(ليبنز والعقلانية الدينامية)

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 7

‫جامعة محمد الخامس‬

‫المدرسة العليا لألساتذة‪/‬الرباط‬

‫شعبة اللغة العربية وآدابها‬

‫الموسم الجامعي (‪)2020-2019‬‬

‫المسلك ‪ :‬اإلجازة في التربية‪ -‬تخصص فلسفة‪.‬‬


‫الفصل الرابع‪ -‬السنة الثانية‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الفلسفة الحديثة‪.‬‬
‫الحصة ‪:‬الثالثاء ‪ 31‬مارس ‪.2020‬‬
‫د‪ .‬محمد الشيكر‬

‫ليبنز والعقالنية الدينامية ‪(:‬تتمة )‬

‫لم يتشكل نسق ليبنز الفلسفي في دفقة فكرية واحدة‪،‬بل تعينت مالمحه ومداراته‬
‫عبر حوار مباشر‪،‬موصول و جسور مع فالسفة عصره‪.‬‬
‫يذهب كلوديوس بيات ‪ Clodius Piat‬إلى أن " مجموع مكونات نسق ليبنز‬
‫‪،‬اكتملت ابتداء من ‪ 1675‬أو ‪،1676‬بما في ذلك اكتشافه للحساب التفاضلي "‬
‫‪،1‬فيما يذهب أليكسيس برتراند ‪،‬في تقديمه إلحدى طبعات المونادولوجيا‪ ،2‬إلى أن‬
‫نسق ليبنز لم يستوف ممكناته القصوى إال سنة ‪.1684‬على أنه يصح القول مع‬
‫إميل بوترو بأن اكتمال عالم ليبنز الفلسفي قد امتد بين ‪1676‬و ‪ ،1685‬عبر‬
‫اكتمال فكرتين من أمهات أفكاره الفلسفية ‪ :‬المونادولوجيا من جهة والتناغم‬
‫القبلي من جهة ثانية‪.3‬ويمكن أن نضيف إلى هاتين الفكرتين المفصليتين فكرتين‬
‫أخريين من أبرز مناشط نسقه النظرية‪ ،‬وهما ‪ :‬قانون االتصال و نظرية التفاؤل‪.‬‬
‫عبر المونادولوجيا دشن ليبنز تصورا ديناميا للعالم يتغيا تشذيب كل من‬
‫التصورين الميكانيكي الديكارتي والوحدوي السبينوزي؛فميتافيزيقا ديكارت وهي‬
‫تختزل المادة إلى امتداد هندسي ‪ ،‬وتضع هذا االمتداد في تقابل مع الفكر‪/‬الروح‪،‬‬
‫تقودنا حسب ليبنز إما إلى القول بمحمولين بدون موضوع‪،‬أو بصفتين لجوهر غير‬
‫متعين‪ ،‬أو في أحسن األحوال بجوهرين متنائيين وعاطلين عن الفعل‬
‫والحركة‪،‬ومن ثمة تعجز عن إقامة واشجة موضوعية تصل الجسد بالروح‪.‬‬

‫لقد كون ديكارت ‪-‬حسب ما يذهب إليه ليبنز‪" -‬فكرة مغلوطة عن طبيعة الجسد؛ إذ‬
‫ربطه باالمتداد الهندسي الخالص‪ ،‬فلم يجد بالتالي وساطة لتفسير وحدة الروح‬
‫والجسد ‪.‬وعلة ذلك برأيه أنه لم ينطلق بوجه عام من تحديد دقيق لمفهوم الجوهر‬
‫‪ . 4 ".‬الشيء ساقه وتأدى به إلى القول بعالم ميكانيكي ‪ ،‬غفل من الحركة‬
‫والدينامية و الفعل‪،‬بقدر ما هو خال ‪،‬في ذات اٱلن ‪،‬من كل غائية‪ .‬وعلى صعيد‬
‫ٱخر لم يكشف سبينوزا في مسعاه لحل المشكل‪ ،‬إال عن ضرب "من الديكارتية‬
‫الموغلة والمسرفة" ‪ .5‬فبدل أن يعمل على ترميم معطب ديكارت الرئيس المتمثل‬
‫في عدم تدقيقه لمفهوم الجوهر ‪،‬اكتفى باالنصراف إلى فكرة االستغراق جاعال من‬
‫الفكر واالمتداد ‪،‬والروح والجسد‪ ،‬وللا والطبيعة وحدة أنطولوجية مطلقة‪.‬وبذلك لم‬
‫يقم سبينوزا بشيء ٱخر سوى " أنه مضى بالديكارتية إلى نتائجها القصوى‪ ،‬فأقر‬
‫بوجود جوهر وحيد ‪،‬له محموالن إثنان هما االمتداد والفكر ‪،‬أما األجسام واألرواح‬
‫فلم يعتبرها سوى أحوال لكل من االمتداد والفكر اإلالهيين"‪.6‬خالفا لهذا وذاك‬
‫سيحاول ليبنز فتح الديكارتية على مفهوم مغاير للجوهر‪،‬وهذا ما تصدى له في‬
‫كتابه " المونادولوجيا "‪ ،‬هذا الكتاب الذي عده البعض" وصية ليبنز‬
‫الفلسفية "‪،‬و الذي ال مرية أنه " يحتوي بين تضاعيفه ‪ ،‬على العرض األكثر‬
‫تكثيفا و األكثر اكتماال لنسقه الفلسفي "‪.7‬‬

