Professional Documents
Culture Documents
الهروب من الإيديولوجيا
الهروب من الإيديولوجيا
الهروب من الإيديولوجيا
الباحث واملهندس
األمساء والبيان
القسم األول :املعرفة حني تكون إمسية
األمساء والبيان
1
1 مقدمة
1 املدخل األول :املدخل احلواري
7 املدخل الثاين :املدخل الفلسفي
7 املدخل الثالث :املدخل التيمي
8 العنصر األول :مسات الوجودين الذهين واخلارجي
10 العنصر الثاين :السمات املحددة لكل من الوجودين الذهين واخلارجي:
10 السمة األوىل:
11 السمة الثانية:
11 السمة الثالثة:
12 السمة الرابعة:
12 السمة اخلامسة:
13 السمة السادسة:
14 السمة السابعة:
14 السمة الثامنة:
14 العنصر الثالث :اإلشكاالت اليت مت عالجها بناء على مذهب التفريق بني الوجودين
14 اإلشكال األول:
15 اإلشكال الثاين:
15 اإلشكال الثالث:
15 اإلشكال الرابع:
16 اإلشكال اخلامس:
16 اإلشكال السادس:
17 اإلشكال السابع:
18 اإلشكال الثامن:
18 اإلشكال التاسع:
18 اإلشكال العاشر:
19 اإلشكال احلادي عشر:
19 اإلشكال الثاين عشر:
20 اإلشكال الثالث عشر:
20 اإلشكال الرابع عشر:
21 اإلشكال اخلامس عشر:
21 خالصة الفصل
تعترب االمسية احدى النظريات اليت تبيّن طبيعة املعرفة اإلنسانية وقد قامت على أنقاض االجتاه الواقعي يف املعرفة
والذي بدوره كان تصحيحا لالجتاه السفسطائي يف املعرفة.
وسوف أحاول شرح معىن أن تكون املعرفة امسية من خالل ثالثة مداخل،
رمبا يكون يف هذا تكرارا وملال للقارئ
ولكن أعتقد أن اختالف اخللفيات الثقافية لدى القراء رمبا جتعل املداخل املتعددة مفيدة.
وعلى كل فإن القارئ مىت ما رأى استيعابا ألحد هذه املداخل فيكفيه وميكن أن ينتقل إىل الفصل الثاين مباشرة .
واملداخل الثالثة هي
▪ املدخل احلواري :
ويناسب القراء الذين ال حيبون اللغة الفلسفية أو البناءات العلمية املنطقية اليت رمبا تكون مملة وجافة .وعادة ما
يهدفون إىل تكوين اعتقاد معني حول طبيعة املعرفة ويكون جل اهتمامهم هو استثماره وتفعيله واالستفادة منه عمليا .
▪ املدخل الفلسفي:
ويهم القراء الذين يسعون إىل إدراك األسس العلمية بلغة فلسفية وبناء علمي صارم وعادة ما يكون جل مههم منصب
على النقد العلمي اجلاد واكتشاف الثغرات املنطقية واالحتماالت البديلة .
▪ املدخل التيمي :
ويهدف إىل خماطبة القراء ذوو التكوين الشرعي والذين ينصب جل اهتمامهم على مسألة تأصيل الفكرة وبناء
الفروع على األصول العلمية الشرعية املعروفة سلفا ومعرفة ما إذا كانت الفكرة اجلديدة متسقة مع األصول أم ال .
هو حوار متخيل غرضه عرض االمسية واالعتراضات الشائعة حوهلا مع بيان الرد العلمي املناسب عل كل اعتراض .
سألين صاحيب :ما هو هذا االجتاه االمسي يف املعرفة؟
قلت :هو االجتاه الذي يعترب العلم اختراعا إنسانيا .
فردد عباريت بتمهل وهو حيك ذقنه متفكرا :العلم اختراع إنساين .عبارة ثرية باملعاين .فاالختراع خيتلف عن
االكتشاف ألنه يعين أنه إبداع وابتكار بينما االكتشاف هو انفعال مبا هو موجود يف اخلارج وليس لإلنسان دور فيه إال
الكشف عنه .أليس ذلك؟ !رددت منبهرا باستنتاجه السريع لتلك املسألة العويصة :بلى !العلم اختراع انساين وأما الذين
يقولون إنه اكتشاف فهم الواقعيون .أكمل صاحيب استنتاجاته الذكية :واالختراع يكون هلدف معني ...قاطعته فرحا
مبالحظته وأنه بدأ يدرك أبعاد املوضوع الذي أحدثه عنه :أحسنت والعلم كذلك .فقال :وإذا ما زال اهلدف فإنه
االختراع يعد ال قيمة له .قلت :صحيح .قال :واالختراعات تتحسن وتتطور .قلت :كذلك النظريات العلمية .قال :وقد
21 1
يكون لدينا أكثر من اختراع خيدم ذات اهلدف .قلت :هي النظريات تتنافس .قال :وأفضلها هو الذي يؤدي الغرض .قلت :
وكذلك النظريات العلمية أفضلها أقدرها على تفسري الظاهرة وأقلها شذوذا .تابع قائال :وما دام األمر كذلك فإن
االختراع ال يوصف بأنه صادق أو كاذب أو حق أو باطل .وقلنا بصوت واحد متناغم ومنسجم :ولكن يوصف بأنه جمدي أو
عدمي اجلدوى .وقلت :الحظ أن املخترع ال يكتفي باختراعه بل يطلب ما هو أفضل منه فهو يستمر يف البحث العلمي
وينفتح على التجربة ويتعرف على االختراعات الشبيهة يف نفس املجال وال يعترب ما توصل إليه أنه أفضل اختراع .فقال
مستنتجا :وكذلك العامل صاحب النظرية العلمية يطلب دوما ما هو أفضل منها .
وأردف قائال :لكن هناك مسألة تبدو عويصة ،إذا كان العلم اختراعا إنسانيا ،فكيف خنترعه؟ !
قلت :قد أتيت على املحك ،خيترع املشتغل بالعلم معلومه (نظريته العلمية) من خالل عملييت التحليل والتركيب .يف
العملية األوىل :حياول أن حيلل املوضوع اخلارجي إىل مقومات أساسية مث يدرسها دراسة نظرية بعيدة عن املوضوع
فيستخلص شروطها وموانعها ويستنتج العالقات بني املقومات .ويف العملية الثانية اليت هي التركيب يقوم مبطابقة ما
استخلصه من معارف مع املوضوع اخلارجي ليتأكد هل ما استنتجه صحيح أم ال؟ ومن مث يكون مدخال لعالج الواقع أو
لتحسني منوذجه النظري (النظرية العلمية).
رد متعجبا :ولكن أال ختتلف هذه العملية باختالف العلوم؟
قلت :ال ،كل العلوم هلا ذات التنسيق يف االختراع .
فاستنكر ذلك ،وقال :أليست العلوم الطبيعية ختتلف عن العلوم اإلنسانية ،كيف ميكن هلذه هلا مجيعا أن ختضع لنفس
األسلوب يف التنسيق والبناء العلمي؟
قلت مبتسما :ال ختتلف ألهنا مجيعا ختضع ملجرى العادات .دور العامل أن يالحظ عادة املوجود سواء كان طبيعة أو
بشرا .
قال بعد أن خفت حدّته :ولكن املنهج املتّبع يف العلوم اإلنسانية ليس املنهج التجرييب بل مناهج أخرى كاملنهج التارخيي
يف دراسة كذا واملنهج السلوكي يف علم النفس واملنهج املقارن يف املقارنة بني املدارس املختلفة يف موضوع واحد .
قلت :ما ذكرته ال يتعارض مع كوهنا هذه املناهج مجيعا تؤول إىل املنهج التجرييب ،فالتجريب الذي نعنيه هو مالحظة
عادة املوجودات ،وكلها خاضعة لنفس األسلوب واالختالف بينهما كمي وليس كيفي .فالتجربة التارخيية يف العلوم
اإلنسانية تقوم مقام التجربة يف املعمل للعلوم الطبيعية وكال التجربتني يقوم العامل بالتحليل والتركيب الذي ذكرناه .
وبأخصر عبارة :التجريب املقصود هو التجريب املقابل للتقدير الذهين.
إذا كان ما تقوله صحيحا ،فما هو منهج علوم اللغة؟
قلت :منهجها مالحظة عادة واضعها إذا كان املقصود معرفة قواعدها وإذا كان القصد معرفة البالغة فهي مالحظة حال
السامع .
قال متحدّيا :والعلوم الشرعية؟ !
