Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 12

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫التاريخ العقدي يف املذهب الشافعي‬

‫إن املذهب الشافعي كما أنه قد تطور تطورا كبريا يف اجلانب الفقهي على أيدي أعالمه‪،‬‬
‫فكذلك قد تطور فيه اجلانب االعتقادي تطورا عظيما‪ ،‬فلم يبق املذهب على ما كان عليه زمن‬
‫مؤسسه اإلمام الشافعي وأوائل أصحابه‪ ،‬بل طرأ فيه اجتاهات عقدية أصبحت بعد ذلك مدارس‬
‫خمتلفة‪ ،‬كل مدرسة تتبىن جمموعة آراء متشاهبة تنظمها أصول واحدة‪ ،‬ويكون بني أشخاصها شيء‬
‫من التجانس والرتابط الفكري‪ .‬حيث بدأ املذهب سنيا خالصا يصح تسميته مدرسة شافعية أهل‬
‫السنة‪ ،‬وهي ال يتميز عن أهل السنة من بقية أصحاب املذاهب الفقهية األخرى‪ ،‬مث ظهرت يف‬
‫املذهب اجتاهات عقدية أخرى‪ ،‬وأصبحت بعد ذلك مدارس خمتلفة االجتاه‪ .‬فقد ظهر يف املذهب‬
‫اجتاهات أو مدارس كالمية وفلسفية وصوفية وقبورية تزاحم االجتاه األصل وهو االجتاه السين السلفي‪.‬‬

‫االجتاه السين اخلالص‬

‫ُسس على مذهب السلف‬


‫بدأ املذهب الشافعي يف اجلانب االعتقادي سنيا خالصا حيث أ ِّ‬
‫الصاحل‪ ،‬فإن اإلمام الشافعي وأوائل أصحابه كانوا على ما نطق به الكتاب والسنة‪ ،‬على عقيدة‬
‫الصحابة‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬والتابعني هلم إبحسان‪ ،‬فلم ينفصل هذا املذهب عن اعتقاد بقية أئمة‬
‫السلف‪ .‬فقد قال رمحه هللا تعاىل‪" :‬القول يف السنة اليت أان عليها‪ ،‬ورأيت أصحابنا عليها‪ ،‬أهل‬
‫احلديث الذين رأيتهم‪ ،‬وأخذت عنهم مثل سفيان‪ ،‬ومالك‪ ،‬وغريمها‪ )1("،...‬مث ذكر اعتقاده وختمه‬
‫بقوله‪" :‬واإلميان هبذا كله حق‪ ،‬فمن ترك من هذا شيئا فهو خمالف لكتاب هللا‪-‬عز وجل‪ -‬وسنة نبيه‬
‫صلى هللا عليه وسلم"(‪ .)2‬وهلذا جزم اإلمام ابن تيمية على أن عقيدة اإلمام الشافعي هي عقيدة‬
‫السلف الصاحل من الصحابة والتابعني عندما طُلب منه بيان عقيدة اإلمام الشافعي(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬اعتقاد اإلمام الشافعي للهكاري ص ‪18-17‬؛ والرسائل واملسائل العقدية املنسوبة لإلمام الشافعي ملهنا سامل‬
‫مرعي ص ‪.111-109‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬اعتقاد اإلمام الشافعي للهكاري ص ‪.18‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬جمموع الفتاوى‪.256/5 :‬‬
‫‪1‬‬
‫ويعد اإلمام الشافعي ممن شارك يف أتصيل منهج التلقي واالستدالل عند أهل السنة‬
‫واجلماعة‪ ،‬فقد حصر مصدر التلقي يف الكتاب والسنة الصحيحة‪ ،‬ومنع تقدمي شيء عليهما فضال‬
‫ف‪ ،‬وإمنا يقال للفرع‪ :‬ملم‪ ،‬فإذا صح‬
‫عن االعرتاض عليهما‪ .‬فقد قرر أنه‪" :‬ال يقال ألصل‪ :‬ملم وال مكي م‬
‫قياسه على األصل صح‪ ،‬وقامت به احلجة"(‪ .)1‬ومراده ابألصل هنا هو الدليل من القرآن والسنة‬
‫كما قال يف سياق حديثه السابق‪" :‬األصل قرآن وسنة‪ ،‬فإن مل يكن فقياس عليهما"‪ .‬وملا حتدث ‪-‬‬
‫رمحه هللا‪ -‬عما فرض هللا من طاعة الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أوجب على املسلم "أن يعلم أن‬
‫هللا مل جيعل هذا خللق غري رسوله‪ .‬وأن جيعل قول كل أحد وفعله أبدا تبعا لكتاب هللا مث سنة رسوله‪.‬‬
‫وأن يعلم أن عاملا إن روي عنه قول خيالف فيه شيئا سن فيه رسول هللا سنة‪ ،‬لو علم سنة رسول هللا‬
‫مل خيالفها‪ ،‬وانتقل عن قوله إىل سنة النيب ‪ -‬إن شاء هللا ‪ -‬وإن مل يفعل كان غري ُموسع له"(‪.)2‬‬

‫وكان يطالب الناس برتك أي قول خيالف سنة رسول هللا –صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أاي كان‬
‫قائله‪ ،‬وكان من مشهور كالمه قوله‪" :‬إذا وجدمت يف كتايب خالف سنة رسول هللا‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬فقولوا بسنة رسول هللا‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،-‬ودعوا ما قلت"(‪ .)3‬وقوله‪" :‬كل ما قلت‪،‬‬
‫وكان عن النيب ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬خالف قويل مما يصح‪ ،‬فحديث النيب ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬أوىل‪ ،‬وال تقلدوين"(‪.)4‬‬

