الهروب من الإيديولوجيا

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 28

‫القسم األول‪ :‬املعرفة حني تكون إمسية‬

‫الباحث واملهندس‬

‫بدر حممد أمحد باسعد‬

‫األمساء والبيان‬
‫القسم األول‪ :‬املعرفة حني تكون إمسية‬

‫‪2017 02 01 1438 05 04‬‬

‫األمساء والبيان‬
‫‪1‬‬
‫‪1‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪1‬‬ ‫املدخل األول ‪:‬املدخل احلواري‬
‫‪7‬‬ ‫املدخل الثاين ‪:‬املدخل الفلسفي‬
‫‪7‬‬ ‫املدخل الثالث‪ :‬املدخل التيمي‬
‫‪8‬‬ ‫العنصر األول‪ :‬مسات الوجودين الذهين واخلارجي‬
‫‪10‬‬ ‫العنصر الثاين‪ :‬السمات املحددة لكل من الوجودين الذهين واخلارجي‪:‬‬
‫‪10‬‬ ‫السمة األوىل‪:‬‬
‫‪11‬‬ ‫السمة الثانية‪:‬‬
‫‪11‬‬ ‫السمة الثالثة‪:‬‬
‫‪12‬‬ ‫السمة الرابعة‪:‬‬
‫‪12‬‬ ‫السمة اخلامسة‪:‬‬
‫‪13‬‬ ‫السمة السادسة‪:‬‬
‫‪14‬‬ ‫السمة السابعة‪:‬‬
‫‪14‬‬ ‫السمة الثامنة‪:‬‬
‫‪14‬‬ ‫العنصر الثالث‪ :‬اإلشكاالت اليت مت عالجها بناء على مذهب التفريق بني الوجودين‬
‫‪14‬‬ ‫اإلشكال األول‪:‬‬
‫‪15‬‬ ‫اإلشكال الثاين‪:‬‬
‫‪15‬‬ ‫اإلشكال الثالث‪:‬‬
‫‪15‬‬ ‫اإلشكال الرابع‪:‬‬
‫‪16‬‬ ‫اإلشكال اخلامس‪:‬‬
‫‪16‬‬ ‫اإلشكال السادس‪:‬‬
‫‪17‬‬ ‫اإلشكال السابع‪:‬‬
‫‪18‬‬ ‫اإلشكال الثامن‪:‬‬
‫‪18‬‬ ‫اإلشكال التاسع‪:‬‬
‫‪18‬‬ ‫اإلشكال العاشر‪:‬‬
‫‪19‬‬ ‫اإلشكال احلادي عشر‪:‬‬
‫‪19‬‬ ‫اإلشكال الثاين عشر‪:‬‬
‫‪20‬‬ ‫اإلشكال الثالث عشر‪:‬‬
‫‪20‬‬ ‫اإلشكال الرابع عشر‪:‬‬
‫‪21‬‬ ‫اإلشكال اخلامس عشر‪:‬‬
‫‪21‬‬ ‫خالصة الفصل‬
‫تعترب االمسية احدى النظريات اليت تبيّن طبيعة املعرفة اإلنسانية وقد قامت على أنقاض االجتاه الواقعي يف املعرفة‬
‫والذي بدوره كان تصحيحا لالجتاه السفسطائي يف املعرفة‪.‬‬
‫وسوف أحاول شرح معىن أن تكون املعرفة امسية من خالل ثالثة مداخل‪،‬‬
‫رمبا يكون يف هذا تكرارا وملال للقارئ‬
‫ولكن أعتقد أن اختالف اخللفيات الثقافية لدى القراء رمبا جتعل املداخل املتعددة مفيدة‪.‬‬
‫وعلى كل فإن القارئ مىت ما رأى استيعابا ألحد هذه املداخل فيكفيه وميكن أن ينتقل إىل الفصل الثاين مباشرة ‪.‬‬
‫واملداخل الثالثة هي‬
‫▪ املدخل احلواري ‪:‬‬
‫ويناسب القراء الذين ال حيبون اللغة الفلسفية أو البناءات العلمية املنطقية اليت رمبا تكون مملة وجافة ‪.‬وعادة ما‬
‫يهدفون إىل تكوين اعتقاد معني حول طبيعة املعرفة ويكون جل اهتمامهم هو استثماره وتفعيله واالستفادة منه عمليا ‪.‬‬
‫▪ املدخل الفلسفي‪:‬‬
‫ويهم القراء الذين يسعون إىل إدراك األسس العلمية بلغة فلسفية وبناء علمي صارم وعادة ما يكون جل مههم منصب‬
‫على النقد العلمي اجلاد واكتشاف الثغرات املنطقية واالحتماالت البديلة ‪.‬‬
‫▪ املدخل التيمي ‪:‬‬
‫ويهدف إىل خماطبة القراء ذوو التكوين الشرعي والذين ينصب جل اهتمامهم على مسألة تأصيل الفكرة وبناء‬
‫الفروع على األصول العلمية الشرعية املعروفة سلفا ومعرفة ما إذا كانت الفكرة اجلديدة متسقة مع األصول أم ال ‪.‬‬