قلت :العلوم الشرعية إما أن تكون تفسريا فهذه تعود إىل علوم اللغة اليت ذكرنا أهنا عادة العرب أو معرفة مراد
املتكلم وهي تعود إىل عادة املتكلم أو السامع والقرائن اليت حتتف باخلطاب أو أهنا فقها فهذه تعود باإلضافة إىل ما سبق
إىل مالحظة عادة الشارع يف التشريع وهكذا.
ولكن كيف يكون العلم بالوحي اختراعا إنسانيا؟ !
قلت :لنفس األسباب اليت جتعل من علم الطبيعة وعلم االنسان اختراعا إنسانيا .
قال :ولكن هذا وحي وتشريع من عند اهلل .
21 2
قلت :ومن قال إن الطبيعة من عند االنسان .السنن الكونية يف الطبيعة والسنن الكونية يف االنسان واملجتمع هي أيضا
من عند اهلل .
قال :أعين أنك حني تقول إن العلم الشرعي اختراعا إنسانيا فكأنك جتعله بال مضمون ،أو أن االنسان يضع مضمونه
من عنده دون أن يكون مرتبطا بالوحي .
اآلن أقول لك أهم مسألة يف النظرية االمسية يف املعرفة وهي أيضا األساس الذي تنبين عليه أال وهو :التفريق بني
الشيء يف ذاته والشيء كما يظهر لنا وندركه وتسمى أيضا مسألة التفريق بني الوجود الذهين والوجود اخلارجي .هذا
التفريق يشرح لك بسهولة مسألة املضمون العلمي عندما يكون العلم اختراعا إنسانيا .وهذا التفريق هو الذي جيعلنا منيّز
بني املوضوع اخلارجي وما أدركناه منه .فما دام ما ندركه من الوحي ومن الطبيعة ومن االنسان ميكن أن يكون صوابا
وميكن أن يكون خاطئا وإذا كان صوابا فإنه يتفاضل يف التصور بني املجتهدين من حيث األدلة ووجوه االستدالل وأصول
املسألة ولوازمها وما ينبين عليها فإنه ال ميكن أن يكون وحيّا أو سنة كونية بل هي اجتهادات وسوف تظل اجتهادات ما
دامت علما إنسانيا .
ال بأس بكل هذا ،ولكن أين االختراع يف املوضوع؟ !
االختراع هو لفظ يطلق على النظرية العلمية اليت ينتجها العامل من أجل أن يستخدمها يف إنتاج املعرفة .فانظر مثال
إىل تعدد املذاهب الفقهية لتجد أهنا مبثابة تعدد النظريات العلمية وتعدد املذاهب العقدية والكالمية هي نظريات
خمتلفة ومتفاوتة النجاعة يف تفسري النص الشرعي .ولو عدّت ملا ذكرناه حول عملييت التركيب والتحليل والحظت عملية
التأصيل الشرعي لوجدهتا ال خترج عن هاتني العمليتني.
فلتضرب يل مثاال على املقومات تلك اليت يستخرجها الفقيه؟!
إهنا ببساطة مقومات احلكم الشرعي واملقومات هي ما به قيام الشيء أي أهنا أركانه .وأركان احلكم معروفة هي
الدليل واالستدالل واملستدل واحلكم .ومعروف أهنا هذه األربعة هي عماد أصول الفقه.
تأمل يف نفسه برهة مث سألين :فما مزنلة القطعي يف االمسية وأخص بالذكر القطعيات يف العلوم الشرعية؟
وصف داللة معينة أهنا قطعية أي واضحة وضوحا ال يتطرق إليه شك هو وصف إضايف بالنسبة إىل املستدل ووصف
الداللة بالقطعية مثل وصفها بأهنا بدهية كالمها وصف إضايف .ومعىن هذا أن القطعي حيتفظ مبكانته ما مل حيل حمله
اجتهاد آخر .
ولكن هذا يفتح الشك يف قطعيات امللة؟
بل هذا إذا انضاف إليه احلرية العلمية يفتح الباب لتحديها حتديا علميا واحتفاظها مبكانتها القطعية رغم النقد
املستمر الذي يقلب وجهات النظر واحتماالت االستدالل يدل على استحقاقها هذه املكانة .فتعريف القطعي والبديهي بأهنا
أوصاف إضافية ال يفتح الشك بل يفتح باب التواضع العلمي فال يعتقد املجتهد يف علمه أنه علما مطلقا..
ال زال يف قليب ريب من هذه املسألة .
حسنا ،هل ترى وصفي للقطعي بأنه وصف إضايف صحيح أم ال؟
نعم ،أتفق معك .
إذا ،لنأيت اآلن إىل وسائل حتقيق القطعي يف الشريعة اإلسالمية ،ما هي؟ هل رأي عامل ما بأن هذه املسألة قطعية
جيعلها قطعية حقا أم أنّ ما يكسب مسألة ما صفة القطعية هو التواتر االستداليل على غرار التواتر احلديثي؟ !
نعم ،تكتسب املسألة قطعيتها بالتواتر االستداليل كما ذكرت ويف االصطالح الشرعي :بإمجاع العلماء .
ما دام األمر كذلك ،فهل يعقل أن خيالف أحد إمجاع العلماء؟ وإذا خالفهم فهل يعقل أن يكون احلق معه؟
21 3
ال .
ملا ال ،وقد حتقق هذا تارخييا وليس جمرد فكرة نظرية ومثاهلا مسألة طالق الثالث اليت خالف فيها ابن تيمية امجاع
العلماء عرب قرون وكان أكثر حتقيقا منهم وأجدر بالصواب .
نعم حصل هذا ولكن هذا يعين أن االمجاع مل يتحقق بشروطه واليت لو توفرت ملا حصل هلا هذا اخلالف .
اإلمجاع بشروطه اليت تتحدث عنها ال يكاد ينعقد ألنه يسعى إىل حتقيق التطابق بني الشيء يف ذاته والشيء يف
تصورنا له وهذا التطابق مستحيل .ومن يدّعيه فهي ببساطة يدّعي أنه أصاب حكم اهلل تعاىل وهذا ما ال ميكن أن يدّعيه
راسخ يف العلم .
إذا وأركان اإلسالم وغريها من تعاليم الشريعة كيف نثق هبا؟
هذه من األخبار وليس فيها اجتهاد سوى فهم النص من خالل فهم معناها اللغوي املتواضع عليه عند العرب وهي واضحة
الداللة متكررة الذكر متعاضدة األدلة نظرا وعمال عند الرسول والصحابة مبا ال يدع جماال للشك يف تفسريها .وهذا من
اهتمام الشارع باألصول وجعلها بينّة لكل طالب حق وأما طالب الزيغ فهذا ال يكاد يهتدي إال إىل ما وافق هواه .
قال صاحيب :ما كنت أظن أن االمسيّة سوف جترّنا إىل هذه األبعاد من املعرفة؟
قلت :ال زلنا يف بداية الطريق وأصدقك القول إين مل أكن أتوقع أن تتصور مسائلها هبذه السهولة .
قال :أتدري أن ما أعجيب يف كالمك هو قدرة النظرية االمسية على تفسري طبيعة العلم أيا كان جماله وهذا وحده ما
يدفعين لالستزادة يف التعرف على هذا االجتاه .
مث سألين :حسنا ،أعتقد أننا استفضنا كثريا حول تبعات هذا املوقف من العلم ولكننا مل نتحدث عن أسسه اليت يستند
إليها ،فعلى أية أساس قلت إن العلم جمرد اختراع إنساين؟ !
مجيل ،إذا كنت تتفق معين أن العلم هو ما ندركه من الوجود وليس هو الوجود ذاته فسوف تتفق معي أن العلم
اختراع إنساين .
يعترض قائال :أوافقك يف املقدمة وأخالفك يف الزمها .نعم علمنا هو علم جبزء من الوجود وهو اجلزء الذي تدركه
حواسنا ولكن هذا ال يعين أننا اخترعنا هذا اإلدراك بل هو إدراك حقيقي للوجود .
حسنا ،إذا كان إدراك حقيقي ،فلما يقع يف اخلطأ .
اجلواب ملحدودية احلواس .
إذا أنا ال أقول إننا خنترع اإلدراك بل أقول مبا أن إدراكنا ال ينقل الوجود كما هو بل صورة مشوهة من الوجود فقد
بات لدينا صورتان :الوجود احلقيقي والذي ال قدرة لإلنسان مبعرفة معرفة شاملة ومطلقة والوجود الذهين الذي هو
تصورنا عن هذا الوجود بناء على إدراكاتنا منه .والعلم هو ترتيب هذه اإلدراكات ترتيبا منطقيا متسلسال من قواعد
وأسس وأصول وقضايا استنباطية من هذه األصول .وهذه الطريقة املنطقية هي ما تفصل ما يسمى علما وما يسمى معرفة
عامة وساذجة .
