -‬إ�ضاءات طبية ‪123 ..............................................‬‬
‫د‪ -‬تربية اال�ستحواذ ‪123 ............................................‬‬
‫‪ -4‬وفاة النبي ‪ H‬بني ال�سم واحلمى ‪123 ......................‬‬

‫‪5‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�أ‪ -‬ق�صة الوفاة ‪123 .................................................‬‬


‫ب‪ -‬حتقيق �سبب الوفاة ‪123 ........................................‬‬
‫ج‪� -‬إ�ضاءات طبية ‪123 ..............................................‬‬
‫د‪� -‬إ�شكال علمي ‪123 ................................................‬‬
‫‪ -5‬عامر بن الطفيل‪ :‬غدة كغدة البعري وموت يف بيت �سلولية ‪123 ...‬‬
‫�أ‪ -‬ق�صة عامر بن الطفيل ‪123 ......................................‬‬
‫ب‪ -‬حتقيق �سبب الوفاة ‪123 ........................................‬‬
‫ج‪� -‬إ�ضاءات طبية ‪123 ..............................................‬‬
‫‪ -6‬العد�سة �أول عذاب �أبي لهب ‪123 ....................................‬‬
‫�أ‪ -‬ق�صة الوفاة ‪123 .................................................‬‬
‫ب‪ -‬حتقيق �سبب الوفاة ‪123 ........................................‬‬
‫ج‪� -‬إ�ضاءات طبية ‪123 ..............................................‬‬
‫د‪ -‬ما هو �سبب ال�سرطان ‪123 .......................................‬‬
‫‪ -7‬املخبل ال�سعدي‪ :‬يرى ال�شخ�ص كال�شخ�صني وهو قريب ‪123 .....‬‬
‫�أ‪ -‬ق�صة املخبل ال�سعدي ‪123 ........................................‬‬
‫ب‪ -‬حتقيق �سبب املر�ض ‪123 ........................................‬‬
‫ج‪� -‬إ�ضاءات طبية ‪123 ..............................................‬‬
‫د‪� -‬سر القوة �صفة كامنة ‪123 .......................................‬‬
‫خامتة ‪123 ..............................................................‬‬
‫امل�صادر واملراجع ‪123 ...................................................‬‬

‫‪6‬‬
‫ةمدقم‬

‫مقدمة‬

‫احلمد هلل‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على ر�سول اهلل‪ ،‬وبعد‪:‬‬


‫ثم ��ت زوايا كثرية يف تاريخنا العربي يلفها الغمو�ض‪ ،‬وتتناولها‬
‫كت ��ب التاري ��خ والأدب ب�ش ��كل يث�ي�ر الت�س ��ا�ؤل‪ ،‬وبطريق ��ة تبعث على‬
‫الده�ش ��ة‪ ،‬ولكنها قل �أن تروي غليلاً ‪ .‬ولي�س ه ��ذا الأمر �سي ًئا دائ ًما‪،‬‬
‫بل كث ًريا ما كانت هذه النقاط الغام�ضة ميدا ًنا تتبارى فيه الأقالم‪،‬‬
‫ويت�ساب ��ق فيه الكتاب لبيان وجه احلقيقة‪ ،‬الذي يتوارى خلف ب�ضعة‬
‫�أ�سطر‪ ،‬كتبها م�ؤرخ �أو رواها �أديب‪.‬‬
‫وق ��د تختل ��ف ه ��ذه الزوايا باخت�ل�اف القراء �أنف�سه ��م‪ ,‬فما ال‬
‫ي�سرتعي انتباه �أحدهم يراه الآخر لغزًا حم ًريا يكتنفه الغمو�ض‪.‬‬
‫بدع ��ا من ه�ؤالء القراء‪ ،‬بل ثم ��ت العديد من الأ�سئلة‬
‫ومل �أك ��ن ً‬
‫التي كانت ت�سرتعي انتباهي‪ ،‬وتثري ف�ضويل يف �أثناء القراءة يف كتب‬
‫التاري ��خ والأدب‪ .‬فعل ��ى �سبي ��ل املثال ال احل�صر‪ :‬كن ��ت �أت�ساءل عند‬
‫قراءت ��ي لق�صة وف ��اة النبي ‪ H‬عن �سبب موت ��ه‪ .‬وهل ميكن‬
‫لل�سم �أن يبقى كام ًنا يف اجل�سم ملدة �أربع �سنوات‪ ،‬ثم ينتق�ض فج�أة‬
‫عل ��ى هيئة حمى تلحقه بالرفي ��ق الأعلى يف �أقل م ��ن �أ�سبوعني؟ هل‬
‫م ��ن تف�سري علمي يقبله الط ��ب احلديث‪ ،‬ي�شرح ما ورد يف الأحاديث‬
‫ال�صحيحة عن ق�صة وفاته ‪H‬؟‬

‫‪7‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وكن ��ت �أت�س ��اءل كلما قر�أت �سرية ه ��ارون الر�شيد ‪ :V‬كيف‬
‫ع ��رف الطبيب جربي ��ل �أن اخلليفة ال يجاوز ثالثة �أي ��ام‪ ،‬ومل ير �إال‬
‫م ��اء الر�شيد يف قارورة؟ ثم �أال ميكن �أن تربط الأعرا�ض الواردة يف‬
‫الروايات التاريخي ��ة مبر�ض معروف‪ ،‬يف�سر جميع الأحداث‪ ،‬وي�ؤلف‬
‫بينها‪.‬‬
‫وهذا �أبو الطيب املتنبي قد و�صف احلمى التي �أملت به يف م�صر‬
‫و�ص ًف ��ا ال مزيد عل ��ى بيانه‪� ,‬أفال ميكن حتديد نوعه ��ا وم�سببها‪ ،‬ولو‬
‫على وجه التقريب؟‬
‫و�أي داءٍ ح ��ل بابن الروم ��ي حتى اغتال وا�سطة عقده‪ ،‬ثم �أتبعه‬
‫ب�أخويه الآخرين‪ ،‬وهم �صبية �صغار؟‬
‫ت�س ��ا�ؤالت ملحة كانت تتوارد على خاطري كلما �سنح الوقت يل‬
‫بق ��راءة �شيء من كت ��ب التاريخ �أو كتب الرتاجم والأدب‪ .‬وال �أنكر �أن‬
‫طبيع ��ة التخ�ص�ص قد �أثرت على نوعية ه ��ذه الأ�سئلة والإ�شكاالت‪،‬‬
‫و�إن كان بع� ��ض هذه الت�سا�ؤالت قد ًميا قدم الق ��راءة نف�سها‪ ،‬بل كان‬
‫علي قبل دخول كلية الطب‪.‬‬ ‫يرد َّ‬
‫وم ��ع �أن معظ ��م ال�شخ�صي ��ات التي ت ��دور حوله ��ا الأ�سئلة تعد‬
‫�شخ�صيات حمورية يف تاريخنا العربي والإ�سالمي‪� ،‬إال �أنني مل �أجد‬
‫يف املكتب ��ة العربية ما يطمئ ��ن �إليه القلب‪ ،‬وترتاح �إلي ��ه النف�س‪ .‬وال‬

‫‪8‬‬
‫ةمدقم‬

‫�أزع ��م �أنني قد ا�ستق�صيت جميع ما كتب ح ��ول هذا املو�ضوع‪ ,‬ولكن‬
‫هذه ال�شخ�صيات من ال�شهرة مبكان‪ ،‬بحيث لو كتب عنها على غرار‬
‫م ��ا كتبه الغربيون عن �سبب وفاة نابليون �أو الإ�سكندر الأكرب لعرف‬
‫وا�شتهر(((‪.‬‬
‫ومل ي ��در بخلدي ‪-‬عل ��م اهلل‪� -‬أين �س�أجت�شم عناء هذا الطريق‬
‫على قلة �سالكه ووعورة م�سالكه‪ .‬ولكني وجدت الأثر ح�س ًنا يف نفو�س‬
‫الطلب ��ة يف �أثناء التدري�س يف كلي ��ة الطب عندما نربط لهم �أعرا�ض‬
‫الأمرا� ��ض بق�صة من ق�ص�ص التاري ��خ والأدب‪ .‬فهي تر�سخ املعلومة‬
‫يف الأذه ��ان من ناحية‪ ,‬وتوقظ ح�س االنتماء �إلى م�أثورنا احل�ضاري‬
‫العظيم يف نفو�س الطلبة من ناحية �أخرى‪.‬‬
‫علي بع�ض الف�ضالء �أن �أوثق هذه املعلومات يف كتاب‪،‬‬‫وقد �أ�شار َّ‬
‫يل ��م �شتاتها‪ ،‬ويقرب بعيده ��ا‪ ،‬ف�شرعت يف الت�ألي ��ف‪ ،‬م�ستعينا باهلل‬
‫مت ��وكلاً عليه‪ .‬وقد بذلت و�سعي لك ��ي يجمع الكتاب بني متعة الأدب‪،‬‬
‫وفائدة التحقيق العلمي‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى املعلومة الطبية املوثقة‪ ،‬التي‬
‫ت�ساهم يف رفع الوعي ال�صحي بطريقة �سل�سة ومبتكرة‪.‬‬
‫((( ثمت عدد ال ب�أ�س به من الكتب املعا�صرة التي تناولت تاريخ الطب عند العرب وامل�سلمني‪،‬‬
‫وقد ي�شري بع�ضها �إ�شارات عابرة �إلى هذا املو�ضوع‪ ،‬ولكنها �أقل من امل�أمول على �أي حال‪.‬‬
‫ويج ��در بالذكر هنا �أن عمدة هذه الكتب ه ��و «عيون الأنباء يف طبقات الأطباء» البن �أبي‬
‫�أ�صيبع ��ة املتوف ��ى �سن ��ة ‪ .668‬وهذا الكتاب عل ��ى جاللة قدره وندرت ��ه يف بابه‪ ,‬مل يحقق‬
‫حتقي ًقا يليق به!‬

‫‪9‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫خطة الكتاب‪:‬‬

‫ينق�س ��م الكتاب �إلى �سبعة ف�صول م�ستقل ��ة عن بع�ضها‪ ،‬بحيث‬
‫يخت� ��ص كل ف�صل ب�شخ�صية معين ��ة‪� ،‬أتناول فيه ق�صتها‪ ،‬ثم حتقيق‬
‫�سب ��ب وفاته ��ا �أو مر�ضها‪ .‬ثم �أتب ��ع ذلك ببند م�ستق ��ل‪� ،‬أحتدث فيه‬
‫ب�إيجاز عن املر�ض املذكور‪ ،‬ورمبا �أتبعت ذلك ببند �آخر‪� ،‬أتناول فيه‬
‫�إملاحة تربوية‪� ،‬أو وم�ضة علمية م�ستلهمة من وحي الق�صة‪.‬‬
‫وق ��د رتب ��ت ف�ص ��ول الكت ��اب عل ��ى ح�سب درج ��ة الوث ��وق من‬
‫ت�شخي� ��ص املر� ��ض‪ ،‬فب ��د�أت بق�ص ��ة ه ��ارون الر�شي ��د ‪ V‬لتوافر‬
‫الرواي ��ات التاريخي ��ة‪ ،‬ودقتها يف و�صف �أعرا� ��ض املر�ض‪ ،‬بالإ�ضافة‬
‫�إل ��ى وجود فح�ص �أ�سا�سي‪ ،‬ا�ستخدمه طبي ��ب اخلليفة‪ ،‬ملعرفة مدى‬
‫خطورة املر�ض على احلياة‪.‬‬
‫�أم ��ا ق�صة املتنبي فق ��د جاءت ثان ًيا لدقة و�صف ��ه للحمى‪ ،‬التي‬
‫اعت ��ادت زيارته كل ليل‪ ،‬وبيانه لأعرا�ضها بيا ًنا ي�صلح مادة لدرا�سة‬
‫التاريخ املر�ضي‪ .‬ثم �أتت بعد ذلك ق�صة ابن الرومي‪ ،‬لأنه ن�ص على‬
‫ا�س ��م املر�ض و�سبب الوف ��اة يف ق�صيدته الرائعة‪ ،‬التي رثى بها ابنه‪.‬‬
‫ثم تلتها بقية الق�ص�ص مرتبة على وفق ال�سبب املذكور‪.‬‬
‫ويحتوي كل ف�صل على �أربعة بنود‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫ةمدقم‬

‫� اً‬
‫أول‪ :‬الق�صة‪:‬‬
‫�آث ��رت �أن �أكت ��ب كل ق�صة ب�أ�سل ��وب �أدبي‪ ،‬يقرتب م ��ن �أ�سلوب‬
‫الرواي ��ة التاريخي ��ة‪ ،‬التي ت�ستوعب �أح ��داث التاري ��خ ب�أمانة علمية‪،‬‬
‫وتوظ ��ف اخليال لإعادة ت�شكي ��ل ال�صورة التي كانت عليها احلياة يف‬
‫زم ��ن الق�صة‪ ،‬بينما ت�أتي احلبكة الفني ��ة‪ ،‬لكي تقوم بتوزيع الأدوار‪،‬‬
‫وم ��لء الثغرات يف هيكل احل ��دث الروائي‪ .‬وال مين ��ع هذا من وجود‬
‫بع� ��ض ال�سياق ��ات‪ ،‬التي اقت�ضت �أن تكون الكتاب ��ة‪� :‬إما �سردية تلتزم‬
‫الن� ��ص احلريف للتاريخ‪� ،‬أو حتليلية تهدف �إلى �إي�صال املعنى للقارئ‬
‫ب�شكل مبا�شر‪.‬‬
‫وينبغ ��ي �أن �أ�ش�ي�ر هنا �إلى �أنني مل �أعم ��د �إلى ا�ستق�صاء جميع‬
‫اجلوانب املتعلقة بالق�صة‪ ،‬بقدر ما �أهدف �إلى الرتكيز على مو�ضوع‬
‫الكت ��اب الأ�سا�س ��ي‪ ،‬وه ��و احلال ��ة ال�صحية لبط ��ل الق�ص ��ة ب�شقيها‬
‫اجل�سدي والنف�سي‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬حتقيق �سبب املر�ض‪:‬‬
‫على الرغم من �صعوبة الأمر ب�سبب ندرة امل�صادر واملراجع‪ ،‬التي‬
‫تعن ��ى بو�صف الأعرا�ض امل�صاحبة للمر�ض‪� ،‬إال �أين قد بذلت جهدي‬
‫يف ا�ستق�ص ��اء م ��ا توافر بني يدي من كتب ال�سن ��ة والرتاجم والأدب‬
‫واملعاج ��م وكتب التاري ��خ ودواوين ال�شعراء و�شروحه ��ا مع اال�ستعانة‬

‫‪11‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫مبحركات البحث ال�ستك�ش ��اف امل�ؤلفات املعا�صرة‪ .‬ثم اخرتت عددًا‬


‫من الق�ص�ص يرتج ��ح عندي �أن ت�شخي�ص مر�ضه ��ا ممكن اعتمادًا‬
‫عل ��ى املعلومات املتواف ��رة‪ .‬واقت�صرت من ذلك عل ��ى �سبع ق�ص�ص‪،‬‬
‫ت�أك ��د عندي �أن الت�شخي� ��ص املقرتح يدخل‪ -‬عل ��ى الأقل‪� -‬ضمن ما‬
‫ي�سمى طب ًّيا بالت�شخي�ص التفريقي» �أو (‪.)Differential Diagnosis‬‬
‫وق ��د ا�ستبعدت العديد من الق�ص�ص ب�سب ��ب عدم الثبوت‪� ،‬أو �ضعف‬
‫الدالل ��ة‪� ،‬أو ب�سبب تعار�ض الأعرا�ض املذكورة يف الروايات‪ ،‬بحيث ال‬
‫ميكن �أن ي�ستدل بها على مر�ض معني‪.‬‬
‫ومن املعلوم بداهة �أن الطبيب قد يخطئ يف ت�شخي�ص املر�ض‪،‬‬
‫واملري� ��ض حا�ضر بني يديه‪ ،‬فكيف مبن اقتحم غمار الزمن‪ ،‬واعتمد‬
‫على م�صادر قد كتبت قبل مئات ال�سنني‪.‬‬
‫ثالثا‪� :‬إ�ضاءات طبية‪:‬‬
‫يه ��دف هذا البند �إلى �إثراء القارئ مبعلومات طبية موثقة عن‬
‫املر� ��ض‪ ،‬قد كتب ��ت ب�أ�سلوب �سهل ي�ستفيد من ��ه املتخ�ص�ص‪ ،‬ويفهمه‬
‫غري املتخ�ص�ص‪.‬‬
‫راب ًعا‪� :‬إملاحة تربوية �أو وم�ضة علمية‪:‬‬
‫وقد جعلت هذا البن ��د مبثابة امل�ساحة احلرة‪ ،‬التي �أطرح فيها‬
‫بع� ��ض الآراء الرتبوية‪� ،‬أو �أ�شري �إلى بع�ض الفوائد العلمية امل�ستوحاة‬

‫‪12‬‬
‫ةمدقم‬

‫م ��ن الق�صة‪ .‬وقد حر�صت قدر الإمكان �أن تكون املو�ضوعات جديدة‬
‫وغري مكررة‪ ،‬و�أن تكون يف دائرة اهتمام عامة القراء‪.‬‬
‫وختاما �إين لأرج ��و �أن يجد القارئ يف هذا الكتاب �أد ًبا ي�سليه‪،‬‬
‫ً‬
‫وحتقيقات علمية تفيده‪ ،‬و�إ�ضاءات طبية تنمي ثقافته ال�صحية‪.‬‬
‫ن�صحا يف �أثناء الت�أليف‪،‬‬
‫يل ً‬ ‫وال يفوتني �أن �أ�شكر كل من �أ�سدى �إ َّ‬
‫وكل م ��ن �شجعن ��ي عل ��ى �إكم ��ال الكت ��اب‪ ،‬و�أخ� ��ص بال�شك ��ر كل من‬
‫الربوفي�سور �شهاب امل�شهداين رئي�س وحدة �أمرا�ض الدم بكلية الطب‬
‫بجامعة امللك �سعود‪ ،‬الذي قر�أ �أغلب التحقيقات العلمية والإ�ضاءات‬
‫الطبية‪ ،‬و�صوب عليها ت�صويبات مفيدة‪ ،‬والدكتور عبدالكرمي �ساجي‬
‫الأ�ستاذ امل�ساعد بكلية الرتبية يف جامعة املجمعة‪ ،‬الذي قر�أ م�سودة‬
‫الكتاب كاملة‪ ،‬وعلق عليها تعليقات نافعة‪.‬‬
‫واهلل ويل التوفيق‪.‬‬

‫كتبه‬
‫د‪ .‬من�صور اجلابري‬
‫الريا�ض‪ -‬اململكة العربية ال�سعودية‬

‫‪13‬‬
‫يدقت‬

‫(((‬
‫تقدمي‬

‫ت�أ�س ��رين ج ًّدا طريقة نداء الإخ ��وة يف بالد ال�شام للطبيب‪« :‬يا‬
‫دوم ��ا‪ :‬من الذي ف ��رغ مهنة الط ��ب العظيمة من‬
‫حكي ��م»‪ ،‬و�أت�س ��اءل ً‬
‫�أه ��م ما فيها‪ :‬الإن�سانية؟ من الذي ح َّول الطبيب واملمار�س ال�صحي‬
‫ب�شكل ع ��ام من «احلكيم» �إلى جمرد رق ��م يف �إدارة �ش�ؤون املوظفني‬
‫يف م�ست�شفى؟‬
‫ه ��ل ه ��ي املادية الت ��ي التهمت حياتن ��ا؟ هل ه ��و املجتمع الذي‬
‫هم�ش دور الطبيب وحجره يف زاوية �ضيقة؟ هل هم الأطباء �أنف�سهم‬
‫الذين �سمحوا ملهنتهم �أن تخت�صر يف و�صفة وفاتورة؟‬
‫نحن �أمام حتديني عظيمني‪:‬‬
‫التحدي الأول‪ :‬هو �إع ��ادة دور «احلكيم» �إلى مهنة الطب‪ ،‬هذا‬
‫الدور التاريخي الذي بد�أ يندثر‪ ،‬الدور الذي يحتاجه املجتمع ب�شدة‪.‬‬
‫روحا وج�سدً ا وعقلاً ‪ ،‬يعتني‬
‫«احلكيم» الذي ينظر �إلى املري�ض ً‬
‫بكل ذل ��ك وي ��وازن بينها‪« ،‬احلكي ��م» الذي يراعي ظ ��روف املري�ض‬
‫وو�ضعه االجتماعي‪ ،‬ويفكر يف تفاعل هذا املري�ض مع من حوله‪ ،‬ومع‬
‫جمتمعه الكبري‪ ،‬بل ومع البيئة املكانية والزمانية التي حوله‪.‬‬
‫((( بقلم �أ‪.‬د‪� :‬أمين عبده‪ ،‬الأمني العام للهيئة ال�سعودية للتخ�ص�صات ال�صحية‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�إن �إع ��داد طبيب �أو ممار�س �صحي بهذه ال�صفة �أمر يف منتهى‬
‫ال�صعوب ��ة‪ .‬ذلك لأنه بحاجة ما�سة �إلى جمموعة كبرية من املعارف‬
‫وامله ��ارات‪ ،‬التي ال ب ��د �أن يتقنها ويتدرب عليه ��ا‪ ،‬لت�أهله لهذا الدور‬
‫الكبري‪ .‬هذه املعارف واملهارات لي�ست يف كتب الت�شريح وال اجلراحة‪،‬‬
‫ب ��ل يف كت ��ب علم النف� ��س وعلم االجتم ��اع وعلوم التوا�ص ��ل والإدارة‬
‫والأدب وال�شع ��ر‪ ،‬هن ��اك تلتق ��ط‪ ،‬ويف �أروق ��ة امل�ست�شفي ��ات وغ ��رف‬
‫العي ��ادات يتم التدرب عل ��ى ممار�ستها‪ ،‬ويف عق ��ول وقلوب و�أج�ساد‬
‫املر�ضى يتم تطبيقها مبهارة ومهنية عالية‪ .‬وهذا حتد كبري ج ًّدا‪.‬‬
‫التح ��دي املقابل هو تر�سي ��خ املهنية‪ ،‬فمهنة الط ��ب لها قواعد‬
‫و�أ�صول و�ضوابط‪ ،‬ال بد �أن تراعى‪ ،‬لأنها متعلقة بحياة النا�س‪ ،‬واخلط�أ‬
‫فيه ��ا قد تكون عواقب ��ه وخيمة‪ .‬هذه املهنية فيه ��ا الكثري من احلزم‬
‫واالن�ضباط‪ ،‬والقليل من م�ساح ��ات احلرية والإبداع غري املن�ضبط‪،‬‬
‫فلي�س من املعقول �أن تكون �أرواح النا�س اً‬
‫جمال لالجتهادات والأفكار‬
‫غري املجربة‪.‬‬
‫ب�ي�ن هذين احلدين‪� ،‬أمام كليات الط ��ب والتمري�ض وال�صيدلة‬
‫وكافة التخ�ص�صات الطبية مهمة �شاقة‪ ،‬وهي �أن يكون هناك توازن‬
‫دقي ��ق يف �إع ��داد املمار� ��س ال�صحي‪ ،‬ليتخ ��رج لن ��ا «ممار�س مهني‬
‫حكيم»‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫يدقت‬

‫ب�ي�ن يدي ��ك يف هذا الكت ��اب م�ساهم ��ة رائعة من �أخ ��ي العزيز‬
‫الدكت ��ور‪ /‬من�ص ��ور اجلاب ��ري‪ ،‬لإعداد وجب ��ة ملونة‪ .‬وجب ��ة �أعدها‬
‫�أف�ضل ا�ست�شاري التغذية‪ ،‬ثم طهاها �أف�ضل طهاة باري�س‪ ،‬ثم قدمت‬
‫ب�أح�سن مطعم يف العامل‪.‬‬
‫�أخذن ��ا يف رحلة ماتعة م ��ع هارون الر�شي ��د ‪ ،V‬ثم طار بنا‬
‫عل ��ى ب�س ��اط الريح �إل ��ى عمنا املتنبي‪ ،‬وم ��ن بعده اب ��ن الرومي‪ ،‬ثم‬
‫توق ��ف بنا يف طيبة الطيبة عند حدث تاريخ ��ي‪ ،‬لعله الأهم يف حياة‬
‫كل م�سلم‪ ،‬وهو وفاة النبي ‪ ،H‬ثم عرج بنا على عالية جند‪،‬‬
‫حي ��ث التقينا بعام ��ر بن الطفيل‪ ،‬وختم جولته بن ��ا ‪-‬وليته ما ختم‪-‬‬
‫ب�أبي لهب واملخبل ال�سعدي الذي كان يرى الرجل رجلني‪.‬‬
‫وكان يف ه ��ذه الرحل ��ة (ت�شارلوك هوملز) حي ًن ��ا‪ ،‬والعقاد حي ًنا‬
‫�آخر‪ ،‬يف �أ�سلوب �أدبي �شيق ر�شيق‪ ،‬وجرعة موزونة ج ًّدا‪ ،‬م�شبعة غري‬
‫متخم ��ة‪ ،‬من بهارات ال�سيا�س ��ة‪ ،‬و�أع�شاب التاري ��خ‪ ،‬ولفائف الأدب‪،‬‬
‫وخفائف ال�شعر‪.‬‬
‫�أعتقد �أن هذا الكتاب ‪-‬بل هذا املنهج كله‪ -‬الذي ينبه املمار�س‬
‫ال�صحي ب�أنه «حكيم»‪ ،‬ويذكره ب�أن دوره يف احلياة هو رعاية الإن�سان‬
‫وروحا‪ ،‬والتفاعل معه يف كل حاالته وتقلباته‪ ،‬و�أنه ليكون‬
‫ً‬ ‫فك ًرا وعقلاً‬
‫كذلك فال بد �أن يزيد ح�سا�سية جهاز الإن�سانية عنده‪ ،‬اللتقاط الذي‬

‫‪17‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ال يق ��ال‪ ،‬ور�ؤي ��ة الذي لي�س عليه �ض ��وء‪ ،‬وعليه �أن يفت ��ح قلبه وعقله‬
‫ملجموعة من املع ��ارف‪ ،‬ويتدرب على جمموعة م ��ن املهارات‪ ،‬ت�ؤهله‬
‫لهذا الدور العظيم‪.‬‬
‫وحتى ن�صل له ��ذه املعارف‪ ،‬رمبا نحن بحاجة لو�صية ديكارت‪:‬‬
‫«يج ��ب �أن نت�أمل �أكرث مما نتعلم»‪ .‬ذلك لأننا حاملا نعتقد �أننا عرفنا‬
‫جميع الأجوبة تقوم احلياة بتغيري الأ�سئلة‪.‬‬
‫�شك ًرا يا «حكيم»‪..‬‬

‫‪18‬‬
‫الف�صل الأول‬
‫ال�سكر‬
‫يحقق ر�ؤيا هارون الر�شيد‬

‫‪19‬‬
‫���������������������‬

‫(((‬
‫�أ‪ :‬ق�صة هارون الر�شيد‬

‫الرقة‪ ..‬حيث يتهادى نهر الفرات‪ ،‬ويرتقرق ما�ؤه‪ ،‬وك�أنه ال يريد‬


‫�أن يربح املدينة احلاملة‪ ،‬التي تغفو على �ضفته اليمنى‪ ،‬وقد جمع لها‬
‫بني برد ن�سيم اجلزي ��رة وعذوبة ماء الفرات‪ .‬وملاذا عليه �أن يرحتل‬
‫عنها وقد حلت بها الدنيا؟ �أمل يهجر الر�شيد دار ال�سالم‪ ،‬ويتخذها‬
‫عا�صم ��ة مللكه وقاعدة جلنده‪ ،‬منذ ما يرب ��و على خم�س �سنني‪ ،‬حتى‬
‫غ ��دت منارة ل�ل��أدب وموئلاً لل�شع ��راء‪ ،‬ف�ضلاً عن �أرب ��اب ال�صنائع‬
‫وط�ل�اب املعائ� ��ش؟ لقد �أقبل ه� ��ؤالء من كل حدب و�ص ��وب رجاء �أن‬
‫يبت�سم لهم القدر‪ ،‬فيظفروا بلقاء �أمري امل�ؤمنني ولو للحظة عابرة‪.‬‬
‫وبخالفه ��م جمي ًعا ثمت رج ��ل واحد يتمنى لو ي� ��ؤذن له بفراق‬
‫ق�ص ��ر اخلليفة ليوم واح ��د فقط‪ ،‬عله �أن ميت ��ع ناظريه بالتجول يف‬
‫�أنح ��اء املدين ��ة‪ .‬ومع �أن ��ه قد بلغ م ��ن الكرامة ح ًّدا جع ��ل الر�شيد ال‬
‫ي ��رد له �شفاعة‪ ،‬وال يخالف له �أم� � ًرا‪� ،‬إال �أن �أق�صى �أمنياته �أن يغادر‬
‫بيت ��ه الفخم الذي �أحلق بق�صر اخلليفة‪ .‬ولكن كيف؟ وهو �أول داخل‬
‫على �أمري امل�ؤمن�ي�ن‪ ،‬و�آخر خارج من عنده؟ وبني هذا وذاك م�شغول‬
‫((( لال�ست ��زادة انظ ��ر‪ :‬ه ��ارون الر�شي ��د �أم�ي�ر اخللف ��اء و�أج ��ل مل ��وك الدني ��ا‪� ،‬شوق ��ي �أبو‬
‫خلي ��ل‪ ,‬والبداي ��ة والنهاي ��ة (‪ ،)29-24 /14‬وتاري ��خ اخللف ��اء‪ ،‬لل�سيوط ��ي (� ��ص ‪-454‬‬
‫‪ .)468‬‬

‫‪21‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫مبكتبته العامرة التي متل�ؤها كتب جالينو�س و�أبقراط‪ ،‬وتزينها كتب‬


‫�أبيه و�أجداده �آل بختي�شوع الأطباء العظام‪.‬‬
‫ب ��ات الطبيب جربيل((( ليله يتفك ��ر يف �ش�أنه و�ش�أن النا�س‪ ،‬فما‬
‫ي ��راه النا�س حظوة وجاهً ا‪ ،‬يراه هو قي ��دً ا ثقيلاً على ج�سده وروحه‪،‬‬
‫وم ��ا يطم ��ح النا�س �إليه ه ��و غاية م ��ا يريد اخلال�ص من ��ه‪ .‬ولكن ال‬
‫�ص�ل�اح للدنيا بدون هذه الرغبات املت�ض ��ادة‪ ،‬ولوالها لأ�صبح الكثري‬
‫معدوما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ناد ًرا والنادر‬
‫ا�ستغ ��رق جربي ��ل يف ت�أمالت ��ه التي مل ت ��دع للكرى �سبي�ًلإاً �إلى‬
‫جفني ��ه حتى بزغ الفج ��ر �أو كاد‪ .‬نه�ض من خمدع ��ه ثقيلاً متماو ًتا‪،‬‬
‫وطفق ي�ستعد ليوم رتيب �آخر من �أيام ق�صر اخلالفة‪.‬‬
‫وبينم ��ا هو كذل ��ك �إذا مب�سرور اخل ��ادم يطرق الب ��اب طر ًقا‬
‫عني ًف ��ا‪ ،‬كاد �أن يخل ��ع قلبه قب ��ل �أن يقتلع باب داره‪ .‬نظ ��ر �إلى �شعره‬
‫الأ�صه ��ب امل�سرت�س ��ل ووجه ��ه احل ��اد ذي ال�سحنة البي�ض ��اء‪ ،‬الذي‬
‫يبع ��ث على الرعب والقلق‪ ،‬فلماذا يدعى م�س ��رو ًرا �إذن؟ عج ًبا لهذه‬
‫الأ�سم ��اء‪ ،‬ن�سميها لتهبن ��ا �شي ًئا من �صفاته ��ا‪ ،‬و�إذا نحن من ي�ضفي‬
‫عليه ��ا معانيه ��ا‪ .‬مل ميهله م�سرور حتى ي�سرت�س ��ل يف ت�أمله‪ ،‬بل نهره‬
‫بلهجة حازمة‪� :‬أجب �أمري امل�ؤمنني‪.‬‬
‫((( جربيل بن بختي�شوع طبيب �سرياين من �أ�سرة ا�شتهرت بالطب واحلكمة كان مقدما عند‬
‫هارون الر�شيد وعند ولده امل�أمون‪ ،‬تويف �سنة ‪213‬هـ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫���������������������‬

‫م�سرع ��ا ال يلوي على �ش ��يء‪ ،‬فهذه �أول م ��رة ي�ستدعيه‬


‫ً‬ ‫انطل ��ق‬
‫اخلليف ��ة بهذه الطريقة‪ ،‬وال ب ��د �أن ثمت خط ًبا قد �أمل‪� ،‬أو �أن ً‬
‫عار�ضا‬
‫قد �أ�صاب �أمري امل�ؤمنني‪ .‬دخل الإيوان و�إذا بالر�شيد قد �أخلى نف�سه‬
‫من النا�س‪ ،‬وهو واج ��م مطرق ال يتكلم‪ ،‬يكاد ميوت غ ًّما وه ًّما‪� .‬سلم‬
‫علي ��ه فلم يكد يرف ��ع طرفه �إليه‪ .‬دارت الدني ��ا بر�أ�س جربيل وخطر‬
‫ل ��ه �ألف خاطر حتى ظن بنف�س ��ه الظنون‪ ،‬فما �أكرث الو�شاة‪ ،‬وكل ذي‬
‫نعمة حم�سود‪.‬‬
‫لب ��ث على هذه احل ��ال مل ًّيا‪ ،‬وه ��و واقف بني ي ��دي الر�شيد‪ ،‬ثم‬
‫ت�شج ��ع وقال‪ :‬يا�سيدي‪ ،‬جعلني اهلل فداك‪ ،‬ما حالك هكذا؟ �أبك علة‬
‫ف�أخ�ب�رين عنه ��ا‪ ،‬فلعله يكون ل ��دي دوا�ؤها‪� ،‬أو م�صيب ��ة يف بع�ض من‬
‫حتب‪ ،‬فذلك ما ال يدفع‪ ،‬وال حيلة فيه �إال بالت�سليم‪ ،‬والغم ال طائل من‬
‫ورائه‪� ،‬أو لعله قد ورد عليك خلل يف ملكك‪ ،‬فلم تخل امللوك من ذلك‪،‬‬
‫و�أن ��ا �أولى من �أف�ضيت له باخلرب‪ ،‬وتروحت �إليه بامل�شورة‪ .‬التفت �إليه‬
‫الر�شي ��د‪ ،‬ثم قال‪ :‬ويح ��ك ياجربيل! لي�س بي �شيء مما ذكرت‪ ،‬و�إمنا‬
‫وفزعا‪.‬‬
‫ر�ؤيا ر�أيتها يف ليلتي هذه‪ ،‬قد ملأت �صدري رع ًبا ً‬
‫دن ��ا من ��ه جربي ��ل فقب ��ل قدمه‪ ،‬وق ��ال‪ :‬فرج ��ت عني ي ��ا �أمري‬
‫امل�ؤمن�ي�ن‪� ،‬إمن ��ا الر�ؤيا تكون من خاطر �أو غ�ي�ره‪ ،‬و�إمنا هي �أ�ضغاث‬
‫علي جعلن ��ي اهلل فداك‪ .‬قال الر�شي ��د‪ :‬ر�أيت �أين‬
‫�أح�ل�ام‪ ،‬فق�صه ��ا َّ‬
‫جال�س على �سريري هذا‪� ،‬إذ خرجت من حتته يد �أعرفها‪ ،‬ويف كفها‬

‫‪23‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ترب ��ة حمراء‪ ،‬فقال يل قائل‪� ،‬أ�سم ��ع �صوته وال �أراه‪ :‬هذه الرتبة التي‬
‫تدفن فيها! يكررها ثالث م ��رات‪ .‬ثم غابت الكف وانقطع ال�صوت‪،‬‬
‫وانتبهت من النوم‪ .‬و�أنا فزع مرعوب‪.‬‬
‫فقال جربيل‪ :‬يا�سيدي‪ ،‬هذه واهلل ر�ؤيا بعيدة ملتب�سة‪ ،‬و�أح�سبك‬
‫ق ��د �أخ ��ذت م�ضجعك‪ ،‬ففك ��رت يف �إح ��دى النواحي الت ��ي انتق�ضت‬
‫علي ��ك‪ ،‬فخال ��ط منامك �شيء من اله ��م‪ ،‬وتولدت ه ��ذه الر�ؤيا‪ ،‬فال‬
‫حتف ��ل بها و�أتبع هذا الغم �سرو ًرا يخرجه من قلبك‪ .‬فما برح يطيب‬
‫نف�سه ب�ضروب احليل‪ ،‬حتى �سال وانب�سط ون�سي الر�ؤيا‪.‬‬
‫رجع جربيل بن بختي�شوع �إلى بيته‪ ،‬وهو يفكر بر�ؤيا الر�شيد‪ ،‬لقد‬
‫كان يدرك منذ �أن طرقت �سمعه لأول وهلة‪� :‬أنها ر�ؤيا حق‪ ،‬و�إمنا �أراد‬
‫�أن ي�سل ��ي �أمري امل�ؤمنني ويطيب خاطره‪ .‬ي ��د معروفة و�صوت جمهول‬
‫ي�شري �إلى تربة حمراء لي�ست من جن�س الرتبة املعهودة يف الرقة ذات‬
‫الرتبة البي�ضاء! ما هذه بحديث نف�س‪ ،‬ولي�ست ب�أ�ضغاث �أحالم!‬
‫عج ًب ��ا لأمر هذه ال ��ر�ؤى! كيف ت�سرب �أغ ��وار امل�ستقبل‪ ،‬وتغو�ص‬
‫يف �أعم ��اق املا�ض ��ي‪ ،‬وك�أمنا هي نواف ��ذ تفتحها ال ��روح‪ ،‬لتب�صر من‬
‫خالله ��ا ما ال تدرك ��ه حوا�س اجل�سد‪� .‬أن ال ��ر�ؤى يف حقيقتها ما هي‬
‫�إال حا�سة م ��ن حوا�س الروح‪ ،‬ت�ست�شرف من خاللها امل�ستقبل‪ ،‬وتعيد‬
‫ق ��راءة املا�ضي لتودعها يف ذاكرة احلا�ضر على هيئة دالالت ورموز‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫���������������������‬

‫وباملقابل ف�إن حتقق الر�ؤيا داللة ح�سية لعامل املادة على عامل الروح‪،‬‬
‫حتدث لعامة الب�شر يف كل زمان ومكان‪.‬‬
‫ا�ستغ ��رق جربي ��ل يف خيال ��ه‪ ،‬وه ��و يح ��اول فه ��م �آلي ��ة الر�ؤيا‬
‫الغام�ض ��ة‪ ،‬النوم ي�ضعف �سلطان اجل�سد عل ��ى الروح‪ ،‬فينطلق ذلك‬
‫الكائ ��ن اللطيف يف عامله املف ��ارق للمادة‪ ،‬وقد تعل ��ق طرفه ال�سفلي‬
‫باجل�س ��د‪� ،‬أما طرفه الأعلى فريقى �إلى عامل الأرواح‪ ،‬ويكون �صعوده‬
‫بح�س ��ب قوة الروح وجودة حوا�سه ��ا‪ ،‬وكما تخطئ حوا�س اجل�سد قد‬
‫تخطئ حوا�س الروح‪ ،‬ومن هنا ي�أتي �صدق الر�ؤيا �أو كذبها‪ .‬ثم ي�أتي‬
‫م ��ن بعد ذل ��ك مرحلة نقل الر�ؤي ��ا من عامل الروح �إل ��ى عامل املادة‪،‬‬
‫وه ��ي مرحل ��ة دقيقة حتتاج �إل ��ى و�سيط يرتجم ر�ؤية ال ��روح �إلى لغة‬
‫اجل�سد‪ ،‬ويختار الرموز املنا�سبة التي ت�ساعد املعرب والرائي على فك‬
‫�شفراتها‪.‬‬
‫�أح�س جربيل بن�شوة ت�سري يف ج�سده‪ ،‬بعد �أن تو�صل لهذه الآلية‬
‫املقنعة �إلى حد ما‪ ،‬ن�سي يف غمرتها ك�آبته املزمنة‪ ،‬التي نتجت ب�سبب‬
‫�سجن ��ه املخملي يف ق�ص ��ر اخلليفة وموكبه‪ .‬ت�سلل الن ��وم �سري ًعا �إلى‬
‫عينيه ليقطع عليه ن�شوة هذا الك�شف الفكري‪ ،‬الذي هداه �إليه عقله‪.‬‬
‫م ��رت الأي ��ام رتيب ��ة متطاولة عل ��ى الطبيب الفيل�س ��وف‪ ،‬ن�سي‬
‫فيه ��ا الر�ؤيا وحدي ��ث الروح يف غمرة ان�شغال ��ه بتدبري �أمر اخلليفة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫كان �أك�ث�ر م ��ا يثري قلقه هو منط حياة اخلليف ��ة البطني‪ ،‬الذي جاوز‬
‫أ�شهر قليلة‪ ،‬فهو مبالغ يف كل �شيء‪� ،‬إن �صام مل يكد يفطر‪،‬‬
‫الأربعني ب� ٍ‬
‫و�إذا �أكل مل يكد ي�شبع‪ ،‬بل حتى ر�ضاه وغ�ضبه وهزله وجده لي�س لأي‬
‫منها حد‪.‬‬
‫مل ي ��دع و�سيل ��ة م ��ن و�سائل الإقن ��اع �إال اتبعه ��ا‪ ،‬وال �ضر ًبا من‬
‫�ضروب احليل �إال احتاله دون �أن يجد ذلك نف ًعا‪ ،‬حتى حدث ما كان‬
‫يخ�شاه ويحذر منه‪.‬‬
‫غ�ش ��ي على اخلليفة بع ��د الغداء حتى ظن اجلن ��د به الظنون‪،‬‬
‫و�أ�س ��رع الأمني وامل�أم ��ون بنف�سيهما لإح�ضار الطبي ��ب‪ .‬قدم جربيل‬
‫عل ��ى عجل‪ ،‬فج�س نب�ضه وطم�أن اجلميع‪ ،‬ثم �أمر بف�صده يف احلال‪.‬‬
‫مل يلب ��ث اخلليفة بعده ��ا طويلاً حتى �أف ��اق من غيبوبت ��ه‪ ،‬وا�ستعاد‬
‫ن�شاطه وحيويته‪.‬‬
‫ارتفع ق ��در جربيل بعده ��ا يف عني الر�شي ��د‪ ،‬وخطى به احلظ‬
‫خطوة وا�سعة‪ ،‬عندما �أتيحت له فر�صة االلتقاء بالأمريين ال�شابني‪.‬‬
‫رجع ه ��ارون الر�شيد �إلى بغداد مرة �أخرى‪ ،‬وترك الرقة لتعود‬
‫هادئ ��ة وادعة‪ ،‬فال �صخب مواك ��ب وال جلبة جيو�ش‪ ،‬بل حتى التاريخ‬
‫توق ��ف عن الكتابة عنها! تتابعت الأح ��داث يف بغداد من غزو نقفور‬
‫و�إجب ��اره عل ��ى دفع اجلزي ��ة �صاغ ًرا‪ ،‬ثم خ ��روج الولي ��د بن طريف‬

‫‪26‬‬
‫���������������������‬

‫ال�ش ��اري وقتله((( �إلى نكبة الربامكة‪ .‬كل هذا والر�شيد يعد لكل �شئ‬
‫عدته‪ ،‬ويلب�س لكل حالة لبو�سها‪.‬‬
‫خ ��رج راف ��ع بن لي ��ث((( يف �سمرقن ��د‪ ،‬وا�ستفحل �أم ��ره بعد �أن‬
‫ك�سر قواد الر�شي ��د واحدً ا تلو الآخر‪ ،‬فقرر اخلليفة اخلروج بنف�سه‪.‬‬
‫اعرت�ض الطبيب جربيل على خروجه ب�شدة‪ ،‬فال�شقة بعيدة‪ ،‬و�صحة‬
‫اخلليف ��ة لي�ست على م ��ا يرام‪ ،‬ال �سيما وقد �ش ��ارف على اخلم�سني‪،‬‬
‫وهو بني �إفراط يف ال�صوم �أو �إ�سراف يف الأكل‪.‬‬
‫ذرعا باعرتا�ض طبيبه‪ ،‬الذي ال يقدر املوقف حق‬
‫�ضاق الر�شيد ً‬
‫ق ��دره‪ ،‬فرافع هو حفيد ن�صر بن �سيار القائد الأموي العظيم‪ ،‬الذي‬
‫�أخ ��ر قيام دولة بني العبا�س يف خرا�سان ع�شر �سنني‪ ،‬ثم هو يف بالد‬
‫م ��ا وراء النهر‪ ،‬وه ��ي معقل ح�صني لكل متمرد عل ��ى �سلطة املركز‪،‬‬
‫وقد ا�ستغلها بنو العبا�س من قبل �إبان ثورتهم على بني �أمية‪.‬‬
‫خ ��رج الر�شيد مغا�ض ًبا لطبيبه و�أمر بجعله يف �أخريات اجلي�ش‬
‫وا�ستدعى طبي ًبا فار�س ًّيا ليكون بح�ضرته‪ .‬فلما كان بالنهروان ابتد�أ‬
‫((( �أمري عربي خرج على هارون الر�شيد بنواحي املو�صل‪ ،‬وا�ستفحل �أمره فبعث �إليه يزيد بن‬
‫مزيد ال�شيباين فقتله‪ .‬رثته �أخته الفارعة بق�صيدة رائعة‪:‬‬
‫ك�أنك مل جتزع على ابن طريف‬ ‫فيا �ش ـ ــجر اخلـاب ـ ـ ــور مالك مورق ـ ـا ‬
‫فتــى ال يريـ ــد الزاد �إال م ـ ــن التقـ ـى وال املال �إال من قنــى و�سـ ـ ـ ـ ــيوف‬
‫حليف الندى ما عا�ش ير�ضى به الندى ف�إن مات ال ير�ض ــى الندى بحليـ ـف ‬
‫((( راف ��ع ب ��ن لي ��ث الكناين من بي ��ت �إم ��ارة ورئا�سة‪ ،‬خرج عل ��ى الر�شيد‪ ،‬وه ��زم نوابه على‬
‫خرا�سان‪ ،‬ثم قتله امل�أمون �سنة ‪195‬هـ‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫به وجع بطنه‪ ،‬فكان يخفيه حتى عن خا�صته‪ ،‬ويع�صب عليه ع�صابة‬
‫تخفف عنه الأمل‪ ،‬ول�سان حاله يقول‪:‬‬
‫(((‬
‫�أين لريب الدهر ال �أت�ضع�ضع‬ ‫وجتلدي لل�شـ ــامتني �أريهـ ــم‬
‫فلما و�صل طو�س((( ا�شتدت به العلة‪ ،‬و�ضعف عن امل�سري‪ ،‬ف�أقام‬
‫فيها مير�ض يف ب�ستان هناك‪ .‬وعب ًثا حاول الطبيب الفار�سي عالجه‪،‬‬
‫فل ��م يقدر على ذلك‪ ،‬فا�ستدع ��ى الر�شيد م�سرو ًرا اخلادم‪ ،‬و�أعطاه‬
‫م ��اءه يف قارورة‪ ،‬وقال ل ��ه‪ :‬اذهب به �إلى جربيل‪ ،‬وق ��ل له هذا‪ :‬بول‬
‫مال وهو مري�ض‪ ،‬ف� ��إن كان به رجاء تركت مايل عنده‪،‬‬ ‫رج ��ل اطلبه اً‬
‫و�إال ا�ستعدت ديني‪.‬‬
‫بتمعن‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫نظ ��ر الطبيب جربيل يف بول الر�شيد وفح�صه ٍ‬
‫ي ��ا م�سرور �إن كنت تريد مالك فخ ��ذه الآن‪ ،‬فهذا بول رجل ال يعي�ش‬
‫ثالثة �أيام‪.‬‬
‫رجع م�سرور �إلى الر�شيد ف�أخربه باخلرب‪ ،‬فا�سرتجع وبكى‪ ،‬ثم‬
‫ا�ستدعى جربيل و�ألح عليه يف �إيجاد عالج نافع له‪ ،‬فلم يقدر‪ ،‬وقال‬
‫له‪ :‬كنت نهيتك عن هذا اخلروج‪ ،‬وطلبت منك العودة لبلدك ب�سبب‬
‫املناخ الذي ال يوافقك‪.‬‬

‫((( البيت لأبي ذ�ؤيب الهذيل‪ ،‬انظر‪ :‬املف�ضليات (�ص‪.)422‬‬


‫((( مدينة �أثرية‪ ،‬كانت من �أعمر مدن خرا�سان و�أجملها‪ ،‬حتى هدمها املغول قرابة �سنة ‪620‬‬
‫للهجرة‪ ،‬وتقع حال ًيا يف �إحدى �ضواحي مدينة م�شهد �شمال غربي �إيران‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫���������������������‬

