Professional Documents
Culture Documents
Livre Asma WB
Livre Asma WB
Livre Asma WB
المؤلف :
2
بال تردّد أنت رائع
3
مقدمة
ما من أحد نسأله عن دور المعلم قبل األستاذ ،إال ويذهب بنا إلى
كل منهما في الفصل ،أمام عدد من التالميذ
إبراز نتيجة الرسالة التي يؤديها ّ
الكم المعرفي إلى عقولهم .وما من أحد نسأله عن دور
أو الطلبة ،في نقل ّ
المدرب ،إال ويتجه بنا نحو نفس االتجاه؛ مرّكزا على جانب التلقين ،أكثر
ّ
يقل فاعلية في تشكيل شخصية
يقل أهمية وال ّ
من االهتمام بجانب ال ّ
المتل ّقي والتأثير فيها بعمق .وهو جانب ما اصطلح عليه بـ
] [Coachingالمرافقة!
األطفال في الروض ،والتالميذ في المدرسة والطلبة في الثانوية أو
المتدربون في المعاهد التقنية والمهنية ،يشتركون
ّ في المراحل الجامعية ،أو
جميعهم في خاصية االستقبال عبر الحواس .ومهما اختلفت درجات
نضجهم من حيث اإلدراك والفهم ،فإن كل فرد منهم مختلف عن اآلخر
في سرعة التأثر بما يستقبله عبر عملية "المرافقة" .ذلك أنها عملية ذات
عالقة بسيطة بالوعي ،وعالقتها أكبر وأد ّق ،بدواخل النفس البشرية .وإن
رجعت أيها القارئ بذاكرتك لمراحل حياتك منذ الطف ـ ـولة حتى اليوم ،ستجد
4
صورا جميلة عالقة بذهنك ألشخاص عرفتهم بمختلف المراحل؛ فمنهم
بحنوها يوم كان أحد ما يعاملك بقسوة ،أو معلّم كان
بالحي تد ّخلت ّ
ّ جارة
بمجرد ابتسامة
يقطع رتابة الدروس بحركة مرحة ،أو أستاذ حبّب إليك مادة ّ
لطيفة كان يرسمها على وجهه حين يتكلّم ...أو مدير مؤسسة استقبلك
كل من
بطريقة غ ّذت فيك روح اإلخالص يوم التحاقك بموقع عملك .من ّ
أحس بعميق تأثيره أحد
هؤالء الذين تذكرهم ،استقبلت شيئا لم يق ّدره وال ّ
غيرك .فهل تعتقد أن تلك الحركات التي قاموا بها تجاهك تطلبت منك
مجهودا ذهنيا وأنت تستقبلها؟ وهل تعب أح ٌد منهم ليمنحك ذاك
اإلحساس؟ ...تلك كانت لحظات رائعة ،ورغم قصرها في الزمن ،زرعت
في نفسك بذرة من جميلها ومازال لديك منها انطباع جميل حتى اآلن! إن
عرضنا عليك مثيالت لتلك اللحظات ودعوناك لتبحر معنا فيها ،هل تتر ّدد؟
لذلك كان عنوان هذا الكتاب " :بال تر ّدد" وبادرنا بدعوتك لتشاطرنا
ما فيه من صور قوامها باقة ألوان طيف من المواقف؛ التقطت من واقع
الحياة اليومية ،وعرضت على أدوات تحليل ،أنت تملك أدقّها أسلوبا
وأصدقها نتائج.
5
الفصل األول
حاجتنا لآلخرين
6
وكلما تقدم في العمر شهورا بدت حاجاته تساير نموه؛ إذ يحتاج
للحماية من األشياء المحيطة به مما ابتكره بنوا جنسه كالمواقد ومصادر
الكهرباء والسوائل الكيميائية واألدوات الحا ّدة ...وبعد بلوغه الخامسة من
العمر ،يتّسع مجال إدراكه ويكتسب معارف عن الناس واألشياء ،وعن وسائل
التواصل مع غيره ،منها اللفظية وغير اللفظية ،حيث يفهم تعابير الوجوه
ودرجات األصوات المحذرة أو المؤنبة أو المشجعة لما يصدر عنه من
تصرفات ويتخذ قرارات على ضوء ما يدرك من جهة ،واستجابة لدوافعه
الداخلية من جهة أخرى .
سيترك هذا أثرا بالغا في سلوكه خالل مراحل حياته .وإن كال منّا
يسر
واجه صعوبات مختلفة شدة و أمدا .ففي الحياة مفاجآت كثيرة منها ما ّ
يضر بالكيان النفسي للفرد ،تماما مثل ما يحصل لنا من جروح
ومنها ما ّ
وكدمات أثناء اللعب أو العمل أو السير على الطرقات أو المشاجرة مع
أقراننا؛ فمن جروحنا ما يكون طفيفا يندمل بسرعة دونما حاجة لعالج غير
النظافة ،ومنها ما يحتاج لتدخل الطبيب .وقد يترك عالمة واضحة على
أجسادنا .كذلك تحدث بالنفس ما يمكن أن نشبهها بالجروح التي قد تكون
طفيفة ،تعقبها آثار تختلف حجما وخطورة ،وهنا تبرز بحدة حاجتنا لآلخر.
من هذا اآلخر؟ إنه شبيهنا األقرب إلينا صلة ونسبا؛ األبوان واإلخوة واألعمام
واألخوال .ويأتي دور الجيران في الحي ،فاألصدقاء ،إلى أن نصل إلى بني
7
المدينة ،فالمنطقة فاإلقليم ،فالوطن ،ثم تمتد الحاجة بعد ذلك في اتساعها
لتعم بني اإلنسان!
ّ
أن ندرك وجودهم ضمن محيطنا أوال ،إذ لن يأخذ وجودنا معناه إال في
جماعة من نطلب منهم التواصل معنا ،ولو بنظرة تكون أول سبب وصل.
بتدرج مجمل ما نريد أن نعبّر عنه مما في داخلنا سرورا كان أو
يأتي بعدها ّ
تشل فينا وسائل التعبير ،وتدفعنا
حزنا ،ارتياحا أو ألما .غير أن ش ّدة األلم قد ّ
لالنطواء وكأنما نكون يئسنا أن نجد من يشاطرنا اإلحساس ،فننزوي نج ّتر
مرارة آالمنا ،حتى نجد من يعطينا نفحة من أمل .فالعطاء في منظور
المحدثين من علماء النفس وممتهني تحليل المعامالت على وجه الخصوص
ال يكون بالضرورة ماديا فحسب .بل يمتد مفهومه إلى إعارة السمع باإلصغاء
الجيد لمن هم في حاجة للمساندة ،حيث يمثل تمهيدا لطريق الفهم الجيّد
يجره نحو دوامة اليأس وهدر طاقة
للحالة ،ووسيلة للتنفيس لمن يعاني ضغطا ّ
النفس في تكرار "سيناريو " ما فات من فرص .والعطاء بمفهوم Thomas
) Harris(1دليل على غنى النفس والتوازن الوجداني والنضج .إذ كلما
8
تحسنت عالقتكما وتعاضدت جهودكما أعطيت جارك إحساسا بالرضىّ ،
كل منكما ثمرة الجهد المبذول في صورة شعور للعمل البناء ،وجنى ّ
باالرتياح ،والقدرة على حل المشكالت العارضة ،والنظر بواقعية للحياة
اليومية كسلسلة من اللحظات ذات قيمة تستحق أن تعاش بإرادة وأمل
كل لحظة الستقبال اللحظة التي تليها قدما نحو الفوز ،وبلوغ
متج ّددين في ّ
ما نسعى لتحقيقه.
9
أريد دليال على نجاحي
وأنا أكتب ":بدون تر ّدد أنت ناجح" دخل مكتبي صديق
مقرب ،وما أن وقع بصره على الجملة حتى بادرني في دعابة بقوله :أريد
ّ
دليال على نجاحي .فأدرجت هنا ما قاله في فقرة خاصة ليستفيد منها غيره.
مر بك من أزمات صحية ،ومن فترات لم تجد
لعلك تذكر ما ّ
فيها من المال ما تشتري به حاجتك من السوق ،وما مر بك من فترات قلق
كان سببها عدم تأكدك من نتيجة اختبار ما كنت مقبال على اجتيازه .وأنت
اآلن في مرحلة تجاوزت فيها أزماتك الصحية ،والمالية وما كنت فيه من
قلق ...أال تعتبر هذا نجاحا؟
النجاح في حياتنا مراحل نمر بها الواحدة تلو األخرى ،فنستفيد
من التي لم تعط النتيجة المنتظرة ،لنعيد الكرة من جديد بقوة أكبر وعزم
أش ّد وإصرار متين ،فتكون النتيجة أحسن من التي كنا ننتظرها أو كان ينتظرها
منا اآلخرون .قد تختلف المواقف وح ّدة الصعوبات ،وطبيعة األزمات التي
تواجهنا أو تعرض لنا في طريق تحقيق ما نريد .إال أنها تتشابه في صمودها
أمام خطة عامة نرسمها في ثالث نقط:
ندونها كتابة.
.1وضع مشروع لما نريد تحقيقه في خطة ّ
المعوقات الممكنة ،وذكر ما سنكون عليه بعد
.2التعرف على ّ
تخطيها.
10
.3التركيز على اقتناعنا بأننا نتقدم يوميا نحو هدفنا لمدة 21يوما.
ثبت للباحثين في هذا الموضوع أن سبب نجاح المرموقين في
مختلف الميادين مثل :سحر هاشمي ،وأيمن راشد ،ستيفن سبيلبرغ ،مارلين
مونرو ،والت ديزني ،بيل غيتس ،وهارالند ديفيد ساندرز ،و كثيرون غيرهم،
واجهوا ظروفا محبطة تغلّبوا عليها بنفس الخطة وهم يتح ّدون الفشل بسيرهم
نحو أهدافهم .ولست بحاجة لسرد قصة كل من هؤالء ألقنع القارئ بجدوى
العمل المتواصل – مهما بدا بسيطا -فالبساطة ميزة طبيعية ،مثلما يولّد
التعود العادة.
ّ
حياتنا
هي انعكاس لتوقعات من هم حولنا
قرأت في مقال كتبه والدي يسرد قصة واقعية لشخص يعرفه عن قرب جاء
فيه....[ .سعيد تقني بقسم صيانة البتروكيميائيات بشركة نفطية معروفة.
التهمنا جنسيته بقدر ما يهمنا طبعه الهادئ وذكاؤه المتواضع ،لم يكن في
يوم ما يطمح لنيل أكثر مما هو عليه في وضعه الوظيفي ،ملتزم بمواعيد
العمل ،يحترمه رؤساؤه جميعهم لما لديه من لباقة وحسن تصرف؛ أنيق
الملبس ،بشوش وليس عنيدا كمعظم باقي زمالئه.
11
حصل أن تراكمت لدى سعيد بعض األفكار عما يتوقع أن الشركة
ستوظف مهندسين في تخصصات مختلفة خالل السنة المقبلة .فاستغل مدة
إجازته في زيارة معاهد عله يجد فيها قبوال لدراسة الهندسة بنفس مجاله،
غير أن مستواه التعليمي لم يسمح له أن يظفر بما يريد .فاختفى عن أنظار
زمالئه أطول من مدة إجازته بسنتين ...ومرة في فترة استراحة قصيرة بعد
تنفيذ عمل شاق ،سأل أحد زمالء سعيد صديقا له ممن كان يالزمهم خارج
مقر العمل ،عما آلت إليه ظروف سعيد خالل كل هذه المدة ،وهل انتقل
للعمل بشركة أخرى؟ فأجاب صديقه في صفة المعجب :إييه يا جماعة،
سعيد اليوم غير سعيد؛ تقني األمس .فبعد سفره إلى إنجلترا ،التحق بجامعة
تقنية لدراسة هندسة الميكانيكا الدوارة ! وأظنه لم يكمل دراسته بعد .سيعود
لنا مهندسا [ق ّد الدنيا] في لهجة مصرية متكلّفة...
وعاد سعيد بعد غيبته الطويلة .وما أن باشر عمله على عادة من
يعود من مواطني البلد -مهما طالت غيبته – حتى فوجئ بخبر دراسته في
الدوارة .أصيب بدهشة لما سمع في البداية،إنجلترا لهندسة الميكانيكا ّ
حتى كان على وشك تكذيب مصدر الخبر لوال أنه علم بأن المصدر لم يكن
سوى صديقه الحميم "عثمان" .كتم إحساسه وعاد يف ّكر في طريقة يحفظ
بها ماء وجه عثمان الذي وضعه في ورطة ...