‫هو حوار متخيل غرضه عرض االمسية واالعتراضات الشائعة حوهلا مع بيان الرد العلمي املناسب عل كل اعتراض ‪.‬‬
‫سألين صاحيب ‪:‬ما هو هذا االجتاه االمسي يف املعرفة؟‬
‫قلت ‪:‬هو االجتاه الذي يعترب العلم اختراعا إنسانيا ‪.‬‬
‫فردد عباريت بتمهل وهو حيك ذقنه متفكرا ‪:‬العلم اختراع إنساين ‪.‬عبارة ثرية باملعاين ‪.‬فاالختراع خيتلف عن‬
‫االكتشاف ألنه يعين أنه إبداع وابتكار بينما االكتشاف هو انفعال مبا هو موجود يف اخلارج وليس لإلنسان دور فيه إال‬
‫الكشف عنه ‪.‬أليس ذلك؟ !رددت منبهرا باستنتاجه السريع لتلك املسألة العويصة ‪:‬بلى !العلم اختراع انساين وأما الذين‬
‫يقولون إنه اكتشاف فهم الواقعيون ‪.‬أكمل صاحيب استنتاجاته الذكية ‪:‬واالختراع يكون هلدف معني ‪ ...‬قاطعته فرحا‬
‫مبالحظته وأنه بدأ يدرك أبعاد املوضوع الذي أحدثه عنه ‪:‬أحسنت والعلم كذلك ‪.‬فقال ‪:‬وإذا ما زال اهلدف فإنه‬
‫االختراع يعد ال قيمة له ‪.‬قلت ‪:‬صحيح ‪.‬قال ‪:‬واالختراعات تتحسن وتتطور ‪.‬قلت ‪:‬كذلك النظريات العلمية ‪.‬قال ‪:‬وقد‬
‫‪21‬‬ ‫‪1‬‬
‫يكون لدينا أكثر من اختراع خيدم ذات اهلدف ‪.‬قلت ‪:‬هي النظريات تتنافس ‪.‬قال ‪:‬وأفضلها هو الذي يؤدي الغرض ‪.‬قلت ‪:‬‬
‫وكذلك النظريات العلمية أفضلها أقدرها على تفسري الظاهرة وأقلها شذوذا ‪.‬تابع قائال ‪:‬وما دام األمر كذلك فإن‬
‫االختراع ال يوصف بأنه صادق أو كاذب أو حق أو باطل ‪.‬وقلنا بصوت واحد متناغم ومنسجم ‪:‬ولكن يوصف بأنه جمدي أو‬
‫عدمي اجلدوى ‪.‬وقلت ‪:‬الحظ أن املخترع ال يكتفي باختراعه بل يطلب ما هو أفضل منه فهو يستمر يف البحث العلمي‬
‫وينفتح على التجربة ويتعرف على االختراعات الشبيهة يف نفس املجال وال يعترب ما توصل إليه أنه أفضل اختراع ‪.‬فقال‬
‫مستنتجا ‪:‬وكذلك العامل صاحب النظرية العلمية يطلب دوما ما هو أفضل منها ‪.‬‬
‫وأردف قائال ‪:‬لكن هناك مسألة تبدو عويصة‪ ،‬إذا كان العلم اختراعا إنسانيا‪ ،‬فكيف خنترعه؟ !‬
‫قلت ‪:‬قد أتيت على املحك‪ ،‬خيترع املشتغل بالعلم معلومه (نظريته العلمية) من خالل عملييت التحليل والتركيب ‪.‬يف‬
‫العملية األوىل ‪:‬حياول أن حيلل املوضوع اخلارجي إىل مقومات أساسية مث يدرسها دراسة نظرية بعيدة عن املوضوع‬
‫فيستخلص شروطها وموانعها ويستنتج العالقات بني املقومات ‪.‬ويف العملية الثانية اليت هي التركيب يقوم مبطابقة ما‬
‫استخلصه من معارف مع املوضوع اخلارجي ليتأكد هل ما استنتجه صحيح أم ال؟ ومن مث يكون مدخال لعالج الواقع أو‬
‫لتحسني منوذجه النظري (النظرية العلمية)‪.‬‬
‫رد متعجبا ‪:‬ولكن أال ختتلف هذه العملية باختالف العلوم؟‬
‫قلت ‪:‬ال‪ ،‬كل العلوم هلا ذات التنسيق يف االختراع ‪.‬‬
‫فاستنكر ذلك‪ ،‬وقال ‪:‬أليست العلوم الطبيعية ختتلف عن العلوم اإلنسانية‪ ،‬كيف ميكن هلذه هلا مجيعا أن ختضع لنفس‬
‫األسلوب يف التنسيق والبناء العلمي؟‬
‫قلت مبتسما ‪:‬ال ختتلف ألهنا مجيعا ختضع ملجرى العادات ‪.‬دور العامل أن يالحظ عادة املوجود سواء كان طبيعة أو‬
‫بشرا ‪.‬‬
‫قال بعد أن خفت حدّته ‪:‬ولكن املنهج املتّبع يف العلوم اإلنسانية ليس املنهج التجرييب بل مناهج أخرى كاملنهج التارخيي‬
‫يف دراسة كذا واملنهج السلوكي يف علم النفس واملنهج املقارن يف املقارنة بني املدارس املختلفة يف موضوع واحد ‪.‬‬
‫قلت ‪:‬ما ذكرته ال يتعارض مع كوهنا هذه املناهج مجيعا تؤول إىل املنهج التجرييب‪ ،‬فالتجريب الذي نعنيه هو مالحظة‬
‫عادة املوجودات‪ ،‬وكلها خاضعة لنفس األسلوب واالختالف بينهما كمي وليس كيفي ‪.‬فالتجربة التارخيية يف العلوم‬
‫اإلنسانية تقوم مقام التجربة يف املعمل للعلوم الطبيعية وكال التجربتني يقوم العامل بالتحليل والتركيب الذي ذكرناه ‪.‬‬
‫وبأخصر عبارة ‪:‬التجريب املقصود هو التجريب املقابل للتقدير الذهين‪.‬‬
‫إذا كان ما تقوله صحيحا‪ ،‬فما هو منهج علوم اللغة؟‬
‫قلت ‪:‬منهجها مالحظة عادة واضعها إذا كان املقصود معرفة قواعدها وإذا كان القصد معرفة البالغة فهي مالحظة حال‬
‫السامع ‪.‬‬
‫قال متحدّيا ‪:‬والعلوم الشرعية؟ !‬
‫قلت ‪:‬العلوم الشرعية إما أن تكون تفسريا فهذه تعود إىل علوم اللغة اليت ذكرنا أهنا عادة العرب أو معرفة مراد‬
‫املتكلم وهي تعود إىل عادة املتكلم أو السامع والقرائن اليت حتتف باخلطاب أو أهنا فقها فهذه تعود باإلضافة إىل ما سبق‬
‫إىل مالحظة عادة الشارع يف التشريع وهكذا‪.‬‬
‫ولكن كيف يكون العلم بالوحي اختراعا إنسانيا؟ !‬
‫قلت ‪:‬لنفس األسباب اليت جتعل من علم الطبيعة وعلم االنسان اختراعا إنسانيا ‪.‬‬
‫قال ‪:‬ولكن هذا وحي وتشريع من عند اهلل ‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪2‬‬
‫قلت ‪:‬ومن قال إن الطبيعة من عند االنسان ‪.‬السنن الكونية يف الطبيعة والسنن الكونية يف االنسان واملجتمع هي أيضا‬
‫من عند اهلل ‪.‬‬
‫قال ‪:‬أعين أنك حني تقول إن العلم الشرعي اختراعا إنسانيا فكأنك جتعله بال مضمون‪ ،‬أو أن االنسان يضع مضمونه‬
‫من عنده دون أن يكون مرتبطا بالوحي ‪.‬‬
‫اآلن أقول لك أهم مسألة يف النظرية االمسية يف املعرفة وهي أيضا األساس الذي تنبين عليه أال وهو ‪:‬التفريق بني‬
‫الشيء يف ذاته والشيء كما يظهر لنا وندركه وتسمى أيضا مسألة التفريق بني الوجود الذهين والوجود اخلارجي ‪.‬هذا‬
‫التفريق يشرح لك بسهولة مسألة املضمون العلمي عندما يكون العلم اختراعا إنسانيا ‪.‬وهذا التفريق هو الذي جيعلنا منيّز‬
‫بني املوضوع اخلارجي وما أدركناه منه ‪.‬فما دام ما ندركه من الوحي ومن الطبيعة ومن االنسان ميكن أن يكون صوابا‬
‫وميكن أن يكون خاطئا وإذا كان صوابا فإنه يتفاضل يف التصور بني املجتهدين من حيث األدلة ووجوه االستدالل وأصول‬
‫املسألة ولوازمها وما ينبين عليها فإنه ال ميكن أن يكون وحيّا أو سنة كونية بل هي اجتهادات وسوف تظل اجتهادات ما‬
‫دامت علما إنسانيا ‪.‬‬
‫ال بأس بكل هذا‪ ،‬ولكن أين االختراع يف املوضوع؟ !‬
‫االختراع هو لفظ يطلق على النظرية العلمية اليت ينتجها العامل من أجل أن يستخدمها يف إنتاج املعرفة ‪.‬فانظر مثال‬
‫إىل تعدد املذاهب الفقهية لتجد أهنا مبثابة تعدد النظريات العلمية وتعدد املذاهب العقدية والكالمية هي نظريات‬
‫خمتلفة ومتفاوتة النجاعة يف تفسري النص الشرعي ‪.‬ولو عدّت ملا ذكرناه حول عملييت التركيب والتحليل والحظت عملية‬
‫التأصيل الشرعي لوجدهتا ال خترج عن هاتني العمليتني‪.‬‬
‫فلتضرب يل مثاال على املقومات تلك اليت يستخرجها الفقيه؟!‬
‫إهنا ببساطة مقومات احلكم الشرعي واملقومات هي ما به قيام الشيء أي أهنا أركانه ‪.‬وأركان احلكم معروفة هي‬
‫الدليل واالستدالل واملستدل واحلكم ‪.‬ومعروف أهنا هذه األربعة هي عماد أصول الفقه‪.‬‬
‫تأمل يف نفسه برهة مث سألين ‪:‬فما مزنلة القطعي يف االمسية وأخص بالذكر القطعيات يف العلوم الشرعية؟‬
‫وصف داللة معينة أهنا قطعية أي واضحة وضوحا ال يتطرق إليه شك هو وصف إضايف بالنسبة إىل املستدل ووصف‬
‫الداللة بالقطعية مثل وصفها بأهنا بدهية كالمها وصف إضايف ‪.‬ومعىن هذا أن القطعي حيتفظ مبكانته ما مل حيل حمله‬
‫اجتهاد آخر ‪.‬‬
‫ولكن هذا يفتح الشك يف قطعيات امللة؟‬
‫بل هذا إذا انضاف إليه احلرية العلمية يفتح الباب لتحديها حتديا علميا واحتفاظها مبكانتها القطعية رغم النقد‬
‫املستمر الذي يقلب وجهات النظر واحتماالت االستدالل يدل على استحقاقها هذه املكانة ‪.‬فتعريف القطعي والبديهي بأهنا‬
‫أوصاف إضافية ال يفتح الشك بل يفتح باب التواضع العلمي فال يعتقد املجتهد يف علمه أنه علما مطلقا‪..‬‬
‫ال زال يف قليب ريب من هذه املسألة ‪.‬‬
‫حسنا‪ ،‬هل ترى وصفي للقطعي بأنه وصف إضايف صحيح أم ال؟‬
‫نعم‪ ،‬أتفق معك ‪.‬‬
‫إذا‪ ،‬لنأيت اآلن إىل وسائل حتقيق القطعي يف الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ما هي؟ هل رأي عامل ما بأن هذه املسألة قطعية‬
‫جيعلها قطعية حقا أم أنّ ما يكسب مسألة ما صفة القطعية هو التواتر االستداليل على غرار التواتر احلديثي؟ !‬
‫نعم‪ ،‬تكتسب املسألة قطعيتها بالتواتر االستداليل كما ذكرت ويف االصطالح الشرعي ‪:‬بإمجاع العلماء ‪.‬‬
‫ما دام األمر كذلك‪ ،‬فهل يعقل أن خيالف أحد إمجاع العلماء؟ وإذا خالفهم فهل يعقل أن يكون احلق معه؟‬
‫‪21‬‬ ‫‪3‬‬
‫ال ‪.‬‬
‫ملا ال ‪ ،‬وقد حتقق هذا تارخييا وليس جمرد فكرة نظرية ومثاهلا مسألة طالق الثالث اليت خالف فيها ابن تيمية امجاع‬
‫العلماء عرب قرون وكان أكثر حتقيقا منهم وأجدر بالصواب ‪.‬‬
‫نعم حصل هذا ولكن هذا يعين أن االمجاع مل يتحقق بشروطه واليت لو توفرت ملا حصل هلا هذا اخلالف ‪.‬‬
‫اإلمجاع بشروطه اليت تتحدث عنها ال يكاد ينعقد ألنه يسعى إىل حتقيق التطابق بني الشيء يف ذاته والشيء يف‬
‫تصورنا له وهذا التطابق مستحيل ‪.‬ومن يدّعيه فهي ببساطة يدّعي أنه أصاب حكم اهلل تعاىل وهذا ما ال ميكن أن يدّعيه‬
‫راسخ يف العلم ‪.‬‬
‫إذا وأركان اإلسالم وغريها من تعاليم الشريعة كيف نثق هبا؟‬
‫هذه من األخبار وليس فيها اجتهاد سوى فهم النص من خالل فهم معناها اللغوي املتواضع عليه عند العرب وهي واضحة‬
‫الداللة متكررة الذكر متعاضدة األدلة نظرا وعمال عند الرسول والصحابة مبا ال يدع جماال للشك يف تفسريها ‪.‬وهذا من‬
‫اهتمام الشارع باألصول وجعلها بينّة لكل طالب حق وأما طالب الزيغ فهذا ال يكاد يهتدي إال إىل ما وافق هواه ‪.‬‬
‫قال صاحيب ‪:‬ما كنت أظن أن االمسيّة سوف جترّنا إىل هذه األبعاد من املعرفة؟‬
‫قلت ‪:‬ال زلنا يف بداية الطريق وأصدقك القول إين مل أكن أتوقع أن تتصور مسائلها هبذه السهولة ‪.‬‬
‫قال ‪:‬أتدري أن ما أعجيب يف كالمك هو قدرة النظرية االمسية على تفسري طبيعة العلم أيا كان جماله وهذا وحده ما‬
‫يدفعين لالستزادة يف التعرف على هذا االجتاه ‪.‬‬
‫مث سألين ‪:‬حسنا‪ ،‬أعتقد أننا استفضنا كثريا حول تبعات هذا املوقف من العلم ولكننا مل نتحدث عن أسسه اليت يستند‬
‫إليها‪ ،‬فعلى أية أساس قلت إن العلم جمرد اختراع إنساين؟ !‬
‫مجيل‪ ،‬إذا كنت تتفق معين أن العلم هو ما ندركه من الوجود وليس هو الوجود ذاته فسوف تتفق معي أن العلم‬
‫اختراع إنساين ‪.‬‬
‫يعترض قائال ‪:‬أوافقك يف املقدمة وأخالفك يف الزمها ‪.‬نعم علمنا هو علم جبزء من الوجود وهو اجلزء الذي تدركه‬
‫حواسنا ولكن هذا ال يعين أننا اخترعنا هذا اإلدراك بل هو إدراك حقيقي للوجود ‪.‬‬
‫حسنا‪ ،‬إذا كان إدراك حقيقي‪ ،‬فلما يقع يف اخلطأ ‪.‬‬
‫اجلواب ملحدودية احلواس ‪.‬‬
‫إذا أنا ال أقول إننا خنترع اإلدراك بل أقول مبا أن إدراكنا ال ينقل الوجود كما هو بل صورة مشوهة من الوجود فقد‬
‫بات لدينا صورتان ‪:‬الوجود احلقيقي والذي ال قدرة لإلنسان مبعرفة معرفة شاملة ومطلقة والوجود الذهين الذي هو‬
‫تصورنا عن هذا الوجود بناء على إدراكاتنا منه ‪.‬والعلم هو ترتيب هذه اإلدراكات ترتيبا منطقيا متسلسال من قواعد‬
‫وأسس وأصول وقضايا استنباطية من هذه األصول ‪.‬وهذه الطريقة املنطقية هي ما تفصل ما يسمى علما وما يسمى معرفة‬
‫عامة وساذجة ‪.‬‬
‫كالمك يبدو منطقيا ومجيال ولكين ال زلت أرى رغم هذا أن اعتبار هذا التفاوت بني الوجودين اخلارجي والذهين ال‬
‫يؤسس للقول بأن العلم اختراع إنساين‪.‬‬
‫إذا كنت تعترف مببدأ الفصل بني الوجودين فالبد لك من القول بأن العلم اختراع إنساين ‪.‬لسببني ‪:‬‬
‫العلم صورة عن الوجود ال يلزم أن تكون مطابقة له ‪.‬واختراع اإلنسان للميكروسكوب وكذا للمناظري الفلكية فتح له‬
‫صور من الوجود كانت أمام عينيه ولكن خارج قدراته اإلدراكية ‪.‬‬
‫ومن مث فال ميكن لإلنسان ادّعاء أن علمه مطابق للوجود حىت لو كان يتحدث عن جزئية بعينها‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪4‬‬
‫وأيضا اكتشفنا من خالل التقدم العلمي والنظريات اليت نقضت بعضها البعض يف جمال معريف معني أنه ميكن للظاهرة‬
‫الواحدة أن يكون هلا أكثر من تفسري وبالرغم من ذلك يكون لكل تفسري نتائج تطبيقية متفاوتة ومتناسبة معه ‪.‬‬
‫حسنا‪ ،‬فهما إذا أن النظرية اختراع مثل أي اختراع مادي وأما النتائج واحلقائق اليت نتوصل إليها من خالل هذا‬
‫االختراع فهي حقائق مؤقتة ألهنا ميكن أن تتغري حبسب املستجدات واملراجعات العلمية ‪.‬وهذا كله منطقي اآلن ‪.‬ولكن‬
‫ماذا عن املدخالت هلذه العملية هي تعترب حقائق أم ال؟‬
‫تقصد املدركات واملالحظات اليت هي حمل البحث العلمي؟!‬
‫نعم ‪.‬‬
‫هذه املدركات كما تعلم أهنا نسخة باهتة من الواقع لقصور احلواس اإلنسانية ولذا هي إما أن تكون إدراك حقيقي أو‬
‫غري حقيقي أو خليطا بني احلقيقة وعدمها ‪.‬فاإلدراكات تعترب ‪....‬‬
‫أعتقد أننا ناقشنا هذه النقطة مبا فيه الكفاية‪ ،‬ولتسمح يل أن أحوّل مسار املوضوع لنقطة أخرى ال تقل أمهية ‪.‬‬
‫تفضل ‪.‬‬
‫هل ينطبق ما تقوله على العلوم الشرعية؟ هل أيضا هي اختراع إنساين‪ ،‬واحلقيقة فيها مؤقتة؟ !‬
‫جوايب هو نعم ‪.‬ولكن قبل أن تتعجل بالرد عليّ دعين أوضح لك كيف يكون ذلك ‪:‬النظرية هنا مثل النظرية يف العلوم‬
‫الطبيعية واإلنسانية هي األداة املنهجية ‪.‬يف العلوم الشرعية يعترب أصول الفقه اختراع إنساين واحلقائق اليت تنتج عنه‬
‫هي حقائق مؤقتة ‪.‬مع فارق وحيد هو أن العلم كما قال ابن تيمية نوعان ‪:‬خرب عن معصوم أو قول عليه دليل معلوم‬
‫والوحي يتضمن النوعان بعكس العلوم األخرى فما كان من قبيل اخلرب عن املعصوم فهذا يؤخذ تصديقا به أعين ما أخرب‬
‫به الرسول عليه الصالة والسالم من الغيب فهذا خرب نؤمن به واجتهادنا فيه هو اجتهاد يف فهمه وليس يف مضمونه ‪.‬بعكس‬
‫احلكم على النوازل الفقهية فهذا يعترب احلكم حقيقة مؤقتة وأصول الفقه اختراع إنساين ‪.‬وهذا التفريق مهم ألنه‬
‫يفصل بني الوحي وبني علم اإلنسان املستخرج من الوحي مثلما فصلنا يف العلوم الطبيعية بني الطبيعة( احلقيقة‬
‫اخلارجية )وبني علمنا بالطبيعة ( احلقيقة كما تبدو لنا ‪).‬‬
‫لكنك هبذا التفريق حتيل كل األحكام إىل حقائق مؤقتة وهتدم الدين هبذا األمر؟‬
‫لو جتنبنا هذا التجين بأنين أهدم الدين وركزنا على النقاط املعرفية لتكتمل النظرية لكان أويل ‪.‬إن هذا التفريق‬
‫موجود عند علماء اإلسالم فهم يفرقون بني ما فيه نص وما هو اجتهاد وأنا مل أفعل شيئا غري أن مسيت االجتهاد حقيقة‬
‫مؤقتة ‪.‬‬
‫لكنك مل تسم ما فيه نص حقيقة دائمة‪.‬‬
‫أمسي ما فيه نص حقيقة دائمة إذا كان مبزنلة اخلرب عن املعصوم ‪.‬ألن ما فيه نص هو أيضا خاضع لالجتهاد والعلماء‬
‫يدركون ذلك ‪.‬وعلى سبيل املثال يقولون ‪:‬إن أعلى طرق التفسري هو تفسري القرآن بالقرآن ولكن عندما نأيت عمليا فإنه‬
‫ليس كل تفسري للقرآن بالقرآن يكون صحيحا وهذا مثال مثال ملعىن االجتهاد فيما فيه نص ويف الفقه يكون االجتهاد فيما‬
‫فيه نص اجتهاد ربط احلادثة بالنص ‪.‬وأعتقد أن حديث سعد بن معاذ هو أهم حديث يف الداللة على املعىن املقصود ‪.‬‬
‫حسنا أستاذي‪ ،‬طمعا يف مزيد من االقتناع بكالمك‪ ،‬لنفترض أنين أخالفك متاما‪ ،‬وأرى أن العلم ليس اختراعا إنسانيا‬
‫كما تقول بل هو سعي للوصول إىل احلقيقة يف ذاهتا ‪.‬‬
‫سعيك للوصول إىل احلقيقة يف ذاهتا هل يعين أنه ميكن أن تصل إليها أم أنك تقول إنه ال ميكن الوصول إليها بل هي‬
‫جمرد مثال نسعى إليه دون إمكانية اجلزم بتحقيقه ‪.‬‬
‫أرى أنه ميكن الوصول إليها فعال ‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪5‬‬
‫مجيل‪ ،‬إذا كنت ترى أن احلقيقة ميكن الوصول إليها ومطابقتها فإن سعيك سيتجه حنو شروط الوصول إىل احلقيقة‬
‫اخلارجية والبحث يف املوانع اليت حتول دون الوصول على احلقيقة‪ ،‬ومن مث سوف تصل إىل نتيجة مثل اليت وصل إليها‬
‫أرسطو ‪.‬فهو رأي احلد معربا عن املاهية وال حيتاج إىل تدليل ورأى أن األوليات ‪..‬ورأى أن صفات الشيء تنقسم إىل‬
‫صفات ذاتية الزمة وذاتيه عارضة‪ ،‬وزعم بعد ذلك كله أن هذا يقود إىل برهان يقيين ولكي يكون هذا الربهان يقيين‬
‫وجد أنه البد من البداية مبقدمة كلية ويقينية ‪ ..‬إخل ‪.‬‬
‫حنانيك‪ ،‬أعتقد أنك أسقطت جتربة أرسطو على موقفي وأنا ال أقول به ‪.‬وأعتقد أنه ميكن صياغة حال وسطا بني‬
‫املوقف الواقعي وبني موقفك االمسي ‪.‬‬
‫كل حلٍ ينطلق من إمكانية الزعم مبطابقة احلقيقة فهو البد وأن ينتهي إىل ما انتهى إليه املوقف األرسطي ‪.‬وضع‬
‫شروط ال ميكن حتقيقها وعلوم مستنتجة من هذه الشروط يُظن أهنا انطبقت عليها الشروط‪ ،‬ونتائج يزعم هلا مزنلة‬
‫اليقني تصبح معيارا للوجود ‪.‬وأما من يدرك عدم إمكانية حتقيق الشروط فسيظل عقيما عن انتاج العلم !كالذي يستخدم‬
‫آلة يظن أهنا صحيحة ويستفرغ عمره يف استعماهلا دون نتيجة ‪.‬‬
‫تبالغ يف التعميم‬
‫إذا‪ ،‬لنكن عمليني وأخربين ما احلل الذي تراه؟‬
‫احلل بسيط ‪:‬أستخدم أصول الفقه يف احلكم الشرعي وهي أداة تساعد للوصول إىل احلكم الشرعي املحكم واحلقيقي‬
‫ولكن احلكم الذي أصل إليه هو اجتهاد شرعي ميكن أن يكون يقينا يف بعض األحوال وأحيانا يكون ظنّيا ‪.‬‬
‫حسنا‪ ،‬اليقيين هنا هل هو وصف للحقيقة يف ذاهتا أم أنه وصف ملا تعتقده يف احلكم ‪.‬‬
‫ميكن أن يكون هذا وذاك ‪.‬‬
‫دعنا إذا نتحدث عن موطن اخلالف وهو أن تعتقد أن اجتهادا ما هو حقيقة يف ذاته ‪.‬ما هي صفات احلكم الذي له هذه‬
‫املزنلة؟‬
‫تضافر النصوص صراحتها وفعل الرسول والصحابة مبقتضى ما جاء يف النص وامجاع العلماء ومن األمثلة ‪:‬وجوب‬
‫الصالة ‪.‬‬
‫أمل نقل أن العلم قد يكون خربا معصوم ‪.‬وبالتايل كل نص شرحه وفسره الرسول عليه الصالة والسالم أو اجتمع عليه‬
‫الصحابة من أمور العلمية أو العملية فهو من هذا اجلانب احلقيقي يف ذاته وال حيول بيننا وبينه إال ثبوته ‪.‬فكل ما كان من‬
‫هذا القبيل ليس اجتهادا أصوليا يف احلقيقة بل هو اجتهاد معياري حتاكم إليه أصول الفقه ال العكس ‪.‬فهذه النقول كلها‬
‫مبثابة الطبيعة يف العلوم الطبيعية هي احلقائق اليت هي حمل التأسيس العلمي واألصول العلمية املستمدة منها ‪.‬‬
‫ولكنك تنكر القطعي!‬
‫كما ذكرت لك‪ ،‬ما أنكره من القطعيات هي القطعيات اليت تتناول املجاالت االجتهادية وأما املجاالت اإلميانية فهي أمور‬
‫ال تتحقق إال بالقطع واجلزم هبا ‪.‬ميكن على سبيل التقريب فقط أن أمثل لذلك بعلم العقيدة والفقه ‪.‬فالعقيدة قائمة‬
‫على القطعي وأما الفقه فقائم على االجتهادي ‪.‬‬
‫أخريا ‪ :‬هل هذا كل شيء؟‬
‫أعتقد أن املوضوع كبري ولكن ما تناولناه هنا يعني على تصوره بشكل جيد ‪.‬‬