‫ث ��م دعا م�سرو ًرا اخلادم‪ ،‬وقال ل ��ه‪ :‬ائتني ب�شيء من تربة هذه‬
‫الأر� ��ض‪ .‬فجاء حا�س ًرا عن ذراع ��ه‪ ،‬ويف كفه تربة حمراء‪ ،‬فلما ر�آها‬
‫ذك ��ر ر�ؤي ��اه بالرقة‪ ،‬فهاله ذل ��ك‪ ،‬وقال‪ :‬ويح ��ك ياجربيل هذه واهلل‬
‫الكف التي ر�أيت‪ ،‬والرتبة احلمراء التي ر�أيت‪.‬‬
‫�أ�ش ��اح الر�شي ��د بوجه ��ه‪ ،‬و�أم ��ر بحفر ق�ب�ره يف ال ��دار التي هو‬
‫فيها‪ ،‬ث ��م �أمرهم �أن يقر�أوا القراءن يف ق�ب�ره‪ ،‬فقر�أوه حتى ختموه‪،‬‬
‫فجعل ينظر �إلى قربه‪ ،‬ويق ��ول‪ :‬اللهم انفعنا بالإح�سان‪ ،‬وجتاوز عنا‬
‫الإ�س ��اءة‪ ،‬ي ��ا من ال ي ��زول ملكه ارحم م ��ن قد زال ملك ��ه‪ .‬ثم مات‬
‫بعدها بثالث ليال‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫���������������������‬

‫ب‪ :‬حتقيق �سبب الوفاة‬

‫مم ��ا �سبق يت�ض ��ح �أن �سبب وفاة ه ��ارون الر�شيد هو احلما�ض‬
‫ال�سك ��ري الكيت ��وين (‪ )Diabetic Ketoacidosis‬وه ��ي �إح ��دى‬
‫امل�ضاعفات اخلطرة ملر�ض ال�سكر‪ ،‬وحتدث عند نق�ص الإن�سولني يف‬
‫اجل�س ��م‪ ،‬وعدم قدرة الع�ضالت عل ��ى اال�ستفادة من �سكر اجللوكوز‬
‫يف ال ��دم‪ ،‬فت�ضطر �إلى حرق الدهون املخزنة ال�ستخدامها‪ ،‬بو�صفها‬
‫م�ص ��د ًرا بديلاً للطاقة‪ .‬لكن هذه العملي ��ة ت�ؤدي �إلى تراكم �أحما�ض‬
‫�سام ��ة يف الدم‪ ،‬تدع ��ى الكيتونات‪ ،‬تزيد من حمو�ض ��ة الدم‪ ،‬وت�ؤدي‬
‫�إلى الوفاة �سري ًعا يف حال عدم العالج‪.‬‬
‫وغال ًب ��ا ما تبد�أ �أعرا�ض احلما�ض ال�سكري الكيتوين على هيئة‬
‫�أمل ح ��اد يف البطن وعط�ش �شديد يرافقه تبول كثري مع وهن عام يف‬
‫اجل�س ��م‪ .‬وتكون رائحة الب ��ول مميزة وحادة ب�سب ��ب وجود �أحما�ض‬
‫الكيتونات‪ ،‬ومن هنا ع ��رف الطبيب جربيل ابن بختي�شوع �أن مر�ض‬
‫الر�شيد ال ميكن �شفا�ؤه‪ ،‬عندما �شم رائحة الكيتونات‪.‬‬
‫وثم ��ت تطاب ��ق وا�ضح ب�ي�ن �أعرا�ض مر�ض احلما� ��ض ال�سكري‬
‫الكيت ��وين والأعرا�ض ال�صحية التي ذكرت يف الروايات التاريخية‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫كرواي ��ة ال�سيوط ��ي يف تاري ��خ اخللف ��اء(((‪ ،‬ع ��ن �سبب م ��وت هارون‬
‫الر�شي ��د ‪ .V‬وبالإ�ضافة �إلى ذلك‪ ،‬ف�س�ي�رة الر�شيد وما روي عن‬
‫من ��ط حياته‪ ،‬يدل داللة وا�ضحة على �أنه كان م�صا ًبا بال�سكر‪ ،‬وذلك‬
‫وف ًقا لل�شواهد التالية‪:‬‬
‫أول‪ :‬ما رواه ابن �أبي �أ�صيبعة يف كتابه (عيون الأنباء يف طبقات‬ ‫� اً‬
‫الأطب ��اء) ب�سنده �إل ��ى جربيل ب ��ن بختي�شوع‪ ،‬قال‪« :‬كنت م ��ع الر�شيد‬
‫بالرقة‪ ،‬ومعه امل�أمون وحممد الأمني ولداه‪ ،‬وكان رجلاً باد ًنا كثري الأكل‬
‫وال�ش ��رب‪ ،‬ف�أكل يف بع�ض الأي ��ام �أ�شياء خلط فيها‪ ،‬فغ�شي عليه»(((‪ ،‬ثم‬
‫�أم ��ر بف�صده وحجامته‪ ،‬ف�أفاق من �ساعت ��ه‪ .‬ويغلب على الظن �أن هذه‬
‫الغيبوب ��ة ناجتة م ��ن ارتفاع ال�سكر يف الدم‪ ،‬بدلي ��ل حدوثها بعد الأكل‬
‫الكث�ي�ر‪ ،‬وا�ستجابتها للف�صد واحلجامة‪ .‬والف�صد هو �إخراج الدم من‬
‫ال�شريان‪ ،‬ومفعوله �أ�سرع من احلجامة لكرثة ما ينزف من الدم‪.‬‬
‫ثانيً���ا‪ :‬يف خ�ب�ر �آخر �ساقه اب ��ن �أبي �أ�صيبعة ع ��ن جربيل‪� :‬أنه‬
‫�أنك ��ر قل ��ة �أكل الر�شيد �سن ��ة ‪ 187‬للهجرة‪ ،‬ويف �آخره ق ��ال الر�شيد‪:‬‬
‫علي فيمر�ضني»(((‪،‬‬‫«�إمنا �آكل ال�شيء بع ��د ال�شيء لئلاً يثقل الطعام َّ‬
‫ويف ه ��ذا داللة وا�ضحة عل ��ى �إ�صابته مبر�ض ال�سك ��ر‪ ،‬ولوال ذلك مل‬

‫((( تاريخ اخللفاء‪ ،‬لل�سيوطي (�ص ‪.)463‬‬


‫((( عيون الأنباء يف طبقات الأطباء ابن �أبي �أ�صيبعة (�ص ‪.)148‬‬
‫((( نف�س امل�صدر ال�سابق (�ص ‪.)150‬‬

‫‪32‬‬
‫���������������������‬

‫مير�ض ��ه الطعام وه ��و يف الأربعني من عمره‪ .‬ولعل ه ��ذا من �أ�سباب‬


‫كرثة �صيامه ‪.V‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬ما يروى عن منط حياة الر�شيد حال غ�ضبه وحال �سروره‪،‬‬
‫وم ��ا ذكره طبيبه عن �إ�سرافه يف م�أكله وم�شربه بالإ�ضافة �إلى بدانته‬
‫املفرطة‪ ،‬وكل هذا يجعل احتمال �إ�صابته بال�سكر عال ًيا جدًّا‪.‬‬
‫ومما قد ي�ستدل به على ذلك �أنه توقف عن رحالت احلج والغزو‬
‫منذ �سنة ‪ 188‬للهجرة‪� ،‬أي قبل ‪� 5‬سنوات من رحلته الأخرية‪ ،‬ولعل هذا‬
‫يع ��ود ملا يعانيه من مر�ض ال�سكر يف �أثناء �سفره‪ ،‬ولهذا اعرت�ض طبيبه‬
‫على رحلته الأخرية‪ ،‬مع �أهميتها الق�صوى يف تثبيت دعائم ملكه‪.‬‬
‫رابعً���ا‪ :‬ال �شك �أن �أقوى الأدلة عل ��ى الإطالق هو فح�ص البول‪،‬‬
‫ال ��ذي قام ب ��ه الطبيب جربي ��ل‪ ،‬وا�ستدل به على ق ��رب موت هارون‬
‫الر�شي ��د‪ .‬وه ��ذا الإج ��راء كان معرو ًفا عن ��د الأطب ��اء قد ًميا‪ ،‬حيث‬
‫ي�ست ��دل الطبيب عل ��ى �صحة املري�ض عن طري ��ق معرفة خ�صائ�ص‬
‫البول‪ .‬وال يزال من الفحو�صات املهمة �إلى اليوم يف ت�شخي�ص العديد‬
‫من الأمرا�ض‪ ،‬ومن بينها مر�ض ال�سكر(((‪.‬‬
‫وهنا ينبغي �أن �أ�شري �إلى ر�أي فيه �شيء من الغرابة‪ ،‬ذكره �شوقي‬
‫�أبو خليل يف كتابه (هارون الر�شيد �أمري اخللفاء و�أجل ملوك الدنيا)‪،‬‬
‫((( م ��ن باب الأمانة العلمية‪ ،‬فق ��د ا�ستفدت هذه املعلومة �أول مرة من �أ�ستاذي الدكتور خالد‬
‫الربيعان يف �أثناء حما�ضرة له يف كلية الطب‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫عندما ت�ساءل عن �سبب موت هارون الر�شيد‪ ،‬ورجح �أن يكون م�ؤامرة‪،‬‬
‫انتهت ب�أن د�س جربيل له ال�سم بتحري�ض من جعفر الربمكي!‬
‫وبن ��ى ه ��ذا الر�أي على ح�س ��ن عالقة جربيل ب ��ن بختي�شوع مع‬
‫الربامك ��ة‪ ،‬وعلى ما ذكره الطبيب الفار�سي �أن �سبب مر�ض الر�شيد‬
‫ه ��و غلط ��ة جربيل بن بختي�ش ��وع‪ .‬وبنا ًء على هذا ال ��ر�أي �أنكر جميع‬
‫الروايات الأخرى‪ ،‬التي �أ�شارت �إلى مر�ض الر�شيد وهو يف الطريق‪.‬‬
‫وهذا الر�أي �ضعيف ج ًّدا‪ ،‬لأن �أعرا�ض ال�سم معروفة عند عامة‬
‫النا�س قد ًميا وحدي ًثا‪ ،‬ولو ح�صل ذلك ملا ُترك جربيل ولأخذه الأمني‬
‫�أو امل�أم ��ون بجريرت ��ه‪ ،‬كي ��ف وقد حظ ��ي عندهما جمي ًع ��ا‪ .‬ومل ت�شر‬
‫�أي رواي ��ة م ��ن الروايات التاريخية �إلى ال�سم‪� ،‬أم ��ا ما ذكره الطبيب‬
‫الفار�س ��ي فه ��و �أمر مبه ��م‪ ،‬ال يعدو �أن يك ��ون م ��ن كالم الأقران يف‬
‫بع�ضهم البع�ض‪ .‬و�أما اال�ستناد �إلى ح�سن عالقته مع الربامكة فهذا‬
‫عجي ��ب ج ًّدا‪� ،‬إذ عالقة الربامكة مع علي ��ة القوم وعامتهم‪ ،‬بل حتى‬
‫مع الر�شيد نف�سه‪ ،‬كانت ح�سنة ج ًّدا قبل �أن يتغري عليهم وينكل بهم‪.‬‬
‫وختام ��ا‪ :‬ف� ��إن توافر الرواي ��ات التاريخية ي�ش ��كل و�ص ًفا دقي ًقا‬
‫ً‬
‫فح�صا �أ�سا�س ًّيا للمر�ض‪،‬‬
‫للتاريخ املر�ضي‪ ،‬بينما فح�ص البول ي�شكل ً‬
‫مم ��ا ي�ؤك ��د �أن �سب ��ب وف ��اة الر�شيد ‪ V‬ه ��و احلما� ��ض ال�سكري‬
‫الكيتوين ك�أحد م�ضاعفات مر�ض ال�سكر‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫���������������������‬

‫(((‬
‫ج‪� :‬إ�ضاءات طبية‬

‫احلما� ��ض الكيتوين ال�سك ��ري (‪ )Diabetic Ketoacidosis‬هو‬


‫�أح ��د امل�ضاعف ��ات اخلطرية ملر� ��ض ال�سكر‪ ،‬حتدث ب�سب ��ب النق�ص‬
‫احل ��اد يف الإن�سول�ي�ن يف اجل�س ��م‪ .‬وهو �أح ��د امل�ضاعف ��ات املرتبطة‬
‫بالنم ��ط الأول من مر� ��ض ال�سكر‪ ،‬وقد حت ��دث يف النمط الثاين يف‬
‫ح ��االت معين ��ة كالعدوى الرئوية �أو عدوى امل�سال ��ك �أو عند الإرهاق‬
‫البدين ال�شديد‪.‬‬
‫وتبد�أ الأعرا�ض عادة بال�شعور بالغثيان والتقي�ؤ‪ ،‬وقد ي�صاحبها‬
‫�أمل بطني حاد عند بع�ض املر�ضى‪ .‬ومع تطور احلالة ال�صحية يزداد‬
‫النف� ��س عم ًق ��ا‪ ،‬ويكون جمه ��دً ا‪ ،‬وتتغري رائحته �إلى م ��ا ي�شبه رائحة‬
‫الفواك ��ه ب�سب ��ب زي ��ادة تركيز الأ�سيت ��ون يف ال ��دم‪ .‬ينخف�ض بعدها‬
‫م�ستوى الوعي مما ي�ؤدي �إلى الغيبوبة والوفاة يف حالة عدم العالج‪.‬‬
‫مر�ضا قاتلاً قبل اكت�شاف‬
‫مما يجدر ذكره �أن هذا املر�ض كان ً‬
‫الإن�سول�ي�ن ال�صناع ��ي‪ ،‬وا�ستخدام ��ه يف عالج مر�ض ��ى ال�سكر �سنة‬
‫‪ 1921‬للميالد‪� .‬أما اليوم فن�سبة الوفاة منه �أقل من ‪ %1‬نظ ًرا ل�سهولة‬
‫الت�شخي�ص ووجود العالج الفعال يف �أغلب املراكز الطبية‪.‬‬
‫)‪(1) Kumar & Clark: Clinical Medicine ( page: 10881092-‬‬

‫‪35‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ت�شخي�ص املر�ض‪ :‬بالإ�ضافة �إلى الأعرا�ض ال�سريرية املذكورة‬


‫�آنفا‪ ،‬يتم ت�شخي�ص مر�ض احلما�ض ال�سكري الكيتوين (‪ )DKA‬عن‬
‫طري ��ق حتليل ال�سكر يف الدم‪ ،‬والذي ق ��د ي�صل �إلى م�ستويات عالية‬
‫ج ًّدا (>‪ 600‬مغ‪ /‬د�سل)‪ .‬ويتم الت�أكد من الت�شخي�ص بعد اكت�شاف‬
‫الكيتونات يف الدم والبول مع زيادة حم�ضية الدم‪.‬‬
‫ع�ل�اج املر�ض‪ُ :‬يع� � ُّد احلما�ض ال�سكري الكيت ��وين حالة طارئة‬
‫ت�ستدع ��ي تدخلاً طب ًّي ��ا �سري ًعا عن طري ��ق تعوي�ض نق� ��ص ال�سوائل‬
‫والأم�ل�اح والع�ل�اج الهرم ��وين بالإن�سول�ي�ن‪ .‬وق ��د تتطل ��ب �إعط ��اء‬
‫البيكربون ��ات لتخفي ��ف حمو�ضة ال ��دم‪ .‬ومن املهم بع ��د ذلك عالج‬
‫امل�سببات لهذا املر�ض كالعدوى وغريها‪.‬‬
‫ن�صائ���ح طبي���ة‪ :‬يجب �أولاً احلر�ص عل ��ى �أن يكون منط احلياة‬
‫�صح ًّي ��ا باتباع نظام غذائ ��ي وريا�ضي �سليم م ��ع املحافظة على وزن‬
‫منا�سب‪ ،‬والبعد عن كل ما يثري القلق والغ�ضب‪ ،‬لأجل جتنب الإ�صابة‬
‫مبر�ض ال�سكر‪.‬‬
‫ولك ��ي يت ��م ذلك ال بد ل ��كل من ج ��اوز اخلام�س ��ة والثالثني �أن‬
‫ميار� ��س ً‬
‫ن�شاط ��ا بدن ًّيا معت ��دل الكثافة كامل�شي ال�سري ��ع ملدة ن�صف‬
‫�ساعة ‪-‬على الأقل‪ -‬مبعدل �أربع مرات �أ�سبوع ًّيا‪.‬‬
‫وبالإ�ضافة �إلى ذلك ال بد �أن تقت�صر �إحدى الوجبات الرئي�سية‬
‫عل ��ى الفاكه ��ة واخل�ض ��روات فق ��ط‪ ،‬وال يخل ��ط معه ��ا �أي م�ص ��در‬

‫‪36‬‬
‫���������������������‬

‫للكربوهي ��درات �أو الده ��ون �س ��وى زي ��ت الزيتون‪ .‬وه ��ذه الوجبة مع‬
‫فائدته ��ا الغذائية العالي ��ة املتمثلة يف بع� ��ض الفيتامينات والعنا�صر‬
‫الت ��ي ال تتوفر فيما عداه ��ا‪� ،‬إال �أن هدفها الأ�سا�سي هو الق�ضاء على‬
‫الإم�ساك و�إراحة الأمعاء من تراكم �سموم الف�ضالت فيها‪.‬‬
‫ويف حال ��ة الإ�صاب ��ة مبر�ض ال�سك ��ر يجب احلر� ��ص على اتباع‬
‫خ�صو�صا ما يتعلق بالنظام الغذائي ومنط احلياة‬
‫ً‬ ‫�إر�شادات الطبيب‬
‫ال�صحي وعدم �إهمال العالج‪ .‬كما ينبغي العلم �أن التعامل ال�صحي‬
‫م ��ع ال�سكر يقي ب� ��إذن اهلل من جميع م�ضاعفات ��ه ال�شائعة‪� ،‬أما عند‬
‫الإهمال وع ��دم املباالة‪ ،‬ف�إن ال�سكر يك ��ون مقدمة لأمرا�ض عديدة‪،‬‬
‫ت�صيب كافة �أع�ضاء اجل�سم‪ ،‬ولذا ي�سمى «�أبو الأمرا�ض»(((‪.‬‬
‫وم ��ن ال�ض ��روري كذلك معرف ��ة �أعرا� ��ض جمي ��ع امل�ضاعفات‬
‫خ�صو�ص ��ا �أعرا�ض احلما� ��ض الكيتوين‬
‫ً‬ ‫اخلط�ي�رة ملر� ��ض ال�سك ��ر‪،‬‬
‫ال�سك ��ري‪ ،‬لأن ن�سب ��ة التماثل لل�شف ��اء تعتمد على �سرع ��ة ت�شخي�ص‬
‫املر�ض وعالجه‪.‬‬
‫مما يج ��در ذكره �أن �سكر الأطف ��ال �أو النمط الأول من مر�ض‬
‫ال�سك ��ر قد ي�أت ��ي على هيئة حما� ��ض كيتوين �سك ��ري ب�سبب النق�ص‬
‫احل ��اد واملفاجئ يف ن�سبة الإن�سول�ي�ن يف الدم‪ ،‬ولذا ينبغي االحتياط‬
‫وعدم �إهمال الأعرا�ض الأولية للمر�ض‪.‬‬
‫((( رفعت هنا على احلكاية‪ ،‬واجلملة يف حمل ن�صب‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫���������������������‬

‫(((‬
‫د‪ :‬تعبري الر�ؤى‬

‫الر�ؤي ��ا ال�صاحلة �إحدى عجائب الدني ��ا‪ ،‬لأنها قد تك�شف غي ًبا‬
‫مل يخط ��ر ببال �أحد‪ ،‬وقد ت�ب�رز �شي ًئا مل تتهي�أ �أ�سبابه بعد‪ .‬وهي �أمر‬
‫تعجز املادة عن تف�سريه‪ ،‬وال ت�ستطيع �إنكاره‪ ،‬فهو من �أقوى الدالئل‬
‫على ع ��امل الروح الذي �أنكره املاديون بحج ��ة �أنه غري قابل للتجربة‬
‫العلمية‪ ،‬التي تخترب فيها �صحة الفر�ضيات‪ ،‬وتخ�ضع فيها املتغريات‬
‫ل�شروط م�سبقة يتحكم فيها الباحث‪ .‬ويف هذه احلجة تع�سف وا�ضح‬
‫وق�ص ��ور �شدي ��د‪ ،‬لأنه ��ا تفر� ��ض قوانني امل ��ادة على �ش ��يء يفارقها‪،‬‬
‫ويخال ��ف نوامي�سها‪ ،‬وهو ما �أ�ش ��ار اهلل ‪� D‬إليه (ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ) [ الروم‪.]7 :‬‬
‫وقد تعلق النا�س بالر�ؤى على خمتلف طبقاتهم حتى غدا تعبري‬
‫ال ��ر�ؤى �سو ًقا ً‬
‫رائجا وو�سيل ��ة �سريعة لل�شهرة والرثاء‪ ،‬فق�صده من ال‬
‫يح�سنه‪ ،‬و�صمد �صمده من ال يفهمه‪ ،‬فالتب�س على النا�س الأمر‪ ،‬وعز‬
‫عليهم التفريق بني العامل واملتعامل‪ .‬واحلق �أن التفريق بينهما ع�سري‬
‫ج� � ًّدا‪ ،‬لأن حتق ��ق الر�ؤيا ال يعتمد على ج ��ودة التعبري فقط‪ ،‬بل يقوم‬
‫على �صدق الر�ؤيا و�صدق الرائي ومدى دقة نقل الر�ؤيا للمعرب‪.‬‬
‫((( لال�ست ��زادة انظ ��ر‪ :‬ال ��ر�ؤى عند �أه ��ل ال�سنة واجلماع ��ة واملحدثني واملخالف�ي�ن‪ ،‬ت�أليف‪:‬‬
‫د‪� .‬سهل العتيبي‪ .‬والكتاب عبارة عن ر�سالة ماج�ستري ر�صينة‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وثم ��ت قاعدتان ذهبيتان مل ��ن �أراد التفريق ب�ي�ن املعرب اجليد‬
‫ومن �سواه‪:‬‬
‫إلهاما‪ ،‬بل ال بد من‬ ‫� اً‬
‫أول‪ :‬تعبري الر�ؤى علم داللة ولي�س وح ًيا �أو � ً‬
‫وج ��ود قرينة تربط بني الرمز امل�ضروب يف الر�ؤيا وبني ت�أويل املعرب‪،‬‬
‫وللرائ ��ي �أن ي�س�أل املعرب عن القرينة الت ��ي ا�ستدل بها يف تعبريه كي‬
‫يت�ضح له وجه الت�أويل‪ ،‬ويتحقق من جودة تعبري ر�ؤياه‪.‬‬
‫بع�ضا من الر�ؤى املذكورة يف القر�آن جتد الأمر بي ًنا‬
‫ت�أم ��ل معي ً‬
‫وا�ضحا‪ ،‬فال�شم�س يف ر�ؤي ��ا يو�سف كانت �أباه يعقوب عليهما ال�سالم‬ ‫ً‬
‫لأن ��ه نب ��ي ي�شع �ض ��وء هدايته عل ��ى الأر� ��ض‪� ،‬أما القم ��ر فكانت �أمه‬
‫‪-‬زوج ��ة يعقوب‪ -‬فهي �أول من ا�ستفاد من �ضوء هداية النبي وبلغها‪،‬‬
‫متام ��ا كما يفعل القمر م ��ع �ضوء ال�شم�س‪ .‬وه ��ذا الأمر ينطبق على‬ ‫ً‬
‫جنوما‪� ،‬إذ مل يكونوا �أنبياء‬
‫�إخوته الأحد ع�شر‪ ،‬فه ��م كواكب ولي�سوا ً‬
‫حال حدوث الر�ؤيا وال حال حتققها‪.‬‬
‫وت�أمل معي يف ر�ؤيا امللك يف �سورة يو�سف‪ ،‬ي�ستبني لك الق�صد‪،‬‬
‫فالبق ��رة ال�سمين ��ة �سنة خ�صبة‪ ،‬والبقرة العجف ��اء �سنة جمدبة‪ ،‬ثم‬
‫ت�أمل كيف ت�أكل البقر ُة العجفاء البقر َة ال�سمينة‪ ،‬كما ي�ضطر النا�س‬
‫يف ال�سنة املجدبة �إلى �أكل حم�صول ال�سنة اخل�صبة وهكذا‪.‬‬
‫وه ��ذا �أمر مط ��رد يف جميع الر�ؤى املذك ��ورة يف القر�آن وال�سنة‬
‫وع�ب�ر التاريخ‪ .‬و�سي�أتي احلدي ��ث عن ر�ؤيا عاتكة بن ��ت عبد املطلب‬

‫‪40‬‬
‫���������������������‬

‫‪ J‬ي ��وم بدر‪ ،‬وم ��ا فيها م ��ن داللة عجيب ��ة‪ .‬وفق ��ه القرينة �أمر‬
‫تتفاوت فيه �أفهام املعربين بح�سب ت�ضلعهم من علوم القر�آن وال�سنة‬
‫وعلوم اللغة‪ ،‬وبح�سب ذكائهم وقدرتهم على الربط والتحليل‪ .‬ورحم‬
‫اهلل �أبا الطيب حني خل�ص هذا ببيت واحد‪:‬‬
‫على قدر القريحة والعلوم‬ ‫ولكن ت�أخـ ـ ــذ الأفه ــام من ــه‬
‫ثانيً���ا‪ :‬ال ميك ��ن ت�أويل جميع الر�ؤى‪� ،‬إذ قد تكون القرينة بعيدة‬
‫ت�ستع�صي على فهم املعرب‪ ،‬وال تعرف حتى تتحقق الر�ؤيا‪ ،‬وقد يخفى‬
‫على املعرب �شي ًئا من �أحوال الرائي ت�شري �إليه الر�ؤيا من طرف خفي‪،‬‬
‫فيعج ��ز عن فهم القرينة‪ .‬وهنا يبني الف ��رق بني عامل يعرف حدود‬
‫علم ��ه‪ ،‬ومتعامل يخو�ض غم ��ار بحر ال يح�سن الوق ��وف على �ساحله‪،‬‬
‫فيت�صدى ل ��كل ر�ؤيا يف�سرها‪ ،‬ورمبا ف�س ��ر �أ�ضغاث الأحالم وحديث‬
‫النف�س � ً‬
‫أي�ضا!‬
‫وخال�ص���ة الأم���ر يف هذا املقام‪� :‬أن م ��ن ت�صدى لتف�سري جميع‬
‫الر�ؤى‪ ،‬ومل يبني وجه القرينة عند ال�س�ؤال عنها‪ ،‬كمن يفتي يف جميع‬
‫م�سائل الفقه‪ ،‬ويعجز عن الإتيان بالدليل‪ ،‬واهلل �أعلم‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫زائرة املتنبي‬

‫‪43‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫�أ‪ :‬ق�صة املتنبي‬


‫(((‬

‫حملة كن ��دة بظاهر الكوفة‪ .‬حيث يق ��ف ال�صبي الهزيل �أحمد‬


‫منزو ًي ��ا عن بقي ��ة ال�صبية‪ ،‬الذين يلعب ��ون يف عر�ض الطريق‪ .‬يخيل‬
‫�إلي ��ك �أن ال�سب ��ب وراء انفراده ه ��و خجله من �شملت ��ه البالية �أو من‬
‫قدمه احلافية‪ ,‬ولي�س الأمر كذلك‪ ,‬فهذا �ش�أن �أغلب من ي�سكن هذة‬
‫املحل ��ة البائ�س ��ة‪ ،‬و�إمنا ال�سبب ه ��و �سخرية ال�صبي ��ة املتوا�صلة من‬
‫وال ��ده «ال�سقاء عيدان»‪ .‬م ��ا �أن يجتمع �شملهم حت ��ى تبد�أ امل�سرحية‬
‫ال�ساخ ��رة‪ .‬يعر� ��ض �أ�شقاهم على متنه عودًا طوي�ًلياً يعلق يف طرفيه‬
‫�إن ��ا ًء عتي ًق ��ا‪ ،‬ثم ي ��دور على ال�صبي ��ة‪ :‬ماء‪..‬ماء (ميد به ��ا �صوته)‪,‬‬
‫تتعال ��ى �ضحكاتهم‪ ،‬وي�ستخفه ��م املرح‪ ،‬ورمبا ا�ستطال ��وا على ذلك‬
‫ال�صبي اجلاد‪ ،‬الذي ال ي�شاركهم لهو الطفولة‪.‬‬
‫�أن ��ه خمتلف عنهم وكفى‪ .‬وهذا وح ��ده كاف‪ ،‬لأن تناله الأل�سن‬
‫ورمب ��ا الأي ��دي‪ .‬ال يعني الأطف ��ال بعد ذلك �أكان اب ��ن �سقاء �أم ابن‬
‫حجام‪ ،‬ولكنها �سجية الأطف ��ال التي �سرعان ما يتذكرها الكبار �إذا‬
‫ر�أوا م ��ن يتميز عنه ��م ويتفوق عليهم‪� .‬إن ذن ��ب الناجح عظيم‪ ،‬فهو‬
‫يذك ��ر الفا�شل بف�شل ��ه واملق�صر بتق�ص�ي�ره‪ ،‬فال يجب �أن يت� ��أوه �إذا‬
‫اعتورته الن�صال‪ ،‬ونا�شته �أطراف القنى‪.‬‬
‫((( لال�ستزادة‪ ،‬انظر‪� :‬شرح ديوان �أبي الطيب‪ ،‬للربقوقي‪ ،‬و�إمرباطور ال�شعراء‪ ،‬للقرين‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�إن ��ك مهما نبا نظرك ع ��ن �أحمد‪ ،‬وازو ّرت عن ��ه عيناك لرثاثته‬
‫و�شعث ��ه‪ ,‬فال بد �أن تلم ��ح يف عينيه نظرة غام�ضة‪ ,‬بعيدة الهدف حتى‬
‫ليخيل �إليك �أن ب�صره قد جاوز حملته املتوا�ضعة‪ ،‬وتعلق ب�أ�ستار الأفق‪.‬‬
‫�إن ق�سمات وجهه احل ��ادة‪ ,‬حتى و�إن �سفعها الفقر‪ ,‬لتلوح منها‬
‫خمايل النجابة و�أمارات النبوغ‪.‬‬
‫�أقب ��ل عي ��دان ال�سقاء ت�سبق ��ه جلجلة �أواين امل ��اء‪ ،‬والب�شر يعلو‬
‫حمي ��اه‪ ،‬فقد زادت غلت ��ه اليوم عن ثالثة دراه ��م‪� .‬أنزل الأواين من‬
‫عل ��ى ظه ��ره‪ ،‬و�أخرج الدراه ��م يتفح�صه ��ا‪ ،‬و�أحمد مط ��رق واجم‪،‬‬
‫ول�س ��ان حاله يقول‪ :‬ي ��ا �أبت لطاملا �آملني فق ��رك وازدراء النا�س لك‪،‬‬
‫ولكن �أكرث ما يغيظني ه ��و ر�ضاك ب�شظف عي�شك‪ ،‬وقناعتك بالنزر‬
‫القليل الذي حت�صل عليه من كد ظهرك و�سعي قدمك‪.‬‬
‫مل يج ��ر�ؤ �أحمد على ق ��ول هذا الكالم لإبيه‪ ،‬ول ��و مرة واحدة‪،‬‬
‫ليقينه �أال طائل من ورائه‪ ,‬فبينهما ما بني همة الفتى الطموح وهمة‬
‫ال�شيخ العليل من بون وتفاوت‪ ,‬و�سبحان الذي يخرج احلي من امليت‪.‬‬
‫ا�شتدت نقم ��ة �أحمد‪ ،‬وزادت �سخريته املكتومة من و�ضع عائلته‬
‫الق ��امت‪ ،‬ومل يكن ي�سليه يف تلك الأثناء �سوى حديث جدته املتكرر عن‬
‫طيب ن�سبها وكرم حمتدها‪ .‬ومع �أن كالمها يف نظر �أهل البيت ال يعدو‬
‫كون ��ه ثرثرة �ضرب الزمن عليها بجران ��ه‪� ،‬إال �أن ال�صبي كان ي�صغي‬
‫�إليها بكل جوارحه‪ ،‬ورمبا ا�ستعادها الق�صة تلو الق�صة‪ ،‬فتقول‪ :‬اعلم‬

‫‪46‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫يابن ��ي �أين م ��ن قبيلة همدان‪ ،‬تلك القبيلة العريق ��ة‪ ،‬التي خرج منها‬
‫كثري من �أقيال((( اليمن‪ ،‬وفيها قال علي بن �أبي طالب ‪:I‬‬
‫فوار�سها حمر العيون دوامي‬ ‫وملا ر�أيت اخليل ت�ضرب بالقنا‬
‫�إذا ن���اب �أمر جنتي و ح�سامي‬ ‫تيممت هم���دان الذي ه ُم ه ُم‬
‫لقلت لهمدان ادخلوا ب�سالمي‬ ‫ولو كنت بوابً���ا على باب جن ٍة‬
‫وم ��ا ذاك �إال لعظم بالئهم يف احلرب‪ ،‬وك ��رم �أح�سابهم وعلو‬
‫همتهم‪.‬‬
‫�أم ��ا �أنت يا بني ف�إنك من �سعد الع�شرية‪� .‬أتدري مل �سمي بهذا‬
‫اال�س ��م؟ لقد طال عمر �سعد وكرث �أبن ��ا�ؤه و�أحفاده‪ ،‬حتى بلغوا ثالث‬
‫مئ ��ة رجل‪ ،‬فكان �إذا ركب فيهم �سئ ��ل عنهم‪ ،‬فيقول‪« :‬هم ع�شريتي»‬
‫خماف ��ة احل�سد‪ .‬يابني‪ :‬لقد �س�أل عمر ‪ I‬عمرو بن معدي كرب‬
‫خمي�س ��ا‪ ،‬و�أكربنا‬
‫الزبي ��دي((( ع ��ن �سعد الع�ش�ي�رة فق ��ال‪� :‬أعظمنا ً‬
‫رئي�سا(((‪ .‬ويعني �أنهم قد جمعوا بني الكرثة والرئا�سة وال�شدة‪.‬‬
‫ً‬
‫((( �أقيال‪ :‬جمع قيل وهو امللك‪.‬‬
‫((( عمرو بن معدي كرب الزبيدي فار�س العرب‪ ،‬و�صاحب ال�صم�صامة‪ ،‬وهي �أ�شهر �سيوف‬
‫الع ��رب‪� .‬ش ��ارك يف فتوح العراق و�أبلى بالء عظي ًم ��ا يف القاد�سية ونهاوند‪ ،‬ومات يف �سنة‬
‫‪ 21‬للهجرة‪ .‬وعمرو �شاعر جميد‪ ،‬وهو �صاحب البيت ال�شهري‪:‬‬
‫ولكن ال حياة ملن تنادي‬ ‫لقد �أ�سمعت لو ناديت ح ًّيا‬
‫خمي�سا‪ ،‬لأنه يق�سم عادة �إل ��ى خم�س فرق‪ :‬املقدمة‪،‬‬
‫((( اخلمي� ��س‪ :‬اجلي�ش العظي ��م‪ ،‬و�سمي ً‬
‫وامليمنة‪ ،‬واملي�سرة‪ ،‬والقلب‪ ،‬وال�ساقة‪ ،‬وهي م�ؤخرة اجلي�ش‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ا�ستطردت اجلدة قائلة‪ :‬فما زال الزمن يدورحتى قلب لنا ظهر‬
‫ا ِملج ��نّ ‪ ،‬فلم تعد تعن ��ي �أح�سابنا للرتك والفر� ��س �شي ًئا‪ ,‬بل �أ�صبحت‬
‫�إر ًث ��ا ثقيلاً ‪ ،‬ت ��رزح به كواهلنا حني رقت حالنا‪ .‬ي ��ا بني لقد تطاولوا‬
‫عل ��ى اخلليفة‪ ،‬ف�سملوا عين ��ه‪ ،‬و�ألقوه لل�سابل ��ة‪ ،‬ي�ست�سقيهم املاء فال‬
‫ي�سقيه �أحد‪� ،‬أفرتاهم يعب�أون بنا بعد ذلك؟‬
‫يف هذا اجل ��و املفعم باملتناق�ضات ن�ش�أ املتنب ��ي وترعرع‪ ،‬نابغة‬
‫عبق ��ري‪ ،‬ق ��د ُعلقت نف�سه مبا فوق النجوم‪ ،‬ي ��درج يف بيت قد �أن�شب‬
‫الفقر �أنياب ��ه وخمالبه الغائرة يف �أهله‪ ،‬حتى ك�س ��ر �أنف�سهم‪ ،‬و�أراق‬
‫زاك قدمي ق ��د حال دونه ن�س ��ب و�ضيع وحال‬ ‫م ��اء حمياه ��م‪ ،‬ح�سب ٍ‬
‫رقي ��ق‪ ،‬هوى به ��م �إلى �أ�سفل طبق ��ات املجتمع‪ ،‬حت ��ى �أ�صبحوا مثا ًرا‬
‫لل�سخرية والتندر‪.‬‬
‫�إن �أي نابغة ين�ش�أ يف ظرف كهذا‪� ،‬ستدور حياته حت ًما بني ثالث‬
‫عقد‪ :‬عقدة الفقر‪ ،‬وعقدة االحتقار‪ ،‬ثم عقدة الت�سلط‪.‬‬
‫وم ��ا �أن ي�شب ع ��ن الطوق‪ ،‬وميلك زمام نف�س ��ه‪ ،‬حتى ي�سعى يف‬
‫طل ��ب امل ��ال من كل وجه‪ ,‬ف�إذا ملك �شي ًئا م ��ن مال ا�ستيقظت عقدة‬
‫االحتق ��ار يف نف�س ��ه‪ ،‬فق ��ام يطل ��ب التقدي ��ر‪ ،‬ويبحث ع ��ن ال�شهرة‬
‫والإثارة‪ ،‬ف�إذا ح�صل على �شئ من ذلك �سمت نف�سه للوالية‪ ،‬وحركه‬
‫حب ال�سلطة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫وال ميي ��ز معدنه وتعرف �شمائله حتى يتولى �شي ًئا من الواليات‪,‬‬
‫ف� ��إن كان كرمي النف�س‪ ,‬طيب الروح‪ ،‬ق ��ال مثل قول �أم حامت الطائي‬
‫عندم ��ا حب�سه ��ا �إخوته ��ا‪ ،‬لك ��ي ت�ض ��ن ب�شيء م ��ن ماله ��ا‪ ،‬وتدخره‬
‫لنوائب الدهر‪:‬‬
‫لعمري لقد م��ا ع�ضني اجل���وع ع�ضة‬
‫(((‬
‫ف����آل���ي���ت �أال �أم����ن����ع ال����ده����ر ج���ائ���ع���ا‬
‫و�إن كان حقودًا لئي ًما فعل مثل فعل احلجاج يف �أهل العراق(((‪.‬‬
‫ولو ت�أملت �سرية �أبي الطيب املتنبي لوجدت �أثر هذه «املتالزمة»‬
‫بي ًنا ً‬
‫وا�ضحا يف حياته‪ .‬فهو يكون �أ�شد زئ ًريا عندما جتتمع عليه عقده‬
‫الث�ل�اث يف �آن م ًعا‪ ،‬ويخف �صراخه كلما حلت عقدة من هذه العقد‪،‬‬
‫حتى يتحول �إلى ما ي�شبه الأنني اخلافت عند حل العقدتني الأوليني‪.‬‬
‫ب ��ل �إن كث�ي ً�را من جتلي ��ات احلكمة عند �أبي الطي ��ب ما هي �إال‬
‫رجع �صدىً لهذه املتالزمة‪:‬‬
‫و�أت��ع��ـ��ـ��ـ��ب خ��ل��ـ��ق ال��ل��ـ��ـ��ـ��ه م��ـ��ـ��ن زاد هـمـ ـ‬
‫ـ��ه وق�صر عما ت�شتهي النف�س وج��ده‬

‫((( ال�شعر وال�شعراء (‪.)242/1‬‬


‫(( ( روى ابن كثري يف البداية والنهاية (‪� :)535/12‬أن عبدامللك بن مروان قال للحجاج‪� :‬إنه‬
‫م ��ا من �أحد �إال وهو يعرف عيب نف�سه‪ ،‬ف�صف يل عيبك‪ .‬فقال‪� :‬إين جلوج حقود ح�سود‪.‬‬
‫فقال عبدامللك‪ :‬ما يف ال�شيطان �شر من ذلك!‬

‫‪49‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ويف النا�س من ير�ضى مبي�سور عي�شه‬


‫وم������رك������وب������ه رج�����ل�����اه وال��������ث��������وب ج����ل����ده‬
‫ول�������ك�������ن ق�����ل�����ب�����ا ب����ي���ن ج�����ن�����ب�����ي م����ال����ـ‬
‫ـ�����ه م�������دى ي���ن���ت���ه���ي ب�����ي يف م��������راد �أح�������ده‬
‫خ ��رج �أبو الطيب م ��ن مراتع ال�صبا �إلى ال�ش ��ام‪ ،‬وقد اجتمعت‬
‫عليه �أعرا�ض املتالزمة كله ��ا‪ ،‬فجعل يز�أر زئ ًريا ي�صم �آذان الزمن‪.‬‬
‫ولك�أين به جائع فقري‪ ،‬قد �أجل�أه الربد �إلى خان مهجور‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫�أي ع��ظ��ي��م �أت��ق��ي‬ ‫�أي حم���ل �أرت���ق���ي‬
‫وم��������ا مل ي��خ��ل��ق‬ ‫وك���ل م��اخ��ل��ق اهلل‬
‫ك�شعرة يف مفرقي‬ ‫حمتقر يف همتي‬
‫فلما طلع عليه ال�صبح خرج ينف�ض عن جنبيه الغبار‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫ما مقامي ب�أر�ض نخلة �إال كمقام امل�سيح بني اليهود‬
‫�أن���ا يف �أم���ة تداركه���ا اهلل غري���ب ك�صال���ح يف ثم���ود‬
‫ث ��م م�ضى يف طريقه‪ ،‬وهو ي�س�أل نف�سه �أي الواليات �أعظم قد ًرا‬
‫و�أج ��ل خط ًرا؟ امللك؟ فما �أكرث امللوك! �أم اخلالفة؟ فثم خليفتان! ال‬
‫ب ��د �أنها النب ��وة �إذن! فلتكن! فهي حت ًما �ستلف ��ت �أنظار امللوك ف�ضلاً‬
‫ع ��ن العامة‪ ,‬و�سين�سى النا� ��س يف غمرة ذلك م ��ا كان فيه من ن�سب‬
‫و�ضيع وحال رقيق‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫دارت به �أيامه بني �سجن وحل وترحال‪ ،‬حتى نزل ال�شام فوجد‬
‫الفر�صة �سانحة حلل العقدة الأولى‪ :‬جمع املال‪ ,‬ف�أقبل ميدح كل من‬
‫ظ ��ن �أن عنده ن � اً‬
‫�وال‪ ،‬حتى لو كان ن ��ز ًرا قليلاً ‪ .‬ق ��دم على حممد بن‬
‫زريق(((‪ ،‬فمدحه بق�صيدة مل يدع ف ًّنا من فنون املبالغة �إال �سلكه‪:‬‬
‫تنفي الظن���ون وتف�سد التقيي�سا‬ ‫ب�ش���ر ت�ص���ور غاي���ة يف �آي���ة‬
‫�أب���دًا ونط���رد با�سم���ه �إبلي�س���ا‬ ‫ي���ا من نلوذ م���ن الزمان بظله‬

‫فو�صل ��ه بع�شرة دراهم‪ ،‬فقيل ل ��ه‪� :‬إن �شعره ح�سن‪ .‬فقال‪ :‬واهلل‬
‫م ��ا �أدري �أح�س ��ن هو �أم قبي ��ح! ولكن �أزيده لأجل قول ��ك هذا ع�شرة‬
‫دراهم �أخرى!‬
‫ق ��د يت�سائل املرء‪ :‬كي ��ف ر�ضي �أبو الطيب املتنب ��ي مبدح �أمثال‬
‫ه� ��ؤالء‪ ،‬وهو �آي ��ة يف االعتداد بنف�س ��ه واحتقار غ�ي�ره؟ ويف احلقيقة‬
‫�إن ه ��ذا د�أب م ��ن يعاين من هذه املتالزم ��ة‪ ,‬ولن�سمها �إذن متالزمة‬
‫املتنب ��ي (‪ ,(Almutanbi Syndrome‬م ��ا �أن ينهمك �أحدهم يف حل‬
‫عق ��دة م ��ن عقده الثالث‪ ،‬حت ��ى يغفل عن كل ما عداه ��ا‪ ،‬ورمبا �أتى‬
‫نقي� ��ض ما قاله‪ ،‬وهو ال ي�شعر‪ .‬حت ��ى �إذا ان�سدت عليه وجوه املطالع‪,‬‬
‫و�أفل�س من احللول كلها عاد زئريه �أ�شد ما كان‪.‬‬
‫((( حممد بن رزيق الطر�سو�سي ويل �إمارة طر�سو�س‪ ،‬وهي مدينة �سورية على �شاطئ البحر‬
‫الأبي�ض املتو�سط‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫رحل �إلى حلب‪ ,‬وهلل در حلب‪ ,‬ما �صنعت ال�شهباء ب�أبي الطيب!‬
‫لق ��د �شفت ��ه من دائه الع�ضال‪ .‬حب ��اه �أمريها �سيف الدول ��ة ما �أن�ساه‬
‫فق ��ره‪ ,‬و�أعل ��ى مكانته حت ��ى فاءت �إلي ��ه نف�سه‪ ،‬وث ��اب �إليه احرتامه‬
‫وتقدي ��ره‪ ,‬وبقيت واحدة �أغناه عنها �شخ�ص �سيف الدولة‪ ,‬فهو �أمري‬
‫عرب ��ي من بني جلدته‪ ،‬انتزع الوالية لي�صد الروم عن بي�ضة العروبة‬
‫والإ�سالم‪ ،‬و�أعاد م�آثر �أجداده التي كانت حتدثه عنها جدته‪.‬‬
‫ه ��د�أت ثائرة املتنبي يف بالط �سي ��ف الدولة‪ ،‬وا�ستبدل ال�سنان‬
‫بالبيان‪ ،‬ور�ضي بوالية ال�شعر �سم ًعا وطاعة لأمر �أمري العرب‪:‬‬
‫����ش���اع���ر ال���ل���ف���ظ خ����دن����ه ����ش���اع���ر امل��ج��ـ‬
‫ـ�������د ك���ل��ان������ا رب امل�������ع�������اين ال������دق������اق‬
‫�أق ��ام عنده ثماين حجج ي�صفيه من غرر الق�صائد‪ ،‬ومن عيون‬
‫ال�شعر‪ ،‬وينت�صف به من زمانه‪:‬‬
‫يف ج��ح��ف��ل م���ن ح���دي���د ل���و رم���ي���ت به‬
‫�����ص����رف ال������زم������ان مل�����ا دارت دوائ��������ره‬
‫وال غرو �أن يكرث ح�ساده و�شانئوه‪ ,‬وهو املنفرد بحب �سيف الدولة‬
‫و�إيث ��اره‪ ,‬ومل يكن يعب�أ بهم �أول الأمر‪ ،‬حت ��ى ا�ستطالوا عليه‪ ،‬و�سعوا‬
‫يف �إذالله‪ ,‬وتكلموا عن �سرقته لل�شعر‪ .‬فا�ستيقظت عقدة االحتقار يف‬