12
لم يعد سعيد يحضر مجالس السمر التي تحصد الساعات الطوال
من وقت الفراغ في تبادل ما ج ّد من الطرائف وأحاديث األصدقاء ،بل بدا
عليه االنشغال بأمر لم يعهده عليه أحد من قبل .وكان في ليلة من صيف
2008أن طرق باب مسكني ألول مرة .ولما فتحت الباب وجدته بسحنته
المرحة يسلم قائال :جئتك اليوم ضيفا فهل لديك ما يشغلك عني؟ قلت:
مرحبا بك في كل وقت فأنت زميل عمل وجاري بالحي! قال :جئت ألكون
تقرب من يطلبون المعرفة أكثر من أصدقائك كما أقرب من هذا ،فأنت ّ
يعرف عنك منذ أقمت في بلدنا...أعددت له قهوة بعد جلوسنا إلى طاولة
صغيرة فأدخل يده في جيبه وأظهر ورقة مكتوب عليها
"Engineering mathematics":وهو يسألني :هل أجد عندك
هذا الكتاب؟
لدي مكتبة صغيرة بدأت أفتش فيها عن نسخة كنت جلبتها من
طرابلس منذ ثمانينيات القرن الماضي .وجدتها ،وتأكدت من العنوان قبل أن
أضعها قرب فنجان القهوة ،فانفرجت بوجه ضيفي أسارير االنشراح وهو
يغرق في بهجة بعثرت ألفاظ لغته على لسانه؛ وبعد لحظات بدأ يلملم تعابير
الشكر ويقذف بها في فضاء غرفتي المتواضعة .وألخرجه مما هو فيه سألته:
أتدرس لتحضير الماستر؟ قال :ال بل بكالوريوس هندسة! ولما آنس
استغرابي مضمون جوابه قال :أنا لم أدرس بأية جامعة خالل مقامي بإنجلترا،
13
بل كنت أعمل طرف شركة أخرى هناك في انتظار قبولي في أي معهد أو
جامعة .ولما فرغت من محاوالتي اليائسة ،خطر لي أن أعود ألنتهج
"العصامية" التي يعتبرك كل من عرفوك خبيرا بها [وضحك عاليا قبل أن
يسترسل] ،لكن عثمان وضعني في موقف محرج ،إذ أشاع بين زمالئي ما
أشاع .وقد جئتك لتساعدني على فهم معادالت تفاضلية تتحداني صعوبتها
كلما حاولت الدخول في فصل من فص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـول كت ـ ـ ـ ـاب " The
" principles of thermodynamicsويحذوني األمل في
أنك لن تبخل علي بما لديك ...عندها طمأنت سعيد بإجابته إلى ما أراد في
حدود ما أستطيع من توفير مراجع وشرح بعض ما أعرف في مجال تخصصه.
وهو يعرف أنني لست ميكانيكيا وال مهندس ميكانيكا إنما أردت مساعدته
بمجال الرياضيات والفيزياء ألنهما مفتاحا الهندسة في عمومها .انصرف
سعيد بفرحته الواسعة ولم يزرني إال غبّا فيمكث عندي لساعات طوال،
نتناقش خاللها ما يكون قد أشكل عليه فهما من أشياء كنت أجهد نفسي
للدخول معه في تفاصيلها غير ما مرة.
وبعد سنوات خمس ،تم ّكن سعيد من تحصيل مواد الهندسة
لميكانيكا التوربينات وكل ما يتعلق بالتبادل الحراري وديناميكا الموائع
وغيرها ...ثم إن قسم الميكانيكا كان بعض مهندسيه يرجعون إلى سعيد في
تدارسهم لما يحصل من مشاكل الصيانة خالل كل تلك المدة فيحاول أن
14
يعطي صورة المهندس الجديد حديث العهد بمثل تلك األمور حتى وصل به
الحال إن يكون من الذين يعتمد عليهم في حل الكثير من المشاكل ذات
ليحولها إلى حقيقة بات يعترف بها
العالقة "بتخصصه" الذي ركب له كذبة ّ
الجميع .وهو اآلن من أبرع مهندسي الميكانيكا ال ّدوارة – ].انتهت.
يدل بما ال يدع مجاال
هكذا انتهت قصة سعيد بما فيها من وجه ّ
للشك على أن المثابرة تولّد النجاح المبهر .وليست هذه القصة يتيمة ،بل
إن هناك غيرها كثير .لكني وجدتها األقرب لتوضيح حاجتنا لآلخرين في
االتجاه اإليجابي.
15
الفصل الثاني
قد يكون هذا الموضوع أكثر ما استأثر باهتمامي منذ زمن طويل،
غير أنني كنت أبحث عن دراسات علمية تلقي الضوء على كثير من جوانبه
حتى ال أغفل منها ما يكون مفيدا .ومما استوقفني فترة من الزمن؛ هذا
العنوان "استراتيجية"؛ الكلمة من أصل التيني ،داللتها اللغوية هي النظر من
فوق .أما عبارة تغيير فليست بحاجة لتفسير ،وخصوصا ما تدل عليه صفة
اإليجابية ،حتى ال يذهب القارئ بعيدا عن المراد.
سنتناول في موضوعنا هذا النظر من فوق أو االستشراف لما هو أهم
شيء لدى اإلنسان [حياته] .وكما أن األصل في حركة األشياء المتحركة
والحية الدوران ،سنعتبر أن للحياة عجلة تدور عليها منذ لحظة الوالدة.
يعتمد المخلوق البشري في بداية حياته على والديه إلى أن يبلغ
مرحلة معينة من عمره يصبح فيها قادرا على تسيير دفة أموره بنفسه .فيحمل
إلى جانب ملكاته الفطرية ،حصيلة ما تكون فعلته التنشئة االجتماعية في
16
تربيته وتعليمه وترسيخ قيم لديه ،والحفاظ على صحته ،حتى يقال إنه قد بلغ
سن الرشد ،اعتبارا لما طرأ على جسمه من تغيرات وما يطبع سلوكه من
سمات .وإن اعتمدنا السن كمحدد لبلوغ الرشد ،نكون قد أغفلنا عنصرا
أهم وهو الرشد السيكولوجي؛ والذي يتمثل في قبول الشخص لتحمل
المسؤوليات برضى وارتياح ،والتفاعل مع اآلخرين حسب ما يمليه الضمير
الجماعي وظروف المجتمع الذي يعيش فيه .لذا سنعتمد الرشد الجسمي
والرشد النفسي معا في حديثنا عن التغيير اإليجابي.
تناول الكثير من العلماء على اختالف مواردهم العلمية ظاهرة التغيير،
فأسفرت دراساتهم عن نتيجة مهمة مفادها أن التغيير ممكن في االتجاهات
والميول وما يدخل في حكمهما .ولمن يريد الكلمة الفصل في أن التغيير
ممكن نورد السند الديني من القرآن الكريم [ إن اهلل ال يغيّر ما بقوم حتى
يغيّروا ما بأنفسهم ] .لكن السؤال المحيّر لدى عموم الناس يبقى :لماذا
يستمر من يتمنون تغيير سلوكهم فيما هم فيه ،مع أن وسائل اإلعالم المقروءة
والمسموعة والمرئية ووسائل االتصال تق ّدم لهم من التوعية والمعلومات ما
يفوق الحاجة؟ هل تغير المعلومات حياتنا؟ -الجواب أن المعلومات تعتبر
أداة بال حياة ،وإنما يعطيها الحياة لتصبح ذات فعل في سلوكنا هو تطبيقها
وليس مجرد اكتسابها .وينتج عن هذا الجواب سؤال آخر؛ كيف يتم تطبيق
المعلومات إذن؟ من هنا تنبع ضرورة النظر االستشرافي لنرى ما يمكن أن
17
تحدثه آلية التغيير ونلمس أثرها في السلوك ،ولنبحث قبل ذلك في العوامل
المرتبطة بقرار التغيير.
ولنح ّدد في البداية مفهوم التغيير ،سنحتاج لتصور مسار للحياة على
خط مستقيم بدأ منذ الوالدة ،بحيث ترمز للشخص بكل حموالته نقطة
تتحرك في االتجاه الموجب على المسار .ونتفق أن حركة النقطة على الخط
ليست سوى تقريبا لما يمكن أن يحدث من تذبذب حول المسار .فمرة
تكون على الخط وأخرى تحيد عنه فوق أو تحت بمسافة بسيطة ثم تعود
بعدها إلى الوضع الذي يجعلنا نراها تتبع الخط وبسرعة تزيد أو تنقص في
مدى زمني متصل الحلقات .ولنقل إن موقع النقطة حاد عن الخط بدرجة
واحدة في لحظة ما ،واتخذت مسارها على خط يميل بدرجة واحدة عن
المستقيم الذي اتفقنا حول تصوره .ستكون المسافة قريبة ويمكنها العودة ،
غير أنها لو استمرت في مسارها الجديد تتباعد كلما طال الزمن حتى يكون
مسارها الجديد هو المسلك نحو اتجاهها الذي قصدته بمجرد ما غادرت
المسار القديم .وبمرور الوقت تصبح أبعد فأبعد عن المسار القديم ،حتى
لن يبقى منه شيء يذكر( ...شكل . )-1-هكذا نتصور التغيير ،باعتماد
عامل الزمن .ومع أن اإلنسان كائن مدرك ،وواع ،ومسؤول عن قراراته،
يختلف عن الشكل والمادة الجامدة؛ فإن تصورنا التقريبي يحتفظ بما له من
داللة ...يرمز الشكل -1-لحياة شخص قرر أن يغير من سلوكه في لحظة
18
ما من حياته .ويظهر فيه أن أثر التغيير ال يلمس في مدة قصيرة بل يبدو أنه
كلما طالت المدة فاصلة بين اآلن ولحظة اتخاذ القرار والشروع في تنفيذه
كلما اتضح األثر وكان جليا لمن يستشرف الظاهرة.
ظهور
.
قرار أثر التغيير
.
لحظة
الوالدة
... . . . . .
التغيير
هناك قرار يتخذ ،ومباشرة بعده شروع في التنفيذ .علينا أن نقف قليال عند
عبارة التنفيذ ،حيث إنه يمثل حجر الزاوية في كل مشروع .وكلما تحدثنا عن
التنفيذ تبادرت ألذهاننا صورة إنشاء طريق أو بناء عمارة أو ما يشبه ذلك.
غير أن مشروعنا أهم من كل بناء ألنه يتعلق بحياة اإلنسان .ولنأخذ من
المشاريع عنصرا هاما جدا وهو التخطيط .إذ ال يمكن اإلقدام على تنفيذ
مشروع إال حسب ما وضع له من خطط يقوم على وضعها متخصصون تتطلب
ماال وجهودا .وقبل الشروع في إعداد الخطط ،توضع مواصفات لكل خطة
19
تبعا لطبيعة المشروع والمحيط الذي سيقام فيه ،والعوائق التي يمكن أن تؤخر
التنفيذ أو توقفه ...
ومهما كان المشروع معقدا ويحتاج لتقنيات عالية ،لن يصل درجة
التعقيد التي يكون عليها مشروع تغيير حياة إنسان! ذلك أن للكائن البشري
أبعادا ومنظومات عديدة؛ منها المعتقدات والقيم والميول واالتجاهات،
وهذه األبعاد والمنظومات تتفاعل فيما بينها وتتداخل بحيث ال يمكن في
الحالة الطبيعية ،فصل منظومة منها عن أخرى بشكل قطعي .وحتى نكون
عمليين أكثر ،علينا أن نرسم نهجا من خطوات نتبعها في محاولتنا تقريب
صورة االستراتيجية إلى األذهان على ضوء ما توصلت إليه بحوث ودراسات
العلوم الحديثة المتخصصة في دراسة السلوك البشري وتحليل المعامالت،
والتنمية البشرية.
تعريف الهدف:
الهدف عبارة عن تمثّل ذهني لما نريد الوصول إليه أو الحصول عليه
ببذل مجهود معين ،و قد يولّد الهدف دافعا أو دوافع إن تآزرت تساهم
فعال في الوصول للهدف .غير أن تصور الهدف ال يكفي لتنفيذه.
بشكل ّ
20
تحديد الهدف:
مثلما أن وراء كل سلوك دافع فإن لكل سلوك نتيجة .وبذلك تكون
لمجموع ما يتخذه الشخص من قرارات ،حصيلة توصل إلى هدف .وحصيلة
القرارات العشوائية ،تختلف عن حصيلة القرارات المدروسة ،والمنتظمة في
نسق دقيق ومحكم يسعى لتحقيق هدف مح ّدد .وتنبع ضرورة التحديد من
أن الدماغ البشري ال يفعل ما نريد منه أن يفعل؛ بل يفعل ما يصل إليه في
صورة واضحة المعالم بتفاصيل دقيقة .فدماغ شخص [جائع] يريد أن يأكل،
لن يستجيب إلرادته بتذ ّكر موقع مطعم إال إن ح ّدد ما يريد أكله بدقة؛ كأن
يعبّر لدماغه عن رغبته في أكل سمك مقلي كالذي تناوله الشهر الماضي
تكونت صورة
تخرجه ...هنا ّ
مقرب زاره في حفل ّ
حين كان صحبة صديق ّ
واضحة المعالم لدى صاحبنا .وبالتالي سيتذ ّكر بسهولة ،ولن يجد صعوبة في
االهتداء إلى حيث يوجد المطعم .بتحديدنا للهدف الذي سنسعى لبلوغه،
نكون خطونا خطوة واحدة ألننا لم نعط إال اسما للصورة ،وماتزال معالمها
غامضة! علينا أن ننظر الكيفية التي يجب أن يكون عليها ما حددناه لتبنى
عليها خطة التنفيذ .يرى الكثيرون من دارسي التنمية البشرية أن هناك
مجموعة من الصفات يطلقون عليها اسما مكونا من حروف التينية عددها
21
مثل عدد أصابع اليد [ ] S.M.A.R.Tغير أننا لن نكتفي بهذا العدد
فهو ليس من التنزيل حتى نلتزم به ،وسنقول إن على الهدف أن يكون:
يضاف إلى هذه المواصفات احتياطات ذات قيمة في اتخاذ الحذر من أن
نواجه صعوبات في التنفيذ:
-1أال يكون الهدف بعيدا جدا فنصاب باإلحباط والملل.
-2وال متدنّي المستوى ،لدرجة تجعلنا نهمل قيمته ويأخذنا
األحساس بأننا نضيّع الوقت للحصول على ما ال يفيد.
22
-3أال نبقي شيئا يجب أن نتعلمه بخصوص هدفنا .بمعنى أن
ندرس كل من الجوانب ما يمكن أن يفيدنا في تحقيق ما نصبو
إليه وكل المثبطات الممكنة لنتجنبها.
-4أن نضع صمام أمان في حسباننا ليجنبنا االنهيار في حالة
الفشل.
-5أن نعي أن لكل شيء ثمن ونرضى أن ندفع ثمن نجاحنا.
