Professional Documents
Culture Documents
العدد الثالث مجلة الموطأ
العدد الثالث مجلة الموطأ
ترمجة:
هل تدعو األسفاراملقدسة إلى العنف؟
مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه /يناير 2020م
احلقوق
-الترقيم الدوليISBN/978 - 9948 - 24 - 448 - 6 :
-رقم الطلب MC - 02 - 01 - 6435026 :
-رقم السجل اإلعالميMF - 02 - 4090510 :
اإلشراف العام
العالمة الشيخ عبد هللا بن بيه
رئيس مجلس اإلمارات لإلفتاء الشرعي
رئيس مركزاملوطأ
رئيس التحرير
خليفة مبارك الظاهري
مديرالتحرير
الدكتور يوسف حميتو
الهيئة االستشارية
اللجنة العلمية ملركزاملوطأ
-الشيخ محمد املختارولد امباله
-أ.د عادل عبد القادرقوته
-أ.د أحمد السنوني
-أ.د عبد الحميد عشاق
-أ.د إبراهيم مشروح
الفهرس
ترمجة:
هل تدعو األسفاراملقدسة إلى العنف؟
د.سعيد كفايتي 371 ...............................................................................................
افتتاحية العدد
كلمة مدير التحرير
عرف الفكر اإلنساني في أواخر القرن املا�ضي حركة عودة إلى مساءلة الدين،
وطرح إشكال عالقة الدين بالتدين ،ولم تكن هذه الحركة قاصرة على دين دون
آخر ،بل إن كل األديان الكبرى عرفت ملمحا من مالمح هذه العودة ،بعد انهيار
مجموعة من النظريات واملناهج الفلسفية التي ألقت بظلها وبثقلها على دائرة
الفكرالفلسفي واستبعد الدين من نطاق دراستها واهتماماتها.
ولم تكن هذه الحركة ذات صورة واحدة ،وال تصور واحد ،وال أفق واحد ،فقد
تنوعت مظاهرها لتجسد في مجملها روح العصرحسب التعبيرالهيجلي ،أو واجب
الوقت بحسب اإلطالق اإلسالمي ،ولم تكن غاية هذه الحركة تقديم تعريف للدين،
بل كانت الغاية بحث موضوع الدين وضبط عالقته بالفلسفة ،وهو ما أنتج نوعا
من تبلور مفهوم «فلسفة الدين» وتطويرا ملناهج فهم الذات وفهم العالم ،مما ال
يزال في حاجة إلى السبر أعماقه .ونظرا إلى أن موضوع الدين وعالقته بالفلسفة
هو من صميم قضايا الشرع والواقع ،فيسرنا أن نقدم إلى القارئ الكريم العدد
الثالث من مجلة املوطأ ،والذي اخترنا أن نخصصه كامال مللف «فلسفة الدين»،
ملا هذا املوضوع من قيمة وراهنية علمية ،نأينا فيه عن املنهج الصدامي ،وحرصنا
فيه ما أمكن على اتباع املنهج املوضوعي الذي يمكننا من فهم سديد لهذه العالقة
بين الدين والفلسفة التي تراكم عليها غبار الزمن وأصابها رذاذ املعارك الفكرية
واأليديولوجية بالصدأ ،وتحاشينا ما يمكن أن يصرف القارئ عن الغاية التي نرجو
أن تكون إضافة ذات بعد قيمي وموضوعي للدارسين .وال يفوتنا أن نتقدم بالشكر
إلى محرر ملف العدد الدكتور إبراهيم بورشاشن أستاذ الفلسفة بالتعليم العالي
باملغرب ،وإلى كل الباحثين الذين أثروا هذا امللف.
مديرالتحرير
يوسف حميتو الدكتور
15 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
تقديم
إذا كان حقل فلسفة الدين من الحقول الحديثة التي استقطبت اهتمام
الباحثين في الفلسفة ،وطمحت ّ
همة الباحثين في غيرها من الحقول إلى االهتمام
ّ
والعامة على ّ
الخاصة به ،في غمار هذه العودة الكبرى ل ّ
ـ«الديني» ،في الحياة
السواء فإن الباحثين في العالم العربي واإلسالمي لم يتوانوا عن اإلدالء بدلوهم
ّ ّ
بالجدة والطرافة في هذا املضمار ،يصدرون أعماال تتراوح بين دراسات تتسم
وبين ترجمات لنصوص مؤسسة؛ أقصد نصوص إيمانويل كنط ،وشاليماخر،
وكركجارد ،وهيغل ،وفويرباخ ،دون أن نغفل التنويه باملؤسسين للنظرالفلسفي
إلى الدين في فضائنا العربي اإلسالمي ،من أمثال :محمد إقبال ،وفضل الرحمن،
ووحيد الدين خان.
ّ
وتلبية للرغبة التي عبر عنها املشرفون على مجلة املوطأ ّ
الغراء ،في انفتاح ملح
التكليف الذي حظينا به لإلشراف على على حقل فلسفة الدين ،وتجاوبا مع ّ
هذا امللف وتنسيق أبحاثه ،أقدمنا على استكتاب جملة من الباحثين العرب
ّ
املتميزين ،شاكرين تجاوبهم معنا ،مراعين في ذلك تعدد املقاربات ،بقصد تقديم
ملف غني ومتنوع يمتد على حقل فلسفي وفكري واسع ،ينتظمه قول فلسفي في
الدين.
يحتوي هذا امللف على أبحاث تتوزع بين حقب تاريخية في اجتهاد خاص ينتظم
املجال الوسيطي ،واملجال الحديث ،واملجال املعاصر ،وتعالج هذه األبحاث
موضوعات متنوعة بعضها تفهم داخل حقل الفكرالغربي الوسيطي ،أوالحديث،
17 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
أواملعاصر .وبعضها ال تفهم إال داخل حقل الفكر اإلسالمي في امتداداته الزمنية
املختلفة كذلك .لكن تظل هذه األبحاث تعبر في مجملها عما يعانيه اإلنسان
املعاصرفي هذه األلفية الثالثة من هموم نظرية وعملية ،وتكشف عن اجتهادات
جديرة بالنظر واالعتبار ،وتدل في نهاية املطاف على أن انفتاح املسلمين على
العالم من خالل إنصاتهم ألسئلة غيرهم والتمرس بدراسة أجوبتهم والتأمل
فيها ،شرط لتطوير تجربتهم العلمية وتوسيع أفق نظرهم ،كما صنعوا قديما مع
فلسفة اإلغريق.
وقد أحجمنا في هذا التقديم عن عرض إشكاليات البحوث املدرجة في هذا
امللف ،وأطروحاتها األساسية ،وما جاء فيها من آراء طريفة ،خيفة اإلطالة
ّ
واإلمالل ،ورغبة في أن نترك للقارئ الشغوف متعة القراءة واالكتشاف في رحلة
علمية بداءة من أغسطينوس ،مرورا بأبي علي ابن سينا ،وأبي حامد الغزالي،
ومحي الدين بن العربي ،وإيمانويل كنط ،وشاليماخر ،ولفيناس ،ورمي براغ .كما
أننا صرفنا بعض البحوث التي وصلتنا ،رغم أهميتها وتقديرنا ألصحابها ،ألنها لم
تكن في صميم املقاصد التي وضعناها للملف.
الدراسات في امللف ال يخضع ألي تصنيف وال بد من اإلشا ة هاهنا إلى أن ورود ّ
ر
ّ ّ ّ
تراتبي ،إنما هو ترتيب مرتبط بمقاصد إجرائية تم تبنيه حتى تنتظم الدراسات
وفق حقب زمنية محددةّ ،توجناه بدراسة د .لحكيم بناني ،أطرت فلسفة الدين
ضمن تاريخ الفلسفة ،مدخال للملف ،وختمناها بالترجمة املتميزة لفصل من
الكتاب األخيرلريمي براغ Brague Remieاملوسوم ،SUR LA RELIGIONوالتي
ّ
خص بها امللف ،د .سعيد كفايتي .كما أن إيرادنا ملفهوم «فلسفة الدين» تعاوره
عبرنا عنه بوضعه بين هاللين.أحيانا بعض التحفظ ّ
وال يسعنى في األخير ،وقد استوى امللف على سوقه ،إال أن أشيد بجهود
الشيخ عبد هللا بن بيه في حرصه الكبيرعلى إدماج الفكرالفلسفي في بنية الفكر
18
ّ
اإلسالمي مذكرا بما صنعه أبو حامد الغزالي في املشرق وما صنعه أبو الوليد بن
رشد في املغرب ،وغيرهما من فقهائنا الكبار الذين حملوا إلى جانب لواء املنقول
الروح السارية في املشروع العلمي للشيخ الكريم ما كانلواء املعقول ،ولوال هذه ّ
النور ،فشكرا للعالمة الجليل حسن استشرافه ،وسعة أفقه، لهذا امللف أن يرى ّ
وبعد نظره ،وجميل مشاركته.
وهللا من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
والحمد هلل واهب العقل.
محرر امللف
إبراهيم بورشاشن
19 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
املشاركون يف امللف
• د .عز العرب لحكيم بناني ،أستاذ التعليم العالي ،مدير مختبر الدراسات
بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،ظهر املهراز ـ فاس ،جامعة سيديالرشديةّ ،
محمد بن عبد هللا.
• د .سعيد كفايتي ،أستاذ التعليم العالي ،رئيس فريق البحث في علم مقارنة
بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية سايس -فاس ،جامعة سيدي محمد بن األديان ّ
عبد هللا.
• د.جمال الدين عبد الجليل ،جامعة لودفيغسبورغ لعلوم التربية /أملانيا،
University of Education Ludwigsburg
• د.سعاد الجويني ،باحثة في الفلسفة اإلسالمية ،من تونس.
• د .مو�سى فاتحين .جامعة الجياللي بونعامة خميس مليانة ( -الجزائر )
• د.محمد منادي إدري�سي ،أستاذ التعليم العالي ،كلية ظهراملهرازبفاس.
• د .أحمد كازى ،أستاذ التعليم العالي ،جامعة أبي شعيب الدكالي بالجديدة.
• د.محمد ملقدم ،أستاذ التعليم العالي ،كلية ظهراملهرازبفاس.
• د.حاتم أمزيل ،أستاذ التعليم العالي ،كلية ظهراملهرازبفاس.
• د .عمربوكيلي ،أستاذ التعليم العالي ،املدرسة العليا لألساتذة بمكناس.
• د.منيرتمودن ،باحث في علم مقارنة األديان ،من املغرب.
20
21 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
مدخل
فلسفة الدين
يف ضوء تاريخ الفلسفة
د .عزالعرب لحكيم بناني
تقديم
لم يتخذ الفالسفة موقفا من القضايا الفلسفية النظرية فحسب ،بل
اضطروا كذلك إلى التفكير و التأمل في املوروث الديني .ولذلك نعتبر أن املوقف
السلبي من الدين موقف ديني بحد ذاته .كانت املواقف التقليدية من الدين
تسجن الفالسفة داخل أطر مسبقة تجعل من هذا فيلسوفا مؤمنا ومن ذاك
فيلسوفا ملحدا ،بالرغم من أن اإللحاد ذاته مستويات ودرجات ،وقد يتحول هو
ذاته إلى مظهر من مظاهر تجلي الشعور الديني .وهكذا كانت املحاوالت الجديدة
ً ً
في الفهم جزءا من تطور الحياة الروحية للفيلسوف ،حتى ولو تبنى موقفا رافضا
من الدين.
كيف نحول فلسفة الدين إلى برنامج بحث فلسفي؟ بالفعل ،ال يعتبر هذا
ً ًّ ُّ
فلسفيا خالصا ،ألنه تابع لعلوم الالهوت .فأغلب الباحثين التخصص مبحثا
في املوضوع رجال الهوت وليسوا فالسفة؛ كما أن أغلب شعب الفلسفة تعتبر
ً ً
فلسفة الدين تخصصا ظهر وسيلة للدفاع عن معتقدات أنصارها .غير أن
فلسفة الدين في الدول العربية واإلسالمية أصبحت فرصة سانحة للتفكير في
القضايا الدينية من منظور جديد .ذلك أن فلسفة الدين ال تدرس ديانة بعينها،
23 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
بقدر ما تكشف عن العناصر املشتركة بين مختلف األديان ضمن األعراف
والتقاليد املوروثة 1سواء في نماذج هيغل وفورباخ ونيتشه وهيدغروفتغنشتاين
أو في نماذج الفالسفة العرب املعاصرين .ونحن سنتعرض في هذه املقالة ملنهجية
دراسة فلسفة الدين ومليالد فلسفة الدين من خالل نقد األدلة على وجود هللا،
كما سنتعرض للتحديات املوضوعة على كاهل فلسفة الدين في أفق العقالنية
الفلسفية .وسنبرز في األخير أن أفق العدمية في تأويل هيدغر لنيتشه كان من
أهم عوامل تجديد فلسفة الدين.
منهجية دراسة فلسفة الدين؟
يشكك كثير من الباحثين في انتماء فلسفة الدين إلى حقل الفلسفة ،غير أن
منهجية الهيرمينوطيقا قد أدمجت فلسفة الدين داخل محاور الفلسفة التي
دافع عنها ريكور وهيدغر ،بالرغم من أن الهيرمينوطيقا ذاتها ليست مدرسة
واحدة ،وتوزعت بين الهيرمينوطيقا الدينية وهيرمينوطيقا األنواروالهيرمينوطيقا
ابتداء من أعمال شاليرماخر داخل ً الفلسفية والفلسفة الهيرمينوطيقية،
النموذج العقالني .وقد كان مانفرد فرانك Manfred Frankقد اعتبرشاليرماخر
ً
فيلسوفا ومؤسس الهيرمينوطيقا ولم يعتبره مجرد عالم في الالهوت.
ً ًّ
هاما في تحويل فلسفة الدين إلى تخصص لعبت الفلسفة الهيرمينوطيقية دورا
ً
فلسفي أصيل ومستقل مبدئيا عن املذاهب الالهوتية واآلراء الدينية .وقد ساعد
ذلك هيدغرعلى تمثل التراث املسيحي القديم.
وتنبني املنهجية على التمييزالصارم بين فلسفة الدين والفلسفة الدينية ،على
الرغم من صالت الوصل الواضحة املوجودة بين مباحث الهيرمينوطيقا الدينية
واالجتهادات اللغوية و البالغية التي صاحبت نشأة وتطور علوم التفسير ومناهج
املنصبة على النص الديني في مجاالت علوم العقيدة والتصوف والكالم ّ التأويل
24
وأصول الفقهً .
بناء على هذا التمييز بين
لعبت الفلسفة املجالين انتقل الفالسفة من نظرية
هام ًا
الهريمينوطيقية دوراً ّ الحقيقة الواحدة التي تتخذ صورة
دينية أو فلسفية إلى نظرية الحقيقتين يف تحويل فلسفة الدين إىل
تخصص فلسيف أصيل
التي تحفظ لكل جنس أدبي تماسكه
ومستقل مبدئي ًا عن املذاهب
وانسجامه داخل اإلطار العقدي أو
الالهوتية واآلراء الدينية العقلي 1.لم ُ
يعد باإلمكان أن نحتفظ
بالتقسيم الثالثي للداللة إلى داللة
مطابقة َوت َ
ض ُّمن والتزام ،كما لم ُ
يعد باإلمكان التمييز بين املعنى الن�صي (الذي
يتعارض في الظاهر مع العقل) واملعنى العقلي (الذي يوافق باطن النص) ،بما
أن املعنى الصحيح هو ما يوافق قصد الشارع وليس هو ما يوافق عقل الشارح.
ً ً
وهكذا ،وجدت الهيرمينوطيقا الدينية hermeneutica sacraمجاال خصبا
لنقد التمييزبين املعنى الحرفي واملعنى املجازي في تأويل اليهودية مع فيلون Philo
أو في تأويل املسيحية مع أوريجين .Originesفكانت الحداثة الغربية وليدة
ً
الفلسفة الحديثة ،والهيرمينوطيقا الدينية معا .2لقد أصبحت الفلسفة ملزمة
من زاوية نظرية املعرفة أن تفحص تأويل معارف التراث داخل نظرية املنهج.3».
انطلقت الهيرمينوطيقا الدينية في قرن التنوير من مبدأ أن إنتاج النص فعل
«عقالني» ،ألن مؤلف النص قادر على التعبير عن أفكاره و على الربط فيما بينها
وفق ضوابط العقالنية االستنباطية .ولكن باومغارتن Baumgarten يعتبر أن
-1وعليه ،يختلف إله الالهوت في كتاب :الرسالة في الالهوت و السياسة عن إله الفالسفة في كتاب:
األخالق من خالل الصورة الفلسفية التي نحتها اسبينوزا عنه في مذهب وحدة الوجود.
- 2فقد نشأت مع أعمال فولف ( Christian Wolff (1754 -1679وباومغارتن ( )1757 - 1706وأصبحت
صلة وصل بين الفلسفة و التنويرو الالهوت.
3- Axel BÜHLER: Unzeitgemäβe Hermeneutik. Verstehen und Interpretation im Denken
der Aufklärung. Axel BÜHLER (Hsg): Vittorio Klostermann, 1944, p. 9.
25 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
العقالنية تبحث عن النتائج املنطقية
ابتعدت فلسفة الدين عن التي كان يقصدها كتبة النص ،وال
الهوت الطبييع وعلم ال ّ تبحث عن النتائج املنطقية ّ
بحد ذاتها.
الكالم والعلم اإللهي ،بعدما
وقد ساهمت الهيرمينوطيقا الدينية
أصبحت الفلسفة تشتغل
والفلسفة بهذا املعنى في شحذ التفكير
وفق مقتضيات فلسفة األنوار
الفلسفي في قرن التنوير .لم تعد فلسفة
والعلم الحديث
الدين تدرس العالقة بين الحكمة
والشريعة من منطلق الفلسفة املشائية
ّ
في سعيها إلى التوفيق بينهما .وابتعدت فلسفة الدين عن الالهوت الطبيعي وعلم
الكالم والعلم اإللهي ،بعدما أصبحت الفلسفة تشتغل وفق مقتضيات فلسفة
األنوارو العلم الحديث.
ولكنها أصبحت تعنى بالظواهرالتي لم تحظ بعناية الفيلسوف التقليدي ،مثل
ّ ّ
واملحبة والوصايا اإللهية و الكتب السماوية. اإليمان والطقوس والصالة والوثنية
محل الالهوت الطبيعي أو الالهوت الفلسفي التخصص الجديد َّ ُّ حل هذاَّ
ّ
ُويمثل كانط عالمة فارقة رسمت معالم االنتقال من الالهوت العقالني إلى
ً ً ً ُّ ً
تصورا أخالقيا -الهوتيا جديدا للدين .انتقد كانط فلسفة الدين ،بعدما ابتكر
ً
األدلة على وجود هللا ،و لم يعتبرفساد البراهين على وجود هللا فسادا للدين ذاته.
الدينية من البحث الفلسفي، يؤد تفنيد الالهوت العقالني إلى نبذ التجربة ّولم ّ
ِ
تخصص ال ينظرإلى الدين ّ
على العكس ،أدى سقوط الالهوت العقالني إلى ظهور ّ
من زاوية األلوهة فحسب ،بل كذلك من زاوية ّ
الشر و األخالق والخطيئة .كان
كقوة عظمى غير ّ
محددة املعالم ،في إطار الالهوت الفلسفي يتحدث عن األلوهية ّ
التدين الطبيعي .déismeكما كان يفترض ميل اإلنسان إلى معرفة تلك القوة؛ ُّ
وانتهى إلى معرفة هللا باألدلة العقلية .كانت الحجج العقالنية على وجود هللا هي
26
ً
طريق الفيلسوف املتدين ،حتى يتأكد عقال ويطمئن إلى حقيقة اإليمان الذي
سبق الوجدان إليه.
مما حمل فالسفة الدين الهدامّ ،تصدى كانط لدعوى اإليمان العقلي بمعوله ّ ّ
من بعده على التماس طرق أخرى إلى هللا عبر مسالك أخرى تخالف مسالك
الالهوت العقالني .وهذا ما ظهر في محاولة دو لوباك (de Lubac )1991 -1896
الذي انتقد نظرية معرفة هللا كما لو كانت «صيرورة طبيعية خالصة» .إذ إنه قد
وحيدة و هي غاية رؤية الذات ٍ غاية
اعتبرأن «الطبيعة البشرية تهدف إلى تحقيق ٍ
َّ
اإللهية بوجوه ناضرة ،في حين أن تحقيق هذه الغاية ال يتالءم ألبتة مع طبيعته،
َ
1
كما أن هذه الغاية تتجاوز ما تستطيع القوى البشرية الطبيعية أن تصل إليه».
بط ْرق عالم األسرار واملاور ّ َ ُْ
ائيات، غير أن فلسفة الدين لم تعد تكتفي بعد ذلك ِ
كما هو الحال لدى دو لوياك ،وال بالوقوف عند حدود التجربة الدينية.
جديد لدى فالسفة وس ُ َ َ
ٍ استطاعت فلسفة الدين أن تظهر بعد ذلك في لب ٍ
ّ
الرومانسية والكانطية الجديدة واملثالية األملانية 2.وهذا ما اتضح مع زوايا النظر
الجديدة إلى فلسفة الدين.
نقد األدلة على وجود هللا وميالد فلسفة الدين:
ّ
كانت إشكالية الشرفي العالم و قضايا األخالق مدخل كانط إلى فلسفة الدين.
ً
وقد استند كانط في نقد أدلة وجود هللا إلى القول إن الوجود ليس محموال .لكن
ً
دو لوباك اعترض على كانط متعجبا من هذا «الجانب األحادي الذي سارت
ً
فيه أطروحة التمييز القاطع بين املفهوم و الوجود ،ومبرزا كيف أن هذا التمييز
ّ ً ٌّ
جنس خاص منها وهو جنس ٍ عامة ،ومن مستمد من عالم الكائنات املحدودة
1 - M CULLEN, Christopher, SJ. : The Natural Desire for God and Pure Nature. A Debate
Renewed. American Catholic Philosophical Quarterly, Vol. 86 Fall 2012 Issue 4. p. 708
ّ
يتحول كانط وهيغل وشيلنغ في عيون طلبة الفلسفة مؤرخو الفلسفة مع ذلك من أن -2يخ�شى ّ
ّ
متخصصين في الفلسفة الدينية. بالجامعات إلى
27 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ّ َ
النقدية» 1.كان كانط قد أحدث مماثلة بين عبارة «مائة ريال موجودة في القطعِ
الذهن» وعبارة «هللا موجود» .عندما نقول بخصوص مائة ريال إنها موجودة في
الذهن ،ال يعني ذلك أن الوجود صفة ذاتية تقال على قطع النقود ،بل يعني فقط
أننا نعتقد أن نسبة من القطع النقدية موجودة في املتناول ،مع العلم أن هذا
ً ً
االعتقاد قد يكون صحيحا أو فاسدا بعد الرجوع إلى الواقع العيني .على نفس
النحو ،عندما نقول «إن هللا موجود» ،ال تفصح مفردة «موجود» عن محمول
ُّ ّ ً ً ُ
قبليا على أنه اعتقاد يقال على هللا ،بقدر ما تضمر املفردة اعتقادا ال �شيء يدل
صائب أو ٌ
فاسد بالعودة إلى الواقع الفعلي ٌ صحيح أو خاطئ .نعتبرأن هذا االعتقاد
ّ
التصور التقليدي املستقل عن االعتقاد وليس بالرجوع إلى تحليل املفاهيم .كان
يعتقد أن هللا كامل ،وأن الكمال اإللهي يتضمن الوجود ،ما دام أن القول «إن
َّ
الفعلي. َ
الوجود ُ
الكمال ّ
يتضمن هللا كامل» قول متناقض حينما ال
أراد كانط الوصول إلى هللا من خالل الوصول إلى ماهيته ،بفضل املحموالت
الذاتية التي تقال عليه ،شأنه في ذلك شأن كل املوضوعات ،أي بفضل الوصول
ً
إلى صفات هللا الذاتية ،أمال في إدراك هللا كما هو God as suchحسب اصطالح
ّ
ماريون 2.لكن كانط لم يتمكن وفق ماريون من الوصول إلى معرفة هللا ،ألن كانط
البشرية ،بنفس الطريقة التي جعلت ّ أراد «إخضاع هللا لشروط إمكان التجربة
العقل اإلنساني املحدود ،كما يظهر في الكائن البشري ،يقوم بتعريف شروط
ّ ّ
اإللهية و عن فحص الكماالت اإلمكان هذه 3».يستغني ماريون عن دراسة الذات
بناء على «صلةشرع بدل ذلك في االقتراب من هللا ً اإللهية و صفة الوجود و َي ُ
ّ
1- MARION, J-L.: The Question of the Unconditioned. The Journal of Religion. January
2013 vol. 93 Nr. 1. p. 8
2 - MARION, J-L.: The Question of the Unconditioned. The Journal of Religion. January
2013 vol. 93 Nr. 1.
3 - MARION, J-L.: The Question of the Unconditioned. The Journal of Religion. January
2013 vol. 93 Nr. 1. p.14
28
quoad nos الوصل التي تربطه بنا
وبالنظر إلينا و بالنسبة إلينا وبصورة استطاعت فلسفة الدين أن
جديد
ٍ وس ظهر بعد ذلك يف ل ُب ٍ محدودي ٌة َت َ
ّ َّ
محدوديتنا ،وهي متطابقة مع
لدى فالسفة الرومانسية ت ُحو ُل بيننا و بين ّادعاء أننا قد اقتربنا
َ
والكانطية الجديدة واملثالية 1
مطلقة».
ٍ من هللا كما هو و بصورة
ّ
ً األملانية .وهذا ما اتضح مع زوايا ً
غير أن كانط قد وجد طريقة جديدة
النظر الجديدة إىل فلسفة الدين
للوصول إلى هللا عن طريق األخالق في
مذهبه الثيولوجي األخالقي Ethico
َّ
واحتج ّ
املسيحية إلى األخالق، « .-théologieمن زاوية الدين ،أخضع كانط
الشر الجذري بداخلها ،وهو ميل إلى تنم عن وجود ّ بالقول إن الطبيعة البشرية ّ
اإلقدام على اختيارات تتعارض مع مطالب القوانين األخالقية 2».والحقيقة أن
ً
تاريخ األديان ارتبط غالبا بالعنف وبتقديم «كبش الفداء» ،في دراسات روني
3
جيرار.
فلسفة الدين في أفق العقالنية الفلسفية:
ً
إذا كان ظهور الالهوت األخالقي مع كانط إيذانا بميالد فلسفة الدين ،فإن
ّ
العلمية والعقالنية اضطر باملقابل إلى التكيف مع الفلسفة ومع النظرة َّ الدين قد
ًّ ّ ّ ً إلى العالم«ُ .ت ُ
تأمال فلسفيا في الدين من داخل اإلطار عتبر فلسفة الدين القارية
َ َّ
تحك َم في الفالسفة األور ّوبيين املنتمين إلى القرن التاسع عشر، الخاص الذي
تحققت مثل كانط وهيغل و كيركيغا د ونيتشه وماركس ،وهي فلسفة الدين التي ّ
ر
بوجه خاص عبر قناة هيدغر و الفالسفة الفرنسيين الذين ينتمون في الغالب إلى
1 - MARION, J-L.: The Question of the Unconditioned. The Journal of Religion. January
2013 vol. 93 Nr. 1. p.15
2 - GOLDEN, Timothy J. From Epistemology to Ethics. Theoretical and Practical Reason in
Kant and Douglass. Journal of Religions Ethics, 404 December 2012. p. 613-14.
3 - GIRARD, René : Le Bouc émissaire. Bernard Grasset, Editions Grasset & Fasquelle 1982.
29 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
جيلنا ،وهم الفالسفة الذين وقعوا تحت
تأثير هيدغر حتى و لو خرجوا بعد ذلك انتقل الفالسفة من اإلنسان
المؤوِّ ل»
اجملرد إىل «اإلنسان ُّ عنه 1.انتقل هؤالء الفالسفة من اإلنسان
ودافعوا عن «مقاربة غري املجرد إلى «اإلنسان املُ ّ ّ
ؤول» ودافعوا عن ِ
سلطوية للحقيقة» ونسج
«مقاربة غير سلطوية للحقيقة» 2ونسج
حوار هادف بني الفالسفة
ورجال الدين ،بعيداً عن حوارهادف بين الفالسفة ورجال الدين،
3 ً
«االفتتان بالفرد املعزول» املعزول» بالفرد «االفتتان عن بعيدا
تبين أن عالقة األنا باآلخر ضرورّية بعدما ّ
ّ
للوصول إلى الحقيقة .ولذلك ،يتعذر
مميزات اآلخراملطلق في الفلسفةعلينا فهم معالم الذات اإللهية دون أن ننتبه إلى ّ
املعاصرة .من خالل هذه العالقة الجدلية بين اإلنسان واأللوهة نفهم أطروحة
ً
فورباخ القائلة «إن الثيولوجيا ال تعدو أن تكون أنثروبولوجيا مقلوبة» فهما
ًّ ًّ
إلحاديا ،من داخل فلسفة الدين و ليس من خارجها. إيمانيا ال
ص َوره التار ّ
ُ ّ َ ّ
يخية تحولت فلسفة الدين على هذا النحو إلى آلية لنقد الدين في ِ
ومؤسساته الالهوتية «وإلى التركيز بصورة كبيرة على األبعاد الثقافية واألخالقية َّ
4 ّ
والسياسية التي يحتلها الدين».
1- LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other : Essays in
Continental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1-3 December
2006, p. 2
2 - LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other : Essays in
Continental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1-3 December
2006, p. 2
3 - LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other : Essays in
Continental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1-3 December
2006, p. 2
4 - LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other: Essays in Conti-
nental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1 - 3 December 2006, p. 3
30
املؤسسات الدينية وج َهته فلسفات ما بعد الحداثة إلى ّ لم يكن النقد الذي ّ
ً ً
نقدا للدينُ .ت َّ
وج ُه ما بعد الحداثة سهام نقدها إلى من يفحص الدين فحصا
ًّ ّ ً
مجردا ،دون أن يصبح «على وعي بالتأثير الذي يمارسه التاريخ و الثقافة صوريا
على صيرورة تفكيرنا ،وهو التأثير الذي يظهر في الديانة التي نعتنقها» 1كما هو
2
واضح مع ترولتش.
ً
أصبحت روح الدين مطبوعة بألوان التلقي ،كما أصبح الدين ذاته ملزما
ّ ّ ً
التحوالت بالخضوع لحكم الغيرومتأثرا بتغيراملذاهب واألعراف والعقائد .لم تكن
التي طرأت على املذاهب التاريخية والعقلية عوارض خارجية ،بل أصبحت تنتمي
ً ًّ
إلى جوهرالظاهرة الدينية ذاتها .اعتبرهيغل األدلة على وجود هللا محطة أساسية
توصل هيغل في محاضراته عن فلسفة الدين التاريخ« .فقد َّ تطور الدين عبر ّ في ُّ
ً
كامال ،إلى ّ ً
حد ِ إلى مالحظة تفيد أن األدلة على وجود هللا قد عرفت اليوم كسادا
3 ّ
بأهميتها .لقد اعتقدنا اليوم أننا قد تجاوزناها». ّأن الناس بدأوا يستخفون
أصبح أفق فلسفة الدين يقوم على الربط بين جوهر الدين وتاريخه و بين
الحقيقة و التاريخ .ونحن ال ننكر التوتر القائم بين العقل و اإليمان وبين الرسالة
فلسفي ًة إليجاد حلول ّ ُّ
للت ُّوت َر بين ٍ
ّ محاوالت
ٍ الفلسفية والتاريخ .وقد كانت األديان
الرسالة و التاريخ.
التوت ُر لدى بول تيليش في صلب العالقة بين الفلسفة والالهوت. يظهر هذا ُّ
1 - LONG Eugene Thomas : An Introduction. Special Issue Self and Other : Essays in
Continental Philosophy of Religion. Philosophy of Religion. Vol. 60, NOS 1-3 December
2006, p. 3.
ً
مستلهما أثناء ذلك أعمال ّ ّ
كل عقالنية الوعي الديني الفردي إلى تاريخ األديان، - 2انتقل بنا ترولتش من
ّ
متوسط بين كانط الذي أدار ظهره للتاريخ وهيغل
ٍ من هيغل و ديلتاي وشاليرماخر .سار ترولتش في خط
ّ
يتجلى ّ الذي تعامل ّ
الدين بجدية مع نفس التاريخ ،و ذلك من أجل معرفة الواقع التجريبي العيني الذي
مكونات الظاهرة الدينية.أسا�سي من ّ
ّ مكون َ
الواقع إلى ّ فيه ،بعدما ّ
حول هذا
3- F. SCHICK & F. HERMANNI: Gottesbeweise Revisited. Philosophische Rundschau. Eine
Zeitschrift für philosophische Kritik. Band 59, Heft 4, 2012. p. 348.
31 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
يتحا�شى غونتر فينتز ،ناشر أعمال تيليش ،الحديث عن إقصاء متبادل فيما
بينهما ،دون أن يتجاهل االختالف املوجود بينهما .يعتبرتيليش أن التوتربين الدين
َّ
والفلسفة يسير في اتجاهين متعارضين :يؤكد االتجاه األول على مبدأ املطابقة
ّ
التصوف ،وهو مع هللا ،وهو مبدأ االتحاد أو الحلول أو الفناء الذي ينطلق منه
صور ،يسيراالتجاه يعتبرأنه ال يوجد غيرهللا على وجه الحقيقة .في مقابل هذا ّ
الت ّ
الثاني صوب اإلقراربوجود اإلنسان إلى جانب وجود هللا ،وبوجود اإلرادة البشرية
ّ 1 ً
جنب مع املشيئة اإللهية.
جنبا إلى ٍ
أفق العدمية واستعارة العالم املفارق :بين هيدغرو نيتشه
ّ
أفالطونية قد وصلت إلى الغربية بما هي فلسفةّ يعتبر نيتشه أن الفلسفة
ً ً
نهايتها .و لكن تأويل الدين قد لعب دورا أساسيا في تنبؤ نيتشه بسقوط الفلسفة
خاص .فقد ّميز نيتشه بوضوح بين الفلسفة اليونانية ٍ بوجه
والحضارة الغربية ٍ
والفلسفة الغربية الحديثة التي تأثرت بالعلم الحديث والتصنيع والعقالنية،
نتيجة لذلك ،تأثرالدين بمنعطف العصور الحديثة وانتقل من دين الحياة ،كما
ُ
معالم األمر لدى اليونان ،إلى دين الواجب والورع والروحانيات .وقد ظهرت كان ُ
االنحطاط الثقافي عندما حلت ديانات الطقوس محل ديانات الحياة كما كانت
ً
معروفة لدى اليونان .والهدف الذي أصبحت األديان تنشده هوتضخيم الشعور
بوخزالضميروتعميق الشعور بالذنب والسعي بعد ذلك إلى التكفيرعن الذنوب،
ً ً
سواء كانت فعلية أو افتراضية فقط .وكلما ازداد الشعور بالخوف ،تراجعت
بحب الحياة وتحول هللا إلى قيمة القيم؛ وال العالقة املباشرة التي تربط الدين ُ
ً
يعني هذا التحول إلى قيمة القيم شيئا آخر غير إعدام الذات اإللهية ،كما جاء
عارض بين الحرية اإلنسانية و املشيئة اإللهية، - 1وهو التمييز الذي قد يدفعنا إلى أن ُن َس ّل ًم بوجود َت ُ
ُ
وإلى الشعور بالذنب و بمسؤولية اإلنسان عن أفعاله ،دون الحاجة إلى أن ن ّبررها باملشيئة اإللهيةُ .ي ْع ُ
رب
املبدأ األول عن إرادة الوصول إلى الحقيقة ،وهي حقيقة أنه ال يوجد في الكون إال �شيء واحد وهو هللا،
بناء على ذلك، بينما يفصح املبدأ الثاني عن إرادة الوصول إلى الفضيلة ،وهي أن اإلنسان فاعل مختارً .
ّ
الجدلية القائمة بين املبدأين. تقوم فلسفة الدين لدى تيليش على فحص طبيعة العالقة
32
على لسان نيتشه« :صاح املعتوه بعد أن
أصبح أفق فلسفة الدين قفز إلى وسط الحلبة وألقى على الناس
يقوم عىل الربط بني جوهر ً
نظرات ثاقبة« :لقد قمنا بقتله ،أنتم
الدين وتاريخه وبني وأنا ! نحن جميعا من قتلناه» 1.ويضيف
احلقيقة والتاريخ
نيتشه على لسان املعتوه أن موت اإلله
أحد ولم يصل بعد واقع لم ينتبه إليه ٌ
ألن البرق والرعد يحتاجان إلى وقت بدورهما، إلى أسماع الناس .وهذا طبيعيّ ،
تحتاج إلى وقت كذلك حتى تصل إلى ُ وكذلك النور والنجوم واألفعال اإلنسانية
ذات ُه ،على لسان املعتوه قبل األوان .ولذلك َّ ُ
فإن املعتوه الناس .وقد جاء نيتشه
ً
لم يخلق قيما جديدة ،بل انتبه إلى تأثيراختفاء اإلله على الكون ،بعدما انتشرت
ً َ ُ
أصبح الكون متجمدا من البرد القارس وخيم عليه الليل، أنفاس الفراغ؛ إذ فيه
ولم نعد نميز فيه بين شمال وجنوب وشرق وغرب .وبذلك اختفت أية نقطة
هادية في هذا الكون املظلم الالمتناهي .فاختفاء هللا بعد حضور إله الطقوس
والرهبة والقيم يعني انتشارالعدمية وثقافة االنحطاط.
غير أننا نجد تأويالت مختلفة لفلسفة الدين من خالل تأويل معنى «موت
اإلله» بعد ربطها باألفالطونية والعدمية (لدى كل من هيدغر وفاتيمو) .فقد
ًّ ً ّ ّ
خاصا لدى هيدغر .فهو يعتبر أن محاولة فهم عبارة العدمية مدلوال اتخذت
ُ ّ ّ ٌ
حذرناالعدمية .ولكن هيدغري ِ نيتشه «إن اإلله قد مات» مترادفة مع محاولة فهم
ً العدمية و من القولّ :إن كل ّ
متدين ُي ُ ّ
ؤمن باهلل يجد لنفسه موقعا من سوء فهم
َّ ٌ َّ َ ّ ُ ّ
يخية ،وهي العدمية كما يلي« :العدمية حركة تار عرف هيدغر خارج العدمية .ي ِ
َ ُ
حرك التاريخ على نحو ال ن ِعرف َّ َ ُ ّ َّ َ
ليست مجرد رأي أو مذهب نعتنقه .إن العدمية ت ِ
ّ َّ َ
الغر َّبية .وعليه،
معه الصيرورة األساسية التي تتحكم فيه داخل أقدار الشعوب ِ
1 - Nietzsche: Die fröhliche Wissenschaft § 125, reclam, Stuttgart 2000, p. 141
33 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
يوجد ُ ّ
روحي ار مجر َد ّ
تي العدمي ُة َّّ ليست
ٍ
املسيحية و إلى جانب املذهب انتقل الفالسفة من اإلنسان َّ إلى جانب
المؤوِّ ل»اجملرد إىل «اإلنسان ُّ داخل َ اإلنساني و إلى جانب التنوير
ودافعوا عن «مقاربة غري الغربية 1.وقد استثمرالفيلسوف َّ الثقافة
اإليطالي تجاني فاتيمو أطروحة العدمية سلطوية للحقيقة» ونسج
حوار هادف بني الفالسفة ً ُّ ً
تصورا جديدا لفلسفة حينما اقترح
ورجال الدين ،بعيداً عن
الدين .2في ضوء الحقل الداللي الغني
«االفتتان بالفرد املعزول» ُ
العدمية ،أصبحت عبارة ّ الذي اكتسبته
ً ً
نيتشه «إن اإلله قد مات» فرصة سانحة
3
النتعاش الفكر الديني .فقد ذكر زاباال Zabalaفي تقديم كتاب فاتيمو و رورتي
أن سبب االنتعاش الذي يشهده الدين ال يعود إلى تف�شي ظاهرة اإلرهاب وال إلى
تفاقم الكوا ث البيئية ،بل يرجع باألساس إلى «موت اإلله ،أي إلى تحويل ّ
املقدس ر
َ التحول الدنيو ّي الذي كان قد َ
احت ّل َّ إلى شأن ُدنيو ّي ،وهو ّ
محل الصدارة في قلب
توصل الفالسفة إلى أن الغربي ُة» 4.وقد ّ
ّ ُ
عرفته الحضارة ُ التطور التاريخي الذي
تم تعويض الفوقي قد ترك مكانه لفكرة التقدم في التاريخ؛ كما َّ ّ الفرار إلى العالم
إله الكتاب املقدس بروح االبتكار لدى اإلنسان .وبالجملة ،فإن فلسفة الدين َّ
ُُ
تواجه منذ مجيء هيغل احتضار املثل األفالطونية وإله القانون األخالقي و سلطة
فض قيم العالم املفارق كان مدخال إلى قبول قيم التقدم .ذلك أن ر َ العقل و ّ
الح�سي. ّ العالم
1 - HEIDEGGER, Martin : Nietzsches Wort «Gott ist tot» pp. 209-267. In :Holzwege Gesa-
mtausgabe I. Abteilung: Veröffentlichte Schriften 1914-1970 Band 5 Vittorio Klostermann
Frankfurt/M 1977, p. 218.
2 - VATTIMO, Gianni & RORTY, Richard: Die Zukunft der Religion : Suhrkamp 2006.
3 - RORTY, Richard. &VATTIMO, Gianni.: die Zukunft der Religion: Suhrkamp 2006, p. 12.
4 - RORTY, Richard. &VATTIMO, Gianni.: die Zukunft der Religion : Suhrkamp 2006, p. 12.
34
ّ ً ً
الغربية في أبهى صورها كانت كتابات نيتشه في جوهرها نقدا الذعا للحضارة
هه نيتشه وج ُ
العقالنية ،من خالل فكرة االنقالب على كل القيم .فالنقد الذي ّ ّ
إلى سائر القيم ،في تأويل هيدغر للقيم النيتشوية ،لم َي ُع ْد يقبل التمييز بين قيم
ُ ْ
بحكم أن «القيمة تظل قيمة صالحة ،ما دمنا نعتبر َّأنها متعالية وأخرى واقعية،
ً
صالحة .وتظل القيمة صالحة ما دامت موضوعة على النحو الذي ُي ّ
وجه تعاملنا
معها 1».وليس من قبيل الصدف أن يسارع هيدغر إلى ربط وجود القيم لدى
َ
نيتشه بإرادة القوة ،بدل ْأن ُيلحقها باملنطق املتعالي.
خاتمة:
ال يوجد إجماع بين الفالسفة حول تاريخ ميالد فلسفة الدين .فقد اعتبر
ً
البعض أن املنزلة األخالقية التي اكتسبها الدين لدى كانط كانت إيذانا بميالد
عبدت فلسفة الدين .وهناك من اعتبركذلك أن انتقاد األدلة على وجود هللا قد ّ
طريق فلسفة الدين على نحو نأى بها عن إشكاليات العصر الوسيط وعن
هواجس الجمع بين الحكمة والشريعة .وقد اعتبر فريق آخر أن إشكالية الشر
قد حملت الفالسفة على التفكير في التوفيق بين الرسالة والتاريخ وبين املطلق
والعالم الحي .وعليه ،كانت االنتقادات التي وجهها الفالسفة إلى الصور املجردة
للدين عامال ساعد على النظر بصورة إيجابية إلى املحايثة و إلى تجلي الدين في
التاريخ وإلى العدمية .وقد تأثرت فلسفة الدين عبر تطورها التاريخي بمساهة
الهيرمينوطيقا في مختلف توجهاتها ،والسيما الهيرمينوطيقا الفلسفية والفلسفة
الهيرمينوطيقية .وقد قدمنا أمثلة على ذلك من أعمال نيتشه وهيدغر ،بحكم
ً ً
أن أعمالهما أحدثت منعطفا حقيقيا في إعادة صياغة تخصص فلسفة الدين.
1 - HEIDEGGER, Martin: Nietzsches Wort «Gott ist tot» pp. 209-267. In :Holzwege Gesa-
mtausgabe I. Abteilung: Veröffentlichte Schriften 1914-1970 Band 5 Vittorio Klostermann
Frankfurt/M 1977, p. 228.
35 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
«فلسفة الدين»
«يف العصور الوسيطية»
جدل الفلسفة والدين
يف مدرسة اإلسكندرية
قراءة يف حدود التداخل
بني األفلوطينية واملسيحية
د .منيرتمودن
39 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
تشخيصها ،ومحاولة نسج صورة مثالية للفرد داخل املجتمع (إميل دوركاييم؛
ُ ْ
أوغ ْست كونت .)..وتبعا لذلك يمكن القول ،على حد تعبير ِإ ِميل ْب َر ْه ِييه« :ال وجودِ
لفلسفة لم تتأثربمنظومة القيم السائدة ،ولم يتنسم صاحبها الجوالروحي الذي
عاش فيه».1
إن مثل هذه الشواهد كفيلة بإثارة مشكلة استقالل الفلسفة وحدود املعرفة
العقلية؛ ويمكننا في هذا الصدد الحديث عن مشكلة العالقة بين الفلسفة
مستقل تماما
ٍ عقلي
ٍ تفكير
ٍ والدين كأبرز ما يمكن أن ُيثار بخصوص وجود نمط
عن إثارة اإلشكاالت املاورائية والقضايا امليتافيزيقية .ولو شئنا أن نرتد إلى أولى
تجليات التداخل بين املجالين منذ أقدم العصور حتى العصر الحالي ،ألمكننا
القول إن األساطير الدينية القديمة واملعتقدات الخرافية كانت أولى انعكاسات
هذا التداخل ،2ومن تم أولى دوافع تدخل العقل في شؤون الدين ،وال أدل على
التحقق من اآللهة السائدة ،ومن ُّ ذلك أن فالسفة اليونان قديما عمدوا إلى
الطقوس الدينية املرتبطة بها بما هي نمط من أنماط األسطورة التي أنتجتها
ْ ّ
املخيلة الشعبية في تلك الفترة؛ ففي القرن السادس قبل امليالد انتقد ك ِزينوفان ِ
Xénophaneبلهجة أقرب إلى السخرية آلهة اليونان ونظامهم الكهنوتي ،قائال:
«لو أن كل الدواب سواء املتآلفة مع اإلنسان مثل البقر والخيل ،أو املتوحشة
أياد تستطيع أن تخط أو ترسم بها آثارا فنية مثل البشر، مثل السباع ،كانت لها ٍ
لوصفت لنا آلهة على هيئتهم ،ولرسم الخيل وكذلك البقر صورا متعددة من
اآللهة تشبه أجسادهم».3
-1إميل برهييه ،تاريخ الفلسفة :الفلسفة اليونانية ،ترجمة :جورج طرابي�شي ،الجزء ،1.بيروت :دار
الطليعة ،1988 ،ص16.
- 2إبراهيم زكرياء ،مشكلة الفلسفة ،ص183.
3 - G. S. Kirk, K. E. Raven and M. Schofied, The PresocraticPhilosophers:
A CriticalHistorywith a Selection of Texts, London: Cambridge UniversityPress, 1983, p.169
40
إن مثل هذه املواقف الدفاعية ما
«ال وجود لفلسفة لم تتأثر تلبث أن تستحيل على يد األفالطونية
واألرسطية إلى نمط فكري يتعقب بعض بمنظومة القيم السائدة ،ولم
يتنسم صاحهبا اجلو الرويح
اآلثار الفلسفية في الكثير من املعتقدات
الذي عاش فيه»
الشعبية؛ األولى جعلت التفكير في اإلله
حقيقة خالدة مركونة بشكل فطري
داخل كل إنسان ،فانصبت على التفكير في قضايا األلوهية خاصة ماهية اإلله
وعالقته بالعالم املادي؛ بينما الثانية اقتربت ما يكون من إثبات وجود هللا
َّ
عندما اعتقد أرسطو أن العالم يحركه سلسلة من ال ِعلل متصلة بعلة أولى غير
معلولة (هللا) .1وموازاة مع انتشارالتيارين توصل الرواقيون باستعمال التأويالت
الفلسفية إلى استخالص مجموعة من املعاني الرمزية من الديانات الشعبية
والطقوس املرتبطة بها ،مفادها أن الحقيقة واحد متجلية بصيغ متنوعة في هذه
الديانات.2
سيشكل ظهور الوحي فترة املسيحية املبكرة ،وانضمامه إلى جانب العقل في
تقرير الحقيقة ،منعطفا هاما في مسار العالقة بين الفلسفة والدين ،ذلك أن
ُُ
املسيحية بدت منذ حداثة عهدها عقيدة روحية فائقة للعقل ،خاصة أن املثل
األخالقية وقيم التسامح التي نادى بها املسيح ،إضافة إلى السمة الروحية التي
- 1يرد هذا القول من خالل البرهان الوارد في املقالة الثامنة من كتاب «الطبيعة» مفاده أن العالم قائم
على حركة عناصره ،وكل عنصرمتحرك من هذه العناصرال بد أن توجد علة تحركه؛ فالعالم مكون من
سلسلة من املعلوالت (محركات) تحرك بعضها البعض ،لكن ال يمكن أن تستمر هذه السلسلة إلى ما ال
نهاية ،إذ ال بد أن تكون علة أولى اصطلح عليها أرسطو باملحرك األول الذي ُينتج ال ِعلل ويحرك األشياء من
دون أن يتحرك ،بمعنى أن ال�شيء الذي ال علة له وفي سكون دائم هو هللاُ .ينظر
أرسطوطاليس ،الطبيعة ،ترجمة :إسحق بن حنين ،الجزء ،2.القاهرة :الهيئة املصرية العامة للكتاب،
،1984صص845-852.
2 -Emile Boutroux, Science et Religion dans la Philosophie Contemporaine, Paris: Ernest
Flammarion, 1919, p.6
41 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
اصطبغت بها هذه الديانة ،جعلت منها
عقيدة َخالصية تخاطب عامة الناس سيشكل ظهور الويح فرتة
وتنشد معرفة هللا على أرض الواقع1؛ املسيحية املبكرة ،وانضمامه
إىل جانب العقل يف في الوقت التي اتسمت فيه الديانات
اليونانية بجمود في املنطق ألنها لم تكن تقرير احلقيقة ،منعطفا هاما
يف مسار العالقة بني
لتتعدى مستوى الديانات الطبيعية التي
الفلسفة والدين
تقوم على النظر إلى الطبيعة واإلنسان،
وابتعدت ما يكون عن مخاطبة اإلنسان
الباطني؛ وفي اللحظة التي تعب فيها العقل اليوناني بعد قرون طويلة من البحث
الفلسفي والعلمي ،وشعر بالعجزعن اإلتيان بجديد.2
إن مجمل هذه العوامل أصبحت نتاج تماهي الفلسفة والالهوت ،خاصة
بعد أن استعاضت الدولة الرومانية عن الديانات الوثنية باملسيحية ،كديانة
رسمية وكمعتقد العامة مستهل القرن الرابع امليالدي ،وبدت املسيحية إلى جانب
الفلسفة إحدى املناهج املعرفيةاألكثرسيادة في العصراآلبائي األول والتي سيمتد
صداها إلى نهاية العصرالوسيط.
نشيرإلى أن هذا التماهي تجلى في مستواه األول كنمط دفاعي عن املعتقد خاصة
فترة االضطهاد املسيحي؛ وكشكل من أشكال تأويل املعتقد وتقنينه في مستواه
الثاني .فقد تحددت املهمة التي أنيطت بآباء الكنيسة قبل مجمع نيقيه (325م)
َ في تشكيل ُ
البنى العقدية للمسيحية ،واتخاد موقف صريح من الفلسفة ،خاصة
ُ
األفالطونية املحدثة ،بعد االستفزاز الحقيقي التي شكلته ،ويشير بهذا الصدد
ْ
كوبل ْستون قائال« :في اللحظة التي كانت الفلسفة تصب جام غضبها فريديريك ِ
على الكنيسة ومعتقداتها ،كان الالهوتيون يلجؤون إلى اقتباس أسلحة خصومهم
- 1سعيد عبد الفتاح عاشور ،تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ،بيروت :دارالنهضة العربية ،1976 ،ص31.
- 2نجيب بلدي ،تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها ،القاهرة :داراملعارف ،1926 ،ص94.
42
للدفاع عن املسيحية بالقدرالذي شكله التهديد الفلسفي».1
هذا املناخ العام أف�ضى إلى آراء متباينة بخصوص موقف املسيحية من تدخل
ُ
األفالطونية املحدثة في شؤونها طيلة القرنين الثاني والثالث امليالديين؛ البعض
يرى في املسيحية ِوحدة مكتفية بذاتها في غنى عن تدخل العقل إلى جانبها ،من
َ
ُمنطلق أن بعض العقائد مثل :الخطيئة؛ العناية اإللهية؛ الخالص؛ الطبيعة
الثالوثية لإلله واألقانيم املرتبطة به ،وقضايا الكريستولوجيا ..كلها مسلمات
عقدية ال تقبل البرهان أواالستدالل ،بل إن ترتليان في إحدى أقواله املأثورة قال:
«إن العقيدة ال معقولة ،وحيث هي كذلك فهي صحيحة» .2في الجانب املقابل
لهذا املوقف ،وجد بعض اآلباء في أدوات العقل مالذا آمنا لبلوغ الحقيقة ،بحيث
سيصبح كل من العقل والوحي وسيلتين من وسائل إدراكها وبنفس القدر من
وس ِتينوس 3لم يضع حدا فاصال األهمية .نذكر على سبيل املثال ال الحصر ،أن ُي ْ
بين الفلسفة والالهوت ،مستندا إلى املبدأ الشهير ِ(وحدة الحقيقة) ،مفاده
أن الحقيقة واحدة مصدرها هللا ،تجلت معاملها في العالم السفلي بصيغتين
مختلفتين :األولى في عقل اإلنسان ،والثانية ُمدونة في نصوص الكتاب املقدس.4
- 1فريديريك كوبلستون ،تاريخ الفلسفة :من أوغسطين إلى دانز سكوت ،املجلد ،2.القسم ،1.ترجمة:
إمام عبد الفتاح إمام ،القاهرة :املركزالقومي للترجمة ،2010 ،ص29.
2 - René Braun, «Tertullien et la Philosophie Païenne: Essai de mise au point»,Bulletin de
l’Association Guillaume Budé, no.2, Juin, 1971, p.244
- 3فيلسوف ورجل دين مسيحي (100-163م) ،ولد بفالفيانيابوليس -نابلس حاليا ،-مكنته معرفته
الواسعة بالرواقية والفيثاغورية واألفالطونية من مزج األفكارالفلسفية باملعتقدات املسيحية ،وقد قال
غير ما مرة إن املسيحية والفلسفة تنشدان نفس الحقيقة .من أهم إنجازاته إدخال بعض املعتقدات
األفالطونية في املسيحية ،كالخلق األزلي للعالم والزمان من غير وجود مادة أولية ،وتصوره لطبيعة هللا
الالمادية والالمغيرة .وقد كانت مواقفه املدعمة للفلسفة سببا في إعدامه زمن حكم يونيوسرستكوس
Junius Rusticusسنة 165مُ .ينظر
The New CatholicEncyclopedia, Vol.8, USA: Library of congresscataloging-in Publication
Data, 2003, p.104 - 105
- 4فريديريك كوبلستون ،تاريخ الفلسفة :من أوغسطين إلى دانزسكوت ،ص33.
43 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
في الفترة الالحقة املمتدة من القرن الخامس امليالدي إلى حدود القرن السادس
عشر ،أصبح العقل أداة وظيفية في متناول الكنيسة ،ممثال في األفالطونية
َّ َ
املحدثة التي شكلت محور اهتمام علماء الالهوت ،خاصة أوغسطين الذي
ُ
سيستمر تأثير فكره طيلة الفترة التي اصط ِلح عليها باألوغسطينية (أوغسطين؛
َ
بوناف ْنتير؛ ُجون ْس ُكوت أورجين) .1وممثال أيضا في األ سطية التي ُ َْ
ستفرز ر ِ أنسليم؛
َ َْ التيار ْ
اإلسكوالئي( 2توما اإلكويني؛ أل ِبرت الكبير) .3ورغم ما يوجد من تباين بين
التيارين بخصوص رسم حدود التداخل بين العقل واإليمان ،إال أن فكرة رفض
اإليمان الدغمائي الذي ال يرقى إلى مستوى ُّ
التعقل ،كانت أقل ما يمكن االتفاق
حوله ،لهذا كانت جل أفكارهم استعارات أفلوطينية ونتاجا ضخما لعدد من
اإلجابات العقالنية على قضايا الهوتية ،نذكرمنها البرهان األنطولوجي على وجود
هللا؛ اإلطار العام لنظرية املعرفة؛ حدود التداخل بين العقل والوحي؛ طبيعة
الكائن اإللهي وطريقة تأثيره في املوجودات؛ تأصيل الخير وتحييد الشر؛ تفسير
- 1هي املرحلة التي عرفت تطابقا تاما بين الفلسفة والدين وسيادة الروح األفالطونية ،ويكفي أن نجد
مجموعة من املفاهيم الالهوتية مقتبسة من هذه الروح ويوجد ما يماثلها في الفكر املسيحي ،من قبيل
االتحاد باإلله باعتباره أصال للخيرواحتقارالجسد كوعاء للنفس التي تتوق من خالل عملية خالصية عن
طريق التأمل والتطهرواحتقاراملادة ،إلى نشدان الخلود والتقرب إلى ما هو إلهيُ .ينظر
إبراهيم محمد تركى ،مدخل إلى الفلسفة املسيحية في أوروبا َّإبان العصر الوسيط ،القاهرة :دار الكتب
القانونية ،2010 ،ص81 - 80.
- 2وتسمى أيضا الفلسفة املدرسية (أو اإلسكوالئية) نسبة إلى الفلسفة التي نشأت وتطورت في مدارس
ُ
Scholaفي عهد شارملان (814 - 742م) في فرنسا وانجلترا ،بحيث اقترنت كلمة Scholasticismباملدرس
وخريج هذه املدرسة في آن واحد ،وكانت معظمها إما مدارس رهبان ملحقة باألديرة ،أو مدارس أسقفية
لتعليم رجال الدين الذين ال يريدون الرهبنةُ .ينظر
إتينجلسون ،الفلسفة املسيحية في العصور الوسطى ،ترجمة :إمام عبد الفتاح إمام ،بيروت :دار
التنوير ،2009 ،ص26.
- 3يقع هذا التصنيف في الدراسة التأريخية للعصرالوسيط ،التي قام بها بالخصوص موريس دوولف
De Wulf Mauriceحول «تاريخ الفلسفةالوسيطية» ،حيث يقول حول هذه الشخصية« :يستحق
ألبيرت الكبيرلقب أميرالفالسفة والالهوتيين البارزين في فترة اإلسكوالئيةالوسيطية»ُ .ينظر
M. de Wulf, Histoire de la Philosophie Médiévale, Louvrain: Institut supérieur de Philos-
ophie, 1900, p.262
44
نظرية الخلق من العدم وأصل العالم..
َش َّكل الدين والعقل يف فرتة - 2الفلسفة الدينية في مدرسة
العصور القديمة وحدتني اإلسكندرية
منفصلتني مستقلتني ،فقد شكل الدين والعقل في فترة العصور
َ َّ
كان النشاط الفكري يف هذه
القديمة وحدتين منفصلتين مستقلتين،
الفرتة ال يخلو من أمرين:
فقد كان النشاط الفكري في هذه الفترة
حر تمثهل معتقدات إما دين ٌ
حر تمثلهال يخلو من أمرين :إما دين ٌ
الشعوب الرشقية القديمة ،أو
تأمل يستند إىل العقل والربهان معتقدات الشعوب الشرقية القديمة،
وتمثهل الفلسفة اليونانية أو تأمل يستند إلى العقل والبرهان
وتمثله الفلسفة اليونانية .ولم تظهرأولى
إرهاصات االلتحام بين الفلسفة والدين
إال في القرن الرابع قبل امليالد ،خاصة بعد حملة اإلسكندراملقدوني Alexandre
le Grand1للشرق التي كرست سيادة الفكر اليوناني .وهكذا أمكننا القول إن
الفكر اإلنساني في هذه الفترة بدأ يعرف مزجا بين الثقافة اليونانية الدخيلة
واملعتقدات الشرقية املحلية .وهو األمر الذي مهدت له أيضا سيادة فلسفة
الشك في القرون الثالثة قبل امليالد ،وهي أواخر املدارس الفلسفية اليونانية
التي اتخذت املنهج الشكي سبيال للوصول إلى الحقيقة ،مزعزعة بذلك الثقة في
املعرفة الفلسفيةّ ،
وممهدة الطريق للرجوع إلى املعرفة االيمانية التي امتاز بها
ِ
الشرق القديم.2
- 1تذكراملصادرالتاريخية أنه باإلضافة إلى احتالل اإلسكندراملقدوني (356ق.م323 -ق.م) بلدان كثيرة
من العالم الشرقي مثل مصر وآسيا الصغرى وبالد فارس وبابل ،فإن تأثيره على الثقافة الشرقية كان
بالحجم الذي يفوق تأثيره العسكري ،فقد مزج الثقافة اإلغريقية بالثقافات الشرقية ،وأنتج هذا األمر
ما يسمى عند املؤرخين بالحضارة «الهلنستية» ،بحيث كانت اإلسكندرية مركزهاُ .ينظر
EncyclopediaBritannica, London: Britannica Concise Encyclopedia. INC,2006,p.44
- 2كامل محمدمحمد عويضة ،أوغسطين فيلسوف العصوص الوسطى ،بيروت :دار الكتب العلمية،
،1993ص8.
45 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ويمكن القول إن الفكر اليوناني ً
بدءا
لم تعد الفلسفة هتتم من العصر اإلسكندري في القرن الرابع
بمواضيع امليتافزييقيا قبل امليالد راح يبحث عن مبتغاه في
الفلسفة التي لم تعد منحصرة فقط في والكشف عن أرسار الكون
فلسفة عقل نظري ،بل في الفلسفة التي والطبيعة والبحث عن أسس
الدولة املثالية،بل اتجهت نحو
تطورت إلى فلسفة عقلي عملي ومن تم
إيجاد قواعد األخالق اليت
تحولت في النهاية إلى فلسفة دينية أو فكر
ٍ ترسم اإلطار العام للسلوك
ديني ،1فلم تعد الفلسفة تهتم بمواضيع
واملعامالت
امليتافيزيقيا والكشف عن أسرار الكون
والطبيعة والبحث عن أسس الدولة
املثالية،بل اتجهت نحو إيجاد قواعد األخالق التي ترسم اإلطار العام للسلوك
واملعامالت ،ومن هنا انصرف الفكر اليوناني من االهتمام بالتفكير املجرد إلى
االهتمام باألخالق العملية.
حيث يبدوأن البحث عن طريق النجاة كان هدفا من أهداف كل فالسفة العصر
سواء فالسفة اليونان أو فالسفة مدرسة اإلسكندرية ،فالظروف السياسية
املضطربة والحروب املستمرة والصراع على السلطة ،والفوارق االجتماعية التي
أنتجت الظلم والتميزبين األفراد والطبقات ،كل ذلك كان يعني بالضرورة أن يتجه
طريق للخالص الفردي ،وال سبيل إلى هذا الخالص إال الفالسفة إلى البحث عن ٍ
َّ
بالرجوع إلى الدين .نجد هذا األمر عند الرواقيين واألبيقوريين ل ـا هجروا ميدان
السياسية ،واتجهوا نحو القوانين األخالقية والبحث عن أساليب لنجاة األفراد،
مما أدى إلى ظهور دين يستهوي الفرد أكثرمما يستهوي الدولة.2
- 1نجيب بلدي ،تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها ،ص94.
- 2مصطفى النشار ،مدرسة اإلسكندرية بين التراث الشرقي والفلسفة اليونانية ،القاهرة :دار املعارف،
،1995ص42.
46
ومما ينبغي التأكيد عليه أن أسباب هذا التحول ال يمكن إرجاعها بالضرورة
إلى األسباب السياسية التي سبق ذكرها ،أو إلى عالقة التأثيروالتأثربين الثقافتين
الشرقية واليونانية ،بقدرما يرجع إلى سببين ذاتيين أساسيين ،أولهما تعب العقل
بعد قرون طويلة من البحث الفلسفي والعلمي وشعوره بالعجز عن اإلتيان
بجديد أو اكتشاف جديد ،أما السبب الثاني لتحول الفكراليوناني ،هو «احتياج
النفوس ،بعد إخفاق العقل هذا ،إلى إيمان ُيضفي عليها الحياة ،ولم يكن لهذا
االحتياج أن يبلغ مرتبة التعبير الصريح ،ويبحث عن الرضا في الدين والوحيِ ،إ ْن
ََ
لم تكن العقول قد ل َحت ولو عن بعد هذه األديان واملعتقدات الشرقية التي
َت َهب أصحابها بعض الرضا على األقل» ،1ويصح القول هنا إن اختالط الفلسفة
اليونانية باملعتقدات الشرقية ناتج عن هذا االحتياج الذي قاد في النهاية إلى
فلسفة دينية.
اله ُرم ِس َية 2التي ظهرت في القرن األول امليالدي أولى انعكاساتوتمثل املؤلفات ُ
هذه املزاوجة ،حيث نهجت أسلوبين للتفكيرساعدا على إحياء الفكراألفالطوني
في هذه الفترة وتوجيه الفكر الفلسفي نحو التصوف والالهوت ،وهي التأمل في
هللا عن طريق العالم ،والتأمل في هللا عن طريق االبتعاد عن العالم ،لهذا نجد
النزعة التوحيدية بارزة بقوة في كتاباتهم ،خاصة الفصل السادس من الكتاب
- 1نجيب بلدي ،تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها ،ص.94
ُ
- 2هي مجموعة من املعتقدات الدينية واألفكار الفلسفية التي ُيعتقد أنها ألفت في الفترة املنحصرة
بين القرن الثالث قبل امليالد والقرن الثالث امليالدي ،وتنسب إلى «هرمس املثلث العظمة
»HermésTrismégismeأو «هرمس العظيم ثالثا» وهي شخصية تضاربت اآلراء حول أصلها ،ينسبها
املصريون القدماء إلى أخنوخ ،واليونانيين القدماء إلى إرميس ،واملسلمين إلى النبي إدريس ،بينما يذكر
ُ
هيرودوت أن هذه املؤلفات هي مجموعة من امل ُتون التي كتبها أصحابها بإلهام من اإلله املصري طوط
Thotفي العصر البطلمي ،وقد تم ترجمتها من اللغة املصرية القديمة إلى اللغة اليونانية بفضل كهنة
مصريين يتقنون اللغة اليونانيةُ .ينظرميرساإلياد ،تاريخ األفكارواملعتقدات الدينية ،ترجمة :عبد الهادي
عباس ،الجزء ،2.دمشق :داردمشق ،1987 ،ص322.
Lindon Say Jones, Encyclopedia of Religion,Vol.6, USA: Editor In Chief. Thomson Gale,
2005, p.3938
47 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
املعتقداله ُرم ِ�سي
ُ األول املعنون بـ(الخيرهو اإلله األحد وال خيرسواه) ،حيث ورد في
أن تعدد اآللهة سخافة ،وأن اإلله منزه عن العالم املادي والجسماني ،1وصانع
العالم عن طريق الكلمة (اللوغوس) ليكون مرئيا في مخلوقاته .2واإلنسان
باعتباره مقياس الكون هوأبدع املخلوقات ،يتكون من قسمين أساسيين :الجسم
والنفس؛ فالنفس جوهر روحاني أو «ابنة هللا» التي يعتقلها الجسم املادي ،وال
َ
يستطيع هذا األخير أن يرتقي إلى مرتبة املالئكة إال إذا ت َج َّرد من شهوات الجسد
عن طريق الطقوس والتعبدات التطهيرية.3
الهرم�سي واتحد العقل بالوحي ،وأصبح الفكر ُ امتزجت إذن الفلسفة بالدين َّ
واسطة نقل الفلسفة الالهوتية الذي ظهرت بوادرها مع أفالطون واتضحت معاملها
في فلسفة مدرسة اإلسكندرية خاصة في األفالطونية املحدثة واليهودية الغنوصية
واملسيحية الغنوصية ،لهذا نجد فيلون اإلسكندري 4Pilon d’Alexandrieفي
القرن األول امليالدي لم يمزج فقط بين الفلسفة اليونانية واملعتقدات اليهودية،
بل اعتبرفالسفة اليونان تالميذ مو�سى تتلمذوا وأخدوا التوراة على يديه.
وقد نجد في القرن الثاني بوادر نشأة فلسفة دينية مسيحية متأثرة
باالنفالطونية املحدثة ،نجدها خاصة عند يوحنا في تصوره ملفهوم «الكلمة»،
48
1
وعند إكلمندس اإلسكندري Clément
امزتجت الفلسفة بالدين d’Alexandrieفي مزج املعتقدات
وا َّتحد العقل بالويح ،وأصبح املسيحية بالفلسفة اليونانية ،وعند
الفكر الهُرميس واسطة نقل تلميذه أوريجين - 185( Origine
الفلسفة الالهوتية الذي
252م) 2في توظيف الفلسفة لتفسير
ظهرت بوادرها مع أفالطون
بعض مقاطع سفر التكوين .وفق هذا
واتضحت معاملها يف فلسفة
السياق ،اختلف مؤرخو الفلسفة
مدرسة اإلسكندرية خاصة يف
الغربية اختالفا كبيرا حول تحديد معنى
األفالطونية املحدثة والهيودية
دقيق ملدرسة اإلسكندرية الفلسفية،
الغنوصية واملسيحية الغنوصية
وال شك أن تعدد االتجاهات الفكرية
وتداخل بعضها البعض أشكل على
َ ْ َ
املؤرخين تحديد اإلطار الفكري والزمني لهذه املدرسة ،فجاك َماتر M.Jacques
1864 - 1791( Matterم) يعتبرأن فكرهذه املدرسة امتداد لفكرأفالطون وممثلي
مذهبه ،يضم مزيجا من التيارات أهمها الفلسفة اليهودية والفلسفة املسيحية
والفكر الغنو�صي ،إال أنه يخلط أحيانا بين مدرسة اإلسكندرية كفكر فلسفي
- 1إسمه الالتيني تيتوسفالفيوسإكليمندس ،ولد بأثينا منتصف القرن الثاني وتوفي بين عامي 210م
و215م .شملت ثقافته الفلسفة واألدب والشعر ،وامليثولوجيا .ما يميز أعماله الفكرية هو الجمع بين
التعاليم الالهوتية املسيحية والفلسفة الهيلنستية ،وقد صاغ هذا العمل في كتاب من ثمانية أجزاء
سماه «املتفرقات ،» Stromataمعتبرا أن الفكر الفلسفي السليم هو الذي يوحد بين العالم وهللا ،وال
يمكن لهذا الفكر أن يقوم إال في إطار تعاليم اإلنجيل ،فهو يعتبركل فكر يخالف ذلك غنوصية وهرطقة.
ُينظر:
Lindon say Jones, Encyclopedia of Religion, Vol.3, op.cit, p.1823
-2استغل أوريجين جانبا مهما من معارفه الفلسفية في تأويل النصوص املقدسة على غرار
فيلونوإكلمندس اإلسكندريين .واملقصود من التأويل هنا إخراج النص من معناه الن�صي /الحرفي إلى
معناه الرمزيُ .ينظر:
Henry Chadwick, The Church In Ancient Society FromGalilee to Gregory the Great, New
York: Oxford UniversityPress, 2001, P.139
49 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
وبين متحف اإلسكندرية ،حينما يصنف
الفلسفة ضمن العلوم التي شملها هذا الواقع أن الفلسفة يف مدرسة
املتحف مثل الرياضيات والفلك والتاريخ اإلسكندرية لم تتضح معاملها
إال مع فيلون اإلسكندري يف
وعلوم اللغة واملوسيقى .1والواقع أن
القرن األول امليالدي ،بينما
الفلسفة في مدرسة اإلسكندرية لم
متحف اإلسكندرية توقف
تتضح معاملها إال مع فيلون اإلسكندري
نشاطه العليم قبل هذا
في القرن األول امليالدي ،بينما متحف
الزمن بكثري
اإلسكندرية توقف نشاطه العلمي
قبل هذا الزمن بكثير .ونجد ْفريدير ْ
يك ِ ِ ِ
َ َ ُ ْ
ك ِوبل ْس ُتون F.Copelstonيحاكي تعريف ماتر حين يقسم الفلسفة اليونانية
إلى خمسة مدارس متتالية في الزمن ،آخرها مدرسة اإلسكندرية التي يمثلها
أمون يوس ساكاس وأفلوطين وماريوس فيكتور يوس أبرز رواد األفالطونية
املحدثة .2بينما نجد نجيب بلدي ُيقر بالبعد املنهجي في تعريفه ،ويعتبر أن مدرسة
اإلسكندرية هو ذلك التفكير الذي اتخذ أقوى مظاهره وأوضحها عند أفلوطين
ُ
مؤلف «التساعيات» ،فهي ال تعدو أن تكون مرادفة لـ«األفالطونية املحدثة» التي
أسسها أفلوطين ،3والتي قامت منهجيا كنقيض ملدرسة أثينا ،األولى من حيث
توفيقها بين الدين والفلسفة ،والثانية من حيث أنها تمثل فكرا يعتمد على
املنطق والعقل املجرد.
وتبقى أغلب هذه اآلراء متفقة في جعل األفالطونية ،التي ظهرت انعكاساتها
في األفالطونية املحدثة ،أهم تيار ساد فكر فالسفة مدرسة اإلسكندرية ،وإذا
1- M.Matter, Histoire de L’écoleD’alexandrie Comparée aux Principles Ecoles Contempo-
raines, Vol.1, Paris: Libraire-Editeur de Paris Historique, 1840, P.1-2
2- Frederick Copelston, a History of Philisophy: Greece and Rome, Vol.1, New York: Pub-
lished by Doubleday. An Image Book, 1993,p.379-383
- 3نجيب بلدي ،تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها ،ص56.
50
تجاوزنا الخلط الذي ال يميز بين مدرسة اإلسكندرية الفلسفية في القرن األول
امليالدي ،وبين العلوم التي شملها متحف اإلسكندرية ،أمكننا القول أن مدرسة
اإلسكندرية الفلسفية هي مزيج من الفكر اليوناني واملعتقدات الشرقية التي
بلغ أوج اتحادهما في األفالطونية املحدثة ثم تفرعت مع احتكاكها باليهودية
واملسيحية والغنوصية إلى تيارات فكرية فرعية ،أبرزها الفلسفة اليهودية التي
يمثلها فيلون االسكندري ،والغنوصية املسيحية التي ظهرت مع أكلم ندوس
وأرجين واألفالطونية املسيحية التي أسسها أمونيوسوأفلوطين.
مثلت املسيحية في ظل هذا التنوع الفكري املعتقد التي استلهم العديد من
التيارات الفكرية الى غاية القرن الخامس امليالدي ،وإن كان من الضروري تجاوز
التفصيل في األسباب التي جعلت التيارات الفلسفية في مدرسة اإلسكندرية تتحد
وتنصهر داخل املعتقد ،إال أن ما نريد التأكيد عليه هو تسجيل لحظة تاريخية
يلتقي فيها العقل اإلسكندري باإليمان املسيحي ،ونقصد هنا النصف الثاني من
َ ُ ُّ
القرن األول امليالدي الذي أخدت فيه األقدار تخط لإلسكندرية طريقا آخر في
عالم جديد ،وظهور مرقس -مؤلف إنجيل مرقس -كأول مبشر باملسيحية في
اإلسكندرية ،وأول مؤسس لكنيسة مسيحية إسكندرية ،وواضعا أسسا جديدة
للفكر املسيحي في ظل التيارات السائدة .وملا لم يكن في وسع اإلسكندرية أن
تتخلى في ظل هذا الدين الجديد (أي املسيحية) عن مركزها املرموق ومكانتها في
آفاق الفكر والفلسفة ،وملا كانت مركزا ممثال للفلسفة اليونانية الغربية والروح
الدينية الشرقية معا ،أضحت اإلسكندرية بؤرة للثقافات املختلفة والعديدة،
ً ً ُ ُ
وق ِّدرلها بذلك أن تؤدي دورا بارزا في انتشاراملسيحية ،وانصهارمعتقداتها داخل
التيارات السائدة ،ويمكن القول إنه ليس هناك حضارة أثرت في تطور املسيحية
مثلما فعلت مصر ،وليس ثمة مدينة تركت بصماتها على املعتقد املسيحي بصورة
أشد عمقا من اإلسكندرية .وليس من املبالغة في �شيء القول إن اإلسكندرية مثلت
51 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
عقل العالم املسيحي الذي قدم تراثا فلسفيا صبغ كل فترات تاريخه الفكري.1
في هذا الوسط الذي امتزجت فيه الفلسفة بالدين ،بدأت التيارات الفكرية
الكبرى في اإلسكندرية تتخذ موقفا صريحا من املسيحية ،فبعضها عارض هذا
الدين الجديد من حيث عقائده الدخيلة التي تتعارض مع الحقيقة الفلسفية أو
من حيث احتوائه أسس إضعاف االمبراطورية الرومانية الحاكمة ،وبعضها اآلخر
وجد في املسيحية إجابات إيمانية عجز العقل عن بلوغها ،وهو ما يمثلها تدقيقا
وحدة الحقيقة التي تنشدها األفلوطينية واملسيحية على السواء.
ُ
- 3التوافق بين الفلسفة واملسيحية في األفالطونية املحدثة
ثنائية الفلسفة والدين من أبرز ما قامت عليها األفالطونية املحدثة في القرن
الثالث امليالدي ،فطبيعة هذا التيار سواء في شقه األول الذي يمثله الفكر
االنتقائي ،وهو انتقاء التصور الفلسفي للدين من بين العديد من املذاهب
الفلسفية كاألرسطية واألفالطونية والرواقية ،أو في شقه الثاني الذي يمثل
النزعة الدينية الروحية الصوفية املستمدة من األديان الشرقية ،أثارت جدل
استعمل في أوساط املؤرخين حول تداخل الفلسفة والدين في هذا الفكر ،وقد ُ
الكتابات الفلسفة عبارة «األفالطونية املحدثة» كتعبيرعن امتداد وإعادة إحياء
األفالطونية ،والتسمية هنا ليس من باب إطالق الجزء على الكل ،إنما ذلك التشابه
الكبير القائم بين أفلوطين ،مؤسس األفالطونية املحدثة ،وأفالطون الذي وضع
إطارا فكريا لفلسفة إلهية أو الهوت فلسفي ،2وعلى هذا الحد قامت األفالطونية
أفالطونية وأصبحت ممثلة لجل التيارات السائدة في مدرسة
ٍ املحدثة على أصو ٍل
اإلسكندرية سواء الفلسفية أو الدينية (اليهودية أو املسيحية) أو الغنوصية بما
في ذلك األفكاراملتعلقةبالتنجيم والسحروالعرافة.3
- 1رأفت عبد الحميد ،الدولة والكنيسة :قيصرواملسيح ،الجزء ،3.القاهرة :دارقباء ،1999 ،ص22 - 21.
- 2نجيب بلدي ،تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها ،ص62.
- 3يوسف كرم ،تاريخ الفلسفة اليونانية ،بيروت :دارالقلم ،1990 ،ص285
52
لم تكن إذن فلسفة األفالطونية
ما نريد التأكيد عليه هو املحدثة أصيلة باملعنى العميق للكلمة،
بمعنى أنها لم تضع تصورا فلسفيا تسجيل حلظة تاريخية يلتيق
فهيا العقل اإلسكندري متكامال مستقال ،إنما قامت على توفيق
باإليمان املسييح ،ونقصد
Eclecticisme1وتلفيق Syncrétisme2
هنا النصف الثاين من القرن
بين الفلسفات التي كانت سائدة حينها
األول امليالدي الذي أخدت
في اإلسكندرية من جهة والقيم الدينية
خ ُّط لإلسكندرية فيه األقدار َت ُ
من جهة أخرى ،3واملالحظ أن املسيحية
طريقا آخر يف عالم جديد
املبكرة وجدت في األفالطونية املحدثة
مالذا يؤمن لها الدفاع عن معتقداتها
التي كانت في طور التأسيس في القرون امليالدية الثالثة األولى ،على أن تصبح أهم
ً
ابتداء من القرن الرابع امليالدي إلى ما بعد العصرالوسيط. ركائزتأويل املعتقد
1-1أفلوطين مؤسس األفالطونية املحدثة
ليس من قبيل الصدفة أن تنشأ فلسفة أفلوطين Plotinانعكاسا للوضع
السيا�سي املتدهور في اإلسكندرية أو في مصرعموما في القرن الثالث امليالدي ،أو
- 1التوفيقية مصطلح يوناني έκλέγειυيدل على منهج يقوم على تأليف تيار فكري متماسك يضم
العديد من التيارات الفكرية الفلسفية أو الدينية األخرى من دون أن يحدث تنافر أو تعارض ،وقد ظهر
هذا املنهج بالخصوص في مدرسة اإلسكندرية في فترة املسيحية املبكرة ،وظهر عند العرب في العصر
األندل�سي عند بعض فرق علم الكالم التي حاولت التوفيق بين الشريعة االسالمية وبعض املفاهيم
اليونانيةُ .ينظر:
The News CatholicEncycloperdia,Vol.5, op.cit , P.46
- 2التلفيق نزعة فلسفية دينية أبعد ما يكون من تيار فلسفي أو ديني منظم ،يرمي إلى التأليف
والجمع امللفق الذي ال يقوم على أسس علمية للعديد من التيارات ،نجده هذا املنهج بالخصوص
في التيارات الغنوصية كاملانوية أو املندائية أو عند بعض ممثليها كباسيليدس (عاش في القرن 2م)
وفالونتينوس(100م160 -م)ُ .ينظر:
Lindon say Jones, Encyclopedia of Religion, Vol.13, op.cit, p.8926
- 3نجيب بلدي ،تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها ،ص56
53 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
نتيجة للخليط الديني الشعبي األسطوري
السائد ،فمن الناحية السياسية أدى املالحظ أن املسيحية املبكرة
الصراع حول السلطة واالنقسامات التي وجدت يف األفالطونية املحدثة
مالذا يؤمن لها الدفاع عن
عرفتها مصر إلى دويالت صغيرة وسيطرة
معتقداهتا اليت كانت يف طور
الجيش على قرارات الحكم وتدخله في
التأسيس يف القرون امليالدية
شؤون الدولة ،إلى حالة من الالاستقرار
الثالثة األوىل
األمني ،وفي ظل املوقف العدائي
َ
لإلمبراطورية الرومانية أ َّيد املصريون
َ
كل من يملك السيادة على الحكم أ َم ًال منهم في االستقراروالتغيير .1وعلى املستوى
آل الوضع إلى تعدد اآللهة اإلغريقية وسادت املعتقدات الشرقية الديني العقدي َ
وتداخلت فيما بينها ،فمن آسيا الصغرى ظهرت عبادة اإللهة «األم العظيمة
سيبلي» ،Cybeleومن بالد الفرس ظهرعبادة اإلله مثرا ،Methraومن حضارات
مصر القديمة ظهرت عبادة اإللهة إيزيس ،Isisباإلضافة إلى معتقدات أخرى
تتعلق بالبعث والقضاء والقدر.2
هذا الوضع السيا�سي والديني وصفه لنا إمييلبرهييه بقوله« :ال شك أن هذه
الفترة هي األكثر اضطرابا في تاريخ مصر ،فقد تعرضت اإلمبراطورية الرومانية
إلى غزو َب ْربري شماال ،وإلى غزو فار�سي شرقا ،باإلضافة إلى اضطرابات سياسية
داخلية ،هذا الوضع نتج عنه الجهل بالفلسفة واآلداب والعلوم وتعدد املعتقدات
سواء معتقدات آسيا الصغرى أو املعتقدات الشرقية أو املعتقدات اليونانية
والتي جعلت املؤرخ في حيرة وانبهارإزاءها».3
- 1آيورس بل ،مصرمن اإلسكندراألكبرإلى الفتح العربي ،ترجمة :عبد اللطيف أحمد علي ،بيروت :دار
النهضة ،1973 ،صص152 - 148.
- 2حربي عباس َعطيتو ،مالمح الفكر الفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية القديمة ،بيروت :دار
العلوم العربية ،ص131.
3 - Emile Bréhier, La Philosophie de Plotin, Paris : Librairie Philosophique De J. Vrin, 1998, p.1
54
إن مظاهر الخراب الذي عاشه العالم الروماني وتمزق النفوس جراء الكوارث
التي لحقت به جعل الناس يسعون إلى الخالص بشتى الوسائل ،هذا الخالص
يدعو إلى التجرد من الوجود الخارجي بما هو شر ال خير فيه ،ونشدان الحقيقة
الدينية كحقيقة عليا يفنى فيها اإلنسان ،لهذا ال بد أن تلعب املذاهب القائلة
بالخالص (األفالطونية والرواقية بالخصوص) الدور األكبر في تشكيل اإلطار
الروحي لألفالطونية املحدثة .1وعموما فإن هذه األوضاع هي التي مهدت لنشأة
األفالطونية املحدثة ،وأفلوطين نفسه لم يكن سوى انعكاس لظرف عصره.
يعتبركتاب «التاسوعات 2»Ennéades أهم املصادرالتاريخية التي من خالله
باقة من أربعةصلة عن أفلوطين وفلسفته ،والكتاب عبارة عن ٍ نصل إلى حياة ُم َف َّ
وخمسين رسالة َع ِهد أفلوطين إلى تلميذه فرفريوس بجمعها وتدوينها ،ويظهر من
محتويات الكتاب أن هذه الرسائل ال تضع أصوال ملذهب فلسفي مستقل إنما
هي تعليم شفهي وسلسلة محاضرات تتعلق بالسعادة والعناية اإللهية واألقانيم
اإللهية الثالثة والطبيعة والتنجيم والوجود اإللهي.3
ولد أفلوطين بمصر سنة 205م بمدينة ليقوبوليس Lycopolisالتي تعرف
َ
حاليا بأسيوط ،وقد ت َع ّمد تجاهل تفاصيل أسرته ووطنه ،ذلك حسب ما يذكر
ُ
عنه فرفريوس «كان يخجل من وجوده في جسم» ،وتلك حالة نفسية كانت ت ْج ِبره
- 1عبد الرحمن بدوي ،خريف الفكراليوناني ،القاهرة :مكتبة النهضة املصرية ،1970 ،ص116.
َ - 2تأثرفرفريوسبالفيثتاغورية التي ُت ّ
قدم اعتبارا للعددين ستة وتسعة ،وق َّسم املقاالت األربع والخمسون
ِ
التي يتضمنها «التاسوعات» إلى ستة أجزاء في كل جزء تسعة مقاالت ،وهذا يعني ضرب األعداد ،6x9
فالتاسوعات إذن هو ست مجموعات لتسع مقاالت ،يتناول التاسوع األول األخالق ،والثاني الطبيعيات،
والثالث مواضيع تتعلق بالعالم الكلي ،والرابع يختص بالنفس ،والخامس بالروح اإللهية ،والسادس
بالخيروالواحدُ .ينظر:
فرفريوس الصوري ،تاسوعاتأفلوطين ،ترجمة :فريد جبر ،بيروت :مكتبة لبنان ،1997،ص.ي -ك
ُ - 3ينظر:
Emile Brehier, La Philosophie de Plotin, op.cit, p.10-11
DominicO’Meara,Plotin : Une Introduction aux Ennéades, op.cit,p.1
55 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
على أن يتجاهل ذكر أسالفه وأبويه ووطنه .1ترعرع أفلوطين بليقوبوليس حتى
بلغ العشرين من عمره ،وحوالي 232م استقر باإلسكندرية حيث تتلمذ على يد
الفيلسوف أمونيوسساكاس 2ولزمه مدة أحد عشر عاما آخذا عنه الفلسفة
َ
اليونانية وأت َّم معرفته بها ،واعتقادا منه أن هناك سبيال آخر إلى الحقيقة غير
الحقيقة التي تنشدها الفلسفة اليونانية ،والتي تتمثل في الحكمة التي تعكسها
التجربة الصوفية ،سافر إلى الهند من أجل ذلك في فترة شبابه .ومن أجل نفس
الهدف وحوالي 242م نجده يواكب الحملة العسكرية التي شنها إمبراطور الروم
الثالث جورديان Gordianضد الفرس حيث اطلع على املعتقدات الفارسية
والحكمة الهندية ،إال أن فشل هذه الحملة العسكرية ومقتل اإلمبراطور
جورديان في بالد العراق جعل أفلوطين وهو في األربعين من عمره ،يفر نحو روما
وهناك أنشأ مدرسة لتعليم الفلسفة وعمل بها مرشدا ومعلما بقية حياته.3
اعتبر أفلوطين أكبر ممثلي الفلسفة الدينية الصوفية 4التي تسعى في شق كبيرُ
حد َدة لكل معرفة ،وتكون بذلك منها إلى الوصول إلى حالة من الو ْجد كغاية ُم ّ
ِ ِ
التجربة الصوفية األساس لكل نظرية في املعرفة ،ونجد ألول مرة يضع تصور
محددات هذه التجربة ويبين ماهيتها سواء في جانبها الذاتي أو في الجانب الذي
- 1فرفريوس الصوري ،تاسوعات أفلوطين ،ص1.
DominicO’Meara, Plotin : Une Introduction aux Ennéades, op.cit, p.2
- 2أمونيوسساكاس (175م250 -م) فيلسوف مصر ،ترك املعتقدات املسيحية التي نشأ عليها وارتد
إلى الفلسفة اليونانية بعد أن اطلع بعمق على فلسفة أفالطون ،يعتبر فكره توفيقا بين األفالطونية
بالخصوص وبعض األفكاراألريسطية خاصة املسائل التي تتعلق باهلل والعالم والنفس ،وكان نتاج فكره
أن وضع أسس األفالطونية املحدثة التي أنشاها أفلوطين ،لهذا لم تظهرمالمح هذا التيارواضحة في فكره
إنما اكتمل وانتقلت إلى ما بعده عن طريق تلميذه أفلوطين ،وهو الذي صرح في غيرما مرة أنه كان شديد
اإلعجاب والتعلق بأستاذه أمونيوس ،من ذلك قوله« :وجدت ضالتي في هذا الرجل (أي أمونيوس) الذي
كنت أبحث عنه» ُينظر:
Porphyruset Luc Brisson, La Vie de Plotin, Paris: Librairie Philosophique J. Vrin, 1992, p.4
- 3فرفريوس الصوري :تاسوعاتأفلوطين ،ص.ط-ي
- 4ول وايرلديورانت ،قصة الحضارة ،قيصر املسيح أو الحضارة الرومانية ،الجزء ،11.ترجمة :محمد
بدران ،بيروت :دارالجيل ،ص199.
56
يصف فيه مسيرة النفس في حركتها
اع ُترب أفلوطني أكرب ممثيل النازلة التي تبدأ من الواحد (اإلله) الذي
الفلسفة الدينية الصوفية اليت يفيض عنه العقل وكل املوجودات،
تسىع يف شق كبري مهنا إىل ُ
وهو العالم املحسوس الذي تسجن فيه
الو ْجد
الوصول إىل حالة من ِ َ
النفس وت َّت ِحد فيه مع املادة ،أوفي حركتها
كغاية ُم ِّ
حددَ ة لكل معرفة،
الصاعدة نحو تحررها من هذه املادة
وتكون بذلك التجربة الصوفية
وعودتها إلى طبيعتها اإللهية واتحادها
األساس لكل نظرية يف املعرفة
مع هذا الواحد .1فقد بقي هذا التصور
قائما في فكره حتى اللحظات األخير من
حياته ،فقد قال لصديقه زيتوس Zethosوهو يحتضر «اآلن سأسعى جاهدا
لكي يرتفع الجانب اإللهي في إلى ما هو إلهي ،وتعود النفس إلى أصلها».2
فأفلوطين طبقا للتجربة الصوفية ُيعلي من شأن النفس ويحتقرالجسد ،من
ذلك ما يروي عنه فرفريوس أنه رفض الوقوف أمام املصورين اعتبارا أن جسمه
أقل منه شأنا ،وكان بسيطا في عاداته متواضعا في معامالته بحيث كان نباتيا في
طعامه مستثنيا أكل اللحوم بما في ذلك الدواجن .3ترى العديد من الدراسات
أن من الصعوبة بمكان إدراج األفلوطونية ضمن سلسلة الفلسفة اليونانية
القديمة التي امتدت إلى القرون امليالدية الثالثة األولى ،والواقع أن الصبغة
الدينية والروح الصوفية التي تتسم بها األفالطونية املحدثة جعلت هذا املذهب
ُ
تيارا دينيا أكثر منه فلسفيا ،فقد توصل أ ِف ِريلكامرون C.Averilخالل قراءة
مستفيضة ألهم أعمال أفلوطين إلى أن أفكاره ال تعدو أن تكون إال مزيجا من
األرسطية والرواقية متحدة في األفالطونية -وهي االنتقائية في األفالطونية املحدثة
- 1عبد الرحمن بدوي ،خريف الفكراليوناني ،ص113 - 112.
- 2حربي عباس َعطيتو ،مالمح الفكرالفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية القديمة ،ص141.
- 3فرفريوس الصوري ،تاسوعات أفلوطين ،ص.ط-ي
57 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
التي سبقت اإلشارة إليها ،-واستند إلى أن
ترى العديد من الدراسات األرسطيين في اإلسكندرية شأن أمثالهم في
أن من الصعوبة بمكان إدراج
أثينا ،كانوا يمثلون األفالطونية املحدثة،
األفلوطونية ضمن سلسةل
لهذا بات هذا التيار فلسفة دينية تسعى
الفلسفة اليونانية القديمة
باألساس إلى وضع الهوت عملي عن طريق
اليت امتدت إىل القرون
التأمل والزهد .1وبغض النظر عن كون
امليالدية الثالثة األوىل ،والواقع
األفالطونية املحدثة فلسفة الهوتية أو
أن الصبغة الدينية والروح
امتدادا للفلسفة اليونانية القديمة،
الصوفية اليت تتسم هبا
فإنه ال يمكن إنكار جانبها الالهوتي التي
األفالطونية املحدثة جعلت هذا
املذهب تيارا دينيا أكرث
تعكسه التجربة الصوفية خاصة إذا ما
منه فلسفيا
استحضرنا روح الديانات الشرقية التي
تأثرت بها.
1-2الفلسفة الدينية في فكرأفلوطين
تقوم فلسفة أفلوطين في مجملها على وصف لحالة النفس كسبيل يربط
الو ْحدة ،بالعالم املحسوس املادي الذي يمثل
العالم املعقول (اإللهي) الذي يمثل ِ
الكثرة ،لهذا حاول جاهدا وضع نسق فلسفي يبين من خالله كيفية صدور الكثرة
عن الوحدة في مرحلة أولى ،وهو طريق فلسفي هابط تهبط فيه النفس في تسلسل
تراتبي من العالم املعقول إلى العالم املحسوس ،ثم في مرحلة ثانية كيفية عودة
الو ْحدة واتحادها بها ،وهو الطريق الصوفي الصاعد الذي تتجرد من الكثرة إلى ِ
خالله النفس من العالم املحسوس وتصعد وتتحد بالعالم املعقول .2من أجل
1 -Averil Cameron, The Mediterranean World In LateAntiquity AD 395 - 600, London:
Routledge in an Imprint of The Taylor, 1993, p.133
ُ - 2ينظر :مصطفى النشار ،مدرسة اإلسكندرية بين التراث الشرقي والفلسفة اليونانية ،القاهرة :دار
املعارف ،1995 ،ص147.
Emile Bréhier, La Philosophie de Plotin, op.cit, p.23
58
هذا األمر يفترض أفلوطين وجود عاملين :عالم املعقوالت وعالم املحسوسات،
فالعالم املعقول توجد فيه ثالثة مبادئ اصطلح عليها أفلوطينباألقانيم الثالثة،
ً
وهي الواحد أواملبدأ األول (اإلله) ،والعقل والنفس .وتعتبرالنفس حدا وسطا بين
العاملين ذلك أن جانبها املعقول مرتبط بالعالم املعقول ،بينما جانبها املادي هو ما
تتحقق به صور املعقوالت في العالم املحسوس.1
يصعب تحديد تصور دقيق لإلله كأقنوم أول في الثالوث األفلوطيني ،فاإلله
ْ
هو الواحد بدون أي كثرة أو تعدد أو انقسام ،وكل ما قد ُيلصق به من صفات هو
انتفاء له وانتقاص من طبيعته ،فال يمكن أن يتصف باإلرادة ألنه إذا كان ُمريدا
فمعنى ذلك أنه في حاجة إلى غيره ،وال يمكن أن يتصف بالحياة ألن الحياة تقوم
كون الحياة ،وال يمكن أن يتصف بال ِعلم أوالفكر ُ ّ
على رغبات وإرادات ومجموعها ي ِ
الوحدة ،أي تركيب ألن العلم يقت�ضي التركيب من عدة أشياء لكي تتكون منها ِ
معان جزئية الستخراج معنى كلي .كما أن في العلم ثنائية بين العاقل والتعقل ٍ
ْ
القسمة. من جهة وبين العاقل واملعقول من جهة أخرى ،وفي الحالتين معا توجد ِ
ُّ
كما ال يمكن أن نقول عنه موجود ألن كل موجود متأثر أي خاضع للتأثر ٍ
بفعل
أوبانفعال ،ومما هو خاضع ومتأثر فهو متغير ،واإلله ثابت غير متغير بحال من ٍ
األحوال.2
للوحدة إن األساس في بلورة األفلوطيين مفهومه عن اإلله نابع من مفهومه ِ
(أو الواحد) كأساس لنظريته ،ويقت�ضي تصوره لهذا «الواحد» تجريده من كل
الصفات التي من شأنها أن توحي بوجود تركيب أو تعدد ،لهذا ينفي عنه العقل
والوجود وكل الصفات ،فاإلله إذن هو ذلك «ال�شيء» الذي يستحيل وصفه أو
ُْ
نعته أو إدراكه ،وهو الغني ال ـك َتفي بذاته.3
- 1عبد الرحمن بدوي ،خريف الفكراليوناني ،ص124.
- 2حربي عباس َعطيتو ،مالمح الفكرالفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية القديمة ،ص148-149.
- 3عبد الرحمن بدوي ،خريف الفكراليوناني ،ص125 .
59 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ال يمكن أن نقول إذن عن اإلله إال أنه كامل كماال مطلقا يفوق كل تصور ،وإزاء
ً
استحالة تصوره يكون الصمت جزءا من معرفته ،إال أن لفرط كماله وال نهائيته
وال محدوديته يصدر عنه غيره بالضرورة .1والصدور هنا نتيجة لعملية الفيض
الستخراج الكثرة من الوحدة أو استخراج املوجودات عن الوحدة (اإلله) ،إال أن
هذه العملية في أساسها تستعين بعملية أخرى هي التأمل .فاملوجودات تصدر
عن الواحد (اإلله) بفيض من ذاته دون أن يحدث هذا الفيض نقصا في الذات
اإللهية ،تماما كما تفيض األشعة عن الشمس دون أن يحدث نقصا في ذات
ْ
الشمس ،أو كما أنقل ال ِعلم الذي أحمله إلى شخص آخر دون أن يحدث هذا
النقل نقصا .2فاألول تأمل ذاته ففاض عنه العقل أو اللوغوس ( Nousاألقنوم
الثاني) وهو األقل كماال من األول ،والعقل حينما تأمل الواحد فاضت عنه
النفس (األقنوم الثالث) بحيث يتصل جزؤها األعلى بالعالم املعقول بينما يتصل
جزؤها األدنى بالعالم املحسوس ،وعن النفس فاضت باقي املوجودات في العالم
املحسوس .بهذا الترتيب التسلسلي يعطي األول الثاني صورته ،ويعطي الثاني
الثالث صورته ،وهكذا حتى نصل إلى آخر األشياء ،على أن تكون هذه األشياء
َ ّ
األخيرة غيرحاملة ألي صورة وهو ما ُيش ِكل املادة.3
فاملادة أدنى املراتب في املعقوالت وهي مكمن الشر ،ومع أن الجزء من النفس
الذي هبط إلى العالم املحسوس واتحد به ظل سجين املادة ،إال أنها تظل دائما
على صلة بالعالم املعقول الذي انبثقت منه ،ومن ثم سيظل جزء منها متصل
بالجزء العلوي .لهذا ُيلح أفلوطين على ضرورة التجربة الصوفية وتطهير النفس
وتنقيتها من شوائب املادة (امللذات والشهوات) وتدريبها على التأمل الخالص
للحقائق العليا ،وحين تصل إلى العالم العلوي بعد هذا التطهير وتلك التنقية،
- 1رأفت عبد الحميد ،الفكراملصري في العصراملسيحي ،القاهرة :دارقباء ،2000 ،ص55.
- 2عبد الرحمن بدوي ،خريف الفكراليوناني ،ص131.
- 3نفسه ،ص131.
60
حينئذ ستدرك أنها سمت إلى أصلها
فسد وال املادة أدىن املراتب يف املعقوالت اإللهي وأصبحت خالدة ال ُت َ
تندثر .1تعتبر القضايا املحورية في فكر ويه مكمن الرش ،ومع أن
أفلوطين سواء األقانيم الثالثة أو مسألة اجلزء من النفس الذي هبط
إىل العالم احملسوس واتحد
الفيض أو تحرر النفس من شرور املادة
به ظل سجني املادة ،إال أهنا
وعودتها إلى طبيعتها اإللهية ،من القضايا
تظل دائما عىل صةل بالعالم
التي أثارت فضول مؤرخي الفلسفة حول
املعقول الذي انبثقت منه
أصول هذه النظريات وطبيعتها ،ففكرة
الفيض عن الطريق التأمل تعود إلى
َ
جذور بعيدة في الديانة املصرية القديمة ،وتتمثل خاصة في األسطورة «امل َنفية»
(نسبة إلى مدينة َم َنف املصرية) التي تفسرنشأة العالم عن اإلله «بتاح» ،وتقول
تصور مظاهر الطبيعة ثم أبدعها عن األسطورة أن ثمة عقال مسيطرا خالقا َّ
طريق التعقل والتأمل .2كما أن فكرة الثالوث كانت منتشرة في البيئة اإلسكندرية
ال سيما الثالوث املصري «إيزيس وأوزيرس وحورس» ،ولو أن هناك اختالفا بين
ثالوث أفلوطين والثالوث املصري من حيث أن األول أقام تصوره على أساس
عقالني في العالم املعقول بينما الثاني قائم على أساس أسطوري ،إال أن بعض
االجتهادات الالهوتية التي ظهرت في اإلسكندرية في القرون الثالثة األولى للميالد
فسرت الثالوث املصري على أساس فلسفي ،ومن املحتمل أن يكون قد تأثر
أفلوطين بهذه االجتهادات خاصة تلك التي قام بها صديقه أوريجين.3
َّ
والواقع حتى ولو َسلمنا باألصول اليونانية لهذه الفلسفة فإننا نرى األثر
ً
الشرقي باديا بنزعته الدينية واتجاهه الصوفي ،إننا نجد أنفسنا في بيئة مختلفة
-1حربي عباس َعطيتو ،مالمح الفكرالفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية القديمة ،ص141.
-2رأفت عبد الحميد ،الفكراملصري في العصراملسيحي ،ص57.
-3مصطفى النشار ،مدرسة اإلسكندرية بين التراث الشرقي والفلسفة اليونانية ،ص148.
61 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
َ
كل االختالف عن التي أ ِلفناها في الفلسفة
فكرة الفيض عن الطريق ْ
اليونانية باملعنى الصحيح ،إذ يمثل
التأمل تعود إىل جذور بعيدة
أفلوطين في الواقع الروح الشرقية أكثر
يف الديانة املرصية القديمة،
من تمثيله الروح اليونانية ،وإن كان ال
وتتمثل خاصة يف األسطورة
يمثل الروح اليونانية في ال�شيء .1لهذا
«الم َنفية» اليت تفرس نشأة
َ
اهتمت العديد من الدراسات بهذا
العالم عن اإلله «بتاح» ُ
الجانب ،من ذلك دراسة دافيد ن ِولس
D. khnowlesفي كتابه «تطور الفكر
الشرقي »The Evolution of MedievalThought التي توصل من خاللها
إلى أن صياغة نظريات أفلوطين عن العاملين وهبوط النفس إلى العالم املادي
وعودتها إلى طبيعتها اإللهية ووضع تصور عن اإلله في شكل ثالوث ،كل ذلك بهدف
تحويل وضع ديني قائم على التعدد إلى وضع ديني قائم على التوحيد .2ودراسة
أفريلكامرون C.Avrilحول األديان في العصور القديمة ،والتي كشفت عن العمق
الفكري لألفلوطينية في سعيها نحو فهم الطبيعة اإللهية مبتدعة الهوتا مستقال
مبنيا على أسس علمية جعل منها نظاما دينيا مستقال .3ونفس الرأي أيضا توصل
حد في جمع الحقيقتينإليه عبد الرحمن بدوي بقوله« :إن أفلوطين ُو َّفق إلى أبعد ّ
ٍ
الفلسفية والدينية ،فتجربته الدينية املفهومة على نحو صوفي بدت واضحة منذ
البداية ،ولئن اهتم األفالطونيون واألرسطيون والرواقيون بالدين ،فإن ذلك ال
يجعل من هذه الفلسفة عندهم فلسفة دينية باملعنى الذي نجده عند أفلوطين».4
62
1-3األفالطونية املحدثة واملسيحية
تقوم األفالطونية املحدثة واملسيحية في أصولهما على مفاهيم الهوتية
مشتركة ،قائمة في جزء كبيرمنها على نوع من التداخل والتشابه ،وإن كان يصعب
تحديد العالقة بينهما وحدود التداخل بين االتجاهين ،إال أن بعض الدراسات
َر َّجحت تأثيراألفلوطونية باملسيحية ،خصوصا إذا ما استحضرنا أن بداية القرن
حد املفاهيم األفلوطينية باملسيحية ،وكان من الرابع امليالدي اختلطت إلى أبعد ّ
ٍ
بين ممثلي هذا االتجاه الفلسفي رجال دين مسيحيون أمثال أوريجين ،وربما يقوم
هذا السبب دليال لتبرير ما أحدثته املسيحية في األفالطونية املحدثة .والفرضية
الثانية تنكر أية صلة قائمة بين املسيحية واألفالطونية املحدثة ،خاصة في ظل
غياب أي إثبات تاريخي يربط االتجاهين ،1لهذا يكون التشابه القائم بينهما َم َر ُّده
املشترك التاريخي وأوضاع العصر ،فسعي االتجاهين إلى نشدان الخالص مثال
كسبيل لتحرير النفس من شوائب املادة ،ال يعكس بالضرورة تأثير أحدهما في
اآلخر بقدر ما يرجع إلى االضطرابات السياسية واالجتماعية التي عرفها العالم
الروماني ،ومن هنا باتت وحدة الحقيقة التي تنشدها األفالطونية املحدثة
واملسيحية هي ما يوهم بوجود هذه الصلة ،2من ذلك أن مبدأ الخالص في
االتجاهين ومفهومهما لتحرر النفس يوحي بوجود تناقض ،فاملسيحية أقامت
هذا التصور على أحداث تاريخية متربطة بأشخاص (املسيح) ،عكس األفالطونية
املحدثة التي وضعته على أسس عقلية صرفة ،هذا التناقض نلمسه أيضا في
مساربحث النفس عن الخالص بين العالم املادي املحسوس واإلله ،فاملسيحية
- 1ال يوجد أي دليل تاريخي يثبت اتصال أفلوطين اتصاال مباشرا باملسيحية ،واألرجح أن تصوره للنفس
وخالصها كعقيدة سائدة في ديانات اإلسكندرية (اليهودية واملسيحية) ،انتقلت إليه عن طريق الفكر
اإلسكندري السائد .وترجح بعض أن يكون هذا املفهوم انتقل إليه بواسطة أمنيوسساكاس اعتبارا أنه
كان مسيحيا وارتد عنها بعد ذلك إلىالفلسفةُ .ينظر
A.H.Armstrong, Plotinus, London: George Allen et Unwin, Printed In Great Britain, 1953,
p.24 - 25
- 2عبد الرحمن بدوي ،خريف الفكراليوناني ،ص117 - 116.
63 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
أنزلت املقام اإللهي إلى مستوى املادة ،وجعلت حركة الطبيعة اإللهية في اتجاه
نازل نحو الطبيعة اإلنسانية من حيث أن اإلله نفسه تولى عملية الخالص
وتجسد في العالم املحسوس ،عكس ذلك تبدأ عملية الخالص في األفالطونية
املحدثة من العالم املحسوس وتنطلق في ُس ُم ّ ٍو نحو العالم املعقول (اإللهي)،
فالخالص بالنسبة للمسيحية يكون في اتجاه نازل بينما األفالطونية املحدثة
جعلته في اتجاه صاعد .هناك اختالف آخر من نفس طبيعة االختالف السابق،
يتعلق األمر بالتصورين األفلوطيني واملسيحي للتثليث ،فهذا التصور وإن كان في
ظاهره متشابها ،إال أنه يقوم في جوهره على نوع من االختالف.