‫‪52‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫نف�سه‪ ،‬فعاد يز�أر زئ ًريا ميخر عباب الزمن‪ ،‬ويعتد بنف�سه اعتدادًا مل‬
‫ي�شهد له ال�شعر نظ ًريا‪:‬‬
‫���س��ي��ع��ل��م اجل���م���ع مم���ن ���ض��م جمل�سنا‬
‫ب�����أن����ن����ي خ��ي��ر م�����ن ت�������س���ع���ى ب�����ه ق����دم‬
‫�أن������ا ال������ذي ن���ظ���ر الأع����م����ى �إل������ى �أدب�����ي‬
‫و�أ�����س����م����ع����ت ك���ل���م���ات���ي م�����ن ب�����ه ���ص��م��م‬
‫�أن���������ام م������لء ع����ي����وين ع�����ن �����ش����وارده����ا‬
‫وي�������س���ه���ر اخل����ل����ق ج����راه����ا وي��خ��ت�����ص��م‬
‫اخل���ي���ل وال���ل���ي���ل وال����ب����ي����داء ت��ع��رف��ن��ي‬
‫وال�سيف وال��رم��ح والقرطا�س والقلم‬
‫لي�س من د�أب �أمث ��ال �أبي الطيب �أن يتحملوا �إهانة مت�س عقدة‬
‫م ��ن العقد‪ ،‬مهما �صغ ��رت يف �أعني النا�س‪ ،‬فق ��رر الرحيل‪ ،‬والتم�س‬
‫لنف�سه عذ ًرا يف غاية الروعة واجلمال‪:‬‬
‫�إذا ت���رح���ل���ت ع����ن ق�����وم وق�����د ق�����دروا‬
‫�أال ت����ف����ارق����ه����م ف�����ال�����راح�����ل�����ون ه��م‬
‫ميم املتنبي �شطر م�صر‪ ،‬ال يحدوه �سوى حب الوالية‪ ،‬وال يحركه‬
‫�إال الرغبة يف ال�سلطة‪ ،‬بعد �أن متول وعرف النا�س قدره‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وق ��د ي�ستغرب املرء لأول وهلة كيف يق�صد املتنبي‪ -‬على تعاليه‬
‫وغروره‪ -‬م�صر‪ ،‬ليمدح كافو ًرا‪ ،‬وهو رقيق �أ�سود‪� ،‬أعتقه الإخ�شيد(((‪،‬‬
‫فا�ستول ��ى على م�صر بعد وفاة �سيده‪ ،‬ودان له �أهلها بالطاعة‪ ،‬و�سار‬
‫فيه ��م �سرية ح�سنة‪ .‬وال وجه للده�ش ��ة واال�ستغراب‪ ،‬فهذا ديدن من‬
‫يعان ��ون من «متالزمة املتنبي»‪ ،‬ما �أن ينهمك �أحدهم يف حماولة حل‬
‫عقدة من العقد‪ ،‬حتى ين�سى �أو يتنا�سى ما عداها‪ .‬ويف هذه املرة كان‬
‫�أبو الطي ��ب يفعلها بوعي كامل‪ .‬ولذا مل تخ ��ل ق�صيدة من ق�صائده‬
‫يف مدح كافور من لدغة من لدغاته‪ .‬ت�أمل يف مطلع �أولى ق�صائده‪:‬‬
‫ك��ف��ى ب���ك داء �أن ت����رى امل�����وت ���ش��اف��ي��ا‬
‫وح���������س����ب امل����ن����اي����ا �أن ي����ك����ن �أم����ان����ي����ا‬
‫�أهذا مطلع من يريد املدح �أم من يريد الندب والرثاء؟ ولكنها‬
‫ال�شاعري ��ة املتناهية‪ ،‬التي متدح ممدوحها يف �سبيل غايتها‪ ,‬وتندب‬
‫�صدقها ومبادئها يف الوقت ذاته‪.‬‬
‫مل يكن كافور ب�أقل من املتنبي دها ًء ومك ًرا‪ ،‬بل كان يعلم مبا يف‬
‫جنان ��ه من نزعة لل�سيطرة وحب للوالية‪ ،‬ف ��كان يغدق عليه الأموال‪،‬‬
‫ومياطله الوالية عملاً بقول �أبي الطيب نف�سه‪:‬‬
‫((( ه ��و حمم ��د بن طغج م�ؤ�س�س الدولة الإخ�شيدية يف م�ص ��ر وال�شام‪ ،‬كان يف �أول �أمره وال ًيا‬
‫للعبا�سيني على م�صر‪ ،‬ثم ا�ستقل بها‪ ،‬و�صد هجمات الفاطميني عنها‪ ،‬تويف �سنة ‪ 334‬هـ‪،‬‬
‫وكان ابن ��ه �صغ ًريا‪ ،‬فخلفه مواله كافور‪ ،‬ف�سا� ��س م�صر �سيا�سة ح�سنة‪ ،‬وكان �شه ًما ح�سن‬
‫ال�سرية‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫ومل�������������ا ك�������������ان ود ال��������ن��������ا���������س خِ �����ب�����ا‬


‫ج�����زي�����ت ع����ل����ى اب����ت���������س����ام ب���اب���ت�������س���ام‬
‫رك ��ب �أبو الطيب ال�صعب والذلول‪ ،‬لتحقي ��ق �أربه ونيل مطلبه‪،‬‬
‫فل ��م ينل �س ��وى مزيدً ا من مواعيد كافور‪ ،‬و�شي ًئ ��ا من دنانريه‪ .‬فعمد‬
‫الى الت�صريح بعد التلميح‪:‬‬
‫�إذا مل ت���ن���ط ب����ي ���ض��ي��ع��ة �أو والي����ة‬
‫ف����ج����ودك ي��ك�����س��وين و���ش��غ��ل��ك ي�����س��ل��ب‬
‫�أجاب ��ه كافور �أجابة من عرف داءه فحرمه دواءه‪� :‬أنت يف حال‬
‫الفق ��ر و�سوء احلال وعدم املع�ي�ن �سمت نف�سك للنب ��وة‪ ,‬ف�إن �أ�صبت‬
‫والي ��ة و�صار ل ��ك �أتباع فمن يطيق ��ك؟ خرج �أبو الطي ��ب من جمل�س‬
‫كافور‪ ،‬وهو يتمتم ب�أبيات احلطيئة‪:‬‬
‫مل�����ا ب�������دا يل م���ن���ك���م ع����ي����ب �أن���ف�������س���ك���م‬
‫ومل ي����ك����ن جل������راح������ي م���ن���ك���م �آ�����س����ي‬
‫�أزم�����ع�����ت ي�����أ�����سً����ا م���ب���ي���نً���ا م����ن ن��وال��ك��م‬
‫ول������ن ت������رى ط���������ار ًدا ل���ل���ح���ر ك��ال��ي��ا���س‬
‫�أزم ��ع الرحي ��ل‪ ،‬وز ّم ركائبه‪ ،‬و�أعد الع ��دة‪ .‬فبينا هو كذلك‪� ،‬إذ‬
‫طرقت بابه زائرة غريبة ال تريد �سواه‪ .‬مل يكن يف عفة جرير‪ ،‬فيقول‬

‫‪55‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫له ��ا‪ :‬لي� ��س ذا وقت الزيارة‪ ،‬ب ��ل فر�ش لها املط ��ارف واحل�شايا‪ .‬ومل‬
‫تك ��ن يف ا�ستحياء �صائدة القلوب فرتجع ب�سالم‪ ،‬بل تخطت مطارفه‬
‫وح�شاياه �إلى عظامه ومفا�صله‪:‬‬
‫�����س َت���� ُزو ُر �إ ّال يف ال ّ��ظ�لا ِم‬ ‫َف��لَ��ي َ‬ ‫َو َزائِ������ َرت������ي َك�������� ّأن ب��� َه���ا َح��� َي���ا ًء‬
‫َف�� َع��ا َف�� ْت�� َه��ا َو َب���ا َت���تْ يف عِ ظامي‬ ‫حل َ�شا َيا‬ ‫َب َذ ْلتُ لهَا امل َ َطار َِف َوا َ‬
‫َف�� ُت ِ‬
‫��و���س�� ُع�� ُه ِب������أ ْن����� َوا ِع ال ّ�����س�� َق��ا ِم‬ ‫يق اجلِ ْل ُد َعنْ َن َف�سي َو َعنها‬ ‫َي ِ�ض ُ‬
‫َك�����أَ ّن����ا ع���اكِ���ف���انِ َع���ل���ى َح�����را ِم‬ ‫ِ�إذا م���ا ف��ا َر َق��ت��ن��ي َغ��� َّ��س��لَ��ت��ن��ي‬
‫مَ���دامِ ��� ُع���هَ���ا ب�����أ ْر َب���� َع���� ٍة ِ���س َ��ج��ا ِم‬ ‫ال�ص ْب َح َيط ُردُها ف َتجرِي‬ ‫ك� ّأن ّ‬
‫م��� َرا َق��� َب��� َة املَ���� ُ���ش���وقِ املُ��� ْ��س�� َت��هَ��ا ِم‬ ‫ري َ�ش ْوقٍ‬ ‫ِ���ب َو ْق َتهَا مِ نْ َغ ِ‬ ‫�أُ َراق ُ‬
‫��اك يف ال�� ُك�� َربِ العِظا ِم‬ ‫�إذا �أ ْل�� َق َ‬ ‫ال�صد ُْق �ش ٌّر‬ ‫َو َي ْ�صد ُُق َو ْع ُدهَا َو ّ‬
‫من ال ّزحا ِم‬ ‫يف َو َ�ص ْلتِ �أنتِ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫�أ ِب�� ْن��تَ ال��دّهْ �� ِر عِ ندي ُك ُّ��ل ِب ْنتٍ‬
‫ال�سهَا ِم‬‫وف َوال ّ‬ ‫لل�س ُي ِ‬ ‫��ان ّ‬ ‫َم��ك ٌ‬ ‫َج َر ْحتِ مجُ َ َّر ًحا مل َيب َق في ِه‬

‫مل ي�ستطع �أبو الطيب فراق م�صر‪ ،‬و�أقام فيها رغ ًما عنه‪ ،‬فعيون‬
‫كافور حتر�سه نها ًرا‪ ،‬وزائرته احليية تعكف على و�صاله كل ليلة‪.‬‬
‫فلم ��ا �شفت نف�سها منه و�أب ّل((( هو منها طفق يعد عدة اخلروج‬
‫يف لطف ورفق‪ ،‬وهو يظهر الرغبة يف املقام‪.‬‬

‫((( �أب ّل الرجل من العلة �إذا �شفي منها‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫فلم ��ا تكاملت �أهبت ��ه‪ ،‬وجتهز بجهازه‪ ،‬خرج م ��ن م�صر ي�سرته‬
‫جنح الليل‪ ,‬وتخب به املطي‪ ,‬ويا له من خروج!‬
‫كان من �سوء طالع كافور �أن اعتلج يف قلب املتنبي وقت خروجه‬
‫م ��ن م�صر ثالثة لواعج‪ :‬حزن يف ي ��وم عيد‪ ,‬وخوف من عدو حقري‪,‬‬
‫وخيب ��ة �أمل مري ��رة‪ ،‬لين�شد ق�صيدت ��ه اخلالدة‪ ،‬الت ��ي رواها ل�سان‬
‫الدهر‪ ،‬ورددها فم الزمان‪:‬‬
‫ع�����ي�����د ب��������أي�������ة ح���������ال ع���������دت ي�������ا ع���ي���د‬
‫مب����ا م�����ض��ى �أم لأم������ر ف���ي���ك جت��دي��د‬
‫�أم����������ا الأح�������ب�������ة ف�����ال�����ب�����ي�����داء دون����ه����م‬
‫ف����ل����ي����ت دون�����������ك ب������ي������دا دون�������ه�������ا ب���ي���د‬
‫مل ي�ترك الدهر من قلبي وال كبدي‬
‫������ش�����ي�����ئً�����ا ت����ت����ي����م����ه ع����ي���ن وال ج���ي���د‬
‫م�������اذا ل���ق���ي���ت م�����ن ال����دن����ي����ا و�أع���ج���ب���ه‬
‫�أين مب�����ا �أن��������ا �����ش����اك م���ن���ه حم�����س��ود‬
‫�أين ن������زل������ت ب������ك������ذاب���ي��ن ����ض���ي���ف���ه���م‬
‫ع���ن ال���ق���رى وع����ن ال�ت�رح���ال حم���دود‬
‫ج���ود ال���رج���ال م���ن الأي�����دي وج��وده��م‬
‫م����ن ال���ل�������س���ان ف��ل�ا ك����ان����وا وال اجل����ود‬

‫‪57‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫م��ا يقب�ض امل���وت نف�سً ا م��ن نفو�سهم‬


‫�إال ويف ي����������ده م��������ن ن����ت����ن����ه����ا ع�����ود‬
‫ث ��م م�ضى يرجم كافور بقوارع ال�سخرية‪ ،‬وير�سل عليه �صواعق‬
‫ال ��ذم واال�ستهزاء‪ .‬مل تكن هج ��ا ًء فح�سب‪ ،‬بل كانت مثال الهجاء يف‬
‫كل زم ��ان وم ��كان‪ ،‬وقد �سار ذم ��ه لكافور م�سار اخلافق�ي�ن‪ ،‬وال زال‬
‫�أمثالاً �سائرة بني العاملني‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫ب‪ :‬حتقيق �سبب احلمى‬

‫بالغة املتنبي مل تدع جمالاً لل�شك‪� :‬أن �سبب احلمى التي �أ�صابته‬
‫هي املالريا‪ ،‬فقد و�صفها و�ص ًفا ي�صلح �أن يكون مادة لدرا�سة التاريخ‬
‫املر�ضي للمالريا‪ .‬فهي حمى لها وقت حمدد يف البدء واالنتهاء‪ ،‬ولها‬
‫منط معني يف مكان الأمل و�شدته‪ ،‬فهي ت�صيب العظام واملفا�صل‪.‬‬
‫واحلمى التي �أ�صابت �أبا الطيب كانت تعتاده ليلاً ‪ ،‬وكان ينتظر‬
‫موعده ��ا م ��ن غري �شوق فال تخي ��ب ظنه �أبدً ا‪ ،‬وهك ��ذا املالريا ت�أتي‬
‫�أعرا�ضه ��ا يف دورات منتظم ��ة‪ ،‬لأنه ��ا مرتبطة مبراح ��ل منو طفيل‬
‫البالزموديوم يف ج�سم الإن�سان‪.‬‬
‫والعج ��ب ال ينق�ض ��ي من بالغ ��ة �أبي الطي ��ب يف و�صف التعرق‬
‫الغزير (‪ ،)prefuse sweating‬الذي ي�صاحب انك�سار �سورة احلمى‬
‫عندما قال‪:‬‬
‫ك��������� ّأن ال����� ّ����ص���� ْب���� َح َي�����ط����� ُر ُده�����ا ف��� َت���ج���رِي‬
‫�����ج�����ا ِم‬
‫مَ�������دامِ ������� ُع�������هَ�������ا ب����������أ ْر َب��������� َع��������� ٍة � ِ�����س َ‬
‫فل�شدة ما حتبه احلمى‪ ،‬تبكي لفراقه بدمع غزير فيا�ض يجري‬
‫م ��ن �أربعة موا�ضع‪ :‬من املوقني‪ ،‬وهما طرف ��ا العني‪ ،‬مما يلي الأنف‪،‬‬
‫وم ��ن اللحاظني‪ ،‬وهما طرفا العني‪ ،‬مما يل ��ي ال�صدغ‪ .‬ويف احلقيقة‬

‫‪59‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�أن ه ��ذا التعرق هو عملية تربيد ف�سيولوجية‪ ،‬يقوم بها اجل�سم كردة‬
‫فعل للحمى ال�شديدة‪ ،‬التي ت�صيبه فج�أة‪.‬‬
‫ويف قوله‪:‬‬
‫َك َ�أ ّنا عاكِفانِ َعلى َحرا ِم‬ ‫�إذا ما فا َر َقتني َغ َّ�سلَتني‬
‫�ص ��ورة عجيبة ت ��دل على غزارة الع ��رق‪ ،‬حيث �شبه ��ه بالغ�سل‬
‫م ��ن اجلنابة‪� .‬أم ��ا اخت�صا�صها باحلرام‪ ،‬فهذا م ��ن روائع �صور �أبي‬
‫الطي ��ب‪ ،‬وك�أنه يريد �أن ينتقم من هذه الزائرة الثقيلة‪ ،‬التي ال ت�أتيه‬
‫�إال خل�سة‪ ،‬وقد هجع النيام‪.‬‬
‫و�ضف ��اف الني ��ل كانت وال ت ��زال موط ًنا من املواط ��ن ال�شهرية‬
‫خ�صو�صا نوع (‪ ،((()P. Vivax‬وذلك لتوفر الرطوبة‬ ‫ً‬ ‫حلمى املالريا‬
‫العالية ودرج ��ة احلرارة املرتفعة‪ ،‬وهما عام�ل�ان حا�سمان يف توفر‬
‫البيئة املنا�سبة‪ ،‬لتكاثر البعو�ض الذي ينقل طفيل املالريا‪.‬‬
‫والذي يت�ضح من �سياق الأبيات‪ ،‬ومن معرفة �سرية �أبي الطيب‬
‫املتنب ��ي‪� :‬أن احلم ��ى التي �أ�صابت ��ه �إ َّبان �إقامت ��ه يف م�صر لي�ست من‬
‫الن ��وع اخلطري‪ ،‬الذي يت�سبب يف �أغلب الوفيات من املالريا‪ ،‬وهو نوع‬
‫الفال�سيربم (‪ ،)P. Falciparum‬بل هو �أحد الأنواع الأربعة الأخرى‪،‬‬
‫الت ��ي ت�سبب حمى مزمنة‪ ،‬ي�صاحبها �صداع متكرر‪ ،‬و�آالم مربحة يف‬
‫الع�ضالت واملفا�صل‪ ،‬حيث ت�ستمر هذه الأعرا�ض لعدة �أ�شهر‪ ،‬بنمط‬
‫حمدد‪ ،‬ووترية متناق�صة كما �سي�أتي تف�صيله بعد قليل‪.‬‬
‫‪(1) http://www.cdc.gov/malaria/new_info/2014/malariaegypt.htm‬‬

‫‪60‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫ج‪� :‬إ�ضاءات طبية‬


‫(((‬

‫املالري ��ا ه ��ي مر� ��ض مع � ٍ�د‪ ،‬ي�سبب ��ه كائ ��ن طفيل ��ي‪ ،‬ي�سم ��ى‬
‫البالزمودي ��وم‪ ،‬ينتقل عن طري ��ق بعو�ضة الأنوفيلي� ��س‪ ،‬التي حتقن‬
‫الطفي ��ل يف جم ��رى ال ��دم‪ ،‬لينتقل مبا�ش ��رة �إلى الكب ��د‪ ،‬حيث ينمو‬
‫ويتكاثر دون �أن ي�شعر امل�صاب ب�أي عر�ض‪.‬‬
‫بعد ذلك يت�سلل هذا الطفيلي داخل كريات الدم احلمراء‪ ،‬حيث‬
‫ينق�سم �إل ��ى �أق�سام عديدة‪ ،‬ت�ؤدي �إلى انفج ��ار خاليا الدم احلمراء‪،‬‬
‫و�إفراز الطفيليات‪ ،‬وما ي�صاحبها من �سموم �إلى جمرى الدم مبا�شرة‪.‬‬
‫ت�ستثري ه ��ذه العملية جهاز املناعة‪ ،‬فيق ��وم برفع درجة حرارة‬
‫اجل�سم ملقاومة هذا الطارئ الغريب‪ ،‬وي�شعر وقتها املري�ض باحلمى‬
‫ال�شديدة‪.‬‬
‫وما �أن تنتهي هذه العملية حتى تعود حرارة اجل�سم �إلى معدلها‬
‫الطبيع ��ي‪ ،‬ورمبا نق�ص ��ت �أحيا ًنا عن املعدل‪ ،‬فيح� ��س املري�ض وقتها‬
‫بال�ب�رد والرع�ش ��ة ال�شديدة‪ ,‬ومن هن ��ا �سمتها الع ��رب بالربداء(((‪.‬‬
‫‪(1) http://www.who.int/mediacentre/factsheets/fs094/ar/‬‬
‫الربع‪ ،‬وذاك �أنها ت�صيب املري�ض‬
‫((( من امل�سميات الأخرى حلمى املالريا عند العرب‪ :‬حمى ِ‬
‫يوما ثم ترتكه يومني‪ ،‬وتعود �إليه يف اليوم الرابع‪ .‬قال ال�شنفرى يف المية العرب‪:‬‬
‫ً‬
‫و�إلف هموم ما تزال تعوده عيادًا كحمى الرِبع �أو هي �أثقل‬

‫‪61‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وي�ساه ��م التع ��رق يف تربيد اجل�س ��م‪ ،‬وين�ش�أ كردة فع ��ل ف�سيولوجية‬
‫لنوبة احلمى املفاجئة‪.‬‬
‫تعود هذه العملية بجميع �أطوارها على �شكل دورات منتظمة يف‬
‫�أوق ��ات حمددة‪ ،‬كل يومني �أو ثالث ��ة �أو �أربعة �أيام‪ ،‬بح�سب نوع طفيل‬
‫املالريا‪.‬‬
‫وم ��ن الأعرا� ��ض ال�شائعة الت ��ي ت�صيب جمي ��ع مر�ضى املالريا‬
‫تقري ًب ��ا ال�ص ��داع املتك ��رر والإره ��اق ال�شدي ��د‪ ،‬ال ��ذي ي�صاحبه �أمل‬
‫م�ستمر يف الع�ضالت‪.‬‬
‫وقد ت�سبب املالريا �أنيميا حادة ب�سبب تك�سر خاليا الدم داخل‬
‫الأوعي ��ة الدموي ��ة (‪ .)Intravascular hemolysis‬ولذل ��ك غال ًبا ما‬
‫يعرتي املري�ض �شحوب �شديد ب�سبب فقر الدم‪.‬‬
‫وبالإ�ضافة �إلى ذلك‪ ،‬قد ت�ؤدي املالريا �إلى نق�ص �شديد يف �صفائح‬
‫ال ��دم‪ ،‬مما يجعل النزيف خط ًرا حمق ًقا على احلياة‪ .‬ويجدر بالذكر �أن‬
‫نق�صان ال�صفائح �أحد النذر الأولية‪ ،‬التي تدل على �شدة املالريا‪.‬‬

‫�أنواع املالريا‪:‬‬

‫تنق�سم املالريا بح�سب خطورتها على حياة املري�ض �إلى نوعني‬


‫رئي�سني‪:‬‬

‫‪62‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫‪ -1‬مالري���ا خط�ي�رة‪ ،‬وهي مر� ��ض فتاك يهدد حي ��اة �أكرث من‬
‫ملي ��ون �إن�س ��ان �سنو ًّيا ي�سببه ن ��وع الفال�سي�ب�رم (‪،)P. Falciparum‬‬
‫وه ��و النوع ال�سائد يف �أفريقيا‪ ،‬ويف �أج ��زاء من اجلزيرة العربية(((‪.‬‬
‫ت�ستم ��ر ح�ضانة هذا الطفيلي من �أ�سبوع �إلى ثالثة �أ�سابيع بعد لدغة‬
‫البعو�ضة‪ ،‬لتبد�أ بعدها �أعرا�ض املالريا ب�شكل حاد‪ ،‬على هيئة �صداع‬
‫وحمى �شديدة‪ ،‬وقد تتطور ب�شكل �سريع �إلى مالريا ع�صبية ت�ؤثر على‬
‫املخ واجلهاز الع�صب ��ي (‪ )Cerberal malaria‬يف حال عدم العالج‪،‬‬
‫�أو عند من يعانون �ضع ًفا يف جهاز املناعة‪.‬‬
‫ويف مراحله الأخرية يتحول املالريا �إلى مر�ض عام‪ ،‬ي�ؤدي �إلى‬
‫ف�ش ��ل يف وظائ ��ف �أع�ضاء اجل�س ��م املختلفة‪ :‬كالكل ��ى والكبد وجهاز‬
‫التنف� ��س‪ ،‬وم ��ن ثم الوف ��اة‪ .‬ول ��ذا ت�أتي �أهمي ��ة الت�شخي� ��ص املبكر‪،‬‬
‫والتدخل العالجي ال�سريع قبل تطور احلالة املر�ضية‪.‬‬
‫كابو�سا حقيق ًّيا يف الأو�ساط الطبية‪،‬‬
‫وهذا النوع بالذات ميث ��ل ً‬
‫�إذ توجد منه حاالت مقاومة مل�ضادات املالريا املتوفرة حال ًيا‪.‬‬
‫‪ -2‬مالري���ا حمي���دة‪ ،‬وهي عبارة عن حم ��ى مزمنة‪ ،‬قد ت�ستمر‬
‫�أك�ث�ر من ثالثة �أ�شه ��ر‪ ،‬ي�صاحبها �آالم يف املفا�ص ��ل و�صداع متكرر‪،‬‬
‫وق ��د ت�ؤدي �إلى فق ��ر دم حاد ب�سبب تك�سر ال ��دم‪ .‬ويتميز هذا النوع‬

‫((( خمت�صر تاريخ الطب العربي (‪.)215 -191/1‬‬

‫‪63‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ب� ��أن الفرتة بني دورات احلمى �أط ��ول قليلاً من النوع ال�سابق‪� ،‬إذ قد‬
‫ت�صل �إلى �أربعة �أيام‪ .‬وهذه احلمى ت�سببها الأنواع الأخرى من طفيل‬
‫املالري ��ا وه ��ي (‪،)P.Vivax، P. Knowlesi، P.Ovali، P.Malari‬‬
‫والتي تنت�شر يف �أفريقيا و�آ�سيا و�أمريكا اجلنوبية‪.‬‬
‫وبع� ��ض هذه الأنواع يتميز بوجود طور كامن يف الكبد قد ي�ؤدي‬
‫�إل ��ى رج ��وع املر�ض بعد مدة طويل ��ة‪ ،‬ولذا ال يقبل الت�ب�رع بالدم من‬
‫�إن�سان ثبت عنده الإ�صابة باملالريا ولو مرة واحدة‪.‬‬

‫الوقاية من املالريا‪:‬‬

‫تتخذ عملية الوقاية من املالريا م�سارين رئي�سني‪:‬‬


‫‪ -1‬ال�صعي����د املجتمع����ي‪ :‬يجب مكافحة البعو�ض بردم وجتفيف‬
‫امل�ستنقعات املوبوءة‪ ،‬واحلر�ص على و�ضع ال�شبابيك �ضيقة الفتحات‬
‫على النوافذ والأبواب‪ ،‬خ�صو�صا يف فرتة ما قبل الفجر‪ ،‬فهي الفرتة‬
‫التي تن�شط فيها بعو�ضة الأنوفيلي�س‪ .‬كما ينبغي زيادة الوعي ال�صحي‬
‫بني �أفراد املجتمع ب�أهمية تكامل اجلهود يف مكافحة املالريا‪.‬‬
‫بالإ�ضافة �إلى ذلك‪ ،‬يجب على الأطباء الت�أكد من توفر الأدوية‬
‫الالزمة لع�ل�اج املالريا‪ ،‬ورفع درجة اال�شتب ��اه يف �إ�صابة �أي مري�ض‬
‫قادما من منطقة موبوءة‪.‬‬ ‫باحلمى‪ ،‬ال �سيما �إذا كان ً‬

‫‪64‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫‪ -2‬ال�صعي���د الف���ردي‪ :‬يج ��ب عل ��ى الأفراد جتن ��ب ال�سفر �إلى‬
‫مناط ��ق املالريا قدر الإمكان‪ ،‬ويف حال ال�سفر ينبغي �أخذ امل�ضادات‬
‫املنا�سب ��ة للمالريا واال�ستم ��رار عليها يف �أثناء ال�سف ��ر‪ ،‬وبعد العودة‬
‫ملدة �أربعة �أ�سابيع‪ ،‬لأن فرتة احل�ضانة قد ت�ستمر كل هذه املدة‪.‬‬
‫كم ��ا يجب اتخاذ جميع الو�سائ ��ل املتاحة لتجنب لدغ البعو�ض‪،‬‬
‫كارتداء مالب�س ذات �أكمام طويلة تغطي الذراعني‪ ،‬ولب�س اجلوارب‬
‫التي تغطي ال�ساقني‪ ،‬وا�ستخدام املراهم الطاردة للبعو�ض‪.‬‬
‫وم ��ن الأخط ��اء ال�شائع ��ة الت ��ي يرتكبه ��ا بع� ��ض امل�سافري ��ن �إلى‬
‫املناط ��ق املوب ��وءة باملالريا‪� ،‬أن ي�ت�رك االحتياطات الوقائي ��ة بعد مرور‬
‫م ��دة م ��ن الوقت ظ ًّنا من ��ه �أن ج�سمه ق ��د اكت�سب مناعة �ض ��د املالريا‪،‬‬
‫مث ��ل ال�س ��كان املحلي�ي�ن‪ .‬وه ��ذا خط�أ ج�سي ��م كث�ي� ًرا ما كل ��ف الرحالة‬
‫حياته ��م‪ ،‬لأن املناع ��ة الدائمة �ضد املالري ��ا ال تكت�سب به ��ذه ال�سرعة‪،‬‬
‫وامن ��ا تن�ش� ��أ ع�ب�ر الوراث ��ة‪ ،‬حي ��ث تت�أقل ��م خالي ��ا ال ��دم ع�ب�ر �أجي ��ال‬
‫عدي ��دة ملن ��ع طفيل املالريا من دخ ��ول خلية الدم‪ .‬وه ��ذا التكيف ي�أخذ‬
‫امناط ��ا عديدة‪ ،‬كتح ��ور بع�ض اخلاليا ب�سب ��ب وراثة الأنيمي ��ا املنجلية‬ ‫ً‬
‫(‪� ،)Sickle cell trait‬أو ب�سب ��ب نق�صان بع�ض الإنزميات يف خاليا الدم‬
‫احلمراء‪ ،‬مثل ‪� ،G6PD‬أو بع�ض امل�ستقبالت‪ ،‬مثل ‪.Duffy blood group‬‬
‫�أم ��ا املناعة امل�ؤقتة فتكت�سب عادة بعد الإ�صابة باملالريا‪ ،‬ثم ما‬
‫تلبث �أن تزول مبجرد �أن يفارق املرء مناطق املالريا‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫د‪ :‬متالزمة املتنبي‬


‫(((‬

‫يق�ص ��د به ��ا جمموعة �أعرا� ��ض نف�سية و�سلوكي ��ة‪ ،‬ت�شكل ً‬
‫منطا‬
‫نف�س ًّيا مميزً ا لفئة خم�صو�صة من العباقرة الع�صاميني‪ ،‬التي يتوفر‬
‫فيها �شرطان �أ�سا�سيان‪:‬‬
‫‪ -1‬موهبة خارقة‪ ،‬تقرتن مع طموح يجاوز عنان ال�سماء‪.‬‬
‫‪ -2‬ن�ش�أة يف و�ضع اجتماعي بئي�س‪ ،‬يجمع بني فقر بالغ ومكانة متدنية‪.‬‬
‫وق ��د تختلف طبائ ��ع ه� ��ؤالء بح�سب عوام ��ل الوراث ��ة وظروف‬
‫احلياة‪ ،‬لكن غال ًبا ما ي�شرتكون يف ال�سمات ال�شخ�صية التالية‪:‬‬
‫� اً‬
‫أول‪ :‬ال�شك املفرط فيما يحيط بهم‪ ،‬وعدم الثقة يف �أحد‪ ،‬مما‬
‫ي� ��ؤدي بهم �إلى �إعالء قيم الفردية‪ ،‬والتخلي عن روح اجلماعة‪ .‬وقد‬
‫بلغت هذه ال�صفة عند �أبي الطيب منتهاها‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫و�صرت �أ�شك فيمن �أ�صطفيه لعلمـ ــي �أنـ ــه بعـ�ض الأنــام‬
‫فه ��و ي�ش ��ك حت ��ى يف �أحبابه املقرب�ي�ن‪ ،‬ملجرد �أنه ��م من جملة‬
‫اخلل ��ق‪ .‬وه ��ذه ال�صف ��ة مقيتة ج� � ًّدا يف عل ��م الإدارة‪ ،‬لأنه ��ا تقو�ض‬
‫متاما من ح�سابات املدير امل�صاب‬ ‫عملي ��ة التفوي�ض برمتها‪ ،‬وتلغيها ً‬
‫((( عذ ًرا �أبا الطيب‪ ،‬فلم �أجد �أوفى من �سريتك‪ ،‬لبيان هذه املتالزمة املبتكرة!‬

‫‪67‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫مبتالزم ��ة املتنبي‪ ،‬فيميل �إلى احتكار ال�سلطة‪ ،‬وفر�ض الر�أي‪ ،‬وعدم‬
‫الأخ ��ذ بالن�صيح ��ة‪ .‬وما يلبث النا� ��س �أن يت�ألبوا �ض ��ده‪ ،‬ورمبا كاده‬
‫توج�سا و�ش ًّكا‪.‬‬
‫بع�ضهم‪ ،‬فتت�أكد ظنونه امل�سبقة‪ ،‬ويزداد ً‬
‫خ�صو�ص ��ا فيما مي�س‬
‫ً‬ ‫ثانيً���ا‪ :‬احل�سا�سي ��ة الزائدة م ��ن النقد‪،‬‬
‫ذواته ��م‪� ،‬أو عند الت�شكيك بقدراتهم‪ ،‬لدرج ��ة �أن يثور �أحدهم لأمر‬
‫ي ��راه غريه عاد ًّي ��ا‪ ،‬ويقوم ب ��ردود �أفع ��ال ال تنتا�سب �أب ��دً ا مع حجم‬
‫الإ�س ��اءة الت ��ي تعر�ض لها‪ .‬ومن امللف ��ت للنظ ��ر �أن ردود الأفعال ال‬
‫تتوجه مبا�شرة لل�شخ�ص امل�سيء‪ ،‬بل تركز على ت�ضخيم الأنا‪ ،‬ب�شكل‬
‫مبالغ فيه‪� .‬أمل تر �أن املتنبي حني �أ�ساء له ح�ساده مل يهج �أحدً ا منهم!‬
‫و�إمنا ثار يف وجه �سيف الدولة‪:‬‬
‫ي���ا �أع�����دل ال��ن��ا���س �إال يف خما�صمتي‬
‫فيك اخل�صام و�أن���ت اخل�صم واحلكم‬
‫ثم فخر بنف�سه فخ ًرا‪ ،‬ال يدع قولاً خل�صم وال حلكم‪:‬‬
‫���س��ي��ع��ل��م اجل���م���ع مم���ن ���ض��م جمل�سنا‬
‫ب�����أن����ن����ي خ��ي��ر م�����ن ت�������س���ع���ى ب�����ه ق����دم‬
‫فلما �أح�س �أنه قد انت�صف لنف�سه هد�أت ثائرته‪:‬‬
‫�إن ك������ان ����س���رك���م م����ا ق������ال ح��ا���س��دن��ا‬
‫ف�����م�����ا جل���������رح �إذا �أر��������ض�������اك�������م �أمل‬

‫‪68‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫وه� ��ؤالء يتمتع ��ون بح� ��س مرهف ومب�شاع ��ر جيا�ش ��ة جتاه من‬
‫يحبونهم‪ ،‬ولكنهم يخ�شون التعبري عن هذه امل�شاعر خ�شية �أن يح�س‬
‫النا�س ب�ضعفهم‪ ،‬فيتجر�ؤون عليهم‪.‬‬
‫ثالثً���ا‪ :‬روح العج ��ب والتع ��ايل الذي يبل ��غ حد الغ ��رور‪ ،‬ويرفع‬
‫النف�س عن م�ستوى الب�شرية‪:‬‬
‫مت����ر�����س����ت ب�������الآف�������ات ح����ت����ى ت���رك���ت���ه���ا‬
‫ت���ق���ول �أم�������ات امل������وت �أم ذع�����ر ال���ذع���ر‬
‫ويف احلقيق ��ة �أن ه ��ذه ال ��روح املتعالي ��ة‪ ،‬تخفي خلفه ��ا هيكلاً‬
‫ه�شا‪ ،‬وغالبا ما تكون غط ��ا ًء لعقد املتالزمة الثالث‪ :‬الفقر‪،‬‬ ‫داخل ًّي ��ا ًّ‬
‫واالحتقار‪ ،‬والت�سلط‪.‬‬
‫و�سرعان ما تتحول �إلى اكتئاب حاد حال الإخفاق‪:‬‬
‫نـج ــاة �أو �أذاة �أو هــال ًك ــا‬ ‫و�أنى �شئت يا طرقي فكوين‬

‫التعامل الأمثل مع متالزمة املتنبي‪:‬‬

‫ال �أجد �أمثل من قول �أبي الطيب نف�سه‪:‬‬


‫كنق�ص القادرين على التمام‬ ‫ومل �أر يف عيــوب النا�س �ش ــي ًئا‬

‫‪69‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�إن �أعلى درجات الإجناز هو ما ولد من رحم امل�ستحيل‪ ،‬و�أعلى‬


‫درجات النجاح ه ��و ما اقرتن فيه الإجناز العظيم‪ ،‬مع توازن �أعظم‬
‫بني ذات الإن�سان وعالقاته‪.‬‬
‫والت ��وازن بني الذات والعالقات‪ ،‬هو �أه ��م ما ينق�ص امل�صابني‬
‫مبتالزم ��ة املتنبي‪ ،‬ولتحقيق قدر مقبول م ��ن هذا التوازن‪ ،‬ال بد من‬
‫اخل�ض ��وع لعالج مع ��ريف و�سلوكي‪ ،‬يركز بالدرج ��ة الأولى على تغيري‬
‫املفاهيم والت�صورات اخلاطئة‪ ،‬وغر�س مفاهيم و�سلوكيات �صحيحة‪.‬‬
‫وم ��ن الأهمية مبكان‪� ،‬أال ي�ستنكف �أي واحد من ه�ؤالء عن هذا‬
‫الع�ل�اج‪ ،‬حتى ل ��و كان ب�صورة فردي ��ة‪ ،‬عن طريق الكت ��ب والربامج‬
‫احلا�سوبي ��ة املتخ�ص�صة يف هذا ال�ش�أن‪ .‬لأن ا�ستمرار النجاح منوط‬
‫بتحقيق هذا التوازن‪.‬‬
‫وهن ��ا �أربع قواعد ذهبية‪ ،‬ينبغي �أن يعيها كل من لديه قدر من‬
‫متالزمة املتنبي‪:‬‬
‫‪ -1‬املواق ��ف ال�سلبية التي تعر�ضت لها يف �صب ��اك‪ ،‬مل يعد يتذكرها‬
‫�أحد �سواك‪ ،‬فال تذهب نف�سك عليها ح�سرات‪ ،‬و�إن ا�ستطعت �أن‬
‫تتذكرها مب�شاعر حمايدة فافعل‪.‬‬
‫‪ -2‬خمال ��ب الفق ��ر الغائرة‪ ،‬الت ��ي ن�شبت يف قلب الطفول ��ة الغ�ض‪ ،‬ال‬
‫يداوي �أثرها امل ��ال ولو كرث‪ ،‬وال مظاهر البذخ ولو عظمت‪ .‬و�إمنا‬

‫‪70‬‬
‫يبنتملا ةرئاز ‪:‬يناثلا لصفلا‬

‫يداويه ��ا البذل والعطاء ب�شت ��ى �صورهما احل�سي ��ة واملعنوية‪ ،‬من‬
‫ابت�سام ��ة‪� ،‬إلى كلمة طيبة‪ ،‬فهدية خفية‪ ،‬ث ��م �صدقة ال يتبعها منٌّ‬
‫وال �أذى‪ .‬و�سرعان ما تتحول هذه اجلروح الغائرة التي كانت تقيح‬
‫حقدًا و�أملـًا �إلى موارد �صافية‪ ،‬متد الروح مبا يقويها وي�شد �أزرها‪.‬‬
‫‪ -3‬الو�ض ��ع االجتماعي البئي�س‪ ،‬ال يت�سبب فيه فرد‪ ،‬بل وال طبقة من‬
‫طبق ��ات املجتم ��ع‪� ،‬إذ هو خل ��ل يف منظومة اجتماعي ��ة متكاملة‪،‬‬
‫ف�ل�ا معنى �إذن لالنتقام من فرد �أو م ��ن طبقة‪ ،‬بل ينبغي العمل‬
‫اجلماعي‪ ،‬لت�صحيح م�سار هذه املنظومة‪.‬‬
‫‪ -4‬العالق ��ات التي تبنى عل ��ى امل�شاعر وحدها �سرعان ما تنقلب مع‬
‫تغ�ي�ر العاطفة‪ ،‬و�إمنا ت ��دوم العالقة املبنية عل ��ى ح�سن التعامل‬
‫والتق ��اء امل�صال ��ح‪ .‬ف� ��إذا �أردت دوام العالق ��ة فاجعلها مربحة‬
‫للطرفني‪ ،‬واحذر فلتات الل�سان‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫ابن الرومي‬
‫النزف يغتال وا�سطة العقد‬

‫‪73‬‬
‫��������������������������‬

‫�أ‪ :‬ق�صة ابن الرومي‬


‫(((‬

‫ح�سن ��ة بنت عبداهلل(((‪ ،‬وق ��د �أ�سبلت عينيه ��ا‪ ،‬ف�أوقفت َن َف َ�سها‬
‫قلي�ًل�اً ‪ ،‬لئال تنفث زفرة حرى‪ ،‬توق ��ظ �صبييها النائمني على ذراعها‬
‫الي�س ��رى‪ .‬مل حتتم ��ل طوي�ًل�ااً ‪ ،‬فقام ��ت ت ��دور يف بيته ��ا ال�ضيق‪ ،‬لعل‬
‫خطواتها املتثاقلة �أن تخفف عنها �شي ًئا من حرارة جوفها‪.‬‬
‫ي ��ا اهلل! م ��ا �أق�سى لوعة الأ�س ��ى‪ ،‬وم�ض�ض الفق ��د‪� ،‬إذا اقرتنت‬
‫برعب اخلوف من م�صري جمهول يف قلب �أرملة غريبة‪.‬‬
‫م ��ات العبا�س‪ ،‬وماتت معه �أزاهري احلب‪ ،‬الذي جمع بني الروم‬
‫والفر� ��س يف بالد العرب‪ .‬مات رفيق الغربة و�أني�س الوح�شة‪ ،‬وانقطع‬
‫مع ��ه �سبب الرزق من ق�صور مواليه بن ��ي العبا�س‪ ،‬فمن �سيدري بعد‬
‫أيتاما ملولى رومي؟‬
‫اليوم عن غريبة فار�سية تعول � ً‬
‫�أو�شكت ح�سنة على االنهيار‪ ،‬وهي تت�أمل يف ولديها ال�صغريين‪:‬‬
‫جعف ��ر وعلي‪ ،‬وقد ناما ملء جفونهما‪� .‬أ�سندت ظهرها �إلى احلائط‪،‬‬
‫ثم هوت �إلى الأر�ض ودخلت يف نوبة بكاء مريرة‪.‬‬

‫((( لال�ستزادة‪ ،‬انظر‪ :‬ابن الرومي‪ ،‬حياته من �شعره‪ ،‬لعبا�س حممود العقاد‪.‬‬
‫((( والدة ال�شاعر علي ابن الرومي‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫انقطع بكا�ؤها فج�أة! ثم �صرخت �صرخة الغريق يف وجه املوجة‬


‫الهائج ��ة‪ ،‬التي تكاد تبتلعه‪ ،‬ومن يدري لعل �أ�سارير البحر �أن تنفرج‬
‫عن ق�شة تو�صله �إلى بر الأمان‪.‬‬
‫متا�سك ��ت قليلاً ‪ ،‬وجفف ��ت م�آقيها‪ ،‬و�سكن ��ت �أنفا�سها املتتابعة‪،‬‬
‫فانطل ��ق �صوت العقل خافت ��ا‪ :‬لي�س الأمر كما تظن�ي�ن‪ ،‬فالبذرة التي‬
‫تنبت بعد حريق احلقل تكون �أكرث ن�ضارة و�أ�صلب عودًا‪ ،‬وال�صخرة‬
‫الت ��ي تقف يف وجه ال ّأتي((( حال �شدة اندفاعه‪ ،‬ينك�سر عنها ال�سيل‪،‬‬
‫وقد رفدها مبا ي�شد �أزرها‪.‬‬
‫وهك ��ذا م�ضت الأي ��ام الأولى على ح�سنة بعد وف ��اة زوجها بني‬
‫حزن وجتمل‪:‬‬
‫والدمع بينهما ع�صي طيع‬ ‫احلزن يقلق والتجمل يردع‬
‫(((‬
‫هذا يجيء بها وهذا مينع‬ ‫يتنازعان دمــوع عني م�سهد‬
‫ر�أت ح�سنة �أن غاية الوفاء حلبيبها الراحل �أن تقف نف�سها على‬
‫رعاي ��ة ثمرة احلب بينهما‪ .‬ا�ستجمع ��ت قواها‪ ،‬وعقدت عزمها على‬
‫�أن تك ��ون لهم �أ ًّم ��ا و�أ ًبا‪ ،‬و� ًأخ ��ا �صدي ًقا يف الوقت ذات ��ه‪ ،‬وما داما يف‬
‫حياتها كل �شيء‪ ،‬فلتكن هي يف حياتهم كل �شيء � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫((( الأتي‪ :‬هو ال�سيل القادم من بعيد يف اندفاع و�شدة‪.‬‬
‫((( البيت والذي قبله‪ ،‬لأبي الطيب املتنبي‪ ،‬انظر‪� :‬شرح الربقوقي (‪.)9 /3‬‬

‫‪76‬‬
‫��������������������������‬

‫كان جعف ��ر �آن ��ذاك �صب ًّيا ممي ��زً ا‪� ،‬أما علي فق ��د كان يف املهد‬
‫ر�ضي ًعا‪ .‬وبحزم الأب ر�سمت م�ستقبل �أوالدها‪ ،‬وق�سمت الأمر بينهما‪،‬‬
‫فجعفر الكت�ساب العي�ش‪ ،‬وعلي لطلب العلم‪.‬‬
‫وبتوج� ��س الغريب �أحاطت نف�سه ��ا و�أوالدها ب�سياج من العزلة‪،‬‬
‫فن�ش� ��أ علي هاد ًئ ��ا ودي ًعا‪ ،‬مييل �إل ��ى اللعب مع نف�سه وحي ��دً ا‪ ،‬وينفر‬
‫من اخللطة‪ ،‬وي�أب ��ى امل�شاركة‪ ،‬ويزعجه كل عمل جاد‪ ،‬بخالف �أخيه‬
‫الأك�ب�ر‪ ،‬ال ��ذي �ألب�سته احلاجة رداء العمل الغلي ��ظ‪ ،‬وملا يخلع العمر‬
‫عنه �إهاب الطفولة بعد‪.‬‬
‫مل يج ��اوز علي حمى البيت‪ ،‬ومل يختلط بالنا�س عن كثب‪ ،‬حتى‬
‫دخل الكتّاب لتعلم الق ��راءة واحل�ساب‪ ،‬وحتى يف هذه املرحلة كانت‬
‫�أمه احلازمة ت�أخذ بيده جيئة وذها ًبا‪ ،‬وعذرها يف ذلك ف�ساد النا�س‪.‬‬
‫حف ��ظ علي القر�آن‪ ،‬وحذق العربي ��ة‪ ،‬ونظم ال�شعر‪ ،‬حتى عرفه‬
‫النا� ��س باب ��ن الروم ��ي‪ .‬وم ��ا �أن �شب عن الط ��وق‪ ،‬حتى مت ��رد على‬
‫كل �ش ��يء! �أخ ��ذ امل ��ال من �أخيه و�أم ��ه و�أنفقه يف كل وج ��ه‪ .‬فاجتمع‬
‫ل ��ه الأ�صحاب كما يجتم ��ع القطا على م�شرع امل ��اء العذب غداة يوم‬
‫قائظ‪ ،‬وتتبع القيان ين�شد و�صالهن‪ ،‬وينظم فيهن ال�شعر‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫مل يك ��ن خب ًريا بجمع املال‪ ،‬و�إمنا كان ب�ص�ي ً�را ب�إنفاقه‪ ،‬ف�أتلف‬
‫ذات ي ��ده‪ ،‬و�أمل ��ق �أمال ًقا �شدي ��دً ا‪ ،‬وعندها علم �أن وف ��اء الأ�صحاب‬
‫�سراب‪ ،‬و�أن و�صل الغانيات برق ُخ ّلب(((‪ ،‬فنطق ال�شعر على ل�سانه‪:‬‬
‫ال�صحابِ‬ ‫فال ت�ستكرث َّن م���ن ِّ‬ ‫عدوك من �صديقك م�ستفاد‬
‫يحول من الطعام �أو ال�شراب‬ ‫ف������إن ال�������دا َء �أك ُ‬
‫���ث��ر م���ا ت����را ُه‬
‫ُمبينً���ا‪ ،‬والأم���و ُر �إل���ى انقالبِ‬ ‫ُ‬
‫ال�صديق غدًا عد ًّوا‬ ‫انقلب‬
‫�إذا َ‬
‫ري من ال�صوابِ‬ ‫ُم�صاحبة الكث ِ‬ ‫طيب كانتْ‬ ‫ري َي ُ‬ ‫ولو كان الكث ُ‬
‫وتلقى ال ِّريّ يف ال ُّن َطفِ العِذابِ‬ ‫مب��روي��اتٍ‬‫وم��ا ال�� ُّل َ��ج�� ُج املِ�ل�ا ُح ُ‬

‫مل تك ��ن جتربت ��ه الأولى جترب ��ة العاقل الب�ص�ي�ر‪ ،‬الذي يدرك‬
‫موا�ضع خطئه‪ ،‬و�إمنا جتربة الر�ضيع‪ ،‬الذي َو َ�ضع املر يف فمه‪ ،‬فعاف‬
‫لنب �أمه‪.‬‬
‫مل تكن يف احلقيقة �سوى مترد �أهوج على �سلطة من فكر عنه‪،‬‬
‫وقرر اً‬
‫بدل منه‪ ،‬وحرمه متعة التجربة‪.‬‬
‫ف�شلت التجرب ��ة الأولى ف�شلاً ذري ًعا‪ ،‬فانكف� ��أ ابن الرومي على‬
‫نف�س ��ه بعدها‪ ،‬وعاد �إلى عزلته الأول ��ى ميقت النا�س ويذمهم‪ .‬كانت‬
‫عزلته هذه املرة �شدي ��دة‪ ،‬فهي مبح�ض �إرادته � اًأول‪ ،‬ونا�شئة عن ردة‬
‫فعل حادة على جتربة مريرة ثان ًيا‪.‬‬
‫((( َب ْر ُق ُخ َّل ٍب ‪ :‬خادع‪ ،‬ال يتبعه مطر‪ ،‬ي�ضرب مثلاً ملن َي ِع ُد وال ُي ْن ِجز‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫��������������������������‬