اتخاذ القرار:
من منا لم يتخذ قرارا بخصوص شأن ما ،ولم يصل به لمرحلة التنفيذ؟
-كل الناس يعرفون مثل هذه الحالة؛ فمنهم من يتحجج بالظروف ،ومنهم
من يتحجج بضيق الوقت ،ومنهم آخرون يختلقون لألعذار أسبابا تحول دون
تحقيق ما تمنوه بحرارة وحماس ...وما دمنا اتفقنا في بداية الحديث عن
الرشد الجسمي والنفسي فإن القدرة على اتخاذ القرار تعود للشخص نفسه.
وال دخل للظروف في هذه القدرة .أما التحجج بضيق الوقت؛ فإن كل إنسان
يصحو من نومه ومعه 24ساعة في اليوم .الغني ،الفقير ،الحر ،السجين،
المريض ،السليم ،الشاب ،والعجوز ...وليس على وجه األرض من لديه وقت
أكثر من اآلخرين وال أقل من وقتهم .وإنما نختلف في إدارة الوقت وفي
23
كيفية تمثلنا له .ثم إن القرار الحاسم يمكن أن يأتي انطالقا من األسئلة التي
تمثّل دوافع مهمة:
خطة التنفيذ:
إن نحن أدركنا ضرورة للتغيير ورغبنا واتخذنا القرار بشأنه ،ال يعني
أننا وصلنا للمبتغى .بل علينا أن نح ّدد وضعنا الحالي – هنا واآلن -قبل
التفكير في الخطة .ألن بناءها يعتمد على ما نحن فيه من حاجة للتغيير .ثم
نجيب على السؤال :هل السلوك الذي نرغب فيه متوافق مع منظومتنا
القيمية؟ يتعيّن علينا بعد ذلك ،رسم صورة ذهنية لما تكون عليه الخطة وما
سنعتمده فيها كأساس:
-1االستفادة من التجارب السابقة
-2المعرفة المتخصصة (باعتماد الطرق العلمية)
24
-3أن نعتمد وسائل مناسبة لقياس التغيير.
-4الفعل المستمر – "بداية األلف ميل خطوة ،وخطوة بعدها ثم
خطوات "...
-5البحث عن شريك نجاح يش ّد أزرنا في مسيرتنا نحو الهدف ،قد
تكون فكرة عن موقف شجاع أو شخصية تستحق أن نتخذها
قدوة.
25
صمم على أن تتق ّدم ،لتعطي أحسن ما تستطيع .فلن يزيد العطاء
ّ -5
مكانتك إال رفعة وتقديرا مثلما تكون قيمة ما تهديه لغيرك دليال
البر حتى تنفقوا مما
على كرمك وسمو مكانتك[ .لن تنالوا ّ
تحبّون]
-6قم بتقييم ما تم الوصول إليه من نتائج بصورة دورية ،بمقارنة
الوضع الحالي مع ما كان عليه في مرحلة سابقة؛ إن كنت تشعر
بتحسن الوضع فأنت قادر على الوصول لما هو أحسن.
دائرة اكتساب العادة:
لنكتسب [االستمرار] ،أي عادة العمل المتواصل في االتجاه الذي
رسمناه لخطتنا ،البد لنا من معرفة النهج المتبع ومراحله إن أمكن .حيث إن
معرفة المراحل والكيفية التي بها نقدم الصور الذهنية الجديدة لدماغنا
ستكسبنا وقتا وتوفر علينا الجهد .باإلضافة إلى أن المهم لدينا ليست
النتيجة ،بل ما سنعمله بالنتيجة أعني استغاللنا لما سنحققه.
في البداية ،وقبل أن نقدم على مشروع التغيير اإليجابي ،كنا نعيش
تحت التراكمات العشوائية غير المنظمة؛ بعضها مما أخذناه تقليدا لغيرنا،
وبعضها ألفناه لسهولته ،والبعض اآلخر ،فرضته علينا ظروفنا االقتصادية
واالجتماعية ،أو رسخ لدينا لما اعتقدناه السبيل األمثل للعيش الكريم أو
للرفاهية! ولم ندرك في السابق أن األمور يمكن أن تسير على النهج الجديد،
26
ألننا كنا غير مدركين لكفاءتنا على التغيير .هذه أول مرحلة ونسميها ][i,i
)ّ .(Incontiemment incompétent
بمجرد ما أدركنا كفاءتنا
نكون قد دخلنا مرحلة ثانية نرمز لها بـالحرفين ] [c,iداللة على حالة
) (Contiemment incompétentإدراك عدم الكفاءة وهذا
اإلدراك هو المنطلق لتنمية الكفاءة باكتشاف طاقاتنا الكامنة والكفيلة بتغيير
زاوية النظر في اتجاه الهدف .نتحول بعدها للمرحلة ما قبل األخيرة ،التي
تدخل السلوك المرغوب في حكم العادة ](contiemment [c,c
) compétentمدركين فيها لكفاءاتنا وقد اكتشفنا عالما جديدا أوسع
رسخت السلوك في عاداتن ــا
أفقا مما كنا عليه سابقا .وآخر مرحلة ،تكون قد ّ
نرمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز له ـا بالحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرفين ] [i,cوتعني (incontiemment
) compétentأننا ّ
نتصرف دون عناء وبتلقائية .إال أن األهم في كل
هذا أننا تعلمنا كيف تكتمل الدائرة لتبدأ من جديد – شكل - 2مع حلقة
ليتسمر التطور أطول في الحياة؛ تبدأ بـ ][i,i ّ جديدة لتغيير إيجابي آخر
تأتي بعدها ] [c,iثم تليها ] [c,cوأخيرا نصل إلى مرحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلة
].[i, c
شكل-2-
27
وهناك من يجسمها بشكل مغاير يتكون من درج ال متناهي كما في شكل -
-3إال أن كل ما يهمنا هو تقريب
الفكرة .فمتى نصل المرحلة
] [i,cنكون قد أدخلنا السلوك
المرغوب في حكم العادة حيث
يصبح عاديا ولن نشعر بالعناء في
القيام به تماما كما نتعلم قيادة سيارة ،ولنتذكر كيف كانت الصعوبة في بداية
التعلم ثم كيف دخلت السياقة في عاداتنا ...ولنتذكر كيف تعلمنا الكتابة،
األمثلة كثيرة في حياتنا.
كيف تعلّمنا الخط ؟ الشك أن كال منا يذكر كيف كان المعلمون يرسمون
لنا أشكال الحرف بنقط ويساعدوننا لتتبع مسار تلك النقط؛ مرة نحيد عنه
فتبدو في كتابتنا اعوجاجات كبيرة ،ومرة نذهب أبعد من المسار .مرة نحبط
ومرة نفرح لما نسمع من تشجيع ...وكم تلكأنا في تعلم الحساب،
واإلمالء ...إلى أن نشأنا وخرجنا من أمية القراءة والكتابة ،إلى أمية أخرى
بمجال آخر متى أدركناها نرغب في تغيير سلوكنا لنمحوها ونصبح قادرين
على فهم محيطنا بصورة أكثر وضوحا.
28
نحن اآلن نسوق سيارتنا بشكل آلي؛ ندور يمينا وشماال أو نرجع إلى الخلف
بقليل من الحرص ألن الباقي من الدقة مرسوم في دماغنا ولن نخطئ إال إن
أضفنا للدماغ مهمة أخرى تسبب االنحياز إلى غير ما هو مرسوم بالعادة.
العنصر ] [i,cوالذي يعني )(Incontiemment compétent
أننا لسنا مدركين لكفاءتنا؛ ونتوقف قليال لنوضح أهمية هذا العنصر .فأثناء
السياقة نكون في وضع ] [i,cنحن أكفاء لنقوم بعمل ال يستغرق منا اإلدراك
السر [السكرتيرة] في إدارة
الكامل بحكم العادة .تماما كما ترقن أمينة ّ
مؤسسة ما ،رسالة دون أن تنظر إلى لوحة المفاتيح وكـأن كل أصبع من
أص ابعها يعرف الحرف الذي سينقره في اللحظة المناسبة التي يصله فيها
األمر من المركز العصبي المتخصص في تنسيق الحركات مع القرارات
المتعلقة خصيصا بالرقانة .وإن سألت السكرتيرة أن تقوم بنفس العمل على
لوحة مفاتيح لحروف لغة ال تعرفها فستجيبك بأنها ] [c,iال تستطيع القيام
لتمرن كال من
ّ بهذا العمل ما لم تتعلم اللغة الثانية،
أصابعها) (Contiemment incompétentعلى مالمس
اللوحة .تعني أنها مدركة لعدم كفاءتها .وذاك ما يحول دون قيامها بالعمل
بنفس الكفاءة .لماذا؟ ألن العالقات العصبية التي تكونت داخل دماغها
ربطت حروف لغة معروفة بحركات محددة .إال أن هذا النقص في الكفاءة
29
يمكن تداركه باستكمال الدائرة ] [c,cحين تتعلم اللغة الجديدة [وهو تغيير
إيجابي] ،ثم ] [i,cلتكون قادرة على الرقانة بلغتين.
يسمي بعض الباحثين بمجال ما يسمى "البرمجة اللغوية العصبية"
والتنمية البشرية وضع ] [i,cبـ ) (Métaconscienceمع أن هذا
المصطلح قد ال يكون المناسب لمعنى [ما وراء اإلدراك] وهي الحالة التي
تكون فيها عملية يدوية أو أي نمط من السلوك يؤتى بصورة آلية بحيث ال
يستدعي المهارة من حيز اإلدراك باستهالك طاقة كبيرة وإنما يحتاج أن يكون
اإلنسان يقظا ،وهو في حالته الطبيعية ليس إال؛ كغسل اليدين واستخدام
يصمم نموذجا
فرشاة تنظيف األسنان .وهي حالة تختلف عن وضع من ّ
جديدا آللة أو من يكتب مقاال صحافيا أو طبيبا يشخص مرضا؛ ذلك أن
كل هذه الحاالت تتطلب مجهودا كبيرا من الدماغ البشري.
ونخلص من حديثنا إلى أن التغيير اإليجابي المرغوب لن يتحقق إال
إن دخل ضمن حيز ما أوردنا مراحله في ذكر دائرة اكتساب العادة.
بقي أن نوضح أن تصورنا للعالم يبقى أمرا ذاتيا .ولكل إنسان
منظروه الخاص الذي يطل منه على محيطه ،ويتفاعل مع اآلخرين من خالل
ما يراه مقبوال أو مرفوضا حسب منظومته القيمية ومعتقداته وثقافة المجتمع
الذي نشأ فيه .ذلك أننا ال نعرف عن العالم إال ما يصل دماغنا من معلومات
عن طريق الحواس ،ثم إن تلك المعلومات تعالج حسب منظومة من
30
التفاعالت جد معقدة ،لتتولد عنها نتائج تؤدي إلى اتخاذ قرارات تصدر عن
دماغنا ،وتترجم إلى سلوك يصدر عنا ليدركه كياننا أوال ثم ينطلق إلى العالم
الخارجي فيحكم عليه اآلخرون ممن هم حولنا ويعطونه قيمة معينة! وهنا
تتجسد صورة من صور عملية االتصال باآلخرين وبالمحيط العام.
31
إننا نلقي التحية ألشخاص نقابلهم أثناء مرورنا بالشارع و نلقي كالما
ذا معنى يقع بأسماع المارة .كما يظهر من تعابيرنا الجسدية ما يلقى فيستقبله
غيرنا من غير المقصودين بذاك التعبير .إننا نلقي بصور عديدة من سلوكنا
في الشارع .بمعنى آخر نحن نطرح أمام اآلخرين نماذج من معتقداتنا وكيف
نرى أنفسنا وما نريد لهم أن يعرفوا عنا .فكيف تصدر عنا تلك السلوكات؟
عما نحن فيه مشاركون .وهذه حقيقة ال نحن مشتركون فيما ينتج ّ
أحس الناس بالتغيّرات التي عرفها الطقس
يغفل عنها عاقل في عصرنا .وقد ّ
المضرة بالبيئة والمدمرة
ّ نتيجة النشاط البشري المرتكز على إنتاج النفايات
لجمال الطبيعة ،وتعالت األصوات منذرة بكارثة بيئية منذ منتصف القرن
الماضي .غير أن المنتفعين من ذاك النشاط لم يعبؤوا بالتحذيرات في حينها،
والمستهلكون لما تنتجه مصانع أولئك األنانيون مشاركون في استمرارها
ماضية في اتجاه التدمير إلى أن عرف العالم أن وقت تفادي الكارثة قد
تلوح
فات! ولم يعد بوسع البشر غير تأخير موعدها .وبدأت سمات الخطورة ّ
في األفق باألمطار الحمضية وذوبان مخزون الثلوج على قطب األرض،
وارتفاع حرارة الجو وانتشار أمراض لم تعرفها البشرية في سابق تاريخ
التضرر مشتركون نتيجة ما نحن
ّ المتضرر؟ -نحن جميعا في
ّ وجودها .فمن
فيه مشاركون!
32
ضرر النفسي المحيق بالناس أهم ما نريد أن نتفاداه ،هو ال ّ
إال أن ّ
جميعا على اختالف ثقافاتهم وألسنتهم وألوانهم ومعتقداتهم .ولن نتم ّكن من
ضرر إال إن نحن أدركنا وق ّدرنا قيمة اإلنسان بما تستحق من التقدير،
تفادي ال ّ
وحللنا أسباب تدهور تلك القيمة ،لنقف على حقيقة ما نحتاجه من غيرنا،
وما علينا من واجبات نحوهم لنوفّر لهم ما يحتاجونه منا ،ونتخذ القرار
الحاسم بدون تر ّدد لتغيير سلوكنا نحو أنفسنا ونحو غيرنا ونحو البيئة التي
نعيش فيها جميعا .على أال نفهم أن الحاجة للغير تدعونا لالعتماد عليهم.
إذ االعتماد على الغير صفة ذميمة ال نقبلها ألنفسنا .فإن كان النجار يحتاج
الح ّداد في صنع أدواته ،فليس معناه أن يترك النجار مهمته ويعتمد في كسبه
على ما يكون لدى الح ّداد من حاصل جهده وعمله.
