Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 392

‫فلسفة الدين‬

‫يف ضوء تاريخ الفلسفة‬

‫فلسفة الدين يف العصور الوسطى‪:‬‬


‫ـ جدل الفلسفة والدين في مدرسة اإلسكندرية‬
‫ـ مفهوم الدين عند ابن سينا‬
‫ـ حدود الحجاج املنطقي في فلسفة الدين عند أبي حامد الغزالي‬
‫ـ الحقيقة اإلبراهيمية بين الثبات والتحول عند ابن عربي‬

‫فلسفة الدين يف العصور الحديثة‪:‬‬


‫‪ -‬املعلوم من الدين بالعقل وحده‬
‫‪ -‬الدين بين األخالق وامليتافيزيقا عند شاليماخر‬

‫فلسفة الدين يف الفلسفة املعارصة‪:‬‬


‫ـ فلسفة ّ‬
‫الدين في زمن العلمنة‬
‫‪ -‬دين املسؤولية األخالقية عند ليفيناس‬

‫فلسفة الدين يف الفكر اإلساليم‪:‬‬


‫ـ مقاربة ملفهوم املقدس ضمن سياق الخطاب القرآني‬

‫ترمجة‪:‬‬
‫هل تدعو األسفاراملقدسة إلى العنف؟‬

‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه‪ /‬يناير ‪2020‬م‬
‫احلقوق‬
‫‪ -‬الترقيم الدولي‪ISBN/978 - 9948 - 24 - 448 - 6 :‬‬
‫‪ -‬رقم الطلب ‪MC - 02 - 01 - 6435026 :‬‬
‫‪ -‬رقم السجل اإلعالمي‪MF - 02 - 4090510 :‬‬

‫‪ -‬الفئة العمرية‪E :‬‬


‫‪ -‬تم اإلذن بالطباعة من طرف املجلس الوطني لإلعالم‬
‫بدولة اإلمارات العربية املتحدة‬

‫‪ -‬تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تالئم‬


‫محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر‬
‫عن املجلس الوطني لإلعالم‬
‫‪-‬‬
‫‪ -‬اإليميل‪Journal@almuwatta.com :‬‬
‫‪ -‬الهاتف‪+971505957039 :‬‬
‫‪ -‬الفاكس‪+97124412054 :‬‬

‫مسارللطباعة والنشر ‪ -‬دبي‬


‫‪info@hapc.ae‬‬
‫‪Dubai-IMPZ‬‬
‫‪ -‬الهاتف‪+97144484000 :‬‬
‫الفاكس‪+97144484111 :‬‬ ‫‪-‬‬
‫املقاالت الصادرة في العدد ال تعبربالضرورة عن توجه املجلة‬
‫مجةل املوطأ‬
‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه‪ /‬يناير ‪2020‬م‬

‫اإلشراف العام‬
‫العالمة الشيخ عبد هللا بن بيه‬
‫رئيس مجلس اإلمارات لإلفتاء الشرعي‬
‫رئيس مركزاملوطأ‬

‫نائب املشرف العام‬


‫الشيخ املحفوظ بن عبد هللا بن بيه‬
‫األمين العام ملنتدى تعزيزالسلم ‪ -‬أبوظبي‬

‫رئيس التحرير‬
‫خليفة مبارك الظاهري‬

‫مديرالتحرير‬
‫الدكتور يوسف حميتو‬

‫الهيئة االستشارية‬
‫اللجنة العلمية ملركزاملوطأ‬
‫‪ -‬الشيخ محمد املختارولد امباله‬
‫‪ -‬أ‪.‬د عادل عبد القادرقوته‬
‫‪ -‬أ‪.‬د أحمد السنوني‬
‫‪ -‬أ‪.‬د عبد الحميد عشاق‬
‫‪ -‬أ‪.‬د إبراهيم مشروح‬
‫الفهرس‬

‫تقديم ‪ :‬إبراهيم بورشاشن‬


‫مدخل‪ :‬فلسفة الدين في ضوء تاريخ الفلسفة‪:‬‬
‫د‪.‬عزالعرب لحكيم بناني ‪23 .................................................................................‬‬

‫فلسفة الدين يف العصور الوسطى‪:‬‬


‫ـ جدل الفلسفة والدين في مدرسة اإلسكندرية‪:‬‬
‫د‪.‬منيرتمودن ‪39 ...................................................................................................‬‬
‫ـ مفهوم الدين عند ابن سينا‪:‬‬
‫د‪ .‬سعاد الجويني ‪71 .............................................................................................‬‬
‫ـ حدود الحجاج املنطقي في فلسفة الدين عند أبي حامد الغزالي‪:‬‬
‫د‪ .‬مو�سى فاتحين ‪91 ..............................................................................................‬‬
‫ـ الحقيقة اإلبراهيمية بين الثبات والتحول عند ابن عربي‪:‬‬
‫د‪.‬أحمد كازى ‪120 ....................................................................................................‬‬

‫فلسفة الدين يف العصور الحديثة‪:‬‬


‫‪ -‬املعلوم من الدين بالعقل وحده‪:‬‬
‫د‪ .‬محمد منادي اإلدري�سي ‪153 ................................................................................‬‬
‫‪ -‬الدين بين األخالق وامليتافيزيقا عند شاليماخر‪:‬‬
‫د‪ .‬أحمد بن املقدم ‪213 ...........................................................................................‬‬
‫الفهرس‬

‫فلسفة الدين يف الفلسفة املعارصة‪:‬‬


‫الدين في زمن العلمنة‪:‬‬ ‫ـ فلسفة ّ‬
‫د‪.‬حاتم أمزيل ‪245 ................................................................................................‬‬
‫‪ -‬دين املسؤولية األخالقية عند ليفيناس‪:‬‬
‫د‪.‬عمرلوكيلي ‪282 .................................................................................................‬‬

‫فلسفة الدين يف الفكر اإلساليم‪:‬‬


‫ـ مقاربة ملفهوم املقدس ضمن سياق الخطاب القرآني‪:‬‬
‫د‪.‬جمال الدين عبد الجليل ‪345 ...........................................................................‬‬

‫ترمجة‪:‬‬
‫هل تدعو األسفاراملقدسة إلى العنف؟‬
‫د‪.‬سعيد كفايتي ‪371 ...............................................................................................‬‬
‫افتتاحية العدد‬
‫كلمة مدير التحرير‬

‫عرف الفكر اإلنساني في أواخر القرن املا�ضي حركة عودة إلى مساءلة الدين‪،‬‬
‫وطرح إشكال عالقة الدين بالتدين‪ ،‬ولم تكن هذه الحركة قاصرة على دين دون‬
‫آخر‪ ،‬بل إن كل األديان الكبرى عرفت ملمحا من مالمح هذه العودة‪ ،‬بعد انهيار‬
‫مجموعة من النظريات واملناهج الفلسفية التي ألقت بظلها وبثقلها على دائرة‬
‫الفكرالفلسفي واستبعد الدين من نطاق دراستها واهتماماتها‪.‬‬
‫ولم تكن هذه الحركة ذات صورة واحدة‪ ،‬وال تصور واحد‪ ،‬وال أفق واحد‪ ،‬فقد‬
‫تنوعت مظاهرها لتجسد في مجملها روح العصرحسب التعبيرالهيجلي‪ ،‬أو واجب‬
‫الوقت بحسب اإلطالق اإلسالمي‪ ،‬ولم تكن غاية هذه الحركة تقديم تعريف للدين‪،‬‬
‫بل كانت الغاية بحث موضوع الدين وضبط عالقته بالفلسفة‪ ،‬وهو ما أنتج نوعا‬
‫من تبلور مفهوم «فلسفة الدين» وتطويرا ملناهج فهم الذات وفهم العالم‪ ،‬مما ال‬
‫يزال في حاجة إلى السبر أعماقه‪ .‬ونظرا إلى أن موضوع الدين وعالقته بالفلسفة‬
‫هو من صميم قضايا الشرع والواقع‪ ،‬فيسرنا أن نقدم إلى القارئ الكريم العدد‬
‫الثالث من مجلة املوطأ‪ ،‬والذي اخترنا أن نخصصه كامال مللف «فلسفة الدين»‪،‬‬
‫ملا هذا املوضوع من قيمة وراهنية علمية‪ ،‬نأينا فيه عن املنهج الصدامي‪ ،‬وحرصنا‬
‫فيه ما أمكن على اتباع املنهج املوضوعي الذي يمكننا من فهم سديد لهذه العالقة‬
‫بين الدين والفلسفة التي تراكم عليها غبار الزمن وأصابها رذاذ املعارك الفكرية‬
‫واأليديولوجية بالصدأ‪ ،‬وتحاشينا ما يمكن أن يصرف القارئ عن الغاية التي نرجو‬
‫أن تكون إضافة ذات بعد قيمي وموضوعي للدارسين‪ .‬وال يفوتنا أن نتقدم بالشكر‬
‫إلى محرر ملف العدد الدكتور إبراهيم بورشاشن أستاذ الفلسفة بالتعليم العالي‬
‫باملغرب‪ ،‬وإلى كل الباحثين الذين أثروا هذا امللف‪.‬‬
‫مديرالتحرير‬ ‫ ‬
‫يوسف حميتو‬ ‫الدكتور‬

‫‪15‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫تقديم‬

‫إذا كان حقل فلسفة الدين من الحقول الحديثة التي استقطبت اهتمام‬
‫الباحثين في الفلسفة‪ ،‬وطمحت ّ‬
‫همة الباحثين في غيرها من الحقول إلى االهتمام‬
‫ّ‬
‫والعامة على‬ ‫ّ‬
‫الخاصة‬ ‫به‪ ،‬في غمار هذه العودة الكبرى ل ّ‬
‫ـ«الديني»‪ ،‬في الحياة‬
‫السواء فإن الباحثين في العالم العربي واإلسالمي لم يتوانوا عن اإلدالء بدلوهم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالجدة والطرافة‬ ‫في هذا املضمار‪ ،‬يصدرون أعماال تتراوح بين دراسات تتسم‬
‫وبين ترجمات لنصوص مؤسسة؛ أقصد نصوص إيمانويل كنط‪ ،‬وشاليماخر‪،‬‬
‫وكركجارد‪ ،‬وهيغل‪ ،‬وفويرباخ‪ ،‬دون أن نغفل التنويه باملؤسسين للنظرالفلسفي‬
‫إلى الدين في فضائنا العربي اإلسالمي‪ ،‬من أمثال‪ :‬محمد إقبال‪ ،‬وفضل الرحمن‪،‬‬
‫ووحيد الدين خان‪.‬‬
‫ّ‬
‫وتلبية للرغبة التي عبر عنها املشرفون على مجلة املوطأ ّ‬
‫الغراء‪ ،‬في انفتاح ملح‬
‫التكليف الذي حظينا به لإلشراف على‬ ‫على حقل فلسفة الدين‪ ،‬وتجاوبا مع ّ‬
‫هذا امللف وتنسيق أبحاثه‪ ،‬أقدمنا على استكتاب جملة من الباحثين العرب‬
‫ّ‬
‫املتميزين‪ ،‬شاكرين تجاوبهم معنا‪ ،‬مراعين في ذلك تعدد املقاربات‪ ،‬بقصد تقديم‬
‫ملف غني ومتنوع يمتد على حقل فلسفي وفكري واسع‪ ،‬ينتظمه قول فلسفي في‬
‫الدين‪.‬‬
‫يحتوي هذا امللف على أبحاث تتوزع بين حقب تاريخية في اجتهاد خاص ينتظم‬
‫املجال الوسيطي‪ ،‬واملجال الحديث‪ ،‬واملجال املعاصر‪ ،‬وتعالج هذه األبحاث‬
‫موضوعات متنوعة بعضها تفهم داخل حقل الفكرالغربي الوسيطي‪ ،‬أوالحديث‪،‬‬

‫‪17‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫أواملعاصر‪ .‬وبعضها ال تفهم إال داخل حقل الفكر اإلسالمي في امتداداته الزمنية‬
‫املختلفة كذلك‪ .‬لكن تظل هذه األبحاث تعبر في مجملها عما يعانيه اإلنسان‬
‫املعاصرفي هذه األلفية الثالثة من هموم نظرية وعملية‪ ،‬وتكشف عن اجتهادات‬
‫جديرة بالنظر واالعتبار‪ ،‬وتدل في نهاية املطاف على أن انفتاح املسلمين على‬
‫العالم من خالل إنصاتهم ألسئلة غيرهم والتمرس بدراسة أجوبتهم والتأمل‬
‫فيها‪ ،‬شرط لتطوير تجربتهم العلمية وتوسيع أفق نظرهم‪ ،‬كما صنعوا قديما مع‬
‫فلسفة اإلغريق‪.‬‬
‫وقد أحجمنا في هذا التقديم عن عرض إشكاليات البحوث املدرجة في هذا‬
‫امللف‪ ،‬وأطروحاتها األساسية‪ ،‬وما جاء فيها من آراء طريفة‪ ،‬خيفة اإلطالة‬
‫ّ‬
‫واإلمالل‪ ،‬ورغبة في أن نترك للقارئ الشغوف متعة القراءة واالكتشاف في رحلة‬
‫علمية بداءة من أغسطينوس‪ ،‬مرورا بأبي علي ابن سينا‪ ،‬وأبي حامد الغزالي‪،‬‬
‫ومحي الدين بن العربي‪ ،‬وإيمانويل كنط‪ ،‬وشاليماخر‪ ،‬ولفيناس‪ ،‬ورمي براغ‪ .‬كما‬
‫أننا صرفنا بعض البحوث التي وصلتنا‪ ،‬رغم أهميتها وتقديرنا ألصحابها‪ ،‬ألنها لم‬
‫تكن في صميم املقاصد التي وضعناها للملف‪.‬‬
‫الدراسات في امللف ال يخضع ألي تصنيف‬ ‫وال بد من اإلشا ة هاهنا إلى أن ورود ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تراتبي‪ ،‬إنما هو ترتيب مرتبط بمقاصد إجرائية تم تبنيه حتى تنتظم الدراسات‬
‫وفق حقب زمنية محددة‪ّ ،‬توجناه بدراسة د‪ .‬لحكيم بناني‪ ،‬أطرت فلسفة الدين‬
‫ضمن تاريخ الفلسفة‪ ،‬مدخال للملف‪ ،‬وختمناها بالترجمة املتميزة لفصل من‬
‫الكتاب األخيرلريمي براغ ‪ Brague Remie‬املوسوم ‪ ،SUR LA RELIGION‬والتي‬
‫ّ‬
‫خص بها امللف‪ ،‬د‪ .‬سعيد كفايتي‪ .‬كما أن إيرادنا ملفهوم «فلسفة الدين» تعاوره‬
‫عبرنا عنه بوضعه بين هاللين‪.‬‬‫أحيانا بعض التحفظ ّ‬
‫وال يسعنى في األخير‪ ،‬وقد استوى امللف على سوقه‪ ،‬إال أن أشيد بجهود‬
‫الشيخ عبد هللا بن بيه في حرصه الكبيرعلى إدماج الفكرالفلسفي في بنية الفكر‬

‫‪18‬‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي مذكرا بما صنعه أبو حامد الغزالي في املشرق وما صنعه أبو الوليد بن‬
‫رشد في املغرب‪ ،‬وغيرهما من فقهائنا الكبار الذين حملوا إلى جانب لواء املنقول‬
‫الروح السارية في املشروع العلمي للشيخ الكريم ما كان‬‫لواء املعقول‪ ،‬ولوال هذه ّ‬
‫النور‪ ،‬فشكرا للعالمة الجليل حسن استشرافه‪ ،‬وسعة أفقه‪،‬‬ ‫لهذا امللف أن يرى ّ‬
‫وبعد نظره‪ ،‬وجميل مشاركته‪.‬‬
‫وهللا من وراء القصد وهو يهدي السبيل‪.‬‬
‫والحمد هلل واهب العقل‪.‬‬
‫محرر امللف‬
‫إبراهيم بورشاشن‬

‫‪19‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫املشاركون يف امللف‬

‫• د‪ .‬عز العرب لحكيم بناني‪ ،‬أستاذ التعليم العالي‪ ،‬مدير مختبر الدراسات‬
‫بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬ظهر املهراز ـ فاس‪ ،‬جامعة سيدي‬‫الرشدية‪ّ ،‬‬
‫محمد بن عبد هللا‪.‬‬
‫• د‪ .‬سعيد كفايتي‪ ،‬أستاذ التعليم العالي‪ ،‬رئيس فريق البحث في علم مقارنة‬
‫بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية سايس ‪ -‬فاس‪ ،‬جامعة سيدي محمد بن‬ ‫األديان ّ‬
‫عبد هللا‪.‬‬
‫• د‪.‬جمال الدين عبد الجليل‪ ،‬جامعة لودفيغسبورغ لعلوم التربية ‪ /‬أملانيا‪،‬‬
‫‪University of Education Ludwigsburg‬‬
‫• د‪.‬سعاد الجويني‪ ،‬باحثة في الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬من تونس‪.‬‬
‫• د‪ .‬مو�سى فاتحين‪ .‬جامعة الجياللي بونعامة خميس مليانة ‪ ( -‬الجزائر )‬
‫• د‪.‬محمد منادي إدري�سي‪ ،‬أستاذ التعليم العالي‪ ،‬كلية ظهراملهرازبفاس‪.‬‬
‫• د‪ .‬أحمد كازى‪ ،‬أستاذ التعليم العالي‪ ،‬جامعة أبي شعيب الدكالي بالجديدة‪.‬‬
‫• د‪.‬محمد ملقدم‪ ،‬أستاذ التعليم العالي‪ ،‬كلية ظهراملهرازبفاس‪.‬‬
‫• د‪.‬حاتم أمزيل‪ ،‬أستاذ التعليم العالي‪ ،‬كلية ظهراملهرازبفاس‪.‬‬
‫• د‪ .‬عمربوكيلي‪ ،‬أستاذ التعليم العالي‪ ،‬املدرسة العليا لألساتذة بمكناس‪.‬‬
‫• د‪.‬منيرتمودن‪ ،‬باحث في علم مقارنة األديان‪ ،‬من املغرب‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ ‬

‫‪21‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫مدخل‬
‫فلسفة الدين‬
‫يف ضوء تاريخ الفلسفة‬
‫د‪ .‬عزالعرب لحكيم بناني‬

‫تقديم‬
‫لم يتخذ الفالسفة موقفا من القضايا الفلسفية النظرية فحسب‪ ،‬بل‬
‫اضطروا كذلك إلى التفكير و التأمل في املوروث الديني‪ .‬ولذلك نعتبر أن املوقف‬
‫السلبي من الدين موقف ديني بحد ذاته‪ .‬كانت املواقف التقليدية من الدين‬
‫تسجن الفالسفة داخل أطر مسبقة تجعل من هذا فيلسوفا مؤمنا ومن ذاك‬
‫فيلسوفا ملحدا‪ ،‬بالرغم من أن اإللحاد ذاته مستويات ودرجات‪ ،‬وقد يتحول هو‬
‫ذاته إلى مظهر من مظاهر تجلي الشعور الديني‪ .‬وهكذا كانت املحاوالت الجديدة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في الفهم جزءا من تطور الحياة الروحية للفيلسوف‪ ،‬حتى ولو تبنى موقفا رافضا‬
‫من الدين‪.‬‬
‫كيف نحول فلسفة الدين إلى برنامج بحث فلسفي؟ بالفعل‪ ،‬ال يعتبر هذا‬
‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ُّ‬
‫فلسفيا خالصا‪ ،‬ألنه تابع لعلوم الالهوت‪ .‬فأغلب الباحثين‬ ‫التخصص مبحثا‬
‫في املوضوع رجال الهوت وليسوا فالسفة؛ كما أن أغلب شعب الفلسفة تعتبر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فلسفة الدين تخصصا ظهر وسيلة للدفاع عن معتقدات أنصارها‪ .‬غير أن‬
‫فلسفة الدين في الدول العربية واإلسالمية أصبحت فرصة سانحة للتفكير في‬
‫القضايا الدينية من منظور جديد‪ .‬ذلك أن فلسفة الدين ال تدرس ديانة بعينها‪،‬‬

‫‪23‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫بقدر ما تكشف عن العناصر املشتركة بين مختلف األديان ضمن األعراف‬
‫والتقاليد املوروثة‪ 1‬سواء في نماذج هيغل وفورباخ ونيتشه وهيدغروفتغنشتاين‬
‫أو في نماذج الفالسفة العرب املعاصرين‪ .‬ونحن سنتعرض في هذه املقالة ملنهجية‬
‫دراسة فلسفة الدين ومليالد فلسفة الدين من خالل نقد األدلة على وجود هللا‪،‬‬
‫كما سنتعرض للتحديات املوضوعة على كاهل فلسفة الدين في أفق العقالنية‬
‫الفلسفية‪ .‬وسنبرز في األخير أن أفق العدمية في تأويل هيدغر لنيتشه كان من‬
‫أهم عوامل تجديد فلسفة الدين‪.‬‬
‫منهجية دراسة فلسفة الدين؟‬
‫يشكك كثير من الباحثين في انتماء فلسفة الدين إلى حقل الفلسفة‪ ،‬غير أن‬
‫منهجية الهيرمينوطيقا قد أدمجت فلسفة الدين داخل محاور الفلسفة التي‬
‫دافع عنها ريكور وهيدغر‪ ،‬بالرغم من أن الهيرمينوطيقا ذاتها ليست مدرسة‬
‫واحدة‪ ،‬وتوزعت بين الهيرمينوطيقا الدينية وهيرمينوطيقا األنواروالهيرمينوطيقا‬
‫ابتداء من أعمال شاليرماخر داخل‬ ‫ً‬ ‫الفلسفية والفلسفة الهيرمينوطيقية‪،‬‬
‫النموذج العقالني‪ .‬وقد كان مانفرد فرانك ‪ Manfred Frank‬قد اعتبرشاليرماخر‬
‫ً‬
‫فيلسوفا ومؤسس الهيرمينوطيقا ولم يعتبره مجرد عالم في الالهوت‪.‬‬
‫ً ًّ‬
‫هاما في تحويل فلسفة الدين إلى تخصص‬ ‫لعبت الفلسفة الهيرمينوطيقية دورا‬
‫ً‬
‫فلسفي أصيل ومستقل مبدئيا عن املذاهب الالهوتية واآلراء الدينية‪ .‬وقد ساعد‬
‫ذلك هيدغرعلى تمثل التراث املسيحي القديم‪.‬‬
‫وتنبني املنهجية على التمييزالصارم بين فلسفة الدين والفلسفة الدينية‪ ،‬على‬
‫الرغم من صالت الوصل الواضحة املوجودة بين مباحث الهيرمينوطيقا الدينية‬
‫واالجتهادات اللغوية و البالغية التي صاحبت نشأة وتطور علوم التفسير ومناهج‬
‫املنصبة على النص الديني في مجاالت علوم العقيدة والتصوف والكالم‬ ‫ّ‬ ‫التأويل‬

‫‪1 - Paul RICOEUR : Soi-même comme un autre. Seuil, 1990, p. 297.‬‬

‫‪24‬‬
‫وأصول الفقه‪ً .‬‬
‫بناء على هذا التمييز بين‬
‫لعبت الفلسفة‬ ‫املجالين انتقل الفالسفة من نظرية‬
‫هام ًا‬
‫الهريمينوطيقية دوراً ّ‬ ‫الحقيقة الواحدة التي تتخذ صورة‬
‫دينية أو فلسفية إلى نظرية الحقيقتين يف تحويل فلسفة الدين إىل‬
‫تخصص فلسيف أصيل‬
‫التي تحفظ لكل جنس أدبي تماسكه‬
‫ومستقل مبدئي ًا عن املذاهب‬
‫وانسجامه داخل اإلطار العقدي أو‬
‫الالهوتية واآلراء الدينية‬ ‫العقلي‪ 1.‬لم ُ‬
‫يعد باإلمكان أن نحتفظ‬
‫بالتقسيم الثالثي للداللة إلى داللة‬
‫مطابقة َوت َ‬
‫ض ُّمن والتزام‪ ،‬كما لم ُ‬
‫يعد باإلمكان التمييز بين املعنى الن�صي (الذي‬
‫يتعارض في الظاهر مع العقل) واملعنى العقلي (الذي يوافق باطن النص)‪ ،‬بما‬
‫أن املعنى الصحيح هو ما يوافق قصد الشارع وليس هو ما يوافق عقل الشارح‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهكذا‪ ،‬وجدت الهيرمينوطيقا الدينية ‪ hermeneutica sacra‬مجاال خصبا‬
‫لنقد التمييزبين املعنى الحرفي واملعنى املجازي في تأويل اليهودية مع فيلون ‪Philo‬‬
‫أو في تأويل املسيحية مع أوريجين ‪ .Origines‬فكانت الحداثة الغربية وليدة‬
‫ً‬
‫الفلسفة الحديثة‪ ،‬والهيرمينوطيقا الدينية معا‪ .2‬لقد أصبحت الفلسفة ملزمة‬
‫من زاوية نظرية املعرفة أن تفحص تأويل معارف التراث داخل نظرية املنهج‪.3».‬‬
‫انطلقت الهيرمينوطيقا الدينية في قرن التنوير من مبدأ أن إنتاج النص فعل‬
‫«عقالني»‪ ،‬ألن مؤلف النص قادر على التعبير عن أفكاره و على الربط فيما بينها‬
‫وفق ضوابط العقالنية االستنباطية‪ .‬ولكن باومغارتن‪ Baumgarten ‬يعتبر أن‬

‫‪ -1‬وعليه‪ ،‬يختلف إله الالهوت في كتاب‪ :‬الرسالة في الالهوت و السياسة عن إله الفالسفة في كتاب‪:‬‬
‫األخالق من خالل الصورة الفلسفية التي نحتها اسبينوزا عنه في مذهب وحدة الوجود‪.‬‬
‫‪ - 2‬فقد نشأت مع أعمال فولف ( ‪ Christian Wolff (1754 -1679‬وباومغارتن (‪ )1757 - 1706‬وأصبحت‬
‫صلة وصل بين الفلسفة و التنويرو الالهوت‪.‬‬
‫‪3- Axel BÜHLER: Unzeitgemäβe Hermeneutik. Verstehen und Interpretation im Denken‬‬
‫‪der Aufklärung. Axel BÜHLER (Hsg): Vittorio Klostermann, 1944, p. 9.‬‬

‫‪25‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫العقالنية تبحث عن النتائج املنطقية‬
‫ابتعدت فلسفة الدين عن‬ ‫التي كان يقصدها كتبة النص‪ ،‬وال‬
‫الهوت الطبييع وعلم‬ ‫ال ّ‬ ‫تبحث عن النتائج املنطقية ّ‬
‫بحد ذاتها‪.‬‬
‫الكالم والعلم اإللهي‪ ،‬بعدما‬
‫وقد ساهمت الهيرمينوطيقا الدينية‬
‫أصبحت الفلسفة تشتغل‬
‫والفلسفة بهذا املعنى في شحذ التفكير‬
‫وفق مقتضيات فلسفة األنوار‬
‫الفلسفي في قرن التنوير‪ .‬لم تعد فلسفة‬
‫والعلم الحديث‬
‫الدين تدرس العالقة بين الحكمة‬
‫والشريعة من منطلق الفلسفة املشائية‬
‫ّ‬
‫في سعيها إلى التوفيق بينهما‪ .‬وابتعدت فلسفة الدين عن الالهوت الطبيعي وعلم‬
‫الكالم والعلم اإللهي‪ ،‬بعدما أصبحت الفلسفة تشتغل وفق مقتضيات فلسفة‬
‫األنوارو العلم الحديث‪.‬‬
‫ولكنها أصبحت تعنى بالظواهرالتي لم تحظ بعناية الفيلسوف التقليدي‪ ،‬مثل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واملحبة والوصايا اإللهية و الكتب السماوية‪.‬‬ ‫اإليمان والطقوس والصالة والوثنية‬
‫محل الالهوت الطبيعي أو الالهوت الفلسفي‬ ‫التخصص الجديد َّ‬ ‫ُّ‬ ‫حل هذا‬‫َّ‬
‫ّ‬
‫ُويمثل كانط عالمة فارقة رسمت معالم االنتقال من الالهوت العقالني إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُّ ً‬
‫تصورا أخالقيا ‪ -‬الهوتيا جديدا للدين‪ .‬انتقد كانط‬ ‫فلسفة الدين‪ ،‬بعدما ابتكر‬
‫ً‬
‫األدلة على وجود هللا‪ ،‬و لم يعتبرفساد البراهين على وجود هللا فسادا للدين ذاته‪.‬‬
‫الدينية من البحث الفلسفي‪،‬‬ ‫يؤد تفنيد الالهوت العقالني إلى نبذ التجربة ّ‬‫ولم ّ‬
‫ِ‬
‫تخصص ال ينظرإلى الدين‬ ‫ّ‬
‫على العكس‪ ،‬أدى سقوط الالهوت العقالني إلى ظهور ّ‬
‫من زاوية األلوهة فحسب‪ ،‬بل كذلك من زاوية ّ‬
‫الشر و األخالق والخطيئة‪ .‬كان‬
‫كقوة عظمى غير ّ‬
‫محددة املعالم‪ ،‬في إطار‬ ‫الالهوت الفلسفي يتحدث عن األلوهية ّ‬
‫التدين الطبيعي ‪ .déisme‬كما كان يفترض ميل اإلنسان إلى معرفة تلك القوة؛‬ ‫ُّ‬
‫وانتهى إلى معرفة هللا باألدلة العقلية‪ .‬كانت الحجج العقالنية على وجود هللا هي‬

‫‪26‬‬
‫ً‬
‫طريق الفيلسوف املتدين‪ ،‬حتى يتأكد عقال ويطمئن إلى حقيقة اإليمان الذي‬
‫سبق الوجدان إليه‪.‬‬
‫مما حمل فالسفة الدين‬ ‫الهدام‪ّ ،‬‬‫تصدى كانط لدعوى اإليمان العقلي بمعوله ّ‬ ‫ّ‬
‫من بعده على التماس طرق أخرى إلى هللا عبر مسالك أخرى تخالف مسالك‬
‫الالهوت العقالني‪ .‬وهذا ما ظهر في محاولة دو لوباك (‪de Lubac )1991 -1896‬‬
‫الذي انتقد نظرية معرفة هللا كما لو كانت «صيرورة طبيعية خالصة»‪ .‬إذ إنه قد‬
‫وحيدة و هي غاية رؤية الذات‬ ‫ٍ‬ ‫غاية‬
‫اعتبرأن «الطبيعة البشرية تهدف إلى تحقيق ٍ‬
‫َّ‬
‫اإللهية بوجوه ناضرة‪ ،‬في حين أن تحقيق هذه الغاية ال يتالءم ألبتة مع طبيعته‪،‬‬
‫َ‬
‫‪1‬‬
‫كما أن هذه الغاية تتجاوز ما تستطيع القوى البشرية الطبيعية أن تصل إليه‪».‬‬
‫بط ْرق عالم األسرار واملاور ّ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬
‫ائيات‪،‬‬ ‫غير أن فلسفة الدين لم تعد تكتفي بعد ذلك ِ‬
‫كما هو الحال لدى دو لوياك‪ ،‬وال بالوقوف عند حدود التجربة الدينية‪.‬‬
‫جديد لدى فالسفة‬ ‫وس‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫ٍ‬ ‫استطاعت فلسفة الدين أن تظهر بعد ذلك في لب ٍ‬
‫ّ‬
‫الرومانسية والكانطية الجديدة واملثالية األملانية‪ 2.‬وهذا ما اتضح مع زوايا النظر‬
‫الجديدة إلى فلسفة الدين‪.‬‬
‫نقد األدلة على وجود هللا وميالد فلسفة الدين‪:‬‬
‫ّ‬
‫كانت إشكالية الشرفي العالم و قضايا األخالق مدخل كانط إلى فلسفة الدين‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد استند كانط في نقد أدلة وجود هللا إلى القول إن الوجود ليس محموال‪ .‬لكن‬
‫ً‬
‫دو لوباك اعترض على كانط متعجبا من هذا «الجانب األحادي الذي سارت‬
‫ً‬
‫فيه أطروحة التمييز القاطع بين املفهوم و الوجود‪ ،‬ومبرزا كيف أن هذا التمييز‬
‫ّ ً‬ ‫ٌّ‬
‫جنس خاص منها وهو جنس‬ ‫ٍ‬ ‫عامة‪ ،‬ومن‬ ‫مستمد من عالم الكائنات املحدودة‬

‫‪1 - M CULLEN, Christopher, SJ. : The Natural Desire for God and Pure Nature. A Debate‬‬
‫‪Renewed. American Catholic Philosophical Quarterly, Vol. 86 Fall 2012 Issue 4. p. 708‬‬
‫ّ‬
‫يتحول كانط وهيغل وشيلنغ في عيون طلبة الفلسفة‬ ‫مؤرخو الفلسفة مع ذلك من أن‬‫‪ -2‬يخ�شى ّ‬
‫ّ‬
‫متخصصين في الفلسفة الدينية‪.‬‬ ‫بالجامعات إلى‬

‫‪27‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫النقدية»‪ 1.‬كان كانط قد أحدث مماثلة بين عبارة «مائة ريال موجودة في‬ ‫القطع‬‫ِ‬
‫الذهن» وعبارة «هللا موجود»‪ .‬عندما نقول بخصوص مائة ريال إنها موجودة في‬
‫الذهن‪ ،‬ال يعني ذلك أن الوجود صفة ذاتية تقال على قطع النقود‪ ،‬بل يعني فقط‬
‫أننا نعتقد أن نسبة من القطع النقدية موجودة في املتناول‪ ،‬مع العلم أن هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫االعتقاد قد يكون صحيحا أو فاسدا بعد الرجوع إلى الواقع العيني‪ .‬على نفس‬
‫النحو‪ ،‬عندما نقول «إن هللا موجود»‪ ،‬ال تفصح مفردة «موجود» عن محمول‬
‫ُّ ّ ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫قبليا على أنه اعتقاد‬ ‫يقال على هللا‪ ،‬بقدر ما تضمر املفردة اعتقادا ال �شيء يدل‬
‫صائب أو ٌ‬
‫فاسد بالعودة إلى الواقع الفعلي‬ ‫ٌ‬ ‫صحيح أو خاطئ‪ .‬نعتبرأن هذا االعتقاد‬
‫ّ‬
‫التصور التقليدي‬ ‫املستقل عن االعتقاد وليس بالرجوع إلى تحليل املفاهيم‪ .‬كان‬
‫يعتقد أن هللا كامل‪ ،‬وأن الكمال اإللهي يتضمن الوجود‪ ،‬ما دام أن القول «إن‬
‫َّ‬
‫الفعلي‪.‬‬ ‫َ‬
‫الوجود‬ ‫ُ‬
‫الكمال‬ ‫ّ‬
‫يتضمن‬ ‫هللا كامل» قول متناقض حينما ال‬
‫أراد كانط الوصول إلى هللا من خالل الوصول إلى ماهيته‪ ،‬بفضل املحموالت‬
‫الذاتية التي تقال عليه‪ ،‬شأنه في ذلك شأن كل املوضوعات‪ ،‬أي بفضل الوصول‬
‫ً‬
‫إلى صفات هللا الذاتية‪ ،‬أمال في إدراك هللا كما هو ‪ God as such‬حسب اصطالح‬
‫ّ‬
‫ماريون‪ 2.‬لكن كانط لم يتمكن وفق ماريون من الوصول إلى معرفة هللا‪ ،‬ألن كانط‬
‫البشرية‪ ،‬بنفس الطريقة التي جعلت‬ ‫ّ‬ ‫أراد «إخضاع هللا لشروط إمكان التجربة‬
‫العقل اإلنساني املحدود‪ ،‬كما يظهر في الكائن البشري‪ ،‬يقوم بتعريف شروط‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإللهية و عن فحص الكماالت‬ ‫اإلمكان هذه‪ 3».‬يستغني ماريون عن دراسة الذات‬
‫بناء على «صلة‬‫شرع بدل ذلك في االقتراب من هللا ً‬ ‫اإللهية و صفة الوجود و َي ُ‬
‫ّ‬

‫‪1- MARION, J-L.: The Question of the Unconditioned. The Journal of Religion. January‬‬
‫‪2013 vol. 93 Nr. 1. p. 8‬‬
‫‪2 - MARION, J-L.: The Question of the Unconditioned. The Journal of Religion. January‬‬
‫‪2013 vol. 93 Nr. 1.‬‬
‫‪3 - MARION, J-L.: The Question of the Unconditioned. The Journal of Religion. January‬‬
‫‪2013 vol. 93 Nr. 1. p.14‬‬

‫‪28‬‬
‫‪quoad nos‬‬ ‫الوصل التي تربطه بنا‬
‫وبالنظر إلينا و بالنسبة إلينا وبصورة استطاعت فلسفة الدين أن‬
‫جديد‬
‫ٍ‬ ‫وس‬ ‫ظهر بعد ذلك يف ل ُب ٍ‬ ‫محدودي ٌة َت َ‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫محدوديتنا‪ ،‬وهي‬ ‫متطابقة مع‬
‫لدى فالسفة الرومانسية‬ ‫ت ُحو ُل بيننا و بين ّادعاء أننا قد اقتربنا‬
‫َ‬
‫والكانطية الجديدة واملثالية‬ ‫‪1‬‬
‫مطلقة‪».‬‬
‫ٍ‬ ‫من هللا كما هو و بصورة‬
‫ّ‬
‫ً األملانية‪ .‬وهذا ما اتضح مع زوايا‬ ‫ً‬
‫غير أن كانط قد وجد طريقة جديدة‬
‫النظر الجديدة إىل فلسفة الدين‬
‫للوصول إلى هللا عن طريق األخالق في‬
‫مذهبه الثيولوجي األخالقي ‪Ethico‬‬
‫َّ‬
‫واحتج‬ ‫ّ‬
‫املسيحية إلى األخالق‪،‬‬ ‫‪« .-théologie‬من زاوية الدين‪ ،‬أخضع كانط‬
‫الشر الجذري بداخلها‪ ،‬وهو ميل إلى‬ ‫تنم عن وجود ّ‬ ‫بالقول إن الطبيعة البشرية ّ‬
‫اإلقدام على اختيارات تتعارض مع مطالب القوانين األخالقية‪ 2».‬والحقيقة أن‬
‫ً‬
‫تاريخ األديان ارتبط غالبا بالعنف وبتقديم «كبش الفداء»‪ ،‬في دراسات روني‬
‫‪3‬‬
‫جيرار‪.‬‬
‫فلسفة الدين في أفق العقالنية الفلسفية‪:‬‬
‫ً‬
‫إذا كان ظهور الالهوت األخالقي مع كانط إيذانا بميالد فلسفة الدين‪ ،‬فإن‬
‫ّ‬
‫العلمية والعقالنية‬ ‫اضطر باملقابل إلى التكيف مع الفلسفة ومع النظرة‬ ‫َّ‬ ‫الدين قد‬
‫ًّ‬ ‫ّ ّ ً‬ ‫إلى العالم‪«ُ .‬ت ُ‬
‫تأمال فلسفيا في الدين من داخل اإلطار‬ ‫عتبر فلسفة الدين القارية‬
‫َ َّ‬
‫تحك َم في الفالسفة األور ّوبيين املنتمين إلى القرن التاسع عشر‪،‬‬ ‫الخاص الذي‬
‫تحققت‬ ‫مثل كانط وهيغل و كيركيغا د ونيتشه وماركس‪ ،‬وهي فلسفة الدين التي ّ‬
‫ر‬
‫بوجه خاص عبر قناة هيدغر و الفالسفة الفرنسيين الذين ينتمون في الغالب إلى‬
‫‪1 - MARION, J-L.: The Question of the Unconditioned. The Journal of Religion. January‬‬
‫‪2013 vol. 93 Nr. 1. p.15‬‬
‫‪2 - GOLDEN, Timothy J. From Epistemology to Ethics. Theoretical and Practical Reason in‬‬
‫‪Kant and Douglass. Journal of Religions Ethics, 404 December 2012. p. 613-14.‬‬
‫‪3 - GIRARD, René : Le Bouc émissaire. Bernard Grasset, Editions Grasset & Fasquelle 1982.‬‬

‫‪29‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫جيلنا‪ ،‬وهم الفالسفة الذين وقعوا تحت‬
‫تأثير هيدغر حتى و لو خرجوا بعد ذلك انتقل الفالسفة من اإلنسان‬
‫المؤوِّ ل»‬
‫اجملرد إىل «اإلنسان ُ‬‫ّ‬ ‫عنه‪ 1.‬انتقل هؤالء الفالسفة من اإلنسان‬
‫ودافعوا عن «مقاربة غري‬ ‫املجرد إلى «اإلنسان املُ ّ‬ ‫ّ‬
‫ؤول» ودافعوا عن‬ ‫ِ‬
‫سلطوية للحقيقة» ونسج‬
‫«مقاربة غير سلطوية للحقيقة»‪ 2‬ونسج‬
‫حوار هادف بني الفالسفة‬
‫ورجال الدين‪ ،‬بعيداً عن‬ ‫حوارهادف بين الفالسفة ورجال الدين‪،‬‬
‫‪3‬‬ ‫ً‬
‫«االفتتان بالفرد املعزول»‬ ‫املعزول»‬ ‫بالفرد‬ ‫«االفتتان‬ ‫عن‬ ‫بعيدا‬
‫تبين أن عالقة األنا باآلخر ضرورّية‬ ‫بعدما ّ‬
‫ّ‬
‫للوصول إلى الحقيقة‪ .‬ولذلك‪ ،‬يتعذر‬
‫مميزات اآلخراملطلق في الفلسفة‬‫علينا فهم معالم الذات اإللهية دون أن ننتبه إلى ّ‬
‫املعاصرة‪ .‬من خالل هذه العالقة الجدلية بين اإلنسان واأللوهة نفهم أطروحة‬
‫ً‬
‫فورباخ القائلة «إن الثيولوجيا ال تعدو أن تكون أنثروبولوجيا مقلوبة» فهما‬
‫ًّ‬ ‫ًّ‬
‫إلحاديا‪ ،‬من داخل فلسفة الدين و ليس من خارجها‪.‬‬ ‫إيمانيا ال‬
‫ص َوره التار ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ ّ‬
‫يخية‬ ‫تحولت فلسفة الدين على هذا النحو إلى آلية لنقد الدين في ِ‬
‫ومؤسساته الالهوتية «وإلى التركيز بصورة كبيرة على األبعاد الثقافية واألخالقية‬ ‫َّ‬
‫‪4‬‬ ‫ّ‬
‫والسياسية التي يحتلها الدين‪».‬‬
‫‪1- LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other : Essays in‬‬
‫‪Continental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1-3 December‬‬
‫‪2006, p. 2‬‬
‫‪2 - LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other : Essays in‬‬
‫‪Continental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1-3 December‬‬
‫‪2006, p. 2‬‬
‫‪3 - LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other : Essays in‬‬
‫‪Continental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1-3 December‬‬
‫‪2006, p. 2‬‬
‫‪4 - LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other: Essays in Conti-‬‬
‫‪nental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1 - 3 December 2006, p. 3‬‬

‫‪30‬‬
‫املؤسسات الدينية‬ ‫وج َهته فلسفات ما بعد الحداثة إلى ّ‬ ‫لم يكن النقد الذي ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نقدا للدين‪ُ .‬ت َّ‬
‫وج ُه ما بعد الحداثة سهام نقدها إلى من يفحص الدين فحصا‬
‫ًّ ّ ً‬
‫مجردا‪ ،‬دون أن يصبح «على وعي بالتأثير الذي يمارسه التاريخ و الثقافة‬ ‫صوريا‬
‫على صيرورة تفكيرنا‪ ،‬وهو التأثير الذي يظهر في الديانة التي نعتنقها»‪ 1‬كما هو‬
‫‪2‬‬
‫واضح مع ترولتش‪.‬‬
‫ً‬
‫أصبحت روح الدين مطبوعة بألوان التلقي‪ ،‬كما أصبح الدين ذاته ملزما‬
‫ّ‬ ‫ّ ً‬
‫التحوالت‬ ‫بالخضوع لحكم الغيرومتأثرا بتغيراملذاهب واألعراف والعقائد‪ .‬لم تكن‬
‫التي طرأت على املذاهب التاريخية والعقلية عوارض خارجية‪ ،‬بل أصبحت تنتمي‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫إلى جوهرالظاهرة الدينية ذاتها‪ .‬اعتبرهيغل األدلة على وجود هللا محطة أساسية‬
‫توصل هيغل في محاضراته عن فلسفة الدين‬ ‫التاريخ‪« .‬فقد َّ‬ ‫تطور الدين عبر ّ‬ ‫في ُّ‬
‫ً‬
‫كامال‪ ،‬إلى ّ‬ ‫ً‬
‫حد‬ ‫ِ‬ ‫إلى مالحظة تفيد أن األدلة على وجود هللا قد عرفت اليوم كسادا‬
‫‪3‬‬ ‫ّ‬
‫بأهميتها‪ .‬لقد اعتقدنا اليوم أننا قد تجاوزناها‪».‬‬ ‫ّأن الناس بدأوا يستخفون‬
‫أصبح أفق فلسفة الدين يقوم على الربط بين جوهر الدين وتاريخه و بين‬
‫الحقيقة و التاريخ‪ .‬ونحن ال ننكر التوتر القائم بين العقل و اإليمان وبين الرسالة‬
‫فلسفي ًة إليجاد حلول ّ‬ ‫ُّ‬
‫للت ُّوت َر بين‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫محاوالت‬
‫ٍ‬ ‫الفلسفية‬ ‫والتاريخ‪ .‬وقد كانت األديان‬
‫الرسالة و التاريخ‪.‬‬
‫التوت ُر لدى بول تيليش في صلب العالقة بين الفلسفة والالهوت‪.‬‬ ‫يظهر هذا ُّ‬

‫‪1 - LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other : Essays in‬‬
‫‪Continental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1-3 December‬‬
‫‪2006, p. 3.‬‬
‫ً‬
‫مستلهما أثناء ذلك أعمال ّ‬ ‫ّ‬
‫كل‬ ‫عقالنية الوعي الديني الفردي إلى تاريخ األديان‪،‬‬ ‫‪ - 2‬انتقل بنا ترولتش من‬
‫ّ‬
‫متوسط بين كانط الذي أدار ظهره للتاريخ وهيغل‬
‫ٍ‬ ‫من هيغل و ديلتاي وشاليرماخر‪ .‬سار ترولتش في خط‬
‫ّ‬
‫يتجلى ّ‬ ‫الذي تعامل ّ‬
‫الدين‬ ‫بجدية مع نفس التاريخ‪ ،‬و ذلك من أجل معرفة الواقع التجريبي العيني الذي‬
‫مكونات الظاهرة الدينية‪.‬‬‫أسا�سي من ّ‬
‫ّ‬ ‫مكون‬ ‫َ‬
‫الواقع إلى ّ‬ ‫فيه‪ ،‬بعدما ّ‬
‫حول هذا‬
‫‪3- F. SCHICK & F. HERMANNI: Gottesbeweise Revisited. Philosophische Rundschau. Eine‬‬
‫‪Zeitschrift für philosophische Kritik. Band 59, Heft 4, 2012. p. 348.‬‬

‫‪31‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫يتحا�شى غونتر فينتز‪ ،‬ناشر أعمال تيليش‪ ،‬الحديث عن إقصاء متبادل فيما‬
‫بينهما‪ ،‬دون أن يتجاهل االختالف املوجود بينهما‪ .‬يعتبرتيليش أن التوتربين الدين‬
‫َّ‬
‫والفلسفة يسير في اتجاهين متعارضين‪ :‬يؤكد االتجاه األول على مبدأ املطابقة‬
‫ّ‬
‫التصوف‪ ،‬وهو‬ ‫مع هللا‪ ،‬وهو مبدأ االتحاد أو الحلول أو الفناء الذي ينطلق منه‬
‫صور‪ ،‬يسيراالتجاه‬ ‫يعتبرأنه ال يوجد غيرهللا على وجه الحقيقة‪ .‬في مقابل هذا ّ‬
‫الت ّ‬
‫الثاني صوب اإلقراربوجود اإلنسان إلى جانب وجود هللا‪ ،‬وبوجود اإلرادة البشرية‬
‫ّ ‪1‬‬ ‫ً‬
‫جنب مع املشيئة اإللهية‪.‬‬
‫جنبا إلى ٍ‬
‫أفق العدمية واستعارة العالم املفارق‪ :‬بين هيدغرو نيتشه‬
‫ّ‬
‫أفالطونية قد وصلت إلى‬ ‫الغربية بما هي فلسفة‬‫ّ‬ ‫يعتبر نيتشه أن الفلسفة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نهايتها‪ .‬و لكن تأويل الدين قد لعب دورا أساسيا في تنبؤ نيتشه بسقوط الفلسفة‬
‫خاص‪ .‬فقد ّميز نيتشه بوضوح بين الفلسفة اليونانية‬ ‫ٍ‬ ‫بوجه‬
‫والحضارة الغربية ٍ‬
‫والفلسفة الغربية الحديثة التي تأثرت بالعلم الحديث والتصنيع والعقالنية‪،‬‬
‫نتيجة لذلك‪ ،‬تأثرالدين بمنعطف العصور الحديثة وانتقل من دين الحياة‪ ،‬كما‬
‫ُ‬
‫معالم‬ ‫األمر لدى اليونان‪ ،‬إلى دين الواجب والورع والروحانيات‪ .‬وقد ظهرت‬ ‫كان ُ‬
‫االنحطاط الثقافي عندما حلت ديانات الطقوس محل ديانات الحياة كما كانت‬
‫ً‬
‫معروفة لدى اليونان‪ .‬والهدف الذي أصبحت األديان تنشده هوتضخيم الشعور‬
‫بوخزالضميروتعميق الشعور بالذنب والسعي بعد ذلك إلى التكفيرعن الذنوب‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سواء كانت فعلية أو افتراضية فقط‪ .‬وكلما ازداد الشعور بالخوف‪ ،‬تراجعت‬
‫بحب الحياة وتحول هللا إلى قيمة القيم؛ وال‬ ‫العالقة املباشرة التي تربط الدين ُ‬
‫ً‬
‫يعني هذا التحول إلى قيمة القيم شيئا آخر غير إعدام الذات اإللهية‪ ،‬كما جاء‬
‫عارض بين الحرية اإلنسانية و املشيئة اإللهية‪،‬‬ ‫‪ - 1‬وهو التمييز الذي قد يدفعنا إلى أن ُن َس ّل ًم بوجود َت ُ‬
‫ُ‬
‫وإلى الشعور بالذنب و بمسؤولية اإلنسان عن أفعاله‪ ،‬دون الحاجة إلى أن ن ّبررها باملشيئة اإللهية‪ُ .‬ي ْع ُ‬
‫رب‬
‫املبدأ األول عن إرادة الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬وهي حقيقة أنه ال يوجد في الكون إال �شيء واحد وهو هللا‪،‬‬
‫بناء على ذلك‪،‬‬ ‫بينما يفصح املبدأ الثاني عن إرادة الوصول إلى الفضيلة‪ ،‬وهي أن اإلنسان فاعل مختار‪ً .‬‬
‫ّ‬
‫الجدلية القائمة بين املبدأين‪.‬‬ ‫تقوم فلسفة الدين لدى تيليش على فحص طبيعة العالقة‬

‫‪32‬‬
‫على لسان نيتشه‪« :‬صاح املعتوه بعد أن‬
‫أصبح أفق فلسفة الدين‬ ‫قفز إلى وسط الحلبة وألقى على الناس‬
‫يقوم عىل الربط بني جوهر‬ ‫ً‬
‫نظرات ثاقبة‪« :‬لقد قمنا بقتله‪ ،‬أنتم‬
‫الدين وتاريخه وبني‬ ‫وأنا‪ ! ‬نحن جميعا من قتلناه»‪ 1.‬ويضيف‬
‫احلقيقة والتاريخ‬
‫نيتشه على لسان املعتوه أن موت اإلله‬
‫أحد ولم يصل بعد‬ ‫واقع لم ينتبه إليه ٌ‬
‫ألن البرق والرعد يحتاجان إلى وقت بدورهما‪،‬‬ ‫إلى أسماع الناس‪ .‬وهذا طبيعي‪ّ ،‬‬
‫تحتاج إلى وقت كذلك حتى تصل إلى‬ ‫ُ‬ ‫وكذلك النور والنجوم واألفعال اإلنسانية‬
‫ذات ُه‪ ،‬على لسان املعتوه قبل األوان‪ .‬ولذلك َّ‬ ‫ُ‬
‫فإن املعتوه‬ ‫الناس‪ .‬وقد جاء نيتشه‬
‫ً‬
‫لم يخلق قيما جديدة‪ ،‬بل انتبه إلى تأثيراختفاء اإلله على الكون‪ ،‬بعدما انتشرت‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أصبح الكون متجمدا من البرد القارس وخيم عليه الليل‪،‬‬ ‫أنفاس الفراغ؛ إذ‬ ‫فيه‬
‫ولم نعد نميز فيه بين شمال وجنوب وشرق وغرب‪ .‬وبذلك اختفت أية نقطة‬
‫هادية في هذا الكون املظلم الالمتناهي‪ .‬فاختفاء هللا بعد حضور إله الطقوس‬
‫والرهبة والقيم يعني انتشارالعدمية وثقافة االنحطاط‪.‬‬
‫غير أننا نجد تأويالت مختلفة لفلسفة الدين من خالل تأويل معنى «موت‬
‫اإلله» بعد ربطها باألفالطونية والعدمية (لدى كل من هيدغر وفاتيمو)‪ .‬فقد‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصا لدى هيدغر‪ .‬فهو يعتبر أن محاولة فهم عبارة‬ ‫العدمية مدلوال‬ ‫اتخذت‬
‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫حذرنا‬‫العدمية‪ .‬ولكن هيدغري ِ‬ ‫نيتشه «إن اإلله قد مات» مترادفة مع محاولة فهم‬
‫ً‬ ‫العدمية و من القول‪ّ :‬إن كل ّ‬
‫متدين ُي ُ‬ ‫ّ‬
‫ؤمن باهلل يجد لنفسه موقعا‬ ‫من سوء فهم‬
‫َّ ٌ‬ ‫َّ َ‬ ‫ّ ُ ّ‬
‫يخية‪ ،‬وهي‬ ‫العدمية كما يلي‪« :‬العدمية حركة تار‬ ‫عرف هيدغر‬ ‫خارج العدمية‪ .‬ي ِ‬
‫َ ُ‬
‫حرك التاريخ على نحو ال ن ِعرف‬ ‫َّ َ ُ ّ‬ ‫َّ َ‬
‫ليست مجرد رأي أو مذهب نعتنقه‪ .‬إن العدمية ت ِ‬
‫ّ‬ ‫َّ َ‬
‫الغر َّبية‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫معه الصيرورة األساسية التي تتحكم فيه داخل أقدار الشعوب ِ‬
‫‪1 - Nietzsche: Die fröhliche Wissenschaft § 125, reclam, Stuttgart 2000, p. 141‬‬

‫‪33‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫يوجد‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫روحي‬ ‫ار‬ ‫مجر َد ّ‬
‫تي‬ ‫العدمي ُة َّ‬‫ّ‬ ‫ليست‬
‫ٍ‬
‫املسيحية و إلى جانب املذهب انتقل الفالسفة من اإلنسان‬ ‫َّ‬ ‫إلى جانب‬
‫المؤوِّ ل»‬‫اجملرد إىل «اإلنسان ُ‬‫ّ‬ ‫داخل‬ ‫َ‬ ‫اإلنساني و إلى جانب التنوير‬
‫ودافعوا عن «مقاربة غري‬ ‫الغربية‪ 1.‬وقد استثمرالفيلسوف‬ ‫َّ‬ ‫الثقافة‬
‫اإليطالي تجاني فاتيمو أطروحة العدمية سلطوية للحقيقة» ونسج‬
‫حوار هادف بني الفالسفة‬ ‫ً‬ ‫ُّ ً‬
‫تصورا جديدا لفلسفة‬ ‫حينما اقترح‬
‫ورجال الدين‪ ،‬بعيداً عن‬
‫الدين‪ .2‬في ضوء الحقل الداللي الغني‬
‫«االفتتان بالفرد املعزول»‬ ‫ُ‬
‫العدمية‪ ،‬أصبحت عبارة‬ ‫ّ‬ ‫الذي اكتسبته‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نيتشه «إن اإلله قد مات» فرصة سانحة‬
‫‪3‬‬
‫النتعاش الفكر الديني‪ .‬فقد ذكر زاباال ‪ Zabala‬في تقديم كتاب فاتيمو و رورتي‬
‫أن سبب االنتعاش الذي يشهده الدين ال يعود إلى تف�شي ظاهرة اإلرهاب وال إلى‬
‫تفاقم الكوا ث البيئية‪ ،‬بل يرجع باألساس إلى «موت اإلله‪ ،‬أي إلى تحويل ّ‬
‫املقدس‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫التحول الدنيو ّي الذي كان قد َ‬
‫احت ّل َّ‬ ‫إلى شأن ُدنيو ّي‪ ،‬وهو ّ‬
‫محل الصدارة في قلب‬
‫توصل الفالسفة إلى أن‬ ‫الغربي ُة»‪ 4.‬وقد ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫عرفته الحضارة‬ ‫ُ‬ ‫التطور التاريخي الذي‬
‫تم تعويض‬ ‫الفوقي قد ترك مكانه لفكرة التقدم في التاريخ؛ كما َّ‬ ‫ّ‬ ‫الفرار إلى العالم‬
‫إله الكتاب املقدس بروح االبتكار لدى اإلنسان‪ .‬وبالجملة‪ ،‬فإن فلسفة الدين‬ ‫َّ‬
‫ُُ‬
‫تواجه منذ مجيء هيغل احتضار املثل األفالطونية وإله القانون األخالقي و سلطة‬
‫فض قيم العالم املفارق كان مدخال إلى قبول قيم‬ ‫التقدم‪ .‬ذلك أن ر َ‬ ‫العقل و ّ‬
‫الح�سي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫العالم‬
‫‪1 - HEIDEGGER, Martin : Nietzsches Wort «Gott ist tot» pp. 209-267. In :Holzwege Gesa-‬‬
‫‪mtausgabe I. Abteilung: Veröffentlichte Schriften 1914-1970 Band 5 Vittorio Klostermann‬‬
‫‪Frankfurt/M 1977, p. 218.‬‬
‫‪2 - VATTIMO, Gianni & RORTY, Richard: Die Zukunft der Religion : Suhrkamp 2006.‬‬
‫‪3 - RORTY, Richard. &VATTIMO, Gianni.: die Zukunft der Religion: Suhrkamp 2006, p. 12. ‬‬
‫‪4 - RORTY, Richard. &VATTIMO, Gianni.: die Zukunft der Religion : Suhrkamp 2006, p. 12.‬‬

‫‪34‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الغربية في أبهى صورها‬ ‫كانت كتابات نيتشه في جوهرها نقدا الذعا للحضارة‬
‫هه نيتشه‬ ‫وج ُ‬
‫العقالنية‪ ،‬من خالل فكرة االنقالب على كل القيم‪ .‬فالنقد الذي ّ‬ ‫ّ‬
‫إلى سائر القيم‪ ،‬في تأويل هيدغر للقيم النيتشوية‪ ،‬لم َي ُع ْد يقبل التمييز بين قيم‬
‫ُ ْ‬
‫بحكم أن «القيمة تظل قيمة صالحة‪ ،‬ما دمنا نعتبر َّأنها‬ ‫متعالية وأخرى واقعية‪،‬‬
‫ً‬
‫صالحة‪ .‬وتظل القيمة صالحة ما دامت موضوعة على النحو الذي ُي ّ‬
‫وجه تعاملنا‬
‫معها‪ 1».‬وليس من قبيل الصدف أن يسارع هيدغر إلى ربط وجود القيم لدى‬
‫َ‬
‫نيتشه بإرادة القوة‪ ،‬بدل ْأن ُيلحقها باملنطق املتعالي‪.‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫ال يوجد إجماع بين الفالسفة حول تاريخ ميالد فلسفة الدين‪ .‬فقد اعتبر‬
‫ً‬
‫البعض أن املنزلة األخالقية التي اكتسبها الدين لدى كانط كانت إيذانا بميالد‬
‫عبدت‬ ‫فلسفة الدين‪ .‬وهناك من اعتبركذلك أن انتقاد األدلة على وجود هللا قد ّ‬
‫طريق فلسفة الدين على نحو نأى بها عن إشكاليات العصر الوسيط وعن‬
‫هواجس الجمع بين الحكمة والشريعة‪ .‬وقد اعتبر فريق آخر أن إشكالية الشر‬
‫قد حملت الفالسفة على التفكير في التوفيق بين الرسالة والتاريخ وبين املطلق‬
‫والعالم الحي‪ .‬وعليه‪ ،‬كانت االنتقادات التي وجهها الفالسفة إلى الصور املجردة‬
‫للدين عامال ساعد على النظر بصورة إيجابية إلى املحايثة و إلى تجلي الدين في‬
‫التاريخ وإلى العدمية‪ .‬وقد تأثرت فلسفة الدين عبر تطورها التاريخي بمساهة‬
‫الهيرمينوطيقا في مختلف توجهاتها‪ ،‬والسيما الهيرمينوطيقا الفلسفية والفلسفة‬
‫الهيرمينوطيقية‪ .‬وقد قدمنا أمثلة على ذلك من أعمال نيتشه وهيدغر‪ ،‬بحكم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أن أعمالهما أحدثت منعطفا حقيقيا في إعادة صياغة تخصص فلسفة الدين‪.‬‬

‫‪1 - HEIDEGGER, Martin: Nietzsches Wort «Gott ist tot» pp. 209-267. In :Holzwege Gesa-‬‬
‫‪mtausgabe I. Abteilung: Veröffentlichte Schriften 1914-1970 Band 5 Vittorio Klostermann‬‬
‫‪Frankfurt/M 1977, p. 228.‬‬

‫‪35‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫«فلسفة الدين»‬
‫«يف العصور الوسيطية»‬
‫جدل الفلسفة والدين‬
‫يف مدرسة اإلسكندرية‬
‫قراءة يف حدود التداخل‬
‫بني األفلوطينية واملسيحية‬
‫د‪ .‬منيرتمودن‬

‫‪ - 1‬الدين في أفق العقل‪ :‬قراءة في املسارالتاريخي‬


‫رغم أن الفلسفة لم تنشأ إال يوم أقر اإلنسان بسلطة العقل‪ ،‬وآمن بقدرته‬
‫على املعرفة‪ ،‬فإن استقر ًاء مفصال لتطور الفكر الفلسفي عبر مراحل التاريخ‬
‫يخبرنا أن من العسير‪ ،‬بل يكاد يكون من املستحيل‪ ،‬أن نفصل الفلسفة فصال‬
‫تاما عن مجاالت املعرفة اإلنسانية األخرى؛ فليس ثمة حدود واضحة تفصل‬
‫الفلسفة عن الفن أو الدين أو العلم أو األخالق أو السياسة‪ ،‬وليس في وسعنا‬
‫التأكيد على أن الفلسفة اتخذت لنفسها مظهرا من مظاهر االكتفاء في فترة‬
‫من فترات الزمن‪ .1‬فالشواهد التاريخية جديرة بإثبات أن بعض الفالسفة كانوا‬
‫الهوتيين (أوغسطين؛ توما اإلكويني‪ )..‬وآخرين خبراء اقتصاد (كارل ماركس؛ آدم‬
‫ْسميت)‪ ،‬وآخرين وضعوا أسس فلسفة أخالقية ترمي إلى بناء اإلنسان الفاضل‬
‫وتضع قواعد السلوك كما هو الشأن بالنسبة للرواقيين؛ وبعضهم اآلخر كانوا‬
‫ُّ‬
‫وترصد الظواهر االجتماعية بغية‬ ‫علماء اجتماع سعوا جاهدين إلى اإلصالح‬

‫‪ -1‬إبراهيم زكرياء‪ ،‬مشكلة الفلسفة‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة مصر‪ ،1971 ،‬ص‪180.‬‬

‫‪39‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫تشخيصها‪ ،‬ومحاولة نسج صورة مثالية للفرد داخل املجتمع (إميل دوركاييم؛‬
‫ُ ْ‬
‫أوغ ْست كونت‪ .)..‬وتبعا لذلك يمكن القول‪ ،‬على حد تعبير ِإ ِميل ْب َر ْه ِييه‪« :‬ال وجود‬‫ِ‬
‫لفلسفة لم تتأثربمنظومة القيم السائدة‪ ،‬ولم يتنسم صاحبها الجوالروحي الذي‬
‫عاش فيه»‪.1‬‬
‫إن مثل هذه الشواهد كفيلة بإثارة مشكلة استقالل الفلسفة وحدود املعرفة‬
‫العقلية؛ ويمكننا في هذا الصدد الحديث عن مشكلة العالقة بين الفلسفة‬
‫مستقل تماما‬
‫ٍ‬ ‫عقلي‬
‫ٍ‬ ‫تفكير‬
‫ٍ‬ ‫والدين كأبرز ما يمكن أن ُيثار بخصوص وجود نمط‬
‫عن إثارة اإلشكاالت املاورائية والقضايا امليتافيزيقية‪ .‬ولو شئنا أن نرتد إلى أولى‬
‫تجليات التداخل بين املجالين منذ أقدم العصور حتى العصر الحالي‪ ،‬ألمكننا‬
‫القول إن األساطير الدينية القديمة واملعتقدات الخرافية كانت أولى انعكاسات‬
‫هذا التداخل‪ ،2‬ومن تم أولى دوافع تدخل العقل في شؤون الدين‪ ،‬وال أدل على‬
‫التحقق من اآللهة السائدة‪ ،‬ومن‬ ‫ُّ‬ ‫ذلك أن فالسفة اليونان قديما عمدوا إلى‬
‫الطقوس الدينية املرتبطة بها بما هي نمط من أنماط األسطورة التي أنتجتها‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫املخيلة الشعبية في تلك الفترة؛ ففي القرن السادس قبل امليالد انتقد ك ِزينوفان‬ ‫ِ‬
‫‪ Xénophane‬بلهجة أقرب إلى السخرية آلهة اليونان ونظامهم الكهنوتي‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫«لو أن كل الدواب سواء املتآلفة مع اإلنسان مثل البقر والخيل‪ ،‬أو املتوحشة‬
‫أياد تستطيع أن تخط أو ترسم بها آثارا فنية مثل البشر‪،‬‬ ‫مثل السباع‪ ،‬كانت لها ٍ‬
‫لوصفت لنا آلهة على هيئتهم‪ ،‬ولرسم الخيل وكذلك البقر صورا متعددة من‬
‫اآللهة تشبه أجسادهم»‪.3‬‬

‫‪ -1‬إميل برهييه‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ :‬الفلسفة اليونانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬جورج طرابي�شي‪ ،‬الجزء‪ ،1.‬بيروت‪ :‬دار‬
‫الطليعة‪ ،1988 ،‬ص‪16.‬‬
‫‪ - 2‬إبراهيم زكرياء‪ ،‬مشكلة الفلسفة‪ ،‬ص‪183.‬‬
‫‪3 - G. S. Kirk, K. E. Raven and M. Schofied, The PresocraticPhilosophers:‬‬
‫‪A CriticalHistorywith a Selection of Texts, London: Cambridge UniversityPress, 1983, p.169‬‬

‫‪40‬‬
‫إن مثل هذه املواقف الدفاعية ما‬
‫«ال وجود لفلسفة لم تتأثر‬ ‫تلبث أن تستحيل على يد األفالطونية‬
‫واألرسطية إلى نمط فكري يتعقب بعض بمنظومة القيم السائدة‪ ،‬ولم‬
‫يتنسم صاحهبا اجلو الرويح‬
‫اآلثار الفلسفية في الكثير من املعتقدات‬
‫الذي عاش فيه»‬
‫الشعبية؛ األولى جعلت التفكير في اإلله‬
‫حقيقة خالدة مركونة بشكل فطري‬
‫داخل كل إنسان‪ ،‬فانصبت على التفكير في قضايا األلوهية خاصة ماهية اإلله‬
‫وعالقته بالعالم املادي؛ بينما الثانية اقتربت ما يكون من إثبات وجود هللا‬
‫َّ‬
‫عندما اعتقد أرسطو أن العالم يحركه سلسلة من ال ِعلل متصلة بعلة أولى غير‬
‫معلولة (هللا)‪ .1‬وموازاة مع انتشارالتيارين توصل الرواقيون باستعمال التأويالت‬
‫الفلسفية إلى استخالص مجموعة من املعاني الرمزية من الديانات الشعبية‬
‫والطقوس املرتبطة بها‪ ،‬مفادها أن الحقيقة واحد متجلية بصيغ متنوعة في هذه‬
‫الديانات‪.2‬‬
‫سيشكل ظهور الوحي فترة املسيحية املبكرة‪ ،‬وانضمامه إلى جانب العقل في‬
‫تقرير الحقيقة‪ ،‬منعطفا هاما في مسار العالقة بين الفلسفة والدين‪ ،‬ذلك أن‬
‫ُُ‬
‫املسيحية بدت منذ حداثة عهدها عقيدة روحية فائقة للعقل‪ ،‬خاصة أن املثل‬
‫األخالقية وقيم التسامح التي نادى بها املسيح‪ ،‬إضافة إلى السمة الروحية التي‬
‫‪ - 1‬يرد هذا القول من خالل البرهان الوارد في املقالة الثامنة من كتاب «الطبيعة» مفاده أن العالم قائم‬
‫على حركة عناصره‪ ،‬وكل عنصرمتحرك من هذه العناصرال بد أن توجد علة تحركه؛ فالعالم مكون من‬
‫سلسلة من املعلوالت (محركات) تحرك بعضها البعض‪ ،‬لكن ال يمكن أن تستمر هذه السلسلة إلى ما ال‬
‫نهاية‪ ،‬إذ ال بد أن تكون علة أولى اصطلح عليها أرسطو باملحرك األول الذي ُينتج ال ِعلل ويحرك األشياء من‬
‫دون أن يتحرك‪ ،‬بمعنى أن ال�شيء الذي ال علة له وفي سكون دائم هو هللا‪ُ .‬ينظر‬
‫أرسطوطاليس‪ ،‬الطبيعة‪ ،‬ترجمة‪ :‬إسحق بن حنين‪ ،‬الجزء‪ ،2.‬القاهرة‪ :‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫‪ ،1984‬صص‪845-852.‬‬
‫‪2 -Emile Boutroux, Science et Religion dans la Philosophie Contemporaine, Paris: Ernest‬‬
‫‪Flammarion, 1919, p.6‬‬

‫‪41‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫اصطبغت بها هذه الديانة‪ ،‬جعلت منها‬
‫عقيدة َخالصية تخاطب عامة الناس سيشكل ظهور الويح فرتة‬
‫وتنشد معرفة هللا على أرض الواقع‪1‬؛ املسيحية املبكرة‪ ،‬وانضمامه‬
‫إىل جانب العقل يف‬ ‫في الوقت التي اتسمت فيه الديانات‬
‫اليونانية بجمود في املنطق ألنها لم تكن تقرير احلقيقة‪ ،‬منعطفا هاما‬
‫يف مسار العالقة بني‬
‫لتتعدى مستوى الديانات الطبيعية التي‬
‫الفلسفة والدين‬
‫تقوم على النظر إلى الطبيعة واإلنسان‪،‬‬
‫وابتعدت ما يكون عن مخاطبة اإلنسان‬
‫الباطني؛ وفي اللحظة التي تعب فيها العقل اليوناني بعد قرون طويلة من البحث‬
‫الفلسفي والعلمي‪ ،‬وشعر بالعجزعن اإلتيان بجديد‪.2‬‬
‫إن مجمل هذه العوامل أصبحت نتاج تماهي الفلسفة والالهوت‪ ،‬خاصة‬
‫بعد أن استعاضت الدولة الرومانية عن الديانات الوثنية باملسيحية‪ ،‬كديانة‬
‫رسمية وكمعتقد العامة مستهل القرن الرابع امليالدي‪ ،‬وبدت املسيحية إلى جانب‬
‫الفلسفة إحدى املناهج املعرفيةاألكثرسيادة في العصراآلبائي األول والتي سيمتد‬
‫صداها إلى نهاية العصرالوسيط‪.‬‬
‫نشيرإلى أن هذا التماهي تجلى في مستواه األول كنمط دفاعي عن املعتقد خاصة‬
‫فترة االضطهاد املسيحي؛‪ ‬وكشكل من أشكال تأويل املعتقد وتقنينه في مستواه‬
‫الثاني‪ .‬فقد تحددت املهمة التي أنيطت بآباء الكنيسة قبل مجمع نيقيه (‪325‬م)‬
‫َ‬ ‫في تشكيل ُ‬
‫البنى العقدية للمسيحية‪ ،‬واتخاد موقف صريح من الفلسفة‪ ،‬خاصة‬
‫ُ‬
‫األفالطونية املحدثة‪ ،‬بعد االستفزاز الحقيقي التي شكلته‪ ،‬ويشير بهذا الصدد‬
‫ْ‬
‫كوبل ْستون قائال‪« :‬في اللحظة التي كانت الفلسفة تصب جام غضبها‬ ‫فريديريك ِ‬
‫على الكنيسة ومعتقداتها‪ ،‬كان الالهوتيون يلجؤون إلى اقتباس أسلحة خصومهم‬
‫‪ - 1‬سعيد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬تاريخ أوروبا في العصور الوسطى‪ ،‬بيروت‪ :‬دارالنهضة العربية‪ ،1976 ،‬ص‪31.‬‬
‫‪ - 2‬نجيب بلدي‪ ،‬تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها‪ ،‬القاهرة‪ :‬داراملعارف‪ ،1926 ،‬ص‪94.‬‬

‫‪42‬‬
‫للدفاع عن املسيحية بالقدرالذي شكله التهديد الفلسفي»‪.1‬‬
‫هذا املناخ العام أف�ضى إلى آراء متباينة بخصوص موقف املسيحية من تدخل‬
‫ُ‬
‫األفالطونية املحدثة في شؤونها طيلة القرنين الثاني والثالث امليالديين؛ البعض‬
‫يرى في املسيحية ِوحدة مكتفية بذاتها في غنى عن تدخل العقل إلى جانبها‪ ،‬من‬
‫َ‬
‫ُمنطلق أن بعض العقائد مثل‪ :‬الخطيئة؛ العناية اإللهية؛ الخالص؛ الطبيعة‬
‫الثالوثية لإلله واألقانيم املرتبطة به‪ ،‬وقضايا الكريستولوجيا‪ ..‬كلها مسلمات‬
‫عقدية ال تقبل البرهان أواالستدالل‪ ،‬بل إن ترتليان في إحدى أقواله املأثورة قال‪:‬‬
‫«إن العقيدة ال معقولة‪ ،‬وحيث هي كذلك فهي صحيحة»‪ .2‬في الجانب املقابل‬
‫لهذا املوقف‪ ،‬وجد بعض اآلباء في أدوات العقل مالذا آمنا لبلوغ الحقيقة‪ ،‬بحيث‬
‫سيصبح كل من العقل والوحي وسيلتين من وسائل إدراكها وبنفس القدر من‬
‫وس ِتينوس‪ 3‬لم يضع حدا فاصال‬ ‫األهمية‪ .‬نذكر على سبيل املثال ال الحصر‪ ،‬أن ُي ْ‬
‫بين الفلسفة والالهوت‪ ،‬مستندا إلى املبدأ الشهير ِ(وحدة الحقيقة)‪ ،‬مفاده‬
‫أن الحقيقة واحدة مصدرها هللا‪ ،‬تجلت معاملها في العالم السفلي بصيغتين‬
‫مختلفتين‪ :‬األولى في عقل اإلنسان‪ ،‬والثانية ُمدونة في نصوص الكتاب املقدس‪.4‬‬

‫‪ - 1‬فريديريك كوبلستون‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ :‬من أوغسطين إلى دانز سكوت‪ ،‬املجلد‪ ،2.‬القسم‪ ،1.‬ترجمة‪:‬‬
‫إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬القاهرة‪ :‬املركزالقومي للترجمة‪ ،2010 ،‬ص‪29.‬‬
‫‪2 - René Braun, «Tertullien et la Philosophie Païenne: Essai de mise au point»,Bulletin de‬‬
‫‪l’Association Guillaume Budé, no.2, Juin, 1971, p.244‬‬
‫‪ - 3‬فيلسوف ورجل دين مسيحي (‪100-163‬م)‪ ،‬ولد بفالفيانيابوليس ‪ -‬نابلس حاليا ‪ ،-‬مكنته معرفته‬
‫الواسعة بالرواقية والفيثاغورية واألفالطونية من مزج األفكارالفلسفية باملعتقدات املسيحية‪ ،‬وقد قال‬
‫غير ما مرة إن املسيحية والفلسفة تنشدان نفس الحقيقة‪ .‬من أهم إنجازاته إدخال بعض املعتقدات‬
‫األفالطونية في املسيحية‪ ،‬كالخلق األزلي للعالم والزمان من غير وجود مادة أولية‪ ،‬وتصوره لطبيعة هللا‬
‫الالمادية والالمغيرة‪ .‬وقد كانت مواقفه املدعمة للفلسفة سببا في إعدامه زمن حكم يونيوسرستكوس‬
‫‪ Junius Rusticus‬سنة ‪165‬م‪ُ .‬ينظر‬
‫‪The New CatholicEncyclopedia, Vol.8, USA: Library of congresscataloging-in Publication‬‬
‫‪Data, 2003, p.104 - 105‬‬
‫‪ - 4‬فريديريك كوبلستون‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ :‬من أوغسطين إلى دانزسكوت‪ ،‬ص‪33.‬‬

‫‪43‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫في الفترة الالحقة املمتدة من القرن الخامس امليالدي إلى حدود القرن السادس‬
‫عشر‪ ،‬أصبح العقل أداة وظيفية في متناول الكنيسة‪ ،‬ممثال في األفالطونية‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫املحدثة التي شكلت محور اهتمام علماء الالهوت‪ ،‬خاصة أوغسطين الذي‬
‫ُ‬
‫سيستمر تأثير فكره طيلة الفترة التي اصط ِلح عليها باألوغسطينية (أوغسطين؛‬
‫َ‬
‫بوناف ْنتير؛ ُجون ْس ُكوت أورجين)‪ .1‬وممثال أيضا في األ سطية التي ُ‬ ‫َْ‬
‫ستفرز‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫أنسليم؛‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫التيار ْ‬
‫اإلسكوالئي‪( 2‬توما اإلكويني؛ أل ِبرت الكبير)‪ .3‬ورغم ما يوجد من تباين بين‬
‫التيارين بخصوص رسم حدود التداخل بين العقل واإليمان‪ ،‬إال أن فكرة رفض‬
‫اإليمان الدغمائي الذي ال يرقى إلى مستوى ُّ‬
‫التعقل‪ ،‬كانت أقل ما يمكن االتفاق‬
‫حوله‪ ،‬لهذا كانت جل أفكارهم استعارات أفلوطينية ونتاجا ضخما لعدد من‬
‫اإلجابات العقالنية على قضايا الهوتية‪ ،‬نذكرمنها البرهان األنطولوجي على وجود‬
‫هللا؛ اإلطار العام لنظرية املعرفة؛ حدود التداخل بين العقل والوحي؛ طبيعة‬
‫الكائن اإللهي وطريقة تأثيره في املوجودات؛ تأصيل الخير وتحييد الشر؛ تفسير‬
‫‪ - 1‬هي املرحلة التي عرفت تطابقا تاما بين الفلسفة والدين وسيادة الروح األفالطونية‪ ،‬ويكفي أن نجد‬
‫مجموعة من املفاهيم الالهوتية مقتبسة من هذه الروح ويوجد ما يماثلها في الفكر املسيحي‪ ،‬من قبيل‬
‫االتحاد باإلله باعتباره أصال للخيرواحتقارالجسد كوعاء للنفس التي تتوق من خالل عملية خالصية عن‬
‫طريق التأمل والتطهرواحتقاراملادة‪ ،‬إلى نشدان الخلود والتقرب إلى ما هو إلهي‪ُ .‬ينظر‬
‫إبراهيم محمد تركى‪ ،‬مدخل إلى الفلسفة املسيحية في أوروبا َّإبان العصر الوسيط‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الكتب‬
‫القانونية‪ ،2010 ،‬ص‪81 - 80.‬‬
‫‪ - 2‬وتسمى أيضا الفلسفة املدرسية (أو اإلسكوالئية) نسبة إلى الفلسفة التي نشأت وتطورت في مدارس‬
‫ُ‬
‫‪Schola‬في عهد شارملان (‪814 - 742‬م) في فرنسا وانجلترا‪ ،‬بحيث اقترنت كلمة ‪ Scholasticism‬باملدرس‬
‫وخريج هذه املدرسة في آن واحد‪ ،‬وكانت معظمها إما مدارس رهبان ملحقة باألديرة‪ ،‬أو مدارس أسقفية‬
‫لتعليم رجال الدين الذين ال يريدون الرهبنة‪ُ .‬ينظر‬
‫إتينجلسون‪ ،‬الفلسفة املسيحية في العصور الوسطى‪ ،‬ترجمة‪ :‬إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬بيروت‪ :‬دار‬
‫التنوير‪ ،2009 ،‬ص‪26.‬‬
‫‪ - 3‬يقع هذا التصنيف في الدراسة التأريخية للعصرالوسيط‪ ،‬التي قام بها بالخصوص موريس دوولف‬
‫‪ De Wulf Maurice‬حول «تاريخ الفلسفةالوسيطية»‪ ،‬حيث يقول حول هذه الشخصية‪« :‬يستحق‬
‫ألبيرت الكبيرلقب أميرالفالسفة والالهوتيين البارزين في فترة اإلسكوالئيةالوسيطية»‪ُ .‬ينظر‬
‫‪M. de Wulf, Histoire de la Philosophie Médiévale, Louvrain: Institut supérieur de Philos-‬‬
‫‪ophie, 1900, p.262‬‬

‫‪44‬‬
‫نظرية الخلق من العدم وأصل العالم‪..‬‬
‫َش َّكل الدين والعقل يف فرتة‬ ‫‪ - 2‬الفلسفة الدينية في مدرسة‬
‫العصور القديمة وحدتني‬ ‫اإلسكندرية‬
‫منفصلتني مستقلتني‪ ،‬فقد‬ ‫شكل الدين والعقل في فترة العصور‬
‫َ َّ‬
‫كان النشاط الفكري يف هذه‬
‫القديمة وحدتين منفصلتين مستقلتين‪،‬‬
‫الفرتة ال يخلو من أمرين‪:‬‬
‫فقد كان النشاط الفكري في هذه الفترة‬
‫حر تمثهل معتقدات‬ ‫إما دين ٌ‬
‫حر تمثله‬‫ال يخلو من أمرين‪ :‬إما دين ٌ‬
‫الشعوب الرشقية القديمة‪ ،‬أو‬
‫تأمل يستند إىل العقل والربهان‬ ‫معتقدات الشعوب الشرقية القديمة‪،‬‬
‫وتمثهل الفلسفة اليونانية‬ ‫أو تأمل يستند إلى العقل والبرهان‬
‫وتمثله الفلسفة اليونانية‪ .‬ولم تظهرأولى‬
‫إرهاصات االلتحام بين الفلسفة والدين‬
‫إال في القرن الرابع قبل امليالد‪ ،‬خاصة بعد حملة اإلسكندراملقدوني ‪Alexandre‬‬
‫‪ le Grand1‬للشرق التي كرست سيادة الفكر اليوناني‪ .‬وهكذا أمكننا القول إن‬
‫الفكر اإلنساني في هذه الفترة بدأ يعرف مزجا بين الثقافة اليونانية الدخيلة‬
‫واملعتقدات الشرقية املحلية‪ .‬وهو األمر الذي مهدت له أيضا سيادة فلسفة‬
‫الشك في القرون الثالثة قبل امليالد‪ ،‬وهي أواخر املدارس الفلسفية اليونانية‬
‫التي اتخذت املنهج الشكي سبيال للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬مزعزعة بذلك الثقة في‬
‫املعرفة الفلسفية‪ّ ،‬‬
‫وممهدة الطريق للرجوع إلى املعرفة االيمانية التي امتاز بها‬
‫ِ‬
‫الشرق القديم‪.2‬‬
‫‪ - 1‬تذكراملصادرالتاريخية أنه باإلضافة إلى احتالل اإلسكندراملقدوني (‪356‬ق‪.‬م‪323 -‬ق‪.‬م) بلدان كثيرة‬
‫من العالم الشرقي مثل مصر وآسيا الصغرى وبالد فارس وبابل‪ ،‬فإن تأثيره على الثقافة الشرقية كان‬
‫بالحجم الذي يفوق تأثيره العسكري‪ ،‬فقد مزج الثقافة اإلغريقية بالثقافات الشرقية‪ ،‬وأنتج هذا األمر‬
‫ما يسمى عند املؤرخين بالحضارة «الهلنستية»‪ ،‬بحيث كانت اإلسكندرية مركزها‪ُ .‬ينظر‬
‫‪EncyclopediaBritannica, London: Britannica Concise Encyclopedia. INC,2006,p.44‬‬
‫‪ - 2‬كامل محمدمحمد عويضة‪ ،‬أوغسطين فيلسوف العصوص الوسطى‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫‪ ،1993‬ص‪8.‬‬

‫‪45‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ويمكن القول إن الفكر اليوناني ً‬
‫بدءا‬
‫لم تعد الفلسفة هتتم‬ ‫من العصر اإلسكندري في القرن الرابع‬
‫بمواضيع امليتافزييقيا‬ ‫قبل امليالد راح يبحث عن مبتغاه في‬
‫الفلسفة التي لم تعد منحصرة فقط في والكشف عن أرسار الكون‬
‫فلسفة عقل نظري‪ ،‬بل في الفلسفة التي والطبيعة والبحث عن أسس‬
‫الدولة املثالية‪،‬بل اتجهت نحو‬
‫تطورت إلى فلسفة عقلي عملي ومن تم‬
‫إيجاد قواعد األخالق اليت‬
‫تحولت في النهاية إلى فلسفة دينية أو فكر‬
‫ٍ ترسم اإلطار العام للسلوك‬
‫ديني‪ ،1‬فلم تعد الفلسفة تهتم بمواضيع‬
‫واملعامالت‬
‫امليتافيزيقيا والكشف عن أسرار الكون‬
‫والطبيعة والبحث عن أسس الدولة‬
‫املثالية‪،‬بل اتجهت نحو إيجاد قواعد األخالق التي ترسم اإلطار العام للسلوك‬
‫واملعامالت‪ ،‬ومن هنا انصرف الفكر اليوناني من االهتمام بالتفكير املجرد إلى‬
‫االهتمام باألخالق العملية‪.‬‬
‫حيث يبدوأن البحث عن طريق النجاة كان هدفا من أهداف كل فالسفة العصر‬
‫سواء فالسفة اليونان أو فالسفة مدرسة اإلسكندرية‪ ،‬فالظروف السياسية‬
‫املضطربة والحروب املستمرة والصراع على السلطة‪ ،‬والفوارق االجتماعية التي‬
‫أنتجت الظلم والتميزبين األفراد والطبقات‪ ،‬كل ذلك كان يعني بالضرورة أن يتجه‬
‫طريق للخالص الفردي‪ ،‬وال سبيل إلى هذا الخالص إال‬ ‫الفالسفة إلى البحث عن ٍ‬
‫َّ‬
‫بالرجوع إلى الدين‪ .‬نجد هذا األمر عند الرواقيين واألبيقوريين ل ـا هجروا ميدان‬
‫السياسية‪ ،‬واتجهوا نحو القوانين األخالقية والبحث عن أساليب لنجاة األفراد‪،‬‬
‫مما أدى إلى ظهور دين يستهوي الفرد أكثرمما يستهوي الدولة‪.2‬‬
‫‪ - 1‬نجيب بلدي‪ ،‬تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها‪ ،‬ص‪94.‬‬
‫‪ - 2‬مصطفى النشار‪ ،‬مدرسة اإلسكندرية بين التراث الشرقي والفلسفة اليونانية‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار املعارف‪،‬‬
‫‪ ،1995‬ص‪42.‬‬

‫‪46‬‬
‫ومما ينبغي التأكيد عليه أن أسباب هذا التحول ال يمكن إرجاعها بالضرورة‬
‫إلى األسباب السياسية التي سبق ذكرها‪ ،‬أو إلى عالقة التأثيروالتأثربين الثقافتين‬
‫الشرقية واليونانية‪ ،‬بقدرما يرجع إلى سببين ذاتيين أساسيين‪ ،‬أولهما تعب العقل‬
‫بعد قرون طويلة من البحث الفلسفي والعلمي وشعوره بالعجز عن اإلتيان‬
‫بجديد أو اكتشاف جديد‪ ،‬أما السبب الثاني لتحول الفكراليوناني‪ ،‬هو «احتياج‬
‫النفوس‪ ،‬بعد إخفاق العقل هذا‪ ،‬إلى إيمان ُيضفي عليها الحياة‪ ،‬ولم يكن لهذا‬
‫االحتياج أن يبلغ مرتبة التعبير الصريح‪ ،‬ويبحث عن الرضا في الدين والوحي‪ِ ،‬إ ْن‬
‫ََ‬
‫لم تكن العقول قد ل َحت ولو عن بعد هذه األديان واملعتقدات الشرقية التي‬
‫َت َهب أصحابها بعض الرضا على األقل»‪ ،1‬ويصح القول هنا إن اختالط الفلسفة‬
‫اليونانية باملعتقدات الشرقية ناتج عن هذا االحتياج الذي قاد في النهاية إلى‬
‫فلسفة دينية‪.‬‬
‫اله ُرم ِس َية‪ 2‬التي ظهرت في القرن األول امليالدي أولى انعكاسات‬‫وتمثل املؤلفات ُ‬
‫هذه املزاوجة‪ ،‬حيث نهجت أسلوبين للتفكيرساعدا على إحياء الفكراألفالطوني‬
‫في هذه الفترة وتوجيه الفكر الفلسفي نحو التصوف والالهوت‪ ،‬وهي التأمل في‬
‫هللا عن طريق العالم‪ ،‬والتأمل في هللا عن طريق االبتعاد عن العالم‪ ،‬لهذا نجد‬
‫النزعة التوحيدية بارزة بقوة في كتاباتهم‪ ،‬خاصة الفصل السادس من الكتاب‬
‫‪ - 1‬نجيب بلدي‪ ،‬تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها‪ ،‬ص‪.94‬‬
‫ُ‬
‫‪ - 2‬هي مجموعة من املعتقدات الدينية واألفكار الفلسفية التي ُيعتقد أنها ألفت في الفترة املنحصرة‬
‫بين القرن الثالث قبل امليالد والقرن الثالث امليالدي‪ ،‬وتنسب إلى «هرمس املثلث العظمة‬
‫‪ »HermésTrismégisme‬أو «هرمس العظيم ثالثا» وهي شخصية تضاربت اآلراء حول أصلها‪ ،‬ينسبها‬
‫املصريون القدماء إلى أخنوخ‪ ،‬واليونانيين القدماء إلى إرميس‪ ،‬واملسلمين إلى النبي إدريس‪ ،‬بينما يذكر‬
‫ُ‬
‫هيرودوت أن هذه املؤلفات هي مجموعة من امل ُتون التي كتبها أصحابها بإلهام من اإلله املصري طوط‬
‫‪ Thot‬في العصر البطلمي‪ ،‬وقد تم ترجمتها من اللغة املصرية القديمة إلى اللغة اليونانية بفضل كهنة‬
‫مصريين يتقنون اللغة اليونانية‪ُ .‬ينظرميرساإلياد‪ ،‬تاريخ األفكارواملعتقدات الدينية‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد الهادي‬
‫عباس‪ ،‬الجزء‪ ،2.‬دمشق‪ :‬داردمشق‪ ،1987 ،‬ص‪322.‬‬
‫‪Lindon  Say Jones, Encyclopedia of Religion,Vol.6, USA: Editor In Chief. Thomson Gale,‬‬
‫‪2005, p.3938‬‬

‫‪47‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫املعتقداله ُرم ِ�سي‬
‫ُ‬ ‫األول املعنون بـ(الخيرهو اإلله األحد وال خيرسواه)‪ ،‬حيث ورد في‬
‫أن تعدد اآللهة سخافة‪ ،‬وأن اإلله منزه عن العالم املادي والجسماني‪ ،1‬وصانع‬
‫العالم عن طريق الكلمة (اللوغوس) ليكون مرئيا في مخلوقاته‪ .2‬واإلنسان‬
‫باعتباره مقياس الكون هوأبدع املخلوقات‪ ،‬يتكون من قسمين أساسيين‪ :‬الجسم‬
‫والنفس؛ فالنفس جوهر روحاني أو «ابنة هللا» التي يعتقلها الجسم املادي‪ ،‬وال‬
‫َ‬
‫يستطيع هذا األخير أن يرتقي إلى مرتبة املالئكة إال إذا ت َج َّرد من شهوات الجسد‬
‫عن طريق الطقوس والتعبدات التطهيرية‪.3‬‬
‫الهرم�سي‬ ‫واتحد العقل بالوحي‪ ،‬وأصبح الفكر ُ‬ ‫امتزجت إذن الفلسفة بالدين َّ‬
‫واسطة نقل الفلسفة الالهوتية الذي ظهرت بوادرها مع أفالطون واتضحت معاملها‬
‫في فلسفة مدرسة اإلسكندرية خاصة في األفالطونية املحدثة واليهودية الغنوصية‬
‫واملسيحية الغنوصية‪ ،‬لهذا نجد فيلون اإلسكندري ‪ 4Pilon d’Alexandrie‬في‬
‫القرن األول امليالدي لم يمزج فقط بين الفلسفة اليونانية واملعتقدات اليهودية‪،‬‬
‫بل اعتبرفالسفة اليونان تالميذ مو�سى تتلمذوا وأخدوا التوراة على يديه‪.‬‬
‫وقد نجد في القرن الثاني بوادر نشأة فلسفة دينية مسيحية متأثرة‬
‫باالنفالطونية املحدثة‪ ،‬نجدها خاصة عند يوحنا في تصوره ملفهوم «الكلمة»‪،‬‬

‫‪1- HermésTrismégisme, Traduction:Louis Menard,Livre.1, Chapitre.6, Paris: Académie des‬‬


‫‪Inscriptions et Belles Lettres. Librairie Académique, 1867, p.42‬‬
‫‪2-Ibid, Livre.1, Chapitre.1, p.6‬‬
‫‪ - 3‬يوسف زيدان‪ ،‬دوامات التدين‪ ،‬القاهرة‪ :‬دارالشروق‪ ،2012 ،‬ص‪ 31 - 30.‬‬
‫‪ - 4‬فيلون اإلسكندري (‪ 20‬ق‪.‬م ‪50 -‬م)‪ ،‬حسب املوسوعة اليهودية‪ ،‬من أوائل وأبرز الفالسفة اليهود‬
‫الذين أدخلوا الفلسفة الهلنستية في املعتقدات اليهودية‪ ،‬واألمر راجع إلى املدارس الفلسفية التي‬
‫تأثر بها في اإلسكندرية وهي األفالطونية والرواقية واألرسطيةوالفيثاغورية املحدثة‪ .‬استعمل فيلون‬
‫التفسير الرمزي لشرح التوراة‪ ،‬وهي طريقة تعتمد على التأويل واملجازية‪ ،‬كما أن نظريته في «اللوغوس»‬
‫لقيت استجابة كبيرة من طرف الجماعات املسيحية املبكرة التي كانت في طور تشكيل إطار فلسفي‬
‫للكريستولوجيا‪ُ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪Sara E.Karesh and Mitchell M.Hurvitz, Encyclopedia of Judaism, New York: Fact on‬‬
‫‪File,2006.p.390-391‬‬

‫‪48‬‬
‫‪1‬‬
‫وعند إكلمندس اإلسكندري ‪Clément‬‬
‫امزتجت الفلسفة بالدين‬ ‫‪ d’Alexandrie‬في مزج املعتقدات‬
‫وا َّتحد العقل بالويح‪ ،‬وأصبح‬ ‫املسيحية بالفلسفة اليونانية‪ ،‬وعند‬
‫الفكر الهُرميس واسطة نقل‬ ‫تلميذه أوريجين ‪- 185( Origine‬‬
‫الفلسفة الالهوتية الذي‬
‫‪252‬م)‪ 2‬في توظيف الفلسفة لتفسير‬
‫ظهرت بوادرها مع أفالطون‬
‫بعض مقاطع سفر التكوين‪ .‬وفق هذا‬
‫واتضحت معاملها يف فلسفة‬
‫السياق‪ ،‬اختلف مؤرخو الفلسفة‬
‫مدرسة اإلسكندرية خاصة يف‬
‫الغربية اختالفا كبيرا حول تحديد معنى‬
‫األفالطونية املحدثة والهيودية‬
‫دقيق ملدرسة اإلسكندرية الفلسفية‪،‬‬
‫الغنوصية واملسيحية الغنوصية‬
‫وال شك أن تعدد االتجاهات الفكرية‬
‫وتداخل بعضها البعض أشكل على‬
‫َ ْ َ‬
‫املؤرخين تحديد اإلطار الفكري والزمني لهذه املدرسة‪ ،‬فجاك َماتر ‪M.Jacques‬‬
‫‪1864 - 1791( Matter‬م) يعتبرأن فكرهذه املدرسة امتداد لفكرأفالطون وممثلي‬
‫مذهبه‪ ،‬يضم مزيجا من التيارات أهمها الفلسفة اليهودية والفلسفة املسيحية‬
‫والفكر الغنو�صي‪ ،‬إال أنه يخلط أحيانا بين مدرسة اإلسكندرية كفكر فلسفي‬

‫‪ - 1‬إسمه الالتيني تيتوسفالفيوسإكليمندس‪ ،‬ولد بأثينا منتصف القرن الثاني وتوفي بين عامي ‪210‬م‬
‫و‪215‬م‪ .‬شملت ثقافته الفلسفة واألدب والشعر‪ ،‬وامليثولوجيا‪ .‬ما يميز أعماله الفكرية هو الجمع بين‬
‫التعاليم الالهوتية املسيحية والفلسفة الهيلنستية‪ ،‬وقد صاغ هذا العمل في كتاب من ثمانية أجزاء‬
‫سماه «املتفرقات ‪ ،» Stromata‬معتبرا أن الفكر الفلسفي السليم هو الذي يوحد بين العالم وهللا‪ ،‬وال‬
‫يمكن لهذا الفكر أن يقوم إال في إطار تعاليم اإلنجيل‪ ،‬فهو يعتبركل فكر يخالف ذلك غنوصية وهرطقة‪.‬‬
‫ُينظر‪:‬‬
‫‪Lindon say Jones, Encyclopedia of Religion, Vol.3, op.cit, p.1823‬‬
‫‪ -2‬استغل أوريجين جانبا مهما من معارفه الفلسفية في تأويل النصوص املقدسة على غرار‬
‫فيلونوإكلمندس اإلسكندريين‪ .‬واملقصود من التأويل هنا إخراج النص من معناه الن�صي ‪/‬الحرفي إلى‬
‫معناه الرمزي‪ُ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪Henry Chadwick, The Church In Ancient Society FromGalilee to Gregory the Great, New‬‬
‫‪York: Oxford UniversityPress, 2001, P.139‬‬

‫‪49‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫وبين متحف اإلسكندرية‪ ،‬حينما يصنف‬
‫الفلسفة ضمن العلوم التي شملها هذا الواقع أن الفلسفة يف مدرسة‬
‫املتحف مثل الرياضيات والفلك والتاريخ اإلسكندرية لم تتضح معاملها‬
‫إال مع فيلون اإلسكندري يف‬
‫وعلوم اللغة واملوسيقى‪ .1‬والواقع أن‬
‫القرن األول امليالدي‪ ،‬بينما‬
‫الفلسفة في مدرسة اإلسكندرية لم‬
‫متحف اإلسكندرية توقف‬
‫تتضح معاملها إال مع فيلون اإلسكندري‬
‫نشاطه العليم قبل هذا‬
‫في القرن األول امليالدي‪ ،‬بينما متحف‬
‫الزمن بكثري‬
‫اإلسكندرية توقف نشاطه العلمي‬
‫قبل هذا الزمن بكثير‪ .‬ونجد ْفريدير ْ‬
‫يك‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ ْ‬
‫ك ِوبل ْس ُتون ‪ F.Copelston‬يحاكي تعريف ماتر حين يقسم الفلسفة اليونانية‬
‫إلى خمسة مدارس متتالية في الزمن‪ ،‬آخرها مدرسة اإلسكندرية التي يمثلها‬
‫أمون يوس ساكاس وأفلوطين وماريوس فيكتور يوس أبرز رواد األفالطونية‬
‫املحدثة‪ .2‬بينما نجد نجيب بلدي ُيقر بالبعد املنهجي في تعريفه‪ ،‬ويعتبر أن مدرسة‬
‫اإلسكندرية هو ذلك التفكير الذي اتخذ أقوى مظاهره وأوضحها عند أفلوطين‬
‫ُ‬
‫مؤلف «التساعيات»‪ ،‬فهي ال تعدو أن تكون مرادفة لـ«األفالطونية املحدثة» التي‬
‫أسسها أفلوطين‪ ،3‬والتي قامت منهجيا كنقيض ملدرسة أثينا‪ ،‬األولى من حيث‬
‫توفيقها بين الدين والفلسفة‪ ،‬والثانية من حيث أنها تمثل فكرا يعتمد على‬
‫املنطق والعقل املجرد‪.‬‬
‫وتبقى أغلب هذه اآلراء متفقة في جعل األفالطونية‪ ،‬التي ظهرت انعكاساتها‬
‫في األفالطونية املحدثة‪ ،‬أهم تيار ساد فكر فالسفة مدرسة اإلسكندرية‪ ،‬وإذا‬
‫‪1- M.Matter, Histoire de L’écoleD’alexandrie Comparée aux Principles Ecoles Contempo-‬‬
‫‪raines, Vol.1, Paris: Libraire-Editeur de Paris Historique, 1840, P.1-2‬‬
‫‪2- Frederick Copelston, a History of Philisophy: Greece and Rome, Vol.1, New York: Pub-‬‬
‫‪lished by Doubleday. An Image Book, 1993,p.379-383‬‬
‫‪ - 3‬نجيب بلدي‪ ،‬تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها‪ ،‬ص‪56.‬‬

‫‪50‬‬
‫تجاوزنا الخلط الذي ال يميز بين مدرسة اإلسكندرية الفلسفية في القرن األول‬
‫امليالدي‪ ،‬وبين العلوم التي شملها متحف اإلسكندرية‪ ،‬أمكننا القول أن مدرسة‬
‫اإلسكندرية الفلسفية هي مزيج من الفكر اليوناني واملعتقدات الشرقية التي‬
‫بلغ أوج اتحادهما في األفالطونية املحدثة ثم تفرعت مع احتكاكها باليهودية‬
‫واملسيحية والغنوصية إلى تيارات فكرية فرعية‪ ،‬أبرزها الفلسفة اليهودية التي‬
‫يمثلها فيلون االسكندري‪ ،‬والغنوصية املسيحية التي ظهرت مع أكلم ندوس‬
‫وأرجين واألفالطونية املسيحية التي أسسها أمونيوسوأفلوطين‪.‬‬
‫مثلت املسيحية في ظل هذا التنوع الفكري املعتقد التي استلهم العديد من‬
‫التيارات الفكرية الى غاية القرن الخامس امليالدي‪ ،‬وإن كان من الضروري تجاوز‬
‫التفصيل في األسباب التي جعلت التيارات الفلسفية في مدرسة اإلسكندرية تتحد‬
‫وتنصهر داخل املعتقد‪ ،‬إال أن ما نريد التأكيد عليه هو تسجيل لحظة تاريخية‬
‫يلتقي فيها العقل اإلسكندري باإليمان املسيحي‪ ،‬ونقصد هنا النصف الثاني من‬
‫َ ُ ُّ‬
‫القرن األول امليالدي الذي أخدت فيه األقدار تخط لإلسكندرية طريقا آخر في‬
‫عالم جديد‪ ،‬وظهور مرقس ‪ -‬مؤلف إنجيل مرقس ‪ -‬كأول مبشر باملسيحية في‬
‫اإلسكندرية‪ ،‬وأول مؤسس لكنيسة مسيحية إسكندرية‪ ،‬وواضعا أسسا جديدة‬
‫للفكر املسيحي في ظل التيارات السائدة‪ .‬وملا لم يكن في وسع اإلسكندرية أن‬
‫تتخلى في ظل هذا الدين الجديد (أي املسيحية) عن مركزها املرموق ومكانتها في‬
‫آفاق الفكر والفلسفة‪ ،‬وملا كانت مركزا ممثال للفلسفة اليونانية الغربية والروح‬
‫الدينية الشرقية معا‪ ،‬أضحت اإلسكندرية بؤرة للثقافات املختلفة والعديدة‪،‬‬
‫ً ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وق ِّدرلها بذلك أن تؤدي دورا بارزا في انتشاراملسيحية‪ ،‬وانصهارمعتقداتها داخل‬
‫التيارات السائدة‪ ،‬ويمكن القول إنه ليس هناك حضارة أثرت في تطور املسيحية‬
‫مثلما فعلت مصر‪ ،‬وليس ثمة مدينة تركت بصماتها على املعتقد املسيحي بصورة‬
‫أشد عمقا من اإلسكندرية‪ .‬وليس من املبالغة في �شيء القول إن اإلسكندرية مثلت‬

‫‪51‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫عقل العالم املسيحي الذي قدم تراثا فلسفيا صبغ كل فترات تاريخه الفكري‪.1‬‬
‫في هذا الوسط الذي امتزجت فيه الفلسفة بالدين‪ ،‬بدأت التيارات الفكرية‬
‫الكبرى في اإلسكندرية تتخذ موقفا صريحا من املسيحية‪ ،‬فبعضها عارض هذا‬
‫الدين الجديد من حيث عقائده الدخيلة التي تتعارض مع الحقيقة الفلسفية أو‬
‫من حيث احتوائه أسس إضعاف االمبراطورية الرومانية الحاكمة‪ ،‬وبعضها اآلخر‬
‫وجد في املسيحية إجابات إيمانية عجز العقل عن بلوغها‪ ،‬وهو ما يمثلها تدقيقا‬
‫وحدة الحقيقة التي تنشدها األفلوطينية واملسيحية على السواء‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ - 3‬التوافق بين الفلسفة واملسيحية في األفالطونية املحدثة‬
‫ثنائية الفلسفة والدين من أبرز ما قامت عليها األفالطونية املحدثة في القرن‬
‫الثالث امليالدي‪ ،‬فطبيعة هذا التيار سواء في شقه األول الذي يمثله الفكر‬
‫االنتقائي‪ ،‬وهو انتقاء التصور الفلسفي للدين من بين العديد من املذاهب‬
‫الفلسفية كاألرسطية واألفالطونية والرواقية‪ ،‬أو في شقه الثاني الذي يمثل‬
‫النزعة الدينية الروحية الصوفية املستمدة من األديان الشرقية‪ ،‬أثارت جدل‬
‫استعمل في أوساط‬ ‫املؤرخين حول تداخل الفلسفة والدين في هذا الفكر‪ ،‬وقد ُ‬
‫الكتابات الفلسفة عبارة «األفالطونية املحدثة» كتعبيرعن امتداد وإعادة إحياء‬
‫األفالطونية‪ ،‬والتسمية هنا ليس من باب إطالق الجزء على الكل‪ ،‬إنما ذلك التشابه‬
‫الكبير القائم بين أفلوطين‪ ،‬مؤسس األفالطونية املحدثة‪ ،‬وأفالطون الذي وضع‬
‫إطارا فكريا لفلسفة إلهية أو الهوت فلسفي‪ ،2‬وعلى هذا الحد قامت األفالطونية‬
‫أفالطونية وأصبحت ممثلة لجل التيارات السائدة في مدرسة‬
‫ٍ‬ ‫املحدثة على أصو ٍل‬
‫اإلسكندرية سواء الفلسفية أو الدينية (اليهودية أو املسيحية) أو الغنوصية بما‬
‫في ذلك األفكاراملتعلقةبالتنجيم والسحروالعرافة‪.3‬‬
‫‪ - 1‬رأفت عبد الحميد‪ ،‬الدولة والكنيسة‪ :‬قيصرواملسيح‪ ،‬الجزء‪ ،3.‬القاهرة‪ :‬دارقباء‪ ،1999 ،‬ص‪22 - 21.‬‬
‫‪ - 2‬نجيب بلدي‪ ،‬تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها‪ ،‬ص‪62.‬‬
‫‪ - 3‬يوسف كرم‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬بيروت‪ :‬دارالقلم‪ ،1990 ،‬ص‪285‬‬

‫‪52‬‬
‫لم تكن إذن فلسفة األفالطونية‬
‫ما نريد التأكيد عليه هو‬ ‫املحدثة أصيلة باملعنى العميق للكلمة‪،‬‬
‫بمعنى أنها لم تضع تصورا فلسفيا تسجيل حلظة تاريخية يلتيق‬
‫فهيا العقل اإلسكندري‬ ‫متكامال مستقال‪ ،‬إنما قامت على توفيق‬
‫باإليمان املسييح‪ ،‬ونقصد‬
‫‪ Eclecticisme1‬وتلفيق ‪Syncrétisme2‬‬
‫هنا النصف الثاين من القرن‬
‫بين الفلسفات التي كانت سائدة حينها‬
‫األول امليالدي الذي أخدت‬
‫في اإلسكندرية من جهة والقيم الدينية‬
‫خ ُّط لإلسكندرية‬ ‫فيه األقدار َت ُ‬
‫من جهة أخرى‪ ،3‬واملالحظ أن املسيحية‬
‫طريقا آخر يف عالم جديد‬
‫املبكرة وجدت في األفالطونية املحدثة‬
‫مالذا يؤمن لها الدفاع عن معتقداتها‬
‫التي كانت في طور التأسيس في القرون امليالدية الثالثة األولى‪ ،‬على أن تصبح أهم‬
‫ً‬
‫ابتداء من القرن الرابع امليالدي إلى ما بعد العصرالوسيط‪.‬‬ ‫ركائزتأويل املعتقد‬
‫‪ 1-1‬أفلوطين مؤسس األفالطونية املحدثة‬
‫ليس من قبيل الصدفة أن تنشأ فلسفة أفلوطين ‪ Plotin‬انعكاسا للوضع‬
‫السيا�سي املتدهور في اإلسكندرية أو في مصرعموما في القرن الثالث امليالدي‪ ،‬أو‬

‫‪ - 1‬التوفيقية مصطلح يوناني ‪ έκλέγειυ‬يدل على منهج يقوم على تأليف تيار فكري متماسك يضم‬
‫العديد من التيارات الفكرية الفلسفية أو الدينية األخرى من دون أن يحدث تنافر أو تعارض‪ ،‬وقد ظهر‬
‫هذا املنهج بالخصوص في مدرسة اإلسكندرية في فترة املسيحية املبكرة‪ ،‬وظهر عند العرب في العصر‬
‫األندل�سي عند بعض فرق علم الكالم التي حاولت التوفيق بين الشريعة االسالمية وبعض املفاهيم‬
‫اليونانية‪ُ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪The News CatholicEncycloperdia,Vol.5, op.cit , P.46‬‬
‫‪ - 2‬التلفيق نزعة فلسفية دينية أبعد ما يكون من تيار فلسفي أو ديني منظم‪ ،‬يرمي إلى التأليف‬
‫والجمع امللفق الذي ال يقوم على أسس علمية للعديد من التيارات‪ ،‬نجده هذا املنهج بالخصوص‬
‫في التيارات الغنوصية كاملانوية أو املندائية أو عند بعض ممثليها كباسيليدس (عاش في القرن ‪2‬م)‬
‫وفالونتينوس(‪100‬م‪160 -‬م)‪ُ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪Lindon say Jones, Encyclopedia of Religion, Vol.13, op.cit, p.8926‬‬
‫‪ - 3‬نجيب بلدي‪ ،‬تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها‪ ،‬ص‪56‬‬

‫‪53‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫نتيجة للخليط الديني الشعبي األسطوري‬
‫السائد‪ ،‬فمن الناحية السياسية أدى املالحظ أن املسيحية املبكرة‬
‫الصراع حول السلطة واالنقسامات التي وجدت يف األفالطونية املحدثة‬
‫مالذا يؤمن لها الدفاع عن‬
‫عرفتها مصر إلى دويالت صغيرة وسيطرة‬
‫معتقداهتا اليت كانت يف طور‬
‫الجيش على قرارات الحكم وتدخله في‬
‫التأسيس يف القرون امليالدية‬
‫شؤون الدولة‪ ،‬إلى حالة من الالاستقرار‬
‫الثالثة األوىل‬
‫األمني‪ ،‬وفي ظل املوقف العدائي‬
‫َ‬
‫لإلمبراطورية الرومانية أ َّيد املصريون‬
‫َ‬
‫كل من يملك السيادة على الحكم أ َم ًال منهم في االستقراروالتغيير‪ .1‬وعلى املستوى‬
‫آل الوضع إلى تعدد اآللهة اإلغريقية وسادت املعتقدات الشرقية‬ ‫الديني العقدي َ‬
‫وتداخلت فيما بينها‪ ،‬فمن آسيا الصغرى ظهرت عبادة اإللهة «األم العظيمة‬
‫سيبلي» ‪ ،Cybele‬ومن بالد الفرس ظهرعبادة اإلله مثرا ‪ ،Methra‬ومن حضارات‬
‫مصر القديمة ظهرت عبادة اإللهة إيزيس ‪ ،Isis‬باإلضافة إلى معتقدات أخرى‬
‫تتعلق بالبعث والقضاء والقدر‪.2‬‬
‫هذا الوضع السيا�سي والديني وصفه لنا إمييلبرهييه بقوله‪« :‬ال شك أن هذه‬
‫الفترة هي األكثر اضطرابا في تاريخ مصر‪ ،‬فقد تعرضت اإلمبراطورية الرومانية‬
‫إلى غزو َب ْربري شماال‪ ،‬وإلى غزو فار�سي شرقا‪ ،‬باإلضافة إلى اضطرابات سياسية‬
‫داخلية‪ ،‬هذا الوضع نتج عنه الجهل بالفلسفة واآلداب والعلوم وتعدد املعتقدات‬
‫سواء معتقدات آسيا الصغرى أو املعتقدات الشرقية أو املعتقدات اليونانية‬
‫والتي جعلت املؤرخ في حيرة وانبهارإزاءها»‪.3‬‬
‫‪ - 1‬آيورس بل‪ ،‬مصرمن اإلسكندراألكبرإلى الفتح العربي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد اللطيف أحمد علي‪ ،‬بيروت‪ :‬دار‬
‫النهضة‪ ،1973 ،‬صص‪152 - 148.‬‬
‫‪ - 2‬حربي عباس َعطيتو‪ ،‬مالمح الفكر الفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية القديمة‪ ،‬بيروت‪ :‬دار‬
‫العلوم العربية‪ ،‬ص‪131.‬‬
‫‪3 - Emile Bréhier, La Philosophie de Plotin, Paris : Librairie Philosophique De J. Vrin, 1998, p.1‬‬

‫‪54‬‬
‫إن مظاهر الخراب الذي عاشه العالم الروماني وتمزق النفوس جراء الكوارث‬
‫التي لحقت به جعل الناس يسعون إلى الخالص بشتى الوسائل‪ ،‬هذا الخالص‬
‫يدعو إلى التجرد من الوجود الخارجي بما هو شر ال خير فيه‪ ،‬ونشدان الحقيقة‬
‫الدينية كحقيقة عليا يفنى فيها اإلنسان‪ ،‬لهذا ال بد أن تلعب املذاهب القائلة‬
‫بالخالص (األفالطونية والرواقية بالخصوص) الدور األكبر في تشكيل اإلطار‬
‫الروحي لألفالطونية املحدثة‪ .1‬وعموما فإن هذه األوضاع هي التي مهدت لنشأة‬
‫األفالطونية املحدثة‪ ،‬وأفلوطين نفسه لم يكن سوى انعكاس لظرف عصره‪.‬‬
‫يعتبركتاب «التاسوعات‪ 2»Ennéades ‬أهم املصادرالتاريخية التي من خالله‬
‫باقة من أربعة‬‫صلة عن أفلوطين وفلسفته‪ ،‬والكتاب عبارة عن ٍ‬ ‫نصل إلى حياة ُم َف َّ‬
‫وخمسين رسالة َع ِهد أفلوطين إلى تلميذه فرفريوس بجمعها وتدوينها‪ ،‬ويظهر من‬
‫محتويات الكتاب أن هذه الرسائل ال تضع أصوال ملذهب فلسفي مستقل إنما‬
‫هي تعليم شفهي وسلسلة محاضرات تتعلق بالسعادة والعناية اإللهية واألقانيم‬
‫اإللهية الثالثة والطبيعة والتنجيم والوجود اإللهي‪.3‬‬
‫ولد أفلوطين بمصر سنة ‪205‬م بمدينة ليقوبوليس ‪ Lycopolis‬التي تعرف‬
‫َ‬
‫حاليا بأسيوط‪ ،‬وقد ت َع ّمد تجاهل تفاصيل أسرته ووطنه‪ ،‬ذلك حسب ما يذكر‬
‫ُ‬
‫عنه فرفريوس «كان يخجل من وجوده في جسم»‪ ،‬وتلك حالة نفسية كانت ت ْج ِبره‬

‫‪ - 1‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬خريف الفكراليوناني‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة النهضة املصرية‪ ،1970 ،‬ص‪116.‬‬
‫َ‬ ‫‪ - 2‬تأثرفرفريوسبالفيثتاغورية التي ُت ّ‬
‫قدم اعتبارا للعددين ستة وتسعة‪ ،‬وق َّسم املقاالت األربع والخمسون‬
‫ِ‬
‫التي يتضمنها «التاسوعات» إلى ستة أجزاء في كل جزء تسعة مقاالت‪ ،‬وهذا يعني ضرب األعداد ‪،6x9‬‬
‫فالتاسوعات إذن هو ست مجموعات لتسع مقاالت‪ ،‬يتناول التاسوع األول األخالق‪ ،‬والثاني الطبيعيات‪،‬‬
‫والثالث مواضيع تتعلق بالعالم الكلي‪ ،‬والرابع يختص بالنفس‪ ،‬والخامس بالروح اإللهية‪ ،‬والسادس‬
‫بالخيروالواحد‪ُ .‬ينظر‪:‬‬
‫فرفريوس الصوري‪ ،‬تاسوعاتأفلوطين‪ ،‬ترجمة‪ :‬فريد جبر‪ ،‬بيروت‪ :‬مكتبة لبنان‪ ،1997،‬ص‪.‬ي‪ -‬ك‬
‫‪ُ - 3‬ينظر‪:‬‬
‫‪Emile Brehier, La Philosophie de Plotin, op.cit, p.10-11‬‬
‫‪DominicO’Meara,Plotin : Une Introduction aux Ennéades, op.cit,p.1‬‬

‫‪55‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫على أن يتجاهل ذكر أسالفه وأبويه ووطنه‪ .1‬ترعرع أفلوطين بليقوبوليس حتى‬
‫بلغ العشرين من عمره‪ ،‬وحوالي ‪232‬م استقر باإلسكندرية حيث تتلمذ على يد‬
‫الفيلسوف أمونيوسساكاس‪ 2‬ولزمه مدة أحد عشر عاما آخذا عنه الفلسفة‬
‫َ‬
‫اليونانية وأت َّم معرفته بها‪ ،‬واعتقادا منه أن هناك سبيال آخر إلى الحقيقة غير‬
‫الحقيقة التي تنشدها الفلسفة اليونانية‪ ،‬والتي تتمثل في الحكمة التي تعكسها‬
‫التجربة الصوفية‪ ،‬سافر إلى الهند من أجل ذلك في فترة شبابه‪ .‬ومن أجل نفس‬
‫الهدف وحوالي ‪242‬م نجده يواكب الحملة العسكرية التي شنها إمبراطور الروم‬
‫الثالث جورديان ‪ Gordian‬ضد الفرس حيث اطلع على املعتقدات الفارسية‬
‫والحكمة الهندية‪ ،‬إال أن فشل هذه الحملة العسكرية ومقتل اإلمبراطور‬
‫جورديان في بالد العراق جعل أفلوطين وهو في األربعين من عمره‪ ،‬يفر نحو روما‬
‫وهناك أنشأ مدرسة لتعليم الفلسفة وعمل بها مرشدا ومعلما بقية حياته‪.3‬‬
‫اعتبر أفلوطين أكبر ممثلي الفلسفة الدينية الصوفية‪ 4‬التي تسعى في شق كبير‬‫ُ‬
‫حد َدة لكل معرفة‪ ،‬وتكون بذلك‬ ‫منها إلى الوصول إلى حالة من الو ْجد كغاية ُم ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التجربة الصوفية األساس لكل نظرية في املعرفة‪ ،‬ونجد ألول مرة يضع تصور‬
‫محددات هذه التجربة ويبين ماهيتها سواء في جانبها الذاتي أو في الجانب الذي‬
‫‪ - 1‬فرفريوس الصوري‪ ،‬تاسوعات أفلوطين‪ ،‬ص‪1.‬‬
‫‪DominicO’Meara, Plotin : Une Introduction aux Ennéades, op.cit, p.2‬‬
‫‪ - 2‬أمونيوسساكاس (‪175‬م‪250 -‬م) فيلسوف مصر‪ ،‬ترك املعتقدات املسيحية التي نشأ عليها وارتد‬
‫إلى الفلسفة اليونانية بعد أن اطلع بعمق على فلسفة أفالطون‪ ،‬يعتبر فكره توفيقا بين األفالطونية‬
‫بالخصوص وبعض األفكاراألريسطية خاصة املسائل التي تتعلق باهلل والعالم والنفس‪ ،‬وكان نتاج فكره‬
‫أن وضع أسس األفالطونية املحدثة التي أنشاها أفلوطين‪ ،‬لهذا لم تظهرمالمح هذا التيارواضحة في فكره‬
‫إنما اكتمل وانتقلت إلى ما بعده عن طريق تلميذه أفلوطين‪ ،‬وهو الذي صرح في غيرما مرة أنه كان شديد‬
‫اإلعجاب والتعلق بأستاذه أمونيوس‪ ،‬من ذلك قوله‪« :‬وجدت ضالتي في هذا الرجل (أي أمونيوس) الذي‬
‫كنت أبحث عنه» ُينظر‪:‬‬
‫‪Porphyruset Luc Brisson, La Vie de Plotin, Paris: Librairie Philosophique J. Vrin, 1992, p.4‬‬
‫‪ - 3‬فرفريوس الصوري‪ :‬تاسوعاتأفلوطين‪ ،‬ص‪.‬ط‪-‬ي‬
‫‪ - 4‬ول وايرلديورانت‪ ،‬قصة الحضارة‪ ،‬قيصر املسيح أو الحضارة الرومانية‪ ،‬الجزء‪ ،11.‬ترجمة‪ :‬محمد‬
‫بدران‪ ،‬بيروت‪ :‬دارالجيل‪ ،‬ص‪199.‬‬

‫‪56‬‬
‫يصف فيه مسيرة النفس في حركتها‬
‫اع ُترب أفلوطني أكرب ممثيل‬ ‫النازلة التي تبدأ من الواحد (اإلله) الذي‬
‫الفلسفة الدينية الصوفية اليت‬ ‫يفيض عنه العقل وكل املوجودات‪،‬‬
‫تسىع يف شق كبري مهنا إىل‬ ‫ُ‬
‫وهو العالم املحسوس الذي تسجن فيه‬
‫الو ْجد‬
‫الوصول إىل حالة من ِ‬ ‫َ‬
‫النفس وت َّت ِحد فيه مع املادة‪ ،‬أوفي حركتها‬
‫كغاية ُم ِّ‬
‫حددَ ة لكل معرفة‪،‬‬
‫الصاعدة نحو تحررها من هذه املادة‬
‫وتكون بذلك التجربة الصوفية‬
‫وعودتها إلى طبيعتها اإللهية واتحادها‬
‫األساس لكل نظرية يف املعرفة‬
‫مع هذا الواحد‪ .1‬فقد بقي هذا التصور‬
‫قائما في فكره حتى اللحظات األخير من‬
‫حياته‪ ،‬فقد قال لصديقه زيتوس ‪ Zethos‬وهو يحتضر «اآلن سأسعى جاهدا‬
‫لكي يرتفع الجانب اإللهي في إلى ما هو إلهي‪ ،‬وتعود النفس إلى أصلها»‪.2‬‬
‫فأفلوطين طبقا للتجربة الصوفية ُيعلي من شأن النفس ويحتقرالجسد‪ ،‬من‬
‫ذلك ما يروي عنه فرفريوس أنه رفض الوقوف أمام املصورين اعتبارا أن جسمه‬
‫أقل منه شأنا‪ ،‬وكان بسيطا في عاداته متواضعا في معامالته بحيث كان نباتيا في‬
‫طعامه مستثنيا أكل اللحوم بما في ذلك الدواجن‪ .3‬ترى العديد من الدراسات‬
‫أن من الصعوبة بمكان إدراج األفلوطونية ضمن سلسلة الفلسفة اليونانية‬
‫القديمة التي امتدت إلى القرون امليالدية الثالثة األولى‪ ،‬والواقع أن الصبغة‬
‫الدينية والروح الصوفية التي تتسم بها األفالطونية املحدثة جعلت هذا املذهب‬
‫ُ‬
‫تيارا دينيا أكثر منه فلسفيا‪ ،‬فقد توصل أ ِف ِريلكامرون‪ C.Averil‬خالل قراءة‬
‫مستفيضة ألهم أعمال أفلوطين إلى أن أفكاره ال تعدو أن تكون إال مزيجا من‬
‫األرسطية والرواقية متحدة في األفالطونية ‪ -‬وهي االنتقائية في األفالطونية املحدثة‬
‫‪ - 1‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬خريف الفكراليوناني‪ ،‬ص‪113 - 112.‬‬
‫‪ - 2‬حربي عباس َعطيتو‪ ،‬مالمح الفكرالفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية القديمة‪ ،‬ص‪141.‬‬
‫‪ - 3‬فرفريوس الصوري‪ ،‬تاسوعات أفلوطين‪ ،‬ص‪.‬ط‪-‬ي‬

‫‪57‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫التي سبقت اإلشارة إليها‪ ،-‬واستند إلى أن‬
‫ترى العديد من الدراسات‬ ‫األرسطيين في اإلسكندرية شأن أمثالهم في‬
‫أن من الصعوبة بمكان إدراج‬
‫أثينا‪ ،‬كانوا يمثلون األفالطونية املحدثة‪،‬‬
‫األفلوطونية ضمن سلسةل‬
‫لهذا بات هذا التيار فلسفة دينية تسعى‬
‫الفلسفة اليونانية القديمة‬
‫باألساس إلى وضع الهوت عملي عن طريق‬
‫اليت امتدت إىل القرون‬
‫التأمل والزهد‪ .1‬وبغض النظر عن كون‬
‫امليالدية الثالثة األوىل‪ ،‬والواقع‬
‫األفالطونية املحدثة فلسفة الهوتية أو‬
‫أن الصبغة الدينية والروح‬
‫امتدادا للفلسفة اليونانية القديمة‪،‬‬
‫الصوفية اليت تتسم هبا‬
‫فإنه ال يمكن إنكار جانبها الالهوتي التي‬
‫األفالطونية املحدثة جعلت هذا‬
‫املذهب تيارا دينيا أكرث‬
‫تعكسه التجربة الصوفية خاصة إذا ما‬
‫منه فلسفيا‬
‫استحضرنا روح الديانات الشرقية التي‬
‫تأثرت بها‪.‬‬
‫ ‪ 1-2‬الفلسفة الدينية في فكرأفلوطين‬
‫تقوم فلسفة أفلوطين في مجملها على وصف لحالة النفس كسبيل يربط‬
‫الو ْحدة‪ ،‬بالعالم املحسوس املادي الذي يمثل‬
‫العالم املعقول (اإللهي) الذي يمثل ِ‬
‫الكثرة‪ ،‬لهذا حاول جاهدا وضع نسق فلسفي يبين من خالله كيفية صدور الكثرة‬
‫عن الوحدة في مرحلة أولى‪ ،‬وهو طريق فلسفي هابط تهبط فيه النفس في تسلسل‬
‫تراتبي من العالم املعقول إلى العالم املحسوس‪ ،‬ثم في مرحلة ثانية كيفية عودة‬
‫الو ْحدة واتحادها بها‪ ،‬وهو الطريق الصوفي الصاعد الذي تتجرد من‬ ‫الكثرة إلى ِ‬
‫خالله النفس من العالم املحسوس وتصعد وتتحد بالعالم املعقول‪ .2‬من أجل‬
‫‪1 -Averil Cameron, The Mediterranean World In LateAntiquity AD 395 - 600, London:‬‬
‫‪Routledge in an Imprint of The Taylor, 1993, p.133‬‬
‫‪ُ - 2‬ينظر‪ :‬مصطفى النشار‪ ،‬مدرسة اإلسكندرية بين التراث الشرقي والفلسفة اليونانية‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار‬
‫املعارف‪ ،1995 ،‬ص‪147.‬‬
‫‪Emile Bréhier, La Philosophie de Plotin, op.cit, p.23‬‬

‫‪58‬‬
‫هذا األمر يفترض أفلوطين وجود عاملين‪ :‬عالم املعقوالت وعالم املحسوسات‪،‬‬
‫فالعالم املعقول توجد فيه ثالثة مبادئ اصطلح عليها أفلوطينباألقانيم الثالثة‪،‬‬
‫ً‬
‫وهي الواحد أواملبدأ األول (اإلله)‪ ،‬والعقل والنفس‪ .‬وتعتبرالنفس حدا وسطا بين‬
‫العاملين ذلك أن جانبها املعقول مرتبط بالعالم املعقول‪ ،‬بينما جانبها املادي هو ما‬
‫تتحقق به صور املعقوالت في العالم املحسوس‪.1‬‬
‫يصعب تحديد تصور دقيق لإلله كأقنوم أول في الثالوث األفلوطيني‪ ،‬فاإلله‬
‫ْ‬
‫هو الواحد بدون أي كثرة أو تعدد أو انقسام‪ ،‬وكل ما قد ُيلصق به من صفات هو‬
‫انتفاء له وانتقاص من طبيعته‪ ،‬فال يمكن أن يتصف باإلرادة ألنه إذا كان ُمريدا‬
‫فمعنى ذلك أنه في حاجة إلى غيره‪ ،‬وال يمكن أن يتصف بالحياة ألن الحياة تقوم‬
‫كون الحياة‪ ،‬وال يمكن أن يتصف بال ِعلم أوالفكر‬ ‫ُ ّ‬
‫على رغبات وإرادات ومجموعها ي ِ‬
‫الوحدة‪ ،‬أي تركيب‬ ‫ألن العلم يقت�ضي التركيب من عدة أشياء لكي تتكون منها ِ‬
‫معان جزئية الستخراج معنى كلي‪ .‬كما أن في العلم ثنائية بين العاقل والتعقل‬ ‫ٍ‬
‫ْ‬
‫القسمة‪.‬‬ ‫من جهة وبين العاقل واملعقول من جهة أخرى‪ ،‬وفي الحالتين معا توجد ِ‬
‫ُّ‬
‫كما ال يمكن أن نقول عنه موجود ألن كل موجود متأثر أي خاضع للتأثر ٍ‬
‫بفعل‬
‫أوبانفعال‪ ،‬ومما هو خاضع ومتأثر فهو متغير‪ ،‬واإلله ثابت غير متغير بحال من‬ ‫ٍ‬
‫األحوال‪.2‬‬
‫للوحدة‬ ‫إن األساس في بلورة األفلوطيين مفهومه عن اإلله نابع من مفهومه ِ‬
‫(أو الواحد) كأساس لنظريته‪ ،‬ويقت�ضي تصوره لهذا «الواحد» تجريده من كل‬
‫الصفات التي من شأنها أن توحي بوجود تركيب أو تعدد‪ ،‬لهذا ينفي عنه العقل‬
‫والوجود وكل الصفات‪ ،‬فاإلله إذن هو ذلك «ال�شيء» الذي يستحيل وصفه أو‬
‫ُْ‬
‫نعته أو إدراكه‪ ،‬وهو الغني ال ـك َتفي بذاته‪.3‬‬
‫‪ - 1‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬خريف الفكراليوناني‪ ،‬ص‪124.‬‬
‫‪ - 2‬حربي عباس َعطيتو‪ ،‬مالمح الفكرالفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية القديمة‪ ،‬ص‪148-149.‬‬
‫‪ - 3‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬خريف الفكراليوناني‪ ،‬ص‪125 .‬‬

‫‪59‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ال يمكن أن نقول إذن عن اإلله إال أنه كامل كماال مطلقا يفوق كل تصور‪ ،‬وإزاء‬
‫ً‬
‫استحالة تصوره يكون الصمت جزءا من معرفته‪ ،‬إال أن لفرط كماله وال نهائيته‬
‫وال محدوديته يصدر عنه غيره بالضرورة‪ .1‬والصدور هنا نتيجة لعملية الفيض‬
‫الستخراج الكثرة من الوحدة أو استخراج املوجودات عن الوحدة (اإلله)‪ ،‬إال أن‬
‫هذه العملية في أساسها تستعين بعملية أخرى هي التأمل‪ .‬فاملوجودات تصدر‬
‫عن الواحد (اإلله) بفيض من ذاته دون أن يحدث هذا الفيض نقصا في الذات‬
‫اإللهية‪ ،‬تماما كما تفيض األشعة عن الشمس دون أن يحدث نقصا في ذات‬
‫ْ‬
‫الشمس‪ ،‬أو كما أنقل ال ِعلم الذي أحمله إلى شخص آخر دون أن يحدث هذا‬
‫النقل نقصا‪ .2‬فاألول تأمل ذاته ففاض عنه العقل أو اللوغوس ‪( Nous‬األقنوم‬
‫الثاني) وهو األقل كماال من األول‪ ،‬والعقل حينما تأمل الواحد فاضت عنه‬
‫النفس (األقنوم الثالث) بحيث يتصل جزؤها األعلى بالعالم املعقول بينما يتصل‬
‫جزؤها األدنى بالعالم املحسوس‪ ،‬وعن النفس فاضت باقي املوجودات في العالم‬
‫املحسوس‪ .‬بهذا الترتيب التسلسلي يعطي األول الثاني صورته‪ ،‬ويعطي الثاني‬
‫الثالث صورته‪ ،‬وهكذا حتى نصل إلى آخر األشياء‪ ،‬على أن تكون هذه األشياء‬
‫َ ّ‬
‫األخيرة غيرحاملة ألي صورة وهو ما ُيش ِكل املادة‪.3‬‬
‫فاملادة أدنى املراتب في املعقوالت وهي مكمن الشر‪ ،‬ومع أن الجزء من النفس‬
‫الذي هبط إلى العالم املحسوس واتحد به ظل سجين املادة‪ ،‬إال أنها تظل دائما‬
‫على صلة بالعالم املعقول الذي انبثقت منه‪ ،‬ومن ثم سيظل جزء منها متصل‬
‫بالجزء العلوي‪ .‬لهذا ُيلح أفلوطين على ضرورة التجربة الصوفية وتطهير النفس‬
‫وتنقيتها من شوائب املادة (امللذات والشهوات) وتدريبها على التأمل الخالص‬
‫للحقائق العليا‪ ،‬وحين تصل إلى العالم العلوي بعد هذا التطهير وتلك التنقية‪،‬‬
‫‪ - 1‬رأفت عبد الحميد‪ ،‬الفكراملصري في العصراملسيحي‪ ،‬القاهرة‪ :‬دارقباء‪ ،2000 ،‬ص‪55.‬‬
‫‪ - 2‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬خريف الفكراليوناني‪ ،‬ص‪131.‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص‪131.‬‬

‫‪60‬‬
‫حينئذ ستدرك أنها سمت إلى أصلها‬
‫فسد وال املادة أدىن املراتب يف املعقوالت‬ ‫اإللهي وأصبحت خالدة ال ُت َ‬
‫تندثر‪ .1‬تعتبر القضايا املحورية في فكر ويه مكمن الرش‪ ،‬ومع أن‬
‫أفلوطين سواء األقانيم الثالثة أو مسألة اجلزء من النفس الذي هبط‬
‫إىل العالم احملسوس واتحد‬
‫الفيض أو تحرر النفس من شرور املادة‬
‫به ظل سجني املادة‪ ،‬إال أهنا‬
‫وعودتها إلى طبيعتها اإللهية‪ ،‬من القضايا‬
‫تظل دائما عىل صةل بالعالم‬
‫التي أثارت فضول مؤرخي الفلسفة حول‬
‫املعقول الذي انبثقت منه‬
‫أصول هذه النظريات وطبيعتها‪ ،‬ففكرة‬
‫الفيض عن الطريق التأمل تعود إلى‬
‫َ‬
‫جذور بعيدة في الديانة املصرية القديمة‪ ،‬وتتمثل خاصة في األسطورة «امل َنفية»‬
‫(نسبة إلى مدينة َم َنف املصرية) التي تفسرنشأة العالم عن اإلله «بتاح»‪ ،‬وتقول‬
‫تصور مظاهر الطبيعة ثم أبدعها عن‬ ‫األسطورة أن ثمة عقال مسيطرا خالقا َّ‬
‫طريق التعقل والتأمل‪ .2‬كما أن فكرة الثالوث كانت منتشرة في البيئة اإلسكندرية‬
‫ال سيما الثالوث املصري «إيزيس وأوزيرس وحورس»‪ ،‬ولو أن هناك اختالفا بين‬
‫ثالوث أفلوطين والثالوث املصري من حيث أن األول أقام تصوره على أساس‬
‫عقالني في العالم املعقول بينما الثاني قائم على أساس أسطوري‪ ،‬إال أن بعض‬
‫االجتهادات الالهوتية التي ظهرت في اإلسكندرية في القرون الثالثة األولى للميالد‬
‫فسرت الثالوث املصري على أساس فلسفي‪ ،‬ومن املحتمل أن يكون قد تأثر‬
‫أفلوطين بهذه االجتهادات خاصة تلك التي قام بها صديقه أوريجين‪.3‬‬
‫َّ‬
‫والواقع حتى ولو َسلمنا باألصول اليونانية لهذه الفلسفة فإننا نرى األثر‬
‫ً‬
‫الشرقي باديا بنزعته الدينية واتجاهه الصوفي‪ ،‬إننا نجد أنفسنا في بيئة مختلفة‬
‫‪ -1‬حربي عباس َعطيتو‪ ،‬مالمح الفكرالفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية القديمة‪ ،‬ص‪141.‬‬
‫‪ -2‬رأفت عبد الحميد‪ ،‬الفكراملصري في العصراملسيحي‪ ،‬ص‪57.‬‬
‫‪ -3‬مصطفى النشار‪ ،‬مدرسة اإلسكندرية بين التراث الشرقي والفلسفة اليونانية‪ ،‬ص‪148.‬‬

‫‪61‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫َ‬
‫كل االختالف عن التي أ ِلفناها في الفلسفة‬
‫فكرة الفيض عن الطريق‬ ‫ْ‬
‫اليونانية باملعنى الصحيح‪ ،‬إذ يمثل‬
‫التأمل تعود إىل جذور بعيدة‬
‫أفلوطين في الواقع الروح الشرقية أكثر‬
‫يف الديانة املرصية القديمة‪،‬‬
‫من تمثيله الروح اليونانية‪ ،‬وإن كان ال‬
‫وتتمثل خاصة يف األسطورة‬
‫يمثل الروح اليونانية في ال�شيء‪ .1‬لهذا‬
‫«الم َنفية» اليت تفرس نشأة‬
‫َ‬
‫اهتمت العديد من الدراسات بهذا‬
‫العالم عن اإلله «بتاح»‬ ‫ُ‬
‫الجانب‪ ،‬من ذلك دراسة دافيد ن ِولس‬
‫‪ D. khnowles‬في كتابه «تطور الفكر‬
‫الشرقي ‪ »The Evolution of MedievalThought ‬التي توصل من خاللها‬
‫إلى أن صياغة نظريات أفلوطين عن العاملين وهبوط النفس إلى العالم املادي‬
‫وعودتها إلى طبيعتها اإللهية ووضع تصور عن اإلله في شكل ثالوث‪ ،‬كل ذلك بهدف‬
‫تحويل وضع ديني قائم على التعدد إلى وضع ديني قائم على التوحيد‪ .2‬ودراسة‬
‫أفريلكامرون ‪C.Avril‬حول األديان في العصور القديمة‪ ،‬والتي كشفت عن العمق‬
‫الفكري لألفلوطينية في سعيها نحو فهم الطبيعة اإللهية مبتدعة الهوتا مستقال‬
‫مبنيا على أسس علمية جعل منها نظاما دينيا مستقال‪ .3‬ونفس الرأي أيضا توصل‬
‫حد في جمع الحقيقتين‬‫إليه عبد الرحمن بدوي بقوله‪« :‬إن أفلوطين ُو َّفق إلى أبعد ّ‬
‫ٍ‬
‫الفلسفية والدينية‪ ،‬فتجربته الدينية املفهومة على نحو صوفي بدت واضحة منذ‬
‫البداية‪ ،‬ولئن اهتم األفالطونيون واألرسطيون والرواقيون بالدين‪ ،‬فإن ذلك ال‬
‫يجعل من هذه الفلسفة عندهم فلسفة دينية باملعنى الذي نجده عند أفلوطين»‪.4‬‬

‫‪ - 1‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬خريف الفكراليوناني‪ ،‬ص‪150.‬‬


‫‪2 -David Khnowles, The Evolution of MedievalThougt ,London: Longman Group Limited.‬‬
‫‪Britich Library Cataloging In Publication Data, 1995, p.23‬‬
‫‪3 -Averil Cameron: The Mediterranean World In LateAntiquity AD 395-600, op.cit, p.133‬‬
‫‪ - 4‬عبد الرحمن بدوي‪ :‬خريف الفكراليوناني‪ ،‬ص‪115‬‬

‫‪62‬‬
‫‪ 1-3‬األفالطونية املحدثة واملسيحية‬
‫تقوم األفالطونية املحدثة واملسيحية في أصولهما على مفاهيم الهوتية‬
‫مشتركة‪ ،‬قائمة في جزء كبيرمنها على نوع من التداخل والتشابه‪ ،‬وإن كان يصعب‬
‫تحديد العالقة بينهما وحدود التداخل بين االتجاهين‪ ،‬إال أن بعض الدراسات‬
‫َر َّجحت تأثيراألفلوطونية باملسيحية‪ ،‬خصوصا إذا ما استحضرنا أن بداية القرن‬
‫حد املفاهيم األفلوطينية باملسيحية‪ ،‬وكان من‬ ‫الرابع امليالدي اختلطت إلى أبعد ّ‬
‫ٍ‬
‫بين ممثلي هذا االتجاه الفلسفي رجال دين مسيحيون أمثال أوريجين‪ ،‬وربما يقوم‬
‫هذا السبب دليال لتبرير ما أحدثته املسيحية في األفالطونية املحدثة‪ .‬والفرضية‬
‫الثانية تنكر أية صلة قائمة بين املسيحية واألفالطونية املحدثة‪ ،‬خاصة في ظل‬
‫غياب أي إثبات تاريخي يربط االتجاهين‪ ،1‬لهذا يكون التشابه القائم بينهما َم َر ُّده‬
‫املشترك التاريخي وأوضاع العصر‪ ،‬فسعي االتجاهين إلى نشدان الخالص مثال‬
‫كسبيل لتحرير النفس من شوائب املادة‪ ،‬ال يعكس بالضرورة تأثير أحدهما في‬
‫اآلخر بقدر ما يرجع إلى االضطرابات السياسية واالجتماعية التي عرفها العالم‬
‫الروماني‪ ،‬ومن هنا باتت وحدة الحقيقة التي تنشدها األفالطونية املحدثة‬
‫واملسيحية هي ما يوهم بوجود هذه الصلة‪ ،2‬من ذلك أن مبدأ الخالص في‬
‫االتجاهين ومفهومهما لتحرر النفس يوحي بوجود تناقض‪ ،‬فاملسيحية أقامت‬
‫هذا التصور على أحداث تاريخية متربطة بأشخاص (املسيح)‪ ،‬عكس األفالطونية‬
‫املحدثة التي وضعته على أسس عقلية صرفة‪ ،‬هذا التناقض نلمسه أيضا في‬
‫مساربحث النفس عن الخالص بين العالم املادي املحسوس واإلله ‪ ،‬فاملسيحية‬
‫‪ - 1‬ال يوجد أي دليل تاريخي يثبت اتصال أفلوطين اتصاال مباشرا باملسيحية‪ ،‬واألرجح أن تصوره للنفس‬
‫وخالصها كعقيدة سائدة في ديانات اإلسكندرية (اليهودية واملسيحية)‪ ،‬انتقلت إليه عن طريق الفكر‬
‫اإلسكندري السائد‪ .‬وترجح بعض أن يكون هذا املفهوم انتقل إليه بواسطة أمنيوسساكاس اعتبارا أنه‬
‫كان مسيحيا وارتد عنها بعد ذلك إلىالفلسفة‪ُ .‬ينظر‬
‫‪A.H.Armstrong, Plotinus, London: George Allen et Unwin, Printed In Great Britain, 1953,‬‬
‫‪p.24 - 25‬‬
‫‪ - 2‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬خريف الفكراليوناني‪ ،‬ص‪117 - 116.‬‬

‫‪63‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫أنزلت املقام اإللهي إلى مستوى املادة‪ ،‬وجعلت حركة الطبيعة اإللهية في اتجاه‬
‫نازل نحو الطبيعة اإلنسانية من حيث أن اإلله نفسه تولى عملية الخالص‬
‫وتجسد في العالم املحسوس‪ ،‬عكس ذلك تبدأ عملية الخالص في األفالطونية‬
‫املحدثة من العالم املحسوس وتنطلق في ُس ُم ّ ٍو نحو العالم املعقول (اإللهي)‪،‬‬
‫فالخالص بالنسبة للمسيحية يكون في اتجاه نازل بينما األفالطونية املحدثة‬
‫جعلته في اتجاه صاعد‪ .‬هناك اختالف آخر من نفس طبيعة االختالف السابق‪،‬‬
‫يتعلق األمر بالتصورين األفلوطيني واملسيحي للتثليث‪ ،‬فهذا التصور وإن كان في‬
‫ظاهره متشابها‪ ،‬إال أنه يقوم في جوهره على نوع من االختالف‪.‬‬
‫ففي الدراسة التي قام بها سيمون جيل ‪ S.Jull‬من خالل كتاب «تاريخ مدرسة‬
‫اإلسكندرية» نجد أن التشابه بين األقانيم الثالثة ال يشمل إال اللفظ فقط‪،‬‬
‫فأفلوطين لم يجعل منها نفسها الواحد (اإلله) بل جعلها في مرتبة منفصلة وأقل‬
‫منه‪ ،‬ومن ناحية أخرى ال يوجد أي تشابه بين صفات هذه األقانيم في التصورين‪،‬‬
‫لكون أن أفلوطين جعل األقانيم في العالم املعقول‪ ،‬عكس املسيحية التي أنزلتها‬
‫إلى العالم املحسوس‪ ،‬لهذا أصبح من الواضح نفي أي صلة أو تأثيربين املسيحية‬
‫واألفالطونية املحدثة‪ 1.‬غير أن هناك رأيا ثالثا يرجح تأثير األفالطونية املحدثة في‬
‫املسيحية‪ ،‬بحيث يكاد يكون الحديث عن دور األفالطونية واألفالطونية املحدثة‬
‫في تشكيل الالهوت املسيحي محورا مشتركا بين العديد من الدراسات التي أرخت‬
‫للفكر الفلسفي والديني في العصر اإلسكندري‪ ،2‬هذا الالهوت الذي ما لبث‬
‫أن تحول تحت هذا التأثير إلى فلسفة مسيحية شكلت األساس في بناء املعتقد‬
‫والدفاع عنه‪ .‬وأذكر هنا على سبيل املثال ال الحصر الدراسة التي تحدث فيها‬
‫‪1 -Jules Simon, Histoire de L’école d’Alexandrie, Paris : Imprimerie de H .Fournier, 1844,‬‬
‫‪p.17-1178‬‬
‫‪ - 2‬من بين هذه الدراسات‪ :‬برتراند رسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ :‬الفلسفة القديمة‪ ،‬ترجمة‪ :‬زكي نجيب‬
‫محمود‪ ،‬الجزء‪ ،1.‬القاهرة‪ :‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪ ،2010 ،‬ص‪438.‬‬
‫‪A.H.Armstrong, Plotinus, op.cit, p.28‬‬

‫‪64‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِول َيام ِإنج ‪ W.Inge‬عن املسيحية‪ ،‬إلى‬
‫يف الدراسة اليت قام هبا سيمون‬
‫جانب الهلنستية اليونانية واألوريجينية‪،‬‬
‫جيل ‪ S.Jull‬من خالل كتاب‬
‫كواحدة من التيارات الثالثة التي تأثرت‬
‫«تاريخ مدرسة اإلسكندرية»‬
‫نجد أن التشابه بني األقانيم‬
‫باألفلوطينية‪ ،‬بل يعتبرها جزءا من‬
‫الثالثة ال يشمل إال اللفظ فقط‬
‫البنية الالهوتية للمسيحية خاصة‬
‫الهوت أوغسطين‪ .1‬وعن نفس التأثير‬
‫يقول برتراند رسل‪« :‬لن تجد فلسفة‬
‫أخرى مثل األفالطونية املحدثة استطاعت أن تقترن بالالهوت املسيحي دون أن‬
‫َ‬
‫يحدث بينهما تعارض‪ ،‬إنه يستحيل استحالة مطلقة أن ت ْف ِصل األفلوطينية عن‬
‫ُ‬
‫املسيحية دون أن ت َم َّزق املسيحية تمزيقا»‪.2‬‬
‫إن الحديث عن صلة األفالطونية املحدثة باملسيحية هو في الواقع نهاية‬
‫الصراع الفلسفي الديني الذي ظهر بداية القرن الرابع قبل امليالد‪ ،‬صراع‬
‫الفلسفة بما يمثلها العقل اليوناني وصراع الفكر الشرقي بما تمثلها املسيحية‬
‫خاصة‪ ،‬ولئن كانت هذه العالقة في حداثة نشأتها تتأرجح بين الرفض كما هو‬
‫ْ‬
‫الحال عند ِسل ْس ُيوس ‪ 3Celse‬وفرفريوس وبين التوفيق كما هو الحال عند أكلم‬
‫‪ - 1‬تطرقت هذه الدراسة بالخصوص إلى انعكاس االفالطونية املحدثة وتأثيرها في تشكيل املفاهيم‬
‫الالهوتية التي وضعها أوغسطين في القرن الرابع امليالدي‪ُ .‬ينظر‬
‫‪William Ralph Inge, The Philosophy of Plotinus, London:longmans green and co, 1923,‬‬
‫‪p.69-70-135‬‬
‫‪ - 2‬برتراند رسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬الفلسفة القديمة‪ ،‬ص‪438.‬‬
‫ْ‬
‫‪ - 3‬يصعب في ظل شح املصادر التاريخية اإلحاطة بشخصية ِسل ْس ُيوسوكل ما أنتجه هذا الفيلسوف‬
‫اليوناني من فكر‪ ،‬رغم ذلك يمكن التأكيد على أنه كان أشد املدافعين عن الفلسفة اليونانية ضد‬
‫املسيحية املبكرة‪ ،‬حيث هاجمحوالي النصف الثاني من القرن الثاني في كتابه «القول الحق‪le Vrai‬‬
‫‪ « Discours‬بعض أسس العقيدة املسيحية وتأثيرها سلبا في إضعاف الدولة الرومانية‪ ،‬ومع أن هذا‬
‫الكتاب مفقود إال أننا نستطيع الوقوف على معظم أجزائه من خالل كتاب «ضد سلسيوس‪Contre‬‬
‫َّ‬
‫‪ ،»Celse‬الذي ألفه أورجين حوالي ‪246‬م مدافعا من خالله عن املسيحية ضد آراء سلسيوس‪ُ .‬ينظر‬
‫‪The News CatholicEncyclopedia,Vol.3, op.cit, p.329-330‬‬

‫‪65‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫َ ْ‬
‫ندوس وأرجين‪ ،‬فإن أفلوطين أظهر معالم الفلسفة الدينية في القرون الثالثة‬
‫امليالدية األولى‪ ،‬وال أدل على ذلك من امتداد فكره إلى العصر الوسيط متجليا في‬
‫الفلسفة املسيحية التي يمثلها أوغسطين وتوما اإلكويني أو في الفلسفة اإلسالمية‬
‫التي يمثلها الفارابي وابن رشد والكندي وغيرهم‪ ،‬بل إن فكره تجاوز هذا العصر‬
‫إلى العصر الحديث بما ينضوي عليه من وحدة الحقيقة التي تتأتى في الفلسفة‬
‫وتعاليم العهد الجديد‪ ،1‬وأصبحت بذلك األفلوطينية املسيحية جزءا ال يتجزأ‬
‫من بنية الفكرالغربي الحديث‪.‬‬

‫‪ُ - 1‬ينظر‪ :‬يوسف كرم‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬ص‪297.‬‬


‫‪William ralph Inge, The Philosophy of Plotinus, op.cit . p.48‬‬

‫‪66‬‬
‫املصادرواملراجع‬

‫باللغة العربية‬
‫• إبراهيم زكرياء‪ ،‬مشكلة الفلسفة‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة مصر‪.1971 ،‬‬
‫• إبراهيم محمد تركى‪ ،‬مدخل إلى الفلسفة املسيحية في أوروبا َّإبان العصر‬
‫الوسيط‪ ،‬القاهرة‪ :‬دارالكتب القانونية‪2010. ،‬‬
‫• آيورس بل‪ ،‬مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد‬
‫اللطيف أحمد علي‪ ،‬بيروت‪ :‬دارالنهضة‪.1973 ،‬‬
‫• إميل برهييه‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ :‬الفلسفة اليونانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬جورج طرابي�شي‪،‬‬
‫الجزء‪ ،1.‬بيروت‪ :‬دارالطليعة‪.1988 ،‬‬
‫• أرسطوطاليس‪ ،‬الطبيعة‪ ،‬ترجمة‪ :‬إسحق بن حنين‪ ،‬الجزء‪ ،2.‬القاهرة‪:‬‬
‫الهيئة املصرية العامة للكتاب‪1984. ،‬‬
‫• إتينجلسون‪ ،‬الفلسفة املسيحية في العصور الوسطى‪ ،‬ترجمة‪ :‬إمام عبد‬
‫الفتاح إمام‪ ،‬بيروت‪ :‬دارالتنوير‪2009. ،‬‬
‫• برتراند رسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ :‬الفلسفة القديمة‪ ،‬ترجمة‪ :‬زكي نجيب‬
‫محمود‪،‬القاهرة‪ :‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪.2010 ،‬‬
‫• ول وايرلديورانت‪ ،‬قصة الحضارة‪ ،‬قيصر املسيح أو الحضارة الرومانية‪،‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد بدران‪ ،‬بيروت‪ :‬دارالجيل‪.‬‬
‫• حربي عباس َعطيتو‪ ،‬مالمح الفكر الفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية‬
‫القديمة‪ ،‬بيروت‪ :‬دارالعلوم العربية‪.‬‬
‫• يوسف زيدان‪ ،‬دوامات التدين‪ ،‬القاهرة‪ :‬دارالشروق‪2012. ،‬‬
‫• يوسف كرم‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬بيروت‪ :‬دارالقلم‪.1990 ،‬‬
‫• كامل محمدمحمد عويضة‪ ،‬أوغسطين فيلسوف العصوص الوسطى‪،‬‬

‫‪67‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫بيروت‪ :‬دارالكتب العلمية‪1993. ،‬‬
‫• ميرساإلياد‪ ،‬تاريخ األفكار واملعتقدات الدينية‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد الهادي عباس‪،‬‬
‫الجزء‪ ،2.‬دمشق‪ :‬داردمشق‪1987.،‬‬
‫• مصطفى النشار‪ ،‬مدرسة اإلسكندرية بين التراث الشرقي والفلسفة‬
‫اليونانية‪ ،‬القاهرة‪ :‬داراملعارف‪.1995 ،‬‬
‫• نجيب بلدي‪ ،‬تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار‬
‫املعارف‪.1926 ،‬‬
‫• سعيد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬تاريخ أوروبا في العصور الوسطى‪ ،‬بيروت‪ :‬دار‬
‫النهضة العربية‪.1976 ،‬‬
‫• عبد الرحمن بدوي‪ ،‬خريف الفكراليوناني‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة النهضة املصرية‪،‬‬
‫‪.1970‬‬
‫• فريديريك كوبلستون‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ :‬من أوغسطين إلى دانز سكوت‪،‬‬
‫املجلد‪ ،2.‬القسم‪ ،1.‬ترجمة‪ :‬إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬القاهرة‪ :‬املركز القومي‬
‫للترجمة‪2010. ،‬‬
‫• فرفريوس الصوري‪ ،‬تاسوعاتأفلوطين‪ ،‬ترجمة‪ :‬فريد جبر‪ ،‬بيروت‪ :‬مكتبة‬
‫لبنان‪.1997،‬‬
‫• رأفت عبد الحميد‪ ،‬الدولة والكنيسة‪ :‬قيصر واملسيح‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار قباء‪،‬‬
‫‪.1999‬‬
‫• رأفت عبد الحميد‪ ،‬الفكر املصري في العصر املسيحي‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار قباء‪،‬‬
‫‪.2000‬‬

‫باللغات األجنبية‬
‫‪• A.H.Armstrong, Plotinus, London: George Allen etUnwin, Printed In‬‬

‫‪68‬‬
Great Britain, 1953.
• Averil Cameron, the Mediterranean World in Late Antiquity AD 395-
600, London: Routledge in an Imprint of the Taylor, 1993.
• David Khnowles, the Evolution of Medieval Thougt, London: Longman
Group Limited. Britich Library Cataloging In Publication Data, 1995.
• DominicO’Meara, Plotin: Une Introduction aux Ennéades,Fribourg:
AcadémiePresse, 2004.
• Emile Boutroux, Science et Religion dans la PhilosophieContemporaine,
Paris: Ernest Flammarion, 1919.
• Emile Bréhier, La Philosophie de Plotin, Paris: LibrairiePhilosophique
De J. Vrin, 1998.
• Encyclopedia Britannica, London: Britannica Concise Encyclopedia.
INC,2006.
• Frederick Copelston, a History of Philisophy: Greece and Rome, New
York: Published by Doubleday. An Image Book, 1993.
• G. S. Kirk, K. E. Raven and M. Schofied, the Presocratic Philosophers: A
Critical History with a Selection of Texts, London: Cambridge University
Press, 1983.
• Henry Chadwick, The Church In Ancient Society From Galilee to
Gregory the Great, New York: Oxford University Press, 2001.
• HermésTrismégisme, Traduction:Louis Menard,Livre.1, Chapitre.6,
Paris: Académie des Inscriptions et Belles Lettres. LibrairieAcadémique,
1867.
• Jules Simon, Histoire de L’écoled’Alexandrie, Paris: Imprimerie de
H .Fournier, 1844.
• Lindon say Jones, Encyclopedia of Religion, USA: Editor in CHIEF,
2005.

