Livre Asma WB

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 76

1

‫المؤلف ‪:‬‬

‫رقم اإليداع القانوني‪2019MO0881 :‬‬

‫ر‪.‬د‪.‬م‪.‬ك ‪ISBN : 978-9920-9813-3-0‬‬

‫جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر‬

‫‪2‬‬
‫بال تردّد أنت رائع‬

‫بال تر ّدد أنت ُمهم‬

‫بال تر ّدد أنت ناجح!‬

‫‪3‬‬
‫مقدمة‬

‫ما من أحد نسأله عن دور المعلم قبل األستاذ‪ ،‬إال ويذهب بنا إلى‬
‫كل منهما في الفصل‪ ،‬أمام عدد من التالميذ‬
‫إبراز نتيجة الرسالة التي يؤديها ّ‬
‫الكم المعرفي إلى عقولهم‪ .‬وما من أحد نسأله عن دور‬
‫أو الطلبة‪ ،‬في نقل ّ‬
‫المدرب‪ ،‬إال ويتجه بنا نحو نفس االتجاه؛ مرّكزا على جانب التلقين‪ ،‬أكثر‬
‫ّ‬
‫يقل فاعلية في تشكيل شخصية‬
‫يقل أهمية وال ّ‬
‫من االهتمام بجانب ال ّ‬
‫المتل ّقي والتأثير فيها بعمق‪ .‬وهو جانب ما اصطلح عليه بـ‬
‫]‪ [Coaching‬المرافقة!‬
‫األطفال في الروض‪ ،‬والتالميذ في المدرسة والطلبة في الثانوية أو‬
‫المتدربون في المعاهد التقنية والمهنية‪ ،‬يشتركون‬
‫ّ‬ ‫في المراحل الجامعية‪ ،‬أو‬
‫جميعهم في خاصية االستقبال عبر الحواس‪ .‬ومهما اختلفت درجات‬
‫نضجهم من حيث اإلدراك والفهم‪ ،‬فإن كل فرد منهم مختلف عن اآلخر‬
‫في سرعة التأثر بما يستقبله عبر عملية "المرافقة"‪ .‬ذلك أنها عملية ذات‬
‫عالقة بسيطة بالوعي‪ ،‬وعالقتها أكبر وأد ّق‪ ،‬بدواخل النفس البشرية‪ .‬وإن‬
‫رجعت أيها القارئ بذاكرتك لمراحل حياتك منذ الطف ـ ـولة حتى اليوم‪ ،‬ستجد‬

‫‪4‬‬
‫صورا جميلة عالقة بذهنك ألشخاص عرفتهم بمختلف المراحل؛ فمنهم‬
‫بحنوها يوم كان أحد ما يعاملك بقسوة‪ ،‬أو معلّم كان‬
‫بالحي تد ّخلت ّ‬
‫ّ‬ ‫جارة‬
‫بمجرد ابتسامة‬
‫يقطع رتابة الدروس بحركة مرحة‪ ،‬أو أستاذ حبّب إليك مادة ّ‬
‫لطيفة كان يرسمها على وجهه حين يتكلّم‪ ...‬أو مدير مؤسسة استقبلك‬
‫كل من‬
‫بطريقة غ ّذت فيك روح اإلخالص يوم التحاقك بموقع عملك‪ .‬من ّ‬
‫أحس بعميق تأثيره أحد‬
‫هؤالء الذين تذكرهم‪ ،‬استقبلت شيئا لم يق ّدره وال ّ‬
‫غيرك‪ .‬فهل تعتقد أن تلك الحركات التي قاموا بها تجاهك تطلبت منك‬
‫مجهودا ذهنيا وأنت تستقبلها؟ وهل تعب أح ٌد منهم ليمنحك ذاك‬
‫اإلحساس؟‪ ...‬تلك كانت لحظات رائعة‪ ،‬ورغم قصرها في الزمن‪ ،‬زرعت‬
‫في نفسك بذرة من جميلها ومازال لديك منها انطباع جميل حتى اآلن! إن‬
‫عرضنا عليك مثيالت لتلك اللحظات ودعوناك لتبحر معنا فيها‪ ،‬هل تتر ّدد؟‬

‫لذلك كان عنوان هذا الكتاب‪ " :‬بال تر ّدد" وبادرنا بدعوتك لتشاطرنا‬
‫ما فيه من صور قوامها باقة ألوان طيف من المواقف؛ التقطت من واقع‬
‫الحياة اليومية‪ ،‬وعرضت على أدوات تحليل‪ ،‬أنت تملك أدقّها أسلوبا‬
‫وأصدقها نتائج‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫الفصل األول‬

‫حاجتنا لآلخرين‬

‫يولد الكائن البشري بفطرة االحتياج لآلخرين ليسمع أصواتا‪ ،‬ليرى‬


‫ألوانا وأشكاال وأحجاما مختلفة تثير فيه دوافع التفاعل مع المحيط وتنمي‬
‫لديه إدراك الناس واألشياء‪.‬‬
‫وقد دلت دراسات عديدة على أن المولود البشري يختلف عن كل‬
‫الكائنات الفقرية األخرى في أنه ال يستطيع التحرك من مكانه دون مساعدة‬
‫من غيره خالل األسابيع األولى من حياته‪ ،‬بينما باقي الفقريات تقف بعد مدة‬
‫قصيرة من والدتها وتتبع أمها‪ .‬وهذه الخاصية مهمة للحيوانات التي تتحرك‬
‫بتلقائية مباشرة بعد الوالدة فتلحق بأمها لتتغ ّذى وتغادر المكان الذي تطرح‬
‫فيه إخراجها خالفا للكائن البشري الذي يعتمد باألساس على غيره – أمه –‬
‫إلطعامه وتنظيفه‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وكلما تقدم في العمر شهورا بدت حاجاته تساير نموه؛ إذ يحتاج‬
‫للحماية من األشياء المحيطة به مما ابتكره بنوا جنسه كالمواقد ومصادر‬
‫الكهرباء والسوائل الكيميائية واألدوات الحا ّدة‪ ...‬وبعد بلوغه الخامسة من‬
‫العمر‪ ،‬يتّسع مجال إدراكه ويكتسب معارف عن الناس واألشياء‪ ،‬وعن وسائل‬
‫التواصل مع غيره‪ ،‬منها اللفظية وغير اللفظية‪ ،‬حيث يفهم تعابير الوجوه‬
‫ودرجات األصوات المحذرة أو المؤنبة أو المشجعة لما يصدر عنه من‬
‫تصرفات ويتخذ قرارات على ضوء ما يدرك من جهة‪ ،‬واستجابة لدوافعه‬
‫الداخلية من جهة أخرى ‪.‬‬
‫سيترك هذا أثرا بالغا في سلوكه خالل مراحل حياته‪ .‬وإن كال منّا‬
‫يسر‬
‫واجه صعوبات مختلفة شدة و أمدا‪ .‬ففي الحياة مفاجآت كثيرة منها ما ّ‬
‫يضر بالكيان النفسي للفرد‪ ،‬تماما مثل ما يحصل لنا من جروح‬
‫ومنها ما ّ‬
‫وكدمات أثناء اللعب أو العمل أو السير على الطرقات أو المشاجرة مع‬
‫أقراننا؛ فمن جروحنا ما يكون طفيفا يندمل بسرعة دونما حاجة لعالج غير‬
‫النظافة‪ ،‬ومنها ما يحتاج لتدخل الطبيب‪ .‬وقد يترك عالمة واضحة على‬
‫أجسادنا‪ .‬كذلك تحدث بالنفس ما يمكن أن نشبهها بالجروح التي قد تكون‬
‫طفيفة‪ ،‬تعقبها آثار تختلف حجما وخطورة‪ ،‬وهنا تبرز بحدة حاجتنا لآلخر‪.‬‬
‫من هذا اآلخر؟ إنه شبيهنا األقرب إلينا صلة ونسبا؛ األبوان واإلخوة واألعمام‬
‫واألخوال‪ .‬ويأتي دور الجيران في الحي‪ ،‬فاألصدقاء‪ ،‬إلى أن نصل إلى بني‬

‫‪7‬‬
‫المدينة‪ ،‬فالمنطقة فاإلقليم‪ ،‬فالوطن‪ ،‬ثم تمتد الحاجة بعد ذلك في اتساعها‬
‫لتعم بني اإلنسان!‬
‫ّ‬

‫ما الذي نحتاجه من اآلخرين؟‬

‫أن ندرك وجودهم ضمن محيطنا أوال‪ ،‬إذ لن يأخذ وجودنا معناه إال في‬
‫جماعة من نطلب منهم التواصل معنا‪ ،‬ولو بنظرة تكون أول سبب وصل‪.‬‬
‫بتدرج مجمل ما نريد أن نعبّر عنه مما في داخلنا سرورا كان أو‬
‫يأتي بعدها ّ‬
‫تشل فينا وسائل التعبير‪ ،‬وتدفعنا‬
‫حزنا‪ ،‬ارتياحا أو ألما‪ .‬غير أن ش ّدة األلم قد ّ‬
‫لالنطواء وكأنما نكون يئسنا أن نجد من يشاطرنا اإلحساس‪ ،‬فننزوي نج ّتر‬
‫مرارة آالمنا‪ ،‬حتى نجد من يعطينا نفحة من أمل‪ .‬فالعطاء في منظور‬
‫المحدثين من علماء النفس وممتهني تحليل المعامالت على وجه الخصوص‬
‫ال يكون بالضرورة ماديا فحسب‪ .‬بل يمتد مفهومه إلى إعارة السمع باإلصغاء‬
‫الجيد لمن هم في حاجة للمساندة‪ ،‬حيث يمثل تمهيدا لطريق الفهم الجيّد‬
‫يجره نحو دوامة اليأس وهدر طاقة‬
‫للحالة‪ ،‬ووسيلة للتنفيس لمن يعاني ضغطا ّ‬
‫النفس في تكرار "سيناريو " ما فات من فرص‪ .‬والعطاء بمفهوم ‪Thomas‬‬
‫)‪ Harris(1‬دليل على غنى النفس والتوازن الوجداني والنضج‪ .‬إذ كلما‬

‫‪ 1‬هو أحد زمالء ”‪ “ Eric Bern‬مؤسس نظرية تحليل المعامالت‬

‫‪8‬‬
‫تحسنت عالقتكما وتعاضدت جهودكما‬ ‫أعطيت جارك إحساسا بالرضى‪ّ ،‬‬
‫كل منكما ثمرة الجهد المبذول في صورة شعور‬ ‫للعمل البناء‪ ،‬وجنى ّ‬
‫باالرتياح‪ ،‬والقدرة على حل المشكالت العارضة‪ ،‬والنظر بواقعية للحياة‬
‫اليومية كسلسلة من اللحظات ذات قيمة تستحق أن تعاش بإرادة وأمل‬
‫كل لحظة الستقبال اللحظة التي تليها قدما نحو الفوز‪ ،‬وبلوغ‬
‫متج ّددين في ّ‬
‫ما نسعى لتحقيقه‪.‬‬

‫أما في أساس ثقافتنا فيكفي أن نتذكر أن االبتسامة في وجه أخيك‬


‫صدقة‪ .‬وهل الصدقة إال محض عطاء؟ لكن لنا وقفة عند عبارة صدقة لنوضح‬
‫أنها ال تعني التفاضل بل التبادل! فأنت وأنا شخصان متساويان‪ ،‬لنا نفس‬
‫تدل على أنك تو ّد مشاطرتي‬
‫الحق في المحبة والكرامة‪ .‬ابتسامتك في وجهي ّ‬
‫لدي ما أجيب به على ابتسامتك أجمل من أن‬
‫شعورك باالرتياح ولن يكون ّ‬
‫أر ّد بمثلها‪ ،‬دليال على شكري لك أن شاركتني ارتياحك‪ .‬هذا ما نعنيه؛ أما‬
‫تصرف‬
‫عبارة الصدقة فمعناها أن يكتب لك أجر المتص ّدق لما قمت به من ّ‬
‫جميل محمود‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫أريد دليال على نجاحي‬
‫وأنا أكتب ‪":‬بدون تر ّدد أنت ناجح" دخل مكتبي صديق‬
‫مقرب‪ ،‬وما أن وقع بصره على الجملة حتى بادرني في دعابة بقوله ‪ :‬أريد‬
‫ّ‬
‫دليال على نجاحي ‪ .‬فأدرجت هنا ما قاله في فقرة خاصة ليستفيد منها غيره‪.‬‬
‫مر بك من أزمات صحية‪ ،‬ومن فترات لم تجد‬
‫لعلك تذكر ما ّ‬
‫فيها من المال ما تشتري به حاجتك من السوق‪ ،‬وما مر بك من فترات قلق‬
‫كان سببها عدم تأكدك من نتيجة اختبار ما كنت مقبال على اجتيازه‪ .‬وأنت‬
‫اآلن في مرحلة تجاوزت فيها أزماتك الصحية‪ ،‬والمالية وما كنت فيه من‬
‫قلق‪ ...‬أال تعتبر هذا نجاحا؟‬
‫النجاح في حياتنا مراحل نمر بها الواحدة تلو األخرى‪ ،‬فنستفيد‬
‫من التي لم تعط النتيجة المنتظرة‪ ،‬لنعيد الكرة من جديد بقوة أكبر وعزم‬
‫أش ّد وإصرار متين‪ ،‬فتكون النتيجة أحسن من التي كنا ننتظرها أو كان ينتظرها‬
‫منا اآلخرون‪ .‬قد تختلف المواقف وح ّدة الصعوبات‪ ،‬وطبيعة األزمات التي‬
‫تواجهنا أو تعرض لنا في طريق تحقيق ما نريد‪ .‬إال أنها تتشابه في صمودها‬
‫أمام خطة عامة نرسمها في ثالث نقط‪:‬‬
‫ندونها كتابة‪.‬‬
‫‪ .1‬وضع مشروع لما نريد تحقيقه في خطة ّ‬
‫المعوقات الممكنة‪ ،‬وذكر ما سنكون عليه بعد‬
‫‪ .2‬التعرف على ّ‬
‫تخطيها‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪ .3‬التركيز على اقتناعنا بأننا نتقدم يوميا نحو هدفنا لمدة ‪ 21‬يوما‪.‬‬
‫ثبت للباحثين في هذا الموضوع أن سبب نجاح المرموقين في‬
‫مختلف الميادين مثل ‪ :‬سحر هاشمي‪ ،‬وأيمن راشد‪ ،‬ستيفن سبيلبرغ‪ ،‬مارلين‬
‫مونرو‪ ،‬والت ديزني‪ ،‬بيل غيتس‪ ،‬وهارالند ديفيد ساندرز‪ ،‬و كثيرون غيرهم‪،‬‬
‫واجهوا ظروفا محبطة تغلّبوا عليها بنفس الخطة وهم يتح ّدون الفشل بسيرهم‬
‫نحو أهدافهم‪ .‬ولست بحاجة لسرد قصة كل من هؤالء ألقنع القارئ بجدوى‬
‫العمل المتواصل – مهما بدا بسيطا ‪ -‬فالبساطة ميزة طبيعية‪ ،‬مثلما يولّد‬
‫التعود العادة‪.‬‬
‫ّ‬

‫حياتنا‬
‫هي انعكاس لتوقعات من هم حولنا‬

‫قرأت في مقال كتبه والدي يسرد قصة واقعية لشخص يعرفه عن قرب جاء‬
‫فيه‪....[ .‬سعيد تقني بقسم صيانة البتروكيميائيات بشركة نفطية معروفة‪.‬‬
‫التهمنا جنسيته بقدر ما يهمنا طبعه الهادئ وذكاؤه المتواضع‪ ،‬لم يكن في‬
‫يوم ما يطمح لنيل أكثر مما هو عليه في وضعه الوظيفي‪ ،‬ملتزم بمواعيد‬
‫العمل‪ ،‬يحترمه رؤساؤه جميعهم لما لديه من لباقة وحسن تصرف؛ أنيق‬
‫الملبس‪ ،‬بشوش وليس عنيدا كمعظم باقي زمالئه‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫حصل أن تراكمت لدى سعيد بعض األفكار عما يتوقع أن الشركة‬
‫ستوظف مهندسين في تخصصات مختلفة خالل السنة المقبلة‪ .‬فاستغل مدة‬
‫إجازته في زيارة معاهد عله يجد فيها قبوال لدراسة الهندسة بنفس مجاله‪،‬‬
‫غير أن مستواه التعليمي لم يسمح له أن يظفر بما يريد‪ .‬فاختفى عن أنظار‬
‫زمالئه أطول من مدة إجازته بسنتين‪ ...‬ومرة في فترة استراحة قصيرة بعد‬
‫تنفيذ عمل شاق‪ ،‬سأل أحد زمالء سعيد صديقا له ممن كان يالزمهم خارج‬
‫مقر العمل‪ ،‬عما آلت إليه ظروف سعيد خالل كل هذه المدة‪ ،‬وهل انتقل‬
‫للعمل بشركة أخرى؟ فأجاب صديقه في صفة المعجب ‪ :‬إييه يا جماعة‪،‬‬
‫سعيد اليوم غير سعيد؛ تقني األمس‪ .‬فبعد سفره إلى إنجلترا‪ ،‬التحق بجامعة‬
‫تقنية لدراسة هندسة الميكانيكا الدوارة ! وأظنه لم يكمل دراسته بعد‪ .‬سيعود‬
‫لنا مهندسا [ق ّد الدنيا] في لهجة مصرية متكلّفة‪...‬‬
‫وعاد سعيد بعد غيبته الطويلة‪ .‬وما أن باشر عمله على عادة من‬
‫يعود من مواطني البلد ‪ -‬مهما طالت غيبته – حتى فوجئ بخبر دراسته في‬
‫الدوارة‪ .‬أصيب بدهشة لما سمع في البداية‪،‬‬‫إنجلترا لهندسة الميكانيكا ّ‬
‫حتى كان على وشك تكذيب مصدر الخبر لوال أنه علم بأن المصدر لم يكن‬
‫سوى صديقه الحميم "عثمان"‪ .‬كتم إحساسه وعاد يف ّكر في طريقة يحفظ‬
‫بها ماء وجه عثمان الذي وضعه في ورطة ‪...‬‬