لن يختلف اثنان على أن التصرفات تنتج عن قرارات يتخذها الفرد
بكامل وعيه أو دون وعي منه .ومادام كل فرد مسؤوال عن قراراته -إال في
كل في شخصه عما يصدر عنا سواء أكان
حالة االستثناء -فإننا مسؤولون ّ
رمي كيس بالستيكي يمكن أن يحجب الرؤيا عن سائق فيتسبب في حادثة
سير مميتة ،أو عبارة بذيئة تصدم نفسية طفل فتصاحبه آثارها مدى الحياة.
وبإدراكنا لجسامة المسؤولية يصبح أمامنا اختيار الصور التي نريد أن نعطيها
للغير عن أنفسنا فإما تكون إيجابية تنم عن شخصية متوافقة مع مجتمع
33
يحترم أعرافه و تقاليده وثقافته ويسعى لالرتقاء بمستوى حياته نحو األفضل،
أو سلبية تنذر باالنحالل والتدني في هوة الجهل والفقر والمرض.
ولعل أغرب مفارقة تتجلى في سلوكنا العام أن نطلب من اآلخرين
احترامنا دون مبادرة منا الحترامهم .وال ندرك أن الصورة التي نلقيها لآلخرين
هي نفسها التي ترتد إلينا تماما مثلما يحصل حين نقف أمام مرآة ،مع اعتبار
الفرق بين المادة الجامدة ومرآة المجتمع الدينامية التي تعكس التفاعالت
بما فيها من إحساس باآلخر وتقديره كشخص مساو لنا يستحق المحبة
والتقدير واالحترام ككيان منفصل عنا له شخصيته بمالها من سمات
وطموحات وأساليب تعبيرية خاصة ،مغلفة بالطابع الجماعي أو النسيج
األخالقي الذي يكونه الخضم الهائل من مجموع الصور السلوكية التي يلقيها
األفراد لبعضهم في الشارع.
لكل مؤسسة نظام وقواعد يلتزم بها األشخاص فالمدرسة مؤسسة
لها نظامها ولموقع العمل نظامه وقواعده وللبيت قواعد غير مكتوبة تنظم
شؤونه .لم ال تكون لشارعنا قواعد حتى وإن كانت غير مكتوبة ،نستقي
بنودها من صميم ما نعايشه يوميا ،ونلتزم بها لتحسين وجه شارعنا بعيدا عن
اإلجراءات الزاجرة التي يحددها القانون؟ تلك اإلجراءات تأخذ وقتا و جهدا
من الجهات المسؤولة وقد يتمرد عليها األفراد بدعوى أنها ال تحقق
مصالحهم .أما القواعد التي يتفق المجتمع عليها بشكل ضمني لغرض
34
تحقيق المصلحة الجماعية كنظافة الشارع وتجميل وجه الحي أو المدينة
واالهتمام بالجانب النفسي لمن هم بحاجة للمساعدة ،وتنظيم حمالت
التوعية .كل هذه قواعد تدخل في حكم العرف العام بمجرد تكرارها وال
تأخذ جهد فئة دون أخرى ألن المجهود سيكون جماعيا كل من موقع
مسؤوليته ف النتيجة تكون لصالح الجميع ،ألن كل فرد يكون قد ساهم في
تقديم صورة إيجابية لشخصية يقدرها اآلخرون ممن حوله.
خرج عبد الناصر صحبة صديق له باكرا متوجها نحو المطار،
فاستمهله لتناول فنجان قهوة قبل مغادرة المدينة .توقفا أمام مقهى بشارع
ضيق يفضي إلى طريق المطار .وإذا بصديقه يهمس له ليجلب اهتمامه إلى
منظر أعجبه :شخص يكنس الشارع ،البسا كمامة ونظارة للوقاية من الغبار.
يلم ما تناله المكنسة في أكوام متقاربة ،وما لبث أن اختفى للحظات
كان ّ
قبل أن يعود في سيارة خاصة من النوع الذي يخصص لنقل البضائع .عليها
قطع بالستيكية بحجم يغطي المكان المخصص للشحن .بدأ يجمع األكوام
يحملها ويشحنها في سيارته حتى أتم عمله على مسافة تقارب المائتي متر،
ثم انصرف .كان عبد الناصر وصديقه قد شربا قهوتهما دون إبطاء اعتبارا
لضيق الوقت .فواصال طريقهما إذ بادره صديقه قائال - :أرأيت؟ إن الرجل
الذي كان يكنس الشارع أستاذي وقد أحيل للتقاعد االختياري من التدريس
بكلية طب العيون .وبدأ يسرد على مسمعه نوادر ما كان يعرف عن أستاذه...
35
ظل عبد الناصر يجيب صديقه عن نقله تلك الصور ،باإليماء أكثر من مرة
ّ
قبل أن يسأله - :ما الفرق بين الخدمة التي يقدمها الطبيب من نفس
تخصصك والعامل الذي يكنس الشارع؟ ضحك الصديق –الطبيب -ثم
أردف -عرفت ما ترمي إليه يا عبد الناصر .أعتقد أن ذاك العامل يجنبني
اإلصابة بالمرض بينما يعالجني الطبيب بعد مرضي...وبالتالي فمهمة كل
فنكن احتراما لكليهما على قدر سواء.
منهما ذات قيمة علينا أن ندركها ّ
أليس هذا ما تريدني أن أقوله؟ قال - :بارك اهلل فطنتك و فكرك .ولما كانا
قد وصلنا إلى وجهتهما لم يجدا من الوقت ما يتسع لمواصلة الحديث .و ّدع
عبد الناصر صديقه شاكرا وهو يتوجه نحو بوابة التسجيل.
أخذني شعور باالرتياح طوال ما استغرقته من زمن في قراءة هذه
القصة .كانت تجول في مخيّلتي صورة أستاذ األطباء يسهم بما يستطيع في
يمر أمام بيته ،فيتزايد في فكري تقدير مثل هذه نظافة الشارع الذي ّ
الشخصية ويغمرني االعتزاز بأن أتعلّم في العطاء درسا جديدا من قصة قصيرة
كهذه ،تصور لي واقعا يعيشه الناس في احترام أنفسهم باحترام بيئتهم.
وقبل أن أختم هذا الفصل وددت أن أنقل ما نشر على صفحات
األنترنت من مقاالت تهمنا جميعا [ يعتبر يوم 18فبراير يوما وطنيا للسالمة
الطرقية وقد خلد هذه السنة تحت شعار ” لنغير سلوكنا ” الشيء الذي أتاح
الفرصة للمتدخلين والفاعلين ابتداء من أول شهر فبراير لتنظيم مجموعة من
36
التظاهرات وتنشيط عمليات حول السالمة الطرقية .وتجدر اإلشارة إلى أنه
تم توجيه نداء إلى السلطات العمومية والمحلية ووسائل اإلعالم وفعاليات
المجتمع المدني قصد التعبئة والمساهمة في المجهودات المبذولة من أجل
تكريس الوعي الجماعي بضرورة إحداث تغيير في سلوك السائقين ومستعملي
()2
الطرق ...عدد كبير من القتلى والجرحى وتشريد عدد من األسر]
يحسه من يفقد عزيزا عليه في حادثة سير أو ما تكون
لنتصور ما ّ
عليه حال من أصيب بجروح خلفت إعاقة بجسده .و ال يحتاج تغيير السلوك
تعود السائقون
التدرب عليه ليصبح جزءا من عاداتنا؛ تماما كما ّ
أكثر من ّ
ربط حزام المقعد.
2
http://www.oujdacity.net/regional-article-889-ar/
37
الفصل الثالث
ال ّتــوا ُ
صــــل
38
بينها ...في وضع كهذا ،سيتوقف التمثيل الضوئي ألن خاليا النبتة لن تعطي
معلومة تدل على حاجتها لعنصر خارجي ،ولن يكون تفاعل كيميائي وال تبادل
بيني ،ولن يكون هناك تلقيح ،وبالتالي لن تثمر األشجار وال األعشاب
الصغيرة تعطي بذورا – هذا إن بقيت حية – وبموت النباتات لن يتوفر الغذاء
لبقية الكائنات األخرى مما سيسبب توقف الحياة .وإن ارتقينا بالتواصل
قليال إلى عالم الحشرات ،أو األسماك ،أو الطيور أو الثدييات .فسيحدث
كل متكامل متناغم .واإلنسان أه ّم عنصر
نفس التوقف ألن البيئة الطبيعية ّ
من عناصر الطبيعة ،مخلوق ليعيش مؤثرا فيها أو متأثرا بما يحدث فيها.
اإلنسان؛ هذا الكائن العجيب بقدرته على التفكير ومهارته
في تسخير عناصر محيطه ،من استغالل الطاقة في كل صورها لسبر أغوار
وطي المسافات البعيدة ،وتدوير عجلة الحضارة
البحار وركوب متن الرياحّ ،
الحالية بما لها وما عليها .كل ما نعرفه من قدراته ومهاراته وعلومه؛ أساسه
تواصل بين أنسجة جسمه وجهازه العصبي عموما ،وبين حواسه الخمس
ودماغه على وجه الخصوص .وال يمكننا تصور إنسان بدون تواصل! ذلك
أن من حرم نعمة الحس السمعي أو الحس البصري ،أو فقدهما معا ،يتواصل
عن طريق باقي الحواس .حتى إن بعض المدارس الطبية اعتبرت من فقد
التواصل مع العالم لمدة طويلة نسبيا [ميتا سريريا] .إذن ما حياة اإلنسان إال
تواصل.
39
-3التواصل أصل الحياة
شهد العقدان األوالن من هذا القرن تسارعا في تطور بحوث
علوم الحياة [ ]biologieويتفق كل الباحثين في نتائج ما توصلوا إليه
على أن بداية الحياة كانت في لحظة ما؛ حيث حصل أول تواصل بين عناصر
فكونت نظاما ( (systèmeداخل محيط مهيّئ [ بأمر المبدع تجمعت ّّ
الخالّق] .وجعلت منه شيئا قادرا على النمو والتكاثر المنظم الذي يولّد
وتفرد كل مولود
شبيه المماثل لألصل في شكله ( الهيئة العامة للشكل )ّ ،
ال ّ
بفرق أو فروق خاصة تختلف عن ذلك األصل .ثم بدأت تحدث اختالفات
تنوع وظهور فصائل وأجناس تعددت شعبها حتى أصبحت في تمثلت في ّ
تباين يكاد يؤكد االنفصال التام عن األصل البدائي...غير أن كل التطورات؛
ما كانت لتحدث دون تواصل .وأكثر ما يهمنا في هذا المبحث هو الدماغ
البشري الذي استمر في التطور إلى أن وصل مرحلة ابتكر فيها وسائل
للتواصل ،غيّرت جوانب عدة من حياته وأثرت في محيطه وبيئته.
لن ندخل في تفاصيل تبعدنا عن القصد أكثر مما نريدها أن
تقربنا منه ،بل سيترّكز اهتمامنا حول عملية التواصل مع العالم الخارجي بعد
ّ
إطاللة بسيطة على العمليات التي تحدث داخل الدماغ وفي باقي أعضاء
الجسم البشري وقت دخول إشارة عن طريق إحدى الحواس ،وما يتلوها من
تسلسل تفاعلي حتى يترجم نتاجها لشيء قابل لإلدراك أو القياس.
40
لنبدأ بعملية اإلبصار مثال :فحاسة البصر هي العين وهي أداة
متخصصة تسمح بدخول معلومات من العالم الخارجي نحو الدماغ؛ وحتى
تؤدي مهمتها ،تشترط في الخارج وجود الشيء المحسوس وهو الضوء،
والوسط الشفاف ،والشيء المنظور .وتشترط في الداخل سالمة أجزاء العين،
والعصب الناقل للحس ،ومركزا عصبيا لترجمة الحس إلى شيء يفهمه الدماغ
ليعطي في النتيجة ما يجعلنا ندرك صورة الشيء المنظور .وإن نحن تأملنا
ما يحدث من تحويالت في هذه العملية سنجد أن العناصر المشترط
وجودها سواء في الداخل أو في الخارج تختلف من حيث خصائصها في
تكوينها ومن حيث وظيفتها؛ إذ أن الضوء ال يصل إلى مركز الحس على
حالته الفيزيائية ،وإال ما كانت الحاجة للعصب الناقل! وعملية اإلبصار
تعتمد على لون الضوء وشدته وزاوية انعكاسه كما تعتمد على طبيعة الشيء
المنظور وشكله وموقعه في مجال الرؤيا وبعده عن العين وحالة سكونه أو
تحركه في المكان ...ونوجز حديثنا في أن الضوء يحمل معلومات كثيرةّ
(الشكل واللون واألبعاد وتباين المساحة) ،يدخل العين بسرعة 300مليون
متر في الثانية من البؤبؤ فيعبر مادة العين ليسقط على غشاء الشبكية (la
ويتحول إلى إشارة عصبية [ influx
ّ ) ،rétineفيؤثر في خالياها
]nerveuxتنتقل في العصب البصري) (nerf optiqueبسرعة
111متر في الثانية ،لتصل إلى المنطقة الخلفية القفوية (lobe
41
) occipitalحيث مركز اإلبصار يصدر إشارة أخرى ،تعمم في ما يشبه
سيال يجتاح القشرة الدماغية ) (cortexفي اتجاه ما يعرف بالفص
الجبهي ) (lobe frontalوهو نهاية المطاف الذي تتكون فيه الصورة
في الدماغ .ومن الفص الجبهي تنتج إشارة أخرى ترتد لمركز متخصص
يعطيها معنى :فإن كانت الصورة تمثل خطرا يهدد الحياة ،تحدث تفاعالت
تهيئ الجسم للدخول في حالة مواجهة أو هروب ،وإن كانت صورة منظر
جميل ،تحدث تفاعالت تعطي الشعور باالرتياح وإن كانت صورة فاكهة تثير
االستعداد لألكل وهكذا نجد الجسم يتواصل فيما بين أعضائه ليتحرك في
اتجاه ما ،أو يستعد لحدث ما ،حسب ما يستدعي كل موقف من عمليات
تناسبه طبيعة وح ّدة وسرعة ،قبل أن ندرك بوعينا الكامل كل مراحل التحوالت
والتفاعالت التي تحدث مئات اآلالف من المرات في اليوم الواحد .نحن
إذن أمام حالة من التواصل المستمر في الداخل بين أعضاء جسمنا وفي
الخارج بين أجسامنا والمحيط الذي نعيش فيه!