ففي الدراسة التي قام بها سيمون جيل S.Jullمن خالل كتاب «تاريخ مدرسة
اإلسكندرية» نجد أن التشابه بين األقانيم الثالثة ال يشمل إال اللفظ فقط،
فأفلوطين لم يجعل منها نفسها الواحد (اإلله) بل جعلها في مرتبة منفصلة وأقل
منه ،ومن ناحية أخرى ال يوجد أي تشابه بين صفات هذه األقانيم في التصورين،
لكون أن أفلوطين جعل األقانيم في العالم املعقول ،عكس املسيحية التي أنزلتها
إلى العالم املحسوس ،لهذا أصبح من الواضح نفي أي صلة أو تأثيربين املسيحية
واألفالطونية املحدثة 1.غير أن هناك رأيا ثالثا يرجح تأثير األفالطونية املحدثة في
املسيحية ،بحيث يكاد يكون الحديث عن دور األفالطونية واألفالطونية املحدثة
في تشكيل الالهوت املسيحي محورا مشتركا بين العديد من الدراسات التي أرخت
للفكر الفلسفي والديني في العصر اإلسكندري ،2هذا الالهوت الذي ما لبث
أن تحول تحت هذا التأثير إلى فلسفة مسيحية شكلت األساس في بناء املعتقد
والدفاع عنه .وأذكر هنا على سبيل املثال ال الحصر الدراسة التي تحدث فيها
1 -Jules Simon, Histoire de L’école d’Alexandrie, Paris : Imprimerie de H .Fournier, 1844,
p.17-1178
- 2من بين هذه الدراسات :برتراند رسل ،تاريخ الفلسفة الغربية :الفلسفة القديمة ،ترجمة :زكي نجيب
محمود ،الجزء ،1.القاهرة :الهيئة املصرية العامة للكتاب ،2010 ،ص438.
A.H.Armstrong, Plotinus, op.cit, p.28
64
ْ ْ
ِول َيام ِإنج W.Ingeعن املسيحية ،إلى
يف الدراسة اليت قام هبا سيمون
جانب الهلنستية اليونانية واألوريجينية،
جيل S.Jullمن خالل كتاب
كواحدة من التيارات الثالثة التي تأثرت
«تاريخ مدرسة اإلسكندرية»
نجد أن التشابه بني األقانيم
باألفلوطينية ،بل يعتبرها جزءا من
الثالثة ال يشمل إال اللفظ فقط
البنية الالهوتية للمسيحية خاصة
الهوت أوغسطين .1وعن نفس التأثير
يقول برتراند رسل« :لن تجد فلسفة
أخرى مثل األفالطونية املحدثة استطاعت أن تقترن بالالهوت املسيحي دون أن
َ
يحدث بينهما تعارض ،إنه يستحيل استحالة مطلقة أن ت ْف ِصل األفلوطينية عن
ُ
املسيحية دون أن ت َم َّزق املسيحية تمزيقا».2
إن الحديث عن صلة األفالطونية املحدثة باملسيحية هو في الواقع نهاية
الصراع الفلسفي الديني الذي ظهر بداية القرن الرابع قبل امليالد ،صراع
الفلسفة بما يمثلها العقل اليوناني وصراع الفكر الشرقي بما تمثلها املسيحية
خاصة ،ولئن كانت هذه العالقة في حداثة نشأتها تتأرجح بين الرفض كما هو
ْ
الحال عند ِسل ْس ُيوس 3Celseوفرفريوس وبين التوفيق كما هو الحال عند أكلم
- 1تطرقت هذه الدراسة بالخصوص إلى انعكاس االفالطونية املحدثة وتأثيرها في تشكيل املفاهيم
الالهوتية التي وضعها أوغسطين في القرن الرابع امليالديُ .ينظر
William Ralph Inge, The Philosophy of Plotinus, London:longmans green and co, 1923,
p.69-70-135
- 2برتراند رسل ،تاريخ الفلسفة الغربية ،الفلسفة القديمة ،ص438.
ْ
- 3يصعب في ظل شح املصادر التاريخية اإلحاطة بشخصية ِسل ْس ُيوسوكل ما أنتجه هذا الفيلسوف
اليوناني من فكر ،رغم ذلك يمكن التأكيد على أنه كان أشد املدافعين عن الفلسفة اليونانية ضد
املسيحية املبكرة ،حيث هاجمحوالي النصف الثاني من القرن الثاني في كتابه «القول الحقle Vrai
« Discoursبعض أسس العقيدة املسيحية وتأثيرها سلبا في إضعاف الدولة الرومانية ،ومع أن هذا
الكتاب مفقود إال أننا نستطيع الوقوف على معظم أجزائه من خالل كتاب «ضد سلسيوسContre
َّ
،»Celseالذي ألفه أورجين حوالي 246م مدافعا من خالله عن املسيحية ضد آراء سلسيوسُ .ينظر
The News CatholicEncyclopedia,Vol.3, op.cit, p.329-330
65 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
َ ْ
ندوس وأرجين ،فإن أفلوطين أظهر معالم الفلسفة الدينية في القرون الثالثة
امليالدية األولى ،وال أدل على ذلك من امتداد فكره إلى العصر الوسيط متجليا في
الفلسفة املسيحية التي يمثلها أوغسطين وتوما اإلكويني أو في الفلسفة اإلسالمية
التي يمثلها الفارابي وابن رشد والكندي وغيرهم ،بل إن فكره تجاوز هذا العصر
إلى العصر الحديث بما ينضوي عليه من وحدة الحقيقة التي تتأتى في الفلسفة
وتعاليم العهد الجديد ،1وأصبحت بذلك األفلوطينية املسيحية جزءا ال يتجزأ
من بنية الفكرالغربي الحديث.
66
املصادرواملراجع
باللغة العربية
• إبراهيم زكرياء ،مشكلة الفلسفة ،القاهرة :مكتبة مصر.1971 ،
• إبراهيم محمد تركى ،مدخل إلى الفلسفة املسيحية في أوروبا َّإبان العصر
الوسيط ،القاهرة :دارالكتب القانونية2010. ،
• آيورس بل ،مصر من اإلسكندر األكبر إلى الفتح العربي ،ترجمة :عبد
اللطيف أحمد علي ،بيروت :دارالنهضة.1973 ،
• إميل برهييه ،تاريخ الفلسفة :الفلسفة اليونانية ،ترجمة :جورج طرابي�شي،
الجزء ،1.بيروت :دارالطليعة.1988 ،
• أرسطوطاليس ،الطبيعة ،ترجمة :إسحق بن حنين ،الجزء ،2.القاهرة:
الهيئة املصرية العامة للكتاب1984. ،
• إتينجلسون ،الفلسفة املسيحية في العصور الوسطى ،ترجمة :إمام عبد
الفتاح إمام ،بيروت :دارالتنوير2009. ،
• برتراند رسل ،تاريخ الفلسفة الغربية :الفلسفة القديمة ،ترجمة :زكي نجيب
محمود،القاهرة :الهيئة املصرية العامة للكتاب.2010 ،
• ول وايرلديورانت ،قصة الحضارة ،قيصر املسيح أو الحضارة الرومانية،
ترجمة :محمد بدران ،بيروت :دارالجيل.
• حربي عباس َعطيتو ،مالمح الفكر الفلسفي والديني في مدرسة اإلسكندرية
القديمة ،بيروت :دارالعلوم العربية.
• يوسف زيدان ،دوامات التدين ،القاهرة :دارالشروق2012. ،
• يوسف كرم ،تاريخ الفلسفة اليونانية ،بيروت :دارالقلم.1990 ،
• كامل محمدمحمد عويضة ،أوغسطين فيلسوف العصوص الوسطى،
67 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
بيروت :دارالكتب العلمية1993. ،
• ميرساإلياد ،تاريخ األفكار واملعتقدات الدينية ،ترجمة :عبد الهادي عباس،
الجزء ،2.دمشق :داردمشق1987.،
• مصطفى النشار ،مدرسة اإلسكندرية بين التراث الشرقي والفلسفة
اليونانية ،القاهرة :داراملعارف.1995 ،
• نجيب بلدي ،تمهيد لتاريخ مدرسة اإلسكندرية وفلسفتها ،القاهرة :دار
املعارف.1926 ،
• سعيد عبد الفتاح عاشور ،تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ،بيروت :دار
النهضة العربية.1976 ،
• عبد الرحمن بدوي ،خريف الفكراليوناني ،القاهرة :مكتبة النهضة املصرية،
.1970
• فريديريك كوبلستون ،تاريخ الفلسفة :من أوغسطين إلى دانز سكوت،
املجلد ،2.القسم ،1.ترجمة :إمام عبد الفتاح إمام ،القاهرة :املركز القومي
للترجمة2010. ،
• فرفريوس الصوري ،تاسوعاتأفلوطين ،ترجمة :فريد جبر ،بيروت :مكتبة
لبنان.1997،
• رأفت عبد الحميد ،الدولة والكنيسة :قيصر واملسيح ،القاهرة :دار قباء،
.1999
• رأفت عبد الحميد ،الفكر املصري في العصر املسيحي ،القاهرة :دار قباء،
.2000
باللغات األجنبية
• A.H.Armstrong, Plotinus, London: George Allen etUnwin, Printed In
68
Great Britain, 1953.
• Averil Cameron, the Mediterranean World in Late Antiquity AD 395-
600, London: Routledge in an Imprint of the Taylor, 1993.
• David Khnowles, the Evolution of Medieval Thougt, London: Longman
Group Limited. Britich Library Cataloging In Publication Data, 1995.
• DominicO’Meara, Plotin: Une Introduction aux Ennéades,Fribourg:
AcadémiePresse, 2004.
• Emile Boutroux, Science et Religion dans la PhilosophieContemporaine,
Paris: Ernest Flammarion, 1919.
• Emile Bréhier, La Philosophie de Plotin, Paris: LibrairiePhilosophique
De J. Vrin, 1998.
• Encyclopedia Britannica, London: Britannica Concise Encyclopedia.
INC,2006.
• Frederick Copelston, a History of Philisophy: Greece and Rome, New
York: Published by Doubleday. An Image Book, 1993.
• G. S. Kirk, K. E. Raven and M. Schofied, the Presocratic Philosophers: A
Critical History with a Selection of Texts, London: Cambridge University
Press, 1983.
• Henry Chadwick, The Church In Ancient Society From Galilee to
Gregory the Great, New York: Oxford University Press, 2001.
• HermésTrismégisme, Traduction:Louis Menard,Livre.1, Chapitre.6,
Paris: Académie des Inscriptions et Belles Lettres. LibrairieAcadémique,
1867.
• Jules Simon, Histoire de L’écoled’Alexandrie, Paris: Imprimerie de
H .Fournier, 1844.
• Lindon say Jones, Encyclopedia of Religion, USA: Editor in CHIEF,
2005.
69 م2020 يناير- ه1441 جمادى األولى3 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد
• M. de Wulf, Histoire de la PhilosophieMédiévale, Louvrain:
Institutsupérieur de Philosophie, 1900.
• M.Matter, Histoire de L’écoled’AlexandrieComparée aux Principles
EcolesContemporaines, Vol.1, Paris: Libraire-Editeur de Paris Historique,
1840.
• Porphyruset Luc Brisson, La Vie de Plotin, Paris: LibrairiePhilosophique
J. VRIN, 1992.
• René Braun, «Tertullienet la PhilosophiePaïenne: Essai de mise au
point»,Bulletin de l’Association Guillaume Budé, no.2, Juin, 1971.
• Sara E.Karesh and Mitchell M.Hurvitz, Encyclopedia of Judaism, New
York: Fact on File,2006.
• The News Catholic Encycloperdia,USA: Library of congress Cataloging
- In Publication Data, 2003.
• William Ralph Inge, The Philosophy of Plotinus, London:longmans
green and co, 1923.
70
د .سعاد الجويني -تونس
ّ
مقدمة
الدارسين قديما وحديثا ،وانشغلوا بمشكالت عديدة شد ابن سينا اهتمام ّ ّ
ّ ّ ّ ّ
املخصصة ينية .واتخذت األعمال في فلسفته نذكر منها بالخصوص املسألة الد
لهذا املبحث ّاتجاهات مختلفة تراوحت إجماال بين النظر في موضوعات ّ
جزئية ّ
ّ
بالتصور الفلسفي للمسألة عند الدين من جهة ،وبين العناية من جهة أخرى عن ّ
ابن سينا بشكل مجمل 1.وأمام هذه الكثرة في البحوث يبقى من العسير ّ
الزيادة
الدين رغم ذلك في على ما ورد فيها حول املوضوع املذكور ،لكن ال ال مفهوم ّ
ز
تم تناول ّ
النبوة واملعاد باعتبارهما مسألتين حاجة إلى معالجة مخصوصة .فقد ّ
النظر إلى ّ
الدين جوهريتين في فلسفة ابن سينا ،ولم يقع باملقابل اإللحاح على ّ
كل هذه العناصر ّ
املجزأة وغيرها ُمقترنة .وفي الواقع عد حاصل ّ كمشكل في ذاته ُي ّ
األول من ّ
الدراسات عمل: الصنف ّ
- 1نذكربخصوص ّ
F. Rahman, Prophecy in islam, institue of islamic studies, Mc gill univercity, firsit publi-
cation, 1958.
النبي والفيلسوف في مستوى الفيض ،وخصوصية تلقي املعقوالت عن العقل ّ
الفعال وفيه مقارنة بين ّ
ّ
الشيخ ّ
الرئيس ( ص.)36 - 30 وحيا وفق
وكذلك عمل:
R. Michot, La destinée de l’homme selon Avicenne, le retour à Dieu (maʿād) et l’imagina-
tion, Lovani, Aedibus Peeters, 1986.
وأتى فيه الكاتب على وجوه املعادّ ،
وبين طبيعة العالم األخروي والخيالي في فكرابن سينا ( ،ص .)56 - 49
ّ
الثاني من ّ وحول ّ
الدراسات نشيربالخصوص إلى كتاب: الصنف
ّ
.Gardet.. L, La pensée religieuse d’Avicenne, Paris, J. V, 1951واعتنى املؤلف في هذا املصنف
ّ
النبوية ومشكل العناية الدين عند ابن سينا ّ
وأهمها طبيعة املعرفة بموضوعات كثيرة ذات صلة بمشكل ّ
(ص .)138 - 110
71 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الدراسة بخصوصية ّ
ّ التنويه هنا يجب ّ
الدارسني شد ابن سينا اهتمام ّ ّ الدينيقدمها Gardet. Lعن الفكر ّ التي ّ
قديما وحديثا ،وانشغلوا البن سينا ،1وفيها حظي ّ
الدين باالهتمام
بمشكالت عديدة يف فلسفته ّ
وتخيرنا إزاء هذا من جهات مختلفة.
باخلصوص املسألة ّ
الدين ّية ّ
التقاطع مع قاردي في مستوى املوضوع،
الدينموجهة إلى ّ العمل على توفير دراسة ّ
يخول في تقديرنا الجمع في البحث بين البعدين كمفهوم مخصوص .وهو ما قد ّ
الشيخ ّّر ّ ّ
والكلي ّ
الرئيس للدين ،وما يضمن كذلك اإلحاطة األفضل بتصو الجزئي
للمسألة.
ّ
التصور العقلي غرضنا في هذا املقال هو االشتغال على املفهوم أي البحث في
تمثل ّّ ّ ّ
الدين كبنية محكومة بنسق متكامل وعناصر واملجرد الذي يمكن من
التحول من د اسة ّ
الدين ّ ّ
إمكانية مترابطة وفق نظام مخصوص .يتيح ذلك
ر
ضمن فلسفة ابن سينا أي باعتباره موضوعا من موضوعاتها ،إلى البحث في
التفسيري والعملي الواقعي. النظري ّ بالنظر إلى بعديها ّ للدين عنده ّ فلسفة ّ
ّ ّ
ونسعى في بيان هذه األمور انطالقا من خطة بحث نستهلها بعمل وصفي يقوم
الدين في نصوص ابن سينا .ونعالج فيها تاليا، تتبع هيئات استعمال مفهوم ّ على ّ
الشيخ ّ ّ التفسير الفلسفي ّ بنية ّ
الرئيس .وننتهي بالوقوف عند طبيعة للدين عند
ينية وأدوات تحصيلها. الد ّالحقيقة ّ
الدين في نصوص ابن سينا: - 1مفهوم ّ
ُ الدين عند ابن سينا ّ ورد لفظ ّ
مضمنا في ألفاظ أخرى تحيل عليه من جهات
ّ مختلفة ،واستعمل ّ
للتعبير عنه بالخصوص لفظ الشريعة الذي يفيد مجمل
والسنن ّ الشرائع ّّ الشيخ ّ ّ الحقّ . السنن الهادية إلى طريق ّ ّ
امللية الرئيس عن وتحدث
- 1نشيرهنا بالخصوص إلى املرجع ّ
السابق.La pensée religieuse d’Avicenne :
72
عملية ّتتصل أساسا ّ
بالتدبير املدني ضمن عديد املواضع التي بحث فيها مسائل ّ
ّ ّ ُ
في أشكاله املختلفة مثلما ذكر في كتاب الشفاء 1.واعتمد أيضا مصطلح الشرع
عملية ضمن املواضع التي قارن كتصور نظري حامل لوظيفة ّ ّ للتعبير عن ّ
الدين ّ
ن2 ّ ّ
فيها بين الشريعة والحكمة في مستويي اللغة واملضمو .
ّ ّ
الدين بهذا املعنى لفظ مركب من األلفاظ املختلفة التي أتينا على ذكرها ،فهو
ّ ّ ّ ّ
والسنة والشرع والشريعة باعتبارها مجموعا يحمل وجوها مختلفة حاصل امللة
ّ كل اسم على مفهوم ّ
الدين في كليته دون أن ُيختزل في ملسمى واحد .ويحيل من ّثمة ّ ّ
معنى جزئي ،مع اإلشارة بالخصوص إلى خضوعها في املجمل إلى ترتيب مخصوص.
ّ ّ ترتب األلفاظ بحسب قسمة أولى ّ ّ
والعوام، الخواص أقرها ابن سينا بين
وجهت وفق ذلك عبارات لكل منهماّ .
التابعة ّاملصنفات ّ
ّ وحسب قسمة ثانية بين
ِ
ّ ّ ّ ّ
العوام والعلماء ووردت بالخصوص في كتب الشفاء والسنة إلى جمهور الشريعة
3
والنجاة. ّ
ّ ّ ّ ّ -1
والسنة في الشفاء ،اإللهيات ،ج ،2مراجعة وتقديم إبراهيم مدكور ،تحقيق تكرر ذكرألفاظ الشريعة
ّ
األميرية ،1960 ،املقالة سعيد زايد وسليمان دنيا ومحمد مو�سى ،القاهرة ،الهيئة ّ
العامة لشؤون املطابع
العاشرة ،ص 446 - 444و.454 - 451
ّ ّ ّ ّ -2
ينص ابن سينا على اختالف االسم ووحدة املسمى بين الفلسفة والشريعة في مستوى لفظ االتصال
ّ ّ ّ ّ
ويسمى هو في لسان الشرع ملكا وفي لسان الحكمة عقال فعاال» ،أحوال النفس ،تحقيق أحمد فيقول« :
ّ
فؤاد األهواني ،القاهرة ،دار إحياء الكتب العربية ،ط ،1952 ،1ص .198ويذكر كذلك بخصوص لفظ
ّ
الشرع ّ »، شر ّ الخير« :وهذا هو الخير املحض الذي ال يشوبه ّ
الرسالة البتة وهو املراد بالقضاء في لسان
ّ
العثمانية ،حيدرآباد الدكن ،ط1353 ،1ه ،ص .81 ّ ّ
العرشية ،مطبعة دائرة املعارف
ّ ّ
-3استعمل ابن سينا عبارتي الخاصة والعامة للفصل بين العلماء والجمهور من جهة ،وللتمييز بين
الشفاء ،بخصوص القسم ّ ّ
األول« :فهذه األفعال ينتفع العلماء أنفسهم من جهة أخرى .يقول في إلهيات
ّ ّ ّ بها ّ
العامة من رسوخ ذكر هللا واملعاد في أنفسهم ،فيدوم لهم التثبت بالسنن والشرائع بسبب ذلك ()...
ّ ّ ّ ّ
الخاصة فأكثر منفعة هذه األشياء إياهم في املعاد» ،ج ،2ص .445وعد للنظر في القسم الثاني وأما
ّ
إلى مقدمة كتاب منطق املشرقيين ،وفيها يقول الشيخ ّ ّ
الرئيس« :وال نبالي من مفارقة تظهر منا ملا ِألفه
متعلمو كتب اليونانيين إلفا عن غفلة وقلة فهم ،وملا سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من املتفلسفة
ّ ّ
املشغوفين باملشائيين الظانين أن هللا لم يهد إال ّإياهم» ،دراسة وتقديم البارون كارا دوفو ،باريس ،دار
بببليون ،2009 ،ص .78
73 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ّ ّ وع ّرف ّ ُ
والسنة الدين في هذا املستوى بأنه مجموع األحكام الواردة في القرآن
ّ
والواجب إتباعها .لذلك صيغت هذه املضامين عند ابن سينا في هيئة يسيرة
الفهم ّ
وبينة للجمهور.ِ
ّ ّ ّ ّ ُ
استعملت من جهة أخرى عبارات الشرع وامللة في املصنفات املوجهة إلى
ُ األمة حول عروة ّ ّ
الثانية ،إجماع ّ ُ ّ
الدين ،وتحيل العبارة الخاصة 1.وتفيد العبارة
ّ ّ ّ
األولى على قراءة في حقائق الشريعة الظاهرمنها والباطن باعتبارالشرع في جوهره
تلقي األحكام .وتدخل مجمل هذه الحق الذي يتجاوز مستوى ّ هو فعل إظهار ّ
النظر في عللها النظرية ،ويعود ّ
ّ التدبير ّ
السيا�سي واملعرفة األمور ،ضمن بابي ّ
النحو املطلوب. الخاصة المتالك قد ة فهمها على ّ
ّ وأبعادها إلى أهل
ر
ّ للدين ،ونشير ّنقف في هذا املستوى عند تعريف ّأول ّ
باألول إلى املعنى الظاهر
الذي يتمحور حول مضمون األحكام .وتبقى وجهته وفق ذلك الجمهور وال يتجاوز
والتوجيه ،وقد أتى عليه ابن سينا في هيئة مجملة ألن غرضه مقت�ضى الهداية ّ
2
خواص عمل الفقيه، ّ يعد منالسنن ّتفصيل القول في بنية األحكام ومقت�ضى ّ
الدين أيالعملي داخل ّ ّ لكن يرتبط الغرض ّ
األهم عند الفيلسوف بدراسة البعد
ى ّ ّ
للدينالثاني ّ بيان أدوات إصالح العالم اإلنسانيّ .يتصل من جهة أخر الحد
بطبيعة موضوعاته التي تشمل بالخصوص العلل واملبادئ األولى للموجودات
ّ ّ الشيخ ّ ّ ّ
اإللهية الرئيس لفظ امللة - 1عد مثال إلى تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات وفيها استعمل
هندية ،1908 ،ط( ،1ص ،)3واستعمل أيضا العقلية ،طبعة ّ
ّ لإلحالة على ضرب الحكمة املوازية للحكمة
ّ ّ ّ ّ
لفظ الشرع في نفس الباب (ص .)118ونجد كذلك لفظ امللة مقترنا بالحكمة في الرسالة النيروزية في
الهجائية ضمن تسع رسائل ،ص.134ّ معاني الحروف
ّ يعرف ابن خلدون الفقه ّ ّ -2
كالتالي« :هو معرفة أحكام هللا تعالى في أفعال املكلفين ،بالوجوب والحظر
ّ ّ ّ ّ ّ
والندب والكراهة واإلباحة ،وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع ملعرفتها من األدلة ،فإذا
ّ ّ املقدمة ،تونسّ ، ّ
األدلة قيل لها فقه»ّ ،
التونسية للنشر ،1993 ،ص الدار استخرجت األحكام من تلك
ّ
.541ونجد تفصيال عند الفارابي للعلوم الدينية :الفقه والكالم والعلم املدني ،عد مثال إلى كتاب إحصاء
ّ
واهتم بهذه املسألة العلوم ،بيروت ،دارومكتبة الهالل ،تقديم علي بو ملحم ،ط ،1996 ،1ص. 90 - 79
ّ ّ
في فلسفة املعلم الثاني ،مقداد عرفه منسية ،الفارابي فلسفة الدين وعلوم اإلسالم ،بيروت ،دار املدار
اإلسالمي ،ط.2013 ،1
74
والحد .وينشغل ّ ّ
للمادة بالقوام املفارقة
استعملت من جهة أخرى ُ ّ
الفيلسوف هنا ،بالبحث في املوجود األول
ّ ّ
عبارات الشع واملل يف من جهة ّ
كيفية وعلل وجوده ،وهي مسائل
ّ
الخاصة. املوجهة إىل
ّ مجرد سنن املص ّنفات ّ تتحول ّ
بالدين من ّ ّ
نظرية
دعية إلى موضوع ألشرف أنواع العلم وتُفيد العبارة ال ّثانية ،إمجاع ّ
األمة ر ّ
الدين ،وتُحيل العبارة حول عروة ّ 1
اإلنساني.
األوىل عىل قراءة يف حقائق ُ
تحيل عبارة العلم اإللهي على مجمل
الظاهر مهنا والباطن الشيعة ّ ّ هذه األمور ّ
ألنها تفيد تحصيل إدراك
إلهية تنتهي يقيني بمسائل من طبيعة ّ
التحقيقُ .ويشار أيضا إلى هذه املضامين في عبارات الحكمة باملد ك إلى مستوى ّ
ر
2
ألنها تقوم على البحث في األسباب.اإللهية والفلسفة األولى ّ ّ
تتبع مباحث اإللهيات الدين عند ابن سينا ّ وبالجملة يفترض اإلملام بمفهوم ّ
والنظرفي الهيئات التي وردت عليها ،وفي كيفيات تقسيم العلوم املنسوبة في كتبه ّ
وكلها أمور ننتقل بمقتضاها إلى الحديث عن فلسفة في ّ
الدين ّ ّ
يعبرمصطلح ِ إليها.
العلم اإللهي عن أصولها وشروط إمكانها.
- 2ابن سينا والفهم الفلسفي ّ
للدين:
الدين بعناية شديدة عند ابن سينا ،ولم يكن اهتمامه به ّ
مجرد قراءة حظي ّ
فلسفية مخصوصة ومتكاملة حول ّ رعية ،بل ّ ّ
الش ّ
جسد رؤية في بعض األقوال
- 1أتى ابن سينا على مسألة ترتيب العلوم في مواضع كثيرة نذكر منها ما ورد في منطق املشرقيين ،حول
ُ ّ ّ تقسيم العلوم إلى ّ
ونظرية ،وينتمي العلم اإللهي إلى القسم الثاني ،وموضوعه األمور املباينة عملية
ّ
للمادة والحركة أصال( ،ص .)83 - 82وفي تسع رسائل ،ص .3
ّ
- 2أشار ابن سينا إلى مراتب العلوم وموضوعاتها مستعمال هذه األسماء في الشفاء ،اإللهيات ،ج،1
ّ
العامة لشؤون مراجعة وتقديم إبراهيم مدكور ،تحقيق األب قنواتي وسعيد زايد ،القاهرة ،الهيئة
العقلية ،ضمن تسع رسائل، ّ ّ
األميرية ،1960 ،ص15و .23وانظرأيضا في رسالة في أقسام العلوم املطابع
ص .107 - 105
75 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ومقوماته ومقاصده .ويقوم ّ أصوله
الرئيس تصور ّ ّ ّ
تصور الشيخ ّ ّ
الشيخ ّ ّ يقوم الرئيس للدين على جانبين
بالسنن لدلّ ين عىل جانبني متكاملني: متكاملين :جانب عملي ّيتصل ّ
الشريعة ،وجانب نظري ،جانب عميل ي ّتصل ّ
بالسنن ّ
املعلنة في
املعلنة يف ّ
الشيعة ،وجانب ميتافزيقي ّيتصل بالوجود وبمنزلة
نظري ،ميتافزييق ي ّتصل اإلنسان فيه من جهة ،وبطبيعة الحقيقة
النظرفيها إلى حين .بالوجود وبمزنلة اإلنسان فيه من جهة أخرى وسنرجئ ّ
• نظام الوجود:
يمثل الوجود أساس ّ ّ
تصور ابن سينا
ّ امليتافزيقي ،ويقوم على مبدأي ّ
النظام والتراتب الذي يحكم كل املوجودات
ضية .ولسنا معنيين بعرض التسلسل الذي عليه الوجود في السماوية منها واألر ّّ
الشيخ ّ ّ
الرئيس 1،وحسبنا االهتمام في هذا العمل بضربين من املوجودات فلسفة
الدينية بالعالقة بين العابد واملعبود.ّ تقوم ّ
التجربة هما هللا واإلنسان ،باعتبار ّ
ّ والثاني أشرف املوجودات األر ّ ّ ّ ّ
املعنية بأمور ضية فاألول علة الوجود بكامله
التقابل بين صنفي الوجود :الواجب العبادة .وسنعتمد في بيان هذه املسائل ّ
السينوي حول ّ
الدين. تمسكا بالفكر ّحتى نكون أكثر ّ واملمكنّ ،
ّ
الوجودية ،فهذا املوجود كل معانياألول من املوجودات ّ الصنف ُّينسب إلى ّ
الزمني .وهو ما ُيفهم بالتقدير ّاإلنية ويقيني بشكل مطلق ودائم غير مرتبط ّ ثابت ّ
ّ
التحقق يتفرد واجب الوجود إذن بوجود دائم من قرين لفظتي الوجود والوجوبّ .
ّ ّ كل الوجوه الذي يستحيل معه ّ من ّ
تصور عدم له ،ويمثل تبعا لذلك علة لوجود
ذاته ولوجود غيره فوجوده واجب بذاته.
ومتميز عن باقي املوجوداتّ ،
بالنظر ّ كل هذه املعاني على موجود ّ
متفرد تحيل ّ
ّ
النيروزية ،ص.137 - 135 - 1نجد ترتيبا مختصرا للموجودات ضمن ّ
الرسالة
76
السببية من جهة أخرىّ .
ويعبر ّ إلى الطبيعة الضرورّية لوجوده من جهة وإلى بنيته
التامة لغيره في مواضع كثيرة من كتاباته ابن سينا عن مفارقة واجب الوجود ّ
ّ ّ
امليتافزيقية .نذكرمنها بالخصوص ما ورد في إلهيات الشفاء:
علةّ ،ّ علة لهّ ،ّ ّ
وإن وإن املمكن الوجود بذاته له «إن واجب الوجود بذاته ال
الواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته ،وإن واجب الوجود ال
يمكن أن يكون وجوده مكافئا لوجود آخر ،فيكون كل واحد منهما مساويا لآلخرفي
وجوب الوجود ويتالزمان .وأن واجب الوجود ال يجوز أن يجتمع وجوده عن كثرة
وأن الواجب الوجود ال يجوز أن تكون الحقيقة التي له مشتركا فيها بوجه ّ
ألبتةّ .
حتى يلزم من تصحيحنا ذلك أن يكون واجب الوجود غير مضاف، من الوجوهّ ،
1 متكثر ،وال مشارك في وجوده الذي ّ ّ وال ّ
يخصه». متغيروال
الرئيس تنصيصه على ّ ل ّ
التباين الجوهري بين الواجب الشيخ ّ ّيتضح من قو
كل الوجوه وموجود ّ
والتغير من ّ ّ
والتعدد واملمكن ،بين موجود محكوم بالكثرة
والثبات ّّ ّ
والديمومة .فواجب الوجود حامل لوجود واحد غير متقوم بالوحدة
البتة وغير مساو في الوجود لغيره وال يجوز من ّثمة االشتراك مع قابل للتجزؤ ّ
ّ سواه .ونشير هنا إلى ّأننا لن ّ
نفصل القول في املبحث امليتافزيقي الذي توفرت
املتخصصة 2،لكن أتينا عليه باعتبار مشكل واجب ّ حوله العديد من ّ
الدراسات
ّ
- 1الشفاء ،اإللهيات ،ص .37
ّ تتعدد ّ
ّ -2
الدراسات التي انشغلت بالجانب امليتافزيقي في فلسفة ابن سينا ونورد منها على سبيل الذكر
ال الحصرأعمال:
- Durat, Thérèse Anne, «Avicenna’s Metaphysics and Dunis Scotus , QuQestiones super
secundum et tertium De anima », philosophical psychology in Arabic thought and the
latin Aristotelianism of the 13th century, ed. By Luis Xavier, Paris, Vrin, 2013, 303, pp
(185-204).
- Menn, Stephen, «Avicenna’s Metaphysics », in interpreting Avicenna: Critical Essays, ed
by Peter Adamson, Cambridge University Press, 2013, xii-300, pp (143-69).
- Marmura, Michael, «Avicenna’s proof from contingency for God’s Existence in the
metaphysics of the shifa», Medival studies, V XLII, 1980, p 345.
77 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
البرهاني عن حقيقة ّ الدين وترجمة ّ
للتفسير الوجود عماد القول الفلسفي في ّ
الشيخ ّ ّ ّ
الرئيس. الذات اإللهية في فكر
العرشية نموذجا عن ّ
ّ ّ
االتجاه ّ ّ
التفسير الفلسفي ملسألة الرسالة وتعد في هذا
التوحيد من املوضوعات املشتركة بين الفلسفة وعلم التوحيد .واملعلوم ّأن ّ ّ
ّ كل مبحث حول ّ اإللهية أساس ّ ّ ّ
الدين 1.وال يتسع الكالم ،فالنظرفي حقيقة الذات
يخية مشكل الوحدة املطلقة للباري ،وليس املجال ضمن هذا املوضع ،لتطارح تار ّ
بالسعي إلى فهم سبل تفسيرابن سينا للمسألة. ولكننا نكتفي ّ ذلك مطلبناّ ،
الشيخ ّ ّ ّ ُ
الرئيس وحدانية هللا أساسا انطالقا من طبيعة وجوده .ويستعمل تفهم
ّ ّ الرباني ّالتفرد ّّ
ويخص واجب 2
التمييز الشهير بين املاهية والوجود. لتأكيد هذا
ّ ّ الوجود ّ
بالتطابق بين املفهومين ،ويجعل ماهيته عين إنيته .مقدما بذلك برهانا
جوهرية الباري ووحدانيته ُيضاف إلى القول بنفي العلل عنه من ّ
كل ّ ّ
عقليا على
ّ ّ
اإللهية. الوجوه .وتنتهي بنا مجمل هذه األمور عند تفسيرفلسفي لطبيعة الذات
متحققا وهو دائم الفعل وحامال ملاهية ُي ّبين من خالله ابن سينا ّأن للباري وجودا ّ
يسر فهم علل صدور املوجودات فسر فعل الفيض ُوت ّ وتعد ّكلها أصوال ُت ّ واحدةّ ،
عن هللا.
ونلوح إلى ّأن هذا املوضوع لم يحظ في النظر في الوجود املمكنّ ، نعود إلى ّ
اإللهيات بنظر مفرد وأتى عليه ابن سينا باعتباره تابعا للمبحث امليتافزيقي عن
العلية وتفترض سببا الواجبُ .ويشيراملمكن إلى كل املوجودات الخاضعة إلى مبدأ ّ
ّ
منسية«،ابن سينا واملعتزلة - 1نذكر من بين دراسات املقارنة بين علم الكالم والفلسفة مقال مقداد
ّ
الدولية :نظرات في فلسفة ابن سينا ومال صدرا العرشية» ،ضمن فعاليات ّ
الندوة ّ من خالل ّ
الرسالة
ّ ّ
الشيرازي ،تونس ،املجمع التون�سي للعلوم واآلداب والفنون ،بيت الحكمة( ،2014 ،ص.)72 - 35
ّ ّ -2
فصل ابن سينا القول حول مشكل عالقة املاهية بالوجود في إلهيات الشفاء ،ج ،1ص ،46 - 32
وينص في نفس املصدر قائال« :فال ماهية لواجب الوجود ،غير ّأنه واجب الوجود وهذه هي ّ
اإلنية» ،ج،2 ّ
ّ
ص .346وعد في هذا الشأن إلى عمل:
Goichon, A.M, la distinction de l’essence et de l’existence d’après Ibn Sina, Desclée de
Brouwer, Paris, 1937.
78
خارجا عنها في وجودها وفي عدمها ،ليحيل
ّ
يؤكد ابن سينا ّ
ّ ُ
أن السبب ّية املوجد.
وفق ذلك على كل ما يغاير هللا ِ
ّ العقلية ّ
ّ
فسانية اليت تحكم املوجودات تعكس والن ونذكر منها الجواهر
ضية التي سريها وفق نظام خمصوص، ّ
السماوية والنفوس والعوالم األر ّ
وال يجوز اعتبار هيئة ينتمي إليها املوجود اإلنساني.
أن تسلسلها رضبا من اال ّتفاق ويؤكد ابن سينا من جهة أخرى ّ ّ
السببية التي تحكم املوجودات تعكس ّ
سيرها وفق نظام مخصوص ،وال يجوز
ّ ّ
االتفاق .ويوجد وراء ّ
منظم ضرورة، كل نظام ِ اعتبار هيئة تسلسلها ضربا من
وذلك مضمون مصطلح العناية.
ّ
الرئيس قدرة هللا على تدبيرنظام العالم وفق هيئة الخيرالتي الشيخ ّ ُويفيد عند
1
هو عليها.
امليتافيزيقية ّأن هللا أساس فكرة الوجود ،وإليه
ّ ّيتضح من خالل هذه البنية
الدينترجع كل املوجودات في ظهورها وفي انتظامها .ويبقى التصور الفلسفي عن ّ
اديا بأمرمعني إر ّ
بالنظر أيضا في وجود اإلنسان ،باعتباره ّ مشروطا في اكتماله ّ
التكليف. ّ
ّ
الوجودية لإلنسان: •املنزلة
ّ التسلسل الوجودي عند صنف املوجودات الحاملة ّ ّ
والصورة. للمادة ينتهي
بالنظر إلى طبيعة التصنيفّ ،ويوجد اإلنسان في أفضل مرتبة ضمن هذا ّ
- 1يقول ابن سينا في تعريف العناية « :فيجب أن يعلم ّأن العناية هي كون ّ
األول عاملا لذاته بما عليه
النحو املذكور فيعقلالوجود في نظام الخير ،وعلة لذاته للخيروالكمال بحسب اإلمكان ،وراضيا به على ّ
نظام الخيرعلى الوجه األبلغ في اإلمكان ،فيفيض عنه ما يعقله نظاما وخيرا على الوجه األبلغ الذي يعقله
ّ فيضانا على أتم تأدية إلى ّ
النظام بحسب اإلمكان ،فهذا هو معنى العناية ».الشفاء ،اإللهيات ،ج ،2ص
.415ويمكن اإلفادة بخصوص املفهوم املذكور من عمل:
- Gardet. L, la pensée religieuse d’Avicenne, p 131- 135.
79 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الصورة املحمولة في مادته من جهة، ّ
ينهتي ال ّتسلسل الوجودي وهيئة الكماالت التي يطلبها من جهة
ويتعين في هذا املستوى توضيح عند صنف املوجودات الحامةل ّ 1
ثانية.
والصورة .ويوجد اإلنسان املراد بالوجود عند اإلنسان لفهم سبب للمادّ ة ّ
تفضيله ،ويحيل إجماال على الحضور يف أفضل مرتبة ضمن هذا
الفعلي في العالم الذي ال ُيستوفى بالعيش ،ال ّتصنيف ،بال ّنظر إىل طبيعة
الصورة احملمولة يف مادته ّ يتم أساسا عن اكتمال شروط ّ
تحقق بل ّ
من جهة ،وهيئة الكماالت ّ ّ ّ
وتتحدد هذه الشروط إجماال المادي.
اليت يطلهبا من جهة ثانية للنفس ّ في فعل القوى ّ
التابعة ّ
الناطقة
ّ
الخاص ،ويستطيع قوة كمالها كل ّ
وبلوغ ّ
ضدها عن اختيار ور ّوية ،ويبلغ اإلنسان عن طريقها إتيان أفعاله الفاضلة أو ّ
ّ ّ ّ
ويحصل عن األخالقية باستخدام قواه العاملة املتحكمة في البدن، الفضائل
ّ 2 ّ
النظرية باالشتغال على األمور ّ
املجردة عن املادة. طريق القوى العاملة الفضائل
نوعيّ ،بين ابن سينا ارتباطه
ّ تيهئ هذه األصول اإلنسان لتحصيل وجود ّ
ّ
يتمثل ّ
األول في ضرورة االجتماع ،الذي يضمن البقاء عبر بمعطيين أساسين.
والتكافل لضمان الحاجة. التعاون ّ ّ
ّ الثاني في حسن املعاش ،الذي ّ ّ ّ
الكيفي لإلنسان عن يدعم االختالف ويتمثل
ّ ّ
- 1يأتي ابن سينا على تفصيل هذا الترتيب في كتاب الشفاء ،اإللهيات ،ج ،2ص .435
النفس الفلسفي في عديد املواضع نذكر منها ما ورد حول تعريف - 2يبحث ابن سينا مسائل علم ّ
ّ
النفس اإلنسانية « وهي كمال ّأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل األفاعيل الكائنة باالختيارالفكري
ّ
الكلية « .أحوال النفس ،ص .57ونجد تفصيال ملجمل بالرأي ،ومن جهة ما يدرك األمور ّ واالستنباط ّ
ّ ّ ّ
هذه املسائل في الشفاء ،الطبيعيات ،النفس ،ترجمة ونشر باكوش ،باريس ،منشورات املعهد العربي
املهتمة بابن سينا من مبحث ّ
النفس ،العتباره من اإلسالمي ،1988 ،ص .52 - 34وتكاد ال تخلوالدراسات ّ
يتسنى فهم أي موضوع دون اعتمادها .عد مثال إلى كتاب قاردي،التأصيلية في فلسفته ،التي ال ّ
ّ املسائل
،La pensée religieuse d’Avicenneص .94 88-
80
ّ
سائرالكائنات 1.ويحتاج اإلنسان في بلوغ هذه املقاصد ،إلى قوانين تنظم اجتماعه
الدين الذي يمنح اإلنسان نمط وجود خاص ّ يوفرها ّ ّ ّ
يميزه وتهذب وجوده املدني
ّ بالنوع عن باقي الكائنات ،وذلك مضمون ّ ّ
التكليف الذي ورد عن الشرع ،وترجم
والتقيد بالعبادات من ّ ّ
الشرعية، السنن املعلنة في األحكام في االلتزام بمجمل ّ
صالة وصوم وغيرها.
كل ّ
عبثية، الدين من جهة أخرى ،إلى اإلنسان غاية لوجوده يرفع عنه ّ ويقدم ّ
ّ
حدها« : ويدفع نحو بلوغ كماله الخاص ونيل سعادة مأمولة يقول ابن سينا في ّ
رمدي في الغبطة الخالدة في جوارمن له الخلق واألمرتبارك الس ّ السعادة هي البقاء ّ ّ
السعادة ،الذي يقوم تصور ابن سينا عن ّ
خصوصية ّّ وتعالى» 2.ونشير هنا ،إلى
ّ الناسّ ، نفسانية .وهي مطلب يسعى إليه ّ ّ
كل بحسب الطاقة عنده على أصول
ميسر إلى سعادة عمل النفس الغالبة عنده ،كل شخص إذن ّ ووفق عمل قوى ّ
ّ ّ على بلوغها بعد ّ
تخير فعل فاضل أخالقي أو نظري 3.وتوفر الشريعة إلى اإلنسان
الضرب النبيّ ،أما ّالسنن الواردة عن ّ العملية 4التي توجد في ّ
ّ مضمون الفضائل
يتسنى للجميع،التدبرالعقلي وغيره ،وهذا ال ّ النظري من الفضائل فيؤخذ بطريق ّ ّ
ّ ّ
خواص البشر. وال يسيرفي طلبه إال
للدين ،فهو ّ
املعني تصور ابن سينا ّ
يحتل اإلنسان وفق ذلك منزلة مخصوصة في ّ ّ
ّ السيا�سي الواقعي ّالشريعة في املستويين ّ ّ
والنظري التفكري .ويحافظ بمضامين
ّ الرئيس في هذا املستوى على ّ الشيخ ّ ّ
النظام الترتيبي الذي يحكم كل الوجود
ّ
- 1عد بخصوص طبيعة الوجود اإلنساني إلى إلهيات الشفاء ،ج ،2ص .441
العثمانية ،حيدرآباد الدكن ،ط1353 ،1ه ،ص.2 ّ - 2رسالة في ّ
السعادة ،مطبعة مجلس دائرة املعارف
ّ
العامة والخاصة عند ابن سينا في كتابهLa destinée de l’homme :
- 3بحث ميشوفي نسبة ّ
السعادة بين ّ
ّ
،selon Avicenneانظر بالخصوص في ص .54 - 48 ،وعد في هذا الباب إلى كتابنا ،ابن سينا :التخييل
ّ والشعر ّّ
املختص ،ط ،2017 ،1ص .228 - 213 والنبوة ،تونس ،مجمع األطرش للكتاب
ّ
العملية في فلسفة ابن سينا ،علي زيعور ،ميادين العقل العملي في الفلسفة ّ -4
اهتم بدراسة املسائل
ّ ّ ّ ّ املوسعة ،بيوتّ ،
اإلسالمية ّ
الجامعية للدراسات والنشروالتوزيع ،ط.2001 ،1 املؤسسة
81 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الدين وفي فهم مقاصده وغاياته بين بما فيه اإلنسان ،ترتيب في تلقي مضامين ّ
التر ّّ النفسانية املذكورةّ .
ّ
اتبية وتتضح هذه البنية الجمهور والعلماء تبعا لألسس
ّ الرئيس بشكل أفضل عند ّ للشيخ ّ ّ في الفكر ّ
الحقيقية. النظرفي مفهوم الديني
الدين وطرق بلوغها وصوغها: - 3الحقيقة في ّ
الجزئية باملوضوع، ّ ُيختزل املعنى العام للحقيقة في القدرة على اإلحاطة ّ
التامة أو
فكل األشياء حاملة التنبيه إلى فصل ابن سينا بين حقيقة ال�شيء ووجوده ّ مع ّ
النظر عن وجودها 1.ويتفاوت إدراكنا للحقيقة بحسب بغض ّ ّ ّ
تخصها لحقيقة
ّ ُ ّ
ما يتوفر من قدرات وما يستعمل من أدوات ،فالحقيقة واحدة بالذات مختلفة
ّ بمراتب إدراكها ،التي تتراوح بين اليقين ّ
التام والقريب منه أو الشبيه.
تحدداألساسية للمنطق باعتبا ه آلة ّ ّ الدرجات عن الوظيفة وتعبرمجمل هذه ّ ّ
ر
سيتضح من خالل طرق بلوغ الحقيقة وتكشف عن كيفيات قولها ،وهو ما ّ
الدين.العودة إلى وجوه تطبيق ابن سينا لهذه الوظائف في باب ّ
ّ
•الطريق إلى الحقيقة:
النظر الدينية قبل ّ ّ املنهجية الحديث عن مضمون الحقيقة ّ الضرورة تفترض ّ
ومتصلين ويتكون هذا املحتوى في املجمل ،من معطيين أساسيين ّ في طرق بلوغهاّ .
تصورا متكامال حول كيفيات النبوة ّ تقدم ّ النبوة وثبوت املعادّ . تحقق ّ هما ّ
املعني بمحتوى ّ الصدارة ،فهو يحتل فيه اإلنسان مركز ّ ّ الوجود األفضل الذي
املوجهة إليه أسا ،ويحتاج العمل بما ورد فيها من سنن ّ
حتى النبوية ّ ّ املعرفة
ر
النبوة تفسيرا النتقال تتضمن ّ ّ يكون لوجوده معنى وال يزيغ عن صراط الحق .كما
املعرفة من هللا إلى اإلنسان في ترجمة ملبدأ العناية ،وتالؤما مع مدى الحاجة إليها،
النبوة على دعوة البشرإلى العلم بهذه األمور والعمل بمقتضاها. وتنبني لذلك ّ
ّ ل ّ
«النبوة التي هي علة ثبات نوع اإلنسان ّ الرئيس ّإن
الشيخ ّ وتبعا لذلك يقو
ّ
- 1عد بالخصوص إلى إلهيات الشفاء ،ج ،1ص .32 - 31
82
1
موجودة ،ولوالها ملا كان اإلنسان».
كل األشياء حامةل حلقيقة ّ ويؤخذ هنا أعدام اإلنسان من جهتين،
ّ وجوديا ّ
بغض ال ّنظر عنتخصا ّ ّ ألن هللا علة وجوده وذلك ّ ُيعدم
وجودها .ويتفاوت إدراكنا للنبوة ،ويعدم ّ
نوعيا األول ّهو املضمون ّ
ّ ألن ّ ّ
يتوفر من النبوة تمنحه شروط إمكان الحضور للحقيقة بحسب ما
قدرات وما يُستعمل من أدوات الكيفي في العالم.
يعين من جهة أخرى ،القول باملعاد
ّ
النبوة وبنية الحقيقة في توضيح دور
ّ العقدية فحسب ،بل ّ ّ ّ
التصور يعد مجال فهم داخلها ،فهو ال يمثل جوهراملسائل
الرئيس حول مشكل الحقيقة .إذا كان ّ للشيخ ّ ّ ّ
الدين حامال للحقيقة كما الديني
ّ
الدينية طريقا الفلسفة ،فهل يترجم ذلك وحدة املسلك في بلوغها أم ّأن للحقيقة
موجها إلى غير البرهان؟ وهل يجوز تعميم فكرة الحقيقة داخل ّ
الدين باعتباره ّ
الناس؟ كل ّ
الدين ،ويختزل القدرة يسر مصطلح الوحي فهم سبل تحصيل الحقيقة في ّ ُي ّ
على العلم بأمور من الغيب داخل العالم اإلنساني .ويفيد الوحي بالخصوص
الفعال بغير واسطة ودون اعتماد ّ
الحد ضربا من فيض املعقوالت عن العقل ّ
ويتم الفيض الوحيي وفق هيئات مختلفة تتراوح بين القذف املباشر األوسطّ ،
2
واإللقاء املرموز.
- 1ابن سينا ،كتاب الهداية ،تحقيق وتقديم وتعليق محمد إسماعيل عبده ،القاهرة ،الهيئة العامة
النبوة عند ابن سينا إلى عمل: ّ
األميرية ،1968 ،ص .293وعد حول مفهوم ّ لشؤون املطابع
Michael E. Marmura, Probing in islamic Philosophy : Studies in the philosophies of Ibn
Sina, al-Ghazali and other major Muslim thinkers, Global Academic Publishing, Bingham-
ton Univercity, 2005, PP 197-201.
ّ املتصلة بداللة الوحي وأنواعه في كتابنا املذكور ،ابن سينا ّ
- 2اشتغلنا على هذه املسائل ّ
التخييل والشعر
ّ
والنبوة ،ص .182 - 173
83 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ّ
يضمن الوحي إذن االتصال بالعقل
الدين أمرا الفعال بغير طريق البرهانُ 1،ويرجع ابن تصبح احلقيقة يف ّ ّ
لكنا تبىق حكرا عىل فسانية ُمتاحاّ ، ّ سينا ذلك إلى حركة القوى ّ
الن
وكيفية اشتغالها األنبياء ،الذين منحوا استعدادا ّ وعالقة بعضها ببعض
قوتي استثنائيا ماديّا ونفسان ّيا لنيلها شدة ّ وأن ّ النبيّ ،
ّ عند شخص
تيسرواملتخيلة عنده هي التي ّ ّ الحدس
ّ
التمكن من العلم بالعاملين العقلي
لكنها تبقى حكرا على األنبياء، الدين أمرا ُمتاحاّ ، والسيا�سي 2.تصبح الحقيقة في ّ ّ
التخصيص ونفسانيا لنيلها .ويبدو ّأن هذا ّ
ّ الذين منحوا استعدادا استثنائيا ّ
ماديا
الناس بوساطة ّ موجه إلى ّ
الدين ،بما هو خطاب ّ الظاهرلجوهر ّ ّ
نبوية. مناقض في
املسماة وحيا على ّّ ّ وباعتبار ّ
أي عبارة «الرسول هو املبلغ ،ما استفاد من اإلفاضة
بالسياسة والعالم العقلي ّ
الح�سي ّ استصوبت ،ليحصل بآرائه صالح العالم
3
بالعلم».
ّ
يعالج ابن سينا هذا املشكل املتصل بتبليغ املعرفة عبر الكشف عن وجود
ّ
النبوية. الرسالةمستويات في قول الحقيقة ،تستوجبها وظيفة اإلقناع في ّ
•وجوه صوغ الحقيقة:
ُتصاغ الحقيقة في هيئات مخصوصة تالؤما مع الوجهة االجتماعية ّ
للدين،
حده ّأنه سالة ذات مضمون حقيقي ُيشترط فيها االنتشار ّ
حتى واألصل في ّ
ر
الناس عادة إلى استعمال الناس باختالف مراتبهم وقد اتهم .ويميل ّ تصل إلى ّ
ر
السماوية ،وعنه تفيض املعقوالت ّ
األول ّ - 1العقل ّ
الفعال هو العقل العاشروإليه تنتهي سلسلة العقول
ّ ّ
إلى اإلنسان ويكتسب املعقوالت الثواني بالحد األوسط .واشتغل بهذه املسائل عند الفارابي وابن سينا
فضل رحمان ،Prophecy in islam ،ص .20 - 11
ّ ّ ّ ّ خصوصية قوى ّ
النفس عند النبي ضمن رسالة في إثبات النبوات ،حققها وقدم لها ّ - 2أتى ابن سينا على
ّ ّ
ميشال مرمورة ،بيروت ،دارالنهارللنشر ،1968 ،ص .46 - 41
السابق.47 ، - 3املصدر ّ
84
الحيوانية ،بل وال يدركون أو يطيقون غيرها .تفرض هذه األر ّ
ضية ّ قوى ّ
النفس
الدين بما يتناسب وقدرات التعبير عن املضمون املتعالي في ّ النبي ّ ّ
املعرفية على ّ
الرسالة من جهة ،ويبلغ مقصد السليم ملحتوى ّ املتلقي ،فيضمن بذلك الفهم ّ ّ
ى1
اإلقناع من جهة أخر .
ّ ّ
البيداغوجية في مسألة املعاد ،الذي يمثل حلقة ّ تظهر هذه ّ
مهمة في الضرورة
السيا�سي .ويفيدالتصوري والعملي ّ
ّ ويعبرعن الجمع بين البعدين ّ
النظري النبوةّ ، ّ
وتصور حياة أخرى بعد املوت ،فنكون إزاء حقيقة ّ املعاد تحديدا إعادة البعث
واملادي ،وهو ما يطرح عديد املشكالت ّ ثابتة وغير موجودة باملعنى الفيزيائي
املتصلة تحديدا بكيفيات صياغة املعاد وبمستويات اإلقناع املمكنة حول أمور ّ
ّ 2
من طبيعة خيالية.
ّ
النبوية ،في القسمة التي أقامها التعبير عن الحقيقةيعالج ابن سينا مشكل ّ
التنبيه إلى ورود اللفظ ّ الظاهر والباطن ،مع ّ ّ
األول صريحاّ ،أما لفظ الباطن بين
ّ
السياق .ويشير الظاهر إلى ّ فيستخلص من ّ
الداللة األولى التي يكفي في إدراكها
ّ
الحس ،ويحيل الباطن ،في املقابل على املعنى الذي ال ُيدرك إال عن استعمال ّ قوى
ّ
قوى العقل .يجب الفصل وفق ذلك ،بين ما يظهر في خطاب الشرع إلى الجمهور
ويتصل بمنفعة العبادات ،وبين ما يخفى عنهم ويفترض تقريبه إليهم ويدور حول ّ
أمور ّ
التوحيد واملعاد.
ّ ّ ّ
األضحوية في املعاد: النص الشهير ويقول ابن سينا في هذا الباب ضمن
ّ ّ ّ ّ
«أما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد وهو أن الشرع وامللل اآلتية
والرسول ،فكالهما يعلم بطريق الوحي مع اختالف في وظيفة ّ
التبليغ التي ّ -1
يميز ابن سينا بين ّ
النبي ّ
ّ الصدد رسالة في إثبات ّ
النبي .انظر في هذا ّ
الرسول دون ّيضطلع بها ّ
النبوات ،ص .47وتحدث الشيخ
ّ ّ ّ
الرئيس في نفس االتجاه على وجود مراتب في ّ
النبوة تتحدد بحسب هيئات االطالع على الغيب ،عد مثال
ّ
إلى املبدأ واملعاد ،تهران ،سلسلة دانش ايراني1343 ،ه ،ص ،117 - 115وأحوال النفس ،ص .119
-2يمكن اإلفادة في باب الحقيقة واملعاد عند ابن سينا من عمل ميشوLa destinée de l’homme ،
،selon Avicenneص .30-32
85 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ثم من املعلوم الواضح نبي من األنبياء ُيرام بها خطاب الجمهور كافةّ . على لسان ّ
بالصانعالتوحيد ،من اإلقرار ّ صحة ّ
التحقيق -الذي ينبغي أن يرجع إليه في ّ ّأن ّ
حتى يصير والتغير ّ
ّ مقدسا عن الكم والكيف واألين واملتى والوضع موحدا ّ
1
االعتقاد به أنه ذات واحدة (ُ ،)...ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور».
ّ ّ
طبق ابن سينا هذه القسمة في تبليغ مضمون الشريعة على مسألة املعاد،
التمثيل .وقد استعمل في تأكيد حدوثه ،أدوات وذكر ّأنه ورد في صيغة قوامها ّ
ّ
إقناعية بدنيا ،وهذا مقبول شرعا وفق أغراض حسية تجعل البعث ّ ّ تمثيل
نظرية .فحقيقة املعاد ّتتصل باألنفس وتنبني على ّ
تصور وممتنع عقال تبعا لعلل ّ
بالنفس ّ
تتحدد ّ
إلنية اإلنسان التي ّ الرئيس ّ الشيخ ّّ
الناطقة 2.وينال اإلنسان هنا
تتحدد في الفعل الفاضل ّ حقيقية ،تقوم على شروط ّ
نظرية خالصة ّ سعادة
النظري والعملي. بضربيه ّ
ّ
ّ
الذهنية للجمهور، ّأما بعث األبدان الوارد في الشرع ،فقول يتالءم مع البنية
والتنكيل ألصحاب مآل حسية من قبيل الحرق ّ تصور معطيات ّ التي ال تتجاوز ّ
ّ ّ ّ
السوء ،واالستمتاع والتلذذ ألصحاب املآل الحسن 3.وما يستبطنه ذلك من تمثل
حسية.الزائفة املؤسسة على تخييل عناصر ّ السعادة ّ لشروط ّ
الدينّ ،
وتتميزبهيئة خصوصية مفهوم الحقيقة في ّّ نخلص في هذا املستوى إلى
التمثيلي ذي االستعماالت الكثيفة لالستعارات واملجازات .يعكس ذلك، القول ّ
للدين ،وهو البشرية ،وتالؤما مع الغرض األصلي ّ
ّ التكيف مع كل القوى قدرة على ّ
والعقائدية ّ
ّ ّ ّ
والنجاح من ّثمة في تسيير التوحيدية منها اإلقناع بحقائق الشرع
املدنية ّ
الشؤون ّ ّ
لألمة.
والنشر ّّ ّ - 1األضحوية في املعاد ،تحقيق حسن عا�صي ،بيروتّ ،
والتوزيع، الجامعية للدراسات املؤسسة
ط ،1987 ،2ص.98 - 97
ّ ّ
- 2كشف ابن سينا عن وجوه الغلط عند القائلين بمعاد األبدان ،املصدرالسابق ،ص .97وبين الداللة
إنية االنسان .نفسه ،ص .127الحقيقية للمعاد انطالقا من ثبوت طبيعة ّ
ّ ّ
- 3يمكن اإلفادة في هذا املستوى من :ابن سينا التخييل والشعر ّ
والنبوة ،ص .191
86
خاتمة
ّ
تتبع مفهوم الدين كما ورد في فلسفة ابن سينا، سعينا في هذا املقال إلى ّ
الدين مشروعا متكامال يجمع بين وانتهينا إلى بعض املالحظاتّ .أولها اعتبار ّ
بتصور لنظام الوجود يوازيه تصورّ الشيخ ّّ املعرفي والوجوديّ .
الرئيس ويمدنا
دينية ،وهو ما يفيد وفق تقديرنا ،معالجة ّ
الدين للحقيقة ،استنادا إلى معطيات ّ
ّ من ّ
الداخل والكشف عن وجود بنية مركبة ومنسجمة في آن تجمع بين العناصر
ّ للشرع واألصولّ ّ
النظرية للحقيقة. التعليمية
معبر عنها بطرق مخصوصة ،تختلف في الدين ثانيا ،رؤية متناسقة ّ يحمل ّ
لكنها توا يها في االهتمام بالوجود وتقديم الحقيقةّ .
قدم أدواتها عن الفلسفة ّ
ز
الدين رّبما نجد تداعياتها الحقا مع ابن رشد نوعية في ّ
بذلك ابن سينا قراءة ّ
ّ ّ
خاصة في مستويات القسمة بين الظاهر والباطن ،واعتماد املقوالت املنطقية
التمثيل ،وهو ما يستدعي دراسة مفردة. القائمة على ّ
الدين والفلسفة عن نظام الوجود الرسم البياني تعبير كل من ّ ونوجز في هذا ّ
وبنية الحقيقة:
احلقيقة الوجود
ّ ّ
الدين الفلسفة الدين الفلسفة
الوحي: ّ
مقدمات طبيعة هللا الواجب
الحدس ّ
يقينية الحقيقة اإلنسان املمكن
القياس
ّ القياس طرق عالقة عالقة
التخييلي ّ
ّ البرهاني صوغها عبادة سببية
التمثيلي
87 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
قائمة املصادرواملراجع
املصادر:
ابن سينا
ّ
• الشفاء ،اإللهيات ،ج ،1مراجعة وتقديم إبراهيم مدكور ،تحقيق األب
ّ
األميرية.1960 ، قنواتي وسعيد زايد ،القاهرة ،الهيئة ّ
العامة لشؤون املطابع
ّ
• الشفاء ،اإللهيات ،ج ،2مراجعة وتقديم إبراهيم مدكور ،تحقيق سعيد زايد
ّ
األميرية، العامة لشؤون املطابعوسليمان دنيا ومحمد مو�سى ،القاهرة ،الهيئة ّ
.1960
ّ
الشفاء ،الطبيعياتّ ، ّ
النفس ،ترجمة ونشر باكوش ،باريس ،منشورات •
املعهد العربي اإلسالمي.1988 ،
-كتاب الهداية ،تحقيق وتقديم وتعليق محمد إسماعيل عبده ،القاهرة،
ّ
األميرية.1968 ، الهيئة العامة لشؤون املطابع
أحوال ّ
النفس ،تحقيق أحمد فؤاد األهواني ،القاهرة ،دار إحياء الكتب •
العربية ،ط.1952 ،1 ّ
ّ
الجامعية • األضحوية في املعاد ،تحقيق حسن عا�صي ،بيروتّ ،
املؤسسة
والنشر ّ ّ
والتوزيع ،ط.1987 ،2 للدراسات
• منطق املشرقيين ،دراسة وتقديم البارون كارا دوفو ،باريس ،دار بببليون،
.2009
• املبدأ واملعاد ،تهران ،سلسلة دانش ايراني1343 ،ه.
ّ
وقدم لها ميشال مرمورة ،بيروت ،دارالنهار حققها ّالنبواتّ ،
• رسالة في إثبات ّ
ّ
للنشر.1968 ،
الدكن ،ط،1 العثمانية ،حيدرآباد ّ
ّ ّ
العرشية ،مطبعة دائرة املعارف الرسالة • ّ
1353ه.
88
ّ
والطبيعيات ،طبعة ّ
هندية.1908 ، • تسع رسائل في الحكمة
ّ
الهجائية ضمن تسع رسائل ،طبعة ّ
النيروزية في معاني الحروف الرسالة• ّ
هندية( ،1908،ص.)135-141 ّ
العقلية ،ضمن تسع رسائل ،طبعة ّ
هندية،1908 ، ّ • رسالة في أقسام العلوم
(ص.)105-118
ّ
العثمانية ،حيدر آباد السعادة ،مطبعة مجلس دائرة املعارف • رسالة في ّ
الدكن ،ط1353 ،1ه.
الفارابي
• إحصاء العلوم ،بيروت ،دار ومكتبة الهالل ،تقديم علي بو ملحم ،ط،1
.1996
ابن خلدون
ّ ّ ّ ّ
املقدمة ،تونس ،الدارالتونسية للنشر.1993 ، -
املراجع:
• علي زيعور ،ميادين العقل العملي في الفلسفة اإلسالمية ّ
املوسعة ،بيوت،
ّ
والنشر ّ الجامعية ّ
ّ ّ
والتوزيع ،ط.2001 ،1 للدراسات املؤسسة
مقداد عرفه منسية
• الفارابي فلسفة الدين وعلوم اإلسالم ،بيروت ،دار املدار اإلسالمي،
ط.1،2013
ّ ّ
العرشية» ،ضمن فعاليات الندوة • «ابن سينا واملعتزلة من خالل ّ
الرسالة
ّ
الشيرازي ،تونس ،املجمع ّ ّ
التون�سي الدولية :نظرات في فلسفة ابن سينا ومال صدرا
للعلوم واآلداب والفنون ،بيت الحكمة( ،2014 ،ص .)72 - 35
ّ ّ سعاد الجويني ،ابن سيناّ :
والنبوة ،تونس ،مجمع األطرش التخييل والشعر •
89 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ّ
.2017 ،املختص للكتاب
- Gardet.. L, La pensée religieuse d’Avicenne, Paris, J. V, 1951.
- Goichon, A.M, la distinction de l’essence et de l’existence d’après
Ibn Sina, Desclée de Brouwer, Paris, 1937.
- Durat, Thérèse Anne, «Avicenna’s Metaphysics and Dunis Scotus ,
QuQestiones super secundum et tertium De anima», philosophical
psychology in Arabic thought and the latin Aristotelianism of the 13th
century, ed. By Luis Xavier, Paris, Vrin, 2013, 303, pp (185-204).
- Marmura, Michael, « Avicenna’s proof from contingency for God’s
Existence in the metaphysics of the shifa” , Medival studies, V XLII,
1980, p 345.
- Menn, Stephen, «Avicenna’s Metaphysics», in interpreting Avicenna:
Critical Essays, ed by Peter Adamson, Cambridge University Press,
2013, xii-300, pp (143-69).
- Michael E. Marmura, Probing in islamic Philosophy : Studies in the
philosophies of Ibn Sina, al-Ghazali and other major Muslim thinkers,
Global Academic Publishing, Binghamton Univercity, 2005.
- R. Michot, La destinée de l’homme selon Avicenne, le retour à Dieu
(maʿād) et l’imagination, Lovani, Aedibus Peeters, 1986.
90
حدود احلجاج املنطيق
يف فلسفة الدين عند الغزايل
د .فتاحين مو�سى
91 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
العودة إلى جميع أعمال الفيلسوف أو املفكر املراد معرفة أحكامه حول حقيقة
األشياء املتجلية في الوجود ،دون االكتفاء بقول منعزل أو منفرد له خصوصياته
وعلله ،وهذا حال الفالسفة واملفكرين الحقيقيين ،الذين يؤمنون بتغيرالوجود،
ونسبية الحقائق ،إذ االنتقال من املوقف إلى ضده؛ ال يلغي نزاهة وموضوعية
العلماء وكبار الفالسفة ،امثال بتراند راسل ( 1970ت) الذي عرف بالفيلسوف
الذي ال يستقر على رأي ،ومارتن هيدجر ويورغن هبرماس ..أما على مستوى
الحضارة اإلسالمية ،فلو عدنا إلى تراثنا الفكري ،وأعدنا قراءة منتوج الغزالي أبي
حامد؛ ألدركنا أنه فيلسوف صاحب مشروع قويم ،نعم ال يمكن الحكم على أبي
ّ
حامد من خالل صفحة أو كتاب ،ألن ذلك ال يمثل إال حلقة من مساره الطويل،
لهذا حاولت في هذا البحث أن ألتقط املواقف املنطقية في مناقشة معالم فلسفة
الدين التي عرضها الغزالي ،من خالل تتبع كتبه املنطقية والكالمية التي أراد من
املطلعين من ّ ّ
املطوالت كما خاللها أن يقرب املنطق للقارئ وللممارس ،ويخلص
السلم املرونق (الشيخ األخضري البسكري) ،ومن هنا نتساءل أورد ها صاحب ّ
لنوجه القارئ إلى األهداف الحقيقية ونميط اللثام عن بعض االدعاءات التي
افتعلتها بعض القراءات الجزئية املفتتة.
فكيف انتقل أبو حامد الغزالي في الدالالت املنطقية ،عبر «املحك» إلى «تهافت
الفالسفة»؛ مرورا ب ــ«املشكاة « و«املستصفى» و«معيارالعلم في فن املنطق» الذي
وضعه ليقهر الفالسفة الذين خاضوا في مجال اإللهيات .إلى الذوق النوراني؟
وكيف مارس الحجاج في مسائل فلسفة الدين من خالل الجدل و املناظرة؟
ّ
في البداية أرى أنه البد أن نبرز املحطات الرئيسة التي نحفر فيها عن الحمولة
الحقيقية كسند يساعدنا على االنطالقة املتينة ،والتي بدونها ال تستقيم أحكام
الباحث عن الحقيقة في كنف املتغيرات من تشكالت هذا الرجل الذي كان دأبه
تركين أسس العقل ،وجلب صور اإلقناع ،ومسلك االقتناع.
92
فال بأس أن نستهل بحثنا ب ــ:
كان موضوع بحيث قاصداً 1ـ الحمولة املنطقية عند أبي حامد
إىل تبيان حمطتني هامتني يف الغزالي:
درس (أبو حامد الغزالي - 1058فكره الذي يعكسه إنتاجه:
1111م) املنطق التقليدي دراسة وافية إ ّنه العقل الذي سخره لقهر
حتى تضلع منه؛ بل كان عاملا في املنطق ،الفالسفة يف مسائل اإللهيات،
والذوق الصويف الذي ركن
وأصبح أحد رواده ،وألف فيه كتبا .إذ
عنده بعد عزلته
اعتبر املنطق منهجا من مناهج التفكير.
فكان منطقيا ،ولم يتغيررأيه في وظيفته
وسجل (إبراهيم مذكور) النتيجة عينها حين قام بمحاولة تبيان أثر املنطق
األرسطي في العالم العربي في كتاب l’organon d’Aristote dans le monde
Arabeفقال( :بجدارة الغزالي)؛ أكبر الجدليين في اإلسالم ويعرف بمناهضته
للفالسفة الذي سخرفيه كتاب تهافت الفالسفة الذي يعتبرمن النماذج القليلة
جدا في النقاش واملناظرة في الفلسفة والدين) ،1وهذه امليزة لم تنشأ من العدم
خاصة بالنسبة لألوضاع التي كانت تميز تلك الفترة الحاسمة .ولقد ذكر السبكي
(1327-1370م)( :إن الغزالي درس املنطق على اإلمام الجو يني) ،2وتعتبراملباحث
املنطقية من أبرز ما أثر في الثقافة اإلسالمية ،وملا انتقل إلى بغداد وأراد أن
يكشف عن تهافت الفالسفة وتناقض آرائهم ومكامن تلبيسهم وإغوائهم .عرف
علومهم الرياضية واملنطقية والطبيعية وامليتافيزيقية .ألن (الغزالي) يرى أن في
دراسته للمنطق الوقوف على فساد املذاهب قبل اإلحاطة بمداركه (املنطق) -
محال؛ بل هو رمي في العمى والضالل .فبعد أن درس (الغزالي) العلوم واملسائل
1 - Ibrahim Madkour- l’Organon d’Aristote dans le monde Arabe - second ed - libraire
philosophique J-Vrin-1964
- 2تاج الدين السبكي ،طبقات الشافعية ،تحقيق ،محمود محمد الطناحي ،ج ،6ط ،1964 ،1ص .196
93 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الفلسفية؛ كتب (مقاصد الفالسفة)
وضح وأفصح عن رأيه في املنطق؛ بعد أن أدرك ( الغزايل) أن لغة وهناك ّ
فقال( :وأما املنطقيات فأكثرها على منهج املناطقة والفالسفة وخطاهبم
يستوجب بالرضورة معرفة
الصواب و الخطأ نادر فيها .إذ غرضها
قوانني الفكر ومزيان العقل
تهذيب طرق االستدالل ،وذلك مما
لجأ إىل وضع منطق للهتافت
يشترك فيه النظار) 1ولقد كان صريحا
قبل تأليفه لكتاب (هتافت
في خطبة كتابه (معيار العلم) حول
الفالسفة)
االشتغال باملنطق ،بل وضعه كمدخل
لتهافت الفالسفة .حيث قال( :رتبنا هذا
الكتاب معيارا للنظرواالعتباروميزانا للبحث واإلفتكار ،وصيقال للذهن ومشحذا
لقوة الفكر والعقل ...فإنا ناظرناهم بلغتهم؛ وخاطبناهم على حكم اصطالحاتهم
التي تواطؤا عليها في املنطق).2
هذا وبعد أن أدرك ( الغزالي) أن لغة املناطقة والفالسفة وخطابهم يستوجب
بالضرورة معرفة قوانين الفكر وميزان العقل لجأ إلى وضع منطق للتهافت قبل
يبين أن االختالف ال يغادرالحدود -سواءتأليفه لكتاب (تهافت الفالسفة) ،حتى ّ
في املطابقة الدقيقة التي يتحقق في حوارها ونقاشها اإلقناع واالقتناع ،أو في
االلتباس الذي يفتح ذريعة السفسطة واملغالطة ،حيث قال( :وقد أصرح أن في
املنطقيات البد من إحكامهم ،ولكن املنطق ليس مخصوصا بهم؛ إنما هو األصل
الذي نسميه في فن الكالم (كتاب النظر) ...ظن أنه غريب ال يعرفه املتكلمون وال
3
يطلع عليه إال الفالسفة).
- 1أبو حامد الغزالي ،مقاصد الفالسفة ،تحقيق سليمان دنيا ،ط 2دار املعارف ،القاهرة1961 ،م،
ص ،31واملنقذ من الضالل ،تحقيق موريس بويج ،داراألندلس ،ط ،10نشرة فريد جبر ،1991 ،ص 38
- 2أبو حامد الغزالي ،مقاصد الفالسفة ،املصدرنفسه ،ص.32
- 3أبو حامد الغزالي ،معيارالعلم في فن املنطق ،داراألندلس ،بيروت لبنان -دون تاريخ -ص27
94
هذا ولقد ورد في موضع آخر (أما املنطقيات فال يتعلق �شيء في الدين نفيا
أو إثباتا بل هو النظر في طرق األدلة؛ واملقاييس وشروط مقدمات البرهان،
وكيفية ترتيبه وأن العلم إما تصور أو تصديق 1).من هنا اتجه (الغزالي) إلى
تبيان موضع النقاش الفلسفي وشروطه املنطقية سواء في وضع املقدمات،
صر ومضامينها أو الصورة املنطقية التي يأتي فيها البرهان ..لذلك كان دائما ُي ّ
على أن يكون القانون أساس التمييز بين صحيح الحد والقياس عن فاسدهما؛
في نقاشه أو في رده على الفالسفة؛ فيتميز العلم اليقيني عما ليس يقيني) ،2بل
ألن العلوم املطلوبة ليست فطرية ال فائدة املنطق تكمن في اقتناص العلم؛ ّ
تحتاج إلى تجثم االستدالل ،والنظر ،واالعتبار؛ بل ال تنقص إال بشبكة العلوم
الحاصلة( .فكل علم نظري ال يحصل إال عن علمين سابقين بإتقان ،ويندبان على
وجه الخصوص؛ وشكل معلوم من األشكال القياسية حمليا أو شرطيا متصال
أو منفصال ،فيحصل من ازدواجها علم ثالث يسمى النتيجة عند حصولها على
املطلوب .قبل حصولها في الجهل بتلك املقدمات .وبكيفية اإلزدواج والترتيب
املف�ضي إلى املطلوب ،تصورا أو تصديقا؛ هو مانع عن العلم) .3لذلك كتب الغزالي
كما أسلفنا كتابه (معيار العلم)« :لتفهيم الناس -على حد تعبيره -طرق التفكير
والنظر؛ وتنوير مسالك االقيسة والعبر» ،4وكل هذا لتسليح املسلم وتمكينه
من الرد على خصوم العقيدة؛ واملشوشين كالفالسفة والباطنيين .أو كما قال
(إبراهيم مذكور)( :فالغزالي بصفة خاصة قد سخر املنطق لخدمة علم الكالم
- 1الغزالي - :املنقذ من الظالل -ط - 2قدم له -فريد جبر -اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع بيروت -
1969ص22
- 2الغزالي :مقاصد الفالسفة ،ط ، 2داراملعارف -القاهرة -تحقيق د /سليمان دنيا -ص37
- 3أبو حامد الغزالي ،معارج القدس ،في معرفة مدارج النفس ،املكتبة التجارية الكبرى ،القاهرة ،دون
تاريخ ،ص 105
- 4أبو حامد الغزالي ،خطبة كتاب معيارالعلم في فن املنطق ،املصدرنفسه ،ص 26
95 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
بطريقة أكثر معرفة ،وأكثر دقة) 1كما قال :لهذا فإن العلوم النظرية ملا لم تكن
بالفطرة والغريزة مبذولة وموهوبة؛ كانت ال محالة مستحصلة مطلوبة وليس كل
سائل قادر على صياغة سؤاله .ومتيمما لنهج املشرب الذي سعى إليه( ،وال كل
سالك يهتدي إلى االستكمال ،ويؤمن االغترار بالوقوف دون ضرورة الكمال .وال
كل ظان الوصول إلى شاكلة الصواب ،أمن االنخداع بالمع السراب) ،2وكان دائما
يشير إلى ما وقع فيه املتكلمون والفالسفة اإللهيون ،من تناقضات وانزالقات
خطيرة ،إذ يعتبر الكتاب قاعدة نسقية متينة للرد على الفالسفة ،سواء من
خاصية التصورات أو التصديقات .وعلى هذا نجد (الغزالي) يلح على ضرورة أن
يقدم كل طالب على دراسة املنطق؛ قبل أن يخوض في أي علم آخر من العلوم...
وهنا نسجل للغزالي مخالفته حتى (ألفالطون) الذي اشترط في أكاديميته أن يبدأ
البحث عن الحقيقة من سلك الرياضيات فيقول الغزالي( :ألنه (املنطق) معيار
الحق العقلي ومن ال يحيط به فال ثقة بعلومه أصال) ،3ويتضح هذا جليا أمام
كل سائل و قارئ في التمهيد الرابع من كتاب (االقتصاد في االعتقاد) ،بيانا خاصا
تستقر فيه مسائل فلسفة ّ عن أهمية املنطق في دراسة علم الكالم الحقل الذي
الدين؛ وفي الرد على شبهات الخصوم في محاولة تشويه العقيدة اإلسالمية.
ولم يتوقف عند هذا الحد ،بل اتجه أيضا في الرسالة إلى بيان مناهج األدلة
ومكانتها حين قال( :اعلم أن مناهج األدلة متشعبة؛ وقد أوردنا بعضها في كتاب
محك النظر ،وأسبغنا القول فيها في كتاب معيار العلم؛ ولكنا في هذا الكتاب
نحترز عن الطرق املنغلقة .واملسائل الغامضة لإليضاح وميال إلى اإلنجازواجتنابا
للتطويل).4
1 - Ibrahim madkour l’organon d’Aristote - ibid.- p254
- 2أبو حامد الغزالي ،معيارالعلم ،املصدرنفسه ،ص 70
- 3أبوحامد الغزالي ،املستصفى في أصول الفقه ،ج ،1الطبعة األميرية ،بوالق ،مصر1322 ،هج ،ص 105
- 4أبو حامد الغزالي ،االقتصاد في االعتقاد ،تحقيق عثمان عيش ،دار االتحاد العربي للطباعة ،1973
ص05
96
هذا وقد ورد في خطبة كتاب
(املستصفى)( :ونذكر شرط الحد يظهر أن (أبا حامد الغزايل) قد
نور الدارسني بقيمة األرضية ّ الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي
وأقسامهما ...وحاجة جميع العلوم املنطقية ،ومدى قدرهتا عىل
احتمال احلق .فكل طالب النظرية إلى هذه املقدمة كحاجتنا إلى
أصول الفقه) ،1وهنا يظهرأن (أبا حامد للحق واملعرفة يف هذه الحدود
اليت رسمها هو ملزم بأن يقبل
الغزالي) قد ّنور الدارسين بقيمة األرضية
هذا الرشط
املنطقية ،ومدى قدرتها على احتمال
الحق .فكل طالب للحق واملعرفة في
هذه الحدود التي رسمها هو ملزم بأن يقبل هذا الشرط وال قيمة وال ثقة بأحكامه
واستدالالته وال اتجاه له في الحوار واملناظرة مع الخصوم ،حتى في مجال علم
األصوليين( .أصول الدين وصول الفقه) .
ولعل الغزالي يكون قد استفاد من مباحث الحد األصولي عند السابقين ولم
يتوقف عند هذا الحد؛ بل أدرج أهمية التصديق املنطقي حتى في حقل التصوف
حيث قال« :األولى للمريد قبل املجاهدة االشتغال بتحصيل العلوم بمعرفة معيار
العلم و تحصيل براهين العلوم ..فإنه يسوق إلى املقصود سياقة موثوقا بها».2
لكن كيف ربط الغزالي بين البرهان املنطقي (العقل) والذوق الرباني؟ إذ يرى أبو
حامد أن أثناء الرياضة قد يفسد املزاج و يختلط العقل ،ويمرض البدن ...فإذا
لم تكن النفس قد ارتوت بالعلوم الحقيقية البرهانية ؛ اكتست بالخاطرخياالت
تظنها حقائق تنزل عليها .فكم من صوفي بقي في خيال واحد (حينا من الدهر) ..
ولو أتقن العلوم لتخلص منه على البديهة) .3
- 1أبو حامد الغزالي ،املستصفى في أصول الفقه ،املصدرنفسه ،ص19
- 2أبو حامد الغزالي ،ميزان العمل ،تحقيق محمد مصطفى ط ،1داراملعارف القاهرة1964 ،م ،ص 47
- 3أبو حامد الغزالي ،ميزان العمل ،مصدرسابق ،ص .48
97 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
إن املتتبع املتثبت ملؤلفات الغزالي
املنطقية -كتبا ورسائل -يكتشف «األوىل للمريد قبل املجاهدة
االشتغال بتحصيل العلوم أن معرفته باملنطق وآلياته لم تأخذ
شاكلة واحدة منذ بداية تحصيله لهذا بمعرفة معيار العلم وتحصيل
العلم ،وإنما بلغ ذلك بعد أن تضلع براهني العلوم ..فإنه يسوق إىل
املقصود سياقة موثوقا هبا وحمل لواء النقاش واملناظرة .فبعضها
فرضتها املعرفة املتدرجة املتجددة -في
نظره -وبعضها اآلخر فرضتها الضرورة
األصولية« .الغزالي كان يحسن تطبيق املنطق األرسططالي�سي في نقاشاته في
العلوم الكالمية اإلسالمي) ،1هذا ولقد رأينا أن كتاب (تهافت الفالسفة) يمثل
نقطة اكتمال الحس املنطقي عند (الغزالي) .فاملحطات التي كانت قبل هذا
الكتاب كلها تساهم في وضع حجر الزاوية من املنطلق الذي كان يتصوره هذا
الفيلسوف .وملا كانت آليات املنطق مرتبطة بمشكلة التأسيس حبذنا الوقوف
على رأي (الغزالي) في وحدات املنطق من خالل مختلف أعماله ،ولقد وجدنا
صعوبة في ذلك ،والحقائق وردت متوارية بين املعاني واأللفاظ ،واألصعب من
ذلك أنها موزعة على ذخيرة كبيرة ال يفرزها إال صابرمثابر.
ولقد كتب الغزالي (مقاصد الفالسفة) أثناء تلقيه العلم في طور التدريب في
بغداد ،وتهيأ للرد على الفالسفة بعد أن أدرك ببصيرته خطرهم على عقول الناس
وعلى عقيدتهم اإلسالمية ،وفي هذا يقول الغزالي« :لم أركز في كتاب (املقاصد)
على التمييز بين الحق والباطل ..وإنما على التفهيم» .2وفي هذا السياق نسجل
للغزالي مدى إدراكه وفهمه و توسعه في طبيعة التفكيرالنسقي.
وقد استهل مسيرته النقدية اإلعدادية للمشروع الكبير -الرد على الفالسفة-
1 - Ibrahim Madkour- ibid-p-256.
- 2أبو حامد الغزالي ،مقاصد الفالسفة ،مصدرسابق ،ص.31
98
باستعراض أهم النظريات الفلسفية واملنطقية بعمق وإسهاب ،وركز على
ّ
املسائل الخطيرة -ألنها مرتبطة باإللهيات والتفكير املغالي واملغالطي ،كما أنه لم
يجد نفسه معرضة عن استبعاد املنهج العقلي الذي رسمه كمعيار فكري يدعم
فيه األصول الفقهية والتفكير اإليماني بعد أن أدرك أغوار املنطق كما سردها
بإسهاب عام في (مقاصد الفالسفة)؛ إذ ما أصبح يتميز به هذا املؤلف هو فصل
املنطقيات عن الفلسفة ومباحثها بعد أن أقره علما معياريا مندمجا ،ومختلطا
مع بعض التشخيصات والخصوصيات اإلسالمية التي ما فتئت أن تآلفت في
كتاب (معيار العلم) ،ثم بعد رؤية أخرى أكثر مزجا باإلسالميات دونها في (محك
النظر) .وهنا تبدو حلة املنطق قد أصبحت إسالمية من جميع جوانبها ،وبعد
شق الطريق إلى محاولة فك التناقض بين هذه املحاولة التي بدأ بها نجده قد ّ
االعتقاد اإللهي واالعتقاد العقلي البرهاني .فلجأ إلى تهذيب املنطق.
لكن األمرلم يكن سهال ،ويبدو ذلك جليا من خالل كتابه (الرد على الباطنية)،
حين أبدى (الغزالي) ّأن املقدمات التي أسسوا عليها براهينهم كانت جدلية ،وفي
خضم هذه التجربة بدأت طالسم الشك تأفل ،والتثبت يظهر .إذ كان بمثابة
فتح جديد لبوابة املنطق ،خاصة حين تحرر من التأثير األصولي التقليدي ،ونبغ
في مصنفه (املستصفى من علوم األصول) ،إذ يعد هذا العمل تأليفا بين االجتهاد
ضحى من أجل التأسيس له على نسق الن�صي وتوظيف املنطق الذي طاملا ّ
قيا�سي واستداللي واضح ،بعد أن مهد للكتاب بخطبة منطقية فقال» :وليست
هذه املقدمة من جملة علم األصول وال من مقدماته الخاصة ،به بل هي مقدمة
العلوم كلها ،ومن ال يحيط بها فال ثقة له بعلومه أصال).1
وقد بين قبل هذا قيمة هذا العلم وإمكانيته ودوره« .ألنه أشرف العلوم؛
ازدوج فيه السمع والعقل .واصطحب فيه الرأي و الشرع».2
- 1أبو حامد الغزالي ،الستصفى في أصول الفقه ،ج ،1املصدرنفسه ،ص.07
- 2الغزالي :املستصفى من علم األصول املصدرالسابق ،ص.3
99 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
إن الفكر املنهجي وطرق البحث قد توطدت عند (الغزالي) بعد مرحلة الشك،
واكتمل نضجه حين جمع بين الرأي والسمع ،وبمعنى آخربين املنطق والفقه جمعا
مزدوجا( ،كل منهما يؤثر في اآلخر) .وهذا التطور الذي ساد فكر الغزالي ،إن كنا
من خالل واجهته عرفنا التدرج من (مقاصد الفالسفة) حتى (املستصفى)،لكن
حين نلجأ إلى مضمونه و ما حملته املؤلفات في بطونها فإننا نعرف التغيرالحقيقي.
إذ ال يظهر بين (املقاصد) و(املعيار) بقدر ما يتجلى في (املحك) و(املستصفى)؛..
فقد قام املفكر(رفيق العجم) ببحث خص فيه مكانة الغزالي في املنطق ،اعتمد
فيه على االستقراء واملقارنة الدقيقة استخلصنا منه بعض النتائج .مثال( :إن
(الجزئي في (املعيار) يقابله (املعين) في (املستصفى) ،و(التصور) يقابله (املعرفة)؛
و(التصديق) يقابله (العلم) ،و(القضية الشخصية) تقابلها (القضية املعينة)
في (املستصفى) ،و(الكلية) تقابلها (املطلقة) ،و(القياس) في (املعيار) ورد باسم
(امليزان) في (املستصفى) ،و(الحد األوسط) باسم (العلة) .1ومن خالل هذه اإلشارة
املقتضبة نستخلص أن (الغزالي) لم يختلف عن (ابن سينا) في كتبه املنطقية .في
نفس السياق نجد تأكيد (إبراهيم مذكور)( :الغزالي الذي يمثل بإجماع علماء
الكالم وأئمتها في كتاباته كان له دور كبير ...وكان وفيا ملنطق ابن سينا» .2لكن في
املعياريظهرالبدء في محاولة التغييروإلباس املنطق األرسطي -كما عرفه عند ابن
سينا والفارابي -حلة املشائية اإلسالمية لكن دون أن يتجاهل القصد في عزل
املنطق عن املباحث الفلسفية ،وهذا بدليل تصريحه« :إن غرض هذا الكتاب
(معيار العلم) االطالع على ما أودعناه كتاب تهافت الفالسفة ...،في هذ الكتاب
تنكشف معاني تلك االصطالحات) 3التي أودعها في ذلك الكتاب.
إن املسيرة الطويلة والحافلة بالتحوالت التي عرفها منحنى فكر (الغزالي) سواء
- 1رفيق العجم :املنطق عند الغزالي -املكتبة السلفية -داراملشرق -بيروت -الطبعة - 1ص.64
2- MADKOUR-IBID-P10 .
- 3الغزالي :معيارالعلم -املصدرالسابق ،ص.26
100
بدافع البحث عن الحقيقة كما كان يشير
إليه دائما ،أو بدافع الظروف السياسية إن املسرية الطويةل والحافةل
والصراع املذهبي الذي اختمر فيه ،قد بالتحوالت اليت عرفها منحىن
فكر (الغزايل) سواء بدافع تتجلى في مشروع الرد على الفالسفة،
البحث عن احلقيقة كما وهذا الذي اختص به وتلخص في مؤلفه
(تهافت الفالسفة) .وكان ذلك (سنة كان يشري إليه دائما ،أو بدافع
488هج 1095 -م) حين كان يقيم في الظروف السياسية والرصاع
بغداد ،رغم أن كثيرين اعتبروه ضربة املذهيب الذي اختمر فيه ،قد
تتجىل يف مرشوع الرد عىل
قاسية وجهها (الغزالي) إلسكات وإخماد
الفالسفة
الفلسفة حتى ال يتجلى صيتها ،إال أن هذا
الحكم لم يلق إجماعا لدى الفالسفة
واملفكرين ،خاصة إذا كان الهدف من إعادة القراءة الكشف عن مبلغ الحوار
الفلسفي واملنطقي الذي تميز به .والدقة في مقارعة الفالسفة ،منذ أن صارحهم
و ألزمهم البراهين املنطقية» 1دون البراهين الخطابية» 2واملغالطية.3
صدركتابه -تهافت الفالسفةأصر أبوحامد على شق طريقه بعد أن ّ هذا ولقد ّ
-بأربع خطب؛ وضح فيها الدواعي التي حملته على تأليفه ،وكلما تدرج إال ّ
ويلوح إلى
مبررات؛ البأس أن نقف عندها.
ففي خطبته األولى يقول( :إن الخوض في حكاية الفالسفة تطويل ،فان خطبهم
- 1البرهان املنطقي :القياس املؤلف من اليقينيات سواء كان ابتداء وهي الضروريات أو بواسطة ،وهي
النظريات (الجرجاني -التعريفات -ص )44ابن سينا :هو قياس مؤلف من يقينيات إلنتاج يقيني -كتاب
النجاة -ص.103
- 2البرهان الخطابي :قياس مؤلف من مقدمات مقبولة أو مظنونة (الجرجاني -التعريفات -ص. 94
- 3القياس السفسطائي (املغالطي) القياس املركب من الوهميات والغرض منه تغليط الخصم
وإسكاته ..قياس ظاهره الحق وباطنه الباطل -جميل صليبا -املعجم الفلسفي -ج 1-دارالكتاب اللبناني
-بيروت -لبنان - 1964 -ص .362
101 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
طويل ،ونزاعهم كثير ،وآراءهم منتشرة.
وطرقهم متباعدة متدابرة ...،فلنقتصر فما دوايع الرد عىل الفالسفة
على إظهار التناقض في رأي مقدمهم ..ووصفهم بالتناقض والهتافت؟
وما إطار انتقادات الغزايل تثبت لهم وال وهو أرسططاليس .فال ّ
للفالسفة؟ ومرجعيته إتقان ملذهبهم عندهم ،وأنهم يحكمون
احلقيقية اليت اعتمدها يف
بظن وتخمين؛ من غيرتحقيق و يقين ..ثم
بناء انتقاداته؛ وما املآخذ اليت
املترجمون لكالم (أرسطاليس) لم ينفك
يحاسبون علهيا؟ وهل مدلول
كالمهم عن تحريف وتبديل») .1فمن
الهتافت جاء يف محهل من حيث
هذا ،فإنه يظهرعلى الغزالي سعة اإلطالع
الدقة أم هو تساقط و تحطم؟
على الفكر اليوناني ،من نوافذ املشائية
اإلسالمية ،ومعرفته للمنطق وهضمه
ملسائله ،أمر ال يواريه ال التقليد وال الزمن ،ونجد مثل هذا التعليق جهر به (ويل
ديورانت )1981 - 1885حين بحث في سر الحضارات اإلنسانية قال« :التهافت
أعظم كتبه تأثيرا فلقد استعان فيه على العقل بجميع فنون العقل ..واستخدم
الجدل الفلسفي ليثبت أن العقل يؤدي باإلنسان إلى التشكك في كل �شيء».2
الرد على الفالسفة،وبهذا يتضح مشروع الغزالي؛ الذي يتلخص أساسا في ّ
سواء اليونانيون منهم أو املسلمون .لكن الجدير بنا أن نقترب أكثر من تلك
الذخيرة ونغوص في أعماقها لعلنا نخرج بحكم نستأنس به من خالل قراءة
متأنية لكتاب تهافت الفالسفة.إذ يتألف من دعاء وأربعة خطب وعشرين مسألة
وخاتمة .ودواعي الرد التي نتعرف عليها من خالل النظرفي الخطب التي استهل بها
الكتاب قبل أن نشرع في البحث عن إجابات لتساؤالت يفرضها البحث :فما دواعي
- 1تهافت الفالسفة ،نشرة األب بويج ،املطبعة الكاثوليكية ،بيروت 1962م .ونشرة علي ملحم ط ،1دار
ومكتبة الهالل ،بيروت 1994م
- 2ويل -ديورانت -قصة الحضارة -ج 3-مطبعة لجنة التأليف القاهرة - 1964 -ص362
102
الرد على الفالسفة ووصفهم بالتناقض والتهافت؟ وما إطار انتقادات الغزالي
للفالسفة؟ ومرجعيته الحقيقية التي اعتمدها في بناء انتقاداته؛ وما املآخذ
التي يحاسبون عليها؟ وهل مدلول التهافت جاء في محله من حيث الدقة أم هو
تساقط و تحطم؟.
سبق أن أشرنا إلى أن أبا حامد الغزالي لم يكتب التهافت مباشرة إال بعدما
قدم له بأعمال وضعها كمدخل للرد سواء (املقاصد) أو (املعيار) .ففي الخطبة
األولى قال« :أما بعد فاني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميزعن األتراب
والنظراء بمزيد الفطنة و الذكاء ،قد رفضوا وظائف اإلسالم ..بل خلعوا بالكلية
ربقة الدين بفنون من الظنون ..ويبغونها عوجا ،وباآلخرة هم كافرون) 1لقد بات
من الواضح أن يصرح الغزالي بالوضعية الفكرية واالجتماعية التي أثرت فيه،
وحملته على تبيان مواطن التهافت والتناقضات التي عاش فيها الفالسفة املشاؤن
بعقولهم ،.والعامة بموروثهم خاصة إذا كان (املقلد على خطرشديد بل على شفا
جرف هار .ألن افتراقات األمم و الفرق في امللل و النحل هوة سقط فيها األكثرون،
وما نجا منها إال األقلون 2».فهذا التحذير هو مبدأ رفع اللواء للرد على املنبهرين
واملغالين؛ بعد تبيان مصدركفرهم و ضاللهم .و تناقض كلماتهم).3
ولو عدنا إلى تلك املرحلة الفكرية لوجدنا أنواعا من الصراعات ،ناتجة عن
التنطع وتتخللها حمالت الباطنية 4والكرامية -5التي غذتها أطراف سياسية
ومذهبية ،قد أشرنا إلى بعضها سالفا .وليس غريبا أن يتأثر -الغزالي -بتلك
- 1الغزالي :تهافت الفالسفة ،مصدرسابق ،ط، 1علق عليه ،علي بوملجم ،بيروت - 1994ص27
- 2الغزالي :املصدرنفسه ،ص27
- 3الغزالي :املصدرنفسه،ص28
- 4الباطنية :فرقة تحكم بأن لكل ظاهرا باطنا ،ولكل تنزيل تأويال -و اإلمام معصوم -انظرجميل صليبا
-املعجم الفلسفي ج - 1ط 1-دارالكتاب لبنان - 1982 -ص.196 - 195
ٔ
-5الكرامية :اصحاب عبد هللا بن كرام توفي سنة 255هج ،قالوا بالتجسيم و التشبيه ،و اتهموا على ر�ضي
هللا عنه -انظرالشهرالستاني -امللل و النحل -ط - 2002 - 2ص.90
103 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
األوضاع ،بعد أن أدرك خطورة األمر ويجمع العدة للنقد .لكن هل كل من سلك
سبيل العقل واملنطق يكون قد ّ
ضل في نظر الغزالي وتبوأ مقعد املتهافتين؟ .ولهذا
نجده يكشف عن دواعي الرد فيقول« :فلنقتصر على إظهار التناقض في رأي
قدمهم الذي هو الفيلسوف املطلق واملعلم األول ..وهو أرسططاليس (384ق ُم ّ
م 322 -ق م) .1وهنا يبين (الغزالي) أيضا؛ أن الفالسفة ال تثبت لهم وال إتقان
ملذهبهم (وأنهم يحكمون بظن وتخمين من غيرتحقق ويقين» ،2إذ إن كل عملياتهم
أقروها في كتبهم والحيلة في ذلك االستداللية بعيدة عن السمة املنطقية التي ّ
أن هؤالء الفالسفة يستدرجون ضعاف العقول؛ بالعلوم الحسابية واملنطقية
بوصفها يقينية ومنطقية لتبرير علومهم اإللهية ..لكن لو كانت علومهم اإللهية
صحيحة ملا اختلفوا فيها ،ولكان ذلك يشبه اتفاقهم في العلوم املنطقية .
هذا ولقد أشارالغزالي إلى ّأن الفالسفة املسلمين واملترجمين لم يكونوا أمناء في
حرفوا و ّبدلوا قول املعلم األول ،وإال كيف نفسر اختالفهم النقل و الترجمة بل ّ
ونزاعهم؟ ولم يتوقف عند هذا الحد بل اتجه إلى الذين اشتهروا بالنقل من
املسلمين ،فيقول« :وأقومهم بالنقل والتحقق من املتفلسفة في اإلسالم( ،الفارابي
أبونصر870م 950 -م) و(ابن سينا 970م1038م) .فنقتصرعلى إبطال ما اختاراه
الضالل» .3ومن هذا الخطاب نستطيع ورأياه الصحيح من مذهب رؤسائهم في ّ
القولّ :إن الغزالي عرف الفلسفة اليونانية بل؛ واملنطق وتضلع فيه من نافذة
املشائين املسلمين الفارابي وابن سينا« :فليعلم إنا مقتصرون على ر ّد مذاهبهم
بحسب نقل هذين الرجلين ،كي ال ينتشر الكالم بحسب انتشار املذاهب».4
والدراسة التي قام بها (األعسم) توحي أن الغزالي لم يرجع إلى كتب أفالطون
104
وأرسطو مباشرة ،وإنما اطلع على أرائهم
لقد أشار الغزايل إىل ّ
أن من خالل كتب الفارابي (ت980م) وابن
سينا (370هج 428 -هج) ،وهذه الدراسة الفالسفة املسلمني واملرتمجني
لم يكونوا أمناء يف النقل املقارنة التي أوردها في كتاب (املصطلح
حرفوا و ّبدلوا
و الرتمجة بل ّ الفلسفي عند العرب) تبين أن «لدينا
حقيقة مهمة ،هي أن مصدر الغزالي في قول املعلم األول ،وإال كيف
معرفة تفاصيل فلسفة (ابن سينا)؛ لم نفرس اختالفهم ونزاعهم؟
تستند إلى التفصيالت الواسعة في كتاب
الشفاء ،بل باالستناد إلى تلك الخالصة
املنظمة التفصيالت التي توجد في كتاب النجاة» ،1ومع ذلك يهاجم الفالسفة
ويعتبرهم أغبياء .أما علماء الكالم -الباطنية خاصة ،واملعتزلة -فإن كانوا قد
تيمموا الدفاع باالستدالل عن العقيدة اإلسالمية ،إال أن تقليب كالمهم لم يكن
فيه ما يطفئ وما يشفي ،وليس فيه ما ينجي من الظلمات؛ ويبرر ذلك بقولهّ :
«بأن
األقيسة املؤلفة من املسلمات واملشهورات إنما هي جدلية ،كما أن املؤلفة من
املظنونات حجة خطابية؛ واملؤلفة مما يوقع انقباضا أوانبساطا في النفس طريقة
شعرية ،واملركب من الوهميات مغالطة وأقوال سفسطائية» .2وهذا التصنيف
الذي أشار إليه الغزالي ليس غريبا على الفالسفة واملتكلمين؛ وإنما تلميحا منه
إلى ما خلصت إليه دراسته التي يتأسس مبدأها على كشف تهافت الفالسفة
وحقيقة حججهم ،سواء من ناحية املادة أومن ناحية الصورة .وينبجس ذلك من
خالل مختلف املواطن التي هي مدخل للنزاع ،وحقل خصب للمقارعة بينه وبين
الفالسفة وخصومهم -من املتكلمين -ولقد لخصها في ثالثة أقسام فقال« :قسم
يرجع فيه النزاع إلى لفظ مجرد كتسميتهم ..صانع العالم ..جوهرا ..لسنا نخوض
- 1األميراالعسم :املصطلح الفلسفي عند العرب -دارالتونسية للنشر - 1991 -ص97
- 2الغزالي :خطبة كتاب معيارالعلم ،املصرنفسه ،ص 07
105 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
في إبطال هذا .1»..فالغزالي كان عارفا
باملنطق ومدركا لنقاط االختالف والنزاع األقيسة املؤلفة من املسلمات
فيه؛ ومبحث الحد له وزنه عند املناطقة واملهشورات إنما يه جدلية،
القدماء عامة واملشائين خاصة .ومن كما أن املؤلفة من املظنونات
ثمة اعتبره الغزالي قسما لغويا أكثر منه حجة خطابية؛ واملؤلفة مما
منطقيا؛ ال ملجئي للخوض فيه ،واألهم يوقع انقباضا أو انبساطا يف
عنده ما يطلب التصديق والتكذيب كما النفس طريقة شعرية ،واملركب
قال في محك النظر« :واملطلوب من العلم من الوهميات مغالطة وأقوال
سفسطائية الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب
ال ينتقص إال بالحجة والبرهان ،وهو
القياس» .2
ألن موضوعاته أما القسم الثاني فيكاد يخلو من االصطدام والنزاع فيه؛ ّ
تتوازى مع أصول الدين ،وبعيدة عن تكذيب األنبياء والرسل .بل لم يصل األمر
حتى إلى تزييف أو تحريف كالرياضيات والطبيعيات ،وخاصة إذا كانت البراهين
التي تتأسس عليها هذه املسائل تقوم على عمليات هندسية وحسابية ال شك فيها.
مبيت بالخالف والنزاع؛ خاصة ملاله من عالقة وأما القسم الثالث :وهو ّ
هذا ّ
بالدين وأصوله ،كالقول في حدوث العالم وصفات الصانع ،وبيان حشراألجساد،
واألبدان .وقد أنكروا جميعا هذا الفن ،ونظائره ...ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم
في دون ما عداه».3
قبل أن نتعجل الحكم ننبه على أن هذه املسالة األخيرة ،هي التي كانت موطنا
للمقارعة والنقاش الذي أثاره الغزالي مع الفالسفة ،والذين انتقدوها فيما بعد
- 1الغزالي :كتاب محك النظر -دارالنهضة الحديثة -ط - 1بيروت -1966م -ص. 9
- 2الغزالي :املصدرنفسه -ص. 35
- 3الغزالي :كتاب املنقذ من الظالل -ط - 2اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع -بيروت - 1969 -ص - 19ص20
106
كـابن تيمية وابن رشد .إذا حق لنا تحويل كالم الغزالي إلى إشكال فإن األمور
ستتضح أكثر فنقول :هل يمكن للبرهان املنطقي أن يؤتي أكله مع هذه القضايا
امليتافيزيقية ،أو كما سماها في «املنقذ» باإللهيات؟
جعل الغزالي «الفالسفة أصنافا ثالثة :دهريين ،وطبيعيين ،وإلهيين .أما
الدهريون فهم زنادقة؛ ألنهم جحدوا هللا و زعموا ّأن العالم موجود بنفسهّ ،
وأما
الطبيعيون فقد اعترفوا بوجود خالق حكيم ،لكنهم وجحدوا اآلخرة وأنكروا
العقاب والثواب ،وهؤالء في رأيه زنادقة بالرغم من إيمانهم باهلل وصفاته.
وأما اإللهيون وفيهم «سقراط وأفالطون وأرسطو» .فقد ر ّدوا على الدهريين
والطبيعيين ،إال أنهم استبقوا من رذائل كفرهم بقايا لم يوفقوا من التحرر
منها .ولذلك وجب تكفيرهم وتكفير أتباعهم من املتفلسفة اإلسالميين كابن
سينا والفارابي وغيرهم .أما املنطقيات والرياضيات فال تتعلق بأمور الدين بل
هي أمور برهانية .تلك هي الكفة التي وضع الغزالي فيها الفالسفة و كأنه يحدد
موقفا من العلوم ومدى قدرتها على بلوغ الحقيقة من جهة ،ويرفض قدرة العقل
على تأسيس البرهان اليقيني -املنطقي الذي تكون مقدماته يقينية -في مجال
امليتافزياء ،فهذا املوقف يمثل صرح نظرية املعرفة يتقارب مع التصور الذي
تتميز به النقدية عند ايمانويل كانط 1724( Emanuel - Kantم1804 -م) في
ضل سبيله حيث قال« :أنا أقدر أنرسم الحدود التي ال يتجاوزها العقل ...وإال ّ
أتقدم بكل أمان وبتريث دائم ،لكي أعين بشكل نهائي كل مجال العقل الخالص،
في حدوده بصفة شاملة و بشكل كلي مماثل للمبادئ الكلية ،ألن هذا الذي كانت
امليتافيزيقا بحاجة إليه حتى تؤلف نسقها على مخطط صحيح» .1وقد انطلق
في خطبته الثانية إلى تأكيد تبيان التناقض في مسالكهم ،لكن هذه املرة بسالح
مختلف في الشكل مع األول ،و كان ذلك بتأليب الفرق الكالمية على إتباع أرسطو
1 - KANT-E- Prolégomènes toute métaphysique future.tra - louis-guillermit - l - ph - vrin-
paris - 1996 - p19
107 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ُ
فيقول« :فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعا بإلزامات مختلفة ،ألزمهم تارة
مذهب املعتزلة و أخرى مذهب الكرامية ....وال أنتهض ذابا عن مذهب مخصوص
بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم ...فلنتظاهر عليهم؛ فعند الشدة تذهب
األحقاد» ( .)35ذا الذي يقودنا إلى إدراك مقدار الحملة التي أعدها الغزالي في
التصدي للفالسفة.
ّ
إال أنه ليس من نافلة القول أن نسجل على فيلسوفنا املتضلع في املنطقيات
نوعا من التنا�سي لخالفاته مع الفرق الكالمية اإلسالمية في مواجهة الخصوم -
الفالسفة -وإال كان لدينا رأي آخرمن الوجهة املنطقية .مع العلم أنه كان أشعريا
وكثيرا ما انتقد املعتزلة ،والشيعة والخوارج واملرجئة .وهذا يبدو جليا في كتابه
(فضائح الباطنية) وفي كتاب (اإلقتصاد في اإلعتقاد) ،بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛
وهوالتأليب على الفالسفة وطلب البرهان منهم ،والنظرإلى مقدمات البرهان .كما
يقول ويؤكد ذلك دائما« :ذلك ّأن األقيسة املؤلفة من املسلمات واملشهورات،
إنما هي مقاييس جدلية .كما أن املؤلفة من املظنونات حجة خطابية ،واملؤلفة
ُ
مما يوقع إنقباضا أو انبساطا في النفس طريقة شعرية؛ واملركب من الوهميات
مغالطة و أقوال سفسطائية» .1وهذا التقسيم والتصنيف يمثل قانون النقاش
واملقارعة؛ لهذا أصبح من الالزم تمحيص املقدمات من الناحية املادية والصورية.