69 ‫ م‬2020 ‫ يناير‬- ‫ ه‬1441 ‫ جمادى األولى‬3 ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد‬
• M. de Wulf, Histoire de la PhilosophieMédiévale, Louvrain:
Institutsupérieur de Philosophie, 1900.
• M.Matter, Histoire de L’écoled’AlexandrieComparée aux Principles
EcolesContemporaines, Vol.1, Paris: Libraire-Editeur de Paris Historique,
1840.
• Porphyruset Luc Brisson, La Vie de Plotin, Paris: LibrairiePhilosophique
J. VRIN, 1992.
• René Braun, «Tertullienet la PhilosophiePaïenne: Essai de mise au
point»,Bulletin de l’Association Guillaume Budé, no.2, Juin, 1971.
• Sara E.Karesh and Mitchell M.Hurvitz, Encyclopedia of Judaism, New
York: Fact on File,2006.
• The News Catholic Encycloperdia,USA: Library of congress Cataloging
- In Publication Data, 2003.
• William Ralph Inge, The Philosophy of Plotinus, London:longmans
green and co, 1923.

70
‫د‪ .‬سعاد الجويني ‪ -‬تونس‬

‫ّ‬
‫مقدمة‬
‫الدارسين قديما وحديثا‪ ،‬وانشغلوا بمشكالت عديدة‬ ‫شد ابن سينا اهتمام ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ ّ‬
‫املخصصة‬ ‫ينية‪ .‬واتخذت األعمال‬ ‫في فلسفته نذكر منها بالخصوص املسألة الد‬
‫لهذا املبحث ّاتجاهات مختلفة تراوحت إجماال بين النظر في موضوعات ّ‬
‫جزئية‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫بالتصور الفلسفي للمسألة عند‬ ‫الدين من جهة‪ ،‬وبين العناية من جهة أخرى‬ ‫عن ّ‬
‫ابن سينا بشكل مجمل‪ 1.‬وأمام هذه الكثرة في البحوث يبقى من العسير ّ‬
‫الزيادة‬
‫الدين رغم ذلك في‬ ‫على ما ورد فيها حول املوضوع املذكور‪ ،‬لكن ال ال مفهوم ّ‬
‫ز‬
‫تم تناول ّ‬
‫النبوة واملعاد باعتبارهما مسألتين‬ ‫حاجة إلى معالجة مخصوصة‪ .‬فقد ّ‬
‫النظر إلى ّ‬
‫الدين‬ ‫جوهريتين في فلسفة ابن سينا‪ ،‬ولم يقع باملقابل اإللحاح على ّ‬
‫كل هذه العناصر ّ‬
‫املجزأة وغيرها ُمقترنة‪ .‬وفي الواقع‬ ‫عد حاصل ّ‬ ‫كمشكل في ذاته ُي ّ‬
‫األول من ّ‬
‫الدراسات عمل‪: ‬‬ ‫الصنف ّ‬
‫‪ - 1‬نذكربخصوص ّ‬
‫‪F. Rahman, Prophecy in islam, institue of islamic studies, Mc gill univercity, firsit publi-‬‬
‫‪cation, 1958.‬‬
‫النبي والفيلسوف في مستوى الفيض‪ ،‬وخصوصية تلقي املعقوالت عن العقل ّ‬
‫الفعال‬ ‫وفيه مقارنة بين ّ‬
‫ّ‬
‫الشيخ ّ‬
‫الرئيس ( ص‪.)36 - 30‬‬ ‫وحيا وفق‬
‫وكذلك عمل‪: ‬‬
‫‪R. Michot, La destinée de l’homme selon Avicenne, le retour à Dieu (maʿād) et l’imagina-‬‬
‫‪tion, Lovani, Aedibus Peeters, 1986.‬‬
‫وأتى فيه الكاتب على وجوه املعاد‪ّ ،‬‬
‫وبين طبيعة العالم األخروي والخيالي في فكرابن سينا‪ ( ،‬ص ‪.)56 - 49‬‬
‫ّ‬
‫الثاني من ّ‬ ‫وحول ّ‬
‫الدراسات نشيربالخصوص إلى كتاب‪: ‬‬ ‫الصنف‬
‫ّ‬
‫‪ .Gardet.. L, La pensée religieuse d’Avicenne, Paris, J. V, 1951‬واعتنى املؤلف في هذا املصنف‬
‫ّ‬
‫النبوية ومشكل العناية‬ ‫الدين عند ابن سينا ّ‬
‫وأهمها طبيعة املعرفة‬ ‫بموضوعات كثيرة ذات صلة بمشكل ّ‬
‫(ص ‪.)138 - 110‬‬

‫‪71‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الدراسة‬ ‫بخصوصية ّ‬
‫ّ‬ ‫التنويه هنا‬ ‫يجب ّ‬
‫الدارسني‬ ‫شد ابن سينا اهتمام ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني‬‫قدمها ‪ Gardet. L‬عن الفكر ّ‬ ‫التي ّ‬
‫قديما وحديثا‪ ،‬وانشغلوا‬ ‫البن سينا‪ ،1‬وفيها حظي ّ‬
‫الدين باالهتمام‬
‫بمشكالت عديدة يف فلسفته‬ ‫ّ‬
‫وتخيرنا إزاء هذا‬ ‫من جهات مختلفة‪.‬‬
‫باخلصوص املسألة ّ‬
‫الدين ّية‬ ‫ّ‬
‫التقاطع مع قاردي في مستوى املوضوع‪،‬‬
‫الدين‬‫موجهة إلى ّ‬ ‫العمل على توفير دراسة ّ‬
‫يخول في تقديرنا الجمع في البحث بين البعدين‬ ‫كمفهوم مخصوص‪ .‬وهو ما قد ّ‬
‫الشيخ ّ‬‫ّر ّ‬ ‫ّ‬
‫والكلي ّ‬
‫الرئيس‬ ‫للدين‪ ،‬وما يضمن كذلك اإلحاطة األفضل بتصو‬ ‫الجزئي‬
‫للمسألة‪.‬‬
‫ّ‬
‫التصور العقلي‬ ‫غرضنا في هذا املقال هو االشتغال على املفهوم أي البحث في‬
‫تمثل ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدين كبنية محكومة بنسق متكامل وعناصر‬ ‫واملجرد الذي يمكن من‬
‫التحول من د اسة ّ‬
‫الدين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إمكانية‬ ‫مترابطة وفق نظام مخصوص‪ .‬يتيح ذلك‬
‫ر‬
‫ضمن فلسفة ابن سينا أي باعتباره موضوعا من موضوعاتها‪ ،‬إلى البحث في‬
‫التفسيري والعملي الواقعي‪.‬‬ ‫النظري ّ‬ ‫بالنظر إلى بعديها ّ‬ ‫للدين عنده ّ‬ ‫فلسفة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ونسعى في بيان هذه األمور انطالقا من خطة بحث نستهلها بعمل وصفي يقوم‬
‫الدين في نصوص ابن سينا‪ .‬ونعالج فيها تاليا‪،‬‬ ‫تتبع هيئات استعمال مفهوم ّ‬ ‫على ّ‬
‫الشيخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫التفسير الفلسفي ّ‬ ‫بنية ّ‬
‫الرئيس‪ .‬وننتهي بالوقوف عند طبيعة‬ ‫للدين عند‬
‫ينية وأدوات تحصيلها‪.‬‬ ‫الد ّ‬‫الحقيقة ّ‬
‫الدين في نصوص ابن سينا‪:‬‬ ‫‪ - 1‬مفهوم ّ‬
‫ُ‬ ‫الدين عند ابن سينا ّ‬ ‫ورد لفظ ّ‬
‫مضمنا في ألفاظ أخرى تحيل عليه من جهات‬
‫ّ‬ ‫مختلفة‪ ،‬واستعمل ّ‬
‫للتعبير عنه بالخصوص لفظ الشريعة الذي يفيد مجمل‬
‫والسنن ّ‬ ‫الشرائع ّ‬‫ّ‬ ‫الشيخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحق‪ّ .‬‬ ‫السنن الهادية إلى طريق ّ‬ ‫ّ‬
‫امللية‬ ‫الرئيس عن‬ ‫وتحدث‬
‫‪ - 1‬نشيرهنا بالخصوص إلى املرجع ّ‬
‫السابق‪.La pensée religieuse d’Avicenne :‬‬

‫‪72‬‬
‫عملية ّتتصل أساسا ّ‬
‫بالتدبير املدني‬ ‫ضمن عديد املواضع التي بحث فيها مسائل ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫في أشكاله املختلفة مثلما ذكر في كتاب الشفاء‪ 1.‬واعتمد أيضا مصطلح الشرع‬
‫عملية ضمن املواضع التي قارن‬ ‫كتصور نظري حامل لوظيفة ّ‬ ‫ّ‬ ‫للتعبير عن ّ‬
‫الدين‬ ‫ّ‬
‫ن‪2‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فيها بين الشريعة والحكمة في مستويي اللغة واملضمو ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدين بهذا املعنى لفظ مركب من األلفاظ املختلفة التي أتينا على ذكرها‪ ،‬فهو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والسنة والشرع والشريعة باعتبارها مجموعا يحمل وجوها مختلفة‬ ‫حاصل امللة‬
‫ّ‬ ‫كل اسم على مفهوم ّ‬
‫الدين في كليته دون أن ُيختزل في‬ ‫ملسمى واحد‪ .‬ويحيل من ّثمة ّ‬ ‫ّ‬
‫معنى جزئي‪ ،‬مع اإلشارة بالخصوص إلى خضوعها في املجمل إلى ترتيب مخصوص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ترتب األلفاظ بحسب قسمة أولى ّ‬ ‫ّ‬
‫والعوام‪،‬‬ ‫الخواص‬ ‫أقرها ابن سينا بين‬
‫وجهت وفق ذلك عبارات‬ ‫لكل منهما‪ّ .‬‬
‫التابعة ّ‬‫املصنفات ّ‬
‫ّ‬ ‫وحسب قسمة ثانية بين‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العوام والعلماء ووردت بالخصوص في كتب الشفاء‬ ‫والسنة إلى جمهور‬ ‫الشريعة‬
‫‪3‬‬
‫والنجاة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ّ -1‬‬
‫والسنة في الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬ج‪ ،2‬مراجعة وتقديم إبراهيم مدكور‪ ،‬تحقيق‬ ‫تكرر ذكرألفاظ الشريعة‬
‫ّ‬
‫األميرية‪ ،1960 ،‬املقالة‬ ‫سعيد زايد وسليمان دنيا ومحمد مو�سى‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة ّ‬
‫العامة لشؤون املطابع‬
‫العاشرة‪ ،‬ص ‪ 446 - 444‬و‪.454 - 451‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫ينص ابن سينا على اختالف االسم ووحدة املسمى بين الفلسفة والشريعة في مستوى لفظ االتصال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويسمى هو في لسان الشرع ملكا وفي لسان الحكمة عقال فعاال»‪ ،‬أحوال النفس‪ ،‬تحقيق أحمد‬ ‫فيقول‪« :‬‬
‫ّ‬
‫فؤاد األهواني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬ط‪ ،1952 ،1‬ص ‪ .198‬ويذكر كذلك بخصوص‪ ‬لفظ‬
‫ّ‬
‫الشرع ‪ّ »،‬‬ ‫شر ّ‬ ‫الخير‪« :‬وهذا هو الخير املحض الذي ال يشوبه ّ‬
‫الرسالة‬ ‫البتة وهو املراد بالقضاء في لسان‬
‫ّ‬
‫العثمانية‪ ،‬حيدرآباد الدكن‪ ،‬ط‪1353 ،1‬ه‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العرشية‪ ،‬مطبعة دائرة املعارف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ -3‬استعمل ابن سينا عبارتي الخاصة والعامة للفصل بين العلماء والجمهور من جهة‪ ،‬وللتمييز بين‬
‫الشفاء‪ ،‬بخصوص القسم ّ‬ ‫ّ‬
‫األول‪« :‬فهذه األفعال ينتفع‬ ‫العلماء أنفسهم من جهة أخرى‪ .‬يقول في إلهيات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بها ّ‬
‫العامة من رسوخ ذكر هللا واملعاد في أنفسهم‪ ،‬فيدوم لهم التثبت بالسنن والشرائع بسبب ذلك (‪)...‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخاصة فأكثر منفعة هذه األشياء إياهم في املعاد»‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .445‬وعد للنظر في القسم الثاني‬ ‫وأما‬
‫ّ‬
‫إلى مقدمة كتاب منطق املشرقيين‪ ،‬وفيها يقول الشيخ ّ‬ ‫ّ‬
‫الرئيس‪« :‬وال نبالي من مفارقة تظهر منا ملا ِألفه‬
‫متعلمو كتب اليونانيين إلفا عن غفلة وقلة فهم‪ ،‬وملا سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من املتفلسفة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املشغوفين باملشائيين الظانين أن هللا لم يهد إال ّإياهم»‪ ،‬دراسة وتقديم البارون كارا دوفو‪ ،‬باريس‪ ،‬دار‬
‫بببليون‪ ،2009 ،‬ص ‪.78‬‬

‫‪73‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وع ّرف ّ‬ ‫ُ‬
‫والسنة‬ ‫الدين في هذا املستوى بأنه مجموع األحكام الواردة في القرآن‬
‫ّ‬
‫والواجب إتباعها‪ .‬لذلك صيغت هذه املضامين عند ابن سينا في هيئة يسيرة‬
‫الفهم ّ‬
‫وبينة للجمهور‪.‬‬‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫استعملت من جهة أخرى عبارات الشرع وامللة في املصنفات املوجهة إلى‬
‫ُ‬ ‫األمة حول عروة ّ‬ ‫ّ‬
‫الثانية‪ ،‬إجماع ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الدين‪ ،‬وتحيل العبارة‬ ‫الخاصة‪ 1.‬وتفيد العبارة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األولى على قراءة في حقائق الشريعة الظاهرمنها والباطن باعتبارالشرع في جوهره‬
‫تلقي األحكام‪ .‬وتدخل مجمل هذه‬ ‫الحق الذي يتجاوز مستوى ّ‬ ‫هو فعل إظهار ّ‬
‫النظر في عللها‬ ‫النظرية‪ ،‬ويعود ّ‬
‫ّ‬ ‫التدبير ّ‬
‫السيا�سي واملعرفة‬ ‫األمور‪ ،‬ضمن بابي ّ‬
‫النحو املطلوب‪.‬‬ ‫الخاصة المتالك قد ة فهمها على ّ‬
‫ّ‬ ‫وأبعادها إلى أهل‬
‫ر‬
‫ّ‬ ‫للدين‪ ،‬ونشير ّ‬‫نقف في هذا املستوى عند تعريف ّأول ّ‬
‫باألول إلى املعنى الظاهر‬
‫الذي يتمحور حول مضمون األحكام‪ .‬وتبقى وجهته وفق ذلك الجمهور وال يتجاوز‬
‫والتوجيه‪ ،‬وقد أتى عليه ابن سينا في هيئة مجملة ألن‬ ‫غرضه مقت�ضى الهداية ّ‬
‫‪2‬‬
‫خواص عمل الفقيه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يعد من‬‫السنن ّ‬‫تفصيل القول في بنية األحكام ومقت�ضى ّ‬
‫الدين أي‬‫العملي داخل ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكن يرتبط الغرض ّ‬
‫األهم عند الفيلسوف بدراسة البعد‬
‫ى ّ ّ‬
‫للدين‬‫الثاني ّ‬ ‫بيان أدوات إصالح العالم اإلنساني‪ّ .‬يتصل من جهة أخر الحد‬
‫بطبيعة موضوعاته التي تشمل بالخصوص العلل واملبادئ األولى للموجودات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشيخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإللهية‬ ‫الرئيس لفظ امللة‬ ‫‪ - 1‬عد مثال إلى تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات وفيها استعمل‬
‫هندية‪ ،1908 ،‬ط‪( ،1‬ص‪ ،)3‬واستعمل أيضا‬ ‫العقلية‪ ،‬طبعة ّ‬
‫ّ‬ ‫لإلحالة على ضرب الحكمة املوازية للحكمة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لفظ الشرع في نفس الباب (ص‪ .)118‬ونجد كذلك لفظ امللة مقترنا بالحكمة في الرسالة النيروزية في‬
‫الهجائية ضمن تسع رسائل‪ ،‬ص‪.134‬‬‫ّ‬ ‫معاني الحروف‬
‫ّ‬ ‫يعرف ابن خلدون الفقه ّ‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫كالتالي‪« :‬هو معرفة أحكام هللا تعالى في أفعال املكلفين‪ ،‬بالوجوب والحظر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والندب والكراهة واإلباحة‪ ،‬وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع ملعرفتها من األدلة‪ ،‬فإذا‬
‫ّ ّ‬ ‫املقدمة‪ ،‬تونس‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫األدلة قيل لها فقه»‪ّ ،‬‬
‫التونسية للنشر‪ ،1993 ،‬ص‬ ‫الدار‬ ‫استخرجت األحكام من تلك‬
‫ّ‬
‫‪ .541‬ونجد تفصيال عند الفارابي للعلوم الدينية‪ :‬الفقه والكالم والعلم املدني‪ ،‬عد مثال إلى كتاب إحصاء‬
‫ّ‬
‫واهتم بهذه املسألة‬ ‫العلوم‪ ،‬بيروت‪ ،‬دارومكتبة الهالل‪ ،‬تقديم علي بو ملحم‪ ،‬ط‪ ،1996 ،1‬ص‪. 90 - 79‬‬
‫ّ ّ‬
‫في فلسفة املعلم الثاني‪ ،‬مقداد عرفه منسية‪ ،‬الفارابي فلسفة الدين وعلوم اإلسالم‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار املدار‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ط‪.2013 ،1‬‬

‫‪74‬‬
‫والحد‪ .‬وينشغل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للمادة بالقوام‬ ‫املفارقة‬
‫استعملت من جهة أخرى‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الفيلسوف هنا‪ ،‬بالبحث في املوجود األول‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عبارات الشع واملل يف‬ ‫من جهة ّ‬
‫كيفية وعلل وجوده‪ ،‬وهي مسائل‬
‫ّ‬
‫الخاصة‪.‬‬ ‫املوجهة إىل‬
‫ّ‬ ‫مجرد سنن املص ّنفات‬ ‫ّ‬ ‫تتحول ّ‬
‫بالدين من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نظرية‬
‫دعية إلى موضوع ألشرف أنواع العلم وتُفيد العبارة ال ّثانية‪ ،‬إمجاع ّ‬
‫األمة‬ ‫ر ّ‬
‫الدين‪ ،‬وتُحيل العبارة‬ ‫حول عروة ّ‬ ‫‪1‬‬
‫اإلنساني‪.‬‬
‫األوىل عىل قراءة يف حقائق‬ ‫ُ‬
‫تحيل عبارة العلم اإللهي على مجمل‬
‫الظاهر مهنا والباطن‬ ‫الشيعة ّ‬ ‫ّ‬ ‫هذه األمور ّ‬
‫ألنها تفيد تحصيل إدراك‬
‫إلهية تنتهي‬ ‫يقيني بمسائل من طبيعة ّ‬
‫التحقيق‪ُ .‬ويشار أيضا إلى هذه املضامين في عبارات الحكمة‬ ‫باملد ك إلى مستوى ّ‬
‫ر‬
‫‪2‬‬
‫ألنها تقوم على البحث في األسباب‪.‬‬‫اإللهية والفلسفة األولى ّ‬ ‫ّ‬
‫تتبع مباحث اإللهيات‬ ‫الدين عند ابن سينا ّ‬ ‫وبالجملة يفترض اإلملام بمفهوم ّ‬
‫والنظرفي الهيئات التي وردت عليها‪ ،‬وفي كيفيات تقسيم العلوم املنسوبة‬ ‫في كتبه ّ‬
‫وكلها أمور ننتقل بمقتضاها إلى الحديث عن فلسفة في ّ‬
‫الدين ّ‬ ‫ّ‬
‫يعبرمصطلح‬ ‫ِ‬ ‫إليها‪.‬‬
‫العلم اإللهي عن أصولها وشروط إمكانها‪.‬‬
‫‪ - 2‬ابن سينا والفهم الفلسفي ّ‬
‫للدين‪:‬‬
‫الدين بعناية شديدة عند ابن سينا‪ ،‬ولم يكن اهتمامه به ّ‬
‫مجرد قراءة‬ ‫حظي ّ‬
‫فلسفية مخصوصة ومتكاملة حول‬ ‫ّ‬ ‫رعية‪ ،‬بل ّ‬ ‫ّ‬
‫الش ّ‬
‫جسد رؤية‬ ‫في بعض األقوال‬

‫‪ - 1‬أتى ابن سينا على مسألة ترتيب العلوم في مواضع كثيرة نذكر منها ما ورد في منطق املشرقيين‪ ،‬حول‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تقسيم العلوم إلى ّ‬
‫ونظرية‪ ،‬وينتمي العلم اإللهي إلى القسم الثاني‪ ،‬وموضوعه األمور املباينة‬ ‫عملية‬
‫ّ‬
‫للمادة والحركة أصال‪( ،‬ص ‪ .)83 - 82‬وفي تسع رسائل‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫ّ‬
‫‪ - 2‬أشار ابن سينا إلى مراتب العلوم وموضوعاتها مستعمال هذه األسماء في الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬ج‪،1‬‬
‫ّ‬
‫العامة لشؤون‬ ‫مراجعة وتقديم إبراهيم مدكور‪ ،‬تحقيق األب قنواتي وسعيد زايد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة‬
‫العقلية‪ ،‬ضمن تسع رسائل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األميرية‪ ،1960 ،‬ص‪15‬و‪ .23‬وانظرأيضا في رسالة في أقسام العلوم‬ ‫املطابع‬
‫ص ‪.107 - 105‬‬

‫‪75‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ومقوماته ومقاصده‪ .‬ويقوم‬ ‫ّ‬ ‫أصوله‬
‫الرئيس‬ ‫تصور ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تصور الشيخ ّ‬ ‫ّ‬
‫الشيخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقوم‬ ‫الرئيس للدين على جانبين‬
‫بالسنن لدلّ ين عىل جانبني متكاملني‪:‬‬ ‫متكاملين‪ :‬جانب عملي ّيتصل ّ‬
‫الشريعة‪ ،‬وجانب نظري‪ ،‬جانب عميل ي ّتصل ّ‬
‫بالسنن‬ ‫ّ‬
‫املعلنة في‬
‫املعلنة يف ّ‬
‫الشيعة‪ ،‬وجانب‬ ‫ميتافزيقي ّيتصل بالوجود وبمنزلة‬
‫نظري‪ ،‬ميتافزييق ي ّتصل‬ ‫اإلنسان فيه من جهة‪ ،‬وبطبيعة الحقيقة‬
‫النظرفيها إلى حين‪ .‬بالوجود وبمزنلة اإلنسان فيه‬ ‫من جهة أخرى وسنرجئ ّ‬
‫• نظام الوجود‪:‬‬
‫يمثل الوجود أساس ّ‬ ‫ّ‬
‫تصور ابن سينا‬
‫ّ‬ ‫امليتافزيقي‪ ،‬ويقوم على مبدأي ّ‬
‫النظام والتراتب الذي يحكم كل املوجودات‬
‫ضية‪ .‬ولسنا معنيين بعرض التسلسل الذي عليه الوجود في‬ ‫السماوية منها واألر ّ‬‫ّ‬
‫الشيخ ّ‬ ‫ّ‬
‫الرئيس‪ 1،‬وحسبنا االهتمام في هذا العمل بضربين من املوجودات‬ ‫فلسفة‬
‫الدينية بالعالقة بين العابد واملعبود‪.‬‬‫ّ‬ ‫تقوم ّ‬
‫التجربة‬ ‫هما هللا واإلنسان‪ ،‬باعتبار ّ‬
‫ّ‬ ‫والثاني أشرف املوجودات األر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫املعنية بأمور‬ ‫ضية‬ ‫فاألول علة الوجود بكامله‬
‫التقابل بين صنفي الوجود‪ :‬الواجب‬ ‫العبادة‪ .‬وسنعتمد في بيان هذه املسائل ّ‬
‫السينوي حول ّ‬
‫الدين‪.‬‬ ‫تمسكا بالفكر ّ‬‫حتى نكون أكثر ّ‬ ‫واملمكن‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الوجودية‪ ،‬فهذا املوجود‬ ‫كل معاني‬‫األول من املوجودات ّ‬ ‫الصنف ّ‬‫ُينسب إلى ّ‬
‫الزمني‪ .‬وهو ما ُيفهم‬ ‫بالتقدير ّ‬‫اإلنية ويقيني بشكل مطلق ودائم غير مرتبط ّ‬ ‫ثابت ّ‬
‫ّ‬
‫التحقق‬ ‫يتفرد واجب الوجود إذن بوجود دائم‬ ‫من قرين لفظتي الوجود والوجوب‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل الوجوه الذي يستحيل معه ّ‬ ‫من ّ‬
‫تصور عدم له‪ ،‬ويمثل تبعا لذلك علة لوجود‬
‫ذاته ولوجود غيره فوجوده واجب بذاته‪.‬‬
‫ومتميز عن باقي املوجودات‪ّ ،‬‬
‫بالنظر‬ ‫ّ‬ ‫كل هذه املعاني على موجود ّ‬
‫متفرد‬ ‫تحيل ّ‬

‫ّ‬
‫النيروزية ‪ ،‬ص‪.137 - 135‬‬ ‫‪ - 1‬نجد ترتيبا مختصرا للموجودات ضمن ّ‬
‫الرسالة‬

‫‪76‬‬
‫السببية من جهة أخرى‪ّ .‬‬
‫ويعبر‬ ‫ّ‬ ‫إلى الطبيعة الضرورّية لوجوده من جهة وإلى بنيته‬
‫التامة لغيره في مواضع كثيرة من كتاباته‬ ‫ابن سينا عن مفارقة واجب الوجود ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫امليتافزيقية‪ .‬نذكرمنها بالخصوص ما ورد في إلهيات الشفاء‪:‬‬
‫علة‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫علة له‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وإن‬ ‫وإن املمكن الوجود بذاته له‬ ‫«إن واجب الوجود بذاته ال‬
‫الواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته‪ ،‬وإن واجب الوجود ال‬
‫يمكن أن يكون وجوده مكافئا لوجود آخر‪ ،‬فيكون كل واحد منهما مساويا لآلخرفي‬
‫وجوب الوجود ويتالزمان‪ .‬وأن واجب الوجود ال يجوز أن يجتمع وجوده عن كثرة‬
‫وأن الواجب الوجود ال يجوز أن تكون الحقيقة التي له مشتركا فيها بوجه‬ ‫ّ‬
‫ألبتة‪ّ .‬‬
‫حتى يلزم من تصحيحنا ذلك أن يكون واجب الوجود غير مضاف‪،‬‬ ‫من الوجوه‪ّ ،‬‬
‫‪1‬‬ ‫متكثر‪ ،‬وال مشارك في وجوده الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال ّ‬
‫يخصه‪».‬‬ ‫متغيروال‬
‫الرئيس تنصيصه على ّ‬ ‫ل ّ‬
‫التباين الجوهري بين الواجب‬ ‫الشيخ ّ‬ ‫ّيتضح من قو‬
‫كل الوجوه وموجود‬ ‫ّ‬
‫والتغير من ّ‬ ‫ّ‬
‫والتعدد‬ ‫واملمكن‪ ،‬بين موجود محكوم بالكثرة‬
‫والثبات ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والديمومة‪ .‬فواجب الوجود حامل لوجود واحد غير‬ ‫متقوم بالوحدة‬
‫البتة وغير مساو في الوجود لغيره وال يجوز من ّثمة االشتراك مع‬ ‫قابل للتجزؤ ّ‬
‫ّ‬ ‫سواه‪ .‬ونشير هنا إلى ّأننا لن ّ‬
‫نفصل القول في املبحث امليتافزيقي الذي توفرت‬
‫املتخصصة‪ 2،‬لكن أتينا عليه باعتبار مشكل واجب‬ ‫ّ‬ ‫حوله العديد من ّ‬
‫الدراسات‬
‫ّ‬
‫‪ - 1‬الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫ّ‬ ‫تتعدد ّ‬
‫‪ّ -2‬‬
‫الدراسات التي انشغلت بالجانب امليتافزيقي في فلسفة ابن سينا ونورد منها على سبيل الذكر‬
‫ال الحصرأعمال‪:‬‬
‫‪- Durat, Thérèse Anne, «Avicenna’s Metaphysics and Dunis Scotus , QuQestiones super‬‬
‫‪secundum et tertium De anima », philosophical psychology in Arabic thought and the‬‬
‫‪latin Aristotelianism of the 13th century, ed. By Luis Xavier, Paris, Vrin, 2013, 303, pp‬‬
‫‪(185-204).‬‬
‫‪- Menn, Stephen, «Avicenna’s Metaphysics », in interpreting Avicenna: Critical Essays, ed‬‬
‫‪by Peter Adamson, Cambridge University Press, 2013, xii-300, pp (143-69).‬‬
‫‪- Marmura, Michael, «Avicenna’s proof from contingency for God’s Existence in the‬‬
‫‪metaphysics of the shifa», Medival studies, V XLII, 1980, p 345.‬‬

‫‪77‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫البرهاني عن حقيقة‬ ‫ّ‬ ‫الدين وترجمة ّ‬
‫للتفسير‬ ‫الوجود عماد القول الفلسفي في ّ‬
‫الشيخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الرئيس‪.‬‬ ‫الذات اإللهية في فكر‬
‫العرشية نموذجا عن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االتجاه ّ‬ ‫ّ‬
‫التفسير الفلسفي ملسألة‬ ‫الرسالة‬ ‫وتعد في هذا‬
‫التوحيد من املوضوعات املشتركة بين الفلسفة وعلم‬ ‫التوحيد‪ .‬واملعلوم ّأن ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫كل مبحث حول ّ‬ ‫اإللهية أساس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدين‪ 1.‬وال يتسع‬ ‫الكالم‪ ،‬فالنظرفي حقيقة الذات‬
‫يخية مشكل الوحدة املطلقة للباري‪ ،‬وليس‬ ‫املجال ضمن هذا املوضع‪ ،‬لتطارح تار ّ‬
‫بالسعي إلى فهم سبل تفسيرابن سينا للمسألة‪.‬‬ ‫ولكننا نكتفي ّ‬ ‫ذلك مطلبنا‪ّ ،‬‬
‫الشيخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الرئيس‬ ‫وحدانية هللا أساسا انطالقا من طبيعة وجوده‪ .‬ويستعمل‬ ‫تفهم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرباني ّ‬‫التفرد ّ‬‫ّ‬
‫ويخص واجب‬ ‫‪2‬‬
‫التمييز الشهير بين املاهية والوجود‪.‬‬ ‫لتأكيد هذا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوجود ّ‬
‫بالتطابق بين املفهومين‪ ،‬ويجعل ماهيته عين إنيته‪ .‬مقدما بذلك برهانا‬
‫جوهرية الباري ووحدانيته ُيضاف إلى القول بنفي العلل عنه من ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عقليا على‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإللهية‪.‬‬ ‫الوجوه‪ .‬وتنتهي بنا مجمل هذه األمور عند تفسيرفلسفي لطبيعة الذات‬
‫متحققا وهو دائم الفعل وحامال ملاهية‬ ‫ُي ّبين من خالله ابن سينا ّأن للباري وجودا ّ‬
‫يسر فهم علل صدور املوجودات‬ ‫فسر فعل الفيض ُوت ّ‬ ‫وتعد ّكلها أصوال ُت ّ‬ ‫واحدة‪ّ ،‬‬
‫عن هللا‪.‬‬
‫ونلوح إلى ّأن هذا املوضوع لم يحظ في‬ ‫النظر في الوجود املمكن‪ّ ،‬‬ ‫نعود إلى ّ‬
‫اإللهيات بنظر مفرد وأتى عليه ابن سينا باعتباره تابعا للمبحث امليتافزيقي عن‬
‫العلية وتفترض سببا‬ ‫الواجب‪ُ .‬ويشيراملمكن إلى كل املوجودات الخاضعة إلى مبدأ ّ‬
‫ّ‬
‫منسية‪«،‬ابن سينا واملعتزلة‬ ‫‪ - 1‬نذكر من بين دراسات املقارنة بين علم الكالم والفلسفة مقال مقداد‬
‫ّ‬
‫الدولية‪ :‬نظرات في فلسفة ابن سينا ومال صدرا‬ ‫العرشية»‪ ،‬ضمن فعاليات ّ‬
‫الندوة‬ ‫ّ‬ ‫من خالل ّ‬
‫الرسالة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشيرازي‪ ،‬تونس‪ ،‬املجمع التون�سي للعلوم واآلداب والفنون‪ ،‬بيت الحكمة‪( ،2014 ،‬ص‪.)72 - 35‬‬
‫ّ‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫فصل ابن سينا القول حول مشكل عالقة املاهية بالوجود في إلهيات الشفاء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪،46 - 32‬‬
‫وينص في نفس املصدر قائال‪« :‬فال ماهية لواجب الوجود‪ ،‬غير ّأنه واجب الوجود وهذه هي ّ‬
‫اإلنية»‪ ،‬ج‪،2‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫ص ‪ .346‬وعد في هذا الشأن إلى عمل‪:‬‬
‫‪Goichon, A.M, la distinction de l’essence et de l’existence d’après Ibn Sina, Desclée de‬‬
‫‪Brouwer, Paris, 1937.‬‬

‫‪78‬‬
‫خارجا عنها في وجودها وفي عدمها‪ ،‬ليحيل‬
‫ّ‬
‫يؤكد ابن سينا ّ‬
‫ّ ُ‬
‫أن السبب ّية‬ ‫املوجد‪.‬‬
‫وفق ذلك على كل ما يغاير هللا ِ‬
‫ّ‬ ‫العقلية ّ‬
‫ّ‬
‫فسانية اليت تحكم املوجودات تعكس‬ ‫والن‬ ‫ونذكر منها الجواهر‬
‫ضية التي سريها وفق نظام خمصوص‪،‬‬ ‫ّ‬
‫السماوية والنفوس والعوالم األر ّ‬
‫وال يجوز اعتبار هيئة‬ ‫ينتمي إليها املوجود اإلنساني‪.‬‬
‫أن تسلسلها رضبا من اال ّتفاق‬ ‫ويؤكد ابن سينا من جهة أخرى ّ‬ ‫ّ‬
‫السببية التي تحكم املوجودات تعكس‬ ‫ّ‬
‫سيرها وفق نظام مخصوص‪ ،‬وال يجوز‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االتفاق‪ .‬ويوجد وراء ّ‬
‫منظم ضرورة‪،‬‬ ‫كل نظام ِ‬ ‫اعتبار هيئة تسلسلها ضربا من‬
‫وذلك مضمون مصطلح العناية‪.‬‬
‫ّ‬
‫الرئيس قدرة هللا على تدبيرنظام العالم وفق هيئة الخيرالتي‬ ‫الشيخ ّ‬ ‫ُويفيد عند‬
‫‪1‬‬
‫هو عليها‪.‬‬
‫امليتافيزيقية ّأن هللا أساس فكرة الوجود‪ ،‬وإليه‬
‫ّ‬ ‫ّيتضح من خالل هذه البنية‬
‫الدين‬‫ترجع كل املوجودات في ظهورها وفي انتظامها‪ .‬ويبقى التصور الفلسفي عن ّ‬
‫اديا بأمر‬‫معني إر ّ‬
‫بالنظر أيضا في وجود اإلنسان‪ ،‬باعتباره ّ‬ ‫مشروطا في اكتماله ّ‬
‫التكليف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الوجودية لإلنسان‪:‬‬ ‫•املنزلة‬
‫ّ‬ ‫التسلسل الوجودي عند صنف املوجودات الحاملة ّ‬ ‫ّ‬
‫والصورة‪.‬‬ ‫للمادة‬ ‫ينتهي‬
‫بالنظر إلى طبيعة‬ ‫التصنيف‪ّ ،‬‬‫ويوجد اإلنسان في أفضل مرتبة ضمن هذا ّ‬

‫‪ - 1‬يقول ابن سينا في تعريف العناية‪ « :‬فيجب أن يعلم ّأن العناية هي كون ّ‬
‫األول عاملا لذاته بما عليه‬
‫النحو املذكور فيعقل‬‫الوجود في نظام الخير‪ ،‬وعلة لذاته للخيروالكمال بحسب اإلمكان‪ ،‬وراضيا به على ّ‬
‫نظام الخيرعلى الوجه األبلغ في اإلمكان‪ ،‬فيفيض عنه ما يعقله نظاما وخيرا على الوجه األبلغ الذي يعقله‬
‫ّ‬ ‫فيضانا على أتم تأدية إلى ّ‬
‫النظام بحسب اإلمكان‪ ،‬فهذا هو معنى العناية‪ ».‬الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‬
‫‪ .415‬ويمكن اإلفادة بخصوص املفهوم املذكور من عمل‪:‬‬
‫‪- Gardet. L, la pensée religieuse d’Avicenne, p 131- 135.‬‬

‫‪79‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الصورة املحمولة في مادته من جهة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ينهتي ال ّتسلسل الوجودي‬ ‫وهيئة الكماالت التي يطلبها من جهة‬
‫ويتعين في هذا املستوى توضيح عند صنف املوجودات الحامةل‬ ‫ّ‬ ‫‪1‬‬
‫ثانية‪.‬‬
‫والصورة‪ .‬ويوجد اإلنسان‬ ‫املراد بالوجود عند اإلنسان لفهم سبب للمادّ ة ّ‬
‫تفضيله‪ ،‬ويحيل إجماال على الحضور يف أفضل مرتبة ضمن هذا‬
‫الفعلي في العالم الذي ال ُيستوفى بالعيش‪ ،‬ال ّتصنيف‪ ،‬بال ّنظر إىل طبيعة‬
‫الصورة احملمولة يف مادته‬ ‫ّ‬ ‫يتم أساسا عن اكتمال شروط ّ‬
‫تحقق‬ ‫بل ّ‬
‫من جهة‪ ،‬وهيئة الكماالت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتتحدد هذه الشروط إجماال‬ ‫المادي‪.‬‬
‫اليت يطلهبا من جهة ثانية‬ ‫للنفس ّ‬ ‫في فعل القوى ّ‬
‫التابعة ّ‬
‫الناطقة‬
‫ّ‬
‫الخاص‪ ،‬ويستطيع‬ ‫قوة كمالها‬ ‫كل ّ‬
‫وبلوغ ّ‬
‫ضدها عن اختيار ور ّوية‪ ،‬ويبلغ‬ ‫اإلنسان عن طريقها إتيان أفعاله الفاضلة أو ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويحصل عن‬ ‫األخالقية باستخدام قواه العاملة املتحكمة في البدن‪،‬‬ ‫الفضائل‬
‫ّ ‪2‬‬ ‫ّ‬
‫النظرية باالشتغال على األمور ّ‬
‫املجردة عن املادة‪.‬‬ ‫طريق القوى العاملة الفضائل‬
‫نوعي‪ّ ،‬بين ابن سينا ارتباطه‬
‫ّ‬ ‫تيهئ هذه األصول اإلنسان لتحصيل وجود‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫يتمثل ّ‬
‫األول في ضرورة االجتماع‪ ،‬الذي يضمن البقاء عبر‬ ‫بمعطيين أساسين‪.‬‬
‫والتكافل لضمان الحاجة‪.‬‬ ‫التعاون ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫الثاني في حسن املعاش‪ ،‬الذي ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫الكيفي لإلنسان عن‬ ‫يدعم االختالف‬ ‫ويتمثل‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ - 1‬يأتي ابن سينا على تفصيل هذا الترتيب في كتاب الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.435‬‬
‫النفس الفلسفي في عديد املواضع نذكر منها ما ورد حول تعريف‬ ‫‪ - 2‬يبحث ابن سينا مسائل علم ّ‬
‫ّ‬
‫النفس اإلنسانية « وهي كمال ّأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل األفاعيل الكائنة باالختيارالفكري‬
‫ّ‬
‫الكلية «‪ .‬أحوال النفس‪ ،‬ص‪ .57‬ونجد تفصيال ملجمل‬ ‫بالرأي‪ ،‬ومن جهة ما يدرك األمور ّ‬ ‫واالستنباط ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هذه املسائل في الشفاء‪ ،‬الطبيعيات‪ ،‬النفس‪ ،‬ترجمة ونشر باكوش‪ ،‬باريس‪ ،‬منشورات املعهد العربي‬
‫املهتمة بابن سينا من مبحث ّ‬
‫النفس‪ ،‬العتباره من‬ ‫اإلسالمي‪ ،1988 ،‬ص‪ .52 - 34‬وتكاد ال تخلوالدراسات ّ‬
‫يتسنى فهم أي موضوع دون اعتمادها‪ .‬عد مثال إلى كتاب قاردي‪،‬‬‫التأصيلية في فلسفته‪ ،‬التي ال ّ‬
‫ّ‬ ‫املسائل‬
‫‪ ،La pensée religieuse d’Avicenne‬ص ‪.94 88-‬‬

‫‪80‬‬
‫ّ‬
‫سائرالكائنات‪ 1.‬ويحتاج اإلنسان في بلوغ هذه املقاصد‪ ،‬إلى قوانين تنظم اجتماعه‬
‫الدين الذي يمنح اإلنسان نمط وجود خاص ّ‬ ‫يوفرها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يميزه‬ ‫وتهذب وجوده املدني‬
‫ّ‬ ‫بالنوع عن باقي الكائنات‪ ،‬وذلك مضمون ّ‬ ‫ّ‬
‫التكليف الذي ورد عن الشرع‪ ،‬وترجم‬
‫والتقيد بالعبادات من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشرعية‪،‬‬ ‫السنن املعلنة في األحكام‬ ‫في االلتزام بمجمل ّ‬
‫صالة وصوم وغيرها‪.‬‬
‫كل ّ‬
‫عبثية‪،‬‬ ‫الدين من جهة أخرى‪ ،‬إلى اإلنسان غاية لوجوده يرفع عنه ّ‬ ‫ويقدم ّ‬
‫ّ‬
‫حدها‪« :‬‬ ‫ويدفع نحو بلوغ كماله الخاص ونيل سعادة مأمولة يقول ابن سينا في ّ‬
‫رمدي في الغبطة الخالدة في جوارمن له الخلق واألمرتبارك‬ ‫الس ّ‬ ‫السعادة هي البقاء ّ‬ ‫ّ‬
‫السعادة‪ ،‬الذي يقوم‬ ‫تصور ابن سينا عن ّ‬
‫خصوصية ّ‬‫ّ‬ ‫وتعالى»‪ 2.‬ونشير هنا‪ ،‬إلى‬
‫ّ‬ ‫الناس‪ّ ،‬‬ ‫نفسانية‪ .‬وهي مطلب يسعى إليه ّ‬ ‫ّ‬
‫كل بحسب الطاقة‬ ‫عنده على أصول‬
‫ميسر إلى سعادة عمل‬ ‫النفس الغالبة عنده‪ ،‬كل شخص إذن ّ‬ ‫ووفق عمل قوى ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫على بلوغها بعد ّ‬
‫تخير فعل فاضل أخالقي أو نظري‪ 3.‬وتوفر الشريعة إلى اإلنسان‬
‫الضرب‬ ‫النبي‪ّ ،‬أما ّ‬‫السنن الواردة عن ّ‬ ‫العملية‪ 4‬التي توجد في ّ‬
‫ّ‬ ‫مضمون الفضائل‬
‫يتسنى للجميع‪،‬‬‫التدبرالعقلي وغيره‪ ،‬وهذا ال ّ‬ ‫النظري من الفضائل فيؤخذ بطريق ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خواص البشر‪.‬‬ ‫وال يسيرفي طلبه إال‬
‫للدين‪ ،‬فهو ّ‬
‫املعني‬ ‫تصور ابن سينا ّ‬
‫يحتل اإلنسان وفق ذلك منزلة مخصوصة في ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫السيا�سي الواقعي ّ‬‫الشريعة في املستويين ّ‬ ‫ّ‬
‫والنظري التفكري‪ .‬ويحافظ‬ ‫بمضامين‬
‫ّ‬ ‫الرئيس في هذا املستوى على ّ‬ ‫الشيخ ّ‬ ‫ّ‬
‫النظام الترتيبي الذي يحكم كل الوجود‬
‫ّ‬
‫‪ - 1‬عد بخصوص طبيعة الوجود اإلنساني إلى إلهيات الشفاء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.441‬‬
‫العثمانية‪ ،‬حيدرآباد الدكن‪ ،‬ط‪1353 ،1‬ه‪ ،‬ص‪.2‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 2‬رسالة في ّ‬
‫السعادة‪ ،‬مطبعة مجلس دائرة املعارف‬
‫ّ‬
‫العامة والخاصة عند ابن سينا في كتابه‪La destinée de l’homme :‬‬
‫‪ - 3‬بحث ميشوفي نسبة ّ‬
‫السعادة بين ّ‬
‫ّ‬
‫‪ ،selon Avicenne‬انظر بالخصوص في ص‪ .54 - 48 ،‬وعد في هذا الباب إلى كتابنا‪ ،‬ابن سينا‪ :‬التخييل‬
‫ّ‬ ‫والشعر ّ‬‫ّ‬
‫املختص‪ ،‬ط‪ ،2017 ،1‬ص ‪.228 - 213‬‬ ‫والنبوة‪ ،‬تونس‪ ،‬مجمع األطرش للكتاب‬
‫ّ‬
‫العملية في فلسفة ابن سينا‪ ،‬علي زيعور‪ ،‬ميادين العقل العملي في الفلسفة‬ ‫‪ّ -4‬‬
‫اهتم بدراسة املسائل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املوسعة‪ ،‬بيوت‪ّ ،‬‬
‫اإلسالمية ّ‬
‫الجامعية للدراسات والنشروالتوزيع‪ ،‬ط‪.2001 ،1‬‬ ‫املؤسسة‬

‫‪81‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الدين وفي فهم مقاصده وغاياته بين‬ ‫بما فيه اإلنسان‪ ،‬ترتيب في تلقي مضامين ّ‬
‫التر ّ‬‫ّ‬ ‫النفسانية املذكورة‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫اتبية‬ ‫وتتضح هذه البنية‬ ‫الجمهور والعلماء تبعا لألسس‬
‫ّ‬ ‫الرئيس بشكل أفضل عند ّ‬ ‫للشيخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫في الفكر ّ‬
‫الحقيقية‪.‬‬ ‫النظرفي مفهوم‬ ‫الديني‬
‫الدين وطرق بلوغها وصوغها‪:‬‬ ‫‪ - 3‬الحقيقة في ّ‬
‫الجزئية باملوضوع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُيختزل املعنى العام للحقيقة في القدرة على اإلحاطة ّ‬
‫التامة أو‬
‫فكل األشياء حاملة‬ ‫التنبيه إلى فصل ابن سينا بين حقيقة ال�شيء ووجوده ّ‬ ‫مع ّ‬
‫النظر عن وجودها‪ 1.‬ويتفاوت إدراكنا للحقيقة بحسب‬ ‫بغض ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تخصها‬ ‫لحقيقة‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ما يتوفر من قدرات وما يستعمل من أدوات‪ ،‬فالحقيقة واحدة بالذات مختلفة‬
‫ّ‬ ‫بمراتب إدراكها‪ ،‬التي تتراوح بين اليقين ّ‬
‫التام والقريب منه أو الشبيه‪.‬‬
‫تحدد‬‫األساسية للمنطق باعتبا ه آلة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدرجات عن الوظيفة‬ ‫وتعبرمجمل هذه ّ‬ ‫ّ‬
‫ر‬
‫سيتضح من خالل‬ ‫طرق بلوغ الحقيقة وتكشف عن كيفيات قولها‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫الدين‪.‬‬‫العودة إلى وجوه تطبيق ابن سينا لهذه الوظائف في باب ّ‬
‫ّ‬
‫•الطريق إلى الحقيقة‪:‬‬
‫النظر‬ ‫الدينية قبل ّ‬ ‫ّ‬ ‫املنهجية الحديث عن مضمون الحقيقة‬ ‫ّ‬ ‫الضرورة‬ ‫تفترض ّ‬
‫ومتصلين‬ ‫ويتكون هذا املحتوى في املجمل‪ ،‬من معطيين أساسيين ّ‬ ‫في طرق بلوغها‪ّ .‬‬
‫تصورا متكامال حول كيفيات‬ ‫النبوة ّ‬ ‫تقدم ّ‬ ‫النبوة وثبوت املعاد‪ّ .‬‬ ‫تحقق ّ‬ ‫هما ّ‬
‫املعني بمحتوى‬ ‫ّ‬ ‫الصدارة‪ ،‬فهو‬ ‫يحتل فيه اإلنسان مركز ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوجود األفضل الذي‬
‫املوجهة إليه أسا‪ ،‬ويحتاج العمل بما ورد فيها من سنن ّ‬
‫حتى‬ ‫النبوية ّ‬ ‫ّ‬ ‫املعرفة‬
‫ر‬
‫النبوة تفسيرا النتقال‬ ‫تتضمن ّ‬ ‫ّ‬ ‫يكون لوجوده معنى وال يزيغ عن صراط الحق‪ .‬كما‬
‫املعرفة من هللا إلى اإلنسان في ترجمة ملبدأ العناية‪ ،‬وتالؤما مع مدى الحاجة إليها‪،‬‬
‫النبوة على دعوة البشرإلى العلم بهذه األمور والعمل بمقتضاها‪.‬‬ ‫وتنبني لذلك ّ‬
‫ّ‬ ‫ل ّ‬
‫«النبوة التي هي علة ثبات نوع اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫الرئيس ّإن‬
‫الشيخ ّ‬ ‫وتبعا لذلك يقو‬
‫ّ‬
‫‪ - 1‬عد بالخصوص إلى إلهيات الشفاء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.32 - 31‬‬

‫‪82‬‬
‫‪1‬‬
‫موجودة‪ ،‬ولوالها ملا كان اإلنسان»‪.‬‬
‫كل األشياء حامةل حلقيقة‬ ‫ّ‬ ‫ويؤخذ هنا أعدام اإلنسان من جهتين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وجوديا ّ‬
‫بغض ال ّنظر عن‬‫تخصا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألن هللا علة وجوده وذلك‬ ‫ّ‬ ‫ُيعدم‬
‫وجودها‪ .‬ويتفاوت إدراكنا‬ ‫للنبوة‪ ،‬ويعدم ّ‬
‫نوعيا‬ ‫األول ّ‬‫هو املضمون ّ‬
‫ّ‬ ‫ألن ّ‬ ‫ّ‬
‫يتوفر من‬ ‫النبوة تمنحه شروط إمكان الحضور للحقيقة بحسب ما‬
‫قدرات وما يُستعمل من أدوات‬ ‫الكيفي في العالم‪.‬‬
‫يعين من جهة أخرى‪ ،‬القول باملعاد‬
‫ّ‬
‫النبوة وبنية الحقيقة‬ ‫في توضيح دور‬
‫ّ‬ ‫العقدية فحسب‪ ،‬بل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التصور‬ ‫يعد مجال فهم‬ ‫داخلها‪ ،‬فهو ال يمثل جوهراملسائل‬
‫الرئيس حول مشكل الحقيقة‪ .‬إذا كان ّ‬ ‫للشيخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدين حامال للحقيقة كما‬ ‫الديني‬
‫ّ‬
‫الدينية طريقا‬ ‫الفلسفة‪ ،‬فهل يترجم ذلك وحدة املسلك في بلوغها أم ّأن للحقيقة‬
‫موجها إلى‬ ‫غير البرهان؟ وهل يجوز تعميم فكرة الحقيقة داخل ّ‬
‫الدين باعتباره ّ‬
‫الناس؟‬ ‫كل ّ‬
‫الدين‪ ،‬ويختزل القدرة‬ ‫يسر مصطلح الوحي فهم سبل تحصيل الحقيقة في ّ‬ ‫ُي ّ‬
‫على العلم بأمور من الغيب داخل العالم اإلنساني‪ .‬ويفيد الوحي بالخصوص‬
‫الفعال بغير واسطة ودون اعتماد ّ‬
‫الحد‬ ‫ضربا من فيض املعقوالت عن العقل ّ‬
‫ويتم الفيض الوحيي وفق هيئات مختلفة تتراوح بين القذف املباشر‬ ‫األوسط‪ّ ،‬‬
‫‪2‬‬
‫واإللقاء املرموز‪.‬‬

‫‪ - 1‬ابن سينا‪ ،‬كتاب الهداية‪ ،‬تحقيق وتقديم وتعليق محمد إسماعيل عبده‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة العامة‬
‫النبوة عند ابن سينا إلى عمل‪:‬‬ ‫ّ‬
‫األميرية‪ ،1968 ،‬ص ‪ .293‬وعد حول مفهوم ّ‬ ‫لشؤون املطابع‬
‫‪Michael E. Marmura, Probing in islamic Philosophy : Studies in the philosophies of Ibn‬‬
‫‪Sina, al-Ghazali and other major Muslim thinkers, Global Academic Publishing, Bingham-‬‬
‫‪ton Univercity, 2005, PP 197-201.‬‬
‫ّ‬ ‫املتصلة بداللة الوحي وأنواعه في كتابنا املذكور‪ ،‬ابن سينا ّ‬
‫‪ - 2‬اشتغلنا على هذه املسائل ّ‬
‫التخييل والشعر‬
‫ّ‬
‫والنبوة‪ ،‬ص ‪.182 - 173‬‬

‫‪83‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ّ‬
‫يضمن الوحي إذن االتصال بالعقل‬
‫الدين أمرا‬ ‫الفعال بغير طريق البرهان‪ُ 1،‬ويرجع ابن تصبح احلقيقة يف ّ‬ ‫ّ‬
‫لكنا تبىق حكرا عىل‬ ‫فسانية ُمتاحا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫سينا ذلك إلى حركة القوى ّ‬
‫الن‬
‫وكيفية اشتغالها األنبياء‪ ،‬الذين منحوا استعدادا‬ ‫ّ‬ ‫وعالقة بعضها ببعض‬
‫قوتي استثنائيا ماديّا ونفسان ّيا لنيلها‬ ‫شدة ّ‬ ‫وأن ّ‬ ‫النبي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عند شخص‬
‫تيسر‬‫واملتخيلة عنده هي التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحدس‬
‫ّ‬
‫التمكن من العلم بالعاملين العقلي‬
‫لكنها تبقى حكرا على األنبياء‪،‬‬ ‫الدين أمرا ُمتاحا‪ّ ،‬‬ ‫والسيا�سي‪ 2.‬تصبح الحقيقة في ّ‬ ‫ّ‬
‫التخصيص‬ ‫ونفسانيا لنيلها‪ .‬ويبدو ّأن هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫الذين منحوا استعدادا استثنائيا ّ‬
‫ماديا‬
‫الناس بوساطة ّ‬ ‫موجه إلى ّ‬
‫الدين‪ ،‬بما هو خطاب ّ‬ ‫الظاهرلجوهر ّ‬ ‫ّ‬
‫نبوية‪.‬‬ ‫مناقض في‬
‫املسماة وحيا على ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وباعتبار ّ‬
‫أي عبارة‬ ‫«الرسول هو املبلغ‪ ،‬ما استفاد من اإلفاضة‬
‫بالسياسة والعالم العقلي‬ ‫ّ‬
‫الح�سي ّ‬ ‫استصوبت‪ ،‬ليحصل بآرائه صالح العالم‬
‫‪3‬‬
‫بالعلم‪».‬‬
‫ّ‬
‫يعالج ابن سينا هذا املشكل املتصل بتبليغ املعرفة عبر الكشف عن وجود‬
‫ّ‬
‫النبوية‪.‬‬ ‫الرسالة‬‫مستويات في قول الحقيقة‪ ،‬تستوجبها وظيفة اإلقناع في ّ‬
‫•وجوه صوغ الحقيقة‪:‬‬
‫ُتصاغ الحقيقة في هيئات مخصوصة تالؤما مع الوجهة االجتماعية ّ‬
‫للدين‪،‬‬
‫حده ّأنه سالة ذات مضمون حقيقي ُيشترط فيها االنتشار ّ‬
‫حتى‬ ‫واألصل في ّ‬
‫ر‬
‫الناس عادة إلى استعمال‬ ‫الناس باختالف مراتبهم وقد اتهم‪ .‬ويميل ّ‬ ‫تصل إلى ّ‬
‫ر‬
‫السماوية‪ ،‬وعنه تفيض املعقوالت ّ‬
‫األول‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 1‬العقل ّ‬
‫الفعال هو العقل العاشروإليه تنتهي سلسلة العقول‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إلى اإلنسان ويكتسب املعقوالت الثواني بالحد األوسط‪ .‬واشتغل بهذه املسائل عند الفارابي وابن سينا‬
‫فضل رحمان‪ ،Prophecy in islam ،‬ص ‪.20 - 11‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خصوصية قوى ّ‬
‫النفس عند النبي ضمن رسالة في إثبات النبوات‪ ،‬حققها وقدم لها‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 2‬أتى ابن سينا على‬
‫ّ ّ‬
‫ميشال مرمورة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دارالنهارللنشر‪ ،1968 ،‬ص ‪.46 - 41‬‬
‫السابق‪.47 ،‬‬‫‪ - 3‬املصدر ّ‬

‫‪84‬‬
‫الحيوانية‪ ،‬بل وال يدركون أو يطيقون غيرها‪ .‬تفرض هذه األر ّ‬
‫ضية‬ ‫ّ‬ ‫قوى ّ‬
‫النفس‬
‫الدين بما يتناسب وقدرات‬ ‫التعبير عن املضمون املتعالي في ّ‬ ‫النبي ّ‬ ‫ّ‬
‫املعرفية على ّ‬
‫الرسالة من جهة‪ ،‬ويبلغ مقصد‬ ‫السليم ملحتوى ّ‬ ‫املتلقي‪ ،‬فيضمن بذلك الفهم ّ‬ ‫ّ‬
‫ى‪1‬‬
‫اإلقناع من جهة أخر ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البيداغوجية في مسألة املعاد‪ ،‬الذي يمثل حلقة ّ‬ ‫تظهر هذه ّ‬
‫مهمة في‬ ‫الضرورة‬
‫السيا�سي‪ .‬ويفيد‬‫التصوري والعملي ّ‬
‫ّ‬ ‫ويعبرعن الجمع بين البعدين ّ‬
‫النظري‬ ‫النبوة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وتصور حياة أخرى بعد املوت‪ ،‬فنكون إزاء حقيقة‬ ‫ّ‬ ‫املعاد تحديدا إعادة البعث‬
‫واملادي‪ ،‬وهو ما يطرح عديد املشكالت‬ ‫ّ‬ ‫ثابتة وغير موجودة باملعنى الفيزيائي‬
‫املتصلة تحديدا بكيفيات صياغة املعاد وبمستويات اإلقناع املمكنة حول أمور‬ ‫ّ‬
‫ّ ‪2‬‬
‫من طبيعة خيالية‪.‬‬
‫ّ‬
‫النبوية‪ ،‬في القسمة التي أقامها‬ ‫التعبير عن الحقيقة‬‫يعالج ابن سينا مشكل ّ‬
‫التنبيه إلى ورود اللفظ ّ‬ ‫الظاهر والباطن‪ ،‬مع ّ‬ ‫ّ‬
‫األول صريحا‪ّ ،‬أما لفظ الباطن‬ ‫بين‬
‫ّ‬
‫السياق‪ .‬ويشير الظاهر إلى ّ‬ ‫فيستخلص من ّ‬
‫الداللة األولى التي يكفي في إدراكها‬
‫ّ‬
‫الحس‪ ،‬ويحيل الباطن‪ ،‬في املقابل على املعنى الذي ال ُيدرك إال عن استعمال‬ ‫ّ‬ ‫قوى‬
‫ّ‬
‫قوى العقل‪ .‬يجب الفصل وفق ذلك‪ ،‬بين ما يظهر في خطاب الشرع إلى الجمهور‬
‫ويتصل بمنفعة العبادات‪ ،‬وبين ما يخفى عنهم ويفترض تقريبه إليهم ويدور حول‬ ‫ّ‬
‫أمور ّ‬
‫التوحيد واملعاد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫األضحوية في املعاد‪:‬‬ ‫النص الشهير‬ ‫ويقول ابن سينا في هذا الباب ضمن‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫«أما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد وهو أن الشرع وامللل اآلتية‬
‫والرسول‪ ،‬فكالهما يعلم بطريق الوحي مع اختالف في وظيفة ّ‬
‫التبليغ التي‬ ‫‪ّ -1‬‬
‫يميز ابن سينا بين ّ‬
‫النبي ّ‬
‫ّ‬ ‫الصدد رسالة في إثبات ّ‬
‫النبي‪ .‬انظر في هذا ّ‬
‫الرسول دون ّ‬‫يضطلع بها ّ‬
‫النبوات‪ ،‬ص‪ .47‬وتحدث الشيخ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الرئيس في نفس االتجاه على وجود مراتب في ّ‬
‫النبوة تتحدد بحسب هيئات االطالع على الغيب‪ ،‬عد مثال‬
‫ّ‬
‫إلى املبدأ واملعاد‪ ،‬تهران‪ ،‬سلسلة دانش ايراني‪1343 ،‬ه‪ ،‬ص‪ ،117 - 115‬وأحوال النفس‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪ -2‬يمكن اإلفادة في باب الحقيقة واملعاد عند ابن سينا من عمل ميشو‪La destinée de l’homme ،‬‬
‫‪ ،selon Avicenne‬ص ‪.30-32‬‬

‫‪85‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ثم من املعلوم الواضح‬ ‫نبي من األنبياء ُيرام بها خطاب الجمهور كافة‪ّ .‬‬ ‫على لسان ّ‬
‫بالصانع‬‫التوحيد‪ ،‬من اإلقرار ّ‬ ‫صحة ّ‬
‫التحقيق ‪ -‬الذي ينبغي أن يرجع إليه في ّ‬ ‫ّأن ّ‬
‫حتى يصير‬ ‫والتغير ّ‬
‫ّ‬ ‫مقدسا عن الكم والكيف واألين واملتى والوضع‬ ‫موحدا ّ‬
‫‪1‬‬
‫االعتقاد به أنه ذات واحدة (‪ُ ،)...‬ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور‪».‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫طبق ابن سينا هذه القسمة في تبليغ مضمون الشريعة على مسألة املعاد‪،‬‬
‫التمثيل‪ .‬وقد استعمل في تأكيد حدوثه‪ ،‬أدوات‬ ‫وذكر ّأنه ورد في صيغة قوامها ّ‬
‫ّ‬
‫إقناعية‬ ‫بدنيا‪ ،‬وهذا مقبول شرعا وفق أغراض‬ ‫حسية تجعل البعث ّ‬ ‫ّ‬ ‫تمثيل‬
‫نظرية‪ .‬فحقيقة املعاد ّتتصل باألنفس وتنبني على ّ‬
‫تصور‬ ‫وممتنع عقال تبعا لعلل ّ‬
‫بالنفس ّ‬
‫تتحدد ّ‬
‫إلنية اإلنسان التي ّ‬ ‫الرئيس ّ‬ ‫الشيخ ّ‬‫ّ‬
‫الناطقة‪ 2.‬وينال اإلنسان هنا‬
‫تتحدد في الفعل الفاضل‬ ‫ّ‬ ‫حقيقية‪ ،‬تقوم على شروط ّ‬
‫نظرية خالصة‬ ‫ّ‬ ‫سعادة‬
‫النظري والعملي‪.‬‬ ‫بضربيه ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الذهنية للجمهور‪،‬‬ ‫ّأما بعث األبدان الوارد في الشرع‪ ،‬فقول يتالءم مع البنية‬
‫والتنكيل ألصحاب مآل‬ ‫حسية من قبيل الحرق ّ‬ ‫تصور معطيات ّ‬ ‫التي ال تتجاوز ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السوء‪ ،‬واالستمتاع والتلذذ ألصحاب املآل الحسن‪ 3.‬وما يستبطنه ذلك من تمثل‬
‫حسية‪.‬‬‫الزائفة املؤسسة على تخييل عناصر ّ‬ ‫السعادة ّ‬ ‫لشروط ّ‬
‫الدين‪ّ ،‬‬
‫وتتميزبهيئة‬ ‫خصوصية مفهوم الحقيقة في ّ‬‫ّ‬ ‫نخلص في هذا املستوى إلى‬
‫التمثيلي ذي االستعماالت الكثيفة لالستعارات واملجازات‪ .‬يعكس ذلك‪،‬‬ ‫القول ّ‬
‫للدين‪ ،‬وهو‬ ‫البشرية‪ ،‬وتالؤما مع الغرض األصلي ّ‬
‫ّ‬ ‫التكيف مع كل القوى‬ ‫قدرة على ّ‬
‫والعقائدية ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والنجاح من ّثمة في تسيير‬ ‫التوحيدية منها‬ ‫اإلقناع بحقائق الشرع‬
‫املدنية ّ‬
‫الشؤون ّ‬ ‫ّ‬
‫لألمة‪.‬‬
‫والنشر ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 1‬األضحوية في املعاد‪ ،‬تحقيق حسن عا�صي‪ ،‬بيروت‪ّ ،‬‬
‫والتوزيع‪،‬‬ ‫الجامعية للدراسات‬ ‫املؤسسة‬
‫ط‪ ،1987 ،2‬ص‪.98 - 97‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ - 2‬كشف ابن سينا عن وجوه الغلط عند القائلين بمعاد األبدان‪ ،‬املصدرالسابق‪ ،‬ص ‪ .97‬وبين الداللة‬
‫إنية االنسان‪ .‬نفسه‪ ،‬ص ‪.127‬‬‫الحقيقية للمعاد انطالقا من ثبوت طبيعة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ - 3‬يمكن اإلفادة في هذا املستوى من‪ :‬ابن سينا التخييل والشعر ّ‬
‫والنبوة‪ ،‬ص ‪.191‬‬

‫‪86‬‬
‫خاتمة‬
‫ّ‬
‫تتبع مفهوم الدين كما ورد في فلسفة ابن سينا‪،‬‬ ‫سعينا في هذا املقال إلى ّ‬
‫الدين مشروعا متكامال يجمع بين‬ ‫وانتهينا إلى بعض املالحظات‪ّ .‬أولها اعتبار ّ‬
‫بتصور لنظام الوجود يوازيه تصور‬‫ّ‬ ‫الشيخ ّ‬‫ّ‬ ‫املعرفي والوجودي‪ّ .‬‬
‫الرئيس‬ ‫ويمدنا‬
‫دينية‪ ،‬وهو ما يفيد وفق تقديرنا‪ ،‬معالجة ّ‬
‫الدين‬ ‫للحقيقة‪ ،‬استنادا إلى معطيات ّ‬
‫ّ‬ ‫من ّ‬
‫الداخل والكشف عن وجود بنية مركبة ومنسجمة في آن تجمع بين العناصر‬
‫ّ‬ ‫للشرع واألصول‬‫ّ ّ‬
‫النظرية للحقيقة‪.‬‬ ‫التعليمية‬
‫معبر عنها بطرق مخصوصة‪ ،‬تختلف في‬ ‫الدين ثانيا‪ ،‬رؤية متناسقة ّ‬ ‫يحمل ّ‬
‫لكنها توا يها في االهتمام بالوجود وتقديم الحقيقة‪ّ .‬‬
‫قدم‬ ‫أدواتها عن الفلسفة ّ‬
‫ز‬
‫الدين رّبما نجد تداعياتها الحقا مع ابن رشد‬ ‫نوعية في ّ‬
‫بذلك ابن سينا قراءة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصة في مستويات القسمة بين الظاهر والباطن‪ ،‬واعتماد املقوالت املنطقية‬
‫التمثيل‪ ،‬وهو ما يستدعي دراسة مفردة‪.‬‬ ‫القائمة على ّ‬
‫الدين والفلسفة عن نظام الوجود‬ ‫الرسم البياني تعبير كل من ّ‬ ‫ونوجز في هذا ّ‬
‫وبنية الحقيقة‪:‬‬

‫احلقيقة‬ ‫الوجود‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدين‬ ‫الفلسفة‬ ‫الدين‬ ‫الفلسفة‬

‫الوحي‪:‬‬ ‫ّ‬
‫مقدمات‬ ‫طبيعة‬ ‫هللا‬ ‫الواجب‬
‫الحدس‬ ‫ّ‬
‫يقينية‬ ‫الحقيقة‬ ‫اإلنسان‬ ‫املمكن‬

‫القياس‬
‫ّ‬ ‫القياس‬ ‫طرق‬ ‫عالقة‬ ‫عالقة‬
‫التخييلي‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫البرهاني‬ ‫صوغها‬ ‫عبادة‬ ‫سببية‬
‫التمثيلي‬

‫‪87‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫قائمة املصادرواملراجع‬
‫املصادر‪:‬‬
‫ابن سينا‬
‫ّ‬
‫• الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬ج‪ ،1‬مراجعة وتقديم إبراهيم مدكور‪ ،‬تحقيق األب‬
‫ّ‬
‫األميرية‪.1960 ،‬‬ ‫قنواتي وسعيد زايد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة ّ‬
‫العامة لشؤون املطابع‬
‫ّ‬
‫• الشفاء‪ ،‬اإللهيات‪ ،‬ج‪ ،2‬مراجعة وتقديم إبراهيم مدكور‪ ،‬تحقيق سعيد زايد‬
‫ّ‬
‫األميرية‪،‬‬ ‫العامة لشؤون املطابع‬‫وسليمان دنيا ومحمد مو�سى‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة ّ‬
‫‪.1960‬‬
‫ّ‬
‫الشفاء‪ ،‬الطبيعيات‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫النفس‪ ،‬ترجمة ونشر باكوش‪ ،‬باريس‪ ،‬منشورات‬ ‫•‬
‫املعهد العربي اإلسالمي‪.1988 ،‬‬
‫‪ -‬كتاب الهداية‪ ،‬تحقيق وتقديم وتعليق محمد إسماعيل عبده‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ّ‬
‫األميرية‪.1968 ،‬‬ ‫الهيئة العامة لشؤون املطابع‬
‫أحوال ّ‬
‫النفس‪ ،‬تحقيق أحمد فؤاد األهواني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار إحياء الكتب‬ ‫•‬
‫العربية‪ ،‬ط‪.1952 ،1‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الجامعية‬ ‫• األضحوية في املعاد‪ ،‬تحقيق حسن عا�صي‪ ،‬بيروت‪ّ ،‬‬
‫املؤسسة‬
‫والنشر ّ‬ ‫ّ‬
‫والتوزيع‪ ،‬ط‪.1987 ،2‬‬ ‫للدراسات‬
‫• منطق املشرقيين‪ ،‬دراسة وتقديم البارون كارا دوفو‪ ،‬باريس‪ ،‬دار بببليون‪،‬‬
‫‪.2009‬‬
‫• املبدأ واملعاد‪ ،‬تهران‪ ،‬سلسلة دانش ايراني‪1343 ،‬ه‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقدم لها ميشال مرمورة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دارالنهار‬ ‫حققها ّ‬‫النبوات‪ّ ،‬‬
‫• رسالة في إثبات ّ‬
‫ّ‬
‫للنشر‪.1968 ،‬‬
‫الدكن‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫العثمانية‪ ،‬حيدرآباد ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العرشية‪ ،‬مطبعة دائرة املعارف‬ ‫الرسالة‬ ‫• ّ‬
‫‪1353‬ه‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ّ‬
‫والطبيعيات‪ ،‬طبعة ّ‬
‫هندية‪.1908 ،‬‬ ‫• تسع رسائل في الحكمة‬
‫ّ‬
‫الهجائية ضمن تسع رسائل‪ ،‬طبعة‬ ‫ّ‬
‫النيروزية في معاني الحروف‬ ‫الرسالة‬‫• ّ‬
‫هندية‪( ،1908،‬ص‪.)135-141‬‬ ‫ّ‬
‫العقلية‪ ،‬ضمن تسع رسائل‪ ،‬طبعة ّ‬
‫هندية‪،1908 ،‬‬ ‫ّ‬ ‫• رسالة في أقسام العلوم‬
‫(ص‪.)105-118‬‬
‫ّ‬
‫العثمانية‪ ،‬حيدر آباد‬ ‫السعادة‪ ،‬مطبعة مجلس دائرة املعارف‬ ‫• رسالة في ّ‬
‫الدكن‪ ،‬ط‪1353 ،1‬ه‪.‬‬
‫الفارابي‬
‫• إحصاء العلوم‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار ومكتبة الهالل‪ ،‬تقديم علي بو ملحم‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.1996‬‬
‫ابن خلدون‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املقدمة‪ ،‬تونس‪ ،‬الدارالتونسية للنشر‪.1993 ،‬‬ ‫‪-‬‬

‫املراجع‪:‬‬
‫• علي زيعور‪ ،‬ميادين العقل العملي في الفلسفة اإلسالمية ّ‬
‫املوسعة‪ ،‬بيوت‪،‬‬
‫ّ‬
‫والنشر ّ‬ ‫الجامعية ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والتوزيع‪ ،‬ط‪.2001 ،1‬‬ ‫للدراسات‬ ‫املؤسسة‬
‫مقداد عرفه منسية‬
‫• الفارابي فلسفة الدين وعلوم اإلسالم‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار املدار اإلسالمي‪،‬‬
‫ط‪.1،2013‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العرشية»‪ ،‬ضمن فعاليات الندوة‬ ‫• «ابن سينا واملعتزلة من خالل ّ‬
‫الرسالة‬
‫ّ‬
‫الشيرازي‪ ،‬تونس‪ ،‬املجمع ّ‬ ‫ّ‬
‫التون�سي‬ ‫الدولية‪ :‬نظرات في فلسفة ابن سينا ومال صدرا‬
‫للعلوم واآلداب والفنون‪ ،‬بيت الحكمة‪( ،2014 ،‬ص ‪.)72 - 35‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سعاد الجويني‪ ،‬ابن سينا‪ّ :‬‬
‫والنبوة‪ ،‬تونس‪ ،‬مجمع األطرش‬ ‫التخييل والشعر‬ ‫•‬

‫‪89‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
ّ
.2017 ،‫املختص‬ ‫للكتاب‬
- Gardet.. L,  La pensée religieuse d’Avicenne, Paris, J. V, 1951.
- Goichon, A.M, la distinction de l’essence et de l’existence d’après
Ibn Sina, Desclée de Brouwer, Paris, 1937.
- Durat, Thérèse Anne, «Avicenna’s Metaphysics and Dunis Scotus ,
QuQestiones super secundum et tertium De anima», philosophical
psychology in Arabic thought and the latin Aristotelianism of the 13th
century, ed. By Luis Xavier, Paris, Vrin, 2013, 303, pp (185-204).
- Marmura, Michael, « Avicenna’s proof from contingency for God’s
Existence in the metaphysics of the shifa” , Medival studies, V XLII,
1980, p 345.
- Menn, Stephen, «Avicenna’s Metaphysics», in interpreting Avicenna:
Critical Essays, ed by Peter Adamson, Cambridge University Press,
2013, xii-300, pp (143-69).
- Michael E. Marmura, Probing in islamic Philosophy : Studies in the
philosophies of Ibn Sina, al-Ghazali and other major Muslim thinkers,
Global Academic Publishing, Binghamton Univercity, 2005.
- R. Michot, La destinée de l’homme selon Avicenne, le retour à Dieu
(maʿād) et l’imagination, Lovani, Aedibus Peeters, 1986.

90
‫حدود احلجاج املنطيق‬
‫يف فلسفة الدين عند الغزايل‬
‫د‪ .‬فتاحين مو�سى‬

‫تمهيـ ــد ‪:‬‬


‫أعرض في هذه الورقة البحثية حمولة أبي حامد الغزالي املعرفية واملنهجية‬
‫التي أفرزها جهده في تصويب املعرفة نحومحطات الحق‪ ،‬والذي يعكسه منتوجه‬
‫الغزير بالرغم من عمره القصير وظروفه العسيرة‪ .‬وفي اعتقادي ّأن املستقري‬
‫لنصوص ومؤلفات حجة اإلسالم يجد صعوبة كبيرة وعسرة في الوقوف على أي‬
‫حكم نهائي في املسائل التي أثارها‪ ،‬مما جعلنا نستخلص أنواعا من الخطاب‪ ،‬األمر‬
‫الذي لزم عنه صعوبة فهمه وتصنيفه‪ ،‬أهو فيلسوف حاذق أم متكلم يقظ أم‬
‫صوفي ّ‬
‫مجند؟‬
‫هذا‪ ،‬وبين كل املشكالت التي أثارها الباحثون و العلماء‪ ،‬أقدم هنا على دراسة‬
‫ً‬
‫مسالك الحقيقة عند هذا العبقري الفذ‪ ،‬فكان موضوع بحثي قاصدا إلى تبيان‬
‫ّ‬
‫محطتين هامتين في فكره الذي يعكسه إنتاجه‪ :‬إنه العقل الذي سخره لقهر‬
‫الفالسفة في مسائل اإللهيات‪ ،‬والذوق الصوفي الذي ركن عنده بعد عزلته‪ .‬فأين‬
‫تتجلى حدود املنطق في فلسفة الدين عند أبي حامد الغزالي؟ وهل هناك عالقة‬
‫بين املنطق والذوق في نسق الغزالي؟‬
‫في الحقيقة ليس من السهل الوقوف على آراء العلماء والفالسفة املوسوعيين‪،‬‬
‫ألن مواقفهم مرتبطة باملشروع الذي يحمله كل واحد‪ ،‬لهذا بات من الضروري‬

‫‪91‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫العودة إلى جميع أعمال الفيلسوف أو املفكر املراد معرفة أحكامه حول حقيقة‬
‫األشياء املتجلية في الوجود‪ ،‬دون االكتفاء بقول منعزل أو منفرد له خصوصياته‬
‫وعلله‪ ،‬وهذا حال الفالسفة واملفكرين الحقيقيين‪ ،‬الذين يؤمنون بتغيرالوجود‪،‬‬
‫ونسبية الحقائق‪ ،‬إذ االنتقال من املوقف إلى ضده؛ ال يلغي نزاهة وموضوعية‬
‫العلماء وكبار الفالسفة‪ ،‬امثال بتراند راسل ( ‪1970‬ت) الذي عرف بالفيلسوف‬
‫الذي ال يستقر على رأي‪ ،‬ومارتن هيدجر ويورغن هبرماس‪ ..‬أما على مستوى‬
‫الحضارة اإلسالمية‪ ،‬فلو عدنا إلى تراثنا الفكري‪ ،‬وأعدنا قراءة منتوج الغزالي أبي‬
‫حامد؛ ألدركنا أنه فيلسوف صاحب مشروع قويم‪ ،‬نعم ال يمكن الحكم على أبي‬
‫ّ‬
‫حامد من خالل صفحة أو كتاب‪ ،‬ألن ذلك ال يمثل إال حلقة من مساره الطويل‪،‬‬
‫لهذا حاولت في هذا البحث أن ألتقط املواقف املنطقية في مناقشة معالم فلسفة‬
‫الدين التي عرضها الغزالي‪ ،‬من خالل تتبع كتبه املنطقية والكالمية التي أراد من‬
‫املطلعين من ّ‬ ‫ّ‬
‫املطوالت كما‬ ‫خاللها أن يقرب املنطق للقارئ وللممارس‪ ،‬ويخلص‬
‫السلم املرونق (الشيخ األخضري البسكري)‪ ،‬ومن هنا نتساءل‬ ‫أورد ها صاحب ّ‬
‫لنوجه القارئ إلى األهداف الحقيقية ونميط اللثام عن بعض االدعاءات التي‬
‫افتعلتها بعض القراءات الجزئية املفتتة‪.‬‬
‫فكيف انتقل أبو حامد الغزالي في الدالالت املنطقية‪ ،‬عبر «املحك» إلى «تهافت‬
‫الفالسفة»؛ مرورا ب ــ«املشكاة « و«املستصفى» و«معيارالعلم في فن املنطق» الذي‬
‫وضعه ليقهر الفالسفة الذين خاضوا في مجال اإللهيات‪ .‬إلى الذوق النوراني؟‬
‫وكيف مارس الحجاج في مسائل فلسفة الدين من خالل الجدل و املناظرة؟‬
‫ّ‬
‫في البداية أرى أنه البد أن نبرز املحطات الرئيسة التي نحفر فيها عن الحمولة‬
‫الحقيقية كسند يساعدنا على االنطالقة املتينة‪ ،‬والتي بدونها ال تستقيم أحكام‬
‫الباحث عن الحقيقة في كنف املتغيرات من تشكالت هذا الرجل الذي كان دأبه‬
‫تركين أسس العقل‪ ،‬وجلب صور اإلقناع‪ ،‬ومسلك االقتناع‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫فال بأس أن نستهل بحثنا ب ــ‪:‬‬
‫كان موضوع بحيث قاصداً‬ ‫‪ 1‬ـ الحمولة املنطقية عند أبي حامد‬
‫إىل تبيان حمطتني هامتني يف‬ ‫الغزالي‪:‬‬
‫درس (أبو حامد الغزالي ‪ - 1058‬فكره الذي يعكسه إنتاجه‪:‬‬
‫‪1111‬م) املنطق التقليدي دراسة وافية إ ّنه العقل الذي سخره لقهر‬
‫حتى تضلع منه؛ بل كان عاملا في املنطق‪ ،‬الفالسفة يف مسائل اإللهيات‪،‬‬
‫والذوق الصويف الذي ركن‬
‫وأصبح أحد رواده ‪ ،‬وألف فيه كتبا ‪ .‬إذ‬
‫عنده بعد عزلته‬
‫اعتبر املنطق منهجا من مناهج التفكير‪.‬‬
‫فكان منطقيا‪ ،‬ولم يتغيررأيه في وظيفته‬
‫وسجل (إبراهيم مذكور) النتيجة عينها حين قام بمحاولة تبيان أثر املنطق‬
‫األرسطي في العالم العربي في كتاب ‪l’organon d’Aristote dans le monde‬‬
‫‪ Arabe‬فقال‪( :‬بجدارة الغزالي)؛ أكبر الجدليين في اإلسالم ويعرف بمناهضته‬
‫للفالسفة الذي سخرفيه كتاب تهافت الفالسفة الذي يعتبرمن النماذج القليلة‬
‫جدا في النقاش واملناظرة في الفلسفة والدين)‪ ،1‬وهذه امليزة لم تنشأ من العدم‬
‫خاصة بالنسبة لألوضاع التي كانت تميز تلك الفترة الحاسمة ‪ .‬ولقد ذكر السبكي‬
‫(‪1327-1370‬م)‪( :‬إن الغزالي درس املنطق على اإلمام الجو يني) ‪ ،2‬وتعتبراملباحث‬
‫املنطقية من أبرز ما أثر في الثقافة اإلسالمية‪ ،‬وملا انتقل إلى بغداد وأراد أن‬
‫يكشف عن تهافت الفالسفة وتناقض آرائهم ومكامن تلبيسهم وإغوائهم‪ .‬عرف‬
‫علومهم الرياضية واملنطقية والطبيعية وامليتافيزيقية‪ .‬ألن (الغزالي) يرى أن في‬
‫دراسته للمنطق الوقوف على فساد املذاهب قبل اإلحاطة بمداركه (املنطق) ‪-‬‬
‫محال؛ بل هو رمي في العمى والضالل‪ .‬فبعد أن درس (الغزالي) العلوم واملسائل‬
‫‪1 - Ibrahim Madkour- l’Organon d’Aristote dans le monde Arabe - second ed - libraire‬‬
‫‪philosophique J-Vrin-1964‬‬
‫‪ - 2‬تاج الدين السبكي‪ ،‬طبقات الشافعية‪ ،‬تحقيق‪ ،‬محمود محمد الطناحي‪ ،‬ج‪ ،6‬ط‪ ،1964 ،1‬ص ‪.196‬‬

‫‪93‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الفلسفية؛ كتب (مقاصد الفالسفة)‬
‫وضح وأفصح عن رأيه في املنطق؛ بعد أن أدرك ( الغزايل) أن لغة‬ ‫وهناك ّ‬
‫فقال‪( :‬وأما املنطقيات فأكثرها على منهج املناطقة والفالسفة وخطاهبم‬
‫يستوجب بالرضورة معرفة‬
‫الصواب و الخطأ نادر فيها‪ .‬إذ غرضها‬
‫قوانني الفكر ومزيان العقل‬
‫تهذيب طرق االستدالل‪ ،‬وذلك مما‬
‫لجأ إىل وضع منطق للهتافت‬
‫يشترك فيه النظار)‪ 1‬ولقد كان صريحا‬
‫قبل تأليفه لكتاب (هتافت‬
‫في خطبة كتابه (معيار العلم) حول‬
‫الفالسفة)‬
‫االشتغال باملنطق‪ ،‬بل وضعه كمدخل‬
‫لتهافت الفالسفة‪ .‬حيث قال‪( :‬رتبنا هذا‬
‫الكتاب معيارا للنظرواالعتباروميزانا للبحث واإلفتكار‪ ،‬وصيقال للذهن ومشحذا‬
‫لقوة الفكر والعقل‪ ...‬فإنا ناظرناهم بلغتهم؛ وخاطبناهم على حكم اصطالحاتهم‬
‫التي تواطؤا عليها في املنطق)‪.2‬‬
‫هذا وبعد أن أدرك ( الغزالي) أن لغة املناطقة والفالسفة وخطابهم يستوجب‬
‫بالضرورة معرفة قوانين الفكر وميزان العقل لجأ إلى وضع منطق للتهافت قبل‬
‫يبين أن االختالف ال يغادرالحدود ‪ -‬سواء‬‫تأليفه لكتاب (تهافت الفالسفة)‪ ،‬حتى ّ‬
‫في املطابقة الدقيقة التي يتحقق في حوارها ونقاشها اإلقناع واالقتناع‪ ،‬أو في‬
‫االلتباس الذي يفتح ذريعة السفسطة واملغالطة‪ ،‬حيث قال‪( :‬وقد أصرح أن في‬
‫املنطقيات البد من إحكامهم‪ ،‬ولكن املنطق ليس مخصوصا بهم؛ إنما هو األصل‬
‫الذي نسميه في فن الكالم (كتاب النظر)‪ ...‬ظن أنه غريب ال يعرفه املتكلمون وال‬
‫‪3‬‬
‫يطلع عليه إال الفالسفة‪).‬‬

‫‪ - 1‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬مقاصد الفالسفة‪ ،‬تحقيق سليمان دنيا‪ ،‬ط‪ 2‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪1961 ،‬م‪،‬‬
‫ص‪ ،31‬واملنقذ من الضالل ‪ ،‬تحقيق موريس بويج‪ ،‬داراألندلس‪ ،‬ط‪ ،10‬نشرة فريد جبر‪ ،1991 ،‬ص ‪38‬‬
‫‪ - 2‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬مقاصد الفالسفة ‪ ،‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫‪ - 3‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬معيارالعلم في فن املنطق‪ ،‬داراألندلس ‪ ،‬بيروت لبنان ‪ -‬دون تاريخ ‪ -‬ص‪27‬‬

‫‪94‬‬
‫هذا ولقد ورد في موضع آخر (أما املنطقيات فال يتعلق �شيء في الدين نفيا‬
‫أو إثباتا بل هو النظر في طرق األدلة؛ واملقاييس وشروط مقدمات البرهان‪،‬‬
‫وكيفية ترتيبه وأن العلم إما تصور أو تصديق‪ 1).‬من هنا اتجه (الغزالي) إلى‬
‫تبيان موضع النقاش الفلسفي وشروطه املنطقية سواء في وضع املقدمات‪،‬‬
‫صر‬ ‫ومضامينها أو الصورة املنطقية التي يأتي فيها البرهان‪ ..‬لذلك كان دائما ُي ّ‬
‫على أن يكون القانون أساس التمييز بين صحيح الحد والقياس عن فاسدهما؛‬
‫في نقاشه أو في رده على الفالسفة؛ فيتميز العلم اليقيني عما ليس يقيني)‪ ،2‬بل‬
‫ألن العلوم املطلوبة ليست فطرية ال‬ ‫فائدة املنطق تكمن في اقتناص العلم؛ ّ‬
‫تحتاج إلى تجثم االستدالل‪ ،‬والنظر‪ ،‬واالعتبار؛ بل ال تنقص إال بشبكة العلوم‬
‫الحاصلة‪( .‬فكل علم نظري ال يحصل إال عن علمين سابقين بإتقان‪ ،‬ويندبان على‬
‫وجه الخصوص؛ وشكل معلوم من األشكال القياسية حمليا أو شرطيا متصال‬
‫أو منفصال‪ ،‬فيحصل من ازدواجها علم ثالث يسمى النتيجة عند حصولها على‬
‫املطلوب‪ .‬قبل حصولها في الجهل بتلك املقدمات‪ .‬وبكيفية اإلزدواج والترتيب‬
‫املف�ضي إلى املطلوب‪ ،‬تصورا أو تصديقا؛ هو مانع عن العلم)‪ .3‬لذلك كتب الغزالي‬
‫كما أسلفنا كتابه (معيار العلم)‪« :‬لتفهيم الناس ‪ -‬على حد تعبيره ‪ -‬طرق التفكير‬
‫والنظر؛ وتنوير مسالك االقيسة والعبر»‪ ،4‬وكل هذا لتسليح املسلم وتمكينه‬
‫من الرد على خصوم العقيدة؛ واملشوشين كالفالسفة والباطنيين‪ .‬أو كما قال‬
‫(إبراهيم مذكور)‪( :‬فالغزالي بصفة خاصة قد سخر املنطق لخدمة علم الكالم‬

‫‪ - 1‬الغزالي‪ - :‬املنقذ من الظالل‪ -‬ط ‪ - 2‬قدم له ‪ -‬فريد جبر‪ -‬اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع بيروت ‪-‬‬
‫‪ 1969‬ص‪22‬‬
‫‪ - 2‬الغزالي‪ :‬مقاصد الفالسفة‪ ،‬ط‪ ، 2‬داراملعارف ‪ -‬القاهرة ‪ -‬تحقيق د‪ /‬سليمان دنيا ‪ -‬ص‪37‬‬
‫‪ - 3‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬معارج القدس‪ ،‬في معرفة مدارج النفس‪ ،‬املكتبة التجارية الكبرى‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دون‬
‫تاريخ‪ ،‬ص ‪105‬‬
‫‪ - 4‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬خطبة كتاب معيارالعلم في فن املنطق‪ ،‬املصدرنفسه‪ ،‬ص ‪26‬‬

‫‪95‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫بطريقة أكثر معرفة‪ ،‬وأكثر دقة)‪ 1‬كما قال ‪ :‬لهذا فإن العلوم النظرية ملا لم تكن‬
‫بالفطرة والغريزة مبذولة وموهوبة؛ كانت ال محالة مستحصلة مطلوبة وليس كل‬
‫سائل قادر على صياغة سؤاله‪ .‬ومتيمما لنهج املشرب الذي سعى إليه‪( ،‬وال كل‬
‫سالك يهتدي إلى االستكمال‪ ،‬ويؤمن االغترار بالوقوف دون ضرورة الكمال‪ .‬وال‬
‫كل ظان الوصول إلى شاكلة الصواب‪ ،‬أمن االنخداع بالمع السراب)‪ ،2‬وكان دائما‬
‫يشير إلى ما وقع فيه املتكلمون والفالسفة اإللهيون‪ ،‬من تناقضات وانزالقات‬
‫خطيرة‪ ،‬إذ يعتبر الكتاب قاعدة نسقية متينة للرد على الفالسفة‪ ،‬سواء من‬
‫خاصية التصورات أو التصديقات‪ .‬وعلى هذا نجد (الغزالي) يلح على ضرورة أن‬
‫يقدم كل طالب على دراسة املنطق؛ قبل أن يخوض في أي علم آخر من العلوم‪...‬‬
‫وهنا نسجل للغزالي مخالفته حتى (ألفالطون) الذي اشترط في أكاديميته أن يبدأ‬
‫البحث عن الحقيقة من سلك الرياضيات فيقول الغزالي‪( :‬ألنه (املنطق) معيار‬
‫الحق العقلي ومن ال يحيط به فال ثقة بعلومه أصال)‪ ،3‬ويتضح هذا جليا أمام‬
‫كل سائل و قارئ في التمهيد الرابع من كتاب (االقتصاد في االعتقاد)‪ ،‬بيانا خاصا‬
‫تستقر فيه مسائل فلسفة‬ ‫ّ‬ ‫عن أهمية املنطق في دراسة علم الكالم الحقل الذي‬
‫الدين؛ وفي الرد على شبهات الخصوم في محاولة تشويه العقيدة اإلسالمية‪.‬‬
‫ولم يتوقف عند هذا الحد‪ ،‬بل اتجه أيضا في الرسالة إلى بيان مناهج األدلة‬
‫ومكانتها حين قال‪( :‬اعلم أن مناهج األدلة متشعبة؛ وقد أوردنا بعضها في كتاب‬
‫محك النظر‪ ،‬وأسبغنا القول فيها في كتاب معيار العلم؛ ولكنا في هذا الكتاب‬
‫نحترز عن الطرق املنغلقة ‪.‬واملسائل الغامضة لإليضاح وميال إلى اإلنجازواجتنابا‬
‫للتطويل)‪.4‬‬
‫‪1 - Ibrahim madkour l’organon d’Aristote - ibid.- p254‬‬
‫‪ - 2‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬معيارالعلم‪ ،‬املصدرنفسه‪ ،‬ص ‪70‬‬
‫‪ - 3‬أبوحامد الغزالي‪ ،‬املستصفى في أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،1‬الطبعة األميرية‪ ،‬بوالق‪ ،‬مصر‪1322 ،‬هج‪ ،‬ص ‪105‬‬
‫‪ - 4‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬تحقيق عثمان عيش‪ ،‬دار االتحاد العربي للطباعة ‪،1973‬‬
‫ص‪05‬‬

‫‪96‬‬
‫هذا وقد ورد في خطبة كتاب‬
‫(املستصفى)‪( :‬ونذكر شرط الحد يظهر أن (أبا حامد الغزايل) قد‬
‫نور الدارسني بقيمة األرضية‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي‬
‫وأقسامهما‪ ...‬وحاجة جميع العلوم املنطقية‪ ،‬ومدى قدرهتا عىل‬
‫احتمال احلق‪ .‬فكل طالب‬ ‫النظرية إلى هذه املقدمة كحاجتنا إلى‬
‫أصول الفقه)‪ ،1‬وهنا يظهرأن (أبا حامد للحق واملعرفة يف هذه الحدود‬
‫اليت رسمها هو ملزم بأن يقبل‬
‫الغزالي) قد ّنور الدارسين بقيمة األرضية‬
‫هذا الرشط‬
‫املنطقية‪ ،‬ومدى قدرتها على احتمال‬
‫الحق‪ .‬فكل طالب للحق واملعرفة في‬
‫هذه الحدود التي رسمها هو ملزم بأن يقبل هذا الشرط وال قيمة وال ثقة بأحكامه‬
‫واستدالالته وال اتجاه له في الحوار واملناظرة مع الخصوم‪ ،‬حتى في مجال علم‬
‫األصوليين‪( .‬أصول الدين وصول الفقه) ‪.‬‬
‫ولعل الغزالي يكون قد استفاد من مباحث الحد األصولي عند السابقين ولم‬
‫يتوقف عند هذا الحد؛ بل أدرج أهمية التصديق املنطقي حتى في حقل التصوف‬
‫حيث قال‪« :‬األولى للمريد قبل املجاهدة االشتغال بتحصيل العلوم بمعرفة معيار‬
‫العلم و تحصيل براهين العلوم ‪ ..‬فإنه يسوق إلى املقصود سياقة موثوقا بها»‪.2‬‬
‫لكن كيف ربط الغزالي بين البرهان املنطقي (العقل) والذوق الرباني؟ إذ يرى أبو‬
‫حامد أن أثناء الرياضة قد يفسد املزاج و يختلط العقل‪ ،‬ويمرض البدن ‪ ...‬فإذا‬
‫لم تكن النفس قد ارتوت بالعلوم الحقيقية البرهانية ؛ اكتست بالخاطرخياالت‬
‫تظنها حقائق تنزل عليها‪ .‬فكم من صوفي بقي في خيال واحد (حينا من الدهر) ‪..‬‬
‫ولو أتقن العلوم لتخلص منه على البديهة) ‪.3‬‬
‫‪ - 1‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬املستصفى في أصول الفقه‪ ،‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪19‬‬
‫‪ - 2‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬ميزان العمل‪ ،‬تحقيق محمد مصطفى ط‪ ،1‬داراملعارف القاهرة‪1964 ،‬م‪ ،‬ص ‪47‬‬
‫‪ - 3‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬ميزان العمل‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص ‪.48‬‬

‫‪97‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫إن املتتبع املتثبت ملؤلفات الغزالي‬
‫املنطقية ‪ -‬كتبا ورسائل ‪ -‬يكتشف «األوىل للمريد قبل املجاهدة‬
‫االشتغال بتحصيل العلوم‬ ‫أن معرفته باملنطق وآلياته لم تأخذ‬
‫شاكلة واحدة منذ بداية تحصيله لهذا بمعرفة معيار العلم وتحصيل‬
‫العلم‪ ،‬وإنما بلغ ذلك بعد أن تضلع براهني العلوم ‪ ..‬فإنه يسوق إىل‬
‫املقصود سياقة موثوقا هبا‬ ‫وحمل لواء النقاش واملناظرة‪ .‬فبعضها‬
‫فرضتها املعرفة املتدرجة املتجددة ‪ -‬في‬
‫نظره ‪ -‬وبعضها اآلخر فرضتها الضرورة‬
‫األصولية‪« .‬الغزالي كان يحسن تطبيق املنطق األرسططالي�سي في نقاشاته في‬
‫العلوم الكالمية اإلسالمي)‪ ،1‬هذا ولقد رأينا أن كتاب (تهافت الفالسفة) يمثل‬
‫نقطة اكتمال الحس املنطقي عند (الغزالي)‪ .‬فاملحطات التي كانت قبل هذا‬
‫الكتاب كلها تساهم في وضع حجر الزاوية من املنطلق الذي كان يتصوره هذا‬
‫الفيلسوف‪ .‬وملا كانت آليات املنطق مرتبطة بمشكلة التأسيس حبذنا الوقوف‬
‫على رأي (الغزالي) في وحدات املنطق من خالل مختلف أعماله‪ ،‬ولقد وجدنا‬
‫صعوبة في ذلك‪ ،‬والحقائق وردت متوارية بين املعاني واأللفاظ‪ ،‬واألصعب من‬
‫ذلك أنها موزعة على ذخيرة كبيرة ال يفرزها إال صابرمثابر‪.‬‬
‫ولقد كتب الغزالي (مقاصد الفالسفة) أثناء تلقيه العلم في طور التدريب في‬
‫بغداد‪ ،‬وتهيأ للرد على الفالسفة بعد أن أدرك ببصيرته خطرهم على عقول الناس‬
‫وعلى عقيدتهم اإلسالمية‪ ،‬وفي هذا يقول الغزالي‪« :‬لم أركز في كتاب (املقاصد)‬
‫على التمييز بين الحق والباطل‪ ..‬وإنما على التفهيم»‪ .2‬وفي هذا السياق نسجل‬
‫للغزالي مدى إدراكه وفهمه و توسعه في طبيعة التفكيرالنسقي‪.‬‬
‫وقد استهل مسيرته النقدية اإلعدادية للمشروع الكبير ‪ -‬الرد على الفالسفة‪-‬‬
‫‪1 - Ibrahim Madkour- ibid-p-256.‬‬
‫‪ - 2‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬مقاصد الفالسفة ‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.31‬‬

‫‪98‬‬
‫باستعراض أهم النظريات الفلسفية واملنطقية بعمق وإسهاب‪ ،‬وركز على‬
‫ّ‬
‫املسائل الخطيرة ‪ -‬ألنها مرتبطة باإللهيات والتفكير املغالي واملغالطي‪ ،‬كما أنه لم‬
‫يجد نفسه معرضة عن استبعاد املنهج العقلي الذي رسمه كمعيار فكري يدعم‬
‫فيه األصول الفقهية والتفكير اإليماني بعد أن أدرك أغوار املنطق كما سردها‬
‫بإسهاب عام في (مقاصد الفالسفة)؛ إذ ما أصبح يتميز به هذا املؤلف هو فصل‬
‫املنطقيات عن الفلسفة ومباحثها بعد أن أقره علما معياريا مندمجا‪ ،‬ومختلطا‬
‫مع بعض التشخيصات والخصوصيات اإلسالمية التي ما فتئت أن تآلفت في‬
‫كتاب (معيار العلم)‪ ،‬ثم بعد رؤية أخرى أكثر مزجا باإلسالميات دونها في (محك‬
‫النظر)‪ .‬وهنا تبدو حلة املنطق قد أصبحت إسالمية من جميع جوانبها‪ ،‬وبعد‬
‫شق الطريق إلى محاولة فك التناقض بين‬ ‫هذه املحاولة التي بدأ بها نجده قد ّ‬
‫االعتقاد اإللهي واالعتقاد العقلي البرهاني ‪ .‬فلجأ إلى تهذيب املنطق‪.‬‬
‫لكن األمرلم يكن سهال‪ ،‬ويبدو ذلك جليا من خالل كتابه (الرد على الباطنية)‪،‬‬
‫حين أبدى (الغزالي) ّأن املقدمات التي أسسوا عليها براهينهم كانت جدلية‪ ،‬وفي‬
‫خضم هذه التجربة بدأت طالسم الشك تأفل‪ ،‬والتثبت يظهر‪ .‬إذ كان بمثابة‬
‫فتح جديد لبوابة املنطق‪ ،‬خاصة حين تحرر من التأثير األصولي التقليدي‪ ،‬ونبغ‬
‫في مصنفه (املستصفى من علوم األصول)‪ ،‬إذ يعد هذا العمل تأليفا بين االجتهاد‬
‫ضحى من أجل التأسيس له على نسق‬ ‫الن�صي وتوظيف املنطق الذي طاملا ّ‬
‫قيا�سي واستداللي واضح‪ ،‬بعد أن مهد للكتاب بخطبة منطقية فقال‪» :‬وليست‬
‫هذه املقدمة من جملة علم األصول وال من مقدماته الخاصة‪ ،‬به بل هي مقدمة‬
‫العلوم كلها‪ ،‬ومن ال يحيط بها فال ثقة له بعلومه أصال)‪.1‬‬
‫وقد بين قبل هذا قيمة هذا العلم وإمكانيته ودوره‪« .‬ألنه أشرف العلوم؛‬
‫ازدوج فيه السمع والعقل‪ .‬واصطحب فيه الرأي و الشرع»‪.2‬‬
‫‪ - 1‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬الستصفى في أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.07‬‬
‫‪ - 2‬الغزالي‪ :‬املستصفى من علم األصول املصدرالسابق ‪ ،‬ص‪.3‬‬

‫‪99‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫إن الفكر املنهجي وطرق البحث قد توطدت عند (الغزالي) بعد مرحلة الشك‪،‬‬
‫واكتمل نضجه حين جمع بين الرأي والسمع‪ ،‬وبمعنى آخربين املنطق والفقه جمعا‬
‫مزدوجا‪( ،‬كل منهما يؤثر في اآلخر)‪ .‬وهذا التطور الذي ساد فكر الغزالي‪ ،‬إن كنا‬
‫من خالل واجهته عرفنا التدرج من (مقاصد الفالسفة) حتى (املستصفى)‪،‬لكن‬
‫حين نلجأ إلى مضمونه و ما حملته املؤلفات في بطونها فإننا نعرف التغيرالحقيقي‪.‬‬
‫إذ ال يظهر بين (املقاصد) و(املعيار) بقدر ما يتجلى في (املحك) و(املستصفى)؛‪..‬‬
‫فقد قام املفكر(رفيق العجم) ببحث خص فيه مكانة الغزالي في املنطق‪ ،‬اعتمد‬
‫فيه على االستقراء واملقارنة الدقيقة استخلصنا منه بعض النتائج‪ .‬مثال‪( :‬إن‬
‫(الجزئي في (املعيار) يقابله (املعين) في (املستصفى)‪ ،‬و(التصور) يقابله (املعرفة)؛‬
‫و(التصديق) يقابله (العلم)‪ ،‬و(القضية الشخصية) تقابلها (القضية املعينة)‬
‫في (املستصفى)‪ ،‬و(الكلية) تقابلها (املطلقة)‪ ،‬و(القياس) في (املعيار) ورد باسم‬
‫(امليزان) في (املستصفى)‪ ،‬و(الحد األوسط) باسم (العلة)‪ .1‬ومن خالل هذه اإلشارة‬
‫املقتضبة نستخلص أن (الغزالي) لم يختلف عن (ابن سينا) في كتبه املنطقية‪ .‬في‬
‫نفس السياق نجد تأكيد (إبراهيم مذكور)‪( :‬الغزالي الذي يمثل بإجماع علماء‬
‫الكالم وأئمتها في كتاباته كان له دور كبير‪ ...‬وكان وفيا ملنطق ابن سينا»‪ .2‬لكن في‬
‫املعياريظهرالبدء في محاولة التغييروإلباس املنطق األرسطي ‪ -‬كما عرفه عند ابن‬
‫سينا والفارابي ‪ -‬حلة املشائية اإلسالمية لكن دون أن يتجاهل القصد في عزل‬
‫املنطق عن املباحث الفلسفية‪ ،‬وهذا بدليل تصريحه‪« :‬إن غرض هذا الكتاب‬
‫(معيار العلم) االطالع على ما أودعناه كتاب تهافت الفالسفة‪ ...،‬في هذ الكتاب‬
‫تنكشف معاني تلك االصطالحات)‪ 3‬التي أودعها في ذلك الكتاب‪.‬‬
‫إن املسيرة الطويلة والحافلة بالتحوالت التي عرفها منحنى فكر (الغزالي) سواء‬
‫‪ - 1‬رفيق العجم‪ :‬املنطق عند الغزالي ‪ -‬املكتبة السلفية ‪ -‬داراملشرق ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة ‪ - 1‬ص‪.64‬‬
‫‪2- MADKOUR-IBID-P10 .‬‬
‫‪ - 3‬الغزالي‪ :‬معيارالعلم‪ -‬املصدرالسابق ‪ ،‬ص‪.26‬‬

‫‪100‬‬
‫بدافع البحث عن الحقيقة كما كان يشير‬
‫إليه دائما‪ ،‬أو بدافع الظروف السياسية إن املسرية الطويةل والحافةل‬
‫والصراع املذهبي الذي اختمر فيه‪ ،‬قد بالتحوالت اليت عرفها منحىن‬
‫فكر (الغزايل) سواء بدافع‬ ‫تتجلى في مشروع الرد على الفالسفة‪،‬‬
‫البحث عن احلقيقة كما‬ ‫وهذا الذي اختص به وتلخص في مؤلفه‬
‫(تهافت الفالسفة)‪ .‬وكان ذلك (سنة كان يشري إليه دائما‪ ،‬أو بدافع‬
‫‪ 488‬هج ‪1095 -‬م) حين كان يقيم في الظروف السياسية والرصاع‬
‫بغداد‪ ،‬رغم أن كثيرين اعتبروه ضربة املذهيب الذي اختمر فيه‪ ،‬قد‬
‫تتجىل يف مرشوع الرد عىل‬
‫قاسية وجهها (الغزالي) إلسكات وإخماد‬
‫الفالسفة‬
‫الفلسفة حتى ال يتجلى صيتها‪ ،‬إال أن هذا‬
‫الحكم لم يلق إجماعا لدى الفالسفة‬
‫واملفكرين‪ ،‬خاصة إذا كان الهدف من إعادة القراءة الكشف عن مبلغ الحوار‬
‫الفلسفي واملنطقي الذي تميز به‪ .‬والدقة في مقارعة الفالسفة‪ ،‬منذ أن صارحهم‬
‫و ألزمهم البراهين املنطقية»‪ 1‬دون البراهين الخطابية»‪ 2‬واملغالطية‪.3‬‬
‫صدركتابه ‪ -‬تهافت الفالسفة‬‫أصر أبوحامد على شق طريقه بعد أن ّ‬ ‫هذا ولقد ّ‬
‫‪ -‬بأربع خطب؛ وضح فيها الدواعي التي حملته على تأليفه‪ ،‬وكلما تدرج إال ّ‬
‫ويلوح إلى‬
‫مبررات؛ البأس أن نقف عندها‪.‬‬
‫ففي خطبته األولى يقول‪( :‬إن الخوض في حكاية الفالسفة تطويل‪ ،‬فان خطبهم‬

‫‪ - 1‬البرهان املنطقي‪ :‬القياس املؤلف من اليقينيات سواء كان ابتداء وهي الضروريات أو بواسطة ‪ ،‬وهي‬
‫النظريات (الجرجاني ‪ -‬التعريفات ‪ -‬ص‪ )44‬ابن سينا‪ :‬هو قياس مؤلف من يقينيات إلنتاج يقيني ‪ -‬كتاب‬
‫النجاة ‪ -‬ص‪.103‬‬
‫‪ - 2‬البرهان الخطابي‪ :‬قياس مؤلف من مقدمات مقبولة أو مظنونة (الجرجاني‪ -‬التعريفات ‪ -‬ص‪. 94‬‬
‫‪ - 3‬القياس السفسطائي (املغالطي) القياس املركب من الوهميات والغرض منه تغليط الخصم‬
‫وإسكاته‪ ..‬قياس ظاهره الحق وباطنه الباطل ‪ -‬جميل صليبا ‪ -‬املعجم الفلسفي‪ -‬ج‪ 1-‬دارالكتاب اللبناني‬
‫‪ -‬بيروت ‪ -‬لبنان ‪ - 1964 -‬ص ‪.362‬‬

‫‪101‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫طويل‪ ،‬ونزاعهم كثير‪ ،‬وآراءهم منتشرة‪.‬‬
‫وطرقهم متباعدة متدابرة‪ ...،‬فلنقتصر فما دوايع الرد عىل الفالسفة‬
‫على إظهار التناقض في رأي مقدمهم‪ ..‬ووصفهم بالتناقض والهتافت؟‬
‫وما إطار انتقادات الغزايل‬ ‫تثبت لهم وال‬ ‫وهو أرسططاليس‪ .‬فال ّ‬
‫للفالسفة؟ ومرجعيته‬ ‫إتقان ملذهبهم عندهم‪ ،‬وأنهم يحكمون‬
‫احلقيقية اليت اعتمدها يف‬
‫بظن وتخمين؛ من غيرتحقيق و يقين‪ ..‬ثم‬
‫بناء انتقاداته؛ وما املآخذ اليت‬
‫املترجمون لكالم (أرسطاليس) لم ينفك‬
‫يحاسبون علهيا؟ وهل مدلول‬
‫كالمهم عن تحريف وتبديل»)‪ .1‬فمن‬
‫الهتافت جاء يف محهل من حيث‬
‫هذا‪ ،‬فإنه يظهرعلى الغزالي سعة اإلطالع‬
‫الدقة أم هو تساقط و تحطم؟‬
‫على الفكر اليوناني ‪ ،‬من نوافذ املشائية‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ومعرفته للمنطق وهضمه‬
‫ملسائله‪ ،‬أمر ال يواريه ال التقليد وال الزمن‪ ،‬ونجد مثل هذا التعليق جهر به (ويل‬
‫ديورانت ‪ )1981 - 1885‬حين بحث في سر الحضارات اإلنسانية قال‪« :‬التهافت‬
‫أعظم كتبه تأثيرا فلقد استعان فيه على العقل بجميع فنون العقل‪ ..‬واستخدم‬
‫الجدل الفلسفي ليثبت أن العقل يؤدي باإلنسان إلى التشكك في كل �شيء»‪.2‬‬
‫الرد على الفالسفة‪،‬‬‫وبهذا يتضح مشروع الغزالي؛ الذي يتلخص أساسا في ّ‬
‫سواء اليونانيون منهم أو املسلمون‪ .‬لكن الجدير بنا أن نقترب أكثر من تلك‬
‫الذخيرة ونغوص في أعماقها لعلنا نخرج بحكم نستأنس به من خالل قراءة‬
‫متأنية لكتاب تهافت الفالسفة‪.‬إذ يتألف من دعاء وأربعة خطب وعشرين مسألة‬
‫وخاتمة‪ .‬ودواعي الرد التي نتعرف عليها من خالل النظرفي الخطب التي استهل بها‬
‫الكتاب قبل أن نشرع في البحث عن إجابات لتساؤالت يفرضها البحث‪ :‬فما دواعي‬
‫‪ - 1‬تهافت الفالسفة‪ ،‬نشرة األب بويج‪ ،‬املطبعة الكاثوليكية‪ ،‬بيروت ‪1962‬م‪ .‬ونشرة علي ملحم ط‪ ،1‬دار‬
‫ومكتبة الهالل‪ ،‬بيروت ‪1994‬م‬
‫‪ - 2‬ويل ‪ -‬ديورانت ‪ -‬قصة الحضارة ‪ -‬ج‪ 3-‬مطبعة لجنة التأليف القاهرة ‪ - 1964 -‬ص‪362‬‬

‫‪102‬‬
‫الرد على الفالسفة ووصفهم بالتناقض والتهافت؟ وما إطار انتقادات الغزالي‬
‫للفالسفة؟ ومرجعيته الحقيقية التي اعتمدها في بناء انتقاداته؛ وما املآخذ‬
‫التي يحاسبون عليها؟ وهل مدلول التهافت جاء في محله من حيث الدقة أم هو‬
‫تساقط و تحطم؟‪.‬‬
‫سبق أن أشرنا إلى أن أبا حامد الغزالي لم يكتب التهافت مباشرة إال بعدما‬
‫قدم له بأعمال وضعها كمدخل للرد سواء (املقاصد) أو (املعيار)‪ .‬ففي الخطبة‬
‫األولى قال‪« :‬أما بعد فاني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميزعن األتراب‬
‫والنظراء بمزيد الفطنة و الذكاء‪ ،‬قد رفضوا وظائف اإلسالم‪ ..‬بل خلعوا بالكلية‬
‫ربقة الدين بفنون من الظنون‪ ..‬ويبغونها عوجا‪ ،‬وباآلخرة هم كافرون)‪ 1‬لقد بات‬
‫من الواضح أن يصرح الغزالي بالوضعية الفكرية واالجتماعية التي أثرت فيه‪،‬‬
‫وحملته على تبيان مواطن التهافت والتناقضات التي عاش فيها الفالسفة املشاؤن‬
‫بعقولهم‪ ،.‬والعامة بموروثهم خاصة إذا كان (املقلد على خطرشديد بل على شفا‬
‫جرف هار‪ .‬ألن افتراقات األمم و الفرق في امللل و النحل هوة سقط فيها األكثرون‪،‬‬
‫وما نجا منها إال األقلون‪ 2».‬فهذا التحذير هو مبدأ رفع اللواء للرد على املنبهرين‬
‫واملغالين؛ بعد تبيان مصدركفرهم و ضاللهم ‪ .‬و تناقض كلماتهم)‪.3‬‬
‫ولو عدنا إلى تلك املرحلة الفكرية لوجدنا أنواعا من الصراعات‪ ،‬ناتجة عن‬
‫التنطع وتتخللها حمالت الباطنية‪ 4‬والكرامية‪ -5‬التي غذتها أطراف سياسية‬
‫ومذهبية‪ ،‬قد أشرنا إلى بعضها سالفا‪ .‬وليس غريبا أن يتأثر ‪ -‬الغزالي ‪ -‬بتلك‬

‫‪ - 1‬الغزالي ‪ :‬تهافت الفالسفة ‪ ،‬مصدرسابق ‪ ،‬ط‪، 1‬علق عليه ‪ ،‬علي بوملجم‪ ،‬بيروت ‪ - 1994‬ص‪27‬‬
‫‪ - 2‬الغزالي‪ :‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪27‬‬
‫‪ - 3‬الغزالي‪ :‬املصدرنفسه‪،‬ص‪28‬‬
‫‪ - 4‬الباطنية ‪ :‬فرقة تحكم بأن لكل ظاهرا باطنا‪ ،‬ولكل تنزيل تأويال‪ -‬و اإلمام معصوم ‪ -‬انظرجميل صليبا‬
‫‪ -‬املعجم الفلسفي ج ‪ - 1‬ط ‪ 1-‬دارالكتاب لبنان ‪ - 1982 -‬ص‪.196 - 195‬‬
‫ٔ‬
‫‪ -5‬الكرامية‪ :‬اصحاب عبد هللا بن كرام توفي سنة ‪255‬هج‪ ،‬قالوا بالتجسيم و التشبيه‪ ،‬و اتهموا على ر�ضي‬
‫هللا عنه ‪ -‬انظرالشهرالستاني ‪ -‬امللل و النحل ‪ -‬ط‪ - 2002 - 2‬ص‪.90‬‬

‫‪103‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫األوضاع‪ ،‬بعد أن أدرك خطورة األمر ويجمع العدة للنقد‪ .‬لكن هل كل من سلك‬
‫سبيل العقل واملنطق يكون قد ّ‬
‫ضل في نظر الغزالي وتبوأ مقعد املتهافتين؟‪ .‬ولهذا‬
‫نجده يكشف عن دواعي الرد فيقول‪« :‬فلنقتصر على إظهار التناقض في رأي‬
‫قدمهم الذي هو الفيلسوف املطلق واملعلم األول‪ ..‬وهو أرسططاليس (‪384‬ق‬ ‫ُم ّ‬
‫م ‪ 322 -‬ق م)‪ .1‬وهنا يبين (الغزالي) أيضا؛ أن الفالسفة ال تثبت لهم وال إتقان‬
‫ملذهبهم (وأنهم يحكمون بظن وتخمين من غيرتحقق ويقين»‪ ،2‬إذ إن كل عملياتهم‬
‫أقروها في كتبهم والحيلة في ذلك‬ ‫االستداللية بعيدة عن السمة املنطقية التي ّ‬
‫أن هؤالء الفالسفة يستدرجون ضعاف العقول؛ بالعلوم الحسابية واملنطقية‬
‫بوصفها يقينية ومنطقية لتبرير علومهم اإللهية‪ ..‬لكن لو كانت علومهم اإللهية‬
‫صحيحة ملا اختلفوا فيها ‪ ،‬ولكان ذلك يشبه اتفاقهم في العلوم املنطقية ‪.‬‬
‫هذا ولقد أشارالغزالي إلى ّأن الفالسفة املسلمين واملترجمين لم يكونوا أمناء في‬
‫حرفوا و ّبدلوا قول املعلم األول‪ ،‬وإال كيف نفسر اختالفهم‬ ‫النقل و الترجمة بل ّ‬
‫ونزاعهم؟ ولم يتوقف عند هذا الحد بل اتجه إلى الذين اشتهروا بالنقل من‬
‫املسلمين‪ ،‬فيقول‪« :‬وأقومهم بالنقل والتحقق من املتفلسفة في اإلسالم‪( ،‬الفارابي‬
‫أبونصر‪870‬م ‪950 -‬م) و(ابن سينا ‪970‬م‪1038‬م)‪ .‬فنقتصرعلى إبطال ما اختاراه‬
‫الضالل»‪ .3‬ومن هذا الخطاب نستطيع‬ ‫ورأياه الصحيح من مذهب رؤسائهم في ّ‬
‫القول‪ّ :‬إن الغزالي عرف الفلسفة اليونانية بل؛ واملنطق وتضلع فيه من نافذة‬
‫املشائين املسلمين الفارابي وابن سينا‪« :‬فليعلم إنا مقتصرون على ر ّد مذاهبهم‬
‫بحسب نقل هذين الرجلين‪ ،‬كي ال ينتشر الكالم بحسب انتشار املذاهب»‪.4‬‬
‫والدراسة التي قام بها (األعسم) توحي أن الغزالي لم يرجع إلى كتب أفالطون‬

‫‪ - 1‬الغزالي‪ :‬تهافت الفالسفة مصدرسابق ‪ ،‬ص‪31‬‬


‫‪ - 2‬الغزالي‪ :‬املصدرنفسه ‪ -‬ص‪32‬‬
‫‪ - 3‬الغزالي‪ :‬املصدرنفسه ‪ -‬ص‪32‬‬
‫‪ - 4‬بخارى ‪370‬هج ‪ -‬و توفي ‪ 428‬هج ‪ -‬انظرابن خلكان ‪ -‬وفيات األعيان ‪ -‬ج‪ - 4‬ص ‪240 - 239‬‬

‫‪104‬‬
‫وأرسطو مباشرة‪ ،‬وإنما اطلع على أرائهم‬
‫لقد أشار الغزايل إىل ّ‬
‫أن‬ ‫من خالل كتب الفارابي (ت‪980‬م) وابن‬
‫سينا (‪370‬هج ‪428 -‬هج)‪ ،‬وهذه الدراسة الفالسفة املسلمني واملرتمجني‬
‫لم يكونوا أمناء يف النقل‬ ‫املقارنة التي أوردها في كتاب (املصطلح‬
‫حرفوا و ّبدلوا‬
‫و الرتمجة بل ّ‬ ‫الفلسفي عند العرب) تبين أن «لدينا‬
‫حقيقة مهمة‪ ،‬هي أن مصدر الغزالي في قول املعلم األول‪ ،‬وإال كيف‬
‫معرفة تفاصيل فلسفة (ابن سينا)؛ لم نفرس اختالفهم ونزاعهم؟‬
‫تستند إلى التفصيالت الواسعة في كتاب‬
‫الشفاء‪ ،‬بل باالستناد إلى تلك الخالصة‬
‫املنظمة التفصيالت التي توجد في كتاب النجاة»‪ ،1‬ومع ذلك يهاجم الفالسفة‬
‫ويعتبرهم أغبياء‪ .‬أما علماء الكالم ‪ -‬الباطنية خاصة‪ ،‬واملعتزلة ‪ -‬فإن كانوا قد‬
‫تيمموا الدفاع باالستدالل عن العقيدة اإلسالمية‪ ،‬إال أن تقليب كالمهم لم يكن‬
‫فيه ما يطفئ وما يشفي‪ ،‬وليس فيه ما ينجي من الظلمات؛ ويبرر ذلك بقوله‪ّ :‬‬
‫«بأن‬
‫األقيسة املؤلفة من املسلمات واملشهورات إنما هي جدلية‪ ،‬كما أن املؤلفة من‬
‫املظنونات حجة خطابية؛ واملؤلفة مما يوقع انقباضا أوانبساطا في النفس طريقة‬
‫شعرية‪ ،‬واملركب من الوهميات مغالطة وأقوال سفسطائية»‪ .2‬وهذا التصنيف‬
‫الذي أشار إليه الغزالي ليس غريبا على الفالسفة واملتكلمين؛ وإنما تلميحا منه‬
‫إلى ما خلصت إليه دراسته التي يتأسس مبدأها على كشف تهافت الفالسفة‬
‫وحقيقة حججهم‪ ،‬سواء من ناحية املادة أومن ناحية الصورة‪ .‬وينبجس ذلك من‬
‫خالل مختلف املواطن التي هي مدخل للنزاع‪ ،‬وحقل خصب للمقارعة بينه وبين‬
‫الفالسفة وخصومهم ‪ -‬من املتكلمين ‪ -‬ولقد لخصها في ثالثة أقسام فقال‪« :‬قسم‬
‫يرجع فيه النزاع إلى لفظ مجرد كتسميتهم‪ ..‬صانع العالم ‪ ..‬جوهرا ‪ ..‬لسنا نخوض‬
‫‪ - 1‬األميراالعسم‪ :‬املصطلح الفلسفي عند العرب ‪ -‬دارالتونسية للنشر‪ - 1991 -‬ص‪97‬‬
‫‪ - 2‬الغزالي‪ :‬خطبة كتاب معيارالعلم ‪ ،‬املصرنفسه‪ ،‬ص ‪07‬‬

‫‪105‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫في إبطال هذا‪ .1»..‬فالغزالي كان عارفا‬
‫باملنطق ومدركا لنقاط االختالف والنزاع األقيسة املؤلفة من املسلمات‬
‫فيه؛ ومبحث الحد له وزنه عند املناطقة واملهشورات إنما يه جدلية‪،‬‬
‫القدماء عامة واملشائين خاصة‪ .‬ومن كما أن املؤلفة من املظنونات‬
‫ثمة اعتبره الغزالي قسما لغويا أكثر منه حجة خطابية؛ واملؤلفة مما‬
‫منطقيا؛ ال ملجئي للخوض فيه‪ ،‬واألهم يوقع انقباضا أو انبساطا يف‬
‫عنده ما يطلب التصديق والتكذيب كما النفس طريقة شعرية‪ ،‬واملركب‬
‫قال في محك النظر‪« :‬واملطلوب من العلم من الوهميات مغالطة وأقوال‬
‫سفسطائية‬ ‫الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب‬
‫ال ينتقص إال بالحجة والبرهان‪ ،‬وهو‬
‫القياس» ‪.2‬‬
‫ألن موضوعاته‬ ‫أما القسم الثاني فيكاد يخلو من االصطدام والنزاع فيه؛ ّ‬
‫تتوازى مع أصول الدين‪ ،‬وبعيدة عن تكذيب األنبياء والرسل‪ .‬بل لم يصل األمر‬
‫حتى إلى تزييف أو تحريف كالرياضيات والطبيعيات‪ ،‬وخاصة إذا كانت البراهين‬
‫التي تتأسس عليها هذه املسائل تقوم على عمليات هندسية وحسابية ال شك فيها‪.‬‬
‫مبيت بالخالف والنزاع؛ خاصة ملاله من عالقة‬ ‫وأما القسم الثالث‪ :‬وهو ّ‬
‫هذا ّ‬
‫بالدين وأصوله‪ ،‬كالقول في حدوث العالم وصفات الصانع‪ ،‬وبيان حشراألجساد‪،‬‬
‫واألبدان‪ .‬وقد أنكروا جميعا هذا الفن‪ ،‬ونظائره ‪ ...‬ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم‬
‫في دون ما عداه»‪.3‬‬
‫قبل أن نتعجل الحكم ننبه على أن هذه املسالة األخيرة‪ ،‬هي التي كانت موطنا‬
‫للمقارعة والنقاش الذي أثاره الغزالي مع الفالسفة‪ ،‬والذين انتقدوها فيما بعد‬
‫‪ - 1‬الغزالي ‪ :‬كتاب محك النظر‪ -‬دارالنهضة الحديثة ‪ -‬ط‪ - 1‬بيروت ‪ -1966‬م ‪ -‬ص‪. 9‬‬
‫‪ - 2‬الغزالي‪ :‬املصدرنفسه ‪ -‬ص‪. 35‬‬
‫‪ - 3‬الغزالي ‪ :‬كتاب املنقذ من الظالل ‪ -‬ط‪ - 2‬اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع ‪ -‬بيروت ‪ - 1969 -‬ص‪ - 19‬ص‪20‬‬

