Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 270

‫قدس هللا سره‬

‫جمعه وحققه األستاذ المربي‬


‫عبد القادر يحيى الشهير بالديراني‬

‫إعداد‬
‫سامر أحمد الهندي‬

‫موقعنا على شبكة اإلنترنت‬


‫‪www.amin-sheikho.com‬‬
‫‪info@amin-sheikho.com‬‬
‫مالحظة هامة جدا‪:‬‬
‫أمه عليهما السالم‬
‫بما أن هذا الكتاب اقتصرنا به على ظهور السيد المسيح و ّ‬
‫بعد رقود تجاوز األلفي عام‪ ،‬لم نتطرق إلى البحث عن سيدنا المهدي العظيم‬
‫‪ ،‬وقد ذكر في األحاديث النبوية الشريفة‪ ،‬أنه يمأل األرض قسطاً وعدلً‪ ،‬كما‬
‫ملئت ظلماً وجو اًر‪ ،‬يرضى عنه ساكن األرض والسماء‪ ،‬فعلمه إشراقي‪ ،‬ول يعارضه‬
‫الفريسيون سيدنا عيسى ‪.‬‬‫إلَّ مقِّّلدة العلماء‪ ،‬كما عارض ِّّ‬
‫أما كتاب سيدنا المهدي فإننا سنفرد له بحثاً خاصاً فريداً لما له من أهمية‬
‫بالغة‪.‬‬
‫***‬

‫ــــــــ ‪ 3‬ـــــــــ‬
‫مقدمة‬
‫ٍ‬
‫مبعوث‬ ‫األتمان األكمالن على خير‬ ‫رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫الحمد هلل ّ‬
‫للعالمين سيدنا محمد ﷺ الصادق الوعد األمين‪.‬‬
‫َّ‬
‫الجهل وتغلب الهوى‪ ،‬واستعصت الشهو ُ‬
‫ات في‬ ‫ُ‬ ‫عم‬
‫لقد أضحينا في آخر الزمن‪َّ ،‬‬
‫وفتح الناس باب اإلباحية‪.‬‬
‫الحالل‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وح ِّّرم‬
‫حل الحرُام ُ‬ ‫النفوس‪ ،‬استُ َّ‬
‫أسمل‬
‫َ‬ ‫ضباب الحضارة الكثيف‬
‫ُ‬ ‫لوب والنفوس‪.‬‬
‫وليل أعتم الق َ‬
‫ٌ‬ ‫دامس‬
‫ٌ‬ ‫ظالم‬
‫ٌ‬
‫ِّ‬
‫غياهب الخمور والفجور‪ ،‬كما أغرق‬ ‫ففر الناس من الواقع‪ ،‬وغاصوا في‬
‫البصائر‪َّ ،‬‬
‫عب ل يفار ُق‬ ‫اب‪ ،‬ور ٌ‬ ‫الحق المقيم‪ ،‬قلق واضطر ٌ‬ ‫ِّّ‬ ‫وحجب نور‬
‫َ‬ ‫الضياء والنعيم‪،‬‬
‫يجتاح الحنايا‪ ،‬يستنزف‬ ‫ُ‬ ‫عاصف‬
‫ٌ‬ ‫ألم‬
‫الصدور‪ ،‬من ظلم بني اإلنسان لإلنسان‪ٌ ،‬‬
‫وعم ِّائها‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫غاض ماؤها لقسوة أهل الحضارة َ‬ ‫مآق َ‬‫الدمع من ٍ‬
‫َ‬
‫الذل من‬ ‫َّ‬
‫ذل تخطى القيم لنفوس أبت إل ّ‬ ‫القلوب تحت وطأته‪ٌّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫هيب ترزُح‬
‫كابوس ر ٌ‬
‫ٌ‬
‫أذهل الكائنات لمن َّيدعون بالحضا ِّرة واإلنسانية‬ ‫َ‬ ‫عسف‬
‫ٌ‬ ‫أجل لقمة عيش كريهة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫والمكرمات‪ ،‬مهرجان عظيم ولكن من َّ ِّ‬
‫األنات إذ بط َش القو ُّي بالضعيف‪ ،‬والر ُ‬
‫جال بالنساء‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫التوجع واآلهات تترى والعذاب ِّسجال‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫األغنياء بالفقراء‪ ،‬صرخات‬
‫ُ‬ ‫واألطفال‪ ،‬و‬
‫فحلت بواديهم مآسي‬ ‫اغِّتيلت الفضيل ُة‪ ،‬وأمسكت الرذيل ُة بصولجان اإلمارة‪َّ ،‬‬ ‫ْ‬
‫الطاغوت‪ ،‬فُقتلت النفوس وا ْفتقدت السعادة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الخزي والخسارة‪ُ ،‬دفنت القيم‪ ،‬واستعلى‬
‫حل البالء وانعدم الرضى‬ ‫الحياء فأصبحت سوق الشيطان رائج ًة‪ ،‬عندها َّ‬ ‫ُ‬ ‫طِّّلق‬
‫ُ‬
‫وأضحت الحياةُ جحيماً ل يطاق‪.‬‬
‫هجر الناس القرآن‪ ،‬كما هجر من قبله اإلنجيل والتوراة‪ ،‬وتكالبوا‬
‫اندثرت الحقيقة إذ َ‬
‫على العلم‪ ،‬اإللٓه المزيَّف (علم المخلوق الضعيف ال علم الخالق العظيم)‪ ،‬وأشاحوا‬
‫الديان مبدع الكمال ورب النعيم والسرور العميم‪ ،‬فانقطعت سبل السعادة‪ ،‬وغرق‬
‫عن ّ‬
‫الناس في بحر الضنك والم اررة‪.‬‬

‫ــــــــ ‪ 5‬ـــــــــ‬
‫ض َعن ِذ ْكرِي َفِإ َّن َل ُه َم ِع َ‬
‫(‪)1‬‬
‫انكبوا على ألوان‬
‫نكا‪ّ . ﴾...‬‬ ‫يش ًة َض ً‬ ‫َعَر َ‬
‫﴿ َو َم ْن أ ْ‬
‫ليعود األمر ُّ‬
‫أشد وأدهى‬ ‫َ‬ ‫يعبون منها‪ ،‬وينشدون بها الفرار فترات‪،‬‬ ‫الخمور والمخدرات ّ‬
‫أكثر شراس ًة وأطغى‪ ،‬حتى دفع اليأس والقنوط وخيبة األمل من الدنيا الكثير الكثير‬ ‫و ُ‬
‫دنية‪.‬‬
‫وهجر ما هفوا إليه من دنيا ّ‬
‫الغررة إلى النتحار ْ‬
‫الخداعة ّا‬
‫أم الحضارات ّ‬
‫في ِّّ‬
‫آن األوان ودار الزمان دورته‪ ،‬ومّلت النفوس من اإلعراض‪ ،‬إذ أترعت‬
‫باألمراض‪ ،‬حتى زاغت األبصار‪ ،‬وبلغت القلوب الحناجر‪ ،‬فتعالت النداءات أن‬
‫خير وأحب إلى هللا من التمادي‬
‫فالعود أحمد‪ ،‬والرجوع إلى الحق ٌ‬ ‫عودوا إلى الحق‪ْ ،‬‬
‫في الباطل‪ ،‬لقد أبى الرحمن الرحيم إلَّ أن ينقذ بني اإلنسان من هذا الهوان‪ ،‬فبعد أن‬
‫ذاقوا م اررة اإلعراض من طغيانهم وبغيهم وفسادهم‪ ،‬عندما تخلوا عن اإللٓه مبدع‬
‫فحل فيهم الشقاء والبؤس والبأساء‪ ،‬طلبوا الخالص من‬ ‫األكوان واألرض والسموات‪َّ ،‬‬
‫َّاع ِإ َذا َد َع ِ‬
‫ان‪،)2(﴾...‬‬ ‫يب َد ْع َوَة الد ِ‬ ‫رب الخالص‪ :‬فاستجاب لهم ربهم أني‪ ..﴿ :‬أ ِ‬
‫ُج ُ‬
‫وغمكم وهمكم بهجة وحبو اًر‪ ،‬وسأجعل أرضكم َّ‬
‫جنات وغبطة‬ ‫سأبدل شقاءكم نعيماً‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫يطيب عيشكم في ظالل روح وريحان‪،‬‬ ‫أبدية‪ ،‬سأعيد إليكم رسولً عظيماً كريماً‪ِّّ ،‬‬
‫ّ‬
‫سيد األكوان (في عصره) سيدنا (عيسى المسيح ‪)‬‬ ‫ورضى وبهجة وأمان‪ ،‬بظهور ّ‬
‫إلى يوم تلقوني وأنا عنكم راض‪ .‬فمن نعيم إلى نعيم أكبر‪ ،‬ومن سعادة إلى سعادة‬
‫أعظم‪.‬‬
‫هذا العظيم الذي جاء للدنيا لهداية قومه‪ ،‬وجبر عثراتهم وايقاظهم من رقادهم‪،‬‬
‫ونقلهم من السعادة الموهومة الكاذبة إلى الحقيقة المنيرة المشرقة والكسب العظيم‪،‬‬
‫وهم للمنطق ما استجابوا‪ ،‬وللعمى أرادوا‪ ،‬ب َذل الكثير في نصحهم‪ ،‬وشقي إلسعادهم‪،‬‬
‫أهم ُه َّ‬
‫ونغصه وأضناه‪،‬‬ ‫حل في ٍ‬
‫قلب إل َّ‬ ‫لكن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة‪ ،‬وما َّ‬
‫وفي الرذيلة والقسوة أرداه‪ ،‬فشهوتهم مستيقظة‪ ،‬وفكرهم في رقاد‪.‬‬

‫(‪ _)1‬سورة ۤطه اآلية (‪)124‬‬


‫(‪ _)2‬سورة البقرة اآلية (‪)186‬‬

‫ــــــــ ‪ 6‬ـــــــــ‬
‫األبرص‪ ،‬و أروا معجزاته كلها‪ ،‬وشاهدوا كمالته‬
‫َ‬ ‫األكمه و‬
‫َ‬ ‫الميت‪ ،‬وأب أر‬
‫أحيا لهم ّ‬
‫وحساً‪ ،‬ولكن قلبهم األعمى بحب الدنيا جحد به ونكره‪ ،‬فاتهموه بالسحر‪،‬‬
‫ولطفه لمساً ّ‬
‫ناسين بغمرتهم المنحطة كمالته الرفيعة التي لم يدانه فيها مخلوق‪ ،‬ولم يروا‬
‫بمنظارهم المنحرف منطقه العالي الذي هو من هللا مباشرًة‪ ،‬بل لم يشاهدوا لطفه‬
‫يردون‪ ،‬فنكروا الوحي و ُّ‬
‫أصموا‬ ‫وكماله‪ ،‬ورحمته وحنانه‪ ،‬فلم يعلموا لجهلهم على من ُّ‬
‫طهم من سمائهم ُم ْحتماً‪ ،‬وفقدانهم لمنزلتهم‬ ‫أسماعهم عن نداء ربهم الرحيم‪ ،‬فكان ُهبو ُ‬
‫التكليفية مبرماً‪ ،‬وقالوا كلمة الكفر ويا لهول ما قالوا‪ ،‬ظناً ل تحقيقاً بقولهم إنه المسيح‬
‫أطهر نساء العالمين‪َ..﴿ :‬يا َمْرَي ُم ِإ َّن‬
‫الصديقة‪ ،‬التي هي ُ‬ ‫ّ‬ ‫أمه‬
‫الغض من ّ‬
‫الدجال‪ ،‬ثم ّ‬
‫ين﴾(‪ ،)1‬فكانوا كمن يهوي من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ط َّهرِك واص َ ِ‬ ‫ّللا اص َ ِ‬
‫ط َفاك َعَلى ن َساء اْل َعاَلم َ‬ ‫ط َفاك َو َ َ َ ْ‬ ‫هَ ْ‬
‫السماء فتخطفه الطير‪ ،‬أو تهوي به الريح في مكان سحيق‪ ،‬هذا عن اليهود‪ ،‬أما‬
‫النصارى فكان قولهم ل واقع ول منطق فيه‪ ،‬إذ نسبوا له وألمه األلوهية وهو ‪‬‬
‫براء من الشرك‪ ،‬فالشرك شيء عظيم ولم ولن يخطر له على بال‪ ،‬ألنه ل يرى إل‬
‫فان ٍ‬
‫وباق باهلل‪ ،‬ألنه مشاهد مبصر‪ ،‬فما نسبوه إليه‬ ‫هللا مستغر ٌق بالحضرة اإللٓهية‪ٍ ،‬‬
‫ل أصل ول وجود له في نفسه‪ ،‬وهو مستسلم بروحه وكّليته وجسمه إلى هللا‪ ،‬فمن‬
‫وحذرهم من الشرك‬‫أين جاؤوا بهذا القول وخرقوه وهو ‪ ‬منه براء‪ ،‬بل سبق ‪َّ ‬‬
‫بقوله‪:‬‬
‫اّلل َفَقد حَّرم ّللا عَل ِ‬
‫ِ‬
‫يه اْل َجَّن َة‪.)2(﴾...‬‬ ‫﴿‪ِ ...‬إَّن ُه َمن ُي ْش ِر ْك ِب ه ْ َ َ ه ُ َ‬
‫جالء لوجه الحقيقة‪ ،‬وتبياناً حقاً للخليقة أن نبين في هذا الكتاب‪:‬‬ ‫وا ً‬
‫(السيد المسيح رسول السالم يلوح باألفق)‬
‫قصة السيد المسيح ‪ ‬كاملة‪ ،‬وعالمات الساعة قبل مجيئه‪ ،‬ومفهوم الساعة‬
‫وغيرها من البحوث الهامة‪ ،‬معتمدين على المنطق الصحيح بما نطق به الذكر‬

‫(‪ _)1‬سورة آل عمران اآلية (‪)42‬‬


‫(‪ _)2‬سورة المائدة اآلية (‪)72‬‬

‫ــــــــ ‪ 7‬ـــــــــ‬
‫ورداً على ما‬
‫الحكيم من آيات بينات‪ ،‬ومن صلب الواقع المحسوس الملموس‪ّ ،‬‬
‫ذهب إليه البعض من مزاعم باطلة‪ ،‬ل أصل لها ول وجود‪.‬‬
‫فهذا كتاب جديد كل الجدة‪ ،‬غريب كل الغرابة‪ ،‬لم يعهد الناس كتاباً مثله‪ ،‬ولم‬
‫تألف البشر مثل هذه المعاني‪ ،‬ومع ذلك فإن هذا الكتاب لم يكن بدعاً من البدع‪،‬‬
‫ألن العالَّمة اإلنساني َّ‬
‫محمد أمين شيخو َّ‬
‫قدس هللا سره لم يخرج به عن كتاب هللا‬
‫سنة رسوله ﷺ‪.‬‬
‫ول ّ‬
‫وكل ما خ َّ‬
‫ط ضمن هذا الكتاب اقتبسناه من ثنايا علومه القرآنية‪.‬‬ ‫ُ‬
‫إن هذا العلم غريب‪ ،‬ألن الدين أصبح غريباً‪ ،‬جديد‪ ،‬ألن معظم الناس قد‬
‫هجروا ما أنزل هللا واتَّبعوا ما نسب إلى آبائهم‪.‬‬
‫لقد هجر المسلمون القرآن الكريم‪ ،‬ويمموا وجوههم شطر الحديث والفقه وغير‬
‫ذلك‪ ،‬دون النظر إلى توافقهما والقرآن الكريم‪.‬‬
‫من أجل ذلك غدا الدين غريباً‪ ،‬ألن القرآن أصبح مهجو اًر‪ ،‬واذا ما أضعنا‬
‫القرآن ولم نتدبر آياته‪ ،‬وجعلناه وراء ظهورنا‪ ،‬فإننا أضعنا الدين كله‪ ،‬وانك لترى‬
‫عفت حقائقه‪ ،‬فلم يبق من اإلسالم إلَّ اسمه‪ ،‬ومن القرآن إلَّ رسمه‪.‬‬
‫الدين قد َّ‬
‫لقد ورثنا مما نسب إلى اآلباء‪ ،‬تركة ل خير في معظمها‪ ،‬فبدلً من أن يوجهوا‬
‫الناس إلى التفكر في آيات هللا الكونية‪ ،‬والى التدبر في هذا القرآن العظيم‪ ،‬راحوا‬
‫يوجهونهم إلى سفاسف األمور‪ ،‬من الخرافات والقصص اإلسرائيلية‪ ،‬واإلفاضة بما هو‬
‫غير جوهري‪ ،‬وذلك بغية تحويل الناس عن طريق اإليمان‪ ،‬وعن معاني هذا القرآن‬
‫العظيم‪ ،‬ثم إغراق الناس في اختالفات الفقهاء‪ ،‬وكثرة اآلراء التي ل يعرف اإلنسان‬

‫ٍّ‬
‫بأي يأخذ‪.‬‬

‫ــــــــ ‪ 8‬ـــــــــ‬
‫و ْأولى لمن أراد أن يخوض هذا البحر الخضم أن يحسن العوم‪ ،‬أو يصطحب‬
‫قارباً للنجاة ودليالً مرشداً‪ ،‬وال ابتلعه الموج إن لم تدركه رحمة من ربه‪ ،‬وسوف‬
‫يعيش في ظلمة‪ ،‬بل في ظلمات من الشكوك بعضها فوق بعض‪.‬‬
‫ور َف َما َل ُه ِمن ُّنور﴾(‪ :)1‬يهتدي به في حياته وفي‬ ‫ّللا َل ُه ُن ًا‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫﴿‪َ ...‬و َمن ل ْم َي ْج َعل َّ ُ‬
‫أعماله‪.‬‬
‫آمُنوا ِبَر ُسولِ ِه ُي ْؤِت ُك ْم ِكْفَلْي ِن ِمن َّر ْح َم ِت ِه َوَي ْج َعل‬
‫ّللا و ِ‬
‫آمُنوا َّاتُقوا َّ َ َ‬‫ين َ‬
‫ِ‬
‫﴿َيا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّل ُك ْم ُن ًا‬
‫يم﴾(‪ :)2‬فال تحصل التقوى وهذه‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫ور َت ْم ُشو َن به َوَي ْغفْر َل ُك ْم َو َّ ُ‬
‫ّللا َغ ُف ٌ‬
‫الرؤية بالنور إلَّ بعد اإلقبال القلبي النفسي بصحبة رسول هللا ﷺ على هللا تعالى‪.‬‬
‫لقد أمرنا هللا أن نتبع ما أنزل‪ ،‬ل أن نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‪ ،‬ولم يأمرنا أن‬
‫نتخذهم أرباباً‪ ،‬نسمع كالمهم ونشركه مع كالم هللا‪.‬‬
‫ول تغرَّنك هذه الماليين المطمئنة والمصدقة للذي جاءت به األجداد‪ ،‬ألن أغلب‬
‫الناس ل يتبعون إل الظن‪ ،‬وان الظن ل يغني من الحق شيئاً‪َ ﴿.‬واِن ُت ِط ْع أَ ْك َثَر َمن‬
‫يل ِ‬
‫ّللا ِإن يَّت ِبعو َن ِإالَّ َّ‬ ‫ِفي األَر ِ ِ‬
‫الظ َّن َواِ ْن ُه ْم ِإالَّ َي ْخُر ُصو َن﴾(‪:)3‬‬ ‫َ ُ‬ ‫ض ُيضُّل َ‬
‫وك َعن َسِب ِ ه‬ ‫ْ‬
‫يسكتون إذ ل حجة لهم في رد الحق عند مجابهتهم به‪ ،‬دنيا وآخرة‪.‬‬
‫لذلك فإن هللا تعالى خلق اإلنسان في هذه الدنيا وهداه‪ِ﴿ :‬إ َّن َعَلْيَنا َلْل ُه َدى﴾(‪،)4‬‬
‫بأن أرسل له الرسل الكرام‪ ،‬معِّّلمين هادين لطريق اإليمان‪ ،‬كي ل يضّل ُه أكثر من‬
‫سر بسيرهم‪ ،‬ولم يدرس ولم‬‫في األرض عن الحق‪ ،‬ومن لم يدخل مدرستهم ولم َي ْ‬
‫بهد ِّي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يتبع ما أنزل هللا عليهم‪ ،‬فإنه بواد والهداية بواد آخر‪ ،‬لذا علينا أن نقتدي ْ‬
‫رسله الكرام‪ ،‬ونسلك الطريق التي بها اهتدوا إليه‪ ،‬وندخل المدرسة التي منها تخرجوا‪،‬‬

‫(‪ _)1‬سورة النور اآلية (‪)40‬‬


‫(‪ _)2‬سورة الحديد اآلية (‪)28‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة األنعام اآلية (‪)116‬‬
‫(‪ _)4‬سورة الليل اآلية (‪)12‬‬

‫ــــــــ ‪ 9‬ـــــــــ‬
‫ونحصل على شهادة (ل إٓله إل هللا) التي منها حصلوا عليها‪ ،‬والتي أصبحت لهم العين‬
‫التي يرون بها الحقائق‪ ،‬واألذن التي يسمعون بها‪ ،‬والقلب الذي يفقهون به معاني كالم‬
‫هللا الذي أحاط بأسرار الكون‪ ،‬واللسان الذي ينطقون به(‪.)1‬‬
‫ومن لم يتخرج من هذه المدرسة‪ ،‬فال وربك ل يؤمن ولو ق أر كتب األولين واآلخرين‪،‬‬
‫كلمه الموتى‪ ،‬أو أي شيء يكبر في صدره‪.‬‬‫أو َّ‬
‫ق ِمن َّرهِب َك‪( :﴾...‬أنت يا‬ ‫ِ‬ ‫﴿اْلح ُّ ِ‬
‫ق من َّرهِب َك َفالَ َت ُكوَن َّن م َن اْل ُم ْمَتِر َ‬
‫ين﴾(‪﴿ :)2‬اْل َح ُّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ين﴾‪ :‬فلن تكون أبدًا من الممترين‪.‬‬ ‫حبيبي يا محمد)‪َ ﴿ :‬فالَ َت ُكوَن َّن م َن اْل ُم ْمَتِر َ‬
‫فمن لم يؤمن باهلل‪ ،‬فلن يجعل هللا له نو اًر‪ ،‬ولن يجعل له فرقاناً يفرق الحق من‬
‫الباطل‪ ،‬و َّ‬
‫الغث من السمين‪ ،‬وهذه المدرسة مفتوحة األبواب في كل حين‪ ،‬ولمن يشاء‪،‬‬
‫وليس علم هللا أو العلم بكتابه مقصو ًار على أمة دون أمة‪ ،‬ول زمان دون زمان‪ ،‬ول‬
‫خزائن رحمته مفتوحة على أناس دون أناس‪.‬‬
‫ّللا ي ْؤِت ِ‬
‫يه َمن َي َشاء‪ُّ :)3(﴾...‬‬
‫كل من يشأ بصدق فاهلل يؤتيه فضله‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ َذل َك َف ْض ُل َّ ُ‬
‫خص عالماً دون‬‫العظيم‪ .‬فما أرسل هللا رسله ورسوله إلَّ رحمة للعالمين‪ .‬فما َّ‬
‫عالم‪.‬‬
‫طاء َرهِب َك‪ :)4(﴾...‬الكل عند هللا واحد‪ ،‬كل امرئ‬ ‫﴿ ُكالًّ ُّن ِمُّد َه ُؤالء َو َه ُؤالء ِم ْن َع َ‬
‫يعطى على حسب صدقه وسعيه‪ِ..﴿ :‬إ َّن أَ ْكرم ُكم ِعند َّ ِ‬
‫ّللا أَ ْتَق ُ‬
‫اك ْم‪َ ...﴿ .)5(﴾...‬و َما‬ ‫ََ ْ َ‬
‫ور﴾(‪ :)6‬ما تطلبه تجده‪.‬‬ ‫طاء َرهِب َك َم ْحظُ ًا‬ ‫ان َع َ‬ ‫َك َ‬

‫(‪ _) 1‬سنبين بحث اإليمان بنهاية هذا الكتاب‪.‬‬


‫(‪ _) 2‬سورة البقرة اآلية ( ‪) 147‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الجمعة اآلية (‪)4‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة اإلسراء اآلية (‪)20‬‬
‫(‪ _ )5‬سورة الحجرات اآلية (‪)13‬‬
‫(‪ _ )6‬سورة اإلسراء اآلية (‪)20‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 10‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ُنز َل َعَلْي ِه ال ِهذ ْكُر ِمن َبْيِنَنا‪ :)1(﴾...‬ألم‬
‫لقد تساءلت قريش من قبل فقالوا‪﴿ :‬أَأ ِ‬
‫يجد هللا من القوم سواه؟‬
‫أجل‪ ،‬لقد أنزل عليه الذكر ل من بينهم فحسب‪ ،‬بل من بين كل األمم‪ ،‬ألنه‬
‫كان صادق النيَّة والطلب ألن يتعرف على مبدع الوجود‪ ،‬فكان يذهب إلى شعاب‬
‫مكة‪ ،‬يسير فوق بطاحها‪ ،‬ويتسلق جبالها‪ ،‬ويقضي األيام والليالي يتفكر في خلق‬
‫السماوات واألرض‪ ،‬حتى أتاه اليقين من رب اليقين‪ ،‬في وقت كانت فيه قريش‬
‫تلهو وتلعب وتسمر‪ ،‬وتشغل نفسها بزينة الدنيا ومتاعها‪.‬‬
‫وعلى اإلنسان قبل أن يستغرب‪ ،‬فهل حاول ولو لمرة واحدة‪ ،‬أن يسلك النهج‬
‫الذي سلكه القدوة الحسنة ﷺ ؟‬
‫أم أن العتقاد والذي كتب في الماضي دون توافقه والقرآن الكريم هو الذي‬
‫يوصل إلى اإليمان باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬أما لحظت كم من آية يمرون عليها في‬
‫تفاسيرهم وهم عنها معرضون؟‬
‫أما أمرنا هللا تعالى أن نتفكر في خلق السماوات واألرض؟‬
‫والتفكر بالخلوات والموت‪ ،‬لتزهد النفس بالدنيا الدنية المنقضية‪ ،‬والتفكر‬
‫بالفلوات للوصول لرب الكائنات‪ ،‬فبأي حديث بعد هللا وآياته يؤمنون؟‬
‫أم أنهم ينتظرون أن تأتيهم الهداية من رب العالمين‪ ،‬دون أن يطلبوها هم‪ ،‬كما‬
‫طلبها أبونا إبراهيم ‪ ،‬أو دون أن يكلفوا أنفسهم قليالً من الجهد؟‬
‫وكيف يهدي هللا قوماً يقضون أعمارهم في مراتع اللهو واللعب‪ ،‬أو القيل والقال؟‬
‫أم كيف يهدي هللا من أغفل عنه قلبه‪ ،‬واتخذ إلٓهه هواه وكان أمره فرطاً؟‬

‫(‪ _ )1‬سورة ص اآلية (‪)8‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 11‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فلو شاء هللا لهدى الناس جميعاً‪ ،‬ولكن أي فائدة يجنيها اإلنسان إذا سيق إلى‬
‫ما يكره بالقوة؟ أل تبقى نفسه معرضة إذا أكرهت على عمل ما؟! بل قد يزداد‬
‫إعراضها إذا أُجبرت على شيء ليس لها رغبة فيه‪.‬‬
‫أن ُيقبل اإلنسان عن طوع وبدافع ذاتي‪ ،‬حتى يكون‬ ‫إن الهداية الحقة هي‬
‫عاينه هو وتحقق منه وعقَله‪ ،‬وأيقن به قلبه‪ ،‬فيقول أشهد‬
‫شهودياً‬
‫ّ‬ ‫اإليمان إيماناً ذاتياً‬
‫أن ل إلٓه إل هللا شهوداً‪ .‬فاإليمان شهود بالعين عين الرأس‪ ،‬ثم شهود قلبي بعين‬
‫النفس‪.‬‬
‫عندئذ يشاهد الخير والعدل‪ ،‬ويلمس الرحمة والحب يسري في الوجود كله‪ ،‬فال‬
‫رحمته تعالى تسبق عدله‪ ،‬ول غضبه يسبق رأفته‪ ،‬فهو سبحانه قائم بالقسط‪ ،‬وهو‬
‫جل شأنه على صراط مستقيم‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن هللا وحده بيده الخير للمحسن والمسيء على حد سواء‪ ،‬ومن لم يشهد ذلك‬
‫في الدنيا‪ ،‬فسوف يشهده في اآلخرة‪ ،‬وما دام األمر كذلك‪ ،‬وهو كذلك‪ ،‬فإنه ل‬
‫يوجد ظلم بين الناس‪ ،‬وما دام ل يوجد ظلم فال يوجد شر‪.‬‬
‫إن ما نراه ش ًار‪ ،‬هو محض الخير لمن يصيبه‪ ،‬ألن هذا الشر الذي أصابه‬
‫سينقذه من شر أعظم لو لم يصبه‪ ،‬وهذا الشر ما كان ليصيبه لول ما قدمت يداه‪،‬‬
‫إن شق البطن شر بالنسبة للمعافى‪ ،‬إل أنه الخير كل الخير لمن تخرج به َّ‬
‫علته‪.‬‬
‫والظلم أيضاً ل يقع إل على من يستحقه‪ ،‬والظالم ل يقع ظلمه إلَّ على ظالم‬
‫ين َب ْع ًضا ِب َما َكاُنوْا َي ْك ِسُبو َن﴾(‪ :)1‬من‬ ‫ض َّ ِ ِ‬
‫مثله قال تعالى‪َ ﴿ :‬وَك َذلِ َك ُن َوهلِي َب ْع َ‬
‫الظالم َ‬
‫أعمالهم‪.‬‬
‫إذ لعله بتلك المصيبة يرجع عن غيه ويتذكر ما قدمت يداه‪ ،‬ويتوب إلى هللا‬
‫توبة نصوحاً‪ ،‬عندئذ يرتفع عنه الظلم‪ .‬بل قد يمكنه تعالى من الذي ظلمه‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنعام اآلية (‪)129‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 12‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫هذا التصرف ل يقتصر على األفراد فحسب‪ ،‬بل يتعداه إلى األمم والشعوب‪،‬‬
‫فاألمة التي يكون فيها من القابلية لإليمان أكثر من غيرها‪ ،‬يسلط هللا عليها أمة‬
‫أظلم تسومها سوء العذاب لعلها تتضرع إلى هللا‪ ،‬وتبتعد عما هي فيه من اجتراح‬
‫السيئات‪ ،‬فتنيب إليه تعالى‪ ،‬عندئذ يبدل هللا سيئاتها حسنات‪ ،‬ويرد لها الكرة على من‬
‫ظلمها‪ ،‬ل لتبطش وتنتقم لنفسها‪ ،‬بل لتردها أيضاً إلى طريق الهداية والصالح‪.‬‬
‫ينقسم الجنس البشري إلى أصناف ثالثة‪( :‬إنساني‪ ،‬وظالم‪ ،‬وأظلم)‪.‬‬
‫والظالم هنا هو الظالم لنفسه‪ ،‬الذي يسلك مسالك (حيوانية) لتحقيق أهوائه‪،‬‬
‫واألظلم هو ظالم لنفسه ولكن يسلك مسالك (شيطانية) لتحقيق أغراضه المنحطة‪.‬‬
‫وهذا التقسيم ينطبق على األمم كما ينطبق على األفراد‪ ،‬وبما أن اإلنسان اإلنساني‬
‫بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى مفقود أو شبه مفقود في هذا العصر‪ ،‬لذلك لم‬
‫يبق إلَّ الظالم واألظلم منه‪ ،‬وفي هذه الحالة يسّلط هللا األمة األظلم‪ ،‬على األمة‬
‫الظالمة‪ ،‬لعلها تصحو من غفلتها‪ ،‬وترجع إلى إنسانيتها‪ ،‬فيبدل هللا ضعفها قوة‪،‬‬
‫وخذلنها نص اًر على من ظلمها‪ ،‬لعل األخرى ترجع إلى هللا‪ ،‬وترتاح‬ ‫وذلها ع اًز‪ُ ،‬‬
‫البشرية بعدها من هذا الشقاء‪ ،‬ومن هذه اآللم التي تصيبها‪.‬‬
‫ال‬
‫يصبح مستحيالً‪َ ..﴿ :‬والَ َيَز ُ‬ ‫غير أن الواقع يشير إلى أن األمل في الرجوع كاد‬
‫ِمن د ِارِهم حَّتى يأِْتي وعد ِ‬ ‫ين َكَفُروْا ُت ِص ُيب ُهم ِب َما َصَن ُعوْا َق ِارَع ٌة أ َْو َت ُح ُّل َق ِر ًيبا‬ ‫ِ‬
‫ّللا‬
‫ه َ ْ َ َ َ َ ُْ ه‬ ‫َّالذ َ‬
‫ِ‬
‫ّللا َال ُي ْخلِ ُ‬ ‫ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫والساعة قريبة‪ ،‬والسيد المسيح‬ ‫يع َاد﴾ ‪ ،‬لذا بات البالء متوقعاً‬ ‫ف اْلم َ‬ ‫إ َّن ه َ‬
‫‪ ،‬المنقذ للبشرية من الشقاء واآللم‪ ،‬ومن الكفر والحرمان‪ ،‬قد لح باألفق‪:‬‬
‫نصُر َمن َي َشاء َو ُه َو ا ْل َع ِز ُ‬
‫يز‬ ‫﴿‪ ...‬ويوم ِئذ ي ْفرح ا ْلم ْؤ ِم ُنو َن‪ِ ،‬ب َن ص ِر َّ ِ‬
‫ّللا َي ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََْ َ َ َ ُ ُ‬
‫ّللاُ َو ْع َد ُه َوَل ِك َّن أَ ْك َثَر َّ‬ ‫الر ِحيم‪ ،‬وعد َّ ِ‬
‫الن ِ‬
‫اس َال َي ْع َل ُمو َن﴾ ‪.‬‬ ‫ّللا َال ُي ْخ لِ ُ‬
‫(‪) 2‬‬
‫ف َّ‬ ‫َّ ُ َ ْ َ‬
‫تقديم الناشر‬

‫(‪ _ )1‬سورة الرعد اآلية (‪)31‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الروم اآليات اآلية (‪)6 - 4‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 13‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الفصل األول‬
‫في هذا الفصل‪:‬‬
‫نحو مفهوم الساعة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫قوم سيدنا نوح ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫قوم سيدنا هود ‪( ‬قوم عاد المعروفين بالعمالقة األشداء)‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫قوم سيدنا صالح ‪( ‬قوم ثمود)‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫قوم سيدنا لوط ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫قوم سيدنا شعيب ‪( ‬أهل مدين)‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫غاية الحق من إيجاد الخلق‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫نحو مفهوم الساعة‬
‫إن البشرية في هذا العصر تعاني قلقاً نفسياً حاداً‪ .‬وذلك بما أحدثته الثورة‬
‫التقنية من طغيان مادي كثيف‪ ،‬ألقى ظالله القاتمة على األنفس َّ‬
‫فسد عليها منابع‬
‫النور‪ ،‬وحجبها عن موطن الخلود‪.‬‬
‫وهذه الثورة أغرقت الناس في متاهات فكرية‪ ،‬متعاكسة أحياناً‪ ،‬ومتشابكة في‬
‫أحيان كثيرة‪.‬‬
‫لقد كانت الثورة العلمية التقنية حلماً يدغدغ أحالم بعض المفكرين‪ ،‬وكانوا ينظرون‬
‫إليها منذ أواخر القرن التاسع عشر نظرة المنقذ من الفقر والمرض والجهل‪ .‬وقد أطلقوا‬
‫ألفكارهم العنان‪ ،‬فوصفوها وصفاً مسرفاً في الالواقعية‪ُّ ،‬‬
‫وشنوا حرباً شعواء على النظم‬
‫والمعتقدات القديمة‪ ،‬وقالوا إنها شاخت واهترأت‪ ،‬ولم تعد تصلح لهذا العصر‪ ،‬وكما‬
‫حكموا على النظم والمعتقدات بالشيخوخة والهتراء‪ ،‬حكموا على اإللٓه بالموت ]انظر‬
‫كتاب (نيتشه) هكذا تكلم زرادشت[‪.‬‬
‫وأعلنوا عن مولد إلٓه جديد‪ ،‬هو إلٓه العلم أو العقل الجبار‪ ،‬وأن هذا اإللٓه سوف‬
‫ِّّ‬
‫يسخر الطبيعة‪ ،‬أكثر مما َّ‬
‫سخرها لهم اإللٓه القديم‪.‬‬
‫وصدقت الناس داعي الشيطان‪ ،‬وخاصة الغرب والشرق األقصى‪ ،‬وأشاحت‬
‫َّ‬
‫بوجهها عن مبدع السماوات واألرض‪ ،‬فهجرت بل واستهزأت‪ ،‬بكل ما جاء به من‬
‫سد َن ِّة هذا الشيطان المريد‪.‬‬
‫ومثل‪ ،‬واستبدلتها بشرائع وسنن من وحي َ‬
‫سنن وشرائع ُ‬
‫غير أن هذا اإللٓه الذي داعب مولده مخيلة المفتونين به‪ ،‬قد تمخض عن نار‬
‫ِّ‬
‫يلوح للبشرية بين الحين والحين‪ ،‬بالدمار الشامل والهالك األكيد‪.‬‬
‫ّ‬
‫لشوباً‪،‬‬
‫غصة‪ ،‬وان عليه ْ‬
‫أن طعامه ذو َّ‬ ‫فاهه‪َّ ،‬‬
‫ولقد أروا من بعد ما تبين لهم ر ُ‬
‫والسعادة المنتظرة التي كانوا يحلمون بها‪ ،‬إنما كانت كسراب بقيعة‪ ،‬يحسبه الذين‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 17‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫استحبوا الحياة الدنيا ماء‪ ،‬فيه الحياة وفيه السعادة والهناء‪ .‬ولما جاءوه لم يجدوه إلَّ‬
‫ً‬
‫وهماً‪ ،‬ولم يجدوه إل ألماً وشقاء‪ ،‬وكفى بذلك واعظاً‪ ،‬لو كانوا يعقلون‪.‬‬
‫إن فاطر السماوات واألرض قد أبدع الوجود‪ ،‬على أحسن ما يكون اإلبداع‪،‬‬
‫وشرع لنا من النظم ما تتوافق والفطرة التي فطر الناس عليها‪.‬‬
‫َّ‬
‫لقد بنى الوجود على سنن غاية في الدقة‪ ،‬وغاية في اإلبداع والجالل‪ ،‬وترك‬
‫لإلنسان المجال لكي ينظر في نفسه حين كان نطفة‪ ،‬وكيفية أطواره في بطن‬
‫أمه‪ ،‬وينظر إلى السماء كيف ُرفعت‪ ،‬والى النجوم كيف حبكت‪ ،‬والى الجبال‬
‫كيف ُنصبت‪ ،‬والى البحار كيف ملئت‪ ،‬والى ما بث في األرض من دابة كيف‬
‫خلقت‪ ،‬والى ما أنبت فيها من كل زوج كريم‪.‬‬
‫مد ُّ‬
‫ويمد الوجود‬ ‫ترى من الذي قام بكل هذا ويقوم؟ ومن الموجد العظيم‪ ،‬الذي َّ‬
‫اآلن وفي كل آن؟‬
‫"جل شأنه" شرائعه متوافقة مع الفطرة التي فطر الناس عليها‪ ،‬وهي‬
‫ثم جعل َّ‬
‫تهدف إلى سعادة اإلنسان في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فقد بنيت تلك الشرائع على مبادئ‬
‫قويمة‪ ،‬تنهض باألنفس لتسمو بها‪ ،‬وتربطها بخالقها‪ ،‬وبهذا الرباط أو هذه الصلة‬
‫تستطيع أن تتحرر من عبودية المادة‪ ،‬التي ما إن تستولي على النفوس حتى‬
‫ترديها‪ ،‬وتجعلها تعيش معيشة ضنكاً‪ .‬وبهذه الصلة‪ ،‬يتبدد الخوف من قلب‬
‫المؤمن‪ ،‬ويزداد الرجاء كلما تقدمت به السنون‪َّ ،‬‬
‫وقربته إلى المصير المحتوم‪ ،‬ل‬
‫يتضجر إن أقبلت الدنيا عليه‪ ،‬أو أدبرت‪.‬‬
‫وكذلك ل يبالي إن اعتل أو أصابته مصيبة‪ ،‬ألنه يعلم أن الحياة الدنيا ليس لها‬
‫من بقاء‪ ،‬واآلخرة هي الحياة الباقية‪.‬‬
‫أما الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها‪ ،‬وجعلوها مبلغ همهم‪ ،‬فإن قلقهم يزداد‬
‫في أمسيات العمر‪ ،‬فيزدادون هماً وغماً‪ ،‬إن أقبلت أو أدبرت‪ ،‬أو أصابهم مكروه‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 18‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫إن الذين يأملون‪ ،‬أن يجعل لهم إلٓههم الحياة الدنيا فردوساً جميالً‪ ،‬وأن ِّّ‬
‫يسخر‬
‫لهم الطبيعة بأكثر مما تجود به‪ ،‬أولئك هم الموهومون‪ ،‬وأولئك هم المغبونون ل‬
‫في اآلخرة فحسب‪ ،‬بل وفي الحياة الدنيا أيضاً‪.‬‬
‫وهذا اإللٓه الذي يأملون منه أن يجعل لهم الدنيا جنات وقصو اًر‪ ،‬سوف يفسد‬
‫عليهم أحالمهم‪ ،‬وسوف يكتوون بناره عن غضبة يغضبها‪ ،‬ويجعل ما بنوه‬
‫بواسطته من حضارة‪ ،‬قاعاً صفصفاً‪.‬‬
‫إن هذه الثورة (التقنية) قد جاءت مخيبة لآلمال‪ ،‬إذ أنها أبعدت الناس عن السعادة‬
‫الحقيقية التي ل تقارن مع تلك السعادة الحسيَّة الموهومة‪ ،‬ذلك ألن السعادة الحسية‬
‫بحقيقتها ليست سعادة‪ ،‬وانما هي لذائذ وقضاء شهوات ورغائب‪ ،‬وشتان بين هذه‬
‫وتلك‪.‬‬
‫ذلك ألن شهوات النفس كثيرة‪ ،‬وطاقتها غير محدودة‪ ،‬بينما طاقات اإلنسان‬
‫الجسمية محدودة‪ ،‬والفارق بين الطاقتين هو مبعث األلم ومبعث الشقاء‪ ،‬فتركيب‬
‫طاقة غير محدودة على طاقة محدودة‪ ،‬يجعل األخيرة ل تستطيع أن تلبي رغائب‬
‫األولى‪.‬‬
‫النفس كالفرس الجموح‪ ،‬كلما قضت من شهوة وط اًر طلبت أخرى من غير ملل‬
‫يعدها‬
‫أو كلل‪ ،‬ألن ماهية تكوينها غير مادي‪ ،‬وهذه الطاقة غير المحدودة لم ّ‬
‫تعالى لتمأل أوضا اًر‪ ،‬وانما أعدت لتمأل كمالً وجمالً مطلقين‪ ،‬ولتشرب من معين‬
‫ل ينضب‪.‬‬
‫بالهم‬
‫وشتان بين تلكما الحالتين‪ ،‬لذائذ زائفة كفيلة بإنتاج الضجر والسأم مشوبة ِّّ‬
‫والغم واأللم ومنتهية من قبل أن ينتهي اإلنسان من الدنيا‪ ،‬وسعادة مستمرة ومتزايدة‬
‫(‪.)1‬‬
‫تظل معه إلى األبد‬

‫(‪ _ )1‬لطفا ً انظر كتاب اآلية (الفتوحات المح َّمدية) للعالَّمة مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره اآلية (بحث السعادة وحقيقتها)‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 19‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وفي اآلخرة ل توجد إل حقائق‪ ،‬والزيف ليس له وجود هناك‪ ،‬ولذا فإن نفس‬
‫المعرض عن هللا في الحياة الدنيا‪ ،‬بسبب ِّاتّباعه لشهواته‪ ،‬تذهب إلى بارئها‬
‫﴿ َو َم ْن‬ ‫عمياء‪ ،‬ألنها لم تحاول أن تتعرف على الحق في الدنيا‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫َر ِهب لِ َم‬‫ال‬ ‫يش ًة َضنكا وَنح ُشره يوم اْل ِقي ِ‬ ‫ض َعن ِذ ْكرِي َفِإ َّن َل ُه َم ِع َ‬
‫َع َمى‪َ ،‬ق َ‬ ‫امة أ ْ‬
‫ً َ ْ ُُ َْ َ َ َ‬ ‫َعَر َ‬
‫أْ‬
‫الدنيا‪.‬‬ ‫ال َك َذلِ َك‪ :﴾...‬كنت أعمى البصيرة في‬ ‫نت َب ِص ًا‬ ‫ِ‬
‫ير‪َ ،‬ق َ‬ ‫َع َمى َوَق ْد ُك ُ‬ ‫َح َشْرَتني أ ْ‬
‫بد أن ُيساق‬ ‫نسى﴾ ! أننساك اليوم! ل ّ‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِ‬ ‫آي ُاتَنا َفَن ِس َ‬
‫يت َها َوَك َذل َك اْلَي ْوَم ُت َ‬ ‫﴿‪...‬أ ََت ْت َك َ‬
‫لنفسك ما يلزمها من عالج‪ .‬ويدعم هذه الحقيقة قوله تعالى‪َ ..﴿ :‬فِإَّن َها َال َت ْع َمى‬
‫ور﴾(‪.)2‬‬ ‫وب َّالِتي ِفي ُّ‬
‫الصُد ِ‬ ‫ِ‬
‫ْاألَْب َص ُار َوَلكن َت ْع َمى اْلُقُل ُ‬
‫َعمى َفهو ِفي ِ‬ ‫﴿ومن ك ِ ِ ِ‬
‫َض ُّل َس ِبيالً﴾(‪.)3‬‬ ‫اآلخَرِة أ ْ‬
‫َع َمى َوأ َ‬ ‫ان في َهذه أ ْ َ ُ َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫وبما أن هللا سبحانه وتعالى حريص على سعادتنا‪ ،‬فإنه يسوق لمن كفر به من‬
‫العذاب األدنى دون العذاب األكبر‪ ،‬لعلهم يرجعون َّ‬
‫عما هم فيه من الشقاء‪ ،‬إلى ما فيه‬
‫سعادتهم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وتخليصهم من حب الدنيا التي هي مصدر كل شقاء وكل‬
‫ألم‪.‬‬
‫اب ْاأل َْكَبِر َل َعَّل ُه ْم َيْرِج ُعو َن﴾(‪:)4‬‬ ‫قال تعالى‪َ﴿ :‬وَلُنِذ َيقَّن ُهم ِم َن اْل َع َذ ِ‬
‫اب ْاألَْدَنى ُدو َن اْل َع َذ ِ‬
‫ْ‬
‫لعل) هنا تبين بوضوح أن الختيار مطلق لإلنسان‪.‬‬
‫و( ه‬
‫يحل بساحة البشرية إذا خالفت السنن أو القوانين التي‬
‫لذلك فإن الهالك سوف ُّ‬
‫أوجدها تعالى لهم‪ ،‬وتجاوزت إلى نقطة الالعودة إلى هللا عز وجل‪ .‬لقد ضرب‬
‫تعالى من األمثلة العملية فيما حل باألمم السابقة‪ ،‬عندما تجاوزت تلك السنن‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآليات اآلية (‪)126-124‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الحج اآلية (‪)46‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة اإلسراء اآلية (‪)72‬‬
‫(‪ _ ) 4‬سورة السجدة اآلية ( ‪)21‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 20‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الموضوعة لسعادتهم‪ ،‬ولم يقبلوا بتحطيم الحواجز التي حالت بينهم وبين السبيل‬
‫إلى هللا تعالى‪ ،‬كقوم نوح ‪ ‬وقوم عاد وثمود وفرعون‪...‬‬
‫أما اليوم‪ ،‬فمهما بذلت البشرية من جهد لكي تتخلص من اآللم والشقاء الذي‬
‫الظل لصاحبه‪ ،‬من هذا‬‫ِّ‬ ‫حل بها‪ ،‬أو من هذا القلق الحاد المالزم لها مالزمة‬
‫َّ‬
‫ّ‬
‫الضياع والضالل البعيد‪ ،‬ومن تلك المتاهات الفكرية المتعاكسة والمتشابكة‪ ،‬التي‬
‫منها يظنون أنهم سوف يتوصلون إلى السعادة المنتظرة‪ .‬فإنهم لن يفلحوا أبداً‬
‫بذلك‪ ،‬ولن يفلحوا إل بشرط واحد‪ ،‬هو العودة إلى إقامة شريعة هللا في أرضه قولً‬
‫وعمالً‪ ،‬وأخذها بقوة‪ ،‬فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا! فلينظروا زلزل وبراكين وأعاصير‬
‫مدمرة‪ ،‬وأمراضاً فتاكة‪ ،‬كما وقع ويقع اليوم‪ ،‬وبعدها ينظرون نا اًر تصهر الحديد‬
‫الصلد‪ ،‬وما ذلك عن الظالمين ببعيد‪َ ﴿ :‬وَك َذِل َك أ ْ‬
‫َخ ُذ َرهِب َك ِإ َذا‬ ‫الصلب‪ ،‬وتُ ِّفتّت الحجر َّ‬
‫يد﴾(‪ :)1‬هذا قانون‪ ،‬كل من سار بهذا‬ ‫يم َشِد ٌ‬‫ظالِم ٌة ِإ َّن أ ْ ِ‬
‫َخ َذ ُه أَل ٌ‬
‫ى ِ‬
‫َخ َذ اْلُقَر َوه َي َ َ‬
‫أَ‬
‫السير‪ ،‬حق عليه الهالك‪.‬‬
‫لقد ضرب لنا تعالى في كتابه العزيز الكثير من القصص عن هالك األمم‪،‬‬
‫التي َّ‬
‫تخلت عن السنن اإللٓهية‪ ،‬واتَّبعت شرائع من وضع أهوائها‪ ،‬وبين لنا األسباب‬
‫التي حالت بينهم وبين الرجوع إلى دين الحق‪ ،‬ثم النتائج المؤسفة التي انتهوا إليها‪.‬‬
‫وكان تعالى قبل هالكهم يرسل إليهم نذي اًر‪ ،‬يحذرهم من مغبة معتقداتهم‬
‫وأعمالهم المخالفة لسنن الوجود‪ ،‬ويبين لهم أن تلك المعتقدات ل تزيدهم إل شقاء‪،‬‬
‫ول تزيدهم إل بؤساً وابتعاداً عن منبع السعادة الحقيقية‪ ،‬إل أن دعوتهم غالباً ما‬
‫كانت لتلقى إل آذاناً صماء وقلوباً غلفاً‪ ،‬ذلك ألن المادة قد أوصدت أبوابها على‬
‫عقولهم‪ ،‬وأغرقتهم إلى األذقان فهم مقمحون‪ .‬ل يفلحون بل لجهلهم وعدم إيمانهم‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)102‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 21‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫السهِيَئ ِة َقْب َل اْل َح َسَن ِة َوَقْد َخَل ْت ِمن َقْبلِ ِه ُم اْل َمُثالَ ُت‪ :)1(﴾...‬ما حدث‬
‫يستعجلون‪ِ ..﴿ :‬ب َّ‬
‫حل بهم؟!‬ ‫لألمم الغابرة‪ ،‬ماذا َّ‬
‫نبين معنى الساعة التي يأتي فيها السيد المسيح ‪ ،‬ونميزها‬
‫واآلن وقبل أن ّ‬
‫عن الساعة التي بها تقوم القيامة‪ ،‬نريد أن نستعرض معتقدات وأعمال تلك األمم‬
‫نتقصى األسباب التي‬‫التي أُهلكت‪ ،‬والحوار الذي دار بين تلك األقوام ورسلهم‪ ،‬ثم ّ‬
‫منعتهم من أن يستجيبوا لداعي هللا‪ .‬وأخي اًر ذكر النهاية المؤسفة التي انتهوا إليها‪.‬‬
‫فإذا وفقنا إلى ذلك‪ ،‬وهذا ما نأمله من هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فإن موضوع الساعة‬
‫سوف يتكشف لنا معناه‪ ،‬وسوف يزول كل التباس نتيجة المقارنة بين مفهوم الساعة‬
‫التي يأتي فيها السيد المسيح‪ ،‬ليمسح آلم البشرية وينقذها‪ ،‬وبين الساعة التي بها‬
‫تقوم القيامة‪.‬‬
‫إن أول األمم التي ذكرها تعالى في كتابه الكريم والتي أهلكت بسبب انحرافها‬
‫عن الطريق المستقيم‪ ،‬هم قوم سيدنا نوح ‪.‬‬
‫تلك األمم التي ساقها هللا ُمثالً كافية من حيث الموعظة والعبرة‪ ،‬لمن كان له‬
‫قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‪ ،‬ألن ما قيل للرسل الذين لم يذكرهم تعالى‪ ،‬هو‬
‫نفس ما قيل لغيرهم من الرسل (‪ ،)2‬الذين ذكروا في القرآن الكريم‪ ،‬أو ألي رجل‬
‫يل لِ ُّلر ُس ِل ِمن َقْبلِ َك‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ال َل َك إال َما َق ْد ق َ‬
‫صالح يهدي إلى الحق‪ .‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ما ُيَق ُ‬
‫ِإ َّن َرَّب َك َل ُذو َم ْغ ِفَرة َوُذو ِعَقاب أَلِيم﴾(‪.)3‬‬
‫ين ِمن َقبلِ ِهم ِمن َّرسول ِإَّال َقاُلوا س ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احٌر أ َْو‬ ‫َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ْ‬ ‫جل شأنه‪َ ﴿ :‬ك َذل َك َما أ ََتى َّالذ َ‬ ‫وقال َّ‬
‫طا ُغو َن﴾(‪.)4‬‬ ‫اص ْوا ِب ِه َب ْل ُه ْم َق ْوٌم َ‬
‫َم ْجُنو ٌن‪ ،‬أ ََت َو َ‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة الرعد اآلية ( ‪)6‬‬


‫سول أَنْ ََِْْ ََِّ ِِّيََة ِِّ ََّّ ِِّ ِِّ ْْ ِّن َّ‬
‫ّللِّ‬ ‫علَيْكَ َو َما كَانَ ل َِّر ُ‬ ‫علَيْكَ َومِّ ْنهُم َّمن لَّ ْم نَ ْقص ْ‬
‫ُص َ‬ ‫صنَا َ‬ ‫سال ِّمن قَ ْب ِّلكَ مِّ ْنهُم َّمن قَ َ‬
‫ص ْ‬ ‫س ْلنَا ُر ُ‬ ‫(‪ _ )2‬قال تعالى‪َ ﴿:‬ولَقَ ْد أَ ْر َ‬
‫َق َو َخس َِّر هُنَا ِّلكَ ا ْل ُمبْطِّ لُونَ ﴾ سورة غافر‪ .‬اآلية (‪)78‬‬ ‫فَ َِِّْا جَاء أ َ ْم ُر َّ‬
‫ّللِّ قُ ِّض ََ ِِّا ْلح ِّ‬
‫(‪ _ )3‬سورة فصلت اآلية (‪)43‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة الذاريات اآلية (‪)53-52‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 22‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وهاك ما قاله أبو الفتح أحمد الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) حول هذه‬
‫الفكرة‪:‬‬
‫‪ .....‬ومن جادل نوحاً‪ ،‬وهوداً‪ ،‬وصالحاً‪ ،‬وابراهيم‪ ،‬ولوطاً‪ ،‬وشعيباً‪ ،‬وموسى‪،‬‬
‫وعيسى‪ ،‬ومحمد صلوات هللا عليهم أجمعين‪ .‬كلهم نسجوا على منوال اللعين األول‬
‫((إبليس)) في إظهار سفاهته‪ ،‬وحاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم‪ ،‬أو‬
‫جحد أصحاب الشرائع والتكاليف بأسرهم)‪ .‬إذ ل فرق بين قولهم‪ ..﴿ :‬أََب َشٌر‬
‫َس ُجُد لِ َم ْن َخَل ْق َت ِطيًنا﴾(‪ ،)2‬وعن هذا صار‬
‫َي ْهُدوَنَنا‪ ، ﴾...‬وبين قوله‪..﴿ :‬أَأ ْ‬
‫(‪)1‬‬

‫اس أَن ُي ْؤ ِمُنوْا‬ ‫مفصل الخالف ومحز الفتراق ما هو في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وما مَن َع َّ‬
‫الن َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِإ ْذ َج ُ‬
‫اءه ُم اْل ُهَدى إالَّ أَن َقاُلوْا أََب َع َث ه ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫ّللا َب َشًار َّرُسوالً﴾‬
‫ال َما‬‫فبيَّن أن المانع من اإليمان هو هذا المعنى‪ ،‬كما قال المتقدم األول‪َ ﴿ :‬ق َ‬
‫ال أََن ْا َخْيٌر ِهمْن ُه َخَل ْق َتِني ِمن َّنار َو َخَل ْق َت ُه ِمن ِطين﴾(‪.)4‬‬
‫َمْرُت َك َق َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َمَن َع َك أَال َت ْس ُج َد إ ْذ أ َ‬
‫وقال المتأخر من ذريته على لسان فرعون كما قال المتقدم‪﴿ ،‬أ َْم أََنا َخْيٌر ِهم ْن َه َذا‬
‫ِ‬
‫َّالذي ُه َو َم ِه ٌ‬
‫ين َوَال َي َك ُاد ُي ِب ُ‬
‫(‪)5‬‬
‫ين﴾‬
‫وكذلك لو تعقبنا أقوال المتقدمين منهم وجدناها مطابقة ألقوال المتأخرين‪:‬‬
‫ين ِمن َقْبلِ ِهم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َّالذ َ‬
‫آي ٌة َك َذل َك َق َ‬ ‫ين الَ َي ْعَل ُمو َن َل ْوالَ ُي َكهل ُمَنا ه ُ‬
‫ّللا أ َْو َتأْتيَنا َ‬ ‫ال َّالذ َ‬ ‫﴿ َوَق َ‬
‫وب ُه ْم‪ ،)6(﴾...‬إن اآلية التي مرت معنا قبل قليل‪َ ﴿ :‬ك َذلِ َك َما‬ ‫ِ‬
‫هم ْث َل َق ْولِ ِه ْم َت َش َاب َه ْت ُقُل ُ‬
‫ين ِمن َقبلِ ِهم ِمن َّرسول ِإَّال َقاُلوا س ِ‬ ‫ِ‬
‫احٌر أ َْو َم ْجُنو ٌن﴾(‪ :)7‬تعتبر من السنن‬ ‫َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ْ‬ ‫أ ََتى َّالذ َ‬
‫التي ل تتبدل ول تتحول على مر الزمن‪ ،‬و َّأنى مرت كلمة (كذلك) في القرآن‬

‫(‪ _ )1‬سورة التغابن اآلية (‪)6‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)61‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة اإلسراء‪ .‬اآلية (‪)94‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة األعراف اآلية (‪)12‬‬
‫(‪ _ )5‬سورة الزخرف‪ .‬اآلية (‪)52‬‬
‫(‪ _ )6‬سورة البقرة اآلية (‪)118‬‬
‫(‪ _ )7‬سورة الذاريات اآلية (‪)52‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 23‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الكريم‪ ،‬وكما هي في اآلية اآلنفة الذكر‪ ،‬فإن القول الذي يأتي بعدها يكون في‬
‫أغلب األحيان قانوناً أو سنة من تلك السنن التي عناها تعالى بقوله‪﴿ :‬سَّن َة َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫ُ‬
‫ِفي َّال ِذين َخَلوا ِمن َقبل وَلن َت ِجد لِسَّن ِة َّ ِ‬
‫ّللا َتْب ِد ً‬
‫يال﴾(‪.)1‬‬ ‫َ ُ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫تلك سنن وقوانين ل تتبدل ول تتحول‪ ،‬فما قام به األولون الذين لم يؤمنوا من‬
‫قول أو فعل‪ ،‬ل يختلف من حيث الجوهر عما قاله المتأخرون‪ ،‬لذلك فإن هللا َّ‬
‫جل‬
‫وعال اقتصر في ضرب األمثلة على بعض األمم التي تعتبر أقوالها التي تنم عن‬
‫معتقدها وأفعالها‪ ،‬نماذج عملية لهالك كل أمة تسلك مسلكهم‪ ،‬وتعترض على‬
‫رسولها اعتراضاتهم‪.‬‬
‫واآلن وبعد هذا الذي ذكرنا‪ ،‬نريد أن نتناول بشيء من التفصيل أهم األمم التي‬
‫طبقت عليها تلك السنن‪ ،‬فمن تلك األمم‪:‬‬
‫(قوم سيدنا نوح)‬
‫(قوم سيدنا هود)‬
‫(قوم سيدنا صالح)‬
‫(قوم سيدنا لوط)‬
‫(قوم سيدنا شعيب)‬
‫عليهم السالم‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة األحزاب اآلية (‪)62‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 24‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫قوم سيدنا نوح ‪‬‬
‫وحا ِإَلى َق ْو ِم ِه‬ ‫لقد أرسل هللا سيدنا نوحاً ‪ ‬إلى قومه فقال‪َ ﴿ :‬وَلَق ْد أَْر َسْلَنا ُن ً‬
‫ّللا ِإِهن َي أ َ‬ ‫ِ‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫اب َي ْوم أَليم‪َ ،‬فَق َ‬ ‫اف َعَلْي ُك ْم َع َذ َ‬‫َخ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِإِهني َل ُك ْم َنذ ٌير ُّم ِب ٌ‬
‫ين‪ ،‬أَن الَّ َت ْعُبُدوْا إالَّ ه َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ُه ْم‬ ‫اك َّاتَب َع َك ِإالَّ َّالذ َ‬
‫اك ِإالَّ َب َشًار هم ْثَلَنا َو َما َنَر َ‬
‫ين َك َفُروْا من ق ْو ِمه َما َنَر َ‬ ‫اْل َمألُ َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫الر ِي َو َما َنَرى َل ُك ْم َعَلْيَنا ِمن َف ْضل َب ْل َن ُ‬ ‫أََرِاذُلَنا َب ِاد َي َّ ْأ‬
‫ين﴾(‪ )1‬إن دعوة‬ ‫ظُّن ُك ْم َكاذ ِب َ‬
‫سيدنا نوح ‪ ‬أو أي رسول من رسل هللا الكرام‪ ،‬هي توجيه الناس نحو عبادة هللا‪،‬‬
‫خالقنا الذي ل إلٓه إل هو‪ ،‬وتلك كلمة باقية إلى يوم القيامة‪ ،‬وتلك خير ما جاءت به‬
‫الرسل صلوات هللا عليهم أجمعين‪ ،‬وتلك هي الغاية التي خلقنا من أجلها‪ .‬أما الغاية‬
‫من عبادتنا له‪ ،‬فهي ليس كما يدعي البعض بأن هللا يتباهى أمام مالئكته‪ ،‬فسبحانه‬
‫وتعالى عن مثل هذا الوصف‪ .‬وانما الغاية هي تزكية األنفس‪ ،‬وتطهيرها مما علق‬
‫بها من الشوائب‪ ،‬ذلك ألن تزكية األنفس ل تكون إل بالصلة باهلل وبالصالة‪،‬‬
‫وبعبادتنا هلل‪ ،‬التي تعني الطاعة التامة‪ ،‬والستسالم المطلق ألوامر هللا‪ ،‬حيث‬
‫تكتسب األنفس المطيعة الثقة برضاء هللا عنها‪ ،‬وبتلك الثقة تتوجه األنفس من غير‬
‫خجل‪ ،‬أو من غير حجاب يحجبها عنه فتصبغ النفس بإقبالها على هللا بصبغة‬
‫ّللا ومن أَحسن ِمن ِ‬
‫ّللا ِصْب َغ ًة َوَن ْح ُن َل ُه َعاِبدو َن﴾(‪ ،)2‬وبذلك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الكمال‪﴿ :‬صْب َغ َة ه َ َ ْ ْ َ ُ َ ه‬
‫اإلقبال والصلة باهلل والصالة‪ ،‬تمحى من النفس شوائبها وذنوبها‪ ،‬وتحل محلها‬
‫الفضائل‪ ،‬وتلك الفضائل التي اكتسبها اإلنسان من هللا‪ ،‬تصلح سريرته‪ ،‬ويصلح‬
‫عمله‪ ،‬واذا صلحت األنفس‪ ،‬صلحت األعمال‪ ،‬وبالتالي صلح المجتمع‪ .‬واذا صلح‬
‫المجتمع‪ ،‬فكيف ل يعيش أفراده في سعادة وهناء؟ من أجل ذلك طلب إلينا تعالى أن‬
‫نتمسك بشريعته‪ ،‬لكي نعيش سعداء في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود‪ .‬اآلية (‪)27-25‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة البقرة اآلية (‪)138‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 25‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لقد َّبلغ سيدنا نوح ‪ ‬ما أوحي إليه من ربه‪ ،‬ولقى من الذين كفروا من قومه‬
‫اك َّاتَب َع َك ِإالَّ‬ ‫ِ‬
‫اك ِإالَّ َب َشًار هم ْثَلَنا َو َما َنَر َ‬
‫مثل ما لقى غيره من الرسل فقالوا‪َ ..﴿ :‬ما َنَر َ‬
‫ِ‬ ‫ين ُه ْم أََرِاذُلَنا َب ِاد َي َّ ْأ‬
‫الر ِي َو َما َنَرى َل ُك ْم َعَلْيَنا ِمن َف ْضل َب ْل َن ُ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫ظُّن ُك ْم َكاذ ِب َ‬ ‫َّالذ َ‬
‫وهذا اإلنكار على الرسول‪ ،‬هو الذي يمنع الناس من اإليمان باهلل‪.‬‬
‫اءه ُم اْل ُه َدى إِالَّ أَن َقاُلوْا أ ََب َع َث‬
‫اس أَن ُي ْؤ ِمُنوْا إِ ْذ َج ُ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وما م َن َع َّ‬
‫الن َ‬ ‫َ َ‬
‫ّللا َب َشًار َّر ُسوالً﴾(‪ .)2‬وهذا اإلنكار إنما يرجع إلى عدم رؤية كمال الرسول الكريم‬ ‫هُ‬
‫ند ِه‬
‫آت ِاني رحم ًة ِمن ِع ِ‬
‫َ َْ هْ‬ ‫نت َعَلى َبهِي َنة ِهمن َّرهبِ َي َو َ‬ ‫َر َْي ُت ْم ِإن ُك ُ‬
‫ال َيا َق ْومِ أَأ‬ ‫لذلك‪َ ﴿ :‬ق َ‬
‫ارُهو َن﴾(‪.)3‬‬ ‫َنت ْم َل َها َك ِ‬ ‫ِ‬
‫َف ُع هم َي ْت َعَل ْي ُك ْم أَُن ْل ِزُم ُك ُم َ‬
‫وها َوأ ُ‬
‫كذلك اعترضت قريش على سيدنا محمد ﷺ بمثل هذا العتراض‪َ ﴿ :‬وَقاُلوا َل ْوَال‬
‫آن َعَلى َر ُجل ِهم َن اْلَقْرَي َتْي ِن َع ِظيم﴾(‪.)4‬‬ ‫ُن هِز َل َه َذا اْلُقْر ُ‬
‫والسبب في هذا العتراض هو وكما ذكرنا عدم رؤية كمال الرسول محمد ﷺ‪،‬‬
‫وانما شاهدوا عظمة الرجال بالمال أو الجاه‪ ،‬وبمعنى آخر إن معظم الناس تنظر‬
‫إلى ظواهر األمور دون البحث في حقيقتها‪.‬‬
‫لقد بيَّن سيدنا نوح ‪ ‬ما لقيه من قومه من إعراض‪ ،‬بالرغم من دعوته‬
‫المتواصلة ليل نهار‪ ،‬إس ار اًر واعالناً‪ ،‬ومع ذلك فإن دعوته ما كانت لتلقى آذاناً‬
‫صاغية من قومه‪ ،‬بل جعلوا أصابعهم في آذانهم‪ ،‬وأصروا على كفرهم إص ار اًر‪،‬‬
‫واستكبروا عن سماع الحق استكبا اًر‪ ،‬فقد بين لهم رسولهم كيف أن هللا تعالى خلقهم‬
‫سبع سماوات طباقاً‪ ،‬وجعل القمر فيهن نو اًر‪ ،‬وجعل الشمس‬
‫أطوا اًر‪ ،‬وكيف خلق هللا َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)27‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)94‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة هود اآلية (‪)28‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة الزخرف اآلية (‪)31‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 26‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫سراجاً‪ ،‬وكيف حثهم على التفكر فيما ذ أر هللا في األرض من كل دابة‪ ،‬وما أنبت‬
‫من كل زوج بهيج‪.‬‬
‫ولكنهم وبدلً من أن يلتفتوا إلى ما دعاهم إليه‪ ،‬راحوا ينظرون إليه نظرة استغراب‬
‫وتعجب‪ ،‬بل نظرة استهزاء خفي وتكذيب‪ .‬وما رأوه إل بش اًر مثلهم‪ ،‬نظروا في صورته‬
‫فلم يروا سمو حقيقته‪ ،‬أعمى قلوبهم حب الدنيا ولم يلتفتوا للموت‪ ،‬فاستحبوا حياة‬
‫الفناء‪ ،‬وعزفوا عن البقاء األبدي‪ .‬وقالوا إن هي إل حياتنا الدنيا نموت ونفنى وما‬
‫نحن بمبعوثين‪ ،‬فأنكروا البعث وأشاحوا عن اإللٓه‪ ،‬بل إنهم أروا أنه ما اتبعه إل‬
‫األراذل منهم‪ ،‬الذين ليس لهم قيمة اجتماعية (بنظرهم األعمى)‪ ،‬ومن أنه ‪ ‬فرد‪،‬‬
‫وحيث أنهم ل يستطيعون إنكار شأنه وسيرته العالية ومنطقه‪ ،‬استكبروا وما آمنوا‪،‬‬
‫ِ‬
‫وما منعهم من الهدى‪ ..﴿ :‬إالَّ أَن َقاُلوْا أََب َع َث ه ُ‬
‫ّللا َب َشًار َّر ُسوالً﴾(‪.)1‬‬
‫فإذا لم ينظر اإلنسان إلى خلق السماوات واألرض‪ ،‬ويسلك طريق التفكير‬
‫الذاتي حتى يؤمن باهلل‪ ،‬وحتى تطهر نفسه من الخبث بالصلة باهلل‪ ،‬فلن يعرف‬
‫يظل مستو اًر عنه‪ ،‬ولم يبق‬
‫الرسول ولن يؤمن به وبدعوته أبداً‪ .‬ذلك ألن الكمال ُّ‬
‫أمام عينيه إل صورة الرسول أو شكله‪ ،‬فال يعرف حقيقته ‪.‬‬
‫ظُرو َن ِإَلْي َك َو ُه ْم الَ ُيْب ِصُرو َن﴾‪ :2‬حقيقتك‪.‬‬‫اه ْم َين ُ‬
‫قال تعالى‪َ ..﴿ :‬وَتَر ُ‬
‫ُنز َل ِإَلْي ِه َمَل ٌك‬
‫اق َل ْوَال أ ِ‬
‫َس َو ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ام َوَي ْمشي في ْاأل ْ‬
‫َّ‬ ‫ال َه َذا َّ ِ‬
‫الر ُسول َيأ ُْك ُل الط َع َ‬
‫﴿ َوَقاُلوا م ِ‬
‫َ‬
‫ير﴾ ‪ :‬يتخيل تخيالت‪ ،‬نظرهم للدنيا‪ ،‬وظنوا أن المال واألمالك خير‬ ‫(‪)3‬‬ ‫ِ‬
‫َفَي ُكو َن َم َع ُه َنذ ًا‬
‫لإلنسان ودليل عظمته ورضى هللا عليه‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فال عجب إذا لبث سيدنا نوح ‪ ‬في قومه ألف سنة إل خمسين عاماً‬
‫يدعوهم إلى هللا‪ ،‬ولم يؤمن معه إل قليل‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة اإلسراء اآلية (‪)94‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األعراف اآلية (‪)198‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الفرقان اآلية (‪)7‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 27‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ولو بقي فيهم إلى يوم يبعثون‪ ،‬ما كانوا ليؤمنوا‪ ،‬إل إذا سلكوا القوانين التي رسمها‬
‫سعدوا‬ ‫تعالى لهداية الناس‪ ،‬عندها يفتّح هللا بصائرهم بالتقوى‪ ،‬فيستنيروا ويسعدوا وي ِّ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫البشرية‪.‬‬
‫ّللا أَْب َت ِغي َح َك ًما َو ُه َو َّال ِذي‬
‫قال رسول هللا ﷺ على لسان هللا عز وجل‪﴿ :‬أَ َف َغير ِ‬
‫َْ ه‬
‫اب َي ْعَل ُمو َن أََّن ُه ُمَن َّز ٌل ِهمن َّرهِب َك‬ ‫ِ‬ ‫أََن َزل ِإَلي ُكم اْل ِك َتاب م َف َّص ً ِ‬
‫اه ُم اْلك َت َ‬
‫آتْيَن ُ‬ ‫ال َو َّالذ َ‬
‫ين َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ِباْلح ِق َفالَ ت ُكوَن َّن ِمن اْلممت ِرين‪ ،‬وت َّمت كلِمت رِبك ِصد ًقا وعدالً الَّ مب ِد ِل لِ َكلِم ِاتهِ‬
‫َ‬ ‫َُه‬ ‫َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َه َ ْ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ه‬
‫يم﴾(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫وهو َّ ِ‬
‫يع اْل َعل ُ‬
‫السم ُ‬ ‫َ َُ‬
‫تلك سنن وقوانين‪ ،‬إذ ل يمكن لنفس أن تؤمن إل بسلوكها التفكير الذاتي المقرون‬
‫بنيَّة البحث عن الحقيقة واكتشاف وجود اإللٓه المسير المربي الخالق من ثنايا صنعه‬
‫تعالى‪ ،‬فإن لم يؤمنوا باهلل ويعملوا صالحاً‪ ،‬فلن يؤتوا الكتاب‪ ،‬الذي هو صبغة هللا‬
‫التي تصبغ األنفس بالحق والكمال‪ ،‬ولن يكون القرآن‪ ،‬أو أي كتاب أُنزل على رسله‬
‫آيات بينات في صدورهم‪ ،‬بل يظل عليهم عمى‪ ،‬وتظل أعمالهم السيئة حائالً دون‬
‫فقهه‪ ،‬ولن تنفعهم لغتهم كذلك‪ ،‬ول قربهم الزماني من عصر الرسول ﷺ‪ ،‬ألن هذا‬
‫يمس معانيه الرفيعة إل المطهرون ‪،2‬‬
‫القرآن كتاب مكنون في قلب الرسول ﷺ‪ ،‬ول ُّ‬
‫الدنية ومعاصيها المهلكة‪.‬‬
‫المطهرة قلوبهم عن أدران الدنيا ّ‬
‫لقد لبث سيدنا نوح ‪ ‬في قومه ذلك الدهر الطويل‪ ،‬ولكن وبالرغم من طول‬
‫هذه الفترة التي قضاها بينهم‪ ،‬لم يؤمن معه من قومه إلَّ القليل‪ ،‬فأنذرهم إن ظلوا‬
‫وح‬
‫معرضين من عذاب أليم سيحل بهم‪ ،‬فأجابه الذين كفروا من قومه‪َ ﴿ :‬قاُلوْا َيا ُن ُ‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنعام اآلية (‪)115-114‬‬