وهذا ليس أمرا سهال ،خاصة حين تتعلق املسألة (بالقياس املضمر ،والقياس
املوجه) - 2كما سنعرفه الحقا.
108
Jules Tricot يقول (جول تريكو -
« :( 1863 -1962إن املوجهة أقيسة الفالسفة -يف نظر الغزايل
مقدماتها فقط قضيتان موجهتان - ،هيربون من مواقع ضعفهم
وقد اشتهرت دراسة األقيسة املوجهة وهزيمهتم؛ بمربرات واهية
بالصعوبة اشتهارا له ما يبرر بعضه :كادعائهم أن علومهم غامضة
وخطهبم تستعيص عىل أنها كما اسماه املدرسيون (محنة
األفهام الذكية املنطقيين) ،1ولقد رأى فيه (األخضري
983 - 918 -هج 1520 - 1420 -م)
2
نظما في السلم املرونق فقال:
أقس ـ ـ ـ ـ ــام هذي خمسة جليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه وحجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة نقل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــية عقل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيه
وخـ ـ ـ ـ ــامس سفسطة نل ـ ـ ــت األمل خطـ ـ ـ ــابة شعـ ـ ـ ــرو بــرهان ج ـ ـ ــدل
إن الفالسفة -في نظرالغزالي -يهربون من مواقع ضعفهم وهزيمتهم؛ بمبررات
واهية كادعائهم أن علومهم غامضة وخطبهم تستع�صي على األفهام الذكية «هذه
املوضوعات تتوقف على معرفة جادة للرياضيات واملنطقيات؛ وهذه العلوم
الضرورية ليست من جبلتهم .لهذا فاملنطقيات البد من إحكامها وهو الصحيح.
ولكن املنطق ليس مخصوصا بهم؛ وإنما األصل هو الذي نسميه الكالم في (محك
النظر) ..وأن هذه الشروط هي التي وضعوها للبرهان» .فبالنسبة (للغزالي) بعد
والشراح« ..لم يتمكنوا من الوفاء ّ اطالعه عليها عن طريق ابن سينا والفارابي،
ب�شيء منه في علومهم اإللهية» 3رغم أنه قد عرف عن (ابن سينا) أن املنطق نعمة
على العلوم ومصباحها الذي تستنير به بحثا عن الحقائق؛ «املنطق نعم العون
- 1جول تريكو -املنطق الصوري -ط - 2ترجمة -محمود يعقوبي -ديوان املطبوعات الجامعية -1992
-ص 307
- 2عبد الرحمان االخضري :مبادئ علم املنطق -نقال عن متن السلم املرونق -ص 118البيت .115
- 3الغزالي :تهافت الفالسفة ،املصدرالسابق ،ص40
109 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
في إدراك العلوم كلها» .1من هذه املقاربة
نستخلص أن (الغزالي) لم يتعرض لنقد كيف صاغ الغزايل أبو حامد
املنطق وتزييفه ،بقدر ما وضع له أهمية الدالالت املنطقية؟ وهل كان
يقصد من ذلك تهسيل جليلة في العملية الفكرية ،ألن األفكار
تفسد إن لم ترتكز على املنطق ،وألنه العمل املنطيق وتخليصه من
«مهذب طرق االستدالل» .2تلك هي املقوالت امليتافزييقية اليت ركز
الوضعيات التي تحدد مسوغات تهافت علهيا الفالسفة املشاؤون اليت
الفالسفة وتناقضهم على حسب املسألة اعتربها آراء مهتافتة وباطةل
منطقيا؟ التي يتناولها .إال أن القراءة املتأنية لحدود
الفلسفة واملنطق ،في مصادر اللغة
العربية؛ تقودنا إلى ضرورة التدقيق في
مدلول التهافت وإلى أي مدى كان صحيحا؟ .هذا وليس من الحكمة واإلنصاف أن
نقبل على قراءة مشروع الغزالي النقدي قبل أن نعين مدلوالت الكتاب القيم؛ ألن
هذا املوضوع يفرض االستباق ،ودونه ال نفهم ردود نقاده الفلسفية واملنطقية .
لهذا ال نجد مانعا في أن نطرح بعض التساؤالت التي تحدد لنا ولواملعالم الرئيسية
للعنوان الذي طاملا ركز عليه فيلسوفنا الغزالي ،وهذا قد يجعلنا بالطبع نقترب
من وجهة نظرجديدة .كيف صاغ الغزالي أبو حامد الدالالت املنطقية؟ وهل كان
يقصد من ذلك تسهيل العمل املنطقي وتخليصه من املقوالت امليتافيزيقية التي
ركزعليها الفالسفة املشاؤون التي اعتبرها آراء متهافتة و باطلة منطقيا؟
ملا كان موضوع دراستنا من املنطقيات حبذنا اإلشارة إلى ما هو أساس فقط
دون غيره ،تجنبا للوقوع في االجترار إلى مناقشة غير املطلوب وغير املوعود به في
اإلشكال الرئيس للمبحث.
- 1أبو علي بن سينا :الشفاء -املنطق ،املصدرالسابق ،وزارة املعارف العمومية -القاهرة -ط - 2ص15
- 2األعسم :معجم املصطلح الفلسفي عند العرب ،املرجع السابق ،الدارالتونسية للنشر -1991-ص99
110
يبدو من خالل النظرة الدقيقة أن النقد الذي وجهه الغزالي إلى الفالسفة
يعتبر يسيرا إذا ما قيس بمنجزالفكرالفلسفي عبرالعصور ،أي قبل الغزالي كما
أننا نجد األمر ّبين في موافقة (الغزالي) الفالسفة ،في بعض النتائج أوحتى في بعض
املقدمات التي يوردونها ،إال أنه يعود ويرفض أنها تلزم عنها .فمثال نجده يقول في
ّ
(تهافت الفالسفة)« :في بيان عجزهم عن إقامة الدليل على أن هللا واحد وأنه ال
يجوز فرض االثنين» .1وفي قوله « :في تعجيزهم عن إقامة البرهان على أن النفس
اإلنسانية جوهرروحاني قائم بنفسه ال يتحيز» .2أننا نجد إثبات الغزالي هذا يشير
إلى تبنيه للنتيجتين ،ولكن حين نتقدم في التحليل يتبين أنه حاد عن االقتناع
ّ
املنطقي وتأثير أقيسته فيه .ولجأ إلى الحدس ،وأحيانا إلى طريق الشرع .وما يؤكد
رأينا قوله« :لسنا نعترض على دعواهم كون النفس جوهرا بنفسه ببداهة العقل.
ولسنا نعترض على دعواهم اعتراض من يبعد ذلك من قدرة هللا تعالى ،أو يرى أن
ّ
الشرع جاء بنقيضه ،لكننا ننكر دعواهم داللة مجرد العقل عليه و االستغناء
ّ
عن الشرع فيه 3».وإذا عدنا إلى عبارته «فهذا الفن ونظائره هو الذي ينبغي أن
يظهر فساد مذهبهم فيه ،دون ما عداه» .4فوضع اسم التهافت بقصد أن بعض
ما جاء به الفالسفة في نطاق اإللهيات متهافت ،أي متناقض وليس كل ما جاء به
الفالسفة جميعا.
ّ
إن املتتبع يشعر أنه أمام ضرورة منهجية تستدعي تحديد األصول التي بني
عليها تفكيره في غالبيته ،فهو يعتمد على أسس عديدة أبرزها يخلص فيما
اعتمده في بناء فكره ،أي :على معطى الشريعة وتطابق الحدوس معها .وعدم
بأي حال ،وعدم انفصال النظر عن العمل بأي حال .ولقد مخالفة البرهان ّ
111 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
أوضح ذلك جيدا حين قال عن املتفلسفة املسلمين« :املترجمون لكالم أرسطو لم
ينفك عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير وتأويل ...وأقومهم بالنقل والتحقيق
من املتفلسفة في اإلسالم الفارابي أبو نصر ،وابن سينا ،فنقتصر على إبطال ما
اختاراه ورأياه الصحيح ....على رد مذاهبهم بحسب نقل الرجلين».1
ومن هنا يبدوأن الغزالي يعي أن هناك تبديال وتحريفا ألرسطواألمرالذي يوجب
التفسيروالتأويل .لكن نجده يختصرالقول التحقيق األقوم من غيره على األقل،
أقر به صحيحا .وإن كان في وهو ما اختاره الفارابي وابن سينا ،وهذا ال يجعل ما ّ
نظرهما كذلك.
ونحن تعلمنا من دراستنا ملنطق التحقيق ،وأدركنا أن التحقيق بات أمرا
ألن الكثير ممن سلكوا هذا البحر غرقوا فيه إال ضرو يا ،لكنه ليس بالهين؛ ّ
ر
املتثبتين ،والغزالي كان يدرك ذلك ،لهذا اقتصر على االنتقادات املتوارية في
األقوال وقد نستبق األحداث قليال ،إذ إن هذه النقطة بالذات لم يفوتها
فيلسوف قرطبة ،وإنما سجلها على الغزالي وظلت الجرح الذي يتألم منه أتباعه
ومدافعوه فيما بعد .ومع ذلك نجد الغزالي يصف نوع دخوله النقدي فيقول« :ال
دخول مدع مثبت ،وإنما دخول مطالب منك ..وال يدافع عن مذهب مخصوص،
بل نجعل جميع اعتراضات الفرق عليهم إلبا واحدا» .2وبهذا فان (الغزالي) لم
يكن معنيا بالبناء؛ الذي لم يكن يوجد في نظره في غير الجدل والظن .وطاملا
أن األمر كذلك فالرد على الجدل بالجدل واإلقناع على اإلقناع ،بل والرد على
الفاسد بالفاسد .وفي هذا األمرلم يبق الغزالي ثابتا عليه طول مساره ،بل سرعان
ما نالحظ أنه يبدله حسب مقتضيات الوضعية التي يكون بصدد اإلثبات فيها
واإلبطال ،لكن البرهان هنا هو العامل و الرابط املشترك بينهما.
- 1الغزالي ،النقذ من الضالل ،مصدرسابق ،ص 63
- 2نور الدين السافي ،نقد العقل ،منزلة العقل النظري و العقل العملي في فلسفة الغزالي ،مكتبة عالء
الدين ،ط .1صفاقس ،2003 ،تونس ،ص 97
112
من هذا التحليل يبدو أن أبا حامد
الغزالي قد أفرش املنطق و حاول أن كثريون هم الذين يعتقدون
يبسطه حتى يثري النقاش .ويوفر أن الغزايل أبا حامد حني قصد
الذوق يف حقل التصوف، شروط التفكير الصحيح ،و ينبه إلى
ضرورة اإلطالع على أعمال املفكرين هجر العقل واسهتجن نشاطه
االستداليل والحديس والعلماء وتتبع مدا رجها ،وفهم
الكشيف ،أو هو ارتماء
ّ مسالكها قبل الحكم على الرأي أو
مستنجد بعدما نفذت منه
املوقف ،وكم أصبح يشيع هذا العيب
ذخرية العقل فتخىل عن
الخطير ،وابتعد الخطاب عن مقومات
فاعليته األصلية واستقال علن ًا
اإلقناع واالقتناع .فهل نجح في تجديد
الخطاب العربي االسالمي دون العودة
إلى ضبط املفاهيم والحدود ،ورصد األسس املنطقية التي تحمي من اإلنزالقات
وتقود إلى السجال الطوباوي الذي ال يزيد إال خباال.
-الذوق مسلك للحق عند الغزالي
كثيرون هم الذين يعتقدون أن الغزالي أبا حامد حين قصد الذوق في حقل
ّ
الكشفي ،أو هو التصوف ،هجر العقل واستهجن نشاطه االستداللي والحد�سي
ارتماء مستنجد بعدما نفذت منه ذخيرة العقل فتخلى عن فاعليته األصلية
ً
واستقال علنا .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،إذا كان من املمكن إدراك طبيعة
العالقة بين العقل والبرهان ،ألنهما متقاربان في الجنس ،فكيف استطاع أن
يربط بين العلم و الذوق بالرغم من اختالفهما بالنوع؟
ّ
ّإن حجة اإلسالم أبي حامد الغزالي يسلم بالعقل كآلية ضرورية للمعرفة،
والتمييز بين الحق والباطل ،لكن صحة وسالمة هذا العقل وعدم اعتالله ليس
حنكة تنبع من صاحبه ،وإنما هو هبة من هللا وكرم منه .وحين نستقري ما هو
113 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
مبثوث في كتبه التي ّ
تشد إلى بناء العقل
العملي ،نجده في غير ما فقرة يشير أو فهمنا للغزايل يتطلب النفاذ
يلمح من خالل املضمون ،بأن العقل إىل داخل اخلطاب ،خاصة إذا ّ
شرط للذوق .وال نعدو الصواب إن قلنا :تع ّلق األمر بموضوع الذوق
تمثل عصارة مشروع الذي يلزم كل باحث فيه أن ّ
إن هذه النتيجة
يلج يف صميمه ويتعايش
صاحب اإلحياء .هذا ،وضبط خيط
معه ،لعهل يبلغ مسكل البحث
الحقيقة عند الغزالي إن كان واضحا
عن األنموذج األمثل الذي
في دعوته إلى تحكيم العقل كما جاء في
ارتآه الغزايل للخالص من
«املعيار» و«املحك» ،فإن سبره عسير في
احملن اليت هتدد املؤمن للزج
كتبه العلمية العملية كـ ـ ـ «ميزان العمل»،
به يف غياهب الهشوة والفنت
و«القسطاس املستقيم» .ففهمنا للغزالي
-بالنسبة لي -يتطلب النفاذ إلى داخل
ّ
الخطاب ،خاصة إذا تعلق األمربموضوع الذوق الذي يلزم كل باحث فيه أن يلج
في صميمه ويتعايش معه ،لعله يبلغ مسلك البحث عن األنموذج األمثل الذي
ارتآه الغزالي للخالص من املحن التي تهدد املؤمن للزج به في غياهب الشهوة
والفتن ما ظهر منها وما بطن ،وتعبئة الذات بالرياضة والتأمل في مخلوقات ﷲ
سبحانه وتعالى ،وكل ذلك ليبلغ مرتبة الخالص واليقين ،إنه «هو الذي ينكشف
فيه املعلوم انكشافا ،ال يبقى معه ريب ،وال يقارنه إمكان الغلط والوهم».1
ُ ُ
فالحقيقة التي تثلج الصدر وتطمئن القلب السليم تتجاوز ذات الجسم والعالم
امللون لتشرف على األنواراإللهية والحقائق اللدنية حين ينكشف الحجاب املادي َّ
عند العروج واالكتمال «ألن مجاهدة النفس ليست ممارسة أخالقية في جوهرها
بقدرما هي ممارسة معرفية تريد أن تجعل آليات اإلدراك الجسدية والعقلية في
114
حالة انسجام و انتظام» .1فالحق ال يلتصق بمظهراألشياء ،كما أن العقل ال تفتح
ّ
له أبواب املعرفة بتحديد موضوع أو تسطير منهج ،وإنما هو ثمرة تجربة روحية
تحقق طهارة كلية وصفاء ،تنعكس فيه الحكمة النورانية ،الحكمة التي تتدفق
حين ال تكبحها الصفات املذمومة ،وتتطلع النفس إلى الطهارة الروحية ال لتتذوق
لذة الحياة الحسية التي ال تتعدى الشهوة الطبيعية ،بل لتظفر براية املشاهدة
لنيل جود هلل ،ويعتبر الغزالي ّأن هذه املشاهدة هي لون من املكاشفة ،إذ تحمل
املريد الذي جاهد وصبر أسمى درجات املعرفة .وهي الغاية النهائية التي يسعى
وراءها ذوو الشعور املرهف.
هذا ،وحتى ال نذوب في كنف املفاهيم الصوفية و نحيد عن أصل موضوعنا.
وأيضا حتى ال نن�سى أن الغزالي كان همه العلم اليقيني في الوقت الذي تفاقمت
فيه االنقسامات الفكرية وزاد لهيب الصراعات واالضطرابات السياسية ،البد
أن نحدد منزلة آراء الغزالي في ساحة الفكر اإلسالمي ،إذ ّإن الدعوة إلى مسلك
الذوق وطهارة النفس ،ورياضة الروح ،والزهد ...كدالالت ،لم يوظفها أبو حامد
ّ
الغزالي كمحموالت للعابد كما فهمها بعض الدارسين ،وإال لزم التصوف عن
شقهالعبادة ،وهذا الذي ا د اه حجة اإلسالم في بداية بنائه ملشروع مزدوجّ ،
زر
ّ
األول :إصالحي إحيائي للنفوس التي ارتسمها املرض ،ودحرجها إلى غياهب املادة
واألنانية وما يترتب عنها من تسخيرآليات لنصرتها ،وهذا نضعه في خانة ّ
الصراعات
االجتماعية التي ما فتئت أن أخذت الصبغة السياسية ،فكتاب «إحياء علوم
الدين» ينبئ باألوبئة واألمراض التي كانت تنخر جسد املجتمع اإلسالمي ،وما
احتواه من تطعيم وأساليب عالجية مركزة ،أو على األقل ،يمثل دعوة لكلمة
سواء ،لتبصيراملخطئين ،وترشيد الذين غررت بهم مالذ الدنيا وزخرفها ،وتعبئة
الفرد املسلم بطعم يمكنه من الصمود أمام الخصوم.
115 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ّ ّ
الشق الثاني :فهو منهجي وإن شئنا قلنا إنه ابستمولوجي دقيق ،وهذا أما
الذي قصدناه في بحثنا هذا ،ف«ميزان العمل» هو التفاتة إلى املا�ضي الساكن
في أعماق أنفسنا لتعبئة الذات ودفعها نحو اإلبداع ،إبداع عقل يريد أن يصنع
لنفسه وألمته منهج تفكير خاص ،ورؤية خاصة كدليل على استفاقته الخاصة
في خضم الحركة الفلسفية الجديدة .فالقضية التي أثارها أبو حامد الغزالي في
شطر مشروع الذوق -في نظري -ليس ارتماء في أحضان املتصوفة أو عجز عن
حل مشكلة الصراعات ،كما يعتقد بعض الدارسين الذين استخلصوا نتائج
من مقدمات منقوصة في شروطها ،بل هو ثورة إبستمولوجية حقيقية بالنسبة
إلى أحواله وبيئته ،ال تفرق عن ما فعل رونيه ديكارت R -Descartesبمقالة
الطريقة ،وغاستون باشالر G - Bachlardبتجديد املعرفة العلمية ،إذ تظهر
معالم هذا الطرح الجديد عن الغزالي في تمييزه بين السعي إلى املعرفة الذي يمثل
الجهة املشتركة بين الباحثين وبين السعي إلى توفير شروط املعرفة ،وهذا الذي
انفرد به حجة اإلسالم عن باقي املتصوفة .فالنصوص التي أوردها في «ميزان
العمل» تتجه نحو هذا الرأيّ ،
«ألن تأثير العمل إلزالة ما ال ينبغي ،والسعي في
ّ
املحل ملا ينبغي( ...وال يتأتى تحصيل ما ينبغي وإزالة ما ال ينبغي ،شرط لتفريغ
ّ
ذلك إال بالعمل الذي يعني) كسرالشهوات بصرف النفس عن صوبها الى الجنبة
العالية ،ليمحي عن النفس الهيآت الخبيثة والعالئق الردية التي ربطتها بالجنبة
السافلة.
إن الذي نستخلصه من هذا القول ،هو أن العمل صورة للذوق والطهارة
ّ
الروحية ،فال تكتمل الحقيقة املطلوبة إال في كنفها ،أليست هذه دعوة إلى
املوضوعية بروح علمية عالية ،ولو كان املجال يتسع ّ
لبينا األبعاد التي يرمي إليها
ذاك امليزان.
116
خاتمة
بعد جولة عجلى في فكر الغزالي الذي يترجمها منتوجه الوافر الغزير ،يزيد
تأكيدنا على صعوبة فهم نصوص الغزالي خارج نسقها الخاص ،وهذا الذي أوقع
الكثير من الباحثين في إنزال حجة اإلسالم منزلة غير التي طمح إليها أو قصدها في
مشروعه .فالغزالي حين انتقد الفالسفة لم يعلن حربا على العقل بل هي دعوة إلى
إصالحه ،وتبدأ من تبيين حدوده ،وكل تجاوز لتلك الحدود هو مخاطرة ومغاالة
ينبذها الشرع و الحق ،وهذا نفسه الذي دعا إليه الفالسفة في العصر الحديث
على غرار ديكارت وكانط و غيرهم ،أما الذوق الذي رسمه في الجبهة الصوفية إن
ّ
هو إال عودة إلى الذات لإلقرار بدورها في حالة الكدرة وحالة الصفاء والطهارة
ألن الجري وراء العقل واملعارف خاصة في عصرنا اليوم ،فيه خطورة كبيرة على
اإلنسان واإلنسانية ،بل هوعودة إلى وثنية جديدة ،وثنية األنساق ،ونتائج العلوم
التي أبهرت الطرف املادي في الحضارة الجديدة ،فما أحوجنا إلى تربية روحية
توقظ الذات وتوقف األنانية واملادية عند حدها ،للكف من العبث باإلنسان وما
ّ
يحدث اليوم في العالم إال نزر قليل من تعكر النفس وانطوت عليه .فالعقل ال
يتعارض مع الذوق في فكرالغزالي بل هو شرط ضروري له .و لهذا نكرر دعوتنا إلى
العودة إلى الذات فهو مسلك للخالص .
117 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
املراجع و املصادر
1- Ibrahim Madkour- l’Organon d’Aristote dans le monde Arabe-
second ed – libraire philosophique J-Vrin-1964
-2تاج الدين السبكي ،طبقات الشافعية ،تحقيق ،محمود محمد الطناحي ،ج،6
ط.1964 ،1
-3أبو حامد الغزالي ،مقاصد الفالسفة ،تحقيق سليمان دنيا ،ط 2داراملعارف،
القاهرة1961 ،م ،واملنقذ من الضالل ،تحقيق موريس بويج ،دار األندلس،
ط ،10نشرة فريد جبر.1991 ،
- 4أبوحامد الغزالي ،معيارالعلم في فن املنطق ،داراألندلس ،بيروت لبنان -دون
تاريخ . -
-5الغزالي - :املنقذ من الظالل -ط - 2قدم له -فريد جبر -اللجنة اللبنانية
لترجمة الروائع بيروت .1969 -
-6الغزالي :مقاصد الفالسفة ،ط ، 2داراملعارف -القاهرة -تحقيق د /سليمان
دنيا -
-7أبو حامد الغزالي ،معارج القدس ،في معرفة مدارج النفس ،املكتبة التجارية
الكبرى ،القاهرة ،دون تاريخ.
-8أبو حامد الغزالي ،املستصفى في أصول الفقه ،ج ،1الطبعة األميرية ،بوالق،
مصر1322 ،هج.
-9أبو حامد الغزالي ،االقتصاد في االعتقاد ،تحقيق عثمان عيش ،دار االتحاد
العربي للطباعة .1973
-10أبو حامد الغزالي ،ميزان العمل ،تحقيق محمد مصطفى ط ،1دار املعارف
القاهرة1964 ،م.
-11رفيق العجم :املنطق عند الغزالي -املكتبة السلفية -دار املشرق -بيروت
-الطبعة.- 1
118
-12جميل صليبا -املعجم الفلسفي -ج -1دار الكتاب اللبناني -بيروت -لبنان-
. 1964
-13تهافت الفالسفة ،نشرة األب بويج ،املطبعة الكاثوليكية ،بيروت 1962م.
ونشرة علي ملحم ط ،1دارو مكتبة الهالل ،بيروت 1994م.
-14ويل -ديورانت -قصة الحضارة -ج -3مطبعة لجنة التأليف القاهرة -1964 -
-الكرامية :أصحاب عبد هللا بن كرام توفي سنة 255هج ،قالوا بالتجسيم
والتشبيه ،واتهموا على ر�ضي هللا عنه -انظر الشهر الستاني -امللل و النحل -ط2
.2002 -
-15األميراالعسم :املصطلح الفلسفي عند العرب -دارالتونسية للنشر-1991 -
-16الغزالي :كتاب محك النظر -دارالنهضة الحديثة -ط - 1بيروت 1966 -م-
17 -KANT-E- Prolégomènes toute métaphysique future.tra-louis-
guillermit-l-ph-vrin- paris-1996.
- 18جول تريكو -املنطق الصوري -تر محمود يعقوبي -ص295و عند الساوي:
(هو قياس حذفت مقدمته الكبرى إما لظهورها أو االستغناء عنها .و أما إلخفاء
كذب الكبرى - .البصائرالناصرية .-
-19جول تريكو -املنطق الصوري -ط -2ترجمة -محمود يعقوبي -ديوان
املطبوعات الجامعية - 1992 -
- 20عبد الرحمان االخضري :مبادئ علم املنطق -نقال عن متن السلم املر ونق-
ص 118البيت .115
-21أبو علي بن سينا :الشفاء -املنطق ،املصدرالسابق ،وزارة املعارف العمومية
-القاهرة -ط. -2
-22نور الدين السافي ،نقد العقل ،منزلة العقل النظري والعقل العملي في فلسفة
الغزالي ،مكتبة عالء الدين ،ط .1صفاقس ،2003 ،تونس.
119 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
احلقيقة اإلبراهيمية بني الثبات
والتحول عند ابن عريب
د .أحمد كازى
مقدمة:
تشكل تجربة املشاهد وقفة أساسية في بناء خطاب عرفاني ،موجه بفعالية
الشعور كأعلى مستويات بناء الحقائق وتجسيدها .ويستدعي هذا السفر
والترحال في مدارج ومسالك العبور ما بين وجوه الحقائق ،وما بين الظاهر
والباطن ،وما بين الخفاء والتجلي؛ ألن الحقيقة هي بدون وجه محدد ،وثابت
ونهائي ،بل ذات وضعيات ومراتب مختلفة ومتباينة .والغرض املنهجي في األفق
الصوفي ،هو إمكانية فتح املنغلق ،بإعادة تمثل الحقائق في تحوالتها.
وفي املتن «األكبري» ،يشكل «فصوص الحكم» «البن عربي» نصا جامعا
ملجموعة من املشاهد يستحضر من خاللها حكم األنبياء وأسرارهم أو حكمتهم
الخفية .وذلك بإبراز مراتبهم الوجودية ،وكأننا في هذا النص أمام تاريخ لألديان
بحقائق أصحابها ،ومكانتهم الوجودية .فإذا كان مبحث األسماء عند «الشيخ
األكبر» ،هو للوقوف على األلوهية في مرتبتها الجامعة ،فإن مبحث الحكمة
اإللهية املجسد في الكلمة النبوية ،هو لحد مراتب الحقائق ،ومعانيها ،بوضعها في
صور ،وتقريبها من خالل حياة أصحابها ،أو من خالل تجربتهم الحية .وذلك من
أجل استخالص املعاني الرمزية املقربة للحقيقة الباطنية والخفية .ومن هنا تثار
اإلستفهامات التالية :هل الحقيقة متضمنة في الشكل ،أم ثاوية وراءه وخفية في
120
مبطونه؟ وما أصل الجمع بين الثبات
والتحول في التجارب النبوية وحكمتهم؟ إذا كان مبحث األسماء عند
يستحضر «ابن عربي» مفهومي «الشيخ األكرب» ،هو للوقوف
عىل األلوهية يف مرتبهتا الثبات والتحول ،بشكل جلي في الكلمة
اإلبراهيمية ،أي في «فص حكمة الجامعة ،فإن مبحث الحكمة
اإللهية اجملسد يف الكلمة
مهيمية في كلمة ابراهيمية» .واإلشكال
النبوية ،هو لحد مراتب
املركزي املحرك لهذا الفص ،وهو حول
احلقائق ،ومعانهيا
كيفيات الجمع بين الثابت واملتحول:
فهل إمكانية بناء الحقيقة يتطلب
الجمع بين هذين املفهومين املتضادين «الثبات والتحول»؟ وهل امكانية الجمع
بين هذين املفهومين في التجربة اإلبراهيمية ،هو ما أدى إلى اعتبار هذه الحقيقة
ذات قوة مهيمية -فناء -على الكل؟
لبيان هذه اإلشكاالت ،البد من البحث عن مكانة إبراهيم في مجتمعه
وعالقاته مع قومه باعتباره أصل الكل دينيا ووجوديا ،وأصل الهويات الدينية،
دون االلتصاق بهوية محددة ونهائية أو منغلقة على ذاتها .إال أن موضوع الهوية
الدينية ،يؤدي بنا إلى البحث عن أصل الدين في السياق العرفاني األكبري :فإذا
كانت األسماء اإللهية بتعددها املختلف ،هي الحاكمة وجوديا وكونيا ،فإن هناك
ً
تشريعا لالختالف الهوياتي دون التضحية بالدين الحق أو حقانية الدين .ألن ما
يتجلى في الكون هو األسماء اإللهية.
- 1األسماء اإللهية وظهور الدين.
يعتبر املعنى الروحي للدين ذلك الطريق املمكن الستبعاد وهم الهوية الواحدة
والثابتة .ألن هذا املعنى األخيرهو أصل االنغالق املعرفي والوجداني ،وهو ملتصق
بالفهم الظاهري للحقيقة والوجود.
121 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
لهذا فروح الدين ،هو إثبات للدين
روح الدين ،هو إثبات
الحق ،الجامع بين كل الحقائق واألديان،
لدلين احلق ،الجامع بني كل
وهوطريق للتواصل والحوارالبين إنساني،
احلقائق واألديان ،وهو طريق
والبين ديني ،وبهذه الروابط البينية،
للتواصل واحلوار البني إنساين،
يتم انفتاح أطراف العالقة اإلنسانية
والبني ديين
والوجودية ،لكن بعد إخراج الهوية من
ضيقها ،والحقيقة من حصرها املحدود
في بعدي الكفرواإليمان .يعبر «ابن عربي» عن هذا االنفتاح العقدي قائال:1
إذا ل ــم يكن دي ـ ـ ـ ـ ـ ــني إلى دينه داني لقد كنت قبل اليوم أنكرصاحبي
فم ـ ـ ـ ـ ـ ــرعى لغزالن ودي ـ ـ ـ ـ ٌـر لرهبـ ـ ـ ــان لقد صارقلبي قــابال كل ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــورة
وبي ـ ـ ـ ـ ـ ــت ألوثان وكع ـ ـ ـ ـ ـ ــبة طائ ـ ـ ــف وألـ ــواح توراة ومصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــحف قرآن
ركائبه ،فالح ـ ـ ـ ـ ــب ديني وإيم ـ ـ ـ ـ ـ ــاني آدين بدين الح ـ ـ ـ ـ ـ ــب أنـى توج ـ ــهت
ما يمكن استنتاجه من هذا القول ،هو أن الدين عند «ابن عربي» ،يتحدد من
منزلة االعتقاد ،والذي يشكل بؤرة أساسية لتمثل الحقائق بمعانيها ،ودالالتها
النسبية ال اإلطالقية ويستدعي هذا توسيعا لحقل االعتقاد ،حتى يشمل
ويتضمن ما يسميه «الشيخ األكبر» «بآلهة االعتقاد» ،كتشريع لدين الحوار،
والتآزر والتواصل ،والتعارف ،وبالتالي املحبة ،املعبر عنه في الحقيقة اإلبراهيمية
ّ
«بالخلة» كمحو للنزاع املمكن بين االعتقادات ،وتحرير أصحابها من وهم الهوية
الثابتة املضاءة «لدين الحب» :فما املبررات املؤسسة لهذا االختالف املمكن
بين االعتقادات؟ إن أساس االختالف هو الحقائق األسمائية املتعددة بمعانيها
الوجودية ،وتأثيرها الكوني ،إال أنها في نظر «الشيخ األكبر» أصل الدين ،فهي
جذوره الوجودية ،بحاكميتها أو قوتها الكونية في تدبير الوجود اإلنساني ،وهو
122
بهذا ينتصر ألسماء التشبيه أكثر من أسماء التنزيه .إال أنه يعمل على الوصل
الكمل من الرجال ،ومن بينهم والجمع بينها عبر الصورة اإللهية ،املجسدة في ّ
األنبياء والرسل واألولياء .والغرض من هذا التجسيد هو تحيين لألسماء اإللهية،
في الحياة والوجود ،وبالتالي العالم .وهذا التحيين يتم بالخيال ال بالعقل؛ ألن
هذا األخير ينتصر أكثر لصفات التنزيه ،أما األول فأميل لصفات التشبيه .وبهذه
األخيرة يكون القرب ،يقول «وليام شتيك» «« :»William chitticفالقرب من
هللا ،هو معرفة وتحيين لصفات الحق كأنها صفاتك ،والبعد هو أن تكون تحت
1
سلطة صفات التنزيه .فسعادة الناس هي بخيالهم املسيطرعلى عقولهم».
إن جوهر الدين هو تحقيق لرابطة القرب كتعارف ،وأنس باآلخرين أو شعور
بوجودهم .وأعلى مستويات هذا الشعور هوالقرب من هللا .يتطلب هذا االتصاف
بأوصاف الحق ،وذلك من أجل تحيين وتجسيد للصفات اإللهية في بناء العالقة
الوجودية بين الخالق واملخلوق -اإلنسان -ورابطة القرب هي انتصار للصفات
الجمالية ،وللحوارعلى النزاع ،وللوحدة على الخالف والتنافر ،لهذا فالدين يرتكز
على فكرة التوحيد ،والتي تنتزع منها كل الحقائق األخرى ،لكونه جامع لكل األسماء
في اسم واحد -هللا -ومرتبة جمعية واحدة -األلوهية . -
إن أصل الدين هو األسماء اإللهية بحاكميتها الكونية ،والغرض من ذلك هو
خلق النظام والترتيب.
ألن املمكنات كما يرى «ابن عربي» في حاجة إلى نظام كوني للحفاظ على أعيانها.
ومن أجل تلبية طلب املمكنات اتخذ االسم الجامع -هللا« :وزيرين يعينانه على ما
أمربه :الوزيرالواحد ،االسم املدبر ،والوزيراآلخراملفصل .قال تعالى يدبراألمر،
يفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ...وجعل هللا ذلك على قسمين :قسم
يسمى سياسة حكمية ،ألقاها في فطر نفوس األكابر من الناس ،فحدوا حدودا،
1- chittic (W.C), imaginal world, IBN ARABI and the problem of religious diversity, New
york, 1994,p 169.
123 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ووضعوا نواميس ،بقوة وجدوها في نفوسهم ،كل مدينة ،وجهة ،وإقليم بحسب
ما يقتضيه مزاج تلك الناحية وطباعهم لعلمهم ما تعطيه الحكمة .فانخفضت
بذلك أموال الناس ،ودماؤهم وأهلوهم ،وأرحامهم ،وأنسابهم ،وسموها نواميس،
ومعناها أسباب خير.1»...
- 2إن فعلي التدبيروالتفصيل أعطيا بعدين:
ـ الفعل األول -التدبير -وتحدد في وجود نواميس ،خاصة بالشؤون الحياتية،
واليومية واملدنية ،وواضعوها هم األكابر -العقالء -أصحاب العقول ،وكالمهم
حق ومتضمن لحكمة.
ـ والفعل الثاني -التفصيل -به تم بناء الحقيقة الكونية بتفصيالتها املتعددة،
وتطلب هذا معرفة ،متخطية للعقل .وشكلت مباحث هذا األخير -العقل
-بنواميسه وقوانينه التدبيرية ،بداية التفكير في الدين .إال أن هذا املطلب -
مطلب العالم واملمكنات .-وقف عند حد معين ،وهو املعرفة بصانع هذا العالم
أو محركه أو فاعله ،وهو الواحد .كما أن استكمال هذه املعرفة تطلب وجود
خطاب ديني ،ال يقتصرعلى التدبيرالعقلي ،بل يعتمد التفصيل «املا فوق عقلي»
للحقائق الكونية واملوجه باالعتقاد القلبي .يقول «الشيخ األكبر» عن بداية
ظهور «الدين الحق» «:فهذا حد العقل ،فبينما هم كذلك إذ قام شخص من
جنسهم لم يكن عندهم من املكانة في العلم بحيث أن يعتقدوا فيه أنه ذو فكر
صحيح ،ونظر صائب ،فقال لهم أنا رسول هللا إليكم ...فقالوا هل لك دليل على
صدق ما تدعيه ،فجاءهم بالدالئل 2.»...إن خطاب «ابن عربي» هو صميم في
املعنى الحقاني للدين ،بل لروح األديان ،وهذا ما بلوره في الحقيقة اإلبراهيمية،
بهيمنتها وقوتها على الدين الطبيعي -الوثني .وهذا الدين الحقاني ،هو في نظره
إحاطة بمطالب العقل وما فوقه .فهو حقائق متضمنة للعلم بالعالم -املمكنات
-1ابن عربي ،الفتوحات املكية ،الباب .66
-2نفسه.
124
-وما وراء العالم -العالم اآلخر :-فهل
استعادة «ابن عربي» ،لتاريخ األنبياء في استكمال هذه املعرفة تطلب
«فصوص الحكم» ،هي إعادة تصويب وجود خطاب ديين ،ال يقترص
لحقائقهم بمنظور عرفاني -ذوقي؟ وهل عىل التدبري العقيل ،بل يعتمد
الغرض هو التأريخ للحقائق الحكموية التفصيل «املا فوق عقيل»
للحقائق الكونية واملوجه الثاوية وراء املعاني الظاهرية؟ أال
باالعتقاد القليب يمكن اعتبار الدين خطابا مسترسال
ومستمرا في ظهوره وحضوره مع وارثي
هذه الحكم من الكمل من الرجال؟
وهل استمرارية روح الدين مع هؤالء الكمل ،هو ضمان الستمرارية حاكمية
األسماء اإللهية ،وحضورها الكوني ،بتدبيرها للحياة ،وتفصيلها «للدين الحق»
و«اإلعتقاد الحقاني»؟.
- 3حقانية الدين أو حكمويته.
يعتبر «فصوص الحكم» أهم مؤلف نسقي ،عمل من خالله «ابن عربي» على
َ َ
الحك َم
الحكم املنزلة على قلوب األنبياء عليهم السالم :فهو إلقاء رباني؛ ألن ِ
بيان ِ
منزلة من الحضرات اإللهية العالية املطلقة ،إلى مرتبة التقييد والتعبير :أي من
حضرات إلهية إلى إنسانية.
ونزول الحكم على قلوب األنبياء ،يتم بالتدريج ،فهو نزول على الروح (العقل
األول) إجماال ،ثم على القلب بالتفصيل (كمعارف عملية أخالقية) .وفي التقليد
العرفاني ،فالقلب يبقى محال لحقائق جسمانية ،وقوى مزاجية ،وحقائق
روحانية ،وخصائص نفسية .ولهذا «ففصوص الحكم» هو بيان للحكم النازلة
على قلب كل نبي ،ألن معناها الطاهر ،هو كونها نزلت بحسب مصالح أمته،
وشعبه .وهي بهذا ترتيب لألشياء ووضعها في مواضعها ،يحدد «ابن عربي» هذا
125 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
1
قائال:
في أعي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن األكـ ـ ــوان واألس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــماء إن الحكـ ـ ـ ـ ـ ــيم م ــرتب األشي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء
في الحكم ـ ــة املـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزدانة الغ ــراء يجري مع العلم القديم بحكـ ـ ـ ـ ــمه
في حـ ـ ـ ــالة الس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراء والض ـ ـ ـ ـ ـ ــراء فتراه يعط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي كل �شيء خلق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه
في بدء م ـ ــا تهوى م ـ ـ ـ ـ ـ ــن األشيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء وع ـ ـ ـ ـ ـ ــن العوارض ال يزال منزه ـ ـ ـ ـ ــا
في كل ما يجري م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن األه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواء لكن ـ ـ ـ ــه املعص ـ ـ ـ ـ ــوم في أفع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاله
لتسمية «فصوص الحكم» داللة عرفانية :فللفص مظهر ،وهو صورته،
املثيرة ،بنقوشها ،وله أيضا خفاء واملمثل في املعنى أو املضمون الباطني .يقول
الشارح «عبد الرحمان جامي» عن فص ال�شيء بأنه« :خالصته وزبدته ،وفص
2
الخاتم ما يزين به الخاتم ،ويكتب عليه اسم صاحبه».
إن رمزية الخاتم هي بحقيقته املدورة أوهيئته ،أما هويته فهي باالسم املنقوش
على الهيئة ،والدال على صاحب التوقيع .هكذا نكون أمام معنى مادي ظاهري،
وهو الهيئة ،ومعنى روحي أو باطني ،واملمثل في منزلة صاحب الخاتم .والفصوص
كخطاب إلقاء ،هو جامع لحقائق
األنبياء ،وبالتالي لحكمهم ،وصوال إلى الفصوص كخطاب إلقاء ،هو
الحكمة التركيبية ،أو «الفص الفردي» جامع حلقائق األنبياء ،وبالتايل
الجامع للكل ،كحقيقة ختمية أو لحكمهم ،وصوال إىل الحكمة
«حقيقة الحقائق» .لهذا فالحكمة غير الرتكيبية ،أو «الفص الفردي»
منفصلة عن مرتبتها الكونية أومضمونها الجامع للكل ،كحقيقة ختمية
أو «حقيقة احلقائق» األلوهي ،يقول «عبد الرحمان جامي»
معرفا الحكمة اإللهية ،بكونها« :العلم
- 1ابن عربي ،الفتوحات املكية ،الباب السادس والعشرون.
- 2جامي (عبد الرحمان بن أحمد) ،نقد النصوص في شرح نقش الفصوص ،مقدمة وتصحيح وتعليقات
وليم شتيك ،طهران ،1977 ،ص .82
126
بحقائق األشياء ،وأوصافها ،وأحكامها ،على ما هي عليه ،وباألقاويل واألفعال
اإلرادية على وجه يقت�ضي بسدادها .واإللهية اسم مرتبة جامعة ملراتب األسماء
1
والصفات كلها».
يشكل املضمون الجمالي ،الكامن في الفص الخاص بحكمة من الحكم مقدمة
للمعنى الجاللي الخاص بمرتبة من املراتب .ألن هوية صاحب الحكمة هي من
خالل شكلها -النقش -وكلمتها .والحكمة بهذا املعنى هي تشكيل وتركيب بين
املعنى الجمالي والجاللي :فاألول محدد لسرالفص ،والثاني ملظهره ،وأعلى تشكيل
للحقيقة هو بقوتها على اإلعالء من شأن الهيئة -الصورة -ورمزها أو مضمونها
الحامل لسرصاحبها.
ألن كل كلمة نبوية مرتبطة أو دالة على سر معين وحقيقة محددة .-ولهذا جاء
مؤلف «فصوص الحكم» ،قوال أميل للمعنى الباطني ،وبالتالي الرمزي ،والغرض
هو بيان الحكمة اإللهية املوزعة ،واملنتشرة في الوجود ومراتبه .واملجسدة في
حقيقة الحقائق أو الحقيقة املحمدية الجامعة لحقائق األديان السابقة -
الحتمية -
إن الخاتم بصورته املدورة ،ذو داللة رمزية ،يسعى من خالله «الشيخ األكبر»،
إلى تجسيد ،وتشكيل للكون وسره ،متخذا من املناسبة النبوية أساس ذلك.
يقول «عبد الرحمان جامي»« :فإن الفص كما أنه قد انطوى على قو�سي حلقة
الخاتم ،واشتمل على أحدية جمعها ،وكما أنه يختم بما ينطبع فيه من الصور،
ويعرب عن كليتها ،وكما أنه تابع لقالبه من الخاتم في التربيع ،والتثليث ،والتدوير،
وغيرها ،ومستتبع ملا يرد عليه ،كذلك قلب اإلنسان الكامل له االنطواء على قو�سي
الوجوب واإلمكان ،واالنطباق على أحدية جمعها ،وله أن يعرب عما فيه من صور
الحقائق وينبئ عن أحدية جمعها ،وكذلك له صورة تابعة ملزاج الشخص ،كما
127 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
1
أنه له أن يستتبع تجلي الحق ويصوره بصورته».
يعتبرالفص موضوعا النطباع الصورة ألنه يتزين بها ،وألنها منقوشة في هيئته.
ولهذا ،فالفص جامع بين الحكمة اإللهية ،والكلمة النبوية ،وبهما يتم تجسيد،
وتصوير الحقائق اإللهية ،بتتبع التجليات وتحوالتها .ألن «فصوص الحكم» ،هو
وضع للحقائق في قالب من التشكيل ،من أجل تقريبها لألذهان عبر حكم األنبياء
الخاصة بمراتبهم .وتعتبر حقيقة الحقائق (الحقيقة املحمدية) أكمل الحقائق
بقوتها النيرة ،األولى في الوجود واآلخرة في املعرفة.
إن «فصوص الحكم» بمضامينه العرفانية ،يقدم رؤية للدين ،فهو تأريخ
لألديان من خالل تمثله لألنبياء وحكمهم ،وبالتالي مكانتهم ،داخل مجتمعهم،
ومنزلتهم الروحية .ومعالجة وضعيات هؤالء األنبياء تمت حسب ترتيب تاريخي،
بدءا من «آدم» إلى «محمد ﷺ» .والغرض عنده من ذلك ،هو فهم سر كل نبي
من األنبياء بيانا لقوة الدين ،في تدبير الحياة واملجتمع ،وذلك من خالل الوجه
الباطني والروحي .وهذا الوجه الحكموي ،هو خفي ،وغير معلن عنه .لهذا فما
قدمه هؤالء األنبياء ملجتمعهم هو الوجه الظاهري ،وانطالقا من هذا التوجه
العرفاني ،فكل من األنبياء مجسد لوضع ومدافع عن قضية .وما يجمع بينهما
في نظر «الشيخ األكبر» ،هو الدفاع عن الحياة بإعطائها معنى حقاني :فما مكانة
الفص اإلبراهيمي ،في هذا األفق العرفاني؟ وهل الحكمة اإلبراهيمية متميزة،
بقوتها كأصل مؤسس لدين الخلة؟ أال يمكن القول إن القوة املهيمنة للحقيقة
اإلبراهيمية هي بتخطيها لدين الطبيعة -الوثني ،عبر الجمع بين الثبات املكاني،
والتحول اإلعتقادي؟
- 4املكانة الروحية للنبي إبراهيم.
ظهور إبراهيم عليه الصالة والسالم زامن لحظة حكم «حمورابي» ،وذلك أكثر
-1نفسه
128
من ألف سنة قبل امليالد .وأدى دخول
«حمورابي» مدينة «أور» التي يحكمها «فصوص الحكم» بمضامينه
«رم -سن» في إقليم ما بين النهرين ،إلى العرفانية ،يقدم رؤية لدلين ،فهو
مغادرة «النبي إبراهيم» البالد ،رفقة تأريخ لألديان من خالل تمثهل
عائلته .يقول «توملين»« :لقد كان من لألنبياء وحكمهم ،وبالتايل
مكانهتم ،داخل جمتمعهم، بين رعايا «رم -سن» رجل ما زالت ثالثة
ومزنلهتم الروحية .ومعاجلة
من أعظم ديانات العالم تتطلع إليه
وضعيات هؤالء األنبياء تمت
على أنه شيخها الجليل الوقور ،واألب
حسب ترتيب تارييخ ،بدءا
الروحي لعقيدتها .وكان إبراهيم ،وهذا
من «آدم» إىل «حممد ﷺ»
هو اسمه ،يقطن مدينة ذكرها الكتاب
1
املقدس ،على أنها أور الكلدانيين».
يعتبر «النبي إبراهيم» ،أبا لثالث ديانات ،واألهم في ممارساته التعبدية،
أنه تخلى عن ديانات أجداده ،وعائلته ،بابتعاده عن الحقل العقائدي -الوثني
السائد في مجتمعه .واعتقد بإله خاص وسري ،ولم يفصح عنه ،وأهم لحظة،
واجهها «النبي إبراهيم» ،وهي تلقيه نداء من اإلله ،للتوجه ،وقومه إلى بالد
كنعان ،إلنشاء وطن ومجتمع جديد.2
هناك إذن ،اختالف جذري بين «النبي إبراهيم» وعائلته ،واملتمثل في طبيعة
اإلله :فإله العائلة يعيش معها في نفس املكان ،وإله إبراهيم غير مرئي ،ويوجد
في كل األمكنة .وهذا اإلعتقاد املحدود ،املطالب واألهداف لدى قومه أدى إلى
انتصارهم للثبات بجانب اإلله .أما األفق الوجودي للنبي إبراهيم فمبني على
مسلك مضاد ،قائم على «الحل والترحال» في األمكنة :فإذا كان الوضع العقدي
إلبراهيم عليه الصالة والسالم ،قد عرف تصدعا ،وصراعا مع قومه ،فما مكانته
-1توملين ،فالسفة الشرق ،ترجمة ،عبد الحليم سليم ،مراجعة ،علي أدهم ،داراملعارف ،ص .99
-2املرجع السابق ،ص .106
129 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الرمزية والوجودية كأصل لكل األديان؟
إن مصدر الدين يف هذا وأية روابط روحية تجمعه بمختلف
األنبياء؟ وما كيفيات تمثل «فصوص السياق العرفاين ،وهو حاكمية
الحكم» «البن عربي» لهذه الروابط األسماء ،وهو استعادة للحقائق
النبوية ،ومعانهيا .ولهذا جاء الوجودية بين األديان عامة؟
إن مصدر الدين في هذا السياق «فصوص الحكم» جامع ًا بني
الحكمة والكلمة ،بني املضمون
العرفاني ،وهو حاكمية األسماء ،وهو
والشكل ،بني احلقيقة وهيئهتا
استعادة للحقائق النبوية ،ومعانيها.
ً
ولهذا جاء «فصوص الحكم» جامعا بين
الحكمة والكلمة ،بين املضمون والشكل،
بين الحقيقة وهيئتها .واملعنى الحكموي للكلمة ،هو أنها مظهر «للنفس الرحماني»
-علة وجود وأصل ،-ولحجم مرآته .إال أن هناك عالقات صميمية بين األنبياء في
املتن الحكموي «البن عربي» ،وهي إما روابط النسب الطيني أو روابط حروفية،
أو زمانية .وبهذه الروابط عمل أحد شراح «فصوص الحكم» ،وهو «عبد الباقي
مفتاح» على تصنيف األنبياء إلى مجموعات ،معتمدا في ذلك الروابط السابقة:
املجموعة األولى:
:1آدم
:2شيت
املجموعة الثانية:
:3نوح
:4إدريس
املجموعة الثالثة:
:5إبراهيم
130
:6إسحاق
:7إسماعيل
:8يعقوب
:9يوسف
املجموعة الرابعة:
:10هود
:11صالح
:12شعيب
املجموعة الخامسة:
:13لوط
املجموعة السادسة:
:14عزير
:15عي�سى
املجموعة السابعة:
:16سليمان
: 17داود
: 18يونس
:19أيوب
املجموعة الثامنة:
:20يحيى
:21زكرياء
املجموعة التاسعة:
:22إلياس
131 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
املجموعة العاشرة:
:23لقمان
املجموعة إحدى عشرة:
:24هارون
: 25مو�سى
املجموعة إثني عشرة:
:26خالد
: 27محمد ﷺ.
إن التسلسل الرتبي (املراتب) لألنبياء يلتقي فيه الجانب الكرنولوجي ،والنسب
الطيني ،إضافة إلى العالقة الرمزية بين الحروف املكونة ألسماء األنبياء ،من
حيث عددها واشتراكها مع بعضها البعض .وهذه العناصرمجتمعة ،أو متفرقة،
بها تبلورت تجربة «فصوص الحكم» كمعرفة ذوقية -باطنية ،وكأنها إعادة بناء
لتاريخ األديان ،والعالقة بينها .والغرض هو بيان املعنى العرفاني للحقيقة اآلدمية
-اإلنسان الكامل -املتمظهرة في حكم األنبياء وتجاربهم الحياتية -اليومية .ومن
نتائج هذا الترتيب لحقائق األنبياء ،هو في عمقه تمثل لكلمة صاحب الحكمة
املطوية في فص معين .وعن هذا البعد الحكموي تبلورت دورتان أساسيتان
للتاريخ الروحي للدين.
الدورة األولى :من آدم إلى طوفان نوح عليه السالم ،ولهذا جاء نوح في
الفصوص بعد «شيت ابن آدم» ،رغم تقدم إدريس عليه بالزمن.
الدورة الثانية :اقتران إدريس بإبراهيم ،راجع إلى أن النفس اإلدري�سي وعلومه،
وأسراره ،استمر إلى زمن «إبراهيم» في الحضارة املصرية األولى ثم الحضارة
الكلدانية التي ظهر فيها إبراهيم .واستمرت األنفاس اإلدريسية بعد إبراهيم عند
العرب ،وعند بني إسرائيل في حقل أساس وهو أسرار الحروف ،وعلوم الفلك،
132
وعلم الكيمياء ،والطب ،وتوارثت األمم
«فصوص الحكم» ،وكأهنا ً
هذه العلوم ،مسيحية ،وإسالما ،وقرونا
إعادة بناء لتاريخ األديان،
وسطى .و»إلياس» هو املظهر األكمل
والعالقة بيهنا .والغرض هو بيان
إلدريس ،ولهذا كان في الترتيب قبل
املعىن العرفاين للحقيقة اآلدمية
لقمان .هذا األخير هو من ورثة مداوي
-اإلنسان الكامل -املتمظهرة 1
الكلوم -النبي إدريس-
يف حكم األنبياء وتجارهبم
النتيجة من هذا ،وهي أن الدورة
احلياتية -اليومية
اإلبراهيمية ذات فرعين :األول مستمر
في امللة العربية ،وإبتدأت في الفص
الخامس من كتاب «فصوص الحكم» ،وبها تم ضمان استمرارية روح الدين أو
«الدين الحق» ،في تاريخ األديان والشعوب .يقول «عبد الباقي مفتاح» ،عن هذا
الوضع الروحي ،والعرفاني للدين« :فالحياة الروحية في جزيرة العرب استمرت
من عهد نوح لتتجدد في زمن هود ،ثم في زمن صالح ،لتنتهي عند إبراهيم،
وإسماعيل ،ثم شعيب ،وتواصل استمرارها عبر أولياء ،وأنبياء على ملة إبراهيم
2
مثل خالد ،لتختم بسيدنا محمد ﷺ».
وأما الفرع اإلسرائيلي للدورة اإلبراهيمية ،فله مرحلتان :األولى من «إسحاق»
إلى «يوسف» ،والثانية من «مو�سى» إلى «عي�سى» .أما اكتمالها ،فمع النبي العربي.
وعن هذا اإلكتمال إبتدأ ظهور نفس الرحمان في دورة الوالية املحمدية.
- 5الحقيقة اإلبراهيمية ومنزلتها الوجودية.
تشكل اللحظة «اإلبراهيمية» ،مكانة أساسية في تاريخ األديان ،فمن خاللها
حدث التمفصل الوجودي بين اليهودية واإلسالم ،كخطابين يعكسان تجربتي
الثبات والتحول في األمكنة واملراتب.
- 1مفتاح (عبد الباقي) ،مفاتيح فصوص الحكم ،دارالقبة الزرقاء ،مراكش ،1997ص .58
- 2املرجع السابق ،ص .59
133 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
وتمتاز الحقيقة «اإلبراهيمية» بقوتها
تشكل اللحظة «اإلبراهيمية»، املزدوجة على الثبات في املكان (رمزية
مكانة أساسية يف تاريخ
البيت) ،والقوة على التلوين تحقيقا
األديان ،فمن خاللها حدث
ألعلى مرتبة وجودية ،وذلك نتيجة عطاء
التمفصل الوجودي بني الهيودية
الخلة واملحبة :فما داللة هذا التمفصل
واإلسالم ،كخطابني يعكسان
املزدوج ،وما رمزيته في األفق األكبري؟
تجربيت الثبات والتحول يف
في السياق «العرفاني» «األكبري»
األمكنة واملراتب
تتضمن الكلمة «اإلبراهيمية» حكمة
مهيمنة بمرتبتها الخاصة بصاحبها .وهي
دالة على «التهييم» الحامل لصفة الهيمان الدال على عدم تحيز املحبوب في
جهة بعينها ،بل هو في كل الجهات ،دون التثبت في موقع محدد .ألن الحق يتجلى
ألصحاب التجلي في كل �شيء ،وفي أعلى صورة كمالية ،واملتمثلة في «الجالل
الجمالي» .وهذا هو سر الهيام كانفصال أو اصطالم ،يؤدي إلى تحويل الجذور
السماوي ،ومن جذرها الطيني إلى الروحي ،وهو خاص بمن من أصلها األر�ضي إلى ّ
غلبت عليهم محبة الحق ،ومن أهم محددات «الحقيقة اإلبراهيمية» كما بلورها
«عبد الرحمن جامي» ،هناك املرتبة والتسمية.
:1كمال املرتبة بالذات :كمالية املرتبة اإلبراهيمية راجعة إلى كونها أول مرآة
ظهرت بها أحكام الصفات اإللهية الثبوتية ،وأول من حاز التخلق بها ،لهذا فله
أولية الظهور بالصفات اإللهية الثبوتية
:2التسمية :فهو ينعت بالخليل بمعنى تخلل ،وحصر بجميع ما اتصفت به
الذات اإللهية ،والتخلل هو القيام بحضرات الذات اإللهية وظهوره بمظاهرها
التي تغلب عليها جهة اإلطالق والحقيقة على جهة الخلقية .ولتسمية التخلل معنى
معقوال ،يقول «ابن عربي»« :كما تخلل اللون املتلون ،فيكون العرض بحيث
134
الجوهرما هو كاملكان واملتمكن».1
إن الحقيقة املعقولة هي بيان لحدين هما اللون واملتلون ،أوالعرض والجوهر،
وأساسها هو عالقة الثابت باملتحول :فإذا كان النعت األول املحدد في املرتبة هو
حصر للمعنى في املظهر اإللهي في ثبوته (الحكمة اإللهية) ،فإن النعت الثاني هو
خارج الحصر والحد ،وما به تتجسد تجربة التحول والتغير .وهذا املعنى األخير،
يثير السؤال التالي :كيف يصبح اللونمتلونا أو العرض محاطا بالجوهر وحاال
فيه؟ فهل الحقيقة اإلبراهيمية هي األصل الجامع بين الثبات والتحول أو الثبوت
والتلوين؟ أوال يمكن اعتبار أطروحة الثبوت على التلوين «األكبرية» طريقا لفهم
التجربة اإلبراهيمية دينيا ووجوديا؟
إن إحاطة العرض بالجوهر فلكونه يستغرق كل أجزائه ،واختيار اللون في
املثال السابق هو لتجنب نظرية الحلول ،ولتفادي الحصراملكاني ،ألن الحق منزه
بصفاته .واملقصود من هذا التمثيل ،هو تصوير لكمال اإلحاطة ،واالستيعاب،
ً
وبالتالي بناء الصورة الوجودية الروحانية .ألن لتسمية الخليل حدا لذات الصورة
في كمالها الجامع بين اللون وتلونه ،الثبات وتحوالته .ويرجع هذا إلى كون املتخلل
هو الحق ،والتخلل والتلوين ،داالن على التداخل بين طرفي العالقة ،ال على
العالقة املكانية ،بل على الرابطة أو كمال االحاطة واالستيعاب .وينتج عن هذا
وجود صورة «إبراهيم» عليه الصالة والسالم في كل موطن من املواطن :فهناك
موطن النشأة الروحانية ،وهناك موطن النشأة الدنيوية الجسمانية ،ويعمل
التخلل كتداخل بين طرفي العالقة إلثبات حقانية الحق .يقول «ابن عربي» «أال
ترى املخلوق يظهربصفات الحق من أولها إلى آخرها وكلها حق له ،كما أن صفات
2
املحدثات حق للحق».
( -1ابن عربي ،فصوص الحكم ،الجزء ،1فص حكمة مهيمية في كلمة ابراهيمية).
-2نفسه
135 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
إن العالقة املتبادلة بين الحق والخلق ،هي إعادة بناء للتواصل الوجودي
بين الطرفين ،ألن املتحول أصال هو شأن إلهي ،وهو صور متجلية ،بحجم املرآة
املتلقية ،وكمال املرآة هو بكمال املرتبة .ومن خالل الوضعية الوجودية للنبي
إبراهيم ،ومرتبته عمل «ابن عربي» على إعادة التفكيرفي الوجود الحقاني ،بمنظور
روحي ،يميل إلى إمكانية تحقيق الوحدة بين أطراف العالقة الوجودية .معتمدا
في ذلك النظرية «الحملية» ،يقول« :اعلم أنه ما تخلل �شيء شيئا إال كان محموال
فيه ،فاملتخلل اسم فاعل -محجوب باملتخلل -اسم مفعول .فاسم املفعول هو
الظاهر واسم الفاعل هو الباطن املستور ،وهو غذاء له كاملاء يتخلل الصوفة
فتربو به ،وتتسع .فإن كان الحق هو الظاهر ،فالخلق مستور فيه ،فيكون الخلق
جميع أسماء الحق سمعه وبصره ،وجميع نسبه وإدراكاته .وإن كان الخلق هو
الظاهر ،فالحق باطن فيه .فالحق سمع الخلق وبصره ،ويده ،ورجله ،وجميع
قواه كما ورد في الخبرالصحيح».1
يتعلق األمر في هذا السياق «العرفاني» الخاص بالحقيقة اإلبراهيمية،
بوضعية التخلل املبررة عقليات بـ«العالقة الحملية» :فاملتخلل هو املحمول على
موضوع التخلل ،وهو ما يجعل من املتخلل محجوبا ،ومستورا في حدي الظاهر
والباطن ،ألن تخلل الصوف باملاء في املثال السابق ،هو انتشار له في كل األجزاء،
وهو علة اتساعه ،والغرض من هذا هو فعل االنبثاق واإلظهار من أجل اإلحاطة
بكل املظاهر .وألن جدل الظهور والتحجب مالزم لكل املوضوعات من خالل
تحوالت املتجلي.
يتخذ التخلل منفذا لرؤية االتساع الوجودي ،بظهور الحق بأوصاف الخلق،
وظهور الخلق بأوصاف الحق .ولهذا فالتخلل هو امتداد لل�شيء في األطراف،
من أجل إخراج الذات اإلنسانية من ضيقها إلى كماله املتسع ،واملنفتح ،ومن
-1نفسه
136
معناها الجسماني إلى الروحاني كحد
إن العالقة املتبادلة بني احلق ملعنى االتصاف ،وظهور للخلق بأوصاف
والخلق ،يه إعادة بناء للتواصل
الحق ،تحقيقا ملألوهية اإلنسان
الوجودي بني الطرفني ،ألن
كشرط لوجود مرتبة األلوهية ،يقول
املتحول أصال هو شأن إلهي،
«ابن عربي»« :ثم إن الذات لو تعرت عن
وهو صور متجلية ،بحجم املرآة
هذه النسب لم تكن إلها ،ولهذه النسب
املتلقية ،وكمال املرآة هو
أعيانا ،فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها».1
بكمال املرتبة
إن هذا االتساع املمكن للذات
اإللهية اإلنسانية ،أي «للمألوهية» ،هو
ما فتح باب الضمائرالوجودية ،لدى «ابن عربي» ،باعتبارها تلك األنابيب املمكنة
بين األنا والهو من جهة ،والهو والنحن من جهة ثانية .وما ينبغي التأكيد عليه
هو أن أساس هذه الضمائر هو رابطة اإلطالق والتقييد الهو واألنا ،والتي تعكس
تقابال بين مرتبتي األلوهية واملألوهية ،والغيبية واإلنسانية العينية .وهذه األخيرة
هي الحق من لواحق املطلق.
ووضعية التقابل هاته ،هي بيان ملعنى «الوجود الحق» الحامل لحيثيتي الهوية
والغيرية ،أو حيثيتنا نحن ،وحيثية الهو .وبهما تتحدد الربوبية والعبودية ،وبهذه
العالقة يتحدد التقابل بين الضمائروتواصلها :فهل التواصل مشروط بتضخيم
األنا وتحويلها إلى «مألوهية’» كأعلى مرتبة مهيمية -هيام؟
إن العالقة بين الضمائر الوجودية ،تعمل على تضخيم الوجود اإلنساني،
بتحويل األنا الشخ�صي إلى إناء أو صورة حاوية للكل ،مما يجعل من الوجود
العرفاني بمثابة مرآة قابلة لتضمن الكل ،وإظهار خفائه .يقول «عبد الرحمن
أحمد جامي» :ومن الوجه الثاني يحصل االمتيازبظهور الربوبية والعبودية (وليس
137 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
له أنا بأنا) .أي ليس له سبحانه أنانية
يتخذ التخلل منفذا لرؤية
تقيده وتخرجه عن اإلطالق بسبب تقيده
االتساع الوجودي ،بظهور
بأنانيتي املقيدة الشخصية (ولكن في) أي
احلق بأوصاف الخلق ،وظهور
في أنانيتي (مظهره ،أي ظهوره ،فيلحقه
الخلق بأوصاف احلق .ولهذا
أنانيته بسبب ظهوره في أنانيتي) ،ولكن
فالتخلل هو امتداد لليشء
ليس منحصرا فيها ،فإن املطلق يظهر
يف األطراف ،من أجل إخراج
في املقيد مقيدا من غير تقييد به ويجوز
الذات اإلنسانية من ضيقها
إىل كماله املتسع ،واملنفتح، أن يكون املظهر اسم مكان وكلمته في
ومن معناها اجلسماين إىل تجريدية مثلها قوله تعالى« :لقد كان لكم
الروحاين كحد ملعىن االتصاف في رسول هللا اسوة حسنة» األحزاب .21
فنحن كمثل إناء بكسر الهمزة ،يعني
نحن بأنانيتنا املقيدة مثل اإلناء لهويته
املطلقة ،فهي ظاهرة فينا متعينة بنا كتعين ما في اإلناء باإلناء .قال الشيخ «مؤيد
الدين الجندي»« :يقولون لون املاء لون إنائه ،أنا اآلن من ماء إناء بال لون (وهللا
يقول الحق) بلسان غيره في سائرالحقائق فال إنكارعليه إذا تكلم بمثل هذا املقال
(وهو يهدي السبيل) املوصل إلى فهمها وقولها ملن يشاء من الخالئق فال اختيارملن
اتخذ طريق الهداية والضالل» .1
إن هذا األفق «العرفاني» يعمل على استعادة روابط العبودية بالربوبية والهوية
بالغيرية ،وإعادة بناء للعالقة بين الجوهروالعرض واملوضوع واملحمول من منظور
وجودي .إال أن هذا األفق الوجودي مشروط بتحول األنانية الشخصية الذاتية
من وضعها املقيد إلى وضعها املطلق .وال ينبغي أن يؤدي هذا إلى حصر لألنانية
اإللهية في أنانية شخصية ،بل األمر يتعلق بتحويل هذه األخيرة إلى إناء ،أو عمق
138
بال قرار ،تتناسل فيه التجليات الالنهائية املتمظهرة بتلوينات مختلفة :إنه بناء
لألنانية اإلنسانية من أجل جعلها «تعيينا لالمتعين» في أعلى مرآة حقية .وهذا
مشروط بإنمحاء لون اإلناء ،لتأكيد ربوبية الحق وعبودية اإلنسان ،فالعبودية
الحقانية بمرآتها الواسعة ليست ملتصقة بلون اإلناء» ،ألن هذا األخيرهو عرض.
بل تصبح الذات اإلنسانية بأنانيتها الحقانية إناء ،متضمنا لكل أوصاف الحق.
وهذا في عمقه امتداد لألنا اإللهي في كل األطراف .وهو مطلب الضمائر
الوجودية املتمركزة حول ضميري األنا والهو فما عالقة هذا بالكلمة اإلبراهيمية؟
- 6البناء والتشكيل أو الظهور املتلون للحقيقة اإلبراهيمية.
إن بناء املعنى هو بالشكل الكلي الجامع بين هيئة ال�شيء وحقيقته (خفائه)،
وبين الكلمة والحكمة .واملثال على ذلك كما هو األمر في النص «األكبري» ،هو
تجربة النحل في بنائه لبيئته كأعلى هيئة أو صورة تشكيلية متضمنة لحقيقة
«الوجود املدور» واملتضمن ملركز خفي في ثباته ،وللضوء وللضالل في تحوالتهما.
ألن التشكيل جامع بين املعنى الثابت واملتحول ،والخفاء والتجلي ،والعيني والكوني:
الدابة في رجلها شكاال ،واملتشكل هووالتشكل هو القيد ،وبه تسمى ما تقيد به ّ
املقيد بالشكل :فهل فعل البناء هو إخراج للتشكيل من قيده الضيق إلى املتسع؟
تعتبر ممارسة التشكيل عمال إبداعيا ،ألن قصديته هي وضع املعنى في صورة
كلية ،لكن بعد حصره أو ضبطه في شكل وهيئة ،وأما مسلك التجربة الذوقية
القلبية ،في أفقها الجمالي فينحونحوأوسع تشكيل ،وذلك بتجميعه في رمزأوعالمة
محددة .ألن االتساع هو إحاطة بتعدد التحوالت والتلوينات ،وهو بالتالي إحاطة
وتقييد ألنواع التقلبات ،ولهذا يسمى القلب قلبا لتقلبه .لذا فاملعرفة الذوقية،
في تشكيلها للشكل ،وتجسيده في صورة مشروطة هي بالقدرة على تمثل «الثبوت
على التلوين» :الثبات الحقي ،والتعدد الخلقي .ألن اللون في تلوينه للحقيقة ،هو
ما يعطي الصورة الظاهرة ،أو جزءا من املضمون .أما كلية املضمون وحيثيته
139 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
املجملة ،فهي خارج أي لون محدد ،باعتباره ذلك الواحد املتلون ،واملتقلب.
إن ما يحدد وجود هذا التلوين هو الشكل ،إال أن وضعه في صورة أو جسم،
فهو تنويع ملظاهره ،ويعمل الشكل في ظهوره الجسمي حدا للثابت كمعنى في
هيئته ،واستكمال له ،كما هي املرتبة «اإلسحاقية» في استكمالها لظهور «الثبات
اإلبراهيمي» ،بتضحية «األب» بـ«اإلبن» ضمانا للتجدد في الخلق ،أو تحقيق
معنى «الوالدة الجديدة» ،كتشكيل للمعنى في صورة مغايرة ،عبر فعلي التحول
واالستبدال ،بإعادة ظهور الحقيقة اإلبراهيمية في صورة التضحية ،وتحولها في
أشكال متجددة زمنيا ،ووجوديا.
يشكل الجمع بين الثبوت والتلوين ،استراتيجية أساسية للرؤية الذوقية،
بل أفقها الجمالي الفاتن بتجدده املستمر ،من أجل إبعاد تمظهرات الحقيقة
عن انحرافها ،ووضعها في مراتبها الخاصة .ألن تثبيت التشكيل في جسم أو
هيئة محددة ،هو إيقاف لتجدد الحقائق ،لكن البناء كجمع بين العمق الثابت
واملظهر املتلون هو ما يعمل «ابن عربي» على اإلحاطة به .ونموذج هذا هو الثبات
اإلبراهيمي ،والتشكيل «اإلسحاقي» .ويحدد «عبد الباقي مفتاح» في شرحه
«لفصوص الحكم» ،هذا املعنى التشكيلي بعالقة االستبدال كجمع بين الثبوت
والتلوين يقول «:فبقي شكل إسحاق ثابتا وتحول شكل الكبش املمثل «إلسحاق»
والقائم بالذبح هو جسم إبراهيم ،إذ ال قيام للشكل إال بالجسم».1
إن عالقة االستبدال هي نفي لعنف املقدس ،بتحول الشكل وتغيره واملحدد
في تحول الجسم ،وصورته :فالكبش هو تشكيل لصورة إسحاق في هيئته ،لكن
املطلوب هو ما وراء الهيئة.أي ذلك الثابت كمعنى غيبي ،وأما ما سواه فهو صورة
مشكلة في أجسام أوأواني بلغة أهل التحقيق .ولهذا ينعت «الشيخ األكبر» الداللة
«اإلسحاقية» ب ــ«املاحق» كبناء للحقيقة في ثبوتها ،ومحق ملغايرها ،واملحق هو
140
تحول للشكل في صورة أوهيئة جسمية.
يشكل اجلمع بني الثبوت ينتج عن هذا أن الحقيقة «اإلسحاقية»
والتلوين ،اسرتاتيجية أساسية
كشكل هي مثل للصورة «اإلبراهيمية»،
للرؤية الذوقية ،بل أفقها
وصورة الكبش هي مثل للمثل أو ظل
اجلمايل الفاتن بتجدده املستمر،
للظل ،ألن الظل ال يكون إال لجسم.
من أجل إبعاد تمظهرات
لذا فتجربة التشكيل في تتاليها الخلقي
احلقيقة عن انحرافها،
والوجودي ،هي حد لرابطة املثل ومثل
ووضعها يف مراتهبا الخاصة
املثل ،وبالتالي للشكل الكلي ،وأشكاله
املتلونة :فهل قوة الصورة النبوية
املهيمية هي في هذا الشكل الكلي األولي ،كمثال حقاني ،أم في تفصيالته؟
فما يثبت قوة الصورة املهيمنة ،هو امتداها في حكم فرعية« :إسحاقية» أو
«إسماعيلية» .وهذا التشكيل الوجودي للحقيقة في الحكمة اإلبراهيمية ،يضعنا
أمام مضموني الثبات والتلوين املحددين في الثبات املكاني ،والتلوين الرتبي في
مدهما وامتدادهما البرزخي الواصل والفاصل .وعن هذا الجسد البرزخي الحقي
-اإلبراهيمي تمفصلت الصورة املثلية السابقة -إسماعيل وإسحاق -فهي بمثابة
الجوهر ،والصور الظاهرة عنها ،هي انقسام لهذا الجوهر مع «ابنيه» :فاملتغير
حقيقه هو الشكل أو املظهر في صورة إسحاقية :إنه «الشكل املتغير املذبوح
واملسحوق».
إن املعنى الباطني للحقيقة ،هو في الصورة اإلبراهيمية ،وأما «ابناه» فهما
مظهرها املزدوج الدال على الثبوت والتحول أو التلوين :فشكلها الثابت هو
«إسماعيل» ،ووجهها املتغير هو «إسحاق» .لذا فالحكمة اإلبراهيمية هي األرض
الصلبة ألطروحة الثبوت على التلوين «كما تمثلها «الشيخ األكبر» .واملحرك
للجمع بين املفهومين لديه هو إمكانية التقريب بين األديان ،واالعتقادات :فهل
141 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
غياب هذا الوصل أو الجمع بين وجهي
هذه الحكمة اإلبراهيمية ،هو أصل الحكمة اإلبراهيمية يه األرض
الصلبة ألطروحة الثبوت االختالف ،والنزاع ،والصراع بين األديان
عىل التلوين «كما تمثلها الكتابية؟ أوال يمكن القول بأن قوة
«الشيخ األكرب» .واحملرك الحقيقة الجمعية ،هي في هذا األفق
«التيوصوفي» الواصل بين املعنيين للجمع بني املفهومني لديه هو
«املجمل» و»املفصل» ،الثابت واملتغير ،إمكانية التقريب بني األديان
أو بين املعنى «القرآني والفرقاني» ،كما
هو األمرفي الحقيقة املحمدية؟
يعتبر القول الصوفي تخطيا للحقيقة الحصرية الظاهرية ،من أجل وصلها
بمعناها املبطون ،وتحويلها إلى حكمة :فهل بهذه الحكمة أو الحكم الخاصة
باألنبياء يتم التوحيد بين األديان ،والوصل بين حقائقها ،ومضامينها الحقانية؟
إن االنتصار لحكمة األنبياء كما هو األمر في «فصوص الحكم» ،هو توجيه
للتاريخ وللوجود اإلنساني بما هو حقاني ،أي بحكمة صاحب املرتبة ،وذلك
إستنادا إلى اسم من األسماء .وهذا العمق األسمائي هو علة هيام -فناء -الحكمة
اإلبراهيمية ،وظهورها في حكمة إبنه «إسماعيل» كوجه باطني للشكل «املذبوح
املسحوق» -،الحكمة «اإلسحاقية» .-واملرجع اإلسمي في الحكمة «اإلبراهيمة»،
وهو «اإلسم العلي» ،وتشكله .وهذا املعنى األخير -التحول -هو الخاص بالذرية
«اإلسحاقية» مع بني إسرائيل .أما داللة «العلو» في معناه األقرب للروح
ّ
«اإلبراهيمية» ،فهو املمثل في «الخلة» ،واملستمدة عن رمزية «البيت» أو جمالية
املكان املؤسس للثبات (أول وطن) .ومنزلة املكان هاته دالة على علو املكانة في
نظر «ابن عربي» ،والتي هي «تيوصوفيا» تجسيد لرمزية العرش كأعلى وأسمى
صور الكون املمثلة في مثال أر�ضي ،وهوالكعبة .وأما جمالية املكان فمستمدة من
142
جاللية الصورة العلوية العرش ،وهكذا يلتقي البعد الجمالي باملكون القد�سي.
وإمكانية إدراك هذه املكونات ،هو بتحقق الثبات في ذات املكان والتوجه إليه
في الوقت ذاته ،بخالف الذرية «اإلسحاقية» ذات املمارسات الطقسية غير
املحكومة بمكان محدد ،بل محكومة بتبدل األمكنة ألنها أكثر إرتباطا باملظهر
دون األصل ،وألن ممارستها الطقسية خارج مرجعية الثبات .وينتج عن هذا،
أن أصحاب الذرية «اإلسحاقية» لم يدركوا أصل التغير ،ومرجعيته املتأصلة
في الحقانية اإلسمية .بل بقوا في حدود الظاهر واملظهر ،بدون إدراك علو وسمو
حقيقة العرش الطيني -البيت .-
- 7الثبوت على التلوين كجمع بين الخلة واملودة.
فلسفة الدين يف
إن تمفصالت وضعية الثبوت على التلوين ،من خالل وضعية الذرية
اإلبراهيمية مع إسماعيل وإسحاق ،هو في عمقه تأكيد لجدل الثبات والتحول
الفكر الفلسيف الحديث
والبناء والتشكيل ،فعمق املتلون هو الثبوت ،بل أصله وأساسه ،وحياة الثبوت
هي في تلونه ،وهي في أبعادها «التيوصوفية»حياة املدلول في الدال .والجمع بينهما
يستدعي انفتاح الطرفين ،وتفتح بعضهما على البعض ،باستعادة املتلون ألصله
وارتباط هذا األخير بتشكيالته وتفصيالته .ويمثل هذا دينيا في فرعي األصل
اإلبراهيمي» ،أي في ابنيه« :اسماعيل واسحاق» :فما أبعاد هذا الجمع أو التركيب
بين مفهومي الثبوت والتلوين؟ وما نتائج أطروحة «الثبوت على التلوين»؟
إن بناء «ابن عربي» ألطروحة «الثبوت على التلوين» ،وراءه أفق عقدي ،وهو
إمكانية الوصل والجمع ،أوالحواربين األديان الكتابية ذات أصل واحد ،ومنتمية
لشجرة واحدة ذات جذور سماوية مجسدة أرضيا بتلوينات مختلفة (يهودية -
مسيحية -إسالمية) .وهذا الوجه املتأصل في العمق الواحد ،هو مصدر قوة
«الحقيقة اإلبراهيمية» عند «ابن عربي» ،بمرتبتها «املهيمينة» على الكل :فهي
األصل ،وهيمنتها هاته ،هي باإلتساع املوجه بالخلة :فما األفاق والوضعيات التي
143 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
تؤدي إليها فكرتي الثبوت والتلوين؟ هل التركيب بين الثبوت والتلوين ،يستدعي
خلة أعلى من الخلة اإلبراهيمية؟
إن استعادة ابن عربي ألطروحة الثبوت على التلوين هو من أجل إظهار روح
األديان ،ووحدتها الكامنة في أصلها ،فالثبوت على التلوين هو في عمقه محو
للفراغ ،واستبداله بـ امللء الوجودي ،إنه ملء لألمكنة على أساس األخوة،
والتآخي ،كما مأل سيدنا «إبراهيم» عليه الصالة والسالم ،وزوجته سارة ،بلد
مصر كإخوة ال كزوجين كواحد ،ال كإثنين ،تلك هي صورة الحكمة اإلبراهيمية،
الجامعة بين الثبوت والتلوين ،بين املركز -األصل واملحيط -الفرع ،بين املكان
والحد .إن وضعية الثبوت على التلوين ،ال تنفصل عن األساس الوجودي
مليتافيزيقا الشيخ األكبر ،حيث هناك إمكانية للحديث عن الوجوه الحقيقية،
والكثرة الحقيقية .وخطاب الوحدة هذا ،هو ما يحدد في نظر «ابن عربي» ،منزلة
الخلة :فما مفهوم الخلة اإلبراهيمية ،ومكانتها الوجودية ،في عالقة بالخلة الكبرى
املجسدة والخاصة بالحقيقة املحمدية؟ فهل الخلة األولى هي أساس بناء الخلة
الثانية (الكبرى) ؟
في شرحه لكتاب «مفتاح الغيب» للقونوي يحدد «الفنري» مكانة كل من الخلة
اإلبراهيمية واملحمدية بقول« :هي الخلة املختصة بخاتم النبيين وورثته ،وهي
املحبة الذاتية الصرفة املوجبة إلرتفاع اإلنية ،وانتفاء اإلثنينية ،وال حجاب معها.
فإن الخلة هي محبة ذاتية مع بقية أنانية تحدث من استحكام املودة ،وتوصل
إلى خلوص املحبة ،ثم تصفو املحبة بارتفاع اإلنية ،وارتفاع اإلثنينية .فاملحبة
الصرفة فوق الخلة ،وهي املسماة بالخلة الكبرى ،أما الخلة اإلبراهيمية ،فهي
1
الخلة األولى الحاصلة مع عدم إرتفاع أحكام الحجب ،ببقاء اإلنية».
( -1الفنري ،محمد بن حمزة ،مصباح األنس بين املعقول واملشهود في شرح مفتاح غيب الجمع والوجود
طهران 1382ص .)80
144
إن الوحدة الخالصة ميتافيزيقيا،
إن استعادة ابن عريب ألطروحة هي تجسيد للحركة القدسية و«الفيض
الثبوت عىل التلوين هو
األقدس» ،وبها تتحدد أعلى مراتب
من أجل إظهار روح األديان،
املحبة ،أو ما يتخذ معنى «الخلة الكبرى»
ووحدهتا الكامنة يف أصلها،
والخاصة بالتجربة املحمدية وورثتها
فالثبوت عىل التلوين هو يف
وهي أقوى من «الخلة اإلبراهيمية»:
عمقه حمو للفراغ ،واستبداله ـب
فاألولى بدون حجاب ألنها حقيقة جامعة
امللء الوجودي
مانعة ،والثانية محجوبة بحيثيات اإلنية
واإلثنينية وصاحب «الخلة الكبرى»،
هو األول في الوجود ،واآلخر في املعرفة .واملكانة الوجودية لهذه الخلة راجعة إلى
كونها حاملة ملضمون املودة كمد ملا هو نير في ما هو طيني ،وقابلة لإلستكمال،
والكمال مع الوارث .ولهذا فالثبوت على التلوين هو أفق التجربة النبوية من بدئها
اإلبراهيمي إلى ختمها املحمدي.
وداللتها العرفانية تتجسد أكثر في مفهوم «اإلله» الذي أصبح حامال لداللة
الحب :إنه في السياق األكبري يحمل داللة« ،إله الحب» ،ال «اإلله املريد» كما
هو األمرمع األشاعرة .والنتيجة األساسية من هذا ،وهي أن الخلة الكبرى املوجهة
باملودة ،تعمل على إعادة تنظيم الروابط والعالقات بين األديان واإلعتقادات :إنه
مد للرقيقة العشقية كحركة قدسية في الكون مع اآلخر ،وبالتالي الوارث .فإذا
كانت اليهودية واإلسالم ،ديانات تشريع فإن املسيحية «ديانة حب» ،والتصوف
اإلسالمي ،وباألساس الفكرالفلسفي منه -الفكراألكبري ،-فباإلضافة إلى إلتصاقه
باألمرالشرعي ،فإنه بلور فكرة املحبة أو ما يسميه الشيخ األكبرب ــ«دين الحب».
ينتج عن هذا أن أفق الثبوت على التلوين في الروح األكبرية ،هوبقوة القلب على
قبول كل الصور .وهوفي عمقه قدرة على تلوين الحقيقة الواحدة ،الثابتة والنيرة.
145 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
وبهذا املعنى التيوصوفي تنمحي النظرة
األصولية للحقيقة ،وللفعل اإلنساني .أفق الثبوت عىل التلوين يف
ألن كل �شيء قابل للتحول حسب سياقات الروح األكربية ،هو بقوة القلب
الوضع التاريخي واإلجتماعي والوجودي عىل قبول كل الصور .وهو
يف عمقه قدرة عىل تلوين واملعرفي :فما اآلفاق املمكنة لدين الحب
في بعده العرفاني؟ هل يتطلب هذا احلقيقة الواحدة ،الثابتة والنرية
اإلبتعاد عن الحقيقة الحصرية و اإلنتماء
العرقي -الهوياتي؟
تتحدد وضعية اإلسالم من خالل داللته الروحية كما يرى «هوغ ديديبة»
« »Hugues Didierوذلك بابتعاده عن كل نزعة عرقية ضيقة يقول« :من وجهة
إسالمية ،ال توجد قطيعة حقيقية بين إله «ابراهيم» و«إسحاق» و«يعقوب»،
واإلله الذي يتجلى في القرآن ،كما أنه ال تميز بين مقدس إسالمي ،ومقدس
مسيحي أو يهودي -مسيحي كما تأكد في تاريخ أوروبا وحضارتها (بمقدار عدم
إفساده من قبل هذه الحضارة) .فنحن خارج املوضوع طاملا لم نقبل بأن اإلسالم
ال يدعي االنتماء إلى عرق ديني غير عرق املذاهب املسيحية واليهودية (وهو العرق
الذي يشارإليه بعبارة أهل الكتاب) وأكثرمن ذلك ،يقول اإلسالم إنه أصل العرق
وشكله الصحيح وخاتمته.«… 1
إن اإلسالم كدين هو حقيقة حاضرة في الكيان الروحي لإلنسان ،فهو ملتصق
بوجوده األول .وما يبرر هذا هو أنه كان يشكل عمق ديانة «النبي إبراهيم» ،الذي
لم يكن ال يهوديا وال نصرانيا ،بل كان ذا معنى كونيا قبل ظهور اإلسالم التاريخي.
وبهذا األخير-اإلسالم التاريخي .-أما روحيا ،فاإلسالم في السياق العرفاني وجد مع
«آدم» ،ولهذا فهوذوخاصية أساسية واملتمثلة في كونه دورة ،فهومحكوم بالعود
( -1ديدييه هوغ ،اإلسالم واملقدس ،مواقف ،العدد ،1991 ،65ص .)106
146
واإلستعادة لألصل .فالزمن العرفاني يبدأ بالحقيقة اآلدمية ،ويختم بالحقيقة
املحمدية.
وفي كل لحظة نبوية هناك معاني وحقائق مفصلة لذات الحقيقة األولية
بدرجات مختلفة .واملبرر لهذه اإلستعادة وهو العود املستمر للمكان الثابت
كوسمولوجيا ،واملتمثل في «الكعبة» كفضاء للقاء بالحقيقة األولية .فاللحظة
اآلدمية حسب بعض الروايات تؤكد ارتباط آدم بهذا املكان الثابت يقول «هوغ
ديدي»« :تخبرنا بعض الروايات اإلسالمية التقليدية أن آدم بعد سقوطه بكى
بكاء مرا وكانت ذريته ضائعة وعرضة لشتى أنواع املصاعب ،فأرسل له هللا
لتعزيته خيمة من السماء نصبت في مكان الكعبة .كانت هذه الخيمة حجرا
إكتسبت لونا أسود بسبب آثام البشرية إنه الحجر األسود الشهير الذي يزين
زاوية الكعبة الشرقية( )....والكعبة أيضا مركز العالم وسرته ،املعبد األول الذي
شيد لبني البشر ،وموقعه أول موقع خلقه هللا ،ثم مد األرض تحت املعبد ،لهذا
1
فإن للكعبة عالقة روحية مع باقي األرض».
إن اإلرتباط الديني بمكان محدد منذ آدم إلى اليوم ،هو تأكيد على ثبات
حقيقته واملتمثلة في فكرة التوحيد الحاضرة في األديان الكتابية ،وما إعادة بناء
الكعبة مع آدم ،هو إلثبات روح اإلسالم كدورة حاضرة في كل األديان الكتابية،
وحقائقها النبوية.
وهذا ما يعمل العرفان األكبري على بيانه من خالل تمثل حقائق األنبياء
وحكمهم ،وبالتالي وحدة حقائقهم الروحية .ألن وحدة األديان هي بروحها
الواحد ،وبمعناها الحقاني ،وبما أن للكعبة عالقة روحية مع باقي أطراف
األرض ،فإن لروح الدين عالقة وجودية بباقي األجناس ،دون تمييزبين هذا أوذاك
باللون أوالجنس ،أواملرتبة -املكانة ...-وهذا مشروط باستعادة املعنى العرفاني
147 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
للتوحيد ،كأول حقيقة وجودية ،ارتبطت بمكان ثابت ومحدد ولكن قابلة للظهور
والحضور بتلوينات مختلفة وعن هذه التحديدات النظرية -اإلشكالية ،تتبلور
اإلستفهامات التالية :أال تؤدي أطروحة الثبوت على التلوين ،إلى فهم الدين
من خالل املفارقة بين معنيين :الدين الكوني والتاريخي؟ وهل هذه التأسيسات
النظرية للحقيقة اإلبراهيمية هي ما أسس القول بالتجليات والتحول في الصور
من أجل بناء «إسالم التجليات» أو «روح الدين» ،املجسد في أعلى مراتبه كـ «دين
الحب»؟.
الئحة املراجع
148
• ابن عربي ،ترجمان األشواق ،دارصادر ،بيروت.1966 ،
• ابن عربي ،الفتوحات املكية ،الجزء األول دارصادربيروت.
• ابن عربي ،فصوص الحكم ،تعليقات أبوالعال عفيفي ،الجزء ،1دارالكتاب
العربي ،بيروت ،الطبعة الثانية . 1980
• الفنري (محمد بن حمزة) ،مصباح األنس بين املعقول و املشهود في شرح
مفتاح غيب الجمع و الوجود ،طهران .1382
• جامي (عبد الرحمان بن أحمد) ،نقد النصوص في شرح نقش الفصوص،
مقدمة وتصحيح وتعليقات وليم شتيك ،طهران.1977 ،
• توملين ،فالسفة الشرق ،ترجمة ،عبد الحليم سليم ،مراجعة ،علي أدهم،
داراملعارف.
• مفتاح (عبد الباقي) ،مفاتيح فصوص الحكم ،دار القبة الزرقاء ،مراكش
.1997
• ديدييه (هوغ) ،االسالم و املقدس،مواقف،العدد .1991 ، 56
• fo melborp eht dna IBARA NBI ,dlrow lanigami ,)C.W( cittihc
4991 ,kroy weN ,ytisrevid suoigiler
• evuerpe’l à noigiler enu ,seinahpoéht sed malsi’l , adayA dauoS
0102.siraP ,noitidE ,SRNC ,tra’l ed
149 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
فلسفة الدين
يف الفكر الفلسيف
الحديث
يف املعلوم
من الدين بالعقل وحده
محمد منادي إدري�سي*1
مقدمة
ُيعتبر «املعلوم من الدين بالضرورة» موضعا من املواضع الشهيرة عند الفقهاء
واألصوليين املسلمينُ ،ويقصد به عموما ما ال يسع املسلم مجتهدا كان أو عاميا،
أن يجهله من عقائد وعبادات وشرائع .على أن كلمة «الضرورة» في هذا املوضع
ليس لها أي معنى منطقي أو تجريبي ،وإنما تدل على ما يجب على املكلف أن يعلمه
من شؤون الدين ُويلزم نفسه به .وهكذا ،فإن القضية أعاله تعبر عن املشترك
الذي يلتقي فيه املسلمون على اختالف مذاهبهم وطوائفهم ،فيكون معناها هو
ما يجب على املسلم املكلف أن يعلمه من عقائد اإلسالم وعباداته وشرائعه علما
ال قدرة له على تحصيله بنظر واستدالل .لقد قمنا بتعديل هذا املوضع تعديال
طال منطوقه ومعناه ،ثم جعلناه ،بعد التعديل ،عنوانا لهذه املقالة« :املعلوم من
الدين بالعقل وحده».
ال يتعلق األمر في هذا العنوان بديانة بعينها ،بل بالدين بوجه عام ،وال بـ«علم»
حصل بأدلة سمعية أو نقلية ،بل بما يمكن للعقل البشري أن يقرره أو يقبل ُي َّ
به بخصوص الدين عموما اعتمادا على قدراته الخاصة ،وبالنظر إلى حدوده
وحاجاته ومصالحه .نحن نعلم أن النظر العقلي (العلمي والفلسفي) جهد بشري
* -1أستاذ باحث من املغرب.
153 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
أر�ضي يتوسل العقل سبيال للفهم والتفسير ،وذلك بوضع إشكاالت ،واقتراح
فرضيات لحلها؛ األمر الذي يسفر عن إنشاء نظريات قابلة للمناقشة واملراجعة.
إنه من حيث هو نظر فلسفي ،تفكير ال يمنح املعقولية واملشروعية إال ملا اجتاز
اختبار الشك والنقد والفحص ،وقام عليه الدليل والحجة .والحال أن الدين
موقف وجودي أو نمط حياة يبحث عن املعنى والخالص ،ويقوم على التسليم
القلبي أو اإليمان الوجداني .إنه استجابة لنداء إلهي سماوي يطالب بالتسليم
بمعتقدات معينةُ ،ويلزم بأداء سلوكات معينة (عبادات وشعائر) ،من أجل نيل
مرضاة الخالق .ذلك أن الوحي الذي يستند إليه ،يقوم على انعقاد صلة بين
الح�سي البشري واملاوراء -ح�سي اإللهي ،األمرالذي ال يمكن إدراكه مفهوميا؛ كما
أن اإليمان الذي من دونه ال يستقيم أمره ،يوجد مقره في شعور من يعتنقه ،وال
معنى له إال بالنسبة إلى هذا املعتنق؛ ثم إن الضمانة التي تديم سلطانه ،مرتبطة
بكتب مقدسة يتعذر التحقق من حقيقتها بالعقل وحده .يبدو الدين من هذه
النواحي مختلفا تماما عن النظر العقلي الفلسفي الذي يبحث عن املعقولية
ويسعى إلى املوضوعية .إن اكتفينا بالفروق املاهوية ،سنستنتج أن األمر يتعلق
بمجالين مختلفين اختالفا ال يلزم عنه أن يتنازعا تنازعا يستدعي بذل محاوالت
لبيان ما بينهما «من اتصال» ،أو على األقل لـ «درء التعارض» بينهما .فلكل منهما
سبيل خاص ،وال مسوغ للصراع بينهما.
بيد أن النزاع بينهما قد حصل فعليا ،والسبب في ذلك أن هناك موضوعات
معينة كان أصحاب النظرالعقلي من اليونانيين قد تناولوها وأنشأوا بخصوصها
دعاوى معينة ،وجاءت الديانات اإلبراهيمية 1فيها بقول حاسم تقرر هي نفسها
- 1تجنبا ملا في صفتي «التوحيدية» و«السماوية» من لبس ،آثرنا استعمال عبارة «الديانات اإلبراهيمية»
للداللة على اليهودية واملسيحية واإلسالم .ملزيد من التفاصيل عن عدم دقة الوصفين السابقين ،راجع:
زيدان ،يوسف ،الالهوت العربي وأصول العنف الديني ،القاهرة ،دار الشروق ،الطبعة ،2012 ،6ص.
.23 - 18
154
أنه حق ال يأتيه الباطل من بين يديه وال
الدين موقف وجودي أو من خلفه .وذلك ما جعل هذين املجالين
نمط حياة يبحث عن املعىن
معا يبدوان متنافسين في قول الحق.
والخالص ،ويقوم عىل التسليم
وقد استمر هذا النزاع قرونا طويلة،
القليب أو اإليمان الوجداين .إنه
واتسمت بعض فصوله برفض الفلسفة
استجابة لنداء إلهي سماوي
والعلم ومنعهما ،ومالحقة املشتغلين
يطالب بالتسليم بمعتقدات
بهما واضطهادهم .فما إن تمكنت إحدى
معينة ،ويُلزم بأداء سلوكات
الديانات اإلبراهيمة (أقصد املسيحية)
معينة
من الهيمنة على املجتمع ،والتأثير في
القرارالسيا�سي أو وضع يدها عليه ،حتى
توالت قرارات الحظرواملنع ضد الفلسفة والعلم ،وتبعتها حمالت املطاردة والقمع
تعد في نظر من آمنللمتعاطين لهما .ذلك أن عقائد الدين وشعائره وشرائعه ُّ
بها حقائق قطعية؛ ألن هللا مصدرها ،وكل من يشكك فيها أو يرفض القبول بها
والعمل وفقا لها ،يعتبر شخصا جاحدا كافرا بأنعم هللا يستحق املعاملة املخزية
في الدنيا والعذاب األبدي في اآلخرة.
عندما هيمنت الديانات اإلبراهيمية (املسيحية واإلسالم تخصيصا) اجتماعيا،
وأصبحت ديانات رسمية إلمبراطوريات ودول ،طوال القرون الوسطى ،وجدت
الفلسفات املوروثة عن التقاليد اليونانية نفسها في «حضرة واقع ميتافيزيقي»
يماثل في متانته األنطولوجية «الواقع الفيزيقي» ،فكان لزاما عليها أن تستوعب
هذا املستجد« ،كتاب» ما بعد الطبيعة املفترض فوقنا» ،ال أن تكتفي فقط
بمطالعة «كتاب» الطبيعة املفتوح أمامنا».1
-1باعكريم ،عبد املجيد« ،في األصول املنهجية ملفهوم الذات :حكاية «حي بن يقظان» البن طفيل»،
ضمن ملف التأهيل الجامعي ،نوقش بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،ظهر املهراز ،فاس ،تحت عنوان:
نحن وقيم الحداثة؟ ،بتاريخ 05يناير ،2012ص.71 .
155 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
عندما هيمنت الديانات
لقد فرضت هذه األديان على الفلسفة
اإلبراهيمية (املسيحية موضوعات وإشكاالت من خارج منظومتها
واإلسالم تخصيصا) اجتماعيا، النظرية .فهي تقرر بنصوص قاطعة أن
َ
وأصبحت ديانات رسمية هللا واحد ال شريك له في األلوهية« ،ف ّعال
إلمرباطوريات ودول ،طوال ملا يريد» ،وهو «على كل �شيء قدير»،
القرون الوسطى ،وجدت َ
«فاطرالسماوات واألرض» من عدم .خلق
الفلسفات املوروثة عن التقاليد وكرمه ،ثم َح ّمله األمانة .لقد اإلنسان ّ
اليونانية نفهسا يف «حرضة واقع كلف هللا ُر ُسال بتبليغ رسالته للناس كافة،
ميتافزيييق» يماثل يف متانته ُ
وكتبه رسمت سبل الهداية والنجاة،
األنطولوجية «الواقع الفزيييق»
وحوت األوامرالتي يجب اتباعها والنواهي
التي ينبغي اجتنابها .وهكذا قامت الحجة
َ َْ ْ ُ َ َ َْ ُ ْ
على الناس«َ :وق ِل ال َح ُّق ِمن َّرِّبك ْم ف َمن ش َاء فل ُي ْؤ ِمن َو َمن ش َاء فل َيك ُف ْر».1
ويوم ُيبعثون سيحاسبون على كل صغيرة وكبيرة قاموا بها« ،يومئذ يصدرالناس
ًّ ً ً
شرأ أشتاتا ِل ُي َروا أعمالهم ،فمن يعمل مثقال ذرة خيرا َي َر ُه ،ومن يعمل مثقال ذرة
َ
يره» 2.لقد تشكل واقع جديد مع األديان اإلبراهيمية .فقد صارالعالم االجتماعي
و«سنن» رسله.والسيا�سي والثقافي عموما ملزما بأن ينتظم وفقا ل ـ ــ«كتب هللا» ُ
وتبعا لذلك وجدت الفلسفات املوروثة عن مختلف التقاليد اليونانية نفسها
أمام خيارين:
• إما أن تتمسك بقضايا ميتافيزيقية كان القول بها شائعا بين مدارس وتقاليد
فلسفية يونانية ،مثل تعالي املبدأ األول (الخيرعند أفالطون ،واملحرك األول الذي
حد يجعله ال يعلم ما يحدث فيه ال يتحرك عند أ سطو) على العالم املحسوس إلى ّ
ٍ ر
وال يعنى بتدبير كائناته ،وسرمدية العالم أو مشاركته في األلوهية ،وفناء اإلنسان
-1سورة الكهف ،اآلية28 :
.2سورة الزلزلة ،اآليات .8 - 6
156
ً ً
صورة ومادة (نفسا وجسدا) .وبما أن هذه القضايا امليتافيزيقية تتعارض تعارضا
مطلقا مع عقائد هذه األديان ،فإن التمسك بها يف�ضي حتما إلى تعريض الفلسفة
واملشتغلين بها للتضييق واملنع واملالحقة.
ُ ُ
• وإما أن تراجع تلك القضايا وتعيد النظر فيها ،بأن تأخذ قطعيات الدين في
الحسبان ،وتضطلع بمهمات نظرية جديدة من قبيل البرهنة على وجود هللا
ووحدانيته ،وخلقه العالم واعتناءه به ،وخلود النفس وفردانيتها ،وحرية
اإلنسان واختياره .وهذا الخيارالثاني كان هو السبيل الوحيد ملنحها حق املواطنة
تحت سلطان الدين.
لقد اقت�ضى االضطالع بهذه املهام الجديدة مدة زمنية طويلة أسفرت مع نهاية
القرون الوسطى وبداية العصر الحديث عن تحوالت فكرية هائلة أصبح معها
النظرالعقلي قادرا على مقاربة الدين مقاربة نقدية تكشف النقاب عن تاريخيته،
ومدى معقولية عقائده وصحة كتبه املقدسة ،والعالقات التي يجب أن تقوم بين
مؤسساته ومؤسسات الدولة واملجتمع.
كان التساؤل املركزي الذي شغل الفالسفة زمنا طويال هو :أيمكن التوفيق بين
مقتضيات النظرالفلسفي ومتطلبات اإليمان الديني؟ وكيف؟ على أي نحو يمكن
للعقل أن يستوعب عقائد الدين وعباداته؟ وقد اختط الفالسفة في العصر
الحديث مسلكين للجواب عن هذا التساؤل.
سلك أنصارالالهوت العقلي مسلكا توفيقيا قائما على رفع الثوابت الدينية إلى
مقام الحقائق امليتافيزيقية .إن كان هناك حقيقة ،فال بد أن تكون واحدة فقط،
وإال حصل تعارض بين حقائق العقل وثوابت اإليمان .تكمن مهمة الفيلسوف،
حسب اليبنتز ( )Leibnizفي البرهنة ميتافيزيقيا على ما يعتنقه املؤمن ويسلم به
تسليما سلبيا؛ والعقل قادر على رفع التحدي والبرهنة على وجود هللا اعتمادا
على نفسه فقط .فإن توفق العقل في ذلك صار ما يأمر الدين بإتيانه أو باجتنابه
157 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
معقوال .سلك هيوم ( )Humeسبيال مختلفا عندما اعتبر الدين ظاهرة ذهنية
ونفسية كسائرالظاهرات األخرى من الضرب نفسه .فقد أكد في التاريخ الطبيعي
للدين ( )1757أن االعتقاد الديني ال يرتكز على أي معرفة موضوعية ،بل يجد
أساسه في الطبيعة البشرية الهشة.
ذلك أن ما يدعو اإلنسان إلى التدين هو األمل والخوف مما يحدث في العالم
من حوادث يجد نفسه عاجزا عن فهمها وتوجيهها لصالحه .أمام هذا الغموض
الذي يلف العالم ،ال يجد اإلنسان مفرا من اليأس والقنوط إال باالعتقاد في قوة
وعادلة يستطيع مناجاتها والتعويل عليها لكي تستجيب ألمانيه .يؤكد كونية ّ
خي ٍرة
ٍ ِ
صاحب هذا الطرح اإلمبريقي أن العقل البشري محدود ،أي أنه ال يستطيع أن
يثبت أي �شيء خارج التجربة .وبما أن اإليمان الديني يتعلق أساسا بأمور متعالية
تماما (هللا والوحي والحياة األخرى) ،فإنه مجرد اعتقاد ذاتي ال يسنده أي دليل
منطقي وال أي مالحظة تجريبية.
فمثلما نعتقد أن الشمس سوف تشرق غدا ،وال دليل لدينا على ذلك سوى أننا
الحظنا ذلك يحدث دائما ،فإننا نعتقد أن كائنا متعاليا يتحكم في أقدار العالم،
ألن حياتنا بدون هذا االعتقاد ستكون بال معنى .ما الدين إذن إال انفعال من نوع
خاص ،وضرب من الصلة التي يقيمها اإلنسان العادي مع التجربة.
ثمة مسلك ثالث بين امليتافيزيقا الدغمائية والنزعة اإلمبريقية الشكوكية
اختطه الفيلسوف األملاني إيمانويل كانط .لقد رفض مؤلف نقد العقل الخالص
مسلك أنصار الالهوت العقلي عندما أثبت في هذا الكتاب ،أنه ال سبيل إلى
البرهنة على وجود هللا عن طريق مفاهيم فقط كما زعم اليبنتز .فاهلل فكرة
ُ
عقلية خالصة ال يمكن بتاتا أن تضفى عليها أي داللة حسية تجعل منها مفهوما
معرفيا محددا؛ األمر الذي يترتب عنه أن هللا ينتمي إلى فئة األمور املاورائية (les
)suprasensiblesاملمتنعة على املعرفة البشرية؛ وتبعا لذلك ال يمكن تحصيل
158
أي معرفة تتعلق بوجوده أو بصفاته .ال
كان التساؤل املركزي الذي يستطيع العقل إذن أن يثبت عن طريق
شغل الفالسفة زمنا طويال
املعرفة ما يطالب الدين باإليمان به ،وال
هو :أيمكن التوفيق بني
يمكن للميتافيزيقا باملعنى الكالسيكي
مقتضيات النظر الفلسيف
أن تشكل ركيزة للتوفيق بين العقل
ومتطلبات اإليمان الديين؟
واإليمان ،ما دامت غير قادرة على إثبات
وكيف؟ عىل أي نحو يمكن
أي عقيدة دينية ،وعلى رأسها عقيدة
للعقل أن يستوعب عقائد الدين
وجود هللا .أينبغي للفيلسوف بناء على
وعباداته؟
ذلك أن يسلك سبيل هيوم ،فيقرر أن
الدين شأن نف�سي وأنثربولوجي فقط؟
كال! فكانط ال يتبنى النتائج الشكوكية للنزعة اإلمبريقية ،وإن كان يوافق
صاحبها في دعوى تناهي العقل البشري .ال ريب في أن العقل البشري ال يستطيع
امتالك معرفة موضوعية عن كل ما ال يقع تحت شرطي املكان والزمان .لكن ال
يترتب عن ذلك أن اإليمان الديني وهم ذاتي ،ألنه يتعلق بأمور يهتم بها العقل أيما
اهتمام ،وهي هللا والنفس والحرية؛ ومن ثمة يجب أن نبحث له عن معنى .على
الفيلسوف أن يبحث للدين عن معقولية بعيدة عن التفسيرالنظري ،ميتافيزيقيا
كان أو تجريبيا؛ ألن األمريتعلق ،حسب كانط ،بمصلحة العقل البشري ذاته.1
نتوقف هنا لنضع سؤاال هاما :تهتم الفلسفة الترنسندنتالية الكانطية بمعرفتنا
القبلية عن املوضوعات ،وليس باملوضوعات نفسها .والحال أن الديانات
اإلبراهيمية إنما هي وقائع تاريخية وثقافية ،وليست معارف عقلية .فما السبيل
-1ال بد من أن نسجل ديننا بكثيرمما يرد في هذه املقالة لشرح ميكاييل فوسيل للجزء الرابع من «الدين
في حدود العقل وحده» ،الذي يمتد من الصفحة 87إلى الصفحة 142من املرجع اآلتي:
Kant, La religion dans les limites de la simple raison (Quatrième Partie), trad. Marc
Schweyer, Analyse de Michaël Fœssel, Paris, Hatier, 2000 (coll. «Les Classiques Hatier
de la Philosophie»).