كالمك يبدو منطقيا ومجيال ولكين ال زلت أرى رغم هذا أن اعتبار هذا التفاوت بني الوجودين اخلارجي والذهين ال
يؤسس للقول بأن العلم اختراع إنساين.
إذا كنت تعترف مببدأ الفصل بني الوجودين فالبد لك من القول بأن العلم اختراع إنساين .لسببني :
العلم صورة عن الوجود ال يلزم أن تكون مطابقة له .واختراع اإلنسان للميكروسكوب وكذا للمناظري الفلكية فتح له
صور من الوجود كانت أمام عينيه ولكن خارج قدراته اإلدراكية .
ومن مث فال ميكن لإلنسان ادّعاء أن علمه مطابق للوجود حىت لو كان يتحدث عن جزئية بعينها.
21 4
وأيضا اكتشفنا من خالل التقدم العلمي والنظريات اليت نقضت بعضها البعض يف جمال معريف معني أنه ميكن للظاهرة
الواحدة أن يكون هلا أكثر من تفسري وبالرغم من ذلك يكون لكل تفسري نتائج تطبيقية متفاوتة ومتناسبة معه .
حسنا ،فهما إذا أن النظرية اختراع مثل أي اختراع مادي وأما النتائج واحلقائق اليت نتوصل إليها من خالل هذا
االختراع فهي حقائق مؤقتة ألهنا ميكن أن تتغري حبسب املستجدات واملراجعات العلمية .وهذا كله منطقي اآلن .ولكن
ماذا عن املدخالت هلذه العملية هي تعترب حقائق أم ال؟
تقصد املدركات واملالحظات اليت هي حمل البحث العلمي؟!
نعم .
هذه املدركات كما تعلم أهنا نسخة باهتة من الواقع لقصور احلواس اإلنسانية ولذا هي إما أن تكون إدراك حقيقي أو
غري حقيقي أو خليطا بني احلقيقة وعدمها .فاإلدراكات تعترب ....
أعتقد أننا ناقشنا هذه النقطة مبا فيه الكفاية ،ولتسمح يل أن أحوّل مسار املوضوع لنقطة أخرى ال تقل أمهية .
تفضل .
هل ينطبق ما تقوله على العلوم الشرعية؟ هل أيضا هي اختراع إنساين ،واحلقيقة فيها مؤقتة؟ !
جوايب هو نعم .ولكن قبل أن تتعجل بالرد عليّ دعين أوضح لك كيف يكون ذلك :النظرية هنا مثل النظرية يف العلوم
الطبيعية واإلنسانية هي األداة املنهجية .يف العلوم الشرعية يعترب أصول الفقه اختراع إنساين واحلقائق اليت تنتج عنه
هي حقائق مؤقتة .مع فارق وحيد هو أن العلم كما قال ابن تيمية نوعان :خرب عن معصوم أو قول عليه دليل معلوم
والوحي يتضمن النوعان بعكس العلوم األخرى فما كان من قبيل اخلرب عن املعصوم فهذا يؤخذ تصديقا به أعين ما أخرب
به الرسول عليه الصالة والسالم من الغيب فهذا خرب نؤمن به واجتهادنا فيه هو اجتهاد يف فهمه وليس يف مضمونه .بعكس
احلكم على النوازل الفقهية فهذا يعترب احلكم حقيقة مؤقتة وأصول الفقه اختراع إنساين .وهذا التفريق مهم ألنه
يفصل بني الوحي وبني علم اإلنسان املستخرج من الوحي مثلما فصلنا يف العلوم الطبيعية بني الطبيعة( احلقيقة
اخلارجية )وبني علمنا بالطبيعة ( احلقيقة كما تبدو لنا ).
لكنك هبذا التفريق حتيل كل األحكام إىل حقائق مؤقتة وهتدم الدين هبذا األمر؟
لو جتنبنا هذا التجين بأنين أهدم الدين وركزنا على النقاط املعرفية لتكتمل النظرية لكان أويل .إن هذا التفريق
موجود عند علماء اإلسالم فهم يفرقون بني ما فيه نص وما هو اجتهاد وأنا مل أفعل شيئا غري أن مسيت االجتهاد حقيقة
مؤقتة .
لكنك مل تسم ما فيه نص حقيقة دائمة.
أمسي ما فيه نص حقيقة دائمة إذا كان مبزنلة اخلرب عن املعصوم .ألن ما فيه نص هو أيضا خاضع لالجتهاد والعلماء
يدركون ذلك .وعلى سبيل املثال يقولون :إن أعلى طرق التفسري هو تفسري القرآن بالقرآن ولكن عندما نأيت عمليا فإنه
ليس كل تفسري للقرآن بالقرآن يكون صحيحا وهذا مثال مثال ملعىن االجتهاد فيما فيه نص ويف الفقه يكون االجتهاد فيما
فيه نص اجتهاد ربط احلادثة بالنص .وأعتقد أن حديث سعد بن معاذ هو أهم حديث يف الداللة على املعىن املقصود .
حسنا أستاذي ،طمعا يف مزيد من االقتناع بكالمك ،لنفترض أنين أخالفك متاما ،وأرى أن العلم ليس اختراعا إنسانيا
كما تقول بل هو سعي للوصول إىل احلقيقة يف ذاهتا .
سعيك للوصول إىل احلقيقة يف ذاهتا هل يعين أنه ميكن أن تصل إليها أم أنك تقول إنه ال ميكن الوصول إليها بل هي
جمرد مثال نسعى إليه دون إمكانية اجلزم بتحقيقه .
أرى أنه ميكن الوصول إليها فعال .
21 5
مجيل ،إذا كنت ترى أن احلقيقة ميكن الوصول إليها ومطابقتها فإن سعيك سيتجه حنو شروط الوصول إىل احلقيقة
اخلارجية والبحث يف املوانع اليت حتول دون الوصول على احلقيقة ،ومن مث سوف تصل إىل نتيجة مثل اليت وصل إليها
أرسطو .فهو رأي احلد معربا عن املاهية وال حيتاج إىل تدليل ورأى أن األوليات ..ورأى أن صفات الشيء تنقسم إىل
صفات ذاتية الزمة وذاتيه عارضة ،وزعم بعد ذلك كله أن هذا يقود إىل برهان يقيين ولكي يكون هذا الربهان يقيين
وجد أنه البد من البداية مبقدمة كلية ويقينية ..إخل .
حنانيك ،أعتقد أنك أسقطت جتربة أرسطو على موقفي وأنا ال أقول به .وأعتقد أنه ميكن صياغة حال وسطا بني
املوقف الواقعي وبني موقفك االمسي .
كل حلٍ ينطلق من إمكانية الزعم مبطابقة احلقيقة فهو البد وأن ينتهي إىل ما انتهى إليه املوقف األرسطي .وضع
شروط ال ميكن حتقيقها وعلوم مستنتجة من هذه الشروط يُظن أهنا انطبقت عليها الشروط ،ونتائج يزعم هلا مزنلة
اليقني تصبح معيارا للوجود .وأما من يدرك عدم إمكانية حتقيق الشروط فسيظل عقيما عن انتاج العلم !كالذي يستخدم
آلة يظن أهنا صحيحة ويستفرغ عمره يف استعماهلا دون نتيجة .
تبالغ يف التعميم
إذا ،لنكن عمليني وأخربين ما احلل الذي تراه؟
احلل بسيط :أستخدم أصول الفقه يف احلكم الشرعي وهي أداة تساعد للوصول إىل احلكم الشرعي املحكم واحلقيقي
ولكن احلكم الذي أصل إليه هو اجتهاد شرعي ميكن أن يكون يقينا يف بعض األحوال وأحيانا يكون ظنّيا .
حسنا ،اليقيين هنا هل هو وصف للحقيقة يف ذاهتا أم أنه وصف ملا تعتقده يف احلكم .
ميكن أن يكون هذا وذاك .
دعنا إذا نتحدث عن موطن اخلالف وهو أن تعتقد أن اجتهادا ما هو حقيقة يف ذاته .ما هي صفات احلكم الذي له هذه
املزنلة؟
تضافر النصوص صراحتها وفعل الرسول والصحابة مبقتضى ما جاء يف النص وامجاع العلماء ومن األمثلة :وجوب
الصالة .
