Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 26

‫فقه البن‬

‫المتنوع (حممد‬
‫فكر التسامح وتجلياته في الخطاب التراثي جامعة‬

‫فكر التسامح وتجلياته في الخطاب التراثي المتنوع‬

‫)فقه المعامالت المالية أنموذجاً(‬

‫إعداد الدكتور‪ :‬يوسف أمحد عمر‬

‫السنة اجلامـعـية‪:‬‬

‫‪1444 -1443‬ه ‪2023-2022 /‬م‬


‫الدكتور‪ :‬يوسف أمحد‬
‫مقدمة'‬

‫احلمد هلل والصالة والسالم على سيدنا حممد رسول اهلل وعلى آله وصحبه ومن وااله‪.‬‬

‫وبعد‪:‬‬

‫لقد متيزت الشريعة اإلسالمية بالســماحة والتيســري‪ ،‬ويف احلديث‪( :‬بعثت باحلنيفيــة السـمحة)‪ ،‬فكــل مــا بعث‬
‫بــه النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم من عبــادات ومعــامالت وغريهــا داخــل يف دائــرة التســامح‪ ،‬لــذلك حث النــيب‬
‫كــل النــاس على اقــرتان هــذا اخللــق بكــل من جيري هــذه املعــامالت ويتعامــل هبا ملا لــه من تــأثري يف اســتمرار‬
‫احلياة مع دوام الصــفاء والصـفح‪ ،‬فقـال عليــه الصـالة والسـالم‪( :‬رحم اهلل رجالً مسحا إذا مـاع‪ ،‬وإذا اشـرتي‬
‫وإذا اقتضــى )‪ 1‬وال ميكن أن يتصــور وجــود إنســان ‪ -‬يف وقتنــا احلاضــر – إال وهــو يتعامــل هبذه املعــامالت‬
‫يومياً الرتباطها بقوام احلياة وسريورهتا‪.‬‬

‫التس ــامح مفه ــومـ واس ــع‪ ،‬تن ــدرج حتت ــه أخالقي ــات كث ــرية حنت ــاج إليه ــا يف واقعن ــا وحياتن ــا اليومي ــة‪ ،‬ومبا أنن ــا‬
‫نتحــدث عن التســامح فإننــا نقصــد بــذلك الوصــول إىل هــدف االجتمــاع واالعتصــام والتكــاتف والفضــيلة‪،‬‬
‫وهذا اهلدف إذا حتقق فإن الثمرة تظهر عياناً يف اجملتمع‪ ،‬فيكون قوياً مرتابطاً متجانساً ومزدهراً‪.‬ـ‬

‫خلــق التســامح حنتاجــه يف الــبيع والشــراء ومعامالتنــا املاليــة مــع اآلخــرين‪ ،‬وهنــا نعــين بــه الســهولة يف التعامــل‬
‫والرفق مع اآلخرين‪ ،‬كما جاء يف احلديث عن النيب عليه الصالة والسـالم‪» :‬رحم اهلل رجالً مسحاً إذا بـاع‪،‬‬
‫مسحاً إذا اشرتى‪ ،‬وإذا اقتضى«‪ ،‬فهذا احلديث حيثنا على السماحة والسهولة يف خمالطة الناس‪..‬‬

‫واللني معهم‪ ،‬واسـ ـ ــتعمال معـ ـ ــايل األخالق‪ ،‬وتـ ـ ــرك املشـ ـ ــاحنة‪ ،‬واحلض على تـ ـ ــرك التضـ ـ ــييق على الن ـ ــاس يف‬
‫املطالبــة‪ ،‬وأخــذ العفــو منهم‪ ،‬واحلفــاظ على أمــواهلم‪ ،‬وعــدم اســتغالهلم وغشــهم‪ ،‬ومن غشــنا فليس منــا‪ ،‬كمــا‬
‫قال عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫وحني نتعامــل مــع خلــق التســامح ينبغي علينــا أن نتــذكر قــول رســول اهلل صــلى اهلل عليــه وســلم‪» :‬ال يــؤمن‬
‫أحدكم حىت حيب ألخيــه مــا حيب لنفســه«‪ ،‬فـإذا كنت ال حتب لنفســك أن خيدعك النــاس فيجب أال ختدع‬
‫‪ 1‬رواه البخاري يف صحيحه عن جابر بن عبد اهلل (رضي اهلل عنهم)) يف كتاب البيوع‪ ،‬باب السهولة والسماحة يف الشراء والبيع‪ ،‬ومن طلب حقا فليطلبه يف عفاف‪،‬‬
‫برقم ‪.٢٠٧٦‬‬
‫اآلخــرين‪ ،‬وإذا كنت تتمــىن أال يغشــك النــاس‪ ،‬فــاحرص على أال تغشــهم‪ ،‬بــل أكــثر من ذلــك‪ ،‬يعلمنــا هــذا‬
‫اخللــق الكــرمي أن نبــادر بتقــدمي اخلري لآلخــرين واملســارعة إليــه وكأننــا نســعى خلري أنفســنا‪ ،‬حــىت ننــال درجــة‬
‫اإلميان الكامل‪ ،‬واإلحسان الذي يرضي اهلل عز وجل عنا‪.‬‬

‫الصدق مع اآلخرين‬

‫إن سجية التسامح جتعلك تعامل الناس كما حتب أن تعامل أنت‪ ،‬جتعلك تصــدق معهم يف التعامــل‪ ،‬جتعلــك‬
‫تتنــازل عن حــظ نفســك يف مقابــل تــأليف قلــوب اآلخــرين‪ ،‬واحلفــاظ على الــود واالحــرتام‪ ،‬وهبذا نفهم أن‬
‫الغش التج ــاري والك ــذب يف ال ــبيع وإخف ــاء العيب يف البض ــاعة‪ ،‬خيالف مفه ــوم ومب ــدأ التس ــامح‪ ،‬ل ــذا ج ــاء‬
‫التحذير يف السنة النبوية‪:‬‬

‫»البيّع ــان باخلي ــار م ــا مل يتفرق ــا‪ ،‬ف ــإن بيّن ــا وص ــدقا ب ــورك هلم ــا يف بيعهم ــا‪ ،‬وإن كتم ــا وك ــذبا حمقت برك ــة‬
‫بيعهما«‪ ،‬فالربكة تذهب عند ضياع مفهوم السهولة والسماحة يف املعامالت‪ ،‬ألن هذا يؤدي إىل اخلصومة‬
‫والتنازع بني الناس‪ ،‬وهذا التنازع سيكون له األثر السـليب يف اجملتمعـات‪ ،‬قـال تعـاىل‪» :‬وال تنـازعوا فتفشـلوا‬
‫وتــذهب رحيكم«‪ ،‬فالتنــازع هــو الطريــق إىل الفشــل والضــعف‪،‬ـ ومن هنــا تظهــر لنــا فضــيلة وآثــار هــذا اخللــق‬
‫العظيم الذي نطبقه يف كل أجزاء حياتنا وتعاملنا مع الغري‪.‬‬

‫أخالق عثمان‬

‫وهــذا مــا كــان من عثمــان رضــي اهلل عنــه حني اشــرتى من رجــل أرض ـاً‪ ،‬فتــأخر صــاحب األرض يف القــدوم‬
‫علي ــه لقبض الثمن‪ ،‬وحني نظـ ــر إىل أس ــباب ت ــأخره ت ــبني لـ ــه أنـ ــه بعـ ــد أن مت العقـ ــد شـ ــعر الب ــائع أنـ ــه مغب ــون‬
‫»خسران«‪ ،‬وكان الناس يلومونه كيف تبيعها هبذا الثمن؟ فقال عثمان‪:‬‬

‫فاخرت بني أرضك ومالك مث ذكر لـه احلديث عن النـيب عليـه الصــالة والسـالم »أدخـل اهلل رجالً اجلنـة‪ ،‬كـان‬
‫ســهالً مشــرتياً وبائعـاً‪ ،‬وقاضــياً ومقتضــياً«‪ .‬ننظــر كيــف قــدم رضــي اهلل عنــه املصــلحة العامــة على الشخصــية‪،‬‬
‫وهي التــآلف وبقــاء الــود‪ ،‬مــع أنــه لــه احلق يف عــدم الرجــوع مــا دام أن الــبيع قــد مت‪ ،‬ولكنــه اختــار األكمــل‪،‬‬
‫وهذا ال يفهمه إال أصحاب األخالق العالية‪.‬‬

‫الســماحة لــو طبقناهــا يف معامالتنــا املاليــة‪ ،‬ألبعــدنا أنفســنا عن كثــري من القضــايا واحلرج واخلصــومات الــيت‬
‫تنتج عند غياب هذا األصل يف البيع والشراء‪.‬‬
‫من أهم مــا هــدانا إليــه كتابنــا املقــدس‪ ،‬أن املعــامالت املاليــة تقــوم على العــدل والصــدق والتســامح والرمحة‪،‬‬
‫وتواجه كل صور الظلم‪ ..‬ولذلك توفر هذه املعامالت لإلنسان أقصى ما يتطلــع إليــه من أمــان على أموالــه‪،‬‬
‫وطمأنينة على مثرة جهده وكفاحه‪ ،‬وكلمـا سـادت هــذه املعـامالت يف جمتمــع وفــق مقاصـد وتعـاليم القــرآن‪،‬‬
‫حتقق االستقرار االقتصادي واستقامت املعامالت بني الناس‪.‬‬

‫أيضـ ــا‪ ..‬تـ ــوفر تعـ ــاليم القـ ــرآن وأخالقياتـ ــه االقتصـ ــادية للمجتمـ ــع احلمايـ ــة الكاملـ ــة من كـ ــل أشـ ــكال الفس ــاد‬
‫االقتص ــادي ال ــيت استش ــرت يف جمتمعاتن ــا العربي ــة واإلس ــالمية يف ظ ــل غي ــاب ال ــوازع ال ــديين‪ ،‬وع ــدم تط ــبيق‬
‫العقوبات الشرعية على كـل من تسـول لــه نفســه املريضـة‪ ،‬العــدوان على املال العــام‪ ،‬أو هنب وســرقة حقــوق‬
‫الفقراء والبسطاء‪.‬‬

‫يقول الفقيـه األزهـري د‪ .‬نصـر فريـد واصـل‪ ،‬عضـو هيئـة كبـار العلمـاء‪ ،‬ومفـيت مصـر األسـبق‪ :‬تعـاليم القـرآن‬
‫الكــرمي وفــرت البيئــة االقتصــادية الالزمــة لتحقيــق العــدل بني النــاس‪ ،‬ومنــع الفســاد االقتصــادي بكــل صــوره‬
‫وأشــكاله‪ ،‬وهــذا من شــأنه أن يــوفر للمجتمــع األمــان واالســتقرار االقتصــادي الــذي تتحقــق يف رحابــه كــل‬
‫طموحات اإلنسان‪ ،‬حيث حرم حترميا قاطعا مجيع طرق الكسب غري السليم‪ ،‬وهي الوسائل اليت تقــوم على‬
‫الربـ ــا أو الرشـ ــوة‪ ،‬أو اسـ ــتغالل النفـ ــوذ والسـ ــلطان‪ ،‬أو على غش النـ ــاس‪ ،‬أو ابـ ــتزاز أمـ ــواهلم‪ ،‬أو التحكم يف‬
‫ض ــروريات حي ــاهتم‪ ،‬أو انته ــاز ح ــاالت ع ــوزهم وح ــاجتهم‪ ،‬وم ــا إىل ذل ــك من األس ــاليب غ ــري الس ــليمة يف‬
‫كســب املال‪ ،‬وحــرم امتالك مــا ينجم عنهــا‪ ،‬وأجــاز مصــادرته وضــمه إىل بيت املال‪ ،‬أي إخراجــه من حــيز‬
‫امللكية الفردية إىل امللكية اجلماعية‪.‬‬

‫إغالق أبواب الفساد‬

‫ويضــيف‪ :‬لقــد أغلــق اإلســالم األبــواب الــيت تــؤدي عــادة إىل تضــخم الــثروات يف يــد بعض األفــراد‪ ،‬ذلــك أن‬
‫الطـرق املشــروعة يف الكســب ال ينجم عنهـا يف الغـالب إال الـربح املعتــدل املعقــول املتفـق مـع سـنن االقتصـاد‪،‬‬
‫أمــا األربــاح الفاحشــة والــثروات الضــخمة‪ ،‬فإمنا تكــون يف الغــالب نتيجــة لكســب غــري مشــروع‪ ،‬ويف حترمي‬
‫القــرآن هلذه الوســائل حتقيــق لتكــافؤ الفــرص بني النــاس‪ ،‬وقضــاء على أهم عامــل من العوامــل الــيت تــؤدي إىل‬
‫اتساع الفروق االقتصادية بني األفراد والطبقـات‪ ،‬ويف ذلـك حتقيـق للمسـاواة يف شـؤون االقتصـاد من أفضـل‬
‫طريق‪.‬‬
‫وحق ــق الق ــرآن بتش ــريعاته وتوجيهات ــه االقتص ــادية‪ -‬أيض ــا‪ -‬غرض ــا إنس ــانيا مهم ــا‪ ،‬وه ــو أن تق ــوم العالق ــات‬
‫االقتصادية بني الناس على دعـائم من التكافـل والـرتاحم والتعـاطف والتواصــي بالصـدق والعــدل واإلحسـان‪،‬‬
‫وأن يتجنبــوا يف معــامالهتم بعضــهم مــع بعض كــل مــا يأبــاه اخللــق الســليم‪ ،‬ومــا يــؤدي إىل التنــافر والتبــاغض‬
‫وصــراع الطبقــات واضــطراب حيــاة اجلماعــات‪ ..‬وكــل هــذا يــؤدي حتمــا إىل دفــع النــاس إىل العمــل والكــد‬
‫لكســب املال وتنميتــه‪ ،‬وصــرفهم عن الكســل والبطالــة والطــرق اهلينــة والوضــيعة الــيت تــأيت بالكســب وزيــادة‬
‫املال بدون جهد وال عناء‪.‬‬