159 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الذي سلكته هذه الفلسفة ،فحتم عليها
أن تقارب هذه الوقائع؟ وما الذي يمكن هتتم الفلسفة الرتنسندنتالية
لفلسفة كهذه أن تقوله عن وقائع ال الكانطية بمعرفتنا القبلية عن
يمكن للعقل أن يعيد بناءها بأكملها في املوضوعات ،وليس باملوضوعات
نفهسا .والحال أن الديانات ضوء مبادئه الخاصة؟
ً ُ
اإلبراهيمية إنما يه وقائع * مصلحة العقل العملي ركيزة
تاريخية وثقافية ،وليست لإليمان
إن اهتمام كانط بالدين أمر ترتب عن معارف عقلية .فما السبيل
تأسيسه للفلسفة العملية .فبعد اكتمال الذي سلكته هذه الفلسفة،
نسق الفلسفة الخلقية ،أي بعد االنتهاء فحتم علهيا أن تقارب هذه
الوقائع؟ من الجواب عن سؤال العمل :ماذا
يجب ّ
علي أن أفعل؟ يفرض سؤال األمل
نفسه علينا فرضا :إن ُ
قمت بما يأمرني
به الواجب ،ما الذي يجوز لي عندئذ أن آمله؟ وبعبارة أخرى ،إن صرت جديرا
بالسعادة من خالل استقامتي الخلقية ،أيمكنني أن آمل في أن أحظى بنصيب
منها فعليا؟
-فصل األخالق عن الدين
يجيب كانط عن سؤال العمل جوابا ال يستدعي بتاتا الدين أو الالهوت؛ ذلك
أن األخالق عنده تستند إلى فكرة التشريع الذاتي ( ،)autonomieأي إلى قدرة
العقل العملي على أن يضع من تلقاء ذاته القانون الخلقي دون أن يلتمس أي
عون خارجي؛ وما الحرية إال طاعة هذا القانون الذي يفرضه العقل الخالص
فرضا .ال توجد رابطة ضرورية بين التخلق والتدين إن كان املقصود بالتدين هو
االلتزام بأداء الشعائر؛ فقد يكون املرء في اآلن نفسه متخلقا وغير متدين ،وقد
160
يكون في الوقت ذاته متمسكا بأداء الشعائرالدينية وغيرمتخلقّ .إن تمتع اإلنسان
كاف ألن يدرك بوضوح ما يجب عليه أن يفعله لكي يحسن الفعل .وتبعا بالعقلٍ ،
لذلك ،ال حاجة لإليمان باهلل لكي نتصرف تصرفا خلقيا« .ال تحتاج «األخالق» إلى
فكرة كائن آخريوجد فوق اإلنسان حتى يتعرف هذا على واجبه ،وال إلى أي باعث
آخر غير القانون نفسه حتى يتقيد به )...( .فاألخالق إذن ال تحتاج بتاتا ( )...إلى
1
الدين ،بل تكفي ذاتها بذاتها بفضل العقل الخالص العملي».
لقد بين كانط في تحليالت نقد العقل العملي أن الوعي بالقانون الخلقي
واقعة عقلية خالصة ،وأن كل إنسان بما هو كائن عاقل يستشعر هذه الواقعة
عل.
كصوت آمر على جهة الوجوب؛ األمر الذي يدفع إلى اعتباره قانونا آتيا من ٍ
فبما أننا ال ندرك أن األمرالثقيل (الواجب) إنما يأتي من العقل الخالص العملي،
فإننا نتخيل أن كائنا متعاليا قد فرضه علينا ،وبذلك نسقط في مطب التبعية
ًَ
مستعبدة لواقع يعلو عليها، التشريعية ( )hétéronomieالتي تجعل من الذات
وتنفي الحرية اإلنسانية.
من شأن تصور كهذا أن يؤدي ،حسب كانط ،إلى إماتة الخلقية ،2ألنه يجعل
اإلنسان كائنا وصوليا ال يسلك خلقيا إال عن طمع في نيل مرضاة هللا وثوابه.
1. KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 3; trad. Alain Renaut, Paris,
Puf, 2016, p. 35.
بإمكان القارئ أيضا أن يراجع الترجمة العربية اآلتية:
-كانط ،الدين في حدود مجرد العقل ،ترجمة ،فتحي املسكيني ،بيروت ،جداول ،2012 ،ص.45 .
وبما أن الترجمتين معا تحيالن على أرقام صفحات هذا الكتاب في نشرة أكاديمية برلين ألعمال كانط
(التي يرمز إليها اختصارا بـ ،)AK :وذلك ما تفعله أغلب النشرات اليوم ،فسنكتفي الحقا باإلحالة على
رقم املجلد باألرقام الرومانية ،ورقم الصفحة في هذا املجلد باألرقام العربية .وهذا ما سنفعله أيضا مع
باقي كتب كانط.
-2يميز كانط بين قوانين الطبيعة وقوانين الحرية .وهذه األخيرة تنقسم إلى قواعد قانونية ال تنصب إال
على األفعال الخارجية وبموافقتها للقانون (وهنا نصرف النظر عن دوافع الفعل) ،وقوانين خلقية إن
كانت تقت�ضي فضال عن ذلك أن تكون هي نفسها حوافزللفعل .في الحالة األولى نتكلم عن شرعية الفعل،
وفي الثانية عن خلقيته .فالخلقية إذن هي اتفاق املبدأ الذاتي للفعل مع القانون.
161 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
وهكذا ُيستعاض عن األمرالقطعي 1للعقل (وهو يأمرعلى نحو كلي وغيرمشروط)
بأمر شرطي يمكن صوغه على النحو اآلتي :إن رغبت في الخالص ،يجب علي أن
أتصرف على نحوخلقي .وعندئذ لن يكون للواجب فاعلية إال إن كان هللا موجودا؛
والحال أن وجود هللا مطلب ال يمكن للعقل البشري أن يبرهن عليه برهنة قاطعة.
فحتى يكون لألخالق اعتبار كلي ،ال بد من تأسيسها على العقل وحده ،بعيدا عن
أي اعتبارات دينية أو أنثروبولوجية.
* حاجة األخالق إلى األمل
ّإن رفع بنيان الخلقية أمر ال يحتاج كما قلنا آنفا إلى الالهوت وال إلى الدين؛
ولكن األخالق نفسها تؤدي حتما إلى تناول املسألة الدينية .فهي وإن كانت قائمة
على فكرة التشريع الذاتي للعقل الخالص العملي ،فإن ممارستها الفعلية أي
السلوك وفقا لقوانين الحرية ،تجعل اإلنسان بما هو إنسان يسعى إلى أن يرى
الطبيعة تتفق ورغبته املستحقة في أن يكون سعيدا .ذلك أن املثابرة على االمتثال
للقانون الخلقي ،هي ما يسميه كانط بالفضيلة؛ والفضيلة تجعل اإلنسان جديرا
بالسعادة .والوحدة بين الفضيلة والسعادة هي ما يسميه كانط بالخيراألعظم (le
،)souverain bienالذي تجعل منه الخلقية غاية قصوى لإلرادة ينشدها كل
إنسان من وراء طاعته القانون احتراما.
يتمثل العقل العملي هذه الغاية بوصفها اقترانا بين مكونين غير متجانسين
بتاتا؛ وهما -كما قلنا -الفضيلة والسعادة .فاألولى خير خلقي ،بينما الثانية خير
ح�سي .ولئن كانت الفضيلة خيرا أسمى ( )le bien suprêmeفإنها ليست خيرا
تاما ()le bien complet؛ وتمامها ال يكون إال بالسعادة التي ال يمكن للكائن
-1األمر ( )l’impératifعبارة عن حكم معياري ،أو قل هو قضية تعبر عن واجب ،أي عن ضرورة عملية.
إن كان األمرشرطيا فإن األمريتعلق بواجب مشروط يق�ضي بأن من أراد تحقيق الهدف الفالني عليه أن
يتبع الوسيلة الفالنية .أما األمر القطعي ،فيعبر عن واجب غير مشروط أو عن معيار مطلق للعقل دونما
اعتبارألي غاية.
162
املتناهي أن يتنكر لها تماما ،وإال أنكر
طبيعته الحسية .فالسعادة والفضيلة املثابرة عىل االمتثال للقانون
إذن عنصران متمايزان نوعيا ،ولكنهما الخليق ،يه ما يسميه كانط
يتحدان معا في مفهوم الخير األعظم .بالفضيةل؛ والفضيةل تجعل
اإلنسان جديرا بالسعادة. والسؤال عندئذ هو ،على أي نحو
يتحدان :أيكون ذلك على َن ْحو تحليلي (= والوحدة بني الفضيةل والسعادة
ٍ
اقتران منطقي) ،أم على نحو تركيبي (= يه ما يسميه كانط باخلري
ٍ
األعظم اقتران واقعي قائم على مبدأ السببية)؟
فإما أن السعي إلى الفضيلة وطلب
السعادة ليسا فعلين مختلفين ،بل
ُ
متماهيين؛ وإما أن الصلة بينهما قائمة على مسلمة مفادها أن الفضيلة تحدث
السعادة بوصفها شيئا متميزا عن الوعي بالفضيلة .أيا يكن الحل ،فإنه ينبغي أن
ٌ
موضع يجعلنا نتصور اقترانا بين هذين العنصرين؛ وبموجب هذا االقتران ُيحجز
للسعادة في األخالق دون تقويض هذه األخيرة ،أي دون تحويل السعادة إلى دافع
مباشرللفعل الخلقي.
ال يحتاج املرء إلى بذل مجهود فكري كبير لكي يتبين أن العالقة بين الفضيلة
والسعادة ليست تحليلية بأي وجه من الوجوه .ذلك أن الفضيلة مجهود نبذله
ّ
التباع أوامر الخلقية صاغرين ،األمر الذي يعني مصارعة رغباتنا ونزواتنا ِ
ومصالحنا الذاتية ،ولنقل بعبارة موجزة التضحية بسعادتنا .فأن تكون فاضال
َ
على الطريقة الكانطية ،يعني أن ت ْـم َت ِثل ملا يأمر به الواجب فقط ،وال ترجو من
وراء ذلك جلب منفعة وال دفع مضرة؛ وهذا ما يترتب عنه أن الفضيلة والسعادة
مفهومان غيرمتجانسين بتاتا ،وأنهما أبعد ما يكونان عن االتفاق.
أما وقد اتضح أن الصلة بين هذين املكونين ليست تحليلية ،فلنفحص اإلمكان
163 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
اآلخر ،وهو الصلة التركيبية .واألمر في
إما أن السيع إىل الفضيةل هذه الصلة ال يخرج عن هذه القضية
ُ
الفصلية :إما أن السعادة تحدث وطلب السعادة ليسا فعلني
الفضيلة ،أو لنقل إنها دافع يحض عليها؛ خمتلفني ،بل متماهيني؛ وإما
ُ
أن الصةل بيهنما قائمة عىل 1
وإما أن الفضيلة تحدث السعادة.
إن القضية األولى (= سببية السعادة) مسلمة مفادها أن الفضيةل
باطلة تماما؛ إذ ال يمكن أن تكون السعادة تُحدث السعادة بوصفها شيئا
محددا لألخالق كما يتصورها متمزيا عن الويع بالفضيةل
أساسا ّ
ِ
كانط .أما القضية الثانية ،فيتعين
فحصها :كيف يمكن للفضيلة (وهي
ُ
تابعة للقانون الخلقي) أن تحدث السعادة (وهي متعلقة بالقوانين الطبيعية)؟
إن اقترانا بين هذين املكونين غيراملتجانسين في العالم املحسوس أمرممتنع ،ألن
واملسببات في عالم الظاهرات يخضع لقوانين الطبيعة ال َّ الترابط بين األسباب
ً
لقوانين األخالق .والوصول إلى السعادة يتطلب من هذه الزاوية معرفة مطلقة
َ
وامتالك قدر ٍة شبه إلهية ابتغاء تسخير بالعالم (ليست في مقدرة اإلنسان أبدا)،
ُ
قوانين الطبيعة ألغراضه .ثم إن املراعاة الصارمة لقوانين األخالق ال تف�ضي
ُّ
« -1إما أن تكون الرغبة في السعادة سببا محركا يحث على مبادئ ذاتية للفضيلة ،وإما أن يكون املبدأ
الذاتي للفضيلة سببا فاعال للسعادة .)KANT, Critique de la raison pratique, AK V, 113( ».ال يتعلق
األمر في األطروحة بالسعادة بما هي حال ( ،)étatبل بالتوق إلى السعادة بوصفه أساسا ّ
محددا لإلرادة.
ِ
تؤكد األطروحة أن اإلنسان مدفوع (سبب محرك) إلى تبني مبادئ ذاتية خلقية ،وتلك دعوى مذهب
السعادة .أما األطروحة املضادة فتعبر في إطار الفلسفة الخلقية الكانطية عن قضية تتعلق بالواقع
الفعلي .ونقطة االنطالق هنا هي «املبدأ الذاتي للفضيلة» بوصفها عزما خلقيا فعليا ،والسعادة تدل هنا
على «الحال» ،حال كائن عاقل في العالم ،يسير كل �شيء حسب ما يشتهي ويريد طوال حياته .ال يمكن
للسعادة أن تكون معلوال للفضيلة إال باملعنى الذي تكون فيه السعادة نتيجة ضرورية لسلوك أصيل
خلقيا دون أن تكون غاية له .فاألطروحة املضادة ترمي إلى واقع له قوام يجعله يضمن السعادة ملن
يتصرف خلقيا ،وفق تناسب دقيق بحسب االستحقاق.
164
بالضرورة إلى السعادة ،بل إنها تقترن في الغالب باملعاناة والشقاء.
ها نحن أمام نقيضة العقل العملي التي تنص من جهة أولى على مطلب اقتران
الفضيلة بالسعادة« ،فمن الضروري قبليا (من الناحية الخلقية) أن َي ْح ُدث الخير
األعظم من خالل حرية اإلرادة»1؛ ومن ثمة السؤال :كيف يكون الخير األعظم
ممكنا من الناحية العملية؟ وتنص من جهة ثانية على امتناع هذا االقتران ،وهذا
ّ
أمربالغ الخطورة .ذلك أنه «ل ـا كان الخيراألعظم ،الذي ينطوي على هذا االرتباط
في مفهومه ،موضوعا ضروريا ضرورة قبلية إلرادتنا ،وكان هذا موصوال بالقانون
الخلقي وصال ال ينفك ،لزم عن ذلك أن امتناع األول يقيم الدليل على بطالن
الثاني .وعليه ،لو كان الخير األعظم ممتنعا بمقت�ضى قواعد عملية ،للزم عن
ذلك ّأن القانون الخلقي اآلمربالعمل على تحقيقه من اختالق املخيلة ،وأنه يرمي
إلى غايات خيالية فارغة؛ وتبعا لذلك يكون باطال في ذاته» .2وهكذا فإن مصير
3
القانون العملي وجدوى الخلقية يوضعان على املحك.
ُّ
يحل كانط هذه النقيضة بالطريقة نفسها التي حلت بها نقيضة العقل
الخالص النظري (النقيضة الثالثة) .فالنقيضة ال تظهر إال حيث نجزم بأن
هناك عاملا واحدا ،وأن الوجود الظاهراتي هو الصورة الوحيدة للوجود بالنسبة
ُ
إلى اإلنسان؛ وبالتالي يستحيل أن تحدث الفضيلة السعادة إن كان الوجود في
165 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
العالم املحسوس هو الوجود الوحيد املمكن .لكن هذا األمرليس ممتنعا إن كان
ثمة وجود نوميني .1وعليه ،يمكن للفضيلة بما هي سبب أن تف�ضي إلى السعادة
بوصفها مسببا وفقا القتران ضروري ،ولكنه غيرمباشر ،بل بتدخل بارئ عاقل،
ُ
أي هللا .وهكذا ت َح ُّل النقيضة بواسطة سبب نوميني يجعل السعادة والفضيلة
متناسبتين.
ينتج عن هذا الحل لنقيضة العقل الخالص العملي أنه يمكن أن نتصور بالفكر
في املبادئ العملية األمر اآلتي بوصفه ممكنا على األقل :وجود اقتران طبيعي
وضروري بين الوعي بالخلقية واألمل في سعادة متناسبة مع هذه الخلقية بوصفها
(وبي ٌن أن هذا ال يعني معرفة هذا االقتران وإدراك كنهه)؛
نتيجة تترتب عليها ّ
ولكن ينتج عنه باملقابل أيضا أنه من املمتنع أن يكون بإمكان مبادئ البحث عن
ُ
السعادة أن تحدث الخلقية .ويلزم عن ذلك أن الخير األسمى (بوصفه الشرط
األول للخير األعظم) يكمن في الخلقية ،بينما تشكل السعادة بالتأكيد العنصر
نحو تكون فيه نتيجة مشروطة خلقيا ،ولكنها
الثاني في الخير األعظم ،ولكن على ٍ
2
مع ذلك ضرورية للخلقية.
ما دام األمر يتعلق في الخير األعظم بتركيبة جامعة تضم عنصرين غير
متجانسين ال يستطيع الكائن العاقل املتناهي بجهوده الجمع بينهما ،فإن مصلحة
العقل العملي الذي يوجب تحقيق هذا الخيرفي العالم ،تقت�ضي التسليم بشروط
نظرية ال مفرمنها إلمكان هذه الغاية؛ وهذه الشروط عبارة عن قضايا نظرية أكد
النقد من قبل أن العقل النظري ال يستطيع بخصوصها أن يجزم ب�شيء ،ال إثباتا
-1يميز كانط بين الظاهرات والنومينات .األولى هي األشياء كما تظهر لنا وفقا لشروط إدراكنا الح�سي.
أما الثانية فهي هذه األشياء نفسها كما هي في ذاتها بمعزل عن إدراكنا الح�سي .ما نعرفه عن األشياء إنما
هو هذه األشياء كما تظهر لنا .أما النومينات فليس لدينا عنها إال مفهوم فارغ يدل على �شيء غير محدد
بوصفه ليس موضوعا لحدسنا الح�سي.
2- KANT, Critique de la raison pratique, AK V, 119.
166
وال نفيا 1.فما هي هذه القضايا؟
ما دام األمر يتعلق يف اخلري * ال أمل بال إيمان
يرى كانط أوال أن القداسة ( Laاألعظم برتكيبة جامعة تضم
عنرصين غري متجانسني ،)saintetéالتي هي «امتثال النيات في
ال يستطيع الكائن العاقل اإلرادة امتثاال تاما للقانون الخلقي» ،هي
املتنايه بجهوده اجلمع «الشرط األسمى للخير األعظم» .2وتبعا
لذلك ،فإن إمكان تحقق هذا األخير بيهنما ،فإن مصلحة العقل
يتطلب أوال أن تكون قدسية اإلرادة العميل الذي يوجب تحقيق
ممكنة .والحال أن اإلنسان كائن ال يمكن هذا اخلري يف العالم ،تقتيض
التسليم برشوط نظرية ال أن يتنصل من طبيعته الحسية ،وال أن
يتنكر لها حتى عندما ينصاع للقانون مفر مهنا إلمكان هذه الغاية
الخلقي .ذلك أن هذا األخير يتخذ عند
هذا الكائن صورة الواجب املقترنة دائما
باإلكراه واإللزام ،كما أن االنصياع التلقائي له (=القداسة) أمربعيد عن متناول
اإلنسان .ال مخرج إذن من هذه الصعوبة إال بالتسليم بإمكان تقدم اإلرادة تقدما
ال متناهيا نحو القداسة ،أي بالتسليم بخلود النفس .إن الخلود قضية يجب
التسليم بها لتأمين تقدم الفضيلة نحو القداسة ،أي للتحقق التام للخلقية ،عن
طريق مصارعة اإلرادة للنزوات وامليول ،والتقدم على هذا الدرب شيئا فشيئا
وصوال إلى التغلب التام عليها؛ وبذلك تصبح القداسة شرطا أسمى للسعادة.
وهكذا فإن الخيراألعظم غيرممكن عمليا من دون افتراض خلود النفس .خالصة
ٔ
- 1ال بد من التشديد على ان هذه الشروط (معتقدات العقل الخالص العملي) ليست شروطا للقانون
الخلقي ،بل هي شروط لتحقق الخير األعظم الذي هو غاية ضرورية إلرادة يحددها هذا القانون
ٔ ٔ ٔ
( ،)Ibid., AK V, 4او قل ٕانها شروط ضرورية ملا يامرنا القانون قبليا بان نتخذه غاية نعمل على تحقيقها
في العالم [.]Ibid., AK V, 135
2- Ibid., AK V, 122.
167 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
القول إذن ،إن الفضيلة (= املكون األول
في الخير األعظم) تقت�ضي خلود النفس خالصة القول إذن ،إن الفضيةل
(= املكون األول يف اخلري ابتغاء حصول تقدم عملي نحو املثل
األعظم) تقتيض خلود النفس األعلى للقداسة.
ابتغاء حصول تقدم عميل يؤكد كانط ثانيا أن الفضيلة ال تقترن
نحو املثل األعىل للقداسة بالسعادة بالضرورة في العالم املحسوس.
ذلك أن «السعادة ٌ
حال ،في العالم ،لكائن
عاقل يسيركل �شيء وفق ما يشتهي ويريد
طوال حياته؛ وهي تبعا لذلك تقوم على اتفاق الطبيعة مع الغاية الكاملة التي
ينشدها ،وكذلك مع األساس الجوهري لتحديد إرادته» .1أما القانون الخلقي،
ٌ
فهو قانون للحرية ،أي يأمرفي استقالل تام عن الطبيعة .وتبعا لذلك ،ال يوجد في
القانون الخلقي أي أساس لقيام صلة ضرورية بين الخلقية والسعادة املتناسبة
معها .كما أن اإلنسان الذي يفعل في العالم ،إنما هو جزء منه وتابع له ،وليس
سببا له ،وليس له قدرة على أن يجعل الطبيعة متفقة مع مبادئه العملية فيما
يخص سعادته .والحال أن هذه الصلة ضرورية للمهمة العملية للعقل الخالص،
أي للمجهود الضروري املبذول لتحقيق الخيراألعظم .يلزم عن ذلك أنه ال بد من
التسليم بوجود إله قادرعلى جعل العالم مالئما ملطلبنا العملي ،أي اإليمان باهلل
باعتباره هوالضامن إلمكان تحويل الواقع في االتجاه الذي يمليه القانون الخلقي.
وبعبارة أخرى ،إن التحقق الفعلي للسعادة ،وهي املكون الثاني في الخير األعظم،
يقت�ضي التسليم بوجود هللا لضمان تناسب بين الفضيلة والسعادة ،أو قل ،إن
السعادة املتناسبة مع الخلقية تقت�ضي افتراض وجود خالق أخالقي للعالم .وبهذا
«يتم التسليم كذلك بوجود سبب للطبيعة كلها ،متميز عنها ،ويتضمن أساس
168
هذه الصلة ،أي أساس االتفاق الدقيق بين السعادة والخلقية»؛ «وعليه ،ال يكون
ً
الخير األعظم ممكنا في العالم إال إذا سلمنا بسبب أسمى للطبيعة ُيما ِرس سببية
توافق النية الخلقية» .1إن استعمال اإلنسان لحريته ال يكفي وحده لتحصيل
الخيراألعظم ،وإال تجاهلنا الشرط البشري؛ ولذلك يظل وجود هللا مسلمة ال غنى
عنها لتوزيع السعادة توزيعا عادال يتناسب واستحقاق كل شخص.
يتعلق األمر هنا بمعتقدين للعقل الخالص العملي يسميهما كانط باسم
مستعار من الرياضيات ،وهو املسلمة .إنهما مسلمتان ،ألن العقل النظري ال
يستطيع البرهنة عليهما بتاتا ،إال أن مصلحته العملية تحمله حمال على افتراضهما
والتسليم بهما .إنهما فرضيتان ذاتيتان ضروريتان لكي نتمكن من أن نأمل على
نحو مشروع في أن الفعل الخلقي سيكون له آثار على الطبيعة ،وأن العالم قابل
غيرتغييرا يصيربموجبه متفقا مع قوانين العقل العملي .يستعمل كانط عبارة ألن ُي َّ
«إيمان عقلي» لوسم عالقة الذات بهاتين املسلمتين .وليس في هذه العبارة غرابة،
ألن األمريتعلق بإيمان ،ما دمنا ال نستطيع أن نبرهن على هاتين القضيتين؛ غيرأن
هذا اإليمان عقلي ،ألن العقل هو من يتصور وجود هللا وخلود النفس بوصفهما
شرطين للخيراألعظم .فإذا قيل عن اإليمان إنه «عقلي» ،فذلك وفقا لعقل نقدي
واع بحدوده.
ومن هنا نفهم فهما أفضل معنى العبارة الشهيرة« :لقد كان علي إذن أن أضع
«العلم» ( )le savoirجانبا لكي أفسح مجاال لإليمان» .2و«العلم» املقصود في
االقتباس هو امليتافيزيقا الدغمائية التي كانت تزعم أنها تستطيع أن تصل إلى
تحديد موضوعي ملاوراء -املحسوس ( .)le suprasensibleأما «اإليمان» املعني
في االقتباس نفسه ،فهو اإليمان العقلي الذي يضمن العقل العملي معناه وليس
1 - Ibid., AK V, 125.
2- KANT, Critique de la raison pure, B XXX; trad. Alain Renaut, Paris, GF-Flammarion,
2001, p.85
169 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
موضوعيته .إن األمل في خلود النفس وفي وجود هللا ال يجد داللته إال في االرتباط
بفعلنا .وبناء على ذلك ،ال توجد معرفة موضوعية يمكن االستناد إليها لتقويم
قوم الدين الدين ،فال يبقى لدينا إال اإليمان العقلي .وبعبارة أخرى ،ال ينبغي أن ُن ّ
انطالقا من حقيقة دغمائية (سواء تعلق األمربحقيقة فلسفية أو بحقيقة دينية
مخصوصة) ،بل من إيمان خلقي كوني غير قابل للبرهان .فال أحد إذن يستطيع
أن يطالب بمعرفة باهلل لكي يستنبط منها ماهية الدين الحق.
يتبين مما سبق أنه ال سبيل إلى تجنيب املهمة الخلقية امللقاة على عاتق
ُ
اإلنسان نقيصة اليأس إال إذا ت ّ ِوجت بأفكاردينية (خلود النفس ووجود هللا)؛ إال
أن هذه األفكارهي أفكارالعقل التي ينتجها عندما يود أن يمسك بالالمشروط ،أو
قل باملطلق .ذلك أن العقل هو امللكة التي تتسامى إلى املطلق متخطية كل حدود
التجربة .وإذا كانت أفكار العقل تتوافق مع األفكار الدينية ،فما ذلك إال ألنها
تتعلق بمطلق ينبغي لنا أن نؤمن به فقط ،ألننا ال نستطيع أبدا معرفته أوالتحقق
منه .وهكذا نفهم قول كانط« :إن األخالق تقود على نحوالمناص منه إلى الدين».1
يظهر الدين في نهاية هذا املسار كنتيجة محتومة تترتب عن األخالق .والتعريف
اآلتي الذي يقدمه كانط يعبرعن هذه الصلة :الدين «معرفة بكل واجباتنا بصفتها
فرائض إلهية» .2وهكذا ،ما أن نعتبر واجباتنا وكأنما هي تصدر عن هللا ،بتوسط
عقلنا ،نبارح مجال األخالق وندخل نطاق الدين .ال يتعلق األمر هاهنا باملعرفة
باملعنى الدقيق ،بل بتفكيرذاتي يمنح للقانون الخلقي مرتكزا متعاليا .فكل إنسان،
ما أن يعمل ،يواجه بالضرورة مشكلة غائية فعله في العالم .وحتى يمنح معنى
لهذا العمل ،ويتصوره بالفكرعلى أنه فعل ناجع وعيني ،فإنه ملزم بأن يسلم بأن
هللا موجود ،وأنه الخالق األخالقي للعالم .من دون هذه املسلمة سيكون بإمكان
1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 6
2- Ibid., AK VI, 153. Voir aussi, Critique de la raison pratique, AK V, 129, et Critique de la
faculté de juger, AK V, 481.
170
اإلنسان دائما أن يتصرف على نحو
ال سبيل إىل تجنيب املهمة
خلقي (ألن العقل يكفي في ذلك) ،غيرأنه
الخلقية امللقاة عىل عاتق
سييأس من فاعلية التزامه .واليأس هو
اإلنسان نقيصة اليأس إال
الخطوة األولى نحو التبطل.
إذا تُ ِّوجت بأفكار دينية (خلود
* الدين سبيال لبسط سلطان هللا
النفس ووجود اهلل)؛ إال أن هذه
لم نتطرق ،إلى اآلن ،إلى الدين إال من
األفكار يه أفكار العقل اليت
زاوية «الالهوت الخلقي» الذي يعتبره
ينتجها عندما يود أن يمسك
كانط مشروعا بعد تقويض «الالهوت
بالالمرشوط
العقلي» .والواقع أن كانط عالج املشكلة
الدينية من هذه الزاوية في ختام نقد
العقل العملي وفي ختام نقد ملكة الحكم .ال ريب في أن «الالهوت الخلقي»
مختلف عن «الالهوت العقلي» ،ألنه ال ُيقيم الدين على أي معرفة موضوعية؛
إال أنه يظل مع ذلك مرتبطا بالعقل (العقل العملي) ،وال يقيم بذلك أي عالقة مع
التجربة الواقعية الخاصة بالدين .والحال أن الدين ليس مجرد مطلب عقلي،
وإنما هو أيضا واقعة وممارسة ثقافية تاريخية ،وكتاب الدين في حدود العقل
وحده هو الكتاب الذي خصصه كانط لتناول هذه الواقعة.
ُ
يدل عنوان هذا الكتاب على أن كانط سيفحص واقعة ال يمكن أن تستنبط
سوغ انطالقا منه .فبما أن األمر يتعلق بمعتقدات وعبادات من العقل أو ُت َّ
وطقوس وكتب مقدسة تستع�صي على كل مجهود يسعى إلى عقلنتها ،فإن ما
يتبقى للفيلسوف إنما هو تقويم هذه األمور انطالقا من إيمان عقلي وخلقي،
وليس من معرفة موضوعية .وبهذا املعنى ،فإن كتاب الدين في حدود العقل
وحده ما هو إال فحص نقدي يسعى إلى إدراك معنى واقع تجريبي قائم سلفا .وهذا
الواقع عبارة عن تجربة ثقافية يقيم من خاللها البشر صلة باملقدس .إن ما يبرر
171 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
االنتقال من الالهوت الخلقي ،حيث
ليس الترشيع الذايت هو تم إثبات القيمة العملية املوضوعية
امليسم الوحيد للحرية ملعتقدي خلود النفس ووجود هللا ،إلى
فحص الدين بما هو واقع ثقافي تاريخي ،اإلنسانية؛ ذلك أن ربط احلرية
أمر اقتضاه فحص كانط لخصيصة هبذا املفهوم أمر يتعلق باختيار
ملتصقة بالحرية اإلنسانية ،وهي الشر مهنيج كان كانط فيه قد قرر
املتجذر ،أو عصيان األمر اإللهي في التغايض عن كل االعتبارات
األنرثبولوجية الخاصة باملشيئة التصويرالرمزي الديني.
اإلنسانية ،فلم يركز إال عىل * معضلة الشر
اإلرادة اخلرية الخالصة ليس التشريع الذاتي هو امليسم
الوحيد للحرية اإلنسانية؛ ذلك أن ربط
الحرية بهذا املفهوم أمر يتعلق باختيار
منهجي كان كانط فيه قد قرر التغا�ضي عن كل االعتبارات األنثربولوجية الخاصة
باملشيئة اإلنسانية ،فلم يركز إال على اإلرادة الخيرة الخالصة .وهذا هو ما ُيفسر
حديث كانط في تأسيس ميتافيزيقا األخالق ونقد العقل العملي عن الكائن العاقل
فقط ،وليس عن اإلنسان في كليته .إن استحضارهذه األبعاد األنثروبولوجية في
القسم األول من الدين في حدود العقل وحده ،هو ما جعل كانط يتحدث أساسا
عن املشيئة البشرية التي تستعمل الحرية استعماال يختار فيه اإلنسان أن
يتنكر أحيانا ملا يمليه القانون الخلقي ،معطيا األولوية لرغباته .وهذا االستعمال
يسميه كانط بـ«الشر املتجذر» ،أي الضارب بجذوره في املشيئة الحرة .في هذا
االستعمال يقلب اإلنسان الترتيب الحقيقي الذي ينبغي أن يقوم بين الحوافز.1
-1ولذلك« ،ليس اإلنسان (بما في ذلك األفضل) شريرا إال ألنه يعكس الترتيب األخالقي للحوافز في
الطريقة التي يتبناها بها في مبادئه الذاتيةLa religion dans les limites de la seule raison, AK( ».
)VI, 36
172
فبدال من استتباع امليول الحسية للقانون كما يجب على الذات أن تفعل ،فإنها
تفعل العكس ،فتجعل القانون الخلقي ينزل من مقام الشرط األسمى إلى درك
املشروط ،كأن يلتزم أحدهم قول الحق من أجل تفادي التورط في أحابيل
الكذب .وهكذا يقرر كانط في هذا القسم أن اإلنسان ،بما هو إنسان ،شرير
بالطبيعة .واملقصود بذلك أنه ،من حيث هو نوع من الكائنات العاقلة املتناهية،
واع بالقانون الخلقي كواقعة عقلية كونية مغروزة في بنية ضميره« ،ومع ذلك تبنى
االنحراف عنه (ظرفيا) في مبادئه الذاتية» ،1أو لنقل إن «ميله الحيواني واألناني
ُ
َي ْح ِمله على أن يستثني نفسه منه عندما يشاء».2
هذا النزوع املتجذر في كل إنسان ال يمكن تحديد أصله زمنيا ،طاملا أنه أمر
جنته الحرية على نفسها ،وال يمكن أن يكون له إال أصل عقلي يبين األساس الذاتي
الكلي للطريقة التي بها تبنى اإلنسان انتهاك القانون في مبدئه الذاتي ،مانحا بذلك
موقع الصدارة لحوافز من شأنها أن تكون تابعة ،وال تستحق أن تكون متبوعة.
غير أن هذا األصل العقلي ال يفسر الشر؛ ولذلك يعترف كانط بأن هذا األصل
يظل بالنسبة إلينا ممتنعا على الفهم ،وال نستطيع سبر غوره ،وهذا ليس ممكنا
إال إذا كان نابعا من قرار حر« .ليس ثمة أساس قابل للتصور نفهم انطالقا منه
من أين أمكن للشرالخلقي أن يأتي إلينا أول مرة» .3في الشرالخلقي مفارقة تتمثل
في أن الحرية تتنكرللقانون الخلقي الذي هو عالمتها والدليل عليها ،وهي إذ تتنكر
له تتنكرلنفسها.
لقد عبرت األديان اإلبراهيمية تعبيرا رمزيا عن هذا األصل الذي ال يستطيع
العقل أن يعرفه في قصة عصيان آدم لألمر اإللهي .تبين هذه القصة كيف بدأ
173 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الشرفي النوع البشري؛ فهي تضع في أصل األزمنة ما هو أول عقليا ،عندما تخبرنا
بأن الشر لم يصدر عن نزوع موجود سلفا كان من شأنه أن يحمل اإلنسان على
اقتراف الخطيئة ،بل إنه تولد من الخطيئة ،أي من انتهاك القانون الخلقي بما هو
أمرإلهي .كان اإلنسان قبل الخطيئة في حالة البراءة .كان معرضا إلغراءات امليول؛
وتبعا لذلك ما كان له أن يتلقى القانون الخلقي إال كواجب ثقيل الوطأة (النهي
عن األكل من شجرة معينة) .وبدال من االمتثال لهذا القانون ،وتبنيه كحافزكاف
بذاته لتحديد مشيئته ،راح يبحث عن حوافز أخرى ال يمكن أن تكون ّ
خيرة إال
تحت سلطان القانون ،واتخذ من طاعة الواجب بدافع أغراض أخرى غيراحترام
القانون مبدأ ذاتيا لسلوكه .هكذا راح يشكك في صرامة األمر الخلقي ،ويلجأ إلى
التمويه والتحايل لجعل طاعة القانون مشروطة بإشباع امليول املتعلقة بمبدأ
ْ
حب الذات .وإذ منح األولوية للنزوات الحسية على القانون في مبدئه الذاتي،
اقترف الخطيئة .تقول القصة إن الشر حدث في بداية العالم ،وتضعه بداية في
كائن روحاني (إبليس) ،وتخبرنا أن اإلنسان ما سقط في الشر إال بعد أن أضلته
ّ
هذه الروح الغاوية وأزلته .وعلى عكس إبليس ،لم يكن سقوط اإلنسان تمردا
على هللا ،بل تنكرا للعقل؛ وسقوطه هذا لم يفسد استعداده األول للخير ،أو
1
إرادته الخيرة.
قبل أن نقفل باب الحديث عن الشر البد من إثارة السؤال اآلتي :نعلم أن
الديانة املسيحية ،من بين الديانات اإلبراهيمية الثالث ،قد انفردت برفع تأويل
معين لهذه القصة (مفاده أن البشرجميعا أخطأوا في آدم) إلى مقام معتقد .فهل
يعد قول كانط بتجذرالشرمجرد صياغة فلسفية ملعتقد الخطيئة األصلية؟
كال ،ألنه يهاجم هذا املعتقد الذي ينص على أن الشر ينتقل وراثيا من جيل
إلى جيل عقب خطيئة ارتكبها اآلباء األولون .ففكرة الشر الوراثي ،بالنسبة إليه،
174
تتناقض مع الحرية ،وتنفي املسؤولية.
الديانة املسيحية ،من بني ُ
إذا كانت تبعات الشر تلقى على عاتق
الديانات اإلبراهيمية الثالث،
مرتكبه بعدل ،فشرطها هو أن يكون
قد انفردت برفع تأويل معني
الفاعل قد أراد ذلك بمشيئته .إن الديانة
لهذه القصة إىل مقام معتقد.
املسيحية تعبر ،في نظره ،بوسائل رمزية
فهل يعد قول كانط بتجذر الرش
عن ما يستطيع العقل أن يستوعبه من
جمرد صياغة فلسفية ملعتقد
دون أن يتمكن أبدا من تفسيره (تجذر
اخلطيئة األصلية؟
الشر).
* االهتداء مخرجا فرديا
ال تنفصل مشكلة الشر عن مشكلة الخالص .ولذلك تفرض األسئلة اآلتية
ّ ً
خيرا بعد «السقوط»؟ و«كيف يمكن لشجرة نفسها :أيمكن لإلنسان أن يصير
خبيثة أن تنتج ثمارا طيبة؟» 1أال يقت�ضي التغلب على املبدأ الشرير فينا مددا
ماورائيا؟
قبل أن نجيب عن هذا األسئلة ال بد من التشديد على ما يلي :إن اإلنسان
مسؤول مسؤولية كاملة عن الخير والشر الخلقيين؛ فهما معا نتاج الستعمال
«خلق خيرا» ،أو أن «استعداده األصلي ّ ُ
خير» ،ال يعني مشيئته الحرة .والقول بأنه
خيرا بترك استعداده هذا يفعل من تلقاء نفسه ،بل أنه خير فعليا .إنه لن يكون ّ
يصير كذلك عندما يعزم على جعل الحوافز التي ينطوي عليها استعداده مبادئ
ذاتية لسلوكه .وباملقابل ،يصير شريرا عندما يعطي الصدارة لدوافع أخرى على
2
القانون .وفي الحالين معا ،األمرمتروك بالكامل الختياره الحر.
لئن بدا السؤال :كيف يمكن لشجرة خبيثة أن تنتج ثمارا طيبة؟ بالغ الصعوبة،
فما هو بأصعب من السؤال :كيف أمكن لشجرة طيبة في أصلها أن تنتج ثمارا
1 - Ibid., AK VI, 45.
2 - Ibid., AK VI, 44.
175 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
خبيثة؟ فإذا كان السقوط من الخير إلى
الشر واقعة ممتنعة على الفهم ،فإن لئن بدا السؤال :كيف يمكن
االنتقال من الشر إلى الخير هو أيضا أمر لشجرة خبيثة أن تنتج ثمارا
طيبة؟ بالغ الصعوبة ،فما «يتجاوز كافة مفاهيمنا» .غير أن التغلب
هو بأصعب من السؤال: على النزوع إلى الشرممكن ،وهذا اإلمكان
غير قابل للفهم أكثر من إمكان الشر ،ألنه كيف أمكن لشجرة طيبة يف
أصلها أن تنتج ثمارا خبيثة؟ يتعلق كذلك بالحرية.
إن التغلب على النزوع إلى الشر أمر فإذا كان السقوط من اخلري
ينبغي أن يكون من صنيعنا وحصيلة إىل الرش واقعة ممتنعة عىل
الفهم ،فإن االنتقال من لجهودنا .والطريقة الوحيدة لفعل ذلك هي
االهتداء ( ،1)la conversionألنه كفيل الرش إىل اخلري هو أيضا أمر
«يتجاوز كافة مفاهيمنا». باستعادة التوازن الخلقي الذي اختل بعد
اقتراف «الخطيئة .فما االهتداء؟
• االهتداء أوال مهمة خلقية ملقاة على
عاتق أي إنسان ،طاملا أن الشر «لطخة لوثت نوعنا ،وإذا لم نقم بإزالتها ،ستمنع
بذرة الخير (فينا) من النمو» .2فالقانون الخلقي املبثوث في نفوسنا يصرخ فينا
مدو ،داعيا إيانا إلى أن نعمل ما في وسعنا لكي نصير صالحين وفضالء؛ ّ
بصوت ٍ
األمرالذي يلزم عنه بالضرورة أن في وسعنا أن نفعل ذلك ،حتى لوكان ما نستطيع
- 1للكلمة معاني دينية في األساس .فهي تدل على ترك طريق الضاللة التي قد تكون ديانة تم التخلي
عنها أو مذهبا يعتبر هرطقة أو بدعة ،واعتناق لسبيل الرشاد الذي قد يكون ديانة أو مذهبا يعتبر هو
طريق النجاة .وغالبا ما يكون هذا االهتداء (في حالة اعتناق ديانة جديدة) مصحوبا بفعل رمزي كالنطق
بالشهادتين عند املسلمين أو التعميد عند املسيحيين .لالهتداء بهذا املعنى وجهان :ترك طريق الضاللة
والتزام طريق الهدى والرشاد .إن التزمنا باملعجم الخلقي فقط ،يمكننا عندئذ أن نقول إن االهتداء ترك
للشر (مخالفة القانون الخلقي) ،والتزام سبيل الخير (االمتثال للقانون الخلقي احتراما).
2- Ibid., AK VI, 38.
176
1
فعله يظل غيركاف.
• يفترض االهتداء أن لطخة الشر لم تصب بذرة الخير فينا .وبناء على ذلك ،ما
االهتداء إال «استعادة لالستعداد األصلي للخير فينا» 2في كامل قوته .يتجلى هذا
االستعداد أساسا في «الشعور باالحترام تجاه القانون الخلقي باعتباره حافزا
طعمكافيا بذاته للمشيئة» .3إنه مركوز في طبيعتنا العاقلة ،وال يمكن ألي شرأن ُي ّ
عليه . 4إن هذا االستعداد ليس مكتسبا ،بل هو مبثوث في العقل العملي بما هو
عقل يسن قوانين غيرمشروطة .والحال أن العقل ّ
املشرع من تلقاء ذاته ال يمكن
أن يصيبه فساد ،كما أن أشرالناس ال يتمرد على القانون تمرد إبليس .إن الشر
ال يقوض القانون ،بل يجعله فقط مشروطا بحب الذات .وبناء على ذلك ،فإن
ُ
االهتداء ليس إنتاجا لباعث على الخير قد ف ِقد؛ إذ لو كان اإلنسان قد فقد هذا
الباعث املتمثل في احترام القانون الخلقي ،ملا استطاع أبدا أن يكتسبه من جديد.
ُ
• االهتداء ،بما هواستعادة ،إنما هو «تشييد لط ْهرالقانون باعتباره أساسا أسمى
لجميع مبادئنا الذاتية ،وتبعا لذلك يجب قبول القانون في كامل طهره كباعث
كاف بذاته لتحديد املشيئة فيما يخص هذه املبادئ الذاتية ،وليس في اقترانه
5
بدوافع أخرى (=الدناسة) ،أو بوصفه تابعا لهذه الدوافع (امليول) (=الشرارة)».
فاالستعادة ليست استرجاعا الستعداد خلقي مفقود ،بل هي إرساء لسلطان
القانون في طهره التام من كل اقتران بدوافع أخرى أو تبعية لها .وبعبارة أخرى،
إن تشييد سلطان القانون في طهره التام إنما هو إرساء ُ
«حرمة املبادئ الذاتية في
امتثال [اإلنسان] لواجبه ،وبالتالي عن واجب ليس إال».6
177 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
َ
• االهتداء ،بما هو ت ٍ ّبن للطهر واتخاذه أساسا أسمى لجميع مبادئنا الذاتية،
ال يمكن أن يكون حصيلة إصالح تدريجي للعوائد يعمل فيه اإلنسان بعزم
وتصميم على القيام باألفعال املتفقة ماديا مع الواجب ،ألن فضيلة كهذه لها
َُ
قيمة شرعية فحسب .إن االهتداء «ثورة في نية اإلنسان» ،ثورة تغ ِّيـرما بالقلب،
أي تهم األساس األسمى لجميع مبادئه الذاتية؛ وبموجبها يتبنى القداسة في نيته
األساسية ،مما يعني أن التغيير ُيحدث تحوال جذريا في طريقة التفكير ،أو لنقل،
1
بلغة دينية ،إنها ميالد جديد.
إننا ال ندرك كيف يمكن إلرادة منحرفة في أساسها أن تستعيد استقامتها في
تشريعها الذاتي .على أن اجتثاث الشر من جذوره أمر ال يمكن أن يتم بقوى
طبيعية .أيعني هذا أن مددا فائقا للطبيعة شرط ضروري إلمكان هذا التغلب؟
إن مددا من هذا القبيل (النعمة اإللهية ،املعجزة) سيكون مناقضا للمبادئ
العملية؛ ذلك أن تدخله سيعني أن الخير الخلقي لن يكون من صنيعنا ،بل
حصيلة تدخل مبدأ ماورائي .ثم إن العقل النظري ال يستطيع أبدا أن يثبت
القيمة املوضوعية ملعونة ماورائية .وحتى إن كانت هذه ممكنة ،فإنها ستظل
ممتنعة على فهمنا ،وال نستطيع أن نعطيها في مبادئنا الذاتية استعماال نظريا أو
معونة
ٍ استعماال عمليا .2قد يتخذ املدد الرباني شكل تذليل العقبات ،أو شكل
ّ ً
خيرا ،فإن موجبة .وحتى لو سلمنا بأنه ضروري لتحسن اإلنسان أو صيرورته
على هذا الكائن أن يجعل نفسه أوال جديرا بتلقيه ،وذلك بأن يبذل ما في وسعه
لكي يجعل من نفسه إنسانا خيرا 3.ال يمكن في هذا الصدد القبول بأي من صيغ
التواكل كحافز عملي ،من قبيل التعويل على املحافظة على الشعائر كسبيل
لغفران الخطايا ،وبالتالي ضمان السعادة األبدية ،أو التعويل على الصالة
والدعاء كسبيل للتحسن الخلقي ،من دون أن يكلف اإلنسان نفسه عناء أن
يصير صالحا .إن املبدأ الذي ينبغي التمسك به في هذا الصدد هو« :ليس أمرا
1 - Ibid., AK VI, 47.
2 - Ibid., AK VI, 53.
3- Ibid., AK VI, 44.
178
أساسيا ،وال ضروريا تبعا لذلك ،أن يعلم
كل واحد ما يفعله هللا ألجل خالصه» ،بل إن الديانة املسيحية ،حسب
كانط ،تعرب بطريقة رمزية األولى هومعرفة ما يجب على اإلنسان أن
1
مثرية لإلعجاب عن قدرة يفعله لكي يصير جديرا بتلقي معونته».
اإلنسان عىل استعادة يقدم الدين هاهنا أيضا صيغة رمزية
حريته رغم إغراءات الرش لحل مشكلة ال يستطيع العقل البشري
أن يفك مغاليقها .فالديانة املسيحية
تسرد قصة هذا االنتقال من الشر إلى
الخالص ،من سقوط آدم إلى تضحية املسيح بنفسه من أجل افتداء خطايا
الجميع .إن الديانة املسيحية ،حسب كانط ،تعبر بطريقة رمزية مثيرة لإلعجاب
عن قدرة اإلنسان على استعادة حريته رغم إغراءات الشر .ففي قصة املواجهة
بين املسيح والشيطان ،ومقاومة األول لكل اإلغراءات التي يقدمها الثاني ،تصوير
ّ
رمزي إلمكانية انتصاراملبدأ الخيرعلى املبدأ الشريرفينا ،وبذلك تعلمنا أن الشر
ليس قدرا ،وأنه من واجب اإلنسان أن يسمو بنفسه إلى املثل األعلى الذي جسده
املسيح .إن القصة تقدم لنا رمزا تصويريا ملا يجب علينا أن نفعله ونستطيع أن
نفعله ابتغاء االنتصارعلى الشر.
* الجماعة األخالقية مخرجا جماعيا
تناولنا حتى اآلن الشر باعتباره استعماال معينا للمشيئة يختار معه الفرد أن
يمنح األولوية للميول؛ األمرالذي يجعل القانون الخلقي في وضع التابع واملشروط.
والحال أن الفرد يعيش دائما داخل جماعة يتأثربمعتقداتها وممارساتها الدينية.
فهل يساعد ذلك في كبح نزوعه إلى الشرأم يزيد هذا النزوع تفاقما؟
يسير كانط هنا على خطى جون جاك روسو الذي أكد أن الثقافة واملجتمع
ُيفسدان اإلنسان؛ ذلك أن الفرد ،ما أن يعيش بين نظرائه ،يكون عرضة ألصناف
1- . Ibid., AK VI, 51-52
179 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
من الغواية يتعذر عليه مقاومتها .واألمر
ال يمكن مواجهة تحدي ال يتعلق هنا بعدوى النماذج السيئة،
الرش االجتمايع ،الذي يخلق
إذ يكفي أن يعيش الفرد مع آخرين لكي
وضعا أخالقيا يسميه كانط
تتولد في نفسه وتنمو أهواء من قبيل
بحالة الطبيعة األخالقية ،إال
الحسد والجشع والتعطش إلى السيطرة
بوسيةل واحدة ،ويه إنشاء
وغيرها من األمور التي لم ما كانت لوثتها
مجاعة أخالقية تحكمها قوانني
لتلطخ طبيعته األولية لو بقي منعزال.1
الفضيةل ،وليس لها من غاية
وهكذا فإن الحياة داخل الجماعة تحرك
أخرى غري أن تسود الفضيةل
األهواء ،وتيهئ الفرصة لتكوثرالشرور.
يشكل هذا الوضع االجتماعي ،الذي
يجعل الشر يتفاقم ،تحديا بالنسبة إلى الخلقية .ذلك أنه يجعل االهتداء مهمة
أكثرعسرا.
ال يمكن مواجهة تحدي الشر االجتماعي ،الذي يخلق وضعا أخالقيا يسميه
كانط بحالة الطبيعة األخالقية ،إال بوسيلة واحدة ،وهي إنشاء جماعة أخالقية
تحكمها قوانين الفضيلة ،وليس لها من غاية أخرى غير أن تسود الفضيلة .إن
العقل املشرع هو الذي يأمرنا على جهة الوجوب بأن نستفرغ الوسع في سبيل
إنشاء «جمهورية كونية مؤسسة على قوانين الفضيلة» ،2من أجل تحقيق النصر
على هجمات املبدأ الشرير .وهذا الواجب موجه إلى النوع البشري بأكمله ،وليس
إلى الفرد وحده .يتعلق األمر بأن يقيم اإلنسان مع إخوته من البشر جماعة
سيكون القانون الفعلي فيها هو القانون الخلقي ،وذلك أمر الزم للقضاء على
النزوع إلى الشر.
180
يمكن تسمية اجتماع البشر تحت حكم قوانين الفضيلة وحدها ،إن كانت
هذه القوانين عمومية ،باملجتمع األخالقي -املدني ،في مقابل املجتمع القانوني -
املدني .1ويمكن تأسيس الجماعة األخالقية في مجتمع قانوني قائم ،وأن تشمل في
ُ
عضويتها جميع أعضاء هذا املجتمع ،ال بل إن قواعدها ال يمكن أن ترفع إال إذا
كان املجتمع القانوني -املدني قائما .لكن ال ينبغي أن نخلط بين الجماعة الخلقية
واملجتمع السيا�سي :فالثاني قائم على الحق ال على الفضيلة ،وليس من شأنه
تخليق الناس ،بل فقط جعلهم يعيشون في ظل قوانين وضعية من شأنها أن
ْ
تضمن احترام الحريات الفردية .وهكذا ،للدولة حق مشروع في أن ُتك ِر َه رعاياها
على طاعة القواعد القانونية؛ في حين أنه من العبث أن ندعي إكراه إنسان على
أن يصيرفاضال ،طاملا أن الفضيلة ال قيمة لها إال إذا اختيرت بحرية 2.وبهذا املعنى
يعارض كانط اعتداء الدين على ميدان السياسة ،إذ ليس من شأن الدولة أن
تفرض الفضيلة على مواطنيها ،وليس من الضروري أن يكون الناس متخلقين
لكي يشكلوا دولة ،طاملا أنه من مصلحة كل واحد أن يتحد مع اآلخرين في ظل
قوانين خارجية .3إن املشرع الذي يود أن يحقق بالقوة نظاما سياسيا غاياته
خلقية ،يزرع بذور شرمستطيريتمثل في الخلط بين الرابطة السياسية والرابطة
الدينية.
يجب أن تشمل الجمهورية الخلقية مبدئيا جميع البشر .وبخالف املجتمعات
السياسية التي تكون فيها اإلرادة العامة مدعوة إلى سن القوانين ،فإن الجمهورية
1- Ibid., AK VI, 94.
2 - Ibid., AK VI, 95.
« -3إن مشكلة إنشاء دولة ليست ممتنعة على الحل ،حتى بالنسبة لقوم من الشياطين (( )...بشرط
أن يكونوا على جانب من الفطنة والذكاء) )...( .إن مشكلة كهذه يجب أن تكون قابلة للحل .ألنها ال
تتطلب تحسين أخالق البشر ،بل فقط التماس السبيل إلى استخدام آلية الطبيعة من أجل توجيه
استعداداتهم املتعارضة توجيها يجعل جميع األفراد الذين يؤلفون شعبا يرغمون بعضهم البعض على
الخضوع لقوانين قاهرة ،ومن ثم ينشئون حالة سلم تكون للقوانين سلطة فعلية فيها( ».مشروع السالم
الدائم)AK VIII، 366 ،
181 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الخلقية ال يمكن أن تتلقى تشريعها من األعضاء الذين يؤلفونها .ذلك أن األمر
ال يتعلق هنا بشرعية األفعال ،أي موافقتها الخارجية للقانون ،بل بخلقيتها ،أي
بنية القيام بها احتراما لألمر اإللهي .إن إنشاء جمهورية خلقية مطلب للعقل ال
يمكن أن يتحقق إال بالخضوع لقوانين الفضيلة باعتبارها تشريعا خلقيا إلهيا،
أي باالنتظام في ما يسميه كانط كنيسة .وكانط يقيم تقابال بين الكنائس املرئية
الفعلية ،بما هي تجمعات فعلية للناس بغرض تحقيق ملكوت هللا على األرض
بقدراملستطاع ،وبين الكنيسة الالمرئية ،بما هي نموذج خالص ال يوجد ما يقابله
في التجربة .وبما أن إنشاء جماعة تحكمها ضوابط ،وتوجه مساعيها غاية أو
غايات محددة ،أمر يقت�ضي قائدا أو موجها ،فإننا تتساءل هنا عمن يكون هذا
القائد أو املوجه؟
إن قائد الجماعة الخلقية ال يمكن أن يكون إنسانا؛ فال إنسان يستطيع بحال
من األحوال أن يزعم لنفسه القداسة ،أي االمتثال التلقائي للقانون الخلقي.
إن الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يطالب البشر بأن يعيشوا تحت قوانين
الفضيلة إنما هو هللا ،باعتباره رمز الخلقية .وهو الذي يجعل الجماعة الخلقية،
التي ال تكفي القوى البشرية لتحقيقها ،ممكنة.
لكن ،بما أن الكنيسة الالمرئية ما هي إال فكرة ،أي أن العقل هو الذي ينتجها،
وال يوجد أي واقع في التجربة يقابلها ،وبما أن هللا هوالضامن األنطولوجي إلمكانها،
وأن تحقيقها الفعلي واجب ملقى على عاتق البشر ،فمن الضروري أن نتساءل:
كيف يمكن للبشرأن يستجيبوا لهذا الواجب؟ وأي شكل تتخذه محاوالتهم بهذا
الخصوص؟
ال توجد الكنيسة الالمرئية ،بموجب تعريفها ،في أي مكان .فهي ،كما قلنا،
فكرة عقلية تدعو البشر إلى تحقيق وحدة مثالية غايتها التحرر من النزوع إلى
الشر .وما الكنيسة املرئية إال محاوالت البشر املبذولة في سبيل تحقيق هذه
182
الوحدة فعليا .وبعبارة أدق ،إن الكنيسة
إن الكائن الوحيد الذي يستطيع
الحقيقية املرئية هي التي «تمثل تمثيال
أن يطالب البرش بأن يعيشوا
حسيا ملكوت هللا (الخلقي) على األرض،
تحت قوانني الفضيةل إنما هو
بالقدر الذي به يمكن تحقيق ذلك على
اهلل ،باعتباره رمز الخلقية .وهو
يد البشر» .1وهذا يعني أن الهوة بين
الذي يجعل اجلماعة الخلقية،
الفكرة والتجسيد الفعلي ستظل قائمة،
اليت ال تكيف القوى البرشية
مهما خلصت النيات وتنوعت املساعي
لتحقيقها ،ممكنة
املبذولة في سبيل تحقيق فكرة الخيرعلى
نحو ما يتمثلها العقل الخالص العملي؛
ألن الواقع الفعلي ال يمكن البتة أن يسمو إلى الكمال الذي يقتضيه املثل األعلى.
منظ ٌم ّّ
وموجه للكنائس املرئية ،أي أن األولى
ِ فما الكنيسة الالمرئية إال مثل أعلى ِ
هي املبدأ الذي يتوجب على هذه الكنائس أن تقترب منه على نحو المتناه ،دون
أن تتمكن من الوصول إليه أبدا .غير أن البشر مطالبون مع ذلك بأن يسعوا
ما وسعهم الجهد إلى تحقيق هذا املثل األعلى ،حتى وإن كان تحققه التام على
األرض محاال .إن السبيل األسلم إلقامة أركان كنيسة جامعة حقيقية ،هو
اإليمان الديني الخالص ،ألنه إيمان عقلي قابل للتبليغ إلى أي إنسان .أما اإليمان
التاريخي القائم على وقائع ،فيقصر عن تحقيق هذه الغاية ،ألنه ال يصح إال في
حدود املكان والزمان اللذين فيهما يمكن للحكايات التي يشتق منها أن تنتشر
وتحظى بالثقة .بيد أن البشر بسبب من ضعف طبيعتهم ،ال يمكن أن يقتنعوا
بأن إيمان العقل يمكن أن يشكل أساسا متينا لرفع بنيان الكنيسة الجامعة ،وال
بأن السلوك الخلقي هو كل ما يطلبه هللا منهم لكي يفتح ملكوته في وجوههم .إنهم
ال يستطيعون أن يتمثلوا طاعتهم هلل إال كعبادة يؤدونها له ،فيعاملونه كسيد
183 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
شرفوه بحركات دالة يطلب منهم أن ُي ّ
على الخنوع .وهم ال يتصورون أن القيام ال سبيل إىل إقامة ملكوت اهلل
بواجباتهم نحو أنفسهم ونحو اآلخرين إال بالدين .وإذا ما أخذنا الرشط
على أحسن وجه ،هو الطريقة الوحيدة اإلنساين يف احلسبان ،فإن هذا
امللكوت ال يمكن أن تقوم له
لالمتثال لألوامراإللهية.
قائمة إال بأن يتخذ شكال حسيا
-املسيحية في حدود العقل وحده
يتمثل يف التنظيم املؤسسايت
والطقوس والشعائر التعبدية
ال سبيل إلى إقامة ملكوت هللا إال
بالدين .وإذا ما أخذنا الشرط اإلنساني في
الحسبان ،فإن هذا امللكوت ال يمكن أن
تقوم له قائمة إال بأن يتخذ شكال حسيا يتمثل في التنظيم املؤسساتي والطقوس
والشعائرالتعبدية .فهل يمكن ألديان الوحي أن تضطلع بمهمة إقامة سلطان هللا
على األرض؟
* الفرق بين الدين الطبيعي والديانة املوحى بها
يقت�ضي الجواب أن نعرف أوال ما الدين .وكانط ُي ّ
عرفه ،كما رأينا سابقا ،قائال:
الدين هو «معرفة بكل واجباتنا بصفتها فرائض إلهية» .يق�ضي هذا التعريف
بأولوية األخالق على الدين ،بحيث إنه يجب علينا أن نعرف واجباتنا بالعقل
وحده أوال قبل أن ننسبها إلى هللا .وفقا لهذا الترتيب يكون الدين طبيعيا (religion
علي أن أعلم أن هذا األمر واجب لكي أعتبره ،)naturelleإذ في هذا األخير يتعين َّ
فريضة إلهيه .أما الديانات املوحى بها ( ،)religions révéléesفتعكس هذا
الترتيب ،وتق�ضي بأولوية الدين على األخالق .ذلك أن األوامر ،في هذه الديانات،
ال تكون أوامرإال ألن هللا قد فرضها ،وألزم الناس بها عن طريق الوحي .وهنا يتعين
علينا أن نعلم أوال أن هذا ال�شيء فريضة إلهية لكي نعتبره واجبا .1وعندئذ يبدو
184
هللا بمثابة الينبوع الوحيد للخلقية ،ويفقد العقل استقالليته التشريعية .وهكذا
يبدو أن كل ديانة موحى بها تتعارض تعارضا أساسيا مع الدين الطبيعي الذي
يعترف بأولوية العقل العملي .فهل ثمة من سبيل لحل هذا التعارض؟
قبل الجواب عن هذا السؤال لنفحص وضعية الوحي أوال ،ووضعية الدين
الطبيعي ثانيا.
إن أول سؤال يفرض نفسه فيما يخص الوحي ،هو اآلتي :ما الذي يمكن
لفلسفة تهتم بشروط إمكان التجربة العلمية والتجربة الخلقية أن تقوله عن
الوحي بما هو تجربة دينية؟
ينتمي الوحي الديني بالضرورة إلى النظام اإلمبريقي ،ألنه مرتبط ببعض
الشروط التاريخية والخاصة .وفي هذا تختلف التجربة الدينية عن التجربتين
العلمية والخلقية .ما يحظى باهتمام كانط في تناوله لديانات الوحي ليس هو
شروط إمكانها ،بل تعاليمها الخلقية .هل يستطيع العقل الخالص العملي أن
يتعرف في هذه التعاليم التي لم تنبع من العقل على البعد الكوني والضروري
الذي يقتضيه في كل قانون خلقي؟
إن كان في التعاليم والوصايا الخلقية التي دعت إليها الديانات املوحى بها مثل
هذا البعد ،فال مناص من االعتراف بعجزالعقل عن فهم كيف أمكن لألنبياء أن
يبشروا بمثل هذا الكمال الخلقي دون أن يعتمدوا على العقل ،ومن القول إن
الوحي قد تقدم على العقل في هذا الصدد .ال يستطيع العقل البشري أن يخبرنا
بأي �شيء عن إمكان الوحي ،ولكنه ال يستطيع كذلك أن يثبت أنه ممتنع« ،إذ ال
يستطيع أي إنسان ،بخصوص هذه املسائل ،أن يقرر أي �شيء بالعقل» .1وتبعا
لذلك ،يظل الوحي بحقيقة معقولة في التاريخ ممكنا من ناحية املبدأ (،)en droit
حتى وإن ظل وجوبا غيرقابل للتفسير .يمكن للديانات املوحى بها أن تقدم عالمات
185 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
دالة الحقائق التي يكتشفها العقل الحقا ،ويمكنها أن تتقدم في التاريخ على الوقت
الذي فيه يكتشف العقل بذاته محتوى الخلقية .إنها تبشربعصررشد العقل.
أما فيما يخص الدين الطبيعي ،فإن الصفة «طبيعي» تعني أن الدين طبيعي
بالنسبة إلى اإلنسان ،وأن أي إنسان ،بما هو إنسان ،يستطيع اعتمادا على حسه
السليم أن يتعرف على ما هو أسا�سي في هذا اإليمان ،دونما حاجة إلى الرجوع إلى
أي تراث تاريخي .يصف جون جاك روسو في املقطع اآلتي الطريق الذي يف�ضي إلى
هذا الدين قائال« :لقد طويت الكتب سوى كتاب واحد مفتوح على الدوام ألنظار
البشر ،وهو كتاب الطبيعة .في هذا الكتاب العجيب الخالب أتعلم كيف ُأ ّ
كرم
وأعبد صانعه األعلى .ال عذرملن ال يتعلم منه ،إذ يكلم الناس بلسان مبين مفهوم
لكل العقول 1».وبهذا يكون الدين الطبيعي الدين هو الدين الكوني الوحيد ،ألنه
يصح بالنسبة إلى كل إنسان بمجرد ما أن يكون قادرا على تأويل كتاب الطبيعة
العظيم دون عودة إلى الكتب املقدسة .إن النظر في عجائب الطبيعة وكمال
مخلوقاتها يعتبرسبيال لتكوين تصور عن عظمة الخالق.
واآلن ،نعود إلى سؤالنا السابق :هل من سبيل لرفع التعارض؟
* املسيحية ديانة طبيعية !
يفاجئنا كانط بجواب ال يخلومن مفارقة ،عندما يؤكد أنه يمكن اعتبارالديانة
املسيحية دينا طبيعيا .وفقا لهذا االدعاء سنصل إلى قضايا الدين الطبيعي ال
بفتح كتاب الطبيعة ،وإنما بفتح الكتاب املقدس .ذلك أن إثبات أن الديانة
املسيحية دين طبيعي ،إنما يعني أن محتواها مطابق للمحتوى الذي من شأن
اإلنسان أن يصل إليه بذاته .والحال أن املسيحية ترتكزعلى وحي تاريخي تعبرعنه
أسفار العهد الجديد .فهل يوجد تطابق بين محتوى الديانة املسيحية والدين
الذي يتخذ من الطبيعة سلما للعروج إلى الخالق؟
-1جون جاك روسو ،دين الفطرة ،أو عقيدة القس من جبل السافوا ،ترجمة عبد هللا العروي ،الدار
البيضاء ،املركزالثقافي العربي ،2012 ،ص.116 .
186
لئن كان روسو قد أكد أن النظر
في كتاب الطبيعة ُيرشد إلى الخالق ،يظل الويح بحقيقة معقولة
وبين يف التاريخ ممكنا من ناحية فإن النقد قد أغلق هذا الطريقّ ،
املبدأ ( ،)en droitحىت وإن
أن جميع األدلة التي تتخذ من العالم
ظل وجوبا غري قابل للتفسري.
معراجا للصعود إلى هللا أدلة متهافتة.
يمكن لدليانات املوىح هبا أن
تقدم عالمات دالة احلقائق
لكن نقد العقل العملي يفتح كتابا آخر
يمكن أن يقدم معيارا كافيا لتقويم اليت يكتشفها العقل الحقا
الديانات التاريخية ،وهوالضميرالخلقي.
وفقا لهذا الطرح ،فإن اعتبار املسيحية
ديانة طبيعية إنما يعني عند كانط بيان أنها الدين الخلقي الحق ،وأنها تستجيب
ملقتضيات العقل العملي.
ملا كان مشروع كانط هو بيان أنه يمكن اعتبار الديانة املسيحية دينا طبيعيا،
فقد كان عليه أوال أن يتخلى عن التقابل بين الديانة املوحى بها والدين الطبيعي،
ألنه تقابل يرقى إلى مقام التناقض الذي ال يفسح مجاال للتوفيق .ولذلك قدم
عالـمة ( ،1)religion savanteوهذا ماتقابال آخر ميز فيه بين دين طبيعي وديانة ِ
ّ
مكنه من أن يجد في املسيحية ،التي هي ديانة موحى بها ،عناصرتجيزله أن يعتبرها
دينا طبيعيا.
العالـمة على مجموعة من التعاليم ( )préceptesالتي ال يمكن ترتكز الديانة ِ
تبديلها أو االعتراض عليها ،والتي يحق لعلماء الالهوت وحدهم شرحها .وهكذا
فإن الديانة العاملة شأن يخص فئة قليلة هي فئة «العلماء» ،في مقابل الذين ال
يعلمون من عامة الناس ( .)profanesوما على هؤالء ،نظرا لجهلهم ،إال أن يتبعوا
ما يقرره األوائل .فكيف يمكن لديانة تعتبر شأنا يختص بتأويله فئة قليلة أن
1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 155.
187 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
تتوافق والدين الطبيعي؟
لن يحصل هذا التوافق إال إذا كانت لئن كان روسو قد أكد أن النظر
العالـمة «قابلة للتبليغ على نحو يف كتاب الطبيعة يُرشد إىل الديانة ِ
كوني» ،أي يمكن أن ُتقبل ُوتتلقى على الخالق ،فإن النقد قد أغلق هذا
وبي أن مجيع األدلةالطريقّ ،
نحو كوني دون حاجة ضرورية المتالك
اليت تتخذ من العالم معراجا
معرفة متخصصة مسبقا .هذا هو معيار
للصعود إىل اهلل أدلة مهتافتة
العالنية 1الذي ينص على أن كل ادعاء
قانوني أو خلقي أو ديني يجب أن يكون
باإلمكان جعله عموميا ،وإال فهو غير قائم على أساس .إن «كل األفعال املتعلقة
بحق الغير والتي ال يتوافق مبدأها الذاتي والعالنية ،هي أفعال غير عادلة».2
ً
ادعاء عموميا إنما يعني عرضه على املأل في الفضاء ادعاء ما
ٍ والحال أن جعل
العمومي ،حيث يمكن للناس جميعا أن يتداولوه فيما بينهم .إن قابلية ديانة
ّ
موحى بها للتبليغ على نحو كوني أمر يمكن من اعتبارها ديانة طبيعية ،ألن الدين
عالـمة.
الطبيعي يتصف بأنه ال يستند إلى أي معرفة ِ
عالـمة ،هو أن األول قابل للتبليغ إلى جميعما يميز دينا طبيعيا عن ديانة ِ
البشر ،بغض النظر عن ظروف املكان والزمان ،بحيث يمكن لكل واحد منهم أن
يقتنع به بعقله .3والعقل الذي يصلح هنا معيارا هو العقل العملي (العقل الذي
ٔ ٔ
- 1كلمة « »Publicitasالالتينية ،تدل على ما ذاع وانتشربين الجمهور ،او ما يهم شعبا او جماعة .ترتبط
ٔ
بهذه الكلمة اشتقاقيا كلمات اخرى مثل publicالتي تترجم بعمومي (االستعمال العمومي للعقل مثال)
ٔ
و publiquementو "res"( républiqueالالتينية تعني ال�شيء .ومن ثم ٕفان الكلمة تعني الشان العام،
فية مخصوصة) .فالعالنية الشوون السياسية ٔامريهم الشعب كله وليس ٔامرا مقصورا على ٔٔاي ٔان تدبير ٔ
ٔ
ٕاذن مطلب يق�ضي بالجهر بالقراراتٕ ،واذاعتها على الشعب او الجمهور ،وجعلها في متناول العموم،
وبذلك فهي تناقض الكتمان والتدبير السريٕ .انها معيار ،ال الختبار وجاهة األحكام واآلراء فقط ،بل هي
ٓ ٔ
اداة للحد من ظواهر مرضية في األخالق والسياسة ،مثل النفاق ،والكذب ،والتامر؛ وكل ما يناقضها في
ٔ
ميدان الحق (الذي هو شان عام بامتياز) يعتبرغيرعادل ،ال بل مناقضا للسياسة واألخالق معا.
-2كانط ،مشروع السالم ٔ
الدايم.VIII ،AK 381 ،
3- Ibid., AK VI, 155.
188
يملي الواجب الخلقي) .فبيان أن املسيحية دين طبيعي ،إنما يعني إذن بيان أنها
موافقة للقانون الخلقي .إننا نجد هاهنا املشكلة نفسها التي واجهناها مع الوحي:
َ
إذ كيف نفسر أن ديانة تفرض من الخارج القانون نفسه الذي يكشف عنه
العقل داخليا؟ تلك ظاهرة ال نستطيع فهمها ،وما يمكن للفيلسوف أن يفعله
إنما هو بيان أن الديانة املسيحية موافقة للخلقية ،دون تفسيرملاذا هي كذلك.
يبرز كانط هذا التوافق من خالل عقد مقارنة بين محتوى األخالق املسيحية،
كما تبسطها «موعظة املسيح على الجبل» ،ومحتوى األخالق العقلية .1لقد نصت
هذه املوعظة على قضايا يقبلها العقل ،كما أنها حسب كانط تبشر بالوجهين
األساسيين لفلسفته الخلقية ،وهما :وجوب طاعة أوامر الشريعة بحرية ،واألمل
في نيل الخير األعظم (الخالص) في الحياة األخرى .إن مؤسس هذه الديانة لم
ين�شئ محتواها الذي يوجد في أساس كل عقل؛ ولكنه هو األصل في اإليمان
التاريخي الذي اقترن بها ،وكذا الكنيسة الحقيقية األولى الرامية إلى منح شكل
مرئي للكنيسة الالمرئية .والحقائق التي نشرها ال يقيم الدليل عليها الجانب اإللهي
في رسالته ،بل إنها هي التي تقيم الدليل على هذه الرسالة ،وذلك ألنها متطابقة
مع الخلقية الخالصة .لقد أرشد الجميع بكلمات بسيطة وحاسمة إلى طريق
ُ
الهدى التي يجب أن تتبع ،وهي أن الخيريكمن في اإلرادة الخيرة ،في صفاء القلب؛
وأن الخطيئة في النية جرم؛ وأن الكره يساوي القتل؛ وأن الحياة الخلقية هي
الباب الضيق ،أو لنقل السبيل الوحيد إلى الخالص ،في مقابل الوسائل السهلة
والوهمية التي تمنحها املراعاة الخارجية للشعائر .ثم إن رسالته الخلقية لم
تقتصرعلى التشديد على النوايا الطيبة ،بل دعت إلى العمل دون تواكل يستسلم
189 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
عل .إن واجباتنا تتلخص في قاعدتين :إحداهما عامة ،وهي تقول: لتأثير آت من ٍ
«أحبب هللا فوق كل �شيء» ،أي قم بواجبك دونما حافزآخرغيراعتبارك للواجب
ذاته؛ واألخرى خاصة ،وهي تقول« :أحبب قريبك كحبك لنفسك» ،أي اعمل
لصالحه بإحسان مباشرإليه ،بروح ال توجهها منفعة .والثواب املوعود مستقبال
كنتيجة ،ال ُيعرض كباعث يحدد سلوكنا ،بل باعتباره الصورة املشيدة إلنجاز
الخير األسمى ،والعالمة الدالة على الطيبة والحكمة اإللهيتين .وفقا لهذا التأويل
يمكن أن يقال عن املسيحية إنها «ديانة عاملية» قابلة للتبليغ إلى الجميع بالعقل.
* العقل العملي مرجعا حاسما لتأويل املعرفة ِ
العالة الدينية
ُ
بما أن املسيحية تتفق مع الدين الطبيعي ،إن أ ّ ِولت على الوجه الصحيح ،فإن
الوحي الذي به ُعرفت من ِق َبل الناس يبدو بمثابة لحظة ضرورية ،لكنها قابلة
للتجاوز .ذلك أن الغاية القصوى لكل دين خلقي هي أن يكون أمرا متاحا مباشرة
للعقل ،دون وساطة الكتب املقدسة .إن ضرورة الوحي مقترنة بتناهي اإلنسان
الذي ملا كان أسير الشر املتجذر يبدو عاجزا عن أن يصل وحده إلى الحقائق
حصل هذه الحقائق ،يصير الوحي عرضيا، األخالق العقلية .ولكن ما أن ُت َّ
والفيلسوف يمكن أن يقوم بالبرهنة عقليا على ما علمه إياه الوحي.
عالـمة تقوم على وحي تعبرلكن ال ينبغي أن يعزب عن بالنا أن املسيحية ديانة ِ
عن محتواه نصوص العهد الجديد .وهي من هذه الجهة تحتاج لزوما إلى «علماء»
يبسطون ويشرحون تعاليمها ومعتقداتها .فما املخرج إن حصل تعارض بين تأويل
«علماء الكتاب» وتأويل الفيلسوف؟
لعالـم الالهوت
ال يجادل كانط في الحاجة إلى تأويل «علماء الكتاب» ،إذ يحق ِ
أن يشرح نصوص الوحي ويكشف النقاب عن معناها الحرفي .إن ما يهم مؤلف
الدين في حدود العقل وحده هو الصلة التي ينبغي أن تقوم بين علماء الالهوت
وجماعة املؤمنين .إن كانت هذه الصلة قائمة على تصور دغمائي يجعل من
190
العالـمة ( )éruditionمعيارا
ِ املعرفة
الغاية القصوى لكل دين وحيدا لصحة اإليمان ،فإن علماء
خليق يه أن يكون أمرا متاحا
الالهوت عندئذ ال يتركون أمام جماعة
مبارشة للعقل ،دون وساطة
املؤمنين خيارا آخر غير االستسالم ملا
الكتب املقدسة
يقررونه؛ وفي هذا خرق ملعيار العالنية
الذي يستلزم أن يكون أي ادعاء (ولو
كان دينيا) قابال ألن يخضع للفحص النقدي والنقاش العقالني.
العالة من مقدمة تنص على تناهي اإلنسان وقصوره ينطلق سدنة الديانة ِ
عن إدراك املعنى الحقيقي للوحي املسيحي .ومن هذه املقدمة يخلصون إلى ضرورة
ترك تأويل الكتب املقدسة «لعلماء الكتاب»؛ األمرالذي يضمن لهم سلطانا فعليا
على النفوس .يوافق كانط على املقدمة ،ولكنه يستخلص منها نتيجة مختلفة،
وهي أنه ال أحد من البشر (بما في ذلك العاملون بالكتب) يستطيع أن يدعي
أنه الناطق الرسمي بما أراد الوحي قوله حقا .وبما أنه ال يوجد أحد بعد النبي
يستطيع أن يدعي أن هللا يطلعه على مقاصده ،فإن التأويل الوحيد الصحيح لن
يكون هو ذاك الذي يدعي على نحو تحكمي أنه من هللا ،بل التأويل الذي يوافق
مقتضيات العقل العملي ،وهذا ما يلزم عنه وجوب تكييف التعليمات الدينية في
اتجاه الخلقية.
غير أن نشر الرسالة الدينية يحتاج فوق ذلك إلى أدوات محسوسة تخاطب
اإلنسان الذي يحتاج إلى صور حسية (قصص ،أمثلة )...لكي يتمثل أوامر العقل
ويستوعبها .ذلك أن التناهي ،الذي هو شرط ال يمكن ألي بشري التنصل منه،
يجعل هذا الكائن في حاجة دائمة إلى صور تضفي طابعا محسوسا على األمور التي
ال يمكن تمثلها إال بالعقل الخالص؛ وتلك هي وظيفة اإليمان التاريخي الذي يقدم
األدوات الحسية الالزمة الستيعاب اإليمان العقلي ونشره .لكن ال ينبغي التذرع
191 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
بهذا التناهي الستعباد اإلنسان؛ ذلك أن
الهيمنة هي ما يرمي إليه سدنة الديانة ال ينبيغ التذرع هبذا التنايه
العالـمة عندما يسجنون اإلنسانية في الستعباد اإلنسان؛ ذلك أن ِ
جهلها حتى يبرروا سلطانهم .ومحاولة الهيمنة يه ما يريم إليه سدنة
العالـمة عندما يسجنون ِ الهيمنة الدينية عبر العقائد تتضح أكثر الديانة
عند املرورمن فحص الدين بوجه عام إلى اإلنسانية يف جهلها حىت يربروا
سلطاهنم ديانة الكنائس.
-عبادة هللا بين املرامي السامية
والوسائل القاصرة
يوجد فارق كبير بين وحدة الدين الخلقي وتعدد الكنائس النظامية (églises
.)statutairesفالدين من حيث إنه نابع من العقل ،ال ينطوي إال على قوانين
يمكننا أن نعي ضرورتها املطلقة ونعترف بها .أما الكنيسة أو الكنائس باألحرى،
فتنظم شؤونها بموجب شرائع ( )statutsعديدة تبدو اعتباطية ،ألنها اختيارات
بشرية تتوقف على بعض الظروف الثقافية والتاريخية (مثال التزام الكاهن
الكاثوليكي بأن يظل أعزبا) .ومع ذلك فإن الكنائس تدعي دائما أن شرائعها إنما
هي من إيحاء من هللا مباشرة ،وبالتالي يجب قبولها كما هي ،وكل نقد عقلي لها
ُيعتبر انتهاكا لحرمتها وتطاوال على قدسيتها .فكيف التوفيق بين الحرية اإلنسانية
والوجود الضروري للكنائس القائمة التي تدعي أنها ظل هللا على األرض؟
إن املؤسسة الدينية أمر ال مندوحة عنه ،ألن اإلنسان ملزم بأن يستجيب
للمطلب الخلقي القا�ضي بإقامة أركان الجماعة األخالقية .ووظيفة الكنائس
بالضبط هي تحقيق هذا املطلب الذي ينشده الدين الخلقي تحقيقا فعليا بين
البشر .لكن ،إن كان هذا التحقيق محفوفا باملخاطر ،فما ذلك إال ألن «كل �شيء،
بما في ذلك ما هو جليل ،يصغر شأنه بين يدي البشر إن استخدموا فكرته على
192
غرار صورتهم» .1إن فكرة كنيسة المرئية فكرة جليلة إذن ،ألنها تعبر رمزيا عن
«ملكوت الغايات» الذي يسمح باألمل في التخلص من الشر .أما التحقيقات
البشرية لهذه الفكرة ،فهي جزئية بالضرورة ،وال يمكن أن تدعي الكمال .وهكذا،
فإن املذاهب وامللل الدينية التي ستقدم عقائدها باعتبارها هي وحدها الحقة،
وشرائعها بوصفها وحدها مشروعة ،ستخرق حدها الذي يتمثل في أن تكون
مؤسسات إنسانية .وهذا الخرق هو ما يسميه كانط بالهوس الديني.
* الهوس الديني
ُّ َ
�شيء ما مكافئا لل�شيءمجرد تـمث ِل ٍ
ِ الهوس الديني هو «الوهم املتمثل في َع ِّد
ذاته» .2إن إغفال الفرق بين تمثلنا ل�شيء ما وهذا ال�شيء ذاته هو ما يف�ضي
بخصوص املسائل الدينية إلى إلزام الناس بتمثالت معينة هلل باعتباره مثال إلها
غيورا وغضوبا؛ والحال أن هللا في ذاته ممتنع على املعرفة البشرية .يكمن الهوس
الديني إذن في توهم امتالك معرفة باهلل ،والحال أن هذه املعرفة ما هي في الواقع
إال هذيان مخيلة .ذلك أن هللا ينفلت أيضا من كل التصاويرالتي يمكننا أن نكونها
عنه .يقوم الهوس الديني على نزعة تشبيهية ( )anthropomorphismeتتمثل
في تصور هللا على غرار اإلنسان؛ ذلك أننا «أن نشكل ألنفسنا إلها ،بحيث نعتقد
أننا نستطيع أن نكسبه لصالحنا بسهولة كبيرة ،وبذلك نعتبر أنفسنا ُم ْع َفون
من املجهود الشاق واملتواصل للتأثير في أعماق دخيلة نيتنا الخلقية .3».وهكذا
نشكل اإلله على مقاس صورتنا اإلنسانية ،فنقتنع بأنه يمكننا ،دون أن نتحسن
خلقيا ،أن ننال نعمته أو نخفف من عدله من خالل طقوس التكريم املتكررة
ً ً
واالحتفاالت الباذخة وأشكال التذلل والتقشف .إننا نمنح مكانة ونجاعة
استثنائيتين ملمارسات ورعة ليس لها بذاتها أي قيمة خلقية مخصوصة ،وإنما
1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 7.
)2- Ibid., AK VI, 168. (note
3- Ibid., AK VI, 168-169.
193 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
هي ممارسات كانت الغاية منها هي إخضاع طبيعتنا الحسية إلى تنفيذ غايات
معقولة ،أو إلبعاد عوائق كانت تصرف عن هذه الغايات .وعندئذ ال يعود ثمة
مجال ألن نأتي األفعال الخيرة لكي ننال ر�ضى هللا ،بل سيكون كافيا أن ننصب
لكائن وهمي من إبداع مخيلتنا.
الهياكل ونقدم األضاحي للتعبيرعن االنصياع ٍ
ما وصفه كانط بأنه «هوس ديني» هو في الواقع قلب تام للسيرورة التي يجب
ُ
أن تقود إلى الدين الخلقي .ففي هذا األخير ُي َّتخذ القانون الخلقي الذي يفرضه
العقل منطلقا من أجل التسليم بوجود إله خلقي عادل قادر على تأمين الخير
األعظم للمستحقين .أما في الهوس الديني ،فيتم االنطالق من تصوير هللا
كما صاغته في نهاية املطاف رغبة البشرُ ،ليستنبط من ذلك ٌ
عدد من األوامر
والفرائض الشعائرية .إن األمريتعلق هنا بزعم باطل مفاده أن هللا قابل للمعرفة،
ويمكن تشكيل صورة حسية عنه .وعن هذا االنحراف في املعتقد تترتب أنماط
من السلوك والعمل.
يسمي كانط كل املمارسات الالخلقية املترتبة عن التصورات الباطلة لطبيعة
هللا بالعبادة الباطلة .والعبادة الباطلة عبارة عن هوس ديني يتمثل في قلب نظام
التبعية الذي يجب أن يقوم على نحو طبيعي بين ُّ
التقي ِد بقوانين الشريعة (lois
)statutairesوالسلوك الخير .ذلك أن قوانين الشريعة -التي تقوم على الوحي،
والتي هي ضرورية للكنيسة املرئية -ال تكون مشروعة إال حينما تعتبر وسائل
لخدمة الجماعة األخالقية .وبناء على ذلك ،تتمثل العبادة الحقة هلل في اعتبار
كافة أشكال التعبد وسائل تابعة للغاية الخلقية ،أي أن الغاية فيها هي نيل
اإلنسان مرضاة هللا عن طريق جعل سلوكه مطابقا للواجب الخلقي الذي يرمز
إليه هللا .فإذا كانت الشعائر الدينية ال يمكن أن تنال مرضاة هللا إال على نحو
مشروط ،أي إذا كان الغرض من أدائها هو التحسن الخلقي ،فإن الهوس الديني
يجعل من الشعائرغاية في ذاتها ،وشرطا لنيل مرضاة هللا مباشرة واستدرارنعمته.
194
وهكذا يوضع اإللزام الخلقي في خدمة
الشعائر ،أو يصير هو نفسه شعيرة من ما وصفه كانط بأنه «هوس
الشعائر ،فيعتقد الناس خطأ أن التردد ديين» هو يف الواقع قلب تام
على دور العبادة وأداء الشعائر هما للسريورة اليت يجب أن تقود
إىل الدين الخليق .فيف هذا الطريق التي يريد هللا بها أن يعبد.
خذ القانون الخليق ال تصيب العبادة الباطلة هدفها ،ألنها األخري ُي َّت ُ
تزعم أنها تتوجه إلى هللا ،بينما هي تتنكرفي الذي يفرضه العقل منطلقا
اآلن نفسه للمطلب الذي يرمز إليه .إنها من أجل التسليم بوجود إله
ٌ ٌ
عبادة خارجية تركز على األداء الخارجي خليق عادل قادر عىل تأمني
ملجموعة من الطقوس والشعائر؛ األمر اخلري األعظم للمستحقني
الذي يؤدي إلى قلب الترتيب ،فتصبح
الوسيلة غاية .فالغاية حقا ،هي الفعل
ُ ّ
مكن من الوصول الخلقي؛ غير أن هذا يجد نفسه تابعا للوسائل التي ينبغي أن ت ِ
إليه (مجموع الشعائرالدينية من صالة وتردد على الكنيسة.)...
البد من تسجيل أن العبادة الباطلة تستعيد على صعيد الجماعة ،البنية التي
عرف كانط الشر املتجذر .يدل هذا األخير على املبدأ الذاتي (النية) القا�ضي بها ّ
بإحالل رغباتنا األنانية محل القانون الخلقي ،واختيار ما تطالب به الحساسية
بدال مما يطالب به العقل .والعبادة الباطلة تكمن في االنحراف ذاته الذي يجعلنا
نفضل الوسائل الحسية على حساب الغاية الخلقية .وهذا ما تفعله الكنيسة
َ َُ
التي أصابتها ل ْوثة الشر .يؤول كانط اآلية اآلتية من إنجيل َم ّتى« :ادخلوا من
الطريق الذي يؤدي إلى الهالك» ،1على ُ ُ
الباب ور ٌ
حب الباب الضيق ،ألنه ٌ
واسع
النحواآلتي« :الباب الضيق والطريق الحرج اللذين يؤديان إلى الحياة ،هما السيرة
195 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الحسنة .والباب الواسع والطريق الرحب
إن غاية العبادة احلقة يه اللذين يسلكهما الكثير من الناس ،هما
الكنيسة» .إن الشر ينخر املؤسسة نيل مرضاة اهلل .غري أن الفعل
1
ُ َّ ُ
التي يعول عليها إلنشاء جماعة أخالقية الفاضل وحده يسمح بالوصول
تسمح بانتصاراملبدأ ّ
الخير.
إىل هذا الهدف الذي تفسده
الوسائل اليت تستعملها * الخرافة والشطح
إن غاية العبادة الحقة هي نيل مرضاة العبادة الباطةل .وعىل أساس
هللا .غير أن الفعل الفاضل وحده يسمح هذا االنقالب تنبثق كل صور
بالوصول إلى هذا الهدف الذي تفسده اخلرافات اليت يديهنا كانط.
الوسائل التي تستعملها العبادة الباطلة.
وعلى أساس هذا االنقالب تنبثق كل صور
الخرافات التي يدينها كانط .ما يميز الخرافة عن الدين الحق هو أن الخرافة ال
رسخ في الذهن خشية مهيبة مما هو جليل ،بل الخوف والقلق من كائن ذي ُت ّ
قوة مطلقة تنصاع له إرادة اإلنسان املرتعب دون أن تجله .وال يمكن أن َي ْن َج ّر
عن هذا الوضع إال البحث عن املكاسب والتملق .2والخرافة الدينية هي االعتقاد
الوهمي في إمكانية أن يبرر اإلنسان نفسه أمام هللا بواسطة أداء العبادات أداء
حرفيا .3وذلك ما تسقط فيه على نحو طبيعي كل مؤسسة كهنوتية عندما تتخذ
فتكثر من الشعائر وتمنح للقساوسة والكهنة نفوذا كبيرا .ومع من نفسها غايةُ ،
ذلك ،ال تفعل املؤسسة شيئا آخر غير دعم هوى منغرس في القلب البشري
يجعله نزاعا إلى تصور هللا على غرار ملك قوي ومستبد يحبذ التبجيل والتملق
واألضاحي .هكذا يتم نقل مفهوم اإلنسان بنواقصه إلى األلوهية ،فتمتزج في هذه
)1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 160. (note
2- KANT, Critique de la faculté de juger, § 28, AK V, 264.
3- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 174.
196
الصرامة والنعمة على نحو ما تمتزج في قائد بشري ،ويرجو اإلنسان أن ينال نعمة
غيرمستحقة من هللا باستمالته عبرالتقيد بالشعائروالطقوس .إن باب الخرافة
ينفتح على مصراعية بمجرد أن يتم التسليم بأنه توجد سبل أخرى لنيل مرضاة
هللا غير سبيل الفضيلة .وفي هذا الصدد ،ما من فرق أسا�سي بين العبادة األكثر
فظاظة والعبادة األكثر تهذيبا .والسبيل الوحيد لتفادي هذا الزحف للعبادة
الباطلة منذ البداية ،هو أن تشتمل الكنيسة الحقة إلى جانب شرائعها الوضعية
التي ال تستطيع االستغناء عنها حاليا على مبدأ يجعل من الدين الخلقي الهدف
األسمى لجميع املؤسسات الكهنوتية.1
ليست الخرافة هي الشكل الوحيد الذي تتخذه العبادة الباطلة؛ فثمة شكل
آخرأخطرشأنا ،وهو الشطح .2يمتد معنى اللفظة األملانية « »Schwärmereiمن
حلم اليقظة إلى الشطح الصوفي .لكن ثمة أمران يستحقان الوقوف عندهما.
أوال ،الشطح عملية خاصة باملخيلة تجعل اإلنسان يعتقد أنه يهتك أستار
ُ
الحجب ويتصل باهلل .وبذلك تنتهك حدود العقل البشري ،ألن الغلو الروحاني
يزعم معرفة هللا إلى حد التمكن من التأثير عليه بالكالم أو بأفعال حسية .إن
197 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الحدود التي تنتهكها هذه املعرفة املزعومة هلل ليست هي حدود ملكة الفهم ،وإنما
حدود الحساسية .ذلك أنه ليس لدينا أي حدس عقلي من خالله قد يعطى لنا
ماوراء -املحسوس في رؤية مباشرة .فالشطح إذن انحراف للشعور ،مثلما كانت
امليتافيزيقا الدغمائية ضالال للعقل.
وثانيا ،يركز كانط في سياق تحليله للمؤسسة الدينية على اآلثار العملية
للشطح .فعندما يصير هذا األخير مؤسساتيا ،يتخذ شكل التزمت (.)fanatisme
ذلك أن البعض يعتبرون أن هللا اصطفاهم وكلفهم بأداء «الرسالة» وهداية
الضالين من خلقه ،فال يتورعون عن استعباد «الذين ال يعلمون» .وفورا يصير
«العلم» -الزائف للعارف الروحاني رهانا سلطويا.
* استبداد رجال الدين
إن املبدأ الذي تبناه كانط لتقويم الدين بكل صوره ،هو :ال يحق ألي عقيدة
أو مؤسسة دينية أو طائفة أن تدعي معرفة هللا وسبل نيل مرضاته .وهكذا فإن
السلطان الكهنوتي الذي يحظى به رجال الدين ،ما هو في الحقيقة إال «هيمنة
مغتصبة يمارسها رجال الدين على العقول من خالل اإليهام بأنهم يمتلكون
سلطانا كامال على سبل نيل النعمة» .1ينبني هذا السلطان دائما على التمييز بين
ُ
الخاصة ،وهم «العلماء» الذين أعطوا مفاتيح الجنة ،والعامة الذين ال يعلمون؛
وبالتالي ما من سبيل أمامهم غير أن يسمعوا ويطيعوا ويلتزموا بأحكام الشريعة،
كما يقررها األوائل .والحال أن نقد الالهوت في نقد العقل الخالص قد بين أن
البشر جميعا يتساوون في الجهل فيما يخص هللا .إنه ممتنع امتناعا تاما على أي
معرفة بشرية ،ألنه يتعالى على كل شروط التجربة .ليس الدين علما أو معرفة،
وهو ال يدعي ذلك؛ وبالتالي ،فإن كل ادعاء يتقدم به رجال الدين ،وبموجبه
يقررون جازمين أنهم يعرفون سبل نيل مرضاة هللا ،إنما هو ادعاء باطل تحركه
1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 200
198
الرغبة في التسلط.
وهكذا يتخذ الهوس الديني ،الذي ـيركز كانط يف سياق تحليهل
يدعي هتك أستار الحجب واالتصال للمؤسسة الدينية عىل اآلثار
باهلل ،شكال سياسيا مع تسلط رجال العملية للشطح .فعندما يصري
الكهنوت .وفيما يخص املمارسات هذا األخري مؤسساتيا ،يتخذ
الدينية تتخذ العبادة صورة التعلق شكل الزتمت (.)fanatisme
باألوثان ( ،)fétichismeحيث يحل ذلك أن البعض يعتربون أن
التمسك بقواعد اإليمان وأداء الشعائر اهلل اصطفاهم وكلفهم بأداء
محل مبادئ الخلقية .وبذلك تصير «الرسالة» وهداية الضالني من
الفضيلة تابعة ألضرب تبجيل الرب خلقه ،فال يتورعون عن استعباد
«الذين ال يعلمون» وتعظيمه؛ ولكن الرب هنا إنما هو وثن
ال صلة له باهلل كما حددته مقتضيات
اإليمان العقلي .إن حرف التعبد عن
مسار التخلق ،وتحويلة إلى تعلق باألوثان ،هو مصير ينتهي إليه تسلط الكهنة
َ
ورجال الدين .ومع هذا التسلط يصيرالدين راية للحقيقة ُيقاتل كل من ال يلتحق
بها ،وليس موضع إيمان وأمل.
يستعمل خطاب الداعين إلى حاكمية هللا دائما شعاراملستبدين« :الشعب غير
ناضج بعد للحرية» .1بموجب هذا الشعار ُينظرإلى عامة الناس على أنهم قاصرون
وخطاءون ،ولذلك يحتاجون إلى أوصياء يدلونهم على العقائد الصحيحة وأحكام
الشريعة الحقة .العقل البشري ،بحسب هذا الطرح ،قاصر عن معرفة الحق؛
وتبعا لذلك ال مجال لحرية املعتقد عندما يتعلق األمر بحقائق اإليمان التي
قررتها السلطة الكهنوتية .إن أكبر�شيء يخشاه الخطاب الثيوقراطي ،أي خطاب
199 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
دعاة حاكمية هللا من خالل حاكمية
إن حرف التعبد عن مسار ممثليه على األرض ،هو مبدأ العالنية
التخلق ،وتحويةل إىل تعلق الذي يق�ضي بضرورة الفحص الحر
للعقائد التي يستند إليها هذا الخطاب .باألوثان ،هو مصري ينهتي إليه
ولذلك تتواطأ السلطة السياسية مع تسلط الكهنة ورجال الدين.
منزع التسلط الكهنوتي إلبقاء الشعب ومع هذا التسلط يصري الدين
في وضعية القصور التي تتيح لها تأبيد راية للحقيقة يُقا َتل كل من ال
يلتحق هبا ،وليس موضع
سيطرتها .ذلك أن الرشد فيما يخص
إيمان وأمل
الشؤون الدينية ،سيحرم االستبداد
السيا�سي والديني من املصدر األسا�سي
للمشروعية .ولذلك كان رهان كانط على
الرشد الديني كبيرا ،إلى حد أنه ربط نجاح التنوير بتحرر العقول من القصور في
وضعت النقطة الرئيسية للتنوير ،أي لخروج اإلنسان ُ الشؤون الدينية« :لقد
من القصور الراجع إليه هو ذاته ،في األمور الدينية أساسا ،ألن حكامنا ليس لهم
أية مصلحة في أن يلعبوا دور الوصاية على رعاياهم في مجال الفنون والعلوم؛
وفوق هذا ،فإن ذلك القصور ،فضال عن أنه األكثر ضررا ،فإنه أيضا األكثر
مساسا بالكرامة».1
ال ريب في أن الحرية املمنوحة تشكل دائما خطرا ،وأن «املحاوالت األولى
ستكون بالتأكيد فظة ،ال بل سترتبط غالبا بحالة فعلية أكثرمشقة وخطورة من
الحالة التي فيها كان الناس يلتزمون بأوامر الغير» .2غير أن الحرية رهان ال يمكن
ربحه من دون مخاطرة ،وما التذرع بعدم نضج الشعب للحرية إال رغبة مستبدة
-1كانطٕ ،اجابة عن ٔ
السوال :ما هو التنوير؟VIII AK، 41 ،؛ ترجمة ٕاسماعيل املصدق ،مجلة فكرونقد،
العدد ،1997 ،4ص( 148 .والتشديد منا).
2- Ibid., AK VI, 188 (note).
200
في إبقاء الناس في وضعية القصور؛ األمرالذي يبرر الحاجة إلى األوصياء واملربين.
وكانط يرفض أن يعتبر القساوسة أو امللوك أنفسهم مربين للشعب ،إذ في ذلك
نسيان لكونهم أوال بشر .إن تربية النوع البشري تتحقق في مجرى التاريخ عبر
املحاوالت املتكررة والجزئية من أجل التحسن .ال يمكن الوصول أبدا إلى التشريع
الذاتي عن طريق التبعية التشريعية (أي بالخضوع لسيد له علم أكثر باستعمال
الحرية) ،بل عن طريق متوالية من املحاوالت التي هي بمثابة مراحل لتحرر يسير
قدما إلى األمام.
موجها للتدين الصحيح * الخلقية مبدأ ّ
ِ
يضع كانط املبدأ الخلقي للدين مقابال للهوس الديني وتقلباته السياسية.
ويعبر هذا املبدأ عن نفسه بصورة سلبية كما يلي« :كل ما يعتقد البشر أنهم
يستطيعون فعله ،بمعزل عن السلوك الحسن ،من أجل نيل مرضاة هللا ،إنما هو
هوس ديني بحت وعبادة باطلة هلل 1».يتعلق األمر هنا بمبدأ حاصر يضع الحدود
ملمارسة دينية صحيحة :ما يفيض عن السلوك الحسن والنية الخلقية في خدمة
هللا ،يالمس الخرافة؛ وفضال عن كونه غيرمجد ،يبدو صعيدا زلقا .وهكذا يو�صي
كانط بضرب من اقتصاد الوسائل في اإليمان .فما دامت الفضيلة تكفي لتعظيم
ُ
هللا (اإلله الخلقي) فإن مظاهراإليمان األخرى (من تبتل وأضاحي وشعائر) ترفض
بوصفها زيادات سيئة ،إن هي سعت إلى أن تحل محل االنصياع للواجب الخلقي
يقوم كانط التقوى وسبل النعمة باعتباره فريضة إلهية .انطالقا من هذا املنظور ّ
اإللهية.
• التقوى
ال يكون التدين صحيحا مالم يحافظ على صلة معينة بالواجب ،وما لم يجعل
من الفضيلة غاية قصوى للفعل .وفقا لهذا املبدأ ال تكون التقوى ،بصفتها إذعانا
1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 170.
201 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
لألمر اإللهي ،إال وسيلة لتوطيد العزيمة على أن يجعل املرء من نفسه إنسانا
أفضل من الناحية الخلقية؛ فهي إذن ليست في ذاتها «الغاية األخيرة للجهد
الخلقي» .1ولفهم هذا االستتباع للتقوى إلى الفضيلة ،يجب تذكر دور الدين في
مجموع النسق .فالدين يشغل املوضع املخصص لألمل ،وليس املوضع املحدد
للواجب .واألمل الديني والتقوى التي تسمه من الناحية الذاتية ،مشروطان
بمعرفة واجباتنا؛ ومعرفة واجباتنا أمريحصل بالعقل وحده ،بمعزل عن مشكلة
وجود هللا .إن صلتنا باهلل ال يجب أن تكون صلة خوف ،وال أن تكون صلة
محبة ،ألن هاتين السمتين تشبيهيتان .وكانط يضع مقابال للخوف من هللا احترام
املاورائي الذي هو مرتبط ارتباطا وطيدا بالوعي بواجبنا .والتقوى بهذا املعنى ال
تتجلى عبر الخضوع إلله قدير يفعل ما يشاء ،وال يمكن أن تكون بديال يغني عن
ُ
الفضيلة ،وإنما هي اكتمال لهذه ،بحيث إنها ت َت ّ ِو ُجها « باألمل في النجاح النهائي
2
لجميع الغايات الحسنة التي نضعها نصب أعيننا».
لو كانت التقوى مجرد استسالم لسلطان كائن ممتنع على الفهم ،وبالتالي
موجهة ومحدودة دائما بمراعاة الواجب ،لكنا عندئذ أمام هدد ،وكانت غير َُّم ّ
ِ
هللا وكأننا أمام لغز ليس بيدنا ما نفعله أمامه غير الركوع خانعين .إن التقوى ال
تكمن في تعذيب املرء لنفسه مثلما يفعل الخطاء النادم ،بل في العزيمة على فعل
األفضل في املستقبل .وهذه العزيمة التي يحركها التقدم نحو الخير« ،تنتج حالة
ذهنية مرحة» 3تجعل اإلنسان واثقا من حظوظ نجاحه في مساعيه الخلقية.
ولكي يكون اإليمان سعيدا ،يجب أوال أن يكون حرا ،أي اختارته ذات واعية
بمصيرها الخلقي .فليس الدين إذن مستبعدا من الحرية ،بل إنه يقتضيها كشرط
له ،طاملا أن اإلنسان ال يعتبرحقا إال ما يقبل به ويعتنقه بحرية.
1- Ibid., AK VI, 183.
2- Ibid., AK VI, 185
3- Ibid., AK VI, 24 (note).
202
• وسائل النعمة
رف ُض احلرية لصالح النعمة ْ تدل «النعمة» في التراث املسيحي على
مدد فائق للطبيعة يمنحه هللا مجانا يفيض إىل نيف كل مسؤولية
إنسانية مادامت النعمة ّ
ملخلوقه كي ُي َـم ِكنه من أن يوجه فعله
عطاء من اهلل ال يتوقف نحو الخير .فالخطيئة التي ارتكبها الكل
في آدم وفقا لهذا التراث نفسه ،أورثت عىل استحقاق من وهبت له
اإلنسان عجزا مزمنا عن أن يتصرف
تصرفا خلقيا من تلقاء نفسه .وتبعا
لذلك ،فإن النعمة اإللهية هي القوة الوحيدة القادرة على ضمان اهتدائه إلى
الخير .إنها حسب الرسول بولس عطاء من الرب الذي يختارمن يشاء من الناس
فيخصهم بنعمته وهدايته ،وتبعا لذلك ال صلة لها باالستحقاقات الفردية .تبدو
النعمة بهذا املعنى متعارضة مع الحرية التي هي قدرة إنسانية بحتة ،ال بل إن
سبيلها أفضل ،طاملا أن هللا يسدد خطوات من وهبهم إياها ،بينما تظل الحرية
اإلنسانية معرضة دائما لغواية املبدأ الشرير .لكن الفلسفة الكانطية ال يمكن
أن تر�ضى بهذا التعارض الذي يسلب من حرية البشركل جدارة ،ويجعل األخالق
ْ
فرف ُ
ض الحرية لصالح النعمة يف�ضي إلى نفي كل متوقفة على تدخل إلهي.
مسؤولية إنسانية مادامت النعمة عطاء من هللا ال يتوقف على استحقاق من
ّ ً
خيرا وهبت له .والحال أن «ما يكون عليه اإلنسان أو يجب أن يكون عليه خلقيا،
أو شريرا ،يجب أن يفعله أو أن يكون قد فعله من تلقاء ذاته ...فمن دون ذلك
ال يمكن أن يسند إليه ،وال يمكن تبعا لذلك أن يكون خيرا أو شريرا من الناحية
الخلقية1 ».إن الحرية إذن هي شرط الخلقية :فلكي ُيعزى فعل ما إلى فاعله ،يجب
أن يكون هذا قد اختاره بحرية .ال يمكن القبول بتبعية الحرية لنعمة هللا ،وإال
203 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
جعلنا الخلقية متوقفة على التدخل
اإللهي ،فترتفع بذلك مسؤولية اإلنسان .كانط يمزي دائما بني األخالق
فهل يلزم عن هذا املوقف رفض النعمة؟ والتقنية اليت تتمثل يف توظيف
كال ! ألن العقل البشري ال يستطيع بعض الوسائل من أجل غاية
أن ُينكر إمكان النعمة مثلما ال يستطيع خاصة ،بينما الفعل عىل نحو
خليق ،يعين الفعل بطريقة
أن يثبتها .إنها تشترك مع الحرية في هذه
مزنهة عن املنفعة ،دونما
الخصيصة ،ألنهما معا قدرتان تتعلقان
اهتمام مبارش بنجاعة الفعل
بما وراء املحسوس ،وتتجاوزان فلك
معرفتنا .والفارق بينهما يكمن في أننا في
حالة الحرية نعي القانون الخلقي الذي يدلنا بطريقة غير مباشر على أننا أحرار؛
بينما ال يوجد أي قانون يعطينا فكرة عما ستكون عليه النعمة اإللهية .لذلك
يتعين علينا أن نمنح الصدارة للحرية على النعمة ،ألنها وحدها تضمن إمكان
الفعل .ال ينبغي لنا في مصارعتنا للمبدأ الشرير ،أن نبقى مكتوفي األيدي وننتظر
العون اإللهي ،بل يجب علينا ننهض إلى الفعل معتمدين على قوانا الخاصة.