‫�إن كل من يلج هذا الكهف‪ ،‬ويطيل املكث فيه‪� ،‬ستتمحور �أفكاره‬


‫حت ًم ��ا حول م�شاعره‪ ،‬وتت�ضخم �أخط ��اء الآخرين يف عينه‪ ،‬فال يغفر‬
‫لهم زلة‪ ،‬وال يتجاوز لهم عن �إ�ساءة‪.‬‬
‫وباملقاب ��ل يزداد تعلق ��ه بدائرة الأقارب الل�صيق ��ة‪ ،‬التي تتولى‬
‫�أم ��ره‪ ،‬وتكفيه م�ؤنة عي�شه‪ ،‬وفقد �أي واحد من ه�ؤالء يفجر يف نف�سه‬
‫بركا ًنا ال يخمد‪ ،‬ونار لظى ال تنطفئ‪.‬‬
‫وهكذا �صبغت العزلة حياة ابن الرومي و�شعره‪ ،‬فدار بني ح�س‬
‫مرهف‪ ،‬و�سخرية الذعة‪ ،‬ورثاء يقطع نياط القلوب‪.‬‬
‫كان هج ��ا�ؤه ر�س ًم ��ا �ساخ� � ًرا م ��ن احلي ��اة و�أهله ��ا‪ ،‬ورمبا هجا‬
‫الرجل‪ ،‬ف�أ�ضحكه على نف�سه‪:‬‬
‫وليـ ــ�س ببـاق وال خال ــد‬ ‫يقرت عي�سى على نف�سه‬
‫تنف�س من منخر واحد‬ ‫ولو ي�سـ ـ ــتطيع لتقتريه‬
‫يعتك ��ف يف بيته برهة م ��ن الدهر‪ ،‬ثم يخرج �إل ��ى ال�سوق‪ ،‬ف�إن‬
‫ر�أى �أع ��رج �أو �أعور ت�شاءم به وهجاه‪ ،‬ث ��م رجع �إلى بيته‪ .‬وخرج مرة‬
‫فعار�ضته جنازة‪ ،‬فجعل يهجو امليت‪ ،‬ويحر�ض منك ًرا ونك ًريا عليه!‬
‫مدح ��ا‪ ،‬خ�شية �أن‬
‫حتام ��ى النا� ��س ل�سانه‪ ،‬فلم يقب ��ل منه �أحد ً‬
‫ينقلب عليه هجاء �ساخ ًرا‪ ،‬فانقطعت �أ�سباب عي�شه‪ ،‬و�ساءت حالته‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�أم ��ا الرث ��اء فله �ش�أن �آخر عن ��د ابن الرومي‪ ،‬فامل ��وت ال ي�سلبه‬
‫قريب ��ه فح�سب‪ ،‬بل يزيد م ��ن ترديه يف كهف عزلت ��ه الكئيب‪ ،‬ويغلق‬
‫منفذا من منافذ النور �إلى الأبد‪.‬‬ ‫عليه ً‬
‫مت ��وت خالت ��ه‪ ،‬فيخيل �إلي ��ه �أن القيامة قد قام ��ت والأر�ض قد‬
‫بدلت‪ ،‬فكيف �إذا ماتت �أمه‪ ،‬التي كان يحيا بروحها‪:‬‬
‫�أف���ي�������ض���ا دمً������ا �إ َّن ال�����رزاي�����ا ل���ه���ا قِ��� َي��� ْم‬
‫ف��ل��ي�����س ك����ث��ي�رً ا �أن تجَ ُ ���������ودَا ل���ه���ا ِب�����د ْم‬
‫وال ت�����س�تري��ح��ا م���ن ُب���ك���اء �إل�����ى ك��� ًرى‬
‫فال حمد م��امل ُت�سعداين على ال�س�أم‬
‫رزي������ئ������ة �أ ٍّم ك����ن����تُ �أح�����ي�����ا ِب���� ُروحِ ����ه����ا‬
‫أ�ستك�شف ال ُغمم‬
‫ُ‬ ‫و�أ���س��ت��دف�� ُع ال��ب��ل��وى و�‬
‫تتابع ��ت على ف� ��ؤاده الأحزان‪ ،‬وفني �أقربا�ؤه واح ��دً ا تلو الآخر‪،‬‬
‫حتى �إذا بقي وحيدً ا‪ ،‬ا�ضطر للخروج من كهف عزلته‪ ،‬وتزوج‪ ،‬فرزق‬
‫ثالثة �صبية‪ ،‬كانوا بع ًثا لروحه‪ ،‬ور ًّيا لنف�سه‪ ،‬و�شفاء لقلبه‪.‬‬
‫وم ��ع �أن حممدً ا مل يكن �أكرب الأوالد‪� ،‬إال �أنه كان ريحانة الف�ؤاد‬
‫و�سل ��وة الروح‪ ،‬ولعل هذا يعود جلمال طلعته وحالوة ل�سانه‪� ،‬أو رمبا‬
‫لأنه ت�أخر يف امل�شي قليلاً فتعلق به والده ح ًّبا و�إ�شفا ًقا‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫��������������������������‬

‫�إن �ضم ��ة واحدة لريحانة قلبه تزي ��ل ما حلق بروحه من �ضنى‬
‫الفق ��د و�شجى الف ��راق‪ .‬لقد غري الطف ��ل ال�صغري نظ ��رة والده �إلى‬
‫م�سرحا للعب مع حممد‪،‬‬‫ً‬ ‫كل �ش ��يء‪ ،‬فالبيت مل يعد كه ًف ��ا للعزلة‪ ،‬بل‬
‫وال�س ��وق مل يعد جمم ًعا لأرباب اجل�ش ��ع والبخالء‪ ،‬بل متج ًرا لألعاب‬
‫حمم ��د‪ ،‬مل يعد ي�ضج ��ره ف�ضول النا�س وتطفله ��م على حياته‪ ،‬طاملا‬
‫�أنهم ي�س�ألون عن حممد‪.‬‬
‫و�أكرث من ذلك‪ ،‬مل يعد املجتمع مثا ًرا لل�سخرية ومو�ض ًعا للهجاء‪،‬‬
‫بل غ ��دا موئلاً لل�شفق ��ة والرثاء‪ .‬ت�سق ��ط الب�صرة ب�أي ��دي الزجن(((‪،‬‬
‫فريثيها من بغداد رثاء يدمي القلوب‪ ،‬ويحرك جيو�ش اخلالفة‪:‬‬
‫ذاد ع��������ن م����ق����ل����ت����ي ل������ذي������ذ امل�����ن�����ام‬
‫(((‬
‫���ش��غ�� ُل��ه��ا ع���ن���ه ب���ال���دم���وع ال���� ِّ���س���ج���ام‬
‫�أيُّ ن�����������و ٍم م�������ن ب�����ع�����د م�������ا ان���ت���ه���ك‬
‫ال����������ز ُ‬
‫جن جِ �������ه�������ا ًرا حم����������ار َم اال�����س��ل�ام‬
‫������ط������ ُع ال���ل���ي���ـ���لِ‬‫دخ�����ل�����وه�����ا ك������أن�����ه�����م ق َ‬
‫�إذا را َح ُمدْلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ��� َّم الظـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ�ل�ا ِم‬
‫(( ( ث ��ورة كا�سحة قامت �ضد الدولة العبا�سية‪ ،‬ابت ��د�أت �سنة ‪ 255‬هـ‪ ،‬ومتركزت حول مدينة‬
‫الب�صرة‪� .‬سميت بثورة الزجن‪ ،‬لأن عمادها كان الرقيق الأ�سود‪ ،‬الذي كان يعمل يف مزارع‬
‫الب�صرة‪ .‬ق�ضت عليها الدولة العبا�سية �سنة ‪ 270‬هـ بعد حروب م�ضنية وطويلة‪.‬‬
‫((( �سجم الدمع‪� :‬سال وتقاطر على اخلد‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�����ع ه�����ن�����اك ق������د ف���ط���م���وه‬


‫ك������م ر������ض�����ي ٍ‬
‫ِب���� َ���ش���ب���ا ال�����س��ي��ف ق���ب��� َل ِ‬
‫ح��ي��ن ال���ف���ط���ا ِم‬
‫ك�����م ف�����ت�����ا ٍة م���������ص����ون���� ٍة ق�����د � َ����س���� َب���� ْوه����ا‬
‫ب�����������������ارز وج��������هُ��������ه��������ا ب�������غ���ي���ر ل�������ث�������ا ِم‬
‫ان��������ف��������روا �أي�������ه�������ا ال���������ك���������را ُم خِ �����ف�����افً�����ا‬
‫�������ال �إل����������ى ال����ع����ب����ي����دِ ال َّ‬
‫�����ط�����غ�����ا ِم‬ ‫وث�������ق اً‬
‫خطى حممد خطواته الأولى‪ ،‬وقد غار منه حتى الورد‪ ،‬ف�أهداه‬
‫حمرت ��ه بني الفينة والأخ ��رى‪ .‬ازداد الأب به تعل ًقا وح ًّبا‪ ،‬ومل يدر �أي‬
‫هدية �أهداها الورد له‪.‬‬
‫خرج ذات غداة وق ��د ر ّوى نف�سه من �ضم حممد وتقبيله‪ ،‬فلما‬
‫ج ��اوز عتب ��ة الدار تبعه حممد فتع�ث�ر و�سقط‪� .‬أ�س ��رع �إليه واحتمله‪،‬‬
‫دما‪ .‬حاول �إيقاف الدم فلم ي�ستطع‪� ،‬صاح‬ ‫و�إذا �أنفه وركبتاه ت�سيالن ً‬
‫بالنا�س‪ ،‬فاجتمعوا له بني راق ومتطبب‪ ،‬فزاد الدم فورا ًنا‪ ،‬حتى ذوى‬
‫ال�صبي يف �أيديهم و�أبوه ينظر‪ ،‬غارت عيناه‪ ،‬وغابت حمرة الورد من‬
‫خديه‪ ،‬وحلت حملها �صفرة الزعفران‪.‬‬
‫حتول الرقاة �إلى موا�سني‪ ،‬والأطباء �إلى معزين‪ ،‬و�أبوه ال يغ�ضي‬
‫روحا ال حياة له بعدها‪.‬‬
‫عنه طرفة عني‪ ،‬وك�أمنا يودع ً‬

‫‪82‬‬
‫��������������������������‬

‫ي ��ا ملحمد! يا لنفحة ن�سيم باردة‪ ،‬هبت من تلقاء �سحابة �صيف‬


‫عار�ضة على روح من �ألهب الظم�أ جوفه يف هجري املفازة املهلكة‪.‬‬
‫كان حمم ��د �سب ًبا �أخرج �أب ��اه من غيابة اجلب‪ ،‬فلما بلغ �شفاها‬
‫انقط ��ع به فهوى‪ .‬مات حممد‪ ،‬ومات مع ��ه امل�ستقبل‪ ،‬كما مات قبله‬
‫املا�ضي‪:‬‬
‫ب��ك��ا�ؤ ُك��م��ا ي�����ش��ف��ي و�إن ك���ان ال ي��ج��دي‬
‫ف���ج���ودا ف��ق��د �أودى ن��ظ�يرك�� ُم��ا ع��ن��دي‬
‫����ي ال������ذي �أه�����دت����� ُه ك���� َّف����اي ل���ل�َّث�رَّ َ ى‬
‫ُب���� َن َّ‬
‫ف��ي��ا ع���� َّزة امل���ه���دى وي���ا ح�����س��رة امل��ه��دي‬
‫�أال ق�����ات�����ل اللهَّ ُ امل�����ن�����اي�����ا ورم����ي����ه����ا‬
‫م��ن ال��ق��و ِم َح�� ّب��ات ال��ق��ل��وب ع��ل��ى َع��م��دِ‬
‫���س���ط �صبيتي‬ ‫���وخ���ى حِ ��� َم���ا ُم امل����وت �أو� َ‬
‫ت َّ‬
‫ف��ل��ل��ه ك���ي���ف اخ����ت����ار وا����س���ط���ة ال��ع��ق��دِ‬
‫��ي�ر م���ن لمَ َ��ح��اتِ�� ِه‬
‫ع��ل��ى ح�ي�ن ���ش��م��تُ اخل َ‬
‫و�آن���������س����تُ م����ن �أف���ع���ال���ه �آي�������ة ال��� ُّر����ش���دِ‬
‫ط�����وا ُه ال����� َّردى ع�� ِّن��ي ف���أ���ض��ح��ى َم����� َزار ُه‬
‫ب���ع���ي���دًا ع��ل��ى ُق�����رب ق���ري���بً���ا ع��ل��ى ُب��ع��دِ‬

‫‪83‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ل���ق���د �أجن���������زتْ ف���ي���ه امل���ن���اي���ا وع���ي��� َده���ا‬


‫�������ال م���ا ك����ان م���ن وع���دِ‬ ‫و�أخ���ل��� َف���تِ الآم ُ‬
‫ل���ق���د ق����� َّل ب��ي�ن امل���ه���د وال��� َّل���ح���د ل��ب�� ُث�� ُه‬
‫ين�س عهد املهد �إذ �ض َّم يف ال َّلحدِ‬ ‫فلم َ‬
‫ت���ن��� َّغ���� َ���ص َق����ب���� َل ال��������� َّريِّ م�������ا ُء َح���ي���ات��� ِه‬
‫و ُف ِّ‬
‫�������ج������� َع م����ن����ه ب����ال����ع����ذوب����ة وال����ب����ر ِد‬
‫�أل��������� َّح ع���ل���ي���ه ال������ َّن ُ‬
‫������زف ح���ت���ى �أح�����ال����� ُه‬
‫�إل���ى ُ�صفرة اجل���اديِّ ع��ن ح��م��رة ال���ور ِد‬
‫وظ����� َّل ع��ل��ى الأي������دي ت�����س��اق��ط َن�� ْف��� ْ��س��ه‬
‫الق�ضيب من ال َّر ْندِ‬‫ُ‬ ‫ويذ ِوي كما يذوي‬
‫ع��ج��ب��تُ ل��ق��ل��ب��ي ك��ي��ف مل ي��ن��ف��ط�� ْر ل�� ُه‬
‫ول���و �أ َّن����� ُه �أق�����س��ى م���ن احل��ج��ر ال���َّ��ص��ل��دِ‬
‫ب�����������ودِّي �أين ك�����ن�����تُ ُق ْ‬
‫�������دم�������تُ ق���ب���ل��� ُه‬
‫و�أن امل��ن��اي��ا دُون������ ُه � َ���ص��� َم��� َدتْ � َ��ص��م��دِ ي‬
‫����ي ب���ع���ده‬ ‫و�إنيّ و�إن ُم����� ِّت�����ع�����تُ ب����اب����ن َّ‬
‫َل�����ذاك����� ُره م����ا ح���� َّن����تِ ال��� ِّن���ي ُ‬
‫���ب يف جن���دِ‬
‫و�أوالدن�����������������ا م�����ث����� ُل ا َ‬
‫جل���������������وارح �أ ُّي�����ه�����ا‬
‫ف��ق��دن��اه ك����ان ال��ف��اج��ع ال���� َب��ِّي�نِّ َ ال��ف��ق��د‬

‫‪84‬‬
‫��������������������������‬

‫�ين ب��ع�� َد ال��� َّ��س��م��ع تكفي مكان ُه‬ ‫ه���لِ ال��ع ُ‬


‫ني يهدي كما تهدي‬ ‫ال�سم ُع بعد الع ِ‬ ‫�أم َّ‬
‫َل��ع��م��ري ل��ق��د ح��ال��تْ ب َ���ي احل ُ‬
‫����ال ب��ع��د ُه‬
‫فيا ليتَ �شِ عري كيف حالتْ به بعدِ ي‬
‫�ين والأن������فِ واحل�����ش��ا‬ ‫�أ َري���ح���ان���ة ال�� َع��ي��ن ِ‬
‫هل تغيرَّ َت عن عهدي‬ ‫�أال ليتَ �شعري ْ‬
‫ك�������أين م����ا ا����س��� َت��� ْم��� َت���ع���تُ م���ن���ك ب��ن��ظ��رة‬
‫وال ُق��ب��ل��ة �أح���ل���ى م���� َذاقً����ا م���ن ال��� َّ��ش��ه��د‬
‫ك�������أين م����ا ا���س��ت��م��ت��ع��تُ م���ن���ك ب�����ض�� ّم��ة‬
‫وال ����ش��� َّم���ة يف م���ل���ع���بٍ ل����ك �أو م��ه��دِ‬
‫�أال ُم مل����ا �أُب���������دي ع���ل���ي���ك م����ن الأ�����س����ى‬
‫��اف م��ا �أب���دي‬ ‫و�إين لأخ��ف��ي م��ن��ه �أ���ض��ع َ‬
‫حم������ َّم������ ُد م������ا �������ش������ي ٌء ُت�������وهِّ�������م ����س���ل���وة‬
‫ل��ق��ل��ب��ي �إ َّال زاد ق���ل���ب���ي م����ن ال����وج����دِ‬
‫ِ�����ي��ي��ن ف�����إمن����ا‬ ‫�أرى �أخ�������وي َ‬
‫�������ك ال�����ب�����اق ِ‬
‫ي��ك��ون��ان ل��ل��أح���� َزانِ �أورى م���ن ال��� َّزن���دِ‬
‫�إذا ل����عِ����ب����ا يف م����ل����ع����ب ل������ك ل���� َّذع����ا‬
‫ف����ؤادي مبثل ال��ن��ار ع��ن غ�ير م��ا َق�صدِ‬

‫‪85‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ف���م���ا ف��ي��ه��م��ا يل � َ���س���ل���وة ب ْ‬


‫������ل َح�������� َزازة‬
‫َيهيجانِها دُوين و�أَ���ش��ق��ى ب��ه��ا وح��دي‬
‫و�أن��������تَ و�إن �أُف�����������ر ْد َت يف دار ْ‬
‫وح�����ش��ة‬
‫�������س يف وح�����ش��ة ال��ف��ر ِد‬
‫ف�����إين ب����دار الأن ِ‬
‫وم����ن ك�����ا َن َي�����س��ت��ه��دي َح�� ِب��ي��بً��ا هَ���د َّي���ة‬
‫فطيف خيالٍ منك يف النوم �أ�ستهدي‬ ‫ُ‬
‫ع����ل����ي����ك ��������س���ل���ا ُم اهلل م�����ن�����ي حت���� َّي����ة‬
‫وم��نْ ك��ل غيثٍ ���ص��ادقِ ال ْ‬
‫�ب�رقِ وال�� َّرع��دِ‬
‫مل يك ��ن م ��وت حمم ��د خامت ��ة الأح ��زان‪ ،‬و�إن كان �أ�شدها‪ ،‬بل‬
‫�سرع ��ان ما حلقه �أخواه الآخران‪ .‬وهكذا �أ�صبح ف�ؤاد ابن الرومي يف‬
‫غ�شاء من الرزايا واملحن‪ ،‬فلم يعد يرثي ميتًا وال يبايل مبوت �أحد‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫��������������������������‬

‫ب‪ :‬حتقيق �سبب الوفاة‬

‫مم ��ا ال �شك في ��ه �أن �سبب موت حممد ه ��و نزيف الدم احلاد‪،‬‬
‫الذي حول لونه من احمرار الورد �إلى �صفرة اجلادي وهو الزعفران‪.‬‬
‫ويغل ��ب عل ��ى الظ ��ن �أن �سبب هذا النزي ��ف هو مر� ��ض وراثي يدعى‬
‫النزاف �أو الهيموفيليا (‪.)Hemophilia‬‬
‫وينت ��ج هذا املر�ض من نق� ��ص �أحد الربوتين ��ات امل�س�ؤولة عن‬
‫تخرث الدم مما ي�ؤدي �إلى زيادة �سيولة الدم وحدوث النزيف املتكرر‪.‬‬
‫وتختل ��ف �شدة النزيف طب ًقا ملق ��دار النق�ص يف عامل التخرث‪،‬‬
‫خ�صو�صا‬
‫ً‬ ‫حي ��ث ت�صل �إلى ح ��د الوفاة يف حاالت النق� ��ص ال�شديد‪،‬‬
‫عند ح ��دوث النزيف م ��ن عدة �أماك ��ن يف اجل�س ��م‪� ،‬أو يف الأع�ضاء‬
‫املهمة كالدماغ‪.‬‬
‫وه ��ذا املر� ��ض ال ميك ��ن عالجه �إال ع ��ن طريق تعوي� ��ض اجل�سم‬
‫بالربوت�ي�ن املفق ��ود‪ ،‬ول ��ذا مي ��وت �أغل ��ب املر�ض ��ى �ساب ًق ��ا يف �س ��ن‬
‫مبكرة جدًّا‪.‬‬
‫والهيموفيلي ��ا مر� ��ض وراث ��ي يرتب ��ط باجلن�س‪ ،‬حي ��ث ي�صيب‬
‫الذك ��ور يف �أغل ��ب احل ��االت‪ ،‬وال ي�صي ��ب الإن ��اث �إال يف ح ��االت‬
‫نادرة ج ًّدا‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ويك ��ون منو الطفل امل�صاب بالهيموفيليا �سلي ًما‪ ،‬وال تظهر عليه‬
‫عالم ��ات مبكرة �سوى بع�ض الكدم ��ات ال�سطحية التي تزول �سري ًعا‪،‬‬
‫وم ��ا �أن يبتدئ بامل�شي حت ��ى يبد�أ النزيف يف ركبتي ��ه ويف ع�ضالته‪،‬‬
‫مم ��ا ي�ؤخر عملي ��ة امل�شي لدي ��ه ب�سبب ال�ضرر احلا�ص ��ل يف مفا�صل‬
‫الركبة واحلو�ض‪.‬‬
‫ويبدو �أن حممدً ا مات ومل يجاوز الثالثة بدليل قول �أبيه‪:‬‬
‫ل���ق���د ق����� َّل ب��ي�ن امل���ه���د وال��� َّل���ح���د ل��ب�� ُث�� ُه‬
‫ين�س عهد املهد �إذ �ض َّم يف ال َّلحدِ‬ ‫فلم َ‬
‫ثم و�صف طريقة موته املحزنة بثالثة �أبيات‪ ،‬تقطر لوعة و�أ�سى‪:‬‬
‫ت���ن��� َّغ���� َ���ص َق����ب���� َل ال��������� َّريِّ م�������ا ُء َح���ي���ات��� ِه‬
‫و ُف ِّ‬
‫�������ج������� َع م����ن����ه ب����ال����ع����ذوب����ة وال����ب����ر ِد‬
‫وماء احلياة هنا هو الدم‪ ،‬ويعني �أن النزف �أحال ج�سمه باردًا‪،‬‬
‫لأن الدم هو م�صدر الدفء للأع�ضاء الطرفية‪.‬‬
‫�أل��������� َّح ع���ل���ي���ه ال������ َّن ُ‬
‫������زف ح���ت���ى �أح�����ال����� ُه‬
‫�إل���ى ُ�صفرة اجل���اديِّ ع��ن ح��م��رة ال���ور ِد‬
‫ويعني هنا ال�شحوب الذي اعرتاه ب�سبب النزف ال�شديد‪ ،‬الذي‬
‫�ألح عليه حتى غري لونه من حمرة الورد �إلى ا�صفرار الزعفران‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫��������������������������‬

‫وظ����� َّل ع��ل��ى الأي������دي ت�����س��اق��ط َن�� ْف��� ُ��س��ه‬


‫الق�ضيب من ال َّر ْندِ‬
‫ُ‬ ‫ويذ ِوي كما يذوي‬
‫وهذه ال�صورة احلزينة يف غاية ال�شاعرية‪ ،‬فهو ي�ش ّبه ابنه الذي‬
‫ذوى عوده عندما نزف م ��اء حياته‪ ،‬بق�ضيب الرند الذي جف ما�ؤه‪،‬‬
‫فذبل وذوى‪ .‬والرند نبت طيب الرائحة‪ ،‬ي�سمى ورقه ورق الغار‪.‬‬
‫�أم ��ا �أخ ��واه الأخران فلم �أج ��د م�صد ًرا يبني كي ��ف ماتا‪ ،‬ولكن‬
‫موتهم ��ا وهما �صغريان ج� � ًّدا دليل ي�ؤكد الطبيع ��ة الوراثية للمر�ض‪.‬‬
‫ويرتج ��ح عن ��دي �أن الهيموفيليا الت ��ي �أ�صابت �أبن ��اء ال�شاعر �أتتهم‬
‫م ��ن جهة الأم‪ ،‬لأن الأنثى �إذا كان ��ت حاملة للمر�ض ف�ستنقله جلميع‬
‫�أوالدها الذكور‪� ،‬أما الإناث فيكون ن�صفهن ناقلاً للمر�ض‪ ،‬والن�صف‬
‫الآخر �سلي ًما‪.‬‬
‫ومما يثبت �أن املر� ��ض الذي �أ�صاب �أبناءه كان وراث ًّيا من جهة‬
‫الأم‪� ،‬أن ��ه ت ��زوج بعد وف ��اة زوجته الأولى‪ ،‬فرزق ابن ��ا‪ ،‬ذكره يف عدة‬
‫ق�صائد‪ ،‬مدح بها القا�سم ابن عبيداهلل(((وزير املعت�ضد‪ .‬ويغلب على‬
‫الظ ��ن �أن ه ��ذا االبن مل ميت يف حي ��اة �أبيه‪� ،‬إذ مل ينق ��ل �أنه رثاه �أو‬
‫تفجع لفقده كما فعل مع �أبنائه الثالثة الأول(((‪.‬‬
‫(( ( القا�سم بن عبيداهلل بن وهب وزير املعت�ضد‪ ،‬كان �شه ًما مهي ًبا‪ ،‬مات �سنة ‪ 291‬للهجرة‪.‬‬
‫(( ( ابن الرومي‪ ،‬حياته من �شعره‪ ،‬للعقاد (�ص ‪.)75‬‬

‫‪89‬‬
‫��������������������������‬

‫ج‪� :‬إ�ضاءات طبية‬


‫(((‬

‫الن ��زاف �أو الهيموفيلي ��ا ه ��و �أكرث �أمرا� ��ض النزي ��ف الوراثية‬
‫�شيوع ��ا عند الذكور‪ ،‬وين�ش�أ ب�سب ��ب خلل جيني يف بروتينات التخرث‪،‬‬ ‫ً‬
‫خ�صو�ص ��ا العام ��ل الثام ��ن (‪ ،)VIII Factor‬والعام ��ل التا�س ��ع‬ ‫ً‬
‫( ‪ ،)Factor VIX‬حي ��ث ي� ��ؤدي هذا اخللل �إلى نق� ��ص حاد يف �إنتاج‬
‫هذه الربوتينات‪ ،‬مما يجعل املري�ض عر�ضة للنزيف‪.‬‬
‫ونظ� � ًرا لأن جين ��ات الهيموفيلي ��ا حتم ��ل عل ��ى الكرومو�س ��وم‬
‫اجلن�سي �إك�س (‪ )X-chromosome‬ف�إنها ت�صيب الذكور غال ًبا‪ ،‬لأن‬
‫كرومو�سوما واحدً ا من ن ��وع �إك�س (‪ ) XY‬بينما لدى الإناث‬
‫ً‬ ‫لديه ��م‬
‫كرومو�سومان (‪.)XX‬‬
‫وعن ��د توريث ه ��ذا املر�ض‪ ،‬ف�إن الذكر �إما �أن يك ��ون م�صا ًبا �أو‬
‫�سلي ًم ��ا‪� ،‬أم ��ا الأنثى فقد تك ��ون حاملة للمر�ض‪ ،‬ولي�س ��ت م�صابة �إذا‬
‫حدث اخللل يف كرومو�سوم واحد فقط‪.‬‬
‫وال تظه ��ر عالمات املر�ض يف مرحل ��ة الطفولة الأولى‪ ،‬ما خال‬
‫ح ��دوث كدم ��ات ب�سيطة‪ ،‬تزول م ��ع مرور الوقت‪ .‬ولك ��ن قد يكت�شف‬
‫املر� ��ض مبك ًرا يف املجتمعات التي جتري عملي ��ة اخلتان بعد الوالدة‬
‫بوقت ق�صري‪ ،‬حيث يكون النزيف �شديدً ا‪.‬‬
‫‪((( Postgraduate Hematology; V. Hofbrand page 720753-‬‬

‫‪91‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وم ��ا �أن يب ��د�أ الطف ��ل بامل�ش ��ي �أو احلبو‪ ،‬حتى يح ��دث النزيف‬
‫داخ ��ل املفا�صل التي حتمل اجل�سم كالركبت�ي�ن مثلاً ‪ ،‬مما ي�ؤدي �إلى‬
‫تورمهم ��ا‪ ،‬وت�أخري عملية امل�شي‪ .‬وتكرار هذا النزيف ي�ؤدي �إلى ت�شوه‬
‫املفا�صل‪ ،‬وقد ي�سبب �إعاقة مزمنة‪.‬‬
‫ويع ��د نزيف الع�ض�ل�ات من الأعرا� ��ض ال�شائع ��ة للهيموفيليا‪،‬‬
‫خ�صو�صا يف منطقة الفخذ والبطن‪ ،‬وقد يحدث النزيف تلقائ ًّيا من‬ ‫ً‬
‫دون �أي �إ�صابة يف حاالت النق�ص ال�شديد لعامل التخرث‪.‬‬
‫�أم ��ا يف حاالت الإ�صاب ��ة‪ ،‬ف�إن النزيف يكون �شدي� �دًا جدًّا يف �أي‬
‫مو�ضع كانت الإ�صابة‪ .‬ومن �أخطر �أنواع النزيف‪ ،‬هو ذاك الذي يحدث‬
‫يف الأع�ضاء املجوفة كالدماغ والأمعاء‪� ،‬إذ قد ي�ؤدي �إلى الوفاة‪.‬‬
‫عالج الهيموفيليا‪ :‬يقوم عالج الهيموفيليا على ثالثة �أ�س�س‪.‬‬

‫‪ -1‬التعامل الأمثل مع النزيف‪:‬‬

‫م ��ن الأهمية مبكان تثقيف املري�ض و�أقاربه عن الطريقة املثلى‬


‫للتعام ��ل م ��ع النزيف حال حدوث ��ه‪ ،‬والتي تقوم على �أرب ��ع �إجراءات‬
‫مهمة‪ :‬ال�ضغط‪ ،‬الرفع‪ ،‬الثلج‪ ،‬الراحة‪.‬‬
‫ال�ضغ���ط‪ :‬ينبغ ��ي و�ضع رب ��اط �ضاغط ح ��ول املف�صل املجروح‬
‫لتقلي ��ل �سرع ��ة النزف‪ ،‬ولك ��ن يجب �إزال ��ة هذا الرباط ح ��ال توفر‬
‫العالج‪ ،‬لئال يقف تدفق الدم عن املف�صل طويلاً ‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫��������������������������‬

‫الثلج‪ :‬تربيد اجلل ��د ي�ؤدي �إلى انقبا�ض الأوعية الدموية‪ ،‬ومن‬
‫ثم التخفيف من تدفق الدم �إلى املنطقة امل�صابة‪.‬‬
‫الرفع‪ :‬ويعني به رفع الذراع امل�صاب �أعلى من م�ستوى القلب‪،‬‬
‫لتقليل تدفق الدم‪.‬‬
‫الراحة‪ :‬وتعني الهدوء وعدم ا�ستخدام املف�صل امل�صاب‪ ،‬حتى‬
‫متاما‪ ،‬ويتماثل الع�ض ��و لل�شفاء‪ ،‬لأن حتريك الطرف‬
‫يق ��ف النزيف ً‬
‫امل�ص ��اب يعر� ��ض الع�ضالت واملفا�ص ��ل ملزيد من النزي ��ف‪ ،‬ومن ثم‬
‫املزيد من ال�ضرر‪.‬‬
‫كم ��ا ينبغي تثقي ��ف املري�ض و�أقاربه عن �أف�ض ��ل طرق الوقاية‪،‬‬
‫لتجنب الإ�صاب ��ات املنزلية‪ :‬كفر�ش البيت باملوكي ��ت وال�سجاد‪ ،‬بدال‬
‫م ��ن ال�سرياميك‪ ،‬ولب�س الأحزمة الواقي ��ة ملنطقة الركبة‪ .‬كما يجب‬
‫جتنب الريا�ضات العنيفة‪ ،‬التي قد ت�ؤدي الى حدوث النزيف‪.‬‬

‫‪ -2‬العالج‬

‫يختلف ع�ل�اج الهيموفيليا تب ًعا ل�شدة احلال ��ة‪ ،‬ولنوعية ومكان‬


‫النزي ��ف‪ .‬فاحل ��االت الطفيف ��ة ميك ��ن عالجه ��ا عن طري ��ق احلقن‬
‫البط ��يء لهرم ��ون الديزموبري�س�ي�ن (‪ )DDAVP‬يف الوريد‪� ،‬أو عن‬
‫طري ��ق الأنف‪� .‬أما احل ��االت املتو�سطة واحلادة فال ب ��د من تعوي�ض‬

‫‪93‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫اجل�سم بعامل التخرث الناق�ص‪ ،‬الذي ي�ستمد من دم الإن�سان املتربع‪،‬‬


‫�أو من املنتجات املعدلة وراث ًّيا‪.‬‬
‫وملن ��ع ح ��دوث امل�ضاعف ��ات ميك ��ن �أن يق ��وم الطبي ��ب بتدريب‬
‫املري� ��ض ومن حوله على طريقة �أخذ حقن هرمون الديزموبري�سني‪،‬‬
‫�أو عام ��ل تخرث الدم يف املنزل �أو العم ��ل �أو املدر�سة‪ ،‬بحيث ي�أخذها‬
‫مرتني �إلى ثالث مرات �أ�سبوع ًّيا‪.‬‬

‫‪-3‬ت�أ�سي�س مراكز العناية ال�شاملة ملر�ضى الهيموفيليا‪:‬‬

‫مراك ��ز العناية ال�شاملة من �أجنح و�سائل معاجلة الهيموفيليا‪،‬‬


‫وذل ��ك لأنها تقدم خدمات متعددة �أخ ��رى بجانب العالج مثل طرق‬
‫العناية اجل�سدية والنف�سية‪ ،‬والعناية بالأ�سنان والعظام‪ .‬وبالإ�ضافة‬
‫ال ��ى ذلك‪ ،‬فهي توفر خدم ��ات م�ساندة‪ ،‬ترتب ��ط مبعاجلة ال�ضغوط‬
‫الأ�سري ��ة واالجتماعية‪ .‬يج ��در بالذكر �أن ت�أ�سي� ��س مثل هذه املراكز‬
‫ُيع� � ُّد �إجرا ًء فع � اً�ال من الناحية االقت�صادية‪ ،‬لأن ��ه ي�ساهم يف الوقاية‬
‫م ��ن امل�ضاعفات اخلطرية ملر�ض ��ى النزف‪ ،‬الت ��ي ي�ستهلك عالجها‬
‫موارد اقت�صادية هائلة‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫��������������������������‬

‫د‪ :‬تربية اال�ستحواذ‬

‫على مدى التاريخ �شكل الأيتام عالمة فارقة يف تاريخ الب�شرية‪،‬‬


‫وبالأخ� ��ص �أولئك الذين فق ��دوا �آباءهم‪ ،‬وتربوا عل ��ى �أيدي �أمهات‬
‫عظيم ��ات‪� ،‬أخرجن للعامل عباقرة‪ ،‬غ�ي�روا م�سار التاريخ‪ ،‬وكان لهم‬
‫الق ��دح املعلى يف قيادة رك ��ب احل�ضارة نحو الرق ��ي والتقدم‪ .‬ومرد‬
‫هذا النبوغ والعبقرية �إلى �أمرين �أ�سا�سيني‪:‬‬
‫‪ -1‬حتمل امل�س�ؤلية واالعتماد على النف�س يف �سن مبكرة‪ ،‬مما ي�ساعد‬
‫على �صقل امله ��ارات‪ ،‬ويعزز جانب العالقات عند الطفل‪ ،‬ويتيح‬
‫له خمالطة ذوي اخلربة والتجربة‪.‬‬
‫‪ -2‬توفر قدر كبري من احلرية يف تبني الآراء واتخاذ القرارت‪ ،‬مما‬
‫ي�ساهم يف تنمية ملكة الإبداع‪ ،‬ويحفز القدرة على االبتكار‪.‬‬
‫ويتلخ�ص دور الأم العظيمة يف تعزيز ثقة الطفل بنف�سه‪ ،‬و�إذكاء‬
‫روح امل�س�ؤولي ��ة لدي ��ه‪ ،‬دون امل�سا�س املبا�شر بحريت ��ه‪ ،‬لين�ش�أ الطفل‬
‫وق ��د اكتملت لديه ركائز الإبداع الثالث ��ة‪ :‬الدافع الذاتي‪ ،‬واملهارات‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬والعالقات الناجحة‪.‬‬
‫وقد تخط ��ئ بع�ض الأمهات فت�ستحوذ على كاف ��ة �ش�ؤون ابنها‪،‬‬
‫وتتحم ��ل جمي ��ع امل�س�ؤوليات عن ��ه‪ ،‬وتتدخ ��ل يف �أدق تفا�صيل حياته‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫والأدهى من ذلك �أن تلي بنف�سها اتخاذ القرارات نيابة عنه‪ ،‬فيكرب‬
‫الطف ��ل وقد افتقد ح�س امل�س�ؤولي ��ة‪ ،‬و�ضاق عليه �أفق احلرية‪ ،‬وحرم‬
‫من متعة التجربة وفائدتها‪.‬‬
‫�إن �أي طف ��ل كه ��ذا‪� ،‬سين�ش� ��أ منكف ًئ ��ا عل ��ى نف�سه‪ ،‬م ّي� �الاً للعب‬
‫الفردي‪ ،‬م�ؤث ًرا ملا تعود عليه وما ُجرب له‪ .‬وغال ًبا ما يكون اتكال ًّيا‪ ،‬ال‬
‫ي�ستطيع �أن يلي �أمره بنف�سه‪.‬‬
‫وم ��ع �أن تربي ��ة اال�ستح ��واذ ق ��د تلحق �ض ��ر ًرا بال ًغ ��ا مبهارات‬
‫النج ��اح الأ�سا�سي ��ة‪� ،‬إال �أن �أ�ش ��د �أ�ضرارها فداح ��ة‪ ،‬يكون يف جانب‬
‫�ساذجا‪ ،‬ي�ستغل ��ه �ضعاف النفو�س‪،‬‬ ‫العالقات‪ ،‬ف�إم ��ا �أن يكرب الطفل ً‬
‫�أو يكون انطوائ ًّيا م�ؤث ًرا للعزلة‪ ،‬ورمبا جمع بني ال�سو�أتني‪ ،‬كما حدث‬
‫البن الرومي‪.‬‬
‫ومم ��ا يثري ال�شفقة �أن يكون عن ��د ه�ؤالء مواهب مميزة‪ ،‬تدفن‬
‫يف ثرى العزلة‪ ،‬ويق�ضي عليها الرهاب االجتماعي‪ ،‬وافتقاد مهارات‬
‫التوا�ص ��ل‪ .‬وق ��د يك ��ون منهم العبق ��ري‪ ،‬ال ��ذي يحتاج املجتم ��ع �إلى‬
‫فك ��ره املمي ��ز‪ ،‬وموهبته اخلارقة‪ ،‬ف�ل�ا يتو�صل �إليه �أح ��د‪ ،‬وال يعرفه‬
‫�أه ��ل زمانه‪ .‬و�أمث ��ال ه�ؤالء تكون خ�سارتهم م�ضاعف ��ة‪� ،‬إذ يخ�سرون‬
‫مواهبهم التي ال يقدرها �أحد‪ ،‬ويخ�سر املجتمع �إمكاناتهم الفذة‪.‬‬
‫ق ��د يح ��دث اال�ستح ��واذ م ��ن الأب والأم على حد �س ��واء‪ ،‬لكن‬
‫وط�أت ��ه تك ��ون �أ�شد �إذا جاء م ��ن قبل الأم‪ ،‬لقدرته ��ا على الغو�ص يف‬

‫‪96‬‬
‫��������������������������‬

‫�أدق التفا�صي ��ل بخالف الأب‪ ،‬الذي ير�سم الإطار العام‪ ،‬ويعجز عن‬
‫متابعة دقائق الأمور غال ًبا‪.‬‬
‫مرب‪:‬‬
‫وهنا �أربع قواعد ذهبية‪ ،‬ينبغي �أن يعيها كل ٍّ‬
‫‪ -1‬يول ��د الطفل ولديه مل ��كات عقلية كامنة‪ ،‬مت ��ده بقابلية التعلم‪،‬‬
‫ولكن هذه امللكات مثل معدن احلديد اخلام‪ ،‬يحتاج �إلى ال�صقل‬
‫حتى يكون �سي ًفا ما�ض ًيا‪ .‬و�إمن ��ا ت�صقل ملكات الإن�سان بالتلقني‬
‫والتجربة واملخالطة‪.‬‬
‫فع ��ن طريق التلقني تنتقل خ�ب�رة املربي يف احلياة‪ ،‬وحكمته‬
‫التي ا�ستفاده ��ا من نتائج جتاربه‪� .‬أم ��ا التجربة فهي االمتحان‬
‫احلقيقي‪ ،‬الذي يقوم به الإن�سان الختبار �صحة املعلومات‪ ،‬التي‬
‫ا�ستقاها ع ��ن طريق التلقني‪ .‬و�سرعان م ��ا ي�شك املرء يف �صدق‬
‫معلومات من مينعه من التجربة‪� ،‬أو ميلي عليه النتائج م�سب ًقا‪.‬‬
‫وباملخالطة يتعرف الإن�سان على طرائق جديدة يف اكت�ساب‬
‫املعرفة‪ ،‬ويتعلم فقه املقارنة بني الأ�شخا�ص والأ�شياء والأفكار‪.‬‬
‫عموما‪،‬‬
‫وثمة �أمر دقيق يجب �أن ينتبه له الوالدان‪ ،‬واملربون ً‬
‫�أال وه ��و �أن عزل الأبناء يف مراح ��ل مبكرة‪ ،‬و�أطرهم على �أفكار‬
‫املرب ��ي دون نقا� ��ش �أو �سم ��اح بالتجربة �أو املقارن ��ة‪� ،‬سرعان ما‬
‫متاما‪ ،‬ولذا ترى كث ًريا م ��ن �أفكار الآباء‬
‫ي�أت ��ي مبردود مناق� ��ض ً‬

‫‪97‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ت�صب ��ح حمل تندر ب�ي�ن الأبناء‪ ،‬حاملا يخرج ��ون من عباءة الأب‬
‫ويخالط ��ون غ�ي�ره‪ .‬وقد تكون ه ��ذه الأفكار �صحيح ��ة يف ذاتها‪،‬‬
‫ولكن املنع دائ ًما ما يثري الف�ضول‪ ،‬ويجلب ال�شك‪.‬‬
‫وه ��ذا الأمر كما ينطب ��ق على الأفراد والأ�س ��ر‪ ،‬ينطبق على‬
‫أي�ضا‪ .‬ف�أي جمتمع تق ��وم تربيته على التلقني‪ ،‬وعلى‬ ‫املجتمع ��ات � ً‬
‫�سيا�سة اخل�صو�صية واالنغالق‪ ،‬وعدم الرتحيب بتجربة الأفكار‬
‫اجلدي ��دة‪� ،‬سينع ��م بالهدوء الداخلي‪ ،‬ويتمت ��ع �أفراده بحالة من‬
‫الوثوقي ��ة العالية‪ ،‬طامل ��ا بقي منغل ًقا على نف�س ��ه‪ ،‬ومتقوق ًعا على‬
‫�أف ��راده و�أفكاره‪ .‬ولكن الأمر �سرعان ما ينقلب ر� ًأ�سا على عقب‪،‬‬
‫عندم ��ا يخرج بع�ض �أفراده �إلى جمتمع ��ات �أخرى يقوم تعليمها‬
‫على التجربة واملقارنة‪ ،‬فتك�شف لهم املقارنة �أحادية �أفكارهم‪،‬‬
‫وتتال�ش ��ى لديهم حالة الوثوقي ��ة‪ .‬و�سرعان م ��ا يتبنى معظمهم‬
‫إقناعا ومنطقية‪ ،‬ب�سبب‬‫�أفكار املجتمع اجلديد‪ ،‬لأنها تبدو �أكرث � ً‬
‫قبولها للتجربة‪ ،‬ومرونتها يف تقبل النتائج‪.‬‬
‫يعود �أولئ ��ك الأفراد وقد �أحاطهم املجتم ��ع املغلق بهالة من‬
‫التوج� ��س را�ص ��دً ا كل تغيري‪ ،‬ط ��ر�أ عليهم بعني ال�ش ��ك والريبة‪.‬‬
‫ويف املقاب ��ل ينظر ه�ؤالء �إلى املجتمع بع�ي�ن الناقد‪ ،‬الذي خرج‬
‫من �إط ��ار ال�صورة‪ ،‬فهو يتفح� ��ص �أجزاءها م ��ن بعيد‪ ،‬ويقارن‬

‫‪98‬‬
‫��������������������������‬

‫بينها وبني ال�صور الأخرى‪ .‬ومن هنا تن�شب معركة الب�سو�س بني‬
‫املجتمع ذي الوثوقية العالية يف �أفكاره ونهج حياته‪ ,‬وبني �أفراده‬
‫الذين ي�سعون للتغيري بداعي اللحاق بركب التقدم واحل�ضارة‪.‬‬
‫وامل�شكلة الكربى تكمن يف �أن ه�ؤالء الأفراد يقومون مبمار�سة‬
‫ن ��وع من التلق�ي�ن للمجتم ��ع بوثوقي ��ة عالي ��ة يف �أفكاره ��م‪ ،‬التي‬
‫اكت�سبوه ��ا من جتاربهم اجلديدة‪ ،‬فيعيدون اخلط�أ نف�سه وهم ال‬
‫ي�شعرون‪ .‬يتح ��ول بعدها ال�صراع �إلى �ص ��راع �أيديولوجي مرير‪،‬‬
‫تكرث فيه االتهامات‪ ،‬وتختفي الثقة‪ ،‬ويحل حملها ال�شك والريبة‪.‬‬
‫‪ -2‬ا�ستف ��ادة الطف ��ل م ��ن جتارب املرب ��ي ال تتج ��اوز ‪ %30‬يف �أف�ضل‬
‫احل ��االت‪ ،‬فال معن ��ى ملنعه من التجرب ��ة‪ ،‬بحجة �أ ّن ��ا قد خربنا‬
‫الأم ��ر‪ ،‬وجربن ��اه من قب ��ل‪ ,‬بل �إن جم ��رد ال�سماح ل ��ه بالتجربة‬
‫يزي ��د من ثقته فيما منده به من �أفكار وجتارب‪ .‬وكث ًريا ما ف�ضل‬
‫قدما مبجرد ال�سماح لهم بالتجربة‪� ،‬إذ �إن‬ ‫الأطفال عدم امل�ضي ً‬
‫املنع �أو احلرمان ي�شعل يف قلب الإن�سان جذوة ف�ضول ال تنطفئ‪.‬‬
‫�أمل ت ��ر �أن كث�ي ً�را ممن حرم من �ألعاب الطفول ��ة وهو �صبي عاد‬
‫يلعبها كب ًريا‪.‬‬
‫‪ -3‬اجلم ��ع ب�ي�ن احلري ��ة وامل�س�ؤولي ��ة �سر عظي ��م من �أ�س ��رار جناح‬
‫الرتبي ��ة‪ ،‬فاحلرية تنم ��ي ملكة الإب ��داع واالبتكار عن ��د الطفل‪,‬‬

‫‪99‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وامل�س�ؤولي ��ة حتمل ��ه عل ��ى التعلم‪ ،‬واكت�س ��اب امله ��ارات‪ ،‬وتقدير‬
‫املواق ��ف‪ ،‬ودرا�سة نتائج التج ��ارب؛ ال�ستخال�ص العرب منها‪ .‬وال‬
‫ب ��د من اقرتانهما م ًعا يف كل الأن�شطة الرتبوية‪� ،‬إذ احلرية بدون‬
‫م�س�ؤولية تقود �إلى الفو�ضوية والالمباالة‪ ,‬بينما امل�س�ؤولية بدون‬
‫حرية تن�شئ �إمع ًة غري قادر على احلركة دون �إذن‪.‬‬
‫‪ -4‬احلاج ��ة �إل ��ى التقدي ��ر ُتع ُّد م ��ن �أه ��م احلاج ��ات الب�شرية بعد‬
‫غرائ ��ز البقاء الأ�سا�سية‪ .‬ومن هذا الب ��اب ينبغي �أن تدخل الأم‬
‫احل�صيف ��ة‪ ،‬فت�شع ��ر ابنها مب ��دى حاجتها �إليه‪ ،‬وعظ ��م �أهميته‬
‫بالن�سب ��ة لها‪ ،‬وتكرث الثناء على �صفات ��ه الإيجابية‪ ،‬وعلى قدرته‬
‫الفائقة على التعامل مع �سلبياته‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫‪H‬‬ ‫وفاة النبي‬