‫فلسفة حترمي الريا‬

‫وعن فلس ــفة حترمي الق ــرآن للرب ــا يوض ــح مف ــيت مص ــر األس ــبق‪ :‬ح ــرم الق ــرآن الرب ــا حترمياً قاطع ــا‪ ،‬وجعل ــه من‬
‫الكبائر‪ ،‬وتوعد أهله حبرب من اهلل ورسوله‪ ،‬حيث يقول احلق سبحانه‪« :‬ومــا آتيتم من ربــا لــريبو يف أمــوال‬
‫النــاس فال يرب ــو عن ــد اهلل وم ــا آتيتم من زك ــاة تري ــدون وج ــه اهلل فأولئ ــك هم املض ــعفون»‪..‬ـ أي من يفعل ــون‬
‫ذلك هم املنمون لألموال‪.‬‬

‫ويق ــول د‪ .‬واص ــل‪ ،‬توض ــيحاً ملع ــىن ه ــذه اآلي ــة ودالالهتا‪ :‬إن الزي ــادة ال ــيت حيققه ــا بعض الن ــاس ألم ــواهلم عن‬
‫طري ــق الرب ــا هي زي ــادة يف الظ ــاهر‪ ،‬لكنه ــا ليس ــت زي ــادة يف نظ ــر اهلل‪ ،‬وال يف الواق ــع‪ ،‬ألهنا ال تزي ــد ش ــيئا يف‬
‫الثروة العامة للمجتمع‪ ،‬على حني أن النقص الذي يلحق األموال بسبب الزكاة هو نقص يف الظــاهر‪ ،‬لكنــه‬
‫زيادة يف نظر اهلل‪ ..‬فصرف هذه الزكاة يف مصارفها يزيد من ثـروة اجملتمـع‪ ،‬ومن قدرتـه وإمكانياتـه‪ ،‬وحيقـق‬
‫لــه فوائــد أكــثر من الفوائــد الــيت كــان ميكن أن تتحقــق لــو بقيت الزكــاة يف مــال صــاحبها‪ ،‬ويــؤدي وظــائف‬
‫اجتماعيــة أهم كثــريا من الفوائــد الفرديــة الــيت تــرتتب على عــدم إيتــاء الزكــاة‪ ،‬قــال تعــاىل يف عبــارات مــوجزة‬
‫بليغــة مجع فيهــا بني الــرتغيب والــرتهيب وبيــان العلــل واألســباب واحلث على مكــارم األخالق واملثــل العليــا‪:‬‬
‫«الذين يأكلون الربا ال يقومون إال كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من املس»‪.‬‬

‫ويضــيف‪ :‬الواقــع أن الطــرق الربويــة طــرق غــري ســليمة للكســب من الناحيــة االقتصــادية نفســها‪ ،‬ألن الفائــدة‬
‫الــيت حيصــل عليهــا املقــرض ال تــأيت نتيجــة لعمليــة إنتاجيــة أســهم مبالــه فيهــا‪ ،‬بــل تــأيت بــدون مقابــل اقتصــادي‪،‬‬
‫فهي مبلغ استقطع من مـال املقـرتض‪ ،‬وبالتـايل اسـتقطع من الـثروة العامـة‪ ،‬بـدون أن حيدث القـرض زيـادة مـا‬
‫يف إحدى الثروتني‪ ،‬وهي كذلك غري سليمة من الناحية االجتماعية‪ ،‬ألن اجملتمع ال يستفيد شــيئا من عمليــة‬
‫كهـذه‪ ،‬وال تزيـد شـيًئا من قدراتــه وال من إمكاناتـه‪ ،‬بـل تصـيبه من جرائهـا أضــرار بليغـة ملا تنطــوي عليـه من‬
‫اس ــتغالل حلاج ــات الن ــاس‪ ،‬وانته ــاك لقواع ــد األخالق واملث ــل العلي ــا‪ ،‬وخ ــروج عن مب ــادئ اإلخ ــاء والتكاف ــل‬
‫االجتماعي‪.‬‬

‫هــذا إىل جــانب مــا تــؤدي إليــه هــذه املعــامالت من بث األحقــاد والضــغائن يف نفــوس النــاس بعضــهم حيــال‬
‫بعض‪ ،‬وتوسيع الفروق يف الثروة بني األغنيـاء والفقـراء‪ ،‬وصـرف ألصـحاب األمـوال عن كسـبها عن طريـق‬
‫الكد والكسب اإلنتاجي السليم‪ ،‬وتشجيع هلم على الطرق الكسولة اهلينة يف الكسب‪ ،‬وال خيفى ما يرتتب‬
‫على هذا كله من آثار سلبية على االقتصاد وحركة العمل واإلنتاج يف اجملتمع‪.‬‬

‫مصلحة اجملتمع‬

‫د‪ .‬ســيف قزامــل‪ ،‬أســتاذ الشــريعة اإلســالمية جبامعــة األزهــر‪ ،‬يؤكــد أن القــرآن جــاء بتوجيهــات اقتصــادية من‬
‫شــأهنا حتقيــق االســتقرار االجتمــاعي واالقتصــادي يف أي جمتمــع‪ ،‬ومواجهــة كــل صــور الظلم يف املعــامالت‪..‬‬
‫ويقول‪ :‬ال شك أن عطاء القرآن يف هذا اجلانب يفوق كثريا عطاء الكتب السماوية السابقة‪.‬‬

‫ويضــيف‪ :‬القــرآن نظم العالقــات املاليــة املتشــابكة بني أفــراد اجملتمــع‪ ،‬وتــدخل يف التشــريعات االقتصــادية مبا‬
‫يضبطها‪ ،‬حيث مينع وقوع الظلم واالستغالل والكسب احلرام‪ ،‬وهو مـا شـهد بـه العلمـاء واخلرباء املنصـفون‬
‫املعنيون بالشأن االقتصادي من مسلمني وغري مسلمني‪.‬‬

‫وتب ــدو مظ ــاهر العدال ــة يف تش ــريعات اإلس ــالم االقتص ــادية ‪ -‬من ق ــرآن وس ــنة ‪ -‬بوض ــوح فيم ــا ج ــاء ب ــه من‬
‫قواعد ومبادئ عادلة لتنظيم العالقات املالية بني الناس مجيعا‪ ،‬وكفالة حقوق كل األطراف من دون اعتبــار‬
‫ملكانــة الشــخص يف اجملتمــع‪ ،‬ومن دون تفرقــة بني عمــل بســيط وآخــر مرمــوق‪ ،‬فالكــل أمــام عدالــة الســماء‬
‫سواء‪.‬‬

‫ويؤكد د‪ .‬سيف أن جوانب التميز يف التشريعات املالية اليت وضع قواعدها القرآن الكرمي واضحة ومتنوعة‬
‫وكاشــفة جلوانب العظمــة يف هــذا الكتــاب الســماوي اخلامت‪ ،‬وهــذه التشــريعات‪ ،‬وتلــك الرؤيــة تؤكــد قــدرة‬
‫اإلســالم العادلــة على «ضــبط» حيــاة النــاس والســمو بعالقــاهتم املاليــة‪ ،‬واالرتقــاء بســلوكياهتم‪ ،‬وإشــاعة كــل‬
‫مبادئ التعاون واأللفة واحملبة والتفاهم بينهم‪.‬‬
‫ولقــد شــهد للمنظومــة االقتصــادية اإلســالمية الــيت تعتمــد على تشــريعات وتوجيهــات القــرآن أســاتذة وخــرباء‬
‫االقتصاد املنصفون يف كل العامل‪ ،‬وأكدوا أن منظومة التشريعات االقتصادية اإلســالمية تتمــيز بــاحلرص على‬
‫م ــا حيقـ ــق مصـ ــلحة اإلنسـ ــان‪ ،‬وهـ ــذا بالفعـ ــل واضـ ــح يف كـ ــل تشـ ــريعات اإلسـ ــالم االقتصـ ــادية حيث ترتب ــط‬
‫باملصلحة وجودا وعدما‪ ،‬فما فيه مصلحة حقيقية أباحته شــريعتنا ويســرته‪ ،‬ومــا فيــه ضــرر أو مفاســد حرمتــه‬
‫وح ـ ــذرت الن ـ ــاس من ـ ــه ووقفت يف طريق ـ ــه‪ ،‬وه ـ ــذا احلرص املتن ـ ــاهي على مص ـ ــلحة اإلنس ـ ــان يؤك ـ ــد عظم ـ ــة‬
‫التشريعات اإلسالمية ويفرض على املسلمني وغري املسلمني أن حيتموا هبا لضمان مصاحلهم‪.‬‬

‫العدل ومحاية احلقوق‬

‫ول ــو حبثن ــا يف مقاص ــد وأه ــداف التش ــريعات والتوجيه ــات اإلس ــالمية يف جمال املع ــامالت لوج ــدنا أهنا تؤك ــد‬
‫ضرورة أن تقوم املعامالت بني الناس على العدل ومحاية احلقوق‪.‬‬

‫ومعــامالت اإلســالم االقتصــادية الــيت حترص على العــدل تســتهدف ‪ -‬كمــا يقــول د‪ .‬قزامــل ‪ -‬حتقيــق جمتمــع‬
‫آمن مس ـ ــتقر اجتماعيـ ـ ـاً واقتص ـ ــادياً وأمني ـ ــا‪ ،‬ذل ـ ــك أن معظم املش ـ ــكالت االجتماعي ـ ــة واألمني ـ ــة ت ـ ــأيت نتيجـ ــة‬
‫مشكالت وأزمات اقتصادية‪.‬‬

‫ويوضح د‪ .‬قزامل أن حرص الشريعة اإلسالمية على مصاحل اإلنسان له درجات متفاوتــة ختتلــف من إنســان‬
‫إىل آخر وفقا حلاجاته ومصاحله‪ ،‬فهناك حاجات ضرورية ال يستطيع اإلنسان أن يعيش بدوهنا‪ ،‬وهـذه البـد‬
‫من توفريها له‪ ،‬وهناك حاجات يعيش اإلنسان بدوهنا يف حرج وضيق‪ ،‬وهذه تبذل كل اجلهود لتوفريها لــه‬
‫يف ظــل ضــوابط وقواعــد ترتبــط بعملــه وجهــده وكفاحــه‪ ،‬وهنــاك حاجــات حتســينية أباحتهــا شــريعة اإلســالم‬
‫هلؤالء ال ــذين أنعم اهلل عليهم ب ــالرزق الوف ــري وض ــابط االس ــتفادة من ه ــذه األم ــور التحس ــينية ه ــو االل ــتزام مبا‬
‫أحله اهلل وبدون إسراف أو إهدار حلقوق اآلخرين‬

‫اختذت األمم املتحدة يوم الـ‪ 16‬من نوفمرب يوماً للتسامح العاملي‪ ،‬لالحتفـاء بـه وإشـاعة ثقافتـه بني األمم‪ ،‬ملا‬
‫له من أثر عظيم يف استقامة حياة النـاس على املودة واإلخــاء اإلنســاين‪ ،‬والتعـايش النـافع غـري الضـار‪ ،‬فتشـكر‬
‫على ذلك كثرياً‪ ،‬فإن التسامح هو منهج اإلسالم العام يف كل تشريعاته الكلية واجلزئية‪ ،‬فقــد أقــام اهلل تعــاىل‬
‫صرح هذا الدين اخلالد الذي ار تضاه لنفسه ليعبد به يف األرض‪ ،‬وينفع صاحبه عند العرض‪ ،‬على السماحة‬
‫العامــة يف مــا يتعلــق حبقـه على العبـاد‪ ،‬ومـا يتعلـق حبقـوق العبـاد يف مـا بينهم‪ ،‬وقــد أخــرب املصـطفى ‪-‬صـلى اهلل‬
‫علي ــه وس ــلم‪ -‬أن «أحب ال ــدين إىل اهلل احلنِ ِيفي ــة الس ــمحة»‪ ،‬فاحلنيفي ــة هي ملــة إب ــراهيم علي ــه الس ــالم‪ ،‬وهي‬
‫الدين القيم الذي ورثه منه أنبياءُ اهلل ورسله عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ويف مقــدمتهم سـيدنا حممــد ‪-‬صــلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬الذي هو دعوة إبراهيم وبشرى عيسى‪ ،‬والذي أخرب اهلل تعـاىل عن حقيقـة دعوتـه وملتـه بقولـه‬
‫ني ِم ْن َقْبـ ُـل}‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِإ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يِف‬
‫اجتَبَــا ُك ْم َو َمــا َج َعـ َـل َعلَْي ُك ْم الــدي ِن م ْن َحـ َـر ٍج مل ـةَ َأبي ُك ْم ْبـ َـراه َ‬
‫يم ُهـ َـو مَس ا ُك ُم الْ ُم ْس ـلم َ‬ ‫{هـ َـو ْ‬
‫ُ‬
‫فهذه امللة احلنيفية اليت ال يقبل اهلل تعاىل ديناً سواها‪ ،‬ومل يرتض لعباده غريها‪ ،‬كلها مساحة‪.‬‬