‫وكان اإلمام الشافعي ممن قعِّد املنهج يف التلقي من النصوص ويرى ضرورة فهم النصوص‬
‫على ظاهرها‪ ،‬وعدم جواز صرفها عن ظاهرها إىل معاين بعيدة بتأويل أو حتريف إال بدليل من‬
‫الكتاب والسنة أو اإلمجاع‪ .‬حيث قال ‪-‬رمحه هللا‪" :-‬والقرآن على ظاهره‪ ،‬حىت أتيت داللة منه أو‬
‫سنة أو إمجاع أبنه على ابطن دون ظاهر"(‪ .)5‬فقد قرر أبنه ال جيوز ألحد أن خيرج النص عن ظاهره‬
‫املعروف إال بدليل من القرآن‪ ،‬سواء يف النص الذي ورد فيه أو يف نص آخر من القرآن‪ ،‬أو بدليل‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬حلية األولياء أليب نعيم األصبهاين‪.105/9 :‬‬


‫(‪ )2‬الرسالة للشافعي ص ‪.199-198‬‬
‫(‪ )3‬مناقب الشافعي للبيهقي‪ .472/1 :‬وانظر‪ :‬اجملموع للنووي‪.63/1 :‬‬
‫(‪ )4‬آداب الشافعي البن أيب حامت ص ؛ وحلية األولياء أليب نعيم األصبهاين‪105/9 :‬؛ ومناقب الشافعي للبيهقي‪:‬‬
‫‪.30/2‬‬
‫(‪ )5‬الرسالة للشافعي ص ‪.580‬‬
‫‪2‬‬
‫من السنة الصحيحة‪ ،‬أو بدليل من اإلمجاع املنضبط‪ .‬وقال يف أثناء حديثه عن النصوص الواردة‬
‫ابلنهي عن الصالة بعد الصبح وبعد العصر‪" :‬وهكذا غري هذا من حديث رسول هللا‪ ،‬هو على‬
‫الظاهر من العام حىت أتيت الداللة عنه كما وصفت‪ ،‬أو إبمجاع املسلمني‪ :‬أنه على ابطن دون ظاهر‪،‬‬
‫وخاص دون عام"(‪ .)1‬وقال أيضا‪" :‬واحلديث على ظاهره‪ .‬وإذا احتمل املعاين فما أشبه منها ظاهره‬
‫أوالها به"(‪.)2‬‬

‫وكان ملوقفه من أهل الكالم ولطريقته يف التدريس ويف عرض املسائل أثر يف توبة بعض أهل‬
‫األهواء والبدع كما اعرتف بذلك بعض أصحابه الذين كانوا على ذلك‪ ،‬فقد قال أبو ثور‪" :‬ملا ورد‬
‫الشافعي‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬العراق‪ ،‬جاءين حسني الكرابيسي‪ ،‬وكان خيتلف معي إىل أصحاب الرأي‪،‬‬
‫فقال‪ :‬قد ورد رجل من أصحاب احلديث يتفقه‪ ،‬فقم بنا نسخر به‪ .‬فقام وذهبنا حىت دخلنا عليه‪،‬‬
‫فسأله احلسني عن مسألة‪ ،‬فلم يزل الشافعي يقول‪ :‬قال هللا عز وجل‪ ،‬وقال رسول هللا‪ ،‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬حىت أظلم علينا البيت‪ .‬فرتكنا بدعتنا واتبعناه"(‪ .)3‬وقال أيضا‪" :‬كنت أان وإسحاق بن‬
‫راهويه‪ ،‬وحسني الكرابيسي‪ ،‬وذكر مجاعة من العراقيني‪ ،‬ما تركنا بدعتنا‪ ،‬حىت رأينا الشافعي"(‪.)4‬‬

‫وقد كان أوائل أصحابه يسريون على مذهبه العقدي إضافة إىل مذهبه الفقهي‪ ،‬فقد كتب‬
‫أبو بكر احلميدي رسا ااالة خمتصا اارة ضا اامنها عقيدته‪ ،‬وصا اادرها بقوله‪" :‬السا اانة عندان" مث بني املعتقد‬
‫الصحيح يف املسائل اليت أثريت آنذاك‪ ،‬وقد مساها با ا ا ا ا "أصول السنة"(‪ .)5‬كما أن إمساعيل بن حيي‬
‫املزين ألف رسالة يف العقيدة عرفت با ا ا ا ا ا "شرذ السنة" وذكر فيها جممل عقيدة أهل السنة واجلماعة‪،‬‬
‫وقال يف آخرها‪" :‬هذه مقاالت وأفعال اجتمع عليها املاض ا ااون األولون من أئمة اهلدى‪ ،‬وبتوفيق هللا‬
‫اعتصاام هبا التابعون قدوة ورضااى‪ ،‬وجانبوا التكلف فيما كفوا فسااددوا بعون هللا ووفقوا‪ ،‬مل يرغبوا عن‬
‫االتباع فيقص ا ا ا ا ا ااروا ومل جياوزوه تزيدا فيعتدوا‪ ،‬فنحن ابهلل واثقون وعليه متوكلون وإليه يف اتباع آاثرهم‬
‫راغبون"(‪ .)6‬وهكذا أص ا ا ا ااحابه األوائل كانوا متمس ا ا ا ااكني ابلكتاب والسا ا ا اانة‪ ،‬معرض ا ا ا ااني عن البدع‬

