Professional Documents
Culture Documents
فكر التسامح وتجلياته في الخطاب التراثي المتنوع (فقه المعاملات المالية أنموذجاً)
فكر التسامح وتجلياته في الخطاب التراثي المتنوع (فقه المعاملات المالية أنموذجاً)
المتنوع (حممد
فكر التسامح وتجلياته في الخطاب التراثي جامعة
السنة اجلامـعـية:
احلمد هلل والصالة والسالم على سيدنا حممد رسول اهلل وعلى آله وصحبه ومن وااله.
وبعد:
لقد متيزت الشريعة اإلسالمية بالســماحة والتيســري ،ويف احلديث( :بعثت باحلنيفيــة السـمحة) ،فكــل مــا بعث
بــه النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم من عبــادات ومعــامالت وغريهــا داخــل يف دائــرة التســامح ،لــذلك حث النــيب
كــل النــاس على اقــرتان هــذا اخللــق بكــل من جيري هــذه املعــامالت ويتعامــل هبا ملا لــه من تــأثري يف اســتمرار
احلياة مع دوام الصــفاء والصـفح ،فقـال عليــه الصـالة والسـالم( :رحم اهلل رجالً مسحا إذا مـاع ،وإذا اشـرتي
وإذا اقتضــى ) 1وال ميكن أن يتصــور وجــود إنســان -يف وقتنــا احلاضــر – إال وهــو يتعامــل هبذه املعــامالت
يومياً الرتباطها بقوام احلياة وسريورهتا.
التس ــامح مفه ــومـ واس ــع ،تن ــدرج حتت ــه أخالقي ــات كث ــرية حنت ــاج إليه ــا يف واقعن ــا وحياتن ــا اليومي ــة ،ومبا أنن ــا
نتحــدث عن التســامح فإننــا نقصــد بــذلك الوصــول إىل هــدف االجتمــاع واالعتصــام والتكــاتف والفضــيلة،
وهذا اهلدف إذا حتقق فإن الثمرة تظهر عياناً يف اجملتمع ،فيكون قوياً مرتابطاً متجانساً ومزدهراً.ـ
خلــق التســامح حنتاجــه يف الــبيع والشــراء ومعامالتنــا املاليــة مــع اآلخــرين ،وهنــا نعــين بــه الســهولة يف التعامــل
والرفق مع اآلخرين ،كما جاء يف احلديث عن النيب عليه الصالة والسـالم» :رحم اهلل رجالً مسحاً إذا بـاع،
مسحاً إذا اشرتى ،وإذا اقتضى« ،فهذا احلديث حيثنا على السماحة والسهولة يف خمالطة الناس..
واللني معهم ،واسـ ـ ــتعمال معـ ـ ــايل األخالق ،وتـ ـ ــرك املشـ ـ ــاحنة ،واحلض على تـ ـ ــرك التضـ ـ ــييق على الن ـ ــاس يف
املطالبــة ،وأخــذ العفــو منهم ،واحلفــاظ على أمــواهلم ،وعــدم اســتغالهلم وغشــهم ،ومن غشــنا فليس منــا ،كمــا
قال عليه الصالة والسالم.
وحني نتعامــل مــع خلــق التســامح ينبغي علينــا أن نتــذكر قــول رســول اهلل صــلى اهلل عليــه وســلم» :ال يــؤمن
أحدكم حىت حيب ألخيــه مــا حيب لنفســه« ،فـإذا كنت ال حتب لنفســك أن خيدعك النــاس فيجب أال ختدع
1رواه البخاري يف صحيحه عن جابر بن عبد اهلل (رضي اهلل عنهم)) يف كتاب البيوع ،باب السهولة والسماحة يف الشراء والبيع ،ومن طلب حقا فليطلبه يف عفاف،
برقم .٢٠٧٦
اآلخــرين ،وإذا كنت تتمــىن أال يغشــك النــاس ،فــاحرص على أال تغشــهم ،بــل أكــثر من ذلــك ،يعلمنــا هــذا
اخللــق الكــرمي أن نبــادر بتقــدمي اخلري لآلخــرين واملســارعة إليــه وكأننــا نســعى خلري أنفســنا ،حــىت ننــال درجــة
اإلميان الكامل ،واإلحسان الذي يرضي اهلل عز وجل عنا.
الصدق مع اآلخرين
إن سجية التسامح جتعلك تعامل الناس كما حتب أن تعامل أنت ،جتعلك تصــدق معهم يف التعامــل ،جتعلــك
تتنــازل عن حــظ نفســك يف مقابــل تــأليف قلــوب اآلخــرين ،واحلفــاظ على الــود واالحــرتام ،وهبذا نفهم أن
الغش التج ــاري والك ــذب يف ال ــبيع وإخف ــاء العيب يف البض ــاعة ،خيالف مفه ــوم ومب ــدأ التس ــامح ،ل ــذا ج ــاء
التحذير يف السنة النبوية:
»البيّع ــان باخلي ــار م ــا مل يتفرق ــا ،ف ــإن بيّن ــا وص ــدقا ب ــورك هلم ــا يف بيعهم ــا ،وإن كتم ــا وك ــذبا حمقت برك ــة
بيعهما« ،فالربكة تذهب عند ضياع مفهوم السهولة والسماحة يف املعامالت ،ألن هذا يؤدي إىل اخلصومة
والتنازع بني الناس ،وهذا التنازع سيكون له األثر السـليب يف اجملتمعـات ،قـال تعـاىل» :وال تنـازعوا فتفشـلوا
وتــذهب رحيكم« ،فالتنــازع هــو الطريــق إىل الفشــل والضــعف،ـ ومن هنــا تظهــر لنــا فضــيلة وآثــار هــذا اخللــق
العظيم الذي نطبقه يف كل أجزاء حياتنا وتعاملنا مع الغري.
أخالق عثمان
وهــذا مــا كــان من عثمــان رضــي اهلل عنــه حني اشــرتى من رجــل أرض ـاً ،فتــأخر صــاحب األرض يف القــدوم
علي ــه لقبض الثمن ،وحني نظـ ــر إىل أس ــباب ت ــأخره ت ــبني لـ ــه أنـ ــه بعـ ــد أن مت العقـ ــد شـ ــعر الب ــائع أنـ ــه مغب ــون
»خسران« ،وكان الناس يلومونه كيف تبيعها هبذا الثمن؟ فقال عثمان:
فاخرت بني أرضك ومالك مث ذكر لـه احلديث عن النـيب عليـه الصــالة والسـالم »أدخـل اهلل رجالً اجلنـة ،كـان
ســهالً مشــرتياً وبائعـاً ،وقاضــياً ومقتضــياً« .ننظــر كيــف قــدم رضــي اهلل عنــه املصــلحة العامــة على الشخصــية،
وهي التــآلف وبقــاء الــود ،مــع أنــه لــه احلق يف عــدم الرجــوع مــا دام أن الــبيع قــد مت ،ولكنــه اختــار األكمــل،
وهذا ال يفهمه إال أصحاب األخالق العالية.
الســماحة لــو طبقناهــا يف معامالتنــا املاليــة ،ألبعــدنا أنفســنا عن كثــري من القضــايا واحلرج واخلصــومات الــيت
تنتج عند غياب هذا األصل يف البيع والشراء.
من أهم مــا هــدانا إليــه كتابنــا املقــدس ،أن املعــامالت املاليــة تقــوم على العــدل والصــدق والتســامح والرمحة،
وتواجه كل صور الظلم ..ولذلك توفر هذه املعامالت لإلنسان أقصى ما يتطلــع إليــه من أمــان على أموالــه،
وطمأنينة على مثرة جهده وكفاحه ،وكلمـا سـادت هــذه املعـامالت يف جمتمــع وفــق مقاصـد وتعـاليم القــرآن،
حتقق االستقرار االقتصادي واستقامت املعامالت بني الناس.
أيضـ ــا ..تـ ــوفر تعـ ــاليم القـ ــرآن وأخالقياتـ ــه االقتصـ ــادية للمجتمـ ــع احلمايـ ــة الكاملـ ــة من كـ ــل أشـ ــكال الفس ــاد
االقتص ــادي ال ــيت استش ــرت يف جمتمعاتن ــا العربي ــة واإلس ــالمية يف ظ ــل غي ــاب ال ــوازع ال ــديين ،وع ــدم تط ــبيق
العقوبات الشرعية على كـل من تسـول لــه نفســه املريضـة ،العــدوان على املال العــام ،أو هنب وســرقة حقــوق
الفقراء والبسطاء.
يقول الفقيـه األزهـري د .نصـر فريـد واصـل ،عضـو هيئـة كبـار العلمـاء ،ومفـيت مصـر األسـبق :تعـاليم القـرآن
الكــرمي وفــرت البيئــة االقتصــادية الالزمــة لتحقيــق العــدل بني النــاس ،ومنــع الفســاد االقتصــادي بكــل صــوره
وأشــكاله ،وهــذا من شــأنه أن يــوفر للمجتمــع األمــان واالســتقرار االقتصــادي الــذي تتحقــق يف رحابــه كــل
طموحات اإلنسان ،حيث حرم حترميا قاطعا مجيع طرق الكسب غري السليم ،وهي الوسائل اليت تقــوم على
الربـ ــا أو الرشـ ــوة ،أو اسـ ــتغالل النفـ ــوذ والسـ ــلطان ،أو على غش النـ ــاس ،أو ابـ ــتزاز أمـ ــواهلم ،أو التحكم يف
ض ــروريات حي ــاهتم ،أو انته ــاز ح ــاالت ع ــوزهم وح ــاجتهم ،وم ــا إىل ذل ــك من األس ــاليب غ ــري الس ــليمة يف
كســب املال ،وحــرم امتالك مــا ينجم عنهــا ،وأجــاز مصــادرته وضــمه إىل بيت املال ،أي إخراجــه من حــيز
امللكية الفردية إىل امللكية اجلماعية.
ويضــيف :لقــد أغلــق اإلســالم األبــواب الــيت تــؤدي عــادة إىل تضــخم الــثروات يف يــد بعض األفــراد ،ذلــك أن
الطـرق املشــروعة يف الكســب ال ينجم عنهـا يف الغـالب إال الـربح املعتــدل املعقــول املتفـق مـع سـنن االقتصـاد،
أمــا األربــاح الفاحشــة والــثروات الضــخمة ،فإمنا تكــون يف الغــالب نتيجــة لكســب غــري مشــروع ،ويف حترمي
القــرآن هلذه الوســائل حتقيــق لتكــافؤ الفــرص بني النــاس ،وقضــاء على أهم عامــل من العوامــل الــيت تــؤدي إىل
اتساع الفروق االقتصادية بني األفراد والطبقـات ،ويف ذلـك حتقيـق للمسـاواة يف شـؤون االقتصـاد من أفضـل
طريق.