‫سهُ ِِّ ََّّ ا ْل ُم َطه َُّرونَ ﴾سورة الواقعة اآليات (‪)79-77‬إن هذا الكتاب مكنون‪ ،‬أي‪ :‬مخبأة‬
‫(‪ _ )2‬قال تعالى‪ِِّ﴿:‬نَّهُ لَقُ ْرآنٌ ك َِّرَ ٌم‪ ،‬فَِّ ِّكت َاب َّم ْكنُون‪َ ََ ََّّ ،‬م ُّ‬
‫معانيه في قلب الرسول األعظم صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وال يستطيع اإلنسان أن يمس= =معانيه إال إذا كان من أهل الطهارة النفسية‪ ،‬ولن يمس‬
‫معانيه إال من تحصل له الشفاعة والصحبة القلبية الحبيّة برسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 28‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫نت ِمن َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾(‪ :)1‬إن كنت‬
‫الصادق َ‬ ‫َق ْد َج َادْل َتَنا َفأَ ْك َثْر َت ِج َداَلَنا َفأ َْتنا ِب َما َتعُدَنا ِإن ُك َ َ‬
‫صادقاً فلينزل البالء علينا‪ ،‬ل نريد ترك ما نحن فيه‪.‬‬
‫لقد تألم عليهم‪ ،‬وتألموا منه‪ ،‬وناح عليهم وسخروا منه‪ ،‬وأنذرهم بالهالك‬
‫ِ‬
‫فاسته أزوا به‪ ،‬وبين لهم سخف معتقدهم فمكروا به‪ .‬عندئذ دعا ربه‪..﴿ :‬أَهني َم ْغُل ٌ‬
‫وب‬
‫رب أيدني بحجج أُخرى مقنعة عّلهم يغيروا ما بأنفسهم فيهتدي‬ ‫ِّ‬ ‫(‪)2‬‬ ‫َف َ ِ‬
‫انتصْر﴾ ‪ ،‬أي‪ّ :‬‬
‫فبين له تعالى أنه ل فائدة تُرجى منهم‪ ،‬وأن كؤوس نفوسهم قد أترعت‬ ‫بها قومي‪ّ ،‬‬
‫بالفساد‪ ،‬ولن يطلبوا الهدى ولن يؤمنوا‪ ،‬فال فائدة ترجى منهم‪ ،‬وكانوا قوماً بو اًر‪،‬‬
‫وأوحى إليه أن يصنع الفلك بوحي منه‪ ،‬ألن القوم قد استحقوا الهالك‪ ،‬ولم يبق أي‬
‫أمل يرتجى من إيمانهم‪ ،‬وقد أصبحوا ول خير فيهم‪.‬‬
‫ار َفَلم ي ِجدوا َلهم ِمن دو ِن َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ار﴾(‪.)3‬‬
‫َنص ًا‬
‫ّللا أ َ‬ ‫﴿ ِم َّما َخط َيئات ِه ْم أُ ْغ ِرُقوا َفأ ُْد ِخُلوا َن ًا ْ َ ُ ُ ه ُ‬
‫وقبل أن نختم الكالم عن قوم سيدنا نوح ‪ ‬نريد أن نلفت النظر إلى ناحية‬
‫هامة‪ ،‬وهي أنهم قالوا أن سيدنا نوحاً ‪ ‬دعا على قومه بالهالك (‪ ،)4‬بسبب‬
‫سخريتهم منه وأنها خطيئة‪ ،‬والحقيقة هي أن سيدنا نوحاً ‪ ،‬لم يدع على قومه‬
‫ِ‬ ‫بقوله‪﴿ :‬وَقال ُنوح َّر ِب َال َت َذر عَلى ْاألَر ِ ِ‬
‫ار﴾(‪ ،)5‬إل من بعد أن‬ ‫ض م َن اْل َكاف ِر َ‬
‫ين َدَّي ًا‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ٌ ه‬
‫أوحى إليه ربه بأنه لن يؤمن معه إل من قد آمن‪ .‬فمن حنانه ‪ ‬لما أخبره تعالى‬
‫أنهم ل يمكن أن يؤمنوا‪ ،‬طلب لهم الهالك‪ ،‬كرجل له قريب عزيز مريض يتألم ل‬
‫يمكن شفاؤه يتطلب له الموت كي يخلص من آلمه‪ ،‬وكذلك سيدنا نوح ‪ ‬طلب‬
‫ليقل شقاؤهم‪ ،‬حيث أنهم لن يزدادوا إل‬
‫لهم الهالك بعد وحي هللا له أنهم لن يؤمنوا َّ‬
‫ضاللً وكف اًر وعناداً‪ ،‬فالموت إيقاف لشرورهم التي تكويهم بنارها في اآلخرة‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)32‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة القمر اآلية (‪)10‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة نوح اآلية (‪)25‬‬
‫(‪ _ )4‬انظر كتاب اآلية (عصمة األنبياء) للعالَّمة مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره‪.‬‬
‫(‪ _ )5‬سورة نوح اآلية (‪)26‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 29‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ُوحي ِإَلى ُنوح‪ :﴾...‬لما طلبوا الهالك‪..﴿ :‬أََّن ُه َلن ُي ْؤ ِم َن ِمن‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬وأ ِ‬
‫َ َ‬
‫آم َن‪ :﴾...‬ل جدوى لهم‪َ ..﴿ :‬فالَ َتْب َت ِئ ْس ِب َما َكاُنوْا َي ْف َعُلو َن﴾‪ :‬ل‬ ‫ِ ِ َّ‬
‫َق ْوم َك إال َمن َق ْد َ‬
‫َعُيِنَنا‪ ﴾...‬نراك ونلهمك‪.‬‬ ‫اصَن ِع اْلُفْل َك ِبأ ْ‬
‫تحزن ول تتألم من عدم اهتدائهم‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ظَل ُموْا‪ :﴾...‬ل تتوسط في‬ ‫ين َ‬ ‫﴿‪َ ...‬و َو ْحِيَنا‪ ﴾...‬دللتنا‪َ ..﴿ :‬والَ ُت َخاطْبني في َّالذ َ‬
‫سنة إلَّ خمسين عاماً‪ ،‬لما‬ ‫دفع البالء عنهم ول تترجى فيهم‪ .‬بعد أن دعاهم ألف ٍ‬
‫حق عليهم الهالك‪ ،‬لكن سيدنا نوحاً ‪ ‬رغم‬ ‫امتنعوا عن اإليمان والطاعة‪ّ ،‬‬
‫معارضاتهم له‪ ،‬كان يتمنى هدايتهم‪ِ..﴿ :‬إَّن ُهم ُّم ْغَرُقو َن﴾(‪ :)1‬ل َّبد منها‪.‬‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآليات (‪)37-36‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 30‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫قوم عاد‬
‫ّللا َما َل ُكم ِهم ْن ِإَله‬
‫اعُبُدوْا ه َ‬ ‫‪َ ..﴿ :‬يا َق ْومِ ْ‬
‫لقد أرسل هللا إلى عاد أخاهم هوداً ‪‬‬
‫ِي ِإالَّ َعَلى َّال ِذي‬ ‫ِ‬
‫َجرَ‬‫َجًار ِإ ْن أ ْ‬ ‫َنت ْم ِإالَّ ُم ْف َتُرو َن‪َ ،‬يا َق ْومِ ال أ ْ‬
‫َسأَُل ُك ْم َعَلْيه أ ْ‬ ‫َغْيُرُه ِإ ْن أ ُ‬
‫طَرِني أَ َفالَ َت ْع ِقُلو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫َف َ‬
‫ّللا‪ :﴾...‬أطيعوا أوا مره واسمعوا كالمه‪ ،‬ل كالم‬ ‫اعُبُدوْا ه َ‬
‫قال لهم ‪ْ ..﴿ :‬‬
‫ومسير سواه‪ ،‬من الذي ينزل‬ ‫ِّّ‬ ‫عبد مثلكم‪َ ..﴿ :‬ما َل ُكم ِهم ْن ِإَله َغْيُرُه‪ :﴾...‬ما من رزاق‬
‫األمطار‪ ،‬من يسوق الشمس والقمر؟ الليل‪ ،‬النهار‪ ،‬الفصول‪ ،‬من يدير الكرة‬
‫َنت ْم ِإالَّ ُم ْف َتُرو َن﴾‪ :‬على هللا بادعائكم بهذه اآللهة‪ ،‬بعبادتكم‬ ‫األرضية؟﴿‪ِ...‬إ ْن أ ُ‬
‫ِي ِإالَّ َعَلى َّال ِذي َف َ‬
‫طَرِني‪:﴾...‬‬ ‫ِ‬
‫َجًار ِإ ْن أ ْ‬
‫َجرَ‬ ‫َسأَُل ُك ْم َعَلْيه أ ْ‬
‫األصنام‪َ﴿،‬يا َق ْومِ ال أ ْ‬
‫أظهرني‪..﴿ :‬أَ َفالَ َت ْع ِقُلو َن﴾‪ :‬أفال تفكرون ولو قليالً؟! العاقل يفكر بأي كلمة‬
‫يسمعها‪ ،‬إن كانت صحيحة اتَّبعها وال َّ‬
‫ردها‪ ،‬أليس األجدر باإلنسان أن يعقل بذاته؟‬
‫يتوصل للوجود اإللٓهي ويلمس الحقيقة من آلئه الكونية! من يطعمه ومن يسقيه؟‬
‫ومن إذا مرض يشفيه؟‬
‫لقد قال لهم رسولهم سيدنا هود ‪ ،‬مثل ما قاله سيدنا نوٌح‪ ،‬ومثل ما قاله‬
‫ّللا َما َل ُكم ِهم ْن‬
‫اعُبُدوْا ه َ‬
‫الرسل صلوات هللا عليهم أجمعين‪ ،‬من قبل‪ ،‬ومن بعد‪ْ ..﴿ :‬‬
‫المسير لهذا الكون‪ ،‬هو هللا‬ ‫ِّّ‬ ‫ِإَله َغْيُرُه‪ :﴾...‬لقد بين لهم هذا الرسول الكريم‪ ،‬أن‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وأنه ما من شيء إل ويؤول إليه‪ ،‬ول يتحرك متحرك إل من بعد‬
‫إذنه‪ ،‬فهو وحده الحي القيوم‪ ،‬ألنه هو وحده الخالق‪ ،‬مصدر الحياة‪ ،‬ومصدر القيام‬
‫ذرة من ذرات هذا الوجود‪ .‬وهو الذي ُّ‬
‫يمد ول يستمد‪ ،‬ألنه فرد صمد‪.‬‬ ‫لكل َّ‬
‫كذلك فإن يمسسكم هللا بضر فال كاشف له إل هو‪ ،‬وان يردكم بخير فال رَّاد‬
‫لفضله‪ ،‬ولكن بمقدار ما تستحقونه‪ .‬يا قوم إن هذه اآللهة التي تعبدونها‪ ،‬أنتم الذين‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)51-50‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 31‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫صورتم شكلها بأيديكم‪ ،‬أفتعبدون ما تنحتون؟! تباً لكم (أي الهالك عليكم) أفال‬
‫َّ‬
‫تعقلون‪ .‬أما ترون أنها ل تستطيع دفع الضر عنكم‪ ،‬ول عن كيانها‪ ،‬ما لكم كيف‬
‫تحكمون؟!‬
‫يا قوم لِّ َم تعرضون عن مبدع السماوات واألرض؟ وتعبدون ما ل يضركم ول‬
‫ينفعكم‪ .‬إن هذا إل إفك افتريتموه أنتم وآباؤكم‪ ،‬ما أنزل هللا به من سلطان‪ ،‬وما كان‬
‫ين‪ ،‬إِ ْن َه َذا إَِّال‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫جوابهم إل أن‪َ ﴿ :‬قاُلوا َس َواء َعَل ْي َنا أ ََو َع ْظ َت أ َْم َل ْم َت ُكن هم َن اْل َواعظ َ‬
‫ين﴾(‪ .)1‬وقال لهم يا قوم ل تغرَّنكم الحياة الدنيا‪،‬‬ ‫ين‪َ ،‬و َما َن ْح ُن ِب ُم َع َّذ ِب َ‬
‫ق ْاأل ََّولِ َ‬
‫ُخُل ُ‬
‫َشُّد ِمَّنا ُق َّوًة‪ :)2(﴾...‬أفال‬
‫تتبجحون بها‪ ،‬وقولكم‪َ ..﴿ :‬م ْن أ َ‬ ‫وتغرَّنكم أموالكم وقوتكم التي َّ‬
‫ترون أن الذي خلقكم هو أشد منكم قوة‪ .‬واذاً فلم الستكبار بغير الحق؟ ولم الجحود‬
‫صدهم عن هللا الترف المادي‪ ،‬والغنى الفاحش الذي حصلوا عليه‬ ‫وأنتم تشهدون؟ لقد َّ‬
‫من التجارة العالمية‪ ،‬فمنطقتهم الممتدة من غرب الفرات إلى سواحل المتوسط‪ ،‬كانت‬
‫ات اْل ِع َم ِاد‪َّ ،‬الِتي‬
‫مرك ًاز لتالقي التجارة العالمية‪ ،‬وبهذا الغنى أشادوا عاصمتهم‪ِ﴿ :‬إرم َذ ِ‬
‫ََ‬
‫ِ ِ (‪)3‬‬
‫َل ْم ُي ْخَل ْق ِمْثُل َها ِفي اْلبَالد﴾‬
‫وقد وصف لنا تعالى أعمالهم العمرانية التي تنم عن غناهم الفاحش‪ ،‬فقال تعالى في‬
‫سورة الشعراء‪﴿ :‬أََتْبُنو َن ِبُك ِهل ِريع َآيةً‪ :﴾...‬بكل ريع‪ :‬روعة واتقان‪ ،‬وتبنون قصو اًر‪،‬‬
‫مقاهي (بناء المقاهي والمالهي في األماكن المختارة(‪ ،)4‬مقاصف‪ ،‬منتزهات رائعة هي‬
‫آية في الجمال‪ ،‬وتتخذونها للهو والترف‪َ ..﴿ :‬ت ْعَبُثو َن‪ :)5(﴾...‬تضيعون فيه الوقت‪ ،‬أهذا‬
‫للجنة؟! ﴿ َوَتَّت ِخ ُذو َن َم َص ِان َع‪ :﴾...‬مصانع‪ :‬المعامل المخازن‪ ،‬وما فيها من‬
‫يؤهلكم ّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة الشعراء اآليات (‪)138-136‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة فصلت اآلية (‪)15‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الفجر اآلية (‪)78‬‬
‫(‪ _ )4‬وكذلك تشير كلمة اآلية ( ريع)‪ :‬إلى المبالغ الضخمة والفاحشة التي تصرف على هذه المقاصف والمالهي والمزارع‪.‬‬
‫(‪ _ )5‬سورة الشعراء اآلية (‪)128‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 32‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫حرير وألعاب‪ ،‬أماكن التخزين والبيع تزينونها‪َ ..﴿ :‬ل َعَّل ُك ْم َت ْخُلُدو َن﴾(‪ :)1‬ظانين أنكم‬
‫ستخلدون‪ ،‬ناسين الموت‪( ،‬كل ذلك زينة في الحياة تؤذي المتوسطين والفقراء من الناس‪،‬‬
‫وتجعلهم يميلون إلى الدنيا‪ ،‬والى الخسة والبخل والشح‪ ،‬ونكران فعل الخير والمعروف)‪:‬‬
‫ين﴾(‪ :)2‬بعضكم مع بعض‪ ،‬واذا التحمتم في أمر كدتم أن‬ ‫﴿ َواِ َذا َب َط ْشُتم َب َط ْشُت ْم َجَّب ِار َ‬
‫يذهب بعضكم بنفس اآلخرين منكم بوحشية‪ ،‬لفقدان الرحمة من قلوبكم‪َ ﴿ :‬ف َّاتُقوا َّ َ‬
‫ّللا‬
‫تجره عليكم هذه األبنية‪ ،‬وهذه القصور‪ ،‬وهذا الترف‪ ،‬من‬ ‫يعو ِن﴾(‪ :)3‬انظروا لما ُّ‬ ‫ِ‬
‫َوأَط ُ‬
‫َّ ِ‬
‫َّكم‪ :﴾...‬أقبلوا‬ ‫فساد لقلوب الناس‪ ،‬ونكد لعيشهم‪ ،‬وتنافس بالدنيا‪َ ﴿ :‬و َّاتُقوا الذي أ َ‬
‫َمدُ‬
‫َّكم ِبأَْن َعام‪:﴾...‬‬ ‫َمدُ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫عليه‪ ،‬وفكروا بما أنعم عليكم‪ ..﴿ :‬ب َما َت ْعَل ُمو َ ﴾‪ :‬من الخيرات‪﴿ :‬أ َ‬
‫ين﴾‪ :‬وأولد‪َ﴿ :‬و َجَّنات‪ :﴾...‬بساتين‪َ ..﴿ :‬و ُع ُي ون ﴾(‪ :)4‬نعم وعطاء‬ ‫ِ‬
‫غنم‪َ..﴿ :‬وَبن َ‬
‫عظيم‪.‬‬
‫إذن حينما يبعث هللا رسولً فإنه يخلقه في منطقة متوسطة من العالم‪ ،‬ل في منطقة‬
‫تكاد تكون منعزلة عن العالم‪ ،‬إل من بعض التجار القادمين من الهند أو من الشرق‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َرُّب َك ُم ْهل َك اْلُقَرى َحَّتى َيْب َع َث في أ ه‬
‫ُم َها َر ُسوًال‪.)5(﴾...‬‬ ‫األقصى‪ .‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما َك َ‬
‫أما قوم ثمود فتكاد آراء المؤرخين تجمع بأن موطنهم يقع في منطقة وادي‬
‫القرى في طريق الحج الشامي إلى مكة المكرمة‪.‬‬
‫وقد جاء ذكر ثمود في جملة البالد التي غلبها الملك اآلشوري (سرجون)‬
‫عام‪/715/‬ق م‪ ،‬في بالد الحجاز‪ .‬ويؤخذ من سياق الوصف أنها كانت بجوار مكة‬
‫مما يلي الشمال‪ ،‬كذلك ورد ذكرها في كتب اليونان‪ ،‬وقد عينوا موقعها في منطقة‬
‫الحجر‪ ،‬وهم يسمونها ثمود يني (‪ ،)Thamudeni‬والحجر يسمونها (‪ ،)Agra‬واذا‬

‫(‪ _ )1‬سورة الشعراء اآلية (‪)129‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الشعراء اآلية (‪)130‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الشعراء اآلية (‪)131‬‬
‫(‪ _ ) 4‬سورة الشعراء اآلية (‪) 134 -130‬‬
‫(‪ _ )5‬سورة القصص اآلية (‪)59‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 33‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫كانت ثمود تسكن هذه المنطقة فال بد أن تكون عاد تسكن في منطقة سورية‬
‫الحالية‪.‬‬
‫لقد استفاد قوم عاد‪ ،‬ومن بعدهم قوم ثمود‪ ،‬من الموقع الجغرافي الممتاز الذي‬
‫يقطنونه‪ ،‬ألنهم كانوا يقطنون في منطقة تالقي التجارة العالمية القادمة من الشرق‪،‬‬
‫والذاهبة إلى الغرب‪ ،‬وهذه المنطقة كانت يوم ذاك ولزمن ليس بالبعيد‪ ،‬ملتقى لثالث‬
‫طرق عالمية‪.‬‬
‫األول‪ :‬الطريق التجاري القادم من اليمن فالحجاز‪ ،‬ومن ثم إلى بالد الشام‬
‫وافريقيا عبر سيناء‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬طريق الخليج العربي‪ ،‬ومنه عبر الصحراء إلى بالد الشام وافريقيا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬طريق بالد فارس فبالد الرافدين‪ ،‬فسوريا‪ ،‬فغرب البحر المتوسط‪،‬‬
‫وبحكم هذا الموقع الستراتيجي استفادت تلك األقوام من التجارة‪ ،‬وذلك بما كانوا‬
‫يقدمونه من وسائط لنقل البضائع‪ ،‬ومن خدمات أمنية لحفظها من اللصوص‪ ،‬إلى‬
‫جانب الخدمات األخرى من مأكل ومشرب‪ ،‬وعلف للدواب‪ ،‬وخانات لستراحة‬
‫التجار‪ ،‬ومخازن لحفظ البضائع‪ ،‬ول يستبعد أن أصبحوا فيما بعد من التجار‬
‫العالميين‪.‬‬
‫ومن تلك اآليات نستنتج أيضاً أن قوم عاد‪ ،‬ومن بعدهم قوم ثمود‪ ،‬كانت لهم‬
‫حضارة متقدمة‪ ،‬ليس من الناحية العمرانية فحسب‪ ،‬بل ومن الناحية الثقافية أيضاً‪،‬‬
‫ود َوَقد َّتَبَّي َن َل ُكم ِهمن‬
‫فقد وصفهم تعالى بأنهم كانوا قوماً مستبصرين‪َ ﴿ :‬و َع ًادا َوَث ُم َ‬
‫يل َوَكاُنوا‬ ‫الس ِب ِ‬ ‫َّ‬ ‫َع َماَل ُه ْم َف َصَّد ُه ْم َع ِن‬
‫ان أ ْ‬
‫طُ‬ ‫َّ‬
‫الشْي َ‬ ‫اكِن ِه ْم َو َزَّي َن َل ُه ُم‬
‫َّمس ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ُم ْس َتْبص ِر َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ين﴾ ‪ :‬تفننوا بالعلم الدنيوي‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة العنكبوت اآلية (‪)38‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 34‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وليس بمستغرب من أن تكون تلك األقوام متنورة بأنواع الثقافات العلمية‬
‫المشيدة ل بد لها من مهندسين َّ‬
‫أكفاء‪ ،‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫واألدبية‪ ،‬ألن البناء الرائع‪ ،‬والمصانع‬
‫ل يكون إل بعلم راق في الرياضيات‪ ،‬وبالتالي في جميع أنواع الثقافة‪ ،‬ساعدهم في‬
‫ذلك موقعهم الجغرافي الممتاز‪ ،‬وقد قيل (حيثما تتالقى التجارة تتالقح العقول)‪.‬‬
‫لقد بين لهم رسولهم أن اعبدوا هللا وأطيعوه‪ ،‬يرسل السماء عليكم مد ار اًر‪ ،‬ويزدكم‬
‫قوة إلى قوتكم‪ .‬وقول سيدنا هود ‪ ‬هو قول عالم بالسنن اإللٓهية‪ ،‬ألن هللا عندما‬
‫يرسل رسولً إلى قوم من األقوام‪ ،‬ول يستمعون له‪ ،‬يأخذهم بالبأساء والضراء‪،‬‬
‫ويذيقهم من العذاب األدنى دون العذاب األكبر‪ ،‬لعلهم يتضرعون‪َ ﴿ .‬وَلَق ْد أَْر َسلَنآ‬
‫ُمم ِهمن َقْبلِ َك﴾‪ :‬رسالً‪ ،‬كما أرسلناك‪ ،‬فعارضوا رسلهم‪ .‬فأرسل هللا لهم الشدائد‬ ‫ِ‬
‫إَلى أ َ‬
‫الضَّراء‪ :﴾...‬لماذا هذه‬ ‫ْساء َو َّ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم باْلَبأ َ‬
‫َخ ْذَن ُ‬
‫والفقر والمرض‪َ ..﴿ :‬فأ َ‬
‫الشدائد؟﴿‪َ...‬ل َعَّل ُه ْم َي َت َضَّر ُعو َن﴾(‪ :)1‬حتى يتضرعوا وتطهر نفوسهم‪( .‬هذه‬
‫الشدائد حتى تتضرع وتشفى نفسك‪ .‬إذن البالء ل بد له من سبب في نفسك‪ .‬تُ ْب‬
‫إلى هللا‪ ،‬التجئ‪ .‬إن التجأت وأقبلت‪ ،‬تطهر نفسك من "المكروب" الذي سبَّب هذا‬
‫الفقر والمرض والشدائد‪ ،‬عندها يعطيك هللا الخير‪ ،‬ويرفع عنك البالء)‪َ ﴿ .‬و َما‬
‫لما جاء الرسل‬ ‫ْساء َو َّ‬
‫الضَّراء﴾‪َّ :‬‬ ‫َهَل َها باْلَبأ َ‬ ‫أَْر َسْلَنا ِفي َقْرَية ِهمن َّن ِب هي ِإالَّ أ َ‬
‫َخ ْذَنا أ ْ ِ‬
‫شدد هللا على الناس‪ ،‬هكذا تقتضي الرحمة والحنان‪ .‬وما أرسل هللا‬ ‫وكذبهم الناس‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫تعالى في بلدة من بلدان العالم دللة ليؤمنوا بال إلٓه إلَّ هللا‪ ،‬ولم يؤمنوا‪ ،‬إل أخذ‬
‫أهلها بالبأساء‪ .‬فاهلل تعالى ل يهلك أم ًة‪ ،‬حتى يرسل لها الرسل‪ ،‬إن لم يرجعوا‪،‬‬
‫أخذهم بالشدائد‪" .‬بالبأساء"‪ :‬عذاب النفس‪" .‬الضراء"‪ :‬عذاب الجسم‪َ..﴿ :‬ل َعَّل ُه ْم‬
‫َي َّضَّر ُعو َن﴾(‪ :)2‬يدل هذا التعذيب والتشديد على أن هنالك قابلية للرجوع‪ ،‬كل ذلك‬
‫لكي َّ‬
‫يضرعوا‪ ،‬فتشفى نفوسهم مما كمن فيها‪ .‬فانظر إلى كالم هللا تعالى وانظر إلى‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنعام اآلية (‪)42‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األعراف اآلية (‪)94‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 35‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫قول كثير من المفسرين‪ ،‬أن هللا خلق أناساً للجنة‪ ،‬وآخرين للنار‪ ،‬فإن هذا القول‬
‫يناقض العدل اإللٓهي‪.‬‬
‫يضيق عليهم‪َّ ،‬‬
‫علهم‬ ‫فاهلل تعالى يقول‪ :‬عندما يعاند الناس رسولهم‪ ،‬فإنه تعالى ِّّ‬
‫بتضرعهم إلى هللا‪ ،‬يزول الخبث من أنفسهم‪ ،‬وتطهر أنفسهم‪ .‬دعوة هللا‬
‫ُّ‬ ‫يضرعون‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أصروا فما رجعوا‪ ،‬بل ثابروا على‬
‫ُّ‬ ‫تعالى عامة لسائر الخلق‪ُ ﴿ :‬ث َّم‪ :﴾...‬عندما‬
‫فلما استحكم الجرثوم في أنفسهم‪.‬‬‫السهِيَئ ِة اْل َح َسَن َة‪َّ :﴾..‬‬ ‫ضاللهم‪َ..﴿ :‬بَّدْلَنا َم َك َ‬
‫ان َّ‬
‫ثمة رجاء بالشفاء‪ :‬أعطاهم كافة رغائبهم‪ .‬أعطيناهم الدنيا لعلهم يشكرون‪.‬‬ ‫ولم يعد َّ‬
‫قل من يشكر‪ ،‬لذا يبدؤهم‬
‫وكان باإلمكان البدء لهؤلء باإلنعام بالدنيا‪ ،‬لكن َّ‬
‫بالشدائد‪ :‬إن لم يرجعوا هلكوا‪َ ..﴿ :‬ح َّتى َع َفوْا‪ :﴾..‬لم يتذكر هؤلء نعم هللا‪،‬‬
‫وأصبحوا أغنياء وكثرت أموالهم‪ ،‬فما رجعوا وما عادوا دعوا هللا‪ ،‬نسوا كل شيء‪:‬‬
‫السَّراء‪ :﴾..‬أصابت آباءنا ظروف َّ‬
‫شدة‬ ‫آباءَنا َّ‬
‫الضَّراء َو َّ‬ ‫س َ‬‫﴿‪َّ ..‬وَقاُلوْا َق ْد َم َّ‬
‫وظروف سعة‪ :‬ما نسبوا األشياء لعملهم وفعلهم‪ ،‬بل قالوا هذه عادة الزمان‪..﴿ :‬‬
‫اهم َب ْغ َت ًة َو ُه ْم الَ َي ْش ُعُرو َن﴾(‪ :)1‬من دون أن يشعروا وعلى حين غفلة‪ ،‬أتاهم‬
‫َخ ْذَن ُ‬
‫َفأ َ‬
‫ولم الشدائد؟!‬ ‫ن‬
‫فلم الرسل َ‬
‫البالء بغت ًة‪ .‬فلو كانت مقطوعة فيها أزلياً كما يقولو ‪َ ،‬‬
‫قولهم خطأ كله‪ :‬هناك طريق للرجوع‪ ،‬وامكان للتوبة واإلنابة‪ .‬أرسل هللا الرسل‪،‬‬
‫َّ‬
‫لتتذكر‪ ،‬فإن استدللت‬ ‫أهل اإلرشاد‪ ،‬أعطاك الفكر‪ ،‬جعل الكون كله أمامك‬
‫ِّ‬
‫يشدد عليك‪.‬‬
‫بتفكيرك‪ ،‬أعطاك كل خير ولم ّ‬
‫وفعالً إن هللا أخذهم بالعذاب األدنى‪ ،‬فقد حبس عنهم األمطار‪ ،‬وتضررت‬
‫وضرب اقتصادهم وبنيتهم التحتية‪ ،‬وقد بين لهم سيدنا هود ‪‬‬ ‫بساتينهم ومواشيهم‪ُ ،‬‬
‫اس َت ْغ ِفُروْا َرَّب ُك ْم‪ :﴾...‬آمنوا بالمرِّّبي‪ ،‬كل شيء إن ّ‬
‫فكرت به‬ ‫األسباب فقال‪َ ﴿ :‬وَيا َق ْو ِم ْ‬
‫لما كنت نطفة؟!‬ ‫استدللت‪ ،‬من رّباك في بطن أمك ّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآلية (‪)95‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 36‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫كل شيء يدل على المرّبي‪ .‬إن لم تستغفر فتطلب الشفاء من هذه الشهوات فإنها‬
‫تظل متعّلقة بقلبك‪ .‬الزنا‪ ،‬السرقة‪ ،‬القتل‪ ،‬كلها جرائم تقع في النفس‪ ،‬إن استغفرت‬
‫بمعيته‬‫فشفيت نفسك‪ ،‬عندها تصاحب رسول هللا ﷺ‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫وتبت وعملت صالحاً‪ ،‬أقبلت‪،‬‬
‫نجاك من المعاصي‪ ،‬لما تراه فيها‪ُ ..﴿ :‬ث َّم‬ ‫تشاهد الخير من الشر‪ ،‬وتحمد هللا أن ّ‬
‫ار‪ :﴾..‬و كانوا في شدة‬ ‫ُتوُبوْا ِإَلْي ِه‪ :﴾..‬مما أنتم عليه‪ُ ..﴿ :‬يْرِس ِل َّ‬
‫الس َماء َعَلْي ُكم ِهمْدَرًا‬
‫ين﴾(‪ :)1‬حارمين‬ ‫وضيق‪َ ..﴿ :‬وَي ِزْد ُك ْم ُق َّوًة ِإَلى ُق َّوِت ُك ْم َو َال َت َت َوَّل ْوْا‪ :﴾..‬وأنتم‪ُ ..﴿ :‬م ْج ِرِم َ‬
‫أنفسكم من الخيرات‪ ،‬وأنتم ما فيكم خير أبداً‪ .‬جئت للدنيا لتكون من أهل الكمال‬
‫والمعروف‪ .‬خلقت لإلحسان‪.‬‬
‫لذلك تجد كل قوم يتطيَّرون برسولهم إن لم يستجيبوا له‪ ،‬بسبب ما يذيقهم هللا من‬
‫أنواع العذاب‪ .‬لقد أخذ هللا قوم عاد بالعذاب األدنى دون العذاب األكبر‪ ،‬فما استكانوا‬
‫وما رجعوا‪ ،‬بل قالوا إن قولك هذا ل يكفي أن يكون حجة علينا‪ ،‬لكي نهجر آلهتنا‪،‬‬
‫ونعبد إلٓهاً واحداً‪ ،‬وان قولك هذا إن هو إل تخيالت‪ ،‬ل يتوافق وواقعنا‪ ،‬إذ كيف ل‬
‫َّ‬
‫نعتز بدنيانا وبمصانعنا وقصورنا التي هي عنوان التقدم والرقي‪ ،‬وهي التي تميزنا‬
‫عن غيرنا من الشعوب المتأخرة‪ ،‬ونلتفت للعبادة وسبل اإليمان بالغيب‪ .‬وان هذا‬
‫الذي تراه فسادًا‪ ،‬فإننا نراه صالحاً وتقدماً(‪ ،)2‬وما نظنك إل اعتراك بعض آلهتنا‬
‫بسوء‪ ،‬بسبب إنكارك عبادتهم‪ ،‬فسترت نفسك عن الحق‪ ،‬وجعلتك تقول ما تقول‪،‬‬
‫وننصحك أن ترجع عن هذا التخريف‪ ،‬وتعبد ما كان يعبد آباؤك‪ .‬فأجابهم‪ِ ..﴿ :‬إِهني‬
‫اش َهُدوْا أَِهني َبرِي ٌء ِهم َّما ُت ْش ِرُكو َن‪ِ ،‬من ُدوِن ِه‪ :﴾...‬فأفحمهم ‪ ‬بل‬ ‫ُش ِهد ِ‬
‫ّللا َو ْ‬
‫أْ ُ ه‬
‫نظرو ِن‪ِ ،‬إِهني َتوَّكْلت عَلى ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا َرهبِي‬
‫ه‬ ‫َ ُ َ‬ ‫يعا ُث َّم الَ ُت ُ‬ ‫وتحداهم أجمعين‪َ ..﴿ :‬ف ِك ُ‬
‫يدوِني َجم ً‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)52‬‬


‫ص ِّل ُحونَ ‪ ،‬أََّ ِِّنَّ ُه ْم هُ ُم ا ْل ُم ْف ِّ‬
‫سدُونَ َولَكِّن ََّّ ََ ْ‬
‫شعُ ُرونَ﴾ اآلية (‪ )12-11‬من‬ ‫سدُواْ فَِّ األ َ ْر ِّ‬
‫ض قَالُواْ ِِّنَّ َما نَحْ ُن ُم ْ‬ ‫(‪ _ )2‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وَِِّْا قِّي َل لَ ُه ْم ََّ ِ ُ ْف ِّ‬
‫سورة البقرة‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 37‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َوَرهِب ُكم َّما ِمن َد َّ‬
‫آبة ِإالَّ ُه َو آخ ٌذ ِبَناصَيت َها ِإ َّن َرهِبي َعَلى صَراط ُّم ْس َتقيم﴾ ‪ِّّ :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫دبروا ما‬
‫فشل هللا‬
‫شئتم‪ ،‬شجاع‪ ،‬ألنه أمين من نفسه كونه سائ اًر على الحق متوكالً على هللا‪َّ ،‬‬
‫قواهم وسرى الجبن والرعب إلى أعماق قلوبهم‪ ،‬وخفضوا رؤوسهم صاغرين أمام‬
‫عظمته المهيبة‪ ،‬إذ كساه تعالى ثوب المهابة الربانية ألنه رسوله‪ .‬ولما أنذرهم من‬
‫ين﴾‪ :‬هذا سيرنا ومعتقدنا ول‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫مغبة أعمالهم قالوا‪..﴿ :‬أ ََو َع ْظ َت أ َْم َل ْم َت ُكن هم َن اْل َواعظ َ‬
‫ين﴾‪ :‬هذا ما سار عليه أجدادنا‪ ،‬فما بالك تريد أن‬ ‫نبالي‪ِ﴿ :‬إ ْن َه َذا ِإَّال ُخُل ُ‬
‫ق ْاأل ََّولِ َ‬
‫ين﴾(‪ :)2‬قولك هذا كله ل‬ ‫تغير ما نحن عليه وما ورثناه من قبل‪َ ﴿ .‬و َما َن ْح ُن ِب ُم َع َّذِب َ‬ ‫ِّّ‬
‫أصل له‪ .‬لقد أنكر قوم عاد على رسولهم قوله‪ ،‬وأصروا على محبة دنياهم الدنية‪،‬‬
‫وطلبوا من سيدنا هود ‪ ‬أن يأتيهم بما يعدهم إن كان من الصادقين‪.‬‬
‫الن ُذُر ِمن َبْي ِن‬ ‫اف َوَق ْد َخَل ْت ُّ‬ ‫َخا عاد ِإ ْذ أَن َذر َقومه ِب ْاألَحَق ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َُْ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وا ْذ ُكْر أ َ َ‬
‫َجْئ َتَنا‬ ‫اب َي ْوم َع ِظيم‪َ ،‬قاُلوا أ ِ‬ ‫اف َعَلْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫ّللا ِإِهني أ َ‬
‫َخ ُ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫َي َدْيه َوم ْن َخْلفه أَال َت ْعُبُدوا إال َّ َ‬
‫الص ِاد ِقين‪َ ،‬قال ِإَّنما اْل ِعْلم ِعند َّ ِ‬ ‫نت ِم َن َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ّللا‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫لِ َتأ ِْف َكَنا َع ْن آلِ َهتَنا َفأْتَنا ِب َما َت ِعُدَنا ِإن ُك َ‬
‫اك ْم َق ْو ًما َت ْج َهُلو َن‪َ ،‬فَل َّما َأر َْوُه َع ِار ًضا ُّم ْس َت ْق ِب َل‬ ‫َوأَُبهلِ ُغ ُكم َّما أُْرِسْل ُت ِب ِه َوَل ِكِهني أََر ُ‬
‫يح ِفيها ع َذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أ َْوِدَي ِت ِه ْم َقاُلوا َه َذا َع ِار ٌ‬
‫يم‪،‬‬‫اب أَل ٌ‬ ‫اس َت ْع َجْل ُتم ِبه ِر ٌ َ َ ٌ‬ ‫ض ُّم ْمطُرَنا َب ْل ُه َو َما ْ‬
‫اكُن ُه ْم َك َذلِ َك َن ْجزِي اْلَق ْوَم‬ ‫ُت َد ِمر ُك َّل َشيء ِبأَم ِر ربِها َفأَصبحوا َال يرى ِإَّال مس ِ‬
‫ََ‬ ‫َُ‬ ‫َُْ‬ ‫ْ َه َ‬ ‫ْ‬ ‫هُ‬
‫اكم ِفيهِ‬ ‫اهم‪ :﴾...‬كانوا سادة العالم‪ِ ...﴿.‬ف ِ‬
‫يما إن َّم َّكَّن ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫اْل ُم ْج ِرِم َ‬
‫ين‪َ ،‬وَلَق ْد َم َّكَّن ُ ْ‬
‫ار َوأَ ْف ِئ َد ًة‪ :﴾...‬تقدموا بالعلوم‪َ ...﴿ .‬ف َما أَ ْغَنى َعْن ُه ْم‬ ‫َو َج َعْلَنا َل ُه ْم َس ْم ًعا َوأَْب َص ًا‬
‫اق ِب ِهم‬ ‫ات َّ ِ‬
‫سمعهم وَال أَبصارهم وَال أَ ْف ِئد ُتهم ِمن َشيء ِإ ْذ َكاُنوا يجحدو َن ِبآي ِ‬
‫ّللا َو َح َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ه‬ ‫َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ُ ُْ َ‬
‫َّما َكاُنوا ِب ِه َي ْس َت ْه ِزُؤون﴾ ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآليات (‪)56-54‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الشعراء اآلية (‪)138-136‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة األحقاف اآلية (‪)26-21‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 38‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫قوم ثمود‬
‫اه ْم َصالِ ًحا‬ ‫َخ ُ‬
‫ود أ َ‬
‫لقد أرسل هللا تعالى إلى ثمود أخاهم صالحاً فقال‪َ ﴿ :‬وِاَلى َث ُم َ‬
‫اس َت ْع َمَرُك ْم‬
‫ض َو ْ‬‫َكم ِهم َن األَْر ِ‬ ‫ّللا َما َل ُكم ِهم ْن ِإَله َغْيُرُه ُه َو أ َ‬
‫َنشأ ُ‬ ‫اعُبُدوْا ه َ‬‫ال َيا َق ْومِ ْ‬‫َق َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب ُّم ِج ٌ‬
‫يب﴾(‪.)1‬‬ ‫وبوْا ِإَلْيه ِإ َّن َرهبِي َق ِر ٌ‬
‫وه ُث َّم ُت ُ‬
‫اس َت ْغفُر ُ‬
‫يها َف ْ‬
‫ف َ‬
‫إن دعوة الرسل واحدة في كل زمان ومكان‪ ،‬وهي دعوة الناس إلى هللا‪،‬‬
‫وتعريفهم بكماله‪ ،‬وتبيان الحكمة من أوامره ونواهيه‪ ،‬ذلك ألن اإلنسان إذا عرف‬
‫ربه‪ ،‬فقد عرف كل شيء‪ ،‬ومن أضل نفسه عن ربه‪ ،‬فلن تجد له ولياً مرشداً‪،‬‬
‫وعاش في ظلمات‪ ،‬وأعشته الضاللة عن معرفة الحقيقة‪ ،‬وأصبح ل يرى إل صور‬
‫األشياء‪ ،‬وهكذا فإن الكافر ينظر إلى الحق بمنظار معكوس‪.‬‬
‫ولذلك عندما تخاطبهم رسلهم بالحق‪ ،‬يستنكرون دعوتهم‪ ،‬ويسفهون تصرفهم‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ظنهم الخاطئ‪ .‬ويعملون من الطهارة‬
‫ألنهم يخاطبونهم بمقلوب ما يفهمون على ّ‬
‫والشرف والتضحيات بعكس ما يريدون من سفالت‪ ،‬فال عجب إذاً أن يرى أعمى‬
‫القلب ظالماً في رابعة النهار الصائف‪ ،‬وأن يجادل في الحق بعدما تبيَّن‪ ،‬وهكذا‬
‫استنكر قوم ثمود دعوة رسولهم لهم للعودة إلى هللا‪ ،‬وأبدوا تعجبهم مما يدعوهم‬
‫نت ِفيَنا َمْر ُج ًّوا َقْب َل َه َذا‪ :﴾...‬ناظرين فيك أنك عاقل‪:‬‬‫إليه‪َ ﴿ :‬قاُلوْا َيا َصالِ ُح َق ْد ُك َ‬
‫آب ُاؤَنا‪ :﴾...‬أتأتينا بدين جديد؟! كل من سبقنا سار‬ ‫﴿‪..‬أ ََتْن َهاَنا أَن َّن ْعُب َد َما َي ْعُبُد َ‬
‫على هذا الطريق! هل جئتنا أنت بشيء جديد؟! أتخالف كل من سبق؟! ﴿‪َ ...‬واَِّنَنا‬
‫َل ِفي َش هك ِهم َّما َت ْد ُعوَنا ِإَلْي ِه ُم ِريب﴾(‪ :)2‬هذا شيء ظاهر خطؤه‪.‬‬
‫َصالَ ُت َك‬ ‫بعد أهل مدين حينما‪َ ﴿ :‬قاُلوْا َيا ُش َعْي ُب أ َ‬
‫ومثل هذا اإلنكار قد أنكره من ُ‬
‫ْمُر َك أَن َّن ْتُر َك َما َي ْعُبُد َ‬
‫آب ُاؤَنا‪ :﴾...‬طول عمرنا ونحن سائرون بهذا‪ ،‬واآلن أنت‬ ‫َتأ ُ‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)61‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة هود اآلية (‪)62‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 39‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وحدك فهمان! كل الناس سائرون بهذا وكانوا يعبدون األصنام‪..﴿ :‬أ َْو أَن َّن ْف َع َل‬
‫التصرف بها كما‬ ‫َم َوالَِنا َما َن َشاء‪ :﴾...‬ألسنا أح ار اًر في أموالنا؟! تمانعنا في‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫في أ ْ‬
‫يد﴾(‪ :)1‬وكانوا من قبل يثنون عليه الثناء‬ ‫الرِش ُ‬
‫يم َّ‬ ‫ِ‬ ‫نشاء! ﴿‪ِ...‬إَّن َك َأل َ‬
‫َنت اْل َحل ُ‬
‫العظيم‪ ،‬فقالوا له‪ :‬هل عقلك يدلّك على هذا اآلن؟! أهذا كالم المنطق؟!‬
‫ومثل ذلك قد يحصل اليوم أيضاً‪ ،‬فلو أوضحت لهم مساوئ حضارتهم‪ ،‬وبينت‬
‫لهم أنها غدت مصد اًر للشقاء واأللم‪ ،‬وأن هذا األلم والشقاء‪ ،‬ينبع من نفس المصدر‬
‫الذي يحسبه الناس سعادة‪ ،‬فاستبدلوه بدين هللا الخالق الرازق‪ ،‬لستنكروا عليك ذلك‪،‬‬
‫يل َل ُه ْم الَ‬ ‫ِ‬
‫واسته أزوا بك‪ ،‬واتهموك بالتهمة نفسها‪ ،‬التي اتهموا بها غيرك‪َ ﴿ :‬واِ َذا ق َ‬
‫ض‪ :﴾...‬إن قلت له ل تفسد الناس بعملك‪ ،‬بالبناء‪ ،‬بالزخرف‬ ‫ُت ْف ِسُدوْا ِفي األَْر ِ‬
‫والترف والمالهي‪ ،‬يقول لك هذه ِّن َع ٌم من هللا‪ ،‬أترجع بنا إلى القرون الماضية‪.‬‬
‫مدنية‪َ ..﴿ :‬قاُلوْا ِإَّن َما َن ْح ُن ُم ْصِل ُحو َن﴾‪ :‬نحن في هذه‬ ‫قديماً ما كان عندهم ّ‬
‫المالهي نتسلى تسلية ل نعمل شيئاً‪﴿ :‬أَال ِإَّن ُه ْم ُه ُم اْل ُم ْف ِسُدو َن َوَل ِكن الَّ َي ْش ُعُرو َن﴾‪:‬‬
‫اس‪ :﴾...‬إن قيل له انظر َم ْن‬ ‫آمُنوْا َكما آم َن َّ‬ ‫يظن نفسه محسناً‪﴿ :‬واِ َذا ِقيل َلهم ِ‬
‫الن ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الس َف َهاء‪ :﴾...‬هؤلء كانوا جهالً‪ ،‬ل‬ ‫آم َن ُّ‬ ‫قبلك وماذا فعلوا‪َ ..﴿ :‬قاُلوْا أَُن ْؤم ُن َك َما َ‬
‫مدنية عندهم‪ ،‬هل نحن خلقنا للعمل فقط؟ يجب أن نتسلى‪ ..﴿ :‬أَال ِإَّن ُه ْم ُه ُم‬
‫سيحل بهم‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫الس َف َهاء َوَل ِكن الَّ َي ْعَل ُمو َن﴾(‪ :)2‬ما‬
‫ُّ‬
‫إن قوم ثمود كقوم عاد كانت لهم حضارة متقدمة‪ ،‬وكان طابعها المميز هو‬
‫البناء‪ ،‬وبذلك سماهم تعالى‪ ..﴿ :‬أَصحاب ِ‬
‫الح ْج ِر‪.)3(﴾...‬‬ ‫ْ َ ُ‬
‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)87‬‬
‫(‪ _ )2‬سورة البقرة اآليات (‪)13-11‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الحجر اآلية (‪ )80‬لقد مر معنا عندما تكلمنا عن قوم عاد‪ ،‬بأن قوم ثمود كانوا يقطنون في وادي القرى أو منطقة الحجر‪ ،‬وليست‬
‫تلك التسمية قد جاءت من وجود الحجارة في منطقة سكناهم‪ ،‬وإنما جاءت من استعمالهم الحجارة بكثرة في أغراض البناء‪ .‬لقد ذكر تعالى في‬
‫ْف فَعَ َل‬ ‫سورة الفجر الميزة الرئيسية لحضارات ثالث‪ :‬حضارة عاد وثمود وقوم فرعون‪ ،‬تلك الميزة هي الناحية العمرانية‪ .‬قال تعالى‪﴿:‬أَلَ ْم ِ ََر َكي َ‬
‫ت ا ْل ِّع َمادِّ‪ ،‬الَّتَِّ لَ ْم َ ُْخلَقْ مِّ ثْلُهَا فَِّ ا ْلبِّ َالدِّ‪َ ،‬وثَ ُمو َد الَّذَِّنَ جَاُِوا الص َّْخ َر ِِّا ْل َوادِّ‪َ ،‬وف ِّْرع َْونَ ِّْي ْاألَ ْوَِادِّ‪ ،‬الَّذَِّنَ َطغَ ْوا فَِّ ا ْلبِّ َال ِّد‪،‬‬
‫َرُِّكَ ِِّعَاد‪َ ِِّ ،‬ر َم َْا ِّ‬
‫عذَاب‪ِِّ ،‬نَّ َر َِّكَ لَ ِّبا ْل ْ‬
‫مِّرصَادِّ﴾ سورة الفجر اآليات (‪ .)14-6‬من تلك اآليات الكريمة يتبين أن الفساد‬ ‫علَي ِّْه ْم َر ُِّكَ س َْو َط َ‬ ‫فَْ َ ْكثَ ُروا فِّيهَا ا ْلفَسَادَ‪ ،‬فَص َّ‬
‫َب َ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 40‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لقد ساعد قوم ثمود على تشييد حضارتهم الغنى المادي الذي حصلوا عليه عن‬
‫طريق التجارة أيضاً‪ ،‬والموقع التجاري الممتاز على طريق التجارة العالمية‪ ،‬وقد‬
‫استثمروا تلك األموال في استعمار (‪ )1‬األرض‪ ،‬فأنشأوا بها جنات تسقيها العيون‪،‬‬
‫الشامخات‪ ،‬كذلك كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً‬
‫(‪)2‬‬
‫وبنوا في وسطها القصور‬
‫يصطافون بها فارهين‪ .‬قال تعالى على لسان سيدنا صالح ‪﴿ :‬أ َُت ْتَرُكو َن ِفي‬
‫ين﴾(‪ :)3‬ظانين البقاء! أتظنون أنه ل إلٓه لهذا الكون قابض على‬ ‫ِِ‬
‫اهَنا آمن َ‬
‫َما َه ُ‬
‫فكر بمن سبق‪ ،‬مات‬ ‫ناصيتكم! آمنين من الموت! ﴿ ِفي َجَّنات َو ُعُيون﴾‪ :‬باقين‪ّ ،‬‬
‫طْل ُع َها‪ :﴾...‬ثمرها‪ .‬متسق ممشوق في‬ ‫وصار تحت التراب‪َ ﴿ :‬وُزُروع َوَن ْخل َ‬
‫الفضاء‪َ ...﴿ .‬ه ِضيم﴾‪ :‬يهضم بسهولة‪ .‬فقط لألكل! ﴿ َوَتْن ِح ُتو َن ِم َن اْل ِجَب ِ‬
‫ال‬ ‫ٌ‬
‫وتا‪ :﴾...‬تأخذون منها الحجارة لتبنوا القصور الضخمة المنتظمة والمرتبة‪..﴿ :‬‬ ‫ُبُي ً‬
‫ين﴾‪ :‬رفاهية العيش‪( .‬كم بيَّن هللا وح ّذر من خطر التطاول في البنيان‪ ،‬ذلك‬ ‫َف ِارِه َ‬
‫ِ‬ ‫َط ِ‬ ‫لعظيم خطره على الناس)‪َ ﴿ :‬ف َّاتُقوا َّ ِ‬
‫يعوا أ َْمَر اْل ُم ْس ِرِف َ‬
‫ين﴾‪ :‬أسرفوا‬ ‫يعون‪َ ،‬وَال ُتط ُ‬
‫ّللا َوأ ُ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫ين ُي ْف ِسُدو َن ِفي ْاألَْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َوَال ُي ْصل ُحو َن﴾ ‪ :‬يحرضون وينشرون‬ ‫على أنفسهم‪َّ ﴿ :‬الذ َ‬
‫(‪)4‬‬

‫بأفعالهم الفساد بين الناس‪.‬‬

‫هنا كان نتيجة ما أحدثوه من البناء الضخم الفخم‪ ،‬فقوم عاد قد أشادوا مدينتهم حتى غدت أجمل بالد الدنيا في ذلك العصر‪ ،‬وقوم ثمود الذين جابوا‬
‫الصخر من الجبال‪ ،‬ويجلبونها إلى مدينتهم لبناء القصور بواسطة الماء الجاري في الوديان محموالً على ألواح = =من خشب أو على سفن معدة‬
‫لذلك‪ .‬والفراعنة أيضا ً استخدموا وادي النيل لجلب الحجارة من الجنوب لبناء األهرامات التي وصفها تعالى كما وصف الجبال باألوتاد‪ ،‬وتم بناء‬
‫المعابد والقصور وغير ذلك‪ ،‬هذه األعمال وما يلحق بها من زينة وفسق قد أحدثت الفساد في قلوب العباد‪ ،‬وانقسم المجتمع لطبقات مترفة أو‬
‫مدقعة بالفقر محرومة مقهورة‪ ،‬فح ّل الشقاق وانهارت اإلنسانية‪ ،‬عندئذ صب عليهم ربك سوط عذاب‪.‬‬
‫ستَ ْع َم َر ُك ْم فِّيهَا فَا ْ‬
‫ستَ ْغف ُِّروهُ ث ُ َّم‬ ‫غ ْي ُرهُ ه َُو أَنشََْكُم ِّمنَ األَ ْر ِّ‬
‫ض َوا ْ‬ ‫(‪ _ )1‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وِِّلَى ثَ ُمو َد أَ َخاهُ ْم صَالِّحا قَا َل ََا قَ ْو ِّم ا ْعبُدُواْ َ‬
‫ّلل َما لَكُم ِّمنْ ِِّلَه َ‬
‫يب ﴾ سورة هود‪ .‬اآلية (‪)61‬‬ ‫ِ ُوُِواْ ِِّلَ ْي ِّه ِِّنَّ َرَِِّ قَ ِّر ٌ‬
‫َب ُّم ِّج ٌ‬
‫اْك ُُرواْ ِِّ ْْ َجعَلَ ُك ْم ُخلَفَاء مِّ ن َِ ْع ِّد عَاد َوِ ََّوأَ ُك ْم فَِّ األَ ْر ِّ‬
‫ض َِتَّخِّ ذُونَ مِّ ن ُ‬
‫سهُو ِّلهَا قُصُورا َوَِ ْنحِّ ت ُونَ ا ْل ِّجبَا َل‬ ‫(‪ _ )2‬قال تعالى على لسان سيدنا صالح‪َ ﴿:‬و ْ‬
‫سدَِّنَ ﴾ سورة األعراف‪ .‬اآلية (‪)74‬‬ ‫ْ‬
‫ض ُمف ِّ‬ ‫اْك ُُرواْ آَّء ّللِّ َوََّ َِ ْعثَ ْوا فَِّ األَ ْر ِّ‬
‫ُِيُوِا فَ ْ‬
‫(‪ _ ) 3‬سورة الشعراء اآلية ( ‪) 146‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة الشعراء اآليات (‪)152-147‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 41‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ويمكن القول أن ثمود خلفت عاداً بحضارتها ونسجت على منوالها‪ ،‬إل أنها لم‬
‫تفْقها قوة ول علماً‪.‬‬
‫هذا واذا رجعنا إلى اآليات التي ذكرناها آنفاً‪ ،‬وأمعنا النظر فيها ثانية‪ ،‬نرى‬
‫أن صالحاً ‪ ،‬قد حذرهم من تلك الحضارة‪ ،‬وبين لهم فسادها‪ ،‬وما تجلبه لهم‬
‫من شقاء‪ ،‬كما جلبت ٍ‬
‫لعاد الشقاء ومن ثم الهالك قبلهم‪.‬‬
‫وبديهي أن يستنكر المترفون منهم دعوة سيدنا صالح ‪ ،‬ويتهموه بشتى‬
‫التهم‪ .‬ذلك ألن معظم الناس ل تؤمن إل بالرفاه المادي سبيالً للسعادة‪ ،‬أو على‬
‫األقل هو أحد األسباب الرئيسية لها‪.‬‬
‫أما الرسل‪ ،‬وهم الذين يرون بقلوبهم حقائق األمور‪ ،‬فإنهم ينظرون إلى الرفاه‬
‫المادي بعكس ما ينظر إليه المترفون‪ ،‬فالمترفون ينظرون إلى األمور بمنظار‬
‫معكوس‪ ،‬بينما الرسل تنظر إليه بنور من هللا‪ ،‬فيرون ما ل يرى أولئك‪ ،‬إذ يرون‬
‫خداعة‪ .‬ومن تلكما النظرتين‪ ،‬أو من اختالف‬
‫حقائق األمور‪ ،‬بينما المظاهر ّ‬
‫المفهومين‪ ،‬ينشأ الخالف بين الرسل وأتباعهم من جهة‪ ،‬وبين المترفين وأشياعهم‬
‫من جهة أخرى ول يخفى ما للرفاه المادي وما يتلوه من تمايز طبقي وتفرقة وعداوة‬
‫بين الفقراء واألغنياء في المجتمع حتى يكون سبباً للمترفين لتكذيب الرسل‬
‫فالهالك‪.‬‬
‫واآلن نريد أن نبين الكيفية في توليد الفساد‪ ،‬ومن ثم الشقاء الذي يحسبه الناس‬
‫سعادة‪.‬‬
‫إن اإلنسان يظل بمعيشته راضياً إذا شاهد أفراد مجتمعه يعيشون المستوى نفسه‪،‬‬
‫الذي يعيشه تقريباً‪ .‬وهذا الرضى يظل باقياً‪ ،‬طالما لم ير غيره قد سبقه في هذا‬
‫المضمار كثي اًر‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 42‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فبيته مثالً يبقى في عينه جميالً‪ ،‬ما لم ير قصو اًر منيفة قد أشيدت إلى جانبه‪،‬‬
‫ويبقى مسرو اًر بأثاثه ولباسه‪ ،‬ما لم ير جاره قد استحدث من األثاث واللباس‪ ،‬ما‬
‫يفوق أثاثه‪ ،‬جودة وأناقة‪.‬‬
‫كذلك يظل مسرو اًر بمأكله ومشربه‪ ،‬وأماكن لهوه وعاداته وتقاليده‪ ،‬سواء كانت‬
‫سيئة أو حسنة‪ ،‬ما لم ير الدنيا قد تغيرت من حوله‪ ،‬عندئذ ينظر إلى ما كان‬
‫يستحسنه باألمس ويرتضيه‪ ،‬نظرة ازدراء واحتقار‪ ،‬ثم يبدأ الهم والغم يطارده في‬
‫كل مكان‪ ،‬والضجر والسخط والتبرم من الحياة‪.‬‬
‫تُرى من الذي أحدث هذا الهم في نفس هذا اإلنسان؟ ومن المسؤول عن‬
‫شقائها؟ ومن الذي سلبه ذلك الرضى‪ ،‬وتلك السعادة‪ ،‬التي كان يتمتع بها نسبياً؟‬
‫أليس المترفون‪ ،‬هم الذين أفسدوا على السواد األعظم من أفراد المجتمع‬
‫حياتهم؟ فلكي تتمتع هذه الفئة القليلة في كل مجتمع بالحياة‪ ،‬فإنها تفسد الحياة‬
‫على الغالبية العظمى من الناس‪.‬‬
‫ليس بوسع الناس جميعاً أن تبني قصو اًر‪ ،‬وتقتني أثاثاً يناسب تلك القصور‪ ،‬ولو‬
‫حصلوا على ذلك‪ ،‬وهذا محال‪ ،‬فهل يقف األغنياء منهم عند حد‪ ،‬أم أنهم يسعون‬
‫جاهدين إلى اختالق تفنن جديد في الحياة‪ ،‬لكي يظلوا متميزين عن غيرهم من‬
‫الناس؟‬
‫أجل‪ :‬إن التسابق يظل موجوداً‪ ،‬ل من أجل الرفاه وحسب‪ ،‬بل من أجل التفاخر‬
‫الد ْن َيا َل ِع ٌب َوَل ْه ٌو َو ِزيَن ٌة َوَت َفا ُخٌر‬ ‫اعَل ُموا أََّن َما اْل َح َيا ُة ُّ‬
‫والتباهي أمام اآلخرين‪ْ ﴿ :‬‬
‫ِ‬ ‫َب ْي َن ُكم َوَت َكاثٌُر ِفي ْاألَم َو ِ‬
‫اه‬
‫يج َف َتَر ُ‬ ‫ال َو ْاأل َْوَالد َك َم َث ِل َغ ْيث أ ْ‬
‫َع َج َب اْل ُك َّف َار َن َب ُات ُه ثُ َّم َي ِه ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫يد وم ْغ ِفرٌة ِمن َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َو َما‬ ‫ّللا َو ِر ْض َو ٌ‬ ‫اب َشد ٌ َ َ َ ه َ‬ ‫اما َوِفي ْاآلخَرِة َع َذ ٌ‬ ‫ط ً‬‫ُم ْص َفًّار ُث َّم َي ُكو ُن ُح َ‬
‫ور﴾(‪.)1‬‬ ‫الد ْن َيا ِإَّال َم َت ُ‬
‫اع اْل ُغُر ِ‬ ‫اْل َح َيا ُة ُّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة الحديد اآلية (‪)20‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 43‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫إذاً فالتسابق نحو الرفاه أو نحو التفاخر‪ ،‬ليس له نهاية‪ ،‬ألن النفس ل يستقر‬
‫تمجه وتطلب غيره‪ ،‬فكلما قضت من‬
‫سرورها ورضاها طويالً على شيء ألفته‪ ،‬بل َّ‬
‫مطلب وط اًر تفتقت لها مطالب جديدة‪ ،‬وتنقضي الحياة‪ ،‬وشهواتها ل تنقضي‪:‬‬
‫الت َكا ُثُر‪َ ،‬ح َّتى ُزْرُت ُم اْل َمَقاِبَر﴾(‪ :)1‬ذلك ألن النفس ل نهاية لطاقاتها‪،‬‬
‫اك ُم َّ‬
‫﴿أَْل َه ُ‬
‫فباستطاعتها أن تبتلع لذة الوجود من غير أن تشبع‪ ،‬أو من غير أن تروي طاقاتها‬
‫الالمتناهية‪.‬‬
‫أما هللا تعالى فقد أعد لها تلك الطاقات الهائلة‪ ،‬لترتوي من معينه الذي ل‬
‫ينضب‪ ،‬ومن جماله وجالله وعلمه ورحمته‪.‬‬
‫وفي الحديث القدسي‪:‬‬
‫(ما وسعني أرضي وال سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن) (‪.)2‬‬
‫لذا إن أطاع اإلنسان نفسه‪ ،‬وأراد إشباعها من شهوات الدنيا‪ ،‬فإنه يتردى‪ ،‬من‬
‫غير أن يحقق لها إل يسي اًر من لذائذ الشقاء والضجر والسأم والضنك ويحسب أن‬
‫وهماً‪.‬‬
‫فيها سعادته والحقيقة أنها ل تخلصه من شقائه ول يزداد إل ضنكاً ّ‬
‫وبذلك التسابق نحو الرفاه‪ ،‬تأخذ الحياة بالتعقيد بدل التبسيط‪ ،‬والشقاء بدل‬
‫السعادة‪ ،‬ويكون السبب في هذا هم المترفون‪ ،‬الذين أفسدوا الحياة على الفقراء‪،‬‬
‫بما أحدثوه من زخرف وزينة‪ ،‬ونتيجة لهذا الفساد‪ ،‬تفسد الضمائر‪ ،‬وتفسد القيم‪،‬‬
‫هم الناس جمع المال‪ ،‬ليحققوا به شهواتهم ورغائبهم ول يهمهم من أي‬ ‫ويصبح ُّ‬
‫طريق ُجلِّب‪ ،‬ليكونوا كأمثال من فاقوهم بالترف أو ليتعالوا على من دونهم‬
‫فيفسدوا قلوبهم ومعيشتهم‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬فإن الحضارة قد جلبت للناس شقاء وبؤساً‪َّ ،‬‬
‫وولدت في نفوسهم حقداً وألماً‪،‬‬
‫واستطاعت أن توقع بينهم العداوة‪ ،‬ل سيما بين المترفين والمحرومين‪ ،‬فالمترفون‬

‫(‪ _ )1‬سورة التكاثر اآلية (‪)12‬‬


‫(‪ _ )2‬أحاديث األحياء رقم‪/3/‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 44‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫يزدادون غنى وتسلطاً واستغاللً‪ ،‬والمحرومون يزدادون فق اًر وعبودية وحقداً واذللً‪.‬‬
‫ً‬
‫ول عجب عندئذ أن يتكتل الفقراء ضد األغنياء‪ ،‬ليسقوهم الكأس نفسه الذي سقوهم‬
‫منه‪ .‬ولكن هؤلء الفقراء الذين حلوا محل ساداتهم‪ ،‬ل بد أن يعيشوا بعد حين‬
‫بالعقلية ذاتها التي كانت لساداتهم‪ ،‬ألن الغاية التي قاتلوا من أجلها‪ ،‬هي نفسها‬
‫التي تسنموا ذروتها‪ .‬فضالً عن ذلك‪ ،‬فإن كثرة المتطلبات الحضارية‪ ،‬تجعل‬
‫اإلنسان بخيالً نحو نفسه ونحو ذويه‪ ،‬ول يفعل من المعروف إل قليالً‪ ،‬وعدم فعل‬
‫المعروف‪ ،‬يعتبر من األسباب الهامة في تقطيع أواصر المجتمع‪ ،‬وفقدان المحبة‬
‫فيما بينهم‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر فإن األزمة الروحية والخلقية في كل حضارة‪ ،‬لن تُ َح َّل إل‬
‫بالقضاء على مسبباتها‪ ،‬وهذا يعني الرجوع إلى شرعة هللا‪ ،‬وامتثال أوامره‪ ،‬ألنها‬
‫هي الشرعة الوحيدة التي تنقذنا من شقاء الدارين‪ .‬والتي أنقذت الصحب الكرام ومن‬
‫تابعهم‪ ،‬من أجل ذلك حذر سبحانه وتعالى على لسان رسله من الستغراق والتوغل‬
‫في الدنيا لتمحيص طاقاتنا كلها‪ ،‬حتى ل نخسر اآلخرة الباقية‪ ،‬وطلب إلينا أن‬
‫نمشي في مناكبها‪ ،‬أي في أطرافها ل أن نغوص في أعماقها قال تعالى‪..﴿ :‬‬
‫ور﴾(‪ .)1‬ألن التوغل كما رأينا‪ ،‬وكما‬ ‫اكِب َها َوُكُلوا ِمن هِرْزِق ِه َوِاَلْي ِه ُّ‬
‫الن ُش ُ‬
‫َفام ُشوا ِفي مَن ِ‬
‫ْ‬
‫َ‬
‫نعيشه اآلن في هذا العصر‪ ،‬يحدث في األرض الفساد‪ ،‬واذا فسد الشيء‪ ،‬يصبح‬
‫نفع أبدًا‪.‬‬
‫ضرره أكثر من نفعه‪ ،‬إن لم نقل لم يعد له ٌ‬
‫لم يقتصر إفساد الحضارة على أحوال المعيشة واألخالق فحسب‪ ،‬بل إنها تفسد‬
‫علينا طريق الوصول إلى سعادتنا األبدية‪ ،‬أو الغاية التي خلقنا هللا من أجل تحقيقها‪.‬‬
‫من أجل ذلك‪ ،‬حذر سيدنا صالح ‪ ‬قومه من مغبة أعمالهم‪ ،‬وبين لهم فسادها‪،‬‬
‫وفساد معتقداتهم‪ ،‬وحذرهم من الفساد الذي أحدثوه في األرض بعد إصالحها‪ ،‬فما‬

‫(‪ _ )1‬سورة الملك اآلية (‪)15‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 45‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫كان جواب قومه إل أن‪َ ﴿ :‬قاُلوا إَِّنما أ َ ِ‬
‫تخيالت‬
‫تتخيل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ين﴾‪:‬‬ ‫َنت م َن اْل ُم َس َّح ِر َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َنت ِإَّال َب َشٌر هم ْثُلَنا َفأْت ِب َ‬
‫آية‬ ‫وتتكلم‪ .‬مستور عليك ما في هذه األمور من نعيم‪َ ﴿.‬ما أ َ‬
‫نت ِمن َّ ِ ِ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬
‫الصادق َ‬ ‫ِإن ُك َ َ‬
‫وقد طلبوا منه آية‪ ،‬تثبت بأنه رسول من هللا (‪ ،)2‬فأرسل هللا إليهم ناقة ضخمة‪،‬‬
‫لها ِّوْرُد يوم‪ ،‬ولهم ِّوْرُد اليوم التالي‪ ،‬وبتلك اآلية أصبح الماء قسمة بينهم وبينها‪ ،‬إل‬
‫أنهم لم يصبروا على تلك القسمة فعقروا الناقة‪.‬‬
‫وكان تعالى قبلها قد أخذهم بألوان من العذاب ليتوبوا‪ ،‬ويعودوا للحق فيصلحوا‬
‫سيرهم المعوج‪ ،‬لكنهم تطيروا بصالح ‪ ‬ومن معه‪َّ ،‬‬
‫فرد عليهم بأن ما تطيروا به هو‬
‫من عند هللا‪ ،‬وذلك نتيجة أعمالهم المنحرفة‪ ،‬نتيجة افتتانهم في الدنيا وغرورهم بها‪.‬‬
‫أجل لقد نصحهم رسولهم م ار ًار‪ ،‬وبين لهم فساد مسلكهم‪ ،‬وبين لهم طريق‬
‫سعادتهم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬إل أنهم لم يقبلوا نصيحته(‪ ،)3‬بسبب انهماكهم بالدنيا‪،‬‬
‫وعدم تفكرهم بآلء هللا‪ ،‬وبالتالي عماهم القلبي‪َ .‬أو يحبون من يحاول نهيهم عن‬
‫َّ‬
‫المنحطة؟ حتى لو أدت بهم إلى الفساد والتعاسة والشقاء‪ ،‬مما يظنونه‬ ‫شهواتهم‬
‫ولما أطال نصحه لهم‪ُّ ،‬‬
‫وظنوه عائقاً فيما بينهم وبين‬ ‫سم زؤام‪ّ ،‬‬
‫دسماً وهو بالحقيقة ٌ‬
‫ما يشتهون‪ ،‬أراد المترفون من قومه أن يتخلصوا منه‪ ،‬فكادوا له مؤامرة‪ ،‬ولكن هللا‬
‫كان لهم بالمرصاد‪ ،‬فقبل أن تصل إليه أيديهم‪ ،‬وقبل أن ينفذوا مكرهم‪ ،‬أخذهم هللا‪،‬‬
‫يمكن مخلوقاً من أن يلمس‬ ‫هم وأتباعهم‪ ،‬من حيث ل يشعرون‪ ،‬إذ حاشا هلل أن ِّّ‬
‫اه ْم َصالِ ًحا أ ِ‬
‫َن‬ ‫َخ ُ‬ ‫الرسول ‪ ‬بلمسة أذى‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وَلَق ْد أَْر َسْلَنا ِإَلى َث ُم َ‬
‫ود أ َ‬
‫ان َي ْخ َت ِص ُمو َن﴾‪ :‬منهم من آمن ومنهم من لم يؤمن‪،‬‬ ‫ّللا َفِإ َذا ُه ْم َف ِر َيق ِ‬
‫اعُبُدوا َّ َ‬
‫ْ‬

