Professional Documents
Culture Documents
- - الحواس في الادب العربي - - removed
- - الحواس في الادب العربي - - removed
شعر
فتنقل صفات إحدى الحواس إلى حاسّة أخرى تساعد في نقل األثر النفس ّ
شعريّة في ال ّ شاعر إلى المتلقّي ،فضال عن كشف معالم التّجديد في ال ّ
صورة ال ّ ال ّ
المقدمة
الحديث ،وخبايا النّص ،من تكثيف للمعنى وتعميق للدّالالت التي تحمل مشاعر ال ّ إن لإلنسان خمس حواس هي اللمس والبصر والسمع والذوق والش ّم، ليس جديدا إذا قلنا ّ
شاعر
شميّة أو اللمسيّة أو تتحول حاسّة من وظيفتها البصريّة أو ال ّ وفيض عواطفه ،فال عجب أن يحتاجها كلّها ويعتمد عليها في إدراك العالم وقضاء الحاجات .ولكنها وإن حظيت ،وما
ّ
شاعر به. صيته المعنويّة بعمق إحساس ال ّ تزال باهتمام الدراسات الفيسيولوجية والعصبيّة والفلسفية وعلوم مثل علم النفس
السماعيّة إلى وظيفة أخرى فيفقد خا ّ
شعريّة ،ويمنح الحالة الشعريّة ظالال وعمقا وغنى. صورة ال ّ
فيوسّع من فضاء ال ّ
ي .ولذلك واالجتماع ..فإنّها ،في حدود اطالعنا ،لم تلق بع ُد االهتمام نف َ
سه في النقد األدب ّ
لذلك فقد وصف النّقاد المحدثون النّص الذي يحقّق قدرا عاليا من الشعريّة ،بأنّه قائم على يمكن عدّها من المواضيع البكر التي لم تفصح بعد عن أسرارها وع ّما تشير إليه كتابتُها من
بتنوع زوايا النظر وتعدّد آليات الفهم والتّأويل.
أبعاد ودالالت رمزيّة تتعدّد ّ
سعة الفضاء الذي تحقّقه الصورة القائمة بين طرفين متباعدين أو غير متجانسين). (2
واللغة فيه ليست وعاء خارجيًّا ،بل هي شبكة من العالقات المتجانسة أحيانا والمتنافرة • تراسل الحواس ما بين القديم والحديث
بأن تبادل بين معطيات الحواس "اتجاه لغوي خاص أحيانا أخرى .وقد رأى كثير من النقّاد ّ
بالبحث في وظيفة اللغة وإمكانياتها ومدى تقيدّها بعمل الحواس وتبادل تلك الحواس ،على شعر العربي القديم كانت من أن ظاهرة تراسل الحواس في ال ّ أشار كثير من الباحثين إلى ّ
شاعر مجال اللغة وتسخيرها لتأدية وظائف األدب). (3 نحو يفسح أمام الكاتب أو ال ّ ّ
الظواهر األدبيّة التي لم تلقَ اهتماما "كفلسفة فنيّة" مثلما هو في الحال في الواقع الشعري
يمر بها،
ُّ تي ّ ال جربةّ ت ال تأثير تحت اعر ّ
ش ال إليه يلجأ ي ّ ن ف كإبداع ظهرت ها ّ ن ولك ،المعاصر
أن التّبادل ،يعني وصف مدركات كل حاسّة من الحواس األخرى فتعطيصة َّ
وخا ّ وكان يساعده على ذلك فطرته النّقية وخياله المبدع ،ورغبته في تكوين صورة جديدة تتبادل
المسموعات ألوانا ،وتصير المشمومات أنفاسا وتصبح المرئيّات عاطرة ...وذلك َّ
ألن اللغة فيها الحواس ،ومن ث َّم تكون أكثر إيحاء ). (1
في أصلها رموز اصطلح عليها لتثير في النّفس معاني وعواطف خا ّ
صة واأللوان
واألصوات والعطور من مجال وجداني واحد). (4 شعراء ي القديم ال يستطيع أن ينكر ما جاء به ال ّ أن المتتبّع لهذه ّ
الظاهرة في ال ّ كما ّ
شعر العرب ّ
ّ
شم والذوق .وقيمة هذا ّ
من صور فريدة في تبادل مدركات الحواس بين النظر والسّمع وال ّ
أن هذا التصوير يخرج عن دائرة المألوف بما يحمله المنحى الجمالي عند النّقاد القدماءَّ ،
صورة وعذوبتها ورشاقتها التي توحي بها. من رقّة ال ّ
) (3محمد مندور ،األدب ومذاهبه ،دار نهضة مصر للطّبع والنّشر ،ص .111
) (4محمد غنيمي هالل ،النقد األدبي الحديث ،بيروت ،دار الثقافة،ص . 416
الرحمن محمد الوصيفي ،تراسل الحواس في الشعر العربي القديم ،القاهرة :مكتبة اآلداب،2003،ص . 17
) (1عبد ّ
3 2
• المجال التطبيقي • الصورة الحسية في التراث النقدي
شعري ابن طباطبا معلّال ذلك بقدرتها على ش ّد انتباه ❖ أشار إلى أهميّة ذكرها في النّ ّ
ص ال ّ
توظيف الحواس في غزليات بشار بن برد ّ ّ
شعر وسامعه ،فالعين تنجذب لكل ما يتصل بها وكذلك األنف .