أمل نقل أن العلم قد يكون خربا معصوم .وبالتايل كل نص شرحه وفسره الرسول عليه الصالة والسالم أو اجتمع عليه
الصحابة من أمور العلمية أو العملية فهو من هذا اجلانب احلقيقي يف ذاته وال حيول بيننا وبينه إال ثبوته .فكل ما كان من
هذا القبيل ليس اجتهادا أصوليا يف احلقيقة بل هو اجتهاد معياري حتاكم إليه أصول الفقه ال العكس .فهذه النقول كلها
مبثابة الطبيعة يف العلوم الطبيعية هي احلقائق اليت هي حمل التأسيس العلمي واألصول العلمية املستمدة منها .
ولكنك تنكر القطعي!
كما ذكرت لك ،ما أنكره من القطعيات هي القطعيات اليت تتناول املجاالت االجتهادية وأما املجاالت اإلميانية فهي أمور
ال تتحقق إال بالقطع واجلزم هبا .ميكن على سبيل التقريب فقط أن أمثل لذلك بعلم العقيدة والفقه .فالعقيدة قائمة
على القطعي وأما الفقه فقائم على االجتهادي .
أخريا :هل هذا كل شيء؟
أعتقد أن املوضوع كبري ولكن ما تناولناه هنا يعني على تصوره بشكل جيد .
21 6
سوف نستعرض يف هذا املدخل البناء الفلسفي للنظرية االمسية كما يعرضه أبو يعرب املرزوقي يف كتابه املعروف
(إصالح العقل يف الفلسفة العربية)
ميكن أن نوجز مفهوم التصور االمسي للمعرفة يف العبارة التالية :يعتقد االمسي بوجود احلقيقة يف اخلارج وأن الوصول
إىل هذه احلقيقة إما أن يكون خربا عن معصوم وهنا متكن املطابقة ألن اجلهد اإلنساين يتعلق مبعرفة اللغة املتواضع
عليها وليس اكتشاف كنه األشياء ومعرفة حقيقتها ،وأما ما كان اجتهادا إنسانيا يف الوصول إىل احلقيقة كاحلكم على
النوازل والقضاء واكتشاف قوانني الطبيعة واملجتمع فهذه كلها مقاربات ال ميكن اجلزم فيها مبطابقة املعلوم بسبب
حمدودية اإلدراك اإلنساين ومن هنا فإن اإلمسي يقر بأن للشيء وجودين مها الوجود اخلارجي والوجود الذهين .ولكل
من الوجودين خصائص ومسات ختتلف عن اآلخر وهي سبع خصائص أوهلا أن الوجود اخلارجي حيوي احلقيقة يف ذاهتا وأما
الذهين فيحوي احلقيقة كما تبدو لنا ومن مث فإن التصورات تتفاضل وأما الشيء اخلارجي هو هو ال يتغري وال يتفاضل .
وثانيها أن مفهوم املمكن خمتلف يف احلالتني فاملمكن الذهين ميكن أال يكون موجودا يف اخلارج ومن هنا يعترب التصور
الذهين أوسع من الوجود اخلارجي .وأما إذا نظرنا إىل الوجود الذهين بأن تصوراته جزء من الوجود اخلارجي وأنه ال
ميكن استيعاب كنه ما هو يف اخلارج فحينها يبدو أن الوجود اخلارجي أكثر ثراء من الوجود الذهين .والعلوم القائمة على
الوجود الذهين هي علوم التقديرات الذهنية وتضم علم احلساب واملنطق وأما العلوم القائمة على الوجود اخلارجي فهي
علم املحسوسات أو التجريبيات اليت يهدف اإلنسان فيها إىل معرفة طبائع ما هو يف اخلارج لكي يفهمه ويستخرج قوانينه .
وبناء على هذه السمات لكال الوجودين فإن االمسي حيل اإلشكاليات العلمية اليت توجهه من خالل هذا الفصل بني
الوجودين .فعلى سبيل املثال :مسألة احلد األرسطي وأنه ال يصور املاهيات استنادا على التفريق بني الوجودين واستبداله
باحلد التيمي وهو احلد االمسي الذي ال يدّعي تصوير املاهيات وإمنا متييز األشياء عن بعضها البعض وتسميتها تسمية
تالئم هذا التمايز من أجل فصلها يف التصور الذهين عن بعضها البعض فصال ميكن العامل من التعامل مع كل منها على
حدة .وهلذا فالنظريات العلمية عند االمسي هي أنساق تواضعية يتواضع عليها العلماء ومؤقتة حىت يأيت أفضل منها
وهذه النظرة ختتلف عن النظرة األخرى اليت تعتقد أن النظريات العلمية تسعى إىل اليقني وأهنا تطابق املوجودات إذا
كانت صحيحة .ومن هنا فاحلد الفاصل بني العلم والالعلم عند االمسي هو صمود النظرية أمام النقد والدحض وأما عند
الواقعي فهو اتباع منهجية تبدأ من مقدمات يقينية أو بديهيات لكي حنصل منها على نتائج يقينية تطابق الواقع .وهذا
يقودنا إىل أن األوليات عند االمسي ليست سوى مواضعات بعكس األوليات عند الواقعي فهي بديهيات يف ذاهتا .
أعتقد أن هذا املقطع يضم جل املسائل الفاصلة بني التصورين االمسي والواقعي يف املعرفة.
إن الدارس للفلسفة القدمية يتضح لديه وجود مذهبني يف املعرفة مها االجتاه السفسطائي أو املذهب الشكي الذي يتخذ
من الشك مذهبا ال منهجا يف املعرفة وهذا االجتاه زبدة ومعقد كالمه أنه ال يقول بوجود احلقيقة سواء قال بانعدامها أو
انعدام إمكانية الوصول إليها وأما االجتاه الثاين فهو املذهب الواقعي الذي نشأ ردا على املذهب السفسطائي وهذا املذهب
يرى بأن احل قيقة موجودة يف اخلارج وأنه ميكن الوصول إليها وإليه تنتمي فلسفيت أرسطو وأفالطون ،ولكن الفلسفة احلديثة
أبرزت موقفا ثالثا هو املوقف االمسي من املعرفة .وهو موقف تبلور مرتني مرة يف سياق الفلسفة العربية ومرة أخرى يف سياق
الفلسفة الغربية لكنه يف الفلسفة العربية مل تتكوّن منه إال أصوله وجذوره دون ساقه وفروعه نظرا لتوقف احلركة العلمية
والتأخر احلضاري الذي تعيشه أمتنا منذ ابن تيمية إىل اليوم ،ولكنه يف السياق الغريب تأسّس يف القرون الوسطي على يد
21 7
وليم أوف أوكام وأبيالر وغريهم واستمر الوصل العلمي يف القرون احلديثة إىل أن وصل إىل صورته اليوم كما جنده عند
ويالرد كواين .1وسوف أتناول احلديث عن املوقف االمسي والفرق بينه وبني املوقف السفسطائي من خالل عرض أصوله
الفلسفية يف الثقافة اإلسالمية كما تعيّنت عند ابن تيمية .ولكين أود أن أعرض عن تسميته باملوقف االمسي خروجا من
اإلشكاالت اإلصطالحية وسأكتفي بتسمية هذا املذهب مبذهب التفريق بني الوجودين .فمن املعروف أن ابن تيمية يرى أن
هناك فرقا بني الوجود الذهين والوجود اخلارجي وبناء على ذلك فسوف أستعرض التعريف هبذا املذهب من خالل عنصرين:
.1األول:
مسات الوجود اخلارجي والوجود الذهين.
.2الثاين:
تطبيقات ابن تيمية املبنية على مسألة التفريق بني الوجودين (االمسية)
يعد مبحث تقسيمات الوجود واختالف الفالسفة فيه من املباحث الفلسفية املعروفة ،يتناول هذا املبحث نوعني من الوجود
لألشياء األول يسمى الوجود اخلارجي ،وهو الوجود الذي نراه وحنس به ونعيشه ،والثاين هو الوجود الذهين أي تصوراتنا
عن هذا الوجود اخلارجي .حيث يبحث الفالسفة يف العالقة بينهما هل مها وجود واحد أم أهنما منفصالن وإذا كان منفصالن
فهل ميكن أن يرد أحدمها إىل اآلخر أم ال؟! فيصبح الوجود الذهين يف حقيقته ليس سوى الوجود اخلارجي كما هو معروف
عند أرسطو وأفالطون وهذا هو املوقف الواقعي أو يصبح الوجود اخلارجي يف حقيقته ال يعدو الوجود الذهين كما هو عند
باركلي وهذا هو املوقف السفسطائي من املعرفة.