‫بني ال�سم واحلمى‬

‫‪101‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫(((‬
‫�أ‪ :‬ق�صة الوفاة‬

‫طيب ��ة‪ ..‬وقد هفت �شو ًقا للق ��اء حبيبها حممد ‪ H‬بعد‬
‫�أن غاب عنها �شه ًرا كاملاً يف �أثناء حجة الوداع‪ .‬ما �أطول الزمان‪،‬‬
‫وم ��ا �أ�ش ��د ق�سوته على املكان! �أمل يت�صاحبا من ��ذ �أن ُخ ِلق الكون؟ �أم‬
‫لأن الزمان ظرف م�صاحب للحبيب‪ ،‬فلم يعد ي�شعر بالظرف املفارق‬
‫له‪ ،‬فطالت �أيامه ولياليه‪.‬‬
‫ولكن مهال! فقري ًب ��ا �سينت�صف املكان من الزمان‪ ،‬وطيبة على‬
‫موع ��د مع حبيبها‪ ،‬ال ��ذي �ستحت�ضن ��ه يف جوفها‪� ،‬إل ��ى �أن يرث اهلل‬
‫الأر�ض ومن عليها‪.‬‬
‫خواطر تت�سلى بها طيبة‪ ،‬وهي تت�شوق �إلى طلعته مع ثنية الوداع‪.‬‬
‫لي� ��س الب�شر من ينتظر مقدم ��ه ويفرح بر�ؤيته فقط‪ ،‬بل حتى املدينة‬
‫بجباله ��ا و�أ�شجارها و�أحجاره ��ا‪ .‬لقد كانت �أ�سعد �شيء به حني قدم‬
‫عليه ��ا �أول هجرته‪ ,‬فلقد تغريت �إلى الأبد من ��ذ �أن خطت الق�صواء‬
‫عليه ��ا خطوتها الأولى‪ .‬كان يح�س به ��ا‪ ،‬ويبادلها ح ًّبا بحب‪ ،‬بل كان‬
‫يخرب �أ�صحابه بذلك‪�« :‬أحد جبل يحبنا ونحبه»(((‪.‬‬

‫(( ( لال�ست ��زادة انظ ��ر‪� :‬س�ي�رة اب ��ن ه�ش ��ام (‪ ،)92-55 /6‬والبداي ��ة والنهاي ��ة‪ ،‬البن كثري‬
‫(‪.)132-24/8‬‬
‫((( متفق عليه‪ :‬البخاري (رقم‪ ،)3855‬وم�سلم (رقم‪.)2474‬‬

‫‪103‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ا�سمه ��ا ال ��ذي الزمها من ��ذ �أن �سكنها العمالي ��ق مل ير�ضه لها‪،‬‬
‫فغريه �إلى ما هو خري منه و�أطيب‪ :‬املدينة‪ ,‬طيبة‪ ,‬املباركة‪....‬‬
‫بل حتى ُح ّماها التي كانت عل ًما بالإ�ضافة �إليها‪ ،‬دعا ربه فنقلت‬
‫عنها‪ ،‬فلم تعد وبا ًء عا ًّما كما كانت‪.‬‬
‫م ��ا �أعظم بركته عليه ��ا‪ ,‬ت�آلفت به القلوب‪ ،‬حت ��ى �أ�صبح �أهلها‬
‫وم�سرحا للحروب‬
‫ً‬ ‫�إخوا ًن ��ا بعد �أن كانت نه ًبا للد�سائ� ��س وامل�ؤامرات‪،‬‬
‫والنزاعات‪ ،‬وما يوم بعاث((( عنها ببعيد‪.‬‬
‫لق ��د غدت ت�سام ��ي مكة �شر ًف ��ا وف�ضلاً ‪ ،‬فتل ��ك حرمها اخلليل‬
‫�إبراهيم ‪ ،S‬وهذه حرمها اخلليل حممد ‪ ,H‬لكن تلك‬
‫يجبى �إليها ثمرات كل �ش ��يء‪ ،‬وهذه بورك يف �صاعها ومدها‪ ,‬وثمت‬
‫فرق بني الغني بغريه والغني بنف�سه‪ ،‬ويف كل خري‪.‬‬
‫و�أعظ ��م م ��ن ذل ��ك �أن وحد اهلل ب ��ه ر�ؤيته ��ا‪ ،‬و�أعلى م ��ن �ش�أن‬
‫ر�سالتها‪ ،‬حت ��ى �أ�صبحت «�إخراج العباد من عبادة العباد �إلى عبادة‬
‫رب العباد»‪.‬‬
‫م ��ا �أ�سع ��د طيبة وما �أق ��ر عينها! وهي ت ��رى النبي ‪H‬‬
‫طال ًعا عليها من ثنية الوداع‪ ،‬يحف به جمع يكل الطرف عن الإحاطة‬
‫به‪ ,‬بعد �أن دخلها (ثاين اثنني) �إ َّبان هجرته‪.‬‬

‫((( ي ��وم بعاث‪ :‬معركة دامية �شهرية‪ ،‬حدثت يف يرثب قبل الهجرة بخم�س �سنني‪ ،‬انت�صرت‬
‫فيه ��ا قبيلة الأو� ��س وحلفا�ؤها على اخلزرج ومن حالفهم‪ .‬قتل فيها عدد كبري من �سادات‬
‫يرثب وزعمائها‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫ولك ��ن ذاكرة املكان املتطاولة تعلم علم اليقني �أن اكتمال البدر‬
‫م�ؤذن بنق�صه‪:‬‬
‫ترقب اً‬
‫زوال �إذا قيل مت‬ ‫�إذا مت �شئ بدا نق�صه‬
‫�إنه ��ا ال�سنة املا�ضية الت ��ي تعلمها الأر�ض‪ ،‬وتغف ��ل عنها �أجيال‬
‫الب�شر املتعاقبة‪ .‬وطيبة وهي تعلم ذلك‪ ،‬ال يحزنها �سوى انقطاع نزول‬
‫الوح ��ي بني جنباته ��ا‪ ،‬و�إال فلن ي�ضريها �أن يظل ��م ظاهرها لي�ضيء‬
‫باطنها‪� .‬إنها و�إن كانت �ستفتقد خطواته املباركة يف مناكبها‪� ،‬إال �أنها‬
‫�ست�ضم ج�سده ال�شريف يف جوفها حتى يرث اهلل الأر�ض ومن عليها‪.‬‬
‫فم ��ا تظنون �أنها فاعلة بج�سد من �أفا�ض اهلل عليها ب�سببه بركات ال‬
‫تنف ��د وف�ضائل ال تنقط ��ع؟ �إنها ولو مل تنه عن م� ��س ج�سده حلفظته‬
‫وفاء وح ًّبا‪.‬‬
‫توالت الإرها�صات عل ��ى النبي ‪ H‬م�شعرة بدنو �أجله‪،‬‬
‫فق ��د اكتم ��ل الدين ومت ��ت النعمة‪ ,‬وج ��اء ن�ص ��ر اهلل والفتح‪ ,‬ودخل‬
‫أفواجا‪ .‬ودع النبي ‪ H‬النا�س عامة يف حجة‬ ‫النا�س يف الدين � ً‬
‫الوداع‪ ،‬قائلاً ‪�« :‬إين ال �أدري لعلي ال �ألقاكم بعد عامي هذا»(((‪.‬‬
‫�أم ��ا املدين ��ة فلها وداع خا� ��ص‪ ,‬خرج يف ليلة مقم ��رة منت�صف‬
‫�صف ��ر �إلى جبل �أح ��د‪ ,‬ف�صلى عل ��ى ال�شهداء �صالة م ��ودع‪ ،‬ثم قفل‬
‫راج ًعا‪ ,‬ولك�أين ب�أحد يرنو �إليه بنظرة وداع و�إجالل‪:‬‬
‫((( �سنن الن�سائي (رقم‪)3867‬‬

‫‪105‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫و�أكرم منك مل تلد الن�ساء‬ ‫و�أح�سن منك مل تر قط عيني‬


‫وخ ��رج ليلة �أخ ��رى �إلى البقي ��ع‪ ،‬فقال‪ :‬ال�سالم عليك ��م يا �أهل‬
‫املقاب ��ر‪ ،‬ليه ��ن لكم ما �أ�صبحتم في ��ه مبا �أ�صبح النا� ��س فيه‪� ،‬أقبلت‬
‫الفنت كقطع الليل املظلم‪ ،‬يتبع �آخرها �أولها‪ ،‬الآخرة �شر من الأولى‪.‬‬
‫ثم ب�شر �أهل البقيع قائلاً ‪�« :‬إنا بكم لالحقون»‪.‬‬
‫ويف �آخ ��ر ي ��وم من �صف ��ر �شه ��د جن ��ازة يف البقي ��ع‪ ،‬فلما كان‬
‫بالطري ��ق راج ًع ��ا ارتفعت حرارت ��ه‪ ،‬و�أخذه �صداع �شدي ��د ‪ ,‬فع�صب‬
‫على ر�أ�سه ع�صابة تخفف من وجعه‪ .‬واتقدت عليه احلمى حتى كان‬
‫يجد �سورتها((( من ف ��وق الع�صابة‪ .‬عاد �إلى بيته ‪ H‬فوجد‬
‫�صداعا وتقول‪ :‬ور�أ�ساه ‪ ,‬فقال‪« :‬بل �أنا واهلل‬
‫ً‬ ‫عائ�ش ��ة ‪ J‬ت�شتكي‬
‫وار�أ�س���اه»‪ .‬ثم قال‪« :‬ياعائ�شة‪ :‬ما �أزال �أجد �أمل الطعام الذي �أكلت‬
‫(((‬
‫بخيرب‪ ,‬فهذا �أوان وجدت انقطاع ابهري من ذلك ال�سم»‪.‬‬
‫ا�ستم ��رت �شكواه ‪ H‬من احلم ��ى وال�صداع مدة ثالثة‬
‫يوما حتى توفاه اهلل‪ .‬كان يف �أولها يدور بني بيوته حتى �ضعف‬
‫ع�شر ً‬
‫عن احلرك ��ة‪ ،‬فا�ست�أذن �أن مير�ض يف بي ��ت عائ�شة ‪ ،J‬فانتقل‬
‫�إليه ��ا يتهادى ب�ي�ن الف�ضل بن العبا�س وعلي ب ��ن �أبي طالب‪ ،‬وقدماه‬
‫خطا‪ ،‬فمكث عندها �آخر �أ�سبوع من حياته‪.‬‬ ‫تخطان على الأر�ض ًّ‬

‫((( �سورتها‪� :‬شدة حرارتها‪.‬‬


‫((( رواه البخاري (رقم‪.)4165‬‬

‫‪106‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫وقب ��ل خم�سة �أيام من وفاته ا�شتدت علي ��ه �سورة احلمى‪ ،‬حتى‬
‫�أغم ��ي عليه‪ ،‬ف�صبوا عليه �سبع قرب م ��ن �آبار �شتى حتى �أفاق وقال‪:‬‬
‫«ح�سبكم‪ ,‬ح�سبكم»(((‪.‬‬
‫�آن� ��س بعده ��ا من نف�س ��ه خفة‪ ،‬فدخ ��ل امل�سجد و�صل ��ى بالنا�س‬
‫وخطبه ��م على املن�ب�ر‪ ،‬فكان م ��ن �ضمن ما قال ��ه‪�« :‬إن عب���دا خيرَّ ه‬
‫اهلل �أن ي�ؤتي���ه م���ن زه���رة الدني���ا م���ا �ش���اء‪ ،‬وب�ي�ن ما عن���ده‪ ،‬فاختار‬
‫ماعن���ده»(((‪ .‬ففهمه ��ا �أبو بكر ‪ I‬وقعد يبك ��ي‪ ،‬ويقول‪ :‬فديناك‬
‫ب�آبائنا و�أمهاتنا‪ .‬فجعل النا�س يعجبون من فعل �أبي بكر‪ ،‬كيف يبكي‬
‫لعبد خيرَّ ه اهلل بني الدنيا والآخرة»؟! مل يتفطنوا �أن العبد املخري هو‬
‫ر�سول اهلل ‪ ،H‬وكان �أبو بكر �أعلمهم و�أفقههم‪.‬‬
‫كانت احلمى تارة ت�شتد بر�سول اهلل حتى يغمى عليه‪ ،‬ثم تخف‬
‫ب ��ه حتى ي�صلي بالنا�س‪ ،‬ويقر�أ بهم �سورة املر�سالت كاملة يف �صالة‬
‫املغرب(((‪.‬‬
‫ويف �ص�ل�اة الع�ش ��اء زاد علي ��ه املر� ��ض‪ ،‬فلم ي�ستط ��ع الذهاب‬
‫للم�سج ��د‪ ،‬وطف ��ق النا� ��س ينتظرون ��ه‪ ،‬فنه� ��ض ليقوم ف�أغم ��ي عليه‬
‫طوي�ًل�اً ‪ ،‬ثم �أفاق وقال‪�« :‬أ�صلى النا����س؟» فنه�ض ليقوم ف�أغمي عليه‬

‫((( �صحيح البخاري (رقم‪.)4178‬‬


‫((( الرتمذي (رقم‪.)3660‬‬
‫((( البخاري (رقم‪.)4166‬‬

‫‪107‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫مرا ًرا‪ ،‬حتى �أمر �أبا بكر ‪ I‬ف�صلى بالنا�س بقية ال�صلوات‪� ،‬إلى‬
‫�أن تويف النبي ‪.H‬‬
‫ويف �ص�ل�اة الظه ��ر قبل يومني من وفاته وجد م ��ن نف�سه خفة‪,‬‬
‫فخرج ب�ي�ن رجلني ل�صالة الظهر‪ ,‬و�أبوبك ��ر ‪ I‬ي�صلي بالنا�س‪،‬‬
‫فلما ر�آه �أبو بكر ذهب ليت�أخر‪ ،‬ف�أوم�أ �إليه �أال يت�أخر‪ ،‬وجل�س �إلى ي�سار‬
‫�أب ��ي بكر‪ ،‬فكان �أب ��و بكر يقتدي ب�صالة النب ��ي ‪ ،H‬وي�سمع‬
‫النا�س التكبري‪.‬‬
‫انقط ��ع النبي ‪ H‬بعدها عن امل�سج ��د‪ ،‬ومل يره النا�س‬
‫�إال يف �أثناء �صالة الفجر يف �آخر يوم من حياته‪ .‬روى �أن�س بن مالك‬
‫‪ :I‬بينم ��ا ه ��م يف �صالة الفجر ي ��وم الإثنني‪ ،‬و�أب ��و بكر ي�صلي‬
‫به ��م مل يفج�أه ��م �إال ر�سول اهلل ‪ H‬قد ك�ش ��ف �سرت حجرة‬
‫عائ�ش ��ة‪ ،‬فنظر �إليهم وهم يف �صفوف ال�ص�ل�اة‪ ،‬ثم تب�سم ي�ضحك‪،‬‬
‫فنك�ص �أبو بكر على عقبيه‪ ،‬لي�صل �إلى ال�صف‪ ،‬وظن �أن ر�سول اهلل‬
‫‪ H‬يري ��د �أن يخرج �إلى ال�صالة‪ ،‬وه � َّ�م امل�سلمون �أن يفتتنوا‬
‫فرحا بر�س ��ول اهلل ‪ ،H‬ف�أ�شار �إليهم بيده‪� :‬أن‬ ‫يف �صالتهم‪ً ،‬‬
‫�أمتوا �صالتكم‪ .‬ثم دخل احلجرة و�أرخى ال�سرت(((‪.‬‬
‫فرحا �شدي ��دً ا‪ ،‬وا�ست� ��أذن �أب ��و بكر يف‬
‫ف ��رح امل�سلم ��ون بذل ��ك ً‬
‫اخل ��روج �إلى بيته بال�سنح‪ ،‬ظ ًّنا من ��ه بتعايف ر�سول اهلل ‪،H‬‬
‫((( البخاري (رقم‪.)4183‬‬

‫‪108‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫وم ��ا علم �أنها النظرة الأخرية‪ .‬لقد كانت نظرة وداع ل�صحب كرام‪،‬‬
‫�آ�سوه ب�أنف�سهم‪ ،‬وحكم ��وه يف �أموالهم‪ ،‬وخالط حبه �سويداء قلوبهم‪،‬‬
‫حت ��ى غدا �أحب �إليهم من �أنف�سهم وم ��ن النا�س �أجمعني‪� .‬أنها نظرة‬
‫وداع لل�صالة‪ ,‬قرة عينه‪ ,‬وراحته من ن�صبه‪ .‬وهي كذلك نظرة وداع‬
‫مل�سج ��ده الذي �شيده بيده وعمر حمرابه بتبتله وخ�شوعه‪ ،‬و�صنع من‬
‫عري�شه �سقفا تفئ �إليه الب�شرية يف حر جاهليتها الالهب‪.‬‬
‫ع ��ادت احلمى لر�س ��ول اهلل ك�أ�شد ما كانت‪ ،‬وب ��د�أ باالحت�ضار‬
‫فجعل يدخل يديه يف ركوة فيها ماء‪ ،‬ومي�سح بها على وجهه‪ ,‬ويقول‪:‬‬
‫«ال �إله �إال اهلل‪� ,‬إن للموت ل�سكرات»‪ .‬ثم �شخ�ص ب�صره �إلى ال�سماء‪،‬‬
‫وه ��و يقول‪« :‬بل الله���م �أحلقن���ي بالرفيق الأعلى» ث�ل�اث مرات(((‪،‬‬
‫فقب�ضت روحه‪ ،‬ومالت يده ‪.H‬‬

‫((( البخاري (رقم‪.)4194‬‬

‫‪109‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫(((‬
‫ب‪ :‬حتقيق �سبب الوفاة‬

‫مم ��ا �سب ��ق �إي ��راده يت�ضح �أن لوف ��اة النب ��ي ‪� H‬سبب‬
‫مبا�شر‪ ،‬وهو احلمى و�سبب �آخر غري مبا�شر‪ ،‬وهو ال�سم‪.‬‬
‫�أم ��ا احلم ��ى فالو�ص ��ف املذك ��ور يف الأحادي ��ث ال�صحيح ��ة‬
‫ينطب ��ق انطبا ًقا كام�ًل�اً على حمى املالريا‪ ,‬فجمي ��ع مر�ضى املالريا‬
‫تب ��د�أ �أعرا�ضه ��م بال�ص ��داع تقري ًبا(((‪� .‬أما منط احلم ��ى املذكور يف‬
‫الأحادي ��ث فهو النمط املمي ��ز للمالريا‪ ،‬حيث تتقد ح ��رارة املري�ض‬
‫ب�ش ��كل حاد ملدة �ساع ��ة �أو �ساعتني‪ ،‬ثم تنك�س ��ر �سورتها‪ ،‬وترجع �إلى‬
‫املع ��دل الطبيعي‪ ،‬ورمبا نزلت عن املعدل �أحيا ًن ��ا‪ ،‬وي�صاحبها تعرق‬
‫غزي ��ر‪ .‬تعود احل ��رارة �إلى االرتفاع ك ��رة �أخرى بعد ي ��وم �أو يومني‪،‬‬
‫ورمبا كل �أربعة �أيام بح�سب نوع املالريا‪.‬‬
‫ول ��ذا �صلى النب ��ي ‪ H‬بامل�سلمني �ص�ل�اة املغرب‪ ،‬وقر�أ‬
‫بهم �س ��ورة املر�سالت كاملة(((‪ ،‬وهي م ��ن �أوا�سط املف�صل‪ ,‬و�سمعته‬
‫�أم الف�ض ��ل بن ��ت احلارث راوي ��ة احلديث‪ ،‬وهي يف �صف ��وف الن�ساء‬
‫((( كتبت هذا التحقيق بعد مناق�شات م�ستفي�ضة مع كل من‪ :‬الربوفي�سور �شهاب امل�شهداين‪،‬‬
‫رئي� ��س وحدة �أمرا�ض ال ��دم بجامعة امللك �سع ��ود‪ ،‬والدكتور حممد الهلي ��ل‪ ،‬رئي�س ق�سم‬
‫ال�سموم مب�ست�شفى احلر�س الوطني‪.‬‬
‫‪(2) http://emedicine.medscape.com/article/221134-clinical‬‬
‫((( �سبق تخريجه‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫البعي ��دة‪ .‬وما �أتت الع�شاء حتى عادت احلمى ك�أ�شد ما تكون ومنعته‬
‫ع ��ن ال�ص�ل�اة بالنا�س‪ ،‬ثم م ��ا لبثت احلم ��ى حتى ه ��د�أت عنه مرة‬
‫جال�سا‪ .‬ويف هذا ال�سياق‬
‫�أخ ��رى‪ ،‬فعاد و�صلى بالنا�س �صالة الظه ��ر ً‬
‫دليل وا�ضح على منط حمى املالريا‪.‬‬
‫ومبرور الوقت ت�شتد وط� ��أة املالريا‪ ،‬وت�ؤثر على �أجهزة اجل�سم‬
‫املختلفة‪ .‬حيث ي�ؤدي فقر الدم احلاد �إلى االنهاك ال�شديد وال�ضعف‬
‫الع ��ام عن احلركة وامل�ش ��ي‪ .‬و�سرعان ما تتحول �إلى مالريا ع�صبية‬
‫(‪ )Cerberal malaria‬ت�ؤث ��ر عل ��ى اجله ��از الع�صب ��ي‪ ،‬وت� ��ؤدي �إل ��ى‬
‫الإغم ��اء املتكرر‪ ,‬والت�شنجات‪ ,‬ونق�صان الوعي‪ ,‬ومن ثم الوفاة‪ .‬وقد‬
‫مر معنا تف�صيل ذلك �ساب ًقا‪.‬‬
‫�أم ��ا ال�سب ��ب غري املبا�ش ��ر لوفاته ‪ H‬فه ��و ال�سم‪ ،‬كما‬
‫ورد يف حدي ��ث عائ�ش ��ة الذي رواه البخ ��اري(((‪ .‬وق�صة ال�سم حدثت‬
‫بع ��د فتح خيرب يف املح ��رم من ال�سنة ال�سابع ��ة‪ ،‬عندما �أهدت زينب‬
‫بن ��ت احلارث اليهودية �شاة م�سمومة للنبي ‪ ،H‬ف�أكل النبي‬
‫‪ H‬من الذراع‪ ,‬وكان �أكرث ال�سم فيه‪ ,‬و�أكل بع�ض ال�صحابة‪,‬‬
‫فم ��ات ب�ش ��ر بن ال�ب�راء ‪ ،I‬وع�ص ��م اهلل نبيه من امل ��وت غد ًرا‬
‫ق�صا�صا لب�شر‪.‬‬
‫ً‬ ‫واغتيالاً ‪ ،‬وقتلت املر�أة‬

‫((( �سبق تخريجه‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫وا�ضحا يف موا�ضع من‬ ‫ً‬ ‫وبقي �أثر ال�س ��م على النبي ‪H‬‬
‫جل ��ده‪ ،‬كما روى �أن�س يف احلديث املتف ��ق عليه‪« :‬فما زلت �أعرفها يف‬
‫له ��وات النب ��ي ‪� (((»H‬أي يف باط ��ن حلقه‪ .‬وال �ش ��ك �أن �آثار‬
‫ال�سم الداخلية كانت �أعمق و�أ�شد‪ ،‬كما �سنو�ضح بعد قليل‪.‬‬
‫للنبي ‪H‬‬ ‫ويرتجح عندي �أن ال�سم الذي د�سته اليهودية‬
‫و�أ�صحابه يوم خيرب هو الزرني ��خ (‪ ،)Arsenic‬وذلك وف ًقا لل�شواهد‬
‫التالية‪:‬‬
‫ا�ستخداما يف التاري ��خ‪ ،‬ويطلق عليه‬
‫ً‬ ‫‪ -1‬الزرني ��خ هو �أو�س ��ع ال�سموم‬
‫مل ��ك ال�سم ��وم‪ ,‬وذلك لتوف ��ره ب�شكل طبيعي يف ق�ش ��رة الأر�ض‪،‬‬
‫و�إمكاني ��ة ا�ستخدامه بعدة طرق كو�ضع ��ه يف الأكل �أو ال�شرب �أو‬
‫�شحذ ال�سالح به‪ ,‬بل حتى غاز الزرنيخ ميكن ا�ستخدامه ك�سالح‬
‫كيميائي يف احلروب والنزاعات‪.‬‬
‫وم ��ن امليزات الأخرى للزرنيخ‪� :‬أن ��ه ال طعم له وال رائحة وال‬
‫ل ��ون مميز‪ ,‬ويت�أخ ��ر ظهور الأعرا� ��ض على املجن ��ي عليه لب�ضع‬
‫الوقت‪ ،‬مما يوفر وقتًا للجاين يف حال �أراد االبتعاد‪.‬‬
‫‪ -2‬ورد يف �صف ��ة م ��وت ب�ش ��ر ب ��ن ال�ب�راء ‪� I‬أن لون ��ه ع ��اد‬
‫كالطيل�س ��ان(((‪ .‬ق ��ال احلاف ��ظ ابن حجر يف فتح الب ��اري‪ :‬يعني‬
‫((( متفق عليه‪ :‬البخاري (رقم‪ ،)2617‬وم�سلم (رقم‪.)2190‬‬
‫((( فتح الباري ب�شرح �صحيح البخاري (‪.)247/10‬‬

‫‪113‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�أن لون ��ه �ص ��ار �أ�صفر �شديد ال�صفرة‪ .‬والطيل�س ��ان و�شاح �أ�صفر‬
‫غلي ��ظ يو�ضع على الكتف �أ�شبه م ��ا يكون بال�شال‪ .‬وهذا يتفق مع‬
‫الأعرا� ��ض املبا�شرة للت�سمم بالزرني ��خ‪ ،‬والتي تبد�أ بته ّيج اجللد‬
‫والأغ�شي ��ة املبطن ��ة للجه ��از اله�ضم ��ي‪ ،‬مما ي� ��ؤدي �إل ��ى التقي�ؤ‬
‫والإ�سهال وقد ي�صاحبها دم يف الغالب‪.‬‬
‫وعند و�صول الزرنيخ �إلى جمرى الدم ي�ؤدي �إلى تك�سر خاليا‬
‫الدم مبا�شرة داخل الأوعية الدموية( (�‪Intravascular hemoly‬‬

‫‪ ،)sis‬ومن ثم �إلى ال�صفار وفقر الدم احلاد‪.‬‬


‫وا�صف ��رار الل ��ون ين�ش� ��أ من تراك ��م البيلوروب�ي�ن‪ ،‬وهو مادة‬
‫�صف ��راء تن�ش� ��أ م ��ن حتل ��ل الهيموغلوب�ي�ن عند تك�س ��ر اخلاليا‪،‬‬
‫وبالإ�ضاف ��ة �إلى ذلك ي�ساهم ال�شحوب ال�شديد النا�شئ من فقر‬
‫الدم احلاد يف ا�صفرار اجللد � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫وي ��دل و�صف الطيل�سان كذلك على تغ�ي�ر �سماكة اجللد‪� ،‬إذ‬
‫�إن م ��ن الآث ��ار املمي ��زة للت�سم ��م بالزرنيخ زي ��ادة �سماكة اجللد‬
‫(‪ .)hyperkeratosis‬وعن ��د انت�ش ��اره يف �أع�ض ��اء اجل�سم ي�ؤدي‬
‫�إل ��ى �سقوط ال�شعر‪ ،‬وف�ش ��ل وظائف الأع�ض ��اء املختلفة‪ :‬كالكبد‬
‫والرئت�ي�ن والكليت�ي�ن‪ ،‬حيث مي ��وت �أغلب املر�ض ��ى يف حال عدم‬
‫العالج‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫‪� -3‬إذا جتاوز املري�ض املرحل ��ة الأولية احلادة‪ ,‬يتم �إخراج الزرنيخ‬
‫م ��ن بالزما ال ��دم عن طري ��ق الكلية‪ ،‬حي ��ث يبلغ ن�ص ��ف عمره‬
‫(‪� 11 )half-life‬ساع ��ة تقريب ��ا(((‪ .‬ويتخل� ��ص اجل�سم منه بعد‬
‫�أربع �أ�سابيع تقري ًبا‪ ،‬لكن تبقى كميات خمزنة يف اجللد وال�شعر‬
‫والعظ ��ام ت� ��ؤدي �إلى الآثار طويل ��ة الأمد‪ ،‬كتبق ��ع اجللد وتثبيط‬
‫عمل نخاع العظم (‪ )Aplastic anemia‬ومن ثم �إ�ضعاف مناعة‬
‫اجل�س ��م‪ .‬كما ي�ؤدي �إلى ارتفاع ال�ضغ ��ط املتعلق ب�أمرا�ض القلب‬
‫والأوعية الدموية(((‪.‬‬
‫وه ��ذه الأعرا�ض كان النب ��ي ‪ H‬يعاين من بع�ضها‪،‬‬
‫كتغري لون باطن حلقه املذكور يف حديث �أن�س املتفق عليه‪ ،‬الذي‬
‫مر ذكره �آن ًفا‪ ,‬والآالم التي كانت تعوده بني الفينة والأخرى‪ ،‬التي‬
‫ذكره ��ا يف حديث عائ�شة‪� .‬أما تثبيط مقاومة اجل�سم للأمرا�ض‬
‫فلعل ��ه كان هو ال�سب ��ب وراء تفاقم حمى املالري ��ا‪ ،‬التي �أ�صابته‬
‫عند وفاته ‪.H‬‬
‫ذك ��ر بع�ضه ��م �أن �سب ��ب م ��وت النب ��ي ‪ H‬ه ��و‬
‫(‪� )Aortic dissection‬أو م ��ا ي�سم ��ى بت�سل ��خ الأبه ��ر عم�ًل�اً‬
‫‪(1) http://www.atsdr.cdc.gov. Arsenic Toxicity‬‬
‫‪(2) Dangleben NL, Skibola CF, Smith MT. Arsenic immunotoxicity:‬‬
‫‪a review. Environ Health. 2013;12(1):73‬‬

‫‪115‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫بظاه ��ر حديث عائ�ش ��ة ‪« J‬فهذا �أوان انقط ��اع �أبهري من‬
‫ذلك ال�س ��م»(((‪ ،‬وهذا لي� ��س دقي ًقا‪ ،‬لأن الأعرا� ��ض املذكورة يف‬
‫الأحادي ��ث ال�صحيح ��ة ال تتفق مع ه ��ذا املر�ض‪ .‬فت�سل ��خ الأبهر‬
‫(‪ )Aortic dissection‬يبد�أ ب�أمل �صدري مفاجئ وحاد ج ًّدا على‬
‫هيئة طعن ��ة ال�سكني ي�صاحب ��ه �صعوبة يف البل ��ع ب�سبب ال�ضغط‬
‫على املريء‪.‬‬
‫والأبه ��ر (‪ )Aorta‬ه ��و ال�شري ��ان الرئي� ��س يف ج�س ��م الإن�سان‪،‬‬
‫ويخ ��رج مبا�شرة م ��ن البطني الأي�سر للقلب‪ ،‬بحي ��ث تغذي تفرعاته‬
‫جمي ��ع �أج ��زاء اجل�سم‪ .‬وانقط ��اع الأبهر داء حاد ج� � ًّدا بحيث ي�صل‬
‫�أغل ��ب املر�ض ��ى �إل ��ى الطوارئ وه ��و يف حال ��ة حرجة �أو مي ��وت قبل‬
‫الو�صول �إلى امل�ست�شفى‪.‬‬
‫ول ��ذا ينبغي �أن ي�ص ��رف احلديث عن ظاه ��ره بقرينة الواقع‪،‬‬
‫ال ��ذي و�صفت ��ه الأحادي ��ث ال�صحيحة‪ ،‬ويحم ��ل على م ��ا �أثبته العلم‬
‫م ��ن الآثار طويلة الأم ��د ل�سم الزرنيخ على القل ��ب والأوعية الدموية‬
‫كارتف ��اع ال�ضغط املتعلق ب�أمرا� ��ض القلب وال�شراي�ي�ن( (�‪hyperten‬‬

‫‪.)sion-related cardiovascular disease‬‬

‫((( �سبق تخريجه‬

‫‪116‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫وخال�صة م ��ا �سبق �إيراده يف �سبب وف ��اة النبي ‪� H‬أن‬


‫م�ضاعفات �سم الزرنيخ و�آث ��اره طويلة الأمد قد �ساهمت ب�شكل غري‬
‫مبا�ش ��ر يف �إ�ضعاف مقاومة ج�سده حلم ��ى املالريا حني �أ�صابته بعد‬
‫�أربع �سنني‪ ،‬فهو �شهيد باحلمى و�شهيد بال�سم ب�أبي هو و�أمي �صلوات‬
‫اهلل و�سالمه عليه‪ .‬واهلل �أعلم‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫(((‬
‫ج‪� :‬إ�ضاءات طبية‬

‫الزرنيخ هو عن�صر ثقيل موجود يف الطبيعة حيث يحتل املرتبة‬


‫الع�شري ��ن م ��ن ناحية وفرته يف ق�ش ��رة الأر� ��ض‪ ،‬ويف املرتبة الرابعة‬
‫ع�شرة من ناحية توفره يف امل�أكوالت البحرية‪.‬‬
‫الأ�ضرار ال�صحية للزرنيخ‪ :‬تاريخ ًّيا يعد الزرنيخ �أكرث ال�سموم‬
‫�شيوع ��ا يف ح ��االت االغتي ��االت واالنتح ��ارات‪ ,‬ولك ��ن ه ��ذه الن�سبة‬
‫ً‬
‫ت�ضاءلت كث ًريا يف الوقت احلايل ب�سبب �سهولة الك�شف عن الزرنيخ‪،‬‬
‫وبقائ ��ه ملدة طويل ��ة يف ج�سد ال�ضحية‪ .‬ولكن خط ��ر الزرنيخ ال يزال‬
‫حمد ًق ��ا من ناحي ��ة التعر�ض املزمن له‪ ،‬عن طري ��ق مياه ال�شرب‪� ،‬أو‬
‫عن طريق تناول املح�صوالت التي ت�سقى مبياه ملوثة بالزرنيخ‪.‬‬
‫وطبقا ملنظمة ال�صحة العاملية‪ ،‬ف�إن اً‬
‫دول مثل بنغالدي�ش وال�صني‬
‫والأرجنت�ي�ن وت�شيلي تعاين م�شكلة حقيقة من زيادة ن�سب الزرنيخ يف‬
‫مياة ال�شرب والري‪ ،‬مما ت�سبب يف �أ�ضرار �صحية م�ؤكدة(((‪.‬‬
‫ويج ��در بالذكر �أن تدخني التبغ يحت ��وي على كميات عالية من‬
‫الزرني ��خ‪ ،‬غ�ي�ر الع�ضوي �شدي ��د ال�سمي ��ة‪ ،‬لأن ج ��ذور التبغ متت�ص‬
‫الزرنيخ املوجود يف ق�شرة الأر�ض‪.‬‬
‫‪(1) http://www.atsdr.cdc.gov. Arsenic Toxicity‬‬
‫‪(2) http://www.who.int/mediacentre/factsheets/fs372/ar‬‬

‫‪119‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫والزرني ��خ م�صنف من قبل الوكال ��ة الدولية لأبحاث ال�سرطان‬


‫(‪ )IRAC‬عل ��ى �أن ��ه �سبب م�ؤك ��د ل�سرطان اجللد والرئت�ي�ن واملثانة‬
‫و�سرط ��ان ال ��دم(((‪ .‬وبالإ�ضافة �إلى ذلك فالزرني ��خ مثبط للمناعة‪،‬‬
‫�سواء �أدى �إلى ف�شل نخاع العظم �أو مل ي�ؤد �إلى ذلك(((‪.‬‬
‫�سب���ل الوقاية م���ن �أ�ضرار الزرنيخ‪ :‬م ��ادة الزرنيخ واحدة من‬
‫ع�شر مواد كيميائي ��ة‪ ،‬تعتربها منظمة ال�صحة العاملية من الأخطار‬
‫الرئي�س ��ة عل ��ى ال�صح ��ة العام ��ة‪ .‬وتو�ص ��ي مبراقب ��ة مي ��اه ال�شرب‬
‫خ�صو�صا‪ ،‬التي تنب ��ع من املياه اجلوفية‪ ،‬بحيث حتتوي على �أقل من‬ ‫ً‬
‫‪ 10‬ميكروغرام لكل لرت‪ .‬ومن ال�ضروري كذلك مراقبة ن�سبة الزرنيخ‬
‫يف حم�صوالت الأرز‪ ،‬التي تـ�أتي من البلدان التي حتتوي تربتها على‬
‫ن�سب عالية من الزرنيخ‪ :‬كال�صني وبنغالدي�ش وبع�ض مناطق الهند‪.‬‬
‫وينبغ ��ي كذل ��ك التوقف عن تدخ�ي�ن التبغ‪ ،‬لأنه يحت ��وي على كميات‬
‫�ضارة من الزرنيخ بالإ�ضافة �إلى �أ�ضراره ال�صحية الأخرى‪.‬‬
‫مما ينبغ ��ي ذكره هنا‪� :‬أن امل�أكوالت البحرية حتتوي على ن�سب‬
‫عالية م ��ن الزرنيخ الع�ضوي (‪ ،)Organic Arsenic‬وهو مركب غري‬
‫�ضار‪� ،‬إذ يتخل�ص منه اجل�سم مبا�شرة دون امت�صا�ص‪.‬‬

‫‪(1) http://www.who.int/mediacentre/factsheets/fs372/ar‬‬
‫‪(2) Dangleben NL, Skibola CF, Smith MT. Arsenic immunotoxicity: a review.‬‬
‫‪Environ Health. 2013;12(1):73‬‬

‫‪120‬‬
‫����������������������������������������������‬

‫د‪� :‬إ�شكال علمي‬

‫ا�ست�ش ��كل بع�ضه ��م كيف ميوت النب ��ي �صل ��ى اهلل وعليه و�سلم‬
‫مت�أث� � ًرا بال�سم الذي عملت ��ه اليهودية زينب بنت احل ��ارث‪ ،‬وقد قال‬
‫اهلل ‪( :D‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ) [املائ�دة‪ .]76 :‬وق ��د �أج ��اب‬
‫�أه ��ل العلم على هذا‪ ،‬فذكروا �أنه مع�صوم من القتل على وجه القهر‬
‫والغلبة‪.‬‬
‫فق ��د ع�صم ��ه اهلل ‪ D‬من القت ��ل مرا ًرا عدي ��دة‪ :‬كيوم �أحد‪،‬‬
‫وق ��د �أحاط ��ت به كتيب ��ة فر�سان قري� ��ش‪ ،‬ومل يكن مع ��ه �سوى طلحة‬
‫بن عبي ��داهلل ‪ I‬بعد مقتل الأن�صار واح ��دً ا تلو االخر‪ ,‬وكق�صة‬
‫الأعراب ��ي ال ��ذي رفع علي ��ه ال�سيف وه ��و نائم حتت �شج ��رة ف�سقط‬
‫ال�سي ��ف من يده‪ ،‬و�س�ي�رد معنا كيف ع�صمه اهلل ‪ D‬من عامر بن‬
‫الطفيل و�أربد بن قي�س‪ ،‬عندما �أرادا الفتك به ‪.H‬‬
‫فلم ��ا �أمت اهلل ب ��ه النعم ��ة‪ ،‬و�أكمل ب ��ه الدي ��ن‪ ،‬و�أ�سلمت جزيرة‬
‫الع ��رب قاطب ��ة‪� ،‬أراد اهلل ‪� D‬أن يجم ��ع ل ��ه بني �أعل ��ى املراتب مع‬
‫النبوة والر�سالة‪ ،‬وهي ال�شهادة يف �سبيل اهلل‪ .‬وقد ذكر هذا جماعة‬
‫من �أهل العلم‪ :‬كالزهري وابن مفلح يف الآداب ال�شرعية(((‪.‬‬
‫((( الآداب ال�شرعية‪ ،‬البن مفلح (‪.)81-77 /3‬‬

‫‪121‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ج ��اء يف تف�سري الق ��ر�آن الكرمي لل�شيخ اب ��ن عثيمني‪ :‬ف�إن قيل‪:‬‬
‫كي ��ف ي�صح قول الزه ��ري‪� :‬إن النبي ‪ H‬م ��ات �شهيدً ا؛ لأن‬
‫اليه ��ود كانوا �سب ًبا يف قتله‪ ،‬وقد ق ��ال اهلل تعالى‪( :‬ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍﮎ )؟ فاجل ��واب‪ :‬املراد بقول ��ه تعالى‪( :‬ﮊ ﮋ ﮌ‬
‫ﮍﮎ ) حال التبليغ؛ �أي‪ :‬بلغ و�أنت يف حال تبليغك مع�صوم‪ ،‬ولهذا‬
‫مل يعتد عليه �أحد �أبدً ا يف حال تبليغه(((‪.‬‬
‫وروى البيهقي يف دالئل النبوة �أن عبداهلل بن م�سعود كان يحلف‬
‫�أن اهلل قد اتخذ ر�سوله ‪� H‬شهيدً ا‪ ،‬كما اتخذه نب ًّيا(((‪.‬‬

‫(( ( تف�سري القر�آن الكرمي �سورة املائدة‪ ،‬البن عثيمني (�ص ‪.)154-153‬‬
‫(( ( دالئل النبوة (‪ ،)172/7‬و�أخرجه احلاكم يف امل�ستدرك (‪ ،)58/3‬و�صححه‪ ،‬فقال‪ :‬على‬
‫�شرط ال�شيخني‪ .‬ووافقه الذهبي‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫عامر بن الطفيل‬
‫«غدة كغدة البعري وموت يف بيت �سلولية»‬

‫‪123‬‬
‫������������������������������‬

‫(((‬
‫�أ‪ :‬ق�صة عامر بن الطفيل‬

‫عالية جند‪ ,‬حيث يقف جبل «جبلة»((( كالقلعة ال�شماء‪ ،‬يطاول‬


‫عنان ال�سماء‪ ،‬ويحر�س ال�سهل املمتد امتداد الأفق على جهاته الأربع‪.‬‬
‫�إن ��ه املعق ��ل الب ��اذخ الذي �أخذ م ��ن ال�سماء �سناءه ��ا‪ ،‬ومن الأر�ض‬
‫ماءه ��ا ومل تعمل فيه يد‪ ،‬ومل يجر فيه معول‪ .‬لكن ذنبه �أنه وحيد يف‬
‫جند فال ح�صون وال قالع‪ ,‬فهو كاحل�سناء التي جهل النا�س قدرها‪،‬‬
‫�إذ مل جتد من ي�ساميها �أو يناف�س جمالها‪.‬‬
‫لي� ��س من �ش�أن العرب �أن تبني القالع �أو ت�شيد احل�صون‪ ,‬و�إمنا‬
‫َم َنعته ��م يف ح ��د �سيوفهم‪ ،‬وح�صونهم �س ��روج خيولهم‪ .‬ولكن الأمر‬
‫خمتلف هذه املرة‪ ,‬فقد ت�ألبت امللوك على قبيلة عامر بن �صع�صعة‪,‬‬
‫ورمته ��م الع ��رب عن قو�س واح ��دة‪ ,‬وجاءهم جي� ��ش ال قبل لهم به‪,‬‬
‫حت ��ى مل ي�شك �أحد �أنه فنا�ؤهم وا�ستئ�صال �ش�أفتهم‪ .‬ولكن العبقرية‬
‫�سرع ��ان م ��ا حول ��ت ال�ضع ��ف �إلى ق ��وة‪ ,‬والقل ��ة �إلى ك�ث�رة‪ ،‬عندما‬
‫اعت�صمت باجلبل‪ ،‬واتخذته ح�ص ًنا‪.‬‬
‫(( ( لال�ست ��زادة م ��ن �أخب ��ار عام ��ر ب ��ن الطفي ��ل وق�صة مقدم ��ه عل ��ى النبي ‪،H‬‬
‫انظ ��ر‪ :‬ال�شع ��ر وال�شع ��راء (‪ ،)235 /1‬والبداية والنهاي ��ة (‪ ،)276/7‬و�سرية ابن ه�شام‬
‫(‪.)260/5‬‬
‫((( جبل ��ة‪ :‬ه�ضب ��ة �صخرية عمالقة تتو�سط جند‪ ،‬لها مدخل واحد م ��ن جهة ال�شرق‪ ،‬ي�سمى‬
‫�شعب جبلة‪ .‬وهي ذات بعد تاريخي و�أدبي‪ ،‬ومتتاز ب�أ�شجارها ومراعيها اخل�صبة‪ .‬تن�سب‬
‫�إليها العديد من الق�ص�ص والأ�ساطري العربية‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫دخل بن ��و عامر يف �شع ��ب جبل ��ة(((‪ ،‬ورفعوا ذراريه ��م �إلى قلة‬
‫اجلب ��ل(((‪ ،‬و�أق ��ام الفر�سان يف منت�صف اجلبل عل ��ى ثمل املاء‪� .‬أما‬
‫الإبل فقد جعلوها يف فم ال�شعب‪ ،‬و�أعط�شوها ع�شر ليال‪.‬‬
‫�أقبل ��ت اجليو�ش‪ ،‬و�أحاطت بهم من كل جان ��ب‪ ،‬وما لبثوا حتى‬
‫اقتحم ��وا عليهم ال�شع ��ب‪ ،‬وم�ضوا م�صعدين يف عر� ��ض اجلبل‪ ،‬ومل‬
‫يعلم ��وا �أي مكيدة وقعوا فيها‪ .‬فلم ��ا اقرتبوا من الإبل حل العامريون‬
‫عقله ��ا‪ ،‬واتبعوا كل بعري حجرين �أو ثالث ��ة‪ ،‬ف�أقبلت الإبل حتطم كل‬
‫�ش ��ئ �أمامها‪ ،‬وخبطت النا�س حت ��ى فرقت جمعهم‪ ،‬و�شتتت �شملهم‪،‬‬
‫فتبعها فر�سان بني عامر يقتل ��ون وي�أ�سرون‪ ،‬وانهزم اجلي�ش هزمية‬
‫نكراء‪ ،‬وانت�صرت عامر و�أحالفها ن�ص ًرا م�ؤز ًرا‪.‬‬
‫انتهت املعركة ورج ��ع الطفيل بن مالك العامري‪ ،‬ليجد زوجته‬
‫احلبيبة وقد تع�سرت والدتها‪ ،‬و�شارف ��ت على الوفاة‪ .‬حاول �إنقاذها‬
‫ب�شت ��ى الطرق الت ��ي تعرفها العرب‪ ،‬فلم يجد ذل ��ك نف ًعا حتى ماتت‬
‫زوجته �أمام ناظريه‪.‬‬
‫خط ��رت له فك ��رة �أملعية رمبا �أنقذت حي ��اة اجلنني‪ ,‬رحمه الذي‬
‫طاملا انبعث املوت كريها من �سنانه‪� ،‬أال تخرج احلياة زاكية من ن�صله؟‬

‫((( �شع ��ب جبل ��ة‪ :‬يوم من �أعظ ��م �أيام الع ��رب يف اجلاهلية‪ ،‬وق ��ع قبل الإ�سالم ب� �ـ‪� 57‬سنة‪،‬‬
‫انت�صرت فيه عامر وعب�س على متيم و�أحالفها من ملوك هجر واحلرية‪.‬‬
‫((( قلة اجلبل‪� :‬أعلى قمته‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫������������������������������‬

‫عج ًب ��ا! �إن الأداة هي نف�س الأداة‪ ،‬بل اليد هي نف�س اليد‪ ،‬ولكن‬
‫الق�ص ��د غ�ي�ر الق�صد‪ ,‬وبينهم ��ا ما بني احلي ��اة واملوت م ��ن ت�ضاد‬
‫وتناق�ض‪.‬‬
‫التق ��ط رحمه بلمح الربق‪ ،‬ثم �ألق ��اه بنف�س ال�سرعة التي �أخذه‬
‫بها‪ .‬انتابه خاطر غريب‪ ،‬فهذه �أول مرة مي�سك فيها برحمه للطعان‪،‬‬
‫ثم يرمي به دون �أن يرى �أثر الدم ي�سيل من حده‪.‬‬
‫نظ ��ر �إلى وجهها ال�شاح ��ب نظرة املذنب الن ��ادم �إلى ال�ضحية‬
‫الربيئة‪ ،‬التي طاملا حم�ضته �صادق الود يف ال�سراء‪ ،‬و�ضمدت جراحه‬
‫يف ال�ض ��راء‪� .‬أيكون وداعها يوم فراقها الأبدي �أن يبقر بطنها وي�شق‬
‫�أح�شاءه ��ا؟ �أ�ش ��اح بوجهه بعيدً ا‪ ،‬وهو يلعن احل ��رب التي جعلت منه‬
‫وح�شا‪ ،‬ال ينفتق ذهنه �إال عن هواج�س الطعن وال�ضرب والرمي‪.‬‬ ‫ً‬
‫ابتع ��د ع ��ن اخليم ��ة قليلاً ‪ ،‬فع ��ادت الفك ��رة امللحة �إل ��ى ذهنه‬
‫امل�ضط ��رب‪� ,‬أال يزال اجلن�ي�ن الذي طاملا �سعدا بتقلب ��ه يف �أح�شائها‬
‫ح ًّي ��ا؟ �أتنق ��ذ حيات ��ه طعن ��ة رم ��ح طامل ��ا خطف ��ت �أرواح الفر�س ��ان‬
‫ال�صناديد؟‬
‫م�سرعا‪ ،‬ونظ ��ر �إليها بهدوء نظرة الطفل الذي قدر‬ ‫ً‬ ‫رجع �إليها‬
‫له �أال يرى �أمه �إال يوم وفاتها‪ .‬خاطبته روحها‪ .‬روح الأم الر�ؤوم التي‬
‫�ضح ��ت بنف�سها لأجل جنينها‪ :‬اقدم وال حتجم‪ ،‬ب ��ل �أ�سرع‪ ،‬علك �أن‬
‫تدرك ما بقي يف اجلنني من نف�س‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫التقط رحمه مرة �أخرى‪ ،‬كما يلتقط اجلراح احلاذق مب�ضعه‪،‬‬