كانت هذه إطاللة بسيطة على التواصل الذي به نستطيع اإلبصار.
ونمر إلى حالة تواصل أخرى في العالم
ومع أنها جد موجزة ،فسنكتفي بها ّ
الخارجي .
عرف اإلنسان أهمية النحل منذ القدم واستفاد من إنتاجه للعسل،
وفي الثقافات معظمها صور جميلة لهذه الحشرة النافعة .من األمور التي
42
استرعت انتباه األقدمين قبلنا؛ تواصل النحل فيما بين أفراد مملكته .يقوم
بحركات معينة ليخبر الخلية عن مكان الزهور بطريقة خاصة تختلف عن
الحركة التي يخبرهم بها عن مكان الماء! وما يقال في النحل يقال في مملكة
النمل وغيرها من الكائنات المشابهة في تكوينها لمجتمع منظم يقوم بأعمال
تلبي له ضروريات حياته وتحفظ نوعه.
-4وسائل التواصل
تدخل في عملية التواصل مجموعة من العناصر:
.1مضمون المرسل:
وهو المراد به إعطاء صورة أقرب ما تكون مطابقة للمعلومة التي
يراد تبليغها للمستقبل [المرسل إليه]؛ وقد يكون المضمون هو المؤثر
مباشرة في المستقبل مثلما نجد في التواصل بين أعضاء الجسم في الجهاز
المناعي أو الغدد الصماء ،أو يكون إشارة من نوع خاص تحتاج إلى تحويل
كما في الجهاز العصبي ،أو حركة ذات داللة يفهمها المستقبل.
.2الرسالة:
تتضمن المضمون ،أو مجموع المضامين المراد تبليغها ،ويعبّـر ّ
عنها برموز تحمل معاني [مش ّفرة] .كالمادة الكيميائية التي تضعها النملة في
مسارها وهي تتحرك ،أو اإلشارات التي تتبادلها الحواسيب [ digital
،] messagesأو الرسائل المكتوبة بلغة معينة – تحتاج فهما للغة
43
الحاملة للمعنى – أو كاإلشارات التي تنقل األخبار من القنوات اإلذاعية
والمرئية؛ تلك رسائل مرمزة أو مش ّفرة في أمواج كهرومغناطيسية ال تعطي
معنى مالم يكن الجهاز المستقبل مزودا بكاشف لرموز اإلشارة المرسلة.
.3أداة اإلرسال:
لبث المعلومة إلى خارج النظام
وهي الوسيلة التي يعبـر بها ّ
المرسل .فهي ّتويجات الزهور التي ترسل حبيبات اللقاح ،أو الحويصالت
الفارزة للمواد البيوكيميائية لدى كثير من الكائنات الحية الدنيا ،أو الجهاز
الصوتي لدى الطيور والثدييات ،وقد تكون األداة عضوا من الجسم كما لدى
اإلنسان :اإليماءة بالرأس أو الغمز بالعين أو إشارة اليد لمن يحيي أو يو ّدع.
.4الوسط الحامل:
والبرمائيات ،داخل
تتصل معظم األعشاب المائية واألسماك ّ
وسط يسمح بانتقال رسائلها مسافات ،وهو محيطها الذي فيه تعيش وفيه
تتواصل وفيه تتوالد؛ مما يجعل الماء وسطا حامال يسمح بالتواصل .كذلك
البرية ،يعتبر وسطا حامال لألصوات والروائح
هو الهواء بالنسبة للكائنات ّ
وحبيبات اللقاح...
.5أداة االستقبال:
هي الوسيلة أو العضو المتخصص ،الذي به تستقبل المعلومة من
خارج النظام المرسل إليه .فهي األذن لإلشارات الصوتية ،والعين للصور،
44
والمجسات المختلفة عند الكائنات الصغيرة ،والهوائيات
ّ واألنف للروائح
ألجهزة االتصاالت.
.6أداة كشف المضمون:
تحتاج كل رسالة إلى وسيلة تكشف ما بها من رموز تترجمها إلى
معنى يدل على ما أريد تبليغه؛ فالرسائل المكتوبة تتطلب من مستقبلها أن
يكون قارئا للغة التي كتبت فيها ومثلها الرسائل الصوتية ،إذ ال يكفي أن
تسمع لتفهم .بل على المستمع أن يفهم المنطوق! والرسائل البيوكيميائية
تحتاج لجهاز متخصص في كشف المحتوى ولذلك ال تستجيب فصيلة
نباتية إال لما يرد عليها من فصيلتها وال تفهم العناكب رسائل الفراشات،
مثلما ال يكشف الهاتف المحمول رسائل البرقيات إال إن تم تزويده بجهاز
خاص بالبرقيات.
وحتى نفهم بوضوح تخصص األعضاء في وظيفة كشف
المضمون؛ نورد مثال من واقع الحياة :شخص أصيب بضربة خفيفة على
إحدى عينيه ،فوصف ما أصيب به كأنه رأى نجوما في ظالم لحظة اإلصابة.
هذا إحساس طبيعي ألن العين خلقت لترى وليس لتستقبل الضربات ،وقد
ترجمت العين ما وصلها من ضغط إلى إشارة مرئية .ولو كانت الضربة على
األذن لترجمتها إلى إشارة صوتية مسموعة [طنين].
45
-5التواصل البشري
تحدثنا فيما تق ّدم عن التواصل بين الكائنات الحية في عمومها،
والبد لنا من تخصيص الحيز األهم للتواصل البشري ،ألنه من أرقى صور
تفاعالت اإلنسان مع نفسه ومع أشباهه! من المفكرين من يرى اإلنسان سيد
الطبيعة ،ومنهم من يراه لغزها األكبر .وسنتطرق لتواصله مع غيره من النــاس
– وسنسميهم [اآلخر] -بعد أن نطــل على تواصله مع الطبيعــة التي هــو
أحســن عنــاصرها – فيما نعتقد – لنرى كيف يتفاعل مع نفسه ومع اآلخر.
التواصل البشري أكثر تعقيدا مما نتصور؛ لتفاعله وتداخله مع
مجاالت أخرى واعتماده على مهارات اللفظ ،سواء في اللغة السائدة أو
اللهجات المحكية ،باعتماد النسق ومتغيرات ما وراء-اللغة كنبرة الصوت
ومخارج الحروف وإرادة الشخص مشاركة األفكار واألحاسيس مع من حوله،
ناهيك عن خصائص أخرى تتعلق بما هو غير لفظي من تواصل بصري،
وتعابير الوجه ،وطريقة المصافحة ،وشكليات حركية تصاحب ذكر األسماء.
أول فعل يقوم به اإلنسان منذ الشهور األولى من حياته بعد بحثه
يتجسد في محاولته استكشاف حواسه ،وما
عن ثدي األم ودفء حضنهاّ ،
حوله ومن حوله ،وكل ما يشعر به يظهر في ابتسامته أو بكائه ،وتلك وسيلته
األولى يرسل بها إشارات لمن يقومون على شأنه ،يعبّر بها عن رغباته ورفضه.
يمر بعد ذلك
ثم يبدأ باالستئناس إلى وجه أمه وإلى لمساتها ألجزاء جسمهّ ،
46
إلى مرحلة يحاول فيها لمس األشياء وتذوقها فيبدو وكأنه أصبح يملك أداة
للقياس يعرض عليها كل شيء تطاله يده .فيبدأ في محاكاة اآلخرين في
التعبير عن فرحهم وغضبهم وشجاراتهم ومجامالتهم بما يستطيع من أصوات
وحركات.
وتعلّمنا البحوث الحديثة أن بوادر تعلم اللغة تبدأ في مرحلة ما
قبل الوالدة ،إال أننا لن ندخل في مثل هذه التفاصيل اختصارا للحديث.
ونمر لمرحلة ما بعد تعلّم المشي حيث يقدم الطفل على مغامرات لم تكن
ّ
في الحسبان ،أولها أنه متى وجد فرصة االنفالت من رقابة من يسهرون على
تنشئته ،يبدأ السير على غير هدى إلى حيث يقوده فضوله البدائي ناسيا لعبه
الجميلة ،وشعر الدمية الناعم الذي ألف نتفه مرة ومرة مالمسته برفق ،ألنه
ال يعرف شيئا عن األخطار وال عن التّعب .كل ما يهمه أن يستكشف ما
حوله .تأتي بعدها مرحلة االتصال بأشباهه متى ألحقه أهله بأحد رياض
األطفال – لمن لديهم إمكانيات – أما في ما عدا ذلك فسيعرف أشباها له
الروض ،يبدأ مسار التنشئة االجتماعية
في الحيز الذي يسكنه أهله .وفي ّ
يأخذ منحى أخر؛ بدخول أشخاص أخرين على خط التواصل يعرضون عليه
لعبا أخرى ،ونمطا من الحياة الجماعية المتناغمة ،ويعلمونه األناشيد التي ال
يفهم لها داللة .ثم تأتي مرحلة تالية تقربه من المعرفة بفصول السنة وما فيها
فتتكون لديه أسئلة يفضي ببعضها ويحتفظ بأخرى نتيجة الحدود
من تقلباتّ .
47
التي تعلمها من محيطه .وال يعني هذا أنه لم يكن يتساءل في سابق عهده
بالحياة ،لكننا نرّكز على األسئلة التي تهم تواصله مع العوالم األخرى
كالنباتات والطيور وغيرها .فمن فضوله؛ كم لعبة كسر ليعرف كيف تتحرك،
مزق كتابا وعبث بأشياء ثمينة ...كل ذلك كان منبعه أسئلة داخلية لم
وكم ّ
مهما للقيام بما فعل بعيدا عن أنظار
يفض بها ألحد ،فش ّكلت لديه دافعا ّ
الرقابة!
ونشأ صاحبنا على ما أنشئ عليه من قيم وعادات ومعتقدات
ليست له؛ بل هي أشياء تعلم معظمها ممن حوله ،أضاف لها حصيلة تجاربه
الخاصة ،وخرج بها على عالم سيرتبط فيه مع اآلخرين بعالقات تختلف عن
عالقاته بمحيطه األسري .وهنا سيمتحن فيما اكتسب من مهارات ودراية
بعملية التواصل البشري...
-6أهداف التواصل
عرفنا أن التواصل ضرورة ،وليس خيارا في معظم حاالته ومواقفه.
فسالمة صحة اإلنسان النفسية تقاس بطريقة تعامله مع اآلخرين :كيف
يستقبل كالمهم وكيف ير ّد عليه ،وكيف يفهم إشاراتهم وما يعبّر عنه من تأثر
بها ،وبمدى إقدامه على مشاطرتهم المشاعر تجاه موقف مرح أو موقف
يلم بمن حوله .وكيف يبدي رأيه ويدلي بحجته لغيره.
حزن ّ
48
لعل أهم األهداف التي يضطر فيها الفرد للتواصل تكون انطالقا
من حاجاته؛ ونبدأ من أدناها حسب التدرج الذي وضع هرمه "مازلو
" Maslowوتمثل قاعدته الحاجات البيولوجية .فحين يكون الشخص
ملحة إلى الماء ،يشير بيده إلى فمه أمام أي شخص لديه ماء،
في حاجة ّ
ليعبر له عما يشعر به من عطش بما هو غير لفظي [إشارة] يفهمها كل البشر
على اختالف لغاتهم وثقافاتهم .والهدف هنا هو التعبير عن حاجة بيولوجية
تحفظ الحياة .ثم نرتقي هرم الحاجات فنجد اإلنسان بحاجة إلى األمن،
وهي حاجة ستجعله يسلك كل سبيل ليوصل طلبه إلى اآلخر ولو بطريقة غير
مباشرة كأن يقترب من شخص ويق ّدم نفسه إليه ،يحدثه ليستأنس بوجوده
بالتفرد في جو ينقصه األمن .وإن ارتقينا قليال نجد
معه فيتخلص من الشعور ّ
هدفا آخر يتمثل في تقديم معلومات ليبرهن على ما لديه من رصيد معرفي
حول قضية أو موقف ما (وتصحب هذا الهدف رغبة في اكتساب تقدير
الغير وهو هدف آخر في حد ذاته) ،ثم باقترابنا من قمة الهرم نصل إلى
تحقيق الذات كهدف للتواصل مع الجماعة.
وتبدو مالحظة -ال نريدها أن تفوتنا -حول اختالف كيفية التواصل
في المراحل السابقة؛ ذلك أن الوسيلة التي يعبّر بها عن الحاجات الدنيا
ليست نفسها لدى التعبير عن حاجة أرقى ،فالنسق مختلف والمتلقي للرسالة
49
والرد المنشود ليس نفسه في كل الحاالت .هذا يبرز ضرورة
أيضا يختلفّ ،
تقدير من سيستقبل المعلومة سواء أكانت عرضا أو طلبا.