ولكن مثة موقف فلسفي ثالث يتوسط هذين املوقفني بدأ يربز مع النقد اإلسالمي للفلسفة اليونانية واكتمل مع ابن تيمية
وهذا املوقف نابع من اعتبار الوجود الذهين ذو طبيعة خمتلفة عن الوجود اخلارجي وبالتايل فلكل منهما خصائص خمتلفة عن
اآلخر وهذا هو املوقف الذي اكتمل تأسيسه عند ابن تيمية يف النظر وابن خلدون يف العمل.2
وهذا األمر أعين أ هنما يقوالن بالتفريق بني الوجودين ليس تقوّال عليهما وال مفهوم كالمهم بل هو نص يف كالمهم ولنتأمل
أوال قول عالمة التاريخ ابن خلدون:
"وإذا تأمّلت املنطق وجدته كلّه يدور على التركيب العقليّ ،وإثبات الكلّي الطّبيعيّ يف اخلارج لينطبق عليه الكلّيّ الذهينّ
املنقس م إىل الكلّيّات اخلمس ،الّيت هي اجلنس والنّوع والفصل واخلاصّة والعرض العامّ ،وهذا باطل عند املتكلّمني .والكلّي
والذايت عندهم إنّما اعتبار ذهين ليس يف اخلارج ما يطابقه.3 "...
وأما ابن القيم فيعترب أن عدم التفريق بني الوجود الذهين والوجود اخلارجي هو أصل الضالل الفلسفي الذي وقعت فيه
الفلسفة اليونانية ومن حذا حذوها من الفالسفة يف الثقافة العربية حيث يقول رمحه اهلل:
1يراجع في ذلك الفلسفة األوروبية في العصر الوسيط ،ص 190وتاريخ الفلسفة الحديثة ،ص ،9كالهما ليوسف كرم ،طبعة هنداوي.
2حول هذه الخالصة يدور عمل أبو يعرب املرزوقي إصالح العقل في الفلسفة العربية من واقعية أرسطو وأف االطون إلى اسمية ابن تيمية وابن
خلدون ،الطبعة األولى ،نوفمبر .1994
3مقدمة ابن خلدون ،ابن خلدون ،ص.648
21 8
"وإمنا أيت للقوم -أي الفالسفة ومن يقول بقوهلم يف الكلي -من الكليات .فإهنا هي اليت خربت دورهم وأفسدت نظرهم
ومناظرهم ،فإهنم جردوا أمورا كلية ال وجود هلا يف اخلارج مث حكموا عليها بأحكام املوجودات وجعلوها ميزانا وأصال
للموجودات".4
وهو يف هذا يتفق مع شيخه ابن تيمية يف أن هذا اخللط عند الفالسفة بني مسات وخصائص الوجود الذهين والوجود
اخلارجي أصل ضالهلم حيث يقول يف عبارة هي أصرح وأوضح ما يكون يف التعبري عن هذا املوقف املعريف الذي خيتلف عن
املواقف املعرفية السابقة:
"وإنّما أصل ضالهلم أهنم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد ومييز بني املقدور عليه واملعجوز عنه وحنو ذلك ،فقالوا
ولو مل يكن ثابتا ملا كان كذلك ،كما أنّا نتكلم يف حقائق األشياء اليت هي ماهياهتا مع قطع النظر عن وجودها يف اخلارج ،
فنتخيّل الغلط أن هذه احلقائق واملاهيات أمور ثابتة يف اخلارج...والتحقيق أن ذلك كله أمر موجود وثابت يف الذهن ال يف
اخلارج عن الذهن واملقدّر يف األذهان قد يكون أوسع من املوجود يف األعيان ...وحقيقة الفرق الصحيح أن املاهية هي ما
يرتسم يف النفس من الشيء والوجود هو نفس ما يكون يف اخلارج منه".5
وبناء على كالم ابن تيمية نقول إذا كان عدم التفريق بني الوجودين هو أصل ضالهلم الفلسفي ،فإن التفريق بني
الوجودين وحتديد مسات وخصائص كال منهما حتديديا دقيقا يعدّ باملقابل أصال من أصول اهلداية .فلنحاول إذا يف هذه
املقالة أن نضع أيدينا على أهم الفروق بني الوجودين الذهين (=العلمي) واخلارجي.
وألن ابن تيمية رمحه اهلل هو أحد أهم الذين أثروا الكالم يف التفريق بني الوجودين واستخدم هذا التفريق يف عالج
كثري من اإلشكاالت الفلسفية العميقة كما سنرى ،فسوف نعتمد عليه كثريا ،كما أننا سوف نعتمد أيضا على الكتابات املعاصرة
عن االمسية وخاصة ما كتبه الفيلسوف اإلسالمي أبو يعرب املرزوقي حول امسية ابن تيمية وابن خلدون . 6ولكي أجتنب
مسألة إسقاط ما أعتقده يف التصور االمسي على ابن تيمية – قدر جهدي-سأضع معيارا واضحا ميكن الرجوع إليه وهذا
املعيار هو األصل الذي ذكرناه للتو والذي أعتقد أنه ال خيتلف عليه أي دارس البن تيميه :أال وهو التفريق بني الوجود
الذهين والوجود اخلارجي.
ومعىن أن يكون هذا األصل معيارا هو ألّا أجعل كل أقوال االمسيني أقواال امسية إذا خالفت هذا األصل كما أضع يف
حسبا ين أن أقوال غري االمسيني ميكن أن تكون أقواال امسية إذا وافقت هذا األصل واطردت معه .فكل مسألة كان عمدة
احلل فيها قائما على التفريق بني الوجودين بغض النظر عن قائلها وموقفه املعريف اعتربهتا مسة من مسات املنهج االمسي يف
املعرفة.
وأما إن سأل سائل ،فلما كان الت فريق بني الوجودين يسمى املذهب االمسي ،فأقول إن هذ يرجع إىل االختالف بني
الواقعيني واالمسيني يف تصور وظيفة احلد .فاحلد عند الواقعيني يعرب عن ماهية املوجودات وأما احلد عن االمسيني فال
يعرب عن ماهيات األشياء وإمنا وظيفته مثل وظيفة االسم أي التمييز بني املوجودات ولذا مسّوا باالمسيني ومسي هذا املوقف
وهي يف إثبات متايز الوجودين وطبيعة كل منهما :الوجود الذهين حيوي الكليات والتصورات واملقدرات الذهنية ،وأما
الوجود اخلارجي فيحوي األشياء العينية .قال ابن تيمية" :فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ
وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ وَوُجُودِهِ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ ذَاكَ هُوَ الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ الْخَارِجِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَأَمَّا هَذَا فَيُقَالُ لَهُ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ وَالْعِلْمِيُّ
وَمَا مِ ْن شَيْءٍ إلَّا لَهُ هَذَانِ الثبوتان" .7فإذا مل يفرّق اإلنسان بني هذين الوجودين فإنه سوف ينساق إىل أحد احتمالني:
أ .أن جيعل الوجود الذهين مبثابة الوجود اخلارجي فكأنه ألغى الوجود الذهين وهذا هو
أصل املذهب الواقعي يف املعرفة .ويشرح ابن تيمية املذهب الواقعي باجتاهاته
ومذاهبه بقوله" :وهذا مبتدأ فلسفتهم اليت وضعها فيثاغورس وكانوا يسمون أصحابه
أصحاب العدد وكانوا يظنون أن األعداد املجردة موجودة خارج الذهن .مث تبيّن
ألفالطون وأصحابه غلط ذلك وظنوا أن املاهيّات املجرّدة كاإلنسان املطلق والفرس
املطلق موجودات خارج الذهن وأهنا أزلية أبدية .مث تبيّن ألرسطو وأصحابه غلط ذلك
فقالوا بل هذه املاهيات املطلقة موجودة يف اخلارج مقارنة لوجود األشخاص ومشى من
مشى من اتباع أرسطو من املتأخرين على هذا وهو أيضا غلط فان ما يف اخلارج ليس
بكلى أصال وليس يف اخلارج إال ما هو معني خمصوص.8
ب .أو أن جيعل الوجود اخلارجي مبثابة الوجود الذهين فكأنه ألغى الوجود اخلارجي وهذا
هو أصل املذهب السفسطائي يف املعرفة .ويشرح ابن تيمية اجتاهات هذا املذهب
بقوله" :وهؤالء من جنس السفسطائية املتجاهلة الالأدرية الذين يقولون:
▪ ال نعلم هل احلقائق ثابتة أو منتفية وهل ميكن العلم أو ال ميكن فإن السفسطة
أنواع أحدمها قول هؤالء.