وحق ــق الق ــرآن بتش ــريعاته وتوجيهات ــه االقتص ــادية -أيض ــا -غرض ــا إنس ــانيا مهم ــا ،وه ــو أن تق ــوم العالق ــات
االقتصادية بني الناس على دعـائم من التكافـل والـرتاحم والتعـاطف والتواصــي بالصـدق والعــدل واإلحسـان،
وأن يتجنبــوا يف معــامالهتم بعضــهم مــع بعض كــل مــا يأبــاه اخللــق الســليم ،ومــا يــؤدي إىل التنــافر والتبــاغض
وصــراع الطبقــات واضــطراب حيــاة اجلماعــات ..وكــل هــذا يــؤدي حتمــا إىل دفــع النــاس إىل العمــل والكــد
لكســب املال وتنميتــه ،وصــرفهم عن الكســل والبطالــة والطــرق اهلينــة والوضــيعة الــيت تــأيت بالكســب وزيــادة
املال بدون جهد وال عناء.
وعن فلس ــفة حترمي الق ــرآن للرب ــا يوض ــح مف ــيت مص ــر األس ــبق :ح ــرم الق ــرآن الرب ــا حترمياً قاطع ــا ،وجعل ــه من
الكبائر ،وتوعد أهله حبرب من اهلل ورسوله ،حيث يقول احلق سبحانه« :ومــا آتيتم من ربــا لــريبو يف أمــوال
النــاس فال يرب ــو عن ــد اهلل وم ــا آتيتم من زك ــاة تري ــدون وج ــه اهلل فأولئ ــك هم املض ــعفون»..ـ أي من يفعل ــون
ذلك هم املنمون لألموال.
ويق ــول د .واص ــل ،توض ــيحاً ملع ــىن ه ــذه اآلي ــة ودالالهتا :إن الزي ــادة ال ــيت حيققه ــا بعض الن ــاس ألم ــواهلم عن
طري ــق الرب ــا هي زي ــادة يف الظ ــاهر ،لكنه ــا ليس ــت زي ــادة يف نظ ــر اهلل ،وال يف الواق ــع ،ألهنا ال تزي ــد ش ــيئا يف
الثروة العامة للمجتمع ،على حني أن النقص الذي يلحق األموال بسبب الزكاة هو نقص يف الظــاهر ،لكنــه
زيادة يف نظر اهلل ..فصرف هذه الزكاة يف مصارفها يزيد من ثـروة اجملتمـع ،ومن قدرتـه وإمكانياتـه ،وحيقـق
لــه فوائــد أكــثر من الفوائــد الــيت كــان ميكن أن تتحقــق لــو بقيت الزكــاة يف مــال صــاحبها ،ويــؤدي وظــائف
اجتماعيــة أهم كثــريا من الفوائــد الفرديــة الــيت تــرتتب على عــدم إيتــاء الزكــاة ،قــال تعــاىل يف عبــارات مــوجزة
بليغــة مجع فيهــا بني الــرتغيب والــرتهيب وبيــان العلــل واألســباب واحلث على مكــارم األخالق واملثــل العليــا:
«الذين يأكلون الربا ال يقومون إال كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من املس».
ويضــيف :الواقــع أن الطــرق الربويــة طــرق غــري ســليمة للكســب من الناحيــة االقتصــادية نفســها ،ألن الفائــدة
الــيت حيصــل عليهــا املقــرض ال تــأيت نتيجــة لعمليــة إنتاجيــة أســهم مبالــه فيهــا ،بــل تــأيت بــدون مقابــل اقتصــادي،
فهي مبلغ استقطع من مـال املقـرتض ،وبالتـايل اسـتقطع من الـثروة العامـة ،بـدون أن حيدث القـرض زيـادة مـا
يف إحدى الثروتني ،وهي كذلك غري سليمة من الناحية االجتماعية ،ألن اجملتمع ال يستفيد شــيئا من عمليــة
كهـذه ،وال تزيـد شـيًئا من قدراتــه وال من إمكاناتـه ،بـل تصـيبه من جرائهـا أضــرار بليغـة ملا تنطــوي عليـه من
اس ــتغالل حلاج ــات الن ــاس ،وانته ــاك لقواع ــد األخالق واملث ــل العلي ــا ،وخ ــروج عن مب ــادئ اإلخ ــاء والتكاف ــل
االجتماعي.
هــذا إىل جــانب مــا تــؤدي إليــه هــذه املعــامالت من بث األحقــاد والضــغائن يف نفــوس النــاس بعضــهم حيــال
بعض ،وتوسيع الفروق يف الثروة بني األغنيـاء والفقـراء ،وصـرف ألصـحاب األمـوال عن كسـبها عن طريـق
الكد والكسب اإلنتاجي السليم ،وتشجيع هلم على الطرق الكسولة اهلينة يف الكسب ،وال خيفى ما يرتتب
على هذا كله من آثار سلبية على االقتصاد وحركة العمل واإلنتاج يف اجملتمع.
مصلحة اجملتمع
د .ســيف قزامــل ،أســتاذ الشــريعة اإلســالمية جبامعــة األزهــر ،يؤكــد أن القــرآن جــاء بتوجيهــات اقتصــادية من
شــأهنا حتقيــق االســتقرار االجتمــاعي واالقتصــادي يف أي جمتمــع ،ومواجهــة كــل صــور الظلم يف املعــامالت..
ويقول :ال شك أن عطاء القرآن يف هذا اجلانب يفوق كثريا عطاء الكتب السماوية السابقة.
ويضــيف :القــرآن نظم العالقــات املاليــة املتشــابكة بني أفــراد اجملتمــع ،وتــدخل يف التشــريعات االقتصــادية مبا
يضبطها ،حيث مينع وقوع الظلم واالستغالل والكسب احلرام ،وهو مـا شـهد بـه العلمـاء واخلرباء املنصـفون
املعنيون بالشأن االقتصادي من مسلمني وغري مسلمني.
وتب ــدو مظ ــاهر العدال ــة يف تش ــريعات اإلس ــالم االقتص ــادية -من ق ــرآن وس ــنة -بوض ــوح فيم ــا ج ــاء ب ــه من
قواعد ومبادئ عادلة لتنظيم العالقات املالية بني الناس مجيعا ،وكفالة حقوق كل األطراف من دون اعتبــار
ملكانــة الشــخص يف اجملتمــع ،ومن دون تفرقــة بني عمــل بســيط وآخــر مرمــوق ،فالكــل أمــام عدالــة الســماء
سواء.
ويؤكد د .سيف أن جوانب التميز يف التشريعات املالية اليت وضع قواعدها القرآن الكرمي واضحة ومتنوعة
وكاشــفة جلوانب العظمــة يف هــذا الكتــاب الســماوي اخلامت ،وهــذه التشــريعات ،وتلــك الرؤيــة تؤكــد قــدرة
اإلســالم العادلــة على «ضــبط» حيــاة النــاس والســمو بعالقــاهتم املاليــة ،واالرتقــاء بســلوكياهتم ،وإشــاعة كــل
مبادئ التعاون واأللفة واحملبة والتفاهم بينهم.
ولقــد شــهد للمنظومــة االقتصــادية اإلســالمية الــيت تعتمــد على تشــريعات وتوجيهــات القــرآن أســاتذة وخــرباء
االقتصاد املنصفون يف كل العامل ،وأكدوا أن منظومة التشريعات االقتصادية اإلســالمية تتمــيز بــاحلرص على
م ــا حيقـ ــق مصـ ــلحة اإلنسـ ــان ،وهـ ــذا بالفعـ ــل واضـ ــح يف كـ ــل تشـ ــريعات اإلسـ ــالم االقتصـ ــادية حيث ترتب ــط
باملصلحة وجودا وعدما ،فما فيه مصلحة حقيقية أباحته شــريعتنا ويســرته ،ومــا فيــه ضــرر أو مفاســد حرمتــه
وح ـ ــذرت الن ـ ــاس من ـ ــه ووقفت يف طريق ـ ــه ،وه ـ ــذا احلرص املتن ـ ــاهي على مص ـ ــلحة اإلنس ـ ــان يؤك ـ ــد عظم ـ ــة
التشريعات اإلسالمية ويفرض على املسلمني وغري املسلمني أن حيتموا هبا لضمان مصاحلهم.
ول ــو حبثن ــا يف مقاص ــد وأه ــداف التش ــريعات والتوجيه ــات اإلس ــالمية يف جمال املع ــامالت لوج ــدنا أهنا تؤك ــد
ضرورة أن تقوم املعامالت بني الناس على العدل ومحاية احلقوق.
ومعــامالت اإلســالم االقتصــادية الــيت حترص على العــدل تســتهدف -كمــا يقــول د .قزامــل -حتقيــق جمتمــع
آمن مس ـ ــتقر اجتماعيـ ـ ـاً واقتص ـ ــادياً وأمني ـ ــا ،ذل ـ ــك أن معظم املش ـ ــكالت االجتماعي ـ ــة واألمني ـ ــة ت ـ ــأيت نتيجـ ــة
مشكالت وأزمات اقتصادية.