‫‪21‬‬ ‫‪6‬‬
‫سوف نستعرض يف هذا املدخل البناء الفلسفي للنظرية االمسية كما يعرضه أبو يعرب املرزوقي يف كتابه املعروف‬
‫(إصالح العقل يف الفلسفة العربية)‬
‫ميكن أن نوجز مفهوم التصور االمسي للمعرفة يف العبارة التالية ‪:‬يعتقد االمسي بوجود احلقيقة يف اخلارج وأن الوصول‬
‫إىل هذه احلقيقة إما أن يكون خربا عن معصوم وهنا متكن املطابقة ألن اجلهد اإلنساين يتعلق مبعرفة اللغة املتواضع‬
‫عليها وليس اكتشاف كنه األشياء ومعرفة حقيقتها‪ ،‬وأما ما كان اجتهادا إنسانيا يف الوصول إىل احلقيقة كاحلكم على‬
‫النوازل والقضاء واكتشاف قوانني الطبيعة واملجتمع فهذه كلها مقاربات ال ميكن اجلزم فيها مبطابقة املعلوم بسبب‬
‫حمدودية اإلدراك اإلنساين ومن هنا فإن اإلمسي يقر بأن للشيء وجودين مها الوجود اخلارجي والوجود الذهين ‪.‬ولكل‬
‫من الوجودين خصائص ومسات ختتلف عن اآلخر وهي سبع خصائص أوهلا أن الوجود اخلارجي حيوي احلقيقة يف ذاهتا وأما‬
‫الذهين فيحوي احلقيقة كما تبدو لنا ومن مث فإن التصورات تتفاضل وأما الشيء اخلارجي هو هو ال يتغري وال يتفاضل ‪.‬‬
‫وثانيها أن مفهوم املمكن خمتلف يف احلالتني فاملمكن الذهين ميكن أال يكون موجودا يف اخلارج ومن هنا يعترب التصور‬
‫الذهين أوسع من الوجود اخلارجي ‪.‬وأما إذا نظرنا إىل الوجود الذهين بأن تصوراته جزء من الوجود اخلارجي وأنه ال‬
‫ميكن استيعاب كنه ما هو يف اخلارج فحينها يبدو أن الوجود اخلارجي أكثر ثراء من الوجود الذهين ‪.‬والعلوم القائمة على‬
‫الوجود الذهين هي علوم التقديرات الذهنية وتضم علم احلساب واملنطق وأما العلوم القائمة على الوجود اخلارجي فهي‬
‫علم املحسوسات أو التجريبيات اليت يهدف اإلنسان فيها إىل معرفة طبائع ما هو يف اخلارج لكي يفهمه ويستخرج قوانينه ‪.‬‬
‫وبناء على هذه السمات لكال الوجودين فإن االمسي حيل اإلشكاليات العلمية اليت توجهه من خالل هذا الفصل بني‬
‫الوجودين ‪.‬فعلى سبيل املثال ‪:‬مسألة احلد األرسطي وأنه ال يصور املاهيات استنادا على التفريق بني الوجودين واستبداله‬
‫باحلد التيمي وهو احلد االمسي الذي ال يدّعي تصوير املاهيات وإمنا متييز األشياء عن بعضها البعض وتسميتها تسمية‬
‫تالئم هذا التمايز من أجل فصلها يف التصور الذهين عن بعضها البعض فصال ميكن العامل من التعامل مع كل منها على‬
‫حدة ‪.‬وهلذا فالنظريات العلمية عند االمسي هي أنساق تواضعية يتواضع عليها العلماء ومؤقتة حىت يأيت أفضل منها‬
‫وهذه النظرة ختتلف عن النظرة األخرى اليت تعتقد أن النظريات العلمية تسعى إىل اليقني وأهنا تطابق املوجودات إذا‬
‫كانت صحيحة ‪.‬ومن هنا فاحلد الفاصل بني العلم والالعلم عند االمسي هو صمود النظرية أمام النقد والدحض وأما عند‬
‫الواقعي فهو اتباع منهجية تبدأ من مقدمات يقينية أو بديهيات لكي حنصل منها على نتائج يقينية تطابق الواقع ‪.‬وهذا‬
‫يقودنا إىل أن األوليات عند االمسي ليست سوى مواضعات بعكس األوليات عند الواقعي فهي بديهيات يف ذاهتا ‪.‬‬
‫أعتقد أن هذا املقطع يضم جل املسائل الفاصلة بني التصورين االمسي والواقعي يف املعرفة‪.‬‬