‫‪12‬‬
‫لم يعد سعيد يحضر مجالس السمر التي تحصد الساعات الطوال‬
‫من وقت الفراغ في تبادل ما ج ّد من الطرائف وأحاديث األصدقاء‪ ،‬بل بدا‬
‫عليه االنشغال بأمر لم يعهده عليه أحد من قبل‪ .‬وكان في ليلة من صيف‬
‫‪ 2008‬أن طرق باب مسكني ألول مرة‪ .‬ولما فتحت الباب وجدته بسحنته‬
‫المرحة يسلم قائال‪ :‬جئتك اليوم ضيفا فهل لديك ما يشغلك عني؟ قلت‪:‬‬
‫مرحبا بك في كل وقت فأنت زميل عمل وجاري بالحي! قال ‪ :‬جئت ألكون‬
‫تقرب من يطلبون المعرفة أكثر من أصدقائك كما‬ ‫أقرب من هذا‪ ،‬فأنت ّ‬
‫يعرف عنك منذ أقمت في بلدنا‪...‬أعددت له قهوة بعد جلوسنا إلى طاولة‬
‫صغيرة فأدخل يده في جيبه وأظهر ورقة مكتوب عليها‬
‫‪ "Engineering mathematics":‬وهو يسألني‪ :‬هل أجد عندك‬
‫هذا الكتاب؟‬
‫لدي مكتبة صغيرة بدأت أفتش فيها عن نسخة كنت جلبتها من‬
‫طرابلس منذ ثمانينيات القرن الماضي‪ .‬وجدتها‪ ،‬وتأكدت من العنوان قبل أن‬
‫أضعها قرب فنجان القهوة‪ ،‬فانفرجت بوجه ضيفي أسارير االنشراح وهو‬
‫يغرق في بهجة بعثرت ألفاظ لغته على لسانه؛ وبعد لحظات بدأ يلملم تعابير‬
‫الشكر ويقذف بها في فضاء غرفتي المتواضعة‪ .‬وألخرجه مما هو فيه سألته‪:‬‬
‫أتدرس لتحضير الماستر؟ قال ‪ :‬ال بل بكالوريوس هندسة! ولما آنس‬
‫استغرابي مضمون جوابه قال‪ :‬أنا لم أدرس بأية جامعة خالل مقامي بإنجلترا‪،‬‬

‫‪13‬‬
‫بل كنت أعمل طرف شركة أخرى هناك في انتظار قبولي في أي معهد أو‬
‫جامعة‪ .‬ولما فرغت من محاوالتي اليائسة‪ ،‬خطر لي أن أعود ألنتهج‬
‫"العصامية" التي يعتبرك كل من عرفوك خبيرا بها [وضحك عاليا قبل أن‬
‫يسترسل]‪ ،‬لكن عثمان وضعني في موقف محرج‪ ،‬إذ أشاع بين زمالئي ما‬
‫أشاع‪ .‬وقد جئتك لتساعدني على فهم معادالت تفاضلية تتحداني صعوبتها‬
‫كلما حاولت الدخول في فصل من فص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـول كت ـ ـ ـ ـاب " ‪The‬‬
‫‪ " principles of thermodynamics‬ويحذوني األمل في‬
‫أنك لن تبخل علي بما لديك‪ ...‬عندها طمأنت سعيد بإجابته إلى ما أراد في‬
‫حدود ما أستطيع من توفير مراجع وشرح بعض ما أعرف في مجال تخصصه‪.‬‬
‫وهو يعرف أنني لست ميكانيكيا وال مهندس ميكانيكا إنما أردت مساعدته‬
‫بمجال الرياضيات والفيزياء ألنهما مفتاحا الهندسة في عمومها‪ .‬انصرف‬
‫سعيد بفرحته الواسعة ولم يزرني إال غبّا فيمكث عندي لساعات طوال‪،‬‬
‫نتناقش خاللها ما يكون قد أشكل عليه فهما من أشياء كنت أجهد نفسي‬
‫للدخول معه في تفاصيلها غير ما مرة‪.‬‬
‫وبعد سنوات خمس‪ ،‬تم ّكن سعيد من تحصيل مواد الهندسة‬
‫لميكانيكا التوربينات وكل ما يتعلق بالتبادل الحراري وديناميكا الموائع‬
‫وغيرها‪ ...‬ثم إن قسم الميكانيكا كان بعض مهندسيه يرجعون إلى سعيد في‬
‫تدارسهم لما يحصل من مشاكل الصيانة خالل كل تلك المدة فيحاول أن‬

‫‪14‬‬
‫يعطي صورة المهندس الجديد حديث العهد بمثل تلك األمور حتى وصل به‬
‫الحال إن يكون من الذين يعتمد عليهم في حل الكثير من المشاكل ذات‬
‫ليحولها إلى حقيقة بات يعترف بها‬
‫العالقة "بتخصصه" الذي ركب له كذبة ّ‬
‫الجميع‪ .‬وهو اآلن من أبرع مهندسي الميكانيكا ال ّدوارة‪ – ].‬انتهت‪.‬‬
‫يدل بما ال يدع مجاال‬
‫هكذا انتهت قصة سعيد بما فيها من وجه ّ‬
‫للشك على أن المثابرة تولّد النجاح المبهر‪ .‬وليست هذه القصة يتيمة‪ ،‬بل‬
‫إن هناك غيرها كثير‪ .‬لكني وجدتها األقرب لتوضيح حاجتنا لآلخرين في‬
‫االتجاه اإليجابي‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫استراتيجية التغيير اإليجابي‬

‫قد يكون هذا الموضوع أكثر ما استأثر باهتمامي منذ زمن طويل‪،‬‬
‫غير أنني كنت أبحث عن دراسات علمية تلقي الضوء على كثير من جوانبه‬
‫حتى ال أغفل منها ما يكون مفيدا‪ .‬ومما استوقفني فترة من الزمن؛ هذا‬
‫العنوان "استراتيجية"؛ الكلمة من أصل التيني‪ ،‬داللتها اللغوية هي النظر من‬
‫فوق‪ .‬أما عبارة تغيير فليست بحاجة لتفسير‪ ،‬وخصوصا ما تدل عليه صفة‬
‫اإليجابية ‪ ،‬حتى ال يذهب القارئ بعيدا عن المراد‪.‬‬
‫سنتناول في موضوعنا هذا النظر من فوق أو االستشراف لما هو أهم‬
‫شيء لدى اإلنسان [حياته]‪ .‬وكما أن األصل في حركة األشياء المتحركة‬
‫والحية الدوران‪ ،‬سنعتبر أن للحياة عجلة تدور عليها منذ لحظة الوالدة‪.‬‬
‫يعتمد المخلوق البشري في بداية حياته على والديه إلى أن يبلغ‬
‫مرحلة معينة من عمره يصبح فيها قادرا على تسيير دفة أموره بنفسه‪ .‬فيحمل‬
‫إلى جانب ملكاته الفطرية‪ ،‬حصيلة ما تكون فعلته التنشئة االجتماعية في‬

‫‪16‬‬
‫تربيته وتعليمه وترسيخ قيم لديه‪ ،‬والحفاظ على صحته‪ ،‬حتى يقال إنه قد بلغ‬
‫سن الرشد‪ ،‬اعتبارا لما طرأ على جسمه من تغيرات وما يطبع سلوكه من‬
‫سمات‪ .‬وإن اعتمدنا السن كمحدد لبلوغ الرشد‪ ،‬نكون قد أغفلنا عنصرا‬
‫أهم وهو الرشد السيكولوجي؛ والذي يتمثل في قبول الشخص لتحمل‬
‫المسؤوليات برضى وارتياح‪ ،‬والتفاعل مع اآلخرين حسب ما يمليه الضمير‬
‫الجماعي وظروف المجتمع الذي يعيش فيه‪ .‬لذا سنعتمد الرشد الجسمي‬
‫والرشد النفسي معا في حديثنا عن التغيير اإليجابي‪.‬‬
‫تناول الكثير من العلماء على اختالف مواردهم العلمية ظاهرة التغيير‪،‬‬
‫فأسفرت دراساتهم عن نتيجة مهمة مفادها أن التغيير ممكن في االتجاهات‬
‫والميول وما يدخل في حكمهما‪ .‬ولمن يريد الكلمة الفصل في أن التغيير‬
‫ممكن نورد السند الديني من القرآن الكريم [ إن اهلل ال يغيّر ما بقوم حتى‬
‫يغيّروا ما بأنفسهم ]‪ .‬لكن السؤال المحيّر لدى عموم الناس يبقى‪ :‬لماذا‬
‫يستمر من يتمنون تغيير سلوكهم فيما هم فيه‪ ،‬مع أن وسائل اإلعالم المقروءة‬
‫والمسموعة والمرئية ووسائل االتصال تق ّدم لهم من التوعية والمعلومات ما‬
‫يفوق الحاجة؟ هل تغير المعلومات حياتنا؟ ‪ -‬الجواب أن المعلومات تعتبر‬
‫أداة بال حياة‪ ،‬وإنما يعطيها الحياة لتصبح ذات فعل في سلوكنا هو تطبيقها‬
‫وليس مجرد اكتسابها‪ .‬وينتج عن هذا الجواب سؤال آخر؛ كيف يتم تطبيق‬
‫المعلومات إذن؟ من هنا تنبع ضرورة النظر االستشرافي لنرى ما يمكن أن‬

‫‪17‬‬
‫تحدثه آلية التغيير ونلمس أثرها في السلوك‪ ،‬ولنبحث قبل ذلك في العوامل‬
‫المرتبطة بقرار التغيير‪.‬‬
‫ولنح ّدد في البداية مفهوم التغيير‪ ،‬سنحتاج لتصور مسار للحياة على‬
‫خط مستقيم بدأ منذ الوالدة‪ ،‬بحيث ترمز للشخص بكل حموالته نقطة‬
‫تتحرك في االتجاه الموجب على المسار‪ .‬ونتفق أن حركة النقطة على الخط‬
‫ليست سوى تقريبا لما يمكن أن يحدث من تذبذب حول المسار‪ .‬فمرة‬
‫تكون على الخط وأخرى تحيد عنه فوق أو تحت بمسافة بسيطة ثم تعود‬
‫بعدها إلى الوضع الذي يجعلنا نراها تتبع الخط وبسرعة تزيد أو تنقص في‬
‫مدى زمني متصل الحلقات‪ .‬ولنقل إن موقع النقطة حاد عن الخط بدرجة‬
‫واحدة في لحظة ما‪ ،‬واتخذت مسارها على خط يميل بدرجة واحدة عن‬
‫المستقيم الذي اتفقنا حول تصوره‪ .‬ستكون المسافة قريبة ويمكنها العودة ‪،‬‬
‫غير أنها لو استمرت في مسارها الجديد تتباعد كلما طال الزمن حتى يكون‬
‫مسارها الجديد هو المسلك نحو اتجاهها الذي قصدته بمجرد ما غادرت‬
‫المسار القديم‪ .‬وبمرور الوقت تصبح أبعد فأبعد عن المسار القديم‪ ،‬حتى‬
‫لن يبقى منه شيء يذكر‪( ...‬شكل‪ . )-1-‬هكذا نتصور التغيير‪ ،‬باعتماد‬
‫عامل الزمن‪ .‬ومع أن اإلنسان كائن مدرك‪ ،‬وواع‪ ،‬ومسؤول عن قراراته‪،‬‬
‫يختلف عن الشكل والمادة الجامدة؛ فإن تصورنا التقريبي يحتفظ بما له من‬
‫داللة‪ ...‬يرمز الشكل ‪ -1-‬لحياة شخص قرر أن يغير من سلوكه في لحظة‬

‫‪18‬‬
‫ما من حياته‪ .‬ويظهر فيه أن أثر التغيير ال يلمس في مدة قصيرة بل يبدو أنه‬
‫كلما طالت المدة فاصلة بين اآلن ولحظة اتخاذ القرار والشروع في تنفيذه‬
‫كلما اتضح األثر وكان جليا لمن يستشرف الظاهرة‪.‬‬

‫ظهور‬

‫‪.‬‬
‫قرار‬ ‫أثر التغيير‬

‫‪.‬‬
‫لحظة‬
‫الوالدة‬
‫‪... . . .‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫التغيير‬

‫قبل قرار‬ ‫المسار القديم‬


‫التغيير‬
‫شكل ‪-1-‬‬

‫هناك قرار يتخذ‪ ،‬ومباشرة بعده شروع في التنفيذ‪ .‬علينا أن نقف قليال عند‬
‫عبارة التنفيذ‪ ،‬حيث إنه يمثل حجر الزاوية في كل مشروع‪ .‬وكلما تحدثنا عن‬
‫التنفيذ تبادرت ألذهاننا صورة إنشاء طريق أو بناء عمارة أو ما يشبه ذلك‪.‬‬
‫غير أن مشروعنا أهم من كل بناء ألنه يتعلق بحياة اإلنسان‪ .‬ولنأخذ من‬
‫المشاريع عنصرا هاما جدا وهو التخطيط‪ .‬إذ ال يمكن اإلقدام على تنفيذ‬
‫مشروع إال حسب ما وضع له من خطط يقوم على وضعها متخصصون تتطلب‬
‫ماال وجهودا‪ .‬وقبل الشروع في إعداد الخطط‪ ،‬توضع مواصفات لكل خطة‬

‫‪19‬‬
‫تبعا لطبيعة المشروع والمحيط الذي سيقام فيه‪ ،‬والعوائق التي يمكن أن تؤخر‬
‫التنفيذ أو توقفه ‪...‬‬

‫ومهما كان المشروع معقدا ويحتاج لتقنيات عالية‪ ،‬لن يصل درجة‬
‫التعقيد التي يكون عليها مشروع تغيير حياة إنسان! ذلك أن للكائن البشري‬
‫أبعادا ومنظومات عديدة؛ منها المعتقدات والقيم والميول واالتجاهات‪،‬‬
‫وهذه األبعاد والمنظومات تتفاعل فيما بينها وتتداخل بحيث ال يمكن في‬
‫الحالة الطبيعية‪ ،‬فصل منظومة منها عن أخرى بشكل قطعي‪ .‬وحتى نكون‬
‫عمليين أكثر‪ ،‬علينا أن نرسم نهجا من خطوات نتبعها في محاولتنا تقريب‬
‫صورة االستراتيجية إلى األذهان على ضوء ما توصلت إليه بحوث ودراسات‬
‫العلوم الحديثة المتخصصة في دراسة السلوك البشري وتحليل المعامالت‪،‬‬
‫والتنمية البشرية‪.‬‬

‫تعريف الهدف‪:‬‬

‫الهدف عبارة عن تمثّل ذهني لما نريد الوصول إليه أو الحصول عليه‬
‫ببذل مجهود معين‪ ،‬و قد يولّد الهدف دافعا أو دوافع إن تآزرت تساهم‬
‫فعال في الوصول للهدف‪ .‬غير أن تصور الهدف ال يكفي لتنفيذه‪.‬‬
‫بشكل ّ‬

‫‪20‬‬
‫تحديد الهدف‪:‬‬

‫مثلما أن وراء كل سلوك دافع فإن لكل سلوك نتيجة‪ .‬وبذلك تكون‬
‫لمجموع ما يتخذه الشخص من قرارات‪ ،‬حصيلة توصل إلى هدف‪ .‬وحصيلة‬
‫القرارات العشوائية‪ ،‬تختلف عن حصيلة القرارات المدروسة‪ ،‬والمنتظمة في‬
‫نسق دقيق ومحكم يسعى لتحقيق هدف مح ّدد‪ .‬وتنبع ضرورة التحديد من‬
‫أن الدماغ البشري ال يفعل ما نريد منه أن يفعل؛ بل يفعل ما يصل إليه في‬
‫صورة واضحة المعالم بتفاصيل دقيقة‪ .‬فدماغ شخص [جائع] يريد أن يأكل‪،‬‬
‫لن يستجيب إلرادته بتذ ّكر موقع مطعم إال إن ح ّدد ما يريد أكله بدقة؛ كأن‬
‫يعبّر لدماغه عن رغبته في أكل سمك مقلي كالذي تناوله الشهر الماضي‬
‫تكونت صورة‬
‫تخرجه‪ ...‬هنا ّ‬
‫مقرب زاره في حفل ّ‬
‫حين كان صحبة صديق ّ‬
‫واضحة المعالم لدى صاحبنا‪ .‬وبالتالي سيتذ ّكر بسهولة‪ ،‬ولن يجد صعوبة في‬
‫االهتداء إلى حيث يوجد المطعم‪ .‬بتحديدنا للهدف الذي سنسعى لبلوغه‪،‬‬
‫نكون خطونا خطوة واحدة ألننا لم نعط إال اسما للصورة‪ ،‬وماتزال معالمها‬
‫غامضة! علينا أن ننظر الكيفية التي يجب أن يكون عليها ما حددناه لتبنى‬
‫عليها خطة التنفيذ‪ .‬يرى الكثيرون من دارسي التنمية البشرية أن هناك‬
‫مجموعة من الصفات يطلقون عليها اسما مكونا من حروف التينية عددها‬

‫‪21‬‬
‫مثل عدد أصابع اليد [‪ ] S.M.A.R.T‬غير أننا لن نكتفي بهذا العدد‬
‫فهو ليس من التنزيل حتى نلتزم به‪ ،‬وسنقول إن على الهدف أن يكون‪:‬‬

‫‪ -1‬خاصا بالتغيير المنشود‬


‫تصوره ليكون باإلمكان تكوين صورة ذهنية لما سيكون‬
‫‪ -2‬بإمكاننا ّ‬
‫عليه‪.‬‬
‫‪ -3‬قابال للتحقيق بحيث يكون في متناول قدراتنا‪.‬‬
‫‪ -4‬قابال للقياس الكيفي بالمقارنة‬
‫‪ -5‬طموحا‪ ،‬يرقى بنا إلى مستوى أفضل في جانب ما من حياتنا‬
‫‪ -6‬واقعيا؛ أي ذا عالقة بواقعنا وبأحداث الحياة اليومية‪.‬‬
‫‪ -7‬يمكن ربطه بالزمن‬

‫يضاف إلى هذه المواصفات احتياطات ذات قيمة في اتخاذ الحذر من أن‬
‫نواجه صعوبات في التنفيذ‪:‬‬
‫‪ -1‬أال يكون الهدف بعيدا جدا فنصاب باإلحباط والملل‪.‬‬
‫‪ -2‬وال متدنّي المستوى‪ ،‬لدرجة تجعلنا نهمل قيمته ويأخذنا‬
‫األحساس بأننا نضيّع الوقت للحصول على ما ال يفيد‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ -3‬أال نبقي شيئا يجب أن نتعلمه بخصوص هدفنا‪ .‬بمعنى أن‬
‫ندرس كل من الجوانب ما يمكن أن يفيدنا في تحقيق ما نصبو‬
‫إليه وكل المثبطات الممكنة لنتجنبها‪.‬‬
‫‪ -4‬أن نضع صمام أمان في حسباننا ليجنبنا االنهيار في حالة‬
‫الفشل‪.‬‬
‫‪ -5‬أن نعي أن لكل شيء ثمن ونرضى أن ندفع ثمن نجاحنا‪.‬‬