‫‪106‬‬
‫كـابن تيمية وابن رشد‪ .‬إذا حق لنا تحويل كالم الغزالي إلى إشكال فإن األمور‬
‫ستتضح أكثر فنقول‪ :‬هل يمكن للبرهان املنطقي أن يؤتي أكله مع هذه القضايا‬
‫امليتافيزيقية‪ ،‬أو كما سماها في «املنقذ» باإللهيات؟‬
‫جعل الغزالي «الفالسفة أصنافا ثالثة‪ :‬دهريين‪ ،‬وطبيعيين‪ ،‬وإلهيين‪ .‬أما‬
‫الدهريون فهم زنادقة؛ ألنهم جحدوا هللا و زعموا ّأن العالم موجود بنفسه‪ّ ،‬‬
‫وأما‬
‫الطبيعيون فقد اعترفوا بوجود خالق حكيم‪ ،‬لكنهم وجحدوا اآلخرة وأنكروا‬
‫العقاب والثواب‪ ،‬وهؤالء في رأيه زنادقة بالرغم من إيمانهم باهلل وصفاته‪.‬‬
‫وأما اإللهيون وفيهم «سقراط وأفالطون وأرسطو»‪ .‬فقد ر ّدوا على الدهريين‬
‫والطبيعيين‪ ،‬إال أنهم استبقوا من رذائل كفرهم بقايا لم يوفقوا من التحرر‬
‫منها‪ .‬ولذلك وجب تكفيرهم وتكفير أتباعهم من املتفلسفة اإلسالميين كابن‬
‫سينا والفارابي وغيرهم‪ .‬أما املنطقيات والرياضيات فال تتعلق بأمور الدين بل‬
‫هي أمور برهانية‪ .‬تلك هي الكفة التي وضع الغزالي فيها الفالسفة و كأنه يحدد‬
‫موقفا من العلوم ومدى قدرتها على بلوغ الحقيقة من جهة‪ ،‬ويرفض قدرة العقل‬
‫على تأسيس البرهان اليقيني ‪ -‬املنطقي الذي تكون مقدماته يقينية ‪ -‬في مجال‬
‫امليتافزياء‪ ،‬فهذا املوقف يمثل صرح نظرية املعرفة يتقارب مع التصور الذي‬
‫تتميز به النقدية عند ايمانويل كانط ‪1724( Emanuel - Kant‬م‪1804 -‬م) في‬
‫ضل سبيله حيث قال‪« :‬أنا أقدر أن‬‫رسم الحدود التي ال يتجاوزها العقل ‪ ...‬وإال ّ‬
‫أتقدم بكل أمان وبتريث دائم‪ ،‬لكي أعين بشكل نهائي كل مجال العقل الخالص‪،‬‬
‫في حدوده بصفة شاملة و بشكل كلي مماثل للمبادئ الكلية‪ ،‬ألن هذا الذي كانت‬
‫امليتافيزيقا بحاجة إليه حتى تؤلف نسقها على مخطط صحيح»‪ .1‬وقد انطلق‬
‫في خطبته الثانية إلى تأكيد تبيان التناقض في مسالكهم‪ ،‬لكن هذه املرة بسالح‬
‫مختلف في الشكل مع األول‪ ،‬و كان ذلك بتأليب الفرق الكالمية على إتباع أرسطو‬
‫‪1 - KANT-E- Prolégomènes toute métaphysique future.tra - louis-guillermit - l - ph - vrin-‬‬
‫‪paris - 1996 - p19‬‬

‫‪107‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ُ‬
‫فيقول‪« :‬فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعا بإلزامات مختلفة‪ ،‬ألزمهم تارة‬
‫مذهب املعتزلة و أخرى مذهب الكرامية ‪ ....‬وال أنتهض ذابا عن مذهب مخصوص‬
‫بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم‪ ...‬فلنتظاهر عليهم؛ فعند الشدة تذهب‬
‫األحقاد» (‪ .)35‬ذا الذي يقودنا إلى إدراك مقدار الحملة التي أعدها الغزالي في‬
‫التصدي للفالسفة‪.‬‬
‫ّ‬
‫إال أنه ليس من نافلة القول أن نسجل على فيلسوفنا املتضلع في املنطقيات‬
‫نوعا من التنا�سي لخالفاته مع الفرق الكالمية اإلسالمية في مواجهة الخصوم ‪-‬‬
‫الفالسفة ‪ -‬وإال كان لدينا رأي آخرمن الوجهة املنطقية‪ .‬مع العلم أنه كان أشعريا‬
‫وكثيرا ما انتقد املعتزلة‪ ،‬والشيعة والخوارج واملرجئة‪ .‬وهذا يبدو جليا في كتابه‬
‫(فضائح الباطنية) وفي كتاب (اإلقتصاد في اإلعتقاد)‪ ،‬بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛‬
‫وهوالتأليب على الفالسفة وطلب البرهان منهم ‪ ،‬والنظرإلى مقدمات البرهان‪ .‬كما‬
‫يقول ويؤكد ذلك دائما‪« :‬ذلك ّأن األقيسة املؤلفة من املسلمات واملشهورات‪،‬‬
‫إنما هي مقاييس جدلية‪ .‬كما أن املؤلفة من املظنونات حجة خطابية‪ ،‬واملؤلفة‬
‫ُ‬
‫مما يوقع إنقباضا أو انبساطا في النفس طريقة شعرية؛ واملركب من الوهميات‬
‫مغالطة و أقوال سفسطائية»‪ .1‬وهذا التقسيم والتصنيف يمثل قانون النقاش‬
‫واملقارعة؛ لهذا أصبح من الالزم تمحيص املقدمات من الناحية املادية والصورية‪.‬‬
‫وهذا ليس أمرا سهال‪ ،‬خاصة حين تتعلق املسألة (بالقياس املضمر‪ ،‬والقياس‬
‫املوجه)‪ - 2‬كما سنعرفه الحقا‪.‬‬

‫‪ - 1‬الغزالي‪ :‬كتاب تهافت الفالسفة‪ ،‬املصدرالسابق ‪ ،‬ص‪37‬‬


‫‪ - 2‬القياس املوجه‪ :‬ويكون القياس موجها متى كانت إحدى مقدمتيه أو كلتاهما موجهتين ‪ -‬القياس‬
‫االضماري أو املضمر‪ Enthymème :‬عند أرسطو (قياس جدلي) ينتج من مقدمتين ظنيتين‪ .‬أما عند‬
‫املحدثين‪ ،‬فهو قياس مبتور أضمرت إحدى مقدمتيه وحتى النتيجة‪ ،‬وفي منطق بوروايال‪ :‬هو قياس تام‬
‫في الذهن ناقص في العبارة‪ - ،‬انظر جول تريكو ‪ -‬املنطق الصوري ‪ -‬تر محمود يعقوبي‪ -‬ص‪ 295‬وعند‬
‫الساوي ‪( :‬هو قياس حذفت مقدمته الكبرى إما لظهورها أو االستغناء عنها‪ .‬و أما إلخفاء كذب الكبرى‪- .‬‬
‫البصائرالناصرية ‪ -‬ص‪137‬‬

‫‪108‬‬
‫‪Jules Tricot‬‬ ‫يقول (جول تريكو ‪-‬‬
‫‪« :( 1863 -1962‬إن املوجهة أقيسة الفالسفة ‪ -‬يف نظر الغزايل‬
‫مقدماتها فقط قضيتان موجهتان‪ - ،‬هيربون من مواقع ضعفهم‬
‫وقد اشتهرت دراسة األقيسة املوجهة وهزيمهتم؛ بمربرات واهية‬
‫بالصعوبة اشتهارا له ما يبرر بعضه‪ :‬كادعائهم أن علومهم غامضة‬
‫وخطهبم تستعيص عىل‬ ‫أنها كما اسماه املدرسيون (محنة‬
‫األفهام الذكية‬ ‫املنطقيين)‪ ،1‬ولقد رأى فيه (األخضري‬
‫‪983 - 918 -‬هج ‪1520 - 1420 -‬م)‬
‫‪2‬‬
‫نظما في السلم املرونق فقال‪:‬‬
‫أقس ـ ـ ـ ـ ــام هذي خمسة جليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫وحجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة نقل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــية عقل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيه‬
‫وخـ ـ ـ ـ ــامس سفسطة نل ـ ـ ــت األمل‬ ‫خطـ ـ ـ ــابة شعـ ـ ـ ــرو بــرهان ج ـ ـ ــدل‬
‫إن الفالسفة ‪ -‬في نظرالغزالي ‪ -‬يهربون من مواقع ضعفهم وهزيمتهم؛ بمبررات‬
‫واهية كادعائهم أن علومهم غامضة وخطبهم تستع�صي على األفهام الذكية «هذه‬
‫املوضوعات تتوقف على معرفة جادة للرياضيات واملنطقيات؛ وهذه العلوم‬
‫الضرورية ليست من جبلتهم‪ .‬لهذا فاملنطقيات البد من إحكامها وهو الصحيح‪.‬‬
‫ولكن املنطق ليس مخصوصا بهم؛ وإنما األصل هو الذي نسميه الكالم في (محك‬
‫النظر)‪ ..‬وأن هذه الشروط هي التي وضعوها للبرهان»‪ .‬فبالنسبة (للغزالي) بعد‬
‫والشراح‪« ..‬لم يتمكنوا من الوفاء‬ ‫ّ‬ ‫اطالعه عليها عن طريق ابن سينا والفارابي‪،‬‬
‫ب�شيء منه في علومهم اإللهية» ‪ 3‬رغم أنه قد عرف عن (ابن سينا) أن املنطق نعمة‬
‫على العلوم ومصباحها الذي تستنير به بحثا عن الحقائق؛ «املنطق نعم العون‬

‫‪ - 1‬جول تريكو ‪ -‬املنطق الصوري ‪ -‬ط‪ - 2‬ترجمة ‪ -‬محمود يعقوبي ‪ -‬ديوان املطبوعات الجامعية ‪-1992‬‬
‫‪ -‬ص ‪307‬‬
‫‪ - 2‬عبد الرحمان االخضري‪ :‬مبادئ علم املنطق‪ -‬نقال عن متن السلم املرونق ‪ -‬ص‪ 118‬البيت ‪.115‬‬
‫‪ - 3‬الغزالي‪ :‬تهافت الفالسفة ‪ ،‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪40‬‬

‫‪109‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫في إدراك العلوم كلها»‪ .1‬من هذه املقاربة‬
‫نستخلص أن (الغزالي) لم يتعرض لنقد كيف صاغ الغزايل أبو حامد‬
‫املنطق وتزييفه‪ ،‬بقدر ما وضع له أهمية الدالالت املنطقية؟ وهل كان‬
‫يقصد من ذلك تهسيل‬ ‫جليلة في العملية الفكرية‪ ،‬ألن األفكار‬
‫تفسد إن لم ترتكز على املنطق‪ ،‬وألنه العمل املنطيق وتخليصه من‬
‫«مهذب طرق االستدالل»‪ .2‬تلك هي املقوالت امليتافزييقية اليت ركز‬
‫الوضعيات التي تحدد مسوغات تهافت علهيا الفالسفة املشاؤون اليت‬
‫الفالسفة وتناقضهم على حسب املسألة اعتربها آراء مهتافتة وباطةل‬
‫منطقيا؟‬ ‫التي يتناولها‪ .‬إال أن القراءة املتأنية لحدود‬
‫الفلسفة واملنطق‪ ،‬في مصادر اللغة‬
‫العربية؛ تقودنا إلى ضرورة التدقيق في‬
‫مدلول التهافت وإلى أي مدى كان صحيحا؟‪ .‬هذا وليس من الحكمة واإلنصاف أن‬
‫نقبل على قراءة مشروع الغزالي النقدي قبل أن نعين مدلوالت الكتاب القيم؛ ألن‬
‫هذا املوضوع يفرض االستباق‪ ،‬ودونه ال نفهم ردود نقاده الفلسفية واملنطقية ‪.‬‬
‫لهذا ال نجد مانعا في أن نطرح بعض التساؤالت التي تحدد لنا ولواملعالم الرئيسية‬
‫للعنوان الذي طاملا ركز عليه فيلسوفنا الغزالي‪ ،‬وهذا قد يجعلنا بالطبع نقترب‬
‫من وجهة نظرجديدة ‪ .‬كيف صاغ الغزالي أبو حامد الدالالت املنطقية؟ وهل كان‬
‫يقصد من ذلك تسهيل العمل املنطقي وتخليصه من املقوالت امليتافيزيقية التي‬
‫ركزعليها الفالسفة املشاؤون التي اعتبرها آراء متهافتة و باطلة منطقيا؟‬
‫ملا كان موضوع دراستنا من املنطقيات حبذنا اإلشارة إلى ما هو أساس فقط‬
‫دون غيره‪ ،‬تجنبا للوقوع في االجترار إلى مناقشة غير املطلوب وغير املوعود به في‬
‫اإلشكال الرئيس للمبحث‪.‬‬
‫‪ - 1‬أبو علي بن سينا‪ :‬الشفاء ‪ -‬املنطق ‪ ،‬املصدرالسابق‪ ،‬وزارة املعارف العمومية ‪ -‬القاهرة‪ -‬ط ‪ - 2‬ص‪15‬‬
‫‪ - 2‬األعسم‪ :‬معجم املصطلح الفلسفي عند العرب‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬الدارالتونسية للنشر‪ -1991-‬ص‪99‬‬

‫‪110‬‬
‫يبدو من خالل النظرة الدقيقة أن النقد الذي وجهه الغزالي إلى الفالسفة‬
‫يعتبر يسيرا إذا ما قيس بمنجزالفكرالفلسفي عبرالعصور‪ ،‬أي قبل الغزالي كما‬
‫أننا نجد األمر ّبين في موافقة (الغزالي) الفالسفة‪ ،‬في بعض النتائج أوحتى في بعض‬
‫املقدمات التي يوردونها‪ ،‬إال أنه يعود ويرفض أنها تلزم عنها‪ .‬فمثال نجده يقول في‬
‫ّ‬
‫(تهافت الفالسفة)‪« :‬في بيان عجزهم عن إقامة الدليل على أن هللا واحد وأنه ال‬
‫يجوز فرض االثنين»‪ .1‬وفي قوله ‪« :‬في تعجيزهم عن إقامة البرهان على أن النفس‬
‫اإلنسانية جوهرروحاني قائم بنفسه ال يتحيز»‪ .2‬أننا نجد إثبات الغزالي هذا يشير‬
‫إلى تبنيه للنتيجتين‪ ،‬ولكن حين نتقدم في التحليل يتبين أنه حاد عن االقتناع‬
‫ّ‬
‫املنطقي وتأثير أقيسته فيه‪ .‬ولجأ إلى الحدس‪ ،‬وأحيانا إلى طريق الشرع‪ .‬وما يؤكد‬
‫رأينا قوله‪« :‬لسنا نعترض على دعواهم كون النفس جوهرا بنفسه ببداهة العقل‪.‬‬
‫ولسنا نعترض على دعواهم اعتراض من يبعد ذلك من قدرة هللا تعالى‪ ،‬أو يرى أن‬
‫ّ‬
‫الشرع جاء بنقيضه‪ ،‬لكننا ننكر دعواهم داللة مجرد العقل عليه و االستغناء‬
‫ّ‬
‫عن الشرع فيه‪ 3».‬وإذا عدنا إلى عبارته «فهذا الفن ونظائره هو الذي ينبغي أن‬
‫يظهر فساد مذهبهم فيه ‪ ،‬دون ما عداه»‪ .4‬فوضع اسم التهافت بقصد أن بعض‬
‫ما جاء به الفالسفة في نطاق اإللهيات متهافت‪ ،‬أي متناقض وليس كل ما جاء به‬
‫الفالسفة جميعا‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن املتتبع يشعر أنه أمام ضرورة منهجية تستدعي تحديد األصول التي بني‬
‫عليها تفكيره في غالبيته‪ ،‬فهو يعتمد على أسس عديدة أبرزها يخلص فيما‬
‫اعتمده في بناء فكره‪ ،‬أي‪ :‬على معطى الشريعة وتطابق الحدوس معها‪ .‬وعدم‬
‫بأي حال‪ ،‬وعدم انفصال النظر عن العمل بأي حال ‪ .‬ولقد‬ ‫مخالفة البرهان ّ‬

‫‪ - 1‬الغزالي ‪ :‬املنقذ من الضالل ‪ ،‬املصدرالسابق ‪ - ،‬ص‪27‬‬


‫‪ - 2‬الغزالي ‪ :‬تهافت الفالسفة‪ ،‬املصدرالسابق‪ ،‬ص‪40‬‬
‫‪ - 3‬الغزالي‪ :‬املنقذ من الظالل ‪ -‬ص‪19 - 18‬‬
‫‪ - 4‬الغزالي‪ :‬معيارالعلم في فن املنطق ‪ -‬ص‪ 3‬وفي املقدمة الثالثة لتهافت الفالسفة ‪ -‬ص‪37‬‬

‫‪111‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫أوضح ذلك جيدا حين قال عن املتفلسفة املسلمين‪« :‬املترجمون لكالم أرسطو لم‬
‫ينفك عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير وتأويل‪ ...‬وأقومهم بالنقل والتحقيق‬
‫من املتفلسفة في اإلسالم الفارابي أبو نصر‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬فنقتصر على إبطال ما‬
‫اختاراه ورأياه الصحيح‪ ....‬على رد مذاهبهم بحسب نقل الرجلين»‪.1‬‬
‫ومن هنا يبدوأن الغزالي يعي أن هناك تبديال وتحريفا ألرسطواألمرالذي يوجب‬
‫التفسيروالتأويل‪ .‬لكن نجده يختصرالقول التحقيق األقوم من غيره على األقل‪،‬‬
‫أقر به صحيحا‪ .‬وإن كان في‬ ‫وهو ما اختاره الفارابي وابن سينا‪ ،‬وهذا ال يجعل ما ّ‬
‫نظرهما كذلك‪.‬‬
‫ونحن تعلمنا من دراستنا ملنطق التحقيق‪ ،‬وأدركنا أن التحقيق بات أمرا‬
‫ألن الكثير ممن سلكوا هذا البحر غرقوا فيه إال‬ ‫ضرو يا‪ ،‬لكنه ليس بالهين؛ ّ‬
‫ر‬
‫املتثبتين‪ ،‬والغزالي كان يدرك ذلك‪ ،‬لهذا اقتصر على االنتقادات املتوارية في‬
‫األقوال وقد نستبق األحداث قليال‪ ،‬إذ إن هذه النقطة بالذات لم يفوتها‬
‫فيلسوف قرطبة‪ ،‬وإنما سجلها على الغزالي وظلت الجرح الذي يتألم منه أتباعه‬
‫ومدافعوه فيما بعد‪ .‬ومع ذلك نجد الغزالي يصف نوع دخوله النقدي فيقول‪« :‬ال‬
‫دخول مدع مثبت‪ ،‬وإنما دخول مطالب منك ‪ ..‬وال يدافع عن مذهب مخصوص‪،‬‬
‫بل نجعل جميع اعتراضات الفرق عليهم إلبا واحدا»‪ .2‬وبهذا فان (الغزالي) لم‬
‫يكن معنيا بالبناء؛ الذي لم يكن يوجد في نظره في غير الجدل والظن ‪ .‬وطاملا‬
‫أن األمر كذلك فالرد على الجدل بالجدل واإلقناع على اإلقناع‪ ،‬بل والرد على‬
‫الفاسد بالفاسد‪ .‬وفي هذا األمرلم يبق الغزالي ثابتا عليه طول مساره‪ ،‬بل سرعان‬
‫ما نالحظ أنه يبدله حسب مقتضيات الوضعية التي يكون بصدد اإلثبات فيها‬
‫واإلبطال‪ ،‬لكن البرهان هنا هو العامل و الرابط املشترك بينهما‪.‬‬
‫‪ - 1‬الغزالي ‪ ،‬النقذ من الضالل‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص ‪63‬‬
‫‪ - 2‬نور الدين السافي‪ ،‬نقد العقل‪ ،‬منزلة العقل النظري و العقل العملي في فلسفة الغزالي‪ ،‬مكتبة عالء‬
‫الدين‪ ،‬ط‪ .1‬صفاقس‪ ،2003 ،‬تونس‪ ،‬ص ‪97‬‬

‫‪112‬‬
‫من هذا التحليل يبدو أن أبا حامد‬
‫الغزالي قد أفرش املنطق و حاول أن كثريون هم الذين يعتقدون‬
‫يبسطه حتى يثري النقاش‪ .‬ويوفر أن الغزايل أبا حامد حني قصد‬
‫الذوق يف حقل التصوف‪،‬‬ ‫شروط التفكير الصحيح‪ ،‬و ينبه إلى‬
‫ضرورة اإلطالع على أعمال املفكرين هجر العقل واسهتجن نشاطه‬
‫االستداليل والحديس‬ ‫والعلماء وتتبع مدا رجها‪ ،‬وفهم‬
‫الكشيف‪ ،‬أو هو ارتماء‬
‫ّ‬ ‫مسالكها قبل الحكم على الرأي أو‬
‫مستنجد بعدما نفذت منه‬
‫املوقف‪ ،‬وكم أصبح يشيع هذا العيب‬
‫ذخرية العقل فتخىل عن‬
‫الخطير‪ ،‬وابتعد الخطاب عن مقومات‬
‫فاعليته األصلية واستقال علن ًا‬
‫اإلقناع واالقتناع‪ .‬فهل نجح في تجديد‬
‫الخطاب العربي االسالمي دون العودة‬
‫إلى ضبط املفاهيم والحدود‪ ،‬ورصد األسس املنطقية التي تحمي من اإلنزالقات‬
‫وتقود إلى السجال الطوباوي الذي ال يزيد إال خباال‪.‬‬
‫‪ -‬الذوق مسلك للحق عند الغزالي‬
‫كثيرون هم الذين يعتقدون أن الغزالي أبا حامد حين قصد الذوق في حقل‬
‫ّ‬
‫الكشفي‪ ،‬أو هو‬ ‫التصوف‪ ،‬هجر العقل واستهجن نشاطه االستداللي والحد�سي‬
‫ارتماء مستنجد بعدما نفذت منه ذخيرة العقل فتخلى عن فاعليته األصلية‬
‫ً‬
‫واستقال علنا‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬إذا كان من املمكن إدراك طبيعة‬
‫العالقة بين العقل والبرهان‪ ،‬ألنهما متقاربان في الجنس‪ ،‬فكيف استطاع أن‬
‫يربط بين العلم و الذوق بالرغم من اختالفهما بالنوع؟‬
‫ّ‬
‫ّإن حجة اإلسالم أبي حامد الغزالي يسلم بالعقل كآلية ضرورية للمعرفة‪،‬‬
‫والتمييز بين الحق والباطل‪ ،‬لكن صحة وسالمة هذا العقل وعدم اعتالله ليس‬
‫حنكة تنبع من صاحبه‪ ،‬وإنما هو هبة من هللا وكرم منه‪ .‬وحين نستقري ما هو‬

‫‪113‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫مبثوث في كتبه التي ّ‬
‫تشد إلى بناء العقل‬
‫العملي‪ ،‬نجده في غير ما فقرة يشير أو فهمنا للغزايل يتطلب النفاذ‬
‫يلمح من خالل املضمون‪ ،‬بأن العقل إىل داخل اخلطاب‪ ،‬خاصة إذا‬ ‫ّ‬
‫شرط للذوق ‪ .‬وال نعدو الصواب إن قلنا‪ :‬تع ّلق األمر بموضوع الذوق‬
‫تمثل عصارة مشروع الذي يلزم كل باحث فيه أن‬ ‫ّ‬
‫إن هذه النتيجة‬
‫يلج يف صميمه ويتعايش‬
‫صاحب اإلحياء‪ .‬هذا‪ ،‬وضبط خيط‬
‫معه‪ ،‬لعهل يبلغ مسكل البحث‬
‫الحقيقة عند الغزالي إن كان واضحا‬
‫عن األنموذج األمثل الذي‬
‫في دعوته إلى تحكيم العقل كما جاء في‬
‫ارتآه الغزايل للخالص من‬
‫«املعيار» و«املحك»‪ ،‬فإن سبره عسير في‬
‫احملن اليت هتدد املؤمن للزج‬
‫كتبه العلمية العملية كـ ـ ـ «ميزان العمل»‪،‬‬
‫به يف غياهب الهشوة والفنت‬
‫و«القسطاس املستقيم»‪ .‬ففهمنا للغزالي‬
‫‪ -‬بالنسبة لي ‪ -‬يتطلب النفاذ إلى داخل‬
‫ّ‬
‫الخطاب‪ ،‬خاصة إذا تعلق األمربموضوع الذوق الذي يلزم كل باحث فيه أن يلج‬
‫في صميمه ويتعايش معه‪ ،‬لعله يبلغ مسلك البحث عن األنموذج األمثل الذي‬
‫ارتآه الغزالي للخالص من املحن التي تهدد املؤمن للزج به في غياهب الشهوة‬
‫والفتن ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬وتعبئة الذات بالرياضة والتأمل في مخلوقات ﷲ‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وكل ذلك ليبلغ مرتبة الخالص واليقين‪ ،‬إنه «هو الذي ينكشف‬
‫فيه املعلوم انكشافا‪ ،‬ال يبقى معه ريب‪ ،‬وال يقارنه إمكان الغلط والوهم»‪.1‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فالحقيقة التي تثلج الصدر وتطمئن القلب السليم تتجاوز ذات الجسم والعالم‬
‫امللون لتشرف على األنواراإللهية والحقائق اللدنية حين ينكشف الحجاب‬ ‫املادي َّ‬
‫عند العروج واالكتمال «ألن مجاهدة النفس ليست ممارسة أخالقية في جوهرها‬
‫بقدرما هي ممارسة معرفية تريد أن تجعل آليات اإلدراك الجسدية والعقلية في‬

‫‪ - 1‬نور الدين سافي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.18‬‬

‫‪114‬‬
‫حالة انسجام و انتظام»‪ .1‬فالحق ال يلتصق بمظهراألشياء‪ ،‬كما أن العقل ال تفتح‬
‫ّ‬
‫له أبواب املعرفة بتحديد موضوع أو تسطير منهج‪ ،‬وإنما هو ثمرة تجربة روحية‬
‫تحقق طهارة كلية وصفاء‪ ،‬تنعكس فيه الحكمة النورانية‪ ،‬الحكمة التي تتدفق‬
‫حين ال تكبحها الصفات املذمومة‪ ،‬وتتطلع النفس إلى الطهارة الروحية ال لتتذوق‬
‫لذة الحياة الحسية التي ال تتعدى الشهوة الطبيعية‪ ،‬بل لتظفر براية املشاهدة‬
‫لنيل جود هلل‪ ،‬ويعتبر الغزالي ّأن هذه املشاهدة هي لون من املكاشفة‪ ،‬إذ تحمل‬
‫املريد الذي جاهد وصبر أسمى درجات املعرفة‪ .‬وهي الغاية النهائية التي يسعى‬
‫وراءها ذوو الشعور املرهف‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وحتى ال نذوب في كنف املفاهيم الصوفية و نحيد عن أصل موضوعنا‪.‬‬
‫وأيضا حتى ال نن�سى أن الغزالي كان همه العلم اليقيني في الوقت الذي تفاقمت‬
‫فيه االنقسامات الفكرية وزاد لهيب الصراعات واالضطرابات السياسية‪ ،‬البد‬
‫أن نحدد منزلة آراء الغزالي في ساحة الفكر اإلسالمي‪ ،‬إذ ّإن الدعوة إلى مسلك‬
‫الذوق وطهارة النفس‪ ،‬ورياضة الروح‪ ،‬والزهد ‪...‬كدالالت‪ ،‬لم يوظفها أبو حامد‬
‫ّ‬
‫الغزالي كمحموالت للعابد كما فهمها بعض الدارسين‪ ،‬وإال لزم التصوف عن‬
‫شقه‬‫العبادة‪ ،‬وهذا الذي ا د اه حجة اإلسالم في بداية بنائه ملشروع مزدوج‪ّ ،‬‬
‫زر‬
‫ّ‬
‫األول‪ :‬إصالحي إحيائي للنفوس التي ارتسمها املرض‪ ،‬ودحرجها إلى غياهب املادة‬
‫واألنانية وما يترتب عنها من تسخيرآليات لنصرتها‪ ،‬وهذا نضعه في خانة ّ‬
‫الصراعات‬
‫االجتماعية التي ما فتئت أن أخذت الصبغة السياسية‪ ،‬فكتاب «إحياء علوم‬
‫الدين» ينبئ باألوبئة واألمراض التي كانت تنخر جسد املجتمع اإلسالمي‪ ،‬وما‬
‫احتواه من تطعيم وأساليب عالجية مركزة‪ ،‬أو على األقل‪ ،‬يمثل دعوة لكلمة‬
‫سواء‪ ،‬لتبصيراملخطئين‪ ،‬وترشيد الذين غررت بهم مالذ الدنيا وزخرفها‪ ،‬وتعبئة‬
‫الفرد املسلم بطعم يمكنه من الصمود أمام الخصوم‪.‬‬

‫‪ -1‬الغزالي ‪ ،‬ميزان العمل ‪ ،‬مصدرسابق ‪ ،‬ص ‪ 27‬و ‪. 28‬‬

‫‪115‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشق الثاني‪ :‬فهو منهجي وإن شئنا قلنا إنه ابستمولوجي دقيق‪ ،‬وهذا‬ ‫أما‬
‫الذي قصدناه في بحثنا هذا‪ ،‬ف«ميزان العمل» هو التفاتة إلى املا�ضي الساكن‬
‫في أعماق أنفسنا لتعبئة الذات ودفعها نحو اإلبداع‪ ،‬إبداع عقل يريد أن يصنع‬
‫لنفسه وألمته منهج تفكير خاص‪ ،‬ورؤية خاصة كدليل على استفاقته الخاصة‬
‫في خضم الحركة الفلسفية الجديدة ‪ .‬فالقضية التي أثارها أبو حامد الغزالي في‬
‫شطر مشروع الذوق ‪ -‬في نظري ‪ -‬ليس ارتماء في أحضان املتصوفة أو عجز عن‬
‫حل مشكلة الصراعات‪ ،‬كما يعتقد بعض الدارسين الذين استخلصوا نتائج‬
‫من مقدمات منقوصة في شروطها‪ ،‬بل هو ثورة إبستمولوجية حقيقية بالنسبة‬
‫إلى أحواله وبيئته‪ ،‬ال تفرق عن ما فعل رونيه ديكارت ‪ R -Descartes‬بمقالة‬
‫الطريقة‪ ،‬وغاستون باشالر ‪ G - Bachlard‬بتجديد املعرفة العلمية‪ ،‬إذ تظهر‬
‫معالم هذا الطرح الجديد عن الغزالي في تمييزه بين السعي إلى املعرفة الذي يمثل‬
‫الجهة املشتركة بين الباحثين وبين السعي إلى توفير شروط املعرفة‪ ،‬وهذا الذي‬
‫انفرد به حجة اإلسالم عن باقي املتصوفة‪ .‬فالنصوص التي أوردها في «ميزان‬
‫العمل» تتجه نحو هذا الرأي‪ّ ،‬‬
‫«ألن تأثير العمل إلزالة ما ال ينبغي‪ ،‬والسعي في‬
‫ّ‬
‫املحل ملا ينبغي‪( ...‬وال يتأتى‬ ‫تحصيل ما ينبغي وإزالة ما ال ينبغي‪ ،‬شرط لتفريغ‬
‫ّ‬
‫ذلك إال بالعمل الذي يعني) كسرالشهوات بصرف النفس عن صوبها الى الجنبة‬
‫العالية‪ ،‬ليمحي عن النفس الهيآت الخبيثة والعالئق الردية التي ربطتها بالجنبة‬
‫السافلة‪.‬‬
‫إن الذي نستخلصه من هذا القول‪ ،‬هو أن العمل صورة للذوق والطهارة‬
‫ّ‬
‫الروحية‪ ،‬فال تكتمل الحقيقة املطلوبة إال في كنفها‪ ،‬أليست هذه دعوة إلى‬
‫املوضوعية بروح علمية عالية‪ ،‬ولو كان املجال يتسع ّ‬
‫لبينا األبعاد التي يرمي إليها‬
‫ذاك امليزان‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫خاتمة‬
‫بعد جولة عجلى في فكر الغزالي الذي يترجمها منتوجه الوافر الغزير‪ ،‬يزيد‬
‫تأكيدنا على صعوبة فهم نصوص الغزالي خارج نسقها الخاص‪ ،‬وهذا الذي أوقع‬
‫الكثير من الباحثين في إنزال حجة اإلسالم منزلة غير التي طمح إليها أو قصدها في‬
‫مشروعه‪ .‬فالغزالي حين انتقد الفالسفة لم يعلن حربا على العقل بل هي دعوة إلى‬
‫إصالحه‪ ،‬وتبدأ من تبيين حدوده‪ ،‬وكل تجاوز لتلك الحدود هو مخاطرة ومغاالة‬
‫ينبذها الشرع و الحق‪ ،‬وهذا نفسه الذي دعا إليه الفالسفة في العصر الحديث‬
‫على غرار ديكارت وكانط و غيرهم‪ ،‬أما الذوق الذي رسمه في الجبهة الصوفية إن‬
‫ّ‬
‫هو إال عودة إلى الذات لإلقرار بدورها في حالة الكدرة وحالة الصفاء والطهارة‬
‫ألن الجري وراء العقل واملعارف خاصة في عصرنا اليوم‪ ،‬فيه خطورة كبيرة على‬
‫اإلنسان واإلنسانية‪ ،‬بل هوعودة إلى وثنية جديدة ‪ ،‬وثنية األنساق‪ ،‬ونتائج العلوم‬
‫التي أبهرت الطرف املادي في الحضارة الجديدة‪ ،‬فما أحوجنا إلى تربية روحية‬
‫توقظ الذات وتوقف األنانية واملادية عند حدها‪ ،‬للكف من العبث باإلنسان وما‬
‫ّ‬
‫يحدث اليوم في العالم إال نزر قليل من تعكر النفس وانطوت عليه‪ .‬فالعقل ال‬
‫يتعارض مع الذوق في فكرالغزالي بل هو شرط ضروري له‪ .‬و لهذا نكرر دعوتنا إلى‬
‫العودة إلى الذات فهو مسلك للخالص ‪.‬‬

‫‪117‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫املراجع و املصادر‬
‫‪1- Ibrahim Madkour- l’Organon d’Aristote dans le monde Arabe-‬‬
‫‪second ed – libraire philosophique J-Vrin-1964‬‬
‫‪ -2‬تاج الدين السبكي‪ ،‬طبقات الشافعية‪ ،‬تحقيق‪ ،‬محمود محمد الطناحي‪ ،‬ج‪،6‬‬
‫ط‪.1964 ،1‬‬
‫‪ -3‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬مقاصد الفالسفة ‪ ،‬تحقيق سليمان دنيا‪ ،‬ط‪ 2‬داراملعارف‪،‬‬
‫القاهرة‪1961 ،‬م‪ ،‬واملنقذ من الضالل‪ ،‬تحقيق موريس بويج‪ ،‬دار األندلس‪،‬‬
‫ط‪ ،10‬نشرة فريد جبر‪.1991 ،‬‬
‫‪ - 4‬أبوحامد الغزالي‪ ،‬معيارالعلم في فن املنطق‪ ،‬داراألندلس‪ ،‬بيروت لبنان ‪ -‬دون‬
‫تاريخ ‪. -‬‬
‫‪ -5‬الغزالي‪ - :‬املنقذ من الظالل ‪ -‬ط‪ - 2‬قدم له ‪ -‬فريد جبر ‪ -‬اللجنة اللبنانية‬
‫لترجمة الروائع بيروت ‪.1969 -‬‬
‫‪ -6‬الغزالي‪ :‬مقاصد الفالسفة ‪ ،‬ط‪ ، 2‬داراملعارف ‪ -‬القاهرة ‪ -‬تحقيق د‪ /‬سليمان‬
‫دنيا ‪-‬‬
‫‪ -7‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬معارج القدس‪ ،‬في معرفة مدارج النفس‪ ،‬املكتبة التجارية‬
‫الكبرى‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -8‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬املستصفى في أصول الفقه ‪ ،‬ج‪ ،1‬الطبعة األميرية‪ ،‬بوالق‪،‬‬
‫مصر‪1322 ،‬هج‪.‬‬
‫‪ -9‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬تحقيق عثمان عيش‪ ،‬دار االتحاد‬
‫العربي للطباعة ‪.1973‬‬
‫‪ -10‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬ميزان العمل‪ ،‬تحقيق محمد مصطفى ط‪ ،1‬دار املعارف‬
‫القاهرة‪1964 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -11‬رفيق العجم‪ :‬املنطق عند الغزالي‪ -‬املكتبة السلفية‪ -‬دار املشرق ‪ -‬بيروت‬
‫‪ -‬الطبعة‪.- 1‬‬

‫‪118‬‬
‫‪ -12‬جميل صليبا ‪ -‬املعجم الفلسفي ‪ -‬ج‪ -1‬دار الكتاب اللبناني ‪ -‬بيروت ‪ -‬لبنان‪-‬‬
‫‪. 1964‬‬
‫‪ -13‬تهافت الفالسفة‪ ،‬نشرة األب بويج‪ ،‬املطبعة الكاثوليكية‪ ،‬بيروت ‪1962‬م‪.‬‬
‫ونشرة علي ملحم ط‪ ،1‬دارو مكتبة الهالل‪ ،‬بيروت ‪1994‬م‪.‬‬
‫‪ -14‬ويل‪ -‬ديورانت ‪ -‬قصة الحضارة ‪ -‬ج‪ -3‬مطبعة لجنة التأليف القاهرة ‪-1964 -‬‬
‫‪ -‬الكرامية‪ :‬أصحاب عبد هللا بن كرام توفي سنة ‪255‬هج‪ ،‬قالوا بالتجسيم‬
‫والتشبيه‪ ،‬واتهموا على ر�ضي هللا عنه ‪ -‬انظر الشهر الستاني‪ -‬امللل و النحل ‪ -‬ط‪2‬‬
‫‪.2002 -‬‬
‫‪ -15‬األميراالعسم‪ :‬املصطلح الفلسفي عند العرب ‪ -‬دارالتونسية للنشر‪-1991 -‬‬
‫‪ -16‬الغزالي ‪ :‬كتاب محك النظر‪ -‬دارالنهضة الحديثة ‪ -‬ط‪ - 1‬بيروت ‪1966 -‬م‪-‬‬
‫‪17 -KANT-E- Prolégomènes toute métaphysique future.tra-louis-‬‬
‫‪guillermit-l-ph-vrin- paris-1996.‬‬
‫‪ - 18‬جول تريكو‪ -‬املنطق الصوري ‪ -‬تر محمود يعقوبي ‪ -‬ص‪295‬و عند الساوي‪:‬‬
‫(هو قياس حذفت مقدمته الكبرى إما لظهورها أو االستغناء عنها‪ .‬و أما إلخفاء‬
‫كذب الكبرى‪ - .‬البصائرالناصرية ‪.-‬‬
‫‪ -19‬جول تريكو‪ -‬املنطق الصوري ‪ -‬ط‪ -2‬ترجمة ‪ -‬محمود يعقوبي ‪ -‬ديوان‬
‫املطبوعات الجامعية ‪- 1992 -‬‬
‫‪ - 20‬عبد الرحمان االخضري‪ :‬مبادئ علم املنطق ‪ -‬نقال عن متن السلم املر ونق‪-‬‬
‫ص‪ 118‬البيت ‪.115‬‬
‫‪ -21‬أبو علي بن سينا‪ :‬الشفاء ‪ -‬املنطق‪ ،‬املصدرالسابق‪ ،‬وزارة املعارف العمومية‬
‫‪ -‬القاهرة ‪ -‬ط‪. -2‬‬
‫‪ -22‬نور الدين السافي‪ ،‬نقد العقل‪ ،‬منزلة العقل النظري والعقل العملي في فلسفة‬
‫الغزالي‪ ،‬مكتبة عالء الدين‪ ،‬ط‪ .1‬صفاقس‪ ،2003 ،‬تونس‪.‬‬

‫‪119‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫احلقيقة اإلبراهيمية بني الثبات‬
‫والتحول عند ابن عريب‬
‫د‪ .‬أحمد كازى‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫تشكل تجربة املشاهد وقفة أساسية في بناء خطاب عرفاني‪ ،‬موجه بفعالية‬
‫الشعور كأعلى مستويات بناء الحقائق وتجسيدها‪ .‬ويستدعي هذا السفر‬
‫والترحال في مدارج ومسالك العبور ما بين وجوه الحقائق‪ ،‬وما بين الظاهر‬
‫والباطن‪ ،‬وما بين الخفاء والتجلي؛ ألن الحقيقة هي بدون وجه محدد‪ ،‬وثابت‬
‫ونهائي‪ ،‬بل ذات وضعيات ومراتب مختلفة ومتباينة‪ .‬والغرض املنهجي في األفق‬
‫الصوفي‪ ،‬هو إمكانية فتح املنغلق‪ ،‬بإعادة تمثل الحقائق في تحوالتها‪.‬‬
‫وفي املتن «األكبري»‪ ،‬يشكل «فصوص الحكم» «البن عربي» نصا جامعا‬
‫ملجموعة من املشاهد يستحضر من خاللها حكم األنبياء وأسرارهم أو حكمتهم‬
‫الخفية‪ .‬وذلك بإبراز مراتبهم الوجودية‪ ،‬وكأننا في هذا النص أمام تاريخ لألديان‬
‫بحقائق أصحابها‪ ،‬ومكانتهم الوجودية‪ .‬فإذا كان مبحث األسماء عند «الشيخ‬
‫األكبر»‪ ،‬هو للوقوف على األلوهية في مرتبتها الجامعة‪ ،‬فإن مبحث الحكمة‬
‫اإللهية املجسد في الكلمة النبوية‪ ،‬هو لحد مراتب الحقائق‪ ،‬ومعانيها‪ ،‬بوضعها في‬
‫صور‪ ،‬وتقريبها من خالل حياة أصحابها‪ ،‬أو من خالل تجربتهم الحية‪ .‬وذلك من‬
‫أجل استخالص املعاني الرمزية املقربة للحقيقة الباطنية والخفية‪ .‬ومن هنا تثار‬
‫اإلستفهامات التالية‪ :‬هل الحقيقة متضمنة في الشكل‪ ،‬أم ثاوية وراءه وخفية في‬

‫‪120‬‬
‫مبطونه؟ وما أصل الجمع بين الثبات‬
‫والتحول في التجارب النبوية وحكمتهم؟ إذا كان مبحث األسماء عند‬
‫يستحضر «ابن عربي» مفهومي «الشيخ األكرب»‪ ،‬هو للوقوف‬
‫عىل األلوهية يف مرتبهتا‬ ‫الثبات والتحول‪ ،‬بشكل جلي في الكلمة‬
‫اإلبراهيمية‪ ،‬أي في «فص حكمة الجامعة‪ ،‬فإن مبحث الحكمة‬
‫اإللهية اجملسد يف الكلمة‬
‫مهيمية في كلمة ابراهيمية»‪ .‬واإلشكال‬
‫النبوية‪ ،‬هو لحد مراتب‬
‫املركزي املحرك لهذا الفص‪ ،‬وهو حول‬
‫احلقائق‪ ،‬ومعانهيا‬
‫كيفيات الجمع بين الثابت واملتحول‪:‬‬
‫فهل إمكانية بناء الحقيقة يتطلب‬
‫الجمع بين هذين املفهومين املتضادين «الثبات والتحول»؟ وهل امكانية الجمع‬
‫بين هذين املفهومين في التجربة اإلبراهيمية‪ ،‬هو ما أدى إلى اعتبار هذه الحقيقة‬
‫ذات قوة مهيمية ‪ -‬فناء ‪ -‬على الكل؟‬
‫لبيان هذه اإلشكاالت‪ ،‬البد من البحث عن مكانة إبراهيم في مجتمعه‬
‫وعالقاته مع قومه باعتباره أصل الكل دينيا ووجوديا‪ ،‬وأصل الهويات الدينية‪،‬‬
‫دون االلتصاق بهوية محددة ونهائية أو منغلقة على ذاتها‪ .‬إال أن موضوع الهوية‬
‫الدينية‪ ،‬يؤدي بنا إلى البحث عن أصل الدين في السياق العرفاني األكبري‪ :‬فإذا‬
‫كانت األسماء اإللهية بتعددها املختلف‪ ،‬هي الحاكمة وجوديا وكونيا‪ ،‬فإن هناك‬
‫ً‬
‫تشريعا لالختالف الهوياتي دون التضحية بالدين الحق أو حقانية الدين‪ .‬ألن ما‬
‫يتجلى في الكون هو األسماء اإللهية‪.‬‬
‫‪ - 1‬األسماء اإللهية وظهور الدين‪.‬‬
‫يعتبر املعنى الروحي للدين ذلك الطريق املمكن الستبعاد وهم الهوية الواحدة‬
‫والثابتة‪ .‬ألن هذا املعنى األخيرهو أصل االنغالق املعرفي والوجداني‪ ،‬وهو ملتصق‬
‫بالفهم الظاهري للحقيقة والوجود‪.‬‬

‫‪121‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫لهذا فروح الدين‪ ،‬هو إثبات للدين‬
‫روح الدين‪ ،‬هو إثبات‬
‫الحق‪ ،‬الجامع بين كل الحقائق واألديان‪،‬‬
‫لدلين احلق‪ ،‬الجامع بني كل‬
‫وهوطريق للتواصل والحوارالبين إنساني‪،‬‬
‫احلقائق واألديان‪ ،‬وهو طريق‬
‫والبين ديني‪ ،‬وبهذه الروابط البينية‪،‬‬
‫للتواصل واحلوار البني إنساين‪،‬‬
‫يتم انفتاح أطراف العالقة اإلنسانية‬
‫والبني ديين‬
‫والوجودية‪ ،‬لكن بعد إخراج الهوية من‬
‫ضيقها‪ ،‬والحقيقة من حصرها املحدود‬
‫في بعدي الكفرواإليمان‪ .‬يعبر «ابن عربي» عن هذا االنفتاح العقدي قائال‪:1‬‬
‫إذا ل ــم يكن دي ـ ـ ـ ـ ـ ــني إلى دينه داني‬ ‫لقد كنت قبل اليوم أنكرصاحبي‬
‫فم ـ ـ ـ ـ ـ ــرعى لغزالن ودي ـ ـ ـ ـ ٌـر لرهبـ ـ ـ ــان‬ ‫لقد صارقلبي قــابال كل ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورة‬
‫وبي ـ ـ ـ ـ ـ ــت ألوثان وكع ـ ـ ـ ـ ـ ــبة طائ ـ ـ ــف وألـ ــواح توراة ومصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــحف قرآن‬
‫ركائبه‪ ،‬فالح ـ ـ ـ ـ ــب ديني وإيم ـ ـ ـ ـ ـ ــاني‬ ‫آدين بدين الح ـ ـ ـ ـ ـ ــب أنـى توج ـ ــهت‬
‫ما يمكن استنتاجه من هذا القول‪ ،‬هو أن الدين عند «ابن عربي»‪ ،‬يتحدد من‬
‫منزلة االعتقاد‪ ،‬والذي يشكل بؤرة أساسية لتمثل الحقائق بمعانيها‪ ،‬ودالالتها‬
‫النسبية ال اإلطالقية ويستدعي هذا توسيعا لحقل االعتقاد‪ ،‬حتى يشمل‬
‫ويتضمن ما يسميه «الشيخ األكبر» «بآلهة االعتقاد»‪ ،‬كتشريع لدين الحوار‪،‬‬
‫والتآزر والتواصل‪ ،‬والتعارف‪ ،‬وبالتالي املحبة‪ ،‬املعبر عنه في الحقيقة اإلبراهيمية‬
‫ّ‬
‫«بالخلة» كمحو للنزاع املمكن بين االعتقادات‪ ،‬وتحرير أصحابها من وهم الهوية‬
‫الثابتة املضاءة «لدين الحب»‪ :‬فما املبررات املؤسسة لهذا االختالف املمكن‬
‫بين االعتقادات؟ إن أساس االختالف هو الحقائق األسمائية املتعددة بمعانيها‬
‫الوجودية‪ ،‬وتأثيرها الكوني‪ ،‬إال أنها في نظر «الشيخ األكبر» أصل الدين‪ ،‬فهي‬
‫جذوره الوجودية‪ ،‬بحاكميتها أو قوتها الكونية في تدبير الوجود اإلنساني‪ ،‬وهو‬

‫‪ -1‬ابن عربي‪ ،‬ترجمان األشواق‪ ،‬دارصادر‪ ،‬بيروت‪.1966 ،‬‬

‫‪122‬‬
‫بهذا ينتصر ألسماء التشبيه أكثر من أسماء التنزيه‪ .‬إال أنه يعمل على الوصل‬
‫الكمل من الرجال‪ ،‬ومن بينهم‬ ‫والجمع بينها عبر الصورة اإللهية‪ ،‬املجسدة في ّ‬
‫األنبياء والرسل واألولياء‪ .‬والغرض من هذا التجسيد هو تحيين لألسماء اإللهية‪،‬‬
‫في الحياة والوجود‪ ،‬وبالتالي العالم‪ .‬وهذا التحيين يتم بالخيال ال بالعقل؛ ألن‬
‫هذا األخير ينتصر أكثر لصفات التنزيه‪ ،‬أما األول فأميل لصفات التشبيه‪ .‬وبهذه‬
‫األخيرة يكون القرب‪ ،‬يقول «وليام شتيك» «‪« :»William chittic‬فالقرب من‬
‫هللا‪ ،‬هو معرفة وتحيين لصفات الحق كأنها صفاتك‪ ،‬والبعد هو أن تكون تحت‬
‫‪1‬‬
‫سلطة صفات التنزيه‪ .‬فسعادة الناس هي بخيالهم املسيطرعلى عقولهم»‪.‬‬
‫إن جوهر الدين هو تحقيق لرابطة القرب كتعارف‪ ،‬وأنس باآلخرين أو شعور‬
‫بوجودهم‪ .‬وأعلى مستويات هذا الشعور هوالقرب من هللا‪ .‬يتطلب هذا االتصاف‬
‫بأوصاف الحق‪ ،‬وذلك من أجل تحيين وتجسيد للصفات اإللهية في بناء العالقة‬
‫الوجودية بين الخالق واملخلوق ‪ -‬اإلنسان ‪ -‬ورابطة القرب هي انتصار للصفات‬
‫الجمالية‪ ،‬وللحوارعلى النزاع‪ ،‬وللوحدة على الخالف والتنافر‪ ،‬لهذا فالدين يرتكز‬
‫على فكرة التوحيد‪ ،‬والتي تنتزع منها كل الحقائق األخرى‪ ،‬لكونه جامع لكل األسماء‬
‫في اسم واحد ‪ -‬هللا ‪ -‬ومرتبة جمعية واحدة ‪ -‬األلوهية ‪. -‬‬
‫إن أصل الدين هو األسماء اإللهية بحاكميتها الكونية‪ ،‬والغرض من ذلك هو‬
‫خلق النظام والترتيب‪.‬‬
‫ألن املمكنات كما يرى «ابن عربي» في حاجة إلى نظام كوني للحفاظ على أعيانها‪.‬‬
‫ومن أجل تلبية طلب املمكنات اتخذ االسم الجامع ‪ -‬هللا‪« :‬وزيرين يعينانه على ما‬
‫أمربه‪ :‬الوزيرالواحد‪ ،‬االسم املدبر‪ ،‬والوزيراآلخراملفصل‪ .‬قال تعالى يدبراألمر‪،‬‬
‫يفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم توقنون‪ ...‬وجعل هللا ذلك على قسمين‪ :‬قسم‬
‫يسمى سياسة حكمية‪ ،‬ألقاها في فطر نفوس األكابر من الناس‪ ،‬فحدوا حدودا‪،‬‬
‫‪1- chittic (W.C), imaginal world, IBN ARABI and the problem of religious diversity, New‬‬
‫‪york, 1994,p 169.‬‬

‫‪123‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ووضعوا نواميس‪ ،‬بقوة وجدوها في نفوسهم‪ ،‬كل مدينة‪ ،‬وجهة‪ ،‬وإقليم بحسب‬
‫ما يقتضيه مزاج تلك الناحية وطباعهم لعلمهم ما تعطيه الحكمة‪ .‬فانخفضت‬
‫بذلك أموال الناس‪ ،‬ودماؤهم وأهلوهم‪ ،‬وأرحامهم‪ ،‬وأنسابهم‪ ،‬وسموها نواميس‪،‬‬
‫ومعناها أسباب خير‪.1»...‬‬
‫‪ - 2‬إن فعلي التدبيروالتفصيل أعطيا بعدين‪:‬‬
‫ـ الفعل األول ‪ -‬التدبير ‪ -‬وتحدد في وجود نواميس‪ ،‬خاصة بالشؤون الحياتية‪،‬‬
‫واليومية واملدنية‪ ،‬وواضعوها هم األكابر ‪ -‬العقالء ‪ -‬أصحاب العقول‪ ،‬وكالمهم‬
‫حق ومتضمن لحكمة‪.‬‬
‫ـ والفعل الثاني ‪ -‬التفصيل ‪ -‬به تم بناء الحقيقة الكونية بتفصيالتها املتعددة‪،‬‬
‫وتطلب هذا معرفة‪ ،‬متخطية للعقل‪ .‬وشكلت مباحث هذا األخير ‪ -‬العقل‬
‫‪ -‬بنواميسه وقوانينه التدبيرية‪ ،‬بداية التفكير في الدين‪ .‬إال أن هذا املطلب ‪-‬‬
‫مطلب العالم واملمكنات ‪ .-‬وقف عند حد معين‪ ،‬وهو املعرفة بصانع هذا العالم‬
‫أو محركه أو فاعله‪ ،‬وهو الواحد‪ .‬كما أن استكمال هذه املعرفة تطلب وجود‬
‫خطاب ديني‪ ،‬ال يقتصرعلى التدبيرالعقلي‪ ،‬بل يعتمد التفصيل «املا فوق عقلي»‬
‫للحقائق الكونية واملوجه باالعتقاد القلبي‪ .‬يقول «الشيخ األكبر» عن بداية‬
‫ظهور «الدين الحق»‪ «:‬فهذا حد العقل‪ ،‬فبينما هم كذلك إذ قام شخص من‬
‫جنسهم لم يكن عندهم من املكانة في العلم بحيث أن يعتقدوا فيه أنه ذو فكر‬
‫صحيح‪ ،‬ونظر صائب‪ ،‬فقال لهم أنا رسول هللا إليكم‪ ...‬فقالوا هل لك دليل على‬
‫صدق ما تدعيه‪ ،‬فجاءهم بالدالئل‪ 2.»...‬إن خطاب «ابن عربي» هو صميم في‬
‫املعنى الحقاني للدين‪ ،‬بل لروح األديان‪ ،‬وهذا ما بلوره في الحقيقة اإلبراهيمية‪،‬‬
‫بهيمنتها وقوتها على الدين الطبيعي ‪ -‬الوثني‪ .‬وهذا الدين الحقاني‪ ،‬هو في نظره‬
‫إحاطة بمطالب العقل وما فوقه‪ .‬فهو حقائق متضمنة للعلم بالعالم ‪ -‬املمكنات‬
‫‪ -1‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات املكية‪ ،‬الباب ‪.66‬‬
‫‪ -2‬نفسه‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫‪ -‬وما وراء العالم ‪ -‬العالم اآلخر‪ :-‬فهل‬
‫استعادة «ابن عربي»‪ ،‬لتاريخ األنبياء في استكمال هذه املعرفة تطلب‬
‫«فصوص الحكم»‪ ،‬هي إعادة تصويب وجود خطاب ديين‪ ،‬ال يقترص‬
‫لحقائقهم بمنظور عرفاني ‪ -‬ذوقي؟ وهل عىل التدبري العقيل‪ ،‬بل يعتمد‬
‫الغرض هو التأريخ للحقائق الحكموية التفصيل «املا فوق عقيل»‬
‫للحقائق الكونية واملوجه‬ ‫الثاوية وراء املعاني الظاهرية؟ أال‬
‫باالعتقاد القليب‬ ‫يمكن اعتبار الدين خطابا مسترسال‬
‫ومستمرا في ظهوره وحضوره مع وارثي‬
‫هذه الحكم من الكمل من الرجال؟‬
‫وهل استمرارية روح الدين مع هؤالء الكمل‪ ،‬هو ضمان الستمرارية حاكمية‬
‫األسماء اإللهية‪ ،‬وحضورها الكوني‪ ،‬بتدبيرها للحياة‪ ،‬وتفصيلها «للدين الحق»‬
‫و«اإلعتقاد الحقاني»؟‪.‬‬
‫‪ - 3‬حقانية الدين أو حكمويته‪.‬‬
‫يعتبر «فصوص الحكم» أهم مؤلف نسقي‪ ،‬عمل من خالله «ابن عربي» على‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الحك َم‬
‫الحكم املنزلة على قلوب األنبياء عليهم السالم‪ :‬فهو إلقاء رباني؛ ألن ِ‬
‫بيان ِ‬
‫منزلة من الحضرات اإللهية العالية املطلقة‪ ،‬إلى مرتبة التقييد والتعبير‪ :‬أي من‬
‫حضرات إلهية إلى إنسانية‪.‬‬
‫ونزول الحكم على قلوب األنبياء‪ ،‬يتم بالتدريج‪ ،‬فهو نزول على الروح (العقل‬
‫األول) إجماال‪ ،‬ثم على القلب بالتفصيل (كمعارف عملية أخالقية)‪ .‬وفي التقليد‬
‫العرفاني‪ ،‬فالقلب يبقى محال لحقائق جسمانية‪ ،‬وقوى مزاجية‪ ،‬وحقائق‬
‫روحانية‪ ،‬وخصائص نفسية‪ .‬ولهذا «ففصوص الحكم» هو بيان للحكم النازلة‬
‫على قلب كل نبي‪ ،‬ألن معناها الطاهر‪ ،‬هو كونها نزلت بحسب مصالح أمته‪،‬‬
‫وشعبه‪ .‬وهي بهذا ترتيب لألشياء ووضعها في مواضعها‪ ،‬يحدد «ابن عربي» هذا‬

‫‪125‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫‪1‬‬
‫قائال‪:‬‬
‫في أعي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن األكـ ـ ــوان واألس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــماء‬ ‫إن الحكـ ـ ـ ـ ـ ــيم م ــرتب األشي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء‬
‫في الحكم ـ ــة املـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزدانة الغ ــراء‬ ‫يجري مع العلم القديم بحكـ ـ ـ ـ ــمه‬
‫في حـ ـ ـ ــالة الس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراء والض ـ ـ ـ ـ ـ ــراء‬ ‫فتراه يعط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي كل �شيء خلق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫في بدء م ـ ــا تهوى م ـ ـ ـ ـ ـ ــن األشيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء‬ ‫وع ـ ـ ـ ـ ـ ــن العوارض ال يزال منزه ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫في كل ما يجري م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن األه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواء‬ ‫لكن ـ ـ ـ ــه املعص ـ ـ ـ ـ ــوم في أفع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاله‬
‫لتسمية «فصوص الحكم» داللة عرفانية‪ :‬فللفص مظهر‪ ،‬وهو صورته‪،‬‬
‫املثيرة‪ ،‬بنقوشها‪ ،‬وله أيضا خفاء واملمثل في املعنى أو املضمون الباطني‪ .‬يقول‬
‫الشارح «عبد الرحمان جامي» عن فص ال�شيء بأنه‪« :‬خالصته وزبدته‪ ،‬وفص‬
‫‪2‬‬
‫الخاتم ما يزين به الخاتم‪ ،‬ويكتب عليه اسم صاحبه»‪.‬‬
‫إن رمزية الخاتم هي بحقيقته املدورة أوهيئته‪ ،‬أما هويته فهي باالسم املنقوش‬
‫على الهيئة‪ ،‬والدال على صاحب التوقيع‪ .‬هكذا نكون أمام معنى مادي ظاهري‪،‬‬
‫وهو الهيئة‪ ،‬ومعنى روحي أو باطني‪ ،‬واملمثل في منزلة صاحب الخاتم‪ .‬والفصوص‬
‫كخطاب إلقاء‪ ،‬هو جامع لحقائق‬
‫األنبياء‪ ،‬وبالتالي لحكمهم‪ ،‬وصوال إلى الفصوص كخطاب إلقاء‪ ،‬هو‬
‫الحكمة التركيبية‪ ،‬أو «الفص الفردي» جامع حلقائق األنبياء‪ ،‬وبالتايل‬
‫الجامع للكل‪ ،‬كحقيقة ختمية أو لحكمهم‪ ،‬وصوال إىل الحكمة‬
‫«حقيقة الحقائق»‪ .‬لهذا فالحكمة غير الرتكيبية‪ ،‬أو «الفص الفردي»‬
‫منفصلة عن مرتبتها الكونية أومضمونها الجامع للكل‪ ،‬كحقيقة ختمية‬
‫أو «حقيقة احلقائق»‬ ‫األلوهي‪ ،‬يقول «عبد الرحمان جامي»‬
‫معرفا الحكمة اإللهية‪ ،‬بكونها‪« :‬العلم‬
‫‪ - 1‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات املكية‪ ،‬الباب السادس والعشرون‪.‬‬
‫‪ - 2‬جامي (عبد الرحمان بن أحمد)‪ ،‬نقد النصوص في شرح نقش الفصوص‪ ،‬مقدمة وتصحيح وتعليقات‬
‫وليم شتيك‪ ،‬طهران‪ ،1977 ،‬ص ‪.82‬‬

‫‪126‬‬
‫بحقائق األشياء‪ ،‬وأوصافها‪ ،‬وأحكامها‪ ،‬على ما هي عليه‪ ،‬وباألقاويل واألفعال‬
‫اإلرادية على وجه يقت�ضي بسدادها‪ .‬واإللهية اسم مرتبة جامعة ملراتب األسماء‬
‫‪1‬‬
‫والصفات كلها»‪.‬‬
‫يشكل املضمون الجمالي‪ ،‬الكامن في الفص الخاص بحكمة من الحكم مقدمة‬
‫للمعنى الجاللي الخاص بمرتبة من املراتب‪ .‬ألن هوية صاحب الحكمة هي من‬
‫خالل شكلها ‪ -‬النقش ‪ -‬وكلمتها‪ .‬والحكمة بهذا املعنى هي تشكيل وتركيب بين‬
‫املعنى الجمالي والجاللي‪ :‬فاألول محدد لسرالفص‪ ،‬والثاني ملظهره‪ ،‬وأعلى تشكيل‬
‫للحقيقة هو بقوتها على اإلعالء من شأن الهيئة ‪ -‬الصورة ‪ -‬ورمزها أو مضمونها‬
‫الحامل لسرصاحبها‪.‬‬
‫ألن كل كلمة نبوية مرتبطة أو دالة على سر معين وحقيقة محددة‪ .-‬ولهذا جاء‬
‫مؤلف «فصوص الحكم»‪ ،‬قوال أميل للمعنى الباطني‪ ،‬وبالتالي الرمزي‪ ،‬والغرض‬
‫هو بيان الحكمة اإللهية املوزعة‪ ،‬واملنتشرة في الوجود ومراتبه‪ .‬واملجسدة في‬
‫حقيقة الحقائق أو الحقيقة املحمدية الجامعة لحقائق األديان السابقة ‪-‬‬
‫الحتمية ‪-‬‬
‫إن الخاتم بصورته املدورة‪ ،‬ذو داللة رمزية‪ ،‬يسعى من خالله «الشيخ األكبر»‪،‬‬
‫إلى تجسيد‪ ،‬وتشكيل للكون وسره‪ ،‬متخذا من املناسبة النبوية أساس ذلك‪.‬‬
‫يقول «عبد الرحمان جامي»‪« :‬فإن الفص كما أنه قد انطوى على قو�سي حلقة‬
‫الخاتم‪ ،‬واشتمل على أحدية جمعها‪ ،‬وكما أنه يختم بما ينطبع فيه من الصور‪،‬‬
‫ويعرب عن كليتها‪ ،‬وكما أنه تابع لقالبه من الخاتم في التربيع‪ ،‬والتثليث‪ ،‬والتدوير‪،‬‬
‫وغيرها‪ ،‬ومستتبع ملا يرد عليه‪ ،‬كذلك قلب اإلنسان الكامل له االنطواء على قو�سي‬
‫الوجوب واإلمكان‪ ،‬واالنطباق على أحدية جمعها‪ ،‬وله أن يعرب عما فيه من صور‬
‫الحقائق وينبئ عن أحدية جمعها‪ ،‬وكذلك له صورة تابعة ملزاج الشخص‪ ،‬كما‬

‫‪ - 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.82‬‬

‫‪127‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫‪1‬‬
‫أنه له أن يستتبع تجلي الحق ويصوره بصورته»‪.‬‬
‫يعتبرالفص موضوعا النطباع الصورة ألنه يتزين بها‪ ،‬وألنها منقوشة في هيئته‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فالفص جامع بين الحكمة اإللهية‪ ،‬والكلمة النبوية‪ ،‬وبهما يتم تجسيد‪،‬‬
‫وتصوير الحقائق اإللهية‪ ،‬بتتبع التجليات وتحوالتها‪ .‬ألن «فصوص الحكم»‪ ،‬هو‬
‫وضع للحقائق في قالب من التشكيل‪ ،‬من أجل تقريبها لألذهان عبر حكم األنبياء‬
‫الخاصة بمراتبهم‪ .‬وتعتبر حقيقة الحقائق (الحقيقة املحمدية) أكمل الحقائق‬
‫بقوتها النيرة‪ ،‬األولى في الوجود واآلخرة في املعرفة‪.‬‬
‫إن «فصوص الحكم» بمضامينه العرفانية‪ ،‬يقدم رؤية للدين‪ ،‬فهو تأريخ‬
‫لألديان من خالل تمثله لألنبياء وحكمهم‪ ،‬وبالتالي مكانتهم‪ ،‬داخل مجتمعهم‪،‬‬
‫ومنزلتهم الروحية‪ .‬ومعالجة وضعيات هؤالء األنبياء تمت حسب ترتيب تاريخي‪،‬‬
‫بدءا من «آدم» إلى «محمد ﷺ»‪ .‬والغرض عنده من ذلك‪ ،‬هو فهم سر كل نبي‬
‫من األنبياء بيانا لقوة الدين‪ ،‬في تدبير الحياة واملجتمع‪ ،‬وذلك من خالل الوجه‬
‫الباطني والروحي‪ .‬وهذا الوجه الحكموي‪ ،‬هو خفي‪ ،‬وغير معلن عنه‪ .‬لهذا فما‬
‫قدمه هؤالء األنبياء ملجتمعهم هو الوجه الظاهري‪ ،‬وانطالقا من هذا التوجه‬
‫العرفاني‪ ،‬فكل من األنبياء مجسد لوضع ومدافع عن قضية‪ .‬وما يجمع بينهما‬
‫في نظر «الشيخ األكبر»‪ ،‬هو الدفاع عن الحياة بإعطائها معنى حقاني‪ :‬فما مكانة‬
‫الفص اإلبراهيمي‪ ،‬في هذا األفق العرفاني؟ وهل الحكمة اإلبراهيمية متميزة‪،‬‬
‫بقوتها كأصل مؤسس لدين الخلة؟ أال يمكن القول إن القوة املهيمنة للحقيقة‬
‫اإلبراهيمية هي بتخطيها لدين الطبيعة ‪ -‬الوثني‪ ،‬عبر الجمع بين الثبات املكاني‪،‬‬
‫والتحول اإلعتقادي؟‬
‫‪ - 4‬املكانة الروحية للنبي إبراهيم‪.‬‬
‫ظهور إبراهيم عليه الصالة والسالم زامن لحظة حكم «حمورابي»‪ ،‬وذلك أكثر‬

‫‪ -1‬نفسه‬

‫‪128‬‬
‫من ألف سنة قبل امليالد‪ .‬وأدى دخول‬
‫«حمورابي» مدينة «أور» التي يحكمها «فصوص الحكم» بمضامينه‬
‫«رم‪ -‬سن» في إقليم ما بين النهرين‪ ،‬إلى العرفانية‪ ،‬يقدم رؤية لدلين‪ ،‬فهو‬
‫مغادرة «النبي إبراهيم» البالد‪ ،‬رفقة تأريخ لألديان من خالل تمثهل‬
‫عائلته‪ .‬يقول «توملين»‪« :‬لقد كان من لألنبياء وحكمهم‪ ،‬وبالتايل‬
‫مكانهتم‪ ،‬داخل جمتمعهم‪،‬‬ ‫بين رعايا «رم ‪ -‬سن» رجل ما زالت ثالثة‬
‫ومزنلهتم الروحية‪ .‬ومعاجلة‬
‫من أعظم ديانات العالم تتطلع إليه‬
‫وضعيات هؤالء األنبياء تمت‬
‫على أنه شيخها الجليل الوقور‪ ،‬واألب‬
‫حسب ترتيب تارييخ‪ ،‬بدءا‬
‫الروحي لعقيدتها‪ .‬وكان إبراهيم‪ ،‬وهذا‬
‫من «آدم» إىل «حممد ﷺ»‬
‫هو اسمه‪ ،‬يقطن مدينة ذكرها الكتاب‬
‫‪1‬‬
‫املقدس‪ ،‬على أنها أور الكلدانيين»‪.‬‬
‫يعتبر «النبي إبراهيم»‪ ،‬أبا لثالث ديانات‪ ،‬واألهم في ممارساته التعبدية‪،‬‬
‫أنه تخلى عن ديانات أجداده‪ ،‬وعائلته‪ ،‬بابتعاده عن الحقل العقائدي ‪ -‬الوثني‬
‫السائد في مجتمعه‪ .‬واعتقد بإله خاص وسري‪ ،‬ولم يفصح عنه‪ ،‬وأهم لحظة‪،‬‬
‫واجهها «النبي إبراهيم»‪ ،‬وهي تلقيه نداء من اإلله‪ ،‬للتوجه‪ ،‬وقومه إلى بالد‬
‫كنعان‪ ،‬إلنشاء وطن ومجتمع جديد‪.2‬‬
‫هناك إذن‪ ،‬اختالف جذري بين «النبي إبراهيم» وعائلته‪ ،‬واملتمثل في طبيعة‬
‫اإلله‪ :‬فإله العائلة يعيش معها في نفس املكان‪ ،‬وإله إبراهيم غير مرئي‪ ،‬ويوجد‬
‫في كل األمكنة‪ .‬وهذا اإلعتقاد املحدود‪ ،‬املطالب واألهداف لدى قومه أدى إلى‬
‫انتصارهم للثبات بجانب اإلله‪ .‬أما األفق الوجودي للنبي إبراهيم فمبني على‬
‫مسلك مضاد‪ ،‬قائم على «الحل والترحال» في األمكنة‪ :‬فإذا كان الوضع العقدي‬
‫إلبراهيم عليه الصالة والسالم‪ ،‬قد عرف تصدعا‪ ،‬وصراعا مع قومه‪ ،‬فما مكانته‬
‫‪ -1‬توملين‪ ،‬فالسفة الشرق‪ ،‬ترجمة‪ ،‬عبد الحليم سليم‪ ،‬مراجعة‪ ،‬علي أدهم‪ ،‬داراملعارف‪ ،‬ص ‪.99‬‬
‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.106‬‬

‫‪129‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الرمزية والوجودية كأصل لكل األديان؟‬
‫إن مصدر الدين يف هذا‬ ‫وأية روابط روحية تجمعه بمختلف‬
‫األنبياء؟ وما كيفيات تمثل «فصوص السياق العرفاين‪ ،‬وهو حاكمية‬
‫الحكم» «البن عربي» لهذه الروابط األسماء‪ ،‬وهو استعادة للحقائق‬
‫النبوية‪ ،‬ومعانهيا‪ .‬ولهذا جاء‬ ‫الوجودية بين األديان عامة؟‬
‫إن مصدر الدين في هذا السياق «فصوص الحكم» جامع ًا بني‬
‫الحكمة والكلمة‪ ،‬بني املضمون‬
‫العرفاني‪ ،‬وهو حاكمية األسماء‪ ،‬وهو‬
‫والشكل‪ ،‬بني احلقيقة وهيئهتا‬
‫استعادة للحقائق النبوية‪ ،‬ومعانيها‪.‬‬
‫ً‬
‫ولهذا جاء «فصوص الحكم» جامعا بين‬
‫الحكمة والكلمة‪ ،‬بين املضمون والشكل‪،‬‬
‫بين الحقيقة وهيئتها‪ .‬واملعنى الحكموي للكلمة‪ ،‬هو أنها مظهر «للنفس الرحماني»‬
‫‪ -‬علة وجود وأصل ‪ ،-‬ولحجم مرآته‪ .‬إال أن هناك عالقات صميمية بين األنبياء في‬
‫املتن الحكموي «البن عربي»‪ ،‬وهي إما روابط النسب الطيني أو روابط حروفية‪،‬‬
‫أو زمانية‪ .‬وبهذه الروابط عمل أحد شراح «فصوص الحكم»‪ ،‬وهو «عبد الباقي‬
‫مفتاح» على تصنيف األنبياء إلى مجموعات‪ ،‬معتمدا في ذلك الروابط السابقة‪:‬‬
‫املجموعة األولى‪:‬‬
‫‪ :1‬آدم‬
‫‪ :2‬شيت‬
‫املجموعة الثانية‪:‬‬
‫‪ :3‬نوح‬
‫‪ :4‬إدريس‬
‫املجموعة الثالثة‪:‬‬
‫‪ :5‬إبراهيم‬

‫‪130‬‬
‫‪ :6‬إسحاق‬
‫‪ :7‬إسماعيل‬
‫‪ :8‬يعقوب‬
‫‪ :9‬يوسف‬
‫املجموعة الرابعة‪:‬‬
‫‪ :10‬هود‬
‫‪ :11‬صالح‬
‫‪ :12‬شعيب‬
‫املجموعة الخامسة‪:‬‬
‫‪ :13‬لوط‬
‫املجموعة السادسة‪:‬‬
‫‪ :14‬عزير‬
‫‪ :15‬عي�سى‬
‫املجموعة السابعة‪:‬‬
‫‪ :16‬سليمان‬
‫‪ : 17‬داود‬
‫‪ : 18‬يونس‬
‫‪ :19‬أيوب‬
‫املجموعة الثامنة‪:‬‬
‫‪ :20‬يحيى‬
‫‪ :21‬زكرياء‬
‫املجموعة التاسعة‪:‬‬
‫‪ :22‬إلياس‬

‫‪131‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫املجموعة العاشرة‪:‬‬
‫‪ :23‬لقمان‬
‫املجموعة إحدى عشرة‪:‬‬
‫‪ :24‬هارون‬
‫‪ : 25‬مو�سى‬
‫املجموعة إثني عشرة‪:‬‬
‫‪ :26‬خالد‬
‫‪ : 27‬محمد ﷺ‪.‬‬
‫إن التسلسل الرتبي (املراتب) لألنبياء يلتقي فيه الجانب الكرنولوجي‪ ،‬والنسب‬
‫الطيني‪ ،‬إضافة إلى العالقة الرمزية بين الحروف املكونة ألسماء األنبياء‪ ،‬من‬
‫حيث عددها واشتراكها مع بعضها البعض‪ .‬وهذه العناصرمجتمعة‪ ،‬أو متفرقة‪،‬‬
‫بها تبلورت تجربة «فصوص الحكم» كمعرفة ذوقية ‪ -‬باطنية‪ ،‬وكأنها إعادة بناء‬
‫لتاريخ األديان‪ ،‬والعالقة بينها‪ .‬والغرض هو بيان املعنى العرفاني للحقيقة اآلدمية‬
‫‪ -‬اإلنسان الكامل ‪ -‬املتمظهرة في حكم األنبياء وتجاربهم الحياتية ‪ -‬اليومية‪ .‬ومن‬
‫نتائج هذا الترتيب لحقائق األنبياء‪ ،‬هو في عمقه تمثل لكلمة صاحب الحكمة‬
‫املطوية في فص معين‪ .‬وعن هذا البعد الحكموي تبلورت دورتان أساسيتان‬
‫للتاريخ الروحي للدين‪.‬‬
‫الدورة األولى‪ :‬من آدم إلى طوفان نوح عليه السالم‪ ،‬ولهذا جاء نوح في‬
‫الفصوص بعد «شيت ابن آدم»‪ ،‬رغم تقدم إدريس عليه بالزمن‪.‬‬
‫الدورة الثانية‪ :‬اقتران إدريس بإبراهيم‪ ،‬راجع إلى أن النفس اإلدري�سي وعلومه‪،‬‬
‫وأسراره‪ ،‬استمر إلى زمن «إبراهيم» في الحضارة املصرية األولى ثم الحضارة‬
‫الكلدانية التي ظهر فيها إبراهيم‪ .‬واستمرت األنفاس اإلدريسية بعد إبراهيم عند‬
‫العرب‪ ،‬وعند بني إسرائيل في حقل أساس وهو أسرار الحروف‪ ،‬وعلوم الفلك‪،‬‬

‫‪132‬‬
‫وعلم الكيمياء‪ ،‬والطب‪ ،‬وتوارثت األمم‬
‫«فصوص الحكم»‪ ،‬وكأهنا‬ ‫ً‬
‫هذه العلوم‪ ،‬مسيحية‪ ،‬وإسالما‪ ،‬وقرونا‬
‫إعادة بناء لتاريخ األديان‪،‬‬
‫وسطى‪ .‬و»إلياس» هو املظهر األكمل‬
‫والعالقة بيهنا‪ .‬والغرض هو بيان‬
‫إلدريس‪ ،‬ولهذا كان في الترتيب قبل‬
‫املعىن العرفاين للحقيقة اآلدمية‬
‫لقمان‪ .‬هذا األخير هو من ورثة مداوي‬
‫‪ -‬اإلنسان الكامل ‪ -‬املتمظهرة‬ ‫‪1‬‬
‫الكلوم ‪ -‬النبي إدريس‪-‬‬
‫يف حكم األنبياء وتجارهبم‬
‫النتيجة من هذا‪ ،‬وهي أن الدورة‬
‫احلياتية ‪ -‬اليومية‬
‫اإلبراهيمية ذات فرعين‪ :‬األول مستمر‬
‫في امللة العربية‪ ،‬وإبتدأت في الفص‬
‫الخامس من كتاب «فصوص الحكم»‪ ،‬وبها تم ضمان استمرارية روح الدين أو‬
‫«الدين الحق»‪ ،‬في تاريخ األديان والشعوب‪ .‬يقول «عبد الباقي مفتاح»‪ ،‬عن هذا‬
‫الوضع الروحي‪ ،‬والعرفاني للدين‪« :‬فالحياة الروحية في جزيرة العرب استمرت‬
‫من عهد نوح لتتجدد في زمن هود‪ ،‬ثم في زمن صالح‪ ،‬لتنتهي عند إبراهيم‪،‬‬
‫وإسماعيل‪ ،‬ثم شعيب‪ ،‬وتواصل استمرارها عبر أولياء‪ ،‬وأنبياء على ملة إبراهيم‬
‫‪2‬‬
‫مثل خالد‪ ،‬لتختم بسيدنا محمد ﷺ»‪.‬‬
‫وأما الفرع اإلسرائيلي للدورة اإلبراهيمية‪ ،‬فله مرحلتان‪ :‬األولى من «إسحاق»‬
‫إلى «يوسف»‪ ،‬والثانية من «مو�سى» إلى «عي�سى»‪ .‬أما اكتمالها‪ ،‬فمع النبي العربي‪.‬‬
‫وعن هذا اإلكتمال إبتدأ ظهور نفس الرحمان في دورة الوالية املحمدية‪.‬‬
‫‪ - 5‬الحقيقة اإلبراهيمية ومنزلتها الوجودية‪.‬‬
‫تشكل اللحظة «اإلبراهيمية»‪ ،‬مكانة أساسية في تاريخ األديان‪ ،‬فمن خاللها‬
‫حدث التمفصل الوجودي بين اليهودية واإلسالم‪ ،‬كخطابين يعكسان تجربتي‬
‫الثبات والتحول في األمكنة واملراتب‪.‬‬
‫‪ - 1‬مفتاح (عبد الباقي)‪ ،‬مفاتيح فصوص الحكم‪ ،‬دارالقبة الزرقاء‪ ،‬مراكش ‪ ،1997‬ص ‪.58‬‬
‫‪ - 2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.59‬‬

‫‪133‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫وتمتاز الحقيقة «اإلبراهيمية» بقوتها‬
‫تشكل اللحظة «اإلبراهيمية»‪،‬‬ ‫املزدوجة على الثبات في املكان (رمزية‬
‫مكانة أساسية يف تاريخ‬
‫البيت)‪ ،‬والقوة على التلوين تحقيقا‬
‫األديان‪ ،‬فمن خاللها حدث‬
‫ألعلى مرتبة وجودية‪ ،‬وذلك نتيجة عطاء‬
‫التمفصل الوجودي بني الهيودية‬
‫الخلة واملحبة‪ :‬فما داللة هذا التمفصل‬
‫واإلسالم‪ ،‬كخطابني يعكسان‬
‫املزدوج‪ ،‬وما رمزيته في األفق األكبري؟‬
‫تجربيت الثبات والتحول يف‬
‫في السياق «العرفاني» «األكبري»‬
‫األمكنة واملراتب‬
‫تتضمن الكلمة «اإلبراهيمية» حكمة‬
‫مهيمنة بمرتبتها الخاصة بصاحبها‪ .‬وهي‬
‫دالة على «التهييم» الحامل لصفة الهيمان الدال على عدم تحيز املحبوب في‬
‫جهة بعينها‪ ،‬بل هو في كل الجهات‪ ،‬دون التثبت في موقع محدد‪ .‬ألن الحق يتجلى‬
‫ألصحاب التجلي في كل �شيء‪ ،‬وفي أعلى صورة كمالية‪ ،‬واملتمثلة في «الجالل‬
‫الجمالي»‪ .‬وهذا هو سر الهيام كانفصال أو اصطالم‪ ،‬يؤدي إلى تحويل الجذور‬
‫السماوي‪ ،‬ومن جذرها الطيني إلى الروحي‪ ،‬وهو خاص بمن‬ ‫من أصلها األر�ضي إلى ّ‬
‫غلبت عليهم محبة الحق‪ ،‬ومن أهم محددات «الحقيقة اإلبراهيمية» كما بلورها‬
‫«عبد الرحمن جامي»‪ ،‬هناك املرتبة والتسمية‪.‬‬
‫‪ :1‬كمال املرتبة بالذات‪ :‬كمالية املرتبة اإلبراهيمية راجعة إلى كونها أول مرآة‬
‫ظهرت بها أحكام الصفات اإللهية الثبوتية‪ ،‬وأول من حاز التخلق بها‪ ،‬لهذا فله‬
‫أولية الظهور بالصفات اإللهية الثبوتية‬
‫‪ :2‬التسمية‪ :‬فهو ينعت بالخليل بمعنى تخلل‪ ،‬وحصر بجميع ما اتصفت به‬
‫الذات اإللهية‪ ،‬والتخلل هو القيام بحضرات الذات اإللهية وظهوره بمظاهرها‬
‫التي تغلب عليها جهة اإلطالق والحقيقة على جهة الخلقية‪ .‬ولتسمية التخلل معنى‬
‫معقوال‪ ،‬يقول «ابن عربي»‪« :‬كما تخلل اللون املتلون‪ ،‬فيكون العرض بحيث‬

‫‪134‬‬
‫الجوهرما هو كاملكان واملتمكن»‪.1‬‬
‫إن الحقيقة املعقولة هي بيان لحدين هما اللون واملتلون‪ ،‬أوالعرض والجوهر‪،‬‬
‫وأساسها هو عالقة الثابت باملتحول‪ :‬فإذا كان النعت األول املحدد في املرتبة هو‬
‫حصر للمعنى في املظهر اإللهي في ثبوته (الحكمة اإللهية)‪ ،‬فإن النعت الثاني هو‬
‫خارج الحصر والحد‪ ،‬وما به تتجسد تجربة التحول والتغير‪ .‬وهذا املعنى األخير‪،‬‬
‫يثير السؤال التالي‪ :‬كيف يصبح اللونمتلونا أو العرض محاطا بالجوهر وحاال‬
‫فيه؟ فهل الحقيقة اإلبراهيمية هي األصل الجامع بين الثبات والتحول أو الثبوت‬
‫والتلوين؟ أوال يمكن اعتبار أطروحة الثبوت على التلوين «األكبرية» طريقا لفهم‬
‫التجربة اإلبراهيمية دينيا ووجوديا؟‬
‫إن إحاطة العرض بالجوهر فلكونه يستغرق كل أجزائه‪ ،‬واختيار اللون في‬
‫املثال السابق هو لتجنب نظرية الحلول‪ ،‬ولتفادي الحصراملكاني‪ ،‬ألن الحق منزه‬
‫بصفاته‪ .‬واملقصود من هذا التمثيل‪ ،‬هو تصوير لكمال اإلحاطة‪ ،‬واالستيعاب‪،‬‬
‫ً‬
‫وبالتالي بناء الصورة الوجودية الروحانية‪ .‬ألن لتسمية الخليل حدا لذات الصورة‬
‫في كمالها الجامع بين اللون وتلونه‪ ،‬الثبات وتحوالته‪ .‬ويرجع هذا إلى كون املتخلل‬
‫هو الحق‪ ،‬والتخلل والتلوين‪ ،‬داالن على التداخل بين طرفي العالقة‪ ،‬ال على‬
‫العالقة املكانية‪ ،‬بل على الرابطة أو كمال االحاطة واالستيعاب‪ .‬وينتج عن هذا‬
‫وجود صورة «إبراهيم» عليه الصالة والسالم في كل موطن من املواطن‪ :‬فهناك‬
‫موطن النشأة الروحانية‪ ،‬وهناك موطن النشأة الدنيوية الجسمانية‪ ،‬ويعمل‬
‫التخلل كتداخل بين طرفي العالقة إلثبات حقانية الحق‪ .‬يقول «ابن عربي» «أال‬
‫ترى املخلوق يظهربصفات الحق من أولها إلى آخرها وكلها حق له‪ ،‬كما أن صفات‬
‫‪2‬‬
‫املحدثات حق للحق»‪.‬‬

‫‪( -1‬ابن عربي ‪ ،‬فصوص الحكم‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬فص حكمة مهيمية في كلمة ابراهيمية)‪.‬‬
‫‪ -2‬نفسه‬

‫‪135‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫إن العالقة املتبادلة بين الحق والخلق‪ ،‬هي إعادة بناء للتواصل الوجودي‬
‫بين الطرفين‪ ،‬ألن املتحول أصال هو شأن إلهي‪ ،‬وهو صور متجلية‪ ،‬بحجم املرآة‬
‫املتلقية‪ ،‬وكمال املرآة هو بكمال املرتبة‪ .‬ومن خالل الوضعية الوجودية للنبي‬
‫إبراهيم‪ ،‬ومرتبته عمل «ابن عربي» على إعادة التفكيرفي الوجود الحقاني‪ ،‬بمنظور‬
‫روحي‪ ،‬يميل إلى إمكانية تحقيق الوحدة بين أطراف العالقة الوجودية‪ .‬معتمدا‬
‫في ذلك النظرية «الحملية»‪ ،‬يقول‪« :‬اعلم أنه ما تخلل �شيء شيئا إال كان محموال‬
‫فيه‪ ،‬فاملتخلل اسم فاعل ‪ -‬محجوب باملتخلل ‪ -‬اسم مفعول‪ .‬فاسم املفعول هو‬
‫الظاهر واسم الفاعل هو الباطن املستور‪ ،‬وهو غذاء له كاملاء يتخلل الصوفة‬
‫فتربو به‪ ،‬وتتسع‪ .‬فإن كان الحق هو الظاهر‪ ،‬فالخلق مستور فيه‪ ،‬فيكون الخلق‬
‫جميع أسماء الحق سمعه وبصره‪ ،‬وجميع نسبه وإدراكاته‪ .‬وإن كان الخلق هو‬
‫الظاهر‪ ،‬فالحق باطن فيه‪ .‬فالحق سمع الخلق وبصره‪ ،‬ويده‪ ،‬ورجله‪ ،‬وجميع‬
‫قواه كما ورد في الخبرالصحيح»‪.1‬‬
‫يتعلق األمر في هذا السياق «العرفاني» الخاص بالحقيقة اإلبراهيمية‪،‬‬
‫بوضعية التخلل املبررة عقليات بـ«العالقة الحملية»‪ :‬فاملتخلل هو املحمول على‬
‫موضوع التخلل‪ ،‬وهو ما يجعل من املتخلل محجوبا‪ ،‬ومستورا في حدي الظاهر‬
‫والباطن‪ ،‬ألن تخلل الصوف باملاء في املثال السابق‪ ،‬هو انتشار له في كل األجزاء‪،‬‬
‫وهو علة اتساعه‪ ،‬والغرض من هذا هو فعل االنبثاق واإلظهار من أجل اإلحاطة‬
‫بكل املظاهر‪ .‬وألن جدل الظهور والتحجب مالزم لكل املوضوعات من خالل‬
‫تحوالت املتجلي‪.‬‬
‫يتخذ التخلل منفذا لرؤية االتساع الوجودي‪ ،‬بظهور الحق بأوصاف الخلق‪،‬‬
‫وظهور الخلق بأوصاف الحق‪ .‬ولهذا فالتخلل هو امتداد لل�شيء في األطراف‪،‬‬
‫من أجل إخراج الذات اإلنسانية من ضيقها إلى كماله املتسع‪ ،‬واملنفتح‪ ،‬ومن‬

‫‪ -1‬نفسه‬

‫‪136‬‬
‫معناها الجسماني إلى الروحاني كحد‬
‫إن العالقة املتبادلة بني احلق‬ ‫ملعنى االتصاف‪ ،‬وظهور للخلق بأوصاف‬
‫والخلق‪ ،‬يه إعادة بناء للتواصل‬
‫الحق‪ ،‬تحقيقا ملألوهية اإلنسان‬
‫الوجودي بني الطرفني‪ ،‬ألن‬
‫كشرط لوجود مرتبة األلوهية‪ ،‬يقول‬
‫املتحول أصال هو شأن إلهي‪،‬‬
‫«ابن عربي»‪« :‬ثم إن الذات لو تعرت عن‬
‫وهو صور متجلية‪ ،‬بحجم املرآة‬
‫هذه النسب لم تكن إلها‪ ،‬ولهذه النسب‬
‫املتلقية‪ ،‬وكمال املرآة هو‬
‫أعيانا‪ ،‬فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها»‪.1‬‬
‫بكمال املرتبة‬
‫إن هذا االتساع املمكن للذات‬
‫اإللهية اإلنسانية‪ ،‬أي «للمألوهية»‪ ،‬هو‬
‫ما فتح باب الضمائرالوجودية‪ ،‬لدى «ابن عربي»‪ ،‬باعتبارها تلك األنابيب املمكنة‬
‫بين األنا والهو من جهة‪ ،‬والهو والنحن من جهة ثانية‪ .‬وما ينبغي التأكيد عليه‬
‫هو أن أساس هذه الضمائر هو رابطة اإلطالق والتقييد الهو واألنا‪ ،‬والتي تعكس‬
‫تقابال بين مرتبتي األلوهية واملألوهية‪ ،‬والغيبية واإلنسانية العينية‪ .‬وهذه األخيرة‬
‫هي الحق من لواحق املطلق‪.‬‬
‫ووضعية التقابل هاته‪ ،‬هي بيان ملعنى «الوجود الحق» الحامل لحيثيتي الهوية‬
‫والغيرية‪ ،‬أو حيثيتنا نحن‪ ،‬وحيثية الهو‪ .‬وبهما تتحدد الربوبية والعبودية‪ ،‬وبهذه‬
‫العالقة يتحدد التقابل بين الضمائروتواصلها‪ :‬فهل التواصل مشروط بتضخيم‬
‫األنا وتحويلها إلى «مألوهية’» كأعلى مرتبة مهيمية ‪ -‬هيام؟‬
‫إن العالقة بين الضمائر الوجودية‪ ،‬تعمل على تضخيم الوجود اإلنساني‪،‬‬
‫بتحويل األنا الشخ�صي إلى إناء أو صورة حاوية للكل‪ ،‬مما يجعل من الوجود‬
‫العرفاني بمثابة مرآة قابلة لتضمن الكل‪ ،‬وإظهار خفائه‪ .‬يقول «عبد الرحمن‬
‫أحمد جامي»‪ :‬ومن الوجه الثاني يحصل االمتيازبظهور الربوبية والعبودية (وليس‬

‫‪( -1‬جامي‪ ،‬عبد الرحن بن أحمد‪ ،‬مرجع سابق ص ‪)165‬‬

‫‪137‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫له أنا بأنا)‪ .‬أي ليس له سبحانه أنانية‬
‫يتخذ التخلل منفذا لرؤية‬
‫تقيده وتخرجه عن اإلطالق بسبب تقيده‬
‫االتساع الوجودي‪ ،‬بظهور‬
‫بأنانيتي املقيدة الشخصية (ولكن في) أي‬
‫احلق بأوصاف الخلق‪ ،‬وظهور‬
‫في أنانيتي (مظهره‪ ،‬أي ظهوره‪ ،‬فيلحقه‬
‫الخلق بأوصاف احلق‪ .‬ولهذا‬
‫أنانيته بسبب ظهوره في أنانيتي)‪ ،‬ولكن‬
‫فالتخلل هو امتداد لليشء‬
‫ليس منحصرا فيها‪ ،‬فإن املطلق يظهر‬
‫يف األطراف‪ ،‬من أجل إخراج‬
‫في املقيد مقيدا من غير تقييد به ويجوز‬
‫الذات اإلنسانية من ضيقها‬
‫إىل كماله املتسع‪ ،‬واملنفتح‪،‬‬ ‫أن يكون املظهر اسم مكان وكلمته في‬
‫ومن معناها اجلسماين إىل‬ ‫تجريدية مثلها قوله تعالى‪« :‬لقد كان لكم‬
‫الروحاين كحد ملعىن االتصاف‬ ‫في رسول هللا اسوة حسنة» األحزاب ‪.21‬‬
‫فنحن كمثل إناء بكسر الهمزة‪ ،‬يعني‬
‫نحن بأنانيتنا املقيدة مثل اإلناء لهويته‬
‫املطلقة‪ ،‬فهي ظاهرة فينا متعينة بنا كتعين ما في اإلناء باإلناء‪ .‬قال الشيخ «مؤيد‬
‫الدين الجندي»‪« :‬يقولون لون املاء لون إنائه‪ ،‬أنا اآلن من ماء إناء بال لون (وهللا‬
‫يقول الحق) بلسان غيره في سائرالحقائق فال إنكارعليه إذا تكلم بمثل هذا املقال‬
‫(وهو يهدي السبيل) املوصل إلى فهمها وقولها ملن يشاء من الخالئق فال اختيارملن‬
‫اتخذ طريق الهداية والضالل» ‪.1‬‬
‫إن هذا األفق «العرفاني» يعمل على استعادة روابط العبودية بالربوبية والهوية‬
‫بالغيرية‪ ،‬وإعادة بناء للعالقة بين الجوهروالعرض واملوضوع واملحمول من منظور‬
‫وجودي‪ .‬إال أن هذا األفق الوجودي مشروط بتحول األنانية الشخصية الذاتية‬
‫من وضعها املقيد إلى وضعها املطلق‪ .‬وال ينبغي أن يؤدي هذا إلى حصر لألنانية‬
‫اإللهية في أنانية شخصية‪ ،‬بل األمر يتعلق بتحويل هذه األخيرة إلى إناء‪ ،‬أو عمق‬

‫‪( -1‬املرجع السابق ص ‪)165‬‬

‫‪138‬‬
‫بال قرار‪ ،‬تتناسل فيه التجليات الالنهائية املتمظهرة بتلوينات مختلفة‪ :‬إنه بناء‬
‫لألنانية اإلنسانية من أجل جعلها «تعيينا لالمتعين» في أعلى مرآة حقية‪ .‬وهذا‬
‫مشروط بإنمحاء لون اإلناء‪ ،‬لتأكيد ربوبية الحق وعبودية اإلنسان‪ ،‬فالعبودية‬
‫الحقانية بمرآتها الواسعة ليست ملتصقة بلون اإلناء»‪ ،‬ألن هذا األخيرهو عرض‪.‬‬
‫بل تصبح الذات اإلنسانية بأنانيتها الحقانية إناء‪ ،‬متضمنا لكل أوصاف الحق‪.‬‬
‫وهذا في عمقه امتداد لألنا اإللهي في كل األطراف‪ .‬وهو مطلب الضمائر‬
‫الوجودية املتمركزة حول ضميري األنا والهو فما عالقة هذا بالكلمة اإلبراهيمية؟‬
‫‪ - 6‬البناء والتشكيل أو الظهور املتلون للحقيقة اإلبراهيمية‪.‬‬
‫إن بناء املعنى هو بالشكل الكلي الجامع بين هيئة ال�شيء وحقيقته (خفائه)‪،‬‬
‫وبين الكلمة والحكمة‪ .‬واملثال على ذلك كما هو األمر في النص «األكبري»‪ ،‬هو‬
‫تجربة النحل في بنائه لبيئته كأعلى هيئة أو صورة تشكيلية متضمنة لحقيقة‬
‫«الوجود املدور» واملتضمن ملركز خفي في ثباته‪ ،‬وللضوء وللضالل في تحوالتهما‪.‬‬
‫ألن التشكيل جامع بين املعنى الثابت واملتحول‪ ،‬والخفاء والتجلي‪ ،‬والعيني والكوني‪:‬‬
‫الدابة في رجلها شكاال‪ ،‬واملتشكل هو‬‫والتشكل هو القيد‪ ،‬وبه تسمى ما تقيد به ّ‬
‫املقيد بالشكل‪ :‬فهل فعل البناء هو إخراج للتشكيل من قيده الضيق إلى املتسع؟‬
‫تعتبر ممارسة التشكيل عمال إبداعيا‪ ،‬ألن قصديته هي وضع املعنى في صورة‬
‫كلية‪ ،‬لكن بعد حصره أو ضبطه في شكل وهيئة‪ ،‬وأما مسلك التجربة الذوقية‬
‫القلبية‪ ،‬في أفقها الجمالي فينحونحوأوسع تشكيل‪ ،‬وذلك بتجميعه في رمزأوعالمة‬
‫محددة‪ .‬ألن االتساع هو إحاطة بتعدد التحوالت والتلوينات‪ ،‬وهو بالتالي إحاطة‬
‫وتقييد ألنواع التقلبات‪ ،‬ولهذا يسمى القلب قلبا لتقلبه‪ .‬لذا فاملعرفة الذوقية‪،‬‬
‫في تشكيلها للشكل‪ ،‬وتجسيده في صورة مشروطة هي بالقدرة على تمثل «الثبوت‬
‫على التلوين»‪ :‬الثبات الحقي‪ ،‬والتعدد الخلقي‪ .‬ألن اللون في تلوينه للحقيقة‪ ،‬هو‬
‫ما يعطي الصورة الظاهرة‪ ،‬أو جزءا من املضمون‪ .‬أما كلية املضمون وحيثيته‬

‫‪139‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫املجملة‪ ،‬فهي خارج أي لون محدد‪ ،‬باعتباره ذلك الواحد املتلون‪ ،‬واملتقلب‪.‬‬
‫إن ما يحدد وجود هذا التلوين هو الشكل‪ ،‬إال أن وضعه في صورة أو جسم‪،‬‬
‫فهو تنويع ملظاهره‪ ،‬ويعمل الشكل في ظهوره الجسمي حدا للثابت كمعنى في‬
‫هيئته‪ ،‬واستكمال له‪ ،‬كما هي املرتبة «اإلسحاقية» في استكمالها لظهور «الثبات‬
‫اإلبراهيمي»‪ ،‬بتضحية «األب» بـ«اإلبن» ضمانا للتجدد في الخلق‪ ،‬أو تحقيق‬
‫معنى «الوالدة الجديدة»‪ ،‬كتشكيل للمعنى في صورة مغايرة‪ ،‬عبر فعلي التحول‬
‫واالستبدال‪ ،‬بإعادة ظهور الحقيقة اإلبراهيمية في صورة التضحية‪ ،‬وتحولها في‬
‫أشكال متجددة زمنيا‪ ،‬ووجوديا‪.‬‬
‫يشكل الجمع بين الثبوت والتلوين‪ ،‬استراتيجية أساسية للرؤية الذوقية‪،‬‬
‫بل أفقها الجمالي الفاتن بتجدده املستمر‪ ،‬من أجل إبعاد تمظهرات الحقيقة‬
‫عن انحرافها‪ ،‬ووضعها في مراتبها الخاصة‪ .‬ألن تثبيت التشكيل في جسم أو‬
‫هيئة محددة‪ ،‬هو إيقاف لتجدد الحقائق‪ ،‬لكن البناء كجمع بين العمق الثابت‬
‫واملظهر املتلون هو ما يعمل «ابن عربي» على اإلحاطة به‪ .‬ونموذج هذا هو الثبات‬
‫اإلبراهيمي‪ ،‬والتشكيل «اإلسحاقي»‪ .‬ويحدد «عبد الباقي مفتاح» في شرحه‬
‫«لفصوص الحكم»‪ ،‬هذا املعنى التشكيلي بعالقة االستبدال كجمع بين الثبوت‬
‫والتلوين يقول‪ «:‬فبقي شكل إسحاق ثابتا وتحول شكل الكبش املمثل «إلسحاق»‬
‫والقائم بالذبح هو جسم إبراهيم‪ ،‬إذ ال قيام للشكل إال بالجسم»‪.1‬‬
‫إن عالقة االستبدال هي نفي لعنف املقدس‪ ،‬بتحول الشكل وتغيره واملحدد‬
‫في تحول الجسم‪ ،‬وصورته‪ :‬فالكبش هو تشكيل لصورة إسحاق في هيئته‪ ،‬لكن‬
‫املطلوب هو ما وراء الهيئة‪.‬أي ذلك الثابت كمعنى غيبي‪ ،‬وأما ما سواه فهو صورة‬
‫مشكلة في أجسام أوأواني بلغة أهل التحقيق‪ .‬ولهذا ينعت «الشيخ األكبر» الداللة‬
‫«اإلسحاقية» ب ــ«املاحق» كبناء للحقيقة في ثبوتها‪ ،‬ومحق ملغايرها‪ ،‬واملحق هو‬

‫‪( -1‬مفتاح عبد الباقي‪ ،‬مفاتيح فصوص الحكم ص ‪.)89‬‬

‫‪140‬‬
‫تحول للشكل في صورة أوهيئة جسمية‪.‬‬
‫يشكل اجلمع بني الثبوت‬ ‫ينتج عن هذا أن الحقيقة «اإلسحاقية»‬
‫والتلوين‪ ،‬اسرتاتيجية أساسية‬
‫كشكل هي مثل للصورة «اإلبراهيمية»‪،‬‬
‫للرؤية الذوقية‪ ،‬بل أفقها‬
‫وصورة الكبش هي مثل للمثل أو ظل‬
‫اجلمايل الفاتن بتجدده املستمر‪،‬‬
‫للظل‪ ،‬ألن الظل ال يكون إال لجسم‪.‬‬
‫من أجل إبعاد تمظهرات‬
‫لذا فتجربة التشكيل في تتاليها الخلقي‬
‫احلقيقة عن انحرافها‪،‬‬
‫والوجودي‪ ،‬هي حد لرابطة املثل ومثل‬
‫ووضعها يف مراتهبا الخاصة‬
‫املثل‪ ،‬وبالتالي للشكل الكلي‪ ،‬وأشكاله‬
‫املتلونة‪ :‬فهل قوة الصورة النبوية‬
‫املهيمية هي في هذا الشكل الكلي األولي‪ ،‬كمثال حقاني‪ ،‬أم في تفصيالته؟‬
‫فما يثبت قوة الصورة املهيمنة‪ ،‬هو امتداها في حكم فرعية‪« :‬إسحاقية» أو‬
‫«إسماعيلية»‪ .‬وهذا التشكيل الوجودي للحقيقة في الحكمة اإلبراهيمية‪ ،‬يضعنا‬
‫أمام مضموني الثبات والتلوين املحددين في الثبات املكاني‪ ،‬والتلوين الرتبي في‬
‫مدهما وامتدادهما البرزخي الواصل والفاصل‪ .‬وعن هذا الجسد البرزخي الحقي‬
‫‪ -‬اإلبراهيمي تمفصلت الصورة املثلية السابقة ‪ -‬إسماعيل وإسحاق ‪ -‬فهي بمثابة‬
‫الجوهر‪ ،‬والصور الظاهرة عنها‪ ،‬هي انقسام لهذا الجوهر مع «ابنيه»‪ :‬فاملتغير‬
‫حقيقه هو الشكل أو املظهر في صورة إسحاقية‪ :‬إنه «الشكل املتغير املذبوح‬
‫واملسحوق»‪.‬‬
‫إن املعنى الباطني للحقيقة‪ ،‬هو في الصورة اإلبراهيمية‪ ،‬وأما «ابناه» فهما‬
‫مظهرها املزدوج الدال على الثبوت والتحول أو التلوين‪ :‬فشكلها الثابت هو‬
‫«إسماعيل»‪ ،‬ووجهها املتغير هو «إسحاق»‪ .‬لذا فالحكمة اإلبراهيمية هي األرض‬
‫الصلبة ألطروحة الثبوت على التلوين «كما تمثلها «الشيخ األكبر»‪ .‬واملحرك‬
‫للجمع بين املفهومين لديه هو إمكانية التقريب بين األديان‪ ،‬واالعتقادات‪ :‬فهل‬

‫‪141‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫غياب هذا الوصل أو الجمع بين وجهي‬
‫هذه الحكمة اإلبراهيمية‪ ،‬هو أصل الحكمة اإلبراهيمية يه األرض‬
‫الصلبة ألطروحة الثبوت‬ ‫االختالف‪ ،‬والنزاع‪ ،‬والصراع بين األديان‬
‫عىل التلوين «كما تمثلها‬ ‫الكتابية؟ أوال يمكن القول بأن قوة‬
‫«الشيخ األكرب»‪ .‬واحملرك‬ ‫الحقيقة الجمعية‪ ،‬هي في هذا األفق‬
‫«التيوصوفي» الواصل بين املعنيين للجمع بني املفهومني لديه هو‬
‫«املجمل» و»املفصل»‪ ،‬الثابت واملتغير‪ ،‬إمكانية التقريب بني األديان‬
‫أو بين املعنى «القرآني والفرقاني»‪ ،‬كما‬
‫هو األمرفي الحقيقة املحمدية؟‬
‫يعتبر القول الصوفي تخطيا للحقيقة الحصرية الظاهرية‪ ،‬من أجل وصلها‬
‫بمعناها املبطون‪ ،‬وتحويلها إلى حكمة‪ :‬فهل بهذه الحكمة أو الحكم الخاصة‬
‫باألنبياء يتم التوحيد بين األديان‪ ،‬والوصل بين حقائقها‪ ،‬ومضامينها الحقانية؟‬
‫إن االنتصار لحكمة األنبياء كما هو األمر في «فصوص الحكم»‪ ،‬هو توجيه‬
‫للتاريخ وللوجود اإلنساني بما هو حقاني‪ ،‬أي بحكمة صاحب املرتبة‪ ،‬وذلك‬
‫إستنادا إلى اسم من األسماء‪ .‬وهذا العمق األسمائي هو علة هيام ‪ -‬فناء ‪ -‬الحكمة‬
‫اإلبراهيمية‪ ،‬وظهورها في حكمة إبنه «إسماعيل» كوجه باطني للشكل «املذبوح‬
‫املسحوق»‪ -،‬الحكمة «اإلسحاقية» ‪ .-‬واملرجع اإلسمي في الحكمة «اإلبراهيمة»‪،‬‬
‫وهو «اإلسم العلي»‪ ،‬وتشكله‪ .‬وهذا املعنى األخير‪ -‬التحول ‪ -‬هو الخاص بالذرية‬
‫«اإلسحاقية» مع بني إسرائيل‪ .‬أما داللة «العلو» في معناه األقرب للروح‬
‫ّ‬
‫«اإلبراهيمية»‪ ،‬فهو املمثل في «الخلة»‪ ،‬واملستمدة عن رمزية «البيت» أو جمالية‬
‫املكان املؤسس للثبات (أول وطن)‪ .‬ومنزلة املكان هاته دالة على علو املكانة في‬
‫نظر «ابن عربي»‪ ،‬والتي هي «تيوصوفيا» تجسيد لرمزية العرش كأعلى وأسمى‬
‫صور الكون املمثلة في مثال أر�ضي‪ ،‬وهوالكعبة‪ .‬وأما جمالية املكان فمستمدة من‬

‫‪142‬‬
‫جاللية الصورة العلوية العرش‪ ،‬وهكذا يلتقي البعد الجمالي باملكون القد�سي‪.‬‬
‫وإمكانية إدراك هذه املكونات‪ ،‬هو بتحقق الثبات في ذات املكان والتوجه إليه‬
‫في الوقت ذاته‪ ،‬بخالف الذرية «اإلسحاقية» ذات املمارسات الطقسية غير‬
‫املحكومة بمكان محدد‪ ،‬بل محكومة بتبدل األمكنة ألنها أكثر إرتباطا باملظهر‬
‫دون األصل‪ ،‬وألن ممارستها الطقسية خارج مرجعية الثبات‪ .‬وينتج عن هذا‪،‬‬
‫أن أصحاب الذرية «اإلسحاقية» لم يدركوا أصل التغير‪ ،‬ومرجعيته املتأصلة‬
‫في الحقانية اإلسمية‪ .‬بل بقوا في حدود الظاهر واملظهر‪ ،‬بدون إدراك علو وسمو‬
‫حقيقة العرش الطيني ‪ -‬البيت ‪.-‬‬
‫‪ - 7‬الثبوت على التلوين كجمع بين الخلة واملودة‪.‬‬
‫فلسفة الدين يف‬
‫إن تمفصالت وضعية الثبوت على التلوين‪ ،‬من خالل وضعية الذرية‬
‫اإلبراهيمية مع إسماعيل وإسحاق‪ ،‬هو في عمقه تأكيد لجدل الثبات والتحول‬
‫الفكر الفلسيف الحديث‬
‫والبناء والتشكيل‪ ،‬فعمق املتلون هو الثبوت‪ ،‬بل أصله وأساسه‪ ،‬وحياة الثبوت‬
‫هي في تلونه‪ ،‬وهي في أبعادها «التيوصوفية»حياة املدلول في الدال‪ .‬والجمع بينهما‬
‫يستدعي انفتاح الطرفين‪ ،‬وتفتح بعضهما على البعض‪ ،‬باستعادة املتلون ألصله‬
‫وارتباط هذا األخير بتشكيالته وتفصيالته‪ .‬ويمثل هذا دينيا في فرعي األصل‬
‫اإلبراهيمي»‪ ،‬أي في ابنيه‪« :‬اسماعيل واسحاق»‪ :‬فما أبعاد هذا الجمع أو التركيب‬
‫بين مفهومي الثبوت والتلوين؟ وما نتائج أطروحة «الثبوت على التلوين»؟‬
‫إن بناء «ابن عربي» ألطروحة «الثبوت على التلوين»‪ ،‬وراءه أفق عقدي‪ ،‬وهو‬
‫إمكانية الوصل والجمع‪ ،‬أوالحواربين األديان الكتابية ذات أصل واحد‪ ،‬ومنتمية‬
‫لشجرة واحدة ذات جذور سماوية مجسدة أرضيا بتلوينات مختلفة (يهودية ‪-‬‬
‫مسيحية ‪ -‬إسالمية)‪ .‬وهذا الوجه املتأصل في العمق الواحد‪ ،‬هو مصدر قوة‬
‫«الحقيقة اإلبراهيمية» عند «ابن عربي»‪ ،‬بمرتبتها «املهيمينة» على الكل‪ :‬فهي‬
‫األصل‪ ،‬وهيمنتها هاته ‪ ،‬هي باإلتساع املوجه بالخلة‪ :‬فما األفاق والوضعيات التي‬

‫‪143‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫تؤدي إليها فكرتي الثبوت والتلوين؟ هل التركيب بين الثبوت والتلوين‪ ،‬يستدعي‬
‫خلة أعلى من الخلة اإلبراهيمية؟‬
‫إن استعادة ابن عربي ألطروحة الثبوت على التلوين هو من أجل إظهار روح‬
‫األديان‪ ،‬ووحدتها الكامنة في أصلها‪ ،‬فالثبوت على التلوين هو في عمقه محو‬
‫للفراغ‪ ،‬واستبداله بـ امللء الوجودي‪ ،‬إنه ملء لألمكنة على أساس األخوة‪،‬‬
‫والتآخي‪ ،‬كما مأل سيدنا «إبراهيم» عليه الصالة والسالم‪ ،‬وزوجته سارة‪ ،‬بلد‬
‫مصر كإخوة ال كزوجين كواحد‪ ،‬ال كإثنين‪ ،‬تلك هي صورة الحكمة اإلبراهيمية‪،‬‬
‫الجامعة بين الثبوت والتلوين‪ ،‬بين املركز‪ -‬األصل واملحيط ‪ -‬الفرع‪ ،‬بين املكان‬
‫والحد ‪ .‬إن وضعية الثبوت على التلوين‪ ،‬ال تنفصل عن األساس الوجودي‬
‫مليتافيزيقا الشيخ األكبر‪ ،‬حيث هناك إمكانية للحديث عن الوجوه الحقيقية‪،‬‬
‫والكثرة الحقيقية‪ .‬وخطاب الوحدة هذا‪ ،‬هو ما يحدد في نظر «ابن عربي»‪ ،‬منزلة‬
‫الخلة‪ :‬فما مفهوم الخلة اإلبراهيمية‪ ،‬ومكانتها الوجودية‪ ،‬في عالقة بالخلة الكبرى‬
‫املجسدة والخاصة بالحقيقة املحمدية؟ فهل الخلة األولى هي أساس بناء الخلة‬
‫الثانية (الكبرى) ؟‬
‫في شرحه لكتاب «مفتاح الغيب» للقونوي يحدد «الفنري» مكانة كل من الخلة‬
‫اإلبراهيمية واملحمدية بقول‪« :‬هي الخلة املختصة بخاتم النبيين وورثته‪ ،‬وهي‬
‫املحبة الذاتية الصرفة املوجبة إلرتفاع اإلنية‪ ،‬وانتفاء اإلثنينية‪ ،‬وال حجاب معها‪.‬‬
‫فإن الخلة هي محبة ذاتية مع بقية أنانية تحدث من استحكام املودة‪ ،‬وتوصل‬
‫إلى خلوص املحبة‪ ،‬ثم تصفو املحبة بارتفاع اإلنية‪ ،‬وارتفاع اإلثنينية‪ .‬فاملحبة‬
‫الصرفة فوق الخلة‪ ،‬وهي املسماة بالخلة الكبرى‪ ،‬أما الخلة اإلبراهيمية‪ ،‬فهي‬
‫‪1‬‬
‫الخلة األولى الحاصلة مع عدم إرتفاع أحكام الحجب‪ ،‬ببقاء اإلنية»‪.‬‬

‫‪( -1‬الفنري‪ ،‬محمد بن حمزة‪ ،‬مصباح األنس بين املعقول واملشهود في شرح مفتاح غيب الجمع والوجود‬
‫طهران ‪ 1382‬ص ‪.)80‬‬

‫‪144‬‬
‫إن الوحدة الخالصة ميتافيزيقيا‪،‬‬
‫إن استعادة ابن عريب ألطروحة‬ ‫هي تجسيد للحركة القدسية و«الفيض‬
‫الثبوت عىل التلوين هو‬
‫األقدس»‪ ،‬وبها تتحدد أعلى مراتب‬
‫من أجل إظهار روح األديان‪،‬‬
‫املحبة‪ ،‬أو ما يتخذ معنى «الخلة الكبرى»‬
‫ووحدهتا الكامنة يف أصلها‪،‬‬
‫والخاصة بالتجربة املحمدية وورثتها‬
‫فالثبوت عىل التلوين هو يف‬
‫وهي أقوى من «الخلة اإلبراهيمية»‪:‬‬
‫عمقه حمو للفراغ‪ ،‬واستبداله ـب‬
‫فاألولى بدون حجاب ألنها حقيقة جامعة‬
‫امللء الوجودي‬
‫مانعة‪ ،‬والثانية محجوبة بحيثيات اإلنية‬
‫واإلثنينية وصاحب «الخلة الكبرى»‪،‬‬
‫هو األول في الوجود‪ ،‬واآلخر في املعرفة‪ .‬واملكانة الوجودية لهذه الخلة راجعة إلى‬
‫كونها حاملة ملضمون املودة كمد ملا هو نير في ما هو طيني‪ ،‬وقابلة لإلستكمال‪،‬‬
‫والكمال مع الوارث‪ .‬ولهذا فالثبوت على التلوين هو أفق التجربة النبوية من بدئها‬
‫اإلبراهيمي إلى ختمها املحمدي‪.‬‬
‫وداللتها العرفانية تتجسد أكثر في مفهوم «اإلله» الذي أصبح حامال لداللة‬
‫الحب‪ :‬إنه في السياق األكبري يحمل داللة‪« ،‬إله الحب»‪ ،‬ال «اإلله املريد» كما‬
‫هو األمرمع األشاعرة‪ .‬والنتيجة األساسية من هذا‪ ،‬وهي أن الخلة الكبرى املوجهة‬
‫باملودة‪ ،‬تعمل على إعادة تنظيم الروابط والعالقات بين األديان واإلعتقادات‪ :‬إنه‬
‫مد للرقيقة العشقية كحركة قدسية في الكون مع اآلخر‪ ،‬وبالتالي الوارث‪ .‬فإذا‬
‫كانت اليهودية واإلسالم‪ ،‬ديانات تشريع فإن املسيحية «ديانة حب»‪ ،‬والتصوف‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وباألساس الفكرالفلسفي منه‪ -‬الفكراألكبري‪ ،-‬فباإلضافة إلى إلتصاقه‬
‫باألمرالشرعي‪ ،‬فإنه بلور فكرة املحبة أو ما يسميه الشيخ األكبرب ــ«دين الحب»‪.‬‬
‫ينتج عن هذا أن أفق الثبوت على التلوين في الروح األكبرية‪ ،‬هوبقوة القلب على‬
‫قبول كل الصور‪ .‬وهوفي عمقه قدرة على تلوين الحقيقة الواحدة‪ ،‬الثابتة والنيرة‪.‬‬

‫‪145‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫وبهذا املعنى التيوصوفي تنمحي النظرة‬
‫األصولية للحقيقة‪ ،‬وللفعل اإلنساني‪ .‬أفق الثبوت عىل التلوين يف‬
‫ألن كل �شيء قابل للتحول حسب سياقات الروح األكربية‪ ،‬هو بقوة القلب‬
‫الوضع التاريخي واإلجتماعي والوجودي عىل قبول كل الصور‪ .‬وهو‬
‫يف عمقه قدرة عىل تلوين‬ ‫واملعرفي‪ :‬فما اآلفاق املمكنة لدين الحب‬
‫في بعده العرفاني؟ هل يتطلب هذا احلقيقة الواحدة‪ ،‬الثابتة والنرية‬
‫اإلبتعاد عن الحقيقة الحصرية و اإلنتماء‬
‫العرقي ‪ -‬الهوياتي؟‬
‫تتحدد وضعية اإلسالم من خالل داللته الروحية كما يرى «هوغ ديديبة»‬
‫«‪ »Hugues Didier‬وذلك بابتعاده عن كل نزعة عرقية ضيقة يقول‪« :‬من وجهة‬
‫إسالمية‪ ،‬ال توجد قطيعة حقيقية بين إله «ابراهيم» و«إسحاق» و«يعقوب»‪،‬‬
‫واإلله الذي يتجلى في القرآن‪ ،‬كما أنه ال تميز بين مقدس إسالمي‪ ،‬ومقدس‬
‫مسيحي أو يهودي ‪ -‬مسيحي كما تأكد في تاريخ أوروبا وحضارتها (بمقدار عدم‬
‫إفساده من قبل هذه الحضارة)‪ .‬فنحن خارج املوضوع طاملا لم نقبل بأن اإلسالم‬
‫ال يدعي االنتماء إلى عرق ديني غير عرق املذاهب املسيحية واليهودية (وهو العرق‬
‫الذي يشارإليه بعبارة أهل الكتاب) وأكثرمن ذلك‪ ،‬يقول اإلسالم إنه أصل العرق‬
‫وشكله الصحيح وخاتمته‪.«…  1‬‬
‫إن اإلسالم كدين هو حقيقة حاضرة في الكيان الروحي لإلنسان‪ ،‬فهو ملتصق‬
‫بوجوده األول‪ .‬وما يبرر هذا هو أنه كان يشكل عمق ديانة «النبي إبراهيم»‪ ،‬الذي‬
‫لم يكن ال يهوديا وال نصرانيا ‪ ،‬بل كان ذا معنى كونيا قبل ظهور اإلسالم التاريخي‪.‬‬
‫وبهذا األخير‪-‬اإلسالم التاريخي‪ .-‬أما روحيا‪ ،‬فاإلسالم في السياق العرفاني وجد مع‬
‫«آدم»‪ ،‬ولهذا فهوذوخاصية أساسية واملتمثلة في كونه دورة ‪ ،‬فهومحكوم بالعود‬
‫‪( -1‬ديدييه هوغ‪ ،‬اإلسالم واملقدس‪ ،‬مواقف‪ ،‬العدد ‪ ،1991 ،65‬ص ‪.)106‬‬

‫‪146‬‬
‫واإلستعادة لألصل‪ .‬فالزمن العرفاني يبدأ بالحقيقة اآلدمية‪ ،‬ويختم بالحقيقة‬
‫املحمدية‪.‬‬
‫وفي كل لحظة نبوية هناك معاني وحقائق مفصلة لذات الحقيقة األولية‬
‫بدرجات مختلفة‪ .‬واملبرر لهذه اإلستعادة وهو العود املستمر للمكان الثابت‬
‫كوسمولوجيا‪ ،‬واملتمثل في «الكعبة» كفضاء للقاء بالحقيقة األولية‪ .‬فاللحظة‬
‫اآلدمية حسب بعض الروايات تؤكد ارتباط آدم بهذا املكان الثابت يقول «هوغ‬
‫ديدي»‪« :‬تخبرنا بعض الروايات اإلسالمية التقليدية أن آدم بعد سقوطه بكى‬
‫بكاء مرا وكانت ذريته ضائعة وعرضة لشتى أنواع املصاعب‪ ،‬فأرسل له هللا‬
‫لتعزيته خيمة من السماء نصبت في مكان الكعبة‪ .‬كانت هذه الخيمة حجرا‬
‫إكتسبت لونا أسود بسبب آثام البشرية إنه الحجر األسود الشهير الذي يزين‬
‫زاوية الكعبة الشرقية(‪ )....‬والكعبة أيضا مركز العالم وسرته‪ ،‬املعبد األول الذي‬
‫شيد لبني البشر‪ ،‬وموقعه أول موقع خلقه هللا‪ ،‬ثم مد األرض تحت املعبد‪ ،‬لهذا‬
‫‪1‬‬
‫فإن للكعبة عالقة روحية مع باقي األرض»‪.‬‬
‫إن اإلرتباط الديني بمكان محدد منذ آدم إلى اليوم‪ ،‬هو تأكيد على ثبات‬
‫حقيقته واملتمثلة في فكرة التوحيد الحاضرة في األديان الكتابية‪ ،‬وما إعادة بناء‬
‫الكعبة مع آدم‪ ،‬هو إلثبات روح اإلسالم كدورة حاضرة في كل األديان الكتابية‪،‬‬
‫وحقائقها النبوية‪.‬‬
‫وهذا ما يعمل العرفان األكبري على بيانه من خالل تمثل حقائق األنبياء‬
‫وحكمهم‪ ،‬وبالتالي وحدة حقائقهم الروحية‪ .‬ألن وحدة األديان هي بروحها‬
‫الواحد‪ ،‬وبمعناها الحقاني‪ ،‬وبما أن للكعبة عالقة روحية مع باقي أطراف‬
‫األرض‪ ،‬فإن لروح الدين عالقة وجودية بباقي األجناس‪ ،‬دون تمييزبين هذا أوذاك‬
‫باللون أوالجنس‪ ،‬أواملرتبة ‪ -‬املكانة ‪ ...-‬وهذا مشروط باستعادة املعنى العرفاني‬

‫‪( -1‬املرجع السابق ص‪.)21‬‬

‫‪147‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫للتوحيد‪ ،‬كأول حقيقة وجودية‪ ،‬ارتبطت بمكان ثابت ومحدد ولكن قابلة للظهور‬
‫والحضور بتلوينات مختلفة وعن هذه التحديدات النظرية ‪ -‬اإلشكالية‪ ،‬تتبلور‬
‫اإلستفهامات التالية‪ :‬أال تؤدي أطروحة الثبوت على التلوين‪ ،‬إلى فهم الدين‬
‫من خالل املفارقة بين معنيين‪ :‬الدين الكوني والتاريخي؟ وهل هذه التأسيسات‬
‫النظرية للحقيقة اإلبراهيمية هي ما أسس القول بالتجليات والتحول في الصور‬
‫من أجل بناء «إسالم التجليات» أو «روح الدين»‪ ،‬املجسد في أعلى مراتبه كـ «دين‬
‫الحب»؟‪.‬‬

‫الئحة املراجع‬

‫‪148‬‬
‫• ابن عربي‪ ،‬ترجمان األشواق‪ ،‬دارصادر‪ ،‬بيروت‪.1966 ،‬‬
‫• ابن عربي‪ ،‬الفتوحات املكية‪ ،‬الجزء األول دارصادربيروت‪.‬‬
‫• ابن عربي ‪ ،‬فصوص الحكم ‪ ،‬تعليقات أبوالعال عفيفي‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬دارالكتاب‬
‫العربي ‪،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪. 1980‬‬
‫• الفنري (محمد بن حمزة) ‪،‬مصباح األنس بين املعقول و املشهود في شرح‬
‫مفتاح غيب الجمع و الوجود ‪ ،‬طهران ‪.1382‬‬
‫• جامي (عبد الرحمان بن أحمد)‪ ،‬نقد النصوص في شرح نقش الفصوص‪،‬‬
‫مقدمة وتصحيح وتعليقات وليم شتيك‪ ،‬طهران‪.1977 ،‬‬
‫• توملين‪ ،‬فالسفة الشرق‪ ،‬ترجمة‪ ،‬عبد الحليم سليم‪ ،‬مراجعة‪ ،‬علي أدهم‪،‬‬
‫داراملعارف‪.‬‬
‫• مفتاح (عبد الباقي)‪ ،‬مفاتيح فصوص الحكم‪ ،‬دار القبة الزرقاء‪ ،‬مراكش‬
‫‪.1997‬‬
‫• ديدييه (هوغ) ‪ ،‬االسالم و املقدس‪،‬مواقف‪،‬العدد ‪.1991 ، 56‬‬
‫‪• fo melborp eht dna IBARA NBI ,dlrow lanigami ,)C.W( cittihc‬‬
‫‪4991 ,kroy weN ,ytisrevid suoigiler‬‬
‫‪• evuerpe’l à noigiler enu ,seinahpoéht sed malsi’l , adayA dauoS‬‬
‫‪0102.siraP ,noitidE ,SRNC ,tra’l ed‬‬

‫‪149‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫فلسفة الدين‬
‫يف الفكر الفلسيف‬
‫الحديث‬
‫يف املعلوم‬
‫من الدين بالعقل وحده‬
‫محمد منادي إدري�سي‪*1‬‬

‫مقدمة‬
‫ُيعتبر «املعلوم من الدين بالضرورة» موضعا من املواضع الشهيرة عند الفقهاء‬
‫واألصوليين املسلمين‪ُ ،‬ويقصد به عموما ما ال يسع املسلم مجتهدا كان أو عاميا‪،‬‬
‫أن يجهله من عقائد وعبادات وشرائع‪ .‬على أن كلمة «الضرورة» في هذا املوضع‬
‫ليس لها أي معنى منطقي أو تجريبي‪ ،‬وإنما تدل على ما يجب على املكلف أن يعلمه‬
‫من شؤون الدين ُويلزم نفسه به‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن القضية أعاله تعبر عن املشترك‬
‫الذي يلتقي فيه املسلمون على اختالف مذاهبهم وطوائفهم‪ ،‬فيكون معناها هو‬
‫ما يجب على املسلم املكلف أن يعلمه من عقائد اإلسالم وعباداته وشرائعه علما‬
‫ال قدرة له على تحصيله بنظر واستدالل‪ .‬لقد قمنا بتعديل هذا املوضع تعديال‬
‫طال منطوقه ومعناه‪ ،‬ثم جعلناه‪ ،‬بعد التعديل‪ ،‬عنوانا لهذه املقالة‪« :‬املعلوم من‬
‫الدين بالعقل وحده»‪.‬‬
‫ال يتعلق األمر في هذا العنوان بديانة بعينها‪ ،‬بل بالدين بوجه عام‪ ،‬وال بـ«علم»‬
‫حصل بأدلة سمعية أو نقلية‪ ،‬بل بما يمكن للعقل البشري أن يقرره أو يقبل‬ ‫ُي َّ‬
‫به بخصوص الدين عموما اعتمادا على قدراته الخاصة‪ ،‬وبالنظر إلى حدوده‬
‫وحاجاته ومصالحه‪ .‬نحن نعلم أن النظر العقلي (العلمي والفلسفي) جهد بشري‬
‫‪ * -1‬أستاذ باحث من املغرب‪.‬‬

‫‪153‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫أر�ضي يتوسل العقل سبيال للفهم والتفسير‪ ،‬وذلك بوضع إشكاالت‪ ،‬واقتراح‬
‫فرضيات لحلها؛ األمر الذي يسفر عن إنشاء نظريات قابلة للمناقشة واملراجعة‪.‬‬
‫إنه من حيث هو نظر فلسفي‪ ،‬تفكير ال يمنح املعقولية واملشروعية إال ملا اجتاز‬
‫اختبار الشك والنقد والفحص‪ ،‬وقام عليه الدليل والحجة‪ .‬والحال أن الدين‬
‫موقف وجودي أو نمط حياة يبحث عن املعنى والخالص‪ ،‬ويقوم على التسليم‬
‫القلبي أو اإليمان الوجداني‪ .‬إنه استجابة لنداء إلهي سماوي يطالب بالتسليم‬
‫بمعتقدات معينة‪ُ ،‬ويلزم بأداء سلوكات معينة (عبادات وشعائر)‪ ،‬من أجل نيل‬
‫مرضاة الخالق‪ .‬ذلك أن الوحي الذي يستند إليه‪ ،‬يقوم على انعقاد صلة بين‬
‫الح�سي البشري واملاوراء ‪ -‬ح�سي اإللهي‪ ،‬األمرالذي ال يمكن إدراكه مفهوميا؛ كما‬
‫أن اإليمان الذي من دونه ال يستقيم أمره‪ ،‬يوجد مقره في شعور من يعتنقه‪ ،‬وال‬
‫معنى له إال بالنسبة إلى هذا املعتنق؛ ثم إن الضمانة التي تديم سلطانه‪ ،‬مرتبطة‬
‫بكتب مقدسة يتعذر التحقق من حقيقتها بالعقل وحده‪ .‬يبدو الدين من هذه‬
‫النواحي مختلفا تماما عن النظر العقلي الفلسفي الذي يبحث عن املعقولية‬
‫ويسعى إلى املوضوعية‪ .‬إن اكتفينا بالفروق املاهوية‪ ،‬سنستنتج أن األمر يتعلق‬
‫بمجالين مختلفين اختالفا ال يلزم عنه أن يتنازعا تنازعا يستدعي بذل محاوالت‬
‫لبيان ما بينهما «من اتصال»‪ ،‬أو على األقل لـ «درء التعارض» بينهما‪ .‬فلكل منهما‬
‫سبيل خاص‪ ،‬وال مسوغ للصراع بينهما‪.‬‬
‫بيد أن النزاع بينهما قد حصل فعليا‪ ،‬والسبب في ذلك أن هناك موضوعات‬
‫معينة كان أصحاب النظرالعقلي من اليونانيين قد تناولوها وأنشأوا بخصوصها‬
‫دعاوى معينة‪ ،‬وجاءت الديانات اإلبراهيمية‪ 1‬فيها بقول حاسم تقرر هي نفسها‬

‫‪ - 1‬تجنبا ملا في صفتي «التوحيدية» و«السماوية» من لبس‪ ،‬آثرنا استعمال عبارة «الديانات اإلبراهيمية»‬
‫للداللة على اليهودية واملسيحية واإلسالم‪ .‬ملزيد من التفاصيل عن عدم دقة الوصفين السابقين‪ ،‬راجع‪:‬‬
‫زيدان‪ ،‬يوسف‪ ،‬الالهوت العربي وأصول العنف الديني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة ‪ ،2012 ،6‬ص‪.‬‬
‫‪.23 - 18‬‬

‫‪154‬‬
‫أنه حق ال يأتيه الباطل من بين يديه وال‬
‫الدين موقف وجودي أو‬ ‫من خلفه‪ .‬وذلك ما جعل هذين املجالين‬
‫نمط حياة يبحث عن املعىن‬
‫معا يبدوان متنافسين في قول الحق‪.‬‬
‫والخالص‪ ،‬ويقوم عىل التسليم‬
‫وقد استمر هذا النزاع قرونا طويلة‪،‬‬
‫القليب أو اإليمان الوجداين‪ .‬إنه‬
‫واتسمت بعض فصوله برفض الفلسفة‬
‫استجابة لنداء إلهي سماوي‬
‫والعلم ومنعهما‪ ،‬ومالحقة املشتغلين‬
‫يطالب بالتسليم بمعتقدات‬
‫بهما واضطهادهم‪ .‬فما إن تمكنت إحدى‬
‫معينة‪ ،‬ويُلزم بأداء سلوكات‬
‫الديانات اإلبراهيمة (أقصد املسيحية)‬
‫معينة‬
‫من الهيمنة على املجتمع‪ ،‬والتأثير في‬
‫القرارالسيا�سي أو وضع يدها عليه‪ ،‬حتى‬
‫توالت قرارات الحظرواملنع ضد الفلسفة والعلم‪ ،‬وتبعتها حمالت املطاردة والقمع‬
‫تعد في نظر من آمن‬‫للمتعاطين لهما‪ .‬ذلك أن عقائد الدين وشعائره وشرائعه ُّ‬
‫بها حقائق قطعية؛ ألن هللا مصدرها‪ ،‬وكل من يشكك فيها أو يرفض القبول بها‬
‫والعمل وفقا لها‪ ،‬يعتبر شخصا جاحدا كافرا بأنعم هللا يستحق املعاملة املخزية‬
‫في الدنيا والعذاب األبدي في اآلخرة‪.‬‬
‫عندما هيمنت الديانات اإلبراهيمية (املسيحية واإلسالم تخصيصا) اجتماعيا‪،‬‬
‫وأصبحت ديانات رسمية إلمبراطوريات ودول‪ ،‬طوال القرون الوسطى‪ ،‬وجدت‬
‫الفلسفات املوروثة عن التقاليد اليونانية نفسها في «حضرة واقع ميتافيزيقي»‬
‫يماثل في متانته األنطولوجية «الواقع الفيزيقي»‪ ،‬فكان لزاما عليها أن تستوعب‬
‫هذا املستجد‪« ،‬كتاب» ما بعد الطبيعة املفترض فوقنا»‪ ،‬ال أن تكتفي فقط‬
‫بمطالعة «كتاب» الطبيعة املفتوح أمامنا»‪.1‬‬
‫‪ -1‬باعكريم‪ ،‬عبد املجيد‪« ،‬في األصول املنهجية ملفهوم الذات‪ :‬حكاية «حي بن يقظان» البن طفيل»‪،‬‬
‫ضمن ملف التأهيل الجامعي‪ ،‬نوقش بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬ظهر املهراز‪ ،‬فاس‪ ،‬تحت عنوان‪:‬‬
‫نحن وقيم الحداثة؟‪ ،‬بتاريخ ‪ 05‬يناير ‪ ،2012‬ص‪.71 .‬‬

‫‪155‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫عندما هيمنت الديانات‬
‫لقد فرضت هذه األديان على الفلسفة‬
‫اإلبراهيمية (املسيحية‬ ‫موضوعات وإشكاالت من خارج منظومتها‬
‫واإلسالم تخصيصا) اجتماعيا‪،‬‬ ‫النظرية‪ .‬فهي تقرر بنصوص قاطعة أن‬
‫َ‬
‫وأصبحت ديانات رسمية‬ ‫هللا واحد ال شريك له في األلوهية‪« ،‬ف ّعال‬
‫إلمرباطوريات ودول‪ ،‬طوال‬ ‫ملا يريد»‪ ،‬وهو «على كل �شيء قدير»‪،‬‬
‫القرون الوسطى‪ ،‬وجدت‬ ‫َ‬
‫«فاطرالسماوات واألرض» من عدم‪ .‬خلق‬
‫الفلسفات املوروثة عن التقاليد‬ ‫وكرمه‪ ،‬ثم َح ّمله األمانة‪ .‬لقد‬ ‫اإلنسان ّ‬
‫اليونانية نفهسا يف «حرضة واقع‬ ‫كلف هللا ُر ُسال بتبليغ رسالته للناس كافة‪،‬‬
‫ميتافزيييق» يماثل يف متانته‬ ‫ُ‬
‫وكتبه رسمت سبل الهداية والنجاة‪،‬‬
‫األنطولوجية «الواقع الفزيييق»‬
‫وحوت األوامرالتي يجب اتباعها والنواهي‬
‫التي ينبغي اجتنابها‪ .‬وهكذا قامت الحجة‬
‫َ َْ ْ‬ ‫ُ َ َ َْ‬ ‫ُ ْ‬
‫على الناس‪«َ :‬وق ِل ال َح ُّق ِمن َّرِّبك ْم ف َمن ش َاء فل ُي ْؤ ِمن َو َمن ش َاء فل َيك ُف ْر»‪.1‬‬
‫ويوم ُيبعثون سيحاسبون على كل صغيرة وكبيرة قاموا بها‪« ،‬يومئذ يصدرالناس‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شرأ‬ ‫أشتاتا ِل ُي َروا أعمالهم‪ ،‬فمن يعمل مثقال ذرة خيرا َي َر ُه‪ ،‬ومن يعمل مثقال ذرة‬
‫َ‬
‫يره»‪ 2.‬لقد تشكل واقع جديد مع األديان اإلبراهيمية‪ .‬فقد صارالعالم االجتماعي‬
‫و«سنن» رسله‪.‬‬‫والسيا�سي والثقافي عموما ملزما بأن ينتظم وفقا ل ـ ــ«كتب هللا» ُ‬
‫وتبعا لذلك وجدت الفلسفات املوروثة عن مختلف التقاليد اليونانية نفسها‬
‫أمام خيارين‪:‬‬
‫• إما أن تتمسك بقضايا ميتافيزيقية كان القول بها شائعا بين مدارس وتقاليد‬
‫فلسفية يونانية‪ ،‬مثل تعالي املبدأ األول (الخيرعند أفالطون‪ ،‬واملحرك األول الذي‬
‫حد يجعله ال يعلم ما يحدث فيه‬ ‫ال يتحرك عند أ سطو) على العالم املحسوس إلى ّ‬
‫ٍ‬ ‫ر‬
‫وال يعنى بتدبير كائناته‪ ،‬وسرمدية العالم أو مشاركته في األلوهية‪ ،‬وفناء اإلنسان‬
‫‪ -1‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية‪28 :‬‬
‫‪ .2‬سورة الزلزلة‪ ،‬اآليات ‪.8 - 6‬‬

‫‪156‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صورة ومادة (نفسا وجسدا)‪ .‬وبما أن هذه القضايا امليتافيزيقية تتعارض تعارضا‬
‫مطلقا مع عقائد هذه األديان‪ ،‬فإن التمسك بها يف�ضي حتما إلى تعريض الفلسفة‬
‫واملشتغلين بها للتضييق واملنع واملالحقة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫• وإما أن تراجع تلك القضايا وتعيد النظر فيها‪ ،‬بأن تأخذ قطعيات الدين في‬
‫الحسبان‪ ،‬وتضطلع بمهمات نظرية جديدة من قبيل البرهنة على وجود هللا‬
‫ووحدانيته‪ ،‬وخلقه العالم واعتناءه به‪ ،‬وخلود النفس وفردانيتها‪ ،‬وحرية‬
‫اإلنسان واختياره‪ .‬وهذا الخيارالثاني كان هو السبيل الوحيد ملنحها حق املواطنة‬
‫تحت سلطان الدين‪.‬‬
‫لقد اقت�ضى االضطالع بهذه املهام الجديدة مدة زمنية طويلة أسفرت مع نهاية‬
‫القرون الوسطى وبداية العصر الحديث عن تحوالت فكرية هائلة أصبح معها‬
‫النظرالعقلي قادرا على مقاربة الدين مقاربة نقدية تكشف النقاب عن تاريخيته‪،‬‬
‫ومدى معقولية عقائده وصحة كتبه املقدسة‪ ،‬والعالقات التي يجب أن تقوم بين‬
‫مؤسساته ومؤسسات الدولة واملجتمع‪.‬‬
‫كان التساؤل املركزي الذي شغل الفالسفة زمنا طويال هو‪ :‬أيمكن التوفيق بين‬
‫مقتضيات النظرالفلسفي ومتطلبات اإليمان الديني؟ وكيف؟ على أي نحو يمكن‬
‫للعقل أن يستوعب عقائد الدين وعباداته؟ وقد اختط الفالسفة في العصر‬
‫الحديث مسلكين للجواب عن هذا التساؤل‪.‬‬
‫سلك أنصارالالهوت العقلي مسلكا توفيقيا قائما على رفع الثوابت الدينية إلى‬
‫مقام الحقائق امليتافيزيقية‪ .‬إن كان هناك حقيقة‪ ،‬فال بد أن تكون واحدة فقط‪،‬‬
‫وإال حصل تعارض بين حقائق العقل وثوابت اإليمان‪ .‬تكمن مهمة الفيلسوف‪،‬‬
‫حسب اليبنتز (‪ )Leibniz‬في البرهنة ميتافيزيقيا على ما يعتنقه املؤمن ويسلم به‬
‫تسليما سلبيا؛ والعقل قادر على رفع التحدي والبرهنة على وجود هللا اعتمادا‬
‫على نفسه فقط‪ .‬فإن توفق العقل في ذلك صار ما يأمر الدين بإتيانه أو باجتنابه‬