‫(‪ _ )1‬سورة الشعراء اآليات (‪)154-153‬‬


‫َ‬
‫صبَحُوا نادِّمِّ ينَ﴾‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اب َ َْوم عَظِّ يم‪ ،‬فعَق ُروهَا فْ ْ‬‫َ‬
‫عذ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سوء فيَْخذ ُك ْم َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب َ َْوم َّم ْعلوم‪َ ،‬وَّ ِ َمسُّوهَا ِِّ ُ‬ ‫َ‬ ‫(‪ _ )2‬قال تعالى‪﴿:‬قَا َل َه ِّذ ِّه نَاقَةٌ لَّهَا ش ِّْر ٌ‬
‫ب َول ُك ْم ش ِّْر ُ‬
‫سورة الشعراء‪ .‬اآليات (‪)157-155‬‬
‫(‪ _ )3‬انظر اآليات من رقم ‪ 73/‬حتى ‪ /80‬من سورة األعراف‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 46‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ال َي ا َق ْومِ لِ َم‬
‫فالذين لم يؤمنوا قالوا ائتنا بعذاب من عند هللا‪ ،‬فأجابهم‪َ ﴿ :‬ق َ‬
‫الس هِي َئ ِة َق ْب َل ا ْل َح َس َن ِة ‪:﴾...‬‬
‫َت ْس َت ْع ِج ُلو َن‪ :﴾...‬قالوا ليفعل هللا بنا ما يريد‪..﴿ :‬بِ َّ‬
‫ِ‬
‫ّللا ‪ :﴾...‬أهكذا بدلً من أن تطلبوا الشفاء‬ ‫يستعجلون العذاب‪َ ..﴿ :‬ل ْوَال َت ْس َت ْغفُرو َن َّ َ‬
‫لنفوسكم‪َ ..﴿ :‬ل َع َّل ُك ْم ُت ْر َح ُمو َن﴾‪ :‬يغفر هللا لكم‪َ ﴿ .‬ق اُلوا اطَّ َّي ْرَن ا بِ َك َو ِب َمن‬
‫َنت ْم َق ْو ٌم ُت ْف َت ُنو َن ‪ :﴾...‬ما‬ ‫ّللاِ َب ْل أ ُ‬
‫ند َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّمع ك‪ :﴾...‬تشاءمنا‪َ ..﴿ :‬قال َ ِ‬
‫ط ائُرُك ْم ع َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫تفعلونه معلوم عند هللا‪ ،‬وان ما يحدث لكم من إنذارات هو من عند هللا ورحمته بكم‪،‬‬
‫ان ِفي اْلمِديَن ِة ِت ْس َع ُة َرْهط‪ :﴾...‬قبائل‪ُ ..﴿ :‬ي ْف ِسُدو َن‬ ‫حول ول قوة‪َ ﴿ :‬وَك َ‬ ‫وليس لي به ٌ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫اّلل َلُنَبهِي َتَّن ُه‪ :﴾...‬نقتله‪ ،‬ضاقوا به ذرعاً‪:‬‬ ‫ض وَال يصلِحو َن‪َ ،‬قاُلوا َتَقاسموا ِب َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َُ‬ ‫في ْاألَْر ِ َ ُ ْ ُ‬
‫َهلِ ِه َواَِّنا َل َص ِاد ُقو َن‪َ ،‬و َم َكُروا َم ْكًرا‪:﴾...‬‬ ‫ِ‬
‫َهَل ُه ُث َّم َلَنُقوَل َّن لِ َولِهيِه َما َش ِهْدَنا َم ْهِل َك أ ْ‬
‫﴿‪َ ..‬وأ ْ‬
‫دبروا تدبي اًر‪َ ..﴿ :‬و َم َكْرَنا َم ْكًار َو ُه ْم َال َي ْش ُعُرو َن﴾‪ :‬بأن َيد هللا فوق تسييرهم‪ .‬أي أنّه ل‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫ان َعاقَب ُة َم ْك ِرِه ْم أََّنا َد َّمْرَن ُ‬
‫اه ْم‬ ‫ف َك َ‬
‫ظْر َكْي َ‬
‫مسي ر إل هللا‪َ ﴿ .‬فان ُ‬ ‫فعال‪ ،‬ل ِّّ‬ ‫إلٓه إل هللا‪ ،‬ل ّ‬
‫اوَي ًة ِب َما َظَل ُموا ِإ َّن ِفي َذِل َك َآلَي ًة هِلَق ْوم َي ْعَل ُمو َن‪،‬‬
‫وت ُه ْم َخ ِ‬ ‫ين‪َ ،‬فِتْل َك ُبُي ُ‬ ‫وَقومهم أ ِ‬
‫َج َمع َ‬
‫َ ْ َ ُْ ْ‬
‫ِ‬
‫آم ُنوا َو َكا ُنوا َي َّت ُقو َن﴾(‪.)1‬‬‫ين َ‬‫َنج ْي َن ا َّالذ َ‬
‫َوأ َ‬
‫يفكر في‬ ‫كل هذه األمثلة تبين رحمة هللا تعالى بعباده بأنه يبين لإلنسان أن ِّّ‬
‫مصيره وما سيؤول إليه أمره هل هو إلى النعيم أم إلى الجحيم وما الذي يجب عليه‬
‫أن يعمله ليتجنب الهاوية ويسمو إلى الجنان‪.‬‬
‫***‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة النمل اآليات (‪)53 -45‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 47‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫قوم سيدنا لوط ‪‬‬
‫آمن لسيدنا إبراهيم‪ ،‬سيدنا لوط‪ ،‬عليهما السالم‪ ،‬وراح بعد ذلك يدعو قومه إلى‬
‫عبادة هللا‪ ،‬وتَ ْرِّك السيئات‪ ،‬وكان لقوم سيدنا لوط سيئة انفردوا بها‪ ،‬دون غيرهم من‬
‫األمم التي سبقتهم‪.‬‬
‫تلك السيئة هي مباشرة الذكران من دون النساء‪ ،‬وهذه السيئة تترك في المجتمع‬
‫آثا اًر اجتماعية خطيرة‪ ،‬إذ أن ممارسة تلك العادة تخلق جيالً متحلالً من القيم‪ ،‬ومن‬
‫تتويج لسلوكية مجتمع منحرف‪ .‬إن الفاعلين لتلك الشهوة‬
‫ٌ‬ ‫األخالق‪ .‬وهي بالحقيقة‬
‫الشاذة تفقد من المفعول بهم صفة الحياء والرجولة‪ ،‬وتحولهم إلى أشباه الرجال‪ .‬إذ‬
‫ل نستطيع أن نعدهم من الرجال ول من النساء ومن الفاعلين تفقد صفة المروءة‬
‫والوجدان‪ .‬لذلك فاجتثاث الفاعل والمفعول به من األرض أولى من بقائهم‪ ،‬ما داموا‬
‫مصرين‪ ،‬ألنهم أصبحوا يفسدون في األرض ول يصلحون‪ ،‬وحيث أن قوم لوط‬ ‫ِّّ‬
‫‪ ‬هم أول من فتح باب الشذوذ الجنسي بالعالمين واخترعه وابتدعه‪ ،‬لذا كان‬
‫عقابهم الردعي عنيفاً‪ ،‬وعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫َحد ِهمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫طا ِإ ْذ َق ِ ِ‬
‫ال لَق ْو ِمه أ ََتأ ُْتو َن اْل َفاح َش َة َما َسَبَق ُكم ِب َها م ْن أ َ‬
‫َ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وُلو ً‬
‫ال َش ْه َوًة ِهمن ُدو ِن الِهن َساء َب ْل أ ُ‬
‫َنت ْم َق ْوٌم ُّم ْس ِرُفو َن﴾(‪:)1‬‬ ‫ين‪ِ ،‬إَّن ُك ْم َل َتأ ُْتو َن هِ‬
‫الر َج َ‬
‫ِ‬
‫اْل َعاَلم َ‬
‫تلقون بهذا الماء الطاهر في مكان نجس وتهدرونه وأنتم تبصرون ضعة نفوسكم‬
‫وانحطاطها‪.‬‬
‫إن لوطاً ‪ ،‬قد حذرهم من مسلكهم الشاذ هذا‪ ،‬وبين لهم أن فعلهم لم يسبقهم‬
‫وهم ِهمن َقْرَيِت ُك ْم‬
‫َخ ِر ُج ُ‬
‫إليه أحد من العالمين‪ .‬فما كان جواب قومه إل أن قالوا‪ ..﴿ :‬أ ْ‬
‫ط َّهُرو َن﴾(‪ :)2‬هؤلء جماعة يتظاهرون بالصالح‪ ،‬هذه شهوة بكل إنسان‪.‬‬ ‫ِإَّن ُه ْم أَُن ٌ‬
‫اس َي َت َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآليات (‪)81-80‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األعراف اآلية (‪)82‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 48‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لقد بلغت الوقاحة بقوم سيدنا لوط حد المجاهرة بخطيئتهم‪ ،‬وبلغ بهم العمى أن‬
‫راودوا لوطاً ‪‬عن ضيفه‪ ،‬وقد ضاق ‪ ‬بهم ذرعاً‪ ،‬وعرض عليهم الزواج‬
‫الشرعي من بناته حيث أن هذا هو أطهر لهم‪ ،‬حتى ل يخزوه في ضيفه‪ ،‬إل أنهم‬
‫ق‪ :)1(﴾...‬ل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رفضوا هذا العرض وقالوا‪َ ﴿ :‬قاُلوْا َلَق ْد َعل ْم َت َما َلَنا في َبَنات َك م ْن َح ه‬
‫نحب النساء‪َ ...﴿ .‬وِاَّن َك َل َت ْعَل ُم َما ُن ِر ُيد﴾‪ :‬من الوساخة والسفالة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫فلما رفضوا الزواج من بناته‪ ،‬وأصروا على ما جاؤوا من أجله‪ ،‬طمأنه ضيوفه‬
‫بأنهم لن يصلوا إليه‪ ،‬وأخبروه بأنهم مالئكة‪ ،‬جاؤوا ليقطعوا دابرهم مصبحين‪ ،‬ثم‬
‫طلبوا من سيدنا لوط أن يسري بأهله بق ْ‬
‫طع من الليل‪ ،‬من غير أن يلتفت منكم أحد‬
‫بنفسه إلى أقربائه‪ ،‬ألنهم كفرة فجرة‪ ،‬وذلك كيال تتلوث نفوسكم بالتفاتكم إليهم من‬
‫شفقة أو عطف‪ ،‬أما امرأتك فقد قدرنا عليها ما قدرنا على قومك وانه مصيبها ما‬
‫أصابهم‪ ،‬ألن نفسها تغبَّرت من نفوس قومها‪ ،‬بسبب حبها ألهلها وميلها لهم‪ ،‬بدل‬
‫اللتفات إليك‪ ،‬أو الستماع لك‪.‬‬
‫من أجل ذلك حذر هللا سبحانه وتعالى المؤمنين‪ ،‬أن يعّلقوا قلوبهم بمن َّ‬
‫حاد هللا‬
‫ورسوله‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قال تعالى‪َ﴿ :‬ال َت ِجد َقوما ي ْؤ ِمُنو َن ِب َّ ِ‬
‫اّلل َواْلَي ْومِ ْاآلخ ِر ُي َو ُّادو َن َم ْن َح َّاد َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫ُ ًْ ُ‬
‫اءه ْم أ َْو ِإ ْخ َواَن ُه ْم أ َْو َع ِش َيرَت ُه ْم أ ُْوَل ِئ َك َك َت َب ِفي‬
‫اءه ْم أ َْو أَْبَن ُ‬
‫آب ُ‬‫َوَر ُسوَل ُه َوَل ْو َكاُنوا َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬‫ان َوأََّي َد ُهم ِبُروح همْن ُه َوُي ْد ِخُل ُه ْم َجَّنات َت ْجرِي من َت ْحت َها ْاألَ ْن َه ُار َخالد َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُقُلوبِه ُم ْاإل َ‬
‫يم َ‬
‫ّللا أََال ِإ َّن ِح ْزب َّ ِ‬
‫ّللا ُه ُم‬ ‫ّللا عْنهم ور ُضوا عْنه أُوَل ِئك ِح ْزب َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ْ َ‬ ‫يها َرض َي َّ ُ َ ُ ْ َ َ‬ ‫ف َ‬
‫اْل ُمْفلِ ُحو َن﴾(‪.)2‬‬
‫إن إتيان هذا المنكر أصبح في المجتمعات الحديثة شائعاً‪ ،‬كما أنه أصبح‬
‫مشروعاً عند بعض الدول الغربية‪ ،‬وهذا الشذوذ تفشى كثي اًر في بعض دول الشرق‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)79‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة المجادلة اآلية (‪)22‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 49‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫األدنى‪ ،‬فإذا أهلك هللا قوم لوط بهذا العمل السيء‪ ،‬الذي يقضي على الحرث‬
‫والنسل‪ ،‬والذي ليس له من شهوة سوى الشذوذ الجنسي في نفوس مرتكبيه‪ ،‬فما‬
‫بالك وحال المجتمع الحديث كما نراه من تخنث ومشابهة بين الرجال والنساء‪ ،‬إل‬
‫أن نتوقع هالكاً مروعاً يشيب لهوله الولدان‪.‬‬
‫يء ِب ِه ْم‪ :﴾...‬استاء وضاق صدره‬ ‫اءت رسُلَنا ُلو ً ِ‬
‫طا س َ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وَل َّما َج ْ ُ ُ‬
‫اق ِب ِه ْم َذْر ًعا‪ :﴾...‬ضاق صدره من مجيئهم‪ ،‬ألنه يعرف أن قومه‬ ‫بهم‪َ ..﴿ :‬و َض َ‬
‫اءه َق ْو ُم ُه ُي ْهَر ُعو َن ِإَلْي ِه‬
‫يب﴾‪ :‬ل خالص به‪َ ﴿ :‬و َج ُ‬
‫ِ‬
‫ال َه َذا َي ْوٌم َعص ٌ‬
‫أرذال‪َ ..﴿ :‬وَق َ‬
‫ال َيا َق ْومِ‬ ‫و ِمن َقبل َكاُنوْا يعمُلو َن َّ ِ ِ‬
‫السهيَئات‪ :﴾...‬السفالة‪ :‬هذه صفتهم‪َ ..﴿ :‬ق َ‬ ‫ََْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ّللا‪ :﴾...‬أل‬ ‫أزوجكم ّإياهن‪َ ..﴿ :‬ف َّاتُقوْا ه َ‬ ‫َه ُؤالء َبَناتي ُه َّن أَ ْط َهُر َل ُك ْم‪ّ :﴾...‬‬
‫يد﴾‪ :‬أل يوجد فيكم‬ ‫س ِم ُ‬
‫نك ْم َر ُج ٌل َّرِش ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫تخجلون؟! ﴿‪َ ...‬والَ ُت ْخ ُزون في َضْيفي أََلْي َ‬
‫ق‪:﴾...‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رجل عاقل يستنكر هذا العمل؟! ﴿ َقاُلوْا َلَق ْد َعل ْم َت َما َلَنا في َبَنات َك م ْن َح ه‬
‫َن‬ ‫نحب النساء‪َ ..﴿ :‬واَِّن َك َل َت ْعَل ُم َما ُن ِر ُيد﴾‪ :‬من الوساخة والسفالة‪َ ﴿ :‬ق َ‬
‫ال َل ْو أ َّ‬ ‫ل ّ‬
‫ِ‬
‫ظهر أستند إليه‪ ،‬أو أحد‬ ‫ردكم‪..﴿ :‬أ َْو آوِي ِإَلى ُرْكن َشديد﴾‪ٌ :‬‬ ‫لِي ِب ُك ْم ُق َّوًة‪ :﴾...‬أل ّ‬
‫ط ِإَّنا ُر ُس ُل َرهِب َك‪ :﴾...‬الملك ل ُيعرف وهو‬ ‫أركن إليه في دفعكم‪َ ﴿ :‬قاُلوْا َيا ُلو ُ‬
‫بصورة إنسان‪ ،‬سيدنا إبراهيم ‪ ،‬زوجة سيدنا إبراهيم وسيدنا لوط ‪ ‬لم‬
‫اللْي ِل َوالَ َيْل َت ِف ْت ِم ُ‬
‫نك ْم‬ ‫َهلِ َك ِب ِق ْطع ِم َن َّ‬
‫ه‬ ‫َس ِر ِبأ ْ‬ ‫ِ‬
‫يعرفوهم‪َ ..﴿ :‬لن َيصُلوْا ِإَلْي َك َفأ ْ‬
‫ِ‬
‫بحبها‬
‫امَأر ََت َك‪ :﴾...‬كانت تحب قومها‪ ،‬كفرت ّ‬ ‫َحٌد‪ :﴾...‬إليهم بالمحبة‪..﴿ :‬إالَّ ْ‬ ‫أَ‬
‫ِ‬
‫َص َاب ُه ْم‪:﴾...‬‬ ‫يجره لحال من يحب‪ِ ..﴿ :‬إَّن ُه ُمص ُيب َها َما أ َ‬ ‫حب المرء ّ‬ ‫لقومها‪ ،‬كذلك ّ‬
‫ستهلك معهم‪ ،‬ألنها كافرة مثلهم‪ .‬على اإلنسان أن يعلّق قلبه بأهل الطهارة‪:‬‬
‫الصْب ُح ِبَق ِريب﴾‪ :‬جاؤوا وقت الصبح‪َ ﴿ :‬فَل َّما َجاء‬
‫س ُّ‬ ‫﴿‪ِ..‬إ َّن َم ْو ِع َد ُه ُم ُّ‬
‫الصْب ُح أََلْي َ‬
‫طْرَنا‬
‫َم َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُرَنا َج َعْلَنا َعالَي َها َسافَل َها‪ :﴾...‬حصل لهم زلزال إذ َقَلب األرض‪َ ..﴿ :‬وأ ْ‬ ‫أْ‬
‫مسجل عليه عمله من‬ ‫ّ‬ ‫َعَلْي َها ِح َجاَرًة ِهمن ِس ِهجيل‪ :﴾...‬من سجل عملهم‪ ،‬كل واحد‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 50‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫نضود﴾‪ :‬متتالية‪ ،‬واحد بعد واحد‪ُّ ﴿ .‬م َس َّو َم ًة‪ :﴾..‬كل واحد‬
‫حسنات وسيئات‪َّ ..﴿ :‬م ُ‬
‫حجر وعليه اسم صاحبه‪ ،‬يصيبه على حسب‬ ‫وبالؤه على حسب ما يستحق‪ ،‬كل َ‬
‫ند َرهِب َك َو َما ِهي ِم َن‬ ‫ِ‬
‫حاله‪ ،‬فالبالء مخصص والرحمة مخصصة‪..﴿ :‬ع َ‬
‫َ‬
‫ين‪ :﴾...‬اآلن‪ِ ..﴿ :‬بَب ِعيد﴾(‪ :)1‬كل واحد سينال حّقه‪ .‬زلزل هربوا منها‪ ،‬فإذا‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الظالم َ‬
‫الحجارة ترجمهم من السماء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬على اإلنسان أل يعلق قلبه بالمعرضين فهذه زوجة رسول هللا لوط ‪‬‬
‫كانت مغبرة النفس حيث كان لها محبة لقومها فجاءها البالء معهم بمقدار ما تستحق‪،‬‬
‫فمن حبها لهم وتعلقها بهم اغبرت واتسخت نفسها فصارت رائحتها القلبية من رائحتهم‪.‬‬
‫علي عبدي وانظر نتائج المعاصي) اإلنسان‬ ‫هللا تعالى يقول لإلنسان (أقبل َّ‬
‫الصحيح المؤمن ل يعلق قلبه إل بأهل الحق‪ ،‬ول يعلق قلبه بالكفرة (المؤمن يبغض‬
‫هلل ويحب هلل) فأحبب أهل الكمال‪ ،‬فالمرء يحشر مع من يحب وأولئك هم الناجون من‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫آمُنوْا َّاتُقوْا‬ ‫ف َعَلْي ِه ْم َوالَ ُه ْم َي ْحَزُنو َن﴾ ‪َ﴿.‬يا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ين َ‬ ‫كل كرب وهم‪َ ...﴿ :‬ال َخ ْو ٌ‬ ‫ّ‬
‫ين﴾(‪.)3‬‬ ‫ّللا وُكوُنوْا مع َّ ِ ِ‬
‫الصادق َ‬ ‫ََ‬ ‫هَ َ‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)83-77‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة يونس اآلية (‪)62‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة التوبة اآلية (‪)119‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 51‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أهل مدَن‬
‫ومن حنان هللا علينا أن يضرب األمثلة لنا للموعظة والعبرة لعل عاص يتوب‬
‫ويقلع مرتكب‪ ،‬ويزول الفساد من األرض ويعيش الناس بسعادة حقيقية ل نغص‬
‫فيها‪ ،‬ويضرب لنا مثالً آخر عن أسباب هالك األمم‪ :‬أهل مدين‪.‬‬
‫ّللا َما َل ُكم ِهم ْن‬
‫هَ‬‫اع ُب ُدوْا‬
‫ال َيا َق ْو ِم ْ‬
‫لقد أرسل هللا إلى مدين أخاهم شعيباً‪َ ..﴿ :‬ق َ‬
‫اس‬‫الن َ‬‫َت ْب َخ ُسوْا َّ‬
‫ان َوالَ‬ ‫إَِل ه َغ ْيُرُه َق ْد َجاء ْت ُكم َبهِي َن ٌة ِهمن َّرهبِ ُك ْم َفأ َْوُفوْا اْل َك ْي َل َواْل ِم َ‬
‫يز َ‬
‫ض َب ْع َد إِ ْصالَ ِح َها َذلِ ُك ْم َخ ْيٌر َّل ُك ْم إِن ُك ُ‬
‫نتم‬ ‫اءه ْم َوالَ ُت ْف ِس ُدوْا ِفي األ َْر ِ‬ ‫َش َي ُ‬ ‫أْ‬
‫ِ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫ُّم ْؤ ِمن َ‬
‫كان قوم سيدنا شعيب ‪ ،‬قوم مدين‪ ،‬أي أهل دنيا ورفاهية وترف‪ ،‬إثراء‬
‫وس ّموا (بأصحاب األيكة) إذ جعلوا من‬‫وغنى فاحش‪ .‬أقاموا حضارة دنيوية رائعة ُ‬
‫حضارتهم جنة أرضية‪ ،‬أسسها الفساد والغش والخداع والحرام‪.‬‬
‫إذ كانوا أهل حضارة راقية ومدنيَّة عالية جمعوا صنوف لذائذ الحياة الدنيا‬
‫وتباروا بالتنافس بها‪ ،‬كما كانت لديهم حدائق وجنائن وبساتين معطاءة أكرمهم‬
‫ربهم بها فضلوا وأضلوا عن سبيله‪ ،‬وعلى مذبح الدنيا الدنية ضحوا بالقيم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬فكان همهم الجمع والمنع‪ ،‬فالبائع يود السلب والنهب من الشاري‪،‬‬
‫يود سلب البائع‪ ،‬وغدوا ل يهمهم إل أمر أنفسهم‪ ،‬حتى فقدوا إنسانيتهم‬ ‫والشاري ّ‬
‫على حساب أنانيتهم‪ ،‬وغدا اإلنسان ذئباً ُمناه سلب أخيه اإلنسان‪ ،‬وبما أن هذا‬
‫األسلوب من الحياة يفرق اإلنسان عن أخيه اإلنسان‪ ،‬ويوقع البغض والنفور‬
‫والعداء ويجعل الحياة جحيماً نفسياً ل يطاق‪ ،‬وحين يذهب اإلنسان إلى ربه إثر‬
‫مفارقته الحياة‪ .‬يذهب وليس له عمل صالح بين يديه يواجه به ربه ليرقى في‬
‫قدم‪ ،‬إنه لم ُيحسن لمخلوقاته بل أساء ما استطاع دون رادع أو‬
‫جناته جزاء ما َّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآلية (‪)85‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 52‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وازع‪ ،‬فال أعمال يتقرب بها لربه لينال الجنات وبذا يخسر الدارْين دنياه وأخراه‪،‬‬
‫وحباً بهم نهض‬‫فيسقط في وديان الحسرات والندامة والخجل‪ ،‬وخوفاً على قومه ّ‬
‫سيدنا شعيب ‪ ‬ناصحاً لهم رؤوفاً بهم شفوقاً عليهم‪ ،‬عّله ينقذهم‪ ،‬من وديان‬
‫ومراتع الشقاء إلى مرابع السعادة والهناء‪ .‬فالرسل كلهم على نسق واحد وكل متابع‬
‫ّللا َما َل ُكم ِهم ْن إَِله َغ ْيُرُه‪،﴾...‬‬
‫اع ُب ُدوْا ه َ‬
‫لهم من أهل الحق هذا قوله‪َ ...﴿ :‬يا َق ْومِ ْ‬
‫وقد جاء أهل مدين محل (قحط) وحفظ هللا لسيدنا شعيب ‪ ‬ماله فذكرهم بمن‬
‫سبق ممن هلكوا بسبب حبهم للدنيا وتنافسهم بها‪ ،‬وحذرهم من الفساد في األرض‬
‫بعد إصالحها‪ ،‬بعمارة األبنية والقصور‪ ،‬وما تبثه من فساد في قلوب العباد‪،‬‬
‫حل بهم!‬ ‫فانظروا نتائج أهل الفساد الذين ُّ‬
‫دلوا غيرهم على األعمال المنحطة ماذا َّ‬
‫ولقد حذرهم سيدنا شعيب ‪ ‬من الفسق‪ ،‬ومن التالعب بالكيل والميزان‪ ،‬أو‬
‫أن يبخسوا الناس أشياءهم‪ .‬ألن هذا األسلوب الشيطاني‪ ،‬يولد الحقد والبغضاء بين‬
‫البائع والمشتري‪ ،‬والغش والتحايل ل في البيع والشراء فحسب‪ ،‬بل في جميع‬
‫المعامالت المعاشية‪ .‬وهو أيضاً يفسد الضمائر ويعتادون على الكذب‪ ،‬واذا فسد‬
‫وحل الشقاء‪ ،‬وخسروا الحياة األبدية األُخروية‬
‫الضمير‪ ،‬شاع الفساد في األرض‪َّ ،‬‬
‫الباقية‪ ،‬على مذبح الحياة الدنيا الفانية‪ .‬من أجل ذلك حذرهم رسولهم بقوله‪..﴿ :‬‬
‫ِ‬ ‫َوالَ ُت ْف ِس ُدوْا ِفي األ َْر ِ‬
‫ض َب ْع َد إِ ْصالَ ِح َها َذلِ ُك ْم َخ ْيٌر َّل ُك ْم إِن ُك ُ‬
‫نتم ُّم ْؤ ِمن َ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬
‫إن مثل الذين يبتاعون حاجيات الناس بثمن بخس‪ ،‬ويبيعونهم ما يحتاجون إليه‬
‫بثمن مرتفع‪ ،‬كمثل المنشار الذي يأكل من الخشب في الذهاب واإلياب‪ .‬من غير‬
‫أن يفيد الخشب إل التقطيع والتمزيق‪.‬‬
‫كذلك فإن األعمال التي كان يقوم بها أولئك القوم‪ ،‬تولد البغض بدل الحب‪،‬‬
‫والقطيعة والتفرقة بدل التآزر والتعاون‪ .‬إن شراء مقتنيات الناس بثمن بخس‪ ،‬ثم بيعهم‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآلية (‪)85‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 53‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫بضائعهم بثمن مرتفع‪ ،‬هو أسلوب من يأكل ول يطعم‪ ،‬وهو بالتالي أسلوب‬
‫ِ‬
‫وه ْم‬ ‫اس َي ْس َت ْوُفو َن‪َ ،‬واِ َذا َكاُل ُ‬
‫وه ْم أَو َّو َزُن ُ‬ ‫المطففين‪َّ ﴿ :‬الذ َ‬
‫ين إِ َذا ا ْك َتاُلوْا َعَلى َّ‬
‫الن ِ‬
‫( ‪)1‬‬
‫ُي ْخ ِسُرو َن﴾‬
‫ولما حذرهم سيدنا شعيب من هذا األسلوب‪ ،‬وبعد أن بين لهم النتائج التي تنجم‬
‫عن تلك المعاملة‪ ،‬راحوا يحذرون الناس منه ومن أتباعه‪ ،‬ويقعدون لهم في كل‬
‫طريق(‪ )2‬ليصدوهم عن سماع الحق‪ ،‬وهكذا وبدل أن يستمعوا إلى موعظة رسولهم‪،‬‬
‫قاموا يصدون عن سبيل هللا ويتوعدونهم‪ ،‬ألنهم يريدونها ِّعوجاً‪ .‬ناجزوه مناجزة‬
‫وطلبوا منه تعنتاً أن يمطر عليهم كسفاً من السماء إن كان صادقاً فأخذهم هللا‬
‫الظَّل ِة‪.)3(﴾...‬‬
‫بالهالك‪َ ..﴿ :‬ع َذاب ي ْومِ ُّ‬
‫ُ َ‬
‫أما جوابهم فال يختلف عما قيل لغيره من الرسل الكرام‪ ،‬كذلك فإن سيدنا شعيباً‬
‫‪ ‬لم يقل غير ما قاله الرسل من قبل ومن بعد‪ ،‬لما فيه شفاؤهم وسعادتهم‪ .‬إل أن‬
‫كل رسول يعطي اهتمامًا خاصاً لمعالجة الظاهرة السيئة البارزة في قومه‪.‬‬
‫ين‪،‬‬ ‫َم ٌ‬ ‫لذلك قال لهم رسولهم‪ِ﴿ :‬إ ْذ َقال َلهم ُشعيب أََال َتَّتُقو َن‪ِ ،‬إِهني َل ُكم رسول أ ِ‬
‫ْ َُ ٌ‬ ‫َ ُ ْ َْ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َط ِ‬ ‫َف َّاتُقوا َّ ِ‬
‫ين‪ ،‬أ َْوُفوا‬ ‫ِي ِإَّال َعَلى َرِهب اْل َعاَلم َ‬ ‫َجر ِإ ْن أ ْ‬
‫َجرَ‬ ‫يعون‪َ ،‬و َما أ ْ‬
‫َسأَُل ُك ْم َعَلْيه م ْن أ ْ‬ ‫ّللا َوأ ُ‬‫َ‬
‫اس‬ ‫الن َ‬ ‫اس اْلم ْس َت ِقيمِ‪َ ،‬وَال َتْب َخ ُسوا َّ‬ ‫ين‪َ ،‬و ِزُنوا ِباْل ِق ْس َط ِ‬ ‫ِ‬
‫اْل َكْي َل َوَال َت ُكوُنوا م َن اْل ُم ْخ ِس ِر َ‬
‫ُ‬
‫بخس له البضاعة وتحقرها لتأخذها بثمن بخس‪َ ..﴿ :‬وَال َت ْع َث ْوا ِفي‬ ‫اءه ْم‪ :﴾...‬تُ ّ‬ ‫َشَي ُ‬ ‫أْ‬
‫يجر الفساد بين الناس‪َ ﴿ :‬و َّاتُقوا َّالِذي َخَلَق ُك ْم َواْل ِجِبَّل َة‬ ‫ين﴾‪ :‬كل ذلك ُّ‬ ‫ِ‬
‫ض ُم ْف ِسد َ‬ ‫ْاألَْر ِ‬
‫ين﴾(‪.)4‬‬ ‫ْاأل ََّولِ َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة المطففين‪ .‬اآلية (‪)23‬‬


‫اْك ُُرواْ ِِّْْ‬
‫سبِّي ِّل ّللِّ َمنْ آ َمنَ ِِّ ِّه َوَِ ْبغُونَهَا ع َِّوجا َو ْ‬ ‫(‪ _ )2‬قال تعالى على لسان شعيب عليه السالم‪َ ﴿:‬وََّ َِ ْقعُدُواْ ِِّك ُِّل ِّص َراط ِ ُو ِّعدُونَ َوَِ ُ‬
‫صدُّونَ عَن َ‬
‫سدَِّنَ ﴾ اآلية (‪ )86‬من سورة األعراف‪.‬‬ ‫ْف كَانَ عَاقِّبَةُ ا ْل ُم ْف ِّ‬ ‫كُنت ُ ْم قَلِّيال فَ َكثَّ َر ُك ْم َوان ُ‬
‫ظ ُرواْ َكي َ‬
‫(‪ _ )3‬سورة الشعراء اآلية (‪)189‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة الشعراء‪ .‬اآليات (‪)84-71‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 54‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫َنت‬
‫ين﴾‪ :‬تتخيل‪َ ﴿ :‬و َما أ َ‬ ‫َنت ِم َن اْل ُم َسح ِ‬
‫َّر َ‬ ‫وما كان جوابهم إل أن‪َ ﴿ :‬قاُلوا ِإَّن َما أ َ‬
‫َس ِق ْط َعَلْيَنا ِك َسًفا ِهم َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإَّال َب َشٌر ِهمْثُلَنا َوِان َّن ُ‬
‫ين﴾‪ :‬هذا ظننا‪َ ﴿ .‬فأ ْ‬ ‫ظُّن َك َلم َن اْل َكاذِب َ‬
‫نت ِمن َّ ِ ِ‬
‫ال َرهِبي أ ْ‬
‫َعَل ُم‬ ‫نزل البالء علينا‪ .‬هذا هو الكفر‪َ ﴿ :‬ق َ‬ ‫ين﴾‪ِّّ :‬‬ ‫الصادق َ‬ ‫الس َماء ِإن ُك َ َ‬ ‫َّ‬
‫الظَّل ِة‪ :﴾...‬سحابة‬ ‫َخ َذ ُهم َع َذاب ي ْو ِم ُّ‬
‫ُ َ‬ ‫وه َفأ َ ْ‬
‫َّ‬
‫ينزل‪َ ﴿ :‬ف َكذُب ُ‬ ‫ِب َما َت ْع َمُلو َن﴾‪َ :‬هو الذي ِّّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َي ْوم َعظيم‪ِ ،‬إ َّن في َذل َك َآلَي ًة َو َما َك َ‬
‫ان‬ ‫ان َع َذ َ‬ ‫غمت عليهم فأهلكتهم‪ِ ..﴿ :‬إَّن ُه َك َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫أَ ْك َثُرُهم ُّم ْؤ ِمن َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ين﴾ ‪.‬‬
‫لقد بادت تلك الحضارة والمدنية وكأنها لم تكن وعاد الطابع البدوي الرعوي‪،‬‬
‫وغدت الجنات والعيون غابات وأحراشاً طبيعية أصبحت للناجين بمثابة مراع يرعون‬
‫فيها مواشيهم وسوائمهم‪َ ﴿ :‬ذلِك ِمن أَنباء اْلُقرى َنُق ُّصه عَليك ِمْنها َق ِ‬
‫آئ ٌم‪ :﴾...‬بآثارها‬ ‫ُ ََْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫يد﴾‪ :‬زالت عن بكرة أبيها‪ ،‬لم يبق لها أثر‪َ ﴿ :‬و َما‬ ‫ما تزال قائمة ظاهرة﴿‪َ ...‬و َح ِص ٌ‬
‫تامة‪ .‬فكيف يقولون‪ :‬إنه‬ ‫اه ْم‪ :﴾...‬حاشا هلل أن يظلم أحدًا‪ ،‬خلقك وأعطاك أهلية َّ‬ ‫ظَل ْمَن ُ‬
‫َ‬
‫للجنة؟! هذا كله يكِّّذبه قوله تعالى‪ :‬وما ظلمناهم‪َ ..﴿ :‬وَل ِكن‬
‫كتب أناساً للنار‪ ،‬وأناساً َّ‬
‫ظَل ُموْا أَنُف َس ُه ْم‪ :﴾...‬هم أعرضوا‪ ،‬فضلوا‪ ،‬أرسل لهم الرسل ليرشدوهم‪ ،‬ما َّقدر هللا‬ ‫َ‬
‫عليك الشقاوة‪ ،‬لكن ّقدر أنك إن سرت بهذا الطريق أصابك الشقاء‪ ،‬وان سرت بهذا‬
‫ففكر وعقل‬‫يفكروا‪ ،‬كل من اجتهد ّ‬ ‫أصابك الخير‪ ،‬ما حتّم عليك‪ .‬ظلموا أنفسهم إذ لم ّ‬
‫آله ُتهم َّالِتي ي ْدعو َن ِمن دو ِن ِ‬
‫ّللا ِمن‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫سبق‪ ،‬المجتهد يرقى‪َ ..﴿ :‬ف َما أَ ْغَن ْت َعْن ُه ْم َ ُ ُ‬
‫َشيء‪ :﴾...‬التي كانوا يعبدونها‪ ،‬كانوا يدعون آلهة‪ ،‬فما أفادتهم عند البالء شيئاً‪.‬‬
‫ْ‬
‫َمُر َرهِب َك‪ :﴾..‬ما استطاعوا دفع‬ ‫ِ‬
‫كذلك كل من يطيع ما سوى هللا‪ ..﴿ :‬هل َّما َجاء أ ْ‬
‫يحل الموت بأحد‪ ،‬ل يستطيع دفعه عنه أحد‪ ،‬مهما كان له‬ ‫البالء‪ ،‬كذلك اآلن عندما ّ‬
‫وه ْم َغْيَر َت ْتِبيب﴾‪ :‬خسارة وخسران‪َ ﴿ :‬وَك َذلِ َك‪ :﴾...‬هذا قانون‪،‬‬
‫وقوة‪َ ..﴿ :‬و َما َزُاد ُ‬
‫جند ّ‬
‫أهلية‪ ،‬تستطيع‬
‫فكر بنفسك‪ ،‬أعطاك هللا ّ‬ ‫كل من سار بهذا السير حق عليه الهالك‪ّ .‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة الشعراء اآلية (‪)190-185‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 55‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫َخ ُذ َرهِب َك ِإ َذا أ َ‬
‫َخ َذ اْلُقَرى‬ ‫بهذا الكون‪ ،‬الوصول لإليمان وحدك‪ ،‬من دون أحد‪..﴿ :‬أ ْ‬
‫يد﴾‪ :‬ولكن‬ ‫يم َشِد ٌ‬ ‫ظالِم ٌة‪ :﴾...‬ضمن عدالة‪ ،‬ل يأخذ إلّ الظالم‪ِ ..﴿ :‬إ َّن أ ْ ِ‬
‫َخ َذ ُه أَل ٌ‬
‫ِ‬
‫َوه َي َ َ‬
‫ِ ِ‬
‫آلي ًة‪ :﴾...‬داّلة‪ ،‬ظاهرة‪ ،‬مكشوفة‪..﴿ :‬‬ ‫يفكر‪ :‬يراها بعيدة‪ِ﴿ :‬إ َّن في َذل َك َ‬
‫ليس ثمة من ّ‬
‫فكر واستدل‪ ،‬فعرف أن هناك موتاً‪،‬‬ ‫اآلخَرِة‪ :﴾..‬فقط‪ ،‬وهو كل من ّ‬ ‫اف ع َذاب ِ‬ ‫ِ‬
‫هل َم ْن َخ َ َ َ‬
‫وملكاً سيقبض روحه‪ ،‬ومن بعده عذاب أو جنة‪ ،‬هذا الشخص يستفيد من هذا الكالم‪.‬‬
‫يفكر ويؤمن باآلخرة‪،‬‬ ‫ففكر يا إنسان‪ ،‬مهما فعلت ل ّبد من الموت‪ .‬هذه آية لمن ّ‬ ‫ّ‬
‫يفكر بالموت‪ ،‬ل يفقه من كالم هللا شيئاً‪ ،‬األماني ل تغني‪َ ..﴿ :‬ذلِ َك َي ْوٌم‬ ‫فمن ل ّ‬
‫ود﴾(‪:)1‬‬ ‫اس‪ :﴾...‬من آدم ‪ ،‬إلى يوم القيامة‪َ ..﴿ :‬وَذلِ َك َي ْوٌم َّم ْش ُه ٌ‬ ‫َّم ْجموٌع َّل ُه َّ‬
‫الن ُ‬ ‫ُ‬
‫تنكشف حقائق الخلق‪ ،‬كل إنسان لبس ثوبه‪ ،‬كل واحد لبس عمله‪ .‬هنالك الخزي‬
‫وصل اآلن‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ضيعوا الغاية التي خلقوا وأوجدوا من أجلها‪ ،‬فتب‬
‫ّ‬ ‫والهوان‪ ،‬لقد ّ‬
‫فالحسنات يذهبن السيئات‪ ،‬فتالف أمرك‪ ،‬ل تنقطع عن هللا حتى تنزع الثوب الوسخ‪،‬‬
‫وتلبس الثوب النظيف وتحقق الغاية التي خلقت ألجلها‪ .‬فال تنشغل بما هو ليس لك‬
‫عما ُخلِّقت ألجله‪.‬‬
‫عما هو لك وبما ُخلق ألجلك ّ‬
‫تلكم لمحة موجزة سقناها في هذا البحث‪ ،‬تكلمنا فيها عن حياة معظم األمم البائدة‬
‫التي ذكرها تعالى في كتابه الكريم‪ .‬وأشرنا إلى أهم األعمال التي كانت تفعلها‪،‬‬
‫واألقوال التي عارضت بها رسلها‪ .‬ثم تحدثنا عن المستوى الحضاري الذي بلغته‬
‫بعض تلك األمم كقوم عاد‪ ،‬وهذه الحضارات الزائغة بأفانينها المتعددة التي تشغل‬
‫النفوس عن ذكر هللا‪ ،‬واذا أعرضت النفوس عن هللا‪ ،‬أصبحت تعيش معيشة ضنكاً‬
‫ولن تغنيها المادة عن الروح‪ .‬كذلك تبين لنا من خالل دراستنا لتلك األمم النتائج‬
‫المؤسفة التي وصلت إليها‪ ،‬لما ظلموا أنفسهم‪ ،‬واتبعوا أهواءهم‪ ،‬ونسوا الغاية التي‬
‫خلقوا من أجلها‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآليات (‪)103-100‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 56‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وكيال يقع علينا ما وقع على قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السالم‬
‫وكيال ِّّ‬
‫نضيع الغاية التي خلقنا من أجلها‪ ،‬لذا ل َّبد من وقفة نبين فيها غاية الحق‬
‫من إيجاد الخلق‪:‬‬
‫***‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 57‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫غاَة الحق من َِجاد الخلق‬
‫ل َّبد أن كل إنسان ْ‬
‫وعبر فترات عمره قد دارت في خلده أسئلة كثيرة‪ ،‬فهو منذ‬
‫طفولته ومع بداية إدراكه وتمييزه يسأل عما يراه‪ .‬فقد يسأل الطفل إذا نظر إلى‬
‫السماء مثالً‪ ،‬لماذا تلمع هذه النجوم؟ وأين تذهب الشمس في المساء؟ ومن أين‬
‫تجيء الغيوم؟ إلى غير ذلك من األسئلة‪.‬‬
‫إلهامات وتساؤالت‪ :‬ومع نمو إدراك هذا الطفل تكثر أسئلته‪ ،‬طالباً من خاللها‬
‫التعرف إلى هذا الكون‪ ،‬وهكذا‪..‬‬
‫إلى أن يتجاوز في تساؤلته حدود هذا الكون المادي‪ ،‬فينتقل إلى مجال آخر‪،‬‬
‫فيتساءل عن موجد هذا الكون؟! وأين هو؟! وما غايته من إيجاده؟! فحب‬
‫الستطالع من أسس طبائع اإلنسان‪ ،‬فما حقيقة تلك األسئلة؟ وما مصدرها؟ قد‬
‫تظهر وكأنها منبعثة من نفس ذلك الطفل‪ ،‬إلَّ أن الحقيقة غير ذلك‪ ،‬فهذه األسئلة‬
‫موجهة من هللا عن طريق مالئكته لهذا الطفل‪ ،‬على شكل صوت خفي ينبض‬ ‫كلها َّ‬
‫عما ُخِّل َق من أجله‪.‬‬ ‫في ق اررة نفسه‪َّ ،‬‬
‫علها تقوم بتحريض هذا اإلنسان ودفعه للبحث َّ‬
‫فمن أجل أي شيء خلق هذا اإلنسان؟ وهل صحيح أن هذا السؤال ل جواب له؟‬
‫أم هل ُخلِّ َق من أ جل مأكل ومشرب وزواج أو غير ذلك من شهوات؟ حتماً‬
‫فكل ما هو دونك من المخلوقات‬ ‫خلقت من أجلها‪ُّ ..‬‬
‫َ‬ ‫ليست هي الغاية التي‬
‫والحيوانات تحصل على مثل هذا‪ ،‬وهي أوفر حظاً منك بالحصول على تلك‬
‫الشهوات والتمتُّع بها‪ ..‬فإن كانت الغاية لألكل والشرب‪ ،‬فالبقرة مثالً تأكل‬
‫ون َهم‪ ،‬فأي إنسان مهما بلغ هل‬
‫عشرات األرطال من طعامها‪ ..‬بلذة وشهوة َ‬
‫يسبقها بالطعام؟!‬
‫فأي ديك عنده األعداد‬
‫وان كانت الغاية النكاح‪ ،‬فالطيور أسبق منه بكثير‪ُّ ،‬‬
‫الكثيرة وقد تصل للعشرات من الدجاجات‪ ،‬وكذا كساء الطيور وأرياشها فهي ذات‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 58‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫جمال منقطع النظير كالطاووس مثالً بما حوى من روائع الخلق‪ ،‬ما يغنيها عن‬
‫ِّ‬
‫نسيجه وصنع المالبس وما إليها من تعقيدات الحضارة‬ ‫علوم البشر ومصانع‬
‫ومدنيتها‪َ ،‬ولخَلق هللا البشر على نهج الطيور الفتانة الرائعة الجمال دونما جهد‬
‫ونصب لتكاليف الحياة المعقدة المرهقة‪ ،‬ولكفاه كما يكفي تلك الطيور الراقية‬
‫البديعة التي تشدهُ العقول وتسبي القلوب‪ ،‬تغدو بالصباح خماصاً‪ ،‬وتعود بالمساء‬
‫ٍ‬
‫مضن‪.‬‬ ‫بطاناً‪ ،‬بال جهد ول عمل‬
‫فما الغاية التي جئنا ألجلها إلى الدنيا إذن؟‬
‫قيل‪ :‬خلقنا هللا من أجل عبادته‪ ،‬والدليل قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َما َخَل ْق ُت اْل ِج َّن‬
‫نس ِإَّال لَِي ْعُبُدو ِن﴾(‪.)1‬‬ ‫َو ِْ‬
‫اإل َ‬
‫لماذا خلقنا؟!‬
‫ِّ‬
‫حد ذاته‪ ،‬فلم خلقنا هللا‬
‫صحيح هذا‪ ،‬ولكن هذا الجواب للبعض هو سؤال في ّ‬
‫وأمرنا بعبادته؟ هل ألنه إلٓه وينبغي لإللٓه أن يكون لديه من يعبده؟ وهل هو‬
‫الصمد الذي ُّ‬
‫يمد ول يستمد؟‬ ‫سبحانه وتعالى بحاجة لعبادتنا وهو تعالى َ‬
‫أم أنه خلقنا وأمرنا بالعبادة ليذيقنا صنوفاً من المشقات من أوامر ونواه؟! حتماً‬
‫ما كانت الغاية ل هذه ول تلك‪ ،‬وحاشا هلل أن تكون كذلك‪ .‬فإن كمال هللا وأسماءه‬
‫عنا وعن عبادتنا‪.‬‬ ‫الحسنى تتنافى وهذه الغايات‪ ،‬فاهلل تعالى غني ّ‬
‫إذ يقول تعالى‪َ ﴿ :‬ما أ ُِر ُيد ِمْن ُهم ِهمن هِرْزق َو َما أ ُِر ُيد أَن ُي ْط ِع ُمو ِن﴾(‪.)2‬‬
‫وفي الحديث القدسي الشريف‪:‬‬
‫أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد‬
‫(‪ ..‬يا عبادي‪ :‬لو َّ‬
‫كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إالَّ كما ينقص‬ ‫فأعطيت ه‬
‫ُ‬ ‫فسألوني‬
‫ط إذا أُدخل البحر‪.)1( )..‬‬
‫المخي ُ‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة الذاريات اآلية (‪)56‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الذاريات‪ .‬اآلية (‪)57‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 59‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫غاية َخلقنا‪:‬‬
‫إذن غاية الحق من إيجاد الخْلق هو أن يتعرف اإلنسان على خالقه‪ ،‬وأن يعمل‬
‫المعروف واإلحسان‪ ،‬وذلك بأن يؤمن باهلل ورسوله‪ ،‬ويصبح صاحب بصيرة يرى‬
‫الخير من الشر‪ ،‬فيعمل الخير‪ ،‬فيسعد في دنياه ويلقى ربه بعد موته بوجه أبيض‬
‫قدم لعباده تعالى من خيرات‪ ،‬فيخلد في َّ‬
‫جناته بالغبطة األبدية‪.‬‬ ‫بما َّ‬
‫كنت قد قدَّمت له فأقول‪:‬‬
‫إليك بيان ما ُ‬
‫كان هللا ولم يكن معه شيء‪ ،‬فال أرض ول سماء‪ ،‬ول قمر ول نجوم‪ ،‬ول غير‬
‫ذلك من مخلوقات‪.‬‬
‫قلت أول‪ ،‬فهو أول وأول‪ ،‬وليس لوجوده تعالى أول‪ ،‬ول شيء قبله‪.‬‬ ‫فمهما َ‬
‫يم﴾‪.2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ ُه َو ْاأل ََّو ُل َو ْاآلخُر َوالظاهُر َواْلَباط ُن َو ُه َو ب ُك هل َش ْيء َعل ٌ‬
‫الغاية من خلقنا‪..‬‬
‫وقد أراد هللا وهو معدن الجود واإلحسان‪ ،‬والرحمة والفضل والحنان‪ ،‬والجمال‬
‫والعظمة والجالل‪ ،‬وما إليها من األسماء الحسنى الدالة على الكمال‪ ،‬أراد تعالى أن‬
‫ٍ‬
‫بفيض من ِّّبره واحسانه‪.‬‬ ‫يخلق المخلوقات ليذيقها من رحمته‪ ،‬وليغمرها‬
‫وان شئت فقل‪ :‬أراد تعالى أن يخلق المخلوقات ليغمرها بذاته‪ ،‬حتى تسبح‬
‫متنعمة في شهود جماله‪ ،‬وتتمتع مستغرقة في رؤية كماله‪.‬‬
‫وفي الحديث القدسي الشريف‪( :‬كنت كن اًز مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت‬
‫الخلق وعرفتهم بي فبي عرفوني)‪.3‬‬

‫(‪ _ )1‬كنز العمال ج‪ 5‬رقم ‪./43590/‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الحديد اآلية (‪)3‬‬
‫نس ِِّ ََّّ‬ ‫(‪ _ )3‬وقد وافق على صحة الحديث الشيخ علي مال القاري مستنداً إلى تأويل ابن عباس رضي هللا عنه لقوله تعالى‪َ ﴿:‬و َما َخلَ ْقتُ ا ْل ِّجنَّ َو ْ ِّ‬
‫اْل َ‬
‫ُون﴾ اآلية (‪ )56‬من سورة الذاريات‪ :‬أي ليعرفوني‪ .‬وقد اعتمده الصوفية وابن عربي وبنوا عليه أصو ً‬
‫ال‪.‬‬ ‫ِّل َي ْعبُد ِّ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 60‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫والمراد بالكنز هنا‪ :‬هو ذلك الجمال اإللٓهي العظيم‪ ،‬والكمال العالي الرفيع‪.‬‬
‫ومعنى المخفي‪ :‬أي الذي ل يعرفه أحد‪.‬‬
‫فأحببت أن أُعرف‪ :‬وذلك من كرمه تعالى وكبير فضله‪ ،‬ألن من شأن الكريم‬
‫أن يظهر كرمه وفضله‪ ،‬ويفيض َّبره واحسانه‪.‬‬
‫فخلقت الخلق‪ :‬ليتمتعوا بشهود ذلك الجمال اإللٓهي‪ ،‬وليستغرقوا في رؤية ذلك‬
‫الكمال الذي ل يتناهى‪ .‬وهي تشير هنا إلى إيجاده تعالى المخلوقات في ذلك‬
‫العالم الذي يسمونه عالم األزل‪.‬‬
‫توصلوا لمعرفتي‪ ،‬فتمتعوا برؤية‬
‫وعرفتهم بي‪ :‬أي عن طريق رؤيتهم ألنفسهم‪َّ ،‬‬
‫ذلك الكنز العالي‪ ،‬إذ شاهدوا طرفاً من جمالي وكمالي‪ :‬كان ذلك كله قبل مجيئنا‬
‫إلى الدنيا‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وسبب الخروج إلى الدنيا هو أن وقوف هذه المخلوقات عند درجة واحدة‬
‫تمل الحال الذي‬
‫من الرؤية للجمال والجالل اإللٓهي الذي شهدته‪ ،‬يجعلها فيما بعد ّ‬
‫هي فيه‪ ،‬مهما كان عالياً‪ ،‬ول َّبد لها حتى يكون النعيم والفضل تاماً‪ ،‬من أن تترقى‬
‫في الرؤية من حال إلى حال أعلى‪ ،‬بصورة جديدة كل َّ‬
‫الجدة ول تتناهى‪ .‬وتقريباً‬
‫لذلك من األذهان نقول‪:‬‬
‫لو أن رجالً يجلس في مزرعة فاتنة جميلة لم تر مثلها العين‪ ،‬وظل مقيماً‬
‫فيها أمداً طويالً‪ ..‬فال شك أنه يمّلها‪ ،‬ول يعود يرى بعد حين ما فيها من متعة‬
‫وجمال‪ ،‬ول بد له حتى يدوم له النعيم‪ ،‬من أن ينتقل إلى بستان جديد آخر أجمل‬
‫وأحلى وأبهى مما هو فيه‪.‬‬

‫يتطرق إلى النفوس‪ ،‬فهي بطبيعتها ّ‬


‫تمل دوام الحال‬ ‫َّ‬ ‫الملل‪ :‬ول شك أن الملل‬
‫الواحد‪..‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 61‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫تمل تكرار ودوام األصوات واألنغام الطروبة‪ ،‬بل والمآكل الفاخرة‬ ‫حتى أنها ّ‬
‫بتكرارها‪ ،‬وكافة المشتهيات المتكررة بذاتها‪.‬‬
‫وحيث أن المخلوق ل يستطيع أن يترقى في رؤية الجمال اإللٓهي من حال إلى‬
‫حال أعلى‪ ،‬إلَّ إذا كانت له أعمال طيبة تجعله واثقاً من رضاء خالقه عنه‪ ،‬وتكون له‬
‫يتقرب بها إلى هللا تعالى زلفى‪ ،‬لذا منحنا تعالى حرية‬
‫بمثابة مدارج يستطيع أن َّ‬
‫الختيار لنكسب األكثر‪ ،‬وأخرجنا تعالى إلى هذه الدنيا لنصبح أولي بصيرة‪ِّّ ،‬‬
‫نميز‬
‫الغث من الثمين‪ ،‬والعمل الدنيء من األعمال اإلنسانية السامية‪،‬‬ ‫الخير من الشر‪ ،‬و َّ‬
‫والباقي من الزاهق الفاني‪ ،‬فننطلق إلى فعل الخيرات‪ ،‬لذا أرسل لنا رسالً وأنبياء‪ ،‬أدلَّء‬

‫الخيرة لنا‪ ،‬برؤيته تعالى التي تديم نفع ما ِّّ‬


‫نطبقه أبد‬ ‫على الحق‪ ،‬ولنخضع ألوامره ِّّ‬
‫اآلباد في الحياة وبعد الممات‪ ،‬فننفع عباده الذين يحبهم تعالى كما يحبنا‪ ،‬ألنه هو‬
‫ونماهم‪ ..‬وبأعمالنا الطيبة لهم‪ ،‬يرضى َّ‬
‫عنا‪ ،‬فحين ننتقل إليه تعالى‬ ‫أوجدهم وخلقهم َّ‬
‫إثر انتهاء آجالنا‪ ،‬فإنما ننتقل بوجه أبيض بأعمالنا الطيبة‪ُ ،‬فنقبل عليه تعالى‪ ،‬ونتمتع‬
‫جر‪ ،‬مرتكزين على الثقة بما ّقدمنا من‬ ‫وهلم ّاً‬
‫بجناته الالنهائية من جنة لجنة أعلى َّ‬
‫تتكرر باآلخرة أمامنا‪ ،‬فتكون بمثابة مدارج لمعارجنا ّ‬
‫بالجنات‪.‬‬ ‫أعمال عالية طيبة‪َّ ،‬‬
‫إذن‪ :‬فاهلل تعالى خلق اإلنسان لفعل المعروف وعمل اإلحسان‪ ،‬ولما يبنى عليهما‬
‫آمنا به تعالى فعرفناه‪ ،‬فصرنا‬
‫في اآلخرة من إكرامات وجنات وتلك غاية وجودنا إن ّ‬
‫أولي بصائر به تعالى‪ ،‬فهو نور السماوات واألرض‪ ،‬نرى الخير ونعمله‪ ،‬ونرى الشر‬
‫فنتجنبه‪ ،‬فهو مانح وخالق كل فضل ونعمة واحسان‪ ،‬وما هذه الدنيا بذات قرار‪ ،‬فكل‬
‫من عليها فان‪ ،‬ويبقى وجه رّبِّك ذو الجالل واإلكرام‪.‬‬
‫ضيعت تلك المعرفة الثمينة‪،‬‬
‫وبما أن الناس اليوم على وجه هذه البسيطة‪ّ ،‬‬
‫وخسرت األعمال العظيمة التي تنتجها معرفتها باهلل تعالى‪ ،‬وأعملت تفكيرها فقط‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 62‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫بالحياة الدنيا الدنيئة‪ ،‬فإن البالء بات بكل لحظة متوقعاً‪ ،‬شأنهم بذلك شأن األقوام‬
‫َمر‪.‬‬
‫السابقة الهالكة بل أدهى من بالئهم وأ ّ‬
‫***‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 63‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الفصل الثانَ‬
‫في هذا الفصل‪:‬‬
‫الساعة وحتمية وقوعها‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫***‬
‫الساعة وحتمية وقوعها‬
‫يعتبر موضوع الساعة من المواضيع الغامضة والمشوشة‪ ،‬ليس عند المسلمين‬
‫وحسب‪ ،‬بل عند غيرهم من أصحاب الديانتين اليهودية والنصرانية‪.‬لقد خلط علماء‬
‫المسلمين‪ ،‬وعلماء النصارى‪ ،‬بين الساعة التي يأتي بها السيد المسيح ‪ ،‬وبين‬
‫الساعة التي تقوم بها القيامة‪ .‬فكان معنى قولهم إذ قالوا‪ :‬إن الساعة التي يأتي بها‬
‫السيد المسيح‪ ،‬هي نفسها الساعة التي بها تقوم القيامة‪ ،‬وكما أن مفهوم الساعة‬
‫غامض ومشوش لديهم‪ ،‬فإنهم لم يدركوا الغاية التي يأتي بها السيد المسيح ‪.‬‬
‫فاليهود مثالً الذين لم يعترفوا بالسيد المسيح عندما جاء في المرة األولى‪،‬‬
‫يأملون من مجيء السيد المسيح الحقيقي بزعمهم‪ ،‬أن يعيد لهم عزهم اآلفل‬
‫ومجدهم المنهار‪ ،‬وذلك بعد أن يصبح الملك العالمي‪.‬‬
‫والنصارى يأملون أيضاً‪ ،‬أن يدخلهم السيد المسيح ملكوت اآلب‪ ،‬بعد أن كفر‬
‫عنهم سيئاتهم وافتدى بدمه الخطيئة األولى‪.‬‬
‫أما المسلمون فغايتهم منه عند مجيئه‪ ،‬أن يقتل الدجال واليهود‪ ،‬ويكسر‬
‫الصليب‪ ،‬من غير أن تمسهم األحداث التي ترافق مجيئه بسوء‪ ،‬وهم اآلن على ما‬
‫هم عليه‪ ،‬تلك أمانيهم‪ ،‬أما الحقيقة فليست كذلك‪ ،‬الحقيقة أن تتعرف على رب‬
‫الحق والحقيقة‪ ،‬فإذا آمنت باهلل من ذاتك بذاتك‪ ،‬عن طريق الستدلل بالكون حق‬
‫اإليمان‪ ،‬تجد كل مسألة في القرآن واضحة أشد الوضوح‪ ،‬مبينة كفلق الصبح‪.‬‬
‫من أجل ذلك لن تجد لهذا الكتاب مصد اًر سوى القرآن الكريم‪ ،‬الجامع للصحف‬
‫السماوية‪ ،‬والتوراة والزبور واإلنجيل‪ ،‬والسنة النبوية المطهرة التي تشرح عملياً معاني‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 67‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫القرآن‪ ،‬ذلك ألن هللا سبحانه وتعالى ما فرط في الكتاب من شيء(‪َّ )1‬‬
‫وبين فيه كل‬
‫شيء‪.‬‬
‫إننا إزاء مفهوم جديد‪ ،‬وان شئت فقل إزاء حقيقة واقعنا‪ ،‬فهي جديدة كل الجدة‪،‬‬
‫غريبة كل الغرابة‪ ،‬عما ألفه الناس وما سمعوه من منقول‪ ،‬وهذه الحقيقة الواقعية‬
‫اليقينية‪ ،‬مبنية على الستنباط من القرآن وحده‪ ،‬الذي يشمل السنة والحديث والفقه‪،‬‬
‫وكل ما يفيد اإلنسان ويسعده في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وان شئت الحقيقة فقل إن اإليمان التقليدي‪ ،‬غير المبني على اليقين الذاتي‬
‫بالبحث والستدلل‪ ،‬هو الذي يجعل القرآن على الناس عمى‪ ،‬وهذا اإليمان الذي‬
‫يخلو من اليقين‪ ،‬هو الذي يجعل بيننا وبين معانيه الرفيعة السامية‪ ،‬حجاباً مستو اًر‪،‬‬
‫وهو الذي يمنعنا أن نستشف ثقل القول الذي أنزله هللا تعالى على رسوله الكريم‬
‫ﷺ‪.‬‬
‫وهذه الحقيقة قد توافق أو توازي ما قاله األولون في بعض األحيان‪ ،‬وقد‬
‫تخ الفهم أو تعاكسهم في أحيان كثيرة‪ .‬لهذا ل نريد أن نناقش أقوالهم أو آراءهم‬
‫المتضاربة‪ ،‬كأن ننفي قولً ونثبت آخر‪ ،‬أو نستخلص من مجموع اآلراء رأياً وسطاً‪،‬‬
‫ثم نخرج كتاباً ليس فيه إل الجمع والتنسيق‪ ،‬ثم نقول للناس قد َّألفنا كتاباً‪ ،‬من غير‬
‫أن نقول لهم إننا جمعنا لهم مما قاله األولون كتاباً‪.‬‬
‫واآلن لنرجع إلى موضوع الساعة‪ ،‬نستجلي معناها من المعين الذي ل ينضب‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كتاب أحكمت آياته ثم‬ ‫ومن ذلك المصدر الذي ل عوج فيه ول اختالف‪ ،‬من‬
‫فصلت من لدن حكيم خبير‪.‬‬

‫ير ِِّ َجنَا َح ْي ِّه ََِِّّّ أ ُ َم ٌم أ َ ْمثَالُكُم َّما فَ َّر ْطنَا فَِّ ال ِّكت َا ِّ‬
‫ب مِّ ن ش ََْء ث ُ َّم ِِّلَى َرِِّ ِّه ْم َُحْ ش َُرونَ﴾ اآلية‬ ‫(‪ _ )1‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َما مِّ ن دَآَِّة فَِّ األَ ْر ِّ‬
‫ض َوََّ َطائِّر ََطِّ ُ‬
‫علَيْكَ ا ْل ِّكت َ َ‬
‫اب ِِّ ْبيَانا ِّلك ُِّل ش ََْء‬ ‫علَي ِّْهم ِّمنْ أَنفُس ِِّّه ْم َو ِّجئْنَا ِِّكَ ش َِّهيدا َ‬
‫علَى َهؤَُّء َونَزَّ ْلنَا َ‬ ‫َث فَِّ ك ُِّل أ ُ َّمة ش َِّهيدا َ‬
‫(‪ )38‬من سورة األنعام‪َ ﴿ ،‬وَ َْو َم نَ ْبع ُ‬
‫سلِّمِّ ينَ ﴾ اآلية (‪ )89‬من سورة النحل‬ ‫َوهُدى َو َرحْ َمة َوُِش َْرى ِّل ْل ُم ْ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 68‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وبينا‬
‫لقد ذكرنا في فصل سابق أهم أعمال ومعتقدات معظم األمم البائدة‪َّ ،‬‬
‫األسباب التي أدت إلى هالكهم‪ ،‬ونريد في هذا الفصل أن نستعرض أعمال‬
‫ومعتقدات البشرية اليوم‪ ،‬ثم نقارن بعد ذلك هذه األعمال والمعتقدات مع تلك‪ ،‬وبعد‬
‫المقارنة سيتبين لنا ما إذا كنا في نجوة من الهالك الوشيك‪ ،‬أو أننا سوف ننتهي إلى‬
‫نفس المصير الذي انتهوا إليه‪ ،‬إن لم نغير السلوك الخاطئ‪ ،‬ونخضع لحكم هللا في‬
‫كتابه الكريم‪.‬‬
‫إن معتقدات األمم البائدة ل تختلف من حيث الجوهر أو المضمون‪ ،‬عن‬
‫معتقدات أمم هذا العصر‪ ،‬ولم يتبدل فيها إل الشكل والعرض‪ ،‬ذلك ألن األنفس‬
‫البشرية ل تتبدل باختالف الزمان والمكان‪ ،‬وانما الذي يتبدل هو ما تعيه النفس أو‬
‫تحويه من حق أو باطل‪ ،‬أو من حقائق وأوهام‪ .‬وعلى أساس هذا الوعي أو هذا‬
‫الحتواء‪ ،‬تطلب النفس من الفكر أن يبحث لها عن المبررات‪ ،‬ليمنطق لها ما‬
‫تعتقد وتهوى‪ ،‬وبما أن النفس الكافرة بربها ل تحوي إل شهوات الدنيا أو شهواتها‪،‬‬
‫ول ترى إل صور األشياء واألشكال‪ ،‬لذلك فإن الذي يتبدل من المعتقدات لديها‪،‬‬
‫هو التغيير والتبديل الذي يط أر على شكل المادة‪ ،‬وهذا التبديل هو الذي دعيناه‬
‫بالعرض‪.‬‬
‫فإذا كانت األمم البائدة تعبد الكواكب‪ ،‬وتتخذ لها رمو اًز‪ ،‬فإن الغاية هي جلب‬
‫منفعة أو اتقاء خطر‪ ،‬وان تعلقهم بالصورة دون شهود الحقيقة‪ ،‬هي التي أوحت‬
‫لهم مثل تلك المعتقدات‪.‬‬
‫واذا كنا ننظر إلى تلك المعتقدات نظرة ازدراء وسخف‪ ،‬فإن معتقدات األمم‬
‫الحاضرة ل تقل عن تلك سخفاً وازدراء‪.‬‬
‫فمهما تبدلت المفاهيم وتغيرت الشكليات‪ ،‬فإن الجوهر يظل واحداً‪ ،‬لقد استبدلت‬
‫الناس اآللهة المتعددة‪ ،‬بآلهة متعددة أخرى‪ ،‬فمن البشر من اتخذ الطبيعة إلٓهاً‪،‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 69‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وغيرهم اعتبر العقل المتفوق هو اإللٓه‪ .‬فالطبيعة بنظر الشيوعية مثالً هي البارئة‬
‫المصورة‪ ،‬أما سر خلقها فلم تبح به إل لرسلها (دارون وماركس وانجلز ولينين)‪.‬‬
‫إن نظرية دارون‪( :‬االختيار الطبيعي أو بقاء األصلح) التطورية قد مهدت‬
‫لآلخرين نظريتهم المسماة (النظرية الديالكتيكية) وهذه النظرية التي بها قوام الخلق‬
‫والمعاش‪ ،‬تقوم على أسس ثالثة‪:‬‬
‫األول‪ :‬تحول التبدالت الكمية إلى تبدلت كيفية‪ ،‬وهذه الفكرة أوحتها الطبيعة‬
‫إلى دارون وأضرابه الذين سبقوه‪ ،‬وخالصتها أن التباين بين ظواهر الطبيعة‪ ،‬هو‬
‫تباين كمي‪ .‬أي هي عبارة عن عملية تجميع وتركيب كمي لألجسام‪ ،‬فال تتبدل‬
‫نوعياً‪ ،‬وهذا التفسير الميكانيكي للتطور أو لالرتقاء‪ ،‬أوقعهم في أخطاء كثيرة‪،‬‬
‫وو ِّج ْ‬
‫هت إلى تلك النظرية سهام نقد مميتة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الثاني‪ :‬وحدة صراع المتناقضات‪ ،‬وهذا القانون كما تقول الشيوعية يكمن في‬
‫العالقات المتبادلة بين محتوى الشيء وشكله‪ ،‬بين الجوهر والظاهر‪ .‬والعالقات‬
‫المتبادلة تعني أن جميع األشياء والظواهر ذات تناقضات داخلية‪ ،‬وان كل شيء‬
‫هو وحدة متناقضات‪ ،‬وهذه المتناقضات في الشيء‪ ،‬هي سلبية وايجابية‪ ،‬لها‬
‫ماضيها ولها مستقبلها‪ ،‬وفيها ما مضى زمانه‪ ،‬وهو في طريقه إلى الموت‪ ،‬وفيها‬
‫ما هو في طريق النمو والتطور‪ ،‬وصراع هذه التجاهات المتناقضة التي تحتويها‬
‫األشياء‪ ،‬هو مصدر التطور والقوة المحركة له‪.‬‬
‫وفي اعتقادهم أن مرحلة حل المتناقضات هامة جداً في التطور‪ ،‬فعندما يستنفد‬
‫القديم ذاته‪ ،‬ويصبح لجاماً عائقاً في طريق الجديد‪ ،‬فإن التناقض بين القديم‬
‫والجديد ينبغي أن يحل عن طريق انعدام القديم‪ ،‬وظفر الجديد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬قانون نفي النفي‪ ،‬وهذا القانون يعني نفي النوعية القديمة‪ ،‬واحالل‬
‫حلت محل اإلقطاع بعد أن نفته‪ ،‬والشتراكية‬ ‫النوعية الجديدة‪ ،‬فمثالً البرجوازية َّ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 70‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫سوف تحل محل الرأسمالية‪ ،‬ويمكن القول على أساس ذلك بأن الشيوعية ستحل‬
‫محل الشتراكية‪ ،‬ول بد أن يأتي يوم ونتيجة لهذا الصراع أن تنفى الشيوعية من‬
‫األرض(‪.)1‬‬
‫إن رسل الطبيعة قد اعترفوا بأن آلهتهم عمياء‪ ،‬وغير واعية‪ .‬وأهدافها من خلقها‬
‫تتم بدون وعي‪.‬‬
‫ولكن ما يضير هذه اآللهة العمياء عماها وعدم وعيها‪ ،‬طالما أنها تخلق خلقاً‬
‫واعياً‪ ،‬وتنظم األمور تنظيماً عقالنياً على غاية من الدقة واإلبداع والتكامل‪ ،‬وهذا‬
‫اإلبداع في التنظيم‪ ،‬وهذا السر في الخلق كله‪ ،‬قد ساقته يد المصادفة!‬
‫وبعد ذلك هل رأيت سخفاً أشد من هذا المعتقد؟ أم رأيت عمى أبعد من هذا‬
‫العمى‪ ،‬أليس هذا هو الضالل البعيد؟ وهل المصادفة تتكرر؟ إن تكررت أصبحت‬
‫مسيرة لها‪ ،‬فمن ُيشرق الشمس في نفس اللحظة من كل يوم‬ ‫قانوناً وخضعت إلرادة ّ‬
‫في كل عام سابق ولحق؟! هل هذه مصادفة؟ ولكن ل عجب‪َ ..﴿ :‬و َمن َّل ْم َي ْج َع ِل‬
‫ور َف َما َل ُه ِمن ُّنور﴾(‪ .)2‬من ل يؤمن بال إلٓه إل هللا فهو في ظالم قلبي‪،‬‬
‫ّللا َل ُه ُن ًا‬
‫َّ ُ‬
‫نوره الدنيا الزائلة‪.‬‬
‫ومن هذه اآللهة السائدة في هذا العصر أيضاً‪ ،‬إلٓه العقل أو إلٓه العلم‪ .‬إن هذا‬
‫اإللٓه هو من جنس اإلنسان نفسه‪ ،‬إل أنه يمتاز عن اإلنسان العادي بتفوق ذكائه‬
‫وقدرته على الكشف والختراع‪ ،‬والبشرية تأمل من هذه اآللهة المتفوقة‪ ،‬أن تحقق‬
‫لها كل ما كانت تصبو إليه من اإللٓه القديم الذي قضى نحبه‪ ،‬باعتقاد الفيلسوف‬
‫نيتشه‪.‬‬