‫(‪ )1‬الرسالة للشافعي ص ‪.580‬‬


‫(‪ )2‬الرسالة للشافعي ص ‪.322‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬مناقب الشافعي للبيهقي‪.221/1 :‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪ :‬آداب الشافعي البن أيب حامت ص ‪ .125‬واملراد ابلبدعة هنا هي بدعة أهل الرأي والكالم‪.‬‬
‫(‪ )5‬انظر‪ :‬أصول السنة ص ‪ 43-36‬بتحقيق مشعل احلدادي‪.‬‬
‫(‪ )6‬انظر‪ :‬شرذ السنة للمزين ص ‪ 89‬بتحقيق مجال عزون‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫واألهواء‪ ،‬ممتنعني عن القول مبا أحدثه الناس حىت ولو أجربوا عليه‪ .‬فقد كان أبو يعقوب البويطي‬
‫الناس عليه‪ ،‬فسا ااجن بسا اابب امتناعه‬ ‫ممتنعا أشا ااد االمتناع عن القول الق القرآن الذي محل اخلليفة م‬
‫عنه حىت مات يف الس ا ااجن س ا اانة ‪231‬ه(‪ .)1‬وكان موقف الربيع بن س ا االيمان املرادي ش ا ااديدا على‬
‫أهل الكالم مثل موقف شيخه اإلمام الشافعي‪ ،‬فقد روى الاللكائي بسنده إليه أنه ‪-‬رمحه هللا‪ -‬قد‬
‫أفىت بكفر من خااالف القول أبن القرآن كالم هللا غري خملوق(‪ .)2‬وكااان عبااد هللا بن الزبري احلمياادي‬
‫ش ااديدا على تلبس بش اابه أو طريقة أهل الكالم ولو كان من أهل احلديث وثقة عند بعض ااهم‪ ،‬فقد‬
‫هجر بش ا ا مار بن الس ا ااري األفوه ويرى أنه جهمي ال حيل أن يكتب حديثه ألنه كان قد ذكر حديث‬
‫"انضرة إىل رهبا انظرة" فقال‪ :‬ما أدري ما هذا؟ أيش هذا؟‪ ،‬فوثب به احلميدي وأهل مكة(‪.)3‬‬
‫وهؤالء هم من أخص تالميذ اإلمام الشااافعي الذين نقلوا عنه علومه وفقهه وعقيدته‪ ،‬كانوا‬
‫يسريون على عقيدة السلف الصاحل أهل السنة واجلماعة‪ ،‬ويقفون موقفهم من أهل األهواء والبدع‪،‬‬
‫ومل خيرج أحد منهم على كثرهتم عن عقيدة الس ا ا ا ا االف الذي كان عليه اإلمام الش ا ا ا ا ااافعي(‪ .)4‬وهكذا‬
‫أيض ا ا ااا تالميذ أص ا ا ااحابه كانوا مجيعا على عقيدة أهل الس ا ا اانة‪ ،‬فاملزين له طالب يقررون عقيدة أهل‬
‫السا اانة مثل‪ :‬نمد بن نصا اار املروزي الشا ااافعي (ت‪294‬ه)‪ ،‬وزكراي بن حيي السا اااجي(ت‪307‬ه)‪،‬‬
‫وأبو بكر بن خزميا ااة (ت‪311‬ه)‪ ،‬وأبو جعفر الطحا اااوي (‪321‬ه)‪ .‬ف ااابن نص ا ا ا ا ا اار وابن خزمي ااة‬
‫والطحاوي كلهم أص ا ااحاب مؤلفات مش ا ااهورة يف العقيدة‪ ،‬كما أن الس ا اااجي له معتقد نقل بعض ا ااه‬
‫الذهيب يف العلو للعلي الغفار(‪ ،)5‬وابن القيم يف اجتماع اجليوش اإلس ا ا ا ا ااالمية (‪ .)6‬كما أن للحميدي‬
‫تالميذ معروفني ابالعتقاد الص ا ا ا ااحيح‪ ،‬اعقتاد أهل الس ا ا ا اانة‪ ،‬مثل أبو حامت الرازي (ت‪277‬ه) وأبو‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬مناقب الشافعي للبيهقي‪ .327 /2 ،465/1 :‬ومن درر كالم البويطي وحججه‪ ،‬قوله‪" :‬إمنا خلق هللا كل‬
‫شيء با"كن"‪ ،‬فإن كانت "كن" خملوقة فمخلوق خلق خملوقا"‪ .‬قال التيمي تعليقا عليه‪" :‬وقال العلماء‪ :‬لو كان "كن"‬
‫األول خملوقا فهو خملوق أبخرى‪ ،‬وهذا يؤدي إىل ما ال يتناهى‪ ،‬وهو مستحيل"‪ .‬احلجة يف بيان احملجة‪.228-227/1 :‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬شرذ أصول اعتقاد أهل السنة لاللكائي ‪.322‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬هتذيب الكمال للمزي‪124/4 :‬؛ هتذيب التهذيب البن حجر‪.450/1 :‬‬
‫(‪ )4‬ذكر اخلطيب البغدادي يف اتريخ بغداد‪ ،441/6 :‬وابن أيب يعلي يف طبقات احلنابلة‪ ،96/1 :‬والسبكي يف طبقات‬
‫الشافعية‪ ،65-64/2 :‬وابن كثري يف طبقات الشافعيني ص‪ :115‬أن أمحد بن حيىي بن عبد العزيز البغدادي الشافعي‬
‫كان من أصحاب الشافعي املالزمني له ببغداد مث صار من أصحاب ابن أيب دؤاد وأتباعه يف رأيه‪ ،‬إال أنه مل يكن له أتباع‬
‫وال له أثر داخل املذهب الشافعي ومن مث مل يتم اعتباره اترخييا أول من شق املذهب الشافعي السين بعقيدة خمالفة له‪.‬‬
‫(‪ )5‬انظر‪.205 :‬‬
‫(‪ )6‬انظر‪.245 :‬‬
‫‪4‬‬
‫زرعااة الرازي (ت‪264‬ه) وهو من طالب الربيع بن س ا ا ا ا ا االيمااان املرادي وأقرانااه‪ ،‬وهلمااا معتقااد رواه‬
‫الاللكائي يف شا اارذ أصا ااول اعتقاد أهل السا اانة(‪ .)1‬وحىت أص ا ااحابه الذين مل يؤلفوا يف العقيدة‪ ،‬أو مل‬
‫يُؤثمر عنهم كالم يف العقيدة أو موقف من املخالفني ألهل الساانة‪ ،‬من أصااحابه الذين تتلمذوا عليه‪،‬‬
‫أو من تالميذ طالبه أو من بعدهم إىل القرن الثالث اهلجري فإهنم كلهم كانوا على الس اانة بناء على‬
‫األصل فيهم‪.‬‬
‫بداية االحنراف‬