‫‪157‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫معقوال‪ .‬سلك هيوم (‪ )Hume‬سبيال مختلفا عندما اعتبر الدين ظاهرة ذهنية‬
‫ونفسية كسائرالظاهرات األخرى من الضرب نفسه‪ .‬فقد أكد في التاريخ الطبيعي‬
‫للدين (‪ )1757‬أن االعتقاد الديني ال يرتكز على أي معرفة موضوعية‪ ،‬بل يجد‬
‫أساسه في الطبيعة البشرية الهشة‪.‬‬
‫ذلك أن ما يدعو اإلنسان إلى التدين هو األمل والخوف مما يحدث في العالم‬
‫من حوادث يجد نفسه عاجزا عن فهمها وتوجيهها لصالحه‪ .‬أمام هذا الغموض‬
‫الذي يلف العالم‪ ،‬ال يجد اإلنسان مفرا من اليأس والقنوط إال باالعتقاد في قوة‬
‫وعادلة يستطيع مناجاتها والتعويل عليها لكي تستجيب ألمانيه‪ .‬يؤكد‬ ‫كونية ّ‬
‫خي ٍرة‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫صاحب هذا الطرح اإلمبريقي أن العقل البشري محدود‪ ،‬أي أنه ال يستطيع أن‬
‫يثبت أي �شيء خارج التجربة‪ .‬وبما أن اإليمان الديني يتعلق أساسا بأمور متعالية‬
‫تماما (هللا والوحي والحياة األخرى)‪ ،‬فإنه مجرد اعتقاد ذاتي ال يسنده أي دليل‬
‫منطقي وال أي مالحظة تجريبية‪.‬‬
‫فمثلما نعتقد أن الشمس سوف تشرق غدا‪ ،‬وال دليل لدينا على ذلك سوى أننا‬
‫الحظنا ذلك يحدث دائما‪ ،‬فإننا نعتقد أن كائنا متعاليا يتحكم في أقدار العالم‪،‬‬
‫ألن حياتنا بدون هذا االعتقاد ستكون بال معنى‪ .‬ما الدين إذن إال انفعال من نوع‬
‫خاص‪ ،‬وضرب من الصلة التي يقيمها اإلنسان العادي مع التجربة‪.‬‬
‫ثمة مسلك ثالث بين امليتافيزيقا الدغمائية والنزعة اإلمبريقية الشكوكية‬
‫اختطه الفيلسوف األملاني إيمانويل كانط‪ .‬لقد رفض مؤلف نقد العقل الخالص‬
‫مسلك أنصار الالهوت العقلي عندما أثبت في هذا الكتاب‪ ،‬أنه ال سبيل إلى‬
‫البرهنة على وجود هللا عن طريق مفاهيم فقط كما زعم اليبنتز‪ .‬فاهلل فكرة‬
‫ُ‬
‫عقلية خالصة ال يمكن بتاتا أن تضفى عليها أي داللة حسية تجعل منها مفهوما‬
‫معرفيا محددا؛ األمر الذي يترتب عنه أن هللا ينتمي إلى فئة األمور املاورائية (‪les‬‬
‫‪ )suprasensibles‬املمتنعة على املعرفة البشرية؛ وتبعا لذلك ال يمكن تحصيل‬

‫‪158‬‬
‫أي معرفة تتعلق بوجوده أو بصفاته‪ .‬ال‬
‫كان التساؤل املركزي الذي‬ ‫يستطيع العقل إذن أن يثبت عن طريق‬
‫شغل الفالسفة زمنا طويال‬
‫املعرفة ما يطالب الدين باإليمان به‪ ،‬وال‬
‫هو‪ :‬أيمكن التوفيق بني‬
‫يمكن للميتافيزيقا باملعنى الكالسيكي‬
‫مقتضيات النظر الفلسيف‬
‫أن تشكل ركيزة للتوفيق بين العقل‬
‫ومتطلبات اإليمان الديين؟‬
‫واإليمان‪ ،‬ما دامت غير قادرة على إثبات‬
‫وكيف؟ عىل أي نحو يمكن‬
‫أي عقيدة دينية‪ ،‬وعلى رأسها عقيدة‬
‫للعقل أن يستوعب عقائد الدين‬
‫وجود هللا‪ .‬أينبغي للفيلسوف بناء على‬
‫وعباداته؟‬
‫ذلك أن يسلك سبيل هيوم‪ ،‬فيقرر أن‬
‫الدين شأن نف�سي وأنثربولوجي فقط؟‬
‫كال! فكانط ال يتبنى النتائج الشكوكية للنزعة اإلمبريقية‪ ،‬وإن كان يوافق‬
‫صاحبها في دعوى تناهي العقل البشري‪ .‬ال ريب في أن العقل البشري ال يستطيع‬
‫امتالك معرفة موضوعية عن كل ما ال يقع تحت شرطي املكان والزمان‪ .‬لكن ال‬
‫يترتب عن ذلك أن اإليمان الديني وهم ذاتي‪ ،‬ألنه يتعلق بأمور يهتم بها العقل أيما‬
‫اهتمام‪ ،‬وهي هللا والنفس والحرية؛ ومن ثمة يجب أن نبحث له عن معنى‪ .‬على‬
‫الفيلسوف أن يبحث للدين عن معقولية بعيدة عن التفسيرالنظري‪ ،‬ميتافيزيقيا‬
‫كان أو تجريبيا؛ ألن األمريتعلق‪ ،‬حسب كانط‪ ،‬بمصلحة العقل البشري ذاته‪.1‬‬
‫نتوقف هنا لنضع سؤاال هاما‪ :‬تهتم الفلسفة الترنسندنتالية الكانطية بمعرفتنا‬
‫القبلية عن املوضوعات‪ ،‬وليس باملوضوعات نفسها‪ .‬والحال أن الديانات‬
‫اإلبراهيمية إنما هي وقائع تاريخية وثقافية‪ ،‬وليست معارف عقلية‪ .‬فما السبيل‬

‫‪ -1‬ال بد من أن نسجل ديننا بكثيرمما يرد في هذه املقالة لشرح ميكاييل فوسيل للجزء الرابع من «الدين‬
‫في حدود العقل وحده»‪ ،‬الذي يمتد من الصفحة ‪ 87‬إلى الصفحة ‪ 142‬من املرجع اآلتي‪:‬‬
‫‪Kant,  La religion dans les limites de la simple raison  (Quatrième Partie), trad. Marc‬‬
‫‪Schweyer, Analyse de Michaël Fœssel, Paris, Hatier, 2000 (coll. «Les Classiques Hatier‬‬
‫‪de la Philosophie»).‬‬

‫‪159‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الذي سلكته هذه الفلسفة‪ ،‬فحتم عليها‬
‫أن تقارب هذه الوقائع؟ وما الذي يمكن هتتم الفلسفة الرتنسندنتالية‬
‫لفلسفة كهذه أن تقوله عن وقائع ال الكانطية بمعرفتنا القبلية عن‬
‫يمكن للعقل أن يعيد بناءها بأكملها في املوضوعات‪ ،‬وليس باملوضوعات‬
‫نفهسا‪ .‬والحال أن الديانات‬ ‫ضوء مبادئه الخاصة؟‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫اإلبراهيمية إنما يه وقائع‬ ‫* مصلحة العقل العملي ركيزة‬
‫تاريخية وثقافية‪ ،‬وليست‬ ‫لإليمان‬
‫إن اهتمام كانط بالدين أمر ترتب عن معارف عقلية‪ .‬فما السبيل‬
‫تأسيسه للفلسفة العملية‪ .‬فبعد اكتمال الذي سلكته هذه الفلسفة‪،‬‬
‫نسق الفلسفة الخلقية‪ ،‬أي بعد االنتهاء فحتم علهيا أن تقارب هذه‬
‫الوقائع؟‬ ‫من الجواب عن سؤال العمل‪ :‬ماذا‬
‫يجب ّ‬
‫علي أن أفعل؟ يفرض سؤال األمل‬
‫نفسه علينا فرضا‪ :‬إن ُ‬
‫قمت بما يأمرني‬
‫به الواجب‪ ،‬ما الذي يجوز لي عندئذ أن آمله؟ وبعبارة أخرى‪ ،‬إن صرت جديرا‬
‫بالسعادة من خالل استقامتي الخلقية‪ ،‬أيمكنني أن آمل في أن أحظى بنصيب‬
‫منها فعليا؟‬
‫‪ -‬فصل األخالق عن الدين‬
‫يجيب كانط عن سؤال العمل جوابا ال يستدعي بتاتا الدين أو الالهوت؛ ذلك‬
‫أن األخالق عنده تستند إلى فكرة التشريع الذاتي (‪ ،)autonomie‬أي إلى قدرة‬
‫العقل العملي على أن يضع من تلقاء ذاته القانون الخلقي دون أن يلتمس أي‬
‫عون خارجي؛ وما الحرية إال طاعة هذا القانون الذي يفرضه العقل الخالص‬
‫فرضا‪ .‬ال توجد رابطة ضرورية بين التخلق والتدين إن كان املقصود بالتدين هو‬
‫االلتزام بأداء الشعائر؛ فقد يكون املرء في اآلن نفسه متخلقا وغير متدين‪ ،‬وقد‬

‫‪160‬‬
‫يكون في الوقت ذاته متمسكا بأداء الشعائرالدينية وغيرمتخلق‪ّ .‬إن تمتع اإلنسان‬
‫كاف ألن يدرك بوضوح ما يجب عليه أن يفعله لكي يحسن الفعل‪ .‬وتبعا‬ ‫بالعقل‪ٍ ،‬‬
‫لذلك‪ ،‬ال حاجة لإليمان باهلل لكي نتصرف تصرفا خلقيا‪« .‬ال تحتاج «األخالق» إلى‬
‫فكرة كائن آخريوجد فوق اإلنسان حتى يتعرف هذا على واجبه‪ ،‬وال إلى أي باعث‬
‫آخر غير القانون نفسه حتى يتقيد به‪ )...( .‬فاألخالق إذن ال تحتاج بتاتا (‪ )...‬إلى‬
‫‪1‬‬
‫الدين‪ ،‬بل تكفي ذاتها بذاتها بفضل العقل الخالص العملي‪».‬‬
‫لقد بين كانط في تحليالت نقد العقل العملي أن الوعي بالقانون الخلقي‬
‫واقعة عقلية خالصة‪ ،‬وأن كل إنسان بما هو كائن عاقل يستشعر هذه الواقعة‬
‫عل‪.‬‬
‫كصوت آمر على جهة الوجوب؛ األمر الذي يدفع إلى اعتباره قانونا آتيا من ٍ‬
‫فبما أننا ال ندرك أن األمرالثقيل (الواجب) إنما يأتي من العقل الخالص العملي‪،‬‬
‫فإننا نتخيل أن كائنا متعاليا قد فرضه علينا‪ ،‬وبذلك نسقط في مطب التبعية‬
‫ًَ‬
‫مستعبدة لواقع يعلو عليها‪،‬‬ ‫التشريعية (‪ )hétéronomie‬التي تجعل من الذات‬
‫وتنفي الحرية اإلنسانية‪.‬‬
‫من شأن تصور كهذا أن يؤدي‪ ،‬حسب كانط‪ ،‬إلى إماتة الخلقية‪ ،2‬ألنه يجعل‬
‫اإلنسان كائنا وصوليا ال يسلك خلقيا إال عن طمع في نيل مرضاة هللا وثوابه‪.‬‬

‫‪1. KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 3; trad. Alain Renaut, Paris,‬‬
‫‪Puf, 2016, p. 35.‬‬
‫بإمكان القارئ أيضا أن يراجع الترجمة العربية اآلتية‪:‬‬
‫‪ -‬كانط‪ ،‬الدين في حدود مجرد العقل‪ ،‬ترجمة‪ ،‬فتحي املسكيني‪ ،‬بيروت‪ ،‬جداول‪ ،2012 ،‬ص‪.45 .‬‬
‫وبما أن الترجمتين معا تحيالن على أرقام صفحات هذا الكتاب في نشرة أكاديمية برلين ألعمال كانط‬
‫(التي يرمز إليها اختصارا بـ‪ ،)AK :‬وذلك ما تفعله أغلب النشرات اليوم‪ ،‬فسنكتفي الحقا باإلحالة على‬
‫رقم املجلد باألرقام الرومانية‪ ،‬ورقم الصفحة في هذا املجلد باألرقام العربية‪ .‬وهذا ما سنفعله أيضا مع‬
‫باقي كتب كانط‪.‬‬
‫‪ -2‬يميز كانط بين قوانين الطبيعة وقوانين الحرية‪ .‬وهذه األخيرة تنقسم إلى قواعد قانونية ال تنصب إال‬
‫على األفعال الخارجية وبموافقتها للقانون (وهنا نصرف النظر عن دوافع الفعل)‪ ،‬وقوانين خلقية إن‬
‫كانت تقت�ضي فضال عن ذلك أن تكون هي نفسها حوافزللفعل‪ .‬في الحالة األولى نتكلم عن شرعية الفعل‪،‬‬
‫وفي الثانية عن خلقيته‪ .‬فالخلقية إذن هي اتفاق املبدأ الذاتي للفعل مع القانون‪.‬‬

‫‪161‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫وهكذا ُيستعاض عن األمرالقطعي‪ 1‬للعقل (وهو يأمرعلى نحو كلي وغيرمشروط)‬
‫بأمر شرطي يمكن صوغه على النحو اآلتي‪ :‬إن رغبت في الخالص‪ ،‬يجب علي أن‬
‫أتصرف على نحوخلقي‪ .‬وعندئذ لن يكون للواجب فاعلية إال إن كان هللا موجودا؛‬
‫والحال أن وجود هللا مطلب ال يمكن للعقل البشري أن يبرهن عليه برهنة قاطعة‪.‬‬
‫فحتى يكون لألخالق اعتبار كلي‪ ،‬ال بد من تأسيسها على العقل وحده‪ ،‬بعيدا عن‬
‫أي اعتبارات دينية أو أنثروبولوجية‪.‬‬
‫* حاجة األخالق إلى األمل‬
‫ّإن رفع بنيان الخلقية أمر ال يحتاج كما قلنا آنفا إلى الالهوت وال إلى الدين؛‬
‫ولكن األخالق نفسها تؤدي حتما إلى تناول املسألة الدينية‪ .‬فهي وإن كانت قائمة‬
‫على فكرة التشريع الذاتي للعقل الخالص العملي‪ ،‬فإن ممارستها الفعلية أي‬
‫السلوك وفقا لقوانين الحرية‪ ،‬تجعل اإلنسان بما هو إنسان يسعى إلى أن يرى‬
‫الطبيعة تتفق ورغبته املستحقة في أن يكون سعيدا‪ .‬ذلك أن املثابرة على االمتثال‬
‫للقانون الخلقي‪ ،‬هي ما يسميه كانط بالفضيلة؛ والفضيلة تجعل اإلنسان جديرا‬
‫بالسعادة‪ .‬والوحدة بين الفضيلة والسعادة هي ما يسميه كانط بالخيراألعظم (‪le‬‬
‫‪ ،)souverain bien‬الذي تجعل منه الخلقية غاية قصوى لإلرادة ينشدها كل‬
‫إنسان من وراء طاعته القانون احتراما‪.‬‬
‫يتمثل العقل العملي هذه الغاية بوصفها اقترانا بين مكونين غير متجانسين‬
‫بتاتا؛ وهما ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬الفضيلة والسعادة‪ .‬فاألولى خير خلقي‪ ،‬بينما الثانية خير‬
‫ح�سي‪ .‬ولئن كانت الفضيلة خيرا أسمى (‪ )le bien suprême‬فإنها ليست خيرا‬
‫تاما (‪)le bien complet‬؛ وتمامها ال يكون إال بالسعادة التي ال يمكن للكائن‬

‫‪ -1‬األمر (‪ )l’impératif‬عبارة عن حكم معياري‪ ،‬أو قل هو قضية تعبر عن واجب‪ ،‬أي عن ضرورة عملية‪.‬‬
‫إن كان األمرشرطيا فإن األمريتعلق بواجب مشروط يق�ضي بأن من أراد تحقيق الهدف الفالني عليه أن‬
‫يتبع الوسيلة الفالنية‪ .‬أما األمر القطعي‪ ،‬فيعبر عن واجب غير مشروط أو عن معيار مطلق للعقل دونما‬
‫اعتبارألي غاية‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫املتناهي أن يتنكر لها تماما‪ ،‬وإال أنكر‬
‫طبيعته الحسية‪ .‬فالسعادة والفضيلة املثابرة عىل االمتثال للقانون‬
‫إذن عنصران متمايزان نوعيا‪ ،‬ولكنهما الخليق‪ ،‬يه ما يسميه كانط‬
‫يتحدان معا في مفهوم الخير األعظم‪ .‬بالفضيةل؛ والفضيةل تجعل‬
‫اإلنسان جديرا بالسعادة‪.‬‬ ‫والسؤال عندئذ هو‪ ،‬على أي نحو‬
‫يتحدان‪ :‬أيكون ذلك على َن ْحو تحليلي (= والوحدة بني الفضيةل والسعادة‬
‫ٍ‬
‫اقتران منطقي)‪ ،‬أم على نحو تركيبي (= يه ما يسميه كانط باخلري‬
‫ٍ‬
‫األعظم‬ ‫اقتران واقعي قائم على مبدأ السببية)؟‬
‫فإما أن السعي إلى الفضيلة وطلب‬
‫السعادة ليسا فعلين مختلفين‪ ،‬بل‬
‫ُ‬
‫متماهيين؛ وإما أن الصلة بينهما قائمة على مسلمة مفادها أن الفضيلة تحدث‬
‫السعادة بوصفها شيئا متميزا عن الوعي بالفضيلة‪ .‬أيا يكن الحل‪ ،‬فإنه ينبغي أن‬
‫ٌ‬
‫موضع‬ ‫يجعلنا نتصور اقترانا بين هذين العنصرين؛ وبموجب هذا االقتران ُيحجز‬
‫للسعادة في األخالق دون تقويض هذه األخيرة‪ ،‬أي دون تحويل السعادة إلى دافع‬
‫مباشرللفعل الخلقي‪.‬‬
‫ال يحتاج املرء إلى بذل مجهود فكري كبير لكي يتبين أن العالقة بين الفضيلة‬
‫والسعادة ليست تحليلية بأي وجه من الوجوه‪ .‬ذلك أن الفضيلة مجهود نبذله‬
‫ّ‬
‫التباع أوامر الخلقية صاغرين‪ ،‬األمر الذي يعني مصارعة رغباتنا ونزواتنا‬ ‫ِ‬
‫ومصالحنا الذاتية‪ ،‬ولنقل بعبارة موجزة التضحية بسعادتنا‪ .‬فأن تكون فاضال‬
‫َ‬
‫على الطريقة الكانطية‪ ،‬يعني أن ت ْـم َت ِثل ملا يأمر به الواجب فقط‪ ،‬وال ترجو من‬
‫وراء ذلك جلب منفعة وال دفع مضرة؛ وهذا ما يترتب عنه أن الفضيلة والسعادة‬
‫مفهومان غيرمتجانسين بتاتا‪ ،‬وأنهما أبعد ما يكونان عن االتفاق‪.‬‬
‫أما وقد اتضح أن الصلة بين هذين املكونين ليست تحليلية‪ ،‬فلنفحص اإلمكان‬

‫‪163‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫اآلخر‪ ،‬وهو الصلة التركيبية‪ .‬واألمر في‬
‫إما أن السيع إىل الفضيةل‬ ‫هذه الصلة ال يخرج عن هذه القضية‬
‫ُ‬
‫الفصلية‪ :‬إما أن السعادة تحدث وطلب السعادة ليسا فعلني‬
‫الفضيلة‪ ،‬أو لنقل إنها دافع يحض عليها؛ خمتلفني‪ ،‬بل متماهيني؛ وإما‬
‫ُ‬
‫أن الصةل بيهنما قائمة عىل‬ ‫‪1‬‬
‫وإما أن الفضيلة تحدث السعادة‪.‬‬
‫إن القضية األولى (= سببية السعادة) مسلمة مفادها أن الفضيةل‬
‫باطلة تماما؛ إذ ال يمكن أن تكون السعادة تُحدث السعادة بوصفها شيئا‬
‫محددا لألخالق كما يتصورها متمزيا عن الويع بالفضيةل‬
‫أساسا ّ‬
‫ِ‬
‫كانط‪ .‬أما القضية الثانية‪ ،‬فيتعين‬
‫فحصها‪ :‬كيف يمكن للفضيلة (وهي‬
‫ُ‬
‫تابعة للقانون الخلقي) أن تحدث السعادة (وهي متعلقة بالقوانين الطبيعية)؟‬
‫إن اقترانا بين هذين املكونين غيراملتجانسين في العالم املحسوس أمرممتنع‪ ،‬ألن‬
‫واملسببات في عالم الظاهرات يخضع لقوانين الطبيعة ال‬ ‫َّ‬ ‫الترابط بين األسباب‬
‫ً‬
‫لقوانين األخالق‪ .‬والوصول إلى السعادة يتطلب من هذه الزاوية معرفة مطلقة‬
‫َ‬
‫وامتالك قدر ٍة شبه إلهية ابتغاء تسخير‬ ‫بالعالم (ليست في مقدرة اإلنسان أبدا)‪،‬‬
‫ُ‬
‫قوانين الطبيعة ألغراضه‪ .‬ثم إن املراعاة الصارمة لقوانين األخالق ال تف�ضي‬
‫ُّ‬
‫‪« -1‬إما أن تكون الرغبة في السعادة سببا محركا يحث على مبادئ ذاتية للفضيلة‪ ،‬وإما أن يكون املبدأ‬
‫الذاتي للفضيلة سببا فاعال للسعادة‪ .)KANT, Critique de la raison pratique, AK V, 113( ».‬ال يتعلق‬
‫األمر في األطروحة بالسعادة بما هي حال (‪ ،)état‬بل بالتوق إلى السعادة بوصفه أساسا ّ‬
‫محددا لإلرادة‪.‬‬
‫ِ‬
‫تؤكد األطروحة أن اإلنسان مدفوع (سبب محرك) إلى تبني مبادئ ذاتية خلقية‪ ،‬وتلك دعوى مذهب‬
‫السعادة‪ .‬أما األطروحة املضادة فتعبر في إطار الفلسفة الخلقية الكانطية عن قضية تتعلق بالواقع‬
‫الفعلي‪ .‬ونقطة االنطالق هنا هي «املبدأ الذاتي للفضيلة» بوصفها عزما خلقيا فعليا‪ ،‬والسعادة تدل هنا‬
‫على «الحال»‪ ،‬حال كائن عاقل في العالم‪ ،‬يسير كل �شيء حسب ما يشتهي ويريد طوال حياته‪ .‬ال يمكن‬
‫للسعادة أن تكون معلوال للفضيلة إال باملعنى الذي تكون فيه السعادة نتيجة ضرورية لسلوك أصيل‬
‫خلقيا دون أن تكون غاية له‪ .‬فاألطروحة املضادة ترمي إلى واقع له قوام يجعله يضمن السعادة ملن‬
‫يتصرف خلقيا‪ ،‬وفق تناسب دقيق بحسب االستحقاق‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫بالضرورة إلى السعادة‪ ،‬بل إنها تقترن في الغالب باملعاناة والشقاء‪.‬‬
‫ها نحن أمام نقيضة العقل العملي التي تنص من جهة أولى على مطلب اقتران‬
‫الفضيلة بالسعادة‪« ،‬فمن الضروري قبليا (من الناحية الخلقية) أن َي ْح ُدث الخير‬
‫األعظم من خالل حرية اإلرادة»‪1‬؛ ومن ثمة السؤال‪ :‬كيف يكون الخير األعظم‬
‫ممكنا من الناحية العملية؟ وتنص من جهة ثانية على امتناع هذا االقتران‪ ،‬وهذا‬
‫ّ‬
‫أمربالغ الخطورة‪ .‬ذلك أنه «ل ـا كان الخيراألعظم‪ ،‬الذي ينطوي على هذا االرتباط‬
‫في مفهومه‪ ،‬موضوعا ضروريا ضرورة قبلية إلرادتنا‪ ،‬وكان هذا موصوال بالقانون‬
‫الخلقي وصال ال ينفك‪ ،‬لزم عن ذلك أن امتناع األول يقيم الدليل على بطالن‬
‫الثاني‪ .‬وعليه‪ ،‬لو كان الخير األعظم ممتنعا بمقت�ضى قواعد عملية‪ ،‬للزم عن‬
‫ذلك ّأن القانون الخلقي اآلمربالعمل على تحقيقه من اختالق املخيلة‪ ،‬وأنه يرمي‬
‫إلى غايات خيالية فارغة؛ وتبعا لذلك يكون باطال في ذاته»‪ .2‬وهكذا فإن مصير‬
‫‪3‬‬
‫القانون العملي وجدوى الخلقية يوضعان على املحك‪.‬‬
‫ُّ‬
‫يحل كانط هذه النقيضة بالطريقة نفسها التي حلت بها نقيضة العقل‬
‫الخالص النظري (النقيضة الثالثة)‪ .‬فالنقيضة ال تظهر إال حيث نجزم بأن‬
‫هناك عاملا واحدا‪ ،‬وأن الوجود الظاهراتي هو الصورة الوحيدة للوجود بالنسبة‬
‫ُ‬
‫إلى اإلنسان؛ وبالتالي يستحيل أن تحدث الفضيلة السعادة إن كان الوجود في‬

‫‪1- KANT, Critique de la raison pratique, AK V, 113.‬‬


‫‪2- Ibid, AK V, 114.‬‬
‫‪ -3‬يمكن تلخيص مساراالستدالل كما يلي‪ :‬في الخيراألعظم نتصور بالفكرالفضيلة والسعادة مقترنتين‬
‫على جهة الضرورة‪ .‬واقترانهما إما تحليلي وإما تركيبي‪ .‬لكنه ليس تحليليا؛ فهو إذن تركيبي‪ .‬عندئذ ينفتح‬
‫إمكانان‪ :‬إما أن الرغبة في السعادة سبب محرك يحث على الفضيلة‪ ،‬وإما أن الفضيلة علة فاعلة‬
‫للسعادة‪ .‬تستبعد تحليالت نقد العقل العملي القضية األولى استبعادا مطلقا (ألنها ممتنعة على وجه‬
‫اإلطالق)‪ ،‬أما الثانية‪ ،‬فهي األخرى ممتنعة‪ ،‬ولكن ليس على وجه اإلطالق‪ .‬والحال أن الخير األعظم‬
‫موضوع ضروري قبليا إلرادتنا‪ ،‬وهو يتضمن القانون الخلقي‪ .‬فإذا كان ممتنعا‪ ،‬كان القانون الخلقي‬
‫الذي يأمربالعمل على تحقيقه باطال في ذاته‪ .‬لكن القانون الخلقي ليس وهما‪ ،‬بل الوعي به واقعة عقلية‬
‫ال جدال فيها؛ وتبعا لذلك‪ ،‬فإن الخيراألعظم ممكن‪ .‬ال بد من حل‪ ،‬والبحث عنه واجب إلنقاذ الخلقية‪.‬‬

‫‪165‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫العالم املحسوس هو الوجود الوحيد املمكن‪ .‬لكن هذا األمرليس ممتنعا إن كان‬
‫ثمة وجود نوميني‪ .1‬وعليه‪ ،‬يمكن للفضيلة بما هي سبب أن تف�ضي إلى السعادة‬
‫بوصفها مسببا وفقا القتران ضروري‪ ،‬ولكنه غيرمباشر‪ ،‬بل بتدخل بارئ عاقل‪،‬‬
‫ُ‬
‫أي هللا‪ .‬وهكذا ت َح ُّل النقيضة بواسطة سبب نوميني يجعل السعادة والفضيلة‬
‫متناسبتين‪.‬‬
‫ينتج عن هذا الحل لنقيضة العقل الخالص العملي أنه يمكن أن نتصور بالفكر‬
‫في املبادئ العملية األمر اآلتي بوصفه ممكنا على األقل‪ :‬وجود اقتران طبيعي‬
‫وضروري بين الوعي بالخلقية واألمل في سعادة متناسبة مع هذه الخلقية بوصفها‬
‫(وبي ٌن أن هذا ال يعني معرفة هذا االقتران وإدراك كنهه)؛‬
‫نتيجة تترتب عليها ّ‬
‫ولكن ينتج عنه باملقابل أيضا أنه من املمتنع أن يكون بإمكان مبادئ البحث عن‬
‫ُ‬
‫السعادة أن تحدث الخلقية‪ .‬ويلزم عن ذلك أن الخير األسمى (بوصفه الشرط‬
‫األول للخير األعظم) يكمن في الخلقية‪ ،‬بينما تشكل السعادة بالتأكيد العنصر‬
‫نحو تكون فيه نتيجة مشروطة خلقيا‪ ،‬ولكنها‬
‫الثاني في الخير األعظم‪ ،‬ولكن على ٍ‬
‫‪2‬‬
‫مع ذلك ضرورية للخلقية‪.‬‬
‫ما دام األمر يتعلق في الخير األعظم بتركيبة جامعة تضم عنصرين غير‬
‫متجانسين ال يستطيع الكائن العاقل املتناهي بجهوده الجمع بينهما‪ ،‬فإن مصلحة‬
‫العقل العملي الذي يوجب تحقيق هذا الخيرفي العالم‪ ،‬تقت�ضي التسليم بشروط‬
‫نظرية ال مفرمنها إلمكان هذه الغاية؛ وهذه الشروط عبارة عن قضايا نظرية أكد‬
‫النقد من قبل أن العقل النظري ال يستطيع بخصوصها أن يجزم ب�شيء‪ ،‬ال إثباتا‬

‫‪ -1‬يميز كانط بين الظاهرات والنومينات‪ .‬األولى هي األشياء كما تظهر لنا وفقا لشروط إدراكنا الح�سي‪.‬‬
‫أما الثانية فهي هذه األشياء نفسها كما هي في ذاتها بمعزل عن إدراكنا الح�سي‪ .‬ما نعرفه عن األشياء إنما‬
‫هو هذه األشياء كما تظهر لنا‪ .‬أما النومينات فليس لدينا عنها إال مفهوم فارغ يدل على �شيء غير محدد‬
‫بوصفه ليس موضوعا لحدسنا الح�سي‪.‬‬
‫‪2- KANT, Critique de la raison pratique, AK V, 119.‬‬

‫‪166‬‬
‫وال نفيا‪ 1.‬فما هي هذه القضايا؟‬
‫ما دام األمر يتعلق يف اخلري‬ ‫* ال أمل بال إيمان‬
‫يرى كانط أوال أن القداسة (‪ La‬األعظم برتكيبة جامعة تضم‬
‫عنرصين غري متجانسني‬ ‫‪ ،)sainteté‬التي هي «امتثال النيات في‬
‫ال يستطيع الكائن العاقل‬ ‫اإلرادة امتثاال تاما للقانون الخلقي»‪ ،‬هي‬
‫املتنايه بجهوده اجلمع‬ ‫«الشرط األسمى للخير األعظم»‪ .2‬وتبعا‬
‫لذلك‪ ،‬فإن إمكان تحقق هذا األخير بيهنما‪ ،‬فإن مصلحة العقل‬
‫يتطلب أوال أن تكون قدسية اإلرادة العميل الذي يوجب تحقيق‬
‫ممكنة‪ .‬والحال أن اإلنسان كائن ال يمكن هذا اخلري يف العالم‪ ،‬تقتيض‬
‫التسليم برشوط نظرية ال‬ ‫أن يتنصل من طبيعته الحسية‪ ،‬وال أن‬
‫يتنكر لها حتى عندما ينصاع للقانون مفر مهنا إلمكان هذه الغاية‬
‫الخلقي‪ .‬ذلك أن هذا األخير يتخذ عند‬
‫هذا الكائن صورة الواجب املقترنة دائما‬
‫باإلكراه واإللزام‪ ،‬كما أن االنصياع التلقائي له (=القداسة) أمربعيد عن متناول‬
‫اإلنسان‪ .‬ال مخرج إذن من هذه الصعوبة إال بالتسليم بإمكان تقدم اإلرادة تقدما‬
‫ال متناهيا نحو القداسة‪ ،‬أي بالتسليم بخلود النفس‪ .‬إن الخلود قضية يجب‬
‫التسليم بها لتأمين تقدم الفضيلة نحو القداسة‪ ،‬أي للتحقق التام للخلقية‪ ،‬عن‬
‫طريق مصارعة اإلرادة للنزوات وامليول‪ ،‬والتقدم على هذا الدرب شيئا فشيئا‬
‫وصوال إلى التغلب التام عليها؛ وبذلك تصبح القداسة شرطا أسمى للسعادة‪.‬‬
‫وهكذا فإن الخيراألعظم غيرممكن عمليا من دون افتراض خلود النفس‪ .‬خالصة‬
‫ٔ‬
‫‪ - 1‬ال بد من التشديد على ان هذه الشروط (معتقدات العقل الخالص العملي) ليست شروطا للقانون‬
‫الخلقي‪ ،‬بل هي شروط لتحقق الخير األعظم الذي هو غاية ضرورية إلرادة يحددها هذا القانون‬
‫ٔ‬ ‫ٔ‬ ‫ٔ‬
‫(‪ ،)Ibid., AK V, 4‬او قل ٕانها شروط ضرورية ملا يامرنا القانون قبليا بان نتخذه غاية نعمل على تحقيقها‬
‫في العالم [‪.]Ibid., AK V, 135‬‬
‫‪2- Ibid., AK V, 122.‬‬

‫‪167‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫القول إذن‪ ،‬إن الفضيلة (= املكون األول‬
‫في الخير األعظم) تقت�ضي خلود النفس خالصة القول إذن‪ ،‬إن الفضيةل‬
‫(= املكون األول يف اخلري‬ ‫ابتغاء حصول تقدم عملي نحو املثل‬
‫األعظم) تقتيض خلود النفس‬ ‫األعلى للقداسة‪.‬‬
‫ابتغاء حصول تقدم عميل‬ ‫يؤكد كانط ثانيا أن الفضيلة ال تقترن‬
‫نحو املثل األعىل للقداسة‬ ‫بالسعادة بالضرورة في العالم املحسوس‪.‬‬
‫ذلك أن «السعادة ٌ‬
‫حال‪ ،‬في العالم‪ ،‬لكائن‬
‫عاقل يسيركل �شيء وفق ما يشتهي ويريد‬
‫طوال حياته؛ وهي تبعا لذلك تقوم على اتفاق الطبيعة مع الغاية الكاملة التي‬
‫ينشدها‪ ،‬وكذلك مع األساس الجوهري لتحديد إرادته»‪ .1‬أما القانون الخلقي‪،‬‬
‫ٌ‬
‫فهو قانون للحرية‪ ،‬أي يأمرفي استقالل تام عن الطبيعة‪ .‬وتبعا لذلك‪ ،‬ال يوجد في‬
‫القانون الخلقي أي أساس لقيام صلة ضرورية بين الخلقية والسعادة املتناسبة‬
‫معها‪ .‬كما أن اإلنسان الذي يفعل في العالم‪ ،‬إنما هو جزء منه وتابع له‪ ،‬وليس‬
‫سببا له‪ ،‬وليس له قدرة على أن يجعل الطبيعة متفقة مع مبادئه العملية فيما‬
‫يخص سعادته‪ .‬والحال أن هذه الصلة ضرورية للمهمة العملية للعقل الخالص‪،‬‬
‫أي للمجهود الضروري املبذول لتحقيق الخيراألعظم‪ .‬يلزم عن ذلك أنه ال بد من‬
‫التسليم بوجود إله قادرعلى جعل العالم مالئما ملطلبنا العملي‪ ،‬أي اإليمان باهلل‬
‫باعتباره هوالضامن إلمكان تحويل الواقع في االتجاه الذي يمليه القانون الخلقي‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬إن التحقق الفعلي للسعادة‪ ،‬وهي املكون الثاني في الخير األعظم‪،‬‬
‫يقت�ضي التسليم بوجود هللا لضمان تناسب بين الفضيلة والسعادة‪ ،‬أو قل‪ ،‬إن‬
‫السعادة املتناسبة مع الخلقية تقت�ضي افتراض وجود خالق أخالقي للعالم‪ .‬وبهذا‬
‫«يتم التسليم كذلك بوجود سبب للطبيعة كلها‪ ،‬متميز عنها‪ ،‬ويتضمن أساس‬

‫‪1- Ibid., AK V, 124 .‬‬

‫‪168‬‬
‫هذه الصلة‪ ،‬أي أساس االتفاق الدقيق بين السعادة والخلقية»؛ «وعليه‪ ،‬ال يكون‬
‫ً‬
‫الخير األعظم ممكنا في العالم إال إذا سلمنا بسبب أسمى للطبيعة ُيما ِرس سببية‬
‫توافق النية الخلقية»‪ .1‬إن استعمال اإلنسان لحريته ال يكفي وحده لتحصيل‬
‫الخيراألعظم‪ ،‬وإال تجاهلنا الشرط البشري؛ ولذلك يظل وجود هللا مسلمة ال غنى‬
‫عنها لتوزيع السعادة توزيعا عادال يتناسب واستحقاق كل شخص‪.‬‬
‫يتعلق األمر هنا بمعتقدين للعقل الخالص العملي يسميهما كانط باسم‬
‫مستعار من الرياضيات‪ ،‬وهو املسلمة‪ .‬إنهما مسلمتان‪ ،‬ألن العقل النظري ال‬
‫يستطيع البرهنة عليهما بتاتا‪ ،‬إال أن مصلحته العملية تحمله حمال على افتراضهما‬
‫والتسليم بهما‪ .‬إنهما فرضيتان ذاتيتان ضروريتان لكي نتمكن من أن نأمل على‬
‫نحو مشروع في أن الفعل الخلقي سيكون له آثار على الطبيعة‪ ،‬وأن العالم قابل‬
‫غيرتغييرا يصيربموجبه متفقا مع قوانين العقل العملي‪ .‬يستعمل كانط عبارة‬ ‫ألن ُي َّ‬
‫«إيمان عقلي» لوسم عالقة الذات بهاتين املسلمتين‪ .‬وليس في هذه العبارة غرابة‪،‬‬
‫ألن األمريتعلق بإيمان‪ ،‬ما دمنا ال نستطيع أن نبرهن على هاتين القضيتين؛ غيرأن‬
‫هذا اإليمان عقلي‪ ،‬ألن العقل هو من يتصور وجود هللا وخلود النفس بوصفهما‬
‫شرطين للخيراألعظم‪ .‬فإذا قيل عن اإليمان إنه «عقلي»‪ ،‬فذلك وفقا لعقل نقدي‬
‫واع بحدوده‪.‬‬
‫ومن هنا نفهم فهما أفضل معنى العبارة الشهيرة‪« :‬لقد كان علي إذن أن أضع‬
‫«العلم» (‪ )le savoir‬جانبا لكي أفسح مجاال لإليمان»‪ .2‬و«العلم» املقصود في‬
‫االقتباس هو امليتافيزيقا الدغمائية التي كانت تزعم أنها تستطيع أن تصل إلى‬
‫تحديد موضوعي ملاوراء ‪ -‬املحسوس (‪ .)le suprasensible‬أما «اإليمان» املعني‬
‫في االقتباس نفسه‪ ،‬فهو اإليمان العقلي الذي يضمن العقل العملي معناه وليس‬
‫‪1 - Ibid., AK V, 125.‬‬
‫‪2- KANT, Critique de la raison pure, B XXX; trad. Alain Renaut, Paris, GF-Flammarion,‬‬
‫‪2001, p.85‬‬

‫‪169‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫موضوعيته‪ .‬إن األمل في خلود النفس وفي وجود هللا ال يجد داللته إال في االرتباط‬
‫بفعلنا‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬ال توجد معرفة موضوعية يمكن االستناد إليها لتقويم‬
‫قوم الدين‬ ‫الدين‪ ،‬فال يبقى لدينا إال اإليمان العقلي‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬ال ينبغي أن ُن ّ‬
‫انطالقا من حقيقة دغمائية (سواء تعلق األمربحقيقة فلسفية أو بحقيقة دينية‬
‫مخصوصة)‪ ،‬بل من إيمان خلقي كوني غير قابل للبرهان‪ .‬فال أحد إذن يستطيع‬
‫أن يطالب بمعرفة باهلل لكي يستنبط منها ماهية الدين الحق‪.‬‬
‫يتبين مما سبق أنه ال سبيل إلى تجنيب املهمة الخلقية امللقاة على عاتق‬
‫ُ‬
‫اإلنسان نقيصة اليأس إال إذا ت ّ ِوجت بأفكاردينية (خلود النفس ووجود هللا)؛ إال‬
‫أن هذه األفكارهي أفكارالعقل التي ينتجها عندما يود أن يمسك بالالمشروط‪ ،‬أو‬
‫قل باملطلق‪ .‬ذلك أن العقل هو امللكة التي تتسامى إلى املطلق متخطية كل حدود‬
‫التجربة‪ .‬وإذا كانت أفكار العقل تتوافق مع األفكار الدينية‪ ،‬فما ذلك إال ألنها‬
‫تتعلق بمطلق ينبغي لنا أن نؤمن به فقط‪ ،‬ألننا ال نستطيع أبدا معرفته أوالتحقق‬
‫منه‪ .‬وهكذا نفهم قول كانط‪« :‬إن األخالق تقود على نحوالمناص منه إلى الدين»‪.1‬‬
‫يظهر الدين في نهاية هذا املسار كنتيجة محتومة تترتب عن األخالق‪ .‬والتعريف‬
‫اآلتي الذي يقدمه كانط يعبرعن هذه الصلة‪ :‬الدين «معرفة بكل واجباتنا بصفتها‬
‫فرائض إلهية»‪ .2‬وهكذا‪ ،‬ما أن نعتبر واجباتنا وكأنما هي تصدر عن هللا‪ ،‬بتوسط‬
‫عقلنا‪ ،‬نبارح مجال األخالق وندخل نطاق الدين‪ .‬ال يتعلق األمر هاهنا باملعرفة‬
‫باملعنى الدقيق‪ ،‬بل بتفكيرذاتي يمنح للقانون الخلقي مرتكزا متعاليا‪ .‬فكل إنسان‪،‬‬
‫ما أن يعمل‪ ،‬يواجه بالضرورة مشكلة غائية فعله في العالم‪ .‬وحتى يمنح معنى‬
‫لهذا العمل‪ ،‬ويتصوره بالفكرعلى أنه فعل ناجع وعيني‪ ،‬فإنه ملزم بأن يسلم بأن‬
‫هللا موجود‪ ،‬وأنه الخالق األخالقي للعالم‪ .‬من دون هذه املسلمة سيكون بإمكان‬
‫‪1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 6‬‬
‫‪2- Ibid., AK VI, 153. Voir aussi, Critique de la raison pratique, AK V, 129, et Critique de la‬‬
‫‪faculté de juger, AK V, 481.‬‬

‫‪170‬‬
‫اإلنسان دائما أن يتصرف على نحو‬
‫ال سبيل إىل تجنيب املهمة‬
‫خلقي (ألن العقل يكفي في ذلك)‪ ،‬غيرأنه‬
‫الخلقية امللقاة عىل عاتق‬
‫سييأس من فاعلية التزامه‪ .‬واليأس هو‬
‫اإلنسان نقيصة اليأس إال‬
‫الخطوة األولى نحو التبطل‪.‬‬
‫إذا تُ ِّوجت بأفكار دينية (خلود‬
‫* الدين سبيال لبسط سلطان هللا‬
‫النفس ووجود اهلل)؛ إال أن هذه‬
‫لم نتطرق‪ ،‬إلى اآلن‪ ،‬إلى الدين إال من‬
‫األفكار يه أفكار العقل اليت‬
‫زاوية «الالهوت الخلقي» الذي يعتبره‬
‫ينتجها عندما يود أن يمسك‬
‫كانط مشروعا بعد تقويض «الالهوت‬
‫بالالمرشوط‬
‫العقلي»‪ .‬والواقع أن كانط عالج املشكلة‬
‫الدينية من هذه الزاوية في ختام نقد‬
‫العقل العملي وفي ختام نقد ملكة الحكم‪ .‬ال ريب في أن «الالهوت الخلقي»‬
‫مختلف عن «الالهوت العقلي»‪ ،‬ألنه ال ُيقيم الدين على أي معرفة موضوعية؛‬
‫إال أنه يظل مع ذلك مرتبطا بالعقل (العقل العملي)‪ ،‬وال يقيم بذلك أي عالقة مع‬
‫التجربة الواقعية الخاصة بالدين‪ .‬والحال أن الدين ليس مجرد مطلب عقلي‪،‬‬
‫وإنما هو أيضا واقعة وممارسة ثقافية تاريخية‪ ،‬وكتاب الدين في حدود العقل‬
‫وحده هو الكتاب الذي خصصه كانط لتناول هذه الواقعة‪.‬‬
‫ُ‬
‫يدل عنوان هذا الكتاب على أن كانط سيفحص واقعة ال يمكن أن تستنبط‬
‫سوغ انطالقا منه‪ .‬فبما أن األمر يتعلق بمعتقدات وعبادات‬ ‫من العقل أو ُت َّ‬
‫وطقوس وكتب مقدسة تستع�صي على كل مجهود يسعى إلى عقلنتها‪ ،‬فإن ما‬
‫يتبقى للفيلسوف إنما هو تقويم هذه األمور انطالقا من إيمان عقلي وخلقي‪،‬‬
‫وليس من معرفة موضوعية‪ .‬وبهذا املعنى‪ ،‬فإن كتاب الدين في حدود العقل‬
‫وحده ما هو إال فحص نقدي يسعى إلى إدراك معنى واقع تجريبي قائم سلفا‪ .‬وهذا‬
‫الواقع عبارة عن تجربة ثقافية يقيم من خاللها البشر صلة باملقدس‪ .‬إن ما يبرر‬

‫‪171‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫االنتقال من الالهوت الخلقي‪ ،‬حيث‬
‫ليس الترشيع الذايت هو‬ ‫تم إثبات القيمة العملية املوضوعية‬
‫امليسم الوحيد للحرية‬ ‫ملعتقدي خلود النفس ووجود هللا‪ ،‬إلى‬
‫فحص الدين بما هو واقع ثقافي تاريخي‪ ،‬اإلنسانية؛ ذلك أن ربط احلرية‬
‫أمر اقتضاه فحص كانط لخصيصة هبذا املفهوم أمر يتعلق باختيار‬
‫ملتصقة بالحرية اإلنسانية‪ ،‬وهي الشر مهنيج كان كانط فيه قد قرر‬
‫املتجذر‪ ،‬أو عصيان األمر اإللهي في التغايض عن كل االعتبارات‬
‫األنرثبولوجية الخاصة باملشيئة‬ ‫التصويرالرمزي الديني‪.‬‬
‫اإلنسانية‪ ،‬فلم يركز إال عىل‬ ‫* معضلة الشر‬
‫اإلرادة اخلرية الخالصة‬ ‫ليس التشريع الذاتي هو امليسم‬
‫الوحيد للحرية اإلنسانية؛ ذلك أن ربط‬
‫الحرية بهذا املفهوم أمر يتعلق باختيار‬
‫منهجي كان كانط فيه قد قرر التغا�ضي عن كل االعتبارات األنثربولوجية الخاصة‬
‫باملشيئة اإلنسانية‪ ،‬فلم يركز إال على اإلرادة الخيرة الخالصة‪ .‬وهذا هو ما ُيفسر‬
‫حديث كانط في تأسيس ميتافيزيقا األخالق ونقد العقل العملي عن الكائن العاقل‬
‫فقط‪ ،‬وليس عن اإلنسان في كليته‪ .‬إن استحضارهذه األبعاد األنثروبولوجية في‬
‫القسم األول من الدين في حدود العقل وحده‪ ،‬هو ما جعل كانط يتحدث أساسا‬
‫عن املشيئة البشرية التي تستعمل الحرية استعماال يختار فيه اإلنسان أن‬
‫يتنكر أحيانا ملا يمليه القانون الخلقي‪ ،‬معطيا األولوية لرغباته‪ .‬وهذا االستعمال‬
‫يسميه كانط بـ«الشر املتجذر»‪ ،‬أي الضارب بجذوره في املشيئة الحرة‪ .‬في هذا‬
‫االستعمال يقلب اإلنسان الترتيب الحقيقي الذي ينبغي أن يقوم بين الحوافز‪.1‬‬
‫‪ -1‬ولذلك‪« ،‬ليس اإلنسان (بما في ذلك األفضل) شريرا إال ألنه يعكس الترتيب األخالقي للحوافز في‬
‫الطريقة التي يتبناها بها في مبادئه الذاتية‪La religion dans les limites de la seule raison, AK( ».‬‬
‫‪)VI, 36‬‬

‫‪172‬‬
‫فبدال من استتباع امليول الحسية للقانون كما يجب على الذات أن تفعل‪ ،‬فإنها‬
‫تفعل العكس‪ ،‬فتجعل القانون الخلقي ينزل من مقام الشرط األسمى إلى درك‬
‫املشروط‪ ،‬كأن يلتزم أحدهم قول الحق من أجل تفادي التورط في أحابيل‬
‫الكذب‪ .‬وهكذا يقرر كانط في هذا القسم أن اإلنسان‪ ،‬بما هو إنسان‪ ،‬شرير‬
‫بالطبيعة‪ .‬واملقصود بذلك أنه‪ ،‬من حيث هو نوع من الكائنات العاقلة املتناهية‪،‬‬
‫واع بالقانون الخلقي كواقعة عقلية كونية مغروزة في بنية ضميره‪« ،‬ومع ذلك تبنى‬
‫االنحراف عنه (ظرفيا) في مبادئه الذاتية»‪ ،1‬أو لنقل إن «ميله الحيواني واألناني‬
‫ُ‬
‫َي ْح ِمله على أن يستثني نفسه منه عندما يشاء»‪.2‬‬
‫هذا النزوع املتجذر في كل إنسان ال يمكن تحديد أصله زمنيا‪ ،‬طاملا أنه أمر‬
‫جنته الحرية على نفسها‪ ،‬وال يمكن أن يكون له إال أصل عقلي يبين األساس الذاتي‬
‫الكلي للطريقة التي بها تبنى اإلنسان انتهاك القانون في مبدئه الذاتي‪ ،‬مانحا بذلك‬
‫موقع الصدارة لحوافز من شأنها أن تكون تابعة‪ ،‬وال تستحق أن تكون متبوعة‪.‬‬
‫غير أن هذا األصل العقلي ال يفسر الشر؛ ولذلك يعترف كانط بأن هذا األصل‬
‫يظل بالنسبة إلينا ممتنعا على الفهم‪ ،‬وال نستطيع سبر غوره‪ ،‬وهذا ليس ممكنا‬
‫إال إذا كان نابعا من قرار حر‪« .‬ليس ثمة أساس قابل للتصور نفهم انطالقا منه‬
‫من أين أمكن للشرالخلقي أن يأتي إلينا أول مرة»‪ .3‬في الشرالخلقي مفارقة تتمثل‬
‫في أن الحرية تتنكرللقانون الخلقي الذي هو عالمتها والدليل عليها‪ ،‬وهي إذ تتنكر‬
‫له تتنكرلنفسها‪.‬‬
‫لقد عبرت األديان اإلبراهيمية تعبيرا رمزيا عن هذا األصل الذي ال يستطيع‬
‫العقل أن يعرفه في قصة عصيان آدم لألمر اإللهي‪ .‬تبين هذه القصة كيف بدأ‬

‫‪1- Ibid., AK VI, 32 .‬‬


‫‪ -2‬كانط‪ ،‬فكرة عن تاريخ كوني من زاوية نظراملواطنة العاملية‪ ،‬القضية ‪ ،6‬ترجمة‪ :‬محمد منادي إدري�سي‪،‬‬
‫مؤسسة مؤمنون بال حدود‪ ،2015 ،‬ص‪.8 .‬‬
‫‪3 - La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 43.‬‬

‫‪173‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الشرفي النوع البشري؛ فهي تضع في أصل األزمنة ما هو أول عقليا‪ ،‬عندما تخبرنا‬
‫بأن الشر لم يصدر عن نزوع موجود سلفا كان من شأنه أن يحمل اإلنسان على‬
‫اقتراف الخطيئة‪ ،‬بل إنه تولد من الخطيئة‪ ،‬أي من انتهاك القانون الخلقي بما هو‬
‫أمرإلهي‪ .‬كان اإلنسان قبل الخطيئة في حالة البراءة‪ .‬كان معرضا إلغراءات امليول؛‬
‫وتبعا لذلك ما كان له أن يتلقى القانون الخلقي إال كواجب ثقيل الوطأة (النهي‬
‫عن األكل من شجرة معينة)‪ .‬وبدال من االمتثال لهذا القانون‪ ،‬وتبنيه كحافزكاف‬
‫بذاته لتحديد مشيئته‪ ،‬راح يبحث عن حوافز أخرى ال يمكن أن تكون ّ‬
‫خيرة إال‬
‫تحت سلطان القانون‪ ،‬واتخذ من طاعة الواجب بدافع أغراض أخرى غيراحترام‬
‫القانون مبدأ ذاتيا لسلوكه‪ .‬هكذا راح يشكك في صرامة األمر الخلقي‪ ،‬ويلجأ إلى‬
‫التمويه والتحايل لجعل طاعة القانون مشروطة بإشباع امليول املتعلقة بمبدأ‬
‫ْ‬
‫حب الذات‪ .‬وإذ منح األولوية للنزوات الحسية على القانون في مبدئه الذاتي‪،‬‬
‫اقترف الخطيئة‪ .‬تقول القصة إن الشر حدث في بداية العالم‪ ،‬وتضعه بداية في‬
‫كائن روحاني (إبليس)‪ ،‬وتخبرنا أن اإلنسان ما سقط في الشر إال بعد أن أضلته‬
‫ّ‬
‫هذه الروح الغاوية وأزلته‪ .‬وعلى عكس إبليس‪ ،‬لم يكن سقوط اإلنسان تمردا‬
‫على هللا‪ ،‬بل تنكرا للعقل؛ وسقوطه هذا لم يفسد استعداده األول للخير‪ ،‬أو‬
‫‪1‬‬
‫إرادته الخيرة‪.‬‬
‫قبل أن نقفل باب الحديث عن الشر البد من إثارة السؤال اآلتي‪ :‬نعلم أن‬
‫الديانة املسيحية‪ ،‬من بين الديانات اإلبراهيمية الثالث‪ ،‬قد انفردت برفع تأويل‬
‫معين لهذه القصة (مفاده أن البشرجميعا أخطأوا في آدم) إلى مقام معتقد‪ .‬فهل‬
‫يعد قول كانط بتجذرالشرمجرد صياغة فلسفية ملعتقد الخطيئة األصلية؟‬
‫كال‪ ،‬ألنه يهاجم هذا املعتقد الذي ينص على أن الشر ينتقل وراثيا من جيل‬
‫إلى جيل عقب خطيئة ارتكبها اآلباء األولون‪ .‬ففكرة الشر الوراثي‪ ،‬بالنسبة إليه‪،‬‬

‫‪1 - Ibid., AK VI, 41-45.‬‬

‫‪174‬‬
‫تتناقض مع الحرية‪ ،‬وتنفي املسؤولية‪.‬‬
‫الديانة املسيحية‪ ،‬من بني‬ ‫ُ‬
‫إذا كانت تبعات الشر تلقى على عاتق‬
‫الديانات اإلبراهيمية الثالث‪،‬‬
‫مرتكبه بعدل‪ ،‬فشرطها هو أن يكون‬
‫قد انفردت برفع تأويل معني‬
‫الفاعل قد أراد ذلك بمشيئته‪ .‬إن الديانة‬
‫لهذه القصة إىل مقام معتقد‪.‬‬
‫املسيحية تعبر‪ ،‬في نظره‪ ،‬بوسائل رمزية‬
‫فهل يعد قول كانط بتجذر الرش‬
‫عن ما يستطيع العقل أن يستوعبه من‬
‫جمرد صياغة فلسفية ملعتقد‬
‫دون أن يتمكن أبدا من تفسيره (تجذر‬
‫اخلطيئة األصلية؟‬
‫الشر)‪.‬‬
‫* االهتداء مخرجا فرديا‬
‫ال تنفصل مشكلة الشر عن مشكلة الخالص‪ .‬ولذلك تفرض األسئلة اآلتية‬
‫ّ ً‬
‫خيرا بعد «السقوط»؟ و«كيف يمكن لشجرة‬ ‫نفسها‪ :‬أيمكن لإلنسان أن يصير‬
‫خبيثة أن تنتج ثمارا طيبة؟»‪ 1‬أال يقت�ضي التغلب على املبدأ الشرير فينا مددا‬
‫ماورائيا؟‬
‫قبل أن نجيب عن هذا األسئلة ال بد من التشديد على ما يلي‪ :‬إن اإلنسان‬
‫مسؤول مسؤولية كاملة عن الخير والشر الخلقيين؛ فهما معا نتاج الستعمال‬
‫«خلق خيرا»‪ ،‬أو أن «استعداده األصلي ّ‬ ‫ُ‬
‫خير»‪ ،‬ال يعني‬ ‫مشيئته الحرة‪ .‬والقول بأنه‬
‫خيرا بترك استعداده هذا يفعل من تلقاء نفسه‪ ،‬بل‬ ‫أنه خير فعليا‪ .‬إنه لن يكون ّ‬
‫يصير كذلك عندما يعزم على جعل الحوافز التي ينطوي عليها استعداده مبادئ‬
‫ذاتية لسلوكه‪ .‬وباملقابل‪ ،‬يصير شريرا عندما يعطي الصدارة لدوافع أخرى على‬
‫‪2‬‬
‫القانون‪ .‬وفي الحالين معا‪ ،‬األمرمتروك بالكامل الختياره الحر‪.‬‬
‫لئن بدا السؤال‪ :‬كيف يمكن لشجرة خبيثة أن تنتج ثمارا طيبة؟ بالغ الصعوبة‪،‬‬
‫فما هو بأصعب من السؤال‪ :‬كيف أمكن لشجرة طيبة في أصلها أن تنتج ثمارا‬
‫‪1 - Ibid., AK VI, 45.‬‬
‫‪2 - Ibid., AK VI, 44.‬‬

‫‪175‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫خبيثة؟ فإذا كان السقوط من الخير إلى‬
‫الشر واقعة ممتنعة على الفهم‪ ،‬فإن لئن بدا السؤال‪ :‬كيف يمكن‬
‫االنتقال من الشر إلى الخير هو أيضا أمر لشجرة خبيثة أن تنتج ثمارا‬
‫طيبة؟ بالغ الصعوبة‪ ،‬فما‬ ‫«يتجاوز كافة مفاهيمنا»‪ .‬غير أن التغلب‬
‫هو بأصعب من السؤال‪:‬‬ ‫على النزوع إلى الشرممكن‪ ،‬وهذا اإلمكان‬
‫غير قابل للفهم أكثر من إمكان الشر‪ ،‬ألنه كيف أمكن لشجرة طيبة يف‬
‫أصلها أن تنتج ثمارا خبيثة؟‬ ‫يتعلق كذلك بالحرية‪.‬‬
‫إن التغلب على النزوع إلى الشر أمر فإذا كان السقوط من اخلري‬
‫ينبغي أن يكون من صنيعنا وحصيلة إىل الرش واقعة ممتنعة عىل‬
‫الفهم‪ ،‬فإن االنتقال من‬ ‫لجهودنا‪ .‬والطريقة الوحيدة لفعل ذلك هي‬
‫االهتداء (‪ ،1)la conversion‬ألنه كفيل الرش إىل اخلري هو أيضا أمر‬
‫«يتجاوز كافة مفاهيمنا»‪.‬‬ ‫باستعادة التوازن الخلقي الذي اختل بعد‬
‫اقتراف «الخطيئة‪ .‬فما االهتداء؟‬
‫• االهتداء أوال مهمة خلقية ملقاة على‬
‫عاتق أي إنسان‪ ،‬طاملا أن الشر «لطخة لوثت نوعنا‪ ،‬وإذا لم نقم بإزالتها‪ ،‬ستمنع‬
‫بذرة الخير (فينا) من النمو»‪ .2‬فالقانون الخلقي املبثوث في نفوسنا يصرخ فينا‬
‫مدو‪ ،‬داعيا إيانا إلى أن نعمل ما في وسعنا لكي نصير صالحين وفضالء؛‬ ‫ّ‬
‫بصوت ٍ‬
‫األمرالذي يلزم عنه بالضرورة أن في وسعنا أن نفعل ذلك‪ ،‬حتى لوكان ما نستطيع‬

‫‪ - 1‬للكلمة معاني دينية في األساس‪ .‬فهي تدل على ترك طريق الضاللة التي قد تكون ديانة تم التخلي‬
‫عنها أو مذهبا يعتبر هرطقة أو بدعة‪ ،‬واعتناق لسبيل الرشاد الذي قد يكون ديانة أو مذهبا يعتبر هو‬
‫طريق النجاة‪ .‬وغالبا ما يكون هذا االهتداء (في حالة اعتناق ديانة جديدة) مصحوبا بفعل رمزي كالنطق‬
‫بالشهادتين عند املسلمين أو التعميد عند املسيحيين‪ .‬لالهتداء بهذا املعنى وجهان‪ :‬ترك طريق الضاللة‬
‫والتزام طريق الهدى والرشاد‪ .‬إن التزمنا باملعجم الخلقي فقط‪ ،‬يمكننا عندئذ أن نقول إن االهتداء ترك‬
‫للشر (مخالفة القانون الخلقي)‪ ،‬والتزام سبيل الخير (االمتثال للقانون الخلقي احتراما)‪.‬‬
‫‪2- Ibid., AK VI, 38.‬‬

‫‪176‬‬
‫‪1‬‬
‫فعله يظل غيركاف‪.‬‬
‫• يفترض االهتداء أن لطخة الشر لم تصب بذرة الخير فينا‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬ما‬
‫االهتداء إال «استعادة لالستعداد األصلي للخير فينا»‪ 2‬في كامل قوته‪ .‬يتجلى هذا‬
‫االستعداد أساسا في «الشعور باالحترام تجاه القانون الخلقي باعتباره حافزا‬
‫طعم‬‫كافيا بذاته للمشيئة»‪ .3‬إنه مركوز في طبيعتنا العاقلة‪ ،‬وال يمكن ألي شرأن ُي ّ‬
‫عليه‪ . 4‬إن هذا االستعداد ليس مكتسبا‪ ،‬بل هو مبثوث في العقل العملي بما هو‬
‫عقل يسن قوانين غيرمشروطة‪ .‬والحال أن العقل ّ‬
‫املشرع من تلقاء ذاته ال يمكن‬
‫أن يصيبه فساد‪ ،‬كما أن أشرالناس ال يتمرد على القانون تمرد إبليس‪ .‬إن الشر‬
‫ال يقوض القانون‪ ،‬بل يجعله فقط مشروطا بحب الذات‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬فإن‬
‫ُ‬
‫االهتداء ليس إنتاجا لباعث على الخير قد ف ِقد؛ إذ لو كان اإلنسان قد فقد هذا‬
‫الباعث املتمثل في احترام القانون الخلقي‪ ،‬ملا استطاع أبدا أن يكتسبه من جديد‪.‬‬
‫ُ‬
‫• االهتداء‪ ،‬بما هواستعادة‪ ،‬إنما هو «تشييد لط ْهرالقانون باعتباره أساسا أسمى‬
‫لجميع مبادئنا الذاتية‪ ،‬وتبعا لذلك يجب قبول القانون في كامل طهره كباعث‬
‫كاف بذاته لتحديد املشيئة فيما يخص هذه املبادئ الذاتية‪ ،‬وليس في اقترانه‬
‫‪5‬‬
‫بدوافع أخرى (=الدناسة)‪ ،‬أو بوصفه تابعا لهذه الدوافع (امليول) (=الشرارة)‪».‬‬
‫فاالستعادة ليست استرجاعا الستعداد خلقي مفقود‪ ،‬بل هي إرساء لسلطان‬
‫القانون في طهره التام من كل اقتران بدوافع أخرى أو تبعية لها‪ .‬وبعبارة أخرى‪،‬‬
‫إن تشييد سلطان القانون في طهره التام إنما هو إرساء ُ‬
‫«حرمة املبادئ الذاتية في‬
‫امتثال [اإلنسان] لواجبه‪ ،‬وبالتالي عن واجب ليس إال»‪.6‬‬

‫‪1 - Ibid., AK VI, 45, voir aussi 49 (note) et 50.‬‬


‫‪2 - Ibid., AK VI, 46.‬‬
‫‪3- Ibid., AK VI, 27‬‬
‫‪4 - Ibid., AK VI, 27-28.‬‬
‫‪5- Ibid., AK VI, 46‬‬
‫‪6- Ibid., AK VI, 46‬‬

‫‪177‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫َ‬
‫• االهتداء‪ ،‬بما هو ت ٍ ّبن للطهر واتخاذه أساسا أسمى لجميع مبادئنا الذاتية‪،‬‬
‫ال يمكن أن يكون حصيلة إصالح تدريجي للعوائد يعمل فيه اإلنسان بعزم‬
‫وتصميم على القيام باألفعال املتفقة ماديا مع الواجب‪ ،‬ألن فضيلة كهذه لها‬
‫َُ‬
‫قيمة شرعية فحسب‪ .‬إن االهتداء «ثورة في نية اإلنسان»‪ ،‬ثورة تغ ِّيـرما بالقلب‪،‬‬
‫أي تهم األساس األسمى لجميع مبادئه الذاتية؛ وبموجبها يتبنى القداسة في نيته‬
‫األساسية‪ ،‬مما يعني أن التغيير ُيحدث تحوال جذريا في طريقة التفكير‪ ،‬أو لنقل‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫بلغة دينية‪ ،‬إنها ميالد جديد‪.‬‬
‫إننا ال ندرك كيف يمكن إلرادة منحرفة في أساسها أن تستعيد استقامتها في‬
‫تشريعها الذاتي‪ .‬على أن اجتثاث الشر من جذوره أمر ال يمكن أن يتم بقوى‬
‫طبيعية‪ .‬أيعني هذا أن مددا فائقا للطبيعة شرط ضروري إلمكان هذا التغلب؟‬
‫إن مددا من هذا القبيل (النعمة اإللهية‪ ،‬املعجزة) سيكون مناقضا للمبادئ‬
‫العملية؛ ذلك أن تدخله سيعني أن الخير الخلقي لن يكون من صنيعنا‪ ،‬بل‬
‫حصيلة تدخل مبدأ ماورائي‪ .‬ثم إن العقل النظري ال يستطيع أبدا أن يثبت‬
‫القيمة املوضوعية ملعونة ماورائية‪ .‬وحتى إن كانت هذه ممكنة‪ ،‬فإنها ستظل‬
‫ممتنعة على فهمنا‪ ،‬وال نستطيع أن نعطيها في مبادئنا الذاتية استعماال نظريا أو‬
‫معونة‬
‫ٍ‬ ‫استعماال عمليا‪ .2‬قد يتخذ املدد الرباني شكل تذليل العقبات‪ ،‬أو شكل‬
‫ّ ً‬
‫خيرا‪ ،‬فإن‬ ‫موجبة‪ .‬وحتى لو سلمنا بأنه ضروري لتحسن اإلنسان أو صيرورته‬
‫على هذا الكائن أن يجعل نفسه أوال جديرا بتلقيه‪ ،‬وذلك بأن يبذل ما في وسعه‬
‫لكي يجعل من نفسه إنسانا خيرا‪ 3.‬ال يمكن في هذا الصدد القبول بأي من صيغ‬
‫التواكل كحافز عملي‪ ،‬من قبيل التعويل على املحافظة على الشعائر كسبيل‬
‫لغفران الخطايا‪ ،‬وبالتالي ضمان السعادة األبدية‪ ،‬أو التعويل على الصالة‬
‫والدعاء كسبيل للتحسن الخلقي‪ ،‬من دون أن يكلف اإلنسان نفسه عناء أن‬
‫يصير صالحا‪ .‬إن املبدأ الذي ينبغي التمسك به في هذا الصدد هو‪« :‬ليس أمرا‬
‫‪1 - Ibid., AK VI, 47.‬‬
‫‪2 - Ibid., AK VI, 53.‬‬
‫‪3- Ibid., AK VI, 44.‬‬

‫‪178‬‬
‫أساسيا‪ ،‬وال ضروريا تبعا لذلك‪ ،‬أن يعلم‬
‫كل واحد ما يفعله هللا ألجل خالصه»‪ ،‬بل إن الديانة املسيحية‪ ،‬حسب‬
‫كانط‪ ،‬تعرب بطريقة رمزية‬ ‫األولى هومعرفة ما يجب على اإلنسان أن‬
‫‪1‬‬
‫مثرية لإلعجاب عن قدرة‬ ‫يفعله لكي يصير جديرا بتلقي معونته‪».‬‬
‫اإلنسان عىل استعادة‬ ‫يقدم الدين هاهنا أيضا صيغة رمزية‬
‫حريته رغم إغراءات الرش‬ ‫لحل مشكلة ال يستطيع العقل البشري‬
‫أن يفك مغاليقها‪ .‬فالديانة املسيحية‬
‫تسرد قصة هذا االنتقال من الشر إلى‬
‫الخالص‪ ،‬من سقوط آدم إلى تضحية املسيح بنفسه من أجل افتداء خطايا‬
‫الجميع‪ .‬إن الديانة املسيحية‪ ،‬حسب كانط‪ ،‬تعبر بطريقة رمزية مثيرة لإلعجاب‬
‫عن قدرة اإلنسان على استعادة حريته رغم إغراءات الشر‪ .‬ففي قصة املواجهة‬
‫بين املسيح والشيطان‪ ،‬ومقاومة األول لكل اإلغراءات التي يقدمها الثاني‪ ،‬تصوير‬
‫ّ‬
‫رمزي إلمكانية انتصاراملبدأ الخيرعلى املبدأ الشريرفينا‪ ،‬وبذلك تعلمنا أن الشر‬
‫ليس قدرا‪ ،‬وأنه من واجب اإلنسان أن يسمو بنفسه إلى املثل األعلى الذي جسده‬
‫املسيح‪ .‬إن القصة تقدم لنا رمزا تصويريا ملا يجب علينا أن نفعله ونستطيع أن‬
‫نفعله ابتغاء االنتصارعلى الشر‪.‬‬
‫* الجماعة األخالقية مخرجا جماعيا‬
‫تناولنا حتى اآلن الشر باعتباره استعماال معينا للمشيئة يختار معه الفرد أن‬
‫يمنح األولوية للميول؛ األمرالذي يجعل القانون الخلقي في وضع التابع واملشروط‪.‬‬
‫والحال أن الفرد يعيش دائما داخل جماعة يتأثربمعتقداتها وممارساتها الدينية‪.‬‬
‫فهل يساعد ذلك في كبح نزوعه إلى الشرأم يزيد هذا النزوع تفاقما؟‬
‫يسير كانط هنا على خطى جون جاك روسو الذي أكد أن الثقافة واملجتمع‬
‫ُيفسدان اإلنسان؛ ذلك أن الفرد‪ ،‬ما أن يعيش بين نظرائه‪ ،‬يكون عرضة ألصناف‬
‫‪1- . Ibid., AK VI, 51-52‬‬

‫‪179‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫من الغواية يتعذر عليه مقاومتها‪ .‬واألمر‬
‫ال يمكن مواجهة تحدي‬ ‫ال يتعلق هنا بعدوى النماذج السيئة‪،‬‬
‫الرش االجتمايع‪ ،‬الذي يخلق‬
‫إذ يكفي أن يعيش الفرد مع آخرين لكي‬
‫وضعا أخالقيا يسميه كانط‬
‫تتولد في نفسه وتنمو أهواء من قبيل‬
‫بحالة الطبيعة األخالقية‪ ،‬إال‬
‫الحسد والجشع والتعطش إلى السيطرة‬
‫بوسيةل واحدة‪ ،‬ويه إنشاء‬
‫وغيرها من األمور التي لم ما كانت لوثتها‬
‫مجاعة أخالقية تحكمها قوانني‬
‫لتلطخ طبيعته األولية لو بقي منعزال‪.1‬‬
‫الفضيةل‪ ،‬وليس لها من غاية‬
‫وهكذا فإن الحياة داخل الجماعة تحرك‬
‫أخرى غري أن تسود الفضيةل‬
‫األهواء‪ ،‬وتيهئ الفرصة لتكوثرالشرور‪.‬‬
‫يشكل هذا الوضع االجتماعي‪ ،‬الذي‬
‫يجعل الشر يتفاقم‪ ،‬تحديا بالنسبة إلى الخلقية‪ .‬ذلك أنه يجعل االهتداء مهمة‬
‫أكثرعسرا‪.‬‬
‫ال يمكن مواجهة تحدي الشر االجتماعي‪ ،‬الذي يخلق وضعا أخالقيا يسميه‬
‫كانط بحالة الطبيعة األخالقية‪ ،‬إال بوسيلة واحدة‪ ،‬وهي إنشاء جماعة أخالقية‬
‫تحكمها قوانين الفضيلة‪ ،‬وليس لها من غاية أخرى غير أن تسود الفضيلة‪ .‬إن‬
‫العقل املشرع هو الذي يأمرنا على جهة الوجوب بأن نستفرغ الوسع في سبيل‬
‫إنشاء «جمهورية كونية مؤسسة على قوانين الفضيلة»‪ ،2‬من أجل تحقيق النصر‬
‫على هجمات املبدأ الشرير‪ .‬وهذا الواجب موجه إلى النوع البشري بأكمله‪ ،‬وليس‬
‫إلى الفرد وحده‪ .‬يتعلق األمر بأن يقيم اإلنسان مع إخوته من البشر جماعة‬
‫سيكون القانون الفعلي فيها هو القانون الخلقي‪ ،‬وذلك أمر الزم للقضاء على‬
‫النزوع إلى الشر‪.‬‬

‫‪1 - Ibid., AK VI, 94.‬‬


‫‪2 - Ibid., AK VI, 98.‬‬

‫‪180‬‬
‫يمكن تسمية اجتماع البشر تحت حكم قوانين الفضيلة وحدها‪ ،‬إن كانت‬
‫هذه القوانين عمومية‪ ،‬باملجتمع األخالقي ‪ -‬املدني‪ ،‬في مقابل املجتمع القانوني ‪-‬‬
‫املدني‪ .1‬ويمكن تأسيس الجماعة األخالقية في مجتمع قانوني قائم‪ ،‬وأن تشمل في‬
‫ُ‬
‫عضويتها جميع أعضاء هذا املجتمع‪ ،‬ال بل إن قواعدها ال يمكن أن ترفع إال إذا‬
‫كان املجتمع القانوني ‪ -‬املدني قائما‪ .‬لكن ال ينبغي أن نخلط بين الجماعة الخلقية‬
‫واملجتمع السيا�سي‪ :‬فالثاني قائم على الحق ال على الفضيلة‪ ،‬وليس من شأنه‬
‫تخليق الناس‪ ،‬بل فقط جعلهم يعيشون في ظل قوانين وضعية من شأنها أن‬
‫ْ‬
‫تضمن احترام الحريات الفردية‪ .‬وهكذا‪ ،‬للدولة حق مشروع في أن ُتك ِر َه رعاياها‬
‫على طاعة القواعد القانونية؛ في حين أنه من العبث أن ندعي إكراه إنسان على‬
‫أن يصيرفاضال‪ ،‬طاملا أن الفضيلة ال قيمة لها إال إذا اختيرت بحرية‪ 2.‬وبهذا املعنى‬
‫يعارض كانط اعتداء الدين على ميدان السياسة‪ ،‬إذ ليس من شأن الدولة أن‬
‫تفرض الفضيلة على مواطنيها‪ ،‬وليس من الضروري أن يكون الناس متخلقين‬
‫لكي يشكلوا دولة‪ ،‬طاملا أنه من مصلحة كل واحد أن يتحد مع اآلخرين في ظل‬
‫قوانين خارجية‪ .3‬إن املشرع الذي يود أن يحقق بالقوة نظاما سياسيا غاياته‬
‫خلقية‪ ،‬يزرع بذور شرمستطيريتمثل في الخلط بين الرابطة السياسية والرابطة‬
‫الدينية‪.‬‬
‫يجب أن تشمل الجمهورية الخلقية مبدئيا جميع البشر‪ .‬وبخالف املجتمعات‬
‫السياسية التي تكون فيها اإلرادة العامة مدعوة إلى سن القوانين‪ ،‬فإن الجمهورية‬
‫‪1-‬‬ ‫‪Ibid., AK VI, 94.‬‬
‫‪2 - Ibid., AK VI, 95.‬‬
‫‪« -3‬إن مشكلة إنشاء دولة ليست ممتنعة على الحل‪ ،‬حتى بالنسبة لقوم من الشياطين (‪( )...‬بشرط‬
‫أن يكونوا على جانب من الفطنة والذكاء)‪ )...( .‬إن مشكلة كهذه يجب أن تكون قابلة للحل‪ .‬ألنها ال‬
‫تتطلب تحسين أخالق البشر‪ ،‬بل فقط التماس السبيل إلى استخدام آلية الطبيعة من أجل توجيه‬
‫استعداداتهم املتعارضة توجيها يجعل جميع األفراد الذين يؤلفون شعبا يرغمون بعضهم البعض على‬
‫الخضوع لقوانين قاهرة‪ ،‬ومن ثم ينشئون حالة سلم تكون للقوانين سلطة فعلية فيها‪( ».‬مشروع السالم‬
‫الدائم‪)AK VIII، 366 ،‬‬

‫‪181‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الخلقية ال يمكن أن تتلقى تشريعها من األعضاء الذين يؤلفونها‪ .‬ذلك أن األمر‬
‫ال يتعلق هنا بشرعية األفعال‪ ،‬أي موافقتها الخارجية للقانون‪ ،‬بل بخلقيتها‪ ،‬أي‬
‫بنية القيام بها احتراما لألمر اإللهي‪ .‬إن إنشاء جمهورية خلقية مطلب للعقل ال‬
‫يمكن أن يتحقق إال بالخضوع لقوانين الفضيلة باعتبارها تشريعا خلقيا إلهيا‪،‬‬
‫أي باالنتظام في ما يسميه كانط كنيسة‪ .‬وكانط يقيم تقابال بين الكنائس املرئية‬
‫الفعلية‪ ،‬بما هي تجمعات فعلية للناس بغرض تحقيق ملكوت هللا على األرض‬
‫بقدراملستطاع‪ ،‬وبين الكنيسة الالمرئية‪ ،‬بما هي نموذج خالص ال يوجد ما يقابله‬
‫في التجربة‪ .‬وبما أن إنشاء جماعة تحكمها ضوابط‪ ،‬وتوجه مساعيها غاية أو‬
‫غايات محددة‪ ،‬أمر يقت�ضي قائدا أو موجها‪ ،‬فإننا تتساءل هنا عمن يكون هذا‬
‫القائد أو املوجه؟‬
‫إن قائد الجماعة الخلقية ال يمكن أن يكون إنسانا؛ فال إنسان يستطيع بحال‬
‫من األحوال أن يزعم لنفسه القداسة‪ ،‬أي االمتثال التلقائي للقانون الخلقي‪.‬‬
‫إن الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يطالب البشر بأن يعيشوا تحت قوانين‬
‫الفضيلة إنما هو هللا‪ ،‬باعتباره رمز الخلقية‪ .‬وهو الذي يجعل الجماعة الخلقية‪،‬‬
‫التي ال تكفي القوى البشرية لتحقيقها‪ ،‬ممكنة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬بما أن الكنيسة الالمرئية ما هي إال فكرة‪ ،‬أي أن العقل هو الذي ينتجها‪،‬‬
‫وال يوجد أي واقع في التجربة يقابلها‪ ،‬وبما أن هللا هوالضامن األنطولوجي إلمكانها‪،‬‬
‫وأن تحقيقها الفعلي واجب ملقى على عاتق البشر‪ ،‬فمن الضروري أن نتساءل‪:‬‬
‫كيف يمكن للبشرأن يستجيبوا لهذا الواجب؟ وأي شكل تتخذه محاوالتهم بهذا‬
‫الخصوص؟‬
‫ال توجد الكنيسة الالمرئية‪ ،‬بموجب تعريفها‪ ،‬في أي مكان‪ .‬فهي‪ ،‬كما قلنا‪،‬‬
‫فكرة عقلية تدعو البشر إلى تحقيق وحدة مثالية غايتها التحرر من النزوع إلى‬
‫الشر‪ .‬وما الكنيسة املرئية إال محاوالت البشر املبذولة في سبيل تحقيق هذه‬

‫‪182‬‬
‫الوحدة فعليا‪ .‬وبعبارة أدق‪ ،‬إن الكنيسة‬
‫إن الكائن الوحيد الذي يستطيع‬
‫الحقيقية املرئية هي التي «تمثل تمثيال‬
‫أن يطالب البرش بأن يعيشوا‬
‫حسيا ملكوت هللا (الخلقي) على األرض‪،‬‬
‫تحت قوانني الفضيةل إنما هو‬
‫بالقدر الذي به يمكن تحقيق ذلك على‬
‫اهلل‪ ،‬باعتباره رمز الخلقية‪ .‬وهو‬
‫يد البشر»‪ .1‬وهذا يعني أن الهوة بين‬
‫الذي يجعل اجلماعة الخلقية‪،‬‬
‫الفكرة والتجسيد الفعلي ستظل قائمة‪،‬‬
‫اليت ال تكيف القوى البرشية‬
‫مهما خلصت النيات وتنوعت املساعي‬
‫لتحقيقها‪ ،‬ممكنة‬
‫املبذولة في سبيل تحقيق فكرة الخيرعلى‬
‫نحو ما يتمثلها العقل الخالص العملي؛‬
‫ألن الواقع الفعلي ال يمكن البتة أن يسمو إلى الكمال الذي يقتضيه املثل األعلى‪.‬‬
‫منظ ٌم ّ‬‫ّ‬
‫وموجه للكنائس املرئية‪ ،‬أي أن األولى‬
‫ِ‬ ‫فما الكنيسة الالمرئية إال مثل أعلى ِ‬
‫هي املبدأ الذي يتوجب على هذه الكنائس أن تقترب منه على نحو المتناه‪ ،‬دون‬
‫أن تتمكن من الوصول إليه أبدا‪ .‬غير أن البشر مطالبون مع ذلك بأن يسعوا‬
‫ما وسعهم الجهد إلى تحقيق هذا املثل األعلى‪ ،‬حتى وإن كان تحققه التام على‬
‫األرض محاال‪ .‬إن السبيل األسلم إلقامة أركان كنيسة جامعة حقيقية‪ ،‬هو‬
‫اإليمان الديني الخالص‪ ،‬ألنه إيمان عقلي قابل للتبليغ إلى أي إنسان‪ .‬أما اإليمان‬
‫التاريخي القائم على وقائع‪ ،‬فيقصر عن تحقيق هذه الغاية‪ ،‬ألنه ال يصح إال في‬
‫حدود املكان والزمان اللذين فيهما يمكن للحكايات التي يشتق منها أن تنتشر‬
‫وتحظى بالثقة‪ .‬بيد أن البشر بسبب من ضعف طبيعتهم‪ ،‬ال يمكن أن يقتنعوا‬
‫بأن إيمان العقل يمكن أن يشكل أساسا متينا لرفع بنيان الكنيسة الجامعة‪ ،‬وال‬
‫بأن السلوك الخلقي هو كل ما يطلبه هللا منهم لكي يفتح ملكوته في وجوههم‪ .‬إنهم‬
‫ال يستطيعون أن يتمثلوا طاعتهم هلل إال كعبادة يؤدونها له‪ ،‬فيعاملونه كسيد‬

‫‪1- La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 101‬‬

‫‪183‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫شرفوه بحركات دالة‬ ‫يطلب منهم أن ُي ّ‬
‫على الخنوع‪ .‬وهم ال يتصورون أن القيام ال سبيل إىل إقامة ملكوت اهلل‬
‫بواجباتهم نحو أنفسهم ونحو اآلخرين إال بالدين‪ .‬وإذا ما أخذنا الرشط‬
‫على أحسن وجه‪ ،‬هو الطريقة الوحيدة اإلنساين يف احلسبان‪ ،‬فإن هذا‬
‫امللكوت ال يمكن أن تقوم له‬
‫لالمتثال لألوامراإللهية‪.‬‬
‫قائمة إال بأن يتخذ شكال حسيا‬
‫‪ -‬املسيحية في حدود العقل وحده‬
‫يتمثل يف التنظيم املؤسسايت‬
‫والطقوس والشعائر التعبدية‬
‫ال سبيل إلى إقامة ملكوت هللا إال‬
‫بالدين‪ .‬وإذا ما أخذنا الشرط اإلنساني في‬
‫الحسبان‪ ،‬فإن هذا امللكوت ال يمكن أن‬
‫تقوم له قائمة إال بأن يتخذ شكال حسيا يتمثل في التنظيم املؤسساتي والطقوس‬
‫والشعائرالتعبدية‪ .‬فهل يمكن ألديان الوحي أن تضطلع بمهمة إقامة سلطان هللا‬
‫على األرض؟‬
‫* الفرق بين الدين الطبيعي والديانة املوحى بها‬
‫يقت�ضي الجواب أن نعرف أوال ما الدين‪ .‬وكانط ُي ّ‬
‫عرفه‪ ،‬كما رأينا سابقا‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫الدين هو «معرفة بكل واجباتنا بصفتها فرائض إلهية»‪ .‬يق�ضي هذا التعريف‬
‫بأولوية األخالق على الدين‪ ،‬بحيث إنه يجب علينا أن نعرف واجباتنا بالعقل‬
‫وحده أوال قبل أن ننسبها إلى هللا‪ .‬وفقا لهذا الترتيب يكون الدين طبيعيا (‪religion‬‬
‫علي أن أعلم أن هذا األمر واجب لكي أعتبره‬ ‫‪ ،)naturelle‬إذ في هذا األخير يتعين َّ‬
‫فريضة إلهيه‪ .‬أما الديانات املوحى بها (‪ ،)religions révélées‬فتعكس هذا‬
‫الترتيب‪ ،‬وتق�ضي بأولوية الدين على األخالق‪ .‬ذلك أن األوامر‪ ،‬في هذه الديانات‪،‬‬
‫ال تكون أوامرإال ألن هللا قد فرضها‪ ،‬وألزم الناس بها عن طريق الوحي‪ .‬وهنا يتعين‬
‫علينا أن نعلم أوال أن هذا ال�شيء فريضة إلهية لكي نعتبره واجبا‪ .1‬وعندئذ يبدو‬

‫‪1- Ibid., AK VI, 153-154.‬‬

‫‪184‬‬
‫هللا بمثابة الينبوع الوحيد للخلقية‪ ،‬ويفقد العقل استقالليته التشريعية‪ .‬وهكذا‬
‫يبدو أن كل ديانة موحى بها تتعارض تعارضا أساسيا مع الدين الطبيعي الذي‬
‫يعترف بأولوية العقل العملي‪ .‬فهل ثمة من سبيل لحل هذا التعارض؟‬
‫قبل الجواب عن هذا السؤال لنفحص وضعية الوحي أوال‪ ،‬ووضعية الدين‬
‫الطبيعي ثانيا‪.‬‬
‫إن أول سؤال يفرض نفسه فيما يخص الوحي‪ ،‬هو اآلتي‪ :‬ما الذي يمكن‬
‫لفلسفة تهتم بشروط إمكان التجربة العلمية والتجربة الخلقية أن تقوله عن‬
‫الوحي بما هو تجربة دينية؟‬
‫ينتمي الوحي الديني بالضرورة إلى النظام اإلمبريقي‪ ،‬ألنه مرتبط ببعض‬
‫الشروط التاريخية والخاصة‪ .‬وفي هذا تختلف التجربة الدينية عن التجربتين‬
‫العلمية والخلقية‪ .‬ما يحظى باهتمام كانط في تناوله لديانات الوحي ليس هو‬
‫شروط إمكانها‪ ،‬بل تعاليمها الخلقية‪ .‬هل يستطيع العقل الخالص العملي أن‬
‫يتعرف في هذه التعاليم التي لم تنبع من العقل على البعد الكوني والضروري‬
‫الذي يقتضيه في كل قانون خلقي؟‬
‫إن كان في التعاليم والوصايا الخلقية التي دعت إليها الديانات املوحى بها مثل‬
‫هذا البعد‪ ،‬فال مناص من االعتراف بعجزالعقل عن فهم كيف أمكن لألنبياء أن‬
‫يبشروا بمثل هذا الكمال الخلقي دون أن يعتمدوا على العقل‪ ،‬ومن القول إن‬
‫الوحي قد تقدم على العقل في هذا الصدد‪ .‬ال يستطيع العقل البشري أن يخبرنا‬
‫بأي �شيء عن إمكان الوحي‪ ،‬ولكنه ال يستطيع كذلك أن يثبت أنه ممتنع‪« ،‬إذ ال‬
‫يستطيع أي إنسان‪ ،‬بخصوص هذه املسائل‪ ،‬أن يقرر أي �شيء بالعقل»‪ .1‬وتبعا‬
‫لذلك‪ ،‬يظل الوحي بحقيقة معقولة في التاريخ ممكنا من ناحية املبدأ (‪،)en droit‬‬
‫حتى وإن ظل وجوبا غيرقابل للتفسير‪ .‬يمكن للديانات املوحى بها أن تقدم عالمات‬

‫‪1- Ibid., AK VI, 155.‬‬

‫‪185‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫دالة الحقائق التي يكتشفها العقل الحقا‪ ،‬ويمكنها أن تتقدم في التاريخ على الوقت‬
‫الذي فيه يكتشف العقل بذاته محتوى الخلقية‪ .‬إنها تبشربعصررشد العقل‪.‬‬
‫أما فيما يخص الدين الطبيعي‪ ،‬فإن الصفة «طبيعي» تعني أن الدين طبيعي‬
‫بالنسبة إلى اإلنسان‪ ،‬وأن أي إنسان‪ ،‬بما هو إنسان‪ ،‬يستطيع اعتمادا على حسه‬
‫السليم أن يتعرف على ما هو أسا�سي في هذا اإليمان‪ ،‬دونما حاجة إلى الرجوع إلى‬
‫أي تراث تاريخي‪ .‬يصف جون جاك روسو في املقطع اآلتي الطريق الذي يف�ضي إلى‬
‫هذا الدين قائال‪« :‬لقد طويت الكتب سوى كتاب واحد مفتوح على الدوام ألنظار‬
‫البشر‪ ،‬وهو كتاب الطبيعة‪ .‬في هذا الكتاب العجيب الخالب أتعلم كيف ُأ ّ‬
‫كرم‬
‫وأعبد صانعه األعلى‪ .‬ال عذرملن ال يتعلم منه‪ ،‬إذ يكلم الناس بلسان مبين مفهوم‬
‫لكل العقول‪ 1».‬وبهذا يكون الدين الطبيعي الدين هو الدين الكوني الوحيد‪ ،‬ألنه‬
‫يصح بالنسبة إلى كل إنسان بمجرد ما أن يكون قادرا على تأويل كتاب الطبيعة‬
‫العظيم دون عودة إلى الكتب املقدسة‪ .‬إن النظر في عجائب الطبيعة وكمال‬
‫مخلوقاتها يعتبرسبيال لتكوين تصور عن عظمة الخالق‪.‬‬
‫واآلن‪ ،‬نعود إلى سؤالنا السابق‪ :‬هل من سبيل لرفع التعارض؟‬
‫* املسيحية ديانة طبيعية !‬
‫يفاجئنا كانط بجواب ال يخلومن مفارقة‪ ،‬عندما يؤكد أنه يمكن اعتبارالديانة‬
‫املسيحية دينا طبيعيا‪ .‬وفقا لهذا االدعاء سنصل إلى قضايا الدين الطبيعي ال‬
‫بفتح كتاب الطبيعة‪ ،‬وإنما بفتح الكتاب املقدس‪ .‬ذلك أن إثبات أن الديانة‬
‫املسيحية دين طبيعي‪ ،‬إنما يعني أن محتواها مطابق للمحتوى الذي من شأن‬
‫اإلنسان أن يصل إليه بذاته‪ .‬والحال أن املسيحية ترتكزعلى وحي تاريخي تعبرعنه‬
‫أسفار العهد الجديد‪ .‬فهل يوجد تطابق بين محتوى الديانة املسيحية والدين‬
‫الذي يتخذ من الطبيعة سلما للعروج إلى الخالق؟‬
‫‪ -1‬جون جاك روسو‪ ،‬دين الفطرة‪ ،‬أو عقيدة القس من جبل السافوا‪ ،‬ترجمة عبد هللا العروي‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬املركزالثقافي العربي‪ ،2012 ،‬ص‪.116 .‬‬

‫‪186‬‬
‫لئن كان روسو قد أكد أن النظر‬
‫في كتاب الطبيعة ُيرشد إلى الخالق‪ ،‬يظل الويح بحقيقة معقولة‬
‫وبين يف التاريخ ممكنا من ناحية‬ ‫فإن النقد قد أغلق هذا الطريق‪ّ ،‬‬
‫املبدأ (‪ ،)en droit‬حىت وإن‬
‫أن جميع األدلة التي تتخذ من العالم‬
‫ظل وجوبا غري قابل للتفسري‪.‬‬
‫معراجا للصعود إلى هللا أدلة متهافتة‪.‬‬
‫يمكن لدليانات املوىح هبا أن‬
‫تقدم عالمات دالة احلقائق‬
‫لكن نقد العقل العملي يفتح كتابا آخر‬
‫يمكن أن يقدم معيارا كافيا لتقويم اليت يكتشفها العقل الحقا‬
‫الديانات التاريخية‪ ،‬وهوالضميرالخلقي‪.‬‬
‫وفقا لهذا الطرح‪ ،‬فإن اعتبار املسيحية‬
‫ديانة طبيعية إنما يعني عند كانط بيان أنها الدين الخلقي الحق‪ ،‬وأنها تستجيب‬
‫ملقتضيات العقل العملي‪.‬‬
‫ملا كان مشروع كانط هو بيان أنه يمكن اعتبار الديانة املسيحية دينا طبيعيا‪،‬‬
‫فقد كان عليه أوال أن يتخلى عن التقابل بين الديانة املوحى بها والدين الطبيعي‪،‬‬
‫ألنه تقابل يرقى إلى مقام التناقض الذي ال يفسح مجاال للتوفيق‪ .‬ولذلك قدم‬
‫عالـمة (‪ ،1)religion savante‬وهذا ما‬‫تقابال آخر ميز فيه بين دين طبيعي وديانة ِ‬
‫ّ‬
‫مكنه من أن يجد في املسيحية‪ ،‬التي هي ديانة موحى بها‪ ،‬عناصرتجيزله أن يعتبرها‬
‫دينا طبيعيا‪.‬‬
‫العالـمة على مجموعة من التعاليم (‪ )préceptes‬التي ال يمكن‬ ‫ترتكز الديانة ِ‬
‫تبديلها أو االعتراض عليها‪ ،‬والتي يحق لعلماء الالهوت وحدهم شرحها‪ .‬وهكذا‬
‫فإن الديانة العاملة شأن يخص فئة قليلة هي فئة «العلماء»‪ ،‬في مقابل الذين ال‬
‫يعلمون من عامة الناس (‪ .)profanes‬وما على هؤالء‪ ،‬نظرا لجهلهم‪ ،‬إال أن يتبعوا‬
‫ما يقرره األوائل‪ .‬فكيف يمكن لديانة تعتبر شأنا يختص بتأويله فئة قليلة أن‬

‫‪1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 155.‬‬

‫‪187‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫تتوافق والدين الطبيعي؟‬
‫لن يحصل هذا التوافق إال إذا كانت لئن كان روسو قد أكد أن النظر‬
‫العالـمة «قابلة للتبليغ على نحو يف كتاب الطبيعة يُرشد إىل‬ ‫الديانة ِ‬
‫كوني»‪ ،‬أي يمكن أن ُتقبل ُوتتلقى على الخالق‪ ،‬فإن النقد قد أغلق هذا‬
‫وبي أن مجيع األدلة‬‫الطريق‪ّ ،‬‬
‫نحو كوني دون حاجة ضرورية المتالك‬
‫اليت تتخذ من العالم معراجا‬
‫معرفة متخصصة مسبقا‪ .‬هذا هو معيار‬
‫للصعود إىل اهلل أدلة مهتافتة‬
‫العالنية‪ 1‬الذي ينص على أن كل ادعاء‬
‫قانوني أو خلقي أو ديني يجب أن يكون‬
‫باإلمكان جعله عموميا‪ ،‬وإال فهو غير قائم على أساس‪ .‬إن «كل األفعال املتعلقة‬
‫بحق الغير والتي ال يتوافق مبدأها الذاتي والعالنية‪ ،‬هي أفعال غير عادلة»‪.2‬‬
‫ً‬
‫ادعاء عموميا إنما يعني عرضه على املأل في الفضاء‬ ‫ادعاء ما‬
‫ٍ‬ ‫والحال أن جعل‬
‫العمومي‪ ،‬حيث يمكن للناس جميعا أن يتداولوه فيما بينهم‪ .‬إن قابلية ديانة‬
‫ّ‬
‫موحى بها للتبليغ على نحو كوني أمر يمكن من اعتبارها ديانة طبيعية‪ ،‬ألن الدين‬
‫عالـمة‪.‬‬
‫الطبيعي يتصف بأنه ال يستند إلى أي معرفة ِ‬
‫عالـمة‪ ،‬هو أن األول قابل للتبليغ إلى جميع‬‫ما يميز دينا طبيعيا عن ديانة ِ‬
‫البشر‪ ،‬بغض النظر عن ظروف املكان والزمان‪ ،‬بحيث يمكن لكل واحد منهم أن‬
‫يقتنع به بعقله‪ .3‬والعقل الذي يصلح هنا معيارا هو العقل العملي (العقل الذي‬
‫ٔ‬ ‫ٔ‬
‫‪ - 1‬كلمة «‪ »Publicitas‬الالتينية‪ ،‬تدل على ما ذاع وانتشربين الجمهور‪ ،‬او ما يهم شعبا او جماعة‪ .‬ترتبط‬
‫ٔ‬
‫بهذه الكلمة اشتقاقيا كلمات اخرى مثل ‪ public‬التي تترجم بعمومي (االستعمال العمومي للعقل مثال)‬
‫ٔ‬
‫و‪ publiquement‬و ‪ "res"( république‬الالتينية تعني ال�شيء‪ .‬ومن ثم ٕفان الكلمة تعني الشان العام‪،‬‬
‫فية مخصوصة)‪ .‬فالعالنية‬ ‫الشوون السياسية ٔامريهم الشعب كله وليس ٔامرا مقصورا على ٔ‬‫ٔاي ٔان تدبير ٔ‬
‫ٔ‬
‫ٕاذن مطلب يق�ضي بالجهر بالقرارات‪ٕ ،‬واذاعتها على الشعب او الجمهور‪ ،‬وجعلها في متناول العموم‪،‬‬
‫وبذلك فهي تناقض الكتمان والتدبير السري‪ٕ .‬انها معيار‪ ،‬ال الختبار وجاهة األحكام واآلراء فقط‪ ،‬بل هي‬
‫ٓ‬ ‫ٔ‬
‫اداة للحد من ظواهر مرضية في األخالق والسياسة‪ ،‬مثل النفاق‪ ،‬والكذب‪ ،‬والتامر؛ وكل ما يناقضها في‬
‫ٔ‬
‫ميدان الحق (الذي هو شان عام بامتياز) يعتبرغيرعادل‪ ،‬ال بل مناقضا للسياسة واألخالق معا‪.‬‬
‫‪ -2‬كانط‪ ،‬مشروع السالم ٔ‬
‫الدايم‪.VIII ،AK 381 ،‬‬
‫‪3- Ibid., AK VI, 155.‬‬

‫‪188‬‬
‫يملي الواجب الخلقي)‪ .‬فبيان أن املسيحية دين طبيعي‪ ،‬إنما يعني إذن بيان أنها‬
‫موافقة للقانون الخلقي‪ .‬إننا نجد هاهنا املشكلة نفسها التي واجهناها مع الوحي‪:‬‬
‫َ‬
‫إذ كيف نفسر أن ديانة تفرض من الخارج القانون نفسه الذي يكشف عنه‬
‫العقل داخليا؟ تلك ظاهرة ال نستطيع فهمها‪ ،‬وما يمكن للفيلسوف أن يفعله‬
‫إنما هو بيان أن الديانة املسيحية موافقة للخلقية‪ ،‬دون تفسيرملاذا هي كذلك‪.‬‬
‫يبرز كانط هذا التوافق من خالل عقد مقارنة بين محتوى األخالق املسيحية‪،‬‬
‫كما تبسطها «موعظة املسيح على الجبل»‪ ،‬ومحتوى األخالق العقلية‪ .1‬لقد نصت‬
‫هذه املوعظة على قضايا يقبلها العقل‪ ،‬كما أنها حسب كانط تبشر بالوجهين‬
‫األساسيين لفلسفته الخلقية‪ ،‬وهما‪ :‬وجوب طاعة أوامر الشريعة بحرية‪ ،‬واألمل‬
‫في نيل الخير األعظم (الخالص) في الحياة األخرى‪ .‬إن مؤسس هذه الديانة لم‬
‫ين�شئ محتواها الذي يوجد في أساس كل عقل؛ ولكنه هو األصل في اإليمان‬
‫التاريخي الذي اقترن بها‪ ،‬وكذا الكنيسة الحقيقية األولى الرامية إلى منح شكل‬
‫مرئي للكنيسة الالمرئية‪ .‬والحقائق التي نشرها ال يقيم الدليل عليها الجانب اإللهي‬
‫في رسالته‪ ،‬بل إنها هي التي تقيم الدليل على هذه الرسالة‪ ،‬وذلك ألنها متطابقة‬
‫مع الخلقية الخالصة‪ .‬لقد أرشد الجميع بكلمات بسيطة وحاسمة إلى طريق‬
‫ُ‬
‫الهدى التي يجب أن تتبع‪ ،‬وهي أن الخيريكمن في اإلرادة الخيرة‪ ،‬في صفاء القلب؛‬
‫وأن الخطيئة في النية جرم؛ وأن الكره يساوي القتل؛ وأن الحياة الخلقية هي‬
‫الباب الضيق‪ ،‬أو لنقل السبيل الوحيد إلى الخالص‪ ،‬في مقابل الوسائل السهلة‬
‫والوهمية التي تمنحها املراعاة الخارجية للشعائر‪ .‬ثم إن رسالته الخلقية لم‬
‫تقتصرعلى التشديد على النوايا الطيبة‪ ،‬بل دعت إلى العمل دون تواكل يستسلم‬

‫‪1- Ibid., AK VI, 159-163.‬‬


‫يؤكد املسيح في هذه املوعظة على الصلة بين تعاليمه وتعاليم الشريعة املوسوية من جهة‪ ،‬ولكنه من‬
‫جهة ثانية يدعو إلى مراعاة روحها وعدم التقيد بما تنص عليه حرفيا‪ .‬والدرس املستفاد هو أن القصد‬
‫من الشريعة هو االلتزام الحربروحها‪ ،‬وليس الخضوع لها خضوع العبيد‪.‬‬

‫‪189‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫عل‪ .‬إن واجباتنا تتلخص في قاعدتين‪ :‬إحداهما عامة‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬ ‫لتأثير آت من ٍ‬
‫«أحبب هللا فوق كل �شيء»‪ ،‬أي قم بواجبك دونما حافزآخرغيراعتبارك للواجب‬
‫ذاته؛ واألخرى خاصة‪ ،‬وهي تقول‪« :‬أحبب قريبك كحبك لنفسك»‪ ،‬أي اعمل‬
‫لصالحه بإحسان مباشرإليه‪ ،‬بروح ال توجهها منفعة‪ .‬والثواب املوعود مستقبال‬
‫كنتيجة‪ ،‬ال ُيعرض كباعث يحدد سلوكنا‪ ،‬بل باعتباره الصورة املشيدة إلنجاز‬
‫الخير األسمى‪ ،‬والعالمة الدالة على الطيبة والحكمة اإللهيتين‪ .‬وفقا لهذا التأويل‬
‫يمكن أن يقال عن املسيحية إنها «ديانة عاملية» قابلة للتبليغ إلى الجميع بالعقل‪.‬‬
‫* العقل العملي مرجعا حاسما لتأويل املعرفة ِ‬
‫العالة الدينية‬
‫ُ‬
‫بما أن املسيحية تتفق مع الدين الطبيعي‪ ،‬إن أ ّ ِولت على الوجه الصحيح‪ ،‬فإن‬
‫الوحي الذي به ُعرفت من ِق َبل الناس يبدو بمثابة لحظة ضرورية‪ ،‬لكنها قابلة‬
‫للتجاوز‪ .‬ذلك أن الغاية القصوى لكل دين خلقي هي أن يكون أمرا متاحا مباشرة‬
‫للعقل‪ ،‬دون وساطة الكتب املقدسة‪ .‬إن ضرورة الوحي مقترنة بتناهي اإلنسان‬
‫الذي ملا كان أسير الشر املتجذر يبدو عاجزا عن أن يصل وحده إلى الحقائق‬
‫حصل هذه الحقائق‪ ،‬يصير الوحي عرضيا‪،‬‬ ‫األخالق العقلية‪ .‬ولكن ما أن ُت َّ‬
‫والفيلسوف يمكن أن يقوم بالبرهنة عقليا على ما علمه إياه الوحي‪.‬‬
‫عالـمة تقوم على وحي تعبر‬‫لكن ال ينبغي أن يعزب عن بالنا أن املسيحية ديانة ِ‬
‫عن محتواه نصوص العهد الجديد‪ .‬وهي من هذه الجهة تحتاج لزوما إلى «علماء»‬
‫يبسطون ويشرحون تعاليمها ومعتقداتها‪ .‬فما املخرج إن حصل تعارض بين تأويل‬
‫«علماء الكتاب» وتأويل الفيلسوف؟‬
‫لعالـم الالهوت‬
‫ال يجادل كانط في الحاجة إلى تأويل «علماء الكتاب»‪ ،‬إذ يحق ِ‬
‫أن يشرح نصوص الوحي ويكشف النقاب عن معناها الحرفي‪ .‬إن ما يهم مؤلف‬
‫الدين في حدود العقل وحده هو الصلة التي ينبغي أن تقوم بين علماء الالهوت‬
‫وجماعة املؤمنين‪ .‬إن كانت هذه الصلة قائمة على تصور دغمائي يجعل من‬

‫‪190‬‬
‫العالـمة (‪ )érudition‬معيارا‬
‫ِ‬ ‫املعرفة‬
‫الغاية القصوى لكل دين‬ ‫وحيدا لصحة اإليمان‪ ،‬فإن علماء‬
‫خليق يه أن يكون أمرا متاحا‬
‫الالهوت عندئذ ال يتركون أمام جماعة‬
‫مبارشة للعقل‪ ،‬دون وساطة‬
‫املؤمنين خيارا آخر غير االستسالم ملا‬
‫الكتب املقدسة‬
‫يقررونه؛ وفي هذا خرق ملعيار العالنية‬
‫الذي يستلزم أن يكون أي ادعاء (ولو‬
‫كان دينيا) قابال ألن يخضع للفحص النقدي والنقاش العقالني‪.‬‬
‫العالة من مقدمة تنص على تناهي اإلنسان وقصوره‬ ‫ينطلق سدنة الديانة ِ‬
‫عن إدراك املعنى الحقيقي للوحي املسيحي‪ .‬ومن هذه املقدمة يخلصون إلى ضرورة‬
‫ترك تأويل الكتب املقدسة «لعلماء الكتاب»؛ األمرالذي يضمن لهم سلطانا فعليا‬
‫على النفوس‪ .‬يوافق كانط على املقدمة‪ ،‬ولكنه يستخلص منها نتيجة مختلفة‪،‬‬
‫وهي أنه ال أحد من البشر (بما في ذلك العاملون بالكتب) يستطيع أن يدعي‬
‫أنه الناطق الرسمي بما أراد الوحي قوله حقا‪ .‬وبما أنه ال يوجد أحد بعد النبي‬
‫يستطيع أن يدعي أن هللا يطلعه على مقاصده‪ ،‬فإن التأويل الوحيد الصحيح لن‬
‫يكون هو ذاك الذي يدعي على نحو تحكمي أنه من هللا‪ ،‬بل التأويل الذي يوافق‬
‫مقتضيات العقل العملي‪ ،‬وهذا ما يلزم عنه وجوب تكييف التعليمات الدينية في‬
‫اتجاه الخلقية‪.‬‬
‫غير أن نشر الرسالة الدينية يحتاج فوق ذلك إلى أدوات محسوسة تخاطب‬
‫اإلنسان الذي يحتاج إلى صور حسية (قصص‪ ،‬أمثلة‪ )...‬لكي يتمثل أوامر العقل‬
‫ويستوعبها‪ .‬ذلك أن التناهي‪ ،‬الذي هو شرط ال يمكن ألي بشري التنصل منه‪،‬‬
‫يجعل هذا الكائن في حاجة دائمة إلى صور تضفي طابعا محسوسا على األمور التي‬
‫ال يمكن تمثلها إال بالعقل الخالص؛ وتلك هي وظيفة اإليمان التاريخي الذي يقدم‬
‫األدوات الحسية الالزمة الستيعاب اإليمان العقلي ونشره‪ .‬لكن ال ينبغي التذرع‬

‫‪191‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫بهذا التناهي الستعباد اإلنسان؛ ذلك أن‬
‫الهيمنة هي ما يرمي إليه سدنة الديانة ال ينبيغ التذرع هبذا التنايه‬
‫العالـمة عندما يسجنون اإلنسانية في الستعباد اإلنسان؛ ذلك أن‬ ‫ِ‬
‫جهلها حتى يبرروا سلطانهم‪ .‬ومحاولة الهيمنة يه ما يريم إليه سدنة‬
‫العالـمة عندما يسجنون‬ ‫ِ‬ ‫الهيمنة الدينية عبر العقائد تتضح أكثر الديانة‬
‫عند املرورمن فحص الدين بوجه عام إلى اإلنسانية يف جهلها حىت يربروا‬
‫سلطاهنم‬ ‫ديانة الكنائس‪.‬‬
‫‪ -‬عبادة هللا بين املرامي السامية‬
‫والوسائل القاصرة‬
‫يوجد فارق كبير بين وحدة الدين الخلقي وتعدد الكنائس النظامية (‪églises‬‬
‫‪ .)statutaires‬فالدين من حيث إنه نابع من العقل‪ ،‬ال ينطوي إال على قوانين‬
‫يمكننا أن نعي ضرورتها املطلقة ونعترف بها‪ .‬أما الكنيسة أو الكنائس باألحرى‪،‬‬
‫فتنظم شؤونها بموجب شرائع (‪ )statuts‬عديدة تبدو اعتباطية‪ ،‬ألنها اختيارات‬
‫بشرية تتوقف على بعض الظروف الثقافية والتاريخية (مثال التزام الكاهن‬
‫الكاثوليكي بأن يظل أعزبا)‪ .‬ومع ذلك فإن الكنائس تدعي دائما أن شرائعها إنما‬
‫هي من إيحاء من هللا مباشرة‪ ،‬وبالتالي يجب قبولها كما هي‪ ،‬وكل نقد عقلي لها‬
‫ُيعتبر انتهاكا لحرمتها وتطاوال على قدسيتها‪ .‬فكيف التوفيق بين الحرية اإلنسانية‬
‫والوجود الضروري للكنائس القائمة التي تدعي أنها ظل هللا على األرض؟‬
‫إن املؤسسة الدينية أمر ال مندوحة عنه‪ ،‬ألن اإلنسان ملزم بأن يستجيب‬
‫للمطلب الخلقي القا�ضي بإقامة أركان الجماعة األخالقية‪ .‬ووظيفة الكنائس‬
‫بالضبط هي تحقيق هذا املطلب الذي ينشده الدين الخلقي تحقيقا فعليا بين‬
‫البشر‪ .‬لكن‪ ،‬إن كان هذا التحقيق محفوفا باملخاطر‪ ،‬فما ذلك إال ألن «كل �شيء‪،‬‬
‫بما في ذلك ما هو جليل‪ ،‬يصغر شأنه بين يدي البشر إن استخدموا فكرته على‬

‫‪192‬‬
‫غرار صورتهم»‪ .1‬إن فكرة كنيسة المرئية فكرة جليلة إذن‪ ،‬ألنها تعبر رمزيا عن‬
‫«ملكوت الغايات» الذي يسمح باألمل في التخلص من الشر‪ .‬أما التحقيقات‬
‫البشرية لهذه الفكرة‪ ،‬فهي جزئية بالضرورة‪ ،‬وال يمكن أن تدعي الكمال‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫فإن املذاهب وامللل الدينية التي ستقدم عقائدها باعتبارها هي وحدها الحقة‪،‬‬
‫وشرائعها بوصفها وحدها مشروعة‪ ،‬ستخرق حدها الذي يتمثل في أن تكون‬
‫مؤسسات إنسانية‪ .‬وهذا الخرق هو ما يسميه كانط بالهوس الديني‪.‬‬
‫* الهوس الديني‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫�شيء ما مكافئا لل�شيء‬‫مجرد تـمث ِل ٍ‬
‫ِ‬ ‫الهوس الديني هو «الوهم املتمثل في َع ِّد‬
‫ذاته»‪ .2‬إن إغفال الفرق بين تمثلنا ل�شيء ما وهذا ال�شيء ذاته هو ما يف�ضي‬
‫بخصوص املسائل الدينية إلى إلزام الناس بتمثالت معينة هلل باعتباره مثال إلها‬
‫غيورا وغضوبا؛ والحال أن هللا في ذاته ممتنع على املعرفة البشرية‪ .‬يكمن الهوس‬
‫الديني إذن في توهم امتالك معرفة باهلل‪ ،‬والحال أن هذه املعرفة ما هي في الواقع‬
‫إال هذيان مخيلة‪ .‬ذلك أن هللا ينفلت أيضا من كل التصاويرالتي يمكننا أن نكونها‬
‫عنه‪ .‬يقوم الهوس الديني على نزعة تشبيهية (‪ )anthropomorphisme‬تتمثل‬
‫في تصور هللا على غرار اإلنسان؛ ذلك أننا «أن نشكل ألنفسنا إلها‪ ،‬بحيث نعتقد‬
‫أننا نستطيع أن نكسبه لصالحنا بسهولة كبيرة‪ ،‬وبذلك نعتبر أنفسنا ُم ْع َفون‬
‫من املجهود الشاق واملتواصل للتأثير في أعماق دخيلة نيتنا الخلقية‪ .3».‬وهكذا‬
‫نشكل اإلله على مقاس صورتنا اإلنسانية‪ ،‬فنقتنع بأنه يمكننا‪ ،‬دون أن نتحسن‬
‫خلقيا‪ ،‬أن ننال نعمته أو نخفف من عدله من خالل طقوس التكريم املتكررة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واالحتفاالت الباذخة وأشكال التذلل والتقشف‪ .‬إننا نمنح مكانة ونجاعة‬
‫استثنائيتين ملمارسات ورعة ليس لها بذاتها أي قيمة خلقية مخصوصة‪ ،‬وإنما‬
‫‪1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 7.‬‬
‫)‪2- Ibid., AK VI, 168. (note‬‬
‫‪3- Ibid., AK VI, 168-169.‬‬

‫‪193‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫هي ممارسات كانت الغاية منها هي إخضاع طبيعتنا الحسية إلى تنفيذ غايات‬
‫معقولة‪ ،‬أو إلبعاد عوائق كانت تصرف عن هذه الغايات‪ .‬وعندئذ ال يعود ثمة‬
‫مجال ألن نأتي األفعال الخيرة لكي ننال ر�ضى هللا‪ ،‬بل سيكون كافيا أن ننصب‬
‫لكائن وهمي من إبداع مخيلتنا‪.‬‬
‫الهياكل ونقدم األضاحي للتعبيرعن االنصياع ٍ‬
‫ما وصفه كانط بأنه «هوس ديني» هو في الواقع قلب تام للسيرورة التي يجب‬
‫ُ‬
‫أن تقود إلى الدين الخلقي‪ .‬ففي هذا األخير ُي َّتخذ القانون الخلقي الذي يفرضه‬
‫العقل منطلقا من أجل التسليم بوجود إله خلقي عادل قادر على تأمين الخير‬
‫األعظم للمستحقين‪ .‬أما في الهوس الديني‪ ،‬فيتم االنطالق من تصوير هللا‬
‫كما صاغته في نهاية املطاف رغبة البشر‪ُ ،‬ليستنبط من ذلك ٌ‬
‫عدد من األوامر‬
‫والفرائض الشعائرية‪ .‬إن األمريتعلق هنا بزعم باطل مفاده أن هللا قابل للمعرفة‪،‬‬
‫ويمكن تشكيل صورة حسية عنه‪ .‬وعن هذا االنحراف في املعتقد تترتب أنماط‬
‫من السلوك والعمل‪.‬‬
‫يسمي كانط كل املمارسات الالخلقية املترتبة عن التصورات الباطلة لطبيعة‬
‫هللا بالعبادة الباطلة‪ .‬والعبادة الباطلة عبارة عن هوس ديني يتمثل في قلب نظام‬
‫التبعية الذي يجب أن يقوم على نحو طبيعي بين ُّ‬
‫التقي ِد بقوانين الشريعة (‪lois‬‬
‫‪ )statutaires‬والسلوك الخير‪ .‬ذلك أن قوانين الشريعة ‪ -‬التي تقوم على الوحي‪،‬‬
‫والتي هي ضرورية للكنيسة املرئية ‪ -‬ال تكون مشروعة إال حينما تعتبر وسائل‬
‫لخدمة الجماعة األخالقية‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬تتمثل العبادة الحقة هلل في اعتبار‬
‫كافة أشكال التعبد وسائل تابعة للغاية الخلقية‪ ،‬أي أن الغاية فيها هي نيل‬
‫اإلنسان مرضاة هللا عن طريق جعل سلوكه مطابقا للواجب الخلقي الذي يرمز‬
‫إليه هللا‪ .‬فإذا كانت الشعائر الدينية ال يمكن أن تنال مرضاة هللا إال على نحو‬
‫مشروط‪ ،‬أي إذا كان الغرض من أدائها هو التحسن الخلقي‪ ،‬فإن الهوس الديني‬
‫يجعل من الشعائرغاية في ذاتها‪ ،‬وشرطا لنيل مرضاة هللا مباشرة واستدرارنعمته‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫وهكذا يوضع اإللزام الخلقي في خدمة‬
‫الشعائر‪ ،‬أو يصير هو نفسه شعيرة من ما وصفه كانط بأنه «هوس‬
‫الشعائر‪ ،‬فيعتقد الناس خطأ أن التردد ديين» هو يف الواقع قلب تام‬
‫على دور العبادة وأداء الشعائر هما للسريورة اليت يجب أن تقود‬
‫إىل الدين الخليق‪ .‬فيف هذا‬ ‫الطريق التي يريد هللا بها أن يعبد‪.‬‬
‫خذ القانون الخليق‬ ‫ال تصيب العبادة الباطلة هدفها‪ ،‬ألنها األخري ُي َّت ُ‬
‫تزعم أنها تتوجه إلى هللا‪ ،‬بينما هي تتنكرفي الذي يفرضه العقل منطلقا‬
‫اآلن نفسه للمطلب الذي يرمز إليه‪ .‬إنها من أجل التسليم بوجود إله‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫عبادة خارجية تركز على األداء الخارجي خليق عادل قادر عىل تأمني‬
‫ملجموعة من الطقوس والشعائر؛ األمر اخلري األعظم للمستحقني‬
‫الذي يؤدي إلى قلب الترتيب‪ ،‬فتصبح‬
‫الوسيلة غاية‪ .‬فالغاية حقا‪ ،‬هي الفعل‬
‫ُ ّ‬
‫مكن من الوصول‬ ‫الخلقي؛ غير أن هذا يجد نفسه تابعا للوسائل التي ينبغي أن ت ِ‬
‫إليه (مجموع الشعائرالدينية من صالة وتردد على الكنيسة‪.)...‬‬
‫البد من تسجيل أن العبادة الباطلة تستعيد على صعيد الجماعة‪ ،‬البنية التي‬
‫عرف كانط الشر املتجذر‪ .‬يدل هذا األخير على املبدأ الذاتي (النية) القا�ضي‬ ‫بها ّ‬
‫بإحالل رغباتنا األنانية محل القانون الخلقي‪ ،‬واختيار ما تطالب به الحساسية‬
‫بدال مما يطالب به العقل‪ .‬والعبادة الباطلة تكمن في االنحراف ذاته الذي يجعلنا‬
‫نفضل الوسائل الحسية على حساب الغاية الخلقية‪ .‬وهذا ما تفعله الكنيسة‬
‫َ َُ‬
‫التي أصابتها ل ْوثة الشر‪ .‬يؤول كانط اآلية اآلتية من إنجيل َم ّتى‪« :‬ادخلوا من‬
‫الطريق الذي يؤدي إلى الهالك»‪ ،1‬على‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الباب ور ٌ‬
‫حب‬ ‫الباب الضيق‪ ،‬ألنه ٌ‬
‫واسع‬
‫النحواآلتي‪« :‬الباب الضيق والطريق الحرج اللذين يؤديان إلى الحياة‪ ،‬هما السيرة‬

‫‪ -1‬اإلصحاح ‪ ،7‬اآلية ‪.13‬‬

‫‪195‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الحسنة‪ .‬والباب الواسع والطريق الرحب‬
‫إن غاية العبادة احلقة يه‬ ‫اللذين يسلكهما الكثير من الناس‪ ،‬هما‬
‫الكنيسة» ‪ .‬إن الشر ينخر املؤسسة نيل مرضاة اهلل‪ .‬غري أن الفعل‬
‫‪1‬‬

‫ُ َّ ُ‬
‫التي يعول عليها إلنشاء جماعة أخالقية الفاضل وحده يسمح بالوصول‬
‫تسمح بانتصاراملبدأ ّ‬
‫الخير‪.‬‬
‫إىل هذا الهدف الذي تفسده‬
‫الوسائل اليت تستعملها‬ ‫* الخرافة والشطح‬
‫إن غاية العبادة الحقة هي نيل مرضاة العبادة الباطةل‪ .‬وعىل أساس‬
‫هللا‪ .‬غير أن الفعل الفاضل وحده يسمح هذا االنقالب تنبثق كل صور‬
‫بالوصول إلى هذا الهدف الذي تفسده اخلرافات اليت يديهنا كانط‪.‬‬
‫الوسائل التي تستعملها العبادة الباطلة‪.‬‬
‫وعلى أساس هذا االنقالب تنبثق كل صور‬
‫الخرافات التي يدينها كانط‪ .‬ما يميز الخرافة عن الدين الحق هو أن الخرافة ال‬
‫رسخ في الذهن خشية مهيبة مما هو جليل‪ ،‬بل الخوف والقلق من كائن ذي‬ ‫ُت ّ‬
‫قوة مطلقة تنصاع له إرادة اإلنسان املرتعب دون أن تجله‪ .‬وال يمكن أن َي ْن َج ّر‬
‫عن هذا الوضع إال البحث عن املكاسب والتملق‪ .2‬والخرافة الدينية هي االعتقاد‬
‫الوهمي في إمكانية أن يبرر اإلنسان نفسه أمام هللا بواسطة أداء العبادات أداء‬
‫حرفيا‪ .3‬وذلك ما تسقط فيه على نحو طبيعي كل مؤسسة كهنوتية عندما تتخذ‬
‫فتكثر من الشعائر وتمنح للقساوسة والكهنة نفوذا كبيرا‪ .‬ومع‬ ‫من نفسها غاية‪ُ ،‬‬
‫ذلك‪ ،‬ال تفعل املؤسسة شيئا آخر غير دعم هوى منغرس في القلب البشري‬
‫يجعله نزاعا إلى تصور هللا على غرار ملك قوي ومستبد يحبذ التبجيل والتملق‬
‫واألضاحي‪ .‬هكذا يتم نقل مفهوم اإلنسان بنواقصه إلى األلوهية‪ ،‬فتمتزج في هذه‬
‫)‪1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 160. (note‬‬
‫‪2- KANT, Critique de la faculté de juger, § 28, AK V, 264.‬‬
‫‪3- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 174.‬‬

‫‪196‬‬
‫الصرامة والنعمة على نحو ما تمتزج في قائد بشري‪ ،‬ويرجو اإلنسان أن ينال نعمة‬
‫غيرمستحقة من هللا باستمالته عبرالتقيد بالشعائروالطقوس‪ .‬إن باب الخرافة‬
‫ينفتح على مصراعية بمجرد أن يتم التسليم بأنه توجد سبل أخرى لنيل مرضاة‬
‫هللا غير سبيل الفضيلة‪ .‬وفي هذا الصدد‪ ،‬ما من فرق أسا�سي بين العبادة األكثر‬
‫فظاظة والعبادة األكثر تهذيبا‪ .‬والسبيل الوحيد لتفادي هذا الزحف للعبادة‬
‫الباطلة منذ البداية‪ ،‬هو أن تشتمل الكنيسة الحقة إلى جانب شرائعها الوضعية‬
‫التي ال تستطيع االستغناء عنها حاليا على مبدأ يجعل من الدين الخلقي الهدف‬
‫األسمى لجميع املؤسسات الكهنوتية‪.1‬‬
‫ليست الخرافة هي الشكل الوحيد الذي تتخذه العبادة الباطلة؛ فثمة شكل‬
‫آخرأخطرشأنا‪ ،‬وهو الشطح‪ .2‬يمتد معنى اللفظة األملانية «‪ »Schwärmerei‬من‬
‫حلم اليقظة إلى الشطح الصوفي‪ .‬لكن ثمة أمران يستحقان الوقوف عندهما‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬الشطح عملية خاصة باملخيلة تجعل اإلنسان يعتقد أنه يهتك أستار‬
‫ُ‬
‫الحجب ويتصل باهلل‪ .‬وبذلك تنتهك حدود العقل البشري‪ ،‬ألن الغلو الروحاني‬
‫يزعم معرفة هللا إلى حد التمكن من التأثير عليه بالكالم أو بأفعال حسية‪ .‬إن‬

‫‪1- Ibid., AK VI, 175.‬‬


‫‪ :»Schwärmerei« -2‬استعمل كانط هذه الكلمة بطريقة قدحية للداللة على كل موقف من شأنه أن‬
‫يوقع العقل في االختالل واالضطراب والهذيان والغلو‪ .‬وأفضل تعريف للشطح الفكري نجده في نقد‬
‫ملكة الحكم‪« :‬إنه وهم يتمثل في الرغبة في رؤية �شيء ما فيما وراء كل حدود الحساسية‪ ،‬أي الرغبة‬
‫بالع َت ِه‪ ،‬فإن‬
‫في الحلم بمقت�ضى مبادئ (واالستسالم لهذيان العقل) (‪ .)...‬وإذا وجب أن نقارن الحماسة َ‬
‫ن ُْ‬
‫بالهتر (‪ .)...‬ففي الحماسة بماهي تأثر‪ ،‬تسرح املخيلة بال قيد‪ .‬أما في‬ ‫الشطح الفكري ينبغي أن يقار‬
‫الشطح الفكري‪ ،‬بما هو هوى متجذروكامن فينا‪ ،‬فال تخضع لقاعدة‪ .‬والحالة األولى إنما هي عرض عابر‪،‬‬
‫يمكن أن يصيب أحيانا ملكة الفهم األكثرسالمة‪ ،‬والثانية عبارة عن مرض يجعلها مضطربة‪AK ,29 (».‬‬
‫‪ .)V, 275‬استعمل الصوفية كلمة «الشطح» بمعنى اصطالحي للداللة على ما يصدر عن املتصوف من‬
‫كالم يبدو مستغربا وغير معقول للسامعين عندما يصل إلى حالة َو ْج ٍد شديد فاض بقوته وهاج بشدة‬
‫غليانه وغلبته‪ .‬إنه تعبير عن حال السالك إذ يصل إلى درجة الفناء عن نفسه واالتحاد أو الحلول [ملزيد‬
‫من التفاصيل عن شطحات املتصوفة راجع‪ :‬بدوي‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬شطحات الصوفية‪ ،‬الكويت‪ ،‬وكالة‬
‫املطبوعات‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬صص‪.)48 - 9 .‬‬

‫‪197‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الحدود التي تنتهكها هذه املعرفة املزعومة هلل ليست هي حدود ملكة الفهم‪ ،‬وإنما‬
‫حدود الحساسية‪ .‬ذلك أنه ليس لدينا أي حدس عقلي من خالله قد يعطى لنا‬
‫ماوراء ‪ -‬املحسوس في رؤية مباشرة‪ .‬فالشطح إذن انحراف للشعور‪ ،‬مثلما كانت‬
‫امليتافيزيقا الدغمائية ضالال للعقل‪.‬‬
‫وثانيا‪ ،‬يركز كانط في سياق تحليله للمؤسسة الدينية على اآلثار العملية‬
‫للشطح‪ .‬فعندما يصير هذا األخير مؤسساتيا‪ ،‬يتخذ شكل التزمت (‪.)fanatisme‬‬
‫ذلك أن البعض يعتبرون أن هللا اصطفاهم وكلفهم بأداء «الرسالة» وهداية‬
‫الضالين من خلقه‪ ،‬فال يتورعون عن استعباد «الذين ال يعلمون»‪ .‬وفورا يصير‬
‫«العلم» ‪ -‬الزائف للعارف الروحاني رهانا سلطويا‪.‬‬
‫* استبداد رجال الدين‬
‫إن املبدأ الذي تبناه كانط لتقويم الدين بكل صوره‪ ،‬هو‪ :‬ال يحق ألي عقيدة‬
‫أو مؤسسة دينية أو طائفة أن تدعي معرفة هللا وسبل نيل مرضاته‪ .‬وهكذا فإن‬
‫السلطان الكهنوتي الذي يحظى به رجال الدين‪ ،‬ما هو في الحقيقة إال «هيمنة‬
‫مغتصبة يمارسها رجال الدين على العقول من خالل اإليهام بأنهم يمتلكون‬
‫سلطانا كامال على سبل نيل النعمة»‪ .1‬ينبني هذا السلطان دائما على التمييز بين‬
‫ُ‬
‫الخاصة‪ ،‬وهم «العلماء» الذين أعطوا مفاتيح الجنة‪ ،‬والعامة الذين ال يعلمون؛‬
‫وبالتالي ما من سبيل أمامهم غير أن يسمعوا ويطيعوا ويلتزموا بأحكام الشريعة‪،‬‬
‫كما يقررها األوائل‪ .‬والحال أن نقد الالهوت في نقد العقل الخالص قد بين أن‬
‫البشر جميعا يتساوون في الجهل فيما يخص هللا‪ .‬إنه ممتنع امتناعا تاما على أي‬
‫معرفة بشرية‪ ،‬ألنه يتعالى على كل شروط التجربة‪ .‬ليس الدين علما أو معرفة‪،‬‬
‫وهو ال يدعي ذلك؛ وبالتالي‪ ،‬فإن كل ادعاء يتقدم به رجال الدين‪ ،‬وبموجبه‬
‫يقررون جازمين أنهم يعرفون سبل نيل مرضاة هللا‪ ،‬إنما هو ادعاء باطل تحركه‬

‫‪1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 200‬‬

‫‪198‬‬
‫الرغبة في التسلط‪.‬‬
‫وهكذا يتخذ الهوس الديني‪ ،‬الذي ـيركز كانط يف سياق تحليهل‬
‫يدعي هتك أستار الحجب واالتصال للمؤسسة الدينية عىل اآلثار‬
‫باهلل‪ ،‬شكال سياسيا مع تسلط رجال العملية للشطح‪ .‬فعندما يصري‬
‫الكهنوت‪ .‬وفيما يخص املمارسات هذا األخري مؤسساتيا‪ ،‬يتخذ‬
‫الدينية تتخذ العبادة صورة التعلق شكل الزتمت (‪.)fanatisme‬‬
‫باألوثان (‪ ،)fétichisme‬حيث يحل ذلك أن البعض يعتربون أن‬
‫التمسك بقواعد اإليمان وأداء الشعائر اهلل اصطفاهم وكلفهم بأداء‬
‫محل مبادئ الخلقية‪ .‬وبذلك تصير «الرسالة» وهداية الضالني من‬
‫الفضيلة تابعة ألضرب تبجيل الرب خلقه‪ ،‬فال يتورعون عن استعباد‬
‫«الذين ال يعلمون»‬ ‫وتعظيمه؛ ولكن الرب هنا إنما هو وثن‬
‫ال صلة له باهلل كما حددته مقتضيات‬
‫اإليمان العقلي‪ .‬إن حرف التعبد عن‬
‫مسار التخلق‪ ،‬وتحويلة إلى تعلق باألوثان‪ ،‬هو مصير ينتهي إليه تسلط الكهنة‬
‫َ‬
‫ورجال الدين‪ .‬ومع هذا التسلط يصيرالدين راية للحقيقة ُيقاتل كل من ال يلتحق‬
‫بها‪ ،‬وليس موضع إيمان وأمل‪.‬‬
‫يستعمل خطاب الداعين إلى حاكمية هللا دائما شعاراملستبدين‪« :‬الشعب غير‬
‫ناضج بعد للحرية»‪ .1‬بموجب هذا الشعار ُينظرإلى عامة الناس على أنهم قاصرون‬
‫وخطاءون‪ ،‬ولذلك يحتاجون إلى أوصياء يدلونهم على العقائد الصحيحة وأحكام‬
‫الشريعة الحقة‪ .‬العقل البشري‪ ،‬بحسب هذا الطرح‪ ،‬قاصر عن معرفة الحق؛‬
‫وتبعا لذلك ال مجال لحرية املعتقد عندما يتعلق األمر بحقائق اإليمان التي‬
‫قررتها السلطة الكهنوتية‪ .‬إن أكبر�شيء يخشاه الخطاب الثيوقراطي‪ ،‬أي خطاب‬

‫‪1- Ibid., AK VI, 188 (note).‬‬

‫‪199‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫دعاة حاكمية هللا من خالل حاكمية‬
‫إن حرف التعبد عن مسار‬ ‫ممثليه على األرض‪ ،‬هو مبدأ العالنية‬
‫التخلق‪ ،‬وتحويةل إىل تعلق‬ ‫الذي يق�ضي بضرورة الفحص الحر‬
‫للعقائد التي يستند إليها هذا الخطاب‪ .‬باألوثان‪ ،‬هو مصري ينهتي إليه‬
‫ولذلك تتواطأ السلطة السياسية مع تسلط الكهنة ورجال الدين‪.‬‬
‫منزع التسلط الكهنوتي إلبقاء الشعب ومع هذا التسلط يصري الدين‬
‫في وضعية القصور التي تتيح لها تأبيد راية للحقيقة يُقا َتل كل من ال‬
‫يلتحق هبا‪ ،‬وليس موضع‬
‫سيطرتها‪ .‬ذلك أن الرشد فيما يخص‬
‫إيمان وأمل‬
‫الشؤون الدينية‪ ،‬سيحرم االستبداد‬
‫السيا�سي والديني من املصدر األسا�سي‬
‫للمشروعية‪ .‬ولذلك كان رهان كانط على‬
‫الرشد الديني كبيرا‪ ،‬إلى حد أنه ربط نجاح التنوير بتحرر العقول من القصور في‬
‫وضعت النقطة الرئيسية للتنوير‪ ،‬أي لخروج اإلنسان‬ ‫ُ‬ ‫الشؤون الدينية‪« :‬لقد‬
‫من القصور الراجع إليه هو ذاته‪ ،‬في‪ ‬األمور الدينية‪ ‬أساسا‪ ،‬ألن حكامنا ليس لهم‬
‫أية مصلحة في أن يلعبوا دور الوصاية على رعاياهم في مجال الفنون والعلوم؛‬
‫وفوق هذا‪ ،‬فإن ذلك القصور‪ ،‬فضال عن أنه األكثر ضررا‪ ،‬فإنه أيضا األكثر‬
‫مساسا بالكرامة»‪.1‬‬
‫ال ريب في أن الحرية املمنوحة تشكل دائما خطرا‪ ،‬وأن «املحاوالت األولى‬
‫ستكون بالتأكيد فظة‪ ،‬ال بل سترتبط غالبا بحالة فعلية أكثرمشقة وخطورة من‬
‫الحالة التي فيها كان الناس يلتزمون بأوامر الغير»‪ .2‬غير أن الحرية رهان ال يمكن‬
‫ربحه من دون مخاطرة‪ ،‬وما التذرع بعدم نضج الشعب للحرية إال رغبة مستبدة‬
‫‪ -1‬كانط‪ٕ ،‬اجابة عن ٔ‬
‫السوال‪ :‬ما هو التنوير؟‪VIII AK، 41 ،‬؛ ترجمة ٕاسماعيل املصدق‪ ،‬مجلة فكرونقد‪،‬‬
‫العدد ‪ ،1997 ،4‬ص‪( 148 .‬والتشديد منا)‪.‬‬
‫‪2- Ibid., AK VI, 188 (note).‬‬

‫‪200‬‬
‫في إبقاء الناس في وضعية القصور؛ األمرالذي يبرر الحاجة إلى األوصياء واملربين‪.‬‬
‫وكانط يرفض أن يعتبر القساوسة أو امللوك أنفسهم مربين للشعب‪ ،‬إذ في ذلك‬
‫نسيان لكونهم أوال بشر‪ .‬إن تربية النوع البشري تتحقق في مجرى التاريخ عبر‬
‫املحاوالت املتكررة والجزئية من أجل التحسن‪ .‬ال يمكن الوصول أبدا إلى التشريع‬
‫الذاتي عن طريق التبعية التشريعية (أي بالخضوع لسيد له علم أكثر باستعمال‬
‫الحرية)‪ ،‬بل عن طريق متوالية من املحاوالت التي هي بمثابة مراحل لتحرر يسير‬
‫قدما إلى األمام‪.‬‬
‫موجها للتدين الصحيح‬ ‫* الخلقية مبدأ ّ‬
‫ِ‬
‫يضع كانط املبدأ الخلقي للدين مقابال للهوس الديني وتقلباته السياسية‪.‬‬
‫ويعبر هذا املبدأ عن نفسه بصورة سلبية كما يلي‪« :‬كل ما يعتقد البشر أنهم‬
‫يستطيعون فعله‪ ،‬بمعزل عن السلوك الحسن‪ ،‬من أجل نيل مرضاة هللا‪ ،‬إنما هو‬
‫هوس ديني بحت وعبادة باطلة هلل‪ 1».‬يتعلق األمر هنا بمبدأ حاصر يضع الحدود‬
‫ملمارسة دينية صحيحة‪ :‬ما يفيض عن السلوك الحسن والنية الخلقية في خدمة‬
‫هللا‪ ،‬يالمس الخرافة؛ وفضال عن كونه غيرمجد‪ ،‬يبدو صعيدا زلقا‪ .‬وهكذا يو�صي‬
‫كانط بضرب من اقتصاد الوسائل في اإليمان‪ .‬فما دامت الفضيلة تكفي لتعظيم‬
‫ُ‬
‫هللا (اإلله الخلقي) فإن مظاهراإليمان األخرى (من تبتل وأضاحي وشعائر) ترفض‬
‫بوصفها زيادات سيئة‪ ،‬إن هي سعت إلى أن تحل محل االنصياع للواجب الخلقي‬
‫يقوم كانط التقوى وسبل النعمة‬ ‫باعتباره فريضة إلهية‪ .‬انطالقا من هذا املنظور ّ‬
‫اإللهية‪.‬‬
‫• التقوى‬
‫ال يكون التدين صحيحا مالم يحافظ على صلة معينة بالواجب‪ ،‬وما لم يجعل‬
‫من الفضيلة غاية قصوى للفعل‪ .‬وفقا لهذا املبدأ ال تكون التقوى‪ ،‬بصفتها إذعانا‬

‫‪1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 170.‬‬

‫‪201‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫لألمر اإللهي‪ ،‬إال وسيلة لتوطيد العزيمة على أن يجعل املرء من نفسه إنسانا‬
‫أفضل من الناحية الخلقية؛ فهي إذن ليست في ذاتها «الغاية األخيرة للجهد‬
‫الخلقي»‪ .1‬ولفهم هذا االستتباع للتقوى إلى الفضيلة‪ ،‬يجب تذكر دور الدين في‬
‫مجموع النسق‪ .‬فالدين يشغل املوضع املخصص لألمل‪ ،‬وليس املوضع املحدد‬
‫للواجب‪ .‬واألمل الديني والتقوى التي تسمه من الناحية الذاتية‪ ،‬مشروطان‬
‫بمعرفة واجباتنا؛ ومعرفة واجباتنا أمريحصل بالعقل وحده‪ ،‬بمعزل عن مشكلة‬
‫وجود هللا‪ .‬إن صلتنا باهلل ال يجب أن تكون صلة خوف‪ ،‬وال أن تكون صلة‬
‫محبة‪ ،‬ألن هاتين السمتين تشبيهيتان‪ .‬وكانط يضع مقابال للخوف من هللا احترام‬
‫املاورائي الذي هو مرتبط ارتباطا وطيدا بالوعي بواجبنا‪ .‬والتقوى بهذا املعنى ال‬
‫تتجلى عبر الخضوع إلله قدير يفعل ما يشاء‪ ،‬وال يمكن أن تكون بديال يغني عن‬
‫ُ‬
‫الفضيلة‪ ،‬وإنما هي اكتمال لهذه‪ ،‬بحيث إنها ت َت ّ ِو ُجها « باألمل في النجاح النهائي‬
‫‪2‬‬
‫لجميع الغايات الحسنة التي نضعها نصب أعيننا‪».‬‬
‫لو كانت التقوى مجرد استسالم لسلطان كائن ممتنع على الفهم‪ ،‬وبالتالي‬
‫موجهة ومحدودة دائما بمراعاة الواجب‪ ،‬لكنا عندئذ أمام‬ ‫هدد‪ ،‬وكانت غير َّ‬‫ُم ّ‬
‫ِ‬
‫هللا وكأننا أمام لغز ليس بيدنا ما نفعله أمامه غير الركوع خانعين‪ .‬إن التقوى ال‬
‫تكمن في تعذيب املرء لنفسه مثلما يفعل الخطاء النادم‪ ،‬بل في العزيمة على فعل‬
‫األفضل في املستقبل‪ .‬وهذه العزيمة التي يحركها التقدم نحو الخير‪« ،‬تنتج حالة‬
‫ذهنية مرحة»‪ 3‬تجعل اإلنسان واثقا من حظوظ نجاحه في مساعيه الخلقية‪.‬‬
‫ولكي يكون اإليمان سعيدا‪ ،‬يجب أوال أن يكون حرا‪ ،‬أي اختارته ذات واعية‬
‫بمصيرها الخلقي‪ .‬فليس الدين إذن مستبعدا من الحرية‪ ،‬بل إنه يقتضيها كشرط‬
‫له‪ ،‬طاملا أن اإلنسان ال يعتبرحقا إال ما يقبل به ويعتنقه بحرية‪.‬‬
‫‪1-‬‬ ‫‪Ibid., AK VI, 183.‬‬
‫‪2- Ibid., AK VI, 185‬‬
‫‪3- Ibid., AK VI, 24 (note).‬‬