‫شر بها العالَّمة مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره بزوال الشيوعية من روسيا من ذلك العهد بالخمسينات من القرن الماضي‪ ،‬حين‬
‫(‪ _ )1‬وهذه ب ّ‬
‫كان االتحاد السوفيتي بذروة مجده وقوته‪.‬‬
‫(‪ _ )2‬سورة النور اآلية (‪)40‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 71‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وهذا اإللٓه (أي اإلنسان المتفوق) هو من نتاج الطبيعة التي أّلهها ماركس‬
‫وأضرابه‪ ،‬يحاول أن يتمرد على آلهته األم‪ ،‬ويسخرها لمشيئته ويتصرف بها كيف‬
‫يشاء‪ ،‬ألن أمه فضالً عن عماها وعدم وعيها‪ ،‬رعناء وظالمة‪ ،‬وتأبى أن تجود عليه‬
‫إل بالنزر اليسير‪ ،‬بالرغم من غناها الفاحش‪ ،‬لذلك فبمحاولته للسيطرة عليها‪ ،‬يريد‬
‫أن يجعل على األرض جنات النعيم‪ ،‬ولم يكتف هذا اإللٓه أو هذا البن العاق ألمه‪،‬‬
‫أن يسيطر عليها‪ ،‬بل يسعى ليسلب منها سر الحياة‪ ،‬حتى ل يبقى تحت رحمتها أو‬
‫تحت وصايتها‪ ،‬تقضي عليه متى شاءت‪ ،‬من غير أن تتركه يتمتع بالحياة‪ .‬فأمه‬
‫باعتقاده‪ ،‬تتخبط في مصير مخلوقاتها تخبطاً عشوائياً‪ .‬إن الذي ساعد الناس على‬
‫تقبل فكرة هذا اإللٓه الجديد‪ ،‬واإليمان بقدرته‪ ،‬هو ما أحرزه اإلنسان من تقدم تكنيكي‬
‫هائل‪ .‬إذ أصبح نتاج هذا اإللٓه هو شغل البشرية الشاغل في العصر الحديث‪ ،‬والى‬
‫جانب هذا النتاج خلق لها من المتاعب ما يفوق التمتع بنتاجه أضعافاً مضاعفة‪،‬‬
‫فضالً عن ذلك فقد وضع من أسلحة الدمار الشامل ما تستطيع أن تقضي به عليه‪،‬‬
‫وعلى البشرية جمعاء‪.‬‬
‫أما شريعة هذا اإللٓه‪ ،‬فقد جاءت نتيجة طبيعية لنتاجه‪ ،‬فقد عّلم الناس البخل‪،‬‬
‫والجشع‪ ،‬والمكر‪ ،‬والخديعة‪ ،‬والفسق‪ ،‬والغلظة‪ ،‬والظلم‪ ،‬والخيانة‪ ،‬وبمعنى آخر فقد‬
‫استطاعت هذه اآللهة من خالل نتاجها‪ ،‬أن تفسد على اإلنسان نفسه‪ ،‬وبالتالي‬
‫يؤمن ما صنعه من زخرف‬ ‫ِّ‬
‫أفسدت عليه معيشته‪ ،‬إذ كيف يتمكن اإلنسان أن ّ‬
‫ويسخر كل طاقاته وملكاته من‬ ‫ِّّ‬ ‫وزينة إذا لم ينغمس ويسترسل في الحياة الدنيا‪،‬‬
‫وي ْحتَ ْل ويفسق‬
‫يبخل َ‬
‫ْ‬ ‫أجل تأمين متطلبات الحياة التي يعيشها مجتمعه‪ ،‬واذا لم‬
‫ويكذب ويسرق‪ .‬كذلك لم تقف شريعته عند تلك الحدود‪ ،‬بل استطاع أن يقيد الناس‬
‫ويسلبهم حرياتهم التي منحت لهم‪ ،‬وأصبح الفرد عنص اًر تافهاً ل قيمة له‪ ،‬وأضحى‬
‫وكأنه جزء من أجزاء آلته الصماء‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 72‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ليت شعري‪ ،‬كيف تستسيغ البشرية حياة تقوم على الظلم والفسق والصراع‬
‫والعبودية؟! وكيف يمكن أن تحل السعادة على مجتمع يحيا حياة مشحونة بالحقد‬
‫والرياء؟‬
‫إنه ل يمكن أن تكون السعادة المنتظرة في ظل إلٓه العلم إل وهماً ابتدعته مخيلة‬
‫المهووسين به‪ .‬إذ كيف يكون ذلك في مجتمع فقد القيم اإلنسانية‪ ،‬وفقد صفته‬
‫اإلنسانية؟‬
‫لقد تجرد إنسان هذا العصر من كل القيم التي تجعله إنساناً‪ ،‬واستبدلها بقيم‬
‫بهيمية من نوع مفترس أو محتال‪ ،‬ثم أحل محل الفضيلة‪ ،‬الرذيلة‪ ،‬واستبدل‬
‫شريعته المثلى‪ ،‬بشريعة الغاب‪.‬‬
‫َوَل ُه ْم‬ ‫الَّ َي ْف َق ُهو َن ِب َها‬ ‫وب‬
‫َل ُه ْم ُقُل ٌ‬ ‫اإل ِ‬
‫نس‬ ‫﴿ َوَل َق ْد َذَ ْأر َنا لِ َج َهَّن َم َك ِث ًا‬
‫ير ِهم َن اْل ِج هِن َو ِ‬
‫َض ُّل‬
‫أَ‬ ‫َكاألَ ْن َعامِ َب ْل ُه ْم‬ ‫ِب َها أ ُْوَل ِئ َك‬ ‫ان الَّ َي ْسم ُعو َن‬
‫َ‬ ‫َع ُي ٌن الَّ ُي ْب ِصُرو َن ِب َها َوَل ُه ْم آ َذ ٌ‬ ‫أْ‬
‫افُلو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫أُوَل ِئك هم اْل َغ ِ‬
‫ْ َ ُُ‬
‫الذرة‪ ،‬فهل نعتقد بعد هذا‬
‫تلك نماذج عن أهم المعتقدات المستحدثة في عصر َّ‬
‫أن تكون الشعوب القديمة قد وصلت بكفرها بخالقها ومربيها إلى ما توصلت إليه‬
‫البشرية اليوم؟ وهل أنكرت وجود الخالق كما أنكرته في هذا العصر؟‬
‫إن إبليس على شدة كفره لم ينكر وجود الخالق‪ ،‬ول العزة اإللٓهية‪ ،‬ول الربوبية‬
‫أيضاً (‪ ،)2‬بل أنكر العدل اإللٓهي‪ ،‬عندما ظن بأن هللا فضل سيدنا آدم عليه بغير‬
‫الحق بزعمه‪ ،‬كذلك فإن عبدة األصنام لم ينكروا هللا‪ ،‬بل اعتقدوا بأن تلك‬
‫األصنام (الحجارة) هي الوسيلة لتقربهم إلى هللا زلفى‪ .‬أما أن يحكموا على هللا‬
‫األولون‪ .‬ليس باألمر العجاب‬
‫بالموت (مجانين) أو ينفوا وجوده‪ ،‬فهذا ما لم يفعله َّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآلية (‪)179‬‬


‫ض‪ ﴾...‬اآلية (‪ )39‬من سورة الحجر‪﴿ ،‬قَا َل فَبِّ ِّعزَّ ِِّكَ َأل ُ ْغ ِّوََنَّ ُه ْم أَجْ َم ِّعينَ ﴾ اآلية (‪ )82‬من سورة‬
‫ب ِِّ َمي أَ ْغ َو َْتَنَِّ ألُزَ َِّنَنَّ لَ ُه ْم فَِّ األَ ْر ِّ‬
‫(‪﴿ _ )2‬قَا َل َر ِّ‬
‫اإللهية وبالخالق‪.‬‬ ‫ص‪ .‬اعتراف بالعزة ۤ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 73‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أن تصل الناس بكفرها وانكارها وجحودها إلى ما وصلت إليه اآلن‪ ،‬كما أنه ليس‬
‫بمستبعد أن يصبح إبليس تلميذاً عند أئمة الكفر منهم‪ ،‬يعلمونه كيف ي ِّ‬
‫ضل‬ ‫ُ‬
‫الناس‪ ،‬ذلك ألن للكفر قوانينه‪ ،‬ولإليمان قوانينه أيضاً‪.‬‬
‫فالكفر أو اإليمان يزداد وينقص‪ ،‬بحسب سلوك هذا الطريق أو ذاك‪.‬‬
‫فأيما السبيلين سلك فإنه يبتعد عن اآلخر‪.‬‬
‫وبما أن معظم الناس في هذا العصر اتخذت الدنيا سبيالً‪ ،‬واكتفت وارتضت بها‬
‫حياة‪ ،‬فال نعجب إن صدرت من أفواههم مثل تلك األقوال‪ ،‬وظهرت منهم مثل تلك‬
‫األعمال‪ ،‬ل سيما في المجتمعات األوروبية خاصة‪ ،‬وفي سائر المجتمعات البشرية‬
‫عامة‪.‬‬
‫أما سبيل اآلخرة أو سبيل هللا‪ ،‬فهو باتجاه معاكس لطريق الدنيا الدنية‪ ،‬فكلما ابتعد‬
‫اإلنسان عن حب الدنيا‪ ،‬اقترب من هللا واستقام له طريقه‪ .‬وما دام في قلبه شيء منها‪،‬‬
‫يظل مشدوداً إليها‪ ،‬بقوة ما في قلبه منها‪ .‬وفي اللحظة التي يتخلص من عقالها‪ ،‬يكون‬
‫قد تخلص من أكبر عقبة تعترض سبيله إلى هللا‪ ،‬وعندها تبدو له الحقيقة‪ ،‬سافرة من‬
‫غير قناع‪.‬‬
‫إن السبب في عدم رؤية الحقيقة‪ ،‬هو أن اإلنسان إذا أحب الدنيا فإن النفس ل‬
‫تتذكر إل ما تعي‪ ،‬ول تفقه إل ما تحتوي‪ ،‬فإذا يممت وجهها شطر الدنيا‪ ،‬فإنها‬
‫تختزن من الشهوات بقدر توغلها فيها‪ ،‬وتصبح لها غطاء‪ ،‬وهذا الغطاء يكون‬
‫بمثابة حاجز يمنعها من سماع الحق‪ ،‬لذلك فحينما يلقى عليها شيء من الحق‪ ،‬ل‬
‫يكون له وقع فيها‪ ،‬ول ميل له‪ ،‬ألنها لم تع منه شيئاً‪ ،‬وبالتالي ل تفقه منه شيئاً‪.‬‬
‫ين الَ ي ْؤ ِم ُنو َن بِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلخَرِة‬ ‫آن َج َع ْل َن ا َب ْي َن َك َوَب ْي َن َّالذ َ ُ‬‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬واِ َذ ا َق َرأْ َت ا ْل ُقر َ‬
‫وه َو ِفي آ َذ ِان ِه ْم َو ْقًرا َواِ َذا‬ ‫ِ‬
‫ورا‪َ ،‬و َج َع ْل َن ا َع َل ى ُقُلوبِ ِه ْم أَك َّن ًة أَن َي ْف َق ُه ُ‬
‫ِ‬
‫ح َج ًاب ا َّم ْس ُت ً‬
‫َع َل ُم ِب َما‬‫ورا‪َّ ،‬ن ْح ُن أ ْ‬ ‫ارِه ْم ُن ُف ً‬ ‫آن َو ْح َد ُه َوَّل ْوْا َع َل ى أ َْد َب ِ‬ ‫َذ َك ْر َت َرَّب َك ِفي ا ْل ُق ْر ِ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 74‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ول الظَّالِمو َن إِن َت َّت ِب ُعو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َي ْس َتم ُع و َن به إ ْذ َي ْس َتم ُعو َن إ َل ْي َك َواِ ْذ ُه ْم َن ْج َوى إ ْذ َي ُق ُ‬
‫ورا﴾‪ .1‬فهم نجوى مع الشيطان وللدنيا‪ ،‬يخاطبهم الشيطان ويزين‬ ‫إِالَّ َر ُجالً َّم ْس ُح ً‬
‫لهم أعمالهم‪ ،‬ألنهم بعيدون عن هللا مثله‪ ،‬وحب الدنيا الفانية قد ملك قلبهم‪.‬‬
‫َكَّنة ِهم َّما َت ْد ُعوَنا إَِل ْي ِه َوِفي آ َذ ِان َنا َو ْقٌر َو ِمن‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬و َقاُلوا ُقُلوب َنا ِفي أ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫امُلو َن﴾ ‪ :‬هنا يصف حالهم وقولهم‪ :‬قلوبنا‬ ‫( ‪)2‬‬ ‫بيِن َنا وبيِنك ِحجاب َفاعمل إِ َّن َنا ع ِ‬
‫َ‬ ‫َْْ‬ ‫َْ َ َْ َ َ ٌ‬
‫مستورة مرتاحة مما تأمرنا به‪ ،‬ل نريد سماع بيانك اتركنا واعمل بما ترى إننا‬
‫عاملون بما نشتهيه‪ .‬كانت الدنيا الزائلة غاية ُمناهم‪.‬‬
‫أما المؤمن فإن القرآن يصبح له تذكير وهدى‪ ،‬يذكره بالحقائق التي رآها بنفسه‪،‬‬
‫فكلما وعى المؤمن من الحقائق أكثر‪ ،‬رأى من القرآن حقائق أعمق وأغزر‪ ،‬ويرى‬
‫القرآن وكأنه ترجمان لمكنونات نفسه أو لما كان قد شاهده من الحقائق التي نالها‬
‫بإيمانه باآليات الكونية (صنع هللا) من قبل‪.‬‬
‫ومهما تقدم اإلنسان في معارج القدس كمالً وعلماً‪ ،‬ومهما رأى من الحقائق‬
‫الفكرية والعقلية يجد القرآن ليس سابقاً إليها وحسب‪ ،‬بل شارحاً ومفصالً لتلك‬
‫الحقائق أيما تفصيل‪.‬‬
‫وبذلك الفهم للقرآن‪ ،‬يستعظم الرسول‪ ،‬المفيض لحقائق القرآن فيضاً‪ ،‬لما حوت نفسه‬
‫الكريمة ﷺ‪ ،‬من العلم ومن الكمال‪ ،‬الذي لم يدانه بمثله أحد في العالمين‪.‬‬
‫وكيف ل يكون ذلك‪ ،‬وقد بلغ ﷺ سدرة المنتهى في العلم اإللٓهي والرحمة‬
‫والكمال؟ إن القرآن وان كان ذكرى للعالمين‪ ،‬إل أن معانيه الرفيعة ل يتذكرها إل‬
‫العالِّمون‪ ،‬الذين يخشون ربهم بالغيب‪.‬‬
‫ولذا فإن هللا جل شأنه‪ ،‬ل يطلب من الرسل إل أن ِّّ‬
‫يذكروا الناس بعهد هللا‬
‫وميثاقه والبعث والجزاء‪ ،‬والنظر إلى ما يؤول إلى خالقهم ومربيهم ومسيرهم‪.‬‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة اإلسراء اآليات (‪)47 -45‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة فصلت اآلية (‪)5‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 75‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫غير أن هذه الذكرى ما كانت لتلقى جزافاً من الرسل‪ ،‬بدون وحي من حضرة‬
‫هللا إليهم‪ ،‬أما غيرهم من الذين أصبح لهم علم بالكتاب‪ ،‬فيكون عن طريق رابطة‬
‫المؤمن القلبية برسول هللا ﷺ وفهمه لمعاني الكتاب‪ ،‬وهذه ناحية جد مهمة‪ ،‬ذلك أن‬
‫الرسول ل يعلم ما في نفوس البشر‪ ،‬بل هللا هو العليم بالسر وأخفى‪ ،‬ولذا فإنه‬
‫سبحانه يوحي إلى الرسول‪ ،‬القول الذي يجب أن ينطق به عند اجتماع الناس إليه‪،‬‬
‫ألن هذا القول هو األنسب لهم في تلك اللحظة‪ .‬ومن أجل ذلك أوحى تعالى إلى‬
‫رسوله الكريم‪ ،‬أن ل يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه‪ ،‬ولم يقتصر هذا‬
‫التنبيه على الرسول الكريم ﷺ وحده‪ ،‬بل ذكر سبحانه أن جميع الرسل ل يسبقونه‬
‫بالقول‪ .‬معصومون(‪ ،)1‬ل ينطقون إل بعد قول هللا وأمره‪ .‬عباد مكرمون منزهون عن‬
‫الزلل‪.‬‬
‫وبما أنه تعالى وحده هو المطلع على أسرار نفوس خلقه‪ ،‬ول يأذن ألحد أن‬
‫يطلع على ما في نفوس اآلخرين‪ ،‬ألن من صفاته الستار‪ ،‬لذلك هو الذي يوحي‬
‫إلى الرسول أن يتكلم بهذا القول أو بذاك‪ ،‬أما الرسل وان كان قولهم حقاً‪ ،‬إل أنهم‬

‫سبِّقُونَهُ ِِّا ْلقَ ْو ِّل َوهُم ِِّْ َ ْم ِّر ِّه ََ ْع َملُونَ ﴾اآلية (‪ )27‬من سورة األنبياء‪،‬‬
‫(‪ _ )1‬لقد جاء في التفاسير‪ :‬أن الذين ال يسبقونه بالقول من اآلية الكريمة‪ْ ََ ََّ ﴿:‬‬
‫هم المالئكة‪ ،‬أما الحقيقة فإن الذين ال يسبقونه بالقول في هذه اآلية هم الرسل‪ ،‬كما ال ننكر أن المالئكة أيضا ً ال يسبقونه بالقول‪.‬‬
‫ودليلنا على صحة ما ذهبنا إليه هو‪ :‬مسرى اآليات‪ ،‬كذلك فإن السورة التي وردت فيها هذه اآلية الكريمة هي سورة األنبياء‪ ،‬واآليات تدور حول‬
‫سول ِِّ ََّّ نُوحِّ َ ِِّلَ ْي ِّه أَنَّهُ ََّ ِِّلَهَ‬ ‫س ْلنَا مِّ ن قَ ْب ِّلكَ مِّ ن َّر ُ‬‫أعمالهم‪ .‬واآلن لننظر إلى اآليات التي تسبق تلك اآلية ثم اآليات التي تليها‪ .‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َما أَ ْر َ‬
‫َِّه ْم َو َما َخ ْلفَ ُه ْم‬‫ِّ‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫نَ‬‫ي‬‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫م‬‫َ‬
‫َْ ُ َ َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ونَ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ِّ‬ ‫ر‬‫م‬ ‫َ‬
‫س ِّبقُونَهُ ِِّا ْلقَ ْو ِّل َو ِّ ْ ِّ َ ْ َ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُم‬ ‫ه‬ ‫=الرحْ َمنُ َولَدا ُ‬
‫س ْبحَانَهُ َِ ْل ِّعبَا ٌد ُّمك َْر ُمونَ ‪ْ ََ ََّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ِِّ ََّّ أَنَا فَا ْعبُد ِّ‬
‫ُون‪َ ،‬وقَالُوا اَِّ َخذَ =‬
‫ش ِّفقُونَ ﴾اآليات (‪ )28-25‬من سورة األنبياء‪..‬من خالل قراءة هذه اآليات الكريمة لم يرد ذكر‬
‫شيَتِّ ِّه ُم ْ‬ ‫شفَعُونَ ِِّ ََّّ ِّل َم ِّن ْ‬
‫ارَِضَى َوهُم ِّمنْ َخ ْ‬ ‫َو ََّ ََ ْ‬
‫للمالئكة بل السورة كلها تدور حول األنبياء وإذا كان المفسرون قد ضربوا لذلك إبليس مثالً لتدعيم حجتهم فإن ذلك المثال غير صحيح أيضا ً من‬
‫ب ِِّ َمي أَ ْغ َو َْتَنَِّ ألُزَ َِّنَنَّ لَ ُه ْم فَِّ األ َ ْر ِّ‬
‫ض‪ ﴾...‬اآلية (‪ )39‬من‬ ‫ناحيتين‪ :‬الناحية األولى إن إبليس لم يدّع األلوهية بل اعترف بالربوبية بقوله‪﴿:‬قَا َل َر ِّ‬
‫سورة الحجر كما أنه اعترف بالعزة ۤ‬
‫اإللهية عندما قال‪﴿:‬قَا َل فَ ِّب ِّعزَّ ِِّكَ َأل ُ ْغ ِّوََنَّ ُه ْم أَجْ َم ِّعينَ ﴾اآلية (‪ )82‬من سورة ص‪.‬‬
‫أما الذي أنكره إبليس هو (العدل اإللهي) عندما زعم بأن هللا فضَّل آدم عليه وهو خير منه كما أنه نسب الغواية إلى هللا وتلك صفة كل كافر يتخذ‬
‫الشيطان ولياً‪ .‬الناحية الثانية‪ :‬إن إبليس ليس من المالئكة‪ ،‬ألن المالئكة ال يتوالدون حتى تكون لهم ذرية أما الذين لهم ذرية فهم اإلنس والجن‬
‫ِّيس كَانَ مِّ نَ ا ْل ِّج ِّن فَفَسَقَ عَنْ‬ ‫وإبليس كما ذكر تعالى هو من الجن‪ ،‬قال تعالى في سورة الكهف‪َ ﴿:‬وِِّ ْْ قُ ْلنَا ِّل ْل َم َالئِّ َك ِّة ا ْ‬
‫س ُجدُوا ِِّل َد َم فَ َ‬
‫س َجدُوا ِِّ ََّّ ِِّ ِْل َ‬
‫أَ ْم ِّر َرِِّهِّ‪﴾ ...‬كذلك فإن هللا خلق الجن وإبليس أبوهم من النار بينما المالئكة من نور‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 76‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ل يعلمون أي الكالم أحق بالقول من غيره‪ ،‬ألنهم ل يعرفون ما في نفوس‬
‫المجتمعين إليهم عموماً واحاط ًة‪ .‬ونتيجة للوحي تجد لكالمهم وقعاً في النفوس‪،‬‬
‫ويظنون َّ‬
‫وكأن الرسول يعلم ما في أنفسهم‪ ،‬ألنهم يرونه يتحدث بما يهمهم وما يعنيهم‬
‫فرداً فرداً كل في مجاله وأفقه‪.‬‬
‫أما المؤمنون‪ ،‬فإنه بحديثه يذكرهم بما شاهدوا من الفضل اإللٓهي‪ ،‬أو بما‬
‫شاهدوا من ملكوت السماوات واألرض‪ ،‬فيزدادون إيماناً‪ ،‬ويزدادون خشوعاً‪ .‬وأما‬
‫الكافرون والمنافقون‪ ،‬فإنهم يرون كل كالم الرسول إنذا اًر‪ ،‬بينما يراه المؤمنون‬
‫بشي اًر‪ .‬فحينما يق أر المؤمن القرآن يستبشر به‪ ،‬بينما يجده الكافر عائقاً أمام رغباته‬
‫وأعماله‪.‬‬
‫واذا مر على المؤمن شيء من قصص األنبياء‪ ،‬يجد كمالهم ويجدهم دائماً‬
‫وأبداً الطليعة لكل مكرمة‪ .‬بينما المنافق أو الكافر يؤول أقوالهم وأفعالهم نقصاً فإذا‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫اح ُك م َب ْي َن َّ‬ ‫اك َخ لِي َف ًة ِفي ْاأل َْر ِ‬
‫ض َف ْ‬ ‫ود إِ َّن ا َج َع ْل َن َ‬
‫او ُ‬
‫قال تعالى مثالً‪َ ﴿ :‬ي ا َد ُ‬
‫ق َوَال َتتَّبِ ِع ا ْل َه َوى‪ .)1(﴾...‬فإنه يفسر هذا الهوى هوى جنسياً‪ ،‬بينما يراه‬ ‫بِ ا ْل َح ِه‬
‫المؤمن عشقاً إلٓهياً‪ ،‬وهياماً بحضرة هللا وجماله وجالله‪ ،‬وذلك هو الحق(‪.)2‬‬
‫وا ذا أراد هللا أن يقضي على عادة من عادات الجاهلية السيئة‪ ،‬كعادة التبني‬
‫مثالً واختار الرسول ﷺ لتلك المهمة‪ ،‬وأمره بأن يتزوج من زينب زوجة متبنيه‬
‫زيد‪ ،‬واذا تحرج الرسول الكريم الطاهر من اختراق تلك العادة المتأصلة‪ ،‬وخشي‬
‫من انطالق ألسنة الناس بسبب اختراقه لتلك العادة‪ ،‬وأراد ربك أن يبدي ما كان‬
‫يخفيه الرسول ﷺ من هذا الحرج‪ ،‬راح الذين في قلوبهم مرض يتهمون الرسول‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤ‬
‫ص اآلية (‪)26‬‬
‫(‪ _ )2‬انظر كتاب عصمة األنبياء للعالَّمة مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 77‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الطاهر بحبه لزينب‪ ،‬ويختلقون لتلك الحادثة قصصاً شيطانية‪ ،‬ما أنزل هللا بها‬
‫من سلطان(‪.)1‬‬
‫وقل مثل ذلك في السادة األنبياء يوسف‪ ،‬وسليمان‪ ،‬وأيوب عليهم السالم‪.‬‬
‫أما الناحية األخرى فإنها ل تقل سوءاً عن هذه الناحية‪.‬‬
‫وتلك الناحية هي اعتبار أعمالهم السيئة ونسبتها قدر مقدر من هللا‪ ،‬ونفي المشيئة‬
‫والختيار عن أنفسهم‪ ،‬ونسبتها إلى هللا‪ .‬وفي هذا القول ما فيه من اإلغراء على ارتكاب‬
‫السيئات‪.‬‬
‫أما إذا خاضوا في ذات هللا‪ ،‬فإنهم يصورونه إلٓهاً محدوداً بعرشه‪ ،‬بعيداً عنا بعداً‬
‫مسرفاً‪ ،‬ويوم القيامة يكون جالساً على عرشه‪ ،‬والمالئكة يحملونه هو وعرشه‪ ،‬أما يده‪،‬‬
‫وأما عينيه‪ ،‬وأما وجهه فللمعرضين تصورات غريبة وبعيدة كل البعد عما يعني فيها‪.‬‬
‫وأما أسماؤه الحسنى‪ ،‬فإنهم يؤولونها تأويالً مخالفاً لما اتصف به سبحانه من‬
‫صفات الكمال المطلق‪ ،‬في كل اسم من أسمائه‪ .‬لذلك فحينما يق أر الذين في قلوبهم‬
‫آن‪ ،‬ل يجدون فيه إل قصصاً وأمثالً‪ ،‬ل رابط يربطها ول انسجام بينها‪.‬‬
‫مرض القر َ‬
‫ذلك ألن نفس المعرض عن هللا‪ ،‬لم تكتسب من هللا شيئاً‪ ،‬فال علم ول طهارة‪ ،‬ول‬
‫كمالً ول حقائق‪ ،‬سوى ما اكتسبه في عالم األزل‪ ،‬ومن هذا العلم الضئيل الذي‬
‫طمس معظمه باجتراحه السيئات‪ ،‬يراوده حينما يق أر القرآن الشك وربما التكذيب‪.‬‬
‫آن َال َي ْس ُجُدو َن*‪َ ،‬ب ِل‬ ‫َل ُه ْم َال ُي ْؤ ِمُنو َن‪َ ،‬واِ َذا ُقر َ‬
‫ِئ َعَلْي ِه ُم اْلُقْر ُ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬ف َما‬
‫ين َك َفُروْا ُي َك ِهذُبو َن‪،‬‬
‫وعو َن﴾(‪.)2‬‬ ‫َعَل ُم ِب َما ُي ُ‬
‫ّللا أ ْ‬
‫ِ‬
‫َّالذ َ‬
‫َو َّ ُ‬
‫إن سبب عدم استعظامهم لكتاب هللا‪ ،‬وتكذيبهم لمعانيه السامية الرفيعة هو ما‬
‫وعته نفوسهم من الباطل‪ ،‬وهذا التكذيب أو الشك هو ما حصل لعلماء بني إسرائيل‬

‫(‪ _ )1‬انظر كتاب حقيقة سيدنا مح َّمد صلى هللا عليه وسلم تظهر في القرن العشرين للعالَّمة مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره (بحث قصة زواجه‬
‫صلى هللا عليه وسلم من السيدة زينب رضي هللا عنها)‪.‬‬
‫(‪ _ )2‬سورة اإلنشقاق اآليات (‪)23-20‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 78‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫من قبل‪ ،‬ألن نفوسهم‪ ،‬نتيجة كفرهم‪ ،‬قد تغلفت بالباطل‪ ،‬فأصبحت قلوبهم كالحجارة‬
‫بل أشد قسوة‪ ،‬وأصبحت التوراة عليهم عمى‪ ،‬ولما لم يروا بالتوراة شيئاً‪ ،‬هجروها‪،‬‬
‫وراحوا يخطون للناس ديناً من عند أنفسهم‪ ،‬ويقولون هو من عند هللا وما هو من‬
‫عند هللا‪ .‬تماماً كما هجر بعض المسلمين القرآن‪ ،‬وولوا وجوههم شطر الخرافات‪،‬‬
‫التي ما أنزل هللا بها من سلطان‪.‬‬
‫إن الكثير يظنون أنهم إذا حفظوا شيئاً من القرآن‪ ،‬وكثي اًر من الحديث والفقه‪،‬‬
‫أصبحوا مؤمنين‪ ،‬وهذا جميل ولكن ل يكفي لنطلق على أحدهم صفة عالم أو‬
‫مؤمن‪ ،‬فالعالم الحقيقي هو من يرى ويذوق ما يحفظ‪ ،‬فإذا ذكرت الرحمة اإللٓهية‬
‫فال بد وانه ذاق شيئاً منها‪ ،‬واذا ذكر العدل فال بد أن يكون قد لمس شيئاً منه‪،‬‬
‫وبمعنى آخر أن يؤمن بحقيقة ومعنى ما يقوله من الكالم‪ ،‬ويشهد حقائقه‪ ،‬ل أن‬
‫يؤمن بالكالم نفسه‪ ،‬ألن الكلمة بحد ذاتها‪ ،‬رمز لمعنى‪ ،‬وليست هي المعنى‪ ،‬فإذا‬
‫شاهدنا أحد المحيطات على الخارطة‪ ،‬فهذا ل يعني أنه هو ذلك المحيط‪ .‬فإذا لم‬
‫تشاهد البحر يظل تصورك له ناقصاً إن لم نقل يظل بحدود الخريطة التي رأيتها‬
‫أو رسمتها‪ .‬وهكذا فإذا لم تلمس القدرة اإللٓهية‪ ،‬فإن حفظك لكلمة القدير ل وزن‬
‫لها‪ ،‬وهذه الكلمة سرعان ما تفلت منك إذا رأيت سيفاً شهر في وجهك‪ .‬فلو كنت‬
‫لمست القدرة أو لمست بأنه القاهر فوق عباده‪ ،‬وعلمت بأنه سبحانه على صراط‬
‫مستقيم‪ ،‬لما أرهبك هذا السيف الذي أشهر في وجهك أبداً إن كنت مستقيماً‪.‬‬
‫إن اإليمان القائم على الشرك (‪ )1‬هو السبب في التكذيب والشك‪ ،‬وهذا اإليمان‬
‫اإلشراكي‪ ،‬يرجع إلى عدم التقيد بالسنن اإللٓهية التي رسمها رب العالمين‪ ،‬طريقاً‬
‫للوصول إليه‪ ،‬واإليمان به إيماناً سليماً من كل شائبة‪ .‬وخير الطرق هو الطريق‬
‫الذي سلكته الرسل‪ ،‬صلوات هللا عليهم أجمعين‪ ،‬وبذلك أمرنا بقوله تعالى‪﴿ :‬أ ُْوَل ِئ َك‬

‫(‪ _ )1‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َما َُؤْ مِّ نُ أَ ْكثَ ُرهُ ْم ِِّ ِّ‬
‫اّلل ََِِّّّ َوهُم ُّمش ِّْركُونَ ﴾اآلية (‪ )106‬من سورة يوسف‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 79‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫َجًار ِإ ْن ُه َو ِإالَّ ِذ ْكَرى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا َف ِب ُه َد ُ‬
‫اه ُم ا ْق َتد ْه ُقل الَّ أ ْ‬
‫َسأَُل ُك ْم َعَلْيه أ ْ‬ ‫ين َه َدى ه ُ‬ ‫َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ول َّ ِ‬
‫ان َل ُكم ِفي َرس ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُس َوٌة َح َسَن ٌة هل َمن َك َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ان‬ ‫ّللا أ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ين﴾ ‪ .‬وقال جل شأنه‪َ﴿ :‬لَق ْد َك َ ْ‬ ‫لْل َعاَلم َ‬
‫ّللا َك ِث ًا‬
‫ير﴾(‪.)2‬‬ ‫ِ‬
‫ّللا َواْلَي ْوَم ْاآلخَر َوَذ َكَر َّ َ‬
‫َيْر ُجو َّ َ‬
‫فلو رجعنا إلى مسلك الرسول قبل البعثة وأثناءها‪ ،‬ثم تدبرنا معاني القصص‬
‫التي أوردها تعالى عن رسله الكرام‪ .‬ومن ثم نظرنا إلى اآليات المكية كيف أنها‬
‫تحث اإلنسان على التفكير‪ ،‬والتعمق في آيات هللا الكونية صنع اإللٓه العظيم‪،‬‬
‫ونسلك باإليمان مسلك أبينا إبراهيم ﷺ‪ .‬لجنينا ثما اًر يانعة وايماناً ل يتزعزع‪ ،‬ولكننا‬
‫وبدل أن ندخل البيوت من أبوابها راح البعض من علمائنا يحشون أذهان الطالب‬
‫بمعلومات سابقة ألوانها‪ ،‬إن لم نقل خالية من كل فائدة‪ ،‬بل ربما كان ضررها‬
‫أكثر من نفعها‪ .‬وتلك العلوم التي حشوا بها أذهان الطالب ل تستطيع أن تقف‬
‫أمام النظريات الملحدة‪ ،‬بالرغم من سخف األخيرة وتفاهتها‪.‬‬
‫ولو كان ما حشته مقلدة العلماء في أذهان طالبها من عند هللا‪ ،‬لما وقفت في‬
‫طريقهم أعتى نظرية فلسفية جاء بها علماء هذا العصر المتوحش‪ ،‬بل لجعلوها‬
‫أضحوكة أمام المعتقدين بصحتها‪ ،‬ذلك ألن هللا أنزل على رسوله قولً ثقيالً‪ ،‬وهذا‬
‫القول يزهق الباطل أنى وجده‪ .‬إذ أن معاني القرآن محجوبة عن الناس بسبب ما‬
‫تحمله أنفسهم من السيئات‪ ،‬وبسبب زعمهم القائل أن األوائل قد فسروا القرآن‬
‫تفسي اًر ل يجوز من بعده الجتهاد‪ ،‬ألنهم هم وحدهم الذين فهموا الدين‪ ،‬وأي فهم‬
‫لمن جاء بعدهم ل يمكن أن يتعالى على فهمهم أو حتى يصل إلى مستواه‬
‫ووضعوا حولها هالت مقدسة‪ .‬وبذلك الدعاء الماكر‪ ،‬عطلوا على الناس فكرة‬
‫دساً لهم‬
‫الجتهاد‪ ،‬وحرموهم من نعمة التفكير‪ ،‬إل ضمن المجال الذي رسمته ّ‬
‫األجداد‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنعام اآلية (‪)90‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األحزاب اآلية (‪)21‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 80‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا َقاُلوْا َب ْل َن َّت ِب ُع َما أَْل َف ْي َنا َعَل ْيه َ‬
‫آباء َنا أ ََوَل ْو‬ ‫هُ‬ ‫يل َل ُه ُم َّات ِب ُعوا َما أ َ‬
‫َنز َل‬ ‫﴿ َواِ َذا ق َ‬
‫يصدون الناس عن‬ ‫ُّ‬ ‫َي ْه َت ُدو َن﴾(‪ .)1‬وبهذا راحوا‬ ‫اؤ ُه ْم الَ َي ْع ِقُلو َن َش ْيئاً َوالَ‬
‫آب ُ‬
‫ان َ‬ ‫َك َ‬
‫سبيل هللا تعالى‪ ،‬وما من أحد ُّ‬
‫يصد زورهم ويقيم عليهم الحجج فيدحضهم ويردهم‬
‫خائبين‪.‬‬
‫العجاب أن مقّلدة العلماء بالرغم مما يصل إليه المسلمون‪ ،‬من ترك دينهم‬
‫والعجب ُ‬
‫بأسباب هذه الصفاقات المدسوسة‪ ،‬راحوا يضعون حول الكتب القديمة هالت َّ‬
‫مقدسة‪،‬‬
‫فجمدوا‬
‫واثباتات واهية‪ ،‬جعلتها عندهم بديل القرآن الكريم‪ ،‬بل كانت قرآنهم العملي‪َّ .‬‬
‫التفكير‪ ،‬وأغلقوا باب الجتهاد‪ ،‬وألقى فريق منهم كتاب هللا وراء ظهورهم‪ ،‬فنسبوا‬
‫قصص الرذيلة والسفالة للرسل واألنبياء (وحاشاهم عليهم الصالة والسالم)‪.‬‬
‫كيف نؤمن ببعض ما أوردوه في تفاسيرهم وخاصة وصفهم الرسل الكرام الذين‬
‫هم خيرة هللا من خلقه بصفات يندى لها الجبين‪ .‬وكيف نصدق تفسيرهم لآلية‪:‬‬
‫﴿ِإ َّن أَصحاب اْلجَّن ِة اْليوم ِفي ُش ُغل َف ِ‬
‫اك ُهو َن﴾(‪ :)2‬من قول يتندى له وجه‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ َ َ َ‬
‫الفضيلة‪ ،‬ونأبى تكرار قولهم المدسوس السافل الخبيث‪.‬‬
‫عنا هذا البعد الذي وصفوه لنا‪ ،‬وهللا يقول بأنه‬
‫ثم كيف نصدق بأن هللا بعيد ّ‬
‫أقرب إلينا من حبل الوريد‪ ،‬أم كيف نصدق بأن هللا بعرشه محاط‪ ،‬وهو تعالى يقول‬
‫أنه بكل شيء محيط‪ ،‬وكيف نؤمن بأن (طه) اسم رجل اسمه بالنبطية (عك) "‬
‫انظر تفسير الطبري" أم كيف نؤمن بتفسير سورة الناس والفلق‪ ،‬وقضية سحر‬
‫الرسول من ِّقبل لبيد اليهودي‪ ،‬إذ متى كان للشيطان سلطان على عباده‬
‫ال َر ِهب ِب َمآ‬
‫المخَلصين والشيطان ذاته ينفي عن نفسه ذلك بقوله لرب العالمين‪َ ﴿ :‬ق َ‬
‫ين‪ِ ،‬إالَّ ِعَب َاد َك ِمْن ُه ُم‬ ‫ض وألُ ْغ ِويَّنهم أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أَ ْغ َوْي َتني أل َُزهيَِن َّن َل ُه ْم في األَْر ِ َ َ ُ ْ ْ‬
‫َج َمع َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)170‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة ۤيس اآلية (‪)55‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 81‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ين﴾(‪ :)1‬بفتح الالم وهم األنبياء والرسل فكيف بسيدنا محمد ﷺ سيد‬ ‫ِ‬
‫اْل ُم ْخَلص َ‬
‫المخَلصين؟!‬
‫وما اتهموه به ﷺ أنه‪( :‬كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه‪ ،‬وكانت أم‬
‫حرام تحت عبادة بن الصامت‪ ،‬فدخل عليها رسول هللا ﷺ فأطعمته‪ ،‬وجعلت تفلي‬
‫(‪)2‬‬
‫رأسه‪ ،‬فنام رسول هللا ﷺ‪)...‬‬
‫فمن هي أم حرام حتى ينام عندها‪ ،‬هل هي زوجته؟!! أليس لرسول هللا ﷺ‬
‫زوجات ولكل منهن حجرتها الخاصة وينام عندهن؟ ما حاجته أن يذهب إلى امرأة‬
‫أجنبية؟ إل أن تكون فرية نكراء‪ ،‬ودسيسة خبيثة‪ ،‬بحق أشرف الخلق‪ ،‬وهل لرسول‬
‫هللا ﷺ من وقت (وهو المشغول دائماً بالدعوة) للذهاب والنوم عند أم حرام‪ ،‬ومهام‬
‫العباد والبالد كثيرة وكبيرة‪ ،‬وهي ملقاة على عاتقه الشريف ﷺ‪ ،‬وهو الذي لم يصافح‬
‫امرًأة قط‪ ،‬وقولهم كانت أم حرام تفلي رأسه؟! ما الذي كانت تفليه برأسه؟!! هل هذا‬
‫الظن يليق برسول هللا ﷺ ؟! إن رسول هللا ﷺ الهادي المهدي‪ ،‬مب أر من تلك األقوال‪،‬‬
‫طئه‪ ،‬والتي تزيغ القلوب عنه ﷺ وتجعل الناس يظنون به‬ ‫ومن كل األقوال التي تخ ِّّ‬
‫الظنون‪ ،‬ويقطعون الناس من الصالة عليه‪ ،‬والستشفاع به إلى هللا تعالى‪.‬‬
‫وفي بحوثهم عن الغسل والجنابة‪ ،‬يتكلمون بأحاديث مرعبة بحق زوجات‬
‫أمنا عائشة رضي هللا عنها بأنها وحاشاها قالت‪:‬‬
‫الرسول الطاهرات‪ ،‬ل سيما َّ‬
‫(كنت أغتسل أنا والنبي ﷺ من إناء واحد‪ ،‬كالنا جنب‪ ،‬وكان يأمرني فأتزر‪،‬‬
‫فيباشرني وأنا حائض‪ )3( )...‬أليس هذا بقول شيطان َمريد؟!‬

‫وقد استغل الحاقدون على الدين اإلسالمي‪ ،‬وعلى رسول هللا ﷺ‪ ،‬هذه ّ‬
‫الترهات‬
‫المبر ﷺ‪.‬‬
‫وغيرها واستخدموها مطاعن بحق ّأ‬

‫(‪ _ )1‬سورة الحجر اآليات (‪)40-39‬‬


‫(‪ _ )2‬صحيح البخاري رقم‪./2636/‬‬
‫(‪ _ )3‬صحيح البخاري رقم‪./296/295/‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 82‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫واألدهى من ذلك أنهم يضعون لتلك الروايات تبريرات وغايات‪ ،‬ل تمت‬
‫لصفات الرسول ﷺ وألهل بيته الطاهرات بصلة‪ ،‬لتنطلي على عامة الناس‪.‬‬
‫لن نؤمن بما قالته األجداد إل بالحق‪ ،‬بالحدود التي ل تنسب إلى هللا الظلم ول‬
‫تنافي األسماء اإللٓهية الحسنى‪ ،‬وبالحدود التي تظهر كمال رسله الكرام وكمال‬
‫كالم هللا تعالى واحكام بعضه ببعض‪.‬‬
‫تلك نبذة عن معتقدات هذا العصر‪ ،‬أما أعمالهم فإنها ل تقل سوءاً عن‬
‫معتقداتهم‪ ،‬فالمصانع التي أقامتها األمم القديمة قد ل تكون بذات بال أمام مفاعل‬
‫الذرة‪ ،‬ومصانع أسلحة الدمار الشامل‪ ،‬وأما التالعب بالكيل والميزان فيعتبر حيل‬
‫أطفال أمام التالعب بقوت الشعوب وامتصاص ثرواتهم‪ ،‬وأما بطشهم فال يعتد به‬
‫أمام اإلبادة الجماعية وأمام اآللت الجهنمية‪.‬‬
‫واللباس‪ ،‬وما أدراك ما اللباس‪ ،‬إنه يشف حتى يصف‪ ،‬ثم أصبح العري أو شبه‬
‫العري هو الدارج في هذه األيام‪.‬‬
‫وتشبُّه الرجال بالنساء‪ ،‬والنساء بالرجال‪ ،‬يكاد يكون مألوفاً اليوم‪ .‬والزنى تبعاً لذلك قد‬
‫تفشى تماماً في كل المجتمعات‪ ،‬والشذوذ الجنسي قد أقرته بعض الحكومات بشكل‬
‫رسمي‪.‬‬
‫وخالصة القول لقد تجاوزت معتقدات وأعمال البشرية في هذا العصر َّ‬
‫حد‬
‫المألوف‪ ،‬وبلغ الفساد والفسق عند أكثر الشعوب ذروته‪ ،‬وما تبقى منها فإنها‬
‫ماضية على سنن من سبقوهم في الفساد بخطى سريعة‪.‬‬
‫إن هللا سبحانه وتعالى قد ارتضى للبشرية حدوداً‪ ،‬ورسم لها سنناً‪ ،‬وأنزل إليها‬
‫شرائع‪ ،‬فإذا تجاوزت البشرية تلك السنن‪ ،‬وتخطت تلك الحدود‪ ،‬وأهملت الشرائع‪ ،‬فإنها‬
‫ِّ‬
‫المتعمد بطغيانه‪ ،‬ل خير‬
‫تفسد النفوس وبفسادها تفسد الحياة‪ ،‬وبما أن الفاسد المفسد و ّ‬
‫فيه‪ ،‬فالنار عندئذ مثواه‪ ،‬وبئس المثوى والمصير‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 83‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ول أظن بعد هذا الذي بيناه‪ ،‬أن َّ‬
‫تظن أن البشرية بمفازة من الهالك‪ ،‬بل األصح‬
‫أنها أصبحت على قمة الهاوية‪ ،‬أو على شفا جرف هار‪ ،‬وهم اآلن في سكرتهم‬
‫يعمهون‪ ،‬وفي غمرتهم لهون‪ .‬ولقد أنذرنا تعالى كثي اًر في كتابه الكريم‪ ،‬ولكن اآليات‬
‫َّكر‪َ ،‬وَلَقْد َجاء‬ ‫والنذر ل تغني لقوم ل يؤمنون‪﴿.‬وَلَقْد ي َّسرَنا اْلُقرآن ِللِهذ ْك ِر َفهل ِمن ُّمد ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫َخ َذ َع ِزيز ُّمْق َتِدر‪ ،‬أ َُكَّف ُارُك ْم َخْيٌر ِهم ْن‬
‫اه ْم أ ْ‬ ‫الن ُذُر‪َ ،‬ك َّذُبوا ِب َآي ِاتَنا ُكهِل َها َفأ َ‬
‫َخ ْذَن ُ‬ ‫آل ِفْرَع ْو َن ُّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫نتصٌر‪َ ،‬سُي ْهَزُم اْل َج ْم ُع َوُي َوُّلو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ ُْوَلئ ُك ْم أ َْم َل ُكم َبَراء ٌة في الُّزُب ِر‪ ،‬أ َْم َيُقوُلو َن َن ْح ُن َجم ٌ‬
‫يع ُّم َ‬
‫َمُّر﴾(‪.)1‬‬‫اع ُة أَْد َهى َوأ َ‬ ‫اع ُة َم ْو ِعُد ُه ْم َو َّ‬
‫الس َ‬ ‫الس َ‬ ‫ُّبَر‪َ ،‬ب ِل َّ‬
‫الدُ‬
‫أما وقد بين لنا تعالى نوع البالء الذي أصاب كل أمة من تلك األمم السابقة‪،‬‬
‫فقوم سيدنا نوح وقوم فرعون قد أغرقهم‪ ،‬وقوم ثمود أهلكت بالطاغية‪ ،‬وعاد أهلكت‬
‫بريح صرصر عاتية‪ .‬أما أمم هذا العصر‪ ،‬فسوف تهلك بنار حامية‪ ،‬ل تبقي ول‬
‫تذر‪ .‬وأما مصادر هذه النار‪ ،‬فهذا ما سنبينه بعد قليل‪.‬‬
‫إن المتعمق بمشاكل العصر يرجع بخيبة أمل‪ ،‬ويشعر بأن قوى الشر قد‬
‫رسخت جذورها‪ ،‬إذ ل يمكن إصالح البشرية‪ ،‬إل باجتثاث مسببات الشر والفساد‪،‬‬
‫ول يوجد شر ول يوجد ضالل أكبر من هذه المفاسد الدنيوية المأساوية التي‬
‫تغلغلت في القلوب فأتعستها‪ ،‬وكانوا قد ظنوها فيها الحياة والماء الغدق‪ ،‬فإذا بها‬
‫سبل البالء والوباء‪ ،‬والشقاء والحروب‪ ،‬وغضب الطبيعة‪ ،‬وجنون األنعام وهالكها‪،‬‬
‫إذن لن تسعد البشرية إل بإزالتها‪ ،‬ثم إقامة شريعة هللا في أرضه‪ ،‬وتلك الخيبة التي‬
‫يتحسسها المرء تتجلى في عوامل عدة منها‪:‬‬
‫سباق التسلح والصراع المحموم بين الدول الكبرى على مناطق النفوذ‪ ،‬والتقدم‬
‫العلمي المخيف‪ ،‬ثم عدم كفاية األنظمة المالئمة لهذه الثورة التقنية الهائلة‪ ،‬وقلة‬
‫مرونتها‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة القمر اآليات (‪)46-40‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 84‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫هذه األسباب وغيرها‪ ،‬تدعو اإلنسان بأل يتفاءل بمستقبل يسوده السالم‪ .‬كذلك‬
‫فإن الجهد المبذول إلنقاذ السالم ل يزال ضعيفاً‪ ،‬والنتائج التي تمخضت عنها‬
‫مؤتمرات السالم من نزع السالح‪ ،‬أو الحد من انتشاره‪ ،‬أو تقليص كميته‪ ،‬ل يذكر‪،‬‬
‫ولم تتمكن الدول الكبرى بعد من اتخاذ قرار يحول دون وقوع الكارثة‪.‬‬
‫إن مؤتمرات نزع السالح‪ ،‬والجهود المبذولة إلنقاذ السالم‪ ،‬تعترضها عقبات‬
‫كثيرة‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬فقدان الثقة بين األطراف المتصارعة المالكة لألسلحة النووية‬
‫والهيدروجينية‪ ،‬والنظر بعين الشك والحذر كل إلى خصمه‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬عدم التفريط بالمصلحة الوطنية والسيادة القومية‪ ،‬لصالح الجنس البشري‪،‬‬
‫فالسلوك الدولي‪ ،‬لم َّ‬
‫يتعد بعد المستوى القومي‪ ،‬ول يزال محصو اًر في فلك المصلحة‬
‫الوطنية‪ ،‬ولذا فأي تهديد للسيادة القومية‪ ،‬أو إضرار في النواحي القتصادية‪ ،‬أو‬
‫تلوح لمن يهدد مصالحها باستعمال تلك األسلحة الرهيبة‬
‫السياسية أو األمنية‪ ،‬يجعلها ّ‬
‫التي لن يقتصر ضررها على الخصم وحسب‪ ،‬بل يتعداه ليعم البشرية بأسرها تقريباً‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬وجود نظامين متصارعين في العالم وهما‪ ،‬النظام الغربي والشرقي‪ ،‬وكل‬
‫نظام تقف وراءه كتل بشرية هائلة تمتلك أفتك األسلحة‪ ،‬وتسعى من خالل نظامها أن‬
‫تبسط يدها على البشرية جمعاء‪ .‬وبما أن القائمين على كل نظام يمقت كل منهما‬
‫النظام اآلخر‪ ،‬فإن الرد سوف يكون حاسمًا إذا شعر أحدهما بأن النظام اآلخر بدأت‬
‫ترجح كفته‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬التسابق الجنوني نحو التسلح كماً وكيفاً‪ ،‬وحجتهم في ذلك (إذا أردت‬
‫السالم فتهيأ للحرب) ومعنى ذلك أنه إذا كان أحد الطرفين أكثر قوة‪ ،‬فإن اآلخر‬
‫سيتلكأ عن إثارة الكارثة‪ ،‬وحسب هذه النظرية يظل التسابق قائماً‪ ،‬حتى ل يتج أر‬
‫أحد الطرفين المتنازعين على ذبح خصمه‪ ،‬وهذه النظرية إن دلت على شيء‪،‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 85‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فإنما تدل على الذعر الدائم‪ ،‬والتوتر المستمر‪ ،‬بين أفراد المجتمع البشري‪ .‬ولكن‬
‫أما يكون للخوف والتوتر من نهاية؟ فإذا رأينا استحالة نزع السالح وتدميره‪ ،‬أما‬
‫تكون الحرب هي السبيل الوحيد للوصول إلى النهاية؟‬
‫مما أسلفنا يتبين لنا أن عوامل الشر الدافعة نحو الحرب‪ ،‬أكثر وأقوى بكثير‪،‬‬
‫من عوامل الخير الدافعة نحو السالم‪ .‬كذلك فإن عوامل الفساد ل تزال مستشرية‪،‬‬
‫ول تزال تزداد عمقاً وانتشا اًر‪.‬‬
‫من كل ذلك نستنتج َّ‬
‫أن البالء بات وشيكاً‪ ،‬وفي أية لحظة‪ ،‬والكارثة آتية ل‬
‫ريب فيها‪ ،‬وهي ليست من الظالمين ببعيد‪.‬‬
‫عما نحن فيه‪ ،‬لرتفع البالء‪ ،‬وألوجد هللا‬ ‫إن البالء ليس قد اًر محتوماً‪ ،‬لو رجعنا ّ‬
‫كنا أم أفراداً‪ .‬قال‬ ‫لنا وسيلة‪ ،‬تخلصنا من هذا الخطر الجاثم على صدرنا‪ ،‬أمماً ّ‬
‫آمُنوْا َك َش ْفَنا‬
‫س َل َّمآ َ‬‫يماُن َها ِإالَّ َق ْوَم ُيوُن َ‬‫ِ‬
‫تعالى ‪َ ﴿ :‬ف َل ْوالَ َكاَن ْت َقْرَي ٌة َ‬
‫آمَن ْت َفَنَف َع َها إ َ‬
‫الدْنيا ومَّتعَن ُ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اب الخ ْزِي في اْل َحَيا َة ُّ َ َ َ ْ‬
‫‪1‬‬
‫فباب التوبة والرجوع‬ ‫اه ْم إَلى حين﴾ ‪ُ .‬‬ ‫َعْن ُه ْم َع َذ َ‬
‫إلى هللا مفتوح ول يغلق أبداً إل عند الموت أو وقوع الهالك‪.2‬‬
‫لقد أطلق رب العالمين على هذه الكارثة اسم (الساعة) والساعة أينما ذكرت‬
‫في القرآن فإنها عموماً تحمل معاني عدة‪:‬‬
‫الساعة التي يموت فيها اإلنسان‪ ،‬أو الساعة التي تقوم بها القيامة‪ ،‬أو‬
‫الساعة التي نحن بصددها‪.‬‬
‫واذا تركنا ساعة الموت‪ ،‬وساعة يوم القيامة حالياً واكتفينا بالساعة التي يأتي بها‬
‫السيد المسيح ‪ ،‬لوجدنا أن تسمية الحرب العالمية أو الحرب النووية القادمة‪ ،‬هي‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة يونس اآلية ( ‪) 98‬‬


‫ت الت َّْوَِةُ ِّللَّذَِّنَ ََ ْع َملُونَ السَّيِّئَا ِّ‬
‫ت َحتَّى َِِّْا َحض ََر أَ َح َدهُ ُم ا ْل َم ْوتُ قَا َل ِِّنَِّ ُِبْتُ اِلنَ َوََّ الَّذَِّنَ ََ ُموِ ُونَ َوهُ ْم كُفَّا ٌر أ ُ ْولَئِّكَ أَ ْعتَ ْدنَا لَ ُه ْم‬ ‫(‪َ ﴿ _ )2‬ولَ ْي َ‬
‫س ِّ‬
‫عذَاِا أَلِّيما﴾ اآلية (‪ )18‬من سورة النساء‪.‬‬ ‫َ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 86‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫َمُّر﴾(‪ :)1‬وهي‬
‫اع ُة أ َْد َهى َوأ َ‬
‫الس َ‬
‫َو َّ‬ ‫اع ُة َم ْو ِع ُد ُه ْم‬ ‫المطهرة‪َ﴿ :‬ب ِل َّ‬
‫الس َ‬ ‫ِّ‬
‫ّ‬ ‫تسمية للحرب‬
‫للبشرية رسول السالم والطمأنينة‬ ‫الساعة المرافقة لقدوم السيد المسيح ‪ ‬المنقذ‬
‫واألمان بعد القلق المرهق والشقاء وطوبى لمولود زمانه‪ .‬إذ وعده تعالى بقوله‪ِ﴿ :‬إ ْذ‬
‫ط ِهرك ِمن َّال ِذين َك َفروْا وج ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اع ُل‬ ‫َ ُ ََ‬ ‫يك َوَراف ُع َك ِإَل َّي َو ُم َ ه ُ َ َ‬ ‫يسى ِإهني ُم َت َوهف َ‬‫ّللا َيا ع َ‬ ‫ال ه ُ‬
‫َق َ‬
‫ِ‬ ‫َّال ِذين َّاتبعوك َفوق َّال ِذين ك َفروْا ِإَلى يومِ اْل ِقي ِ‬
‫يما‬ ‫امة ُث َّم ِإَل َّي َمْرِج ُع ُك ْم َفأ ْ‬
‫َح ُك ُم َبْيَن ُك ْم ف َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َُ َ ْ َ‬
‫كنتم ِف ِ‬
‫يه َت ْخَتلِ ُفو َن﴾(‪.)2‬‬ ‫ُ ُْ‬
‫أي عند ظهوره اآلن‪ ،‬وقريباً جداً‪ ،‬فاألمارات السابقة لظهوره ‪ ‬تمت بإذن هللا‬
‫وانتهت‪ ،‬وجاء الفرج لكل المؤمنين‪ ،‬وقد حق قول رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫(ال تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة‬
‫دعواهما واحدة) (‪.)3‬‬
‫ِشَرِار اْل َخْل ِق) (‪ :)4‬وهي ساعة هالك العالم‬ ‫اع ُة إاله َعَلى‬
‫الس َ‬
‫وم ه‬
‫وقوله ﷺ‪( :‬الَ َتُق ُ‬
‫َ‬
‫الحرب النووية القادمة تمتاز كغيرها من‬ ‫الفاسد‪ ،‬وقصم ظهر الكفر وأهله‪ .‬إذ أن‬
‫الحروب بالسرعة والمفاجأة‪ ،‬ولكن هذه الحرب تختلف من حيث الغاية عن‬
‫الحروب التي سبقتها‪ ،‬إذ في الحروب السابقة كانت الغاية من السرعة والمفاجأة‬
‫هي إحراز النصر‪ ،‬أما في هذه الحرب‪ ،‬أي الحرب النووية والهيدروجينية‪ ،‬فغايتها‬
‫اتقاء خطر الفناء‪ ،‬والقضاء على الخصم قضاء تاماً‪ ،‬قبل إعطاء الفرصة له‬
‫ليتمكن من الرد على خصمه‪ .‬ولذا فإن البادئ في هذه الحرب‪ ،‬سوف يلقي أكبر‬
‫كمية ممكنة من القنابل الذرية والهيدروجينية وغيرها من أنواع األسلحة ذات‬
‫قضاء مبرماً‪ ،‬ومحوه من‬
‫ً‬ ‫التدمير الشامل‪ ،‬في الدقائق األولى‪ ،‬للقضاء على العدو‬

‫(‪ _ )1‬سورة القمر اآلية (‪)46‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة آل عمران اآلية (‪)55‬‬
‫(‪ _ )3‬أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫(‪ _ )4‬صحيح مسلم‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 87‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الوجود‪ ،‬غير أن وسائل اإلنذار الحديثة‪ ،‬والتيقظ التام سوف تفوت على البادئ‬
‫هذه المباغتة‪ ،‬وسيتمكن الخصم من الرد عليه‪ ،‬وافنائه أيضاً‪ .‬لذلك فإن الحرب‬
‫القادمة ل نصر فيها‪ ،‬بل هالك شبه مبرم‪ .‬ومن هنا يتبين أن الحرب القادمة‬
‫سوف تكون سريعة‪ ،‬ل تتجاوز الساعة من الزمن‪ ،‬وسوف تأتيهم بغتة وهم ل‬
‫يشعرون‪.‬‬
‫اع ِة﴾‪ :‬يسألونك عن الساعة‬ ‫قال تعالى‪َ﴿ :‬ي ْسأَُلوَن َك﴾‪ :‬بعد بيانك هذا‪َ ﴿ :‬ع ِن َّ‬
‫الس َ‬
‫ويتبعوه‪ ،‬حيث إنهم لم يعبؤوا بقوله سألوه هذا‬ ‫متى وقوعها‪ ،‬بدلً من أن ِّّ‬
‫يفكروا في قولك ّ‬
‫يها لِ َوْق ِت َها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اها﴾‪ :‬متى وقوعها؟﴿ ُق ْل ِإَّن َما عْل ُم َها ع َ‬
‫ند َرهِبي الَ ُي َجهل َ‬ ‫ان ُمْر َس َ‬
‫السؤال‪﴿ :‬أََّي َ‬
‫ِإالَّ ُه َو﴾‪ :‬ل أحد يعلم وقتها‪ ،‬أنا ُمبّلغ ل أعلم الوقت‪ ،‬ولكن لها إشارات‬
‫ظمت‪ :‬هولها عظيم‪ ،‬من فوقهم ومن تحت أرجلهم‪ ،‬نيران‬ ‫وعالمات‪َ ﴿.‬ثُقَل ْت﴾‪ :‬ع ُ‬
‫وزلزل‪ ،‬ل تبقي ول تذر‪ .‬أتدري ما فيها من هول؟ فقط تسأل عنها! ماذا أعددت لها؟‬
‫فكر لعرف عظمة هللا ولما سأل هذا السؤال‪ ،‬بل لخاف منها‪ِ ﴿ :‬في‬ ‫لو َّ‬
‫ض﴾‪ :‬هول‪ ،‬شدائد من السماء واألرض‪ ،‬من األرض ينبعث بالء‪،‬‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواألَْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬
‫يك ْم ِإالَّ َب ْغ َت ًة﴾‪ :‬على غفلة‪ ،‬على حين ِّغ َّرة‪ .‬لكن البالء‬ ‫ومن السماء بالء‪﴿ :‬الَ َتأ ِْت ُ‬
‫ما هو فقط بالء الدنيا‪ :‬بالء في الدنيا وفي اآلخرة‪َ﴿ :‬ي ْسأَُلوَن َك َكأََّن َك َح ِف ٌّي َعْن َها﴾‪:‬‬
‫كأنك ل تعرف شيئاً عنها‪ ،‬ول تعلمها‪ .‬كأنك ل تدري عنها شيئاً‪ :‬تريد أن تُخِّّلصهم‬
‫من العذاب‪ ،‬وهم يريدون أن يمتحنوك امتحاناً‪ .‬وهم كفرة اليهود‪ ،‬إذ أرادوا امتحان‬
‫ّللا﴾‪ :‬وقت وقوعها ل يعلمه‬ ‫الرسول ألنها مذكورة عندهم‪ُ ﴿ :‬قل ِإَّنما ِعْلمها ِعند ِ‬
‫َ ه‬ ‫َُ‬ ‫ْ َ‬
‫اس الَ َي ْعَل ُمو َن﴾ ‪ :‬هذا الهول الذي فيها‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫سواه‪َ ﴿ :‬وَل ِك َّن أَ ْك َثَر َّ‬
‫الن ِ‬
‫يفكر فيها أحد‪ .‬وهللا عليم أن وقتها قريب جداً وجميع‬ ‫ل يعلمون شيئاً عنها ول ِّّ‬
‫اإلشارات وقعت‪ .‬فما أشقى من ل ِّّ‬
‫يفكر ويستعد لها! كما أنه ورد في األثر عنه ﷺ‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآلية (‪)187‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 88‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫يحدثنا عن القنابل النووية والهيدروجينية‪( :‬ال تقوم الساعة حتى تزول الجبال عن‬
‫أماكنها وترون األمور العظام التي لم تكونوا ترونها) (‪.)1‬‬
‫ولما كانت هذه الكارثة تهم البشرية عامة‪ ،‬لذا كان لزاماً علينا أن نعطي صورة‬
‫واضحة عنها‪ ،‬وأما ما سيعقبها من أحداث يتوقف عليها مصير البشرية‪ ،‬فهذا ما‬
‫سنذكره بعد قليل بإذن هللا‪ .‬إن ما يحول بين الناس وبين هللا‪ ،‬هو حب الدنيا الدنية‬
‫بهذه الحضارة المادية العمياء المدمرة‪ ،‬التي طغت على عقول الناس وقلوبهم‪ ،‬لذا‬
‫أن البشرية ل تتنازل عن هذه الحضارة‬ ‫فإن الرجوع إلى هللا مرهون بإزالتها‪ ،‬وبما‬
‫ِ‬
‫ين‬‫وعلى أيدي صانعيها‪َ ﴿ :‬ق ْد َم َكَر َّالذ َ‬
‫الدنيوية طوعاً‪ ،‬فإن هللا هو الذي يزيلها‪،‬‬
‫اه ُم‬ ‫الس ْق ِ‬
‫ف من َف ْوِق ِه ْم َوأ ََت ُ‬ ‫اع ِد‬
‫ِمن َقبلِ ِهم َفأ ََتى ّللا بْنياَنهم ِمن اْلَقو ِ‬
‫َف َخَّر َعَلْي ِه ُم َّ ُ‬
‫هُ ُ َ ُ ه َ َ‬ ‫ْ ْ‬
‫اب ِم ْن َحْي ُث الَ َي ْش ُعُرو َن﴾ ‪ :‬عملوا تدبيرات وحيل وترتيبات لرد الحق فأتى‬
‫(‪)2‬‬
‫اْل َع َذ ُ‬
‫ِّ‬
‫لصد‬
‫دبروا ّ‬ ‫فخر عليهم ما صنعوه‪ ،‬ونزلت قنابلهم عليهم‪ ،‬هم ّ‬ ‫هللا بنيانهم من أصله َّ‬
‫حدها ضرب نفسه بها‪ ،‬أذاه‬‫الناس عن الحق‪ ،‬وهللا أرسل لهم بالء فالسكين التي َّ‬
‫ام ِة ُي ْخ ِزي ِه ْم‪.)3(﴾...‬‬ ‫ِ‬
‫عاد عليه‪ُ ﴿ :‬ث َّم َي ْوَم اْلقَي َ‬
‫إن البشرية لم ولن تمر عليها كارثة بلغت من الشدة مثل ما ستبلغه هذه‬
‫الكارثة‪ .‬ولن ينجو منها إل كل مؤمن‪ ،‬أو من عنده القابلية لإليمان‪ .‬أما المالجئ‬
‫األرضية فإنها لن تغني من هللا شيئاً‪ ،‬إن شاء أن يهلكهم‪ ،‬ومنطق هذه الحرب‬
‫يؤكد ذلك‪ ،‬فالذين لم ُيقض عليهم من الصدمة األولى‪ ،‬فإن اإلشعاعات الذرية‬
‫والتلوث‪ ،‬وفساد الجثث‪ ،‬والزلزل‪ ،‬ستحول بينهم وبين الحياة‪ ،‬بعد خروجهم من‬
‫المالجئ‪ ،‬ول ندري أيضاً ما سيخرج لهم من باطن األرض‪ .‬فاإلنسان ل يستطيع‬
‫أن يبقى في الملجأ زمناً طويالً‪ ،‬ولو افترضنا أن كل شيء قد هيئ فيه‪ ،‬فإن الحياة‬