‫فقــد أقــامت اإلميان على الســماحة‪ ،‬فال إكــراه يف الــدين ملن مل يكن من أهلــه‪ ،‬بــل لــه أن خيتــار اهلدى فيقي‬
‫نفسه الردى‪،‬ـ وله أن يبقى على أصله يف أي دين كان عليه أهله‪ ،‬إن مل يعتد أو يظلم‪ ،‬فقد تــبني الرشــد من‬
‫الغي‪ ،‬وأقامت الدعوة هلذا الدين على هذا األساس‪ ،‬وإال كان الداعي منفراً غري مرغب‪،‬ـ فيحمــل أوزار من‬
‫نفرهم عن دينه وكرههم بشرعه‪ ،‬وأقـامت العبـادات كلهـا على السـماحة‪ ،‬فال حـرج يف الـدين‪ ،‬وال يكلـف‬
‫اهلل نفساً إال وسعها‪ ،‬فكل مكلف بوسعه أن يؤدي ما افرتض اهلل عليه من التكاليف حبسب وسعه وطاقته‪،‬‬
‫وما عجز عنه فهو مما عفا اهلل تعاىل عنه‪.‬‬

‫وأقــامت املعــامالت املاديــة على الســماحة والرتاضــي من غــري إجحــاف وال انتهازيــة وال ابــتزاز‪ ،‬فــدعت إىل‬
‫الســماحة يف الــبيع والشــراء والقضــاء واالقتضــاء‪ ،‬وجعلت الرضــا أص ـالً للعقــود املاليــة إذا خلت عن انتهــاك‬
‫أصــول احملارم من رب ــا وغش وغــرر وقمــار وحنو ذل ــك‪ .‬وأق ــامت العالقــات األس ــرية على الســماحة يف كــل‬
‫مراحله ــا‪ ،‬من اليس ــر يف امله ــر‪ ،‬وال ـ ُـود والرمحة يف التعام ــل‪ ،‬والفض ــل يف اإلنف ــاق والرعاي ــة‪ .‬وأق ــامت العدال ــة‬
‫القض ـ ــائية على الس ـ ــماحة يف اإلثب ـ ــات واستقص ـ ــاء احلق ـ ــوق‪ ،‬ودرء احلدود بالش ـ ــبهات‪ ،‬وال ـ ــدعوة إىل العفـ ــو‬
‫والصفح‪ .‬وأقامت العالقات الدوليـة سـلماً وحربـاً على مبــدأ السـماحة فـدعت إىل الـدخول يف السـلم كافـة‪،‬‬
‫وإىل اجلنــوح إليــه دائمـاً‪ ،‬وإىل احــرتام العهــود واملواثيــق‪ ،‬وجــرمت الغــدر واخليانــة‪ ،‬وأوجبت النبــذ على ســواء‬
‫إذا انتهت مــدة العهــد‪ ،‬بــل أقــامت احليــاة كلهــا مبختلــف تكويناهتا وكائناهتا على مبــدأ الســماحة‪ ،‬فحــرمت‬
‫اإلفســاد يف األرض مبا يســيء إىل البِيئــة‪ ،‬أو يغــري مجاهلا‪ ،‬ودعت إىل اإلحســان يف كــل شــيء حــىت يف القتــل‬
‫والــذبح‪ ،‬كــل ذلــك ألن الســماحة هي روح احليــاة اإلنســانية‪ ،‬فكــانت أص ـالً من أصــول امللــة احلنيفيــة‪ ،‬ملــة‬
‫إبــراهيم الــيت ورثهــا لنــا ومسانا من أجلهــا مســلمني‪ ،‬فهــل يــا تُــرى يعلم النــاس مبختلــف ثقافــاهتم هــذه احلقيقــة‬
‫الناص ــعة عن اإلس ــالم‪ ،‬إذاً فق ــد اع ــرتفوا بعاملي ــة اإلس ــالم ال ــذي يس ــعهم ليعيش ــوا على تعاليم ــه حنف ــاء ش ــرفاء‬
‫أوفياء خلالقهم‪ ،‬وفطرهتم اليت فُ ِطروا عليها قبل أن تغريهم األهواء‪ ،‬وجتتاهلم شياطني اإلنس و اجلن‪.‬‬

‫فقـد اسـتندت الشـريعة اإلسـالمية يف تشـريعاهتا العامـة على أسـس رصـينة‪ ،‬ومبـادئ عظيمـة‪ ،‬فـراعت مصـاحل‬
‫العبــاد‪ ،‬وســعت إىل احملافظــة على كيــان اإلنسـان وكـل مــا حييــط بــه‪ ،‬من أجــل حتقيــق مصــاحل العبـاد الكليـة يف‬
‫الــدارين‪ ،‬وقــد بني اإلمــام الغــزايل أن املصــلحة ال تقتصــر على جلب املنفعــة ودفــع املقــدة وحــدها فحســب‪،‬‬
‫وإمنا تتس ــع لتش ــمل حتقي ــق مقص ــودـ الش ــرع يف احملافظ ــة على الض ــرورات اخلمس لإلنس ــان واس ــتمرارها‪ ،‬إذ‬
‫يقــول‪ ( :‬تعــين باملصــلحة احملافظــة على مقصــودـ الشــرع‪ ،‬ومقصــودـ الشــرع من اخللــق خســة وهــو أن حيفــظ‬
‫عليهم دينهم وتفهم وعقلهم ونسلهم ومــاهلم‪ ،‬فكـل مـا يتضـمن حفــظ هــذه األصـول اخلمسـة فهـو مصــلحة‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫وكل ما يفوت هذه األصول فهو مقدة ودفعها مصلحة)‬

‫والتشــريع أينمــا كــان فهم ال يوجــد اال باجتمــاع‪ ،‬وال اجتمــاع إال بقــانون منظم‪ ،‬ولــذا فــإن وجــود الشــرائع‬
‫مص ــاحب الت ــاريخ العم ــران‪ ،‬إذ اإلنس ــان وإن امت ــاز عن س ــائر املخلوق ــات يف األرض بالعق ــل ف ــإن في ــه ص ــفة‬
‫األنانية وحب الذات‪ ،‬فضالً عن تفاوت العقول يف إدراك الفاصــل بني اخلري والشــر خاصــة فيمــا هــو غــامض‬
‫خفي‪ .3‬ومن هنــا تــربز قيمــة التســامح باعتبــار مــا ينتج عنــه من تعــايش ســلمي ‪ -‬مبفهومــه املنضــبط بقواعــد‬
‫الشــريعة ‪ -‬يف انعكاســها على حفــظ نظــام األمــة وحتقيــق مصــاحل العبــاد‪ ،‬واســتدامة صــالحه بصــالح املهيمن‬
‫عليه‪ ،‬وهو نوع اإلنسان‪ ،‬ويشمل صالحه صالح عقله وصالح عمله وصــالح مــا بني يديــه من موجــودات‬
‫‪4‬‬
‫العامل الذي يعيش فيه‬

‫وبنــاء على ذلــك جــاءت الش ــريعة بقص ــد حتقيــق مص ــاحل النــاس على اختالف األزمــان والبيئــات‪ ،‬باعتباره ــا‬
‫تشــريعاً عام ـاً للنــاس مبختلــف اشــكاهلم وأجناســهم‪ ،‬قــال اهلل تعــاىل‪ :‬قــل يأيهــا النــاس إىل رســول اهلل التحكم‬
‫مجيعا (األعراف‪ )۱۵۸ :‬والناس فيهم املسـلمون وغـري املسـلمني‪ ،‬وغـري املسـلمني هم كـل من ال يـدين بـدين‬
‫اإلسالم من أي ملة أو حنلة أو ديانة كانت‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫املستصفى‪ ،‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬حتقيق حممد عبد السالم عبد الشايف‪ ،‬دار الكتب العلمية‬

‫القليعة األوىل‪١٤١٣ ،‬هـ ‪١٩٩٣ -‬م‪١٧٤/١ ،‬‬


‫‪ 3‬املدخل للفقه اإلسالمي‪ ،‬حممد سالم مذکور‪ ،‬دار الكتاب احلديث‪ ،‬الكويت‪ ،‬ص ‪۹‬‬
‫‪ 4‬مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬حممد الطاهر بن عاشور‪ ،‬حتقيق حممد احلبيب ابن اخلوجة‪ ،‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬تونس‪ ١٤٢٥ ،‬هـ ‪٢٠٠٤ -‬م‪،‬‬
‫قسم علماء المسلمين أصناف غير المسلمين إلى أربعة أقسام رئيسة‪:‬‬
‫وقد ّ‬
‫القسم األول‪ :‬أهل الذمة؛ وهم من يقيم مع املسلمني يف ديارهم‪ ،‬ويدينون بغري دين اإلسالم‪.‬‬

‫القسم الثاين‪ :‬املستأمنون؛ وهم الوافدون إىل بالد املسلمني بعقد أمان أي بتأشرية دخول‪.‬‬

‫القسم الثالث‪ :‬أهل الصلح والعهد؛ وهم الــذين يقيمــون بغــري بالد املســلمني‪ ،‬وال يـدينون باإلســالم‪ ،‬والــذين‬
‫يتمثلون اليوم بالدول غري املسلمة وأفرادها‪ ،‬واليت بينها وبني املسلمني صلح ومعاهدات‪ ،‬وفيها متثيل‬

‫دبلوماســي متبــادل‪ ،‬أو مل يكن هنــاك معاهــدات أو متثيــل دبلوماســي لكن مــع عــدم وجــود حــرب معهــا أعلن‬
‫عنها ويل أمر املسلمني‪ ،‬وهم اليوم أغلب دول العامل‪.‬‬

‫القسم الرابع‪ :‬احلربيون وهم غري املسلمني الذين مل يـدخلوا يف عقـد الذمـة وال يتمتعـون بأمـان املسـلمني وال‬
‫عهدهم‪ ، 5‬مع اإلعالن الرمسي من والة أمر املسلمني على قيام العداوة وإعان حالة احلرب معهم‪.‬‬

‫كمــا جتدر اإلشــارة إىل أن التعامــل التجــاري معهم –أي غــري املســلمني من األقســام األربعــة ‪ -‬مل يكن وليــد‬
‫عصرنا احلاضر؛ وإمنا كان قائماً بينهم وبني املسلمني منذ العصور السالفة؛ كما كان بني املسلمني وقــريش‬
‫قبل‬

‫اهلجرة‪ ،‬وقد أفرد اإلمام البخاري يف صحيحه باباً ساه باب الشراء والبيع مع املشركني وأهل احلرب‪.‬‬

‫والناس نتيجة هلذا متداخلون ومتحـالفون فيمـا بينهم يف شـىت أنـواع املعـامالت‪ ،‬وال يقتصـر تعامـل املسـلم ‪-‬‬
‫من حيث اجلواز واملنـ ــع ‪ -‬مـ ــع املسـ ــلم وحـ ــده فحسـ ــب؛ وإمنا يتعـ ــدى ذلـ ــك إىل غـ ــري املسـ ــلم أيضـ ـاً‪ ،‬تبع ـ ـاً‬
‫للمصلحة‪،‬‬

‫ـح بيع ــه وش ــراؤه )معاوض ــته( وش ــركاتُه‬


‫ال ــيت نظمته ــا الش ــريعة اإلس ــامية وض ــبطتها بقواع ــدها العام ــة‪ ،‬فيص ـ ُّ‬
‫وتربعاته مع غريه من أفراد امللل واألديان والنحل األخرى؛ وفق بعض الضوابط‪.‬‬

‫‪ 5‬املوسوعة الفقهية‪ ،‬وزارة األوقاف والشئون اإلسامية‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار‬
‫السالسل‪ ،‬الكويت‪. 104 /7 ،‬‬
‫وهــذا مــا ســنتعرف عليــه يف املبــاحث األربعــة القادمــة الــيت احتــوت أربــع عشــرة مســألة؛ وزعت على عقــود‬
‫املعاوضات والوقف والوصايا والتربعات والزكاة‪.‬‬