فإن نحن اعتمدنا التواصل اللفظي ،سنواجه تحديات يفرضها
اختالف اللهجات لدى تواصلنا مع اآلخر في لغته األم .إذ ليس كل الناس
يتحدثون اللغة الرسمية في بلدهم ،بل يتح ّدثون لهجات تتباين صلتها باللغة
الرسمية بعدا واقترابا ،وكثيرا ما تحتوي اللهجة على ألفاظ دخيلة من دول
الجوار – مثال ال حصرا :عبارة "خوش" من لغة األوردو المحشورة في اللهجة
المحكية في العراق ،وعبارة "كوزينة" الفرنسية المحشورة في لهجات شمال
إفريقيا – واألمثلة كثيرة .ثم إن معظم الدول التي تسمي نفسها باسم اللغة
ال يتحدث مواطنوها تلك اللغة بل يتحدثون لهجات .فنجد فرنسا تسمى
باسم اللغة الرسمية لكن الزائر الذي أتقن اللغة قبل السفر إلى هذا البلد،
ط استغراب من المواطنين الفرنسيين وهو يتحدث لغة
سيجد نفسه مح ّ
مضبوطة بقواعد تتطلب من أهلها االستعانة بقاموس (أو بترجمان) ليفهموا
ما يقوله ذاك السائح العربي أو الهندي أو الصيني الذي يتقن لغتهم أكثر
مما يتقنونها وهم أهل البلد .وما يقال في فرنسا يقال في ألمانيا وإنجلترا
وغيرها؛ ففي المكسيك ما يفوق ثالثين لهجة مختلفة وأكثر من خمسين
لهجة في الصين ،وعددها يفوق الثمانين في الفيلبين وفي الهند ما يقارب
الستين لهجة مختلفة .مما يش ّكل تح ّد أمام من يسافر لغرض دراسة أو جمع
50
يتجسد ذاك
ّ معلومات حول ظاهرة ،أو عمل يتصل بالشأن االجتماعي؛
التح ّدي في كثرة متغيرات التواصل مع عموم مواطنين مختلفين فيما بينهم
في التعبير عن المضمون وفي فهمهم للهجاتهم حتى إنهم يلجؤون لتعابير
غير اللفظية الستكمال النقص الداللي .لذا ينصح الدارسون السائح أو الزائر
عموما أن يختار كلمات بسيطة ،ويتأكد من نطقها السليم ،ويتفادى لغة
الشارع الجهوية كي يكون مفهوما لدى العامة في أي بلد.
-7متغيرات التواصل الثقافية
وإن عدنا ألسلوب التواصل غير اللفظي ،تواجهنا مشكلة الثقافة
المحلية وما لها من أثر في معنى ما يعبّر عنه من محتوى .ولنأخذ المثل
الصارخ لحركة الرأس التي نشير بها لرفض شيئ أو موقف أو نفي بما تدل
عليه عبارة "ال" .تلك حركة تعني القبول والموافقة بما تدل عليه عبارة "نعم"
لدى الشعب الهندي .وحركة تقدير السيدات التي نرى شعوب الغرب
يقومون بها بتقبيل يد المرأة ،حركة مرفوضة في الوطن العربي وفي كثير من
دول العالم! ثم كيفية استهالل الحديث مع العامة في دول العالم الثالث
حيث يبدأ المتح ّدث بالسؤال عن أحوال العائلة قبل السؤال عن الصحة
ليخلق جوا من الثقة ،يسهل محادثة مفتوحة ،ويشجع على تبادل معلومات
مهمة حول الصحة(.وهو أسلوب ينصح به الموفدون من األطباء والمعالجين
حين يتم بعثهم في مهمات إنسانية إلى الخارج) .بينما نجد أن مجموعات
51
المرات التي يسأل فيها المتح ّدث المستمع عن زوجته؛
بشرية تق ّدر تعداد ّ
متكررا كثيرا يزداد تقدير السامع واحترامه للمتح ّدث.
فكلما كان السؤال ّ
ومن متغيرات الثقافات اعتماد اللمس كوسيلة غير لفظية للتواصل ،واحترام
المسافات في جلسات الجماعة اإلتنية :مثل الجلوس في موقع مقابل
للمكان الذي يجلس فيه الشخص المحترم (رأس الجماعة) .والمحافظة
على االتصال البصري في وضع معيّن بما يبدي سمة ارتسام التقدير دون
إطالة النظرات الفاحصة واحترام المسنّين ،واحترام الطبقة االجتماعية
للمخاطبين ،وألن – االتصال البصري – يحتمل تأويالت متباينة في النسق
الثقافي .إذ يمكن أن يفي تعبير الوجه باالتصال الجيد ،مع تفضيالت التحية
بلغة الحركات وبحركات جسمية تختلف حسب ثقافة الجماعة اإلتنية
المضيفة للسائح أو الزائر بوجه عام.
من بعض ما كتبته لي صديقة؛ أنها حضرت مأدبة عشاء " نعي" عند
عائلة مرموقة ،فقدت عزيزا لها ،وعند خروجها من المكان حيث أقيمت
المأدبة ،كانت يشيّعها إحدى قريبات الهالك وهي شخصية رفيعة المكانة.
وحسب العادة يقال للمشيّع " اهلل يجعل المحبة صبر" بلهجتنا المغربية
المحكية داللة على دعاء أن [ يب ّدل اهلل محبتكم للهالك صبرا (على فراقه)]
لكن صاحبتنا لم تنتبه وهي تقول للمشيّعة" :اهلل يخلف" وتعني دعاء أن [
يعوض اهلل عليكم (بما أكرمتمونا)] فصاحت المشيّعة في وجه صاحبتنا مؤنبة
ّ
52
لها وواصفة إياها بقليلة األدب (أثر العرف الثقافي أعمق من المستوى
التعليمي) .بما أحدثه هذا الموقف من حرج في عملية اتصال شخصية ،يبيّن
ما للثقافة من أثر في استقبال رسالة المتح ّدث .فبمقارنة الرسالتين [ :يب ّدل
و[يعوض اهلل عليكم (بما ّ اهلل محبتكم للهالك صبرا (على فراقه)]
أكرمتمونا)] نجد أن األولى تناسب الموقف السائد وهو الحزن بينما الثانية
تقلل من شأن حالة الحزن وتخبرنا ضمنيا بأن هناك كرم ضيافة ،وهذا ما
التعرف عادات وأعراف المستقبل إن
سبب اإلحراج .نقف هنا أمام ضرورة ّ
أردنا أن نتواصل معه بصورة جيدة تجنّبنا الفشل في عملية التواصل .ويحضرنا
في هذا السياق مثل مشهور "أهل مكة أدرى بشعابها" والمقصود به؛ أن
الزائر ،يكسبك الكثير في االتصال بالناس،
وجود ابن البلد معك وأنت ّ
بحيث يسهل عليهم التقرب منك ويختصر عليهم التساؤالت الكثيرة حول
وجودك في مناسبة أو في جلسة جماعية .فابن البلد أدرى بأعرافها وما يليق
وماال يستساغ من سلوكات قد تصدر عن الغريب في صورة تسيء -دون
قصد – للجماعة في تعارضها مع ما هو مألوف ومتعارف عليه .إذن ،ال ب ّد
من معرفة بما يجب االلتزام به في التواصل الجماعي وهذا ما يصطلح عليه
بـ "مهارات التواصل".
53
-8مهارة التواصل مع الجماعة
وقوفنا أمام الجماعة يمثّل مرحلة من تواصـ ــلنا معها ،فكل فرد فيها شـ ــخص
كامل األهلية ليرى درجة اإلنارة ،واتسـ ـ ـ ــاع الفضـ ـ ـ ــاء ،وديكور المكان الذي
نحن فيه ،والمظهر الذي نحن عليه (أناقة اللباس ،الوقفة ،التوازن ،)...منذ
أول لحظة للوقوف ،تبدأ مرحلة انتظار ما س ـ ــنعرض ـ ــه عليه من ص ـ ــور .وأول
صــورة تتمثل فيما ســنبدأ به من ســلوك (طريقة تحية الجمهور ،حركة الجسـم
– جلوس أم وقوف -ارتبــاك أم طالقــة وارتيــاح )...وكلمــا طــالــت مرحلــة
االنتظار ،تدخلت عوامل أخرى في جو االتصـ ـ ـ ـ ــال (يأخذ الحاضـ ـ ـ ـ ــرون في
التحدث إلى بعض ـ ـ ـ ـ ــهم في ثنائيات[ ،]Diadesيخلقون محورا للحديث
يخفف مــا يش ـ ـ ـ ـ ــعرون بــه من ض ـ ـ ـ ـ ــغط االنتظــار .)...علينــا أن نراعي هــذه
االعتبارات قبل كل اجتماع أو إلقاء محاضرة أو مخاطبة للعموم.
اإللقاء التفاعلي
54
بمعنى أن نخلق جوا من التزامن في تتبّع حلقــات مــا يـلقى بين المتح ـ ّدث
والمتل ّقين ،وتكوين رابط تفاعلي بإشـراك الجمهور في عملية توضـيح الفكرة
قبل االنتقال إلى الفكرة التي تليها ،دون إغفال عملية الضبط الزمني للعودة
إلى حبل األفكار الرئيسـ ــي في موضـ ــوع اإللقاء .مع مراعاة عناصـ ــر نجمعها
لمن يريد تذ ّكرها بسرعة في عبارة [ح ي ل]:
-1الحيوية
يمر بما
يجب أن يعطي المتحدث حياة لموضوعه تجعل المتل ّقي ّ
يشبه الدهشة وهو يسمع الجديد عن أشياء مألوفة لديه قلما ينتبه لها
الناس وهي ذات عالقة بما يلقى في هذه المحاضرة .ثم إن التعبير
الجسدي للمحاضر يمحو الرتابة ويضفي على اإللقاء طابعا حركيا ينسيه
ثقل الزمن.
-2اإليمان
أن يكون من يعرض األفك ــار مؤمن ــا به ــا واثق ــا من ج ــدواه ــا ،ومن
أهميتها في حياة العامة ممن يس ــتمعون لما يقول .مما يس ـ ّـهل اس ــتيعابها من
المتل ّقين ويشـ ـ ـ ّد انتباههم ويذكي تش ـ ـ ّـوقهم لما يرد من تفاص ـ ــيل في اإللقاء.
فمن يلقي محاض ـ ـ ـ ـ ــرة في القانون وهو ال يؤمن بجدواه في تنظيم العالقات
البش ـ ـرية يقع في تناقضـ ــات تضـ ــطره للتوقف عند نقط شـ ــكلية ال قيمة لها.
على عكس من يؤمن بما يلقي إذ يبدو ثابت الخطى على مسـ ـ ـ ـ ــار الحديث
55
يؤسـ ـ ــس لما يقول انطالقا مما يعاش في الحياة اليومية فيظهر ضـ ـ ــرورة خلق
القاعدة القانونية لغرض الفصـ ــل في اإلشـ ــكال الحاصـ ــل في موقف تتعارض
فيه مصالح الناس فيما بينهم.
-3اإللمام
نقصد به أن يكون من يخاطب الجمهور على دراية وافية بالموضوع
ليتصــرف في حلقاته ،وينســق فيما بينها اســتدعاء لألفكار وصــبّها في قالب
تواصـ ـ ـ ــلي يقربها من المتلقي ويثير فيه اإلحسـ ـ ـ ــاس بأن لدى المحاضـ ـ ـ ــر ما
يضــيف إن تطلب الوضــع اســتفســارا أو توضــيحا .ثم إن التواصــل التفاعلي
يقتضـ ــي فتح مجال لألسـ ــئلة ،واإللمام بالموضـ ــوع يقوي الصـ ــلة بين الملقي
والمتل ّقي ويزّكي أهميــة الموض ـ ـ ـ ـ ــوع ويفتح آفــاقــا للمزيــد من حــب المعرفــة،
ويعطي فكرة عن درجة نجاح التواصــل فنعرف إن كانت الرســالة قد وصــلت
وكيف فهمها الجمهور بصورة عامة.
وال نرى المتحـ ّدث النــاجح إال ش ـ ـ ـ ـ ــخصـ ـ ـ ـ ـ ــا يحترم جمهوره ويقـ ّدر
تبث في
مس ـ ــؤوليته في تبليغ ما يقوله بتواض ـ ــع واتّزان ،يتّسـ ـ ـم بروح مش ـ ــرقة ّ
المتلقي نفحة الشـ ــعور بتقدير الذات وتوقظ في نفسـ ــه التشـ ـ ّـوق للمزيد من
المعرفــة .وردت نص ـ ـ ـ ـ ــوص وكتــابــات كثيرة حول مهــارات اإللقــاء في عــدة
ص ــفحات على الش ــبكة الدولية للمعلومات تحت اس ــم مهارات العرض(. )3
3
مهارات العرضhttps://ar.wikipedia.org/wiki/
56
ويرى بعض األســاتذة الجامعيين أن من صــفات المحاضــر الجيّد كما أوردها
األسـ ـ ــتاذ د .محمد الربيعي من جامعة دبلن ( )4في نص أقتطف منه... [ :
وص ــفات االس ــتاذ الجيد لهي أكثر من الص ــبر والمرونة والتعاطف واالحترام
وحل المش ــكالت وحس ــن الدعابة والموض ــوعية ،فهي تتض ــمن القدرة على
عرض المادة بصــورة واضــحة وبتســلســل منطقي ،وبجعل المادة ســهلة التتبع
وذات مغزى واض ـ ــح ،وأن تغطي المحاض ـ ــرة الموض ـ ــوع بص ـ ــورة كافية ،وأن
يكون المحاض ـ ــر بناءا وانتقاديا في عرض ـ ــه للمادة ،وأن يش ـ ــرح الموض ـ ــوع
بخبرة ومعرفة عالية وشـ ـ ـ ـ ــاملة وبسـ ـ ـ ـ ــرعة وبتركيز كافي ،وأن يقوم بتوضـ ـ ـ ـ ــيح
التطبيقات العملية للنظرية ،ويظهر حماس ــة واهتمام عالي بالموض ــوع ،ويولد
فضول عند الطالب في أول المحاضرة لالستمرار في االستماع]...