)(5 قارئ ال ّ
❖ أ ّما أبو هالل العسكري عن حديثه عن جودة التشبيه ،ذكر الصورة الحسّية كواحدة من
نبذة عنه: األوجه األربعة التي من شأنها تحقيق بالغة التشبيه قال ( :وأجود أنواع التّشبيه ما يقع
شعراء المخضرمين ،كانت آفة المرض عنده تشعره أدرك بني أميّة وبني عبّاس ،فهو من ال ّ على أربعة أوجه أحدها :إخراج ما ال تقع عليه الحاسّة إلى ما تقع عليه الحاسّة)). (6
دائما بالنّقص ،فكان يعمد إلى االنعطاف بآفته إلى ميدان الفكاهة والسخريةَّ ،
إن عقدة العمى
ولو أنّها كانت صعبة ّإال أنّها لم تش ّكل عائقا بالنسبة إليه ،فألّف أجمل القصائد وأبدع بها
مر ّكزا تركيزا شديدا على الحواس).(9 شكل في مقابل المادّة والمضمون ❖ وقدامة بن جعفر قد استعملها نصا واعتبرها الهيكل وال ّ
صورة ،كما يوجد في ّ كال فيها شعرشعر بمنزلة المادّة الموضوعة ،وال ّ
فقال( :معاني ال ّ
في غزلياته: صورة) .
)(7
ك ّل صناعة من أنّه ال ب ّد فيها شيء موضوع يقبل تأثير ال ّ
• المبحث األول :الصورة البصرية صورة على خصوص األمر المحسوس ،ومقابل بينها وبين ❖ كما أطلق ابن األثير كلمة ال ّ
المعنى قال( :أما تشبيه معنى بمعنى ..وأ ّما تشبيه صورة بصورة ..وأ ّما تشبيه معنى
الرائي من إدراك ّ
أدق تتصدّر حاسة البصر حواس اإلنسان من حيث األهميّة ،إذ تم ّكن ّ صور المشاهدة، بصورة ..وهذا القسم أبلغ األقسام األربعة ،لتمثيله المعاني الموهومة بال ّ
ي و ما يدور حوله ،وتع ّد من أكثر الحواس تعامال مع الواقع إلى
تفاصيل محيطه الخارج ّ وأ ّما تشبيه صورة بمعنى ..وهذا القسم ألطف األقسام األربعة ،ألنّه نقل صورة إلى غير
جانب حاسّة السّمع . صورة)). (8
الملونة في غزليّاته ،فقد
ّ صورة البصريّةشاعر قد كثّر في توظيف ال ّ أن ال ّ
ومن الالفت ّ
صبح" ...كلّها لها داللة على البريق أي اللون،وردت عبارة "الشمس والبدر والنّجم وال ّ
فضال عن ذكر األلوان (األبيض واألصفر واألحمر واألسود) كقوله:
)(10
ر إذا قنعَـت عليها الرداء ي كالشمس في الجَالء وكالبَد
ه َ
) (9مصطفى الشكعة،رحلة الشعر من األموية إلى العباسية ،ص . 50 ) (5أبو الحسن مح ّمد بن أحمد بن طباطبا،عيار الشعر،الجزء ّ
األول ،ص .13-14
) (6أبو الهالل العسكري ،كتاب الصناعتين في الكتابة والشعر ،ص .140
) (10ديوان بشّار بن برد ،الجزء ّ
الرابع ،ص .57 ) (7قدامة بن جعفر،نقد الشعر ،ص .4
) (8ابن األثير،المثل السائر،الجزء ّ
األول ،ص .9
5 4
• المبحث الثالث :الصورة الذوقية وقوله:
ي مع عشيقته ،إذ
شار هذه الحاسّة في غزله من خالل وصفه للحظات لقائه الغرام ّ ّ
وظف ب ّ )(11
تكفيكَ في الظلماء مصباحَا كيف ال يَصبو إلى غاد ٍة
َ
اشتاق إلى أن تسقيه من ريقها فيشبّه خاله بالظمآن:
يشبّه وجه حبيبته "غادة" بالمصباح الذي يكشف ّ
الظالم بنوره .