‫ً‬
‫�صارخا ب�صوت‬ ‫و�ش ��ق بطنه ��ا برفق‪ ،‬و�أخرج «عام ��ر» قد ازرق لون ��ه‬
‫�ضعيف‪.‬‬
‫نعم‪� ..‬إنه عامر تف ��ا� اًؤل بطول عمره و�سالمته‪ ،‬وعلى ا�سم جده‬
‫الأكرب عامر ابن �صع�صعة‪.‬‬
‫ن�ش�أ عامر بني �أترابه ن�ش�أة الأبطال‪ ،‬يردد م�آثر قومه وبطوالت‬
‫�آبائ ��ه‪ ،‬وينتق ��ل مع قبيلته يف �أنحاء جند �شت ��اء‪ ،‬ويف �أكناف الطائف‬
‫�صي ًفا‪ .‬وما �أن �شب عن الطوق حتى طارت ب�أخبار فرو�سيته الركبان‪،‬‬
‫وبلغ من �شجاعته �أن عد رابع �أربعة انتهت �إليهم �شجاعة العرب‪.‬‬
‫يق ��ول فار�س العرب عمرو بن معدي ك ��رب‪ :‬لو وردت على مياه‬
‫الع ��رب كلها ما باليت ب�أح ��د �إال �أن يكون عامر بن الطفيل‪� ،‬أو عتيبة‬
‫ابن احلارث‪� ،‬أو عنرتة ابن �شداد‪� ،‬أو ال�سليك ابن ال�سلكة(((‪.‬‬
‫وبالإ�ضاف ��ة �إلى �شجاعته الن ��ادرة‪ ،‬وح�سبه الكرمي‪ ،‬فهو �شاعر‬
‫مجُ يد‪:‬‬
‫و�إين و�إن ك���ن���ت اب�����ن ف����ار�����س ع��ام��ر‬
‫و����س���ي���ده���ا امل�������ش���ه���ور يف ك�����ل م���وك���ب‬
‫((( بل ��وغ الأرب (‪ .)127 /2‬وعتيب ��ة ب ��ن احلارث ب ��ن �شهاب التميمي فار� ��س بني يربوع يف‬
‫اجلاهلية‪ ،‬كان ي�سمى �صياد الفوار�س‪ .‬وال�سليك بن عمري ال�سعدي التميمي‪ ،‬وال�سلكة هي‬
‫�أمه‪ ،‬وقد ن�سب �إليها‪ ،‬فغلبت على ا�سم �أبيه‪ ,‬فار�س �صعلوك‪ ،‬وكان من العدائني‪ ،‬الذين ال‬
‫تلحقهم اخليل‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫������������������������������‬

‫ف����م����ا �����س����ودت����ن����ي ع�����ام�����ر ع�����ن وراث�������ة‬


‫�أب��������ى اهلل �أن �أ�����س����م����و ب���������أم وال �أب‬
‫ول��ك��ن��ن��ي �أح��م��ى ح��م��اه��ا و�أت���ق���ي �أذاه����ا‬
‫و�أرم�������������������ي م��������ن رم��������اه��������ا مب���ن���ك���ب���ي‬
‫فل ��م يتكل على ن�سبه‪ ،‬ب ��ل اعتمد على نف�سه‪ ،‬مع �أنه من �أ�شرف‬
‫الع ��رب بي ًت ��ا و�أكرمه ��م حمت ��دً ا‪ ،‬فهو �سلي ��ل �أ�سرة عريق ��ة يف املجد‬
‫والزعام ��ة‪� ,‬ضاربة يف ال�شجاعة وال�شعر والك ��رم بالن�صيب الأوفى‪,‬‬
‫فعم ��ه �أبو الرباء عامر بن مالك((( مالع ��ب الأ�سنة‪ ،‬وابن عمه لبيد‬
‫اب ��ن ربيعة ‪� I‬شاع ��ر املعلقات املع ��روف‪� .‬أما �أب ��وه الطفيل بن‬
‫مالك فهو �سيد عامر وفار�سها امل�شهور‪.‬‬
‫بزغ فجر الإ�س�ل�ام من مكة‪ ،‬وبد�أ �ضو�ؤه يتخلل جزيرة العرب‪،‬‬
‫ومل تك ��ن العرب لتقبل هذا الدين اجلديد ال ��ذي ي�سعى لتغيري كافة‬
‫نظ ��م احلياة‪ ،‬ولكنها �أوكلت مهمة الت�صدي للنبي ‪ H‬لأهل‬
‫مك ��ة‪ ،‬فهم �س ��ادة البيت‪ ،‬و�أرب ��اب التجارة يف جزي ��رة العرب كلها‪.‬‬
‫وطفق العرب يقولون‪ :‬هم �أهله وقد حاربوه‪ ،‬ف�إن ظفر بهم فهو نبي‪،‬‬
‫و�إال فقد كفيتموه‪.‬‬
‫((( �أب ��و ب ��راء عامر بن مال ��ك �سيد بني عام ��ر بن �صع�صع ��ة‪ ،‬و�أحد فر�سانه ��م املعدودين‪،‬‬
‫كان م�ض ��رب املث ��ل يف ال�شجاعة‪ ،‬حتى �سم ��ي مبالعب الأ�سنة‪ُ .‬ع ِّم ��ر طويلاً ‪ ،‬حتى �أدرك‬
‫الإ�سالم‪ ،‬ووفد على النبي ‪ H‬ومل ي�سلم‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫تتابعت الأحداث عجلى‪ ،‬وعامر بن الطفيل منهمك يف غزواته‬


‫وحروبه مع القبائل الأخرى من يوم الرقم((( �إلى يوم فيف الريح(((‪.‬‬
‫وبع ��د �صل ��ح احلديبي ��ة ا�ست�شعر �س ��ادة الع ��رب‪ ،‬ومنهم عامر‬
‫ب ��ن الطفيل‪� :‬أن جن ��م اال�سالم قد بد�أ يعلو مه ��ددًا بتقوي�ض �صروح‬
‫اجلاهلي ��ة‪ ،‬فالدين اجلدي ��د لي�س عقيدة فقط‪ ،‬بل ه ��و تغيري �شامل‬
‫لنظ ��ام احلي ��اة مبفهومه ��ا الوا�سع‪ .‬حت ��ى معايري ال�سي ��ادة والفخر‬
‫والك ��رم مل تعد بالأح�ساب والأن�ساب‪ ،‬بل �أ�صب ��ح النا�س �سوا�سية‪ ،‬ال‬
‫فرق بينهم �إال بالتقوى‪.‬‬
‫م ��ا �إن �أدرك عامر ه ��ذا الأمر حتى ق ��رر �أن يتفاو�ض مع قائد‬
‫ه ��ذا الدين اجلديد يف يرثب‪ .‬ت�أهب لل�سفر‪ ،‬و�أعد للأمر عدته‪ ،‬وقد‬
‫قرر �أن ي�سلم على �أن يكون له الأمر من بعد حممد ‪.H‬‬
‫لك ��ن! ملاذا �أ�صر على �أن ي�صحبه �أرب ��د بن قي�س(((‪ ،‬وهو فاتك‬
‫من فتاك العرب امل�شهورين؟ ال بد �أن وراء الأكمة ما وراءها‪.‬‬

‫(( ( الرق ��م‪ :‬ي ��وم انت�صرت فيه غطفان على عامر‪ ،‬وكان عامر بن الطفيل �شا ًّبا‪ ،‬وله ذكر يف‬
‫ذلك اليوم‪.‬‬
‫((( فيف الريح‪ :‬يوم عظيم‪ ،‬جرى بني قبيلة عامر واحلارث بن كعب و�أحالفها‪ ،‬وكان ال�صرب‬
‫وال�شرف فيه لعامر‪ .‬وقد وقع هذا اليوم يف ال�سنة اخلام�سة بعد الهجرة تقري ًبا‪.‬‬
‫((( �أرب ��د بن قي�س العامري �أح ��د فتاك العرب وفر�سانها امل�شه ��ورون‪� ،‬أراد �أن يفتك بالنبي‬
‫‪ ،H‬فع�صم ��ه اهلل‪ ،‬ورج ��ع �أربد �إلى قومه‪ ،‬فنزلت علي ��ه �صاعقة ف�أحرقته‪ .‬رثاه‬
‫لبيد بن ربيعة‪ ،‬وكان �أخاه لأمه‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫������������������������������‬

‫خرج الركب من �ضرية((( تخب بهم املطي‪ ،‬ميم ًما �شطر الغرب‬
‫�إلى يرثب‪ ،‬ويف نف�س عامر �شيء من االنقبا�ض! ماذا لو �أجاب حممد‬
‫�شرط ��ه‪ ،‬ووافق على �أن يكون له الأمر م ��ن بعده؟ �أيغدو تاب ًعا له بعد‬
‫متبوع ��ا ب�ش ��كل مطلق؟ كيف وقد �أق�سم‪� :‬أال ميوت حتى تتبعه‬
‫�أن كان ً‬
‫العرب قاطبة‪ ،‬ثم ها هو يغدو تاب ًعا لفتى من قري�ش؟ ت�سا�ؤالت ملحة‬
‫كادت �أن تثني ��ه ع ��ن عزمه‪ ،‬وتعود به �أدراجه‪ ،‬ومل ��ا يبلغ الركب جبل‬
‫رحرحان((( بعد‪.‬‬
‫ت�شجع قليلاً حني خطر له �أن هذا ال�شرط قد ي�ضمن له �سرعة‬
‫جن ��اح م�شروع ��ه يف توحي ��د العرب حت ��ت رايته‪ ،‬وعل ��ى كل حال �إن‬
‫و�صلت املفاو�ضات �إلى طريق م�سدود‪ ،‬ف�أربد حا�ضر موجود!‬
‫�أن ��اخ الركب على مرحلة من املدين ��ة‪ ،‬وبات عامر يعد اخلطة‪,‬‬
‫اخلي ��ارات وا�ضح ��ة وحم ��ددة‪ ،‬ولي�س ثم ��ت �أن�صاف حل ��ول‪ ,‬انفرد‬
‫ب�أرب ��د‪ ،‬ثم قال له‪� :‬إن حممدً ا ال يحر�سه حار�س‪ ،‬وال يحجبه حاجب‪،‬‬
‫و�س�أفاو�ضه على �أن يكون يل الأمر من بعده‪ ،‬ف�إن �أجاب فبها ونعمت‪،‬‬
‫و�إن �أبى ف�أت ِه من خلفه‪ ،‬ثم اعل ُه بال�سيف‪ ،‬و�أنا �أ�شغل عنك وجهه‪ .‬هز‬
‫�أربد ر�أ�سه مبد ًيا موافقته‪ ،‬ومل ينب�س ببنت �شفه‪.‬‬

‫(( ( �ضرية‪ :‬قرية �شهرية �ضاربة يف �أعماق التاريخ‪� ،‬سميت ب�ضرية بنت ربيعة بن نزار‪ ،‬وهي‬
‫من ��زل من �أ�شهر منازل طريق احل ��ج الب�صري‪ .‬اتخذها كليب وائل حمى لرعي �إبله‪ ،‬ثم‬
‫جعلها عمر ‪ I‬حمى لإبل ال�صدقة‪ .‬واليوم هي �إحدى حمافظات منطقة الق�صيم‪.‬‬
‫(( ( جبل رحرحان‪ :‬جبل �شهري يقع قري ًبا من الربذة على بعد ‪ 150‬كلم �شرق املدينة‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫دخل عامر املدينة وق ��د تغري فيها كل �شيء منذ �أن زارها �آخر‬
‫م ��رة قب ��ل ع�شر �سنني‪� .‬أين حانات يهود بن ��ي قريظة‪� ،‬أم �أين مزارع‬
‫بن ��ي الن�ضري‪ ،‬بل �أين بن ��و قينقاع �صاغة الذهب وجتاره يف اجلزيرة‬
‫كلها‪ .‬لقد ت�شتت القوم‪ ،‬فال �أني�س وال خمرب‪.‬‬
‫مل يتغ�ي�ر بناء املدينة كث ًريا فاحل�ص ��ون هي احل�صون‪ ،‬والدور‬
‫ه ��ي الدور‪ ،‬لك ��ن تغريت الوجوه فل ��م يعد يعرف منها �أح ��د تقري ًبا‪.‬‬
‫�ص ��اح عام ��ر بالنا�س على ع ��ادة الأعراب‪� :‬أين حمم ��د؟ دلوين على‬
‫حممد؟ نظر النا�س �إليه �شز ًرا‪ ،‬ثم قالوا بهدوء‪ :‬يف امل�سجد‪.‬‬
‫امل�سج ��د! ما هذه املف ��ردة الغريبة‪ ،‬التي مل ي�سمع بها عامر من‬
‫قبل وهو من عليا هوازن؟ �أبلغ بهذا الدين �أن يغري حتى لغة النا�س؟‬
‫�أي ��ن امل�سجد؟ قالها به ��دوء ينم عن �سخري ��ة وغ�ضب خافت‪.‬‬
‫�أ�ش ��ار النا� ��س �إلى بن ��اء م�ستطيل‪ ،‬يتو�س ��ط الدور‪ ،‬م�شي ��د بالطني‪،‬‬
‫م�سقوف بجرائد النخل‪.‬‬
‫دخ ��ل عامر وه ��و يت�صنع الأنف ��ة‪ ،‬وك�أنه يريد �إخف ��اء ده�شته‪،‬‬
‫ورمب ��ا وجله حتى عن رفاقه‪ .‬ر�أى منظ ًرا مل ي ��ره عند ملوك اليمن‪،‬‬
‫أوزاعا متفرقني‪ ،‬بني‬
‫ومل ي�سمع به حتى عند ك�سرى وقي�صر‪ ,‬النا�س � ً‬
‫قائ ��م و�ساجد‪ ،‬على ح�صب ��اء خ�شنة‪ ،‬حيث ال ب�سط وال فر�ش‪ ،‬ف�ضلاً‬
‫عن وجود عر�ش يجل�س عليه امللك‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫������������������������������‬

‫م ��ا �سر هذا الرجل؟ بل م ��ا �سر هذا الدي ��ن‪ ،‬الذي غري يرثب‬
‫كلها يف طرفة عني؟‬
‫عام ��ر! �ص ��وت ه ��ادىء جاء م ��ن �أق�ص ��ى امل�سجد‪ ،‬قط ��ع عليه‬
‫ت�أمله‪ ،‬وذكره ب�شيء من كربيائه‪ ،‬فعلى الأقل ثمت من يعرفه يف هذا‬
‫املكان‪ .‬التفت نحو �صاحب ال�صوت‪ ،‬وتفر�س يف مالحمه‪ ،‬فعرف �أنه‬
‫حممد ‪ ،H‬فهو من ال تخطئه العني‪ :‬روع ًة وهيب ًة وجاللاً ‪.‬‬
‫اجت ��ه �إليه حت ��ى جل�س بني يدي ��ه‪ ،‬فب ��ادره ‪ H‬قائلاً ‪:‬‬
‫«ه ��ل لك �أن ت�سلم‪ ،‬ول ��ك �أعنة اخليل؟»‪� ،‬أي قي ��ادة اجلي�ش‪ .‬مل يكن‬
‫ه ��ذا العر�ض مغر ًيا لعامر‪ ،‬فبادر قائلاً ‪ :‬ب ��ل �أ�سلم على �أن يكون يل‬
‫الأم ��ر من بعدك‪ .‬ف�أبى ر�سول اهلل ‪ ،H‬وقال له‪« :‬بل لك ما‬
‫للم�سلمني وعليك ما عليهم»(((‪.‬‬
‫فجع ��ل عامر يطيل ال ��كالم‪ ،‬وينتظر �أرب ��د �أن يقوم فيفتك به‪،‬‬
‫م�سرعا‪ ،‬ووق ��ف على باب‬‫ً‬ ‫و�أرب ��د �ساك ��ن ال يح�ي�ر �شي ًئا‪ .‬قام عام ��ر‬
‫�صارخ ��ا‪ :‬واهلل لأملأن املدين ��ة عليك خيلاً ج ��ردًا ورجالاً‬
‫ً‬ ‫امل�سج ��د‬
‫فر�سا‪ .‬فلما ولى قال ‪« :H‬اللهم‬ ‫م ��ردًا‪ ،‬ولأربطن بكل نخلة ً‬
‫اكفني عامر بن الطفيل‪ ،‬واهد قومه»(((‪.‬‬
‫((( املعجم الكبري‪ ،‬للطرباين (‪ ،)379/10‬ورواه يف الأو�سط � ً‬
‫أي�ضا (‪.)9123‬‬
‫((( املعجم الكبري‪ ،‬للطرباين (‪.)380 /10‬‬

‫‪133‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫خ ��رج عامر مغ�ض ًبا‪ ،‬يكاد يتميز من الغيظ على �أربد بن قي�س‪،‬‬
‫مل ��ا ر�أى م ��ن ت�أخره و�إحجامه ع ��ن قتل حممد‪ ،‬وقال ل ��ه‪ :‬ويلك! �أين‬
‫م ��ا كنت �أمرتك به؟ واهلل ما كان عل ��ى ظهر الأر�ض رجل هو �أخوف‬
‫عندي عل ��ى نف�سي منك‪ ،‬وامي اهلل ال �أخافك بعدها �أبدً ا فقال �أربد‪:‬‬
‫علي‪ ،‬واهلل ما هممت ب�ضربه‪� ،‬إال ر�أيتك بيني وبينه‪ ،‬حتى ما‬ ‫ال تعجل َّ‬
‫�أرى غريك‪� ،‬أف�أ�ضربك بال�سيف؟!‬
‫قف ��ل عامر راج ًعا �إلى ب�ل�اد قومه كئي ًبا‪ ،‬قد انقط ��ع �أمله‪ ،‬ومل‬
‫تنج ��ح خطته‪ ،‬فما لبث �أن �أ�صابته احلمى‪ ،‬ووهن عن امل�سري‪ ،‬ف�أقام‬
‫عند قبيلة �سلول‪ ،‬ول�سان حاله يقول‪:‬‬
‫(((‬
‫ر�ضيت من الغنيمة بالإياب‬ ‫وقد طوفت بالآفاق حتى‬
‫ب ��ات ليل ��ة يف بيت امر�أة م ��ن بني �سلول‪ ،‬وق ��د بلغت به احلمى‬
‫�أ�شده ��ا‪ ،‬ف�أ�صبح وقد خرج ��ت له غدة حتت ذقن ��ه‪ ،‬فما زالت تكرب‬
‫حت ��ى �شارف على امل ��وت بعد ثالث ليال‪ ،‬فجع ��ل يتح�س�سها‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫(غدة كغدة البعري‪ ،‬وموت يف بيت �سلولية)(((‪.‬‬
‫(( ( البيت لإمرئ القي�س بن حجر من ق�صيدة قالها �آخر حياته‪.‬‬
‫((( ه ��ذه العب ��ارة خرجت خمرج الت�أ�س ��ف واحل�سرة‪ ،‬وك�أنه يق ��ول‪� :‬أي ذل بعد هذا؟ فهو مل‬
‫يقتل يف ميدان البطولة‪ ،‬كما يتمنى الفر�سان‪ ،‬بل مات حتف �أنفه‪ ،‬وقد خرجت غدته من‬
‫جانب فمه كالبعري‪ ،‬ومل ميت يف ديار قومه �أو يف �ضيافة قبيلة لها �شرف وذكر‪ ،‬و�إمنا يف‬
‫�ضيافة امر�أة من قبيلة �سلول‪ ،‬وهي قبيلة حتتقرها العرب!‬

‫‪134‬‬
‫������������������������������‬

‫فما لبث �أن مات‪ ،‬فجعلت عامر قربه حمى ال يرعى‪ ،‬وال ي�سلكه‬
‫راكب وال ما�ش‪.‬‬
‫وكان جب ��ار بن �سلم ��ى‪� -‬أحد �سادات بني عام ��ر‪ -‬غائ ًبا‪ ،‬فلما‬
‫قدم قال‪ :‬ما هذه الأن�صاب؟ قالوا‪ :‬حمى على قرب عامر بن الطفيل‪.‬‬
‫قال‪� :‬ضيقتم على �أبي علي‪� ،‬إن �أبا علي قد ف�ضل على النا�س بثالث‪:‬‬
‫كان واهلل ال ي�ضل حتى ي�ضل النجم‪ ،‬وال يعط�ش حتى يعط�ش البعري‪،‬‬
‫وال يه ��اب حت ��ى يهاب ال�سيل‪ ،‬وكان واهلل خري م ��ا يكون حني ال تظن‬
‫نف�س بنف�س خ ًريا‪ ،‬يا بني عامر اجعلوا حمى قربه ميلاً يف ميل(((‪.‬‬

‫((( بلوغ الأرب (‪.)128 /2‬‬

‫‪135‬‬
‫������������������������������‬

‫ب‪ :‬حتقيق �سبب الوفاة‬

‫جم ��ع �شواه ��د الق�صة يدل على �أن �سبب م ��وت عامر بن الطفيل‬
‫هو �سرطان ليمفاوي‪ ،‬يدعى بريكت ليمفوما (‪،)Burkitt lymphoma‬‬
‫وذلك ا�ستنادًا على الدالئل التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬بريك ��ت ليمفوما هو �أ�سرع ال�سرطانات من ًوا على الإطالق‪ ،‬حيث‬
‫تت�ضاع ��ف اخلاليا ال�سرطانية كل ‪� 24‬ساعة‪ .‬ويخرج غال ًبا على‬
‫�شكل ورم يف عظم الفك ال�سفلي‪ ،‬ويت�ضخم ب�سرعة مذهلة‪ ،‬مما‬
‫ي�ؤدي �إلى خروج جزء من الورم من �أحد جانبي الفم‪ ،‬فيما ي�شبه‬
‫له ��اة البعري‪ .‬و�سرعان ما يق ��ود ت�ضخم الأورام يف منطقة الفك‬
‫و�أ�سف ��ل احللق �إلى �إغالق جمرى التنف�س‪ ،‬ومن ثم الق�ضاء على‬
‫املري�ض يف وقت ق�صري(((‪.‬‬
‫ومع �صعوبة الت�أكد من الوقت الذي مر منذ ظهور الأعرا�ض‬
‫الأولي ��ة للمر�ض على عامر بن الطفيل حتى وفاته‪� ,‬إال �أن امل�ؤكد‬
‫�أن املدة كلها ال تزيد عن ال�شهر‪� .‬أما املدة التي مرت بني ت�ضخم‬
‫الورم حتى كان غدة كغدة البعري وبني وفاته‪ ،‬فهي ثالثة �أيام(((‪.‬‬
‫فق ��د روى اب ��ن كثري ع ��ن الأوزاع ��ي‪� :‬أن ر�سول اهلل ‪H‬‬

‫‪(1) WHO Classification of Tumours of Haematopoietic and Lymphoid Tissue‬‬


‫((( ال�شعر وال�شعراء (‪.)235 /1‬‬

‫‪137‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�صباحا‪« :‬اللهم اكفني‬


‫مكث يدعو على عامر بن الطفيل ثالثني ً‬
‫عام���ر ب���ن الطفيل مبا �شئ���ت‪ ,‬وابعث عليه ما يقتل���ه»(((‪ ،‬وكان‬
‫قبل ذلك هو من قتل �أ�صحاب النبي ‪ H‬يف بئر معونة‪.‬‬
‫‪ -2‬بريك ��ت ليمفوم ��ا هو �سرطان ليمفاوي يك�ث�ر يف مناطق الإ�صابة‬
‫باملالريا‪ ،‬و�سمي املر�ض ن�سب ��ة للجراح الإيرلندي دني�س بريكت‬
‫الذي و�صفه عام ‪� 1956‬إبان �إقامته يف �أفريقيا الإ�ستوائية‪ ،‬حيث‬
‫كانت املالريا تنت�شر ب�شكل وبائي هناك‪.‬‬
‫وت�ش�ي�ر الدالالت التاريخية �إل ��ى �أن املدينة املنورة كانت من‬
‫�أ�شه ��ر مواطن حمى املالريا يف اجلزيرة‪ ،‬حت ��ى عرفت با�سمها‬
‫خمت�ص ��ا باملدينة فق ��ط‪ ،‬بل كان‬
‫ًّ‬ ‫(حم ��ى ي�ث�رب)‪ .‬ولي�س ه ��ذا‬
‫ي�شم ��ل �أغلب مياه العرب الدائمة‪ ،‬كخيرب‪ ،‬حيث تتوافر الرطوبة‬
‫واحلرارة املنا�سبة لتكاثر البعو�ض‪ ،‬الذي ينقل بيو�ض املالريا(((‪.‬‬
‫‪ -3‬احلم ��ى عر�ض ع ��ام لأمرا� ��ض عدي ��دة‪ ،‬ولكن �شدته ��ا ومنطها‬
‫يختلف ��ان من مر�ض لآخر‪ ،‬فاحلمى ال�شدي ��دة التي ت�ستمر لعدة‬
‫�ساعات‪ ،‬ثم ت ��زول بعد التعرق الكثري‪ ،‬لتعود بعد يومني �أو ثالثة‬
‫هو من ��ط ممي ��ز للمالريا‪ .‬وكان ��ت الع ��رب تعرفه ��ا‪ ،‬وت�سميها‪:‬‬

‫((( البداية والنهاية (‪ ،)278 /7‬و�أخرجه البيهقي يف دالئل النبوة (‪.)320/5‬‬


‫((( خمت�صر تاريخ الطب العربي (‪.)215 -191 /1‬‬

‫‪138‬‬
‫������������������������������‬

‫(حم ��ى ي�ث�رب) ويتقونه ��ا بالتع�ش�ي�ر(((‪� .‬أما احلم ��ى امل�ستمرة‬
‫بدرجة متو�سطة �إلى خفيفة‪ ،‬فهي عر�ض م�صاحب لأغلب حاالت‬
‫ال�سرطان الليمفاوي‪.‬‬
‫وعل ��ى الرغم من �أن امل�ص ��ادر املتوافرة بني �أيدينا مل ت�شر �إلى‬
‫من ��ط احلمى الت ��ي �أ�صابت عام ًرا قب ��ل وفاته‪� ،‬إال �أن م ��ا يغلب على‬
‫الظن �أنها كانت حمى مرتبط ��ة بال�سرطان الليمفاوي‪ ،‬الذي �أ�صابه‬
‫وال ت�شبه حمى يرثب‪ ،‬ولو كانت متاثلها لنقل ذلك �إلينا‪ ،‬واهلل �أعلم‪.‬‬

‫((( التع�ش�ي�ر‪ :‬خرافة يفعلها بع�ض العرب‪ ،‬ملنع الإ�صاب ��ة باحلمى‪ ،‬وذلك ب�أن ينهق كاحلمار‬
‫ع�شر مرات عند دخول يرثب �أو خيرب!‬

‫‪139‬‬
‫������������������������������‬

‫(((‬
‫ج‪� :‬إ�ضاءات طبية‬

‫بريك ��ت ليمفوما هو �س ��رطان بالغ اخلطورة‪� ،‬س ��ريع االنت�ش ��ار‬
‫ي�صي ��ب اخلالي ��ا الليمفاوي ��ة البائي ��ة (‪ )B-Lymphocytes‬ب�سبب‬
‫طف ��رة جيني ��ة مكت�سب ��ة‪ ،‬ت� ��ؤدي �إل ��ى اخت�ل�ال عمل ج�ي�ن �سي ميك‬
‫(‪ )C-MYC‬امل�س�ؤول عن انق�سام نوى اخلاليا‪.‬‬
‫وحت ��دث ه ��ذه الطف ��رة ب�سبب �ضع ��ف املناع ��ة �أو ب�سب ��ب العدوى‬
‫املزمنة بطفيل املالريا �أو فريو�س ابي�شتاين بار (‪،)Epstein barr virus‬‬
‫ويف كث�ي�ر من الأحي ��ان ال يوجد �سب ��ب وا�ضح‪ ،‬ميك ��ن �أن يعزى �إليه‬
‫حدوث هذا املر�ض‪.‬‬
‫ت�شخي�ص املر�ض‪:‬‬
‫يتمث ��ل مر� ��ض بريكت ليمفوما على هيئ ��ة ورم يف عظام الوجه‬
‫خ�صو�صا‪ ،‬وقد ي�صي ��ب اجلهاز اله�ضمي يف مناطق‬ ‫ً‬ ‫والف ��ك ال�سفلي‬
‫خمتلف ��ة كالأمعاء واملع ��دة‪ .‬وما يلبث هذا ال ��ورم �أن يت�ضخم ب�شكل‬
‫�سري ��ع ج ًّدا‪ ،‬وق ��د ي�صاحبه حرارة وتعرق ليل ��ي ونق�صان يف الوزن‪.‬‬
‫حت ��ت املجه ��ر يظه ��ر ال ��ورم عل ��ى هيئ ��ة ال�سم ��اء املليئ ��ة بالنجوم‬
‫(‪ )Starry Sky‬ويتك ��ون م ��ن خالي ��ا �سرطانية متماثل ��ة يف احلجم‬
‫وال�شكل‪ ،‬حتتوي فجوات دهنية عديدة يف ال�سيتوبالزم‪.‬‬
‫‪(1) WHO Classification of Tumours of Haematopoietic and Lymphoid Tissue‬‬

‫‪141‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ويت ��م الت�أكد م ��ن �صحة ت�شخي� ��ص مر�ض بريك ��ت ليفوما عن‬
‫طري ��ق عل ��م الوراث ��ة اخللوي‪ ،‬حي ��ث تتميز بوجود اخت�ل�ال يف عمل‬
‫جني �س ��ي مي ��ك (‪ )C-MYC‬ب�سبب طف ��رة (‪� )8,14‬أو غريها من‬
‫الطفرات‪.‬‬

‫عالج املر�ض‪:‬‬

‫م ��ع �شدة خط ��ورة املري�ض �إال �أنه ي�ستجيب ب�ش ��كل رائع للعالج‬
‫الكيم ��اوي املكث ��ف‪� ،‬إذ تبل ��غ ن�سب ��ة ال�شف ��اء يف املراح ��ل الأولية من‬
‫املر� ��ض ‪ ، %90‬ولكنها تقل �إلى ن�سبة ‪ %40‬يف املراحل املتقدمة عالية‬
‫اخلطورة‪.‬‬

‫�سبل الوقاية من املر�ض‪:‬‬

‫نظ� � ًرا الرتباط �أنواع معينة م ��ن ليمفومة بريكت مبر�ض نق�ص‬
‫املناعة املكت�سب (‪ ،)HIV‬ف�إنه ينبغي جتنب الإ�صابة بهذا الفريو�س‬
‫عن طريق االبتعاد عن املمار�سات اجلن�سية املحرمة‪ ،‬واتخاذ ال�سبل‬
‫الوقائية التي متنع انت�شاره عن طريق الدم امللوث بهذا الفريو�س‪.‬‬
‫ومن ال�ضروري كذلك الق�ضاء على طفيل املالريا وعالج االلتهابات‬
‫الفريو�سية املزمنة‪ ،‬لأنهما عامالن رئي�سان يف حدوث املر�ض‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫العد�سة‬
‫�أول عذاب �أبي لهب‬

‫‪143‬‬
‫�������������������������‬

‫�أ‪ -‬ق�صة وفاة �أبي لهب‬


‫(((‬

‫مك ��ة‪ ..‬وقد قذف ��ت ب�ساداته ��ا وفل ��ذات �أكبادها‪ ،‬جن ��دة لأبي‬
‫�سفي ��ان‪ ،‬وحر ًبا عل ��ى من قطع �شريان جتارتها‪ ،‬وه ��دد مكانتها‪ .‬قد‬
‫خلت من �شيوخها ف�ضلاً عن �شبابها و�أ�شرافها‪ ,‬حتى �أمية بن خلف‪-‬‬
‫ال�شي ��خ الثقيل‪� -‬أراد �أن يتخلف ع ��ن النفري‪ ،‬فقرب له عقبة بن �أبي‬
‫معي ��ط بخو ًرا‪ ،‬وقال ل ��ه‪� :‬أبا علي‪ ,‬خذ �إمنا �أنت م ��ن الن�ساء‪ .‬فحمي‬
‫ال�شيخ‪ ،‬وجتهز وخرج‪.‬‬
‫لكن ما بال عبد العزى بن عبد املطلب (�أبي لهب) قاعدً ا‪ ،‬وقد‬
‫خ ��رج القوم حت ��ى العبا�س بن عبد املطل ��ب‪� .‬أمل ي�شتد �أبو جهل على‬
‫جمي ��ع بني ها�ش ��م‪ ،‬ويخرجهم ق�س ًرا للحرب؟ ث ��م �ألي�س يف خروجه‬
‫حلرب ابن �أخيه مدعاة خلروج غريه من باب �أولى؟‬
‫عل ��ى كل حال مل ي�ش�أ هو �أن يخ ��رج‪ ،‬ومل يطلب منه �أحد ذلك‪،‬‬
‫و�إمن ��ا تظاهر ب�إ�سقاط دينه عن العا�ص بن ه�شام‪� -‬أخي �أبي جهل‪-‬‬
‫مقابل �أن يخرج نيابة عنه‪.‬‬
‫عج ًب ��ا! �أيحتاج العا�ص بن ه�شام ملثل هذا العر�ض‪ ،‬حتى يخرج‬
‫يف جي�ش يقوده �أخوه!‬
‫((( لال�ستزادة انظر‪ :‬البداية والنهايةج‪� 8‬ص‪ 132‬و�سرية ابن ه�شام ج‪� 3‬ص ‪.198-196‬‬

‫‪145‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫متلم ��ل �أب ��و لهب يف بيت ��ه اخلايل بعد وف ��اة زوجت ��ه �أروى‪� -‬أم‬
‫جميل‪ -‬منذ ع ��دة �أ�شهر‪ .‬انتابته غ�صة مرة ح�ي�ن نظر �إلى قرحته‪،‬‬
‫التي يخفيها حتت �إبطه حتى عن �أبنائه‪.‬‬
‫�أ�شاح بوجهه بعيدً ا وهو ي�سرتجع مالمح احلارث بن كلدة‪ ،‬وهو‬
‫يتفح�صها بب�صره دون �أن يلم�سها‪� .‬أح�س ب�شيء من النقمة على هذا‬
‫الطبيب‪ ،‬الذي يزعم �أنه طبيب العرب‪ ،‬ثم ال يحرك �ساك ًنا لعالجه‪،‬‬
‫بل حتى الكي رف�ض �أن يقوم به‪.‬‬
‫م ��اذا يعني ه ��ذا الأمر؟ ثم مل ��اذا طلب منه بلهج ��ة حازمة �أال‬
‫يخال ��ط �أحدً ا؟ وهل علم النا�س بدائه؟ م ��اذا ع�سى �أن تقول العرب‬
‫�إن ه ��ي علمت؟ ت�سا�ؤالت مزعجة ت ��دور يف ر�أ�سه‪ ،‬كلما خال بنف�سه‪،‬‬
‫ونظر �إلى قرحته‪ ،‬حتى �أ�صبح يكره العزلة‪ ،‬ويق�ضي وقته بني جتارته‬
‫ببطحاء مكة وبني نادي قومه عند الكعبة‪.‬‬
‫ولك ��ن العزل ��ة �أ�صبحت �إجباري ��ة هذه الأيام‪ ،‬بع ��د �أن خرجت‬
‫التج ��ارة م ��ع العري‪ ،‬وخ ��رج القوم مع النف�ي�ر‪ ،‬فلم يب ��ق يف مكة �إال‬
‫الن�ساء وبع�ض العبيد‪.‬‬
‫خط ��ر له خاط ��ر مرعب‪ ،‬وه ��و يتذكر ع ��دم مب ��االة �أبي جهل‬
‫بخروجه مع اجلي�ش‪ .‬هل انك�شف �أمره لأبي جهل؟ هل �أخربه احلارث‬
‫ب ��ن كلدة بحقيقة مر�ض ��ه؟ �أم �أن هذا القائد اجل�ش ��ع فرح ب�إ�سقاط‬

‫‪146‬‬
‫�������������������������‬

‫الدي ��ن عن �أخيه‪ ،‬فلم ي�شتد عليه يف اخل ��روج خ�شية �أن يرتاجع عن‬
‫هذا العر�ض املغري‪.‬‬
‫�أح� ��س باالختن ��اق فخ ��رج من ال ��دار ووقف عند بابه ��ا‪ ،‬وجعل‬
‫يلتف ��ت مينة وي�سرة �إلى دور بني ها�شم وبني عبداملطلب‪ ،‬وقد غدت‬
‫�شرعا للريح‪ ،‬ونه ًبا لعوادي الزمن بعد �أن كانت قبلة للطارق‪،‬‬
‫�أبوابها ً‬
‫ومنت ��دى لإدارة �ش� ��ؤون احل ��رم‪ .‬مل يحتمل هذا املنظ ��ر الذي يقطر‬
‫م�سرعا يحث اخلطى نحو الكعبة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أ�سى‪ ،‬فخرج‬ ‫حز ًنا‪ ،‬ويفي�ض � ً‬
‫حال‪ ،‬فلي�س �سوى ثمت ن�ساء من احلم�س‬ ‫مل يكن امل�شهد �أح�سن اً‬
‫يطفن بالكعبة‪ ،‬ويتم�سحن ب�أن�صابها‪.‬‬
‫ا�شتد ب ��ه ال�ضجر‪ ،‬ف�صعد ال�صفا �أم�ًل اً يف نفحة ن�سيم تذهب‬
‫عن ��ه �شي ًئ ��ا مما يج ��د يف نف�س ��ه‪� .‬أح� ��س بالوهن ي�س ��ري يف ج�سده‪،‬‬
‫فا�ستقر حتت �صخرة مل�ساء يف عر�ض اجلبل‪ .‬ارتاحت نف�سه قليلاً ‪،‬‬
‫وت�سل ��ى عن خواطره املزعجة‪ ،‬وهو يتاب ��ع �أنفا�سه املتالحقة‪ ،‬وك�أمنا‬
‫�أن�ساه ن�صب ج�سده هم ف�ؤاده‪.‬‬
‫ال�صفا‪ ...‬ما الذي جاء به �إلى ال�صفا؟ �أمل ينقلب جمرى حياته‬
‫ر� ًأ�س ��ا على عقب عن ��د �سفحه‪ ،‬بعد �أن قال كلمت ��ه ال�شهرية‪( :‬تبا لك‬
‫�سائر اليوم! �ألهذا جمعتنا؟)‪ .‬لي�أتيه الرد �صاع ًقا وم�ؤملـًا‪( :‬ﮈ ﮉ‬
‫ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [املسد‪.]5-1:‬‬

‫‪147‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ع ��ادت له امل ��رارة وه ��و يت�ساءل عن ج ��دوى قيام ��ه مبثل هذا‬
‫اال�ستعرا� ��ض �أم ��ام قري�ش كلها‪ .‬لقد جر علي ��ه وعلى بني ها�شم دا ًء‬
‫وبيلاً ‪ ،‬بلغ به �أن ي�شارك يف ح�صارهم يف ال�شعب ثالث �سنني‪.‬‬
‫�أي ��ن موقفه هذا من موقف �إخوته الآخرين؟ لقد قام �أبو طالب‬
‫مبوقف متليه عليه عروبته ونخوته‪ ،‬ومل يتخل عن دين �آبائه و�أجداده‪.‬‬
‫�أم ��ا العبا�س فقد �أ�سلم خفية وان�ص ��رف نحو جتارته‪ ،‬متم�س ًكا‬
‫مب�آث ��ر قوم ��ه الفا�ضل ��ة‪ :‬كال�سقاية والرفادة‪ ،‬ثم ها ه ��و قد خرج مع‬
‫قري� ��ش لبدر‪ ،‬ف�إن انت�صر حممد �ألقى بيديه يف الإ�سار ف�أكرمه ومن‬
‫عليه‪ ،‬و�إن انت�صرت قري�ش �شفع فيمن قدر عليه من قومه‪.‬‬
‫�أم ��ا ه ��و فقد وق ��ف موق ًف ��ا مل يقفه عرب ��ي قط‪ :‬خ ��ذل قومه‪،‬‬
‫وحا�ص ��ر ن�ساءهم و�أطفالهم‪ ،‬وبالغ يف �إيذاء جاره القريب‪ ،‬لأجل �أن‬
‫ينال حظوة عند علية القوم‪ ،‬ي�صلح بها �أ َود جتارته‪.‬‬
‫ت ��دارك �أبو لهب نف�س ��ه اللوامة قبل �أن ي�ستفح ��ل �أمرها‪ ،‬ويعلو‬
‫�صوته ��ا وزجرها قائلاً ‪� :‬أي هجاء �أبلغ مم ��ا يتلوه حممد ّيف ويف �أهل‬
‫بيتي‪ ،‬ويقول‪� :‬إنه ن ��زل عليه من ال�سماء؟ �أي دعوة �أعظم من دعوته‬
‫على ابني البكر عتبة‪ ،‬ليفرت�سه الأ�سد على مر�أى من رفقته وم�سمع‪،‬‬
‫فال ينجده �أحد وال يغيثه مغيث؟‬

‫‪148‬‬
‫�������������������������‬

‫ت�أجج ��ت نار حقده يف �صدره‪ ،‬وهو يتخيل ابنه بني فكي ال�سبع‪،‬‬
‫وقد عم �صراخه الأرجاء‪ ،‬فع� ��ض على �إبهامه‪ ،‬وقال ب�صوت خافت‪:‬‬
‫�سي�شفى غليل �صدري عما قريب‪ ،‬ليتني خرجت مع جي�ش مكة‪ ،‬لأرى‬
‫م�صارع حممد و�أ�صحابه‪.‬‬
‫رج ��ع �أب ��و لهب ثقيل اخلط ��ى �إلى بيته‪ ،‬وهو مين ��ي نف�سه بخرب‬
‫�س ��ار‪ ،‬يزي ��ل ما حل ��ق به م ��ن �أمل‪ ،‬فها ه ��ي مكة قد ح�سم ��ت �أمرها‬
‫�أخ�ي ً�را‪ ،‬و�أخرجت جي�شه ��ا اجلرار‪ ،‬الذي تهابه الع ��رب قاطبة‪ .‬فما‬
‫ع�س ��ى �أن يفعل حمم ��د و�أ�صحابه‪ ،‬حتى لو خرج ��ت يرثب كلها معه‪.‬‬
‫م ��ا هي �إال جولة واحدة‪ ،‬ف� ��إذا هم بني قتيل جمندل‪ ،‬و�شريد هارب‪،‬‬
‫و�أ�سري م�صفد‪.‬‬
‫�سرع ��ان ما ينتهي هذا الكابو�س‪ ،‬وتعود مكة �إلى ما كانت عليه‬
‫عاما‪ .‬ال بد �أن ملأ قري�ش قد حفظوا له �صنيعه يف‬
‫قبل خم�سة ع�شر ً‬
‫حرب ��ه املتوا�صلة مع دين حممد منذ حادثة ال�صفا �إلى اليوم‪ .‬ورمبا‬
‫�أعادت له قري�ش كل مفاخر جده الأعلى ق�صي بن كالب‪.‬‬
‫�أال ي�ستح ��ق ذلك وقد �ضحى ب�سمعته ومبادئ ��ه‪ ،‬بل حتى وقاره‬
‫وهيبته‪ ،‬وهو يتبع حممدً ا يف �أيام منى‪ ،‬ويقول‪� :‬صابئ ‪,‬كذاب‪.‬‬
‫�أح� ��س ب�شئ م ��ن الطاقة ي�س ��ري يف ج�سده‪ ،‬وه ��و ي�سرت�سل يف‬
‫خياالته و�أمنياته التي �أن�سته قرحته املتفاقمة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�أقام �أبو لهب على هذا ال�ش�أن ليايل عدة‪ ،‬ال يعكر مزاجه �سوى‬
‫هينم ��ة الن�س ��اء بر�ؤي ��ا عاتكة((( ب�ي�ن الفينة والأخ ��رى‪ .‬ويف كل مرة‬
‫يخ ��رج �إليهن‪ ،‬وي�صرخ يف وجوههن‪ ،‬في�صمنت جمي ًعا‪ ،‬ثم يرجع �إلى‬
‫معتكفه �ساخ ًرا من تعلق الن�ساء بالر�ؤى والأحالم‪.‬‬
‫وم ��ا لبث ��ت مك ��ة �أن طرقه ��ا النعي لي�ًل�ااً ب�شع ��ر �أمية ب ��ن �أبي‬
‫ال�صلت(((‪:‬‬
‫بن���ي الكرام �أويل املمادح‬ ‫ه�ل�ا بكي���ت عل���ى الكرام‬
‫الأيك يف الغ�صن النوائح‬ ‫كب ُكا احلم���ام على فروع‬
‫حزن وي�ص���دق كل مادح‬ ‫م���ن يبكه���م يبك���ي على‬
‫ولق���د يب�ي�ن ل���كل الم���ح‬ ‫�أال ت�����������رون مل�������ا �أرى‬
‫فه���ي موح�ش���ة الأباطح‬ ‫�أن ق���د تغ�ي�ر بط���ن مكة‬

‫((( روى اب ��ن ه�ش ��ام �أن عاتك ��ة بنت عبد املطل ��ب ر�أت �أن راك ًبا �أقبل عل ��ى بعريه‪ ،‬حتى وقف‬
‫ب�أبطح مكة‪ ،‬ثم �صرخ ب�أعلى �صوته‪ :‬انفروا �إلى م�صارعكم‪ ،‬فاجتمع النا�س �إليه‪ ،‬ثم دخل‬
‫امل�سجد والنا�س يتبعونه حتى �صعد به جمله ظهر الكعبة! ف�صرخ انفروا �إلى م�صارعكم‪.‬‬
‫ث ��م �صع ��د على جبل �أبي قبي�س ف�صرخ مبثلها‪ ،‬ثم �أر�سل �صخ ��رة‪ ،‬ف�أقبلت تهوي حتى �إذا‬
‫كانت ب�أ�سفل اجلبل تفلقت‪ ،‬فلم يبق بيت من بيوت مكة �إال دخلته‪ .‬كانت هذه الر�ؤيا قبل‬
‫قدوم �ضم�ضم الغفاري‪ ،‬ي�ستنجد ً‬
‫قري�شا لأبي �سفيان بثالثة �أيام‪.‬‬
‫((( �أمي ��ة بن �أبي ال�صلت الثقفي �شاعر جاهلي كان كثري الرتحال وال�سفر‪ ،‬اعتنق احلنيفية‪،‬‬
‫وكان يحدث العرب �أن نب ًّيا �سيبعث فيهم قد �شارف زمانه‪ ،‬وكان يرجو �أن يكون هو ذلك‬
‫النبي‪ ،‬فلما جاء الإ�سالم كفر مبحمد �صلى اهلل عليه و�سلم ح�سدً ا‪ ،‬ومات بعد غزوة بدر‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫�������������������������‬

