Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 8

‫صفحات من أوراق جدي الصفراء ‪ ..

‬اإلدارة الكارثية‬
‫نشر في جريدة أخبار الخليج بتاريخ ‪ 19‬فبراير ‪2023‬‬

‫بقلم‪ :‬الدكتور زكريا الخنجي‬

‫يروي الفنان حمدي أحمد في مقابلة له هذه القصة؛‬

‫كنا في فرقة التلفزيون المسرحية نمثل رواية اسمها (المفتش العام)‪،‬‬

‫وكانت المسرحية من بطولة مجموعة كبيرة من فناني الكوميديا في‬

‫ذلك الوقت – يبدو أنها في الستينيات من القرن العشرين – وكانت‬

‫المسرحية تتضمن أن يكون في إحدى المشاهد (وزة حية)‪ ،‬لذلك طلب‬

‫المخرج من قسم اإلنتاج تأجير الوزة‪ ،‬فبالفعل تم التواصل مع سيدة‬

‫تعيش بالقرب من مبنى المسرح ولديها وز فقامت بتأجير الوزة على‬

‫الفرقة المسرحية بحوالي ‪ 25‬قرشًا‪ ،‬وبعد عدة أيام قام أحد أفراد اإلنتاج‬

‫بحساب قيمة الوزة حتى نهاية آخر عرض فوجد أن الوزة ستكلف الفرقة‬

‫المسرحية حوالي ‪ 100‬جنية – على اعتبار أنه سيتم تأجيرها ليالً – فقيل‬

‫له‪ :‬ماذا تقترح ؟ قال الرجل‪ :‬لو قمنا بشراء الوزة اليوم فإنها ال تساوي ‪5‬‬

‫جنية‪ ،‬وستبقى معنا حتى نهاية العرض‪ ،‬فكانت – من الناحية‬

‫االقتصادية – صفقة مربحة‪ ،‬إذ أن الفرقة المسرحية ستوفر في هذه‬

‫الحالة حوالي ‪ 95‬جنية‪.‬‬

‫عمومًا‪ ،‬تم شراء الوزة من السيدة صاحبة الوز‪ ،‬وعندها أصبحت الوزة‬

‫واحدة من أعضاء الفرقة المسرحية‪ ،‬وعندما رفع الطلب لقسم الحسابات‬

‫‪1‬‬
‫في الفرقة المسرحية حتى تدفع المبلغ المقرر لشراء الوزة‪ ،‬طلب قسم‬

‫الحسابات – وذلك حسب المقتضيات اإلدارية – إرفاق فاتورة بقيمة‬

‫الوزة حتى يتم الدفع‪ ،‬عندها تم إحضار السيدة صاحبة الوزة‪ ،‬وقام قسم‬

‫الحسابات بعمل فاتورة‪ ،‬وقامت السيدة بوضع بصمتها على الفاتورة‬

‫وانتهى قسم الحسابات من ذلك‪ ،‬فغادرت السيدة‪ ،‬وأصبحت الوزة منذ‬

‫تلك اللحظة من ممتلكات فرقة التلفزيون المسرحية‪ .‬وهذا يعني أنها‬

‫أصبحت من ممتلكات الحكومة‪ ،‬لذلك فإنه يجب أن يتم معاملتها كأي‬

‫حاجة من الممتلكات الحكومية‪ ،‬لذلك فإنها ال بد وأن تدخل المخازن‬

‫العامة – وذلك حسب مقتضيات اإلدارية آنذاك – حتى يتم محاسبة‬

‫وجودها وكل األمور اإلدارية‪ ،‬ولكن يبقى السؤال‪ :‬ماذا يحدث إن دخلت‬

‫الوزة المخازن ؟ ربما تموت إن تم إهمالها أو تموت من الجوع والعطش‪،‬‬

‫لذلك تشكلت لجنة لمناقشة القضايا التالية‪ :‬من سيهتم بالوزة ؟ من‬

‫سيقدم لها الطعام ؟ ومن سيقدم لها الماء ؟ ومثل تلك األمور‪ ،‬لذلك تم‬

‫توظيف أحد العاملين لالهتمام بهذه الوزة‪ ،‬وكان يصرف له راتب‪،‬‬

‫وميزانية لتغذية الوزة وشرابها واالهتمام بها‪.‬‬

‫ولكن الوزة بعد فترة ماتت‪ ،‬شأنها شأن جميع الكائنات الحية‪ ،‬فكان ال‬

‫بد وأن يتم تقديم بالغ للنائب العام‪ ،‬فتقدمت الفرقة المسرحية ببالغ‬

‫للشرطة بأن الوزة ماتت بسبب أو بآخر‪ ،‬ولكن الجهات األمنية وجدت أن‬

‫الوزة ماتت بسبب تسيب العاملين وإهمالهم في مراعاة شؤون الوزة‪،‬‬

‫فقامت الشرطة بعمل تحقيق في موت الوزة‪ ،‬ومن كان المتسبب في‬

‫‪2‬‬
‫موتها ؟ وكل ذلك بسبب أن أعضاء الفريق اعتبروا أنهم تالعبوا بالمال‬

‫العام‪.‬‬

‫واستمر الوضع على هذا المنوال عدة أشهر‪ ،‬ويبقى السؤال‪ ،‬ما هذا النوع‬

‫من اإلدارة ؟‬

‫قصة الفنان حمدي أحمد ذكرتني بقصة قرأتها ذات يوم في أوراق جدي‬

‫الصفراء‪ ،‬فرحت أبحث عنها حتى وجدتها‪ ،‬يقول جدي‪:‬‬

‫في ليلة تنصيب الزعيم الجديد لقبيلة الهنود الحمر‪ ،‬سأل أفراد القبيلة‬

‫زعيمهم الجديد الذي ال يعرف شيئًا عن األحوال الجوية‪" :‬هل سيكون‬

‫الشتاء باردًا هذا العام"‪ ،‬فأحتار الزعيم الجديد‪ ،‬ولكنه فكر قليالً‪ ،‬فهو ال‬

‫يعرف أي شيء عن أحوال الطقس‪" ،‬فماذا يفعل ؟"‪ ،‬فما كان منه إال أن‬

‫تحرك حول نفسه قليالً ليوهم الجموع أنه يفعل شيئًا ما ويبحث عن‬

‫اإلجابة‪ ،‬ثم أخرج أصبعه وقام بتلويحها في عدة جهات‪ ،‬ثم توقف لحظة‬

‫وفتح عينيه‪ ،‬وقال‪ :‬نعم‪ ،‬سيكون باردًا‪ ،‬أجمعوا الحطب‪.‬‬

‫وبالفعل قام أفراد القبيلة بجمع الحطب‪ .‬ولكن ظل زعيم القبيلة يتوجس‬

‫خيفة‪" ،‬فالبرد لم يأت بعد‪ ،‬وهذا يعني أن ثقة أفراد القبيلة فيه‬

‫ستتزعزع‪ ،‬وسيشكون في مصداقيته"‪ ،‬فقال له مستشاره‪ :‬لنتصل‬

‫باألرصاد الجوية حتى نتأكد من المعلومة"‪.‬‬

‫فقام المستشار باالتصال باألرصاد الجوية لمعرفة أحوال الطقس لهذا‬

‫العام‪ ،‬فأكدت األرصاد الجوية على برودة الجو هذا العام "فالشتاء بارد‬

‫هذا العام"‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫فأصدر الزعيم أوامره ألفراد قبيلته بجمع كميات كبيرة من الحطب أكثر‬