‫إن الدارس للفلسفة القدمية يتضح لديه وجود مذهبني يف املعرفة مها االجتاه السفسطائي أو املذهب الشكي الذي يتخذ‬
‫من الشك مذهبا ال منهجا يف املعرفة وهذا االجتاه زبدة ومعقد كالمه أنه ال يقول بوجود احلقيقة سواء قال بانعدامها أو‬
‫انعدام إمكانية الوصول إليها وأما االجتاه الثاين فهو املذهب الواقعي الذي نشأ ردا على املذهب السفسطائي وهذا املذهب‬
‫يرى بأن احل قيقة موجودة يف اخلارج وأنه ميكن الوصول إليها وإليه تنتمي فلسفيت أرسطو وأفالطون‪ ،‬ولكن الفلسفة احلديثة‬
‫أبرزت موقفا ثالثا هو املوقف االمسي من املعرفة‪ .‬وهو موقف تبلور مرتني مرة يف سياق الفلسفة العربية ومرة أخرى يف سياق‬
‫الفلسفة الغربية لكنه يف الفلسفة العربية مل تتكوّن منه إال أصوله وجذوره دون ساقه وفروعه نظرا لتوقف احلركة العلمية‬
‫والتأخر احلضاري الذي تعيشه أمتنا منذ ابن تيمية إىل اليوم‪ ،‬ولكنه يف السياق الغريب تأسّس يف القرون الوسطي على يد‬
‫‪21‬‬ ‫‪7‬‬
‫وليم أوف أوكام وأبيالر وغريهم واستمر الوصل العلمي يف القرون احلديثة إىل أن وصل إىل صورته اليوم كما جنده عند‬
‫ويالرد كواين‪ .1‬وسوف أتناول احلديث عن املوقف االمسي والفرق بينه وبني املوقف السفسطائي من خالل عرض أصوله‬
‫الفلسفية يف الثقافة اإلسالمية كما تعيّنت عند ابن تيمية‪ .‬ولكين أود أن أعرض عن تسميته باملوقف االمسي خروجا من‬
‫اإلشكاالت اإلصطالحية وسأكتفي بتسمية هذا املذهب مبذهب التفريق بني الوجودين‪ .‬فمن املعروف أن ابن تيمية يرى أن‬
‫هناك فرقا بني الوجود الذهين والوجود اخلارجي وبناء على ذلك فسوف أستعرض التعريف هبذا املذهب من خالل عنصرين‪:‬‬
‫‪ .1‬األول‪:‬‬
‫مسات الوجود اخلارجي والوجود الذهين‪.‬‬
‫‪ .2‬الثاين‪:‬‬
‫تطبيقات ابن تيمية املبنية على مسألة التفريق بني الوجودين (االمسية)‬

‫يعد مبحث تقسيمات الوجود واختالف الفالسفة فيه من املباحث الفلسفية املعروفة‪ ،‬يتناول هذا املبحث نوعني من الوجود‬
‫لألشياء األول يسمى الوجود اخلارجي‪ ،‬وهو الوجود الذي نراه وحنس به ونعيشه‪ ،‬والثاين هو الوجود الذهين أي تصوراتنا‬
‫عن هذا الوجود اخلارجي‪ .‬حيث يبحث الفالسفة يف العالقة بينهما هل مها وجود واحد أم أهنما منفصالن وإذا كان منفصالن‬
‫فهل ميكن أن يرد أحدمها إىل اآلخر أم ال؟! فيصبح الوجود الذهين يف حقيقته ليس سوى الوجود اخلارجي كما هو معروف‬
‫عند أرسطو وأفالطون وهذا هو املوقف الواقعي أو يصبح الوجود اخلارجي يف حقيقته ال يعدو الوجود الذهين كما هو عند‬
‫باركلي وهذا هو املوقف السفسطائي من املعرفة‪.‬‬
‫ولكن مثة موقف فلسفي ثالث يتوسط هذين املوقفني بدأ يربز مع النقد اإلسالمي للفلسفة اليونانية واكتمل مع ابن تيمية‬
‫وهذا املوقف نابع من اعتبار الوجود الذهين ذو طبيعة خمتلفة عن الوجود اخلارجي وبالتايل فلكل منهما خصائص خمتلفة عن‬
‫اآلخر وهذا هو املوقف الذي اكتمل تأسيسه عند ابن تيمية يف النظر وابن خلدون يف العمل‪.2‬‬
‫وهذا األمر أعين أ هنما يقوالن بالتفريق بني الوجودين ليس تقوّال عليهما وال مفهوم كالمهم بل هو نص يف كالمهم ولنتأمل‬
‫أوال قول عالمة التاريخ ابن خلدون‪:‬‬
‫"وإذا تأمّلت املنطق وجدته كلّه يدور على التركيب العقليّ‪ ،‬وإثبات الكلّي الطّبيعيّ يف اخلارج لينطبق عليه الكلّيّ الذهينّ‬
‫املنقس م إىل الكلّيّات اخلمس‪ ،‬الّيت هي اجلنس والنّوع والفصل واخلاصّة والعرض العامّ‪ ،‬وهذا باطل عند املتكلّمني‪ .‬والكلّي‬
‫والذايت عندهم إنّما اعتبار ذهين ليس يف اخلارج ما يطابقه‪.3 "...‬‬
‫وأما ابن القيم فيعترب أن عدم التفريق بني الوجود الذهين والوجود اخلارجي هو أصل الضالل الفلسفي الذي وقعت فيه‬
‫الفلسفة اليونانية ومن حذا حذوها من الفالسفة يف الثقافة العربية حيث يقول رمحه اهلل‪:‬‬

‫‪ 1‬يراجع في ذلك الفلسفة األوروبية في العصر الوسيط‪ ،‬ص ‪ 190‬وتاريخ الفلسفة الحديثة‪ ،‬ص ‪ ،9‬كالهما ليوسف كرم‪ ،‬طبعة هنداوي‪.‬‬
‫‪ 2‬حول هذه الخالصة يدور عمل أبو يعرب املرزوقي إصالح العقل في الفلسفة العربية من واقعية أرسطو وأف االطون إلى اسمية ابن تيمية وابن‬
‫خلدون‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬نوفمبر ‪.1994‬‬
‫‪ 3‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ص‪.648‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪8‬‬
‫"وإمنا أيت للقوم ‪-‬أي الفالسفة ومن يقول بقوهلم يف الكلي ‪-‬من الكليات‪ .‬فإهنا هي اليت خربت دورهم وأفسدت نظرهم‬
‫ومناظرهم‪ ،‬فإهنم جردوا أمورا كلية ال وجود هلا يف اخلارج مث حكموا عليها بأحكام املوجودات وجعلوها ميزانا وأصال‬
‫للموجودات"‪.4‬‬
‫وهو يف هذا يتفق مع شيخه ابن تيمية يف أن هذا اخللط عند الفالسفة بني مسات وخصائص الوجود الذهين والوجود‬
‫اخلارجي أصل ضالهلم حيث يقول يف عبارة هي أصرح وأوضح ما يكون يف التعبري عن هذا املوقف املعريف الذي خيتلف عن‬
‫املواقف املعرفية السابقة‪:‬‬
‫"وإنّما أصل ضالهلم أهنم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد ومييز بني املقدور عليه واملعجوز عنه وحنو ذلك ‪ ،‬فقالوا‬
‫ولو مل يكن ثابتا ملا كان كذلك ‪ ،‬كما أنّا نتكلم يف حقائق األشياء اليت هي ماهياهتا مع قطع النظر عن وجودها يف اخلارج ‪،‬‬
‫فنتخيّل الغلط أن هذه احلقائق واملاهيات أمور ثابتة يف اخلارج‪...‬والتحقيق أن ذلك كله أمر موجود وثابت يف الذهن ال يف‬
‫اخلارج عن الذهن واملقدّر يف األذهان قد يكون أوسع من املوجود يف األعيان ‪ ...‬وحقيقة الفرق الصحيح أن املاهية هي ما‬
‫يرتسم يف النفس من الشيء والوجود هو نفس ما يكون يف اخلارج منه"‪.5‬‬
‫وبناء على كالم ابن تيمية نقول إذا كان عدم التفريق بني الوجودين هو أصل ضالهلم الفلسفي‪ ،‬فإن التفريق بني‬
‫الوجودين وحتديد مسات وخصائص كال منهما حتديديا دقيقا يعدّ باملقابل أصال من أصول اهلداية‪ .‬فلنحاول إذا يف هذه‬
‫املقالة أن نضع أيدينا على أهم الفروق بني الوجودين الذهين (=العلمي) واخلارجي‪.‬‬
‫وألن ابن تيمية رمحه اهلل هو أحد أهم الذين أثروا الكالم يف التفريق بني الوجودين واستخدم هذا التفريق يف عالج‬
‫كثري من اإلشكاالت الفلسفية العميقة كما سنرى‪ ،‬فسوف نعتمد عليه كثريا‪ ،‬كما أننا سوف نعتمد أيضا على الكتابات املعاصرة‬
‫عن االمسية وخاصة ما كتبه الفيلسوف اإلسالمي أبو يعرب املرزوقي حول امسية ابن تيمية وابن خلدون‪ . 6‬ولكي أجتنب‬
‫مسألة إسقاط ما أعتقده يف التصور االمسي على ابن تيمية – قدر جهدي‪-‬سأضع معيارا واضحا ميكن الرجوع إليه وهذا‬
‫املعيار هو األصل الذي ذكرناه للتو والذي أعتقد أنه ال خيتلف عليه أي دارس البن تيميه‪ :‬أال وهو التفريق بني الوجود‬
‫الذهين والوجود اخلارجي‪.‬‬
‫ومعىن أن يكون هذا األصل معيارا هو ألّا أجعل كل أقوال االمسيني أقواال امسية إذا خالفت هذا األصل كما أضع يف‬
‫حسبا ين أن أقوال غري االمسيني ميكن أن تكون أقواال امسية إذا وافقت هذا األصل واطردت معه‪ .‬فكل مسألة كان عمدة‬
‫احلل فيها قائما على التفريق بني الوجودين بغض النظر عن قائلها وموقفه املعريف اعتربهتا مسة من مسات املنهج االمسي يف‬
‫املعرفة‪.‬‬
‫وأما إن سأل سائل‪ ،‬فلما كان الت فريق بني الوجودين يسمى املذهب االمسي‪ ،‬فأقول إن هذ يرجع إىل االختالف بني‬
‫الواقعيني واالمسيني يف تصور وظيفة احلد‪ .‬فاحلد عند الواقعيني يعرب عن ماهية املوجودات وأما احلد عن االمسيني فال‬
‫يعرب عن ماهيات األشياء وإمنا وظيفته مثل وظيفة االسم أي التمييز بني املوجودات ولذا مسّوا باالمسيني ومسي هذا املوقف‬

‫‪ 4‬كتاب الروح‪ ،‬ابن القيم‪ ،‬ص‪.204‬‬


‫‪ 5‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬ص ‪.67-64‬‬
‫‪ 6‬من املعروف في األوساط العلمية أن أبا يعرب املرزوقي هو أول من ّنبه إلى أمرين بخصوص ابن تيمية فأوال ّنبه إلى أن ابن تيمية فيلسوف‬
‫يعرف قبل ذلك بأنه شيخ وعالم دين فقط‪ ،‬واألمر الثاني هو اثبات‬ ‫أعماله الفلسفية تتجاوز كل الفلسفة التي قيلت قبله فقد كان ابن تيمية ّ‬
‫ما تجاوز به ابن تيمية الفلسفة اليونانية وهو املوقف االسمي من املعرفة بديال عن ا ملوقف الواقعي املسيطر على الفلسفة اليونانية ومن تأثر‬
‫بها‪ .‬ا‬
‫‪21‬‬ ‫‪9‬‬
‫من املعرفة باملوقف االمسي ألنه ال يرى أن املعرفة (متمثلة يف احلدود وهي التعريفات) ال تعرب عن ماهيّة املوجودات وإمنا‬
‫أمساء موضوعة للتفريق بني ما يدركه اإلنسان من الوجود‪.‬‬