‫‪202‬‬
‫• وسائل النعمة‬
‫رف ُض احلرية لصالح النعمة‬ ‫ْ‬ ‫تدل «النعمة» في التراث املسيحي على‬
‫مدد فائق للطبيعة يمنحه هللا مجانا يفيض إىل نيف كل مسؤولية‬
‫إنسانية مادامت النعمة‬ ‫ّ‬
‫ملخلوقه كي ُي َـم ِكنه من أن يوجه فعله‬
‫عطاء من اهلل ال يتوقف‬ ‫نحو الخير‪ .‬فالخطيئة التي ارتكبها الكل‬
‫في آدم وفقا لهذا التراث نفسه‪ ،‬أورثت عىل استحقاق من وهبت له‬
‫اإلنسان عجزا مزمنا عن أن يتصرف‬
‫تصرفا خلقيا من تلقاء نفسه‪ .‬وتبعا‬
‫لذلك‪ ،‬فإن النعمة اإللهية هي القوة الوحيدة القادرة على ضمان اهتدائه إلى‬
‫الخير‪ .‬إنها حسب الرسول بولس عطاء من الرب الذي يختارمن يشاء من الناس‬
‫فيخصهم بنعمته وهدايته‪ ،‬وتبعا لذلك ال صلة لها باالستحقاقات الفردية‪ .‬تبدو‬
‫النعمة بهذا املعنى متعارضة مع الحرية التي هي قدرة إنسانية بحتة‪ ،‬ال بل إن‬
‫سبيلها أفضل‪ ،‬طاملا أن هللا يسدد خطوات من وهبهم إياها‪ ،‬بينما تظل الحرية‬
‫اإلنسانية معرضة دائما لغواية املبدأ الشرير‪ .‬لكن الفلسفة الكانطية ال يمكن‬
‫أن تر�ضى بهذا التعارض الذي يسلب من حرية البشركل جدارة‪ ،‬ويجعل األخالق‬
‫ْ‬
‫فرف ُ‬
‫ض الحرية لصالح النعمة يف�ضي إلى نفي كل‬ ‫متوقفة على تدخل إلهي‪.‬‬
‫مسؤولية إنسانية مادامت النعمة عطاء من هللا ال يتوقف على استحقاق من‬
‫ّ ً‬
‫خيرا‬ ‫وهبت له‪ .‬والحال أن «ما يكون عليه اإلنسان أو يجب أن يكون عليه خلقيا‪،‬‬
‫أو شريرا‪ ،‬يجب أن يفعله أو أن يكون قد فعله من تلقاء ذاته‪ ...‬فمن دون ذلك‬
‫ال يمكن أن يسند إليه‪ ،‬وال يمكن تبعا لذلك أن يكون خيرا أو شريرا من الناحية‬
‫الخلقية‪1 ».‬إن الحرية إذن هي شرط الخلقية‪ :‬فلكي ُيعزى فعل ما إلى فاعله‪ ،‬يجب‬
‫أن يكون هذا قد اختاره بحرية‪ .‬ال يمكن القبول بتبعية الحرية لنعمة هللا‪ ،‬وإال‬

‫‪1- . Ibid., AK VI, 44‬‬

‫‪203‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫جعلنا الخلقية متوقفة على التدخل‬
‫اإللهي‪ ،‬فترتفع بذلك مسؤولية اإلنسان‪ .‬كانط يمزي دائما بني األخالق‬
‫فهل يلزم عن هذا املوقف رفض النعمة؟ والتقنية اليت تتمثل يف توظيف‬
‫كال ! ألن العقل البشري ال يستطيع بعض الوسائل من أجل غاية‬
‫أن ُينكر إمكان النعمة مثلما ال يستطيع خاصة‪ ،‬بينما الفعل عىل نحو‬
‫خليق‪ ،‬يعين الفعل بطريقة‬
‫أن يثبتها‪ .‬إنها تشترك مع الحرية في هذه‬
‫مزنهة عن املنفعة‪ ،‬دونما‬
‫الخصيصة‪ ،‬ألنهما معا قدرتان تتعلقان‬
‫اهتمام مبارش بنجاعة الفعل‬
‫بما وراء املحسوس‪ ،‬وتتجاوزان فلك‬
‫معرفتنا‪ .‬والفارق بينهما يكمن في أننا في‬
‫حالة الحرية نعي القانون الخلقي الذي يدلنا بطريقة غير مباشر على أننا أحرار؛‬
‫بينما ال يوجد أي قانون يعطينا فكرة عما ستكون عليه النعمة اإللهية‪ .‬لذلك‬
‫يتعين علينا أن نمنح الصدارة للحرية على النعمة‪ ،‬ألنها وحدها تضمن إمكان‬
‫الفعل‪ .‬ال ينبغي لنا في مصارعتنا للمبدأ الشرير‪ ،‬أن نبقى مكتوفي األيدي وننتظر‬
‫العون اإللهي‪ ،‬بل يجب علينا ننهض إلى الفعل معتمدين على قوانا الخاصة‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬إن التعويل على فاعلية الحرية مسألة تتعلق بالعمل‪ ،‬بينما انتظار‬
‫العون املاورائي مسألة تتعلق باألمل‪ .‬إن املشكلة هنا ليست نظرية‪ ،‬بل هي مهمة‬
‫عملية‪ :‬اعمل ما في وسعك لتكون جديرا بمعونة هللا املحتملة‪ ،‬ودع عنك السؤال‬
‫عن ماهية النعمة‪ .‬إذا كانت الطريقة الوحيدة لنيل مرضاة هللا هي الفعل الخلقي‪،‬‬
‫فإن أي وسيلة أخرى هي في أحسن األحوال عديمة الجدوى‪ ،‬وفي أسوئها ُمرائية‪ .‬ال‬
‫بل إن معنى «الوسيلة» ذاته يبدو متناقضا مع الهدف املنشود الذي هو تحصيل‬
‫القوة على الفعل على نحو حسن‪ .‬ذلك أن كانط يميز دائما بين األخالق والتقنية‬
‫التي تتمثل في توظيف بعض الوسائل من أجل غاية خاصة‪ ،‬بينما الفعل على‬
‫نحو خلقي‪ ،‬يعني الفعل بطريقة منزهة عن املنفعة‪ ،‬دونما اهتمام مباشربنجاعة‬

‫‪204‬‬
‫الفعل‪ .‬وبناء على ذلك ال يمكن نيل النعمة من خالل سلسلة من اإلجراءات‬
‫التقنية (الحركات الطقسية وترديد األذكار‪ )...‬دونما اجتهاد في التحرر من سلطان‬
‫املبدأ الشرير‪ .‬والحال أن الطريقة الوحيدة لألمل في نعمة هللا تكمن في الفعل‬
‫على نحو خلقي؛ والخلقية ليست «وسيلة»‪ ،‬وإنما هي «غاية في ذاتها»‪ ،‬أي فريضة‬
‫المشروطة يجب االنصياع لها في كل ظرف‪ .‬فال يمكن إذن اعتبارالنعمة «فضال»‬
‫قد يهبه هللا ملن يظهرون إيمانهم عن طريق هذه العبادة أو تلك‪ .‬إن نقد كانط‬
‫لوسائل النعمة‪ ،‬أي ملختلف صور العبادات واملمارسات التي تعتبرها الكنيسة‬
‫غير قابلة للفصل عن االعتقاد الديني‪ ،‬وترى أن التقيد بها ومراعاتها أمرا كافيا‬
‫لترضية هللا ونيل نعمته‪ ،‬ال يعني أنه يرفضها رفضا مطلقا‪ .‬إنه يعني فقط أن‬
‫القيام بالشعائرالدينية ال قيمة له ما لم يفض إلى التحسن الخلقي‪ .‬فال يكفي أن‬
‫يتردد املرء على دور العبادة لكي يكون متدينا‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬ال قيمة ألي شعيرة‬
‫تعبدية ال يوجهها العزم على نيل مرضاة هللا من خالل السلوك الحسن‪.‬‬
‫* الضميرقلعة اإليمان الصادق‬
‫قلنا إن تبعية اإليمان للمبدأ الخلقي أمر ضروري‪ .‬لكن‪ ،‬ينبغي أن نفهم كيف‬
‫لذات ما أن تميزبين ما ينتمي إلى االعتقاد الحق وما ينتمي إلى الهوس‬
‫يمكن عينيا ٍ‬
‫الديني‪ .‬إن اإليمان دائما مسألة تتعلق بالثقة‪ .‬فما هو إذن املعيار الذاتي الذي‬
‫يسمح لنا بأن نمنح ثقتنا لبند من بنود اإليمان؟‬
‫ال بد من مبدأ‪ ،‬أو من خيط مرشد لتقويم العقائد الدينية‪ ،‬والبد أن يكون مثل‬
‫هذا املبدأ مأمونا تماما‪ ،‬وأن يبين لنا بوضوح حدود ما يمكننا أن نعتقده‪ ،‬دون‬
‫إنكار املبدأ الخلقي للدين‪ .‬يسمي كانط هذا املبدأ ب ـ «الضمير»‪ ،‬والضمير عبارة‬
‫عن «وعي هو بالنسبة إلى ذاته واجب»‪ .1‬ينبغي أوال أن نميز بين الضمير والعقل‬
‫العملي‪ .‬فالضمير‪ ،‬بخالف العقل العملي‪« ،‬ال يحكم على األفعال باعتبارها حاالت‬

‫‪1- Ibid., AK VI, 185.‬‬

‫‪205‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫تقع تحت طائلة القانون»‪ .1‬إنه ال ينظرفي األفعال لكي يحدد هل هي موافقة أم ال‬
‫للقانون الخلقي‪ ،‬بل هوباألحرى «ملكة حكم خلقية تحاكم نفسها بنفسها»‪ .2‬فهو‬
‫ُ‬
‫إذن ملكة داخلية ليس لها صلة مباشرة بموضوعية الفعل‪ ،‬بل هي ترجع الذات‬
‫إلى نفسها فتحثها على تقويم اتجاه نيتها‪ .‬ولذلك تجعل من اإلنسان شاهدا على‬
‫ُ‬
‫فعله الخاص‪ .‬إن الضميروعي بمحكمة داخلية تستدعى الذات الفاعلة دائما إلى‬
‫املثول أمامها‪ .‬والقا�ضي األعلى لهذه املحكمة ما هو إال هللا نفسه‪ ،‬من حيث إنه‬
‫يسبرغور النيات‪ ،‬ويرمزإلى موافقة أفعالنا لألمرالخلقي الذي يمليه العقل‪.‬‬
‫ما يقوله كانط عن الضمير يذكرنا بالغريزة اإللهية التي مجدها روسو والتي‬
‫تذكر اإلنسان بمصيره املاورائي‪ .‬إنه مرآة داخلية تجعل اإلنسان يشاهد ذاته‪،‬‬
‫قوم أفعاله كما لوأن هللا نفسه هوالذي يقومها‪ .‬غيرأن الضميرال يحدد الفعل‪،‬‬ ‫ُ ّ‬
‫وي ِ‬
‫ألن ذلك دور حصري للعقل الذي يحكم بأن هذا الفعل بوجه عام هوفعل حسن‬
‫ْ‬
‫أو قبيح‪ ،‬وتبعا لذلك يأمر بما يجب أن ُينجز‪ .‬إن الضمير هو باألحرى ُحكم خلقي‬
‫ّ‬
‫ُم َتفك ٌر من خالله تعود الذات إلى نفسها عودتها إلى األصل الحرلفعلها‪ .3‬في الحكم‬
‫حدد موضوعا‪ ،‬بل أحيل على حالة ذهنية‪ ،‬أي على‬ ‫املتفكر‪« :‬هذا جميل» ال ُأ ّ‬
‫ِ‬
‫التناغم بين املخيلة والفهم املميز للتجربة الجمالية‪ .‬وعلى الشاكلة نفسها‪ ،‬فإن‬

‫‪1- Ibid., AK VI, 186.‬‬


‫‪2- Ibidem‬‬
‫‪ -3‬تقوم ملكة الحكم عموما بإدراج الخاص أو الجزئي (حدس) تحت الكلي (مفهوم‪ ،‬قاعدة‪ ،‬مبدأ‪،‬‬
‫قانون)‪ .‬وقيامها بهذا الدور يتطلب ثالثة عناصر‪ .1 :‬املشروط (الحدس)‪ ،‬و‪ .2‬شرطه (املفهوم)‪ ،‬و‪.3‬‬
‫حدا وسطا هو املعيار الذي من خالله يمكن ربط األول بالثاني‪ .‬يميز كانط بين حكم ّ‬
‫محدد (‪jugement‬‬‫ِ‬
‫‪ )déterminant‬وحكم متفكر (‪ :)jugement réfléchissant‬األول حكم معرفي‪ ،‬وفيه يكون الكلي معطى‪،‬‬
‫معيار تطبيقه‪ :‬فمثال مقولة السببية (الشرط) تنطبق على الظاهرات‬ ‫قاعدة أو ِ‬
‫ِ‬ ‫وينطوي بما هوشرط على‬
‫(املشروط)‪ ،‬ألنها تنطوي على قاعدة إدراج الثاني تحت األول‪ ،‬وهي التعاقب الزماني املمتنع على االنعكاس‬
‫ٌ‬ ‫(مبدأ السببية)‪ .‬في مجال املعرفة النظرية تكون ملكة الحكم ّ‬
‫محددة ألنها مالكة قبليا للكلي (املقوالت)‬
‫ِ‬
‫ولقواعد تطبيقه على الخاص (املبادئ)‪ .‬أما في حالة الحكم املتفكر‪ ،‬فإن األمرال يتعلق بتطبيق مفهوم‪،‬‬
‫بل باكتشاف مفهوم‪ .‬ولذلك يجب أن تستمد ملكة الحكم من ذاتها مبادئ تفكرها‪ .‬إن املشكلة هنا‬
‫معاكسة مللكة الحكم املحددة‪ :‬منح الصورة (املتسمة بالتنوع البالغ) مفهوما‬

‫‪206‬‬
‫َ َ ُّ‬
‫الضمير تفك ٌر لذات تتساءل عن عدالة‬
‫ما يقوله كانط عن‬ ‫فعلها‪ :‬أأنا متيقن من أن هذا الفعل‬
‫الذي أود القيام به عادل؟ إننا هنا في الضمري يذكرنا بالغريزة اإللهية‬
‫وحكم‪ ،‬وليس اليت مجدها روسو واليت تذكر‬ ‫ٍ‬ ‫فعل‬
‫اإلطار الذاتي لفردية ٍ‬
‫في اإلطارالكلي للعقل‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬إن اإلنسان بمصريه املاورايئ‪ .‬إنه‬
‫الضمير هو الذي يقرر أنني متيقن أو غير مرآة داخلية تجعل اإلنسان‬
‫متيقن من أن هذا الفعل الذي أود أن يشاهد ذاته‪ ،‬ويُق ِّوم أفعاله كما‬
‫لو أن اهلل نفسه هو‬ ‫أقوم به هو حسن أو قبيح‪ .‬ليس ضروريا‬
‫الذي يقومها‬
‫أن أعلم قيمة كل األفعال املمكنة‪ ،‬فما‬
‫علي أن أعلمه إنما هو قيمة األفعال التي‬
‫أعتزم القيام بها‪ .‬وهذه هي املسلمة التي‬
‫يستند إليها في اتخاذ القرار‪ :‬علي أن ال أقوم بفعل ما لم أتيقن من أنه حسن؛ وفي‬
‫حالة الشك علي أن أمتنع عن القيام به‪ .‬يجب نبذ مبدأ املذهب االحتمالي الذي‬
‫يذهب إلى أن مجرد الزعم بأن فعال ما حسن يجيزالقيام به‪.‬‬
‫إن مثال املحقق ي�ضيء وضعية الضمير‪ .‬يحلل كانط موقف كاهن مكلف‬
‫من لدن محكمة التفتيش بالتحقيق مع مواطن صالح متهم بالهرطقة‪ ،‬وحياته‬
‫أو موته بيده‪ .‬تكمن أصالة هذا التحليل في عدم إدانة التفتيش باسم مبادئ‬
‫إنسانية مجردة‪ ،‬بل في مساءلة ضمير املحقق نفسه‪ .‬ال شك في أن هذا األخير‬
‫يستطيع أن يستمسك بسلطان الكتاب‪ ،‬وخصوصا بقول املسيح عن املعاندين‪:‬‬
‫«أرغموهم على الدخول لكي يمتلئ بيتي‪ 1».‬هذا األمرإذا ما أ�سيء تأويله يبدو مثيرا‬
‫للفزع‪ .‬فاملحقق سيستعمل هذا الكالم لكي يبرر سلطته‪ ،‬فحيثما يكون لألمر‬
‫صلة بالخالص األبدي‪ ،‬تكون حياة املهرطق أو موته أمرا ال أهمية له‪ .‬لكن‪ ،‬هل‬

‫‪ٕ -1‬انجيل لوقا‪ ،‬اإلصحاح ‪ ،14‬اآلية ‪.23‬‬

‫‪207‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫هذا املحقق واثق من أنه يحق له أن‬
‫يحاكم إنسانا بدال من هللا؟ أهو متيقن ليس رضوريا أن أعلم قيمة كل‬
‫من عدالة فعله؟ هذه األسئلة تتوجه إلى األفعال املمكنة‪ ،‬فما عيل أن‬
‫ضميره وتثير فيه شكا مفيدا فيما يخص أعلمه إنما هو قيمة األفعال‬
‫مشروعية إدانة أحدهم بسبب قناعاته اليت أعزتم القيام هبا‪ .‬وهذه يه‬
‫الدينية‪ .‬إن كانط يدعو بذلك املحقق إلى املسلمة اليت يستند إلهيا يف‬
‫اتخاذ القرار‬ ‫تجربة تفكير‪« :‬هل ستكون لديك الجرأة‬
‫في حضرة من يسبر غور القلوب‪ ،‬على أن‬
‫تؤكد حقيقة هذه العقائد مقابل تخليك‬
‫عن كل ما تعتبره ثمينا ومقدسا؟»‪ 1‬يتعلق األمر هنا بإلزام املحقق بأن يواجه هللا‬
‫بوصفه هو القا�ضي الشرعي‪ .‬فالضمير إذن هو أوال وعي بعدم يقين معتقداتنا‪،‬‬
‫وعن طريقه يدعى اإليمان الدغمائي والواثق من نفسه إلى مزيد من التواضع‪ .‬إن‬
‫األمريتعلق ب�شيء مختلف عن «التسامح»‪ ،‬وهو االعتراف الفعلي بجهلنا بمقاصد‬
‫هللا‪.‬‬
‫خاتمة‬
‫لم يبق لنا في ختام هذه املقالة إال أن نجمع حصيلة ما يمكن إدراجه تحت‬
‫يافطة «املعلوم من الدين بالعقل وحده»‪:‬‬
‫• ال يستطيع العقل البشري أن يقدم برهانا قاطعا على صحة أي معتقد من‬
‫املعتقدات الدينية من قبيل وجود هللا وصفاته‪ ،‬وخلود النفس‪ ،‬وقيام حياة‬
‫أخرى ُيحاسب فيها الناس على ما عملته أيديهم‪ ،‬ومخاطبة هللا للبشر عن طريق‬
‫الوحي‪ .‬فكل هذه األمور ماورائيات أو غيبيات ال قبل للعقل البشري بإدراك‬
‫حقيقتها‪ ،‬ال عن طريق الفهم وال عن طريق الحس‪ .‬وكل إثبات أو نفي لها إنما هو‬

‫‪1-‬‬ ‫‪KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 189.‬‬

‫‪208‬‬
‫ضرب في عماية‪ .‬يلزم عن ذلك أن معتقدات الدين مسائل تتعلق باإليمان وليس‬
‫باملعرفة‪ ،‬وأنه ال حق ألحد من البشرأن ُيكره اآلخرين على اعتناق عقيدة معينة‪،‬‬
‫فـ «ال إكراه في الدين»‪ ،1‬ألن اإليمان ال يكون صادقا إال إذا كان حرا‪َ ﴿ .‬وقُل ۡ َ‬
‫ٱل ُّق‬ ‫ِ‬
‫َ ٓ َۡ ۡ ُ‬ ‫َ ٓ َۡ ۡ‬ ‫َّ ّ ُ َ‬
‫ك ۡمۖ ف َمن شا َء فل ُيؤمِن َو َمن شا َء فل َيكف ۡر ۚ﴾‪.2‬‬‫مِن رب ِ‬
‫• لكن حاجة العقل العملي ومصلحته (سؤال األمل) تدعو إلى التسليم بوجود‬
‫هللا وبقدرته على سبر النوايا وتحقيق العدل‪ ،‬وخلود النفس‪ ،‬وقيام حياة أخرى‬
‫ُيجازى فيها الناس على قدر أعمالهم‪ .‬ال تلزم عن هذا الوضع نتائج شكوكية فيما‬
‫يخص الدين أو األخالق‪ ،‬ال بل إنه ما كان للتدين والتخلق أن يكتسبا أي قيمة‬
‫لو كانت عقائد الدين قابلة للبرهنة‪ .‬إنه ملن حسن حظ اإلنسان أن كل ما يتعلق‬
‫باهلل يدخل في باب اإليمان ال في باب املعرفة املوضوعية‪ .‬فلو فرضنا أنه يمكننا‬
‫حصل معرفة بوجود هللا عن طريق التجربة أو عن طريق أي منهج آخر‪،‬‬ ‫أن ُن ّ‬
‫بحيث نتيقن من هذا األمر من خالل إدراك ح�سي الندثرت األخالق بكاملها‪ .‬ذلك‬
‫أن اإلنسان سيتمثل هللا على نحو مباشر بوصفه يثيب ويعاقب عند كل فعل‪،‬‬
‫فال يقدم على أي فعل مخالف للقانون الخلقي‪ .‬ومثل هذه الصورة ستنطبع‬
‫في روعه على نحو غير إرادي؛ وهكذا تختفي البواعث الخلقية التي تجعل املرء‬
‫يؤدي الفعل احتراما للقانون لتحل محلها حوافزحسية تتمثل في األمل في الثواب‬
‫والخوف من العقاب‪.3‬‬
‫• تنبع الحاجة إلى الدين من كون اإلنسان ليس مجرد كائن عاقل‪ ،‬بل هو‬
‫فضال عن ذلك كائن ذو حاجات حسية ال يمكنه أن يتنكر لها‪ .‬ولذلك ال تستطيع‬
‫األخالق التي تطالب بالقيام باألفعال احتراما للقانون من غيررجاء في جلب منفعة‬
‫‪ -1‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.256‬‬
‫‪ -2‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪.29‬‬
‫‪3- KANT, Leçons sur la théorie philosophique de la religion, trad. Gérard Nicolas,‬‬
‫‪(Le Livre de Poche), Paris, Librairie Générale Française, 1993, pp. 159 - 160. KANT,‬‬
‫‪Métaphysique des mœurs, AK VI, 487 .‬‬

‫‪209‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫أو دفع مضرة‪ ،‬أن تعد بأي �شيء من شأنه أن يجنب اإلنسان السقوط في هاوية‬
‫اليأس والقنوط‪ .‬وهذا هو دور الدين الذي يتوج الخلقية ويمنحها معنى يترتب‬
‫على تبعية ما هو ديني إلى ما هو خلقي‪ ،‬أن التدين الحق يتمثل في تطهير النيات‪،‬‬
‫والعزم على االلتزام بالواجبات الخلقية باعتبارها فرائض إلهية‪.‬‬
‫• ثم إن اإلنسان فضال عما سبق‪ ،‬ال يستطيع أن يستوعب األفكار العقلية‬
‫البحتة ما لم ُيلبسها ثوبا حسيا وماديا‪ .‬ومن هنا يمكن أن نفهم احتواء مختلف‬
‫الديانات على طقوس وشعائر (حركات تنجز‪ ،‬أو كلمات تقال‪ ،‬أو قرابين‬
‫وأضاحي‪ )...‬تقرب املعقول وتشخصه‪ .‬يترتب على ذلك أن املحسوس ال قيمة له‬
‫في ذاته‪ ،‬وأن مشروعيته تكمن في أن يكون أداة تنبه إلى املعاني املعقولة‪ ،‬ووسيلة‬
‫لتوطين النفس على سلك سبيل الفضيلة‪ .‬وهكذا‪ ،‬ليس للممارسات التعبدية‬
‫من قيمة في حد ذاتها‪ ،‬وإنما هي وسائل تتمثل مشروعيتها في أن تكون سبال‬
‫للتخليق‪ .‬فإذا أصبح االلتزام بها غاية في حد ذاته‪ ،‬تحولت إلى عبادة باطلة ونسيج‬
‫من الخرافات واألمراض الدينية من تزمت وتعصب وتكفير وما شاكل ذلك من‬
‫آفات تجعل الدين يتحول من ينبوع األمل والرجاء إلى فتيل للعنف واالنغالق‬
‫والتكبرواالستعالء والتجبر‪.‬‬
‫• ال يمكن تحقيق األمر الخلقي الذي يق�ضي بإقامة مجتمع أخالقي تسود‬
‫فيه قوانين الفضيلة من دون مؤسسة دينية‪ .‬فالدور املنوط باملؤسسة الدينية‬
‫إذن هو التربية الخلقية أساسا؛ األمر الذي يترتب عنه أن كل توظيف آلليات‬
‫اإلكراه يتعارض تعارضا تاما مع هذا الدور النبيل ويف�ضي إلى الخلط بين الدين‬
‫والسياسة‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫الئحة املصادرواملراجع‬

‫مصادرالبحث املترجمة إلى العربية‬


‫ مجلة‬،‫ ترجمة إسماعيل املصدق‬،‫ ما هو التنوير؟‬:‫ إجابة عن السؤال‬،‫• كانط‬
.7991 ،4 ‫ العدد‬،‫فكرونقد‬
‫ محمد‬:‫ ترجمة‬،‫ فكرة عن تاريخ كوني من زاوية نظر املواطنة العاملية‬،‫• كانط‬
"‫ املوقع اإللكتروني لـ"مؤمنون بال حدود‬،5102 ‫ فبراير‬40 ،‫منادي إدري�سي‬
.)moc.nuonimom.www//:ptth(
،‫ بيروت‬،‫ فتحي املسكيني‬،‫ ترجمة‬،‫ الدين في حدود مجرد العقل‬،‫• كانط‬
.2012 ،‫جداول‬

‫مصادرالبحث املترجمة إلى الفرنسية مرتبة بحسب تاريخ نشرها‬


• KANT(1781), Critique de la raison pure, trad. Alain Renaut, Paris,
GF-Flammarion, 2001.
• KANT (1788), Critique de la raison pratique, trad. Jean-Pierre
Fussler, Paris, GF-Flammarion, 2003.
• KANT (1790), Critique de la faculté de juger, trad. Alain Renaut,
Paris, GF-Flammarion, 2000.
• KANT (1793), La religion dans les limites de la seule raison, trad.
Alain Renaut, Paris, Puf, 2016.
• Kant, La religion dans les limites de la simple raison (Quatrième
Partie), trad. Marc Schweyer, Analyse de Michaël Fœssel, Paris, Hatier,
2000 (coll. « Les Classiques Hatier de la Philosophie »).
• KANT (1795), Vers la paix perpétuelle, in, KANT, Vers la paix

211 ‫ م‬2020 ‫ يناير‬- ‫ ه‬1441 ‫ جمادى األولى‬3 ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد‬
‫‪perpétuelle ; Que signifie s’orienter dans la pensée ?; Qu’est-ce que les‬‬
‫‪lumières ?, trad. Jean-François Poirier et Françoise Proust , Paris, GF-‬‬
‫‪Flammarion, 2006.‬‬
‫‪• KANT, (1817), Leçons sur la théorie philosophique de la religion,‬‬
‫‪trad. Gérard Nicolas, (Le Livre de Poche), Paris, Librairie Générale‬‬
‫‪Française, 1993.‬‬

‫مراجع بالعربية‬
‫• باعكريم‪ ،‬عبد املجيد‪« ،‬في األصول املنهجية ملفهوم الذات‪ :‬حكاية "حي‬
‫بن يقظان" البن طفيل»‪ ،‬ضمن ملف التأهيل الجامعي‪ ،‬نوقش بكلية اآلداب‬
‫والعلوم اإلنسانية‪ ،‬ظهراملهراز‪ ،‬فاس‪ ،‬تحت عنوان‪ :‬نحن وقيم الحداثة؟‪ ،‬بتاريخ‬
‫‪ 05‬يناير ‪.2012‬‬
‫• بدوي‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬شطحات الصوفية‪ ،‬الكويت‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬بدون‬
‫تاريخ‪.‬‬
‫• زيدان‪ ،‬يوسف‪ ،‬الالهوت العربي وأصول العنف الديني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬
‫الشروق‪ ،‬الطبعة ‪.2012 ،6‬‬
‫• روسو‪ ،‬جون جاك‪ ،‬دين الفطرة‪ ،‬أو عقيدة القس من جبل السافوا‪ ،‬ترجمة‬
‫عبد هللا العروي‪ ،‬الدارالبيضاء‪ ،‬املركزالثقافي العربي‪.2012 ،‬‬

‫‪212‬‬
‫الدين بني األخالق وامليتافزييقا‬
‫عند شاليرماخر‬
‫د‪ .‬محمد بن املقدم‬

‫تقديم‪:‬‬
‫ظهرت فلسفة الدين كمادة دراسية في العشرين سنة األخيرة للقرن الثامن‬
‫عشر‪ ،‬واحتلت مكانة بارزة بين التخصصات الفلسفية‪ .‬ولكن االعتراف‬
‫املؤسساتي‪ ،‬لم يوازه وضوح في موقعها االبستمولوجي‪ ،‬بحيث ظلت معاملها غير‬
‫واضحة بشكل دقيق‪ .‬وفي أحيان كثيرة‪ ،‬تتداخل أضالعها مع مجالين قريبين‬
‫منها‪ ،‬هما‪ :‬الثيولوجيا الفلسفية والفلسفة الدينية‪ .‬والثيولوجيا الفلسفية‬
‫مبحث فلسفي قديم قدم الفلسفة ذاتها‪ .1‬وكانت دوما‪ ،‬تحاول اتخاذ مسافة عن‬
‫املمارسات واملعتقدات الدينية الشعبية املوجودة‪ ،‬اعتمادا على مسار محض‬
‫عقلي يروم الفهم واالنسجام والتطابق مع هللا أو األلوهية‪ .‬فرغم علمنة صورة‬

‫‪ - 1‬استطاعت الثيولوجيا الفلسفية‪ ،‬أن تسيطرعلى الفكراألوربي إلى حدود القرن الرابع عشر‪ .‬فكانت‬
‫هي روح سيادة الكنيسة‪ ،‬لكن في القرن الخامس عشر والسادس عشر« تم هدم كل النسق الثيولوجي‬
‫وامليتافيزيقي املترابط مع النظام االجتماعي الديني والفيودالي للعصر الوسيط‪ .‬هدمته الحركة اإلنسية‬
‫واإلصالحية دون أن يسفر ذلك عن توحيد املجتمع سياسيا وال دينيا‪ ،‬بل ترتب عن ذلك تمزق أوربا إلى‬
‫فرق وطوائف وحروب دينية »‪ .‬وكرد فعل على حالة التمزق والتشتت الطائفي واالجتماعي‪ ،‬للقرن السابع‬
‫قدم مبادئ كونية غايتها إخراج املجتمع من محنته‪ .‬وقد تجلى حضور هذا‬ ‫عشر‪ ،‬نشأ نظام‪/‬نسق علمي‪ّ ،‬‬
‫النسق العلمي في كل مجاالت الحياة‪ :‬الحق الطبيعي‪ ،‬األخالق‪ ،‬الفن‪ ،‬االقتصاد‪ ،‬الثيولوجيا الطبيعية‪.‬‬
‫وقد ساهم هذ النسق العلمي في تغييرمالمح الحياة في أوربا القرنين السابع عشروالثامن عشر‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪Dilthey, conception du Monde et l’analyse de l’homme depuis la Renaissance et la‬‬
‫‪Réforme, œuvre 4, p. 101. trad. Fr. Fabienne Balaise, Cerf, «passager« Paris, 1993.‬‬

‫‪213‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫العالم املوروثة عن الفكراألسطوري‪ ،‬وانتقاد أفكارالتشبيه والتجسيم في الدين‬
‫الشعبي‪ ،‬فإن الفيلسوف اليوناني جمع بين النظر في الوجود الكلي والتأمل في‬
‫األلوهي‪ .‬وهذا األلوهي ليس إال االكوسموس في نظر هؤالء اليونانيين‪ ،‬أي النظام‬
‫السرمدي للكون‪ .‬وبات للفلسفة األولى وجهان‪ :‬وجه ثيولوجي يركز على املوجود‬
‫األول ‪ ،Etant premier‬ووجه أنطولوجي يهتم بالوجود بما هو موجود‪ .‬وهذا‬
‫التكامل والتطابق أحيانا بين الوجود واأللوهية‪ ،‬بين األنطولوجيا والثيولوجيا‬
‫وجه البنية الجوهرية للميتافيزيقا‬ ‫منذ الفلسفة اليونانية إلى نيتشه‪ ،‬هو الذي ّ‬
‫الغربية حسب هيدغر‪.‬‬
‫وإذا كان الحكيم اليوناني قد نظر في النظام السرمدي للكون ‪ -‬األلوهية ‪ -‬من‬
‫أجل االنسجام معه اعتمادا على ملكاته الطبيعية املتوافقة مع هذه األلوهية‪ ،‬فإن‬
‫العصرالوسيط قد أزاح الكون ووضع مكانه النص‪ ،‬مع االحتفاظ بكل الصفات‬
‫التي حملها الكون اليوناني (النظام السرمدي‪ ،‬التناغم‪ ،‬مبادئ التراتبية‪.)...‬‬
‫حل االنسجام مع النص بدل االنسجام مع الكون‪ ،‬وترك االستعداد الطبيعي‬ ‫ّ‬
‫لإلنسان مكانه للقدر؛ وكلها حتميات قبلية تحدد ماهية اإلنسان قبل وجوده‪ .‬إن‬
‫استبدال الثيولوجيا ملرآتها‪ ،‬لم يغير معه وظيفتها‪ ،‬وظلت الثيولوجيا دفاعا عن‬
‫عقائد الفرقة أو الجماعة التي احتلت املركز ورمت بالفرق األخرى إلى الهامش‪،‬‬
‫وكأن االختالف غواية شيطانية أو انحراف إيماني‪.‬‬
‫أما الفلسفة الدينية‪ ،‬فإن الفيلسوف يكون مؤمنا قبل كل �شيء‪ ،‬وسعى إلى‬
‫فهم فلسفي إليمانه‪.‬‬
‫التدعي الفلسفة الدينية الكونية‬ ‫ومن هذه الحيثية الذاتية والتا يخية‪ّ ،‬‬
‫ر‬
‫والشمولية‪ ،‬وتحصر مهمتها في خدمة الدين الذي انطلقت منه‪ .‬ويشهد تاريخ‬
‫الفلسفة على عمق إيمان ومعرفة ممثلي الفلسفة الدينية‪ ،‬ونذكر منهم بليز‬

‫‪214‬‬
‫باسكال‪ ،1‬و كيركجورد‪ 2‬وغيرهما‪.‬‬
‫بات للفلسفة األوىل وجهان‪:‬‬
‫ويرجع جون غرايش مفردة فلسفة‬
‫وجه ثيولويج يركز عىل املوجود‬
‫الدين إلى األملاني ‪Sigimund von‬‬
‫األول‪ ،‬ووجه أنطولويج هيتم‬
‫)‪ storchnenaun (1731-1797‬وهو‬
‫بالوجود بما هو موجود‬
‫من أتباع فولف ‪.3 wolf‬‬
‫وهو ما يعني أن ما نسميه اليوم‬
‫فلسفة الدين هو مجال حديث‪ ،‬ونتاج إلجهاض مجموعة من املشاريع الهادفة‬
‫إلى تأسيس «ثيولوجيا فلسفية‪/‬طبيعية» تدور حول مفهوم مركزي هو «الدين‬
‫الطبيعي»‪ .‬فإذا استثنينا املبشرين األوائل بهذا املجال الفلسفي كدافيد هيوم‬
‫وباسكال واسبينوزا‪ ،‬فإنه يصعب الحديث عن فلسفة الدين قبل ق ‪ .18‬فرغم‬
‫وجود بعض الدراسات الخاصة بالدين إال أنها ال ترقى إلى منح شرعية الحديث عن‬

‫‪ - 1‬بليز باسكال (‪ )1662 - 1623‬فيلسوف‪ ،‬وريا�ضي وفيزيائي فرن�سي‪ ،‬تعرض للتجربة الروحية سنة‬
‫‪ ،1654‬وسجلها في كتابه «مذكرة»‪ ،‬وهي تجربة أعطته معرفة جديدة باإلله الشخ�صي وبمكانة املسيح‪.‬‬
‫ودافع عن القيم واملثل املسيحية‪ ،‬بكل شدة‪ ،‬في كتابه الشهيرالرسائل اإلقليمية‪ .‬أنظر‪،‬‬
‫‪.Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol, Modern Philosophy: from‬‬
‫‪Descartes to Leibniz, p.155, published by Doubleday, 1994, New York.‬‬
‫ٔ‬ ‫ٔ‬
‫‪ -2‬سرن اباي كيركجورد (‪ ،)1855 - 1813‬له كتاب ٕ«اما ‪ -‬او»‪ ،‬وهو عنوان على موقفه من الحياة‪ ،‬وكتاب‬
‫ٔ‬ ‫ٔ‬
‫«احاديث مسيحية»‪ ،‬وكان يرى ضرورة تعديل املسيحية ٕالى نزعة ٕانسانية اخالقية مع قليل من‬
‫ٔ‬
‫املعتقدات الدينية التي الت�سيء ٕالى رقة شعور املربي‪ .‬انظر‪from the The post-kantian :. Copleston, :‬‬
‫‪Frederick, S.J, A history of philosophy, vol.VII , Modern Philosophy‬‬
‫‪.Idealists to Marx, Kierkegaard, Nietzsche, p.339, published by Doubleday, 1994, New York‬‬
‫‪ -3‬كان ‪ Sigimund von Storchnenaun‬يدرس املنطق وامليتافيزيقا في فيينا‪ ،‬ويعارض بشدة نزعة‬
‫األلوهية ‪ .Deisme‬وقد نشر كتاب فلسفة الدين سنة ‪1772‬م‪ .‬وصلت أجزاؤه إلى سبعة‪ .‬ورغم عنوان‬
‫الكتاب إال أن مضمونه ظل وفيا ملضامين الثيولوجيا الطبيعية بطابعها الجدلي املدافع عن عقائد‬
‫املذهب املسيحي الكاثوليكي‪ .‬إيجاد الصورة الفلسفية الحقيقية لهذا املجال‪ ،‬ارتبطت بالفيلسوف‬
‫األملاني كارل راينولد ‪Karl Reinhold‬‬
‫في كتاب له يحمل اسم رسائل حول فلسفة كانط‪ .)1786-1787(،‬أنظر‪Greisch, Jean, le buisson :‬‬
‫‪ardent et les lumières de la raison, vers un paradigme herméneutique, Philosophie et‬‬
‫‪.Théologie, Paris, Cerf, 2004‬‬

‫‪215‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫فلسفة الدين‪ .‬ورغم هذه اإليضاحات‪،‬‬
‫فإن الحدود بين هذه املجاالت تبقى غير أساس التساؤل الفلسيف الذي‬
‫دقيقة‪ ،‬يزيدها غموضا وجود فالسفة دشن مسرية فلسفة الدين هو‬
‫هم أنفسهم رجال دين‪ ،‬مما يتطلب أخذ االنتقال من الرتكزي عىل اإلله‬
‫ذلك بعين االعتبار‪ .1‬لكن رغم ذلك‪ ،‬ينبغي مبارشة إىل االهتمام بالدين يف‬
‫التأكيد مرة أخرى على أن فلسفة الدين‪ ،‬كليته‪ ،‬وهو ما يجعلنا نعترب أن‬
‫شاليرماخر هو مؤسس‬ ‫وخالفا للفلسفة الدينية والثيولوجيا‬
‫فلسفة الدين‬ ‫الفلسفية‪ ،‬التستوجب انتماء قبليا لدين‬
‫ما‪ ،‬بل تبحث عن فهم للدين اعتمادا‬
‫على امللكات العقلية أساسا‪ .‬وننطلق‬
‫من فرضية‪ ،‬أن أساس التساؤل الفلسفي الذي دشن مسيرة فلسفة الدين‬
‫هو االنتقال من التركيز على اإلله مباشرة إلى االهتمام بالدين في كليته‪ ،‬وهو ما‬
‫يجعلنا نعتبرأن شاليرماخرهو مؤسس فلسفة الدين‪ .‬ولذلك‪ ،‬سنحاول بيان أن‬
‫مساهمته في هذا املبحث‪ .‬فما الدين؟ وما الذي يميزاألخالق وامليتافيزيقا؟‬
‫‪ -1‬الدين واألخالق وامليتافيزيقا‪ :‬اشتراك املوضوع‬
‫بعد ست سنوات من نشر إيمانويل كانط «الدين في حدود مجرد العقل»‪،‬‬
‫نشر شاليرماخر وهو عضو آنذاك في حلقة الرومانسية األملانية‪ 2‬كتابه‪« :‬عن‬

‫‪1 - Marianna, Simon, la philosophie de la religion dans l’oeuvre de Schleiermacher, p.10,‬‬


‫‪Paris, Vrin, 1979.‬‬
‫‪ -2‬التحق شاليرماخر بحلقة الرومانسية األملانية مابين ‪ ،1795-1802‬في برلين‪ .‬ضمت إضافة‬
‫لألخوين ‪ ، A.W. and Friedrich Schlegel‬كال من ‪ ..Dorothea Veit, Henriette Herz‬ومنذ التحاقه‬
‫بالرومانسية األملانية‪ ،‬تعددت أوجه حضوره‪ ،‬عبرتاريخ األفكار‪ ،‬فهو أب الثيولوجيا الليبرالية‪ ،‬ومؤسس‬
‫الهيرمينوطيقا الحديثة‪ ،‬ومترجم محاورات أفالطون لألملانية‪ ،‬وعضو مؤسس لجامعة برلين سنة ‪1809‬‬
‫م‪ ،‬بمعية ويلهيم فون هامبولدت ‪ ،Wilhelm Von Humboldt‬واملدافع املبكرعن الحقوق املدنية للنساء‬
‫واليهود‪ .‬أنظر‪Schleiermacher, E, D, lectures on philosophical ethics, p. , translated by ،‬‬
‫‪.Louise Adey Huish, Cambridge University Press, 2002‬‬

‫‪216‬‬
‫الدين‪ :‬خطابات إلى محتقريه من املثقفين‪ .»1‬عنوان يمثل وثيقة تاريخية عن‬
‫موقف املثقفين والفالسفة من الدين في القرن الثامن عشر‪ .‬موقف غلب عليه‬
‫ازدراء األديان املوحى بها وانتشار لإللحاد‪ .‬انبرى شاليرماخر الفيلسوف املؤمن‬
‫للدفاع عن الدين في زمن قل فيه الفالسفة املدافعون عن األديان؛ وتبين له أن‬
‫ذلك يحتاج إلى إبرازماهيته الحقيقية‪ ،‬مع مراعاة قيم الحداثة والعقالنية‪ ،‬فكان‬
‫بحق الرجل الحداثي والثيولوجي املسيحي‪ ،‬حسب وصف كارل بارث‪.2‬‬
‫ُّ‬
‫مركب‬ ‫انتقد شاليرماخر ما آلت إليه صورة الدين في عصره‪ ،‬حيث تحول إلى‬
‫من أجزاء ملجاالت متباينة‪ ،3‬ورأى أن الخطوة املناسبة هي تدمير هذا املركب‬
‫االصطناعي‪ ،‬وتحويله إلى عدم‪ ،4‬وذلك بغية إعادة بناء صورة جديدة للدين‪،‬‬
‫متحررة من ثنائية تاريخية قطباها امليتافيزيقا واألخالق‪.5‬‬
‫يؤكد الخطاب الثاني من الكتاب‪ ،‬على أن نقطة اشتراك الدين‪ ،‬امليتافيزيقا‬
‫واألخالق هي وحدة املوضوع‪ ،‬وتحديدا الكون وعالقة اإلنسان به‪ .‬وهذا التشابه‬
‫املوضوعي سبب ضالالت وأخطاء متباينة‪ ،6‬مما سمح للميتافيزيقا واألخالق أن‬
‫‪ -1‬عنوان الكتاب باألملانية هو‪UBER DIE RELIGION, Reden An Die Gebildeten Unter Ihern :‬‬
‫‪ Veràchten‬وهو كتاب شاليرماخر الوحيد الذي ترجم إلى اللغة العربية مؤخرا‪ ،‬من طرف أسامة‬
‫الشحماني‪ ،‬سنة ‪ ،2017‬ونشرته دارالتنوير‪.‬‬
‫وقد ترجم إلى اللغة الفرنسية مرتين‪ ،‬األولى سنة ‪ ،1944‬والثانية سنة ‪:2004‬‬
‫‪Schleiermacher, Discours sur la religion à ceux de ses contempteurs qui sont des‬‬
‫‪esprits cultivés, paris, Aubier - Montaigne, «Bibliothèque philosophique» trad. Fr.I.J.‬‬
‫‪.Rouge, 1944‬‬
‫‪Schleiermacher, De la religion, Discours aux personnes cultivés d’entre ses mépriseurs‬‬
‫‪.trad. Fr. Bernard Reymond,Van Dieren, 2004‬‬
‫‪2- David Jaspers, The interpretation of belief, p.104, Coleridge, Schleiermacher,‬‬
‫‪Romanticism, First published, 1986, Macmillan, London.‬‬
‫‪3 - Discours sur la religion, p 146.‬‬
‫‪4 - Schleiermacher, Discours sur la religion, p.146.‬‬
‫‪ -5‬بعد شاليرماخر سيقوم بول ريكور بوضع الدين بين اليوتوبيا واإليديولوجيا‪ ،‬وسيضع جون غرايش‪،‬‬
‫املقاربة الدينية مقابل املقاربة األخالقية‪ ،‬عند قراءته لهيدغر‪.‬‬
‫‪6 - Discours, p. 145.‬‬

‫‪217‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫يتسربا بشكل كثيف إلى الدين‪ُ ،‬ويخفي ما هو جوهري في الدين تحت حجب‬
‫امليتافيزيقا واألخالق بشكل غير متوقع‪ .‬أضف إلى ذلك مركزية الذات في الفكر‬
‫امليتافيزيقي والفكر العملي‪ ،‬التفكير داخل إطار ثنائية الذات واملوضوع‪ ،‬آنذاك‪،‬‬
‫يمنح األولوية للذات العارفة أو للذات الفاعلة على حساب الكون أو الالمتناهي أو‬
‫هللا‪ .‬هذه املركزية الذاتية‪ ،‬تصطدم برغبة الدين في إعادة ترتيب وتنظيم العالقة‬
‫بين هذه األقطاب‪ :‬الذات‪ ،‬الكون‪ ،‬هللا‪ ،‬ألنه ال يرى في اإلنسان أكثر مما يراه في‬
‫كائن فردي ومتناهي آخر‪ ،‬صورة‪ ،‬وتمثل الالمتناهي‪ .1‬املتناهي‪ ،‬بشتى مصاديقه‪،‬‬
‫مجرد تجل لالمتناهي‪ .‬وهو ما دفعه لتعريف الدين بالسلب‪« :‬الدين في جوهره‪،‬‬
‫ليس فكرا وال فعال‪ .»2‬فما الفرق بين الدين واألخالق وامليتافيزيقا؟ وما جوهر‬
‫الدين عند شاليرماخر؟‬
‫‪ -1-1‬الدين ليس ميتافيزيقا‪:‬‬
‫تنطلق امليتافيزيقا من مركزية اإلنسان‪ ،‬وتحاول االرتقاء صوب معرفة كلية‬
‫بالوجود‪ .‬وتنهج التحليل والتركيب إلعادة تنظيم الكون وترتيبه‪ .3‬واعتمادا على‬
‫مقوالت العقل‪ ،‬تبحث عن تفسير للمبادئ األولى للوجود‪ ،‬واستنباط العالم‬
‫وقوانينه من األنا أفكر‪ .‬ورغم قيمة املعرفة التأملية في تفسير العالم الطبيعي‪،‬‬
‫ً‬
‫فإنها تبقى عاجزة عن فهم كلي للعالم‪ ،‬مادام التفكيرمؤطرا داخل ثنائية الذات‪/‬‬
‫املوضوع‪ ،‬وبسبب الهوة املوجودة بين الفكر والوجود‪ .‬هذه الرغبة في فهم كلية‬
‫العالم‪ ،‬اليحصل إشباعها دون التساؤل عن األلوهية‪ ،‬لهذا يسافر العقل‬
‫النظري إلى ما قبل خلق العالم بحثا عن العلة األولى للوجود‪ .‬إن محاولة بناء‪/‬‬
‫خلق عالم‪ ،‬يجبر العقل التأملي على االستغراق في مالحقة العلل واالستنتاجات‬
‫الالمتناهية‪ ،‬وطبائع األشياء املتكثرة‪ .‬وليس الدين ملزما باقتحام هذه العوالم‬
‫‪1 - Discours, p. 151.‬‬
‫‪2 - Ibid, p.151.‬‬
‫‪3 - Ibid, p.154.‬‬

‫‪218‬‬
‫املجردة واملتشابكة من اآلراء والنظريات‪،‬‬
‫وال من وظائفه الكشف عن طبائع تنطلق امليتافزييقا من مركزية‬
‫اإلنسان‪ ،‬وتحاول االرتقاء‬ ‫األشياء املادية واملوجودات املتنوعة‪،‬‬
‫صوب معرفة كلية بالوجود‪.‬‬
‫أما التناقضات الظاهرة في الواقع‪،‬‬
‫وتهنج التحليل والرتكيب‬
‫فهي ليست تناقضات حقيقية إال لوعي‬
‫إلعادة تنظيم الكون وترتيبه‪.‬‬
‫الديني‪.‬‬
‫واعتمادا عىل مقوالت العقل‬
‫أحدث شاليرماخر تحوال منهجيا‪،‬‬
‫من خالل االنتقال من االهتمام باإلله‬
‫وصفاته وأفعاله إلى اإلنسان؛ انسجاما مع الباراديغم الذي كان سائدا آنذاك‪،‬‬
‫الهادف إلى تنصيب اإلنسان مصدرا للمعرفة والفكر‪ ،‬والذي أفقد كل األشياء‬
‫األخرى قيمتها في ذاتها‪ ،‬بما فيها الكون واإلله‪ .‬ورغم هذا التوافق مع مبدأ الحداثة‬
‫(مركزية الذات)‪ ،‬إال أن سعيه هو خلق تكامل بين الفردي والكوني في الدين‬
‫وبالدين‪ ،‬تنتصب فيه األنا والكون « كنقطتين تتراوح بينهما الروح‪ .»1‬وما الروح‬
‫إال مسكن اإلله‪.‬‬
‫وجه شاليرماخر عنايته صوب اإلنسان املتدين‪ .2‬وراح يسبر أغواره باحثا عن‬ ‫ّ‬
‫جذور الدين وجوهره‪ .‬واكتشف أن ماهية الدين تسكن لدى مؤمن يعيش تجربة‬
‫روحية‪ ،‬ذلك أن الشعور الديني‪ ،‬إنما يوجد في أعماق كل قلب بشري‪ ،‬بل هو‬
‫يدخل في صميم ماهية اإلنسان‪ ،‬مثله في ذلك مثل العقل سواء بسواء‪.3‬‬

‫‪1 - Discours, p.191.‬‬


‫‪ -2‬ذهب هيغل‪ ،‬وهو زميل شاليرماخر بجامعة برلين‪ ،‬إلى أن« اإلنسان وحده هو الذي يمكن أن يكون له‬
‫دين‪ ،‬وأن الحيوانات تفتقر إلى الدين بمقدار ما تفتقر إلى القانون واألخالق»‪ .‬هيجل‪ ،‬موسوعة العلوم‬
‫الفلسفية‪ ،‬ص ص‪ ،47-48 ،‬ترجمة د‪ .‬امام عبد الفتاح امام‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،1983 ،‬ط‪ ،1‬دار‬
‫الثقافة بالقاهرة ‪.1985‬‬
‫‪ -3‬ولتر ستيس‪ ،‬الزمان واألزل‪ :‬مقال في فلسفة الدين‪ ،‬ص‪ ،45 .‬ترجمة د‪ .‬زكرياء إبراهيم‪ ،‬املؤسسة‬
‫الوطنية للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬

‫‪219‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫إن الدين ليس فكرا تأمليا‪ ،‬ويختلف‬
‫لقد سىع شاليرماخر إىل‬ ‫جوهره عن بنية امليتافيزيقا الغربية‪.‬‬
‫وهذا ما ّ‬
‫إبعاد جوهر الدين عن بنية‬ ‫عبر عنه هيدغر‪ ،‬مستعيرا‬
‫املفهوم الكانطي األنطوثيولوجي‪ ontho 1‬امليتافزييقا اليت كانت قد بدأت‬
‫‪ - théo - logie‬بالقول‪ :‬أن إله األنطو‪ -‬معاول الهدم تقصدها‪ ،‬وهو‬
‫ثيو‪ -‬لوجي الذي يشغل عادة العلة األولى ما مكنه من توجيه التدين‬
‫‪ Causa Sui‬ليس هو نفسه إله الوعي الربوتستانيت صوب تأسيس‬
‫الديني‪ .‬وإلى مثل هذا اإلله‪ ،‬ال يمكن أن الثيولوجيا عىل التجربة الدينية‬
‫يتوجه اإلنسان بالصلوات‪ ،‬وال بالقرابين‬
‫والتضحيات‪ ،‬وال يمكنه أن يخر على‬
‫ركبتيه ساجدا متضرعا‪ ،‬ولن ينشد الترانيم واألناشيد أو يرقص في حضرته‬
‫بخشوع‪ .2‬لقد سعى شاليرماخر إلى إبعاد جوهر الدين عن بنية امليتافيزيقا‬
‫التي كانت قد بدأت معاول الهدم تقصدها‪ ،‬وهو ما مكنه من توجيه التدين‬
‫البروتستانتي صوب تأسيس الثيولوجيا على التجربة الدينية‪ ،‬وبذلك استحق أن‬
‫يصنف كأب للثيولوجيا الحديثة‪ ،‬وأحد أهم الثيولوجيين في تاريخ املسيحية‪،‬‬
‫يقف في نفس صف القديس أوغسطين واألكويني وكالفان‪.3‬‬
‫‪ -1-2‬الدين ليس هو األخالق‪:‬‬
‫شكل الدين األخالقي الكانطي التحدي اآلخرلعمل شاليرماخر‪ .‬وتندرج النظرية‬
‫الكانطية للدين الحقيقي أساسا في استنباط األمراألخالقي وبناء ثيولوجيا عملية‬

‫‪1 - Nef, Frédéric, qu’est-ce que la méthaphysique, p.194, Gallimard, 2004‬‬


‫‪2 - Greisch Jean, le buissent ardent, pp. 37-38. «La constitution onto - Théo - logique de‬‬
‫‪la métaphysique», Questions Í, Paris, Gallimard, 1968, p. 277-308.‬‬
‫‪3 - Marina, Jacqueline, The Cambridge companion to‬‬ ‫‪Friedrich Schleiermacher, p.1,‬‬
‫‪Cambridge University Press, 2005.‬‬

‫‪220‬‬
‫تمر من نقد الثيولوجيا التأملية إلى نظرية مسلمات العقل العملي‪ .1‬ومن خالل‬
‫مسلمات العقل العملي يتم وضع إطارلالعتقاد العقلي‪.‬‬
‫انطلق كانط من كون اإلنسان قادرا بذاته وفي ذاته أن يكون مشرعا وذاتا‬
‫للواجب األخالقي‪ .‬تشريع ذاتي لواجب عقلي كلي وغاية في ذاته‪ ،‬وهو ما جعله‬
‫يصرح أن األخالق ال تحتاج إلى الدين‪ ،‬بل هي مكتفية بذاتها بفضل العقل العملي‬
‫املحض‪ .2‬بيد أن اإلنسان ليس شيئا في ذاته فقط‪ ،‬بل هو أيضا ينتمي إلى عالم‬
‫الزمان واملكان‪ ،‬ومن حقه أن ينشد السعادة‪ .‬وتتوقف السعادة على املعرفة‬
‫والقدرة معرفة مطلقة بكل مايحدث وسيحدث في العالم‪ ،‬والقدرة على توجيه‬
‫ذلك تبعا لرغبات اإلنسان وحاجاته‪ .‬وهذا ما يجعل السعادة خارج مكنة البشر‪.‬‬
‫أما ما يستطيع فعله‪ ،‬فهو االلتزام واحترام الواجب األخالقي‪ ،‬أي السعي إلى‬
‫الفضيلة‪ ،‬ولكن لن يكون سعيدا بذلك فقط‪ .‬هذا الترابط بين الكمال األخالقي‬
‫(الفضيلة) والسعادة يكون حقيقيا إذا كان اإلنسان كائنا عاقال محضا فقط‪،‬‬
‫والحال أنه ليس كذلك‪ ،‬فهو خاضع لنزوات ورغبات حب الذات‪ ،‬وهذه امليول‬
‫واالستعدادات طبيعية وحقيقية‪ ،‬وتحتاج إلى إشباع‪ .‬وليست األخالق في حقيقة‬
‫األمر املذهب الذي يعلمنا كيف يجب علينا أن نجعل أنفسنا سعداء‪ ،‬بل تعلمنا‬
‫فقط‪ ،‬كيف يجب علينا أن نجعل أنفسنا جديرين بالسعادة‪ .‬ومن أجل التعبير‬
‫بطريقة ساخرة‪ ،‬نقول‪ :‬يمكنك أن تلتزم بواجباتك وتكون فقيرا وعليال‪ ،‬في حين‬
‫يمكن ملن اليلتزم بواجباته‪ ،‬أن يكون غنيا وسليم البدن‪ .‬ومن أجل أن يجازى‬
‫الفاضل واملحسن ويعاقب امل�سيء واملذنب‪ ،‬البد من األمل في عدالة عليا سامية‪،‬‬
‫تتجاوز عدالة البشر‪ .‬لكن هذه العدالة اليمكن أن تكون في هذا العالم‪ ،‬لذلك‬
‫سيكون معقوال األمل في وجود عالم آخرحيث تقام هذه العدالة املرجوة من قبل‬
‫قوة عليا مطلقة‪ .‬مما يعني أنه ينبغي االعتقاد بوجود عالم آخروإله مطلق القدرة‪.‬‬
‫‪1 - Bruch, Jean-Louis, la philosophie religieuse de Kant, p.13.‬‬
‫‪2 - Kant, la religion dans les limites de la simple raison, p.67.‬‬

‫‪221‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫وهكذا يظهرأنه اليصبح لنا أمل في أن نشارك ذات يوم في السعادة إال إذا انضاف‬
‫الدين إلى األخالق‪ .1‬لكن أي دين؟ هل هو الدين العقلي أم الدين التاريخي؟‬
‫لقد آل التفكير في أخالق خالصة إلى االعتراف بوجود مبدأ فاعل هو هللا‪.‬‬
‫وصارت بذلك األخالق تقود إلى الدين ‪2‬وليس العكس‪ .‬أي تقود إلى مشرع أخالقي‬
‫واسع القدرة‪ ،‬في إرادته ‪ -‬هللا ‪ -‬تكمن تلك الغاية النهائية لخلق العالم التي يمكن‬
‫ويجب أن تكون الغاية النهائية لإلنسان‪ .‬هذا االيمان ذو طبيعة عقلية ألن العقل‬
‫هو الذي برهن على ضرورته‪ .‬ينبغي إذن‪ ،‬االعتقاد بوجود هللا‪ ،‬وخلود الروح‬
‫والحرية اإلنسانية‪ ،‬إذا أردنا أن يكون ربط واتحاد السعادة بالفضيلة كامال‪.‬‬
‫ولكنه ليس شرطا الحترام الواجب‪ .‬إن التمسك بهذا النوع من االيمان العقلي‬
‫والجماعة األخالقية املجردة ال يكون ممكنا إال في الدين الطبيعي‪ .‬وإذا توقفنا‬
‫عند االعتقاد بوجود إله وخلود الروح‪ - ،‬حيث توقف كانط طويال ‪ -‬فهذا ال يسمح‬
‫لنا بالحديث عن الدين‪ ،‬كما هو متعارف عليه‪ .‬الحديث عن الدين‪ ،‬يستدعي‬
‫استحضار مجموعة من العقائد والطقوس والعبادات واملؤسسات‪ ،‬يعني‬
‫استحضار شكل تاريخي للدين‪ .‬ولم يأخذ كانط هذا النوع من الدين في االعتبار‬
‫إال في كتبه التي ألفها بعد املرحلة النقدية‪ ،‬خصوصا في كتاب ‪«1793‬الدين في‬
‫حدود مجرد العقل»‪ .‬وهذا النمط من الدين هو الذي يطرح تحديا على العقل‬
‫الكانطي‪ .‬صحيح أن العقل العملي‪ ،‬نجح في إبرازالضرورة العقلية لإليمان بوجود‬
‫هللا وخلود الروح‪ ،‬أي سلم بمعقولية الدين الطبيعي؛ ولكن ملاذا الدين التاريخي‬
‫ضروريا أيضا؟ لم االستعانة واالستنجاد بشكل مؤسساتي؟ ملاذا ال يستطيع‬
‫الشخص األخالقي تحقيق كماله الذاتي؟ لم يصعب على كل فرد أن يخرج بمفرده‬
‫من القصور الذاتي ويعانق التنوير؟‬
‫‪ -1‬كانط‪ ،‬نقد العقل العملي‪ ،‬ص‪ ،154 - 153 .‬ط‪ ،2‬ص‪ .42 .‬أوردها د‪ .‬بدوي‪ ،‬في األخالق عند كانط‪،‬‬
‫وكالة املطبوعات‪ ،1979 ،‬الكويت‪.‬‬
‫‪2 - Kant, la religion dans les limites de la simple raison, p. 70.‬‬

‫‪222‬‬
‫إن االنتقال من البعد النوميني‬
‫ينبيغ االعتقاد بوجود عالم‬ ‫لإلنسان إلى الوجود اإلنساني املتجذر في‬
‫العالم املحسوس‪ ،‬يفترض تغيير الرؤية آخر وإله مطلق القدرة‪ .‬وهكذا‬
‫األنثربولوجية املؤسسة للتصور الديني يظهر أنه اليصبح لنا أمل يف أن‬
‫عند كانط‪ .‬ففي هذا العالم الزماني‪ ،‬نشارك ذات يوم يف السعادة إال‬
‫تظهر إشكالية الشر ‪ ،le Mal‬كعنصر إذا انضاف الدين إىل األخالق‪.‬‬
‫أسا�سي وشرط وجود للدين التاريخي‪ .‬إن لكن أي دين؟ هل هو الدين‬
‫العقيل أم الدين التارييخ‬ ‫الشر هو الذي أرغم كانط على االنتقال‬
‫من الذات الفردية إلى ذات جماعية‬
‫(الجنس البشري)‪ ،‬وأناط بها تحقيق‬
‫الخير األسمى بدل الفرد‪ .‬الشر بالنسبة لكانط ليس هو غياب الخير‪ ،‬بل هو مبدأ‬
‫في ذاته‪ ،‬إرادة منحرفة‪ ،‬إرادة فعل الشر ليس فقط خطأ أو جهال أو ضعفا‪ ،‬بل‬
‫إرادة للشرفي ذاته ومن أجل ذاته‪ ،‬إرادة الشربالشر‪ .‬مبدأ الشرهو اختيارعميق‪.‬‬
‫الشرليس هو الحساسية‪ ،‬حب الذات‪ ،‬الشرهو القلب اإلرادي للنظام األخالقي‪،‬‬
‫إنه االختيار املتعمد لفعل الشر‪ :‬بوقوع اإلنسان بين مبدأين‪ ،‬مبدأ الخير ومبدأ‬
‫الشر الجذري‪ ،‬يصبح وحده عاجزا عن البقاء على الصراط املستقيم‪ .‬وينضاف‬
‫بذلك التناهي األخالقي إلى التناهي املعرفي‪ .‬ورغم أهمية الدين التاريخي ووظيفته‪،‬‬
‫فإن إيمانويل كانط‪ ،‬يعتبرأن الدين الحقيقي هو الدين األخالقي‪ .‬أحدث إيمانويل‬
‫كانط تحوال جذريا في الخطاب الثيولوجي‪ ،‬وذلك بجعل األخالق سلما لإللهيات‬
‫بدل الطبيعيات‪ ،‬كما كان الحال في ثيولوجيا العصرالوسيط‪.‬‬
‫اعتبر شاليرماخر‪ ،‬أنه إذا كانت األخالق تتأسس على مسلمة حرية ذات‬
‫متعالية‪ ،‬بعيدة عن عالم الكون والفساد‪ .‬فإن الدين «يتنفس حيث صارت‬
‫الحرية طبيعة‪ ،»1‬الدين مكون للطبيعة اإلنسانية‪ .‬تبلور األخالق انطالقا من‬
‫‪1-‬‬ ‫‪Discours, p.151.‬‬

‫‪223‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬ومن عالقته بالكون‬
‫يختلف الدين عن األخالق‬ ‫نسقا من األوامر وااللتزامات‪ ،‬وتشرع‬
‫بطريقة المحدودة وال مشروطة‪ .‬وهذا ألنه ليس فعال يف الطبيعة‪ ،‬بل‬
‫التشريع الذاتي‪ ،‬يستند إلى ذات متعالية‪ ،‬مالحظ لالمتنايه املعطى‬
‫يف املتنايه‬ ‫حرة بعيدة عن عالم الكون والفساد‪.‬‬
‫الدين ليس فعال‪ ،‬وال يسعى إلى‬
‫التحول إلى مدونة للسلوك القانوني‬
‫وعالقة اإلنسان بالضبط والتسلط‪ .‬يختلف الدين عن األخالق ألنه ليس فعال‬
‫في الطبيعة‪ ،‬بل مالحظ لالمتناهي املعطى في املتناهي‪ .‬اإلنسان كمتناه يمثل كلية‬
‫الطبيعة‪ .‬باملقابل‪ ،‬تنظر األخالق لإلنسان باالنفصال عن الطبيعة‪ ،‬وتربط نسق‬
‫الواجبات الالمشروطة باهلل‪ ،‬املشرع األخالقي األسمى‪ .‬األهم بالنسبة لألخالقيين‬
‫هي اإلرادة اإللهية‪ ،‬مما يقربهم من امليتافيزيقيين‪ ،‬أما «في الدين‪ ،‬فإن فكرة هللا‬
‫ليست بذات األهمية‪ .»1‬من طبيعة الدين‪ ،‬أنه اليسعى إلى كمال الكون أو تمامه‬
‫عبرتطويرالحرية وإرادة االختياراإلنسانية املقدسة‪ .‬بينما يكتفي الدين باملالحظة‪.‬‬
‫يمكن استثمار هذا التمييز بين جوهر الدين واألخالق من أجل تأويل تجربة‬
‫من التراث املشترك بين األديان التوحيدية‪ ،‬تضحية النبي إبراهيم بابنه‪ .2‬ال يمكن‬
‫‪1 - Ibid, p.130.‬‬
‫‪ - 2‬ال تهمنا هنا هوية الذبيح هل هو إسحاق ابن سارة حسب التوراة وبعض املفسرين املسلمين‪ ،‬أم‬
‫هو إسماعيل ابن هاجر‪ ،‬حسب رواية مفسرين مسلمين آخرين‪ .‬فاالختالف بين التراث العبري والرواية‬
‫سفر التكوين‪،‬‬ ‫اإلسالمية ال يغير كثيرا في مغزى ورسالة التجربة‪( .‬أنظر‪ :‬القرآن‪ ،‬الصافات اآلية‪102 :‬؛‬
‫َ َ ْ ُ َ َّ َ َ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ َ ََ‬ ‫ََ‬
‫اإلصحاح ‪ ،22‬اآلية ‪ ،12‬قال‪« :‬ال ت ُم َّد َي َد َك ِإلى الغال ِم َوال ت ْف َع ْل ِب ِه ش ْي ًئا‪ ،‬أل ِني اآلن ع ِلمت أنك خا ِئف‬
‫يد َك َع ِ ّني»)‪ .‬ولكن هدفنا هنا فهم كيف تؤثر زاوية النظر في داللة التجربة‬ ‫هللا‪َ ،‬ف َل ْم ُت ْمسك ْاب َن َك َوح َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وأبعادها‪ .‬فإضافة للتأويل أعاله‪ ،‬يمكن تأويلها بحسب تاريخ الطقوس الدينية‪ ،‬كتأريخ النتقال اإلنسان‬
‫من طقوس التضحية بالبشر إلى األضاحي الحيوانية‪ .‬ويمكن قراءتها استنادا إلى سيكولوجيا األديان‪،‬‬
‫باعتبارها تعبير رمزي عن تحقيق لرغبة في الالوعي الجمعي عن إنقاذ الجنس البشري بحكم رمزية نسل‬
‫إبراهيم ومنزلته األبوية‪ ،‬ومنزلة الحيوان كإمكان إلنقاذ اإلنسان في تجارب وجودية مختلفة‪ ،‬املوت‬
‫واألمراض النفسية اليوم‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫فهم تضحية إبراهيم إال بافتراض تمييز بين الشعور الديني والفعل األخالقي‪ .‬على‬
‫املستوى األخالقي‪ ،‬ال تسمح أي مدونة أخالقية لألب بقتل ابنه‪ ،‬بل تأمره بحمايته‬
‫ورعايته بالحب والحماية والنفقة‪ .‬في حين أن إبراهيم رجل مؤمن أيضا‪ ،‬وفي هذه‬
‫العالقة‪ ،‬استشعر أنه ملزم بطاعة رّبه والتسليم بأوامره‪ .‬من الناحية األخالقية‪،‬‬
‫يمكن تأويل السلوك األخالقي كجريمة‪ ،‬بالقول أنه أراد قتل ابنه؛ بينما من‬
‫الناحية الدينية‪ ،‬يمكن تأويل التجربة كتضحية‪ ،‬وتنازل إرادي عن أغلى ما يملك‬
‫تقربا ملعبوده‪ .‬التضحية من مقوالت العالم الديني بينما تدخل الجريمة ضمن‬
‫عالم القيم األخالقية‪ .‬تعبرالجريمة عن مشاعرالغضب‪ ،‬الحقد والبغضاء؛ وهو‬
‫ما ال تالمسه تجربة التضحية بما يرافقها من حرية واستعداد للعطاء‪ .‬يظهرأنه في‬
‫فلسفة الدين يف الفكر‬
‫تجربة وجودية واحدة‪ ،‬قد يدخل الشعور الديني في صراع مع الواجب األخالقي؛‬

‫الفلسيف املعارص‬
‫وبالنسبة لشاليرماخر‪ ،‬فإن «وحده الشعور الديني يمنح لإلنسان الكونية‪.»1‬‬
‫ويرفعه فوق املحايثة األخالقية‪.‬‬
‫‪ -2‬الدين إحساس وحدس للكون‪:‬‬
‫عرف شاليرماخر الدين‬ ‫بعد التعريف السلبي للدين‪( ،‬ليس فكرا وال فعال)‪ّ ،‬‬
‫باإليجاب‪ ،‬حيث اعتبر الدين إحساس وحدس للكون‪ .‬وكان شاليرماخر سنة‬
‫‪ ،1799‬يستعمل كلمة الكون للتعبيرعما سيسميه فيما بعد الالمتناهي‪ ،‬الواحد‪،‬‬
‫الكل‪ ،‬األبدي‪ ،‬األلوهي‪ ،‬وهللا‪.‬‬
‫نقطة االنطالق إذن‪ ،‬هي اإليمان الديني العميق الذي تخبره الروح بطريقة‬
‫أصيلة‪ .‬إنه البعد األنطولوجي في الدين‪ ،‬وجوهره وروحه وباطنه العميق‪ ،‬وهذا‬
‫االيمان هو الذي يمنح الداللة واملعنى لكل التعابير والتجليات الخارجية للدين‪.‬‬
‫إنه القبلية الهيرمينوطيقية لفهم تلك التجليات املوضوعية التي قد تعكس تلك‬
‫التجربة الدينية الجوانية أحيانا‪ ،‬وقد ت�شي بعكسها‪ ،‬أحيانا أخرى‪ ،‬كما لدى‬
‫‪1-‬‬ ‫‪Discours, p.192.‬‬

‫‪225‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫العديد من رجال الدين وأتباع التصوف الطرقي السلوكي الذي يؤرخ غالبا ملرحلة‬
‫تقهقر املجتمعات وتخلفها‪ .1‬وإبعاد اإلنسان املتدين‪ ،‬سيؤدي إلى الحرمان من‬
‫النور الذي ي�ضيء األفعال والتعابير الخارجية للدين‪ .‬إن هذا يعني أن اإلنسان‬
‫املتدين هو أقرب الناس لفهم الدين بطريقة سليمة حسب شاليرماخر‪ .‬االنطالق‬
‫من تجربة دينية مخصوصة‪ ،‬سيكون أكثرنجاعة من بناء قبلي للدين‪ ،‬ألن الدين‬
‫الخالص ال يعطى إال في أديان متناهية وتاريخية‪ .‬التعددية الدينية التعني تعدد‬
‫الجواهر‪ ،‬ولكن تكشف عن تعددية في تجليات الجوهر الواحد‪ .‬فحدس الكون‬
‫والتعلق باملطلق‪ ،‬واإليمان باهلل‪ ،‬يتم من وجهة نظر محددة ومتناهية‪ ،‬تذكرنا‬
‫بعالقة الجواهر البسيطة (املونادات) باهلل عند ليبنتز‪ .2‬لكن ماهي مكونات هذه‬
‫التجربة الدينية؟‬
‫يعترف شاليرماخر بصعوبة التعبير عن التجربة الوجودية العميقة سواء‬
‫كتجربة دينية أو تجربة جمالية‪ .‬ويعتبر أن الفصل بين الحدس والشعور هو‬
‫لضرورة علمية بحثية فقط‪ .‬وتحويل التجربة الدينية التي تتصف بالوحدة‬
‫واالنسجام إلى مفاهيم عقلية‪ ،‬هوناتج عن هذه الصعوبة التي عانى منها املتصوفة‬
‫والعرفاء والشعراء‪ .‬يقول شاليرماخر‪ «:‬أعرف إلى أي مدى اليمكن وصف مدى‬
‫سرعة اللحظة األولى العجيبة‪ ،‬التي تسبق الفصل بين الحدس والشعور‪ ،‬داخل‬
‫اإلدراك‪ .‬هذه اللحظة التي يندمج فيها الدال بمدلوله في وحدة‪ ،‬قبل أن يأخذ كل‬
‫واحد مكانه األصلي‪.»3‬‬
‫‪ -2-1‬الشعور لالبتعاد عن الفعل‬
‫يدخل الكون والذات املتدينة في عالقات مختلفة‪ ،‬منها الحدس‪ ،‬ثم الشعور‪.‬‬
‫‪ - 1‬عبد الجبار الرفاعي‪ ،‬موسوعة فلسفة الدين ‪ ،2 -‬اإليمان والتجربة الدينية‪ ،‬ص‪ ،11 .‬ط‪ ،1‬مركز‬
‫دراسات فلسفة الدين‪ ،‬ودارالتنوير‪ ،2015 ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪2 - Marina, Jaqueline, Transformation of the self in the thought of Schleiermacher,‬‬
‫‪p.221, first published, 2008, Oxford.‬‬
‫‪3 - Schleiermacher, De la religion, p. 40‬‬

‫‪226‬‬
‫في الحدس‪ ،‬يمارس املوضوع تأثيرا علينا‬
‫للتعبير عن وجوده‪ .‬وهذا الفعل‪ ،‬يخلق يعرتف شاليرماخر بصعوبة‬
‫تغييرا في وعينا‪ .‬يحدث وعي بحقيقة التعبري عن التجربة الوجودية‬
‫املؤثر‪ ،‬ووعي بالتغير الذي تحدثه تلك العميقة سواء كتجربة دينية أو‬
‫تجربة مجالية‪ .‬ويعترب أن الفصل‬
‫الحقيقة‪ .‬ينتمي الشعور إلى العنصر‬
‫بني الحدس والشعور هو‬
‫الثاني‪ ،‬البعد الذاتي في الدين؛ البعد لرضورة علمية بحثية فقط‬
‫الحميمي في حياتنا الباطنية‪ .‬وهو أيضا‬
‫انفتاح على العالم املوضوعي الخارجي‪،‬‬
‫وليس انعزاال في أنا وحدية‪« .‬نفس األفعال التي ينكشف بها لكم الكون في املتناهي‪،‬‬
‫تنسج أيضا عالقة جديدة مع روحكم‪ ،‬ستغمركم مشاعرمختلفة عند تأملكم له‬
‫حدسيا‪ ،‬مع فارق هو أن العالقة بين الحدس والشعور في الدين ليست نفسها في‬
‫املجاالت األخرى‪ ،‬فهي هنا أكثر صالبة كما‪ ،‬أن الحدس ليس مسيطرا إلى درجة‬
‫اضمحالل الشعور‪ .»1‬وهذه التجربة الدينية من جنس التجربة اإلستطيقية‪،‬‬
‫حيث يغذوالفن تعبيرا عن اإلحساس الفردي من خالل عمل الخيال ‪. Fantasie2‬‬
‫الشعور الديني هو ‪ -‬شعور ‪ -‬تام وكامل‪ ،‬وليس خالصا‪ ،‬ألن الوعي أو الوعي‬
‫باهلل دوما هو وعي ب�شيء ما‪ .3‬وهنا يتجنب شاليرماخر تلك النزعة االنطوائية‬

‫‪1 - Discours, p.162..‬‬


‫‪2 - Schleiermacher, Esthétique, trad. Christian Berner, Denis Thouard, CERF, 2004.‬‬
‫ألقى شاليرماخر دروسا في الجماليات سنة ‪ ،1819‬وأضيفت ملخطوطة هذه الدروس نقط نقدية‬
‫ومحاضرات أكاديمية حول مفهوم الجميل لسنوات ‪ 1821‬و‪ .1832‬وحسب شاليرماخر فإن كل الناس‬
‫فنانون‪ .‬في اختالف عن جماليات هيغل وشيلينغ اللذان يمكن وضعهما ضمن مسار «‪« »poétique‬في‬
‫الشعر» ألرسطو‪ ،‬ونقد ملكة الحكم لكانط‪ .‬أما استطيفا شاليرماخر‪ ،‬التي مثلت الرومانسية األملانية‬
‫أفضل تمثيل‪ ،‬فقد ركزت على اإلحساس الفردي املتجلي في أعمال الخيال‪.‬‬
‫‪3 - Schleiermacher, D. E, Dialectique pour une logique de la vérité, p. 186, trad.‬‬
‫‪Christian Berner et Denis Thouard, Paris, Laval, Genève, Cerf, Labor et Fides, Presse‬‬
‫‪de l’Université de Laval, Passage, 1997.‬‬

‫‪227‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫واالنعزالية الغارقة في الذاتية‪ ،‬التي‬
‫ال يعرب الشعور عن حالة‬ ‫يتحول فيها الشعور إلى وعي فارغ‪ .‬الشعور‬
‫الديني هو تجسيد الستيعاب الالمتناهي وجودية فقط‪ ،‬بل أيضا عن‬
‫فعل الكون وتأثريه عىل‬ ‫والكلية من خالل املتناهي‪ ،‬وليس‬
‫اإلنسان‪ .‬بدون الذات‪ ،‬فإن‬ ‫استيعابا لالمتناهي في ذاته؛ استيعاب‬
‫الكون سيكون جمرد حمض‬ ‫لوحدة الباطن والخارج‪« .‬الشعور الديني‬
‫تعددية وأجزاء متناثرة غري‬ ‫هو لحظة سلب ونفي لكل التناقضات‬
‫منتظمة‪ ،‬وبدون الكون لن تيع‬
‫واالختالفات‪ .‬إنه درجة الصفر التي‬
‫الذات ذاهتا‬
‫هي الفعل والفكر (نظري)‪ .‬إنه املكافئ‬
‫للشعور املحض أو الترنسندنتالي عند‬
‫كانط‪ .1‬الشعور الديني كوعي بوجود هللا اليحصل إال من خالل األشياء‪ ،‬أو من‬
‫خالل العالم وذواتنا‪.‬‬
‫إنه تأويل للعالم وتشكيل للذاتية‪ .‬ال يعبر الشعور عن حالة وجودية فقط‪،‬‬
‫بل أيضا عن فعل الكون وتأثيره على اإلنسان‪ .‬بدون الذات‪ ،‬فإن الكون سيكون‬
‫مجرد محض تعددية وأجزاء متناثرة غير منتظمة‪ ،‬وبدون الكون لن تعي الذات‬
‫ذاتها‪ .‬إن الذات مسؤولة عن النظام‪ ،‬فهي التي تسبغ النظام على الكون‪.‬‬
‫ويقدم الخطاب الثاني مجموعة من األحاسيس الدينية‪ ،‬منها‪ :‬التواضع‪ ،‬حب‬
‫الغير‪ ،‬اإليثار‪ ،‬االعتراف‪ ،‬الفضيلة‪ ،‬الشفقة‪...‬كل هذه األفعال ال تهدف إلى إثارة‬
‫أفعال بقدر ما هي غاية في ذاتها‪ .2‬صحيح أن املشاعر ترافق كل الحياة اإلنسانية‬
‫كموسيقى مقدسة‪ ،‬إال أنها ال تنتجها‪ .‬اإلحساس مكون أسا�سي للوجود اإلنساني‪،‬‬
‫إنه شرط إمكان كل فعل إنساني‪ .‬إن شحنة اإليمان الديني‪ ،‬عندما تغمراإلنسان‪،‬‬
‫‪1 - Rudolf Eisler, Kant-Lexicon, I, pp. 40-45, trad, Anne-Dominique Balmès et Pierre‬‬
‫‪Osmo, Galimard, 1994.‬‬
‫‪2 - Discours, p.111.‬‬

‫‪228‬‬
‫تنسيه ذاته وتنسيه املوضوع أيضا‪ .1‬وهو ما يساعد على تجاوز الهوة الفاصلة بين‬
‫الذات واملوضوع‪.‬‬
‫‪ -2-2‬الحدس إلبعاد امليتافيزيقا‬
‫في التقليد الفلسفي‪ ،‬يعتبر الحدس معرفة مباشرة‪ .‬ويميز كانط بين نوعين من‬
‫الحدوس‪ :‬حدس ح�سي وحدس عقلي فكري‪ .‬األول‪ :‬خاص باإلنسان وذو طبيعة‬
‫سلبية ‪ . affection passive‬بينما الثاني هو حدس خالق ومبدع وأصيل‪ ،‬يخلق‬
‫موضوعه خلقا‪ ،‬وهذا اليكون إال هلل‪ .‬أخذ شاليرماخر‪ ،‬هذا النوع من الحدس‪،‬‬
‫صرح أن حدس الكون‬ ‫ونسبه إلى اإلنسان‪ ،‬وجعله مبدأ التدين‪ .‬وفي هذا اإلطار ّ‬
‫يشكل‪« :‬مركز خطابي»‪ ،‬إنه املعادلة العامة واألسمى للدين‪ ،‬الذي من خالله‬
‫يمكنكم أن تتوجهوا في كل السبل‪ ،‬ومن خالله يتحدد وجوده وحدوده بطريقة‬
‫دقيقة‪ ،2‬مع تجنب الفصل بين الذات واملوضوع‪ .‬ينطلق الحدس من تأثيرموضوع‬
‫الحدس على الذات املتأملة‪ ،‬بفعل أصيل ومستقل يمارسه املوضوع على الذات‪،‬‬
‫التي تتلقاه‪ ،‬وتدركه بتناسب معه‪.3‬‬
‫تظهر طبيعة الحدس كتأرجح بين اإلدراك من جهة الذات‪ ،‬التي يجب أن‬
‫تتوفر على كمال األعضاء وسالمتها؛ وبين فاعلية الكون‪ .‬تأرجح بين الفعالية‬
‫واالستجابة‪ .‬يمثل الحدس عند شاليرماخر‪ ،‬تجاوزا لذاتية فيشته باالنفتاح على‬
‫العالم املوضوعي املوجود هناك‪ .‬إنه محاولة لتجاوز األنا الوحدية‪ ،‬وانتقال من‬
‫األنا املتعالية إلى الذات األنطولوجية‪ .‬ما الذي يميز الحدس بداللته العامة عن‬
‫الحدس الديني؟‬
‫أساس االختالف بين الداللتين هو املوضوع‪ ،‬فالحدس الديني موضوعه‬
‫الكون كوحدة للمتعدد‪ ،‬وتوحيد للمتكثر‪ ،‬موضوعه هو الكلي‪ ،‬بينما يتعلق‬
‫‪1 - Ibid, p.. 161‬‬
‫‪2 - Ibid, p 154.‬‬
‫‪3 - Ibid, p 154.‬‬

‫‪229‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الحدس الح�سي باملوضوع الجزئي‪ ،‬املنعزل واملنفص‪ . 1‬إذن‪ ،‬ليس هناك نوعان‬
‫من الحدوس‪ ،‬بل فقط موضوعان مختلفان‪ :‬إما الكون في كليته أو ظاهرة جزئية‬
‫ّ‬
‫متزمنة‪.‬‬
‫ِ‬
‫الحدس فريد وخاص‪ ،‬مستقل عن العمليات األخرى‪ ،‬وكل محاولة لجعله‬
‫نسقا هي محاولة تنتمي للميتافيزيقا ال إلى الدين‪ .‬ال يعرف الدين ال استنباطا وال‬
‫نسجا لعالقات تركيبية‪ .2‬كل ما في الدين هو مباشر وحقيقي بذاته‪ ،‬رغم بعض‬
‫التشابهات بين التجارب الحدسية‪ ،‬فكل واحدة تحمل فرادتها في ذاتها‪ .‬لهذا‪ ،‬اعتبر‬
‫شاليرماخرأن فكرة تكوين نسق من التجارب الحدسية فكرة غريبة‪ .‬كل فرد هو‬
‫تجلي للدين الالمتناهي‪ .‬وفي قلب هذا الدين تتعايش كل املتناهيات‪ ،‬دون أن‬
‫تزعج أحدهما األخرى‪ ،‬الكل واحد‪ ،‬الكل حقيقي‪ .‬وهذا اإلحساس املباشربالتعلق‬
‫املطلق‪ 3‬يسكن كل األديان‪ ،‬وهو تجسيد للوعي بالالمتناهي من خالل املتناهي‪ .‬وال‬
‫يمكن التفكيرفي هللا إال في وضمن حدس محدد‪ ،‬بما فيه داخل املجال الديني‪ ،‬ال‬
‫يمكن الشعور به بطريقة أخرى‪. 4‬‬
‫• العالقة بين الحدس واإلحساس‪:‬‬
‫للشعور والحدس أهمية قصوى في فلسفة الدين لدى شاليرماخر‪ .‬فال‬
‫الحدس وحده قادر على التعبير عن اصالة الدين‪ ،‬وال الشعور منفردا يستوعب‬
‫كلية الدين‪ .‬فقيمة الشعور والحدس في تمازجهما وتعاضدهما الدائم‪ .‬وبدون‬
‫االرتباط باهلل من خالل الحدس واإلحساس‪ ،‬سيعيش اإلنسان بوعي منعزل عن‬
‫ذاته في غربة واستيالبا‪ .‬ولكن ذلك الينفي خصوصية كل منهما‪ .‬فإذا كان الحدس‬
‫هو مبدأ الدين‪ ،‬فإن قوة اإلحساس هي التي تحدد درجة التدين ‪. la religiosité‬‬
‫‪1 - Discours, 157.‬‬
‫‪2 - De la religion, p. 32.‬‬
‫‪3- Schleiermacher, F.D,‬‬ ‫‪The Christian Faith, p.131, Third Edition, BLOOMSBURY,‬‬
‫‪London, Oxford, New York, New Delhi, SYDNY, 2016.‬‬
‫‪4 - Schleiermacher, Dialectique, p. 31‬‬

‫‪230‬‬
‫أي أن اإلحساس هو مقياس التفاضل في‬
‫للشعور والحدس أهمية‬ ‫درجات اإليمان‪ .‬وبقدر ما كان الحدس‬
‫قصوى يف فلسفة الدين‬ ‫مقابال للمعرفة التأملية‪ ،‬فإن اإلحساس‬
‫يقابل الفعل ‪ .Action‬البعد الحد�سي هو لدى شاليرماخر‪ .‬فال الحدس‬
‫وحده قادر عىل التعبري عن‬
‫استبعاد للبناءات امليتافيزيقية النظرية‪،‬‬
‫اصالة الدين‪ ،‬وال الشعور‬
‫أما الجانب الشعوري فهوتأصيل وجودي‬
‫منفردا يستوعب كلية الدين‬
‫روحي للفعل وليس هو الفعل كما فهمته‬
‫اإلتيقا الكانطية‪.‬‬
‫وابتداء من الطبعة الثانية للخطابات ‪ ،1806‬ستختل العالقة بين الشعور‬
‫والحدس‪ ،‬وستؤول في األخيرلصالح الشعور‪ . Gefühl‬ويصبح الشعور وحده هو‬
‫املجال الخالص للدين‪ .‬اإلحساس باعتباره تعبيرا عن الوجود والحياة التي تجمع‬
‫الذات والكون‪ ،‬وبامتالك اإلنسان اإلحساس كلحظات دينية فردية‪ ،‬وكفعل إلهي‬
‫من خالل الكون‪ ،‬هذه هي التقوى واإليمان‪ .1‬إن الشعور الديني هو االيمان هو‬
‫التقوى‪ ،‬هو جوهرالدين‪ ،‬إنه تعبيرعن الوحدة األزلية للذاتي واملوضوعي‪ ،‬للروح‬
‫والطبيعة‪ ،‬للفكروالوجود‪.‬‬
‫و في كتاب «الجدل ‪ ،»Dialectique‬يتحدد الشعور كوعي ذاتي مباشر‪ّ 2‬‬
‫يكون‬
‫وحدة الفكر واإلرادة‪ .‬في الشعور‪ ،‬تحدد ذاتنا بطريقة ما‪ ،‬كوحدة لكائن مفكر‬
‫مريد ومريد مفكر‪ ،‬بفضل الشعور تعدم وتذوب التناقضات‪ .‬ويصبح الشعور هو‬
‫قنطرة العبور بين اإلرادة والفكر‪ .‬بين الدرجة الصفر للعودة إلى الذات (املعرفة)‬
‫ولحظة الخروج من الذات (الفعل)‪ .‬في هذه اللحظة‪ ،‬ال يوجد فكر نظري‪ ،‬يريد‬
‫استيعاب موضوع معطى‪ ،‬وال فكرمريد يهدف إلى تحقيق موضوع ما؛ «التناقضات‬
‫بين الفكر والوجود‪ ،‬بين القانون الروحي وقانون العالم تتوقف عن الظهور‪،‬‬
‫‪1 - Discours, p.57.‬‬
‫‪2 - Schleiermacher, Dialectique, p.187.‬‬

‫‪231‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫إلى أن تضمحل وتختفي‪ .»1‬فهذا الوعي‬
‫الذاتي هو الدرجة الصفر من الوعي‪ ،‬إنه خضع استعمال شاليرماخر‬
‫ملفهوم الحدس لتطورات‬ ‫األنا في ذاتها ‪ ، le Je en soi‬إنه العالقة‬
‫الوجودية املباشرة‪ ،‬كما كتب شاليرماخر داللية‪ ،‬تعكس حيوية فكر‬
‫هذا الفيلسوف وتفاعهل مع‬
‫إلى ‪.Lucke2‬‬
‫األنساق الفلسفية اليت حاورها‬
‫وبربط الشعور باإلرادة والفكر‪ ،‬يكون‬
‫الشعور الديني تجاوزا للدين الطبيعي‬
‫الذي اعتقد ان معرفة هللا وخلود الروح ممكنة اعتمادا على العقل النظري‪3‬؛‬
‫وتجاوزا للصورية الكانطية التي أرادت تأسيس الدين على ملكة اإلرادة أيضا‪.‬‬
‫لقد فشلت تلك املقاربات في استيعاب املطلق‪ ،‬عندما استبعدت البعد الروحي‬
‫من الدين‪ ،‬في نظرشاليرماخر‪.‬‬
‫خضع استعمال شاليرماخر ملفهوم الحدس لتطورات داللية‪ ،‬تعكس‬
‫حيوية فكر هذا الفيلسوف وتفاعله مع األنساق الفلسفية التي حاورها‪ .‬فقد‬
‫تغيرت داللة مفهوم الحدس بين طبعة ‪ 1799‬و‪ .1806‬مثال‪ ،‬نجد أن الخطاب‬
‫الثاني‪ ،‬أصبح يستعمل «تأمل اإلنسان املؤمن ليس إال الوعي املباشر بالوجود‬
‫الكوني لكل متناه في الالمتناهي وبالالمتناهي» عوض استعمال «جوهر الدين هو‬
‫الحدس واإلحساس‪ .»4‬مما جعل مفهوم الوعي املباشربالكوني يحل محل الحدس‬
‫واإلحساس‪.‬‬

‫‪1 - Marianna Simon,‬‬ ‫‪la philosophie de la religion dans l’oeuvre de Schleiermacher, p.131,‬‬
‫‪Paris, Vrin, 1979.‬‬
‫‪2-‬‬ ‫‪Demange Pierre, l’essence de la religion selon Schleiermacher, p.63, Paris,‬‬
‫‪Beauchesne, 1991.‬‬
‫‪3 - Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol.Ⅵ, Modern Philosophy: from the‬‬
‫‪French Enlightenment to Kant, p.125, published by Doubleday, 1994, New York.‬‬
‫‪4- S. Marianna,‬‬ ‫‪la philosophie de la religion dans l’oeuvre de Schleiermacher, p. 142.‬‬

‫‪232‬‬
‫وسيتطور فيما بعد إلى التعلق املباشر باملطلق‪ ،‬في كتابه األسا�سي األخير‪،‬‬
‫نظرية اإليمان ‪.‬‬
‫‪ -3‬جمالية تلقي شاليرماخر‪:‬‬
‫أثار تعريف شاليرماخر للدين «كشعور وحدس للكون » تأويالت مختلفة‬
‫حول خلفياته الفلسفية والدينية‪ .‬منهم من رأى‪ ،‬أن شاليرماخر‪:‬‬
‫‪ -3-1‬ذو نزعة صوفية ‪: Mysticisme‬‬
‫ساهم نقد شاليرماخرللدين الطبيعي‪ ،‬وتفكيك الخلط بين الثيولوجيا والدين‪،‬‬
‫والدفاع عن أولوية الشعور والحدس عن العقل االستداللي النظري الستيعاب‬
‫جوهرالدين‪ ،‬في جعل العديد من قرائه يرون في سبيله مسلك املتصوف‪ .‬صحيح‬
‫أنه أعاد تشكيل اإليمان املسيحي بتأويل صوفي؛ إال أن تصوفه لم يكن تصوفا‬
‫سلبيا انعزاليا‪ ،‬بل يمثل فيه الالمتناهي‪ ،‬قوة الحياة وطاقة روحية‪ ،‬وتحول الدين‬
‫بفضله إلى حركة وفعالية‪ ،‬تتعايش داخله الثقافة والتصوف‪ ،‬الصالة والعمل‪،‬‬
‫الباطن والفعالية الخارجية‪ .‬وهو ما يبعد تدينه عن كل نزعة باطنية جامدة‬
‫معادية للعقل من جهة‪ ،‬كما هي لدى جاكوبي (‪ ،1)1819 - 1743‬ويجعله ينشد‬
‫الفعل ويشكل الحياة من جهة أخرى‪ .‬إن تصوفه ذو روح إيجابية فاعلة بعيد عن‬
‫السلبية‪.2‬‬
‫‪ - 3-2‬ذو نزعة شعورية ‪:Sentimentalisme‬‬
‫اعتبرلودفينغ فويرباخ (‪1872 - 1804‬م) أن شاليرماخراختزل الدين إلى نزعة‬
‫شعورية ذاتية؛ في كتاب يحمل عنوانه أكثر من داللة‪ :‬نقد الالعقل الخالص‪:‬‬

‫‪ -1‬من أهم أفكارجاكوبي في هذا املجال‪ ،‬هو دفاعه عن استحالة الدين العقلي وضرورة اإليمان‪ .‬واعتبار‬
‫كل محاولة لعقلنة الدين تؤول نتيجتها إلى اإللحاد أو اسبينوزية أي وحدة الوجود‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪Emile Bréhier, histoire de la philosophie, tome 5, p.221, Cérès, 1994.‬‬
‫‪), in théologie und Kriche, mystik und Kultur, p. 188. cité par M.‬م‪2- K. Barth(1886-1968‬‬
‫‪Simon, la philosophie de la religion dans l’oeuvre de Schleiermacher, pp.318,319.‬‬

‫‪233‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ً‬
‫جوهر املسيحية‪  .1‬وإذا كان فويرباخ متفقا مع شاليرماخر على كون الشعور هو‬
‫جوهر الدين‪ ،‬فإن االختالف بينهما جد عميق‪ ،‬ففي الشعور املباشر باالرتباط‬
‫باملطلق‪ ،2‬اليرتبط اإلنسان باهلل‪ ،‬بقدر ماهو ارتباط بالنوع البشري‪ .‬وفي هذا‬
‫اإلطار‪ ،‬يقول فويرباخ‪« :‬ال ألوم شاليرماخركما فعل هيغل على اختزال الدين إلى‬
‫مسألة شعورية‪ ،‬بل لخلفياته الثيولوجية وغياب الشجاعة الفكرية؛ ألن ذلك‬
‫حجب عنه الرؤية ومنعه من استخالص النتائج الضرورية عقليا‪ ،‬املترتبة عن‬
‫تعريف الدين كشعور وحدس للكون‪.»3‬‬
‫ركز فيورباخ على موضوع اإلحساس‪ ،‬فتبين له أن اإلنسان ينقل كينونته‬
‫الجوهرية خارج ذاته‪ ،‬ويجعلها غرضا لفكره قبل أن يجدها هو نفسه‪ .‬فيغذو‬
‫معه اإلله ليس إال جوهر الشعور موضوعيا‪ ،‬في لحظة يمثل الشعور جوهر‬
‫الدين ذاتيا‪ .4‬وهكذا حصر مضمون الشعور الذاتي ضمن نطاق أنثروبولوجي‬
‫دون تجاوزه إلى مضامين مفارقة‪ .‬واستحال الدين عنده إلى الوعي الذاتي األول‬
‫لإلنسان بطريقة غير مباشرة‪ ،‬ولحظة من لحظات التاريخ الفردي والجماعي‬
‫السابقة على الفلسفة‪ .‬وهذا االعتراض‪ ،‬قد يكون بسبب سوء فهم داللة الشعور‬
‫الديني لديه‪ ،‬الذي هو شعور تام‪ ،‬ولكنه ليس مقولة فارغة‪ ،‬ألن الوعي باهلل هو‬
‫دوما يتضمن وعيا ب�شيء آخر‪ .‬الوعي بالكلية والالتناهي يمر عبر الوعي بموجود‬
‫متناه مفرد‪.5‬‬
‫لقد كان التناهي ‪ finitude‬اإلنساني الذي أسس عليه إيمانويل كانط فلسفته‬
‫‪1- Feuerbach Ludwing, l’essence du christianisme. La première édition de l’ouvrage‬‬
‫‪date de 1841, bientôt suivie, du vivant même de l’auteur, par deux rééditions en 1843 et‬‬
‫‪1849. Cité par Greisch Jean, dans le buisson ardent, p.480.‬‬
‫‪2-‬‬ ‫‪Schleiermacher and Paul T.Nimmo, The Christian Faith, p.131, third Edition,‬‬
‫‪Bloomsbury, Oxford, 2016.‬‬
‫‪3 - Pierre Démange, l’essence de la religion selon Schleiermacher, pp.235-236.‬‬
‫‪4 - Démange Pierre, l’essence de la religion selon Schleiermacher, pp. 235-236.‬‬
‫‪5 - Schleiermacher, D. E, Dialectique pour une logique de la vérité, p. 186.‬‬

‫‪234‬‬
‫األخالقية والدينية‪ ،‬يحتاج إلى من‬
‫يستثمره إلى أبعد الحدود؛ وهو ما قام به لقد كان التنايه اإلنساين الذي‬
‫هنا شاليرماخر وتلميذه فيورباخ‪ .‬أغلق أسس عليه إيمانويل كانط‬
‫وضيق حدوده‪ ،‬فلسفته األخالقية والدينية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فيورباخ هذا التناهي‬
‫يحتاج إىل من يستثمره إىل‬
‫فتحول معه الدين إلى تعبير عن ارتباط‬
‫أبعد الحدود؛ وهو ما قام به هنا‬
‫اإلنسان بذاته‪ ،‬بكينونته الجوهرية؛‬
‫شاليرماخر وتلميذه فيورباخ‬
‫لكنه يرتبط بهذه الكينونة كما لو أنها‬
‫كينونة أخرى‪ .1‬وسار فيورباخ في طريق‬
‫معاكس ألستاذه؛ وأعاد الثيولوجيا إلى جذورها األنثربولوجية‪ ،‬بعدما جعل‬
‫شاليرماخراألنثروبولوجيا متكأ للثيولوجيا‪.‬‬
‫‪ -3-3‬ذو نزعة ال عملية‪ /‬الأخالقية ‪:immoralisme‬‬
‫هذا التأويل الثالث‪ ،‬يرى في استغراق شاليرماخرفي املعرفة الحدسية املباشرة‬
‫إبعادا للدين عن األخالقية واقترابا من ضدها ‪ immoralisme‬الالأخالقية‪.‬‬
‫ويبدو أن إصرار شاليرماخر على استقاللية الدين عن األخالق‪ ،‬وتأكيده على‬
‫أن الدين يحافظ على أصالته وهويته كلما ابتعد عن الفعل ‪ ،Action‬هو سند‬
‫هذا التأويل‪ .‬بيد أن غاية شاليرماخر من إبراز الحدود‪ ،‬لم تكن أكثر من إعادة‬
‫ترتيب للعالقة بين الدين واألخالق‪ ،‬وليس استبعادا لبعضهما‪ .‬ويزداد موقف‬
‫شاليرماخروضوحا عندما نقارن وجهة نظركتاب «عن الدين» مع كتاب «األخالق‬
‫لسنة ‪ ،»1805-1806‬أومع كتاب «نظرية اإليمان» حيث تظهربوضوح عالقة بين‬
‫الدين واألخالق‪ .‬من جانب آخر‪ ،‬يمكن تنسيب هذا التأويل باإلشارة إلى سببين‪:‬‬
‫أوال‪ :‬الينبغي الخلط بين الخصوصية والنقاء الفارغ‪ .‬يحاول شاليرماخر‪،‬‬
‫أن يبرز خصوصية الدين واستقالليته‪ ،‬وهذا ال يعني انعزاله وانفصاله عن‬
‫‪ -1‬فويرباخ لودفينغ‪ ،‬جوهر املسيحية‪ ،‬ص‪ ،66.‬ترجمة جورج برشين‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الرافدين وأوبوس‪،‬‬
‫‪ ،2016‬لبنان‪ ،‬كندا‪.‬‬

‫‪235‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫األخالق‪ ،‬املعرفة‪ ،‬الفن وكل تعابيرالروح‪.‬‬
‫منح شاليرماخر‬ ‫بل تتجسد خصوصية الدين في نوعية‬
‫الشعور الديين دور املانح‬ ‫العالقات التي تربطه بهذه التعابير‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مضامين بعض خطب كتاب للتناسق واالنسجام البديع‬
‫«الدين» ذاتها تبرر هذه العالقة‪ .‬بني كل العلوم والفنون اليت‬
‫رآها منفصةل بعهضا عن‬ ‫يقول شاليرماخر‪« :‬إرادة املشاركة في‬
‫بعض‪ .‬والقوة الرتكيبية للروح‬
‫النظر والعمل دون دين‪ ،‬هو افتراض‬
‫متهور‪ ،‬وعداوة وقحة تجاه اآللهة‪ ،‬إنها‬
‫الروح املتمردة لبروميثيوس‪.»1‬‬
‫يظهر الدين كشرط إمكان الفكر والعمل‪ .‬ليس للفكر معنى إال ألن حماسة‬
‫الدين حاضرة سرا في روح الباحث؛ وليس لألخالق معنى كمجهود للتشبه باإلله‬
‫إال بالشعور الديني‪ ،‬وإال فستكون عبارة عن محاولة لبلوغ اآلفاق دون سلطان؛‬
‫«أن نكون أخالقيين بدون دين‪ ،‬أو أن يكون شخص ما متدينا مؤمنا‪ ،‬وال أخالق‬
‫له‪ ،‬فإن هذا أيضا مستحيل‪ ،‬ويستتبع ذلك‪ ،‬أن نكون أخالقيين نتعاطى للعلم‬
‫دون دين‪ .»2‬لقد منح شاليرماخر الشعور الديني دور املانح للتناسق واالنسجام‬
‫البديع بين كل العلوم والفنون التي رآها منفصلة بعضها عن بعض‪ .‬والقوة‬
‫التركيبية للروح‪« ،‬ومركزاإلنسانية والحضارة الحديثة‪.»3‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫واجه الدين معارك متنوعة في مسارتطوره التاريخي‪ ،‬نتيجة خلق تماه بينه وبين‬
‫الالهوت أحيانا‪ ،‬وبينه وبين الشريعة أحيانا أخرى‪ .‬وحجبت جدران املؤسسات‬
‫الكنسية جوهره‪ ،‬وشوهت خطابات القسيسين ومبررات السالطين صورته‪ .‬وقد‬
‫‪1 - Discours, p.152.‬‬
‫‪2- Ibid, p.49.‬‬
‫‪3- F. Schlegel, Idée, Fragment 41, cité par, George Gusdorf, le Romantisme, Tome 1, p.47.‬‬
‫‪Paris, Payot et Rivages, 1993 .‬‬

‫‪236‬‬
‫يكون التمييز الذي أقامه شاليرماخر بين الدين من جهة وامليتافيزيقا واألخالق‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬إحدى الخطوات األساسية للمساهمة في ترشيد وتوجيه سهام‬
‫النقد والتجديد‪ .‬إن إرجاع جوهر الدين إلى التجربة الدينية بما تحمله من تعلق‬
‫مباشر باهلل‪ ،‬هو استعادة للدين كمنهل إلرواء الظمأ األنطولوجي‪ ،‬كما سماه عبد‬
‫الجبار الرفاعي‪ ،‬ومنبع إلثراء الحياة الروحية‪ .‬لقد ساهم شاليرماخر في إعادة‬
‫تنظيم للعالقة بين أنماط الوجود اإلنساني‪ ،‬وفتح آفاقا الستشعار الحضور‬
‫اإللهي أثناء الفعل والفكر‪ .‬وهو ما يجعل التجربة الدينية مصدرا وأساسا لفهم‬
‫وتأويل الفعل اإلنساني‪ .‬وبدونها تغذو الطقوس والعبادات والتضحيات عادات‬
‫اجتماعية تساهم في التماسك االجتماعي‪ ،‬واملحافظة على بنياته فقط‪.‬‬
‫وقد استند رودلف أوتو ‪ )-1869( Rudolf Otto‬على تعريف شاليرماخر‬
‫للدين كإحساس مباشرباملطلق إلنجازعمله الفريد «فكرة القد�سي ‪ »1917‬الذي‬
‫ترجم إلى أكثرمن عشرين لغة‪ .‬وفيه‪ ،‬واعتبرفيه أن الدين‪ ،‬في أغلب املجتمعات‪،‬‬
‫عبارة عن خوف ورهبة ورغبة وانبهار وعظمة‪ ،‬أكثر من عالقة خالق ومخلوق‬
‫باملحبة والرحمة والثقة‪ .‬كما أن األبحاث في فلسفة الدين‪ ،‬اليوم‪ ،‬ال تنفك تعود‬
‫إلى معقولية التجربة الدينية لتأسيس التعددية الدينية‪ .‬فال تجربة قادرة على‬
‫استنفاد الكلي‪ ،‬ألن كل الذوات متناهية معرفيا وأخالقيا وزمنيا‪ ،‬وهو ما يجعل‬
‫التجارب مشروطة بسياقها وآفقها‪.‬‬
‫هذا يعني أن املعرفة املمكنة باهلل هي معرفة ذات طبيعة عالئقية‪ ،‬بمعنى‬
‫معرفة هللا في وضعية اتصال هللا بنا أو معرفته في اتصالنا به‪ ،‬مع بقاء هللا بما‬
‫هو في ذاته محتجبا عن املعرفة‪ ،‬ويعلو على أية تسمية أو وصف‪« .‬تعالى هللا عما‬
‫يصفون»‪ .‬وكون معرفتنا باهلل ليست معرفة مباشرة ‪ ،‬بل هي التصور الذي يتولد‬
‫في الذهن بعد تفسير جملة معطيات باطنية وأحاسيس خارجية‪ ،‬فإن معرفتنا‬
‫باهلل مسبوقة بقوالب إدراكية وبنى لغوية جاهزة‪ ،‬تكون بمثابة ماقبل املعرفي في‬

‫‪237‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫تصنيف املعطيات ومنحها املعنى والداللة املناسبتين‪ .‬فما نقوله عن هللا هو في‬
‫الحقيقة حصيلة النشاط الذهني الذي يتولد إثرالتجارب الدينية‪ ،‬التي تتحصل‬
‫إما بتوسط البيئة الحسية كاألشياء واالحداث والنشاطات اإلنسانية في العالم‪،‬‬
‫إما باتصال مباشر كما يحصل لألنبياء بالوحي وللمتصوفة والعارفين بالكشف‪.‬‬
‫بعبارة أخرى املعطى اإللهي ح�سي واختباري‪ ،‬أما املعنى االلهي فهو املعنى البشري‬
‫الذي ننسبه نحن البشرإلى الحقيقة العليا في سياق النشاط الذهني لتفسير‬
‫املعطيات التي تصلنا او نحصلها عنه‪ ،‬وحيا كان أم كشفا أو حسا‪.‬‬
‫بهذا تصبح املسألة املعرفية مرتبطة بالبحث في القوالب اإلدراكية التي نفهم‬
‫بها املعطيات الخارجية ونفسرها كتجارب دينية في معرفة هللا‪ .‬وبتعبير كانطي‪،‬‬
‫املسألة هي البحث في شروط إمكان معرفة هللا‪ .‬ونروم املساهمة في خلق وعي‬
‫بالتعددية الدينية‪ ،‬بالبحث في شروط إمكان اإليمان باهلل‪ ،‬وفي كيفية إزالة‬
‫العوائق التاريخية التي تحول دون انفتاح االنسان عن هللا‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫الئحة املصادرواملراجع بالفرنسية واإلنجليزية‬

• DISCOURS SUR LA RELIGION à ceux de ses contempteurs qui sont


des esprits cultivés, Paris ; trad.fr.I.-J.Rouge, Aubier/Montaigne,1944.
• De la religion, Discours aux personnes cultivées d’entre ses
mépriseurs, Paris, trad.fr. Bernard Reymond, Van Diern, 2004.
• Herméneutique, trad. fr. Christian Berner, Paris, Lille, Cerf ,passage
opuscule, 1989.
• Schleiermacher and Paul T.Nimmo, The Christian Faith, third
Edition, Bloomsbury, Oxford, 2016.
• Schleiermacher, Esthétique, trad. Christian Berner, Denis Thouard,
CERF, 2004.
• Schleiermacher, F.D, The Christian Faith, Third Edition,
BLOOMSBURY, Oxford, Lodon, 2016.
• Schleiermacher, Ethique, le Brouillon sur l’éthique de 1805-1806,
tard, Christian Berner, Cerf, 2003, Paris.
• Dialectique pour une logique de la vérité, trad. fr. Christian Berner
et Denis Thouard, Paris ,Laval, Genève,Cerf, Labor et Fides , Presse
de l’ Université de Laval, Passage ;1997.
• Ethique, le brouillon sur l’ éthique de 1805-1806 avec des notes
prises à ses cours par AUGUST Boeckh,trad. CHRISTIAN Bernar
,Paris,Cerf, passage,2003.
• Schleiermacher, E, D, lectures on philosophical ethics, translated
by Louise Adey Huish, Cambridge University Press, 2002.
• M. Simon, la philosophie de la religion dans l’oeuvre de

239 ‫ م‬2020 ‫ يناير‬- ‫ ه‬1441 ‫ جمادى األولى‬3 ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد‬
Schleiermacher, Paris, Vrin, 1979.
• Marina, Jaqueline, Transformation of the self in the thought of
Schleiermacher, first published, 2008, Oxford.
• David Jaspers, The interpretation of belief, p.104, Coleridge,
Schleiermacher, Romanticism, First published, 1986, Macmillan,
London.
• Nef, Frédéric, qu’est-ce que la méthaphysique, Gallimard, 2004.
• Pierre Démange, l’essence de la religion selon Schleiermacher,
Paris, Beauchesne, 1991.
• Kant, la religion dans les limites de la simple raison, trad, M. Naar,
Vrin, 2004.
• Dilthey, conception du Monde et l’analyse de l’homme depuis la
Renaissance et la Réforme, œuvre 4, trad. Fr. Fabienne Balaise, Cerf,
«passager« Paris, 1993.
• Jean Greisch, le buisson ardent et les lumières de la raison, vers
un paradigme herméneutique, Philosophie et Théologie, Paris, Cerf,
2004.
• Emile Bréhier, histoire de la philosophie, tome 5, Cérès, 1994.
• Bruch, Jean-Louis, la philosophie religieuse de Kant, Aubier/
Montaigne ,1968.
• Rudolf Eisler, Kant-Lexicon, I, trad, Anne-Dominique Balmès et
Pierre Osmo, Galimard, 1994.
• Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol Ⅳ, Modern
Philosophy: from Descartes to Leibniz, published by Doubleday,
1994, New York.

240
‫‪• Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol. , Modern‬‬
‫‪Philosophy: from the French Enlightenment to Kant, published by‬‬
‫‪Doubleday, 1994, New York.‬‬
‫‪• Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol. , Modern‬‬
‫‪Philosophy: from the The post-kantian Idealists to Marx, Kierkegaard,‬‬
‫‪Nietzsche, published by Doubleday, 1994, New York.‬‬
‫‪• George Gusdorf, le Romantisme, Tome 1, Paris, Payot et Rivages,‬‬
‫‪1993 .‬‬

‫الئحة املراجع بالعربية‬

‫• فويرباخ لودفينغ‪ ،‬جوهر املسيحية‪ ،‬ترجمة جورج برشين‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الرافدين‬
‫وأوبوس‪ ،2016 ،‬لبنان‪ ،‬كندا‪.‬‬
‫• عبد الجبار الرفاعي‪ ،‬موسوعة فلسفة الدين ‪ ،2-‬اإليمان والتجربة الدينية‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬مركزدراسات فلسفة الدين‪ ،‬ودارالتنوير‪ ،2015 ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫• هيجل‪ ،‬موسوعة العلوم الفلسفية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬امام عبد الفتاح امام‪ ،‬دار‬
‫التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،1983 ،‬ط‪ ،1‬دارالثقافة بالقاهرة ‪.1985‬‬
‫• ولتر ستيس‪ ،‬الزمان واألزل‪ :‬مقال في فلسفة الدين‪ ،‬ترجمة د‪ .‬زكرياء إبراهيم‪،‬‬
‫املؤسسة الوطنية للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬

‫‪241‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫فلسفة الدين يف الفكر‬
‫الفلسيف املعارص‬
‫فلسفة الدين يف زمن العلمنة‬
‫د‪ .‬حاتم أمزيل‬

‫متميز وخاص‪ ،‬سمته الفكرية‬ ‫نشأ مبحث فلسفة الدين في سياق فكري ّ‬
‫األساسية اإلعالن الكانطي عن نهاية مهام الثيولوجيا واألنطولوجيا في صيغتهما‬
‫العلمية‪ ،‬وذلك إثرضربة موجعة تلقتها كل املحاوالت الفكرية امليتافيزيقية بفعل‬
‫الرسم النقدي لحدود املعرفة البشرية‪.‬ليس غرضنا من هذا التصريح مجرد‬
‫ُ‬
‫اإلشارة إلى وجود سياق «وضعي» ترعرع في كنفه مبحث فلسفة الدين‪ ،‬بل نريد‬
‫التأكيد على أن العمل في املبحث الجديد انطلق من النقد الكانطي واستوعبه‬
‫واشتغل وفق برنامج البحث الذي وضعه هذا النقد لكل فلسفة دين مستقبلية‪،‬‬
‫بحيث كان املوجه األسا�سي لهذا البرنامج العام هو ضرورة التشبث‪ ،‬في كل بحث‬
‫فكري مستقبلي‪ ،‬بحدود إمكان املعرفة‪.1‬‬
‫بعد هذه التوطئة التي وضحت بشكل مكثف السياق الفكري لنشأة مبحث‬
‫‪ -1‬علينا أن نميز بين فلسفة الدين والتأمالت الفلسفية حول الدين واالعتقاد‪ ،‬املنتشرة في متون‬
‫الفلسفة منذ فجرها األول‪ .‬نريد أن ننبه إلى أن مقالنا يتناول بالدرس مبحث فلسفة الدين الذي ظهر‬
‫إثر الهزة النقدية الكانطية‪ ،‬لكن جذوره تمتد قريبا من هذه الهزة‪ ،‬وبالضبط في ظهور نقد النصوص‬
‫الدينية بداية من بايلو سبينوزا‪.‬‬
‫في هذا اإلطارالحظنا بأن جون غروندان ال يتوانى‪ ،‬ونحن غيرمتفقين معه في ذلك قطعا‪ ،‬عن الحديث عن‬
‫«فلسفة دين إغريقية» (ص‪ .)40 - 39 .‬بل وجدناه يساوي بين الثيولوجيا العقالنية وفلسفة الدين(على‬
‫عكس توجهنا في مقالنا) في محاورات أفالطون‪ ،‬معتبرا بأن الفيلسوف اليوناني مارسهما معا‪ ،‬ودليله‬
‫على ذلك كامن في أن أفالطون استدل في محاوراته على وجود اإلله وعلى املعتقدات الدينية األساسية‬
‫(التدبيراإللهي للعالم والعناية اإللهية‪( )...‬ص‪.)56 .‬‬
‫‪Jean Grondin, La philosophie de la religion, Paris, Puf, Que sais-je?, 2009.‬‬

‫‪245‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫فلسفة الدين‪ .‬نبدأ بالبحث في تعريف أولي لفلسفة الدين‪ ،‬قبل استعراض‬
‫تصورات ثالثة مفكرين أثروا بشكل كبيرفي التصور الذي هيمن في القرن العشرين‬
‫على هذا املبحث‪ ،‬مع التنبيه إلى أن الطريق الذي اخترناه للتعريف يتما�شى مع‬
‫جوهر الفلسفة املؤطرة لتوجهات املفكرين الثالث‪ .‬سنجيب أوال عن سؤال‪ :‬ماذا‬
‫تبقى ملبحث فلسفة الدين إثر النقد الكانطي؟ ما املقصود بفلسفة الدين؟ وما‬
‫هو موضوع هذا املبحث؟ وهل استوى على عرش امليتافيزيقا بعد إزاحتها بفعل‬
‫مجرد مبحث من مباحث الفلسفة وغصنا من أغصان‬ ‫عد ّ‬ ‫النقد الكانطي؟ أم أنه ُي ُّ‬
‫شجرتها‪ ،‬شأنه شأن اإلستيطيقا والفلسفة السياسية مثال؟ وما هو منهجه؟ أي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الدين‪ ،‬فلسفة؟‬ ‫بأي معنى يطلق على هذا املبحث‪ ،‬الذي موضوعه‬
‫نبدأ أوال بتعريف قائم على السلب‪ ،‬أي بتحديد ما ليس فلسفة دين‪ .1‬نعلم‬
‫ّ‬ ‫جيدا بأن املهمة ليست ّ‬
‫بالهينة‪ ،‬ألننا سنحاول تمييز وفصل هذا املبحث عن‬ ‫ِ‬
‫مباحث تتقاطع معه في العديد من القواسم؛ نقصد‪ :‬الثيولوجيا والفلسفة‬
‫الدينية‪.‬‬
‫من أجل تمييز واضح وأولي ملوضوع مبحث فلسفة الدين ومنهجه‪ ،‬نقول‪ :‬إذا‬
‫اقتصرت مهمة املفكر على الدفاع عن عقائد إيمانية وإثبات الطابع العقالني‬
‫للوحي‪ ،‬في التخوم الرابطة‪/‬الفاصلة بين الدين والفلسفة‪ ،‬فإن هذا العمل يدخل‬
‫في خانة الثيولوجيا‪ .‬أما إذا اتجهت وظيفة الخطاب الفلسفي إلى نقل التجربة‬
‫‪ - 1‬إذا كنا قد حاولنا تعريف مبحث فلسفة الدين بالسلب‪ ،‬وكذا بالعودة إلى تاريخ نشوئه الفكري‪،‬‬
‫فإننا ال نرى ضرورة للعودة إلى األصل االشتقاقي لكلمة «دين» في اللغة العربية الستكمال التعريف‪ ،‬ألن‬
‫االهتمام بالدين في شموليته وكونيته‪ ،‬ينطلق في نظرنا من اعتباره تجربة بشرية تتجاوز اللغات واألقوام‬
‫والديانات ذاتها‪ ،‬األمر الذي يدعونا إلى البحث في املشترك‪ ،‬دون أن يعني ذلك إهمال الخصوصية‬
‫والجهوية‪.‬‬
‫ال�شيء نفسه ّنبه عليه غرايش‪ ،‬حين بين أن االنقسام واالختالف يكون دائما مصير كل الدراسات التي‬
‫حاولت فهم الظاهرة الدينية بالتركيزعلى األصل االشتقاقي للفظ في اللغات الهندو ‪ -‬أوربية‪.‬‬
‫‪- J. Greisch,Buisson Ardent et les lumières de la raison, T. 1, Paris, Cerf, 2002, pp. 14-16.‬‬
‫‪Cf. Grondin, La philosophie de la religion, op. cit.,pp. 65-79.‬‬

‫‪246‬‬
‫الروحية والدينية في لغة فلسفية‪ ،‬نكون‬
‫في قلب فلسفة دينية‪ .1‬وبالتالي‪ ،‬ليست سنجيب أوال عن سؤال‪ :‬ماذا‬
‫فلسفة الدين دفاعا عن عقيدة‪ ،‬وال تبىق ملبحث فلسفة الدين إثر‬
‫بحثا في الدالئل على وجود هللا وصدق النقد الكانطي؟ ما املقصود‬
‫بفلسفة الدين؟ وما هو‬
‫العقائد الدينية‪ ،‬وليست نقال للتجربة‬
‫موضوع هذا املبحث؟ وهل‬
‫الدينية في لغة ومنطق فلسفيين‪.‬‬
‫استوى عىل عرش امليتافزييقا‬
‫بعدما توقفنا عند السياق الفكري‬
‫بعد إزاحهتا بفعل النقد‬
‫الكانطي؟‬ ‫لظهور فلسفة الدين وقدمنا تعريفا أوليا‬
‫لهذا املبحث‪ ،‬نعرض فيما يلي للسياق‬
‫التاريخي والثقافي العام الذي احتضن‬
‫نشوء مبحث فلسفة الدينواثرفي التصور املؤطرله‪.‬‬
‫لقد عرفت اإلنسانية األورو ‪ -‬أمريكية منذ قرنين ونصف تغيرات كبيرة (أمر‬
‫امتد فيما بعد إلى اإلنسانية جمعاء‪ ،‬بوتائر مختلفة ومتفاوتة)‪ .‬على مستوى‬
‫الدولي أصبحت العالقات بين الدول تنتظم على أسا�سي قانوني بفضل االتفاقيات‬
‫واملعاهدات‪ ،‬سواء تعلق األمر باملجال السيا�سي أو بمجاالت التجارة واالقتصاد‬
‫‪ - 1‬من الصعب تحديد تاريخ بداية الفلسفة الدينية‪ ،‬وذلك راجع باألساس إلى كون ميالد الفلسفة‬
‫ذاته أخذ عن التجربة الدينية الكثير من خصائصها‪ .‬لقد كان ولوج مذهب فلسفي شبيها بالدخول إلى‬
‫ديانة جديدة‪ ،‬وهواألمرالذي يستشعره املرء‪ ،‬مثال‪ ،‬في قراءة محاورات أفالطون‪ ،‬املشبعة بعبارات تحيل‬
‫إلى تجربة الدخول إلى عالم جديد ونظرة جديدة وتصور جديد عند االنتقال من مذهب فلسفي إلى‬
‫آخر‪ ،‬دون أن نن�سى في هذا السياق الشرط املعلق أو الشعار على باب أكاديميته (ال يدخل علينا من لم‬
‫يتعلم الرياضيات)‪ .‬مرورا بالتجارب الفلسفية الهيلنستية والوسطوية‪ ،‬ونخص بالذكرتجربة أوغسطين‪،‬‬
‫حيث االنتقال من املانوية إلى األفالطونية إلى املسيحية هو انتقال بين تجارب روحية‪ ،‬وصوال إلى نبرة‬
‫ديكارت في مقدمة مقال في املنهج‪ ،‬دون أن نن�سى فلسفة باسكال وبشكل أوضح وأقرب إلينا كيركغارد‪.‬‬
‫وهو األمرالذي عبرعنه إتيان جلسون بـ «ميتافيزيقا الهداية» في تاريخ الفلسفة‪ .‬لذلك إذا كان للثيولوجيا‬
‫تواريخ ميالد ووفاة واضحة (وفاتها ونهايتها كمشروع علمية)‪ ،‬فإن الفلسفة الدينية نشأت داخل التجربة‬
‫الفلسفية‪ ،‬وخرجت رويدا رويدا إلى هامشها‪ ،‬وصاحبتها في تاريخها‪ ،‬بحيث تبدو أقرب إلى التجربة األدبية‬
‫منها إلى الهم الفلسفي التأسي�سي‪ .‬للمزيد حول هذا املوضوع‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Jean Greisch, op. cit., pp. 40-43.‬‬

‫‪247‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫وحركة رأس املال‪ .‬على الصعيد‬
‫الداخلي للدول عرفت الديناميات إذا اتجهت وظيفة اخلطاب‬
‫الفلسيف إىل نقل التجربة‬ ‫االجتماعية والسياسية نموا ديمقراطيا‬
‫َ ُّ‬
‫الروحية والدينية يف لغة‬ ‫مطردا سمتها األساسية ت َنظم العالقات‬
‫بين الفرقاء االجتماعيين على أساس فلسفية‪ ،‬نكون يف قلب فلسفة‬
‫دساتير وتعاقدات اجتماعية (اكتسبت دينية‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ليست فلسفة‬
‫القوانين املكتوبة سلطة أعلى من الدين دفاعا عن عقيدة‪ ،‬وال‬
‫بحثا يف الدالئل عىل وجود اهلل‬
‫سلطة األشخاص والجماعات)‪.‬‬
‫وصدق العقائد الدينية‪ ،‬وليست‬
‫هذه التغيرات صاحبتها تغيرات‬
‫نقال للتجربة الدينية يف لغة‬
‫ومنطق فلسفيني‬ ‫على مستوى تنظيم الحياة الفردية‬
‫والجماعية‪ .‬كما عرف التعبير الفني‬
‫قطيعة مع أنماط الفن القديم‪،‬‬
‫وتحررت مجاالت متعددة من سلطة الدين ومؤسساته‪ .‬أيضا‪ ،‬تغيرت الحياة‬
‫الدينية لألفراد والجماعات‪ .‬ظهرهذا األمربجالء في تغيرعالقة املؤسسات الدينية‬
‫بالدولة واملجتمع واألخالق‪ .‬كما عرف الفضاء العام انفتاحا على مستوى النقاش‬
‫العام فيما يخص القضايا األخالقية والسياسية في األدب والفلسفة والصحافة‬
‫والشعر‪ ...‬بحيث إن كل ما كان ُي َع ُّد في املا�ضي «مبادئ ثابتة» أصبح موضوعا‬
‫للتحليل واملراجعة ومسائل مفتوحة للنقاش‪ :‬الجسد والحرية الدينية والتمثيلية‬
‫السياسية ومكانة الفرد وعالقة العلم باألخالق ومكانة الدين في مؤسسات الدولة‬
‫وفي املجتمع‪ ...‬بصفة عامة‪ ،‬لقد هيمن عند نهاية القرن التاسع عشر شعور عام‬
‫بأن حياة املجتمع الدولي تسير في كل أبعادها نحو تغيرات نوعية في املقبل من‬
‫َّ‬
‫الزمان‪ .‬إنه شعور عام اختلف تقديره وتقييمه بين من تمثله بخوف وندم على‬
‫ُ‬
‫فقدان عالم يندثر وبين من نادى بتسريع أسبابه والسير ق ُدما في االتجاه نفسه‬

‫‪248‬‬
‫بحماس وأمل‪.1‬‬
‫إذن‪ ،‬اتسم الجو العام الذي نشأت فيه فلسفة الدين بعلمنة عارمة‪،‬‬
‫ومراجعة شاملة ملكانة الدين في الحياة الفردية والجماعية‪ ،‬ونقد الذع من طرف‬
‫كانط لحدود املعرفة البشرية‪ ،‬وبعده تبنت جل الفلسفات هذا النقد‪ ،‬ثم عرف‬
‫هذا الجو العام هجوما قويا من لدن فلسفات القرن التاسع عشر ضد الخرافة‬
‫واألسطورة‪ ،‬وصعود وانتشار الفلسفات الوضعية والتطورية‪ ...‬في هذا اإلطار‬
‫الثقافي والعلمي كان على فلسفة الدين أن تجد لها موضوعا ومنهجا مغايرين‬
‫عن املوضوعات واملناهج التقليدية التي اعتمدت في الثيولوجيا ما قبل الكانطية‪.‬‬
‫حددوا معالم فلسفة الدين‬ ‫سنعرض في هذا املقال لتصورات ثالثة مفكرين َّ‬
‫ِ‬
‫عند منعطف فاصل في تاريخ الفكرالغربي وتاريخ املسيحية‪ ،‬وهم‪ :‬إرنستترولتش‬
‫وبول تيليش ورودولف بولتمان‪ .2‬لقد أسهم هؤالء بوضع مقترحات ملوضوعات‬
‫مبحث فلسفة الدين ومناهجه في الجو العام الذي بينها سماته العامة‪ .‬قاسمهم‬
‫املشترك هو الوعي بالتحوالت العظمى التي عاشتها اإلنسانية منذ أواسط القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬وكذا تبنيهم نقد كانط لحدود املعرفة اإلنسانية‪ .‬ترى كيف حل‬
‫فلسفة موضوعها الدين مع االلتزام بحدود املعرفة‬ ‫ٍ‬ ‫هؤالء مفارقة الحفاظ على‬
‫اإلنسانية وعدم تخطي تلك الحدود‪ ،‬رغم أن املوضوعات الكبرى للدين كلها‬
‫موضوعات متعالية وهي هللا والنفس والعالم والوحي؟‬
‫ُ‬
‫ال نريد في مساحة هذا املقال أن ندخل في مجال فلسفة الدين (بحصراملعنى)‬
‫كل التأمالت الفلسفية النقدية التي حظيت بها الظاهرة الدينية بعد كانط‪.‬‬
‫نقصد بـ «التأمالت» مختلف املحاوالت النقدية التي سعت إلى تخليص الدين‬
‫من أغطيته امليتولولوجية واإليديولوجية بناء على النقد الثقافي حينا أو على‬
‫‪1- Ernst Troeltsch, Histoire des religions et destin de la théologie, Œuvres III, trad. par‬‬
‫‪Jean-Marc Tétaz, Paris/Genève, Cerf/Labor et Fides, 1996, p. 5-6.‬‬
‫‪2- Ernst Troeltsch: 1865 – 1923. Paul Tillich: 1886 – 1965. Rudolf Bultmann: 1884 – 1976.‬‬

‫‪249‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫النقد االقتصادي ‪ -‬االجتماعي حينا آخرأو على النقد التاريخي أحايين أخرى‪ ،‬وهي‬
‫املحاوالت التي زخر بها القرن التاسع عشر‪ .‬صحيح أن هذه املحاوالت كان لها أثر‬
‫كبيرعلى تطور مبحث فلسفة الدين فيما بعد‪ ،‬لكننا في هذا الجانب نتبنى تصورا‬
‫تصور سياقا يحتضنه أو «بنية معنى» منها يشتق‬ ‫ٍ‬ ‫«بنيويا» يرى بأن لكل ٍ‬
‫فكر أو‬
‫دالالته وغاياته‪ ،‬وبالتالي فإننا نرفض النظرة التاريخية الفجة التي ترد كل مولود‬
‫فكري إلى عصور تاريخية بعيدة عن ميالده الزمني‪.‬‬
‫إرنستترولتش وصورة العالم الحديثة‬
‫وقف إرنستترولتش أمام صورة العالم الحديثة قبل أن يقرر املسار الذي‬
‫يجب أن تتخذه العلوم حول الدين موضوعا ومنهجا‪ ،‬فالحظ أن الحرية من‬
‫حضت‬‫السمات األساسية لزمن بدأت معامله ترتسم منذ عصراألنوار‪ .‬إنها حرية ّ‬
‫عليها املسيحية أول األمر‪ ،‬لكنها تحررت بدورها من املسيحية وكهنوتها وذهبت‬
‫تبحث لنفسها في داخل العالم الدنيوي عن أسس مغايرة وغايات مختلفة‪.‬‬
‫السمة األساسية األخرى لصورة العالم الحديثة تكمن في توجه الثقافة الحديثة‬
‫نحو العالم الدنيوي وانغراسها داخله‪ .‬فبعد االكتشافات الجغرافية وآثارها‬
‫على مستوى الرفاه االقتصادي‪ ،‬ومساهمة حركة التجارة العاملية في هذا الرفاه‬
‫بفعل بروزظواهرجديدة في اإلنتاج وتوزيع الثروات والخيرات وانتظام العالقات‬
‫املالية وتحقيقها لألمن والطمأنينة االقتصاديين وما تبع ذلك من تضخم في‬
‫رأس املال العالمي‪ ،‬انعكس كل ذلك على صورة العالم التي يحملها الناس في‬
‫أذهانهم حيث اختفى‪ ،‬رويدا رويدا‪« ،‬مناخ مشبع بثقافة مسيحية تقدس الفقر‬
‫واأللم‪ ،‬وظهر بدله مناخ متوجه إلى العالم الدنيوي‪ُ ،‬يقدس الصحة والقوة‬
‫والعمل املنتج للخيرات وحياة الرفاهية واملال والجمال»‪ .1‬تزامن هذا التحول مع‬
‫تبدى في منهج املعرفة‬‫«انقالب طرأ على مستوى أسس معرفة اإلنسان‪ ،‬وهو ما ّ‬

‫‪1- E. Troeltsch, op. cit., p. 6.‬‬

‫‪250‬‬
‫ونتائجها»‪ .1‬تلك كانت سمة أخرى من‬
‫سمات الزمن الحديث‪ .‬يشير ترولتش نقصد ـب «التأمالت» خمتلف‬
‫ُ‬
‫كيف ولد العلم الحديث متجاوزا العلم املحاوالت النقدية اليت سعت‬
‫القديم بفضل تصورات وضعية قابلة إىل تخليص الدين من أغطيته‬
‫للبرهان واالستدالل‪ ،‬إلى جانب تقنية امليتولولوجية واإليديولوجية‬
‫حديثة مكنت اإلنسان من التحكم في بناء عىل النقد الثقايف حينا‬
‫الطبيعة وتجاوز خوفه القديم منها‪ .‬أو عىل النقد االقتصادي ‪-‬‬
‫هذه التحوالت العلمية والتقنية حررت االجتمايع حينا آخر أو عىل‬
‫اإلنسان ومنحته الثقة في النفس النقد التارييخ أحايني أخرى‬
‫بحيث أضحى مقتنعا بأنه يملك «مفتاح‬
‫نجاحات أخرى ال نهاية لها»‪.2‬‬
‫لقد حل محل صورة العالم العفوية والبسيطة تفسير علمي للعالم‪ ،‬أصبح‬
‫نبع وأساس كل �شيء في الزمن الحديث‪ :‬الحرية والقانون‪ ،‬والعمل الصناعي‬ ‫َ‬
‫والطب‪ ،‬والعالج واالحتياطات الصحية ‪ ،l’hygiène‬ومؤسسة العمل اإلداري‬
‫وتنظيم التدبير السيا�سي واملرافق االجتماعية‪ ،‬والتحكم في الدورة االقتصادية‬
‫والعالقات املالية‪...‬وقد سجل ترولتش هذه التغيرات دون أن يفوت الفرصة‬
‫َ‬
‫س إيجابي متفائل أن الزمن املا�ضي لم يعرف هيمنة للعلم على‬ ‫ليالحظ بنف ٍ‬
‫الحياة البشرية تساوي هيمنته الحديثة‪ّ .‬‬
‫لكن هذا العلم الذي كان وراء النجاح‬
‫والرفاهية الحديثين هو «أيضا سبب األزمة الدينية»‪.3‬‬
‫يعني ترولتش باألزمة الدينية ما ألفت األدبيات الفلسفية والسوسيولوجية‬
‫والثيولوجية منذ زمن وصفه بـ«سيرورة طويلة األمد‪ ،‬نتج أثناءها‪ ،‬في الحياة‬
‫‪1 - Ibid., p. 6.‬‬
‫‪2- Ibid., p. 7.‬‬
‫‪3- Ibid., p. 7.‬‬

‫‪251‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الخاصة لألفراد‪ ،‬كما في الحياة العامة‬
‫ُيردُّ سبب هذا اإلفالس يف‬ ‫املشتركة‪ ،‬إفالس وذبول للروابط الدينية‬
‫والتصورات املتعالية القبلية وانتظارات الثقافة الغربية إىل أن النجاح‬
‫‪ُّ ُ 1‬‬
‫حياة أخروية» ‪ .‬ويرد سبب هذا اإلفالس املضطرد للعلم والتكنولوجيا‬
‫في الثقافة الغربية إلى أن النجاح جعل الناس يعتقدون أن تحقيق‬
‫املضطرد للعلم والتكنولوجيا جعل «اجلنة» عىل األرض وشيك‪،‬‬
‫الناس يعتقدون أن تحقيق «الجنة» على لينعم فهيا كل الناس‪ ،‬عىل‬
‫األرض وشيك‪ ،‬لينعم فيها كل الناس‪ ،‬عكس الدين الذي أجلها إىل ما‬
‫بعد املوت‬ ‫على عكس الدين الذي أجلها إلى ما‬
‫بعد املوت وحصر التنعم بها للمؤمنين‬
‫به فقط‪ .‬كما زاد العلم من أزمة الدين‬
‫حين جعل النصوص املقدسة وتاريخ األديان موضوعا من موضوعاته‪َ ،‬‬
‫فس َما‬
‫بذلك فوق الدين بعدما ظلت الثيولوجيا واملؤسسات الكهنوتية توجه الثقافة‬
‫والعلم لقرون‪ .‬كما ساهم في ذاك اإلفالس فحص النصوص الدينية والكشف‬
‫عن الكثير من الغموض والتناقض داخلها وعدم تناسقها مع الروايات ذات‬
‫الصلة بتاريخ الدين‪ .‬باإلضافة إلى أن مقاربة الديانات مقاربة تاريخية نقدية‬
‫ساهم في انهيار أسطورة يعتنقها كل املؤمنين وهي اعتقادهم بتميز دينهم مقارنة‬
‫بباقي األديان‪ ،‬حيث كشفت هذه املقاربة اشتراك كل املؤمنين في أمر واحد‪ ،‬رغم‬
‫اختالف معتقداتهم‪ ،‬هو الشعور الديني القابع في دواخلهم والكامن في نفوسهم‪.‬‬
‫رغم كل ما سبق اإلشارة إليه‪ ،‬فقد رفض ترولتش تهويل املهولين من خطر‬
‫تقدم العلم على الشعور الديني‪ ،‬واعتبرأنه على املشتغلين باملجال الديني استثمار‬
‫اإلمكانات التي يتيحها التطور العلمي الذي حققته اإلنسانية في الزمن الحديث‬
‫‪1- Hans Blumenberg, La légitimité des Temps modernes, trad. par MarcSagnol et autres,‬‬
‫‪Paris, Gallimard, 1999, p. 11.‬‬

‫‪252‬‬
‫من أجل إعادة طرح سؤال طبيعة الشعور الديني الكامن في عمق الذات البشرية‪.‬‬
‫فعل إلهي في قلوب املؤمنين‬‫عمل ٍ‬‫أثر ِ‬‫فحتى لو آمنا بأن هذا الشعور ناتج عن ِ‬
‫املطمئنة‪ ،‬فإن ظهور أدوات ومناهج علمية جديدة يفرض إعادة طرح السؤال‬
‫لفهم كيفية حلول العمل اإللهي في قلب اإلنسان‪ .‬إذ من األكيد أن العلوم التي‬
‫أثبتت جدارتها في مجاالت مختلفة ومتعددة قادرة على إضفاء نور جديد على هذا‬
‫املوضوع القديم‪.‬‬
‫لفهم السبب الكامن وراء األزمة الدينية وخلق املواجهة الحديثة بين الدين‬
‫والعلم‪ ،‬ولبحث مدى واقعية فكرة املواجهة هاته‪ ،‬وهل هي حقيقة أم أنها اعتقاد‬
‫ض َّرر ربما من تطور العلم الحديث‪ ،‬اعتمد ترولتش على املقاربة‬ ‫كرسه طرف َت َ‬
‫التاريخية لينظرفي تاريخ عالقة الدين والعلم من حيث انطالقتها وماضيها ومآلها‬
‫واإلمكانات املتاحة أمام فلسفة الدين عموما للخروج من وضعية هاته‪.‬‬
‫َ‬
‫كان لقاء الثقافة الهيلنستية والدين املسيحي أول األمرلقاء غرباء‪ .‬فما صادفه‬
‫‪1‬‬
‫هذا الدين لدى تلك الثقافة هو وحدة أفكارها في «نظرة إيتيقية دينية للعالم»‬
‫تجسدت في األفالطونية املحدثة‪ .‬بمعنى أنه لم يصادف اختالف العلوم والصنائع‬
‫وتعددها كما كان زمن اليونان األول‪ .‬تلك هي الثقافة التي واجهتها املسيحية‬
‫األولى‪ ،‬أو لنقل تلك كانت صورة الثقافة التي حملتها أطراف اجتماعية ملواجهة‬
‫«الحماس اإلسكاتولوجي الطوباوي»‪ 2‬لجماعة املسيحيين‪.‬‬
‫فيما بعد‪ ،‬مع عصر النهضة ونهاية العصر الوسيط‪ ،‬تعددت علوم الطبيعة‬
‫واختلفت مناهج كل منها‪ .‬ثم تطورت في االتجاه نفسه العلوم التاريخية (الحق‬
‫واالقتصاد واالجتماع‪ .)...‬مع هذا التطور العلمي الثنائي املنحى‪ ،‬اكتشف العلماء‬
‫أن معرفتهم لم تكن تصادف مضامين معتقداتهم ومفاهيمهم الدينية في الواقعين‬
‫الطبيعي والتاريخي‪ .‬فتنبهوا إلى أن مفاهيمهم كانت مفاهيم قبلية ومسبقة تحدد‬
‫‪1- Troeltsch, op. cit., p. 13.‬‬
‫‪2- Ibid., p. 14.‬‬