‫من السنوات الماضية‪ ،‬ألن الشتاء سيكون باردًا جدًا‪.‬‬

‫ولكن البرد تأخر‪ ،‬ومرة أخرى وبعد مضي فترة من الزمن اتصل المستشار‬

‫مرة أخرى باألرصاد الجوية‪ ،‬وسألهم‪ :‬هل سيكون الشتاء باردًا هذا العام؟‬

‫فأجابوا‪ :‬نعم‪ ،‬سيكون باردًا جدًا جدًا‪.‬‬

‫ومرة أخرى أصدر الزعيم أوامره ألفراد قبيلته بجمع كميات أكبر من‬

‫الحطب‪ .‬فأستمر العمل في قطع األشجار وجمع الحطب حتى لم يعد‬

‫هنالك أي شجرة في الغابة القريبة‪.‬‬

‫ولكن الشتاء لم يأت‪.‬‬

‫فخاف الزعيم على مصداقيته وشرعيته‪ ،‬وأصابه األرق والقلق‪ ،‬فقام هو‬

‫بنفسه باالتصال األرصاد الجوية حتي يتيقن من المعلومات التي‬

‫يمتلكها‪ ،‬وسألهم‪ :‬هل سيكون الشتاء باردًا هذا العام ؟ فأجابوا‪ :‬نعم‪،‬‬

‫سيكون الشتاء األبرد على االطالق‪.‬‬

‫فسالهم‪ :‬من أين تأتون بمعلوماتكم ؟‬

‫فأجابوا‪ :‬رأينا الهنود الحمر يجمعون كميات كبيرة من الحطب‪ ،‬وهذا‬

‫يعني أنهم يستعدون لشتاء قارس‪ ،‬وعلى هذا األساس توقعنا أن يكون‬

‫الشتاء هذا العام هو األبرد على اإلطالق‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وهكذا هي اإلدارة الكارثية‪ ،‬إذ تدار المؤسسات بناء على معلومات‬

