Professional Documents
Culture Documents
قولة النظرية والتجربة
قولة النظرية والتجربة
"يصف العلم الظواهر القابلة للمالحظة ،ثم يترجمها إلى الفكر بواسطة النظريات دون إضافة".
أوضح مضمون القولة مبرزا قيمة العقل في العلم.
املقممة:
يتساءل اإلنسان ،بوصفه ذاتا عارفة ،عن ذاته وعن العالم من حوله للكشف عن القوانين املتحكمة فيه بهدف تحويله
لصالحه .مما يجعله يبدع النظريات و يسعى إلى الحقيقة .وقد تمكن بفضل "التجربة" و"الصياغة الرياضية" (العقل) من تحقيق
نجاحات كبرى جعلته سيدا على الطبيعة ومالكا لها .والنظرية هي ما يمنح املعرفة صفة العلم ،لكنها تبدو من حيث الداللة اللغوية
ّ
مقابلة ملفهوم التجربة املرتربط بالحواس والواقع الخارجي .إال أنهما يساهمان بقوة في بناء املعرفة العلمية .فما وظيفة كل من
ِ
التجربة والعقل في صياغة النظرية العلمية؟ وهل تلعب التجربة دورا حاسما في بناء النظرية أم ثمة حاجة للمفاهيم والبيية
متوسال بالتجربة؟ لكن ،أال يمكن
ِّ العقلية؟ وملاذا يقوم العقل بوظيفة َبعمية تكتفي بتنظيم املعطيات التي يصفها العلم
اإلعتراف بأن النظرية العمية تركيب وحوار بين العقل والتجربة؟
التحليل:
تنطوي القولة على أطروحة تؤكد على أولوية التجربة في الكشف عن قوانين الطبيعة وصوال إلى النظرية التي يحتل العقل من
منظورها دورا ثانويا ينحصر في تحويل ما تصفه التجربة إلى مفاهيم وعالقات صورية .يبدو أن القولة تولي أهمية بالغة للتجربة
العلمية (=التجريب) التي تحتل حسب سياق القولة ،وظيفة أساسية في بناء النظرية .بينما يحتل العقل وظيفة بعدية (ثم) وال
يساهم في عملية اإلكتشاف ،إذ يترجم الوقائع املالحظة "دون إضافة" .فالنظرية العلمية إذن ،نسق عقلي يجد أساسه في "التجربة"
باعتبارها "مساءلة منهجية للطبيعة" تهدف إلى الكشف عن القوانين املتحكمة فيها ،وتكتفي التجربة باملعاينة واإلختبار الحسيين
بمعزل عن املفاهيم واألبنية العقلية القبلية.
ّ
ُو ِظفت في هذه القولة جملة مفاهيم كالوصف والعلم واملالحظة والفكر والنظرية والفرضية .ذلك أن وظيفة "العلم" بوصفه
معرفة دقيقة ومنظمة مبنية مفاهيميا ومنهجياُ ،يختزل دوره (حسب سياق القولة) في "وصف" املوضوعات التي يتوجه إليها
التفكير العلمي السيما الظواهر الطبيعية ،فيعكسها كما هي موجودة في الواقع دون تدخل األفكار املسبقة واألحكام الجاهزة،
مثلما تعكس آلة التصوير األشياء املاثلة أمام عدستها بـ"املالحظة" أي املعاينة الحسية التي تشترط فيها املوضوعية بعيدا عن رغبات
و ميوالت املالحظ الذي يعمل على تحويلها إلى "نظريات" باعتبارها أنساقا من املفاهيم واملبادئ والقوانين العلمية ،بواسطة
"الفكر" (العقل) من خالل مفاهيمه القبلية (املكان والزمان والسببية )..واآلليات الذهنية (املقارنة والتحليل والتصور )..وأبنيته
املنطقية .فبأي معنى تكون النظرية العلمية انعكاسا مباشرا للظواهر املوجودة في الواقع الخارجي؟
حينما نتأمل البيية املنطقية للقولة ،تجدها تقيم ترابطا ضروريا (عالقة تالزم) بين النظرية واملنهج التجريبي ،فال معرفة علمية
غير مستندة على وقائع حسية مصدرها العالم الخارجي .مما يعني "استبعاد" العقل في عملية اإلكتشاف ،ولعل الغاية من استبعاد
العقل هو الحصول على أعلى درجات الدقة واملوضوعية (=إبعاد الذات عن املوضوع) .وليس املقصود من استبعاد العقل إقصاؤه،
بل جعله ينحصر في وظيفة بعدية تكمن في تنظيم معطيات ونتائج التجربة العلمية بواسطة الترميز والتكميم والصياغة الرياضية.