َولو بَقيَت حبى لنا لبَقيت أال يا اسقياني بالرحق ،فَنيت
أن حاسّة السّمع لها إمكانيّة عالية لحفظ التّواصل المستمر بين اإلنسان
كما هو معروف ّ
تحدّث عن حبيبته "حبّى" قد أهلكه حبّها ،وسقمه يزداد ،وال شفاء له ّإال بريقها العذب ،ويعود شار بشأن هذه الحاسّة:ومحيطه ،فيقول ب ّ
فيقول بأنّه كشارب س ّم حيّة لما ينتابه من هواجس وأفكار بسبب ابتالئه بحبّها.
واألذن تَعشَق قب َل العين أحيانَا يا قَوم أذني لبعض الحي عاشقةٌ
قالوا ب َمن ال تَرى تَهذي فَقلت لهم األذن كالعين تؤذي القَ َ
لب ما كانَا
)(13
األول،ص .37
) (12المصدر نفسه ،الجزء ّ
) (14ديوان بشّار بن برد ،الجزء الثّاني ،ص .163
الرابع،ص .183
) (13المصدر نفسه،الجزء ّ
الرابع،ص .42
) (15المصدر نفسه،الجزء ّ
7 6
خالصة البحث في "غزليات ابن برد" • المبحث الخامس :الصورة اللمسية
بعد البحث في أبيات شعر الغزل لدى بشار بن برد ،تبيّن أنّه استخدم الحواس وفق الترتيب
اآلتي:
متنوعة نذكر منها
لكن اتجاهاتها ّ وهي من أقل الحواس المستخدمة في شعر ب ّ
شار الغزليّ ،
ّ
يوظف أحس بعقدة النّقص فراح
ّ -1الحاسّة البصريّة :ألنّه كان أعمى ،ومن الواضح أنّه بعض األفعال الدّالة على اللمس:
هذه الحاسّة بطريقة واضحة في شعره ،ومن الممكن أيضا أنّه يحاول إخفاء عاهته
ببصره النّوراني الدّاخلي وكأنه يحاول أن يوصل رسالة لك ّل من يستهزئ به أنّه إال الحديث وإال أَن أمس يدا وقمت لم أقض منها إذ َخلوت بها
يستطيع أن يبصر حتّى األلوان بحذافيرها ببصيرته الوجدانيّة .
حينما خال بحبيبته "سعدى" لم ينعم معها ّإال بالتّحدّث ولمس يدها ،كما يذكر نعومة خدّها
-2الحاسة السمعيّة :كانت في شعره كثيرة االستعمال ،كانت بديال عن حاسّة البصر، فيقول:
صوت إلى وجدانه فيعشقها ويجسّد
فمنها يستطيع أن يسمع صوت الحبيبة ويدخل ال ّ
صوتها في وجدانه.
)(16
َكشَمس الضُّحى حلت ببرجٍ َوأَسعد أَسيلة َمجرى الدمع مهضومة الحَشا
-3الحاسّة الذوقيّة :بانت هذه الحاسّة عندما كان يلتقي بحبيباته ،فيصف نفسه أنّه ظمآن أحس بالنعومة ،وشبّهها بشمس
ّ أسيلة مجرى الدّمع :كناية عن الخ ّد ،عندما لمس خدّها
ومحتاج أن يرتوي من الحبيبة ،فش ّكلت هذه الحاسّة عنده اتّحادا جسديّا بينه وبينها. الضّحى في البهاء وإلشراق.
-4الحاسّة ال ّ
شميّة :للتعبير عن حبّه وإظهار جمال المعشوقة ،فيشتم رائحتها المماثلة
للمسك الخارج عن جسدها ،فالعطر وجسد المرأة سيان في شعر ابن برد .
-5الحاسّة اللمسيّة :أق ّل تواترا في غزليّاته ،وردت فيها أفعال تد ّل على حاسّة اللمس
بوساطة اليد مثل النّعومة والليونة.
9 8
الخاتمة
شعرالعربي أن ظاهرة تراسل الحواس أدّت دورا ف ّعاال في إدخال نكهة جديدة على ال ّ ال شكّ ّ
ّ
القديم والحديث ،إذ تتبادل الحواس في أدوارها اإلدراكيّة لدى الشعراء ،فينفتح بعضها على
بعضها اآلخر ،وهذا يعني انصهار الحواس فتعطي المسموعات ألوانا ،وتصير المشمومات
أن الحواس ظاهرة إنسانيّة تدخل مجال علم أنغاما ،وتصبح المرئيّات عطرة ،فصحي ٌح ّ
النّفس واالجتماعّ ،إال أنّها ساعدت المتلقّي على فهم الجوانب العقليّة واالنفعاليّة والدّاللية
شاعر طمسها في القصيدة . الرمزيّة التي يحاول ال ّ
ّ
10