‫(‪ _ )1‬كنز العمال ج‪ 14‬رقم‪./38571/‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة النحل اآلية (‪)26‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة النحل اآلية (‪)27‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 89‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫خارجه غدت مستحيلة‪ ،‬فكل شيء خارج الملجأ غدا هامداً ل حراك فيه‪ ،‬هدوء‬
‫مرعب‪ ،‬إل من أنين الرياح‪ ،‬ل أهل ول بيت ول ولد إذ أن كل شيء قد تحول إلى‬
‫رماد‪.‬‬
‫ترى ماذا تتصور أن تكون حال هذا اإلنسان الذي خرج من ملجئه بعد حين‪،‬‬
‫ناهيك عن الغبار الذري المرعب وآثاره السامة‪ ،‬إن حالته النفسية سوف تبلغ حد‬
‫الجنون أو النهيار‪ .‬وسيدرك المتفائلون بإعادة الحضارة بعد الحرب من جديد‪،‬‬
‫أنها أماني‪ ،‬وأن ذلك لرجع بعيد‪.‬‬
‫إن الدمار سوف يكون متناسباً مع شدة الفسق‪ ،‬وعلى أساس ذلك فإن مناطق‬
‫المعسكرين الشرقي والغربي‪ ،‬ستصبح قاعاً صفصفاً‪ ،‬وستكون جثث شعوبها حطباً‬
‫لتلك النار‪ ،‬ومن ثم رماداً تذروه الرياح‪ .‬وسوف ل تحس منهم من أحد أو تسمع‬
‫لهم بعد ذلك رك اًز‪.‬‬
‫أما منطقة الشرق األوسط خاصة التي هي مهد األنبياء‪ ،‬فسوف يكون حظها‬
‫من الدمار أقل‪ ،‬وهذا ل يعني أن تبقى فيها بعض مظاهر الحضارة فهذا محال‪،‬‬
‫فهي كغيرها من المناطق‪ ،‬ستعاني من الزلزل األرضية والمجاعة‪ ،‬الشيء الكثير‪،‬‬
‫وسوف تكون مسرحاً للحروب التقليدية‪ ،‬ولن ينجو منها إل القليل‪ ،‬بعد أن تكون‬
‫الحرب قد أخرجت لهم كل أمراضهم النفسية‪ ،‬وهيأتهم للطهارة نتيجة التجائهم إلى‬
‫هللا‪ ،‬من شدة ما سيعانون‪ ،‬من الجوع والخوف واأللم‪.‬‬
‫لذلك فالمالجئ التي يجب أن نعدها فقط‪ ،‬هي اللتجاء إلى هللا‪ ،‬واللتجاء من‬
‫اآلن‪ ،‬ولن يفيد اللتجاء إذا أزفت اآلزفة‪ ،‬إذ ليس لها من دون هللا كاشفة‪ ،‬فالتوبة‪،‬‬
‫التحرس يجب أن يكون قبل أن يأتي يوم ل ينفع فيه الدعاء‪.‬‬
‫والستعداد‪ ،‬و ُّ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 90‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫حل بهم‪َ ﴿ :‬وَك ْم َق َص ْمَنا ِمن َقْرَية َكاَن ْت َ‬
‫ظالِ َم ًة﴾‪:‬‬ ‫انظروا إلى األمم السابقة ماذا َّ‬
‫آخ ِرين﴾(‪ِّّ :)1‬‬
‫فكر بمن سبق أين هم اآلن؟ ماذا كانت‬ ‫َنش ْأَنا َب ْع َد َها َق ْو ًما َ َ‬
‫مثلكم‪َ ﴿ :‬وأ َ‬
‫نتائج أحوالهم؟ وأنتم إن لم ترجعوا للحق ستُهلكون‪ :‬هذا تهديد عام لكل منحرف‪.‬‬
‫فاإلنسان ولو عرف بفكره فلن يستفيد شيئاً‪ ،‬ل َّبد من العقل‪ :‬بالعقل اإلنسان يعرف‬
‫ْسَنا﴾‪ :‬جاء البالء‪ ،‬جاءهم الهالك‪ِ﴿ :‬إ َذا ُهم ِهمْن َها‬
‫َح ُّسوا َبأ َ‬
‫الحقائق‪َ ﴿ :‬فَل َّما أ َ‬
‫َيْرُك ُضو َن﴾ ‪ :‬من البلد‪ ،‬تراكضوا ليخلصوا من البالء‪َّ .‬‬
‫(‪)2‬‬
‫لما حصلت الزلزل‪ :‬أين‬
‫المفر؟ ستُسأل غداً عند الموت عن الصوم‪ ،‬الصالة‪ ،‬الحج‪ ،‬كل شيء له صورة‬
‫وحقيقة‪ ،‬والحقيقة بال صورة ل تفيد‪ ،‬والصورة بال حقيقة ل فائدة منها‪ :‬ل َّبد من‬
‫ضوا﴾‪ :‬أنتم غداً مثلهم‪ .‬قلنا‬
‫الجمع‪ ،‬فالذي يأتي بالصور ل يستفيد شيئاً‪َ﴿ :‬ال َتْرُك ُ‬
‫لهم قبل ذلك على لسان رسلهم ل تركضوا غداً عند البالء‪ ،‬هكذا قالت الرسل‪:‬‬
‫يه﴾‪ :‬ل تفسدوا الخلق‪ ،‬عملكم هل هو منطقي‬ ‫﴿وارِجعوا ِإَلى ما أُ ْت ِرْفتم ِف ِ‬
‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬
‫اكِن ُك ْم﴾‪ :‬التي تسكنونها‪ ،‬ما سكنت نفوسكم فيه من الدناءة والخبث‪،‬‬‫وطيب؟﴿ومس ِ‬
‫َََ‬ ‫ِّّ‬
‫وانظروا إلى هذه المدن من حكمها؟ من سكن بها؟ أين هم الذين سبقوا وعاشوا‬
‫قبلك؟‬
‫هل ستبقى أنت وتخلد؟﴿َل َعَّل ُكم﴾‪ :‬تعرفون إن َّ‬
‫فكرتم فتدركون أنكم بعد هذه الحياة‪:‬‬ ‫ْ‬
‫﴿ ُت ْسأَُلو َن﴾‪ :‬تعرف لماذا خلقت وتتدارك األمر فتعرف أنك ستُسأل عن هذه‬
‫تفكر‪ ،‬فلن يخطر السؤال لك‬ ‫األشياء كلها‪ :‬ستُسأل عن كل ما فعلت‪ .‬أما إن لم ِّّ‬
‫ين﴾‪ :‬ولكن ما‬ ‫على بال‪َ ﴿ :‬قاُلوا يا ويَلَنا﴾‪ :‬عند نزول البالء عليهم‪ِ﴿ :‬إَّنا ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬ ‫َ َْ‬
‫اه ْم﴾‪ :‬ومعارضتهم‬ ‫ِ‬
‫الفائدة من هذا القول عند البالء والهالك؟﴿ َف َما َازَلت هتْل َك َد ْع َو ُ‬
‫ِِ‬
‫ظل اإلنسان متعّلِّقاً‬ ‫ين﴾‪ :‬إذا َّ‬ ‫يدا َخامد َ‬ ‫اه ْم َح ِص ً‬
‫للحق وتكذيبهم لرسلي‪َ ﴿ :‬ح َّتى َج َعْلَن ُ‬
‫يفكر بالموت‪ ،‬يظل مكِّّذباً للحق‪َ ﴿ :‬و َما َخَل ْقَنا‬ ‫يفكر بالموت"‪ ،‬فإن لم ِّّ‬ ‫بالدنيا "ل ِّّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنبياء اآلية (‪)11‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األنبياء اآلية (‪)12‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 91‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فكر يا إنسان بالسماء‬ ‫ض وما بيَنهما َال ِع ِبين﴾(‪ :)1‬لعب اتخذناها! ِّّ‬
‫َ‬ ‫الس َماء َو ْاألَْر َ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫َّ‬
‫واألرض والجبال هل هي لعب؟! كلها لسعادتك‪ .‬هل خلقنا الدنيا لعباً؟! أل ِّّ‬
‫تفكر‬
‫لماذا خلق هللا الكون؟ خلقك لتكون إنساناً‪.‬‬
‫وهذه الواقعة‪ ،‬سوف ل ينجو منها إل كل مؤمن‪ ،‬أو من هو قابل لإليمان‪ ،‬إذ في‬
‫هذه الساعة سوف يهلك كل مجرم‪ ،‬أما الذين لديهم قابلية لإليمان‪ ،‬فإن الحق‬
‫سيعرض عليه إما على لسان السيد المسيح ‪ ،‬واما على لسان أتباعه‪ ،‬فإن آمن‬
‫واهتدى وصدق بالحسنى‪ ،‬فسوف يحيا حياة طيبة في الدنيا‪ ،‬وفي اآلخرة يكون من‬
‫الصالحين‪ ،‬وال سيهلك مع الهالكين‪ .‬إن البالء سوف ل يأخذ الصالح بجريرة‬
‫الطالح‪ ،‬كما أنه ليس صحيحاً المثل القائل‪( :‬الرحمة مخصصة والبالء يعم) وهو‬
‫مثل مغلوط‪ ،‬فالقرآن الكريم ُّ‬
‫كله وبه الحجة البالغة‪ ،‬ل يؤيد هذا الزعم‪ ،‬بل يبين أن‬
‫الرحمة مخصصة‪ ،‬والبالء مخصص أيضاً‪ .‬إن هللا سبحانه وتعالى قد بين لنا عن‬
‫نجا من بينهم المؤمنين‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وَل َّما َجاء‬ ‫األقوام السابقة التي أهلكت‪ ،‬أنه قد ّ‬
‫اهم ِهم ْن َع َذاب َغلِيظ﴾(‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوْا َم َع ُه ِبَر ْح َمة همَّنا َوَنجَّْيَن ُ‬ ‫ودا َو َّالذ َ‬
‫ين َ‬ ‫َمُرَنا َنجَّْيَنا ُه ً‬
‫أْ‬
‫آمُنوْا َم َع ُه ِبَر ْح َمة ِهم َّنا َو ِم ْن ِخ ْزِي َي ْو ِم ِئذ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َ‬ ‫َمُرَنا َن َّج ْي َنا َصال ًحا َو َّالذ َ‬
‫﴿ َفَل َّما َجاء أ ْ‬
‫إِ َّن َرَّب َك ُه َو اْل َقو ُّ‬
‫ِي اْل َع ِز ُ‬
‫يز﴾(‪ .)3‬وقل مثل ذلك عن قوم لوط‪ ،‬وأهل مدين وغيرها من‬
‫اآليات‪.‬‬
‫تلك سنن وقوانين ل تتبدل ول تتغير‪ ،‬وهذه القوانين تنطبق على الفرد كما‬
‫تنطبق على الجماعة‪ ..‬وقد وعد سبحانه بأنه سوف ينجي المؤمنين إذا أصاب‬
‫ِ‬ ‫قومهم البالء‪ ،‬قال تعالى‪َ ..﴿ :‬ك َذلِ َك َحًّقا َعَلْيَنا ُن ِ‬
‫نج اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين﴾(‪.)4‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنبياء اآليات(‪)16-12‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة هود اآلية (‪)58‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة هود اآلية (‪)66‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة يونس اآلية (‪)103‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 92‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ظَل ُموْا ِم ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعَل ُموْا‬
‫آص ًة َو ْ‬
‫نك ْم َخ َّ‬ ‫أما اآلية الكريمة‪َ ﴿ :‬و َّاتُقوْا ف ْتَن ًة الَّ ُتص َيب َّن َّالذ َ‬
‫ين َ‬
‫اب﴾(‪ :)1‬فهي تعني أولئك الذين بإمكانهم محاربة الفتنة ثم‬ ‫يد اْل ِعَق ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا َشد ُ‬
‫َن ه َ‬
‫أ َّ‬
‫تقاعسوا عنها‪ ،‬لذلك فإنه ل بد أن يصيبهم ما أصاب الذين كانوا سبباً في إيقاظها‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫بعدم نهيهم عنها دليل على رضاهم بها‪ ،‬أما إذا استشرت الفتنة‬ ‫ألنهم‬
‫واستفحلت‪ ،‬وخرجت عن نطاق مقاومة المؤمنين لها‪ ،‬فما على المؤمن إل نفسه‪،‬‬
‫ومن يستطيع هدايتهم‪ ،‬أو من له سلطة عليهم‪.‬‬
‫لقد بين لنا تعالى هول هذه الساعة‪ ،‬وبين لنا أن النجاة في عصرها‪ ،‬ل يكون‬
‫إل بالتقوى‪ ،‬أي اإليمان المبني على الشهود‪ ،‬إذ ل يمكن لإليمان التقليدي أن‬
‫يثبت صاحبه أمام هذه الشدائد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الس ِ‬
‫يم‪َ ،‬ي ْوَم‬
‫اعة َش ْي ٌء َعظ ٌ‬ ‫اس َّاتُقوا َرَّب ُك ْم ِإ َّن َزْل َزَل َة َّ َ‬ ‫قال تعالى‪َ﴿ :‬يا أَُّي َها َّ‬
‫الن ُ‬
‫اس‬ ‫َتروَنها َت ْذهل ُك ُّل مر ِضعة ع َّما أَر َضع ْت وَت َضع ُك ُّل َذ ِ‬
‫ات َح ْمل َح ْمَل َها َوَتَرى َّ‬
‫الن َ‬ ‫ُْ َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َْ َ‬
‫يد﴾(‪.)3‬‬ ‫ّللا َش ِد ٌ‬‫س َكارى وما هم ِبس َكارى وَل ِك َّن ع َذاب َّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ َ ََ ُ ُ َ َ‬
‫إن هذه اآلية ل تشير كما ُيظن‪ ،‬إلى يوم القيامة‪ ،‬ألن أحمال النفس من شهوات‬
‫كالنساء والمال والجاه والبناء والسيارات واللباس وما شابه ذلك (‪ )4‬تكون سقطت جملة‬
‫وتفصيالً عند الموت‪ ،‬فال حمل ول أطفال ترضع وأمهات تُرضع يوم القيامة‪ ،‬كما‬
‫أنه ل يبقى لإلنسان أية أمنية سيئة يحملها في ذلك اليوم‪ ،‬فإنه يتمنى أن يكون بينه‬
‫وبينها أمداً بعيداً‪ ،‬أما أحمال النفس وكل ما يشغلها قبل قيام الساعة‪ ،‬تكون موجودة‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنفال اآلية (‪)25‬‬


‫(‪ _ )2‬الفتنة‪ :‬هي كل ما يوقظ الشهوة المحرمة في النفوس‪.‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الحج اآلية (‪)12‬‬
‫(‪ _ )4‬ولفهم أحمال النفس نضرب المثال التالي‪ :‬لو أن رجالً اقتنى قصراً منيفا ً غاية في الجمال على شاطئ البحر‪ ،‬وسكن مع أوالده العشرة‪،‬‬
‫واقتنى عدة سيارات‪ ،‬وله عدة بواخر وزوارق للتجارة‪ ،‬وأصابه الغرق‪ ،‬هل يتذكر في هذه اللحظة قصره أو سيارته أو أوالده أو بواخره‪ ،‬أم أنه‬
‫يذهل عن كل هذا لينجو بنفسه‪.‬‬
‫أما لو كانت نفسه مطمئنة فإنه يغيظه أدنى تلف ألدنى شيء يمتلكه‪ .‬أما اآلن هول الغرق واالختناق أسكره وأذهله عن كل هذا‪ .‬أحمال النفس هنا‪:‬‬
‫هي ما تحمله النفس من شهوات‪ ،‬كشهوة النساء والمال والجاه وما شابه ذلك‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 93‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فيها‪ ،‬ول تضعها إل عندما ترى شدة هولها‪ ،‬حتى أن كل مرضعة تذهل عما‬
‫أرضعت‪ ،‬كم عند الوالدة من عطف على ولدها‪ ،‬ولكن ساعتها تذهل عنه‪ ،‬بل هذه‬
‫األحداث الهائلة تحدث في الدنيا عند وقوع الزلزل المرعبة‪ ،‬إذ ل يبقى للنفس من‬
‫هم إل اتقاء شدة البالء‪ ،‬وينسى اإلنسان كل شيء‪ ،‬إل هذا الخطر المحدق به‪..﴿ :‬‬
‫اس ُس َك َارى‪ :﴾...‬الهول ينسيهم كل شيء‪َ ..﴿ :‬و َما ُهم ِب ُس َك َارى‪ :﴾...‬ما‬ ‫َوَتَرى َّ‬
‫الن َ‬
‫ّللا َش ِد ٌ‬
‫يد﴾‪:‬‬ ‫شربوا خم اًر‪ ،‬لكن العذاب أسكرهم وشغلهم عن كل شيء‪ ..﴿ :‬وَل ِك َّن ع َذاب َّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫إذا كان هللا تعالى يصف هذا اليوم وعذابه بالشدة‪ ،‬فكيف هو يا ترى؟!‬
‫هذا وقد ورد ذكر للساعة في اإلنجيل أيضاً‪ ،‬وسنذكره في حينه‪.‬‬
‫ول غرابة‪ ،‬فالسيد المسيح ‪ِّ ‬عْلٌم للساعة‪ ،‬وهو المعني باألمر‪ ،‬وهو المأمور‬
‫بإعالء كلمة الحق في األرض من قيام الساعة والى يوم القيامة بإمداد من هللا تعالى‪،‬‬
‫ولكن فهمت النصارى كما فهم المسلمون بأن الساعة التي يأتي بها هي ساعة يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫أقول‪ :‬ما فائدة مجيء الرسول ‪ ‬عند يوم القيامة؟!‬
‫كل منهم كتابه؟! إما بيمينه‬
‫أما انتهت فترة المتحان؟! أما ينتظر الناس ليؤتى ٌّ‬
‫واما بشماله‪ ،‬وما فائدة النصح وهل تنفع موعظة عندئذ؟! أما كشف الغطاء‬
‫وأصبح البصر يومئذ حديد؟!‬
‫***‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 94‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الفصل الثالث‬
‫في هذا الفصل‪:‬‬
‫أشراط الساعة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫خروج بيت المقدس من أيدي المسلمين‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫طلوع الشمس من مغربها وانشقاق القمر‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫النفوذ من أقطار السماوات واألرض‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫خروج يأجوج ومأجوج‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫خروج دابة األرض‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫زخرفة األرض‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ظهور الدخان‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أشراط الساعة الصغرى‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫***‬
‫أشراط الساعة‬
‫َهُلها َغ ِ‬
‫افُلو َن﴾‬ ‫(‪)1‬‬
‫﴿ َذلِ َك أَن َّل ْم َي ُكن َّرُّب َك ُم ْهلِ َك اْلُقَرى ِب ُ‬
‫ظْلم َوأ ْ َ‬
‫إن هللا سبحانه ل يأخذ الناس على حين غرة‪ ،‬ودون سابق إنذار‪ ،‬وهو جل‬
‫شأنه لرحمته بعباده يرسل(‪ )2‬إليهم رسولً يحذرهم مما هم فيه من الكفر والضالل‪،‬‬
‫وينذرهم إذا لم يتوبوا نا اًر أعدت للكافرين‪.‬‬
‫فإذا رجعوا عما هم فيه‪ ،‬ونهوا النفس عن الهوى‪ ،‬فإن هللا من بعدها لغفور‬
‫آمَن ْت‬‫َقْرَي ٌة َ‬ ‫رحيم‪ ،‬يبدل سيئاتهم حسنات‪ ،‬ويرفع عنهم عذاب الخزي‪َ ﴿ :‬فَل ْوالَ َكاَن ْت‬
‫ِفي اْل َحَيا َة‬ ‫َفَن َفعها ِإيماُنها ِإالَّ َقوم يوُنس َل َّمآ آمُنوْا َك َش ْفَنا عْنهم ع َذاب ِ‬
‫الخ ْزِي‬ ‫َ ُْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫اه ْم ِإَلى ِحين﴾ ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫الدْنَيا َو َم َّت ْعَن ُ‬
‫ُّ‬
‫وأما إذا عتوا عن أمر ربهم‪ ،‬وأصروا على كفرهم‪ ،‬فإن هللا يأخذهم بالعذاب‬
‫األدنى دون العذاب األكبر‪ ،‬لعلهم يرجعون‪ ،‬أو يبلوهم بالبأساء والضراء‪ ،‬ويلبسهم‬
‫شيعاً ليذيق بعضهم بأس بعض‪ ،‬أو يضرب عليهم الذلة والمسكنة‪ ،‬أو يذيقهم شيئاً‬
‫من الجوع والخوف وعدم األمن‪ ،‬إلى غير ذلك من ألوان العذاب‪ ،‬لعلهم بتلك‬
‫المصائب أو تلك العالجات‪ ،‬يصحون من سكرتهم‪ ،‬ويتنبهون من غفلتهم‪ ،‬فإذا لم‬
‫يذعنوا ألمر هللا‪ ،‬ولم يعتبروا من تلك المصائب الناشبة اآلن في كل بقاع المعمورة‪،‬‬
‫من أعاصير وعواصف استوائية‪ ،‬وزلزل وب راكين‪ ،‬وجفاف وفيضانات في بقاع‬
‫أُخرى ‪ ،‬وطوفانات كسونامي وغيرها الكثير في أرجاء األرض‪ ،‬وحروب مدمرة‪،‬‬
‫وأمراض مستعصية لإلنسان واألنعام‪ ،‬كجنون البقر‪ ،‬وانفلون از الطيور‪ ،‬وطاعون‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنعام اآلية (‪)131‬‬


‫علَي ِّْه ْم آََاِِّنَا َو َما ُكنَّا ُم ْه ِّلكَِّ ا ْلقُ َرى ِِّ ََّّ َوأَ ْهلُهَا َ‬
‫ظا ِّل ُمونَ ﴾اآلية (‪)59‬‬ ‫َث فَِّ أ ُ ِّمهَا َر ُ‬
‫سوَّ ََتْلُو َ‬ ‫(‪ _ )2‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َما كَانَ َرُِّكَ ُم ْه ِّلكَ ا ْلقُ َرى َحتَّى ََ ْبع َ‬
‫من سورة القصص‪.‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة يونس اآلية (‪)98‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 97‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫األغنام‪ ،‬ونفوق النوق والجمال‪ ،‬وغيرها‪ ،‬فإن هللا بعد ذلك يأخذهم بعذاب يوم بئيس‪:‬‬
‫يم َشِد ٌ‬
‫يد﴾(‪.)1‬‬ ‫ظالِم ٌة ِإ َّن أ ْ ِ‬
‫َخ َذ ُه أَل ٌ‬
‫ى ِ‬ ‫﴿ َوَك َذلِ َك أ ْ‬
‫َخ ُذ َرهِب َك ِإ َذا أ َ‬
‫َخ َذ اْلُقَر َوه َي َ َ‬
‫حذرنا تعالى على لسان رسوله الكريم‪ ،‬بالعالمات أو اإلشارات التي‬ ‫لذلك فقد َّ‬
‫تسبق تلك الساعة‪ ،‬لعلنا نتدارك أمرنا‪ ،‬ونثوب إلى رشدنا‪ ،‬فنرجع إلى ديننا‪ ،‬ونؤمن‬
‫باهلل ورسوله‪ ،‬وعندئذ سوف ينصرنا نص اًر عزي اًز‪ ،‬ويبدل خوفنا أمناً‪ ،‬وعسرنا يس اًر‪،‬‬
‫وضعفنا قوة‪ ،‬فنخدم إخواننا بني البشر‪ ،‬لسلوك الطريق المستقيم‪ ،‬وكي ننعم جميعاً‬
‫بحياة الرغد والهناء والمحبة والوئام‪ ،‬تحت لواء الرسول الرحيم‪ ،‬فنغدو بهذه الحياة‬
‫جنة حقيقية ننعم بها جميعاً‪ ،‬نحن األخوة أولد أبينا آدم وأمنا حواء عليهما‬
‫في ّ‬
‫السالم‪ ،‬فيعم ذلك بالعالم‪ ،‬ل لننهب ثرواتهم‪ ،‬أو نذلهم بغير الحق‪ ،‬كما تفعل بعض‬
‫(‪)2‬‬
‫من عبودية المادة ومن عبودية شهواتهم‪ ،‬وبمعنى‬ ‫الدول اليوم‪ ،‬بل لنحررهم‬
‫أشمل لنؤدي لهم رسالة السماء‪ ،‬كي يعرفوا طعم الحرية‪ ،‬وطعم العدل‪ ،‬وطعم‬
‫السعادة‪ .‬وننال بذلك األجر والثواب من هللا تعالى‪.‬‬
‫والَّ نفعل ذلك ونبقى ِّّ‬
‫مصرين على ما نحن عليه‪ ،‬فحاشا هلل أن ينصرنا‪ ،‬وحاشا له أن‬
‫يعزنا‪ ،‬ألن هللا َّ‬
‫جلت قدرته لو سودنا على العالم ألعطينا الناس فكرة مشوهة عن اإلسالم‪.‬‬
‫هذا وان كنت قد فصلت في هذا الموضوع‪ ،‬فإني أضيف هنا ُلمحاً عن كيفية‬
‫الدنية‪ ،‬وما فيها من مفاتن‪ ،‬هي األساس في إعراض‬
‫الفساد‪ ،‬ذلك ألن حب الدنيا ّ‬
‫الناس عن هللا جل شأنه‪.‬‬
‫فإذا التفتت النفس إلى الدنيا‪ ،‬واستغنت بها عن اآلخرة‪ ،‬يصبح همها شهوتها‬
‫طة‪ ،‬وما أكثرها‪ ،‬وتشغل ساحتها‪ ،‬وتصرفها عما سواها‪.‬‬
‫المنح ّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)102‬‬


‫َان الَّذَِّنَ ََقُولُونَ َرَِّنَا أ َ ْخ ِّرجْ نَا مِّ نْ َه ِّذ ِّه ا ْلقَ ْرََ ِّة‬
‫ضعَ ِّفينَ مِّ نَ ا ِّلرجَا ِّل َوالنِّسَاء َوا ْل ِّو ْلد ِّ‬ ‫سبِّي ِّل ّللِّ َوا ْل ُم ْ‬
‫ست َ ْ‬ ‫(‪ _ )2‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َما َل ُك ْم ََّ ُِقَاِِّلُونَ فَِّ َ‬
‫ال َّظال ِِّّم أَ ْهلُهَا َواجْ عَل لَّنَا مِّن لَّدُنكَ َو ِّليًّا َواجْ عَل لَّنَا مِّن لَّدُنكَ نَ ِّصيرا﴾ اآلية (‪ )75‬من سورة النساء‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 98‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وبغية تحقيق تلك الرغبات المتزايدة‪ ،‬يسعى اإلنسان بكل ما أوتي من قوة‪،‬‬
‫ويبذل كل ما وسعه من جهد‪ ،‬لسد متطلبات الحياة الكثيرة والمعقدة التي فرضها‬
‫مجتمع ُه‪ ،‬وهو في غنى عنها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عليه‬
‫إن السعادة نسبية‪ ،‬فالنفس ترضى بالقليل إن وجدت المجتمع اإلنساني كله أو‬
‫حتى البيئة التي يقطنها‪ ،‬تعيش في مستوى معين بسيط‪ ،‬ولكن اإلنسان إذا سكن‬
‫في بيئة متفاوتة الطبقات أو المستويات المعاشية‪ ،‬فإنه من غير شك تأخذه الغيرة‪،‬‬
‫واأللم‪ ،‬والحقد‪ ،‬وبمعنى آخر‪ ،‬لقد أفسد عليه مجتمعه حياته‪ ،‬وهللا ل يحب الفساد‪،‬‬
‫وعندها يشمر عن ساعد الجد‪ ،‬ويسعى بشتى الطرق‪ ،‬ويتذرع بمختلف الوسائل‪،‬‬
‫ليسد الرغائب التي فرضها عليه مجتمعه الفاسد‪ ،‬ول يبالي إذا سلك طرقاً ملتوية‬
‫دون وازع من ضمير‪ ،‬إلرواء غليله‪ ،‬ما دام هذا الطريق أو ذاك يحقق له ما يريد‪.‬‬
‫إن مهمة الرسول الكريم إذًا هي تصحيح الوضع الجتماعي المتردي‪ ،‬الذي‬
‫يقودهم نحو الهاوية‪ ،‬نحو الشقاء األبدي‪ .‬فيأتيهم بالهدى‪ ،‬والكتاب المنير‪ ،‬ويعظهم‬
‫ويقارعهم بالحجة‪ ،‬فإن سمعوا وعملوا بما سمعوا‪ ،‬فإن هللا من بعدها لغفور رحيم‪،‬‬
‫يبدل سيئاتهم حسنات‪ ،‬ويبتعد الهم والقلق واأللم والظلم والشقاء بطبيعته‪ ،‬ويصلح‬
‫بالهم‪ .‬وان أبوا واستكبروا فإن هللا يأخذهم كما ذكرنا بألوان من العذاب‪ ،‬لعلهم‬
‫يرجعون‪ ،‬واذا لم يفدهم العالج‪ ،‬ولم يقبلوا نصح الرسول الكريم‪ ،‬فعندئذ ينذرهم تعالى‬
‫على لسان رسوله‪ ،‬فإن أصروا على كفرهم‪ ،‬واسته أزوا بما أنذروا‪ ،‬عندئذ فإن البالء‬
‫حال بهم ل محالة‪ ،‬وسينجي هللا الذين آمنوا منهم برحمة منه ومتاع إلى حين‪.‬‬ ‫ٌّ‬
‫آمُنوْا َم َع ُه ِبَر ْح َمة ِهمَّنا‬ ‫ِ‬
‫ودا َو َّالذ َ‬
‫ين َ‬ ‫َمُرَنا َنجَّْيَنا ُه ً‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وَل َّما َجاء أ ْ‬
‫اهم ِهم ْن َع َذاب َغلِيظ﴾(‪.)1‬‬
‫َوَنجَّْيَن ُ‬

‫(‪ _ )1‬سورة هود اآلية (‪)58‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 99‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َخ رج َن ا م ن َك ِ‬
‫يه ا م َن ا ْل ُم ْؤ ِم ن َ‬
‫ين ‪َ ،‬ف َم ا‬ ‫ان ف َ‬ ‫َ‬ ‫وقال سبحانه عن قوم لوط‪َ ﴿ :‬ف أ ْ َ ْ َ‬
‫ين ﴾(‪.)1‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يه ا َغ ْي َر َب ْي ت هم َن ا ْل ُم ْس ل م َ‬
‫َو َج ْد َن ا ف َ‬
‫ِ‬
‫آمُنوْا َم َع ُه ِبَر ْح َمة‬
‫ين َ‬ ‫َمُرَنا َنجَّْيَنا ُش َعْيًبا َو َّالذ َ‬
‫وعن قوم شعيب قال‪َ ﴿ :‬وَل َّما َجاء أ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّمَّنا وأ َ ِ ِ‬
‫ين﴾(‪.)2‬‬‫َصَب ُحوْا في دَي ِارِه ْم َجاثم َ‬ ‫الصْي َح ُة َفأ ْ‬
‫ظَل ُموْا َّ‬
‫ين َ‬‫َخ َذت َّالذ َ‬ ‫َ‬
‫هذا ولما أصبحت الفتن تتوارد كقطع الليل مظلماً‪ ،‬فإن هللا سيهلك الذين كفروا‬
‫أصروا على كفرهم‪ ،‬وسينجي الذين آمنوا برحمة منه‪ ،‬وسيجعلهم بعد ذلك فوق‬ ‫منا و ُّ‬
‫الذين كفروا إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫تلك قوانين ل يمكن التغلب عليها‪ ،‬ألن هللا غالب على أمره‪ ،‬فإذا فسقت أمة‪،‬‬
‫أو أمم فإن هالكهم سيكون محققاً‪ ،‬فال مؤتمرات السالم‪ ،‬ول اجتماعات نزع‬
‫السالح‪ ،‬ول فكرة التعايش السلمي‪ ،‬ول توازن القوى‪ ،‬ول أي شيء في الوجود‪،‬‬
‫يمكنه أن يصرف البالء المنتظر إذا آن أوانه‪ ،‬اللهم إل بشرط واحد فقط‪ ،‬وهذا‬
‫الشرط هو ابتعاد البشرية عما أُترفوا فيه‪ ،‬وتغيير هذا النهج‪ ،‬نهج الضالل والكفر‪،‬‬
‫والرجوع إلى رياض الدين‪ ،‬والتمسك بتعاليمه قولً وفعالً‪ ،‬وأخذ الكتاب بقوة‪ ،‬والعمل‬
‫به بقوة أيضاً‪ ،‬ولما كان هذا الشرط‪ ،‬يكاد يكون مستحيالً‪ ،‬بسبب النصراف الكلي‬
‫نحو الدنيا‪ ،‬والبتعاد الكلي بالنسبة لمعظم البشرية عن هللا‪ ،‬فإن الساعة آتية ل‬
‫ريب فيها‪ ،‬وهذا ما بينه سبحانه وتعالى‪ ،‬عندما قرن وقوع القول على الناس بخروج‬
‫دابة األرض(‪ ،)3‬وبما أن دابة األرض قد أخرجت‪ ،‬فإن البالء بات محققاً‪ ،‬ذلك ألن‬
‫البشرية في هذا العصر‪ ،‬تقترف من السيئات ما فاق أعمال األمم السابقة جميعها‪،‬‬
‫وأنها بلغت من الطغيان مبلغاً لم يصله أحد من العالمين من قبل‪ ،‬لذا فإن هللا عز‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة الذاريات اآليات (‪)36 -35‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة هود اآلية (‪)94‬‬
‫(‪ _ )3‬انظر شرحها بالفصل الثالث‪-‬خروج دابة األرض‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 100‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وجل لن يتركنا نعيث في األرض فساداً‪ .‬كال‪ ...‬فإنه مصيب الذين ظلموا في‬
‫أمر‪.‬‬
‫عصرنا ما أصابهم‪ ،‬بل أدهى من ذلك كله و ُّ‬
‫إن الرسول الكريم محمد ﷺ‪ ،‬حذرنا من هذا البالء‪ ،‬وبين لنا األشراط الدالة على‬
‫وقوعه‪ .‬وكذلك سوف يظهر هللا السيد المسيح ‪ ،‬وهذا الظهور بات وشيكاً‪،‬‬
‫مؤكداً ما قاله سيدنا محمد ﷺ‪ .‬واذا لم تستمع البشرية لداعي هللا‪ ،‬فإن البالء سوف‬
‫ل يلبث طويالً‪ ،‬وسوف ل ينجو منه إل كل مؤمن‪ ،‬أو قابل لإليمان‪ ،‬ولن تفيدهم‬
‫صياصيهم‪ ،‬ول غيرها من الستعدادات‪ ،‬إذا أراد هللا أن يهلكهم‪.‬‬
‫أما األشراط أو العالمات أو اإلشارات التي تسبق الساعة‪ ،‬فهي كثيرة‪ ،‬لذا نذكر‬
‫منها ما جاء ذكرها في القرآن الكريم وتم وقوعها فعالً‪.‬‬
‫فمن هذه األشراط الكبرى‪:‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 101‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫خروج ِيت المقدس من أَدي المسلمين‬
‫وقبل تفصيل هذا الشرط نقول من هم الذين تكون القدس في أيديهم عند فتحها‬
‫من قبل المسلمين؟‬
‫لقد جاء في األثر بأن القدس قد فتحت في زمن عمر بن الخطاب‪ ،‬وكانت‬
‫يومئذ تحت سيطرة النصارى من الرومان‪ ،‬كما فتحت ثانية على يد صالح الدين‬
‫األيوبي‪ ،‬وكانت يوم ذاك تحت سيطرة النصارى من الصليبيين‪ ،‬ولكن هل إلى‬
‫هذين الفتحين أشار القرآن؟ أم إلى فتح آخر؟ إذا ما رجعنا إلى القرآن الكريم نجده‬
‫يل ِفي‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫قد نوه إلى ذلك الفتح في سورة اإلسراء‪ .‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وَق َضْيَنا إَلى َبني إ ْسَرائ َ‬
‫ير‪َ ،‬فِإ َذا َجاء َو ْعُد أُو ُ‬
‫اله َما َب َع ْثَنا‬ ‫اب َل ُت ْف ِسُد َّن ِفي األَْر ِ‬
‫ض َمَّرَتْي ِن َوَل َت ْعُل َّن ُعُل ًّوا َك ِب ًا‬ ‫اْل ِك َت ِ‬
‫عَلي ُكم ِعبادا َّلَنا أُولِي بأْس َش ِديد َفجاسوْا ِخالَ ل هِ‬
‫ان َو ْعًدا َّم ْف ُعوالً‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫الدَي ِار َوَك َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َْ ْ ًَ‬
‫اك ْم أَ ْك َثَر َن ِف ًا‬ ‫ِ‬ ‫َرَد ْدَنا َل ُكم اْل َكَّرَة َعَلْي ِهم َوأَم َد ْدَن ُ ِ‬
‫نت ْم‬‫َح َس ُ‬‫ير‪ِ ،‬إ ْن أ ْ‬ ‫ين َو َج َعْلَن ُ‬‫َم َوال َوَبن َ‬ ‫اكم بأ ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ُ‬
‫وه ُك ْم َولَِي ْد ُخُلوْا‬
‫وؤوْا ُو ُج َ‬‫اآلخَرِة لَِي ُس ُ‬ ‫نتم ِألَن ُف ِس ُكم واِ ْن أَسأ ُْتم َفَلها َفِإ َذا جاء و ْعُد ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َح َس ُ ْ‬ ‫أْ‬
‫اْل َم ْس ِج َد َك َما َد َخُل ُ‬
‫وه أ ََّو َل َمَّرة َولُِي َتهِبُروْا َما َعَل ْوْا َت ْت ِب ًا‬
‫ير﴾(‪.)1‬‬
‫من هذه اآليات يتبين أن بيت المقدس عند فتحه يكون بيد اليهود اإلسرائيليين‪،‬‬
‫وليس بيد المسيحيين من رومان وصليبيين‪.‬‬
‫يل ِفي‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وهذا ما تدل عليه تلك اآليات الكريمة ‪َ ﴿ :‬وَق َضْيَنا إَلى َبني إ ْسَرائ َ‬
‫اب‪ :﴾..‬إن هللا قضى في الكتاب‪ ،‬أي في التوراة‪ ،‬أن بني إسرائيل ما داموا‬ ‫اْل ِك َت ِ‬
‫على استكبارهم‪ ،‬وعدم تقديرهم لرسولهم‪ ،‬وعدم تفكيرهم في آلء هللا‪ ،‬وبالتالي عدم‬
‫إيمانهم باهلل‪ ،‬فإنهم سيفسدون في األرض مرتين‪ ،‬وهذا الفساد قد جاء ذكره في‬
‫العهد القديم‪ ،‬لقد جاء في سفر ُأرميا في اإلصحاح الثاني‪( :‬إنذهلي أيتها‬
‫السماوات من هذا الفساد واقشعري وانتفضي جسداً فإن شعبي صنع َّ‬
‫شرين)‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة اإلسراء اآلية (‪)47‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 102‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وهذا مصداق لآلية الكريمة‪َ ..﴿ :‬ل ُت ْف ِسُد َّن ِفي األَْر ِ‬
‫ض َمَّرَتْي ِن‪ ،﴾..‬وبما أن العهد‬
‫القديم هو عبارة عن تاريخ بني إسرائيل بغض النظر عن صحة رواياته فإن هذا القول‬
‫شرْين) فال يؤخذ بمعناها الحرفي‬
‫ل شك مأخوذ من التوراة كالم هللا‪ .‬وأما جملة (صنع َّ‬
‫بأن الشرين قد حدثا في الماضي بسبب التحريفات التي أحدثوها‪ ،‬وبسبب سوء‬
‫الترجمة‪ ،‬كذلك فإن في القرآن الكريم آيات جاءت بصيغة الماضي‪ ،‬وهي تعني‬
‫المستقبل (‪.)1‬‬
‫ضمنوه أسفارهم ل سيما (سفر أشعيا وأرميا) فإنك‬
‫أما الفساد األول فانظر ما َّ‬
‫ترى وصفاً لفسادهم وافسادهم يفوق حد الوصف (‪ ،)2‬وهذا الفساد واإلفساد قد جاء‬
‫قبيل تنفيذ الوعيد من رب العالمين‪ ،‬لقد ّبين تعالى بأن اإلفساد األول ستكون عقوبته‬
‫إرسال عباد له أولي بأس شديد‪ .‬واآلن لننظر ما جاء في اإلصحاح السابع من سفر‬
‫أشعيا‪:‬‬
‫(‪ ...‬تقتلون‪ ،‬وتسرقون وتزنون‪ ،‬وتحلفون‪ ،‬ثم تأتون وتقفون بين يدي الرب‬
‫في هذا البيت الذي دعي باسمي وتقولون أْنق ْذنا حتى تصنعوا جميع تلك‬
‫األرجاس‪ .‬أفصار هذا البيت الذي دعي باسمي مغارة للصوص)‪.‬‬
‫ونتيجة لذلك الفساد جاء جواب الرب كما ورد في نفس اإلصحاح‪:‬‬

‫س ْبحَانَهُ َوَِعَالَى َ‬
‫ع َّما َُش ِّْركُونَ ﴾ اآلية (‪ )1‬من سورة النحل‪.‬‬ ‫(‪ _ )1‬مثال ذلك قوله تعالى‪﴿:‬أََِى أَ ْم ُر ّللِّ فَالَ َِ ْ‬
‫ستَع ِّْجلُوهُ ُ‬
‫(‪ _ )2‬من ذلك الفساد نذكر ما جاء في اإلصحاح الخامس من سفر أشعيا‪ ..( :‬كيف أصفح وقد ِركنَ ِنوك وحلفوا ِما ليس ِۤله‪ .‬وحين أشبعتهم‬
‫فسقوا وِلى ِيت الزانية ِبادروا‪ ،‬صاروا أحصنة معلفة هائمة =‬
‫=كل َصهل على امرأة قرَبه أفال أفتقد على هذا َقول ا لرب‪ ،‬وَّ ِنتقم نفس من أمة مثل هؤَّء‪" ،‬لقد غدر َِ آل ِسرائيل وآل َهوْا‪ ،‬ها أنذا‬
‫أجلب عليكم أمة من ِعيد َا آل ِسرائيل أمة قوَة‪ ،‬أمة قدَمة‪ ،‬أمة عرَقة" أمة ليست ِعرف لسانها وَّ ِفهم ما ِتكلم ِه‪ .‬جعبتها كقبر مفتوح‬
‫شدَِّد) َْكلون حصادك‪ ،‬وخبزك وغنمك‪ ،‬وَدحرون ِالسيف مدنك الحصينة‪ ،‬آثامكم وخطاَاكم منعت‬ ‫كلهم جباِرة وصفهم تعالى‪( :‬أ ُ ْولَِّ َِْْس َ‬
‫الخير عنكم)‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 103‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫(وبما أنكم عملتم كل هذه األعمال وقد كلمتكم مبك اًر (‪ )1‬ولم تسمعوا فسأصنع بهذا‬
‫البيت الذي دعي باسمي كما صنعت ((بشيلو)) وأنبذكم على وجهي كما نبذت جميع‬
‫إخوتكم)‪.‬‬
‫وفعالً كان تدمير البيت أم اًر مفعولً على يد الملك الكلداني (بختنصر)‪ .‬وبعد‬
‫توبتهم ورفع شأنهم بعصر سيدنا داود ‪ ‬الذي قتل (جالوت) وأصبحوا خير أمة‪،‬‬
‫ولكنهم عادوا للفساد وافساد حياة األمم‪ ،‬فغيروا سيرتهم التي كانوا عليها بعهد سيدنا‬
‫داود وسليمان عليهما السالم‪.‬‬
‫ومنذ ذلك الحين وحتى عام ‪ /1967/‬ظل هذا الشعب خاس اًر للقدس وخارجها‬
‫تحت حكم ووصاية الدول ورعايتها‪.‬‬
‫لقد بين تعالى في اآلية السابقة‪ ،‬بأن هللا قضى لهم في الكتاب‪ ،‬بأنهم سيفسدون‬
‫في األرض مرتين‪ ،‬ويعلون علواً كبي اًر‪ ،‬أما وقد أشرنا وذكرنا شيئاً من فسادهم‪ ،‬إل‬
‫أننا لم نذكر عن إفسادهم شيئاً‪ ،‬ألننا نعلم أن كل فساد يتبعه اإلفساد‪ ،‬إذ كل فاسد‬
‫يحاول إفساد غيره ليكون له ذلك مبر اًر أمام هللا والناس بزعمه‪ ،‬فمن ذلك قولهم‪:‬‬
‫اك ْم‪.)2(﴾...‬‬ ‫﴿‪َّ ..‬ات ِب ُعوا َس ِبيَلَنا َوْلَن ْح ِم ْل َخ َ‬
‫ط َاي ُ‬
‫ذلك ألن الشيء ل يظهر بشكل واضح إل بضده‪ ،‬فإذا وجدت فئة مؤمنة وأخرى‬
‫كافرة‪ ،‬فإن سلوك الثانية يظهر بشعاً أمام سلوك األولى‪ ،‬ونتيجة لهذا التفاضل يتولد‬
‫الحسد والغيظ من قبل الكفار‪ ،‬وعندئذ يسعون إلفسادهم‪ ،‬لكي يزول ذلك التفاضل‪،‬‬
‫ولكيال ينكشف للناس زيفهم‪ .‬وبالنسبة لبني إسرائيل عندما أصبحت نفوسهم خبيثة‪،‬‬
‫ولكيال يظهر للناس فسادهم‪ ،‬أو تقام عليهم الحجة يوم القيامة‪ ،‬بزعمهم‪ ،‬راحوا يسعون‬
‫في األرض الفساد‪ ،‬وقد تذرعوا بشتى الوسائل‪ ،‬لتبرير إفسادهم‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬إن جملة (وقد كلمتكم مبكرا) دليل آخر بأن هللا قضى لبني إسرائيل مبكرا ً أي في التوراة بأنه سيدمر البيت إذا بلغوا من الفسق هذا الحد‪.‬‬
‫(‪ _ )2‬سورة العنكبوت اآلية (‪)12‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 104‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لقد جاء في أسفارهم قصص كثيرة من األساليب الملتوية‪ ،‬التي كانوا يتبعونها في سبيل‬
‫اإلفساد‪ ،‬فمن جملة األساليب مثالً‪ ،‬استخدامهم للنساء‪ ،‬والمال‪ ،‬والفسق‪ ،‬ونشر الترف‪.‬‬
‫والكثير من هذا الشعب كان ول يزال‪ ،‬ينشر الفساد كلما سنحت له الفرص‬
‫وواتته الظروف‪ .‬ألنه كان يبغي جمع المال‪ ،‬والمال مادة الشهوات والفساد‪ ،‬ل‬
‫يقتصر على اإلغراء بالشهوات‪ ،‬وانما يلحقها إفساد العقائد التي تدين بها األمم‬
‫أيضاً‪ .‬وتلك المحاولت قد نلمسها في بعض كتب التفسير‪ ،‬وفي األحاديث‬
‫المدسوسة‪ ،‬وقد تمكن هؤلء مع غيرهم من الداسين‪ ،‬أن يدسوا في الدين اإلسالمي‬
‫الشيء الكثير(‪ ،)1‬كما أنهم استطاعوا بالمساعي مع غيرهم‪ ،‬بهذه الدسوس وسذاجة‬
‫من يتقبلها‪ ،‬أن يفرقوا األمة اإلسالمية‪ ،‬إلى شيع وأحزاب وطوائف كثيرة متناحرة‪.‬‬
‫تلك لمحة موجزة عن فسادهم وافسادهم‪ ،‬وعن علوهم وتدميرهم في المرة األولى‪ ،‬أما‬
‫في المرة الثانية من فسادهم الثاني في األرض‪ ،‬فهو ِّّبين لكل ذي عين‪ ،‬وما فساد أوربا‪،‬‬
‫إل من مكر المفسدين من هذا الشعب‪ ،‬وتمكنوا في فترة ل تزيد عن ربع قرن‪ ،‬بواسطة‬
‫حبل من الناس الغربيين والشرقيين‪ ،‬وهم الذين أمدوهم‪ ،‬بأن يبسطوا نفوذهم على كامل‬
‫فلسطين‪ ،‬وبعض األراضي المجاورة لها‪ ،‬وكان عام ‪1967/‬م‪ /‬أكبر علو لهم‪ ،‬فقد أتموا‬
‫َسأ ُْت ْم َفَل َها‬ ‫َحس ُ ِ ِ‬ ‫سيطرتهم واحتاللهم لمدينة القدس‪ِ﴿ :‬إ ْن أ ْ‬
‫نت ْم ألَن ُفس ُك ْم َواِ ْن أ َ‬ ‫نت ْم أ ْ َ‬
‫َح َس ُ‬
‫وه أ ََّو َل َمَّرة‬‫وه ُك ْم َولَِي ْد ُخُلوْا اْل َم ْس ِج َد َك َما َد َخُل ُ‬ ‫اآلخَرِة لَِي ُس ُ‬
‫وؤوْا ُو ُج َ‬ ‫َفِإ َذا جاء و ْعُد ِ‬
‫َ َ‬
‫ير﴾(‪ :)2‬فيتم هالك الكفرة الجاهلين منهم‪ ،‬على أيدي المؤمنين‪ ،‬ثم‬ ‫َولُِي َتهِبُروْا َما َعَل ْوْا َت ْت ِب ًا‬
‫ل َّبد وأن يؤمن الباقون منهم جميعاً‪ ،‬على يد سيدنا عيسى ‪ ،‬بدللة قوله تعالى‬

‫(‪ _ )1‬ما يسمونه باإلسرائيليات كتلك الروايات التي تشوه سيرة أشرف الخلق صلى هللا عليه وسلم من أن يهوديا ً رهن عنده النبي الكريم درعه‪.‬‬
‫ويهوديا ً سحره‪ .‬ويهودية سممت النبي الكريم‪ .‬وأن اليهودي (دحية الكلبي) الذي كان يشبه جبريل (بزعمهم) خدع الرسول وأوحى له بالخروج‬
‫إلى بني قريظة‪ .‬فما دمنا نقول صلى هللا عليه وسلم فال يمكن أن يتسمم‪ ،‬أو يُسحر‪ ،‬أو يخدع‪ ،‬أو يفتقر مطلقاً‪ ،‬ألن السالم يعني األمان من هللا‬
‫تعالى‪ .‬كما قال صلى هللا عليه وسلم (السالم أمان هللا في األرض) فأنّى لمخلوق أن يضرّ ه أو يذلّه وهللا مانع رسله‪ .‬قال تعالى‪َ ...﴿:‬وّللُ ََع ِّ‬
‫ْص ُمكَ‬
‫مِّ نَ ال َّن ِّ‬
‫اس‪ ﴾...‬اآلية (‪ )67‬من سورة المائدة‪.‬‬
‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)7‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 105‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ام ِة َيُكو ُن َعَلْي ِه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ووعده‪﴿ :‬واِن ِمن أ ِ ِ ِ ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫َهل اْلكَتاب إال َلُي ْؤمَن َّن به َقْب َل َم ْوته َوَي ْوَم اْلقَي َ‬‫َ هْ ْ‬
‫جمعهم بفلسطين‪َ ﴿ :‬وُقْلَنا ِمن َب ْعِد ِه‬ ‫عما قريب‪ ،‬وأما آية ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫َشه ًيدا﴾ ‪ :‬هذا حتماً سيقع ّ‬
‫ِ‬
‫اآلخَرِة ِجْئَنا ِب ُك ْم َل ِفيًفا﴾(‪ .)2‬وليست كلمة‬ ‫ض َفِإ َذا جاء و ْعُد ِ‬ ‫اس ُكُنوْا األَْر َ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫َ َ‬ ‫يل ْ‬
‫لَبني إ ْسَرائ َ‬
‫اآلخَرِة﴾‪ :‬تعني يوم القيامة بل هي آخر فسادهم وكفرهم وذلك بعد تجمعهم‪ ،‬فقد وقعت‪،‬‬ ‫﴿ ِ‬
‫وقد اجتمعوا اآلن بفلسطين‪.‬‬
‫وقبل أن نختم هذا الشرط أو هذه العالمة الكبرى من عالمات الساعة عن خروج بيت‬
‫المقدس من أيدي المسلمين لليهود‪ ،‬حيث وقع ذلك عام ‪ /1967/‬نود أن نتعرض للنقطة‬
‫التالية‪:‬‬
‫لقد ذكر لنا تعالى في كتابه الكريم‪ ،‬أن بني إسرائيل قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة‪،‬‬
‫وباؤوا بغضب من هللا‪ ،‬كما أنه كتب عليهم التشريد في اآلفاق‪ .‬وما دام األمر كذلك‪،‬‬
‫فلماذا أصبح لهم هذا الشأن؟‬
‫الحقيقة أن بني إسرائيل ل يزال مضروباً عليهم الذلة والمسكنة‪ ،‬ضمن حالتين كما ورد‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫في اآلية التالية‪ُ ﴿ :‬ض ِرب ْت عَلي ِهم الِهذَّل ُة أَين ما ُث ِقُفوْا ِإالَّ ِبحبل ِمن ِ‬
‫ّللا َو َحْبل ِهم َن َّ‬
‫َْ ه ْ ه‬ ‫َْ َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫ات ِ‬ ‫ّللا و ُض ِرب ْت عَلي ِهم اْلمس َكَن ُة َذِلك ِبأََّنهم َكاُنوْا ي ْكُفرو َن ِبآي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫آؤوا ِب َغ َضب هم َن ه َ َ َ ْ ُ َ ْ‬ ‫َوَب ُ‬
‫ق َذِل َك ِب َما َع َصوا َّوَكاُنوْا َي ْعَتُدو َن﴾(‪.)3‬‬
‫َوَيْقُتُلو َن األَنِبَياء ِب َغْي ِر َح ه‬
‫الحبل األول‪ :‬هو حبل هللا‪ :‬أي تحت سيطرة أمم إسالمية‪.‬‬
‫والحبل الثاني‪ :‬وهو حبل الناس‪ ،‬يعني بأن هللا ل يمد بني إسرائيل وهم على هذه‬
‫الحال إل عن طريق الناس من غير المؤمنين‪ ،‬وهؤلء يسخرونهم لخدمة مصالحهم‪،‬‬
‫فرِّق تسد‪ .‬وهذا أمر واضح لكل ذي بصر بأن‬ ‫وتنفيذ غاياتهم ومآربهم‪ ،‬على مبدأ ّ‬
‫قيام دولة إسرائيل وبقاءها مرهون بحبل أمريكا وأوروبا‪ .‬أما الغاية من تسليط هؤلء‬

‫(‪ _ )1‬سورة النساء اآلية (‪)159‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)104‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة آل عمران اآلية (‪)112‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 106‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وهؤلء علينا من قبل هللا تعالى‪ ،‬هي رحمته تعالى بنا‪ ،‬لعلنا نتعظ ونرجع إلى ديننا‬
‫وانسانيتنا‪ ،‬ونتوب إلى هللا متاباً‪ ،‬بعد أن بلغنا من الفسق والضالل ما بلغنا‪ .‬وألننا‬
‫دون غيرنا المعنيون والمكلفون بنشر الحق إلى العالم أجمع‪ ،‬ونحن األمة الوسط‬
‫الذين اختارنا هللا‪ ،‬منذ أن بعث الرسول الكريم سيدنا محمد ﷺ فينا‪ ،‬وهذا الرسول‬
‫الكريم جاء ليكون علينا شهيداً‪ ،‬ونكون شهداء على الناس‪ ،‬ولكن بيان شهادة الحق‬
‫للناس ل تكون إل إذا أقمنا الصالة‪ ،‬وحصلنا على الزكاة القلبية والطهارة‪ .‬وهذه‬
‫الصالة ل تقام إل إذا اعتصمنا باهلل تعالى‪ ،‬وأصبح لنا الولي‪ ،‬دون دول الشرق‬
‫والغرب‪.‬‬
‫اك ْم َو َم ا َج َع َل َع َل ْي ُك ْم ِفي‬ ‫ِِ‬ ‫ّللاِ َح َّ‬
‫اه ُدوا ِفي َّ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬وج ِ‬
‫ق ِج َه اده ُه َو ْ‬
‫اج َت َب ُ‬ ‫ََ‬
‫مين ِم ن َق ْب ُل َو ِفي َه َذا‬ ‫ِ‬ ‫ين ِم ن حرج ِم َّل َة أَ ِب ُ ِ ِ‬ ‫هِ‬
‫اك ُم اْل ُم ْسل َ‬ ‫يم ُه َو َس َّم ُ‬ ‫يك ْم إ ْب َراه َ‬ ‫الد ِ ْ َ َ ه‬
‫الص َال َة‬
‫يم وا َّ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ول َش ِه ً‬ ‫لِ َي ُكو َن َّ‬
‫يدا َع َل ْي ُك ْم َوَت ُكوُنوا ُش َه َد اء َع َلى الن اس َفأَق ُ‬ ‫الر ُس ُ‬
‫(‪) 1‬‬
‫اّللِ ُه َو م ْوَال ُك ْم َف ِن ْع َم ا ْلم ْوَلى َوِن ْع َم َّ‬
‫الن ِص ُير﴾‬ ‫اع َت ِص ُموا بِ َّ‬ ‫آتوا َّ‬
‫الزَك ا َة َو ْ‬ ‫َو ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫غينا‪ ،‬فإن هللا جلت حكمته‪ ،‬سوف يظل مسّلِّطاً علينا سوطاً‬ ‫وما لم نرجع عن ِّّ‬
‫ين َب ْع ًضا‬ ‫ض َّ ِ ِ‬ ‫ومن يذيقنا كأس الذل والهوان‪َ ﴿ :‬وَك َذلِ َك ُن َوهلِي َب ْع َ‬
‫الظالم َ‬ ‫من العذاب‪َ ،‬‬
‫ِب َما َكاُنوْا َي ْك ِسُبو َن﴾(‪.)2‬‬
‫أما العز‪ ،‬ونحن على ما نحن عليه‪ ،‬فهو محال‪ ،‬وما لم نتب توبة نصوحاً‪،‬‬
‫ونرجع إلى ديننا‪ ،‬نحكم بما أنزل هللا‪ ،‬فإن البالء سوف ل يفارقنا‪ ،‬حتى يقضي هللا‬
‫بأمره‪.‬‬
‫وهنالك قانون عام ساري‪ :‬فاهلل يسلط الكافر على المؤمن العاصي‪ ،‬عله يتوب‬
‫ويرجع إلى إنسانيته‪ ،‬فإن عاد واستقام‪ ،‬وللصالة والزكاة أقام‪ ،‬وأمر بالمعروف ونهى‬
‫سلطه تعالى بدوره على الكافر فيردعه‪ ،‬لعله يؤمن‪ ،‬فإن آمن‪ ،‬رفع عنه‬‫عن المنكر‪َّ ،‬‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة الحج‪ .‬اآلية (‪)78‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األنعام اآلية (‪)129‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 107‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الذل‪ .‬وأفعاله تعالى كلها خير بحق الجميع‪َ ..﴿ :‬وُت ِعُّز َمن َت َشاء َوُتِذ ُّل َمن َت َشاء‬
‫ِبَيِد َك اْل َخْيُر ِإَّن َك َعَلى ُك ِهل َشيء َقِد ٌير﴾(‪.)1‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وأما بنو إسرائيل‪ ،‬فقد سحبت منهم شهادة الحق للناس‪ ،‬منذ أن جاء السيد‬
‫المسيح ‪ ‬في المرة األولى‪ ،‬ولول كلمة سبقت من هللا لقضي بينهم من بعد أن‬
‫يبين ذلك بعد ذكر‬ ‫في القرآن الكريم ما ِّّ‬ ‫هموا بقتل السيد المسيح ‪ .‬وقد جاء‬
‫ِ ِ‬
‫اه ُم‬
‫آتْيَن ُ‬
‫ين َ‬ ‫ال عن األنبياء‪﴿ :‬أ ُْوَلئ َك َّالذ َ‬
‫قائ ً‬
‫طائفة من أنبياء بني إسرائيل ذكر تعالى‬
‫َه ُؤالء‪ :﴾...‬اليهود﴿‪َ ...‬فَق ْد َوَّكْلَنا ِب َها‬
‫النُب َّوَة َفِإن َي ْكُفْر ِب َها‬
‫اب َواْل ُح ْك َم َو ُّ‬ ‫ِ‬
‫اْلك َت َ‬
‫ِ‬
‫َق ْو ًما‪ :﴾...‬العرب‪َّ..﴿ :‬لْي ُسوْا ِب َها ِب َكاف ِر َ‬
‫ين﴾(‪ .)2‬وهذه الكلمة متوقف انتهاؤها على‬
‫عودة السيد المسيح ‪ ‬في المرة الثانية‪ ،‬فمن ل يستجيب له‪ ،‬فإن هالكهم سيكون‬
‫محققاً وكامالً‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ويقدروا‬
‫وخالصة القول‪ :‬أن هللا وعد بني إسرائيل إن لم يتوبوا ويستقيموا فيؤمنوا ّ‬
‫وعدين‪:‬‬
‫ْ‬ ‫رسوله‬
‫األول‪ :‬عند خروجهم من مصر‪ ،‬بقيادة الرسول الكريم موسى ‪ ‬واستقرارهم‬
‫في فلسطين‪ ،‬حين كانوا هداة مرشدين للبشرية‪ ،‬وبتطاول الزمن عليهم فسدوا‬
‫وأفسدوا‪ ،‬وحادوا عن طريق الحق‪ ،‬فسلط هللا عليهم بختنصر‪ ،‬فتابوا وعادوا للحق‪،‬‬
‫تحت لواء سيدنا داود وسليمان عليهما السالم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إذا جاء وعد اآلخرة (أي الوعد الثاني)‪َ ..﴿ :‬فِإ َذا جاء و ْعُد ِ‬
‫اآلخَرِة ِجْئَنا‬ ‫َ َ‬
‫ِب ُك ْم َل ِفي ًفا﴾(‪ :)3‬من بعد هذا التشريد عند أمم األرض‪ ،‬وهذا ما نلحظه في هذه‬
‫األيام‪ ،‬فقد اجتمعوا في فلسطين من جميع أنحاء المعمورة وأصبح المسجد األقصى‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)26‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األنعام اآلية (‪)89‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة اإلسراء اآلية (‪)104‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 108‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫المسجد‬
‫َ‬ ‫أسي اًر عندهم والوقعة الثانية سيدخل المؤمنون مع السيد المسيح ‪‬‬
‫فاتحين‪.‬‬
‫وبينا‪ِ﴿ :‬إَلى َبِني‬
‫وهاكم تأويل اآليات في سورة اإلسراء‪َ ﴿ :‬وَق َضْيَنا﴾‪ :‬حكمنا ّ‬
‫علي‪ ،‬ولم تسيروا ضمن‬ ‫اب﴾‪ :‬إن لم تدخلوا من باب موسى ‪َّ ‬‬ ‫ِإ ْسَرِائيل ِفي اْل ِك َت ِ‬
‫َ‬
‫أمري‪َ﴿ :‬ل ُت ْف ِسُد َّن ِفي األَْر ِ‬
‫ض َمَّرَتْي ِن﴾‪ :‬إن تركتم ل إلٓه إل هللا‪ ،‬ملتم لغير هللا‪ ،‬ما‬
‫آمنتم باهلل‪ :‬ستميلون للدنيا‪ ،‬وتجعلون الناس يميلون إليها‪ ،‬سيكون هذا مصيركم‪.‬‬
‫ير﴾(‪ :)1‬حيث أن قلبهم ممتلئ بالخبث‪ .‬إن تباعدتم‬ ‫وتفسدون مرتين‪َ ﴿ :‬وَل َت ْعُل َّن ُعُل ًّوا َك ِب ًا‬
‫عن هللا ولم تعظموه‪ ،‬سيقع بقلبكم حب الدنيا وستعلون بها‪َ ﴿ :‬فِإ َذا َجاء َو ْعُد أُو ُ‬
‫اله َما﴾‪:‬‬
‫سيكون هذا لكم‪ :‬الفساد األول‪َ﴿ :‬ب َع ْثَنا َعَلْيُك ْم ِعَب ًادا َّلَنا أ ُْولِي َبأْس َشِديد﴾‪ :‬وقد فسدتم‪ ،‬وهذا‬
‫الدَي ِار﴾‪ :‬فجاؤوا لتأديبكم‪ ،‬وحصل لكم ما‬ ‫وقع لما تسلّط عليهم (بختنصر)‪َ ﴿ :‬فجاسوْا ِخالَل هِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ّ‬
‫ان َو ْعًدا َّمْف ُعوالً﴾(‪ :)2‬مفعولً‪ :‬أي وقع هذا وانتهى‪ .‬هذا الخطاب لليهود في‬
‫حصل‪َ﴿ :‬وَك َ‬
‫ذكرهم هللا بما جرى لهم‪ .‬ثم تبتم ورجعتم والتجأتم‪ ،‬وعاهدوا فجاءهم‬ ‫عهد رسول هللا ﷺ‪ّ ،‬‬
‫سيدنا داود ‪ُ﴿ :‬ث َّم َرَدْدَنا َل ُك ُم اْل َكَّرَة َعَلْي ِه ْم﴾‪ :‬بعصر داود ‪ ،‬وانتصر سيدنا داود‬
‫ِ‬
‫اك ْم‬ ‫اكم ِبأ َْمَوال َوَبن َ‬
‫ين َو َج َعْلَن ُ‬ ‫على العدو ورفع هللا شأنهم‪ ،‬فأعطيناكم مالً وأولداً‪َ﴿ :‬وأ َْمَدْدَن ُ‬
‫ير﴾(‪ :)3‬صار لكم مقامكم العالي‪ ،‬بتوبتكم وايمانكم‪ ،‬فغدوتم بعهد سيدنا داود وسليمان‬ ‫أَ ْكَثَر َن ِف ًا‬
‫عليهما السالم‪ ،‬خير أمة أُخرجت للناس‪ ،‬ألنكم كنتم تأمرون بالمعروف‪ ،‬وتنهون عن‬
‫المنكر‪ ،‬وتؤمنون باهلل‪ .‬اآلن أرسلنا لكم محمداً ﷺ ومعه القرآن‪ ،‬فخاطبهم تعالى‪ِ﴿ :‬إ ْن‬
‫َح َس ُنت ْم ِألَنُف ِسُك ْم﴾‪ :‬اآلن قد حصل لكم يا بني إسرائيل أولً ما حصل‪ ،‬ولكن إن‬
‫َح َس ُنت ْم أ ْ‬
‫أْ‬
‫حولت عنكم البالء‪ ،‬خلصتم منه‪:‬‬ ‫علي َّ‬
‫أحسنتم وآمنتم به‪ ،‬فتبتم ودخلتم من باب محمد ﷺ َّ‬
‫﴿َواِ ْن أَ َسأُْت ْم﴾‪ :‬ظللتم على ما أنتم عليه اآلن من الفساد‪َ﴿ :‬فَل َها﴾‪ :‬ستحصل لكم الثانية‪:‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة اإلسراء اآلية (‪)4‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)5‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة اإلسراء اآلية (‪)6‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 109‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وهُك ْم﴾‪ :‬ستستاؤون كما‬ ‫اآلخَرِة﴾‪ :‬الوقعة الثانية واألخيرة‪﴿ :‬لَِي ُس ُ‬
‫وؤوْا ُو ُج َ‬ ‫﴿ َفِإ َذا جاء و ْعُد ِ‬
‫َ َ‬
‫حصل لكم زمن (بختنصر) إذ سنرسل لكم هؤلء المؤمنين‪ ،‬بقيادة السيد المسيح ‪:‬‬
‫﴿َولَِيْد ُخُلوْا اْل َم ْس ِجَد َك َما َد َخُل ُ‬
‫وه أََّو َل َمَّرة َولُِيَتهِبُروْا َما َعَل ْوْا َتْتِب ًا‬
‫ير﴾(‪ :)1‬ل يبقون لكم أث اًر‪ ،‬بل‬
‫طعونكم تقطيعاً‪ .‬وهكذا فاهلل تعالى‪ ،‬يرسل على اإلنسان إن فسد (ضربة) فيرجع إلى هللا‪،‬‬ ‫يق ِّّ‬
‫مفر منه‪َ ﴿ :‬ع َسى َرُّبُك ْم أَن َيْر َح َمُك ْم﴾‪:‬‬
‫مر ثانية‪ ،‬فإن نكل‪ ،‬جاءه الهالك ول ّ‬
‫فيعطيه الدنيا ّة‬
‫إن تبتم رفعت عنكم الشدائد‪ ،‬هنالك أناس كثر منهم سيؤمنون مع سيدنا عيسى‬
‫دت ْم﴾‪ :‬للمعارضات‪ُ ﴿ :‬عْدَنا﴾‪ :‬لتأديبكم‪ .‬وهذه عامة لكل‬ ‫‪ ‬عند ظهوره اآلن‪َ﴿ :‬واِ ْن ُع ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َحصيًار﴾ ‪ :‬تحصرهم‪ِ﴿ :‬إ َّن َه َذا اْلُقْر َ‬ ‫إنسان‪َ﴿ :‬و َج َعْلَنا َج َهَّن َم لْل َكافِر َ‬
‫(‪)2‬‬
‫آن﴾‪ :‬الذي أنزلناه على‬
‫رسولنا في ليلة القدر‪ِ﴿ :‬ي ْهِدي لَِّلِتي ِهي أَ ْقَوُم﴾‪ :‬للبشرية‪ ،‬أهدى وأقوم وأمثل طريق‪ .‬خلقك‬
‫َ‬
‫ين﴾‪ :‬دنيا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعالى للسعادة‪ ،‬لتعيش في الدنيا سعيداً‪ ،‬وفي اآلخرة سعيداً‪َ﴿.‬وُيَب هشُر اْل ُم ْؤمن َ‬
‫الصالِح ِ‬ ‫ِ‬
‫ات﴾‪ :‬الصالح لإلنسانية‪ ،‬المثمر له دوماً يؤتي أكله‬ ‫ين َي ْع َمُلو َن َّ َ‬ ‫وآخرة ‪َّ ﴿ :‬الذ َ‬
‫كل حين بإذن ربه‪ ،‬إذ ل شائبة فيه‪ ،‬ألن غايته بعمله وجه هللا‪ ،‬ونتاج هذا العمل‬
‫يديمه هللا له‪ ،‬على الحرث والنسل إلى يوم القيامة‪ ،‬المؤمن حّقاً يعمل الصالحات‪،‬‬
‫يرى السعادة في األعمال الصالحة‪ ،‬الصالة كلها وسائل للعمل الصالح‪ ،‬لتكون من‬
‫ير﴾(‪ :)3‬ل نهاية ول حد لهذا العطاء‪﴿ :‬وأ َّ ِ‬
‫َن َّالذ َ‬
‫ين الَ‬ ‫َجًار َكِب ًا‬
‫َن َل ُه ْم أ ْ‬
‫أهل اإلحسان‪﴿ :‬أ َّ‬
‫اآلخرِة﴾‪ :‬لكنك ستترك الكل‪ ،‬أنت ٍ‬ ‫ِ‬
‫له في الدنيا فهل أنت مؤمن باآلخرة؟‬ ‫ُي ْؤ ِمُنو َن ِب َ‬
‫يما﴾(‪:)4‬‬ ‫ِ‬
‫َع َت ْدَنا َل ُه ْم َع َذ ًابا أَل ً‬
‫لست بمؤمن ول بمفكر بها‪ ،‬المؤمن ليس هذا عمله‪﴿ :‬أ ْ‬
‫المؤمن بها حقاً يستقيم‪ ،‬فال يشذ أبداً‪.‬‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة اإلسراء اآلية (‪)7‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)8‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة اإلسراء اآلية (‪)9‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة اإلسراء اآلية (‪)10‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 110‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫طلوع الشمس من مغرِها وانشقاق القمر‬
‫* إن الشمس والقمر آيتان من آيات هللا‪ ،‬يسيران نحو غاية معينة وألجل‪ ،‬ل‬
‫يتبدلن إلى آخر الدوران‪ ،‬وأي تبديل في نظامهما‪ ،‬يتبعه تبديل نظام الكون كله‪،‬‬
‫فإذا طلعت الشمس من مغربها‪ ،‬فمعنى ذلك أن األرض بدأت تدور بعكس اتجاهها‬
‫األول‪ ،‬وبالتالي أصبح الليل سابقاً للنهار‪ ،‬وهذا ما ل ينبغي أن يكون‪ ،‬ألن هللا قد‬
‫الشمس َي َنب ِغي َل َها أَن ُت ْد ِر َك اْلَقمر وَال َّ‬
‫اللْي ُل َساِب ُ‬
‫ق‬ ‫ََ َ‬ ‫نفى ذلك بآية صريحة‪َ﴿ :‬ال َّ ْ ُ‬
‫الن َه ِار َوُك ٌّل ِفي َفَلك َي ْسَب ُحو َن﴾(‪.)1‬‬
‫َّ‬
‫لذلك فإن هذه اإلشارة أو هذه العالمة ل تعني هنا هذا الكوكب الملتهب الذي‬
‫يشرق في الصباح‪ ،‬ويغرب في المساء وانما معنى طلوع الشمس هنا‪ ،‬هو معنى‬
‫مجازي‪.‬‬
‫كما أنه تعالى حدثنا عن رسول هللا ﷺ أنه سراج منير‪ ،‬والسراج هو الشمس‪َ﴿ :‬يا‬
‫اعيا ِإَلى َّ ِ ِ ِ ِ‬‫ِ‬ ‫اهًدا َو ُمَب ِهشًار َوَنِذ ًا‬
‫النِبي ِإَّنا أَرسْلَناك َش ِ‬
‫ّللا ِبِإ ْذنه َوسَر ً‬
‫اجا‬ ‫ير‪َ ،‬وَد ً‬ ‫َْ َ‬ ‫أَُّي َها َّ ُّ‬
‫طرف من‬ ‫ٌ‬ ‫ير﴾(‪ .)2‬فكان ﷺ شمس النبيين رحمة للعالمين نور هللا الذي به ُيرى‬ ‫ُّمِن ًا‬
‫أسماء هللا الحسنى‪ ،‬فهنا جاء معنى السراج مجازياً كشفاً لحقيقة رسول هللا ﷺ‬
‫الكاشف لما أغلق والفاتح لما سبق‪.‬‬
‫كما أن سيدنا يوسف ‪ ‬رأى والده وأمه في الرؤيا شمساً وقم اًر واخوته‬
‫كواكب‪.‬‬
‫أما الشمس التي هي مدار بحثنا وجدها ذو القرنين ‪ ‬تغرب في عين حمئة‬
‫فهل يعقل أن تغرب هذه الشمس التي في السماء في بقعة من بقاع األرض رغم‬
‫ضخامتها أم كيف يجد قوماً عندها وهي في السماء‪ .‬وماذا يحدث لو اقتربت‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤيس اآلية (‪)40‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األحزاب اآليات (‪)46-45‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 111‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الشمس من األرض وخرجت عن مدارها المعروف علمياً بداه ًة؟ أل تتبخر الكرة‬
‫األرضية وتفنى؟‬
‫البرقة من‬
‫إذن‪ :‬المقصود بطلوع الشمس من مغربها‪ ،‬هو بزوغ الحضارة وعلومها َّا‬
‫جهة الغرب‪ ،‬أو من الجهة التي غربت فيها‪ ،‬ل من المشرق عن طريق شمس‬
‫النبيين ﷺ السراج المنير‪.‬‬
‫إن حضارة هذا القرن‪ ،‬قد أشرقت على المعمورة من الغرب‪ ،‬وانتشرت كالشمس في‬
‫أرجائها‪ ،‬إذ ما من أحد إل وعليه أثر من آثار أشعتها‪ ،‬وما من امرئ إل ووسمته‬
‫بميسمها‪.‬‬
‫تلك الحضارة التي انتشرت عمقاً واتساعاً‪ ،‬في أنحاء األرض‪ ،‬قد غزت عقول‬
‫الناس وقلوبهم‪ ،‬وأزاغت قلوبهم عن منبع النور الحقيقي‪ ،‬وجعلتهم يعيشون في‬
‫ظلمات وقلق‪ ،‬ونتيجة ما أرسلته مع أشعتها من شوب‪ ،‬استطاعت أن تبهر عقول‬
‫الذين كفروا‪ ،‬حيث جعلتهم في ظلمات ل يبصرون‪ ،‬وبهذا العمى القلبي‪ ،‬راحت‬
‫عباً دنيوياً محضاً‪ ،‬ل إيمان فيه‪.‬‬‫البشرية تعب منها ّ‬
‫* فما شروق الشمس من مغربها‪ ،‬ول انشقاق القمر‪ ،‬إل معاني مجازية‪ ،‬ترمز وتدل‬
‫ق اْلَق َمُر﴾(‪:)1‬‬
‫انش َّ‬
‫اع ُة َو َ‬ ‫على أشراط الساعة الكبرى‪ ،‬وبداية اآلية الكريمة‪﴿ :‬ا ْقَتَرَب ِت َّ‬
‫الس َ‬
‫تؤكد هذا المعنى وتبينه بوضوح‪ ،‬بأن اقتراب الساعة مرتبط بانشقاق القمر‪ ،‬وليست كما‬
‫يقال أنها معجزة لرسول هللا ﷺ ومما يؤكد هذا المعنى أيضًا‪:‬‬
‫* أن هللا تعالى لم يؤيد رسوله بالمعجزات‪ ،‬ول بخوارق العادات‪ ،‬وانما أيده‬
‫بقرآن يقذف بآياته باطل الكفار‪ ،‬فإذا هو زاهق ل حياة فيه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تحد‪ ،‬كما‬ ‫* ذلك ألن للمعجزة تعريف‪ :‬وهي تكون ظاهرة مكشوفة للناس وفيها ّ‬
‫الزيَن ِة َوأَن ُي ْح َشَر‬
‫ال َم ْو ِعُد ُك ْم َي ْوُم هِ‬
‫بينها تعالى بمعجزة عصا سيدنا موسى ‪َ ﴿ :‬ق َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة القمر اآلية (‪)1‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 112‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫اس ُض ًحى﴾(‪ :)1‬والمعجزة ليست بناقلة ألحد من الكفر إلى اإليمان‪ ،‬ما لم يعمل‬ ‫َّ‬
‫الن ُ‬
‫فكره‪ ،‬ويتأمل في هذه الكائنات‪ ،‬صنع اإللٓه العظيم‪ .‬وقد بين تعالى بآية واضحة‬
‫سبب منع إرساله المعجزات‪ ،‬أن كذب بها األولون‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما َمَن َعَنا أَن‬
‫ُّنرِسل ِباآلي ِ‬
‫ات ِإالَّ أَن َك َّذ َب ِب َها األ ََّوُلو َن‪ ،)2(﴾...‬فبعد التكذيب بالمعجزة‪ ،‬الهالك‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫الحتمي‪ ،‬وهللا يدعو إلى دار السالم‪ ،‬ول يرضى لعباده الهالك‪ ،‬فهل يرسل لهم ما‬
‫يهلكهم‪ ،‬وهو العليم بأحوالهم وبتكذيبهم؟! فإن جاءت المعجزات وما آمنوا‪،‬‬
‫وهاك نظرة سريعة لصنائع المعجزات‪.‬‬‫َ‬ ‫سيهلكون‪ ،‬وهم لن يؤمنوا‪،‬‬
‫* فالنار‪ :‬كانت على سيدنا إبراهيم ‪ ،‬برداً وسالماً‪ ،‬وما زاد ذلك قومه إلَّ كف اًر‬
‫وعناداً‪ ،‬ولم يؤمن من قومه أحد‪ ،‬وأصبحوا فيما بعد‪ ،‬قوم لوط المرجومين بحجارة من‬
‫سجيل‪.‬‬
‫* خروج الناقة من الصخرة‪ :‬معجزة أرسلت لقوم سيدنا صالح ‪ ،‬بناء على‬
‫طلبهم‪ ،‬ومن صخرة هم عيَّنوها‪ ،‬فما جعلت قومه يعظمونه في شيء‪ ،‬بل ما كان‬
‫َنت ِإَّال َب َشٌر ِهم ْثُلَنا‪ ،)3(﴾..‬ثم عقروا الناقة‪ ،‬وعتوا عن أمر‬ ‫منهم إل أن قالوا‪َ ﴿ :‬ما أ َ‬
‫ين﴾(‪ ،)4‬وهلكوا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ربهم‪ ،‬وقالوا‪ ..﴿ :‬يا صالِح ْائ ِتَنا ِبما َت ِعُدَنا ِإن ُك َ ِ‬
‫نت م َن اْل ُمْر َسل َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫أن أروا ما أروا‪ ،‬من آيات‬ ‫* وقال آل فرعون لسيدنا موسى ‪ ‬بعد‬
‫ِ‬
‫ِب َها َف َما َن ْح ُن َل َك ِب ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين﴾(‪،)5‬‬ ‫بيِّّ نات ومعجزات‪َ ..﴿ :‬م ْه َما َتأِْتَنا ِب ِه ِمن َآية هلَِت ْس َحَرَنا‬
‫وازدادوا كف اًر وعناداً‪.‬‬
‫* أيضاً معجزات سيدنا عيسى ‪ ‬أحيا الميت وأب أر األكمه واألبرص‪ ،‬وخلق من‬
‫الطين طي اًر بإذن هللا‪ ،‬أما قومه‪َ ..﴿ :‬فَل َّما جاءهم ِباْلبِيَن ِ‬
‫ات َقاُلوا َه َذا ِس ْحٌر ُّمِب ٌ‬
‫ين﴾(‪،)1‬‬ ‫َ ُ َه‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآلية (‪)59‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)59‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الشعراء اآلية (‪)154‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة األعراف اآلية (‪)77‬‬
‫(‪ _ )5‬سورة األعراف اآلية (‪)132‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 113‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫اب َواْل ُحْك َم‬ ‫ِ‬
‫ومكروا مك اًر ليقتلوه ‪ ،‬وحل بهم الهالك الحقيقي‪ ،‬إذ ُحرموا من‪ ..﴿ :‬اْلكَت َ‬
‫َو ُّ‬
‫النُبَّوَة‪ :)2(﴾...‬بعد كفرهم‪ .‬وهللا آواه وأمه إلى ربوة ذات قرار ومعين‪ ،‬ويقال أنها ربوة دمشق‪،‬‬
‫أي‪ :‬سحب تعالى هذا الخير العظيم‪ ، ،‬عنهم بكفرهم‪.‬‬
‫* وكما أشارت اآلية الكريمة إلى أنه ل فائدة من رؤية المعجزات‪ ،‬إن لم‬
‫يصد ْق اإلنسان بطلب الحق‪ ،‬في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَل ْو َف َت ْحَنا َعَلْي ِهم َب ًابا ِهم َن َّ‬
‫الس َماء‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫َف َُّ ِ ِ‬
‫ورو َن﴾(‪ :)3‬إن‬ ‫ظلوْا فيه َي ْعُر ُجو َن‪َ ،‬لَقاُلوْا ِإَّن َما ُس هكَر ْت أَْب َص ُارَنا َب ْل َن ْح ُن َق ْوٌم َّم ْس ُح ُ‬
‫لم يكن اإلنسان هو بذاته طالباً للحق فسينكث ويعود للمعارضة ويظن المعجزات‬
‫سح اًر‪ ،‬فاإليمان أصل من دونه لن يصدق المرء بطريق الكمال‪.‬‬
‫فالمعجزات ليست بناقلة أحداً من الكفر إلى اإليمان من األقوام السابقة‪ ،‬لذا أتت‬
‫اآلية الكريمة بإيقاف ظهور المعجزات‪﴿ :‬وما مَنعَنا أَن ُّنرِسل ِباآلي ِ‬
‫ات ِإالَّ أَن َك َّذ َب‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫ِب َها األ ََّوُلو َن‪ ، ﴾...‬بل ل َّبد من إعمال الفكر الدقيق‪ ،‬فيما يسمعه اإلنسان من‬
‫(‪)4‬‬