ويكشف تاريخ تاريخ العلم عن أشكال من التجارب العلمية التي سعت في مجموعها ألى معاينة الواقع وكشف قوانينه دون أحكام
ا
جاهزة ،طلبا لألمانة العلمية .فعندما نقول –مثال -إن "املعادن تتمدد بالحرارة" فهذا الحكم يؤيده الواقع باملالحظة والتجربة
الحسية .مما يضفي على أحكام العقل طابع املوضوعية الذي يشكك في إمكان تسلل اإلعتبارات الالعلمية في صلب األبنية النظرية.
فلو قامت املعرفة العلمية على عقل خالص لتحولت النظريات إلى أنساق تأملية مثالية بعيدة عن الهواجس العملية والتقنية التي
تروم املنفعة على مستوى الحياة اإلنسانية الواقعية.
نستخلص مما سبق أن التجربة أساس النظرية العلمية ،وهي في نفس الوقت وسيلة التحقق منها .مما يقود إلى استبعاد
التفسيرات النظرية والتأملية ذات الطابع امليتافيزيقي أو الفلسفي ،وترسيخ تقاليد علمية تتسم بالواقعية وتراهن على الدقة
والنزاهة العلمية.
املناقشة:
(قيمة األطروحة) يبدو أن أطروحة القولة تولي قيمة قصوى للتجربة ،وهي تمثل بهذا املعنى ،نقطة البداية ونقطة الوصول في
اآلن نفسه .ولعل قيمة املوقف التجريبي ال تنحصر في ترسيخ قيم املوضوعية والنزاهة العلمية ومجاوزة اإلعتبارات امليتافيزيقية
العملية للمعرفة اإلنسانية فيوالالهوتية التي عمل العلم على محاصرتها في األزمنة املعاصرة ،.بل إنه يعلي من أهمية الفعاليات َ
سعيها الدائم إلى تحويل الواقع الخارجي وتوجيهه لصالح اإلنسانية .كما يكشف هذا املوقف أن التمثل الساذج للتجربة العلمية
فهما وممارسة جديدين للتجريب تمثل في كونها بناء ومساءلة ّ ا
موجهة من ِقبل مفاهيم وقوانين أضحى بال قيمة ،عندما أبدع العلم
عقلية.
(حدود األطروحة) إذا كانت القولة تعلي من أهمية التجربة ،فهي بذلك تشكك في النماذج واملفاهيم العقلية ،مما يجعل املعرفة
العلمية انعكاسا ونسخا للواقع .فكيف يتحول الواقع إلى بناء معرفي؟ هنا تبرز حدود األطروحة املتضمنة في القولة التي تختزل
التجربة فيما هو اختباري واقعي مباشر .وعلى الرغم القيمة العلمية واإلبستيمولوجية لهذه األطروحة إال أنها مع ذلك تظل
محدودة على اعتبار أنها ركزت فقط على منهج تجريبي كالسيكي أثبت نجاعته في دراسة الظواهر القابلة للمالحظة املباشرة غير أن
دراسة الظواهر الالمتناهية في الكبر أو الالمتناهية في الصغر تقتض ي االنتقال إلى منهج جديد .منهج يأخذ على مجهوده األخذ
بالتأطيرات النظرية والصياغات الصورية الرياضية ملواجهة الوقائع العلمية الجديدة.