نخلص إلى أن احترام المحاضر للمتل ّقين يجعلهم يحبون ما يسمعون،
ويتشاطرون اإلحساس بالموضوع ،وبذلك يمكنهم التفاعل مع مضمون ما
علق بأذهانهم من أفكار مما تناوله المتح ّدث في محاضرته .ويتناسب
استيعاب الجمهور للمحتوى ،مع وضوح الصور الذهنية التي عرضت في
حلقات اإللقاء المتسلسل منطقيا متى تم التركيز على فواصل تذكيرية تسبق
االنتقال بالحديث من فكرة إلى فكرة أو عنصر إلى آخر من محاور
الموضوع .ويمكن للمتح ّدث الشعور بمدى نجاح تواصله بجمهوره من
4
صفات األستاذ الناجحwww.qahei.org/.../
57
خالل محتوى وعدد األسئلة التي تطرح بعد نهاية العرض مباشرة ،بالمقارنة
مع األسئلة المتولّدة من جو النقاش.
-9التواصل مع الذات
والتمرن عليه؛ تواصـ ــلنا
ّ من أصـ ــعب أوجه التواصـ ــل وأحوجنا لفهمه
مع ذواتنا .فنحن نعيش في عالم أول ما ننسـ ــى فيه ذواتنا ألسـ ــباب عديدة؛
منها تعقيد الحياة ،وتش ـ ـ ـ ّعب المسـ ـ ــالك فيها نتيجة التسـ ـ ــارع المطّرد لوتيرة
التفاعالت االجتماعية – وخاصــة في المدن الكبيرة – وضــغوط المتطلبات
تحول ماكان كماليا من الوسـ ـ ـ ـ ــائل إلى ضـ ـ ـ ـ ــروري ،وما يعرفه العالم من
التي ّ
تقلبات اقتصادية ،والدفق المعلوماتي الذي عرفته بداية هذا القرن...
من هنا كان ال بد للعلوم النفس ـ ـ ـ ـ ــية أن تتناول ما يطرأ على النفس
البشـ ـ ـ ـرية من تأثّر بما يجري في المحيط القريب ( العالقات األسـ ـ ـ ـرية )...
والمحيط المتوس ـ ـ ـ ـ ــط ( الحي ،المـ ــدينـ ــة )...والمحيط العـ ــام ( الوطن،
والعالم )..وتبحث عن تفسـ ــيرات للظواهر السـ ــلبية التي يعيشـ ــها العالم من
انتشار الجريمة والحروب واآلفات االجتماعية بصورة عامة.
ومنشأ كل تواصل بشري يبدأ انطالقا من الحوار مع الذات ،فالفرد
هو المرس ـ ــل للرس ـ ــائل وهو المس ـ ــتقبل لها ،دون إغفال ما يس ـ ــتقبله – عبر
حواسـ ـ ــه – من معلومات من المحيط الخارجي وهي تمثّل تشـ ـ ــويشـ ـ ــا على
التواص ــل الذاتي .لذلك نرى في معظم الحاالت أش ــخاص ــا ينزوون لحظات
58
ليخلو كل منهم إلى نفس ـ ـ ـ ـ ــه يخاطبها ويف ّكر فيما يريد اإلقدام عليه قبل أن
يتخذ قرارا حاسما بشأن ما يتناوله في نقاشه مع نفسه.
ومن أهم ما يحصل في التواصل الذاتي أن المتح ّدث يكون صادقا
مع المتلقي فهو نفس ـ ـ ـ ـ ـ ــه من يلوم وهو من يالم .وهو من عليــه أن يعرف
يعتز بها فتكون ص ـ ــورة ذاته إيجابية تح ّفزه ،وتدفعه نحو
حقيقة ذاته فإما أن ّ
التفاعالت المفيدة والنظرة المش ـ ـ ـ ــرقة ،أو يكره وجوده فتكون ص ـ ـ ـ ــورة ذاته
سلبية تدفعه إلى االنطواء واالستسالم لألفكار السوداوية .ويكون الشخص
في حالة تواصــله مع ذاته أكثر موضــوعية وهو يطبق على ذاته ســتارا ســميكا
من الس ـ ـ ّـرية ألنه ال يريد أن يعرف غيره ما يجري بداخله .وس ـ ــيلته لقياس ما
يتنــاولــه من معلومــات هو عقلــه ومرجعيتــه في تقــدير األمور تتعلق بتكوينــه
الشــخصــي ونظرته إلى العالم وفهمه لصــيرورة األشــياء واألحداث ومعتقداته
وطموحــه ،ومــا يؤمن بــه من حــدود لمعــارفــه .ثم إن التفــاعــل بين المرسـ ـ ـ ـ ـ ــل
والمستقبل في التواصل الذاتي يكون بسرعة فائقة قد تصل ح ّد التزامن بين
انبثاق الص ــورة الذهنية وأثر التغذية الرجعية ] [Feed backوكلما أطال
تعمقه في حالة تواصــله مع ذاته
تمعنه في فكرة معيّنة ،كلما ازداد ّ
الشــخص ّ
وأصبح محصنا من التشويش الخارجي.
من شروط التواصل الذاتي:
-1أن يخلو الشخص إلى نفسه (إقفال الهاتف)
59
-2في مكان آمن من األخطار
-3بعيدا عن الضوضاء واألصوات الحادة
ضل إغماض العينين)
أخف ما يمكن (يف ّ
-4تحت إنارة ّ
ضل أن تتراوح بين 24و 18درجة مئوية)
-5تحت حرارة معتدلة (يف ّ
قد ال تتوفّر هذه الشروط دائما لمن يريد التواصل مع ذاته .غير أنها
التمرن باس ــتمرار لمدة أس ــبوعين على األقل أو ثالثة ،قبل ظهور
تحتاج إلى ّ
نتيجة ترضي المستفيد.
وهنا أو ّد أن أذ ّكر من يريدون الدخول في اإليجابية ،أن الصـ ـ ــعوبات
التي تعترض طريقهم نحو أهدافهم ليســت موجودة بالفعل إال داخل ذواتهم
على وجه العموم .ألن التجربة أثبتت في العديد من الحاالت أن الشـ ـ ــخص
نفسه هو الذي يعطي اآلخر فرصة الحكم عليه بـ ـ ـ ـ ـ ـ [الفاشل] أو بالضعيف
أو بالذي لن يس ـ ـ ـ ـ ــتطيع فعل ما يريد ،لتبقى آماله مجرد أحالم بعيدة عن
واقعه! وغالبا ما يكون شعور الشخص في قرارة نفسه بنوع من الخجل حين
يق ّدم نفسه لآلخر؛ خوفا من أن يعتقد هذا اآلخر أن حالته تش ّكل عيبا عليه
أن يواريه عن اآلخرين كي ال يس ــخروا منه أو يص ــفونه بما يخش ــى أن يش ــاع
عنه في وسطه ...
60
الفصل الرابع
قد يبدو لنا هذا الموضوع غامضا جدا .بينما يجد آخرون جوابا
سهال ال يحتاج تفكيرا ،ويحكم فريق ثالث عليه بأنه [فلسفي] لن نخرج منه
بنتيجة عملية مفيدة (حسب نظرة الكثيرين ممن يخشون الخوض في البحث
ويركنون لما هو سائد من التفسيرات أو المقولبات االجتماعية).
إن أردنا فهم القليل عن ذواتنا من منظور شخصي لكل منا ،دعونا
ندخل تجربة يمكن أن يقوم بها األمي والحرفي ،والمتعلم والفقيه والعالم،
والمؤمن وغير المؤمن بالغيب على ح ّد سواء! وسنحترم لكل منا مكانته
ونظرته للعالم وموقفه مما يجري من أحداث في عموم الكون والحياة .ألننا
سنبدأ من نقطة ما في "التاريخ" سابقة لدخولنا حيز الوجود بما هو متعارف
عليه بين البشر؛ في هذه المرحلة ،لست ابنا وال بنتا ألحد وال أ ّما وال أبا
ألحد وال زوجا وال زوجة ألحد وال عدوا وال عدوة ألحد وال صديقا وال
صديقة ألحد ،ولست أعرف ما األلم وال ما الغضب وال الفرح وال ارتياح
61
وال التعب وال النفور .ولست أدري ما الظلم وال ما العدل ،وال ما الصدق
وال الكذب وال المجاملة وال النفاق! ...إنما سأتخذ لنفسي كيانا [مستقبال
يتفرج على الكائنات برمتها في تفاعالتها المختلفة وكلما
للمعلومات ال غير] ّ
احتجت إلدراك أو فهم لما أشاهد ،أستقيه من نفس الوسط الذي يحدث
أقرر في وقت ما [أصدر الحكم] أن
فيه الحدث [كوسيلة لإلدراك] .ثم ّ
أكون على الهيئة التي تعطي معنى لوجودي.
أوال :حتى أكون ذاك الكيان ،البد لي من موجد إذ لست من يوجد
نفسه من عدم.
ثانيا:زودني من أوجدني بقدرات وخصائص تبرز حين دخولي تحت تأثير
الزمن.
ثالثا :أنا لم أدخل بعد عالم أشباهي وإنما أتفرج على تصرفاتهم في
معلم الزمان والمكان.
رابعا :ال عالقة لي بالزمن إذ أنني لم أدخل بعد حيزه لتجري علي آثاره.
خامسا :متى قررت؛ تبدأ -بال تراجع -مسؤوليتي عما ينتج عن قراري.
من هذا المنطلق سنبدأ رحلتنا .ويظهر جليا أن المنظومة التي نسافر فيها
تتكون من ثالثة أصول:
-1الموجد الذي أوجدني وأوجد باقي الكائنات [فوق الطبيعة]
62
-2الكائنات بكل فصائلها وأنواعها واختالفها وعلى رأسها من
يشبهونني .وهو ما يسمى [الطبيعة] بكل ما فيها.
-3الكيان الذي ألبسه والذي سيسمى الحقا "أنا"
63
سهلة .بينما تبدو حنوات مسالك توازي مسار الماء ،يحفها غالف أعشاب
مزهرة من كل جانب.
قبيل الشروق بقليل ،سمع تحت خيمة من خيام القرية صوت تألم
أنثوي تاله بعد لحظة صراخ مولود بشري .ثم انبلج الصباح وبانت غير بعيد
ّ
من مكان الحدث ،هامة أنثوية تحمل شيئا فوق رأسها ،وتتجه نحو الخيمة
حتى وصلتها ،غير عابئة بنباح كلبين بدت إحدى ساكنات الخيمة تهدئهما
بصوت يعرفان داللته .استقبلت الواقفة أمام الخيمة ضيفتها القادمة بلفظ
كلمات ،وهي تأخذ منها الشيئ الذي كان على رأسها ،وتتبادالن لمس الخد
تكرر هو
للخ ّد ،ثم تدخالن معا ...وبعد لحظات ،توالى نفس الحدث ثم ّ
مرات عديدة ،حتى مضى اليوم إلى حيث تمضي األيام.
نفسه ّ
وبتصفحي لسجل المعاني لهذه القرية ،تعلّمت أنه كان يوم فرحة
بالمولود الجديد؛ وما كان توافد الهامات األنثوية إلى الخيمة إال تنفيذا لما
يمليه [العرف] في مادة المناسبات.
تسلّلت تحت الخيمة ألقترب من الجمع ،فوجدت شابة مم ّددة
يحرك ف ّكيه
[حي] ّ
على فراش من الصوف ،ومخلوق صغير يلصق فمه وهو ّ
بمكان بارز من صدرها وهي تلفه في غطاء وكأنها تواريه عن أنظار
الحاضرات .ومن سجل المعاني عرفت أنه يتغ ّذى [بالفطرة] من ثدي األم،
وهي تخفيه [حماية] له من أشياء ال أعرف عنها شيئا ،تبين لي فيما بعد أنها
64
مسجلة في قاموس [الغيبيات] الموروث .ثم سافرت مع نسمات األصيل
ّ
إلى حيث مشهد الشمس وهي تتوارى خلف التالل.
أخذت الدنيا تأخذ أشكالها لونا غير الذي ظلت عليه ،فبدت الزهور
تلم وريقاتها وتعالت أصوات الطير على قمم األشجار ،وأصوات أخرى تتر ّدد
ّ
في تمازج من صوب الجداول ،تعلّمت أنها نقيق الضفادع وأصوات
حشرات ،ثم مال لون الفضاء تدريجيا نحو السواد ليعطي معنى مقابال لما
يدل على النهار فعرفت "الليل".
ّ
تكررت الظاهرة مرات ومرات .فعدت إلى
وبعد الليل جاء النهار ثم ّ
يحرك رأسه نحو
حيث الخيمة وتسللت ألرى ما ج ّد فيها ،فوجدت المولود ّ
من يقتربون منه ويح ّرك أجزاء من وجهه مع شفتيه .تعلّمت أنه بدأ يعرف شيئا
مما حوله [محيطه] ويبتسم [تعبيرا]عن انبساط ومرح.
ولما عدت بعد عامين وجدت ذاك المخلوق يتحرك على قدميه،
وهو أكبر مما كان عليه؛ غير أن قطرات من ماء تهبط على خديه وقسامات
وجهه منقبضة وهو يصدر صوتا غريبا تعلّمت أنه البكاء وأن تلك القطرات
دموع [تعبيرا] عن استياء مما لحق به إذ حرموه الرضاعة إذ آل إلى س ّن
[موعد] الفطام.
عدت بعدها بثالثة أعوام أخرى فوجدت المخلوق أكبر وأهدى في
مشيه؛ يتبع أشباهه إلى حيث يسيرون وراء الخرفان ،يعبث بالزهور يجري،
65
يناديهم بعبارات يفهمونها ،يتحرك بانسجام وينطق بأصوات مرتبة تدل على
أشياء تعلّمت أنه [يلعب] وقد عرف [لغة] التخاطب.
وألني لم أكن مرتبطة وال مرتبطا بمكان وال بزمان ،كنت أجوب
أقرر أن أكون منهم؛ شهدت الكثير من
سأقرر أو ال ّ
القرى وتجمعات أشباه ّ
الصور المتشابهة التي تشترك في أوجه عديدة رّكزت على القادم منها أكثر.