▪ الثاين قول أهل التكذيب واجلحود والنفي الذين جيزمون بنفي احلقائق والعلم
هبا.
▪ والثالث الذين جيعلون احلقائق تتبع العقائد فمن اعتقد ثبوت الشيء كان يف
ت .وقبل أن أنتهي من هذه النقطة أود أن أشري إىل جناعة مذهب التفريق بني الوجودين
يف عملية تفسري االختالف الفلسفي بني املذاهب الفلسفية.
أن الكليات وهي عقلية مبنية على استقراء اجلزئيات وهي خارجية حمسوسة.
يقول ابن تيمية" :فمن مل يتصور الشيء املوجود كيف يتصور جنسه ونوعه".10
الوجود اخلارجي أوسع من أن حياط به وأن يستوىف مجلة من جهة إدراك اإلنسان له ،فما من تصور إال وفوقه تصور أمت
منه .هذا هو موقف (مذهب التفريق) أما املوقف السفسطائي فاعترب تفاوت التصورات مشككا يف وجود احلقيقة أو يف إمكانية
الوصول إليها أما املوقف الواقعي فاعترب ما يصل إليه من تصورات ذهنية أهنا هي هي احلقائق املوجودة يف اخلارج .وبناء
على ذلك فإنه ال ميكن اإلحاطة باملوجود اخلارجي وإمنا اإلحاطة املمكنة لإلنسان هي اإلحاطة اجلزئية .قال ابن تيمية:
بناء على السمة الثالثة :ال يوجد ضامن لإلنسان الباحث عن احلقيقة أنه قد أصاب احلق فعال أي (طابق الوجود
اخلارجي) .طبعا دون أن يعين هذا أن إصابة احلق ممتنعة بل هي ممكنة .ويلزم من هذا أن اإلنسان يف اجتهاده الشخصي
يكون مت واضعا وال يلزم غريه برأيه مهما بلغت وثاقته بصحة رأيه وخطأ رأي غريه ولذا يعرب الفقهاء عن هذا الالزم بقوهلم:
االجتهاد ال ينقض باجتهاد مثله .ويدعم هذه القاعدة ما رواه الطربي :أنّ عمرا بن اخلطّاب لقي يف خالفته رجالً له قضيّة
نَظَرَ فيها عليّ بن أيب طالب ،فسأله عمر :ماذا صنعت؟ فقال :قضى عليٌّ بكذا .قال عمر :لو كنتُ أنا لقضيت بكذا
قال الرجل :فما مينعك واالَمر إليك؟
قال عمر :لو أردّك إىل كتاب اهلل أو سنّة رسوله لفعلت ،ولكنّي أردّك إىل رأي ،والرأي مشترك ،ولست أدري أيّ الرأيني
أحق . 12
وجاء يف «االِحكام» البن حزم( :قال أبو حممّد :فقد ثبت أنّ الصحابة مل يُفتوا برأيهم على سبيل االِلزام ،وال على أنّه
حقّ ،لكن على أنّه ظنّ يستغفرون اهلل تعاىل منه ،أو على سبيل صلح بني اخلصمني).13
ويف رأيي أن أبلغ حديث يف هذا األمر هو ما جاء يف مقاتلة الرسول عليه الصالة والسالم لبين قريظة وأهنم " نَزَلُوا عَلَى
حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ فِيهِمْ إِلَى سَعْدٍ ،قَالَ :فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ
تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ ،وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالنِّسَاءُ وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ " ،قال الرواي :فَأُخْبِرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
" :لَقَ ْد حَكَ ْمتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" واملعين الذي حيمله احلديث أن هناك اجتهاد إنساين يف القضاء اعتمادا على
النصوص والقرائن الشرعية وأن اإلنسان جيتهد برأيه وحيكم حبكمه وميكن أن يصيب حكم اهلل تعاىل وميكن أن خيطئ
ولكن ال سبيل له ملعرفة هذه اإلصابة يف احلكم إال بواسطة معصوم وهو الرسول عليه الصالة والسالم فما دام أن الوحي قد
ختم فال ميكن إلنسان جيتهد يف مسألة ما مث يزعم أن حكمه فيها هو حكم اهلل تعاىل وهذا هو معىن نفي احلقيقة املطلقة
عند أيب يعرب .وهذا هو مقتضى القول بالتفريق بني الوجودين ألن الوجود اخلارجي ال يعلم حقيقته إال اهلل تعاىل وأما
الوجود الذهين البشري فيتفاضل ويقع فيه الصواب واخلطأ.
ومن لوازم التفريق بني الوجودين أن معيار احلقيقة ال يصبح مطابقة الوجود بل يصبح مطابقة املعايري اليت يضعها
االجتهاد االنساين ،وبعبارة أيب يعرب:
" بدال من معيار املطابقة يف نظرية املعرفة ونظرية العمل ،وضع االسالم معيار االجتهاد االمجاعي واجلهاد االمجاعي
فاعترب احلقيقة يف املعرفة اخللقية والشرعية غري مبنية على املطابقة مع الوجود والقيمة بل على اخلضوع ملعيار امجاع
11الرد على املنطقيين ،ص ،8:طبعة دار الكتب العلمية ،تحقيق :محمد حسن اسماعيل.
سالمية ،يوسف القرضاوي ،ص .47ااال ّ
12االجتهاد في الشريعة ِ
13اإلحكام في أصول األحكام ،ابن حزم ،ج ،6ص.54
21 12
القائمني بفعل النظر أو العمل مع الشروط اخللقية لألمانة العلمية والعملية والشروط املنهجية لكليتها مبعىن قابليتها للمتابعة
من كل انسان يريد التحقق منها" .14
وكال هذين األمرين من لوازم املذهب االمسي أما املذهب الواقعي فيدّعي أنه ميكن أن يطابق احلقيقة اخلارجية وهلذا
يعتقد أن املنطق آلة تعصم الذهن من اخلطأ أي إذا استخدمها بشكل صحيح أصاب احلقيقة أي طابق الواقع.15
والوجود الذهين أوسع من ا لوجود اخلارجي من جهة تعدد املمكنات ومن جهة التقديرات الذهنية .قال ابن تيمية :فَإِ َّن
تَصَوُّرَ الذِّهْنِيَّةِ أَوْسَعُ مِنْ الْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ فَإِنَّهَا تَشْمَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَالْمُمْتَنِعَ وَالْمُقَدَّرَاتِ" .16وهذا هو التصور االمسي
يف املعرفة ويقابله عند الواقعيني اعتقاد اإلمكانات العقلية املتعددة أهنا موجودة باخلارج ومن ذلك اعتقاد أن العدم شيئا
والصحيح أنه ليس بشيء إال يف الذهن .وأما يف االجتاه السفسطائي فهو يستغل هذا التنوع العقلي يف املمكنات من أجل نفي
احلقيقة أو نفي الوصول إليها .واإلمكان الذهين خيتلف عن اإلمكان اخلارجي .فاإلمكان الذهين هو أن يعرض الشيء على
الذهن فال يعلم امتناعه ،ال لعلمه بامتناعه بل لعلمه بعدم امتناعه ،واالمكان اخلارجي :حيصل بعلمه بوجوده أو وجود نظريه
أو وجود ما هو أبعد منه .يقول ابن تيمية" :اإلمكان يستعمل على وجهني إمكان ذهين وإمكان خارجي فاإلمكان الذهين أن
يعرض الشيء على الذهن فال يعلم امتناعه بل يقول ميكن هذا ال لعلمه بإمكانه بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذاك الشيء
قد يكون ممتنعا يف اخلارج .وأما اإلمكان اخلارجي فأن يعلم إمكان الشيء يف اخلارج وهذا يكون بأن يعلم وجوده يف اخلارج
أو وجود نظريه أو وجود ما هو ابعد عن الوجود منه فإذا كان االبعد عن قبول الوجود موجودا ممكن الوجود فاألقرب إىل
الوجود منه أوىل .17ويتبع مفهوم اإلمكان الوجودي والذهين مفهوم آخر هو مفهوم التشارك الذهين والوجودي .فالتشارك
يف اإلمكان الوجودي مو ضوع الرياضي التطبيقي وأما التشارك يف االمكان الذهين فهو موضوع العلم الصوري اخلالص مثل
الرياضيات اخلالصة.18
الوجود الذهين يدخله اخلطأ وأما الوجود اخلارجي فهو الوجود احلقيقي الذي من خالله يصحح االنسان تصوراته
ومفاهيمه" .20معلوم أن احلقائق اخلارجية املستغنية عنا ال تكو ن تابعة لتصوراتنا بل تصوراتنا تابعة هلا فليس إذا فرضنا
هذا مقدما وهذا مؤخرا يكون هذا يف اخلارج كذلك" وهذا األمر واضح يف التصور االمسي أما يف التصور الواقعي فتصبح
التصورات حاكمة على الوجود ألهنم ألغوا الثراء الوجودي واعتربوا ما وصلوا إليه من معارف حاكمة على الوجود وأما يف
االجتاه السفسطائي فيعتربون حصول اخلطأ يف التصور الذهين مدخال لنفي القدرة على الوصول إىل احلقائق يف الوجود
اخلارجي.