‫جعل ليبنز من مفهوم الجوهر بؤرة مذهبه الميتافيزيقي‪.‬بيد أن الجوهر ال يرتد‬


‫عنده إلى الزوج فكر‪/‬امتداد ‪،‬و ال الى الوحدة المطلقة للوجود‪،‬بل أصبح يحيل إلى‬
‫تعددية المونادات ‪.Les monades‬‬

‫إن الموناد ‪،‬كما هو معروف ‪ ،‬مفهوم أفالطوني محدث استعاره ليبنز من جيوردانو‬
‫برونو ‪ ،‬و هذا األخير استعاره بدوره من بروكليس الذي كان يوظفه كمرادف‬
‫للوحدة الجزئية المفردة التي يتكون منها كل شيء مركب‪ .‬و بالرغم من أن مفهوم‬
‫الموناد ينطوي على نتوءات ومتعلقات فلسفية سكوالئية وأفالطونية محدثة ‪،‬إالأن‬
‫ليبنز أسبغ عليه لبوسا ديناميا ‪،‬وجعل منه قوام نظريته األنطولوجية‪.‬يقول ليبنز ‪:‬‬
‫" إن الجواهر الحقيقية ليست غير الجواهر البسيطة أو ما أدعوه المونادات ‪.‬وفي‬
‫اعتقادي أنه ال يوجد في الطبيعة غير المونادات ‪.‬وماعداها ليس غير الظواهر‬
‫التي تشكلت منها"‪.8‬‬

‫الموناد جوهر بسيط يرتد اليه كل شيء مركب ‪،‬تماما كما ترتد األجسام إلى‬
‫جزيئات أو ذرات‪.‬وليس لهذا الجوهر البسيط نوافذ ‪،‬كما ال داخل له وال خارج‪9‬‬
‫‪.‬إن كل موناد ‪،‬كما يقول جيل دولوز في تأويله الشهير لفسفة ليبنز‪ ،‬هي عبارة‬
‫عن ثنية ‪ Un pli‬تلتف على نفسها ‪ ،‬وعلى غيرها إلى ما النهاية ‪ ،‬ثنية أو لفة لها‬
‫ككل كائن روح‪ ،‬و تحدوها غاية ‪،‬مثلما توجهها علة كامنة‪ .‬وكل موناد هي أيضا‬
‫عبارة عن مرٱة للعالم تكشف العالم مثلما تتكشف فيه‪.‬وبناء على هذا التصور تغدو‬
‫الطبيعة مجاال للتعدد‪ ،‬تعدد الجواهر الروحية البسيطة الالمتناهية‪ ،‬لكن عبر التعدد‬
‫تتكشف وحدته وتناغمه‪،‬وتتبدى ديناميته أيضا‪.‬يقول ليبنز "إن المونادات تتوافق‬
‫وتنسجم في مابينها باعتبارها مرايا لنفس العالم " ‪.10‬وعبر توافقها تكفل وحدة‬
‫العالم‪،‬وتضمن اتصاال بين مكوناته‪ ،‬وتلبسه لبوسا متناغما يجعله أفضل العوالم‪.‬‬