‫بدأ االحنراف العقدي يدخل يف املذهب الشافعي يف هناية القرن الثالث اهلجري‪ .‬فقد وجد‬
‫من املنتسبني إىل الشافعي من أهل هذا القرن من سلك طريق أهل الكالم يف حترير مسائل االعتقاد‬
‫والدفاع عن العقيدة اإلسالمية‪ .‬فإن عددا من رؤساء الكالبية من املنتسبني إىل املذهب الشافعي‪،‬‬
‫وهم من أعيان القرن الثالث اهلجري‪ ،‬فعبد هللا بن سعيد بن كالب (ت‪241‬ها) الذي ينتسب إليه‬
‫فرقة الكالبية كان من املنتسبني إىل املذهب الشافعي‪ ،‬حيث ذكر اجلويين يف اإلرشاد أنه من‬
‫أصحابنا(‪ )2‬وصرذ عبد القاهر البغدادي أبنه شيخنا(‪ ،)3‬وأدرجه كل من السبكي وابن قاضي شهبه‬
‫يف طبقاهتما املخصصة للشافعية‪ ،‬وذكر السبكي أن أاب عاصم العبادي ذكره يف طبقة أيب بكر الصرييف‬
‫ومل يزد على أنه من املتكلمني(‪ .)4‬كما أن احلارث احملاسيب (ت‪243‬ه) يعد من متقدي صوفية أهل‬
‫الكالم ومن أصحاب ابن كالب‪ ،‬وكان من املنتسبني كذلك إىل املذهب الشافعي‪ ،‬فقد ذكره كل‬
‫من العبادي‪ ،‬وابن الصالذ وابن كثري والسبكي وابن قاضي شهبه يف طبقاهتم(‪ .)5‬فإذا ثبت أهنما من‬
‫الشافعية الذين يسلكون طريقة املتكلمني‪ ،‬ومها من أعيان القرن الثالث اهلجري‪ ،‬صح القول أبن‬
‫االجتاه الكالمي قد دخل املذهب الشافعي منذ ذلك القرن‪ .‬كما ميكن القول أبن بوادر االجتاه‬

‫(‪ )1‬انظر‪.179-176/1 :‬‬


‫(‪ )2‬انظر‪ :‬اإلرشاد إىل قواطع األدلة ص ‪.119‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬أصول الدين ص ‪.104‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪ :‬طبقات السبكي‪300-299/2 :‬؛ وطبقات ابن قاضي شهبه‪.33/1 :‬‬
‫(‪ )5‬انظر‪ :‬طبقات العبادي لوحة رقم ‪( 11‬خمطوط)‪ ،‬وطبقات ابن الصالذ‪441-438/1 :‬؛ وطبقات ابن كثري ص‬
‫‪137‬؛ وطبقات السبكي‪284-275/2 :‬؛ وطبقات ابن قاضي شهبه‪.59/1 :‬‬
‫‪5‬‬
‫الصويف أيضا قد بدأ منذ ذلك العصر‪ ،‬فإن احلارث احملاسيب قد ربط بني الكالم والتصوف‪ ،‬وإن‬
‫كان تصوفه مل يصل إىل حد الغلو‪ ،‬بل كان كثريا ما يشري إىل وجوب االلتزام ابلكتاب والسنة(‪.)1‬‬