‫وهي يف إثبات متايز الوجودين وطبيعة كل منهما‪ :‬الوجود الذهين حيوي الكليات والتصورات واملقدرات الذهنية‪ ،‬وأما‬
‫الوجود اخلارجي فيحوي األشياء العينية‪ .‬قال ابن تيمية‪" :‬فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ‬
‫وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ وَوُجُودِهِ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ ذَاكَ هُوَ الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ الْخَارِجِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَأَمَّا هَذَا فَيُقَالُ لَهُ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ وَالْعِلْمِيُّ‬
‫وَمَا مِ ْن شَيْءٍ إلَّا لَهُ هَذَانِ الثبوتان"‪ .7‬فإذا مل يفرّق اإلنسان بني هذين الوجودين فإنه سوف ينساق إىل أحد احتمالني‪:‬‬
‫أ‪ .‬أن جيعل الوجود الذهين مبثابة الوجود اخلارجي فكأنه ألغى الوجود الذهين وهذا هو‬
‫أصل املذهب الواقعي يف املعرفة‪ .‬ويشرح ابن تيمية املذهب الواقعي باجتاهاته‬
‫ومذاهبه بقوله‪" :‬وهذا مبتدأ فلسفتهم اليت وضعها فيثاغورس وكانوا يسمون أصحابه‬
‫أصحاب العدد وكانوا يظنون أن األعداد املجردة موجودة خارج الذهن‪ .‬مث تبيّن‬
‫ألفالطون وأصحابه غلط ذلك وظنوا أن املاهيّات املجرّدة كاإلنسان املطلق والفرس‬
‫املطلق موجودات خارج الذهن وأهنا أزلية أبدية‪ .‬مث تبيّن ألرسطو وأصحابه غلط ذلك‬
‫فقالوا بل هذه املاهيات املطلقة موجودة يف اخلارج مقارنة لوجود األشخاص ومشى من‬
‫مشى من اتباع أرسطو من املتأخرين على هذا وهو أيضا غلط فان ما يف اخلارج ليس‬
‫بكلى أصال وليس يف اخلارج إال ما هو معني خمصوص‪.8‬‬
‫ب‪ .‬أو أن جيعل الوجود اخلارجي مبثابة الوجود الذهين فكأنه ألغى الوجود اخلارجي وهذا‬
‫هو أصل املذهب السفسطائي يف املعرفة‪ .‬ويشرح ابن تيمية اجتاهات هذا املذهب‬
‫بقوله‪" :‬وهؤالء من جنس السفسطائية املتجاهلة الالأدرية الذين يقولون‪:‬‬
‫▪ ال نعلم هل احلقائق ثابتة أو منتفية وهل ميكن العلم أو ال ميكن فإن السفسطة‬
‫أنواع أحدمها قول هؤالء‪.‬‬
‫▪ الثاين قول أهل التكذيب واجلحود والنفي الذين جيزمون بنفي احلقائق والعلم‬
‫هبا‪.‬‬
‫▪ والثالث الذين جيعلون احلقائق تتبع العقائد فمن اعتقد ثبوت الشيء كان يف‬

‫‪ 7‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية‪.158/2 ،‬‬


‫‪ 8‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪135-134 ،‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪10‬‬
‫حقه ثابتا ومن نفاه كان يف حقه منتفيا وال جيعلون للحقائق أمرا هي عليه يف‬
‫أنفسها‪.‬‬
‫▪ والصنف الر ابع قول من يقول احلقائق موجودة لكن ال سبيل إىل العلم هبا إما‬
‫لكون العامل يف السيالن فال ميكن العلم حبقيقته وإما لغري ذلك"‪.9‬‬
‫و تقسيم ابن تيمية هلم من خالل مواقفهم من احلقيقة وأقواهلم فيها إمنا هو نابع من نفيهم للوجود اخلارجي الذي هو‬
‫مورد احلقائق وبتعبري أدق أقول أهنم ردّوا الوجود اخلارجي إىل الوجود الذهين أي عاملوه كما يعاملوا الوجود الذهين‬
‫فافترقوا إىل الفرق األربع املذكورة الفرقة األوىل الشكاكة الذين قالوا ال نعلم هل احلقائق ثابتة أو منتفية وهذا شك يف‬
‫الوجود اخلارجي وشك يف احلواس وهذا يعين أن اخلارج عندهم جمرد تصورات ذهنية ال ميكن إثباهتا ومثلهم الفرقة الثانية‬
‫اليت جتزم بنفي احلقيقة وأما الذين جيعلون احلقائق تابعة للعقائد وال جيعلون للحقيقة أمر هي عليه يف نفسها فهؤالء ميكن‬
‫وصفهم بأهنم مذهب ذايت يف املعرفة أي ينفون صحة التعميم بناء على أن الشك يف احلواس أو الشك يف وجود احلقيقة‬
‫اخلارجية وإمنا اختلفوا عمن سبقهم يف إثبات ما يدركه الفرد ونفي اإلدراك اجلمعي يف حني أن من سبقهم ينفي أيضا صحة‬
‫إدراك الفرد‪ .‬والفرقة الرابعة‪ :‬اليت تثبت وجود احلقيقة مع نفي إمكان الوصول إليها فيتضمن إثباتا للوجود اخلارجي لكن‬
‫مع تشكيك يف احلواس فيصبح الذهن غري قادر على تلقي اإلدراكات من اخلارج ألن كل إدراك ميكن أن يكون زائفا أو أهنا‬
‫تقول أن العامل يف صريورة وسيالن دائم مما جيعل احلقيقة اليت ندركها يف هذه اللحظة ال ميكن تعميمها على سائر اللحظات‬
‫املاضية والالحقة وكال األمرين مما جيعل املرء يف نسبية مطلقة‪ .‬أي أن القول بإثبات احلقيقة يف اخلارج إذا صاحبه شك يف‬
‫القدرة على الوصول إليها صار مثل القول بنفي احلقائق‪.‬‬

‫ت‪ .‬وقبل أن أنتهي من هذه النقطة أود أن أشري إىل جناعة مذهب التفريق بني الوجودين‬
‫يف عملية تفسري االختالف الفلسفي بني املذاهب الفلسفية‪.‬‬

‫أن الكليات وهي عقلية مبنية على استقراء اجلزئيات وهي خارجية حمسوسة‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪" :‬فمن مل يتصور الشيء املوجود كيف يتصور جنسه ونوعه"‪.10‬‬

‫الوجود اخلارجي أوسع من أن حياط به وأن يستوىف مجلة من جهة إدراك اإلنسان له‪ ،‬فما من تصور إال وفوقه تصور أمت‬
‫منه‪ .‬هذا هو موقف (مذهب التفريق) أما املوقف السفسطائي فاعترب تفاوت التصورات مشككا يف وجود احلقيقة أو يف إمكانية‬
‫الوصول إليها أما املوقف الواقعي فاعترب ما يصل إليه من تصورات ذهنية أهنا هي هي احلقائق املوجودة يف اخلارج‪ .‬وبناء‬
‫على ذلك فإنه ال ميكن اإلحاطة باملوجود اخلارجي وإمنا اإلحاطة املمكنة لإلنسان هي اإلحاطة اجلزئية‪ .‬قال ابن تيمية‪:‬‬

‫‪ 9‬الصفدية‪ ،‬ابن تيمية‪.98/1 ،‬‬


‫‪ 10‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪11‬‬
‫"ما من تصور إال وفوقه تصور أمت منه‪ ،‬وإنا ال نتصور شيئا جبميع لوازمه حىت ال يشذ منها شيء‪ ،‬وأنه كلما كان التصور‬
‫لصفات املتصوَّر أكثر كان التصور أمت"‬

‫بناء على السمة الثالثة‪ :‬ال يوجد ضامن لإلنسان الباحث عن احلقيقة أنه قد أصاب احلق فعال أي (طابق الوجود‬
‫اخلارجي)‪ .‬طبعا دون أن يعين هذا أن إصابة احلق ممتنعة بل هي ممكنة‪ .‬ويلزم من هذا أن اإلنسان يف اجتهاده الشخصي‬
‫يكون مت واضعا وال يلزم غريه برأيه مهما بلغت وثاقته بصحة رأيه وخطأ رأي غريه ولذا يعرب الفقهاء عن هذا الالزم بقوهلم‪:‬‬
‫االجتهاد ال ينقض باجتهاد مثله‪ .‬ويدعم هذه القاعدة ما رواه الطربي‪ :‬أنّ عمرا بن اخلطّاب لقي يف خالفته رجالً له قضيّة‬
‫نَظَرَ فيها عليّ بن أيب طالب‪ ،‬فسأله عمر‪ :‬ماذا صنعت؟ فقال‪ :‬قضى عليٌّ بكذا‪ .‬قال عمر‪ :‬لو كنتُ أنا لقضيت بكذا‬
‫قال الرجل‪ :‬فما مينعك واالَمر إليك؟‬
‫قال عمر‪ :‬لو أردّك إىل كتاب اهلل أو سنّة رسوله لفعلت‪ ،‬ولكنّي أردّك إىل رأي‪ ،‬والرأي مشترك‪ ،‬ولست أدري أيّ الرأيني‬
‫أحق ‪. 12‬‬
‫وجاء يف «االِحكام» البن حزم‪( :‬قال أبو حممّد‪ :‬فقد ثبت أنّ الصحابة مل يُفتوا برأيهم على سبيل االِلزام‪ ،‬وال على أنّه‬
‫حقّ‪ ،‬لكن على أنّه ظنّ يستغفرون اهلل تعاىل منه‪ ،‬أو على سبيل صلح بني اخلصمني)‪.13‬‬

‫ويف رأيي أن أبلغ حديث يف هذا األمر هو ما جاء يف مقاتلة الرسول عليه الصالة والسالم لبين قريظة وأهنم " نَزَلُوا عَلَى‬
‫حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‪ ،‬فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ فِيهِمْ إِلَى سَعْدٍ ‪ ،‬قَالَ ‪ :‬فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ‬
‫تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ ‪ ،‬وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالنِّسَاءُ وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ " ‪ ،‬قال الرواي ‪:‬فَأُخْبِرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‬
‫‪ " :‬لَقَ ْد حَكَ ْمتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" واملعين الذي حيمله احلديث أن هناك اجتهاد إنساين يف القضاء اعتمادا على‬
‫النصوص والقرائن الشرعية وأن اإلنسان جيتهد برأيه وحيكم حبكمه وميكن أن يصيب حكم اهلل تعاىل وميكن أن خيطئ‬
‫ولكن ال سبيل له ملعرفة هذه اإلصابة يف احلكم إال بواسطة معصوم وهو الرسول عليه الصالة والسالم فما دام أن الوحي قد‬
‫ختم فال ميكن إلنسان جيتهد يف مسألة ما مث يزعم أن حكمه فيها هو حكم اهلل تعاىل وهذا هو معىن نفي احلقيقة املطلقة‬
‫عند أيب يعرب‪ .‬وهذا هو مقتضى القول بالتفريق بني الوجودين ألن الوجود اخلارجي ال يعلم حقيقته إال اهلل تعاىل وأما‬
‫الوجود الذهين البشري فيتفاضل ويقع فيه الصواب واخلطأ‪.‬‬

‫ومن لوازم التفريق بني الوجودين أن معيار احلقيقة ال يصبح مطابقة الوجود بل يصبح مطابقة املعايري اليت يضعها‬
‫االجتهاد االنساين‪ ،‬وبعبارة أيب يعرب‪:‬‬
‫" بدال من معيار املطابقة يف نظرية املعرفة ونظرية العمل‪ ،‬وضع االسالم معيار االجتهاد االمجاعي واجلهاد االمجاعي‬
‫فاعترب احلقيقة يف املعرفة اخللقية والشرعية غري مبنية على املطابقة مع الوجود والقيمة بل على اخلضوع ملعيار امجاع‬