وبعبارة أخرى ،إن التعويل على فاعلية الحرية مسألة تتعلق بالعمل ،بينما انتظار
العون املاورائي مسألة تتعلق باألمل .إن املشكلة هنا ليست نظرية ،بل هي مهمة
عملية :اعمل ما في وسعك لتكون جديرا بمعونة هللا املحتملة ،ودع عنك السؤال
عن ماهية النعمة .إذا كانت الطريقة الوحيدة لنيل مرضاة هللا هي الفعل الخلقي،
فإن أي وسيلة أخرى هي في أحسن األحوال عديمة الجدوى ،وفي أسوئها ُمرائية .ال
بل إن معنى «الوسيلة» ذاته يبدو متناقضا مع الهدف املنشود الذي هو تحصيل
القوة على الفعل على نحو حسن .ذلك أن كانط يميز دائما بين األخالق والتقنية
التي تتمثل في توظيف بعض الوسائل من أجل غاية خاصة ،بينما الفعل على
نحو خلقي ،يعني الفعل بطريقة منزهة عن املنفعة ،دونما اهتمام مباشربنجاعة
204
الفعل .وبناء على ذلك ال يمكن نيل النعمة من خالل سلسلة من اإلجراءات
التقنية (الحركات الطقسية وترديد األذكار )...دونما اجتهاد في التحرر من سلطان
املبدأ الشرير .والحال أن الطريقة الوحيدة لألمل في نعمة هللا تكمن في الفعل
على نحو خلقي؛ والخلقية ليست «وسيلة» ،وإنما هي «غاية في ذاتها» ،أي فريضة
المشروطة يجب االنصياع لها في كل ظرف .فال يمكن إذن اعتبارالنعمة «فضال»
قد يهبه هللا ملن يظهرون إيمانهم عن طريق هذه العبادة أو تلك .إن نقد كانط
لوسائل النعمة ،أي ملختلف صور العبادات واملمارسات التي تعتبرها الكنيسة
غير قابلة للفصل عن االعتقاد الديني ،وترى أن التقيد بها ومراعاتها أمرا كافيا
لترضية هللا ونيل نعمته ،ال يعني أنه يرفضها رفضا مطلقا .إنه يعني فقط أن
القيام بالشعائرالدينية ال قيمة له ما لم يفض إلى التحسن الخلقي .فال يكفي أن
يتردد املرء على دور العبادة لكي يكون متدينا .وبعبارة أخرى ،ال قيمة ألي شعيرة
تعبدية ال يوجهها العزم على نيل مرضاة هللا من خالل السلوك الحسن.
* الضميرقلعة اإليمان الصادق
قلنا إن تبعية اإليمان للمبدأ الخلقي أمر ضروري .لكن ،ينبغي أن نفهم كيف
لذات ما أن تميزبين ما ينتمي إلى االعتقاد الحق وما ينتمي إلى الهوس
يمكن عينيا ٍ
الديني .إن اإليمان دائما مسألة تتعلق بالثقة .فما هو إذن املعيار الذاتي الذي
يسمح لنا بأن نمنح ثقتنا لبند من بنود اإليمان؟
ال بد من مبدأ ،أو من خيط مرشد لتقويم العقائد الدينية ،والبد أن يكون مثل
هذا املبدأ مأمونا تماما ،وأن يبين لنا بوضوح حدود ما يمكننا أن نعتقده ،دون
إنكار املبدأ الخلقي للدين .يسمي كانط هذا املبدأ ب ـ «الضمير» ،والضمير عبارة
عن «وعي هو بالنسبة إلى ذاته واجب» .1ينبغي أوال أن نميز بين الضمير والعقل
العملي .فالضمير ،بخالف العقل العملي« ،ال يحكم على األفعال باعتبارها حاالت
205 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
تقع تحت طائلة القانون» .1إنه ال ينظرفي األفعال لكي يحدد هل هي موافقة أم ال
للقانون الخلقي ،بل هوباألحرى «ملكة حكم خلقية تحاكم نفسها بنفسها» .2فهو
ُ
إذن ملكة داخلية ليس لها صلة مباشرة بموضوعية الفعل ،بل هي ترجع الذات
إلى نفسها فتحثها على تقويم اتجاه نيتها .ولذلك تجعل من اإلنسان شاهدا على
ُ
فعله الخاص .إن الضميروعي بمحكمة داخلية تستدعى الذات الفاعلة دائما إلى
املثول أمامها .والقا�ضي األعلى لهذه املحكمة ما هو إال هللا نفسه ،من حيث إنه
يسبرغور النيات ،ويرمزإلى موافقة أفعالنا لألمرالخلقي الذي يمليه العقل.
ما يقوله كانط عن الضمير يذكرنا بالغريزة اإللهية التي مجدها روسو والتي
تذكر اإلنسان بمصيره املاورائي .إنه مرآة داخلية تجعل اإلنسان يشاهد ذاته،
قوم أفعاله كما لوأن هللا نفسه هوالذي يقومها .غيرأن الضميرال يحدد الفعل، ُ ّ
وي ِ
ألن ذلك دور حصري للعقل الذي يحكم بأن هذا الفعل بوجه عام هوفعل حسن
ْ
أو قبيح ،وتبعا لذلك يأمر بما يجب أن ُينجز .إن الضمير هو باألحرى ُحكم خلقي
ّ
ُم َتفك ٌر من خالله تعود الذات إلى نفسها عودتها إلى األصل الحرلفعلها .3في الحكم
حدد موضوعا ،بل أحيل على حالة ذهنية ،أي على املتفكر« :هذا جميل» ال ُأ ّ
ِ
التناغم بين املخيلة والفهم املميز للتجربة الجمالية .وعلى الشاكلة نفسها ،فإن
206
َ َ ُّ
الضمير تفك ٌر لذات تتساءل عن عدالة
ما يقوله كانط عن فعلها :أأنا متيقن من أن هذا الفعل
الذي أود القيام به عادل؟ إننا هنا في الضمري يذكرنا بالغريزة اإللهية
وحكم ،وليس اليت مجدها روسو واليت تذكر ٍ فعل
اإلطار الذاتي لفردية ٍ
في اإلطارالكلي للعقل .وبعبارة أخرى ،إن اإلنسان بمصريه املاورايئ .إنه
الضمير هو الذي يقرر أنني متيقن أو غير مرآة داخلية تجعل اإلنسان
متيقن من أن هذا الفعل الذي أود أن يشاهد ذاته ،ويُق ِّوم أفعاله كما
لو أن اهلل نفسه هو أقوم به هو حسن أو قبيح .ليس ضروريا
الذي يقومها
أن أعلم قيمة كل األفعال املمكنة ،فما
علي أن أعلمه إنما هو قيمة األفعال التي
أعتزم القيام بها .وهذه هي املسلمة التي
يستند إليها في اتخاذ القرار :علي أن ال أقوم بفعل ما لم أتيقن من أنه حسن؛ وفي
حالة الشك علي أن أمتنع عن القيام به .يجب نبذ مبدأ املذهب االحتمالي الذي
يذهب إلى أن مجرد الزعم بأن فعال ما حسن يجيزالقيام به.
إن مثال املحقق ي�ضيء وضعية الضمير .يحلل كانط موقف كاهن مكلف
من لدن محكمة التفتيش بالتحقيق مع مواطن صالح متهم بالهرطقة ،وحياته
أو موته بيده .تكمن أصالة هذا التحليل في عدم إدانة التفتيش باسم مبادئ
إنسانية مجردة ،بل في مساءلة ضمير املحقق نفسه .ال شك في أن هذا األخير
يستطيع أن يستمسك بسلطان الكتاب ،وخصوصا بقول املسيح عن املعاندين:
«أرغموهم على الدخول لكي يمتلئ بيتي 1».هذا األمرإذا ما أ�سيء تأويله يبدو مثيرا
للفزع .فاملحقق سيستعمل هذا الكالم لكي يبرر سلطته ،فحيثما يكون لألمر
صلة بالخالص األبدي ،تكون حياة املهرطق أو موته أمرا ال أهمية له .لكن ،هل
207 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
هذا املحقق واثق من أنه يحق له أن
يحاكم إنسانا بدال من هللا؟ أهو متيقن ليس رضوريا أن أعلم قيمة كل
من عدالة فعله؟ هذه األسئلة تتوجه إلى األفعال املمكنة ،فما عيل أن
ضميره وتثير فيه شكا مفيدا فيما يخص أعلمه إنما هو قيمة األفعال
مشروعية إدانة أحدهم بسبب قناعاته اليت أعزتم القيام هبا .وهذه يه
الدينية .إن كانط يدعو بذلك املحقق إلى املسلمة اليت يستند إلهيا يف
اتخاذ القرار تجربة تفكير« :هل ستكون لديك الجرأة
في حضرة من يسبر غور القلوب ،على أن
تؤكد حقيقة هذه العقائد مقابل تخليك
عن كل ما تعتبره ثمينا ومقدسا؟» 1يتعلق األمر هنا بإلزام املحقق بأن يواجه هللا
بوصفه هو القا�ضي الشرعي .فالضمير إذن هو أوال وعي بعدم يقين معتقداتنا،
وعن طريقه يدعى اإليمان الدغمائي والواثق من نفسه إلى مزيد من التواضع .إن
األمريتعلق ب�شيء مختلف عن «التسامح» ،وهو االعتراف الفعلي بجهلنا بمقاصد
هللا.
خاتمة
لم يبق لنا في ختام هذه املقالة إال أن نجمع حصيلة ما يمكن إدراجه تحت
يافطة «املعلوم من الدين بالعقل وحده»:
• ال يستطيع العقل البشري أن يقدم برهانا قاطعا على صحة أي معتقد من
املعتقدات الدينية من قبيل وجود هللا وصفاته ،وخلود النفس ،وقيام حياة
أخرى ُيحاسب فيها الناس على ما عملته أيديهم ،ومخاطبة هللا للبشر عن طريق
الوحي .فكل هذه األمور ماورائيات أو غيبيات ال قبل للعقل البشري بإدراك
حقيقتها ،ال عن طريق الفهم وال عن طريق الحس .وكل إثبات أو نفي لها إنما هو
1- KANT, La religion dans les limites de la seule raison, AK VI, 189.
208
ضرب في عماية .يلزم عن ذلك أن معتقدات الدين مسائل تتعلق باإليمان وليس
باملعرفة ،وأنه ال حق ألحد من البشرأن ُيكره اآلخرين على اعتناق عقيدة معينة،
فـ «ال إكراه في الدين» ،1ألن اإليمان ال يكون صادقا إال إذا كان حراَ ﴿ .وقُل ۡ َ
ٱل ُّق ِ
َ ٓ َۡ ۡ ُ َ ٓ َۡ ۡ َّ ّ ُ َ
ك ۡمۖ ف َمن شا َء فل ُيؤمِن َو َمن شا َء فل َيكف ۡر ۚ﴾.2مِن رب ِ
• لكن حاجة العقل العملي ومصلحته (سؤال األمل) تدعو إلى التسليم بوجود
هللا وبقدرته على سبر النوايا وتحقيق العدل ،وخلود النفس ،وقيام حياة أخرى
ُيجازى فيها الناس على قدر أعمالهم .ال تلزم عن هذا الوضع نتائج شكوكية فيما
يخص الدين أو األخالق ،ال بل إنه ما كان للتدين والتخلق أن يكتسبا أي قيمة
لو كانت عقائد الدين قابلة للبرهنة .إنه ملن حسن حظ اإلنسان أن كل ما يتعلق
باهلل يدخل في باب اإليمان ال في باب املعرفة املوضوعية .فلو فرضنا أنه يمكننا
حصل معرفة بوجود هللا عن طريق التجربة أو عن طريق أي منهج آخر، أن ُن ّ
بحيث نتيقن من هذا األمر من خالل إدراك ح�سي الندثرت األخالق بكاملها .ذلك
أن اإلنسان سيتمثل هللا على نحو مباشر بوصفه يثيب ويعاقب عند كل فعل،
فال يقدم على أي فعل مخالف للقانون الخلقي .ومثل هذه الصورة ستنطبع
في روعه على نحو غير إرادي؛ وهكذا تختفي البواعث الخلقية التي تجعل املرء
يؤدي الفعل احتراما للقانون لتحل محلها حوافزحسية تتمثل في األمل في الثواب
والخوف من العقاب.3
• تنبع الحاجة إلى الدين من كون اإلنسان ليس مجرد كائن عاقل ،بل هو
فضال عن ذلك كائن ذو حاجات حسية ال يمكنه أن يتنكر لها .ولذلك ال تستطيع
األخالق التي تطالب بالقيام باألفعال احتراما للقانون من غيررجاء في جلب منفعة
-1سورة البقرة ،اآلية .256
-2سورة الكهف ،اآلية .29
3- KANT, Leçons sur la théorie philosophique de la religion, trad. Gérard Nicolas,
(Le Livre de Poche), Paris, Librairie Générale Française, 1993, pp. 159 - 160. KANT,
Métaphysique des mœurs, AK VI, 487 .
209 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
أو دفع مضرة ،أن تعد بأي �شيء من شأنه أن يجنب اإلنسان السقوط في هاوية
اليأس والقنوط .وهذا هو دور الدين الذي يتوج الخلقية ويمنحها معنى يترتب
على تبعية ما هو ديني إلى ما هو خلقي ،أن التدين الحق يتمثل في تطهير النيات،
والعزم على االلتزام بالواجبات الخلقية باعتبارها فرائض إلهية.
• ثم إن اإلنسان فضال عما سبق ،ال يستطيع أن يستوعب األفكار العقلية
البحتة ما لم ُيلبسها ثوبا حسيا وماديا .ومن هنا يمكن أن نفهم احتواء مختلف
الديانات على طقوس وشعائر (حركات تنجز ،أو كلمات تقال ،أو قرابين
وأضاحي )...تقرب املعقول وتشخصه .يترتب على ذلك أن املحسوس ال قيمة له
في ذاته ،وأن مشروعيته تكمن في أن يكون أداة تنبه إلى املعاني املعقولة ،ووسيلة
لتوطين النفس على سلك سبيل الفضيلة .وهكذا ،ليس للممارسات التعبدية
من قيمة في حد ذاتها ،وإنما هي وسائل تتمثل مشروعيتها في أن تكون سبال
للتخليق .فإذا أصبح االلتزام بها غاية في حد ذاته ،تحولت إلى عبادة باطلة ونسيج
من الخرافات واألمراض الدينية من تزمت وتعصب وتكفير وما شاكل ذلك من
آفات تجعل الدين يتحول من ينبوع األمل والرجاء إلى فتيل للعنف واالنغالق
والتكبرواالستعالء والتجبر.
• ال يمكن تحقيق األمر الخلقي الذي يق�ضي بإقامة مجتمع أخالقي تسود
فيه قوانين الفضيلة من دون مؤسسة دينية .فالدور املنوط باملؤسسة الدينية
إذن هو التربية الخلقية أساسا؛ األمر الذي يترتب عنه أن كل توظيف آلليات
اإلكراه يتعارض تعارضا تاما مع هذا الدور النبيل ويف�ضي إلى الخلط بين الدين
والسياسة.
210
الئحة املصادرواملراجع
211 م2020 يناير- ه1441 جمادى األولى3 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد
perpétuelle ; Que signifie s’orienter dans la pensée ?; Qu’est-ce que les
lumières ?, trad. Jean-François Poirier et Françoise Proust , Paris, GF-
Flammarion, 2006.
• KANT, (1817), Leçons sur la théorie philosophique de la religion,
trad. Gérard Nicolas, (Le Livre de Poche), Paris, Librairie Générale
Française, 1993.
مراجع بالعربية
• باعكريم ،عبد املجيد« ،في األصول املنهجية ملفهوم الذات :حكاية "حي
بن يقظان" البن طفيل» ،ضمن ملف التأهيل الجامعي ،نوقش بكلية اآلداب
والعلوم اإلنسانية ،ظهراملهراز ،فاس ،تحت عنوان :نحن وقيم الحداثة؟ ،بتاريخ
05يناير .2012
• بدوي ،عبد الرحمن ،شطحات الصوفية ،الكويت ،وكالة املطبوعات ،بدون
تاريخ.
• زيدان ،يوسف ،الالهوت العربي وأصول العنف الديني ،القاهرة ،دار
الشروق ،الطبعة .2012 ،6
• روسو ،جون جاك ،دين الفطرة ،أو عقيدة القس من جبل السافوا ،ترجمة
عبد هللا العروي ،الدارالبيضاء ،املركزالثقافي العربي.2012 ،
212
الدين بني األخالق وامليتافزييقا
عند شاليرماخر
د .محمد بن املقدم
تقديم:
ظهرت فلسفة الدين كمادة دراسية في العشرين سنة األخيرة للقرن الثامن
عشر ،واحتلت مكانة بارزة بين التخصصات الفلسفية .ولكن االعتراف
املؤسساتي ،لم يوازه وضوح في موقعها االبستمولوجي ،بحيث ظلت معاملها غير
واضحة بشكل دقيق .وفي أحيان كثيرة ،تتداخل أضالعها مع مجالين قريبين
منها ،هما :الثيولوجيا الفلسفية والفلسفة الدينية .والثيولوجيا الفلسفية
مبحث فلسفي قديم قدم الفلسفة ذاتها .1وكانت دوما ،تحاول اتخاذ مسافة عن
املمارسات واملعتقدات الدينية الشعبية املوجودة ،اعتمادا على مسار محض
عقلي يروم الفهم واالنسجام والتطابق مع هللا أو األلوهية .فرغم علمنة صورة
- 1استطاعت الثيولوجيا الفلسفية ،أن تسيطرعلى الفكراألوربي إلى حدود القرن الرابع عشر .فكانت
هي روح سيادة الكنيسة ،لكن في القرن الخامس عشر والسادس عشر« تم هدم كل النسق الثيولوجي
وامليتافيزيقي املترابط مع النظام االجتماعي الديني والفيودالي للعصر الوسيط .هدمته الحركة اإلنسية
واإلصالحية دون أن يسفر ذلك عن توحيد املجتمع سياسيا وال دينيا ،بل ترتب عن ذلك تمزق أوربا إلى
فرق وطوائف وحروب دينية » .وكرد فعل على حالة التمزق والتشتت الطائفي واالجتماعي ،للقرن السابع
قدم مبادئ كونية غايتها إخراج املجتمع من محنته .وقد تجلى حضور هذا عشر ،نشأ نظام/نسق علميّ ،
النسق العلمي في كل مجاالت الحياة :الحق الطبيعي ،األخالق ،الفن ،االقتصاد ،الثيولوجيا الطبيعية.
وقد ساهم هذ النسق العلمي في تغييرمالمح الحياة في أوربا القرنين السابع عشروالثامن عشر .أنظر:
Dilthey, conception du Monde et l’analyse de l’homme depuis la Renaissance et la
Réforme, œuvre 4, p. 101. trad. Fr. Fabienne Balaise, Cerf, «passager« Paris, 1993.
213 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
العالم املوروثة عن الفكراألسطوري ،وانتقاد أفكارالتشبيه والتجسيم في الدين
الشعبي ،فإن الفيلسوف اليوناني جمع بين النظر في الوجود الكلي والتأمل في
األلوهي .وهذا األلوهي ليس إال االكوسموس في نظر هؤالء اليونانيين ،أي النظام
السرمدي للكون .وبات للفلسفة األولى وجهان :وجه ثيولوجي يركز على املوجود
األول ،Etant premierووجه أنطولوجي يهتم بالوجود بما هو موجود .وهذا
التكامل والتطابق أحيانا بين الوجود واأللوهية ،بين األنطولوجيا والثيولوجيا
وجه البنية الجوهرية للميتافيزيقا منذ الفلسفة اليونانية إلى نيتشه ،هو الذي ّ
الغربية حسب هيدغر.
وإذا كان الحكيم اليوناني قد نظر في النظام السرمدي للكون -األلوهية -من
أجل االنسجام معه اعتمادا على ملكاته الطبيعية املتوافقة مع هذه األلوهية ،فإن
العصرالوسيط قد أزاح الكون ووضع مكانه النص ،مع االحتفاظ بكل الصفات
التي حملها الكون اليوناني (النظام السرمدي ،التناغم ،مبادئ التراتبية.)...
حل االنسجام مع النص بدل االنسجام مع الكون ،وترك االستعداد الطبيعي ّ
لإلنسان مكانه للقدر؛ وكلها حتميات قبلية تحدد ماهية اإلنسان قبل وجوده .إن
استبدال الثيولوجيا ملرآتها ،لم يغير معه وظيفتها ،وظلت الثيولوجيا دفاعا عن
عقائد الفرقة أو الجماعة التي احتلت املركز ورمت بالفرق األخرى إلى الهامش،
وكأن االختالف غواية شيطانية أو انحراف إيماني.
أما الفلسفة الدينية ،فإن الفيلسوف يكون مؤمنا قبل كل �شيء ،وسعى إلى
فهم فلسفي إليمانه.
التدعي الفلسفة الدينية الكونية ومن هذه الحيثية الذاتية والتا يخيةّ ،
ر
والشمولية ،وتحصر مهمتها في خدمة الدين الذي انطلقت منه .ويشهد تاريخ
الفلسفة على عمق إيمان ومعرفة ممثلي الفلسفة الدينية ،ونذكر منهم بليز
214
باسكال ،1و كيركجورد 2وغيرهما.
بات للفلسفة األوىل وجهان:
ويرجع جون غرايش مفردة فلسفة
وجه ثيولويج يركز عىل املوجود
الدين إلى األملاني Sigimund von
األول ،ووجه أنطولويج هيتم
) storchnenaun (1731-1797وهو
بالوجود بما هو موجود
من أتباع فولف .3 wolf
وهو ما يعني أن ما نسميه اليوم
فلسفة الدين هو مجال حديث ،ونتاج إلجهاض مجموعة من املشاريع الهادفة
إلى تأسيس «ثيولوجيا فلسفية/طبيعية» تدور حول مفهوم مركزي هو «الدين
الطبيعي» .فإذا استثنينا املبشرين األوائل بهذا املجال الفلسفي كدافيد هيوم
وباسكال واسبينوزا ،فإنه يصعب الحديث عن فلسفة الدين قبل ق .18فرغم
وجود بعض الدراسات الخاصة بالدين إال أنها ال ترقى إلى منح شرعية الحديث عن
- 1بليز باسكال ( )1662 - 1623فيلسوف ،وريا�ضي وفيزيائي فرن�سي ،تعرض للتجربة الروحية سنة
،1654وسجلها في كتابه «مذكرة» ،وهي تجربة أعطته معرفة جديدة باإلله الشخ�صي وبمكانة املسيح.
ودافع عن القيم واملثل املسيحية ،بكل شدة ،في كتابه الشهيرالرسائل اإلقليمية .أنظر،
.Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol, Modern Philosophy: from
Descartes to Leibniz, p.155, published by Doubleday, 1994, New York.
ٔ ٔ
-2سرن اباي كيركجورد ( ،)1855 - 1813له كتاب ٕ«اما -او» ،وهو عنوان على موقفه من الحياة ،وكتاب
ٔ ٔ
«احاديث مسيحية» ،وكان يرى ضرورة تعديل املسيحية ٕالى نزعة ٕانسانية اخالقية مع قليل من
ٔ
املعتقدات الدينية التي الت�سيء ٕالى رقة شعور املربي .انظرfrom the The post-kantian :. Copleston, :
Frederick, S.J, A history of philosophy, vol.VII , Modern Philosophy
.Idealists to Marx, Kierkegaard, Nietzsche, p.339, published by Doubleday, 1994, New York
-3كان Sigimund von Storchnenaunيدرس املنطق وامليتافيزيقا في فيينا ،ويعارض بشدة نزعة
األلوهية .Deismeوقد نشر كتاب فلسفة الدين سنة 1772م .وصلت أجزاؤه إلى سبعة .ورغم عنوان
الكتاب إال أن مضمونه ظل وفيا ملضامين الثيولوجيا الطبيعية بطابعها الجدلي املدافع عن عقائد
املذهب املسيحي الكاثوليكي .إيجاد الصورة الفلسفية الحقيقية لهذا املجال ،ارتبطت بالفيلسوف
األملاني كارل راينولد Karl Reinhold
في كتاب له يحمل اسم رسائل حول فلسفة كانط .)1786-1787(،أنظرGreisch, Jean, le buisson :
ardent et les lumières de la raison, vers un paradigme herméneutique, Philosophie et
.Théologie, Paris, Cerf, 2004
215 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
فلسفة الدين .ورغم هذه اإليضاحات،
فإن الحدود بين هذه املجاالت تبقى غير أساس التساؤل الفلسيف الذي
دقيقة ،يزيدها غموضا وجود فالسفة دشن مسرية فلسفة الدين هو
هم أنفسهم رجال دين ،مما يتطلب أخذ االنتقال من الرتكزي عىل اإلله
ذلك بعين االعتبار .1لكن رغم ذلك ،ينبغي مبارشة إىل االهتمام بالدين يف
التأكيد مرة أخرى على أن فلسفة الدين ،كليته ،وهو ما يجعلنا نعترب أن
شاليرماخر هو مؤسس وخالفا للفلسفة الدينية والثيولوجيا
فلسفة الدين الفلسفية ،التستوجب انتماء قبليا لدين
ما ،بل تبحث عن فهم للدين اعتمادا
على امللكات العقلية أساسا .وننطلق
من فرضية ،أن أساس التساؤل الفلسفي الذي دشن مسيرة فلسفة الدين
هو االنتقال من التركيز على اإلله مباشرة إلى االهتمام بالدين في كليته ،وهو ما
يجعلنا نعتبرأن شاليرماخرهو مؤسس فلسفة الدين .ولذلك ،سنحاول بيان أن
مساهمته في هذا املبحث .فما الدين؟ وما الذي يميزاألخالق وامليتافيزيقا؟
-1الدين واألخالق وامليتافيزيقا :اشتراك املوضوع
بعد ست سنوات من نشر إيمانويل كانط «الدين في حدود مجرد العقل»،
نشر شاليرماخر وهو عضو آنذاك في حلقة الرومانسية األملانية 2كتابه« :عن
216
الدين :خطابات إلى محتقريه من املثقفين .»1عنوان يمثل وثيقة تاريخية عن
موقف املثقفين والفالسفة من الدين في القرن الثامن عشر .موقف غلب عليه
ازدراء األديان املوحى بها وانتشار لإللحاد .انبرى شاليرماخر الفيلسوف املؤمن
للدفاع عن الدين في زمن قل فيه الفالسفة املدافعون عن األديان؛ وتبين له أن
ذلك يحتاج إلى إبرازماهيته الحقيقية ،مع مراعاة قيم الحداثة والعقالنية ،فكان
بحق الرجل الحداثي والثيولوجي املسيحي ،حسب وصف كارل بارث.2
ُّ
مركب انتقد شاليرماخر ما آلت إليه صورة الدين في عصره ،حيث تحول إلى
من أجزاء ملجاالت متباينة ،3ورأى أن الخطوة املناسبة هي تدمير هذا املركب
االصطناعي ،وتحويله إلى عدم ،4وذلك بغية إعادة بناء صورة جديدة للدين،
متحررة من ثنائية تاريخية قطباها امليتافيزيقا واألخالق.5
يؤكد الخطاب الثاني من الكتاب ،على أن نقطة اشتراك الدين ،امليتافيزيقا
واألخالق هي وحدة املوضوع ،وتحديدا الكون وعالقة اإلنسان به .وهذا التشابه
املوضوعي سبب ضالالت وأخطاء متباينة ،6مما سمح للميتافيزيقا واألخالق أن
-1عنوان الكتاب باألملانية هوUBER DIE RELIGION, Reden An Die Gebildeten Unter Ihern :
Veràchtenوهو كتاب شاليرماخر الوحيد الذي ترجم إلى اللغة العربية مؤخرا ،من طرف أسامة
الشحماني ،سنة ،2017ونشرته دارالتنوير.
وقد ترجم إلى اللغة الفرنسية مرتين ،األولى سنة ،1944والثانية سنة :2004
Schleiermacher, Discours sur la religion à ceux de ses contempteurs qui sont des
esprits cultivés, paris, Aubier - Montaigne, «Bibliothèque philosophique» trad. Fr.I.J.
.Rouge, 1944
Schleiermacher, De la religion, Discours aux personnes cultivés d’entre ses mépriseurs
.trad. Fr. Bernard Reymond,Van Dieren, 2004
2- David Jaspers, The interpretation of belief, p.104, Coleridge, Schleiermacher,
Romanticism, First published, 1986, Macmillan, London.
3 - Discours sur la religion, p 146.
4 - Schleiermacher, Discours sur la religion, p.146.
-5بعد شاليرماخر سيقوم بول ريكور بوضع الدين بين اليوتوبيا واإليديولوجيا ،وسيضع جون غرايش،
املقاربة الدينية مقابل املقاربة األخالقية ،عند قراءته لهيدغر.
6 - Discours, p. 145.
217 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
يتسربا بشكل كثيف إلى الدينُ ،ويخفي ما هو جوهري في الدين تحت حجب
امليتافيزيقا واألخالق بشكل غير متوقع .أضف إلى ذلك مركزية الذات في الفكر
امليتافيزيقي والفكر العملي ،التفكير داخل إطار ثنائية الذات واملوضوع ،آنذاك،
يمنح األولوية للذات العارفة أو للذات الفاعلة على حساب الكون أو الالمتناهي أو
هللا .هذه املركزية الذاتية ،تصطدم برغبة الدين في إعادة ترتيب وتنظيم العالقة
بين هذه األقطاب :الذات ،الكون ،هللا ،ألنه ال يرى في اإلنسان أكثر مما يراه في
كائن فردي ومتناهي آخر ،صورة ،وتمثل الالمتناهي .1املتناهي ،بشتى مصاديقه،
مجرد تجل لالمتناهي .وهو ما دفعه لتعريف الدين بالسلب« :الدين في جوهره،
ليس فكرا وال فعال .»2فما الفرق بين الدين واألخالق وامليتافيزيقا؟ وما جوهر
الدين عند شاليرماخر؟
-1-1الدين ليس ميتافيزيقا:
تنطلق امليتافيزيقا من مركزية اإلنسان ،وتحاول االرتقاء صوب معرفة كلية
بالوجود .وتنهج التحليل والتركيب إلعادة تنظيم الكون وترتيبه .3واعتمادا على
مقوالت العقل ،تبحث عن تفسير للمبادئ األولى للوجود ،واستنباط العالم
وقوانينه من األنا أفكر .ورغم قيمة املعرفة التأملية في تفسير العالم الطبيعي،
ً
فإنها تبقى عاجزة عن فهم كلي للعالم ،مادام التفكيرمؤطرا داخل ثنائية الذات/
املوضوع ،وبسبب الهوة املوجودة بين الفكر والوجود .هذه الرغبة في فهم كلية
العالم ،اليحصل إشباعها دون التساؤل عن األلوهية ،لهذا يسافر العقل
النظري إلى ما قبل خلق العالم بحثا عن العلة األولى للوجود .إن محاولة بناء/
خلق عالم ،يجبر العقل التأملي على االستغراق في مالحقة العلل واالستنتاجات
الالمتناهية ،وطبائع األشياء املتكثرة .وليس الدين ملزما باقتحام هذه العوالم
1 - Discours, p. 151.
2 - Ibid, p.151.
3 - Ibid, p.154.
218
املجردة واملتشابكة من اآلراء والنظريات،
وال من وظائفه الكشف عن طبائع تنطلق امليتافزييقا من مركزية
اإلنسان ،وتحاول االرتقاء األشياء املادية واملوجودات املتنوعة،
صوب معرفة كلية بالوجود.
أما التناقضات الظاهرة في الواقع،
وتهنج التحليل والرتكيب
فهي ليست تناقضات حقيقية إال لوعي
إلعادة تنظيم الكون وترتيبه.
الديني.
واعتمادا عىل مقوالت العقل
أحدث شاليرماخر تحوال منهجيا،
من خالل االنتقال من االهتمام باإلله
وصفاته وأفعاله إلى اإلنسان؛ انسجاما مع الباراديغم الذي كان سائدا آنذاك،
الهادف إلى تنصيب اإلنسان مصدرا للمعرفة والفكر ،والذي أفقد كل األشياء
األخرى قيمتها في ذاتها ،بما فيها الكون واإلله .ورغم هذا التوافق مع مبدأ الحداثة
(مركزية الذات) ،إال أن سعيه هو خلق تكامل بين الفردي والكوني في الدين
وبالدين ،تنتصب فيه األنا والكون « كنقطتين تتراوح بينهما الروح .»1وما الروح
إال مسكن اإلله.
وجه شاليرماخر عنايته صوب اإلنسان املتدين .2وراح يسبر أغواره باحثا عن ّ
جذور الدين وجوهره .واكتشف أن ماهية الدين تسكن لدى مؤمن يعيش تجربة
روحية ،ذلك أن الشعور الديني ،إنما يوجد في أعماق كل قلب بشري ،بل هو
يدخل في صميم ماهية اإلنسان ،مثله في ذلك مثل العقل سواء بسواء.3
219 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
إن الدين ليس فكرا تأمليا ،ويختلف
لقد سىع شاليرماخر إىل جوهره عن بنية امليتافيزيقا الغربية.
وهذا ما ّ
إبعاد جوهر الدين عن بنية عبر عنه هيدغر ،مستعيرا
املفهوم الكانطي األنطوثيولوجي ontho 1امليتافزييقا اليت كانت قد بدأت
- théo - logieبالقول :أن إله األنطو -معاول الهدم تقصدها ،وهو
ثيو -لوجي الذي يشغل عادة العلة األولى ما مكنه من توجيه التدين
Causa Suiليس هو نفسه إله الوعي الربوتستانيت صوب تأسيس
الديني .وإلى مثل هذا اإلله ،ال يمكن أن الثيولوجيا عىل التجربة الدينية
يتوجه اإلنسان بالصلوات ،وال بالقرابين
والتضحيات ،وال يمكنه أن يخر على
ركبتيه ساجدا متضرعا ،ولن ينشد الترانيم واألناشيد أو يرقص في حضرته
بخشوع .2لقد سعى شاليرماخر إلى إبعاد جوهر الدين عن بنية امليتافيزيقا
التي كانت قد بدأت معاول الهدم تقصدها ،وهو ما مكنه من توجيه التدين
البروتستانتي صوب تأسيس الثيولوجيا على التجربة الدينية ،وبذلك استحق أن
يصنف كأب للثيولوجيا الحديثة ،وأحد أهم الثيولوجيين في تاريخ املسيحية،
يقف في نفس صف القديس أوغسطين واألكويني وكالفان.3
-1-2الدين ليس هو األخالق:
شكل الدين األخالقي الكانطي التحدي اآلخرلعمل شاليرماخر .وتندرج النظرية
الكانطية للدين الحقيقي أساسا في استنباط األمراألخالقي وبناء ثيولوجيا عملية
220
تمر من نقد الثيولوجيا التأملية إلى نظرية مسلمات العقل العملي .1ومن خالل
مسلمات العقل العملي يتم وضع إطارلالعتقاد العقلي.
انطلق كانط من كون اإلنسان قادرا بذاته وفي ذاته أن يكون مشرعا وذاتا
للواجب األخالقي .تشريع ذاتي لواجب عقلي كلي وغاية في ذاته ،وهو ما جعله
يصرح أن األخالق ال تحتاج إلى الدين ،بل هي مكتفية بذاتها بفضل العقل العملي
املحض .2بيد أن اإلنسان ليس شيئا في ذاته فقط ،بل هو أيضا ينتمي إلى عالم
الزمان واملكان ،ومن حقه أن ينشد السعادة .وتتوقف السعادة على املعرفة
والقدرة معرفة مطلقة بكل مايحدث وسيحدث في العالم ،والقدرة على توجيه
ذلك تبعا لرغبات اإلنسان وحاجاته .وهذا ما يجعل السعادة خارج مكنة البشر.
أما ما يستطيع فعله ،فهو االلتزام واحترام الواجب األخالقي ،أي السعي إلى
الفضيلة ،ولكن لن يكون سعيدا بذلك فقط .هذا الترابط بين الكمال األخالقي
(الفضيلة) والسعادة يكون حقيقيا إذا كان اإلنسان كائنا عاقال محضا فقط،
والحال أنه ليس كذلك ،فهو خاضع لنزوات ورغبات حب الذات ،وهذه امليول
واالستعدادات طبيعية وحقيقية ،وتحتاج إلى إشباع .وليست األخالق في حقيقة
األمر املذهب الذي يعلمنا كيف يجب علينا أن نجعل أنفسنا سعداء ،بل تعلمنا
فقط ،كيف يجب علينا أن نجعل أنفسنا جديرين بالسعادة .ومن أجل التعبير
بطريقة ساخرة ،نقول :يمكنك أن تلتزم بواجباتك وتكون فقيرا وعليال ،في حين
يمكن ملن اليلتزم بواجباته ،أن يكون غنيا وسليم البدن .ومن أجل أن يجازى
الفاضل واملحسن ويعاقب امل�سيء واملذنب ،البد من األمل في عدالة عليا سامية،
تتجاوز عدالة البشر .لكن هذه العدالة اليمكن أن تكون في هذا العالم ،لذلك
سيكون معقوال األمل في وجود عالم آخرحيث تقام هذه العدالة املرجوة من قبل
قوة عليا مطلقة .مما يعني أنه ينبغي االعتقاد بوجود عالم آخروإله مطلق القدرة.
1 - Bruch, Jean-Louis, la philosophie religieuse de Kant, p.13.
2 - Kant, la religion dans les limites de la simple raison, p.67.
221 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
وهكذا يظهرأنه اليصبح لنا أمل في أن نشارك ذات يوم في السعادة إال إذا انضاف
الدين إلى األخالق .1لكن أي دين؟ هل هو الدين العقلي أم الدين التاريخي؟
لقد آل التفكير في أخالق خالصة إلى االعتراف بوجود مبدأ فاعل هو هللا.
وصارت بذلك األخالق تقود إلى الدين 2وليس العكس .أي تقود إلى مشرع أخالقي
واسع القدرة ،في إرادته -هللا -تكمن تلك الغاية النهائية لخلق العالم التي يمكن
ويجب أن تكون الغاية النهائية لإلنسان .هذا االيمان ذو طبيعة عقلية ألن العقل
هو الذي برهن على ضرورته .ينبغي إذن ،االعتقاد بوجود هللا ،وخلود الروح
والحرية اإلنسانية ،إذا أردنا أن يكون ربط واتحاد السعادة بالفضيلة كامال.
ولكنه ليس شرطا الحترام الواجب .إن التمسك بهذا النوع من االيمان العقلي
والجماعة األخالقية املجردة ال يكون ممكنا إال في الدين الطبيعي .وإذا توقفنا
عند االعتقاد بوجود إله وخلود الروح - ،حيث توقف كانط طويال -فهذا ال يسمح
لنا بالحديث عن الدين ،كما هو متعارف عليه .الحديث عن الدين ،يستدعي
استحضار مجموعة من العقائد والطقوس والعبادات واملؤسسات ،يعني
استحضار شكل تاريخي للدين .ولم يأخذ كانط هذا النوع من الدين في االعتبار
إال في كتبه التي ألفها بعد املرحلة النقدية ،خصوصا في كتاب «1793الدين في
حدود مجرد العقل» .وهذا النمط من الدين هو الذي يطرح تحديا على العقل
الكانطي .صحيح أن العقل العملي ،نجح في إبرازالضرورة العقلية لإليمان بوجود
هللا وخلود الروح ،أي سلم بمعقولية الدين الطبيعي؛ ولكن ملاذا الدين التاريخي
ضروريا أيضا؟ لم االستعانة واالستنجاد بشكل مؤسساتي؟ ملاذا ال يستطيع
الشخص األخالقي تحقيق كماله الذاتي؟ لم يصعب على كل فرد أن يخرج بمفرده
من القصور الذاتي ويعانق التنوير؟
-1كانط ،نقد العقل العملي ،ص ،154 - 153 .ط ،2ص .42 .أوردها د .بدوي ،في األخالق عند كانط،
وكالة املطبوعات ،1979 ،الكويت.
2 - Kant, la religion dans les limites de la simple raison, p. 70.
222
إن االنتقال من البعد النوميني
ينبيغ االعتقاد بوجود عالم لإلنسان إلى الوجود اإلنساني املتجذر في
العالم املحسوس ،يفترض تغيير الرؤية آخر وإله مطلق القدرة .وهكذا
األنثربولوجية املؤسسة للتصور الديني يظهر أنه اليصبح لنا أمل يف أن
عند كانط .ففي هذا العالم الزماني ،نشارك ذات يوم يف السعادة إال
تظهر إشكالية الشر ،le Malكعنصر إذا انضاف الدين إىل األخالق.
أسا�سي وشرط وجود للدين التاريخي .إن لكن أي دين؟ هل هو الدين
العقيل أم الدين التارييخ الشر هو الذي أرغم كانط على االنتقال
من الذات الفردية إلى ذات جماعية
(الجنس البشري) ،وأناط بها تحقيق
الخير األسمى بدل الفرد .الشر بالنسبة لكانط ليس هو غياب الخير ،بل هو مبدأ
في ذاته ،إرادة منحرفة ،إرادة فعل الشر ليس فقط خطأ أو جهال أو ضعفا ،بل
إرادة للشرفي ذاته ومن أجل ذاته ،إرادة الشربالشر .مبدأ الشرهو اختيارعميق.
الشرليس هو الحساسية ،حب الذات ،الشرهو القلب اإلرادي للنظام األخالقي،
إنه االختيار املتعمد لفعل الشر :بوقوع اإلنسان بين مبدأين ،مبدأ الخير ومبدأ
الشر الجذري ،يصبح وحده عاجزا عن البقاء على الصراط املستقيم .وينضاف
بذلك التناهي األخالقي إلى التناهي املعرفي .ورغم أهمية الدين التاريخي ووظيفته،
فإن إيمانويل كانط ،يعتبرأن الدين الحقيقي هو الدين األخالقي .أحدث إيمانويل
كانط تحوال جذريا في الخطاب الثيولوجي ،وذلك بجعل األخالق سلما لإللهيات
بدل الطبيعيات ،كما كان الحال في ثيولوجيا العصرالوسيط.
اعتبر شاليرماخر ،أنه إذا كانت األخالق تتأسس على مسلمة حرية ذات
متعالية ،بعيدة عن عالم الكون والفساد .فإن الدين «يتنفس حيث صارت
الحرية طبيعة ،»1الدين مكون للطبيعة اإلنسانية .تبلور األخالق انطالقا من
1- Discours, p.151.
223 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الطبيعة اإلنسانية ،ومن عالقته بالكون
يختلف الدين عن األخالق نسقا من األوامر وااللتزامات ،وتشرع
بطريقة المحدودة وال مشروطة .وهذا ألنه ليس فعال يف الطبيعة ،بل
التشريع الذاتي ،يستند إلى ذات متعالية ،مالحظ لالمتنايه املعطى
يف املتنايه حرة بعيدة عن عالم الكون والفساد.
الدين ليس فعال ،وال يسعى إلى
التحول إلى مدونة للسلوك القانوني
وعالقة اإلنسان بالضبط والتسلط .يختلف الدين عن األخالق ألنه ليس فعال
في الطبيعة ،بل مالحظ لالمتناهي املعطى في املتناهي .اإلنسان كمتناه يمثل كلية
الطبيعة .باملقابل ،تنظر األخالق لإلنسان باالنفصال عن الطبيعة ،وتربط نسق
الواجبات الالمشروطة باهلل ،املشرع األخالقي األسمى .األهم بالنسبة لألخالقيين
هي اإلرادة اإللهية ،مما يقربهم من امليتافيزيقيين ،أما «في الدين ،فإن فكرة هللا
ليست بذات األهمية .»1من طبيعة الدين ،أنه اليسعى إلى كمال الكون أو تمامه
عبرتطويرالحرية وإرادة االختياراإلنسانية املقدسة .بينما يكتفي الدين باملالحظة.
يمكن استثمار هذا التمييز بين جوهر الدين واألخالق من أجل تأويل تجربة
من التراث املشترك بين األديان التوحيدية ،تضحية النبي إبراهيم بابنه .2ال يمكن
1 - Ibid, p.130.
- 2ال تهمنا هنا هوية الذبيح هل هو إسحاق ابن سارة حسب التوراة وبعض املفسرين املسلمين ،أم
هو إسماعيل ابن هاجر ،حسب رواية مفسرين مسلمين آخرين .فاالختالف بين التراث العبري والرواية
سفر التكوين، اإلسالمية ال يغير كثيرا في مغزى ورسالة التجربة( .أنظر :القرآن ،الصافات اآلية102 :؛
َ َ ْ ُ َ َّ َ َ ٌ َّ َ َ ُْ َ ََ ََ
اإلصحاح ،22اآلية ،12قال« :ال ت ُم َّد َي َد َك ِإلى الغال ِم َوال ت ْف َع ْل ِب ِه ش ْي ًئا ،أل ِني اآلن ع ِلمت أنك خا ِئف
يد َك َع ِ ّني») .ولكن هدفنا هنا فهم كيف تؤثر زاوية النظر في داللة التجربة هللاَ ،ف َل ْم ُت ْمسك ْاب َن َك َوح َ
َ
ِ ِ ِ
وأبعادها .فإضافة للتأويل أعاله ،يمكن تأويلها بحسب تاريخ الطقوس الدينية ،كتأريخ النتقال اإلنسان
من طقوس التضحية بالبشر إلى األضاحي الحيوانية .ويمكن قراءتها استنادا إلى سيكولوجيا األديان،
باعتبارها تعبير رمزي عن تحقيق لرغبة في الالوعي الجمعي عن إنقاذ الجنس البشري بحكم رمزية نسل
إبراهيم ومنزلته األبوية ،ومنزلة الحيوان كإمكان إلنقاذ اإلنسان في تجارب وجودية مختلفة ،املوت
واألمراض النفسية اليوم.
224
فهم تضحية إبراهيم إال بافتراض تمييز بين الشعور الديني والفعل األخالقي .على
املستوى األخالقي ،ال تسمح أي مدونة أخالقية لألب بقتل ابنه ،بل تأمره بحمايته
ورعايته بالحب والحماية والنفقة .في حين أن إبراهيم رجل مؤمن أيضا ،وفي هذه
العالقة ،استشعر أنه ملزم بطاعة رّبه والتسليم بأوامره .من الناحية األخالقية،
يمكن تأويل السلوك األخالقي كجريمة ،بالقول أنه أراد قتل ابنه؛ بينما من
الناحية الدينية ،يمكن تأويل التجربة كتضحية ،وتنازل إرادي عن أغلى ما يملك
تقربا ملعبوده .التضحية من مقوالت العالم الديني بينما تدخل الجريمة ضمن
عالم القيم األخالقية .تعبرالجريمة عن مشاعرالغضب ،الحقد والبغضاء؛ وهو
ما ال تالمسه تجربة التضحية بما يرافقها من حرية واستعداد للعطاء .يظهرأنه في
فلسفة الدين يف الفكر
تجربة وجودية واحدة ،قد يدخل الشعور الديني في صراع مع الواجب األخالقي؛
الفلسيف املعارص
وبالنسبة لشاليرماخر ،فإن «وحده الشعور الديني يمنح لإلنسان الكونية.»1
ويرفعه فوق املحايثة األخالقية.
-2الدين إحساس وحدس للكون:
عرف شاليرماخر الدين بعد التعريف السلبي للدين( ،ليس فكرا وال فعال)ّ ،
باإليجاب ،حيث اعتبر الدين إحساس وحدس للكون .وكان شاليرماخر سنة
،1799يستعمل كلمة الكون للتعبيرعما سيسميه فيما بعد الالمتناهي ،الواحد،
الكل ،األبدي ،األلوهي ،وهللا.
نقطة االنطالق إذن ،هي اإليمان الديني العميق الذي تخبره الروح بطريقة
أصيلة .إنه البعد األنطولوجي في الدين ،وجوهره وروحه وباطنه العميق ،وهذا
االيمان هو الذي يمنح الداللة واملعنى لكل التعابير والتجليات الخارجية للدين.
إنه القبلية الهيرمينوطيقية لفهم تلك التجليات املوضوعية التي قد تعكس تلك
التجربة الدينية الجوانية أحيانا ،وقد ت�شي بعكسها ،أحيانا أخرى ،كما لدى
1- Discours, p.192.
225 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
العديد من رجال الدين وأتباع التصوف الطرقي السلوكي الذي يؤرخ غالبا ملرحلة
تقهقر املجتمعات وتخلفها .1وإبعاد اإلنسان املتدين ،سيؤدي إلى الحرمان من
النور الذي ي�ضيء األفعال والتعابير الخارجية للدين .إن هذا يعني أن اإلنسان
املتدين هو أقرب الناس لفهم الدين بطريقة سليمة حسب شاليرماخر .االنطالق
من تجربة دينية مخصوصة ،سيكون أكثرنجاعة من بناء قبلي للدين ،ألن الدين
الخالص ال يعطى إال في أديان متناهية وتاريخية .التعددية الدينية التعني تعدد
الجواهر ،ولكن تكشف عن تعددية في تجليات الجوهر الواحد .فحدس الكون
والتعلق باملطلق ،واإليمان باهلل ،يتم من وجهة نظر محددة ومتناهية ،تذكرنا
بعالقة الجواهر البسيطة (املونادات) باهلل عند ليبنتز .2لكن ماهي مكونات هذه
التجربة الدينية؟
يعترف شاليرماخر بصعوبة التعبير عن التجربة الوجودية العميقة سواء
كتجربة دينية أو تجربة جمالية .ويعتبر أن الفصل بين الحدس والشعور هو
لضرورة علمية بحثية فقط .وتحويل التجربة الدينية التي تتصف بالوحدة
واالنسجام إلى مفاهيم عقلية ،هوناتج عن هذه الصعوبة التي عانى منها املتصوفة
والعرفاء والشعراء .يقول شاليرماخر «:أعرف إلى أي مدى اليمكن وصف مدى
سرعة اللحظة األولى العجيبة ،التي تسبق الفصل بين الحدس والشعور ،داخل
اإلدراك .هذه اللحظة التي يندمج فيها الدال بمدلوله في وحدة ،قبل أن يأخذ كل
واحد مكانه األصلي.»3
-2-1الشعور لالبتعاد عن الفعل
يدخل الكون والذات املتدينة في عالقات مختلفة ،منها الحدس ،ثم الشعور.
- 1عبد الجبار الرفاعي ،موسوعة فلسفة الدين ،2 -اإليمان والتجربة الدينية ،ص ،11 .ط ،1مركز
دراسات فلسفة الدين ،ودارالتنوير ،2015 ،بيروت ،لبنان.
2 - Marina, Jaqueline, Transformation of the self in the thought of Schleiermacher,
p.221, first published, 2008, Oxford.
3 - Schleiermacher, De la religion, p. 40
226
في الحدس ،يمارس املوضوع تأثيرا علينا
للتعبير عن وجوده .وهذا الفعل ،يخلق يعرتف شاليرماخر بصعوبة
تغييرا في وعينا .يحدث وعي بحقيقة التعبري عن التجربة الوجودية
املؤثر ،ووعي بالتغير الذي تحدثه تلك العميقة سواء كتجربة دينية أو
تجربة مجالية .ويعترب أن الفصل
الحقيقة .ينتمي الشعور إلى العنصر
بني الحدس والشعور هو
الثاني ،البعد الذاتي في الدين؛ البعد لرضورة علمية بحثية فقط
الحميمي في حياتنا الباطنية .وهو أيضا
انفتاح على العالم املوضوعي الخارجي،
وليس انعزاال في أنا وحدية« .نفس األفعال التي ينكشف بها لكم الكون في املتناهي،
تنسج أيضا عالقة جديدة مع روحكم ،ستغمركم مشاعرمختلفة عند تأملكم له
حدسيا ،مع فارق هو أن العالقة بين الحدس والشعور في الدين ليست نفسها في
املجاالت األخرى ،فهي هنا أكثر صالبة كما ،أن الحدس ليس مسيطرا إلى درجة
اضمحالل الشعور .»1وهذه التجربة الدينية من جنس التجربة اإلستطيقية،
حيث يغذوالفن تعبيرا عن اإلحساس الفردي من خالل عمل الخيال . Fantasie2
الشعور الديني هو -شعور -تام وكامل ،وليس خالصا ،ألن الوعي أو الوعي
باهلل دوما هو وعي ب�شيء ما .3وهنا يتجنب شاليرماخر تلك النزعة االنطوائية
227 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
واالنعزالية الغارقة في الذاتية ،التي
ال يعرب الشعور عن حالة يتحول فيها الشعور إلى وعي فارغ .الشعور
الديني هو تجسيد الستيعاب الالمتناهي وجودية فقط ،بل أيضا عن
فعل الكون وتأثريه عىل والكلية من خالل املتناهي ،وليس
اإلنسان .بدون الذات ،فإن استيعابا لالمتناهي في ذاته؛ استيعاب
الكون سيكون جمرد حمض لوحدة الباطن والخارج« .الشعور الديني
تعددية وأجزاء متناثرة غري هو لحظة سلب ونفي لكل التناقضات
منتظمة ،وبدون الكون لن تيع
واالختالفات .إنه درجة الصفر التي
الذات ذاهتا
هي الفعل والفكر (نظري) .إنه املكافئ
للشعور املحض أو الترنسندنتالي عند
كانط .1الشعور الديني كوعي بوجود هللا اليحصل إال من خالل األشياء ،أو من
خالل العالم وذواتنا.
إنه تأويل للعالم وتشكيل للذاتية .ال يعبر الشعور عن حالة وجودية فقط،
بل أيضا عن فعل الكون وتأثيره على اإلنسان .بدون الذات ،فإن الكون سيكون
مجرد محض تعددية وأجزاء متناثرة غير منتظمة ،وبدون الكون لن تعي الذات
ذاتها .إن الذات مسؤولة عن النظام ،فهي التي تسبغ النظام على الكون.
ويقدم الخطاب الثاني مجموعة من األحاسيس الدينية ،منها :التواضع ،حب
الغير ،اإليثار ،االعتراف ،الفضيلة ،الشفقة...كل هذه األفعال ال تهدف إلى إثارة
أفعال بقدر ما هي غاية في ذاتها .2صحيح أن املشاعر ترافق كل الحياة اإلنسانية
كموسيقى مقدسة ،إال أنها ال تنتجها .اإلحساس مكون أسا�سي للوجود اإلنساني،
إنه شرط إمكان كل فعل إنساني .إن شحنة اإليمان الديني ،عندما تغمراإلنسان،
1 - Rudolf Eisler, Kant-Lexicon, I, pp. 40-45, trad, Anne-Dominique Balmès et Pierre
Osmo, Galimard, 1994.
2 - Discours, p.111.
228
تنسيه ذاته وتنسيه املوضوع أيضا .1وهو ما يساعد على تجاوز الهوة الفاصلة بين
الذات واملوضوع.
-2-2الحدس إلبعاد امليتافيزيقا
في التقليد الفلسفي ،يعتبر الحدس معرفة مباشرة .ويميز كانط بين نوعين من
الحدوس :حدس ح�سي وحدس عقلي فكري .األول :خاص باإلنسان وذو طبيعة
سلبية . affection passiveبينما الثاني هو حدس خالق ومبدع وأصيل ،يخلق
موضوعه خلقا ،وهذا اليكون إال هلل .أخذ شاليرماخر ،هذا النوع من الحدس،
صرح أن حدس الكون ونسبه إلى اإلنسان ،وجعله مبدأ التدين .وفي هذا اإلطار ّ
يشكل« :مركز خطابي» ،إنه املعادلة العامة واألسمى للدين ،الذي من خالله
يمكنكم أن تتوجهوا في كل السبل ،ومن خالله يتحدد وجوده وحدوده بطريقة
دقيقة ،2مع تجنب الفصل بين الذات واملوضوع .ينطلق الحدس من تأثيرموضوع
الحدس على الذات املتأملة ،بفعل أصيل ومستقل يمارسه املوضوع على الذات،
التي تتلقاه ،وتدركه بتناسب معه.3
تظهر طبيعة الحدس كتأرجح بين اإلدراك من جهة الذات ،التي يجب أن
تتوفر على كمال األعضاء وسالمتها؛ وبين فاعلية الكون .تأرجح بين الفعالية
واالستجابة .يمثل الحدس عند شاليرماخر ،تجاوزا لذاتية فيشته باالنفتاح على
العالم املوضوعي املوجود هناك .إنه محاولة لتجاوز األنا الوحدية ،وانتقال من
األنا املتعالية إلى الذات األنطولوجية .ما الذي يميز الحدس بداللته العامة عن
الحدس الديني؟
أساس االختالف بين الداللتين هو املوضوع ،فالحدس الديني موضوعه
الكون كوحدة للمتعدد ،وتوحيد للمتكثر ،موضوعه هو الكلي ،بينما يتعلق
1 - Ibid, p.. 161
2 - Ibid, p 154.
3 - Ibid, p 154.
229 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الحدس الح�سي باملوضوع الجزئي ،املنعزل واملنفص . 1إذن ،ليس هناك نوعان
من الحدوس ،بل فقط موضوعان مختلفان :إما الكون في كليته أو ظاهرة جزئية
ّ
متزمنة.
ِ
الحدس فريد وخاص ،مستقل عن العمليات األخرى ،وكل محاولة لجعله
نسقا هي محاولة تنتمي للميتافيزيقا ال إلى الدين .ال يعرف الدين ال استنباطا وال
نسجا لعالقات تركيبية .2كل ما في الدين هو مباشر وحقيقي بذاته ،رغم بعض
التشابهات بين التجارب الحدسية ،فكل واحدة تحمل فرادتها في ذاتها .لهذا ،اعتبر
شاليرماخرأن فكرة تكوين نسق من التجارب الحدسية فكرة غريبة .كل فرد هو
تجلي للدين الالمتناهي .وفي قلب هذا الدين تتعايش كل املتناهيات ،دون أن
تزعج أحدهما األخرى ،الكل واحد ،الكل حقيقي .وهذا اإلحساس املباشربالتعلق
املطلق 3يسكن كل األديان ،وهو تجسيد للوعي بالالمتناهي من خالل املتناهي .وال
يمكن التفكيرفي هللا إال في وضمن حدس محدد ،بما فيه داخل املجال الديني ،ال
يمكن الشعور به بطريقة أخرى. 4
• العالقة بين الحدس واإلحساس:
للشعور والحدس أهمية قصوى في فلسفة الدين لدى شاليرماخر .فال
الحدس وحده قادر على التعبير عن اصالة الدين ،وال الشعور منفردا يستوعب
كلية الدين .فقيمة الشعور والحدس في تمازجهما وتعاضدهما الدائم .وبدون
االرتباط باهلل من خالل الحدس واإلحساس ،سيعيش اإلنسان بوعي منعزل عن
ذاته في غربة واستيالبا .ولكن ذلك الينفي خصوصية كل منهما .فإذا كان الحدس
هو مبدأ الدين ،فإن قوة اإلحساس هي التي تحدد درجة التدين . la religiosité
1 - Discours, 157.
2 - De la religion, p. 32.
3- Schleiermacher, F.D, The Christian Faith, p.131, Third Edition, BLOOMSBURY,
London, Oxford, New York, New Delhi, SYDNY, 2016.
4 - Schleiermacher, Dialectique, p. 31
230
أي أن اإلحساس هو مقياس التفاضل في
للشعور والحدس أهمية درجات اإليمان .وبقدر ما كان الحدس
قصوى يف فلسفة الدين مقابال للمعرفة التأملية ،فإن اإلحساس
يقابل الفعل .Actionالبعد الحد�سي هو لدى شاليرماخر .فال الحدس
وحده قادر عىل التعبري عن
استبعاد للبناءات امليتافيزيقية النظرية،
اصالة الدين ،وال الشعور
أما الجانب الشعوري فهوتأصيل وجودي
منفردا يستوعب كلية الدين
روحي للفعل وليس هو الفعل كما فهمته
اإلتيقا الكانطية.
وابتداء من الطبعة الثانية للخطابات ،1806ستختل العالقة بين الشعور
والحدس ،وستؤول في األخيرلصالح الشعور . Gefühlويصبح الشعور وحده هو
املجال الخالص للدين .اإلحساس باعتباره تعبيرا عن الوجود والحياة التي تجمع
الذات والكون ،وبامتالك اإلنسان اإلحساس كلحظات دينية فردية ،وكفعل إلهي
من خالل الكون ،هذه هي التقوى واإليمان .1إن الشعور الديني هو االيمان هو
التقوى ،هو جوهرالدين ،إنه تعبيرعن الوحدة األزلية للذاتي واملوضوعي ،للروح
والطبيعة ،للفكروالوجود.
و في كتاب «الجدل ،»Dialectiqueيتحدد الشعور كوعي ذاتي مباشرّ 2
يكون
وحدة الفكر واإلرادة .في الشعور ،تحدد ذاتنا بطريقة ما ،كوحدة لكائن مفكر
مريد ومريد مفكر ،بفضل الشعور تعدم وتذوب التناقضات .ويصبح الشعور هو
قنطرة العبور بين اإلرادة والفكر .بين الدرجة الصفر للعودة إلى الذات (املعرفة)
ولحظة الخروج من الذات (الفعل) .في هذه اللحظة ،ال يوجد فكر نظري ،يريد
استيعاب موضوع معطى ،وال فكرمريد يهدف إلى تحقيق موضوع ما؛ «التناقضات
بين الفكر والوجود ،بين القانون الروحي وقانون العالم تتوقف عن الظهور،
1 - Discours, p.57.
2 - Schleiermacher, Dialectique, p.187.
231 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
إلى أن تضمحل وتختفي .»1فهذا الوعي
الذاتي هو الدرجة الصفر من الوعي ،إنه خضع استعمال شاليرماخر
ملفهوم الحدس لتطورات األنا في ذاتها ، le Je en soiإنه العالقة
الوجودية املباشرة ،كما كتب شاليرماخر داللية ،تعكس حيوية فكر
هذا الفيلسوف وتفاعهل مع
إلى .Lucke2
األنساق الفلسفية اليت حاورها
وبربط الشعور باإلرادة والفكر ،يكون
الشعور الديني تجاوزا للدين الطبيعي
الذي اعتقد ان معرفة هللا وخلود الروح ممكنة اعتمادا على العقل النظري3؛
وتجاوزا للصورية الكانطية التي أرادت تأسيس الدين على ملكة اإلرادة أيضا.
لقد فشلت تلك املقاربات في استيعاب املطلق ،عندما استبعدت البعد الروحي
من الدين ،في نظرشاليرماخر.
خضع استعمال شاليرماخر ملفهوم الحدس لتطورات داللية ،تعكس
حيوية فكر هذا الفيلسوف وتفاعله مع األنساق الفلسفية التي حاورها .فقد
تغيرت داللة مفهوم الحدس بين طبعة 1799و .1806مثال ،نجد أن الخطاب
الثاني ،أصبح يستعمل «تأمل اإلنسان املؤمن ليس إال الوعي املباشر بالوجود
الكوني لكل متناه في الالمتناهي وبالالمتناهي» عوض استعمال «جوهر الدين هو
الحدس واإلحساس .»4مما جعل مفهوم الوعي املباشربالكوني يحل محل الحدس
واإلحساس.
1 - Marianna Simon, la philosophie de la religion dans l’oeuvre de Schleiermacher, p.131,
Paris, Vrin, 1979.
2- Demange Pierre, l’essence de la religion selon Schleiermacher, p.63, Paris,
Beauchesne, 1991.
3 - Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol.Ⅵ, Modern Philosophy: from the
French Enlightenment to Kant, p.125, published by Doubleday, 1994, New York.
4- S. Marianna, la philosophie de la religion dans l’oeuvre de Schleiermacher, p. 142.
232
وسيتطور فيما بعد إلى التعلق املباشر باملطلق ،في كتابه األسا�سي األخير،
نظرية اإليمان .
-3جمالية تلقي شاليرماخر:
أثار تعريف شاليرماخر للدين «كشعور وحدس للكون » تأويالت مختلفة
حول خلفياته الفلسفية والدينية .منهم من رأى ،أن شاليرماخر:
-3-1ذو نزعة صوفية : Mysticisme
ساهم نقد شاليرماخرللدين الطبيعي ،وتفكيك الخلط بين الثيولوجيا والدين،
والدفاع عن أولوية الشعور والحدس عن العقل االستداللي النظري الستيعاب
جوهرالدين ،في جعل العديد من قرائه يرون في سبيله مسلك املتصوف .صحيح
أنه أعاد تشكيل اإليمان املسيحي بتأويل صوفي؛ إال أن تصوفه لم يكن تصوفا
سلبيا انعزاليا ،بل يمثل فيه الالمتناهي ،قوة الحياة وطاقة روحية ،وتحول الدين
بفضله إلى حركة وفعالية ،تتعايش داخله الثقافة والتصوف ،الصالة والعمل،
الباطن والفعالية الخارجية .وهو ما يبعد تدينه عن كل نزعة باطنية جامدة
معادية للعقل من جهة ،كما هي لدى جاكوبي ( ،1)1819 - 1743ويجعله ينشد
الفعل ويشكل الحياة من جهة أخرى .إن تصوفه ذو روح إيجابية فاعلة بعيد عن
السلبية.2
- 3-2ذو نزعة شعورية :Sentimentalisme
اعتبرلودفينغ فويرباخ (1872 - 1804م) أن شاليرماخراختزل الدين إلى نزعة
شعورية ذاتية؛ في كتاب يحمل عنوانه أكثر من داللة :نقد الالعقل الخالص:
-1من أهم أفكارجاكوبي في هذا املجال ،هو دفاعه عن استحالة الدين العقلي وضرورة اإليمان .واعتبار
كل محاولة لعقلنة الدين تؤول نتيجتها إلى اإللحاد أو اسبينوزية أي وحدة الوجود .أنظر:
Emile Bréhier, histoire de la philosophie, tome 5, p.221, Cérès, 1994.
), in théologie und Kriche, mystik und Kultur, p. 188. cité par M.م2- K. Barth(1886-1968
Simon, la philosophie de la religion dans l’oeuvre de Schleiermacher, pp.318,319.
233 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ً
جوهر املسيحية .1وإذا كان فويرباخ متفقا مع شاليرماخر على كون الشعور هو
جوهر الدين ،فإن االختالف بينهما جد عميق ،ففي الشعور املباشر باالرتباط
باملطلق ،2اليرتبط اإلنسان باهلل ،بقدر ماهو ارتباط بالنوع البشري .وفي هذا
اإلطار ،يقول فويرباخ« :ال ألوم شاليرماخركما فعل هيغل على اختزال الدين إلى
مسألة شعورية ،بل لخلفياته الثيولوجية وغياب الشجاعة الفكرية؛ ألن ذلك
حجب عنه الرؤية ومنعه من استخالص النتائج الضرورية عقليا ،املترتبة عن
تعريف الدين كشعور وحدس للكون.»3
ركز فيورباخ على موضوع اإلحساس ،فتبين له أن اإلنسان ينقل كينونته
الجوهرية خارج ذاته ،ويجعلها غرضا لفكره قبل أن يجدها هو نفسه .فيغذو
معه اإلله ليس إال جوهر الشعور موضوعيا ،في لحظة يمثل الشعور جوهر
الدين ذاتيا .4وهكذا حصر مضمون الشعور الذاتي ضمن نطاق أنثروبولوجي
دون تجاوزه إلى مضامين مفارقة .واستحال الدين عنده إلى الوعي الذاتي األول
لإلنسان بطريقة غير مباشرة ،ولحظة من لحظات التاريخ الفردي والجماعي
السابقة على الفلسفة .وهذا االعتراض ،قد يكون بسبب سوء فهم داللة الشعور
الديني لديه ،الذي هو شعور تام ،ولكنه ليس مقولة فارغة ،ألن الوعي باهلل هو
دوما يتضمن وعيا ب�شيء آخر .الوعي بالكلية والالتناهي يمر عبر الوعي بموجود
متناه مفرد.5
لقد كان التناهي finitudeاإلنساني الذي أسس عليه إيمانويل كانط فلسفته
1- Feuerbach Ludwing, l’essence du christianisme. La première édition de l’ouvrage
date de 1841, bientôt suivie, du vivant même de l’auteur, par deux rééditions en 1843 et
1849. Cité par Greisch Jean, dans le buisson ardent, p.480.
2- Schleiermacher and Paul T.Nimmo, The Christian Faith, p.131, third Edition,
Bloomsbury, Oxford, 2016.
3 - Pierre Démange, l’essence de la religion selon Schleiermacher, pp.235-236.
4 - Démange Pierre, l’essence de la religion selon Schleiermacher, pp. 235-236.
5 - Schleiermacher, D. E, Dialectique pour une logique de la vérité, p. 186.
234
األخالقية والدينية ،يحتاج إلى من
يستثمره إلى أبعد الحدود؛ وهو ما قام به لقد كان التنايه اإلنساين الذي
هنا شاليرماخر وتلميذه فيورباخ .أغلق أسس عليه إيمانويل كانط
وضيق حدوده ،فلسفته األخالقية والدينية، ّ فيورباخ هذا التناهي
يحتاج إىل من يستثمره إىل
فتحول معه الدين إلى تعبير عن ارتباط
أبعد الحدود؛ وهو ما قام به هنا
اإلنسان بذاته ،بكينونته الجوهرية؛
شاليرماخر وتلميذه فيورباخ
لكنه يرتبط بهذه الكينونة كما لو أنها
كينونة أخرى .1وسار فيورباخ في طريق
معاكس ألستاذه؛ وأعاد الثيولوجيا إلى جذورها األنثربولوجية ،بعدما جعل
شاليرماخراألنثروبولوجيا متكأ للثيولوجيا.
-3-3ذو نزعة ال عملية /الأخالقية :immoralisme
هذا التأويل الثالث ،يرى في استغراق شاليرماخرفي املعرفة الحدسية املباشرة
إبعادا للدين عن األخالقية واقترابا من ضدها immoralismeالالأخالقية.
ويبدو أن إصرار شاليرماخر على استقاللية الدين عن األخالق ،وتأكيده على
أن الدين يحافظ على أصالته وهويته كلما ابتعد عن الفعل ،Actionهو سند
هذا التأويل .بيد أن غاية شاليرماخر من إبراز الحدود ،لم تكن أكثر من إعادة
ترتيب للعالقة بين الدين واألخالق ،وليس استبعادا لبعضهما .ويزداد موقف
شاليرماخروضوحا عندما نقارن وجهة نظركتاب «عن الدين» مع كتاب «األخالق
لسنة ،»1805-1806أومع كتاب «نظرية اإليمان» حيث تظهربوضوح عالقة بين
الدين واألخالق .من جانب آخر ،يمكن تنسيب هذا التأويل باإلشارة إلى سببين:
أوال :الينبغي الخلط بين الخصوصية والنقاء الفارغ .يحاول شاليرماخر،
أن يبرز خصوصية الدين واستقالليته ،وهذا ال يعني انعزاله وانفصاله عن
-1فويرباخ لودفينغ ،جوهر املسيحية ،ص ،66.ترجمة جورج برشين ،ط ،1دار الرافدين وأوبوس،
،2016لبنان ،كندا.
235 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
األخالق ،املعرفة ،الفن وكل تعابيرالروح.
منح شاليرماخر بل تتجسد خصوصية الدين في نوعية
الشعور الديين دور املانح العالقات التي تربطه بهذه التعابير.
ثانيا :مضامين بعض خطب كتاب للتناسق واالنسجام البديع
«الدين» ذاتها تبرر هذه العالقة .بني كل العلوم والفنون اليت
رآها منفصةل بعهضا عن يقول شاليرماخر« :إرادة املشاركة في
بعض .والقوة الرتكيبية للروح
النظر والعمل دون دين ،هو افتراض
متهور ،وعداوة وقحة تجاه اآللهة ،إنها
الروح املتمردة لبروميثيوس.»1
يظهر الدين كشرط إمكان الفكر والعمل .ليس للفكر معنى إال ألن حماسة
الدين حاضرة سرا في روح الباحث؛ وليس لألخالق معنى كمجهود للتشبه باإلله
إال بالشعور الديني ،وإال فستكون عبارة عن محاولة لبلوغ اآلفاق دون سلطان؛
«أن نكون أخالقيين بدون دين ،أو أن يكون شخص ما متدينا مؤمنا ،وال أخالق
له ،فإن هذا أيضا مستحيل ،ويستتبع ذلك ،أن نكون أخالقيين نتعاطى للعلم
دون دين .»2لقد منح شاليرماخر الشعور الديني دور املانح للتناسق واالنسجام
البديع بين كل العلوم والفنون التي رآها منفصلة بعضها عن بعض .والقوة
التركيبية للروح« ،ومركزاإلنسانية والحضارة الحديثة.»3
خاتمة:
واجه الدين معارك متنوعة في مسارتطوره التاريخي ،نتيجة خلق تماه بينه وبين
الالهوت أحيانا ،وبينه وبين الشريعة أحيانا أخرى .وحجبت جدران املؤسسات
الكنسية جوهره ،وشوهت خطابات القسيسين ومبررات السالطين صورته .وقد
1 - Discours, p.152.
2- Ibid, p.49.
3- F. Schlegel, Idée, Fragment 41, cité par, George Gusdorf, le Romantisme, Tome 1, p.47.
Paris, Payot et Rivages, 1993 .
236
يكون التمييز الذي أقامه شاليرماخر بين الدين من جهة وامليتافيزيقا واألخالق
من جهة أخرى ،إحدى الخطوات األساسية للمساهمة في ترشيد وتوجيه سهام
النقد والتجديد .إن إرجاع جوهر الدين إلى التجربة الدينية بما تحمله من تعلق
مباشر باهلل ،هو استعادة للدين كمنهل إلرواء الظمأ األنطولوجي ،كما سماه عبد
الجبار الرفاعي ،ومنبع إلثراء الحياة الروحية .لقد ساهم شاليرماخر في إعادة
تنظيم للعالقة بين أنماط الوجود اإلنساني ،وفتح آفاقا الستشعار الحضور
اإللهي أثناء الفعل والفكر .وهو ما يجعل التجربة الدينية مصدرا وأساسا لفهم
وتأويل الفعل اإلنساني .وبدونها تغذو الطقوس والعبادات والتضحيات عادات
اجتماعية تساهم في التماسك االجتماعي ،واملحافظة على بنياته فقط.
وقد استند رودلف أوتو )-1869( Rudolf Ottoعلى تعريف شاليرماخر
للدين كإحساس مباشرباملطلق إلنجازعمله الفريد «فكرة القد�سي »1917الذي
ترجم إلى أكثرمن عشرين لغة .وفيه ،واعتبرفيه أن الدين ،في أغلب املجتمعات،
عبارة عن خوف ورهبة ورغبة وانبهار وعظمة ،أكثر من عالقة خالق ومخلوق
باملحبة والرحمة والثقة .كما أن األبحاث في فلسفة الدين ،اليوم ،ال تنفك تعود
إلى معقولية التجربة الدينية لتأسيس التعددية الدينية .فال تجربة قادرة على
استنفاد الكلي ،ألن كل الذوات متناهية معرفيا وأخالقيا وزمنيا ،وهو ما يجعل
التجارب مشروطة بسياقها وآفقها.
هذا يعني أن املعرفة املمكنة باهلل هي معرفة ذات طبيعة عالئقية ،بمعنى
معرفة هللا في وضعية اتصال هللا بنا أو معرفته في اتصالنا به ،مع بقاء هللا بما
هو في ذاته محتجبا عن املعرفة ،ويعلو على أية تسمية أو وصف« .تعالى هللا عما
يصفون» .وكون معرفتنا باهلل ليست معرفة مباشرة ،بل هي التصور الذي يتولد
في الذهن بعد تفسير جملة معطيات باطنية وأحاسيس خارجية ،فإن معرفتنا
باهلل مسبوقة بقوالب إدراكية وبنى لغوية جاهزة ،تكون بمثابة ماقبل املعرفي في
237 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
تصنيف املعطيات ومنحها املعنى والداللة املناسبتين .فما نقوله عن هللا هو في
الحقيقة حصيلة النشاط الذهني الذي يتولد إثرالتجارب الدينية ،التي تتحصل
إما بتوسط البيئة الحسية كاألشياء واالحداث والنشاطات اإلنسانية في العالم،
إما باتصال مباشر كما يحصل لألنبياء بالوحي وللمتصوفة والعارفين بالكشف.
بعبارة أخرى املعطى اإللهي ح�سي واختباري ،أما املعنى االلهي فهو املعنى البشري
الذي ننسبه نحن البشرإلى الحقيقة العليا في سياق النشاط الذهني لتفسير
املعطيات التي تصلنا او نحصلها عنه ،وحيا كان أم كشفا أو حسا.
بهذا تصبح املسألة املعرفية مرتبطة بالبحث في القوالب اإلدراكية التي نفهم
بها املعطيات الخارجية ونفسرها كتجارب دينية في معرفة هللا .وبتعبير كانطي،
املسألة هي البحث في شروط إمكان معرفة هللا .ونروم املساهمة في خلق وعي
بالتعددية الدينية ،بالبحث في شروط إمكان اإليمان باهلل ،وفي كيفية إزالة
العوائق التاريخية التي تحول دون انفتاح االنسان عن هللا.
238
الئحة املصادرواملراجع بالفرنسية واإلنجليزية
239 م2020 يناير- ه1441 جمادى األولى3 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد
Schleiermacher, Paris, Vrin, 1979.
• Marina, Jaqueline, Transformation of the self in the thought of
Schleiermacher, first published, 2008, Oxford.
• David Jaspers, The interpretation of belief, p.104, Coleridge,
Schleiermacher, Romanticism, First published, 1986, Macmillan,
London.
• Nef, Frédéric, qu’est-ce que la méthaphysique, Gallimard, 2004.
• Pierre Démange, l’essence de la religion selon Schleiermacher,
Paris, Beauchesne, 1991.
• Kant, la religion dans les limites de la simple raison, trad, M. Naar,
Vrin, 2004.
• Dilthey, conception du Monde et l’analyse de l’homme depuis la
Renaissance et la Réforme, œuvre 4, trad. Fr. Fabienne Balaise, Cerf,
«passager« Paris, 1993.
• Jean Greisch, le buisson ardent et les lumières de la raison, vers
un paradigme herméneutique, Philosophie et Théologie, Paris, Cerf,
2004.
• Emile Bréhier, histoire de la philosophie, tome 5, Cérès, 1994.
• Bruch, Jean-Louis, la philosophie religieuse de Kant, Aubier/
Montaigne ,1968.
• Rudolf Eisler, Kant-Lexicon, I, trad, Anne-Dominique Balmès et
Pierre Osmo, Galimard, 1994.
• Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol Ⅳ, Modern
Philosophy: from Descartes to Leibniz, published by Doubleday,
1994, New York.
240
• Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol. , Modern
Philosophy: from the French Enlightenment to Kant, published by
Doubleday, 1994, New York.
• Copleston, Frederick, S.J, A history of philosophy, vol. , Modern
Philosophy: from the The post-kantian Idealists to Marx, Kierkegaard,
Nietzsche, published by Doubleday, 1994, New York.
• George Gusdorf, le Romantisme, Tome 1, Paris, Payot et Rivages,
1993 .
• فويرباخ لودفينغ ،جوهر املسيحية ،ترجمة جورج برشين ،ط ،1دار الرافدين
وأوبوس ،2016 ،لبنان ،كندا.
• عبد الجبار الرفاعي ،موسوعة فلسفة الدين ،2-اإليمان والتجربة الدينية،
ط ،1مركزدراسات فلسفة الدين ،ودارالتنوير ،2015 ،بيروت ،لبنان.
• هيجل ،موسوعة العلوم الفلسفية ،ترجمة د .امام عبد الفتاح امام ،دار
التنوير ،بيروت ،1983 ،ط ،1دارالثقافة بالقاهرة .1985
• ولتر ستيس ،الزمان واألزل :مقال في فلسفة الدين ،ترجمة د .زكرياء إبراهيم،
املؤسسة الوطنية للطباعة والنشر ،بيروت ،لبنان.
241 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
فلسفة الدين يف الفكر
الفلسيف املعارص
فلسفة الدين يف زمن العلمنة
د .حاتم أمزيل
متميز وخاص ،سمته الفكرية نشأ مبحث فلسفة الدين في سياق فكري ّ
األساسية اإلعالن الكانطي عن نهاية مهام الثيولوجيا واألنطولوجيا في صيغتهما
العلمية ،وذلك إثرضربة موجعة تلقتها كل املحاوالت الفكرية امليتافيزيقية بفعل
الرسم النقدي لحدود املعرفة البشرية.ليس غرضنا من هذا التصريح مجرد
ُ
اإلشارة إلى وجود سياق «وضعي» ترعرع في كنفه مبحث فلسفة الدين ،بل نريد
التأكيد على أن العمل في املبحث الجديد انطلق من النقد الكانطي واستوعبه
واشتغل وفق برنامج البحث الذي وضعه هذا النقد لكل فلسفة دين مستقبلية،
بحيث كان املوجه األسا�سي لهذا البرنامج العام هو ضرورة التشبث ،في كل بحث
فكري مستقبلي ،بحدود إمكان املعرفة.1
بعد هذه التوطئة التي وضحت بشكل مكثف السياق الفكري لنشأة مبحث
-1علينا أن نميز بين فلسفة الدين والتأمالت الفلسفية حول الدين واالعتقاد ،املنتشرة في متون
الفلسفة منذ فجرها األول .نريد أن ننبه إلى أن مقالنا يتناول بالدرس مبحث فلسفة الدين الذي ظهر
إثر الهزة النقدية الكانطية ،لكن جذوره تمتد قريبا من هذه الهزة ،وبالضبط في ظهور نقد النصوص
الدينية بداية من بايلو سبينوزا.
في هذا اإلطارالحظنا بأن جون غروندان ال يتوانى ،ونحن غيرمتفقين معه في ذلك قطعا ،عن الحديث عن
«فلسفة دين إغريقية» (ص .)40 - 39 .بل وجدناه يساوي بين الثيولوجيا العقالنية وفلسفة الدين(على
عكس توجهنا في مقالنا) في محاورات أفالطون ،معتبرا بأن الفيلسوف اليوناني مارسهما معا ،ودليله
على ذلك كامن في أن أفالطون استدل في محاوراته على وجود اإلله وعلى املعتقدات الدينية األساسية
(التدبيراإللهي للعالم والعناية اإللهية( )...ص.)56 .
Jean Grondin, La philosophie de la religion, Paris, Puf, Que sais-je?, 2009.
245 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
فلسفة الدين .نبدأ بالبحث في تعريف أولي لفلسفة الدين ،قبل استعراض
تصورات ثالثة مفكرين أثروا بشكل كبيرفي التصور الذي هيمن في القرن العشرين
على هذا املبحث ،مع التنبيه إلى أن الطريق الذي اخترناه للتعريف يتما�شى مع
جوهر الفلسفة املؤطرة لتوجهات املفكرين الثالث .سنجيب أوال عن سؤال :ماذا
تبقى ملبحث فلسفة الدين إثر النقد الكانطي؟ ما املقصود بفلسفة الدين؟ وما
هو موضوع هذا املبحث؟ وهل استوى على عرش امليتافيزيقا بعد إزاحتها بفعل
مجرد مبحث من مباحث الفلسفة وغصنا من أغصان عد ّ النقد الكانطي؟ أم أنه ُي ُّ
شجرتها ،شأنه شأن اإلستيطيقا والفلسفة السياسية مثال؟ وما هو منهجه؟ أي،
ً ُ
الدين ،فلسفة؟ بأي معنى يطلق على هذا املبحث ،الذي موضوعه
نبدأ أوال بتعريف قائم على السلب ،أي بتحديد ما ليس فلسفة دين .1نعلم
ّ جيدا بأن املهمة ليست ّ
بالهينة ،ألننا سنحاول تمييز وفصل هذا املبحث عن ِ
مباحث تتقاطع معه في العديد من القواسم؛ نقصد :الثيولوجيا والفلسفة
الدينية.
من أجل تمييز واضح وأولي ملوضوع مبحث فلسفة الدين ومنهجه ،نقول :إذا
اقتصرت مهمة املفكر على الدفاع عن عقائد إيمانية وإثبات الطابع العقالني
للوحي ،في التخوم الرابطة/الفاصلة بين الدين والفلسفة ،فإن هذا العمل يدخل
في خانة الثيولوجيا .أما إذا اتجهت وظيفة الخطاب الفلسفي إلى نقل التجربة
- 1إذا كنا قد حاولنا تعريف مبحث فلسفة الدين بالسلب ،وكذا بالعودة إلى تاريخ نشوئه الفكري،
فإننا ال نرى ضرورة للعودة إلى األصل االشتقاقي لكلمة «دين» في اللغة العربية الستكمال التعريف ،ألن
االهتمام بالدين في شموليته وكونيته ،ينطلق في نظرنا من اعتباره تجربة بشرية تتجاوز اللغات واألقوام
والديانات ذاتها ،األمر الذي يدعونا إلى البحث في املشترك ،دون أن يعني ذلك إهمال الخصوصية
والجهوية.
ال�شيء نفسه ّنبه عليه غرايش ،حين بين أن االنقسام واالختالف يكون دائما مصير كل الدراسات التي
حاولت فهم الظاهرة الدينية بالتركيزعلى األصل االشتقاقي للفظ في اللغات الهندو -أوربية.
- J. Greisch,Buisson Ardent et les lumières de la raison, T. 1, Paris, Cerf, 2002, pp. 14-16.
Cf. Grondin, La philosophie de la religion, op. cit.,pp. 65-79.
246
الروحية والدينية في لغة فلسفية ،نكون
في قلب فلسفة دينية .1وبالتالي ،ليست سنجيب أوال عن سؤال :ماذا
فلسفة الدين دفاعا عن عقيدة ،وال تبىق ملبحث فلسفة الدين إثر
بحثا في الدالئل على وجود هللا وصدق النقد الكانطي؟ ما املقصود
بفلسفة الدين؟ وما هو
العقائد الدينية ،وليست نقال للتجربة
موضوع هذا املبحث؟ وهل
الدينية في لغة ومنطق فلسفيين.
استوى عىل عرش امليتافزييقا
بعدما توقفنا عند السياق الفكري
بعد إزاحهتا بفعل النقد
الكانطي؟ لظهور فلسفة الدين وقدمنا تعريفا أوليا
لهذا املبحث ،نعرض فيما يلي للسياق
التاريخي والثقافي العام الذي احتضن
نشوء مبحث فلسفة الدينواثرفي التصور املؤطرله.
لقد عرفت اإلنسانية األورو -أمريكية منذ قرنين ونصف تغيرات كبيرة (أمر
امتد فيما بعد إلى اإلنسانية جمعاء ،بوتائر مختلفة ومتفاوتة) .على مستوى
الدولي أصبحت العالقات بين الدول تنتظم على أسا�سي قانوني بفضل االتفاقيات
واملعاهدات ،سواء تعلق األمر باملجال السيا�سي أو بمجاالت التجارة واالقتصاد
- 1من الصعب تحديد تاريخ بداية الفلسفة الدينية ،وذلك راجع باألساس إلى كون ميالد الفلسفة
ذاته أخذ عن التجربة الدينية الكثير من خصائصها .لقد كان ولوج مذهب فلسفي شبيها بالدخول إلى
ديانة جديدة ،وهواألمرالذي يستشعره املرء ،مثال ،في قراءة محاورات أفالطون ،املشبعة بعبارات تحيل
إلى تجربة الدخول إلى عالم جديد ونظرة جديدة وتصور جديد عند االنتقال من مذهب فلسفي إلى
آخر ،دون أن نن�سى في هذا السياق الشرط املعلق أو الشعار على باب أكاديميته (ال يدخل علينا من لم
يتعلم الرياضيات) .مرورا بالتجارب الفلسفية الهيلنستية والوسطوية ،ونخص بالذكرتجربة أوغسطين،
حيث االنتقال من املانوية إلى األفالطونية إلى املسيحية هو انتقال بين تجارب روحية ،وصوال إلى نبرة
ديكارت في مقدمة مقال في املنهج ،دون أن نن�سى فلسفة باسكال وبشكل أوضح وأقرب إلينا كيركغارد.
وهو األمرالذي عبرعنه إتيان جلسون بـ «ميتافيزيقا الهداية» في تاريخ الفلسفة .لذلك إذا كان للثيولوجيا
تواريخ ميالد ووفاة واضحة (وفاتها ونهايتها كمشروع علمية) ،فإن الفلسفة الدينية نشأت داخل التجربة
الفلسفية ،وخرجت رويدا رويدا إلى هامشها ،وصاحبتها في تاريخها ،بحيث تبدو أقرب إلى التجربة األدبية
منها إلى الهم الفلسفي التأسي�سي .للمزيد حول هذا املوضوع ،أنظر:
- Jean Greisch, op. cit., pp. 40-43.
247 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
وحركة رأس املال .على الصعيد
الداخلي للدول عرفت الديناميات إذا اتجهت وظيفة اخلطاب
الفلسيف إىل نقل التجربة االجتماعية والسياسية نموا ديمقراطيا
َ ُّ
الروحية والدينية يف لغة مطردا سمتها األساسية ت َنظم العالقات
بين الفرقاء االجتماعيين على أساس فلسفية ،نكون يف قلب فلسفة
دساتير وتعاقدات اجتماعية (اكتسبت دينية .وبالتايل ،ليست فلسفة
القوانين املكتوبة سلطة أعلى من الدين دفاعا عن عقيدة ،وال
بحثا يف الدالئل عىل وجود اهلل
سلطة األشخاص والجماعات).
وصدق العقائد الدينية ،وليست
هذه التغيرات صاحبتها تغيرات
نقال للتجربة الدينية يف لغة
ومنطق فلسفيني على مستوى تنظيم الحياة الفردية
والجماعية .كما عرف التعبير الفني
قطيعة مع أنماط الفن القديم،
وتحررت مجاالت متعددة من سلطة الدين ومؤسساته .أيضا ،تغيرت الحياة
الدينية لألفراد والجماعات .ظهرهذا األمربجالء في تغيرعالقة املؤسسات الدينية
بالدولة واملجتمع واألخالق .كما عرف الفضاء العام انفتاحا على مستوى النقاش
العام فيما يخص القضايا األخالقية والسياسية في األدب والفلسفة والصحافة
والشعر ...بحيث إن كل ما كان ُي َع ُّد في املا�ضي «مبادئ ثابتة» أصبح موضوعا
للتحليل واملراجعة ومسائل مفتوحة للنقاش :الجسد والحرية الدينية والتمثيلية
السياسية ومكانة الفرد وعالقة العلم باألخالق ومكانة الدين في مؤسسات الدولة
وفي املجتمع ...بصفة عامة ،لقد هيمن عند نهاية القرن التاسع عشر شعور عام
بأن حياة املجتمع الدولي تسير في كل أبعادها نحو تغيرات نوعية في املقبل من
َّ
الزمان .إنه شعور عام اختلف تقديره وتقييمه بين من تمثله بخوف وندم على
ُ
فقدان عالم يندثر وبين من نادى بتسريع أسبابه والسير ق ُدما في االتجاه نفسه
248
بحماس وأمل.1
إذن ،اتسم الجو العام الذي نشأت فيه فلسفة الدين بعلمنة عارمة،
ومراجعة شاملة ملكانة الدين في الحياة الفردية والجماعية ،ونقد الذع من طرف
كانط لحدود املعرفة البشرية ،وبعده تبنت جل الفلسفات هذا النقد ،ثم عرف
هذا الجو العام هجوما قويا من لدن فلسفات القرن التاسع عشر ضد الخرافة
واألسطورة ،وصعود وانتشار الفلسفات الوضعية والتطورية ...في هذا اإلطار
الثقافي والعلمي كان على فلسفة الدين أن تجد لها موضوعا ومنهجا مغايرين
عن املوضوعات واملناهج التقليدية التي اعتمدت في الثيولوجيا ما قبل الكانطية.
حددوا معالم فلسفة الدين سنعرض في هذا املقال لتصورات ثالثة مفكرين َّ
ِ
عند منعطف فاصل في تاريخ الفكرالغربي وتاريخ املسيحية ،وهم :إرنستترولتش
وبول تيليش ورودولف بولتمان .2لقد أسهم هؤالء بوضع مقترحات ملوضوعات
مبحث فلسفة الدين ومناهجه في الجو العام الذي بينها سماته العامة .قاسمهم
املشترك هو الوعي بالتحوالت العظمى التي عاشتها اإلنسانية منذ أواسط القرن
التاسع عشر ،وكذا تبنيهم نقد كانط لحدود املعرفة اإلنسانية .ترى كيف حل
فلسفة موضوعها الدين مع االلتزام بحدود املعرفة ٍ هؤالء مفارقة الحفاظ على
اإلنسانية وعدم تخطي تلك الحدود ،رغم أن املوضوعات الكبرى للدين كلها
موضوعات متعالية وهي هللا والنفس والعالم والوحي؟
ُ
ال نريد في مساحة هذا املقال أن ندخل في مجال فلسفة الدين (بحصراملعنى)
كل التأمالت الفلسفية النقدية التي حظيت بها الظاهرة الدينية بعد كانط.
نقصد بـ «التأمالت» مختلف املحاوالت النقدية التي سعت إلى تخليص الدين
من أغطيته امليتولولوجية واإليديولوجية بناء على النقد الثقافي حينا أو على
1- Ernst Troeltsch, Histoire des religions et destin de la théologie, Œuvres III, trad. par
Jean-Marc Tétaz, Paris/Genève, Cerf/Labor et Fides, 1996, p. 5-6.
2- Ernst Troeltsch: 1865 – 1923. Paul Tillich: 1886 – 1965. Rudolf Bultmann: 1884 – 1976.
249 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
النقد االقتصادي -االجتماعي حينا آخرأو على النقد التاريخي أحايين أخرى ،وهي
املحاوالت التي زخر بها القرن التاسع عشر .صحيح أن هذه املحاوالت كان لها أثر
كبيرعلى تطور مبحث فلسفة الدين فيما بعد ،لكننا في هذا الجانب نتبنى تصورا
تصور سياقا يحتضنه أو «بنية معنى» منها يشتق ٍ «بنيويا» يرى بأن لكل ٍ
فكر أو
دالالته وغاياته ،وبالتالي فإننا نرفض النظرة التاريخية الفجة التي ترد كل مولود
فكري إلى عصور تاريخية بعيدة عن ميالده الزمني.
إرنستترولتش وصورة العالم الحديثة
وقف إرنستترولتش أمام صورة العالم الحديثة قبل أن يقرر املسار الذي
يجب أن تتخذه العلوم حول الدين موضوعا ومنهجا ،فالحظ أن الحرية من
حضتالسمات األساسية لزمن بدأت معامله ترتسم منذ عصراألنوار .إنها حرية ّ
عليها املسيحية أول األمر ،لكنها تحررت بدورها من املسيحية وكهنوتها وذهبت
تبحث لنفسها في داخل العالم الدنيوي عن أسس مغايرة وغايات مختلفة.
السمة األساسية األخرى لصورة العالم الحديثة تكمن في توجه الثقافة الحديثة
نحو العالم الدنيوي وانغراسها داخله .فبعد االكتشافات الجغرافية وآثارها
على مستوى الرفاه االقتصادي ،ومساهمة حركة التجارة العاملية في هذا الرفاه
بفعل بروزظواهرجديدة في اإلنتاج وتوزيع الثروات والخيرات وانتظام العالقات
املالية وتحقيقها لألمن والطمأنينة االقتصاديين وما تبع ذلك من تضخم في
رأس املال العالمي ،انعكس كل ذلك على صورة العالم التي يحملها الناس في
أذهانهم حيث اختفى ،رويدا رويدا« ،مناخ مشبع بثقافة مسيحية تقدس الفقر
واأللم ،وظهر بدله مناخ متوجه إلى العالم الدنيويُ ،يقدس الصحة والقوة
والعمل املنتج للخيرات وحياة الرفاهية واملال والجمال» .1تزامن هذا التحول مع
تبدى في منهج املعرفة«انقالب طرأ على مستوى أسس معرفة اإلنسان ،وهو ما ّ
250
ونتائجها» .1تلك كانت سمة أخرى من
سمات الزمن الحديث .يشير ترولتش نقصد ـب «التأمالت» خمتلف
ُ
كيف ولد العلم الحديث متجاوزا العلم املحاوالت النقدية اليت سعت
القديم بفضل تصورات وضعية قابلة إىل تخليص الدين من أغطيته
للبرهان واالستدالل ،إلى جانب تقنية امليتولولوجية واإليديولوجية
حديثة مكنت اإلنسان من التحكم في بناء عىل النقد الثقايف حينا
الطبيعة وتجاوز خوفه القديم منها .أو عىل النقد االقتصادي -
هذه التحوالت العلمية والتقنية حررت االجتمايع حينا آخر أو عىل
اإلنسان ومنحته الثقة في النفس النقد التارييخ أحايني أخرى
بحيث أضحى مقتنعا بأنه يملك «مفتاح
نجاحات أخرى ال نهاية لها».2
لقد حل محل صورة العالم العفوية والبسيطة تفسير علمي للعالم ،أصبح
نبع وأساس كل �شيء في الزمن الحديث :الحرية والقانون ،والعمل الصناعي َ
والطب ،والعالج واالحتياطات الصحية ،l’hygièneومؤسسة العمل اإلداري
وتنظيم التدبير السيا�سي واملرافق االجتماعية ،والتحكم في الدورة االقتصادية
والعالقات املالية...وقد سجل ترولتش هذه التغيرات دون أن يفوت الفرصة
َ
س إيجابي متفائل أن الزمن املا�ضي لم يعرف هيمنة للعلم على ليالحظ بنف ٍ
الحياة البشرية تساوي هيمنته الحديثةّ .
لكن هذا العلم الذي كان وراء النجاح
والرفاهية الحديثين هو «أيضا سبب األزمة الدينية».3
يعني ترولتش باألزمة الدينية ما ألفت األدبيات الفلسفية والسوسيولوجية
والثيولوجية منذ زمن وصفه بـ«سيرورة طويلة األمد ،نتج أثناءها ،في الحياة
1 - Ibid., p. 6.
2- Ibid., p. 7.
3- Ibid., p. 7.
251 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الخاصة لألفراد ،كما في الحياة العامة
ُيردُّ سبب هذا اإلفالس يف املشتركة ،إفالس وذبول للروابط الدينية
والتصورات املتعالية القبلية وانتظارات الثقافة الغربية إىل أن النجاح
ُّ ُ 1
حياة أخروية» .ويرد سبب هذا اإلفالس املضطرد للعلم والتكنولوجيا
في الثقافة الغربية إلى أن النجاح جعل الناس يعتقدون أن تحقيق
املضطرد للعلم والتكنولوجيا جعل «اجلنة» عىل األرض وشيك،
الناس يعتقدون أن تحقيق «الجنة» على لينعم فهيا كل الناس ،عىل
األرض وشيك ،لينعم فيها كل الناس ،عكس الدين الذي أجلها إىل ما
بعد املوت على عكس الدين الذي أجلها إلى ما
بعد املوت وحصر التنعم بها للمؤمنين
به فقط .كما زاد العلم من أزمة الدين
حين جعل النصوص املقدسة وتاريخ األديان موضوعا من موضوعاتهَ ،
فس َما
بذلك فوق الدين بعدما ظلت الثيولوجيا واملؤسسات الكهنوتية توجه الثقافة
والعلم لقرون .كما ساهم في ذاك اإلفالس فحص النصوص الدينية والكشف
عن الكثير من الغموض والتناقض داخلها وعدم تناسقها مع الروايات ذات
الصلة بتاريخ الدين .باإلضافة إلى أن مقاربة الديانات مقاربة تاريخية نقدية
ساهم في انهيار أسطورة يعتنقها كل املؤمنين وهي اعتقادهم بتميز دينهم مقارنة
بباقي األديان ،حيث كشفت هذه املقاربة اشتراك كل املؤمنين في أمر واحد ،رغم
اختالف معتقداتهم ،هو الشعور الديني القابع في دواخلهم والكامن في نفوسهم.
رغم كل ما سبق اإلشارة إليه ،فقد رفض ترولتش تهويل املهولين من خطر
تقدم العلم على الشعور الديني ،واعتبرأنه على املشتغلين باملجال الديني استثمار
اإلمكانات التي يتيحها التطور العلمي الذي حققته اإلنسانية في الزمن الحديث
1- Hans Blumenberg, La légitimité des Temps modernes, trad. par MarcSagnol et autres,
Paris, Gallimard, 1999, p. 11.
252
من أجل إعادة طرح سؤال طبيعة الشعور الديني الكامن في عمق الذات البشرية.
فعل إلهي في قلوب املؤمنينعمل ٍأثر ِفحتى لو آمنا بأن هذا الشعور ناتج عن ِ
املطمئنة ،فإن ظهور أدوات ومناهج علمية جديدة يفرض إعادة طرح السؤال
لفهم كيفية حلول العمل اإللهي في قلب اإلنسان .إذ من األكيد أن العلوم التي
أثبتت جدارتها في مجاالت مختلفة ومتعددة قادرة على إضفاء نور جديد على هذا
املوضوع القديم.
لفهم السبب الكامن وراء األزمة الدينية وخلق املواجهة الحديثة بين الدين
والعلم ،ولبحث مدى واقعية فكرة املواجهة هاته ،وهل هي حقيقة أم أنها اعتقاد
ض َّرر ربما من تطور العلم الحديث ،اعتمد ترولتش على املقاربة كرسه طرف َت َ
التاريخية لينظرفي تاريخ عالقة الدين والعلم من حيث انطالقتها وماضيها ومآلها
واإلمكانات املتاحة أمام فلسفة الدين عموما للخروج من وضعية هاته.
َ
كان لقاء الثقافة الهيلنستية والدين املسيحي أول األمرلقاء غرباء .فما صادفه
1
هذا الدين لدى تلك الثقافة هو وحدة أفكارها في «نظرة إيتيقية دينية للعالم»
تجسدت في األفالطونية املحدثة .بمعنى أنه لم يصادف اختالف العلوم والصنائع
وتعددها كما كان زمن اليونان األول .تلك هي الثقافة التي واجهتها املسيحية
األولى ،أو لنقل تلك كانت صورة الثقافة التي حملتها أطراف اجتماعية ملواجهة
«الحماس اإلسكاتولوجي الطوباوي» 2لجماعة املسيحيين.
فيما بعد ،مع عصر النهضة ونهاية العصر الوسيط ،تعددت علوم الطبيعة
واختلفت مناهج كل منها .ثم تطورت في االتجاه نفسه العلوم التاريخية (الحق
واالقتصاد واالجتماع .)...مع هذا التطور العلمي الثنائي املنحى ،اكتشف العلماء
أن معرفتهم لم تكن تصادف مضامين معتقداتهم ومفاهيمهم الدينية في الواقعين
الطبيعي والتاريخي .فتنبهوا إلى أن مفاهيمهم كانت مفاهيم قبلية ومسبقة تحدد
1- Troeltsch, op. cit., p. 13.
2- Ibid., p. 14.
253 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
وجهة أبحاثهم ،أي أنهم اكتشفوا أن أبحاثهم لم تكن تنطلق من معطيات الواقع
املدروس بقدرما كانوا ينطلقون من صورة إيتيقية دينية للعالم .وعليه استنتجوا
أن وحدة مقوالت العلم والدين كانت مفروضة على العقول بمقت�ضى صورة
العالم املسبقة ،ولم تكن من إنتاج العقول في احتكاكها بالظواهر الطبيعية
والتاريخية.
وبما أن الدين قد تحول في الزمن الحديث إلى مجال من مجاالت العلوم
التاريخية فقد أدت التحوالت املشار إليها إلى هلع انتشر بين املؤمنين من العلماء
وكذا خارج دائرة هؤالء .فقد الحظ الفالسفة بأن مفاهيمهم عن مجال الدين
أثناء دراسته غيرمستقاة من واقع خارج الذات وأنها مأخوذة من حياتهم الدينية.
فتحولوا إلى دراسة الوعي الذي هو وعيهم الذاتي باعتباره معطى سيكولوجيا ،ثم
اكتشفوا بعد ذلك بأن الظاهرة الدينية ذات بعد تاريخي .هكذا أصبح موضوع
العلم الذي يدرس الدين هومعطيات الوعي السيكولوجية والتاريخية .فتبين بناء
على نتائج املعرفة الجديدة أن «العلم ليس طريقا مغايرا مؤديا لإليمان باهلل،
فهو ليس طريقا موازيا للدين ،ألن عمل العلم يقوم على وضع الواقع املدروس
في إطار تجانس مفاهيمي .هذا الواقع ال يشكل الدين إال جزءا منه ،إلى جانب
مجاالت ال حصر لها» .1اكتشف املؤمنون بناء على نتائج املعرفة السيكولوجية
والتاريخية بأن الوعي الديني للمسيحي غير مختلف من الناحية السيكولوجية
عن وعي املتدين الوثني ،كما أن العالقة التي يشيدها املتدين املسيحي مع تمثله
التاريخي عن ديانته متماثلة مع تمثل الوثني لتاريخ عقيدته بأبطالها وأساطيرها
ومعجزاتها .وهكذا تبين للمسيحيين بأن الدين املسيحي خاضع للتطور التاريخي
الخاص بظاهرة االعتقاد والتدين عامة ،وبأن ال قداسة للعقيدة املسيحية،
كما أن هذه العقيدة وتاريخها غير حائزين على أي استثناء ما عدا ما يضفيه
254
عليهما املسيحيون أنفسهم .بناء على
هذه التطورات ،كيف تعاملت املقاربة الحظ الفالسفة بأن مفاهيمهم
السيكولوجية التاريخية مع الرموز عن مجال الدين أثناء دراسته
الدينية؟ يجيب ترولتشُ :تشكل التمثالت غري مستقاة من واقع خارج
الذات وأهنا مأخوذة من حياهتم
واملفاهيم واألفكار في مجال الدين رموزا
الدينية .فتحولوا إىل دراسة
للتعبير عن الشعور الديني ،لذلك فهي
الويع الذي هو وعهيم الذايت
متغيرة بحسب تبدل الزمن وتغيراألفراد.
باعتباره معطى سيكولوجيا
إزاء هذا الواقع ،يقف التحليل العلمي
السيكولوجي للشعور الديني ،من هذه
الرموز ،موقفا مغايرا عن ذلك الذي يتخذه الكهنوتي واملؤمن .فالنظرة الدينية
تريد أن تجعل من التمثالت واملفاهيم بناءات مطلقة ألغراض إيمانية وأخالقية
وقانونية ،لذلك ال تبالي النظرة الدينية بطبيعة الرموز النسبية ،بل إن سلوكها
يتصف باإلهمال املقصود تبعا ألغراضها املعلنة .هذا الوقف املتصلب الذي
تتصف به النظرة الدينية يجب أال يثني العلماء على اتخاذ الدين موضوعا
َ
َلنظرهم مهما ادعى من يعتبرون أنفسهم قيمين أو أوصياء على شؤونه بأنه خارج
مجال العلم .فالدين تعبيرعن حياة نفسية ،وهذه الحياة تعبرعن نفسها برموز.
ولطاملا أخضع العلم الرموز للدراسة في مجاالت أخرى .لهذا ،فأولى للدين أن
يستفيد من الخبرة التي اكتسبها العلم ومناهجه في دراساته لشتى مجاالت التعبير
البشري.1
-1يقول ترولتش أن املسيحية خطاب ِيرد علينا من املا�ضي ،يتلقفه املؤمن فيقوم بـحركة «هجران
الذات نحو اإللهي» (ص ،)27 .ويقول املؤمن إن «كالمه (الدين املسيحي) يؤثرفي القلوب» ويعاش «كواقع
في الحياة الداخلية» .يضيف ترولتش أننا هنا أمام «واقعة تعبرعن نفسها بطرق شتى في لغة رمزية» (ص.
.)27محتوى هذا الكالم (اإليمان في اإلله)ال يمكن أن يكون موضوع أدلة علمية ،ويضيف ترولتش «ألنه
تجربة معاشة داخليا» .قد يدركها املرء وينخرط فيما تدعو إليه ،كما يمكنه رفضها .لكل هذه األسباب
«تعه ُد الدين برعاية من لدن علم التاريخ في مقدماته وتطوره» (ص ،)27 .فالتجربة الدينية
يمكن بالفعل ّ
موز خاصة بالعصرالذي ظهرت فيه. تتمظهرفي تمثالت ومفاهيم مصاغة في ر ٍ
255 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
النظرة الدينية تريد أن تجعل نتذكر مع ترولتش بأن اإلنسانية
من التمثالت واملفاهيم بناءات الغربية استفادت إلى حدود القرن
مطلقة ألغراض إيمانية التاسع عشر من النمو والتطور الذي
وأخالقية وقانونية ،لذلك ال حققه العلم وإنجازاته التقنية ،لكن
تبايل النظرة الدينية بطبيعة طائفة من هذه اإلنسانية رفضت تطبيق
الرموز النسبية املقاربة العلمية الحديثة التي طورتها
العلوم النفسية واالجتماعية والتاريخية
على الدين ،خوفا منها من إدخال موضوع
الدين في حكم العدم وتبخيس تعاليه وقداسته .وفي رده على هذا التخوف قال
ترولتش« :يهدف العلم إلى تصنيف الواقع في كليته وتوحيده والحكم عليه ومنح
موجوداته صورا خاصة .وبناء على ذلك فإن العلم ال يبدع واقعا جديدا ،وليس في
مقدوره رد واقع ،إن وجد ،إلى العدم ،سواء كان هذا الواقع جزءا من عالم املادة
أو من عالم الروح» .1ويضيف ترولتش منبها إلى ما يخيف الكهنوتيين حقيقة،
ّأن للعلم القدرة على كشف العالقات ،لهذا فهو مفيد للدراسات الدينية ليضع
تحت مجهر الفحص عالقات تم إخفاؤها قصدا أو أنها ال تبدو للنظر الساذج
واملباشر ،2كما أنه يفضح ما ُي َق ّدم على أنه مجال خاص ومختلف ومغاير دون
يقدم أنه موضوع مخالف باقي املجاالت .وقد يتمكن من تسليط نور جديد على ما ّ
1- Troeltsch, op. cit., p. 28.