‫اتخاذ القرار‪:‬‬

‫من منا لم يتخذ قرارا بخصوص شأن ما‪ ،‬ولم يصل به لمرحلة التنفيذ؟‬
‫‪ -‬كل الناس يعرفون مثل هذه الحالة؛ فمنهم من يتحجج بالظروف‪ ،‬ومنهم‬
‫من يتحجج بضيق الوقت‪ ،‬ومنهم آخرون يختلقون لألعذار أسبابا تحول دون‬
‫تحقيق ما تمنوه بحرارة وحماس ‪ ...‬وما دمنا اتفقنا في بداية الحديث عن‬
‫الرشد الجسمي والنفسي فإن القدرة على اتخاذ القرار تعود للشخص نفسه‪.‬‬
‫وال دخل للظروف في هذه القدرة‪ .‬أما التحجج بضيق الوقت؛ فإن كل إنسان‬
‫يصحو من نومه ومعه ‪ 24‬ساعة في اليوم‪ .‬الغني‪ ،‬الفقير‪ ،‬الحر‪ ،‬السجين‪،‬‬
‫المريض‪ ،‬السليم‪ ،‬الشاب‪ ،‬والعجوز‪ ...‬وليس على وجه األرض من لديه وقت‬
‫أكثر من اآلخرين وال أقل من وقتهم‪ .‬وإنما نختلف في إدارة الوقت وفي‬

‫‪23‬‬
‫كيفية تمثلنا له‪ .‬ثم إن القرار الحاسم يمكن أن يأتي انطالقا من األسئلة التي‬
‫تمثّل دوافع مهمة‪:‬‬

‫‪ -1‬ما الذي سنخسره إن باشرنا التغيير من سلوكنا نحو األفضل؟‬


‫‪ -2‬ما الذي سنكسبه من هذا التغيير؟‬
‫‪ -3‬هل كان بإمكاننا أن نغيّر ما أدركناه اآلن قبل أن يستوجب‬
‫إعادة النظر؟‬
‫‪ -4‬ماهي المعوقات التي كانت تمنعنا من التغيير في السابق؟‬

‫خطة التنفيذ‪:‬‬
‫إن نحن أدركنا ضرورة للتغيير ورغبنا واتخذنا القرار بشأنه‪ ،‬ال يعني‬
‫أننا وصلنا للمبتغى‪ .‬بل علينا أن نح ّدد وضعنا الحالي – هنا واآلن‪ -‬قبل‬
‫التفكير في الخطة‪ .‬ألن بناءها يعتمد على ما نحن فيه من حاجة للتغيير‪ .‬ثم‬
‫نجيب على السؤال‪ :‬هل السلوك الذي نرغب فيه متوافق مع منظومتنا‬
‫القيمية؟ يتعيّن علينا بعد ذلك‪ ،‬رسم صورة ذهنية لما تكون عليه الخطة وما‬
‫سنعتمده فيها كأساس‪:‬‬
‫‪ -1‬االستفادة من التجارب السابقة‬
‫‪ -2‬المعرفة المتخصصة (باعتماد الطرق العلمية)‬

‫‪24‬‬
‫‪ -3‬أن نعتمد وسائل مناسبة لقياس التغيير‪.‬‬
‫‪ -4‬الفعل المستمر – "بداية األلف ميل خطوة‪ ،‬وخطوة بعدها ثم‬
‫خطوات ‪"...‬‬
‫‪ -5‬البحث عن شريك نجاح يش ّد أزرنا في مسيرتنا نحو الهدف‪ ،‬قد‬
‫تكون فكرة عن موقف شجاع أو شخصية تستحق أن نتخذها‬
‫قدوة‪.‬‬

‫شروط مرحلة التنفيذ‬


‫‪ -1‬االنطالق دون تأجيل و‪ -‬اآلن!‪-‬‬
‫‪ -2‬التنسيق وانسجام فيما نقول وما نفعل‪ ،‬ألن األفعال تبقى أبلغ‬
‫تعبيرا وأصدق شاهد على تماسك الشخصية‪.‬‬
‫‪ -3‬استمرارية الفعل ضرورية؛ ألن الصعوبة في التنفيذ تكون في البداية‬
‫كبيرة؛ وبمجرد الدخول في حركة سيسهل اتخاذ سرعة أعلى على‬
‫المسار‪.‬‬
‫‪ -4‬اجتناب تأثير البيئة المحبطة‪ .‬ألن أغلب حياة الناس هي انعكاس‬
‫مباشر لتوقعات من حولهم ‪...‬فإن كان من حولك يستصغرونك‬
‫ويرونك غير قادر على تحقيق الهدف الذي رسمته لنفسك‪ ،‬لن‬
‫يدعوك تتحرك من مكانك‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫صمم على أن تتق ّدم‪ ،‬لتعطي أحسن ما تستطيع‪ .‬فلن يزيد العطاء‬
‫‪ّ -5‬‬
‫مكانتك إال رفعة وتقديرا مثلما تكون قيمة ما تهديه لغيرك دليال‬
‫البر حتى تنفقوا مما‬
‫على كرمك وسمو مكانتك‪[ .‬لن تنالوا ّ‬
‫تحبّون]‬
‫‪ -6‬قم بتقييم ما تم الوصول إليه من نتائج بصورة دورية‪ ،‬بمقارنة‬
‫الوضع الحالي مع ما كان عليه في مرحلة سابقة؛ إن كنت تشعر‬
‫بتحسن الوضع فأنت قادر على الوصول لما هو أحسن‪.‬‬
‫دائرة اكتساب العادة‪:‬‬
‫لنكتسب [االستمرار]‪ ،‬أي عادة العمل المتواصل في االتجاه الذي‬
‫رسمناه لخطتنا‪ ،‬البد لنا من معرفة النهج المتبع ومراحله إن أمكن‪ .‬حيث إن‬
‫معرفة المراحل والكيفية التي بها نقدم الصور الذهنية الجديدة لدماغنا‬
‫ستكسبنا وقتا وتوفر علينا الجهد‪ .‬باإلضافة إلى أن المهم لدينا ليست‬
‫النتيجة‪ ،‬بل ما سنعمله بالنتيجة أعني استغاللنا لما سنحققه‪.‬‬
‫في البداية‪ ،‬وقبل أن نقدم على مشروع التغيير اإليجابي‪ ،‬كنا نعيش‬
‫تحت التراكمات العشوائية غير المنظمة؛ بعضها مما أخذناه تقليدا لغيرنا‪،‬‬
‫وبعضها ألفناه لسهولته‪ ،‬والبعض اآلخر‪ ،‬فرضته علينا ظروفنا االقتصادية‬
‫واالجتماعية ‪ ،‬أو رسخ لدينا لما اعتقدناه السبيل األمثل للعيش الكريم أو‬
‫للرفاهية! ولم ندرك في السابق أن األمور يمكن أن تسير على النهج الجديد‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫ألننا كنا غير مدركين لكفاءتنا على التغيير‪ .‬هذه أول مرحلة ونسميها ]‪[i,i‬‬
‫)‪ّ .(Incontiemment incompétent‬‬
‫بمجرد ما أدركنا كفاءتنا‬
‫نكون قد دخلنا مرحلة ثانية نرمز لها بـالحرفين ]‪ [c,i‬داللة على حالة‬
‫)‪ (Contiemment incompétent‬إدراك عدم الكفاءة وهذا‬
‫اإلدراك هو المنطلق لتنمية الكفاءة باكتشاف طاقاتنا الكامنة والكفيلة بتغيير‬
‫زاوية النظر في اتجاه الهدف‪ .‬نتحول بعدها للمرحلة ما قبل األخيرة‪ ،‬التي‬
‫تدخل السلوك المرغوب في حكم العادة ]‪(contiemment [c,c‬‬
‫)‪ compétent‬مدركين فيها لكفاءاتنا وقد اكتشفنا عالما جديدا أوسع‬
‫رسخت السلوك في عاداتن ــا‬
‫أفقا مما كنا عليه سابقا‪ .‬وآخر مرحلة‪ ،‬تكون قد ّ‬
‫نرمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز له ـا بالحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرفين ]‪ [i,c‬وتعني ‪(incontiemment‬‬
‫)‪ compétent‬أننا ّ‬
‫نتصرف دون عناء وبتلقائية‪ .‬إال أن األهم في كل‬
‫هذا أننا تعلمنا كيف تكتمل الدائرة لتبدأ من جديد – شكل ‪ - 2‬مع حلقة‬
‫ليتسمر التطور أطول في الحياة؛ تبدأ بـ ]‪[i,i‬‬ ‫ّ‬ ‫جديدة لتغيير إيجابي آخر‬
‫تأتي بعدها ]‪ [c,i‬ثم تليها ]‪ [c,c‬وأخيرا نصل إلى مرحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلة‬
‫]‪.[i, c‬‬

‫شكل‪-2-‬‬

‫‪27‬‬
‫وهناك من يجسمها بشكل مغاير يتكون من درج ال متناهي كما في شكل ‪-‬‬
‫‪ -3‬إال أن كل ما يهمنا هو تقريب‬
‫الفكرة‪ .‬فمتى نصل المرحلة‬
‫]‪ [i,c‬نكون قد أدخلنا السلوك‬
‫المرغوب في حكم العادة حيث‬
‫يصبح عاديا ولن نشعر بالعناء في‬
‫القيام به تماما كما نتعلم قيادة سيارة‪ ،‬ولنتذكر كيف كانت الصعوبة في بداية‬
‫التعلم ثم كيف دخلت السياقة في عاداتنا‪ ...‬ولنتذكر كيف تعلمنا الكتابة‪،‬‬
‫األمثلة كثيرة في حياتنا‪.‬‬

‫كيف تعلّمنا الخط ؟ الشك أن كال منا يذكر كيف كان المعلمون يرسمون‬
‫لنا أشكال الحرف بنقط ويساعدوننا لتتبع مسار تلك النقط؛ مرة نحيد عنه‬
‫فتبدو في كتابتنا اعوجاجات كبيرة‪ ،‬ومرة نذهب أبعد من المسار‪ .‬مرة نحبط‬
‫ومرة نفرح لما نسمع من تشجيع‪ ...‬وكم تلكأنا في تعلم الحساب‪،‬‬
‫واإلمالء‪ ...‬إلى أن نشأنا وخرجنا من أمية القراءة والكتابة‪ ،‬إلى أمية أخرى‬
‫بمجال آخر متى أدركناها نرغب في تغيير سلوكنا لنمحوها ونصبح قادرين‬
‫على فهم محيطنا بصورة أكثر وضوحا‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫نحن اآلن نسوق سيارتنا بشكل آلي؛ ندور يمينا وشماال أو نرجع إلى الخلف‬
‫بقليل من الحرص ألن الباقي من الدقة مرسوم في دماغنا ولن نخطئ إال إن‬
‫أضفنا للدماغ مهمة أخرى تسبب االنحياز إلى غير ما هو مرسوم بالعادة‪.‬‬
‫العنصر ]‪ [i,c‬والذي يعني )‪(Incontiemment compétent‬‬
‫أننا لسنا مدركين لكفاءتنا؛ ونتوقف قليال لنوضح أهمية هذا العنصر‪ .‬فأثناء‬
‫السياقة نكون في وضع ]‪ [i,c‬نحن أكفاء لنقوم بعمل ال يستغرق منا اإلدراك‬
‫السر [السكرتيرة] في إدارة‬
‫الكامل بحكم العادة‪ .‬تماما كما ترقن أمينة ّ‬
‫مؤسسة ما‪ ،‬رسالة دون أن تنظر إلى لوحة المفاتيح وكـأن كل أصبع من‬
‫أص ابعها يعرف الحرف الذي سينقره في اللحظة المناسبة التي يصله فيها‬
‫األمر من المركز العصبي المتخصص في تنسيق الحركات مع القرارات‬
‫المتعلقة خصيصا بالرقانة‪ .‬وإن سألت السكرتيرة أن تقوم بنفس العمل على‬
‫لوحة مفاتيح لحروف لغة ال تعرفها فستجيبك بأنها ]‪ [c,i‬ال تستطيع القيام‬
‫لتمرن كال من‬
‫ّ‬ ‫بهذا العمل ما لم تتعلم اللغة الثانية‪،‬‬
‫أصابعها)‪ (Contiemment incompétent‬على مالمس‬
‫اللوحة‪ .‬تعني أنها مدركة لعدم كفاءتها‪ .‬وذاك ما يحول دون قيامها بالعمل‬
‫بنفس الكفاءة‪ .‬لماذا؟ ألن العالقات العصبية التي تكونت داخل دماغها‬
‫ربطت حروف لغة معروفة بحركات محددة‪ .‬إال أن هذا النقص في الكفاءة‬

‫‪29‬‬
‫يمكن تداركه باستكمال الدائرة ]‪ [c,c‬حين تتعلم اللغة الجديدة [وهو تغيير‬
‫إيجابي]‪ ،‬ثم ]‪ [i,c‬لتكون قادرة على الرقانة بلغتين‪.‬‬
‫يسمي بعض الباحثين بمجال ما يسمى "البرمجة اللغوية العصبية"‬
‫والتنمية البشرية وضع ]‪ [i,c‬بـ )‪ (Métaconscience‬مع أن هذا‬
‫المصطلح قد ال يكون المناسب لمعنى [ما وراء اإلدراك] وهي الحالة التي‬
‫تكون فيها عملية يدوية أو أي نمط من السلوك يؤتى بصورة آلية بحيث ال‬
‫يستدعي المهارة من حيز اإلدراك باستهالك طاقة كبيرة وإنما يحتاج أن يكون‬
‫اإلنسان يقظا‪ ،‬وهو في حالته الطبيعية ليس إال؛ كغسل اليدين واستخدام‬
‫يصمم نموذجا‬
‫فرشاة تنظيف األسنان‪ .‬وهي حالة تختلف عن وضع من ّ‬
‫جديدا آللة أو من يكتب مقاال صحافيا أو طبيبا يشخص مرضا؛ ذلك أن‬
‫كل هذه الحاالت تتطلب مجهودا كبيرا من الدماغ البشري‪.‬‬
‫ونخلص من حديثنا إلى أن التغيير اإليجابي المرغوب لن يتحقق إال‬
‫إن دخل ضمن حيز ما أوردنا مراحله في ذكر دائرة اكتساب العادة‪.‬‬
‫بقي أن نوضح أن تصورنا للعالم يبقى أمرا ذاتيا‪ .‬ولكل إنسان‬
‫منظروه الخاص الذي يطل منه على محيطه‪ ،‬ويتفاعل مع اآلخرين من خالل‬
‫ما يراه مقبوال أو مرفوضا حسب منظومته القيمية ومعتقداته وثقافة المجتمع‬
‫الذي نشأ فيه‪ .‬ذلك أننا ال نعرف عن العالم إال ما يصل دماغنا من معلومات‬
‫عن طريق الحواس‪ ،‬ثم إن تلك المعلومات تعالج حسب منظومة من‬

‫‪30‬‬
‫التفاعالت جد معقدة‪ ،‬لتتولد عنها نتائج تؤدي إلى اتخاذ قرارات تصدر عن‬
‫دماغنا‪ ،‬وتترجم إلى سلوك يصدر عنا ليدركه كياننا أوال ثم ينطلق إلى العالم‬
‫الخارجي فيحكم عليه اآلخرون ممن هم حولنا ويعطونه قيمة معينة! وهنا‬
‫تتجسد صورة من صور عملية االتصال باآلخرين وبالمحيط العام‪.‬‬

‫كيف نغير سلوكنا في الشارع؟‬

‫الشارع مكان نرتاده جميعا في أي وقت نريد‪ ،‬ألسباب مختلفة وهو‬


‫أول مكان نتجول فيه بحواسنا متى خرجنا من مسكننا‪ .‬ندخله بثالث حواس‬
‫السمع البصر و الشم‪ .‬فإن كان الشارع مليئا باالوساخ و النفايات مهمال‪،‬‬
‫نمر به فيؤثر فينا منظره من حيث ال نشعر بانطباع يبعث في نفوسنا الالمباالة‬
‫ّ‬
‫نكون‬
‫و التملص من المسؤولية و إلقاء اللوم على اآلخرين‪ .‬فنحن أفراد ّ‬
‫مجتمعا والشارع ملك جماعي لنا‪ .‬ونحن متساوون في الحقوق و في‬
‫الواجبات فمن المسؤول عن حالة الشارع؟ لن نتحدث عن الجهات‬
‫حملناها مهمة تنظيف الشارع‪ .‬دعونا نتساءل إن كان ما يلقى‬
‫الرسمية‪ ،‬والتي ّ‬
‫في الشارع مجرد أشياء مادية أم هناك ما هو غير مادي‪ ،‬و له من اآلثار ما‬
‫قد يكون أخطر من األوساخ ونفايا المطابخ‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫إننا نلقي التحية ألشخاص نقابلهم أثناء مرورنا بالشارع و نلقي كالما‬
‫ذا معنى يقع بأسماع المارة‪ .‬كما يظهر من تعابيرنا الجسدية ما يلقى فيستقبله‬
‫غيرنا من غير المقصودين بذاك التعبير‪ .‬إننا نلقي بصور عديدة من سلوكنا‬
‫في الشارع‪ .‬بمعنى آخر نحن نطرح أمام اآلخرين نماذج من معتقداتنا وكيف‬
‫نرى أنفسنا وما نريد لهم أن يعرفوا عنا‪ .‬فكيف تصدر عنا تلك السلوكات؟‬
‫عما نحن فيه مشاركون‪ .‬وهذه حقيقة ال‬ ‫نحن مشتركون فيما ينتج ّ‬
‫أحس الناس بالتغيّرات التي عرفها الطقس‬
‫يغفل عنها عاقل في عصرنا‪ .‬وقد ّ‬
‫المضرة بالبيئة والمدمرة‬
‫ّ‬ ‫نتيجة النشاط البشري المرتكز على إنتاج النفايات‬
‫لجمال الطبيعة‪ ،‬وتعالت األصوات منذرة بكارثة بيئية منذ منتصف القرن‬
‫الماضي‪ .‬غير أن المنتفعين من ذاك النشاط لم يعبؤوا بالتحذيرات في حينها‪،‬‬
‫والمستهلكون لما تنتجه مصانع أولئك األنانيون مشاركون في استمرارها‬
‫ماضية في اتجاه التدمير إلى أن عرف العالم أن وقت تفادي الكارثة قد‬
‫تلوح‬
‫فات! ولم يعد بوسع البشر غير تأخير موعدها‪ .‬وبدأت سمات الخطورة ّ‬
‫في األفق باألمطار الحمضية وذوبان مخزون الثلوج على قطب األرض‪،‬‬
‫وارتفاع حرارة الجو وانتشار أمراض لم تعرفها البشرية في سابق تاريخ‬
‫التضرر مشتركون نتيجة ما نحن‬
‫ّ‬ ‫المتضرر؟ ‪ -‬نحن جميعا في‬
‫ّ‬ ‫وجودها‪ .‬فمن‬
‫فيه مشاركون!‬