‫‪ 11‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ص ‪ ،8:‬طبعة دار الكتب العلمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد حسن اسماعيل‪.‬‬
‫سالمية‪ ،‬يوسف القرضاوي‪ ،‬ص‪ .47‬ا‬‫اال ّ‬
‫‪ 12‬االجتهاد في الشريعة ِ‬
‫‪ 13‬اإلحكام في أصول األحكام‪ ،‬ابن حزم‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.54‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪12‬‬
‫القائمني بفعل النظر أو العمل مع الشروط اخللقية لألمانة العلمية والعملية والشروط املنهجية لكليتها مبعىن قابليتها للمتابعة‬
‫من كل انسان يريد التحقق منها" ‪.14‬‬
‫وكال هذين األمرين من لوازم املذهب االمسي أما املذهب الواقعي فيدّعي أنه ميكن أن يطابق احلقيقة اخلارجية وهلذا‬
‫يعتقد أن املنطق آلة تعصم الذهن من اخلطأ أي إذا استخدمها بشكل صحيح أصاب احلقيقة أي طابق الواقع‪.15‬‬

‫والوجود الذهين أوسع من ا لوجود اخلارجي من جهة تعدد املمكنات ومن جهة التقديرات الذهنية‪ .‬قال ابن تيمية‪ :‬فَإِ َّن‬
‫تَصَوُّرَ الذِّهْنِيَّةِ أَوْسَعُ مِنْ الْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ فَإِنَّهَا تَشْمَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَالْمُمْتَنِعَ وَالْمُقَدَّرَاتِ"‪ .16‬وهذا هو التصور االمسي‬
‫يف املعرفة ويقابله عند الواقعيني اعتقاد اإلمكانات العقلية املتعددة أهنا موجودة باخلارج ومن ذلك اعتقاد أن العدم شيئا‬
‫والصحيح أنه ليس بشيء إال يف الذهن‪ .‬وأما يف االجتاه السفسطائي فهو يستغل هذا التنوع العقلي يف املمكنات من أجل نفي‬
‫احلقيقة أو نفي الوصول إليها‪ .‬واإلمكان الذهين خيتلف عن اإلمكان اخلارجي‪ .‬فاإلمكان الذهين هو أن يعرض الشيء على‬
‫الذهن فال يعلم امتناعه‪ ،‬ال لعلمه بامتناعه بل لعلمه بعدم امتناعه‪ ،‬واالمكان اخلارجي‪ :‬حيصل بعلمه بوجوده أو وجود نظريه‬
‫أو وجود ما هو أبعد منه‪ .‬يقول ابن تيمية‪" :‬اإلمكان يستعمل على وجهني إمكان ذهين وإمكان خارجي فاإلمكان الذهين أن‬
‫يعرض الشيء على الذهن فال يعلم امتناعه بل يقول ميكن هذا ال لعلمه بإمكانه بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذاك الشيء‬
‫قد يكون ممتنعا يف اخلارج‪ .‬وأما اإلمكان اخلارجي فأن يعلم إمكان الشيء يف اخلارج وهذا يكون بأن يعلم وجوده يف اخلارج‬
‫أو وجود نظريه أو وجود ما هو ابعد عن الوجود منه فإذا كان االبعد عن قبول الوجود موجودا ممكن الوجود فاألقرب إىل‬
‫الوجود منه أوىل‪ .17‬ويتبع مفهوم اإلمكان الوجودي والذهين مفهوم آخر هو مفهوم التشارك الذهين والوجودي‪ .‬فالتشارك‬
‫يف اإلمكان الوجودي مو ضوع الرياضي التطبيقي وأما التشارك يف االمكان الذهين فهو موضوع العلم الصوري اخلالص مثل‬
‫الرياضيات اخلالصة‪.18‬‬

‫‪ 14‬النظر والعمل‪ ،‬أبو يعرب املرزوقي‪.139 ،‬‬


‫‪ 15‬اعترض االستاذ رائد باعتراضات شتى على معيار املطابقة وجاء بنصوص كثيرة تدل على أن ابن تيمية يقول بمعيار املطابقة ولكن عند‬
‫تفحص النصوص والسياقات املختلفة لهذه النصوص نجد أنها أتت بصيغ كثيرة ال تتعارض مع االسمية وال عالقة لها بما ينفيه أبي يعرب‬
‫املرزوقي وينفيه ابن تيمية أيضا‪ .‬فمن هذه النصوص ما يرجع إلى املطابقة بين اإلدراكات الحسية وإدراكاتنا العقلية ومنها ما يرجع إلى العالقة‬
‫بين الكلي وأفراده وأنها مثل انطباق العام على أفراده‪ .‬ومنها املطابقة التابعة لصحة املقدمة املأخوذة من الوحي فهنا املقدمة التي هي أساس‬
‫االجتهاد العقلي ليست مقدمة اجتهادية بل مقدمة يقينية‪ .‬وتارة تأتي بمعنى السعي إلى املطابقة دون الجزم بها‪ .‬وهذه املعاني كلها يقول بها‬
‫املرزوقي وال يخالف فيه وإنما الذي ينفيه هو زعم مطابقة االجتهاد االنساني الوجود الخارجي‪.‬‬
‫‪ 16‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية‪ .163/2 ،‬ا‬
‫‪ 17‬مجموع الفتاوى ‪ ،‬ابن تيمية ‪ ،‬ص‪224:‬‬
‫‪ 18‬إصالح العقل في الفلسفة العربية‪ ،‬أبو يعرب املرزوقي‪ ،‬ص‪.267‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪13‬‬
‫ويتبع مفهوم اإلمكان الوجودي والذهين مفهوم آخر هو مفهوم التشارك الذهين والوجودي‪ .‬فالتشارك يف اإلمكان‬
‫الوجودي موضوع الرياضي التطبيقي وأم ا التشارك يف االمكان الذهين فهو موضوع العلم الصوري اخلالص مثل الرياضيات‬
‫اخلالصة‪.19‬‬

‫الوجود الذهين يدخله اخلطأ وأما الوجود اخلارجي فهو الوجود احلقيقي الذي من خالله يصحح االنسان تصوراته‬
‫ومفاهيمه‪" .20‬معلوم أن احلقائق اخلارجية املستغنية عنا ال تكو ن تابعة لتصوراتنا بل تصوراتنا تابعة هلا فليس إذا فرضنا‬
‫هذا مقدما وهذا مؤخرا يكون هذا يف اخلارج كذلك" وهذا األمر واضح يف التصور االمسي أما يف التصور الواقعي فتصبح‬
‫التصورات حاكمة على الوجود ألهنم ألغوا الثراء الوجودي واعتربوا ما وصلوا إليه من معارف حاكمة على الوجود وأما يف‬
‫االجتاه السفسطائي فيعتربون حصول اخلطأ يف التصور الذهين مدخال لنفي القدرة على الوصول إىل احلقائق يف الوجود‬
‫اخلارجي‪.‬‬

‫لقد استطاع ابن تيمية حل العديد من اإلشكاالت امل عرفية من خالل هذه النظرية النقدية املقابلة للنظريات املعرفية‬
‫السابقة ومن هذه التطبيقات‪:‬‬

‫حل إشكال العالقة بني املاهية والوجود من خالل التفريق بني الوجودين‪" :‬املاهية هي ما يرتسم يف النفس من الشيء‬
‫والوجود هو نفس ما يكون يف اخلارج منه وهذا فر ق صحيح فإن الفرق بني ما يف النفس وما يف اخلارج ثابت معلوم ال ريب فيه‬
‫وأما تقدير حقيقة ال تكون ثابتة يف العلم وال يف الوجود فهذا باطل‪ .‬ومعلوم أن لفظ املاهية يراد به ما يف النفس واملوجود‬
‫يف اخلارج ولفظ الوجود يراد به بيان ما يف النفس واملوجود يف اخلارج فمىت أريد هبما ما يف النفس فاملاهية هي الوجود وإن‬
‫أريد هبما ما يف اخلارج فاملاهية هي الوجود أيضا وأما إذا أريد بأحدمها ما يف النفس وباآلخر ما يف الوجود اخلارج فاملاهية‬
‫غري الوجود ومعلوم أن االجتاه الواقعي جيعل املاهية غري الوجود إذا أريد هبما ما يف اخلارج وأما االجتاه السفسطائي فما‬
‫دام يشكك يف احلقائق واحلواس فهو يشكك يف الوجود واملاهيات أيضا‪.‬‬

‫‪ 19‬إصالح العقل في الفلسفة العربية‪ ،‬أبو يعرب املرزوقي‪ ،‬ص‪ .267‬ا‬


‫صحيح َلذلك ْالعلم وبرهان َع َل ْيه إذا جرى على استقامة َفإذا لم يجر َفغير َ‬‫َْ َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫ص ِحيح‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ 20‬يقول االمام الشاطبي‪ :‬تن ِزيل العلم على مجاري العادات ت ِ‬
‫بدائع السلك في طبائع امللك‪ ،‬ابن األزرق‪ ،‬ص‪ .76‬ا‬
‫‪ 21‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬ص‪.71:‬‬
‫‪ 22‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬ص‪ .67:‬ا‬
‫‪21‬‬ ‫‪14‬‬
‫حل إشكال الصفات الالزمة الذاتية والعرضية‪" :‬وال ريب أن الصفات الالزمة للموصوف تنقسم إىل ما لزومه بيّن لإلنسان‬
‫وإىل ما ليس هو بينّا بل يفتقر ملزومه إىل دليل وكونه بينّا لإلنسان وغري بيّن ليس هو صفة الشيء يف نفسه وإمنا هو إخبار‬
‫عن علم اإلنسان به وتنبيه له فهو إخبار عن الوجود الذهين ال اخلارجي ولكن الواقعيني مل يكونوا مدركني لذلك وظنوا‬
‫أن الصفات الذاتية والعرضية هي فعال كذلك يف األشياء اخلارجية وليس حسب ما يبدو لنا ورتبوا على كالمهم هذا علم‬
‫املنطق وخصوصا مفهوم احلد الذي يدرك املاهيات‪ .‬وأما االجتاه السفسطائي فالتشكيك يف الوجود اخلارجي مينعه من تقسيم‬
‫الصفات فرمبا كان الذايت عرضي يف احلقيقة ورمبا كان العرضي ذايت يف احلقيقة‪.‬‬

‫ويتبع ذلك أيضا أن اب ن تيمية يرى أن الصفات ال تستقل يف وجودها عن الذوات‪ ،‬وبالتايل فإن وجودها ال يسبق وجود‬
‫الذوات‪ .‬يقول رمحه اهلل‪ " :‬كَوْنَ الْوَصْفِ ذَاتِيًّا لِلْمَوْصُوفِ‪ :‬هُوَ أَمْرٌ تَابِعٌ لِحَقِيقَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا سَوَاءٌ تَصَوَّرَتْهُ أَذْهَانُنَا أَوْ لَمْ‬
‫تَتَصَ وَّرْهُ‪ .‬فَلَا بُدَّ إذَا كَانَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ ذَاتِيًّا دُونَ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَمْرًا يَعُودُ إلَى حَقِيقَتِهِمَا الْخَارِجَةِ الثَّابِتَةِ‬
‫بِدُونِ الذِّهْنِ‪ .‬وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْخَارِجَةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ إلَّا مُجَرَّدُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الذِّهْنِ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا أَنْ‬
‫تَكُونَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَاهِيَّةُ هِيَ مَا يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ لَا مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ‪ .‬وَذَلِكَ أَمْرٌ يَتْبَعُ تَقْدِيرَ صَاحِبِ الذِّهْنِ"‪.24‬‬
‫ويقول كذلك يف سبيل التأكيد على هذه القضية أن تصور الشيء دون تصور صفاتٍ له ال يكون إال يف الذهن‪ ،‬وأما املوجود‬
‫يف اخلارج فال بد أن يكون له صفات‪" :‬والواحد الذي قالوا إنه ال يصدر عنه إال واحد هو الواحد املسلوب عنه الصفات كلها‬
‫بل هو الوجود املقيد بكل سلب وهذا ال حقيقة له إال يف الذهن وأما الواقعيون فاعتربوا العدم شيئا بناء على ما ذكرناه‬
‫من إضفائهم البعد الوجودي على الكليات العقلية‪.‬‬