حتى كان يوم بعد عقدين من الزمن عدت فيه إلى القرية أستطلع
حال المخلوق الذي بدأت رحلتي معه ،فوجدته في لباس زاهي المظهر وحوله
تعالت أهازيج وزغاريد؛ تعلّمت من سجل القرية أنه في مناسبة فرح ذات
[طقوس] خاصة ،وأنه مقبل على مغادرة خيمة أمه إلى خيمة سيسكنها مع
[زوجته] ليصبح أبا لمخلوق جديد بعد أن كان ابنا لمخلوق قبله.
وعشية نفس اليوم ،شاهدت جماعة يحملون مخلوقا مستورا بغطاء
حي ،ينطقون كالما موزونا وهم
ال يتحرك وال يتكلم وال شيئ يدل على أنه ّ
سائرون .لحقت بهم وسايرتهم إلى حيث يسيرون ،حتى أتوا مكانا بعيدا من
القرية ،فوضعوا الجسم الذي كانوا يحملونه في حفرة ور ّدوا عليه أحجارا
غمروها بالتراب ،وعادوا من حيث أتوا ...تعلّمت من سجل المعاني لديهم
تحول بفعل [الموت] إلى جثة ،وأنهمأن المخلوق الذي كانوا يحملون ّ
كرموه إذ [دفنوه] ألن تكريم الميت ال يكون إال بدفنه.
ّ
66
واستوقفتني حالة مثلها في مكان آخر لمخلوق لم يبلغ بعد عقده
األول حتى ظهرت عليه عالمات غريبة لم يعد يجري وال يلعب وال يبتسم.
بل وجدته مم ّددا على فراش وحوله أشخاص واجمون ،لم يطل بهم الحال
حتى أخذو يبكون بعد أن توقفت الحياة في جسم المخلوق الطريح ،تعلّمت
أن الموت أخذ منهم من كانوا يع ّدونه واحدا منهم .وشهدت طقوس توديع
تلك الجماعة ألحد أفرادها :أتوا بحطب كثير ورتبوه ،ووضعوا الجثة فوقه
وأطعموها للهب! وحين رجعت لسجل المعاني لدى هؤالء ،وجدت أن لديهم
[اعتقاد] في أن جثة المخلوق الذي و ّدعوه تستحق التقدير والتكريم
وعندهم تكريم األشياء يكون بتطهيرها ،وتطهير الجثة ال يكون بتركها لتتحلل
بل بحرقها.
وما أن مضت من القرن تسعة عقود ،حتى اطلعت على سجالت
معان كثيرة بعدد القرى والتجمعات البشرية التي كنت أجوب فضاءاتها وكنتم
معي في رحلتي ،فرأينا أن المخلوق يأتي إلى الوجود فيجد [الموت والحياة
في المحيط] ويمارس الحياة من لحظة ميالده حتى لحظة موته بين أشباهه
[ بإحساسه باآلخرين وبالتعبير والطقوس حسب العرف ،والعقيدة] .كل ذلك
يمثّل التفاعالت في األصل الثاني وهو الطبيعة ،وقد كانت جولتنا في أماكن
نتطرق لما
بسيطة بعيدا عن التعقيدات التي فرضتها الحضارة الحديثة ،ولم ّ
67
أحدثه التفاعل المنحرف من آثار على تلك القرى بتلويث المياه واألجواء
ونشر الضوضاء في سكونها وتشويه عاداتها ومحو تاريخها.
فهل سأقرر أن أكون ؟ بدون تر ّدد ،نعم سأقرر.
زودني بقدرات وجعلني قادرة أو قادرا
لماذا؟ -ألن من أوجدني ّ
على اكتشافها وتسخيرها فيما يعطني معنى داخل حيز الحقبة
الفاصلة بين لحظة ميالدي ولحظة موتي.
كيف أعطي معنى لذاتي؟
سأستمتع باإلحساس بأني كائن حي.
والدليل على حياتي أعطيه بنفس الصورة التي تعبّر به
الطبيعة عن وجودها :حركة – استمرار– تجديد –
شكل 4
تطور.
ّ
أما االتجاه الذي قررت أن آخذه فنحو اإليجابية مع كل نفس؛
لدي
يتكون ّأستنشق الهواء فأحس أنني أخذت شيئا من الحياة ومع كل زفير ّ
علي أن أعطي الحياة مقابل ما أخذت منها ،ألكون جديرة أو
إحساس بما ّ
ٌ
جديرا بالبقاء.
68
المرآة التي أرى على صفحتها الصورة المثلى ] [Iل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذاتي (شكل.)4
أقر به لنفسي – بال تر ّدد -من سمات كما
وما صورة الذات عندي ،إال ما ّ
هي بصدق وأمانة ،دون تفريط وال إفراط .وقيمة ذاتي لدي بما أستطيع نقده
منها للرقابة على سواء ما يصدر عنّي من تصرفات تجاه غيري ،وبمقدرتي
على كبح غروري.
ما معنى الغنى؟ -لغة نقول إن فالن غني؛ بمعنى أن ذاك الشخص،
لديه مال كثير! دعونا نرى مطابقة هذا المعنى لواقع الحال:
خرج أحد أغنياء البلد في رحلة مع صديق له إلى مدينة مراكش في
يوم ربيع جميل .ومن جمال األرض في حلتها المزهرة ،لم يعبأ أحدهما بمرور
الوقت إال بعد أن مالت الشمس للمغيب .وكانا في منطقة تبعد عن المدينة
69
محرك سيارته ،لم يستجب هم الغني بتشغيل ّ بحوالي 25كيلومتر .ولما ّ
المحرك لنفاذ البنزين .عندها ف ّكر كالعادة في إرسال من يأتيه بالبنزين باعتباره
الشخص المرموق المعروف في وسطه بسعة المال؛ غير أنه اكتشف أنه نسي
حافظة نقوده في البيت ولم يحمل سوى حافظة أوراق السيارة! فاسترعى
يتلمس جيوبه باستياء متزايد .فسأله
انتباه صديقه ما ظهر من تصرفه وهو ّ
عم يفتّش ،فأجابه " إنها كارثة! "
فهل الغني غني دائما؟
إن الغنى لدى صاحبنا رهين بالوسط الذي يعيش فيه وبحزمة األوراق
بتقزز شديد .وها هو
التي يظهرها ليتناول منها ورقة واحدة أو اثنتين ينفقهما ّ
افتقر إلى ما عند صديقه من دريهمات قد تنفع في شراء كمية من البنزين
...وصديقه هذا لن يحتاج ماال في أي مكان .لماذا؟ ألنه بلباسه المتواضع،
وحديثه الرصين وبشاشته ،يستطيع تأمين البنزين والمبيت واالستضافة في
تجمع بشري.
أي ّ
وبهذا المعنى يشتق الغنى من فعل استغنى عن الشيئ أي قلت
حاجته لذاك الشيء .فمن كان شبعانا ال يستطيع األكل فهو مستغن مرحليا
حر
عن الطعام ،ومن كان به ظمأ فهو مفتقر إلى شربة ماء .والكاسي في ّ
الصيف مستغن عن لباسه الدافئ ومفتقر للباس خفيف بينما تعكس لديه
الحاجة في الشتاء فيستغني عن الثوب الخفيف ويفتقر للثياب الدافئة.
70
ويظهر لنا أن الغنى والفقر نسبيان .وال حاجة بنا للتش ّكي من فقر ،وال
للخوف زوال الغنى ما دمنا نحن من يصنعهما .فالنفس الغنية ال تخشى الفقر
بل تحاربه فتنتصر عليه بقوة اإلرادة وباستراتيجية التغيير.
قد نتساءل – ما عالقة معنى الوجود الذاتي بالفقر والغنى؟
نقرها للذات :إن كانت قيمة
والجواب بسيط جدا يتلخص في القيمة التي ّ
ذاتي في ما أملكه فستكون أتفه من هباب تتالعب به الريح .أما إن كانت
لذاتي قيمة بماهي في غزارة عطائها ورضاها ونظرتها للعالم بعين اإلعجاب
والدهشة والتفاؤل البنّاء فذاك هو الغنى.
من طريف ما أذكر أن إحدى صديقاتي ممن كنت أحثهن على السير
قدما في طريق التعلّم قالت لي حين عادت من فترة تكوين قضتها في المركز
بالبداغوجي الجهوي لمدينة "أسفي" وقد تخرجت فيه أستاذة للرياضيات،
قالت ":إن وقفت أمام الجزار تريدين لحما ،لن يسألك علما بل نقودا".
عاشت صديقتي سنواتها الخمس األولى أستاذة بمرتب شهري بالكاد يفي
بحاجتها ،ثم تلتها سنوات أخرى بمسؤوليات أثقل وظروف أصعب قضتها
مستكينة لما هي فيه حتى تهاوى صرح صحتها وتدهورت حالتها بصورة
ملحوظة.
71
حملتها
عيني نظرة ّ
ذهبت مرة إليها في زيارة عادية ،فنظرت في ّ
أكثر من معنى وهي تقول" :لم أكن أص ّدق أنني سأضطر لحفظ البيت الذي
كنت تر ّددين على مسمعي وبإلحاح ":
العلم مال المعدمين إذا همو** خرجوا إلى الدنيا بغير حطام
البيت من قصيدة للشاعر :معروف الرصافي
72
-1أن نبادر بالعمل اليوم وال ننتظر الغد
-2سنكون بعد مغرب اليوم أحسن حاال مما كنّا عليه أول أمس
إن التزمنا بهذين الشرطين ،سنرى بعد "واحد وعشرين يوما" أن
الصعوبة زالت وأن الطريق رغم طوله قد قصر أمام إرادتنا.
وحتى نكون عمليين ،ننظر لحالة شخص جاوز السبعين من العمر،
جاء يطلب معرفة كيف تتكون الكلمات في اللغة العربية – وهو لم يتعلم
القراءة وال الكتابة طوال حياته – وجد أستاذا بدأ معه أول يوم بخمسة
حروف ينطقها عشر مرات ،ثم أعاد على سمعه الحروف الخمسة في اليوم
التالي ينطقها عشرين مرة ،وفي اليوم الثالث بادر العجوز أستاذه قائال " :
أستاذي ! أما من حروف أخرى فقد مللت تكرار هذه الحروف الخمسة"
ابتسم األستاذ في وجه الرجل وقال" :سنرى اليوم كيف نكتبها ".وبعد تمام
خمسة أيام كان العجوز يقرأ ويكتب الحروف الخمسة [:ا،ب،ج،د،هـ]،
في اليوم السادس كان منتظرا أن يعطيه األستاذ حروفا أخرى ،إال أنه فوجئ
أب ،باب ،ج ٌّد ،جاد ،هاج ،جابه] ولم تمضباألستاذ يكتب له العباراتٌ [:
عشرة أيام حتى أتقن العجوز الكلمات كتابة ونطقا .ولما كان اليوم الحادي
عشر طلب من األستاذ حروفا غيرها فأضاف األستاذ حروفا أربعة [و،ز،ح،
ط،ي] مع كلمات [أبا ،أبو ،أبي ،طاب ،حطّ ،وهب ،وجب ]...وطلب منه
أن يكمل الكلمات ...فبدأ العجوز يج ّمع الحروف في ثنائيات ثم في
73
ثالثيات ورباعيات ...غير أنه توقف سائال :ألكل كلمة معنى مغاير ألختها؟
-هنا أجابه األستاذ " :لم يبق عندي ما به أفيدك ،اذهب راشدا ألستاذ
أعلم مني! " فما مضت العشرون يوما حتى اعتاد العجوز زيادة المعرفة.
ومضى على حاله تلك متنقال بين مجالس األساتذة والقراء ،حتى أصبح من
أغزر شيوخ قبيلته علما وأفقههم باللغة العربية .وقد ترك مؤلفا تناوله الباحثون
وأفاضوا في شرحه .وبهذا كسر الشيخ المقولبة وأظهر عدم صدقها وهو
ليس وحده من فعل ذلك .بمجرد تصفحنا لقائمة العصاميين سواء في بلدنا
أو في غيره من بلدان العالم ،نجد أنها طويلة وهي آخذة في الزيادة ! فمن
الباحثين من يتحدثون بإعجاب عن العلماء والفنانين ورجال األعمال
العصاميين أمثال توماس أديسون ،صاحب األلف براءة اختراع ،وتشارلز
داروين صاحب نظرية التطور و"ستيف جوبز" ،زعيم شركة " Apleأبل"،
طوروا وكونوا أنفسهم بعيدا عن المؤسسات التعليمية الرسمية المبرمجة
مسبقا ،تهدف إلى تكوين أجيال من المتعلمين حسب مواصفات معينة.
خرق أولئك العصاميون القاعدة بأن اختاروا طريقهم إلى المعرفة بحرية وكان
دافعهم حب المعرفة يذكيه التح ّدي وتغذيه اإلرادة والرغبة في التغيير
اإليجابي .حصيلة ما وصلنا إليه حتى اآلن ،أن إعطاء معنى للوجود الذاتي
يسوقنا إلى تقدير الذات .وتقدير الذات دافع الكتشاف المهارات والقدرات
الكامنة ،وهو طريق ممهد للتغيير اإليجابي وكسر المقولبات االجتماعية.
74
فهرس
مقدمة 4 ................................................................................................
حاجتنا لآلخرين 6 ....................................................................................
ما الذي نحتاجه من اآلخرين؟ 8 ...................................................................
أريد دليال على نجاحي 10 ..........................................................................
حياتنا 11 ..............................................................................................
هي انعكاس لتوقعات من هم حولنا 11 ...........................................................
استراتيجية التغيير اإليجابي16 ....................................................................
تعريف الهدف20 ................................................................................... :
تحديد الهدف21 ..................................................................................... :
اتخاذ القرار23 ......................................................................................:
خطة التنفيذ24 ...................................................................................... :
اإللقاء التفاعلي 54 ...................................................................................
كيف أعطي معىن لذايت؟ 68 ........................................................................
75
76