‫واهلل من وراء القصد‪.‬‬


‫المسألة األولى‪ :‬عقود المشاركة بين المسلم وغير المسلم‪.‬‬

‫تبــدو العالقــة بني املســلمني وغــريهم عالقــة قدمية متتــد جــذورها إىل عصــر التشــريع اإلســالمي‪ ،‬يف زمن النــيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم الذي نظّم فيه عالقة املسلمني بغــريهم‪ ،‬ووضــع هلا الضــوابط الــيت كفلت العيش الكــرمي‬
‫واآلمن على األنفس واألموال واألعراض للجميع‪.‬‬

‫وقد ختم اهلل عــز وجـل دينـه وأمت نعمتــه على عبــاده‪ ،‬وقضـى سـبحانه أال يكــون أهـل األرض كلهم مؤمـنني‪،‬‬
‫وهو احلكيم سبحانه فيما قضى وقدر‪ ،‬فقال عز وجل‪ ﴿ :‬ٹ ٹ ٹ ڤ ڤ ڤ ڤ ڦ ڦڦ ڦ‬

‫ڄ ڄ ڄ ڄ ڃ﴾ ]يونس‪.[ 99 :‬‬

‫وملا كانت رسالة نيب اإلسالم حممد بن عبد اهلل صلى اهلل عليه وسـلم الرســالة اخلامتة عامليـة لكــل البشــر‪ ،‬ومل‬
‫تقتصــر على جنس أو لــون أو صــنف واحــد منهم‪ ،‬وإمنا كــانت رمحة للعــاملني أمجعني‪ ،‬فال يتصــور أن ينعــزل‬
‫اجملتم ــع املس ــلم عن غ ــريه من بقي ــة اجملتمع ــات اإلنس ــانية األخ ــرى‪ ،‬وينحص ــر يف زاوي ــة ض ــيقة من ه ــذا الع ــامل‬
‫الفسيح‪ ،‬لذلك نظم اإلسالم عالقة املسلم مـع غــريه مبختلــف أشـكاهلم‪ ،‬وعلى مسـتوى األفـراد واجلماعـات‪،‬‬
‫وفق حقوق وواجبات‪ ،‬بينتها الشريعة اإلسالمية الغراء‪.‬‬

‫ويف جمال عالقات املسلمني بغريهم جتلَّت صور التسامح بأهبى حللها‪ ،‬إذ شرع اهلل تعاىل للمسلم أن يكون‬
‫َحســن املعاملـة لَني القــول رقيـق الطبــع مــع املسـلمني وغــري املسـلمني‪ ،‬وقــد اهتمت الشــريعة اإلســالمية مبراعــاة‬
‫جانب‬

‫املعامــات أميا اهتمــام؛ ملا يــرتتب عليهــا من آثــار التعــايش اإلجيايب بني خمتلــف طبقــات النــاس يف اجملتمـع‪ ،‬فقــال‬
‫عليه الصالة والسام ‪) :‬رحم اهلل رجالً مسحاً إذا باع‪ ،‬وإذا اشرتى‪ ،‬وإذا اقتضى‪.6‬‬

‫ومن املسائل الـيت تـرد يف جـانب معـامالت املعاوضـات‪،‬ـ مسـألة مشـاركة املسـلم لغـري املسـلم جتاريـاً وصـناعياً‬
‫وزراعيـاً وكــذلك يف اجملاالت احلديثــة األخــرى مثــل اجملال التقــين واملايل واإلعالمي وغريهــا‪ ،‬فهــل جتوز مثــل‬
‫هذه‬

‫املشاركة بني املسلمني وغريهم‪ ،‬وهل تشرتط املساواة يف الدين الواحد بني الشريكني؟‬
‫‪ 6‬رواه البخاري يف صحيحه عن جابر بن عبد اهلل )رضي اهلل عنهما( يف كتاب البيوع‪ ،‬باب السهولة والسماحة يف الشراء والبيع‪ ،‬ومن طلب حقا فليطلبه يف عفاف‪،‬‬
‫برقم ‪. 2076‬‬
‫وهذه املسألة من املسائل املطروحة عند علمائنا السابقني؛ للمقدمة اليت افتتحنا هبا هذه املسألة‪.‬‬

‫وقــد ذهب مجهــور العلمــاء إىل جــواز مشــاركة املســلم غــريه‪ ،‬مــع اختالف الــدين بينهمــا‪ ،‬مــع كراهــة انفــراد‬
‫الشريك غري املسلم بالعمل وحده من دون الشريك املسلم‪ ،‬وسبب كراهــة ذلــك‪ ،‬كمــا نص الفقهــاء عليــه؛‬
‫هو احتمالية‬

‫حمرم التعامل به على املسلم‪ ،‬كما سيأيت‪.‬‬


‫تعامل غري املسلم مبا هو ّ‬
‫وقــد ذهب فقهــاء احلنفيــة إىل جــواز ذلــك يف غــري شــركة املفاوضــة؛ ألن شــركة املفاوضــة تقــوم على املســاواة‬
‫بني الط ــرفني‪ ،‬ومس ــألة املس ــاواة بينهم ــا يف التص ــرف وحمل التص ــرف )املال( حمل خالف يف املذهب نفس ــه؛‬
‫فأبو حنيفة‬

‫وحممـ ــد يـ ــذهبان إىل عـ ــدم املسـ ــاواة‪ ،‬وأبـ ــو يوسـ ــف يـ ــذهب إىل التسـ ــاوي بينهمـ ــا كمـ ــا يف عقـ ــدي الوكالـ ــة‬
‫والكفالة‪.7‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقــد علــل الفقهــاء الــذين ذكــروا مســألة كراهــة مشــاركة املســل ِم الـ َّ‬
‫ـذمي عل ـةَ الكراهــة؛ وهي عــدم األمن من‬
‫تعامل الشريك غري املسلم مبعاملة حمرمة يف اإلسام‪ ،‬كأن يتعامل بالربا أو بـبيع اخلمـر أو حلم اخلنزير وغريهـا‬
‫من األمور املباح هلم التعامل هبا يف دينهم‪ ،‬فمن هنا يتضح أن بيان سبب كراهة املشاركة لغــري املسـلم ليس‬
‫لكون الشريك الذمي غري مسـلم‪ ،‬قـال الكاسـاين‪) :‬ويكـره للمسـلم أن يشـارك الـذمي؛ ألنـه يباشـر عقـوداً ال‬
‫جتوز يف اإلسالم‪ ،‬فيحصل كسبه من حمظور فيكره‪ ،‬وهلذا كره توكيل املسل ِم َّ‬
‫الذمي‪.8‬‬

‫كما ذكر فقهاء املالكية أيضاً كراهة مشاركة املسلم غريه للعلة نفسها‪.‬‬

‫قال احلطاب‪) :‬وال يصح ملسلم أن يشارك ذمياً إال أن ال يغيب الذمي على بيع‪ ،‬وال شراء‪ ،‬وال قضاء‪ ،‬وال‬
‫اقتضــاء إال حبضــرة املســلم()))‪ .‬وقــد عللــوا ســبب عــدم اختالء الشــريك الــذمي بتصــرفات الــبيع إال حبضــور‬
‫الشريك‬

‫‪ 7‬املبسوط‪ ،‬مشس األئمة السرخي دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ 1414 ،‬ه ‪ 1993 -‬م‪197/11. ،‬‬
‫‪ 8‬بدائع الصنائع يف ترتيب الشرائع‪ ،‬عالء الدين الكاساين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1406 ،‬ه ‪ 1986 -‬م‪. 62 /6 ،‬‬
‫املســلم بالســبب نفســه الــذي ذكــره بقيــة الفقهــاء وهــو عــدم األمن من معاملــة الــذمي باملعــامالت احملرمــة يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬كما ذكر ذلك عليش يف منح اجلليل قائالً‪) :‬فال نســلم أن الــذمي والعــدو ليســا من أهــل التوكــل ؛‬
‫ألن توكلهما‬

‫إمنا امتنــع بالنســبة إىل بعض األشــخاص فقــط‪ ،‬وأيضــا فال حيتــاج إىل ذلــك يف هــذا البــاب ألن الظــاهر جــواز‬
‫مشاركة العدو‪ ،‬والظاهر من كالم املدونة صحة مشاركة الذمي وإن مل تصلح ابتداء‪ ،‬قــال فيها‪ 9‬يف كتــاب‬
‫الشركة‪ :‬وال يصلح ملسلم أن يشارك ذمياً إال أن ال يغيب الذمي على بيــع وال شــراء وال قضـاء وال اقتضــاء‬
‫إال حبضرة املسلم‪.‬‬

‫)وقال( ابن عرفة اللخمي فإن وقع استحب صدقته برحبه إن شك يف عمله بالربا‪ ،‬وجبميع مالــه إن شــك يف‬
‫عمله بـه يف مخر‪ ،‬وإال فال شـيء عليـه‪.‬اه‪ ،‬ونقلـه القـرايف‪ ،‬والظـاهر أن حكم مشـاركة املسـلم الـذي ال حيافـظ‬
‫على دينــه يف التصــدق بــالربح كــذلك‪ ،‬مث قــال‪ :‬فمقتضــى هــذا أن شــركة الــذمي إذا مل يغب صــحيحة‪ ،‬بــل‬
‫وجـائزة‪ ،‬وصــرح بــه يف الشـامل فقــال‪ :‬وكــرهت مشــاركة ذمي ومتهم يف دينــه إن تــوىل الـبيع والشــراء‪ ،‬وإال‬
‫جازت واهلل أعلم‪.10‬‬

‫كمــا جــاء ذلــك يف مــذهب اإلمــام الشــافعي أيض ـاً‪ ،‬ومن ذلــك قــوهلم‪" :‬ويكــره للمســلم أن يشــارك الكــافر‪،‬‬
‫سواء كان املسلم هـو املتصـرف‪ ،‬أو الكـافر‪ ،‬أو مها"‪ .11‬معللني الكراهـة بالعلـة نفسـها الـيت احتج هبا الفقهـاء‬
‫اآلخـ ــرون يف كراه ــة مش ــاركة املسـ ــلم الـ ــذمي يف عـ ــدم االحـ ــرتاز من معامل ــة الـ ــذمي باملعـ ــامالت احملرم ــة يف‬
‫اإلســام‪ ،‬كمــا قــالوا‪" :‬وألهنم ال ميتنعــون من الربــا‪ ،‬ومن بيــع اخلمــور‪ ،‬وال يــؤمن أن يكــون مالــه الــذي عقــد‬
‫عليه الشركة من‬

‫ذلك‪ ،‬فكره"‪.12‬‬

‫وكذلك احلال يف مذهب اإلمام أمحد‪ ،‬كما جاء يف الشرح الكبري البن قدامة جواز مشاركة املســل ِم الـ َّ‬
‫ـذمي‬
‫بشــرط مصــاحبة املســلم لشــريكه وعــدم خلوتــه باملال للســبب املذكور نفســه‪) :‬قــال أمحد‪ :‬يشــارك اليهــودي‬

‫‪ 9‬مواهب اجلليل يف شرح خمتصر خليل‪ ،‬احلطاب املالكي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ 1412 ،‬ه ‪ 1992 -‬م‪. 8 11 /5 ،‬‬
‫‪ 10‬منح اجلليل شرح خمتصر خليل‪ ،‬حممد بن أمحد بن حممد عليش‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪ 1409 ،‬ه‪ 1989 /‬م‪25 /6 ،‬‬
‫‪ 11‬البيان يف مذهب اإلمام الشافعي‪ ،‬حيىي بن سامل العمراين‪ ،‬حتقيق قاسم حممد النوري‪ ،‬دار املنهاج‪ ،‬جدة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ 1421 ،‬ه ‪ 2000 -‬م‪. 363 /6 ،‬‬
‫‪ 12‬املصدر نفسه‪. 363 /6 ،‬‬
‫والنصراين‪ ،‬ولكن ال خيلو اليهودي والنصـراين باملال دونــه‪ ،‬ويكــون هــو الـذي يليــه؛ ألنـه يعمـل بالربـا‪ .‬وهبذا‬
‫قال احلسن‪ ،‬والثوري‪.13‬‬

‫ومل يشرتط ابن حزم ما اشرتطه مجهور الفقهاء كما ذكر ذلك يف احمللى‪) :‬ومشاركة املسلم للـذمي جـائزة‪،‬‬
‫وال حيل للذمي من الـبيع والتصـرف إال مـا حيل للمسـلم‪ ،‬ألنـه مل يـأت قـرآن‪ ،‬وال سـنة بـاملنع من ذلـك‪ .‬وقـد‬
‫عامل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أهل خيرب وهم يهود بنصف ما خيرج منها على أن يعملوها بأمواهلم‬
‫وأنفسهم فهــذه شــركة يف الثمن‪ ،‬والــزرع‪ ،‬والغــرس‪ .‬وقـد ابتـاع رسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم طعامـاً من‬
‫يهودي باملدينة ورهنه درعــه فمــات عليــه الســام وهي رهن عنـده( ‪ ..‬إىل أن قـال )وأمـا حنن فإنـا نـدري أهنم‬
‫يســتحلون احلرام‪ ،‬كمــا أن يف املســلمني من ال يبــايل من أين أخــذ املال؟ إال أن معاملــة اجلميــع جــائزة مــا مل‬
‫يوقن حراماً‪ ،‬فإذا أيقناه حرم أخذه من كافر أو مسلم‪.14‬‬