‫الهدى والبيان‪ ،‬كما آمن سيدنا إبراهيم ‪ ،‬وكما آمن صحابة رسول هللا ﷺ‪ ،‬فرفع‬
‫تعالى شأنهم‪ ،‬أو النظر والتأمل في هذه الكائنات‪ ،‬مع الخشية من الفراق الذي ل ُبَّد‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫منه‪ ،‬قال تعالى‪ِ﴿ :‬إ َّن في َذل َك َلذ ْكَرى ل َمن َك َ‬
‫ان َل ُه َقْل ٌب أ َْو أَْلَقى َّ‬
‫الس ْم َع َو ُه َو‬
‫َش ِه ٌ‬
‫(‪)5‬‬
‫يد﴾‬
‫القرآن الكريم معجزة الرسول ﷺ الخالدة‪:‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة الصف اآلية (‪)6‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األنعام اآلية (‪)89‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الحجر اآليات (‪)15-14‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة اإلسراء اآلية (‪)59‬‬
‫(‪ _ )5‬سورة ۤق‪ .‬اآلية (‪)37‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 114‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أما معجزة القرآن‪ ،‬فال تنحصر في ناحية معينة‪ ،‬كجمال األسلوب‪ ،‬ول في‬
‫* َّ‬
‫جرسه العجيب‪ ،‬ول في غ ازرة معناه‪ ،‬مع إيجاز لفظه ومبناه‪ ،‬وانما تشمل أيضاً‪،‬‬
‫احتواءه على علوم البشر‪ ،‬في ماضيها وحاضرها ومستقبلها‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َنزْلَنا ِإَلْي ُك ْم ك َت ًابا فيه ذ ْكُرُك ْم‪ . ﴾...‬قال رسول هللا ﷺ‪( :‬كتاب ه‬
‫(‪)1‬‬
‫ّللا فيه‬ ‫﴿َلَق ْد أ َ‬
‫نبأ ما قبلكم‪ ،‬وخبر ما بعدكم‪ ،‬وحكم ما بينكم‪ ،‬وهو الفصل ليس بالهزل‪ ،‬من‬
‫ّللا‬
‫ّللا‪ ،‬وهو حبل ه‬
‫ّللا‪ ،‬ومن ابتغى الهدى في غيره أضله ه‬‫تركه من جبار قصمه ه‬
‫المتين‪ ،‬وهو الذكر الحكيم‪ ،‬وهو الصراط المستقيم‪ ،‬هو الذي ال تزيغ به األهواء‪،‬‬
‫وال تلتبس به األلسنة‪ ،‬وال يشبع منه العلماء‪ ،‬وال يخلق عن كثرة الرد‪ ،‬وال‬
‫تنقضي عجائبه‪ ،‬هو الذي لم تنته الجن اذ سمعته حتى قالوا‪ :‬إنا سمعنا قرآناً‬
‫عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به‪ ،‬من قال به صدق‪ ،‬ومن عمل به أجر‪ ،‬ومن‬
‫هدي إلى صراط مستقيم) (‪.)2‬‬ ‫حكم به عدل‪ ،‬ومن دعا إليه َ‬
‫هذا ولم يرسل تعالى الرسل الكرام صلوات هللا عليهم‪ ،‬إل بلسان قومهم‪ .‬قال‬
‫ان َق ْو ِم ِه‪.)3(﴾...‬‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬وما أَْر َسْلَنا ِمن َّر ُسول ِإالَّ ِبلِ َس ِ‬
‫َ‬
‫ِّ‬
‫بأوجه‪ ،‬فأيَّده هللا تعالى بمعجزة أبطل‬ ‫السحر‬ ‫ِّ‬
‫ففي عصر سيدنا موسى ‪ ‬كان ّ‬
‫بها شعوذتهم ودجلهم وتخييالتهم وأما سيدنا عيسى ‪ ‬فقد جاء بعصر الطب‬
‫وتفوقه‪ ،‬بمعجزات ما أبطل علمهم‪ ،‬كإحيائه الموتى بإذن هللا‪ ،‬وخلق من الطين‬
‫كهيئة الطير فيكون طي اًر بإذن هللا‪ ،‬وابرائه األكمه واألبرص‪.‬‬
‫وكذلك سيدنا سليمان ‪ ‬جاء بعصر الملك‪ ،‬وكيف أن هللا وهب له من الملك‬
‫ما لم يهبه أحداً من بعده‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنبياء اآلية (‪)10‬‬


‫(‪ _ )2‬سنن الترمذي رقم‪./3070/‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة إبراهيم اآلية (‪)4‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 115‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫محمد ﷺ إذ أصبح الزمن زمناً يتبارى فيه البلغاء‪،‬‬
‫وكذلك األمر في عهد سيدنا ّ‬
‫ويتنافس فيه الشعراء‪ ،‬ولم يبق للملك والسلطان تلك القيمة التي كانت له عندهم‬
‫فبيت شعر بنظر العرب آنذاك‪ ،‬أثمن لديهم من قصور كسرى وقيصر‪،‬‬ ‫من قبل‪ُ ،‬‬
‫فجاءهم رسول هللا ﷺ بالقرآن الكريم‪ ،‬معجزة أبدية مكشوفة ظاهرة لكل الناس‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ود َها‬ ‫الن َار َّالتي َوُق ُ‬ ‫تحد من هللا تعالى لهم‪َ ﴿ :‬فِإن َّل ْم َت ْف َعُلوْا َوَلن َت ْف َعُلوْا َف َّاتُقوْا َّ‬ ‫وفيها ّ‬
‫نت ْم ِفي َرْيب ِهم َّما َن َّزْلَنا َعَلى َعْب ِدَنا َفأ ُْتوْا‬ ‫ين‪َ ،‬واِن ُك ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اس َواْل ِح َج َارُة أُعَّد ْت لْل َكاف ِر َ‬
‫الن ُ‬ ‫َّ‬
‫ِِ‬ ‫اءكم ِمن دو ِن ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‪َ ،‬فِإن َّل ْم‬ ‫ّللا ِإ ْن ُكْن ُت ْم َصادق َ‬ ‫ه‬ ‫ورة ِهمن ِهم ْثلِه َو ْاد ُعوْا ُش َه َد ُ ه ُ‬ ‫ِب ُس َ‬
‫تحد واضح من هللا تعالى لهم‪َ ...﴿ .‬وَلن َت ْف َعُلوْا‪ :﴾...‬وهذا تحد‬ ‫َت ْفعُلوْا‪ٍ :﴾..‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫اس َواْل ِح َج َارُة‬ ‫ِ‬
‫الن ُ‬ ‫الن َار َّالتي َوُق ُ‬
‫ود َها َّ‬ ‫لكل األزمان والى نهاية الدوران‪ ،‬إذن‪َ ﴿ :‬ف َّاتُقوْا َّ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫أُعَّد ْت لْل َكاف ِر َ‬
‫القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى الوحيدة‪ ،‬التي أيَّد هللا تعالى بها رسوله الكريم ﷺ‪،‬‬
‫وقد ذكر ذلك عز وجل‪ ،‬مبيناً أن ل معجزات سوى هذا القرآن الكريم بقوله تعالى‪:‬‬
‫ات ِمن َّرِب ِه ُقل ِإَّنما ْاآليات ِعند َّ ِ‬
‫ّللا َواَِّن َما أََنا َن ِذ ٌير‬ ‫ِ‬ ‫﴿ َوَقاُلوا َل ْوَال أ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫آي ٌ ه ه ْ َ‬ ‫ُنز َل َعَلْيه َ‬
‫اب ُيْتَلى َعَلْي ِه ْم ِإ َّن ِفي َذلِ َك َلَر ْح َم ًة َوِذ ْكَرى لَِق ْوم‬ ‫ِ‬ ‫ين‪ ،‬أ ََوَل ْم َي ْك ِف ِه ْم أََّنا أ َ‬
‫َنزْلَنا َعَلْي َك اْلك َت َ‬ ‫ُّم ِب ٌ‬
‫ُي ْؤ ِمُنو َن﴾(‪.)2‬‬
‫ألم يكفهم أنه أنزل على رجل منهم ل يعرف القراءة والكتابة‪ ،‬والذي يتحدى به‬
‫بل بسورة منه‪ ،‬أمراء البيان وفحول الشعراء‪ ،‬أن يأتوا بمثله وفي سائر األزمان‬
‫والعصور‪ ،‬وعجزوا ويعجزون إلى يوم القيامة‪ ،‬ولو كان اإلنس والجن بعضهم‬
‫لبعض ظهي اًر‪ .‬أل يعتبر بحق معجزة‪ .‬بل أعظم معجزة دائمة لمن أراد وجه الحق!‬
‫أوليس ما نحن واقعون فيه بهذا الزمان‪ ،‬من إشارات وعالمات للساعة‪ ،‬قد بينها‬
‫تعالى في كتابه الكريم‪ ،‬منذ أربعة عشر قرناً ونيف‪ ،‬أليس هذا بمعجزة؟!! أل‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآليات (‪)24-23‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة العنكبوت اآلية (‪)51-50‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 116‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫يستدل من عالمات الساعة المذكورة في القرآن الكريم‪ ،‬أن هذا الكتاب‪ ،‬ل يأتيه‬
‫الباطل من بين يديه ول من خلفه؟ كيف وصف رسول هللا ﷺ هذا الزمان بهذا‬
‫وعبر عنه بكلمات جامعة مانعة‪ ...‬أليس هذا بمعجزة؟!‬
‫الوصف الدقيق‪ّ ،‬‬
‫إن كلمة شروق الشمس من مغربها‪ ،‬وانشقاق القمر‪ ،‬وغيرها من اآليات التي‬
‫تخص الساعة‪ ،‬لهي من أكبر المعجزات والرحمات اإللٓهية‪ ،‬التي أفاضها تعالى‬
‫على رسوله الكريم‪ ،‬لكي نتدارك أمرنا‪ ،‬ونعود إليه تعالى‪.‬‬
‫الزُب ِر‪َ ،‬وُك ُّل َص ِغير َوَك ِبير ُم ْس َت َ‬
‫وه ِفي ُّ‬
‫(‪)1‬‬
‫طٌر﴾‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وُك ُّل َش ْيء َف َعُل ُ‬
‫* هذا ولما كان الغيب هلل‪ ،‬فإنه ل يطلعه إل لمن ارتضى من رسول‪ ،‬وهذا‬
‫جل وعال لرسوله الكريم ليلة أسرى به‪ ،‬والرسول ﷺ لم يضن علينا‬
‫الغيب قد كشفه ّ‬
‫بما كشف له تعالى من علم الغيب(‪.)2‬‬
‫فذكر األحداث الكبرى التي ستجري في المستقبل‪ .‬وما عالمات الساعة التي نتحدث‬
‫عنها اآلن إل من آثار تلك الفتوحات الغيبية‪ ،‬التي أراه هللا إياها‪ .‬وأوردها تعالى في كتابه‬
‫العزيز‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فإن انشقاق القمر كما ّبينا آنفاً ليس بمعجزة‪ ،‬وان الروايات التي ذكرت‬
‫حول هذه اآلية‪ ،‬ل صحة لها أبداً أنه انشق فلقتين‪ ،‬فلقة من دون الجبل‪ ،‬وفلقة من‬
‫خلف الجبل‪ .‬فقال النبي ﷺ بزعمهم‪( :‬اللهم اشهد) فذلك يتنافى مع القرآن الكريم‬
‫بما أوردناه بآيات سابقة‪ ،‬ويتنافى مع القوانين الكونية التي َّ‬
‫سنها تعالى‪ ،‬وانما آية‬
‫النشقاق‪ ،‬وحديث طلوع الشمس من مغربها‪ ،‬ودابة األرض‪ ،‬إشارات ودلئل لقرب‬
‫وقوع الساعة‪ ،‬ولو أن آية انشقاق القمر حصلت بزمن الرسول ﷺ حينها لوقعت‬
‫الساعة في تلك األثناء‪ ،‬وهذا ما لم يحدث‪ ،‬بل امتدت الدنيا إلى وقتنا هذا‪ ،‬ونحن‬
‫اآلن نعيش هذه العالمة‪ ،‬وقرب الساعة الحتمية‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة القمر‪ .‬اآلية (‪)53-52‬‬


‫ضنِّين﴾() اآليات (‪ )24-22‬من سورة التكوير‪.‬‬ ‫علَى ا ْلغَ ْي ِّ‬
‫ب ِِّ َ‬ ‫ين‪َ ،‬و َما ه َُو َ‬ ‫(‪َ ﴿ _ )2‬و َما صَاحِّ بُكُم ِِّ َمجْ نُون‪َ ،‬ولَقَ ْد َرآ ُه ِِّ ْاألُفُ ِّ‬
‫ق ا ْل ُمبِّ ِّ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 117‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وبينا بأنها رمز للحضارة‬
‫لقد ّبينا قبل قليل عن طلوع الشمس من مغربها‪ّ ،‬‬
‫القادمة من الغرب‪ ،‬هذه الحضارة التي ظلت محجوبة وبشكل عملي‪ ،‬عن الشرق‬
‫اإلسالمي حتى أوائل القرن العشرين تقريباً‪ ،‬وبدأ إشراقها بدون حجاب‪ ،‬بعد الحرب‬
‫الكونية األولى‪ ،‬وبدأ العالم اإلسالمي عامة‪ ،‬والعربي خاصة‪ ،‬ينسلخ عن منبع‬
‫النور اإلسالمي‪ ،‬من شمس النبوة‪ ،‬السراج المنير ﷺ‪ ،‬مستمداً نوره من هذه الشمس‬
‫الدنيوية المحضة التي بانت من الغرب‪ ،‬فأصبح قم اًر للغرب‪ ،‬يعكس وهج شمسها‪.‬‬
‫لقد اختار هللا تعالى هذه األمة اإلسالمية العربية أمة وسطاً‪ ،‬ليكونوا شهداء‬
‫على الناس بما يستمدونه من نور هللا‪ ،‬عن طريق رسوله الكريم ﷺ‪ ،‬إل أنهم اآلن‬
‫هجروا هذا النور واستبدلوه بنور الحضارة المادية المحموم‪ ،‬وبذلك فقد األمل منهم‬
‫تقريباً في إقامة الحق على األرض‪ ،‬ألن هذه األمة الوسط بين رسول هللا ﷺ وخلق‬
‫هللا‪ ،‬والمكلفة بإنقاذ العالم‪ ،‬من الظلمات إلى النور اإللٓهي‪ ،‬قد تحولت بوجهتها إلى‬
‫الغرب‪ ،‬لذلك‪ ،‬فإن اقتراب وقوع الساعة بات محققاً‪ ،‬ول بد في هذه الحالة‪ ،‬من‬
‫مجيء منقذ للبشرية ينقذها من شمس الباطل إلى شمس الحق‪ ،‬والسيد المسيح‬
‫رسول السالم‪ ،‬هو المهيأ لهذا اإلنقاذ‪.‬‬
‫فيا أيها الناس اتقوا ربكم‪ ،‬إن زلزلتها لشيء عظيم‪ ،‬وان عذابها لشديد‪.‬‬
‫هذا وان انشقاق القمر الذي ورد ذكره في اآلية الكريمة‪ ،‬إن هو إل حدث من‬
‫األحداث المسطرة في الزبر‪ ،‬يبين هللا تعالى فيها ألهل كل عصر‪ ،‬ما يهمهم من‬
‫اآليات في الوقت المناسب‪ ،‬ليعلموا أن هللا حق‪ ،‬وأن الرسول ﷺ وما جاء به هو‬
‫الحق من ربه (‪ ،)1‬وليعلموا أن هللا على كل شيء شهيد‪ ،‬وبيده نجاة ونصر من يتقيه‪.‬‬
‫ق اْلَق َمُر﴾(‪ :)2‬ل‬
‫انش َّ‬
‫اع ُة َو َ‬ ‫فبما أن القمر المذكور باآلية الكريمة‪﴿ :‬ا ْق َتَرَب ِت َّ‬
‫الس َ‬
‫يعني ذلك الكوكب المنير كما ذكرنا‪ ،‬إنما يشير إلى معنى مجازي‪ ،‬وهو البلد الذي‬

‫اق َوفَِّ أَنفُس ِِّّه ْم َحتَّى ََتَبَيَّنَ لَ ُه ْم أَنَّهُ ا ْلحَقُّ أَ َولَ ْم ََ ْكفِّ ِِّ َرِِّكَ أَنَّهُ َ‬
‫علَى ك ُِّل ش ََْء ش َِّهيدٌ﴾ اآلية (‪ )53‬من سورة فصلت‬ ‫َه ْم آََاِِّنَا فَِّ ْاِلفَ ِّ‬
‫سنُ ِّر ِّ‬
‫(‪َ ﴿ _ )1‬‬
‫(‪ _ )2‬سورة القمراآلية (‪)1‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 118‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫يستمد من الحضارة الغربية‪ ،‬التي هي الشمس للعالم‪ ،‬من الختراعات واإلبداعات‪،‬‬
‫ولها التبعية وبكافة األقطار اإلسالمية وغير اإلسالمية‪ ،‬ولفترة وجيزة كانت هذه‬
‫الدول تتنعم بنتاج حضارة شمس الغرب‪ ،‬ونتاج علومه الدنيوية المحضة‪ ،‬عوالم‬
‫المادة‪ ،‬من سيارات وطائرات وقطارات والمصانع الضخمة‪ ،‬وشبكات التصال‬
‫والفضائيات‪ ،‬ووسائل اللهو واإلنترنت‪ ،‬ونقلت كل فنونه حتى في اللباس واألدوات‬
‫المنزلية والغناء‪ ،‬فأصبح العالم يعيش بتلك الصور الدنيوية محجوباً عن الحقائق‬
‫الباقية‪ ،‬بالتجاه الكلي نحو هذه الشمس‪ .‬فقد أشاح الناس بالعالم أجمع‪ ،‬عن مبدع‬
‫أعده لهم من جنات باقيات‪ ،‬باتباعهم لهذه الحضارة اآلنية‪،‬‬
‫السماوات واألرض‪ ،‬وما ّ‬
‫والتي تعقبها خسارة أبدية‪.‬‬
‫لقد أصبح الشرق كله‪ ،‬قم ًار يستمد نوره من شمس حضارة الغرب‪ ،‬وما العالم‬
‫اإلسالمي إل جزء ل يتج أز من الشرق‪ ،‬شأنه شأن باقي الدول‪ ،‬يستمد نوره أيضاً من‬
‫هذه الشمس الحضارية‪ .‬ثم وبفقدان الروح والغذاء القلبي للبشر‪ ،‬بدأت تدرك ما فيه‬
‫من خطر‪ ،‬وبدأت بالنشقاق‪ ،‬كإيران وشعوب وقبائل باكستان وأفغانستان والقرن‬
‫األفريقي والعراق وغيرهم‪ ،‬حتى أن النشقاق حاصل بين الدولة الواحدة فيما بينها‬
‫(إذاً النشقاق حاصل في كل الدول على أعلى وأصغر المستويات) بكل ما تتضمن‬
‫فتم نحو األسوأ‪ ،‬ويا ليتهم لم ينشّقوا‪.‬‬
‫كلمة النشقاق من معنى‪ .‬أما انشقاق الصين ّ‬
‫ولكنهم قتلوا أنفسهم إذ غدوا (كالمستجير من الرمضاء‬
‫انشّقوا عن استعمار بالدهم ّ‬
‫بالنار)‪ ،‬أو كما يقول المثل العامي (طلعنا من تحت الدلف إلى تحت المزراب)‪ ،‬لقد‬
‫هووا بانشقاقهم عن الغرب إلى قاع الشيوعية التي ل روح فيها أبداً ول حياة قلبية‪ ،‬بل‬
‫فيها نكران اإللٓه واآلخرة‪ ،‬فهم بالضالل غارقون‪ ،‬وثبت عليهم وعلى بالدهم ما أطلقه‬
‫الخطا)‪ ،‬حتى الكثير من األثرياء في‬ ‫األولون ّ‬
‫(أن بالد الصين هي بالد َ‬ ‫أهل الصالح ّ‬
‫العالم وغيرهم‪ ،‬عبروا عن انشقاقهم عن هذه الحضارة وافالسها في نفوسهم‪ ،‬بما‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 119‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫سجلت من حالت كثيرة في النتحار‪ ،‬وخاصة في الدول الراقية‪ .‬واليك نبذة من‬
‫اعترافاتهم‪:‬‬
‫وحتى عن ملذات ومالهي مدينة نيويورك المتنوعة فإن "جيمي والكر" المتهم‬
‫بكل شيء إل بعمق نظرته وغور تفكيره قال عنها في آخر سني حياته‪:‬‬
‫(أصبحت اليوم ال أرى سحر وفتنة األمس إال شيئاً مبهرجاً تافهاً)‪.‬‬
‫ويقول "دراموند"‪( :‬إن أعلى متع األرض ليست إال ألماً متنك اًر "مقنعاً")‪.‬‬
‫ويقول "سير أرنولد"‪( :‬عجباً‪ ،‬كما هي الريح كذلك هي الحياة البشرية الفانية‪،‬‬
‫عويل‪ ،‬ندب‪ ،‬تحسر‪ ،‬غضب‪ ،‬كدح)‪.‬‬
‫نكا‪ .)1(﴾...‬وهكذا فليست‬ ‫ض َعن ِذ ْكرِي َفِإ َّن َل ُه َم ِع َ‬
‫يش ًة َض ً‬ ‫َعَر َ‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ْن أ ْ‬
‫اللذائذ الدنيوية المحضة سوى شقاء وألم وخسارة أبدية وحسرات مغلفة بغالف َّبراق‬
‫مخادع‪.‬‬
‫إن ما نعيشه اليوم من كوارث وفيضانات وزلزل ومجاعات‪ ،‬وحروب وأعاصير‬
‫مدمرة وحرائق في الغابات والمدن‪ ،‬ومن ذوبان القطبين الشمالي والجنوبي‬
‫وانخفاض في المياه اإلقليمية ونقص كبير من مستويات األنهار‪ ،‬وارتفاع درجة‬
‫اءه ْم َلَف َسَد ِت‬
‫َه َو ُ‬
‫قأْ‬‫ح اررة األرض وفساد البيئة نتيجة لما ذكره تعالى‪َ ﴿ :‬وَل ِو َّاتَب َع اْل َح ُّ‬
‫ض َو َمن ِفي ِه َّن‪ :)2(﴾...‬وبما أن هللا تعالى منح اإلنسان حرية‬ ‫ات َو ْاألَْر ُ‬
‫الس َم َاو ُ‬
‫َّ‬
‫وصمموا على ما لم يرضه هللا لهم‪ .‬لِّما يعود عليهم بذلك‬ ‫َّ‬ ‫الختيار‪ ،‬وهم اختاروا‬
‫أصروا فأعطاهم طلباتهم ومشتهياتهم‪ ،‬وكل واحد سار بهواه‬
‫ُّ‬ ‫من هالك‪ ،‬ولكنهم‬

‫فتغير نظام الكون‪ ،‬زلزل‪ ،‬طوفانات‪ ،‬قحط‪ّ .‬‬


‫حل البالء الذي أشرنا إليه وسيعقبه‬
‫الهالك العام إن لم يثوبوا إلى رشدهم ويلتجئوا إلى ربهم‪ ،‬ليصلحوا ما أحدثوا من‬
‫عظيم الفساد‪ ،‬والذي عاد عليهم بأمراض غريبة أصابت اإلنسان‪ ،‬وأمراض أخرى‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآلية (‪)124‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة المؤمنون اآلية (‪)71‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 120‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أصابت األنعام‪ ،‬مصدر غذائنا‪ ،‬ومن آلم وأمراض نفسية على مستوى العالم‪،‬‬
‫حتى أوصلت الكثير منهم إلى النتحار‪ ،‬وكل ذلك نتيجة انغماس الناس بالحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬واتباعهم شمس هذه الحضارة الغربية‪ ،‬التي أعمتهم عن الحقائق‪ ،‬وأصمتهم‬
‫ظ َهَر اْل َف َس ُاد ِفي اْلَبهِر َواْلَب ْح ِر‬
‫عن سماع الحق‪ ،‬بسبب ما اقترفت أيديهم من آثام‪َ ﴿ :‬‬
‫ض َّال ِذي َع ِمُلوا َل َعَّل ُه ْم َيْرِج ُعو َن﴾(‪.)1‬‬
‫اس لُِي ِذ َيق ُهم َب ْع َ‬ ‫ِبما َك َسَب ْت أَْي ِدي َّ‬
‫الن ِ‬
‫َ‬
‫فكم هو ربنا رحيم ورؤوف بهذا اإلنسان‪ ،‬فالدنيا ل يمكن أن تكون جنة‪ ،‬ألنها‬
‫ليست باقية‪ ،‬ومصيرها إلى الزوال‪ ،‬وأما المؤمنون بما يستمدون من شمس الرسول‬
‫الجنة‪ ،‬وبه تعالى الحياة األبدية‬
‫الكريم ﷺ‪ ،‬الذي يأتيهم باألنوار من هللا‪ ،‬فهم في ّ‬
‫السرمدية الباقية‪ ،‬وما وصلت الناس إليه اليوم من ضيق وحزن وألم‪ ،‬فال بد أن يبدل‬
‫هللا شقاءهم سعادة‪ ،‬بعودة وشروق شمس السيد المسيح‪ ،‬حبيب هللا‪ ،‬رسول السالم‪،‬‬
‫واألنبياء جميعاً هم شموس الحقائق‪ ،‬وكان ظهورهم دومًا في الشرق األدنى‪ ،‬مهبط‬
‫الرسل والنبيين‪ ،‬والنشقاق ظهر في هذا العصر فقط‪ ،‬عن شمس الغرب المادية‬
‫الكشف‬
‫ألم الحضارة التي وّلدتها‪ ،‬و ْ‬
‫المحضة‪ .‬وهذا النشقاق مرحلي‪ ،‬ورْفض مبدئي ّ‬
‫عن زيفها وغرورها‪ ،‬وتهيئة لرفضها الكّلي إثر الحرب العالمية الثالثة وعظيم أهوالها‬
‫التقبل باألشواق لعصر المنقذ رسول هللا‬ ‫الكبرى وكربها‪ ،‬فعندها ّ‬
‫يتم الرْفض الكّلي و ّ‬
‫المسيح ‪ ،‬عندها تزول عن العيون الغشاوة‪ ،‬وعن اآلذان الوقر‪ ،‬وتتفتّح القلوب‬
‫السيد المسيح ‪.‬‬
‫ألنوار الحقيقة بقدوم ّ‬
‫وخالصة القول‪:‬‬
‫إن سورة القمر ومن بدايتها‪ ،‬تتحدث عن التكذيب واإلعراض الكلي عن هللا‬
‫ابتداء من قوم سيدنا نوح‪،‬‬
‫ً‬ ‫تعالى‪ ،‬وتستعرض األقوام السابقة حين أتاها العذاب‪،‬‬
‫إلى قوم سيدنا هود‪ ،‬إلى قوم سيدنا صالح‪ ،‬إلى قوم سيدنا لوط‪ ،‬إلى قوم سيدنا‬

‫(‪ _ )1‬سورة الروم اآلية (‪)41‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 121‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫موسى‪ ،‬وبعد هالك المكذبين على طول الزمان‪ ،‬يذكر تعالى في آخر السورة‪،‬‬
‫تكذيب أهل هذا الزمان‪ ،‬والنهاية المؤسفة التي سينتهون إليها‪ ،‬شأنهم في ذلك‪،‬‬
‫شأن من سبقهم من الكافرين‪ ،‬الذين كذبوا دعوة الرسل‪ ،‬وقد اجتمعت فيهم جميع‬
‫وعناد وتطاول في البنيان‪ ،‬وشذوذ في األخالق‪ ،‬وغش‬ ‫علل األقوام‪ ،‬من كفر‬
‫نت ِصٌر﴾‪ :‬بالحرب القادمة‪َ ﴿ :‬سُي ْه َزُم اْل َج ْم ُع‬
‫يع ُّم َ‬ ‫ِ‬
‫َن ْح ُن َجم ٌ‬ ‫واعراض‪﴿ :‬أ َْم َيُقوُلو َن‬
‫هذه الحرب النووية الهيدروجينية‪ ،‬ل نصر فيها أبداً‪َ﴿ :‬ب ِل‬ ‫الدُبَر﴾‪ :‬إذ أن‬ ‫َوُي َوُّلو َن ُّ‬
‫َمُّر﴾(‪ :)1‬هذه‬
‫اع ُة أ َْد َهى َوأ َ‬ ‫اع ُة َم ْو ِعُد ُه ْم‪ :﴾...‬ساعة البالء العام‪َ ..﴿ :‬و َّ‬
‫الس َ‬ ‫الس َ‬
‫َّ‬
‫الساعة هي أدهى بهالكهم‪ ،‬من الساعات التي مرت على األقوام السابقة‪ ،‬وكلمة‬
‫لعموميتها بأرجاء الكرة األرضية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َمُّر﴾‪ :‬أي أشد م اررة من غيرها‪ ،‬وذلك‬
‫﴿‪َ ...‬وأ َ‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة القمر اآليات (‪)46-44‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 122‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫النفوْ من أقطار السماوات واألرض‬
‫ط ْع ُت ْم أَن َتن ُف ُذوا ِم ْن أَ ْق َ‬
‫ط ِار‬ ‫نس ِإ ِن ْ‬
‫اس َت َ‬ ‫اإل ِ‬ ‫قال تعالى‪َ﴿ :‬يا م ْع َشَر اْل ِج هِن َو ِْ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫آالء َرهِب ُكما ُت َك هذَب ِ‬
‫ان‪ُ ،‬يْر َس ُل‬ ‫َي َ‬ ‫ِ‬ ‫ض َفان ُف ُذوا َال َتن ُف ُذو َن ِإَّال ِب ُسْل َ‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َو ْاألَْر ِ‬
‫َ‬ ‫طان‪َ ،‬فبأ ِه‬ ‫َّ َ َ‬
‫ان﴾(‪.)1‬‬ ‫نت ِصَر ِ‬ ‫اس َف َال َت َ‬ ‫عَلي ُكما ُشوا ٌ ِ‬
‫ظ همن َّنار َوُن َح ٌ‬ ‫َْ َ َ‬
‫إن هذه اآليات الكريمة ظهرت حكمتها اآلن‪ ،‬إذ يبين هللا بأن نفوذ اإلنس‬
‫والجن‪ ،‬من أقطار السماوات صعوداً نحو التسلح ضمناً واألرض غو اًر للتنقيب‪ ،‬ل‬
‫يتم إل بسلطان‪ ،‬بقدرة ومعرفة وعلم‪ ،‬من استطاع أن يعرف ذهاباً في السماوات أو‬
‫غور في األرض فله ذلك ولكن يجب أن َّ‬
‫يعد العدة‪ ،‬فال نفاذ إل بسلطان الفكر‪.‬‬ ‫اً‬
‫هذا الشيء قد تم فعالً‪ ،‬واستطاعوا أن ينفذوا من أقطار السماوات واألرض‪ ،‬بعد‬
‫أن تخلصوا من سلطان األرض أو جاذبيتها‪ .‬ولكن على اإلنسان ألَّ يغتر بما‬
‫وصل إليه‪ ،‬ألن هذا العلم إنما هو من نتاج الفكر والعقل‪ ،‬اللذين وهبنا هللا إياهما‬
‫لنسمو بهما‪ ،‬ل لنكون كالجن الذين يصعدون من أقطار السماوات واألرض‪ ،‬للشر‬
‫اها ُم لِ َئ ْت َحَر ًسا‬ ‫واستراق السمع‪ ،‬كما قالت الجن‪َ ﴿ :‬وأ ََّن ا َل َم ْس َن ا َّ‬
‫الس َماء َف َو َج ْد َن َ‬
‫َش ِديد ا و ُشهب ا‪ ،‬وأ ََّن ا ُك َّنا َن ْقع د ِم ْنه ا‪ :﴾...‬من السماء‪ ..﴿ :‬م َق ِ‬
‫اع َد‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ‬ ‫ً َ ًُ‬
‫قي إنساني‪ ،‬بل كالرقي الشيطاني‪ ،‬والجن أدنى مرتبة‬ ‫لِ َّ‬
‫لس ْم ِع‪ :)2(﴾...‬فهذا ليس بر ٍ‬
‫السمو به‪ ،‬فنبلغ مرتبة‬ ‫ومنزلة من اإلنس‪ ،‬بل الرقي باإليمان باهلل واألنس و ِّ‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية الحّقة‪ ،‬وننال الجنات من حضرة هللا‪ ،‬دنيا وآخرة‪ ،‬وهذا الفكر يحمل‬
‫ُعد لنصل به إلى موجدنا‪ ،‬لنحقق إنسانيتنا‪ ،‬والغاية التي خلقنا من‬
‫طاقات هائلة‪ ،‬أ ّ‬
‫أجلها كما أشرنا‪ ،‬أما وقد وجهه الناس إلى غير ما أعد له‪ ،‬فإنه أيضاً يبدع في‬
‫الجهة التي صوب نحوها‪ ،‬ولكن بطريق يؤدي إلى هالكهم‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة الرحمن اآليات(‪)35-33‬‬


‫(‪ _ ) 2‬سورة الجن اآلية (‪)89‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 123‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أما إذا استهانت الناس بالقدرة اإللٓهية‪َّ ،‬‬
‫فغشت نفسها‪ ،‬وحولتها عن مصدر‬
‫خيرها سبحانه‪ ،‬وظنت أنها ستتصرف هي بالوجود‪ ،‬كيفما تريد وحسبما تشاء‪،‬‬
‫ِ‬
‫عندئذ حذرنا تعالى بقوله‪ُ﴿ :‬يْر َس ُل َعَلْي ُك َما ُش َواظٌ همن َّنار َوُن َح ٌ‬
‫اس َف َال‬
‫ان﴾(‪ :)1‬بهذه الحضارة الفضائية النووية التي صنعتها اإلنس ل نصر فيها‪،‬‬ ‫نت ِصَر ِ‬
‫َت َ‬
‫ِّ‬
‫المتصارَع ْين‪.‬‬ ‫بل خسارة تفوق الوصف لكال‬
‫في اآلية‪ُ﴿ :‬يْر َس ُل‪ :﴾...‬إمهال وتحذير‪ ،‬ولكنه إمهال غير طويل‪ .‬وفيهما أيضاً‬
‫فعل يرسل مبني للمجهول‪ ،‬ومعنى ذلك أنهم بتنفيذهم ذلك‪ُ ،‬يرسل عليهما بواسطة أو‬
‫بأخرى‪ ،‬شواظ من نار ونحاس‪ ،‬قد تكون هذه هي القنابل النووية المحمولة بواسطة‬
‫المركبات الفضائية واألقمار الصطناعية‪ ،‬عندئذ فلن تنتص ار بهذه الحضارة‪ ،‬التي‬
‫قضاء مبرماً‪ ،‬ولن يكون هناك بهذه الحرب النووية‬ ‫ً‬ ‫سوف يتم القضاء عليها بها‬
‫منتصر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫نتم َّمن ِفي َّ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬أَأ ِ‬
‫ض َفِإ َذا ه َي َت ُم ُ‬
‫ور‪ ،‬أ َْم‬ ‫ف ِب ُك ُم األَْر َ‬ ‫الس َماء أَن َي ْخ ِس َ‬ ‫َم ُ‬
‫ف َن ِذ ِ‬
‫ير﴾(‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫نتم َّمن ِفي َّ‬
‫الس َماء أَن ُيْرِس َل َعَلْي ُك ْم َحاصًبا َف َس َت ْعَل ُمو َن َكْي َ‬
‫أِ‬
‫َم ُ‬
‫وهذا البالء الذي سيحصل يوم الساعة الكبرى وعندها سيعلم الكفار أي منقلب‬
‫سينقلبون‪ ،‬وكيف أن هللا تعالى يحِّّذر وينذر وينِّّفذ‪ ،‬ومن أصدق من هللا حديثاً‪.‬‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة الرحمن اآلية (‪)35‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الملك اآليات (‪)17-16‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 124‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫خروج َْجوج ومْجوج‬
‫اها أََّن ُه ْم َال َيْرِج ُعو َن‪َ ،‬ح َّتى ِإ َذا ُف ِت َح ْت‬ ‫َهَل ْكَن َ‬
‫ام َعَلى َقْرَية أ ْ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َحَر ٌ‬
‫اخ َص ٌة‬‫ق َفِإ َذا ِهي َش ِ‬ ‫نسُلو َن‪َ ،‬وا ْق َتَر َب اْل َو ْعُد اْل َح ُّ‬ ‫يأْجوج ومأْجوج و ُهم ِمن ُك ِل ح َدب ي ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ ُ ََ ُ ُ َ ه ه َ َ‬
‫ين‪ِ ،‬إَّن ُك ْم َو َما‬ ‫أَبصار َّال ِذين َك َفروا يا ويَلَنا َق ْد ُكَّنا ِفي َغْفَلة ِم ْن ه َذا بل ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬ ‫ه َ َْ‬ ‫َ ُ َ َْ‬ ‫َْ ُ‬
‫َنت ْم َل َها َو ِارُدو َن﴾ ‪.‬‬
‫(‪) 1‬‬ ‫َتعبدو َن ِمن دو ِن َّ ِ‬
‫ّللا َح َص ُب َج َهَّن َم أ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُُْ‬
‫إذن حنان هللا ورأفته تقتضيان أن ُيهلك من ل يرجع إليه من القرى وحرام على‬
‫قرية أن تبقى في العصر المقبل عصر سيدنا عيسى ‪ ‬بل يهلكها تعالى ألنها ل‬
‫ترجع إليه‪.‬‬
‫هلل جل شأنه في هذا الوجود سنن و قوانين ل تتبدل ول تتغير‪ ،‬فمن تلك السنن‬
‫الخاصة في إهالك القرى‪.‬‬
‫أوالً‪ :‬إن هللا ل يأخذ القرى إذا أراد هالكها‪ ،‬وأهلها غافلون‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬إن هللا حرم على نفسه إهالك قرية‪ ،‬إل إذا انقطع األمل منهم في الرجوع‬
‫إليه‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬اعتراف أهل القرى الهالكة‪ ،‬بأنهم كانوا ظالمين‪.‬‬
‫أما بالنسبة لشعوب هذا العصر‪ ،‬فإن استحالة الرجوع إلى هللا مقرون بانفتاح‬
‫يأجوج ومأجوج على الناس‪ ،‬لبث عقيدتهم‪.‬‬
‫فاهلل يحجب الفساد على من فيهم الخير‪ ،‬فإذا نضب ذلك منهم‪ ،‬بعث إليهم من يظهر‬
‫لهم كوامن أنفسهم‪ ،‬حتى ل يكونوا مغشوشين بأنفسهم‪ ،‬أو يظنوا بأنهم ما زالوا على الحق‪.‬‬
‫لقد أذن اآلن ليأجوج ومأجوج‪ ،‬المفسد والفاسد‪ ،‬اآلج والمأجوج بنار الترف وزينة‬
‫الدنيا‪ ،‬أن ينشروا عقائدهم الفاسدة‪ ،‬لنفوس أصبحت مستعدة لتقبل تلك العقائد‪.‬‬
‫وقد وصف تعالى الكيفية في نشر مبادئهم فقال تعالى‪:‬‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة األنبياء اآليات (‪)98 -95‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 125‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫﴿‪ ...‬و ُهم ِمن ُك ِل ح َدب ي ِ‬
‫نسُلو َن﴾ والحدب هو خروج الظهر‪ ،‬ودخول الصدر‬ ‫ه َ َ‬ ‫َ ه‬
‫والبطن‪ ،‬دللة على الضعف والعجز‪.‬‬
‫والحدب أيضاً هو ما ارتفع من الشيء كحدب الموج والرمل بسبب ضغط‬
‫بعضه على بعض‪ ،‬والغليظ المرتفع من األرض‪ ،‬نتيجة التصدع والضغط‪.‬‬
‫انسل‪ ،‬وتعني انطلق باستخفاء‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أما كلمة﴿‪ ...‬ي ِ‬
‫نسُلو َن﴾‪ :‬الماضي منها‬ ‫َ‬
‫وبصورة عامة فإن النسالل‪ ،‬وكل ما هو مشتق من كلمة ينسلون‪ ،‬تعني‪ :‬السعي‬
‫إلى ما يريده المرء بذكاء وحذر‪ .‬ومن تلك المعاني األخيرة نستنتج بأن (يأجوج‬
‫ومأجوج) يسعون في نشر دعوتهم بين الناس‪.‬‬
‫ولكي تسمع دعوتهم‪ ،‬ولتصبح مقبولة بين فقراء الناس‪ ،‬فإنهم يأتونهم من نقاط‬
‫الضعف في المجتمعات المضطربة‪ ،‬حيث ضغط األغنياء‪ ،‬وتسلطهم على الفقراء‪،‬‬
‫مبينين لهم بأن شقاءهم وتعاستهم سببه أغنياؤهم‪ ،‬وأن القضاء عليهم يعني القضاء‬
‫على الظلم الجتماعي‪ ،‬وبالتالي القضاء على البؤس والفقر والشقاء‪.‬‬
‫وقد حصل ذلك في منتصف القرن الماضي حينما بدأت األفكار الشيوعية‬
‫اإللحادية بالتسلل إلى هذه المجتمعات وبث هذه األفكار المسمومة‪ ،‬ولول حصول‬
‫الحدب أو الوضع غير الصحيح وغير السليم في تلك المجتمعات‪ ،‬لما راجت‬
‫أفكارهم اإللحادية‪.‬‬
‫والحدب أيضاً‪ :‬هو الشيء المتفاوت من ارتفاع وانخفاض‪ ،‬وذلك بتعالي الدول‬
‫الغنية‪ ،‬على الدول الفقيرة‪ ،‬وبهذا التفاوت وهذا التعالي حصل أيضاً النشقاق بين‬
‫الدول‪ ،‬مما أتاح الفرصة ليأجوج ومأجوج وهما الصين وروسيا‪ ،‬أن يستغال هذا‬
‫الهدامة اإللحادية‪ ،‬كما أن تجار الصين الشيوعية بثوا‬
‫التفاوت‪ ،‬لنشر أفكارهم ّ‬
‫بضائعهم الرخيصة بين شعوب العالم‪ ،‬بسبب الغالء الفاحش‪ ،‬مع الفقر المدقع‪،‬‬
‫عندها استطاعوا التدخل بالقتصاد والتجارة‪ ،‬ويكون لهم بذلك باع ليس بقليل‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 126‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫هذا وان كافة الخرائط الجغرافية القديمة السابقة كانت تشير إليهما‪ ،‬وتسمي‬
‫إقليمي الروس والصين بتسمية يأجوج ومأجوج‪.‬‬
‫أما وصف أولئك القوم بكلمتي‪( :‬يأجوج ومأجوج) فألنهم بدعوتهم تلك‪،‬‬
‫يؤججون الفتنة بين الطبقات الغنية منها والفقيرة‪ ،‬ويشعلون الثورات بين األمة‬
‫الواحدة أو بين األمم‪ ،‬وهذا ما حصل معظمه في منتصف القرن الماضي‪ .‬لقد بين‬
‫تعالى بأن يأجوج ومأجوج إذا فتحت على العالم‪ ،‬وأخذت بنشر دعوتها بين األمم‪،‬‬
‫ثم أصبحت لتلك الدعوة الفعالية والقوة صفة العموم‪ ،‬فإن الوعد الحق بات قريباً‪،‬‬
‫والساعة السابقة له والتي يظهر فيها السيد المسيح ‪ ،‬سيد هذا الزمان‪ ،‬ليمسح‬
‫كل ظلم وجور‪ ،‬غدا وشيكاً‪ ،‬وأما يوم القيامة فإن أبصار أصحاب النظريات‬
‫الالإنسانية‪ ،‬التي انتشرت في العالم‪ ،‬شاخصة يوم القيامة من شدة الرعب والهلع‬
‫ين﴾(‪ :)1‬وسوف‬ ‫يقولون‪ ..﴿ :‬يا ويَلَنا َق ْد ُكَّنا ِفي َغْفَلة ِم ْن ه َذا بل ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬ ‫ه َ َْ‬ ‫َ َْ‬
‫يكونون هم وآلهتهم من مبدعي هذه النظريات الهدامة‪ ،‬كما قال أصدق القائلين‬
‫َنت ْم َل َها َو ِارُدو َن﴾(‪.)2‬‬
‫جل جالله‪َ ..﴿ :‬ح َص ُب َج َهَّن َم أ ُ‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنبياء اآلية (‪)97‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األنبياء اآلية (‪)98‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 127‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫خروج داِة األرض‬
‫الد َعاء ِإ َذا َوَّل ْوا ُم ْد ِب ِر َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫قال تعالى‪ِ﴿ :‬إَّن َك َال ُت ْس ِم ُع اْل َم ْوَتى َوَال ُت ْس ِم ُع ُّ‬
‫الص َّم ُّ‬
‫آي ِاتَنا َف ُهم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َنت ِب َهادي اْل ُع ْم ِي َعن َض َال َلت ِه ْم ِإن ُت ْسم ُع ِإَّال َمن ُي ْؤ ِم ُن ِب َ‬ ‫َو َما أ َ‬
‫اس‬
‫الن َ‬‫َن َّ‬ ‫َخَر ْجَنا َل ُه ْم َد َّاب ًة ِهم َن ْاألَْر ِ‬
‫ض ُت َكهلِ ُم ُه ْم أ َّ‬ ‫ُّم ْسلِ ُمو َن‪َ ،‬واِ َذا َوَق َع اْلَق ْو ُل َعَلْي ِه ْم أ ْ‬
‫آي ِاتَنا َال ُيوِقُنو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫َكاُنوا ِب َ‬
‫بأن وقوع‬ ‫لقد شرط هللا جل شأنه في اآلية الكريمة‪ ،‬من اآليات اآلنفة الذكر‪َّ ،‬‬
‫الهالك ل يكون إل بعد ظهور دابة األرض‪ ،‬وبما أن تلك الدابة قد ظهرت‪ ،‬فإن‬
‫البالء أو الساعة أصبح أم اًر مبرماً‪ ،‬ولم يبق إل تنفيذه‪ ،‬أما تحديد وقوع هذه‬
‫الساعة فهذا ل علم ألحد به‪ ،‬ألن الغيب هلل ول يجليها لوقتها إل هو‪ ،‬وألنها ل‬
‫تأتينا إل بغتة‪ ،‬ولكن تكامل أشراطها ينذر بحلولها اآلن‪ ،‬وفي أي وقت‪ ،‬ونحن‬
‫يقيناً على أبوابها‪ .‬أما اآليات التي تسبق هذه اآلية‪ ،‬فإنها تبين صفة الذين يقع‬
‫أصمت آذانهم‪ ،‬وطمست على‬
‫عليهم القول‪ ،‬فهم الذين أماتت الدنيا قلوبهم‪ ،‬و َّ‬
‫أبصارهم‪.‬‬
‫أولئك ما كان ألحد في العالمين القدرة على هدايتهم‪ ،‬ألنهم أعرضوا عن الحق‪،‬‬
‫وولوا وجوههم شطر الباطل‪ ،‬وما كان هللا ليهديهم‪ ،‬بسبب استسالمهم لشهواتهم‪،‬‬

‫التي أصبحت لهم آلهة ِّّ‬


‫تسيرهم‪ .‬أما الذين يسمعون الحق‪ ،‬فأولئك الذين يؤمنون‬
‫بآيات هللا وله ل إلى شهواتهم مسلمون‪.‬‬
‫وبما أن الناس عموماً في هذا العصر‪ ،‬قد أسلموا لشهواتهم العنان‪ ،‬وأقبلوا على‬
‫الدنيا بكليتهم‪ ،‬ودخلوا إليها من أوسع أبوابها‪ ،‬لذا فإن إمكانية التوبة باتت شبه‬
‫مستحيلة‪ ،‬ونتيجة لذلك فقد حق القول على أكثرنا‪ ،‬بأننا مهلكون‪ ،‬وما األعاصير‬
‫المهلكة‪ ،‬والزلزل المتتابعة‪ ،‬وأمراض البقر والطيور الفتاكة‪ ،‬والفيضانات والقحط‬

‫(‪ _ )1‬سورة النمل اآلية (‪)82-80‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 128‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫والج ارد‪ ،‬إلَّ ابتالءات الهالك الشمولي القادم اآلن إلينا‪ ،‬وهذه البتالءات الرهيبة‬
‫المتتالية‪ ،‬لم يسبق لها مثيل من ألوف السنين‪ ،‬ومئات األجيال‪.‬‬
‫إن الهالك أصبح لمن هذه صفته رحمة‪ ،‬ألن وجوده في الدنيا‪ ،‬بات له ولغيره‬
‫ضر اًر‪ ،‬ولذا ومن رحمة هللا بهم‪ ،‬من أن يزدادوا إثماً‪ ،‬وبالتالي سعي اًر‪ ،‬فإن هللا‬
‫يأخذهم‪ ،‬أخذاً شديداً ومباغتاً‪.‬‬
‫إن هللا لم يشر في اآلية الكريمة السابقة‪ ،‬بأنه سوف يخلق لهم دابة‪ ،‬بل قال‬
‫ض ُت َكهلِ ُم ُه ْم‪ :)1(﴾...‬كما‬ ‫َخَر ْجَنا َل ُه ْم َد َّاب ًة ِهم َن ْاألَْر ِ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬واِ َذا َوَق َع اْلَق ْو ُل َعَلْي ِه ْم أ ْ‬
‫أنه جل شأنه لم يشر أن الغرض من إخراجها‪ ،‬أن تكون للناس معجزة‪ ،‬بل منع‬
‫محمٍد ﷺ‪ ،‬لعدم جدواها كما أشرنا‬ ‫بآية صريحة إرسال المعجزات في زمن سيدنا ّ‬
‫سابقاً‪.‬‬
‫ات ِإالَّ أَن َك َّذ َب ِب َه ا األ ََّوُلو َن َو َ‬
‫آت ْي َنا‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬وم ا م َن ع َن ا أَن ُّنرِسل ِب اآلي ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫النا َق َة م ب ِصرًة َفظَ َلموْا ِبها وم ا ُنرِسل بِ اآلي ِ‬
‫ات إِالَّ َت ْخ ِوي ًفا﴾(‪.)2‬‬ ‫ود َّ‬
‫َ‬ ‫ُ َ ََ ْ ُ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َث ُم َ‬
‫هذا وليس من المصادفة في شيء‪ ،‬أن يخص في هذه اآلية الكريمة (الناقة)‬
‫كمعجزة من بين تلك المعجزات الكثيرة التي أرسلها هللا تعالى على رسله الكرام قبل‬
‫ذكره لتلك المعجزة بالذات‪ ،‬لها دللتها ولها ما يبررها‪ ،‬وهذا‬
‫سيدنا محمد ﷺ‪ ،‬وانما ْ‬
‫يعني أن ل يتوهم الناس أو يظنوا بأن الدابة التي سيخرجها للناس‪ ،‬هي من جنس‬
‫حيواني‪ ،‬أو أن يكون الغرض من إخراجها آية أو معجزة‪.‬‬
‫بل له من إخراجها غاية أخرى‪ ،‬ل تمت إلى المعجزة في شيء‪ ،‬وكذلك فإن‬
‫إخراج الدابة ليس له صفة المعجزات‪ .‬ليس من المنطق في شيء أن يكرر‬
‫سبحانه معجزة مشابهة لمعجزة سابقة َّ‬
‫كذب بها الناس‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة النمل اآلية (‪)82‬‬


‫(‪ _ ) 2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)59‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 129‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫إن معنى الدابة في اللغة‪ ،‬هو كل شيء يدب على األرض‪ ،‬وغلب على ما‬
‫ُيركب ومن هذا المعنى جاءت لفظة دبابة‪ ،‬وهي آلية القتال‪ ،‬وقد سميت بهذا السم‬
‫ألنها تدب على األرض‪ ،‬ولذا فإن معنى الدابة ل يقتصر على الحيوان فحسب‪ ،‬بل‬
‫يشمل ما يدب على األرض من الجماد أيضاً‪.‬‬
‫ولغة‪ :‬كل ما دب على األرض فهو دابة‪.‬‬
‫لقد ذكر لنا تعالى عن ناقة سيدنا صالح ‪ ‬بأنها ناقة هللا وسقياها‪ ،‬وتلك الناقة هي‬
‫من لحم ودم وروح‪ ،‬بينما لم يشر إلى هذه الدابة التي سيخرجها من األرض بأنها تتمتع‬
‫بصفة الحياة‪ ،‬ما عدا لفظة تكلمهم‪ .‬ومسألة الكالم فقد أصبحت اآللة تشاركنا به‪،‬‬
‫بالمسجالت والمذياع والتلفاز وغيرها‪.‬‬
‫أما حدثنا صلوات هللا عليه عن السيارة يصفها‪( :‬سيكون بعدي سلطان الفتن على‬
‫أبوابهم كمبارك اإلبل ال يعطون أحداً شيئاً إال أخذ من دينه مثله) (‪ .)1‬اإلبل تستخدم‬
‫للنقل والترحال والسيارة كذلك وتقف أمام بيت صاحبها كما تبرك اإلبل وتلزم موضعها‪.‬‬
‫كما أنه ﷺ وصفها بدقة أكثر قال ﷺ‪( :‬تبعث نار على أهل المشرق فتحشرهم إلى‬
‫المغرب تبيت معهم حيث باتوا‪ ،‬وتقيل معهم حيث قالوا‪ ،‬يكون لها ما سقط منهم‬
‫وتخلف تسوقهم سوق الجمل الكسير )(‪ .)2‬أي أن السيارة صناعة الغرب وبها نقلوا‬
‫ثقافتهم وحضارتهم ووسائلها إلى العالم‪ ،‬فتوجه أهل المشرق إليهم يعبُّون من معينها‬
‫سماها نا اًر كناية عن محركها النفجاري والنار هنا‪ :‬نار المحرك‬
‫اآلسن‪ ،‬وأما أنه ﷺ ّ‬
‫النفجاري للبنزين بالمكابس (البسطونات) والحقيقة أعظم والحديث‪( :‬نار تبيت معهم حيث‬
‫باتوا وتقيل معهم حيث قالوا) حيث ينام صاحب السيارة ويبيت سواء ليالً أو نها اًر‪ ،‬تكون‬
‫ً‬
‫معهم أمام البيت أو الفندق‪ ،‬وهذا هو وصفها من الداخل إذ وصفها لصحبه الكرام من‬
‫الخارج من أن متابعها ل يدركها وهي تدركه‪ ،‬وهذه من نبوءات األنبياء التي ل‬

‫(‪ _ )1‬رواه الطبراني‪.‬‬


‫(‪ _ )2‬أخرجه الدارقطني في األفراد والطبراني والحاكم وصححه عن عبد هللا بن عمرو‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 130‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫تخطئ‪( .‬يكون في آخر هذه األمة رجال يركبون على المياثر (السيارات) حتى يأتوا‬
‫أبواب المساجد نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف‬
‫فالعنوهن فإنهن ملعونات) (‪ :)1‬فالعنوهن‪ :‬واللعن هو البعد‪ ،‬أي ابتعدوا عنهن ألنهن‬
‫ملعونات‪ :‬أي بعيدات عن هللا‪.‬‬
‫كما أنه ﷺ حدث عن الطائرات إذ يقول‪( :‬لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة‪ ،‬تغشى‬
‫الناس‪ ،‬فيها عذاب أليم‪ ،‬تأكل األنفس واألموال تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام‪،‬‬
‫حرها بالنهار‪ ،‬ولها ما بين السماء‬
‫حرها بالليل أشد من ه‬
‫تطير طير الريح والسحاب‪ ،‬ه‬
‫واألرض دوي كدوي الرعد القاصف‪ ،‬هي من رؤوس الخالئق أدنى من العرش) (‪.)2‬‬
‫(تغشى الناس‪ ،‬فيها عذاب أليم‪ ،‬تأكل األنفس واألموال) ل يخفى ما للقوة‬
‫حرها بالنهار) ألن‬‫حرها بالليل أشد من ه‬‫العسكرية الجوية من قوة تدميرية شاملة‪ ( .‬ه‬
‫الليل مظلم ساتر لها عن اإلصابة بالمدفعية المضادة للطائرات سابقاً وتنجح المفاجأة‬
‫ركب فيها من أجهزة تكييف وتعديل‬
‫عما ّ‬
‫بالقصف للمدن والمواقع العسكرية ليالً وكناية ّ‬
‫حرها بالنهار‪ ،‬ولها‬
‫حرها بالليل أشد من ه‬
‫لدرجات الح اررة (تطير طير الريح والسحاب‪ ،‬ه‬
‫ما بين السماء واألرض دوي كدوي الرعد القاصف‪ ،‬هي من رؤوس الخالئق أدنى‬
‫من العرش) يشير ﷺ إلى ضعف إيمان الناس اليوم‪ ،‬إذ يظنون أن بها حول وقوة ولها‬
‫فعل‪ ،‬وينسون أن الحول والقوة بيد هللا تعالى صاحب التجلي العظيم‪.‬‬
‫ول ُيعلم إلى اآلن أن شيئاً أخرج من األرض‪ ،‬وأصبح يدب على األرض إل‬
‫السيارات والدبابات وما شابه ذلك‪ ،‬من القطارات وغيرها‪ .‬ومادة هذه اآلليات قد‬
‫استخرجت من األرض‪ ،‬أي من المناجم الحديدية‪ ،‬لذلك أصبحت هذه الدابة تكلم الناس‬
‫بما ركب عليها من أجهزة ل سلكية أو مذياع (راديو) أو غير ذلك‪ .‬وقد قيل بأنها‬

‫(‪ _ )1‬أحمد والحاكم‪.‬‬


‫(‪ _ )2‬كنز العمال ج‪ 14‬رقم‪./38886/‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 131‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفذه‪ ،‬وتستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه‪ ،‬وكذلك‬
‫الشمال والجنوب‪.‬‬
‫وهذا القول صحيح‪ ،‬ألن هذه األجهزة ينفذ صوتها من جميع أقطار األرض‪.‬‬
‫وهذه الدابة ركب عليها حمار الدجال الذي ُيقال بأنه المذياع‪.‬‬
‫فالمذياع المحمول منه أو الثابت‪ ،‬أصبح ينقل إلى الناس أقوال الدجالين‪ ،‬وهذه‬
‫اإلذاعات باستطاعتها أن تقلب الحق باطالً‪ ،‬والباطل حقاً‪ ،‬لما لها من قدرة‬
‫اإلسماع‪ ،‬إذ معظم أقوالها تدجيل بتدجيل‪ ،‬ليس فيه من الحق إل القليل‪.‬‬
‫(إن أُ ُذن حمار الدجال ُلت ِظ ُّل سبعين ألفاً) (‪.)1‬‬
‫الشعرة فيه‬
‫ْ‬ ‫وقوله ﷺ‪( :‬إن طول ذيل حمار الدجال بين(‪)70- 40‬ذراعاً‪ ،‬وأن‬
‫تغهني)‪.‬‬
‫(أي إبرة المذياع أو المؤشر لنقل صوت اإلذاعات) وقوله الشريف‪( :‬وأن‬
‫الشعرة فيه تغني) أي كلما َح ّركت المؤشر أي اإلبرة مقدار شعرة تنقل صوت‬
‫إذاعة أخرى‪ ،‬كما أن قوله ﷺ أنه‪( :‬ما دخل بيتاً إاله أفسده) (أي خرب نفوس‬
‫مستمعيه لما فيه من ٍ‬
‫أغان رخيصة جنسية ل أخالقية)‪( ،‬وما دخل حانوتاً إاله‬
‫خرب قلب صاحبه‪ ،‬الذي غدا يهوى اللهو والمجون‪ ،‬وتحقيق مآربه‬
‫خربه) (أي َّ‬
‫ٍ‬
‫كل‪ ،‬فهذه األمور غدت أمو اًر‬
‫الحد اإلنساني)‪ ،‬على ّ‬‫وأهوائه‪ ،‬بكسبه الزائد عن ّ‬
‫تاريخية بحتة غير مهمة‪ ،‬إذ تالها أرقى منها‪ ،‬كالتلفاز البصري و(الستاليت)‬
‫والفيديو والكومبيوتر واإلنترنت‪.‬‬
‫وتخبرُه فخ ُذ ُه بما‬
‫ُ‬ ‫اك نعلِ ِه‬ ‫سوط ِه ِ‬
‫وشر َ‬
‫ِ‬ ‫جل ع َذَب ُة‬ ‫ل تقوم الساعة حتى‪ُ( :‬يكهِل َم َّ‬
‫الر ُ‬
‫بعده) (‪ .)2‬وعذبة السوط هو الالسلكي كالذي يحمله رجال األمن من شرطة‬ ‫أهله ُ‬
‫أحدث ُ‬
‫َ‬
‫المرور‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬أخرجه ابن أبي شيبة‪ :‬أي صوت المذياع يصل ويغطي سبعين ألفا ً من باب الكثرة وقدرته على إسماع الكثير من الناس‪.‬‬
‫(‪ _ )2‬سنن الترمذي ج‪ 3‬رقم‪./17/‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 132‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الهاتف السلكي‪ ،‬تُمسك السماعة والسلك يبقى متدليًا‪( .‬وشراك النعل)‪ :‬أي أن الهاتف‬
‫يشترك والنعل (الحذاء) بالصفة الظاهرية والشكل حتى واللون‪ ،‬وقد وصف ﷺ الهاتف‬
‫بشراك النعل كناية عن الهاتف إذ أنه يشبه النعل تماماً أي‪ :‬الحذاء المقلوب (وتخبره‬
‫أحدث أهله من بعده) إشارة للموبايل وبيوتها الجلدية التي تعلق في أعلى‬
‫َ‬ ‫فخذه بما‬
‫الفخذ على الحزام أو في جيب البنطلون‪ .‬كما أنها تشير إلى أجهزة التجسس التي قد‬
‫يضعها البعض على بيته أو مكان عمله‪ .‬والتي تُربط بشكل أو بآخر مع الهواتف‬
‫الالسلكية‪.‬‬
‫والحقيقة لما بدأت هذه الدابة في بداية القرن الماضي‪ ،‬كان الناس عن سماع‬
‫الحق في صمم‪ ،‬ذلك بما أحدثته هذه الثورة الصناعية من الفتن‪ ،‬وجعلتهم يكفرون‬
‫بآيات هللا‪ ،‬ويؤمنون بآلهة العلم والتكنولوجيا‪ ،‬وولوا وجوههم شطر شمس الغرب‪،‬‬
‫صدق على‬‫فهذا بحث تاريخي ليس إلَّ‪ ،‬وان كان ل يزال مستم اًر‪ ،‬فهو شاهد ْ‬
‫أشراط الساعة التي يأتي بها سيدنا عيسى المسيح ‪ ‬أثناء أو إثر الحرب‬
‫ِ ِ‬
‫ط هِهُر َك م َن َّالذ َ‬
‫ين َك َفُروْا‪ :﴾...‬اآلية هذه‪ ،‬وعد من‬ ‫العالمية المطهرة مباشرة‪َ ..﴿ :‬و ُم َ‬
‫ِّّ‬
‫المصرين على الكفر‪،‬‬ ‫يطهره من الكفار‬ ‫هللا تعالى لسيدنا عيسى ‪ ،‬بأنه عندها ِّ‬
‫ّ‬
‫ورافع شأنه على العالمين‪ ،‬وشأن أتباعه إثر ظهوره‪ ،‬والى يوم القيامة‪ ..﴿ :‬وج ِ‬
‫اع ُل‬ ‫ََ‬
‫ام ِة‪ :)1(﴾..‬أي إثر ظهوره المرتقب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َك َفُروْا إَلى َي ْومِ اْلقَي َ‬
‫ِ‬
‫ق َّالذ َ‬
‫ِ‬
‫َّالذ َ‬
‫ين َّاتَب ُع َ‬
‫وك َف ْو َ‬
‫تمت أشراط ظهوره ‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬وقد َّ‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)55‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 133‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫زخرفة األرض‬
‫اختَل َ ِ‬ ‫اه ِم َن َّ‬ ‫قال تعالى‪ِ﴿ :‬إَّنما م َثل اْلحي ِ‬
‫ط ِبه َنَب ُ‬
‫ات‬ ‫الس َماء َف ْ َ‬ ‫َنزْلَن ُ‬
‫الدْنَيا َك َماء أ َ‬ ‫اة ُّ‬ ‫َ َ ُ ََ‬
‫َهُل َها‬ ‫ض ُز ْخُرَف َها َو َّازَّيَن ْت َو َ‬
‫ظ َّن أ ْ‬ ‫ِ‬
‫َخ َذت األَْر ُ‬ ‫ام َح َّت َى ِإ َذا أ َ‬ ‫ض ِم َّما َيأ ُْك ُل َّ‬‫األَْر ِ‬
‫اس َواألَ ْن َع ُ‬
‫الن ُ‬
‫اها َح ِص ًيدا َكأَن َّل ْم َت ْغ َن ِباأل َْم ِ‬ ‫ِ‬
‫س‬ ‫ار َف َج َعْلَن َ‬
‫َمُرَنا َلْيالً أ َْو َن َه ًا‬ ‫أََّن ُه ْم َقادُرو َن َعَلْي َهآ أ ََت َ‬
‫اها أ ْ‬
‫ات لَِق ْوم َي َت َف َّكُرو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫َك َذلِك ُن َف ِصل اآلي ِ‬
‫َ ه ُ َ‬
‫إن األرض أخذت زخرفها‪ ،‬فقد ازيَّنت القرى والمدن باألضواء الكهربائية‬
‫الملونة‪ .‬وتزينت األرض في البناء الشامخ المزخرف‪ ،‬والمفروشات الوثيرة‪ ،‬وأقيمت‬
‫الشوارع وعلى حافتيها المتاجر والمعارض المزينة بالزخارف (الديكورات)‪ ،‬ثم‬
‫خرجت النساء بأجمل زينة وأعظم فتنة‪َّ ،‬‬
‫وطلقت اآلداب الدينية والحياء والحشمة‬
‫بالثالث‪ .‬وراحت تحاكي الرجال في اللباس‪ ،‬كما أخذت الرجال تحاكي النساء‬
‫أيضاً‪ ،‬بتطويل الشعور وارخاء السوالف‪ ،‬واللباس الملون‪ .‬وقد بين الرسول الكريم‬
‫ﷺ أن من عالمات الساعة أن تخرج النساء كاسيات عاريات‪ ،‬مائالت مميالت‪،‬‬
‫قصة الشعر هي ما يدعونه‬ ‫على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف‪( ،‬وموضة ّ‬
‫بالسد العالي) فالعنوهن‪ ،‬ألنهن ملعونات‪ ،‬ومن عالماتها أيضاً أنه قال ﷺ‪:‬‬
‫ّ‬
‫(تتشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء) (‪.)2‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وقال أيضاً‪(:‬أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)‬
‫ولم يقتصر الزخرف على أماكن اللهو والبيع‪ ،‬بل إلى المعابد أيضاً‪ ،‬فجعلت عملياً‬
‫كالمتاحف‪ ،‬يزورها المؤمن بالدين والكافر به (كمتحف أثري) بدل تخصيصها‬
‫للعبادة‪ ،‬وألمور صالح المسلمين‪ .‬وتلك أيضاً من عالمات الساعة‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة يونس اآلية (‪)24‬‬