وبالعودة إلى القولة ،يمكن تأطيرها ضمن تصور إبستيمولوجي تجريبي يعطي األولوية للواقع الحس ي وللتجربة في بناء النظرية
العلمية .تصور يتماهى مع موقف الطبيب الفرنس ي "كلود بيرنار" (القرن .)91إذ يرى كلود برنار أنه ال يمكن الوصول إلى الحقيقة
العلمية إال بعد إملام "العالم بمبادئ املنهج التجريبي" ،وذلك بهدف تحقيق أعلى درجات املوضوعية .وقد وضع في سبيل ذلك قواعد
خاصة باملنهج التجريبي ،وهي :املالحظة والفرضية والتجربة وصوال إلى القانون العلمي (منهج اإلستقراء) .هكذا يرى كلود برنار أنه
املالحظ للظواهر أن ينقل بدقة ما هو موجود في الطبيعة ،إن عليه أن ينصت إلى الطبيعة ،وأن يسجل ما تمليه عليه. على العالم ِ
أما العقل فله وظيفة "بعدية" تتمثل في تنظيم و"ترميز" املعطيات التجريبية .إنه مجرد مرآة تنقل الواقع كما هو ،بعيدا عن املفاهيم
واألفكار املسبقة للعقل .لكن"،إذا كانت التجربة هي مبتمأ ومنتهى معرفتنا بالواقع ،فأي دور تبقيه للعقل في مجال املعرفة
العلمية؟
من منطلق ابستيمولوجي عقالني ،يرى رائد النظرية النسبية ،الفيزيائي األملاني "ألبرت إنشتاين" أن النظريات العلمية إبداعات
حرة للعقل البشري ،وأنها تجد أساسها في البناء الرياض ي الخالص .هكذا يلعب العقل بمفاهيمه وقوانينه دورا جوهريا في بناء
النظرية العلمية .أما التجربة ،فلها وظيفة "بعدية" تكمن في ضرورة التطابق مع ما يتوصل إليه اإلستنباط املنطقي الرياض ي.
لقد واجهت الفيزياء املعاصرة ظواهر ميكروسكوبية يصعب تحديدها وتعيينها في الزمان و املكان ،ولم يعد العالم يواجه
موضوعات قابلة للمالحظة والقياس الحسيين كما هو الحال في التجريب الكالسيكي (املاكروفيزياء) .ولهذا عمل على تجريد وتمثيل
هذه الظواهر(اإللكترونات والبروتونات والنوترونات )...بمفاهيم ورموز ،وحلت العالقات الرياضية محل التجريب الحس ي .ولقد
أدى اإلنتقال من املاكرو إلى امليكروفيزياء إلى تغير "مفهوم الواقع العلمي" .كان من نتائجه أن تغير املنهج العلمي ،فحل املنهج
اإلستنباطي محل املنهج اإلستقرائي .ذلك أن الواقع لم يعد ماثال أمام الحواس بل صار باإلمكان بناؤه واإلستدالل عليه عقليا
(رياضيا).
وإذا كان كلود برنار يشكك في العقل بمفاهيمه ومسبقاته ،فإن إنشتاين يشاركهم نفس الحذر حينما يؤكد على أهمية العقل
يمثل النسق النظري لفيزياء إنشتاين تحوال هاما في النظر إلى املفاهيم واملبادئ التي ّ ّ ّ
وجهت املتوسل باملنهج اإلستنباطي .إذ
ِ الرياض ي
ا
النسق النظري للعلم الكالسيكي (نيوطن مثال) .وتكمن قيمة هذا املوقف ،في تجاوز النسق النظري "النيوطوني" ( )Newtonالذي
قامت عليه العقالنية الكالسيكية .ذلك أن الفيزياء النيوطونية ،وإن رفضت املبادئ التي اعتبرها ديكارت فطرية (الزمان واملكان
مثال) ،أكدت على "ثباتها" ،مما جعلها امتدادا "للميتافيزيقا".
يستفاد مما سبق أن إنشتاين يولي أهمية قصوى للعقل متجاوزا املنهج التجريبي الكالسيكي ،ومؤكدا على نسبية الحقائق العلمية.
أما التجربة فتلعب دورا ثانويا يتمثل في التطابق مع النتائج التي يصل إليها العقل الرياض ي.