‫‪32‬‬
‫ضرر النفسي المحيق بالناس‬ ‫أهم ما نريد أن نتفاداه‪ ،‬هو ال ّ‬
‫إال أن ّ‬
‫جميعا على اختالف ثقافاتهم وألسنتهم وألوانهم ومعتقداتهم‪ .‬ولن نتم ّكن من‬
‫ضرر إال إن نحن أدركنا وق ّدرنا قيمة اإلنسان بما تستحق من التقدير‪،‬‬
‫تفادي ال ّ‬
‫وحللنا أسباب تدهور تلك القيمة‪ ،‬لنقف على حقيقة ما نحتاجه من غيرنا‪،‬‬
‫وما علينا من واجبات نحوهم لنوفّر لهم ما يحتاجونه منا‪ ،‬ونتخذ القرار‬
‫الحاسم بدون تر ّدد لتغيير سلوكنا نحو أنفسنا ونحو غيرنا ونحو البيئة التي‬
‫نعيش فيها جميعا‪ .‬على أال نفهم أن الحاجة للغير تدعونا لالعتماد عليهم‪.‬‬
‫إذ االعتماد على الغير صفة ذميمة ال نقبلها ألنفسنا‪ .‬فإن كان النجار يحتاج‬
‫الح ّداد في صنع أدواته‪ ،‬فليس معناه أن يترك النجار مهمته ويعتمد في كسبه‬
‫على ما يكون لدى الح ّداد من حاصل جهده وعمله‪.‬‬
‫لن يختلف اثنان على أن التصرفات تنتج عن قرارات يتخذها الفرد‬
‫بكامل وعيه أو دون وعي منه‪ .‬ومادام كل فرد مسؤوال عن قراراته ‪ -‬إال في‬
‫كل في شخصه عما يصدر عنا سواء أكان‬
‫حالة االستثناء ‪ -‬فإننا مسؤولون ّ‬
‫رمي كيس بالستيكي يمكن أن يحجب الرؤيا عن سائق فيتسبب في حادثة‬
‫سير مميتة‪ ،‬أو عبارة بذيئة تصدم نفسية طفل فتصاحبه آثارها مدى الحياة‪.‬‬
‫وبإدراكنا لجسامة المسؤولية يصبح أمامنا اختيار الصور التي نريد أن نعطيها‬
‫للغير عن أنفسنا فإما تكون إيجابية تنم عن شخصية متوافقة مع مجتمع‬

‫‪33‬‬
‫يحترم أعرافه و تقاليده وثقافته ويسعى لالرتقاء بمستوى حياته نحو األفضل‪،‬‬
‫أو سلبية تنذر باالنحالل والتدني في هوة الجهل والفقر والمرض‪.‬‬
‫ولعل أغرب مفارقة تتجلى في سلوكنا العام أن نطلب من اآلخرين‬
‫احترامنا دون مبادرة منا الحترامهم‪ .‬وال ندرك أن الصورة التي نلقيها لآلخرين‬
‫هي نفسها التي ترتد إلينا تماما مثلما يحصل حين نقف أمام مرآة‪ ،‬مع اعتبار‬
‫الفرق بين المادة الجامدة ومرآة المجتمع الدينامية التي تعكس التفاعالت‬
‫بما فيها من إحساس باآلخر وتقديره كشخص مساو لنا يستحق المحبة‬
‫والتقدير واالحترام ككيان منفصل عنا له شخصيته بمالها من سمات‬
‫وطموحات وأساليب تعبيرية خاصة‪ ،‬مغلفة بالطابع الجماعي أو النسيج‬
‫األخالقي الذي يكونه الخضم الهائل من مجموع الصور السلوكية التي يلقيها‬
‫األفراد لبعضهم في الشارع‪.‬‬
‫لكل مؤسسة نظام وقواعد يلتزم بها األشخاص فالمدرسة مؤسسة‬
‫لها نظامها ولموقع العمل نظامه وقواعده وللبيت قواعد غير مكتوبة تنظم‬
‫شؤونه‪ .‬لم ال تكون لشارعنا قواعد حتى وإن كانت غير مكتوبة‪ ،‬نستقي‬
‫بنودها من صميم ما نعايشه يوميا‪ ،‬ونلتزم بها لتحسين وجه شارعنا بعيدا عن‬
‫اإلجراءات الزاجرة التي يحددها القانون؟ تلك اإلجراءات تأخذ وقتا و جهدا‬
‫من الجهات المسؤولة وقد يتمرد عليها األفراد بدعوى أنها ال تحقق‬
‫مصالحهم‪ .‬أما القواعد التي يتفق المجتمع عليها بشكل ضمني لغرض‬

‫‪34‬‬
‫تحقيق المصلحة الجماعية كنظافة الشارع وتجميل وجه الحي أو المدينة‬
‫واالهتمام بالجانب النفسي لمن هم بحاجة للمساعدة‪ ،‬وتنظيم حمالت‬
‫التوعية‪ .‬كل هذه قواعد تدخل في حكم العرف العام بمجرد تكرارها وال‬
‫تأخذ جهد فئة دون أخرى ألن المجهود سيكون جماعيا كل من موقع‬
‫مسؤوليته ف النتيجة تكون لصالح الجميع‪ ،‬ألن كل فرد يكون قد ساهم في‬
‫تقديم صورة إيجابية لشخصية يقدرها اآلخرون ممن حوله‪.‬‬
‫خرج عبد الناصر صحبة صديق له باكرا متوجها نحو المطار‪،‬‬
‫فاستمهله لتناول فنجان قهوة قبل مغادرة المدينة‪ .‬توقفا أمام مقهى بشارع‬
‫ضيق يفضي إلى طريق المطار‪ .‬وإذا بصديقه يهمس له ليجلب اهتمامه إلى‬
‫منظر أعجبه‪ :‬شخص يكنس الشارع‪ ،‬البسا كمامة ونظارة للوقاية من الغبار‪.‬‬
‫يلم ما تناله المكنسة في أكوام متقاربة‪ ،‬وما لبث أن اختفى للحظات‬
‫كان ّ‬
‫قبل أن يعود في سيارة خاصة من النوع الذي يخصص لنقل البضائع‪ .‬عليها‬
‫قطع بالستيكية بحجم يغطي المكان المخصص للشحن‪ .‬بدأ يجمع األكوام‬
‫يحملها ويشحنها في سيارته حتى أتم عمله على مسافة تقارب المائتي متر‪،‬‬
‫ثم انصرف‪ .‬كان عبد الناصر وصديقه قد شربا قهوتهما دون إبطاء اعتبارا‬
‫لضيق الوقت‪ .‬فواصال طريقهما إذ بادره صديقه قائال ‪ - :‬أرأيت؟ إن الرجل‬
‫الذي كان يكنس الشارع أستاذي وقد أحيل للتقاعد االختياري من التدريس‬
‫بكلية طب العيون‪ .‬وبدأ يسرد على مسمعه نوادر ما كان يعرف عن أستاذه‪...‬‬

‫‪35‬‬
‫ظل عبد الناصر يجيب صديقه عن نقله تلك الصور‪ ،‬باإليماء أكثر من مرة‬
‫ّ‬
‫قبل أن يسأله ‪- :‬ما الفرق بين الخدمة التي يقدمها الطبيب من نفس‬
‫تخصصك والعامل الذي يكنس الشارع؟ ضحك الصديق –الطبيب‪ -‬ثم‬
‫أردف ‪-‬عرفت ما ترمي إليه يا عبد الناصر‪ .‬أعتقد أن ذاك العامل يجنبني‬
‫اإلصابة بالمرض بينما يعالجني الطبيب بعد مرضي‪...‬وبالتالي فمهمة كل‬
‫فنكن احتراما لكليهما على قدر سواء‪.‬‬
‫منهما ذات قيمة علينا أن ندركها ّ‬
‫أليس هذا ما تريدني أن أقوله؟ قال ‪- :‬بارك اهلل فطنتك و فكرك‪ .‬ولما كانا‬
‫قد وصلنا إلى وجهتهما لم يجدا من الوقت ما يتسع لمواصلة الحديث‪ .‬و ّدع‬
‫عبد الناصر صديقه شاكرا وهو يتوجه نحو بوابة التسجيل‪.‬‬
‫أخذني شعور باالرتياح طوال ما استغرقته من زمن في قراءة هذه‬
‫القصة‪ .‬كانت تجول في مخيّلتي صورة أستاذ األطباء يسهم بما يستطيع في‬
‫يمر أمام بيته‪ ،‬فيتزايد في فكري تقدير مثل هذه‬ ‫نظافة الشارع الذي ّ‬
‫الشخصية ويغمرني االعتزاز بأن أتعلّم في العطاء درسا جديدا من قصة قصيرة‬
‫كهذه‪ ،‬تصور لي واقعا يعيشه الناس في احترام أنفسهم باحترام بيئتهم‪.‬‬
‫وقبل أن أختم هذا الفصل وددت أن أنقل ما نشر على صفحات‬
‫األنترنت من مقاالت تهمنا جميعا [ يعتبر يوم ‪ 18‬فبراير يوما وطنيا للسالمة‬
‫الطرقية وقد خلد هذه السنة تحت شعار ” لنغير سلوكنا ” الشيء الذي أتاح‬
‫الفرصة للمتدخلين والفاعلين ابتداء من أول شهر فبراير لتنظيم مجموعة من‬

‫‪36‬‬
‫التظاهرات وتنشيط عمليات حول السالمة الطرقية ‪ .‬وتجدر اإلشارة إلى أنه‬
‫تم توجيه نداء إلى السلطات العمومية والمحلية ووسائل اإلعالم وفعاليات‬
‫المجتمع المدني قصد التعبئة والمساهمة في المجهودات المبذولة من أجل‬
‫تكريس الوعي الجماعي بضرورة إحداث تغيير في سلوك السائقين ومستعملي‬
‫(‪)2‬‬
‫الطرق ‪ ...‬عدد كبير من القتلى والجرحى وتشريد عدد من األسر]‬
‫يحسه من يفقد عزيزا عليه في حادثة سير أو ما تكون‬
‫لنتصور ما ّ‬
‫عليه حال من أصيب بجروح خلفت إعاقة بجسده‪ .‬و ال يحتاج تغيير السلوك‬
‫تعود السائقون‬
‫التدرب عليه ليصبح جزءا من عاداتنا؛ تماما كما ّ‬
‫أكثر من ّ‬
‫ربط حزام المقعد‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪http://www.oujdacity.net/regional-article-889-ar/‬‬

‫‪37‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫ال ّتــوا ُ‬
‫صــــل‬

‫بالنظر إلى عناصر الطبيعة الحية‪ ،‬نجد أن التفاعل والحركة مستمرين‬


‫على مستويات عديدة‪ ،‬تتش ّكل منهما أنظمة جد مع ّقدة سواء في تباينها أو‬
‫لتكون كالّ نابضا بتوازن دقيق في كل جزيء من الثانية؛ لتستمر‬
‫في تداخلها ّ‬
‫الحياة‪ .‬ويمكننا القول‪ :‬إن أساس التفاعل والحركة بين األحياء تواصل‪.‬‬
‫تعريف التواصل‬
‫التواصل عملية تبادل معلومات بين نظامين أو أكثر‪ ،‬لكل‬
‫منهما خاصية االستجابة لما يتم تبادله من معلومات‪ .‬وقد اعتبرنا عبارة "‬
‫نظام " شاملة‪ .‬فالكائن الحي نظام بمعنى أن له مجال داخلي مفصول عن‬
‫المحيط الخارجي بفاصل مادي يسمح باستقبال معلومات واردة وبإرسال‬
‫أخرى إلى المجال الخارجي‪.‬‬
‫‪ -1‬أهمية التواصل‬
‫عادة ما ال تتضح أهمية الشيء إال بتصورنا لغيابه؛ فلنتصور‬
‫عالما بال تواصل! ولنبدأ بالنباتات واألشجار‪ ،‬وقد توقف التواصل فيما‬

‫‪38‬‬
‫بينها‪ ...‬في وضع كهذا‪ ،‬سيتوقف التمثيل الضوئي ألن خاليا النبتة لن تعطي‬
‫معلومة تدل على حاجتها لعنصر خارجي‪ ،‬ولن يكون تفاعل كيميائي وال تبادل‬
‫بيني‪ ،‬ولن يكون هناك تلقيح‪ ،‬وبالتالي لن تثمر األشجار وال األعشاب‬
‫الصغيرة تعطي بذورا – هذا إن بقيت حية – وبموت النباتات لن يتوفر الغذاء‬
‫لبقية الكائنات األخرى مما سيسبب توقف الحياة‪ .‬وإن ارتقينا بالتواصل‬
‫قليال إلى عالم الحشرات‪ ،‬أو األسماك‪ ،‬أو الطيور أو الثدييات‪ .‬فسيحدث‬
‫كل متكامل متناغم‪ .‬واإلنسان أه ّم عنصر‬
‫نفس التوقف ألن البيئة الطبيعية ّ‬
‫من عناصر الطبيعة‪ ،‬مخلوق ليعيش مؤثرا فيها أو متأثرا بما يحدث فيها‪.‬‬
‫اإلنسان؛ هذا الكائن العجيب بقدرته على التفكير ومهارته‬
‫في تسخير عناصر محيطه‪ ،‬من استغالل الطاقة في كل صورها لسبر أغوار‬
‫وطي المسافات البعيدة‪ ،‬وتدوير عجلة الحضارة‬
‫البحار وركوب متن الرياح‪ّ ،‬‬
‫الحالية بما لها وما عليها‪ .‬كل ما نعرفه من قدراته ومهاراته وعلومه؛ أساسه‬
‫تواصل بين أنسجة جسمه وجهازه العصبي عموما‪ ،‬وبين حواسه الخمس‬
‫ودماغه على وجه الخصوص‪ .‬وال يمكننا تصور إنسان بدون تواصل! ذلك‬
‫أن من حرم نعمة الحس السمعي أو الحس البصري‪ ،‬أو فقدهما معا‪ ،‬يتواصل‬
‫عن طريق باقي الحواس‪ .‬حتى إن بعض المدارس الطبية اعتبرت من فقد‬
‫التواصل مع العالم لمدة طويلة نسبيا [ميتا سريريا]‪ .‬إذن ما حياة اإلنسان إال‬
‫تواصل‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ -3‬التواصل أصل الحياة‬
‫شهد العقدان األوالن من هذا القرن تسارعا في تطور بحوث‬
‫علوم الحياة [‪ ]biologie‬ويتفق كل الباحثين في نتائج ما توصلوا إليه‬
‫على أن بداية الحياة كانت في لحظة ما؛ حيث حصل أول تواصل بين عناصر‬
‫فكونت نظاما (‪ (système‬داخل محيط مهيّئ [ بأمر المبدع‬ ‫تجمعت ّ‬‫ّ‬
‫الخالّق]‪ .‬وجعلت منه شيئا قادرا على النمو والتكاثر المنظم الذي يولّد‬
‫وتفرد كل مولود‬
‫شبيه المماثل لألصل في شكله ( الهيئة العامة للشكل )‪ّ ،‬‬
‫ال ّ‬
‫بفرق أو فروق خاصة تختلف عن ذلك األصل‪ .‬ثم بدأت تحدث اختالفات‬
‫تنوع وظهور فصائل وأجناس تعددت شعبها حتى أصبحت في‬ ‫تمثلت في ّ‬
‫تباين يكاد يؤكد االنفصال التام عن األصل البدائي‪...‬غير أن كل التطورات؛‬
‫ما كانت لتحدث دون تواصل‪ .‬وأكثر ما يهمنا في هذا المبحث هو الدماغ‬
‫البشري الذي استمر في التطور إلى أن وصل مرحلة ابتكر فيها وسائل‬
‫للتواصل‪ ،‬غيّرت جوانب عدة من حياته وأثرت في محيطه وبيئته‪.‬‬
‫لن ندخل في تفاصيل تبعدنا عن القصد أكثر مما نريدها أن‬
‫تقربنا منه‪ ،‬بل سيترّكز اهتمامنا حول عملية التواصل مع العالم الخارجي بعد‬
‫ّ‬
‫إطاللة بسيطة على العمليات التي تحدث داخل الدماغ وفي باقي أعضاء‬
‫الجسم البشري وقت دخول إشارة عن طريق إحدى الحواس‪ ،‬وما يتلوها من‬
‫تسلسل تفاعلي حتى يترجم نتاجها لشيء قابل لإلدراك أو القياس‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫لنبدأ بعملية اإلبصار مثال‪ :‬فحاسة البصر هي العين وهي أداة‬
‫متخصصة تسمح بدخول معلومات من العالم الخارجي نحو الدماغ؛ وحتى‬
‫تؤدي مهمتها ‪ ،‬تشترط في الخارج وجود الشيء المحسوس وهو الضوء‪،‬‬
‫والوسط الشفاف‪ ،‬والشيء المنظور‪ .‬وتشترط في الداخل سالمة أجزاء العين‪،‬‬
‫والعصب الناقل للحس‪ ،‬ومركزا عصبيا لترجمة الحس إلى شيء يفهمه الدماغ‬
‫ليعطي في النتيجة ما يجعلنا ندرك صورة الشيء المنظور‪ .‬وإن نحن تأملنا‬
‫ما يحدث من تحويالت في هذه العملية سنجد أن العناصر المشترط‬
‫وجودها سواء في الداخل أو في الخارج تختلف من حيث خصائصها في‬
‫تكوينها ومن حيث وظيفتها؛ إذ أن الضوء ال يصل إلى مركز الحس على‬
‫حالته الفيزيائية‪ ،‬وإال ما كانت الحاجة للعصب الناقل! وعملية اإلبصار‬
‫تعتمد على لون الضوء وشدته وزاوية انعكاسه كما تعتمد على طبيعة الشيء‬
‫المنظور وشكله وموقعه في مجال الرؤيا وبعده عن العين وحالة سكونه أو‬
‫تحركه في المكان‪ ...‬ونوجز حديثنا في أن الضوء يحمل معلومات كثيرة‬‫ّ‬
‫(الشكل واللون واألبعاد وتباين المساحة)‪ ،‬يدخل العين بسرعة ‪ 300‬مليون‬
‫متر في الثانية من البؤبؤ فيعبر مادة العين ليسقط على غشاء الشبكية ‪(la‬‬
‫ويتحول إلى إشارة عصبية [ ‪influx‬‬
‫ّ‬ ‫)‪ ،rétine‬فيؤثر في خالياها‬
‫‪ ]nerveux‬تنتقل في العصب البصري)‪ (nerf optique‬بسرعة‬
‫‪ 111‬متر في الثانية‪ ،‬لتصل إلى المنطقة الخلفية القفوية ‪(lobe‬‬