ويوضح د .قزامل أن حرص الشريعة اإلسالمية على مصاحل اإلنسان له درجات متفاوتــة ختتلــف من إنســان
إىل آخر وفقا حلاجاته ومصاحله ،فهناك حاجات ضرورية ال يستطيع اإلنسان أن يعيش بدوهنا ،وهـذه البـد
من توفريها له ،وهناك حاجات يعيش اإلنسان بدوهنا يف حرج وضيق ،وهذه تبذل كل اجلهود لتوفريها لــه
يف ظــل ضــوابط وقواعــد ترتبــط بعملــه وجهــده وكفاحــه ،وهنــاك حاجــات حتســينية أباحتهــا شــريعة اإلســالم
هلؤالء ال ــذين أنعم اهلل عليهم ب ــالرزق الوف ــري وض ــابط االس ــتفادة من ه ــذه األم ــور التحس ــينية ه ــو االل ــتزام مبا
أحله اهلل وبدون إسراف أو إهدار حلقوق اآلخرين
اختذت األمم املتحدة يوم الـ 16من نوفمرب يوماً للتسامح العاملي ،لالحتفـاء بـه وإشـاعة ثقافتـه بني األمم ،ملا
له من أثر عظيم يف استقامة حياة النـاس على املودة واإلخــاء اإلنســاين ،والتعـايش النـافع غـري الضـار ،فتشـكر
على ذلك كثرياً ،فإن التسامح هو منهج اإلسالم العام يف كل تشريعاته الكلية واجلزئية ،فقــد أقــام اهلل تعــاىل
صرح هذا الدين اخلالد الذي ار تضاه لنفسه ليعبد به يف األرض ،وينفع صاحبه عند العرض ،على السماحة
العامــة يف مــا يتعلــق حبقـه على العبـاد ،ومـا يتعلـق حبقـوق العبـاد يف مـا بينهم ،وقــد أخــرب املصـطفى -صـلى اهلل
علي ــه وس ــلم -أن «أحب ال ــدين إىل اهلل احلنِ ِيفي ــة الس ــمحة» ،فاحلنيفي ــة هي ملــة إب ــراهيم علي ــه الس ــالم ،وهي
الدين القيم الذي ورثه منه أنبياءُ اهلل ورسله عليهم الصالة والسالم ،ويف مقــدمتهم سـيدنا حممــد -صــلى اهلل
عليه وسلم -الذي هو دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ،والذي أخرب اهلل تعـاىل عن حقيقـة دعوتـه وملتـه بقولـه
ني ِم ْن َقْبـ ُـل} ِِ ِ ِ ِإ ِ ِ يِف
اجتَبَــا ُك ْم َو َمــا َج َعـ َـل َعلَْي ُك ْم الــدي ِن م ْن َحـ َـر ٍج مل ـةَ َأبي ُك ْم ْبـ َـراه َ
يم ُهـ َـو مَس ا ُك ُم الْ ُم ْس ـلم َ {هـ َـو ْ
ُ
فهذه امللة احلنيفية اليت ال يقبل اهلل تعاىل ديناً سواها ،ومل يرتض لعباده غريها ،كلها مساحة.
فقــد أقــامت اإلميان على الســماحة ،فال إكــراه يف الــدين ملن مل يكن من أهلــه ،بــل لــه أن خيتــار اهلدى فيقي
نفسه الردى،ـ وله أن يبقى على أصله يف أي دين كان عليه أهله ،إن مل يعتد أو يظلم ،فقد تــبني الرشــد من
الغي ،وأقامت الدعوة هلذا الدين على هذا األساس ،وإال كان الداعي منفراً غري مرغب،ـ فيحمــل أوزار من
نفرهم عن دينه وكرههم بشرعه ،وأقـامت العبـادات كلهـا على السـماحة ،فال حـرج يف الـدين ،وال يكلـف
اهلل نفساً إال وسعها ،فكل مكلف بوسعه أن يؤدي ما افرتض اهلل عليه من التكاليف حبسب وسعه وطاقته،
وما عجز عنه فهو مما عفا اهلل تعاىل عنه.
وأقــامت املعــامالت املاديــة على الســماحة والرتاضــي من غــري إجحــاف وال انتهازيــة وال ابــتزاز ،فــدعت إىل
الســماحة يف الــبيع والشــراء والقضــاء واالقتضــاء ،وجعلت الرضــا أص ـالً للعقــود املاليــة إذا خلت عن انتهــاك
أصــول احملارم من رب ــا وغش وغــرر وقمــار وحنو ذل ــك .وأق ــامت العالقــات األس ــرية على الســماحة يف كــل
مراحله ــا ،من اليس ــر يف امله ــر ،وال ـ ُـود والرمحة يف التعام ــل ،والفض ــل يف اإلنف ــاق والرعاي ــة .وأق ــامت العدال ــة
القض ـ ــائية على الس ـ ــماحة يف اإلثب ـ ــات واستقص ـ ــاء احلق ـ ــوق ،ودرء احلدود بالش ـ ــبهات ،وال ـ ــدعوة إىل العفـ ــو
والصفح .وأقامت العالقات الدوليـة سـلماً وحربـاً على مبــدأ السـماحة فـدعت إىل الـدخول يف السـلم كافـة،
وإىل اجلنــوح إليــه دائمـاً ،وإىل احــرتام العهــود واملواثيــق ،وجــرمت الغــدر واخليانــة ،وأوجبت النبــذ على ســواء
إذا انتهت مــدة العهــد ،بــل أقــامت احليــاة كلهــا مبختلــف تكويناهتا وكائناهتا على مبــدأ الســماحة ،فحــرمت
اإلفســاد يف األرض مبا يســيء إىل البِيئــة ،أو يغــري مجاهلا ،ودعت إىل اإلحســان يف كــل شــيء حــىت يف القتــل
والــذبح ،كــل ذلــك ألن الســماحة هي روح احليــاة اإلنســانية ،فكــانت أص ـالً من أصــول امللــة احلنيفيــة ،ملــة
إبــراهيم الــيت ورثهــا لنــا ومسانا من أجلهــا مســلمني ،فهــل يــا تُــرى يعلم النــاس مبختلــف ثقافــاهتم هــذه احلقيقــة
الناص ــعة عن اإلس ــالم ،إذاً فق ــد اع ــرتفوا بعاملي ــة اإلس ــالم ال ــذي يس ــعهم ليعيش ــوا على تعاليم ــه حنف ــاء ش ــرفاء
أوفياء خلالقهم ،وفطرهتم اليت فُ ِطروا عليها قبل أن تغريهم األهواء ،وجتتاهلم شياطني اإلنس و اجلن.
فقـد اسـتندت الشـريعة اإلسـالمية يف تشـريعاهتا العامـة على أسـس رصـينة ،ومبـادئ عظيمـة ،فـراعت مصـاحل
العبــاد ،وســعت إىل احملافظــة على كيــان اإلنسـان وكـل مــا حييــط بــه ،من أجــل حتقيــق مصــاحل العبـاد الكليـة يف
الــدارين ،وقــد بني اإلمــام الغــزايل أن املصــلحة ال تقتصــر على جلب املنفعــة ودفــع املقــدة وحــدها فحســب،
وإمنا تتس ــع لتش ــمل حتقي ــق مقص ــودـ الش ــرع يف احملافظ ــة على الض ــرورات اخلمس لإلنس ــان واس ــتمرارها ،إذ
يقــول ( :تعــين باملصــلحة احملافظــة على مقصــودـ الشــرع ،ومقصــودـ الشــرع من اخللــق خســة وهــو أن حيفــظ
عليهم دينهم وتفهم وعقلهم ونسلهم ومــاهلم ،فكـل مـا يتضـمن حفــظ هــذه األصـول اخلمسـة فهـو مصــلحة،
2
وكل ما يفوت هذه األصول فهو مقدة ودفعها مصلحة)
والتشــريع أينمــا كــان فهم ال يوجــد اال باجتمــاع ،وال اجتمــاع إال بقــانون منظم ،ولــذا فــإن وجــود الشــرائع
مص ــاحب الت ــاريخ العم ــران ،إذ اإلنس ــان وإن امت ــاز عن س ــائر املخلوق ــات يف األرض بالعق ــل ف ــإن في ــه ص ــفة
األنانية وحب الذات ،فضالً عن تفاوت العقول يف إدراك الفاصــل بني اخلري والشــر خاصــة فيمــا هــو غــامض
خفي .3ومن هنــا تــربز قيمــة التســامح باعتبــار مــا ينتج عنــه من تعــايش ســلمي -مبفهومــه املنضــبط بقواعــد
الشــريعة -يف انعكاســها على حفــظ نظــام األمــة وحتقيــق مصــاحل العبــاد ،واســتدامة صــالحه بصــالح املهيمن
عليه ،وهو نوع اإلنسان ،ويشمل صالحه صالح عقله وصالح عمله وصــالح مــا بني يديــه من موجــودات
4
العامل الذي يعيش فيه
وبنــاء على ذلــك جــاءت الش ــريعة بقص ــد حتقيــق مص ــاحل النــاس على اختالف األزمــان والبيئــات ،باعتباره ــا
تشــريعاً عام ـاً للنــاس مبختلــف اشــكاهلم وأجناســهم ،قــال اهلل تعــاىل :قــل يأيهــا النــاس إىل رســول اهلل التحكم
مجيعا (األعراف )۱۵۸ :والناس فيهم املسـلمون وغـري املسـلمني ،وغـري املسـلمني هم كـل من ال يـدين بـدين
اإلسالم من أي ملة أو حنلة أو ديانة كانت.
2
املستصفى ،أبو حامد الغزايل ،حتقيق حممد عبد السالم عبد الشايف ،دار الكتب العلمية
القسم الثاين :املستأمنون؛ وهم الوافدون إىل بالد املسلمني بعقد أمان أي بتأشرية دخول.
القسم الثالث :أهل الصلح والعهد؛ وهم الــذين يقيمــون بغــري بالد املســلمني ،وال يـدينون باإلســالم ،والــذين
يتمثلون اليوم بالدول غري املسلمة وأفرادها ،واليت بينها وبني املسلمني صلح ومعاهدات ،وفيها متثيل
دبلوماســي متبــادل ،أو مل يكن هنــاك معاهــدات أو متثيــل دبلوماســي لكن مــع عــدم وجــود حــرب معهــا أعلن
عنها ويل أمر املسلمني ،وهم اليوم أغلب دول العامل.
القسم الرابع :احلربيون وهم غري املسلمني الذين مل يـدخلوا يف عقـد الذمـة وال يتمتعـون بأمـان املسـلمني وال
عهدهم ، 5مع اإلعالن الرمسي من والة أمر املسلمني على قيام العداوة وإعان حالة احلرب معهم.
كمــا جتدر اإلشــارة إىل أن التعامــل التجــاري معهم –أي غــري املســلمني من األقســام األربعــة -مل يكن وليــد
عصرنا احلاضر؛ وإمنا كان قائماً بينهم وبني املسلمني منذ العصور السالفة؛ كما كان بني املسلمني وقــريش
قبل
اهلجرة ،وقد أفرد اإلمام البخاري يف صحيحه باباً ساه باب الشراء والبيع مع املشركني وأهل احلرب.
والناس نتيجة هلذا متداخلون ومتحـالفون فيمـا بينهم يف شـىت أنـواع املعـامالت ،وال يقتصـر تعامـل املسـلم -
من حيث اجلواز واملنـ ــع -مـ ــع املسـ ــلم وحـ ــده فحسـ ــب؛ وإمنا يتعـ ــدى ذلـ ــك إىل غـ ــري املسـ ــلم أيضـ ـاً ،تبع ـ ـاً
للمصلحة،
5املوسوعة الفقهية ،وزارة األوقاف والشئون اإلسامية ،الكويت ،الطبعة الثانية ،دار
السالسل ،الكويت. 104 /7 ،
وهــذا مــا ســنتعرف عليــه يف املبــاحث األربعــة القادمــة الــيت احتــوت أربــع عشــرة مســألة؛ وزعت على عقــود
املعاوضات والوقف والوصايا والتربعات والزكاة.