ُ
- 2يقول ترولتش« :الدين رابطة باإلله تعاش كتجربة نفسية ،وهي جزء من التجارب األصيلة املعاشة
من لدن النفس .هذه التجربة ال يستطيع أي علم ادعاء خلقها أو إنكار وجودها ،وال يمكن للعلم إال أن
يدرسها باعتبارها شيئا معطى أو واقع ،ويبحث في صورها البسيطة ،ويكشف الوشائج التي تشدها إلى
باقي أجزاء الحياة النفسية ،ويبين طبيعتها املركبة وتحوالتها التاريخية ،ويستنتج أهميتها في حياة الروح
وكذا أهمية وقيمة صورها التاريخية .إنه ملن طبيعة العلم أن يحطم صورا غدت ثابتة بفعل قوة الخلق
واإلبداع التي تمتلكها اآلراء وتكرسها التقاليد ،ليضعنا أمام تراكيب جديدة ،لكنه ال يستطيع خلق دين
أو رده إلى العدم»).Troeltsch, ibid., p. 29( .
256
فينكشف على أنه مجرد «تصور جديد ملعطى قائم».1
بناء على التحليل السابق ،ينتهي ترولتش إلى وضع ثالث ضرورات ّ
موجهة منِ
ْ
أجل فلسفة دين تكون ِبنت عصرها:
أ -دراسة كل األديان باعتماد مقاربة عامة دون تمييز ،من خالل منهجية
سيكولوجية تاريخية ،مع التنويه إلى أن ما سيسقط عن كل دين أثناء تطبيق
هذه املنهجية هو صنائع البشر والتقاليد وليس الشعور الديني أو خصوصية كل
دين.
ب -ال بد من تعضيد عمل املقاربة السيكولوجية والتاريخية بباقي مناهج علوم
الروح .ذلك أن كل دين يقترح صورة للعالم ،لهذا لزم أن تتكاثف مختلف العلوم
الستيعاب العالقات القائمة بين الشعور الديني الداخلي واألبعاد االجتماعية
واللغوية واملنطقية...هذا العمل سيمكن فلسفة الدين من دحض تحليل
يردون الدين إلى مجرد ميل بشري ورد فعل نف�سي عن دوافع الشكاك الذين ّ
الشعورية .فبالعمل املتكاثف بين مختلف العلوم يتمكن فيلسوف الدين من
إبراز «الوعي املطلق» الذي يؤسس لصورة العالم العامة التي يقترحها كل دين.
ج -على فلسفة الدين أن تنطلق من إيمان حقيقي بقوة الكائن اإلنساني ،في
مقابل مصدرين عرف عنهما احتقار قدرات هذا الكائن ،املصدر األول :هو
التصورات الكهنوتية .واملصدرالثاني :هوعلوم الزمن الحديث .فإذا كان ترولتش
يرفض املسيحية التي تصف النفس اإلنسانية بالضعف والفساد ،فإنه يرفض
في العلم الحديث جانبه الذي يقف عند ضآلة اإلنسان املادية أمام قوة الكون
وظواهره الفيزيائية ،ويعلي من الدفعة التي أعطتها الكوبرنيكية والداروينية
لإلرادة ،ألنها نظريات وجهت اإلنسان الحديث إلى ردة فعل لــ«إثبات الذات وسط
الطابع امليكانيكي للكون» ،2ودفعته لالستماتة في مواجهة الصعاب وحمل قيم
1- Troeltsch, Ibid., p. 28.
2- Troeltsch, ibid., p. 35.
257 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
عليا ومطلقة .ألم تفشل النظريات املادية وامليكانيكية الحديثة في تفسير إباء
اإلنسان وسموه وعدم خضوعه لطبيعته؟
بول تيليش وموضوع فلسفة الدين
على عكس املقاربة التاريخية التي انتهجها ترولتش ،اختاربول تيليش التفصيل
النسقي لطبيعة املعرفة وملوضوعاتها ومناهجها .1بناء على النظرة النسقية
للمعرفة البشرية ميز تيليشبين سبيلين في فلسفة الدين :السبيل األنطولوجي
والسبيل الكوسمولوجي .يؤدي السبيالن معا إلى لقاء اإلله :في األول يلج اإلنسان
أعماق نفسه فيلقى الواقع اإلنساني واإلله في اآلن ذاته .أما على الطريق الثاني
يالقي اإلنسان في منتهاه كائنا غريبا عنه ،مختلفا عنه ماهويا .ويضيف تيليش بأن
الطريق الكوسمولوجي ،سواء كان طويال أو قصيرا ،يكون لقاء اإلله عبره «لقاء
صدفة» .2هذا الطريق قد يؤدي بنا إلى اإلله كما حدث مع طوما األكويني أو قد
يأخذنا إلى عقائد مغايرة تماما إليمان األكويني ،وهو ما حدث فعال مع العلوم
الطبيعية في زمن األنوار .لذلك اعتبرتيليش أن لقاء اإلله وإن تم عبرهذا السبيل
فإنه ال يكون إال لقاء صدفة.
الوجل
الخائف ِ
ِ ال يميز بول تيليش بين السبيلين على طريقة رجل الثيولوجيا
من ركوب طريق الشيطان إن هو اتبع طريق العلوم النقلية أو قل علوم العصر
الطبيعية منها واإلنسانية .إن غرض تيليش مخالف لهذا تمام الخالف ،فهو يريد
- 1يميزبول تيليش ،على طريقة مدرسة الكانطية الجديدة ،بين علوم املوجودات وعلوم املعنى أو القيمة.
تدخل علوم الروح في زمرة علوم الخانة األولى .تتضمن كل علوم الروح ثالثة أبعاد :البعد الفلسفي،
حيث يتم تحديد مجال الداللة الذي يشتغل عليه املعنى(موضوع العلم وحدوده) .البعد التاريخي :يدرس
املسار التاريخي لتطور العلم من خالل الوقوف على بروز موضوعه كموضوع للدراسة العلمية ،وتاريخ
تشكل املنهج الخاص به .البعد النسقيُ :تدرس في هذا البعد عالقة موضوع العلم بباقي مجاالت وحقول
العلوم.
Jean Greisch, op. cit.,p. 424.
2- Paul Tillich, Théologie ce la culture, trad .de l’anglais par J.-P. Gabus et J.-M. Saint,
Paris, Eds. Planète, 1968, p. 19.
258
إثبات أمر أسا�سي مفاده أن الطريق
بناء عىل النظرة النسقية األنطولوجي هو «املنهج األسا�سي لكل
فلسفة دين» ،بينما يؤدي استخدام للمعرفة البرشية مزي تيليشبني
سبيلني يف فلسفة الدين: الطريق الكوسمولوجي إلى فصل جوهري
بين العالم اإللهي وعلومه من جهة السبيل األنطولويج والسبيل
الكوسمولويج والعالم املادي الدنيوي ومعارفه من
جهة أخرى ،وبالتالي إلى تقابل قائم على
هوة فاصلة بين الدين والفلسفة .إضافة
إلى أنه ال يؤدي إلى اإلله إال بالصدفة كما أسلفنا .غير أن هذه املمارسة املعرفية
ّ
التي تكرست عبرعصور والتي تفصل بين علوم إلهية وعلوم مادية ممارسة ِ
تغرب
الفعل املعرفي عن ذاته في نظرتيليش ،ألن كل املعارف البشرية في جوهرها تعبير
عن انشغال وجودي .لهذا فكل املعارف ،على اختالف دروبها وضروبها ،محاولة
لإلحاطة ب�شيء ما سماه تيليش بـ «الالمشروط» أو املطلق .لهذا ففضل الدين
َّ
يكمن في أنه شكل أول تعبير بشري عن انشغال اإلنسان بهذا املوضوع ،وبعده
جاءت العلوم الطبيعية لتجيب بأساليبها الخاصة عن السؤال نفسه .لكن بعدما
وصل االنفصال بين العلوم حد الصراع والتراشق والخالف ،فقد آن األوان ،في
شرف نظرتيليش ،إلى رأب الصدع لتستعيد املعرفة اإلنسانية ماهيتها األولى .وقد ّ
تيليش مبحث فلسفة الدين بهذه املهمة الجليلة .يقول« :إن تأسيس فلسفة
الدين على املقاربة األنطولوجية مع استعمال الطريق الكوسمولوجي يؤدي إلى
مصالحة بين الدين والثقافة املعلمنة».1
الحظنا إذن كيف قام تيليش بعملية فتق من أجل رتق جيد وحسن ،ليكون
الثوب في أجمل وأكمل صورة للوظيفة التي وجد من أجلها.من خالل هذا الهدف
259 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الذي سطره تيليش ملشروعه الفلسفي،
ٌّ
يبدو واضحا أن محاولة هذا املفكر رد «إن تأسيس فلسفة الدين
عىل املقاربة األنطولوجية على الخوف الذي يبديه رجال الدين من
مع استعمال الطريق استخدام العلوم اإلنسانية في دراسة
الكوسمولويج يؤدي إىل الدين والنصوص الدينية ،ففي نظرهم
هذا االستخدام مهدد للطبيعة املتعالية مصاحلة بني الدين والثقافة
املعلمنة» للكائن املركزي في الثقافة الدينية ،أي
اإلله .كما يؤدي هذا االستخدام في
نظر الدينيين إلى إبطال العقائد وإبراز
طابعها النسبي والتاريخي وأصولها السيكولوجية وأسبابها االجتماعية ،وبالتالي
تؤدي العلوم اإلنسانية إلى الشك في الطبيعة املطلقة للعقائد الدينية .والحال
أن العلوم اإلنسانية والطبيعية ضرورية إلنجاز وإتمام بحث العلوم الدينية عن
موضوعها ،كما ّبين تيليش.
في إطار الوقوف عند أشكال االستالب التاريخي التي عانته املعرفة البشرية،
ينبه تيليش إلى أن وظيفة الدين قد تغيرت بحسب السياقات الفكرية ،وذلك منذ
انطالق حركة نقد النصوص الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر،1
وهو النقد الذي استمر بوتائر متفاوتة مع األنوار ومختلف تيارات الفلسفة
اإلسمية والتجريبية وكذا مع مادية القرن التاسع عشروصوال إلى النقد الثقافي مع
نيتشه والتحليل النف�سي مع فرويد .فنظرا لتباين مصادرالنقد وأسسه املختلفة
(أسطورية وسيكولوجية واجتماعية وسياسية) اضطر الدين إلى شغل وظائف
اعتبر أساسا لألخالق،مختلفة بحسب د جة الهجوم عليه في كل مرحلة .فمرة ُ
ر
1- Paul Hazard, La crise de la conscience européenne 1680-1715, Paris, fayard, 1961.
ُ
ترجم إلى العربية .بول هازار ،أزمة الوعي األوربي ،1715 - 1680ترجمة يوسف عا�صي ،املنظمة العربية
للترجمة ،بيروت.2009 ،
260
ُ
ومرة نظر إليه باعتباره أرضا صلبة للنظر املعرفي ،ثم تغيرت وظيفته وأصبح
يكت�سي مهام استطيقية إلى أن أصبح مجرد حدس بجالل العالم وعظمته مع
الرومانسية األملانية ،إلى أن ُعزل في مسألة اإلحساس الفردي والشعور الغائي .في
مقابل مسار االستالب هذا ،لم ينشغل تيليش باستحداث وظيفة جديدة للدين
بعدما استقلت كل املعارف والعلوم النظرية بموضوعاتها ومناهجها في القرن
العشرين .فالدين نابع في نظرتيليش من «عمق الحياة الروحية لإلنسان» ،1وهو
لهذا السبب شامل لكل االنشغاالت البشرية ،يضم أسئلتها ويعبرعن انهمامها.
إن الدين تعبير عن انشغال عميق ،وهذا العمق هو ما يجعل الدين انشغاال
معرفيا وأخالقيا وإستيطيقيا دون فصل أو عزل أو تفرقة .إنه تعبير عن عمق
الحياة اإلنسانية ،وال يمكن بلوغ هذا العمق إذا ما اتبعنا الطريق التقليدي
القائم على ثالثة مسارات متفرقة :البحث عن هللا عبر نهج خاص ،2والبحث في
الطبيعة في مسارمنفصل ،والبحث في الكائن اإلنساني عبرطريق ثالث.
إن فصل انشغاالت اإلنسان عن عمق هذا الكائن الروحي هو استالب ثنائي.
أوال :إنه استالب على مستوى املنهج بحيث يختفي عبرالفصل بين العلوم جوهر
املعرفة اإلنسانية املعبرة في تنوعها عن انشغال إنساني واحد .ثانيا :إنه استالب على
مستوى النتيجة ،إذ أن نتائج مختلف العلوم واملعارف في انفصالها وتشرذمها لن
تمكننا أبدا من كشف العمق اإلنساني الوجودي الذي يحرك الفاعلية املعرفية
في كل أبعادها .إن فصل انشغاالت اإلنسان املعرفية واألخالقية واإلستطيقية
عن عمقه الروحي بدعوى أن االهتمام املعرفي واألخالقي واالستيطيقي هو اهتمام
1- Paul Tillich, op. cit., p. 17.
- 2بخصوص هذا املوضوع مثال ،يرى تيليش بأن فيلسوف الدين عليه أال ينطلق من أن موضوع الدين
سابق عن الدين ذاته ومستقل عن الوجود اإلنساني .بمعنى أن هذا املفكرال يعتبرأن موضوع الدين من
زاوية نظرفلسفة الدين هوكائن مفارق ومنفصل كوسمولوجيا ،سابق في الوجود عن الديانات .إن النظر
إلى موضوع اإليمان على غير هذه الطريقة يسقط فيلسوف الدين في تناقض مع شروط إمكان معرفته
وحدودها.
261 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
بطبائع ال صلة لها بالبعد الديني مضربطبيعة الكائن اإلنساني من أساسه.
إذا كان الدين تعبيرا عن «حياة روح اإلنسان» في كل أبعادها ،ما الذي
أدى إلى انفصال الدين عن مختلف األنشطة اإلنسانية ،فانفصلت النظرية
منها والعملية عن الدين؟ وقام مجال خاص يهتم بالنشاط الديني بمؤسساته
وقواعده وطقوسه؟ يفسر تيليش هذا الواقع بأن الطبيعة البشرية خضعت
وجزأ ماهيتها .لهذا ستضطلعلتاريخ من االستالب فصل أنشطتها عن بعضها ّ
فلسفة الدين بشرف استعادة مكانة الدين وإعادة اللحمة إلى األنشطة البشرية
ومن ثم استرجاع ماهية اإلنسان.
إن املتأمل ملشروع تيليش يقف مندهشا أمام غاياته وأهدافه .فعكس ما قد
تذهب إليه القراءة السطحية الضحلة،ال يريد تيليش تنصيب الدين بمؤسساته
حاكما شموليا يسيطر «رجاله» مجددا على الحياة البشرية في كليتها ،ألن هذا
األمر سيكون بمثابة استقالل جديد للدين عن الحياة البشرية بعدما ينفصل
أناس محددون بمهام ومؤسسات وسلطات ال يمتلكها باقي الناس .يريد تيليش
عالم ،في مختلف مجاالت املعرفة اإلنسانية ،أن يقف أمام الظاهرة التي
من كل ِ
َّ
يدرسها محافظا على ما يتطل ُب ُه تخصصه العلمي ،من حيث املوضوع واملنهج،
لكن دون أن ينفصل االنشغال العلمي لديه عن الهم األخالقي مثال .وهكذا
دواليك يسري الحكم نفسه على الفنان واملشتغل بقضايا األخالق والسياسة...
يعبرالدين في نظرتيليش عن عمق التجربة اإلنسانية ،لكنه يصبح خطرا على
هذه التجربة ذاتها حينما يحول «أساطيره وعقائده وقوانينه وطقوسه إلى مطلقات
ضيق على كل من يرفض الخضوع له» .1وينبني هذا السلوك السلبي الذي قد ُوي ّ
ِ
يظهر على رجال الدين عن نسيان .فالوجود املنفصل عن باقي األنشطة البشرية
ليس إال حالة «استالب تراجيدي عن وجود أصيل يعانيه اإلنسان» .2ويرى تيليش
1- Tillich, op. cit., p. 18.
2- Ibid., p. 18.
262
أن هذا التعالي هو سبب نفور العاملين
عىل الطرفني املشتغلني في مجاالت العالم الدنيوي من الدين.
لذا على الطرفين املشتغلين بالحقلين باحلقلني الديين والدنيوي أن
الديني والدنيوي أن يعلما بأن الفصل يعلما بأن الفصل بني املجالني
بين املجالين وضعية حرجة لكليهما ،وضعية حرجة لكلهيما ،وأهنما
يفقدان معا كنه عملهما وأنهما يفقدان معا كنه عملهما وجوهره
وجوهره يف هذه الوضعية في هذه الوضعية ،وأنهما معا يعبران في
انشغاالتهما عن «االنهمام العميق»؛
انهمام اإلنسان بأسئلة الوجود.
رودولف بولتمان وإنقاذ الدين من األساطير
تميزاملشروع األسا�سي لرودولف بولتمان بمحاولة إفراغ املسيحية من املحتوى
األسطوري .Démythologisationوقد صرح بولتمان باستحالة إنجاز مشروع
إفراغ العقيدة املسيحية من املضامين األسطورية دون االعتماد على تمييزواضح
يفصل صورة العالم في زمن ظهور املسيحية عن صورة العالم املؤطرة لنظرة
اإلنسان الحديث .ويضيف بولتمان أن االستحالة ال تعترض إنجازهذا املشروع
فقط ،فاملتلقي أيضا ال يمكنه استيعاب هذا املشروع ما لم يقبل بوجود اختالف
على مستوى تصورين للعالم يؤطران نظرة كل من إنسان زمن ظهور املسيحية
وإنسان الزمن الحديث .ولتوضيح التمييز بين النظرتين ،يقول بولتمان« :يتميز
إنسان الزمن الحديث باستعمال األدوات التقنية التي أتاحها العلم .فحين يعتل
شخص ما يلجأ إلى طبيب أو إلى املعرفة الطبية .الحكم نفسه يسري على الشؤون
االقتصادية والسياسية ،حيث يستعمل (إنسان الزمن الحديث) نتائج العلوم
النفسية واالجتماعية واالقتصادية والسياسية ،وهكذا دواليك .فال أحد[في
263 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الزمن الراهن] ينتظر تدخال مباشرا من
قوى متعالية» .1ويضيف بولتمان أن ال يتبىن بولتمان كلي ًة صورة
الكنيسة الحديثة مستمرة في مغامرة العالم الحديثة اليت تشكلت
بفضل األنساق الفلسفية غيرمحسوبة العواقب وهي تلجأ في الزمن
الحالي إلى معتقدات بائدة أثناء توجهها والنظريات العلمية منذ عرص
للمؤمنين املسيحين املعاصرين ،منطلقة األنوار وصوال إىل أواسط القرن
التاسع عرش في ذلك من فهم ثابت ملاهية اإلنسان.
والحال أن فهم طبيعة اإلنسان الحديث،
من أجل حسن التعامل معه ،تقت�ضي
االطالع على أعمال األدباء الكبار املحدثين واملعاصرين ال العودة إلى النصوص
القديمة .هذه الطبيعة اإلنسانية الحديثة تخبرنا عنها الجرائد واملجالت ،إذ ال
وجود في «هذه املنشورات لتفسير فوق طبيعي لألحداث السياسية واالجتماعية
واالقتصادية ُيرجع سببها إلى تدخل اإلله أو املالئكة أو الشياطين».2
حاولنا في الفقرتين السابقتين إيضاح محركات مشروع بولتمان إلخالء
املسيحية من محتوياتها امليتولوجية .ولعل مجهود هذا املفكر يقدم مثاال عن
املشاريع الفكرية املعاصرة الخاصة بفلسفة الدين التي تتحرك على أساس كانطي
واضح .وحتى ال تختلط دعوانا حول كانطية مشروع بولتمان بمن سيعتبرمشروع
وضعاني ِّبين ال بد أن نضيف إلى ما قلناه سلفا توضيحات ال
ّ هذا املفكر ذا منزع
مناص منها.
ً
ال يتبنى بولتمان كلية صورة العالم الحديثة التي تشكلت بفضل األنساق
الفلسفية والنظريات العلمية منذ عصر األنوار وصوال إلى أواسط القرن التاسع
1- Rudolf Bultmann, Jésus, mythologie et démythologisation, trad. par Florence Freyss
et autres, Seuil, Paris, 1968, p. 206.
2- Ibid, p. 206.
264
عشر .ليس فقط ألنها كانت تقوم على مبدأين أثبتت الفلسفات املعاصرة فيما
بعد حدودهما ،وهما مبدأ الحتمية ومبدأ قدرة اإلنسان الفائقة على السيطرة
على الطبيعة ،ولكن ألن صورة جديدة تشكلت منذ نهاية القرن التاسع عشر
وبداية القرن املوالي تقوم على مبدأ آخر هو نسبية املعرفة اإلنسانية ونسبية
القيم األخالقية .1هذه النسبة املطلقة التي أضحت تهدد قيم الحقيقة والعدل
والخير دفعت العديد من الفالسفة واملفكرين إلى إيجاد حلول بغية استرجاع
القيم الكونية اإلنسانية املشتركة ،حتى ال تضيع قيمة الحقيقة وراء تعدد
النظريات وكذا قيمتي الخيروالعدل وراء تعدد األنساق األخالقية.2
الحذر الذي تبناه بولتمان من النزعات العلموية الناشئة منذ عصر األنوار،
والتي عرفت اكتمالها في املذهب الوضعي ،يبعد عن هذا الثيولوجي تهمة االنتماء
إلى هذا املذهب رغم إشادته بصورة العالم الحديثة في محاولته تنقية املسيحية
من املضامين امليتولوجية التي ظلت عالقة بها .بل إن هذا املفكرقد وجد في شطط
النزعة الوضعية مبررا للدعوة إلى استرجاع واستعادة جوهرالدين املسيحي .فقد
بين بأن صورة العالم العلموية تأسست على مجموعة من املعتقدات ال يسندها
أي أساس عقلي حاليا ،من بينها اإليمان بالتقدم الدائم للعلوم والتقنيات ،وأيضا
بقدرة اإلنسان على معرفة واقع العالم في شموليته واإلحاطة بحياة اإلنسان
في كليتها ،وبقوة اإلنسان وقدرته على قهر الطبيعة والحياة البشرية والسيطرة
عليهما وتوجيههما.
« - 1صدرت النزعة النسبية التاريخية عن الحركة الرومانسية التي رأت بأن العقل البشري عاجز عن
إدراك الحقائق الخالدة واملطلقة نظرا لخضوعه للتطور التاريخي ،وهو التطور الذي ينبني على أن كل
حقيقة ال تمتلك إال قيمة مرتبطة بعصرتشكلت فيه أو بقوم آمنوا بها أو حضارة أنشأتها ،وبالتالي فإن كل
بحث عن الحقيقة هو في الواقع بحث من دون معنى».
.Bultmann, ibid., p. 210
2- Edmund Husserl, La philosophie comme science rigoureuse, trad. Marc B. de Launay,
Paris, P.U.F., 1989.
265 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ويعبر بولتمان عن رفضه كذلك لصورة العالم الحديثة بنبرة دينية ،حين
يبين أن إنسان الزمن الحديث يعتقد أنه يسيطرعلى العالم املادي بفضل العلم
والتكنولوجيا ،والحال أن الرغبة في السيطرة على العالم املادي وعلى الطبيعة
تحركها أنانية دفينة تكشف ملتأملها أنها في حقيقتها دوافع طبيعية .لقد سقط
اإلنسان الحديث في مقلب لم ينتبه إلى حقيقته :إن الطبيعة البشرية الدفينة
هي محرك اإلنسان ،وبالتالي فرغبات اإلنسان هي في الحقيقة وسيلة العالم
املادي والطبيعة إلحكام السيطرة على اإلنسان وتوجيه اهتمامه وفق أهداف
الطبيعة ال أهداف اإلنسان .لم ينتصر اإلنسان في الحقيقة كما روجت لذلك
النزعة اإلنسانية الحديثة ،بل انتصرت الطبيعة في بعدها املادي والشيطاني،
وهذا الفخ الحديث هو دليل آخر على تناهي املعرفة البشرية وعلى عجز اإلنسان
عن اإلحاطة بكل الدوافع والغايات املحركة لفاعلياته.
األساس الالعقلي ملعتقدات اإلنسان املعاصر السالفة الذكر كامن في أن
هذه املعتقدات من جهة استجابة وجري وراء «رغبات اإلنسان في الحصول
على السعادة واألمان والنجاح» وهو في ذلك يبتعد بدافع األنانية عن واجب
«الخضوع لضرورة الخيروالوفاء والحب ،أي ألوامراإللـه» .1ومن جهة أخرى يبدو
األساس الالعقلي ملعتقدات اإلنسان املعاصر في أن هذا اإلنسان يدعي القدرة
على التنظيم الكلي والتام للحياة الفردية واالجتماعية اعتمادا على عقيدة أخرى
وهي القدرة على اإلحاطة املعرفية الكلية والشاملة بكل معطيات الطبيعة املادية
والطبيعة اإلنسانية .والحال ،يؤكد بولتمان ،أنه ليس لدينا أي دليل على قدرة
اإلنسان الذاتية على تحقيق»التأمين التام لحياته» سواء عدنا إلى ماضيه أو
تمعنا في التجربة الراهنة للبشرية .لذلك يخلص بولتمان إلى أن «التأمين التام
لحياة اإلنسان مجرد وهم».2
1- Bultmann, op. cit., p. 208.
2- Ibid, p. 208.
266
يدعو بولتمان اإلنسان املعاصر
لإلنصات إلى «كالم اإللــه الداعي إلى يدعو بولتمان اإلنسان املعارص
لإلنصات إىل «كالم اإللــه التخلص من األنانية ومن البحث عن
الدايع إىل التخلص من األمان الوهمي» ،1وهي دعوة إلهية نحو
التحرر من مجموع األوهام التي خلقها األنانية ومن البحث عن األمان
اإلنسان وآمن بها .يقول بولتمان« :يحاول الوهيم» ،ويه دعوة إلهية
البشر التحكم في العالم بمساعدة نحو التحرر من جمموع األوهام
العلوم لكن العالم هو الذي يتحكم فيهم اليت خلقها اإلنسان وآمن هبا
في واقع األمر .وها إن عصرنا يكشف
لنا حجم تبعية البشر للتقنية ونتائجها
الفظيعة» .2لقد استنجد بولتمان بنداء اإلله باعتباره الضوء القادم من «ظالم
املستقبل» 3لتحرير اإلنسان املعاصر من األوهام التي كبل بها نفسه حين اعتنق
معتقدات التقدم واألمان الذاتي .وأضاف أن الحرية الحقيقية ليست هي الحرية
الذاتية االعتباطية كما صورتها فلسفات الزمن الحديث ،أي الحرية الناشئة عن
اتباع الدوافع والغرائزوالرغبات والعواطف.
كبديل لهذا املسار الحديث يقترح بولتمان ما يراه حرية حقيقية وقد سماها
«حرية الطاعة» ،أي الحرية التي تتحلل من ضغط اللحظة ،بحيث إذا ما تم
لها ذلك أضحت «حرية تخضع لقانون» ،4تتجاوز بمقتضاه ما هو ذاتي ولحظي
ات مسيحية قانون اإلله (كذا.5»)!
لتعانق البعد الكوني ،وتم�سي «بعبار ٍ
267 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
يؤكد بولتمان بأن مشروعه إلخالء
العقائد املسيحية من األساطير هدفه يرى بولتمان أن مبتىغ اإلنسان
بلوغ «كلمة هللا» للوقوف على معاني املعارص من هذا اجلري األعىم
الحرية الحقيقية الكامنة في الدعوة وراء الرفاهية التكنولوجية هو
الدينية املسيحية ،ومعاني األمان يف حقيقة األمر أمن وهيم
واملسؤولية والتحكم الحقيقي .فالحرية ألن اإلنسان يغرق يف بحثه
في داللتها الحديثة تقوم على الخضوع ،هذا أكرث فأكرث يف بحر مطالب
الرغبات واألهواء الدفينة إنها خضوع للرغبة البشرية في الهيمنة
والسيطرة .وهي تجد تعبيرها الواضح في
بحث اإلنسان عن األمن بفضل العلم
والتكنولوجيا .ويرى بولتمان أن مبتغى اإلنسان املعاصر من هذا الجري األعمى
وراء الرفاهية التكنولوجية هو في حقيقة األمر أمن وهمي ألن اإلنسان يغرق في
بحثه هذا أكثر فأكثر في بحر مطالب الرغبات واألهواء الدفينة .وهذا الخضوع
هو منبع الصراعات والقالقل السياسية والفو�ضى االجتماعية .والحقيقة أن ال
حرية خارج مسؤولية الخضوع لقانون أسمى يتجاوز الرغبات الذاتية واألهواء.
لهذا يحسم بولتمان في جوابه عن الوضعية الكارثية التي وضع اإلنسان املعاصر
نفسه فيها قائال :يكمن الحل في قانون متعالي عن هذه الرغبات أو في قانون إلهــي.
في بحثه عن الحل املنشود ،ال يرفض بولتمان منتوجات الحداثة جملة
وتفصيال .فقد وجدناه يضم صوته إلى صوت إرنستترولتشوبول تيليشفي رده
على املهولين من استخدام مناهج العلوم اإلنسانية في قراءة النصوص املقدسة
وفهم الدعوة الدينية الكامنة في عمقها .ففي نظر بولتمان ال تهدد هذه املناهج
والعلوم قداسة اإللــه .وفي هذا اإلطاريؤكد بولتمان بأن إخالء املضامين املسيحية
من األساطير هو في حقيقة األمر حفر عميق إلزالة القشور التي علقت بالدعوة
268
الدينية الكامنة في الدين املسيحي أو إنه بمثابة عملية إزالة غبار اعتلى جوهرة
الدين بفعل الخلط املقصود بين العقائد الدينية والتصورات امليثولوجية التي
ظهر الدين ظهوره األول في سياقها ومتزامنا معها ،وهي تصورات بمثابة أطر
نظرية ميثولوجية شكلت صورة العالم املحيط بالنص الديني في زمن ظهوره
منحته معانيه ودالالته ،ومكنته من االنتشاربين الناس بفضل صور واستعارات
ُ
وأمثوالت أخذت من معين ميثولوجي .لكن هذه التصورات لم تعد تتالءم مع
الدعوة اإللهية الكامنة في النصوص الدينية املوجهة إلى أفراد لم يعودوا يقبلون
إال بالتفسيرات العلمية القائمة على الربط بين النتائج املادية وأسبابها املادية،
وترفض ،بناء على ذلك ،التفسيرات السحرية القائمة على مفاهيم املعجزة
والنهاية امليتولوجية للعالم...
إن صورة العالم الحديثة ،القائمة على الطبيعة النسبية للنظريات العلمية،
ال تنتصر لتفسير ما؛ ألنه يعارض تفسير النص الديني لنفس الظواهر ،بل ألن
تفسيرها ينطلق من أن الظواهر الطبيعية خاضعة في شموليتها لقانون كوني.
وكمثال على النظرة السحرية امليثولوجية حديث النص الديني عن نهاية العالم
الوشيكة بفعل تعاظم تدخل الشياطين الذي سيفسد طبيعة الخلق اإللهي
(العالم) ،وهي نهاية من عالماتها بعث أجساد املوتى وقدوم املخلص على السحاب
لينشرالسلم...
ال يدعي بولتمان أن عقيدة نهاية العالم لم يعد لها جمهور يصدقها ،إنما ينبه
إلى أن َ
املحدثين لن يقبلوا بها كفكرة إال إذا تم التعبير عنها بلغة فزيائية :بفعل
انفجار ذري أو حرب كيماوية أو بردها إلى تفسير علمي لظواهر فلكية وفيزيائية
قابلة للتفسيرالعلمي املادي.
من الواضح أن بولتمان واع كل الوعي بأن املعرفة العلمية قد حلت بشكل
نهائي محل التصورات امليثولوجية .لذلك تكمن مداخل فلسفة الدين في نظر
269 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
اغات مازالت املعرفة العلمية الحديثة عاجزة عن ملئها.
بولتمان في استغالل فر ٍ
فهذا الثيولوجي ال يرفض ،عكس ما هو منتظر وبالنظر إلى تخصصه ،التفسير
العلمي للعالقات بين األسباب والنتائج بل يرفض التفسير الذي يقول بتدخل
الفعل اإللهي بشكل شمولي أو بشكل جزئي(كأن يقطع هللا سلسلة العالقات
السببية بين موجودات الطبيعة) ،ويكتفي بولتمان ،بناء على هذا املوقف،
بالقول بوجود تدخل إلهي على صعيد وجودي ،كأن يأخذ شخص ما قرارا في
حياته ،يبدو له أول األمر صغير التأثير ،ثم ُيفاجأ فيما بعد بأن ما ّ
عده قرارا
صغيرا ،ال داللة له ،قد كان في حقيقة األمرقرارا حاسما لتحوالت شاملة وعميقة
في مسارحياته البعدية .وبناء عليه فإن املؤمن هو من سيعتبربأن ذاك القراركان
إلهاما إلهيا وتدخال ربانيا في مساراألحداث الخاصة بوجوده الفردي.
ها قد رأينا بأن عملية تخليص املسيحية من األساطير ال تعني التخلص من
األفكار الدينية ،بل تقت�ضي الحفاظ على عالقة مع هللا على املستوى الوجودي.
فقد الحظنا كيف بين بولتمان عدم مشروعية الحديث عن فاعلية إلهية كونية،
مثلما اعتبر أن التمثالت القائلة بتدخل إلهي في األحداث السياسية والقضايا
القانونية لم يعد لها محل في زمن هيمنة وسيادة التفسير العلمي للظواهر
الطبيعية.1
أما عن عالقة فلسفة الدين بباقي العلوم اإلنسانية ،فيمكننا أن نستنتج أن
املقاربة الوجودية التي اعتمدها بولتمان في فلسفة الدين تفرض على العلوم
اإلنسانية أن تتوقف عند أعتاب التحليل الصوري للوجود اإلنساني دون
تدخل في تحليل أحداث واقع األفراد ُ
وصدف الحياة ومجرياتها في بعدها الفردي. ُّ
وبالتالي ألن «لقاء اإلنسان باهلل هي تجربة فردية وشخصية ليس للفلسفة سلطة
ال لفرضه وال ملنعه».2
1- Ibid, p. 232.
2- Ibid., p. 223.
270
لكن حديث بولتمان عن هللا كتجربة
يعترب بولتمان أن مرشوعه شخصية وذاتية ال يعني تحويل فكرة هللا
لتخليص املسيحية من إلى مجرد تجربة سيكولوجية .Erlebnis
معلوم بأن اإليمان ال يستقيم إال إذا املضامني الثيولوجية غري ّ
مهدد
ُنظر إلى هللا على أنه «موجود خارج ذات لألساس العقدي لهذا الدين،
كما أنه ليس دعوة لعقلنة املؤمن» ،1كل ما في األمريضيف بولتمان:
«ليس في قدرتنا التعبير عن ماهية هللا الدين املسييح تؤدي إىل تغريبه
عن ماهيته األوىل في ذاته ،في املقابل نستطيع التعبير عما
يفعل هللا من أجلنا ومعنا».2
يعتبر بولتمان أن مشروعه لتخليص
مهدد لألساس العقدي لهذا الدين، املسيحية من املضامين الثيولوجية غير ّ
كما أنه ليس دعوة لعقلنة الدين املسيحي تؤدي إلى تغريبه عن ماهيته األولى.
بالعكس ،يقدم هذا الثيولوجي مشروعه على أنه عودة إلى جوهر الدين املسيحي
الكامن في تحرير اإلنسان من عبوديته نحو طقوس العصر وأصنامه التي تقيد
الفعل اإلنساني .فالطابع السحري للكائن اإللهي ال ينتظر منا معرفته وتفسير
طبيعته معرفة وتفسيرا عقليين ،إنه يفرض علينا محاولة استيعاب «طريقته في
الفعل تجاه البشر».3
إن حديث النص الديني عن «نهاية وشيكة للعالم» ،وبعبارة أخرى عن قرار
هدم العالم ،أمر ال يتما�شى مع دعوة النص املوجهة للمؤمنين من أجل إعمار
األرض واتباع أخالق اإلرادة اإللهية ،لهذا فإن القراءة النقدية من داخل فلسفة
الدين تمكن من فصل ما هومن صميم الدعوة وما يتناسق مع عقائدها األساسية
1- Ibid., p. 233.
2- Ibid., p. 235.
3- Ibid., p. 211.
271 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ومبادئها األولية وما يعتبر إضافات من
ال سبيل يف نظر بولتمان فعل «جماعة املؤمنين».
لهذا ،ال سبيل في نظربولتمان للخروج للخروج من املأزق الظاهري إال
من املأزق الظاهري إال عبر أخذ الدعوة عرب أخذ الدعوة الدينية مأخذا
الدينية مأخذا مغايرا .إنها خطاب مغايرا .إهنا خطاب موجه للفرد
موجه للفرد غايته مساعدة الفرد في غايته مساعدة الفرد يف بحثه
بحثه الحثيث عن الخالص الذاتي ،ما احلثيث عن الخالص الذايت
دام العالم بأسره سائرا ،وفق العقيدة
املسيحية ،إلى مزيد من الفساد املنذر
بنهايته .فالنهاية قرارسيتخذه اإلله حين تستأثربالعالم املادي قوى الشرالكامنة
في اإلنسان .لهذا ال يمكن أن تكون الدعوة الدينية دعوة موجهة إلى الجماعة وإال
تناقض تحسن أحول الناس األخالقية مع اإلنذاربنهاية العالم وهدمه.
يعين الخطاب الديني إذا ما قرئ قراءة نقدية على الوقوف عند الدعوة
اإللهية الكامنة فيه؛ دعوة اإلله اللتحاق الفرد بملكوته دعوة ،في حقيقة األمر،
لحصر رغبات اإلنسان الجامحة في السيطرة على الطبيعة وعلى اإلنسان ،وهي
دعوة أيضا لتغيير معايير تعامل اإلنسان مع الحيوان واملاء وفق معايير النجاعة
البراجماتية والنجاح ،وللتوقف عن معاملة هذه الكائنات واملكونات الطبيعية
كوسائل لتحقيق السعادة الذاتية واألمن الذاتي ،وذلك في أفق تغييرهذه املعايير
بأخرى قوامها «الطاعة التي توفر الخير والوفاء والحب ،أي طاعة أوامر هللا التي
يهملها اإلنسان بدافع األنانية والخيالء».1
بناء على التحليل السابق ،يبدو واضحا بأن النص الديني وفق قراءة بولتمان
يتوجه إلى الفرد البشري لكي يدله على طريق من بين طرق شتى ،يمكنه من
272
عيش تجربته الوجودية ،ليس على سبيل النصح واإلرشاد ،ولكن على سبيل
ً
التأمل في ماهية التجربة اإلنسانية .لهذا نحتاج ،ضرورة في هذه اللحظة بالذات
من تطور تحليل أدوار النص الديني وعالقته بالتجربة اإلنسانية إلى منهجية
فلسفية تساعدنا على هذا الذي أطلقن عليه بولتمان «التأمل في ماهية التجربة
اإلنسانية» .ترى :أي الفلسفات أقرب إلى االضطالع بهذه املهمة؟
رأينا فيما سبق بأن الفلسفة ال تسعفنا في فهم التجارب الذاتية واملجريات
الحياتية الفردية مادامت منشغلة باملشترك والكلي والصوري ،لكن الفلسفة
الوجودية تسجل اختراقا في هذا الباب ،وتشكل استثناء مقارنة بباقي املذاهب
والفلسفات في نظربولتمان.
تقف الفلسفة عند تمثالت محددة تمكننا من الوقوف عند التجربة
اإلنسانية ،لكن لكل فلسفة تصور خاص بها .وتكمن امليزة التي تفصل «فلسفة
الوجود» عن باقي الفلسفات في أنها ال تملي وصايا وال تحمل إلينا خططا وطرقا
موجهة لكيفية عيش اإلنسان تجربته الذاتية.
تعتبر فلسفة الوجود أن تجربة الوجود البشري تجربة فريدة عصية عن
التكرار .فوقوف الشخص في لحظة ما ليتساءل عما يجب عليه فعله أمرمرتبط
أشد االرتباط بماضيه وبلحظة االختيار ،وبموقع هذه اللحظة في مساره الحياتي
وبكثافة التأثيرات االنفعالية والعاطفية والوجدانية وبعدد اإلمكانات املتاحة،
سواء تلك التي طفت على سطح الوعي أو تلك التي توارت عنه في لحظة االختيار.
ورغم عمق الفلسفة الوجودية ومالءمتها الواضحة إلمكانية قراءة النص الديني
من باب اعتبارهذا النص َّ
موجها إلى الفرد في تجربته الذاتية الخاصة والحميمة،
إال أن بولتمان يؤكد بأن اختيار الفلسفة التي من خاللها سينصت املؤمن لنداء
الكتاب املقدس يبقى اختارا شخصيا .إذ لكل الفلسفات منطلقاتها ومبادئها.
ومع ذلك يبقى لفلسفة الوجود ،في نظر بولتمان ،قيمة مميزة هي أنها منسجمة
273 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
مع اإلمكانات التي يقترحها الكتاب املقدس من باب أنه يخاطب املؤمن .فهو
نص يتضمن دعوة من اإللــه إلى شخص يعنيه الخطاب الكامن في النص رأسا
ومباشرة ،غيرأن بولتمان يستدرك مبينا بأن نظرته الخاصة كثيولوجي وفيلسوف
ال تفترض أن فهم الوجود اإلنساني ينبني ضرورة على لزوم إدخال فكرة العون
اإللهي في كل تجربة إنسانية .1هذا االستدراك هو ما يثبت بأن تجربة بولتمان في
اإلنصات إلى دعوة اإلله انطالقا من الفلسفة الوجودية تجربة شخصية ،قائمة
على حرية فردية مشدودة إلى وعي بمسؤولية ذاتية في االختيار .لهذا فهو ال يلزم
أحدا بها ،وهذه إحدى ثمارفلسفة الدين األساسية ،وفي ذلك تميزها عن الدعوى
العلمية للثيولوجيا وعن الطبيعة اإليديولوجية للفلسفة الدينية.
إذا كانت الفلسفة الوجودية منسجمة مع النظرة التي ترى في النص الديني
خطابا موجها للفرد من أجل مساعدته في تأمل ماهية حياته باعتبارها تجربة
فردية وذاتية تقت�ضي اختيارات محددة ،فكيف يمكن استخراج هذه الحقيقة
من نص يعج بحكايات وقصص وأحداث من أزمنة خلت وروايات عن أشخاص
لم يعد لهم وجود ووقائع من عوالم ماضية وأخرى مستقبلية...؟ وما هي اآللية
املنهجية التي تمكن من استجالء هذه الحقيقة من وراء حجب االستعارة والعبارة
واألوامرالعامة؟ كيف السبيل إلى استخراج الجوهروترك كل ما ال يهم الشخص
في زمانه ومكانه؟ وفق أي قراءة يتم الفصل بين الدعوة اإللهية اللحظية وبين
متعلقات العصور التاريخية الغريبة عن الحياة الفردية للشخص الذي يخاطبه
النص الديني؟
انطالقا من هذه األسئلة وغيرها انطلق بولتمان وتبنى منهج الهيرمينوطيقا،
يوجد بولتمان حيزا لدخول الفلسفة في عالقة اإلنسان باإلله من باب أنها عالقة شخصية ال تمنعهاِ -1
الفلسفة كما ال تفرضها .يقول بولتمان« :يفترض التحليل الفلسفي أنه باإلمكان تحليل الوجود بدون
اعتبارلعالقة اإلنسان باإلله».
.Bultmann, Ibid., p. 222
274
حيث اعتبر بأن «تخليص املسيحية
البد لقارئ النص الديين من األساطير منهج هيرمينوطيقي ،أي
يف نظر بولتمان من اتخاذ منهج للتأويل والتفسير» .1ومن أجل
حسن تطبيق هذا املنهج البد لقارئ احتياطات هريمينوطيقية ،حىت
النص الديني في نظر بولتمان من اتخاذ يتمكن باعتباره مؤوال ،من
الويع باألحكام املسبقة احتياطات هيرمينوطيقية ،حتى يتمكن
باعتباره مؤوال ،من الوعي باألحكام اليت توجه قراءته للنص ،سواء
املسبقة التي توجه قراءته للنص ،سواء كانت أحكاما سيكولوجية أو
تاريخية أو دينية كانت أحكاما سيكولوجية أو تاريخية أو
دينية .أول درس نبهت إليه الهيرمينوطيقا
املعاصرة هو ضرورة الوعي باألحكام
املسبقة ،لكي يتمكن املؤول من تقدير تأثير تلك األحكام على قراءته للنصوص.
إال أننا وجدنا بولتمان يؤكد على ما يمكن أن نسميه االستحضار املنهجي لألحكام
املسبقة .فاألحكام ذات الصلة باملنهج التاريخي مثال تمكننا من استطالع السياق
التاريخي للنص املؤول والوضع التاريخي الذي يحتضنه ،كما تمكن من الكشف
عن طبيعة تنظيم التشكيالت االجتماعية املحيطة به والعالقات القائمة بينها...
باختصار تمكننا تصوراتنا التاريخية التي نحملها عن الزمن الذي نعيش فيه من
إعادة بناء املرحلة التاريخية الحاضنة للنص عبره وبواسطته ،وذلك من أجل
حسن استيعاب مضامينه وأفكاره .أما حين نستخدم املنهج السيكولوجي فذلك
يكون بغرض التعرف على طبيعة شخصية صاحب النص ومنطلقاته وغاياته
وردود أفعاله ونظرة املحيطين به لألشياء والثقافة واألشخاص وأحكامهم عليها...
في خضم هذه االنشغاالت الهيرمينوطيقية يحق لنا أن نتساءل :ما الغاية من
275 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
قراءة نص ديني؟ يجيب بولتمان :إنه نص
َّ
يتوجه إلي .وما هي الرسالة التي يوجهها إلي املهنج التارييخ ال يشبه يف يشء
أنا الذي أعيش في سياق تاريخي مختلف دراسة معطيات الطبيعة ،ألن
خضمه َّأول التاريخ عبارة عن حياة عىل ِ
ّ عن السياق الذي ظهر في
األمر؟ يرد بولتمان« :إن غايتي هي أن املؤرخ استعادهتا يف أبعادها
املتعددة واملتشابكة أنصت إلى ما يريد الكتاب املقدس قوله
لزمني الراهن ،وأن أستوعب الحقيقة
عن حياتي ونف�سي».1
لتوضيح التصور التطبيقي الذي تبناه بولتمان في قراءته الهيرمينوطيقية
للنص املقدس نقدم مثاال لكيفية تناوله لشخصية يسوع .فقد أخضع بولتمان
شخصية «يسوع» لتأريخ موضوعي .وال يعني التاريخ املوضوعي في هذا السياق
مجرد سرد األحداث التي كان يسوع جزءا منها أو كان صانعها ،في ترتيبها وتعاقبها.
فاملنهج التاريخي ال يشبه في �شيء دراسة معطيات الطبيعة ،ألن التاريخ عبارة عن
حياة على املؤرخ استعادتها في أبعادها املتعددة واملتشابكة .لهذا سعى بولتمان
إلى إعادة كتابة ما أراد يسوع إنجازه وما أراد نقله للمحيطين به وللمؤمنين
برسالته .بعبارة واضحة نقول مع بولتمانُ :يختزل تاريخ يسوع بالنسبة للمؤرخ
الهيرمينوطيقي في إرادة يسوع .وهذه اإلرادة تساعد املؤرخ على إدراك راهنية دعوى
يسوع رغم حاجز الزمن الذي يفصل املؤمن القديم عن املؤمن الحديث .هذه
الطريقة كفيلة في نظربولتمان بمساعدة املؤرخ على ترك املعطيات والثقافة التي
نقل عبرها يسوع ما أراد تبليغه ،ألنها تخص الزمن الذي عاش في إطاره ووسط
املحيطين به من األتباع واملؤمنين وغيرهم .وبذلك يتمكن املؤرخ من إدراك جوهر
الرسالة التي بعثها يسوع إلى أشخاص لم يحدثهم مباشرة ولم يخاطبهم برموزهم
276
وإشاراتهم وثقافتهم .لهذا يعترف بولتمان بأن على املتلقي أال ينتظر من املؤرخ
أن يصور له شخص يسوع في صورة «رجل عظيم أو عبقري أو بطل ،كما لن
يبدو شيطانا وال جذابا مثيرا ،ولن تكون أقواله عميقة وإيمانه قويا على الدوام».1
ويضيف بولتمان إذا لم يخضع القارئ لصرامة التأريخ الهيرمينوطيقي وملنطق
االستبعاد الصارم لألحكام املسبقة ،أي إذا لم يعمل بمقتضيات النقد فإن ما
سيحصل عليه عند كتابة تاريخ شخصية دينية أو تاريخ عقيدة أو تاريخ نص من
النصوص لن يعدو أن يكون مجرد «رواية».2
إن ما يبحث عنه املؤمن وراء كلمات يسوع ليس األجوبة التامة الكاملة والعقائد
الجاهزة للتطبيق وإنما استفهامات تسائله عن الكيفية التي ينوي من خاللها بناء
وجوده الخاص ،وهذا لن يتأتى له بطبيعة الحال عبراملساءلة العقالنية للعقائد
املتضمنة في خطاب يسوع املوجه إلى الناس.3
في ختام استعراضنا ألطروحة بولتمان يجب أن نشدد على أمر هام .قد يقع
القارئ في ريبة من أهداف بولتمان ،فغوص هذا الثيولوجي في أعماق النص
الديني الذي يؤمن به واستخراجه لجوهر الخطاب الكامن فيه واعتباره هذا
الجوهرعابرا للعصور واألمكنة ّ
وتبنييه له كحل للكارثة املحدقة بإنسانية الزمن
املعاصر ،أمور قد تؤخذ على أنها نوع من التبشيرأو دعوة العتناق كل البشرية ملا
يؤمن به هذا املسيحي البروتستانتي.
إن عمل بولتمان يشجع املؤمنين بمختلف الديانات على البحث داخل
عقيدتهم الخاصة على طرق النجاة والخالص إنقاذا لكل اإلنسانية من النتائج
املخربة لألنانية البشرية ومن إيمان اإلنسان األعمى بقدرته الشمولية على
التحكم في الطبيعة واإلنسان .ويقدم هذا املفكر مثاال للعمل الذي يمكن أن
1- Ibid., p. 34.
2- Ibid ., p. 35.
3- Ibid., p. 37.
277 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
يقوم به كل صاحب عقيدة محدث.
إذا كان هذا هو هدف بولتمان الحقيقي من فلسفة الدين الخاصة به ،فإن
املنحى الذي اتخذته دعوته هاته قد تنتهي بنا إلى نزعة نسبية مطلقة يتحول فيها
حوار األديان ،باعتباره مسارا من مسارات محاولة القضاء على أشكال العنف
والتطرف التي تغذيها قراءات معينة للنصوص الدينية ،إلى استعراض وتفاضل
بين األديان وإلى انزواء كل طائفة وانغالقها على نفسها ،أم ترانا سنعود إلى
املحاوالت التي عرفتها املرحلة املمتدة من الزمن القديم إلى العصر الحديث .تلك
اشتهرت بإجراء حوارات داخل متون الفالسفة والثيولوجيين بين املحاوالت التي ُ
1
أصحاب الديانات «الكبرى» ،وهي حوارات غالبا ما كانت تنتصرلدين من األديان
أو يخرج منها الفيلسوف العارف بعمق الدين وماهيته مغتبطا بتمكنه من اإليقاع
بين الفرقاء الدينيين في تناقضات بسبب تشبتهم بقشور التدين 2أو ينتصر فيها
الدين الطبيعي 3أو ينتهي املفكرإلى القول بأن سعادة اإلنسان لن تتحقق كلية ما
لم يدبرشؤون الدولة حكام محايدون أو ال دين لهم.4
خــات ـمــة
رأينا في عرضنا ملشاريع ثالثة ثيولوجيين من التقليد املسيحي البروتستانتي
األملاني تصورهم لفلسفة الدين من حيث املوضوع واملنهج واملهمة املنوطة بهذا
َ
املبحث .لن يخفى على من تابع معنا هذه الرحلة النفس اإلصالحي الحاضر في
املشاريع الثالثة ،وهي تختزل في ذلك املشروع الكبير الذي اضطلع به فالسفة
الدين عند منعطف نهاية القرن التاسع عشروبداية القرن العشرين إثرالصدام
القوي بين صورتين للعالم :الصورة الحديثة املشبعة بنتائج النظريات في
1- Nicolas de Cuise(1401-1464), La paix de la foi (1453).
2 - Pierre Abélard(1079-1142), Dialogue entre un philosophe, un juif, et un chrétien (1141).
3- David Hume (1711- 1776), Histoire naturelle de la religion(1757), Dialogues sur la
religion naturelle(1779).
- 4أطروحة بييربايل Pierre Bayleالشهيرة.
278
العلوم الطبيعية والعلوم اإلنسانية والصورة التي يحملها الدين عن العالم.
لقد كان مشروعهم املشترك هو إقامة مصالحة بين الصورتين للخروج من أزمة
ثقافة وليس فقط «أزمة دينية» .حري بنا أن نقف في هذه الخاتمة عند أهم
االستنتاجات العامة من عرض وتحليل تصور املفكرين الثالثة لفلسفة الدين،
وإن كان غنى املشاريع الثالث يستع�صي على االختصارواالختزال.
إن النظرإلى الظاهرة الدينية اليستقيم دون تحليل سياقها الثقافي واالجتماعي
واختالف تمظهرها التاريخي ،وهذا أهم ضابط يجب على الباحث في فلسفة الدين
االلتزام به كي ال يسقط ضحية ألحكام وضعية مسبقة ،ترى في الدين نمطا من
الشلل العقلي الذي ّ
مس البشرية األولى وما زال يؤثرفي قواها الحية.
إن االهتمام بالبعد التاريخي يجعل عمل فيلسوف الدين مختلفا ومتميزا عن
وجهت عمل املشتغل بالثيولوجيا أو الفلسفة الدينية .فإذا كانت الثيولوجيا قد ّ
اهتمامها دائما إلى الدفاع عن «املوضوع» الذي ينشده الوعي الديني ،غير آبهة
باختالف التجليات التاريخية والثقافية للظاهرة الدينية ،فإن الرغبة في حصول
فهم فلسفي بالظاهرة يفرض بالضرورة تفكيرا في املكانة التي تحتلها هذه الظاهرة
في التاريخ العام .إن انسحاب الثيولوجيا العلمية ،وظهور فلسفة الدين ،ال يعني
حل محل املباحث القديمة ،أو أنه انشغل بعدها بالدفاع عن أن املبحث الجديد ّ
«األسرار» و«املعجزات» و«الغموض امليتافيزيقي» في سياق تاريخي جديد ،اتخذ
فيه مكانة علمية بجانب باقي العلوم اإلنسانية.
بعبارة أوضح ،ليست فلسفة الدين علمنة sécularisation 1للثيولوجيا.
بمعنى أن موضوع فلسفة الدين ليس هو تناول وتحليل القضايا القديمة
- 1نحيل ،بالنسبة لداللة هذا اللفظ ،إلى:
- Jean-ClaudeMonod, La querelle de la sécularisation de Hegel à Blumenberg, Paris,
Vrin, 2002.
وانظر كذلك :حاتم أمزيل ،العلمانية في الفلسفة املعاصرة ،منشورات مختبر الدراسات الرشدية،
جامعة سيدي محمد بن عبد هللا ،فاس.2017 ،
279 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
للميتافيزيقا املاقبل -كانطية في سياق علمي ووضعي .ومعنى هذا ،أيضا ،أنه ال
بجوهر ماقبل -نقدي.
ٍ ينبغي النظر إلى املبحث الجديد على أنه مبحث حديث
نظر وضعيوالقول الفصل في هذا ،نصوغه قائلين :ليست فلسفة الدين بمثابة ٍ
ملا أثبت النقد الكانطي استحالة إنتاج قول علمي بصدده .فمن يسعى في هذا
ّ
املسلك ،إنما يقوم بمناورة ،لكي يعيد الجوهرامليتافيزيقي في حلة وضعية وعلمية.
وبذلك ،يعبرصاحب هذا املسعى عن عدم استيعابه ّ
للهزة النقدية ،كما يكشف
سلوكه غربة وعيه التاريخي عن سياق انشغاله ،وعدم إدراكه للتحول الذي كان
أساسا لظهور فلسفة الدين .ففلسفة الدين غير معنية بتأمل وتحليل مفاهيم
هللا والوحي ...بل تكمن مهمتها في فهم البعد الواقعي والحيوي والوجودي لألديان
التاريخية .إن مهمتها تطبيقية أكثرمنها مهمة نظرية .مهمتها األساس هي املصالحة
بين الدين والحداثة في أبعادها العلمية والفلسفية واألخالقية والسياسية.
280
الئحة املراجع
281 م2020 يناير- ه1441 جمادى األولى3 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد
دين املسؤولية األخالقية
عند ليفيناس
عمربوكيلي
مقدمة
ُع ِرف ايمانويل ليفيناس 1في األوساط الفلسفية املعاصرة بفيلسوف الوجه
واألخالق الذي حاول تأسيس نزعة إنسية جديدة انطالقا من مساءلة الفكر
والواقع الغربيين ،والعمل على جعلهما أكثرسالما ومحبة .وقف موقفا جذريا من
االنتهاكات التي طالت القيم اإلنسانية خالل القرن العشرين ،فكان قوله رفضا
للعنف والظلم املستشريين في األفهام والعالقات .وما دامت فلسفته موقفا
-1إمانويل ليفيناس Emmanuel Levinasفيلسوف فرن�سي من أصول يهودية لتوانية ،ولد في 12يناير
1906بكوفنو ( )Kaunasوتوفي في 25دجنبر ،1995وحصل على الجنسية الفرنسية سنة .1930تلقى
تعليما تقليديا في مسقط رأسه ،أساسه التوراة واألدب الرو�سي ،قبل أن ينتقل إلى ستراسبورغ بفرنسا
لدراسة الفلسفة ،حيث جاور كل من :شارل بلوندل وموريس هولبواش وموريس بارادين ،وتعرف على
موريس بلونشو الذي ستجمعه به صداقة كبيرة .ثم انتقل سنة 1928إلى فريبورغ ـ في ـ برسغو حيث
تلقى دروس الفينومنولوجيا على ايدموند هوسرل ثم مارتن هيدغر .كما شارك في الحرب العاملية الثانية
كمجند فرن�سي وسجن من طرف األملان لخمس سنين ،شرع بعدها مباشرة في كتابة مؤلفه الفلسفي.
وشغل منصب مدير «مدرسة املعلمين اليهود الشرقية» التابعة للتحالف العالمي اإلسرائيلي ()ENIO
على امتداد 35سنة ،وقدم قراءاته التلمودية للمجتمع اليهودي .ولم يبدأ مساره الجامعي إال بعد سنة
1664حيث درس في جامعة بواتييه ثم جامعة باريس ـ نناطير ( ،)1967فجامعة الصربون التي مكث
بها إلى حين إحالته على التقاعد سنة .1976كما قدم دروسا في جامعة فريبورغ بدعوة من املجتمع
اليهودي هناك ما بين سنتي 1970و .1980وتتوزع كتابته بين الكتب الفلسفية والتعليقات التلمودية
واملقاالت التي ألقيت في مناسبات متعددة ،ومنها :الكلية والالنهائي ( )1961وخالف الوجود ()1974
والحرية الصعبة ( )1963وهللا الذي يتبادرإلى الذهن ( )1982وهللا ،املوت والزمن ( )1993ومن املقدس
إلى القديس ،خمس قراءات تلمودية جديدة (.)1977
282
من العنف ،فإن عودته إلى الدين تمثل
هي األخرى ردا على خطابات التسفيه لم يكن ليفيناس أبدا مفكرا
أو التعظيم التي أخرجته من دائرة دينيا يكتيف بتفسري الكتاب
املعقولية .إنها محاولة لتوضيح دور املقدس اعتمادا عىل النصوص
واملصادر الدينية ،بل كان الدين في نقد الوجود والتاريخ ،وتصحيح
فيلسوفا ينطلق من نفس مسارهما.
لم يكن ليفيناس أبدا مفكرا دينيا الهاجس األخاليق يف مساءلة
يكتفي بتفسير الكتاب املقدس اعتمادا الرتاث الفلسيف ويف تأويل
الكتاب املقدس الهيودي على النصوص واملصادر الدينية ،بل
عىل حد سواء كان فيلسوفا ينطلق من نفس الهاجس
األخالقي في مساءلة التراث الفلسفي وفي
تأويل الكتاب املقدس اليهودي على حد
سواء .استثمر اإلمكانات املنهجية واملفهومية للفينومنولوجيا من أجل استعادة
املعنى األخالقي للوجود اإلنساني املغيب في الخطاب الفلسفي الراهن ،واالنفتاح
على مصادر غير فلسفية للمعنى ،خاصة األدب والدين .1إنه الفيلسوف الثاني
بعد ابن ميمون الذي حاول التجسيربين الفلسفة والفكراليهودي ،ومخاطبة كل
مهموم بمصير الغرب العلماني املتنور ،بعدما شهده املجتمع الغربي من تغيرات
فكرية وواقعية مقلقة.
وقد وجد ليفيناس في تجربته املريرة ،التي عاشها خالل الحربين الكونيتين،
دليال على افتقاد الواقع إلى القيم اإلنسانية ،خاصة وأنه لم يكن اإلنسان الوحيد
-1يؤكد ليفناس أن فلسفته األخالقية مستلهمة من مصدرين أساسين هما :األدب الرو�سي والتراث
اليهودي من جهة ،ومحنتا التهجيرواألسرمن جهة ثانية .يقول« :كل فكرفلسفي يستند على تجارب قبل
ـ فلسفية» .األخالق والالنهائي .ص.14 .
E. Levinas, Éthique et infini, (Le Livre de poche) Fayard : Paris, (1982) 2008.
283 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الذي تجرع طعم التهجيرواألسرواإلبادة،
ال ل�شيء إال ألنه وجد نفسه رهينة لعنة لقد أظهر ليفيناس أن الفكر
نفسه الذي أنتج العنف االنتماء ،وفي زمن ُيفترض أنه تجسيد
ملموس لقيم الحداثة والعقالنية .دشن واحلرب ،يتيح إمكانية االنفتاح
ُ
مساره الفكري ،بعيد صعود الوطنية عىل الالهنايئ والويح ،وإن كان
االشتراكية إلى الحكم في أملانيا ،بن�صي «في ذلك بمعان خمتلفة عن الدارج».
عرفت الفلسفة نفهسا التملص» 1و«بعض التأمالت في الفلسفة عندما ّ
بمحبة الحكمة ،وأكدت الهتليرية» ،2حيث شخص الخطرالداهم
التي يتهدد أوروبا العقالنية ويفرض إعادة أسبقية املعرفة عىل احملبة يف
تحقيق احلياة السعيدة النظر إلى املفاهيم والتأويل .وهو التهديد
3
الذي وصفه في كتاب «الكلية والالنهائي»
بـ«شهادة الواقع» التي تسفه األخالق
وتجعل الوجود اإلنساني مرادفا للحرب والعنف .يؤكد فيلسوفنا أن األمرال يتعلق
هنا بحالة عنف شاذة ومعزولة ،إنما بخلل جوهري في فهمنا للوجود .فما بلغه
العالم من تناقضات مخفي بطريقة ما بين ثنايا التراث الفلسفي الذي انكفأ على
نفسه ولم يعد يقبل معنى يخالف ما ارتضاه لنفسه .أقامت الفلسفة عقالنيتها
املزعومة على الداخل واملحايثة ،فأتاحت املجال لألنانية والسيطرة على اآلخر.
284
األمر الذي يجعل مساءلتها والخروج من مناخها ضرورة ملحة ،1وهو األمر الذي
ال يتحقق إال بإحياء صوت الغيرية املبثوث قديما في النصوص والشعائرالدينية.
«لقد أظهر ليفيناس أن الفكر نفسه الذي أنتج العنف والحرب ،يتيح إمكانية
االنفتاح على الالنهائي والوحي ،وإن كان ذلك بمعان مختلفة عن الدارج» .عندما
عرفت الفلسفة نفسها بمحبة الحكمة ،وأكدت أسبقية املعرفة على املحبة في ّ
تحقيق الحياة السعيدة ،كانت في الواقع بصدد اقتراف خطيئتها األصلية التي
ستجعل فهمها للوجود مرادفا للعنف .فبدل توجيه املعرفة صوب الخير وجعلها
َ
خادمة له ،جعلت الفلسفة الحياة الحقة وقفا على النظروالبحث عن الحقيقة.
والحال أن الفلسفة -يؤكد فيلسوفنا -هي أساسا حكمة محبة ،حكمة الحياة
ُ
اإلنسانية املفعمة باملحبة ،التي تبقي التراث الفلسفي الذي أنتج الحضارة التي
ننعم بثمارها ،في حاجة إلى تطعيم بالنداء األخالقي القادم من الدين .يقول
ليفيناس :إن «أوروبا هي اليونان والكتاب املقدس».2
إن ما بدا أنه ثمار للعلم والتقنية قد صار محنة تسفه األخالق وتطردها من
العالم ،بل تدعو إلى إيالء وجه اإلنسان اآلخر االهتمام الذي يليق بنور الخير
الذي يشع منه ويلهم سبل الفعل والعمل .ذلك أن إمعان النظرفي الوجه يزحزح
الفكر عن موضعه ويسلبه يقينه واستقراره ،بل يطالبه بإجابة نداء التعالي عبر
تحمل مسؤولية رفع الظلم ونجدة املعدم وضيافة اليتيم .إنها عودة إلى الحياة
السابقة على النظر واملعرفة ،حيث يكون املرء يقظا ومسكونا بصوت األبدية
والخلود .الصوت الذي سبق للفلسفة أن سمعته وعبرت عنه بطرق متعددة،
الخير األفالطوني والالنهائي الديكارتي واالختالف األنطولوجي الهيدغيري ،وغيرها
-1قال ليفيناس إن فلسفته تتغذي في آن واحد من حاجة دفين إلى الخروج من مناخ فلسفة هيدغر
ومن قناعته أن الخروج إلى فلسفة قبل ـ هيدغيرية لم يعد ممكنا.
E. Levinas, De l’existence à l’existant. Vrin : Paris, [1947] 1998, p. 19.
ليفيناس ،في ساعة األممE. Levinas , A l’heure des nations, Paris, Minuit, 1988, p.155 . -2
285 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
من األسماء اإلغريقية لنداء الوجه الكامن في الخطاب.
يصف ليفيناس في كتابه «خالف الوجود أو ما بعد املاهية» 1مسار إلجام هذا
الصوت وطمسه خلف أنوار ما اعتبر انكشافا للوجود .إنه مسار نسيان التعالي
وهشاشة الكائن الفاني الذي سمح بتشويه الوجوه اإلنسانية ومحقها ،حتى صار
البشر أقل قيمة من الخشب والحجارة .إن الحرب تجسيد لفهم معين للوجود
واإلنسان ،وليست مجرد نزاع عابربين فريقين حول مصالح قد تكون سياسية أو
اقتصادية أو أيديولوجية أو حتى دينية.
ويكم صوت األخالق فيه فينزع عنه إنها وضع خانق يجند إنسانا بال وجهّ ،
كل مصداقية ،يختزل وجوده في عنصر منذور لقضية أمة أو خصم فاقد لكل
إنسانية ويمكن قتله .إن الحرب بهذا املعنى ليست مجرد فترة عصيبة من التاريخ،
إنما هي التجلي األبرز للفهم القائم للوجود وهللا .إنها تجربة الوجود الخام التي
تحرق كل الحجج الواهمة ،2وشهادة الواقع الجاثم على الرقاب ،حيث السالم
محض أكذوبة أو خيال نبي حالم قد يصدح بالحكمة في صحراء ما سمي في
الحداثة بالواقعية السياسية.
لم يكن حديث ليفيناس عن العنف والحرب وصفا محايدا لحادث عابر ،إنما
عني بقضية سامية ،املوقن أن املخرج ممكن دائما ،طاملا أن كان صوت امللتزم املَ ّ
هناك تفلسفا وإمكانية لالستئناف املتجدد .وهو املخرج الذي يمكن استلهامه
من النداء األخالقي لوجه اإلنسان اآلخر ،وما يحمله من مقاومة األخالقية تضع
الواقع موضع سؤال وتسمح بتخليص العالم من العنف .فكيف تم وصف هذه
الداللة األخالقية للوجه؟
286
اتخذ الحجاج عند ليفيناس مسارين
متوازيين متكاملين :مسار مساءلة إن احلرب تجسيد لفهم معني
للوجود واإلنسان ،وليست التراث الفلسفي الغربي الذي بدأ مع
سقراط ،وكرس إقصاء اآلخر عبر ادعاء جمرد نزاع عابر بني فريقني حول
االكتفاء الذاتي واالستقاللية .إذ يؤكد مصالح قد تكون سياسية أو
فيلسوفنا أن أسبقية الهو نفسه (Leاقتصادية أو أيديولوجية أو حىت
) mêmeبدأت مع التوليد السقراطي دينية .إهنا وضع خانق يجند
إنسانا بال وجه الذي أق�صى دور اآلخر في املعرفة .لقد
أكد سقراط أن الذات العارفة مكتفية
بذاتها وتملك الحقيقة بداخلها ،وال �شيء
يمكنها تعلمه من اآلخر ،ألن الفعل العارف مجرد فرصة أخرى للذات من أجل
شبه ليفيناس هذا املسار الدائري ،منتأكيد ما كانت تملكه منذ البداية .وقد ّ
األنا وإليها مرورا بالغير ،برحلة عوليس الذي انطلق من إيثاكا ملحاربة طروادة،
فجابه البحار والفيافي باحثا عن طريق العودة إلى موطنه .إن إيثاكا هي االسم
غير األقنعة لم يتخل أبدااآلخر ملنطق الفلسفة وملطابقة األنا الذي وإن هو ّ
عن مطابقته لنفسه .لقد جمع عوليس كما الفكر الفلسفي بين املكر والعنف؛
لكنه لم يتوقف أبدا عن التفكير في نفسه ومملكته ،فوجد كل الوسائل مفيدة
ومشروعة للحفاظ عليهما.
أما املسار الثاني فهو تأويل التراث الديني الذي سمح باستعادة صوت اآلخر
وجعل األخالق فسلفة أولى .وهو ما جسده ليفيناس رمزيا في رحلة النبي مو�سى
الذي خرج من مصر باحثا عن هللا دون أية نية في العودة أو رغبة في مملكة.
وينطلق من السؤال التالي :هل نحن محكومون بالعنف ،ضحايا كنا أم جالدين؟
هل يتوجب علينا أن نبحث عن نمط آخرمن املعرفة يكون مساملا ال عنف فيه؟
287 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
أو يتعين علينا تجاوز املعرفة والنظرية
والبحث عن رابطة تكون أكثرأصالة وقدما هل نحن محكومون بالعنف،
منهما؟ ويجد الجواب فيما نطق به األنبياء ضحايا كنا أم جالدين؟ هل
وامللهمون ،وحملته الكتب املقدسة من يتوجب علينا أن نبحث عن َ
معان أخالقية .غير أن هذا املسار ال يعني نمط آخر من املعرفة يكون
أن ليفيناس يسفه التراث الفلسفي ،أو مساملا ال عنف فيه؟ أو يتعني
أنه يدافع عن دين محدد أو عقيدة ما؛ إذ علينا تجاوز املعرفة والنظرية
والبحث عن رابطة تكون يصرعلى الطابع الفلسفي لقوله ،ويؤسس
أكرث أصالة وقدما مهنما؟ له من داخل الفينومنولوجيا .يقدم تأويال
آخرللدين والفلسفة على حد سواء ،ويرى
فيهما إمكانية ملموسة الستعادة النداء
األخالقي وتأسيس نزعة إنسية جديدة قادرة على تخليص البشرية من تجاوزاتهما
معا .فلماذا ،إذن ،يقود الفهم الحالي للوجود إلى العنف والحرب؟ وكيف يتيح
خطاب الفلسفة إمكانية تجاوزه؟ وما هي الداللة األخالقية التي يتخذها الدين
بعد التجاوز؟
منزلة القول
َ
لقد أ ْرخت عودة ليفيناس املتكررة إلى املصادر الدينية بظالل من الشك
على تأويله للدين ،خاصة من قبل القراء الذين شككوا في صحة انتسابه إلى
الفلسفة ومناهجها عموما ،ولفلسفة الدين خاصة .فالقول إن األخالق فلسفة
أولى ،وإنها تجد تعبيرها األمثل في الدين ،يجعل الفلسفة تابعة ملعتقد معين أو
يعيدها إلى أحضان الثيولوجيا .والحال أن فيلسوفنا يوظف األدوات الفلسفية
في محاورة فلسفة الدين في عصره ،ويؤكد أن عودته إلى املصادر الدينية أملتها
ضرورة فلسفية محضة ال عالقة لها بالدفاع عن املضامين الدينية أو نية كسر
288
صرامة املوقف الفلسفي ،األمر الذي يفرض علينا العودة إلى هذه املصادر،
َ
وعرض وجهات النظر حولها بغرض ت َب ُّين حقيقتها .وإن كنا ننبه مسبقا إلى أننا
لن نتجاوز مستوى العرض لجداالت املعلقين والقراء ،دونما إمعان في النقد
والتحليل ،فألن غايتنا هي إبرازقول ليفيناس بأكبرقدرممكن من األمانة .فماهي
املصادر التي ألهمت ليفيناس؟ وكيف يسمح الخطاب الفلسفي بتجديد القول
في الدين وهللا في الحقبة املعاصرة؟ تأثر ليفيناس بالعديد من الفالسفة ،غير
أن التأثير األكبر كان للتطبيق األملعي للمنهج الفينومنولوجي في كتاب «الوجود
والزمان» لهيدغر .الكتاب الذي يمثل ،في نظره ،فتحا جديدا في الفلسفة؛ إذ
يتوج مغامرة العقل الغربي وما انحدر منها من عنف و«كلية» ،ويظهر في نفس
الوقت معالم األفق األخالقي الذي يسمح بتجاوزها .ويمكن إجمال اإلضافة التي
قدمها هيدغر وسمحت باالنفتاح على الدين في العناصر التالية :أوال :التركيز
على فعلية الوجود وزمانيته ،إذ يتحقق وجود املوجود في بعد زمني يمنح املوجود
هيئة وقواما .وعليه ،فالوجود فعل وليس جوهرا أو ماهية قارة .ثانيا :التمييزبين
الوجود واملوجود الذي غاب عن الفلسفة وجعلها تن�سى سؤال الوجود وتكتفي
بدراسة املوجودات ،فتنظرإلى اإلنسان انطالقا من املفهوم املجرد والنظرية بدل
الرجوع إلى فعلية الوجود والحياة .ثالثا :فهم الوجود انطالقا من «الدازاين» ـ )
الوجود هنا( ـ ،أي من املوجود القادر على فهم الوجود أو الصياغة املفهومية
للوجود اإلنساني في نظر ليفيناس .يقول في هذا الشأن :إن «فهم الوجود هو
السمة والواقعة األساسية في الوجود اإلنساني» ،1بمعنى أن الفلسفة متجذرة في
الوجود اإلنساني ،وأن التفلسف والحياة �شيء واحد.2
-1ليفيناس ،اكتشاف الوجود ،ص.57 .
E. Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger. Vrin: Paris, [1967] 1998.
-2ليفيناس ،بيننا ،ص.13 .
E. Levinas, Entre nous. Essais sur le penser-à-l’autre. (Le Livre de poche) Grasset:Paris,
(199) 2007.
289 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
رابعا :التأكيد على أن الوجود فعل متعدي ،غير مكتف بذاته ويتجلى من
خالل حوامل أخرى تجعل الفهم تأويال وهيرمنوطيقا لنمط وجود الـ«دازاين» بناء
على الـ«هنا» الخاص به .األمر الذي يعني أن أفعال اإلنسان واختياراته انطالقا
من وضعه الخاص تعد فهما للوجود العام وهيرمنوطيقا كونية.
خامسا :تجاوز هيرمنوطيقا الوجود اإلنساني هاته لنظرية املعرفة املبنية
على التمثل ،بمعنى أنها تسمح بتوسيع نطاق الفينومنولوجيا النظرية وتوجيهها
صوب األنطولوجيا األساسية .وأخيرا :ارتباط حال الحضارة اليوم بفهم أصحابها
للوجود ،أي أنها ناتجة مباشرة عن اختياراتهم ومشاريعهم.1
يمكن تلخيص جدة هيدغرإذن في توجيه اهتمام الفلسفة إلى الحياة والوجود
الفعلي لإلنسان ،بدل االستغراق في التأمل والنظر .غير أن هذا التقدم ما كان
ليتحقق لوال استثمار اإلمكانات املنهجية للفينومنولوجيا وتخليصها من طابعها
النظري .يرى ليفيناس أن القصدية التي تسمح للفلسفة بالتعبير عما يتجاوز
العالقة بين الذات واملوضوع ،قد خضعت إلعادة تأويل من منظور أنطولوجي
واتخذت شكل وجود ـ في ـ العالم بالنسبة لهيدغر .األمر الذي يمكن استثماره
في وصف املعنى األصلي والتكوين اللغوي للوجود اإلنساني ،ومن ثمة التمييز
بين لغتين مختلفتين من حيث األثر :لغة الوجود ،أو ما يسميه فيسلسوفنا
بـ«الكلية» ،التي تسعى إلى تأسيس الهوية من داخل التدفق التلقائي للزمن ،والتي
تنتج عن عمل القصد الذي يعطي املعنى من خالل مطابقة حدث ما وجعله
هوية .إنها وصف لقدرة األنا على تجميع املختلف في وحدة ،والتي تجعله مكتفيا
معرضا عن الغير .وقد رفض ليفيناس االكتفاء الذاتي املؤسس لهذه اللغة بذاته ِ
من خالل نقد استعارة النور التي تصف مسار عطاء املعنى .يقول« :النور هو ما
به يكون �شيء ما آخرا بالنسبة إلي ،لكنه يوجد كما لو أنه صدر عني .املوضوع
يرجى العودة إلى :ارنست وولفErnst Wolff. De l’éthique à la justice, Langage et politique . -1
dans la philosophie de levinas. Phaenomenologica 183, Springer, 2007.
290
املنار هو في نفس الوقت �شيء نصادفه،
ولكن بفعل كونه منارا ،نلتقيه كما لو
تأثر ليفيناس بالعديد من
كان صادرا عنا» .1ويخلص إلى القول
الفالسفة ،غري أن التأثري األكرب
إن القصدية تسمح أيضا بتأسيس لغة كان للتطبيق األمليع للمهنج
الفينومنولويج يف كتاب أخرى وهي لغة خالف الوجود والالنهائي،
«الوجود والزمان» لهيدغر. ألنها تسمح بإدراك معنى مغاير ال يخضع
ملنطق العطاء ،ويسبق الوعي ويأتيه من الكتاب الذي يمثل ،يف نظره،
فتحا جديدا يف الفلسفة خارجه .إن إبراز حدود التأسيس داخل
الوعي ،ورفض القول بالحرية واالكتفاء
الذاتي ،قادا ليفيناس إلى القول بالذاتية
السلبية .إذا كان هناك من تأسيس ،فإنه تأسيس سلبي يتم خارج الذات وفي
غفلة منها .يؤكد فيلسوفنا أن التحليل القصدي يستطيع كشف اإلمكانات
الكامنة في الحالة الراهنة للوعي ،وإظهار املعنى األخالقي الذي يحركه من خارجه
املؤسس مشروط بأفق آخر من املقتضيات األخالقية التي ويثريه .ويثبت أن األنا ّ
ِ
ّ
تجعل الرؤية ممكنة .إنه أفق الغيرية والخارج غيرالقابل للتملك ،والذي عبرعنه
ليفيناس بمصطلحات الالنهائي وهللا والتعالي ،ووصفه في تحليله الفينومنولوجي
للجسد والوجدان واملنزل وغيرها مما تعرض له في مساءلته للتراث الفلسفي.
فخلف الوعي والقصدية والفعل العارف يوجد معنى الوجود اإلنساني الحقيقي
املستفاد من معاناة اإلنسان اآلخر.
وقد ظهر هذا املعنى املخالف في تاريخ الفلسفة من خالل نموذجين ،يقول
ليفيناس إنهما توصال إلى الغيرية ،ولم يحسنا استثمارها فلسفيا ،إذ بقيت مجرد
حدس عارض فيهما ،بسبب منزعهما النظري وخضوعهما لسلطان املفهوم املجرد.
291 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
يتمثل النموذج األول في أعمال أفالطون
التي يميز فيها فيلسوفنا بين وجهين لتلميذ يمكن تلخيص جدة هيدغر إذن
سقراط :فيلسوف التوليد والتذكر ،الذي يف توجيه اهتمام الفلسفة إىل
ال يختلف في �شيء عن ميل الفلسفة إلى احلياة والوجود الفعيل لإلنسان،
ادعاء االكتفاء الذاتي واقصاء اآلخر .بدل االستغراق يف التأمل والنظر
ويرتبط بصالت ثالثة مع «الكلية» أو كل
فلسفة تقدم نفسها كعلم ،وهي :أوال،
إعطاء األسبقية للوجود وإقصاء الخير .وثانيا ،تكريس أسبقية الداللة املثالية
وتبخيس املعنى والحياة .وأخيرا ،منح أسبقية للتذكر الدائري على حساب املعنى
القديم الذي ال تستطيع الذاكرة استرجاعه .أما الوجه الثاني لألفالطونية ،والذي
يستثمره ليفيناس ،فهو فيلسوف الخير وراء الوجود أو الوجه اآلخر للفلسفة
ّ
الذي يجعل منها «حكمة املحبة أو الحكمة في سبيل املحبة ...الحكمة التي يعلمها
وجه اإلنسان اآلخر».1
أما النموذج الثاني ،فتمثله أعمال ديكارت الذي بدأ تأمالته من الذات
ووجد نفسه في التأمل الثالث ينفتح على فكرة الالنهائي التي تتجاوزها .وهي
الفكرة التي استثمرها ليفيناس في تبرير استحالة اختزال وجود الغير في األنا ،إذ
أنها تبقي الكوجيطو ـ كما يؤكد ديكارت ـ في عالقة وطيدة بما ال يستطيع ضمه
أو تملكه .يقول ليفيناس« :إن مفهوم فكرة الالنهائي الديكارتي يشير إلى عالقة
بوجود يحتفظ بخارجه املطلق إزاء )األنا( الذي يفكر فيه» .2تشير فكرة الالنهائي
هنا إلى التعالي الذي يخترق مطابقة الفكر ملوضوعه ويدفعه إلى تحمل أكثر مما
يطيق ،بل تمثل فائض املعنى الكامن في وجه اإلنسان اآلخر الذي يسم الوعي
292
بالعجز ،وال يتحقق إال من خالل العالقة األخالقية باآلخر .يقول ليفيناس« :إن
فكرة الالنهائي هي العالقة االجتماعية».1
وللتعبير عن فائض املعنى هذا يعود ليفيناس إلى الدين اليهودي .إذ ال يخفي
تأثره بالفلسفة اليهودية ،خاصة فلسفة فرانز روزنزفايغ التي يقول إنها سمحت
له بتوضيح مفهوم «الكلية» وتبريراالنفتاح على الدين .اعتبره الفيلسوف اليهودي
الوحيد من بين املحدثين الذي بقي وفيا لليهودية ،وذلك ألنه رفض في كتابه
جمع التجربة الطبيعيةُ ّ
«نجمة الخالص» منح األسبقية للعقالنية الغربية التي ت ِ
2
واالجتماعية في املقوالت التي يتم ترتيبها في «كلية» ،أي في انتاج نسق جامع يضم
كل �شيء بما في ذلك الدين .وجعل باملقابل من الدين أفقا أصيال لكل معنى بما
فيه تجربة العالم والتاريخ .يقول ليفيناس إن أستاذه قد حرر الفكر من نوع من
العقالنية ،ليس لدواعي إبستمولوجية ،بل ألسباب حضارية .ذلك أنه استشعر
مبكرا خطرفلسفة هيجل على أوروبا 3فعمل على تجاوزها.
يتعلق التجاوز الذي يقصده فيلسوفنا هنا بمفاهيم الخلق والوحي والبعث،
التي استثمرها روزنزفايغ في تقويض فكرة «الكلية» .إذ يقول صاحب «نجمة
الخالص» إن «هللا لم يخلق الدين ،إنما خلق العالم» ،4وإن الدين يرسم نتيجة
لتلك اإلحداثيات األولى للوجود ،وليس مجرد إضافة أو فرع لنظام موجود
مسبقا .لطاملا جعلت الفلسفة الواقع بأكمله متضمنا في كل ،سواء تعلق األمر
ّ
الوسيطيين أو باإلنسان في العصر بالكوسموس في الحقبة القديمة أو باهلل عند
-1ليفيناس ،اكتشاف الوجود ،مصدرسابق ،ص.172 .
ن
-2لالطالع على فلسفة الدين عند فرانزروزنزفايغ ،يرجى العودة إلى :جو غرايش.
Jaen Greisch, Le buisson ardant et les Lumiéres de la raison. L’ invention de la philoso-
phie de la religion. Cerf: Paris, 2002-2004 (coll. «Philosophie et Théologie»), Tome1, p.
207-254.
-3ليفيناس ،خارج الذات ،ص.70 .
E. Levinas, Hors sujet. (Le Livre de poche) Fata Morgana : Montpellier, (1987) 2006
-4املصدرنفسه ،ص 76 .و.75
293 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الحديث .غيرأن هذا الكل يفقد قدرته التفسيرية أمام املوت الذي يمثل التجربة
األكثر أصالة في الوجود اإلنساني ،والتي تقود إلى هللا كما يتجلى في الدين .إن هللا
ال يرتبط باإلنسان والعالم في «كلية» ،وإنما في الحياة والزمن ،1وهي رابطة أصيلة
تسمح بإخراج الفلسفة من دائرة األنطولوجيا واالنفتاح على مجال الثقافة
والسياسة حيث يمكن التعبير عن املعنى األخالقي ،ومن ثمة مساءلة الوجود
والتاريخ .تزودنا اليهودية املقصودة هنا ،يؤكد ليفيناس ،بالقدرة على الحكم على
التاريخ ،وبمعنى املسؤولية األخالقية الذي يدفع كل شخص إلى رفض الحكم
املتسلط للتاريخ .2غير أن التشديد على أهمية الدين في التعبير عن العالقة
األخالقية ،وخاصة العالقة الوطيدة بين هللا ووجه اإلنسان اآلخر ،لم يمر دون
إثارة الجدل بين الباحثين حول مصادر وأهداف مشروع ليفيناس األخالقي.
قال البعض إنه ما كان ليتم قوله الفلسفي لوال االسترشاد بالنصوص الدينية،
ال�شيء الذي ينزع املصداقية الفلسفية عن األخالق الغيرية .بمعنى أن االستلهام
من اليهودية يجعلها بمثابة املرشد والدليل لإلنسان املعاصر ،أو على األقل يزج
بالفينومنولوجيا في متاهات الثيولوجيا .وهو األمر الذي رفضه فريق آخر من
القراء مدعيا أن العودة إلى الدين ضرورة فرضها فشل اللغة الفلسفية في التعبير
عن التعالي ،وأن العودة إلى النصوص مجازية ليس إال .إن الدين في هذه الحالة
َ
يصف ق َدر الذات وتوقها الدائم إلى الالنهائي الذي تم التعبير عنه في فلسفيا
بواسطة الذات املسؤولة الناتجة عن التحليل الفينومنولوجي.3
294
والحال أن ليفيناس يعيد تأويل
الكتاب املقدس بطريقة تنسجم مع ليفيناس يعيد تأويل الكتاب
توجهه الفلسفي العام ،وخاصة الذاتية املقدس بطريقة تنسجم مع
املسؤولة أخالقيا التي توصل إليها توجهه الفلسيف العام ،وخاصة
الذاتية املسؤولة أخالقيا بالتحليل الفينومنولوجي .وهواألمرالذي
اليت توصل إلهيا بالتحليل نلمسه في تأويله لقصة النبي إبراهيم،
الفينومنولويج حيث رفض التفسيرالذي يجعل تخوف
ابراهيم ترجمة لعدم القدرة على تجاوز
أخالقية االرتباط باهلل ،1بحجة أنه
ينظر إلى هذه املأساة من زاوية املعرفة والتمثل ويقود إلى العنف الديني .إن هذا
التفسيرال ينتبه إلى أن املحنة كانت سببا في عودة ابراهيم إلى هللا ،إدراكه العميق
لألمراألخالقي ،ألن إيمانه هنا ال ينطلق من فهم أعمى لكالم هللا ،وال من عزمه على
تنفيذ أمرطائش من ربه .إنما يتأسس على إدراكه ملسؤوليته إزاء إسحاق ورغبته
الدفينة في عدم ذبحه رغم وجود األمراإللهي .إن الدرس املستفاد من ذلك هو أن
تنفيذ أمر هللا يقت�ضي أوال وقبل كل �شيء إجابة نداء اإلنسان اآلخر ،وأن فهمنا
له يبقى ناقصا مهما بلغ االعتقاد به من اليقين واملصداقية .بعبارة أخرى ،إن
طاعة هللا تكتمل في االهتمام بالجار ،وإن َّ
الدين إزاء هللا ال ينفصل عن ديننا تجاه
الناس ،لدرجة أن فكرة هللا الذي يأمر بالعنف تصبح محض هراء ال طائل من
ورائه ،ووهم ناتج عن نقصان في املعرفة.
مسارميالد املسؤولية األخالقية
بدأ ليفيناس قوله الفلسفي بتوضيح ظاهرة التعالي داخل العالقة باآلخر،
وبكشف الداللة األخالقية التي تفرض العودة إلى الدين .وهو األمرالذي قاده إلى
E. Levinas, Noms propres. (Le Livre de poche) Fata -1ليفيناس ،أسماء علم ،ص 89 .ـ . .90
Morgana : Montpellier, 1976
295 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
مساءلة التراث الفلسفي ،بما فيه التراث
الديني ،والتأكيد أن الداللة األخالقية بدأ ليفيناس قوله الفلسيف
تحيل على لغة مغايرة للغة الوجود بتوضيح ظاهرة التعايل داخل
العالقة باآلخر ،وبكشف والقصدية ،وأنها تنفتح على نظام آخر
للمعنى ال يمكن وصفه إال عبر تجاوز فهم الداللة األخالقية اليت تفرض
التراث الفلسفي للوجود .فما هو فهم العودة إىل الدين .وهو األمر
الذي قاده إىل مساءلة الرتاث الوجود الذي واجهه ليفيناس؟
الفلسيف ،بما فيه الرتاث اعتبر ليفيناس أن أنطولوجيا هيدغر
الديين امتداد للتصور التاريخي للفهم الذي يكرس
فكر «الكلية» ويتجاهل املعنى األخالقي
للوجود اإلنساني .غير أنه وظف بعضا من
مفاهيمها في تأسيس قوله األخالقي ،خاصة هيرمنوطيقا الحدوث ()facticité
وفعلية الوجود املعبر عنها باالختالف األنطولوجي .1إذ نجده ينطلق من العالقة
االجتماعية في وصف الوجود اإلنساني بدل الوضع الخاص بـ«الدازاين» ،ويطبق
التحليل الفينومنولوجي على بعض التجارب الحياتية لإلنسان من أجل إبراز
ارتباط إنسانية اإلنسان بانفالته من سجن الهوية والتاريخ ،وبتحمله ملسؤوليته
إزاء العالم واآلخرين .يقول في هذا الصدد إن اإلنسانية مرتبطة بـ»كسر القيد
الجذري ،األكثر حتمية ،املتمثل في واقع أن األنا هو ذاته» .2ومن ثمة النظر
-1بدأ هيدغر تحليلية الوجود والزمان بوصف االختالف األنطولوجي ،أي بالتمييز بين الوجود كفعل
والوجود كاسم ،الفعل بمعنى التواجد ،إذ نوجد كإنسان أو نوجد كزهرة ،واالسم بمعنى الكينونة ،أن
تكون انسانا أو أن تكون كائنا حيا .ويوظف هيدغر مفهوم وجود الكائن ألجل التعبير عن فعل التواجد
وللتعبير عن الجواهر يستخدم الكائن ،بالتالي فالكائن يوجد .في حين يتحدث عن وجود الكائن ،وجود
اإلنسان ووجود الحصان ،وهذا الوجود يعني بالنسبة لكل كيان طريقته في التواجد .أما في حالتنا هذه،
فاألمر يتعلق ببحث الوجود عامة ،أي بفحص نمط تواجد الكائن اإلنساني ،بمعنى الوجود الفعلي
لإلنسان وليس جوهره أو ماهيته .والخلط بينهما كان سقطة امليتافيزيقا يؤكد هيدغر.
-2ليفيناس ،في التملص ،مصدرسابق ،ص.98 .
296
إليها انطالقا من وضع اإلنسان اآلخر املتحقق في املشاعر والحاالت الوجدانية،
كالغثيان والدوار ،التي تجتاح املرء الواقع تحت وطأة الوجود املجهول والخانق
الذي ال مناص منه ،والذي عبر عنه هيدغر بمفهوم القلق وانتهى من وصفه إلى
العدم والحياد السلبي إزاء العالم.
َيفقد اإلنسان إنسانيته وطمأنينته طاملا بقي مشدودا إلى تحديد مسبق غير
قادر على االفتراق عنه .وهو االنشداد إلى الوجود» 1الذي جعله هيدغر وجودا
أصيال ،وجسده في السعي إلى التملك واألنانية املعبر عنه بمفهوم الـ«ما لي» (la
) .miennetéبمعنى أن إدراك األصالة ال يتحقق إال بتملك األشياء ،بما فيها
اإلنسان اآلخر ،واستخدامها في سبيل تأثيث الوجود الخاص وسكنه .وعندما
ينظر إلى املوجودات من زاوية االستخدام ،فإنه يجعلها أدوات في متناول اليد
وطاقات مطواعة في خدمة الناظر .يسمي ليفيناس الوجود الناتج عن االستخدام
هذا بالواقع الخام للوجود أو الـ«هناك» (Il y a) ،الذي ال معنى أو شكل له .ويقول
إنه شكل الوجود املتجسد في الحرب ،حيث يسود منطق التملك والسيطرة الذي
يمحق وجه اآلخر وإنسانيته ،ويجعل العالقات اإلنسانية محض صراع ال يبقي
وال يذر.
إنه ألمر مؤسف بالنسبة لفيلسوفنا أن تكون اإلنسية والحضارة الغربيتان
ناتجتين عن هذا الفهم .ذلك أن هذا األخيريؤكد أن «اإلنسان كله أنطولوجيا)(..
وأنه ما دام الوجود قابال للفهم فإن ثمة إنسانية» .2بمعنى أن كل حركة أو تمظهر
لوجود اإلنسان إال ويعكس فعل تفكير وتأمل قائم على قصد ،أي فهما للوجود
في معجم هيدغر ،وما دام الفهم يقوم على التملك والقبض باليد ،فإن الفعل
اإلنساني ـ أي التواجد ـ زحف على «هنا» اآلخر وطمس إلنسانيته .لذلك يتساءل
ليفيناس عن مدى مشروعية جعل األنطولوجيا أساسية في تفكير الوجود
-1املصدرنفسه ،ص.95 .
-2ليفيناس« ،هل األنطولوجيا أساسية؟» ضمن :بيننا ،مصدرسابق ،ص.13 .
297 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
اإلنساني ،ويقول :هل تمثل األنطولوجيا اإلمكان الوحيد لفهم الوجود؟ هل
يتأسس معنى اإلنسانية على العقل والفهم وحدهما؟
يرى ليفيناس أن الفلسفة اليوم مطالبة باالختيار بين طريقين في البحث عن
الحقيقة :أوال ،طريق «الكلية» الذي يختزل اآلخر في املطابق ويقر الهوية .والتي
تنطلق من االستقاللية والتمركزحول الذات فتنظرإلى الفردي من منظور الكلي
واملفهوم ،وتنتج أفرادا متشابهين بال أصالة أو تفرد ،فتعفيهم من املسؤولية .وهو
الطريق الذي سلكه هيدغر ،يقول ليفيناس« :تمثل فلسفة هيدغرتحديدا قمة
الفكر الذي ال يرجع فيه النهائي إلى الالنهائي» .وثانيا ،طريق الالنهائي الذي يقود
الفلسفة إلى التعرف على املخالف واالنفتاح على التعالي والخارج وهللا.
وقد اختار ليفيناس طريق الالنهائي ورفض النظر إلى اإلنسان الفرد من زاوية
املفهوم أو النوع أو العرق أو املذهب .وسعى إلى االنفالت من نمط وجود اإلنسان
الغربي ،حيث بدأ باستثمار االختالف األنطولوجي الهيدغيري في وصف الوجود
الجسدي .وأكد أن الجسد يجعل اإلنسان منخرطا في لعبة الوجود ،ويمكنه في
نفس الوقت من االنفالت منها .إذ تمثل الحاالت الوجدانية ـ املرتبطة بالجسد ـ
طريقة أصيلة في التواجد ،يختبرفيها املوجود تجربة االنشداد إلى ذاته واالختناق
من وطأة الوجود املجهول .وهي نفس التجربة التي يختبرها املؤمن قبل بلوغ
طمأنينة اإليمان في الدين التوحيدي ،إنها تجربة شبيهة بعبادة األوثان والتقديس
األعمى الذي يشل الحركة ويمنع الفعل .غير أن الجسد ال يكتفي باملشاركة
واالستغراق ،بل يفتح إمكانية الخروج والتملص .ذلك أن الحاالت الوجدانية
نفسها ،كاألرق والعياء والكسل ،تضع أولى لبنات التحرر من سيطرة الوجود
املجهول .يقول ليفيناس :إنه «في قلب العياء والكسل يوجد املجهود الذي
يشبه حدث الخلق» .1الخلق الذي يكسر القيد ويفتح املجال للحياة املفعمة
298
بالخصوصية والتفرد ،حيث يضطلع
اإلنسان بمسؤوليته األخالقية من خالل يمزي ليفيناس بني اإلنسان احلي
واإلنسان املفكر اعتمادا عىل السكن والشغل.
إن السكن هنا يمثل تحررا وإقرارا فهم مبتكر للحياة .إذ ال تقوم
بهوية أخرى قادرة على منح اإلنسان احلياة عىل التمثل ،والسبب
يف نظره ال يرجع إىل كوهنا الشعور باالستقرار داخل العالم
املفزع الذي يكبله .إنها الهوية نفسها غري واعية ،وإنما ببساطة ألهنا
سابقة عىل الويع بالذات التي تخلص الذات من وحدتها وفزعها
الناتجين عن سيطرة آلهة الوثنية ،واملعبر
عنه بالخوف من الغد ومن وطأة عناصر
الطبيعة وصروفها .ذلك أن البيت ال يمثل مجرد أداة تخدم هدفا مباشرا كانت
قد وجدت ألجله ،إنما هو شرط األفعال اإلنسانية ومجال الخصو�صي داخل
الوجود واملستقل عنه الذي يسمح بالتقاط األنفاس وتذوق طعم الحياة .يميز
ليفيناس هنا بين اإلنسان الحي واإلنسان املفكر اعتمادا على فهم مبتكر للحياة.
إذ ال تقوم الحياة على التمثل ،والسبب في نظره ال يرجع إلى كونها غيرواعية ،وإنما
ببساطة ألنها سابقة على الوعي بالذات.
يقول في هذا الصدد« :إن الحي حقا هوالذي يجهل العالم الخارجي .والجهل هنا
ليس حدا للمعرفة ،إنما هو جهل مطلق ،ناتج عن غياب الفكر» .1أن تحيى حقا
يعني أن تحيى ب�شيء لم يتم تمثله بعد .نحن نحيى بالخبزوالهواء واألفكاروالشغل
التي ليست أدوات على النمط الهيديغيري .لذلك ال يجب أن تفسرالحياة انطالقا
من األداة ،بل يتعين وصف األداة انطالقا من الحياة.
إن فينومنولوجيا الجسد هاته ،وغيرها من املواضيع التي تطرق إليها ليفيناس،
299 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
لتؤكد أن إطعام الجائع واملعدم أسبق من
الحفاظ على الوجود وسكنه ،وأن ضيافة يسىع ليفيناس من وراء نقده
الغير ونجدة اإلنسان اآلخر أسبق من لألنطولوجيا إىل تأسيس الهوية
رعاية فهم معين للوجود .ذلك أنها تؤكد «األخالقية» أو الذاتية املسؤولة
وجود هوية متفردة وحقيقية لكل إنسان اليت تسمح بوصف األخالق
تسمح له برعاية فرادة الوجود اإلنساني الغريية وتربير العودة إىل الدين
ومعناه .وأن هذه الهوية الفريدة ال تكتمل
إال بالتحرر من قبضة الوجود املجهول
الشبيهة بسيطرة اآللهة الوثنية ،واالنفتاح على التعالي وهللا .وهو ما يسميه
فيلسوفنا بشرط الذاتية املسؤولة .فما املقصود بالذاتية املسؤولة؟
يسعى ليفيناس من وراء نقده لألنطولوجيا إلى تأسيس الهوية «األخالقية» أو
الذاتية املسؤولة التي تسمح بوصف األخالق الغيرية وتبريرالعودة إلى الدين .وهي
هوية تجعل للفرد وجها وتحمله مسؤولية أفعاله ،بدل الهوية األنطولوجية التي
تنطلق من الشخصية «املرء» ) (onالهيدغيري ،أو السيد «كل الناس وال أحد»
الذي ال فرق فيه بين الصالح والطالح .وقد توصل إليها فيلسوفنا من خالل تحليل
الوجه الذي ينقل مسألة املعنى من مستوى املعرفة إلى مستوى األخالق .وذلك
ألن رؤية الوجه ال تخضع لنظام املعرفة أو العالقة املنطقية ،بل تشرطهما معا.
يقول ليفيناس إن «وجه اإلنسان اآلخريستع�صي على التملك) ،ويستع�صي( على
قواي» .1بمعنى أنه ال ينفلت من محاوالت معرفته واحتوائه وحسب ،بل أيضا
يقابل الذات ويسائل قدرتها على االحتواء والسيطرة .وبمقاومته تلك يؤسس
العالقة األخالقية باآلخرالتي يسميها ليفيناس بـ»الوجه لوجه» تيمنا بلقاء مو�سى
باهلل في الجبل وتلقيه األمر األخالقي بعدم القتل ،أي اكتشاف مو�سى ذاتيته
300
األخالقية املعبرعنها بوصية «ال تقتل» التوراتية.
إن الوجه ال يعبر في اللقاء املباشر باآلخر عن استحالة أنطولوجية أو معرفية،
بل ينادي باالستحالة األخالقية لقتل اآلخر ،ويعلن خارجيته غيرالقابلة لالنتهاك
عندما ينطق ـ بالوصية التوراتية ـ «ال تقتل» .1أما الذات فتجد نفسها مطالبة
باإلجابة ،وبجوابها تتأسس الذات املسؤولة املعنية بالهشاشة والضعف
اإلنسانين .غير أن معنى املسؤولية الناتج عن العالقة االجتماعية يختلف عن
املفهوم الكالسيكي للمسؤولية ،والذي يتمحور حول الذات الحرة املستقلة التي
تقوم بفعلها أوال ثم تشرع في البحث عن مبررات فعلها أمام اآلخر فترفع أسبابها
إلى مستوى الكونية .إن املسؤولية الحقة الناتجة عن إجابة نداء اآلخرتتم دفعة
واحدة ،فتكون كل أقوال وأفعال اإلنسان حاملة ألثرالالنهائي املعبرعنه في وجه
اإلنسان اآلخر ،والذي ال يعطي للحرية قدرتها إال بعد لجمها باملطلب األخالقي.
تؤكد املسؤولية األخالقية إذن سلبية الذات وتبعيتها لآلخر ،عوض االستقاللية
التي تؤسس ذاتية العقالنية املوروثة عن الفلسفة اليونانية .وقد استلهم ليفيناس
هذه السلبية من تأويله لآلية 7:24من سفر الخروج ،والتي تقول« :سنعمل كل
األمور التي تكلم بها الرب وسنطيعه» .ذلك أن هذه اآلية تؤكد أن الجواب سبق
الوعي والفهم ،وأن اإلسرائيليين أجابوا نداء الوحي وأتوا الفعل قبل أن يسمعوا
ليفهموا ويعوا ،بمعنى أن طاعتهم سبقت فهمهم للتدبيراإللهي الذي قرر وضعهم،
ألنها حصلت قبل أن تح�صي الذات قدراتها وتقرر الرفض أو الطاعة بناء على
أسس عقالنية .غيرأن ما يهمنا هنا هواالنقالب في املنطق التقليدي لألخالق الذي
ينتج عن القول باملسؤولية األخالقية والسلبية ،والذي يجعل األمراألخالقي املعبر
عنه في وجه اآلخر ال يتحدد كقواعد للفعل ،مفهومة بوصفها قوانين كونية على
النمط الكانطي ،أي باعتبارها إلزام صوري أو عقلي يحترم العقل في اآلخر .بل إن
301 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
األمراألخالقي إلزام ألجل اآلخريتجلى هللا من خالله دون أن يفقد شيئا من تعاليه
املطلق أويسكن أفهام البشرأويتدخل في العالم الذي ارتضوه ألنفسهم .وقد ورد
الفعل قبل الفهم في النص التوراتي بطرق متعددة :أوال ،لفظ «سنفعل» في اآلية
السابقة الذي يمثل اعتراضا على نمط الوعي الهوسرلي ،الذي سبق ملارتن بوبرأن
فسره على أنه فعل في سبيل الفهم وقال إن الفعل يبقى ناقصا ما لم يكتمل بفهم
ما ينتج عنه .1األمر الذي عارضه ليفيناس عندما أكد أن الفعل وعدم االكتمال
هو سر املالئكة الذي يفعلون ما يؤمرون .وأن ما رفضته فينومنولوجيا هوسرل
واعتبرته ضربا من الالمعنى ،يمثل درس االستقامة والنزاهة والصدق في اليهودية
ومثاال لإلنسانية.
يتضح من ذلك أن استشهاد ليفيناس بالنصوص واملراجع الدينية ال يعني أنه
ضها عجزاللغة املفهومية للفلسفة فر َ
يؤسس قوله عليها ،بل إنه ببساطة ضرورة َ
عن التعبيرعن املعنى األخالقي .فما كان له أن يرجع إلى النصوص الدينية لوال إعادة
تأويلها في ضوء املفاهيم األخالقية التي توصل إليها في نقده للتراث الفلسفي .يأتي
تأويل النصوص هنا محاولة لالقتراب من املعنى الذي لم تقله الفينومنولوجيا
رغم أن أدواتها تسمح بذلك ،خاصة إعمال املنهج في املستوى السابق على عطاء
املعنى ووصف القصود الفاعلة في الوجود اإلنساني وغير الصادرة عن األنا.
لقد سمحت اإلحالة على املصادر الدينية اليهودية بالتعبير عما ال يقبل التعبير،
وبكشف سرالذاتية الكامن خلف املسؤولية التي تنبثق قبل الوعي واللغة .بعبارة
أخرى ،بدون االقتباس من التراث الديني واألدبي تبقى الفينومنولوجيا بدون
جدوى ،وخرساء عاجزة عن وصف املسؤولية والذاتية الحقة.
إن ليفيناس ال يجعل الفلسفة تابعة للدين كما يدعي البعض ،2بل يؤكد
فقط أن النصوص الدينية تسمح بالتعبير عن اإلمكان الفينومنولوجي لفهم
-1ورد في :كوسكي ،مرجع سابق ،ص.168 .
-2ملزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى كوسكي ،مرجع سابق ،ص.170 .
302
التدين بشكل يختلف عن التراث
الفلسفي والوثنية معا .لقد أنتجت استهشاد ليفيناس بالنصوص
اليهودية مفهوم املسؤولية وأدخلته في واملراجع الدينية ال يعين أنه
يؤسس قوله علهيا ،بل إنه تاريخ اإلنسان الغربي ،فاتحة بذلك
ضا عجز فر َ
مسار وزمانية املفهوم الذي سيكشفه ببساطة رضورة َ
التحليل الفينومنولوجي الحقا بعد عجر اللغة املفهومية للفلسفة عن
التعبري عن املعىن األخاليق خطاب الفلسفة عن احتوائه .قدم
الدين التوحيدي للبشرية مفهوم الذات
املسؤولة مسجال لحظة فارقة في تاريخ
املسؤولية والدين على حد سواء ،وجعل من املسؤولية األخالقية أساسا للداللة
األصيلة للوجود اإلنساني .دون أن يعني ذلك أن هذه األخيرة مرتبطة حصرا
بالشرط التاريخي املميزلدين بعينه ،بل يعني أنها خاضعة لشروط معينة تصادف
أن تحققت في اليهودية ويمكن أن تتحقق في غيرها.
