Professional Documents
Culture Documents
من المعرفة إلى النظرية والتجربة
من المعرفة إلى النظرية والتجربة
معايير علمية
قيمة الحقيقة
النظريات العلمية
النظرية والتجربة
مقدمة:
يوصف اإلنسان بكونه ذاتا عارفة ،يفكر في ذاته بهدف الوصول إلى حقيقته ،كما يسعى
إلى معرفة حقيقة العالم من حوله ،وذلك بتفسير الطبيعة لتحويلها لصالحه ،مما يجعله ينتج
معرفة منظمة ،مؤطرة مفاهيميا ومنهجيا .وقد تمكن بفضل "التجربة" و"الصياغة الرياضية"
من أنتاج أنساق و"نظريات" حقق بفضلها نجاحات كبرى جعلته سيدا على الطبيعة ومالكا لها.
فكيف يتحدد مفهوم النظرية؟ وما عالقته بالتجربة :هل هي بناء عقلي مجرد أم نتاج تجريبي؟
وما معاييرها؟
وتطرح عالقة النظرية بالتجربة عدة إشكاالت إبيستملوجية في مجال المعرفة العلمية ،فيما يخص
المفاهيم والمناهج ،وفيما يخص الحدود الفاصلة بين العقل والتجربة ،وفيما يرتبط باليقين واالطالق
والخطأ ،أو ما يتعلق بشروط العلمية وما يرتبط بها من نسبية وانفتاح وتقدم .يمكن التعبير عن هذه
اإلشكاالت بالتساؤالت التالية:
ما هو دور التجريب في بناء النظرية؟
ما طبيعة المعرفة العلمية المعاصرة؟ وكيف تتحدد عالقة العقل والتجربة داخل هذه المعرفة؟
ما معيار علمية نظرية ما؟ كيف نميز بين العلم والالعلم؟
المحور األول :التجريب العلمي( :تجريبيتان :التجريب الكالسيكي والتجريب المعاصر)
اإلشكال :حينما نتحدث عن العلوم التجريبية ،يتأسس في أذهاننا انطباع بسيط وتلقائي مفاده
أننا بصدد معرفة علمية تجد بدايتها في المختبر ،بين أجهزة ومواد تقبل المالحظة والقياس
الحسيين .وهي إجراءات اعتمدها العلم الكالسيكي في سعيه إلى اإلبتعاد عن التصورات
الالهوتية والميتافيزيقية ،لتأسيس معرفة دقيقة للواقع .لكن األزمنة المعاصرة طرحت مشكالت
تقع تتعلق بالمنهج المناسب للظواهر الجديدة ممثلة في الميكروفيزياء .فكيف نميز بين التجربة
والتجريب؟ التجربة العادية والتجريب العلمي؟ فهل يعتبر التجريب في بُعده الكالسيكي التقليدي
ال ُمقوم الوحيد لتفسير الظواهر الطبيعية أم أنه في حاجة للخيال العقلي بوصفه تجربة ذهنية؟
بعبارة أخرى ،هل يكفي منهج االستقراء أم ثمة حاجة لالستنباط؟
أ -المالحظة :معاينة حسية للظاهرة ،قد تكون مجهزة بآالت وأدوات علمية .ويشترط فيها
الموضوعية ،بعيدا عن رغبات و ميوالت المالحظ وأفكاره المسبقة .
ب -الفرضية " :تفسير مؤقت لسبب الظاهرة" أو هي "محاولة للتنبؤ باألسباب المنتجة
للظاهرة".
ج -التجريب :اصطناع الظاهرة المدروسة في المختبر .يشترط فيها أن تكون قابلة للتكرار ،كما
ينبغي أن تكون نتائج التجربة قابلة للتعميم.
د -القانون " :جملة العالقات الثابتة بين الظواهر" .يتميز بالحتمية ،كما يسمح بإمكانية التنبؤ.
والقانون هو الهدف األساس للمنهج التجريبي.
هكذا يرى كلود برنار أنه على العالم المالحظ للظواهر أن ينقل بدقة ما هو موجود في
الطبيعة ،إن عليه أن ينصت إلى الطبيعة ،وأن يسجل ما تمليه عليه .أما العقل فله وظيفة "بعدية"
تتمثل في تنظيم و"ترميز" المعطيات التجريبية وتحويلها إلى قوانين وعالقات رياضية .إنه
مجرد "آلة تصوير" تنقل الواقع كما هو ،بعيدا عن المفاهيم العقلية وأألفكار المسبقة
(الموضوعية).
تأتي المالحظة إذن في بداية المنهج التجريبي ،ثم تتلوها الفكرة العقلية التي تسعى إلى تفسير
الظاهرة .فالتجربة ثم "القانون العلمي" .فالتجريب بهذا المعنى منطلق بناء النظرية العلمية.