‫وق ــد اس ــتدلوا مجيعـ ـاً بأدل ــة أوردوهـ ــا يف املواطن ال ــيت متت اإلش ــارة إىل بعضـ ــها‪ ،‬ونظـ ــراً لدق ــة ه ــذه املس ــألة‬
‫وحساسيتها‪ ،‬فقد مت دراستها من قبل العلماء املعاصرين دراسة مستفيضـة بنـاء على مـا مت اسـتعراض بعضـه‪،‬ـ‬
‫إذ تعــددت صــور الشــركة عنــد الفقهــاء إىل أصــناف متعــددة‪ ،‬وواقــع املشــاركة والشــراكات اليــوم يف عصــرنا‬
‫احلاضر قد توسع إىل مفهوم الشركات املسامهة احلديثة‪ ،‬اليت ال ينظر فيهـا إىل شـخص الشـريك ولكن ينظـر‬
‫ويعول فيها على الشخصية االعتبارية‪ ،‬وأن األحكام والضوابط الـيت بيَّنهــا‬
‫إىل حصص اإلسهام يف الشركة‪ّ ،‬‬
‫الفقهاء للشركات تغطي اإلجراءات العامة اليت تتعلق بالشركات احلديثـة من أحكــام‪ ،‬وأمــا النظم اإلجرائيـة‬
‫لتمثي ـ ــل الشـ ــركاء وحفـ ــظ حق ـ ــوقهم وتنظيم اإلدارة واحملاسـ ــبة فهي من قبيـ ــل مقتضـ ــيات املصـ ــلحة الـ ــيت هلا‬
‫اعتبارها إذا ُروعيت فيها الضوابط الشرعية‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫وق ــد أج ــاز املعي ــار ) ‪ ( 12‬الص ــادر عن هيئ ــة احملاس ــبة واملراجع ــة للمؤسس ــات املالي ــة اإلس ــالمية مش ــاركةَ‬
‫املس ـ ــل ِم غرَي املس ـ ــلم‪ ،‬كم ـ ــا ج ـ ــاء يف نص الفق ـ ــرة ) ‪/3‬ـ ـ ـ ‪/1‬ـ ـ ـ ‪/1‬ـ ـ ـ ‪ (2‬من املعي ـ ــار ) ‪ ( 12‬ال ـ ــيت تنص على‬
‫أنه‪) :‬جيوز للمؤسسة‬

‫‪ 13‬الشرح الكبري البن قدامة املقدسي‪) ،‬املطبوع مع املقنع واإلنصاف( حتقيق د‪ .‬عبد اهلل بن عبد احملسن الرتكي ‪ -‬د‪ .‬عبد الفتاح حممد احللو‪ ،‬هجر للطباعة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫مجهورية مصر العربية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ 1415 ،‬ه ‪ 1995 -‬م‪.7 / 14 ،‬‬
‫‪14‬احمللى باآلثار‪ ،‬ابن حزم الظاهري‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪416 /6 ،‬‬
‫‪ 15‬متثل هذه املعايري الصادرة عن هيئة احملاسبة واملراجعة للمؤسسات املالية اإلسالمية واملعروفة اختصارا ب) ‪ ( AAOIFI‬نواة لإلمجاع املؤسي املايل‪ ،‬والذي ميثل‬
‫امت ــداداً للعم ــل الفقهي املؤس ــي املقنن كمجل ــة األحك ــام العدلي ــة املش ــهورة عن ــد فقه ــاء احلنفي ــة يف الق ــرون األخ ــرية املت ــأخرة‪ ،‬ولكن م ــا مييز ه ــذه املع ــايري عن جمل ــة األحك ــام‬
‫اختصاصها بفقه املعامالت حصراً عن بقية أبواب الفقه اليت امتازت هبا اجمللة‪.‬‬
‫إشراك غري املسلمني‪ ،‬أو البنوك التقليدية معها يف عمليات مقبولة شرعاً‪ ،‬إال إذا تبني أن املال املقدم ‪ -‬نقداً‬
‫حمرم‪ ،‬مــع اختاذ الضــمانات الالزمــة لاللــتزام بأحكــام ومبــادئ الشــريعة اإلســامية يف تطــبيق‬
‫كــان أو ســلعة ‪ّ -‬‬
‫العمليات‪ ،‬وبأن تتم إدارهتا من املؤسسة‪ ،‬أو من جهة أخرى ملتزمة بالشريعة‪.16‬‬

‫وقد استدل اجمللس الشرعي هليئة املعايري على جواز ذلك مبا روي عن رسول اهلل صلى اهلل عليــه وسـلم أنــه‪:‬‬
‫)هنى عن مشـ ــاركة اليهـ ــودي والنصـ ــراين‪ ،‬إال أن يكـ ــون الشـ ــراء والـ ــبيع بيـ ــد املسـ ــلم‪ ،17‬فعِلـ ــة النهي ‪ -‬وهي‬
‫املعاملة بالربا أو بالعقود الشرعية الباطلة ‪ -‬منتفيـة يف حالـة اختاذ الضــمانات لتطـبيق األحكــام الشــرعية‪ ،‬قـال‬
‫ابن قدام ــة بع ــد أن أورد احلديث أع ــاه‪ :‬وألن العل ــة يف كراه ــة م ــا خل ــوا ب ــه‪ :‬مع ــاملتُهم بالرب ــا وبي ــع اخلم ــر‬
‫‪18‬‬
‫ف فيما حضره املسلم أو وليه ‪ .‬وكتب املذاهب األربعة تـذكر هـذه العلـة نفســها أيضـاً‬ ‫واخلنزير‪ ،‬وهذا مْنتَ ٍ‬
‫ُ‬
‫كما سبق‪.‬‬

‫حكم إبرام العقود المالية مع غير المسلمين‬

‫ال خيفى على أحــد العنت واإليــذاء الــذي القــاه النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم وأصــحابه من مشــركي قــريش‪،‬‬
‫ليس قبــل اهلجــرة النبويــة فحســب‪ ،‬وإن كــان مل يفــرض عليهم القتــال يف تلــك احلقبــة آنــذاك‪ ،‬وإنــا حــىت بعــد‬
‫اهلج ــرة إذ جــرت بني الفــريقني املعــارك املش ــهورة‪ .‬وبــالرغم من اســتمرار العــداء بينهمــا فلم يســتحل )عليــه‬
‫الصالة والسام( أمواهلم جملرد كفرهم إال يف ساحة احلرب؛ انطالقا من مبدأ التعامل باملثل‪ ،‬كما هي قــوانني‬
‫احلرب‪ ،‬ويشهد لذلك الكثري من األدلة‪ ،‬ومنها حديث عبد الرمحن بن أيب بكر الصديق )رضي اهلل عنهمــا(‬
‫مشرك ُم ْش ٌّ‬
‫عان طويل بغنم يسوقها‪ ،‬فقال النــيب صــلى‬ ‫رجل ٌ‬‫قال‪ :‬كنا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مث جاء ٌ‬
‫اهلل عليه وسلم‪) :‬بيعاً أم عطية(؟ ‪ -‬أو قال‪) :‬أم هبة(‪ ،‬قـال‪ :‬ال‪ ،‬بـل بيـع‪ ،‬فاشـرى منـه شـاة)‪ .19‬ونالحـظ أن‬
‫النيب )عليه الصــالة والسـالم( بـالرغم من كونــه كـان يف ســرية مـع أصـحابه‪ ،‬ولقـوا هــذا الرجــل – املشــرك ‪-‬‬
‫إال أهنم مل يســتحلوا مالــه؛ وال دمــه من بــاب أوىل‪ ،‬مــع أهنم كــانوا يف حــال حــرب مــع املشــركني‪ ،‬قــال ابن‬
‫حزم‪) :‬وكل موضع سوى مدينة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقد كان ثغراً ودار حرب‪.20‬‬

‫‪ 16‬املعايري الشرعية‪ ،‬هيئة احملاسبة واملراجعة للمؤسسات املالية اإلسالمية‪ ،‬دار امليمان‪ ،‬الرياض‪ 2017 ،‬م‪.‬‬
‫‪ 17‬املصنف يف األحاديث واآلثار‪ ،‬أبو بكر بن أيب شيبة‪ ،‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪ ،‬برقم‬
‫‪. 268/4 ، 19982‬‬
‫‪18‬املغين‪ ،‬البن قدامة‪.3 /5 ،‬‬
‫‪ 19‬رواه البخاري يف صحيحه يف أكثر من موضع باألرقام‪2056.، 5382 ، 2618 ، 2216 ،‬‬
‫‪ 20‬احمللى يف اآلثار‪ ،‬ابن حزم األندلسي‪. 423 /5 ،‬‬
‫وقد ّبوب اإلمام البخاري يف كتاب الـبيوع بابـاً مساه‪ :‬بـاب الشـراء والـبيع مـع املشــركني وأهــل احلرب‪ .‬قـال‬
‫ابن بط ــال‪) :‬الش ــراء والــبيع من الكفــار كلهم جــائز‪ ،‬إال أن أهــل احلرب ال يبــاع))) منهم م ــا يســتعينون ب ــه‬
‫ُ‬
‫على إهالك املسـ ــلمني من العـ ــدة والسـ ــالح‪ ،‬وال مـ ــا يقـ ــوون بـ ــه عليهم‪ .21‬وقـ ــد ذكـ ــر ابن امللقن‪) :‬ق ــال ابن‬
‫املنــذر‪ :‬اختلــف العلمــاء يف مبايعــة من الغــالب عى مالــه احلرام‪ ،‬وقبــول هــداياه وجــوائزه‪ ،‬فرخصــت طائفــة يف‬
‫ذلــك‪ ،‬كــان احلســن البصــري ال يــرى بأسـاً أن يأكــل الرجــل من طعــام العقــار والــراف والعامــل‪ ،‬ويقــول‪ :‬قــد‬
‫أحل اهلل طعام اليهود والنصارى‪ ،‬وأكله أصحاب رسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم‪ ،‬وقـال تعـاىل يف اليهـود‪:‬‬
‫﴿ٻ ٻ﴾ ]املائــدة‪ .[ 42 :‬وقــال مكحــول والزهــري‪:‬ـ إذا اختلــط املال وكــان فيــه احلالل واحلرام فال بــأس‬
‫أن يؤكل منه‪ ،‬وإنا يكره من ذلك الشيء الـذي يعرفـه بعينـه‪ .‬وقـال احلسـن‪ :‬ال بـأس مـا مل يعرفـوا شـيئاً منـه‪.‬‬
‫أكثر مال ِـه ربـا أو كسـبه حـرام‪ ،‬وإن بايعـه مل أفسـخ الـبيع؛ ألن هـؤالء قـد‬ ‫وقال الشافعي‪ :‬ال جتب مبايعة َم ْن ُ‬
‫ميلكــون حالالً‪ ،‬وال حنرم إال حرام ـاً بيِّن ـاً إال أن يشــري حرام ـاً بيِّن ـاً يعرفــه‪ ،‬واملســلم والــذمي واحلريب يف هــذا‬
‫سواء‪.22‬‬

‫وبنــاء على مــا تقــدم من النصــوص فقــد كــانت التجــارة بني املســلمني وغــري املســلمني يف دار احلرب ماضــية‪،‬‬
‫والــبيع بينهــا صــحيح‪ ،‬واحلقــوق حمفوظــة للطــرفني‪ ،‬فال حيل للمســلم أن يعتــدي على مــال أو نفس وغريهــا‪،‬‬
‫وإذا حصل هذا منه‪ ،‬فهو آمث ألنه خان عهد األمان الذي دخل مبوجبه‪.‬‬