يبدأ تأويل ليفيناس للدين إذن من الذاتية املسؤولة ،ومن حقيقة أن دينا
بدون مسؤولية محض خرافة أو مجرد تمظهر آخر للعنف والوثنية .ذلك أن
استغالل التأسيس العقالني لأللوهية في تبرير التملص من املسؤولية إزاء
اآلخرين ،والتطبيق الحرفي لصفات هللا وإقحامه في شؤون البشر وجعلهم
يرضون عن معاناتهم ،سيان في تقويض التعالي وسلبه معناه .قد تكون هذه
الفكرة معروفة لدى الفالسفة خاصة بعد كانط ،غيرأن ليفيناس يؤكد باملقابل
أال وصف للمسؤولية بدون دين أيضا ،ألن الفينومنولوجيا ال تعبرعن املسؤولية
األخالقية إال بتحليل بعض الصيغ والوضعيات الواردة في تاريخ الدين اليهودي.
من املسؤولية إلى هللا
ظل تعالي اإلله ظاهرة مستعصية على الفكرالفلسفي على مرالتاريخ .وعندما
303 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ظهرت فلسفة الدين في العصر الحديث
ظل تعايل اإلله ظاهرة قامت بإرجاع كل الظواهر الدينية إليه،
مستعصية عىل الفكر لكنها اعتبرته ضربا من الالمعنى أو الرأي.
الفلسيف عىل مر التاريخ. وهو األمر الذي يصفه ليفيناس بالقول
«إن تعالي املطلق أو الواحد ال يمكن أن وعندما ظهرت فلسفة الدين
يدخل في عالقة مع النفس )عبر الوحي( يف العرص الحديث قامت بإرجاع
كل الظواهر الدينية إليه، ما لم يبدأ منها ،غير أن النفس ،بفعلها
لكهنا اعتربته رضبا من ذاك ،تتوقف عن تبرير تعاليه» .1غير أنه
الالمعىن أو الرأي يؤكد باملقابل أن فكرة الالنهائي تسمح
باستعادة معنى األلوهية وبإرجاعه إلى
دائرة املعقولية .يقول« :إن فكرة الالنهائي ـ
التي ُسميت واعترف بها قد صارت فعالة بطريقة ما انطالقا من داللتها واستعمالها
الريا�ضي ـ تضع الفكر أمام املفارقة املتحققة في الوحي الديني .هذا األخير ،الذي
يرتبط تحسسه مسبقا باألوامرإزاء بني البشر ،وباملعرفة باهلل الذي يقدم نفسه
عبرهذا االنفتاح ويبقى مع ذلك آخرا إطالقا أو متعاليا».2
إن هللا املتجلي في مفارقة الوحي ،التي تتجاوز املعرفة ،هو ما أقصته الفلسفة
بحجة أنه يفوق فكرته ومفهومه .فهو يكشف عن نفسه دون أن يكون مشروطا
بمفهومه ،وعندما يعجز املفهوم عن تغطية ماصدقه يصبح موت هللا أمرا
حتميا .فهل ستكون فلسفة الدين محكومة بالفشل في تفكير التعالي والوحي
دون اختزالهما في الوعي السعيد والكامل؟ أال تضع فكرة الالنهائي مسلمة الحرية
موضع سؤال؟
-1أنظرليفيناس ،ما وراء اآلية ،الصفحة 155وما بعدها.
E. Levinas, L’au-delà du verset. Lectures et discours talmudiques. Editions de Minuit :
.Paris, 1982 -2ليفيناس ،بيننا ،مصدرسابق ،ص.227 .
304
إن االستحالة املتضمنة في السؤال أعاله تؤكد أن دراسة الظواهر الدينية
ال تهدف إلى إثبات أنها حدثت فعال في حياة الذات ،بل تسمح فقط بإظهار أن
داللتها ممكنة بالنسبة للفلسفة .وعليه ،فسعي فيلسوفنا إلى فهم األلوهية ال
يعني محاولة البرهنة على وجود هللا ،إله الفالسفة وإله الدين على حد سواء،
بل محاولة إظهار إمكان الالتناهي ووصف الذاتية التي تسمح بظهوره في الفكر
والفعل .وهو املشروع الذي قدمه ليفيناس في جل مؤلفاته ،والسيما مقالتي:
«فكرة هللا فينا» و»هللا والفلسفة» ،1حيث قال إن الذاتية املقصودة تحتاج إلى
املؤسس،ـ من خارج الكوجيطو واألناإعادة بناء من خارج فينومنولوجيا الوعي ّ
ِ
أفكر؛ وبفينومنولوجيا أخرى قادرة على كشف الذاتية املسؤولة أخالقيا .فكيف
تسمح فكرة الالنهائي بتأسيس الذاتية؟
أوجد ديكارت مكانا لفكرة الالنهائي في مشروع الفلسفة الحديثة ،ووصفها
بدون الرجوع إلى التأمل الديني القائم على سلطة النص .لقد أثبت في التأمل
الثالث أن وجود هللا ال يتأسس على يقين الكوجيطو ،بل يتجاوز الوعي ويلهمه
مشروعيته ويقينه .يقول ليفيناس إن «ديكارت رسم في تأمله لفكرة هللا مسارا
استثنائيا لفكر يصل إلى حد القطع مع األنا أفكر ،وبصرامة ال تضاهى» ،2مما
يعني أن الوعي ال يؤسس كل �شيء وأنه مسبوق باآلخر .غير أن ما يهم ليفيناس
هنا «ليس البرهنة على وجود هللا ،بل حدث توقف الوعي ،الذي ليس كبتا في
الالشعور وإنما حكمة ويقظة تخلخل السبات الدغمائي الذي يرقد في عمق
الوعي» .3ذلك أن البرهان الديكارتي يجعل هللا مطابقا ملبدأ العلية؛ هللا موجود
بالضرورة ليس ألنه يقع خارج ما يمكن إدراكه بالحواس ،ولكن ألن الفكر يحتاج
الى علة وضمان ال يمكن أن يكونا إال في فكرة هللا ،وهللا بدوره كان ليحتاج إلى علة
-1أنظر :ليفيناس ،هللا الذي يتبادرإلى الذهن ،مصدرسابق.
-2املصدرنفسه ،ص.104 .
-3املصدرنفسه ،ص.105 .
305 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
لوال أنه علة ذاته .وبذلك يؤكد فيلسوفنا النقد النيتشوي ملبدأ العلية الذي قاد،
في نظرهما معا ،إلى موت اإلله وإقصاء التعالي من دائرة املعقولية ،فمطابقة هللا
بالعلة األولى تجعله في مرتبة املخلوق الخاضع للعلية والفاقد للتعالي ،وإن كان
موجودا أسمى.
رفض ليفيناس تأسيس التعالي على تجربة الوعي الديكارتية ،لكنه استفاد
من فكرة الالنهائي في وصف الذاتية املسؤولة ،وذلك من خالل العناصر التالية:
-أوال ،أنها تبرر إمكان توسيع مدى املنهج الفينومنولوجي إلى ما وراء القصد املانح
للمعنى .إذ تؤكد فكرة الالنهائي أن الوعي يتضمن ما ال يمكنه احتواؤه أو تملكه،
أو ما ال تسعه فكرة أو مفهوم .أكد ديكارت ،من دون قصد منه ،أن فكرة الالنهائي
تحوي من املعاني ما يفوق مدى الفكر ويدعوه الى تفكير أكثر من طاقته ،وأن
وجودها في الوعي ينسف ادعاء تأسيس األشياء انطالقا من القصد العارف .لقد
أكد ديكارت أن فكرة الالنهائي واضحة للفكررغم أنه ال يمسك بها.
-ثانيا ،أن فكرة الالنهائي تؤكد أسبقية اآلخر وتعاليه ،ألنها وضعت وضعا في
الوعي ولم تنتج عنه .لقد أوجد ديكارت كل املوجودات ،بما فيها اإلنسان واألشياء
واآلخر ،وحتى هللا واملالئكة ،غير أنه وجد أن الفكر يؤسسها جميعا ما عدا فكرة
هللا التي تمنح تأسيس املوجودات األخرى يقينه ومصداقيته .بمعنى أن الوعي
يحتاج إلى افتراض خارج للكوجيطو ،وأن هللا جوهر النهائي مستقل عن ال�شيء
املفكر .وبطبيعة الحال ،سوف يرفض ليفيناس هذه اللغة الجوهرانية كما سبق
ورفض ربط الفكر بموضوعه بعالقة سببية ،ولن يستخدم استدالل ديكارت في
وصف وجود هللا .واكتفى باملقابل باستثمارحدث توقف الوعي في تأسيس مفهوم
السلبية ،أي تجربة الذات التي وجدت نفسها بفعل الكوجيطو في مواجهة آخر
يتجاوزها ويهبها اليقين دون أن تتمكن احتوائه وتملكه.
-ثالثا ،أن فكرة الالنهائي تسمح بإعادة تعريف الذات انطالقا من السلبية.
306
إن وجود فكرة الالنهائي في الوعي ينسف
قدرة األنا املفكرة ،وينتج الذات السلبية «فكرة الالهنايئ تصف سلبية
واملصابة التي تحضر في حاالت االنفعال أكرث سلبية من كل سلبية قد
والحساسية والوجدان .ذلك أن ديكارت تصدر عن ويع :إهنا مفاجأة
يؤكد أن الوعي ال يؤسس فكرة التعالي بل وحدوث ملا ال يطاق ،األكرث
يجدها فكرة فطرية كما يجد فكرته عن انفتاحا من كل انفتاح ــ إهنا
يقظة ــ ،غري أهنا تقود إىل نفسه ،ويقول إن تصوره هلل أسبق من
سلبية املخلوق» تصوره لذاته .بمعنى ،يستنتج ليفيناس،
أن «فكرة الالنهائي تصف سلبية أكثر
سلبية من كل سلبية قد تصدر عن وعي:
إنها مفاجأة وحدوث ملا ال يطاق ،األكثرانفتاحا من كل انفتاح ـ إنها يقظة ــ ،غيرأنها
تقود إلى سلبية املخلوق» .1هذا األخيرالذي أتى إلى العالم متأخرا فوجد نفسه غير
قادرعلى ادعاء امتالك كل ما هو ممكن.
-رابعا ،أن إيقاف ديكارت ملسار الكوجيطو من أجل تأمل وجود هللا وإظهار
صفاته ،يجعل للمعرفة حدودا .فهوال ينتهي إلى اليقين والوضوح ،بل إلى التبجيل
والعبادة الناتجين سلبية االنفعال والوجودان .إن فكرة الالنهائي ال تعني سلبية
الوعي وحسب ،بل تسمح بفهم الرغبة بالالنهائي والعالقة باهلل .ذلك أن العالقة
الوجدانية تمثل رغبة ال تضاهي مرغوبها وال تصدر عن الوعي ،وال تسعها كلماته
ولغته ،ألن املرغوب أعلى وأكثر من فعل الرغبة .2تعبر الرغبة عن حضور هللا في
الفكر وعن فهمنا له رغم عدم امكان اإلمساك به في مفهوم ،ألنه يتجلى كغياب
داخل الحضور .ويقول ليفيناس إنه التعالي حد الغياب ،ويصفه بضمير الغائب
«هو» ).(Il
-1املصدرنفسه ،ص.107 .
-2ليفيناس ،هللا الذي يتبادرإلى الذهن ،مصدرسابق ،ص.111 .
307 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
وأخيرا ،إن العالقة بالالنهائي تلهم سبل
ليفيناس قد انطلق من الفعل والعمل وتتحقق باالهتمام بالغير
فكرة الالهنايئ ووصل إىل في العالقة االجتماعية .فما دامت غاية
آخر ال يمكن بلوغه أو تملكه ،فإن املسؤولية واألخالق دون أن الرغبة ُ
يجعل من الدين الهيودي جوابها يتم من خالل خيرية األفعال .بمعنى
أن موضوع الرغبة ينفلت منها ويوجهها أساس لهما .ورفض الربط
بيهنما بعالقة سببية ألن صوب الخيروهللا دون أن يخبرها بما يكونه
الخير تحديدا .يقول ليفيناس إن «التعالي الفينومنولوجيا تسمح باخزتال
أخالقي ،وإن الذاتية ليست في نهاية الالهنايئ إىل التشكل اخليف
لألخالق يف أعماق الذات التحليل «أنا أفكر» أو وحدة «اإلدراك
الترنسندنتالي» ،إنها خضوع وتبعية للغير
في سبيل املسؤولية إزاء الغير».1
وعليه ،يكون ليفيناس قد انطلق من فكرة الالنهائي ووصل إلى املسؤولية
واألخالق دون أن يجعل من الدين اليهودي أساس لهما .ورفض الربط بينهما
بعالقة سببية ألن الفينومنولوجيا تسمح باختزال الالنهائي إلى التشكل الخفي
لألخالق في أعماق الذات؛ االختزال الذي يبدأ من املعطى الالنهائي ويعود إلى
الذات املسؤولية ثم األفق األخالقي الذي يمنحها داللة ومعنى ،بحيث يتم وصف
داللة هللا عبراختزال أخالقي وليس عبرتسلسل منطقي لألسباب والعلل.
بمعنى أن ففينومنولوجيا املسؤولية األخالقية التي سمحت بتأويل الدين تقع
خارج التمييز التلقيدي بين إله الدين وإله الفالسفة ،بل تشكك أصال في إمكان
االختياربينهما.2
308
األنطوثيولوجيا وهللا
شكل سعي ليفيناس إلى إنقاذ داللة الظواهر الدينية وتأكيد مصداقيتها
انطالقا من الذات املسؤولة ،انحرافا عن سمة العصراملوسوم بموت امليتافيزيقا
واإلله .إنه أشبه ما يكون بالعودة إلى ما سماه هيدغر بالتأسيس األنطوثيولوجي
للميتافيزيقا ،أي الرأي القائل إن ظهور فلسفة الدين رافق تاريخيا ومنطقيا نهاية
إله امليتافيزيقا .هذه األخيرة التي كانت تنظر في الوجود اإللهي انطالقا من خلقه،
وال تميزه عنها فتكرس نسيان االختالف األنطولوجي .أما البعد األنطولوجي،
فيتمثل في أنها كلما نظرت في الوجود إال وأرجعته إلى موجود أسمى وأساس
ضروري للموجودات ،املوجود األكثر عمومية الذي يؤسسها جميعا ويحظى
بصالحية كونية وكلية .وأما البعد الثيولوجي ،فيتمثل في كونها تطابق هذا الكلي
باهلل .وعليه ،فالدور الذي أعطته امليتافيزيقا هلل ال يخرج عن كونه أساسا للوجود
والعلة في عدم ظهور وجود آخر ,إذ أنها تتصوره على أنه علة ذاته التي تؤول إليها
كل العلل األخرى ،واألساس النهائي الذي ال يحتاج إلى أساس إضافي غيره.
لقد كان هذا الفهم سببا في نهاية امليتافيزيقا ومبررا للقول بموت اإلله ،ألن
الوصول إلى هللا من خالل تسلسل العلل واألسباب يجعل إله امليتافيزيقا محايثا
للوجود .بل يجعله جزءا من العالم مفتقرا إلى التعالي ومنذورا لالنهيار واملوت
بمجرد أن ينهار األساس املتافيزيقي .غير أن ليفيناس يؤكد أن نتيجة إقحام هللا
في العالم أفدح من أن تقتصر على فساد فهم معين لإلله ،فهو يقود إلى نتائج
مقلقة على املستوى األخالقي .ذلك أنه يرتبط بتبرير معين للوعي األخالقي ،سبق
لنيتشه أن وصفه بقوى الحقد واالنتقام التي خلقت عاملا ميتافيزيقيا خلف عالم
الحياة ،وباإلرادة املضادة للزمن التي أنشأت عاملا مثاليا من املاهيات ورفعته
إلى منزلة الزمن الحقيقي الذي يجعل النظر في عالم الناس بعيدا عن همومهم
309 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
وانشغاالتهم .1لقد أنتجت املتافيزيقا إلها للجبناء والالمبالين الذي يبرر عجزهم
عن الفعل في العالم وتحمل مسؤوليته .وهو العجزنفسه الذي ينتج عن سيطرة
اآللهة الوثنية وعبادة األوثان ،فبدل سكن العالم الواقعي تلجأ الذات إلى عالم
مثالي وتعتبراملعاناة فضائل من أمرهللا ،سوف تنال الجزاء األوفى في عالم آخر.
لم تخلق امليتافيزيقا إذن اإلله العادل كما اعتقدت ،الذي يسمح بتبريراملعاناة
الواقعة على اإلنسان باألمل في محاسبة عسيرة للظاملين في الحياة األخرى،
وبجعل معاناة الفرد دليال على خيريته التي تؤهله لنيل الجزاء األوفى بعد حين.
بل خلقت أيضا اإلله املنتقم وتخيلت انتقامه املحتمل من األشرار الذي خالفوا
قانون الرب .إنه اإلله الذي تترجمه أوامر أخالقية سلبية ومتناقضة تحض على
الخروج من الحياة من حيث تظن أنها تدعو إلى سكنها ،وتجسده حياة الزهد
والتقشف والتصوف األخرس التي ال تتعدى مستوى مجاهدة النفس ورهنها
بتبريرعذابها األبدي.
لقد وجد نيتشه أن موت اإلله موجه إلى من يفترضون إلها مجهوال وغير قابل
للتعقل ،فدعا إلى تخليص اإلنسان من تبعيته لقوة متعالية تعمل ضده وضد
الحياة .لكنه بدل ردم الفجوة واستثمار موت اإلله نفسها ،سار إلى نفي اإلله
وفسح املجال لإلنسان األرقى .إذ ال تهدف مساءلة نيتشه ملوت اإلله إلى إتمام
املعرفة باهلل ،بل إلى اختزال وجوده في إرادة القوة ،والقول إن كل املعاني الواردة
في الدين هي شكل من أشكال إرادة القوة الكامنة وراءها .ولم يعد هللا بالنتيجة
مضادا للفكر ومستعصيا على املعرفة كما في التنوير ،أو يعيش من تأمل ذاته
كما فهم هيغل أثناء محاولته للتوفيق بين فلسفة الدين والثيولوجيا الفلسفية.
يوافق ليفيناس نيتشه في رفضه إلله امليتافيزيقا الذي يسكن العالم واإلله
املنتقم الذي يتدخل في شؤون الخلق ،أي اإلله املشخص وإله العلية معا.
310
لكنه يرفض أيضا ربط هللا بإرادة القوة
واإلنسان األرقي .ويقترح باملقابل أخالقا لقد وجد نيتشه أن موت اإلله
موجبة ناتجة عن الذاتية املسؤولة ،موجه إىل من يفرتضون إلها
جمهوال وغري قابل للتعقل، أخالق متحررة من الحقد والالمباالة
واالنتقام ،إذ ال تنتقم الذات هنا من فدعا إىل تخليص اإلنسان من
تبعيته لقوة متعالية تعمل جالدها بل تتحمل مسؤولية ظلمه،
وتأخذ على عاتقها مسؤولية االضطهاد .ضده وضد احلياة .لكنه بدل
متقبلة تتحمل ضربات ردم الفجوة واستثمار موت وذلك ألنها ذات ّ
ِ
اآلخرين دون أدنى ردة فعل ،فتعفي اإلله نفهسا ،سار إىل نيف اإلله
نفسها من مشقة االنخراط في الرد وفسح املجال لإلنسان األرىق
على املضطهد أو السعي املتأخر إلى محو
أثره باملسؤولية تقطع الذات مع منطق
االنتقام الذي قاد إلى خلق اإلله ثم قتله في امليتافيزيقا في تقدير نيتشه ،وتسجل
نقطة تحول في تاريخ فلسفة الدين.
الواقع أن ليفيناس يرفض املفهوم املتافيزيقي لإلله ويؤسس عليه في نفس
الوقت ،وبانسجام تام مع نقده ملفهوم «الكلية» ،عندما يبدأ وصفه من نفي
قدرة املعرفة على احتواء داللة األلوهية .لقد بدأت فلسفة الدين فعال من نقد
إله األنوار الذي يبقى مجرد صياغة مفهومية للكلي الذي يتجاوز حدود املعرفة،
ويقود إلى الحياة العملية أو يرجع إلى دائرة الرأي .1فمنذ إصالح مارتن لوثر
والهوة السحيقة بين الوجود اإلنساني املتناهي والتعالي ـ الوجود اإللهي ـ تزداد
اتساعا ،بسبب طرد كل أشكال الوساطة من عقائد وطقوس ووضع الدين في
خانة املتناهي واإلحساس الذاتي الفردي ،فصارت عالقة الذات باهلل موضع رغبة
311 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ورجاء ليس إال .وقد كان لذلك أثارا مدمرة
الواقع أن ليفيناس يرفض على معرفة هللا ،إذ لم يعد فهمه ممكنا إال
املفهوم املتافزيييق لإلله باختزاله إلى مستوى اإلنسان واألشياء،
ويؤسس عليه يف نفس وهو مسار إقصاء التعالي الذي ينتقده
ليفيناس ويقول إنه اختزال هلل في الال�شيء .الوقت ،وبانسجام تام مع نقده
لقد وجدت البروتستانتية الخالص في ملفهوم «الكلية» ،عندما يبدأ
التخلي عن التعالي وسكن الحياة اليومية وصفه من نيف قدرة املعرفة
عىل احتواء داللة األلوهية ودون أدنى إحساس بالذنب ،كما لو أن
هللا لم يعد حيا بالنسبة لها أو مجرد قوة
من قوى الطبيعة .وألهمت بذلك فلسفة
األنوارفكرة تمجيد الواقع املادي حيث يؤسس العقل املتناهي كل تجربة ممكنة.
وبعبارة أخرى ،إن لسان حال الفلسفة وقتئذ يقول إن معرفة هللا غير ممكنة
وتتجاوز حدود الفهم اإلنساني ،وبالتالي يجب اتخاذ اإلنسان نقطة ارتكاز نهائية
وإرجاع كل كالم عن التعالي واأللوهية إلى مستوى الحساسية والظن.
وقد سارت الفلسفة الكانطية بدورها في نفس االتجاه عندما أرجعت هللا إلى
املستوى العملي واألخالق .وقالت إن العقل البشري عندما يرجع إلى ذاته ليفحص
إمكانات املعرفة ويدقق البنيات القبلية للفهم التي تجعل التجربة ممكنة ،ال يجد
ما يستند عليه ملعرفة هللا .وإن املعرفة تكون ممكنة طاملا بقيت ضمن حدود
الواقع الظاهر للتجربة حيث يكون الفهم فعاال ،لكن عندما يحاول العقل مد
املعرفة إلى ما وراء الظاهر أو يدعي معرفة ال�شيء في ذاته ،فإنه يجعل من بنيات
الفكر بنيات للواقع ويسقط في األوهام الترنسدنتالية .وعليه ،فما يسمى دليال
على وجود هللا مجرد وهم ناتج عن مبدأ العلية الذي وظف خارج نطاق صالحيته،
وعن االفتراض أنه ليس مقولة للفهم فقط بل مقولة للوجود أيضا .ينتهي تطبيق
312
مبدأ العلية إلى أن علة العالم توجد خارجه ويسميها هللا ،والحال أن ذلك محض
حكم تأملي للعقل حول موضوع ليس موضع تجربة ممكنة أصال .بمعنى أن العلة
النهائية هذه ليست موضوعا محتمال للمعرفة ،وبالتالي فمعرفة هللا لم تنج من
هجمات املشككين إال بطرد هللا من قالع املعرفة املحصنة.
غير أن كانط عاد وأوجد له مكانا داخل اإليمان والعمل ،إذ أرجعه إلى دائرة
اإليمان حيث يمكن حمايته من مجازفة املعرفة .وساهم بذلك في ظهور فلسفة
الدين الحديثة .1عندما انتفى املبرر النظري هلل ظهر املبرر العملي ،وصار هللا
مسلمة ضرورية في االستعمال العملي للعقل .بدأ كانط بفكرة الخير األخالقي
وافتراض التجربة األخالقية ،وسار إلى القول بضرورة قبلية تسمح بتفعيل األمر
القطعي .إذا كان العقل النظري يحدد املعرفة انطالقا من الحدوس ومقوالت
ً
الفهم ،فإن العقل العملي يقحم مقولة األمراألخالقي في الحياة األخالقية اعتمادا
على الحرية .وبإثبات األمراألخالقي يسلم العقل بفكرة هللا أو يفترض وجودها ،ما
دام ال وجود لواقع يناسبها .لقد أكد كانط أن أخالقية الفعل من الناحية العقلية
الصرفة ال تقوم على طلب املقابل أواملنفعة ،بل على القيام بالفعل بدافع النزاهة
والواجب وحسب .غير أن القيام بالفعل ينطوي على رغبة في تتويجه بمقابل،
مما يضطر العقل إلى التسليم بأفكار ثالثة ،وهي :الحرية التي تعني أن القيام
بالفعل يكون لغاية .والخلود الذي يفيد أن التوفيق بين طبيعتنا املذنبة والخير
املرغوب قد ال يتحقق في هذا العالم .وأخيرا ،هللا الذي يضمن مجازاة الفضائل
بإسعاد من يستحق .وعليه ،ففكرة هللا التي تضمن اإليمان بأن السلوك الخير
سينال الجزاء ،تبقى فكرة مقبولة عقليا ،رغم أن إنسان التنويرال يحتاج إلى أدلة
نظرية إضافية على وجود هللا ،ألنه مقتنع تماما أنه ال يحتاج إلى طريق آخرلوضع
القوانين األخالقية غيرطبيعته العاقلة.
313 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
هكذا استعاد كانط معقولية اإلله من خالل اإليمان ،وعلى أساس البنية
القبلية للعقل في استعماله العملي .وصار بمقدور الفلسفة النقدية أن تحكم
على التراث والعقائد الدينيين ،وتم تعويض مبحث البرهنة على وجود هللا
بالتفكير في الديانات القائمة .وهذا هو موضوع فلسفة الدين عند كانط ومن
سار على دربه ،والذي ال يهتم بأمر معرفة هللا وإثبات وجوده ،بل يعمل على
إنقاذ داللة األلوهية على املستوى العملي وما يتطلبه ذلك من قواعد أخالقية.
اعتبرت الفلسفة النقدية أن الدين معرفة عملية بواجباتنا األخالقية التي تعد
أوامرإلهية ،ورسمت له حدودا ال ينبغي له تجاوزها .بمعنى أن الدين ال يمكن أن
يتضمن شيئا غير األخالق التي يسمح بها العقل العملي .وهو املسلك نفسه الذي
نلفيه عند ليفيناس مع بعض التعديل ،فبعد أن حدد فيلسوفنا معنى وداللة
التعالي انطالقا من املسؤولية ،اتجه إلى تفسير الدين التاريخي وإبراز خصائص
الدين الحق املتجلي في بعض اليهودية .ولنا عودة مفصلة للموضوع الحقا.
لقد أفرزت فلسفة الدين في مشروع «الدين في حدود العقل» معيارا يسمح
بتقييم مدى تطابق عقائد وشعائر الدين التاريخي مع دين العقل .وقامت بتأويل
املؤسسات التاريخية ومعتقدات املسيحية في ضوء العقل العملي ،األمر الذي
جعل عناصر الوحى فيها عائقا كبيرا أمام التأويل ،ألن الوحي يفترض التعالي
ويجعله منه سلطة تتجاوز العقل .ذلك أن القول بالخضوع للوحي واملضامين
املوحى بها يقت�ضي التخلي عن التشريع الذاتي املؤسس للعقل العملي ،1ال�شيء
الذي اضطر كانط إلى التخلي عن الوحي في تأويله للمسيحية ،وعدم االهتمام
بالعالقة بين البشري واإللهي ،العالمي واملتعالي ،ويركز باملقابل اهتمامه على
شخص املسيح التاريخي ،الذي ال يمثل تجليا هلل في نظره ،إنما يمثل نموذجا
واقعيا للمثال األخالقي ،أشبه ما يكون بالقدوة املطلوبة ،ألن الطبيعة املتهاونة
314
والضعيفة لإلنسان تمنعه من بلوغ
النموذج األخالقي للسلوك الذي ينصت اضطر كانط إىل التخيل عن
الويح يف تأويهل للمسيحية، للعقل العملي وحده.
وهذا ما وصفه هيغل بتدهور اإلله إلى وعدم االهتمام بالعالقة بني
البرشي واإللهي ،العاملي مستوى البشر والشؤون البشرية الذي
كان سببا في موته .ودفعه إلى محاولة واملتعايل ،ويركز باملقابل اهتمامه
استعادة املعرفة باهلل ،التي أقصيت في عىل شخص املسيح التارييخ،
الذي ال يمثل تجليا هلل يف فلسفة األنوارعبرإنزال السماء إلى األرض
الدنيا ،من أجل إكمال جدلية الفلسفة .نظره ،إنما يمثل نموذجا واقعيا
للمثال األخاليق اعتبر هيغل موت اإلله املسيحي وموت
اإلله األنواري مجرد لحظات في مسار
انكشاف الفكرة .بمعنى أن اللحظة
الكانطية التي أضفت األخالقية على التناهي وجعلت الالنهائي فارغا ,تعد لحظة
تأسيس للمطلق ،انتقل فيها هللا الى ضده من أجل أن يصيرالتعرف عليه ممكنا.
وثانيا ،أن الدين املسيحي يتضمن مالمح اإلحساس االسطيتيقي للعصرالحديث،
ويسمح بمصالحة اإليمان واملعرفة ،ومن ثمة اإلمساك الفلسفي بمضمون
اإليمان .إن الفلسفة مطالبة باسترجاع املعرفة باهلل ومصالحة املسيحية
باألنوار ،فاإلله الذي مات هو اإلله املجرد وغيرالقابل للمعرفة ،الذي أقدم على
املوت وكشف عن نفسه ألجل أن يكتشفه الناس ويعرفونه .وعليه يؤكد هيغل أن
إحساس موت اإلله صادق وحقيقي ،لكنه في حاجة إلى تأويل في ضوء املسيحية
ألجل تحقيق الحقيقة واتمام مشروع مصالحة السماء واألرض.1
سوف يستثمر هيغل إذن عقائد الدين في معرفة هللا ،ويجعل فلسفة الدين
315 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
جزءا من الثيولوجيا الفلسفية الباحثة
سوف يستثمر هيغل إذن عن غايتها واكتمالها .وباسترجاعه للمعرفة
باهلل ،وأقصد مضمون اإليمان وليس عقائد الدين يف معرفة اهلل،
األشكال التاريخية للدين ،تكون الفلسفة ويجعل فلسفة الدين جزءا
من الثيولوجيا الفلسفية قد رفضت موت اإلله كما تأسس في
الفلسفة الكانطية واألنوار ،وصالحتها مع الباحثة عن غايهتا واكتمالها.
موت اإلله املسيحي ،بل وصالحت املعرفة وباسرتجاعه للمعرفة باهلل،
والوحي الذي جسد الروح املطلق في وأقصد مضمون اإليمان وليس
األشكال التاريخية لدلين،
املسيحية ،حسب هيغل .لقد أعلن الدين
تكون الفلسفة قد رفضت
املسيحي أن الوعي قادر على معرفة هللا
موت اإلله كما تأسس يف
تماما وبدون تحفظ وأال وجود لسرمكنون
الفلسفة الكانطية واألنوار
بعد تحقق هبوط السماوات ،عندما جعل
هللا روحا وليس جوهرا ،وسمح بفصل
املفاهيم الدينية عن املعتقد وجعلها
تشتغل مفهوميا وتأمليا داخل مشروع الفلسفة املثالية .فبينما يبقى الجوهر
كليا في ذاته ال يحتاج إلى خارج ،ال تظهر الروح إال من خالل اآلخر .وهللا بما هو
روح ال يكون إلها فعال إال إذا ترك النهائيته الفارغة ّ
وحل في التناهي قبل العودة
إلى ذاته .لذلك ،تصير فلسفة الدين مطالبة بمعرفة الحقيقة املتجلية في الدين
حيث كشف الروح عن ذاته في املتناهي قبل عودته إليها وإتمام مسارالوعي بذاته.
وعليه ،لم تعد فلسفة الدين عند هيغل مجرد وصف بسيط لإلنسان أو تأويل
بسيط للدين في ضوء معايير عقلية ،تقبل املوافق وترفض املخالف ،وال هي
محاولة للبرهنة على صالحية وجهة النظر الدينية .فما يهم الفلسفة الهيجيلية
من الدين هو عالقة الروح بذاتها املفهومة من زاوية تأملية ،بحيث يكون الوعي
316
الديني تمهيدا لعودة الروح إلى ذاتها.
نقطتان اثنتان تميزان ليفيناس عن هيجل :أوال ،أن األخير أق�صى األخالق من
الدين ،وهذا يعد انتصارا لكانط .وثانيا ،أنه بقي قريبا من الثيولوجيا الفلسفية،
وأفرغ الدين من معناه .وهذه النقطة األخيرة هي التي أبقت خطاب موت اإلله
بعده موجها لكل حديث حول الدين ،حيث جرى نفي قدرة أي تأويل على احتواء
معنى تعالي اإلله والنهائيته .غير أن ما تم نفيه فيها هو التحديد امليتافيزيقي هلل،
بحكم أن موت اإلله تزامن مع نهاية امليتافيزيقا ،ومعها الثيولوجيا والفلسفة
الدينية .بمعنى أنها لم تنف إمكانية أخرى الستعادة معنى التعالي ،خاصة تلك التي
تكون مخالفة للميتافيزيقا وتتيح إمكانية وجود داللة أخرى لإلله .وهو األمرالذي
اضطلعت به فينومنولوجيا املسؤولية األخالقية التي فتحت أفقا آخر للمعنى،
والتي استطاعت توظيف املصادر الدينية دون الخضوع التام لها أو السقوط في
الثيولوجيا الفلسفية واألصولية .لقد استثمرليفيناس أفكارا ومفاهيم مفتاحية
من التراث الديني املعروف تاريخيا من أجل إنقاذ معنى التعالي وهللا ،وأية ظاهرة
دينية مستمدة من المعقول العقائد الدينية .ولم يبق التجربة الدينية حبيسة
اإليمان األخرس العاجز على املستوى العملي أو يسقط في أحضان الثيولوجيا.
يرى فيلسوفنا أن فهم الدين رهين بإخراج الظواهر الدينية من دائرة فلسفة
الدين املنحدرة من فلسفة األنوارومن خطاب موت اإلله الذي يختزلها في املحايثة
ـ االسم اآلخرملا سمي بموت االله ـ ويؤدي إلى اإليمان األخرس العاجزعلى املستوى
العملي.
لم تتمكن فينومنولوجيا املسؤولية األخالقية إذن من إعادة الدين إلى دائرة
املعقولية الفلسفية إال بعد إعادة تأويل مفاهيمه انطالقا من العالقة االجتماعية.
ذلك أن ليفيناس يؤسس مفهوم الدين على املسؤولية األخالقية إزاء اإلنسان
اآلخر ،ويرفض جعله مجرد سبيل لتحصيل الطمأنينة أو وعد بمجازاة الفعل
317 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
األخالقي في الدنيا واآلخرة .كما يرفض مفهوم اإلله املنتقم العادل الناتج عن
ذهنية املقايضة والذي يجعل سلوك الفرد مشروطا بالرغبة في الجزاء .ويدافع
خال من أي وعد أو ثيودسا مطمئنة ،وقادر على تأسيس الفعل باملقابل عن دين ٍ
األخالقي بعيدا عن منطق الربح والخسارة الذي ال يغادر الذات إال ألجل العودة
إليها.
وعليه ،يرفض ليفيناس اعتباراألخالق مجرد تطبيق لتقنيات وطرائق كان هللا
قد شرحها وبسطها عبر كالمه أو على لسان وسطائه ،واكتملت في نسق كوني
جامع من األوامر والنواهي التي تحدد للمرء ما يجدر به فعله ،وتتدخل في كل
حركاه وسكناته .والسبب الذي جعله يرفضها هو أنها ترسخ املسؤولية في يقين
املعرفة وتستلزم العودة إلى التداول والحكم ،وكل ما رفضه ليفيناس عندما
جعل املسؤولية خارج العالم والوعي .بمعنى أن هذا التصور التقليدي لألخالق
يسلبها قدرتها على تأسيس الوجود اإلنساني ،في مقابل أخالق املسؤولية التي
يقول ليفيناس إنها تحتفظ ببعدها الروحي وتبقى منفتحة على الغيرية والالنهائي،
ال تخضع ألي نظام مسبق أو تحديد قبلي ،بل تنصت لنداء الغير وتأتمر بأمره.
وهي أخالقية الذات املتدينة التي اكتشفها فيلسوفنا انطالقا من فينومنولوجيا
املسؤولية.
يصف ليفيناس ميالد التدين داخل املسؤولية ،ويؤكد أنه ال يخص دينا بعينه،
سواء تعلق األمر بدين الفالسفة أو بالدين التاريخي .إذ ال يعتبر أحداث الوحي
تجارب وخبرات مدونة في أي تراث ديني ،وال يهدف إلى تبرير التجارب الدينية أمام
الفلسفة أواإليمان الصامت الذي يحفل به الكتاب املقدس ،ألن الخيارين كليهما
ال يحظى باملعقولية 1في نظره .ينطلق وصف إمكان الدين مما سماه ليفيناس
امليالد املتأخر والخفي للدين في اآلخر ،والذي يسبق االنفعاالت والكالم ،ويسبق
318
التجارب الدينية التي تتحدث عن الوحي
بوصفه انكشافا للوجود .ويؤكد أن ليفيناس يؤسس مفهوم الدين
1
الدين املؤسس على نداء اآلخر ال يقود عىل املسؤولية األخالقية إزاء
إلى التجربة والوعي ،بل ينتهي إلى األخالق اإلنسان اآلخر ،ويرفض جعهل
واملسؤولية الناتجين عن سلبية الذات جمرد سبيل لتحصيل الطمأنينة
أو وعد بمجازاة الفعل األخاليق املأمورة.
يف الدنيا واآلخرة بعبارة أخرى ،ال يعتبر ليفيناس الوحي
الديني شرط إمكان فينومنولوجيا
املسؤولية ،ألن االختزال إلى املسؤولية
هو الذي جعل الفينومنولوجيا قادرة على التعبير عن المعقول مفهوم الوحي.
ويؤكد بالنتيجة ،أن قوله في الدين ينتمي إلى فلسفة الدين وليست إلى الثيولوجيا
أو الفلسفة الدينية .صحيح أنه تحدث عن املوضوعات والتيمات الدينية
اليهودية ،لكنه لم يخضع حديثه ملنطق العقيدة واألصولية ،ألن تحليل املسؤولية
يسمح بتحديد داللة الدين قبل العودة إلى التجربة أو الوحي الدينيين .وعليه،
صارت الظواهر الدينية الخارقة ،التي لطاملا عدت ضربا من الالمعنى في إطار
فينومنولوجيا الوعي ،دالة وممكنة ،خاصة ظواهر الخلق واالصطفاء والكفارة
واإللهام وغيرها .والسيما بعد تجاوز قول بعض الثيولوجين من خالل القطع مع
الذات املكتفية بذاتها في تأسيس املسؤولية ،وتصحيح تصور ثلة من املؤمنين عبر
تجنب االستنباط الحرفي للمضمون التوراتي للمسؤولية.
يقول ليفيناس إنه يستخدم اللغة الدينية ألجل توضيح التعالي والتبعية ،2أي
املؤسسة فينومنولوجيا .ويقصد بذلكلوصف مقتضيات املسؤولية األخالقية َّ
أن تحليالته ال تسير من املسؤولية إلى الدين القائم ،دين مو�سى والرسل ،ألنه ال
-1املصدرنفسه ،ص 115 .وما بعدها.
-2ليفيناس ،ماوراء اآلية ،مصدرسابق ،ص.108.
319 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
يريد أن يتهم بالدفاع عن اليهودية أو يقول
من حيث ال يشعرإن دينا معينا قد تضمن يرفض ليفيناس اعتبار األخالق
جوهر الدين ،وهو يرفض ذلك جملة جمرد تطبيق لتقنيات وطرائق
وتفصيال .بمعنى أن تحليل املسؤولية كان اهلل قد رشحها وبسطها عرب
داخل الخطاب الديني يتم من خارج سلطة كالمه أو عىل لسان وسطائه،
املؤسسات والحقائق والتعابير الدينية .واكتملت يف نسق كوين جامع
وهو األمر نفسه الذي قام به في كتاباته من األوامر والنوايه اليت تحدد
التلمودية التي طعمها بمشروعه الفلسفي للمرء ما يجدر به فعهل ،وتتدخل
يف كل حركاه وسكناته الفينومنولوجي ،كما يؤكد مارك فيسلي.1
اقتفى أثر املسؤولية في التراث انطالقا من
يقينه أن القول باملسؤولية أسبق من كل
حضارة ،وأنه ال يعكس أي نوع من الثقافة أو الحضارة ،بل يتأسس على مراجعة
الجانب الخفي من خطاباتهما.2
دين املسؤولية األخالقية
تأثر ليفيناس أيما تأثر بالفكر اليهودي ،خاصة االتجاه العقالني منه الذي
تلقاه من أستاذه الرابي حاييم بن فولزغان .وهو األثر الذي دفعه إلى اعتبار
أستاذه مثاال نقيا ونموذجا للحس اليهودي والتقوى ،الذي قطع مع إغراءات
السياق التاريخي وتشبث بجذوره وأصالته .عكس اسبينوزا الذي خان رسالة
اليهودية وأدخلها في نظام «الكلية» السائد في عصره .3قال إن فكر فولزوغان
-1أنظر مقال « »Dieu, autrementلصاحبه Marc Faesslerضمن عدد ايمانويل ليفيناس ،دفتر
لهيرن ،صEmmanuel Lévinas. Cahier de l’Herne, N: 60.Editeurs :Catherine Chalier .412 :
.& Miguel Abensour. Editions de l’Herne , Paris, 1991
-2ليفيناس ،خالف الوجود ،مصدرسابق ،ص 256 .و .262
-3ملزيد من التفاصيل حول املوقف من النقد التاريخي للكتاب املقدس يرجى الرجوع إلى مقالة «الحالة
اسبينوزا» ،ضمن ليفيناس ،الحرية الصعبة ،مصدرسابق ،ص.164 .
320
يتغذى من العناصر األنقى في التراث ويواكب روح العصر دون أن يتأثر بأحد من
أعالم الفلسفة الحديثة الذين عاصرهم .يؤكد ليفيناس أنه «اعتمد على النص
املقدس والتلمود في تطويرفلسفته التي لم يتخللها �شيء من فلسفة وعلم العصر
الحديث» ،1وأنه ألهم تالمذته املفهوم اليهودي إلله واإلنسان والعالم املنفتح على
اإلنسانية جمعاء .يعترف فيلسوفنا بمساهمة أستاذه القيمة في إعادة تحديد
مفهوم الدين واملفاهيم املرتبطة به انطالقا من خلفية مزدوجة :املعنى األخالقي
املعبر عنه في الدين التوحيدي ،وخاصة اليهودية ،والوصف الفينومنولوجي
للذات املسؤولة.
وقد جاء هذا التحديد مخالفا للفهم املعاصر للدين ،سواء الثيولوجي أو
الفلسفي .فبعد موت إله امليتافيزيقيا ،أصبح الدين في كل مكان ،وسارت العلوم
اإلنسانية إلى رصد تجلياته في الحياة االجتماعية والخاصة داخل الثقافة املعلمنة.
غير أن التأسيس على املسؤولية األخالقية سوف يحمل مالمح تحول معلمن
مغاير ،ال يقوم على نظرة تبسيطية للدين أو يعود إلى تحديدات حسم العصر
في أمرها .بل يتوقف عند بعض إمكانات املعنى املهمة في الدين ويستثمرها في
تأسيس أخالق املسؤولية .انطلق ليفيناس في تعريفه للدين من الذات املسؤولة،
ومن رفض مفهوم اإلله املحايث للوجود ،يقول« :أخصص لفظة الدين )للداللة
على( العالقة بين الوجود هنا واملوجود املتعالي التي ال تنتهي إلى مفهوم أو «كلية»،
العالقة )التي تتم( بدون عالقة» .2ويعني بذلك أن الدين يختص بالحياة الخلقية
والعالقات بين البشر ،حيث يوجد أثرالتعالي وصفاته ،يقول إن «الدين الحق هو
الذي نفكرفيه انطالقا من إلزام وأمركالم هللا املبثوث في وجه اإلنسان اآلخر».3
321 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
لم يعد هللا نتيجة لذلك جوهرا أو كيانا مشخصا من شأنه أن يسكن األفهام
واألماكن املقدسة ،أو يتدخل في شؤون الخلق وينوب عنهم في عمارة العالم ودحر
الشرور ونصرة املظلوم .كما كان الحال في زمن الخرافة وعبادة األوثان وتم نفيه
بالرسالة اإلنسية للتوحيد ،التي تجعل األخذ بالرسالة أكثر قداسة من التقليد
الحرفي .ذلك أن فيلسوفنا يؤكد أن التأويل فعل تاريخي لصيق بواقع الناس
وحياتهم املعاشة ،1وينطوي على نوع من اإللحاد الذي يفرض على كل الشخص
تناول التوراة ودراستها .إن التأويل هنا ،وليس الطاعة العمياء ،هوما عرفه اليهود
طيلة تاريخهم وحفظوه في التلمود ،والدليل على ذلك أنهم ركزوا اهتمامهم على
الخدمة التي قدمها الرسل واألنبياء للناس بدل تقديس األشخاص وتقليدهم.
يقول ليفيناس إن «العودة إلى التراث ليست خضوعا إنما هيرمنوطيقا» .2وهواألمر
ُ
نفسه الذي تؤكده فينومنولوجيا املسؤولية ،فعندما خلقت الذات املسؤولة
وجدت نفسها يتيمة منذ امليالد ،تجهل سر الخلق ومعناه ،وحتى إن هي عرفت
منه بعضا وجدت نفسها مطالبة بالبدء من جديد .إذ ال شأن لها بتأكيد وجود
هللا أو معرفته ،3ألن التأكيد يعد إمساكا بالتعالي ونفيا للمسؤولية األخالقية،
ومن ثمة تأسيسا للعنف.
يرى ليفيناس أن تأويل الدين اليوم ال يمكن أن يناقض مكتسبات العصر
وروحه من تقنية وعلمانية ،ألن مسار التحرر واإلنسية ،الذي أنتج التقنية
والعلم ،بدأ مع التوحيد الذي قطع مع عبادة األوثان التي تشل الفكر والعمل.4
لقد سبق التوحيد عقالنية العصر الحديث إلى دحر املفهوم الوثني لإلله ودين
الخرافة واملشاركة .يقول في هذا الصدد :إن «التقنية كحضارة تنسف آلهة
322
الوثنية ،إذ تعلمنا أن اآللهة جزء من
العالم ،ومن ثمة إنها أشياء ،وأن تكون يرى ليفيناس أن تأويل الدين
اليوم ال يمكن أن يناقض اآللهة أشياء فذلك يعني أنها ال �شيء.
بمعنى أن العلمنة التقنية تعد جزءا مكتسبات العرص وروحه من
من تقدم العقل اإلنساني لكنها ليس تقنية وعلمانية ،ألن مسار
التحرر واإلنسية ،الذي أنتج 1
نهايته».
تنسف التقنية إذن املفهوم الخرافي التقنية والعلم ،بدأ مع التوحيد
لإللهُ ،وتتمم مشروع النبي إبراهيم الذي قطع مع عبادة األوثان
اليت تشل الفكر والعمل مؤسس التوحيد ،الذي حطم املفهوم
الوثني لإلله .إن إبراهيم لم يحطم
تماثيل من الخشب والحجارة وحسب،
بل حطم مفهوم اإلله الذي يعفي البشر من مسؤوليتهم األخالقية إزاء العالم
واآلخرين ،والذي يقوم على االعتقاد أن هللا موجود في الطبيعة والتاريخ البشري
ألجل قضاء بعض األغراض اإللهية .ذلك أن اعتقادا كهذا يجعلنا مستعدين
للتنصل من مسؤوليتنا األخالقية والتيقن أن كل ما يحصل في العالم إنما
يرجع إلى مصدر فوق طبيعي ،فيكون بذلك ذريعة دينية للقيام بالفعل وربما
العنف .إن ما نحتاجه اليوم في نظر فيلسوفنا هو اإليمان املطهر من الخرافة
ّ
املشرعة التي واألسطورة ،سواء األساطير الوثنية أو أسطورة الذات املستقلة
ِ
رافقت األنطوثيولوجيا.2
يغيب هللا عن كل تحديد يمكن وضعه له ،وبشكل يمنع من ادعاء تملكه
والحديث باسم ،فكالمه وأمره يتجاوزان املفهمة والخطاب .والرغبة التي ال
-1ليفيناس ،هللا ،املوت والزمن ,ص.194 .
.E. Levinas, Dieu, la mort et le temps. (Le Livre de poche) Grasset : Paris,([1993) 2006
-2ليفيناس ،الكلية والالنهائي ،مصدرسابق ،ص.75 .
323 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
تدرك موضوعها ،الكامنة في العالقة باهلل
والالنهائي ،تتحول إلى دعوة إلى العمل يربز ليفيناس إذن هتافت الكالم
باسم اهلل وادعاء امتالك والعطاء .بمعنى أن اإلقرار بأن أمر هللا
يتجاوز كل مفهمة ،يقت�ضي التخلي عن حقيقة كالمه واالستماتة يف
ادعاء امتالك حقيقة األلوهية والكالم الدفاع عهنا ،وكل ما يحدثه
باسمها .صحيح أن الفعل استجابة ذلك من عنف وتعصب ،ويؤكد
باملقابل عىل رضورة العودة إىل
لندائه األخالقي الذي يترجم على نمط
النصوص ودراسهتا يف ضوء
األمر القطعي الكانطي ،وأنه صادر عنه
واقع الناس
بطريقة ما أو أنه تحديد ناتج عن حضوره
في الذهن .إال أن تبعية الذات وانكسار
االستقاللية يجعالن كل فعل نسبيا وناقصا قياسا إلى ما يجب أن يكون ،ويمنع
من ادعاء اليقين بمعرفته .وهو األمر الذي يفسر سر تأجيل الجزاء ومعرفة
حقيقة الفعل في الدين التوحيدي الذي غادرهللا فيه عالم الفانين مؤجال حكمه
على التاريخ إلى حين .رغم أن ليفيناس ال يقيم قوله هذا على مقولة الخلود ،فإنه
ال يلتزم أيضا بدرس الحداثة في التاريخ ،الذي ال يتجه في نظره إلى املستقبل وإنما
يصدر عن ماض غير قابل للتذكر وعن أثر الغياب الذي تخلفه فكرة الالنهائي في
الذهن.
يبرز ليفيناس إذن تهافت الكالم باسم هللا وادعاء امتالك حقيقة كالمه
واالستماتة في الدفاع عنها ،وكل ما يحدثه ذلك من عنف وتعصب ،ويؤكد
باملقابل على ضرورة العودة إلى النصوص ودراستها في ضوء واقع الناس ،ألن
النص بالنسبة له كائن تاريخي لصيق بهموم الناس وحاجاتهم ،والتلمود عبارة
عن خليط من آراء الدارسين الذين يعد جواب الواحد منهم سؤاال بالنسبة
لآلخر .يفتحنا هذا الفهم على نظرية جديدة في تفسير النصوص الدينية ،تكون
324
قادرة على ضمان االختالف والتجديد وعدم تثبيت الحقيقة في زمن بعينه أو على
لسان شخص محدد ،أو جعلها أكثر قيمة من اإلنسان .فكالم املجتهد ،مهما بلغ
هذا املجتهد من العلم واملعرفة ،يبقى قاصرا وعاجزا عن احتواء معنى ألوهية
والتعالي .يقول ليفيناس إن هللا ال يحضرفي نص أوقول ال يهلم الناس سبل الفعل
أو ينضاف نيرا آخر على رقابهم ،ما دامت الفلسفة الناتجة عن الحوار مع التراث
الفلسفي والديني «حكمة محبة في خدمة املحبة».1
إن هللا اسم آخر ملا يجمعني بالغير من االلتزامات التي تتجلى حصرا في الفعل
األخالقي والعالقة االجتماعية ،ألن املوقف من العنف والشر إزاء الذات والغير
حاسم في فهمنا هلل؛ قد يستغل البعض التبرير العقالني هلل من أجل تسويغ
تملصهم من املسؤولية إزاء اآلخرين ،أو يعمل البعض اآلخر على تطبيق صفات
هللا حرفيا وإقحامه في شؤون البشر أمال في تبرير معاناتهم ويعيشون مستلبين
في عالم غريب عنهم ،وكالهما عنف إزاء اآلخر وهللا .يتحدث ليفيناس عن وجه
اآلخربصفته داللة «إلى ـ هللا» ،à-Dieu2أو ما يمكن ترجمتها بـ ـ «أستودعك هللا»،
والتي تختلف جذريا عن ظهور هللا للوعي ،ألن هللا مفارق للعالم وألن الوجه اآلمر
باملسؤولية ال يسمح بكشف هللا للوعي أو بترجمته في معرفة أو مفهوم.
يقول ليفيناس إن افتراق هللا عن العالم هو عين قداسته التي تجعله موضوع
رغبة غير قابلة لإلشباع .والقداسة هنا مفهوم استعاره فيلسوفنا من اليهودية
وطوره في سياق محاولته للخروج من األنطولوجيا .ويفيد أن هللا مفارق للعالم
الذي تجعله األنطولوجيا أفقا جامع للمعنى ،وأنه مفارق لألنا أيضا التي تندرج
هي األخرى في العالم وتتغذى منه .وما دام هللا قداسة فهو ينسحب من العالقة
التي يظهر فيها تاركا أثره الذي يحدث اإلحساس الالنهائي به ويحث على الفعل
325 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
األخالقي .يرفض ليفيناس استخدام مفهوم املقدس في وصفه هلل ،ألنه يعتبر
القول باملقدس خيانة للقداسة وصورة مناقضة ملعنى األلوهية .1إن القول
باملقدس يجعل هللا حاضرا في الطبيعة وينتج الوثنية ،فالشعوذة والعرافة ،بما
هما عالقة باملقدس ،توظفان اإلحساس والصور في جعل العالقة باهلل نوعا
رديئا من املعرفة .إن الغاية من التشديد على صفة القديس ،عوض املقدس ،هي
التأكيد على أن هللا يغيب عن كل عالقة حقيقية به ،وأن استحالة معرفته تفتح
املجال للفعل واملسؤولية.
يتبنى ليفيناس بذلك روح اإللحاد السائدة في عصره ،إذ يقول إن «فكرة
الالنهائي ،أوالعالقة امليتافيزيقية تمثل فجرا لإلنسانية الخالية من األساطير .لكن
اإليمان املطهرمن األساطير ،أي اإليمان التوحيدي ،يفترض اإللحاد امليتافيزيقي
نفسه ) (...إن اإللحاد يشرط العالقة الحقة باإلله الحقيقي» .2لكنه يعيد تعريف
اإللحاد انطالقا من تعريف مغاير للذات املتدينة ،ويقول إن إلحاد الذات ناتج
عن دين املسؤولية وعن شرط املخلوق القادرعلى الفعل وتقريراملصيرباستلهام
التعالي وهللا .بمعنى أنه ال يقصد أن الذات تكفر بعقيدة أو تنفي وجود هللا ،ألن
إلحاد الذات ينتج عن جاهلها بأصلها وعجزها عن تشكيل صورة خالقها أو
ترجمته إلى فكركلي .إن ما تكفربه الذات هنا هو ادعاء اكتمال الحقيقة اإللهية
والقدرة على نقلها كاملة إلى أفهام الفانين وأقوالهم.
تبقى الذات متأخرة دائما في إجابة نداء اآلخر ،أي أنها ال تبادر بالفعل إال بعد
فوات األوان ،وتأخرها هذا يجعلها في عالقة بما ال يمكن التقاؤه أو بلوغ نهايته.
إن حضور الالنهائي في الذهن يتجلى من خالل االستمرار األبدي في طلب إجابة
نداء الوجه باملسؤولية ،وهواملطلب الذي يصفه ليفيناس ب ــ«مجد اإلله» ،ويقول
-1ملزيد من التفاصيل حول هذا التمييز املفهومي أنظر :ليفيناس ،من املقدس إلى القديس.
E. Levinas, Du sacré au saint. Cinq nouvelles lectures talmudiques. Minuit : Paris, 1977
-2ليفيناس ،الكلية والالنهائي ،مصدرسابق ،ص.75 .
326
«إن املجد رغبة طويلة املدى» .1والقصد
فكرة الالهنايئ ،أو العالقة من االستمرار هنا هو نكران كل مبررات
امليتافزييقية تمثل فجرا الفعل التي تنطلق من تحديد نهائي ومن
لإلنسانية الخالية من هوية منغلقة تضع املختلف في منزلة
العدو أو الال�شيء؛ قد تقوم على النسب األساطري .لكن اإليمان املطهر
من األساطري ،أي اإليمان أو االنتماء أو الدم .وعليه ،فاإللحاد ال
يعني رفض وجود هللا أو نكرانه ،إنما التوحيدي ،يفرتض اإللحاد
امليتافزيييق نفسه ) (...إن رفض حصره حضوره وفعله في مجال
محدد وجعل رحمته تتجلى في العمل على اإللحاد يرشط العالقة احلقة
باإلله احلقييق نجدة فئة مختارة من الناس .إنه نفي
الحتكار الحديث باسم هللا أو خصخصة
نعمه كما هو الحال في بعض األفهام.
ال يؤسس ليفيناس مفهوم اإللحاد إذن على مفهوم السلبية الفلسفي
وحسب ،إنما يستنبطه أيضا من املفهوم الديني للخلق ويعيد تعريفه في نفس
الحركة .فالذات املخلوقة مدعوة إلى الوجود قبل أن توجد ،ألنها ناتجة عن ميالد
خفي في السلبية التي تسبق استقرار الذات نفسها .يقول ليفيناس إن معجزة
الخلق ال تتأسس على وعي عارف أو أنطولوجيا ،2ويقصد بهما صورة العالم التي
تؤسسها الذات لنفسها وتمنحها طابع الكونية ،بل تنتج عن الذات املسؤولة
التي لم تحضر أبدا لحظة الخلق ،وعن السلبية املطلقة التي يتعذر تحولها إلى
مؤسس ،وتمنع املخلوق من ادعاء السيادة على العالم أو امتالك حقيقته. فعل ّ
ِ
يقلب مفهوم الخلق ،الناتج عن أخالق املسؤولية ،سؤال املتافيزيقا القائل« :ملاذا
كان هناك وجود وليس ثمة عدم؟ ،بل يضع إمكانية السؤال نفسها موضع شك،
-1ليفيناس ،هللا الذي يتبادرإلى الذهن ،مصدرسابق ،ص.120 .
-2ليفيناس ،خالف الوجود ،مصدرسابق ،ص.174 .
327 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ويهدم أسطورة األصل وادعاء تحديد
أصل العالم .إذا نظرنا إلى الخلق من ال يؤسس ليفيناس مفهوم
1
328
له من العدمية والعنف .ذلك أن التحليل ينطلق من سياق فلسفي محض
ومن موقف شكي بعيد عن كل منزع عقدي أو أصولي .صحيح أن فينومنولوجيا
ليفيناس وريثة التقليد الديني وتستخدم قصصه ولغته ،غيرأنها تتجنب التأويل
األصولي والثيولوجي ملفاهيمه كما أسلفنا .إن مفهوم الخلق يحمل داللة أقدم من
مطابقة الوعي ملوضوعه املؤسس للفعل واملسؤولية في التصور التقليدي ،بمعنى
أن سر الخلق ،الذي تجاهله التأويل التقليدي ،وتناسته املعقولية املتافيزيقية
التي قادت إلى الفهم الثيولوجي ،قد ظهرمع فينومنولوجيا املسؤولية التي حطمت
أسطورة األصل.
يرى ليفيناس أن اتخاذ مسافة نقدية إزاء التأويل التقليدي ملفهوم الخلق،
يسمح بإنقاذ الدين من التبخيس الذي لحقه فيما سمي بعصر ما بعد الحداثة،
وتؤكده العودة الدموية للدين .فهوال ينزع عن النص الديني سلطته وضرورته ،بل
يعيد النظرفي تأويالته من أجل فسح مجال أرحب لالجتهاد والتجديد ،ألن الخارج
عن الجماعة في نظره يبقى جزءا منها مهما بلغت درجة اختالفه عن املسموح به
من قبل السلطات السائدة .إن املختلف هو العضو املسؤول في الجماعة الذي
اختار حمل األمانة وجدد فهمه الدين وفقا ملتطلبات العصر وحاجات الناس،
فكان بذلك خيرمن أحيا رسالة األنبياء.
ولعل املثال الذي يتجلى فيه خروج قراءة ليفيناس ،ملفهوم الخلق في التراث
اليهودي املسيحي ،عن جماعة املؤولين قصة النبي أيوب الكتابية .يعتبر التأويل
الثيولوجي للقصة أن النص ُو ِجد لتبرير معاناة اإلنسان من األلم والشر وإثبات
خيرية التدبير اإللهي وحكمته .بمعنى أن التناقض الذي يكتنف سؤال :ملاذا
يعاني إنسان بريء؟ يجعل اإليمان باهلل قبول لتدبيره .رغم أنه يجهل سبب
األلم وحكمته ،فإنه مطالب بالتسليم بعدل هللا ورحمته .بينما يعتبر ليفيناس
النص حجة ضد الفالسفة امليتافيزقين واملثاليين الذين تجاهلوا معنى الخلق ،إذ
329 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
يقول« :أفكرباسم حرية األنا ،كما لو أنني شاهدت خلق العالم ،وعلي أن أتحمل
مسؤولية العالم الذي نتج عن إرادتي الطبيعية .تلكم فرضيات الفالسفة،
وفرضيات املثاليين ،أو املراوغات غير املسؤولة منهم .وهذا ما آخذ الكتاب أيوب
بشأنه» .1إن املؤاخذة املقصودة ههنا هي املعبر عنها في سفر أيوب 4:38بالسؤال
التالي« :أين كنت حين أسست األرض؟» ،والتي يفسرها ليفيناس باستحضار
تأويالت التلموديين لشرط املخلوق .ويؤكد أن املسؤولية التي بحث عنها أيوب
في ماضيه املشرف ال يمكن اكتشافها .عندما سأله هللا «أين كنت حين خلقت
ّ
العالم»؟ كان يذكره بمسؤوليته األخالقية إزاء العالم .قال هللا أليوب« :رغم أنك
حر فأنت لست املوجود املطلق ،لقد أتيت بعد عدد من األشياء والناس ،وأنت
مسؤول عن الكل .إن حريتك هي أيضا أخوة .2بمعنى أن أيوب أوخذ بسبب نسيان
الداللة األخالقية للخلق التي تعني تأخره عن العالم الذي هومسؤول عنه .وعليه،
فالتناقض املشارإليه أعاله ناتج عن االعتقاد باالستقاللية واألسبقية ال غير .وهي
املؤاخذة نفسها التي يدفع بها ليفيناس ضد الفلسفات املتافيزيقية واملثالية التي
جعلت جذرها في الحرية والوعي املؤسس لذاته وللعالم ،وجعلت مسؤولية املرء
ال تتعدى ما خلقه ،متجاهلة التأخرالكامن خلف الخلق الذاتي.
َ
يقول التأويل الشائع للنص التوراتي إن أيوب إنسان بريء يعاقب دون
أن يكون قد اقترف ما يستحق عليه كل تلك املعاناة ،وإنها ظلم وفضيحة في
النص يقودان إلى إيمان أعمى بعدالة اإلله الذي تكلم انطالقا من مكان سري
ومجهول .ويؤكد أن معاناة أيوب ،رغم أنها غير عادلة في تقدير الفانين ،تدعو إلى
اإليمان بأن هللا عادل ويعلم ما ال نعلم ،وأنها بالء واختبار إليمان أيوب .والحال
أن هذا التأويل يقول نصف الحكاية فقط ،يؤكد ليفيناس في معرض تحليله
-1املصدرنفسه ،ص.194 .
ليفيناس ،أربع قراءات تلمودية ،صE. Levinas. Quatre lectures talmudiques. Minuit: .182 .
-2
.Paris, 2005
330
الفينومنولوجي لقصة أيوب وملعاناته
املجانية وغير املبررة .إن قدر أيوب يقول التأويل الشائع للنص
يحظ بالتبرير العقلي املقنع ،التورايت إن أيوب إنسان بريء الذي لم ْ
يعاقب دون أن يكون قد اقرتف َ أو املتعذر فهمه انطالقا من عدالة هللا
ما يستحق عليه كل تكل الغائبة عن أفهام الفانين دون الوقوع في
التناقض ،يمكن أن يفهم أخيرا انطالقا املعاناة ،وإهنا ظلم وفضيحة يف
من املسؤولية األخالقية والذاتية الحقة .النص يقودان إىل إيمان أعىم
إذ يمكننا ،في العالم املنظور ،أن نفهم بعدالة اإلله الذي تكلم انطالقا
من مكان رسي وجمهول
سبب أخطائنا ونتقبل املعاناة طواعية،
غير أن أيوب ال يمكنه تذكر أخطاءه ألن
الذاتية الحقة تأتي بعد العالم الذي لم
يكن وليد مشروعها وال يتم عبرالشروع أصال .والتأخرهنا ليس فاقدا للمعنى ألن
الحد الذي وضعه ليفيناس لحرية الذات ال يختزل فيما هوسلبي خالص .إذ يقول
في« :أن تكون مسؤوال قبل ووراء الحرية ال يعني ،بالتأكيد ،أنك تظل نتاجا خالصا
للعالم» ،1إي لصورة العالم التي نكونها ألنفسنا وملا نعتقد أنه العالم املمكن
الواجب الوجود .إن املعنى األخالقي لقصة أيوب ينطلق من املسؤولية عما لم
تنويه أو تفعله أو تقترفه الذات ،ألنه لم يكن مجرد إنسان بريء بل كان مخلوقا
جاء متأخرا إلى العالم ويتحمل مسؤوليته ،وتلك خطيئته ومرد إدانته الذي لم
يتمكن من اإلقرار به .بمعنى أن املسؤولية ال تتوقف عند حدود ما اخترناه من
مشارع وأفعال ،بل تمتد إلى العالم املوجود قبلنا ،وأن فعلنا ليس نهاية الحكاية أو
خالصة الحق عبرإحقاقه ،ألن الفهم يبقى جزئيا والفعل محض تقرب ومحاولة.
وقد استثمر ليفيناس حقيقة نقصان الفهم وحيرته في إعادة تحديد مفهومي
331 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
النبوة والشهادة انطالقا من املسؤولية
استثمر ليفيناس حقيقة األخالقية .1وقال إن الذات املسؤولة
َّ
نبية ،ليس ألنها تلقت رسالة من هللا أو نقصان الفهم وحريته يف إعادة
تحدثت باسمه فبسطت علمه وفضله إلى تحديد مفهويم النبوة والهشادة
الجماعة ،وجعلت النطق بكلمة «هكذا انطالقا من املسؤولية األخالقية
قال الرب» من الرسول نفسه وسيطا
يصل بما يقول ومن كالمه كالما هلل .يقول
فيلسوفنا إن «الكلمة التي يظهر هللا من خاللها ليست تعريفا له أو إحاطة به أو
كالما له على نمط املفهمة واملوضعة ملا أختبره املرء منه .إن الشهادة التي تجسد
الالنهائي ليست خبرا أو عبارة أو عرضا من أعراض تجربة املجد والالنهائي» .2إنما
هي داللة مبثوثة داخل الكالم دون وعي من قائله ،ونبوة قابلة للترجمة فاعلية
الذات إزاء اآلخرين والعالم .والنبي الحقيقي هو الذي يسمع القول ويبلغه من
خالل القيام بفعل ما ،لكن فعله هذا يبقى غيرقادرعلى االمساك كليا بما يسمع
وال بمصدره.
إن الشهادة في نظر فيلسوفنا ليست مشروعا أو مخططا للعالم صنعه هللا،
وال هي دليل على وجوده ،ألن ذلك يجعل هللا عالمة يمكن تملكها وصياغتها في
مفهوم ،وفعل قصدي يطابق ما يدل عليه .وألن «هللا يتجلى من خالل الوجه الذي
ليس عالمة أو ظهورا لواقع ما ،بل هو �شيء غيرمرئي» .3إن كل محاولة الستنباط
الدليل على وجود هللا من املسؤولية لتعد خيانة للوجه ونسيانا لالنهائي الذي
ترك أثره فيه .ألن الشهادة ال تفسركمعرفة باملنادي عبرالوجه ،بل تعني أن هللا ال
يحمل محمل املوجودات وال يدخل في انفتاح املوجود مخافة نسيان التعالي الذي
-1أنظر ليفيناس ،خالف الوجود ،مصدرسابق ،الصفحة 233وما بعدها.
-2املصدرنفسه ،ص.229 .
-3املصدرنفسه ،ص.149 .
332
جعله فعاال في العالم ،إن هللا ال يتدخل في الوجود .1بعبارة أخرى ،أن هللا ال يدعو
املرء إلى الوجود اإلالهي ،بل إلى الخيروالعالقة الخلقية بالناس.
تتجلى خيرية هللا إذن من خالل انسحابه من الوجود وتوجيه االهتمام إلى
اآلخرين ،وفقط في سبيل الخير .2إنها ال تتمثل في وجوده أو في �شيء قد يظهر منه
للوعي ،أي ال تقود إلى إله أفالطون الذي يسمح بمعرفته وتمثله ،بل هي أقرب
إلى الخير في اليهودية واملسيحية ،والدين التوحيدي عموما ،حيث اإليثار ونكران
الذات والرغبة املتوجهة إلى اآلخر .إنها الخيرالذي يلهم الذات املسؤولة ويخترقها
أثناء خضوعها للخيرالخفي.3
ينطوي مفهوما النبوة والشهادة على مفهوم مغايرلإلنسانية .إنه املعنى الروحي
العميق الذي يجعل من اإلنسان جوانية مثقلة باملسؤولية إزاء العالم واآلخرين.
يحمل اإلنسان ّ
وقد وضحه ليفيناس من خالل املفهوم الديني للنفس الذي ِ
أمانة العالم ويجعله راعيا له دون أن يكون أصال له أو سابقا عليه أو وليد األنا
املفكرة .4ففي تأويله ألية نفخ الروح التوراتية ،5يقول فيلسوفنا إن نسمة الحياة
ال تعني أن هللا بث الروح في اإلنسان ،بل تقول إنه صارنفسا حية من بين عدد ال
يح�صى من العوالم املمكنة ،وأن حركاته وسكناته تعود إلى النفس فتجعل منه
ونف َسه الحية .بمعنى أن اإلنسان يتحدد كمهمة وفاعلية قبل قوة العالم املمكن ْ
أن يكون ماهية أو كيانا خاصا وجاهزا .وبما أنه نفس حية تحرك العالم ،فإن
مصيرالعالم يتوقف على قراره ،وعليه أن يضطلع بمسؤوليته .يمكن تأويل كلمة
«نفسا حية» أنطولوجيا فتصبح مرادفة للوجود ،لكنها وردت في النص كاسم تم
-1املصدرنفسه ،ص.151 .
-2ليفيناس ،هللا الذي يتبادرالى الذهن ،مصدرسابق ،ص.114 .
-3ليفيناس ،خالف الوجود ،مصدرسابق ،ص.187 .
- 4ليفيناس ،ما وراء األية ،مصدرسابق ،ص.196 .
-5يتعلق األمر باألية 2:7من سفر التكوين :التي تقول« :وجبل الرب آدم ترابا من األرض ونفخ في أنفه
نسمة حياة ،فصارآدم نفسا حية».
333 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
تعديله بالنعت الذي يليه ،فصارت النفس نتيجة لذلك حياة وعيشا في العالم،
وجعلت من اإلنسان نفسا للعالم منظورا إليه من زاوية الحياة الفعلية .بمعنى
أن اإلنسان مؤتمن على العالم ،يحركه ويقرر مصيره ،وهذا هو معنى الذاتية
املسؤولة.
يرى ليفيناس أن حمل اإلنسان لألمانة يجعله خليفة هلل في األرض ويعطى
معنى جديدا لالستخالف في األرض .يمثل اإلنسان نفس العالم الحية التي تحدد
مصيره ،ألن هللا خلقه على صورته ومنحه القدرة على الفعل األخالقي .وعليه،
فالسيادة الربانية انتقلت إلى اإلنسان وجعلت منه خليفة يتحمل ثقل العالم
ويضطلع بمسؤولية تخليصه من الظلم .لذلك تكون سيادة اإلنسان على العالم
فعلية وفعالة ،بمعنى أنها ليست قدرة عشوائية ومطلقة تما َرس بمعزل عن
أثر هللا فيها ،إنما قدرة خاضعة دوما لألوامر والوصايا التي يحدد االنصياع لها
مصير الوجود ،فتنفيذ أوامر هللا هي مكابدة للعالم و»خشيته خشية من أجل
اآلخرين» .1إن طاعة اإلنسان أو عصيانه يحددان وجه العدالة في العالم ،ال يقر
اإلنسان بطاعته وجود هللا وال يؤثر عصيانه فيه ،بل يخرب العالم وحسب .كل
�شيء بيد هللا إال خشية هللا ،يؤكد ليفيناس.
كما سمح مفهوم االستخالف بتدقيق مفهومي االصطفاء والتكليف ،ومن ثم
مقولة شعب هللا املختارالتي حملت من املعاني ما يخالف حقيقتها الدينية .يقول
ليفيناس إن «تعاليم الكتاب املقدس ليست تقريظا لشعب نموذج» .2إن التكليف
يعني ،أوال وقبل كل �شيء ،أن الذات قد منحت هوية متفردة جذريا تجعل منها
ذاتا مختارة ومصطفاة .وهذه الهوية تسبق مطابقة الوعي لذاته وتجبر األنا على
تلبية نداء اآلخر .يقول ليفيناس إن االصطفاء هو الذي «يخلصني من املفهوم
َ ُّ
الذي ألجأ إليه عادة من أجل ت َمثل ثقل اإللزام الذي يدعوني إلى الجواب غير
-1املصدرنفسه ،ص.195 .
-2ليفيناس ،الحرية الصعبة ،مصدرسابق ،ص.208 .
334
القابل لوصف بالكلي ،إلى الجواب غير
املتوقع من مختار» .بمعنى أن املطالبة يرى ليفيناس أن محل اإلنسان
1
بالجواب الكامنة في االصطفاء توجه إلى لألمانة يجعهل خليفة هلل يف
كل فرد شخصيا وبشكل منفرد ،وليس األرض ويعطى معىن جديدا
إلى السيد كل الناس الهيدغيري .فيشعر لالستخالف يف األرض .يمثل
املصطفى كما لو أن نداء الالنهائي اإلنسان نفس العالم احلية اليت
موجه إليه وحده وأنه املوجود الوحيد تحدد مصريه ،ألن اهلل خلقه
املعني به في العالم .إن االصطفاء هنا ال عىل صورته ومنحه القدرة
عىل الفعل األخاليق يحمل وعدا بالخالص الفردي أو يشرح
املصير بعد املوت ،وال يبرر مطالبة أمة
ببقعة من أرض هذا العالم ,بل يدل على
أن الذات متفردة في تكليفها باملسؤولية .ذلك أن الذات مصطفاة للمسؤولية
ومكلفة بها قبل أن تكون حرة في اختيار االضطالع بها ،مكلفة إزاء نفسها والعالم
بغض النظر عما إذا كانت تستحق هذا االصطفاء أو مدى قدرتها على تحمل
مسؤوليته .إن جواب املسؤولية غيرمقرون باملقدرة واالستطاعة ،وال يحق ألحد
أن يتذرع بعجزه وقلة الحيلة ،ألن الذات رهينة نداء اآلخر ،يؤكد ليفيناس .تجعل
املسؤولية من الذات رهينة لالنهائي ،الذي لم تختبره أو تفهمه بل تشهد بمجده
2
وعظمته وحسب .وتجعلها تعويضا لآلخرين ،ووحيا وتجليا يحمل أثر ومجد هللا
الذي ينقل التدين إلى مستوى الفعل الخلقي ويحصره فيه.
يضع مفهوم االصطفاء إذن معيارا للفعل اإلنساني الناتج عن املسؤولية .فما
دامت الذات مخلوقة بفعل النداء ولم تكن قبله شيئا ،وكانت املسؤولية أمرا
أخالقيا صادرا عن وجه اآلخر وسابق على األنا التي تتلقاه ،فإن الجواب املمكن
-1ليفيناس ،خالف الوجود ،مصدرسابق ،ص.195 .
-2املصدرنفسه ،ص.177 .
335 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
هو الذي نطق بها األنبياء وجسدوه في
أفعالهم .ويقصد به جواب مو�سى لنداء يؤكد ليفيناس أن إجابة النداء
ربه في الجبل ،عندما نطق بـكلمة «هأنذا» تمثل عالقة باملعىن السابق
التي تحمل معنى سلبية التلقي وضرورة عىل اخلطاب ،وعالقة بدون
الفعل ،ألن مو�سى تجنب ضمير الفاعل حوار قد يجمع طرفني يف حلظة
واحدة .بمعىن أهنا عالقة واستخدم صيغة املفعول املتلقي .يقول
ليفيناس إن هناك تكليف بهوية ألجل متجهة إىل اآلخر وعطاء مطلق
جواب املسؤولية؛ عندما ال يجد املرء من ورعاية موصولة ،بل عالمة
يعوضه دون أن يكون قد اقترف الخطيئة ،عىل استحالة أن يعوضنا أحد
يف تحمل املسؤولية فإن الجواب الوحيد املمكن هو «هأنذا»،
الذي يجعل ضميراملتكلم مفعوال ال فاعال،
ويجسد الطاعة التي يقدم فيها املرء نفسه
فداء لآلخرين .إن «كلمة األنا تعني «هأنذا» التي تجيب أي �شيء وأي واحد»،1
وبجوابه تتحدد هوية الذاتية املسؤولة .وهو املعنى الذي يعبر عنه ليفيناس
بتوظيف حكمة األديب الرو�سي فيودور دوستويفسكي الشهيرة الواردة في رواية
اإلخوة كرامازوف ،والقائلة إننا «كلنا متهمون بكل �شيء وأمام الجميع ،وأنا أكثر
من الجميع».
يؤكد ليفيناس أن إجابة النداء تمثل عالقة باملعنى السابق على الخطاب،
وعالقة بدون حوارقد يجمع طرفين في لحظة واحدة .بمعنى أنها عالقة متجهة إلى
اآلخروعطاء مطلق ورعاية موصولة ،بل عالمة على استحالة أن يعوضنا أحد في
تحمل املسؤولية .بعبارة أخرى ،إن النطق ب ـ ــ«هأنذا» قول ال يقول شيئا .بالرغم
من أنه يحمل كل �شيء ممكن ،فإنه ال يعني شيئا في ذاته ،عدا أن الذات تكون فيه
336
معروضة على اآلخر وتمثل عالمة دالة وتجليا للخير والرحمة .وعليه ،ال يمكن أن
ينشأ الجواب عن حوار ينقل املعلومات بين األنا واآلخر ،سواء حوار النفس مع
نفسها أو مع الغيرأو هللا ،الذي يكون الواحد منهما حاضرأمام اآلخر ،بل هو قول
يسبق الحوار وتبادل املعاني ،ويفتتح الفعل والتواصل الذي يعرض الذات على
اآلخرويجعلها عالمة على الخير.
سمح تحديد طبيعة الجواب بتأسيس أخالق املسؤولية وإعادة النظرفي تاريخي
الفلسفة والدين على حد سواء .فالنطق بـ ــ«هانذا» ال يعني تعيين تصور ومكان
يمكن أن أجعلهما ملكا لي ،مكان لي تحت الشمس ،إنما يصف الفعل الناتج عن
تجربة ذات تتلقى وتستقبل ما لم تكن مصدره ولم يؤسسه وعي .إنه تلبية لدعوة
اخترقت الذات قبل أن تعي هذه األخيرة وجودها أو تلزم نفسها ب�شيء .يؤكد
ليفيناس أن ما يتوجب على املرء فعله دائما هو أن يقول «هأنذا» ملن دعاه قبل
أي �شيء آخر ،قبل أن يعرف هوية السائل أو فحوى طلبه .ويؤسس بذلك أمرا
قطعيا جديدا مغايرا لألمر القطعي الكانطي ،فتحديد هذا الذي يصلح مسلمة
ّ
املشرعة .بعبارة أخرى ،إن الذات املفهومة دينيا لإلنسانية جمعاء يسبق الذات
ِ
ال تبني فعلها وجوابها على معرفة مسبقة بمن ينادي ،الذي يبنى عادة على حساب
وتروي ويكون في الغالب من دينها وأديولوجيتها والباقي أعداء محتملون ،ألن األنا
ال تتعرف على نفسها من خالل مرآة العالم واآلخرين ،بل تدرك قبل ذلك تفردها
الناتج أمراآلخروندائه.
يتجلى هللا إذن من خالل الجواب املسؤول .عندما يهرع املرء لنجدة اآلخر
ْ
وضيافتهُ ،يظهر احترامه هلل وألثره الالنهائي املبثوث في الوجوه الضعيفة .إن
االقتداء بجواب األنبياء هنا يكون اهتماما بأول الحاضرين ،وليس بمن نعرفهم
أو يشاركوننا نفس االنتماء وامللة ،ألن الشهادة بالالنهائي تتجاوز عبارة «أنا
أومن باهلل» التي تعين لقائلها إلها خاصا به يعرفه ويرعى مشاريعيه .إن الجواب
337 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
املسؤول انفعال معجز يجعل الذات خادمة للناس والعالم باسم هللا ،والعبارة
التي يتبادر بها هللا إلى الذهن ،ليست هي «أنا أومن باهلل» 1أو الجهر بالتوحيد
وإعالن االستعداد لنصرته ،بل «هأنذا» وشهادة األفعال التي تسبق الوعي بالذات
الناظرة واملتكلمة التي تجعل الذات نفسها وحيا .والشاهد ليس مجرد مبلغ أمين
لخطاب مكتمل سبق أن تلقاه من مصادر خاصة واستثنائية ،ألن التعالي اآلمر
باملسؤولية ينكشف بدون ذات وقبل أن يسمعه أحد ويجعل من النبوة وااللهام
شهادة وفعال أخالقيا ،يقول ليفيناس إن «النبوة شهادة خالصة».2
تمثل الشهادة بهذا املعنى غيرية وإيثارا ،ويمثل اآلخر مقاما لإللزام األخالقي
ووجهة له .وهو ما وصفه ليفيناس من خالل مفهوم الكفارة ،إذ قال إن الذات ال
تكون شاهدة ورهينة إال بالقدرالذي تضحي فيه بكل ما لها من أجل الغير .وهي ال
تكفرعن ذنبها وحسب ،بل تكفرعن ذنوب اآلخرين أيضا .إن الذات رهينة اآلخر ّ
وتعويض له ،تتحمل وحدها أمانة اآلخرين ،وال يعوضها أحد في تفردها .يقول
ليفيناس «يجب أن نتحدث هنا عن الكفارة بوصفها جمعا بين الهوية والغيرية،
فاألنا ليست كيانا قادرا على التكفيرعن اآلخرين ،إنها الكفارة األصلية ـ الالإرادية
ـ كونها سابقة على مبادرة اإلرادة».3
لقد نتج مفهوم الكفارة عن املسؤولية املفهومة فينومنولوجيا .فهي ليست
فعال اختياريا يتم بعد تروي وتداول ،أو حساب للربح والخسارة ،وليست خيارا
وضع أمام ذات فوجدت نفسها أمام إمكانية الكفارة .إنما هي اجتياح من قبل
تكفرعن اآلخردون أن تكون قد أخترت ذلك أو أرادته. اآلخر ،جعل الذات هينةّ ،
ر
كأن ليفيناس يقول إن اإلنسان ال يكون إنسانا إال عندما يضحي ألجل اآلخرين
وأن تضحيته ال تكون حقيقية إال إذا كانت بعيدة عن مبادراته ومصالحه .بل
-1ليفيناس ،هللا الذي يتبادرإلى الذهن ،مصدرسابق ،ص.123 .
-2املصدرنفسه ،ص.124 .
-3ليفيناس ،خالف الوجود ،مصدرسابق ،ص.187 .
338
يذهب أبعد من ذلك عندما يجعل
التضحية غفرانا وصفحا عن الجالد ،إن التدين احلقييق ال يتجىل
إال يف الفعل الخليق الذي يقول إن «الذات ،في ميالدها القديم،
يُبيق أثر اهلل حارضا يف كفارة حقة ،تخلص اآلخرون فيها من
مسؤوليتهم عما اقترفوه من ذنوب ،بما العالقة االجتماعية ويسمح
بجعل العالم أكرث وفاء فيها الجرائم ضد الذات .تصير الذات في
االختزال إلى املسؤولية رهينة املسؤولية للرسالة اإلنسانية للتوحيد
عن الجالد ،وعن املعاناة جراء الكفارة
عن اآلخرين .1بمعنى أن الذات مسؤولة
عن العنف ،ومطالبة بافتدائه لتكون
ذاتا خيرة ،يجب أن تقوم مقام كل �شيء ،ألنها كفارة عن الوجود .2إن التدين
الحقيقي ال يتجلى إال في الفعل الخلقي الذي ُيبقي أثر هللا حاضرا في العالقة
االجتماعية ويسمح بجعل العالم أكثروفاء للرسالة اإلنسانية للتوحيد.
339 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
قائمة املصادرواملراجع
340
talmudiques. Editions de Minuit : Paris, 1977.
• Levinas Emmanuel, En découvrant l’existence avec Husserl et
Heidegger, Vrin : Paris, (1967) 1998.
• Levinas Emmanuel, Entre nous. Essais sur le penser - à- l’autre,
(Le • Livre de poche) Grasset : Paris, (1991) 2007.
• Levinas Emmanuel, Éthique et infini, (Le Livre de poche) Fayard :
Paris, [1982] 2008.
• Levinas Emmanuel, Hors sujet. (Le Livre de poche) Fata Morgana:
Montpellier, (1987) 2006.
• Levinas Emmanuel, L’au - delà du verset. Lectures et discours
talmudiques, Editions de Minuit : Paris, 1982.
• Levinas Emmanuel, Les imprévus de l’histoire, Préface de Pierre
Hayat. (Le Livre de poche) Fata Morgana: Montpellier, (1994) 2008.
• Levinas Emmanuel, Noms propres. (Le Livre de poche) Fata
Morgana : Montpellier, 1976.
• Levinas Emmanuel, Quatre lectures talmudiques , Minuit : Paris,
2005.
• Levinas Emmanuel, Totalité et infini. Essai sur l’extériorité, (Le
Livre de poche) Martinus Nijhoff : La Haye, [1961] 2008.
• Wolff Ernst. De l’éthique à la justice, Langage et politique dans la
philosophie de Levinas, Phaenomenologica 183, Springer, 2007.
341 م2020 يناير- ه1441 جمادى األولى3 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد
الدين))
فلسفة الدين
((فلسفة
يف الفكر اإلساليم
مقاربة ملفـ وم املقدس ضمن
سياق اخلطاب القرآين
أ.د .جمال الدين بن عبد الجليل
أود في مستهل هذه املقالة اإلشارة إلى جملة من املعطيات والنقاط املنهجية
التي اعتمدناها في هذه املقاربة ملفهوم املقدس ضمن سياق الخطاب القرآني.
تتعلق اإلشارة األولى بإشكالية ترجمة املصطلحات واملفاهيم الدينية والقرآنية
ّ
خصوصا للغات األوروبية ومنها للعربية وملعجم األلفاظ واملفردات التي يتم
تداولها والتعاطي معها ،هذه اإلشكالية هي ذات مستويين على األقل:
.1املستوى األول هو املتعلق باالنتقال بين اللسان العربي ومختلف األلسنة
واألخرى خاصة األوروبية منها ،ويجدر التأكيد هنا أن أغلب ما تم من أعمال
الترجمة للكتب التراثية اإلسالمية للغات األوروبية من خالل تخصص الدراسات
االستشراقية واإلسالميات هي غالبا ذات منحى ألسني معجمي وتاريخي ،مسيحي
الخلفية في مصطلحاته الدينية ،يتجلى ذلك بوضوح من خالل ترجمات كتب
التراث الديني ،ولعل أبرز مثال لذلك علم الكالم ابتداء بهذا املصطلح نفسه وانتهاء
بتعريف مباحثه وصياغة أسئلته ومختلف مصطلحاته فتعترضنا كترجمات
واردة لعلم الكالم مثال في اللسان األملاني ،ونجد ما يشبهها عبارة واشتقاقا في
بقية اللغات األوروبية ،ثالثة تعابير اصطالحية وهي كاآلتي :الالهوت السجالي
spekulative Theologieوالالهوت الدوغمائي dogmatische Theologie
345 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ال تحيط في تقديري بالداللة املفهومية
علم الكالم ليس جمرد ملصطلح علم الكالم كخطاب من خالل
تشكله التاريخي واملفهومي وال تعكس إال خطاب سجايل فقط رغم أدائه
أحد الجوانب مع إغفال جوانب أخرى ،لهذه الوظيفة ،وحضور هذا
فعلم الكالم ليس مجرد خطاب سجالي البعد فيه أحيانا بشكل مهيمن،
فقط رغم أدائه لهذه الوظيفة ،وحضور وهو كذلك ليس جمرد خطاب
دوغمايئ فقط وال يمكن هذا البعد فيه أحيانا بشكل مهيمن ،وهو
اخزتاله فقط يف خطاب كذلك ليس مجرد خطاب دوغمائي فقط
منتظم نسقيا وال يمكن اختزاله فقط في خطاب منتظم
نسقيا فهو يحتوي كل هذه الجوانب
مجتمعة وال يختزل في أحد منها فقط .ويضاف إلى ذلك بعد آخرمهم في نشأة علم
الكالم وتطوره التاريخي وهو البعد الجدالي 1فيه الذي يحيلنا ضرورة إلى صيرورة
وديناميكية فكرية وفلسفية مرتبطة ضرورة بالسياق التاريخي وليست منفصلة
عنه رغم ادعاء التعالي والصالحية امليتا تاريخية فيما تنتجه من مفاهيم ،لذلك
أجد أنه من األنسب استعمال الترجمة التالية للغة األملانية diskursive
Theologieملصطلح علم الكالم من أجل اإليفاء بمقتضياته الداللية .2ويتضح
هذا املأزق الداللي وسوء الفهم املبرمج مسبقا من خالل اختيار القيام بترجمة
مصطلح تيولوجيا Theologieمن اللغات األوروبية إلى اللغة العربية ،فالتعابير
االصطالحية الواردة في هذا املقام هي ّإما مصطلح اإلالهيات وهذا املصطلح
يحيلنا مباشرة إلى الفلسفة األرسطية بما يرادف امليتافيزيقا أو الفلسفة األولي،
1- diskursiv / discoursif/.discoursive
2- Ben Abdeljelil, Jameleddine; Kurnaz, Serdar: Maqāṣid aš-Šarī ʿa. Die Maximen des
islamischen Rechts. Frankfurter Schriften zum Islam. Studienreihe Islam im Diskurs,
Band 1. Studienreihe Herausgegeben von Jameleddine Ben Abdeljelil. Berlin, EB-Verlag
2014. p.13.
346
وإما مصطلح الالهوت أو علم الالهوت وهذا يحيلنا كذلك إلى السياق الديني
املسيحي دون سواه ،وقد انتبه جورج قنواتي إلى إشكالية استعمال مصطلح
théologieتيولوجيا منزلة على السياق اإلسالمي فتجنب استعمال علم الالهوت
واختار مصطلح فلسفة الفكر الديني عوضا عن ذلك ويعلل اختياره في مقدمة
كتابه املشترك مع لويس غارديه ويقول „وهذه األجزاء الثالثة يجمعها عنوان
واحد صيغته العربية الحرفية :مدخل إلى علم الالهوت اإلسالميّ ،
ثم يلي هذا
العنوان األصلي عنوان فرعي يدل على أن الغاية من الكتاب إنما هي محاولة في
علم الالهوت املقارن .وعلى أنه قد وضع كله مقارنة بين العلمين الدينيين اإلسالمي
واملسيحي .ولقد الحظنا أن القارئ العربي وال سيما إذا كان مسلما لن يطيب له
تعريب ذلك العنوان بنصه الحرفي ...ومن هنا رأينا أن أفضل عنوان يصدق على
موضوعنا هو التالي :فلسفة الفكر الديني بين اإلسالم واملسيحية .ولعل في هذا
العنوان الالهوت اإلسالمي «ذلك بأنه إن كان في اإلسالم «علم الهوتي» يؤخذ على
ّ
التجوز ،فإنه ليس «علما الهوتيا» باملعنى الفني الدقيق الحقيقي ،كما هو سبيل
األمر في املسيحية»1ويمكن التنبيه هنا إلى ما يمكن أن يتسبب فيه االستعمال
اإلسقاطي ملفاهيم وتعابير اصطالحية دون مراعاة مقتضيات السياق املفاهيمي
والديني من سوء فهم وإخالل باملعاني املتعلقة بكل سياق ديني مخصوص .ومثال
ذلك التقابل بين العقل من جهة واإليمان من جهة في الالهوت املسيحي ،وهو
ّ
تقابل ولد ديناميكية دينية ،فكرية وفلسفية ذات خصائص ساهمت في إنتاج
وبلورة مفاهيم كان لها تأثير بالغ في التاريخ الفكري والديني األوروبي بداية من
-1قنواتي ،جورج و غارديه ،لويس :فلسفة الفكر الديني بين اإلسالم واملسيحية ،دار العلم للماليين،
بيروت ،,1967جزء أول ،ص .2
Gardet, Louis & Anawati, Georges: Introduction à la théologie musulmane. Essai de
théologie comparée (Etudes de philosophie médiévale; Bd. 37). 3. ed.. Vrin, Paris 1981
انظرأيضا التهانوي ،محمد علي :كشاف اصطالحات الفنون والعلوم ،مكتبة لبنان ،بيروت ،1996جزء
أول ،ص54 ،28 .
347 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
مفهوم الحقيقة املزدوجة في سياقها الرشدي الالتيني الوسيط ،ثم الحقا مفهوم
العلمنة والفصل بين الديني والفلسفي أو العلمي .بينما نجد في سياق علم الكالم
اإلسالمي تقابال بين العقل والنقل مما يجعل هذا التقابل وما يتضمنه من تخالف
وتوافق مضمروتآلف وتأليف بين املواقف والنظرمقتصرا على املستوى التأويلي
وليس ذا طبيعة أنطولوجية كما هو الحال في الالهوت املسيحي.
.2املستوى الثاني هو املتعلق بالتدبر التأويلي للمصطحات واملفاهيم الواردة
في نصوص التراث الديني من جهة واستعمالها أوتنزيلها في سياق مفاهيمي حديث،
والعكس كذلك مثال ذلك العديد من املصطلحات الرائجة التداول لضرورة
عملية دون التثبت والتمحيص في املسوغات املنهجية والتداعيات املفهومية
املرتبطة بهذا النقل واالنتقال بين سياقات مفاهيمية متباينة ،مثال ذلك املفارقة
املالزمة ملصطلح فقه األقليات وكذلك مفهوم األقلية تعريفا وتنزيال مع ما في ذلك
من االرتباط املنهجي بآليات تعريف وتحليل متجذرة في الفقه الكالسيكي وهو فقه
«األغلبية» ومتغايرة نوعيا مع مستلزمات هذا املفهوم وما يستصحبه في كلي
السياقين الواقعي والن�صي املفاهيمي ،وقس على ذلك أيضا أمثلة كثيرة متعلقة
بإشكاالت تعريفية مفهومية متعلقة بفقه الصيرفة والتعامالت البنكية مثال،
وبضرورة االنتباه والتمييز بين تنوع املرجعيات املفهومية في سياق الفكر الديني
اإلسالمي نفسه وتعددها بتعدد مرجعيات وأشكال وتفريعات الخطاب الديني
اإلسالمي من كالمي عقائدي إلى فقهي أصولي إلى حديثي روائى إخباري.
يعتبر القرآن كنص وكخطاب مفاهيمي في هذا املقام مؤسسا ومساهما
وحامال في اآلن نفسه للتعريفات املفهومية التي تنبثق منه وتستند إليه في تأصيل
مشروعيتها ،فالقرآن بهذا املعنى كخطاب وكحقل مفاهيمي واصطالحي يضطلع
بوظيفة مرجعية مخصوصة في السياق الديني اإلسالمي بمختلف تمظهراته
الداللية والسيمولوجية .وبهذا اللحاظ يمكن االنطالق من اعتبارالقرآن مرجعية
348
مركزية لتأسيس واستقراء املفاهيم في
السياق الديني اإلسالمي ،مع االلتفات يعترب القرآن كنص وكخطاب
إلى دور القرآن الكريم التأسي�سي للغة مفاهييم يف هذا املقام مؤسسا
العربية املكتوبة بشكل موحد ومن ثم ومساهما وحامال يف اآلن نفسه
التأثير البالغ في صياغة وبلورة البناء للتعريفات املفهومية اليت تنبثق
االصطالحي واملفاهيمي فيها .وتعريف منه وتستند إليه يف تأصيل
مرشوعيهتا الخطاب 1الذي نعتمده هنا هو أنه
وحدة بنيوية لكالم سواء كان شفهيا أو
مكتوبا مقصود به إفهام املتلقي معنى
يراد تبليغه له من املخاطب واملعنى املقصود واحد بحكم وحدانية املخاطب،
َ َ َ
وهذا مما ينطبق على القرآن الكريم كخطاب «كالم هللا» ﴿ َول ۡو كن م ِۡن عِن ِد
ٱخت ِ َل ٰ ٗفا َكث ِ ٗ
ۡ ْ َ ۡ َّ َ
ريا﴾ اآلية 82سورة النساء ي ٱللِ ل َو َج ُدوا فِيهِ
غ ِ
-مقاربة ملفهوم املقدس
ّ
تتبدى إشكالية مفهوم املقدس عند مقاربته في سياق مفاهيمي تيولوجي ّ
تعددي ،ال تخلو من التباس التداخل اإلسقاطي بين السياقات واألنساق تثاقفي ّ
املتباينة .فاملقاربات التعريفية الرامية لتحديد مفهوم املقدس تراوحت في معظمها
بين املقاربات التاريخية ،األنثروبولوجية واالجتماعية من جهة في تحليل وتفكيك
ظاهرة املقدس في سياقاتها التاريخية ومن جهة أخرى تم تناول هذا املفهوم من
زواية نظر مباحث فلسفة الدين ومثل هذا الخطاب الفلسفي وأقصد فلسفة
الدين مازال في تقديري ناشئا غيرمكتمل وفي ضمور في السياق العربي اإلسالمي،
وأرى أن مثل زواية النظرهذه هي األنسب واألكثرمالءمة لهذه املقاربة ،على أنني
أقتصرفي مقاربتي هذه على البحث في املستويات الداللية لهذا املفهوم ضمن ثنايا
-1العموش ،خلود :الخطاب القرآني دراسة في العالقة بين النص والسياق .جدارا للكتاب عمان ..2008
ص23،24 .
349 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الخطاب القرآني فقط ولن ّ
أتعرض لهذه
ّ
الدالالت في مستوياتها األنثروبولوجية أو تعريف اخلطاب الذي نعتمده
التاريخية واالجتماعية الثقافية ،وأنا في هنا هو أنه وحدة بنيوية لكالم
ذلك شديد الوعي ملا ملدى االنتشارالكبير سواء كان شفهيا أو مكتوبا
للمقدس في هذه املستويات املذكورة مقصود به إفهام املتليق معىن
ممارسة وظواهر من درجة كبيرة من يراد تبليغه له من املخاطب
األهمية ،1وأستند في هذا التحديد واملعىن املقصود واحد بحكم
واالقتصار في الرجوع واالعتماد على وحدانية املخاطب ،وهذا مما
النص القرآني ملا للمتن القرآني من دور ينطبق عىل القرآن الكريم
تأسي�سي بنيوي ووظيفة مرجعية مركزية
على املستوى املفاهيمي في التاريخ
الديني والفكري اإلسالمي عموما .باإلضافة إلى ما ذكر فإن الحضور املكثف
سواء الضمني أوالصريح ملفهوم املقدس بأبعاده الداللية املتعددة في النقاشات
واملحاورات واألبنية االستداللية سواء من خالل مباحث «فلسفة الدين» أو علم
الدين 2Religionswissenschaftأو ضمن السياق املعاصر 3حول إشكالية
350
العلمانية سواء كان ذلك انطالقا من موقف الرفض أو القبول ،حيث يتضح
أن صيرورة العلمنة في أحد معانيها ال تعدو أن تكون إال صيرورة إزاحة للمقدس
ورفع للقدسية عن الدنيوي .1هذا التقابل بين هاتين الثنائيتين املتضادتين
الحدية ومشحونا بكثافة سجالية ذاتمفاهيميا ،املقدس والعلمنة ،يبدو شديد ّ
صبغة دينية و فلسفية فكرية ّ
ويتنزل تاريخيا ضمن السياق الغربي املسيحي ،في
حين تضعف كثافة هذا التقابل الحدي عندما يتم التناول ضمن سياق تثاقفي
ديني تعددي ،فتتغلب النسبية على االدعاء اإلطالقي السابق املتحقق بشكل
مهيمن تاريخيا وابستمولوجيا في السياق الغربي املعلمن ،األمر الغير متحقق
بنفس الصورة والدرجة في غيره من السياقات الثقافية والدينية األخرى .أشير
في البداية هنا إلى تناول وتحليل رودلف أوتو للمقدس أو القد�سي على اعتباره
عنصرا مكونا للدين كظاهرة وهو يرى أنه يتضمن عنصرا غير عقالني يسمو على
العنصر العقالني فاكتفى بالتمعن في تحليل األخير في استكشاف طبيعة األول،
حد ذاته صامدا أمام محاوالت العقل حيث أن ما ليس عقالنيا يبقى قائما في ّ
كلها في تفسيره من غير أن يتناقض مع ذلك موجبات العقل ويم�سي حدا يقف
عنده فيلسوف الظاهرة الدينية وهذا الالعقالني أو ما يتخطى ما هو عقالني هو
ذو „طبيعة قدسية“ سابق في وجوده وحركته وفعله ،حتى إن العقالني منه ّ
دال
عليه من دون امتالك القدرة على اإلحاطة به بالتحليل والتعقل .2وأجد أن هذا
الفهم للقد�سي عند أوتومالئم ويساعد على إدراك واستيعاب دالالت هذا املفهوم
في سياقنا اإلسالمي عموما والخطاب القرآني تخصيصا.
يرد مفهوم املقدس أو القد�سي في اشتقاقاته اللفظية املختلفة انطالقا من
الجذر الثالثي «قدس» في عشر مواضع من النص القرآني ،نعرضها في هذا املقام
1- Norris, Pippa & Inglehart, Ronald: Sacred and Secular: Religion and Politics Worldwide.
Cambridge 2004. p. 3
2 - Otto، Rudolf: Das Heilige. p.75,76.134,135.
351 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
كما يلي من خالل اآليات التي وردت فيها ثم نعقبها بالتعليق والتحليل:
َۡ ٞ ۡ َ َ َ ُّ َ ۡ َ َ َ ّ
ۡرض لئِكةِ إ ِ ِن َجاعِل ِف ٱل ِ -1سورة البقرة -آية ﴿ 30وِإَوذ قال ربك ل ِلم ٰٓ
ن ُن ن ُ َس ّب ُح بَ ۡمدِكَ َ َ ُۡ ُ َ َ َۡ ُ ّ َ َٓ َ َۡ َ َ ٗ َ ُْٓ َ َۡ َ ُ
ِ ِ خل ِيفة ۖ قالوا أتعل فِيها من يفسِد فِيها ويسفِك ٱدلِماء و
َ َُ ّ ُ َ َ َ َ ّٓ َ ۡ َ ُ َ َ َ ۡ َُ َ
ون﴾. ونقدِس لك ۖ قال إ ِ ِن أعلم ما ل تعلم
ُّ ُ َۡ َّ
َ َ َ َۡ َ ۡ َََ ۡ َ ََۡ ُ َ
-2سورة البقرة -آية ﴿ 87ولقد ءاتينا موس ٱلكِتٰب وقفينا ِم ۢن بع ِده ِۦ بِٱلرس ِلۖ
ُۢ ٓ ُ ۡ ُ ُ َ َ ُ َّ َ ۡ َ
س أفك َما َجا َءك ۡم َر ُسول وح ٱلقد ِۗ ت َوأيَّ ۡد َنٰ ُه ب ِ ُر ِ َ ۡ َ
َو َءاتينا عِيس ٱب َن م ۡر َي َم ٱلَ ّيِنٰ ِ
ََۡ
َ َ َ ۡ َ ٰٓ َ ُ ُ ُ ُ ۡ َ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ َ ٗ َ َّ ۡ ُ ۡ َ َ ٗ َ ۡ ُ ُ َ
بِما ل تهوى أنفسكم ٱستكبتم ففرِيقا كذبتم وفرِيقا تقتلون﴾..
ُ َ ۡ َّ ََ ۡ َ َ ۡ َ - 3سورة البقرة -آية َ ۡ َ َ 253
وح ت وأيدنٰه ب ِ ُر ِ ﴿و َءاتينا عِيس ٱب َن م ۡر َي َم ٱلَ ّيِنٰ ِ
س﴾. ُۡ ُ
ٱلقد ِ ۗ
ۡ ُ ْ َ َّ َ َ ۡ َ َ ُ َ ٰ َ
وس ل ِق ۡو ِمهِۦ يٰق ۡو ِم ٱذك ُروا ن ِۡع َمة ٱللِ - 4سورة املائدة -آية ِ﴿ 21 - 20إَوذ قال م
َ َ
َ َ َ ٰ ُ َّ ۡ ُ ۡ ٗ ُ ُ ۡ َ ََٓ َ َ ََ ُ ََ ُ ۡ َ ََ
ت أ َح ٗدا ّمِنَ عل ۡيك ۡم إِذ جعل فِيكم أۢنبِياء وجعلكم ملوك وءاتىكم ما لم يؤ ِ
ُّ
ك ۡم َو َل تَ ۡرتَ ُّدوا ْ َ َ ٰٓ َ ٰ َ ۡ ِ ۡ ُ ُ ْ ۡ َ َ ۡ ُ َ َّ َ َ َّ َ َ َ َّ ُ َ ُ ۡٱل َعٰلَم َ
ع ني ٢٠يقوم ٱدخلوا ٱلۡرض ٱلمقدسة ٱل ِت كتب ٱلل ل ِ
َ ٰ ََۡ ُ ۡ َ َ ُ َ
ْ َ
سين﴾. أدبارِكم فتنقل ِبوا خ ِ ِ
ۡ َ َ َّ ُ َ ٰ َ ۡ َ َ ۡ َ َ ۡ ُ ۡ ۡ َ َ َ ۡ َ
- 5سورة املائدة -آية ﴿ 110إِذ قال ٱلل يعِيس ٱبن مريم ٱذكر ن ِعم ِت عليك
ۡ َ َّ ۡ ُ َ َۡ ۡ ََ ۡٗ َ َّ ُ ُۡ ُ ُ َ ّ
ِ ُ َ َ َ ٰ َ ٰ َ َ ۡ َ َّ ُّ َ
وع و ِلت ِك إِذ أيدتك بِروح ٱلقدس تكل ِم ٱنلاس ِف ٱلمه ِد وكهل ۖ ِإَوذ علمتك ِ
َ ۡ َ َ َ ۡ ۡ َ َ َ َّ ۡ َ ٰ َ َ ۡ
جنيل ۖ﴾ . ٱلكِتٰب وٱل ِكمة وٱتلورىة و ِ ِ
ٱل
ٱل ّق ِلُثَ ّب َ َۡ َّ ّ َ ُ ۡ َ َّ َ ُ ُ ُ ۡ ُ ُ
ت ِ - 6سورة النحل -آية ﴿ 102قل نزلۥ روح ٱلقد ِس مِن ربِك ب ِ ِ
ني﴾ . ى ل ِۡل ُم ۡسلِم َ
ِ ش ٰ ِين َء َام ُنوا ْ َو ُه ٗدى َوب ُ ۡ َ َّٱل َ
ٱخلَعۡ ّ ٓ َ َ ۠ َ ُّ َ َ ۡ ٰٓ َ ُ ٰ َ َ َّ ٓ َ َ ٰ َ ُ َ َ
- 7سورة طه -آية ﴿ 11-12فلما أتىها نودِي يموس ١١إ ِ ِن أنا ربك ف
َ َ َ َّ َ ۡ ۡ َ
ن ۡعل ۡيك إِنك بِٱل َوادِ ٱل ُمق َّد ِس ُط ٗوى﴾.