تبــدو العالقــة بني املســلمني وغــريهم عالقــة قدمية متتــد جــذورها إىل عصــر التشــريع اإلســالمي ،يف زمن النــيب
صلى اهلل عليه وسلم الذي نظّم فيه عالقة املسلمني بغــريهم ،ووضــع هلا الضــوابط الــيت كفلت العيش الكــرمي
واآلمن على األنفس واألموال واألعراض للجميع.
وقد ختم اهلل عــز وجـل دينـه وأمت نعمتــه على عبــاده ،وقضـى سـبحانه أال يكــون أهـل األرض كلهم مؤمـنني،
وهو احلكيم سبحانه فيما قضى وقدر ،فقال عز وجل ﴿ :ٹ ٹ ٹ ڤ ڤ ڤ ڤ ڦ ڦڦ ڦ
ڄ ڄ ڄ ڄ ڃ﴾ ]يونس.[ 99 :
وملا كانت رسالة نيب اإلسالم حممد بن عبد اهلل صلى اهلل عليه وسـلم الرســالة اخلامتة عامليـة لكــل البشــر ،ومل
تقتصــر على جنس أو لــون أو صــنف واحــد منهم ،وإمنا كــانت رمحة للعــاملني أمجعني ،فال يتصــور أن ينعــزل
اجملتم ــع املس ــلم عن غ ــريه من بقي ــة اجملتمع ــات اإلنس ــانية األخ ــرى ،وينحص ــر يف زاوي ــة ض ــيقة من ه ــذا الع ــامل
الفسيح ،لذلك نظم اإلسالم عالقة املسلم مـع غــريه مبختلــف أشـكاهلم ،وعلى مسـتوى األفـراد واجلماعـات،
وفق حقوق وواجبات ،بينتها الشريعة اإلسالمية الغراء.
ويف جمال عالقات املسلمني بغريهم جتلَّت صور التسامح بأهبى حللها ،إذ شرع اهلل تعاىل للمسلم أن يكون
َحســن املعاملـة لَني القــول رقيـق الطبــع مــع املسـلمني وغــري املسـلمني ،وقــد اهتمت الشــريعة اإلســالمية مبراعــاة
جانب
املعامــات أميا اهتمــام؛ ملا يــرتتب عليهــا من آثــار التعــايش اإلجيايب بني خمتلــف طبقــات النــاس يف اجملتمـع ،فقــال
عليه الصالة والسام ) :رحم اهلل رجالً مسحاً إذا باع ،وإذا اشرتى ،وإذا اقتضى.6
ومن املسائل الـيت تـرد يف جـانب معـامالت املعاوضـات،ـ مسـألة مشـاركة املسـلم لغـري املسـلم جتاريـاً وصـناعياً
وزراعيـاً وكــذلك يف اجملاالت احلديثــة األخــرى مثــل اجملال التقــين واملايل واإلعالمي وغريهــا ،فهــل جتوز مثــل
هذه
املشاركة بني املسلمني وغريهم ،وهل تشرتط املساواة يف الدين الواحد بني الشريكني؟
6رواه البخاري يف صحيحه عن جابر بن عبد اهلل )رضي اهلل عنهما( يف كتاب البيوع ،باب السهولة والسماحة يف الشراء والبيع ،ومن طلب حقا فليطلبه يف عفاف،
برقم . 2076
وهذه املسألة من املسائل املطروحة عند علمائنا السابقني؛ للمقدمة اليت افتتحنا هبا هذه املسألة.
وقــد ذهب مجهــور العلمــاء إىل جــواز مشــاركة املســلم غــريه ،مــع اختالف الــدين بينهمــا ،مــع كراهــة انفــراد
الشريك غري املسلم بالعمل وحده من دون الشريك املسلم ،وسبب كراهــة ذلــك ،كمــا نص الفقهــاء عليــه؛
هو احتمالية
وحممـ ــد يـ ــذهبان إىل عـ ــدم املسـ ــاواة ،وأبـ ــو يوسـ ــف يـ ــذهب إىل التسـ ــاوي بينهمـ ــا كمـ ــا يف عقـ ــدي الوكالـ ــة
والكفالة.7
ِ ِ
وقــد علــل الفقهــاء الــذين ذكــروا مســألة كراهــة مشــاركة املســل ِم الـ َّ
ـذمي عل ـةَ الكراهــة؛ وهي عــدم األمن من
تعامل الشريك غري املسلم مبعاملة حمرمة يف اإلسام ،كأن يتعامل بالربا أو بـبيع اخلمـر أو حلم اخلنزير وغريهـا
من األمور املباح هلم التعامل هبا يف دينهم ،فمن هنا يتضح أن بيان سبب كراهة املشاركة لغــري املسـلم ليس
لكون الشريك الذمي غري مسـلم ،قـال الكاسـاين) :ويكـره للمسـلم أن يشـارك الـذمي؛ ألنـه يباشـر عقـوداً ال
جتوز يف اإلسالم ،فيحصل كسبه من حمظور فيكره ،وهلذا كره توكيل املسل ِم َّ
الذمي.8
كما ذكر فقهاء املالكية أيضاً كراهة مشاركة املسلم غريه للعلة نفسها.
قال احلطاب) :وال يصح ملسلم أن يشارك ذمياً إال أن ال يغيب الذمي على بيع ،وال شراء ،وال قضاء ،وال
اقتضــاء إال حبضــرة املســلم())) .وقــد عللــوا ســبب عــدم اختالء الشــريك الــذمي بتصــرفات الــبيع إال حبضــور
الشريك
7املبسوط ،مشس األئمة السرخي دار املعرفة ،بريوت 1414 ،ه 1993 -م197/11. ،
8بدائع الصنائع يف ترتيب الشرائع ،عالء الدين الكاساين ،دار الكتب العلمية ،الطبعة الثانية 1406 ،ه 1986 -م. 62 /6 ،
املســلم بالســبب نفســه الــذي ذكــره بقيــة الفقهــاء وهــو عــدم األمن من معاملــة الــذمي باملعــامالت احملرمــة يف
اإلسالم ،كما ذكر ذلك عليش يف منح اجلليل قائالً) :فال نســلم أن الــذمي والعــدو ليســا من أهــل التوكــل ؛
ألن توكلهما
إمنا امتنــع بالنســبة إىل بعض األشــخاص فقــط ،وأيضــا فال حيتــاج إىل ذلــك يف هــذا البــاب ألن الظــاهر جــواز
مشاركة العدو ،والظاهر من كالم املدونة صحة مشاركة الذمي وإن مل تصلح ابتداء ،قــال فيها 9يف كتــاب
الشركة :وال يصلح ملسلم أن يشارك ذمياً إال أن ال يغيب الذمي على بيــع وال شــراء وال قضـاء وال اقتضــاء
إال حبضرة املسلم.
)وقال( ابن عرفة اللخمي فإن وقع استحب صدقته برحبه إن شك يف عمله بالربا ،وجبميع مالــه إن شــك يف
عمله بـه يف مخر ،وإال فال شـيء عليـه.اه ،ونقلـه القـرايف ،والظـاهر أن حكم مشـاركة املسـلم الـذي ال حيافـظ
على دينــه يف التصــدق بــالربح كــذلك ،مث قــال :فمقتضــى هــذا أن شــركة الــذمي إذا مل يغب صــحيحة ،بــل
وجـائزة ،وصــرح بــه يف الشـامل فقــال :وكــرهت مشــاركة ذمي ومتهم يف دينــه إن تــوىل الـبيع والشــراء ،وإال
جازت واهلل أعلم.10
كمــا جــاء ذلــك يف مــذهب اإلمــام الشــافعي أيض ـاً ،ومن ذلــك قــوهلم" :ويكــره للمســلم أن يشــارك الكــافر،
سواء كان املسلم هـو املتصـرف ،أو الكـافر ،أو مها" .11معللني الكراهـة بالعلـة نفسـها الـيت احتج هبا الفقهـاء
اآلخـ ــرون يف كراه ــة مش ــاركة املسـ ــلم الـ ــذمي يف عـ ــدم االحـ ــرتاز من معامل ــة الـ ــذمي باملعـ ــامالت احملرم ــة يف
اإلســام ،كمــا قــالوا" :وألهنم ال ميتنعــون من الربــا ،ومن بيــع اخلمــور ،وال يــؤمن أن يكــون مالــه الــذي عقــد
عليه الشركة من
ذلك ،فكره".12
وكذلك احلال يف مذهب اإلمام أمحد ،كما جاء يف الشرح الكبري البن قدامة جواز مشاركة املســل ِم الـ َّ
ـذمي
بشــرط مصــاحبة املســلم لشــريكه وعــدم خلوتــه باملال للســبب املذكور نفســه) :قــال أمحد :يشــارك اليهــودي
9مواهب اجلليل يف شرح خمتصر خليل ،احلطاب املالكي ،دار الفكر ،الطبعة الثالثة 1412 ،ه 1992 -م. 8 11 /5 ،
10منح اجلليل شرح خمتصر خليل ،حممد بن أمحد بن حممد عليش ،دار الفكر ،بريوت 1409 ،ه 1989 /م25 /6 ،
11البيان يف مذهب اإلمام الشافعي ،حيىي بن سامل العمراين ،حتقيق قاسم حممد النوري ،دار املنهاج ،جدة ،الطبعة األوىل 1421 ،ه 2000 -م. 363 /6 ،
12املصدر نفسه. 363 /6 ،
والنصراين ،ولكن ال خيلو اليهودي والنصـراين باملال دونــه ،ويكــون هــو الـذي يليــه؛ ألنـه يعمـل بالربـا .وهبذا
قال احلسن ،والثوري.13
ومل يشرتط ابن حزم ما اشرتطه مجهور الفقهاء كما ذكر ذلك يف احمللى) :ومشاركة املسلم للـذمي جـائزة،
وال حيل للذمي من الـبيع والتصـرف إال مـا حيل للمسـلم ،ألنـه مل يـأت قـرآن ،وال سـنة بـاملنع من ذلـك .وقـد
عامل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أهل خيرب وهم يهود بنصف ما خيرج منها على أن يعملوها بأمواهلم
وأنفسهم فهــذه شــركة يف الثمن ،والــزرع ،والغــرس .وقـد ابتـاع رسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم طعامـاً من
يهودي باملدينة ورهنه درعــه فمــات عليــه الســام وهي رهن عنـده( ..إىل أن قـال )وأمـا حنن فإنـا نـدري أهنم
يســتحلون احلرام ،كمــا أن يف املســلمني من ال يبــايل من أين أخــذ املال؟ إال أن معاملــة اجلميــع جــائزة مــا مل
يوقن حراماً ،فإذا أيقناه حرم أخذه من كافر أو مسلم.14
وق ــد اس ــتدلوا مجيعـ ـاً بأدل ــة أوردوهـ ــا يف املواطن ال ــيت متت اإلش ــارة إىل بعضـ ــها ،ونظـ ــراً لدق ــة ه ــذه املس ــألة
وحساسيتها ،فقد مت دراستها من قبل العلماء املعاصرين دراسة مستفيضـة بنـاء على مـا مت اسـتعراض بعضـه،ـ
إذ تعــددت صــور الشــركة عنــد الفقهــاء إىل أصــناف متعــددة ،وواقــع املشــاركة والشــراكات اليــوم يف عصــرنا
احلاضر قد توسع إىل مفهوم الشركات املسامهة احلديثة ،اليت ال ينظر فيهـا إىل شـخص الشـريك ولكن ينظـر
ويعول فيها على الشخصية االعتبارية ،وأن األحكام والضوابط الـيت بيَّنهــا
إىل حصص اإلسهام يف الشركةّ ،
الفقهاء للشركات تغطي اإلجراءات العامة اليت تتعلق بالشركات احلديثـة من أحكــام ،وأمــا النظم اإلجرائيـة
لتمثي ـ ــل الشـ ــركاء وحفـ ــظ حق ـ ــوقهم وتنظيم اإلدارة واحملاسـ ــبة فهي من قبيـ ــل مقتضـ ــيات املصـ ــلحة الـ ــيت هلا
اعتبارها إذا ُروعيت فيها الضوابط الشرعية.