‫ولعل الباحثني الذين جيزمون أن بداية التحول داخل املذهب الشافعي من املنهج السلفي‬
‫إىل غريه من املناهج‪ ،‬كان على يد أيب احلسن األشعري املتوىف سنة ‪324‬ه‪ ،‬وكذلك الذين يرون أن‬
‫ذلك التحول مل يبدأ إال يف القرن اخلامس اهلجري(‪ )2‬مل يعتربوا أوائل الكالبية الذين عاشوا يف القرن‬
‫الثالث من أعالم الشافعية أو املنتسبني إىل اإلمام الشافعي‪ ،‬إما لعدم شهرهتم بذلك أو لكون ذلك‬
‫التحول مل يظهر أثره كما ظهر لألشعري الذي كان له أثره السيء على أتباع املذهب الشافعي‪،‬‬
‫حيث بدأ كثري منهم يقلدونه يف األصول العلمية االعتقادية مع كوهنم ينتسبون إىل الشافعي يف‬
‫املسائل العملية الفقهية‪ ،‬فاختلطت بذلك بعض معامل املذهب الشافعي‪.‬‬

‫االجتاه األشعري الكاليب‬

‫ميكن القول أبن بداية التحول كان على يد عبد هللا بن سعيد بن كالب (‪241‬ه) وأصحابه‬
‫الكالبية األوائل‪ ،‬ولكن األشعري قد أشهره بني الشافعية بقوة فقد ألف أبو احلسن األشعري رسالة‬
‫مسِّاها "استحسان اخلوف يف علم الكالم" فخالف بذلك اإلمام الشافعي يف هذه املسألة املهمة‪،‬‬
‫حيث إنه‪-‬رمحه هللا‪ -‬يرى حترمي االشتغال بعلم الكالم واألشعري يرى استحسان اخلوض فيه‪ ،‬وأنه‬
‫وسيلة للدفاع عن العقيدة اإلسالمية‪ .‬وبدأ بذلك االحنراف عن هنج اإلمام الشافعي يف االعتقاد مث‬
‫توسع املتأخرون منهم حيث صرذ كثري من متأخري الشافعية أن تعلم علم الكالم واجب على‬
‫اجلميع‪ ،‬وأن إميان من آمن دون أن يكون مبنيا على أصول املتكلمني من وجوب النظر وغريها فإنه‬
‫غري مقبول عند أكثرهم(‪.)3‬‬

‫فكان بروز األشعري يف القرن الرابع اهلجري كأحد املنتسبني إىل املذهب الشافعي ميثل حتوال‬
‫فعليا يف هذا املذهب‪ ،‬إال أن أئمة الشافعية استطاعوا أن حيتفظوا له ابلطابع السين حىت هناايت‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬موقف ابن تيمية من األشاعرة للمحمود‪.412-408/1 :‬‬


‫(‪ )2‬انظر‪ :‬جهود علماء الشافعية يف بيان نواقض اإلميان لنادية اهلاليل ص ‪( 733-732 ،35 ،26‬غري مطبوع)؛‬
‫وجهود علماء الشافعية يف تقرير عقيدة السلف يف األمساء والصفات هلدى الفائز ص ‪( 1021‬غري مطبوع)‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬شرذ جوهرة التوحيد للباجوري‪ ،‬ص ‪59‬؛ واملواقف لإلجيي ص ‪.32‬‬
‫‪6‬‬
‫القرن اخلامس اهلجري‪ ،‬بدليل أن حتول اإلمام أيب املظفر السمعاين املتوىف سنة ‪489‬ه من املذهب‬
‫احلنفي إىل املذهب الشافعي كان مرتبطا بذلك‪ ،‬حيث يرى أن املذهب الشافعي ميثل مدرسة‬
‫أصحاب احلديث(‪ .)1‬كما أن النصوص الكثرية من أئمة الشافعية الذين عاشوا إىل هذه الفرتة دالة‬
‫على سنية املذهب‪.‬‬

‫وهذا التحول وإن كان قد خرج عما رمسه إمام املذهب إال أنه مل خيرج بعيدا عنه مقارنة مبا‬
‫طرأ على املذهب بعد ذلك من االعتماد على غري الكتاب والسنة والركون إىل الكالم والفلسلفة‬
‫والتصوف‪ .‬فقد كان أصحاب هذا االجتاه الكالمي الكاليب األشعري معظمني للكتاب والسنة‪،‬‬
‫قائلني مبا دال عليه يف اجلملة‪ ،‬ومل يعرف عندهم أصول تصادم الكتاب والسنة حىت وإن وجدت عند‬
‫بعضهم بوادر ذلك(‪.)2‬‬

‫االجتاه األشعري االعتزايل‬

‫يف بداايت القرن اخلامس اهلجري حىت منتصف القرن السادس اهلجري ظهر اجتاه كالمي‬
‫من نوع آخر‪ ،‬ميكن تسميته ابالجتاه األشعري االعتزايل‪ ،‬ويسميه بعض الباحثني ابألشعرية املعتزلة‬
‫أو معتزلة األشعرية على يد كل من؛ عبد القاهر البغدادي (ت‪429‬ه)‪ ،‬وأبو املعايل اجلويين‬
‫(ت‪478‬ه) وعبد الكرمي القشريي (ت ‪465‬ه) وعبد الكرمي الشهرستاين (ت‪548‬ه) (‪ .)3‬فقد‬
‫خالف هؤالء األعالم من الشافعية متقديهم يف مصادر التلقي ملا ردوا أخبار اآلحاد يف العقيدة‪،‬‬
‫وتوسعوا يف األخذ أبصول اجلهمية واملعتزلة والفالسفة‪ ،‬ووضعوا القواعد للتأويل والتعطيل(‪.)4‬‬