‫‪41‬‬
‫)‪ occipital‬حيث مركز اإلبصار يصدر إشارة أخرى‪ ،‬تعمم في ما يشبه‬
‫سيال يجتاح القشرة الدماغية )‪ (cortex‬في اتجاه ما يعرف بالفص‬
‫الجبهي )‪ (lobe frontal‬وهو نهاية المطاف الذي تتكون فيه الصورة‬
‫في الدماغ‪ .‬ومن الفص الجبهي تنتج إشارة أخرى ترتد لمركز متخصص‬
‫يعطيها معنى ‪ :‬فإن كانت الصورة تمثل خطرا يهدد الحياة‪ ،‬تحدث تفاعالت‬
‫تهيئ الجسم للدخول في حالة مواجهة أو هروب‪ ،‬وإن كانت صورة منظر‬
‫جميل‪ ،‬تحدث تفاعالت تعطي الشعور باالرتياح وإن كانت صورة فاكهة تثير‬
‫االستعداد لألكل وهكذا نجد الجسم يتواصل فيما بين أعضائه ليتحرك في‬
‫اتجاه ما‪ ،‬أو يستعد لحدث ما‪ ،‬حسب ما يستدعي كل موقف من عمليات‬
‫تناسبه طبيعة وح ّدة وسرعة‪ ،‬قبل أن ندرك بوعينا الكامل كل مراحل التحوالت‬
‫والتفاعالت التي تحدث مئات اآلالف من المرات في اليوم الواحد‪ .‬نحن‬
‫إذن أمام حالة من التواصل المستمر في الداخل بين أعضاء جسمنا وفي‬
‫الخارج بين أجسامنا والمحيط الذي نعيش فيه!‬
‫كانت هذه إطاللة بسيطة على التواصل الذي به نستطيع اإلبصار‪.‬‬
‫ونمر إلى حالة تواصل أخرى في العالم‬
‫ومع أنها جد موجزة‪ ،‬فسنكتفي بها ّ‬
‫الخارجي ‪.‬‬
‫عرف اإلنسان أهمية النحل منذ القدم واستفاد من إنتاجه للعسل‪،‬‬
‫وفي الثقافات معظمها صور جميلة لهذه الحشرة النافعة‪ .‬من األمور التي‬

‫‪42‬‬
‫استرعت انتباه األقدمين قبلنا؛ تواصل النحل فيما بين أفراد مملكته‪ .‬يقوم‬
‫بحركات معينة ليخبر الخلية عن مكان الزهور بطريقة خاصة تختلف عن‬
‫الحركة التي يخبرهم بها عن مكان الماء! وما يقال في النحل يقال في مملكة‬
‫النمل وغيرها من الكائنات المشابهة في تكوينها لمجتمع منظم يقوم بأعمال‬
‫تلبي له ضروريات حياته وتحفظ نوعه‪.‬‬
‫‪-4‬وسائل التواصل‬
‫تدخل في عملية التواصل مجموعة من العناصر‪:‬‬
‫‪ .1‬مضمون المرسل‪:‬‬
‫وهو المراد به إعطاء صورة أقرب ما تكون مطابقة للمعلومة التي‬
‫يراد تبليغها للمستقبل [المرسل إليه]؛ وقد يكون المضمون هو المؤثر‬
‫مباشرة في المستقبل مثلما نجد في التواصل بين أعضاء الجسم في الجهاز‬
‫المناعي أو الغدد الصماء‪ ،‬أو يكون إشارة من نوع خاص تحتاج إلى تحويل‬
‫كما في الجهاز العصبي‪ ،‬أو حركة ذات داللة يفهمها المستقبل‪.‬‬
‫‪ .2‬الرسالة‪:‬‬
‫تتضمن المضمون‪ ،‬أو مجموع المضامين المراد تبليغها‪ ،‬ويعبّـر‬ ‫ّ‬
‫عنها برموز تحمل معاني [مش ّفرة]‪ .‬كالمادة الكيميائية التي تضعها النملة في‬
‫مسارها وهي تتحرك‪ ،‬أو اإلشارات التي تتبادلها الحواسيب [ ‪digital‬‬
‫‪ ،] messages‬أو الرسائل المكتوبة بلغة معينة – تحتاج فهما للغة‬

‫‪43‬‬
‫الحاملة للمعنى – أو كاإلشارات التي تنقل األخبار من القنوات اإلذاعية‬
‫والمرئية؛ تلك رسائل مرمزة أو مش ّفرة في أمواج كهرومغناطيسية ال تعطي‬
‫معنى مالم يكن الجهاز المستقبل مزودا بكاشف لرموز اإلشارة المرسلة‪.‬‬
‫‪ .3‬أداة اإلرسال‪:‬‬
‫لبث المعلومة إلى خارج النظام‬
‫وهي الوسيلة التي يعبـر بها ّ‬
‫المرسل‪ .‬فهي ّتويجات الزهور التي ترسل حبيبات اللقاح‪ ،‬أو الحويصالت‬
‫الفارزة للمواد البيوكيميائية لدى كثير من الكائنات الحية الدنيا‪ ،‬أو الجهاز‬
‫الصوتي لدى الطيور والثدييات‪ ،‬وقد تكون األداة عضوا من الجسم كما لدى‬
‫اإلنسان‪ :‬اإليماءة بالرأس أو الغمز بالعين أو إشارة اليد لمن يحيي أو يو ّدع‪.‬‬
‫‪ .4‬الوسط الحامل‪:‬‬
‫والبرمائيات‪ ،‬داخل‬
‫تتصل معظم األعشاب المائية واألسماك ّ‬
‫وسط يسمح بانتقال رسائلها مسافات‪ ،‬وهو محيطها الذي فيه تعيش وفيه‬
‫تتواصل وفيه تتوالد؛ مما يجعل الماء وسطا حامال يسمح بالتواصل‪ .‬كذلك‬
‫البرية‪ ،‬يعتبر وسطا حامال لألصوات والروائح‬
‫هو الهواء بالنسبة للكائنات ّ‬
‫وحبيبات اللقاح‪...‬‬
‫‪ .5‬أداة االستقبال‪:‬‬
‫هي الوسيلة أو العضو المتخصص‪ ،‬الذي به تستقبل المعلومة من‬
‫خارج النظام المرسل إليه‪ .‬فهي األذن لإلشارات الصوتية‪ ،‬والعين للصور‪،‬‬

‫‪44‬‬
‫والمجسات المختلفة عند الكائنات الصغيرة‪ ،‬والهوائيات‬
‫ّ‬ ‫واألنف للروائح‬
‫ألجهزة االتصاالت‪.‬‬
‫‪ .6‬أداة كشف المضمون‪:‬‬
‫تحتاج كل رسالة إلى وسيلة تكشف ما بها من رموز تترجمها إلى‬
‫معنى يدل على ما أريد تبليغه؛ فالرسائل المكتوبة تتطلب من مستقبلها أن‬
‫يكون قارئا للغة التي كتبت فيها ومثلها الرسائل الصوتية‪ ،‬إذ ال يكفي أن‬
‫تسمع لتفهم‪ .‬بل على المستمع أن يفهم المنطوق! والرسائل البيوكيميائية‬
‫تحتاج لجهاز متخصص في كشف المحتوى ولذلك ال تستجيب فصيلة‬
‫نباتية إال لما يرد عليها من فصيلتها وال تفهم العناكب رسائل الفراشات‪،‬‬
‫مثلما ال يكشف الهاتف المحمول رسائل البرقيات إال إن تم تزويده بجهاز‬
‫خاص بالبرقيات‪.‬‬
‫وحتى نفهم بوضوح تخصص األعضاء في وظيفة كشف‬
‫المضمون؛ نورد مثال من واقع الحياة‪ :‬شخص أصيب بضربة خفيفة على‬
‫إحدى عينيه‪ ،‬فوصف ما أصيب به كأنه رأى نجوما في ظالم لحظة اإلصابة‪.‬‬
‫هذا إحساس طبيعي ألن العين خلقت لترى وليس لتستقبل الضربات‪ ،‬وقد‬
‫ترجمت العين ما وصلها من ضغط إلى إشارة مرئية‪ .‬ولو كانت الضربة على‬
‫األذن لترجمتها إلى إشارة صوتية مسموعة [طنين]‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫‪ -5‬التواصل البشري‬
‫تحدثنا فيما تق ّدم عن التواصل بين الكائنات الحية في عمومها‪،‬‬
‫والبد لنا من تخصيص الحيز األهم للتواصل البشري‪ ،‬ألنه من أرقى صور‬
‫تفاعالت اإلنسان مع نفسه ومع أشباهه! من المفكرين من يرى اإلنسان سيد‬
‫الطبيعة‪ ،‬ومنهم من يراه لغزها األكبر‪ .‬وسنتطرق لتواصله مع غيره من النــاس‬
‫– وسنسميهم [اآلخر] ‪ -‬بعد أن نطــل على تواصله مع الطبيعــة التي هــو‬
‫أحســن عنــاصرها – فيما نعتقد – لنرى كيف يتفاعل مع نفسه ومع اآلخر‪.‬‬
‫التواصل البشري أكثر تعقيدا مما نتصور؛ لتفاعله وتداخله مع‬
‫مجاالت أخرى واعتماده على مهارات اللفظ‪ ،‬سواء في اللغة السائدة أو‬
‫اللهجات المحكية‪ ،‬باعتماد النسق ومتغيرات ما وراء‪-‬اللغة كنبرة الصوت‬
‫ومخارج الحروف وإرادة الشخص مشاركة األفكار واألحاسيس مع من حوله‪،‬‬
‫ناهيك عن خصائص أخرى تتعلق بما هو غير لفظي من تواصل بصري‪،‬‬
‫وتعابير الوجه‪ ،‬وطريقة المصافحة‪ ،‬وشكليات حركية تصاحب ذكر األسماء‪.‬‬
‫أول فعل يقوم به اإلنسان منذ الشهور األولى من حياته بعد بحثه‬
‫يتجسد في محاولته استكشاف حواسه‪ ،‬وما‬
‫عن ثدي األم ودفء حضنها‪ّ ،‬‬
‫حوله ومن حوله‪ ،‬وكل ما يشعر به يظهر في ابتسامته أو بكائه‪ ،‬وتلك وسيلته‬
‫األولى يرسل بها إشارات لمن يقومون على شأنه‪ ،‬يعبّر بها عن رغباته ورفضه‪.‬‬
‫يمر بعد ذلك‬
‫ثم يبدأ باالستئناس إلى وجه أمه وإلى لمساتها ألجزاء جسمه‪ّ ،‬‬

‫‪46‬‬
‫إلى مرحلة يحاول فيها لمس األشياء وتذوقها فيبدو وكأنه أصبح يملك أداة‬
‫للقياس يعرض عليها كل شيء تطاله يده‪ .‬فيبدأ في محاكاة اآلخرين في‬
‫التعبير عن فرحهم وغضبهم وشجاراتهم ومجامالتهم بما يستطيع من أصوات‬
‫وحركات‪.‬‬
‫وتعلّمنا البحوث الحديثة أن بوادر تعلم اللغة تبدأ في مرحلة ما‬
‫قبل الوالدة‪ ،‬إال أننا لن ندخل في مثل هذه التفاصيل اختصارا للحديث‪.‬‬
‫ونمر لمرحلة ما بعد تعلّم المشي حيث يقدم الطفل على مغامرات لم تكن‬
‫ّ‬
‫في الحسبان‪ ،‬أولها أنه متى وجد فرصة االنفالت من رقابة من يسهرون على‬
‫تنشئته‪ ،‬يبدأ السير على غير هدى إلى حيث يقوده فضوله البدائي ناسيا لعبه‬
‫الجميلة‪ ،‬وشعر الدمية الناعم الذي ألف نتفه مرة ومرة مالمسته برفق‪ ،‬ألنه‬
‫ال يعرف شيئا عن األخطار وال عن التّعب‪ .‬كل ما يهمه أن يستكشف ما‬
‫حوله‪ .‬تأتي بعدها مرحلة االتصال بأشباهه متى ألحقه أهله بأحد رياض‬
‫األطفال – لمن لديهم إمكانيات – أما في ما عدا ذلك فسيعرف أشباها له‬
‫الروض‪ ،‬يبدأ مسار التنشئة االجتماعية‬
‫في الحيز الذي يسكنه أهله‪ .‬وفي ّ‬
‫يأخذ منحى أخر؛ بدخول أشخاص أخرين على خط التواصل يعرضون عليه‬
‫لعبا أخرى‪ ،‬ونمطا من الحياة الجماعية المتناغمة‪ ،‬ويعلمونه األناشيد التي ال‬
‫يفهم لها داللة‪ .‬ثم تأتي مرحلة تالية تقربه من المعرفة بفصول السنة وما فيها‬
‫فتتكون لديه أسئلة يفضي ببعضها ويحتفظ بأخرى نتيجة الحدود‬
‫من تقلبات‪ّ .‬‬

‫‪47‬‬
‫التي تعلمها من محيطه‪ .‬وال يعني هذا أنه لم يكن يتساءل في سابق عهده‬
‫بالحياة‪ ،‬لكننا نرّكز على األسئلة التي تهم تواصله مع العوالم األخرى‬
‫كالنباتات والطيور وغيرها‪ .‬فمن فضوله؛ كم لعبة كسر ليعرف كيف تتحرك‪،‬‬
‫مزق كتابا وعبث بأشياء ثمينة‪ ...‬كل ذلك كان منبعه أسئلة داخلية لم‬
‫وكم ّ‬
‫مهما للقيام بما فعل بعيدا عن أنظار‬
‫يفض بها ألحد‪ ،‬فش ّكلت لديه دافعا ّ‬
‫الرقابة!‬
‫ونشأ صاحبنا على ما أنشئ عليه من قيم وعادات ومعتقدات‬
‫ليست له؛ بل هي أشياء تعلم معظمها ممن حوله‪ ،‬أضاف لها حصيلة تجاربه‬
‫الخاصة‪ ،‬وخرج بها على عالم سيرتبط فيه مع اآلخرين بعالقات تختلف عن‬
‫عالقاته بمحيطه األسري‪ .‬وهنا سيمتحن فيما اكتسب من مهارات ودراية‬
‫بعملية التواصل البشري‪...‬‬

‫‪ -6‬أهداف التواصل‬
‫عرفنا أن التواصل ضرورة‪ ،‬وليس خيارا في معظم حاالته ومواقفه‪.‬‬
‫فسالمة صحة اإلنسان النفسية تقاس بطريقة تعامله مع اآلخرين‪ :‬كيف‬
‫يستقبل كالمهم وكيف ير ّد عليه‪ ،‬وكيف يفهم إشاراتهم وما يعبّر عنه من تأثر‬
‫بها‪ ،‬وبمدى إقدامه على مشاطرتهم المشاعر تجاه موقف مرح أو موقف‬
‫يلم بمن حوله‪ .‬وكيف يبدي رأيه ويدلي بحجته لغيره‪.‬‬
‫حزن ّ‬

‫‪48‬‬
‫لعل أهم األهداف التي يضطر فيها الفرد للتواصل تكون انطالقا‬
‫من حاجاته؛ ونبدأ من أدناها حسب التدرج الذي وضع هرمه "مازلو‬
‫‪ " Maslow‬وتمثل قاعدته الحاجات البيولوجية‪ .‬فحين يكون الشخص‬
‫ملحة إلى الماء‪ ،‬يشير بيده إلى فمه أمام أي شخص لديه ماء‪،‬‬
‫في حاجة ّ‬
‫ليعبر له عما يشعر به من عطش بما هو غير لفظي [إشارة] يفهمها كل البشر‬
‫على اختالف لغاتهم وثقافاتهم‪ .‬والهدف هنا هو التعبير عن حاجة بيولوجية‬
‫تحفظ الحياة‪ .‬ثم نرتقي هرم الحاجات فنجد اإلنسان بحاجة إلى األمن‪،‬‬
‫وهي حاجة ستجعله يسلك كل سبيل ليوصل طلبه إلى اآلخر ولو بطريقة غير‬
‫مباشرة كأن يقترب من شخص ويق ّدم نفسه إليه‪ ،‬يحدثه ليستأنس بوجوده‬
‫بالتفرد في جو ينقصه األمن‪ .‬وإن ارتقينا قليال نجد‬
‫معه فيتخلص من الشعور ّ‬
‫هدفا آخر يتمثل في تقديم معلومات ليبرهن على ما لديه من رصيد معرفي‬
‫حول قضية أو موقف ما (وتصحب هذا الهدف رغبة في اكتساب تقدير‬
‫الغير وهو هدف آخر في حد ذاته)‪ ،‬ثم باقترابنا من قمة الهرم نصل إلى‬
‫تحقيق الذات كهدف للتواصل مع الجماعة‪.‬‬
‫وتبدو مالحظة ‪-‬ال نريدها أن تفوتنا ‪ -‬حول اختالف كيفية التواصل‬
‫في المراحل السابقة؛ ذلك أن الوسيلة التي يعبّر بها عن الحاجات الدنيا‬
‫ليست نفسها لدى التعبير عن حاجة أرقى‪ ،‬فالنسق مختلف والمتلقي للرسالة‬