15
وق ــد أج ــاز املعي ــار ) ( 12الص ــادر عن هيئ ــة احملاس ــبة واملراجع ــة للمؤسس ــات املالي ــة اإلس ــالمية مش ــاركةَ
املس ـ ــل ِم غرَي املس ـ ــلم ،كم ـ ــا ج ـ ــاء يف نص الفق ـ ــرة ) /3ـ ـ ـ /1ـ ـ ـ /1ـ ـ ـ (2من املعي ـ ــار ) ( 12ال ـ ــيت تنص على
أنه) :جيوز للمؤسسة
13الشرح الكبري البن قدامة املقدسي) ،املطبوع مع املقنع واإلنصاف( حتقيق د .عبد اهلل بن عبد احملسن الرتكي -د .عبد الفتاح حممد احللو ،هجر للطباعة ،القاهرة،
مجهورية مصر العربية ،الطبعة األوىل 1415 ،ه 1995 -م.7 / 14 ،
14احمللى باآلثار ،ابن حزم الظاهري ،دار الفكر ،بريوت416 /6 ،
15متثل هذه املعايري الصادرة عن هيئة احملاسبة واملراجعة للمؤسسات املالية اإلسالمية واملعروفة اختصارا ب) ( AAOIFIنواة لإلمجاع املؤسي املايل ،والذي ميثل
امت ــداداً للعم ــل الفقهي املؤس ــي املقنن كمجل ــة األحك ــام العدلي ــة املش ــهورة عن ــد فقه ــاء احلنفي ــة يف الق ــرون األخ ــرية املت ــأخرة ،ولكن م ــا مييز ه ــذه املع ــايري عن جمل ــة األحك ــام
اختصاصها بفقه املعامالت حصراً عن بقية أبواب الفقه اليت امتازت هبا اجمللة.
إشراك غري املسلمني ،أو البنوك التقليدية معها يف عمليات مقبولة شرعاً ،إال إذا تبني أن املال املقدم -نقداً
حمرم ،مــع اختاذ الضــمانات الالزمــة لاللــتزام بأحكــام ومبــادئ الشــريعة اإلســامية يف تطــبيق
كــان أو ســلعة ّ -
العمليات ،وبأن تتم إدارهتا من املؤسسة ،أو من جهة أخرى ملتزمة بالشريعة.16
وقد استدل اجمللس الشرعي هليئة املعايري على جواز ذلك مبا روي عن رسول اهلل صلى اهلل عليــه وسـلم أنــه:
)هنى عن مشـ ــاركة اليهـ ــودي والنصـ ــراين ،إال أن يكـ ــون الشـ ــراء والـ ــبيع بيـ ــد املسـ ــلم ،17فعِلـ ــة النهي -وهي
املعاملة بالربا أو بالعقود الشرعية الباطلة -منتفيـة يف حالـة اختاذ الضــمانات لتطـبيق األحكــام الشــرعية ،قـال
ابن قدام ــة بع ــد أن أورد احلديث أع ــاه :وألن العل ــة يف كراه ــة م ــا خل ــوا ب ــه :مع ــاملتُهم بالرب ــا وبي ــع اخلم ــر
18
ف فيما حضره املسلم أو وليه .وكتب املذاهب األربعة تـذكر هـذه العلـة نفســها أيضـاً واخلنزير ،وهذا مْنتَ ٍ
ُ
كما سبق.
ال خيفى على أحــد العنت واإليــذاء الــذي القــاه النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم وأصــحابه من مشــركي قــريش،
ليس قبــل اهلجــرة النبويــة فحســب ،وإن كــان مل يفــرض عليهم القتــال يف تلــك احلقبــة آنــذاك ،وإنــا حــىت بعــد
اهلج ــرة إذ جــرت بني الفــريقني املعــارك املش ــهورة .وبــالرغم من اســتمرار العــداء بينهمــا فلم يســتحل )عليــه
الصالة والسام( أمواهلم جملرد كفرهم إال يف ساحة احلرب؛ انطالقا من مبدأ التعامل باملثل ،كما هي قــوانني
احلرب ،ويشهد لذلك الكثري من األدلة ،ومنها حديث عبد الرمحن بن أيب بكر الصديق )رضي اهلل عنهمــا(
مشرك ُم ْش ٌّ
عان طويل بغنم يسوقها ،فقال النــيب صــلى رجل ٌقال :كنا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم ،مث جاء ٌ
اهلل عليه وسلم) :بيعاً أم عطية(؟ -أو قال) :أم هبة( ،قـال :ال ،بـل بيـع ،فاشـرى منـه شـاة) .19ونالحـظ أن
النيب )عليه الصــالة والسـالم( بـالرغم من كونــه كـان يف ســرية مـع أصـحابه ،ولقـوا هــذا الرجــل – املشــرك -
إال أهنم مل يســتحلوا مالــه؛ وال دمــه من بــاب أوىل ،مــع أهنم كــانوا يف حــال حــرب مــع املشــركني ،قــال ابن
حزم) :وكل موضع سوى مدينة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقد كان ثغراً ودار حرب.20
16املعايري الشرعية ،هيئة احملاسبة واملراجعة للمؤسسات املالية اإلسالمية ،دار امليمان ،الرياض 2017 ،م.
17املصنف يف األحاديث واآلثار ،أبو بكر بن أيب شيبة ،مكتبة الرشد ،الرياض ،برقم
. 268/4 ، 19982
18املغين ،البن قدامة.3 /5 ،
19رواه البخاري يف صحيحه يف أكثر من موضع باألرقام2056.، 5382 ، 2618 ، 2216 ،
20احمللى يف اآلثار ،ابن حزم األندلسي. 423 /5 ،
وقد ّبوب اإلمام البخاري يف كتاب الـبيوع بابـاً مساه :بـاب الشـراء والـبيع مـع املشــركني وأهــل احلرب .قـال
ابن بط ــال) :الش ــراء والــبيع من الكفــار كلهم جــائز ،إال أن أهــل احلرب ال يبــاع))) منهم م ــا يســتعينون ب ــه
ُ
على إهالك املسـ ــلمني من العـ ــدة والسـ ــالح ،وال مـ ــا يقـ ــوون بـ ــه عليهم .21وقـ ــد ذكـ ــر ابن امللقن) :ق ــال ابن
املنــذر :اختلــف العلمــاء يف مبايعــة من الغــالب عى مالــه احلرام ،وقبــول هــداياه وجــوائزه ،فرخصــت طائفــة يف
ذلــك ،كــان احلســن البصــري ال يــرى بأسـاً أن يأكــل الرجــل من طعــام العقــار والــراف والعامــل ،ويقــول :قــد
أحل اهلل طعام اليهود والنصارى ،وأكله أصحاب رسـول اهلل صـلى اهلل عليـه وسـلم ،وقـال تعـاىل يف اليهـود:
﴿ٻ ٻ﴾ ]املائــدة .[ 42 :وقــال مكحــول والزهــري:ـ إذا اختلــط املال وكــان فيــه احلالل واحلرام فال بــأس
أن يؤكل منه ،وإنا يكره من ذلك الشيء الـذي يعرفـه بعينـه .وقـال احلسـن :ال بـأس مـا مل يعرفـوا شـيئاً منـه.
أكثر مال ِـه ربـا أو كسـبه حـرام ،وإن بايعـه مل أفسـخ الـبيع؛ ألن هـؤالء قـد وقال الشافعي :ال جتب مبايعة َم ْن ُ
ميلكــون حالالً ،وال حنرم إال حرام ـاً بيِّن ـاً إال أن يشــري حرام ـاً بيِّن ـاً يعرفــه ،واملســلم والــذمي واحلريب يف هــذا
سواء.22
وبنــاء على مــا تقــدم من النصــوص فقــد كــانت التجــارة بني املســلمني وغــري املســلمني يف دار احلرب ماضــية،
والــبيع بينهــا صــحيح ،واحلقــوق حمفوظــة للطــرفني ،فال حيل للمســلم أن يعتــدي على مــال أو نفس وغريهــا،
وإذا حصل هذا منه ،فهو آمث ألنه خان عهد األمان الذي دخل مبوجبه.
وقد توافقت أقوال الفقهاء يف ذلك وتقاربت ،من ذلك ما جاء عن الفقهـاء قـول القــدوري يف خمرته) :وإذا
دخــل املســلم دار احلرب تــاجراً ف الحيل لــه أن يتعــرض لشـ ٍ
ـيء من أمــواهلم وال من دمــائهم ،وإ ْن غــدر هبم
وأخذ شيئاً وخرج به َملَ َكهُ ملكاً حمظوراً ويؤمر أن يتصدق به .23وقد ذكــر هــذا النص املرغينــاين يف كتــاب
اهلداية وزاد عليه زيادة مهمة تابعـه عليهـا من جـاء بعـده من الفقهـاء إذ قـال) :وإذا دخـل املسـلم دار احلرب
تــاجراً ،فال حيل أن يتعــرض هلم باالســتئمان ،فــالتعرض بعــد ذلــك يكــون غــدراً ،والغــدر حــرام .24أي بعقــد
االستئمان املربم بني الطرفني.