‫وقد توافقت أقوال الفقهاء يف ذلك وتقاربت‪ ،‬من ذلك ما جاء عن الفقهـاء قـول القــدوري يف خمرته‪) :‬وإذا‬
‫دخــل املســلم دار احلرب تــاجراً ف الحيل لــه أن يتعــرض لشـ ٍ‬
‫ـيء من أمــواهلم وال من دمــائهم‪ ،‬وإ ْن غــدر هبم‬
‫وأخذ شيئاً وخرج به َملَ َكهُ ملكاً حمظوراً ويؤمر أن يتصدق به‪ .23‬وقد ذكــر هــذا النص املرغينــاين يف كتــاب‬
‫اهلداية وزاد عليه زيادة مهمة تابعـه عليهـا من جـاء بعـده من الفقهـاء إذ قـال‪) :‬وإذا دخـل املسـلم دار احلرب‬
‫تــاجراً‪ ،‬فال حيل أن يتعــرض هلم باالســتئمان‪ ،‬فــالتعرض بعــد ذلــك يكــون غــدراً‪ ،‬والغــدر حــرام‪ .24‬أي بعقــد‬
‫االستئمان املربم بني الطرفني‪.‬‬
‫‪ 21‬شرح صحيح البخاري البن بطال‪ ،‬ابن بطال أبو احلسن بن عبد امللك‪ ،‬حتقيق‪ :‬أبو‬
‫متيم ياسر بن إبراهيم‪ ،‬دار النشر‪ ،‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1423 ،‬ه ‪ 2003 -‬م‪. 338 /6 ،‬‬
‫‪ 22‬التوضيح لشرح اجلامع الصحيح‪ ،‬ابن امللقن‪ ،‬حتقيق دار الفالح للبحث العلمي وحتقيق الرتاث‪ ،‬دار النوادر‪ ،‬دمشق الطبعة األوىل‪ 1429 ،‬ه ‪ 2008 -‬م‪/ 14 ،‬‬
‫‪. 536‬‬
‫‪ 23‬خمتصر القدوري يف الفقه احلنفي‪ ،‬أبو احلسني القدوري‪ ،‬حتقيق كامل حممد عويضة‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ 1418 ،‬ه ‪ 1997 -‬م‪ ،‬ص ‪. 235‬‬
‫‪ 24‬اهلداية يف شرح بداية املبتدي‪ ،‬أبو احلسن برهان الدين املرغيناين‪ ،‬حتقيق طالل يوسف‪،‬‬
‫دار احياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت‪. 395 /2 ،‬‬
‫وق ـ ــد حـ ـ ــذر فقه ـ ــاء املالكي ـ ــة من ذل ـ ــك وزادوا بع ـ ــدم ج ـ ــواز التعام ـ ــل بالرب ـ ــا معهم؛ فق ـ ــال القاض ـ ــي عب ـ ــد‬
‫الوهــاب ‪) :‬كــل مــا كــان حمظــوراً على املســلمني يف دار اإلســالم كــان حمظــوراً عليهم يف دار احلرب كالزنــا‪،‬‬
‫جيز مبــايعتهم بالربــا‬
‫وشرب اخلمر‪ ،‬وألن املسلم مىت حصل يف دار احلرب بأمان فأمواهلم عليه حمظــورة‪ ،‬فلم ْ‬
‫كاحلريب إذا دخل إلينا بأمان فماله علينا حمظور‪ ،‬وال جيوز لنا مبايعته بالربا‪ ،‬وألنه مال مأخوذ بعقد‪.25‬‬

‫وكــذلك جــاءت النصــوص يف كتب فقهــاء الشــافعية ومنهــا مــا أورده الشــرازي بقولــه‪) :‬إن دخــل مســلم دار‬
‫احلرب بأم ــان فس ــرق منهم م ــاالً أو اق ــرض منهم م ــاالً وع ــاد إىل دار اإلس ــام‪ ،‬مث جــاء ص ــاحب املال إىل دار‬
‫رد م ــا س ــرق أو اق ــرتض؛ ألن األم ــان ي ــوجب ض ــمان املال يف اجلانبني‪،‬‬
‫اإلس ــالم بأم ــان وجب على املس ــلم ُّ‬
‫فوجب رده‪.26‬‬

‫وكــذلك مــا ذكــره النــووي‪) :‬دخــل مســلم دار احلرب بأمــان‪ ،‬فــاقرتض منهم شــيئا‪ ،‬أو ســرق وعــاد إىل دار‬
‫اإلسالم‪ ،‬لزمه َر ُّدهُ‪،‬ـ ألنه ليس له التعرض هلم إذا دخل بأمان‪.27‬‬

‫وقد جاء عند فقهاء احلنابلة ما حيذر من ذلك أيضاً‪ ،‬قـال البهــويت‪) :‬لــو دخــل أحــد من املسـلمني دار احلرب‬
‫بأمان‪ ،‬بتجارة أو رسالة‪ ،‬مل خينهم يف شيء‪ ،‬وحيرم عليه ذلك‪.28‬‬

‫وقـد جـرت العــادة على قيـام جتار املســلمني بالــذهاب إىل ديــار غــري املسـلمني لغــرض التجــارة والـبيع والشــراء‬
‫منهم‪ ،‬وفق صور وآليات حمددة منذ قرون‪ ،‬ومنها – على سبيل املثال ‪ -‬مــا كـان حيدث بني جتار املسـلمني‬
‫الــذين يقومــون باســترياد الســلع من بــاد غــري املســلمني وجتارهم قبــل ثالثــة قــرون من زماننــا تقريب ـاً‪ ،‬إذ كــان‬
‫حريب فيدفعون لـه أجرتـه‪ ،‬ويـدفعون أيضـاً مـاالً معلومـاً لرج ٍـل غـري مسـل ٍم مقي ٍم‬‫التجار يستأجرون مركباً من ٍّ‬
‫يف بالده‪.29‬‬

‫‪ 25‬اإلشراف على نكت مسائل اخلالف‪ ،‬القاضي عبد الوهاب البغدادي‪ ،‬حتقيق احلبيب بن‬
‫طاهر‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬الطبعة األوىل‪ 1420 ،‬ه ‪ 1999 -‬م‪. 541 /2 ،‬‬
‫‪ 26‬املهذب يف فقه اإلمام الشافعي‪ ،‬أبو إسحاق الشريازي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪. 313 /3 ،‬‬
‫‪ 27‬روضة الطالبني وعمدة املفتني‪ ،‬حميي الدين النووي‪ ،‬حتقيق‪ :‬زهري الشاويش‪ ،‬املكتب اإلسالمي‪ ،‬بريوت ‪ -‬دمشق ‪ -‬عمان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ 1412 ،‬ه ‪ 1991 /‬م‪10 ،‬‬
‫‪. 291 /‬‬
‫‪ 28‬اإلنصاف‪ ،‬للمرداوي‪ ،‬حتقيق عبد احملسن الرتكي‪. 359 / 10 ،‬‬
‫‪ 29‬واملراد بغري املسلم املقيم يف بالده؛ احلريب‪ ،‬على وفق التقسيم الذي فصله علماؤنا املتقدم آنفاً يف املسألة األوىل؛ يف املراد مبصطلح )غري املسلمني( عند العلماء ‪ ،‬والذي‬
‫أكــدنا فيـه أن مســألة إطالق ألفــاظ )احلريب( أو )احملارب( أو )أهــل احلرب( ال تعـين بالضــرورة إضــافتهم للحــرب مــا يســتلزم كــوهنم أعــداء‪ ،‬فقـد يكــون بينهم وبني املســلمني‬
‫ب)املعاه دين(كما بينا‪ ،‬أو يكون بينهم وبني املسلمني تعامل جتاري؛ كما كان بني املسلمني وقريش قبل اهلجرة‪ ،‬فقد أفرد اإلمام البخاري يف صحيحه‬ ‫َ‬ ‫ميثاق‪ = ،‬فيسمون‬
‫وغريه – كما َبَّينّا ‪ -‬باباً مساه باب الشراء والبيع مع املشركني وأهل احلرب‪.‬‬
‫وكـان يطلـق على هـذه املعاملـة الـيت تسـتلزم تـرك ذلـك املال )سـوكرة( على ضـمان ملا قـد يعـرض للسـلع من‬
‫خماطر حبريــة من غــرق أو ســطو وهنب أو غــريه‪ ،‬فــإن ذلــك الرجــل غــري املســلم )احلريب( والــذي يقيم يف ديــار‬
‫غري‬

‫املســلمني يكــون ضــامناً لــه مبقابلــة مــا يأخــذه منهم‪ ،‬ويكــون لــه وكيــل عنــه مســتأمن يف دار املســلمني يقيم يف‬
‫بالد السـواحل اإلســالمية بـإذن السـلطان يقبض من التجــار مـال )السـوكرة(‪،‬ـ وإذا هلــك من مــاهلم يف البحـر‬
‫شــيء يــؤدي ذلــك املســتأمن للتجــار بدلــه متامــا‪ ،‬ويعقب ابن عابــدين على هــذه املعاملــة بعــدم جوازهــا؛ ألهنا‬
‫تتضمن التزام ما ال يلزم‪ .‬مث يسوق االفرتاضات التالية‪:‬‬

‫قلت‪ :‬ليست مسألتنا من هذا القبيل؛‬


‫قلت‪ :‬إن املودع إذا أخذ أجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت ُ‬
‫)فإن َ‬
‫ألن املال ليس يف يــد صــاحب )الســوكرة( بــل يف يــد صــاحب املركب‪ ،‬وإن كــان صــاحب )الســوكرة( هــو‬
‫صاحب املركب يكـون أجـرياً مشـركاً‪ ،‬قـد أخـذ أجـرة على احلفـظ‪ ،‬وعى احلمـل‪ ،‬وكـلٌّ من املودع واألجـري‬
‫املشرتك ال يضمن ما ال ميكن االحرتاز عنه كاملوت والغرق وحنو ذلك‪.30‬‬

‫مث يعقب ابن عابدين ‪) :‬وال خيفى أن صاحب )السوكرة( ال يقصد تغرير التجــار‪ ،‬وال يعلم حبصــول الغــرق‬
‫هل يكون أم ال‪ ،‬وأما اخلطر من اللصوص‪ ،‬والقطاع فهو معلوم له‪ ،‬وللتجار‪ ،‬ألهنم ال يعطون مال‬

‫)السـوكرة( إال عنـد شـدة اخلوف طمعـاً يف أخـذ بـدل اهلالـك‪ ،‬فلم تكن مسـألتنا من هـذا القبيـل أيضـاً‪ ،‬نعم‪:‬‬
‫ق ــد يك ــون للت ــاجر ش ــريك ح ــريب يف بالد احلرب‪ ،‬فيعق ــد ش ــريكه ه ــذا العق ــد م ــع ص ــاحب )الس ــوكرة( يف‬
‫بالدهم‪ ،‬ويأخذ منه بدل اهلالك‪ ،‬ويرسـله إىل التـاجر‪ ،‬فالظـاهر أن هـذا حيل للتـاجر أخـذه ألن العقـد الفاسـد‬
‫جــرى بني حــربني يف بالد احلرب‪ ،‬وقـد وصــل إليــه مــاهلم برضــاهم ف المــانع ِم ْن أخــذه‪ ،‬وقــد يكــون التــاجر‬
‫يف بالدهم‪ ،‬فيعقد معهم‬

‫هناك‪ ،‬ويقبض البدل يف بالدنا أو بالعكس‪.31‬‬

‫ولس ــنا بص ــدد مناقش ــة ص ــحة ه ــذه املعامل ــة حتدي ــداً )الس ــوكرة( ِم ْن ع ــدمها‪ ،‬وإن ك ــانت ظ ــاهرة البطالن؛‬
‫بسبب الغرر املرتتب عليها‪ ،‬إال أن الشاهد من إيراد هذه املسألة‪ ،‬هو بيان صور من التعامل التجاري الذي‬

‫‪ 30‬رد احملتار على الدر املختار‪ ،‬ابن عابدين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1412 ،‬ه ‪ 1992 -‬م‪. 170 /4 ،‬‬
‫‪ 31‬املصدر نفسه‪. 170 /4 ،‬‬
‫كان موجوداً بني املسلمني وغري املسلمني‪ ،‬ليس مع الذميني واملستأمنني واملعاهــدين منهم يف ديــار املســلمني‬
‫فحســب‪ ،‬بــل حــىت مــع احملاربني‪ ،‬مــع التــذكري مبا تقــدم مبا تعنيــه لفظــة احلريب أو احملارب أو أهــل احلرب‪ ،‬مبا‬
‫يعكس ثقافــة التســامح املايل الــيت كــانت ســائدة بني اجملتمــع املســلم وغــري املســلم آنــذاك‪ ،‬بســبب احلاجــة إىل‬
‫التبادل السلعي الذي زاد ومنا أضعافاً يف عصرنا احلاضر من العصور املاضية‪.‬‬

‫تبادل الهدايا بين المسلمين وغير المسلمين في غير مواسمهم‬

‫هدى إليه‪ ،‬ولذلك شجع اإلســالم على‬ ‫ال خيفى األثر اإلجيايب املعنوي واملادي املرتتب من تقدمي اهلدية إىل امل َ‬
‫ُ‬
‫هذا اخللق الرفيع أميا تشجيع من خالل مـا بيَّنتـه النصـوص الشـرعية يف هـذا البـاب‪ ،‬وتشـرك مـع اهلديـة عقـود‬
‫تربع ــات أخ ــرى‪ ،‬وتش ــرتك معه ــا يف احلكم‪ ،‬وتقارهبا يف املع ــىن؛ ج ــاء يف اجملم ــوع‪) :‬واهلب ــة والعطي ــة واهلدي ــة‬
‫والصدقة معانيها متقاربة وكلها‪ :‬متليك يف احلياة بغري عوض‪.32‬‬