‫مستقاة من تحليالت ومالحظات مضللة‪ ،‬إما من أشخاص غير مختصين‪،‬‬

‫أو غير مؤهلين‪ ،‬أو من بيوت خبرة عالمية همها جمع األموال فقط‪.‬‬

‫اإلدارة الكارثية هي المؤسسة التي ال تعمل وفق منهجية فرق العمل‪،‬‬

‫وإنما هناك شخص واحد هو الذي يتخذ القرارات‪ ،‬وليس المهمة فقط‪،‬‬

‫وإنما هذا الرجل يتدخل حتى في لون الشاي والقهوة التي يجب أن تقدم‬

‫للضيوف‪ .‬وإن فكروا في اتباع منهجية فرق العمل‪ ،‬فيصبح الجميع‬

‫متخذي قرار‪ ،‬حينها تتضارب القرارات وتتداخل بل وتتحارب‪ ،‬وكل‬

‫مسؤول يعتقد أنه األفضل باتخاذ القرار‪ ،‬فتحدث فوضى وعشوائية‪،‬‬

‫وكل مسؤول يسير وفق رؤيته وفكره‪ ،‬من غير أي رباط أو ترابط مع‬

‫زمالءه‪.‬‬

‫اإلدارة الكارثية‪ ،‬هي المؤسسة التي تبعد أصحاب العقول الرائجة‬

‫والمفكرة والمبدعة‪ ،‬لتقرب أصحاب العقول التابعة‪.‬‬

‫اإلدارة الكارثية‪ ،‬هي تلك المؤسسة التي ليس لها منهجية أو خطة وال‬

‫رؤية وال حتى أهداف حتى تحققها‪ ،‬فهي تسير وفق أهواء ومصالح‪ ،‬فال‬

‫تعرف إلى أين ستذهب ومن أين تنطلق‪.‬‬

‫اإلدارة الكارثية‪ ،‬هي تلك المؤسسة التي ال تهتم برضا الموظف وال‬

‫سعادته وال رأيه في العمل‪ ،‬وإنما تهتم بالحضور واالنصراف‪ ،‬بإنجاز‬

‫أكبر عدد من األعمال بغض النظر عن جودته‪ ،‬ال تهتم بتوفير السعادة‬

‫الوظيفية لموظفيها أيًا ما كانوا أو عملوا‪ ،‬وال حتى تهتم بما يريد‬

‫‪5‬‬
‫العميل‪ ،‬فإنه حتمًا سيأتي إلينا لينجز أعماله‪ ،‬فإن كان راضًا أو لم يرض‬

‫فهذه القضية ليست من شأنهم‪.‬‬

‫اإلدارة الكارثية‪ ،‬هي تلك المؤسسة التي تعيش في بروج عاجية‪ ،‬ال‬

‫تهتم بما تقول وسائل التواصل وال تهتم بما يدور في المجتمع‪ ،‬وإنما‬

‫اإلعالم بالنسبة إليها أن توضع صورة المسؤول األكبر في المؤسسة في‬

‫وسائل اإلعالم المختلفة وأن يتم تداول أخبار بصورة يومية‪.‬‬

‫اإلدارة الكارثية‪ ،‬هي تلك المؤسسة التي ال تهتم بإدارة المشكالت‬

‫وحتى وإن كانت المشاكل صغيرة والتي يمكن أن يساهم حتى أصغر‬

‫موظف في حلها‪ ،‬ألن من مصالح المسؤولين أال يتم حل المشكالت أيًا ما‬

‫كانت‪.‬‬

‫وهذه النقطة تحديدًا ذكرتني بقصاصة صفراء كانت موجودة في‬

‫صندوق جدي‪ ،‬فذهبت أبحث عنها‪ ،‬تقول الورقة الصفراء‪:‬‬

‫أشتكى صاحب مصنع صابون من مشكلة كبيرة وكان يعتقد أنها حتمًا‬

‫ستؤثر على سمعة المصنع‪ ،‬وكان المصنع ينتج صابون الذي على شكل‬