‫فهؤالء األعالم من الشافعية قد وضعوا بصمات واضحة يف تطور مذهب األشاعرة وتقريبه‬
‫إىل مذهب املعتزلة يف هذه الفرتة‪ ،‬فإن البغدادي الذي عاش إىل الربع األول من القرن اخلامس‬
‫اهلجري قد تبىن بقوة دليل حدوث األجسام الذي استدل به املعتزلة يف نفي الصفات عن هللا تعاىل‪،‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬قواطع األدلة يف أصول الفقه للسمعاين‪ .177-173 /5 :‬وانظر‪ :‬مقدمة نقق الكتاب‪31-27/1 :‬؛‬
‫واألنساب أليب سعد السمعاين‪298/3 :‬؛ وجهود علماء الشافعية يف بيان نواقض اإلميان لنادية اهلاليل ص ‪.35‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬األطوار العقدية يف املذهب األشعري لعبد هللا السهلي ص ‪.24‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬املدارس األشعرية حملمد الشهري ص ‪310‬؛ األطوار العقدية يف املذهب األشعري للسهلي ص ‪.31-30‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪ :‬الفرق الكالمية لناصر العقل ص ‪55-54‬؛ واألطوار العقدية يف املذهب األشعري لعبد هللا السهلي ص ‪.35‬‬
‫‪7‬‬
‫وأيد القول بتجانس األجسام كلها الذي قال به بعض املعتزلة وبنوا عليه نفي صفات هللا(‪ .)1‬وأما‬
‫اجلويين " فإنه غري مذهب األشعري يف كثري من القواعد‪ ،‬ومال إىل قول املعتزلة‪ ،‬فإنه كان كثري‬
‫املطالعة لكتب أيب هاشم بن اجلبائي وكان قليل املعرفة مبعاين الكتاب والسنة وكالم السلف واألئمة‬
‫مع براعته وذكائه يف فنه"(‪.)2‬‬

‫كما أنه يف هذا القرن أعين القرن اخلامس اهلجري وجد من املنتسبني إىل املذهب الشافعي‬
‫من أعالم املعتزلة وعلى رأسهم القاضي عبد اجلبار بن أمحد بن عبد اجلبار املعتزيل (ت‪415‬ه)‪،‬‬
‫وعبد السالم بن نمد بن يوسف بن بندار أبو يوسف القزويين املفسر املعتزيل (ت‪ ،)488‬أو من‬
‫قيل إنه معتزيل مثل‪ :‬على بن احلسني بن على املسعودى (‪345‬ه)‪ ،‬ونمد بن على القفال الكبري‬
‫الشاشىي فقد قال فيه ابن عساكر‪" :‬بلغىن أنه كان مائال عن االعتدال قائال ابالعتزال ىف أول مرة‬
‫مث رجع إىل مذهب األشعرى"(‪ ،)3‬وأبو احلسن علي بن نمد بن علي املاوردي (‪450‬ه) (‪.)4‬‬

‫االجتاه األشعري الفلسفي‬


‫ويف بداية القرن السادس اهلجري حىت اليوم ظهر يف املذهب الشافعي اجتاه كالمي آخر وهو‬
‫االجتاه األشعري الفلسفي ويُ مسمى أهله ابألشعرية املتفلسفة ملزجهم علم الكالم ابلفلسفة‪ .‬فقد بدأ‬
‫هذا االجتاه على يد أيب حامد الغزايل (ت‪505‬ه) مث أيب عمر الرازي (ت‪606‬ه) الذي قيل عنه‬
‫"متكلم متفلسف خلط هذا هبذا" وقد اقتدى هبما كثري ممن بعده كأيب احلسن اآلمدي (‪631‬ه)‬
‫وعضد الدين اإلجيي (‪756‬ه) وابن حجر اهليتمي (ت‪973‬ه) وغريهم‪ .‬وهذا االجتاه قائم على‬
‫البعد عن الكتاب والسنة واإلعراض عنهما‪ ،‬مع االعتماد على القواعد والقوانني العقلية وتقدميها‬
‫على النصوص الشرعية(‪.)5‬‬
‫فقد أرخ العالمة صديق حسن القنوجي هلذا االجتاه ويرى أن أول من كتب يف طريقة الكالم‬
‫على هذا املنحى الغزايل وتبعه ابن اخلطيب الرازي ومجاعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم مث توغل‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬موقف ابن تيمية من األشاعرة للمحمود‪.505/1 :‬‬


‫(‪ )2‬بيان تلبيس اجلهمية البن تيمية‪.507-506/5 :‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬طبقات السبكي‪.201/3 :‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪ :‬طبقات الفقهاء الشافعية البن الصالذ‪.638/2 :‬‬
‫(‪ )5‬انظر‪ :‬املدارس األشعرية حملمد الشهري ص ‪.507-505‬‬
‫‪8‬‬
‫املتأخرون من بعدهم يف خمالطة كتب الفلسفة حىت التبست مسائل الفلسفة مبسائل الكالم فحسبوها‬
‫واحدة من اشتباه املسائل فيهما(‪.)1‬‬