لقد استطاع ابن تيمية حل العديد من اإلشكاالت امل عرفية من خالل هذه النظرية النقدية املقابلة للنظريات املعرفية
السابقة ومن هذه التطبيقات:
حل إشكال العالقة بني املاهية والوجود من خالل التفريق بني الوجودين" :املاهية هي ما يرتسم يف النفس من الشيء
والوجود هو نفس ما يكون يف اخلارج منه وهذا فر ق صحيح فإن الفرق بني ما يف النفس وما يف اخلارج ثابت معلوم ال ريب فيه
وأما تقدير حقيقة ال تكون ثابتة يف العلم وال يف الوجود فهذا باطل .ومعلوم أن لفظ املاهية يراد به ما يف النفس واملوجود
يف اخلارج ولفظ الوجود يراد به بيان ما يف النفس واملوجود يف اخلارج فمىت أريد هبما ما يف النفس فاملاهية هي الوجود وإن
أريد هبما ما يف اخلارج فاملاهية هي الوجود أيضا وأما إذا أريد بأحدمها ما يف النفس وباآلخر ما يف الوجود اخلارج فاملاهية
غري الوجود ومعلوم أن االجتاه الواقعي جيعل املاهية غري الوجود إذا أريد هبما ما يف اخلارج وأما االجتاه السفسطائي فما
دام يشكك يف احلقائق واحلواس فهو يشكك يف الوجود واملاهيات أيضا.
ويتبع ذلك أيضا أن اب ن تيمية يرى أن الصفات ال تستقل يف وجودها عن الذوات ،وبالتايل فإن وجودها ال يسبق وجود
الذوات .يقول رمحه اهلل " :كَوْنَ الْوَصْفِ ذَاتِيًّا لِلْمَوْصُوفِ :هُوَ أَمْرٌ تَابِعٌ لِحَقِيقَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا سَوَاءٌ تَصَوَّرَتْهُ أَذْهَانُنَا أَوْ لَمْ
تَتَصَ وَّرْهُ .فَلَا بُدَّ إذَا كَانَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ ذَاتِيًّا دُونَ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَمْرًا يَعُودُ إلَى حَقِيقَتِهِمَا الْخَارِجَةِ الثَّابِتَةِ
بِدُونِ الذِّهْنِ .وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْخَارِجَةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ إلَّا مُجَرَّدُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الذِّهْنِ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا أَنْ
تَكُونَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَاهِيَّةُ هِيَ مَا يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ لَا مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ .وَذَلِكَ أَمْرٌ يَتْبَعُ تَقْدِيرَ صَاحِبِ الذِّهْنِ".24
ويقول كذلك يف سبيل التأكيد على هذه القضية أن تصور الشيء دون تصور صفاتٍ له ال يكون إال يف الذهن ،وأما املوجود
يف اخلارج فال بد أن يكون له صفات" :والواحد الذي قالوا إنه ال يصدر عنه إال واحد هو الواحد املسلوب عنه الصفات كلها
بل هو الوجود املقيد بكل سلب وهذا ال حقيقة له إال يف الذهن وأما الواقعيون فاعتربوا العدم شيئا بناء على ما ذكرناه
من إضفائهم البعد الوجودي على الكليات العقلية.
ساهم مذهب التفريق بني الوجودين يف مسألة تقسيم العلوم تقسيما خمتلفا عن التقسيم السائد الذي كان يتبع التفريق
بني العلم النظري والعملي أو التفريق بني العلوم القائمة على الضرورة وتلك القائمة على احلرية ،ويف النص التايل يتحدث
ابن تيمية عن تقسيم العلوم عند الفالسفة اليونان فيقول :وهلذا كانت العلوم عندهم ثالثة
-أما علم ال يتجرد عن املادة ال يف الذهن وال يف اخلارج وهو الطبيعي وموضوعه
اجلسم.
-وأما علم جمرد عن املادة يف الذهن ال يف اخلارج وهو الرياضي كالكالم يف املقدورات
املعدودة واملقدار والعدد.
حل مسألة الكليات -وهي مسألة فلسفية مشهورة -من خالل التفريق بني الوجودين :والكلي ال يكون كليا إال يف الذهن
فإذا عرف حتقق بعض أفراده يف اخلارج كان ذلك مما يعني على العلم بكونه كليا موجبا فانه إذا أحس اإلنسان ببعض األفراد
اخلارجية انتزع منه وصفا كليا ال سيما إذا كثرت أفراده فالعلم بثبوت الوصف املشترك ألصل يف اخلارج هو أصل العلم بالقضية
الكلية ويف نص آخر يتمم املعىن يقول ابن تيمية " :الكلي الطبيعي يف اخلارج فمعناه أن ما هو كلي يف الذهن هو مطابق
لألفراد املوجودة يف اخلارج مطابقة العام ألفراده واملوجود يف اخلارج معينا خمتص ليس بكلي أصال ولكن فيه حصة من الكلي.
وما يف ال ذهن يطلق عليه أنه قد يوجد اخلارج كما يقال فعلت ما يف نفسي ويف نفسي أمور أريد فعلها ومنه قوله تعاىل{ :إال
حاجة يف نفس يعقوب قضاها} وقول عمر كنت زورت يف نفسي مقالة أحببت أن أقوهلا ونظائره كثرية .والكلي إذا وجد يف
اخلارج ال يكون إال معينا ال يكون كليا فكونه كليا مشروط بكونه يف الذهن .
حل أصناف القضايا اليقينة عند الفالسفة وغريهم" :بيان أصناف اليقينيات عندهم اليت ليس فيها قضية كلية :فإذا كان
ال بد يف كل قياس من قضية كلية فنقول املواد اليقينيات قد حصروها يف األصناف املعروفة عندهم.
.1أحدها:
احلسيا ت ومعلوم أن احلس ال يدرك أمرا كليا عاما أصال فليس يف احلسيات املجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمة
يف الربهان اليقيين وإذا مثلوا ذلك بأن النار حترق وحنو ذلك مل يكن هلم علم بعموم هذه القضية وإمنا معهم التجربة
والعادة اليت هي من جنس قياس التمثيل ملا يعلم ونه من احلكم الكلى ال فرق بينه وبني قياس الشمول وقياس التمثيل وإن
علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة حمرقة فالعلم بأن كل نار ال بد فيها من هذه القوة هو أيضا حكم كلى .وال أعلم يف
القضايا احلسية كلية ال ميكن نقضها مع أن القضية الكلية ليست حسية وإمنا القضية احلسية أن هذه النار حترق فان احلس
ال يدرك إال شيئا خاصا وأما احلكم العقلي فيقولون إن النفس عند رؤيتها هذه املعينات تستعد الن تفيض عليها قضية كلي
بالعموم ومعلوم أن هذا من جنس قياس التمثيل وال يوثق بعمومه أن مل يعلم أن احلكم العام الزم للقدر للمشترك وهذا إذا
علم علم يف مجيع املعينات فلم يكن العلم باملعينات موقوفا على هذا.