‫بات �أبو لهب ومعه مك ��ة كلها ب�شر ليلة‪ ،‬مال �إلى تكذيب اخلرب‬
‫ب ��ادي الر�أي‪ ،‬فهذا ما ال ي�صدقه عاق ��ل! �أ ُيقتل �أبو احلكم بن ه�شام‬
‫�أع ��ز قري� ��ش‪ ،‬و ُيحز ر�أ�سه بي ��د ابن �أم عبد؟ �أم ُيقت ��ل �أمية بن خلف‬
‫�سي ��د مكة بيد ب�ل�ال ابن رب ��اح احلب�شي امل�ست�ضع ��ف؟ هيهات! �إنها‬
‫تخر�صات �شاعر يبحث عن منا�سبة لق�صيدته‪.‬‬
‫ث ��م هذا �أمي ��ة بن �أب ��ي ال�صلت �ألي� ��س هو �صاح ��ب اخلرافات‬
‫ومدع ��ي الكرامات ومعرفة �أل�سن ��ة احليوانات؟ �أمل يك ��ن يزعم �أنه‬
‫�سيبعث نب ًّيا؟ ال بد �أنها نفثة من نفثات �شيطانه الكاذب‪.‬‬
‫تتابع ��ت الأخبار ترتى‪ ،‬وارتفعت �أ�ص ��وات النوائح يف مكة‪ ،‬وملا‬
‫يب ��زغ الفجر بعد‪ .‬خ ��رج �أبو لهب ومكة يف �أمر مري ��ج‪ ،‬وجعل ال مير‬
‫ببيت �إال �سمع منه رنة وعويلاً ‪.‬‬
‫�أهذه ر�ؤي ��ا عاتكة التي كان ي�سخر منه ��ا؟ �صخرة �أقبلت تهوي‬
‫م ��ن �أبي قبي�س‪ ،‬ثم تفلقت فلم يبق دار من دور مكة‪� ،‬إال وقد دخلته‪.‬‬
‫ا�ستن ��د على ج ��دار حجرة العبا�س بج ��وار زمزم يتفر� ��س يف وجوه‬
‫النا� ��س حت ��ى ر�أى ابن �أخيه �أب ��ا �سفيان بن احل ��ارث‪ ،‬وقد �أخذ منه‬
‫يل‪ ،‬فعندك لعمري اخلرب‪.‬‬ ‫هلم �إ َّ‬
‫الذعر كل م�أخذ‪ ،‬ف�صاح به‪َّ :‬‬
‫اقرتب من ��ه �أبو �سفيان حتى جل�س �إلي ��ه‪ ،‬ف�أحاط بهما النا�س‪،‬‬
‫فق ��ال له �أبو لهب‪ :‬يا اب ��ن �أخي �أخربين كيف �أمر النا� ��س؟ �أبتلع �أبو‬

‫‪151‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�سفي ��ان ريق ��ه وا�ستعاد �شي ًئا من هدوئه‪ ،‬ثم ق ��ال‪ :‬واهلل ما هو �إال �أن‬
‫التقينا حتى منحناهم �أكتافن ��ا‪ ،‬يقتلون منا كيف �شا�ؤوا‪ ،‬وي�أ�سروننا‬
‫بي�ضا على‬ ‫كيف �شا�ؤوا‪ ,‬وامي اهلل مع ذلك ما ملت النا�س‪ ،‬لقينا رجالاً ً‬
‫خيل بلق بني ال�سماء والأر�ض‪ ،‬ال يقوم لها �شيء‪.‬‬
‫ا�س� � ّود وجه �أبي له ��ب‪ ،‬واظلمت الأر�ض يف وجه ��ه‪ ،‬و�سكت النا�س‬
‫وك�أمن ��ا قد انعق ��دت �أل�سنتهم‪ .‬ويف ه ��ذه اللحظة قفز �أب ��و رافع مولى‬
‫العبا�س بن عبد املطلب من طرف احلجرة و�صاح‪ :‬اهلل �أكرب! تلك واهلل‬
‫املالئك ��ة! فهجم �أبو له ��ب عليه هجمة �شر�سة و�صفع ��ه‪ ،‬ثم برك عليه‪،‬‬
‫وقام ي�ضربه �ضر ًبا منك ًرا‪ ،‬ك�أمنا ينتقم به من عذاب ج�سده وروحه‪.‬‬
‫مل تتمال ��ك �أم الف�ضل‪ -‬زوجة العبا�س بن عبداملطلب‪ -‬نف�سها‪،‬‬
‫وهي ترى هذا املولى امل�سكني ي�صارع املوت بني يدي �أبي لهب‪ ،‬فقامت‬
‫�إل ��ى عمود من عم ��د البيت ف�شجت ر�أ�سه �شجة منك ��رة‪ ،‬وا�ستنقذت‬
‫موالها من بني يديه‪ ،‬وهي ت�صيح به‪� :‬أ�ست�ضعفته �أن غاب عنه �سيده؟‬
‫ان�س ��ل النا�س وترك ��وا �أبا لهب‪ ،‬وقد خارت ق ��واه ووهن عظمه‪،‬‬
‫فاحتمله بنوه �إلى بيته‪ ،‬فلما و�صلوا البيت بانت لهم جلية الأمر!‬
‫قرح ��ة منتن ��ة غائرة ق ��د رعت ج�س ��د �أبيه ��م‪ .‬يالله ��ول! �إنها‬
‫«العد�س ��ة» تلك القرحة امل�ش�ؤومة‪ ،‬التي ت�شمئ ��ز منها نفو�س العرب‪،‬‬
‫وتت�شاءم بها‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫�������������������������‬

‫ان�س ��ل الأبناء واحدً ا تلو الآخر‪ ،‬حت ��ى العبيد ما لبثوا �أن فهموا‬
‫الأمر‪ ،‬فخرجوا عنه جمي ًعا‪.‬‬
‫�أب ��و لهب وقد �أو�ص ��د عليه الب ��اب و�سدت النواف ��ذ‪ ،‬فهو رهني‬
‫حماب�سه الثالث‪ :‬وحدته الكئيبة‪ ،‬ومر�ضه الع�ضال‪ ،‬ونف�سه املنك�سرة‪.‬‬
‫لق ��د انته ��ى كفاحه املري ��ر بهزمية نك ��راء �أمام امل�ل��أ على يد‬
‫امر�أة‪ .‬لق ��د تركته قري�ش كلها لوحدته القاتلة‪ ،‬فلم ي�س�أل عنه �أحد‪.‬‬
‫تخلى عنه بنوه ومواليه‪ ،‬فلم يطرق بابه �أحد‪.‬‬
‫جريان ��ه‪� ..‬أين جريانه؟ مل ��اذا مل يعده منهم �أح ��د؟ ولكن! هل‬
‫يح ��ق له �أن ي�س�أل عنهم‪ ،‬وقد و�ض ��ع ال�شوك على باب خريهم جوا ًرا‬
‫و�أقربهم رح ًما‪.‬‬
‫�أخ ��ذ �أبو لهب على تلك احلال املزرية �سبعة �أيام بليالهن ميوت‬
‫�شي ًئ ��ا ف�شي ًئا‪ .‬مات م�شروعه الذي ناف ��ح عنه طوال حياته‪ ،‬ثم ماتت‬
‫كرامته‪ ،‬وتبعها ج�سده ع�ض ًوا ع�ض ًوا‪ ،‬حتى �أننت وهو حي‪.‬‬
‫(((‬
‫ولكنها نف�س ت�ساقط �أنف�سا‬ ‫ولو �أنها نف�س متوت جميعة‬
‫م ��ات �أبو لهب وحي ��دً ا يف بيته‪ ،‬غري ًبا بني ظه ��راين قومه‪ ،‬ومل‬
‫يغن عنه ماله وما ك�سب‪ .‬و�أدهى من ذلك و�أم ّر �أن بقيت جثته ثالثة‬
‫�أيام مل يقرتب منها �أحد‪.‬‬
‫(( ( البيت المرئ القي�س بن حجر‪ ،‬انظر‪ :‬ال�شعر وال�شعراء (‪.)120 /1‬‬

‫‪153‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وكم ��ا م�ل��أ مكة حق ��دً ا ً‬


‫وبغ�ضا وهو ح ��ي‪ ,‬ملأت جيفت ��ه املكان‬
‫رائحة ونت ًنا وهو ميت‪.‬‬
‫مل يحم ��ل عل ��ى الأكت ��اف حم ��ل الأحب ��ة‪ ،‬ومل يدف ��ن يف جوف‬
‫الأر� ��ض دفن الك ��رام‪ ،‬و�إمنا جعلوا ينخزونه بالع�ص ��ي حتى �أ�سندوه‬
‫�إل ��ى حائط‪ ،‬ثم رجم ��وه باحلجارة حتى توارت جيفت ��ه عن الأنظار‪،‬‬
‫ومن يهن اهلل فما له من مكرم‪ ،‬وما ربك بظالم للعبيد‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫�������������������������‬

‫ب‪ :‬حتقيق �سبب الوفاة‬

‫يغل ��ب عل ��ى الظن �أن القرح ��ة الت ��ي �أ�صابت �أبا له ��ب هي نوع‬
‫م ��ن �سرط ��ان اجلل ��د الليمف ��اوي‪ ،‬يدعى ال ��ورم احلبيب ��ي الفطري‬
‫(‪ ،)Mycosis Fungoids‬وه ��ي التي كان ��ت ت�سميها العرب العد�سة‪.‬‬
‫ويف ل�س ��ان الع ��رب‪ :‬العد�سة‪ :‬ب�ث�رة قاتلة‪ ،‬تخرج كالطاع ��ون‪ ،‬وقلما‬
‫ي�سل ��م منه ��ا �صاحبها‪ ،‬ويف حديث �أب ��ي رافع‪� :‬أن �أب ��ا لهب رماه اهلل‬
‫بالعد�س ��ة‪ ،‬هي برثة ت�شبه العد�سة‪ ،‬تخرج يف موا�ضع من اجل�سد من‬
‫جن�س الطاعون‪ ،‬تقتل �صاحبها غال ًبا(((‪.‬‬
‫وال ��ورم احلبيب ��ي الفطري ه ��و �أك�ث�ر الأورام اجللدي ��ة الليمفاوية‬
‫�شيوع ��ا‪ ،‬ويظهر على �أ�ش ��كال متنوعة‪ ،‬ت�صيب اجلل ��د يف منطقة اجلذع‬ ‫ً‬
‫غال ًبا‪ .‬يبد�أ هذا املر�ض على �شكل �آفات جلدية م�سطحة‪ ،‬ذات لون زهري‬
‫داكن‪ .‬ولهذا ال�سبب �سمته العرب بالعد�سة‪ ،‬ت�شبيهًا له بحبة العد�س‪.‬‬
‫وم ��ا يلبث �أن يتح ��ول �إلى كتل و�أورام‪ ،‬تتق ��رح با�ستمرار‪ ،‬حيث‬
‫تكون عر�ضة للعدوى االنتهازي ��ة ب�سبب البكترييا �أو الفطريات‪ .‬ويف‬
‫مراحله املت�أخرة يتحول �إلى مر�ض عام ي�ؤدي �إلى احمرار يف اجللد‪،‬‬
‫وينت�ش ��ر يف الغ ��دد الليمفاوية وال ��دم‪ ،‬حيث مي ��وت املري�ض بعدها‬
‫بوقت ق�صري يف حال عدم العالج‪.‬‬
‫((( ل�سان العرب (‪ ،)132 /6‬مادة عد�س‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وهذا املر�ض من الأمرا� ��ض التي اكت�سبت �سمعة �سيئة العتقاد‬


‫النا�س �أنه معد‪ ،‬ونظ ًرا ل�شكل التقرحات التي كانت تبعث اال�شمئزاز‬
‫خ�صو�ص ��ا �إذا اقرتن ��ت بع ��دوى انتهازي ��ه تغ�ي�ر م ��ن‬
‫ً‬ ‫يف نفو�سه ��م‪،‬‬
‫رائحته ��ا‪ .‬ولهذا ال�سبب مييل �أغلب املر�ض ��ى �إلى �إخفاء املر�ض عن‬
‫النا�س‪ ،‬حتى ي�ستفحل الداء يف مراحله الأخرية‪.‬‬
‫ويبدو من �سياق الق�صة‪� :‬أن �أبا لهب كان يعاين من املر�ض قبل‬
‫غزوة بدر‪ ،‬ولذا مل يخرج يف النفري برغم الدواعي امللحة خلروجه‪،‬‬
‫فه ��و �أ�شد قري�ش ع ��داوة وحقدً ا على النب ��ي ‪ ،H‬ثم هو من‬
‫كب ��ار جتار مكة‪ ،‬وقد قطع امل�سلمون طريق التج ��ارة �إلى ال�شام منذ‬
‫�سن ��ة‪ ،‬وها هم يعرت�ض ��ون طريق القافلة الوحي ��دة‪ ،‬التي رجعت من‬
‫ال�ش ��ام بربح وفري‪ .‬ومما ي�ؤكد ذلك �أن الدين الذي �أ�سقطه �أبو لهب‬
‫كان �أربعة �آالف درهم‪ ،‬وهو مبلغ كبري ال ي�سقطه تاجر مثل �أبي لهب‪،‬‬
‫حرجا‪� .‬أ�ضيف �إلى ذلك �أن املدين كان من علية‬ ‫�إال �إذا كان الظرف ً‬
‫الق ��وم‪ ،‬فهو �أخو �أبي جهل بن ه�شام �سيد مكة وزعيمها املطاع‪ ،‬ومن‬
‫َث ��م فخروجه يف اجلي� ��ش �أمر بدهي‪ ،‬وم�س�ألة حم�سوم ��ة‪ ،‬و�إمنا �أراد‬
‫�أبو لهب بهذه التمثيلية �صرف النظر عن �سبب قعوده احلقيقي‪� .‬أما‬
‫�سب ��ب موت ��ه املبا�شر بعد بدر فهو ا�ستفحال ال ��داء‪ ،‬مع ما تعر�ض له‬
‫م ��ن �إهمال متعمد من �أبنائه‪ ،‬ومواليه خ�شية العدوى‪� ،‬إ�ضافة �إلى ما‬
‫كان يعانيه من �أمل نف�سي بئي�س‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫�������������������������‬

‫ج‪� :‬إ�ضاءات طبية‬


‫(((‬

‫الورم احلبيبي الفط ��ري هو �سرطان ليمفاوي‪ ،‬ي�صيب اخلاليا‬


‫الليمفاوي ��ة التائي ��ة (‪ ،)T-Lymphocytes‬التي ت�ستقر حتت اجللد‪.‬‬
‫�شيوعا‪� ،‬إذ ميثل ما ن�سبته ‪%50‬‬
‫وهو �أكرث �سرطانات اجللد الليمفاوية ً‬
‫م ��ن هذه الأمرا�ض‪ .‬ولي�س ثمت عالق ��ة علمية مثبتة بني هذا املر�ض‬
‫والإ�صابة بالفطريات‪ ،‬وهو ال يعدي‪ ،‬كما كان النا�س يعتقدون قد ًميا‪.‬‬

‫ت�شخي�ص املر�ض‪:‬‬

‫يب ��د�أ املر�ض على �شكل �آفات جلدي ��ة �سطحية ذات لون زهري‬
‫داكن‪ ،‬وتكون بي�ضاوية ال�شكل �أو مدورة‪ .‬تتحول هذه الآفات �إلى كتل‬
‫مرتفعة قليلاً عن اجللد‪ ،‬وقد ت�ؤدي �إلى حدوث التجاعيد‪ ،‬ويف نهاية‬
‫املطاف تتحول �إلى قرح غائرة و�أورام يف العقد الليمفاوية‪.‬‬
‫يت ��م الت�أكد من الت�شخي�ص عن طري ��ق �أخذ خزعة من اجللد‪،‬‬
‫حي ��ث ترى اخلالي ��ا الليمفاوي ��ة التائية‪ ،‬وقد غ ��زت طبقات اجللد‪،‬‬
‫وانت�شرت بني خالياه‪.‬‬

‫‪(1) WHO Classification of Tumours of Haematopoietic and Lymphoid Tissue‬‬

‫‪157‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫عالج املر�ض‪:‬‬

‫تختل ��ف نوعي ��ة العالج ح�س ��ب مرحل ��ة املر�ض‪ ،‬فف ��ي املرحلة‬
‫اجللدية يكفي العالج املو�ضعي بالإ�شعاع �أو بالأ�شعة فوق البنف�سجية‪:‬‬
‫�أما يف املراحل املتقدمة فالبد من العالج الكيماوي املكثف‪.‬‬

‫االحتياطات الالزمة‪:‬‬

‫قد تت�شابه �أعرا�ض هذا املر�ض يف مراحله الأولية مع ال�صدفية‬


‫�أو م ��ع بع�ض �أنواع الإكزميا‪ ،‬ول ��ذا يجب االحتياط عند ت�شخي�ص �أي‬
‫مري� ��ض لديه �إكزميا غري منوذجية‪� ،‬أو حكة م�ستمرة غري م�ستجيبة‬
‫لل�ستريويدات املو�ضعية‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫�������������������������‬

‫د‪ :‬ما �سبب ال�سرطان؟‬

‫ملح ��ا عند عام ��ة النا� ��س‪ ،‬وعند‬


‫ي�ش ��كل ه ��ذا الت�س ��ا�ؤل �أم� � ًرا ًّ‬
‫املتخ�ص�ص�ي�ن عل ��ى حد �س ��واء‪ .‬فغال ًبا م ��ا يبحث النا� ��س عن �سبب‬
‫وحي ��د يمُ َ كنه ��م م ��ن �إلقاء الالئم ��ة علي ��ه‪ :‬ك�أكل مع�ي�ن‪� ،‬أو ت�صرف‬
‫حم ��دد‪ ،‬بينما يلح املتخ�ص�صون على البح ��ث عن الآلية التي تتحول‬
‫م ��ن خاللها خاليا ج�سم الإن�سان من خاليا �سليمة‪ ،‬ت�ساهم يف بناء‬
‫ج�سم الإن�سان‪ ،‬وتعوي�ض ما نق�ص من �أن�سجته �إلى خاليا تنمو ب�شكل‬
‫ذاتي‪ ،‬خارج عن �سيطرة الآليات الف�سيولوجية للج�سم‪.‬‬
‫واحل ��ق �أن ال�سرط ��ان ال يت�سبب فيه عامل واح ��د فقط‪ ،‬بل هو من‬
‫الأمرا� ��ض الت ��ي يطلق عليه ��ا عدي ��دة الأ�سب ��اب (‪)Multi-Factorial‬‬
‫بحي ��ث تتظافر ه ��ذه الأ�سباب جمي ًع ��ا بن�سبب متفاوت ��ة‪ ،‬وت�ؤدي �إلى‬
‫ح ��دوث طفرة جينية يف اخلاليا الأولي ��ة امل�س�ؤولة عن �إنتاج اخلاليا‬
‫الوظيفية‪.‬‬
‫وهذه الأ�سباب تنق�سم �إلى ثالثة �أق�سام رئي�سية‪:‬‬
‫ق�سم ال ميكن التحكم به‪ :‬كاال�ستعداد الوراثي مثلاً ‪ ،‬وهو عامل‬
‫مه ��م يف ن�شوء بع�ض ال�سرطان ��ات‪ ،‬و�إن كان ال يكفي وحده‪ ،‬بل ال بد‬
‫م ��ن تظافر عوام ��ل �أخرى معه‪ .‬يتمثل باال�ستع ��داد الوراثي يف وراثة‬

‫‪159‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫بع�ض اجلينات التي تزيد من ن�سبة ال�سرطان‪� ،‬أو وجود خلل يف بع�ض‬
‫اجلينات التي حتمي من ال�سرطان‪.‬‬
‫وم ��ن �أه ��م تلك اجلينات عل ��ى الإطالق ه ��و الربوتني ب‪53-‬‬
‫(‪ ،)P-53‬الذي يلعب دو ًرا حا�س ًما يف كبح منو الأورام‪ ،‬ومن ثم الوقاية‬
‫م ��ن ال�سرط ��ان‪ .‬وميكن معرفة وج ��ود اال�ستعداد الوراث ��ي للإ�صابة‬
‫بال�سرطان عن طريق مالحظة �إ�صابة عدد من الأقارب بنوع حمدد‬
‫م ��ن ال�سرطان‪ :‬ك�سرطان الث ��دي مثلاً �أو بع�ض �أن ��واع الليمفوما‪� ،‬أو‬
‫عن طريق �إجراء بع�ض الفحو�صات الدقيقة‪ ،‬التي تخترب �أداء بع�ض‬
‫تل ��ك اجلينات‪ .‬وهنا تكم ��ن �أهمية الك�شف املبك ��ر واملتابعة الدورية‬
‫خ�صو�ص ��ا يف الأف ��راد الذين لديه ��م �أقارب من الدرج ��ة الأولى قد‬
‫ً‬
‫�أ�صيبوا مبثل هذه الأنواع من ال�سرطانات‪.‬‬
‫�أما الق�سم الآخ ��ر من امل�سببات فهو ما ميكن التحكم به‪ ،‬ومن‬
‫ثم اجتنابه واالبتع ��اد عنه‪ .‬و ُتع ُّد العوامل البيئي ��ة امل�سببة للطفرات‬
‫اجلينية من �أهم هذه الأ�سباب‪ .‬وي�أتي يف مقدمتها التعر�ض للإ�شعاع‪،‬‬
‫جتا من اال�ستخدام ال�سلمي‬ ‫�سواء �أكان من خملفات احلرب �أو كان نا ً‬
‫للمواد امل�شعة‪.‬‬
‫ويدخ ��ل حت ��ت ه ��ذه الأ�سب ��اب بع� ��ض الت�صرف ��ات الفردي ��ة‪:‬‬
‫كالتدخني مثلاً ‪ ،‬فه ��و �أحد العوامل امل�ؤكدة حلدوث �سرطانات الرئة‬

‫‪160‬‬
‫�������������������������‬

‫خ�صو�صا عند اقرتانه مع ا�ستعداد وراثي‪ .‬وبالإ�ضافة �إلى‬


‫ً‬ ‫واملثان ��ة‪،‬‬
‫ذل ��ك قد ي�ؤدي ا�ستخ ��دام بع�ض الأدوي ��ة �إلى زيادة خط ��ر الإ�صابة‬
‫بال�سرطان على املدى البعيد واملتو�سط‪.‬‬
‫ومما يجدر بالذكر هنا‪� ،‬أن بع�ض اخللطات ال�شعبية قد حتتوي‬
‫عل ��ى ن�سب عالية من املع ��ادن الثقيلة كالر�صا� ��ص‪ ،‬مما يزيد خطر‬
‫أي�ضا‪ .‬وثمت ق�سم ثالث من م�سببات ال�سرطان‪،‬‬ ‫الإ�صابة بال�سرطان � ً‬
‫ميكن عالجه بعد وقوعه‪ :‬كبع�ض �أنواع العدوى الفريو�سية والبكتريية‪.‬‬
‫وه ��ذه احلقيق ��ة‪ ،‬حقيقة �أن ن�ش ��وء ال�سرطان يحت ��اج �إلى عدة‬
‫عوام ��ل تتظافر م ًعا‪ ،‬جتيب على اعرتا�ض طاملا �أثاره كثري من عامة‬
‫النا� ��س عند احلدي ��ث عن �أ�ضرار التدخني‪ .‬و�سب ��ب هذا االعرتا�ض‬
‫�أنه ��م ي ��رون كث�ي ً�را م ��ن املدخن�ي�ن يعم ��رون طوي�ًل�ااً ‪ ،‬وال ي�صيبهم‬
‫ال�سرط ��ان‪ .‬والإجاب ��ة عل ��ى ه ��ذا االعرتا� ��ض مفاده ��ا �أن من يقوم‬
‫بالتدخ�ي�ن يكون قد �أ�ضاف عاملاً م�ؤكدً ا للإ�صابة بال�سرطان‪ ،‬ولكن‬
‫الإ�صابة بحد ذاتها حتتاج �إلى عوامل م�ساعدة �أخرى‪.‬‬
‫واخلطر املحدق يكمن يف �أن بع�ض هذه العوامل ال ميكن التنب�ؤ‬
‫بوج ��وده �أ�ص�ًل‪،‬اً ‪ ،‬فيظل كام ًنا ينتظ ��ر تكامل العوام ��ل الأخرى‪ .‬ولك‬
‫�أن تتخي ��ل كيف ترتفع ن�سب ��ة الإ�صابة عند مدخن لديه عامل جيني‬
‫م�سبب لل�سرطان!‬

‫‪161‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫بع�ض الأدوية والعالجات الكيماوية‬


‫وبع�ض اخللطات والعالجات ال�شعبية‬

‫العدوى الفريو�سية والبكتريية‬


‫فريو�س نق�ص املناعة (‪)HIV‬‬
‫وفريو�س اب�ستني (‪)EBV‬‬
‫جرثومة املعدة (‪ )H. Pylori‬فريو�سات الكبد‬

‫عوامل بيئية م�س���ببة للطف���رات اجلينية‪:‬‬


‫التعر� ��ض لأي عام ��ل من عوام ��ل الإ�شعاع �أو‬
‫املبيدات احل�شرية والتدخني‬

‫ا�ستعداد وراثي‪:‬‬
‫وراث ��ة بع� ��ض اجلينات التي تزي ��د من ن�سبة‬
‫ال�سرط ��ان �أو خل ��ل يف بع�ض اجلين ��ات التي‬
‫حتمي من ال�سرطان‬

‫�آلية غام�ضة‬

‫طف ��رة جيني ��ة يف اخلالي ��ا اجلذعية ت�ؤدي �إل ��ى زيادة تكاث ��ر اخلاليا الأولية‬
‫وعدم حتورها �إلى خاليا نا�ضجة‪ ،‬ومن ثم تراكم اخلاليا غري الوظيفية‪ .‬وقد‬
‫تكت�سب هذه اخلاليا قدرة غري طبيعية على البقاء‪ ،‬فت�ساهم يف زيادة الرتاكم‬

‫�شرح مب�سط عن �آلية حدوث ال�سرطان‪( :‬هذه الآلية ت�شكل قاعدة عامة‪ ،‬قد ي�شذ عنها بع�ض الأنواع)‬

‫‪162‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫املخبل ال�سعدي‬
‫يرى ال�شخ�ص كال�شخ�صني وهو قريب‬

‫‪163‬‬
‫������������������������������‬

‫(((‬
‫�أ‪ :‬ق�صة املخبل ال�سعدي‬

‫ا�شتدت قب�ضته على الع�صا و�أم�سكها ب�أنامله الع�شر‪ ،‬وهو ينوء‬


‫للنهو� ��ض‪ ،‬لكي يخرج من بيت ��ه �إلى منهل املاء‪ ،‬فق ��د �سئم الوحدة‪،‬‬
‫وكاد �أن يقتله ال�ضجر‪.‬‬
‫ومع �أن بواعث اخلروج قوية ودواعيه ملحة‪� ،‬إال �أنه تردد كث ًريا قبل‬
‫�أن يه ��م باملحاولة‪ ،‬فمئة عام ونيف قد �أثقلت كاهله‪ ،‬و�أرخت مفا�صله‪،‬‬
‫ونال ��ت م ��ن همته وعزم ��ه‪ .‬و�ضع ر�أ�سه عل ��ى ظهر يدي ��ه‪ ،‬وا�ستند على‬
‫الع�صا‪ ،‬ثم نه�ض منحن ًيا كقو�س بالية‪ ،‬ا�شتد وترها فعطف ِ�سي َتها(((‪.‬‬
‫خرج ربيع ال�سعدي من بيته يدب دبي ًبا‪ ،‬وهو يهمهم ب�أبيات �صنوه‬
‫الآخر لبيد بن ربيعة‪ ،‬الذي قا�سمه ال�شعر‪ ،‬و�شاكله يف طول العمر‪:‬‬
‫ف����م����اذا ورائ��������ي �إن ت����راخ����ت م��ن��ي��ت��ي‬
‫ل����زوم ال��ع�����ص��ا حت��ن��ى ع��ل��ي��ه��ا الأ���ص��اب��ع‬
‫�أخ���ب��ر �أخ����ب����ار ال����ق����رون ال���ت���ي م�����ض��ت‬
‫�أدب ك��������������أين ك�����ل�����م�����ا ق�����م�����ت راك��������ع‬
‫((( لال�ست ��زادة‪ :‬انظ ��ر‪ :‬ع�شرة �شع ��راء مقل ��ون (‪ ،)78-50‬وال�شعر وال�شع ��راء (‪،)420 /1‬‬
‫والأغاين (‪.)42-38 /12‬‬
‫((( �سي ��ة القو� ��س‪ :‬ه ��ي طرفها املع ��وج‪ ،‬وللقو� ��س �سيت ��ان‪ ،‬و�إذا ا�شتد الوتر عط ��ف ال�سيتني‪،‬‬
‫ف�أ�صبحت القو�س منحنية‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫حتام ��ل على نف�سه حت ��ى بلغ بطن الوادي ث ��م ا�ستند �إلى �أ�صل‬
‫�شجرة هناك و�أخذ يقلب طرفه مينة وي�سرة يف �أرجاء وادي ال ُكالب‬
‫الأف ّي ��ح(((‪ .‬رف ��ع ر�أ�سه قليلاً لينظر �إلى جبل ثه�ل�ان‪ ،‬وقد �سد الأفق‬
‫وهو ي�ستعد البتالع قر�ص ال�شم�س التي �شارفت على املغيب‪.‬‬
‫ذرف ��ت عين ��اه‪ ،‬وك�أمنا ذكره غي ��اب ال�شم� ��س وا�ستتارها خلف‬
‫بغياب م ��ن نوع �آخر‪� .‬إنه غي ��اب ابنه الوحيد‬
‫ذروة م ��ن ذرى ثه�ل�ان ٍ‬
‫�شيب ��ان ال ��ذي رزق به بعد �أن ج ��اوز ال�سبعني‪ ،‬ثم ه ��ا هو ينتدب يف‬
‫جي�ش �سعد بن �أبي وقا�ص ‪ I‬لفتح العراق‪.‬‬
‫لق ��د �أكل ه ��ذا الغياب كب ��ده‪ ،‬و�أبقى له عربة ال ترق� ��أ‪ ،‬وغ�صة‬
‫ال تقل ��ع‪ ،‬حتى لق ��د تلفت نف�سه يف �إث ��ر كل قافلة‪ ،‬تئ ��وب من العراق‬
‫�أو تخ ��رج �إلي ��ه‪ .‬ويف كل مرة يخي ��ب �أمله‪ ،‬فريجع ح�س�ي ً�را �إلى بيته‪،‬‬
‫ويق�س ��م على نف�س ��ه �أن تقطع رجاءها‪ ،‬و�أن ت�ص ��رم حبل �أملها‪ ،‬لكي‬
‫ت�سرتيح من �إ�شفاقها وتطلعها‪.‬‬
‫ولكنه م ��ا �أن ي�سمع رغاء الإبل‪ ،‬وقد حط ��ت رحالها على منهل‬
‫ّ‬
‫ال�ش ْع ��راء((( حتى يت�سلل الأمل �إلى نف�سه من جديد‪ ,‬كما يتخلل مطر‬

‫((( وادي الكالب‪ :‬واد ي�سلك �شرقي ثهالن‪ ،‬ي�سمى حال ًيا وادي ال�شعراء‪ ،‬وقع فيه يومان من‬
‫�أيام العرب يف اجلاهلية‪.‬‬
‫((( بئ ��ر ماء قدمي يقع �شرقي ثهالن‪ ،‬قامت حوله قري ��ة ال�شعراء‪ ،‬وهي مركز يتبع ملحافظة‬
‫الدوادمي مبنطقة الريا�ض حال ًيا‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫������������������������������‬

‫ال�صي ��ف عروق �شجرة مل متطر يف �شتاء �أو ربيع‪ ,‬فيبادر �إلى املنهل‪،‬‬
‫وقد بعث الأمل عظامه‪ ،‬و�سرى يف مفا�صله‪.‬‬
‫ولك ��ن ما يبع ��ث على الأ�سى �أن ��ه كث ًريا ما ي ُعتق ��ل مكانه‪ ،‬حاملا‬
‫يخي ��ب رج ��ا�ؤه فيعجز عن الرج ��وع �إلى بيته‪ ،‬ورمبا ع�ث�ر يف طريقه‬
‫فوقع يف قلب �شجرة‪.‬‬
‫مل ي�ش�أ �أن ي�سرت�سل يف هذا اخليال احلزين‪ ،‬فوا�صل امل�سري يف‬
‫بط ��ن وادي ال ُكالب‪ ،‬حتى وقف عند طلح ��ة خ�ضراء قد حفر ال�سيل‬
‫ع ��ن عروقها املت�شعبة‪ .‬لقد وق ��ف ب�إرادته هذه املرة‪ ،‬وك�أمنا يريد �أن‬
‫ي�ستح ��ث ذاكرته القدمية على تذكر يوم من �أيام البطولة وال�شرف‪،‬‬
‫جرت �أحداثه يف جنبات وادي ال ُكالب(((‪ ،‬حيث تقف قدماه‪.‬‬
‫ال يزال يذكر كيف عم ال ��روع �أرجاء الوادي عندما �سمع قومه‬
‫�أن ملك جنران احلارث بن عبد يغوث قد �أقبل عليهم بجي�ش عظيم‪،‬‬
‫يريد �أن ي�ست�أ�ص ��ل �ش�أفتهم‪ ،‬ويبيد خ�ضراءهم‪ .‬مل يلبثوا كث ًريا حتى‬
‫�سال ��ت عليهم جنبات الوادي باخليل والرجال‪ ،‬واختلط وقع �سنابك‬
‫اخليل مع قعقعة ال�سالح‪ .‬انربى لهم �أبطال قومه على قلتهم‪ ،‬وكرثة‬
‫اجلراح فيهم‪ ،‬ول�سان حالهم‪:‬‬
‫((( ي ��وم ال ��كالب الثاين‪ :‬يوم م ��ن �أعظم �أيام العرب وق ��ع بني احلارث بن كع ��ب و�أحالفها‬
‫وب�ي�ن قبيلة متيم‪ ،‬وحدث بعدما طمعت القبائ ��ل يف متيم بعد �أن �أوقع بهم ك�سرى يف يوم‬
‫ال�صفقة‪ ،‬فجمع لهم بنو احلارث بن كعب ثمانية �آالف مقاتل‪ ،‬و�ساروا �إليهم من نواحي‬
‫جن ��ران‪ ،‬فه ��زم جمعهم �شر هزمية‪ ،‬و�أ�سر قائدهم احلارث ب ��ن عبد يغوث‪ ،‬ثم قتل بدم‬
‫النعمان بن مالك �سيد الرباب‪ .‬انظر‪� :‬أيام العرب يف اجلاهلية (�ص ‪.)100‬‬

‫‪167‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫(((‬
‫ولكن �أتتنا �أ�سرة ذات مفخر‬ ‫ولو كان جم ًعا مثلنا مل نبالهم‬
‫لق ��د تداخلت علي ��ه �أ�صوات املعرك ��ة‪ ،‬فلم يعد ميي ��ز بينها �إال‬
‫�ص ��وت قي�س بن عا�صم((( �سي ��د بني �سعد وهو ين ��ادي‪ :‬يا لتميم‪ ,‬يا‬
‫ل�سعد! حتى اجنلت املعرك ��ة عن ملحمة من مالحم العرب الكربى‪،‬‬
‫وانت�صرت البطولة املدافعة عن نف�سها على الكرثة الغازية‪.‬‬
‫�أح� ��س بن�شوة الن�صر‪ ،‬وهو يتذك ��ر م�شهد امللك الأ�سري‪ ،‬يطاف‬
‫والرباب‪ ،‬ليحكم فيه ذوو النهى‪ .‬كان امل�شهد‬‫به بني بيوتات بني �سعد ِ‬
‫يف غاي ��ة الغراب ��ة‪ ،‬لي�س لأن الأ�س�ي�ر ملك‪ ،‬و�إمنا لأن ��ه �شاعر! خاف‬
‫القوم من هجائه‪ ،‬فربطوا ل�سانه‪ ،‬و�أجلموا فمه‪.‬‬
‫ي ��ا ملفارق ��ة الق ��در! �أيهان لأنه مل ��ك‪ ،‬ويخاف منه لأن ��ه �شاعر؟‬
‫ولك ��ن! �ألي�س هذا هو �ش� ��أن الدنيا منذ بد�أ اخللق؟ ما �أن تنقلب ظه ًرا‬
‫على عقب‪ ،‬حتى ت�سلب املرء جميع ما تلب�س به من �صفات خارجة عنه‬
‫م ��ن جاه �أو م ��ال �أو ملك‪ ،‬وال يبقى له �سوى �صفات ��ه الالزمة يف نف�سه‬
‫من علم �أو �شعر �أو حكمة‪ ،‬لتكون م�صدر قوته الوحيد يف زمن حمنته‪.‬‬

‫((( البيت لعامر بن الطفيل من ق�صيدة له‪ ،‬قالها يوم فيف الريح‪ .‬ال�شعر وال�شعراء (‪.)235 /1‬‬
‫((( قي� ��س بن عا�صم املنقري‪� :‬سيد متيم يف اجلاهلية والإ�سالم‪ ،‬ا�شتهر بال�شجاعة واحللم‪،‬‬
‫وكان قائد متيم يوم الكالب الثاين‪ ,‬وفد على النبي ‪� H‬سنة ت�سع‪ ،‬وقال فيه‪ :‬هذا‬
‫�سيد �أهل الوبر‪ .‬مات يف خالفة عمر‪ ،‬فرثاه عبدة الطبيب‪:‬‬
‫عليك �سالم اهلل قي�س بن عا�صم ورحمته ما �شاء �أن يرتحما‬
‫وما كان قي ـ ـ ــ�س هلكه هلك واحد ولكنـ ـ ــه بنيان ق ـ ــوم تهدم ــا‬

‫‪168‬‬
‫������������������������������‬

‫مل ي�ستطع ربيع �إخفاء تعاطفه مع الأ�سري ال�شاعر‪ ،‬عندما �أ�شار‬


‫�إلى القوم ب�أن يطلقوا ل�سانه لكي ينوح على نف�سه قبل �أن يقتل‪ ،‬ورمبا‬
‫�أدرك ��ه رحم الأدب‪ ،‬الذي يجمع بينه وب�ي�ن الأ�سري‪ ،‬فكالهما �شاعر‬
‫مجُ يد‪:‬‬
‫وق�������راب�������ة الآداب ت���ق�������ص���ر دون����ه����ا‬
‫ع����ن����د الأدي��������������ب ق������راب������ة الأن�����������س�����اب‬
‫�أطل ��ق القوم ل�سانه و�أقبلوا يلومونه على عدوانه عليهم‪ ،‬ف�أن�شد‬
‫ق�صيدته اخلالدة‪:‬‬
‫�أَ َال ال َت��� ُل���و َم���انيِ َك��ف��ى ال���� َّل���� ْو َم م���ا ِب�� َي��ا‬
‫ف���م���ا َل��� ُك���م���ا يف ال����� َّل����� ْوم َخ���ْي���رْ ٌ وال ِل��� َي���ا‬
‫�أَلمَ ْ َت���� ْع����لَ���� َم����ا �أَ َّن امل َ َ‬
‫���ل���ا َم������� َة َن��� ْف��� ُع���ه���ا‬
‫ق��ل��ي ٌ��ل‪ ،‬وم���ا َل��� ْومِ ���ي �أَخِ ����ي مِ ���ن ���شِ �� َم��ا ِل�� َي��ا‬
‫َف���� َي����ا راكِ�����بً�����ا �إِ َّم��������ا َع���� َر� ْ����ض����تَ َف��� َب��� ِّل��� َغ���نْ‬
‫َن����دامَ����ايَ مِ ���ن نجَ ْ ������ َرا َن �أَ ْن ال َت�ل َ‬
‫اقِ�� َي��ا‬
‫هلل �أَ ْن َل���� ْ���س���تُ ���س��امِ ��عً��ا‬
‫�أَ َح���� ًّق����ا عِ ���� َب����ا َد ا ِ‬
‫��ي�ن املَ��� َت���ال��� َي���ا‬
‫َن���� ِ���ش���ي��� َد ال������ ُّر َع������ا ِء املُ���� ْع����زِب َ‬

‫‪169‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫(((‬ ‫�أَ ُق ُ‬
‫�����ول وق���د � َ���ش���دُّ وا ل�����س��انيِ ِب�� ِن��� ْ��س�� َع�� ٍة‬
‫�أَ َم��� ْع���� َ���ش��� َر َت��� ْي ٍ���م َ�أ ْط��� ِل��� ُق���وا ع���ن ِل��� َ��س��ا ِن�� َي��ا‬
‫�أَ َم�� ْع��� َ��ش�� َر َت�� ْي ٍ��م َق�� ْد َم��لَ�� ْك�� ُت�� ُه�� ْم ف َ�أ ْ�سجِ ُحوا‬
‫(((‬
‫ف������إِ َّن �أَخ���اك��� ْم مل َي��� ُك���نْ مِ ���ن َب��� َوائِ��� َي���ا‬
‫ف��������إِ ْن َت��� ْق��� ُت��� ُل���ونيِ َت��� ْق��� ُت��� ُل���وا ِب َ‬
‫�����ي َ���س�� ّي��دا‬
‫و ِ�إ ْن ُت ْ���ط��� ِل��� ُق���ونيِ تحَ ْ ����� ُر ُب�����ونيِ بمِ َ ���ا ِل��� َي���ا‬
‫����������ب َج��������� َوا ًدا ومل �أَ ُق ْ‬
‫������ل‬ ‫ك���������أَنيِّ َ مل �أَ ْر َك ْ‬
‫���ي ُك������ ِّري َن��� ِّف���� ِ���س���ي ع���ن ر َِج���الِ��� َي���ا‬
‫لخِ َ ��� ْي��� ِل َ‬
‫فلما فرغ منها قطعوا له عرق الأكحل‪ ،‬وتركوه ينزف حتى مات‪.‬‬
‫م ��رت هذه الأحداث ترتى على خي ��ال ربيع ال�سعدي‪ ،‬وقد طال‬
‫به الوقوف يف املكان حتى خ�شي �أن يدركه الليل‪ ،‬وملا ي�صل �إلى منهل‬
‫املاء بعد‪� .‬أ�سرع يف م�شيه قليلاً ‪ ،‬وقد فاءت �إليه نف�سه‪ ،‬وا�ستعاد �شي ًئا‬
‫من ثقته‪ ،‬فال يزال �شاعر بني �سعد يف اجلاهلية والإ�سالم‪.‬‬
‫ج ��اوز بطن الوادي‪ ،‬وم�ضى يحث خطاه نحو املاء‪ ،‬فزلت قدمه‬
‫حمرجا وم�ؤملـًا يف الوقت ذاته‪ ،‬ولكنه‬
‫ً‬ ‫وهوى �إلى الأر�ض‪ .‬كان املوقف‬
‫((( الن�سعة‪� :‬سري عري�ض‪ ،‬ي�صنع من اجللد ي�شد به‪.‬‬
‫(( ( �أ�سجحوا‪ :‬لينوا وي�سروا‪ ,‬البواء‪ :‬النظري واملكافئ‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫������������������������������‬

‫مل يعب�أ بالأمل بقدر خوفه من �ضياع ع�صاه‪ ،‬التي ال غنى له عنها يف‬
‫جميع �أحواله‪.‬‬
‫جال�سا ومد يديه مينة وي�سرة رجاء �أن يظفر بها‪ ،‬فيكفي‬
‫ا�ستوى ً‬
‫نف�سه م�ؤونة �س�ؤال املا ّرة‪ .‬مرت الثواين وك�أنها �ساعات وهو يتح�س�س‬
‫ما حوله دون جدوى‪ ،‬فا�ستند على يديه‪ ،‬واحتمل على ركبتيه‪ ،‬و�أخذ‬
‫يحبو ور�أ�سه يكاد مي�س الأر�ض �ضع ًفا وخجلاً ‪.‬‬
‫�أب ��ا �شيبان! �صوت رقيق ويد �أرق نه�ض ��ت به يف حنان وعطف‪.‬‬
‫�أم�سك ��ت بي ��ده و�أ�صلحت م ��ن �ش�أنه‪ ،‬ث ��م �أخذته �إلى بيته ��ا القريب‬
‫و�أكرم ��ت �ضيافته وهو مطرق �ساكت‪ .‬فلما �أراد النهو�ض �س�ألها‪ :‬من‬
‫تكونني؟ فقال ��ت‪� :‬أنا بع�ض من ذكرت يف �شعرك‪ .‬فقال‪ :‬ويحك ومن‬
‫أنت؟ فقالت‪ :‬خليدة بنت بدر‪.‬‬ ‫� ِ‬
‫خليدة؟ يا لهول املفاج� ��أة! ويا لعجائب ال�صدف! خليدة! مثال‬
‫احل ��ب والغزل‪ ،‬ورمز البغ�ض والهجاء يف �شخ�ص واحد‪� .‬إنها احللم‬
‫اجلمي ��ل الذي �أ�شعل يف روحه ج ��ذوة الع�شق يف خريف العمر‪ ،‬ثم ما‬
‫لب ��ث �أن حتول �إلى خيب ��ة مريرة‪ ،‬ال تزال تذكره ب� ��أن �شبابه قد ولى‬
‫�إلى غري رجعة‪.‬‬
‫بدل ناعم ووجه مليح‪،‬‬
‫لق ��د لقيها قبل ثالثني �سنة‪ ،‬فرمت قلبه ٍ‬
‫فهام به ��ا �أميا هيام‪ .‬خطبها فردت خطبت ��ه‪ ،‬و�سخرت من ت�صابيه‬
‫وجتاهله ل�سنه‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫مل يتحم ��ل رد خطبته ف�ضلاً عن ال�سخرية منه‪ ،‬فهجاها هجا ًء‬
‫مقذع ��ا‪ ،‬ون ��ال من �أخيها الزبرق ��ان بن ب ��در(((‪ .‬ومل يقف عند هذا‬
‫ً‬
‫احلد‪ ،‬بل تعر�ض لعر�ضه ��ا‪ ،‬ولج يف ال�شتم والهجاء حتى ظن النا�س‬
‫�أن يف عقله خبلاً ‪ ،‬فلقبوه «باملخبل»‪ ،‬ف�أ�صبح عل ًما عليه‪.‬‬
‫�أط ��رق خجلاً ‪ ،‬وه ��و يتذكر �صنيعها اجلمي ��ل معه قبل حلظات‬
‫على الرغم من هجائه املقذع لها طوال ثالثني �سنة‪ .‬نه�ض من بيتها‬
‫وهو يعتذر‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫�س�أعت���ب رب���ي بعده���ا و�أت���وب‬ ‫لقد �ضل حلمي يف خليدة �ضلة‬
‫كذب���ت عليها والهج���اء كذوب‬ ‫و�أ�شه���د وامل�ستغف���ر اهلل �أنن���ي‬

‫الرعاء‪ ،‬وتبادره رواد‬‫و�صل البئر وقد كرث و ّرادُه‪ ،‬وتزاحم عليه ِ‬


‫القواف ��ل م ��ن كل حدب و�صوب‪ .‬تب�ي�ن له من لغاته ��م املختلفة �أنهم‬
‫�أ�ضاميم من قبائل �شتى‪ ،‬قد جمعهم منهل ماء واحد‪.‬‬
‫يا لروع ��ة الإ�سالم وما �أعظم �أثره عل ��ى النا�س‪،‬كيف �ألف بني‬
‫القل ��وب املتناف ��رة‪ ،‬ونظم القبائل املتناحرة يف نظ ��ام واحد‪ .‬مل يدُر‬
‫بخل ��د عرب ��ي قط قبل ع�ش ��ر �سن�ي�ن �أن يجتمع التميمي م ��ع البكري‬‫ُ‬
‫�أو احلارث ��ي م ��ع العام ��ري على م ��ورد واح ��د دون �أن تن�شب احلرب‬
‫((( الزبرق ��ان بن بدر ال�سعدي كان �سي ��دً ا يف اجلاهلية‪ ،‬عظيم القدر يف الإ�سالم‪ .‬وفد على‬
‫ر�س ��ول اهلل ‪ H‬يف وف ��د بني متيم‪ ،‬ف�أ�سلم وح�س ��ن �إ�سالمه‪ .‬كان يلقب بقمر جند‬
‫جلماله‪ ،‬وله ق�صة م�شهورة مع احلطيئة‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫������������������������������‬

‫الع�ض ��ال‪ ،‬واليوم تزدحم على ّ‬


‫ال�ش ْعراء عدة قبائل‪ ،‬بل تنتظم العرب‬
‫كلها يف جي�ش واحد يقاتل الفر�س والروم‪.‬‬
‫فتى ميتاح املاء‪ ،‬وقد‬‫يف هذا امل�شه ��د املفعم باحلركة ملح املخبل ً‬
‫انح�سر ال ��رداء عن منكبيه‪ ،‬وهو يرفع الغ ��رب ك�أمنا هي دلو �صغرية‪،‬‬
‫ويفرغه ��ا يف حو�ض �إبل ��ه العطا� ��ش(((‪ .‬راق له املنظر كث�ي ً�را‪ ,‬وك�أمنا‬
‫ذك ��ره بابنه �شيبان‪ ,‬ف�أمهله حتى �سقى �إبله ثم ناداه‪� .‬أقبل الفتى يتهلل‬
‫وجهه‪ ،‬وقب ��ل ر�أ�س ال�شيخ‪ .‬فقال له املخبل‪ :‬من �أي العرب �أنت؟ �أجاب‬
‫الفت ��ى ب�شئ من الزهو‪ :‬من بن ��ي هالل بن عامر‪ ،‬و�أنتم �أخوايل يا بني‬
‫�سعد‪ .‬فقال له املخبل‪ :‬ما �صنع �صاحبكم حميد بن ثور الهاليل(((؟ رد‬
‫الفتى‪ :‬عهدي به يرعى �إبله بني �ضرية والنري(((‪� .‬ضرب املخبل الأر�ض‬
‫بع�صاه‪ ،‬ثم قال‪� :‬أنا واهلل �أولى منه ب�أبياته التي �سبق ال�شعراء �إليها‪:‬‬
‫�أرى ب�����ص��ري ق���د راب���ن���ي ب��ع��د �صحة‬
‫وح�������س���ب���ك داء �أن ت�������ص���ح وت�����س��ق��م��ا‬
‫ول�����ن ي��ل��ب��ث ال���ع�������ص���ران‪ :‬ي�����وم ول��ي��ل��ة‬
‫�إذا اخ���ت���ل���ف���ا �أن ي�����درك�����ا م��ات��ي��م��م��ا‬