‫‪253‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫وجهة أبحاثهم‪ ،‬أي أنهم اكتشفوا أن أبحاثهم لم تكن تنطلق من معطيات الواقع‬
‫املدروس بقدرما كانوا ينطلقون من صورة إيتيقية دينية للعالم‪ .‬وعليه استنتجوا‬
‫أن وحدة مقوالت العلم والدين كانت مفروضة على العقول بمقت�ضى صورة‬
‫العالم املسبقة‪ ،‬ولم تكن من إنتاج العقول في احتكاكها بالظواهر الطبيعية‬
‫والتاريخية‪.‬‬
‫وبما أن الدين قد تحول في الزمن الحديث إلى مجال من مجاالت العلوم‬
‫التاريخية فقد أدت التحوالت املشار إليها إلى هلع انتشر بين املؤمنين من العلماء‬
‫وكذا خارج دائرة هؤالء‪ .‬فقد الحظ الفالسفة بأن مفاهيمهم عن مجال الدين‬
‫أثناء دراسته غيرمستقاة من واقع خارج الذات وأنها مأخوذة من حياتهم الدينية‪.‬‬
‫فتحولوا إلى دراسة الوعي الذي هو وعيهم الذاتي باعتباره معطى سيكولوجيا‪ ،‬ثم‬
‫اكتشفوا بعد ذلك بأن الظاهرة الدينية ذات بعد تاريخي‪ .‬هكذا أصبح موضوع‬
‫العلم الذي يدرس الدين هومعطيات الوعي السيكولوجية والتاريخية‪ .‬فتبين بناء‬
‫على نتائج املعرفة الجديدة أن «العلم ليس طريقا مغايرا مؤديا لإليمان باهلل‪،‬‬
‫فهو ليس طريقا موازيا للدين‪ ،‬ألن عمل العلم يقوم على وضع الواقع املدروس‬
‫في إطار تجانس مفاهيمي‪ .‬هذا الواقع ال يشكل الدين إال جزءا منه‪ ،‬إلى جانب‬
‫مجاالت ال حصر لها»‪ .1‬اكتشف املؤمنون بناء على نتائج املعرفة السيكولوجية‬
‫والتاريخية بأن الوعي الديني للمسيحي غير مختلف من الناحية السيكولوجية‬
‫عن وعي املتدين الوثني‪ ،‬كما أن العالقة التي يشيدها املتدين املسيحي مع تمثله‬
‫التاريخي عن ديانته متماثلة مع تمثل الوثني لتاريخ عقيدته بأبطالها وأساطيرها‬
‫ومعجزاتها‪ .‬وهكذا تبين للمسيحيين بأن الدين املسيحي خاضع للتطور التاريخي‬
‫الخاص بظاهرة االعتقاد والتدين عامة‪ ،‬وبأن ال قداسة للعقيدة املسيحية‪،‬‬
‫كما أن هذه العقيدة وتاريخها غير حائزين على أي استثناء ما عدا ما يضفيه‬

‫‪1- Ibid., p. 22.‬‬

‫‪254‬‬
‫عليهما املسيحيون أنفسهم‪ .‬بناء على‬
‫هذه التطورات‪ ،‬كيف تعاملت املقاربة الحظ الفالسفة بأن مفاهيمهم‬
‫السيكولوجية التاريخية مع الرموز عن مجال الدين أثناء دراسته‬
‫الدينية؟ يجيب ترولتش‪ُ :‬تشكل التمثالت غري مستقاة من واقع خارج‬
‫الذات وأهنا مأخوذة من حياهتم‬
‫واملفاهيم واألفكار في مجال الدين رموزا‬
‫الدينية‪ .‬فتحولوا إىل دراسة‬
‫للتعبير عن الشعور الديني‪ ،‬لذلك فهي‬
‫الويع الذي هو وعهيم الذايت‬
‫متغيرة بحسب تبدل الزمن وتغيراألفراد‪.‬‬
‫باعتباره معطى سيكولوجيا‬
‫إزاء هذا الواقع‪ ،‬يقف التحليل العلمي‬
‫السيكولوجي للشعور الديني‪ ،‬من هذه‬
‫الرموز‪ ،‬موقفا مغايرا عن ذلك الذي يتخذه الكهنوتي واملؤمن‪ .‬فالنظرة الدينية‬
‫تريد أن تجعل من التمثالت واملفاهيم بناءات مطلقة ألغراض إيمانية وأخالقية‬
‫وقانونية‪ ،‬لذلك ال تبالي النظرة الدينية بطبيعة الرموز النسبية‪ ،‬بل إن سلوكها‬
‫يتصف باإلهمال املقصود تبعا ألغراضها املعلنة‪ .‬هذا الوقف املتصلب الذي‬
‫تتصف به النظرة الدينية يجب أال يثني العلماء على اتخاذ الدين موضوعا‬
‫َ‬
‫َلنظرهم مهما ادعى من يعتبرون أنفسهم قيمين أو أوصياء على شؤونه بأنه خارج‬
‫مجال العلم‪ .‬فالدين تعبيرعن حياة نفسية‪ ،‬وهذه الحياة تعبرعن نفسها برموز‪.‬‬
‫ولطاملا أخضع العلم الرموز للدراسة في مجاالت أخرى‪ .‬لهذا‪ ،‬فأولى للدين أن‬
‫يستفيد من الخبرة التي اكتسبها العلم ومناهجه في دراساته لشتى مجاالت التعبير‬
‫البشري‪.1‬‬
‫‪ -1‬يقول ترولتش أن املسيحية خطاب ِيرد علينا من املا�ضي‪ ،‬يتلقفه املؤمن فيقوم بـحركة «هجران‬
‫الذات نحو اإللهي» (ص‪ ،)27 .‬ويقول املؤمن إن «كالمه (الدين املسيحي) يؤثرفي القلوب» ويعاش «كواقع‬
‫في الحياة الداخلية»‪ .‬يضيف ترولتش أننا هنا أمام «واقعة تعبرعن نفسها بطرق شتى في لغة رمزية» (ص‪.‬‬
‫‪ .)27‬محتوى هذا الكالم (اإليمان في اإلله)ال يمكن أن يكون موضوع أدلة علمية‪ ،‬ويضيف ترولتش «ألنه‬
‫تجربة معاشة داخليا»‪ .‬قد يدركها املرء وينخرط فيما تدعو إليه‪ ،‬كما يمكنه رفضها‪ .‬لكل هذه األسباب‬
‫«تعه ُد الدين برعاية من لدن علم التاريخ في مقدماته وتطوره» (ص‪ ،)27 .‬فالتجربة الدينية‬
‫يمكن بالفعل ّ‬
‫موز خاصة بالعصرالذي ظهرت فيه‪.‬‬ ‫تتمظهرفي تمثالت ومفاهيم مصاغة في ر ٍ‬

‫‪255‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫النظرة الدينية تريد أن تجعل‬ ‫نتذكر مع ترولتش بأن اإلنسانية‬
‫من التمثالت واملفاهيم بناءات‬ ‫الغربية استفادت إلى حدود القرن‬
‫مطلقة ألغراض إيمانية‬ ‫التاسع عشر من النمو والتطور الذي‬
‫وأخالقية وقانونية‪ ،‬لذلك ال‬ ‫حققه العلم وإنجازاته التقنية‪ ،‬لكن‬
‫تبايل النظرة الدينية بطبيعة‬ ‫طائفة من هذه اإلنسانية رفضت تطبيق‬
‫الرموز النسبية‬ ‫املقاربة العلمية الحديثة التي طورتها‬
‫العلوم النفسية واالجتماعية والتاريخية‬
‫على الدين‪ ،‬خوفا منها من إدخال موضوع‬
‫الدين في حكم العدم وتبخيس تعاليه وقداسته‪ .‬وفي رده على هذا التخوف قال‬
‫ترولتش‪« :‬يهدف العلم إلى تصنيف الواقع في كليته وتوحيده والحكم عليه ومنح‬
‫موجوداته صورا خاصة‪ .‬وبناء على ذلك فإن العلم ال يبدع واقعا جديدا‪ ،‬وليس في‬
‫مقدوره رد واقع‪ ،‬إن وجد‪ ،‬إلى العدم‪ ،‬سواء كان هذا الواقع جزءا من عالم املادة‬
‫أو من عالم الروح»‪ .1‬ويضيف ترولتش منبها إلى ما يخيف الكهنوتيين حقيقة‪،‬‬
‫ّأن للعلم القدرة على كشف العالقات‪ ،‬لهذا فهو مفيد للدراسات الدينية ليضع‬
‫تحت مجهر الفحص عالقات تم إخفاؤها قصدا أو أنها ال تبدو للنظر الساذج‬
‫واملباشر‪ ،2‬كما أنه يفضح ما ُي َق ّدم على أنه مجال خاص ومختلف ومغاير دون‬
‫يقدم أنه موضوع مخالف‬ ‫باقي املجاالت‪ .‬وقد يتمكن من تسليط نور جديد على ما ّ‬
‫‪1- Troeltsch, op. cit., p. 28.‬‬
‫ُ‬
‫‪ - 2‬يقول ترولتش‪« :‬الدين رابطة باإلله تعاش كتجربة نفسية‪ ،‬وهي جزء من التجارب األصيلة املعاشة‬
‫من لدن النفس‪ .‬هذه التجربة ال يستطيع أي علم ادعاء خلقها أو إنكار وجودها‪ ،‬وال يمكن للعلم إال أن‬
‫يدرسها باعتبارها شيئا معطى أو واقع‪ ،‬ويبحث في صورها البسيطة‪ ،‬ويكشف الوشائج التي تشدها إلى‬
‫باقي أجزاء الحياة النفسية‪ ،‬ويبين طبيعتها املركبة وتحوالتها التاريخية‪ ،‬ويستنتج أهميتها في حياة الروح‬
‫وكذا أهمية وقيمة صورها التاريخية‪ .‬إنه ملن طبيعة العلم أن يحطم صورا غدت ثابتة بفعل قوة الخلق‬
‫واإلبداع التي تمتلكها اآلراء وتكرسها التقاليد‪ ،‬ليضعنا أمام تراكيب جديدة‪ ،‬لكنه ال يستطيع خلق دين‬
‫أو رده إلى العدم»‪).Troeltsch, ibid., p. 29( .‬‬

‫‪256‬‬
‫فينكشف على أنه مجرد «تصور جديد ملعطى قائم»‪.1‬‬
‫بناء على التحليل السابق‪ ،‬ينتهي ترولتش إلى وضع ثالث ضرورات ّ‬
‫موجهة من‬‫ِ‬
‫ْ‬
‫أجل فلسفة دين تكون ِبنت عصرها‪:‬‬
‫أ ‪ -‬دراسة كل األديان باعتماد مقاربة عامة دون تمييز‪ ،‬من خالل منهجية‬
‫سيكولوجية تاريخية‪ ،‬مع التنويه إلى أن ما سيسقط عن كل دين أثناء تطبيق‬
‫هذه املنهجية هو صنائع البشر والتقاليد وليس الشعور الديني أو خصوصية كل‬
‫دين‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ال بد من تعضيد عمل املقاربة السيكولوجية والتاريخية بباقي مناهج علوم‬
‫الروح‪ .‬ذلك أن كل دين يقترح صورة للعالم‪ ،‬لهذا لزم أن تتكاثف مختلف العلوم‬
‫الستيعاب العالقات القائمة بين الشعور الديني الداخلي واألبعاد االجتماعية‬
‫واللغوية واملنطقية‪...‬هذا العمل سيمكن فلسفة الدين من دحض تحليل‬
‫يردون الدين إلى مجرد ميل بشري ورد فعل نف�سي عن دوافع‬ ‫الشكاك الذين ّ‬
‫الشعورية‪ .‬فبالعمل املتكاثف بين مختلف العلوم يتمكن فيلسوف الدين من‬
‫إبراز «الوعي املطلق» الذي يؤسس لصورة العالم العامة التي يقترحها كل دين‪.‬‬
‫ج ‪ -‬على فلسفة الدين أن تنطلق من إيمان حقيقي بقوة الكائن اإلنساني‪ ،‬في‬
‫مقابل مصدرين عرف عنهما احتقار قدرات هذا الكائن‪ ،‬املصدر األول‪ :‬هو‬
‫التصورات الكهنوتية‪ .‬واملصدرالثاني‪ :‬هوعلوم الزمن الحديث‪ .‬فإذا كان ترولتش‬
‫يرفض املسيحية التي تصف النفس اإلنسانية بالضعف والفساد‪ ،‬فإنه يرفض‬
‫في العلم الحديث جانبه الذي يقف عند ضآلة اإلنسان املادية أمام قوة الكون‬
‫وظواهره الفيزيائية‪ ،‬ويعلي من الدفعة التي أعطتها الكوبرنيكية والداروينية‬
‫لإلرادة‪ ،‬ألنها نظريات وجهت اإلنسان الحديث إلى ردة فعل لــ«إثبات الذات وسط‬
‫الطابع امليكانيكي للكون»‪ ،2‬ودفعته لالستماتة في مواجهة الصعاب وحمل قيم‬
‫‪1- Troeltsch, Ibid., p. 28.‬‬
‫‪2- Troeltsch, ibid., p. 35.‬‬

‫‪257‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫عليا ومطلقة‪ .‬ألم تفشل النظريات املادية وامليكانيكية الحديثة في تفسير إباء‬
‫اإلنسان وسموه وعدم خضوعه لطبيعته؟‬
‫بول تيليش وموضوع فلسفة الدين‬
‫على عكس املقاربة التاريخية التي انتهجها ترولتش‪ ،‬اختاربول تيليش التفصيل‬
‫النسقي لطبيعة املعرفة وملوضوعاتها ومناهجها‪ .1‬بناء على النظرة النسقية‬
‫للمعرفة البشرية ميز تيليشبين سبيلين في فلسفة الدين‪ :‬السبيل األنطولوجي‬
‫والسبيل الكوسمولوجي‪ .‬يؤدي السبيالن معا إلى لقاء اإلله‪ :‬في األول يلج اإلنسان‬
‫أعماق نفسه فيلقى الواقع اإلنساني واإلله في اآلن ذاته‪ .‬أما على الطريق الثاني‬
‫يالقي اإلنسان في منتهاه كائنا غريبا عنه‪ ،‬مختلفا عنه ماهويا‪ .‬ويضيف تيليش بأن‬
‫الطريق الكوسمولوجي‪ ،‬سواء كان طويال أو قصيرا‪ ،‬يكون لقاء اإلله عبره «لقاء‬
‫صدفة»‪ .2‬هذا الطريق قد يؤدي بنا إلى اإلله كما حدث مع طوما األكويني أو قد‬
‫يأخذنا إلى عقائد مغايرة تماما إليمان األكويني‪ ،‬وهو ما حدث فعال مع العلوم‬
‫الطبيعية في زمن األنوار‪ .‬لذلك اعتبرتيليش أن لقاء اإلله وإن تم عبرهذا السبيل‬
‫فإنه ال يكون إال لقاء صدفة‪.‬‬
‫الوجل‬
‫الخائف ِ‬
‫ِ‬ ‫ال يميز بول تيليش بين السبيلين على طريقة رجل الثيولوجيا‬
‫من ركوب طريق الشيطان إن هو اتبع طريق العلوم النقلية أو قل علوم العصر‬
‫الطبيعية منها واإلنسانية‪ .‬إن غرض تيليش مخالف لهذا تمام الخالف‪ ،‬فهو يريد‬

‫‪ - 1‬يميزبول تيليش‪ ،‬على طريقة مدرسة الكانطية الجديدة‪ ،‬بين علوم املوجودات وعلوم املعنى أو القيمة‪.‬‬
‫تدخل علوم الروح في زمرة علوم الخانة األولى‪ .‬تتضمن كل علوم الروح ثالثة أبعاد‪ :‬البعد الفلسفي‪،‬‬
‫حيث يتم تحديد مجال الداللة الذي يشتغل عليه املعنى(موضوع العلم وحدوده)‪ .‬البعد التاريخي‪ :‬يدرس‬
‫املسار التاريخي لتطور العلم من خالل الوقوف على بروز موضوعه كموضوع للدراسة العلمية‪ ،‬وتاريخ‬
‫تشكل املنهج الخاص به‪ .‬البعد النسقي‪ُ :‬تدرس في هذا البعد عالقة موضوع العلم بباقي مجاالت وحقول‬
‫العلوم‪.‬‬
‫‪Jean Greisch, op. cit.,p. 424.‬‬
‫‪2- Paul Tillich, Théologie ce la culture, trad .de l’anglais par J.-P. Gabus et J.-M. Saint,‬‬
‫‪Paris, Eds. Planète, 1968, p. 19.‬‬

‫‪258‬‬
‫إثبات أمر أسا�سي مفاده أن الطريق‬
‫بناء عىل النظرة النسقية‬ ‫األنطولوجي هو «املنهج األسا�سي لكل‬
‫فلسفة دين»‪ ،‬بينما يؤدي استخدام للمعرفة البرشية مزي تيليشبني‬
‫سبيلني يف فلسفة الدين‪:‬‬ ‫الطريق الكوسمولوجي إلى فصل جوهري‬
‫بين العالم اإللهي وعلومه من جهة السبيل األنطولويج والسبيل‬
‫الكوسمولويج‬ ‫والعالم املادي الدنيوي ومعارفه من‬
‫جهة أخرى‪ ،‬وبالتالي إلى تقابل قائم على‬
‫هوة فاصلة بين الدين والفلسفة‪ .‬إضافة‬
‫إلى أنه ال يؤدي إلى اإلله إال بالصدفة كما أسلفنا‪ .‬غير أن هذه املمارسة املعرفية‬
‫ّ‬
‫التي تكرست عبرعصور والتي تفصل بين علوم إلهية وعلوم مادية ممارسة ِ‬
‫تغرب‬
‫الفعل املعرفي عن ذاته في نظرتيليش‪ ،‬ألن كل املعارف البشرية في جوهرها تعبير‬
‫عن انشغال وجودي‪ .‬لهذا فكل املعارف‪ ،‬على اختالف دروبها وضروبها‪ ،‬محاولة‬
‫لإلحاطة ب�شيء ما سماه تيليش بـ «الالمشروط» أو املطلق‪ .‬لهذا ففضل الدين‬
‫َّ‬
‫يكمن في أنه شكل أول تعبير بشري عن انشغال اإلنسان بهذا املوضوع‪ ،‬وبعده‬
‫جاءت العلوم الطبيعية لتجيب بأساليبها الخاصة عن السؤال نفسه‪ .‬لكن بعدما‬
‫وصل االنفصال بين العلوم حد الصراع والتراشق والخالف‪ ،‬فقد آن األوان‪ ،‬في‬
‫شرف‬ ‫نظرتيليش‪ ،‬إلى رأب الصدع لتستعيد املعرفة اإلنسانية ماهيتها األولى‪ .‬وقد ّ‬
‫تيليش مبحث فلسفة الدين بهذه املهمة الجليلة‪ .‬يقول‪« :‬إن تأسيس فلسفة‬
‫الدين على املقاربة األنطولوجية مع استعمال الطريق الكوسمولوجي يؤدي إلى‬
‫مصالحة بين الدين والثقافة املعلمنة»‪.1‬‬
‫الحظنا إذن كيف قام تيليش بعملية فتق من أجل رتق جيد وحسن‪ ،‬ليكون‬
‫الثوب في أجمل وأكمل صورة للوظيفة التي وجد من أجلها‪.‬من خالل هذا الهدف‬

‫‪1- Ibid., p. 20.‬‬

‫‪259‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الذي سطره تيليش ملشروعه الفلسفي‪،‬‬
‫ٌّ‬
‫يبدو واضحا أن محاولة هذا املفكر رد «إن تأسيس فلسفة الدين‬
‫عىل املقاربة األنطولوجية‬ ‫على الخوف الذي يبديه رجال الدين من‬
‫مع استعمال الطريق‬ ‫استخدام العلوم اإلنسانية في دراسة‬
‫الكوسمولويج يؤدي إىل‬ ‫الدين والنصوص الدينية‪ ،‬ففي نظرهم‬
‫هذا االستخدام مهدد للطبيعة املتعالية مصاحلة بني الدين والثقافة‬
‫املعلمنة»‬ ‫للكائن املركزي في الثقافة الدينية‪ ،‬أي‬
‫اإلله‪ .‬كما يؤدي هذا االستخدام في‬
‫نظر الدينيين إلى إبطال العقائد وإبراز‬
‫طابعها النسبي والتاريخي وأصولها السيكولوجية وأسبابها االجتماعية‪ ،‬وبالتالي‬
‫تؤدي العلوم اإلنسانية إلى الشك في الطبيعة املطلقة للعقائد الدينية‪ .‬والحال‬
‫أن العلوم اإلنسانية والطبيعية ضرورية إلنجاز وإتمام بحث العلوم الدينية عن‬
‫موضوعها‪ ،‬كما ّبين تيليش‪.‬‬
‫في إطار الوقوف عند أشكال االستالب التاريخي التي عانته املعرفة البشرية‪،‬‬
‫ينبه تيليش إلى أن وظيفة الدين قد تغيرت بحسب السياقات الفكرية‪ ،‬وذلك منذ‬
‫انطالق حركة نقد النصوص الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر‪،1‬‬
‫وهو النقد الذي استمر بوتائر متفاوتة مع األنوار ومختلف تيارات الفلسفة‬
‫اإلسمية والتجريبية وكذا مع مادية القرن التاسع عشروصوال إلى النقد الثقافي مع‬
‫نيتشه والتحليل النف�سي مع فرويد‪ .‬فنظرا لتباين مصادرالنقد وأسسه املختلفة‬
‫(أسطورية وسيكولوجية واجتماعية وسياسية) اضطر الدين إلى شغل وظائف‬
‫اعتبر أساسا لألخالق‪،‬‬‫مختلفة بحسب د جة الهجوم عليه في كل مرحلة‪ .‬فمرة ُ‬
‫ر‬
‫‪1- Paul Hazard, La crise de la conscience européenne 1680-1715, Paris, fayard, 1961.‬‬
‫ُ‬
‫ترجم إلى العربية‪ .‬بول هازار‪ ،‬أزمة الوعي األوربي ‪ ،1715 - 1680‬ترجمة يوسف عا�صي‪ ،‬املنظمة العربية‬
‫للترجمة‪ ،‬بيروت‪.2009 ،‬‬

‫‪260‬‬
‫ُ‬
‫ومرة نظر إليه باعتباره أرضا صلبة للنظر املعرفي‪ ،‬ثم تغيرت وظيفته وأصبح‬
‫يكت�سي مهام استطيقية إلى أن أصبح مجرد حدس بجالل العالم وعظمته مع‬
‫الرومانسية األملانية‪ ،‬إلى أن ُعزل في مسألة اإلحساس الفردي والشعور الغائي‪ .‬في‬
‫مقابل مسار االستالب هذا‪ ،‬لم ينشغل تيليش باستحداث وظيفة جديدة للدين‬
‫بعدما استقلت كل املعارف والعلوم النظرية بموضوعاتها ومناهجها في القرن‬
‫العشرين‪ .‬فالدين نابع في نظرتيليش من «عمق الحياة الروحية لإلنسان»‪ ،1‬وهو‬
‫لهذا السبب شامل لكل االنشغاالت البشرية‪ ،‬يضم أسئلتها ويعبرعن انهمامها‪.‬‬
‫إن الدين تعبير عن انشغال عميق‪ ،‬وهذا العمق هو ما يجعل الدين انشغاال‬
‫معرفيا وأخالقيا وإستيطيقيا دون فصل أو عزل أو تفرقة‪ .‬إنه تعبير عن عمق‬
‫الحياة اإلنسانية‪ ،‬وال يمكن بلوغ هذا العمق إذا ما اتبعنا الطريق التقليدي‬
‫القائم على ثالثة مسارات متفرقة‪ :‬البحث عن هللا عبر نهج خاص‪ ،2‬والبحث في‬
‫الطبيعة في مسارمنفصل‪ ،‬والبحث في الكائن اإلنساني عبرطريق ثالث‪.‬‬
‫إن فصل انشغاالت اإلنسان عن عمق هذا الكائن الروحي هو استالب ثنائي‪.‬‬
‫أوال ‪ :‬إنه استالب على مستوى املنهج بحيث يختفي عبرالفصل بين العلوم جوهر‬
‫املعرفة اإلنسانية املعبرة في تنوعها عن انشغال إنساني واحد‪ .‬ثانيا‪ :‬إنه استالب على‬
‫مستوى النتيجة‪ ،‬إذ أن نتائج مختلف العلوم واملعارف في انفصالها وتشرذمها لن‬
‫تمكننا أبدا من كشف العمق اإلنساني الوجودي الذي يحرك الفاعلية املعرفية‬
‫في كل أبعادها‪ .‬إن فصل انشغاالت اإلنسان املعرفية واألخالقية واإلستطيقية‬
‫عن عمقه الروحي بدعوى أن االهتمام املعرفي واألخالقي واالستيطيقي هو اهتمام‬
‫‪1- Paul Tillich, op. cit., p. 17.‬‬
‫‪ - 2‬بخصوص هذا املوضوع مثال‪ ،‬يرى تيليش بأن فيلسوف الدين عليه أال ينطلق من أن موضوع الدين‬
‫سابق عن الدين ذاته ومستقل عن الوجود اإلنساني‪ .‬بمعنى أن هذا املفكرال يعتبرأن موضوع الدين من‬
‫زاوية نظرفلسفة الدين هوكائن مفارق ومنفصل كوسمولوجيا‪ ،‬سابق في الوجود عن الديانات‪ .‬إن النظر‬
‫إلى موضوع اإليمان على غير هذه الطريقة يسقط فيلسوف الدين في تناقض مع شروط إمكان معرفته‬
‫وحدودها‪.‬‬

‫‪261‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫بطبائع ال صلة لها بالبعد الديني مضربطبيعة الكائن اإلنساني من أساسه‪.‬‬
‫إذا كان الدين تعبيرا عن «حياة روح اإلنسان» في كل أبعادها‪ ،‬ما الذي‬
‫أدى إلى انفصال الدين عن مختلف األنشطة اإلنسانية‪ ،‬فانفصلت النظرية‬
‫منها والعملية عن الدين؟ وقام مجال خاص يهتم بالنشاط الديني بمؤسساته‬
‫وقواعده وطقوسه؟ يفسر تيليش هذا الواقع بأن الطبيعة البشرية خضعت‬
‫وجزأ ماهيتها‪ .‬لهذا ستضطلع‬‫لتاريخ من االستالب فصل أنشطتها عن بعضها ّ‬
‫فلسفة الدين بشرف استعادة مكانة الدين وإعادة اللحمة إلى األنشطة البشرية‬
‫ومن ثم استرجاع ماهية اإلنسان‪.‬‬
‫إن املتأمل ملشروع تيليش يقف مندهشا أمام غاياته وأهدافه‪ .‬فعكس ما قد‬
‫تذهب إليه القراءة السطحية الضحلة‪،‬ال يريد تيليش تنصيب الدين بمؤسساته‬
‫حاكما شموليا يسيطر «رجاله» مجددا على الحياة البشرية في كليتها‪ ،‬ألن هذا‬
‫األمر سيكون بمثابة استقالل جديد للدين عن الحياة البشرية بعدما ينفصل‬
‫أناس محددون بمهام ومؤسسات وسلطات ال يمتلكها باقي الناس‪ .‬يريد تيليش‬
‫عالم‪ ،‬في مختلف مجاالت املعرفة اإلنسانية‪ ،‬أن يقف أمام الظاهرة التي‬
‫من كل ِ‬
‫َّ‬
‫يدرسها محافظا على ما يتطل ُب ُه تخصصه العلمي‪ ،‬من حيث املوضوع واملنهج‪،‬‬
‫لكن دون أن ينفصل االنشغال العلمي لديه عن الهم األخالقي مثال‪ .‬وهكذا‬
‫دواليك يسري الحكم نفسه على الفنان واملشتغل بقضايا األخالق والسياسة‪...‬‬
‫يعبرالدين في نظرتيليش عن عمق التجربة اإلنسانية‪ ،‬لكنه يصبح خطرا على‬
‫هذه التجربة ذاتها حينما يحول «أساطيره وعقائده وقوانينه وطقوسه إلى مطلقات‬
‫ضيق على كل من يرفض الخضوع له»‪ .1‬وينبني هذا السلوك السلبي الذي قد‬ ‫ُوي ّ‬
‫ِ‬
‫يظهر على رجال الدين عن نسيان‪ .‬فالوجود املنفصل عن باقي األنشطة البشرية‬
‫ليس إال حالة «استالب تراجيدي عن وجود أصيل يعانيه اإلنسان»‪ .2‬ويرى تيليش‬
‫‪1- Tillich, op. cit., p. 18.‬‬
‫‪2- Ibid., p. 18.‬‬

‫‪262‬‬
‫أن هذا التعالي هو سبب نفور العاملين‬
‫عىل الطرفني املشتغلني‬ ‫في مجاالت العالم الدنيوي من الدين‪.‬‬
‫لذا على الطرفين املشتغلين بالحقلين باحلقلني الديين والدنيوي أن‬
‫الديني والدنيوي أن يعلما بأن الفصل يعلما بأن الفصل بني املجالني‬
‫بين املجالين وضعية حرجة لكليهما‪ ،‬وضعية حرجة لكلهيما‪ ،‬وأهنما‬
‫يفقدان معا كنه عملهما‬ ‫وأنهما يفقدان معا كنه عملهما وجوهره‬
‫وجوهره يف هذه الوضعية‬ ‫في هذه الوضعية‪ ،‬وأنهما معا يعبران في‬
‫انشغاالتهما عن «االنهمام العميق»؛‬
‫انهمام اإلنسان بأسئلة الوجود‪.‬‬
‫رودولف بولتمان وإنقاذ الدين من األساطير‬
‫تميزاملشروع األسا�سي لرودولف بولتمان بمحاولة إفراغ املسيحية من املحتوى‬
‫األسطوري ‪ .Démythologisation‬وقد صرح بولتمان باستحالة إنجاز مشروع‬
‫إفراغ العقيدة املسيحية من املضامين األسطورية دون االعتماد على تمييزواضح‬
‫يفصل صورة العالم في زمن ظهور املسيحية عن صورة العالم املؤطرة لنظرة‬
‫اإلنسان الحديث‪ .‬ويضيف بولتمان أن االستحالة ال تعترض إنجازهذا املشروع‬
‫فقط‪ ،‬فاملتلقي أيضا ال يمكنه استيعاب هذا املشروع ما لم يقبل بوجود اختالف‬
‫على مستوى تصورين للعالم يؤطران نظرة كل من إنسان زمن ظهور املسيحية‬
‫وإنسان الزمن الحديث‪ .‬ولتوضيح التمييز بين النظرتين‪ ،‬يقول بولتمان‪« :‬يتميز‬
‫إنسان الزمن الحديث باستعمال األدوات التقنية التي أتاحها العلم‪ .‬فحين يعتل‬
‫شخص ما يلجأ إلى طبيب أو إلى املعرفة الطبية‪ .‬الحكم نفسه يسري على الشؤون‬
‫االقتصادية والسياسية‪ ،‬حيث يستعمل (إنسان الزمن الحديث) نتائج العلوم‬
‫النفسية واالجتماعية واالقتصادية والسياسية‪ ،‬وهكذا دواليك‪ .‬فال أحد[في‬

‫‪263‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الزمن الراهن] ينتظر تدخال مباشرا من‬
‫قوى متعالية»‪ .1‬ويضيف بولتمان أن ال يتبىن بولتمان كلي ًة صورة‬
‫الكنيسة الحديثة مستمرة في مغامرة العالم الحديثة اليت تشكلت‬
‫بفضل األنساق الفلسفية‬ ‫غيرمحسوبة العواقب وهي تلجأ في الزمن‬
‫الحالي إلى معتقدات بائدة أثناء توجهها والنظريات العلمية منذ عرص‬
‫للمؤمنين املسيحين املعاصرين‪ ،‬منطلقة األنوار وصوال إىل أواسط القرن‬
‫التاسع عرش‬ ‫في ذلك من فهم ثابت ملاهية اإلنسان‪.‬‬
‫والحال أن فهم طبيعة اإلنسان الحديث‪،‬‬
‫من أجل حسن التعامل معه‪ ،‬تقت�ضي‬
‫االطالع على أعمال األدباء الكبار املحدثين واملعاصرين ال العودة إلى النصوص‬
‫القديمة‪ .‬هذه الطبيعة اإلنسانية الحديثة تخبرنا عنها الجرائد واملجالت‪ ،‬إذ ال‬
‫وجود في «هذه املنشورات لتفسير فوق طبيعي لألحداث السياسية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية ُيرجع سببها إلى تدخل اإلله أو املالئكة أو الشياطين»‪.2‬‬
‫حاولنا في الفقرتين السابقتين إيضاح محركات مشروع بولتمان إلخالء‬
‫املسيحية من محتوياتها امليتولوجية‪ .‬ولعل مجهود هذا املفكر يقدم مثاال عن‬
‫املشاريع الفكرية املعاصرة الخاصة بفلسفة الدين التي تتحرك على أساس كانطي‬
‫واضح‪ .‬وحتى ال تختلط دعوانا حول كانطية مشروع بولتمان بمن سيعتبرمشروع‬
‫وضعاني ِّبين ال بد أن نضيف إلى ما قلناه سلفا توضيحات ال‬
‫ّ‬ ‫هذا املفكر ذا منزع‬
‫مناص منها‪.‬‬
‫ً‬
‫ال يتبنى بولتمان كلية صورة العالم الحديثة التي تشكلت بفضل األنساق‬
‫الفلسفية والنظريات العلمية منذ عصر األنوار وصوال إلى أواسط القرن التاسع‬
‫‪1- Rudolf Bultmann, Jésus, mythologie et démythologisation, trad. par Florence Freyss‬‬
‫‪et autres, Seuil, Paris, 1968, p. 206.‬‬
‫‪2- Ibid, p. 206.‬‬

‫‪264‬‬
‫عشر‪ .‬ليس فقط ألنها كانت تقوم على مبدأين أثبتت الفلسفات املعاصرة فيما‬
‫بعد حدودهما‪ ،‬وهما مبدأ الحتمية ومبدأ قدرة اإلنسان الفائقة على السيطرة‬
‫على الطبيعة‪ ،‬ولكن ألن صورة جديدة تشكلت منذ نهاية القرن التاسع عشر‬
‫وبداية القرن املوالي تقوم على مبدأ آخر هو نسبية املعرفة اإلنسانية ونسبية‬
‫القيم األخالقية‪ .1‬هذه النسبة املطلقة التي أضحت تهدد قيم الحقيقة والعدل‬
‫والخير دفعت العديد من الفالسفة واملفكرين إلى إيجاد حلول بغية استرجاع‬
‫القيم الكونية اإلنسانية املشتركة‪ ،‬حتى ال تضيع قيمة الحقيقة وراء تعدد‬
‫النظريات وكذا قيمتي الخيروالعدل وراء تعدد األنساق األخالقية‪.2‬‬
‫الحذر الذي تبناه بولتمان من النزعات العلموية الناشئة منذ عصر األنوار‪،‬‬
‫والتي عرفت اكتمالها في املذهب الوضعي‪ ،‬يبعد عن هذا الثيولوجي تهمة االنتماء‬
‫إلى هذا املذهب رغم إشادته بصورة العالم الحديثة في محاولته تنقية املسيحية‬
‫من املضامين امليتولوجية التي ظلت عالقة بها‪ .‬بل إن هذا املفكرقد وجد في شطط‬
‫النزعة الوضعية مبررا للدعوة إلى استرجاع واستعادة جوهرالدين املسيحي‪ .‬فقد‬
‫بين بأن صورة العالم العلموية تأسست على مجموعة من املعتقدات ال يسندها‬
‫أي أساس عقلي حاليا‪ ،‬من بينها اإليمان بالتقدم الدائم للعلوم والتقنيات‪ ،‬وأيضا‬
‫بقدرة اإلنسان على معرفة واقع العالم في شموليته واإلحاطة بحياة اإلنسان‬
‫في كليتها‪ ،‬وبقوة اإلنسان وقدرته على قهر الطبيعة والحياة البشرية والسيطرة‬
‫عليهما وتوجيههما‪.‬‬

‫‪« - 1‬صدرت النزعة النسبية التاريخية عن الحركة الرومانسية التي رأت بأن العقل البشري عاجز عن‬
‫إدراك الحقائق الخالدة واملطلقة نظرا لخضوعه للتطور التاريخي‪ ،‬وهو التطور الذي ينبني على أن كل‬
‫حقيقة ال تمتلك إال قيمة مرتبطة بعصرتشكلت فيه أو بقوم آمنوا بها أو حضارة أنشأتها‪ ،‬وبالتالي فإن كل‬
‫بحث عن الحقيقة هو في الواقع بحث من دون معنى»‪.‬‬
‫‪.Bultmann, ibid., p. 210‬‬
‫‪2- Edmund Husserl, La philosophie comme science rigoureuse, trad. Marc B. de Launay,‬‬
‫‪Paris, P.U.F., 1989.‬‬

‫‪265‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ويعبر بولتمان عن رفضه كذلك لصورة العالم الحديثة بنبرة دينية‪ ،‬حين‬
‫يبين أن إنسان الزمن الحديث يعتقد أنه يسيطرعلى العالم املادي بفضل العلم‬
‫والتكنولوجيا‪ ،‬والحال أن الرغبة في السيطرة على العالم املادي وعلى الطبيعة‬
‫تحركها أنانية دفينة تكشف ملتأملها أنها في حقيقتها دوافع طبيعية‪ .‬لقد سقط‬
‫اإلنسان الحديث في مقلب لم ينتبه إلى حقيقته‪ :‬إن الطبيعة البشرية الدفينة‬
‫هي محرك اإلنسان‪ ،‬وبالتالي فرغبات اإلنسان هي في الحقيقة وسيلة العالم‬
‫املادي والطبيعة إلحكام السيطرة على اإلنسان وتوجيه اهتمامه وفق أهداف‬
‫الطبيعة ال أهداف اإلنسان‪ .‬لم ينتصر اإلنسان في الحقيقة كما روجت لذلك‬
‫النزعة اإلنسانية الحديثة‪ ،‬بل انتصرت الطبيعة في بعدها املادي والشيطاني‪،‬‬
‫وهذا الفخ الحديث هو دليل آخر على تناهي املعرفة البشرية وعلى عجز اإلنسان‬
‫عن اإلحاطة بكل الدوافع والغايات املحركة لفاعلياته‪.‬‬
‫األساس الالعقلي ملعتقدات اإلنسان املعاصر السالفة الذكر كامن في أن‬
‫هذه املعتقدات من جهة استجابة وجري وراء «رغبات اإلنسان في الحصول‬
‫على السعادة واألمان والنجاح» وهو في ذلك يبتعد بدافع األنانية عن واجب‬
‫«الخضوع لضرورة الخيروالوفاء والحب‪ ،‬أي ألوامراإللـه»‪ .1‬ومن جهة أخرى يبدو‬
‫األساس الالعقلي ملعتقدات اإلنسان املعاصر في أن هذا اإلنسان يدعي القدرة‬
‫على التنظيم الكلي والتام للحياة الفردية واالجتماعية اعتمادا على عقيدة أخرى‬
‫وهي القدرة على اإلحاطة املعرفية الكلية والشاملة بكل معطيات الطبيعة املادية‬
‫والطبيعة اإلنسانية‪ .‬والحال‪ ،‬يؤكد بولتمان‪ ،‬أنه ليس لدينا أي دليل على قدرة‬
‫اإلنسان الذاتية على تحقيق»التأمين التام لحياته» سواء عدنا إلى ماضيه أو‬
‫تمعنا في التجربة الراهنة للبشرية‪ .‬لذلك يخلص بولتمان إلى أن «التأمين التام‬
‫لحياة اإلنسان مجرد وهم»‪.2‬‬
‫‪1- Bultmann, op. cit., p. 208.‬‬
‫‪2- Ibid, p. 208.‬‬

‫‪266‬‬
‫يدعو بولتمان اإلنسان املعاصر‬
‫لإلنصات إلى «كالم اإللــه الداعي إلى يدعو بولتمان اإلنسان املعارص‬
‫لإلنصات إىل «كالم اإللــه‬ ‫التخلص من األنانية ومن البحث عن‬
‫الدايع إىل التخلص من‬ ‫األمان الوهمي»‪ ،1‬وهي دعوة إلهية نحو‬
‫التحرر من مجموع األوهام التي خلقها األنانية ومن البحث عن األمان‬
‫اإلنسان وآمن بها‪ .‬يقول بولتمان‪« :‬يحاول الوهيم»‪ ،‬ويه دعوة إلهية‬
‫البشر التحكم في العالم بمساعدة نحو التحرر من جمموع األوهام‬
‫العلوم لكن العالم هو الذي يتحكم فيهم اليت خلقها اإلنسان وآمن هبا‬
‫في واقع األمر‪ .‬وها إن عصرنا يكشف‬
‫لنا حجم تبعية البشر للتقنية ونتائجها‬
‫الفظيعة»‪ .2‬لقد استنجد بولتمان بنداء اإلله باعتباره الضوء القادم من «ظالم‬
‫املستقبل»‪ 3‬لتحرير اإلنسان املعاصر من األوهام التي كبل بها نفسه حين اعتنق‬
‫معتقدات التقدم واألمان الذاتي‪ .‬وأضاف أن الحرية الحقيقية ليست هي الحرية‬
‫الذاتية االعتباطية كما صورتها فلسفات الزمن الحديث‪ ،‬أي الحرية الناشئة عن‬
‫اتباع الدوافع والغرائزوالرغبات والعواطف‪.‬‬
‫كبديل لهذا املسار الحديث يقترح بولتمان ما يراه حرية حقيقية وقد سماها‬
‫«حرية الطاعة»‪ ،‬أي الحرية التي تتحلل من ضغط اللحظة‪ ،‬بحيث إذا ما تم‬
‫لها ذلك أضحت «حرية تخضع لقانون»‪ ،4‬تتجاوز بمقتضاه ما هو ذاتي ولحظي‬
‫ات مسيحية قانون اإلله (كذا‪.5»)! ‬‬
‫لتعانق البعد الكوني‪ ،‬وتم�سي «بعبار ٍ‬

‫‪1- Ibid., p. 208.‬‬


‫‪2- Ibid., pp. 208-209.‬‬
‫‪3- Ibid., p. 209.‬‬
‫‪4- Ibid., p. 209.‬‬
‫‪5- Ibid., p. 209.‬‬

‫‪267‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫يؤكد بولتمان بأن مشروعه إلخالء‬
‫العقائد املسيحية من األساطير هدفه يرى بولتمان أن مبتىغ اإلنسان‬
‫بلوغ «كلمة هللا» للوقوف على معاني املعارص من هذا اجلري األعىم‬
‫الحرية الحقيقية الكامنة في الدعوة وراء الرفاهية التكنولوجية هو‬
‫الدينية املسيحية‪ ،‬ومعاني األمان يف حقيقة األمر أمن وهيم‬
‫واملسؤولية والتحكم الحقيقي‪ .‬فالحرية ألن اإلنسان يغرق يف بحثه‬
‫في داللتها الحديثة تقوم على الخضوع‪ ،‬هذا أكرث فأكرث يف بحر مطالب‬
‫الرغبات واألهواء الدفينة‬ ‫إنها خضوع للرغبة البشرية في الهيمنة‬
‫والسيطرة‪ .‬وهي تجد تعبيرها الواضح في‬
‫بحث اإلنسان عن األمن بفضل العلم‬
‫والتكنولوجيا‪ .‬ويرى بولتمان أن مبتغى اإلنسان املعاصر من هذا الجري األعمى‬
‫وراء الرفاهية التكنولوجية هو في حقيقة األمر أمن وهمي ألن اإلنسان يغرق في‬
‫بحثه هذا أكثر فأكثر في بحر مطالب الرغبات واألهواء الدفينة‪ .‬وهذا الخضوع‬
‫هو منبع الصراعات والقالقل السياسية والفو�ضى االجتماعية‪ .‬والحقيقة أن ال‬
‫حرية خارج مسؤولية الخضوع لقانون أسمى يتجاوز الرغبات الذاتية واألهواء‪.‬‬
‫لهذا يحسم بولتمان في جوابه عن الوضعية الكارثية التي وضع اإلنسان املعاصر‬
‫نفسه فيها قائال‪ :‬يكمن الحل في قانون متعالي عن هذه الرغبات أو في قانون إلهــي‪.‬‬
‫في بحثه عن الحل املنشود‪ ،‬ال يرفض بولتمان منتوجات الحداثة جملة‬
‫وتفصيال‪ .‬فقد وجدناه يضم صوته إلى صوت إرنستترولتشوبول تيليشفي رده‬
‫على املهولين من استخدام مناهج العلوم اإلنسانية في قراءة النصوص املقدسة‬
‫وفهم الدعوة الدينية الكامنة في عمقها‪ .‬ففي نظر بولتمان ال تهدد هذه املناهج‬
‫والعلوم قداسة اإللــه‪ .‬وفي هذا اإلطاريؤكد بولتمان بأن إخالء املضامين املسيحية‬
‫من األساطير هو في حقيقة األمر حفر عميق إلزالة القشور التي علقت بالدعوة‬

‫‪268‬‬
‫الدينية الكامنة في الدين املسيحي أو إنه بمثابة عملية إزالة غبار اعتلى جوهرة‬
‫الدين بفعل الخلط املقصود بين العقائد الدينية والتصورات امليثولوجية التي‬
‫ظهر الدين ظهوره األول في سياقها ومتزامنا معها‪ ،‬وهي تصورات بمثابة أطر‬
‫نظرية ميثولوجية شكلت صورة العالم املحيط بالنص الديني في زمن ظهوره‬
‫منحته معانيه ودالالته‪ ،‬ومكنته من االنتشاربين الناس بفضل صور واستعارات‬
‫ُ‬
‫وأمثوالت أخذت من معين ميثولوجي‪ .‬لكن هذه التصورات لم تعد تتالءم مع‬
‫الدعوة اإللهية الكامنة في النصوص الدينية املوجهة إلى أفراد لم يعودوا يقبلون‬
‫إال بالتفسيرات العلمية القائمة على الربط بين النتائج املادية وأسبابها املادية‪،‬‬
‫وترفض‪ ،‬بناء على ذلك‪ ،‬التفسيرات السحرية القائمة على مفاهيم املعجزة‬
‫والنهاية امليتولوجية للعالم‪...‬‬
‫إن صورة العالم الحديثة‪ ،‬القائمة على الطبيعة النسبية للنظريات العلمية‪،‬‬
‫ال تنتصر لتفسير ما؛ ألنه يعارض تفسير النص الديني لنفس الظواهر‪ ،‬بل ألن‬
‫تفسيرها ينطلق من أن الظواهر الطبيعية خاضعة في شموليتها لقانون كوني‪.‬‬
‫وكمثال على النظرة السحرية امليثولوجية حديث النص الديني عن نهاية العالم‬
‫الوشيكة بفعل تعاظم تدخل الشياطين الذي سيفسد طبيعة الخلق اإللهي‬
‫(العالم)‪ ،‬وهي نهاية من عالماتها بعث أجساد املوتى وقدوم املخلص على السحاب‬
‫لينشرالسلم‪...‬‬
‫ال يدعي بولتمان أن عقيدة نهاية العالم لم يعد لها جمهور يصدقها‪ ،‬إنما ينبه‬
‫إلى أن َ‬
‫املحدثين لن يقبلوا بها كفكرة إال إذا تم التعبير عنها بلغة فزيائية‪ :‬بفعل‬
‫انفجار ذري أو حرب كيماوية أو بردها إلى تفسير علمي لظواهر فلكية وفيزيائية‬
‫قابلة للتفسيرالعلمي املادي‪.‬‬
‫من الواضح أن بولتمان واع كل الوعي بأن املعرفة العلمية قد حلت بشكل‬
‫نهائي محل التصورات امليثولوجية‪ .‬لذلك تكمن مداخل فلسفة الدين في نظر‬

‫‪269‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫اغات مازالت املعرفة العلمية الحديثة عاجزة عن ملئها‪.‬‬
‫بولتمان في استغالل فر ٍ‬
‫فهذا الثيولوجي ال يرفض‪ ،‬عكس ما هو منتظر وبالنظر إلى تخصصه‪ ،‬التفسير‬
‫العلمي للعالقات بين األسباب والنتائج بل يرفض التفسير الذي يقول بتدخل‬
‫الفعل اإللهي بشكل شمولي أو بشكل جزئي(كأن يقطع هللا سلسلة العالقات‬
‫السببية بين موجودات الطبيعة)‪ ،‬ويكتفي بولتمان‪ ،‬بناء على هذا املوقف‪،‬‬
‫بالقول بوجود تدخل إلهي على صعيد وجودي‪ ،‬كأن يأخذ شخص ما قرارا في‬
‫حياته‪ ،‬يبدو له أول األمر صغير التأثير‪ ،‬ثم ُيفاجأ فيما بعد بأن ما ّ‬
‫عده قرارا‬
‫صغيرا‪ ،‬ال داللة له‪ ،‬قد كان في حقيقة األمرقرارا حاسما لتحوالت شاملة وعميقة‬
‫في مسارحياته البعدية‪ .‬وبناء عليه فإن املؤمن هو من سيعتبربأن ذاك القراركان‬
‫إلهاما إلهيا وتدخال ربانيا في مساراألحداث الخاصة بوجوده الفردي‪.‬‬
‫ها قد رأينا بأن عملية تخليص املسيحية من األساطير ال تعني التخلص من‬
‫األفكار الدينية‪ ،‬بل تقت�ضي الحفاظ على عالقة مع هللا على املستوى الوجودي‪.‬‬
‫فقد الحظنا كيف بين بولتمان عدم مشروعية الحديث عن فاعلية إلهية كونية‪،‬‬
‫مثلما اعتبر أن التمثالت القائلة بتدخل إلهي في األحداث السياسية والقضايا‬
‫القانونية لم يعد لها محل في زمن هيمنة وسيادة التفسير العلمي للظواهر‬
‫الطبيعية‪.1‬‬
‫أما عن عالقة فلسفة الدين بباقي العلوم اإلنسانية‪ ،‬فيمكننا أن نستنتج أن‬
‫املقاربة الوجودية التي اعتمدها بولتمان في فلسفة الدين تفرض على العلوم‬
‫اإلنسانية أن تتوقف عند أعتاب التحليل الصوري للوجود اإلنساني دون‬
‫تدخل في تحليل أحداث واقع األفراد ُ‬
‫وصدف الحياة ومجرياتها في بعدها الفردي‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫وبالتالي ألن «لقاء اإلنسان باهلل هي تجربة فردية وشخصية ليس للفلسفة سلطة‬
‫ال لفرضه وال ملنعه»‪.2‬‬
‫‪1- Ibid, p. 232.‬‬
‫‪2- Ibid., p. 223.‬‬

‫‪270‬‬
‫لكن حديث بولتمان عن هللا كتجربة‬
‫يعترب بولتمان أن مرشوعه‬ ‫شخصية وذاتية ال يعني تحويل فكرة هللا‬
‫لتخليص املسيحية من‬ ‫إلى مجرد تجربة سيكولوجية ‪.Erlebnis‬‬
‫معلوم بأن اإليمان ال يستقيم إال إذا املضامني الثيولوجية غري ّ‬
‫مهدد‬
‫ُنظر إلى هللا على أنه «موجود خارج ذات لألساس العقدي لهذا الدين‪،‬‬
‫كما أنه ليس دعوة لعقلنة‬ ‫املؤمن»‪ ،1‬كل ما في األمريضيف بولتمان‪:‬‬
‫«ليس في قدرتنا التعبير عن ماهية هللا الدين املسييح تؤدي إىل تغريبه‬
‫عن ماهيته األوىل‬ ‫في ذاته‪ ،‬في املقابل نستطيع التعبير عما‬
‫يفعل هللا من أجلنا ومعنا»‪.2‬‬
‫يعتبر بولتمان أن مشروعه لتخليص‬
‫مهدد لألساس العقدي لهذا الدين‪،‬‬ ‫املسيحية من املضامين الثيولوجية غير ّ‬
‫كما أنه ليس دعوة لعقلنة الدين املسيحي تؤدي إلى تغريبه عن ماهيته األولى‪.‬‬
‫بالعكس‪ ،‬يقدم هذا الثيولوجي مشروعه على أنه عودة إلى جوهر الدين املسيحي‬
‫الكامن في تحرير اإلنسان من عبوديته نحو طقوس العصر وأصنامه التي تقيد‬
‫الفعل اإلنساني‪ .‬فالطابع السحري للكائن اإللهي ال ينتظر منا معرفته وتفسير‬
‫طبيعته معرفة وتفسيرا عقليين‪ ،‬إنه يفرض علينا محاولة استيعاب «طريقته في‬
‫الفعل تجاه البشر»‪.3‬‬
‫إن حديث النص الديني عن «نهاية وشيكة للعالم»‪ ،‬وبعبارة أخرى عن قرار‬
‫هدم العالم‪ ،‬أمر ال يتما�شى مع دعوة النص املوجهة للمؤمنين من أجل إعمار‬
‫األرض واتباع أخالق اإلرادة اإللهية‪ ،‬لهذا فإن القراءة النقدية من داخل فلسفة‬
‫الدين تمكن من فصل ما هومن صميم الدعوة وما يتناسق مع عقائدها األساسية‬
‫‪1- Ibid., p. 233.‬‬
‫‪2- Ibid., p. 235.‬‬
‫‪3- Ibid., p. 211.‬‬

‫‪271‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ومبادئها األولية وما يعتبر إضافات من‬
‫ال سبيل يف نظر بولتمان‬ ‫فعل «جماعة املؤمنين»‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬ال سبيل في نظربولتمان للخروج للخروج من املأزق الظاهري إال‬
‫من املأزق الظاهري إال عبر أخذ الدعوة عرب أخذ الدعوة الدينية مأخذا‬
‫الدينية مأخذا مغايرا‪ .‬إنها خطاب مغايرا‪ .‬إهنا خطاب موجه للفرد‬
‫موجه للفرد غايته مساعدة الفرد في غايته مساعدة الفرد يف بحثه‬
‫بحثه الحثيث عن الخالص الذاتي‪ ،‬ما احلثيث عن الخالص الذايت‬
‫دام العالم بأسره سائرا‪ ،‬وفق العقيدة‬
‫املسيحية‪ ،‬إلى مزيد من الفساد املنذر‬
‫بنهايته‪ .‬فالنهاية قرارسيتخذه اإلله حين تستأثربالعالم املادي قوى الشرالكامنة‬
‫في اإلنسان‪ .‬لهذا ال يمكن أن تكون الدعوة الدينية دعوة موجهة إلى الجماعة وإال‬
‫تناقض تحسن أحول الناس األخالقية مع اإلنذاربنهاية العالم وهدمه‪.‬‬
‫يعين الخطاب الديني إذا ما قرئ قراءة نقدية على الوقوف عند الدعوة‬
‫اإللهية الكامنة فيه؛ دعوة اإلله اللتحاق الفرد بملكوته دعوة‪ ،‬في حقيقة األمر‪،‬‬
‫لحصر رغبات اإلنسان الجامحة في السيطرة على الطبيعة وعلى اإلنسان‪ ،‬وهي‬
‫دعوة أيضا لتغيير معايير تعامل اإلنسان مع الحيوان واملاء وفق معايير النجاعة‬
‫البراجماتية والنجاح‪ ،‬وللتوقف عن معاملة هذه الكائنات واملكونات الطبيعية‬
‫كوسائل لتحقيق السعادة الذاتية واألمن الذاتي‪ ،‬وذلك في أفق تغييرهذه املعايير‬
‫بأخرى قوامها «الطاعة التي توفر الخير والوفاء والحب‪ ،‬أي طاعة أوامر هللا التي‬
‫يهملها اإلنسان بدافع األنانية والخيالء»‪.1‬‬
‫بناء على التحليل السابق‪ ،‬يبدو واضحا بأن النص الديني وفق قراءة بولتمان‬
‫يتوجه إلى الفرد البشري لكي يدله على طريق من بين طرق شتى‪ ،‬يمكنه من‬

‫‪1- Ibid., p. 208.‬‬

‫‪272‬‬
‫عيش تجربته الوجودية‪ ،‬ليس على سبيل النصح واإلرشاد‪ ،‬ولكن على سبيل‬
‫ً‬
‫التأمل في ماهية التجربة اإلنسانية‪ .‬لهذا نحتاج‪ ،‬ضرورة في هذه اللحظة بالذات‬
‫من تطور تحليل أدوار النص الديني وعالقته بالتجربة اإلنسانية إلى منهجية‬
‫فلسفية تساعدنا على هذا الذي أطلقن عليه بولتمان «التأمل في ماهية التجربة‬
‫اإلنسانية»‪ .‬ترى‪ :‬أي الفلسفات أقرب إلى االضطالع بهذه املهمة؟‬
‫رأينا فيما سبق بأن الفلسفة ال تسعفنا في فهم التجارب الذاتية واملجريات‬
‫الحياتية الفردية مادامت منشغلة باملشترك والكلي والصوري‪ ،‬لكن الفلسفة‬
‫الوجودية تسجل اختراقا في هذا الباب‪ ،‬وتشكل استثناء مقارنة بباقي املذاهب‬
‫والفلسفات في نظربولتمان‪.‬‬
‫تقف الفلسفة عند تمثالت محددة تمكننا من الوقوف عند التجربة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬لكن لكل فلسفة تصور خاص بها‪ .‬وتكمن امليزة التي تفصل «فلسفة‬
‫الوجود» عن باقي الفلسفات في أنها ال تملي وصايا وال تحمل إلينا خططا وطرقا‬
‫موجهة لكيفية عيش اإلنسان تجربته الذاتية‪.‬‬
‫تعتبر فلسفة الوجود أن تجربة الوجود البشري تجربة فريدة عصية عن‬
‫التكرار‪ .‬فوقوف الشخص في لحظة ما ليتساءل عما يجب عليه فعله أمرمرتبط‬
‫أشد االرتباط بماضيه وبلحظة االختيار‪ ،‬وبموقع هذه اللحظة في مساره الحياتي‬
‫وبكثافة التأثيرات االنفعالية والعاطفية والوجدانية وبعدد اإلمكانات املتاحة‪،‬‬
‫سواء تلك التي طفت على سطح الوعي أو تلك التي توارت عنه في لحظة االختيار‪.‬‬
‫ورغم عمق الفلسفة الوجودية ومالءمتها الواضحة إلمكانية قراءة النص الديني‬
‫من باب اعتبارهذا النص َّ‬
‫موجها إلى الفرد في تجربته الذاتية الخاصة والحميمة‪،‬‬
‫إال أن بولتمان يؤكد بأن اختيار الفلسفة التي من خاللها سينصت املؤمن لنداء‬
‫الكتاب املقدس يبقى اختارا شخصيا‪ .‬إذ لكل الفلسفات منطلقاتها ومبادئها‪.‬‬
‫ومع ذلك يبقى لفلسفة الوجود‪ ،‬في نظر بولتمان‪ ،‬قيمة مميزة هي أنها منسجمة‬

‫‪273‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫مع اإلمكانات التي يقترحها الكتاب املقدس من باب أنه يخاطب املؤمن‪ .‬فهو‬
‫نص يتضمن دعوة من اإللــه إلى شخص يعنيه الخطاب الكامن في النص رأسا‬
‫ومباشرة‪ ،‬غيرأن بولتمان يستدرك مبينا بأن نظرته الخاصة كثيولوجي وفيلسوف‬
‫ال تفترض أن فهم الوجود اإلنساني ينبني ضرورة على لزوم إدخال فكرة العون‬
‫اإللهي في كل تجربة إنسانية‪ .1‬هذا االستدراك هو ما يثبت بأن تجربة بولتمان في‬
‫اإلنصات إلى دعوة اإلله انطالقا من الفلسفة الوجودية تجربة شخصية‪ ،‬قائمة‬
‫على حرية فردية مشدودة إلى وعي بمسؤولية ذاتية في االختيار‪ .‬لهذا فهو ال يلزم‬
‫أحدا بها‪ ،‬وهذه إحدى ثمارفلسفة الدين األساسية‪ ،‬وفي ذلك تميزها عن الدعوى‬
‫العلمية للثيولوجيا وعن الطبيعة اإليديولوجية للفلسفة الدينية‪.‬‬
‫إذا كانت الفلسفة الوجودية منسجمة مع النظرة التي ترى في النص الديني‬
‫خطابا موجها للفرد من أجل مساعدته في تأمل ماهية حياته باعتبارها تجربة‬
‫فردية وذاتية تقت�ضي اختيارات محددة‪ ،‬فكيف يمكن استخراج هذه الحقيقة‬
‫من نص يعج بحكايات وقصص وأحداث من أزمنة خلت وروايات عن أشخاص‬
‫لم يعد لهم وجود ووقائع من عوالم ماضية وأخرى مستقبلية‪...‬؟ وما هي اآللية‬
‫املنهجية التي تمكن من استجالء هذه الحقيقة من وراء حجب االستعارة والعبارة‬
‫واألوامرالعامة؟ كيف السبيل إلى استخراج الجوهروترك كل ما ال يهم الشخص‬
‫في زمانه ومكانه؟ وفق أي قراءة يتم الفصل بين الدعوة اإللهية اللحظية وبين‬
‫متعلقات العصور التاريخية الغريبة عن الحياة الفردية للشخص الذي يخاطبه‬
‫النص الديني؟‬
‫انطالقا من هذه األسئلة وغيرها انطلق بولتمان وتبنى منهج الهيرمينوطيقا‪،‬‬

‫يوجد بولتمان حيزا لدخول الفلسفة في عالقة اإلنسان باإلله من باب أنها عالقة شخصية ال تمنعها‬‫‪ِ -1‬‬
‫الفلسفة كما ال تفرضها‪ .‬يقول بولتمان‪« :‬يفترض التحليل الفلسفي أنه باإلمكان تحليل الوجود بدون‬
‫اعتبارلعالقة اإلنسان باإلله»‪.‬‬
‫‪.Bultmann, Ibid., p. 222‬‬

‫‪274‬‬
‫حيث اعتبر بأن «تخليص املسيحية‬
‫البد لقارئ النص الديين‬ ‫من األساطير منهج هيرمينوطيقي‪ ،‬أي‬
‫يف نظر بولتمان من اتخاذ‬ ‫منهج للتأويل والتفسير»‪ .1‬ومن أجل‬
‫حسن تطبيق هذا املنهج البد لقارئ احتياطات هريمينوطيقية‪ ،‬حىت‬
‫النص الديني في نظر بولتمان من اتخاذ يتمكن باعتباره مؤوال‪ ،‬من‬
‫الويع باألحكام املسبقة‬ ‫احتياطات هيرمينوطيقية‪ ،‬حتى يتمكن‬
‫باعتباره مؤوال‪ ،‬من الوعي باألحكام اليت توجه قراءته للنص‪ ،‬سواء‬
‫املسبقة التي توجه قراءته للنص‪ ،‬سواء كانت أحكاما سيكولوجية أو‬
‫تاريخية أو دينية‬ ‫كانت أحكاما سيكولوجية أو تاريخية أو‬
‫دينية‪ .‬أول درس نبهت إليه الهيرمينوطيقا‬
‫املعاصرة هو ضرورة الوعي باألحكام‬
‫املسبقة‪ ،‬لكي يتمكن املؤول من تقدير تأثير تلك األحكام على قراءته للنصوص‪.‬‬
‫إال أننا وجدنا بولتمان يؤكد على ما يمكن أن نسميه االستحضار املنهجي لألحكام‬
‫املسبقة‪ .‬فاألحكام ذات الصلة باملنهج التاريخي مثال تمكننا من استطالع السياق‬
‫التاريخي للنص املؤول والوضع التاريخي الذي يحتضنه‪ ،‬كما تمكن من الكشف‬
‫عن طبيعة تنظيم التشكيالت االجتماعية املحيطة به والعالقات القائمة بينها‪...‬‬
‫باختصار تمكننا تصوراتنا التاريخية التي نحملها عن الزمن الذي نعيش فيه من‬
‫إعادة بناء املرحلة التاريخية الحاضنة للنص عبره وبواسطته‪ ،‬وذلك من أجل‬
‫حسن استيعاب مضامينه وأفكاره‪ .‬أما حين نستخدم املنهج السيكولوجي فذلك‬
‫يكون بغرض التعرف على طبيعة شخصية صاحب النص ومنطلقاته وغاياته‬
‫وردود أفعاله ونظرة املحيطين به لألشياء والثقافة واألشخاص وأحكامهم عليها‪...‬‬
‫في خضم هذه االنشغاالت الهيرمينوطيقية يحق لنا أن نتساءل‪ :‬ما الغاية من‬

‫‪1- Ibid., p. 213.‬‬

‫‪275‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫قراءة نص ديني؟ يجيب بولتمان‪ :‬إنه نص‬
‫َّ‬
‫يتوجه إلي‪ .‬وما هي الرسالة التي يوجهها إلي املهنج التارييخ ال يشبه يف يشء‬
‫أنا الذي أعيش في سياق تاريخي مختلف دراسة معطيات الطبيعة‪ ،‬ألن‬
‫خضمه َّأول التاريخ عبارة عن حياة عىل‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫عن السياق الذي ظهر في‬
‫األمر؟ يرد بولتمان‪« :‬إن غايتي هي أن املؤرخ استعادهتا يف أبعادها‬
‫املتعددة واملتشابكة‬ ‫أنصت إلى ما يريد الكتاب املقدس قوله‬
‫لزمني الراهن‪ ،‬وأن أستوعب الحقيقة‬
‫عن حياتي ونف�سي»‪.1‬‬
‫لتوضيح التصور التطبيقي الذي تبناه بولتمان في قراءته الهيرمينوطيقية‬
‫للنص املقدس نقدم مثاال لكيفية تناوله لشخصية يسوع‪ .‬فقد أخضع بولتمان‬
‫شخصية «يسوع» لتأريخ موضوعي‪ .‬وال يعني التاريخ املوضوعي في هذا السياق‬
‫مجرد سرد األحداث التي كان يسوع جزءا منها أو كان صانعها‪ ،‬في ترتيبها وتعاقبها‪.‬‬
‫فاملنهج التاريخي ال يشبه في �شيء دراسة معطيات الطبيعة‪ ،‬ألن التاريخ عبارة عن‬
‫حياة على املؤرخ استعادتها في أبعادها املتعددة واملتشابكة‪ .‬لهذا سعى بولتمان‬
‫إلى إعادة كتابة ما أراد يسوع إنجازه وما أراد نقله للمحيطين به وللمؤمنين‬
‫برسالته‪ .‬بعبارة واضحة نقول مع بولتمان‪ُ :‬يختزل تاريخ يسوع بالنسبة للمؤرخ‬
‫الهيرمينوطيقي في إرادة يسوع‪ .‬وهذه اإلرادة تساعد املؤرخ على إدراك راهنية دعوى‬
‫يسوع رغم حاجز الزمن الذي يفصل املؤمن القديم عن املؤمن الحديث‪ .‬هذه‬
‫الطريقة كفيلة في نظربولتمان بمساعدة املؤرخ على ترك املعطيات والثقافة التي‬
‫نقل عبرها يسوع ما أراد تبليغه‪ ،‬ألنها تخص الزمن الذي عاش في إطاره ووسط‬
‫املحيطين به من األتباع واملؤمنين وغيرهم‪ .‬وبذلك يتمكن املؤرخ من إدراك جوهر‬
‫الرسالة التي بعثها يسوع إلى أشخاص لم يحدثهم مباشرة ولم يخاطبهم برموزهم‬

‫‪1- Ibid., p. 218.‬‬

‫‪276‬‬
‫وإشاراتهم وثقافتهم‪ .‬لهذا يعترف بولتمان بأن على املتلقي أال ينتظر من املؤرخ‬
‫أن يصور له شخص يسوع في صورة «رجل عظيم أو عبقري أو بطل‪ ،‬كما لن‬
‫يبدو شيطانا وال جذابا مثيرا‪ ،‬ولن تكون أقواله عميقة وإيمانه قويا على الدوام»‪.1‬‬
‫ويضيف بولتمان إذا لم يخضع القارئ لصرامة التأريخ الهيرمينوطيقي وملنطق‬
‫االستبعاد الصارم لألحكام املسبقة‪ ،‬أي إذا لم يعمل بمقتضيات النقد فإن ما‬
‫سيحصل عليه عند كتابة تاريخ شخصية دينية أو تاريخ عقيدة أو تاريخ نص من‬
‫النصوص لن يعدو أن يكون مجرد «رواية»‪.2‬‬
‫إن ما يبحث عنه املؤمن وراء كلمات يسوع ليس األجوبة التامة الكاملة والعقائد‬
‫الجاهزة للتطبيق وإنما استفهامات تسائله عن الكيفية التي ينوي من خاللها بناء‬
‫وجوده الخاص‪ ،‬وهذا لن يتأتى له بطبيعة الحال عبراملساءلة العقالنية للعقائد‬
‫املتضمنة في خطاب يسوع املوجه إلى الناس‪.3‬‬
‫في ختام استعراضنا ألطروحة بولتمان يجب أن نشدد على أمر هام‪ .‬قد يقع‬
‫القارئ في ريبة من أهداف بولتمان‪ ،‬فغوص هذا الثيولوجي في أعماق النص‬
‫الديني الذي يؤمن به واستخراجه لجوهر الخطاب الكامن فيه واعتباره هذا‬
‫الجوهرعابرا للعصور واألمكنة ّ‬
‫وتبنييه له كحل للكارثة املحدقة بإنسانية الزمن‬
‫املعاصر‪ ،‬أمور قد تؤخذ على أنها نوع من التبشيرأو دعوة العتناق كل البشرية ملا‬
‫يؤمن به هذا املسيحي البروتستانتي‪.‬‬
‫إن عمل بولتمان يشجع املؤمنين بمختلف الديانات على البحث داخل‬
‫عقيدتهم الخاصة على طرق النجاة والخالص إنقاذا لكل اإلنسانية من النتائج‬
‫املخربة لألنانية البشرية ومن إيمان اإلنسان األعمى بقدرته الشمولية على‬
‫التحكم في الطبيعة واإلنسان‪ .‬ويقدم هذا املفكر مثاال للعمل الذي يمكن أن‬
‫‪1- Ibid., p. 34.‬‬
‫‪2- Ibid ., p. 35.‬‬
‫‪3- Ibid., p. 37.‬‬

‫‪277‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫يقوم به كل صاحب عقيدة محدث‪.‬‬
‫إذا كان هذا هو هدف بولتمان الحقيقي من فلسفة الدين الخاصة به‪ ،‬فإن‬
‫املنحى الذي اتخذته دعوته هاته قد تنتهي بنا إلى نزعة نسبية مطلقة يتحول فيها‬
‫حوار األديان‪ ،‬باعتباره مسارا من مسارات محاولة القضاء على أشكال العنف‬
‫والتطرف التي تغذيها قراءات معينة للنصوص الدينية‪ ،‬إلى استعراض وتفاضل‬
‫بين األديان وإلى انزواء كل طائفة وانغالقها على نفسها‪ ،‬أم ترانا سنعود إلى‬
‫املحاوالت التي عرفتها املرحلة املمتدة من الزمن القديم إلى العصر الحديث‪ .‬تلك‬
‫اشتهرت بإجراء حوارات داخل متون الفالسفة والثيولوجيين بين‬ ‫املحاوالت التي ُ‬
‫‪1‬‬
‫أصحاب الديانات «الكبرى»‪ ،‬وهي حوارات غالبا ما كانت تنتصرلدين من األديان‬
‫أو يخرج منها الفيلسوف العارف بعمق الدين وماهيته مغتبطا بتمكنه من اإليقاع‬
‫بين الفرقاء الدينيين في تناقضات بسبب تشبتهم بقشور التدين‪ 2‬أو ينتصر فيها‬
‫الدين الطبيعي‪ 3‬أو ينتهي املفكرإلى القول بأن سعادة اإلنسان لن تتحقق كلية ما‬
‫لم يدبرشؤون الدولة حكام محايدون أو ال دين لهم‪.4‬‬
‫خــات ـمــة‬
‫رأينا في عرضنا ملشاريع ثالثة ثيولوجيين من التقليد املسيحي البروتستانتي‬
‫األملاني تصورهم لفلسفة الدين من حيث املوضوع واملنهج واملهمة املنوطة بهذا‬
‫َ‬
‫املبحث‪ .‬لن يخفى على من تابع معنا هذه الرحلة النفس اإلصالحي الحاضر في‬
‫املشاريع الثالثة‪ ،‬وهي تختزل في ذلك املشروع الكبير الذي اضطلع به فالسفة‬
‫الدين عند منعطف نهاية القرن التاسع عشروبداية القرن العشرين إثرالصدام‬
‫القوي بين صورتين للعالم‪ :‬الصورة الحديثة املشبعة بنتائج النظريات في‬
‫‪1- Nicolas de Cuise(1401-1464), La paix de la foi (1453).‬‬
‫‪2 - Pierre Abélard(1079-1142), Dialogue entre un philosophe, un juif, et un chrétien (1141).‬‬
‫‪3- David Hume (1711- 1776), Histoire naturelle de la religion(1757), Dialogues sur la‬‬
‫‪religion naturelle(1779).‬‬
‫‪ - 4‬أطروحة بييربايل ‪ Pierre Bayle‬الشهيرة‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫العلوم الطبيعية والعلوم اإلنسانية والصورة التي يحملها الدين عن العالم‪.‬‬
‫لقد كان مشروعهم املشترك هو إقامة مصالحة بين الصورتين للخروج من أزمة‬
‫ثقافة وليس فقط «أزمة دينية»‪ .‬حري بنا أن نقف في هذه الخاتمة عند أهم‬
‫االستنتاجات العامة من عرض وتحليل تصور املفكرين الثالثة لفلسفة الدين‪،‬‬
‫وإن كان غنى املشاريع الثالث يستع�صي على االختصارواالختزال‪.‬‬
‫إن النظرإلى الظاهرة الدينية اليستقيم دون تحليل سياقها الثقافي واالجتماعي‬
‫واختالف تمظهرها التاريخي‪ ،‬وهذا أهم ضابط يجب على الباحث في فلسفة الدين‬
‫االلتزام به كي ال يسقط ضحية ألحكام وضعية مسبقة‪ ،‬ترى في الدين نمطا من‬
‫الشلل العقلي الذي ّ‬
‫مس البشرية األولى وما زال يؤثرفي قواها الحية‪.‬‬
‫إن االهتمام بالبعد التاريخي يجعل عمل فيلسوف الدين مختلفا ومتميزا عن‬
‫وجهت‬ ‫عمل املشتغل بالثيولوجيا أو الفلسفة الدينية‪ .‬فإذا كانت الثيولوجيا قد ّ‬
‫اهتمامها دائما إلى الدفاع عن «املوضوع» الذي ينشده الوعي الديني‪ ،‬غير آبهة‬
‫باختالف التجليات التاريخية والثقافية للظاهرة الدينية‪ ،‬فإن الرغبة في حصول‬
‫فهم فلسفي بالظاهرة يفرض بالضرورة تفكيرا في املكانة التي تحتلها هذه الظاهرة‬
‫في التاريخ العام‪ .‬إن انسحاب الثيولوجيا العلمية‪ ،‬وظهور فلسفة الدين‪ ،‬ال يعني‬
‫حل محل املباحث القديمة‪ ،‬أو أنه انشغل بعدها بالدفاع عن‬ ‫أن املبحث الجديد ّ‬
‫«األسرار» و«املعجزات» و«الغموض امليتافيزيقي» في سياق تاريخي جديد‪ ،‬اتخذ‬
‫فيه مكانة علمية بجانب باقي العلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫بعبارة أوضح‪ ،‬ليست فلسفة الدين علمنة‪ sécularisation 1‬للثيولوجيا‪.‬‬
‫بمعنى أن موضوع فلسفة الدين ليس هو تناول وتحليل القضايا القديمة‬
‫‪ - 1‬نحيل‪ ،‬بالنسبة لداللة هذا اللفظ‪ ،‬إلى‪:‬‬
‫‪- Jean-ClaudeMonod, La querelle de la sécularisation de Hegel à Blumenberg, Paris,‬‬
‫‪Vrin, 2002.‬‬
‫وانظر كذلك‪ :‬حاتم أمزيل‪ ،‬العلمانية في الفلسفة املعاصرة‪ ،‬منشورات مختبر الدراسات الرشدية‪،‬‬
‫جامعة سيدي محمد بن عبد هللا‪ ،‬فاس‪.2017 ،‬‬

‫‪279‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫للميتافيزيقا املاقبل ‪ -‬كانطية في سياق علمي ووضعي‪ .‬ومعنى هذا‪ ،‬أيضا‪ ،‬أنه ال‬
‫بجوهر ماقبل ‪ -‬نقدي‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ينبغي النظر إلى املبحث الجديد على أنه مبحث حديث‬
‫نظر وضعي‬‫والقول الفصل في هذا‪ ،‬نصوغه قائلين‪ :‬ليست فلسفة الدين بمثابة ٍ‬
‫ملا أثبت النقد الكانطي استحالة إنتاج قول علمي بصدده‪ .‬فمن يسعى في هذا‬
‫ّ‬
‫املسلك‪ ،‬إنما يقوم بمناورة‪ ،‬لكي يعيد الجوهرامليتافيزيقي في حلة وضعية وعلمية‪.‬‬
‫وبذلك‪ ،‬يعبرصاحب هذا املسعى عن عدم استيعابه ّ‬
‫للهزة النقدية‪ ،‬كما يكشف‬
‫سلوكه غربة وعيه التاريخي عن سياق انشغاله‪ ،‬وعدم إدراكه للتحول الذي كان‬
‫أساسا لظهور فلسفة الدين‪ .‬ففلسفة الدين غير معنية بتأمل وتحليل مفاهيم‬
‫هللا والوحي‪ ...‬بل تكمن مهمتها في فهم البعد الواقعي والحيوي والوجودي لألديان‬
‫التاريخية‪ .‬إن مهمتها تطبيقية أكثرمنها مهمة نظرية‪ .‬مهمتها األساس هي املصالحة‬
‫بين الدين والحداثة في أبعادها العلمية والفلسفية واألخالقية والسياسية‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫الئحة املراجع‬

• Blumenberg, Hans, La légitimité des Temps modernes, trad. par


MarcSagnol et autres, Paris, Gallimard, 1999.
• Bultmann, Rudolf, Jésus, mythologie et démythologisation, trad.
par Florence Freyss et autres, Seuil, Paris, 1968, p. 206.
• Greisch, Jean, Buisson Ardent et les lumières de la raison, T. 1,
Paris, Cerf, 2002.
• Grondin, Jean, La philosophie de la religion, Paris, Puf, Que sais-
je ?, 2009.
• Hazard, Paul, La crise de la conscience européenne 1680-1715,
Paris, fayard, 1961.
• Husserl, Edmund, La philosophie comme science rigoureuse, trad.
Marc B. de Launay, Paris, P.U.F., 1989.
• Monod, Jean-Claude, La querelle de la sécularisation de Hegel à
Blumenberg, Paris, Vrin, 2002.
• Tillich, Paul, Théologie ce la culture, trad . de l’anglais par J.-P.
Gabus et J.-M. Saint, Paris, Eds. Planète, 1968.
• Troeltsch, Ernst, Histoire des religions et destin de la théologie,
Œuvres III, trad. par Jean-Marc Tétaz, Paris/Genève, Cerf/Labor et
Fides, 1996.
‫ منشورات مختبر الدراسات‬،‫ العلمانية في الفلسفة املعاصرة‬،‫ حاتم‬،‫• أمزيل‬
.2017 ،‫ فاس‬،‫ جامعة سيدي محمد بن عبد هللا‬،‫الرشدية‬

281 ‫ م‬2020 ‫ يناير‬- ‫ ه‬1441 ‫ جمادى األولى‬3 ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد‬
‫دين املسؤولية األخالقية‬
‫عند ليفيناس‬
‫عمربوكيلي‬

‫مقدمة‬
‫ُع ِرف ايمانويل ليفيناس‪ 1‬في األوساط الفلسفية املعاصرة بفيلسوف الوجه‬
‫واألخالق الذي حاول تأسيس نزعة إنسية جديدة انطالقا من مساءلة الفكر‬
‫والواقع الغربيين‪ ،‬والعمل على جعلهما أكثرسالما ومحبة‪ .‬وقف موقفا جذريا من‬
‫االنتهاكات التي طالت القيم اإلنسانية خالل القرن العشرين‪ ،‬فكان قوله رفضا‬
‫للعنف والظلم املستشريين في األفهام والعالقات‪ .‬وما دامت فلسفته موقفا‬
‫‪ -1‬إمانويل ليفيناس ‪ Emmanuel Levinas‬فيلسوف فرن�سي من أصول يهودية لتوانية‪ ،‬ولد في ‪ 12‬يناير‬
‫‪ 1906‬بكوفنو (‪ )Kaunas‬وتوفي في ‪ 25‬دجنبر ‪ ،1995‬وحصل على الجنسية الفرنسية سنة ‪ .1930‬تلقى‬
‫تعليما تقليديا في مسقط رأسه‪ ،‬أساسه التوراة واألدب الرو�سي‪ ،‬قبل أن ينتقل إلى ستراسبورغ بفرنسا‬
‫لدراسة الفلسفة‪ ،‬حيث جاور كل من‪ :‬شارل بلوندل وموريس هولبواش وموريس بارادين‪ ،‬وتعرف على‬
‫موريس بلونشو الذي ستجمعه به صداقة كبيرة‪ .‬ثم انتقل سنة ‪ 1928‬إلى فريبورغ ـ في ـ برسغو حيث‬
‫تلقى دروس الفينومنولوجيا على ايدموند هوسرل ثم مارتن هيدغر‪ .‬كما شارك في الحرب العاملية الثانية‬
‫كمجند فرن�سي وسجن من طرف األملان لخمس سنين‪ ،‬شرع بعدها مباشرة في كتابة مؤلفه الفلسفي‪.‬‬
‫وشغل منصب مدير «مدرسة املعلمين اليهود الشرقية» التابعة للتحالف العالمي اإلسرائيلي (‪)ENIO‬‬
‫على امتداد ‪ 35‬سنة‪ ،‬وقدم قراءاته التلمودية للمجتمع اليهودي‪ .‬ولم يبدأ مساره الجامعي إال بعد سنة‬
‫‪ 1664‬حيث درس في جامعة بواتييه ثم جامعة باريس ـ نناطير (‪ ،)1967‬فجامعة الصربون التي مكث‬
‫بها إلى حين إحالته على التقاعد سنة ‪ .1976‬كما قدم دروسا في جامعة فريبورغ بدعوة من املجتمع‬
‫اليهودي هناك ما بين سنتي ‪ 1970‬و‪ .1980‬وتتوزع كتابته بين الكتب الفلسفية والتعليقات التلمودية‬
‫واملقاالت التي ألقيت في مناسبات متعددة‪ ،‬ومنها‪ :‬الكلية والالنهائي (‪ )1961‬وخالف الوجود (‪)1974‬‬
‫والحرية الصعبة (‪ )1963‬وهللا الذي يتبادرإلى الذهن (‪ )1982‬وهللا‪ ،‬املوت والزمن (‪ )1993‬ومن املقدس‬
‫إلى القديس‪ ،‬خمس قراءات تلمودية جديدة (‪.)1977‬‬

‫‪282‬‬
‫من العنف‪ ،‬فإن عودته إلى الدين تمثل‬
‫هي األخرى ردا على خطابات التسفيه لم يكن ليفيناس أبدا مفكرا‬
‫أو التعظيم التي أخرجته من دائرة دينيا يكتيف بتفسري الكتاب‬
‫املعقولية‪ .‬إنها محاولة لتوضيح دور املقدس اعتمادا عىل النصوص‬
‫واملصادر الدينية‪ ،‬بل كان‬ ‫الدين في نقد الوجود والتاريخ‪ ،‬وتصحيح‬
‫فيلسوفا ينطلق من نفس‬ ‫مسارهما‪.‬‬
‫لم يكن ليفيناس أبدا مفكرا دينيا الهاجس األخاليق يف مساءلة‬
‫يكتفي بتفسير الكتاب املقدس اعتمادا الرتاث الفلسيف ويف تأويل‬
‫الكتاب املقدس الهيودي‬ ‫على النصوص واملصادر الدينية‪ ،‬بل‬
‫عىل حد سواء‬ ‫كان فيلسوفا ينطلق من نفس الهاجس‬
‫األخالقي في مساءلة التراث الفلسفي وفي‬
‫تأويل الكتاب املقدس اليهودي على حد‬
‫سواء‪ .‬استثمر اإلمكانات املنهجية واملفهومية للفينومنولوجيا من أجل استعادة‬
‫املعنى األخالقي للوجود اإلنساني املغيب في الخطاب الفلسفي الراهن‪ ،‬واالنفتاح‬
‫على مصادر غير فلسفية للمعنى‪ ،‬خاصة األدب والدين‪ .1‬إنه الفيلسوف الثاني‬
‫بعد ابن ميمون الذي حاول التجسيربين الفلسفة والفكراليهودي‪ ،‬ومخاطبة كل‬
‫مهموم بمصير الغرب العلماني املتنور‪ ،‬بعدما شهده املجتمع الغربي من تغيرات‬
‫فكرية وواقعية مقلقة‪.‬‬
‫وقد وجد ليفيناس في تجربته املريرة‪ ،‬التي عاشها خالل الحربين الكونيتين‪،‬‬
‫دليال على افتقاد الواقع إلى القيم اإلنسانية‪ ،‬خاصة وأنه لم يكن اإلنسان الوحيد‬

‫‪ -1‬يؤكد ليفناس أن فلسفته األخالقية مستلهمة من مصدرين أساسين هما‪ :‬األدب الرو�سي والتراث‬
‫اليهودي من جهة‪ ،‬ومحنتا التهجيرواألسرمن جهة ثانية‪ .‬يقول‪« :‬كل فكرفلسفي يستند على تجارب قبل‬
‫ـ فلسفية»‪ .‬األخالق والالنهائي‪ .‬ص‪.14 .‬‬
‫‪E. Levinas, Éthique et infini, (Le Livre de poche) Fayard : Paris, (1982) 2008.‬‬

‫‪283‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الذي تجرع طعم التهجيرواألسرواإلبادة‪،‬‬
‫ال ل�شيء إال ألنه وجد نفسه رهينة لعنة لقد أظهر ليفيناس أن الفكر‬
‫نفسه الذي أنتج العنف‬ ‫االنتماء‪ ،‬وفي زمن ُيفترض أنه تجسيد‬
‫ملموس لقيم الحداثة والعقالنية‪ .‬دشن واحلرب‪ ،‬يتيح إمكانية االنفتاح‬
‫ُ‬
‫مساره الفكري‪ ،‬بعيد صعود الوطنية عىل الالهنايئ والويح‪ ،‬وإن كان‬
‫االشتراكية إلى الحكم في أملانيا‪ ،‬بن�صي «في ذلك بمعان خمتلفة عن الدارج»‪.‬‬
‫عرفت الفلسفة نفهسا‬ ‫التملص»‪ 1‬و«بعض التأمالت في الفلسفة عندما ّ‬
‫بمحبة الحكمة‪ ،‬وأكدت‬ ‫الهتليرية»‪ ،2‬حيث شخص الخطرالداهم‬
‫التي يتهدد أوروبا العقالنية ويفرض إعادة أسبقية املعرفة عىل احملبة يف‬
‫تحقيق احلياة السعيدة‬ ‫النظر إلى املفاهيم والتأويل‪ .‬وهو التهديد‬
‫‪3‬‬
‫الذي وصفه في كتاب «الكلية والالنهائي»‬
‫بـ«شهادة الواقع» التي تسفه األخالق‬
‫وتجعل الوجود اإلنساني مرادفا للحرب والعنف‪ .‬يؤكد فيلسوفنا أن األمرال يتعلق‬
‫هنا بحالة عنف شاذة ومعزولة‪ ،‬إنما بخلل جوهري في فهمنا للوجود‪ .‬فما بلغه‬
‫العالم من تناقضات مخفي بطريقة ما بين ثنايا التراث الفلسفي الذي انكفأ على‬
‫نفسه ولم يعد يقبل معنى يخالف ما ارتضاه لنفسه‪ .‬أقامت الفلسفة عقالنيتها‬
‫املزعومة على الداخل واملحايثة‪ ،‬فأتاحت املجال لألنانية والسيطرة على اآلخر‪.‬‬

‫‪ - 1‬ليفيناس‪ ،‬في التملص‪.‬‬


‫‪E. Levinas, De l’évasion. Introduit et annoté par Jacques Rolland. Fata Morgana:‬‬
‫‪Montpellier, 1982.‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬عارضات التاريخ‪ ،‬ص‪.23 .‬‬
‫‪E. Levinas, Les imprévus de l’histoire. Préface de Pierre Hayat. (Le Livre de poche) Fata‬‬
‫‪Morgana : Montpellier, [1994] 2008.‬‬
‫‪ -3‬ليفيناس‪ ،‬الكلية والالنهائي‪.‬‬
‫‪E. Levinas, Totalité et infini. Essai sur l’extériorité, (Le Livre de poche) Martinus Nijhoff:‬‬
‫‪La Haye, [1961] 2008.‬‬

‫‪284‬‬
‫األمر الذي يجعل مساءلتها والخروج من مناخها ضرورة ملحة‪ ،1‬وهو األمر الذي‬
‫ال يتحقق إال بإحياء صوت الغيرية املبثوث قديما في النصوص والشعائرالدينية‪.‬‬
‫«لقد أظهر ليفيناس أن الفكر نفسه الذي أنتج العنف والحرب‪ ،‬يتيح إمكانية‬
‫االنفتاح على الالنهائي والوحي‪ ،‬وإن كان ذلك بمعان مختلفة عن الدارج»‪ .‬عندما‬
‫عرفت الفلسفة نفسها بمحبة الحكمة‪ ،‬وأكدت أسبقية املعرفة على املحبة في‬ ‫ّ‬
‫تحقيق الحياة السعيدة‪ ،‬كانت في الواقع بصدد اقتراف خطيئتها األصلية التي‬
‫ستجعل فهمها للوجود مرادفا للعنف‪ .‬فبدل توجيه املعرفة صوب الخير وجعلها‬
‫َ‬
‫خادمة له‪ ،‬جعلت الفلسفة الحياة الحقة وقفا على النظروالبحث عن الحقيقة‪.‬‬
‫والحال أن الفلسفة ‪ -‬يؤكد فيلسوفنا ‪ -‬هي أساسا حكمة محبة‪ ،‬حكمة الحياة‬
‫ُ‬
‫اإلنسانية املفعمة باملحبة‪ ،‬التي تبقي التراث الفلسفي الذي أنتج الحضارة التي‬
‫ننعم بثمارها‪ ،‬في حاجة إلى تطعيم بالنداء األخالقي القادم من الدين‪ .‬يقول‬
‫ليفيناس‪ :‬إن «أوروبا هي اليونان والكتاب املقدس»‪.2‬‬
‫إن ما بدا أنه ثمار للعلم والتقنية قد صار محنة تسفه األخالق وتطردها من‬
‫العالم‪ ،‬بل تدعو إلى إيالء وجه اإلنسان اآلخر االهتمام الذي يليق بنور الخير‬
‫الذي يشع منه ويلهم سبل الفعل والعمل‪ .‬ذلك أن إمعان النظرفي الوجه يزحزح‬
‫الفكر عن موضعه ويسلبه يقينه واستقراره‪ ،‬بل يطالبه بإجابة نداء التعالي عبر‬
‫تحمل مسؤولية رفع الظلم ونجدة املعدم وضيافة اليتيم‪ .‬إنها عودة إلى الحياة‬
‫السابقة على النظر واملعرفة‪ ،‬حيث يكون املرء يقظا ومسكونا بصوت األبدية‬
‫والخلود‪ .‬الصوت الذي سبق للفلسفة أن سمعته وعبرت عنه بطرق متعددة‪،‬‬
‫الخير األفالطوني والالنهائي الديكارتي واالختالف األنطولوجي الهيدغيري‪ ،‬وغيرها‬

‫‪ -1‬قال ليفيناس إن فلسفته تتغذي في آن واحد من حاجة دفين إلى الخروج من مناخ فلسفة هيدغر‬
‫ومن قناعته أن الخروج إلى فلسفة قبل ـ هيدغيرية لم يعد ممكنا‪.‬‬
‫‪E. Levinas, De l’existence à l’existant. Vrin : Paris, [1947] 1998, p. 19.‬‬
‫ليفيناس‪ ،‬في ساعة األمم‪E. Levinas , A l’heure des nations, Paris, Minuit, 1988, p.155 .‬‬ ‫‪-2‬‬

‫‪285‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫من األسماء اإلغريقية لنداء الوجه الكامن في الخطاب‪.‬‬
‫يصف ليفيناس في كتابه «خالف الوجود أو ما بعد املاهية»‪ 1‬مسار إلجام هذا‬
‫الصوت وطمسه خلف أنوار ما اعتبر انكشافا للوجود‪ .‬إنه مسار نسيان التعالي‬
‫وهشاشة الكائن الفاني الذي سمح بتشويه الوجوه اإلنسانية ومحقها‪ ،‬حتى صار‬
‫البشر أقل قيمة من الخشب والحجارة‪ .‬إن الحرب تجسيد لفهم معين للوجود‬
‫واإلنسان‪ ،‬وليست مجرد نزاع عابربين فريقين حول مصالح قد تكون سياسية أو‬
‫اقتصادية أو أيديولوجية أو حتى دينية‪.‬‬
‫ويكم صوت األخالق فيه فينزع عنه‬ ‫إنها وضع خانق يجند إنسانا بال وجه‪ّ ،‬‬
‫كل مصداقية‪ ،‬يختزل وجوده في عنصر منذور لقضية أمة أو خصم فاقد لكل‬
‫إنسانية ويمكن قتله‪ .‬إن الحرب بهذا املعنى ليست مجرد فترة عصيبة من التاريخ‪،‬‬
‫إنما هي التجلي األبرز للفهم القائم للوجود وهللا‪ .‬إنها تجربة الوجود الخام التي‬
‫تحرق كل الحجج الواهمة‪ ،2‬وشهادة الواقع الجاثم على الرقاب‪ ،‬حيث السالم‬
‫محض أكذوبة أو خيال نبي حالم قد يصدح بالحكمة في صحراء ما سمي في‬
‫الحداثة بالواقعية السياسية‪.‬‬
‫لم يكن حديث ليفيناس عن العنف والحرب وصفا محايدا لحادث عابر‪ ،‬إنما‬
‫عني بقضية سامية‪ ،‬املوقن أن املخرج ممكن دائما‪ ،‬طاملا أن‬ ‫كان صوت امللتزم املَ ّ‬
‫هناك تفلسفا وإمكانية لالستئناف املتجدد‪ .‬وهو املخرج الذي يمكن استلهامه‬
‫من النداء األخالقي لوجه اإلنسان اآلخر‪ ،‬وما يحمله من مقاومة األخالقية تضع‬
‫الواقع موضع سؤال وتسمح بتخليص العالم من العنف‪ .‬فكيف تم وصف هذه‬
‫الداللة األخالقية للوجه؟‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪.‬‬


‫‪E. Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence. (Le Livre de poche) Martinus‬‬
‫‪Nijhoff : La Haye, [1978] 2006.‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬الكلية والالنهائي‪ ،‬مصدرسابق‪ .‬ص‪.5 :‬‬

‫‪286‬‬
‫اتخذ الحجاج عند ليفيناس مسارين‬
‫متوازيين متكاملين‪ :‬مسار مساءلة إن احلرب تجسيد لفهم معني‬
‫للوجود واإلنسان‪ ،‬وليست‬ ‫التراث الفلسفي الغربي الذي بدأ مع‬
‫سقراط‪ ،‬وكرس إقصاء اآلخر عبر ادعاء جمرد نزاع عابر بني فريقني حول‬
‫االكتفاء الذاتي واالستقاللية‪ .‬إذ يؤكد مصالح قد تكون سياسية أو‬
‫فيلسوفنا أن أسبقية الهو نفسه ‪ (Le‬اقتصادية أو أيديولوجية أو حىت‬
‫)‪ même‬بدأت مع التوليد السقراطي دينية‪ .‬إهنا وضع خانق يجند‬
‫إنسانا بال وجه‬ ‫الذي أق�صى دور اآلخر في املعرفة‪ .‬لقد‬
‫أكد سقراط أن الذات العارفة مكتفية‬
‫بذاتها وتملك الحقيقة بداخلها‪ ،‬وال �شيء‬
‫يمكنها تعلمه من اآلخر‪ ،‬ألن الفعل العارف مجرد فرصة أخرى للذات من أجل‬
‫شبه ليفيناس هذا املسار الدائري‪ ،‬من‬‫تأكيد ما كانت تملكه منذ البداية‪ .‬وقد ّ‬
‫األنا وإليها مرورا بالغير‪ ،‬برحلة عوليس الذي انطلق من إيثاكا ملحاربة طروادة‪،‬‬
‫فجابه البحار والفيافي باحثا عن طريق العودة إلى موطنه‪ .‬إن إيثاكا هي االسم‬
‫غير األقنعة لم يتخل أبدا‬‫اآلخر ملنطق الفلسفة وملطابقة األنا الذي وإن هو ّ‬
‫عن مطابقته لنفسه‪ .‬لقد جمع عوليس كما الفكر الفلسفي بين املكر والعنف؛‬
‫لكنه لم يتوقف أبدا عن التفكير في نفسه ومملكته‪ ،‬فوجد كل الوسائل مفيدة‬
‫ومشروعة للحفاظ عليهما‪.‬‬
‫أما املسار الثاني فهو تأويل التراث الديني الذي سمح باستعادة صوت اآلخر‬
‫وجعل األخالق فسلفة أولى‪ .‬وهو ما جسده ليفيناس رمزيا في رحلة النبي مو�سى‬
‫الذي خرج من مصر باحثا عن هللا دون أية نية في العودة أو رغبة في مملكة‪.‬‬
‫وينطلق من السؤال التالي‪ :‬هل نحن محكومون بالعنف‪ ،‬ضحايا كنا أم جالدين؟‬
‫هل يتوجب علينا أن نبحث عن نمط آخرمن املعرفة يكون مساملا ال عنف فيه؟‬

‫‪287‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫أو يتعين علينا تجاوز املعرفة والنظرية‬
‫والبحث عن رابطة تكون أكثرأصالة وقدما هل نحن محكومون بالعنف‪،‬‬
‫منهما؟ ويجد الجواب فيما نطق به األنبياء ضحايا كنا أم جالدين؟ هل‬
‫وامللهمون‪ ،‬وحملته الكتب املقدسة من يتوجب علينا أن نبحث عن‬ ‫َ‬
‫معان أخالقية‪ .‬غير أن هذا املسار ال يعني نمط آخر من املعرفة يكون‬
‫أن ليفيناس يسفه التراث الفلسفي‪ ،‬أو مساملا ال عنف فيه؟ أو يتعني‬
‫أنه يدافع عن دين محدد أو عقيدة ما؛ إذ علينا تجاوز املعرفة والنظرية‬
‫والبحث عن رابطة تكون‬ ‫يصرعلى الطابع الفلسفي لقوله‪ ،‬ويؤسس‬
‫أكرث أصالة وقدما مهنما؟‬ ‫له من داخل الفينومنولوجيا‪ .‬يقدم تأويال‬
‫آخرللدين والفلسفة على حد سواء‪ ،‬ويرى‬
‫فيهما إمكانية ملموسة الستعادة النداء‬
‫األخالقي وتأسيس نزعة إنسية جديدة قادرة على تخليص البشرية من تجاوزاتهما‬
‫معا‪ .‬فلماذا‪ ،‬إذن‪ ،‬يقود الفهم الحالي للوجود إلى العنف والحرب؟ وكيف يتيح‬
‫خطاب الفلسفة إمكانية تجاوزه؟ وما هي الداللة األخالقية التي يتخذها الدين‬
‫بعد التجاوز؟‬
‫منزلة القول‬
‫َ‬
‫لقد أ ْرخت عودة ليفيناس املتكررة إلى املصادر الدينية بظالل من الشك‬
‫على تأويله للدين‪ ،‬خاصة من قبل القراء الذين شككوا في صحة انتسابه إلى‬
‫الفلسفة ومناهجها عموما‪ ،‬ولفلسفة الدين خاصة‪ .‬فالقول إن األخالق فلسفة‬
‫أولى‪ ،‬وإنها تجد تعبيرها األمثل في الدين‪ ،‬يجعل الفلسفة تابعة ملعتقد معين أو‬
‫يعيدها إلى أحضان الثيولوجيا‪ .‬والحال أن فيلسوفنا يوظف األدوات الفلسفية‬
‫في محاورة فلسفة الدين في عصره‪ ،‬ويؤكد أن عودته إلى املصادر الدينية أملتها‬
‫ضرورة فلسفية محضة ال عالقة لها بالدفاع عن املضامين الدينية أو نية كسر‬

‫‪288‬‬
‫صرامة املوقف الفلسفي‪ ،‬األمر الذي يفرض علينا العودة إلى هذه املصادر‪،‬‬
‫َ‬
‫وعرض وجهات النظر حولها بغرض ت َب ُّين حقيقتها‪ .‬وإن كنا ننبه مسبقا إلى أننا‬
‫لن نتجاوز مستوى العرض لجداالت املعلقين والقراء‪ ،‬دونما إمعان في النقد‬
‫والتحليل‪ ،‬فألن غايتنا هي إبرازقول ليفيناس بأكبرقدرممكن من األمانة‪ .‬فماهي‬
‫املصادر التي ألهمت ليفيناس؟ وكيف يسمح الخطاب الفلسفي بتجديد القول‬
‫في الدين وهللا في الحقبة املعاصرة؟ تأثر ليفيناس بالعديد من الفالسفة‪ ،‬غير‬
‫أن التأثير األكبر كان للتطبيق األملعي للمنهج الفينومنولوجي في كتاب «الوجود‬
‫والزمان» لهيدغر‪ .‬الكتاب الذي يمثل‪ ،‬في نظره‪ ،‬فتحا جديدا في الفلسفة؛ إذ‬
‫يتوج مغامرة العقل الغربي وما انحدر منها من عنف و«كلية»‪ ،‬ويظهر في نفس‬
‫الوقت معالم األفق األخالقي الذي يسمح بتجاوزها‪ .‬ويمكن إجمال اإلضافة التي‬
‫قدمها هيدغر وسمحت باالنفتاح على الدين في العناصر التالية‪ :‬أوال‪ :‬التركيز‬
‫على فعلية الوجود وزمانيته‪ ،‬إذ يتحقق وجود املوجود في بعد زمني يمنح املوجود‬
‫هيئة وقواما‪ .‬وعليه‪ ،‬فالوجود فعل وليس جوهرا أو ماهية قارة‪ .‬ثانيا‪ :‬التمييزبين‬
‫الوجود واملوجود الذي غاب عن الفلسفة وجعلها تن�سى سؤال الوجود وتكتفي‬
‫بدراسة املوجودات‪ ،‬فتنظرإلى اإلنسان انطالقا من املفهوم املجرد والنظرية بدل‬
‫الرجوع إلى فعلية الوجود والحياة‪ .‬ثالثا‪ :‬فهم الوجود انطالقا من «الدازاين» ـ )‬
‫الوجود هنا( ـ ‪ ،‬أي من املوجود القادر على فهم الوجود أو الصياغة املفهومية‬
‫للوجود اإلنساني في نظر ليفيناس‪ .‬يقول في هذا الشأن‪ :‬إن «فهم الوجود هو‬
‫السمة والواقعة األساسية في الوجود اإلنساني»‪ ،1‬بمعنى أن الفلسفة متجذرة في‬
‫الوجود اإلنساني‪ ،‬وأن التفلسف والحياة �شيء واحد‪.2‬‬
‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬اكتشاف الوجود‪ ،‬ص‪.57 .‬‬
‫‪E. Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger. Vrin: Paris, [1967] 1998.‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬بيننا‪ ،‬ص‪.13 .‬‬
‫‪E. Levinas, Entre nous. Essais sur le penser-à-l’autre. (Le Livre de poche) Grasset:Paris,‬‬
‫‪(199) 2007.‬‬

‫‪289‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫رابعا‪ :‬التأكيد على أن الوجود فعل متعدي‪ ،‬غير مكتف بذاته ويتجلى من‬
‫خالل حوامل أخرى تجعل الفهم تأويال وهيرمنوطيقا لنمط وجود الـ«دازاين» بناء‬
‫على الـ«هنا» الخاص به‪ .‬األمر الذي يعني أن أفعال اإلنسان واختياراته انطالقا‬
‫من وضعه الخاص تعد فهما للوجود العام وهيرمنوطيقا كونية‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬تجاوز هيرمنوطيقا الوجود اإلنساني هاته لنظرية املعرفة املبنية‬
‫على التمثل‪ ،‬بمعنى أنها تسمح بتوسيع نطاق الفينومنولوجيا النظرية وتوجيهها‬
‫صوب األنطولوجيا األساسية‪ .‬وأخيرا‪ :‬ارتباط حال الحضارة اليوم بفهم أصحابها‬
‫للوجود‪ ،‬أي أنها ناتجة مباشرة عن اختياراتهم ومشاريعهم‪.1‬‬
‫يمكن تلخيص جدة هيدغرإذن في توجيه اهتمام الفلسفة إلى الحياة والوجود‬
‫الفعلي لإلنسان‪ ،‬بدل االستغراق في التأمل والنظر‪ .‬غير أن هذا التقدم ما كان‬
‫ليتحقق لوال استثمار اإلمكانات املنهجية للفينومنولوجيا وتخليصها من طابعها‬
‫النظري‪ .‬يرى ليفيناس أن القصدية التي تسمح للفلسفة بالتعبير عما يتجاوز‬
‫العالقة بين الذات واملوضوع‪ ،‬قد خضعت إلعادة تأويل من منظور أنطولوجي‬
‫واتخذت شكل وجود ـ في ـ العالم بالنسبة لهيدغر‪ .‬األمر الذي يمكن استثماره‬
‫في وصف املعنى األصلي والتكوين اللغوي للوجود اإلنساني‪ ،‬ومن ثمة التمييز‬
‫بين لغتين مختلفتين من حيث األثر‪ :‬لغة الوجود‪ ،‬أو ما يسميه فيسلسوفنا‬
‫بـ«الكلية»‪ ،‬التي تسعى إلى تأسيس الهوية من داخل التدفق التلقائي للزمن‪ ،‬والتي‬
‫تنتج عن عمل القصد الذي يعطي املعنى من خالل مطابقة حدث ما وجعله‬
‫هوية‪ .‬إنها وصف لقدرة األنا على تجميع املختلف في وحدة‪ ،‬والتي تجعله مكتفيا‬
‫معرضا عن الغير‪ .‬وقد رفض ليفيناس االكتفاء الذاتي املؤسس لهذه اللغة‬ ‫بذاته ِ‬
‫من خالل نقد استعارة النور التي تصف مسار عطاء املعنى‪ .‬يقول‪« :‬النور هو ما‬
‫به يكون �شيء ما آخرا بالنسبة إلي‪ ،‬لكنه يوجد كما لو أنه صدر عني‪ .‬املوضوع‬
‫يرجى العودة إلى‪ :‬ارنست وولف‪Ernst Wolff. De l’éthique à la justice, Langage et politique .‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪dans la philosophie de levinas. Phaenomenologica 183, Springer, 2007.‬‬

‫‪290‬‬
‫املنار هو في نفس الوقت �شيء نصادفه‪،‬‬
‫ولكن بفعل كونه منارا‪ ،‬نلتقيه كما لو‬
‫تأثر ليفيناس بالعديد من‬
‫كان صادرا عنا»‪ .1‬ويخلص إلى القول‬
‫الفالسفة‪ ،‬غري أن التأثري األكرب‬
‫إن القصدية تسمح أيضا بتأسيس لغة كان للتطبيق األمليع للمهنج‬
‫الفينومنولويج يف كتاب‬ ‫أخرى وهي لغة خالف الوجود والالنهائي‪،‬‬
‫«الوجود والزمان» لهيدغر‪.‬‬ ‫ألنها تسمح بإدراك معنى مغاير ال يخضع‬
‫ملنطق العطاء‪ ،‬ويسبق الوعي ويأتيه من الكتاب الذي يمثل‪ ،‬يف نظره‪،‬‬
‫فتحا جديدا يف الفلسفة‬ ‫خارجه‪ .‬إن إبراز حدود التأسيس داخل‬
‫الوعي‪ ،‬ورفض القول بالحرية واالكتفاء‬
‫الذاتي‪ ،‬قادا ليفيناس إلى القول بالذاتية‬
‫السلبية‪ .‬إذا كان هناك من تأسيس‪ ،‬فإنه تأسيس سلبي يتم خارج الذات وفي‬
‫غفلة منها‪ .‬يؤكد فيلسوفنا أن التحليل القصدي يستطيع كشف اإلمكانات‬
‫الكامنة في الحالة الراهنة للوعي‪ ،‬وإظهار املعنى األخالقي الذي يحركه من خارجه‬
‫املؤسس مشروط بأفق آخر من املقتضيات األخالقية التي‬ ‫ويثريه‪ .‬ويثبت أن األنا ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫تجعل الرؤية ممكنة‪ .‬إنه أفق الغيرية والخارج غيرالقابل للتملك‪ ،‬والذي عبرعنه‬
‫ليفيناس بمصطلحات الالنهائي وهللا والتعالي‪ ،‬ووصفه في تحليله الفينومنولوجي‬
‫للجسد والوجدان واملنزل وغيرها مما تعرض له في مساءلته للتراث الفلسفي‪.‬‬
‫فخلف الوعي والقصدية والفعل العارف يوجد معنى الوجود اإلنساني الحقيقي‬
‫املستفاد من معاناة اإلنسان اآلخر‪.‬‬
‫وقد ظهر هذا املعنى املخالف في تاريخ الفلسفة من خالل نموذجين‪ ،‬يقول‬
‫ليفيناس إنهما توصال إلى الغيرية‪ ،‬ولم يحسنا استثمارها فلسفيا‪ ،‬إذ بقيت مجرد‬
‫حدس عارض فيهما‪ ،‬بسبب منزعهما النظري وخضوعهما لسلطان املفهوم املجرد‪.‬‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬من الوجود إلى املوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.76 .‬‬

‫‪291‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫يتمثل النموذج األول في أعمال أفالطون‬
‫التي يميز فيها فيلسوفنا بين وجهين لتلميذ يمكن تلخيص جدة هيدغر إذن‬
‫سقراط‪ :‬فيلسوف التوليد والتذكر‪ ،‬الذي يف توجيه اهتمام الفلسفة إىل‬
‫ال يختلف في �شيء عن ميل الفلسفة إلى احلياة والوجود الفعيل لإلنسان‪،‬‬
‫ادعاء االكتفاء الذاتي واقصاء اآلخر‪ .‬بدل االستغراق يف التأمل والنظر‬
‫ويرتبط بصالت ثالثة مع «الكلية» أو كل‬
‫فلسفة تقدم نفسها كعلم‪ ،‬وهي‪ :‬أوال‪،‬‬
‫إعطاء األسبقية للوجود وإقصاء الخير‪ .‬وثانيا‪ ،‬تكريس أسبقية الداللة املثالية‬
‫وتبخيس املعنى والحياة‪ .‬وأخيرا‪ ،‬منح أسبقية للتذكر الدائري على حساب املعنى‬
‫القديم الذي ال تستطيع الذاكرة استرجاعه‪ .‬أما الوجه الثاني لألفالطونية‪ ،‬والذي‬
‫يستثمره ليفيناس‪ ،‬فهو فيلسوف الخير وراء الوجود أو الوجه اآلخر للفلسفة‬
‫ّ‬
‫الذي يجعل منها «حكمة املحبة أو الحكمة في سبيل املحبة‪ ...‬الحكمة التي يعلمها‬
‫وجه اإلنسان اآلخر»‪.1‬‬
‫أما النموذج الثاني‪ ،‬فتمثله أعمال ديكارت الذي بدأ تأمالته من الذات‬
‫ووجد نفسه في التأمل الثالث ينفتح على فكرة الالنهائي التي تتجاوزها‪ .‬وهي‬
‫الفكرة التي استثمرها ليفيناس في تبرير استحالة اختزال وجود الغير في األنا‪ ،‬إذ‬
‫أنها تبقي الكوجيطو ـ كما يؤكد ديكارت ـ في عالقة وطيدة بما ال يستطيع ضمه‬
‫أو تملكه‪ .‬يقول ليفيناس‪« :‬إن مفهوم فكرة الالنهائي الديكارتي يشير إلى عالقة‬
‫بوجود يحتفظ بخارجه املطلق إزاء )األنا( الذي يفكر فيه»‪ .2‬تشير فكرة الالنهائي‬
‫هنا إلى التعالي الذي يخترق مطابقة الفكر ملوضوعه ويدفعه إلى تحمل أكثر مما‬
‫يطيق‪ ،‬بل تمثل فائض املعنى الكامن في وجه اإلنسان اآلخر الذي يسم الوعي‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬الكلية والالنهائي‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬املقدمة ‪.IV‬‬


‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.42 .‬‬

‫‪292‬‬
‫بالعجز‪ ،‬وال يتحقق إال من خالل العالقة األخالقية باآلخر‪ .‬يقول ليفيناس‪« :‬إن‬
‫فكرة الالنهائي هي العالقة االجتماعية»‪.1‬‬
‫وللتعبير عن فائض املعنى هذا يعود ليفيناس إلى الدين اليهودي‪ .‬إذ ال يخفي‬
‫تأثره بالفلسفة اليهودية‪ ،‬خاصة فلسفة فرانز روزنزفايغ التي يقول إنها سمحت‬
‫له بتوضيح مفهوم «الكلية» وتبريراالنفتاح على الدين‪ .‬اعتبره الفيلسوف اليهودي‬
‫الوحيد من بين املحدثين الذي بقي وفيا لليهودية‪ ،‬وذلك ألنه رفض في كتابه‬
‫جمع التجربة الطبيعية‬‫ُ ّ‬
‫«نجمة الخالص» منح األسبقية للعقالنية الغربية التي ت ِ‬
‫‪2‬‬

‫واالجتماعية في املقوالت التي يتم ترتيبها في «كلية»‪ ،‬أي في انتاج نسق جامع يضم‬
‫كل �شيء بما في ذلك الدين‪ .‬وجعل باملقابل من الدين أفقا أصيال لكل معنى بما‬
‫فيه تجربة العالم والتاريخ‪ .‬يقول ليفيناس إن أستاذه قد حرر الفكر من نوع من‬
‫العقالنية‪ ،‬ليس لدواعي إبستمولوجية‪ ،‬بل ألسباب حضارية‪ .‬ذلك أنه استشعر‬
‫مبكرا خطرفلسفة هيجل على أوروبا‪ 3‬فعمل على تجاوزها‪.‬‬
‫يتعلق التجاوز الذي يقصده فيلسوفنا هنا بمفاهيم الخلق والوحي والبعث‪،‬‬
‫التي استثمرها روزنزفايغ في تقويض فكرة «الكلية»‪ .‬إذ يقول صاحب «نجمة‬
‫الخالص» إن «هللا لم يخلق الدين‪ ،‬إنما خلق العالم»‪ ،4‬وإن الدين يرسم نتيجة‬
‫لتلك اإلحداثيات األولى للوجود‪ ،‬وليس مجرد إضافة أو فرع لنظام موجود‬
‫مسبقا‪ .‬لطاملا جعلت الفلسفة الواقع بأكمله متضمنا في كل‪ ،‬سواء تعلق األمر‬
‫ّ‬
‫الوسيطيين أو باإلنسان في العصر‬ ‫بالكوسموس في الحقبة القديمة أو باهلل عند‬
‫‪ -1‬ليفيناس ‪ ،‬اكتشاف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.172 .‬‬
‫ن‬
‫‪ -2‬لالطالع على فلسفة الدين عند فرانزروزنزفايغ‪ ،‬يرجى العودة إلى‪ :‬جو غرايش‪.‬‬
‫‪Jaen Greisch, Le buisson ardant et les Lumiéres de la raison. L’ invention de la philoso-‬‬
‫‪phie de la religion. Cerf: Paris, 2002-2004 (coll. «Philosophie et Théologie»), Tome1, p.‬‬
‫‪207-254.‬‬
‫‪ -3‬ليفيناس‪ ،‬خارج الذات‪ ،‬ص‪.70 .‬‬
‫‪E. Levinas, Hors sujet. (Le Livre de poche) Fata Morgana : Montpellier, (1987) 2006‬‬
‫‪ -4‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪ 76 .‬و‪.75‬‬

‫‪293‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الحديث‪ .‬غيرأن هذا الكل يفقد قدرته التفسيرية أمام املوت الذي يمثل التجربة‬
‫األكثر أصالة في الوجود اإلنساني‪ ،‬والتي تقود إلى هللا كما يتجلى في الدين‪ .‬إن هللا‬
‫ال يرتبط باإلنسان والعالم في «كلية»‪ ،‬وإنما في الحياة والزمن‪ ،1‬وهي رابطة أصيلة‬
‫تسمح بإخراج الفلسفة من دائرة األنطولوجيا واالنفتاح على مجال الثقافة‬
‫والسياسة حيث يمكن التعبير عن املعنى األخالقي‪ ،‬ومن ثمة مساءلة الوجود‬
‫والتاريخ‪ .‬تزودنا اليهودية املقصودة هنا‪ ،‬يؤكد ليفيناس‪ ،‬بالقدرة على الحكم على‬
‫التاريخ‪ ،‬وبمعنى املسؤولية األخالقية الذي يدفع كل شخص إلى رفض الحكم‬
‫املتسلط للتاريخ‪ .2‬غير أن التشديد على أهمية الدين في التعبير عن العالقة‬
‫األخالقية‪ ،‬وخاصة العالقة الوطيدة بين هللا ووجه اإلنسان اآلخر‪ ،‬لم يمر دون‬
‫إثارة الجدل بين الباحثين حول مصادر وأهداف مشروع ليفيناس األخالقي‪.‬‬
‫قال البعض إنه ما كان ليتم قوله الفلسفي لوال االسترشاد بالنصوص الدينية‪،‬‬
‫ال�شيء الذي ينزع املصداقية الفلسفية عن األخالق الغيرية‪ .‬بمعنى أن االستلهام‬
‫من اليهودية يجعلها بمثابة املرشد والدليل لإلنسان املعاصر‪ ،‬أو على األقل يزج‬
‫بالفينومنولوجيا في متاهات الثيولوجيا‪ .‬وهو األمر الذي رفضه فريق آخر من‬
‫القراء مدعيا أن العودة إلى الدين ضرورة فرضها فشل اللغة الفلسفية في التعبير‬
‫عن التعالي‪ ،‬وأن العودة إلى النصوص مجازية ليس إال‪ .‬إن الدين في هذه الحالة‬
‫َ‬
‫يصف ق َدر الذات وتوقها الدائم إلى الالنهائي الذي تم التعبير عنه في فلسفيا‬
‫بواسطة الذات املسؤولة الناتجة عن التحليل الفينومنولوجي‪.3‬‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬الحرية الصعبة‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.284 .‬‬


‫‪E. Levinas, Difficile liberté. Essais sur le judaïsme. (Le Livre de poche) Albin Michel:Par-‬‬
‫‪is, (1976) 2007.‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬خارج الذات‪ ،‬مصدرسابق‪ ، ،‬ص‪.88 .‬‬
‫‪ -3‬لالطالع على سجاالت املعلقين حول منزلة فلسفة ليفيناس‪ ،‬يرجى العودة إلى كوسكي‪.‬‬
‫‪Jeffrey L. Kosky. Levinas and the Philosophy of Religion. Indiana University Press,‬‬
‫‪Bloomington, 2001.‬‬

‫‪294‬‬
‫والحال أن ليفيناس يعيد تأويل‬
‫الكتاب املقدس بطريقة تنسجم مع ليفيناس يعيد تأويل الكتاب‬
‫توجهه الفلسفي العام‪ ،‬وخاصة الذاتية املقدس بطريقة تنسجم مع‬
‫املسؤولة أخالقيا التي توصل إليها توجهه الفلسيف العام‪ ،‬وخاصة‬
‫الذاتية املسؤولة أخالقيا‬ ‫بالتحليل الفينومنولوجي‪ .‬وهواألمرالذي‬
‫اليت توصل إلهيا بالتحليل‬ ‫نلمسه في تأويله لقصة النبي إبراهيم‪،‬‬
‫الفينومنولويج‬ ‫حيث رفض التفسيرالذي يجعل تخوف‬
‫ابراهيم ترجمة لعدم القدرة على تجاوز‬
‫أخالقية االرتباط باهلل‪ ،1‬بحجة أنه‬
‫ينظر إلى هذه املأساة من زاوية املعرفة والتمثل ويقود إلى العنف الديني‪ .‬إن هذا‬
‫التفسيرال ينتبه إلى أن املحنة كانت سببا في عودة ابراهيم إلى هللا‪ ،‬إدراكه العميق‬
‫لألمراألخالقي‪ ،‬ألن إيمانه هنا ال ينطلق من فهم أعمى لكالم هللا‪ ،‬وال من عزمه على‬
‫تنفيذ أمرطائش من ربه‪ .‬إنما يتأسس على إدراكه ملسؤوليته إزاء إسحاق ورغبته‬
‫الدفينة في عدم ذبحه رغم وجود األمراإللهي‪ .‬إن الدرس املستفاد من ذلك هو أن‬
‫تنفيذ أمر هللا يقت�ضي أوال وقبل كل �شيء إجابة نداء اإلنسان اآلخر‪ ،‬وأن فهمنا‬
‫له يبقى ناقصا مهما بلغ االعتقاد به من اليقين واملصداقية‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إن‬
‫طاعة هللا تكتمل في االهتمام بالجار‪ ،‬وإن َّ‬
‫الدين إزاء هللا ال ينفصل عن ديننا تجاه‬
‫الناس‪ ،‬لدرجة أن فكرة هللا الذي يأمر بالعنف تصبح محض هراء ال طائل من‬
‫ورائه‪ ،‬ووهم ناتج عن نقصان في املعرفة‪.‬‬
‫مسارميالد املسؤولية األخالقية‬
‫بدأ ليفيناس قوله الفلسفي بتوضيح ظاهرة التعالي داخل العالقة باآلخر‪،‬‬
‫وبكشف الداللة األخالقية التي تفرض العودة إلى الدين‪ .‬وهو األمرالذي قاده إلى‬
‫‪E. Levinas, Noms propres. (Le Livre de poche) Fata‬‬ ‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬أسماء علم‪ ،‬ص‪ 89 .‬ـ ‪. .90‬‬
‫‪Morgana : Montpellier, 1976‬‬

‫‪295‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫مساءلة التراث الفلسفي‪ ،‬بما فيه التراث‬
‫الديني‪ ،‬والتأكيد أن الداللة األخالقية بدأ ليفيناس قوله الفلسيف‬
‫تحيل على لغة مغايرة للغة الوجود بتوضيح ظاهرة التعايل داخل‬
‫العالقة باآلخر‪ ،‬وبكشف‬ ‫والقصدية‪ ،‬وأنها تنفتح على نظام آخر‬
‫للمعنى ال يمكن وصفه إال عبر تجاوز فهم الداللة األخالقية اليت تفرض‬
‫التراث الفلسفي للوجود‪ .‬فما هو فهم العودة إىل الدين‪ .‬وهو األمر‬
‫الذي قاده إىل مساءلة الرتاث‬ ‫الوجود الذي واجهه ليفيناس؟‬
‫الفلسيف‪ ،‬بما فيه الرتاث‬ ‫اعتبر ليفيناس أن أنطولوجيا هيدغر‬
‫الديين‬ ‫امتداد للتصور التاريخي للفهم الذي يكرس‬
‫فكر «الكلية» ويتجاهل املعنى األخالقي‬
‫للوجود اإلنساني‪ .‬غير أنه وظف بعضا من‬
‫مفاهيمها في تأسيس قوله األخالقي‪ ،‬خاصة هيرمنوطيقا الحدوث (‪)facticité‬‬
‫وفعلية الوجود املعبر عنها باالختالف األنطولوجي‪ .1‬إذ نجده ينطلق من العالقة‬
‫االجتماعية في وصف الوجود اإلنساني بدل الوضع الخاص بـ«الدازاين»‪ ،‬ويطبق‬
‫التحليل الفينومنولوجي على بعض التجارب الحياتية لإلنسان من أجل إبراز‬
‫ارتباط إنسانية اإلنسان بانفالته من سجن الهوية والتاريخ‪ ،‬وبتحمله ملسؤوليته‬
‫إزاء العالم واآلخرين‪ .‬يقول في هذا الصدد إن اإلنسانية مرتبطة بـ»كسر القيد‬
‫الجذري‪ ،‬األكثر حتمية‪ ،‬املتمثل في واقع أن األنا هو ذاته»‪ .2‬ومن ثمة النظر‬
‫‪ -1‬بدأ هيدغر تحليلية الوجود والزمان بوصف االختالف األنطولوجي‪ ،‬أي بالتمييز بين الوجود كفعل‬
‫والوجود كاسم‪ ،‬الفعل بمعنى التواجد‪ ،‬إذ نوجد كإنسان أو نوجد كزهرة‪ ،‬واالسم بمعنى الكينونة‪ ،‬أن‬
‫تكون انسانا أو أن تكون كائنا حيا‪ .‬ويوظف هيدغر مفهوم وجود الكائن ألجل التعبير عن فعل التواجد‬
‫وللتعبير عن الجواهر يستخدم الكائن‪ ،‬بالتالي فالكائن يوجد‪ .‬في حين يتحدث عن وجود الكائن‪ ،‬وجود‬
‫اإلنسان ووجود الحصان‪ ،‬وهذا الوجود يعني بالنسبة لكل كيان طريقته في التواجد‪ .‬أما في حالتنا هذه‪،‬‬
‫فاألمر يتعلق ببحث الوجود عامة‪ ،‬أي بفحص نمط تواجد الكائن اإلنساني‪ ،‬بمعنى الوجود الفعلي‬
‫لإلنسان وليس جوهره أو ماهيته‪ .‬والخلط بينهما كان سقطة امليتافيزيقا يؤكد هيدغر‪.‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬في التملص‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.98 .‬‬

‫‪296‬‬
‫إليها انطالقا من وضع اإلنسان اآلخر املتحقق في املشاعر والحاالت الوجدانية‪،‬‬
‫كالغثيان والدوار‪ ،‬التي تجتاح املرء الواقع تحت وطأة الوجود املجهول والخانق‬
‫الذي ال مناص منه‪ ،‬والذي عبر عنه هيدغر بمفهوم القلق وانتهى من وصفه إلى‬
‫العدم والحياد السلبي إزاء العالم‪.‬‬
‫َيفقد اإلنسان إنسانيته وطمأنينته طاملا بقي مشدودا إلى تحديد مسبق غير‬
‫قادر على االفتراق عنه‪ .‬وهو االنشداد إلى الوجود»‪ 1‬الذي جعله هيدغر وجودا‬
‫أصيال‪ ،‬وجسده في السعي إلى التملك واألنانية املعبر عنه بمفهوم الـ«ما لي» ‪(la‬‬
‫)‪ .mienneté‬بمعنى أن إدراك األصالة ال يتحقق إال بتملك األشياء‪ ،‬بما فيها‬
‫اإلنسان اآلخر‪ ،‬واستخدامها في سبيل تأثيث الوجود الخاص وسكنه‪ .‬وعندما‬
‫ينظر إلى املوجودات من زاوية االستخدام‪ ،‬فإنه يجعلها أدوات في متناول اليد‬
‫وطاقات مطواعة في خدمة الناظر‪ .‬يسمي ليفيناس الوجود الناتج عن االستخدام‬
‫هذا بالواقع الخام للوجود أو الـ«هناك»‪ (Il y a) ،‬الذي ال معنى أو شكل له‪ .‬ويقول‬
‫إنه شكل الوجود املتجسد في الحرب‪ ،‬حيث يسود منطق التملك والسيطرة الذي‬
‫يمحق وجه اآلخر وإنسانيته‪ ،‬ويجعل العالقات اإلنسانية محض صراع ال يبقي‬
‫وال يذر‪.‬‬
‫إنه ألمر مؤسف بالنسبة لفيلسوفنا أن تكون اإلنسية والحضارة الغربيتان‬
‫ناتجتين عن هذا الفهم‪ .‬ذلك أن هذا األخيريؤكد أن «اإلنسان كله أنطولوجيا)‪(..‬‬
‫وأنه ما دام الوجود قابال للفهم فإن ثمة إنسانية»‪ .2‬بمعنى أن كل حركة أو تمظهر‬
‫لوجود اإلنسان إال ويعكس فعل تفكير وتأمل قائم على قصد‪ ،‬أي فهما للوجود‬
‫في معجم هيدغر‪ ،‬وما دام الفهم يقوم على التملك والقبض باليد‪ ،‬فإن الفعل‬
‫اإلنساني ـ أي التواجد ـ زحف على «هنا» اآلخر وطمس إلنسانيته‪ .‬لذلك يتساءل‬
‫ليفيناس عن مدى مشروعية جعل األنطولوجيا أساسية في تفكير الوجود‬
‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.95 .‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪« ،‬هل األنطولوجيا أساسية؟» ضمن‪ :‬بيننا‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.13 .‬‬

‫‪297‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫اإلنساني‪ ،‬ويقول‪ :‬هل تمثل األنطولوجيا اإلمكان الوحيد لفهم الوجود؟ هل‬
‫يتأسس معنى اإلنسانية على العقل والفهم وحدهما؟‬
‫يرى ليفيناس أن الفلسفة اليوم مطالبة باالختيار بين طريقين في البحث عن‬
‫الحقيقة‪ :‬أوال‪ ،‬طريق «الكلية» الذي يختزل اآلخر في املطابق ويقر الهوية‪ .‬والتي‬
‫تنطلق من االستقاللية والتمركزحول الذات فتنظرإلى الفردي من منظور الكلي‬
‫واملفهوم‪ ،‬وتنتج أفرادا متشابهين بال أصالة أو تفرد‪ ،‬فتعفيهم من املسؤولية‪ .‬وهو‬
‫الطريق الذي سلكه هيدغر‪ ،‬يقول ليفيناس‪« :‬تمثل فلسفة هيدغرتحديدا قمة‬
‫الفكر الذي ال يرجع فيه النهائي إلى الالنهائي»‪ .‬وثانيا‪ ،‬طريق الالنهائي الذي يقود‬
‫الفلسفة إلى التعرف على املخالف واالنفتاح على التعالي والخارج وهللا‪.‬‬
‫وقد اختار ليفيناس طريق الالنهائي ورفض النظر إلى اإلنسان الفرد من زاوية‬
‫املفهوم أو النوع أو العرق أو املذهب‪ .‬وسعى إلى االنفالت من نمط وجود اإلنسان‬
‫الغربي‪ ،‬حيث بدأ باستثمار االختالف األنطولوجي الهيدغيري في وصف الوجود‬
‫الجسدي‪ .‬وأكد أن الجسد يجعل اإلنسان منخرطا في لعبة الوجود‪ ،‬ويمكنه في‬
‫نفس الوقت من االنفالت منها‪ .‬إذ تمثل الحاالت الوجدانية ـ املرتبطة بالجسد ـ‬
‫طريقة أصيلة في التواجد‪ ،‬يختبرفيها املوجود تجربة االنشداد إلى ذاته واالختناق‬
‫من وطأة الوجود املجهول‪ .‬وهي نفس التجربة التي يختبرها املؤمن قبل بلوغ‬
‫طمأنينة اإليمان في الدين التوحيدي‪ ،‬إنها تجربة شبيهة بعبادة األوثان والتقديس‬
‫األعمى الذي يشل الحركة ويمنع الفعل‪ .‬غير أن الجسد ال يكتفي باملشاركة‬
‫واالستغراق‪ ،‬بل يفتح إمكانية الخروج والتملص‪ .‬ذلك أن الحاالت الوجدانية‬
‫نفسها‪ ،‬كاألرق والعياء والكسل‪ ،‬تضع أولى لبنات التحرر من سيطرة الوجود‬
‫املجهول‪ .‬يقول ليفيناس‪ :‬إنه «في قلب العياء والكسل يوجد املجهود الذي‬
‫يشبه حدث الخلق»‪ .1‬الخلق الذي يكسر القيد ويفتح املجال للحياة املفعمة‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬من الوجود إلى املوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.44 .‬‬

‫‪298‬‬
‫بالخصوصية والتفرد‪ ،‬حيث يضطلع‬
‫اإلنسان بمسؤوليته األخالقية من خالل يمزي ليفيناس بني اإلنسان احلي‬
‫واإلنسان املفكر اعتمادا عىل‬ ‫السكن والشغل‪.‬‬
‫إن السكن هنا يمثل تحررا وإقرارا فهم مبتكر للحياة‪ .‬إذ ال تقوم‬
‫بهوية أخرى قادرة على منح اإلنسان احلياة عىل التمثل‪ ،‬والسبب‬
‫يف نظره ال يرجع إىل كوهنا‬ ‫الشعور باالستقرار داخل العالم‬
‫املفزع الذي يكبله‪ .‬إنها الهوية نفسها غري واعية‪ ،‬وإنما ببساطة ألهنا‬
‫سابقة عىل الويع بالذات‬ ‫التي تخلص الذات من وحدتها وفزعها‬
‫الناتجين عن سيطرة آلهة الوثنية‪ ،‬واملعبر‬
‫عنه بالخوف من الغد ومن وطأة عناصر‬
‫الطبيعة وصروفها‪ .‬ذلك أن البيت ال يمثل مجرد أداة تخدم هدفا مباشرا كانت‬
‫قد وجدت ألجله‪ ،‬إنما هو شرط األفعال اإلنسانية ومجال الخصو�صي داخل‬
‫الوجود واملستقل عنه الذي يسمح بالتقاط األنفاس وتذوق طعم الحياة‪ .‬يميز‬
‫ليفيناس هنا بين اإلنسان الحي واإلنسان املفكر اعتمادا على فهم مبتكر للحياة‪.‬‬
‫إذ ال تقوم الحياة على التمثل‪ ،‬والسبب في نظره ال يرجع إلى كونها غيرواعية‪ ،‬وإنما‬
‫ببساطة ألنها سابقة على الوعي بالذات‪.‬‬
‫يقول في هذا الصدد‪« :‬إن الحي حقا هوالذي يجهل العالم الخارجي‪ .‬والجهل هنا‬
‫ليس حدا للمعرفة‪ ،‬إنما هو جهل مطلق‪ ،‬ناتج عن غياب الفكر»‪ .1‬أن تحيى حقا‬
‫يعني أن تحيى ب�شيء لم يتم تمثله بعد‪ .‬نحن نحيى بالخبزوالهواء واألفكاروالشغل‬
‫التي ليست أدوات على النمط الهيديغيري‪ .‬لذلك ال يجب أن تفسرالحياة انطالقا‬
‫من األداة‪ ،‬بل يتعين وصف األداة انطالقا من الحياة‪.‬‬
‫إن فينومنولوجيا الجسد هاته‪ ،‬وغيرها من املواضيع التي تطرق إليها ليفيناس‪،‬‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬بيننا‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪ 23 .‬ـ ‪48‬‬

‫‪299‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫لتؤكد أن إطعام الجائع واملعدم أسبق من‬
‫الحفاظ على الوجود وسكنه‪ ،‬وأن ضيافة يسىع ليفيناس من وراء نقده‬
‫الغير ونجدة اإلنسان اآلخر أسبق من لألنطولوجيا إىل تأسيس الهوية‬
‫رعاية فهم معين للوجود‪ .‬ذلك أنها تؤكد «األخالقية» أو الذاتية املسؤولة‬
‫وجود هوية متفردة وحقيقية لكل إنسان اليت تسمح بوصف األخالق‬
‫تسمح له برعاية فرادة الوجود اإلنساني الغريية وتربير العودة إىل الدين‬
‫ومعناه‪ .‬وأن هذه الهوية الفريدة ال تكتمل‬
‫إال بالتحرر من قبضة الوجود املجهول‬
‫الشبيهة بسيطرة اآللهة الوثنية‪ ،‬واالنفتاح على التعالي وهللا‪ .‬وهو ما يسميه‬
‫فيلسوفنا بشرط الذاتية املسؤولة‪ .‬فما املقصود بالذاتية املسؤولة؟‬
‫يسعى ليفيناس من وراء نقده لألنطولوجيا إلى تأسيس الهوية «األخالقية» أو‬
‫الذاتية املسؤولة التي تسمح بوصف األخالق الغيرية وتبريرالعودة إلى الدين‪ .‬وهي‬
‫هوية تجعل للفرد وجها وتحمله مسؤولية أفعاله‪ ،‬بدل الهوية األنطولوجية التي‬
‫تنطلق من الشخصية «املرء» )‪ (on‬الهيدغيري‪ ،‬أو السيد «كل الناس وال أحد»‬
‫الذي ال فرق فيه بين الصالح والطالح‪ .‬وقد توصل إليها فيلسوفنا من خالل تحليل‬
‫الوجه الذي ينقل مسألة املعنى من مستوى املعرفة إلى مستوى األخالق‪ .‬وذلك‬
‫ألن رؤية الوجه ال تخضع لنظام املعرفة أو العالقة املنطقية‪ ،‬بل تشرطهما معا‪.‬‬
‫يقول ليفيناس إن «وجه اإلنسان اآلخريستع�صي على التملك‪) ،‬ويستع�صي( على‬
‫قواي»‪ .1‬بمعنى أنه ال ينفلت من محاوالت معرفته واحتوائه وحسب‪ ،‬بل أيضا‬
‫يقابل الذات ويسائل قدرتها على االحتواء والسيطرة‪ .‬وبمقاومته تلك يؤسس‬
‫العالقة األخالقية باآلخرالتي يسميها ليفيناس بـ»الوجه لوجه» تيمنا بلقاء مو�سى‬
‫باهلل في الجبل وتلقيه األمر األخالقي بعدم القتل‪ ،‬أي اكتشاف مو�سى ذاتيته‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬الكلية والالنهائي ‪ ،‬ص‪.215 .‬‬

‫‪300‬‬
‫األخالقية املعبرعنها بوصية «ال تقتل» التوراتية‪.‬‬
‫إن الوجه ال يعبر في اللقاء املباشر باآلخر عن استحالة أنطولوجية أو معرفية‪،‬‬
‫بل ينادي باالستحالة األخالقية لقتل اآلخر‪ ،‬ويعلن خارجيته غيرالقابلة لالنتهاك‬
‫عندما ينطق ـ بالوصية التوراتية ـ «ال تقتل»‪ .1‬أما الذات فتجد نفسها مطالبة‬
‫باإلجابة‪ ،‬وبجوابها تتأسس الذات املسؤولة املعنية بالهشاشة والضعف‬
‫اإلنسانين‪ .‬غير أن معنى املسؤولية الناتج عن العالقة االجتماعية يختلف عن‬
‫املفهوم الكالسيكي للمسؤولية‪ ،‬والذي يتمحور حول الذات الحرة املستقلة التي‬
‫تقوم بفعلها أوال ثم تشرع في البحث عن مبررات فعلها أمام اآلخر فترفع أسبابها‬
‫إلى مستوى الكونية‪ .‬إن املسؤولية الحقة الناتجة عن إجابة نداء اآلخرتتم دفعة‬
‫واحدة‪ ،‬فتكون كل أقوال وأفعال اإلنسان حاملة ألثرالالنهائي املعبرعنه في وجه‬
‫اإلنسان اآلخر‪ ،‬والذي ال يعطي للحرية قدرتها إال بعد لجمها باملطلب األخالقي‪.‬‬
‫تؤكد املسؤولية األخالقية إذن سلبية الذات وتبعيتها لآلخر‪ ،‬عوض االستقاللية‬
‫التي تؤسس ذاتية العقالنية املوروثة عن الفلسفة اليونانية‪ .‬وقد استلهم ليفيناس‬
‫هذه السلبية من تأويله لآلية ‪ 7:24‬من سفر الخروج‪ ،‬والتي تقول‪« :‬سنعمل كل‬
‫األمور التي تكلم بها الرب وسنطيعه»‪ .‬ذلك أن هذه اآلية تؤكد أن الجواب سبق‬
‫الوعي والفهم‪ ،‬وأن اإلسرائيليين أجابوا نداء الوحي وأتوا الفعل قبل أن يسمعوا‬
‫ليفهموا ويعوا‪ ،‬بمعنى أن طاعتهم سبقت فهمهم للتدبيراإللهي الذي قرر وضعهم‪،‬‬
‫ألنها حصلت قبل أن تح�صي الذات قدراتها وتقرر الرفض أو الطاعة بناء على‬
‫أسس عقالنية‪ .‬غيرأن ما يهمنا هنا هواالنقالب في املنطق التقليدي لألخالق الذي‬
‫ينتج عن القول باملسؤولية األخالقية والسلبية‪ ،‬والذي يجعل األمراألخالقي املعبر‬
‫عنه في وجه اآلخر ال يتحدد كقواعد للفعل‪ ،‬مفهومة بوصفها قوانين كونية على‬
‫النمط الكانطي‪ ،‬أي باعتبارها إلزام صوري أو عقلي يحترم العقل في اآلخر‪ .‬بل إن‬

‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪238 .‬‬

‫‪301‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫األمراألخالقي إلزام ألجل اآلخريتجلى هللا من خالله دون أن يفقد شيئا من تعاليه‬
‫املطلق أويسكن أفهام البشرأويتدخل في العالم الذي ارتضوه ألنفسهم‪ .‬وقد ورد‬
‫الفعل قبل الفهم في النص التوراتي بطرق متعددة‪ :‬أوال‪ ،‬لفظ «سنفعل» في اآلية‬
‫السابقة الذي يمثل اعتراضا على نمط الوعي الهوسرلي‪ ،‬الذي سبق ملارتن بوبرأن‬
‫فسره على أنه فعل في سبيل الفهم وقال إن الفعل يبقى ناقصا ما لم يكتمل بفهم‬
‫ما ينتج عنه‪ .1‬األمر الذي عارضه ليفيناس عندما أكد أن الفعل وعدم االكتمال‬
‫هو سر املالئكة الذي يفعلون ما يؤمرون‪ .‬وأن ما رفضته فينومنولوجيا هوسرل‬
‫واعتبرته ضربا من الالمعنى‪ ،‬يمثل درس االستقامة والنزاهة والصدق في اليهودية‬
‫ومثاال لإلنسانية‪.‬‬
‫يتضح من ذلك أن استشهاد ليفيناس بالنصوص واملراجع الدينية ال يعني أنه‬
‫ضها عجزاللغة املفهومية للفلسفة‬ ‫فر َ‬
‫يؤسس قوله عليها‪ ،‬بل إنه ببساطة ضرورة َ‬
‫عن التعبيرعن املعنى األخالقي‪ .‬فما كان له أن يرجع إلى النصوص الدينية لوال إعادة‬
‫تأويلها في ضوء املفاهيم األخالقية التي توصل إليها في نقده للتراث الفلسفي‪ .‬يأتي‬
‫تأويل النصوص هنا محاولة لالقتراب من املعنى الذي لم تقله الفينومنولوجيا‬
‫رغم أن أدواتها تسمح بذلك‪ ،‬خاصة إعمال املنهج في املستوى السابق على عطاء‬
‫املعنى ووصف القصود الفاعلة في الوجود اإلنساني وغير الصادرة عن األنا‪.‬‬
‫لقد سمحت اإلحالة على املصادر الدينية اليهودية بالتعبير عما ال يقبل التعبير‪،‬‬
‫وبكشف سرالذاتية الكامن خلف املسؤولية التي تنبثق قبل الوعي واللغة‪ .‬بعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬بدون االقتباس من التراث الديني واألدبي تبقى الفينومنولوجيا بدون‬
‫جدوى‪ ،‬وخرساء عاجزة عن وصف املسؤولية والذاتية الحقة‪.‬‬
‫إن ليفيناس ال يجعل الفلسفة تابعة للدين كما يدعي البعض‪ ،2‬بل يؤكد‬
‫فقط أن النصوص الدينية تسمح بالتعبير عن اإلمكان الفينومنولوجي لفهم‬
‫‪ -1‬ورد في‪ :‬كوسكي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.168 .‬‬
‫‪ -2‬ملزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى كوسكي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.170 .‬‬