‫االجتاه الصويف‬
‫ميكن القول أبن بداية دخول االجتاه الصويف إىل املذهب الشافعي كانت يف القرن الثالث‬
‫اهلجري متزامنا مع دخول االجتاه الكالمي الكاليب إليه‪ ،‬وكانت بدايته على يد احلارث احملاسيب‬
‫(ت‪243‬ه)‪ ،‬فإنه قد ربط بني الكالم والتصوف كما سبقت اإلشارة إىل ذلك‪ .‬وكان تصوفه على‬
‫مذهب صوفية أهل الكالم ومل يكن كتصوف املتأخرين يف الغلو واالحنراف‪ ،‬بل كان كثريا ما يشري‬
‫إىل وجوب االلتزام ابلكتاب والسنة ومتابعة الشرع‪ .‬وكان يركز على أعمال القلوب وخطرات النفوس‪،‬‬
‫ومسائل تتعلق ببواطن األعمال ومقاصد اإلنسان فيها"(‪.)2‬‬
‫وملا جاء القرن اخلامس اهلجري دخل التصوف إىل املذهب الشافعي بقوة على يد أيب القاسم‬
‫عبد الكرمي القشريي (‪465‬ه)‪ .‬فقد وضع قواعد التصوف وأصوله‪ ،‬وذكر أحوال املريدين وآداب‬
‫الصوفية‪ ،‬وربط بني التصوف واملذهب األشعري الذي ينتصر له‪ ،‬وزعم أن عقيدة الصوفية كلهم‬
‫أشعرية بقوله‪" :‬إن عقائد مشايخ الصوفية توافق أقاويل أهل احلق يف مسائل األصول"(‪ ،)3‬مع أن‬
‫فيهم من يلعن األشعرية ويبدعهم ويضللهم(‪.)4‬‬
‫مث ظهر لون آخر من التصوف خمتلفا عما كان عليه الصوفية األوائل‪ ،‬وهو التصوف الفلسفي‬
‫اإلشراقي(‪ )5‬على يد أيب حامد الغزايل (ت ‪505‬ه)‪ ،‬فهو أول من نقل التصوف إىل تصوف فلسفي‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬أجبد العلوم‪451/2 :‬؛ واملدارس األشعرية حملمد الشهري ص ‪637 ،631 ،528-506‬؛ األطوار العقدية‬
‫يف املذهب األشعري لعبد هللا السهلي ص ‪.47-38‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬موقف ابن تيمية من األشاعرة للمحمود‪.409/1 :‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬الرسالة القشريية‪.36-24 /1 :‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪ :‬االستقامة البن تيمية‪90-83/1 :‬؛ وانظر‪ :‬موقف ابن تيمية من األشاعرة للمحمود‪525-524/1 :‬؛‬
‫واالجتاهات العقدية عند الصوفية لعبد هللا السهلي ص ‪.53‬‬
‫(‪ )5‬اإلشراق هو "األنوار العقلية وملعاهنا وفيضاهنا ابإلشراقات على النفس عند جتردها"‪.‬انظر‪ :‬املوسوعة الفلسفية لعبد‬
‫املنعم احلنفي ص ‪.47‬‬
‫‪9‬‬
‫إشراقي‪ ،‬واتبعه من جاء بعده من الصوفية أو األشاعرة كالرازي (ت‪606‬ه) واآلمدي (ت‪631‬ه)‪،‬‬
‫وعبد الوهاب الشعراين (ت‪973‬ه)‪ ،‬ويوسف النبهاين (ت‪1350‬ه) وغريه(‪.)1‬‬
‫االجتاه القبوري‬
‫يف القرن السابع اهلجري بدأ يف املذهب الشافعي يظهر اجتاه آخر بني الصوفية الشافعية‪،‬‬
‫ميكن تسميته ابالجتاه القبوري‪ ،‬لغلو أصحابه يف أهل القبور واعتقادهم فيهم عقائد ضالة محلته على‬
‫تعظيم قبورهم وآاثرهم والتقرب إليها أبنواع من العبادات‪ .‬وقد ِّأرخ أمحد املعلم يف رسالته "القبورية يف‬
‫اليمن" وذكر أن بداية ظهور هذا االجتاه يف داير الشافعية يف اليمن كان يف القرن السابع اهلجري‬
‫وأن بداايت الزايرات احلولية وغري احلولية للقبور لتقدمي النذور والتربك برتبتها كانت يف ذلك القرن(‪.)2‬‬
‫وإن كان الفخر الرازي (ت‪606‬ه) يف هناية القرن السادس وبداية القرن السابع اهلجري‬
‫قد قال بتعظيم املزارات والقبور وأن الدعاء عندها ظاهر النفع فقال يف معرض ذكره حلجج القائلني‬
‫أبن النفس جوهر روحي مفارق‪" :‬احلجة الثالثة‪ :‬جرت عادة العقالء أبهنم يذهبون إىل املزارات‬
‫املشرفة‪ ،‬ويصلون وتصدقون عندها‪ ،‬ويدعون يف بعض املهمات فيجدون آاثر النفع ظاهرة‪ ،‬ونتائج‬
‫القول الئحة‪ ،‬حكى أن أصحاب أرسطو كانوا كلما صعبت عليهم مسألة ذهبوا إىل قربه وحبثوا فيها‬
‫كانت تنكشف هلم تلك املسألة‪ ،‬وقد يتفق أمثال هذا كثرياً عند قبور األكابر من العلماء والزهاد‬
‫يف زماننا‪ ،‬ولوال أن النفوس ابقية بعد البدن‪ ،‬وإال لكانت تلك االستعانة ابمليت اخلايل من احلس‬
‫والشعور عبثاً‪ ،‬وذلك ابطل"(‪.)3‬‬
‫وملا جاء تقي الدين أبو احلسن علي بن عبد الكايف السبكي الشافعي (ت‪759‬ه) قام‬
‫بنصرة هذه الظاهرة وألف فيها كتااب مساه "شفاء السقام يف زايرة خري األانم" يرد به على ابن تيمية‬
‫يف مسألة شد الرحال إىل قرب النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،-‬مث تبعه على ذلك أمحد بن علي ابن‬
‫حجر اهليتمي الشافعي ( ت‪973‬ه) فرد أيضا على ابن تيمية يف كتاب مساه "اجلوهر املنظم يف زايرة‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬موقف ابن تيمية من األشاعرة للمحمود‪600 ،591-589 ،567-561/1 :‬؛ واالجتاهات العقدية عند‬
‫الصوفية لعبد هللا السهلي ص ‪.66‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬القبوية‪ ،‬أمحد بن حسن املعلم ص ‪.284-282‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬موقف ابن تيمية من األشاعرة للمحمود‪.589-558/1 :‬‬
‫‪10‬‬
‫القرب الشريف النبوي املكرم"‪ ،‬فقد قرر كل منهما جواز اجمليء إىل القرب النبوي لطب االستغفار‬
‫والتشفع واالستغاثة به(‪.)1‬‬
‫مث استمر هذا االجتاه ومت جتديده على يد أمحد زيين دحالن الشافعي(ت‪1304‬ه) حيث‬
‫ألف كتااب مساه "الدرر السنية يف الرد على الوهابية" قرر فيه ما قرره اهليتمي حول جواز طلب‬
‫االستغفار والتشفع ابلنيب ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬بعد وفاته مثل ما كان يف حال حياته‪ ،‬كما ألف‬
‫أيضا كتااب آخر مساه‪" :‬فتنة الوهابية" يرد به على دعوة اإلمام نمد بن عبد الوهاب الذي كان يدعو‬
‫إىل إخالص العبادة والتوحيد هلل وحيارب الشرك جبميع أنواعه‪ .‬مث تبعه على ذلك يوسف النبهاين‬
‫(ت‪1350‬ه) فقد ألف كتااب مساه "شواهد احلق يف االستغاثة بسيد اخللق" ونقل فيه ما قرره أمحد‬
‫زيين دحالن من أن الويل تتعلق روحه بعد وفاته مبريديه فيحصل هلم بربكته أنوار وفيوضات‪ ،‬وأن‬
‫الويل يكون اعتناؤه بقرابته والالئذين به بعد وفاته أكثر من اعتنائه هبم يف حياته(‪.)2‬‬