نحن أمام تصورين إبستيمولوجيين متقابلين ،يعتبر فيه األول أن التجربة منبع النظرية ،ويرى الثاني أن العقل الرياض ي وحده
يستطيع إبداع النظريات العلمية .لكن ،ماحدود هذين التصورين؟ أال يمكن اإلقرار بحوار جدلي بين العقل والتجربة في بناء
النظرية العلمية؟
من منطلق نقدي ،يرى اإلبستيمولوجي الفرنس ي "غاستون باشالر" انه ال يمكن تأسيس العلوم الفيزيائية دون حوار فلسفي بين
والعالم التجريبي .ذلك أنه يرفض املوقف الذي تبنته كل من النزعة "العقالنية املنغلقة" والنزعة "التجريبية ِ العالم العقالني
ِ
الساذجة" ،مؤكدا على أن عالم الفيزياء املعاصر يحتاج ليقين مزدوج ال ينفك فيه العقل عن التجربة .هكذا يعتبر باشالر العقل
العلمي املعاصر عقال منفتحا على الواقع .وهو ما أضحى يعرف ب"العقالنية املنفتحة" واملطبقة ،إلى جانب "تجريبية مبنية".
فاملعرفة العلمية املعاصرة ال تتأسس داخل وعي معزول عن الواقع .والواقع العلمي نفسه هو واقع متحول ومبني بناء نظريا وعقليا.
نستخلص أن املوقف الباشالري يؤكد على الحوار الجدلي بين العقل والتجربة في بناء النظرية .وتكمن قيمة هذا التصور الجديد
في كونه يعيد النظر في أسس املعرفة العلمية ،والتي مست مفاهيم العقل والتجربة والواقع .وهو بذلك يضع معيارا جديدا للنظرية
يتجاوز املعايير التجريبية والعقالنية الخالصة .ذلك أن النظريات العلمية تتعدد وتختلف وتتنافس وتتصارع فيما بينها ،مما يطرح
إشكالية معيار علميتها وصالحيتها .ويفرز هذا اإلشكال بدوره ،وجهات نظر علمية متباينة تعمل على مجاوزة التصورات التي تعتبرها
كالسيكية .فإذا كان التجريبيون عموما ،يرون بأن اتفاق النظرية مع التجربة هو املعيار الوحيد للحقيقة العلمية؛ فإن بييرتويليي
يؤكد على معيار تعدد اإلختبارات .وذلك من خالل تكرار وتنويع التجربة ،فالتحقق التجريبي ليس معيارا وحيدا ونهائيا لعلمية
وصالحية النظرية العلمية ،بل ال بد من خروج النظرية من عزلتها التجريبية ،وانفتاحها على فرضيات نظريات أخرى .دون إغفال
أهمية التناسق املنطقي .مما يعكس نسبية املعرفة العلمية وإمكان تطورها .ولهذه الغاية ،تلتقي بموقف كارل بوبر الذي يحصر
دور التجربة في بيان كذب النظرية ،والكشف عن األخطاء والعيوب املوجودة بها .وحينما يعمل العالم على تصحيح هذه العيوب،
فهو يقوي بذلك بنية النسق النظري الذي يحتمل دائما وجود ثغرات وأخطاء يسهم تصحيحها باستمرار في تطور املعرفة العلمية.
مما يدل على انفتاح النظرية العلمية ونسبيتها.
التركيب:
يمكن القول في النهاية إن التجريب ليس املقوم الوحيد في تفسير الظواهر الطبيعية ،وال يمكنه اإلستغناء عن التفكير العقلي ،إذ
أضحت العالقة بينهما معقدة ومركبة تكشف عن توتر وصراع ،كما تكشف عن تداخل وتكامل .ومع ذلك ،ال يمكن تصور نظريات
علمية دون اإلعتراف بوجود حوار جدلي بين العقل والتجربة .عقل قطع مع األنساق الفلسفية التي أطرت العلم الكالسيكي ،وتجربة
مبنية تجاوزت بدورها التجريب التقليدي الساذج .وقد أفضت هذه النظرة الجديدة إلى إعادة النظر في معيار الحقيقة العلمية
الذي أصبح أكثر انفتاحا وتحوال ،كما أفضت إلى مراجعات نقدية مست املفاهيم واملناهج العلمية والقيم اإلبستيمولوجية
يحول وجه الطبيعة فحسب ،بل مس طبيعة واألخالقية التي تستوجب التفكير اليوم في التطور الجارف للطموح العلمي الذي لم ّ
اإلنسان نفسه ،نحو معايير أخالقية جديدة تتناسب مع يحدثه العلم من مساس بالطبيعة وبكرامة اإلنسان وجسده.