‫‪302‬‬
‫التدين بشكل يختلف عن التراث‬
‫الفلسفي والوثنية معا‪ .‬لقد أنتجت استهشاد ليفيناس بالنصوص‬
‫اليهودية مفهوم املسؤولية وأدخلته في واملراجع الدينية ال يعين أنه‬
‫يؤسس قوله علهيا‪ ،‬بل إنه‬ ‫تاريخ اإلنسان الغربي‪ ،‬فاتحة بذلك‬
‫ضا عجز‬ ‫فر َ‬
‫مسار وزمانية املفهوم الذي سيكشفه ببساطة رضورة َ‬
‫التحليل الفينومنولوجي الحقا بعد عجر اللغة املفهومية للفلسفة عن‬
‫التعبري عن املعىن األخاليق‬ ‫خطاب الفلسفة عن احتوائه‪ .‬قدم‬
‫الدين التوحيدي للبشرية مفهوم الذات‬
‫املسؤولة مسجال لحظة فارقة في تاريخ‬
‫املسؤولية والدين على حد سواء‪ ،‬وجعل من املسؤولية األخالقية أساسا للداللة‬
‫األصيلة للوجود اإلنساني‪ .‬دون أن يعني ذلك أن هذه األخيرة مرتبطة حصرا‬
‫بالشرط التاريخي املميزلدين بعينه‪ ،‬بل يعني أنها خاضعة لشروط معينة تصادف‬
‫أن تحققت في اليهودية ويمكن أن تتحقق في غيرها‪.‬‬
‫يبدأ تأويل ليفيناس للدين إذن من الذاتية املسؤولة‪ ،‬ومن حقيقة أن دينا‬
‫بدون مسؤولية محض خرافة أو مجرد تمظهر آخر للعنف والوثنية‪ .‬ذلك أن‬
‫استغالل التأسيس العقالني لأللوهية في تبرير التملص من املسؤولية إزاء‬
‫اآلخرين‪ ،‬والتطبيق الحرفي لصفات هللا وإقحامه في شؤون البشر وجعلهم‬
‫يرضون عن معاناتهم‪ ،‬سيان في تقويض التعالي وسلبه معناه‪ .‬قد تكون هذه‬
‫الفكرة معروفة لدى الفالسفة خاصة بعد كانط‪ ،‬غيرأن ليفيناس يؤكد باملقابل‬
‫أال وصف للمسؤولية بدون دين أيضا‪ ،‬ألن الفينومنولوجيا ال تعبرعن املسؤولية‬
‫األخالقية إال بتحليل بعض الصيغ والوضعيات الواردة في تاريخ الدين اليهودي‪.‬‬
‫من املسؤولية إلى هللا‬
‫ظل تعالي اإلله ظاهرة مستعصية على الفكرالفلسفي على مرالتاريخ‪ .‬وعندما‬

‫‪303‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ظهرت فلسفة الدين في العصر الحديث‬
‫ظل تعايل اإلله ظاهرة‬ ‫قامت بإرجاع كل الظواهر الدينية إليه‪،‬‬
‫مستعصية عىل الفكر‬ ‫لكنها اعتبرته ضربا من الالمعنى أو الرأي‪.‬‬
‫الفلسيف عىل مر التاريخ‪.‬‬ ‫وهو األمر الذي يصفه ليفيناس بالقول‬
‫«إن تعالي املطلق أو الواحد ال يمكن أن وعندما ظهرت فلسفة الدين‬
‫يدخل في عالقة مع النفس )عبر الوحي( يف العرص الحديث قامت بإرجاع‬
‫كل الظواهر الدينية إليه‪،‬‬ ‫ما لم يبدأ منها‪ ،‬غير أن النفس‪ ،‬بفعلها‬
‫لكهنا اعتربته رضبا من‬ ‫ذاك‪ ،‬تتوقف عن تبرير تعاليه»‪ .1‬غير أنه‬
‫الالمعىن أو الرأي‬ ‫يؤكد باملقابل أن فكرة الالنهائي تسمح‬
‫باستعادة معنى األلوهية وبإرجاعه إلى‬
‫دائرة املعقولية‪ .‬يقول‪« :‬إن فكرة الالنهائي ـ‬
‫التي ُسميت واعترف بها قد صارت فعالة بطريقة ما انطالقا من داللتها واستعمالها‬
‫الريا�ضي ـ تضع الفكر أمام املفارقة املتحققة في الوحي الديني‪ .‬هذا األخير‪ ،‬الذي‬
‫يرتبط تحسسه مسبقا باألوامرإزاء بني البشر‪ ،‬وباملعرفة باهلل الذي يقدم نفسه‬
‫عبرهذا االنفتاح ويبقى مع ذلك آخرا إطالقا أو متعاليا»‪.2‬‬
‫إن هللا املتجلي في مفارقة الوحي‪ ،‬التي تتجاوز املعرفة‪ ،‬هو ما أقصته الفلسفة‬
‫بحجة أنه يفوق فكرته ومفهومه‪ .‬فهو يكشف عن نفسه دون أن يكون مشروطا‬
‫بمفهومه‪ ،‬وعندما يعجز املفهوم عن تغطية ماصدقه يصبح موت هللا أمرا‬
‫حتميا‪ .‬فهل ستكون فلسفة الدين محكومة بالفشل في تفكير التعالي والوحي‬
‫دون اختزالهما في الوعي السعيد والكامل؟ أال تضع فكرة الالنهائي مسلمة الحرية‬
‫موضع سؤال؟‬
‫‪ -1‬أنظرليفيناس‪ ،‬ما وراء اآلية‪ ،‬الصفحة ‪ 155‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪E. Levinas, L’au-delà du verset. Lectures et discours talmudiques. Editions de Minuit :‬‬
‫‪.Paris, 1982‬‬ ‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬بيننا‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.227 .‬‬

‫‪304‬‬
‫إن االستحالة املتضمنة في السؤال أعاله تؤكد أن دراسة الظواهر الدينية‬
‫ال تهدف إلى إثبات أنها حدثت فعال في حياة الذات‪ ،‬بل تسمح فقط بإظهار أن‬
‫داللتها ممكنة بالنسبة للفلسفة‪ .‬وعليه‪ ،‬فسعي فيلسوفنا إلى فهم األلوهية ال‬
‫يعني محاولة البرهنة على وجود هللا‪ ،‬إله الفالسفة وإله الدين على حد سواء‪،‬‬
‫بل محاولة إظهار إمكان الالتناهي ووصف الذاتية التي تسمح بظهوره في الفكر‬
‫والفعل‪ .‬وهو املشروع الذي قدمه ليفيناس في جل مؤلفاته‪ ،‬والسيما مقالتي‪:‬‬
‫«فكرة هللا فينا» و»هللا والفلسفة»‪ ،1‬حيث قال إن الذاتية املقصودة تحتاج إلى‬
‫املؤسس‪،‬ـ من خارج الكوجيطو واألنا‬‫إعادة بناء من خارج فينومنولوجيا الوعي ّ‬
‫ِ‬
‫أفكر؛ وبفينومنولوجيا أخرى قادرة على كشف الذاتية املسؤولة أخالقيا‪ .‬فكيف‬
‫تسمح فكرة الالنهائي بتأسيس الذاتية؟‬
‫أوجد ديكارت مكانا لفكرة الالنهائي في مشروع الفلسفة الحديثة‪ ،‬ووصفها‬
‫بدون الرجوع إلى التأمل الديني القائم على سلطة النص‪ .‬لقد أثبت في التأمل‬
‫الثالث أن وجود هللا ال يتأسس على يقين الكوجيطو‪ ،‬بل يتجاوز الوعي ويلهمه‬
‫مشروعيته ويقينه‪ .‬يقول ليفيناس إن «ديكارت رسم في تأمله لفكرة هللا مسارا‬
‫استثنائيا لفكر يصل إلى حد القطع مع األنا أفكر‪ ،‬وبصرامة ال تضاهى»‪ ،2‬مما‬
‫يعني أن الوعي ال يؤسس كل �شيء وأنه مسبوق باآلخر‪ .‬غير أن ما يهم ليفيناس‬
‫هنا «ليس البرهنة على وجود هللا‪ ،‬بل حدث توقف الوعي‪ ،‬الذي ليس كبتا في‬
‫الالشعور وإنما حكمة ويقظة تخلخل السبات الدغمائي الذي يرقد في عمق‬
‫الوعي»‪ .3‬ذلك أن البرهان الديكارتي يجعل هللا مطابقا ملبدأ العلية؛ هللا موجود‬
‫بالضرورة ليس ألنه يقع خارج ما يمكن إدراكه بالحواس‪ ،‬ولكن ألن الفكر يحتاج‬
‫الى علة وضمان ال يمكن أن يكونا إال في فكرة هللا‪ ،‬وهللا بدوره كان ليحتاج إلى علة‬
‫‪  -1‬أنظر‪ :‬ليفيناس‪ ،‬هللا الذي يتبادرإلى الذهن‪ ،‬مصدرسابق‪.‬‬
‫‪ -2‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.104 .‬‬
‫‪ -3‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.105 .‬‬

‫‪305‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫لوال أنه علة ذاته‪ .‬وبذلك يؤكد فيلسوفنا النقد النيتشوي ملبدأ العلية الذي قاد‪،‬‬
‫في نظرهما معا‪ ،‬إلى موت اإلله وإقصاء التعالي من دائرة املعقولية‪ ،‬فمطابقة هللا‬
‫بالعلة األولى تجعله في مرتبة املخلوق الخاضع للعلية والفاقد للتعالي‪ ،‬وإن كان‬
‫موجودا أسمى‪.‬‬
‫رفض ليفيناس تأسيس التعالي على تجربة الوعي الديكارتية‪ ،‬لكنه استفاد‬
‫من فكرة الالنهائي في وصف الذاتية املسؤولة‪ ،‬وذلك من خالل العناصر التالية‪:‬‬
‫‪-‬أوال‪ ،‬أنها تبرر إمكان توسيع مدى املنهج الفينومنولوجي إلى ما وراء القصد املانح‬
‫للمعنى‪ .‬إذ تؤكد فكرة الالنهائي أن الوعي يتضمن ما ال يمكنه احتواؤه أو تملكه‪،‬‬
‫أو ما ال تسعه فكرة أو مفهوم‪ .‬أكد ديكارت‪ ،‬من دون قصد منه‪ ،‬أن فكرة الالنهائي‬
‫تحوي من املعاني ما يفوق مدى الفكر ويدعوه الى تفكير أكثر من طاقته‪ ،‬وأن‬
‫وجودها في الوعي ينسف ادعاء تأسيس األشياء انطالقا من القصد العارف‪ .‬لقد‬
‫أكد ديكارت أن فكرة الالنهائي واضحة للفكررغم أنه ال يمسك بها‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا‪ ،‬أن فكرة الالنهائي تؤكد أسبقية اآلخر وتعاليه‪ ،‬ألنها وضعت وضعا في‬
‫الوعي ولم تنتج عنه‪ .‬لقد أوجد ديكارت كل املوجودات‪ ،‬بما فيها اإلنسان واألشياء‬
‫واآلخر‪ ،‬وحتى هللا واملالئكة‪ ،‬غير أنه وجد أن الفكر يؤسسها جميعا ما عدا فكرة‬
‫هللا التي تمنح تأسيس املوجودات األخرى يقينه ومصداقيته‪ .‬بمعنى أن الوعي‬
‫يحتاج إلى افتراض خارج للكوجيطو‪ ،‬وأن هللا جوهر النهائي مستقل عن ال�شيء‬
‫املفكر‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬سوف يرفض ليفيناس هذه اللغة الجوهرانية كما سبق‬
‫ورفض ربط الفكر بموضوعه بعالقة سببية‪ ،‬ولن يستخدم استدالل ديكارت في‬
‫وصف وجود هللا‪ .‬واكتفى باملقابل باستثمارحدث توقف الوعي في تأسيس مفهوم‬
‫السلبية‪ ،‬أي تجربة الذات التي وجدت نفسها بفعل الكوجيطو في مواجهة آخر‬
‫يتجاوزها ويهبها اليقين دون أن تتمكن احتوائه وتملكه‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا‪ ،‬أن فكرة الالنهائي تسمح بإعادة تعريف الذات انطالقا من السلبية‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫إن وجود فكرة الالنهائي في الوعي ينسف‬
‫قدرة األنا املفكرة‪ ،‬وينتج الذات السلبية «فكرة الالهنايئ تصف سلبية‬
‫واملصابة التي تحضر في حاالت االنفعال أكرث سلبية من كل سلبية قد‬
‫والحساسية والوجدان‪ .‬ذلك أن ديكارت تصدر عن ويع‪ :‬إهنا مفاجأة‬
‫يؤكد أن الوعي ال يؤسس فكرة التعالي بل وحدوث ملا ال يطاق‪ ،‬األكرث‬
‫يجدها فكرة فطرية كما يجد فكرته عن انفتاحا من كل انفتاح ــ إهنا‬
‫يقظة ــ‪ ،‬غري أهنا تقود إىل‬ ‫نفسه‪ ،‬ويقول إن تصوره هلل أسبق من‬
‫سلبية املخلوق»‬ ‫تصوره لذاته‪ .‬بمعنى‪ ،‬يستنتج ليفيناس‪،‬‬
‫أن «فكرة الالنهائي تصف سلبية أكثر‬
‫سلبية من كل سلبية قد تصدر عن وعي‪:‬‬
‫إنها مفاجأة وحدوث ملا ال يطاق‪ ،‬األكثرانفتاحا من كل انفتاح ـ إنها يقظة ــ‪ ،‬غيرأنها‬
‫تقود إلى سلبية املخلوق»‪ .1‬هذا األخيرالذي أتى إلى العالم متأخرا فوجد نفسه غير‬
‫قادرعلى ادعاء امتالك كل ما هو ممكن‪.‬‬
‫‪ -‬رابعا‪ ،‬أن إيقاف ديكارت ملسار الكوجيطو من أجل تأمل وجود هللا وإظهار‬
‫صفاته‪ ،‬يجعل للمعرفة حدودا‪ .‬فهوال ينتهي إلى اليقين والوضوح‪ ،‬بل إلى التبجيل‬
‫والعبادة الناتجين سلبية االنفعال والوجودان‪ .‬إن فكرة الالنهائي ال تعني سلبية‬
‫الوعي وحسب‪ ،‬بل تسمح بفهم الرغبة بالالنهائي والعالقة باهلل‪ .‬ذلك أن العالقة‬
‫الوجدانية تمثل رغبة ال تضاهي مرغوبها وال تصدر عن الوعي‪ ،‬وال تسعها كلماته‬
‫ولغته‪ ،‬ألن املرغوب أعلى وأكثر من فعل الرغبة‪ .2‬تعبر الرغبة عن حضور هللا في‬
‫الفكر وعن فهمنا له رغم عدم امكان اإلمساك به في مفهوم‪ ،‬ألنه يتجلى كغياب‬
‫داخل الحضور‪ .‬ويقول ليفيناس إنه التعالي حد الغياب‪ ،‬ويصفه بضمير الغائب‬
‫«هو» )‪.(Il‬‬
‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.107 .‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬هللا الذي يتبادرإلى الذهن‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.111 .‬‬

‫‪307‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫وأخيرا‪ ،‬إن العالقة بالالنهائي تلهم سبل‬
‫ليفيناس قد انطلق من‬ ‫الفعل والعمل وتتحقق باالهتمام بالغير‬
‫فكرة الالهنايئ ووصل إىل‬ ‫في العالقة االجتماعية‪ .‬فما دامت غاية‬
‫آخر ال يمكن بلوغه أو تملكه‪ ،‬فإن املسؤولية واألخالق دون أن‬ ‫الرغبة ُ‬
‫يجعل من الدين الهيودي‬ ‫جوابها يتم من خالل خيرية األفعال‪ .‬بمعنى‬
‫أن موضوع الرغبة ينفلت منها ويوجهها أساس لهما‪ .‬ورفض الربط‬
‫بيهنما بعالقة سببية ألن‬ ‫صوب الخيروهللا دون أن يخبرها بما يكونه‬
‫الخير تحديدا‪ .‬يقول ليفيناس إن «التعالي الفينومنولوجيا تسمح باخزتال‬
‫أخالقي‪ ،‬وإن الذاتية ليست في نهاية الالهنايئ إىل التشكل اخليف‬
‫لألخالق يف أعماق الذات‬ ‫التحليل «أنا أفكر» أو وحدة «اإلدراك‬
‫الترنسندنتالي»‪ ،‬إنها خضوع وتبعية للغير‬
‫في سبيل املسؤولية إزاء الغير»‪.1‬‬
‫وعليه‪ ،‬يكون ليفيناس قد انطلق من فكرة الالنهائي ووصل إلى املسؤولية‬
‫واألخالق دون أن يجعل من الدين اليهودي أساس لهما‪ .‬ورفض الربط بينهما‬
‫بعالقة سببية ألن الفينومنولوجيا تسمح باختزال الالنهائي إلى التشكل الخفي‬
‫لألخالق في أعماق الذات؛ االختزال الذي يبدأ من املعطى الالنهائي ويعود إلى‬
‫الذات املسؤولية ثم األفق األخالقي الذي يمنحها داللة ومعنى‪ ،‬بحيث يتم وصف‬
‫داللة هللا عبراختزال أخالقي وليس عبرتسلسل منطقي لألسباب والعلل‪.‬‬
‫بمعنى أن ففينومنولوجيا املسؤولية األخالقية التي سمحت بتأويل الدين تقع‬
‫خارج التمييز التلقيدي بين إله الدين وإله الفالسفة‪ ،‬بل تشكك أصال في إمكان‬
‫االختياربينهما‪.2‬‬

‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.113 .‬‬


‫‪ -2‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪ 96 .‬ـ ‪.97‬‬

‫‪308‬‬
‫األنطوثيولوجيا وهللا‬
‫شكل سعي ليفيناس إلى إنقاذ داللة الظواهر الدينية وتأكيد مصداقيتها‬
‫انطالقا من الذات املسؤولة‪ ،‬انحرافا عن سمة العصراملوسوم بموت امليتافيزيقا‬
‫واإلله‪ .‬إنه أشبه ما يكون بالعودة إلى ما سماه هيدغر بالتأسيس األنطوثيولوجي‬
‫للميتافيزيقا‪ ،‬أي الرأي القائل إن ظهور فلسفة الدين رافق تاريخيا ومنطقيا نهاية‬
‫إله امليتافيزيقا‪ .‬هذه األخيرة التي كانت تنظر في الوجود اإللهي انطالقا من خلقه‪،‬‬
‫وال تميزه عنها فتكرس نسيان االختالف األنطولوجي‪ .‬أما البعد األنطولوجي‪،‬‬
‫فيتمثل في أنها كلما نظرت في الوجود إال وأرجعته إلى موجود أسمى وأساس‬
‫ضروري للموجودات‪ ،‬املوجود األكثر عمومية الذي يؤسسها جميعا ويحظى‬
‫بصالحية كونية وكلية‪ .‬وأما البعد الثيولوجي‪ ،‬فيتمثل في كونها تطابق هذا الكلي‬
‫باهلل‪ .‬وعليه‪ ،‬فالدور الذي أعطته امليتافيزيقا هلل ال يخرج عن كونه أساسا للوجود‬
‫والعلة في عدم ظهور وجود آخر‪ ,‬إذ أنها تتصوره على أنه علة ذاته التي تؤول إليها‬
‫كل العلل األخرى‪ ،‬واألساس النهائي الذي ال يحتاج إلى أساس إضافي غيره‪.‬‬
‫لقد كان هذا الفهم سببا في نهاية امليتافيزيقا ومبررا للقول بموت اإلله‪ ،‬ألن‬
‫الوصول إلى هللا من خالل تسلسل العلل واألسباب يجعل إله امليتافيزيقا محايثا‬
‫للوجود‪ .‬بل يجعله جزءا من العالم مفتقرا إلى التعالي ومنذورا لالنهيار واملوت‬
‫بمجرد أن ينهار األساس املتافيزيقي‪ .‬غير أن ليفيناس يؤكد أن نتيجة إقحام هللا‬
‫في العالم أفدح من أن تقتصر على فساد فهم معين لإلله‪ ،‬فهو يقود إلى نتائج‬
‫مقلقة على املستوى األخالقي‪ .‬ذلك أنه يرتبط بتبرير معين للوعي األخالقي‪ ،‬سبق‬
‫لنيتشه أن وصفه بقوى الحقد واالنتقام التي خلقت عاملا ميتافيزيقيا خلف عالم‬
‫الحياة‪ ،‬وباإلرادة املضادة للزمن التي أنشأت عاملا مثاليا من املاهيات ورفعته‬
‫إلى منزلة الزمن الحقيقي الذي يجعل النظر في عالم الناس بعيدا عن همومهم‬

‫‪309‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫وانشغاالتهم‪ .1‬لقد أنتجت املتافيزيقا إلها للجبناء والالمبالين الذي يبرر عجزهم‬
‫عن الفعل في العالم وتحمل مسؤوليته‪ .‬وهو العجزنفسه الذي ينتج عن سيطرة‬
‫اآللهة الوثنية وعبادة األوثان‪ ،‬فبدل سكن العالم الواقعي تلجأ الذات إلى عالم‬
‫مثالي وتعتبراملعاناة فضائل من أمرهللا‪ ،‬سوف تنال الجزاء األوفى في عالم آخر‪.‬‬
‫لم تخلق امليتافيزيقا إذن اإلله العادل كما اعتقدت‪ ،‬الذي يسمح بتبريراملعاناة‬
‫الواقعة على اإلنسان باألمل في محاسبة عسيرة للظاملين في الحياة األخرى‪،‬‬
‫وبجعل معاناة الفرد دليال على خيريته التي تؤهله لنيل الجزاء األوفى بعد حين‪.‬‬
‫بل خلقت أيضا اإلله املنتقم وتخيلت انتقامه املحتمل من األشرار الذي خالفوا‬
‫قانون الرب‪ .‬إنه اإلله الذي تترجمه أوامر أخالقية سلبية ومتناقضة تحض على‬
‫الخروج من الحياة من حيث تظن أنها تدعو إلى سكنها‪ ،‬وتجسده حياة الزهد‬
‫والتقشف والتصوف األخرس التي ال تتعدى مستوى مجاهدة النفس ورهنها‬
‫بتبريرعذابها األبدي‪.‬‬
‫لقد وجد نيتشه أن موت اإلله موجه إلى من يفترضون إلها مجهوال وغير قابل‬
‫للتعقل‪ ،‬فدعا إلى تخليص اإلنسان من تبعيته لقوة متعالية تعمل ضده وضد‬
‫الحياة‪ .‬لكنه بدل ردم الفجوة واستثمار موت اإلله نفسها‪ ،‬سار إلى نفي اإلله‬
‫وفسح املجال لإلنسان األرقى‪ .‬إذ ال تهدف مساءلة نيتشه ملوت اإلله إلى إتمام‬
‫املعرفة باهلل‪ ،‬بل إلى اختزال وجوده في إرادة القوة‪ ،‬والقول إن كل املعاني الواردة‬
‫في الدين هي شكل من أشكال إرادة القوة الكامنة وراءها‪ .‬ولم يعد هللا بالنتيجة‬
‫مضادا للفكر ومستعصيا على املعرفة كما في التنوير‪ ،‬أو يعيش من تأمل ذاته‬
‫كما فهم هيغل أثناء محاولته للتوفيق بين فلسفة الدين والثيولوجيا الفلسفية‪.‬‬
‫يوافق ليفيناس نيتشه في رفضه إلله امليتافيزيقا الذي يسكن العالم واإلله‬
‫املنتقم الذي يتدخل في شؤون الخلق‪ ،‬أي اإلله املشخص وإله العلية معا‪.‬‬

‫‪ -1‬كوسكي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.139 .‬‬

‫‪310‬‬
‫لكنه يرفض أيضا ربط هللا بإرادة القوة‬
‫واإلنسان األرقي‪ .‬ويقترح باملقابل أخالقا لقد وجد نيتشه أن موت اإلله‬
‫موجبة ناتجة عن الذاتية املسؤولة‪ ،‬موجه إىل من يفرتضون إلها‬
‫جمهوال وغري قابل للتعقل‪،‬‬ ‫أخالق متحررة من الحقد والالمباالة‬
‫واالنتقام‪ ،‬إذ ال تنتقم الذات هنا من فدعا إىل تخليص اإلنسان من‬
‫تبعيته لقوة متعالية تعمل‬ ‫جالدها بل تتحمل مسؤولية ظلمه‪،‬‬
‫وتأخذ على عاتقها مسؤولية االضطهاد‪ .‬ضده وضد احلياة‪ .‬لكنه بدل‬
‫متقبلة تتحمل ضربات ردم الفجوة واستثمار موت‬ ‫وذلك ألنها ذات ّ‬
‫ِ‬
‫اآلخرين دون أدنى ردة فعل‪ ،‬فتعفي اإلله نفهسا‪ ،‬سار إىل نيف اإلله‬
‫نفسها من مشقة االنخراط في الرد وفسح املجال لإلنسان األرىق‬
‫على املضطهد أو السعي املتأخر إلى محو‬
‫أثره باملسؤولية تقطع الذات مع منطق‬
‫االنتقام الذي قاد إلى خلق اإلله ثم قتله في امليتافيزيقا في تقدير نيتشه‪ ،‬وتسجل‬
‫نقطة تحول في تاريخ فلسفة الدين‪.‬‬
‫الواقع أن ليفيناس يرفض املفهوم املتافيزيقي لإلله ويؤسس عليه في نفس‬
‫الوقت‪ ،‬وبانسجام تام مع نقده ملفهوم «الكلية»‪ ،‬عندما يبدأ وصفه من نفي‬
‫قدرة املعرفة على احتواء داللة األلوهية‪ .‬لقد بدأت فلسفة الدين فعال من نقد‬
‫إله األنوار الذي يبقى مجرد صياغة مفهومية للكلي الذي يتجاوز حدود املعرفة‪،‬‬
‫ويقود إلى الحياة العملية أو يرجع إلى دائرة الرأي‪ .1‬فمنذ إصالح مارتن لوثر‬
‫والهوة السحيقة بين الوجود اإلنساني املتناهي والتعالي ـ الوجود اإللهي ـ تزداد‬
‫اتساعا‪ ،‬بسبب طرد كل أشكال الوساطة من عقائد وطقوس ووضع الدين في‬
‫خانة املتناهي واإلحساس الذاتي الفردي‪ ،‬فصارت عالقة الذات باهلل موضع رغبة‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬الحرية الصعبة‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.27 .‬‬

‫‪311‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ورجاء ليس إال‪ .‬وقد كان لذلك أثارا مدمرة‬
‫الواقع أن ليفيناس يرفض‬ ‫على معرفة هللا‪ ،‬إذ لم يعد فهمه ممكنا إال‬
‫املفهوم املتافزيييق لإلله‬ ‫باختزاله إلى مستوى اإلنسان واألشياء‪،‬‬
‫ويؤسس عليه يف نفس‬ ‫وهو مسار إقصاء التعالي الذي ينتقده‬
‫ليفيناس ويقول إنه اختزال هلل في الال�شيء‪ .‬الوقت‪ ،‬وبانسجام تام مع نقده‬
‫لقد وجدت البروتستانتية الخالص في ملفهوم «الكلية»‪ ،‬عندما يبدأ‬
‫التخلي عن التعالي وسكن الحياة اليومية وصفه من نيف قدرة املعرفة‬
‫عىل احتواء داللة األلوهية‬ ‫ودون أدنى إحساس بالذنب‪ ،‬كما لو أن‬
‫هللا لم يعد حيا بالنسبة لها أو مجرد قوة‬
‫من قوى الطبيعة‪ .‬وألهمت بذلك فلسفة‬
‫األنوارفكرة تمجيد الواقع املادي حيث يؤسس العقل املتناهي كل تجربة ممكنة‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬إن لسان حال الفلسفة وقتئذ يقول إن معرفة هللا غير ممكنة‬
‫وتتجاوز حدود الفهم اإلنساني‪ ،‬وبالتالي يجب اتخاذ اإلنسان نقطة ارتكاز نهائية‬
‫وإرجاع كل كالم عن التعالي واأللوهية إلى مستوى الحساسية والظن‪.‬‬
‫وقد سارت الفلسفة الكانطية بدورها في نفس االتجاه عندما أرجعت هللا إلى‬
‫املستوى العملي واألخالق‪ .‬وقالت إن العقل البشري عندما يرجع إلى ذاته ليفحص‬
‫إمكانات املعرفة ويدقق البنيات القبلية للفهم التي تجعل التجربة ممكنة‪ ،‬ال يجد‬
‫ما يستند عليه ملعرفة هللا‪ .‬وإن املعرفة تكون ممكنة طاملا بقيت ضمن حدود‬
‫الواقع الظاهر للتجربة حيث يكون الفهم فعاال‪ ،‬لكن عندما يحاول العقل مد‬
‫املعرفة إلى ما وراء الظاهر أو يدعي معرفة ال�شيء في ذاته‪ ،‬فإنه يجعل من بنيات‬
‫الفكر بنيات للواقع ويسقط في األوهام الترنسدنتالية‪ .‬وعليه‪ ،‬فما يسمى دليال‬
‫على وجود هللا مجرد وهم ناتج عن مبدأ العلية الذي وظف خارج نطاق صالحيته‪،‬‬
‫وعن االفتراض أنه ليس مقولة للفهم فقط بل مقولة للوجود أيضا‪ .‬ينتهي تطبيق‬

‫‪312‬‬
‫مبدأ العلية إلى أن علة العالم توجد خارجه ويسميها هللا‪ ،‬والحال أن ذلك محض‬
‫حكم تأملي للعقل حول موضوع ليس موضع تجربة ممكنة أصال‪ .‬بمعنى أن العلة‬
‫النهائية هذه ليست موضوعا محتمال للمعرفة‪ ،‬وبالتالي فمعرفة هللا لم تنج من‬
‫هجمات املشككين إال بطرد هللا من قالع املعرفة املحصنة‪.‬‬
‫غير أن كانط عاد وأوجد له مكانا داخل اإليمان والعمل‪ ،‬إذ أرجعه إلى دائرة‬
‫اإليمان حيث يمكن حمايته من مجازفة املعرفة‪ .‬وساهم بذلك في ظهور فلسفة‬
‫الدين الحديثة‪ .1‬عندما انتفى املبرر النظري هلل ظهر املبرر العملي‪ ،‬وصار هللا‬
‫مسلمة ضرورية في االستعمال العملي للعقل‪ .‬بدأ كانط بفكرة الخير األخالقي‬
‫وافتراض التجربة األخالقية‪ ،‬وسار إلى القول بضرورة قبلية تسمح بتفعيل األمر‬
‫القطعي‪ .‬إذا كان العقل النظري يحدد املعرفة انطالقا من الحدوس ومقوالت‬
‫ً‬
‫الفهم‪ ،‬فإن العقل العملي يقحم مقولة األمراألخالقي في الحياة األخالقية اعتمادا‬
‫على الحرية‪ .‬وبإثبات األمراألخالقي يسلم العقل بفكرة هللا أو يفترض وجودها‪ ،‬ما‬
‫دام ال وجود لواقع يناسبها‪ .‬لقد أكد كانط أن أخالقية الفعل من الناحية العقلية‬
‫الصرفة ال تقوم على طلب املقابل أواملنفعة‪ ،‬بل على القيام بالفعل بدافع النزاهة‬
‫والواجب وحسب‪ .‬غير أن القيام بالفعل ينطوي على رغبة في تتويجه بمقابل‪،‬‬
‫مما يضطر العقل إلى التسليم بأفكار ثالثة‪ ،‬وهي‪ :‬الحرية التي تعني أن القيام‬
‫بالفعل يكون لغاية‪ .‬والخلود الذي يفيد أن التوفيق بين طبيعتنا املذنبة والخير‬
‫املرغوب قد ال يتحقق في هذا العالم‪ .‬وأخيرا‪ ،‬هللا الذي يضمن مجازاة الفضائل‬
‫بإسعاد من يستحق‪ .‬وعليه‪ ،‬ففكرة هللا التي تضمن اإليمان بأن السلوك الخير‬
‫سينال الجزاء‪ ،‬تبقى فكرة مقبولة عقليا‪ ،‬رغم أن إنسان التنويرال يحتاج إلى أدلة‬
‫نظرية إضافية على وجود هللا‪ ،‬ألنه مقتنع تماما أنه ال يحتاج إلى طريق آخرلوضع‬
‫القوانين األخالقية غيرطبيعته العاقلة‪.‬‬

‫‪ -1‬كوسكي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.139 .‬‬

‫‪313‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫هكذا استعاد كانط معقولية اإلله من خالل اإليمان‪ ،‬وعلى أساس البنية‬
‫القبلية للعقل في استعماله العملي‪ .‬وصار بمقدور الفلسفة النقدية أن تحكم‬
‫على التراث والعقائد الدينيين‪ ،‬وتم تعويض مبحث البرهنة على وجود هللا‬
‫بالتفكير في الديانات القائمة‪ .‬وهذا هو موضوع فلسفة الدين عند كانط ومن‬
‫سار على دربه‪ ،‬والذي ال يهتم بأمر معرفة هللا وإثبات وجوده‪ ،‬بل يعمل على‬
‫إنقاذ داللة األلوهية على املستوى العملي وما يتطلبه ذلك من قواعد أخالقية‪.‬‬
‫اعتبرت الفلسفة النقدية أن الدين معرفة عملية بواجباتنا األخالقية التي تعد‬
‫أوامرإلهية‪ ،‬ورسمت له حدودا ال ينبغي له تجاوزها‪ .‬بمعنى أن الدين ال يمكن أن‬
‫يتضمن شيئا غير األخالق التي يسمح بها العقل العملي‪ .‬وهو املسلك نفسه الذي‬
‫نلفيه عند ليفيناس مع بعض التعديل‪ ،‬فبعد أن حدد فيلسوفنا معنى وداللة‬
‫التعالي انطالقا من املسؤولية‪ ،‬اتجه إلى تفسير الدين التاريخي وإبراز خصائص‬
‫الدين الحق املتجلي في بعض اليهودية‪ .‬ولنا عودة مفصلة للموضوع الحقا‪.‬‬
‫لقد أفرزت فلسفة الدين في مشروع «الدين في حدود العقل» معيارا يسمح‬
‫بتقييم مدى تطابق عقائد وشعائر الدين التاريخي مع دين العقل‪ .‬وقامت بتأويل‬
‫املؤسسات التاريخية ومعتقدات املسيحية في ضوء العقل العملي‪ ،‬األمر الذي‬
‫جعل عناصر الوحى فيها عائقا كبيرا أمام التأويل‪ ،‬ألن الوحي يفترض التعالي‬
‫ويجعله منه سلطة تتجاوز العقل‪ .‬ذلك أن القول بالخضوع للوحي واملضامين‬
‫املوحى بها يقت�ضي التخلي عن التشريع الذاتي املؤسس للعقل العملي‪ ،1‬ال�شيء‬
‫الذي اضطر كانط إلى التخلي عن الوحي في تأويله للمسيحية‪ ،‬وعدم االهتمام‬
‫بالعالقة بين البشري واإللهي‪ ،‬العالمي واملتعالي‪ ،‬ويركز باملقابل اهتمامه على‬
‫شخص املسيح التاريخي‪ ،‬الذي ال يمثل تجليا هلل في نظره‪ ،‬إنما يمثل نموذجا‬
‫واقعيا للمثال األخالقي‪ ،‬أشبه ما يكون بالقدوة املطلوبة‪ ،‬ألن الطبيعة املتهاونة‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬هللا الذي يتبادرإلى الذهن‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.191 .‬‬

‫‪314‬‬
‫والضعيفة لإلنسان تمنعه من بلوغ‬
‫النموذج األخالقي للسلوك الذي ينصت اضطر كانط إىل التخيل عن‬
‫الويح يف تأويهل للمسيحية‪،‬‬ ‫للعقل العملي وحده‪.‬‬
‫وهذا ما وصفه هيغل بتدهور اإلله إلى وعدم االهتمام بالعالقة بني‬
‫البرشي واإللهي‪ ،‬العاملي‬ ‫مستوى البشر والشؤون البشرية الذي‬
‫كان سببا في موته‪ .‬ودفعه إلى محاولة واملتعايل‪ ،‬ويركز باملقابل اهتمامه‬
‫استعادة املعرفة باهلل‪ ،‬التي أقصيت في عىل شخص املسيح التارييخ‪،‬‬
‫الذي ال يمثل تجليا هلل يف‬ ‫فلسفة األنوارعبرإنزال السماء إلى األرض‬
‫الدنيا‪ ،‬من أجل إكمال جدلية الفلسفة‪ .‬نظره‪ ،‬إنما يمثل نموذجا واقعيا‬
‫للمثال األخاليق‬ ‫اعتبر هيغل موت اإلله املسيحي وموت‬
‫اإلله األنواري مجرد لحظات في مسار‬
‫انكشاف الفكرة‪ .‬بمعنى أن اللحظة‬
‫الكانطية التي أضفت األخالقية على التناهي وجعلت الالنهائي فارغا‪ ,‬تعد لحظة‬
‫تأسيس للمطلق‪ ،‬انتقل فيها هللا الى ضده من أجل أن يصيرالتعرف عليه ممكنا‪.‬‬
‫وثانيا‪ ،‬أن الدين املسيحي يتضمن مالمح اإلحساس االسطيتيقي للعصرالحديث‪،‬‬
‫ويسمح بمصالحة اإليمان واملعرفة‪ ،‬ومن ثمة اإلمساك الفلسفي بمضمون‬
‫اإليمان‪ .‬إن الفلسفة مطالبة باسترجاع املعرفة باهلل ومصالحة املسيحية‬
‫باألنوار‪ ،‬فاإلله الذي مات هو اإلله املجرد وغيرالقابل للمعرفة‪ ،‬الذي أقدم على‬
‫املوت وكشف عن نفسه ألجل أن يكتشفه الناس ويعرفونه‪ .‬وعليه يؤكد هيغل أن‬
‫إحساس موت اإلله صادق وحقيقي‪ ،‬لكنه في حاجة إلى تأويل في ضوء املسيحية‬
‫ألجل تحقيق الحقيقة واتمام مشروع مصالحة السماء واألرض‪.1‬‬
‫سوف يستثمر هيغل إذن عقائد الدين في معرفة هللا‪ ،‬ويجعل فلسفة الدين‬

‫‪ -1‬كوسكي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.143 .‬‬

‫‪315‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫جزءا من الثيولوجيا الفلسفية الباحثة‬
‫سوف يستثمر هيغل إذن‬ ‫عن غايتها واكتمالها‪ .‬وباسترجاعه للمعرفة‬
‫باهلل‪ ،‬وأقصد مضمون اإليمان وليس عقائد الدين يف معرفة اهلل‪،‬‬
‫األشكال التاريخية للدين‪ ،‬تكون الفلسفة ويجعل فلسفة الدين جزءا‬
‫من الثيولوجيا الفلسفية‬ ‫قد رفضت موت اإلله كما تأسس في‬
‫الفلسفة الكانطية واألنوار‪ ،‬وصالحتها مع الباحثة عن غايهتا واكتمالها‪.‬‬
‫موت اإلله املسيحي‪ ،‬بل وصالحت املعرفة وباسرتجاعه للمعرفة باهلل‪،‬‬
‫والوحي الذي جسد الروح املطلق في وأقصد مضمون اإليمان وليس‬
‫األشكال التاريخية لدلين‪،‬‬
‫املسيحية‪ ،‬حسب هيغل‪ .‬لقد أعلن الدين‬
‫تكون الفلسفة قد رفضت‬
‫املسيحي أن الوعي قادر على معرفة هللا‬
‫موت اإلله كما تأسس يف‬
‫تماما وبدون تحفظ وأال وجود لسرمكنون‬
‫الفلسفة الكانطية واألنوار‬
‫بعد تحقق هبوط السماوات‪ ،‬عندما جعل‬
‫هللا روحا وليس جوهرا‪ ،‬وسمح بفصل‬
‫املفاهيم الدينية عن املعتقد وجعلها‬
‫تشتغل مفهوميا وتأمليا داخل مشروع الفلسفة املثالية‪ .‬فبينما يبقى الجوهر‬
‫كليا في ذاته ال يحتاج إلى خارج‪ ،‬ال تظهر الروح إال من خالل اآلخر‪ .‬وهللا بما هو‬
‫روح ال يكون إلها فعال إال إذا ترك النهائيته الفارغة ّ‬
‫وحل في التناهي قبل العودة‬
‫إلى ذاته‪ .‬لذلك‪ ،‬تصير فلسفة الدين مطالبة بمعرفة الحقيقة املتجلية في الدين‬
‫حيث كشف الروح عن ذاته في املتناهي قبل عودته إليها وإتمام مسارالوعي بذاته‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬لم تعد فلسفة الدين عند هيغل مجرد وصف بسيط لإلنسان أو تأويل‬
‫بسيط للدين في ضوء معايير عقلية‪ ،‬تقبل املوافق وترفض املخالف‪ ،‬وال هي‬
‫محاولة للبرهنة على صالحية وجهة النظر الدينية‪ .‬فما يهم الفلسفة الهيجيلية‬
‫من الدين هو عالقة الروح بذاتها املفهومة من زاوية تأملية‪ ،‬بحيث يكون الوعي‬

‫‪316‬‬
‫الديني تمهيدا لعودة الروح إلى ذاتها‪.‬‬
‫نقطتان اثنتان تميزان ليفيناس عن هيجل‪ :‬أوال‪ ،‬أن األخير أق�صى األخالق من‬
‫الدين‪ ،‬وهذا يعد انتصارا لكانط‪ .‬وثانيا‪ ،‬أنه بقي قريبا من الثيولوجيا الفلسفية‪،‬‬
‫وأفرغ الدين من معناه‪ .‬وهذه النقطة األخيرة هي التي أبقت خطاب موت اإلله‬
‫بعده موجها لكل حديث حول الدين‪ ،‬حيث جرى نفي قدرة أي تأويل على احتواء‬
‫معنى تعالي اإلله والنهائيته‪ .‬غير أن ما تم نفيه فيها هو التحديد امليتافيزيقي هلل‪،‬‬
‫بحكم أن موت اإلله تزامن مع نهاية امليتافيزيقا‪ ،‬ومعها الثيولوجيا والفلسفة‬
‫الدينية‪ .‬بمعنى أنها لم تنف إمكانية أخرى الستعادة معنى التعالي‪ ،‬خاصة تلك التي‬
‫تكون مخالفة للميتافيزيقا وتتيح إمكانية وجود داللة أخرى لإلله‪ .‬وهو األمرالذي‬
‫اضطلعت به فينومنولوجيا املسؤولية األخالقية التي فتحت أفقا آخر للمعنى‪،‬‬
‫والتي استطاعت توظيف املصادر الدينية دون الخضوع التام لها أو السقوط في‬
‫الثيولوجيا الفلسفية واألصولية‪ .‬لقد استثمرليفيناس أفكارا ومفاهيم مفتاحية‬
‫من التراث الديني املعروف تاريخيا من أجل إنقاذ معنى التعالي وهللا‪ ،‬وأية ظاهرة‬
‫دينية مستمدة من المعقول العقائد الدينية‪ .‬ولم يبق التجربة الدينية حبيسة‬
‫اإليمان األخرس العاجز على املستوى العملي أو يسقط في أحضان الثيولوجيا‪.‬‬
‫يرى فيلسوفنا أن فهم الدين رهين بإخراج الظواهر الدينية من دائرة فلسفة‬
‫الدين املنحدرة من فلسفة األنوارومن خطاب موت اإلله الذي يختزلها في املحايثة‬
‫ـ االسم اآلخرملا سمي بموت االله ـ ويؤدي إلى اإليمان األخرس العاجزعلى املستوى‬
‫العملي‪.‬‬
‫لم تتمكن فينومنولوجيا املسؤولية األخالقية إذن من إعادة الدين إلى دائرة‬
‫املعقولية الفلسفية إال بعد إعادة تأويل مفاهيمه انطالقا من العالقة االجتماعية‪.‬‬
‫ذلك أن ليفيناس يؤسس مفهوم الدين على املسؤولية األخالقية إزاء اإلنسان‬
‫اآلخر‪ ،‬ويرفض جعله مجرد سبيل لتحصيل الطمأنينة أو وعد بمجازاة الفعل‬

‫‪317‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫األخالقي في الدنيا واآلخرة‪ .‬كما يرفض مفهوم اإلله املنتقم العادل الناتج عن‬
‫ذهنية املقايضة والذي يجعل سلوك الفرد مشروطا بالرغبة في الجزاء‪ .‬ويدافع‬
‫خال من أي وعد أو ثيودسا مطمئنة‪ ،‬وقادر على تأسيس الفعل‬ ‫باملقابل عن دين ٍ‬
‫األخالقي بعيدا عن منطق الربح والخسارة الذي ال يغادر الذات إال ألجل العودة‬
‫إليها‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يرفض ليفيناس اعتباراألخالق مجرد تطبيق لتقنيات وطرائق كان هللا‬
‫قد شرحها وبسطها عبر كالمه أو على لسان وسطائه‪ ،‬واكتملت في نسق كوني‬
‫جامع من األوامر والنواهي التي تحدد للمرء ما يجدر به فعله‪ ،‬وتتدخل في كل‬
‫حركاه وسكناته‪ .‬والسبب الذي جعله يرفضها هو أنها ترسخ املسؤولية في يقين‬
‫املعرفة وتستلزم العودة إلى التداول والحكم‪ ،‬وكل ما رفضه ليفيناس عندما‬
‫جعل املسؤولية خارج العالم والوعي‪ .‬بمعنى أن هذا التصور التقليدي لألخالق‬
‫يسلبها قدرتها على تأسيس الوجود اإلنساني‪ ،‬في مقابل أخالق املسؤولية التي‬
‫يقول ليفيناس إنها تحتفظ ببعدها الروحي وتبقى منفتحة على الغيرية والالنهائي‪،‬‬
‫ال تخضع ألي نظام مسبق أو تحديد قبلي‪ ،‬بل تنصت لنداء الغير وتأتمر بأمره‪.‬‬
‫وهي أخالقية الذات املتدينة التي اكتشفها فيلسوفنا انطالقا من فينومنولوجيا‬
‫املسؤولية‪.‬‬
‫يصف ليفيناس ميالد التدين داخل املسؤولية‪ ،‬ويؤكد أنه ال يخص دينا بعينه‪،‬‬
‫سواء تعلق األمر بدين الفالسفة أو بالدين التاريخي‪ .‬إذ ال يعتبر أحداث الوحي‬
‫تجارب وخبرات مدونة في أي تراث ديني‪ ،‬وال يهدف إلى تبرير التجارب الدينية أمام‬
‫الفلسفة أواإليمان الصامت الذي يحفل به الكتاب املقدس‪ ،‬ألن الخيارين كليهما‬
‫ال يحظى باملعقولية‪ 1‬في نظره‪ .‬ينطلق وصف إمكان الدين مما سماه ليفيناس‬
‫امليالد املتأخر والخفي للدين في اآلخر‪ ،‬والذي يسبق االنفعاالت والكالم‪ ،‬ويسبق‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬هللا اللذي يتبادرإلى الذهن‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.95 .‬‬

‫‪318‬‬
‫التجارب الدينية التي تتحدث عن الوحي‬
‫بوصفه انكشافا للوجود ‪ .‬ويؤكد أن ليفيناس يؤسس مفهوم الدين‬
‫‪1‬‬

‫الدين املؤسس على نداء اآلخر ال يقود عىل املسؤولية األخالقية إزاء‬
‫إلى التجربة والوعي‪ ،‬بل ينتهي إلى األخالق اإلنسان اآلخر‪ ،‬ويرفض جعهل‬
‫واملسؤولية الناتجين عن سلبية الذات جمرد سبيل لتحصيل الطمأنينة‬
‫أو وعد بمجازاة الفعل األخاليق‬ ‫املأمورة‪.‬‬
‫يف الدنيا واآلخرة‬ ‫بعبارة أخرى‪ ،‬ال يعتبر ليفيناس الوحي‬
‫الديني شرط إمكان فينومنولوجيا‬
‫املسؤولية‪ ،‬ألن االختزال إلى املسؤولية‬
‫هو الذي جعل الفينومنولوجيا قادرة على التعبير عن المعقول مفهوم الوحي‪.‬‬
‫ويؤكد بالنتيجة‪ ،‬أن قوله في الدين ينتمي إلى فلسفة الدين وليست إلى الثيولوجيا‬
‫أو الفلسفة الدينية‪ .‬صحيح أنه تحدث عن املوضوعات والتيمات الدينية‬
‫اليهودية‪ ،‬لكنه لم يخضع حديثه ملنطق العقيدة واألصولية‪ ،‬ألن تحليل املسؤولية‬
‫يسمح بتحديد داللة الدين قبل العودة إلى التجربة أو الوحي الدينيين‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫صارت الظواهر الدينية الخارقة‪ ،‬التي لطاملا عدت ضربا من الالمعنى في إطار‬
‫فينومنولوجيا الوعي‪ ،‬دالة وممكنة‪ ،‬خاصة ظواهر الخلق واالصطفاء والكفارة‬
‫واإللهام وغيرها‪ .‬والسيما بعد تجاوز قول بعض الثيولوجين من خالل القطع مع‬
‫الذات املكتفية بذاتها في تأسيس املسؤولية‪ ،‬وتصحيح تصور ثلة من املؤمنين عبر‬
‫تجنب االستنباط الحرفي للمضمون التوراتي للمسؤولية‪.‬‬
‫يقول ليفيناس إنه يستخدم اللغة الدينية ألجل توضيح التعالي والتبعية‪ ،2‬أي‬
‫املؤسسة فينومنولوجيا‪ .‬ويقصد بذلك‬‫لوصف مقتضيات املسؤولية األخالقية َّ‬
‫أن تحليالته ال تسير من املسؤولية إلى الدين القائم‪ ،‬دين مو�سى والرسل‪ ،‬ألنه ال‬
‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪ 115 .‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬ماوراء اآلية‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.108.‬‬

‫‪319‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫يريد أن يتهم بالدفاع عن اليهودية أو يقول‬
‫من حيث ال يشعرإن دينا معينا قد تضمن يرفض ليفيناس اعتبار األخالق‬
‫جوهر الدين‪ ،‬وهو يرفض ذلك جملة جمرد تطبيق لتقنيات وطرائق‬
‫وتفصيال‪ .‬بمعنى أن تحليل املسؤولية كان اهلل قد رشحها وبسطها عرب‬
‫داخل الخطاب الديني يتم من خارج سلطة كالمه أو عىل لسان وسطائه‪،‬‬
‫املؤسسات والحقائق والتعابير الدينية‪ .‬واكتملت يف نسق كوين جامع‬
‫وهو األمر نفسه الذي قام به في كتاباته من األوامر والنوايه اليت تحدد‬
‫التلمودية التي طعمها بمشروعه الفلسفي للمرء ما يجدر به فعهل‪ ،‬وتتدخل‬
‫يف كل حركاه وسكناته‬ ‫الفينومنولوجي‪ ،‬كما يؤكد مارك فيسلي‪.1‬‬
‫اقتفى أثر املسؤولية في التراث انطالقا من‬
‫يقينه أن القول باملسؤولية أسبق من كل‬
‫حضارة‪ ،‬وأنه ال يعكس أي نوع من الثقافة أو الحضارة‪ ،‬بل يتأسس على مراجعة‬
‫الجانب الخفي من خطاباتهما‪.2‬‬
‫دين املسؤولية األخالقية‬
‫تأثر ليفيناس أيما تأثر بالفكر اليهودي‪ ،‬خاصة االتجاه العقالني منه الذي‬
‫تلقاه من أستاذه الرابي حاييم بن فولزغان‪ .‬وهو األثر الذي دفعه إلى اعتبار‬
‫أستاذه مثاال نقيا ونموذجا للحس اليهودي والتقوى‪ ،‬الذي قطع مع إغراءات‬
‫السياق التاريخي وتشبث بجذوره وأصالته‪ .‬عكس اسبينوزا الذي خان رسالة‬
‫اليهودية وأدخلها في نظام «الكلية» السائد في عصره‪ .3‬قال إن فكر فولزوغان‬
‫‪ -1‬أنظر مقال «‪ »Dieu, autrement‬لصاحبه ‪ Marc Faessler‬ضمن عدد ايمانويل ليفيناس ‪ ،‬دفتر‬
‫لهيرن‪ ،‬ص‪Emmanuel Lévinas. Cahier de l’Herne, N: 60.Editeurs :Catherine Chalier .412 :‬‬
‫‪.& Miguel Abensour. Editions de l’Herne , Paris, 1991‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪ 256 .‬و ‪.262‬‬
‫‪ -3‬ملزيد من التفاصيل حول املوقف من النقد التاريخي للكتاب املقدس يرجى الرجوع إلى مقالة «الحالة‬
‫اسبينوزا»‪ ،‬ضمن ليفيناس‪ ،‬الحرية الصعبة‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.164 .‬‬

‫‪320‬‬
‫يتغذى من العناصر األنقى في التراث ويواكب روح العصر دون أن يتأثر بأحد من‬
‫أعالم الفلسفة الحديثة الذين عاصرهم‪ .‬يؤكد ليفيناس أنه «اعتمد على النص‬
‫املقدس والتلمود في تطويرفلسفته التي لم يتخللها �شيء من فلسفة وعلم العصر‬
‫الحديث»‪ ،1‬وأنه ألهم تالمذته املفهوم اليهودي إلله واإلنسان والعالم املنفتح على‬
‫اإلنسانية جمعاء‪ .‬يعترف فيلسوفنا بمساهمة أستاذه القيمة في إعادة تحديد‬
‫مفهوم الدين واملفاهيم املرتبطة به انطالقا من خلفية مزدوجة‪ :‬املعنى األخالقي‬
‫املعبر عنه في الدين التوحيدي‪ ،‬وخاصة اليهودية‪ ،‬والوصف الفينومنولوجي‬
‫للذات املسؤولة‪.‬‬
‫وقد جاء هذا التحديد مخالفا للفهم املعاصر للدين‪ ،‬سواء الثيولوجي أو‬
‫الفلسفي‪ .‬فبعد موت إله امليتافيزيقيا‪ ،‬أصبح الدين في كل مكان‪ ،‬وسارت العلوم‬
‫اإلنسانية إلى رصد تجلياته في الحياة االجتماعية والخاصة داخل الثقافة املعلمنة‪.‬‬
‫غير أن التأسيس على املسؤولية األخالقية سوف يحمل مالمح تحول معلمن‬
‫مغاير‪ ،‬ال يقوم على نظرة تبسيطية للدين أو يعود إلى تحديدات حسم العصر‬
‫في أمرها‪ .‬بل يتوقف عند بعض إمكانات املعنى املهمة في الدين ويستثمرها في‬
‫تأسيس أخالق املسؤولية‪ .‬انطلق ليفيناس في تعريفه للدين من الذات املسؤولة‪،‬‬
‫ومن رفض مفهوم اإلله املحايث للوجود‪ ،‬يقول‪« :‬أخصص لفظة الدين )للداللة‬
‫على( العالقة بين الوجود هنا واملوجود املتعالي التي ال تنتهي إلى مفهوم أو «كلية»‪،‬‬
‫العالقة )التي تتم( بدون عالقة»‪ .2‬ويعني بذلك أن الدين يختص بالحياة الخلقية‬
‫والعالقات بين البشر‪ ،‬حيث يوجد أثرالتعالي وصفاته‪ ،‬يقول إن «الدين الحق هو‬
‫الذي نفكرفيه انطالقا من إلزام وأمركالم هللا املبثوث في وجه اإلنسان اآلخر»‪.3‬‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬ماوراء االية‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.185 .‬‬


‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬الكلية والالنهائي‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪ 78 .‬ـ ‪.79‬‬
‫‪E. Levinas, De l’oblitération, interview avec Françoise Armengaud, Ed. de la -3‬‬
‫‪.Différence : Paris, 1990. P.26‬‬

‫‪321‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫لم يعد هللا نتيجة لذلك جوهرا أو كيانا مشخصا من شأنه أن يسكن األفهام‬
‫واألماكن املقدسة‪ ،‬أو يتدخل في شؤون الخلق وينوب عنهم في عمارة العالم ودحر‬
‫الشرور ونصرة املظلوم‪ .‬كما كان الحال في زمن الخرافة وعبادة األوثان وتم نفيه‬
‫بالرسالة اإلنسية للتوحيد‪ ،‬التي تجعل األخذ بالرسالة أكثر قداسة من التقليد‬
‫الحرفي‪ .‬ذلك أن فيلسوفنا يؤكد أن التأويل فعل تاريخي لصيق بواقع الناس‬
‫وحياتهم املعاشة‪ ،1‬وينطوي على نوع من اإللحاد الذي يفرض على كل الشخص‬
‫تناول التوراة ودراستها‪ .‬إن التأويل هنا‪ ،‬وليس الطاعة العمياء‪ ،‬هوما عرفه اليهود‬
‫طيلة تاريخهم وحفظوه في التلمود‪ ،‬والدليل على ذلك أنهم ركزوا اهتمامهم على‬
‫الخدمة التي قدمها الرسل واألنبياء للناس بدل تقديس األشخاص وتقليدهم‪.‬‬
‫يقول ليفيناس إن «العودة إلى التراث ليست خضوعا إنما هيرمنوطيقا»‪ .2‬وهواألمر‬
‫ُ‬
‫نفسه الذي تؤكده فينومنولوجيا املسؤولية‪ ،‬فعندما خلقت الذات املسؤولة‬
‫وجدت نفسها يتيمة منذ امليالد‪ ،‬تجهل سر الخلق ومعناه‪ ،‬وحتى إن هي عرفت‬
‫منه بعضا وجدت نفسها مطالبة بالبدء من جديد‪ .‬إذ ال شأن لها بتأكيد وجود‬
‫هللا أو معرفته‪ ،3‬ألن التأكيد يعد إمساكا بالتعالي ونفيا للمسؤولية األخالقية‪،‬‬
‫ومن ثمة تأسيسا للعنف‪.‬‬
‫يرى ليفيناس أن تأويل الدين اليوم ال يمكن أن يناقض مكتسبات العصر‬
‫وروحه من تقنية وعلمانية‪ ،‬ألن مسار التحرر واإلنسية‪ ،‬الذي أنتج التقنية‬
‫والعلم‪ ،‬بدأ مع التوحيد الذي قطع مع عبادة األوثان التي تشل الفكر والعمل‪.4‬‬
‫لقد سبق التوحيد عقالنية العصر الحديث إلى دحر املفهوم الوثني لإلله ودين‬
‫الخرافة واملشاركة‪ .‬يقول في هذا الصدد‪ :‬إن «التقنية كحضارة تنسف آلهة‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬األخالق والالنهائي‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.112 .‬‬


‫‪ -2‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.114 .‬‬
‫‪ -3‬ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪ 156 .‬الهامش‪.‬‬
‫‪ -4‬ليفيناس‪ ،‬الحرية الصعبة‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.27 .‬‬

‫‪322‬‬
‫الوثنية‪ ،‬إذ تعلمنا أن اآللهة جزء من‬
‫العالم‪ ،‬ومن ثمة إنها أشياء‪ ،‬وأن تكون يرى ليفيناس أن تأويل الدين‬
‫اليوم ال يمكن أن يناقض‬ ‫اآللهة أشياء فذلك يعني أنها ال �شيء‪.‬‬
‫بمعنى أن العلمنة التقنية تعد جزءا مكتسبات العرص وروحه من‬
‫من تقدم العقل اإلنساني لكنها ليس تقنية وعلمانية‪ ،‬ألن مسار‬
‫التحرر واإلنسية‪ ،‬الذي أنتج‬ ‫‪1‬‬
‫نهايته‪».‬‬
‫تنسف التقنية إذن املفهوم الخرافي التقنية والعلم‪ ،‬بدأ مع التوحيد‬
‫لإلله‪ُ ،‬وتتمم مشروع النبي إبراهيم الذي قطع مع عبادة األوثان‬
‫اليت تشل الفكر والعمل‬ ‫مؤسس التوحيد‪ ،‬الذي حطم املفهوم‬
‫الوثني لإلله‪ .‬إن إبراهيم لم يحطم‬
‫تماثيل من الخشب والحجارة وحسب‪،‬‬
‫بل حطم مفهوم اإلله الذي يعفي البشر من مسؤوليتهم األخالقية إزاء العالم‬
‫واآلخرين‪ ،‬والذي يقوم على االعتقاد أن هللا موجود في الطبيعة والتاريخ البشري‬
‫ألجل قضاء بعض األغراض اإللهية‪ .‬ذلك أن اعتقادا كهذا يجعلنا مستعدين‬
‫للتنصل من مسؤوليتنا األخالقية والتيقن أن كل ما يحصل في العالم إنما‬
‫يرجع إلى مصدر فوق طبيعي‪ ،‬فيكون بذلك ذريعة دينية للقيام بالفعل وربما‬
‫العنف‪ .‬إن ما نحتاجه اليوم في نظر فيلسوفنا هو اإليمان املطهر من الخرافة‬
‫ّ‬
‫املشرعة التي‬ ‫واألسطورة‪ ،‬سواء األساطير الوثنية أو أسطورة الذات املستقلة‬
‫ِ‬
‫رافقت األنطوثيولوجيا‪.2‬‬
‫يغيب هللا عن كل تحديد يمكن وضعه له‪ ،‬وبشكل يمنع من ادعاء تملكه‬
‫والحديث باسم‪ ،‬فكالمه وأمره يتجاوزان املفهمة والخطاب‪ .‬والرغبة التي ال‬
‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬هللا‪ ،‬املوت والزمن‪ ,‬ص‪.194 .‬‬
‫‪.E. Levinas, Dieu, la mort et le temps. (Le Livre de poche) Grasset : Paris,([1993) 2006‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬الكلية والالنهائي‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.75 .‬‬

‫‪323‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫تدرك موضوعها‪ ،‬الكامنة في العالقة باهلل‬
‫والالنهائي‪ ،‬تتحول إلى دعوة إلى العمل يربز ليفيناس إذن هتافت الكالم‬
‫باسم اهلل وادعاء امتالك‬ ‫والعطاء‪ .‬بمعنى أن اإلقرار بأن أمر هللا‬
‫يتجاوز كل مفهمة‪ ،‬يقت�ضي التخلي عن حقيقة كالمه واالستماتة يف‬
‫ادعاء امتالك حقيقة األلوهية والكالم الدفاع عهنا‪ ،‬وكل ما يحدثه‬
‫باسمها‪ .‬صحيح أن الفعل استجابة ذلك من عنف وتعصب‪ ،‬ويؤكد‬
‫باملقابل عىل رضورة العودة إىل‬
‫لندائه األخالقي الذي يترجم على نمط‬
‫النصوص ودراسهتا يف ضوء‬
‫األمر القطعي الكانطي‪ ،‬وأنه صادر عنه‬
‫واقع الناس‬
‫بطريقة ما أو أنه تحديد ناتج عن حضوره‬
‫في الذهن‪ .‬إال أن تبعية الذات وانكسار‬
‫االستقاللية يجعالن كل فعل نسبيا وناقصا قياسا إلى ما يجب أن يكون‪ ،‬ويمنع‬
‫من ادعاء اليقين بمعرفته‪ .‬وهو األمر الذي يفسر سر تأجيل الجزاء ومعرفة‬
‫حقيقة الفعل في الدين التوحيدي الذي غادرهللا فيه عالم الفانين مؤجال حكمه‬
‫على التاريخ إلى حين‪ .‬رغم أن ليفيناس ال يقيم قوله هذا على مقولة الخلود‪ ،‬فإنه‬
‫ال يلتزم أيضا بدرس الحداثة في التاريخ‪ ،‬الذي ال يتجه في نظره إلى املستقبل وإنما‬
‫يصدر عن ماض غير قابل للتذكر وعن أثر الغياب الذي تخلفه فكرة الالنهائي في‬
‫الذهن‪.‬‬
‫يبرز ليفيناس إذن تهافت الكالم باسم هللا وادعاء امتالك حقيقة كالمه‬
‫واالستماتة في الدفاع عنها‪ ،‬وكل ما يحدثه ذلك من عنف وتعصب‪ ،‬ويؤكد‬
‫باملقابل على ضرورة العودة إلى النصوص ودراستها في ضوء واقع الناس‪ ،‬ألن‬
‫النص بالنسبة له كائن تاريخي لصيق بهموم الناس وحاجاتهم‪ ،‬والتلمود عبارة‬
‫عن خليط من آراء الدارسين الذين يعد جواب الواحد منهم سؤاال بالنسبة‬
‫لآلخر‪ .‬يفتحنا هذا الفهم على نظرية جديدة في تفسير النصوص الدينية‪ ،‬تكون‬

‫‪324‬‬
‫قادرة على ضمان االختالف والتجديد وعدم تثبيت الحقيقة في زمن بعينه أو على‬
‫لسان شخص محدد‪ ،‬أو جعلها أكثر قيمة من اإلنسان‪ .‬فكالم املجتهد‪ ،‬مهما بلغ‬
‫هذا املجتهد من العلم واملعرفة‪ ،‬يبقى قاصرا وعاجزا عن احتواء معنى ألوهية‬
‫والتعالي‪ .‬يقول ليفيناس إن هللا ال يحضرفي نص أوقول ال يهلم الناس سبل الفعل‬
‫أو ينضاف نيرا آخر على رقابهم‪ ،‬ما دامت الفلسفة الناتجة عن الحوار مع التراث‬
‫الفلسفي والديني «حكمة محبة في خدمة املحبة»‪.1‬‬
‫إن هللا اسم آخر ملا يجمعني بالغير من االلتزامات التي تتجلى حصرا في الفعل‬
‫األخالقي والعالقة االجتماعية‪ ،‬ألن املوقف من العنف والشر إزاء الذات والغير‬
‫حاسم في فهمنا هلل؛ قد يستغل البعض التبرير العقالني هلل من أجل تسويغ‬
‫تملصهم من املسؤولية إزاء اآلخرين‪ ،‬أو يعمل البعض اآلخر على تطبيق صفات‬
‫هللا حرفيا وإقحامه في شؤون البشر أمال في تبرير معاناتهم ويعيشون مستلبين‬
‫في عالم غريب عنهم‪ ،‬وكالهما عنف إزاء اآلخر وهللا‪ .‬يتحدث ليفيناس عن وجه‬
‫اآلخربصفته داللة «إلى ـ هللا» ‪ ،à-Dieu2‬أو ما يمكن ترجمتها بـ ـ «أستودعك هللا»‪،‬‬
‫والتي تختلف جذريا عن ظهور هللا للوعي‪ ،‬ألن هللا مفارق للعالم وألن الوجه اآلمر‬
‫باملسؤولية ال يسمح بكشف هللا للوعي أو بترجمته في معرفة أو مفهوم‪.‬‬
‫يقول ليفيناس إن افتراق هللا عن العالم هو عين قداسته التي تجعله موضوع‬
‫رغبة غير قابلة لإلشباع‪ .‬والقداسة هنا مفهوم استعاره فيلسوفنا من اليهودية‬
‫وطوره في سياق محاولته للخروج من األنطولوجيا‪ .‬ويفيد أن هللا مفارق للعالم‬
‫الذي تجعله األنطولوجيا أفقا جامع للمعنى‪ ،‬وأنه مفارق لألنا أيضا التي تندرج‬
‫هي األخرى في العالم وتتغذى منه‪ .‬وما دام هللا قداسة فهو ينسحب من العالقة‬
‫التي يظهر فيها تاركا أثره الذي يحدث اإلحساس الالنهائي به ويحث على الفعل‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.253 .‬‬


‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬هللا الذي يتبادرإلى الذهن‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.253 .‬‬

‫‪325‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫األخالقي‪ .‬يرفض ليفيناس استخدام مفهوم املقدس في وصفه هلل‪ ،‬ألنه يعتبر‬
‫القول باملقدس خيانة للقداسة وصورة مناقضة ملعنى األلوهية‪ .1‬إن القول‬
‫باملقدس يجعل هللا حاضرا في الطبيعة وينتج الوثنية‪ ،‬فالشعوذة والعرافة‪ ،‬بما‬
‫هما عالقة باملقدس‪ ،‬توظفان اإلحساس والصور في جعل العالقة باهلل نوعا‬
‫رديئا من املعرفة‪ .‬إن الغاية من التشديد على صفة القديس‪ ،‬عوض املقدس‪ ،‬هي‬
‫التأكيد على أن هللا يغيب عن كل عالقة حقيقية به‪ ،‬وأن استحالة معرفته تفتح‬
‫املجال للفعل واملسؤولية‪.‬‬
‫يتبنى ليفيناس بذلك روح اإللحاد السائدة في عصره‪ ،‬إذ يقول إن «فكرة‬
‫الالنهائي‪ ،‬أوالعالقة امليتافيزيقية تمثل فجرا لإلنسانية الخالية من األساطير‪ .‬لكن‬
‫اإليمان املطهرمن األساطير‪ ،‬أي اإليمان التوحيدي‪ ،‬يفترض اإللحاد امليتافيزيقي‬
‫نفسه )‪ (...‬إن اإللحاد يشرط العالقة الحقة باإلله الحقيقي»‪ .2‬لكنه يعيد تعريف‬
‫اإللحاد انطالقا من تعريف مغاير للذات املتدينة‪ ،‬ويقول إن إلحاد الذات ناتج‬
‫عن دين املسؤولية وعن شرط املخلوق القادرعلى الفعل وتقريراملصيرباستلهام‬
‫التعالي وهللا‪ .‬بمعنى أنه ال يقصد أن الذات تكفر بعقيدة أو تنفي وجود هللا‪ ،‬ألن‬
‫إلحاد الذات ينتج عن جاهلها بأصلها وعجزها عن تشكيل صورة خالقها أو‬
‫ترجمته إلى فكركلي‪ .‬إن ما تكفربه الذات هنا هو ادعاء اكتمال الحقيقة اإللهية‬
‫والقدرة على نقلها كاملة إلى أفهام الفانين وأقوالهم‪.‬‬
‫تبقى الذات متأخرة دائما في إجابة نداء اآلخر‪ ،‬أي أنها ال تبادر بالفعل إال بعد‬
‫فوات األوان‪ ،‬وتأخرها هذا يجعلها في عالقة بما ال يمكن التقاؤه أو بلوغ نهايته‪.‬‬
‫إن حضور الالنهائي في الذهن يتجلى من خالل االستمرار األبدي في طلب إجابة‬
‫نداء الوجه باملسؤولية‪ ،‬وهواملطلب الذي يصفه ليفيناس ب ــ«مجد اإلله»‪ ،‬ويقول‬
‫‪ -1‬ملزيد من التفاصيل حول هذا التمييز املفهومي أنظر‪ :‬ليفيناس‪ ،‬من املقدس إلى القديس‪.‬‬
‫‪E. Levinas, Du sacré au saint. Cinq nouvelles lectures talmudiques. Minuit : Paris, 1977‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬الكلية والالنهائي‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.75 .‬‬

‫‪326‬‬
‫«إن املجد رغبة طويلة املدى»‪ .1‬والقصد‬
‫فكرة الالهنايئ‪ ،‬أو العالقة‬ ‫من االستمرار هنا هو نكران كل مبررات‬
‫امليتافزييقية تمثل فجرا‬ ‫الفعل التي تنطلق من تحديد نهائي ومن‬
‫لإلنسانية الخالية من‬ ‫هوية منغلقة تضع املختلف في منزلة‬
‫العدو أو الال�شيء؛ قد تقوم على النسب األساطري‪ .‬لكن اإليمان املطهر‬
‫من األساطري‪ ،‬أي اإليمان‬ ‫أو االنتماء أو الدم‪ .‬وعليه‪ ،‬فاإللحاد ال‬
‫يعني رفض وجود هللا أو نكرانه‪ ،‬إنما التوحيدي‪ ،‬يفرتض اإللحاد‬
‫امليتافزيييق نفسه )‪ (...‬إن‬ ‫رفض حصره حضوره وفعله في مجال‬
‫محدد وجعل رحمته تتجلى في العمل على اإللحاد يرشط العالقة احلقة‬
‫باإلله احلقييق‬ ‫نجدة فئة مختارة من الناس‪ .‬إنه نفي‬
‫الحتكار الحديث باسم هللا أو خصخصة‬
‫نعمه كما هو الحال في بعض األفهام‪.‬‬
‫ال يؤسس ليفيناس مفهوم اإللحاد إذن على مفهوم السلبية الفلسفي‬
‫وحسب‪ ،‬إنما يستنبطه أيضا من املفهوم الديني للخلق ويعيد تعريفه في نفس‬
‫الحركة‪ .‬فالذات املخلوقة مدعوة إلى الوجود قبل أن توجد‪ ،‬ألنها ناتجة عن ميالد‬
‫خفي في السلبية التي تسبق استقرار الذات نفسها‪ .‬يقول ليفيناس إن معجزة‬
‫الخلق ال تتأسس على وعي عارف أو أنطولوجيا‪ ،2‬ويقصد بهما صورة العالم التي‬
‫تؤسسها الذات لنفسها وتمنحها طابع الكونية‪ ،‬بل تنتج عن الذات املسؤولة‬
‫التي لم تحضر أبدا لحظة الخلق‪ ،‬وعن السلبية املطلقة التي يتعذر تحولها إلى‬
‫مؤسس‪ ،‬وتمنع املخلوق من ادعاء السيادة على العالم أو امتالك حقيقته‪.‬‬ ‫فعل ّ‬
‫ِ‬
‫يقلب مفهوم الخلق‪ ،‬الناتج عن أخالق املسؤولية‪ ،‬سؤال املتافيزيقا القائل‪« :‬ملاذا‬
‫كان هناك وجود وليس ثمة عدم؟‪ ،‬بل يضع إمكانية السؤال نفسها موضع شك‪،‬‬
‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬هللا الذي يتبادرإلى الذهن‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.120 .‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.174 .‬‬

‫‪327‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ويهدم أسطورة األصل وادعاء تحديد‬
‫أصل العالم ‪ .‬إذا نظرنا إلى الخلق من ال يؤسس ليفيناس مفهوم‬
‫‪1‬‬

‫زاوية فينومنولوجيا الوعي وجدنا ضربا اإللحاد عىل مفهوم السلبية‬


‫الفلسيف وحسب‪ ،‬إنما‬ ‫من الالمعنى أو املبالغة في الفكر‪ ،‬وأن‬
‫غير ممكن أصال من الناحية النظرية ألن يستنبطه أيضا من املفهوم‬
‫الديين للخلق ويعيد‬ ‫الوعي أصل لنفسه وأصل لكل ما يوجد‬
‫تعريفه يف نفس احلركة‪.‬‬ ‫فيه من أشياء‪ ،‬بما في ذلك سلبية االنفعال‬
‫التي تبقى قابلة للتحول إلى فعل تأسيس‬
‫للموجودات‪ .‬بينما تبقى داللة الخلق في‬
‫فينومنولوجيا املسؤولية ممكنة‪ ،‬طاملا أنها تدخل في تكوين الذات التي اكتشفت‬
‫سلبيتها في االختزال إلى املسؤولية‪.‬‬
‫ربطت امليتافيزيقا مفهوم الخلق بمفهوم اإلله الناتج عن مبدأ العلية‪ .‬وقالت‬
‫إن الخلق عطاء للوجود‪ ،‬ألن فعل هللا يمثل العلة النهائية التي تحدث وتخلق‬
‫كل �شيء‪ .‬غير أن التأسيس على العلية يؤكد تزامن العلة واملعلول‪ ،‬ويجعل هللا‬
‫محايثا للعالم الذي ينتجه ويدعمه‪ ،‬وهو األمر الذي فقد صالحيته مع نهاية‬
‫املتافيزيقا وتشكيك العدمية في مشروعية التأسيس‪ .‬لذلك يستفيد مفهوم‬
‫الخلق عند ليفيناس من نقد كل من هيدغر ونيتشه للميتافيزيقا‪ ،‬وينطلق من‬
‫الذات املسؤولة من أجل وصف التعالي بمعزل عن منطق امليتافيزيقا‪ .‬بمعنى أن‬
‫ّ‬
‫اعتبار الخلق داللة قديمة ناتجة عن وصف املسؤولية‪ ،‬يخلصه من أثار العلية‬
‫وتزامنها ومحايثتها‪ ،‬ويرجعه إلى تعاقب الذات املدعوة إلى الخروج من العدم قبل‬
‫أن تحضرأو تفهم نداء الالنهائي‪.‬‬
‫كما أن ربط مفهوم الخلق الديني باملسؤولية األخالقية والسلبية يعد إنقاذا‬

‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.273 .‬‬

‫‪328‬‬
‫له من العدمية والعنف‪ .‬ذلك أن التحليل ينطلق من سياق فلسفي محض‬
‫ومن موقف شكي بعيد عن كل منزع عقدي أو أصولي‪ .‬صحيح أن فينومنولوجيا‬
‫ليفيناس وريثة التقليد الديني وتستخدم قصصه ولغته‪ ،‬غيرأنها تتجنب التأويل‬
‫األصولي والثيولوجي ملفاهيمه كما أسلفنا‪ .‬إن مفهوم الخلق يحمل داللة أقدم من‬
‫مطابقة الوعي ملوضوعه املؤسس للفعل واملسؤولية في التصور التقليدي‪ ،‬بمعنى‬
‫أن سر الخلق‪ ،‬الذي تجاهله التأويل التقليدي‪ ،‬وتناسته املعقولية املتافيزيقية‬
‫التي قادت إلى الفهم الثيولوجي‪ ،‬قد ظهرمع فينومنولوجيا املسؤولية التي حطمت‬
‫أسطورة األصل‪.‬‬
‫يرى ليفيناس أن اتخاذ مسافة نقدية إزاء التأويل التقليدي ملفهوم الخلق‪،‬‬
‫يسمح بإنقاذ الدين من التبخيس الذي لحقه فيما سمي بعصر ما بعد الحداثة‪،‬‬
‫وتؤكده العودة الدموية للدين‪ .‬فهوال ينزع عن النص الديني سلطته وضرورته‪ ،‬بل‬
‫يعيد النظرفي تأويالته من أجل فسح مجال أرحب لالجتهاد والتجديد‪ ،‬ألن الخارج‬
‫عن الجماعة في نظره يبقى جزءا منها مهما بلغت درجة اختالفه عن املسموح به‬
‫من قبل السلطات السائدة‪ .‬إن املختلف هو العضو املسؤول في الجماعة الذي‬
‫اختار حمل األمانة وجدد فهمه الدين وفقا ملتطلبات العصر وحاجات الناس‪،‬‬
‫فكان بذلك خيرمن أحيا رسالة األنبياء‪.‬‬
‫ولعل املثال الذي يتجلى فيه خروج قراءة ليفيناس‪ ،‬ملفهوم الخلق في التراث‬
‫اليهودي املسيحي‪ ،‬عن جماعة املؤولين قصة النبي أيوب الكتابية‪ .‬يعتبر التأويل‬
‫الثيولوجي للقصة أن النص ُو ِجد لتبرير معاناة اإلنسان من األلم والشر وإثبات‬
‫خيرية التدبير اإللهي وحكمته‪ .‬بمعنى أن التناقض الذي يكتنف سؤال‪ :‬ملاذا‬
‫يعاني إنسان بريء؟ يجعل اإليمان باهلل قبول لتدبيره‪ .‬رغم أنه يجهل سبب‬
‫األلم وحكمته‪ ،‬فإنه مطالب بالتسليم بعدل هللا ورحمته‪ .‬بينما يعتبر ليفيناس‬
‫النص حجة ضد الفالسفة امليتافيزقين واملثاليين الذين تجاهلوا معنى الخلق‪ ،‬إذ‬

‫‪329‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫يقول‪« :‬أفكرباسم حرية األنا‪ ،‬كما لو أنني شاهدت خلق العالم‪ ،‬وعلي أن أتحمل‬
‫مسؤولية العالم الذي نتج عن إرادتي الطبيعية‪ .‬تلكم فرضيات الفالسفة‪،‬‬
‫وفرضيات املثاليين‪ ،‬أو املراوغات غير املسؤولة منهم‪ .‬وهذا ما آخذ الكتاب أيوب‬
‫بشأنه»‪ .1‬إن املؤاخذة املقصودة ههنا هي املعبر عنها في سفر أيوب ‪ 4:38‬بالسؤال‬
‫التالي‪« :‬أين كنت حين أسست األرض؟»‪ ،‬والتي يفسرها ليفيناس باستحضار‬
‫تأويالت التلموديين لشرط املخلوق‪ .‬ويؤكد أن املسؤولية التي بحث عنها أيوب‬
‫في ماضيه املشرف ال يمكن اكتشافها‪ .‬عندما سأله هللا «أين كنت حين خلقت‬
‫ّ‬
‫العالم»؟ كان يذكره بمسؤوليته األخالقية إزاء العالم‪ .‬قال هللا أليوب‪« :‬رغم أنك‬
‫حر فأنت لست املوجود املطلق‪ ،‬لقد أتيت بعد عدد من األشياء والناس‪ ،‬وأنت‬
‫مسؤول عن الكل‪ .‬إن حريتك هي أيضا أخوة‪ .2‬بمعنى أن أيوب أوخذ بسبب نسيان‬
‫الداللة األخالقية للخلق التي تعني تأخره عن العالم الذي هومسؤول عنه‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫فالتناقض املشارإليه أعاله ناتج عن االعتقاد باالستقاللية واألسبقية ال غير‪ .‬وهي‬
‫املؤاخذة نفسها التي يدفع بها ليفيناس ضد الفلسفات املتافيزيقية واملثالية التي‬
‫جعلت جذرها في الحرية والوعي املؤسس لذاته وللعالم‪ ،‬وجعلت مسؤولية املرء‬
‫ال تتعدى ما خلقه‪ ،‬متجاهلة التأخرالكامن خلف الخلق الذاتي‪.‬‬
‫َ‬
‫يقول التأويل الشائع للنص التوراتي إن أيوب إنسان بريء يعاقب دون‬
‫أن يكون قد اقترف ما يستحق عليه كل تلك املعاناة‪ ،‬وإنها ظلم وفضيحة في‬
‫النص يقودان إلى إيمان أعمى بعدالة اإلله الذي تكلم انطالقا من مكان سري‬
‫ومجهول‪ .‬ويؤكد أن معاناة أيوب‪ ،‬رغم أنها غير عادلة في تقدير الفانين‪ ،‬تدعو إلى‬
‫اإليمان بأن هللا عادل ويعلم ما ال نعلم‪ ،‬وأنها بالء واختبار إليمان أيوب‪ .‬والحال‬
‫أن هذا التأويل يقول نصف الحكاية فقط‪ ،‬يؤكد ليفيناس في معرض تحليله‬
‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.194 .‬‬
‫ليفيناس‪ ،‬أربع قراءات تلمودية‪ ،‬ص‪E. Levinas. Quatre lectures talmudiques. Minuit: .182 .‬‬
‫‪-2‬‬
‫‪.Paris, 2005‬‬

‫‪330‬‬
‫الفينومنولوجي لقصة أيوب وملعاناته‬
‫املجانية وغير املبررة‪ .‬إن قدر أيوب يقول التأويل الشائع للنص‬
‫يحظ بالتبرير العقلي املقنع‪ ،‬التورايت إن أيوب إنسان بريء‬ ‫الذي لم ْ‬
‫يعاقب دون أن يكون قد اقرتف‬ ‫َ‬ ‫أو املتعذر فهمه انطالقا من عدالة هللا‬
‫ما يستحق عليه كل تكل‬ ‫الغائبة عن أفهام الفانين دون الوقوع في‬
‫التناقض‪ ،‬يمكن أن يفهم أخيرا انطالقا املعاناة‪ ،‬وإهنا ظلم وفضيحة يف‬
‫من املسؤولية األخالقية والذاتية الحقة‪ .‬النص يقودان إىل إيمان أعىم‬
‫إذ يمكننا‪ ،‬في العالم املنظور‪ ،‬أن نفهم بعدالة اإلله الذي تكلم انطالقا‬
‫من مكان رسي وجمهول‬
‫سبب أخطائنا ونتقبل املعاناة طواعية‪،‬‬
‫غير أن أيوب ال يمكنه تذكر أخطاءه ألن‬
‫الذاتية الحقة تأتي بعد العالم الذي لم‬
‫يكن وليد مشروعها وال يتم عبرالشروع أصال‪ .‬والتأخرهنا ليس فاقدا للمعنى ألن‬
‫الحد الذي وضعه ليفيناس لحرية الذات ال يختزل فيما هوسلبي خالص‪ .‬إذ يقول‬
‫في‪« :‬أن تكون مسؤوال قبل ووراء الحرية ال يعني‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬أنك تظل نتاجا خالصا‬
‫للعالم»‪ ،1‬إي لصورة العالم التي نكونها ألنفسنا وملا نعتقد أنه العالم املمكن‬
‫الواجب الوجود‪ .‬إن املعنى األخالقي لقصة أيوب ينطلق من املسؤولية عما لم‬
‫تنويه أو تفعله أو تقترفه الذات‪ ،‬ألنه لم يكن مجرد إنسان بريء بل كان مخلوقا‬
‫جاء متأخرا إلى العالم ويتحمل مسؤوليته‪ ،‬وتلك خطيئته ومرد إدانته الذي لم‬
‫يتمكن من اإلقرار به‪ .‬بمعنى أن املسؤولية ال تتوقف عند حدود ما اخترناه من‬
‫مشارع وأفعال‪ ،‬بل تمتد إلى العالم املوجود قبلنا‪ ،‬وأن فعلنا ليس نهاية الحكاية أو‬
‫خالصة الحق عبرإحقاقه‪ ،‬ألن الفهم يبقى جزئيا والفعل محض تقرب ومحاولة‪.‬‬
‫وقد استثمر ليفيناس حقيقة نقصان الفهم وحيرته في إعادة تحديد مفهومي‬

‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.194 .‬‬

‫‪331‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫النبوة والشهادة انطالقا من املسؤولية‬
‫استثمر ليفيناس حقيقة‬ ‫األخالقية‪ .1‬وقال إن الذات املسؤولة‬
‫َّ‬
‫نبية‪ ،‬ليس ألنها تلقت رسالة من هللا أو نقصان الفهم وحريته يف إعادة‬
‫تحدثت باسمه فبسطت علمه وفضله إلى تحديد مفهويم النبوة والهشادة‬
‫الجماعة‪ ،‬وجعلت النطق بكلمة «هكذا انطالقا من املسؤولية األخالقية‬
‫قال الرب» من الرسول نفسه وسيطا‬
‫يصل بما يقول ومن كالمه كالما هلل‪ .‬يقول‬
‫فيلسوفنا إن «الكلمة التي يظهر هللا من خاللها ليست تعريفا له أو إحاطة به أو‬
‫كالما له على نمط املفهمة واملوضعة ملا أختبره املرء منه‪ .‬إن الشهادة التي تجسد‬
‫الالنهائي ليست خبرا أو عبارة أو عرضا من أعراض تجربة املجد والالنهائي»‪ .2‬إنما‬
‫هي داللة مبثوثة داخل الكالم دون وعي من قائله‪ ،‬ونبوة قابلة للترجمة فاعلية‬
‫الذات إزاء اآلخرين والعالم‪ .‬والنبي الحقيقي هو الذي يسمع القول ويبلغه من‬
‫خالل القيام بفعل ما‪ ،‬لكن فعله هذا يبقى غيرقادرعلى االمساك كليا بما يسمع‬
‫وال بمصدره‪.‬‬
‫إن الشهادة في نظر فيلسوفنا ليست مشروعا أو مخططا للعالم صنعه هللا‪،‬‬
‫وال هي دليل على وجوده‪ ،‬ألن ذلك يجعل هللا عالمة يمكن تملكها وصياغتها في‬
‫مفهوم‪ ،‬وفعل قصدي يطابق ما يدل عليه‪ .‬وألن «هللا يتجلى من خالل الوجه الذي‬
‫ليس عالمة أو ظهورا لواقع ما‪ ،‬بل هو �شيء غيرمرئي»‪ .3‬إن كل محاولة الستنباط‬
‫الدليل على وجود هللا من املسؤولية لتعد خيانة للوجه ونسيانا لالنهائي الذي‬
‫ترك أثره فيه‪ .‬ألن الشهادة ال تفسركمعرفة باملنادي عبرالوجه‪ ،‬بل تعني أن هللا ال‬
‫يحمل محمل املوجودات وال يدخل في انفتاح املوجود مخافة نسيان التعالي الذي‬
‫‪ -1‬أنظر ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬الصفحة ‪ 233‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -2‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.229 .‬‬
‫‪ -3‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.149 .‬‬

‫‪332‬‬
‫جعله فعاال في العالم‪ ،‬إن هللا ال يتدخل في الوجود‪ .1‬بعبارة أخرى‪ ،‬أن هللا ال يدعو‬
‫املرء إلى الوجود اإلالهي‪ ،‬بل إلى الخيروالعالقة الخلقية بالناس‪.‬‬
‫تتجلى خيرية هللا إذن من خالل انسحابه من الوجود وتوجيه االهتمام إلى‬
‫اآلخرين‪ ،‬وفقط في سبيل الخير‪ .2‬إنها ال تتمثل في وجوده أو في �شيء قد يظهر منه‬
‫للوعي‪ ،‬أي ال تقود إلى إله أفالطون الذي يسمح بمعرفته وتمثله‪ ،‬بل هي أقرب‬
‫إلى الخير في اليهودية واملسيحية‪ ،‬والدين التوحيدي عموما‪ ،‬حيث اإليثار ونكران‬
‫الذات والرغبة املتوجهة إلى اآلخر‪ .‬إنها الخيرالذي يلهم الذات املسؤولة ويخترقها‬
‫أثناء خضوعها للخيرالخفي‪.3‬‬
‫ينطوي مفهوما النبوة والشهادة على مفهوم مغايرلإلنسانية‪ .‬إنه املعنى الروحي‬
‫العميق الذي يجعل من اإلنسان جوانية مثقلة باملسؤولية إزاء العالم واآلخرين‪.‬‬
‫يحمل اإلنسان‬ ‫ّ‬
‫وقد وضحه ليفيناس من خالل املفهوم الديني للنفس الذي ِ‬
‫أمانة العالم ويجعله راعيا له دون أن يكون أصال له أو سابقا عليه أو وليد األنا‬
‫املفكرة‪ .4‬ففي تأويله ألية نفخ الروح التوراتية‪ ،5‬يقول فيلسوفنا إن نسمة الحياة‬
‫ال تعني أن هللا بث الروح في اإلنسان‪ ،‬بل تقول إنه صارنفسا حية من بين عدد ال‬
‫يح�صى من العوالم املمكنة‪ ،‬وأن حركاته وسكناته تعود إلى النفس فتجعل منه‬
‫ونف َسه الحية‪ .‬بمعنى أن اإلنسان يتحدد كمهمة وفاعلية قبل‬ ‫قوة العالم املمكن ْ‬
‫أن يكون ماهية أو كيانا خاصا وجاهزا‪ .‬وبما أنه نفس حية تحرك العالم‪ ،‬فإن‬
‫مصيرالعالم يتوقف على قراره‪ ،‬وعليه أن يضطلع بمسؤوليته‪ .‬يمكن تأويل كلمة‬
‫«نفسا حية» أنطولوجيا فتصبح مرادفة للوجود‪ ،‬لكنها وردت في النص كاسم تم‬
‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.151 .‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬هللا الذي يتبادرالى الذهن‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.114 .‬‬
‫‪ -3‬ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.187 .‬‬
‫‪ - 4‬ليفيناس‪ ،‬ما وراء األية‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.196 .‬‬
‫‪ -5‬يتعلق األمر باألية ‪ 2:7‬من سفر التكوين‪ :‬التي تقول‪« :‬وجبل الرب آدم ترابا من األرض ونفخ في أنفه‬
‫نسمة حياة‪ ،‬فصارآدم نفسا حية»‪.‬‬

‫‪333‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫تعديله بالنعت الذي يليه‪ ،‬فصارت النفس نتيجة لذلك حياة وعيشا في العالم‪،‬‬
‫وجعلت من اإلنسان نفسا للعالم منظورا إليه من زاوية الحياة الفعلية‪ .‬بمعنى‬
‫أن اإلنسان مؤتمن على العالم‪ ،‬يحركه ويقرر مصيره‪ ،‬وهذا هو معنى الذاتية‬
‫املسؤولة‪.‬‬
‫يرى ليفيناس أن حمل اإلنسان لألمانة يجعله خليفة هلل في األرض ويعطى‬
‫معنى جديدا لالستخالف في األرض‪ .‬يمثل اإلنسان نفس العالم الحية التي تحدد‬
‫مصيره‪ ،‬ألن هللا خلقه على صورته ومنحه القدرة على الفعل األخالقي‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫فالسيادة الربانية انتقلت إلى اإلنسان وجعلت منه خليفة يتحمل ثقل العالم‬
‫ويضطلع بمسؤولية تخليصه من الظلم‪ .‬لذلك تكون سيادة اإلنسان على العالم‬
‫فعلية وفعالة‪ ،‬بمعنى أنها ليست قدرة عشوائية ومطلقة تما َرس بمعزل عن‬
‫أثر هللا فيها‪ ،‬إنما قدرة خاضعة دوما لألوامر والوصايا التي يحدد االنصياع لها‬
‫مصير الوجود‪ ،‬فتنفيذ أوامر هللا هي مكابدة للعالم و»خشيته خشية من أجل‬
‫اآلخرين»‪ .1‬إن طاعة اإلنسان أو عصيانه يحددان وجه العدالة في العالم‪ ،‬ال يقر‬
‫اإلنسان بطاعته وجود هللا وال يؤثر عصيانه فيه‪ ،‬بل يخرب العالم وحسب‪ .‬كل‬
‫�شيء بيد هللا إال خشية هللا‪ ،‬يؤكد ليفيناس‪.‬‬
‫كما سمح مفهوم االستخالف بتدقيق مفهومي االصطفاء والتكليف‪ ،‬ومن ثم‬
‫مقولة شعب هللا املختارالتي حملت من املعاني ما يخالف حقيقتها الدينية‪ .‬يقول‬
‫ليفيناس إن «تعاليم الكتاب املقدس ليست تقريظا لشعب نموذج»‪ .2‬إن التكليف‬
‫يعني‪ ،‬أوال وقبل كل �شيء‪ ،‬أن الذات قد منحت هوية متفردة جذريا تجعل منها‬
‫ذاتا مختارة ومصطفاة‪ .‬وهذه الهوية تسبق مطابقة الوعي لذاته وتجبر األنا على‬
‫تلبية نداء اآلخر‪ .‬يقول ليفيناس إن االصطفاء هو الذي «يخلصني من املفهوم‬
‫َ ُّ‬
‫الذي ألجأ إليه عادة من أجل ت َمثل ثقل اإللزام الذي يدعوني إلى الجواب غير‬
‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.195 .‬‬
‫‪ -2‬ليفيناس‪ ،‬الحرية الصعبة‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.208 .‬‬

‫‪334‬‬
‫القابل لوصف بالكلي‪ ،‬إلى الجواب غير‬
‫املتوقع من مختار» ‪ .‬بمعنى أن املطالبة يرى ليفيناس أن محل اإلنسان‬
‫‪1‬‬

‫بالجواب الكامنة في االصطفاء توجه إلى لألمانة يجعهل خليفة هلل يف‬
‫كل فرد شخصيا وبشكل منفرد‪ ،‬وليس األرض ويعطى معىن جديدا‬
‫إلى السيد كل الناس الهيدغيري‪ .‬فيشعر لالستخالف يف األرض‪ .‬يمثل‬
‫املصطفى كما لو أن نداء الالنهائي اإلنسان نفس العالم احلية اليت‬
‫موجه إليه وحده وأنه املوجود الوحيد تحدد مصريه‪ ،‬ألن اهلل خلقه‬
‫املعني به في العالم‪ .‬إن االصطفاء هنا ال عىل صورته ومنحه القدرة‬
‫عىل الفعل األخاليق‬ ‫يحمل وعدا بالخالص الفردي أو يشرح‬
‫املصير بعد املوت‪ ،‬وال يبرر مطالبة أمة‬
‫ببقعة من أرض هذا العالم‪ ,‬بل يدل على‬
‫أن الذات متفردة في تكليفها باملسؤولية‪ .‬ذلك أن الذات مصطفاة للمسؤولية‬
‫ومكلفة بها قبل أن تكون حرة في اختيار االضطالع بها‪ ،‬مكلفة إزاء نفسها والعالم‬
‫بغض النظر عما إذا كانت تستحق هذا االصطفاء أو مدى قدرتها على تحمل‬
‫مسؤوليته‪ .‬إن جواب املسؤولية غيرمقرون باملقدرة واالستطاعة‪ ،‬وال يحق ألحد‬
‫أن يتذرع بعجزه وقلة الحيلة‪ ،‬ألن الذات رهينة نداء اآلخر‪ ،‬يؤكد ليفيناس‪ .‬تجعل‬
‫املسؤولية من الذات رهينة لالنهائي‪ ،‬الذي لم تختبره أو تفهمه بل تشهد بمجده‬
‫‪2‬‬
‫وعظمته وحسب‪ .‬وتجعلها تعويضا لآلخرين‪ ،‬ووحيا وتجليا يحمل أثر ومجد هللا‬
‫الذي ينقل التدين إلى مستوى الفعل الخلقي ويحصره فيه‪.‬‬
‫يضع مفهوم االصطفاء إذن معيارا للفعل اإلنساني الناتج عن املسؤولية‪ .‬فما‬
‫دامت الذات مخلوقة بفعل النداء ولم تكن قبله شيئا‪ ،‬وكانت املسؤولية أمرا‬
‫أخالقيا صادرا عن وجه اآلخر وسابق على األنا التي تتلقاه‪ ،‬فإن الجواب املمكن‬
‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.195 .‬‬
‫‪ -2‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.177 .‬‬

‫‪335‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫هو الذي نطق بها األنبياء وجسدوه في‬
‫أفعالهم‪ .‬ويقصد به جواب مو�سى لنداء يؤكد ليفيناس أن إجابة النداء‬
‫ربه في الجبل‪ ،‬عندما نطق بـكلمة «هأنذا» تمثل عالقة باملعىن السابق‬
‫التي تحمل معنى سلبية التلقي وضرورة عىل اخلطاب‪ ،‬وعالقة بدون‬
‫الفعل‪ ،‬ألن مو�سى تجنب ضمير الفاعل حوار قد يجمع طرفني يف حلظة‬
‫واحدة‪ .‬بمعىن أهنا عالقة‬ ‫واستخدم صيغة املفعول املتلقي‪ .‬يقول‬
‫ليفيناس إن هناك تكليف بهوية ألجل متجهة إىل اآلخر وعطاء مطلق‬
‫جواب املسؤولية؛ عندما ال يجد املرء من ورعاية موصولة‪ ،‬بل عالمة‬
‫يعوضه دون أن يكون قد اقترف الخطيئة‪ ،‬عىل استحالة أن يعوضنا أحد‬
‫يف تحمل املسؤولية‬ ‫فإن الجواب الوحيد املمكن هو «هأنذا»‪،‬‬
‫الذي يجعل ضميراملتكلم مفعوال ال فاعال‪،‬‬
‫ويجسد الطاعة التي يقدم فيها املرء نفسه‬
‫فداء لآلخرين‪ .‬إن «كلمة األنا تعني «هأنذا» التي تجيب أي �شيء وأي واحد»‪،1‬‬
‫وبجوابه تتحدد هوية الذاتية املسؤولة‪ .‬وهو املعنى الذي يعبر عنه ليفيناس‬
‫بتوظيف حكمة األديب الرو�سي فيودور دوستويفسكي الشهيرة الواردة في رواية‬
‫اإلخوة كرامازوف‪ ،‬والقائلة إننا «كلنا متهمون بكل �شيء وأمام الجميع‪ ،‬وأنا أكثر‬
‫من الجميع»‪.‬‬
‫يؤكد ليفيناس أن إجابة النداء تمثل عالقة باملعنى السابق على الخطاب‪،‬‬
‫وعالقة بدون حوارقد يجمع طرفين في لحظة واحدة‪ .‬بمعنى أنها عالقة متجهة إلى‬
‫اآلخروعطاء مطلق ورعاية موصولة‪ ،‬بل عالمة على استحالة أن يعوضنا أحد في‬
‫تحمل املسؤولية‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إن النطق ب ـ ــ«هأنذا» قول ال يقول شيئا‪ .‬بالرغم‬
‫من أنه يحمل كل �شيء ممكن‪ ،‬فإنه ال يعني شيئا في ذاته‪ ،‬عدا أن الذات تكون فيه‬

‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.180 .‬‬

‫‪336‬‬
‫معروضة على اآلخر وتمثل عالمة دالة وتجليا للخير والرحمة‪ .‬وعليه‪ ،‬ال يمكن أن‬
‫ينشأ الجواب عن حوار ينقل املعلومات بين األنا واآلخر‪ ،‬سواء حوار النفس مع‬
‫نفسها أو مع الغيرأو هللا‪ ،‬الذي يكون الواحد منهما حاضرأمام اآلخر‪ ،‬بل هو قول‬
‫يسبق الحوار وتبادل املعاني‪ ،‬ويفتتح الفعل والتواصل الذي يعرض الذات على‬
‫اآلخرويجعلها عالمة على الخير‪.‬‬
‫سمح تحديد طبيعة الجواب بتأسيس أخالق املسؤولية وإعادة النظرفي تاريخي‬
‫الفلسفة والدين على حد سواء‪ .‬فالنطق بـ ــ«هانذا» ال يعني تعيين تصور ومكان‬
‫يمكن أن أجعلهما ملكا لي‪ ،‬مكان لي تحت الشمس‪ ،‬إنما يصف الفعل الناتج عن‬
‫تجربة ذات تتلقى وتستقبل ما لم تكن مصدره ولم يؤسسه وعي‪ .‬إنه تلبية لدعوة‬
‫اخترقت الذات قبل أن تعي هذه األخيرة وجودها أو تلزم نفسها ب�شيء‪ .‬يؤكد‬
‫ليفيناس أن ما يتوجب على املرء فعله دائما هو أن يقول «هأنذا» ملن دعاه قبل‬
‫أي �شيء آخر‪ ،‬قبل أن يعرف هوية السائل أو فحوى طلبه‪ .‬ويؤسس بذلك أمرا‬
‫قطعيا جديدا مغايرا لألمر القطعي الكانطي‪ ،‬فتحديد هذا الذي يصلح مسلمة‬
‫ّ‬
‫املشرعة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إن الذات املفهومة دينيا‬ ‫لإلنسانية جمعاء يسبق الذات‬
‫ِ‬
‫ال تبني فعلها وجوابها على معرفة مسبقة بمن ينادي‪ ،‬الذي يبنى عادة على حساب‬
‫وتروي ويكون في الغالب من دينها وأديولوجيتها والباقي أعداء محتملون‪ ،‬ألن األنا‬
‫ال تتعرف على نفسها من خالل مرآة العالم واآلخرين‪ ،‬بل تدرك قبل ذلك تفردها‬
‫الناتج أمراآلخروندائه‪.‬‬
‫يتجلى هللا إذن من خالل الجواب املسؤول‪ .‬عندما يهرع املرء لنجدة اآلخر‬
‫ْ‬
‫وضيافته‪ُ ،‬يظهر احترامه هلل وألثره الالنهائي املبثوث في الوجوه الضعيفة‪ .‬إن‬
‫االقتداء بجواب األنبياء هنا يكون اهتماما بأول الحاضرين‪ ،‬وليس بمن نعرفهم‬
‫أو يشاركوننا نفس االنتماء وامللة‪ ،‬ألن الشهادة بالالنهائي تتجاوز عبارة «أنا‬
‫أومن باهلل» التي تعين لقائلها إلها خاصا به يعرفه ويرعى مشاريعيه‪ .‬إن الجواب‬

‫‪337‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫املسؤول انفعال معجز يجعل الذات خادمة للناس والعالم باسم هللا‪ ،‬والعبارة‬
‫التي يتبادر بها هللا إلى الذهن‪ ،‬ليست هي «أنا أومن باهلل»‪ 1‬أو الجهر بالتوحيد‬
‫وإعالن االستعداد لنصرته‪ ،‬بل «هأنذا» وشهادة األفعال التي تسبق الوعي بالذات‬
‫الناظرة واملتكلمة التي تجعل الذات نفسها وحيا‪ .‬والشاهد ليس مجرد مبلغ أمين‬
‫لخطاب مكتمل سبق أن تلقاه من مصادر خاصة واستثنائية‪ ،‬ألن التعالي اآلمر‬
‫باملسؤولية ينكشف بدون ذات وقبل أن يسمعه أحد ويجعل من النبوة وااللهام‬
‫شهادة وفعال أخالقيا‪ ،‬يقول ليفيناس إن «النبوة شهادة خالصة»‪.2‬‬
‫تمثل الشهادة بهذا املعنى غيرية وإيثارا‪ ،‬ويمثل اآلخر مقاما لإللزام األخالقي‬
‫ووجهة له‪ .‬وهو ما وصفه ليفيناس من خالل مفهوم الكفارة‪ ،‬إذ قال إن الذات ال‬
‫تكون شاهدة ورهينة إال بالقدرالذي تضحي فيه بكل ما لها من أجل الغير‪ .‬وهي ال‬
‫تكفرعن ذنبها وحسب‪ ،‬بل تكفرعن ذنوب اآلخرين أيضا‪ .‬إن الذات رهينة اآلخر‬ ‫ّ‬
‫وتعويض له‪ ،‬تتحمل وحدها أمانة اآلخرين‪ ،‬وال يعوضها أحد في تفردها‪ .‬يقول‬
‫ليفيناس «يجب أن نتحدث هنا عن الكفارة بوصفها جمعا بين الهوية والغيرية‪،‬‬
‫فاألنا ليست كيانا قادرا على التكفيرعن اآلخرين‪ ،‬إنها الكفارة األصلية ـ الالإرادية‬
‫ـ كونها سابقة على مبادرة اإلرادة»‪.3‬‬
‫لقد نتج مفهوم الكفارة عن املسؤولية املفهومة فينومنولوجيا‪ .‬فهي ليست‬
‫فعال اختياريا يتم بعد تروي وتداول‪ ،‬أو حساب للربح والخسارة‪ ،‬وليست خيارا‬
‫وضع أمام ذات فوجدت نفسها أمام إمكانية الكفارة‪ .‬إنما هي اجتياح من قبل‬
‫تكفرعن اآلخردون أن تكون قد أخترت ذلك أو أرادته‪.‬‬ ‫اآلخر‪ ،‬جعل الذات هينة‪ّ ،‬‬
‫ر‬
‫كأن ليفيناس يقول إن اإلنسان ال يكون إنسانا إال عندما يضحي ألجل اآلخرين‬
‫وأن تضحيته ال تكون حقيقية إال إذا كانت بعيدة عن مبادراته ومصالحه‪ .‬بل‬
‫‪ -1‬ليفيناس‪ ،‬هللا الذي يتبادرإلى الذهن‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.123 .‬‬
‫‪ -2‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.124 .‬‬
‫‪ -3‬ليفيناس‪ ،‬خالف الوجود‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.187 .‬‬

‫‪338‬‬
‫يذهب أبعد من ذلك عندما يجعل‬
‫التضحية غفرانا وصفحا عن الجالد‪ ،‬إن التدين احلقييق ال يتجىل‬
‫إال يف الفعل الخليق الذي‬ ‫يقول إن «الذات‪ ،‬في ميالدها القديم‪،‬‬
‫يُبيق أثر اهلل حارضا يف‬ ‫كفارة حقة‪ ،‬تخلص اآلخرون فيها من‬
‫مسؤوليتهم عما اقترفوه من ذنوب‪ ،‬بما العالقة االجتماعية ويسمح‬
‫بجعل العالم أكرث وفاء‬ ‫فيها الجرائم ضد الذات‪ .‬تصير الذات في‬
‫االختزال إلى املسؤولية رهينة املسؤولية للرسالة اإلنسانية للتوحيد‬
‫عن الجالد‪ ،‬وعن املعاناة جراء الكفارة‬
‫عن اآلخرين‪ .1‬بمعنى أن الذات مسؤولة‬
‫عن العنف‪ ،‬ومطالبة بافتدائه لتكون‬
‫ذاتا خيرة‪ ،‬يجب أن تقوم مقام كل �شيء‪ ،‬ألنها كفارة عن الوجود‪ .2‬إن التدين‬
‫الحقيقي ال يتجلى إال في الفعل الخلقي الذي ُيبقي أثر هللا حاضرا في العالقة‬
‫االجتماعية ويسمح بجعل العالم أكثروفاء للرسالة اإلنسانية للتوحيد‪.‬‬

‫‪ -1‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.176 .‬‬


‫‪ -2‬املصدرنفسه‪ ،‬ص‪.188 .‬‬

‫‪339‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫قائمة املصادرواملراجع‬

• Emmanuel Lévinas. Cahier de l’Herne. Editeurs :Catherine Chalier


& Miguel Abensour. Editions de l’Herne: Paris, 1991.
• Greisch Jean, Le buisson ardant et les Lumiéres de la raison. L’
invention de la philosophie de la religion. Cerf : Paris, 2002-2004
(coll. « Philosophie et Théologie»), Tome1.
• Kosky Jeffrey L., Levinas and the Philosophy of Religion, Indiana
University Press: Bloomington, 2001.
• Levinas Emmanuel, A l’heure des nations, Minuit : Paris, 1988.
• Levinas Emmanuel, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, (Le
Livre de poche) Martinus Nijhoff : La Haye, (1978) 2006.
• Levinas Emmanuel, Autrement que savoir, Les entretiens du centre
Sévres, Editions Osiris : Paris, 1988.
• Levinas Emmanuel, De Dieu qui vient à l’idée, Vrin : Paris, 2004.
• Levinas Emmanuel, De l’évasion. Introduit et annoté par Jacques
Rolland. Fata Morgana : Montpellier, 1982.
• Levinas Emmanuel, De l’existence à l’existant, Vrin : Paris, [1947]
1998.
• Levinas Emmanuel, De l’oblitération, interview avec Françoise
Armengaud, Ed. de la Différence : Paris, 1990.
• Levinas Emmanuel, Dieu, la mort et le temps, (Le Livre de poche)
Grasset : Paris, (1993) 2006.
• Levinas Emmanuel, Difficile liberté. Essais sur le judaïsme, (Le
Livre de poche) Albin Michel : Paris, [1976] 2007.
• Levinas Emmanuel, Du sacré au saint. Cinq nouvelles lectures

340
talmudiques. Editions de Minuit : Paris, 1977.
• Levinas Emmanuel, En découvrant l’existence avec Husserl et
Heidegger, Vrin : Paris, (1967) 1998.
• Levinas Emmanuel, Entre nous. Essais sur le penser - à- l’autre,
(Le • Livre de poche) Grasset : Paris, (1991) 2007.
• Levinas Emmanuel, Éthique et infini, (Le Livre de poche) Fayard :
Paris, [1982] 2008.
• Levinas Emmanuel, Hors sujet. (Le Livre de poche) Fata Morgana:
Montpellier, (1987) 2006.
• Levinas Emmanuel, L’au - delà du verset. Lectures et discours
talmudiques, Editions de Minuit : Paris, 1982.
• Levinas Emmanuel, Les imprévus de l’histoire, Préface de Pierre
Hayat. (Le Livre de poche) Fata Morgana: Montpellier, (1994) 2008.
• Levinas Emmanuel, Noms propres. (Le Livre de poche) Fata
Morgana : Montpellier, 1976.
• Levinas Emmanuel, Quatre lectures talmudiques , Minuit : Paris,
2005.
• Levinas Emmanuel, Totalité et infini. Essai sur l’extériorité, (Le
Livre de poche) Martinus Nijhoff : La Haye, [1961] 2008.
• Wolff Ernst. De l’éthique à la justice, Langage et politique dans la
philosophie de Levinas, Phaenomenologica 183, Springer, 2007.

341 ‫ م‬2020 ‫ يناير‬- ‫ ه‬1441 ‫ جمادى األولى‬3 ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد‬
‫الدين))‬
‫فلسفة الدين‬
‫((فلسفة‬
‫يف الفكر اإلساليم‬
‫مقاربة ملفـ وم املقدس ضمن‬
‫سياق اخلطاب القرآين‬
‫أ‪.‬د‪ .‬جمال الدين بن عبد الجليل‬

‫أود في مستهل هذه املقالة اإلشارة إلى جملة من املعطيات والنقاط املنهجية‬
‫التي اعتمدناها في هذه املقاربة ملفهوم املقدس ضمن سياق الخطاب القرآني‪.‬‬
‫تتعلق اإلشارة األولى بإشكالية ترجمة املصطلحات واملفاهيم الدينية والقرآنية‬
‫ّ‬
‫خصوصا للغات األوروبية ومنها للعربية وملعجم األلفاظ واملفردات التي يتم‬
‫تداولها والتعاطي معها‪ ،‬هذه اإلشكالية هي ذات مستويين على األقل‪:‬‬
‫‪.1‬املستوى األول هو املتعلق باالنتقال بين اللسان العربي ومختلف األلسنة‬
‫واألخرى خاصة األوروبية منها‪ ،‬ويجدر التأكيد هنا أن أغلب ما تم من أعمال‬
‫الترجمة للكتب التراثية اإلسالمية للغات األوروبية من خالل تخصص الدراسات‬
‫االستشراقية واإلسالميات هي غالبا ذات منحى ألسني معجمي وتاريخي‪ ،‬مسيحي‬
‫الخلفية في مصطلحاته الدينية‪ ،‬يتجلى ذلك بوضوح من خالل ترجمات كتب‬
‫التراث الديني‪ ،‬ولعل أبرز مثال لذلك علم الكالم ابتداء بهذا املصطلح نفسه وانتهاء‬
‫بتعريف مباحثه وصياغة أسئلته ومختلف مصطلحاته فتعترضنا كترجمات‬
‫واردة لعلم الكالم مثال في اللسان األملاني‪ ،‬ونجد ما يشبهها عبارة واشتقاقا في‬
‫بقية اللغات األوروبية‪ ،‬ثالثة تعابير اصطالحية وهي كاآلتي‪ :‬الالهوت السجالي‬
‫‪ spekulative Theologie‬والالهوت الدوغمائي ‪dogmatische Theologie‬‬

‫والالهوت النسقي ‪ ،systematische theologie‬وجميع هذه التعابيراإلصطالحية‬

‫‪345‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ال تحيط في تقديري بالداللة املفهومية‬
‫علم الكالم ليس جمرد‬ ‫ملصطلح علم الكالم كخطاب من خالل‬
‫تشكله التاريخي واملفهومي وال تعكس إال خطاب سجايل فقط رغم أدائه‬
‫أحد الجوانب مع إغفال جوانب أخرى‪ ،‬لهذه الوظيفة‪ ،‬وحضور هذا‬
‫فعلم الكالم ليس مجرد خطاب سجالي البعد فيه أحيانا بشكل مهيمن‪،‬‬
‫فقط رغم أدائه لهذه الوظيفة‪ ،‬وحضور وهو كذلك ليس جمرد خطاب‬
‫دوغمايئ فقط وال يمكن‬ ‫هذا البعد فيه أحيانا بشكل مهيمن‪ ،‬وهو‬
‫اخزتاله فقط يف خطاب‬ ‫كذلك ليس مجرد خطاب دوغمائي فقط‬
‫منتظم نسقيا‬ ‫وال يمكن اختزاله فقط في خطاب منتظم‬
‫نسقيا فهو يحتوي كل هذه الجوانب‬
‫مجتمعة وال يختزل في أحد منها فقط‪ .‬ويضاف إلى ذلك بعد آخرمهم في نشأة علم‬
‫الكالم وتطوره التاريخي وهو البعد الجدالي‪ 1‬فيه الذي يحيلنا ضرورة إلى صيرورة‬
‫وديناميكية فكرية وفلسفية مرتبطة ضرورة بالسياق التاريخي وليست منفصلة‬
‫عنه رغم ادعاء التعالي والصالحية امليتا تاريخية فيما تنتجه من مفاهيم‪ ،‬لذلك‬
‫أجد أنه من األنسب استعمال الترجمة التالية للغة األملانية ‪diskursive‬‬
‫‪ Theologie‬ملصطلح علم الكالم من أجل اإليفاء بمقتضياته الداللية‪ .2‬ويتضح‬
‫هذا املأزق الداللي وسوء الفهم املبرمج مسبقا من خالل اختيار القيام بترجمة‬
‫مصطلح تيولوجيا ‪ Theologie‬من اللغات األوروبية إلى اللغة العربية‪ ،‬فالتعابير‬
‫االصطالحية الواردة في هذا املقام هي ّإما مصطلح اإلالهيات وهذا املصطلح‬
‫يحيلنا مباشرة إلى الفلسفة األرسطية بما يرادف امليتافيزيقا أو الفلسفة األولي‪،‬‬
‫‪1- diskursiv / discoursif/.discoursive‬‬
‫‪2- Ben Abdeljelil, Jameleddine; Kurnaz,‬‬ ‫‪Serdar: Maqāṣid aš-Šarī ʿa. Die Maximen des‬‬
‫‪islamischen Rechts. Frankfurter Schriften zum Islam. Studienreihe Islam im Diskurs,‬‬
‫‪Band 1. Studienreihe Herausgegeben von Jameleddine Ben Abdeljelil. Berlin, EB-Verlag‬‬
‫‪2014. p.13.‬‬

‫‪346‬‬
‫وإما مصطلح الالهوت أو علم الالهوت وهذا يحيلنا كذلك إلى السياق الديني‬
‫املسيحي دون سواه‪ ،‬وقد انتبه جورج قنواتي إلى إشكالية استعمال مصطلح‬
‫‪ théologie‬تيولوجيا منزلة على السياق اإلسالمي فتجنب استعمال علم الالهوت‬
‫واختار مصطلح فلسفة الفكر الديني عوضا عن ذلك ويعلل اختياره في مقدمة‬
‫كتابه املشترك مع لويس غارديه ويقول „وهذه األجزاء الثالثة يجمعها عنوان‬
‫واحد صيغته العربية الحرفية‪ :‬مدخل إلى علم الالهوت اإلسالمي‪ّ ،‬‬
‫ثم يلي هذا‬
‫العنوان األصلي عنوان فرعي يدل على أن الغاية من الكتاب إنما هي محاولة في‬
‫علم الالهوت املقارن‪ .‬وعلى أنه قد وضع كله مقارنة بين العلمين الدينيين اإلسالمي‬
‫واملسيحي‪ .‬ولقد الحظنا أن القارئ العربي وال سيما إذا كان مسلما لن يطيب له‬
‫تعريب ذلك العنوان بنصه الحرفي‪ ...‬ومن هنا رأينا أن أفضل عنوان يصدق على‬
‫موضوعنا هو التالي‪ :‬فلسفة الفكر الديني بين اإلسالم واملسيحية‪ .‬ولعل في هذا‬
‫العنوان الالهوت اإلسالمي «ذلك بأنه إن كان في اإلسالم «علم الهوتي» يؤخذ على‬
‫ّ‬
‫التجوز ‪ ،‬فإنه ليس «علما الهوتيا» باملعنى الفني الدقيق الحقيقي‪ ،‬كما هو‬ ‫سبيل‬
‫األمر في املسيحية»‪1‬ويمكن التنبيه هنا إلى ما يمكن أن يتسبب فيه االستعمال‬
‫اإلسقاطي ملفاهيم وتعابير اصطالحية دون مراعاة مقتضيات السياق املفاهيمي‬
‫والديني من سوء فهم وإخالل باملعاني املتعلقة بكل سياق ديني مخصوص‪ .‬ومثال‬
‫ذلك التقابل بين العقل من جهة واإليمان من جهة في الالهوت املسيحي‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬
‫تقابل ولد ديناميكية دينية‪ ،‬فكرية وفلسفية ذات خصائص ساهمت في إنتاج‬
‫وبلورة مفاهيم كان لها تأثير بالغ في التاريخ الفكري والديني األوروبي بداية من‬
‫‪ -1‬قنواتي‪ ،‬جورج و غارديه‪ ،‬لويس‪ :‬فلسفة الفكر الديني بين اإلسالم واملسيحية‪ ،‬دار العلم للماليين‪،‬‬
‫بيروت ‪ ،,1967‬جزء أول‪ ،‬ص ‪.2‬‬
‫‪Gardet, Louis & Anawati, Georges: Introduction à la théologie musulmane. Essai de‬‬
‫‪théologie comparée (Etudes de philosophie médiévale; Bd. 37). 3. ed.. Vrin, Paris 1981‬‬
‫انظرأيضا التهانوي ‪ ،‬محمد علي‪ :‬كشاف اصطالحات الفنون والعلوم‪ ،‬مكتبة لبنان ‪ ،‬بيروت ‪ ،1996‬جزء‬
‫أول ‪ ،‬ص‪54 ،28 .‬‬

‫‪347‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫مفهوم الحقيقة املزدوجة في سياقها الرشدي الالتيني الوسيط‪ ،‬ثم الحقا مفهوم‬
‫العلمنة والفصل بين الديني والفلسفي أو العلمي‪ .‬بينما نجد في سياق علم الكالم‬
‫اإلسالمي تقابال بين العقل والنقل مما يجعل هذا التقابل وما يتضمنه من تخالف‬
‫وتوافق مضمروتآلف وتأليف بين املواقف والنظرمقتصرا على املستوى التأويلي‬
‫وليس ذا طبيعة أنطولوجية كما هو الحال في الالهوت املسيحي‪.‬‬
‫‪ .2‬املستوى الثاني هو املتعلق بالتدبر التأويلي للمصطحات واملفاهيم الواردة‬
‫في نصوص التراث الديني من جهة واستعمالها أوتنزيلها في سياق مفاهيمي حديث‪،‬‬
‫والعكس كذلك مثال ذلك العديد من املصطلحات الرائجة التداول لضرورة‬
‫عملية دون التثبت والتمحيص في املسوغات املنهجية والتداعيات املفهومية‬
‫املرتبطة بهذا النقل واالنتقال بين سياقات مفاهيمية متباينة‪ ،‬مثال ذلك املفارقة‬
‫املالزمة ملصطلح فقه األقليات وكذلك مفهوم األقلية تعريفا وتنزيال مع ما في ذلك‬
‫من االرتباط املنهجي بآليات تعريف وتحليل متجذرة في الفقه الكالسيكي وهو فقه‬
‫«األغلبية» ومتغايرة نوعيا مع مستلزمات هذا املفهوم وما يستصحبه في كلي‬
‫السياقين الواقعي والن�صي املفاهيمي‪ ،‬وقس على ذلك أيضا أمثلة كثيرة متعلقة‬
‫بإشكاالت تعريفية مفهومية متعلقة بفقه الصيرفة والتعامالت البنكية مثال‪،‬‬
‫وبضرورة االنتباه والتمييز بين تنوع املرجعيات املفهومية في سياق الفكر الديني‬
‫اإلسالمي نفسه وتعددها بتعدد مرجعيات وأشكال وتفريعات الخطاب الديني‬
‫اإلسالمي من كالمي عقائدي إلى فقهي أصولي إلى حديثي روائى إخباري‪.‬‬
‫يعتبر القرآن كنص وكخطاب مفاهيمي في هذا املقام مؤسسا ومساهما‬
‫وحامال في اآلن نفسه للتعريفات املفهومية التي تنبثق منه وتستند إليه في تأصيل‬
‫مشروعيتها‪ ،‬فالقرآن بهذا املعنى كخطاب وكحقل مفاهيمي واصطالحي يضطلع‬
‫بوظيفة مرجعية مخصوصة في السياق الديني اإلسالمي بمختلف تمظهراته‬
‫الداللية والسيمولوجية‪ .‬وبهذا اللحاظ يمكن االنطالق من اعتبارالقرآن مرجعية‬

‫‪348‬‬
‫مركزية لتأسيس واستقراء املفاهيم في‬
‫السياق الديني اإلسالمي‪ ،‬مع االلتفات يعترب القرآن كنص وكخطاب‬
‫إلى دور القرآن الكريم التأسي�سي للغة مفاهييم يف هذا املقام مؤسسا‬
‫العربية املكتوبة بشكل موحد ومن ثم ومساهما وحامال يف اآلن نفسه‬
‫التأثير البالغ في صياغة وبلورة البناء للتعريفات املفهومية اليت تنبثق‬
‫االصطالحي واملفاهيمي فيها‪ .‬وتعريف منه وتستند إليه يف تأصيل‬
‫مرشوعيهتا‬ ‫الخطاب‪ 1‬الذي نعتمده هنا هو أنه‬
‫وحدة بنيوية لكالم سواء كان شفهيا أو‬
‫مكتوبا مقصود به إفهام املتلقي معنى‬
‫يراد تبليغه له من املخاطب واملعنى املقصود واحد بحكم وحدانية املخاطب‪،‬‬
‫َ َ َ‬
‫وهذا مما ينطبق على القرآن الكريم كخطاب «كالم هللا» ﴿ َول ۡو كن م ِۡن عِن ِد‬
‫ٱخت ِ َل ٰ ٗفا َكث ِ ٗ‬
‫ۡ‬ ‫ْ‬ ‫َ ۡ َّ َ‬
‫ريا﴾ اآلية ‪ 82‬سورة النساء‬ ‫ي ٱللِ ل َو َج ُدوا فِيهِ‬
‫غ ِ‬
‫‪ -‬مقاربة ملفهوم املقدس‬
‫ّ‬
‫تتبدى إشكالية مفهوم املقدس عند مقاربته في سياق مفاهيمي تيولوجي‬ ‫ّ‬
‫تعددي‪ ،‬ال تخلو من التباس التداخل اإلسقاطي بين السياقات واألنساق‬ ‫تثاقفي ّ‬
‫املتباينة‪ .‬فاملقاربات التعريفية الرامية لتحديد مفهوم املقدس تراوحت في معظمها‬
‫بين املقاربات التاريخية‪ ،‬األنثروبولوجية واالجتماعية من جهة في تحليل وتفكيك‬
‫ظاهرة املقدس في سياقاتها التاريخية ومن جهة أخرى تم تناول هذا املفهوم من‬
‫زواية نظر مباحث فلسفة الدين ومثل هذا الخطاب الفلسفي وأقصد فلسفة‬
‫الدين مازال في تقديري ناشئا غيرمكتمل وفي ضمور في السياق العربي اإلسالمي‪،‬‬
‫وأرى أن مثل زواية النظرهذه هي األنسب واألكثرمالءمة لهذه املقاربة‪ ،‬على أنني‬
‫أقتصرفي مقاربتي هذه على البحث في املستويات الداللية لهذا املفهوم ضمن ثنايا‬
‫‪ -1‬العموش‪ ،‬خلود‪ :‬الخطاب القرآني دراسة في العالقة بين النص والسياق ‪ .‬جدارا للكتاب عمان ‪..2008‬‬
‫ص‪23،24 .‬‬

‫‪349‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الخطاب القرآني فقط ولن ّ‬
‫أتعرض لهذه‬
‫ّ‬
‫الدالالت في مستوياتها األنثروبولوجية أو تعريف اخلطاب الذي نعتمده‬
‫التاريخية واالجتماعية الثقافية‪ ،‬وأنا في هنا هو أنه وحدة بنيوية لكالم‬
‫ذلك شديد الوعي ملا ملدى االنتشارالكبير سواء كان شفهيا أو مكتوبا‬
‫للمقدس في هذه املستويات املذكورة مقصود به إفهام املتليق معىن‬
‫ممارسة وظواهر من درجة كبيرة من يراد تبليغه له من املخاطب‬
‫األهمية‪ ،1‬وأستند في هذا التحديد واملعىن املقصود واحد بحكم‬
‫واالقتصار في الرجوع واالعتماد على وحدانية املخاطب‪ ،‬وهذا مما‬
‫النص القرآني ملا للمتن القرآني من دور ينطبق عىل القرآن الكريم‬
‫تأسي�سي بنيوي ووظيفة مرجعية مركزية‬
‫على املستوى املفاهيمي في التاريخ‬
‫الديني والفكري اإلسالمي عموما‪ .‬باإلضافة إلى ما ذكر فإن الحضور املكثف‬
‫سواء الضمني أوالصريح ملفهوم املقدس بأبعاده الداللية املتعددة في النقاشات‬
‫واملحاورات واألبنية االستداللية سواء من خالل مباحث «فلسفة الدين» أو علم‬
‫الدين ‪ 2Religionswissenschaft‬أو ضمن السياق املعاصر‪ 3‬حول إشكالية‬

‫‪ -1‬انظرفي هذا الغرض مثال‬


‫‪Chelhod, Joseph: Les Structures du sacré chez les Arabes. Maisonneuve et Larose Paris‬‬
‫‪1964 Eliade, Mircea: Le sacré et le profane. Gallimard Paris. 1987‬‬
‫‪ -2‬املقصود بعلوم األديان هنا هو تحديدا التخصص العلمي األكاديمي كما هو متعارف عليه تحت هذا‬
‫املسمى في أقسام العلوم اإلنسانية بالجامعات األملانية ‪Religionswissenschaft‬‬
‫‪ -3‬انظر تناول موضوع املقدس أوفكرة القد�سي من خالل مباحث فلسلفة الدين أو علم الدين في‬
‫الدراسات الحديثة في السياق الغربي من خالل بعض األمثلة على غرارالعناوين التالية‪:‬‬
‫‪- Otto, Rudolf: Das Heilige. Über das Irrationale in der Idee des Göttlichen und sein‬‬
‫‪Verhältnis zum Rationalen (1917). Nachdruck. München1988.‬‬
‫‪- Tiele, Cornelis. P.: Grundzüge der Religionswissenschaft. Leipzig 1904‬‬
‫‪- Kurth, Stefan & Lehmann, Karsten: Religionen erforschend. Kulturwissenschaftliche‬‬
‫‪Methoden in der Religionswissenschaft. Wiesbaden 2011.‬‬

‫‪350‬‬
‫العلمانية سواء كان ذلك انطالقا من موقف الرفض أو القبول‪ ،‬حيث يتضح‬
‫أن صيرورة العلمنة في أحد معانيها ال تعدو أن تكون إال صيرورة إزاحة للمقدس‬
‫ورفع للقدسية عن الدنيوي‪ .1‬هذا التقابل بين هاتين الثنائيتين املتضادتين‬
‫الحدية ومشحونا بكثافة سجالية ذات‬‫مفاهيميا‪ ،‬املقدس والعلمنة‪ ،‬يبدو شديد ّ‬
‫صبغة دينية و فلسفية فكرية ّ‬
‫ويتنزل تاريخيا ضمن السياق الغربي املسيحي‪ ،‬في‬
‫حين تضعف كثافة هذا التقابل الحدي عندما يتم التناول ضمن سياق تثاقفي‬
‫ديني تعددي‪ ،‬فتتغلب النسبية على االدعاء اإلطالقي السابق املتحقق بشكل‬
‫مهيمن تاريخيا وابستمولوجيا في السياق الغربي املعلمن‪ ،‬األمر الغير متحقق‬
‫بنفس الصورة والدرجة في غيره من السياقات الثقافية والدينية األخرى‪ .‬أشير‬
‫في البداية هنا إلى تناول وتحليل رودلف أوتو للمقدس أو القد�سي على اعتباره‬
‫عنصرا مكونا للدين كظاهرة وهو يرى أنه يتضمن عنصرا غير عقالني يسمو على‬
‫العنصر العقالني فاكتفى بالتمعن في تحليل األخير في استكشاف طبيعة األول‪،‬‬
‫حد ذاته صامدا أمام محاوالت العقل‬ ‫حيث أن ما ليس عقالنيا يبقى قائما في ّ‬
‫كلها في تفسيره من غير أن يتناقض مع ذلك موجبات العقل ويم�سي حدا يقف‬
‫عنده فيلسوف الظاهرة الدينية وهذا الالعقالني أو ما يتخطى ما هو عقالني هو‬
‫ذو „طبيعة قدسية“ سابق في وجوده وحركته وفعله‪ ،‬حتى إن العقالني منه ّ‬
‫دال‬
‫عليه من دون امتالك القدرة على اإلحاطة به بالتحليل والتعقل‪ .2‬وأجد أن هذا‬
‫الفهم للقد�سي عند أوتومالئم ويساعد على إدراك واستيعاب دالالت هذا املفهوم‬
‫في سياقنا اإلسالمي عموما والخطاب القرآني تخصيصا‪.‬‬
‫يرد مفهوم املقدس أو القد�سي في اشتقاقاته اللفظية املختلفة انطالقا من‬
‫الجذر الثالثي «قدس» في عشر مواضع من النص القرآني‪ ،‬نعرضها في هذا املقام‬
‫‪1- Norris, Pippa & Inglehart, Ronald: Sacred and Secular: Religion and Politics Worldwide.‬‬
‫‪Cambridge 2004. p. 3‬‬
‫‪2 - Otto، Rudolf: Das Heilige. p.75,76.134,135.‬‬

‫‪351‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫كما يلي من خالل اآليات التي وردت فيها ثم نعقبها بالتعليق والتحليل‪:‬‬
‫َۡ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫ۡ َ َ َ ُّ َ ۡ َ َ َ ّ‬
‫ۡرض‬ ‫لئِكةِ إ ِ ِن َجاعِل ِف ٱل ِ‬ ‫‪ -1‬سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 30‬وِإَوذ قال ربك ل ِلم ٰٓ‬
‫ن ُن ن ُ َس ّب ُح بَ ۡمدِكَ‬ ‫َ َ ُۡ ُ َ َ َۡ ُ ّ َ َٓ َ َۡ‬ ‫َ َ ٗ َ ُْٓ َ َۡ َ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫خل ِيفة ۖ قالوا أتعل فِيها من يفسِد فِيها ويسفِك ٱدلِماء و‬
‫َ َُ ّ ُ َ َ َ َ ّٓ َ ۡ َ ُ َ َ َ ۡ َُ َ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫ونقدِس لك ۖ قال إ ِ ِن أعلم ما ل تعلم‬
‫ُّ ُ‬ ‫َۡ‬ ‫َّ‬
‫َ َ َ َۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َََ ۡ َ ََۡ ُ َ‬
‫‪ -2‬سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 87‬ولقد ءاتينا موس ٱلكِتٰب وقفينا ِم ۢن بع ِده ِۦ بِٱلرس ِلۖ‬
‫ُۢ‬ ‫ٓ ُ‬ ‫ۡ ُ ُ َ َ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬
‫س أفك َما َجا َءك ۡم َر ُسول‬ ‫وح ٱلقد ِۗ‬ ‫ت َوأيَّ ۡد َنٰ ُه ب ِ ُر ِ‬ ‫َ ۡ َ‬
‫َو َءاتينا عِيس ٱب َن م ۡر َي َم ٱلَ ّيِنٰ ِ‬
‫ََۡ‬
‫َ َ َ ۡ َ ٰٓ َ ُ ُ ُ ُ ۡ َ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ َ ٗ َ َّ ۡ ُ ۡ َ َ ٗ َ ۡ ُ ُ َ‬
‫بِما ل تهوى أنفسكم ٱستكبتم ففرِيقا كذبتم وفرِيقا تقتلون﴾‪..‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ ۡ َ‬ ‫‪ - 3‬سورة البقرة ‪ -‬آية ‪َ ۡ َ َ 253‬‬
‫وح‬ ‫ت وأيدنٰه ب ِ ُر ِ‬ ‫﴿و َءاتينا عِيس ٱب َن م ۡر َي َم ٱلَ ّيِنٰ ِ‬
‫س﴾‪.‬‬ ‫ُۡ ُ‬
‫ٱلقد ِ ۗ‬
‫ۡ ُ ْ َ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ َ َ ُ َ ٰ َ‬
‫وس ل ِق ۡو ِمهِۦ يٰق ۡو ِم ٱذك ُروا ن ِۡع َمة ٱللِ‬ ‫‪ - 4‬سورة املائدة ‪ -‬آية ‪ِ﴿ 21 - 20‬إَوذ قال م‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ ٰ ُ َّ ۡ ُ ۡ‬ ‫ٗ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ۡ َ ََٓ َ َ ََ ُ‬ ‫ََ ُ ۡ َ ََ‬
‫ت أ َح ٗدا ّمِنَ‬ ‫عل ۡيك ۡم إِذ جعل فِيكم أۢنبِياء وجعلكم ملوك وءاتىكم ما لم يؤ ِ‬
‫ُّ‬
‫ك ۡم َو َل تَ ۡرتَ ُّدوا ْ َ َ ٰٓ‬ ‫َ ٰ َ ۡ ِ ۡ ُ ُ ْ ۡ َ َ ۡ ُ َ َّ َ َ َّ َ َ َ َّ ُ َ ُ‬ ‫ۡٱل َعٰلَم َ‬
‫ع‬ ‫ني ‪ ٢٠‬يقوم ٱدخلوا ٱلۡرض ٱلمقدسة ٱل ِت كتب ٱلل ل‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ََۡ ُ ۡ َ َ ُ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫سين﴾‪.‬‬ ‫أدبارِكم فتنقل ِبوا خ ِ ِ‬
‫ۡ َ َ َّ ُ َ ٰ َ ۡ َ َ ۡ َ َ ۡ ُ ۡ ۡ َ َ َ ۡ َ‬
‫‪ - 5‬سورة املائدة ‪ -‬آية ‪﴿ 110‬إِذ قال ٱلل يعِيس ٱبن مريم ٱذكر ن ِعم ِت عليك‬
‫ۡ َ َّ ۡ ُ َ‬ ‫َۡ ۡ ََ ۡٗ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُۡ ُ ُ َ ّ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ٰ َ ٰ َ َ ۡ َ َّ ُّ َ‬
‫وع و ِلت ِك إِذ أيدتك بِروح ٱلقدس تكل ِم ٱنلاس ِف ٱلمه ِد وكهل ۖ ِإَوذ علمتك‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ َ َ َ ۡ ۡ َ َ َ َّ ۡ َ ٰ َ َ ۡ‬
‫جنيل ۖ﴾ ‪.‬‬ ‫ٱلكِتٰب وٱل ِكمة وٱتلورىة و ِ ِ‬
‫ٱل‬
‫ٱل ّق ِلُثَ ّب َ‬ ‫َۡ‬ ‫َّ ّ َ‬ ‫ُ ۡ َ َّ َ ُ ُ ُ ۡ ُ ُ‬
‫ت‬ ‫ِ‬ ‫‪ - 6‬سورة النحل ‪ -‬آية ‪﴿ 102‬قل نزلۥ روح ٱلقد ِس مِن ربِك ب ِ ِ‬
‫ني﴾ ‪.‬‬ ‫ى ل ِۡل ُم ۡسلِم َ‬
‫ِ‬ ‫ش ٰ‬ ‫ِين َء َام ُنوا ْ َو ُه ٗدى َوب ُ ۡ َ‬ ‫َّٱل َ‬
‫ٱخلَعۡ‬ ‫ّ ٓ َ َ ۠ َ ُّ َ َ ۡ‬ ‫ٰٓ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٰ‬ ‫َ َ َّ ٓ َ َ ٰ َ ُ َ َ‬
‫‪ - 7‬سورة طه ‪ -‬آية ‪﴿ 11-12‬فلما أتىها نودِي يموس ‪ ١١‬إ ِ ِن أنا ربك ف‬
‫َ َ َ َّ َ ۡ ۡ َ‬
‫ن ۡعل ۡيك إِنك بِٱل َوادِ ٱل ُمق َّد ِس ُط ٗوى﴾‪.‬‬
‫ادى ٰ ُه َر ُّبهۥُ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ٰٓ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َۡ ََٰ َ َ ُ‬
‫‪ - 8‬سورة النازعات ‪ -‬آية ‪﴿17-16-15‬هل أتىك حدِيث موس ‪ ١٥‬إِذ ن‬
‫ۡ َ ۡ َ‬ ‫ۡ ۡ َ‬
‫غ﴾‪.‬‬ ‫ب إ ِ ٰل ف ِۡر َع ۡو َن إِنَّ ُهۥ َط َ ٰ‬ ‫بِٱل َوادِ ٱل ُمق َّد ِس ُط ًوى ٱذه‬
‫ُ َ َّ ُ َّ َ ٓ َ ٰ َ َّ ُ َ ۡ َ ُ ۡ ُ ُّ ُ َّ َ‬
‫ٱلسل ٰ ُم‬ ‫‪ - 9‬سورة الحشر ‪ -‬آية ‪﴿ 23‬هو ٱلل ٱلِي ل إِله إِل هو ٱلمل ِك ٱلقدوس‬

‫‪352‬‬
‫ۡ ُ َ‬
‫ٱللِ َع َّما ي ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫ُ ُ ُ َ ۡ ُ َ ُ َ َّ ُ ُ َ ّ ُ ُ ۡ َ ٰ َ َّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ۡ‬
‫شكون﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٱلمؤمِن ٱلمهي ِمن ٱلع ِزيز ٱلبار ٱلمتك ِبۚ سبحن‬
‫َۡ‬ ‫َۡ‬ ‫‪ -10‬سورة الجمعة ‪ -‬آية ‪﴿ 1‬ي ُ َس ّب ُح ِ َّلِ َما ف َّ َ َ‬
‫ِك‬ ‫ت َو َما ِف ٱل ِ‬
‫ۡرض ٱلمل ِ‬ ‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وس ۡٱل َعزيز ۡ َ‬
‫ٱلكِي ِم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ۡٱل ُق ُّ‬
‫د‬
‫ِ ِ‬
‫يرد لفظ ّ‬
‫املقدس في االستشهاد األول املذكور من سورة البقرة اآلية ‪.30‬‬
‫بصيغة الفعل املضارع مع الجمع املتكلم على لسان املالئكة تسبيحا بحمد هللا‬
‫وجل‪ .‬ووجب التنويه هنا أن ورود لفظ التقديس بصيغة الفعل‬ ‫عز ّ‬ ‫وتقديسا له ّ‬
‫يقتصر على هذا املوضع الوحيد في القرآن الكريم في ارتباط بفعل من أفعال‬
‫يتكرر بهذه الصيغة في أي مورد قرآني آخرولم ينسب هذا الفعل من‬ ‫املالئكة وال ّ‬
‫ألي مخلوق آخرغيراملالئكة على خالف فعل التسبيح املرافق‬ ‫خالل املتن القرآني ّ‬
‫يتكرر من خالل الخطاب القرآني في أكثر من موضع‬ ‫له في اآلية املشار إليها والذي ّ‬
‫بالنسبة للعديد من املخلوقات األخرى بما فيها البشر‪.1‬‬
‫في االستشهادين القرآنيين املذكورين أعاله التاسع (سورة الحشر ‪ -‬اآلية ‪)23‬‬
‫القدوس داللة على أحد‬ ‫والعاشر (سورة الجمعة ‪ -‬اآلية ‪ )1‬يرد اللفظ بصيغة ّ‬
‫القد�سي بصيغة „روح القدس‬‫ّ‬ ‫أسماء هللا تعالى بينما يرد اللفظ املرتبط بمفهوم‬
‫«في االستشهاد السادس (سورة النحل ‪ -‬اآلية ‪ )102‬داللة في هذا املقام على ملك‬
‫ّ‬
‫الوحي جبريل الذي كان مكلفا بتنزيل الوحي القرآني على الرسول محمد ‪ -‬ﷺ‪. 2-‬‬
‫ويتكرر ورود صيغة «روح القدس» في االستشهادات املذكورة أعاله‪ :‬الثاني (سورة‬
‫البقرة ‪ -‬اآلية ‪ )87‬والثالث (سورة البقرة ‪ -‬اآلية ‪ ) 253‬والخامس (سورة املائدة‬
‫فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين)‬ ‫‪ -1‬سورة الحجر ‪ -‬آية ‪ّ ( 98‬‬
‫سورة الجمعة ‪ -‬آية ‪ّ ( 1‬‬
‫يسبح هلل ما في السماوات وما في األرض )‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سورة اإلسراء ‪ -‬آية ‪( 44‬تسبح له السماوات السبع واالرض ومن فيهن وان من �شيء اال يسبح بحمده‬
‫ولكن ال تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا )‬
‫ّ‬
‫سورة مريم ‪ -‬سورة ‪ - 19‬آية ‪( 11‬فخرج على قومه من املحراب فاوحى اليهم ان سبحوا بكرة وعشيا )‬
‫‪ -2‬بن عاشور ‪ ،‬محمد الطاهر ‪ :‬تفسيرالتحريروالتنوير ‪ -‬الجزء الخامس عشر‪ :‬سورة النحل قوله تعالى‬
‫قل ّنزله روح القدس من ربك بالحق‪ .‬ص ‪ . 284‬تونس ‪1984‬‬