21شرح صحيح البخاري البن بطال ،ابن بطال أبو احلسن بن عبد امللك ،حتقيق :أبو
متيم ياسر بن إبراهيم ،دار النشر ،مكتبة الرشد ،الرياض ،الطبعة الثانية 1423 ،ه 2003 -م. 338 /6 ،
22التوضيح لشرح اجلامع الصحيح ،ابن امللقن ،حتقيق دار الفالح للبحث العلمي وحتقيق الرتاث ،دار النوادر ،دمشق الطبعة األوىل 1429 ،ه 2008 -م/ 14 ،
. 536
23خمتصر القدوري يف الفقه احلنفي ،أبو احلسني القدوري ،حتقيق كامل حممد عويضة ،دار الكتب العلمية ،الطبعة األوىل 1418 ،ه 1997 -م ،ص . 235
24اهلداية يف شرح بداية املبتدي ،أبو احلسن برهان الدين املرغيناين ،حتقيق طالل يوسف،
دار احياء الرتاث العريب ،بريوت. 395 /2 ،
وق ـ ــد حـ ـ ــذر فقه ـ ــاء املالكي ـ ــة من ذل ـ ــك وزادوا بع ـ ــدم ج ـ ــواز التعام ـ ــل بالرب ـ ــا معهم؛ فق ـ ــال القاض ـ ــي عب ـ ــد
الوهــاب ) :كــل مــا كــان حمظــوراً على املســلمني يف دار اإلســالم كــان حمظــوراً عليهم يف دار احلرب كالزنــا،
جيز مبــايعتهم بالربــا
وشرب اخلمر ،وألن املسلم مىت حصل يف دار احلرب بأمان فأمواهلم عليه حمظــورة ،فلم ْ
كاحلريب إذا دخل إلينا بأمان فماله علينا حمظور ،وال جيوز لنا مبايعته بالربا ،وألنه مال مأخوذ بعقد.25
وكــذلك جــاءت النصــوص يف كتب فقهــاء الشــافعية ومنهــا مــا أورده الشــرازي بقولــه) :إن دخــل مســلم دار
احلرب بأم ــان فس ــرق منهم م ــاالً أو اق ــرض منهم م ــاالً وع ــاد إىل دار اإلس ــام ،مث جــاء ص ــاحب املال إىل دار
رد م ــا س ــرق أو اق ــرتض؛ ألن األم ــان ي ــوجب ض ــمان املال يف اجلانبني،
اإلس ــالم بأم ــان وجب على املس ــلم ُّ
فوجب رده.26
وكــذلك مــا ذكــره النــووي) :دخــل مســلم دار احلرب بأمــان ،فــاقرتض منهم شــيئا ،أو ســرق وعــاد إىل دار
اإلسالم ،لزمه َر ُّدهُ،ـ ألنه ليس له التعرض هلم إذا دخل بأمان.27
وقد جاء عند فقهاء احلنابلة ما حيذر من ذلك أيضاً ،قـال البهــويت) :لــو دخــل أحــد من املسـلمني دار احلرب
بأمان ،بتجارة أو رسالة ،مل خينهم يف شيء ،وحيرم عليه ذلك.28
وقـد جـرت العــادة على قيـام جتار املســلمني بالــذهاب إىل ديــار غــري املسـلمني لغــرض التجــارة والـبيع والشــراء
منهم ،وفق صور وآليات حمددة منذ قرون ،ومنها – على سبيل املثال -مــا كـان حيدث بني جتار املسـلمني
الــذين يقومــون باســترياد الســلع من بــاد غــري املســلمني وجتارهم قبــل ثالثــة قــرون من زماننــا تقريب ـاً ،إذ كــان
حريب فيدفعون لـه أجرتـه ،ويـدفعون أيضـاً مـاالً معلومـاً لرج ٍـل غـري مسـل ٍم مقي ٍمالتجار يستأجرون مركباً من ٍّ
يف بالده.29
25اإلشراف على نكت مسائل اخلالف ،القاضي عبد الوهاب البغدادي ،حتقيق احلبيب بن
طاهر ،دار ابن حزم ،الطبعة األوىل 1420 ،ه 1999 -م. 541 /2 ،
26املهذب يف فقه اإلمام الشافعي ،أبو إسحاق الشريازي ،دار الكتب العلمية. 313 /3 ،
27روضة الطالبني وعمدة املفتني ،حميي الدين النووي ،حتقيق :زهري الشاويش ،املكتب اإلسالمي ،بريوت -دمشق -عمان ،الطبعة الثالثة 1412 ،ه 1991 /م10 ،
. 291 /
28اإلنصاف ،للمرداوي ،حتقيق عبد احملسن الرتكي. 359 / 10 ،
29واملراد بغري املسلم املقيم يف بالده؛ احلريب ،على وفق التقسيم الذي فصله علماؤنا املتقدم آنفاً يف املسألة األوىل؛ يف املراد مبصطلح )غري املسلمني( عند العلماء ،والذي
أكــدنا فيـه أن مســألة إطالق ألفــاظ )احلريب( أو )احملارب( أو )أهــل احلرب( ال تعـين بالضــرورة إضــافتهم للحــرب مــا يســتلزم كــوهنم أعــداء ،فقـد يكــون بينهم وبني املســلمني
ب)املعاه دين(كما بينا ،أو يكون بينهم وبني املسلمني تعامل جتاري؛ كما كان بني املسلمني وقريش قبل اهلجرة ،فقد أفرد اإلمام البخاري يف صحيحه َ ميثاق = ،فيسمون
وغريه – كما َبَّينّا -باباً مساه باب الشراء والبيع مع املشركني وأهل احلرب.
وكـان يطلـق على هـذه املعاملـة الـيت تسـتلزم تـرك ذلـك املال )سـوكرة( على ضـمان ملا قـد يعـرض للسـلع من
خماطر حبريــة من غــرق أو ســطو وهنب أو غــريه ،فــإن ذلــك الرجــل غــري املســلم )احلريب( والــذي يقيم يف ديــار
غري
املســلمني يكــون ضــامناً لــه مبقابلــة مــا يأخــذه منهم ،ويكــون لــه وكيــل عنــه مســتأمن يف دار املســلمني يقيم يف
بالد السـواحل اإلســالمية بـإذن السـلطان يقبض من التجــار مـال )السـوكرة(،ـ وإذا هلــك من مــاهلم يف البحـر
شــيء يــؤدي ذلــك املســتأمن للتجــار بدلــه متامــا ،ويعقب ابن عابــدين على هــذه املعاملــة بعــدم جوازهــا؛ ألهنا
تتضمن التزام ما ال يلزم .مث يسوق االفرتاضات التالية:
مث يعقب ابن عابدين ) :وال خيفى أن صاحب )السوكرة( ال يقصد تغرير التجــار ،وال يعلم حبصــول الغــرق
هل يكون أم ال ،وأما اخلطر من اللصوص ،والقطاع فهو معلوم له ،وللتجار ،ألهنم ال يعطون مال
)السـوكرة( إال عنـد شـدة اخلوف طمعـاً يف أخـذ بـدل اهلالـك ،فلم تكن مسـألتنا من هـذا القبيـل أيضـاً ،نعم:
ق ــد يك ــون للت ــاجر ش ــريك ح ــريب يف بالد احلرب ،فيعق ــد ش ــريكه ه ــذا العق ــد م ــع ص ــاحب )الس ــوكرة( يف
بالدهم ،ويأخذ منه بدل اهلالك ،ويرسـله إىل التـاجر ،فالظـاهر أن هـذا حيل للتـاجر أخـذه ألن العقـد الفاسـد
جــرى بني حــربني يف بالد احلرب ،وقـد وصــل إليــه مــاهلم برضــاهم ف المــانع ِم ْن أخــذه ،وقــد يكــون التــاجر
يف بالدهم ،فيعقد معهم
ولس ــنا بص ــدد مناقش ــة ص ــحة ه ــذه املعامل ــة حتدي ــداً )الس ــوكرة( ِم ْن ع ــدمها ،وإن ك ــانت ظ ــاهرة البطالن؛
بسبب الغرر املرتتب عليها ،إال أن الشاهد من إيراد هذه املسألة ،هو بيان صور من التعامل التجاري الذي
30رد احملتار على الدر املختار ،ابن عابدين ،دار الفكر ،بريوت ،الطبعة الثانية 1412 ،ه 1992 -م. 170 /4 ،
31املصدر نفسه. 170 /4 ،
كان موجوداً بني املسلمني وغري املسلمني ،ليس مع الذميني واملستأمنني واملعاهــدين منهم يف ديــار املســلمني
فحســب ،بــل حــىت مــع احملاربني ،مــع التــذكري مبا تقــدم مبا تعنيــه لفظــة احلريب أو احملارب أو أهــل احلرب ،مبا
يعكس ثقافــة التســامح املايل الــيت كــانت ســائدة بني اجملتمــع املســلم وغــري املســلم آنــذاك ،بســبب احلاجــة إىل
التبادل السلعي الذي زاد ومنا أضعافاً يف عصرنا احلاضر من العصور املاضية.
هدى إليه ،ولذلك شجع اإلســالم على ال خيفى األثر اإلجيايب املعنوي واملادي املرتتب من تقدمي اهلدية إىل امل َ
ُ
هذا اخللق الرفيع أميا تشجيع من خالل مـا بيَّنتـه النصـوص الشـرعية يف هـذا البـاب ،وتشـرك مـع اهلديـة عقـود
تربع ــات أخ ــرى ،وتش ــرتك معه ــا يف احلكم ،وتقارهبا يف املع ــىن؛ ج ــاء يف اجملم ــوع) :واهلب ــة والعطي ــة واهلدي ــة
والصدقة معانيها متقاربة وكلها :متليك يف احلياة بغري عوض.32
وقد وضع علماؤنا ضوابط للهدية متيزها عما يشوهبا من مصاحل قد خترجها من مقصــدها الصــاحل؛ وتضــعها
احملرمة.
يف باب الرشوة ّ
فصل الفقهاء األحكام املتعلقة باهلدية بياناً واضحاً يطول بيانه.