‫تنبيه‪:‬‬
‫ومع ما سبق من تعدد االجتاهات العقدية يف املذهب الشافعي فإنه قد بقي كثري من الشافعية‬
‫على منهج اإلمام الشافعي يف األصول والفروع حىت يومنا هذا‪ ،‬يتبعون مذهبه يف العقيدة كما يتبعونه‬
‫يف الفقه‪ ،‬بل إن عددا منهم ينتقدون على من أخذ مبذهب الشافعي يف الفقه واألحكام وخالفه يف‬
‫االعتقاد‪ ،‬فقد بني اإلمام أبو املظفر السمعاين الشافعي أنه "ال ينبغي ألحد أن ينصر مذهبه يف‬
‫الفروع مث يرغب عن طريقته يف األصول"(‪ .)3‬أي أصوله يف االعتقاد‪ .‬وكان الشيخ أبو احلسن الكرجي‬
‫الشافعي من أشد الناس إنكارا على من فعل ذلك‪ ،‬فإنه يقول‪" :‬إن يف النقل عن هؤالء إلزاما للحجة‬
‫على كل من ينتحل مذهب إمام خيالفه يف العقيدة فإن أحدمها ال نالة يضلل صاحبه أو يبدعه أو‬

‫(‪ )1‬فقد قال السبكي عند استدالله ابآلية ‪64‬من سورة النساء‪" :‬دلت اآلية على احلث على اجمليء إىل الرسول صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وتالستغفار عنده واستغفاره هلم‪ ،‬وذلك وإن كان ورد يف حال احلياة؛ فهي رتبة له صلى هللا عليه وسلم‬
‫التنقطع مبوته تعظيما له"‪ .‬وقال‪" :‬واآلية وإن وردت يف أقوام معينني يف حالة احلياة‪ ،‬فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه‬
‫ذلك الوصف يف احلياة وبعد املوت"‪( .‬شفاء السقام ص ‪.)86 ،86‬‬
‫وقال اهليتمي‪" :‬يسن إذا فرغ من السالم على الشيخني أن يرجع إىل موقفه األول قبالة وجه رسول هللا‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،-‬ويتوسل به يف حق نفسه ويتشفع به صلى هللا عليه وسلم إىل ربه سبحانه وتعاىل وألحبابه"‪( .‬اجلوهر املنظم ص‬
‫‪.)95‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬شواهد احلق للنبهاين ص ‪.111‬‬
‫(‪ )3‬االنتصار ألصحاب احلديث ص ‪.9‬‬
‫‪11‬‬
‫يكفره فانتحال مذهبه ‪ -‬مع خمالفته له يف العقيدة ‪ -‬مستنكر وهللا شرعا وطبعا فمن قال‪ :‬أان شافعي‬
‫الشرع أشعري االعتقاد قلنا له‪ :‬هذا من األضداد ال بل من االرتداد إذ مل يكن الشافعي أشعري‬
‫االعتقاد"(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬نقله ابن تيمية من كتابه "الفصول يف األصول عن األئمة الفحول" انظر‪:‬الفتاوى‪.177-176/4 :‬‬
‫‪12‬‬

You might also like