‫مالبرانش والعقالنية المتعالية ‪:‬‬


‫شكلت قراءة نيقوال مالبرانش لكتاب ديكارت "رسالة حول اإلنسان"‪ ،‬وهو ابن‬
‫السادسة والعشرين من عمره‪،‬انعطافة كبرى في حياته ‪.‬إذ لم يكتف باالنكباب على‬
‫أعمال ديكارت العلمية والفلسفية فحسب‪ ،‬بل زاد على ذلك أن صار فكره امتدادا‬
‫لإلبيستمي الديكارتي‪.‬على أن عالقة مالبرانش بديكارت لم تكن مع ذلك عالقة‬
‫المريد بالشيخ‪،‬إنما طبعها ملمح النقد و أغناها الجدل الخالق‪.‬ولن نجد‪،‬في هذا‬
‫المقام‪ ،‬أبلغ من عبارة إميل فاجي التي يقول فيها ‪" :‬مالبرانش هو ديكارت مغاليا‬
‫و متجاوزا؛ من جهة إنشائه لميتافيزيقا مجنحة‪،‬أو قل ديكارت مدفوعا به إلى‬
‫التخوم القصوى عبر إقامته لنزعة صوفية وحدوية ‪،‬و رؤية حتمية مطلقة "‪.11‬‬

‫تبنى مالبرانش بدوره منهج البداهة والوضوح ؛معتبرا شأنه شأن ديكارت أن‬
‫المعرفة الحقة ال تتأسس إال على أفكار بينة ‪،‬متميزة بذاتها ومتمايزة عن غيرها‬
‫‪،‬ال تخالطها المسبقات ‪،‬وال تشوشها األوهام‪ ".‬فال شيء ‪،‬في نظر مالبرانش ‪،‬أكثر‬
‫يقينا من نور العقل"‪.12‬لكن إذا كان ديكارت ينطلق من تعليق كل المعارف القبلية‪،‬‬
‫ووضعها موضع شك‪،‬فإن مالبرانش ظل بخالف ذلك مشدودا إلى األفق الالهوتي‬
‫للمسيحية ولنصوصها النقلية الرئيسة‪.‬وبالتالي جعل الفلسفة تضطلع بمهام‬
‫الثيولوجيا‪.‬‬

‫العقل الديكارتي يعود إلى نفسه ‪،‬ويؤكد حقيقة وجوده‪،‬ليسمو بعدها إلى حقيقة‬
‫الذات اإلالهية‪،‬ثم يتخارج شطر العالم‪.‬أما العقل المالبرانشي ‪،‬فإنه يستنجد ‪،‬كنور‬
‫طبيعي ‪،‬بالنور اإلالهي أو بالعقل المتعالي‪.‬لهذا ‪،‬فمالبرانش ال يقر بوجود‬
‫كوجيطومستقل بذاته يعرف ذاته بذاته ‪،‬ويتعرف على العالم ويدرك وجود الذات‬
‫الالهية‪ .‬بل حتى لو سلمنا ‪،‬في نظره‪ ،‬بفاعلية هذا الكوجيطو‪،‬وقظرته على الوعي‬
‫و اإلدراك والمعرفة‪،‬فإنه يظل ككوجيطو رهين النور اإلالهي‪ .‬يقول مالبرانش ‪" :‬‬
‫إن العقول التي تروم وؤية النور ‪،‬ينبغي أن تولي وجهها شطر العقل المتعالي‬
‫الذي بمقدوره ‪،‬وحده‪ ،‬أن يسبغ عليها الكمال‪،‬ويمنحها القدرة على‬
‫التعقل"‪.13‬بمعنى أن عمل الكوجيطو وبحثه عن الحقائق ‪،‬ال يجري من تلقاء ذاته‬
‫‪،‬أو باالستناد إلى مداركه الذاتية وقدراته الخاصة‪،‬بل يتم باالعتماد على للا ‪،‬و‬
‫التوكل على قدرته المطلقة المتعالية ‪،‬من خالل وساطة المسيح‪ .‬ألن المسيح‬
‫عيسى يمثل‪،‬حسب مالبرانش ‪ " ،‬الحقيقة اإلالهية المجسدة التي ال تناقض الحقيقة‬
‫المعقولة‪.‬إنه القائد الروحي الذي يرشد الكنيسة ويوجهها شطر العقل الكوني الذي‬
‫ينير سائر العقول ‪ 14".‬وال يخفى‪،‬هاهنا‪،‬بأن مالبرانش يمضي بالعقالنية شطر‬
‫ضرب من التعالي الروحاني؛ بل " إنه يدخل على المنهج الديكارتي منزعا‬
‫صوفيا"‪.15‬مما يعني أن فلسفة مالبرانش ليست فلسفة تشربت الفكر الالهوتي‬
‫المسيحي فحسب‪،‬بل كذلك تحمل بين ثناياها روحانية صوفية تجعل المخلوق أثرا‬
‫لخالقه‪،‬و تعتبر معرفته انعكاسا نورانيا للعلم اإلالهي‪.‬‬