‫(‪ _ )2‬أخرجه أبو نعيم في الحلية‪.‬‬
‫(‪ _ )3‬أخرجه النسائي رقم‪./4988/‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 134‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لقد بلغت شمس الحضارة بدءاً من القرن الماضي والى اآلن‪ ،‬كبد السماء‬
‫المادي‪ ،‬وتقدم العلم لسيما التكنيك منه‪ ،‬تقدماً هائالً‪ ،‬فخرجت الدنيا في أجمل‬
‫وأبهى حلة‪ ،‬فأنَّى لهم اإليمان وكيف؟ وهم الذين يحلمون بأن يسيطروا على‬
‫َهُل َها أََّن ُه ْم َق ِادُرو َن‬
‫ظ َّن أ ْ‬
‫الطبيعة‪ ،‬بعد أن ظنوا أنهم سيطروا على األرض‪َ ..﴿ :‬و َ‬
‫اها‬
‫َعَلْي َهآ‪﴾...‬فإذا بلغت البشرية هذا الحد‪ ،‬فإن هللا من بعد ذلك يقول‪ ..﴿ :‬أ ََت َ‬
‫ار‪ :﴾...‬أي ينزل البالء العمومي ليالً على بالد الشرق‪ ،‬ونها اًر‬
‫ال أ َْو َن َه ًا‬
‫َمُرَنا َلْي ً‬
‫أْ‬
‫على بالد الغرب‪ ،‬في النصف الثاني من الكرة األرضية‪.‬‬
‫هذا وقد فصل هللا تعالى في سورة الزخرف‪ ،‬كيفية تسخير ما في األرض لهم إذا‬
‫أصبحت الناس أمة واحدة‪ِّ ،‬قبلتُهم الدنيا وزخرفها‪ ،‬وليس أمة واحدة ِّقْبلتُهم اآلخرة‬
‫ونعيمها‪ ،‬وبالتالي تتبعهم الدنيا صاغرة بإذنه تعالى‪ ،‬وكما ورد في اآليات‬
‫الر ْح َم ِن لُِبُيوِت ِه ْم‬
‫اح َد ًة َل َج َعْلَنا لِ َمن َي ْك ُفُر ِب َّ‬
‫ُم ًة و ِ‬
‫اس أ َّ َ‬ ‫التالية‪َ ﴿ :‬وَل ْوَال أَن َي ُكو َن َّ‬
‫الن ُ‬
‫ُسُق ًفا ِهمن َف َّضة َو َم َع ِار َج َعَلْي َها َي ْظ َهُرو َن‪َ ،‬ولُِبُيوِت ِه ْم أَْب َو ًابا َو ُسُرًار َعَلْي َها َي َّت ِك ُؤو َن‪،‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وُز ْخرًفا واِن ك ُّل َذلِك َل َّما م َتاع اْلحي ِ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫الدْنَيا َو ْاآل ِخَرُة ع َ‬
‫ند َرهِب َك لْل ُم َّتق َ‬ ‫اة ُّ‬ ‫َ ُ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ ُ‬
‫فقوله تعالى باآلية‪ ..﴿ :‬لُِبُيوِت ِه ْم ُسُق ًفا ِهمن َف َّضة‪ :﴾...‬مما نراه اآلن من ديكورات‬
‫الفضية الخالَّبة‪َ ..﴿ :‬و َم َع ِار َج َعَلْي َها‬ ‫ّ‬ ‫السقوف الصطناعية الرائعة‪ ،‬ذات األلوان‬
‫َي ْظ َهُرو َن﴾‪" :‬المعارج هي المصاعد باألبنية‪ ،‬ويطلق عليها لفظ مصاعد أو معارج لغ ًة"‪:‬‬
‫﴿‪َ ..‬عَلْي َها َي ْظ َهُرو َن﴾‪ :‬أي يصعدون‪َ ﴿ :‬ولُِبُيوِت ِه ْم أَْب َو ًابا‪ :﴾..‬البيوت لغ ًة‪ :‬الغرف‪.‬‬
‫والمنازل‪ :‬الدور‪ ،‬فالغرف بالبيوت العربية ذات باب واحد‪ ،‬أما في األبنية‪ ،‬فللغرفة عدة‬
‫أبواب مثالً‪ :‬باب للبلكون‪ ،‬وباب لغرفة الستقبال‪ ،‬وباب للمطبخ‪ ،‬وما إلى ذلك‪..﴿ :‬‬
‫وسر ار‪ :﴾...‬أي ِّ‬
‫األسَّرة الفخمة الفاخرة‪ ،‬في الموبيليا العصرية الحديثة‪..﴿ :‬‬ ‫َ ًُُ‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة الزخرف اآليات (‪)35 -33‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 135‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫َوُز ْخُرًفا‪ :﴾...‬ديكورات وما أدراك بروعتها وتكاليفها لحياة فانية‪ ،‬أنست البشرية الحياة‬
‫الراقية األبدية في الجنات‪.‬‬
‫لقد أرسل هللا إلى العالم عدداً من اإلنذارات‪ ،‬وألواناً من العذاب‪ ،‬كالحروب وما‬
‫إليها كما ألمحنا سابقاً‪ ،‬ولكنهم نسوا ذلك‪ ،‬وأقبلوا على الدنيا بكل ما لديهم من طاقات‪.‬‬
‫قال ﷺ‪( :‬اقتربت الساعة وال يزداد الناس على الدنيا إال حرصاً‪ ،‬وال يزدادون‬
‫من هللا إال بعداً) (‪ .)1‬ولما نسوا ما ِّّ‬
‫ذكروا به‪ ،‬فتح هللا عليهم كنوز األرض‪ ،‬فال بد‬
‫بعد ذلك من أن يأخذهم بغتة‪ ،‬وهم مبلسون‪.‬‬
‫اختَل َ ِ‬ ‫اه ِم َن َّ‬ ‫إذن‪ِ﴿ :‬إَّنما م َثل اْلحي ِ‬
‫ات‬‫ط ِبه َن َب ُ‬ ‫الس َماء َف ْ َ‬ ‫َنزْل َن ُ‬ ‫اة ُّ‬
‫الد ْن َيا َك َماء أ َ‬ ‫َ َ ُ ََ‬
‫ض ‪ : ﴾...‬واآلن هكذا حال الدنيا ‪ ،‬وهذا مثال عن الساعة التي ستقع غداً‪:‬‬ ‫األ َْر ِ‬
‫ض ُز ْخُرَف َها‪ :﴾..‬طيارات‪،‬‬ ‫ام َح َّت َى ِإ َذا أَ َخ َذ ِت األ َْر ُ‬ ‫اس َواألَ ْن َع ُ‬ ‫الن ُ‬ ‫ْك ُل َّ‬ ‫﴿‪ِ ..‬م َّما َيأ ُ‬
‫سيارات‪ ،‬أبنية‪ ،‬قصور‪ ،‬هواتف‪ ...‬كل شيء على أتمه‪ :‬الدنيا كاملة ﴿‪...‬‬
‫َهُل َها أََّن ُه ْم َق ِادُرو َن َعَل ْي َهآ‪ :﴾...‬ظنوا‬ ‫َو َّازَّيَن ْت‪ :﴾..‬بأنوار الكهرباء‪َ ..﴿ ...‬و َ‬
‫ظ َّن أ ْ‬
‫َمُرَنا‪:﴾..‬‬ ‫اها أ ْ‬
‫أنهم بعملهم سيطروا على الطبيعة فأشاحوا عن مالك الملك‪ ..﴿ :‬أ ََت َ‬
‫ار‪ :﴾...‬ليالً على الشرق ونها اًر على الغرب‪...﴿ .‬‬ ‫بالهالك‪َ ..﴿ :‬ل ْيالً أ َْو َن َه ًا‬
‫س‪ :﴾...‬كأنها ما كانت‪.‬‬ ‫يدا َكأَن َّل ْم َت ْغ َن ِباأل َْم ِ‬ ‫اها َح ِص ً‬ ‫َف َج َعْل َن َ‬
‫ات لِ َق ْوم َي َت َف َّكُرو َن﴾‪ :‬ول يفيد شيئاً من هذا من ل يفكر‪ ،‬إن‬ ‫﴿‪َ ...‬ك َذلِك ُن َف ِصل اآلي ِ‬
‫َ ه ُ َ‬
‫السالَمِ‪ :﴾...‬دار األمان والراحة‪َ ..﴿ :‬وَي ْهِدي‬ ‫ّللا َيْد ُعو ِإَلى َد ِار َّ‬ ‫لم يفكر فال خير فيه‪َ﴿ :‬و ه ُ‬
‫َمن َي َشاء‪ :﴾..‬كل من شاء الهداية إليه‪ِ ..﴿ :‬إَلى ِصَراط ُّم ْسَت ِقيم﴾(‪ :)2‬والدعوة عامة‪ُ ﴿ :‬ق ْل‬
‫اك ْم َع َذ ُاب ُه َبَي ًاتا أ َْو َن َهاًار َّما َذا َي ْسَت ْع ِج ُل ِمْن ُه اْل ُم ْجِرُمو َن﴾(‪ :)3‬ماذا ترد عن نفسك؟‬
‫َرَْيُت ْم ِإ ْن أََت ُ‬
‫أَأ‬
‫ما يأتيك من البالء في ساعته؟ ماذا َّ‬
‫حضرت له؟ أترجو خي اًر يومها؟ هل تؤمن كما آمن‬

‫(‪ _ )1‬أخرجه الحاكم‪ ،‬عن ابن مسعود‪.‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة يونس اآليات(‪)25-24‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة يونس اآلية (‪)50‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 136‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فرعون؟! ماذا تفيد اإلنسان رجعته عند الهالك؟! أرسلك لتعمل العمل الطيب وعند البالء ل‬
‫فكر بهذا الكون وما فيه من آيات‬ ‫يبقى لك عمل‪ .‬أعطاك هللا أهلية عالية وضيعت‪ِّّ ،‬‬
‫ّ‬
‫عظيمة‪ ،‬لم هذه الدقة وهذا الترتيب؟ وهذه التحذيرات واإلنذارات كلها ألجلك لكي تفكر‪.‬‬
‫***‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 137‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ظهور الدخان‬
‫اس َه َذا‬ ‫السم اء ِب ُد َخان ُّم ِبين ‪َ ،‬ي ْغ َشى َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الن َ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬ف ْارَتق ْب َي ْو َم َت أْتي َّ َ‬
‫اب إِ َّنا ُم ْؤ ِم ُنو َن ‪ ،‬أ ََّن ى َل ُه ُم ال ِهذ ْكَرى َو َق ْد‬ ‫ف َع َّنا ا ْل َع َذ َ‬ ‫يم ‪َ ،‬رَّب َن ا ا ْك ِش ْ‬ ‫ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫َع َذ ٌ‬
‫اب‬‫اش ُفو ا ْل َع َذ ِ‬‫ين‪ ،‬ثُ َّم َتوَّلوا ع ْن ُه و َق اُل وا مع َّلم َّم ْج ُنو ٌن‪ ،‬إِ َّنا َك ِ‬ ‫ول ُّم ِب ٌ‬
‫َُ ٌ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫اءه ْم َر ُس ٌ‬ ‫َج ُ‬
‫نت ِق ُمو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫يال إِ َّن ُك ْم َع ِائ ُدو َن‪َ ،‬ي ْو َم َن ْب ِط ُ‬
‫ش ا ْل َب ْط َش َة ا ْل ُك ْب َرى إِ َّن ا ُم َ‬ ‫َق لِ ً‬
‫تبين لنا هذه اآليات الكريمة‪ ،‬أن الدخان الذي يغشى الناس‪ ،‬فيه عذاب أليم‪ ،‬هو‬
‫من غير شك دخان القنابل‪ ،‬ودخان الغازات السامة‪ ،‬ثم دخان حرائق الغابات‬
‫الكبيرة‪ ،‬ودخان الحرائق التي تحدثها النفجارات‪ ،‬على منطقة معينة محدودة‪ ،‬من‬
‫كثرة الحروب‪ ،‬والغازات المتصاعدة من المعامل والسيارات‪ ،‬في كل أنحاء المعمورة‪،‬‬
‫حتى أن قادة العالم الكبار اجتمعوا ألكثر من مرة إليجاد حلول لهذه المشكلة الكبيرة‪،‬‬
‫ووقعوا على اتفاقيات‪ ،‬ومنهم من لم يوقع‪ ،‬وكلما اجتمعوا على حل هذه المعضلة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫يخرجون مختلفين‪ ،‬ومن آثارها السلبية على صحة اإلنسان والحيوان والنبات أيضاً‬
‫(كتلوث البيئة والحتباس الحراري) حتى بدأت‬
‫ُّ‬ ‫آثا اًر سيئة على الجو وارتفاع الح اررة‬
‫الثلوج في القطبين بالذوبان‪ ،‬وبهذه التغيرات المناخية المفاجئة‪ ،‬نتيجة هذا الدخان‬
‫أصيب الناس بكثير من األمراض الحساسة‪ ،‬وخاصة األمراض الصدرية‪ ،‬والجهاز‬
‫التنفسي واألمراض الجلدية‪ .‬وظهور الدخان أيضاً في األماكن الساخنة بالحروب‬
‫والفتن من جراء القنابل والمتفجرات‪ ،‬يجعل الناس يستغيثون بربهم‪ ،‬ليكشف عنهم‬
‫البالء‪ .‬إذ من بعد ظهور الدخان فإن العذاب سينكشف قليالً‪ ،‬ألن هذه المنطقة التي‬
‫غشاها الدخان قد تضرع سكانها إلى هللا‪ ،‬وتعهدوا أن يؤمنوا به‪ ،‬بعد أن يكشف‬
‫عنهم العذاب‪ .‬ولكن ادعاءهم هذا ل يلبث طويالً‪ ،‬وأنهم سوف يعودون إلى ما كانوا‬
‫عليه‪ .‬وعندئذ سوف يكون انتهاؤهم مع من ينتهون يوم يبطش بطشة الساعة‪ ،‬قال‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة الدخان اآليات (‪)16 -10‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 138‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫نت ِق ُمو َن﴾(‪ :)1‬وتلك األشراط قد ظهرت‬ ‫تعالى‪َ﴿ :‬ي ْوَم َنْب ِط ُ‬
‫ش اْلَب ْط َش َة اْل ُكْبَرى ِإَّنا ُم َ‬
‫جميعها‪.‬‬
‫والى جانب هذه األشراط الكبرى‪ ،‬توجد أشراط ثانوية نذكر منها‪:‬‬
‫كتاب هللا عا اًر "إذا طبقه المؤمن فيعيرونه وخاصة‬
‫(ال تقوم الساعة حتى ُيجعل ُ‬
‫الختالط على كافة األوجه"‪ .‬ويكون اإلسالم غريبًا‪ ،‬حتى تبدو الشحناء بين الناس‪،‬‬
‫وحتى ُيقبض العلم " العلم‪ :‬المقصود به هنا العلم بأسماء هللا الحسنى" ويؤتمن‬
‫ويصدَّق الكاذب‪ ،‬ويك هذب الصادق‪ ،‬وحتى تبنى الغرف‬ ‫التهماء‪َّ ،‬‬
‫ويتهم األمناء‪ُ ،‬‬
‫فتتطاول‪ ،‬ويظهر البغي والحسد والشح‪ ،‬ويتبع الهوى‪ ،‬ويقضى بالظن‪ ،‬ويغيض‬
‫العلم غيضاً‪ ،‬ويفيض الجهل فيضاً‪ ،‬ويكون الولد غيظاً‪ ،‬والشتاء قيظاً‪ ،‬ويقوم‬
‫الخطباء بالكذب فيجعلون حقي لشرار أمتي‪ ،‬ويقل الصدق‪.)2( ).‬‬
‫(يأتي على الناس زمان ال يتبع فيه العالِم‪ ،‬وال يستحيا فيه من الحليم‪ ،‬وال‬
‫يوقر فيه الكبير‪ ،‬وال يرحم فيه الصغير‪ ،‬يقتل بعضهم بعضاً على الدنيا‪ ،‬قلوبهم‬
‫قلوب األعاجم‪ ،‬وألسنتهم ألسنة العرب‪ ،‬ال يعرفون معروفاً‪ ،‬وال ينكرون منك اًر‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫أولئك شرار خلق هللا‪ ،‬ال ينظر هللا إليهم يوم‬ ‫يمسي الصالح فيه مستخفياً‬
‫القيامة) (‪.)4‬‬
‫من عالمات اقتراب الساعة‪( :‬أن يصلي خمسون نفساً‪ ،‬ال تقبل ألحد منهم‬
‫صالة(‪.)6())5‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة الدخان اآلية (‪)16‬‬


‫(‪ _ )2‬كنز العمال رقم ‪../38577 /‬‬
‫(‪ _ )3‬استخفاء المؤمن‪ :‬ناتج عن تجنبه االختالط في مجتمع شبه عار لكيال يؤذى من رائحة الفاحشة‪ ،‬فيتجنب مجتمعا ً عار عن الفضائل والخير‬
‫مصر على الرذيلة إصراراً‪.‬‬
‫(‪ _ )4‬كنز العمال رقم‪./31187/‬‬
‫(‪ _ )5‬ألن الصالة في حقيقتها صلة بين العبد وربه‪ ،‬ولكن صلة نفوس هؤالء المصلين محصورة في الدنيا‪ ،‬يقفون بالصالة ساهية قلوبهم الهية‬
‫أفكارهم متجهة إلى أهلهم وأعمالهم‪ ،‬محجوبة عن ربهم بأعمالهم السيئة‪.‬‬
‫(‪ _ )6‬الجامع الصغير رقم‪./2481/‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 139‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فصالتهم ظاهرية ل قلبية كأنه أمر تعبدي قسري فهم ل يشعرون َّ‬
‫بلذتها‪.‬‬
‫في آخر الزمان‪( :‬ما يبقى من القرآن إال رسمه وال من اإلسالم إال اسمه)(‪،)1‬‬
‫(تكون المشورة لإلماء ويخطب على المنابر الصبيان وتكون المخاطبة للنساء‪،‬‬
‫فعند ذلك تزخرف المساجد‪ ،‬كما تزخرف الكنائس والبيع‪ ،‬وتطول المنابر وتكثر‬
‫الصفوف‪ ،‬مع قلوب متباغضة وألسن مختلفة وأهواء جمة‪ ،‬يكون المؤمن فيهم‬
‫أذل من األمة يذوب قلبه في جوفه كما يذوب الملح في الماء مما يرى من‬
‫المنكر فال يستطيع أن يغيره‪ ،‬ويكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء‪ ،‬ويغار‬
‫على الغلمان كما يغار على الجارية البكر) (‪.)2‬‬
‫أما صدق رسول هللا ﷺ في كل هذا‪ ،‬أما كان قوله هو الفصل وليس بالهزل!‬
‫(من اقتراب الساعة إذا رأيتم الناس أضاعوا الصالة وأضاعوا األمانة‪،‬‬
‫الرشا‪ ،‬وشيدوا البناء‪ ،‬وباعوا الدين بالدنيا‪،‬‬
‫واستحلوا الكبائر‪ ،‬وأكلوا الربا‪ ،‬وأكلوا ه‬
‫القينات‪ ،‬واستحلت‬‫واتخذوا القرآن مزامير‪ ،‬وقلت العلماء‪ ،‬وكثر القراء‪ ،‬واتخذوا هِ‬
‫المعازيف‪ ،‬وشربت الخمور‪ ،‬وعطلت الحدود‪ ،‬وشاركت المرأة زوجها في التجارة‪،‬‬
‫وتشبهت النساء بالرجال‪ ،‬والرجال بالنساء (أي‪ :‬بكثير من األعمال واللباس)‬
‫ويحلف بغير هللا (ويحلف الناس بعقائدهم المادية ومشتهياتهم)‪ ،‬وكانت الزكاة‬
‫وقرب صديقه‪ ،‬وأقصى‬ ‫وعق أمه‪ ،‬ه‬
‫َّ‬ ‫مغرماً‪ ،‬واألمانة مغنماً‪ ،‬وأطاع الرجل امرأته‪،‬‬
‫آخر هذه األمة أولها)‬ ‫أباه‪ ،‬وضيعتم حق هللا في أموالكم‪ ،‬و ُ ِ‬
‫وسب ُ‬
‫َّ‬ ‫ف المكاييل‪،‬‬ ‫طهف َ‬ ‫ه‬
‫(‪ :)3‬وهذا ما نلحظه اليوم بشكل علني‪ .‬ومن عالماتها كثرة الحروب الحاصلة في‬
‫هذا الزمان والفتن‪ ،‬كثُر القتل واراقة الدماء‪ .‬وقد أشار الرسول ﷺ‪( :‬والذي نفسي‬

‫(‪ _ )1‬كنز العمال ج‪ 11‬رقم‪./31135/‬‬


‫(‪ _ )2‬أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫(‪ _ )3‬رواه الديلمي عن أمير المؤمنين علي كرم هللا وجهه‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 140‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫بيده ال تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم ال يدري القاتل فيما َق َت َل وال‬
‫المقتول فيما ُقتل)(‪ )1‬أي ُيزُّجون في القتال زّجاً‪ ،‬أو إشارة للمرتزقة في الجيوش‪.‬‬
‫ومن أشراط الساعة أن‪:‬‬
‫(يظهر الفحش والتفحش وسوء الخلق وسوء الجوار) (‪ :)2‬واليوم الكل يشكون‬
‫من األخالق السيئة ومن سوء الجوار‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪( :‬في آخر الزمان إذا لم تنل المعيشة إال بمعصية هللا‪ ،‬فإذا كان‬
‫العزبة‪ ،‬يكون في ذلك الزمان هالك الرجل على يد أبويه‪ ،‬إذا كان له‬‫كذلك حلت ُ‬
‫أبوان واال فعلى يد زوجته وولده‪ ،‬واال فعلى يدي األقارب والجي ارن‪ .‬يعيرونه‬
‫بضيق المعيشة ويكهلِفونه ما ال يطيق‪ ،‬حتى يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها)‬
‫(‪.)3‬‬
‫(يكون في آخر الزمان عباد جهال َّ‬
‫وقراء فسقة) (‪.)4‬‬
‫(ال تقوم الساعة حتى يقوم الخطباء بالكذب فيجعلون حقي لشرار أمتي فمن‬
‫صدقهم بذلك ورضي به لم يرح رائحة الجنة) (‪.)5‬‬
‫وهذا ما يقوله بعض الخطباء للناس أن رسول هللا ﷺ سيشفع للعصاة منهم يوم‬
‫القيامة (شفاعتي ألهل الكبائر من أمتي)‪ .‬يمنونهم بهذه األماني الكاذبة‪ .‬وقال ﷺ‪:‬‬
‫فش َّو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة‪ ،‬وقطع‬
‫(إن بين يدي الساعة ُ‬
‫وفش َّو القلم‪ ،‬وظهور الشهادة بالزور‪ ،‬وكتمان شهادة الحق)(‪.)6‬‬
‫األرحام‪ُ ،‬‬

‫(‪ _ )1‬صحيح مسلم رقم‪./2010/‬‬


‫(‪ _ )2‬أخرجه ابن أبي شيبة‪.‬‬
‫(‪ _ )3‬كنز العمال‪./11/154/‬‬
‫(‪ _ )4‬أبو نعيم‪14/222/‬م‪.‬‬
‫(‪ _ )5‬أخرجه البخاري‪.‬‬
‫(‪ _ )6‬أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 141‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وكذلك قال ﷺ‪( :‬ال تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما‬
‫مقتلة عظيمة دعواهما واحدة "الحرب العالمية الثالثة بين الشرق والغرب" وحتى‬
‫يقبض العلم "العلم بال إلٓه إل هللا وبأسمائه تعالى الحسنى‪..‬‬
‫"وتكثر الزالزل" وها نحن اليوم نرى ونسمع عن هذه الزلزل في كل الدول‪ ،‬ما‬
‫ظهر معشارها باألجيال البشرية السابقة"‪ .‬ويتقارب الزمان " تقارب الزمان يتم بواسطة‬
‫السيارة والطائرة" وتظهر الفتن ويكثر الهرج "القتل" وحتى يكثر فيكم المال "من ثروات‬
‫باطنية كالبترول والمعادن الثمينة وغيرها"‪ ...‬وحتى يتطاول الناس في البنيان‪ ،‬وحتى‬
‫يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه "لهول األحداث والضيق العام بزلزل‬
‫الساعة" وحتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون‬
‫يماُن َها َل ْم َت ُك ْن‬‫ِ‬
‫"بوجهتهم نحو شمس الحضارة الغربية" وذلك حين ﴿‪ ...‬الَ َينَف ُع َن ْف ًسا إ َ‬
‫يم ِان َها َخْيًار‪" .)1(﴾...‬وذلك حين وقوع ساعة البالء‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمَن ْت من َقْب ُل أ َْو َك َسَب ْت في إ َ‬
‫َ‬
‫"ولتقومن الساعة وقد نشر الرجالن ثوبهما بينهما فال يتبايعانه وال يطويانه‪ .‬ولتقومن‬
‫الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته " الناقة الحلوب" فال َيطعمه) (‪ ،)2‬وكلها تدل أن‬
‫قيام الساعة بغتة وهم مبلسون‪.‬‬
‫قال ﷺ‪( :‬ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير "والمقصود ِّ‬
‫بالح َر‪:‬‬
‫الف ْرْج‪ ،‬وهو دللة على تفشي الزنا بدون حرج"‪ .‬والخمر والمعازف)(‪ :)3‬استحالل‬
‫َ‬
‫األغاني والمعازف‪.‬‬
‫قال ﷺ‪ …( :‬وأن تتخذ المساجد طرقاً‪ ،‬وأن يظهر موت الفجأة) (‪ ،)4‬أي يمر‬
‫الرجل في المسجد مرو اًر ل يصلي فيه‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنعام اآلية (‪)158‬‬


‫(‪ _ )2‬أخرجه البخاري رقم‪./5268/‬‬
‫(‪ _ )3‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫(‪ _ )4‬الطبراني في األوسط عن أنس‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 142‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫(يوشك األمم أن تداعى عليكم كما تداعى األكلة إلى قصعتها) (‪.)1‬‬
‫أما وصية الرسول ﷺ لمن شاء أن ينجو في دينه فهي‪:‬‬
‫(كيف بك إذا بقيت بين حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم‪،‬‬
‫فبم تأمرني؟ قال‪ :‬إلزم بيتك‪،‬‬
‫واختلفوا‪ ،‬كانوا هكذا؟ "وشبك بين أصابعه" قال‪َ :‬‬
‫وأمسك لسانك‪ ،‬وخذ ما تعرف‪ ،‬ودع ما تنكر‪ ،‬وعليك بأمر خاصة نفسك‪ ،‬ودع‬
‫عنك أمر العامة) (‪.)2‬‬
‫لقد جاء ذكر للساعة في اإلنجيل أيضاً‪ ،‬وهذا أمر بديهي أن يذكر السيد‬
‫المسيح أشراط الساعة‪ ،‬ألنه هو المعني باألمر‪ ،‬وهو المأمور بإعالء كلمة هللا في‬
‫األرض لهذه الفترة‪ ،‬والى يوم القيامة‪ ،‬بإمداد من هللا تعالى‪ .‬وقد فهمت النصارى‬
‫كما فهم المسلمون خطأً بأن الساعة التي يأتي بها هي ساعة يوم القيامة‪.‬‬
‫والسؤال هنا ما الفائدة من مجيء الرسول عند يوم القيامة؟! أما انتهت فترة‬
‫المتحان؟ أما ينتظر الناس ليؤتى كل إنسان كتابه‪ .‬إما بيمينه واما بشماله؟ وما‬
‫فائدة النصح‪ ،‬وهل تنفع الموعظة عندئذ؟ أما كشف الغطاء وأصبح البصر يومئذ‬
‫حديد؟!‬
‫لقد سئل السيد المسيح من قبل تالميذه عندما كان جالساً على جبل الزيتون‬
‫(‪،)3‬‬
‫عن عالمة مجيئه وانقضاء الدهر‪ ،‬جملة انقضاء الدهر ل تعني يوم القيامة‬
‫فأجابهم عن األشراط التي تسبق الساعة‪ ،‬ثم وصف لهم الساعة وهولها فقال‪:‬‬
‫( فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان‬
‫المقدس‪ ،‬ليفهم القارئ‪ ،‬حينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال‪ ،‬والذي على‬

‫(‪ _ )1‬أخرجه البخاري‪.‬‬


‫(‪ _ )2‬رواه أبو داود عن عبد هللا بن عمرو بن العاص‪.‬‬
‫(‪ _ )3‬المقصود بانقضاء الدهر‪ :‬الفترة بين زمنه ذاك وذهابه وأمه لربوة ذات قرار ومعين وعودته ثانية لمسح الشرور من على وجه البسيطة‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 143‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫السطح فال ينزل ليأخذ من بيته شيئاً‪ ،‬والذي في الحقل فال يرجع إلى ورائه‬
‫ليأخذ ثيابه‪ ،‬وويل للحبالى والمرضعات في تلك األيام‪.)1( )...‬‬
‫أما قوله والذي على السطح فال ينزل ليأخذ من بيته شيئاً والذي‪ ...‬كناية عن‬
‫المباغتة والذهول الذي يصيب الناس حين وقوعها‪ .‬وهذا القول الذي ورد في‬
‫اها ُق ْل ِإَّن َما ِعْل ُم َها‬ ‫الس ِ‬
‫ان ُمْر َس َ‬ ‫اإلنجيل يوافق معنى اآلية‪َ﴿ :‬ي ْسأَُلوَن َك َع ِن َّ َ‬
‫اعة أََّي َ‬
‫ض الَ َتأ ِْت ُ‬
‫يك ْم ِإالَّ َب ْغ َت ًة‬ ‫ات َواألَْر ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِعند رِبي الَ يجهلِ ِ ِ‬
‫يها ل َوْقت َها إِالَّ ُه َو َثُقَل ْت في َّ َ َ‬
‫َُ َ‬ ‫َ َه‬
‫اس الَ‬ ‫الن ِ‬ ‫يسأَُلوَنك َكأََّنك ح ِفي عْنها ُقل ِإَّنما ِعْلمها ِعند ِ‬
‫ّللا َوَل ِك َّن أَ ْك َثَر َّ‬
‫َ ه‬ ‫َُ‬ ‫َ َ ٌّ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫َي ْعَل ُمو َن﴾(‪.)2‬‬
‫وأما قوله‪( :‬وويل للحبالى والمرضعات في تلك األيام)‪ :‬وهذا أيضاً يوافق معنى‬
‫ِ‬ ‫الس ِ‬
‫يم‪َ ،‬ي ْوَم َتَر ْوَن َها‬
‫اعة َش ْي ٌء َعظ ٌ‬ ‫اس َّاتُقوا َرَّب ُك ْم ِإ َّن َزْل َزَل َة َّ َ‬
‫الن ُ‬‫اآلية‪َ﴿ :‬يا أَُّي َها َّ‬
‫اس ُس َك َارى‬ ‫َت ْذهل ُك ُّل مر ِضعة ع َّما أَر َضع ْت وَت َضع ُك ُّل َذ ِ‬
‫ات َح ْمل َح ْمَل َها َوَتَرى َّ‬
‫الن َ‬ ‫ُْ َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َُ‬
‫يد﴾(‪.)3‬‬ ‫ّللا َش ِد ٌ‬ ‫وما هم ِبس َكارى وَل ِك َّن ع َذاب َّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ ُ ُ َ َ‬
‫وجاء في اإلصحاح رقم‪ /21/‬قوله‪:‬‬
‫(ألنه يكون حينئذ ضيق عظيم ولم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى اآلن ولن‬
‫يكون)‪.‬‬
‫َمُّر﴾(‪.)4‬‬
‫اع ُة أَْد َهى َوأ َ‬ ‫اع ُة َم ْو ِعُد ُه ْم َو َّ‬
‫الس َ‬ ‫واآلية الكريمة التي تؤيد هذا القول‪َ﴿ :‬ب ِل َّ‬
‫الس َ‬
‫إن القول الذي ذكرناه آنفاً على لسان السيد المسيح ل يعني به يوم القيامة‪،‬‬
‫وانما يشير إلى الساعة‪ ،‬والبالء الذي تم التحدث عنه في كتابنا هذا ع َّما يسبق‬
‫ظهوره ‪ ‬من تطهير األرض من الفساد والمفسدين‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬اإلصحاح الرابع والعشرون انجيل متى‪.‬‬


‫()‪ _ 2‬سورة األعراف اآلية (‪)187‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الحج اآلية (‪)12‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة القمر اآلية (‪)46‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 144‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ويبين ذلك قول السيد المسيح نفسه‪:‬‬
‫ّ‬
‫(ألنه كما كانوا في األيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون‬
‫ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ‬
‫الجميع كذلك يكون مجيء ابن اإلنسان "أي هو نفسه ابن سيدنا آدم عليهما‬
‫السالم" حينئذ يكون اثنان في الحقل يؤخذ الواحد ويترك اآلخر‪ ،‬اثنتان تطحنان‬
‫على الرحى تؤخذ الواحدة وتترك األخرى)‪ .‬فإذا كان الحديث عن يوم القيامة فإن‬
‫هللا يأخذ الجميع فال يأخذ الواحد ويترك اآلخر أو يأخذ الواحدة ويترك األخرى‪.‬‬
‫ومن قول السيد المسيح ‪ ‬هذا نستنتج استنتاجين‪:‬‬
‫االستنتاج األول‪ :‬لقد شبه السيد المسيح ‪ ‬الساعة بالطوفان‪.‬‬
‫عم قوم سيدنا نوح ‪ ‬وكانوا هم كافة البشر على وجه‬
‫ففي الطوفان الذي ّ‬
‫البسيطة‪ ،‬لم ينج منه إل أصحاب السفينة‪.‬‬
‫كذلك فإن هذا البالء المنتظر ل ينجو منه إل كل مؤمن‪ ،‬فلنكن منهم‪ ،‬بسلوك‬
‫طريق اإليمان‪ ،‬تكتب لنا النجاة‪ ،‬إلى عصر السعادة والسالم‪ ،‬وطوبى لمولود هذا‬
‫الزمان‪.‬‬
‫االستنتاج الثاني‪ :‬إن هذا الكالم ينفي القول القائل‪( :‬الرحمة مخصصة والبالء‬
‫يعم) وبمعنى آخر أن هللا ل يأخذ الصالح بسيئات الطالح‪ .‬وقد ذكر هذا الستنتاج‬
‫سابقاً‪ ،‬وذلك بسبب تفشي هذا القول وتقبله على كافة المستويات وحتى الدينية منها‪.‬‬
‫جراء ما َّقدمت يداه‪ ،‬وغير ذلك كلها‬ ‫فالقرآن الكريم يبين أن ما يصيب اإلنسان هو َّ‬
‫ظَّالم هلِْلعِب ِ‬
‫يد﴾(‪.)1‬‬ ‫ظنون سيئة باهلل تعالى‪ ،‬نسفها القرآن الكريم نسفاً‪َ ..﴿ :‬و َما َرُّب َك ِب َ‬
‫َ‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة فصلت اآلية (‪)46‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 145‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الفصل الراِع‬
‫في هذا الفصل‪:‬‬
‫عودة السيد المسيح ‪ ‬ودالئل عودته من القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ما هي النفس؟ وأين مركز وجودها؟ وما هي وظيفتها؟‬ ‫‪‬‬
‫ما هي الروح؟‬ ‫‪‬‬
‫نظام خروج اإلنسان إلى هذا العالم‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الدليل األول على عودة السيد المسيح ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫معنى التوفي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ما هو السبب في توفي سيدنا عيسى ‪ ‬نوماً؟!‬ ‫‪‬‬
‫الدليل الثاني على عودة السيد المسيح ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وجاهة السيد المسيح ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الدليل الثالث على عودة السيد المسيح ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫انتهاء جوالت الباطل‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫طوبى لمولود هذا الزمان‬ ‫‪‬‬
‫***‬
‫عودة السيد المسيح ‪‬‬
‫قبل قيام الساعة أو أي بالء آخر‪ ،‬فإن هللا يرسل إلى الناس إنذارات وتحذيرات‪،‬‬
‫َّ‬
‫لعلهم يتنبهون من غفلتهم‪ ،‬ويصحون من سكرتهم‪ ،‬ثم يتداركون أمرهم من قبل أن‬
‫يحل بساحتهم العذاب‪ ،‬وقبل أن يقولوا ربنا أرجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا‬
‫نعمل‪.‬‬
‫ول تقتصر تلك التحذيرات على لسان الرسل فحسب‪ ،‬بل التنظيم الكوني‬
‫الصارم بدقته‪ ،‬الهادف في غايته‪ ،‬يحذرك أيضاً من أن هذه الحياة ما لها من‬
‫قرار‪ .‬فالمراحل التي يمر بها اإلنسان أو الحيوان‪ ،‬من ضعف إلى قوة‪ ،‬ومن قوة‬
‫إلى ضعف وشيبة‪ ،‬والنبات حينما يخرج غضاً‪ ،‬ثم يستغلظ ويستوي على سوقه‪ ،‬ثم‬
‫يصبح هشيماً تذروه الرياح‪ ،‬إن هي إل آيات محذرات مبينات لإلنسان‪ ،‬بأل‬
‫يطمئن ويركن إلى الحياة الدنيا‪ ،‬بل تطلب إليه بما تقدمه من المواعظ‪ ،‬أن يشمر‬
‫عن ساعد الجد‪ ،‬ويسعى لما هو مخلوق له‪ ،‬ألن األمر جد‪ ،‬وما هو بالهزل‪.‬‬
‫وما أشراط الساعة التي ذكرها الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬وظهرت اآلن‪ ،‬إل آيات‬
‫مبينات ألولي األلباب‪ ،‬الذين يبحثون عن لب األمور‪ ،‬ويذرون القشور‪ ،‬بأن هذه‬
‫الحضارة التي بنوها وارتضوا بها‪ ،‬سوف يأتي هللا بنيانها من القواعد‪ ،‬فيخر عليهم‬
‫السقف‪ .‬ذلك بأن هللا ل يأخذ القرى وأهلها غافلون‪ ،‬أما إذا أخذها وهي ظالمة بعد‬
‫وذكرها وأنذرها وبعث تعالى عليها من البالء ألواناً‪ ،‬فإن أخذه أليم شديد‪.‬‬
‫أن حذرها ّ‬
‫هذا ويجب أن ل تخدعنا األقوال بأن الدول التي تملك أسلحة الدمار ل يمكن‬
‫أن تستعملها‪ ،‬ألن في استعمالها حتفها‪ ،‬وهل يسعى اإلنسان إلى حفر قبره بيده‬
‫مثالً؟!‬
‫تلك أقوالهم‪ ،‬أما قول رب العالمين وقوانينه‪ ،‬فال تقاس بتلك العواطف‪ ،‬ول بتلك‬
‫األهواء‪ ،‬ألن لرب العالمين غاية سامية من وجودنا‪ ،‬أما إذا انحرفنا عن تلك‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 149‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الغاية‪ ،‬التي هي الحياة الطيبة بأسمى معانيها‪ ،‬فإن الهالك يصبح محققاً‪ ،‬وذلك‬
‫لكيال تزداد شرورنا‪ ،‬فيزداد ألمنا وحسرتنا يوم الدين‪.‬‬
‫فلو كانت الحياة طيبة في ظل هذه الحضارة‪ ،‬لما شاهدنا التبرم والضجر واأللم‬
‫والنتحار والحروب والبالءات الكبرى واألمراض المرعبة‪ ،‬من هذا النهج الذي‬
‫ارتضته البشرية لنفسها‪ .‬إن هللا أعلم بمن خلق‪ ،‬وأعلم بما يسعد أنفسهم‪ ،‬أوليس الذي‬
‫أبدع السماوات واألرض‪ ،‬وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة‪ ،‬بقادر أن يضع سنناً‬
‫تكفل لنا سعادة الدارين؟ بلى‪ ،‬وهو أهون عليه‪ ،‬ألنه هو أعلم بمن خلق‪ ،‬وأعلم بما‬
‫يسعد أنفسهم ويشقيها‪ ،‬ولكن خروج الناس‪ ،‬عما أنزل من الشرائع الكفيلة بسعادتها‬
‫ومنحها حياة طيبة‪ ،‬هو الذي سبب لهم النكبات‪ ،‬وسبب لهم األلم والشقاء‪ ،‬إذن‬
‫فالذنب ليس ذنب الدين اإللٓهي‪ ،‬ولكن الذنب ذنب الخارجين عن سننه المنزلة إلينا‪،‬‬
‫من أجل ذلك‪ ،‬يبعث هللا تعالى إليهم رسولً من أنفسهم‪ ،‬يتلو عليهم آياته وشرائعه‪،‬‬
‫ويأمرهم أن يطيعوا هللا ورسوله بتطبيق تلك الشرائع‪ ،‬ويحذرهم ويعظهم من الهالك‪،‬‬
‫إذا انحرفوا عنها واستبدلوها بشرائع من وحي أهوائهم‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫ُم َها َر ُسوًال َي ْتُلو َعَلْي ِه ْم‬ ‫ِ‬
‫ان َرُّب َك ُم ْهل َك اْلُقَرى َح َّتى َيْب َع َث في أ ه‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما َك َ‬
‫ظالِ ُمو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫آي ِاتَنا َو َما ُكَّنا ُم ْهلِ ِكي اْلُقَرى ِإَّال َوأ ْ‬
‫َهُل َها َ‬ ‫َ‬
‫والسيد المسيح (‪ )2‬هو رسول هذا العصر‪ ،‬وهو الذي أرجأه تعالى لهذه‬
‫الساعة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ول َّبد لنا قبل البدء بقصة سيدنا عيسى ‪ ‬من أن ّ‬
‫نقدم الكلمة التالية فنقول‪:‬‬
‫خلق هللا اإلنسان مركباً من عناصر ثالثة‪ :‬جسد ونفس وروح‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة القصص اآلية (‪)59‬‬


‫(‪ _ )2‬لكل رسول من الرسل الكرام أكثر من اسم‪ ،‬وكل اسم من أسمائهم يشير إلى معنى‪ ،‬فسيدنا محمد صلى هللا عليه وسلم مثالً له أسماء عدة‬
‫منها أحمد ألنه أحمد الخلق هلل‪ ،‬وسيدنا نوح ‪ ‬سمي بذلك لكثرة الحزن والنواح على قومه‪ ،‬وكذلك اسم المسيح إنما يعني بأنه سيمسح الكفر من‬
‫على وجه البسيطة بإذن هللا‪ .‬وال تبقى إال فئة جد ضئيلة وهؤالء لن تقوم لهم قائمة أو دولة إلى يوم الدين كما سنأتي على شرحه مفصالً الحقاً‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 150‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فالجسد‪ :‬هو هذا الجسم المادي المؤلف من لحم وعظم وعروق وأعصاب ودم‪،‬‬
‫والجسم تنتابه أعراض كثيرة‪ ،‬من قوة وضعف‪ ،‬وصحة ومرض‪ ،‬ونحول وسمن‪،‬‬
‫وفتوة وهرم‪.‬‬
‫النفس‪ :‬هي ذات اإلنسان المعنوية الشاعرة‪ ،‬وهي نور إلٓهي مركزها في الصدر‬
‫وأشعتها سارية بواسطة األعصاب في سائر أنحاء الجسم‪ ،‬وهذه النفس المسجونة في‬
‫تتعرف بما يحيط بها من األشياء بواسطة الحواس‪ ،‬فمن طريق العين‬
‫الجسم إنما ّ‬
‫تشم وبواسطة الجلد تحس وتلمس‪ ،‬وباللسان‬
‫تُبصر‪ ،‬وعن طريق األذن تسمع وباألنف ّ‬
‫عما يجول فيها من الخواطر واألفكار‪ ،‬وبشيء من‬ ‫تذوق طعوم األشياء‪ ،‬كما ّ‬
‫تعبر به ّ‬
‫التفصيل نقول‪:‬‬
‫إذا وقف أحدنا مثالً أمام شاطئ البحر فال شك أن رؤيته للبحر تجعله يخشع‬
‫أمام هذا المنظر ويستعظمه وهذا الخشوع والستعظام إنما هو خشوع النفس‬
‫واستعظامها‪.‬‬
‫واذا وقع نظرنا على شخص عزيز على قلوبنا ُجرحت يده جرحاً بليغاً‪ ،‬وجعل‬
‫الدم يتقاطر منها‪ ،‬فال بد أننا نحزن لهذا المشهد ونتألم على صاحبه‪ ،‬فهذا الحزن‬
‫واأللم الذي نجده إنما هو حزن النفس وألمها‪ .‬واذا كان أحد أقاربنا الذين نحبُّهم‬
‫نسر ونفرح‪ ،‬وما ذاك إلّ فرح النفس‬
‫مساف اًر سف اًر بعيداً وسمعنا بعودته سالماً فهناك ُّ‬
‫وسرورها‪ ،‬وهكذا فالنفس هي العنصر األساسي في اإلنسان فهي التي تستعظم‬
‫وتسر وتفرح وترضى وتغضب وتتلذذ وتتألم وعليها‬
‫وتتكدر‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وتخشع وهي التي تحزن‬
‫المعول‪.‬‬
‫ّ‬
‫َّ‬
‫المكلفة بالسير في طريق الحق‪،‬‬ ‫والنفس هي المخاطبة دوماً في القرآن‪ ،‬وهي‬

‫وهي التي تتألم عندما تُعالج وتُداوى‪ ،‬وهي التي ّ‬


‫تتنعم في الجنان فال تبغي عنها‬
‫ِّ‬
‫وسميت بالنفس لقيمتها النفيسة‪.‬‬
‫حول‪ّ .‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 151‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أما بالنسبة للروح‪ :‬فهي اإلمداد بالنور اإللٓهي الساري في الدم ومركزها هذا‬
‫القلب المادي‪ ،‬وهي القوة المحركة لكافة أجهزة وخاليا الجسم‪ ،‬وبواسطتها تتم تغذية‬
‫وحركة وقيام وحياة هذا الجسم‪ ،‬وهي السلطة التنفيذية ألغراض ومتطلبات ولوازم‬
‫ومشتهيات النفس‪ ،‬وهي تحت إمرة النفس السارية في األعصاب اآلمرة الناهية‬
‫على كافة األعضاء اإلرادية والالإرادية‪ .‬والروح في اإلنسان والحيوان وكافة‬
‫مقدسة أي‪:‬‬ ‫الحية هي ذاتها‪ ،‬لكنها تكون في األنبياء والرسل روحاً ه‬
‫المخلوقات ّ‬
‫تتلوث بشوائب الدنيا وأدرانها‬ ‫َّ‬
‫منزهة عن الشوائب واألغراض الدنيئة ألن نفوسهم لم َّ‬
‫مقدسة‪ ،‬فهي ل تنطق إل بالخير والحق‬ ‫فحفظت الروح نقية طاهرة َّ‬ ‫الخبيثة ُ‬
‫ات واألنس والنعيم والسعادة والغبطة‬
‫والفضيلة والكمال‪ ،‬وحيثما حّلت حّلت الخير ُ‬
‫األ بدية من هللا بواسطتهم على كل من التفت إليهم‪ .‬ولقد سألوا رسول هللا ﷺ عن‬
‫الروح‪ ،‬فشرح لهم ﷺ الروح وسريانها في الجسم بواسطة الدم‪.‬‬
‫وفي الحديث الشريف‪( :‬إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من الجسد)‬
‫(‪.)1‬‬
‫وذلك ما تُشير إليه اآلية الكريمة‪َ ﴿ :‬وَي ْسأَُلوَن َك َع ِن ا ُّلرو ِح…﴾(‪.)2‬‬
‫يسألونك يا محمد عن الروح‪ ،‬فقد سألوه عن الروح تعجي اًز له فأجابهم تعالى‪:‬‬
‫الر ِ‬
‫َم ِر َرهِبي‪ :﴾...‬وكلمة﴿‪َ ..‬رهِبي‪ِّّ ﴾..‬‬
‫تبين‬ ‫وح م ْن أ ْ‬ ‫﴿‪ُ ..‬ق ِل‪" :﴾..‬يا محمد"‪ُ ُّ ..﴿ :‬‬
‫ذلك اإلمداد اإللٓهي الساري في الوجود وبه قيامك أيها اإلنسان ومعاشك وقيام جميع‬
‫المخلوقات من إنسان وحيوان ونبات فال تتحرك حركة إل بإمداده وأمره تعالى‪.‬‬
‫ولو أنه تعالى يسحب إمداده‪ ،‬أي‪ :‬الروح عن المخلوقات لما بقي لها حركة ول‬
‫حياة‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬متفق عليه مسند أحمد ج‪ 3‬ص‪.156‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)85‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 152‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ومثل الروح في المخلوقات كمثل التيار الكهربائي الذي ِّّ‬
‫يحرك كل اآللت التي‬
‫تعمل بواسطته فإذا ما انقطعت تلك الطاقة خمدت اآللت وسكنت حركتها َّ‬
‫وتوقف‬
‫عملها‪ ،‬وهكذا تنصب الروح في الجسد على قلب اإلنسان وتسري في الدم الذي‬
‫يقوم بنقل الغذاء واألكسجين إلى كافة أنحاء الجسم والعودة بالفضالت والسموم‬
‫التبول والزفير‪.‬‬
‫ليتم طرحها خارج الجسم عن طريق ُّ‬
‫َم ِر َرهِبي‪ :﴾...‬الواردة في اآلية إنما تعني ذلك اإلمداد على القلب‬ ‫ِ‬
‫﴿‪ ...‬م ْن أ ْ‬
‫والدم لتتم الحياة‪ ،‬واذا ما انقطع ذلك اإلمداد عن المخلوقات الحية بقيت جث ًة هامدة‬
‫يسى ْاب ُن َمْرَي َم‬ ‫يؤكد ما قلناه قوله تعالى‪ِ …﴿ :‬إَّنما اْلم ِس ِ‬ ‫ل حراك فيها‪ ،‬وما ِّّ‬
‫يح ع َ‬
‫َ َ ُ‬
‫وح ِهمْن ُه …﴾(‪.)1‬‬ ‫رسول ِ‬
‫ّللا َوَكلِ َم ُت ُه أَْلَق َ‬
‫اها ِإَلى َمْرَي َم َوُر ٌ‬ ‫َُ ُ ه‬
‫أمده هللا تعالى لسيدنا عيسى ‪‬‬ ‫وما هذه الروح إل ذلك اإلمداد اإللٓهي الذي َّ‬
‫بواسطة سيدنا جبريل وبعد أن ّبين لهم ما ّبين َّ‬
‫رد عليهم‪:‬‬
‫يتم ِهمن اْل ِعْلمِ …﴾ل‬
‫يتم ِهمن اْل ِعْلمِ إِالَّ َقلِيالً﴾ ‪ :‬وكلمة ﴿… َو َما أُوِت ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫﴿… َو َما أُوِت ُ‬
‫تعود على رسول هللا ﷺ‪ ،‬بل على السائلين ولو كانت تعود على رسول هللا ﷺ لجاءت‬
‫بصيغة "وما أوتيت" بل جاءت وهو المتكلم قل لهم يا محمد وما أوتيتم أنتم أيها‬
‫المعرضون من العلم إلَّ قليالً‪.‬‬
‫نظام خروج اإلنسان إلى هذا العالم‪:‬‬
‫وقد كان خلق األنفس قبل خلق األجساد‪ ،‬في عالم األزل‪ ،‬وقد أشرنا إلى هذا‬
‫األمر عند بحثنا (غاية الحق من إيجاد الخلق)‪.‬‬
‫ض َواْل ِجَب ِ‬
‫ال َفأََبْي َن أَن‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َو ْاألَْر ِ‬ ‫َِّ‬
‫َماَن َة َعَلى َّ َ َ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬إنا َعَر ْضَنا ْاأل َ‬
‫وما َج ُهوًال﴾(‪.)3‬‬ ‫ان ِإَّن ُه َك َ‬ ‫َش َف ْق َن ِمْن َها َو َحمَل َها ِْ‬
‫َي ْح ِمْلَن َها َوأ ْ‬
‫ظُل ً‬
‫ان َ‬ ‫نس ُ‬
‫اإل َ‬ ‫َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة النساء اآلية (‪)171‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)85‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة األحزاب اآلية (‪)72‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 153‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فلما أراد تعالى أن يظهر النوع اإلنساني لهذا العالم‪ ،‬عالم الصور واألجساد‪،‬‬
‫جعل لذلك قانوناً وسنة‪ ،‬فجعل لكل إنسان والدين‪ :‬أب وأم‪ ،‬يحمل األب في ظهره‬
‫ثم ينتقل البن من األب إلى رحم أمه‪ ،‬منطوية‬
‫أنفس أبنائه وجميع نفوس ذريته‪َّ ،‬‬
‫نفسه في ذلك الحوين الذي ل تدركه العين المجردة لدقته وصغر جرمه‪ ،‬وما يزال‬
‫َّ‬
‫ويتخلق يوماً بعد يوم‪ ،‬حتى يصبح إنساناً سوياً‪.‬‬ ‫مستق اًر في الرحم َّ‬
‫يتغذى وينمو‬
‫وهكذا فالناس كلهم كانوا في ظهر أبيهم آدم ‪ ‬ومنه نسلوا‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫اه ُن ْط َف ًة ِفي َقَرار َّم ِكين‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫ِ ِ‬ ‫اإل نس ِ‬
‫ان من ُس َال َلة همن طين‪ُ ،‬ث َّم َج َعْلَن ُ‬ ‫﴿ َوَلَق ْد َخَل ْقَنا ِْ َ َ‬
‫ام‬
‫ظَ‬ ‫اما َف َك َس ْوَنا اْل ِع َ‬
‫ظً‬ ‫الن ْط َف َة َعَلَق ًة َف َخَل ْقَنا اْل َعَلَق َة ُم ْض َغ ًة َف َخَل ْقَنا اْل ُم ْض َغ َة ِع َ‬
‫َخَل ْقَنا ُّ‬
‫ِِ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫َح َس ُن اْل َخالق َ‬ ‫ّللا أ ْ‬
‫آخَر َف َتَب َار َك َّ ُ‬
‫اه َخْلًقا َ‬ ‫َنش ْأَن ُ‬
‫َل ْح ًما ُث َّم أ َ‬
‫شذ عن ذلك النظام الذي بموجبه توالد البشر وجاؤوا إلى هذه الدنيا‪ ،‬سيدنا‬ ‫وقد َّ‬
‫آدم ‪ ،‬فقد خلق هللا تعالى جسد سيدنا آدم من تراب‪ ،‬ثم أرسل نفس سيدنا آدم‬
‫‪ ‬محمولة بواسطة الملك إلى جسدها‪ ،‬من غير أن يكون ذلك عن طريق أب‪.‬‬
‫وكذلك كان خلق سيدنا عيسى بن مريم عليهما السالم‪ ،‬فقد أرسل هللا نفس سيدنا‬
‫عيسى إلى بطن أمه بواسطة الملك من غير أن يتوسط أب في نقل هذه النفس‬
‫آد َم َخَلَق ُه ِمن ُتَراب ِث َّم‬ ‫الكريمة إليها‪ ،‬قال تعالى‪ِ﴿ :‬إ َّن م َثل ِعيسى ِعند ِ‬
‫ّللا َك َم َث ِل َ‬
‫َ ه‬ ‫َ َ َ‬
‫ال َل ُه ُكن َفَي ُكو ُن﴾(‪.)2‬‬
‫َق َ‬
‫فصل لنا تعالى قصة حمل أم سيدنا عيسى عليهما السالم به‪ ،‬وبيَّن لنا في‬
‫وقد َّ‬
‫هذه القصة أنه ل َّبد وأن يجزي الصادق بصدقه‪ ،‬رجالً كان أو امرأة فقال تعالى‪:‬‬
‫ين‪ُ ،‬ذهِرَّي ًة‬ ‫ِ‬ ‫اهيم و ِ‬‫ط َفى آدم وُنوحا و ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َعَلى اْل َعاَلم َ‬
‫آل ع ْمَر َ‬
‫آل إْبَر َ َ َ‬
‫ََ َ ً َ َ‬ ‫اص َ‬
‫ّللا ْ‬
‫﴿إ َّن ه َ‬
‫يم﴾(‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫ّللا َسم ٌ‬
‫َب ْع ُض َها من َب ْعض َو ه ُ‬

‫(‪ _ )1‬سورة المؤمنون اآلية (‪)14-12‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة آل عمران اآلية (‪)59‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة آل عمران اآلية (‪)34-33‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 154‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫المراد بكلمة﴿ ُذهِرَّي ًة َب ْع ُض َها ِمن َب ْعض﴾أي‪َّ :‬‬
‫أن البشر جميعاً متماثلون في‬ ‫وُ‬
‫األصل فهم يتوالدون ويتناسلون بعضهم من بعض‪ ،‬ل ميزة ألحد على آخر في‬
‫يم﴾‪ :‬فإنما تُبين سبب التمايز والختالف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫ّللا َسم ٌ‬
‫أما كلمة﴿ َو ه ُ‬ ‫هذه الناحية‪َّ .‬‬
‫فإذا كان البشر في األصل متماثلين‪ ،‬ل فرق ول ميزة ألحد على أحد‪ ،‬من جهة‬
‫النسب والحسب‪ ،‬فهذا التمايز ِّإَّنما يحصل بينهم بحسب الصدق والنية العالية‪ ،‬فاهلل‬
‫وصدق نفسه‪ ،‬وكل من صدق مع‬ ‫ْ‬ ‫كل إنسان‪ ،‬عليم بحاله‬ ‫تعالى سميع لما يتطلَّبه ُّ‬
‫رِّّبه في طلب الحق والكمال‪ ،‬فال َّبد أن يجزيه هللا بصدقه‪.‬‬
‫ان َر ِهب ِإِهني‬ ‫ِ‬
‫امَأَر ُة ع ْمَر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثم ذكر لنا تعالى مثالً على أهل الصدق فقال‪﴿ :‬إ ْذ َقاَلت ْ‬
‫َّ‬
‫َن َذْر ُت َل َك َما ِفي َب ْطِني ُم َحَّرًرا‪ )1(﴾...‬أي‪ :‬عزمت أن أجعل هذا الولد الذي أنا‬
‫حاملة به محر اًر أي‪ :‬خالصاً للقيام بخدمتك‪ ،‬وذلك مما تعني به أن يكون ولدها‪،‬‬
‫قائماً بفعل اإلحسان والخير تجاه عباد هللا‪ ،‬فلعل هللا تعالى يقبل دعاءها ويجعل‬
‫ويعرفهم به ثم تممت داعية بقولها‪َ ﴿ :‬ف َتَقَّب ْل‬ ‫ولدها مرشداً‪ ،‬يدل الناس على هللا‪ِّّ ،‬‬
‫َنت َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم﴾أي‪ :‬سميع لقولي‪ ،‬عليم بحالي‪ ،‬وصدقي في مطلبي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يع اْل َعل ُ‬
‫السم ُ‬ ‫ِمهني ِإَّن َك أ َ‬
‫لم ا ولدت ‪ ،‬وضعت السيدة مريم عليها السالم‪ ،‬قال تعالى ‪َ﴿ :‬فَل َّما‬ ‫ثم إنها َّ‬ ‫َّ‬
‫الذَكُر َكاألُنَثى ﴾ أي‪:‬‬ ‫َعَلم ِبما و َضع ْت وَليس َّ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ّللا أ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ‬ ‫َو َض َعْت َها َقاَل ْت َر هب إهني َو َض ْعُت َها أُنَثى َو ه ُ‬
‫أنها كانت تتطلب أن يكون مولودها ذك اًر‪ ،‬ليستطيع أن يقوم بهذه المهمة العالية‬
‫ثم تابعت القول بما أشارت إليه اآلية الكريمة في‬ ‫في اإلرشاد والدللة على هللا‪َّ ،‬‬
‫الرِجيمِ﴾(‪.)2‬‬ ‫طِ‬
‫ان َّ‬‫الشْي َ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬واِِهني س َّميُتها مريم ِواِِهني أ ِ‬
‫ُعي ُذ َها ِب َك َوُذهِرَّيَت َها ِم َن َّ‬ ‫َ َ ْ َ َْ َ َ‬
‫وقد استجاب هللا دعوة األم الصادقة‪ ،‬فأنبت هذه البنت نباتاً حسناً قال تعالى‪:‬‬
‫َنب َت َها َنَب ًاتا َح َسًنا َوَكَّفَل َها َزَك ِرَّيا‪ ﴾...‬أي‪ :‬جعله ‪‬‬
‫﴿ َف َتَقَّبَل َها َرُّب َها ِبَقُبول َح َسن َوأ َ‬
‫ولي تربيتها‪ ،‬فاهلل تعالى يولي الصادق على الصادق أو الصادقة معه تعالى‪،‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)35‬‬