وتكمن قيمة هذه الخطوات المنهجية في إنتاج معرفة علمية تتسم بأعلى درجات الدقة
والموضوعية ،لتجاوز اإلعتبارات الالهوتية والميتافيزيقية .والتأكيد بالمقابل على المبادئ
األساسية الموجهة للبحث العلمي كـالسببية والحتمية وإمكانية التنبؤ.
تركيب:
نستخلص أن التجريب في معناه الكالسيكي ليس المقوم الوحيد في تفسير الظواهر الطبيعية ،بل
لعنصر الخيال العقلي دور مكمل .وهذا ما تؤكده دينامية العلم وحركيته ،بما بما يقود إلى التكامل بين
ما هو واقعي تجريبي من جهة ،وما هو عقلي خيالي من جهة أخرى؛ فال يمكن للتجريب العلمي اإلستغناء
عن التفكير العقلي ،إذ أضحت العالقة بينهما معقدة ومتشابكة من حيث المفاهيم والمناهج .ومع ذلك،ال
يمكن إغفال القيم المستهدفة من راء التجريب العلمي من حيث طلب النزاهة والموضوعية ،ومن حيث
صيانة المعرفة العلمية من نقائضها ،وذلك بتوخي الصرامة المنهجية مع الحذر من تسلل التصورات
الالعلمية إلى العلم كالنزعات المثالية الميتافيزيقية والالهوتية.
المحور الثاني :العقالنية العلمية:
اإلشكال :يحيل مفهوم "العقالنية" على كل اتجاه فلسفي أو علمي يتخذ من "العقل"
مصدرا لمعارفه وإنتاجاته .لكن العقالنية المعرفة العلمية المعاصرة "قطعت" مع العلم الكالسيكي
الذي يجد جذوره وأسسه في الميتافيزيقا .ذلك أن القرن 02أفرز مستجدات علمية (الفيزياء النووية
مثال) أدت إلى إعادة النظر في مفهومي العقل والتجربة المنهج للعلم الكالسيكي ،مما يفترض إعادة
بناء عالقة جديدة بينهما داخل عقالنية علمية جديدة .فما أساس المعرفة العلمية المعاصرة؟ هل
يكمن في العقل المحض ،من خالل مفاهيمه ومقوالته وأبنيته الرياضية أم في التجربة؟ وما حدود
هذين التصورين؟ أال يمكن اإلقرار بحوار جدلي بين العقل والتجربة؟
*التصوف :نزعة دينية يرى أنصارها أن حقيقة التدين تكمن في اإلنقطاع عن الواقع والملذات
الحسية ،مع اإلرتقاء في العوالم الروحانية.
-2أطروحة ألبير إنشتاين:
يتساءل الفيزيائي األلماني ألبرت إنشتاين" :إذا كانت التجربة هي مبتدأ ومنتهى معرفتنا
بالواقع ،فأي دور تبقيه للعقل في مجال المعرفة العلمية؟"
من منطلق إبستيمولوجي عقالني ،يرى رائد النظرية النسبية أن المفاهيم العلمية إبداعات حرة
للعقل البشري ،وأنها تجد أساسها في البناء الرياضي الخالص .فهو يرى أن "نسقا كامال من
الفيزياء النظرية يتكون من مفاهيم وقوانين أساسية للربط بين تلك المفاهيم والنتائج التي تشتق
منها بواسطة االستنباط المنطقي ،وهذه النتائج هي التي يجب أن تتطابق معها تجاربنا الخاصة".
هكذا يلعب العقل بمفاهيمه وقوانينه دورا جوهريا في بناء النظرية العلمية .أما التجربة ،فلها
وظيفة "بعدية" تكمن في ضرورة التطابق مع ما يتوصل إليه اإلستنباط المنطقي الرياضي.
لقد واجهت الفيزياء المعاصرة ظواهر ميكروسكوبية يصعب تحديدها وتعيينها في الزمان و
المكان ،ولم يعد العالم يواجه موضوعات قابلة للمالحظة والقياس الحسيين كما هو الحال في
التجريب الكالسيكي (الماكروفيزياء) .ولهذا عمل على تجريد وتمثيل هذه الظواهر(اإللكترونات
والبروتونات والنوترونات )...بمفاهيم ورموز ،وحلت العالقات الرياضية محل التجريب الحسي.
لقد أدى اإلنتقال من الماكرو إلى الميكروفيزياء إلى تغير "مفهوم الواقع العلمي" .كان من نتائجه
أن تغير المنهج العلمي ،فحل المنهج الفرضي اإلستنباطي محل المنهج التجريبي .ذلك أن الواقع
لم يعد ماثال أمام الحواس بل صار باإلمكان بناؤه واإلستدالل عليه عقليا (رياضيا).