‫وقد وضع علماؤنا ضوابط للهدية متيزها عما يشوهبا من مصاحل قد خترجها من مقصــدها الصــاحل؛ وتضــعها‬
‫احملرمة‪.‬‬
‫يف باب الرشوة ّ‬
‫فصل الفقهاء األحكام املتعلقة باهلدية بياناً واضحاً يطول بيانه‪.‬‬
‫وقد ّ‬
‫والته ــادي ال يقتص ــر على املس ــلمني في ــا بينهم وح ــدهم‪ ،‬وإن ــا يتع ــداهم إىل غ ــريهم‪ ،‬وم ــا يهمن ــا منه ــا هاهن ــا‬
‫مسألة تبادل اهلدايا بني املسلمني وغري املسلمني‪.‬‬

‫وق ـ ــد ذهب مجه ـ ــور الفقه ـ ــاء إىل ج ـ ــواز هدي ـ ــة املس ـ ــلم لغ ـ ــري املس ـ ــلم‪ ،‬وق ـ ــد اس ـ ــتدلوا على ذل ـ ــك جبملـ ــة من‬
‫األحاديث‪:‬‬

‫ومنهــا مــا روي عن ابن عمــر )رضــي اهلل عنهمــا(‪ ،‬قــال‪) :‬رأى عمــر حلــة عى رجــل تبــاع‪ ،‬فقــال للنــيب صــلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ :‬ابتع هذه احللة تلبسها يوم اجلمعــة‪ ،‬وإذا جـاءك الوفـد؟ فقـال‪« :‬إمنا يلبس هـذا َم ْن ال خالق‬
‫له يف اآلخرة »‪ ،‬فأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منهـا‪ ،‬حبلـل‪ ،‬فأرسـل إىل عمـر منهـا حبلـة‪ ،‬فقـال عمـر‪:‬‬
‫كيف‬

‫‪ 32‬اجملموع شرح املهذب‪ ،‬حميي الدين حيىي بن شرف النووي‪ ،‬دار الفكر‪. 370 / 15 ،‬‬
‫ألبســها وقــد قلت فيهــا مــا قلت؟ قــال‪« :‬إين مل أكســكها لتلبســها‪ ،‬تبيعهــا‪ ،‬أو تكســوها »‪ ،‬فأرســل هبا عمــر‬
‫إىل أخ لــه من أهــل مكــة قبــل أن يســلم‪ ،33‬فعمــر )رضــي اهلل عنــه( أهــدى احللــة ألخيــه غــري املســلم وهــو يف‬
‫مكة‪ ،‬وقد أقره النيب صلى اهلل عليه وسلم على فعله‪.‬‬

‫كمــا اســتدل مجه ــور الفقه ــاء حبديث أس ــاء بنت أيب بكــر رض ــي اهلل عنهم ــا ال ــوارد يف الصــحيح‪ ،‬إذ قــالت‪:‬‬
‫ـتفتيت رســول اهلل صــلى اهلل‬
‫علي أمي وهي مشــركة يف عهــد رســول اهلل صــلى اهلل عليــه وســلم‪ ،‬فاسـ ُ‬
‫ـدمت َّ‬
‫قـ ْ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬قلت‪ :‬وهي راغبة‪ ،‬أفاصل أمي؟‬

‫قال‪) :‬نعم صلي أمك‪.34‬‬

‫وأمــا مســألة هديــة غــري املســلم للمســلم‪ ،‬فقــد وقــع فيهــا اخلالف‪ ،‬إذ وردت أحــاديث جبوازهــا؛ وهي كثــرية‬
‫حـىت عنــون اإلمـام البخــاري بابـاً مساه‪) :‬بـاب قبــول اهلديـة من املشـركني( مث ذكــر فيـه جمموعـة أحـاديث تـدل‬
‫على قبول النيب صلى اهلل عليه وسلم هدايا غري املسلمني‪.‬‬

‫ومنهــا أنــه‪ :‬أهــدي للنــيب صــلى اهلل عليــه وســلم جبــة ســندس‪ ،‬وكــان ينهى عن احلريــر‪ ،‬فعجب النــاس منهــا‪،‬‬
‫فق ــال‪) :‬وال ــذي نفس حمم ــد بي ــده‪ ،‬ملنادي ــل س ــعد بن مع ــاذ يف اجلن ــة أحس ــن من ه ــذا‪ .35‬ومنه ــا ح ــديث‪ :‬إن‬
‫أكيدر دومة أهدى إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.36‬‬

‫ومنهــا كــذلك حــديث أنس بن مالــك )رضــي اهلل عنــه( أيض ـاً‪ ،‬أن يهوديــة أتت النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم‬
‫بشــاة مســمومة‪ ،‬فأكــل منهــا‪ ،‬فجيء هبا فقيــل‪ :‬أال نقتلهــا‪ ،‬قــال‪« :‬ال ‪ »،‬فمــا زلت أعرفهــا يف هلوات رســول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.37‬‬

‫‪ 33‬رواه البخاري بسنده عن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما‪ ،‬كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها‪ ،‬باب اهلدية للمشركني‪ ،‬برقم ‪ . 2619‬كما أخرجه كذلك يف‬
‫كتاب األدب‪ ،‬باب والوالدين ولو كانوا مشركني‪ .‬صلة األخ املشرك‪ ،‬ب رقم ‪. 5981‬‬
‫‪ 34‬متفق عليه‪ ،‬عن أساء بنت أيب بكر الصديق )رضي اهلل عنهما( البخاري‪ ،‬برقم ‪ ، 2620‬يف كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها‪ ،‬باب اهلدية للمشركني‪ .‬ومسلم يف‬
‫صحيحه‬
‫برقم ‪ ، 1003‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب فضل النفقة والصدقة على األقربني والزوج واألوالد‪ ،‬والوالدين ولو كانوا مشركني‪.‬‬
‫‪ 35‬رواه الشيخان‪ ،‬البخاري عن انس رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها‪ ،‬باب اهلدية للمشركني‪ ،‬برقم ‪ . 2615‬وراه مسلم عن الرباء بن عازب‬
‫رضي اهلل عنه‪ ،‬يف كتاب الفضائل‪ ،‬باب فضائل سعد بن معاذ رضي اهلل عنه‪ ،‬برقم ‪. 2468‬‬
‫‪ 36‬رواه الشيخان‪ ،‬البخاري يف صحيحه‪ ،‬برقم ‪ 2616‬عن انس رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها‪ ،‬باب اهلدية للمشركني‪ .‬ومسلم عن علي بن أيب‬
‫طالب رضي اهلل عنه‪ ،‬يف كتاب اللباس‪ ،‬باب اللباس والزينة‪ ،‬برقم ‪. 2071‬‬
‫‪ 37‬رواه البخاري‪ ،‬برقم ‪ 2617‬عن انس رضي اهلل عنه‪ ،‬كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها‪ ،‬باب اهلدية للمشركني‪ .‬ومسلم‪ ،‬يف كتاب السام‪ ،‬باب السم‪ ،‬برقم‬
‫‪. 2190‬‬
‫ومن وصايا النيب صلى اهلل عليه وسلم اليت كان يؤكد عليها مراراً وصيته باجلار من ذلك قوله عليه الصـالة‬
‫والسام‪) :‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليحسن إىل جاره‪.38‬‬

‫وقد ترجم الصحابة رضوان اهلل تعـاىل عليهم هــذه الوصـايا عمليـاً يف واقعهم فقـد روى الرتمــذي بسـنده عن‬
‫جماهد أن عبد اهلل بن عمرو ذحبت له شاة يف أهلـه‪ ،‬فلمـا جـاء قـال‪ :‬أهـديتم جلارنـا اليهـودي؟ـ أهـديتم جلارنـا‬
‫اليه ــودي؟ مسعت رس ــول اهلل ص ــلى اهلل علي ــه وس ــلم يق ــول‪ :‬م ــا زال جربي ــل يوص ــيين باجلار ح ــىت ظننت أن ــه‬
‫ســيورثه‪ .‬ويف البــاب عن عائشــة‪ ،‬وابن عبــاس‪ ،‬وأيب هريــرة‪ ،‬وأنس‪ ،‬واملقــداد بن األســود‪ ،‬وعقبــة بن عــامر‪،‬‬
‫وأيب شريح‪ ،‬وأيب أمامة ‪.39‬‬

‫وقــد أخــرج هــذا احلديث أيض ـاً الطحــاوي يف شــرح مشــكل اآلثــار بنحــو مــا يف جــامع الرتمــذي‪ ،‬غــري أن يف‬
‫ألفاظ الطحاوي مزيد بيان للقصة قـال‪ :‬عن جماهـد قـال‪ :‬كنـا نـأيت عبـد اهلل بن عمــرو وعنــده غنم لـه‪ ،‬فكـان‬
‫يسقينا لبناً‬
‫ســخناً‪ ،‬فســقانا يوم ـاً لبن ـاً بــارداً‪ ،‬فقلنــا‪ :‬مــا شــأن اللنب بــارداً؟ قــال‪ :‬إين تنحيت عن الغنم؛ ألن فيهــا الكلب‬
‫وغالمـه يسـلخ شـاة‪ ،‬فقـال‪ :‬يـا غالم إذا فـرغت فابـدأ جبارنـا اليهـودي‪ ،‬حـىت فعـل ذلـك ثالثـا‪ ،‬فقـال لـه رجـل‬
‫من القوم عرفه‬

‫جماه ــد‪ :‬كم تــذكر اليه ــودي‪ ،‬أص ــلحك اهلل؟ قــال‪ :‬مسعت رس ــول اهلل ص ــلى اهلل علي ــه وســلم )يوص ــي باجلار‬
‫حىت خشينا أو ِربْناَ أنه سيورثه‪.40‬‬

‫ومــع هــذا الكم اهلائــل من األحــاديث الــيت تؤكــد قبــول النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم هــدايا غــري املســلمني‪ ،‬فــإن‬
‫هناك من األحاديث اليت ورد فيهـا النهي عن قبـول هـداياهم‪ ،‬ومنهـا حـديث عيـاض بن محار‪ ،‬قـال‪ :‬أهـديت‬
‫للنــيب صــلى اهلل عليــه وســلم ناقــة‪ ،‬فقــال‪« :‬أســلمت؟ »‪ ،‬فقلت‪ :‬ال‪ ،‬فقــال النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم‪« :‬إين‬
‫هنيت عن زبد املشركني‪ »41‬أي عطاياهم‪.‬‬

‫‪ 38‬رواه مسلم يف صحيحه‪ ،‬كتاب اإلميان‪ ،‬باب احلث على إكرام اجلار والضيف‪ ،‬ولزوم الصمت إال عن اخلري وكون ذلك كله من اإلميان‪.‬‬
‫‪ 39‬رواه الرتمذي يف جامعه بسنده برقم ‪ ، 1943‬وقال عنه هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه‪ ،‬وقد روي هذا احلديث عن جماهد‪ ،‬عن عائشة‪ ،‬وأيب هريرة‪ ،‬عن‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم أيض‬
‫‪ 40‬شرح مشكل اآلثار‪ ،‬أبو جعفر الطحاوي‪ ،‬حتقيق‪ :‬شعيب األرنؤوط‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ 1415 ،‬ه‪ 1494 ،‬م‪ ،‬برقم ‪. 220 /7 ، 2792‬‬
‫‪ 41‬رواه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب اخلراج‪ ،‬باب يف اإلمام يقبل هدايا املشركني‪ ،‬برقم ‪ . 3057‬والرتمذي يف سننه‪ ،‬يف أبواب السري‪ ،‬باب كراهية هدايا املشركني‪ ،‬برقم‬
‫‪ ، 1577‬وقال عنه حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫إال أن العلمــاء نصــوا على جــواز قبــول هــدايا غــري املســلمني لقوهتا ورجحاهنا‪ :‬فقــد جــاء يف املغــين‪) :‬وجيوز‬
‫قبــول هديــة الكفــار من أهــل احلرب؛ ألن النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم قَبــل هديــة املقــوقس صــاحب مصر‪.42‬‬
‫كما جاء يف احمللى‪) :‬وإعطاء الكافر مباح‪ ،‬وقبول ما أعطى هو كقبول ما أعطى املسلم‪.43‬‬

‫وأولــوا مــا ورد من هني عن قبــول هــدايا غــري املسـلمني بالنســخ‪ ،‬ومنهم َم ْن رأى العكس‪ ،‬وقيــل هي حــاالت‬
‫خاصــة فيمن كــان يــرجى إســالمه‪ ،‬إذ كــان يــرد )عليــه الســالم( مــا يــرده من اهلدايا من غــري املســلمني‪ ،‬حــىت‬
‫حيف ــزهم لل ــدخول يف اإلس ــالم‪ ،‬فك ــان يطم ــع يف إميان ــه إذا رد هديت ــه ليحمل ــه ذل ــك على أن ي ــؤمن مث يقب ــل‬
‫هديتــه‪ .‬أو مل يقبــل ألنــه كــان فيهم من يطــالب بــالعوض وال يرضــى باملكافــأة مبثــل مــا أهــدى‪ .44‬وقيــل غــري‬
‫ذلك‪ ،‬وهي مبجموعها حاالت خاصة‪ ،‬أما األصـل فـالراجح فيمـا يبـدو – واهلل أعلم ‪ -‬قبـول هـداياهم لقـوة‬
‫أدلتها‪.‬‬