‫‪49‬‬
‫والرد المنشود ليس نفسه في كل الحاالت‪ .‬هذا يبرز ضرورة‬
‫أيضا يختلف‪ّ ،‬‬
‫تقدير من سيستقبل المعلومة سواء أكانت عرضا أو طلبا‪.‬‬
‫فإن نحن اعتمدنا التواصل اللفظي‪ ،‬سنواجه تحديات يفرضها‬
‫اختالف اللهجات لدى تواصلنا مع اآلخر في لغته األم‪ .‬إذ ليس كل الناس‬
‫يتحدثون اللغة الرسمية في بلدهم‪ ،‬بل يتح ّدثون لهجات تتباين صلتها باللغة‬
‫الرسمية بعدا واقترابا‪ ،‬وكثيرا ما تحتوي اللهجة على ألفاظ دخيلة من دول‬
‫الجوار – مثال ال حصرا‪ :‬عبارة "خوش" من لغة األوردو المحشورة في اللهجة‬
‫المحكية في العراق‪ ،‬وعبارة "كوزينة" الفرنسية المحشورة في لهجات شمال‬
‫إفريقيا – واألمثلة كثيرة‪ .‬ثم إن معظم الدول التي تسمي نفسها باسم اللغة‬
‫ال يتحدث مواطنوها تلك اللغة بل يتحدثون لهجات‪ .‬فنجد فرنسا تسمى‬
‫باسم اللغة الرسمية لكن الزائر الذي أتقن اللغة قبل السفر إلى هذا البلد‪،‬‬
‫ط استغراب من المواطنين الفرنسيين وهو يتحدث لغة‬
‫سيجد نفسه مح ّ‬
‫مضبوطة بقواعد تتطلب من أهلها االستعانة بقاموس (أو بترجمان) ليفهموا‬
‫ما يقوله ذاك السائح العربي أو الهندي أو الصيني الذي يتقن لغتهم أكثر‬
‫مما يتقنونها وهم أهل البلد‪ .‬وما يقال في فرنسا يقال في ألمانيا وإنجلترا‬
‫وغيرها؛ ففي المكسيك ما يفوق ثالثين لهجة مختلفة وأكثر من خمسين‬
‫لهجة في الصين‪ ،‬وعددها يفوق الثمانين في الفيلبين وفي الهند ما يقارب‬
‫الستين لهجة مختلفة‪ .‬مما يش ّكل تح ّد أمام من يسافر لغرض دراسة أو جمع‬

‫‪50‬‬
‫يتجسد ذاك‬
‫ّ‬ ‫معلومات حول ظاهرة‪ ،‬أو عمل يتصل بالشأن االجتماعي؛‬
‫التح ّدي في كثرة متغيرات التواصل مع عموم مواطنين مختلفين فيما بينهم‬
‫في التعبير عن المضمون وفي فهمهم للهجاتهم حتى إنهم يلجؤون لتعابير‬
‫غير اللفظية الستكمال النقص الداللي‪ .‬لذا ينصح الدارسون السائح أو الزائر‬
‫عموما أن يختار كلمات بسيطة‪ ،‬ويتأكد من نطقها السليم‪ ،‬ويتفادى لغة‬
‫الشارع الجهوية كي يكون مفهوما لدى العامة في أي بلد‪.‬‬
‫‪ -7‬متغيرات التواصل الثقافية‬
‫وإن عدنا ألسلوب التواصل غير اللفظي‪ ،‬تواجهنا مشكلة الثقافة‬
‫المحلية وما لها من أثر في معنى ما يعبّر عنه من محتوى‪ .‬ولنأخذ المثل‬
‫الصارخ لحركة الرأس التي نشير بها لرفض شيئ أو موقف أو نفي بما تدل‬
‫عليه عبارة "ال"‪ .‬تلك حركة تعني القبول والموافقة بما تدل عليه عبارة "نعم"‬
‫لدى الشعب الهندي‪ .‬وحركة تقدير السيدات التي نرى شعوب الغرب‬
‫يقومون بها بتقبيل يد المرأة‪ ،‬حركة مرفوضة في الوطن العربي وفي كثير من‬
‫دول العالم! ثم كيفية استهالل الحديث مع العامة في دول العالم الثالث‬
‫حيث يبدأ المتح ّدث بالسؤال عن أحوال العائلة قبل السؤال عن الصحة‬
‫ليخلق جوا من الثقة‪ ،‬يسهل محادثة مفتوحة‪ ،‬ويشجع على تبادل معلومات‬
‫مهمة حول الصحة‪(.‬وهو أسلوب ينصح به الموفدون من األطباء والمعالجين‬
‫حين يتم بعثهم في مهمات إنسانية إلى الخارج)‪ .‬بينما نجد أن مجموعات‬

‫‪51‬‬
‫المرات التي يسأل فيها المتح ّدث المستمع عن زوجته؛‬
‫بشرية تق ّدر تعداد ّ‬
‫متكررا كثيرا يزداد تقدير السامع واحترامه للمتح ّدث‪.‬‬
‫فكلما كان السؤال ّ‬
‫ومن متغيرات الثقافات اعتماد اللمس كوسيلة غير لفظية للتواصل‪ ،‬واحترام‬
‫المسافات في جلسات الجماعة اإلتنية‪ :‬مثل الجلوس في موقع مقابل‬
‫للمكان الذي يجلس فيه الشخص المحترم (رأس الجماعة)‪ .‬والمحافظة‬
‫على االتصال البصري في وضع معيّن بما يبدي سمة ارتسام التقدير دون‬
‫إطالة النظرات الفاحصة واحترام المسنّين‪ ،‬واحترام الطبقة االجتماعية‬
‫للمخاطبين‪ ،‬وألن – االتصال البصري – يحتمل تأويالت متباينة في النسق‬
‫الثقافي‪ .‬إذ يمكن أن يفي تعبير الوجه باالتصال الجيد‪ ،‬مع تفضيالت التحية‬
‫بلغة الحركات وبحركات جسمية تختلف حسب ثقافة الجماعة اإلتنية‬
‫المضيفة للسائح أو الزائر بوجه عام‪.‬‬
‫من بعض ما كتبته لي صديقة؛ أنها حضرت مأدبة عشاء " نعي" عند‬
‫عائلة مرموقة‪ ،‬فقدت عزيزا لها‪ ،‬وعند خروجها من المكان حيث أقيمت‬
‫المأدبة‪ ،‬كانت يشيّعها إحدى قريبات الهالك وهي شخصية رفيعة المكانة‪.‬‬
‫وحسب العادة يقال للمشيّع " اهلل يجعل المحبة صبر" بلهجتنا المغربية‬
‫المحكية داللة على دعاء أن [ يب ّدل اهلل محبتكم للهالك صبرا (على فراقه)]‬
‫لكن صاحبتنا لم تنتبه وهي تقول للمشيّعة‪" :‬اهلل يخلف" وتعني دعاء أن [‬
‫يعوض اهلل عليكم (بما أكرمتمونا)] فصاحت المشيّعة في وجه صاحبتنا مؤنبة‬
‫ّ‬

‫‪52‬‬
‫لها وواصفة إياها بقليلة األدب (أثر العرف الثقافي أعمق من المستوى‬
‫التعليمي)‪ .‬بما أحدثه هذا الموقف من حرج في عملية اتصال شخصية‪ ،‬يبيّن‬
‫ما للثقافة من أثر في استقبال رسالة المتح ّدث‪ .‬فبمقارنة الرسالتين ‪ [ :‬يب ّدل‬
‫و[يعوض اهلل عليكم (بما‬ ‫ّ‬ ‫اهلل محبتكم للهالك صبرا (على فراقه)]‬
‫أكرمتمونا)] نجد أن األولى تناسب الموقف السائد وهو الحزن بينما الثانية‬
‫تقلل من شأن حالة الحزن وتخبرنا ضمنيا بأن هناك كرم ضيافة‪ ،‬وهذا ما‬
‫التعرف عادات وأعراف المستقبل إن‬
‫سبب اإلحراج‪ .‬نقف هنا أمام ضرورة ّ‬
‫أردنا أن نتواصل معه بصورة جيدة تجنّبنا الفشل في عملية التواصل‪ .‬ويحضرنا‬
‫في هذا السياق مثل مشهور "أهل مكة أدرى بشعابها" والمقصود به؛ أن‬
‫الزائر‪ ،‬يكسبك الكثير في االتصال بالناس‪،‬‬
‫وجود ابن البلد معك وأنت ّ‬
‫بحيث يسهل عليهم التقرب منك ويختصر عليهم التساؤالت الكثيرة حول‬
‫وجودك في مناسبة أو في جلسة جماعية‪ .‬فابن البلد أدرى بأعرافها وما يليق‬
‫وماال يستساغ من سلوكات قد تصدر عن الغريب في صورة تسيء ‪ -‬دون‬
‫قصد – للجماعة في تعارضها مع ما هو مألوف ومتعارف عليه‪ .‬إذن‪ ،‬ال ب ّد‬
‫من معرفة بما يجب االلتزام به في التواصل الجماعي وهذا ما يصطلح عليه‬
‫بـ "مهارات التواصل"‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫‪ -8‬مهارة التواصل مع الجماعة‬
‫وقوفنا أمام الجماعة يمثّل مرحلة من تواصـ ــلنا معها‪ ،‬فكل فرد فيها شـ ــخص‬
‫كامل األهلية ليرى درجة اإلنارة‪ ،‬واتسـ ـ ـ ــاع الفضـ ـ ـ ــاء‪ ،‬وديكور المكان الذي‬
‫نحن فيه‪ ،‬والمظهر الذي نحن عليه (أناقة اللباس‪ ،‬الوقفة‪ ،‬التوازن‪ ،)...‬منذ‬
‫أول لحظة للوقوف‪ ،‬تبدأ مرحلة انتظار ما س ـ ــنعرض ـ ــه عليه من ص ـ ــور‪ .‬وأول‬
‫صــورة تتمثل فيما ســنبدأ به من ســلوك (طريقة تحية الجمهور‪ ،‬حركة الجسـم‬
‫– جلوس أم وقوف ‪ -‬ارتبــاك أم طالقــة وارتيــاح‪ )...‬وكلمــا طــالــت مرحلــة‬
‫االنتظار‪ ،‬تدخلت عوامل أخرى في جو االتصـ ـ ـ ـ ــال (يأخذ الحاضـ ـ ـ ـ ــرون في‬
‫التحدث إلى بعض ـ ـ ـ ـ ــهم في ثنائيات[‪ ،]Diades‬يخلقون محورا للحديث‬
‫يخفف مــا يش ـ ـ ـ ـ ــعرون بــه من ض ـ ـ ـ ـ ــغط االنتظــار‪ .)...‬علينــا أن نراعي هــذه‬
‫االعتبارات قبل كل اجتماع أو إلقاء محاضرة أو مخاطبة للعموم‪.‬‬
‫اإللقاء التفاعلي‬

‫اإللقاء هو فن ومعرفة تبليغ الصــورة الذهنية من المرس ـل إلى المســتقبل‬


‫بأحس ــن الطرق‪ .‬واإللقاء أمام جمهور يس ــتدعي القدرة على تص ــور متوس ــط‬
‫الفهم الجماعي بحيث ال يكون الحديث بسـ ـ ـ ــيطا جدا فيملّه الحاض ـ ـ ـ ـرون‪،‬‬
‫وأال يكون مع ّقدا جدا فينصـ ـ ـ ــرف عنه اهتمامهم‪ .‬ونقصـ ـ ـ ــد بأحسـ ـ ـ ــن الطرق‬

‫‪54‬‬
‫بمعنى أن نخلق جوا من التزامن في تتبّع حلقــات مــا يـلقى بين المتح ـ ّدث‬
‫والمتل ّقين‪ ،‬وتكوين رابط تفاعلي بإشـراك الجمهور في عملية توضـيح الفكرة‬
‫قبل االنتقال إلى الفكرة التي تليها‪ ،‬دون إغفال عملية الضبط الزمني للعودة‬
‫إلى حبل األفكار الرئيسـ ــي في موضـ ــوع اإللقاء‪ .‬مع مراعاة عناصـ ــر نجمعها‬
‫لمن يريد تذ ّكرها بسرعة في عبارة [ح ي ل]‪:‬‬
‫‪ -1‬الحيوية‬
‫يمر بما‬
‫يجب أن يعطي المتحدث حياة لموضوعه تجعل المتل ّقي ّ‬
‫يشبه الدهشة وهو يسمع الجديد عن أشياء مألوفة لديه قلما ينتبه لها‬
‫الناس وهي ذات عالقة بما يلقى في هذه المحاضرة‪ .‬ثم إن التعبير‬
‫الجسدي للمحاضر يمحو الرتابة ويضفي على اإللقاء طابعا حركيا ينسيه‬
‫ثقل الزمن‪.‬‬
‫‪ -2‬اإليمان‬
‫أن يكون من يعرض األفك ــار مؤمن ــا به ــا واثق ــا من ج ــدواه ــا‪ ،‬ومن‬
‫أهميتها في حياة العامة ممن يس ــتمعون لما يقول‪ .‬مما يس ـ ّـهل اس ــتيعابها من‬
‫المتل ّقين ويشـ ـ ـ ّد انتباههم ويذكي تش ـ ـ ّـوقهم لما يرد من تفاص ـ ــيل في اإللقاء‪.‬‬
‫فمن يلقي محاض ـ ـ ـ ـ ــرة في القانون وهو ال يؤمن بجدواه في تنظيم العالقات‬
‫البش ـ ـرية يقع في تناقضـ ــات تضـ ــطره للتوقف عند نقط شـ ــكلية ال قيمة لها‪.‬‬
‫على عكس من يؤمن بما يلقي إذ يبدو ثابت الخطى على مسـ ـ ـ ـ ــار الحديث‬

‫‪55‬‬
‫يؤسـ ـ ــس لما يقول انطالقا مما يعاش في الحياة اليومية فيظهر ضـ ـ ــرورة خلق‬
‫القاعدة القانونية لغرض الفصـ ــل في اإلشـ ــكال الحاصـ ــل في موقف تتعارض‬
‫فيه مصالح الناس فيما بينهم‪.‬‬
‫‪ -3‬اإللمام‬
‫نقصد به أن يكون من يخاطب الجمهور على دراية وافية بالموضوع‬
‫ليتصــرف في حلقاته‪ ،‬وينســق فيما بينها اســتدعاء لألفكار وصــبّها في قالب‬
‫تواصـ ـ ـ ــلي يقربها من المتلقي ويثير فيه اإلحسـ ـ ـ ــاس بأن لدى المحاضـ ـ ـ ــر ما‬
‫يضــيف إن تطلب الوضــع اســتفســارا أو توضــيحا‪ .‬ثم إن التواصــل التفاعلي‬
‫يقتضـ ــي فتح مجال لألسـ ــئلة‪ ،‬واإللمام بالموضـ ــوع يقوي الصـ ــلة بين الملقي‬
‫والمتل ّقي ويزّكي أهميــة الموض ـ ـ ـ ـ ــوع ويفتح آفــاقــا للمزيــد من حــب المعرفــة‪،‬‬
‫ويعطي فكرة عن درجة نجاح التواصــل فنعرف إن كانت الرســالة قد وصــلت‬
‫وكيف فهمها الجمهور بصورة عامة‪.‬‬
‫وال نرى المتحـ ّدث النــاجح إال ش ـ ـ ـ ـ ــخصـ ـ ـ ـ ـ ــا يحترم جمهوره ويقـ ّدر‬
‫تبث في‬
‫مس ـ ــؤوليته في تبليغ ما يقوله بتواض ـ ــع واتّزان‪ ،‬يتّسـ ـ ـم بروح مش ـ ــرقة ّ‬
‫المتلقي نفحة الشـ ــعور بتقدير الذات وتوقظ في نفسـ ــه التشـ ـ ّـوق للمزيد من‬
‫المعرفــة‪ .‬وردت نص ـ ـ ـ ـ ــوص وكتــابــات كثيرة حول مهــارات اإللقــاء في عــدة‬
‫ص ــفحات على الش ــبكة الدولية للمعلومات تحت اس ــم مهارات العرض(‪. )3‬‬

‫‪3‬‬
‫مهارات العرض‪https://ar.wikipedia.org/wiki/‬‬

‫‪56‬‬
‫ويرى بعض األســاتذة الجامعيين أن من صــفات المحاضــر الجيّد كما أوردها‬
‫األسـ ـ ــتاذ د‪ .‬محمد الربيعي من جامعة دبلن (‪ )4‬في نص أقتطف منه‪... [ :‬‬
‫وص ــفات االس ــتاذ الجيد لهي أكثر من الص ــبر والمرونة والتعاطف واالحترام‬
‫وحل المش ــكالت وحس ــن الدعابة والموض ــوعية‪ ،‬فهي تتض ــمن القدرة على‬
‫عرض المادة بصــورة واضــحة وبتســلســل منطقي‪ ،‬وبجعل المادة ســهلة التتبع‬
‫وذات مغزى واض ـ ــح‪ ،‬وأن تغطي المحاض ـ ــرة الموض ـ ــوع بص ـ ــورة كافية‪ ،‬وأن‬
‫يكون المحاض ـ ــر بناءا وانتقاديا في عرض ـ ــه للمادة‪ ،‬وأن يش ـ ــرح الموض ـ ــوع‬
‫بخبرة ومعرفة عالية وشـ ـ ـ ـ ــاملة وبسـ ـ ـ ـ ــرعة وبتركيز كافي‪ ،‬وأن يقوم بتوضـ ـ ـ ـ ــيح‬
‫التطبيقات العملية للنظرية‪ ،‬ويظهر حماس ــة واهتمام عالي بالموض ــوع‪ ،‬ويولد‬
‫فضول عند الطالب في أول المحاضرة لالستمرار في االستماع‪]...‬‬
‫نخلص إلى أن احترام المحاضر للمتل ّقين يجعلهم يحبون ما يسمعون‪،‬‬
‫ويتشاطرون اإلحساس بالموضوع‪ ،‬وبذلك يمكنهم التفاعل مع مضمون ما‬
‫علق بأذهانهم من أفكار مما تناوله المتح ّدث في محاضرته‪ .‬ويتناسب‬
‫استيعاب الجمهور للمحتوى‪ ،‬مع وضوح الصور الذهنية التي عرضت في‬
‫حلقات اإللقاء المتسلسل منطقيا متى تم التركيز على فواصل تذكيرية تسبق‬
‫االنتقال بالحديث من فكرة إلى فكرة أو عنصر إلى آخر من محاور‬
‫الموضوع‪ .‬ويمكن للمتح ّدث الشعور بمدى نجاح تواصله بجمهوره من‬