‫‪353‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫‪ -‬اآلية ‪ )110‬في سياق قرآني قص�صي مرتبط باملسيح عليه السالم كدعم وسند‬
‫املشددة في ثالثة مواضع من‬ ‫ّ‬ ‫املقدس بفتح ّ‬
‫الدال‬ ‫وتأييد له ولرسالته‪ .‬ويرد لفظ ّ‬
‫النص القرآني في االستشهادات املذكورة أعاله‪ ،‬الرابع (سورة املائدة ‪ -‬اآلية ‪20‬‬
‫‪ ) 21 -‬والسابع (سورة طه ‪ -‬اآلية ‪ ) 12 - 11‬والثامن (سورة النازعات ‪ -‬اآلية ‪- 15‬‬
‫وبينة على أسماء أمكنة و مناطق في ارتباط مباشر‬ ‫‪ )17 - 16‬وفيها إحالة واضحة ّ‬
‫بسيرة النبي مو�سى عليه السالم ودعوته لقومه ولفرعون‪.‬‬
‫من خالل هذا التبيان ملواضع ورود لفظ املقدس بصيغه االشتقاقية املتعددة‬
‫واملختلفة يمكن استنتاج األفكارالتالية‪:‬‬
‫املقدس بصيغه‬ ‫ما يلفت االنتباه بشدة هو ّقلة املواضع التي يرد فيها مفهوم ّ‬
‫واشتقاقاته اللفظية املختلفة في املتن القرآني‪ ،‬حيث ّأن هذا الورود يقتصر‬
‫على عشر مواضع فقط‪ .1‬هذا الضعف الحضوري امللحوظ للمفردات اللفظية‬
‫يعبر عن أهمية هذا املفهوم‬ ‫للمقدس في املتن القرآني ال يمكن بأي حال أن ّ‬
‫سيميولوجيا أوالتأكيد على ثقل حضوره الداللي‪ .‬ويجدر هنا التأكيد على أن‬
‫املتكرر ملفهوم املقدس في املتن القرآني كما ّتمت اإلشارة إليه أعاله في‬
‫ّ‬ ‫الورود‬
‫عدة مواضع إنما يأتي كما هو واضح في سياق غير إسالمي باملعنى الخاص لذلك‬
‫جل هذه املواضع (باستثناء‬ ‫عقائديا وتشريعيا وتاريخيا‪ ،‬ونعني بذلك أنه يأتي في ّ‬
‫ّ‬
‫وروده كفعل للمالئكة وكأحد أسماء هللا الحسنى وكمركب في اسم ملك الوحي‬
‫جبريل) محيال دائما إلى سياقات دينية وعقائدية تاريخية خاصة ومغايرة‪ ،‬حيث‬
‫كانت هذه اإلحالة دائما إلى التراث والتاريخ الدينيين اليهودي واملسيحي تحديدا‬
‫وبشكل مخصوص من خالل أسلوب القصص القرآني‪ .‬لذلك يمكن أن نؤكد‬

‫‪ - 1‬باملقارنة مع هذا الحضور الضعيف على املستوى اللفظي ملفردات املقدس والقد�سي في املتن القرآني‬
‫نالحظ حضورا كثيفا لهذه املفردات في الكتاب املقدس حيث يمكن إحصاء مايقارب األلف مورد‬
‫وتحديدا ‪ 984‬مفردة للفظ املقدس باللغة األملانية ‪ heilig‬في اشتقاقاته املتعددة ومن خالل الترجمة‬
‫األملانية للكتاب املقدس ملارتن لوثر‪.‬‬

‫‪354‬‬
‫على أن أي تأسيس أوتجذير مفاهيمي‬
‫ّ‬
‫للمقدس على املستوى املنظومي يجدر التأكيد عىل أن الورود‬
‫املتكرر ملفهوم املقدس يف املنت‬
‫ّ‬ ‫العقائدي اإلسالمي بمعناه املخصوص‬
‫تمت اإلشارة إليه‬ ‫ال يمكن أن ينبني أو يستند على الخطاب القرآين كما ّ‬
‫القرآني بشكل متماسك غير متهافت‪ .‬أعاله يف عدة مواضع إنما يأيت‬
‫ّ‬
‫ويبدو مفهوم «املقدس» ضمن الخطاب كما هو واضح يف سياق غري‬
‫القرآني ذا مكانة هامشية وغير ذي إساليم باملعىن الخاص لذلك‬
‫أهمية مركزية وظيفية داخل آليات عمل عقائديا وترشيعيا وتاريخيا‬
‫وغايات الرسالة اإلسالمية في بعدها‬
‫القرآني‪ .‬لذلك يبقى التأسيس املفاهيمي‬
‫للمقدس بانسجام متماسك مع بنية الخطاب القرآني من جهة واالرتباط‬ ‫ّ‬
‫بخصوصيته اإلسالمية العقائدية والتشريعية من جهة أخرى مطلبا غير متاح‬
‫ويوقع الحرص عليه والتمسك بتحقيقه في التهافت واللجوء للمغالطة في البناء‬
‫االستداللي املعتمد‪ ،‬فالخطاب القرآني ال يوفر السند االستداللي الضروري من‬
‫أجل التأسيس ملفهوم املقدس إسالميا على املستويات العقائدية والتشريعية‪.‬‬
‫من جانب آخريمكن التأكيد على مالحظة الظاهرة التالية وهي الوجود التاريخي‬
‫قديما وحاضرا للممارسة التقديسية سواء على املستوى النظري أوالعملي‬
‫في سياق التراث الديني اإلسالمي في املجتمعات اإلسالمية على اختالفها ثقافيا‬
‫وانثروبولوجيا‪ ،‬وتباينها مذهبيا وعقائديا‪ .1‬هذه املمارسة التقديسية على مستوى‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املفاهيم واألفكاروأشكال الخطاب وكذلك بعض السلوكيات العملية تمثال وتبنيا‬
‫تملكيا للقدسية تصبغ بشكل عام وملحوظ تضاريس الخطاب والجدل‬ ‫ّ‬ ‫وادعاءا‬
‫ّ‬
‫في السياق اإلسالمي وتركيبته البنيوية بصبغة التجاذب الحدي ذي الطبيعة‬

‫‪ - 1‬الزاهي‪ ،‬نوري‪ :‬املقدس اإلسالمي‪ .‬دارتوبقال للنشر‪ ،‬الدارالبيضاء ‪ . 2005‬ص‪26-32 .‬‬

‫‪355‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫اإلطالقية اإلقصائية‪ .‬تكت�سي في هذا‬
‫قل‬‫املقام املقاربات املنهجية التي تروم رفع ما يلفت االنتباه بشدة هو ّ‬
‫القداسة أو القدسية‪ 1‬املصبغة على املواضع اليت يرد فهيا مفهوم‬
‫املقدس بصيغه واشتقاقاته‬ ‫ّ‬ ‫الظواهر الدنيوية والسلوكية العملية‬
‫اللفظية اخملتلفة يف املنت‬ ‫والنظرية أهمية قصوى من حيث‬
‫أن هذا الورود‬‫انسجامها مع روح ومقاصد الخطاب القرآين‪ ،‬حيث ّ‬
‫القرآني من جهة وكذلك مع املسار العام يقترص عىل عرش مواضع فقط‬
‫لتاريخ الفكر اإلسالمي وأشكال الخطاب‬
‫املعرفي فيه خاصة الخطاب الفقهي‬
‫واألصولي التشريعي من جهة أخرى‪ ،2‬إذ ال توجد في اإلسالم ما يمكن أن يقابل‬
‫أحكام «األسرار املقدسة»‪ 3‬كما هو الحال في املسيحية وال ينسجم مثل هذا‬
‫املفهوم مع بنية الخطاب القرآني‪ .‬وال تغيب عنا في هذا املقام اإلشارة إلى ما يعتري‬
‫ّ‬ ‫مفهوم ّ‬
‫املقدس والقداسة من عدم دقة وضعف ضبط مفاهيمي في الكتابات التي‬
‫تتناول هذه املباحث في سياق مفهومي إسالمي وخاصة ما كان منها باللغة العربية‬
‫باألصل أو بالترجمة‪ ،‬حيث يقع التعامل عموما بشكل إسقاطي ونقل اعتباطي‬
‫تحري تداعيات‬‫املقدس من سياقات لغوية وثقافية أوروبية تحديدا دون ّ‬ ‫لدالالت ّ‬
‫ّ‬
‫ذلك كله انسجاما واتساقا أو تهافتا وتعارضا ضمن النسق الداللي خاصة املنبني‬
‫‪1 - English: desacralization, Deutsch: Entsakralisierung‬‬
‫‪ -2‬تغطي األحكام االجتهادية املساحة األكبر من مجموع األحكام التشريعية العملية وذلك بسبب‬
‫التفصيل في التدليل على ثبوتها من خالل النصوص بسبب االختالف في الفهم والتأويل وكذلك حدوث‬
‫ّ‬
‫األصوليين‬ ‫حوادث بسبب تغيراألزمان واألحوال وتعتبراألحكام االجتهادية الفقهية أحكاما ظنية حيث أن‬
‫شرعي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ظن ّي»‪ ،‬فال اجتهاد فيما علم من‬ ‫عرفوا «االجتهاد بأنه بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الصلوات‪ ،‬وكونها خمسا‪ .‬ومن هذا يعلم ّأن معرفة الحكم الش ّ‬ ‫بالضرورة‪ ،‬كوجوب ّ‬ ‫ّ‬
‫الدين ّ‬
‫رعي من دليله‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫القطعي ال تسمى اجتهادا‪ .‬املوسوعة الفقهية‪ .‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بالكويت‪ .‬ط‪ 2‬الكويت‬
‫‪ .1983‬ص ‪.19‬‬
‫‪3- English: sacraments, Deutsch: Sakramente‬‬

‫‪356‬‬
‫منه على املتن القرآني‪ .‬ومن تبعات ذلك أن نجد مثال استعماال أللفاظ مرادفة‬
‫أو مقابلة للفظ املقدس مترجمة مما يقابلها في سياقات لغوية أوروبية خاصة‬
‫يعبر عن حالة ال تخلو من اختالل واضطراب مفاهيمي‪ ،‬واألمثلة على ذلك‬ ‫مما ّ‬
‫املدنس والخبيث ّ‬ ‫ّ‬
‫والنجاسة بشكل مقابل‬ ‫عديدة حيث نجد استعمال ملفردات‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫للمقدس‪ 1‬مما يترتب عنه استعماال للطهارة والطيب بما يترادف ويترابط مع‬
‫املقدس‪ ،2‬ونجد أن هذه املفردات ال تنطبق في داللتها املفهومية خاصة في سياقها‬ ‫ّ‬
‫القرآني مع هذه اإلحاالت املشارإليها‪ .‬وفي مقابل ما ألفتنا االنتباه إليه من الحضور‬
‫الضعيف ملفردات مفهوم املقدس في سياقه اإلسالمي املخصوص من خالل‬
‫الخطاب القرآني نجد حضورا أكثرتداوال وورودا في املتن القرآني ملفهوم «الحرام»‬
‫املقدس مرتبط في اآلن نفسه بخصوصية السياق اإلسالمي‬ ‫كمفهوم موازملفهوم ّ‬
‫التشريعي العملي‪ .‬حيث يرد مفهوم «الحرام» في املتن القرآني مرتبطا بفضاء‬
‫محدد وعلى وجه التعيين بما يرتبط باملسائل الشعائرية‬ ‫املكان والزمان بشكل ّ‬
‫والتعبدية العملية عند املسلمين‪ .‬فمفهوم «الحرام» في هذا السياق املخصوص‬
‫مجرد ونظري بحت‬ ‫يغيب فيه أي معنى مفارق ومتعالي أو ذي بعد ميتافيزيقي ّ‬
‫ّ‬
‫وإنما تتسم اإلحاالت املرتبطة بمفردات هذا املفهوم داخل بنية الخطاب القرآني‬
‫بالطابع العملي والجوانب السلوكية ضبطا وتحديدا ّ‬
‫عمليين‪ .‬يبدو هذا األمر‬
‫واضحا وجليا من خالل الرجوع إلى اآليات التي وردت فيها مفردات هذا املفهوم‬
‫بهذا املعنى املخصوص مرتبطة باملسجد الحرام والشهر الحرام أو األشهر ُ‬
‫الح ُرم‬
‫الح َرم وما يتعلق بها من تحديدات عملية وسلوكية ويمكن أن‬ ‫الح ُرم أو َ‬
‫وبحالة ُ‬
‫نتتبع مواضعها ونحصيها ونوردها أو نورد معظمها كاآلتي‪:‬‬ ‫ّ‬
‫َّ ٓ َ َ ّ َ َ َ ٗ‬
‫ٱلس َماءِۖ فل ُن َول َِي ّنك ق ِۡبلة‬
‫َ‬ ‫ى َت َق ّلُ َ‬
‫ب َو ۡج ِهك ف ِي‬ ‫سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 1441‬قَ ۡد نَ َر ٰ‬

‫‪ - 1‬شلحد‪ ،‬يوسف ‪ :‬بنى ّ‬


‫املقدس عند العرب قبل اإلسالم وبعده‪ .‬دارالطليعة بيروت ‪ .1996‬ص ‪123‬‬
‫‪ -2‬الزاهي‪ ،‬نوري‪ :‬املقدس اإلسالمي‪ .‬ص ‪32 ، 30‬‬

‫‪357‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫َ ُ‬ ‫ۡ َ َ َ َ ۡ ُ َ ُ ُ َ ُّ ْ‬ ‫َۡ َ َ ََّ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َۡ ۡ‬
‫نت ۡم ف َولوا ُو ُجوهك ۡم‬ ‫ج ِد ٱلحر ِامۚ وحيث ما ك‬ ‫ترضىٰها ۚ فو ِل وجهك شطر ٱلمس ِ‬
‫َ َ‬ ‫َّ ّ ۡ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َ ۡ َ ُ َّ َّ َ ُ ُ ْ ۡ َ ٰ َ َ َ ۡ َ ُ َ َ َّ ُ ۡ َ ُ‬
‫ٱلل بِغٰفِ ٍل ع ّما‬ ‫ح ّق مِن رب ِ ِهمۗ وما‬ ‫شطره ۗۥ ِإَون ٱلذِين أوتوا ٱلكِتب ليعلمون أنه ٱل‬
‫ََُۡ َ‬
‫ون﴾‪.‬‬‫يعمل‬
‫ج ِد‬ ‫َ ۡ َ ۡ ُ َ َ ۡ َ ََّ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َۡ ۡ‬
‫سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 149‬ومِن حيث خرجت فو ِل وجهك شطر ٱلمس ِ‬
‫َ َّ َ ۡ َ ُ َ‬ ‫َّ ّ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َّ ُ َ ۡ َ ُ‬ ‫ۡٱل َ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫ٱلل بِغٰفِ ٍل عما تعمل‬ ‫ح ّق مِن ربِك ۗ وما‬ ‫ح َر ِامۖ ِإَونهۥ لل‬
‫ج ِد‬ ‫َ ۡ َ ۡ ُ َ َ ۡ َ ََّ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َۡ ۡ‬
‫سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 150‬ومِن حيث خرجت فو ِل وجهك شطر ٱلمس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ۡ َ َ َ َ ۡ ُ َ ُ ُ ۡ َ َ ُّ ْ ُ ُ َ ُ ۡ َ ۡ َ ُ َ َّ َ ُ َ َّ‬
‫اس َعل ۡيك ۡم‬ ‫ِلن ِ‬ ‫ٱلحر ِامۚ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطرهۥ ل ِئلا يكون ل‬
‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ََ َ ۡ َ ُ‬ ‫ج ٌة إ ّلَا ّٱلَذ َ َ َ ْ ۡ‬ ‫ُ َّ‬
‫ِين ظل ُموا مِن ُه ۡم فلا تخش ۡوه ۡم َوٱخش ۡو ِن َول ِأت ِّم ن ِۡع َمتِي َعل ۡيك ۡم‬ ‫ِ‬ ‫ح‬
‫َ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ َ ُ َ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫ولعلكم تهتد‬
‫َ ُ ُ‬
‫يُقٰتِلوك ۡم‬
‫َ‬ ‫ِند ٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ‬
‫ح َر ِام َح ّت ٰى‬
‫َ َ َُٰ ُ ُ‬
‫وه ۡم ع َ‬ ‫سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 191‬ولا تقتِل‬
‫ِ‬
‫فِيهِۖ﴾‪.‬‬
‫َّ ۡ ُ ۡ َ َ ُ َّ ۡ ۡ َ َ َ ۡ ُ ُ َ ُ َ ‪ٞ‬‬
‫اص‬ ‫سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 194‬ٱلشهر ٱلحرام بِٱلشه ِر ٱلحر ِام وٱلحرمٰت ق ِص ۚ‬
‫ٱلل‬ ‫ك ۡم َو َّٱت ُقوا ْ َّ َ‬ ‫ۡ َ ۡ َ َ ٰ َ َۡ ُ‬ ‫ََۡ ٰ َ ُ َ ۡ ْ َ‬
‫ى َعل ۡيك ۡم فٱع َت ُدوا َعل ۡيهِ ب ِ ِمث ِل ما ٱعتد‬ ‫ف َم ِن ٱعتد‬
‫َ‬
‫ى علي ۚ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ٱعلَ ُم ٓوا ْ أَ َّن َّ َ‬
‫ٱلل َم َع ٱل ۡ ُم َّتقِ َ‬ ‫َ ۡ‬
‫و‬
‫ح ّج َف َما ۡ‬ ‫َ َ ٓ ُ ۡ َ َ َ َ َّ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ َ‬ ‫َ‬
‫ٱس َت ۡي َس َر‬ ‫سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 196‬فإِذا أمِنتم فمن تمتع بِٱلعم َرة ِ إِلى ٱل ِ‬
‫ۡ َ ّ ََ َۡ َ َ َ ُۡۡ ۡ َ َ َ َ‪ٞ‬‬ ‫َ ۡ َ ۡ َ َ َّ ۡ َ ۡ َ َ ُ َ َ َ َ َ‬
‫ام ثلٰثةِ أيّا ٖم ف ِي ٱلح ِج وسبع ٍة إِذا رجعتمۗ ت ِلك عشرة‬ ‫جد ف ِصي‬ ‫ي فمن لم ي ِ‬ ‫مِن ٱلهد ِ ۚ‬
‫ك ۡن أَ ۡهلُ ُهۥ َحاضري ٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ‬
‫ح َر ِامۚ﴾‪.‬‬
‫َ َ ‪ُ َ ۡ َّ َ َ ٰ َ ۗ ٞ‬‬
‫كامِلة ذل ِك ل ِمن لم ي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َۡ َ َ َۡ ُ ۡ ُ َ ٌ َ َ ُ ْ َ ۡ ٗ‬
‫اح أن ت ۡب َتغوا فضلا ّمِن ّر ّبِك ۡ ۚم‬ ‫سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 198‬ليس عليكم جن‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ِند ٱل ۡ َم ۡش َعر ۡٱل َ‬ ‫َ َ ٓ َ َ ۡ ُ ّ ۡ َ َ َٰ َ ۡ‬
‫ٱذ ُك ُروا ْ َّ َ‬
‫ح َر ِامۖ َوٱذك ُروهُ ك َما ه َدىٰك ۡم‬ ‫ِ‬
‫ٱلل ع َ‬ ‫تف‬ ‫فإِذا أفضتم مِن عرف ٖ‬

‫‪358‬‬
‫َ ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ٱلضٓال َ‬
‫ِين﴾‪.‬‬ ‫نتم ّمِن ق ۡبلِهِۦ ل ِمن‬
‫ِإَون ك ُ‬
‫‪ٞ‬‬ ‫ُۡ‬
‫ح َر ِام ق َِتا ٖل فِيهِۖ قل ق َِتال فِيهِ‬ ‫ٱلش ۡهر ۡٱل َ‬
‫َّ‬
‫ن‬ ‫ك َ‬
‫ع‬
‫َۡ َُ َ َ‬
‫سلون‬ ‫سورة البقرة ‪ -‬آية ‪﴿ 217‬ي ‍ٔ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ َ ِ ۡ َ ُ ۡ‬ ‫َ َۡ ۡ‬ ‫َ ‪َ َ ٌّ َ َ ٞ‬‬
‫ۡ‬
‫اج أهلِهِۦ م ِۡن ُه أك َب ُر‬ ‫َّ َ ُ ۡ ُ‬
‫ج ِد ٱلحرام ِإَوخر‬ ‫يل ٱللِ وكفر ۢ بِهِۦ وٱلمس ِ‬ ‫كبِير ۚ وصد عن سب ِ ِ‬
‫ُّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ ُ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َّ ۡ ُ َ ۡ‬
‫ِند ٱللِۚ َوٱلفِ ۡت َنة أك َب ُر م َِن ٱلق ۡت ِلۗ َولا يَ َزالون يُقٰتِلونك ۡم َح ّت ٰى يَ ُردوك ۡم َعن‬ ‫ع‬
‫َ َ ُ ۡ َ ُ َ َ ‪َ َٓ ْ ُ َ ٞ‬‬ ‫ُ‬ ‫َ ۡ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫لئِك‬ ‫ٱس َت َطٰ ُع ۚوا َو َمن يَ ۡرتدِد مِنك ۡم َعن دِينِهِۦ فيمت وهو كاف ِر فأو ٰ‬ ‫ِك ۡم إن ۡ‬
‫ِِ‬ ‫دِين‬
‫ُّ ۡ‬ ‫َ َ ۡ َ ۡ ُ‬
‫ٱلدن َيا َوٱٓأۡلخ َِرةِۖ﴾‪.‬‬ ‫ت أع َمٰل ُه ۡم ف ِي‬ ‫حبِط‬
‫َّ َ َّ‬ ‫ُ‬
‫َٓ ُّ َ ّ َ َ َ ُ ْ َ ُ ّ ْ َ َٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عئ ِ َر ٱللِ َولا ٱلش ۡه َر‬ ‫حلوا ش ٰ‬ ‫﴿يأيها ٱلذِين ءامنوا لا ت ِ‬ ‫سورة املائدة ‪ -‬آية ‪ٰ 2‬‬
‫َ‬ ‫ۡ َ َ َ َ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َٓ َ َ َ ٓ َ ٓ ّ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ُ َ َ ۡ ٗ‬
‫ام يَ ۡب َتغون فضلا ّمِن ّر ّب ِ ِه ۡم‬ ‫لئِد ولا ءامِين ٱلبيت ٱلحر‬ ‫ٱلحرام ولا ٱلهدي ولا ٱلق ٰ‬
‫ُ ُ‬ ‫َ َ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ َ ُ ْ َ َ َ ۡ َ َّ ُ ۡ َ َ َ ُ َ َ‬ ‫ۡ ٗ‬
‫نان ق ۡو ٍم أن َص ّدوك ۡم َع ِن‬ ‫َورِض َوٰنا ۚ ِإَوذا حللتم فٱصطاد ۚوا ولا يج ِرمنكم ش ‍ٔ‬
‫ۡ َ َ َ َ ۡ َ ُ ۘ ْ َ َ َ َ ُ ْ َ َ ۡ ّ َ َّ ۡ َ ٰ َ َ َ َ َ ُ ْ َ ۡ ۡ‬ ‫َۡ ۡ‬
‫اونوا َعلى ٱلإِث ِم‬ ‫ج ِد ٱلحر ِام أن تعتدوا وتعاونوا على ٱلب ِ ِر وٱلتقوىۖ ولا تع‬ ‫ٱلمس ِ‬
‫ۡ‬
‫َوٱل ُع ۡد َو ٰ ِ ۚن﴾‪.‬‬
‫نت ۡم ُح ُرم‪ٞ‬‬ ‫َٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ۡ ُ ُ ْ َّ‬
‫ٱلص ۡي َد َوأَ ُ‬
‫ۚ‬ ‫﴿يأيها ٱلذِين ءامنوا لا تقتلوا‬ ‫‪ - 10‬سورة املائدة ‪ -‬آية ‪ٰ 95‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُّ َ َ ّ ٗ َ َ َ ٓ ‪َّ َ َ َ َ َ ُ ۡ ّ ٞ‬‬ ‫َ َ‬
‫ٱلن َع ِم يَ ۡحك ُم بِهِۦ ذ َوا َع ۡد ٖل‬ ‫َو َمن ق َتل ُهۥ مِنكم متع ِمدا فجزاء مِثل ما قتل مِن‬
‫ّ ُ ۡ َ ۡ َ ۢ َ ٰ َ ۡ َ ۡ َ َ ۡ َ َّ ٰ َ ‪َ ُ ّ ٗ َ َ ٰ َ ُ ۡ َ ۡ َ َ ٰ َ َ ُ َ َ ٞ‬‬
‫اما ل َِيذوق‬ ‫صي‬ ‫مِنكم هديا بل ِغ ٱلكعبةِ أو كفرة طعام مسكِين أو عدل ذل ِك ِ‬
‫َ‬
‫يز ذو ٱنتِقا ٍم﴾‪.‬‬
‫َ َ َّ ُ َ َّ َ َ َ َ َ ۡ َ َ َ َ َ ُ َّ ُ ۡ ُ َ َّ ُ َ ‪ُ ٞ‬‬
‫ف ومن عاد فينت ِقم ٱلل مِن ۚه وٱلل ع ِز‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ا‬‫م‬ ‫ع‬ ‫ٱلل‬ ‫ا‬ ‫ف‬ ‫ع‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬‫ر‬ ‫َو َب َال أَ ۡ‬
‫م‬
‫ۚ‬ ‫ِۗ‬
‫َ ّ ُ‬‫َ‬ ‫َّ َ ُ‬
‫ك ۡم َص ۡي ُد ۡٱل َب ۡحر َو َط َع ُ‬ ‫ُ‬
‫ام ُهۥ َمتٰ ٗعا لك ۡم‬ ‫ِ‬ ‫‪ -11‬سورة املائدة ‪ -‬آية ‪﴿ 96‬أحِل ل‬
‫َ َّ َّ َ َ ُ ّ َ َ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ ّ َ ُ ۡ ُ ۡ ُ ُ ٗ َ َّ ُ ْ َّ َ َّ ٓ َ ُ َ َ‬
‫ِي إِل ۡيهِ ت ۡحش ُرون﴾‬ ‫ول ِلسيارةِۖوح ِرم عليكم صيد ٱلب ِر ما دمتم حرماۗوٱتقوا ٱلل ٱلذ‬
‫َ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ َ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ َ َ َ ٰ ٗ ّ َّ‬
‫اس‬ ‫ِلن ِ‬ ‫‪ - 12‬سورة املائدة ‪ -‬آية ‪﴿ 97‬جعل ٱلل ٱلكعبة ٱلبيت ٱلحرام ق ِيما ل‬
‫َّ‬ ‫َ َّ ۡ َ ۡ َ َ َ َ ۡ َ ۡ َ َ ۡ َ َٓ َ َ ٰ َ َ ۡ َ ُ ٓ ْ َ َّ َّ َ َ‬
‫ت َو َما‬ ‫ٱلس َم ٰ َو ِٰ‬ ‫ٱلل َي ۡعل ُم َما ف ِي‬ ‫لئ ِ ۚد ذل ِك ل ِتعلموا أن‬‫وٱلشهر ٱلحرام وٱلهدي وٱلق ٰ‬

‫‪359‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ك ّل َش ۡي ٍء َعل ٌ‬ ‫َ َ َّ َّ َ ُ‬ ‫َۡ‬
‫ِيم﴾‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ٱلل‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ۡرض‬ ‫ِ‬ ‫ف ِي ٱلأ‬
‫َ َ َ ُ ۡ َ َّ ُ َ ّ َ ُ ُ َّ ُ َ ُ ۡ َ ُ ُّ َ َ ۡ َ ۡ‬
‫ج ِد‬ ‫‪ -13‬سورة األنفال ‪ -‬آية ‪﴿ 34‬وما لهم ألا يعذِبهم ٱلل وهم يصدون ع ِن ٱلمس ِ‬
‫ۡ َ َ ِ َ َ َ ُ ٓ ْ َ ۡ َ ٓ َ ُ ٓ ۡ َ ۡ َ ٓ ُ ُ ٓ َّ ۡ ُ َّ ُ َ َ َ ٰ َ َ ۡ َ ُ َ َ َ‬
‫ك ّن أكث َره ۡم لا َي ۡعل ُمون﴾‪.‬‬ ‫ٱلحرام وما كانوا أول ِياءه ۚۥ إِن أول ِياؤهۥ إِلا ٱلمتقون ول ِ‬
‫ُ‬ ‫ٱق ُتلُوا ْ ٱل ۡ ُم ۡشرك َ‬ ‫َ َ َ َ َ َۡۡ ُُ ۡ ُ ُُ َ ۡ‬
‫ِين َح ۡيث‬ ‫ِ‬ ‫‪ - 14‬سورة التوبة ‪ -‬آية ‪﴿ 5‬فإِذا ٱنسلخ ٱلأشهر ٱلحرم ف‬
‫ٱلصلَ ٰوةَ‬ ‫َ َ ُّ ُ ُ ۡ َ ُ ُ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ ْ َ ُ ۡ ُ َّ َ ۡ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ َّ‬
‫وجدتموهم وخذوهم وٱحصروهم وٱقعدوا لهم كل مرص ٖ ۚد فإِن تابوا وأقاموا‬
‫ِيم﴾‪.‬‬‫ٱلل َغ ُفور‪َّ ٞ‬رح ‪ٞ‬‬ ‫خ ّلُوا ْ َسبيلَ ُه ۡم إ َّن َّ َ‬ ‫َ َ َ ُ ْ َّ َ ٰ َ َ َ‬
‫وءاتوا ٱلزكوة ف‬
‫ِ ۚ ِ‬
‫ٱللِ َوع َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ُ ۡ ۡ‬ ‫َ َ‬
‫ِند‬ ‫ِين ع ۡه ٌد عِند‬ ‫‪ - 15‬سورة التوبة ‪ -‬آية ‪﴿ 7‬ك ۡيف يَكون ل ِل ُمش ِرك‬
‫ۡ َ َ َ َ ۡ َ َٰ ُ ْ َ ُ ۡ َ ۡ َ ُ ْ‬ ‫ِند ٱل ۡ َم ۡ‬
‫دت ۡم ع َ‬ ‫َ ُ ٓ َّ َّ َ َ ٰ َ ُّ‬
‫ج ِد ٱلحر ِامۖ فما ٱستقموا لكم فٱستقِيموا‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫رسولِهِۦ إِلا ٱلذِين عه‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ب ٱل ۡ ُم َّتقِ َ‬‫َ ُ ۡ َّ َّ َ ُ ُّ‬
‫ح‬‫له ۚم إِن ٱلل ي ِ‬
‫ح َر ِام‬ ‫ارةَ ٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ‬ ‫حا ٓ ِ ّج َوع َِم َ‬‫‪ - 16‬سورة التوبة ‪ -‬آية ‪﴿19‬أَ َج َع ۡل ُت ۡم س َِقايَ َة ۡٱل َ‬
‫ِ‬
‫َ َّ َ َّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫يل ٱللِۚ لا ي َ ۡس َت ُوۥن عِند ٱللِۗ و‬ ‫َ‬ ‫َ ََٰ َ‬ ‫َ َ ۡ َ َ َ َّ َ ۡ َ ۡ‬
‫ٱلل لا‬ ‫كمن ءامن بِٱللِ وٱليو ِم ٱٓأۡلخ ِِر وجهد ف ِي سب ِ ِ‬
‫ۡ َ ۡ َ َّ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ٱلظٰل ِ ِم َ‬ ‫َي ۡهدِي ٱلقوم‬
‫َٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ٓ ْ َّ َ ۡ ُ ۡ ُ َ َ َ ‪َ َ ٞ‬‬
‫س فلا‬ ‫﴿يأيها ٱلذِين ءامنوا إِنما ٱلمش ِركون نج‬ ‫‪ - 17‬سورة التوبة ‪ -‬آية ‪ٰ 2819‬‬
‫ِيك ُم َّ ُ‬ ‫َ ۡ َ ُ ْ َۡ ۡ َ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ ۡ َٰ َ ۡ ۡ ُ ۡ َ ۡ َٗ َ َ ۡ َ ُ ۡ ُ‬
‫ٱلل‬ ‫جد ٱلحرام بعد عا ِم ِهم هذاۚ ِإَون خِفتم عيلة فسوف يغن‬ ‫يقربوا ٱلمس ِ‬
‫ِيم َحك ‪ٞ‬‬
‫ِيم﴾‪.‬‬ ‫ٱلل َعل ٌ‬‫مِن فَ ۡضلِهِۦٓ إن َشا ٓ َء إ َّن َّ َ‬
‫ِۚ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ ۡ‬ ‫َّ َ ُّ‬
‫ِند ٱللِ ٱث َنا َعش َر ش ۡه ٗرا ف ِي‬ ‫‪ - 18‬سورة التوبة ‪ -‬آية ‪﴿ 36‬إِن ع ِّدةَ ٱلش ُهورِ ع‬
‫َّ َ ۡ َ َ َ َ َّ َ ٰ َ َ ۡ َ َ ۡ َ ٓ َ ۡ َ َ ٌ ُ ُ ‪َ َ َ ۡ ُ ّ َ ٰ َ ٞ‬‬ ‫َ‬
‫ِين ٱلق ّي ِ ُ ۚم فلا‬ ‫ت وٱلأۡرض مِنها أربعة حرم ۚ ذل ِك ٱلد‬ ‫ب ٱللِ يوم خلق ٱلسمو ٰ ِ‬ ‫كِتٰ ِ‬
‫َ َ َّ ٗ َ َ ُ َ ٰ ُ َ ُ ۡ َ َّ ٗ َ ۡ َ ُ ٓ ْ‬ ‫َ ُ ْ ۡ ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َۡ ْ‬
‫تظل ُِموا فِي ِه ّن أنف َسك ۡ ۚم َوقٰتِلوا ٱل ُمش ِرك ِين كٓافة كما يقتِلونكم كٓافة ۚ وٱعلموا‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫أَ َّن َّ َ‬
‫ٱلل َم َع ٱل ۡ ُم َّت ِق َ‬

‫‪360‬‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ َّ َ ٓ ّ ٓ َ ۡ َ‬
‫نت مِن ذ ّرِ ّيتِي ب ِ َوا ٍد غ ۡي ِر ذِي َز ۡر ٍع‬ ‫ك ُ‬ ‫‪ -19‬سورة إبراهيم ‪ -‬آية ‪﴿ 37‬ربنا إِن ِي أس‬
‫َۡ ٓ َ‬ ‫َ َ ۡ َ ۡ ُ َ َّ َ َّ َ ُ ُ ْ َّ َ ٰ َ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ ٗ ّ َ َّ‬
‫ي إِل ۡي ِه ۡم‬ ‫اس ته ِو‬ ‫ٱلن ِ‬ ‫فِدة مِن‬ ‫عِند بيتِك ٱلمحر ِم ربنا ل ِيقِيموا ٱلصلوة فٱجعل أ ‍ٔ‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َ ۡ ُ ۡ ُ ّ َ َّ َ َ َ َّ‬
‫ت ل َعل ُه ۡم يَشك ُرون﴾‪.‬‬
‫وٱرزقهم مِن ٱلثمر ٰ ِ‬
‫ى ب َع ۡب ِده ِۦ لَ ۡي ٗلا ّم َِن ٱل ۡ َم ۡ‬ ‫ُ ۡ َ َ َّ ٓ َ‬
‫ج ِد‬ ‫س‬ ‫ٰ‬ ‫ِي أ ۡس َ‬
‫ر‬ ‫‪ - 20‬سورة اإلسراء ‪ -‬آية ‪﴿ 1‬سبحٰن ٱلذ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ٰ َ ۡ َ َ ۡ َ ُ ُ َ ُ ۡ َ َ ٰ َ ٓ َّ ُ ُ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َۡۡ‬ ‫ۡ َ َ َ َۡ ۡ‬
‫يع‬‫ٱلس ِم ُ‬ ‫ج ِد ٱلأق َصا ٱلذِي بركنا حولهۥ ل ِن ِريهۥ مِن ءايتِنا ۚ إِنهۥ هو‬ ‫ٱلحر ِام إِلى ٱلمس ِ‬
‫ير﴾‪.‬‬‫ۡٱل َب ِص ُ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ون َ‬ ‫َّ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ُّ َ‬
‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫يل‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫‪ -21‬سورة الحج ‪ -‬آية ‪﴿ 25‬إِن ٱلذِين كفروا ويصد‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ َۡ ُ‬ ‫َ َ ۡ َ ٰ ُ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َوٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ‬
‫اس َس َوا ًء ٱلعٰكِف فِيهِ َوٱل َبادِ ۚ َو َمن يُ ِرد فِيهِ‬ ‫ِلن ِ‬ ‫ح َر ِام ٱلذِي جعلنه ل‬ ‫ِ‬
‫ُ ۡ ُّ ۡ ُ ۡ َ َ َ‬ ‫بإ ۡل َ‬
‫ِيم﴾‪.‬‬ ‫اب أل ٖ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِق‬
‫ذ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ٖ‬ ‫ل‬ ‫ظ‬ ‫حادِ ِۢ‬
‫ب‬ ‫ِِ‬
‫ٍ‬
‫َ ُ َ َ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫﴿وقَال ٓوا إِن نّ ّتبِعِ ٱل ُه َد ٰ‬
‫ى َم َعك ن َتخ ّطف م ِۡن‬ ‫‪ - 22‬سورة القصص ‪ -‬آية ‪َ 57‬‬
‫َّ َّ‬ ‫ٗ‬ ‫َ َ ٓ َ َ َ ۡ ُ َ ّ ّ َ ُ ۡ َ َ ً َ ٗ ُ ۡ َ ٰٓ َ ۡ َ َ َ ٰ ُ ُ ّ َ‬
‫ت ك ِل ش ۡي ٖء ّرِ ۡزقا ّمِن ل ُدنا‬ ‫كن لهم حرما ءامِنا يجبى إِليهِ ثمر‬ ‫ۡرضنا ۚ أو لم نم ِ‬ ‫أ ِ‬
‫َ َٰ َ َ ۡ َ ُ َ َ َ‬
‫ك ّن أكث َره ۡم لا َي ۡعل ُمون﴾‪.‬‬ ‫ول ِ‬
‫َ َ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ْ َ َّ‬ ‫َ َ‬
‫‪ - 23‬سورة العنكبوت ‪ -‬آية ‪﴿ 67‬أ َو ل ۡم يَ َر ۡوا أنا َج َعل َنا َح َر ًما َءام ِٗنا َو ُي َتخ ّطف‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ ۡ‬ ‫َّ‬
‫اس م ِۡن َح ۡول ِ ِه ۡ ۚم أفبِٱل َبٰ ِط ِل يُؤم ُِنون َوبِن ِۡع َمةِ ٱللِ يَكف ُرون﴾‪.‬‬ ‫ٱلن ُ‬
‫وك ۡم َعن ٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ‬ ‫ُ ُ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُّ ُ‬
‫ح َر ِام‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ - 24‬سورة الفتح ‪ -‬آية ‪﴿25‬هم ٱلذِين كفروا وصد‬
‫َ ۡ َ ۡ َ َ ۡ ُ ً َ َ ۡ ُ َ َ َّ‬
‫حل ُه ۚۥ﴾‪.‬‬ ‫وٱلهدي معكوفا أن يبلغ م ِ‬
‫َّ َ ۡ َ َ َ َّ ُ َ ُ َ ُ ُّ ۡ َ ۡ َ َ ُ ُ َ‬
‫ح ّ ِقۖ ل َت ۡدخل ّن‬ ‫‪ - 25‬سورة الفتح ‪ -‬آية ‪﴿ 27‬لقد صدق ٱلل رسوله ٱلرءيا بِٱل‬
‫َ ُ َ ّ َ ُُ َ ُ ۡ ََُ ّ َ َ َ َ ُ َ‬
‫ٱلل َءا ِمن ِين محلِقِين رءوسكم ومق ِص ِر‬ ‫ام إن َشا ٓ َء َّ ُ‬ ‫ٱل ۡ َم ۡس َ ۡ َ َ‬
‫ين لا تخافونۖ‬ ‫جد ٱلح َر ِ‬ ‫ِ‬
‫ج َع َل مِن ُدون َذٰل َِك َف ۡت ٗحا قَر ً‬
‫يبا﴾‪.‬‬ ‫َف َعل َِم َما ل َ ۡم َت ۡعلَ ُموا ْ فَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪361‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫لكل موضع من هذه اآليات في املوارد‬ ‫ّ‬
‫املفصل ّ‬ ‫ال يتسع املقام هنا للشرح‬
‫ّ‬
‫املذكورة أعاله غير أنه يمكن إجمال أغراضها في أنها متعلقة بتحديد وضبط‬
‫السلوكيات املتعلقة باملسائل الشعائرية والتعبدية في «فضاء‬ ‫بعض جوانب ّ‬
‫املكان الحرام» واملقصود به املسجد الحرام وكذلك في «فضاء الزمان الحرام»‬
‫واملقصود به األشهرالحرم‪ .‬ومما ينبغي التنبيه إليه أن غالبية الترجمات باللغات‬
‫األوروبية للقرآن الكريم تترجم مفردات «الحرام» و ُ‬
‫«الح ُرم» املذكورة في موارد‬
‫املقدس في اللغات األوروبية مما يوقع‬ ‫اآليات املشار إليها أعاله بمفردات وألفاظ ّ‬
‫ُ‬
‫حتما في لبس واشتباه ال ينسجم وال يتفق مع مقصود وسياق الخطاب القرآني‪.1‬‬
‫وال يقتصر األمر على ترجمات القرآن فقط بل نجد تداول هذا االستعمال‬
‫ملفردة الحرام كمرادف للمقدس في الكتابات املختصة التي تتناول هذا املبحث‬
‫ومرد ذلك في تقديري هواملرجعية املفاهيمية واللغوية االصطالحية‬ ‫تحليال وتنظيرا ّ‬
‫املعتمدة في تقديم هذه التعريفات وهي تحديدا مستندة على الكتاب املقدس‬
‫ومعجم مفردات الخطاب الالهوتي املسيحي عموما‪ .2‬إذ أنه ال يمكن إثبات‬
‫االدعاء أن في اإلسالم كمنظومة عقائدية وأحكام تشريعية وجود ألمكنة أو بلدان‬ ‫ّ‬
‫أو أ منة ّ‬
‫مقدسة‪ ،‬قرونا كانت أو سنوات أو شهورا أو أياما‪.‬‬ ‫ز‬
‫ويمكن باإلضافة إلى ذلك التأكيد أنه ال يصح القول أيضا أن في اإلسالم كتبا‬
‫مقدسا‪ ،‬حيث أنه لم يرد إطالقا إضافة صفة ّ‬
‫املقدس إلى القرآن‬ ‫مقدسة أو كتابا ّ‬
‫ّ‬

‫‪ -1‬أكتفي في هذا املقام باإلشارة إلى الترجمات األملانية ملعاني القرآن الكريم املعتمدة في الحقل األكاديمي‬
‫العلمي مثل ترجمة املستشرق األملاني رودي باريت ‪ Rudi Paret‬حيث يترجم لفظ الحرام في اآليات‬
‫املذكورة بلفظ املقدس باللغة األملانية ‪. heilig‬‬
‫‪Der Koran übersetzt von Rudi Paret. 8. Aufl. Stuttgart 2001.‬‬
‫وكذلك الشأن بالنسبة ألغلب الترجمات باللغة االنكليزية التي تمكنت من الرجوع إليها بما في ذلك التي ّ‬
‫تم‬
‫إنجازها من طرف مسلمين حيث يغلب اعتماد لفظ املقدس باالنكليزية ‪ sacred‬كترجمة للفظ الحرام في‬
‫اآليات املشارإليها‪ ،‬انظرفي ذلك مثال ترجمة عبد هللا يوسف علي ملعاني القرآن باللغة االنكليزية‪.‬‬
‫‪An English interpretation of the Holy Quran. Abdullah Yusuf Ali 2001.‬‬
‫‪ -2‬يوسف شلحد‪ :‬بنى ّ‬
‫املقدس عند العرب قبل اإلسالم وبعده‪ .‬ص ‪123 ،122‬‬

‫‪362‬‬
‫الكريم في أي مناسبة من خالل املتن‬
‫ما يلفت االنتباه بشدة هو ّ‬
‫قل‬ ‫القرآني ويصف القرآن ذاته في العديد‬
‫املواضع اليت يرد فهيا مفهوم‬ ‫من اآليات بأنه حكيم وكريم ومجيد‬
‫املقدس بصيغه واشتقاقاته‬‫ّ‬ ‫وعزيز ُومبين وشفاء ومبارك ُ‬
‫وهدى وبيان‬
‫اللفظية اخملتلفة يف املنت‬ ‫وموعظة وذكر ورحمة ونور‪ .1‬وينبغي‬
‫القرآين‪ ،‬حيث ّ‬
‫أن هذا الورود‬ ‫التنبيه في هذا السياق إلى أن تداول‬
‫يقترص عىل عرش مواضع فقط‬ ‫استعمال صفة ّ‬
‫املقدس مضافة للقرآن‬
‫الكريم يمكن تفسيرها من خالل ما‬
‫ينبغي اإلشارة إليه من التداخل السياقي‬
‫التثاقفي واللغوي عند االستعمال االصطالحي من خالل الترجمات املفاهيمية‬
‫الخاطئة للعديد من املفردات والتي ال تخلو من ممارسات إسقاطية محكومة‬
‫بهيمنة جهازمفاهيمي واصطالحي وابستمولوجي يمتلك دورا مرجعيا على املستوى‬
‫املعرفي والتعريفي‪ .‬حيث أن العقل الغربي بما فيه العلمي األكاديمي يستعمل غالبا‬
‫عند تعاطيه مع النصوص الدينية األخرى بما في ذلك النص القرآني اصطالحاته‬
‫ومفاهيمه املنتجة في سياقه التاريخي واملعرفي والديني الخاص به دون االنتباه‬
‫‪ -1‬سورة يس ‪ -‬آية ‪( 2‬والقران الحكيم)‬
‫سورة الواقعة ‪ -‬سورة ‪ - 56‬آية ‪( 77‬انه لقران كريم)‬
‫سورة ق ‪ -‬سورة ‪ - 50‬آية‪( 1‬ق والقران املجيد)‬
‫سورة البروج ‪ -‬سورة ‪ - 85‬آية ‪( 21‬بل هو قران مجيد)‬
‫سورة فصلت ‪ -‬سورة ‪ - 41‬آية ‪( 41‬وانه لكتاب عزيز)‬
‫ْ َ َ ُ ْ َ ُْ‬
‫اب ال ِب ِين)‬ ‫سورة يوسف ‪ -‬آية ‪ِ ( .2‬تلك آيات ال ِكت ِ‬
‫سورة اإلسراء ‪ -‬اآلية‪(َ 82‬و ُن َن ّز ُل ِم ْن ْال ُق ْرآن َما ُه َو ِش َفاء)ٌ‬
‫َ َِ ْ َ ِ‬
‫اب أ َنزل َن ُاه ِإل ْي َك ُم َب َار ٌك)‬
‫سورة ص ‪ -‬اآلية ‪(ِ 29‬كت ٌ‬
‫َ َ ْ َ ُ َ َ ْي َب فيه ُه ًدى ل ْل ُم َّتقين)َ‬
‫ِ ِ‬ ‫سورة البقرة ‪ -‬اآلية ‪( 2‬ذ ِلك الكتاب ال ر ِ ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َِ َ َ َ ٌ َّ َ ُ ً َ َ ْ َ ٌ ْ‬
‫اس وهدى ومو ِعظة ِللمت ِقين)‬ ‫سورة آل عمران ‪ -‬اآلية ‪( 138‬هذا بيان للن‬
‫ً ّْ‬ ‫ْ َ َ ُ ِْ َ ِ ْ‬
‫اب ال َح ِك ِيم ُه ًدى َو َر ْح َمة ِلل ُم ْح ِس ِن َين)‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫سورة لقمان ‪ -‬اآلية ‪( 1-3‬الم تلك آيات ال‬
‫َ َ ِ َ ْ َ َ ْ ُ ْ ُ ِ ً ُِ ً‬
‫سورة النساء ‪ -‬اآلية ‪(.174‬وأنزلنا ِإليكم نورا م ِبينا)‬

‫‪363‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫أو مراعاة ما يمكن أن يحدث ّ‬
‫جراء ذلك‬
‫من إسقاطات يتسبب إعادة تلقيها مرة‬
‫تداول استعمال صفة ّ‬
‫املقدس‬
‫أخرى دون مراجعة في الوقوع في دورات‬
‫مضافة للقرآن الكريم يمكن‬
‫وحلقات مفرغة من إعادة إنتاج سوء‬
‫تفسريها من خالل ما ينبيغ‬
‫الفهم املتكرر للذات ولآلخرعلى السواء‪.‬‬
‫اإلشارة إليه من التداخل‬
‫السيايق التثاقيف واللغوي‬ ‫ما يمكن التأكيد عليه في ختام هذه‬
‫املقاربة املوجزة هو أن التأسيس ملفهوم عند االستعمال االصطاليح‬
‫املقدس من خالل الخطاب القرآني بما‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫يمكن من إضافته ملا هو دنيوي وبشري‬
‫أمر غير متاح فال يمكن إسباغ صفة القداسة والقدسية سواء على أشخاص أو‬
‫النص القرآني ومقاصده‬ ‫ّ‬ ‫أفعال أو كتب أو أفكار أو أشكال خطاب باالستناد إلى‬
‫وتأسيسا عليه‪ ،‬بل يمكن هنا الجزم بالقول أن صفة القدسية ّ‬
‫يتفرد بها هللا تعالى‬
‫تقدس له املالئكة وال يمكن استعمال‬ ‫القدوس الذي ّ‬ ‫دون سائر مخلوقاته فهو ّ‬
‫هذه الصفة في حق غيره وما سواه فال وجود لقول أو كالم مقدس وال وجود‬
‫مقدسة ناهيك عن‬ ‫مقدسة أو سياسات ّ‬ ‫لرأي أو حكم مقدس وال وجود لحروب ّ‬
‫ّ‬
‫فاملقدس في التصور اإلسالمي‬ ‫مقدسون‪،‬‬‫أشخاص ّيدعون ذلك ألنفسهم وبأنهم ّ‬
‫للدنيوي ولعالم الكون والفساد‬ ‫من خالل الخطاب القرآني غيب غائب ومفارق ّ‬
‫باملعنى األرسطي‪.‬‬
‫وأود أن أختم هنا بالتنبيه على هذا التداخل املفاهيمي املشار إليه أعاله‬
‫بين مفهومي املقدس والحرام حيث يكتسب الحرام بمعناه الفقهي‪ ،‬أي ّ‬
‫املحرم‬
‫واملمنوع والواجب االنتهاء عنه وتركه‪ ،‬طابعا وصبغة ال تخلو من قداسة‪.‬‬
‫وتجدراإلشارة هنا في هذا السياق إلى مالحظة أبداها محمد أركون تبرز هيمنة‬
‫الخطاب الفقهي بمقوالته وأحكامه على الخطاب الديني والفكري اإلسالمي‬

‫‪364‬‬
‫عموما‪ 1‬وهو ما ينبغي النظر فيه دون هذه املسبقات ويجدر التنبيه أيضا إلى‬
‫املحرم تحتاج مزيدا من التفكيك لسبر‬ ‫أن هذه العالقة بين ّ‬
‫املقدس والحرام أو ّ‬
‫لعل ذلك يساهم في رفع ما هوسائد عموما من‬ ‫صيرورة تشكلها ومفاصل ارتكازها ّ‬
‫ّ‬
‫اللبس وااللتباس املفاهيمي ّ‬
‫مما نعيش تداعياته وآثاره عمليا وحياتيا في السياق‬
‫العربي واإلسالمي عموما‪ ،‬ومما يجعل إيالء هذه املباحث مزيدا من االهتمام‬
‫والتركيزذا أهمية حيوية مرتبطة ّ‬
‫بتحوالت وأزمات الواقع وليست إطالقا من باب‬
‫الترف الذهني‪.‬‬

‫‪ -1‬أركون‪ ،‬محمد‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي دارالساقي لندن ‪ . 1991‬ص‪101، 100 .‬‬

‫‪365‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الئحة املصادرواملراجع‬

‫• قنواتي‪ ،‬جورج و غارديه‪ ،‬لويس‪ :‬فلسفة الفكر الديني بين اإلسالم‬


‫واملسيحية‪ ،‬دارالعلم للماليين‪ ،‬جزء أول‪. ،‬بيروت ‪.1967‬‬
‫• التهانوي‪ ،‬محمد علي‪ :‬كشاف اصطالحات الفنون والعلوم‪ ،‬مكتبة لبنان‪،‬‬
‫جزء أول بيروت ‪.1996‬‬
‫• العموش‪ ،‬خلود‪ :‬الخطاب القرآني دراسة في العالقة بين النص والسياق ‪.‬‬
‫جدارا للكتاب عمان ‪.2008‬‬
‫• بن عاشور‪ ،‬محمد الطاهر‪ :‬تفسيرالتحريروالتنوير – الجزء الخامس عشر‪:‬‬
‫سورة النحل قوله تعالى قل ّنزله روح القدس من ربك بالحق‪ .‬تونس ‪.1984‬‬
‫• الزاهي‪ ،‬نوري‪ :‬املقدس اإلسالمي‪ .‬دارتوبقال للنشر‪ ،‬الدارالبيضاء ‪.2005‬‬
‫• شلحد‪ ،‬يوسف‪ :‬بنى ّ‬
‫املقدس عند العرب قبل اإلسالم وبعده‪ .‬دار الطليعة‬
‫بيروت ‪.1996‬‬
‫• أركون‪ ،‬محمد‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي دارالساقي لندن ‪.1991‬‬

‫‪366‬‬
‫املصادرواملراجع االجنبية‬

• Ben Abdeljelil, Jameleddine ; Kurnaz, Serdar: Maqāṣid aš-Šarīa. Die


Maximen des islamischen Rechts . Frankfurter Schriften zum Islam.
Studienreihe Islam im Diskurs, Band 1. Studienreihe Herausgegeben
von Jameleddine Ben Abdeljelil. Berlin, EB-Verlag 2014.
• Louis Gardet, Georges Anawati: Introduction à la théologie
musulmane. Essai de théologie comparée (Etudes de philosophie
médiévale; Bd. 37). 3. ed. Vrin, Paris 1981
• Joseph Chelhod: Les Structures du sacré chez les Arabes.
Maisonneuve et Larose Paris 1964
• Mircea Eliade: Le sacré et le profane. Gallimard Paris. 1987
• Rudolf Otto: Das Heilige. Über das Irrationale in der Idee des
Göttlichen und sein Verhältnis zum Rationalen (1917). Nachdruck.
München1988.
• Cornelis. P. Tiele: Grundzüge der Religionswissenschaft. Leipzig
1904
• Stefan Kurth, Karsten Lehmann: Religionen erforschend.
Kulturwissenschaftliche Methoden in der Religionswissenschaft.
Wiesbaden 2011.
• Pippa Norris, Ronald Inglehart: Sacred and Secular: Religion and
Politics Worldwide. Cambridge 2004.

367 ‫ م‬2020 ‫ يناير‬- ‫ ه‬1441 ‫ جمادى األولى‬3 ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد‬
‫الرتمجة‬
‫هل تدعو األسفار املقدسة‬
‫حقا إىل العنف؟‬
‫‪ -‬ترمجة ‪-‬‬
‫د‪ .‬سعيد كفايتي‬

‫تتضمن هذه املقالة ترجمة للفصل التاسع املعنون ب ـ ـ‪Les livres sacrées‬؟‪,‬‬
‫‪ violents‬املوجود ما بين الصفحة ‪ 211‬والصفحة ‪ 233‬في كتاب ‪Sur la religion‬‬
‫ملؤلفه الفيلسوف الفرن�سي الشهير ‪ Rémi Brague‬وقد صدرالكتاب سنة ‪2018‬‬
‫بدار نشر ‪ ،Flammarion‬باريس‪ .‬وقد شكل صدوره حدثا ثقافيا كبيرا تعكسه‬
‫وفرة الكتابات حوله‪ ،‬وكان هناك إجماع على أهمية القضايا التي أثارها‪ .‬وبما أن‬
‫املؤلف ُيشير إلى الكتاب املقدس بعهديه القديم والجديد‪ ،‬مكتفيا فقط بتحديد‬
‫اإلصحاح واآلية‪ ،‬فقد حرصنا على إحالة القارئ العربي إلى االستشهاد كامال‪،‬‬
‫وذلك حتى تتضح الفكرة في ذهنه‪.‬‬
‫النص‪:‬‬
‫هل يمكن للعنف الذي ُيمارس باسم هذه الديانة أو تلك أن يعتمد على‬
‫النصوص املؤسسة لها؟ سأقتصر ها هنا على الوثائق التي تتمتع بالسلطة والتي‬
‫تحظى باإلجماع من لدن ديانة ما أو من لدن مجموع الديانات املسماة الديانات‬
‫التوحيدية‪ ،‬وهي التسمية التي أراها غيرمناسبة ولكن مع ذلك احتفظ بها ها هنا‬
‫طلبا للتبسيط‪.‬‬

‫‪371‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫نكرر تقريبا دون تمييز بأن العنف موجود في النصوص املقدسة‪ .‬ال تقنعني‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قاعدة فضفاضة مثل تلك التي تقر بوجود ال�شيء فقط‪ .‬فمن شأنها أن تغذي‬
‫الكسل الفكري وتمنع التحقيق الدقيق الذي من املفروض أن تقوم به‪ .‬يجب‬
‫في واقع الحال أن نعرف‪ ،‬بدقة‪ ،‬أي نمط من التلفظ اتخذ العنف موضوعا له‪.‬‬
‫لنقم بتيبولوجيا‪ .‬سآخذ كخيط ناظم ثالث ملكات‪ :‬ملكة الذاكرة‪ ،‬ملكة التخيل‪،‬‬
‫ملكة اإلرادة‪ .‬وتتقاطع هذه امللكات الثالث مع األبعاد الزمنية الثالث‪ :‬املا�ضي‪،‬‬
‫املستقبل‪ ،‬الحاضر‪.‬‬
‫تصنيف‬
‫ ‪ُ - 1‬يمكن للعنف أن ُيروى‪.‬‬
‫ أ‪ -‬يمكن أن يكون موضوعا لقصة ما تروي أحداثا من املفروض أنها حدثت فعال‪.‬‬
‫هذا هو حال املذابح املرتبطة بغزو أرض كنعان كما وردت سفر يشوع‪ .‬فساكنة‬
‫ُ‬
‫بعض املدن قتلت بالسيف عن بكرة أبيها‪ ،‬بما في ذلك النساء واألطفال وحتى‬
‫الحيوانات‪ .‬في األسفار الخمسة فإن الالويين الذين ُعهد إليهم بأداء الطقوس‬
‫الخاصة بإله إلسرائيل لم يتورعوا حتى عن قتل إخوانهم أو أبنائهم إذا ما انخرط‬
‫هؤالء في عبادة العجل الذهبي‪.1‬‬
‫ويمكن أن نذكر أيضا مشهد جبل الكرمل‪ .‬فقد قدم كهنة بعل الدليل على‬
‫عدم جدوى تضرعاتهم من أجل نزول املطر فتم ذبحهم على يد النبي إيليا‪.2‬‬
‫وتعتبر قصة امللك ياهو عبارة عن سلسلة متتابعة من املذابح واالغتياالت التي‬
‫ذهب ضحيتها كهنة بعل‪ .3‬و يحفل سفرا املكابيين املوجودان فقط في الترجمة‬
‫اليونانية للكتاب املقدس بالصور الدموية مثل تنفيذ اإلعدام في حق سكان‬
‫َ ْ َ ُ ََ َ ْ َ ُ َ ْ ُ ْ َ‬ ‫ال َّ ُّ َ ُ ْ َ َ َ ُ ُ ُّ َ‬ ‫«ه َك َذا َق َ‬‫ال َل ُه ْم‪َ :‬‬ ‫َ‬
‫«ف َق َ‬
‫الرب اله َاسرا ِئ ُيل‪ :‬ضعوا كل و ِاح ٍدُ سيفه علَى ف ِخ ِذ ِه َو َم ُّروا وار ِجعوا ِمن ب ٍ‬
‫اب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫‪-1‬‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الوي ِبحس ِب‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اح ٍد َص ِاحبه وكل و ِاح ٍد ق ِريبه»‪ ..‬ففعل بنو ِ‬ ‫اب ِفي الح َل ِة واقتلوا كل و ِاح َ ٍد اخ ْاه وكل و َِ‬ ‫ٍ‬ ‫الى ب‬
‫االف َر ُج ٍل»‪ .‬سفرالخروج ‪.)27-28 :32‬‬ ‫َ َْ َ ُْ‬ ‫َ ْ ُ َ َ َ َ َ َّ ْ‬
‫قو ِل مو�سى‪ .‬ووقع ِمن الشع ِب ِفي ذ ِلك اليو ِم نحو ثالث ِة ِ‬
‫‪( - 2‬سفرامللوك األول ‪)20-40 :18‬‬
‫‪( - 3‬سفرامللوك الثاني ‪9-10‬‬

‫‪372‬‬
‫سنسجل مشهدا شديد الرعب ُ‬ ‫‪ُ 1‬‬
‫صور بكل حذق البالغة الهلينية‬ ‫مدينة عفرون ‪.‬‬
‫حيث تم الهجوم على موكب عرس والقضاء على من فيه‪.2‬‬
‫ أ‪ -‬يمكن للعنف أن يكون موضوعا للتخييل حيث ُيكلف املستمع بفك شفرة‬
‫املعنى‪ .‬وهذا هو الحال في بعض «األمثال»‪ .‬ومن ذلك قصة الكرم حيث يرفض‬
‫الكرامون دفع األقساط إلى املالك‪ ،‬ويقتلون عبيده‪ ،‬وابنه‪ .‬وجوابا عن سؤالهم‬
‫َ ً ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫الذي طرحوه على عي�سى يجيب‪ :‬أول ِئ َك األ ْر ِد َي ُاء ُي ْه ِلك ُه ْم َهالكا َر ِد ّيا‪ .3‬نالحظ بأن‬
‫ليبثوا فيه‪ .‬فاالبن الحقيقي‬ ‫هذا الجواب املفعم بحس االنتقام ُترك للمستمعين ُ‬
‫املضحى به الذي ُيحيل عليه النص فقد طلب من والده أن يعفو عن جالديه‪.4‬‬
‫أو أيضا ذلك امللك الذي وجه دعوات لحضور حفل عرس ابنه‪ .‬هنا أيضا تم‬
‫سفك دماء الضيوف فاغتاظ امللك وبعث جحافل من جيشه للقضاء على‬
‫‪« -1‬فأهلك كل ذكربحد السيف ودمرها وسلب غنائمها واجتازفي املدينة من فوق القتلى» سفراملكابيين‬
‫األول ‪)51 :5‬‬
‫ن‬
‫اخبريوناتان وسمعان أخاه أن بني يمر يقيمو عرسا عظيما ويزفو العروس من‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫األمور‬ ‫‪« -2‬وبعد هذه‬
‫ميدابا باحتفال عظيم وهيابنة بعض عظماء كنعان فذكروا يوحنا أخاهم وصعدوا واختبئوا وراء الجبل‬
‫ثم رفعوا أبصارهم ونظروا فإذا بجلبة وجهازكثيروالعروس وأصحابه وإخوته خارجون للقائهم بالدفوف‬
‫وآالت الطرب وأسلحة كثيرة فثار عليهم رجال يوناتان من املكمن وضربوهم فسقط قتلى كثيرون وهرب‬
‫الباقون إلى الجبل فاخذوا كل أسالبهم و تحول العرس إلى مناحة وصوت آالت طربهم إلى نحيب» (سفر‬
‫املكابيين األول ‪.)37-41 :9‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ ُ ُ َ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ُ ُ ْ َ َ ً َ ّ ً َ ُ َ ّ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َ ُ َ ْ َ َ َ ْ َ‬
‫‪« -3‬قالوا له‪« :‬أول ِئك األر ِدياء يه ِلكهم هالكا ر ِديا ويس ِلم الكرم ِإلى كر ِامين آخ ِرين يعطونه األثمار ِفي أوق ِاتها»‪.‬‬
‫(متى ‪.)41 :21‬‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُ َ ُّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ‬
‫ات ُرؤ َس ِاء الك َه َن ِة‪ .‬ف َحك َم‬ ‫و‬‫ص‬ ‫أ‬‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ات‬‫و‬‫ص‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ي‬‫و‬ ‫ق‬ ‫ف‬ ‫‪.‬‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ين‬ ‫ب‬ ‫ال‬ ‫ط‬ ‫ة‬ ‫يم‬ ‫ظ‬ ‫ع‬ ‫ات‬
‫ٍ‬ ‫و‬ ‫ص‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ن‬‫و‬ ‫ج‬ ‫‪« -4‬فكانوا يل‬
‫وه َو َأ ْس َل َم َي ُسوعَ‬ ‫الس ْجن َأل ْجل ف ْت َنة َو َق ْتل َّالذي َط َل ُب ُ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ َ ْ َِ ُ َ ِ ْ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َِ َ َ ٍ ُ ُ ِ َّ ِ ُ‬
‫َ‬ ‫ِبيالطس أ َن تكون ِطلبت َهم‪ .‬فأطلق لهم ال ِذيً َط ِرح ِفي ً َ ِ ِ ً ِ ْ ِ ٍ ٍ ِ‬
‫يب ِل َي ْح ِمل ُه‬ ‫الص ِل َ‬ ‫ض ُعوا َع َل ْي ِه َّ‬ ‫ان آتيا م َن ال َح ْقل َو َو َ‬ ‫َ َ ُ ْ َ ّ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ َ َّ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِل ِْشيئ ِت ِه ْم‪ .‬ولا َمض ْوا ِب ِه أ ْمسكوا ِس ْمعان َرجال قي َروا ِنيا ك ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ور ٌ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫وع‪َ .‬و َتب َع ُه ُج ْم ُه ٌ‬ ‫َ َ‬
‫الن َس ِاء الل َوا ِتي ك َّن َيل ِط ْم َن أ ْيضا َو َي ُن ْح َن َعل ْي ِه‪ .‬فال َتف َت ِإل ْي ِه َّن‬ ‫ِ‬ ‫و‬‫الش ْعب َ‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ير‬ ‫ث‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬
‫ف َي ُس َ‬ ‫خل‬
‫َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ َ ْ َ ُ َّ َ َّ ُ ُ َ َ َ َّ ٌ َ ْ‬
‫ات أورش ِليم ال تب ِكين علي ب ِل اب ِكين على أنف ِسكن وعلى أوال ِدكن‪ .‬ألنه هوذا أيام تأ ِتي‬ ‫يسوع وقال‪« :‬يا بن‬
‫ُ َ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ ُ َّ َ َ‬ ‫ِْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫َي ُقولون ِف َيها‪ :‬ط َوبى ِلل َع َوا ِق ِر َوال ُبطو ِن ال ِتي ل ْم ت ِل ْد َوالث ِد ّ ِي ال ِتي ل ْم ت ْر ِض ْع‪ِ .‬حين ِئ ٍذ َي ْب َت ِدئون َي ُقولون ِلل ِج َب ِال‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س؟»‪َ .‬و َج ُاءوا‬ ‫ِ‬ ‫الرط ِب َيف َعلون َهذا ف َماذا َيكون ِبال َي ِاب‬ ‫ْ‬ ‫ود َّ‬ ‫ِ‬ ‫اس ُق ِطي َعل ْينا َوِلآلك ِام‪ :‬غ ِطينا‪ .‬ألنه ِإن كانوا ِبال ُع‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وه ُه َناكَ‬ ‫ص َل ُب ُ‬ ‫«ج ْم ُج َم َة» َ‬ ‫ض ْوا به إ َلى ْالَ ْوضع َّالذي ُي ْد َعى ُ‬ ‫آخ َرْين ُم ْذن َب ْين ل ُي ْق َت َال َم َع ُه‪َ .‬و َلَّا َم َ‬ ‫َْ ً َْْ َ‬
‫أيضا ِباثني ِن‬
‫َ َ َ َ‬ ‫َ َ ِ َِ َِ ُ ُ ِ ِ َ ِ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ًِ ِ ِ ِ‬
‫ُْْ‬
‫وع‪«َ :‬يا أ َب َت ُاه اغ ِف ْر ل ُه ْم أل َّن ُه ْم ال َي ْعل ُمون َماذا‬ ‫َم َع الذ ِن َب ْي ِن َو ِاحدا َع ْن َي ِمي ِن ِه َواآلخ َر َع ْن َي َس ِار ِه‪ .‬فقال يس‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ‬
‫َي ْف َعلون»‪َ .‬وِإ ِذ اقت َس ُموا ِث َي َاب ُه اقت َر ُعوا َعل ْي َها»‪( .‬لوقا ‪.)23-34‬‬

‫‪373‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫القتلة وإحراق مدينتهم‪ .1‬وداخل إطار هذه األمثال أي تلك التي جاءت على شكل‬
‫ُ‬
‫سرديات متخيلة أو هكذا ُينظر إليها فإن مشاهد القتل تعتبر عقوبات مستحقة‪.‬‬
‫هناك مثل شديد التعقيد يمزج بطريقة رعناء بين قصتين مختلفتين في األصل‬
‫متمثال في الرواية التي يقدمها لوقا عن «مثل الوزنات»‪ .‬فالقصة اإلطار تروي‬
‫كيف أن شخصية رفيعة سافرت إلى بالد أجنبية الستالم الحكم‪ ،‬وبعد عودته‬
‫ذبح من الوريد إلى الوريد وفي حضرته أولئك الذين تآمروا عليه‪.2‬‬
‫ج ‪ -‬يمكن للعنف في األخير أن يكون موضوع عملية إخراج فني‪ .‬وفي نظري‬
‫ينبغي أن نفهم على هذه الشاكلة القصة الطريفة للتجارالذين تم إبعادهم عنوة‬
‫من الهيكل‪ ،‬وهو املشهد الذي ألهم بطابعه الفرجوي عددا من الرسامين‪ ،‬بما‬
‫فيهم ‪ . Giotto, El Grec‬يجب النظر إليه كأنه دليل على العنف الذي مارسه‬
‫املسيح‪ ،‬سواء من أجل لومه في الغالب أو من أجل تبرير التيار األكثر تشددا في‬
‫الهوت التحرير‪ .‬ومن خاصيات هذا املقطع أننا نجده في األناجيل املتشابهة (متى‬
‫‪ 12-13 :21‬ومرقس ‪ 15-17 :11‬ولوقا ‪ )13-22 :19‬وفي اإلنجيل الرابع (يوحنا ‪:2‬‬
‫‪.)13-22‬‬
‫في الواقع إن ما قام به املسيح يجب أن يكون تأثيره محدودا ألنه إذا ما انقلب‬
‫إلى العنف فإن الحامية العسكرية الرومانية ستتدخل‪ .‬وردود فعل أولئك الذين‬
‫ُ‬
‫يدعوهم يوحنا باليهود تبين حقيقة ما وقع‪ ،‬أي إحدى السلوكات النبوية التي‬
‫تعتبر أشبه ما تكون بأمثال حية وملموسة يحفل بها الكتاب املقدس خاصة في‬
‫سفري أرميا وحزقيال‪ .‬ويدرك اليهوذيون الذين كانوا في عين املكان هذا جيدا فهم‬
‫أبعد ما يكونون عن االحتجاج والتعنت حينما طلبوا من املسيح أي العالمات التي‬
‫يمكنه إظهارها لتبريرادعائه أنه نبي‪.3‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ َ َ ُ َ ْ َ‬
‫ود ُه َوأ ْهل َك أول ِئ َك القا ِت ِل َين َوأ ْح َرق َم ِد َين َت ُه ْم‪( .‬متى ‪)7 :22‬‬ ‫‪ -1‬فلما س ِمع ال ِلك غ ِضب وأرسل جن‬
‫ْ َ ُ َ َ َْ ُ ُ ُ‬ ‫َ َُْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ‬
‫وه ْم ق َّد ِامي (لوقا ‪.)27 :19‬‬ ‫ين ل ْم ُي ِر ُيدوا أ ْن أ ْم ِل َك َعل ْي ِه ْم فأتوا ِب ِهم ِإلى هنا واذبح‬ ‫‪ -2‬أما أعدائي أولئك ال ِذ‬
‫َ َ َ َ ُ ْ ِ َ ُ ُ ِ َ َّ َ َ ُ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ‬
‫‪ -3‬فسأله اليهود‪« :‬أية آي ٍة ت ِرينا حتى تفعل هذا؟ يوحنا ‪18 :2‬‬

‫‪374‬‬
‫‪ - 2‬يمكن للعنف أن يكون شيئا مرغوبا فيه‪.‬‬
‫أ‪ -‬مرغوبا فيه وذلك نكاية باملضطهدين حيث يريد الضحايا االنتقام منهم‪.‬‬
‫والضحايا كما الحظ ذلك رونيه جيرار ‪ René Girard‬ال يكونوا دائما مهذبين‬
‫جدا أمام جالديهم‪ .‬وهكذا فإن اليهود املنفيين إلى بابل كانوا يحلمون بدورهم بأن‬
‫يهشموا على الحائط رؤوس أبناء حراسهم‪ .1‬فهذه الرغبة املجنونة لالنتقام يمكن‬
‫أن تتحول إلى مجرد خيال أو حتى حلم مثلما هو الحال في جنس األدب الرؤيوي‪.‬‬
‫فقبل ظهور هذا الجنس كانت ثمة نصوصا (غير قانونية ) تنسب إلى قمران مثل‬
‫«قواعد الحرب» التي تقدم شكال في وضعية انتقالية‪ .2‬فأبناء النور تحت قيادة‬
‫رئيس املالئكة كان من املفروض أن يهلكوا أبناء الظالم الذين يقودهم بليال‪.‬‬
‫فمراحل الحرب اآلسكاتولوجية تم وصفها بدقة متناهية‪ :‬األسلحة‪ ،‬و النافخون‬
‫في البوق‪ ،‬واملالبس العسكرية‪ .‬ال �شيء تم إغفاله سوى صحة هذه الوقائع‪.‬‬
‫ب‪ -‬التضرع بالعنف في صيغة فيها الكثير من الغلو‪ :‬فمن ُيسبب الفضائح‬
‫خير له لو طوق عنقه بحجر رحى وطرح في البحر‪ .3‬فهاهنا ليس هناك أي قاعدة‬
‫قانونية‪ ،‬هل ذلك بسبب أن كلمات «خير له» تبين أن األمر يتعلق بممتلكات‬
‫َ‬
‫«ك َ‬
‫ان‬ ‫املذنب‪ ،‬وليس بعودة العمل بقاعدة تم خرقها‪ .‬واملقطع املوازي األقرب هو‬
‫َ ْ ً َ َ َّ َ َ َ‬
‫الر ُج ِل ل ْو ل ْم ُيول ْد»‪ .4‬وهو التصريح الذي ال يمكن أن ُيشكل تهديدا‬ ‫خيرا ِلذ ِلك‬
‫طاملا أن التمني جاء على أية حال متأخرا‪.‬‬
‫ُ َ َ ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ‬
‫الصخ َرة (املزامير ‪)9 :137‬‬ ‫‪ -1‬طوبى ِلن يم ِسك أطفال ِك ويض ِرب ِب ِهم‬
‫‪2- Kriegsrole, dans Die Texte aus Qumran. Hebraisch und deutsch, éd E.Lohse, Munich,‬‬
‫‪Kösel, 1964, p. 180-225.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ُ َ‬ ‫ُْ‬
‫الص َغ ِار ال ْؤ ِم ِن َين ِبي ف َخ ْي ٌر ل ُه ل ْو ط ّ ِوق ُع ُن ُق ُه ِب َح َج ِر َر ًحى َوط ِر َح ِفي ال َب ْح ِر» (مرقس ‪:9‬‬ ‫‪«َ -3‬و َم ْن َأ ْع َث َر َأ َح َد ّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫ّ َ ُْ‬ ‫ِ َ َ ْ ََْ َ َ َ ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الصغ ِار الؤ ِم ِن َين ِبي فخ ْي ٌر ل ُه أ ْن ُي َعل َق ِفي ُع ُن ِق ِه َح َج ُر‬ ‫(متى ‪« .)6 ْ:18‬ومن أعثر أحد هؤ ِ ِ‬
‫ء‬ ‫ال‬ ‫‪ ،)42‬وانظر‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ‬
‫الرحى ويغرق ِفي لج ِة البح ِر» (متى ‪.)6 :18‬‬
‫الر ُجل َّالذي به ُي َس َّل ُم ْاب ُن اإل ْن َسان‪َ .‬كانَ‬ ‫َّ‬ ‫وب َع ْن ُه َو َلك ْن َو ْي ٌل ل َذلكَ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اض ك َما ُه َو َمك ُت‬
‫ْ‬
‫«إن ْاب َن اإلن َسان َم‬ ‫‪َّ -4‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ً َ َ َّ ِ ُ َ ِ ْ َ ْ ُ ٍ َْ‬
‫خيرا ِلذ ِلك الرج ِل لو لم يولد» (متى ‪)24 :26‬‬

‫‪375‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ج‪ -‬استحضار العنف باعتباره تهديدا ُيلوح به اإلله‪ُ ،‬ويترك للدار اآلخرة‪.‬‬
‫فالكثير من الديانات تعرف جهنم‪ ،‬والتي تتفاوت في وصفها من حيث التفاصيل‬
‫ومن حيث السادية‪ .‬فالبوذية الصينية تعرض مشاهد التعذيب التي ُيسلطها‬
‫الشياطين على امللعونين وذلك في لوحات تنبض بالحياة ‪ .‬يذكر أفالطون أيضا‪،‬‬
‫لكن في األساطير‪ ،‬عقوبات جهنمية التي ال حد لها بالنسبة للعصاة والطغاة على‬
‫حد سواء‪.1‬‬
‫ففي مشاهد الوصف التي يحتوي عليها العهد القديم فإن الدودة ال تموت‪.2‬‬
‫وفي العهد الجديد ُيدفع يوحنا‪ ،‬بهمة ونشاط‪ ،‬في بحيرة بها نار الشياطين‬
‫وخدمهم‪ .3‬وحسب القرآن الكريم فإن هللا يبدل جلود الكافرين بجلود أخرى‬
‫ليذوقوا العذاب من جديد‪.4‬وقد أزعجت مثل هذه التفاصيل في القرن العاشر‬
‫امليالدي العلماء املوسوعيين امللقبين بإخوان الصفا‪ .5‬والتلمود البابلي في نسخته‬
‫التي نجت من الرقابة يظهر املسيح في جهنم وهو يعاني األمرين من محنة الخراء‬
‫املغلى‪.6‬‬

‫‪1- Platon, Gorgias, 525 ce ; République, X, 615c-616a.‬‬


‫َ ْ ُ ُ َ َ ًَ‬
‫وت َو َن َار ُه ْم ال ُتط َفأ َو َيك ُونون َرذالة‬ ‫ود ُه ْم َال َي ُم ُ‬ ‫صوا َع َل َّي َأل َّن ُد َ‬ ‫ين َع ُ‬‫الناس َّالذ َ‬ ‫ون ُج َث َث َّ‬ ‫«‪ ‬و َي ْخ ُر ُجو َن َو َي ُر َ‬
‫‪َ -2‬‬
‫َ ْ ُ ُ ُ ُ ْ َ َ ُ ُ َ َّ ُ َ ُ ْ َ ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ‬
‫ِلك ِ ّل ِذي َج َس ٍد» (أشعيا ‪ )24 :66‬وتم االستشهاد به في مرقس ‪ 48 :9‬حيث دوده َم ال يموت والنار ال تطفأ‪.‬‬
‫َ‬
‫ين ق ِبلوا ِس َمة‬
‫َّ َ َ َّ َّ َ َ ُ‬
‫ات ال ِتي ِبها أضل ال ِذ‬ ‫ِ‬
‫الصان ُع ُق َّد َام ُه َ‬
‫اآلي‬ ‫ِ‬ ‫النب ّي ْال َك َّذاب َم َع ُه‪َّ ،‬‬ ‫ض َع َلى ْال َو ْحش َو َّ‬ ‫‪ َ -3‬ف ُقب َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يت‪( .‬رؤيا يوحنا ‪:19‬‬ ‫ر‬ ‫النار الُ َّتق َدة ب ْالك ْ‬
‫ب‬ ‫ورته‪َ .‬و ُطر َح اال ْث َنان َح َّي ْين إلى ُب َح ْي َرة َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ص‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫د‬‫ين َس َج ُ‬ ‫ْال َو ْحش َو َّالذ َ‬
‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪)20‬‬
‫َّ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ ً ُ َّ َ َ َ ْ ُ ُ ُ ُ ْ َ َّ ْ َ ُ ْ ُ ُ ً َ ْ َ َ َ ُ ُ ْ‬
‫‪«ِ -4‬إن ال ِذين كفروا ِبآيا ِتنا سوف نص ِل ِيهم نارا كلما ن ِضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ِليذوقوا‬
‫َ‬ ‫َ ُ ْ ُ ُ ْ َ َّ َ‬ ‫ين َآم ُن ْوا َو َعم ُل ْوا َّ‬ ‫ان َعز ًيزا َحك ًيما َو َّالذ َ‬ ‫ْ َ َ َ َّ َّ‬
‫الل َه َك َ‬
‫ات ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت َها‬ ‫ٍ‬ ‫ات سند ِخلهم ج َن‬ ‫ِ‬ ‫الص ِال َح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫العذاب إن‬
‫َ ْ َ ُ َ ِ َ َ َ َ ً َّ ُ ْ َ َ ْ َ ٌ ُّ َ َّ َ ٌ َ ُ ْ ُ ُ ْ ًّ َ ً َّ َّ َ َ ْ ُ ُ ُ ْ ُ َ ُّ ْ َ َ َ َ‬ ‫ِ‬
‫ات َ ِإلى‬ ‫طهرة وند ِخلهم ِظال ظ ِل ُيال‪ِ .‬إن الله يأمركم أن تؤدوا األمان ِ‬ ‫األنهار خال ِدين فيها أبدا لهم فيها أزواج م‬
‫الل َه َك َ‬
‫َّ َّ‬ ‫َ ْ َ َ َ ِ َ َ ْ ُ ِ َ ْ َ َّ َِ َ ْ ُ ُ ْ ْ َ ْ َّ َّ َ َّ َ ُ‬
‫يعا َب ِص ًيرا‪َ .‬يا أ ُّي َها‬
‫ان َسم ً‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ظ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬‫ع‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫د‬‫ع‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُِ ِ ْ َ ِ َ َ َ ْ ِ ُ ِ ْ ِ َ ْ َ ُ ُّ ُ ِ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ ِ َ ِ َ ُ ْ َ ُ ْ َّ َ َ َ ِ ُ ْ َّ ُ َ ِ َ ُ ِ ِ َ‬
‫ال ِذين آمنوا أ ِطيعوا الله وأ ِطيعوا الرسول وأ ِولي األم ِر ِمنكم ف ِإن تنازعتم ِفي �شي ٍء فردوه ِإلى الل ِه والرسو ِل‬
‫َْ ً‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ ُ ُ ْ ُ َ َّ َ ْ َ ْ‬
‫اآلخ ِر ذ ِل َك خ ْي ٌر َوأ ْح َس ُن تأ ِويال» سورة النساء ‪56-59‬‬ ‫ِإن كنت ْم تؤ ِمنون ِبالل ِه واليو ِم ِ‬
‫‪Frères sincères», Epitres, IV, 1 (42), 51, op.cit., t.3, p.527« -5‬‬
‫‪Talmud de Babylone, traité Gittin, 57a -6‬‬

‫‪376‬‬
‫ليس من العسير أن نرى في هذه األشياء كلها أحاسيس املستضعفين أمام‬
‫أولئك الذين يسيطرون عليهم‪ .‬من الضروري اإلصغاء هنا إلى نيتشه الذي‬
‫استطاع أن يكشف النقاب عن هذه العاطفة الحزينة التي تعتبر على األقل‬
‫واحدة من مصادرالديانة‪.1‬‬
‫‪ - 3‬يمكن للعنف أن يكون مطلوبا‪ .‬وقد يتعلق األمربما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬بقاعدة ثابتة سنها قانون معين بهدف معاقبة مرتكبي بعض الخروقات‪.‬‬
‫ومثال ذلك قانون العقوبات في إسرائيل القديمة كما هو معروف لدينا من خالل‬
‫التوراة‪.‬‬
‫فقد عرف هذا القانون عقوبة اإلعدام في عدة حاالت‪ ،‬بما في ذلك بعض‬
‫الحاالت التي تثيراستغرابنا في الوقت الراهن‪ ،‬والتي تغيظنا كثيرا‪ .‬وهذا ما ينطبق‬
‫يش»‪ .2‬وقد أف�ضى هذا اإلصحاح إلى وقوع نكبات خالل‬ ‫على «ال َت َد ْع َس ِاح َر ًة َت ِع ُ‬
‫تعقب الساحرات التي ميزت القرنين السادس عشروالسابع عشرفي أوروبا‪.‬‬
‫وقد سن أحد اإلصحاحات عقوبة الرجم بعد إجراء البحث ضد أي شخص‬
‫يعبد ويخدم آلهة أخرى غيرإله إسرائيل‪.3‬‬
‫وعوقبت سدوم بدورها بالهالك في التوراة‪ 4.‬كما سيحدث الحقا في اإلسالم‬

‫‪1- F.Nietzsche, Zur Genealogie der Moral, I, 15‬‬


‫‪( -2‬الخروج ‪)18 :22‬‬
‫الربّ‬ ‫الر ُّب إ ُله َك َر ُج ٌل َأو ْام َ َرأ ٌة َي ْف َع ُل َش ّ ًرا ِفي َع ْي َني َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪« -3‬إ َذا ُوج َد في َو َسط َك في َأ َحد َأ ْب َواب َك التي ُي ْعطيكَ‬
‫ِ‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ ِ َ َ ُِ َِ ْ َ ِ َ ْ َ ِ ُ َ َ ْ ُ ُ َ ِ ً ُ ْ ِ َ َ َ ِ ْ ُ ُ َ َ ْ ِ َّ ْ َ ْ ِ َ َ َ ْ ُ‬
‫س أو ِللقمَ ِر أو ِلك ٍل ِمن جن ِد السم ِاء ‪-‬‬ ‫ى‬
‫ِإ ِلهك ِبتجاو ِز عه ُ ِد ِه‪ .‬ويذه ُب ْويع َبد ِآلهة أ َخر َ ويس َجد لها ًأو ِلَلش َم ِ‬
‫الر ْجسُ‬ ‫يد‪َ .‬ق ْد ُع ِمل َذ ِل َك ّ‬ ‫يح أك ٌ‬
‫ِ‬
‫صح ٌ‬
‫ِ‬
‫األ ْم ُر َ‬ ‫صت َج ّيدا َوإذا‬ ‫لم أوص به‪َ .‬وأخب ْرت َو َسم ْعت َوف َح ْ‬
‫ِ‬ ‫الذي ْ‬‫ال�ش ْي َء ِ‬‫َّ‬
‫َ َ ِ َ ِ َ َ ْ َ ّ ّ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ ِ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ ْ ْ ِ َ ِ َ َّ ِ ُ َ ْ ِ َ َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬
‫الش ِرير ِإلى أبو ِابك الرجل أ ِو املرأة‬ ‫الذ َي فَعل ذ ِلك األمر ِ‬ ‫ِفي ِإس َرا ِئيل‪ .‬فأخ ِرج ذ ِلك الرجل أو َ ِتلك املرأة َ ِ‬
‫َُْ ُ َُْ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫الذي يقتل‪ .‬ال يقتل على ف ِم ش ِاه ٍد‬
‫َ‬ ‫ود يق َتل ً ِ‬ ‫ُ‬
‫الحجار ِة حتى يموت‪ .‬ع َلى ف ِم ش ِاهد َي ِن أو ثالث ِة شه ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫و ْارجم َه ِب ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫ود تكون َع ْلي ِه أ َّوال ِلقت ِل ِه ث َّم أ ْي ِدي َج ِم ِيع الش ْع ِب أ ِخيرا فتن ِزع الش َّر ِم ْن َو َس ِطك» (التثنية‬ ‫ْ‬
‫و ِاح ٍد‪ .‬أي ِدي الش ُه ِ‬
‫َ‬
‫‪.)2-7 :17‬‬
‫َ‬ ‫اله َما ْجسا‪ .‬إنهما ُي ْق َ‬ ‫اع امرأة َف َق ْد َف َعال ك ُ‬ ‫اضط َج َ‬ ‫اض َط َج َع َر ُج ٌل َم َع َذ َكر ْ‬
‫الن‪َ .‬د ُم ُه َما َعل ْي ِه َما»‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ر‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫‪« -4‬وإذا ْ‬
‫(الالويين ‪.)13 :20‬‬

‫‪377‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫سواء في القرآن الكريم‪ 1‬أو في الحديث الشريف‪ .2‬ويرفض العهد الجديد سلوك‬
‫املثليين‪ ،3‬ويهددهم بالجحيم إن هم آتوا هذه الفاحشة‪ .4‬غير أنه ال يحتوي على‬
‫أي موقف تشريعي ُيطبق في الحياة الدنيا‪.‬‬
‫ج‪ -‬يمكن أن يكون أمرا باستعمال العنف في وقت محدد ضد صنف من‬
‫الخصوم يتعين محاربتهم من أجل قتلهم أو أسرهم‪.‬‬
‫ينبغي التمييز بين نوعين من األحكام‪ :‬أحكام مهجورة ويعود ذلك إلى أن من‬
‫شرعها اشترط أن تكون سارية املفعول في حالة مخصوصة وفي زمان ومكان‬
‫معينين‪ .‬أما النوع الثاني من األحكام فقد أصبحت مهجورة ألن أسباب النزول لم‬
‫تعد قائمة‪ .‬لكن لنفترض أن أسباب النزول ظهرت من جديد‪ ،‬في هذه الحالة فإن‬
‫األمر يصبح نافذا‪ .‬هكذا فإن مو�سى بن ميمون يوضح بأن الحكم القا�ضي بإبادة‬
‫القبائل الكنعانية السبع‪ ،‬وخاصة املنحدرين من نسل عماليق‪ ،‬كما ورد في سفر‬
‫التثنية‪ ،5‬سيظل ساري املفعول‪.6‬‬
‫ليس كافيا إذا القول بأن هذا الحكم أو ذاك لم يعد نافذا ألنه ال يكون ساري‬
‫املفعول إال في ظروف معينة تنتمي إلى ماض بائد‪ .‬لكن إذا ما افترضنا بأن هذه‬
‫وه َّن ِفي‬ ‫نك ْم َفإن َشه ُد ْوا َف َأ ْمس ُك ُ‬ ‫ّ َ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َّ َ ْ َ َ ً ّ ُ‬ ‫َ َ‬
‫‪«َ -1‬والال ِتي َيأ ِت َين ال َف ِاحشة ِمن ِنسا ِئكم فاستش ِهدوا علي ِهن أربعة ِم‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ َ َ َ َ َّ ُ َّ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ُ َّ َ ً َ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ‬ ‫ْ‬
‫صل َحا‬ ‫وت حتى يتوفاهن الوت أو يجعل الله لهن س ِبيال‪ .‬واللذان يأ ِتي ِانها ِمنكم فآذوهما ف ِإن تابا وأ‬ ‫ِ‬ ‫ال َ ُب ُي‬
‫َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َّ َّ َ َ َ َ‬
‫ان ت َّو ًابا َّر ِح ًيما» سورة النساء ‪15-16‬‬ ‫فأع ِرضوا عنهما ِإن الله ك‬
‫ُ‬
‫‪ ,Abu Dawud , Sunan, 33 (Punitions), n0 4447-4448 -2‬تنظرأحاديث صحيحة أخرى‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ُ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ ْ َ َ َّ‬
‫ال الط ِب ِيع َّي ِبال ِذي َعلى ِخال ِف‬ ‫االس ِتعم‬ ‫‪«ِ -3‬لذ ِلك أسلمهم هللا ِ َإلى أهو ِاء الهو ِان ألن ِإن ُاثهم استبدلن ِ‬
‫اع ِل َين‬ ‫ف‬
‫َ‬
‫ض‬ ‫اش َت َع ُلوا ب َش ْه َوته ْم َب ْعضه ْم ل َب ْ‬
‫ع‬
‫ور ْ ً َ َ ْ ْ َ َ ْ َ َّ َّ ْ‬
‫يع ِة‪َ .‬وكذ ِل َك الذك ُ أيضا ت ِار ِكين اس ِتعمال األنثى الط ِب ِيعي‬
‫ُّ ُ‬ ‫َّ َ َ َ‬
‫الطب‬
‫ِ ِ ِ ٍ ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ْ َ ِْ َ َ ُ ُ ً ُ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ‬
‫َّ‬ ‫ُْ‬
‫ور ونا ِئ ِلين في أنف ِسهم جزاء ضال ِلهم ال ِحق» رومية ‪)26-27 :1‬‬ ‫الفح َشاء َذكورا ِبذك ٍ‬
‫َ‬
‫ض ْت َو َر َاء َج َس ٍد آخ َر‪،‬‬ ‫ور َ َ ِ ْ ُ ُ َ َّ ِ َ ْ َ ُ َ ْ ِ َِ َن ْت َع َلى َطريق م ْثله َما َو َم َ‬ ‫َ‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫وم َو َ‬
‫ع‬ ‫‪« -4‬ك َما أ َّن َس ُد َ‬
‫ِ ٍ ِ ِِ‬ ‫ز‬ ‫ذ‬ ‫إ‬‫ِ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬‫و‬‫ح‬ ‫ي‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫د‬ ‫ال‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ة‬
‫َ‬
‫اب ن ٍار أ َب ِد َّي ٍة»‪ .‬يهوذا ‪7‬‬ ‫ُجع َل ْت ع ْب َر ًة ُم َكاب َد ًة عق َ‬
‫َ‬
‫ُ ْ َ َّ ُّ ُ َ َ ً‬
‫يبا ِل َت ْم َت ِل َكهاَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ َ َ َ ِ َ َ َ َِ َّ ِ ُّ ُ َ ْ َ َ‬
‫التي يع ِطيك الرب ِإلهك ن ِص‬ ‫ض ِ‬ ‫َ‪« -5‬فم ْتى أراحك َالرب َ ِإلهك ِمن ج ِم ِيع أَ ْعدا ِئك حولك ِفي األر ِ‬
‫س» (التثنية ‪)19 :25‬‬ ‫ت ْم ُحو ِذك َر َع َم ِاليق م ْن ت ْح ِت َّ‬
‫الس َم ِاء‪ .‬ال تن َ‬ ‫ِ‬
‫‪6- Maïmonide, Sefer ha-Mitsvot, Commandements positifs, n0187, éd Y.Qafih, Jérusalem,‬‬
‫‪Mosad Rav Kook, 1994, p. 153-154; tr.fr A-M.Geller, Lausanne, L’âge d’homme, 1987, p.‬‬
‫‪170-171.‬‬

‫‪378‬‬
‫الظروف استجدت أو أن البعض اعتبر أن لديها راهنية في العصر الحاضر‪ ،‬في‬
‫هذه الحالة فإن األحكام ذات الصلة يمكن أن تستمد حيويتها األصلية‪..‬‬
‫ه‪ -‬يمكن أن يتعلق العنف ببرنامج نعده نحن ألنفسنا‪ .‬وهذه حالة الدعوة‬
‫ُْ‬ ‫َ َ ُ ُّ َ ّ ْ ُ ُ ْ َ َ َ ً َ َ َ‬
‫ض‪َ .‬ما ِج ْئ ُت ِلل ِق َي‬
‫ِ‬ ‫ر‬‫األ ْ‬ ‫الشهيرة للمسيح‪« :‬ال تظنوا أ ِني ِجئت ِلل ِقي سالما على‬
‫ً‬ ‫َ ً‬
‫َسالما َب ْل َس ْيفا»‪ .1‬إن التغا�ضي عن هذه الدعوة‪ ،‬واالفتراض بأنها ناتجة عن خطأ‬
‫الناسخ مثلما علل ذلك فولتير وهو يحاور املسيح في العالم اآلخر ُيعتبر عمال‬
‫ََ ُ َ َّ‬
‫تبسيطيا إلى حد ما‪ .2‬ولتلك الدعوة ما يوازيها عند لوقا‪« :‬أتظ ُّنون أ ِني ِج ْئ ُت‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ َ ُ َ ُ‬ ‫ُْ َ َ َ ً ََ َ‬
‫ض؟ كال أقو ُل لك ْم! َب ِل ان ِق َساما»‪ 3.‬فهو يشكل سلفا محاولة‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫األ ْ‬ ‫ألع ِطي سالما على‬
‫في التأويل املجازي‪ .‬واألرجح بأن األمر يتعلق باستعارة على شاكلة قولنا بأن هذا‬
‫الحكم نافذ‪ .‬أما بخصوص للسيف امللموس فإن الحكم الوحيد الذي سنه‬
‫‪4‬‬
‫املسيح هو وضعه في الغمد‪.‬‬
‫تاريخ أو تواريخ‬
‫إن الحروب التي خاضها بنو إسرائيل ضد أعدائهم هي من الوقائع التي يمكن‬
‫للمؤرخين الوصول إليها اعتمادا على الوثائق واآلثار‪ .‬وهكذا فإن الحرب ضد‬
‫مؤاب التي رواها الكتاب املقدس‪ 5‬نجد لها شاهدا‪ ،‬وإن جاء في لهجة مختلفة‪ ،‬في‬
‫النصب الذي أقامه حوالي ‪ 840‬ميشع ملك موؤاب‪ ،‬واملحفوظ في متحف اللوفر‪.‬‬
‫من ناحية أخرى وفي الوقت الذي ال تعوزنا فيه الوثائق عن وجود جماعات من‬
‫«اليهود» في مصرالفرعونية‪ ،‬وفي الوقت الذي ورد فيه إسرائيل باالسم في نصب‬
‫مرنبتاح فإن حدثا مثل الخروج‪ ،‬والذي يحتل مكانة مركزية في تمثل إسرائيل‬
‫‪ -1‬متى ‪34 :10‬‬
‫‪2- Voltaire, Dictionnaire philosophique, article Religion, section II, éd.J.Benda et Naves,‬‬
‫‪Paris, Garnier, s.d . , t.2, p. 355‬‬
‫‪ -3‬لوقا ‪51 :12‬‬
‫ُ ََ ْ‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ ْ ْ َ ْ ُ َّ َ َ‬
‫اآلب أال أش َ ُرب َها؟ يوحنا ‪.11 :18‬‬ ‫س ال ِتي أ ْعطا ِني‬ ‫‪ -4‬فقال يسوع ِلبطرس‪« :‬اجعل سيفك ِفي ال ِغم ِد‪ .‬الكأ‬
‫‪ -5‬امللوك الثاني ‪4-27 :3‬‬

‫‪379‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫لتاريخها ال أثر له في الحوليات املصرية‪ .1‬األرجح أن الروايات حول غزو كنعان‬
‫هي ثمرة تخيالت تعود إلى املا�ضي‪ ،‬وتحديدا إلى األوساط اليهوية في أورشليم التي‬
‫كانت تتطلع من خالل حلقات تاريخية إلى إبراز رغبتها في إقامة طقوس حصرية‬
‫لإلله املعبود‪ .‬وال تؤكد األركيولوجيا أن أرض إسرائيل كانت موضوع غزو مفاجئ‬
‫وسريع‪.‬‬
‫ما ُيروى عن إبادة القبائل الكنعانية في العصور القديمة هو في حقيقة األمر‬
‫تحديد موقع في املا�ضي لرغبة‪ ،‬ال تزال حاضرة بقوة‪ ،‬في استئصال الوثنية‪ .‬لم‬
‫تتحقق هذه الرغبة‪ ،‬قطعا‪ ،‬إال بشكل جزئي‪ .‬كان ذلك ‪،‬على سبيل املثال‪ ،‬خالل‬
‫حكم امللك يوشيا الذي حظي بتقريظ مؤرخي ما ُيعرف باسم املدرسة التثنوية‬
‫ألنه أبقى هيكل أورشليم ودمر ما عداه من أماكن العبادة األخرى‪ .2‬وتتضمن‬
‫بعض املقاطع املسلية حججا واهية‪ .‬هكذا فإن شعب إسرائيل تلقى من جهة‬
‫أمرا بإبادة (اللعنة‪ ،‬عدم العفو) الشعوب التي تم غزوها (محرما للرب‪ ،‬عدم‬
‫العفو‪ ،)..‬وعدم التصاهر معهم من جهة أخرى‪ .3‬وهو ما يؤدي إلى افتراض وجود‬
‫أصهاروزوجات أبناء بعد إبادة كان من املفروض أال تبقي وال تذرأحدا‪.‬‬
‫في جميع الحاالت فإن هذه النصوص ُحررت في وقت لم تكن فيه الوضعية‬
‫الحقيقية لصالح الشعب العبري‪ .‬بل بالعكس فقد كانوا باألحرى محاصرين‬
‫ما بين قوى اإلمبراطورية املصرية و إمبراطورية بالد الرافدين‪ ،‬في وضعية ال‬
‫يحسدون عليها متخذين أرضهم ساحة للمعركة‪ .‬فروايات الحرب املذكورة في‬
‫الكتاب املقدس هي أحالم تعويضية وليست وقائع تاريخية‪ .‬وهذا األمر ينطبق‬
‫‪1 - Textes dans K.Galling et al., Textebuch zur Geschichte Israels, Tübingen, Mohr, 1950,‬‬
‫‪n0 24, p.47-49, et n017, p.34‬‬
‫‪ - 2‬امللوك الثاني ‪22-23‬‬
‫َ َ َ ُ ُ َّ ُّ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ َ ُ َ ّ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ً‬
‫دا َوال ُت ْشف ْق َع ْليه ْم‪َ .‬وال ُت َ‬
‫صاه ْر ُهم‪ْ.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪« - 3‬دفعهم الرب ِإلهك أمامك وضربتهم ف ِإنك تح ِرمهم‪ .‬ال تقطع لهم عه‬
‫َْ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ْابن َت َك ال ت ْع ِط ِال ْب ِن ِه َو ْابن َت ُه ال تأخذ ِال ْب ِن َك» التثنية ‪.)2-3 :7‬‬

‫‪380‬‬
‫أيضا على األدب العبري ملا بعد مرحلة العهد القديم‪ ،‬ومن ذلك ‪sefer yosippon‬‬
‫الذي تم تأليفه جنوب السودان حوالي ‪950‬م‪ ،‬والذي ضخم تاريخ فالفيوس‬
‫ينسب إلى جيوش إسرائيل انتصارات لم ُيكتب لها أبدا التحقق على‬ ‫جوزيف وهو ُ‬
‫مستوى الواقع‪ .1‬إن تعايش الكنعانيين مع بني إسرائيل‪ ،‬ومن ثم عدم تعرضهم‬
‫لإلبادة هي الفكرة التي تريد بعض الروايات تعزيزها وتحاول أن ترى فيها إرادة‬
‫مرتبطة مباشرة باهلل‪ .‬وهكذا هي قصة العاهرة راحاب التي كانت هي وعائلتها‬
‫بمأمن من القتل ألنها أخفت مبعوثي يشوع الذين جاءوا إلى هذه املنطقة تمهيدا‬
‫لغزو أريحا‪ .2‬وتسمح هذه القصة في الوقت نفسه بتعليل بقاء غير اإلسرائيليين‬
‫املنحدرين من راحاب‪ ،‬والتقليل من شأنهم بالنظرإلى وضاعة مهنة أسالفهم‪.‬‬
‫إن بقاء الكنعانيين أحياء تم تفسيره اعتمادا على حذروروية هللا الذي يريد أن‬
‫يتجنب أن يعم الخراب األرض التي أصبحت خاوية على عروشها‪ .3‬أو أيضا يتم‬
‫تعليلها باعتبارها عقابا سلطه إله بني إسرائيل على اإلسرائيليين الذين لم يعودا‬
‫كذلك بسبب كفرهم‪.4‬‬
‫ظالل من الغموض‬
‫ُ‬
‫تعتبر بعض املقاطع غامضة‪ ،‬وذلك في غياب سياق يسمح بإدراجها في إحدى‬
‫التصنيفات التي وضعتها‪ .‬يمكن أن تتخذ مثاال على هذه املقاطع إصحاح الجزء‬
‫‪1 - Josippon.Jüdische Geschichte, éd.D.Börner-Klein et B.Zuber, Wiesbaden, MarixVerlag,‬‬
‫‪2010 (non vidi).‬‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ ُ ُ َ َ َ َّ َ‬
‫يل ِإلى َهذا ال َي ْو ِم‪ ,‬أل َّن َها‬ ‫الزا ِن َية َو َب ْي َت أ ِب َيها َوك َّل َما ل َها‪َ .‬و َسك َن ْت ِفي َو َس ِط ِإسرا ِئ‬ ‫‪« - 2‬استحيا يشوع راحاب‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َّ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ‬
‫خبأ ِت الرسلي ِن اللذي ِن أرسلهما يشوع ِليتجسسا أ ِريحا» (يشوع ‪)25 :6‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َ ً ََ َُْ ََْ َ ُ ُ ُ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫وش ال َب ّ ِرَّي ِة‪ .‬ق ِليال ق ِليال‬ ‫‪«  - 3‬ال اط ُر ُد ُه ْم ِم ْن أمامك ِفي َس َن ٍة َو ِاح َد ٍة ِلئال ت ِص َير األرض خ ِربة فتكثر عليك وح‬
‫َ َ ْ ُ َُ‬ ‫اط ُر ُد ُه ْم ِم ْن أمامك إلى أن ُت ْث ِم َر َو َت ْم ِل َك األرض» الخروج ‪« 29-30 :23‬و َو ِلك َّن َّ‬ ‫ْ‬
‫الر َّب ِإ َلهك يط ُرد هؤ ِ‬
‫الء‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الب ّ ِ َّري ِة» (التثنية ‪.)22 :7‬‬ ‫وش َ‬ ‫يعا ِل َئال َت ْك ُث َر َع ْلي َك ُو ُح ُ‬‫ُّ ُ َ ْ َ َ َ ً َ ً َ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ ْ َ ً‬
‫الشعوب ِمن أم ِامك ق ِليال ق ِليال‪ .‬ال تست ِطيع أن تف ِن َيهم س َ ِر‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫يل َو َق َ‬ ‫الر ّب َع َلى إ ْس َرا ِئ َ‬ ‫‪َ - 4‬ف َحم َي َغ َ‬
‫«م َ ْن أ ْج ِل أن هذا َالشعب قد تعدوا عه ِدي ال ِذي أوصيت ِب ِه‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ال‪:‬‬ ‫ض ُب َّ‬
‫وع ع ْندَ‬ ‫ين َت َر َك ُه ْم َي ُش ُ‬ ‫ُ‬
‫انا م ْن أ َمامه ْم م َن األ َمم َّالذ َ‬ ‫َْ َ َ ْ ً َ ُ ُ ُُْ ْ َ ً‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ ْ َِ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ضا ال َأعود أطرد ِإنس ِ‬ ‫آباءهم ولم يسمعوا ِلصو ِتي‪ .‬فأنا أي‬
‫الر ُّب‬ ‫الر ّب ِل َي ْس ُل ُكوا ِب َها َك َما َح ِف َظ َها َآب ُاؤ ُه ْم‪َ ,‬أ ْم َال»‪َ .‬ف َت َر َك َّ‬ ‫يق َّ‬ ‫يل‪َ :‬أ َي ْح َف ُظو َن طر َ‬ ‫َم ْو ِت ِه‪َ .‬أل ْم َت ِح َن به ْم إ ْس َرا ِئ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يعا َو َل ْم َي ْد َف ْع ُه ْم ب َيد َي ُش َ‬ ‫ُ َ َ ُ َ َ َ َ ِ ْ ِ َ ِْ ُ ْ ُ ْ َ ً‬
‫وع (القضاة ‪.)20-23 :2‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫أول ِئك األمم ولم يطردهم س ِر‬

‫‪381‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫«ال َس َال َم َق َ‬
‫َ‬
‫علي دون‬ ‫اعترض ّ‬ ‫الر ُّب ِلألش َر ِار»‪ .1‬لقد‬
‫ال َّ‬ ‫الثاني من سفر أشعيا‪:‬‬
‫النظر إلى السياق خالل برنامج إذاعي‪ ،‬وذلك لدعم فكرة اقتران الدين بالعنف‪.‬‬
‫فجملة في صيغة النفي هي بالضرورة غامضة‪ .‬هل هو حكم موجه أساسا إلى‬
‫«الخيرين» لكي ال يتركوا في سالم األشرار‪ ،‬وفي األخير يعلنون الحرب عليهم؟ أو هو‬
‫مجرد استنتاج أو درس مأخوذ من مالحظة سلوكهم‪ :‬فاألشرار ال يكونوا أبدا في‬
‫سالم معهم أو حتى مع أنفسهم؟‬
‫بالنظر إلى غياب السياق الذي ورد فيه هذا املقطع‪ ،‬واعتمادا على االنطالقة‬
‫التي ارتجلتها‪ ،‬هذا ما اعتقده‪ .‬لكن في سفر أشعيا نفسه (‪ .2 )21 :57‬نجد صيغة‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ ْ ُْ ْ َ‬
‫ضط ِر ِب أل َّن ُه‬ ‫مماثلة‪ .‬غير أن املقطع مسبوق بإصحاح حيث إن األشرار كالبح ِر ال‬
‫ً‬ ‫ًَ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ال َي ْس َت ِط ُيع أ ْن َي ْه َدأ َوت ْق ِذف ِم َي ُاه ُه َح ْمأة َو ِطينا‪ .‬في هذه الحالة األخيرة يبدو أن‬
‫اإلصحاح يبرز القلق الشديد املالزم لألشرارالذين ال يستقرون في مكان ما‪ .‬لكن‬
‫ال وجود ألي نية ملهاجمتهم‪.‬‬
‫وهناك إشكالية مماثلة في تأويل آية قرآنية يبدو أنها تحمل معنى مخالفا‪« .‬ال‬
‫إكراه في الدين»‪ .3‬ففي هذه السورة جاءت اآلية غيرمتالئمة مع السياق مثلما هو‬
‫حال في الكثير اآليات القرآنية حيث إن البعض منها يحظى بأهمية كبرى‪ .‬ونتيجة‬
‫لذلك‪ ،‬وفي غياب السياق‪ ،‬فال يمكننا أن نعرف هل تشكل منعا بإكراه اآلخر‬
‫على اعتناق الديانة التي يعتقد بداهة أنها صحيحة أو هو فقط إقرار باستحالة‬
‫اإلكراه‪ .‬في هذه الحالة يمكن أن يتعلق األمربالواقعة البديهية التي مفادها أننا ال‬
‫ننجح أبدا في إكراه أي أحد على اعتقاد ما ال يريد أن ُيؤمن به‪ .4‬ما لم يتعلق األمر‬
‫بالحقيقة النفسية التي فحواها أن من يكون منتسبا لديانة معينة ال يشعر بأي‬
‫‪ -1‬أشعيا ‪22 :48‬‬
‫َْ‬ ‫َْ َ َ ٌَ َ َ َ‬
‫ال ِإل ِهي ِلألش َر ِار(أشعيا ‪.)21 :57‬‬ ‫‪  -2‬ليس سالم ق‬
‫‪ -3‬سورة البقرة اآلية ‪256‬‬
‫‪4- R.Paret, «Sure 2, 256 : la ikraha fi d-dini. Toleranz oder Resignation?», Der Islam, 4.5‬‬
‫‪(1969), p .299-300.‬‬

‫‪382‬‬
‫ضغوط‪ .‬وهذا ما يدعو بقية املقطع إلى التأمل فيه‪.‬‬
‫ُ‬
‫إن حياة الرسول أو سيرته الرسمية التي دونت حوالي ‪ 830‬تدرج لآلية ضمن‬
‫رسالة ملحمد ﷺ وجهها إلى يهود خيبر يطلب منهم أن يبحثوا في التوراة عما إذا‬
‫كانت قد دعتهم إلى اإليمان به‪ .‬وإذا لم يكن األمركذلك فال كره عليكم‪ .1‬لم يختف‬
‫الغموض تماما‪ .‬ألن املقطع يمكن أن يدل فقط بأن اليهود ال يمكن إقناعهم إال إذا‬
‫جاءهم دليل من التوراة نفسها‪.‬‬
‫تداخل‬
‫إن األصناف الثالثة من النصوص التي ميزتها أعاله على مستوى املفاهيم‬
‫تتداخل فيما بينها من حيث طريقة إدراكها وتوظيفها‪ ،‬خاصة ما يتعلق بالعنف‬
‫املروي والعنف املطلوب‪ .‬هنا عندما ُيقترف العنف أو يكون تنفيذا ألوامرشخص‬
‫النصح أو على‬‫ذي أهمية كبرى فإن القصة يمكن بسهولة ُويسرأن تؤدي وظيفة ُ‬
‫األقل االعتذار‪ ،‬وليس األمرباملعنى الحقيقي للكلمة‪.‬‬
‫ُ‬
‫ومع ذلك ما أكثر أفعال العنف التي تنسب في القصص التاريخية للكتاب‬
‫املقدس‪ ،‬إلى تلك األوامر التي يصدرها أحد األنبياء أو ُنتنسب مباشرة إلى أمر‬
‫إلهي‪ .‬وهذا حال امللك شاؤول‪ .‬فهو لم يتعرض بسوء إلى ياجوج ملك العماليق‬
‫الذي سبق أن هزمه‪ ،‬والذي يرى فيه‪ ،‬على األرجح‪ ،‬خصمه اللذوذ‪ .‬قد الحظ‬
‫ليو ستراوس بلهجة ساخرة بأنه يتصرف كأنه جانتلمان‪ ،‬وهو من الشخصيات‬
‫النادرة التي تمت اإلشارة إليها في الكتاب املقدس اليهودي‪ .2‬لهذا فإن امللك سينال‬
‫حظه من التقريع من قبل صامويل ألنه ع�صي أوامر إله إسرائيل الذي فرض‬
‫‪ -1‬ابن هشام‪ :‬السيرة النبوية‪ ،‬تحقيق محمد السقا وآخرون‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار إحياء التراث‪ ،‬العربي‪ ،‬د‪.‬ت‪،‬‬
‫ج ‪ ،2‬ص ‪158‬‬
‫‪The Life of Muhammad, tr . A.Guillaume, Oxford University Press, 1955, p. 256.‬‬
‫‪2 - L.Strauss, «Progress or Return ?», dans The Rebirth of Classical Political Rationalism.‬‬
‫‪An Introduction to the Thought of Leo Strauss, Essays and Lectures by Leo Stauss, Se-‬‬
‫‪lected and Introduced by Thomas L.pangle, Chicago, The Univeresity of Chicago Press,‬‬
‫‪1989, p.249.‬‬

‫‪383‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫عليهم إبادة العماليق جميعهم حتى آخرواحد منهم‪.1‬‬
‫ُيعتبر مو�سى في نظر ماكيافيل نموذجا فقط لرجل السياسة‪ ،‬فيما يؤجل‬
‫بطريقة فجة الحديث عن صفات الزعيم كما يحلم بها‪.‬‬
‫إن أي أحد يقرأ الكتاب املقدس بطريقة ذات معنى سيرى أن مو�سى الذي يريد‬
‫لتشريعاته ومؤسساته االستمرارية سيكون مجبرا على قتل عدد غير محدود من‬
‫الناس الذين دون أن يحركهم �شيء آخرغيرالغيرة‪ ،‬سيقفون ضد مخططاته‪.2‬‬
‫ُ‬
‫يمكن لقصة خيالية مثل األمثال أن تستعمل كأوامر‪ .‬وهاهنا سلوك فيه‬
‫احتيال‪ .‬كانوا ضحايا الصيغة الشهيرة‪ :‬استعجلهم للدخول التي قيلت بشأن‬
‫الضيوف الذين تم جمعهم من هنا وهناك‪ ،‬الصالح منهم والطالح‪ ،‬ليحضروا‬
‫حفلة زفاف ابن امللك‪.3‬‬
‫أتاحت الصيغة الالتينية ‪ compelle intrare‬للقديس أوغسطين أن يجد‬
‫تعليال إلرغام الدوناتيين على االلتحاق بالكنيسة‪ .4‬وقد كان الكتاب في العصر‬
‫الحديث أمثال بايل وفولتير على حق تماما في استنكار سذاجة أسلوب التفسير‬
‫وأكثرمن ذلك قساوة النتائج امللموسة املترتبة عنه‪.5‬‬
‫ََ ْ َ َ َُ‬
‫ان لك ْم ِفي َر ُسو ِل‬‫في القرآن الكريم إذا كان هللا هو املؤلف فإنه يعلن‪ :‬لقد ك‬
‫ٌ‬ ‫َّ ُ ٌ‬
‫الل ِه أ ْس َوة َح َس َنة‪ .6‬نرى في هذا الرسول غير املسمى شخصية محمد ﷺ‪ .‬ومن‬
‫ثم ستستمد أفعاله وحركاته قيمة نموذج معين من السلوك‪ .‬وسيكون ألقواله‬

‫‪ - 1‬صامويل األول‪15 ،‬‬


‫‪2 - N.Machiavel, Discorsi sopra la prima Deca di Tito Livio, III, 30, dans Tutte le opre‬‬
‫‪storiche, politiche e letterarie, éd. A.Capata, Rome, Newton Compton, 2011, p.248.‬‬
‫َ َ َ َّ ّ ُ ْ َ ْ ْ ُ ْ َ ُّ ُ ق َ ّ َ َ َ َ ْ ْ ُ ْ ُّ ُ‬
‫الدخو ِل َح َّتى َي ْم َت ِل َئ َب ْي ِتي (لوقا ‪)23 :14‬‬ ‫ات وأل ِزمهم ِب‬
‫السياج ِ‬
‫‪ - 3‬فقال الس ِيد ِللعب ِد‪ :‬اخرج ِإلى الطر ِ و ِ‬
‫‪.Augustin, Lettre XCIII, II, 5, PL, 33, 323 - 4‬‬
‫‪5 - P.Bayle, Commentaire philosophique sur ces paroles de Jésus-Christ : «Contrains –les‬‬
‫‪d’entrer» (1686), éd/J-M.Gros, Paris, Champion, 2006  ; Voltaire, Traité sur la tolérance‬‬
‫‪(1763), XIV, dans lettres philosophiques… , Paris, Flammarion, 2008, p.402-404. ‬‬
‫‪ - 6‬سورة األحزاب‪21 ،‬‬

‫‪384‬‬
‫قوة العقيدة‪ .‬فهذه اآلية هي التي أسست البحث والتوظيف التشريعي للحديث‬
‫النبوي الشريف‪ .‬فما يقوم به الرسول ال يمكن أن يكون سيئا‪ ،‬وإذا كان من‬
‫الضروري تقليده فإنه ليس على اإلطالق بمحرم أو ممنوع‪.‬‬
‫الترميز‬
‫تتمثل حركة مناوئة في اتخاذ ما يقدمه الكتاب املقدس كأنه تقرير ألحداث‬
‫وقعت فعال واعتبارها رمزا‪ .‬وهذا األمرال يقت�ضي أن ننفي الطابع التاريخي للوقائع‬
‫املروية‪ .‬فآباء الكنيسة الذين كانوا يستخدمون بشكل كبير التفسير الرمزي ال‬
‫يبدو أنهم شكوا في يوم من األيام في أن قصص الكتاب املقدس يمكن أن تروي‬
‫أحداثا متخيلة أو على األقل مبالغ فيها‪.1‬‬
‫ومع ذلك فإن هذه القصص تلقت دالالت إضافية‪ .‬فزيادة على التفسيرالحرفي‬
‫وفق النظرية الكالسيكية للتفاسير األربع للكتاب املقدس هناك التفسير الرمزي‬
‫واألخالقي والتناظري‪.‬‬
‫ُ‬
‫لنشر إلى املفارقة اآلتية‪ :‬بشكل من األشكال فإن الترميز يجعل األحداث أكثر‬
‫تاريخية طاملا أنه يربطها باستدعاء أو استحضار ماض غير قابل لإللغاء‪ .‬والشك‬
‫أن داللتها التنسكية ‪ mystique‬تكسب قيمة دائمة‪ .‬غير أن مضمونها الواقعي‬
‫سيجد نفسه مرتبطا أشد االرتباط بالحقبة املاضية التي كان شاهدا عليها‪.‬‬
‫أما فيما يخص ما أطلقت عليه اسم العنف املرغوب فيه فلنأخذ املثال‬
‫املذكور أعاله حيث أن صاحب املزامير يتمنى أن يهشم رؤوس الرضع البابليين‬
‫على الجدار‪ .2‬فصاحب التفسير الرمزي يستعيد أو يستحضر هذا التمني‪ ،‬تاركا‬
‫إياه في سياقه التاريخي والنف�سي‪ ،‬غيرأنه ينقله على أساس االستعداد الستئصال‬
‫أي محاولة للتفسير بمجرد ظهورها للوجود دون أن يترك لها فرصة للنمو لكي‬
‫‪1 - Voir H.de Lubac, Histoire et esprit.L’intelligence de l’écriture d’après Origène, Paris,‬‬
‫‪Aubier, 1950, p.92-104.‬‬
‫ُ َ َ ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ‬
‫الصخ َرة! املزامير ‪9 :137‬‬ ‫‪ - 2‬طوبى ِلن يم ِسك أطفال ِك ويض ِرب ِب ِهم‬

‫‪385‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫تصبح خارج السيطرة‪.1‬‬
‫ُ‬
‫يمكن أن نمثل لذلك بمقطع من التوراة يروي كيف أن اإلسرائيليين عند‬
‫خروجهم من مصر أخذوا معهم األشياء النفيسة التي استعاروها من املصريين‪.2‬‬
‫فصاحب التفسير الرمزي ال ينفي السرقة وإن كان ال يرى يراها فيها نموذجا‬
‫جديرا باالقتداء‪ .‬غير أن تقليدا طويل األمد يمتد منذ عصر اليهودية الهلينية‬
‫مع فيلون اإلسكندري‪ ،‬أي في مرحلة املسيح نفسه يرى في هذا التفسير الكيفية‬
‫التي ينبغي أن تسلكها العقيدة في استخدامها للحكمة الدنيوية «الوثنية»‪ ،‬وذلك‬
‫لبلوغ فهم أفضل لها‪.3‬‬
‫حين يتضمن أحد النصوص املقدسة قواعد لفعل ما فإن التفسير الرمزي‬
‫سيضاف عند‬ ‫يمكن أن تترتب عنه نتيجتان‪ :‬في الحالة األولى فإن التفسيرالرمزي ُ‬
‫االقتضاء لألوامرأوالنواهي‪ ،‬وسيضيف إليها داللة أعمق‪ .‬في الحالة الثانية‪ ،‬فإنه‬
‫يعوض ببساطة األوامر اإللهية التي تصبح اختيارية‪ ،‬بل سطحية تماما‪ .‬وهكذا‬
‫فإن الوصايا أو األوامرالتي تم بعثها في إطارمحدد تفقد راهنيتها‪.‬‬
‫فاألديان التي اختارت التركيز على مدونة من القوانين أو الشرائع مثل اليهودية‬

‫ينظر على سبيل املثال‪ ،‬وبشكل خاص ‪Origène, ad hoc., dans Vivliothiki ton Ellion Pateron,‬‬
‫‪ُ -1‬‬
‫‪loc.cit., t.16, p.143 ; Augustin Enarrationes in Psalmos, CXXXVI, 22, éd.E.Dekers et‬‬
‫‪J.Fraipont, Turnhout, Brepols (CCSL, 40, 1978 ; de nos jours, C.S.Lewis, Reflexions on the‬‬
‫‪.Psalms, Londres, Collins, 1977, p.113-114‬‬
‫َْ ُ َ َ‬ ‫ُ ُ ن ْ ْ ّ َ َ َ ُ ُن َ َ َ ْ ُ َ‬ ‫ْ َ ً َ َ َّ‬
‫ضون ف ِار ِغ َين‪َ .‬ب ْل‬ ‫ضون أنكم ال تم‬ ‫الش ْع ِب ِفي ِعيو ِ ِالص ِرِيين‪ .‬فيكو ِحينما تم‬ ‫‪  - 2‬وأعطي نعمة لهذا‬
‫يك ْم َو َب َنا ِت ُكم‪ْ.‬‬‫َ َ َ َ ََ َ ُ ََ ََ َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ ُ ُ ُّ ِ ْ ِ َ َ َ َ ْ َ َ‬
‫ارتها و ِمن ن ِزيل ِة بي ِتها أمتعة ِفض ٍة وأمتعة ذه ٍب و ِثيابا وتضعونها على ب ِن‬ ‫تَ َطلب كل ْامرأة ِمن ج ِ‬
‫ُ‬
‫ص ِاح ِب ِه َوك ُّل‬ ‫الش ْعب ْان َي ْط ُل َب ُك ُّل َر ُجل م ْن َ‬ ‫َّ‬
‫ع‬ ‫ام‬ ‫س‬ ‫صرّي َين» الخروج ‪«َ 21-22 :3‬ت َك َّل ْم في َم َ‬ ‫فت ْسل ُبو َن ِال ْ‬
‫ٍ ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ ُّ ْ َ ً َّ‬ ‫َ‬
‫ص ِرِّي َين‪َ .‬و ْايضا‬ ‫لش ْعب في ُع ُيون ِال ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ٍة وأمتعة ذ َه ٍب»‪ ..‬وأعطى الرب ِنعمة ِل‬ ‫صاح َبت َها أمتعة ف َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫امرأة م ْن َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُم َ َ َ‬
‫يد ِف ْر َع ْون َو ُع ُيو ِن الش ْع ِب» الخروج ‪«َ .2-3 :11‬وف َع َل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ض ِم َ َص َر ِفي ع ُي ْو ِن ع ِب ِ‬ ‫ِ‬ ‫و�سى كان َع ِظيما ِجدا ِفي ْار‬
‫َّ ُّ ْ َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َب ُنو إسرائيل ب َح َسب ق ْول ُم َ‬
‫ض ٍة وأمتعة ذ َه ٍب َو ِث َيابا‪ .‬وأعطى الرب ِنعمة‬ ‫صرّيين أمتعة ف َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫و�سى‪ .‬طل ُبوا م َن ِال ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َُ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لش ْعب في ُع ُيون ِال ْ‬ ‫َّ‬
‫ص ِرِّيين حتى أعاروهم‪ .‬فسلبوا ِالص ِرِيين» الخروج ‪.35-36 :12‬‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِل‬
‫‪ - 3‬انظر امللف في ‪H.de Lubac, Exégèse médiévale. Les quatre sens de l’écriture, Paris,‬‬
‫‪.Aubier, 1959, p.290-304‬‬

‫‪386‬‬
‫واإلسالم يمكن أن تؤول بعض اآليات تأويال رمزيا قد تكون أحيانا جريئة‪ ،‬وذلك‬
‫في وقت يكون األمر متعلقا بقصص أو أوصاف‪ .‬وفي املقابل حين يكون ألحد‬
‫املقاطع مضمونا معياريا (أوامرأو نواهي) فإن هذه األديان ال تقبل سوى الصنف‬
‫األول من التفسيرالرمزي متجنبة بعناية كبيرة كل تفسيرمن شأنه إيقاف سريان‬
‫مفعول قواعد معينة وتجعل من الخضوع إلى هذه القواعد أمرا اختياريا‪.‬‬
‫يميز الغزالي الفيلسوف املسلم األكثر تأثيرا بين نوعين من أنواع التفسير‬
‫َْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫الرمزي‪ ،‬وذلك بشأن قول الرسول ﷺ‪« :‬ال ت ْدخ ُل ال ـال ِئكة َب ْي ًتا ِف ِيه كل ٌب َوال‬
‫ُ ٌَ‬
‫ورة»‪ .‬فهناك من جهة من يتجنب إدخال الغضب إلى منزله ممثال في الكلب لكن‬ ‫ص‬
‫دون االمتناع عن امتالك حيوان للمرافقة‪ .‬وهناك من يحترم القاعدة األخالقية‬
‫ولكن يربطها باالمتناع عن إطعام كلب من لحم ودم‪ .‬فالرجل الكامل هو الذي‬
‫يجمع ما بين التفسيرالظاهروالتفسيرالباطني‪.1‬‬
‫خصوصية القرآن الكريم‬
‫يحتوي القرآن الكريم على عدة أنماط من الخطاب التي قمت بتصنيفها‪.‬‬
‫غير أنه يتميز بخصوصيات أقل ارتباطا بمضمونه (الذي ال ينفصل عن أسفار‬
‫التوراة) منها تميزه بوضعه بالنسبة لوعي املؤمن‪.‬‬
‫‪ - 1‬يتضمن القرآن الكريم أوامر باالحتراب أو بالقتال التي تظل مفتوحة‪ .‬من‬
‫ُ‬
‫املمكن أن تكون قد أعطيت ابتداء في ظروف خاصة غير قابلة للتكرار‪ .‬غير أن‬
‫صياغتها جاءت فضفاضة بدرجة كبيرة بحيث يمكن أن نسقطها حين تدعو‬
‫الضرورة إلى ذلك على أعداء يتم تحديدهم‪ .‬وهكذا يتم دوما استحضار آية‬
‫تستعيد فكرة أحد ربيي التلمود التي فحواها من قتل رجال فكأنما قتل الناس‬
‫جميعا‪ .2‬ويرفع أكثر من ذلك التقييد التلمودي الذي يحصر نطاق التجريم‬
‫‪ - 1‬الغزالي‪ :‬مشكاة األنوار‪ ،‬في مجموع الرسائل‪ ،‬بيروت‪ ،‬دارالكتب العلمية‪ ،‬د‪،‬ت‪ ،‬ص ‪21‬‬
‫‪.Die Nische der lichter, tr.A.A.Elschazali, Hambourg, Meiner, 1987, p.42 /‬‬
‫‪2 - Talmud de Babylone, traité Sanhedrin, 37a.‬‬

‫‪387‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫َْ‬
‫ال ْ‬ ‫ََ ْ َْ َ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ي‬‫ف‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫الضمني بين بني إسرائيل‪ .‬وبدال من ذلك يستثني القتلة «ويسعو‬
‫َ‬
‫ف َس ًادا»‪ .1‬وهذا الصنف يمكن أن يتضمن أنواعا كثيرة من املضامين‪ ،‬وذلك‬
‫حسب حاجيات الجماعة أو الحكام الشرعيين أو الذين نصبوا أنفسهم‪ ،‬والذين‬
‫يزعمون أنهم يتحدثون باسمها‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ - 2‬التمييزما بين القصص التي من املفروض أن تقدم أحداثا ماضية واألمثال‬
‫التي ال تحظى دائما بالقبول في الوعي اإلسالمي‪.‬‬
‫هكذا فإن القرآن الكريم يحفل بقصص الشعوب التي كانت تع�صى الرسول‬
‫املبعوث إليها‪ ،‬وأن هللا كان يسلط عليهم الكوارث واألعاصير والزالزل‪ .‬وهذا‬
‫‪4‬‬
‫حال مجموعة من الشعوب التي لم يبق منها أي أثر‪( :‬عاد)‪2‬و (ثمود)‪3‬و (األيكة)‬
‫ُ‬
‫وجماعات أخرى لم تذكرسوى مرة أو مرتين‪ .‬فقد اعتبرت هذه القصص من قبل‬
‫علماء اللغة قصصا إتيولوجية تضع تفسيرا لوجود األطالل في قلب الصحراء‪.‬‬
‫وسنجد هنا شبيها لهذه القصص في القصة التوراتية التي تروي دمارسدوم‪ 5‬التي‬
‫من املحتمل أن تكون قد أثارت االنتباه إليها بسبب وجود تحجر جنوب البحر‬
‫امليت يستدعي إلى الذهن من حيث الشكل أطالل مدينة ما‪ .‬وهذه القصة هي‬
‫بدورها مذكورة في القرآن الكريم والرسول في وعظه الذي جاء على شكل مشهد‬
‫ُيذكرمحاوريه بأنهم سيمرون أمام أطالل صباح مساء‪. 6.‬‬
‫غير أن املذهب الرسمي للعلماء املسلمين يذهب إلى القول بأن األمر يتعلق‬
‫بقصص تاريخية‪ .‬وحسب املؤرخ األنصاري فإن ابن رشد غامر في نفيه لوجود‬
‫عاد ومن ثم للرياح التي كانت سببا في دمارهم‪ ،‬وهو ما أدى إلى إشارة زوبعة‬
‫سورة املائدة (‪ ،)5‬اآلية ‪33‬‬ ‫‪-1‬‬
‫سورة األعراف ‪65-74‬‬ ‫‪-2‬‬
‫سورة األعراف ‪73-79‬‬ ‫‪-3‬‬
‫سورة الحجر ‪78‬‬ ‫‪-4‬‬
‫‪1-29‬‬ ‫‪:19‬‬ ‫سفرالتكوين‬ ‫‪-5‬‬
‫َ َّ ُ ْ َ َ ُ ُّ َ َ َ ْ ُّ ْ َ َ َّ ْ َ َ َ ْ ُ نَ‬
‫«وِإنكم لتمرون علي ِهم مص ِب ِحين‪ .‬و ِباللي ِل أفال تع ِقلو » سورة الصافات ‪137-138‬‬ ‫‪-6‬‬

‫‪388‬‬
‫حوله‪ .1‬ومع االفتراض بأننا أمام راو متردد أيكون ابن رشد قد أعطى لهذه اآليات‬
‫تأويال رمزيا؟ هذا احتمال ضعيف بالنظرإلى املوقف الذي اتخذه في بعض أعماله‬
‫حيث أظهرتأييده للقراءة األكثرحرفية للكتاب املقدس أي القرآن الكريم‪.2‬‬
‫‪ - 3‬إن األمراألكثرأهمية يستمد‪ ،‬على األرجح‪ ،‬من وضعية النص الذي تعتبره‬
‫ديانة ما نصا مقدسا‪ ،‬ومن ثم يصير نصا معياريا‪ .‬فالكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬بعد‬
‫لجوئها إلى صيغ غامضة‪ ،‬اختارت بتوافق مع العهد الجديد نفسه أن تعتبرها كأنها‬
‫موحى بها من هللا‪ .3‬وبهذا املعنى فإن هللا هو املؤلف ليس فقط ألنه ُيدير تاريخ‬
‫الشعب الذي تلقى الوحي‪ ،‬وإنما أيضا ألنه يثيررجاال قادرين على تلقي الوحي منه‬
‫دون أن يفقدوا شخصياتهم الخاصة‪ ،‬بما في ذلك اإلكراه املرتبط بالحقبة التي‬
‫يعيشون فيها‪ .4‬بالنسبة للمسلمين املتدينين فإن القرآن الكريم لم يأت على شكل‬
‫إلهام‪ ،‬وإنما أماله هللا بواسطة جبريل على الرسول محمد‪ .‬والرسول محمد ﷺ‬
‫أبلغه إلى الناس دون أي زيادة أو نقصان‪ .‬ولقبه املشهور األمين تعني بشكل دقيق‬
‫الشخص الذي يرجع الوديعة املؤتمن عليها إلى أصحابها‪ .5‬ومؤلف رسالة القرآن‬
‫ليس كائنا بشريا‪ ،‬وإنما هللا نفسه‪ .‬غير أن هللا خارج الزمان واملكان وهو يتعالى‬
‫عنهما معا‪ ،‬وهو يعرف كل �شيء‪ .‬وكل ما يحتوي عليه القرآن الكريم يجب إذن‬
‫أن يكون صحيحا‪ .‬ومن ثم فإن تأويل حكم واضح ال يمكن إال أن يوضح معنى‬
‫‪E.Renan, Averroès et l’averroïsme (1852), Appendice II, dans‬‬ ‫‪ - 1‬النص متاح بسهولة في‬
‫‪.Œuvres complètes, éd.H.Psichari, Paris, Calmann-Lévy, t.III, p.37 et 334-335‬‬
‫‪ - 2‬ابن رشد‪ :‬الكشف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪139-142‬‬
‫‪ - 3‬ثيموثاوس الثاني ‪15-16 :3‬‬
‫ُ‬
‫‪ - 4‬ينظر ‪J-Y.Lacoste (éd), Dictionnaire critique de théologie, Paris, Puf, 1998, article‬‬
‫‪«Ecriture sainte», 3 et 4, p.368a-371a (C.Focant) ; J.R.Armogathe, «Qui écrit ? Petite histoire‬‬
‫‪de l’inspiration», dans Revue Communio, XLI, 3(2016), p.37-49, et M.Younès, «L’inspiration‬‬
‫‪.en christianisme et en Islam», ibid., p.89-99‬‬
‫‪Ibn Battuta, Voyage, éd.C.Defrémery et‬‬ ‫‪ -5‬بخصوص هذا املعنى ُينظر على سبيل املثال‬
‫‪B.R.Sanguinetti, Paris, Anthropos, 1979 (1854), t.1, p.336 ; Voyageurs arabes, éd.P.Charles-‬‬
‫‪.Dominique, Paris, Gallimard, 1995, p.498‬‬

‫‪389‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
‫الكلمات‪ ،‬وليس االنتقال من ما هو حرفي إلى مقاصد املؤلف‪.‬‬
‫لقد انطلقت من صيغة بسيطة حتى ال أقول من شعار سهل جدا تكراره‪:‬‬
‫العنف موجود في الكتب املقدسة‪ .‬وهذه الصيغة تعوض الجهد املبذول في‬
‫تصور حقيقة الظواهر‪ ،‬بل تمنعه‪ ،‬وذلك من خالل اختزال هذا التنوع إلى‬
‫بساطة واضحة ومكشوفة‪ .‬وما يعتبر شيئا إيجابيا بالنسبة إلى إيديولوجية‬
‫تسعى وراء الشعارات‪ ،‬هو في نظر من يبحث عن إعمال الفكر ‪ُ ،‬يعد من كبريات‬
‫السلبيات‪ .‬وكان من الضروري إذن إدراج سلسلتين من الفوارق‪ .‬فقد بينت من‬
‫جهة أن حضور العنف ليس هو نفسه في جميع الحاالت‪ :‬العنف املروي (التاريخي‬
‫أو املتخيل)‪ ،‬املرغوب فيه أو املطلوب ال يؤدي إلى النوع نفسه من االنتقال إلى‬
‫الفعل‪ .‬وقد تساءلت بعد ذلك حول وضعية النص ذاته الذي تعتبره األديان‬
‫مقدسا‪ ،‬والذي يرتبط بطبيعة مؤلف أو مؤلفيه‪ .‬وستفتح إذن سلسلة من‬
‫األسئلة‪ :‬إلى أي حد يحافظ نص ما حتى اآلن على صحته؟ ما هي العناصر التي‬
‫تقر بالقراءة الرمزية؟ ما هو املقصود ُبيفسر في سياق يتعلق األمر فيه بقصص‬
‫وأماني أو أوامر؟‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َ َّ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َّ َ َ ْ ُ َ‬
‫َ‬
‫ش‪َ ،‬ع ْن َع ْب ِد الل ِه ْب ِن‬ ‫َْ‬ ‫ُْ َ َ‬
‫‪ -‬حدثنا مسدد‪ ،‬حدثنا عبد الو ِاح ِد بن ِزي ٍاد‪ ،‬ع ِن العم ِ‬
‫َ‬
‫ود ّ ٍي ق ْد ُح ِّم َم َو ْج ُه ُه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ََ ُ‬ ‫ُم َّر َة‪َ ،‬عن ْال َب َر ِاء ْبن َعازب‪َ ،‬ق َ َ‬
‫ال‪ :‬م ُّروا على َرسو ِل الل ِه ﷺ ِب َي ُه ِ‬ ‫ِ ٍِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ََ َ ُ ُ ََ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ََُ ُ َ ُ‬
‫وهو يطاف ِب ِه‪ ،‬فناشدهم‪« :‬ما حد الزا ِني ِفي ِكت ِاب ِهم؟» قال‪ :‬فأحالوه على رج ٍل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الزا ِني في ِك َتاب ُك ْم؟» َف َق َ‬
‫«ما َح ُّد َّ‬ ‫م ْن ُه ْم‪َ ،‬ف َن َش َد ُه َّ‬
‫الر ْج ُم‪َ ،‬ول ِك ْن ظ َه َر‬‫ال‪َّ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النب ُّي ﷺ‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ َّ ُ َ ُ َ ُ َ َ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َ‬
‫الزنا ِفي أشرا ِفنا‪ ،‬فك ِرهنا أن يترك الش ِريف‪ ،‬ويقام على من دونه‪ ،‬فوضعنا هذا‬ ‫ِ‬
‫َ ُ َ ُ َّ َ َ َّ ُ َّ ّ َ َّ ُل َ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ َّ َ َ َ َ َ ُ ُ َّ‬
‫عنا‪ ،‬فأمر ِب ِه رسول الل ِه ﷺ فر ِجم‪ ،‬ثم قال‪« :‬اللهم ِإ ِني أو من أحيا ما أماتوا‬
‫ِم ْن ِك َت ِاب َك«‬

‫‪390‬‬
‫‪391‬‬ ‫مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد ‪ 3‬جمادى األولى ‪ 1441‬ه ‪ -‬يناير ‪ 2020‬م‬
392

You might also like