‫إغاثة المسلمين لغيرهم في حال الكوارث الطبيعية والجوائح والمجاعات‬

‫استدل العلماء لضرورة إغاثـة غـري املسـلمني إذا حلت هبم كارثـة أو نـزلت هبم جائحـة بقـول اهلل عـز وجـل‪:‬‬
‫﴿ ې ې ﯨ ﯩ ئا ئا ئە ئە ئو ئو ئۇ ئۇ ئۆئۆ ئۈ ئۈ ئې ئې ئې﴾ ]التوبة‪.[6 :‬‬

‫كما استدلوا على جواز تقدمي اإلغاثة من قبل املسلمني لغريهم باجملاعة اليت ضربت مضــر يف األعــوام األوىل‬
‫من اهلجرة‪ ،‬فسأل النيب صلى اهلل عليه وسلم هلم الغوث‪ ،‬ومل يكونوا دخلوا اإلسالم آنذاك‪.45‬‬

‫كمـا ميكن أن يسـتدل على ذلـك بقـول اهلل عــز وجــل‪ ﴿ :‬ٺ ٿ ٿ ٿ ٿ ٹ ٹ ﴾ ]اإلنسـان‪ [8 :‬جـاء‬
‫يف تفسري مقاتل‪) :‬ٹ ‪ -‬من أسارى املشركني‪ .46‬كما نقل الطربي عن املراد ب)األسري( يف اآلية أنه‬

‫املشــرك؛ ألنــه مل يكن يومئــذ من األســارى إال املشــركني‪ .‬كمــا قيــل‪ :‬هــو املســجون من أهــل القبلـة‪ .‬مث عقب‬
‫بع ــد ذل ــك‪ :‬والص ــواب من الق ــول يف ذل ــك أن يق ــال‪ :‬إن اهلل وص ــف ه ــؤالء األب ــرار ب ــأهنم ك ــانوا يف ال ــدنيا‬
‫عم اخلرب‬
‫يطعمــون األســري‪ ،‬واألســري الــذي قــد وصــفت صــفته؛ واســم األســر قــد يشــتمل على الفــريقني‪ ،‬وقــد ّ‬
‫عنهم أهنم يطعمــوهنم فــاخلرب على عمومــه حــىت خيصــه مــا جيب التســليم لــه‪ .‬وأمــا قــول َم ْن قــال‪ :‬مل يكن هلم‬
‫‪ 42‬املغين‪ ،‬البن قدامة‪. 327 /9 ،‬‬
‫‪ 43‬احمللى باآلثار‪ ،‬ابن حزم الظاهري‪. 121 /8 ،‬‬
‫‪ 44‬شرح السري الكبري‪ ،‬مشس األئمة السرخسي‪ ،‬الشركة الشرقية لإلعالنات‪ 1971 ،‬م‪97/1 - 98. ،‬‬
‫‪45‬رواه ابن أيب شيبه‪ ،‬يف مصنفه‪ ،‬برقم ‪. 9803‬‬
‫‪ 46‬تفسر مقاتل بن سليمان‪ ،‬أبو احلسن مقاتل بن سليمان البلخى‪ ،‬حتقيق عبد اهلل حممود شحاته‪ ،‬دار إحياء الرتاث‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ 1423 -‬ه‪. 525 /4 ،‬‬
‫أسري يومئذ إال أهل الشرك‪ ،‬فإن ذلك وإن كان كذلك‪ ،‬فلم خيصص باخلرب املوفون بالنذر يومئذ‪ ،‬وإمنا هــو‬
‫ـين بــه أســر‬
‫خــرب من اهلل عن كـ ّـل َم ْن كــانت هــذه صــفته يومئــذ وبعــده إىل يــوم القيامــة‪ ،‬وكــذلك األســر معـ ّ‬
‫املشركني واملسلمني يومئذ‪ ،‬وبعد ذلك إىل قيام الساعة‪.47‬‬

‫ق ــال الش ــنقيطي ‪) :‬وه ــؤالء األس ــارى بع ــد وق ــوعهم يف األس ــر‪ ،‬مل يب ــق هلم ح ــول وال ط ــول‪ .‬فلم يب ــق إال‬
‫اإلحســان إليهم‪ .‬وهــذا من حماســن اإلســالم ومسو تعاليمــه‪ ،‬وإن العــامل كلــه اليــوم لفي حاجــة إىل معرفــة هــذه‬
‫التعاليم الساوية‬

‫السامية حىت مع أعدائه‪.48‬‬

‫وســواء كــان املراد باألســر هنــا من كــان من غــري املســلمني أو املســلمني فـ ِّ‬
‫ـإن اإلغاثــة لغــري املســلمني قــد ثبتت‬
‫ونص عليها العلماء‪ ،‬وال شك أهنا تتأكد يف أوقات األزمـات والكــوارث الطبيعيـة واحلروب واجملاعــات ومـا‬
‫ش ـ ـ ــابه ذلـ ـ ـ ــك؛ ملا يف ذلـ ـ ـ ــك من إحيـ ـ ـ ــاء للنفـ ـ ـ ــوس من اهلالك‪ ،‬قـ ـ ـ ــال اهلل عـ ـ ـ ــز وجـ ـ ـ ــل‪ ﴿ :‬ٹ ٹ ٹ ٹ ڤ‬
‫وم ْن ت ّسـبب‬
‫ڤڤ ﴾ ]املائدة‪ .[ 32 :‬قـال البيضــاوي يف تفســريه‪) :‬ومن أحياهــا فكأمنا أحيـا النـاس مجيعــا أي َ‬
‫لبقــاء حياهتا بعفــو أو منــع عن القتــل‪ ،‬أو اســتنقاذ من بعض أســباب اهللكــة فكأمنا َف َعـ َـل ذلــك بالنــاس مجيعــا‪،‬‬
‫التعرض هلا وترغيبا يف احملاماة عليها‪.49‬‬
‫واملقصودـ منه تعظيم قتل النفس وإحيائها يف القلوب ترهيباً عن َّ‬
‫وب ــالرغم من وج ــود احلدود الفاص ــلة م ــع غ ــري املس ــلم )احملارب( ال ــيت تقتض ــيها قواع ــد التعام ــل باملث ــل‪ ،‬ف ــإن‬
‫األوضاع االستثنائية والظروف غري الطبيعية أجازت للمسلم مد يد الصـلة والعـون لـه إنقـاذاً حلياتـه‪ ،‬وبـذلك‬
‫ـلم املشـرك قريبـاً كـان‬
‫نص بعض علمائنا‪ ،‬فقد ذكر السرخسـي يف السـر الكبـري‪) :‬أنـه ال بـأس بـأن يصـل املس ُ‬
‫أو بعيداً‪ ،‬حمارباً كان أو ذمياً‪ .50‬وحىت لوكان املستغيث غري املسلم حربياً واسـتغاث باملسـلم‪ ،‬فإنـه جيب أن‬
‫جياب ويلىب طلبه‪ ،‬طمعاً يف سـاعه لكالم اهلل وهدايتـه‪ ،‬أو يرجـع عمـا يف نفسـه من ش ٍّـر‪ ،‬لقـول �ه تعـاىل‪:‬‬
‫﴿ ې ې ﯨـ ﯩـ ئاـ ئاـ ئە ئە ئوـ ئوـ ئۇ ئ ـۇ ئۆئ ـۆ ئ ـۈ ئ ـۈ ئې ئې ئې﴾ ]التوبــة‪ .[6 :‬وهلذا جــاء يف املوســوعة‬
‫الفقهيـة الكويتيـة‪) :‬على أنـه إذا اسـتغاث الكـافر فإنـه يغـاث ألنـه آدمي‪ ،‬وألنـه جيب الـدفع عن الغـري إذا كـان‬

‫‪ 47‬تفسري الطربي‪ ،‬حممد بن جرير الطربي‪ ،‬حتقيق أمحد حممد شاكر‪. 95 / 24 ،‬‬
‫‪ 48‬أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن‪ ،‬حممد األمني بن حممد املختار اجلكين الشنقيطي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت ‪ 1415‬ه ‪ 1995 -‬م‪395 /8 ،‬‬
‫‪ 49‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪ ،‬ناصر الدين البيضاوي حتقيق‪ :‬حممد عبد الرمحن املرعشلي‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت‪. 124 /2 ،‬‬
‫‪ 50‬السري الكبري‪ ،‬للسرخسي‪. 96 /1 ،‬‬
‫آدمياً حمرتماً‪ ،‬ومل خيش املغيث على نفسه هالكاً‪ ،‬ألن له اإليثار حبق نفسه دون حق غريه‪ ،‬وحلديث رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫«ال تــنزع الرمحة إال من شــقي »‪ .51‬وكــذلك إذا كــان الكــافر حربيــا واســتغاث‪ ،‬فإنــه جياب إىل طلبــه‪ ،‬لعلــه‬
‫يسمع كالم اهلل‪ ،‬أو يرجع عما يف نفسه من شر ويأسره املعروف‪ .‬لقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ې ې ﯨ ﯩ ئا ئا ئە ئە ئو‬
‫ئــو ئ ـۇ ئ ـۇ ئ ـۆ﴾ ]التوبــة‪ .[6 :‬أي فــأجره‪ ،‬وأمنــه على نفســه وأموالــه‪ ،‬فــإن اهتــدى وآمن عن علم واقتنــاع‬
‫فذاك‪ ،‬وإال فالواجب أن تبلغه املكان الذي يأمن به على نفسه‪ ،‬ويكون حراً يف عقيدته‪.52‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫مثلت السماحة واليسر معلماً بارزاً يف شريعتنا اإلسالمية‪ ،‬فأحكامها كلها توصــف بالعــدل والرمحة واليســر‬
‫ْ‬
‫والس ــاحة‪ ،‬وعلى ه ــذه املع ــاين أقامه ــا اهلل ع ــز وج ــل‪ ،‬وملا ك ــان ه ــذا األم ــر يش ــمل عم ــوم الش ــريعة بأص ــوهلا‬
‫وفروعه ــا‪ ،‬وي ــدخل يف ك ــل ص ــغري وكب ــري من تفاص ــيلها‪ ،‬فق ــد اقتص ــرت ه ــذه الدراس ــة – املوجزة ‪ -‬على‬
‫جانب يسر منهـا‪ ،‬تعلّـق بـإبراز ش ٍ‬
‫ـيء من املسـائل الفقهيـة الـيت حبثت مراعـاة الشـريعة اإلسـامية يف بيـان مناذج‬
‫َبيَّنت مبدأ تسـامح الفقـه املايل يف تشـريع بعض التعـامالت املاليـة مـع غـري املسـلمني‪ ،‬مبختلـف أصـنافهم‪ .‬وقـد‬
‫حاولت الدراسة بيان حقيقة مساحة اإلســالم عــرب إبــراز اجلانب العملي‪ ،‬من خالل اســتعراض ودراســة بعض‬
‫املســائل التشــريعية الــيت عـ َّـززت التعــايش الســلمي‪ ،‬ليس يف عصــر الرســالة والتشــريع يف زمن النــيب صــلى اهلل‬
‫عليه وسلم فحسب‪ ،‬وإمنا يف العصور اليت تلته كذلك‪.‬‬

‫كمــا حــاولت هــذه الدراســة أن توظــف الشــواهد والــدالئل الــيت ســاقتها لتكــون قريبــة من الواقــع‪ ،‬وإبرازهــا‬
‫وإظهارهــا مبا يســهم يف فهم املعــاين الــيت قــام عليهــا اإلســام‪ ،‬وقــد جتلى ذلــك بــأغلب املســائل الــيت استعرضــتها‬
‫الدراســة‪ ،‬ولعــل من أبرزهــا مســألة )وقــف غــري املســلم( ومســألة )القــوانني املعاصــرة لبعض الــدول العربيــة يف‬
‫وق ــف غ ــري املس ــلم( ومس ــألة )عق ــود املش ــاركة م ــع غ ــري املس ــلم( ومس ــألة )إب ــرام العق ــود بني املس ــلمني وغ ــري‬
‫املس ــلمني يف دي ــارهم( ومس ــألة )ص ــحة وص ــية ال ــزوج املس ــلم لزوجت ــه الكتابي ــة من الرتك ــة(‪ .‬زي ــادة إىل بقي ــة‬
‫النمــاذج واملس ــائل األخ ــرى‪،‬ـ ال ــيت مت استعراض ــها وإب ــراز جــانب تســامح الفق ــه املايل م ــع غ ــري املس ــلمني‪ ،‬من‬
‫خالل االستدالل املختصر والبيان املقتضب‪.‬‬

‫‪ 51‬رواه البخاري يف األدب املفرد‪ ،‬عن أيب هريرة مرفوعا‪ .‬برقم ‪ ، 374‬ويف صحيح األدب املفرد برقم ‪. 288‬‬
‫‪52‬ملوسوعة الفقهية الكويتية‪. 29 /4 ،‬‬
‫واهلل املوفق واهلادي إىل سواء السبيل‪.‬‬

You might also like