وتكمن قيمة هذا الموقف ،في تجاوز النسق النظري "النيوتوني" ( )Newtonالذي قامت عليه
العقالنية الكالسيكية .ذلك أن الفيزياء النيوتونية ،وإن رفضت المبادئ التي اعتبرها ديكارت
فطرية (الزمان والمكان مثال) ،أكدت على "ثباتها" ،مما جعلها امتدادا "للميتافيزيقا" والفكر
الالهوتي.
يستفاد مما سبق أن إنشتاين يولي أهمية قصوى للعقل متجاوزا المنهج التجريبي الكالسيكي،
ومؤكدا على نسبية الحقائق العلمية .إما التجربة فتلعب دورا ثانويا يتمثل في التطابق مع النتائج
التي يصل إليها العقل الرياضي.
تركيب أول :نحن أمام تصورين إبستيمولوجيين متقابلين ،يعتبر فيه األول أن التجربة منبع
النظرية ،ويرى الثاني أن العقل الرياضي وحده يستطيع إبداع النظريات العلمية .لكن ،ماحدود
هذين التصورين؟ أال يمكن اإلقرار بجدلية العقل والواقع ،النظرية والتجربة.
المعيار :المقياس أو القاعدة أو المؤشر الذي نحكم من خالله على القضايا ونميز فيما بينها من
حيث الصدق أو الكذب ،الصحة او الخطأ القبول أو الرفض.
اإلشكال :يطرح الحوار الجدلي بين العقل العقل والتجربة إشكالية تتعلق بالتمييز بين
النظريات من حيث قوتها ونجاعتها .ذلك أن تتعدد النظريات العلمية وتختلف وتتنافس وتتصارع فيما
بينها ،مما يطرح إشكالية معيار علميتها .فما معيار صدق وصالحية النظريات العلمية؟ ومتى تكون
النظرية مقبولة من الناحية العلمية :بالتحقق التجريبي أم اإلتساق المنطقي أم القابلية للتكذيب والتفنيد؟
وكيف نميز بين العلم والالعلم؟
يرفض كارل بوبر بدوره معيار التحقق التجريبي الذي تبنته النزعات التجريبية .ويرى أن معيار علمية
النظرية هو قابليتها للتفنيد أو التكذيب.
يرى كارل بوبر أن " نظرية معينة تعد خارج مجال العلم التجريبي عندما ال نستطيع وصف كل ما
يمكن أن يأتي التفنيد المحتمل لها" ،وهذا يعني أن النظرية التي ال تقبل التكذيب ،ال تقبل التجريب ،أي
أنها تعتبر يقينية ومطلقة .وهذا يجعلها أبعد من مجال المعرفة العلمية ،وأقرب من المعرفة الميتافيزيقية.
وللتجربة بالنسبة لكارل بوبر وظيفة مغايرة لما يعتقده التجريبيون عموما .ذلك أن وظيفتها ال تكمن في
إثبات صحة النظرية ،بل تنحصر فقط في إثبات كذبها .فعندما تقبل النظرية التكذيب التفنيد تكون علمية.
في كتابه "منطق الكشف العلمي" ينبه كارل بوبر إلى أنه "مهما كان عدد حاالت البجع األبيض التي
سبق أن الحظناها ،فإن ذلك ال يبرر النتيجة القائلة كل البجع أبيض" .ذلك أن آالف القضايا الجزئية
(المالحظات والتجارب) ال يمكن أن تثبت صحة القضية الكلية (النظرية) .وفي المقابل تستطيع قضية
جزئية واحد ة (=التجربة) أن تكشف كذب القضية الكلية (النظرية) .ألننا نستطيع الحصول على تجربة
واحدة مختلفة ،مما يؤدي إلى إثبات زيف النظرية وكذبها.
ينحصر دور التجربة إذن في بيان كذب النظرية ،والكشف عن األخطاء والعيوب الموجودة بها .وحينما
يعمل العالم على تصحيح هذه العيوب ،فهو يقوي بذلك بنية النسق النظري الذي يحتمل دائما وجود
ثغرات وأخطاء يسهم تصحيحها باستمرار في تطور المعرفة العلمية.
تكمن قيمة هذه األطروحة في كونها قدمت تصورا جديدا لمعيار النظرية العلمية ،معيار نقلنا من منطق
اإلثبات والتأكيد إلى منطق التكذيب والتزييف الذي يسمح بتعديل النظريات باستمرار .مما يدل على
انفتاح النظرية العلمية ونسبيتها.
تركيب :تتعدد معايير علمية النظريات العلمية نظرا للصرع القوي الذي يعرفه مجتمع العلم .وهي
تتراوح بين مقياس التحقق التجريبي واإلتساق المنطقي والقابلية للتكذيب والتفنيد وتعدد
االختبارات .غير أن اإلبستيمولوجيا المعاصرة تميل إلى معيار الصالحية المنفتح .والذي تقبل
تعدد وتنوع اإلختبارات ،وقابلية التكذيب ،إلى جانب تمسكه بنسبية الحقيقة العلمية ،ضمانا لتقدمها.