‫‪4‬‬
‫صفات األستاذ الناجح‪www.qahei.org/.../‬‬

‫‪57‬‬
‫خالل محتوى وعدد األسئلة التي تطرح بعد نهاية العرض مباشرة‪ ،‬بالمقارنة‬
‫مع األسئلة المتولّدة من جو النقاش‪.‬‬
‫‪ -9‬التواصل مع الذات‬
‫والتمرن عليه؛ تواصـ ــلنا‬
‫ّ‬ ‫من أصـ ــعب أوجه التواصـ ــل وأحوجنا لفهمه‬
‫مع ذواتنا‪ .‬فنحن نعيش في عالم أول ما ننسـ ــى فيه ذواتنا ألسـ ــباب عديدة؛‬
‫منها تعقيد الحياة‪ ،‬وتش ـ ـ ـ ّعب المسـ ـ ــالك فيها نتيجة التسـ ـ ــارع المطّرد لوتيرة‬
‫التفاعالت االجتماعية – وخاصــة في المدن الكبيرة – وضــغوط المتطلبات‬
‫تحول ماكان كماليا من الوسـ ـ ـ ـ ــائل إلى ضـ ـ ـ ـ ــروري‪ ،‬وما يعرفه العالم من‬
‫التي ّ‬
‫تقلبات اقتصادية‪ ،‬والدفق المعلوماتي الذي عرفته بداية هذا القرن‪...‬‬
‫من هنا كان ال بد للعلوم النفس ـ ـ ـ ـ ــية أن تتناول ما يطرأ على النفس‬
‫البشـ ـ ـ ـرية من تأثّر بما يجري في المحيط القريب ( العالقات األسـ ـ ـ ـرية ‪)...‬‬
‫والمحيط المتوس ـ ـ ـ ـ ــط ( الحي‪ ،‬المـ ــدينـ ــة ‪ )...‬والمحيط العـ ــام ( الوطن‪،‬‬
‫والعالم‪ )..‬وتبحث عن تفسـ ــيرات للظواهر السـ ــلبية التي يعيشـ ــها العالم من‬
‫انتشار الجريمة والحروب واآلفات االجتماعية بصورة عامة‪.‬‬
‫ومنشأ كل تواصل بشري يبدأ انطالقا من الحوار مع الذات‪ ،‬فالفرد‬
‫هو المرس ـ ــل للرس ـ ــائل وهو المس ـ ــتقبل لها‪ ،‬دون إغفال ما يس ـ ــتقبله – عبر‬
‫حواسـ ـ ــه – من معلومات من المحيط الخارجي وهي تمثّل تشـ ـ ــويشـ ـ ــا على‬
‫التواص ــل الذاتي‪ .‬لذلك نرى في معظم الحاالت أش ــخاص ــا ينزوون لحظات‬

‫‪58‬‬
‫ليخلو كل منهم إلى نفس ـ ـ ـ ـ ــه يخاطبها ويف ّكر فيما يريد اإلقدام عليه قبل أن‬
‫يتخذ قرارا حاسما بشأن ما يتناوله في نقاشه مع نفسه‪.‬‬
‫ومن أهم ما يحصل في التواصل الذاتي أن المتح ّدث يكون صادقا‬
‫مع المتلقي فهو نفس ـ ـ ـ ـ ـ ــه من يلوم وهو من يالم‪ .‬وهو من عليــه أن يعرف‬
‫يعتز بها فتكون ص ـ ــورة ذاته إيجابية تح ّفزه‪ ،‬وتدفعه نحو‬
‫حقيقة ذاته فإما أن ّ‬
‫التفاعالت المفيدة والنظرة المش ـ ـ ـ ــرقة‪ ،‬أو يكره وجوده فتكون ص ـ ـ ـ ــورة ذاته‬
‫سلبية تدفعه إلى االنطواء واالستسالم لألفكار السوداوية‪ .‬ويكون الشخص‬
‫في حالة تواصــله مع ذاته أكثر موضــوعية وهو يطبق على ذاته ســتارا ســميكا‬
‫من الس ـ ـ ّـرية ألنه ال يريد أن يعرف غيره ما يجري بداخله‪ .‬وس ـ ــيلته لقياس ما‬
‫يتنــاولــه من معلومــات هو عقلــه ومرجعيتــه في تقــدير األمور تتعلق بتكوينــه‬
‫الشــخصــي ونظرته إلى العالم وفهمه لصــيرورة األشــياء واألحداث ومعتقداته‬
‫وطموحــه‪ ،‬ومــا يؤمن بــه من حــدود لمعــارفــه‪ .‬ثم إن التفــاعــل بين المرسـ ـ ـ ـ ـ ــل‬
‫والمستقبل في التواصل الذاتي يكون بسرعة فائقة قد تصل ح ّد التزامن بين‬
‫انبثاق الص ــورة الذهنية وأثر التغذية الرجعية ]‪ [Feed back‬وكلما أطال‬
‫تعمقه في حالة تواصــله مع ذاته‬
‫تمعنه في فكرة معيّنة‪ ،‬كلما ازداد ّ‬
‫الشــخص ّ‬
‫وأصبح محصنا من التشويش الخارجي‪.‬‬
‫من شروط التواصل الذاتي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يخلو الشخص إلى نفسه (إقفال الهاتف)‬

‫‪59‬‬
‫‪ -2‬في مكان آمن من األخطار‬
‫‪ -3‬بعيدا عن الضوضاء واألصوات الحادة‬
‫ضل إغماض العينين)‬
‫أخف ما يمكن (يف ّ‬
‫‪ -4‬تحت إنارة ّ‬
‫ضل أن تتراوح بين ‪ 24‬و‪ 18‬درجة مئوية)‬
‫‪ -5‬تحت حرارة معتدلة (يف ّ‬

‫قد ال تتوفّر هذه الشروط دائما لمن يريد التواصل مع ذاته‪ .‬غير أنها‬
‫التمرن باس ــتمرار لمدة أس ــبوعين على األقل أو ثالثة‪ ،‬قبل ظهور‬
‫تحتاج إلى ّ‬
‫نتيجة ترضي المستفيد‪.‬‬
‫وهنا أو ّد أن أذ ّكر من يريدون الدخول في اإليجابية‪ ،‬أن الصـ ـ ــعوبات‬
‫التي تعترض طريقهم نحو أهدافهم ليســت موجودة بالفعل إال داخل ذواتهم‬
‫على وجه العموم‪ .‬ألن التجربة أثبتت في العديد من الحاالت أن الشـ ـ ــخص‬
‫نفسه هو الذي يعطي اآلخر فرصة الحكم عليه بـ ـ ـ ـ ـ ـ [الفاشل] أو بالضعيف‬
‫أو بالذي لن يس ـ ـ ـ ـ ــتطيع فعل ما يريد‪ ،‬لتبقى آماله مجرد أحالم بعيدة عن‬
‫واقعه! وغالبا ما يكون شعور الشخص في قرارة نفسه بنوع من الخجل حين‬
‫يق ّدم نفسه لآلخر؛ خوفا من أن يعتقد هذا اآلخر أن حالته تش ّكل عيبا عليه‬
‫أن يواريه عن اآلخرين كي ال يس ــخروا منه أو يص ــفونه بما يخش ــى أن يش ــاع‬
‫عنه في وسطه ‪...‬‬

‫‪60‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫معنى الوجود الذاتي‬

‫قد يبدو لنا هذا الموضوع غامضا جدا‪ .‬بينما يجد آخرون جوابا‬
‫سهال ال يحتاج تفكيرا‪ ،‬ويحكم فريق ثالث عليه بأنه [فلسفي] لن نخرج منه‬
‫بنتيجة عملية مفيدة (حسب نظرة الكثيرين ممن يخشون الخوض في البحث‬
‫ويركنون لما هو سائد من التفسيرات أو المقولبات االجتماعية)‪.‬‬

‫إن أردنا فهم القليل عن ذواتنا من منظور شخصي لكل منا‪ ،‬دعونا‬
‫ندخل تجربة يمكن أن يقوم بها األمي والحرفي‪ ،‬والمتعلم والفقيه والعالم‪،‬‬
‫والمؤمن وغير المؤمن بالغيب على ح ّد سواء! وسنحترم لكل منا مكانته‬
‫ونظرته للعالم وموقفه مما يجري من أحداث في عموم الكون والحياة‪ .‬ألننا‬
‫سنبدأ من نقطة ما في "التاريخ" سابقة لدخولنا حيز الوجود بما هو متعارف‬
‫عليه بين البشر؛ في هذه المرحلة‪ ،‬لست ابنا وال بنتا ألحد وال أ ّما وال أبا‬
‫ألحد وال زوجا وال زوجة ألحد وال عدوا وال عدوة ألحد وال صديقا وال‬
‫صديقة ألحد‪ ،‬ولست أعرف ما األلم وال ما الغضب وال الفرح وال ارتياح‬

‫‪61‬‬
‫وال التعب وال النفور‪ .‬ولست أدري ما الظلم وال ما العدل‪ ،‬وال ما الصدق‬
‫وال الكذب وال المجاملة وال النفاق!‪ ...‬إنما سأتخذ لنفسي كيانا [مستقبال‬
‫يتفرج على الكائنات برمتها في تفاعالتها المختلفة وكلما‬
‫للمعلومات ال غير] ّ‬
‫احتجت إلدراك أو فهم لما أشاهد‪ ،‬أستقيه من نفس الوسط الذي يحدث‬
‫أقرر في وقت ما [أصدر الحكم] أن‬
‫فيه الحدث [كوسيلة لإلدراك]‪ .‬ثم ّ‬
‫أكون على الهيئة التي تعطي معنى لوجودي‪.‬‬
‫‪ ‬أوال‪ :‬حتى أكون ذاك الكيان‪ ،‬البد لي من موجد إذ لست من يوجد‬
‫نفسه من عدم‪.‬‬
‫‪ ‬ثانيا‪:‬زودني من أوجدني بقدرات وخصائص تبرز حين دخولي تحت تأثير‬
‫الزمن‪.‬‬
‫‪ ‬ثالثا‪ :‬أنا لم أدخل بعد عالم أشباهي وإنما أتفرج على تصرفاتهم في‬
‫معلم الزمان والمكان‪.‬‬
‫‪ ‬رابعا‪ :‬ال عالقة لي بالزمن إذ أنني لم أدخل بعد حيزه لتجري علي آثاره‪.‬‬
‫‪ ‬خامسا‪ :‬متى قررت؛ تبدأ ‪ -‬بال تراجع ‪ -‬مسؤوليتي عما ينتج عن قراري‪.‬‬

‫من هذا المنطلق سنبدأ رحلتنا‪ .‬ويظهر جليا أن المنظومة التي نسافر فيها‬
‫تتكون من ثالثة أصول‪:‬‬
‫‪ -1‬الموجد الذي أوجدني وأوجد باقي الكائنات [فوق الطبيعة]‬

‫‪62‬‬
‫‪ -2‬الكائنات بكل فصائلها وأنواعها واختالفها وعلى رأسها من‬
‫يشبهونني‪ .‬وهو ما يسمى [الطبيعة] بكل ما فيها‪.‬‬
‫‪ -3‬الكيان الذي ألبسه والذي سيسمى الحقا "أنا"‬

‫لهذه األصول صفة عامة هي الحركية إذ ال معنى لشيء ال حركة فيه؛‬


‫فمجرد مشاهدتي لألحداث حركة‪ .‬والموجد فـعل شيئا – حركة‪ -‬إليجاد كل‬
‫ما أوجد من كائنات‪ ،‬والكائنات متحركة حسب ما لها من سمات لتكون‬
‫الطبيعة‪ .‬وصل بنا سفرنا إذن لتحديد مجال متحرك‪.‬‬
‫لنشهد ما يجري في حقبة زمنية قدرها قرن [مائة سنة] وعند نقطة‬
‫االنطالق‪:‬‬
‫ممر مائي صغير ال‬
‫تجمعت حول ّ‬
‫اليوم رقم واحد‪ ،‬نحن في قرية ّ‬
‫ليكون جداول تحتل مساحات‬
‫يتجاوز عرضه خطوة واحدة‪ ،‬يتسع أحيانا ّ‬
‫صغيرة‪ .‬يجري بها الماء مقبال على المكان فيروي نباته ويغادر إلى حيث ال‬
‫يدري أحد‪ .‬تنتشر مساكن بسيطة على مسافات متباينة من الجداول‪ ،‬تاركة‬
‫ألشجار الزيتون والجوز واإلجاص والتين‪ ،‬مساحات تناسب منابتها‪ ،‬وعلى‬
‫الضفتين أحواض نعناع إلى جانب أخرى الستنبات بقوليات‪ ،‬وأعشاب لتغذية‬
‫حيوانات أليفة يسرح بعضها على مرتفعات بسيطة تش ّكل تضاريس هادئة‬

‫‪63‬‬
‫سهلة‪ .‬بينما تبدو حنوات مسالك توازي مسار الماء‪ ،‬يحفها غالف أعشاب‬
‫مزهرة من كل جانب‪.‬‬
‫قبيل الشروق بقليل‪ ،‬سمع تحت خيمة من خيام القرية صوت تألم‬
‫أنثوي تاله بعد لحظة صراخ مولود بشري‪ .‬ثم انبلج الصباح وبانت غير بعيد‬
‫ّ‬
‫من مكان الحدث‪ ،‬هامة أنثوية تحمل شيئا فوق رأسها‪ ،‬وتتجه نحو الخيمة‬
‫حتى وصلتها‪ ،‬غير عابئة بنباح كلبين بدت إحدى ساكنات الخيمة تهدئهما‬
‫بصوت يعرفان داللته‪ .‬استقبلت الواقفة أمام الخيمة ضيفتها القادمة بلفظ‬
‫كلمات‪ ،‬وهي تأخذ منها الشيئ الذي كان على رأسها‪ ،‬وتتبادالن لمس الخد‬
‫تكرر هو‬
‫للخ ّد‪ ،‬ثم تدخالن معا‪ ...‬وبعد لحظات‪ ،‬توالى نفس الحدث ثم ّ‬
‫مرات عديدة‪ ،‬حتى مضى اليوم إلى حيث تمضي األيام‪.‬‬
‫نفسه ّ‬
‫وبتصفحي لسجل المعاني لهذه القرية‪ ،‬تعلّمت أنه كان يوم فرحة‬
‫بالمولود الجديد؛ وما كان توافد الهامات األنثوية إلى الخيمة إال تنفيذا لما‬
‫يمليه [العرف] في مادة المناسبات‪.‬‬
‫تسلّلت تحت الخيمة ألقترب من الجمع‪ ،‬فوجدت شابة مم ّددة‬
‫يحرك ف ّكيه‬
‫[حي] ّ‬
‫على فراش من الصوف‪ ،‬ومخلوق صغير يلصق فمه وهو ّ‬
‫بمكان بارز من صدرها وهي تلفه في غطاء وكأنها تواريه عن أنظار‬
‫الحاضرات‪ .‬ومن سجل المعاني عرفت أنه يتغ ّذى [بالفطرة] من ثدي األم‪،‬‬
‫وهي تخفيه [حماية] له من أشياء ال أعرف عنها شيئا‪ ،‬تبين لي فيما بعد أنها‬

‫‪64‬‬
‫مسجلة في قاموس [الغيبيات] الموروث‪ .‬ثم سافرت مع نسمات األصيل‬
‫ّ‬
‫إلى حيث مشهد الشمس وهي تتوارى خلف التالل‪.‬‬
‫أخذت الدنيا تأخذ أشكالها لونا غير الذي ظلت عليه‪ ،‬فبدت الزهور‬
‫تلم وريقاتها وتعالت أصوات الطير على قمم األشجار‪ ،‬وأصوات أخرى تتر ّدد‬
‫ّ‬
‫في تمازج من صوب الجداول‪ ،‬تعلّمت أنها نقيق الضفادع وأصوات‬
‫حشرات‪ ،‬ثم مال لون الفضاء تدريجيا نحو السواد ليعطي معنى مقابال لما‬
‫يدل على النهار فعرفت "الليل"‪.‬‬
‫ّ‬
‫تكررت الظاهرة مرات ومرات‪ .‬فعدت إلى‬
‫وبعد الليل جاء النهار ثم ّ‬
‫يحرك رأسه نحو‬
‫حيث الخيمة وتسللت ألرى ما ج ّد فيها‪ ،‬فوجدت المولود ّ‬
‫من يقتربون منه ويح ّرك أجزاء من وجهه مع شفتيه‪ .‬تعلّمت أنه بدأ يعرف شيئا‬
‫مما حوله [محيطه] ويبتسم [تعبيرا]عن انبساط ومرح‪.‬‬
‫ولما عدت بعد عامين وجدت ذاك المخلوق يتحرك على قدميه‪،‬‬
‫وهو أكبر مما كان عليه؛ غير أن قطرات من ماء تهبط على خديه وقسامات‬
‫وجهه منقبضة وهو يصدر صوتا غريبا تعلّمت أنه البكاء وأن تلك القطرات‬
‫دموع [تعبيرا] عن استياء مما لحق به إذ حرموه الرضاعة إذ آل إلى س ّن‬
‫[موعد] الفطام‪.‬‬
‫عدت بعدها بثالثة أعوام أخرى فوجدت المخلوق أكبر وأهدى في‬
‫مشيه؛ يتبع أشباهه إلى حيث يسيرون وراء الخرفان‪ ،‬يعبث بالزهور يجري‪،‬‬