وقد ّ
والته ــادي ال يقتص ــر على املس ــلمني في ــا بينهم وح ــدهم ،وإن ــا يتع ــداهم إىل غ ــريهم ،وم ــا يهمن ــا منه ــا هاهن ــا
مسألة تبادل اهلدايا بني املسلمني وغري املسلمني.
وق ـ ــد ذهب مجه ـ ــور الفقه ـ ــاء إىل ج ـ ــواز هدي ـ ــة املس ـ ــلم لغ ـ ــري املس ـ ــلم ،وق ـ ــد اس ـ ــتدلوا على ذل ـ ــك جبملـ ــة من
األحاديث:
ومنهــا مــا روي عن ابن عمــر )رضــي اهلل عنهمــا( ،قــال) :رأى عمــر حلــة عى رجــل تبــاع ،فقــال للنــيب صــلى
اهلل عليه وسلم :ابتع هذه احللة تلبسها يوم اجلمعــة ،وإذا جـاءك الوفـد؟ فقـال« :إمنا يلبس هـذا َم ْن ال خالق
له يف اآلخرة » ،فأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منهـا ،حبلـل ،فأرسـل إىل عمـر منهـا حبلـة ،فقـال عمـر:
كيف
32اجملموع شرح املهذب ،حميي الدين حيىي بن شرف النووي ،دار الفكر. 370 / 15 ،
ألبســها وقــد قلت فيهــا مــا قلت؟ قــال« :إين مل أكســكها لتلبســها ،تبيعهــا ،أو تكســوها » ،فأرســل هبا عمــر
إىل أخ لــه من أهــل مكــة قبــل أن يســلم ،33فعمــر )رضــي اهلل عنــه( أهــدى احللــة ألخيــه غــري املســلم وهــو يف
مكة ،وقد أقره النيب صلى اهلل عليه وسلم على فعله.
كمــا اســتدل مجه ــور الفقه ــاء حبديث أس ــاء بنت أيب بكــر رض ــي اهلل عنهم ــا ال ــوارد يف الصــحيح ،إذ قــالت:
ـتفتيت رســول اهلل صــلى اهلل
علي أمي وهي مشــركة يف عهــد رســول اهلل صــلى اهلل عليــه وســلم ،فاسـ ُ
ـدمت َّ
قـ ْ
عليه وسلم ،قلت :وهي راغبة ،أفاصل أمي؟
وأمــا مســألة هديــة غــري املســلم للمســلم ،فقــد وقــع فيهــا اخلالف ،إذ وردت أحــاديث جبوازهــا؛ وهي كثــرية
حـىت عنــون اإلمـام البخــاري بابـاً مساه) :بـاب قبــول اهلديـة من املشـركني( مث ذكــر فيـه جمموعـة أحـاديث تـدل
على قبول النيب صلى اهلل عليه وسلم هدايا غري املسلمني.
ومنهــا أنــه :أهــدي للنــيب صــلى اهلل عليــه وســلم جبــة ســندس ،وكــان ينهى عن احلريــر ،فعجب النــاس منهــا،
فق ــال) :وال ــذي نفس حمم ــد بي ــده ،ملنادي ــل س ــعد بن مع ــاذ يف اجلن ــة أحس ــن من ه ــذا .35ومنه ــا ح ــديث :إن
أكيدر دومة أهدى إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم.36
ومنهــا كــذلك حــديث أنس بن مالــك )رضــي اهلل عنــه( أيض ـاً ،أن يهوديــة أتت النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم
بشــاة مســمومة ،فأكــل منهــا ،فجيء هبا فقيــل :أال نقتلهــا ،قــال« :ال »،فمــا زلت أعرفهــا يف هلوات رســول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم.37
33رواه البخاري بسنده عن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما ،كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها ،باب اهلدية للمشركني ،برقم . 2619كما أخرجه كذلك يف
كتاب األدب ،باب والوالدين ولو كانوا مشركني .صلة األخ املشرك ،ب رقم . 5981
34متفق عليه ،عن أساء بنت أيب بكر الصديق )رضي اهلل عنهما( البخاري ،برقم ، 2620يف كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها ،باب اهلدية للمشركني .ومسلم يف
صحيحه
برقم ، 1003كتاب الزكاة ،باب فضل النفقة والصدقة على األقربني والزوج واألوالد ،والوالدين ولو كانوا مشركني.
35رواه الشيخان ،البخاري عن انس رضي اهلل عنه ،كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها ،باب اهلدية للمشركني ،برقم . 2615وراه مسلم عن الرباء بن عازب
رضي اهلل عنه ،يف كتاب الفضائل ،باب فضائل سعد بن معاذ رضي اهلل عنه ،برقم . 2468
36رواه الشيخان ،البخاري يف صحيحه ،برقم 2616عن انس رضي اهلل عنه ،كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها ،باب اهلدية للمشركني .ومسلم عن علي بن أيب
طالب رضي اهلل عنه ،يف كتاب اللباس ،باب اللباس والزينة ،برقم . 2071
37رواه البخاري ،برقم 2617عن انس رضي اهلل عنه ،كتاب اهلبة وفضلها والتحريض عليها ،باب اهلدية للمشركني .ومسلم ،يف كتاب السام ،باب السم ،برقم
. 2190
ومن وصايا النيب صلى اهلل عليه وسلم اليت كان يؤكد عليها مراراً وصيته باجلار من ذلك قوله عليه الصـالة
والسام) :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليحسن إىل جاره.38
وقد ترجم الصحابة رضوان اهلل تعـاىل عليهم هــذه الوصـايا عمليـاً يف واقعهم فقـد روى الرتمــذي بسـنده عن
جماهد أن عبد اهلل بن عمرو ذحبت له شاة يف أهلـه ،فلمـا جـاء قـال :أهـديتم جلارنـا اليهـودي؟ـ أهـديتم جلارنـا
اليه ــودي؟ مسعت رس ــول اهلل ص ــلى اهلل علي ــه وس ــلم يق ــول :م ــا زال جربي ــل يوص ــيين باجلار ح ــىت ظننت أن ــه
ســيورثه .ويف البــاب عن عائشــة ،وابن عبــاس ،وأيب هريــرة ،وأنس ،واملقــداد بن األســود ،وعقبــة بن عــامر،
وأيب شريح ،وأيب أمامة .39
وقــد أخــرج هــذا احلديث أيض ـاً الطحــاوي يف شــرح مشــكل اآلثــار بنحــو مــا يف جــامع الرتمــذي ،غــري أن يف
ألفاظ الطحاوي مزيد بيان للقصة قـال :عن جماهـد قـال :كنـا نـأيت عبـد اهلل بن عمــرو وعنــده غنم لـه ،فكـان
يسقينا لبناً
ســخناً ،فســقانا يوم ـاً لبن ـاً بــارداً ،فقلنــا :مــا شــأن اللنب بــارداً؟ قــال :إين تنحيت عن الغنم؛ ألن فيهــا الكلب
وغالمـه يسـلخ شـاة ،فقـال :يـا غالم إذا فـرغت فابـدأ جبارنـا اليهـودي ،حـىت فعـل ذلـك ثالثـا ،فقـال لـه رجـل
من القوم عرفه
جماه ــد :كم تــذكر اليه ــودي ،أص ــلحك اهلل؟ قــال :مسعت رس ــول اهلل ص ــلى اهلل علي ــه وســلم )يوص ــي باجلار
حىت خشينا أو ِربْناَ أنه سيورثه.40
ومــع هــذا الكم اهلائــل من األحــاديث الــيت تؤكــد قبــول النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم هــدايا غــري املســلمني ،فــإن
هناك من األحاديث اليت ورد فيهـا النهي عن قبـول هـداياهم ،ومنهـا حـديث عيـاض بن محار ،قـال :أهـديت
للنــيب صــلى اهلل عليــه وســلم ناقــة ،فقــال« :أســلمت؟ » ،فقلت :ال ،فقــال النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم« :إين
هنيت عن زبد املشركني »41أي عطاياهم.
38رواه مسلم يف صحيحه ،كتاب اإلميان ،باب احلث على إكرام اجلار والضيف ،ولزوم الصمت إال عن اخلري وكون ذلك كله من اإلميان.
39رواه الرتمذي يف جامعه بسنده برقم ، 1943وقال عنه هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ،وقد روي هذا احلديث عن جماهد ،عن عائشة ،وأيب هريرة ،عن
النيب صلى اهلل عليه وسلم أيض
40شرح مشكل اآلثار ،أبو جعفر الطحاوي ،حتقيق :شعيب األرنؤوط ،مؤسسة الرسالة ،الطبعة األوىل 1415 ،ه 1494 ،م ،برقم . 220 /7 ، 2792
41رواه أبو داود يف سننه ،كتاب اخلراج ،باب يف اإلمام يقبل هدايا املشركني ،برقم . 3057والرتمذي يف سننه ،يف أبواب السري ،باب كراهية هدايا املشركني ،برقم
، 1577وقال عنه حديث حسن صحيح.
إال أن العلمــاء نصــوا على جــواز قبــول هــدايا غــري املســلمني لقوهتا ورجحاهنا :فقــد جــاء يف املغــين) :وجيوز
قبــول هديــة الكفــار من أهــل احلرب؛ ألن النــيب صــلى اهلل عليــه وســلم قَبــل هديــة املقــوقس صــاحب مصر.42
كما جاء يف احمللى) :وإعطاء الكافر مباح ،وقبول ما أعطى هو كقبول ما أعطى املسلم.43
وأولــوا مــا ورد من هني عن قبــول هــدايا غــري املسـلمني بالنســخ ،ومنهم َم ْن رأى العكس ،وقيــل هي حــاالت
خاصــة فيمن كــان يــرجى إســالمه ،إذ كــان يــرد )عليــه الســالم( مــا يــرده من اهلدايا من غــري املســلمني ،حــىت
حيف ــزهم لل ــدخول يف اإلس ــالم ،فك ــان يطم ــع يف إميان ــه إذا رد هديت ــه ليحمل ــه ذل ــك على أن ي ــؤمن مث يقب ــل
هديتــه .أو مل يقبــل ألنــه كــان فيهم من يطــالب بــالعوض وال يرضــى باملكافــأة مبثــل مــا أهــدى .44وقيــل غــري
ذلك ،وهي مبجموعها حاالت خاصة ،أما األصـل فـالراجح فيمـا يبـدو – واهلل أعلم -قبـول هـداياهم لقـوة
أدلتها.