األوليات وعالقتها بالوجودين الذهين واخلارجي :خالفا للتصور الواقعي فإن مذهب التفريق بني الوجودين يرى أن
األوليات ليست صفة ذاتية يف القضية بل هي تابعة لتصور اإلنسان هلا وترتيبه للقضايا يف ذهنه .يقول ابن تيمية " :فتبني
أن الفرق الذي ذكره بني األوليات واملشهورات من أن األويل هو الذي يكون محله على موضوعه يف الوجودين محال أوال ،
ال ثانيا ،غلط ال يستقيم ،ال يف الوجود اخلارجي ،فإنه ليس يف اللوازم ترتيب حىت يكون بعضها أوال وبعضها ثانيا وال يف
الذهين .فان الوسط إمنا هو الدليل فيعود الفرق إىل أن األوليات ما ال يفتقر إىل دليل والنظريات ما يفتقر إىل دليل وهذا
كالم صحيح متفق عليه ال حيتاج إىل ما ذكروه ولكن هذا يوجب كون القضية أولية ونظرية هو من األمور اإلضافية فقد
تكون بديهية لزيد نظرية لعمرو باعتبار متام التصور فمىت تصور الشيء تصورا أمت من تصور غريه تصور من لوازمه ما مل
يتصوره ذو التصور الناقص فلم حيتج يف معرفته بتلك اللوازم إىل وسط واحتاج صاحب التصور الناقص إىل وسط وأيضا فهذا
ال يوجب كون املشهورات ليست يقينية كما سنذكره أن شاء اهلل ويف نص آخر يقول " :إن الفرق بني القضية الربهانية
والبديهية إمنا هو بالنسبة واإلضافة ،فقد يكون النظري عند شخص بديهيا عند غريه"
حل إشكال العالقة بني احلقيقة واملجاز :يف هذه املسألة نالحظ امتداد آثار مذهب التفريق بني الوجودين إىل املجال
اللغوي .يقول ابن تيمية يف نقد التفريق بني احلقيقة واملجاز :إنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ فَمِنْ أَفْسَدِ
ك الْأَقْوَالِ ،فَإِنَّهُ يُقَالُ :إذَا كَانَ اللَّفْظُ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا ُمقَيَّدًا؛ فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِ ْنهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِ َ
الْمَوْضِعُ .وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ؛ فَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا قَطُّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَالُ إطْلَاقٍ مَحْضٍ حَتَّى يُقَالَ :إنَّ الذِّهْنَ يَسْبِقُ إلَيْهِ
أَمْ لَا ...كَمَا أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ الْمَنْطِقِيُّونَ مِنْ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الذِّهْنِ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ
شَيْءٌ مَوْجُودٌ خَارِجٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ"" .34وَالتَّحْقِيقُ :أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا وَلَا يُوجَدُ اللَّفْظُ
الدَّالُّ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُقَيَّدًا مُخَصَّصًا وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا كَانَ مَحَلُّهُ الذِّهْنَ وَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ لَهُ لَفْظٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ
مَوْجُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ مُجَرَّدًا".35
التفريق بني الوضع واالستعمال يف اللغة يقوم أيضا على أساس التفريق بني الوجودين يتضح ذلك من خالل تقريرات
ابن تيمية املرتبطة هبذا الشأن ومنها:
.1ال ميكن جتريد اللفظ من االستعمال ،فكما انه ال ميكن جتريد احلركة عن املتحرك فكذلك
العالقة بني اللفظ واالستعمال.
.2وجتريد اللفظ عن االستعمال ممكن يف الذهن ولكن ال ينبغي تسميته لفظ وإمنا لفظا
مقدرا.
.3أما الذين فصلوا الوضع عن االستعمال فهؤالء كاملناطقة جردوا املعاين وعزلوها عن
التفريق بني املعىن واملراد مرتبط كذلك بالتفريق بني الوجودين حيث يرى ابن تيمية رمحه اهلل :
.1استخدم مصطلح املعىن للداللة على الصورة الذهنية اليت حييل عليها اللفظ.
.2والصورة الذهنية مسيت تسميات كثرية باعتبارات خمتلفة فهي املعىن حني تكون مقصودة
باللفظ ومن حيث كوهنا تستدعي اللفظ يف الذهن مسيت مفهوما ومن حيث هي جواب على
سؤال ما هذا ؟ مسيت ماهية ،ومن حيث حتققها يف العامل اخلارجي مسيت حقيقة ،ومن
حيث متيزها عن األغيار مسيت هوية ،ومن حيث كوهنا موضوعا للفظ مسيت مسمى ،ومن
حيث كوهنا مستنبطة مسيت مدلوال.
.3والداللة اليت هي (فهم املعىن عند إطالقه) ال تتحقق أبدا دون االستعمال .وهبذا املفهوم
يصبح املعىن مساويا للمراد .وحتييد الفرق بني املعىن واملراد مترتب على عدم التفريق
بني الوضع واالستعمال .ومن نتائج هذا التحييد :التقليل من شأن املعىن الوضعي لصاحل
املعىن اإلصطالحي.
ولعلها أهم ا ملسائل وهي استخدام مبدأ التفريق بني الوجودين يف نقد أداة العلم األرسطي الواقعي ويتضح ذلك من خالل
النظر يف تقريرات ابن تيمية اليت أسس عليها نظريته يف نقد احلد املنطقي واليت تقوم على أسس منها:
.1التصور خمتلف عن الداللة واإلشارة ألنه عملية طبيعية يف حني أن كليهما عملية وضعية
وسياقية" .جمرد االسم ال يوجب تصور املسمى ملن مل يتصوره بدون ذلك" .36وإمنا االسم
يفيد الداللة عليه واإلشارة إليه .فالداللة عالقة بني اللفظ واملعىن واإلشارة عالقة بني
التفاضل واالختالف بني املوجودات وعالقته بالوجودين" :النَّاسَ إذَا تَكَلَّمُوا فِي التَّفَاضُلِ وَالِاخْتِلَافِ فَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي
تَفَاضُلِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا فِي تَفَاضُلِ أَمْرٍ مُطْلَقٍ مُجَرَّدٍ فِي الذِّهْنِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّوَادَ مُخْتَلِفٌ
فَبَعْضُهُ أَشَدُّ مِ ْن بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الْبَيَاضُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَلْوَانِ .وَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا السَّوَادَ الْمُجَرَّدَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ فَهَذَا
لَا يَقْبَلُ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَاضُلَ لَكِنَّ هَذَا هُوَ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ .وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ وَقَعَ فِيهِ كَثِريٌ مِنْ الْخَائِضِنيَ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا تَفَاضُلَ الْعَقْلِ أَوْ الْإِجيَابِ أَوْ التَّحْرِميِ وَإِنْكَارُ التَّفَاضُلِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَمْثَالِهِمَا
لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ".38
حل إشكال وحدة الوجود عند غالة املتصوفة من خالل التفريق بني الوجودين :يقول ابن تيمية رمحه اهلل" :غَايَةُ حَقِيقَةِ
هَؤُلَاءِ إنْكَارُ " أُصُو ِل الْ إِميَانِ " بِأَ ْن يُؤْمِنَ ِباَللَّهِ وَمَلَائِكَتِ ِه َوكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ جَحْ ُد الْخَالِقِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا
وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ وَقَالُوا :الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ
تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ كَمَا تَشْتَرِكُ الْأَنَاسِيُّ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانَاتُ فِي مُسَمَّى الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ
لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَإِلَّا فاحليوانية الْقَائِمَةُ بِهَذَا الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْفَرَسِ وَوُجُودُ السَّمَوَاتِ
لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ وُجُودُ الْإِنْسَانِ فَوُجُودُ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ لَيْسَ هُوَ كَوُجُودِ مَخْلُوقَاتِهِ".39
نستخلص من هذا الفصل أن املعرفة من منظور امسي هي مثرة التفريق بني الوجودين الذهين واخلارجي وأن هذا املبدأ
الذي قال به ابن تيمية كان له آثار معرفية كثرية على فكره ولعل أمهها هي تلك الطالقة العلمية اليت كان يتمتع هبا يف
التعامل مع املعرفة.
▪ باااكااالااوريااوس يف
الشريعة اإلسالمية
من جااامعااة اإلمااام
حممد بن سعود سنة
▪ مذهب التفريق بني الوجوديني
2013
▪ مفهوم الفلسفة عند أيب يعرب املرزوقي
▪ طبيعة الفن والتمثيل ...مدخل قبل اخلوض ▪ باااكااالااوريااوس يف
اهلندسة امليكانيكية
يف احلكم الشرعي ا ل ت ط ب ي قيااة من
▪ علل تقييم اخلطاب اإلسالمي جااامعااة امللااك فهااد
▪ احلسبة يف ظل اخلالفة ويف ظل الدولة احلديثة للبترول واملعااادن
سنة 2007
▪ مدخل إىل حماولة أيب يعرب املرزوقي
اإلصالحية (ينشر قريبا)
▪ شااااهااادة اإلعتماااد
الااادويل يف إدارة
املشاريع