‫مسحوق‪ ،‬وكان الصابون يوضع في علب كبيرة نوعًا ما‪ ،‬إذ تحوي العلبة‬

‫حوالي نصف كيلو من مسحوق الصابون‪ ،‬فماذا يمكن أن يفعل حيالها ؟‬

‫وكانت المشكلة تتلخص في (أن علب الصابون تخرج بعضها من المصنع‬

‫فاضية بسبب خطأ في ماكينة التعبئة نتيجة سرعة خط اإلنتاج)‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫فاتصل صاحب المصنع بالمصنع الذي أشترى منه ماكينة التعبئة‪ ،‬فأتي‬

‫خبير وذهب خبير‪ ،‬والكل يأتي ويفتي ويضع الحلول التي يعتقد أنها‬

‫ناجعة إال أنها ال تنجح‪ ،‬فبعد فترة من الزمن تعود المشكلة إلى الظهور‪.‬‬

‫وفي األخير جاء خبير من تلك الدول البعيدة‪ ،‬واقترح أن يتم تغير الماكينة‬

‫القديمة ليوضع بدالً عنها جهاز جديد يحوي على نقاط ألشعة الليزر‪،‬‬

‫بهدف مشاهدة ما بداخل العلب‪ ،‬عندئذ تتبين العلب الفاضية والعلب‬

‫المليئة‪ .‬فوافق صاحب المصنع على االقتراح من منطلق (مكره أخاك ال‬

‫بطل)‪ ،‬وعندما سأل عن ثمن ذلك الجهاز وجد أنها تقدر بحوالي ‪ 10‬آالف‬

‫دوالر‪.‬‬

‫سمع أحد العمال البسطاء كل هذه األمور‪ ،‬فضحك‪ ،‬فقرر أن يذهب إلى‬

‫صاحب المصنع‪ ،‬وقال له‪" :‬أعطي ‪ 150‬دوالر وأن أحل المشكلة"‪.‬‬

‫صاحب المصنع‪" :‬كيف ؟"‪.‬‬

‫العامل‪" :‬هذا شأني‪ ،‬المهم أن يتم حل المشكلة"‪.‬‬

‫صاحب المصنع‪" :‬حسنٌ‪ ،‬خذ"‪.‬‬

‫فأخرج صاحب المصنع من المكتب ‪ 150‬دوالر‪ ،‬وأعطاه للعامل‪ ،‬فأخذ‬

‫العامل المبلغ وخرج‪.‬‬

‫وفي اليوم التالي جاء العامل وفي يده مروحة كبيرة وقوية‪ ،‬فوضعها‬

‫بالقرب من خط اإلنتاج ثم أوصلها بالكهرباء واشتغلت‪ ،‬وبدأ خط اإلنتاج‬

‫‪7‬‬
‫يعمل‪ ،‬وكان عندما تقرب علبة فاضية من المروحة كانت تطير لخفة‬

‫وزنها‪ ،‬أما العلب المليئة فكانت تسير حتى نهاية الخط‪.‬‬

‫وانتهت المشكلة‪.‬‬

‫األمور في اإلدارة الكارثية ال تسير بهذه البساطة أو بالنظام والمنهجية‪،‬‬

‫فالمسؤولين الكبار يجدون أنه حتى تحل مشكلة وزة يجب أن يتم عمل‬

‫لجان ولجان فرعية وتحقيق وبيروقراطية‪ ،‬وتجد أن المعلومات غير مهمة‬

‫فالقرارات يمكن اتخاذها بمنهجية الهنود الحمر وحال الطقس‪ ،‬تجد أنه‬

‫ليس من المهم العمل الجماعي فيمكن أن يأتي الخبير من الدول األخرى‬

‫ليضع بصماته حتى وإن كانت المشكلة بسيطة ال تستحق التفكير‪.‬‬

‫يا ترى‪ ،‬هل ما زالت موجودة هذه النوعية من اإلدارات في مؤسساتنا في‬

‫الوطن العربي ؟‬

‫‪8‬‬

You might also like