استدل العلماء لضرورة إغاثـة غـري املسـلمني إذا حلت هبم كارثـة أو نـزلت هبم جائحـة بقـول اهلل عـز وجـل:
﴿ ې ې ﯨ ﯩ ئا ئا ئە ئە ئو ئو ئۇ ئۇ ئۆئۆ ئۈ ئۈ ئې ئې ئې﴾ ]التوبة.[6 :
كما استدلوا على جواز تقدمي اإلغاثة من قبل املسلمني لغريهم باجملاعة اليت ضربت مضــر يف األعــوام األوىل
من اهلجرة ،فسأل النيب صلى اهلل عليه وسلم هلم الغوث ،ومل يكونوا دخلوا اإلسالم آنذاك.45
كمـا ميكن أن يسـتدل على ذلـك بقـول اهلل عــز وجــل ﴿ :ٺ ٿ ٿ ٿ ٿ ٹ ٹ ﴾ ]اإلنسـان [8 :جـاء
يف تفسري مقاتل) :ٹ -من أسارى املشركني .46كما نقل الطربي عن املراد ب)األسري( يف اآلية أنه
املشــرك؛ ألنــه مل يكن يومئــذ من األســارى إال املشــركني .كمــا قيــل :هــو املســجون من أهــل القبلـة .مث عقب
بع ــد ذل ــك :والص ــواب من الق ــول يف ذل ــك أن يق ــال :إن اهلل وص ــف ه ــؤالء األب ــرار ب ــأهنم ك ــانوا يف ال ــدنيا
عم اخلرب
يطعمــون األســري ،واألســري الــذي قــد وصــفت صــفته؛ واســم األســر قــد يشــتمل على الفــريقني ،وقــد ّ
عنهم أهنم يطعمــوهنم فــاخلرب على عمومــه حــىت خيصــه مــا جيب التســليم لــه .وأمــا قــول َم ْن قــال :مل يكن هلم
42املغين ،البن قدامة. 327 /9 ،
43احمللى باآلثار ،ابن حزم الظاهري. 121 /8 ،
44شرح السري الكبري ،مشس األئمة السرخسي ،الشركة الشرقية لإلعالنات 1971 ،م97/1 - 98. ،
45رواه ابن أيب شيبه ،يف مصنفه ،برقم . 9803
46تفسر مقاتل بن سليمان ،أبو احلسن مقاتل بن سليمان البلخى ،حتقيق عبد اهلل حممود شحاته ،دار إحياء الرتاث ،بريوت ،الطبعة األوىل 1423 -ه. 525 /4 ،
أسري يومئذ إال أهل الشرك ،فإن ذلك وإن كان كذلك ،فلم خيصص باخلرب املوفون بالنذر يومئذ ،وإمنا هــو
ـين بــه أســر
خــرب من اهلل عن كـ ّـل َم ْن كــانت هــذه صــفته يومئــذ وبعــده إىل يــوم القيامــة ،وكــذلك األســر معـ ّ
املشركني واملسلمني يومئذ ،وبعد ذلك إىل قيام الساعة.47
ق ــال الش ــنقيطي ) :وه ــؤالء األس ــارى بع ــد وق ــوعهم يف األس ــر ،مل يب ــق هلم ح ــول وال ط ــول .فلم يب ــق إال
اإلحســان إليهم .وهــذا من حماســن اإلســالم ومسو تعاليمــه ،وإن العــامل كلــه اليــوم لفي حاجــة إىل معرفــة هــذه
التعاليم الساوية
وســواء كــان املراد باألســر هنــا من كــان من غــري املســلمني أو املســلمني فـ ِّ
ـإن اإلغاثــة لغــري املســلمني قــد ثبتت
ونص عليها العلماء ،وال شك أهنا تتأكد يف أوقات األزمـات والكــوارث الطبيعيـة واحلروب واجملاعــات ومـا
ش ـ ـ ــابه ذلـ ـ ـ ــك؛ ملا يف ذلـ ـ ـ ــك من إحيـ ـ ـ ــاء للنفـ ـ ـ ــوس من اهلالك ،قـ ـ ـ ــال اهلل عـ ـ ـ ــز وجـ ـ ـ ــل ﴿ :ٹ ٹ ٹ ٹ ڤ
وم ْن ت ّسـبب
ڤڤ ﴾ ]املائدة .[ 32 :قـال البيضــاوي يف تفســريه) :ومن أحياهــا فكأمنا أحيـا النـاس مجيعــا أي َ
لبقــاء حياهتا بعفــو أو منــع عن القتــل ،أو اســتنقاذ من بعض أســباب اهللكــة فكأمنا َف َعـ َـل ذلــك بالنــاس مجيعــا،
التعرض هلا وترغيبا يف احملاماة عليها.49
واملقصودـ منه تعظيم قتل النفس وإحيائها يف القلوب ترهيباً عن َّ
وب ــالرغم من وج ــود احلدود الفاص ــلة م ــع غ ــري املس ــلم )احملارب( ال ــيت تقتض ــيها قواع ــد التعام ــل باملث ــل ،ف ــإن
األوضاع االستثنائية والظروف غري الطبيعية أجازت للمسلم مد يد الصـلة والعـون لـه إنقـاذاً حلياتـه ،وبـذلك
ـلم املشـرك قريبـاً كـان
نص بعض علمائنا ،فقد ذكر السرخسـي يف السـر الكبـري) :أنـه ال بـأس بـأن يصـل املس ُ
أو بعيداً ،حمارباً كان أو ذمياً .50وحىت لوكان املستغيث غري املسلم حربياً واسـتغاث باملسـلم ،فإنـه جيب أن
جياب ويلىب طلبه ،طمعاً يف سـاعه لكالم اهلل وهدايتـه ،أو يرجـع عمـا يف نفسـه من ش ٍّـر ،لقـول �ه تعـاىل:
﴿ ې ې ﯨـ ﯩـ ئاـ ئاـ ئە ئە ئوـ ئوـ ئۇ ئ ـۇ ئۆئ ـۆ ئ ـۈ ئ ـۈ ئې ئې ئې﴾ ]التوبــة .[6 :وهلذا جــاء يف املوســوعة
الفقهيـة الكويتيـة) :على أنـه إذا اسـتغاث الكـافر فإنـه يغـاث ألنـه آدمي ،وألنـه جيب الـدفع عن الغـري إذا كـان
47تفسري الطربي ،حممد بن جرير الطربي ،حتقيق أمحد حممد شاكر. 95 / 24 ،
48أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ،حممد األمني بن حممد املختار اجلكين الشنقيطي ،دار الفكر ،بريوت 1415ه 1995 -م395 /8 ،
49أنوار التنزيل وأسرار التأويل ،ناصر الدين البيضاوي حتقيق :حممد عبد الرمحن املرعشلي ،دار إحياء الرتاث العريب ،بريوت. 124 /2 ،
50السري الكبري ،للسرخسي. 96 /1 ،
آدمياً حمرتماً ،ومل خيش املغيث على نفسه هالكاً ،ألن له اإليثار حبق نفسه دون حق غريه ،وحلديث رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
«ال تــنزع الرمحة إال من شــقي » .51وكــذلك إذا كــان الكــافر حربيــا واســتغاث ،فإنــه جياب إىل طلبــه ،لعلــه
يسمع كالم اهلل ،أو يرجع عما يف نفسه من شر ويأسره املعروف .لقوله تعاىل ﴿ :ې ې ﯨ ﯩ ئا ئا ئە ئە ئو
ئــو ئ ـۇ ئ ـۇ ئ ـۆ﴾ ]التوبــة .[6 :أي فــأجره ،وأمنــه على نفســه وأموالــه ،فــإن اهتــدى وآمن عن علم واقتنــاع
فذاك ،وإال فالواجب أن تبلغه املكان الذي يأمن به على نفسه ،ويكون حراً يف عقيدته.52
الخاتمة:
مثلت السماحة واليسر معلماً بارزاً يف شريعتنا اإلسالمية ،فأحكامها كلها توصــف بالعــدل والرمحة واليســر
ْ
والس ــاحة ،وعلى ه ــذه املع ــاين أقامه ــا اهلل ع ــز وج ــل ،وملا ك ــان ه ــذا األم ــر يش ــمل عم ــوم الش ــريعة بأص ــوهلا
وفروعه ــا ،وي ــدخل يف ك ــل ص ــغري وكب ــري من تفاص ــيلها ،فق ــد اقتص ــرت ه ــذه الدراس ــة – املوجزة -على
جانب يسر منهـا ،تعلّـق بـإبراز ش ٍ
ـيء من املسـائل الفقهيـة الـيت حبثت مراعـاة الشـريعة اإلسـامية يف بيـان مناذج
َبيَّنت مبدأ تسـامح الفقـه املايل يف تشـريع بعض التعـامالت املاليـة مـع غـري املسـلمني ،مبختلـف أصـنافهم .وقـد
حاولت الدراسة بيان حقيقة مساحة اإلســالم عــرب إبــراز اجلانب العملي ،من خالل اســتعراض ودراســة بعض
املســائل التشــريعية الــيت عـ َّـززت التعــايش الســلمي ،ليس يف عصــر الرســالة والتشــريع يف زمن النــيب صــلى اهلل
عليه وسلم فحسب ،وإمنا يف العصور اليت تلته كذلك.
كمــا حــاولت هــذه الدراســة أن توظــف الشــواهد والــدالئل الــيت ســاقتها لتكــون قريبــة من الواقــع ،وإبرازهــا
وإظهارهــا مبا يســهم يف فهم املعــاين الــيت قــام عليهــا اإلســام ،وقــد جتلى ذلــك بــأغلب املســائل الــيت استعرضــتها
الدراســة ،ولعــل من أبرزهــا مســألة )وقــف غــري املســلم( ومســألة )القــوانني املعاصــرة لبعض الــدول العربيــة يف
وق ــف غ ــري املس ــلم( ومس ــألة )عق ــود املش ــاركة م ــع غ ــري املس ــلم( ومس ــألة )إب ــرام العق ــود بني املس ــلمني وغ ــري
املس ــلمني يف دي ــارهم( ومس ــألة )ص ــحة وص ــية ال ــزوج املس ــلم لزوجت ــه الكتابي ــة من الرتك ــة( .زي ــادة إىل بقي ــة
النمــاذج واملس ــائل األخ ــرى،ـ ال ــيت مت استعراض ــها وإب ــراز جــانب تســامح الفق ــه املايل م ــع غ ــري املس ــلمني ،من
خالل االستدالل املختصر والبيان املقتضب.
51رواه البخاري يف األدب املفرد ،عن أيب هريرة مرفوعا .برقم ، 374ويف صحيح األدب املفرد برقم . 288
52ملوسوعة الفقهية الكويتية. 29 /4 ،
واهلل املوفق واهلادي إىل سواء السبيل.