‫(( ( ميتاح‪ :‬يغرتف املاء من البئر‪ ,‬الغرب‪ :‬الدلو العظيمة‪.‬‬


‫((( �شاع ��ر خم�ض ��رم وفد على النب ��ي ‪ H‬بعد حنني و�أ�سل ��م‪ ,‬عده الأ�صمع ��ي من ف�صحاء‬
‫ال�شعراء‪ ،‬وهو مقدم يف �شعر الو�صف والغزل واحلكمة‪ .‬تويف يف خالفة عثمان بن عفان ‪.L‬‬
‫((( النري‪ :‬جبل �شهري يتو�سط عالية جند يقع �إلى اجلنوب من �ضرية به العديد من �آبار املياه‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫ا�سرت�س ��ل ال�شيخ‪ :‬لقد �أنكرت ب�صري بعد �أن كان �أقوى ما ترك‬
‫الزم ��ن يل‪ ,‬وم ��ا �أرى هذا �إال بريد ِحمام ��ي‪ ،‬ومل يبق يل من �أمنيات‬
‫احلي ��اة �سوى �أن �أرى ولدي �شيبان قبل �أن �أموت ‪ ,‬فهل حتفظ ال�شعر‬
‫يابن ��ي؟ رد الفت ��ى بحما� ��س ولهفة‪� :‬أنا واهلل خري م ��ن يحفظه وخري‬
‫م ��ن ين�ش ��ده‪ ،‬وح�سبك بي �إذا قمت يف نادي الق ��وم‪ ،‬ورفعت عقريتي‬
‫بال�شعر‪ ،‬وغنيت غناء ي�صبي ال�شيخ‪ ،‬ويبكي العجوز على �صباها‪.‬‬
‫التفت املخبل �إلى الأفق البعيد‪ ،‬ثم قال‪ :‬فاحفظ عني �إذا‪:‬‬
‫�أَ ُي���� ْه���� ِل���� ُك���� ِن����ي � َ���ش��� ْي��� َب ُ‬
‫���ان فيِ ُك������� ِّل َل��� ْي���لَ��� ٍة‬
‫لِ�� َق�� ْل�� ِب َ��ي مِ ���نْ َخ����� ْو ِف ال����فِ���� َراقِ َوجِ ��ي ُ��ب‬
‫���ان �أَ ْن لمَ ْ َي�� ُع�� َّق�� ِن��ي‬
‫�����خ��ِب��رِ ُ نيِ � َ���ش��� ْي��� َب ُ‬
‫َو ُي ْ‬
‫������ق �إِ َذا َف������ا َر ْق������ َت������ ِن������ي َوتحَ ُ ُ‬
‫������������وب‬ ‫َت������ ُع ُّ‬
‫���ك ُغ�صني َ�أ���ص�� َب�� َح ال�� َي��و َم ذا ِويً���ا‬
‫َف�����إِن َي ُ‬
‫��ك مِ ���ن م����ا ِء ال��� َّ��ش��ب��ابِ َرط��ي ُ��ب‬ ‫َو ُغ�����ص�� ُن َ‬
‫َف ِ������إنيّ َح�� َن��ت َظ��ه��ري ُخ��ط ٌ‬
‫��وب َت��ت��ا َب�� َع��ت‬
‫َف�� َم�����ش��ي َ���ض��ع��ي ٌ��ف يف ال����� ِّرج�����الِ َدب���ي ُ���ب‬
‫����ن البلى‬ ‫َوم����ا لِ��ل��عِ��ظ��ا ِم ال���راجِ ���ف���اتِ مِ َ‬
‫��ي��ن َط���ب���ي ُ‬
‫���ب‬ ‫دَوا ٌء َوم��������ا لِ�����ل����� ُرك����� َب����� َت ِ‬

‫‪174‬‬
‫������������������������������‬

‫ِ�إذا ق����ا َل � َ��ص��ح��ب��ي ي���ا َرب���ي��� ُع �أَال َت���رى‬


‫ني َوه َو َق ُ‬
‫ريب‬ ‫خ�ص ِ‬ ‫خ�ص َك َ‬
‫ال�ش َ‬ ‫ال�ش َ‬ ‫�أَرى َ‬
‫و� ّإن ام�������ر�أٍ ق���د ع���ا����ش ت�����س��ع�ين حجة‬
‫����ب‬
‫�إل����������ى م����ن����ه����لٍ م������ن ِورده ل����ق����ري ُ‬
‫�إذا ذه����ب ال����قِ����رن ال�����ذي �أن�����ت ف��ي��ه�� ُم‬
‫وخ����� َّل�����ف�����تَ يف قِ����������رنٍ ف������أن�����ت غ����ري ُ‬
‫����ب‬
‫انطل ��ق الفت ��ى يغنيه ��ا بلح ��ن حزي ��ن عل ��ى وقع خط ��ى ال�شيخ‬
‫املتتابعة‪ ،‬الذي م�ضى عجلاً يحاذر �أن يحول الليل بينه وبني منزله‪.‬‬
‫�سرى ال�ص ��وت يف نوادي العرب قبل �أن ي�صل املخبل �إلى بيته‪،‬‬
‫وك�أمنا تكفلت ب�إي�صاله �سحابة الغروب احلمراء‪ ،‬التي كانت �أول من‬
‫�سمع ال�صوت‪.‬‬
‫بل ��غ هذا ال�صوت م�سامع عمر ب ��ن اخلطاب ‪ I‬يف املدينة‬
‫فبك ��ى حتى ب ��ل رداءه‪ ،‬و�أنف ��ذ ر�سوله عل ��ى الفور �إلى �سع ��د بن �أبي‬
‫وقا�ص ي�أمره برد �شيبان �إلى �أبيه‪ ،‬ويعزم عليه �أال يفارق �أباه �أبدً ا‪.‬‬
‫يا لها من ر�سالة مفادها �أن الإ�سالم دين بر ورحمة‪ ،‬و�إال فمن‬
‫غد يف وقت ت�شتد احلاجة فيه �إلى‬
‫يعب�أ ب�شيخ هرم هو هامة اليوم �أو ٍ‬
‫كل �ساعد ومع�صم يف خ�ضم فتوحات ال�شام والعراق‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫تذكر النا�س املخبل‪ ،‬وتتابعوا على زيارته‪ ،‬وكلهم يب�شره بر�سالة‬


‫أياما ال‬
‫عم ��ر فين�صت �إليها كل مرة‪ ،‬وك�أنه �أول م ��رة ي�سمعها‪� .‬أقام � ً‬
‫يذوق النوم �إال ِغرا ًرا بعد �أن حلت لهفة ال�شوق حمل حرقة الأ�سى‪.‬‬
‫تهب ال�شمال في�ستقبلها بوجهه‪ ،‬ويقول‪ :‬ما �أطيبها من ريح تهب‬
‫م ��ن قبل �شيبان‪ ،‬وت�ستحث ركابه وت�أتيني بر ّياه‪ .‬و�سرعان ما �صدقت‬
‫ال�شم ��ال وعدها ف�أتت ب�شيبان يحدوه ال�شوق حت ��ى �أو�صلته م�شارف‬
‫احلي‪ .‬ت�سابق الفتيان �إل ��ى املخبل يب�شرونه بو�صول ولده‪ ،‬وما علموا‬
‫�أن روح ��ه قد �صحب ��ت �شيبان منذ �أن ف�صلت الع�ي�ر من العذيب(((‪.‬‬
‫ومل يتم ��وا ب�شارتهم حتى ا�ستداروا ثم انطلقوا يتبادرون �شيبان‪ .‬كم‬
‫متنى املخبل لو يقدر على جمارتهم فال ي�سبقه �أحد �إلى ولده‪ ،‬ولكن‪:‬‬
‫ال���ن���ف�������س ت�����أم����ل والأ������س�����ب�����اب ع���اج���زة‬
‫وال��ن��ف�����س تهلك ب�ين ال��ي���أ���س والطمع‬
‫�أقب ��ل �شيبان تخب ب ��ه مطيته‪ ،‬حتى وقفت به �أم ��ام بيت والده‬
‫الذي جل� ��س متحفزً ا ب�ساحة البيت‪ ،‬وقد �أم�س ��ك ع�صاه بكلتا يديه‪.‬‬
‫ح ��اول �أن ينيخ ناقته فلم ي�ستط ��ع‪ ،‬وك�أمنا ت�صلبت ركبتاها من طول‬
‫ال�س�ي�ر‪ ،‬و�أفناها التهجر والد�ؤوب(((‪ .‬مل ي�ستطع االنتظار فقفز منها‬
‫((( العذي ��ب‪ :‬منزل من منازل طريق احلج الكويف به عني عذبة وبركة ماء‪ ،‬وهو حد جزيرة‬
‫العرب من جهة العراق‪ ،‬ويقع يف ال�صحراء على بعد �أربعني‪ ،‬كيال جنوب النجف‪.‬‬
‫((( التهج ��ر‪� :‬سري الهاجرة‪ ،‬وه ��ي منت�صف النهار عند ا�شتداد احل ��ر‪ ,‬الد�ؤوب‪ :‬الإحلاح يف‬
‫ال�سري واملداومة عليه‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫������������������������������‬

‫ليحت�ض ��ن �أباه‪ ،‬الذي نه� ��ض ليقوم له فخانته قدم ��اه �أحوج ما كان‬
‫�إليهما‪ ،‬فلم ي�ستطع القيام و�سقط على جنبه‪.‬‬
‫كان املنظ ��ر باع ًث ��ا على الب ��كاء‪ ،‬فلم يتمالك �أح ��د عينه‪ ,‬بكى‬
‫فرحا وحب ��و ًرا‪ ،‬وبكى �شيبان �أ�س ًفا ً‬
‫وندم ��ا‪ ،‬وبكى النا�س رقة‬ ‫املخب ��ل ً‬
‫وحز ًنا‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫������������������������������‬

‫ب‪ :‬حتقيق �سبب املر�ض‬

‫يت�ضح من �سياق الق�صة ومن ا�ستقراء ديوان املخبل �أنه �أ�صيب‬


‫مبر�ض ازدواجية الر�ؤية (‪ )Diplopia‬يف �آخر حياته ‪ .V‬وقد �أثر‬
‫هذا املر�ض عل ��ى نف�سيته كث ًريا مع تقدم �سنه و�ضعف حركته‪ ،‬وقد‬
‫و�صفه �أكرث من مرة يف �شعره‪.‬‬
‫وازدواجي ��ة الر�ؤي ��ة �أو (‪ )Diplopia‬ه ��و مر� ��ض ب�صري ي�ؤدي‬
‫�إل ��ى ر�ؤية �صورتني ل�شيء واحد يف الوقت ذاته‪ ,‬وقد تكون ال�صورتان‬
‫ف ��وق بع�ضهما �أو جنبا �إلى جنب‪ .‬وه ��ذا املر�ض مربك ج ًّدا يف �أثناء‬
‫امل�ش ��ي واحلركة‪� ،‬إذ ي� ��ؤدي �إلى اختالل التوازن‪� ,‬أم ��ا حال الرتكيز‬
‫يف الأ�شي ��اء القريبة‪ ،‬في�سبب ال�صداع والغثي ��ان‪ ،‬ورمبا �سبب �أملًا يف‬
‫ع�ضالت العني‪.‬‬
‫مع العلم �أن احلاالت اخلفيفة من هذا املر�ض قد ال ي�صاحبها‬
‫�أي �أعرا�ض مر�ضية �أخرى‪ ،‬و�إمنا تختلف الأعرا�ض ال�صحية بح�سب‬
‫اختالف �سبب املر�ض‪ ،‬كما �سرنى بعد قليل‪.‬‬
‫وقد و�ص ��ف املخبل هذا املر�ض و�ص ًفا دقي ًق ��ا‪ ،‬يبني مدى ت�أثره‬
‫منه‪ .‬ت�أمل قوله‪:‬‬

‫‪179‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫�إذا ق�����ال ���ص��ح��ب��ي ي���ارب���ي���ع �أال ت���رى‬


‫�أرى ال�شخ�ص كال�شخ�صني وهو قريب‬
‫فقد �أنكر �أ�صحابه �ضعف ب�صره‪ ،‬ورمبا ا�ستدلوا على ذلك من‬
‫م�شيته امل�ضطربة �أو من طريقة نظره‪� ,‬إذ �إن امل�صابني بهذا املر�ض‬
‫ق ��د يديرون ر�ؤو�سهم بطريقة غري عادي ��ة‪� ،‬أو ينظرون ب�شكل جانبي‬
‫�دل من النظر �إلى الأم ��ام‪ ,‬وقد ي�ضطرون لتغطي ��ة �إحدى العينني‬ ‫ب � اً‬
‫لأج ��ل ا�ستبعاد ال�ص ��ورة املك ��ررة‪ .‬رد املخبل على �أ�صحاب ��ه ب�إجابة‬
‫حا�سمة تبني �سبب معانات ��ه‪ ,‬ف�شكواه لي�ست من �ضعف الب�صر بقدر‬
‫ما هي من ازدواج ر�ؤيته للأ�شي ��اء‪ .‬ورغم قرب الأ�شياء والأ�شخا�ص‬
‫وقدرت ��ه على ر�ؤيتها وحتدي ��د معاملها‪� ،‬إال �أنه ال يراها فرادى‪ ،‬بل كل‬
‫�شيء تتكرر �صورته مرتني‪.‬‬
‫وق ��د ازداد علي ��ه املر�ض يف �آخر حيات ��ه‪ ،‬ف�أ�صبح يرى ال�شخ�ص‬
‫ثالثة �أ�شخا�ص �أو �أكرث‪ ،‬فعاد �أكرث تذم ًرا‪ ،‬و�أ�شد مرارة حتى مع ح�ضور‬
‫ابنه‪ .‬يقول يف ق�صيدة �أخرى‪ ،‬يبدو �أنها من �أواخر ق�صائده ‪:V‬‬
‫وم�����ش��ي��ت ب��ال��ي��دِ ق��ب��ل رج��ل��ي خ��ط��وه��ا‬
‫ر� َ����س َ‬
‫����ف امل���ق��� َّي���د حت����ت � ُ���ص���ل���بٍ �أح������دبِ‬
‫ف�������إذا ر�أي�������تُ ال�����ش��خ�����ص ق���ل���ت‪ :‬ث�لاث�� ٌة‬
‫�أو واح������������� ٌد و�أخ����������ا ُل����������ه مل ي������ق������ ُربِ‬

‫‪180‬‬
‫������������������������������‬

‫����ي الأم��������ر مل �أ����ش���ع���ر ب��ه‬


‫وق�������ض���ى ب����ن َ‬
‫���ب‬ ‫و�إذا ������ش�����ه ُ‬
‫�����دت �أك������������ون ك���امل���ت���غ��� ِّي ِ‬
‫فف ��ي هذه الأبي ��ات ي�صور نف�س ��ه‪ ،‬وهو عاجز ع ��ن امل�شي على‬
‫قدمي ��ه‪ ،‬حتى �أ�صب ��ح يحبو على يديه‪ ،‬كما مي�شي م ��ن �أثقلت القيود‬
‫رجلي ��ه‪ ،‬فهو ير�س ��ف يف قيوده‪ ,‬وهي �صورة معربة ج� � ًّدا‪ ،‬برغم �أنها‬
‫م�ألوف ��ة يف ال�شع ��ر العربي‪� .‬أما ب�صره فقد تده ��ور كث ًريا هذه املرة‪،‬‬
‫فهو ال يكاد يتبني ال�شخ�ص حتى لو كان قري ًبا منه‪.‬‬
‫و ال�شاه ��د هنا هو �إحلاحه على ذكر �سبب معاناته الدائمة من‬
‫ازدواجي ��ة الر�ؤية‪ ،‬الت ��ي �أ�ضعفت قدرته عل ��ى الت�صور واحلكم على‬
‫الأ�شي ��اء‪ ،‬ف�أثرت على عقله حتى غدا ك�أن ��ه حا�ضر غائب يق�ضى يف‬
‫�أموره وهو ال ي�شعر‪ ،‬و�سواء �أ�شهد �إبرام الأمر �أم غاب عنه‪.‬‬
‫ومل تطل حياته بعد ذلك‪ ،‬فمات يف �أواخر خالفة عمر ‪.I‬‬

‫‪181‬‬
‫������������������������������‬

‫ج‪� :‬إ�ضاءات طبية‬


‫(((‬

‫ازدواجي ��ة الر�ؤية �أو (‪ )Diplopia‬هو مر�ض ب�صري نادر ي�شكل‬


‫�أق ��ل من ‪ %2‬م ��ن �أمرا�ض العيون ب�شكل عام‪ .‬ي� ��ؤدي هذا املر�ض �إلى‬
‫ر�ؤي ��ة �صورت�ي�ن ل�شيء واح ��د يف الوقت ذات ��ه‪ ،‬اً‬
‫بدل م ��ن ر�ؤية �صورة‬
‫واح ��دة حمددة املعامل‪ .‬وقد يكون املر�ض م�ستم ًّرا طوال الوقت‪ ،‬وقد‬
‫يحدث يف �أوقات معينة �أو عند النظر باجتاه معني‪.‬‬

‫�أ�سباب املر�ض‪:‬‬
‫ينتج املر� ��ض ب�سبب خلل يف جهاز الر�ؤي ��ة (‪)Vision System‬‬
‫ال ��ذي يتكون من �أج ��زاء عديدة‪ ،‬تتناغم فيما بينه ��ا ب�شكل متنا�سق‬
‫لر�ؤي ��ة �ص ��ورة فردية وا�ضحة وحم ��ددة املعامل‪ .‬وقد حت ��دث الر�ؤية‬
‫املزدوجة يف عني واحدة �أو يف العينني م ًعا‪ ،‬نتيجة لعدد من الأ�سباب‬
‫املر�ضية‪ ,‬و�أ�شهر الأ�سباب ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬ت�شوه ��ات القرني ��ة وعدم انتظامها‪ ،‬مما ي� ��ؤدي �إلى ت�شتيت‬
‫ال�ض ��وء الداخل �إلى الع�ي�ن‪ ,‬وهذا اخللل ي� ��ؤدي �إلى الر�ؤية‬
‫املزدوجة يف ع�ي�ن واحدة‪ ،‬حيث ميكن تفاديه بتغطية العني‬
‫امل�صابة‪ .‬ومما يجدر ذكره هنا �أن جفاف العني وقلة الدمع‬
‫قد ي�ؤدي �إلى هذا اخللل � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫‪(1) http://emedicine.medscape.com/article/1214490-overview‬‬

‫‪183‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫‪ -2‬م�ش ��كالت عد�سة العني‪� :‬أبرز ه ��ذه امل�شكالت هو الإعتام �أو‬


‫امل ��اء الأبي� ��ض (‪� ،)Cataracts‬إذ ي�ؤدي �إلى ت�ش ��وه ال�صورة‬
‫الت ��ي تدخل العني‪ .‬وهذا ال�سب ��ب ميكن عالجه ب�سهوله عن‬
‫طريق اجلراحة‪.‬‬
‫‪ -3‬حدوث خل ��ل يف �أداء ع�ضالت العني‪ :‬يعد احلول �أحد �أ�شهر‬
‫ه ��ذه الأ�سباب‪ ،‬لأن كل عني ت�شري �إلى زاوية معينة تبعد عن‬
‫زاوي ��ة العني الأخرى‪ ،‬في�صعب على الدماغ دمج ال�صورتني‬
‫م ًع ��ا‪ .‬ومن الأ�سب ��اب الأخ ��رى‪� ,‬ضعف الع�ض�ل�ات ال�شديد‬
‫ب�سب ��ب �شلل الأع�صاب‪� ،‬أو بع�ض الأمرا�ض املناعية كالوهن‬
‫الع�ضلي ال�شديد (‪.)Myasthenia Gravis‬‬
‫‪ -4‬م�شكالت �أع�صاب العني‪ :‬قد حتدث الر�ؤية املزدوجة ب�سبب‬
‫ح�صول �ضرر يف الأع�صاب‪ ،‬التي تتحكم يف حركة العني �أو‬
‫يف الع�صب الب�صري (‪ ،)Optic nerve‬الذي ينقل ال�صورة‬
‫م ��ن الع�ي�ن �إلى الدماغ‪ .‬و�ض ��رر الأع�صاب ق ��د ينتج ب�سبب‬
‫اجللط ��ات �أو الأورام‪ ،‬وق ��د يت�سب ��ب في ��ه بع� ��ض الأمرا�ض‬
‫كالت�صل ��ب اللويحي‪ .‬ويع ��د ال�سكر من �أه ��م الأ�سباب التي‬
‫قد ت�سبب �ضرر الأع�ص ��اب‪ ،‬ومن ثم �ضعف ع�ضالت العني‬
‫والر�ؤية املزدوجة يف العينني م ًعا‪.‬‬
‫‪�-5‬إ�صابات الر�أ�س �أو �أورام الدماغ‪ ،‬التي ت�ؤدي �إلى تلف �أن�سجة‬
‫مرك ��ز الر�ؤي ��ة‪� ،‬أو ت�ضغط على حمجر الع�ي�ن‪ ،‬وتقيد حركة‬
‫ع�ضالتها‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫������������������������������‬

‫العالج‪:‬‬

‫نظ� � ًرا لأن مر�ض الر�ؤي ��ة املزدوجة قد يك ��ون مقدمة لأمرا�ض‬
‫عديدة �أخرى‪ ،‬ف�إن العالج ينبغي �أن يتم يف مراكز متخ�ص�صة حتت‬
‫�إ�شراف طاقم طبي متكامل‪ .‬ويعد الت�شخي�ص ال�سليم ومعرفة ال�سبب‬
‫الكام ��ن وراء امل�شكلة هو �أهم خط ��وة يف عملية العالج‪ ,‬وهذا الأمر‬
‫يتطل ��ب تعاو ًنا كاملاً بني املري�ض وطبيب ��ه‪� ،‬إذ �إن دقة و�صف احلالة‬
‫واالنتب ��اه لها مبك ًرا عامالن حا�سمان يف مدى دقة الت�شخي�ص‪ ،‬ومن‬
‫ثم العالج‪.‬‬

‫الر�ؤية املزدوجة عند الأطفال‪:‬‬

‫كم ��ا ي�صاب الكب ��ار بالر�ؤية املزدوجة ي�ص ��اب الأطفال � ً‬
‫أي�ضا‪,‬‬
‫لك ��ن امل�شكلة تكم ��ن يف �أن الأطف ��ال غري قادرين عل ��ى تقدمي �شرح‬
‫وا�ضح مل ��ا يح�صل‪ ،‬مما قد ي�ؤخر الت�شخي� ��ص‪ ،‬حتى يتطور املر�ض‪،‬‬
‫وت�صل م�ضاعفاته �إلى مراحل متقدمة‪.‬‬
‫و�أهم تلك امل�ضاعفات هي فقدان النظر يف �إحدى العينني ب�سبب‬
‫جتاه ��ل املخ لل�صور القادمة منها‪ ،‬والت ��ي تختلف كلية عن �صور العني‬
‫الأخرى‪ ،‬مما ي�ؤدي �إلى ك�سل العني‪ ،‬وقد ي�سبب فقدا ًنا دائ ًما للنظر يف‬
‫تلك العني يف حال ا�ستمرار امل�شكلة‪ .‬ولذا ال بد �أن يحر�ص الأبوان على‬
‫اكت�شاف امل�شكلة مبك ًرا‪ ،‬وهنا بع�ض العالمات املفيدة بهذا ال�صدد‪:‬‬

‫‪185‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫‪ -1‬الطفل امل�صاب بازدواجية الر�ؤية غال ًبا ما يلوي عنقه ب�شكل‬


‫بدل من النظر‬ ‫مائل يف �أثناء النظر‪� ،‬أو ينظر ب�شكل جانبي اً‬
‫�إلى الأمام‪.‬‬
‫‪ -2‬عن ��د مالحظ ��ة �أن الطف ��ل ي�ضيق عينه يف �أثن ��اء الر�ؤية‪� ،‬أو‬
‫يغط ��ي �إحدى عيني ��ه يف كثري م ��ن الأحيان‪ ،‬ينبغ ��ي التنبه‬
‫ومراجعة الطبيب املخت�ص‪.‬‬
‫�شيوعا لدى‬
‫‪ -3‬يع ��د احل ��ول �أه ��م �أ�سب ��اب الر�ؤي ��ة املزدوج ��ة ً‬
‫الأطفال‪ ،‬ويجب عالجه مبك ًرا تفاد ًيا ل�ضعف النظر‪ ،‬الذي‬
‫قد يحدث يف �إحدى العينني يف حال ت�أخري العالج‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫������������������������������‬

‫د‪� :‬سر القوة �صفة كامنة‬

‫�صف ��ات الإن�سان �إما �صفات الزمة له كامن ��ة فيه‪ ,‬و�إما �صفات‬
‫خارج ��ة عن ��ه مباينة له‪ .‬فال�صف ��ات الالزمة هي جمم ��وع مهارات‬
‫الإن�سان و�أخالق ��ه وملكاته الكامنة فيه املالزمة له‪ ،‬التي ال تزول �إال‬
‫ب ��زوال الإن�سان نف�س ��ه‪ .‬وهي م�صدر القوة احلقيق ��ي‪ ،‬الذي ال يقدر‬
‫عل ��ى ا�ستالبه عدو بخالف ال�صفات اخلارجة عن الإن�سان من غنى‬
‫�أو ج ��اه �أو من�صب‪ ،‬التي غال ًبا م ��ا تكون عب ًئا على الإن�سان عند تغري‬
‫الأحوال وانقالب الأمور‪.‬‬
‫ت�أم ��ل يف �س�ي�ر من قلب ��ت لهم الدني ��ا ظهر املج ��نّ ي�ستبني لك‬
‫الق�صد وتقف على جلية الأمر‪ .‬تغريت الدنيا على ابن حزم ‪،V‬‬
‫فذهبت وزارته‪ ،‬وهدمت داره‪ ،‬و�أحرقت كتبه وهو ينظر‪ ,‬فقال بعزة‬
‫الواثق من نف�سه املعتد بعلمه‪:‬‬
‫ف�إن يحرقوا القرطا�س ال يحرقوا الذي‬
‫ت�ضمنه ال��ق��رط��ا���س ب��ل ه���ويف ���ص��دري‬
‫ي�����س�ير م��ع��ي ح��ي��ث ا���س��ت��ق��ل��ت رك��ائ��ب��ي‬
‫وي����ن����زل �إن ان������زل وي����دف����ن يف ق�ب�ري‬

‫‪187‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وت�أمل يف قول املعتمد بن عباد‪ ،‬وقد �سيق �أ�س ًريا مغلو ًبا بعد عز‬
‫امللك وجاه ال�سلطان‪:‬‬
‫�إن ت�ستل���ب عن���ي الدن���ا ملكي وت�سلمني اجلموع‬
‫القلب ال�ضلوع‬
‫فالقل���ب ب�ي�ن �ضلوع���ه مل ت�سل���م َ‬
‫مل �أ�ستل���ب �ش���رف الطبا ع �أي�سلبال�شرفالرفيع؟‬
‫قال���وا اخل�ض���وع �سيا�ســة فليب���د منك لهم خ�ضوع‬
‫و�أل���ذ م���ن طع���م اخل�ضو ع على فمي ال�سم النقيع‬
‫�س�ي�ر الأل���ى �أن���ا منه���م والأ�ص���ل تتبع���ه الف���روع‬

‫فلم يبق له م ��ن �أ�سباب العزاء و�أ�سرار الثبات �سوى ما ت�ضمنه‬


‫قلب ��ه من �ش ��رف الطباع وك ��رمي اخل�صال‪ ،‬وهي �صف ��ات ال ت�ستطيع‬
‫الدني ��ا ب�أكمله ��ا �أن ت�ستلبها منه‪ ،‬كما يقول‪ .‬و�أ�صب ��ح ال�شعر م�صدر‬
‫�سل ّوه الوحيد يف غربته املوح�شة و�سجنه الكئيب‪.‬‬
‫�أجم ��ع حكام �أثينا على �إع ��دام احلكيم �سقراط ب�سبب فل�سفته‬
‫الت ��ي كانت تق ��وم على �أ�سا�س تغي�ي�ر املفاهيم اخلاطئ ��ة‪ ،‬وت�صحيح‬
‫الت�ص ��ورات املغلوط ��ة ع ��ن احلكم والع ��دل واحلكم ��ة‪ .‬كان يف �أثناء‬
‫املحاكمة هاد ًئا ال يلتفت �إلى �أحد‪ ،‬وك�أن املعني باملحاكمة �أحد �سواه‪.‬‬
‫مل يك ��ن هدو�ؤه ت�صن ًعا‪ ،‬بل كان ا�ستغرا ًق ��ا يف فل�سفة احلياة واملوت‪،‬‬
‫حت ��ى لقد ان�شرح �صدره حني تو�صل �إلى �أن ثمرة حياته قد ن�ضجت‪،‬‬
‫و�آن للموت �أن يقطفها‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫������������������������������‬

‫ولي� ��س هذا الأمر ق�ص ًرا على حال النكبات‪ ،‬بل حتى عند تقدم‬
‫ال�سن وان�صرام الأتراب �أو حال العجز واملر�ض‪ .‬ولك �أن تتخيل البون‬
‫ال�شا�سع يف حال فقدان الب�صر مثلاً بني �صاحب املال اجلاهل‪ ،‬وبني‬
‫من �أوتي عل ًما وحكمة‪.‬‬
‫واملق�ص ��ود �أن يدخر الإن�س ��ان لنف�سه �شي ًئا ي�سلي ��ه وي�شد قلبه‪،‬‬
‫ويعين ��ه على ال�صرب والثبات ح ��ال عجزه �أو تغري الدني ��ا عليه‪ .‬وقد‬
‫يكون هذا ال�ش ��ئ مهارة يطورها‪� ،‬أو ملكة ينميه ��ا‪� ،‬أو عل ًما يحفظه‪,‬‬
‫ورمب ��ا كان طريق ��ة م ��ن طرائ ��ق التفك�ي�ر والتفل�س ��ف يف الك ��ون‬
‫واحلياة والوجود‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫خامتة‬

‫كما م ��ر بك عزيزي الق ��ارئ‪ ،‬عر�ضنا يف ه ��ذا الكتاب املوجز‬


‫�سب ��ع ق�ص�ص ل�سب ��ع �شخ�صيات م ��ن م�أثورن ��ا التاريخ ��ي والأدبي‪،‬‬
‫وحاولن ��ا جاهدين ربطها بالعلم احلديث يف جوانب الطب والرتبية‪،‬‬
‫لعلن ��ا بذل ��ك �أن ن�ث�ري املكتب ��ة العربية بنوعي ��ة جديدة م ��ن الكتب‬
‫والبح ��وث‪ ،‬الت ��ي تفتح الأف ��ق وا�س ًع ��ا لدرا�سات معمق ��ة يف ح�ضارة‬
‫العرب وامل�سلمني‪.‬‬
‫بد�أ ه ��ذا الكتاب بق�صة ه ��ارون الر�شي ��د ‪ ،V‬ور�أينا فيها‬
‫كيف �أثر مر�ض ال�سكر على م�سار حياته‪ ،‬وكيف مات يف �سن الكهولة‬
‫ب�سب ��ب واحدة من �أخطر م�ضاعفات مر� ��ض ال�سكر‪ .‬ثم �أتبعنا ذلك‬
‫ب�ش ��رح طب ��ي موجز عن هذا املر�ض ال�شائ ��ع يف جمتمعنا نهدف من‬
‫خالل ��ه �إل ��ى رفع الوعي ال�صحي عن ��د القراء‪ .‬ونظ ًرا مل ��ا للر�ؤيا من‬
‫عمي ��ق �أث ��ر يف �سياق ق�صة وف ��اة الر�شيد ‪ ،V‬فق ��د �أحلقنا بهذا‬
‫الف�ص ��ل مقالاً يعال ��ج ق�ضية تعبري الر�ؤى‪ ،‬قدمن ��ا من خالله قواعد‬
‫عملي ��ة ت�ساع ��د النا� ��س يف التفريق بني املعرب اجلي ��د‪ ،‬ومن عداه يف‬
‫وقت �أ�صبح تعبري الر�ؤى �سو ًقا ً‬
‫رائجا‪.‬‬
‫مرت بنا بعد ذلك ق�صة احلمى التي �أ�صابت املتنبي‪ ،‬وبينا كيف‬
‫�ساعدتنا بالغة املتنب ��ي على التعرف على نوع احلمى‪ ،‬التي �أ�صابته‬

‫‪191‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫وه ��ي املالريا‪ .‬ثم ر�أينا كيف اقرتنت ن�ش�أته يف و�ضع اجتماعي بئي�س‬
‫ن�سيجا فريدً ا‪� ،‬أطلقنا‬
‫مع موهبته اخلارقة ونف�سه الوثابة‪ ،‬ليخرج لنا ً‬
‫عليه متالزمة املتنبي‪.‬‬
‫ثم عمدنا بعد ذلك �إلى فك لغز داء النزف‪ ،‬الذي �أ�صاب �أبناء‬
‫ال�شاعر الكب�ي�ر ابن الرومي‪ ،‬وتو�صلنا �إلى �أن ��ه مر�ض الهيموفيليا‪،‬‬
‫و�أ�شرن ��ا يف ثنايا احلدي ��ث �إلى �أثر تربية اال�ستح ��واذ على حياة ابن‬
‫الروم ��ي‪ ،‬وكيف �صبغته ب�صبغتها املقلقة‪ ،‬الت ��ي �أدت به �إلى التمرد‬
‫�أولاً ‪ ،‬ثم العزلة الكئيبة ثان ًيا‪.‬‬
‫�أم ��ا وف ��اة النبي ‪ H‬فق ��د بذلن ��ا الو�س ��ع للتوفيق بني‬
‫الن�صو�ص ال�صحيحة‪ ،‬التي �أ�شارت �إلى �سبب وفاته ‪ H‬من‬
‫ناحي ��ة‪ ،‬وبينها وبني ما يقبله الط ��ب احلديث من ناحية �أخرى‪ .‬وقد‬
‫تو�صلنا �إلى نتيجة مفادها‪� :‬أن م�ضاعفات �سم الزرنيخ و�آثاره طويلة‬
‫الأم ��د‪ ،‬قد �ساهمت ب�شكل غ�ي�ر مبا�شر يف �إ�ضع ��اف مقاومة ج�سده‬
‫حلمى املالري ��ا‪ ،‬حني �أ�صابته بعد �أربع �سنني م ��ن حادثة ال�سم التي‬
‫حدثت عام خيرب‪.‬‬
‫ث ��م �سقنا الدالئل املتوافرة بني يدينا لبي ��ان‪� :‬أن الغدة التي قتلت‬
‫عام ��ر بن الطفيل‪ ،‬و�أ�ش ��ار �إليها مبقولته ال�شهرية الت ��ي �أ�صبحت مثلاً‬
‫«غدة كغدة البعري وموت يف بيت �سلولية»‪ ،‬هي �سرطان البريكت ليفوما‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫تاخلا‬

‫�أم ��ا قرحة العد�سة �أ�صابت �أبا له ��ب‪ ،‬فقد غلب على الظن بعد‬
‫ا�ستقراء الن�صو�ص املتوافرة‪� ،‬أنها نوع من �سرطان اجللد الليمفاوي‪،‬‬
‫يدعى الورم احلبيبي الفطري‪.‬‬
‫و�أخ�ي ً�را مرت بنا معان ��اة املخبل ال�سعدي م ��ن ازدواج الر�ؤية‪،‬‬
‫وبينا �أثر اقرتان هذا املر�ض مع كرب ال�سن‪ ،‬وفقدان االبن على حياة‬
‫ال�شاعر الكبري‪.‬‬
‫وهن ��ا ينبغ ��ي �أن �أنوه �إلى �أم ��ر كنت قد �أ�ش ��رت �إليه يف مقدمة‬
‫الكت ��اب‪ ،‬وهو �أن ترتيب الق�ص� ��ص �إمنا جاء وف ًقا لدرجة الوثوق من‬
‫ت�شخي�ص املر�ض‪.‬‬
‫وختام ��ا‪ :‬ف�إننا ن�أمل �أن ي�ساهم ه ��ذا الكتاب املوجز يف �إ�ضاءة‬
‫ً‬
‫بع� ��ض الزواي ��ا املظلم ��ة يف م�أثورنا احل�ض ��اري العظي ��م‪ ،‬و�أن يكون‬
‫لبن ��ة يف م�ش ��روع ربط ح�ضارتنا الت ��ي �أ�شرقت الأر� ��ض بنورها منذ‬
‫خم�س ��ة ع�شر قر ًنا بالعلم احلديث‪ ،‬الذي ارتقى بالب�شرية يف مدارج‬
‫احل�ضارة والتقدم‪.‬‬

‫د‪ .‬من�صور اجلابري‬


‫‪Email: M.ALJABRY4210@Gmail.com‬‬

‫‪193‬‬
‫رداصملاو عجارملا تبث‬

‫ثبت املراجع وامل�صادر‬

‫� اً‬
‫أول‪ :‬امل�صادر العربية‪:‬‬

‫‪ -1‬الق ��ر�آن الك ��رمي‪ ،‬النا�شر‪ :‬جمم ��ع امللك فه ��د لطباعة امل�صحف‬
‫ال�شريف باملدينة املنورة‪1421 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -2‬اب ��ن �أبي �أ�صيبعة‪� ،‬أبو العبا�س‪ .‬عيون الأنباء يف طبقات الأطباء‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬نزار ر�ض ��ا‪ ،‬دار مكتبة احلياة‪ ،‬ب�ي�روت‪ ،‬لبنان‪ .‬الطبعة‬
‫الأولى‪.‬‬
‫‪ -3‬الأ�صفهاين‪ ،‬على ب ��ن احل�سني‪.‬الأغاين‪ ،‬حتقيق‪� :‬إح�سان عبا�س‬
‫و�إبراهي ��م ال�ساق�ي�ن وبك ��ر عبا� ��س‪ ،‬دار �ص ��ادر‪ ،‬بريوت‪،‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة ‪1429‬هـ‪.‬‬
‫‪ -4‬اب ��ن عثيم�ي�ن‪ ،‬حممد بن �صال ��ح‪ .‬تف�سري الق ��ر�آن الكرمي‪� ،‬سورة‬
‫املائ ��دة‪ ،‬دار ابن اجلوزي‪ ،‬الريا� ��ض‪ ،‬اململكة العربية ال�سعودية‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪1435‬هـ‪.‬‬
‫‪ -5‬اب ��ن كث�ي�ر‪� ،‬إ�سماعيل‪ .‬البداي ��ة والنهاية‪ ،‬حتقي ��ق‪ :‬عبداملح�سن‬
‫الرتك ��ي‪ ،‬دار هجر‪ ،‬الريا�ض‪ ،‬اململكة العربية ال�سعودية‪ ،‬الطبعة‬
‫الأولى ‪1418‬هـ‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫‪ -6‬ابن كث�ي�ر‪� ،‬إ�سماعيل‪ .‬تف�س�ي�ر القر�آن العظي ��م‪ ,‬حتقيق‪� :‬سامي‬


‫ال�سالم ��ة‪ .‬طبعة دار طيبة‪ ،‬الريا�ض‪ ،‬اململكة العربية ال�سعودية‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪1425‬هـ‪.‬‬
‫‪ -7‬اب ��ن منظور‪ ،‬جم ��ال الدين حممد‪ .‬ل�سان الع ��رب‪ ،‬دار املعارف‪,‬‬
‫القاهرة ‪1979‬م‪.‬‬
‫‪� -8‬أب ��و خليل‪� ،‬شوق ��ي‪ .‬هارون الر�شي ��د �أمري اخللف ��اء و�أجل ملوك‬
‫الدنيا‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دم�شق‪� ،‬سوريا‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1996‬م‪.‬‬
‫‪ -9‬الآلو�س ��ي‪ ،‬حممود �شكري‪ .‬بل ��وغ الأرب يف معرفة �أخبار العرب‪،‬‬
‫حتقي ��ق حممد بهجة الأثري‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة الأولى ‪2009‬م‪.‬‬
‫‪ -10‬البج ��اوي‪ ،‬عل ��ي وحممد �إبراهي ��م‪� .‬أيام الع ��رب يف اجلاهلية‪،‬‬
‫املكتبة الع�صرية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1429‬م‪.‬‬
‫‪ -11‬البخ ��اري‪ ،‬حممد ب ��ن �إ�سماعي ��ل‪� .‬صحيح البخ ��اري‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫م�صطفى البغا‪ ،‬دار ابن كثري‪ ,‬بريوت‪،‬لبنان‪ ،‬الطبعة اخلام�سة‬
‫‪1414‬هـ‪.‬‬
‫‪ -12‬الربقوق ��ي‪ ،‬عبدالرحمن‪� .‬شرح دي ��وان �أبي الطيب املتنبي‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪2011‬م‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫رداصملاو عجارملا تبث‬

‫‪ -13‬البيهق ��ي‪� ،‬أحم ��د ب ��ن احل�س ��ن‪ .‬دالئل النب ��وة ومعرف ��ة �أحوال‬
‫�صاح ��ب ال�شريع ��ة‪ ،‬حتقي ��ق‪ :‬عبداملعطي قلعج ��ي‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬الطبعة الأولى ‪1408‬هـ‪.‬‬
‫‪ -14‬الرتم ��ذي‪ ،‬حممد بن عي�سى‪� .‬سنن الرتم ��ذي‪ ،‬حتقيق‪� :‬صدقي‬
‫جمي ��ل العطار‪ ،‬طبع ��ة دار الفكر‪ ،‬ب�ي�روت‪ ،‬الطبع ��ة العا�شرة‬
‫‪1425‬هـ‪.‬‬
‫‪ -15‬الدين ��وري‪ ،‬ابن قتيبة‪ .‬ال�شعر وال�شعراء‪ ،‬حتقيق‪� :‬أحمد �شاكر‪،‬‬
‫طبعة دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬م�صر الطبعة الثانية ‪1958‬هـ‪.‬‬
‫‪ -17‬ال�سامرائي‪ ،‬كمال‪ .‬خمت�صر تاريخ الطب العربي‪ ،‬دار الن�ضال‪،‬‬
‫بغداد‪ ،‬العراق‪.‬‬
‫‪ -18‬ال�سيوطي‪ ،‬جالل الدين‪ .‬تاريخ اخللفاء‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد غ�سان‬
‫ن�ص ��وح‪ ،‬دار املنه ��اج‪ ،‬الريا�ض‪ ،‬اململك ��ة العربي ��ة ال�سعودية‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة ‪1434‬هـ‪.‬‬
‫‪ -19‬ال�ضام ��ن‪ ،‬ح ��امت �صالح‪ .‬ع�شرة �شعراء مقل ��ون‪ ,‬جامعة بغداد‪،‬‬
‫العراق‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1411‬هـ‪.‬‬
‫‪ -20‬ال�ضب ��ي‪ ،‬املف�ض ��ل‪ .‬املف�ضلي ��ات‪ ,‬حتقي ��ق‪� :‬أحم ��د �شاك ��ر‪،‬‬
‫وعبدال�س�ل�ام هارون‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاه ��رة‪ ،‬م�صر‪ ،‬الطبعة‬
‫التا�سعة ‪2006‬م‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

‫‪ -21‬الط�ب�راين‪� ،‬سليم ��ان ب ��ن �أحمد‪ .‬معج ��م الط�ب�راين الأو�سط‪،‬‬


‫حتقيق‪ :‬طارق بن عو�ض اهلل وحم�سن احل�سيني‪ ،‬دار احلرمني‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬م�صر الطبعة الأولى ‪1415‬م‪.‬‬
‫‪ -22‬الطرباين‪� ،‬أحمد بن �سليمان‪ .‬معجم الطرباين الكبري‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫حم ��دي عبداملجي ��د ال�سلفي‪ ،‬مكتبة دار اب ��ن تيمية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫م�صر‪.‬‬
‫‪ -23‬الق�ش�ي�ري‪ ,‬م�سلم بن احلجاج‪� .‬صحي ��ح م�سلم‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد‬
‫ف�ؤاد عبدالباقي‪ ،‬دار �إحياء الرتاث العربي‪ ,‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -24‬الق ��رين‪ ،‬عاي� ��ض ب ��ن عب ��داهلل‪� .‬إمرباط ��ور ال�شع ��راء‪ ،‬مكتبة‬
‫العبي ��كان‪ ،‬الريا�ض‪ ،‬اململكة العربية ال�سعودية‪ ،‬الطبعة الثالثة‬
‫‪1428‬م‪.‬‬
‫‪ -25‬العتيب ��ي‪� ،‬سه ��ل رف ��اع‪ .‬ال ��ر�ؤى عن ��د �أه ��ل ال�سن ��ة واجلماع ��ة‬
‫واملحدثني واملخالفني‪ ،‬كنوز �أ�شبيليا‪ ،‬الريا�ض‪ ،‬اململكة العربية‬
‫ال�سعودية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1430‬م‪.‬‬
‫‪ -26‬العق ��اد‪ ،‬حممود عبا�س‪ .‬ابن الرومي حياته من �شعره‪ ،‬م�ؤ�س�سة‬
‫هن ��داوي للتعليم والثقاف ��ة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬م�ص ��ر‪ ،‬الطبعة الأولى‬
‫‪2012‬م‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫رداصملاو عجارملا تبث‬

‫‪ -27‬الع�سق�ل�اين‪� ،‬أحم ��د ب ��ن حج ��ر‪ .‬فت ��ح الب ��اري ب�ش ��رح �صحيح‬
‫البخاري‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبدال�سالم علو�ش‪ ،‬مكتبة الر�شد‪ ،‬الريا�ض‪،‬‬
‫اململكة العربية ال�سعودية‪ ,‬الطبعة الأولى‪1425‬هـ‪.‬‬
‫‪ -28‬املباركف ��وري‪� ،‬صف ��ي الرحم ��ن‪ .‬الرحيق املخت ��وم‪ ،‬دار �إحياء‬
‫الرتاث العربي‪ ,‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الأولى‪.‬‬
‫‪ -29‬املقد�سي‪ ،‬عبداهلل بن مفلح‪ .‬الآداب ال�شرعية‪ ،‬حتقيق‪� :‬شعيب‬
‫الأرن ��ا�ؤوط وعمر القيام‪ ،‬دار الر�سالة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة ‪1419‬هـ‪.‬‬
‫‪ -30‬املعاف ��ري‪ ،‬عبدامللك بن ه�شام‪ .‬ال�س�ي�رة النبوية‪ ،‬حتقيق طه‬
‫عبدالر�ؤوف �سعد‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -31‬الن�سائ ��ي‪� ,‬أحم ��د بن �شعي ��ب‪� .‬سنن الن�سائ ��ي‪ ،‬حتقيق �صدقي‬
‫جميل العطار‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1419‬هـ‪.‬‬
‫‪ -32‬الن ��ووي‪ ،‬حمي ��ي الدي ��ن‪ .‬املنه ��اج �ش ��رح �صحي ��ح م�سل ��م بن‬
‫احلج ��اج‪ ،‬حتقيق‪ :‬خلي ��ل م�أمون �شيخ ��ا‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬الطبعة العا�شرة ‪1425‬هـ‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫طبيب عرب الزمن‬

:‫ امل�صادر واملراجع الإجنليزية‬:‫ثانيا‬


• Dangleben NL, Skibola CF, Smith MT. Arsenic immunotoxicity: a
review. Environ Health. 2013;12(1):73.

• Parveen Kumar and Michael L Clark. Kumar and Clark’s Clinical


Medicine, 8th Edition: 2012 Elsevier publishing CO, London,UK.

• Swerdlow SH (2008) International Agency for Research on Cancer,


World Health Organization WHO Classification of Tumours of Hae�
matopoietic and Lymphoid Tissues. IARC Press, Lyon, France.

• V. Hoffbrand, D. Catovsky, E. Tuddenham and A. Green. Postgradu�


ate Haematology, Sixth edition: 2011 Blackwell Publishing Ltd.

• Wiwanitkit V. Headache and malaria: a brief review. Acta Neurol


Taiwan. 2009 Mar; 18(1):56-9.

• http://emedicine.medscape.com/article/1214490-overview. Accessed
on June 2016.

• http://healthh.com/mycosis-fungoides. Accessed on June 2016.

• http://www.who.int/mediacentre/factsheets/fs372/ar. Accessed on
June 2016.

• http://www.atsdr.cdc.gov. Arsenic Toxicity. Accessed on June 2016.

• http://www.who.int/mediacentre/factsheets/fs372/ar. Accessed on
June 2016.

• http://www.cdc.gov/malaria/new_info/2014/malariaegypt.htm. Ac�
cessed on May 2016.

• http://www.who.int/mediacentre/factsheets/fs094/ar. Accessed on
May 2016.

200

You might also like