‫ساهم مذهب التفريق بني الوجودين يف مسألة تقسيم العلوم تقسيما خمتلفا عن التقسيم السائد الذي كان يتبع التفريق‬
‫بني العلم النظري والعملي أو التفريق بني العلوم القائمة على الضرورة وتلك القائمة على احلرية‪ ،‬ويف النص التايل يتحدث‬
‫ابن تيمية عن تقسيم العلوم عند الفالسفة اليونان فيقول‪ :‬وهلذا كانت العلوم عندهم ثالثة‬
‫‪ -‬أما علم ال يتجرد عن املادة ال يف الذهن وال يف اخلارج وهو الطبيعي وموضوعه‬
‫اجلسم‪.‬‬
‫‪ -‬وأما علم جمرد عن املادة يف الذهن ال يف اخلارج وهو الرياضي كالكالم يف املقدورات‬
‫املعدودة واملقدار والعدد‪.‬‬

‫‪ 23‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬ص‪ 399:‬ا‬


‫‪ 24‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية‪ .100/9 ،‬ا‬
‫‪ 25‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬ص‪.232‬‬
‫‪ 26‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪153 ،‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪15‬‬
‫‪ -‬وأما ما يتجرد عن املادة فيهما وهو اإلهلي وموضوعه الوجود املطلق بلواحقه اليت‬
‫تلحقه من حيث هو وجود كانقسامه إىل واجب وممكن وجوهر وعرض‪" .‬وإمنا‬
‫تصوروا أمورا مقدرة يف أذهاهنم ال حقيقة هلا يف اخلارج وهلذا كان منتهى نظرهم‬
‫وآخر فلسفتهم وحكمتهم هو الوجود املطلق الكلى أو املشروط بسلب مجيع األمور‬
‫الوجودية"‪.27‬‬

‫حل مسألة الكليات ‪ -‬وهي مسألة فلسفية مشهورة ‪ -‬من خالل التفريق بني الوجودين ‪ :‬والكلي ال يكون كليا إال يف الذهن‬
‫فإذا عرف حتقق بعض أفراده يف اخلارج كان ذلك مما يعني على العلم بكونه كليا موجبا فانه إذا أحس اإلنسان ببعض األفراد‬
‫اخلارجية انتزع منه وصفا كليا ال سيما إذا كثرت أفراده فالعلم بثبوت الوصف املشترك ألصل يف اخلارج هو أصل العلم بالقضية‬
‫الكلية ويف نص آخر يتمم املعىن يقول ابن تيمية ‪" :‬الكلي الطبيعي يف اخلارج فمعناه أن ما هو كلي يف الذهن هو مطابق‬
‫لألفراد املوجودة يف اخلارج مطابقة العام ألفراده واملوجود يف اخلارج معينا خمتص ليس بكلي أصال ولكن فيه حصة من الكلي‪.‬‬
‫وما يف ال ذهن يطلق عليه أنه قد يوجد اخلارج كما يقال فعلت ما يف نفسي ويف نفسي أمور أريد فعلها ومنه قوله تعاىل‪{ :‬إال‬
‫حاجة يف نفس يعقوب قضاها} وقول عمر كنت زورت يف نفسي مقالة أحببت أن أقوهلا ونظائره كثرية‪ .‬والكلي إذا وجد يف‬
‫اخلارج ال يكون إال معينا ال يكون كليا فكونه كليا مشروط بكونه يف الذهن ‪.‬‬

‫حل أصناف القضايا اليقينة عند الفالسفة وغريهم‪" :‬بيان أصناف اليقينيات عندهم اليت ليس فيها قضية كلية‪ :‬فإذا كان‬
‫ال بد يف كل قياس من قضية كلية فنقول املواد اليقينيات قد حصروها يف األصناف املعروفة عندهم‪.‬‬
‫‪ .1‬أحدها‪:‬‬
‫احلسيا ت ومعلوم أن احلس ال يدرك أمرا كليا عاما أصال فليس يف احلسيات املجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمة‬
‫يف الربهان اليقيين وإذا مثلوا ذلك بأن النار حترق وحنو ذلك مل يكن هلم علم بعموم هذه القضية وإمنا معهم التجربة‬
‫والعادة اليت هي من جنس قياس التمثيل ملا يعلم ونه من احلكم الكلى ال فرق بينه وبني قياس الشمول وقياس التمثيل وإن‬
‫علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة حمرقة فالعلم بأن كل نار ال بد فيها من هذه القوة هو أيضا حكم كلى‪ .‬وال أعلم يف‬
‫القضايا احلسية كلية ال ميكن نقضها مع أن القضية الكلية ليست حسية وإمنا القضية احلسية أن هذه النار حترق فان احلس‬
‫ال يدرك إال شيئا خاصا وأما احلكم العقلي فيقولون إن النفس عند رؤيتها هذه املعينات تستعد الن تفيض عليها قضية كلي‬
‫بالعموم ومعلوم أن هذا من جنس قياس التمثيل وال يوثق بعمومه أن مل يعلم أن احلكم العام الزم للقدر للمشترك وهذا إذا‬
‫علم علم يف مجيع املعينات فلم يكن العلم باملعينات موقوفا على هذا‪.‬‬

‫‪ 27‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬ص‪.325‬‬


‫‪ 28‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬ص‪233‬‬
‫‪ 29‬الرد على املنطقيين ‪ ،‬ابن تيمية ‪ ،‬ص ‪ .135‬ا‬
‫‪21‬‬ ‫‪16‬‬
‫‪ .2‬والثاين‪:‬‬
‫ا لوجديات الباطنة كإدراك كل أحد جوعه وعطشه وحبه وبغضه وأمله ولذته وهذه كلها جزئيات وإمنا يعلم اإلنسان حال‬
‫غريه والقضية الكلية بقياس التمثيل بل هذه ال يشترك الناس يف إدراك كل جزئي منها كما قد يشتركون يف إدراك بعض‬
‫احلسيات املنفصلة كالشمس والقمر ففيها من اخلصوص يف املدرِك واملدرَك ما ليس يف احلسيات املنفصلة وإن اشتركوا يف نوعها‬
‫فهي تشبه العاديات‪.‬‬
‫‪ .3‬والثالث‪:‬‬
‫املجربات وهي كلها جزئية فان التجربة إمنا تقع على أمور معينة وكذلك املتواترات فان املتواترات إمنا هو ما علم باحلس‬
‫من مسموع أو مرئي فاملسموع قول معني واملرئي جسم معني أو لون معني أو عمل معني أو أمر ما معني‪.‬‬
‫‪ .4‬وأما احلدسيات‪:‬‬
‫أ ن جعلت يقينية فهي نظري املجربات إذ الفرق بينهما ال يعود إىل العموم واخلصوص وإمنا يعود إىل أن املجربات تتعلق‬
‫مبا هو من أفعال املجربني واحلدسيات تكون عن أفعاهلم وبعض الناس يسمى الكل جتربيات‪.‬‬
‫‪ .5‬فلم يبق معهم إال األوليات‪:‬‬
‫ا ليت هي البديهيات العقلية واألوليات الكلية إمنا هي قضايا مطلقة يف األعداد واملقادير وحنوها مثل قوهلم الواحد نصف‬
‫االثنني واألشياء املساوية لشيء واحد متساوية وحنو ذلك وهذه مقدرات يف الذهن ليست يف اخلارج كلية‪.‬‬
‫فقد تبني أن القضايا الكلية الربهانية اليت جيب القطع بكليتها اليت يستعملوهنا يف قياسهم ال تستعمل يف شيء من األمور‬
‫املوجودة املعينة وإمنا تستعمل يف مقدرات ذهنية فإذا ال ميكنهم معرفة األمور املوجودة املعينة بالقياس الربهاين وهذا هو‬
‫املطلوب"‬

‫األوليات وعالقتها بالوجودين الذهين واخلارجي‪ :‬خالفا للتصور الواقعي فإن مذهب التفريق بني الوجودين يرى أن‬
‫األوليات ليست صفة ذاتية يف القضية بل هي تابعة لتصور اإلنسان هلا وترتيبه للقضايا يف ذهنه‪ .‬يقول ابن تيمية ‪ " :‬فتبني‬
‫أن الفرق الذي ذكره بني األوليات واملشهورات من أن األويل هو الذي يكون محله على موضوعه يف الوجودين محال أوال ‪،‬‬
‫ال ثانيا ‪ ،‬غلط ال يستقيم ‪ ،‬ال يف الوجود اخلارجي ‪ ،‬فإنه ليس يف اللوازم ترتيب حىت يكون بعضها أوال وبعضها ثانيا وال يف‬
‫الذهين‪ .‬فان الوسط إمنا هو الدليل فيعود الفرق إىل أن األوليات ما ال يفتقر إىل دليل والنظريات ما يفتقر إىل دليل وهذا‬
‫كالم صحيح متفق عليه ال حيتاج إىل ما ذكروه ولكن هذا يوجب كون القضية أولية ونظرية هو من األمور اإلضافية فقد‬
‫تكون بديهية لزيد نظرية لعمرو باعتبار متام التصور فمىت تصور الشيء تصورا أمت من تصور غريه تصور من لوازمه ما مل‬
‫يتصوره ذو التصور الناقص فلم حيتج يف معرفته بتلك اللوازم إىل وسط واحتاج صاحب التصور الناقص إىل وسط وأيضا فهذا‬
‫ال يوجب كون املشهورات ليست يقينية كما سنذكره أن شاء اهلل ويف نص آخر يقول ‪" :‬إن الفرق بني القضية الربهانية‬
‫والبديهية إمنا هو بالنسبة واإلضافة ‪ ،‬فقد يكون النظري عند شخص بديهيا عند غريه"‬

‫‪ 30‬الرد على املنطقيين‪ ،‬ابن تيمية ‪ ،‬ص‪ .303-301‬مختصرا ا‬


‫‪ 31‬الرد على املنطقيين ‪ ،‬ابن تيمية ‪ ،‬ص‪ .417-416‬ا‬
‫‪ 32‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية ‪ ،‬ج‪ ، 9‬ص‪.87‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪17‬‬
‫التفريق بني القطعي والظين بناء على التفريق بني الوجودين‪ ،‬فالقطعي عند ابن تيمية ليس أمرا موجودا يف اخلارج‬
‫وإمنا هو قطعي بالنسبة لإلنسان ألنه ي نتمي إىل عامل األذهان فليس يف اخلارج ما يسمى قطعي وإمنا ما يف اخلارج يسمى‬
‫حقائق وعلمنا هبذه احلقائق هو ما ميكن وصفه بالقطع والظن ‪ .‬ويف هذا املعىن يقول‪":‬كَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً هُوَ أَمْ ٌر‬
‫إضَافِيٌّ بِحَسَبِ حَالِ الْمُعْتَقِدِينَ لَ يْسَ هُوَ وَصْفًا لِلْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْطَعُ بِأَشْيَاءَ عَلِمَهَا بِالضَّرُورَةِ؛ أَوْ بِالنَّقْ ِل‬
‫الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ عِنْدَهُ وَغَيْرُهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا‪ .‬وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ ذَكِيًّا قَوِيَّ الذِّهْنِ سَرِيعَ الْإِدْرَاكِ فَيَعْرِفُ مِنْ‬
‫الْحَقِّ وَيَقْطَعُ بِهِ مَا لَا يَتَصَوَّرُهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ لَا عِلْمًا وَلَا ظَنًّا‪ .‬فَالْقَطْعُ وَالظَّنُّ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَدِلَّةِ‬
‫وَبِحَسَبِ قُ دْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّاسِ يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا وَهَذَا فَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً لَيْسَ هُوَ صِفَةً مُلَازِمَةً لِلْقَوْلِ‬
‫الْمُتَنَازَعِ فِيهِ"‪.33‬‬