‫يوافق مالبرانش ديكارت في القول بأن األهواء والغرائز واالندفاعات والخياالت‬


‫هي مفعوالت وٱثار للجسد على النفس ‪،‬و ال يختلف معه في القول أيضا بأن العقل‬
‫هو النور الطبيعي الذي يجلو هذه الغالالت الغائمة عن مرٱة النفس‪.‬إال أنه يختلف‬
‫معه في التشديد على أن النور الطبيعي ليس هو النور الصادر عن العقل‬
‫البشري‪،‬بل هو النور اإلالهي الصادرعن العقل الكوني‪.‬وال يمكن أن ندرك داللة هذا‬
‫القول في بعده الصوفي الروحاني فحسب ‪ ،‬بل ينبغي أن نفسره أيضا بنزعة ليبنز‬
‫الحتمية التي ترى أن كل خير أوحق أدركه أو يدركه اإلنسان؛فإنه ال يدركه بعقله‬
‫الفردي ‪،‬بل باستغراقه في العقل الرباني الكوني‪.‬وهذا ما يدافع عنه مالبرانش في‬
‫نظرية العلل االتفاقية أو العلل العارضة التي قد توجب الفعل ولكن ال تسببه ‪:‬‬
‫وهي نظرية "تكشف لنا أنه ال يوجد عمل فعال إال ماصدر عن للا‪.16 ".‬من ثمة‬
‫فإن ما نعتقد أننا ندركه كمعارف وتحصيالت ‪،‬إنما هو من فيض النور اإلالهي‪.‬‬
‫وعليه‪،‬فال تضاد عند مالبرانش بين المعقول العقلي الذي يدركه الكوجيطو‬
‫والمعقول النقلي الذي ينطق به النص المقدس‪ ".‬و الفلسفة التي ندعوها فلسفة‬
‫جديدة (يقصد الديكارتية) تقوض حجج الزنادقة عن طريق جعل أبرز مبدأ من‬
‫مبادئها يتفق بشكل تام مع المبدأ األول في الدين المسيحي‪.‬وبالتالي فإذا كان الدين‬
‫يعلمنا أن ال إاله إال للا الحق ؛فهذه الفلسفة الحديثة بدورها تؤكد على وجود علة‬
‫حقيقية واحدة"‪.17‬‬
------------------------------------------------------------------

- 1Clodius Piat, Leibniz, ed Alcan,1915_p.7.

- 2Alexis Bertrand, Intro à La méthodologie de Leibniz,


nouvelle édition,ed Belin,1886,p.31.

- 3Émile Boutroux, La philosophie Allemande, op.cit,pp.73-


74.

- 4Nourrisson, La philosophie de Leibniz, op.cit,114.

- 5Leibniz, Théodicée, 3,p.393.

- 6Th.Desdouits, Introduction à la Monadologie de Leibniz, ed


Librairie Classique, 1884,p4.

- 8Leibniz, Discours de métaphysique,


Monadologie, tr.fr M.Fichant, ed.Gallimard,2004,p.378.

- 9Th.Desdouits,op.cit.p.4.

- 10Leibniz, Discours de métaphysique, op.cit, p.378.

- 10Émile Brehier,Histoire de a philosophie, op.cit,p.225.


- 11Émile Faguet,Le Dix-septième siècle, ed Boivin,p.79.

- 12N.Malebranche, Traité de la morale ,1,ch.5,p.2.

- 13N.Malebranche, Recherche de la vérité, ch,2.

- 14N.Malebranche, Traité de la morale,2.

- 15E.Faguet,op.cit,p.87.

- 16E Bréhier,op.cit,178.

- 17N.Malebranche, Recherche de la vérité, liv 6,2eme partie,


3,ed Bouillier,p.68.

You might also like