ادى ٰ ُه َر ُّبهۥُ ۡ َ َ ٰٓ َ ُ َۡ ََٰ َ َ ُ
- 8سورة النازعات -آية ﴿17-16-15هل أتىك حدِيث موس ١٥إِذ ن
ۡ َ ۡ َ ۡ ۡ َ
غ﴾. ب إ ِ ٰل ف ِۡر َع ۡو َن إِنَّ ُهۥ َط َ ٰ بِٱل َوادِ ٱل ُمق َّد ِس ُط ًوى ٱذه
ُ َ َّ ُ َّ َ ٓ َ ٰ َ َّ ُ َ ۡ َ ُ ۡ ُ ُّ ُ َّ َ
ٱلسل ٰ ُم - 9سورة الحشر -آية ﴿ 23هو ٱلل ٱلِي ل إِله إِل هو ٱلمل ِك ٱلقدوس
352
ۡ ُ َ
ٱللِ َع َّما ي ُ َ ۡ ۡ
ُ ُ ُ َ ۡ ُ َ ُ َ َّ ُ ُ َ ّ ُ ُ ۡ َ ٰ َ َّ ۡ ۡ ۡ ۡ
شكون﴾. ِ ٱلمؤمِن ٱلمهي ِمن ٱلع ِزيز ٱلبار ٱلمتك ِبۚ سبحن
َۡ َۡ -10سورة الجمعة -آية ﴿ 1ي ُ َس ّب ُح ِ َّلِ َما ف َّ َ َ
ِك ت َو َما ِف ٱل ِ
ۡرض ٱلمل ِ ٱلسمٰو ٰ ِ ِ ِ
وس ۡٱل َعزيز ۡ َ
ٱلكِي ِم﴾. ِ ۡٱل ُق ُّ
د
ِ ِ
يرد لفظ ّ
املقدس في االستشهاد األول املذكور من سورة البقرة اآلية .30
بصيغة الفعل املضارع مع الجمع املتكلم على لسان املالئكة تسبيحا بحمد هللا
وجل .ووجب التنويه هنا أن ورود لفظ التقديس بصيغة الفعل عز ّ وتقديسا له ّ
يقتصر على هذا املوضع الوحيد في القرآن الكريم في ارتباط بفعل من أفعال
يتكرر بهذه الصيغة في أي مورد قرآني آخرولم ينسب هذا الفعل من املالئكة وال ّ
ألي مخلوق آخرغيراملالئكة على خالف فعل التسبيح املرافق خالل املتن القرآني ّ
يتكرر من خالل الخطاب القرآني في أكثر من موضع له في اآلية املشار إليها والذي ّ
بالنسبة للعديد من املخلوقات األخرى بما فيها البشر.1
في االستشهادين القرآنيين املذكورين أعاله التاسع (سورة الحشر -اآلية )23
القدوس داللة على أحد والعاشر (سورة الجمعة -اآلية )1يرد اللفظ بصيغة ّ
القد�سي بصيغة „روح القدسّ أسماء هللا تعالى بينما يرد اللفظ املرتبط بمفهوم
«في االستشهاد السادس (سورة النحل -اآلية )102داللة في هذا املقام على ملك
ّ
الوحي جبريل الذي كان مكلفا بتنزيل الوحي القرآني على الرسول محمد -ﷺ. 2-
ويتكرر ورود صيغة «روح القدس» في االستشهادات املذكورة أعاله :الثاني (سورة
البقرة -اآلية )87والثالث (سورة البقرة -اآلية ) 253والخامس (سورة املائدة
فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) -1سورة الحجر -آية ّ ( 98
سورة الجمعة -آية ّ ( 1
يسبح هلل ما في السماوات وما في األرض )
ّ ّ
سورة اإلسراء -آية ( 44تسبح له السماوات السبع واالرض ومن فيهن وان من �شيء اال يسبح بحمده
ولكن ال تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا )
ّ
سورة مريم -سورة - 19آية ( 11فخرج على قومه من املحراب فاوحى اليهم ان سبحوا بكرة وعشيا )
-2بن عاشور ،محمد الطاهر :تفسيرالتحريروالتنوير -الجزء الخامس عشر :سورة النحل قوله تعالى
قل ّنزله روح القدس من ربك بالحق .ص . 284تونس 1984
353 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
-اآلية )110في سياق قرآني قص�صي مرتبط باملسيح عليه السالم كدعم وسند
املشددة في ثالثة مواضع من ّ املقدس بفتح ّ
الدال وتأييد له ولرسالته .ويرد لفظ ّ
النص القرآني في االستشهادات املذكورة أعاله ،الرابع (سورة املائدة -اآلية 20
) 21 -والسابع (سورة طه -اآلية ) 12 - 11والثامن (سورة النازعات -اآلية - 15
وبينة على أسماء أمكنة و مناطق في ارتباط مباشر )17 - 16وفيها إحالة واضحة ّ
بسيرة النبي مو�سى عليه السالم ودعوته لقومه ولفرعون.
من خالل هذا التبيان ملواضع ورود لفظ املقدس بصيغه االشتقاقية املتعددة
واملختلفة يمكن استنتاج األفكارالتالية:
املقدس بصيغه ما يلفت االنتباه بشدة هو ّقلة املواضع التي يرد فيها مفهوم ّ
واشتقاقاته اللفظية املختلفة في املتن القرآني ،حيث ّأن هذا الورود يقتصر
على عشر مواضع فقط .1هذا الضعف الحضوري امللحوظ للمفردات اللفظية
يعبر عن أهمية هذا املفهوم للمقدس في املتن القرآني ال يمكن بأي حال أن ّ
سيميولوجيا أوالتأكيد على ثقل حضوره الداللي .ويجدر هنا التأكيد على أن
املتكرر ملفهوم املقدس في املتن القرآني كما ّتمت اإلشارة إليه أعاله في
ّ الورود
عدة مواضع إنما يأتي كما هو واضح في سياق غير إسالمي باملعنى الخاص لذلك
جل هذه املواضع (باستثناء عقائديا وتشريعيا وتاريخيا ،ونعني بذلك أنه يأتي في ّ
ّ
وروده كفعل للمالئكة وكأحد أسماء هللا الحسنى وكمركب في اسم ملك الوحي
جبريل) محيال دائما إلى سياقات دينية وعقائدية تاريخية خاصة ومغايرة ،حيث
كانت هذه اإلحالة دائما إلى التراث والتاريخ الدينيين اليهودي واملسيحي تحديدا
وبشكل مخصوص من خالل أسلوب القصص القرآني .لذلك يمكن أن نؤكد
- 1باملقارنة مع هذا الحضور الضعيف على املستوى اللفظي ملفردات املقدس والقد�سي في املتن القرآني
نالحظ حضورا كثيفا لهذه املفردات في الكتاب املقدس حيث يمكن إحصاء مايقارب األلف مورد
وتحديدا 984مفردة للفظ املقدس باللغة األملانية heiligفي اشتقاقاته املتعددة ومن خالل الترجمة
األملانية للكتاب املقدس ملارتن لوثر.
354
على أن أي تأسيس أوتجذير مفاهيمي
ّ
للمقدس على املستوى املنظومي يجدر التأكيد عىل أن الورود
املتكرر ملفهوم املقدس يف املنت
ّ العقائدي اإلسالمي بمعناه املخصوص
تمت اإلشارة إليه ال يمكن أن ينبني أو يستند على الخطاب القرآين كما ّ
القرآني بشكل متماسك غير متهافت .أعاله يف عدة مواضع إنما يأيت
ّ
ويبدو مفهوم «املقدس» ضمن الخطاب كما هو واضح يف سياق غري
القرآني ذا مكانة هامشية وغير ذي إساليم باملعىن الخاص لذلك
أهمية مركزية وظيفية داخل آليات عمل عقائديا وترشيعيا وتاريخيا
وغايات الرسالة اإلسالمية في بعدها
القرآني .لذلك يبقى التأسيس املفاهيمي
للمقدس بانسجام متماسك مع بنية الخطاب القرآني من جهة واالرتباط ّ
بخصوصيته اإلسالمية العقائدية والتشريعية من جهة أخرى مطلبا غير متاح
ويوقع الحرص عليه والتمسك بتحقيقه في التهافت واللجوء للمغالطة في البناء
االستداللي املعتمد ،فالخطاب القرآني ال يوفر السند االستداللي الضروري من
أجل التأسيس ملفهوم املقدس إسالميا على املستويات العقائدية والتشريعية.
من جانب آخريمكن التأكيد على مالحظة الظاهرة التالية وهي الوجود التاريخي
قديما وحاضرا للممارسة التقديسية سواء على املستوى النظري أوالعملي
في سياق التراث الديني اإلسالمي في املجتمعات اإلسالمية على اختالفها ثقافيا
وانثروبولوجيا ،وتباينها مذهبيا وعقائديا .1هذه املمارسة التقديسية على مستوى
ّ ّ
املفاهيم واألفكاروأشكال الخطاب وكذلك بعض السلوكيات العملية تمثال وتبنيا
تملكيا للقدسية تصبغ بشكل عام وملحوظ تضاريس الخطاب والجدل ّ وادعاءا
ّ
في السياق اإلسالمي وتركيبته البنيوية بصبغة التجاذب الحدي ذي الطبيعة
355 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
اإلطالقية اإلقصائية .تكت�سي في هذا
قلاملقام املقاربات املنهجية التي تروم رفع ما يلفت االنتباه بشدة هو ّ
القداسة أو القدسية 1املصبغة على املواضع اليت يرد فهيا مفهوم
املقدس بصيغه واشتقاقاته ّ الظواهر الدنيوية والسلوكية العملية
اللفظية اخملتلفة يف املنت والنظرية أهمية قصوى من حيث
أن هذا الورودانسجامها مع روح ومقاصد الخطاب القرآين ،حيث ّ
القرآني من جهة وكذلك مع املسار العام يقترص عىل عرش مواضع فقط
لتاريخ الفكر اإلسالمي وأشكال الخطاب
املعرفي فيه خاصة الخطاب الفقهي
واألصولي التشريعي من جهة أخرى ،2إذ ال توجد في اإلسالم ما يمكن أن يقابل
أحكام «األسرار املقدسة» 3كما هو الحال في املسيحية وال ينسجم مثل هذا
املفهوم مع بنية الخطاب القرآني .وال تغيب عنا في هذا املقام اإلشارة إلى ما يعتري
ّ مفهوم ّ
املقدس والقداسة من عدم دقة وضعف ضبط مفاهيمي في الكتابات التي
تتناول هذه املباحث في سياق مفهومي إسالمي وخاصة ما كان منها باللغة العربية
باألصل أو بالترجمة ،حيث يقع التعامل عموما بشكل إسقاطي ونقل اعتباطي
تحري تداعياتاملقدس من سياقات لغوية وثقافية أوروبية تحديدا دون ّ لدالالت ّ
ّ
ذلك كله انسجاما واتساقا أو تهافتا وتعارضا ضمن النسق الداللي خاصة املنبني
1 - English: desacralization, Deutsch: Entsakralisierung
-2تغطي األحكام االجتهادية املساحة األكبر من مجموع األحكام التشريعية العملية وذلك بسبب
التفصيل في التدليل على ثبوتها من خالل النصوص بسبب االختالف في الفهم والتأويل وكذلك حدوث
ّ
األصوليين حوادث بسبب تغيراألزمان واألحوال وتعتبراألحكام االجتهادية الفقهية أحكاما ظنية حيث أن
شرعي ّ
ّ ّ ّ
ظن ّي» ،فال اجتهاد فيما علم من عرفوا «االجتهاد بأنه بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم ّ
ّ ً
الصلوات ،وكونها خمسا .ومن هذا يعلم ّأن معرفة الحكم الش ّ بالضرورة ،كوجوب ّ ّ
الدين ّ
رعي من دليله
ً ّ ّ
القطعي ال تسمى اجتهادا .املوسوعة الفقهية .وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بالكويت .ط 2الكويت
.1983ص .19
3- English: sacraments, Deutsch: Sakramente
356
منه على املتن القرآني .ومن تبعات ذلك أن نجد مثال استعماال أللفاظ مرادفة
أو مقابلة للفظ املقدس مترجمة مما يقابلها في سياقات لغوية أوروبية خاصة
يعبر عن حالة ال تخلو من اختالل واضطراب مفاهيمي ،واألمثلة على ذلك مما ّ
املدنس والخبيث ّ ّ
والنجاسة بشكل مقابل عديدة حيث نجد استعمال ملفردات
ً ّ
للمقدس 1مما يترتب عنه استعماال للطهارة والطيب بما يترادف ويترابط مع
املقدس ،2ونجد أن هذه املفردات ال تنطبق في داللتها املفهومية خاصة في سياقها ّ
القرآني مع هذه اإلحاالت املشارإليها .وفي مقابل ما ألفتنا االنتباه إليه من الحضور
الضعيف ملفردات مفهوم املقدس في سياقه اإلسالمي املخصوص من خالل
الخطاب القرآني نجد حضورا أكثرتداوال وورودا في املتن القرآني ملفهوم «الحرام»
املقدس مرتبط في اآلن نفسه بخصوصية السياق اإلسالمي كمفهوم موازملفهوم ّ
التشريعي العملي .حيث يرد مفهوم «الحرام» في املتن القرآني مرتبطا بفضاء
محدد وعلى وجه التعيين بما يرتبط باملسائل الشعائرية املكان والزمان بشكل ّ
والتعبدية العملية عند املسلمين .فمفهوم «الحرام» في هذا السياق املخصوص
مجرد ونظري بحت يغيب فيه أي معنى مفارق ومتعالي أو ذي بعد ميتافيزيقي ّ
ّ
وإنما تتسم اإلحاالت املرتبطة بمفردات هذا املفهوم داخل بنية الخطاب القرآني
بالطابع العملي والجوانب السلوكية ضبطا وتحديدا ّ
عمليين .يبدو هذا األمر
واضحا وجليا من خالل الرجوع إلى اآليات التي وردت فيها مفردات هذا املفهوم
بهذا املعنى املخصوص مرتبطة باملسجد الحرام والشهر الحرام أو األشهر ُ
الح ُرم
الح َرم وما يتعلق بها من تحديدات عملية وسلوكية ويمكن أن الح ُرم أو َ
وبحالة ُ
نتتبع مواضعها ونحصيها ونوردها أو نورد معظمها كاآلتي: ّ
َّ ٓ َ َ ّ َ َ َ ٗ
ٱلس َماءِۖ فل ُن َول َِي ّنك ق ِۡبلة
َ ى َت َق ّلُ َ
ب َو ۡج ِهك ف ِي سورة البقرة -آية ﴿ 1441قَ ۡد نَ َر ٰ
357 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
َ ُ ۡ َ َ َ َ ۡ ُ َ ُ ُ َ ُّ ْ َۡ َ َ ََّ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َۡ ۡ
نت ۡم ف َولوا ُو ُجوهك ۡم ج ِد ٱلحر ِامۚ وحيث ما ك ترضىٰها ۚ فو ِل وجهك شطر ٱلمس ِ
َ َ َّ ّ ۡ َ َ َّ ُ َ َ ۡ َ ُ َّ َّ َ ُ ُ ْ ۡ َ ٰ َ َ َ ۡ َ ُ َ َ َّ ُ ۡ َ ُ
ٱلل بِغٰفِ ٍل ع ّما ح ّق مِن رب ِ ِهمۗ وما شطره ۗۥ ِإَون ٱلذِين أوتوا ٱلكِتب ليعلمون أنه ٱل
ََُۡ َ
ون﴾.يعمل
ج ِد َ ۡ َ ۡ ُ َ َ ۡ َ ََّ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َۡ ۡ
سورة البقرة -آية ﴿ 149ومِن حيث خرجت فو ِل وجهك شطر ٱلمس ِ
َ َّ َ ۡ َ ُ َ َّ ّ َ َ َ َّ ُ َ َّ ُ َ ۡ َ ُ ۡٱل َ
ون﴾. ٱلل بِغٰفِ ٍل عما تعمل ح ّق مِن ربِك ۗ وما ح َر ِامۖ ِإَونهۥ لل
ج ِد َ ۡ َ ۡ ُ َ َ ۡ َ ََّ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َۡ ۡ
سورة البقرة -آية ﴿ 150ومِن حيث خرجت فو ِل وجهك شطر ٱلمس ِ
َ ُ ۡ َ َ َ َ ۡ ُ َ ُ ُ ۡ َ َ ُّ ْ ُ ُ َ ُ ۡ َ ۡ َ ُ َ َّ َ ُ َ َّ
اس َعل ۡيك ۡم ِلن ِ ٱلحر ِامۚ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطرهۥ ل ِئلا يكون ل
َ ُ ُ َ ۡ َ ََ َ ۡ َ ُ ج ٌة إ ّلَا ّٱلَذ َ َ َ ْ ۡ ُ َّ
ِين ظل ُموا مِن ُه ۡم فلا تخش ۡوه ۡم َوٱخش ۡو ِن َول ِأت ِّم ن ِۡع َمتِي َعل ۡيك ۡم ِ ح
َ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ َ ُ َ
ون﴾. ولعلكم تهتد
َ ُ ُ
يُقٰتِلوك ۡم
َ ِند ٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ
ح َر ِام َح ّت ٰى
َ َ َُٰ ُ ُ
وه ۡم ع َ سورة البقرة -آية ﴿ 191ولا تقتِل
ِ
فِيهِۖ﴾.
َّ ۡ ُ ۡ َ َ ُ َّ ۡ ۡ َ َ َ ۡ ُ ُ َ ُ َ ٞ
اص سورة البقرة -آية ﴿ 194ٱلشهر ٱلحرام بِٱلشه ِر ٱلحر ِام وٱلحرمٰت ق ِص ۚ
ٱلل ك ۡم َو َّٱت ُقوا ْ َّ َ ۡ َ ۡ َ َ ٰ َ َۡ ُ ََۡ ٰ َ ُ َ ۡ ْ َ
ى َعل ۡيك ۡم فٱع َت ُدوا َعل ۡيهِ ب ِ ِمث ِل ما ٱعتد ف َم ِن ٱعتد
َ
ى علي ۚ
ين﴾. ٱعلَ ُم ٓوا ْ أَ َّن َّ َ
ٱلل َم َع ٱل ۡ ُم َّتقِ َ َ ۡ
و
ح ّج َف َما ۡ َ َ ٓ ُ ۡ َ َ َ َ َّ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ َ َ
ٱس َت ۡي َس َر سورة البقرة -آية ﴿ 196فإِذا أمِنتم فمن تمتع بِٱلعم َرة ِ إِلى ٱل ِ
ۡ َ ّ ََ َۡ َ َ َ ُۡۡ ۡ َ َ َ َٞ َ ۡ َ ۡ َ َ َّ ۡ َ ۡ َ َ ُ َ َ َ َ َ
ام ثلٰثةِ أيّا ٖم ف ِي ٱلح ِج وسبع ٍة إِذا رجعتمۗ ت ِلك عشرة جد ف ِصي ي فمن لم ي ِ مِن ٱلهد ِ ۚ
ك ۡن أَ ۡهلُ ُهۥ َحاضري ٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ
ح َر ِامۚ﴾.
َ َ ُ َ ۡ َّ َ َ ٰ َ ۗ ٞ
كامِلة ذل ِك ل ِمن لم ي
ِ ِ ِ
َ ُ َۡ َ َ َۡ ُ ۡ ُ َ ٌ َ َ ُ ْ َ ۡ ٗ
اح أن ت ۡب َتغوا فضلا ّمِن ّر ّبِك ۡ ۚم سورة البقرة -آية ﴿ 198ليس عليكم جن
ُ َ َ ۡ ُ ِند ٱل ۡ َم ۡش َعر ۡٱل َ َ َ ٓ َ َ ۡ ُ ّ ۡ َ َ َٰ َ ۡ
ٱذ ُك ُروا ْ َّ َ
ح َر ِامۖ َوٱذك ُروهُ ك َما ه َدىٰك ۡم ِ
ٱلل ع َ تف فإِذا أفضتم مِن عرف ٖ
358
َ ّ َ ّ َ َ ُ
ٱلضٓال َ
ِين﴾. نتم ّمِن ق ۡبلِهِۦ ل ِمن
ِإَون ك ُ
ٞ ُۡ
ح َر ِام ق َِتا ٖل فِيهِۖ قل ق َِتال فِيهِ ٱلش ۡهر ۡٱل َ
َّ
ن ك َ
ع
َۡ َُ َ َ
سلون سورة البقرة -آية ﴿ 217ي ٔ
ِ ِ
َ َ
ۡ َ َ ِ ۡ َ ُ ۡ َ َۡ ۡ َ َ َ ٌّ َ َ ٞ
ۡ
اج أهلِهِۦ م ِۡن ُه أك َب ُر َّ َ ُ ۡ ُ
ج ِد ٱلحرام ِإَوخر يل ٱللِ وكفر ۢ بِهِۦ وٱلمس ِ كبِير ۚ وصد عن سب ِ ِ
ُّ ُ َ ُ َ َ ُ َ ُ َ َۡ َ َّ ۡ ُ َ ۡ
ِند ٱللِۚ َوٱلفِ ۡت َنة أك َب ُر م َِن ٱلق ۡت ِلۗ َولا يَ َزالون يُقٰتِلونك ۡم َح ّت ٰى يَ ُردوك ۡم َعن ع
َ َ ُ ۡ َ ُ َ َ َ َٓ ْ ُ َ ٞ ُ َ ۡ ْ ُ
لئِك ٱس َت َطٰ ُع ۚوا َو َمن يَ ۡرتدِد مِنك ۡم َعن دِينِهِۦ فيمت وهو كاف ِر فأو ٰ ِك ۡم إن ۡ
ِِ دِين
ُّ ۡ َ َ ۡ َ ۡ ُ
ٱلدن َيا َوٱٓأۡلخ َِرةِۖ﴾. ت أع َمٰل ُه ۡم ف ِي حبِط
َّ َ َّ ُ
َٓ ُّ َ ّ َ َ َ ُ ْ َ ُ ّ ْ َ َٓ َ َ
عئ ِ َر ٱللِ َولا ٱلش ۡه َر حلوا ش ٰ ﴿يأيها ٱلذِين ءامنوا لا ت ِ سورة املائدة -آية ٰ 2
َ ۡ َ َ َ َ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ َ َٓ َ َ َ ٓ َ ٓ ّ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ُ َ َ ۡ ٗ
ام يَ ۡب َتغون فضلا ّمِن ّر ّب ِ ِه ۡم لئِد ولا ءامِين ٱلبيت ٱلحر ٱلحرام ولا ٱلهدي ولا ٱلق ٰ
ُ ُ َ َ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ َ ُ ْ َ َ َ ۡ َ َّ ُ ۡ َ َ َ ُ َ َ ۡ ٗ
نان ق ۡو ٍم أن َص ّدوك ۡم َع ِن َورِض َوٰنا ۚ ِإَوذا حللتم فٱصطاد ۚوا ولا يج ِرمنكم ش ٔ
ۡ َ َ َ َ ۡ َ ُ ۘ ْ َ َ َ َ ُ ْ َ َ ۡ ّ َ َّ ۡ َ ٰ َ َ َ َ َ ُ ْ َ ۡ ۡ َۡ ۡ
اونوا َعلى ٱلإِث ِم ج ِد ٱلحر ِام أن تعتدوا وتعاونوا على ٱلب ِ ِر وٱلتقوىۖ ولا تع ٱلمس ِ
ۡ
َوٱل ُع ۡد َو ٰ ِ ۚن﴾.
نت ۡم ُح ُرمٞ َٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ۡ ُ ُ ْ َّ
ٱلص ۡي َد َوأَ ُ
ۚ ﴿يأيها ٱلذِين ءامنوا لا تقتلوا - 10سورة املائدة -آية ٰ 95
َ ُ ُ ُّ َ َ ّ ٗ َ َ َ ٓ َّ َ َ َ َ َ ُ ۡ ّ ٞ َ َ
ٱلن َع ِم يَ ۡحك ُم بِهِۦ ذ َوا َع ۡد ٖل َو َمن ق َتل ُهۥ مِنكم متع ِمدا فجزاء مِثل ما قتل مِن
ّ ُ ۡ َ ۡ َ ۢ َ ٰ َ ۡ َ ۡ َ َ ۡ َ َّ ٰ َ َ ُ ّ ٗ َ َ ٰ َ ُ ۡ َ ۡ َ َ ٰ َ َ ُ َ َ ٞ
اما ل َِيذوق صي مِنكم هديا بل ِغ ٱلكعبةِ أو كفرة طعام مسكِين أو عدل ذل ِك ِ
َ
يز ذو ٱنتِقا ٍم﴾.
َ َ َّ ُ َ َّ َ َ َ َ َ ۡ َ َ َ َ َ ُ َّ ُ ۡ ُ َ َّ ُ َ ُ ٞ
ف ومن عاد فينت ِقم ٱلل مِن ۚه وٱلل ع ِز ل س ام ع ٱلل ا ف ع ِۦ هر َو َب َال أَ ۡ
م
ۚ ِۗ
َ ّ َُ َّ َ ُ
ك ۡم َص ۡي ُد ۡٱل َب ۡحر َو َط َع ُ ُ
ام ُهۥ َمتٰ ٗعا لك ۡم ِ -11سورة املائدة -آية ﴿ 96أحِل ل
َ َّ َّ َ َ ُ ّ َ َ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ ّ َ ُ ۡ ُ ۡ ُ ُ ٗ َ َّ ُ ْ َّ َ َّ ٓ َ ُ َ َ
ِي إِل ۡيهِ ت ۡحش ُرون﴾ ول ِلسيارةِۖوح ِرم عليكم صيد ٱلب ِر ما دمتم حرماۗوٱتقوا ٱلل ٱلذ
َ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ َ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ َ َ َ ٰ ٗ ّ َّ
اس ِلن ِ - 12سورة املائدة -آية ﴿ 97جعل ٱلل ٱلكعبة ٱلبيت ٱلحرام ق ِيما ل
َّ َ َّ ۡ َ ۡ َ َ َ َ ۡ َ ۡ َ َ ۡ َ َٓ َ َ ٰ َ َ ۡ َ ُ ٓ ْ َ َّ َّ َ َ
ت َو َما ٱلس َم ٰ َو ِٰ ٱلل َي ۡعل ُم َما ف ِي لئ ِ ۚد ذل ِك ل ِتعلموا أنوٱلشهر ٱلحرام وٱلهدي وٱلق ٰ
359 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ك ّل َش ۡي ٍء َعل ٌ َ َ َّ َّ َ ُ َۡ
ِيم﴾. ِ ِ ب ٱلل ن أ و ۡرض ِ ف ِي ٱلأ
َ َ َ ُ ۡ َ َّ ُ َ ّ َ ُ ُ َّ ُ َ ُ ۡ َ ُ ُّ َ َ ۡ َ ۡ
ج ِد -13سورة األنفال -آية ﴿ 34وما لهم ألا يعذِبهم ٱلل وهم يصدون ع ِن ٱلمس ِ
ۡ َ َ ِ َ َ َ ُ ٓ ْ َ ۡ َ ٓ َ ُ ٓ ۡ َ ۡ َ ٓ ُ ُ ٓ َّ ۡ ُ َّ ُ َ َ َ ٰ َ َ ۡ َ ُ َ َ َ
ك ّن أكث َره ۡم لا َي ۡعل ُمون﴾. ٱلحرام وما كانوا أول ِياءه ۚۥ إِن أول ِياؤهۥ إِلا ٱلمتقون ول ِ
ُ ٱق ُتلُوا ْ ٱل ۡ ُم ۡشرك َ َ َ َ َ َ َۡۡ ُُ ۡ ُ ُُ َ ۡ
ِين َح ۡيث ِ - 14سورة التوبة -آية ﴿ 5فإِذا ٱنسلخ ٱلأشهر ٱلحرم ف
ٱلصلَ ٰوةَ َ َ ُّ ُ ُ ۡ َ ُ ُ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ ْ َ ُ ۡ ُ َّ َ ۡ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ َّ
وجدتموهم وخذوهم وٱحصروهم وٱقعدوا لهم كل مرص ٖ ۚد فإِن تابوا وأقاموا
ِيم﴾.ٱلل َغ ُفورَّ ٞرح ٞ خ ّلُوا ْ َسبيلَ ُه ۡم إ َّن َّ َ َ َ َ ُ ْ َّ َ ٰ َ َ َ
وءاتوا ٱلزكوة ف
ِ ۚ ِ
ٱللِ َوع َ َ َّ َ َ ُ ُ ۡ ۡ َ َ
ِند ِين ع ۡه ٌد عِند - 15سورة التوبة -آية ﴿ 7ك ۡيف يَكون ل ِل ُمش ِرك
ۡ َ َ َ َ ۡ َ َٰ ُ ْ َ ُ ۡ َ ۡ َ ُ ْ ِند ٱل ۡ َم ۡ
دت ۡم ع َ َ ُ ٓ َّ َّ َ َ ٰ َ ُّ
ج ِد ٱلحر ِامۖ فما ٱستقموا لكم فٱستقِيموا ِ س رسولِهِۦ إِلا ٱلذِين عه
ين﴾. ب ٱل ۡ ُم َّتقِ ََ ُ ۡ َّ َّ َ ُ ُّ
حله ۚم إِن ٱلل ي ِ
ح َر ِام ارةَ ٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ حا ٓ ِ ّج َوع َِم َ - 16سورة التوبة -آية ﴿19أَ َج َع ۡل ُت ۡم س َِقايَ َة ۡٱل َ
ِ
َ َّ َ َّ ُ َ َ َّ َ
يل ٱللِۚ لا ي َ ۡس َت ُوۥن عِند ٱللِۗ و َ َ ََٰ َ َ َ ۡ َ َ َ َّ َ ۡ َ ۡ
ٱلل لا كمن ءامن بِٱللِ وٱليو ِم ٱٓأۡلخ ِِر وجهد ف ِي سب ِ ِ
ۡ َ ۡ َ َّ
ين﴾. ٱلظٰل ِ ِم َ َي ۡهدِي ٱلقوم
َٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ٓ ْ َّ َ ۡ ُ ۡ ُ َ َ َ َ َ ٞ
س فلا ﴿يأيها ٱلذِين ءامنوا إِنما ٱلمش ِركون نج - 17سورة التوبة -آية ٰ 2819
ِيك ُم َّ ُ َ ۡ َ ُ ْ َۡ ۡ َ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ ۡ َٰ َ ۡ ۡ ُ ۡ َ ۡ َٗ َ َ ۡ َ ُ ۡ ُ
ٱلل جد ٱلحرام بعد عا ِم ِهم هذاۚ ِإَون خِفتم عيلة فسوف يغن يقربوا ٱلمس ِ
ِيم َحك ٞ
ِيم﴾. ٱلل َعل ٌمِن فَ ۡضلِهِۦٓ إن َشا ٓ َء إ َّن َّ َ
ِۚ ِ
َ َ َ َّ ۡ َّ َ ُّ
ِند ٱللِ ٱث َنا َعش َر ش ۡه ٗرا ف ِي - 18سورة التوبة -آية ﴿ 36إِن ع ِّدةَ ٱلش ُهورِ ع
َّ َ ۡ َ َ َ َ َّ َ ٰ َ َ ۡ َ َ ۡ َ ٓ َ ۡ َ َ ٌ ُ ُ َ َ َ ۡ ُ ّ َ ٰ َ ٞ َ
ِين ٱلق ّي ِ ُ ۚم فلا ت وٱلأۡرض مِنها أربعة حرم ۚ ذل ِك ٱلد ب ٱللِ يوم خلق ٱلسمو ٰ ِ كِتٰ ِ
َ َ َّ ٗ َ َ ُ َ ٰ ُ َ ُ ۡ َ َّ ٗ َ ۡ َ ُ ٓ ْ َ ُ ْ ۡ ۡ ُ َ َ ُ َۡ ْ
تظل ُِموا فِي ِه ّن أنف َسك ۡ ۚم َوقٰتِلوا ٱل ُمش ِرك ِين كٓافة كما يقتِلونكم كٓافة ۚ وٱعلموا
ين﴾. أَ َّن َّ َ
ٱلل َم َع ٱل ۡ ُم َّت ِق َ
360
َ ُ َ َّ َّ َ ٓ ّ ٓ َ ۡ َ
نت مِن ذ ّرِ ّيتِي ب ِ َوا ٍد غ ۡي ِر ذِي َز ۡر ٍع ك ُ -19سورة إبراهيم -آية ﴿ 37ربنا إِن ِي أس
َۡ ٓ َ َ َ ۡ َ ۡ ُ َ َّ َ َّ َ ُ ُ ْ َّ َ ٰ َ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ ٗ ّ َ َّ
ي إِل ۡي ِه ۡم اس ته ِو ٱلن ِ فِدة مِن عِند بيتِك ٱلمحر ِم ربنا ل ِيقِيموا ٱلصلوة فٱجعل أ ٔ
ۡ ُ َ َ ۡ ُ ۡ ُ ّ َ َّ َ َ َ َّ
ت ل َعل ُه ۡم يَشك ُرون﴾.
وٱرزقهم مِن ٱلثمر ٰ ِ
ى ب َع ۡب ِده ِۦ لَ ۡي ٗلا ّم َِن ٱل ۡ َم ۡ ُ ۡ َ َ َّ ٓ َ
ج ِد س ٰ ِي أ ۡس َ
ر - 20سورة اإلسراء -آية ﴿ 1سبحٰن ٱلذ
ِ ِ
َ ٰ َ ۡ َ َ ۡ َ ُ ُ َ ُ ۡ َ َ ٰ َ ٓ َّ ُ ُ َ َّ َّ َۡۡ ۡ َ َ َ َۡ ۡ
يعٱلس ِم ُ ج ِد ٱلأق َصا ٱلذِي بركنا حولهۥ ل ِن ِريهۥ مِن ءايتِنا ۚ إِنهۥ هو ٱلحر ِام إِلى ٱلمس ِ
ير﴾.ۡٱل َب ِص ُ
َّ َ ون َ َّ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ُّ َ
ِ ٱلل يل
ِ ِ ب س ن ع -21سورة الحج -آية ﴿ 25إِن ٱلذِين كفروا ويصد
ۡ ۡ ٓ َۡ ُ َ َ ۡ َ ٰ ُ َّ َّ َوٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ
اس َس َوا ًء ٱلعٰكِف فِيهِ َوٱل َبادِ ۚ َو َمن يُ ِرد فِيهِ ِلن ِ ح َر ِام ٱلذِي جعلنه ل ِ
ُ ۡ ُّ ۡ ُ ۡ َ َ َ بإ ۡل َ
ِيم﴾. اب أل ٖ ذ ع ِن م ه ِق
ذ ن م
ٖ ل ظ حادِ ِۢ
ب ِِ
ٍ
َ ُ َ َ ۡ ۡ َ َ ْ ُ
﴿وقَال ٓوا إِن نّ ّتبِعِ ٱل ُه َد ٰ
ى َم َعك ن َتخ ّطف م ِۡن - 22سورة القصص -آية َ 57
َّ َّ ٗ َ َ ٓ َ َ َ ۡ ُ َ ّ ّ َ ُ ۡ َ َ ً َ ٗ ُ ۡ َ ٰٓ َ ۡ َ َ َ ٰ ُ ُ ّ َ
ت ك ِل ش ۡي ٖء ّرِ ۡزقا ّمِن ل ُدنا كن لهم حرما ءامِنا يجبى إِليهِ ثمر ۡرضنا ۚ أو لم نم ِ أ ِ
َ َٰ َ َ ۡ َ ُ َ َ َ
ك ّن أكث َره ۡم لا َي ۡعل ُمون﴾. ول ِ
َ َ ُ ۡ ْ َ َّ َ َ
- 23سورة العنكبوت -آية ﴿ 67أ َو ل ۡم يَ َر ۡوا أنا َج َعل َنا َح َر ًما َءام ِٗنا َو ُي َتخ ّطف
ۡ ُ َ َّ َ ۡ ََ ۡ َّ
اس م ِۡن َح ۡول ِ ِه ۡ ۚم أفبِٱل َبٰ ِط ِل يُؤم ُِنون َوبِن ِۡع َمةِ ٱللِ يَكف ُرون﴾. ٱلن ُ
وك ۡم َعن ٱل ۡ َم ۡسج ِد ۡٱل َ ُ ُ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُّ ُ
ح َر ِام ِ ِ - 24سورة الفتح -آية ﴿25هم ٱلذِين كفروا وصد
َ ۡ َ ۡ َ َ ۡ ُ ً َ َ ۡ ُ َ َ َّ
حل ُه ۚۥ﴾. وٱلهدي معكوفا أن يبلغ م ِ
َّ َ ۡ َ َ َ َّ ُ َ ُ َ ُ ُّ ۡ َ ۡ َ َ ُ ُ َ
ح ّ ِقۖ ل َت ۡدخل ّن - 25سورة الفتح -آية ﴿ 27لقد صدق ٱلل رسوله ٱلرءيا بِٱل
َ ُ َ ّ َ ُُ َ ُ ۡ ََُ ّ َ َ َ َ ُ َ
ٱلل َءا ِمن ِين محلِقِين رءوسكم ومق ِص ِر ام إن َشا ٓ َء َّ ُ ٱل ۡ َم ۡس َ ۡ َ َ
ين لا تخافونۖ جد ٱلح َر ِ ِ
ج َع َل مِن ُدون َذٰل َِك َف ۡت ٗحا قَر ً
يبا﴾. َف َعل َِم َما ل َ ۡم َت ۡعلَ ُموا ْ فَ َ
ِ ِ
361 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
لكل موضع من هذه اآليات في املوارد ّ
املفصل ّ ال يتسع املقام هنا للشرح
ّ
املذكورة أعاله غير أنه يمكن إجمال أغراضها في أنها متعلقة بتحديد وضبط
السلوكيات املتعلقة باملسائل الشعائرية والتعبدية في «فضاء بعض جوانب ّ
املكان الحرام» واملقصود به املسجد الحرام وكذلك في «فضاء الزمان الحرام»
واملقصود به األشهرالحرم .ومما ينبغي التنبيه إليه أن غالبية الترجمات باللغات
األوروبية للقرآن الكريم تترجم مفردات «الحرام» و ُ
«الح ُرم» املذكورة في موارد
املقدس في اللغات األوروبية مما يوقع اآليات املشار إليها أعاله بمفردات وألفاظ ّ
ُ
حتما في لبس واشتباه ال ينسجم وال يتفق مع مقصود وسياق الخطاب القرآني.1
وال يقتصر األمر على ترجمات القرآن فقط بل نجد تداول هذا االستعمال
ملفردة الحرام كمرادف للمقدس في الكتابات املختصة التي تتناول هذا املبحث
ومرد ذلك في تقديري هواملرجعية املفاهيمية واللغوية االصطالحية تحليال وتنظيرا ّ
املعتمدة في تقديم هذه التعريفات وهي تحديدا مستندة على الكتاب املقدس
ومعجم مفردات الخطاب الالهوتي املسيحي عموما .2إذ أنه ال يمكن إثبات
االدعاء أن في اإلسالم كمنظومة عقائدية وأحكام تشريعية وجود ألمكنة أو بلدان ّ
أو أ منة ّ
مقدسة ،قرونا كانت أو سنوات أو شهورا أو أياما. ز
ويمكن باإلضافة إلى ذلك التأكيد أنه ال يصح القول أيضا أن في اإلسالم كتبا
مقدسا ،حيث أنه لم يرد إطالقا إضافة صفة ّ
املقدس إلى القرآن مقدسة أو كتابا ّ
ّ
-1أكتفي في هذا املقام باإلشارة إلى الترجمات األملانية ملعاني القرآن الكريم املعتمدة في الحقل األكاديمي
العلمي مثل ترجمة املستشرق األملاني رودي باريت Rudi Paretحيث يترجم لفظ الحرام في اآليات
املذكورة بلفظ املقدس باللغة األملانية . heilig
Der Koran übersetzt von Rudi Paret. 8. Aufl. Stuttgart 2001.
وكذلك الشأن بالنسبة ألغلب الترجمات باللغة االنكليزية التي تمكنت من الرجوع إليها بما في ذلك التي ّ
تم
إنجازها من طرف مسلمين حيث يغلب اعتماد لفظ املقدس باالنكليزية sacredكترجمة للفظ الحرام في
اآليات املشارإليها ،انظرفي ذلك مثال ترجمة عبد هللا يوسف علي ملعاني القرآن باللغة االنكليزية.
An English interpretation of the Holy Quran. Abdullah Yusuf Ali 2001.
-2يوسف شلحد :بنى ّ
املقدس عند العرب قبل اإلسالم وبعده .ص 123 ،122
362
الكريم في أي مناسبة من خالل املتن
ما يلفت االنتباه بشدة هو ّ
قل القرآني ويصف القرآن ذاته في العديد
املواضع اليت يرد فهيا مفهوم من اآليات بأنه حكيم وكريم ومجيد
املقدس بصيغه واشتقاقاتهّ وعزيز ُومبين وشفاء ومبارك ُ
وهدى وبيان
اللفظية اخملتلفة يف املنت وموعظة وذكر ورحمة ونور .1وينبغي
القرآين ،حيث ّ
أن هذا الورود التنبيه في هذا السياق إلى أن تداول
يقترص عىل عرش مواضع فقط استعمال صفة ّ
املقدس مضافة للقرآن
الكريم يمكن تفسيرها من خالل ما
ينبغي اإلشارة إليه من التداخل السياقي
التثاقفي واللغوي عند االستعمال االصطالحي من خالل الترجمات املفاهيمية
الخاطئة للعديد من املفردات والتي ال تخلو من ممارسات إسقاطية محكومة
بهيمنة جهازمفاهيمي واصطالحي وابستمولوجي يمتلك دورا مرجعيا على املستوى
املعرفي والتعريفي .حيث أن العقل الغربي بما فيه العلمي األكاديمي يستعمل غالبا
عند تعاطيه مع النصوص الدينية األخرى بما في ذلك النص القرآني اصطالحاته
ومفاهيمه املنتجة في سياقه التاريخي واملعرفي والديني الخاص به دون االنتباه
-1سورة يس -آية ( 2والقران الحكيم)
سورة الواقعة -سورة - 56آية ( 77انه لقران كريم)
سورة ق -سورة - 50آية( 1ق والقران املجيد)
سورة البروج -سورة - 85آية ( 21بل هو قران مجيد)
سورة فصلت -سورة - 41آية ( 41وانه لكتاب عزيز)
ْ َ َ ُ ْ َ ُْ
اب ال ِب ِين) سورة يوسف -آية ِ ( .2تلك آيات ال ِكت ِ
سورة اإلسراء -اآلية(َ 82و ُن َن ّز ُل ِم ْن ْال ُق ْرآن َما ُه َو ِش َفاء)ٌ
َ َِ ْ َ ِ
اب أ َنزل َن ُاه ِإل ْي َك ُم َب َار ٌك)
سورة ص -اآلية (ِ 29كت ٌ
َ َ ْ َ ُ َ َ ْي َب فيه ُه ًدى ل ْل ُم َّتقين)َ
ِ ِ سورة البقرة -اآلية ( 2ذ ِلك الكتاب ال ر ِ ِ
َّ ُ َِ َ َ َ ٌ َّ َ ُ ً َ َ ْ َ ٌ ْ
اس وهدى ومو ِعظة ِللمت ِقين) سورة آل عمران -اآلية ( 138هذا بيان للن
ً ّْ ْ َ َ ُ ِْ َ ِ ْ
اب ال َح ِك ِيم ُه ًدى َو َر ْح َمة ِلل ُم ْح ِس ِن َين) ت ك سورة لقمان -اآلية ( 1-3الم تلك آيات ال
َ َ ِ َ ْ َ َ ْ ُ ْ ُ ِ ً ُِ ً
سورة النساء -اآلية (.174وأنزلنا ِإليكم نورا م ِبينا)
363 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
أو مراعاة ما يمكن أن يحدث ّ
جراء ذلك
من إسقاطات يتسبب إعادة تلقيها مرة
تداول استعمال صفة ّ
املقدس
أخرى دون مراجعة في الوقوع في دورات
مضافة للقرآن الكريم يمكن
وحلقات مفرغة من إعادة إنتاج سوء
تفسريها من خالل ما ينبيغ
الفهم املتكرر للذات ولآلخرعلى السواء.
اإلشارة إليه من التداخل
السيايق التثاقيف واللغوي ما يمكن التأكيد عليه في ختام هذه
املقاربة املوجزة هو أن التأسيس ملفهوم عند االستعمال االصطاليح
املقدس من خالل الخطاب القرآني بماّ
ّ
يمكن من إضافته ملا هو دنيوي وبشري
أمر غير متاح فال يمكن إسباغ صفة القداسة والقدسية سواء على أشخاص أو
النص القرآني ومقاصده ّ أفعال أو كتب أو أفكار أو أشكال خطاب باالستناد إلى
وتأسيسا عليه ،بل يمكن هنا الجزم بالقول أن صفة القدسية ّ
يتفرد بها هللا تعالى
تقدس له املالئكة وال يمكن استعمال القدوس الذي ّ دون سائر مخلوقاته فهو ّ
هذه الصفة في حق غيره وما سواه فال وجود لقول أو كالم مقدس وال وجود
مقدسة ناهيك عن مقدسة أو سياسات ّ لرأي أو حكم مقدس وال وجود لحروب ّ
ّ
فاملقدس في التصور اإلسالمي مقدسون،أشخاص ّيدعون ذلك ألنفسهم وبأنهم ّ
للدنيوي ولعالم الكون والفساد من خالل الخطاب القرآني غيب غائب ومفارق ّ
باملعنى األرسطي.
وأود أن أختم هنا بالتنبيه على هذا التداخل املفاهيمي املشار إليه أعاله
بين مفهومي املقدس والحرام حيث يكتسب الحرام بمعناه الفقهي ،أي ّ
املحرم
واملمنوع والواجب االنتهاء عنه وتركه ،طابعا وصبغة ال تخلو من قداسة.
وتجدراإلشارة هنا في هذا السياق إلى مالحظة أبداها محمد أركون تبرز هيمنة
الخطاب الفقهي بمقوالته وأحكامه على الخطاب الديني والفكري اإلسالمي
364
عموما 1وهو ما ينبغي النظر فيه دون هذه املسبقات ويجدر التنبيه أيضا إلى
املحرم تحتاج مزيدا من التفكيك لسبر أن هذه العالقة بين ّ
املقدس والحرام أو ّ
لعل ذلك يساهم في رفع ما هوسائد عموما من صيرورة تشكلها ومفاصل ارتكازها ّ
ّ
اللبس وااللتباس املفاهيمي ّ
مما نعيش تداعياته وآثاره عمليا وحياتيا في السياق
العربي واإلسالمي عموما ،ومما يجعل إيالء هذه املباحث مزيدا من االهتمام
والتركيزذا أهمية حيوية مرتبطة ّ
بتحوالت وأزمات الواقع وليست إطالقا من باب
الترف الذهني.
-1أركون ،محمد :من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي دارالساقي لندن . 1991ص101، 100 .
365 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الئحة املصادرواملراجع
366
املصادرواملراجع االجنبية
367 م2020 يناير- ه1441 جمادى األولى3 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد
الرتمجة
هل تدعو األسفار املقدسة
حقا إىل العنف؟
-ترمجة -
د .سعيد كفايتي
تتضمن هذه املقالة ترجمة للفصل التاسع املعنون ب ـ ـLes livres sacrées؟,
violentsاملوجود ما بين الصفحة 211والصفحة 233في كتاب Sur la religion
ملؤلفه الفيلسوف الفرن�سي الشهير Rémi Bragueوقد صدرالكتاب سنة 2018
بدار نشر ،Flammarionباريس .وقد شكل صدوره حدثا ثقافيا كبيرا تعكسه
وفرة الكتابات حوله ،وكان هناك إجماع على أهمية القضايا التي أثارها .وبما أن
املؤلف ُيشير إلى الكتاب املقدس بعهديه القديم والجديد ،مكتفيا فقط بتحديد
اإلصحاح واآلية ،فقد حرصنا على إحالة القارئ العربي إلى االستشهاد كامال،
وذلك حتى تتضح الفكرة في ذهنه.
النص:
هل يمكن للعنف الذي ُيمارس باسم هذه الديانة أو تلك أن يعتمد على
النصوص املؤسسة لها؟ سأقتصر ها هنا على الوثائق التي تتمتع بالسلطة والتي
تحظى باإلجماع من لدن ديانة ما أو من لدن مجموع الديانات املسماة الديانات
التوحيدية ،وهي التسمية التي أراها غيرمناسبة ولكن مع ذلك احتفظ بها ها هنا
طلبا للتبسيط.
371 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
نكرر تقريبا دون تمييز بأن العنف موجود في النصوص املقدسة .ال تقنعني
ُ ُ
قاعدة فضفاضة مثل تلك التي تقر بوجود ال�شيء فقط .فمن شأنها أن تغذي
الكسل الفكري وتمنع التحقيق الدقيق الذي من املفروض أن تقوم به .يجب
في واقع الحال أن نعرف ،بدقة ،أي نمط من التلفظ اتخذ العنف موضوعا له.
لنقم بتيبولوجيا .سآخذ كخيط ناظم ثالث ملكات :ملكة الذاكرة ،ملكة التخيل،
ملكة اإلرادة .وتتقاطع هذه امللكات الثالث مع األبعاد الزمنية الثالث :املا�ضي،
املستقبل ،الحاضر.
تصنيف
ُ - 1يمكن للعنف أن ُيروى.
أ -يمكن أن يكون موضوعا لقصة ما تروي أحداثا من املفروض أنها حدثت فعال.
هذا هو حال املذابح املرتبطة بغزو أرض كنعان كما وردت سفر يشوع .فساكنة
ُ
بعض املدن قتلت بالسيف عن بكرة أبيها ،بما في ذلك النساء واألطفال وحتى
الحيوانات .في األسفار الخمسة فإن الالويين الذين ُعهد إليهم بأداء الطقوس
الخاصة بإله إلسرائيل لم يتورعوا حتى عن قتل إخوانهم أو أبنائهم إذا ما انخرط
هؤالء في عبادة العجل الذهبي.1
ويمكن أن نذكر أيضا مشهد جبل الكرمل .فقد قدم كهنة بعل الدليل على
عدم جدوى تضرعاتهم من أجل نزول املطر فتم ذبحهم على يد النبي إيليا.2
وتعتبر قصة امللك ياهو عبارة عن سلسلة متتابعة من املذابح واالغتياالت التي
ذهب ضحيتها كهنة بعل .3و يحفل سفرا املكابيين املوجودان فقط في الترجمة
اليونانية للكتاب املقدس بالصور الدموية مثل تنفيذ اإلعدام في حق سكان
َ ْ َ ُ ََ َ ْ َ ُ َ ْ ُ ْ َ ال َّ ُّ َ ُ ْ َ َ َ ُ ُ ُّ َ «ه َك َذا َق َال َل ُه ْمَ : َ
«ف َق َ
الرب اله َاسرا ِئ ُيل :ضعوا كل و ِاح ٍدُ سيفه علَى ف ِخ ِذ ِه َو َم ُّروا وار ِجعوا ِمن ب ٍ
اب
ُ ُ ْ َّ َ ْ
-1
َ
َ َ
الوي ِبحس ِب ُ َ َ َ ُ َ َ ُّ َ ُ َ َ َ ُّ َ ُ َ ُّ ُ َ َ َ
اح ٍد َص ِاحبه وكل و ِاح ٍد ق ِريبه» ..ففعل بنو ِ اب ِفي الح َل ِة واقتلوا كل و ِاح َ ٍد اخ ْاه وكل و َِ ٍ الى ب
االف َر ُج ٍل» .سفرالخروج .)27-28 :32 َ َْ َ ُْ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َّ ْ
قو ِل مو�سى .ووقع ِمن الشع ِب ِفي ذ ِلك اليو ِم نحو ثالث ِة ِ
( - 2سفرامللوك األول )20-40 :18
( - 3سفرامللوك الثاني 9-10
372
سنسجل مشهدا شديد الرعب ُ ُ 1
صور بكل حذق البالغة الهلينية مدينة عفرون .
حيث تم الهجوم على موكب عرس والقضاء على من فيه.2
أ -يمكن للعنف أن يكون موضوعا للتخييل حيث ُيكلف املستمع بفك شفرة
املعنى .وهذا هو الحال في بعض «األمثال» .ومن ذلك قصة الكرم حيث يرفض
الكرامون دفع األقساط إلى املالك ،ويقتلون عبيده ،وابنه .وجوابا عن سؤالهم
َ ً ً ُ َ ُ َ
الذي طرحوه على عي�سى يجيب :أول ِئ َك األ ْر ِد َي ُاء ُي ْه ِلك ُه ْم َهالكا َر ِد ّيا .3نالحظ بأن
ليبثوا فيه .فاالبن الحقيقي هذا الجواب املفعم بحس االنتقام ُترك للمستمعين ُ
املضحى به الذي ُيحيل عليه النص فقد طلب من والده أن يعفو عن جالديه.4
أو أيضا ذلك امللك الذي وجه دعوات لحضور حفل عرس ابنه .هنا أيضا تم
سفك دماء الضيوف فاغتاظ امللك وبعث جحافل من جيشه للقضاء على
« -1فأهلك كل ذكربحد السيف ودمرها وسلب غنائمها واجتازفي املدينة من فوق القتلى» سفراملكابيين
األول )51 :5
ن
اخبريوناتان وسمعان أخاه أن بني يمر يقيمو عرسا عظيما ويزفو العروس من ن ي األمور « -2وبعد هذه
ميدابا باحتفال عظيم وهيابنة بعض عظماء كنعان فذكروا يوحنا أخاهم وصعدوا واختبئوا وراء الجبل
ثم رفعوا أبصارهم ونظروا فإذا بجلبة وجهازكثيروالعروس وأصحابه وإخوته خارجون للقائهم بالدفوف
وآالت الطرب وأسلحة كثيرة فثار عليهم رجال يوناتان من املكمن وضربوهم فسقط قتلى كثيرون وهرب
الباقون إلى الجبل فاخذوا كل أسالبهم و تحول العرس إلى مناحة وصوت آالت طربهم إلى نحيب» (سفر
املكابيين األول .)37-41 :9
َ َ ُ َ ُ ُ َ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ُ ُ ْ َ َ ً َ ّ ً َ ُ َ ّ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ ُ َ ُ َ ْ َ َ َ ْ َ
« -3قالوا له« :أول ِئك األر ِدياء يه ِلكهم هالكا ر ِديا ويس ِلم الكرم ِإلى كر ِامين آخ ِرين يعطونه األثمار ِفي أوق ِاتها».
(متى .)41 :21
َ َ َْ َ َ ُ َ ُّ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ
ات ُرؤ َس ِاء الك َه َن ِة .ف َحك َم وص أو م ه اتوص أ ت يو ق ف . ب ل ص ي ن أ ين ب ال ط ة يم ظ ع ات
ٍ و ص أ ب نو ج « -4فكانوا يل
وه َو َأ ْس َل َم َي ُسوعَ الس ْجن َأل ْجل ف ْت َنة َو َق ْتل َّالذي َط َل ُب ُ
ِ
ّ َ َ ُ ُ َ ْ َِ ُ َ ِ ْ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َِ َ َ ٍ ُ ُ ِ َّ ِ ُ
َ ِبيالطس أ َن تكون ِطلبت َهم .فأطلق لهم ال ِذيً َط ِرح ِفي ً َ ِ ِ ً ِ ْ ِ ٍ ٍ ِ
يب ِل َي ْح ِمل ُه الص ِل َ ض ُعوا َع َل ْي ِه َّ ان آتيا م َن ال َح ْقل َو َو َ َ َ ُ ْ َ ّ َ َ ُ َ َ َ َّ َ
َ ْ َ َ ِ ْ ِل ِْشيئ ِت ِه ْم .ولا َمض ْوا ِب ِه أ ْمسكوا ِس ْمعان َرجال قي َروا ِنيا ك ِ ِ
َ َ ً ُ َّ ّ ور ٌ َ َّ َ وعَ .و َتب َع ُه ُج ْم ُه ٌ َ َ
الن َس ِاء الل َوا ِتي ك َّن َيل ِط ْم َن أ ْيضا َو َي ُن ْح َن َعل ْي ِه .فال َتف َت ِإل ْي ِه َّن ِ والش ْعب َ
ِ ن م ِ ير ث
ِ ك ِ
ف َي ُس َ خل
َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ َ َ َ َ ْ َ ُ َّ َ َّ ُ ُ َ َ َ َّ ٌ َ ْ
ات أورش ِليم ال تب ِكين علي ب ِل اب ِكين على أنف ِسكن وعلى أوال ِدكن .ألنه هوذا أيام تأ ِتي يسوع وقال« :يا بن
ُ َ ُ َ ْ َ َّ َ ُ ُّ ْ ُ َّ َ َ ِْ ُ ُ َ
َي ُقولون ِف َيها :ط َوبى ِلل َع َوا ِق ِر َوال ُبطو ِن ال ِتي ل ْم ت ِل ْد َوالث ِد ّ ِي ال ِتي ل ْم ت ْر ِض ْعِ .حين ِئ ٍذ َي ْب َت ِدئون َي ُقولون ِلل ِج َب ِال:
ْ ُ ُ َ َ َ َ ُ ْ ْ ُ َ َ ّ َ َ َ
س؟»َ .و َج ُاءوا ِ الرط ِب َيف َعلون َهذا ف َماذا َيكون ِبال َي ِاب ْ ود َّ ِ اس ُق ِطي َعل ْينا َوِلآلك ِام :غ ِطينا .ألنه ِإن كانوا ِبال ُع
ْ ُ َّ َ َ ْ
وه ُه َناكَ ص َل ُب ُ «ج ْم ُج َم َة» َ ض ْوا به إ َلى ْالَ ْوضع َّالذي ُي ْد َعى ُ آخ َرْين ُم ْذن َب ْين ل ُي ْق َت َال َم َع ُهَ .و َلَّا َم َ َْ ً َْْ َ
أيضا ِباثني ِن
َ َ َ َ َ َ ِ َِ َِ ُ ُ ِ ِ َ ِ ْ َ َ َ
ًِ ِ ِ ِ
ُْْ
وع«َ :يا أ َب َت ُاه اغ ِف ْر ل ُه ْم أل َّن ُه ْم ال َي ْعل ُمون َماذا َم َع الذ ِن َب ْي ِن َو ِاحدا َع ْن َي ِمي ِن ِه َواآلخ َر َع ْن َي َس ِار ِه .فقال يس
َ َْ َْ ُ َ
َي ْف َعلون»َ .وِإ ِذ اقت َس ُموا ِث َي َاب ُه اقت َر ُعوا َعل ْي َها»( .لوقا .)23-34
373 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
القتلة وإحراق مدينتهم .1وداخل إطار هذه األمثال أي تلك التي جاءت على شكل
ُ
سرديات متخيلة أو هكذا ُينظر إليها فإن مشاهد القتل تعتبر عقوبات مستحقة.
هناك مثل شديد التعقيد يمزج بطريقة رعناء بين قصتين مختلفتين في األصل
متمثال في الرواية التي يقدمها لوقا عن «مثل الوزنات» .فالقصة اإلطار تروي
كيف أن شخصية رفيعة سافرت إلى بالد أجنبية الستالم الحكم ،وبعد عودته
ذبح من الوريد إلى الوريد وفي حضرته أولئك الذين تآمروا عليه.2
ج -يمكن للعنف في األخير أن يكون موضوع عملية إخراج فني .وفي نظري
ينبغي أن نفهم على هذه الشاكلة القصة الطريفة للتجارالذين تم إبعادهم عنوة
من الهيكل ،وهو املشهد الذي ألهم بطابعه الفرجوي عددا من الرسامين ،بما
فيهم . Giotto, El Grecيجب النظر إليه كأنه دليل على العنف الذي مارسه
املسيح ،سواء من أجل لومه في الغالب أو من أجل تبرير التيار األكثر تشددا في
الهوت التحرير .ومن خاصيات هذا املقطع أننا نجده في األناجيل املتشابهة (متى
12-13 :21ومرقس 15-17 :11ولوقا )13-22 :19وفي اإلنجيل الرابع (يوحنا :2
.)13-22
في الواقع إن ما قام به املسيح يجب أن يكون تأثيره محدودا ألنه إذا ما انقلب
إلى العنف فإن الحامية العسكرية الرومانية ستتدخل .وردود فعل أولئك الذين
ُ
يدعوهم يوحنا باليهود تبين حقيقة ما وقع ،أي إحدى السلوكات النبوية التي
تعتبر أشبه ما تكون بأمثال حية وملموسة يحفل بها الكتاب املقدس خاصة في
سفري أرميا وحزقيال .ويدرك اليهوذيون الذين كانوا في عين املكان هذا جيدا فهم
أبعد ما يكونون عن االحتجاج والتعنت حينما طلبوا من املسيح أي العالمات التي
يمكنه إظهارها لتبريرادعائه أنه نبي.3
َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ َ َ ُ ُ َ َ َ ُ َ ْ َ
ود ُه َوأ ْهل َك أول ِئ َك القا ِت ِل َين َوأ ْح َرق َم ِد َين َت ُه ْم( .متى )7 :22 -1فلما س ِمع ال ِلك غ ِضب وأرسل جن
ْ َ ُ َ َ َْ ُ ُ ُ َ َُْ َ َ َ َّ َ ْ َ ُ َ َ َّ َ َ
وه ْم ق َّد ِامي (لوقا .)27 :19 ين ل ْم ُي ِر ُيدوا أ ْن أ ْم ِل َك َعل ْي ِه ْم فأتوا ِب ِهم ِإلى هنا واذبح -2أما أعدائي أولئك ال ِذ
َ َ َ َ ُ ْ ِ َ ُ ُ ِ َ َّ َ َ ُ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ
-3فسأله اليهود« :أية آي ٍة ت ِرينا حتى تفعل هذا؟ يوحنا 18 :2
374
- 2يمكن للعنف أن يكون شيئا مرغوبا فيه.
أ -مرغوبا فيه وذلك نكاية باملضطهدين حيث يريد الضحايا االنتقام منهم.
والضحايا كما الحظ ذلك رونيه جيرار René Girardال يكونوا دائما مهذبين
جدا أمام جالديهم .وهكذا فإن اليهود املنفيين إلى بابل كانوا يحلمون بدورهم بأن
يهشموا على الحائط رؤوس أبناء حراسهم .1فهذه الرغبة املجنونة لالنتقام يمكن
أن تتحول إلى مجرد خيال أو حتى حلم مثلما هو الحال في جنس األدب الرؤيوي.
فقبل ظهور هذا الجنس كانت ثمة نصوصا (غير قانونية ) تنسب إلى قمران مثل
«قواعد الحرب» التي تقدم شكال في وضعية انتقالية .2فأبناء النور تحت قيادة
رئيس املالئكة كان من املفروض أن يهلكوا أبناء الظالم الذين يقودهم بليال.
فمراحل الحرب اآلسكاتولوجية تم وصفها بدقة متناهية :األسلحة ،و النافخون
في البوق ،واملالبس العسكرية .ال �شيء تم إغفاله سوى صحة هذه الوقائع.
ب -التضرع بالعنف في صيغة فيها الكثير من الغلو :فمن ُيسبب الفضائح
خير له لو طوق عنقه بحجر رحى وطرح في البحر .3فهاهنا ليس هناك أي قاعدة
قانونية ،هل ذلك بسبب أن كلمات «خير له» تبين أن األمر يتعلق بممتلكات
َ
«ك َ
ان املذنب ،وليس بعودة العمل بقاعدة تم خرقها .واملقطع املوازي األقرب هو
َ ْ ً َ َ َّ َ َ َ
الر ُج ِل ل ْو ل ْم ُيول ْد» .4وهو التصريح الذي ال يمكن أن ُيشكل تهديدا خيرا ِلذ ِلك
طاملا أن التمني جاء على أية حال متأخرا.
ُ َ َ ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ
الصخ َرة (املزامير )9 :137 -1طوبى ِلن يم ِسك أطفال ِك ويض ِرب ِب ِهم
2- Kriegsrole, dans Die Texte aus Qumran. Hebraisch und deutsch, éd E.Lohse, Munich,
Kösel, 1964, p. 180-225.
ْ ُ َ َ َ ُ َ ُْ
الص َغ ِار ال ْؤ ِم ِن َين ِبي ف َخ ْي ٌر ل ُه ل ْو ط ّ ِوق ُع ُن ُق ُه ِب َح َج ِر َر ًحى َوط ِر َح ِفي ال َب ْح ِر» (مرقس :9 «َ -3و َم ْن َأ ْع َث َر َأ َح َد ّ
َّ َ َ َ َ ْ
ّ َ ُْ ِ َ َ ْ ََْ َ َ َ ُ َ
َ َ
الصغ ِار الؤ ِم ِن َين ِبي فخ ْي ٌر ل ُه أ ْن ُي َعل َق ِفي ُع ُن ِق ِه َح َج ُر (متى « .)6 ْ:18ومن أعثر أحد هؤ ِ ِ
ء ال ،)42وانظر
ْ َ َّ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ
الرحى ويغرق ِفي لج ِة البح ِر» (متى .)6 :18
الر ُجل َّالذي به ُي َس َّل ُم ْاب ُن اإل ْن َسانَ .كانَ َّ وب َع ْن ُه َو َلك ْن َو ْي ٌل ل َذلكَ
ٌ ْ َ
اض ك َما ُه َو َمك ُت
ْ
«إن ْاب َن اإلن َسان َم َّ -4
ِ ِ ِ ِ ِِ ِ ِ ِ َ ْ ً َ َ َّ ِ ُ َ ِ ْ َ ْ ُ ٍ َْ
خيرا ِلذ ِلك الرج ِل لو لم يولد» (متى )24 :26
375 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ج -استحضار العنف باعتباره تهديدا ُيلوح به اإللهُ ،ويترك للدار اآلخرة.
فالكثير من الديانات تعرف جهنم ،والتي تتفاوت في وصفها من حيث التفاصيل
ومن حيث السادية .فالبوذية الصينية تعرض مشاهد التعذيب التي ُيسلطها
الشياطين على امللعونين وذلك في لوحات تنبض بالحياة .يذكر أفالطون أيضا،
لكن في األساطير ،عقوبات جهنمية التي ال حد لها بالنسبة للعصاة والطغاة على
حد سواء.1
ففي مشاهد الوصف التي يحتوي عليها العهد القديم فإن الدودة ال تموت.2
وفي العهد الجديد ُيدفع يوحنا ،بهمة ونشاط ،في بحيرة بها نار الشياطين
وخدمهم .3وحسب القرآن الكريم فإن هللا يبدل جلود الكافرين بجلود أخرى
ليذوقوا العذاب من جديد.4وقد أزعجت مثل هذه التفاصيل في القرن العاشر
امليالدي العلماء املوسوعيين امللقبين بإخوان الصفا .5والتلمود البابلي في نسخته
التي نجت من الرقابة يظهر املسيح في جهنم وهو يعاني األمرين من محنة الخراء
املغلى.6
376
ليس من العسير أن نرى في هذه األشياء كلها أحاسيس املستضعفين أمام
أولئك الذين يسيطرون عليهم .من الضروري اإلصغاء هنا إلى نيتشه الذي
استطاع أن يكشف النقاب عن هذه العاطفة الحزينة التي تعتبر على األقل
واحدة من مصادرالديانة.1
- 3يمكن للعنف أن يكون مطلوبا .وقد يتعلق األمربما يلي:
أ -بقاعدة ثابتة سنها قانون معين بهدف معاقبة مرتكبي بعض الخروقات.
ومثال ذلك قانون العقوبات في إسرائيل القديمة كما هو معروف لدينا من خالل
التوراة.
فقد عرف هذا القانون عقوبة اإلعدام في عدة حاالت ،بما في ذلك بعض
الحاالت التي تثيراستغرابنا في الوقت الراهن ،والتي تغيظنا كثيرا .وهذا ما ينطبق
يش» .2وقد أف�ضى هذا اإلصحاح إلى وقوع نكبات خالل على «ال َت َد ْع َس ِاح َر ًة َت ِع ُ
تعقب الساحرات التي ميزت القرنين السادس عشروالسابع عشرفي أوروبا.
وقد سن أحد اإلصحاحات عقوبة الرجم بعد إجراء البحث ضد أي شخص
يعبد ويخدم آلهة أخرى غيرإله إسرائيل.3
وعوقبت سدوم بدورها بالهالك في التوراة 4.كما سيحدث الحقا في اإلسالم
377 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
سواء في القرآن الكريم 1أو في الحديث الشريف .2ويرفض العهد الجديد سلوك
املثليين ،3ويهددهم بالجحيم إن هم آتوا هذه الفاحشة .4غير أنه ال يحتوي على
أي موقف تشريعي ُيطبق في الحياة الدنيا.
ج -يمكن أن يكون أمرا باستعمال العنف في وقت محدد ضد صنف من
الخصوم يتعين محاربتهم من أجل قتلهم أو أسرهم.
ينبغي التمييز بين نوعين من األحكام :أحكام مهجورة ويعود ذلك إلى أن من
شرعها اشترط أن تكون سارية املفعول في حالة مخصوصة وفي زمان ومكان
معينين .أما النوع الثاني من األحكام فقد أصبحت مهجورة ألن أسباب النزول لم
تعد قائمة .لكن لنفترض أن أسباب النزول ظهرت من جديد ،في هذه الحالة فإن
األمر يصبح نافذا .هكذا فإن مو�سى بن ميمون يوضح بأن الحكم القا�ضي بإبادة
القبائل الكنعانية السبع ،وخاصة املنحدرين من نسل عماليق ،كما ورد في سفر
التثنية ،5سيظل ساري املفعول.6
ليس كافيا إذا القول بأن هذا الحكم أو ذاك لم يعد نافذا ألنه ال يكون ساري
املفعول إال في ظروف معينة تنتمي إلى ماض بائد .لكن إذا ما افترضنا بأن هذه
وه َّن ِفي نك ْم َفإن َشه ُد ْوا َف َأ ْمس ُك ُ ّ َ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َّ َ ْ َ َ ً ّ ُ َ َ
«َ -1والال ِتي َيأ ِت َين ال َف ِاحشة ِمن ِنسا ِئكم فاستش ِهدوا علي ِهن أربعة ِم
ْ ْ َّ
ِ ِ ِ
َ َّ َ َ َ َ َّ ُ َّ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ َّ ُ َ ُ َّ َ ً َ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ
صل َحا وت حتى يتوفاهن الوت أو يجعل الله لهن س ِبيال .واللذان يأ ِتي ِانها ِمنكم فآذوهما ف ِإن تابا وأ ِ ال َ ُب ُي
َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َّ َّ َ َ َ َ
ان ت َّو ًابا َّر ِح ًيما» سورة النساء 15-16 فأع ِرضوا عنهما ِإن الله ك
ُ
,Abu Dawud , Sunan, 33 (Punitions), n0 4447-4448 -2تنظرأحاديث صحيحة أخرى
َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ ْ َ َ َّ
ال الط ِب ِيع َّي ِبال ِذي َعلى ِخال ِف االس ِتعم «ِ -3لذ ِلك أسلمهم هللا ِ َإلى أهو ِاء الهو ِان ألن ِإن ُاثهم استبدلن ِ
اع ِل َين ف
َ
ض اش َت َع ُلوا ب َش ْه َوته ْم َب ْعضه ْم ل َب ْ
ع
ور ْ ً َ َ ْ ْ َ َ ْ َ َّ َّ ْ
يع ِةَ .وكذ ِل َك الذك ُ أيضا ت ِار ِكين اس ِتعمال األنثى الط ِب ِيعي
ُّ ُ َّ َ َ َ
الطب
ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ِِ ْ َ ِْ َ َ ُ ُ ً ُ ُ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ
َّ ُْ
ور ونا ِئ ِلين في أنف ِسهم جزاء ضال ِلهم ال ِحق» رومية )26-27 :1 الفح َشاء َذكورا ِبذك ٍ
َ
ض ْت َو َر َاء َج َس ٍد آخ َر، ور َ َ ِ ْ ُ ُ َ َّ ِ َ ْ َ ُ َ ْ ِ َِ َن ْت َع َلى َطريق م ْثله َما َو َم َ َ مُ وم َو َ
ع « -4ك َما أ َّن َس ُد َ
ِ ٍ ِ ِِ ز ذ إِ ا، م ه لوح ي تِ ال ن د ال و
َ ة
َ
اب ن ٍار أ َب ِد َّي ٍة» .يهوذا 7 ُجع َل ْت ع ْب َر ًة ُم َكاب َد ًة عق َ
َ
ُ ْ َ َّ ُّ ُ َ َ ً
يبا ِل َت ْم َت ِل َكهاَ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ ِ َ َ َ ِ َ َ َ َِ َّ ِ ُّ ُ َ ْ َ َ
التي يع ِطيك الرب ِإلهك ن ِص ض ِ َ« -5فم ْتى أراحك َالرب َ ِإلهك ِمن ج ِم ِيع أَ ْعدا ِئك حولك ِفي األر ِ
س» (التثنية )19 :25 ت ْم ُحو ِذك َر َع َم ِاليق م ْن ت ْح ِت َّ
الس َم ِاء .ال تن َ ِ
6- Maïmonide, Sefer ha-Mitsvot, Commandements positifs, n0187, éd Y.Qafih, Jérusalem,
Mosad Rav Kook, 1994, p. 153-154; tr.fr A-M.Geller, Lausanne, L’âge d’homme, 1987, p.
170-171.
378
الظروف استجدت أو أن البعض اعتبر أن لديها راهنية في العصر الحاضر ،في
هذه الحالة فإن األحكام ذات الصلة يمكن أن تستمد حيويتها األصلية..
ه -يمكن أن يتعلق العنف ببرنامج نعده نحن ألنفسنا .وهذه حالة الدعوة
ُْ َ َ ُ ُّ َ ّ ْ ُ ُ ْ َ َ َ ً َ َ َ
ضَ .ما ِج ْئ ُت ِلل ِق َي
ِ راأل ْ الشهيرة للمسيح« :ال تظنوا أ ِني ِجئت ِلل ِقي سالما على
ً َ ً
َسالما َب ْل َس ْيفا» .1إن التغا�ضي عن هذه الدعوة ،واالفتراض بأنها ناتجة عن خطأ
الناسخ مثلما علل ذلك فولتير وهو يحاور املسيح في العالم اآلخر ُيعتبر عمال
ََ ُ َ َّ
تبسيطيا إلى حد ما .2ولتلك الدعوة ما يوازيها عند لوقا« :أتظ ُّنون أ ِني ِج ْئ ُت
ً ْ َ َّ َ ُ َ ُ ُْ َ َ َ ً ََ َ
ض؟ كال أقو ُل لك ْم! َب ِل ان ِق َساما» 3.فهو يشكل سلفا محاولة ِ راأل ْ ألع ِطي سالما على
في التأويل املجازي .واألرجح بأن األمر يتعلق باستعارة على شاكلة قولنا بأن هذا
الحكم نافذ .أما بخصوص للسيف امللموس فإن الحكم الوحيد الذي سنه
4
املسيح هو وضعه في الغمد.
تاريخ أو تواريخ
إن الحروب التي خاضها بنو إسرائيل ضد أعدائهم هي من الوقائع التي يمكن
للمؤرخين الوصول إليها اعتمادا على الوثائق واآلثار .وهكذا فإن الحرب ضد
مؤاب التي رواها الكتاب املقدس 5نجد لها شاهدا ،وإن جاء في لهجة مختلفة ،في
النصب الذي أقامه حوالي 840ميشع ملك موؤاب ،واملحفوظ في متحف اللوفر.
من ناحية أخرى وفي الوقت الذي ال تعوزنا فيه الوثائق عن وجود جماعات من
«اليهود» في مصرالفرعونية ،وفي الوقت الذي ورد فيه إسرائيل باالسم في نصب
مرنبتاح فإن حدثا مثل الخروج ،والذي يحتل مكانة مركزية في تمثل إسرائيل
-1متى 34 :10
2- Voltaire, Dictionnaire philosophique, article Religion, section II, éd.J.Benda et Naves,
Paris, Garnier, s.d . , t.2, p. 355
-3لوقا 51 :12
ُ ََ ْ َ َ َ َ ُ ُ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ ْ ْ َ ْ ُ َّ َ َ
اآلب أال أش َ ُرب َها؟ يوحنا .11 :18 س ال ِتي أ ْعطا ِني -4فقال يسوع ِلبطرس« :اجعل سيفك ِفي ال ِغم ِد .الكأ
-5امللوك الثاني 4-27 :3
379 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
لتاريخها ال أثر له في الحوليات املصرية .1األرجح أن الروايات حول غزو كنعان
هي ثمرة تخيالت تعود إلى املا�ضي ،وتحديدا إلى األوساط اليهوية في أورشليم التي
كانت تتطلع من خالل حلقات تاريخية إلى إبراز رغبتها في إقامة طقوس حصرية
لإلله املعبود .وال تؤكد األركيولوجيا أن أرض إسرائيل كانت موضوع غزو مفاجئ
وسريع.
ما ُيروى عن إبادة القبائل الكنعانية في العصور القديمة هو في حقيقة األمر
تحديد موقع في املا�ضي لرغبة ،ال تزال حاضرة بقوة ،في استئصال الوثنية .لم
تتحقق هذه الرغبة ،قطعا ،إال بشكل جزئي .كان ذلك ،على سبيل املثال ،خالل
حكم امللك يوشيا الذي حظي بتقريظ مؤرخي ما ُيعرف باسم املدرسة التثنوية
ألنه أبقى هيكل أورشليم ودمر ما عداه من أماكن العبادة األخرى .2وتتضمن
بعض املقاطع املسلية حججا واهية .هكذا فإن شعب إسرائيل تلقى من جهة
أمرا بإبادة (اللعنة ،عدم العفو) الشعوب التي تم غزوها (محرما للرب ،عدم
العفو ،)..وعدم التصاهر معهم من جهة أخرى .3وهو ما يؤدي إلى افتراض وجود
أصهاروزوجات أبناء بعد إبادة كان من املفروض أال تبقي وال تذرأحدا.
في جميع الحاالت فإن هذه النصوص ُحررت في وقت لم تكن فيه الوضعية
الحقيقية لصالح الشعب العبري .بل بالعكس فقد كانوا باألحرى محاصرين
ما بين قوى اإلمبراطورية املصرية و إمبراطورية بالد الرافدين ،في وضعية ال
يحسدون عليها متخذين أرضهم ساحة للمعركة .فروايات الحرب املذكورة في
الكتاب املقدس هي أحالم تعويضية وليست وقائع تاريخية .وهذا األمر ينطبق
1 - Textes dans K.Galling et al., Textebuch zur Geschichte Israels, Tübingen, Mohr, 1950,
n0 24, p.47-49, et n017, p.34
- 2امللوك الثاني 22-23
َ َ َ ُ ُ َّ ُّ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َّ َ ُ َ ّ ُ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ً
دا َوال ُت ْشف ْق َع ْليه ْمَ .وال ُت َ
صاه ْر ُهمْ.
ِ ِ ِ « - 3دفعهم الرب ِإلهك أمامك وضربتهم ف ِإنك تح ِرمهم .ال تقطع لهم عه
َْ ُ ْ َ ُ َ
ْابن َت َك ال ت ْع ِط ِال ْب ِن ِه َو ْابن َت ُه ال تأخذ ِال ْب ِن َك» التثنية .)2-3 :7
380
أيضا على األدب العبري ملا بعد مرحلة العهد القديم ،ومن ذلك sefer yosippon
الذي تم تأليفه جنوب السودان حوالي 950م ،والذي ضخم تاريخ فالفيوس
ينسب إلى جيوش إسرائيل انتصارات لم ُيكتب لها أبدا التحقق على جوزيف وهو ُ
مستوى الواقع .1إن تعايش الكنعانيين مع بني إسرائيل ،ومن ثم عدم تعرضهم
لإلبادة هي الفكرة التي تريد بعض الروايات تعزيزها وتحاول أن ترى فيها إرادة
مرتبطة مباشرة باهلل .وهكذا هي قصة العاهرة راحاب التي كانت هي وعائلتها
بمأمن من القتل ألنها أخفت مبعوثي يشوع الذين جاءوا إلى هذه املنطقة تمهيدا
لغزو أريحا .2وتسمح هذه القصة في الوقت نفسه بتعليل بقاء غير اإلسرائيليين
املنحدرين من راحاب ،والتقليل من شأنهم بالنظرإلى وضاعة مهنة أسالفهم.
إن بقاء الكنعانيين أحياء تم تفسيره اعتمادا على حذروروية هللا الذي يريد أن
يتجنب أن يعم الخراب األرض التي أصبحت خاوية على عروشها .3أو أيضا يتم
تعليلها باعتبارها عقابا سلطه إله بني إسرائيل على اإلسرائيليين الذين لم يعودا
كذلك بسبب كفرهم.4
ظالل من الغموض
ُ
تعتبر بعض املقاطع غامضة ،وذلك في غياب سياق يسمح بإدراجها في إحدى
التصنيفات التي وضعتها .يمكن أن تتخذ مثاال على هذه املقاطع إصحاح الجزء
1 - Josippon.Jüdische Geschichte, éd.D.Börner-Klein et B.Zuber, Wiesbaden, MarixVerlag,
2010 (non vidi).
َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ ُ َ َ َ َّ َ
يل ِإلى َهذا ال َي ْو ِم ,أل َّن َها الزا ِن َية َو َب ْي َت أ ِب َيها َوك َّل َما ل َهاَ .و َسك َن ْت ِفي َو َس ِط ِإسرا ِئ « - 2استحيا يشوع راحاب
َ َ َ َّ َ َ َ ُ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َّ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ
خبأ ِت الرسلي ِن اللذي ِن أرسلهما يشوع ِليتجسسا أ ِريحا» (يشوع )25 :6
َ َ َ َ ً ََ َُْ ََْ َ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ
وش ال َب ّ ِرَّي ِة .ق ِليال ق ِليال « - 3ال اط ُر ُد ُه ْم ِم ْن أمامك ِفي َس َن ٍة َو ِاح َد ٍة ِلئال ت ِص َير األرض خ ِربة فتكثر عليك وح
َ َ ْ ُ َُ اط ُر ُد ُه ْم ِم ْن أمامك إلى أن ُت ْث ِم َر َو َت ْم ِل َك األرض» الخروج « 29-30 :23و َو ِلك َّن َّ ْ
الر َّب ِإ َلهك يط ُرد هؤ ِ
الء
َ َ
الب ّ ِ َّري ِة» (التثنية .)22 :7 وش َ يعا ِل َئال َت ْك ُث َر َع ْلي َك ُو ُح ُُّ ُ َ ْ َ َ َ ً َ ً َ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ ْ َ ً
الشعوب ِمن أم ِامك ق ِليال ق ِليال .ال تست ِطيع أن تف ِن َيهم س َ ِر
ُ ْ َ َّ ُّ َ ْ َ َّ َ َ َّ يل َو َق َ الر ّب َع َلى إ ْس َرا ِئ َ َ - 4ف َحم َي َغ َ
«م َ ْن أ ْج ِل أن هذا َالشعب قد تعدوا عه ِدي ال ِذي أوصيت ِب ِه
َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ال: ض ُب َّ
وع ع ْندَ ين َت َر َك ُه ْم َي ُش ُ ُ
انا م ْن أ َمامه ْم م َن األ َمم َّالذ َ َْ َ َ ْ ً َ ُ ُ ُُْ ْ َ ًِ َ َ َ ِ ِ
ُ َ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َِ َ
ِ ِ ِ ِِ ِ ضا ال َأعود أطرد ِإنس ِ آباءهم ولم يسمعوا ِلصو ِتي .فأنا أي
الر ُّب الر ّب ِل َي ْس ُل ُكوا ِب َها َك َما َح ِف َظ َها َآب ُاؤ ُه ْمَ ,أ ْم َال»َ .ف َت َر َك َّ يق َّ يلَ :أ َي ْح َف ُظو َن طر َ َم ْو ِت ِهَ .أل ْم َت ِح َن به ْم إ ْس َرا ِئ َ
ِ ِ
يعا َو َل ْم َي ْد َف ْع ُه ْم ب َيد َي ُش َ ُ َ َ ُ َ َ َ َ ِ ْ ِ َ ِْ ُ ْ ُ ْ َ ً
وع (القضاة .)20-23 :2 ِ ِ أول ِئك األمم ولم يطردهم س ِر
381 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
ُ َْ «ال َس َال َم َق َ
َ
علي دون اعترض ّ الر ُّب ِلألش َر ِار» .1لقد
ال َّ الثاني من سفر أشعيا:
النظر إلى السياق خالل برنامج إذاعي ،وذلك لدعم فكرة اقتران الدين بالعنف.
فجملة في صيغة النفي هي بالضرورة غامضة .هل هو حكم موجه أساسا إلى
«الخيرين» لكي ال يتركوا في سالم األشرار ،وفي األخير يعلنون الحرب عليهم؟ أو هو
مجرد استنتاج أو درس مأخوذ من مالحظة سلوكهم :فاألشرار ال يكونوا أبدا في
سالم معهم أو حتى مع أنفسهم؟
بالنظر إلى غياب السياق الذي ورد فيه هذا املقطع ،واعتمادا على االنطالقة
التي ارتجلتها ،هذا ما اعتقده .لكن في سفر أشعيا نفسه ( .2 )21 :57نجد صيغة
َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُْ ْ َ
ضط ِر ِب أل َّن ُه مماثلة .غير أن املقطع مسبوق بإصحاح حيث إن األشرار كالبح ِر ال
ً ًَ َ َ ُ َ َ
ال َي ْس َت ِط ُيع أ ْن َي ْه َدأ َوت ْق ِذف ِم َي ُاه ُه َح ْمأة َو ِطينا .في هذه الحالة األخيرة يبدو أن
اإلصحاح يبرز القلق الشديد املالزم لألشرارالذين ال يستقرون في مكان ما .لكن
ال وجود ألي نية ملهاجمتهم.
وهناك إشكالية مماثلة في تأويل آية قرآنية يبدو أنها تحمل معنى مخالفا« .ال
إكراه في الدين» .3ففي هذه السورة جاءت اآلية غيرمتالئمة مع السياق مثلما هو
حال في الكثير اآليات القرآنية حيث إن البعض منها يحظى بأهمية كبرى .ونتيجة
لذلك ،وفي غياب السياق ،فال يمكننا أن نعرف هل تشكل منعا بإكراه اآلخر
على اعتناق الديانة التي يعتقد بداهة أنها صحيحة أو هو فقط إقرار باستحالة
اإلكراه .في هذه الحالة يمكن أن يتعلق األمربالواقعة البديهية التي مفادها أننا ال
ننجح أبدا في إكراه أي أحد على اعتقاد ما ال يريد أن ُيؤمن به .4ما لم يتعلق األمر
بالحقيقة النفسية التي فحواها أن من يكون منتسبا لديانة معينة ال يشعر بأي
-1أشعيا 22 :48
َْ َْ َ َ ٌَ َ َ َ
ال ِإل ِهي ِلألش َر ِار(أشعيا .)21 :57 -2ليس سالم ق
-3سورة البقرة اآلية 256
4- R.Paret, «Sure 2, 256 : la ikraha fi d-dini. Toleranz oder Resignation?», Der Islam, 4.5
(1969), p .299-300.
382
ضغوط .وهذا ما يدعو بقية املقطع إلى التأمل فيه.
ُ
إن حياة الرسول أو سيرته الرسمية التي دونت حوالي 830تدرج لآلية ضمن
رسالة ملحمد ﷺ وجهها إلى يهود خيبر يطلب منهم أن يبحثوا في التوراة عما إذا
كانت قد دعتهم إلى اإليمان به .وإذا لم يكن األمركذلك فال كره عليكم .1لم يختف
الغموض تماما .ألن املقطع يمكن أن يدل فقط بأن اليهود ال يمكن إقناعهم إال إذا
جاءهم دليل من التوراة نفسها.
تداخل
إن األصناف الثالثة من النصوص التي ميزتها أعاله على مستوى املفاهيم
تتداخل فيما بينها من حيث طريقة إدراكها وتوظيفها ،خاصة ما يتعلق بالعنف
املروي والعنف املطلوب .هنا عندما ُيقترف العنف أو يكون تنفيذا ألوامرشخص
النصح أو علىذي أهمية كبرى فإن القصة يمكن بسهولة ُويسرأن تؤدي وظيفة ُ
األقل االعتذار ،وليس األمرباملعنى الحقيقي للكلمة.
ُ
ومع ذلك ما أكثر أفعال العنف التي تنسب في القصص التاريخية للكتاب
املقدس ،إلى تلك األوامر التي يصدرها أحد األنبياء أو ُنتنسب مباشرة إلى أمر
إلهي .وهذا حال امللك شاؤول .فهو لم يتعرض بسوء إلى ياجوج ملك العماليق
الذي سبق أن هزمه ،والذي يرى فيه ،على األرجح ،خصمه اللذوذ .قد الحظ
ليو ستراوس بلهجة ساخرة بأنه يتصرف كأنه جانتلمان ،وهو من الشخصيات
النادرة التي تمت اإلشارة إليها في الكتاب املقدس اليهودي .2لهذا فإن امللك سينال
حظه من التقريع من قبل صامويل ألنه ع�صي أوامر إله إسرائيل الذي فرض
-1ابن هشام :السيرة النبوية ،تحقيق محمد السقا وآخرون ،بيروت ،دار إحياء التراث ،العربي ،د.ت،
ج ،2ص 158
The Life of Muhammad, tr . A.Guillaume, Oxford University Press, 1955, p. 256.
2 - L.Strauss, «Progress or Return ?», dans The Rebirth of Classical Political Rationalism.
An Introduction to the Thought of Leo Strauss, Essays and Lectures by Leo Stauss, Se-
lected and Introduced by Thomas L.pangle, Chicago, The Univeresity of Chicago Press,
1989, p.249.
383 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
عليهم إبادة العماليق جميعهم حتى آخرواحد منهم.1
ُيعتبر مو�سى في نظر ماكيافيل نموذجا فقط لرجل السياسة ،فيما يؤجل
بطريقة فجة الحديث عن صفات الزعيم كما يحلم بها.
إن أي أحد يقرأ الكتاب املقدس بطريقة ذات معنى سيرى أن مو�سى الذي يريد
لتشريعاته ومؤسساته االستمرارية سيكون مجبرا على قتل عدد غير محدود من
الناس الذين دون أن يحركهم �شيء آخرغيرالغيرة ،سيقفون ضد مخططاته.2
ُ
يمكن لقصة خيالية مثل األمثال أن تستعمل كأوامر .وهاهنا سلوك فيه
احتيال .كانوا ضحايا الصيغة الشهيرة :استعجلهم للدخول التي قيلت بشأن
الضيوف الذين تم جمعهم من هنا وهناك ،الصالح منهم والطالح ،ليحضروا
حفلة زفاف ابن امللك.3
أتاحت الصيغة الالتينية compelle intrareللقديس أوغسطين أن يجد
تعليال إلرغام الدوناتيين على االلتحاق بالكنيسة .4وقد كان الكتاب في العصر
الحديث أمثال بايل وفولتير على حق تماما في استنكار سذاجة أسلوب التفسير
وأكثرمن ذلك قساوة النتائج امللموسة املترتبة عنه.5
ََ ْ َ َ َُ
ان لك ْم ِفي َر ُسو ِلفي القرآن الكريم إذا كان هللا هو املؤلف فإنه يعلن :لقد ك
ٌ َّ ُ ٌ
الل ِه أ ْس َوة َح َس َنة .6نرى في هذا الرسول غير املسمى شخصية محمد ﷺ .ومن
ثم ستستمد أفعاله وحركاته قيمة نموذج معين من السلوك .وسيكون ألقواله
384
قوة العقيدة .فهذه اآلية هي التي أسست البحث والتوظيف التشريعي للحديث
النبوي الشريف .فما يقوم به الرسول ال يمكن أن يكون سيئا ،وإذا كان من
الضروري تقليده فإنه ليس على اإلطالق بمحرم أو ممنوع.
الترميز
تتمثل حركة مناوئة في اتخاذ ما يقدمه الكتاب املقدس كأنه تقرير ألحداث
وقعت فعال واعتبارها رمزا .وهذا األمرال يقت�ضي أن ننفي الطابع التاريخي للوقائع
املروية .فآباء الكنيسة الذين كانوا يستخدمون بشكل كبير التفسير الرمزي ال
يبدو أنهم شكوا في يوم من األيام في أن قصص الكتاب املقدس يمكن أن تروي
أحداثا متخيلة أو على األقل مبالغ فيها.1
ومع ذلك فإن هذه القصص تلقت دالالت إضافية .فزيادة على التفسيرالحرفي
وفق النظرية الكالسيكية للتفاسير األربع للكتاب املقدس هناك التفسير الرمزي
واألخالقي والتناظري.
ُ
لنشر إلى املفارقة اآلتية :بشكل من األشكال فإن الترميز يجعل األحداث أكثر
تاريخية طاملا أنه يربطها باستدعاء أو استحضار ماض غير قابل لإللغاء .والشك
أن داللتها التنسكية mystiqueتكسب قيمة دائمة .غير أن مضمونها الواقعي
سيجد نفسه مرتبطا أشد االرتباط بالحقبة املاضية التي كان شاهدا عليها.
أما فيما يخص ما أطلقت عليه اسم العنف املرغوب فيه فلنأخذ املثال
املذكور أعاله حيث أن صاحب املزامير يتمنى أن يهشم رؤوس الرضع البابليين
على الجدار .2فصاحب التفسير الرمزي يستعيد أو يستحضر هذا التمني ،تاركا
إياه في سياقه التاريخي والنف�سي ،غيرأنه ينقله على أساس االستعداد الستئصال
أي محاولة للتفسير بمجرد ظهورها للوجود دون أن يترك لها فرصة للنمو لكي
1 - Voir H.de Lubac, Histoire et esprit.L’intelligence de l’écriture d’après Origène, Paris,
Aubier, 1950, p.92-104.
ُ َ َ ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ ْ َ
الصخ َرة! املزامير 9 :137 - 2طوبى ِلن يم ِسك أطفال ِك ويض ِرب ِب ِهم
385 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
تصبح خارج السيطرة.1
ُ
يمكن أن نمثل لذلك بمقطع من التوراة يروي كيف أن اإلسرائيليين عند
خروجهم من مصر أخذوا معهم األشياء النفيسة التي استعاروها من املصريين.2
فصاحب التفسير الرمزي ال ينفي السرقة وإن كان ال يرى يراها فيها نموذجا
جديرا باالقتداء .غير أن تقليدا طويل األمد يمتد منذ عصر اليهودية الهلينية
مع فيلون اإلسكندري ،أي في مرحلة املسيح نفسه يرى في هذا التفسير الكيفية
التي ينبغي أن تسلكها العقيدة في استخدامها للحكمة الدنيوية «الوثنية» ،وذلك
لبلوغ فهم أفضل لها.3
حين يتضمن أحد النصوص املقدسة قواعد لفعل ما فإن التفسير الرمزي
سيضاف عند يمكن أن تترتب عنه نتيجتان :في الحالة األولى فإن التفسيرالرمزي ُ
االقتضاء لألوامرأوالنواهي ،وسيضيف إليها داللة أعمق .في الحالة الثانية ،فإنه
يعوض ببساطة األوامر اإللهية التي تصبح اختيارية ،بل سطحية تماما .وهكذا
فإن الوصايا أو األوامرالتي تم بعثها في إطارمحدد تفقد راهنيتها.
فاألديان التي اختارت التركيز على مدونة من القوانين أو الشرائع مثل اليهودية
ينظر على سبيل املثال ،وبشكل خاص Origène, ad hoc., dans Vivliothiki ton Ellion Pateron,
ُ -1
loc.cit., t.16, p.143 ; Augustin Enarrationes in Psalmos, CXXXVI, 22, éd.E.Dekers et
J.Fraipont, Turnhout, Brepols (CCSL, 40, 1978 ; de nos jours, C.S.Lewis, Reflexions on the
.Psalms, Londres, Collins, 1977, p.113-114
َْ ُ َ َ ُ ُ ن ْ ْ ّ َ َ َ ُ ُن َ َ َ ْ ُ َ ْ َ ً َ َ َّ
ضون ف ِار ِغ َينَ .ب ْل ضون أنكم ال تم الش ْع ِب ِفي ِعيو ِ ِالص ِرِيين .فيكو ِحينما تم - 2وأعطي نعمة لهذا
يك ْم َو َب َنا ِت ُكمْ.َ َ َ َ ََ َ ُ ََ ََ َ ُ َّ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ُ ُّ ِ ْ ِ َ َ َ َ ْ َ َ
ارتها و ِمن ن ِزيل ِة بي ِتها أمتعة ِفض ٍة وأمتعة ذه ٍب و ِثيابا وتضعونها على ب ِن تَ َطلب كل ْامرأة ِمن ج ِ
ُ
ص ِاح ِب ِه َوك ُّل الش ْعب ْان َي ْط ُل َب ُك ُّل َر ُجل م ْن َ َّ
ع ام س صرّي َين» الخروج «َ 21-22 :3ت َك َّل ْم في َم َ فت ْسل ُبو َن ِال ْ
ٍ ِْ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َّ ُّ ْ َ ً َّ َ
ص ِرِّي َينَ .و ْايضا لش ْعب في ُع ُيون ِال ْ
ِ ِ ِ ض ٍة وأمتعة ذ َه ٍب» ..وأعطى الرب ِنعمة ِل صاح َبت َها أمتعة ف َّ
ِ ِ ِ
امرأة م ْن َ
ِ
َ َّ َ ّ ُم َ َ َ
يد ِف ْر َع ْون َو ُع ُيو ِن الش ْع ِب» الخروج «َ .2-3 :11وف َع َل َ ُ ْ
ض ِم َ َص َر ِفي ع ُي ْو ِن ع ِب ِ ِ و�سى كان َع ِظيما ِجدا ِفي ْار
َّ ُّ ْ َ ً َ َ َ
َب ُنو إسرائيل ب َح َسب ق ْول ُم َ
ض ٍة وأمتعة ذ َه ٍب َو ِث َيابا .وأعطى الرب ِنعمة صرّيين أمتعة ف َّ
ِ ِ ِ
و�سى .طل ُبوا م َن ِال ْ
ِ ِ ِْ ِ
َ َ َ َُ ْ َّ َ َ لش ْعب في ُع ُيون ِال ْ َّ
ص ِرِّيين حتى أعاروهم .فسلبوا ِالص ِرِيين» الخروج .35-36 :12
ّ ْ
ِ ِ ِ ِل
- 3انظر امللف في H.de Lubac, Exégèse médiévale. Les quatre sens de l’écriture, Paris,
.Aubier, 1959, p.290-304
386
واإلسالم يمكن أن تؤول بعض اآليات تأويال رمزيا قد تكون أحيانا جريئة ،وذلك
في وقت يكون األمر متعلقا بقصص أو أوصاف .وفي املقابل حين يكون ألحد
املقاطع مضمونا معياريا (أوامرأو نواهي) فإن هذه األديان ال تقبل سوى الصنف
األول من التفسيرالرمزي متجنبة بعناية كبيرة كل تفسيرمن شأنه إيقاف سريان
مفعول قواعد معينة وتجعل من الخضوع إلى هذه القواعد أمرا اختياريا.
يميز الغزالي الفيلسوف املسلم األكثر تأثيرا بين نوعين من أنواع التفسير
َْ َ َ ُ َ ُ
الرمزي ،وذلك بشأن قول الرسول ﷺ« :ال ت ْدخ ُل ال ـال ِئكة َب ْي ًتا ِف ِيه كل ٌب َوال
ُ ٌَ
ورة» .فهناك من جهة من يتجنب إدخال الغضب إلى منزله ممثال في الكلب لكن ص
دون االمتناع عن امتالك حيوان للمرافقة .وهناك من يحترم القاعدة األخالقية
ولكن يربطها باالمتناع عن إطعام كلب من لحم ودم .فالرجل الكامل هو الذي
يجمع ما بين التفسيرالظاهروالتفسيرالباطني.1
خصوصية القرآن الكريم
يحتوي القرآن الكريم على عدة أنماط من الخطاب التي قمت بتصنيفها.
غير أنه يتميز بخصوصيات أقل ارتباطا بمضمونه (الذي ال ينفصل عن أسفار
التوراة) منها تميزه بوضعه بالنسبة لوعي املؤمن.
- 1يتضمن القرآن الكريم أوامر باالحتراب أو بالقتال التي تظل مفتوحة .من
ُ
املمكن أن تكون قد أعطيت ابتداء في ظروف خاصة غير قابلة للتكرار .غير أن
صياغتها جاءت فضفاضة بدرجة كبيرة بحيث يمكن أن نسقطها حين تدعو
الضرورة إلى ذلك على أعداء يتم تحديدهم .وهكذا يتم دوما استحضار آية
تستعيد فكرة أحد ربيي التلمود التي فحواها من قتل رجال فكأنما قتل الناس
جميعا .2ويرفع أكثر من ذلك التقييد التلمودي الذي يحصر نطاق التجريم
- 1الغزالي :مشكاة األنوار ،في مجموع الرسائل ،بيروت ،دارالكتب العلمية ،د،ت ،ص 21
.Die Nische der lichter, tr.A.A.Elschazali, Hambourg, Meiner, 1987, p.42 /
2 - Talmud de Babylone, traité Sanhedrin, 37a.
387 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
َْ
ال ْ ََ ْ َْ َ
ض ِ ر يفِ ن الضمني بين بني إسرائيل .وبدال من ذلك يستثني القتلة «ويسعو
َ
ف َس ًادا» .1وهذا الصنف يمكن أن يتضمن أنواعا كثيرة من املضامين ،وذلك
حسب حاجيات الجماعة أو الحكام الشرعيين أو الذين نصبوا أنفسهم ،والذين
يزعمون أنهم يتحدثون باسمها.
ُ
- 2التمييزما بين القصص التي من املفروض أن تقدم أحداثا ماضية واألمثال
التي ال تحظى دائما بالقبول في الوعي اإلسالمي.
هكذا فإن القرآن الكريم يحفل بقصص الشعوب التي كانت تع�صى الرسول
املبعوث إليها ،وأن هللا كان يسلط عليهم الكوارث واألعاصير والزالزل .وهذا
4
حال مجموعة من الشعوب التي لم يبق منها أي أثر( :عاد)2و (ثمود)3و (األيكة)
ُ
وجماعات أخرى لم تذكرسوى مرة أو مرتين .فقد اعتبرت هذه القصص من قبل
علماء اللغة قصصا إتيولوجية تضع تفسيرا لوجود األطالل في قلب الصحراء.
وسنجد هنا شبيها لهذه القصص في القصة التوراتية التي تروي دمارسدوم 5التي
من املحتمل أن تكون قد أثارت االنتباه إليها بسبب وجود تحجر جنوب البحر
امليت يستدعي إلى الذهن من حيث الشكل أطالل مدينة ما .وهذه القصة هي
بدورها مذكورة في القرآن الكريم والرسول في وعظه الذي جاء على شكل مشهد
ُيذكرمحاوريه بأنهم سيمرون أمام أطالل صباح مساء. 6.
غير أن املذهب الرسمي للعلماء املسلمين يذهب إلى القول بأن األمر يتعلق
بقصص تاريخية .وحسب املؤرخ األنصاري فإن ابن رشد غامر في نفيه لوجود
عاد ومن ثم للرياح التي كانت سببا في دمارهم ،وهو ما أدى إلى إشارة زوبعة
سورة املائدة ( ،)5اآلية 33 -1
سورة األعراف 65-74 -2
سورة األعراف 73-79 -3
سورة الحجر 78 -4
1-29 :19 سفرالتكوين -5
َ َّ ُ ْ َ َ ُ ُّ َ َ َ ْ ُّ ْ َ َ َّ ْ َ َ َ ْ ُ نَ
«وِإنكم لتمرون علي ِهم مص ِب ِحين .و ِباللي ِل أفال تع ِقلو » سورة الصافات 137-138 -6
388
حوله .1ومع االفتراض بأننا أمام راو متردد أيكون ابن رشد قد أعطى لهذه اآليات
تأويال رمزيا؟ هذا احتمال ضعيف بالنظرإلى املوقف الذي اتخذه في بعض أعماله
حيث أظهرتأييده للقراءة األكثرحرفية للكتاب املقدس أي القرآن الكريم.2
- 3إن األمراألكثرأهمية يستمد ،على األرجح ،من وضعية النص الذي تعتبره
ديانة ما نصا مقدسا ،ومن ثم يصير نصا معياريا .فالكنيسة الكاثوليكية ،بعد
لجوئها إلى صيغ غامضة ،اختارت بتوافق مع العهد الجديد نفسه أن تعتبرها كأنها
موحى بها من هللا .3وبهذا املعنى فإن هللا هو املؤلف ليس فقط ألنه ُيدير تاريخ
الشعب الذي تلقى الوحي ،وإنما أيضا ألنه يثيررجاال قادرين على تلقي الوحي منه
دون أن يفقدوا شخصياتهم الخاصة ،بما في ذلك اإلكراه املرتبط بالحقبة التي
يعيشون فيها .4بالنسبة للمسلمين املتدينين فإن القرآن الكريم لم يأت على شكل
إلهام ،وإنما أماله هللا بواسطة جبريل على الرسول محمد .والرسول محمد ﷺ
أبلغه إلى الناس دون أي زيادة أو نقصان .ولقبه املشهور األمين تعني بشكل دقيق
الشخص الذي يرجع الوديعة املؤتمن عليها إلى أصحابها .5ومؤلف رسالة القرآن
ليس كائنا بشريا ،وإنما هللا نفسه .غير أن هللا خارج الزمان واملكان وهو يتعالى
عنهما معا ،وهو يعرف كل �شيء .وكل ما يحتوي عليه القرآن الكريم يجب إذن
أن يكون صحيحا .ومن ثم فإن تأويل حكم واضح ال يمكن إال أن يوضح معنى
E.Renan, Averroès et l’averroïsme (1852), Appendice II, dans - 1النص متاح بسهولة في
.Œuvres complètes, éd.H.Psichari, Paris, Calmann-Lévy, t.III, p.37 et 334-335
- 2ابن رشد :الكشف ،مرجع سابق ،ص 139-142
- 3ثيموثاوس الثاني 15-16 :3
ُ
- 4ينظر J-Y.Lacoste (éd), Dictionnaire critique de théologie, Paris, Puf, 1998, article
«Ecriture sainte», 3 et 4, p.368a-371a (C.Focant) ; J.R.Armogathe, «Qui écrit ? Petite histoire
de l’inspiration», dans Revue Communio, XLI, 3(2016), p.37-49, et M.Younès, «L’inspiration
.en christianisme et en Islam», ibid., p.89-99
Ibn Battuta, Voyage, éd.C.Defrémery et -5بخصوص هذا املعنى ُينظر على سبيل املثال
B.R.Sanguinetti, Paris, Anthropos, 1979 (1854), t.1, p.336 ; Voyageurs arabes, éd.P.Charles-
.Dominique, Paris, Gallimard, 1995, p.498
389 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
الكلمات ،وليس االنتقال من ما هو حرفي إلى مقاصد املؤلف.
لقد انطلقت من صيغة بسيطة حتى ال أقول من شعار سهل جدا تكراره:
العنف موجود في الكتب املقدسة .وهذه الصيغة تعوض الجهد املبذول في
تصور حقيقة الظواهر ،بل تمنعه ،وذلك من خالل اختزال هذا التنوع إلى
بساطة واضحة ومكشوفة .وما يعتبر شيئا إيجابيا بالنسبة إلى إيديولوجية
تسعى وراء الشعارات ،هو في نظر من يبحث عن إعمال الفكر ُ ،يعد من كبريات
السلبيات .وكان من الضروري إذن إدراج سلسلتين من الفوارق .فقد بينت من
جهة أن حضور العنف ليس هو نفسه في جميع الحاالت :العنف املروي (التاريخي
أو املتخيل) ،املرغوب فيه أو املطلوب ال يؤدي إلى النوع نفسه من االنتقال إلى
الفعل .وقد تساءلت بعد ذلك حول وضعية النص ذاته الذي تعتبره األديان
مقدسا ،والذي يرتبط بطبيعة مؤلف أو مؤلفيه .وستفتح إذن سلسلة من
األسئلة :إلى أي حد يحافظ نص ما حتى اآلن على صحته؟ ما هي العناصر التي
تقر بالقراءة الرمزية؟ ما هو املقصود ُبيفسر في سياق يتعلق األمر فيه بقصص
وأماني أو أوامر؟
َّ َ ْ ْ
َ َّ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َّ َ َ ْ ُ َ
َ
شَ ،ع ْن َع ْب ِد الل ِه ْب ِن َْ ُْ َ َ
-حدثنا مسدد ،حدثنا عبد الو ِاح ِد بن ِزي ٍاد ،ع ِن العم ِ
َ
ود ّ ٍي ق ْد ُح ِّم َم َو ْج ُه ُه،
َّ ََ ُ ُم َّر َةَ ،عن ْال َب َر ِاء ْبن َعازبَ ،ق َ َ
ال :م ُّروا على َرسو ِل الل ِه ﷺ ِب َي ُه ِ ِ ٍِ ِ
ُ َ َ ْ َ َ ََ َ ُ ُ ََ َّ ُّ َ َ ْ ُ َ ََ َ ََُ ُ َ ُ
وهو يطاف ِب ِه ،فناشدهم« :ما حد الزا ِني ِفي ِكت ِاب ِهم؟» قال :فأحالوه على رج ٍل
َ َ الزا ِني في ِك َتاب ُك ْم؟» َف َق َ
«ما َح ُّد َّ م ْن ُه ْمَ ،ف َن َش َد ُه َّ
الر ْج ُمَ ،ول ِك ْن ظ َه َرالَّ :
ِ ِ
النب ُّي ﷺَ :
ِ ِ
ّ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ َّ ُ َ ُ َ ُ َ َ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َ
الزنا ِفي أشرا ِفنا ،فك ِرهنا أن يترك الش ِريف ،ويقام على من دونه ،فوضعنا هذا ِ
َ ُ َ ُ َّ َ َ َّ ُ َّ ّ َ َّ ُل َ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َّ َ َ َ َ َ ُ ُ َّ
عنا ،فأمر ِب ِه رسول الل ِه ﷺ فر ِجم ،ثم قال« :اللهم ِإ ِني أو من أحيا ما أماتوا
ِم ْن ِك َت ِاب َك«
390
391 مجلة نصف سنوية تعنى بعلوم الشرع وقضايا الواقع العدد 3جمادى األولى 1441ه -يناير 2020م
392