‫‪65‬‬
‫يناديهم بعبارات يفهمونها‪ ،‬يتحرك بانسجام وينطق بأصوات مرتبة تدل على‬
‫أشياء تعلّمت أنه [يلعب] وقد عرف [لغة] التخاطب‪.‬‬
‫وألني لم أكن مرتبطة وال مرتبطا بمكان وال بزمان‪ ،‬كنت أجوب‬
‫أقرر أن أكون منهم؛ شهدت الكثير من‬
‫سأقرر أو ال ّ‬
‫القرى وتجمعات أشباه ّ‬
‫الصور المتشابهة التي تشترك في أوجه عديدة رّكزت على القادم منها أكثر‪.‬‬
‫حتى كان يوم بعد عقدين من الزمن عدت فيه إلى القرية أستطلع‬
‫حال المخلوق الذي بدأت رحلتي معه‪ ،‬فوجدته في لباس زاهي المظهر وحوله‬
‫تعالت أهازيج وزغاريد؛ تعلّمت من سجل القرية أنه في مناسبة فرح ذات‬
‫[طقوس] خاصة‪ ،‬وأنه مقبل على مغادرة خيمة أمه إلى خيمة سيسكنها مع‬
‫[زوجته] ليصبح أبا لمخلوق جديد بعد أن كان ابنا لمخلوق قبله‪.‬‬
‫وعشية نفس اليوم‪ ،‬شاهدت جماعة يحملون مخلوقا مستورا بغطاء‬
‫حي‪ ،‬ينطقون كالما موزونا وهم‬
‫ال يتحرك وال يتكلم وال شيئ يدل على أنه ّ‬
‫سائرون‪ .‬لحقت بهم وسايرتهم إلى حيث يسيرون‪ ،‬حتى أتوا مكانا بعيدا من‬
‫القرية‪ ،‬فوضعوا الجسم الذي كانوا يحملونه في حفرة ور ّدوا عليه أحجارا‬
‫غمروها بالتراب‪ ،‬وعادوا من حيث أتوا‪ ...‬تعلّمت من سجل المعاني لديهم‬
‫تحول بفعل [الموت] إلى جثة‪ ،‬وأنهم‬‫أن المخلوق الذي كانوا يحملون ّ‬
‫كرموه إذ [دفنوه] ألن تكريم الميت ال يكون إال بدفنه‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪66‬‬
‫واستوقفتني حالة مثلها في مكان آخر لمخلوق لم يبلغ بعد عقده‬
‫األول حتى ظهرت عليه عالمات غريبة لم يعد يجري وال يلعب وال يبتسم‪.‬‬
‫بل وجدته مم ّددا على فراش وحوله أشخاص واجمون‪ ،‬لم يطل بهم الحال‬
‫حتى أخذو يبكون بعد أن توقفت الحياة في جسم المخلوق الطريح‪ ،‬تعلّمت‬
‫أن الموت أخذ منهم من كانوا يع ّدونه واحدا منهم‪ .‬وشهدت طقوس توديع‬
‫تلك الجماعة ألحد أفرادها‪ :‬أتوا بحطب كثير ورتبوه‪ ،‬ووضعوا الجثة فوقه‬
‫وأطعموها للهب! وحين رجعت لسجل المعاني لدى هؤالء‪ ،‬وجدت أن لديهم‬
‫[اعتقاد] في أن جثة المخلوق الذي و ّدعوه تستحق التقدير والتكريم‬
‫وعندهم تكريم األشياء يكون بتطهيرها‪ ،‬وتطهير الجثة ال يكون بتركها لتتحلل‬
‫بل بحرقها‪.‬‬
‫وما أن مضت من القرن تسعة عقود‪ ،‬حتى اطلعت على سجالت‬
‫معان كثيرة بعدد القرى والتجمعات البشرية التي كنت أجوب فضاءاتها وكنتم‬
‫معي في رحلتي‪ ،‬فرأينا أن المخلوق يأتي إلى الوجود فيجد [الموت والحياة‬
‫في المحيط] ويمارس الحياة من لحظة ميالده حتى لحظة موته بين أشباهه‬
‫[ بإحساسه باآلخرين وبالتعبير والطقوس حسب العرف‪ ،‬والعقيدة]‪ .‬كل ذلك‬
‫يمثّل التفاعالت في األصل الثاني وهو الطبيعة‪ ،‬وقد كانت جولتنا في أماكن‬
‫نتطرق لما‬
‫بسيطة بعيدا عن التعقيدات التي فرضتها الحضارة الحديثة‪ ،‬ولم ّ‬

‫‪67‬‬
‫أحدثه التفاعل المنحرف من آثار على تلك القرى بتلويث المياه واألجواء‬
‫ونشر الضوضاء في سكونها وتشويه عاداتها ومحو تاريخها‪.‬‬
‫فهل سأقرر أن أكون ؟ بدون تر ّدد‪ ،‬نعم سأقرر‪.‬‬
‫زودني بقدرات وجعلني قادرة أو قادرا‬
‫لماذا؟ ‪ -‬ألن من أوجدني ّ‬
‫على اكتشافها وتسخيرها فيما يعطني معنى داخل حيز الحقبة‬
‫الفاصلة بين لحظة ميالدي ولحظة موتي‪.‬‬
‫كيف أعطي معنى لذاتي؟‬
‫سأستمتع باإلحساس بأني كائن حي‪.‬‬
‫والدليل على حياتي أعطيه بنفس الصورة التي تعبّر به‬
‫الطبيعة عن وجودها‪ :‬حركة – استمرار– تجديد –‬
‫شكل ‪4‬‬
‫تطور‪.‬‬
‫ّ‬
‫أما االتجاه الذي قررت أن آخذه فنحو اإليجابية مع كل نفس؛‬
‫لدي‬
‫يتكون ّ‬‫أستنشق الهواء فأحس أنني أخذت شيئا من الحياة ومع كل زفير ّ‬
‫علي أن أعطي الحياة مقابل ما أخذت منها‪ ،‬ألكون جديرة أو‬
‫إحساس بما ّ‬
‫ٌ‬
‫جديرا بالبقاء‪.‬‬

‫سأكون "أنا" ]‪ [P‬بقنـ ـ ـ ـ ـ ـاعاتي‪ ،‬بمعتقـ ـ ـ ـ ـداتي‪ ،‬بقدرتي على نق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد‬


‫ذاتي‪ ،‬بتق ـ ـ ـ ـ ـديري واحترامي للنـ ـ ـ ـ ـ ـاس ]‪[S‬ألنهم أشباهي وهم يش ّكلون‬

‫‪68‬‬
‫المرآة التي أرى على صفحتها الصورة المثلى ]‪ [I‬ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذاتي (شكل‪.)4‬‬
‫أقر به لنفسي – بال تر ّدد ‪ -‬من سمات كما‬
‫وما صورة الذات عندي‪ ،‬إال ما ّ‬
‫هي بصدق وأمانة‪ ،‬دون تفريط وال إفراط‪ .‬وقيمة ذاتي لدي بما أستطيع نقده‬
‫منها للرقابة على سواء ما يصدر عنّي من تصرفات تجاه غيري‪ ،‬وبمقدرتي‬
‫على كبح غروري‪.‬‬

‫أما ما أرتاح له من غيري‪ ،‬فأقيمه بما يصلني منهم من وصف لواقع‬


‫ما أنا عليه دون مجاملة وال نفاق‪ .‬فأقيّم على ضوء تواصلي مع غيري قوة‬
‫تأثيري وخفة تأثّري من صدق إحساسي‪ ،‬وأخطط لالرتقاء بقيمة ذاتي‪ ،‬انطالقا‬
‫مما اكتسبت من احترام وتقدير لذاتي‪ ،‬واحترام الغير لما يصلهم من‬
‫تصرفاتي‪.‬‬
‫وهم الغنى والفقر‬

‫ما معنى الغنى؟ ‪ -‬لغة نقول إن فالن غني؛ بمعنى أن ذاك الشخص‪،‬‬
‫لديه مال كثير! دعونا نرى مطابقة هذا المعنى لواقع الحال‪:‬‬
‫خرج أحد أغنياء البلد في رحلة مع صديق له إلى مدينة مراكش في‬
‫يوم ربيع جميل‪ .‬ومن جمال األرض في حلتها المزهرة‪ ،‬لم يعبأ أحدهما بمرور‬
‫الوقت إال بعد أن مالت الشمس للمغيب‪ .‬وكانا في منطقة تبعد عن المدينة‬

‫‪69‬‬
‫محرك سيارته‪ ،‬لم يستجب‬ ‫هم الغني بتشغيل ّ‬ ‫بحوالي ‪ 25‬كيلومتر‪ .‬ولما ّ‬
‫المحرك لنفاذ البنزين‪ .‬عندها ف ّكر كالعادة في إرسال من يأتيه بالبنزين باعتباره‬
‫الشخص المرموق المعروف في وسطه بسعة المال؛ غير أنه اكتشف أنه نسي‬
‫حافظة نقوده في البيت ولم يحمل سوى حافظة أوراق السيارة! فاسترعى‬
‫يتلمس جيوبه باستياء متزايد‪ .‬فسأله‬
‫انتباه صديقه ما ظهر من تصرفه وهو ّ‬
‫عم يفتّش‪ ،‬فأجابه " إنها كارثة! "‬
‫فهل الغني غني دائما؟‬
‫إن الغنى لدى صاحبنا رهين بالوسط الذي يعيش فيه وبحزمة األوراق‬
‫بتقزز شديد‪ .‬وها هو‬
‫التي يظهرها ليتناول منها ورقة واحدة أو اثنتين ينفقهما ّ‬
‫افتقر إلى ما عند صديقه من دريهمات قد تنفع في شراء كمية من البنزين‬
‫‪ ...‬وصديقه هذا لن يحتاج ماال في أي مكان‪ .‬لماذا؟ ألنه بلباسه المتواضع‪،‬‬
‫وحديثه الرصين وبشاشته‪ ،‬يستطيع تأمين البنزين والمبيت واالستضافة في‬
‫تجمع بشري‪.‬‬
‫أي ّ‬
‫وبهذا المعنى يشتق الغنى من فعل استغنى عن الشيئ أي قلت‬
‫حاجته لذاك الشيء‪ .‬فمن كان شبعانا ال يستطيع األكل فهو مستغن مرحليا‬
‫حر‬
‫عن الطعام‪ ،‬ومن كان به ظمأ فهو مفتقر إلى شربة ماء‪ .‬والكاسي في ّ‬
‫الصيف مستغن عن لباسه الدافئ ومفتقر للباس خفيف بينما تعكس لديه‬
‫الحاجة في الشتاء فيستغني عن الثوب الخفيف ويفتقر للثياب الدافئة‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ويظهر لنا أن الغنى والفقر نسبيان‪ .‬وال حاجة بنا للتش ّكي من فقر‪ ،‬وال‬
‫للخوف زوال الغنى ما دمنا نحن من يصنعهما‪ .‬فالنفس الغنية ال تخشى الفقر‬
‫بل تحاربه فتنتصر عليه بقوة اإلرادة وباستراتيجية التغيير‪.‬‬
‫قد نتساءل – ما عالقة معنى الوجود الذاتي بالفقر والغنى؟‬
‫نقرها للذات‪ :‬إن كانت قيمة‬
‫والجواب بسيط جدا يتلخص في القيمة التي ّ‬
‫ذاتي في ما أملكه فستكون أتفه من هباب تتالعب به الريح‪ .‬أما إن كانت‬
‫لذاتي قيمة بماهي في غزارة عطائها ورضاها ونظرتها للعالم بعين اإلعجاب‬
‫والدهشة والتفاؤل البنّاء فذاك هو الغنى‪.‬‬
‫من طريف ما أذكر أن إحدى صديقاتي ممن كنت أحثهن على السير‬
‫قدما في طريق التعلّم قالت لي حين عادت من فترة تكوين قضتها في المركز‬
‫بالبداغوجي الجهوي لمدينة "أسفي" وقد تخرجت فيه أستاذة للرياضيات‪،‬‬
‫قالت‪ ":‬إن وقفت أمام الجزار تريدين لحما‪ ،‬لن يسألك علما بل نقودا"‪.‬‬
‫عاشت صديقتي سنواتها الخمس األولى أستاذة بمرتب شهري بالكاد يفي‬
‫بحاجتها‪ ،‬ثم تلتها سنوات أخرى بمسؤوليات أثقل وظروف أصعب قضتها‬
‫مستكينة لما هي فيه حتى تهاوى صرح صحتها وتدهورت حالتها بصورة‬
‫ملحوظة‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫حملتها‬
‫عيني نظرة ّ‬
‫ذهبت مرة إليها في زيارة عادية‪ ،‬فنظرت في ّ‬
‫أكثر من معنى وهي تقول‪" :‬لم أكن أص ّدق أنني سأضطر لحفظ البيت الذي‬
‫كنت تر ّددين على مسمعي وبإلحاح "‪:‬‬

‫العلم مال المعدمين إذا همو** خرجوا إلى الدنيا بغير حطام‬
‫البيت من قصيدة للشاعر‪ :‬معروف الرصافي‬

‫وإن وعينا بحقيقة ما يملى علينا من محيطنا يجعلنا نرتاح لها‬


‫فنصوغ منها سؤاال يعيد النظر في موروثنا‪ ،‬أو نجعل منها لبنة في بناء ثقافتنا‪،‬‬
‫قد ننفع بها غيرنا لتصبح لها قيمة مضافة في تقديرنا للذات وتفتح لنا آفاقا‬
‫جديدة نحو التغلب على ما يعرض لنا من ضغوط‪ .‬فنستعين بها على تدبير‬
‫أمورنا في حل المشكالت التي تبدو صعبة لمن يسيئون تقدير ذواتهم‪ ،‬وال‬
‫يسعون الكتشاف ما لديهم من طاقات كامنة تحت ركام األحكام المسبقة‬
‫والمقولبات االجتماعية‪.‬‬
‫لما شاب شالوه‬
‫لنأت بمقولبة شهيرة في الوطن العربي مفادها [ ّ‬
‫شارف ما يتعلّم اللّعب] ويعني أن‬
‫للكتّاب] ونسمعها في المغرب [ القرد ال ّ‬
‫سن إن تجاوزها الشخص لن يتعلم‪ .‬هذه مقولبة اجتماعية (وحكم‬ ‫للتعلّم ّ‬
‫مسبق) ثبت خطؤها في حاالت عديدة ال تش ّكل استثناء‪ ،‬بل أكاد أجزم أنها‬
‫قاعدة ذات الشرطين‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫‪ -1‬أن نبادر بالعمل اليوم وال ننتظر الغد‬
‫‪ -2‬سنكون بعد مغرب اليوم أحسن حاال مما كنّا عليه أول أمس‬
‫إن التزمنا بهذين الشرطين‪ ،‬سنرى بعد "واحد وعشرين يوما" أن‬
‫الصعوبة زالت وأن الطريق رغم طوله قد قصر أمام إرادتنا‪.‬‬
‫وحتى نكون عمليين‪ ،‬ننظر لحالة شخص جاوز السبعين من العمر‪،‬‬
‫جاء يطلب معرفة كيف تتكون الكلمات في اللغة العربية – وهو لم يتعلم‬
‫القراءة وال الكتابة طوال حياته – وجد أستاذا بدأ معه أول يوم بخمسة‬
‫حروف ينطقها عشر مرات‪ ،‬ثم أعاد على سمعه الحروف الخمسة في اليوم‬
‫التالي ينطقها عشرين مرة‪ ،‬وفي اليوم الثالث بادر العجوز أستاذه قائال ‪" :‬‬
‫أستاذي ! أما من حروف أخرى فقد مللت تكرار هذه الحروف الخمسة"‬
‫ابتسم األستاذ في وجه الرجل وقال‪" :‬سنرى اليوم كيف نكتبها‪ ".‬وبعد تمام‬
‫خمسة أيام كان العجوز يقرأ ويكتب الحروف الخمسة ‪ [:‬ا‪،‬ب‪،‬ج‪،‬د‪،‬هـ]‪،‬‬
‫في اليوم السادس كان منتظرا أن يعطيه األستاذ حروفا أخرى‪ ،‬إال أنه فوجئ‬
‫أب‪ ،‬باب‪ ،‬ج ٌّد‪ ،‬جاد‪ ،‬هاج‪ ،‬جابه] ولم تمض‬‫باألستاذ يكتب له العبارات‪ٌ [:‬‬
‫عشرة أيام حتى أتقن العجوز الكلمات كتابة ونطقا‪ .‬ولما كان اليوم الحادي‬
‫عشر طلب من األستاذ حروفا غيرها فأضاف األستاذ حروفا أربعة [و‪،‬ز‪،‬ح‪،‬‬
‫ط‪،‬ي] مع كلمات [أبا‪ ،‬أبو‪ ،‬أبي‪ ،‬طاب‪ ،‬حطّ‪ ،‬وهب‪ ،‬وجب‪ ]...‬وطلب منه‬
‫أن يكمل الكلمات ‪ ...‬فبدأ العجوز يج ّمع الحروف في ثنائيات ثم في‬

‫‪73‬‬
‫ثالثيات ورباعيات ‪...‬غير أنه توقف سائال‪ :‬ألكل كلمة معنى مغاير ألختها؟‬
‫‪ -‬هنا أجابه األستاذ ‪" :‬لم يبق عندي ما به أفيدك‪ ،‬اذهب راشدا ألستاذ‬
‫أعلم مني! " فما مضت العشرون يوما حتى اعتاد العجوز زيادة المعرفة‪.‬‬
‫ومضى على حاله تلك متنقال بين مجالس األساتذة والقراء‪ ،‬حتى أصبح من‬
‫أغزر شيوخ قبيلته علما وأفقههم باللغة العربية‪ .‬وقد ترك مؤلفا تناوله الباحثون‬
‫وأفاضوا في شرحه‪ .‬وبهذا كسر الشيخ المقولبة وأظهر عدم صدقها وهو‬
‫ليس وحده من فعل ذلك‪ .‬بمجرد تصفحنا لقائمة العصاميين سواء في بلدنا‬
‫أو في غيره من بلدان العالم‪ ،‬نجد أنها طويلة وهي آخذة في الزيادة ! فمن‬
‫الباحثين من يتحدثون بإعجاب عن العلماء والفنانين ورجال األعمال‬
‫العصاميين أمثال توماس أديسون‪ ،‬صاحب األلف براءة اختراع‪ ،‬وتشارلز‬
‫داروين صاحب نظرية التطور و"ستيف جوبز"‪ ،‬زعيم شركة ‪" Aple‬أبل"‪،‬‬
‫طوروا وكونوا أنفسهم بعيدا عن المؤسسات التعليمية الرسمية المبرمجة‬
‫مسبقا‪ ،‬تهدف إلى تكوين أجيال من المتعلمين حسب مواصفات معينة‪.‬‬
‫خرق أولئك العصاميون القاعدة بأن اختاروا طريقهم إلى المعرفة بحرية وكان‬
‫دافعهم حب المعرفة يذكيه التح ّدي وتغذيه اإلرادة والرغبة في التغيير‬
‫اإليجابي‪ .‬حصيلة ما وصلنا إليه حتى اآلن‪ ،‬أن إعطاء معنى للوجود الذاتي‬
‫يسوقنا إلى تقدير الذات‪ .‬وتقدير الذات دافع الكتشاف المهارات والقدرات‬
‫الكامنة‪ ،‬وهو طريق ممهد للتغيير اإليجابي وكسر المقولبات االجتماعية‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫فهرس‬
‫مقدمة ‪4 ................................................................................................‬‬
‫حاجتنا لآلخرين ‪6 ....................................................................................‬‬
‫ما الذي نحتاجه من اآلخرين؟ ‪8 ...................................................................‬‬
‫أريد دليال على نجاحي ‪10 ..........................................................................‬‬
‫حياتنا ‪11 ..............................................................................................‬‬
‫هي انعكاس لتوقعات من هم حولنا ‪11 ...........................................................‬‬
‫استراتيجية التغيير اإليجابي‪16 ....................................................................‬‬
‫تعريف الهدف‪20 ................................................................................... :‬‬
‫تحديد الهدف‪21 ..................................................................................... :‬‬
‫اتخاذ القرار‪23 ......................................................................................:‬‬
‫خطة التنفيذ‪24 ...................................................................................... :‬‬
‫اإللقاء التفاعلي ‪54 ...................................................................................‬‬
‫كيف أعطي معىن لذايت؟ ‪68 ........................................................................‬‬

‫وهم الغنى والفقر ‪69 ................................................................................‬‬

‫‪75‬‬
76

You might also like