‫حل إشكال العالقة بني احلقيقة واملجاز‪ :‬يف هذه املسألة نالحظ امتداد آثار مذهب التفريق بني الوجودين إىل املجال‬
‫اللغوي‪ .‬يقول ابن تيمية يف نقد التفريق بني احلقيقة واملجاز‪ :‬إنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ فَمِنْ أَفْسَدِ‬
‫ك‬ ‫الْأَقْوَالِ‪ ،‬فَإِنَّهُ يُقَالُ‪ :‬إذَا كَانَ اللَّفْظُ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا ُمقَيَّدًا؛ فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِ ْنهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِ َ‬
‫الْمَوْضِعُ‪ .‬وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ؛ فَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا قَطُّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَالُ إطْلَاقٍ مَحْضٍ حَتَّى يُقَالَ‪ :‬إنَّ الذِّهْنَ يَسْبِقُ إلَيْهِ‬
‫أَمْ لَا ‪ ...‬كَمَا أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ الْمَنْطِقِيُّونَ مِنْ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الذِّهْنِ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ‬
‫شَيْءٌ مَوْجُودٌ خَارِجٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ"‪" .34‬وَالتَّحْقِيقُ‪ :‬أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا وَلَا يُوجَدُ اللَّفْظُ‬
‫الدَّالُّ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُقَيَّدًا مُخَصَّصًا وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا كَانَ مَحَلُّهُ الذِّهْنَ وَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ لَهُ لَفْظٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ‬
‫مَوْجُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ مُجَرَّدًا"‪.35‬‬

‫التفريق بني الوضع واالستعمال يف اللغة يقوم أيضا على أساس التفريق بني الوجودين يتضح ذلك من خالل تقريرات‬
‫ابن تيمية املرتبطة هبذا الشأن ومنها‪:‬‬
‫‪ .1‬ال ميكن جتريد اللفظ من االستعمال‪ ،‬فكما انه ال ميكن جتريد احلركة عن املتحرك فكذلك‬
‫العالقة بني اللفظ واالستعمال‪.‬‬
‫‪ .2‬وجتريد اللفظ عن االستعمال ممكن يف الذهن ولكن ال ينبغي تسميته لفظ وإمنا لفظا‬
‫مقدرا‪.‬‬
‫‪ .3‬أما الذين فصلوا الوضع عن االستعمال فهؤالء كاملناطقة جردوا املعاين وعزلوها عن‬

‫‪ 33‬مجموع الفتاوى ‪ ،‬ابن تيمية ‪211/19 ،‬‬


‫‪ 34‬مجموع الفتاوى ‪ ،‬ابن تيمية ‪.106-105/7 ،‬‬
‫‪ 35‬مجموع الفتاوى ‪ ،‬ابن تيمية ‪.216/14 ،‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪18‬‬
‫سياقاهتا وعندما اكتشفوا أن نتائجهم تناقض املعاين وجدوا أنفسهم يف حرية إما أن ينكروا‬
‫الوجود اخلارجي أو ينكروا ما زعموا أنه مطلق‪ .‬فأثبتوا إنسانا ال طويال وال قصريا وال‬
‫أسود وال أبيض‪ ..‬مث رأوا االنسان اخلارجي خمتلف عن هذا املجرد فقالوا‪ :‬هذه عوارض‬
‫خارجة عن حقيقته‪.‬‬
‫‪ .4‬ولكي نتجنب خطأ الفالسفة التقليديني علينا أن ننظر لألشياء كما هي يف الواقع أي على‬
‫أهنا كلّ دون أن هنمل أيا من خصائصها وتطبيق ذلك على املعاين يقتضي اعتبار السياق‪.‬‬

‫التفريق بني املعىن واملراد مرتبط كذلك بالتفريق بني الوجودين حيث يرى ابن تيمية رمحه اهلل ‪:‬‬
‫‪ .1‬استخدم مصطلح املعىن للداللة على الصورة الذهنية اليت حييل عليها اللفظ‪.‬‬
‫‪ .2‬والصورة الذهنية مسيت تسميات كثرية باعتبارات خمتلفة فهي املعىن حني تكون مقصودة‬
‫باللفظ ومن حيث كوهنا تستدعي اللفظ يف الذهن مسيت مفهوما ومن حيث هي جواب على‬
‫سؤال ما هذا ؟ مسيت ماهية‪ ،‬ومن حيث حتققها يف العامل اخلارجي مسيت حقيقة‪ ،‬ومن‬
‫حيث متيزها عن األغيار مسيت هوية‪ ،‬ومن حيث كوهنا موضوعا للفظ مسيت مسمى‪ ،‬ومن‬
‫حيث كوهنا مستنبطة مسيت مدلوال‪.‬‬
‫‪ .3‬والداللة اليت هي (فهم املعىن عند إطالقه) ال تتحقق أبدا دون االستعمال‪ .‬وهبذا املفهوم‬
‫يصبح املعىن مساويا للمراد‪ .‬وحتييد الفرق بني املعىن واملراد مترتب على عدم التفريق‬
‫بني الوضع واالستعمال‪ .‬ومن نتائج هذا التحييد‪ :‬التقليل من شأن املعىن الوضعي لصاحل‬
‫املعىن اإلصطالحي‪.‬‬

‫ولعلها أهم ا ملسائل وهي استخدام مبدأ التفريق بني الوجودين يف نقد أداة العلم األرسطي الواقعي ويتضح ذلك من خالل‬
‫النظر يف تقريرات ابن تيمية اليت أسس عليها نظريته يف نقد احلد املنطقي واليت تقوم على أسس منها‪:‬‬
‫‪ .1‬التصور خمتلف عن الداللة واإلشارة ألنه عملية طبيعية يف حني أن كليهما عملية وضعية‬
‫وسياقية‪" .‬جمرد االسم ال يوجب تصور املسمى ملن مل يتصوره بدون ذلك" ‪.36‬وإمنا االسم‬
‫يفيد الداللة عليه واإلشارة إليه‪ .‬فالداللة عالقة بني اللفظ واملعىن واإلشارة عالقة بني‬

‫‪ 36‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية ‪ ،‬ج‪ ، 9‬ص‪.9‬‬


‫‪21‬‬ ‫‪19‬‬
‫اللفظ واملرجع اخلارجي وأما التصور فهو عالقة بني املعىن واملرجع‪.‬‬
‫وهلذا فإن األمساء والتعريفات ال تضيف شيئا للسامع إذا مل يكن متصورا للشيء من قبل‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫فالتصور شرط األمساء والتعريفات‪.‬‬
‫التعريف الصحيح هو ما كشف عن مراد املتكلم ‪ .37‬وهذا هو احلد االمسي ويقابله احلد‬ ‫‪.3‬‬
‫الواقعي‪.‬‬
‫واحلد االمسي هو الذي يعرف باملعىن أو باملرجع أو بالترمجة‪ .‬ومن هنا فاحلد االمسي‬ ‫‪.4‬‬
‫ليس أمرا حمددا سلفا بل هو أمر إجرائي وآين خيتلف باختالف املقامات التخاطبية‬
‫الفعلية‪.‬‬
‫ابن تيمية وضع احلدود يف سياق ختاطيب ولكن إذا وضعناها يف سياق علمي فقد يتطرق‬ ‫‪.5‬‬
‫الشك إليها‪.‬‬

‫التفاضل واالختالف بني املوجودات وعالقته بالوجودين‪" :‬النَّاسَ إذَا تَكَلَّمُوا فِي التَّفَاضُلِ وَالِاخْتِلَافِ فَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي‬
‫تَفَاضُلِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا فِي تَفَاضُلِ أَمْرٍ مُطْلَقٍ مُجَرَّدٍ فِي الذِّهْنِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّوَادَ مُخْتَلِفٌ‬
‫فَبَعْضُهُ أَشَدُّ مِ ْن بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الْبَيَاضُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَلْوَانِ‪ .‬وَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا السَّوَادَ الْمُجَرَّدَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ فَهَذَا‬
‫لَا يَقْبَلُ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَاضُلَ لَكِنَّ هَذَا هُوَ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ‪ .‬وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ وَقَعَ فِيهِ كَثِريٌ مِنْ الْخَائِضِنيَ فِي أُصُولِ‬
‫الْفِقْهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا تَفَاضُلَ الْعَقْلِ أَوْ الْإِجيَابِ أَوْ التَّحْرِميِ وَإِنْكَارُ التَّفَاضُلِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَمْثَالِهِمَا‬
‫لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ"‪.38‬‬

‫حل إشكال وحدة الوجود عند غالة املتصوفة من خالل التفريق بني الوجودين ‪ :‬يقول ابن تيمية رمحه اهلل‪" :‬غَايَةُ حَقِيقَةِ‬
‫هَؤُلَاءِ إنْكَارُ " أُصُو ِل الْ إِميَانِ " بِأَ ْن يُؤْمِنَ ِباَللَّهِ وَمَلَائِكَتِ ِه َوكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ جَحْ ُد الْخَالِقِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا‬
‫وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ وَقَالُوا‪ :‬الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ‬
‫تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ كَمَا تَشْتَرِكُ الْأَنَاسِيُّ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانَاتُ فِي مُسَمَّى الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ‬
‫لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَإِلَّا فاحليوانية الْقَائِمَةُ بِهَذَا الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْفَرَسِ وَوُجُودُ السَّمَوَاتِ‬
‫لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ وُجُودُ الْإِنْسَانِ فَوُجُودُ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ لَيْسَ هُوَ كَوُجُودِ مَخْلُوقَاتِهِ"‪.39‬‬

‫‪ 37‬الرد على املنطقيين ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪.133‬‬


‫‪ 38‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية‪.512-511/7 ،‬‬
‫‪ 39‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية‪.235/11 ،‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪20‬‬
‫حل إشكال التحسني والتقبيح من خالل التفريق بني الوجودين‪ :‬فكرة ابن تيمية كانت وببساطة هي القول بأن صفات‬
‫القبح واحلسن ليست ذاتية لألفعال أي أن عامل األفعال وهو عامل خارجي ال حيوي القيم واألحكام كاحلسن والقبح واخلري‬
‫والشر ولكن كل هذه األحكام تأيت من عامل األذهان أو التصورات اليت يرى االنسان من خالهلا أن فعال ما حسنا أو قبيحا‪.‬‬
‫ولذا فمصدرية احلسن والقبح تأيت من العقل ومن الشرع أيضا ومن العادات االجتماعية واألعراف وغريها‪ .‬يقول رمحه‬
‫اهلل‪" :‬ومن الناس من يظن أن احلسن والقبح صفة الزمة للموصوف وان معىن كون احلسن صفة ذاتية له هذا معناه وليس‬
‫األمر كذلك بل قد يكون الشيء حسنا يف حال قبيحا يف حال كما يكون نافعا وحمبوبا يف حال وضارا وبغيضا يف حال واحلسن‬
‫والقبح يرجع إىل هذا وكذلك يكون حسنا يف حال وسيئا يف حال باعتبار تغري الصفات"‪.40‬‬

‫نستخلص من هذا الفصل أن املعرفة من منظور امسي هي مثرة التفريق بني الوجودين الذهين واخلارجي وأن هذا املبدأ‬
‫الذي قال به ابن تيمية كان له آثار معرفية كثرية على فكره ولعل أمهها هي تلك الطالقة العلمية اليت كان يتمتع هبا يف‬
‫التعامل مع املعرفة‪.‬‬

‫‪ 40‬الرد على املنطقيين ‪ ،‬ابن تيمية ‪ ،‬ص‪.423‬‬


‫‪21‬‬ ‫‪21‬‬
‫‪1983‬‬

‫▪ باااكااالااوريااوس يف‬
‫الشريعة اإلسالمية‬
‫من جااامعااة اإلمااام‬
‫حممد بن سعود سنة‬
‫▪ مذهب التفريق بني الوجوديني‬
‫‪2013‬‬
‫▪ مفهوم الفلسفة عند أيب يعرب املرزوقي‬
‫▪ طبيعة الفن والتمثيل ‪ ...‬مدخل قبل اخلوض‬ ‫▪ باااكااالااوريااوس يف‬
‫اهلندسة امليكانيكية‬
‫يف احلكم الشرعي‬ ‫ا ل ت ط ب ي قيااة من‬
‫▪ علل تقييم اخلطاب اإلسالمي‬ ‫جااامعااة امللااك فهااد‬
‫▪ احلسبة يف ظل اخلالفة ويف ظل الدولة احلديثة‬ ‫للبترول واملعااادن‬
‫سنة ‪2007‬‬
‫▪ مدخل إىل حماولة أيب يعرب املرزوقي‬
‫اإلصالحية (ينشر قريبا)‬
‫▪ شااااهااادة اإلعتماااد‬
‫الااادويل يف إدارة‬
‫املشاريع‬

‫تصميم األمساء والبيان – املدير التنفيذي‪ :‬حممد مراس املرزوقي‬

You might also like