‫(‪ _ ) 2‬سورة آل عمران اآلية (‪) 36‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 155‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫قلبها بمحبة هللا‬ ‫ِّ‬
‫وتميز‪ ،‬حتى أُفع َم ُ‬
‫ونشأت هذه البنت الصغيرة‪ ،‬وما أن بدأت تعي ّ‬
‫واإلقبال عليه‪ ،‬بسبب تفكيرها الدائب بنعم هللا وآلء صنعه الكونية‪ ،‬وفضله على‬
‫فكر‬
‫الجميع بالطعام والشراب‪ ،‬شأنها في ذلك التفكير‪ ،‬شأن أبينا إبراهيم ‪ ،‬حين ّ‬
‫محمد ﷺ بعد ذلك‪ .‬وكان هللا‬
‫بآيات هللا الكونية‪ ،‬وتوصل إلى هللا‪ ،‬وشأن سيدنا ّ‬
‫تعالى يفيض عليها بإقبالها عليه من العلم والمعرفة‪ ،‬ما يفيضه على قلوب عباده‬
‫المؤمنين المقبلين‪ ،‬وكان سيدنا زكريا ‪ ‬كلما دخل عليها المحراب‪ ،‬أي مكان‬
‫خلوتها للعبادة في محاربتها للشيطان وجد عندها رزقاً‪ ،‬أي علماً ومعرفة وبياناً‪،‬‬
‫عن كمال هللا‪ ،‬فيعجب بذلك ويسألها يا مريم من أين جئت بهذا العلم‪ ،‬وهذه‬
‫المعرفة العالية‪ ،‬فتقول هو من عند هللا‪ ،‬قال تعالى مبيناً ذلك بقوله الكريم‪ُ ﴿ :‬كَّل َما‬
‫ال َيا َمْرَي ُم أََّنى َل ِك َه َذا َقاَل ْت ُه َو ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ند َها ِرْزقاً َق َ‬
‫اب َو َج َد ع َ‬‫َد َخ َل َعَلْي َها َزَك ِرَّيا اْلم ْحَر َ‬
‫ق َمن َي َشاء ِب َغْي ِر ِح َساب﴾(‪.)1‬‬ ‫ند ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ّللا َيْرُز ُ‬
‫إن ه َ‬ ‫ّللا َّ‬ ‫ع ه‬
‫ق َمن َي َشاء﴾أي‪ :‬يرزق كل صادق‪ ،‬واني صدقت‬ ‫ّللا َيْرُز ُ‬
‫إن ه َ‬ ‫وهي تريد بكلمة﴿ َّ‬
‫مع رِّّبي في طلب الحق‪ ،‬ففكرت بفضله وآمنت‪ ،‬فأكرمني بما أكرمني به‪.‬‬
‫والمراد بقولها‪ِ ﴿ :‬ب َغْي ِر ِح َساب﴾أي‪ِّ :‬إ َّن األمر ل يحتاج إلَّ إلى الصدق‪ .‬فلما‬
‫رأى سيدنا زكريا ‪ ‬ذلك وسمع منها ما سمع‪ ،‬طلب من هللا تعالى أن يرزقه ولداً‬
‫صالحاً‪ ،‬يرثه من بعده‪ ،‬فيكون مرشداً وكان ‪ ‬ل ولد له‪ ،‬فدعا ربه بما أشارت‬
‫ال َر ِهب َه ْب لِي ِمن‬ ‫ِ‬
‫إليه اآلية الكريمة في قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬هَنال َك َد َعا َزَك ِرَّيا َرَّب ُه َق َ‬
‫ِ‬ ‫َّلُدْن َك ُذهِرَّي ًة َ‬
‫طهِيَب ًة ِإَّن َك َسم ُ‬
‫يع ُّ‬
‫الد َعاء﴾(‪.)2‬‬
‫وهكذا فمسرى اآلية يبين لنا أن الرزق الذي كان يجده سيدنا زكريا ‪ ‬عند‬
‫هذه البنت في المحراب‪ ،‬ليس هو الجوز والرمان‪ ،‬وليست الفاكهة‪ ،‬فمثل هذا ليس‬
‫يتشوق النبي للولد ويدعو هللا‪ ،‬ألن هذا القول‬
‫بمطلب األنبياء‪ ،‬ول يستدعي أن َّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)37‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة آل عمران اآلية (‪)38‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 156‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الخبيث يشكك في عرضها وحاشاها‪ .‬إنما الرزق هو ذلك العلم والمعرفة التي كان‬
‫وعظمه منها‪ ،‬ول يعرف الفضل‬ ‫َّ‬ ‫يجدها عندها ويسمعه منها‪ ،‬وذلك هو الذي َّ‬
‫قدره‬
‫إلَّ ذووه‪.‬‬
‫وقد استمرت سيدتنا مريم عليها السالم‪ ،‬عاكف ًة على الوجهة إلى رّبِّها‪ ،‬ل‬
‫تنقطع‪ ،‬فكان لها من هذه الصلة الدائمة برِّّبها‪ ،‬أن طهرت نفسها طهارة أوصلتها‬
‫إلى درجة تليق معها بأن يصطفيها ربها على نساء العالمين‪ ،‬وبذلك أصبحت‬
‫أعلى النساء عند هللا شأناً وأعظمهن منزل ًة‪.‬‬
‫وقد زاد بها هذا الصفاء النفسي‪ ،‬إلى أن بلغت الدرجة التي َّ‬
‫يتغلب بها نور النفس‬
‫اللطيف‪ ،‬على حجاب الجسم الكثيف‪ ،‬والتي يستطيع معها اإلنسان أن يشهد‬
‫ويخاطبونه‪ ،‬وقد أشارت اآليات الكريمة إلى ما َّنوهنا عنه‬
‫المالئكة الكرام‪ُ ،‬فيخاطبهم ُ‬
‫من تلك الطهارة النفسية والصطفاء‪ ،‬كما أشارت إلى ذلك التسامي النفسي‪ ،‬الذي‬
‫أهَّل هذه السيدة الكريمة إلى أن تتلقى خطاب المالئكة الكرام وتسمعه‪ ،‬فقال تعالى‬
‫ط َف ِ‬
‫اك‬ ‫اص َ‬ ‫اك و َ ِ‬ ‫في كتابه العزيز‪﴿ :‬وِا ْذ َقاَل ِت اْلمالَ ِئ َك ُة يا مريم ِإ َّن ّللا اص َ ِ‬
‫ط َّهَرك َو ْ‬ ‫ط َف َ‬ ‫هَ ْ‬ ‫َ َْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ين﴾ ‪.‬‬ ‫عَلى ِنساء اْلعاَل ِمين‪ ،‬يا مريم ا ْقُنِتي لِربِ ِك واسجِدي وارَك ِعي مع َّ ِ ِ‬
‫الراكع َ‬ ‫ََ‬ ‫َه َ ْ ُ َ ْ‬ ‫َ َ َ َْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وبما أن الركوع في حقيقته‪ ،‬هو ذلك الخضوع النفسي هلل تعالى‪ ،‬ذلك الخضوع‬
‫حق قدره‪ ،‬من‬ ‫الذي يتمثَّل في نفس المؤمن الذي شاهد كمال ربه وحنانه‪َّ ،‬‬
‫فقدره َّ‬
‫بعد أن عرف رحمته بخلقه واحسانه‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬فالراكعون هم في األصل األنبياء‬
‫ِّ‬
‫الصديقة بأن تَْقنت لرِّّبها‪ ،‬أي تديم وجهتها‬ ‫والرسل الكرام‪ .‬ولذلك أمر هللا تعالى هذه‬
‫ّ‬
‫إليه تعالى وتسجد له وتركع مع الراكعين‪ ،‬المستعظمين مقام ربهم دوماً‪ ،‬وهم‬
‫األنبياء حص اًر‪ ،‬لمقامها العالي الرفيع‪ ،‬كسيدنا زكريا وسيدنا عيسى عليهما السالم‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)43-42‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 157‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أماً لرسول‬
‫أمها بها من قبل‪ ،‬فجعلها تعالى ّ‬
‫وقد أراد ربك أن يكرمها‪ ،‬كما أكرم ّ‬
‫من رسله الكرام هو سيدنا عيسى ‪ ،‬ذلك الرسول الذي كان مجيؤه إلى الدنيا‪،‬‬
‫بآية من هللا تعالى‪ ،‬وكانت له في طفولته آية‪ ،‬وكانت على يديه من بعد آيات‬
‫بينات‪ ،‬أظهرها هللا تعالى ليكون منها عبرة لمعتبر‪ ،‬فلعل هذه اآليات تلفت نظر‬
‫ويتعرف بسببها إلى‬
‫ّ‬ ‫وتحرك فكره الخامد‪ ،‬فيثوب إلى رشده‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان الجاحد‪،‬‬
‫خالقه‪.‬‬
‫ونبدأ اآلن باآلية التي كان بها مجيء هذا الرسول الكريم إلى الدنيا‪ ،‬وهي آية‬
‫حمل أمه به‪ ،‬من دون أن َّ‬
‫يتوسط في ذلك أب فنقول‪:‬‬
‫َّ‬
‫قدمنا في مطلع حديثنا عن قصة هذا الرسول الكريم‪ ،‬أن هللا تعالى جعل لهذا‬
‫أما سيدنا عيسى ‪ ‬فكان‬ ‫النوع اإلنساني في المجيء لهذه الدنيا‪ ،‬نظاماً وسنة‪َّ ،‬‬
‫ك كما‬
‫المَل ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫مجيؤه وولدته مخالفاً لهذا النظام والسنة‪ ،‬فما َح َمَله ‪ ‬أب إنما جاء َ‬
‫ذكرنا‪ ،‬حامالً تلك النفس الكريمة‪ ،‬إلى السيدة مريم عليها السالم‪ ،‬وكانت إذ ذاك‬
‫في مكان عبادتها‪ ،‬ملتجئة عن أهلها‪ ،‬منصرفة في الوجهة إلى رِّّبها‪ ،‬مقبلة عليه‬
‫بكّلِّيتها‪ ،‬فإذا بها ترى جبريل ‪ ‬أمامها‪ ،‬وقد أرسله هللا تعالى لها فتمثَّل لها على‬
‫هيئة بشر سوي‪ ،‬قال تعالى ُمشي اًر إلى قصة الحمل بقوله الكريم‪َ ﴿ :‬وا ْذ ُكْر ِفي‬
‫َهلِ َها َم َكاًنا َشْرِقًّيا‪َ ،‬ف َّات َخ َذ ْت ِمن ُدوِن ِه ْم ِح َج ًابا َفأَْر َسْلَنا‬ ‫اب َمْرَي َم ِإ ِذ َ‬
‫انتَب َذ ْت ِم ْن أ ْ‬ ‫اْل ِك َت ِ‬
‫وحَنا َف َت َم َّث َل َل َها َب َشًار َس ِوًّيا﴾‪.‬‬
‫ِإَلْي َها ُر َ‬
‫وقد اضطربت سيدتنا مريم وهي في خلوتها من رؤية هذا الشخص أمامها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫َعوُذ ِب َّ‬ ‫ِ‬
‫نك‪ ﴾...‬أي‪ :‬أعتز وألتجئ‬ ‫الر ْح َمن م َ‬ ‫فقالت وقد حسبته رجالً‪َ ﴿ :‬قاَل ْت ِإهني أ ُ‬
‫ِ‬ ‫َعوُذ ِب َّ‬ ‫ِ‬
‫نك‪ ﴾...‬أي‪:‬‬ ‫الر ْح َمن م َ‬ ‫إليه وأحتمي به‪ ،‬ويكون ما نفهمه من كلمة ﴿‪ِ...‬إهني أ ُ‬
‫إنني التجأت واحتميت واعتززت بالرحمن منك فمن أنت؟‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 158‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫عرفها بأنَّه ملك من مالئكة هللا فأجابته‪..﴿ :‬‬
‫والذي نفهمه من مدلول اآلية أنه َّ‬
‫نت َت ِقًّيا﴾ أي‪ :‬ولو كنت مَلكاً ما حاجتك؟ فهل ُّ‬
‫يحق لك مخالفة أوامر هللا‬ ‫ِإن ُك َ‬
‫حرم هللا عليك الخلوة بها‪ ...‬والَّ فما مرادك؟‬ ‫تعالى‪ ،‬والدخول على من َّ‬
‫َه َب َل ِك ُغَال ًما‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ول َرهبِك أل َ‬‫فأجابها بما ورد في اآلية الكريمة‪ ..﴿ :‬إَّن َما أََنا َر ُس ُ‬
‫مكلف بحمل‬ ‫َزِكًّيا﴾(‪ )1‬أي‪ :‬إنني مرسل من هللا تعالى‪ ،‬وأنا ل أشتهي‪ ،‬لكوني غير َّ‬
‫ُ َ‬
‫ملكت نفسي هلل من عالم األزل‪ ،‬فال أشتهي أبدًا‪ ،‬إني مَلك ُمرسل‬ ‫األمانة‪ ،‬واني ملك َّ‬
‫َ‬
‫لك غالماً طيباً طاه اًر عالي السم والشأن‪ ،‬فعجبت أن يكون لها ولد‪ ،‬ولم تتزوج‬ ‫ألهب ِّ‬
‫ِ‬
‫ولم يمسسها بشر‪ ،‬فأجابته‪َ ﴿ :‬قاَل ْت أََّنى َي ُكو ُن لِي ُغَال ٌم َوَل ْم َي ْم َس ْسني َب َشٌر َوَل ْم أ ُ‬
‫َك‬
‫ِ‬ ‫ال َرُّب ِك ُه َو َعَل َّي َههِي ٌن َولَِن ْج َعَل ُه َآي ًة ِل َّلن ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫اس َوَر ْح َم ًة همَّنا َوَك َ‬
‫ان أ َْمًار‬ ‫ال َك َذلك َق َ‬
‫َبغًّيا‪َ ،‬ق َ‬
‫الملك نفس سيدنا عيسى ‪ ‬بسيدتنا مريم عليها السالم عن‬ ‫ُ‬ ‫َّمْق ِضًّيا﴾ أي‪ :‬ألقى‬
‫طريق الفم فيما هي تخاطب الملك الذي كان يحمل نفس سيدنا عيسى ‪ ،‬عندها‬
‫سرت نفس سيدنا عيسى الطاهرة إليها سريان النور‪ ،‬أو كما تسري القوة الالسلكية‬
‫محملة على األثير إلى الهاتف فإذا هو ‪ ‬محمول في بطنها‪ ،‬قال تعالى ُمشي اًر إلى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اض ِإَلى ِج ْذ ِع‬
‫اءها اْل َم َخ ُ‬
‫َج َ‬‫انتَب َذ ْت ِبه َم َكاًنا َقصًّيا‪َ ،‬فأ َ‬
‫ذلك بقوله الكريم‪َ ﴿ :‬ف َح َمَل ْت ُه َف َ‬
‫نت َنسيا َّم ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫نسًّيا﴾(‪ )2‬أي‪ :‬ألجأها ألم الولدة‬ ‫الن ْخَلة َقاَل ْت َيا َلْي َتني م ُّت َقْب َل َه َذا َوُك ُ ْ ً‬
‫إلى الستناد والتمسك بجذع النخلة‪ .‬هنالك قالت وقد اجتمع عليها ألم الولدة وألم‬
‫نفسي آخر‪ ،‬هو أعظم من ذلك األلم الجسمي‪ ،‬ناشئ عن خوفها أن يتَّهمها الناس‬
‫بالزنى‪ ،‬وتكثر األقاويل‪ ،‬وهم ل يعلمون من أمر تلك المعجزة التي حملت بها شيئاً‪،‬‬
‫ِّ‬
‫صدقونها إذا أرادت أن ِّّ‬
‫تعرفهم بحقيقة األمر‪،‬‬ ‫وقد ُيْن ِّكُرون عليها كل اإلنكار وقد ل ُي ّ‬
‫ٍ‬
‫بتهمة باطلة إفك‪،‬‬ ‫وحزناً شديداً‪ ،‬والشريف َي ْكُبر عليه أن يتَّهمه َّ‬
‫الناس‬ ‫غماً ُ‬
‫وهكذا لقت ّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة مريم اآلية (‪)19-16‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة مريم اآلية (‪)23-20‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 159‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫يتكلم عليه أحد بما ِّ‬
‫يلوث سمعته وشرفه‪ ،‬ولذلك‪َ ..﴿ :‬قاَل ْت َيا‬ ‫ويتمنى أن يموت ول َّ‬ ‫َّ‬
‫ّ‬
‫نت َنسيا َّم ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫نسًّيا﴾‪.‬‬ ‫َلْي َتني م ُّت َقْب َل َه َذا َوُك ُ ْ ً‬
‫وولدت سيدتنا مريم‪ ،‬سيدنا عيسى ‪ ‬بلمح البصر‪ ،‬وأراد ربك أن يخِّّفف عنها ما‬
‫غم وحزن‪ ،‬فأنطق مولودها ساعة ولدته‪ ،‬بما أشارت إليه اآلية الكريمة في‬ ‫تجده من ٍّ‬
‫اها ِمن َت ْحِت َها أََّال َت ْحَزِني َقْد َج َع َل َرُّب ِك َت ْحَت ِك َسِرًّيا﴾‪ .‬والمراد‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬فَن َاد َ‬
‫بكلمة﴿ َس ِرًّي ا﴾ أي‪ :‬ولداً وجيهاً يسري ذكره وشأنه العالي في اآلفاق‪.‬‬
‫طًبا َجِنًّيا‪،‬‬ ‫الن ْخَل ِة ُتس ِ‬
‫اق ْط َعَلْي ِك ُر َ‬ ‫تمم هذا المولود قوله‪َ ﴿ :‬و ُههزِي ِإَلْي ِك ِب ِج ْذ ِع َّ‬ ‫ثم َّ‬
‫َ‬
‫َحًدا َفُقولِي ِإِهني َن َذْر ُت لِ َّلر ْح َم ِن‬ ‫اشربِي وَقرِي عيًنا َفِإ َّما َتري َّ ِ‬
‫ِن م َن اْلَب َش ِر أ َ‬ ‫َ‬ ‫َف ُكلي َو ْ َ َ ه َ ْ‬
‫ِ‬
‫نسًّيا﴾(‪ .)1‬والمراد بكلمة ﴿ َص ْو ًما﴾ أي‪ :‬انقطاعاً عن الكالم‪.‬‬ ‫صوما َفَل ْن أ َُكهلِم اْليوم ِإ ِ‬
‫َ َْ َ‬ ‫ًَْ‬
‫وجاءت سيدتنا مريم بمولودها‪ ،‬قال تعالى ُمشي اًر إلى ذلك‪َ ﴿ :‬فأ ََت ْت ِب ِه َق ْو َم َها‬
‫امَأَر َس ْوء‬ ‫ِ‬
‫ان أَُبوك ْ‬ ‫ُخ َت َه ُارو َن َما َك َ‬ ‫َت ْح ِمُل ُه َقاُلوا َيا َمْرَي ُم َلَق ْد ِجْئ ِت َشْيًئا َف ِرًّيا‪َ ،‬يا أ ْ‬
‫ُخ َت َه ُارو َن﴾‪ :‬في التقوى والصالح‪ ،‬أي‬ ‫ُم ِك َب ِغًّيا﴾ والمراد بكلمة ﴿َيا أ ْ‬ ‫َو َما َكاَن ْت أ ُّ‬
‫مماثلة له في الطهارة‪.‬‬
‫ان ِفي اْل َم ْه ِد َص ِبًّيا﴾ (‪.)2‬‬ ‫َشار ْت ِإَلي ِه َقاُلوا َكي َ ِ‬
‫ف ُن َكهل ُم َمن َك َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫﴿ َفأ َ َ‬
‫تكلم سيدنا عيسى ‪ ‬في المهد‪ ،‬وأراد هللا تعالى أن يجعل من كالمه آية‪،‬‬ ‫وقد َّ‬
‫أمه بما قد يتَّهمها به المتهمون من جهة‪ ،‬وتنضم إليها معجزة‬‫تبين براءة ذمة ّ‬
‫حملها به من دون أب من جهة ثانية‪ ،‬فيؤمنون من وراء ذلك بعظمة هللا تعالى‪،‬‬‫ْ‬
‫ظمون هذا المولود‪ ،‬ويؤمنون برسالته يوم يبعثه هللا رسولً‪ ،‬وقد أشارت‬‫ِّ‬
‫كما يع ّ‬
‫اآليات الكريمة إلى كالم سيدنا عيسى ‪ ‬في المهد بما ورد في قوله تعالى‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّللا َ ِ‬‫﴿ َقال ِإِهني عبد َّ ِ‬
‫اب َو َج َعَلني َن ِبًّيا‪َ ،‬و َج َعَلني ُمَب َارًكا أَْي َن َما ُك ُ‬
‫نت‬ ‫آتان َي اْلك َت َ‬ ‫َُْ‬ ‫َ‬
‫ار َش ِقًّيا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الزَكاة َما ُد ْم ُت َحًّيا‪َ ،‬وَبًّار ِب َوالِ َد ِتي َوَل ْم َي ْج َعْلِني َجَّب ًا‬ ‫ِ‬ ‫َوأ َْو َص ِاني ِب َّ‬
‫الص َالة َو َّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة مريم اآلية (‪)26-24‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة مريم اآليات (‪)29-27‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 160‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫َق ْو َل‬‫يسى ْاب ُن َمْرَي َم‬ ‫ِ ِ‬ ‫الس َال ُم َعَل َّي َي ْوَم ُولِ ُّ‬
‫وت َوَي ْوَم أُْب َع ُث َحًّيا‪َ ،‬ذل َك ع َ‬ ‫َم ُ‬‫دت َوَي ْوَم أ ُ‬ ‫َو َّ‬
‫َمًار‬ ‫ّلل أَن َي َّت ِخ َذ ِمن َوَلد ُسْب َحاَن ُه ِإ َذا َق َضى‬ ‫يه يم َترو َن‪ ،‬ما َكان َِّ ِ‬ ‫اْلح ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫أْ‬ ‫َ َ‬ ‫ق الذي ف َ ْ ُ‬ ‫َ ه‬
‫ِ‬ ‫وه َه َذا ِصَار ٌ‬ ‫ِ‬
‫ول َل ُه ُكن َفَي ُكو ُن‪َ ،‬واِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َرهبِي َوَرُّب ُك ْم َف ْ‬ ‫َفإَّن َما َيُق ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫يم﴾ ‪.‬‬ ‫ط ُّم ْس َتق ٌ‬ ‫اعُبُد ُ‬
‫وبعد أن ذكر لنا تعالى قصة حمل سيدتنا مريم بسيدنا عيسى ‪ ،‬وبعد أن‬
‫تبين براءة السيدة‬ ‫بيَّن لنا تعالى معجزة كالمه ‪ ‬في المهد‪ ،‬تلك المعجزة التي ِّّ‬
‫تبين رسالة سيدنا عيسى ‪ ‬وكونه عبد هللا ورسولً من رسله‬ ‫مريم من جهة‪ ،‬كما ِّّ‬
‫ق َّال ِذي‬ ‫يسى ْاب ُن َمْرَي َم َق ْو َل اْل َح ِه‬
‫ِ ِ‬
‫الكرام‪ ،‬ختم لنا تعالى ذلك بقوله الكريم‪َ ﴿ :‬ذل َك ع َ‬
‫ِ ِ‬
‫يه يم َترو َن‪ ،‬ما َكان َِّ ِ‬
‫ّلل أَن َي َّت ِخ َذ ِمن َوَلد سْب َحاَن ُه ِإ َذا َق َضى أ ِ‬
‫َمًار َفإَّن َما َيُق ُ‬
‫ول َل ُه‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ف َْ ُ‬
‫منزه عن‬ ‫(سْب َحاَن ُه) الواردة في هذه اآلية معنى أنه تعالى َّ‬ ‫ُكن َفَي ُكو ُن﴾ وتفيد كلمة ُ‬
‫أن يكون له ولد‪ ،‬ألن المولود من خصائصه أن يحمل صفة أبيه ويشابهه‪ ،‬فاهلل‬
‫تعالى ُم َن َّزه عن أن يشابهه أحد‪ ،‬في ذاته‪ ،‬أو في أي اسم من أسمائه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وبشيء من التفصيل نقول‪ِّ :‬إ َّن هللا تعالى أول بال بداية‪ ،‬ل أول لوجوده‪ ،‬فمهما‬
‫قلت أول فهو أول وأول وليس له أول‪ ،‬أما سيدنا عيسى بن مريم فله أول‪ ،‬وأوله‬
‫زمن ظهوره لعالم الوجود‪ ،‬وهو بهذا كغيره من المخلوقات‪ ،‬التي لها بداية ونهاية‪،‬‬
‫والبداية والحدوث صفة تالزم المخلوقات‪ ،‬وتتنافى مع األلوهية‪.‬‬
‫وهللا تعالى صمد في ذاته‪ ،‬وفي كل اسم من أسمائه‪ ،‬والصمد هو الذي ُي ِّمُّد ول‬
‫صمد في حياته‪ ،‬بمعنى أنه ل يستمد‬ ‫ٌ‬ ‫ال‬
‫يستمد‪ ،‬ول يحتاج إلى غيره‪ .‬فاهلل تعالى مث ً‬
‫تتوقف حياته على أحد‪ ،‬أو على شيء من األشياء‪ ،‬بل هو‬ ‫الحياة من غيره‪ ،‬ول َّ‬
‫مد حياة كل مخلوق‬
‫تعالى الحي‪ ،‬منبع الحياة ومصدر الحياة‪ ،‬ومنه تعالى وحده تُ ْستَ ُ‬
‫من المخلوقات‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة مريم اآليات (‪)36-30‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 161‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أما سيدنا عيسى ‪ ‬فهو كغيره من المخلوقات في هذه الناحية‪ ،‬فحياته ‪‬‬
‫َّ‬
‫مستمدة من هللا تعالى‪ ،‬فإذا انقطع إمداد هللا تعالى بالحياة عن سيدنا عيسى‪ ،‬مات في‬
‫الحال‪.‬‬
‫إن اإللٓه َّإنما يكون قائماً بذاته‪ ،‬بمعنى أنه ل يحتاج في بقاء وجوده إلى‬
‫ثم َّ‬
‫عامل من العوامل أو شيء من األشياء‪.‬‬
‫أما سيدنا عيسى ‪ ‬فهو خاضع للقوانين الكونية التي أبدعها هللا تعالى لألحياء‪،‬‬
‫َّ‬
‫فهو محتاج إلى الطعام والشراب‪ ،‬والنور والهواء‪ ،‬وبقاء حياته متوقف على كثير من‬
‫ثم إن الولد يتخذ ليكون عوناً ألبيه‬
‫العوامل‪ ،‬شأنه في ذلك كشأن غيره من المخلوقات‪َّ .‬‬
‫ومساعداً له‪ ،‬وهللا تعالى غني عن أن يساعده مخلوق من مخلوقاته‪ ،‬واذا كان‬
‫المخلوق ِّإَّنما يستمد كل شيء من هللا تعالى‪ ،‬فكيف يصح أن يستعين خالق قوي‬
‫بمخلوق ضعيف‪ ،‬ل حول ول قوة له‪.‬‬
‫واإللٓه إلى جانب كل ما ذكرناه‪ِّ ،‬إَّنما يكون ُمحيطاً بسائر الموجودات‪ ،‬فهو‬
‫أما سيدنا عيسى ‪ ‬فإنما كان محمولً‬ ‫أعظم من كل شيء‪ ،‬وأكبر من كل شيء‪َّ .‬‬
‫مما يتنافى مع‬ ‫كله َّ‬ ‫على سطح األرض‪ ،‬محاطاً بالهواء والفضاء والسموات‪ ،‬وذلك َّ‬
‫ُ‬
‫مبينة فساد ِّّادعاء من نسب األلوهية‬ ‫صفات األلوهية‪ ،‬وقد أشارت اآليات الكريمة ِّّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يح‬‫ّللا ُه َو ا ْل َمس ُ‬ ‫ِ‬
‫ين َق اُلوْا إ َّن ه َ‬‫إلى هذا الرسول الكريم فقال تعالى‪َ﴿ :‬ل َق ْد َك َفَر َّال ذ َ‬
‫ّللا َرهبِي َوَرَّب ُك ْم ِإ َّنهُ َمن ُي ْش ِر ْك‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اع ُب ُدوْا ه َ‬‫يل ْ‬ ‫يح َيا َبني إ ْس َرائ َ‬ ‫ال ا ْل َم س ُ‬ ‫ْاب ُن َمْرَي َم َو َق َ‬
‫َنص ار ‪َّ ،‬ل َق ْد‬ ‫الن ار وم ا لِلظَّالِ ِم ِ‬ ‫اه َّ‬ ‫ِ‬ ‫بِ ِ‬
‫ين م ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ََ‬ ‫ّللاُ َع َليه ا ْل َج َّن َة َو َم أ َْو ُ‬ ‫اّلل َف َق ْد َحَّرَم ه‬ ‫ه‬
‫ين َق اُلوْا إِ َّن ّللا ثَالِ ُث ثَ الَ َثة وم ا ِم ْن إِ َل ه إِالَّ إِ َل هٌ و ِ‬
‫اح ٌد َواِن َّل ْم َي َ‬ ‫ِ‬
‫نت ُهوْا‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫هَ‬ ‫َك َفَر َّالذ َ‬
‫ع َّم ا ي ُقوُلو َن َليم َّس َّن َّال ِذين َك َفرواْ ِم ْنهم ع َذاب أَلِيم ‪ ،‬أَ َفالَ ي ُتوبو َن إِ َل ى ِ‬
‫ّللا‬
‫ه‬ ‫َ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُْ َ ٌ‬ ‫َ ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول َق ْد َخ َل ْت من‬ ‫يح ْاب ُن َم ْرَي َم إِالَّ َر ُس ٌ‬ ‫يم ‪َّ ،‬م ا اْل َمس ُ‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫ّللاُ َغ ُف ٌ‬‫َو َي ْس َت ْغفُروَنهُ َو ه‬
‫ات ثُ َّم‬ ‫ظر َكيف ُنب ِي ن َله م اآلي ِ‬
‫ام ان ُ ْ ْ َ َ ه ُ ُ ُ َ‬
‫َّ‬
‫ْكالَ ِن الط َع َ‬ ‫َق ْب لِ ِه ُّ‬
‫الر ُس ُل َوأُ ُّمهُ ِص هِد ي َق ٌة َك ا َن ا َي أ ُ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 162‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ّللاِ َم ا الَ َي ْم لِ ُك َل ُك ْم َ‬
‫ضًّرا َوالَ َن ْف ًعا‬ ‫ِ‬
‫ظ ْر أ ََّنى ُي ْؤ َف ُكو َن‪ُ ،‬ق ْل أ ََت ْع ُب ُدو َن من ُدو ِن ه‬
‫ان ُ‬
‫يم﴾(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫وّللا هو َّ ِ‬
‫يع ا ْل َع ل ُ‬
‫السم ُ‬ ‫َ هُ ُ َ‬
‫وهكذا فتوقف الحياة على الطعام والشراب‪ ،‬ينافي األلوهية‪ ،‬ويثبت الحتياج‪،‬‬
‫عف‪ ،‬ولنهارت قواه‪،‬‬
‫لض َ‬
‫فلو مكث رسول هللا عيسى ‪ ،‬عدة أيام بال طعام َ‬
‫وحاشا لإللٓه أن يضعف‪ ،‬إذن لنهار الكون‪ .‬واإللٓه كما رأينا صمد‪ ،‬ل تتوقف‬
‫حياته على شيء‪ ،‬ول يحتاج لشيء من األشياء‪ ،‬وهو غني عن كل شيء‪ٍ ،‬‬
‫مغن‬
‫لكل شيء‪.‬‬
‫وقد أرسل هللا تعالى سيدنا عيسى ‪ ‬لبني إسرائيل‪ ،‬وكان الناس في عصره‬
‫على جانب عظيم من المهارة والمعرفة بالطب‪ ،‬فأيَّده هللا تعالى بآيات بينات‬
‫تتناسب مع عصره‪ ،‬ويعجز َّ‬
‫الناس مهما برعوا في الطب والمداواة‪ ،‬أن يأتوا بمثلها‪،‬‬
‫إظها اًر لرسالته‪ ،‬فلعل َّ‬
‫الناس يستعظمون رسولهم ويتبعونه‪ ،‬فترافق نفوسهم تلك‬
‫النفس الزكية الطاهرة‪ ،‬وتعرج بمعيَّتها إلى خالقها‪ ،‬فتشهد الكمال اإللٓهي‪ ،‬وتشهد‬
‫بذلك النور اإللٓهي الحقائق‪ ،‬فترى الخير من الشر‪ ،‬والحق من الباطل‪ ،‬وهنالك‬
‫تعرض عن الدنيا وسفاسفها‪ ،‬وتُقبل على هللا تعالى‪ ،‬فتعمل لآلخرة وتسعى لها‪.‬‬
‫ومما أيَّد هللا تعالى به هذا الرسول الكريم‪ ،‬أنه كان يبرئ األكمه واألبرص بإذن‬
‫َّ‬
‫هللا‪ ،‬وأنه كان ُيحيي الموتى بإذن هللا‪ ،‬وقد أشار تعالى إلى ما أظهره على يد هذا‬
‫آية ِهمن َّرهبِ ُك ْم أَِهني‬ ‫الرسول من المعجزات‪﴿ :‬ورسوالً ِإَلى بِني ِإسرِائ ِ‬
‫يل أَهني َق ْد ِجْئ ُت ُكم ِب َ‬
‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ‬
‫ِئ األ ْك َم َه‬ ‫طي ار ِبِإ ْذ ِن ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ق َل ُكم ِهم َن ال ِه‬
‫ّللا َوأُْبر ُ‬
‫ه‬ ‫ين َك َهْيَئة الطْي ِر َفأَنُف ُخ فيه َفَي ُكو ُن َْ ً‬ ‫ط ِ‬ ‫َخُل ُ‬
‫أْ‬
‫َّخُرو َن ِفي ُبُيوِت ُك ْم ِإ َّن‬ ‫ِ‬
‫ّللا وأَُنِبُئ ُكم ِبما َتأ ُْكُلو َن وما َتد ِ‬
‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ُحِيي اْل َم ْوَتى ِبِإ ْذ ِن ه َ ه‬ ‫ص َوأ ْ‬‫واألَْبَر َ‬
‫ِ‬ ‫آلي ًة َّل ُك ْم ِإن ُك ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين﴾(‪.)2‬‬ ‫نتم ُّم ْؤ ِمن َ‬ ‫في َذل َك َ‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة المائدة اآليات (‪)76 -72‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة آل عمران اآلية (‪)49‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 163‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ّللا َيا ِعيسى ْاب َن َمْرَي َم ا ْذ ُكْر ِن ْع َم ِتي َعَلْي َك َو َعَلى َوالِ َد ِت َك‬ ‫ال ه ُ‬
‫ِ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬إ ْذ َق َ‬
‫اب َواْل ِح ْك َم َة‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫س ُت َكهلِ ُم َّ‬‫وح اْلُقُد ِ‬ ‫دت َك ِبُر ِ‬‫ِإ ْذ أََّي ُّ‬
‫اس في اْل َم ْهد َوَك ْهالً َواِ ْذ َعل ْم ُت َك اْلك َت َ‬ ‫الن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ق ِم َن ال ِه‬ ‫الت ْوَار َة َو ِ ِ‬
‫طْيًار‬‫يها َف َت ُكو ُن َ‬ ‫ين َك َهْيَئة الطْي ِر ِبِإ ْذني َف َتن ُف ُخ ف َ‬ ‫ط ِ‬ ‫يل َواِ ْذ َت ْخُل ُ‬
‫اإل نج َ‬ ‫َو َّ‬
‫وتى ِبِإ ْذِني َواِ ْذ َك َف ْف ُت َبِني‬ ‫ص ِبِإ ْذِني َواِ ْذ ُت ْخ ِر ُج اْل َم َ‬ ‫ِئ األَ ْك َم َه َواألَْبَر َ‬
‫ِ‬
‫ِبِإ ْذني َوُتْبر ُ‬
‫ين َك َفُروْا ِمْن ُه ْم ِإ ْن َه َذا ِإالَّ ِس ْحٌر‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِإ ْسَرِائيل َع َ ِ ِ‬
‫ال َّالذ َ‬ ‫نك إ ْذ جْئ َت ُه ْم باْلَبهيَنات َفَق َ‬ ‫َ‬
‫ين﴾ ‪ .‬وهكذا فمهما َّ‬ ‫ُّم ِب ٌ‬
‫(‪)1‬‬
‫تقدم الطب‪ ،‬فاألطباء جميعاً في كل زمان ومكان‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ورد روحه إليه‪ ،‬وأيَّد هللا تعالى رسوله بهذه المعجزة‬ ‫عاجزون عن إحياء الميت ّ‬
‫أن اإلنسان مهما رأى من آيات‪ ،‬ومهما ظهر له من معجزات‪ ،‬ل‬ ‫ِّّ‬
‫البينة‪ ،‬غير َّ‬
‫ويتعرف منها إلى‬
‫َّ‬ ‫يغني ذلك عنه شيئاً‪ ،‬إن هو لم يفكر في آيات هذا الكون‪،‬‬
‫خالقه‪ ،‬وما دام هذا اإلنسان كاف اًر‪ ،‬أي ل تقدير لديه ول تعظيم آليات هللا‪ ،‬فال‬
‫يمكن أن يرجع عن ضالله‪ ،‬ول أن ُيع ِّّ‬
‫ظم ما يراه من المعجزات‪ ،‬التي ُيظهرها هللا‬
‫على يد رسله‪.‬‬
‫فهذا السيد المسيح‪ ،‬سيدنا عيسى بن مريم صلوات هللا عليه وسالمه‪ ،‬يخلق من‬

‫الطين كهيئة الطير بإذن هللا‪ ،‬وينفخ فيها فتكون طي اًر بإذن هللا‪ُ ،‬‬
‫ويبرئ األكمه‬
‫ويخرج الموتى بإذن هللا‪ ،‬ومع ذلك كله تجد الذين كفروا‪ ،‬أي الذين لم‬ ‫واألبرص‪ُ ،‬‬
‫ونعم هللا ولم يعبؤوا بها‪ ،‬يتَّهمونه بالسحر كما اتَّهموا غيره من‬ ‫ِّ‬
‫يقدروا آيات هللا ِّ‬
‫ّ‬
‫الرسل صلوات هللا عليهم أجمعين‪ .‬فيقولون ِّإ ْن هذا ِّإلَّ سحر مبين‪ ،‬وقد سمعوا‬
‫كالم سيدنا عيسى ‪ ‬في المهد‪ ،‬ثم قالوا إلى جانب ذلك على مريم بهتاناً‬
‫عظيماً‪.‬‬
‫ثم ِّإَّنك إلى جانب هؤلء الكافرين المعرضين‪ ،‬تجد آخرين ما آمنوا باهلل حق‬
‫َّ‬
‫تعرفوا إلى خالقهم عن طريق النظر والستدلل‪ ،‬بل َّقلدوا آباءهم‬
‫اليمان‪ ،‬وما َّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة المائدة اآلية (‪)110‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 164‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لما أروا على يد سيدنا عيسى ‪ ‬ما رأوه من معجزات‪ ،‬غلوا‬
‫تقليداً أعمى‪ ،‬فهؤلء َّ‬
‫في دينهم‪ ،‬وكفروا أيضاً باهلل‪ ،‬فقال فريق منهم إن هللا هو المسيح ابن مريم‪ .‬وقال‬
‫أن سيدنا عيسى‬‫فريق المسيح ابن هللا‪ ،‬وقال آخرون إن هللا ثالث ثالثة‪ ،‬فزعموا َّ‬
‫مر بنا في آيات مضت‪ ،‬وقد َّندد تعالى بكذبهم‬
‫وأمه إلٓهين من دون هللا‪ ،‬كما َّ‬
‫وكفرهم‪ ،‬فذكر لنا موقف سيدنا عيسى ‪ ‬يوم القيامة بين يديه‪ ،‬وأشار إلى كذب‬
‫يسى ْاب َن‬ ‫ِ‬
‫ّللا َيا ع َ‬
‫ال ه ُ‬ ‫هؤلء فيما قالوه عن لسان رسوله الكريم‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬واِ ْذ َق َ‬
‫ُمي ِإَلهي ِن ِمن دو ِن ِ‬ ‫ِ‬ ‫لت لِ َّلن ِ ِ‬
‫ال ُسْب َحاَن َك ما َي ُكو ُن‬
‫َ‬ ‫ّللا َق َ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫اس َّاتخ ُذوِني َوأ ه َ َ ْ‬ ‫َنت ُق َ‬ ‫َمْرَي َم أَأ َ‬
‫نت ُقْل ُت ُه َفَق ْد َعلِ ْم َت ُه َت ْعَل ُم َما ِفي َن ْف ِسي َوالَ‬ ‫ق ِإن ُك ُ‬ ‫َن أَ ُقول ما َلي ِ‬
‫س لي ِب َح ه‬ ‫َ َ َْ‬ ‫لِي أ ْ‬
‫وب‪ ،‬ما ُقْل ُت َل ُه ْم ِإالَّ ما أَمْرَتِني ِب ِه أ ِ‬
‫َن‬ ‫َنت َعالَّم اْل ُغُي ِ‬
‫ُ‬ ‫َعَل ُم َما ِفي َن ْف ِس َك ِإَّن َك أ َ‬ ‫أْ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َنت‬
‫نت أ َ‬ ‫يدا َّما ُد ْم ُت ِفي ِه ْم َفَل َّما َت َوَّفْي َتني ُك َ‬
‫نت َعَلْي ِه ْم َش ِه ً‬ ‫ّللا َرهبِي َوَرَّب ُك ْم َوُك ُ‬
‫اعُبُدوْا ه َ‬ ‫ْ‬
‫يد﴾(‪.)1‬‬‫َنت َعَلى ُك ِهل َش ْيء َش ِه ٌ‬ ‫يب َعَلْي ِه ْم َوأ َ‬‫الرِق َ‬‫َّ‬
‫وقد عارضت بنو إسرائيل سيدنا عيسى ‪ ‬معارضة شديدة‪ ،‬كما عارضوا من‬
‫قبل من جاءهم من الرسل الكرام‪ ،‬ألنهم فتنوا بالدنيا وشهواتها‪ ،‬بسبب إعراضهم‬
‫عن ربهم‪ ،‬فما كان يروق لهم أن يأتيهم رسول بما ل تهوى أنفسهم‪ .‬قال تعالى‬
‫ول ِب َما الَ َت ْهَوى أَنُف ُسُك ُم‬ ‫ُمشي اًر إلى موقفهم هذا تجاه رسله‪ ..﴿ :‬أََف ُكَّل َما َج ُ‬
‫اءك ْم َرُس ٌ‬
‫اسَت ْكَبْرُت ْم َفَفِريقاً َك َّذْبُت ْم َوَفِريقاً َتْقُتُلو َن﴾(‪.)2‬‬
‫ْ‬
‫وكاد بنو إسرائيل لسيدنا عيسى كيداً شديداً قال تعالى ُمشي اًر إلى ذلك بقوله‬
‫ال اْل َحَو ِارُّيو َن َن ْح ُن‬ ‫س ِعيسى ِمْنهم اْل ُكْفر َقال من أَنصارِي ِإَلى ِ‬
‫ّللا َق َ‬
‫ه‬ ‫ُُ َ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َح َّ‬ ‫الكريم‪َ﴿ :‬فَل َّما أ َ‬
‫اش َهْد ِبأََّنا ُم ْسلِ ُمو َن﴾(‪.)3‬‬ ‫ّللا آمَّنا ِب ِ‬
‫اّلل َو ْ‬ ‫ِ‬
‫َنص ُار ه َ ه‬ ‫أ َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة المائدة اآليات (‪)117-116‬‬


‫(‪ _ ) 2‬سورة البقرة اآلية ( ‪)87‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة آل عمران اآلية (‪)52‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 165‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وقد حمل الكفر أولئك المعارضين الذين كفروا برِّّبهم‪ ،‬على تدبير المؤامرات لقتل‬
‫رسوله ‪ ‬كما هي عادتهم‪ ،‬قال تعالى ُمشي اًر إلى ذلك بقوله الكريم‪َ ﴿ :‬و َم َكُروْا َو َم َكَر‬
‫ِ‬
‫ين﴾(‪ .)1‬وقد ضاق صدر سيدنا عيسى ‪ ‬بهؤلء الكفرة‪،‬‬ ‫ّللا َخْيُر اْل َماك ِر َ‬
‫ّللا َو ه ُ‬
‫هُ‬
‫وهكذا نفس المؤمن كالمرآة الصافية‪ ،‬تنعكس فيها أحوال المعرضين عن هللا‪،‬‬
‫غماً شديداً‪ ،‬ولذلك وعد هللا‬ ‫جراء اجتماعه بهم ّ‬ ‫فيضيق بهم صد اًر‪ ،‬ويلقى من َّ‬
‫ّللا َيا‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫رسوله ‪ ‬بأن ُي ِّ‬
‫ال ه ُ‬ ‫طهره من الذين كفروا‪ ،‬وبشره بذلك‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬إ ْذ َق َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َّاتَب ُع َ‬
‫وك‬ ‫ين َك َفُروْا َو َجاع ُل َّالذ َ‬
‫ط هِهُر َك م َن َّالذ َ‬
‫يك َوَراف ُع َك ِإَل َّي َو ُم َ‬
‫يسى ِإهني ُم َت َوهف َ‬
‫ع َ‬
‫َفوق َّال ِذين ك َفروْا ِإَلى يومِ اْل ِقيام ِة ُث َّم ِإَلي مرِجعكم َفأَحكم بيَنكم ِفيما كنتم ِف ِ‬
‫يه‬ ‫َّ َ ْ ُ ُ ْ ْ ُ ُ َ ْ ُ ْ َ ُ ُ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫َت ْخَتلِ ُفو َن﴾ ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)54‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة آل عمران اآلية (‪)55‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 166‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الدليل األول على عودة السيد المسيح ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يك﴾‪ ،‬وليس المراد من التوفي الموت‪،‬‬ ‫وقد بدأت اآلية الكريمة بكلمة ﴿ِإهني ُم َت َوهف َ‬
‫ألن التوفي يقع في حال النوم أيضاً‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و ُه َو َّال ِذي َي َت َوَّف ُ‬
‫اكم ِب َّ‬
‫اللْي ِل َوَي ْعَل ُم‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ما َجَر ْح ُتم ِب َّ‬
‫َج ٌل ُّم َس ًّمى‪.)1(﴾...‬‬ ‫الن َه ِار ُث َّم َيْب َع ُث ُك ْم فيه لُي ْق َضى أ َ‬ ‫َ‬
‫َخذك الشيء واستيفاؤك إيَّاه‪ ،‬بعد أن تكون قد منحت فيه‬ ‫والتوفي لغ ًة‪ :‬هو أ ْ‬
‫التصرف لغيرك حيناً‪ .‬تقول‪ :‬توفيت َد ْيني من فالن‪ ،‬أي‪ :‬أخذته واستعدته‬ ‫ُّ‬ ‫حق‬
‫توفى فالن َّ‬
‫حقه من غريمه‪ .‬وبناء على ما َّ‬
‫قدمناه‪ ،‬ولبيان المراد من‬ ‫منه‪ ،‬وتقول‪َّ :‬‬
‫ً‬
‫توفي النفس نقول‪ :‬إن هللا تعالى منح النفس في هذه الحياة الدنيا الختيار‪ ،‬وبناء‬
‫على اختيارك ينفذ هللا تعالى لك مرادك ومطلوبك‪ ،‬فمن اإلنسان الختيار والطلب‪،‬‬
‫ومن هللا تعالى اإلمداد والحول والقوة والتسيير‪ ،‬وتوفي النفس إنما يكون بقبض‬
‫الختيار‪.‬‬
‫وكما يقع التوِّّفي في حال الموت‪ ،‬يقع في حالة النوم‪.‬‬
‫ففي حال النوم‪ ،‬يكون توفي النفس بأن يقبض هللا تعالى الختيار من النفس‬
‫مدة وجيزة‪ ،‬وهنالك يستسلم اإلنسان لنو ٍم ل يستيقظ منه‪ ،‬إلَّ إذا أعاد هللا تعالى‬
‫للنفس اختيارها‪ ،‬وعاد عليها بسابق فضله‪.‬‬
‫أما في حال الموت‪ ،‬فيكون توفي النفس‪ ،‬بأن يقبض هللا تعالى من النفس‬
‫َّ‬
‫اختيارها قبضاً نهائياً‪ ،‬قال تعالى ُمشي اًر إلى وفاة النفس في حال الموت‪ ،‬ووفاتها‬
‫ومبيناً لنا الفرق بين الوفاتين بقوله تعالى‪:‬‬ ‫في حال النوم‪ِّّ ،‬‬
‫ام َها َفُي ْم ِس ُك َّالِتي َق َضى‬
‫ّللا يَتوَّفى ْاألَنُفس ِحين موِتها وَّالِتي َلم َتم ْت ِفي مَن ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫﴿ َّ ُ َ َ‬
‫َعَلْي َها اْل َم ْو َت َوُيْرِس ُل ْاأل ْ‬
‫ُخَرى ِإَلى أ َ‬
‫َجل ُم َس ًّمى‪.)2(﴾...‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنعام اآلية (‪)60‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الزمر اآلية (‪)42‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 167‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ويختلف توفي النفس في حال الموت‪ ،‬عن توفي النفس في حال النوم أيضاً‪،‬‬
‫َّ‬
‫بأن توفي النفس في حال الموت‪ ،‬يرافقه توفي الروح وقبضها من الجسم‪.‬‬
‫فالروح‪ :‬وهي ذلك النور اإللٓهي‪ ،‬والذي تكون به حياة الجسم‪ ،‬وانتظام سير‬
‫فعندئذ يتوقف عن الحركة‪ ،‬وتنقطع أجهزته عن‬ ‫ٍ‬ ‫أجهزته‪ ،‬إذا هي ُقبضت من الجسم‬
‫إن توِّّفي الروح‬
‫القيام بوظائفها‪ ،‬وتنعدم منه الحياة‪ ،‬فتمتد إليه يد البلى والفناء‪ .‬ثم َّ‬
‫الموكل بنفخ الروح في اإلنسان عندما يكون‬ ‫َّ‬
‫إنما يكون بواسطة الملك‪َ ،‬‬
‫فالملك‬
‫الموكل أيضاً بقبض الروح من‬ ‫َّ‬ ‫جنيناً‪ ،‬عند خلق النطفة وانتقالها إلى رحم أمه‪ ،‬هو‬
‫الجسم حين الموت‪ ،‬قال تعالى ُمشي اًر إلى ذلك بقوله الكريم‪ُ ﴿ :‬ق ْل َي َت َوَّف ُ‬
‫اكم َّمَل ُك‬
‫اْل َم ْو ِت َّال ِذي ُوهِك َل ِب ُك ْم‪.)1(﴾...‬‬
‫طو َن﴾(‪.)2‬‬ ‫َح َد ُك ُم اْل َم ْو ُت َت َوَّف ْت ُه ُرُسُلَنا َو ُه ْم الَ ُي َفهِر ُ‬
‫قال تعالى‪َ ..﴿ :‬ح َّت َى ِإ َذا َجاء أ َ‬
‫(المَل ْك) فهي إنما تعني‬
‫قدمناه‪ ،‬إذا قرنت كلمة (التوفي) بكلمة َ‬ ‫وبناء على ما َّ‬
‫ً‬
‫توِّّفي الروح‪ ،‬وأعني بذلك الموت وانقطاع الحياة‪.‬‬
‫واآلن وبعد أن بيَّنا معنى التوِّّفي‪ ،‬والفرق بين وفاة الموت ووفاة النوم نقول‪ :‬بما‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يك﴾ التي خاطب هللا تعالى بها سيدنا عيسى ‪ ‬لم تقترن‬ ‫أن كلمة ﴿ِإهني ُم َت َوهف َ‬
‫بذكر الملك‪ ،‬فهي إذاً ل تعني قبض الروح المعبَّر عنه بالموت‪ ،‬واَّنما تُشير إلى‬
‫توفي النفس‪ ،‬وأعني به قبض الختيار الذي يقع في حال النوم‪ ،‬وهكذا فقد توّفى‬
‫هللا تعالى سيدنا عيسى ‪ ‬توّفياً أخفى به جسمه عن األنظار‪ ،‬وجعله في حال‬
‫النائم‪ ،‬ويشبه ذلك ما وقع ألصحاب الكهف‪ ،‬الذين َّ‬
‫توفاهم هللا تعالى مئات السنين‪،‬‬
‫دون أن يتطرق البلى إلى أجسامهم‪ ،‬ثم بعثهم ليكونوا عبرة لّل َ‬
‫ذين كانوا في ذلك‬

‫(‪ _ )1‬سورة السجدة اآلية (‪)11‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األنعام اآلية (‪)61‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 168‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫العصر الذي بعثهم هللا فيه‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ف َضَرْبَنا َعَلى آ َذان ِه ْم في اْل َك ْهف ِسن َ‬
‫ين‬
‫َمًدا﴾(‪.)1‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫اه ْم لَِن ْعَل َم أ ُّ‬
‫َي اْل ِح ْزَبْي ِن أ ْ‬
‫َح َصى ل َما َلب ُثوا أ َ‬ ‫َع َدًدا‪ُ ،‬ث َّم َب َع ْثَن ُ‬
‫وبما أن سيدنا عيسى ‪ ‬يعلم أنه ل ُيَق ِّّرب العبد من خالقه زلفى سوى عمله‬
‫العالي‪ ،‬وليس يرفعه إلى ذلك الجناب اإللٓهي الكريم غير فعله المعروف‪ ،‬ودعوته‬
‫أن سيدنا عيسى ‪ ‬لقي من قومه ما لقي‬ ‫الناس إلى طريق الحق واإليمان‪ ،‬وبما َّ‬
‫من الكفر والمعارضة‪ ،‬ولم يذعن لدللته إلَّ نفر قليل أو ضئيل من الناس‪ ،‬لذلك‬
‫لما أخبره هللا تعالى بأنه متوِّّفيه‪ ،‬حزن أسفاً على أنه لم َّ‬
‫تحقق له نيته العالية‪ ،‬ولم‬ ‫َّ‬
‫يتم له مطلبه في ذلك الجيل‪.‬‬
‫بشره بما سيجعله من الخير على يديه‬ ‫وي ِّّ‬ ‫ِّ‬
‫وقد أراد هللا تعالى أن ُيسّليه عن ذلك‪ُ ،‬‬
‫فقال تعالى‪َ ..﴿ :‬وَر ِاف ُع َك ِإَل َّي‪ :)2(﴾...‬أي ل تحزن فال بد من أن أُعيدك للناس‬
‫ثانية‪ ،‬وستدعوهم إلى اإليمان فيؤمنون‪ ،‬واني رافعك ِّإلي باألعمال اإلنسانية‪ ،‬التي‬
‫ّ‬
‫حينئذ في المستقبل من دللتك‬ ‫ٍ‬ ‫ستقدمها بصدقك ونيتك العالية‪ ،‬وبما ستقوم به‬
‫لخلقي علي‪ ،‬وجهادك في سبيل األخذ بأيديهم إلى سبيل اإليمان‪.‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واذاً فليس المراد من كلمة﴿‪َ ...‬وَراف ُع َك إَل َّي‪﴾...‬ما يتبادر إلى األذهان‪ ،‬أذهان‬
‫بعض الناس من أنه ُرِّف َع إلى السماء‪ .‬فإن اآلية جاءت صريحة بقوله تعالى‪..﴿ :‬‬
‫َوَر ِاف ُع َك ِإَل َّي‪ ﴾...‬ولم تقل ورافعك إلى السماء‪ ،‬وهللا تعالى هذا الخالق العظيم‪،‬‬
‫الذي ل نهاية له‪ُ ،‬م َّنزهٌ عن أن ُيحيط به زمان ومكان‪ ،‬فهو خالق الزمان والمكان‪.‬‬
‫ثم َّ‬
‫إن السماء واألرض عند هللا تعالى سيَّان في المنزلة والشأن‪ ،‬وكالهما‬
‫فعه إلى السماء‪َّ ،‬إنما الذي يرفع اإلنسان‬
‫مخلوق‪ ،‬وليس يرفع من شأن اإلنسان ر ُ‬
‫إلى خالقه ويدنيه من جنابه الكريم‪ ،‬عمله العالي‪ ،‬وجهاده في سبيل هللا‪ ،‬ودعوته‬
‫الناس إلى طريق الحق‪ ،‬وهدايتهم إلى الصراط المستقيم‪ .‬واذاً فالذي جاءت به‬

‫(‪ _ )1‬سورة الكهف اآليات (‪)12-11‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة آل عمران اآلية (‪)55‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 169‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫اآلية الكريمة ليس رفعاً جسمياً‪َّ ،‬إنما هو رفع المنزلة والشأن نقول‪ :‬رفع األمير‬
‫فالناً إليه‪ ،‬أي أدناه منه منزلة ومكانة‪ ،‬ل جسمياً ومكاناً‪.‬‬
‫الصالِ ُح َيْرَف ُع ُه‪.)1(﴾...‬‬ ‫قال تعالى‪َ ..﴿ :‬واْل َع َم ُل َّ‬
‫اه َم َكاًنا َعلًِّيا﴾(‪.)2‬‬ ‫اب ِإ ْد ِريس ِإَّنه َك ِ ِ‬ ‫﴿ َوا ْذ ُكْر ِفي اْل ِك َت ِ‬
‫ان صهد ًيقا َّن ِبًّيا‪َ ،‬وَرَف ْعَن ُ‬‫َ ُ َ‬
‫ُوتوا اْل ِعْل َم َدَر َجات‪.)3(﴾...‬‬ ‫ّللا َّالِذين آمُنوا ِم ُ ِ‬
‫ين أ ُ‬ ‫نك ْم َوَّالذ َ‬ ‫﴿‪َ ...‬يْرَف ِع َّ ُ َ َ‬
‫أقول‪ :‬والذي ينفي أيضاً رفع سيدنا عيسى ‪ ‬إلى السماء قوله تعالى‪:‬‬
‫ات َقَرار َو َم ِعين﴾(‪.)4‬‬ ‫ُمه آي ًة وآويَناهما ِإَلى ربوة َذ ِ‬
‫ََْ‬ ‫﴿ َو َج َعْلَنا ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ ُ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫والربوة‪ :‬هي المكان المرتفع من األرض‪ .‬والقرار‪ :‬هو الجبل الراسخ المستقر‪.‬‬
‫والمعين‪ :‬الماء الجاري الذي ل ينقطع‪.‬‬
‫عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال في هذه اآلية‪ ..﴿ :‬وآويَناهما ِإَلى ربوة َذ ِ‬
‫ات‬ ‫ََْ‬ ‫َ َْ ُ َ‬
‫َقَرار َو َم ِعين﴾‪( .‬قال أتدرون أين هي؟ قالوا هللا ورسوله أعلم‪ .‬قال‪ :‬هي بالشام‬
‫بأرض يقال لها الغوطة‪ ،‬في مدينة يقال لها دمشق هي خير مدن الشام) (‪.)5‬‬
‫وهذا ما رواه البيضاوي في تفسيره‪ ،‬والمؤرخ ابن جبير في كتابه "تذكرة األخبار عن‬
‫أن هذا اإليواء ِّإَّنما كان إلى ربوة دمشق‪ ،‬وجاء في بعض اآلثار‪،‬‬
‫اتفاقات األسفار" َّ‬
‫أن ظهور سيدنا عيسى ‪ ‬في آخر الزمان‪ ،‬سيكون في دمشق‪.‬‬
‫واآلن وبعد أن بيَّنا ما تُشير إليه اآلية الكريمة من التوفي والرفع نقول‪:‬‬

‫ِّّ‬
‫الحق‪،‬‬ ‫بشر هللا تعالى سيدنا عيسى ‪ ،‬بالعودة والقيام بالدعوة إلى‬ ‫بعد أن َّ‬
‫المقبل سيهتدون به‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أراد تعالى أن يطمئن قلب رسوله‪ ،‬بأن الناس في زمنه ُ‬
‫وتحل‬
‫ُّ‬ ‫وسينقلب العالم بأسره إلى عالم مؤمن باهلل‪ ،‬وستُمحى دولة الكفر من الوجود‬

‫(‪ _ )1‬سورة فاطر اآلية (‪)10‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة مريم اآليات(‪)57-56‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة المجادلة اآلية (‪)11‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة المؤمنون اآلية (‪)50‬‬
‫(‪ _ )5‬أخرجه ابن عساكر‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 170‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫محلها دولة التوحيد واإليمان‪ ،‬وهنالك ينطوي َّ‬
‫الناس تحت لواء الحق جميعاً‪ ،‬فال‬
‫يعود يضيق صدرك من أحد‪ ،‬ول تعود تشعر بهذا الضيق الذي تلقاه اليوم‪ ،‬من‬
‫صفاء وسرو اًر‪ ،‬وستشعر بهذه الطهارة‬ ‫ً‬ ‫اجتماعك بأهل الكفر والضالل‪ِّ ،‬إَّنك ستجد‬
‫من هؤلء الكفار طهارة دائمية‪ ،‬وذلك ما أشارت إليه اآلية الكريمة بقوله تعالى‪:‬‬
‫ِ ِ‬
‫أن هذه الدولة‪ ،‬دولة اإليمان‪،‬‬ ‫ين َك َفُروْا‪ ﴾...‬ثم بيَّن تعالى َّ‬ ‫ط هِهُر َك م َن َّالذ َ‬
‫﴿‪َ ..‬و ُم َ‬
‫بهديهم‬ ‫ستبقى إلى يوم القيامة‪ ،‬وسيبقى للمؤمنين الشأن والسيطرة‪ ،‬يهتدي العالم ْ‬
‫ام ِة ُث َّم ِإَل َّي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اعل َّال ِذين َّاتبعوك َفو ِ‬
‫ق َّالذ َ‬
‫ين َك َفُروْا إَلى َي ْومِ اْلقَي َ‬ ‫َ َُ َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫قال تعالى‪َ ..﴿ :‬و َج ُ‬
‫مرِجعكم َفأَحكم بيَنكم ِفيما كنتم ِف ِ‬
‫يه َت ْخَتلِ ُفو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫َْ ُُ ْ ْ ُ ُ َْ ُ ْ َ ُ ُ ْ‬
‫المراد من التوِّّفي والرفع والتطهير‪ ،‬الواردة في اآلية الكريمة‬ ‫واآلن وبعد أن بيَّنا ُ‬
‫السابقة‪ ،‬ال َّ‬
‫بد لنا من ذكر موجز القصة‪ ،‬التي كانت سبباً في توفي سيدنا عيسى‬
‫‪ ‬نوماً‪ ،‬وحجبه عن األنظار‪ ،‬فنقول‪ :‬لما تآمر اليهود على قتل سيدنا عيسى‬
‫‪ ،‬شاركهم في ذلك رجل منافق منهم كان قد تظاهر باإليمان‪ ،‬وأنه من أتباعه‬
‫ودلهم على المغارة التي كانت مركز قيادة حربية لسيدنا عيسى ‪ ،‬وفي‬ ‫‪َّ ،‬‬
‫اليوم الذي أرادوا فيه تنفيذ المؤامرة‪ ،‬كان ذلك الرجل مالزماً المكان الذي كان فيه‬
‫سابقاً سيدنا عيسى ‪ ‬حيث حجب هللا تعالى رسوله وأخفاه عن األنظار‪ ،‬بأن أمره‬
‫بالذهاب مع أمه إلى أن يصل إلى مغارة بيَّنها تعالى له‪ ،‬وهنالك ناما‪ ،‬فأبقاهما‬
‫نائمين كأصحاب الكهف‪ ،‬فكانت هذه الفترة الطويلة من النوم آية‪ ،‬كما أورد تعالى‬ ‫ْ‬
‫ُمه آي ًة وآوي َناهما إَِلى ربوة َذ ِ‬
‫ات َقَرار َو َم ِعين﴾ ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫ََْ‬ ‫بقوله‪َ ﴿ :‬و َج َع ْل َنا ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ ُ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫إلى حين ظهورهما في زمننا هذا‪ .‬وألقى الشبه على ذلك الخائن‪ ،‬الذي كان يبالغ‬
‫في العناية باللباس والمظهر الديني‪ ،‬واطالة اللحية والعمامة‪ ،‬للتعمية على نفاقه‪،‬‬
‫فظنه الزبانية الرومان هو اإلمام‪ ،‬أي ظنوه من بين الحواريين أنه هو سيدنا عيسى‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)55‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة المؤمنون اآلية (‪)50‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 171‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ولما لم يكن سيدنا عيسى ‪ ‬موجوداً بالمغارة‪ ،‬إذ سبق أمر هللا بالمغادرة‪،‬‬‫‪ّ ،‬‬
‫سيرهما تعالى إليها‪ ،‬وكان األمر الصادر بإلقاء‬ ‫ومعه أمه إلى مغارة أُخرى بربوة ّ‬
‫القبض على سيدنا عيسى صارماً لزبانية الرومان‪ ،‬ذلك ألن اليهود أعلموا الحاكم‬
‫بشعبية سيدنا عيسى ‪ ،‬وأنه غدا يهدد استق ارر حكمه‪ ،‬ألن‬
‫ّ‬ ‫الروماني إذ ذاك‬
‫جماهير فلسطين تبعته‪ ،‬بسبب الخوارق والمعجزات السحرية بزعمهم‪ .‬عندها خشي‬
‫الحاكم الروماني من الخطر بنشوء ثورة أو قتال من قبل الجماهير المتأثرة والتابعة‬
‫لهذا الشخص‪ ،‬الذي بلغت شهرته مبلغاً رهيباً‪ ،‬بسبب عجائبه وخوارقه‪ ،‬فأمر بأن‬
‫يقتلوه فور القبض عليه‪ ،‬ألنهم إن لم يقتلوه‪ ،‬فستثور الجماهير والعوام بثورة ساحقة‬
‫ماحقة‪ .‬أما إن وضع الشعب أمام أمر واقع‪ ،‬وهو أنه قد قتل وقضي األمر‪،‬‬
‫فسيقضى على الفتنة في مهدها‪ ،‬ويجد الناس أنه مقتول فسيهمدون‪ .‬كانت هذه‬
‫ضد سيدنا عيسى‪ ،‬فأصدر‬‫وجهة نظر الحاكم الروماني‪ ،‬الذي أثاره علماء اليهود ِّ‬
‫أمر قتله وصلبه فور القبض عليه‪ ،‬دون إبقائه وسجنه‪ ،‬فتثور الناس بثورة قد تودي‬
‫بالحاكم وجنده‪ ،‬لذا أمر الجنود الذين أرسلهم بقتله مباشرة‪ ،‬وهؤلء الزبانية كانوا‬
‫جنوداً منفذين‪ ،‬ل يعرفون شخص سيدنا عيسى ‪ ،‬فلما ولجوا الكهف وشاهدوا‬
‫الحواريين األحد عشر‪ ،‬ومعهم هذا المنافق الخائن‪ ،‬بمظهره الديني الرائع‪ ،‬ولم‬
‫يجدوا سواه‪ ،‬ظنوه سيدنا عيسى‪ ،‬واألمر بقتله كان مشدداً صارماً من الحاكم‪ ،‬لذا‬
‫اعتقلوه‪ ،‬فقاوم فأذلوه‪ ،‬وبصقوا عليه وعذبوه‪ .‬فأخذوه يريدون أن يقتلوه ويصلبوه‪،‬‬
‫تمنعاً شديداً‪ ،‬وبيَّن لهم أنه ليس بعيسى‪ ،‬ونفى ذلك نفياً قوياً‪ ،‬فما سمعوا له‬ ‫فتمنع ُّ‬
‫َّ‬
‫قولً‪ ،‬بل قتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى‪ ،‬وهكذا فقد لقي ذلك الخائن‬
‫ِ‬
‫ّللا َخْيُر اْل َماك ِر َ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫ّللا َو ه ُ‬
‫مصرعه‪ ،‬ونال جزاءه قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َم َكُروْا َو َم َكَر ه ُ‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)54‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 172‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ثم ِّإن هؤلء المتآمرين بعد أن فعلوا ما فعلوا خامرهم الشك فقالوا وهم يتساءلون‬
‫كنا قد قتلنا عيسى فأين صاحبنا‪ ،‬وان كنا قد قتلنا صاحبنا‪ ،‬فأين‬ ‫فيما بينهم‪ ،‬إن َّ‬
‫يسى‬ ‫عيسى‪ ،‬وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله الكريم‪﴿ :‬وَقولِ ِهم ِإَّنا َقَتْلَنا اْلم ِس ِ‬
‫يح ع َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫اختَل ُفوْا ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ابن مريم رسول ِ‬
‫يه‬ ‫ين ْ َ‬‫وه َوَلكن ُشهِب َه َل ُه ْم َواِ َّن َّالذ َ‬
‫وه َو َما َصَلُب ُ‬ ‫ّللا َو َما َقَتُل ُ‬
‫ْ َ َْ َ َ َ ُ َ ه‬
‫الظ ِن وما َقَتُل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا‬
‫وه َيقيًنا‪َ ،‬بل َّرَف َع ُه ه ُ‬ ‫ُ‬ ‫ه ََ‬
‫اع َّ‬‫َل ِفي َش هك ِهمْن ُه َما َل ُهم ِبه ِم ْن عْلم ِإالَّ ا هتَب َ‬
‫يما﴾(‪.)1‬‬ ‫ِإَلي ِه وَكان ّللا ع ِز ًا ِ‬
‫يز َحك ً‬ ‫ْ َ َ هُ َ‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة النساء اآليات (‪)158-157‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 173‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الدليل الثانَ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َه ِل اْل ِك َت ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َح َّتى‬ ‫اب َواْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ين ُمن َف هك َ‬ ‫ين َك َفُروا ِم ْن أ ْ‬
‫قال تعالى‪َ﴿ :‬ل ْم َي ُك ِن َّالذ َ‬
‫َتأ ِْتَي ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾‪.‬‬
‫رسول من هللا فقال تعالى‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫البينة‪َّ ،‬أنها‬
‫فما هي البينة؟‪ :‬لقد َّبين تعالى هذه ه‬
‫ط َّهَرًة﴾‪ :‬والصحف المطهرة‪ ،‬ما أرسله هللا تعالى من‬ ‫﴿رسول ِمن َّ ِ‬
‫ّللا َيْتُلو ُص ُحًفا ُّم َ‬ ‫َ ُ ٌ هَ‬
‫األوامر اإللٓهية‪ ،‬والتشريع الحكيم‪ ،‬الدال على طريق السعادة والخير‪ ،‬وهي بحسب‬
‫سور القرآن الكريم‪ ،‬الذي حوى كافة الكتب‬
‫اآلية التالية الموضحة لها‪ ،‬إنما تعني َ‬
‫المقدسة‪.‬‬
‫السماوية الثالثة السابقة والصحف األربع ّ‬
‫يها ُك ُت ٌب َقهِي َم ٌة﴾(‪ ،)1‬أي أن هذه الصحف المطهرة‪ ،‬التي يتلوها‬ ‫ِ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ف َ‬
‫رسول من هللا‪َّ ،‬إنما تضمنت بين طياتها ُكتباً ذات قيمة عالية‪ .‬وما هذه الكتب‬
‫القيِّمة إلَّ الكتب اإللٓهية‪ ،‬التي أنزلها هللا تعالى‪ ،‬على من سبق سيدنا محمداً ﷺ‬
‫ّ‬
‫سور القرآن الكريم‪ ،‬الذي حوى‬ ‫َّ‬
‫من المرسلين‪ ،‬وما هذه الصحف المطهرة‪ ،‬إل َ‬
‫الكتب اإللٓهية السابقة‪ .‬ولذلك فالقرآن الكريم‪ ،‬بحسب ما ورد في هذه اآليات‪ ،‬هو‬
‫الكتاب الذي سيتلوه سيدنا عيسى بن مريم ‪ ‬يوم عودته‪ ،‬على الخلق كافة‪:‬‬
‫اب ِإَّال ِمن َب ْع ِد َما َجاء ْت ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾(‪ :)2‬أي أن الذين‬ ‫﴿وما َت َفَّرق َّال ِذين أ ُ ِ‬
‫ُوتوا اْلك َت َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫أوتوا الكتاب وهم بنو إسرائيل‪ ،‬لم يتفرقوا إلى يهود ونصارى‪ ،‬إل من بعد ما جاءهم‬
‫سيدنا عيسى ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هذه اآلية دليل واضح‪ ،‬على أن البينة هو سيدنا عيسى ‪ ،‬إذ في بعثة‬
‫سيدنا محمد ﷺ كان اليهود منذ حوالي ‪600/‬سنة‪ /‬متفرقين إلى يهود ونصارى من‬
‫قبل‪ ،‬ولم تكن بعثته الشريفة سبب شقاقهم واختالفهم‪ ،‬وعلى هذا أصبحت كلمة‪:‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة البينة اآليات (‪)3-1‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة البينة اآلية (‪)4‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 174‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫تفرق أهل‬ ‫﴿اْلَبهِيَن ُة﴾ تعني بال شك‪ ،‬سيدنا عيسى ‪ ،‬الذي بعهده وظهوره األول‪َّ ،‬‬
‫آمَّنا‬ ‫الكتاب إلى نصارى أرادوا نصر سيدنا عيسى وقالوا‪َ ..﴿ :‬نحن أَنصار ِ‬
‫ّللا َ‬
‫ُْ َ ُ ه‬
‫اش َه ْد ِبأََّنا ُم ْسلِ ُمو َن﴾(‪ :)1‬أي حين طلب سيدنا عيسى قتال كفرة اليهود‬ ‫ِب ِ‬
‫اّلل َو ْ‬
‫ه‬
‫وطلب أنصاره‪ ،‬فكانوا فقط الحواريين‪ ،‬الذين فيما بعد تغلبوا على اليهود‪ ،‬وأصبحوا‬
‫ِ‬
‫َمُنوا ُكونوا‬ ‫ين آ َ‬ ‫ظاهرين بالعاَلم‪ ،‬إذ آمنت معهم دولة روما الكبرى‪َ﴿ :‬يا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫ال‬ ‫ّللا َكما َقال ِعيسى ابن مريم لِْلحو ِاريِين من أَنصارِي ِإَلى َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا َق َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ َْ َ َ َ َ ه َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َنص َار َّ َ‬ ‫أ َ‬
‫ط ِائ َف ٌة َفأََّي ْدَنا‬
‫ط ِائ َف ٌة ِمن بِني ِإسرِائيل وَك َفرت َّ‬ ‫ِ‬
‫ّللا َفآَمَنت َّ‬
‫َْ َ َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫َنص ُار َّ َ‬ ‫اْل َح َو ِارُّيو َن َن ْح ُن أ َ‬
‫ِ‬
‫َمُنوا‪ :﴾...‬وهم الحواريون‪ ،‬وتبعتهم الدولة الرومانية مع أممها الثماني عشرة‬ ‫ين آ َ‬ ‫َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫أمة‪﴿ :‬عَلى عد ِو ِهم َفأَصبحوا َ ِ‬
‫ق َّالذ َ‬ ‫ظاه ِر َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ُوتوا‬
‫ين أ ُ‬ ‫ين﴾ ‪ .‬إذن‪َ ﴿ :‬و َما َت َفَّر َ‬ ‫َُْ‬ ‫َُ ه ْ‬ ‫َ‬
‫اب‪ :﴾...‬اليهود‪ .‬إلى يهود ونصارى‪ِ ..﴿ :‬إَّال ِمن َب ْع ِد َما َجاء ْت ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾ ‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫اْلك َت َ‬
‫ِ‬
‫أي الرسول الكريم عيسى ‪ ‬البينة‪ .‬وهو بينة بمعجزاته وكلماته باإلنجيل‪ ،‬وولدته‬
‫دون أب‪ ،‬ونطقه وكالمه بالمهد‪ ،‬والذي بعودته في آخر الزمان‪ ،‬سينفك الفريقان‬
‫ِ‬
‫اليهود والنصارى عن كفرهم‪ ،‬كما بينت اآلية من السورة الكريمة‪َ﴿ :‬ل ْم َي ُك ِن َّالذ َ‬
‫ين‬
‫ين َح َّتى َتأ ِْتَي ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾(‪ :)4‬واذا كان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َه ِل اْل ِك َت ِ‬
‫اب َواْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ين ُمن َف هك َ‬ ‫َك َفُروا ِم ْن أ ْ‬
‫المقصود بكلمة البينة‪ ،‬هي سيدنا محمد ﷺ‪ ،‬والمشركين هم أهل مكة أو عبدة‬
‫األصنام‪ ،‬كما يدعي المفسرون‪ ،‬لحصل النفكاك حينها ألهل الكتاب اليهود عن‬
‫الكفر! وهذا ما لم يحصل‪ ،‬بل طردهم رسول هللا ﷺ من المدينة المنورة بسبب‬
‫بقائهم على كفرهم‪ .‬إن السورة الكريمة تبين بما ل يدع مجالً لتفسير أعوج ل ترابط‬
‫فيه‪ ،‬أن البينة‪ ،‬هي سيدنا عيسى ‪ ‬حتماً‪ ،‬وذلك لتفرق اليهود إلى فريقين بعد‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)52‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الصف اآلية (‪)14‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة البينة اآلية (‪)4‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة البينة اآلية (‪)1‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 175‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫بعثته األولى‪ ،‬فانقسموا إلى يهود ونصارى‪ ،‬وهذا ما أكدته اآلية الثانية بكلمة‪:‬‬
‫اب‪﴾...‬أي اليهود تفرقوا إلى فرقتين‪ِ ..﴿ :‬إَّال ِمن َب ْع ِد‬ ‫﴿وما َت َفَّرق َّال ِذين أ ُ ِ‬
‫ُوتوا اْلك َت َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫َما َجاء ْت ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾‪ .‬وهو سيدنا عيسى ‪ ،‬إذن بداية اآلية الذين أوتوا الكتاب‬
‫ِِ‬ ‫ِ َِّ ِ‬
‫ين َل ُه‬ ‫هم اليهود‪ ،‬والمشركين هم النصارى‪َ ﴿ :‬و َما أُمُروا إال لَي ْعُبُدوا َّ َ‬
‫ّللا ُم ْخلص َ‬
‫ين اْلَقهِي َم ِة﴾(‪.)1‬إذًا‪ ،‬إن الذين‬ ‫ِ ِ‬ ‫لص َال َة َوُي ْؤُتوا َّ‬
‫الزَكا َة َوَذل َك د ُ‬ ‫يموا ا َّ‬ ‫ِ‬
‫ين ُحَن َفاء َوُيق ُ‬
‫هِ‬
‫الد َ‬
‫كفروا من أهل الكتاب‪ ،‬أي من اليهود والمشركين من النصارى لن ينفكوا عما هم فيه‬
‫من كفرهم واشراكهم‪( ،‬كما لن ينفكوا عن اختالفهم من تكذيب اليهود للمسيح ‪،‬‬
‫واختالف النصارى في طبيعته) حتى تأتيهم هذه البينة‪ ،‬وهذه البينة وصفها تعالى‪ ،‬بأنها‬
‫رسول من هللا يتلو صحفاً مطهرة‪.‬‬
‫إذ أن المسيح ‪ ،‬هو الذي يفض الخالف الذي نشأ بين اليهود والنصارى‪،‬‬
‫عندما يأتي إليهم‪ ،‬ألن كل رسول مكلف بحل خالفات أمته‪ ،‬لذلك فإن سيدنا‬
‫محمداً ﷺ لم يحاول أن يحل الخالف بين اليهود والنصارى‪ ،‬إل بالتي هي أحسن‪،‬‬
‫فمثالً حينما كان يحارب قوماً كافرين‪ ،‬كعبدة األصنام بالجزيرة العربية‪ ،‬وعبدة‬
‫النيران بعدها‪ ،‬كان يشرط عليهم شرطين‪ :‬اإلسالم أو الحرب حتى يسلموا‪ .‬وبما أنه‬
‫لم تُقبل جزية من عبدة األصنام بالجزيرة‪ ،‬ول من عبدة النيران‪ ،‬لذا ل نجد معابد‬
‫لألصنام بالجزيرة العربية‪ ،‬ول معابد للنيران بإيران‪ ،‬ولو ُقبلت الجزية منهم لبقيت‬
‫معابدهم‪ ،‬كما بقيت معابد النصارى واليهود وقبلت منهم الجزية حتى يظهر سيدنا‬
‫عيسى ‪ ،‬فيحل خالفهم ويسلموا‪ ،‬وهكذا بالنسبة لليهود والنصارى‪ ،‬فكانت لهم‬
‫شروط ثالثة هي‪ :‬اإلسالم‪ .‬الجزية‪ .‬الحرب‪ .‬فإن أسلموا فتلك الغاية‪ ،‬وان أبوا‪،‬‬
‫فدفع الجزية‪ ،‬وال الحرب حتى يسلموا‪ ،‬أو يدفعوا الجزية‪ ،‬التي هي بحقيقتها رمز‬

‫(‪ _ )1‬سورة البينة اآلية (‪)5‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 176‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لعلهم يسلمون‪ ،‬فإذا أسلموا‪ ،‬ارتفعت عنهم وأعيد لهم عزهم‪ ،‬وأصبح لهم ما‬
‫للمسلمين‪.‬‬
‫وهذا دليل واضح على أن الذي يحل الخالف الناشب بين اليهود والنصارى هو‬
‫رسولهم سيدنا عيسى ‪.‬‬
‫إن تسمية المشركين ل تقتصر على كفار مكة‪ ،‬أو غيرهم من عبدة األصنام‪،‬‬
‫وانما تشمل أيضاً الذين اعتقدوا بأن المسيح هو ابن هللا أو ثالث ثالثة‪ ،‬ألن‬
‫معتقدات هؤلء وهؤلء متضاهئة(‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يح‬
‫ال اْل َمس ُ‬ ‫يح ْاب ُن َمْرَي َم َوَق َ‬ ‫ّللا ُه َو اْل َمس ُ‬ ‫ِ‬
‫ين َقاُلوْا إ َّن ه َ‬‫قال تعالى‪َ﴿ :‬لَق ْد َك َفَر َّالذ َ‬
‫اّلل َفَقد حَّرم ّللا عَل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫يه اْل َجَّن َة‬ ‫ّللا َرهبِي َوَرَّب ُك ْم ِإَّن ُه َمن ُي ْش ِر ْك ِب ه ْ َ َ ه ُ َ‬ ‫اعُبُدوْا ه َ‬‫يل ْ‬‫َيا َبني إ ْسَرائ َ‬
‫ّللا َثالِ ُث َثالَ َثة َو َما‬ ‫ِ‬ ‫لظ ِال ِم ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫ين َقاُلوْا إ َّن ه َ‬ ‫َنصار‪َّ ،‬لَق ْد َك َفَر َّالذ َ‬
‫ين م ْن أ َ‬ ‫الن ُار َو َما ل َّ َ‬ ‫اه َّ‬‫َو َمأ َْو ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن ِإَله ِإالَّ ِإَل ٌه و ِ‬
‫اب‬‫ين َك َفُروْا مْن ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫نت ُهوْا َع َّما َيُقوُلو َن َلَي َم َّس َّن َّالذ َ‬
‫احٌد َواِن َّل ْم َي َ‬ ‫َ‬
‫يم﴾(‪.)2‬‬ ‫ِ‬
‫أَل ٌ‬
‫ِ‬ ‫وقال جل جالله‪﴿ :‬وَقاَل ِت اْليهود ع َزير ابن ِ‬
‫يح ْاب ُن‬ ‫الن َص َارى اْل َمس ُ‬ ‫ّللا َوَقاَل ْت َّ‬ ‫َ ُ ُ ُ ٌْ ْ ُ ه‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ّللا أََّنى‬‫ين َك َفُروْا من َقْب ُل َق َاتَل ُه ُم ه ُ‬ ‫ّللا َذل َك َق ْوُل ُهم ِبأَ ْف َواه ِه ْم ُي َضاه ُؤو َن َق ْو َل َّالذ َ‬ ‫ه‬
‫ُي ْؤَف ُكو َن﴾(‪ .)3‬ومن الناحية التاريخية نقول‪ :‬لقد أنكر اليهود على السيد المسيح‬
‫رسالته‪ ،‬وادعوا بأنه ليس هو المسيح المنتظر الذي سيكون ملكاً علينا وقالوا‪،‬‬
‫وبذلك لعنهم هللا‪ ،‬بأنه المسيح الكذاب‪ ،‬ثم شنوا عليه حرباً دعائية ل هوادة فيها‪،‬‬
‫التقول عن أمه‪ ،‬التي هي أطهر‬
‫واتهموه بالتدجيل‪ ،‬ثم أساؤوا بالدسوس واإلفك‪ ،‬و ُّ‬
‫نساء العالمين‪ ،‬وتلك هي عادتهم‪ ،‬فكلما جاءهم رسول بما ل تهوى أنفسهم كذبوه‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬تقول ضاهاه شاكله وضهيئك شبيهك‪.‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة المائدة اآلية (‪)73-72‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة التوبة اآلية (‪)30‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 177‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ونتيجة لتلك المقاومة وذلك الدس‪ ،‬استطاعوا أن يصرفوا الناس عنه‪ ،‬وما‬
‫انصرف عنه إل القوم المجرمون‪ .‬ولم تؤمن معه إل فئة قليلة‪ ،‬استطاعت بإيمانها‬
‫الرفيع أن تنشر الديانة النصرانية بين رعايا اإلمبراطورية‪ ،‬لسيما في روما نفسها‪،‬‬
‫بالرغم من أنهم كانوا في ظل الحتالل الروماني‪.‬‬
‫إل أن تلك الديانة شوهت فيما بعد‪ ،‬وبمرور بضع مئات من السنين حصل‬
‫ضعف بسبب عدم التفكير واإليمان‪ ،‬وذلك بما دخل عليها من المعتقدات الوثنية‬
‫اليونانية بسبب عدم تفكيرهم‪ ،‬وسيرهم بالتقليد األعمى‪.‬‬
‫ُمُروا ِإَّال‬ ‫أما نوع الخالف الذي شب بينهم فهو ما جاء في اآلية الكريمة‪﴿ :‬وما أ ِ‬
‫ََ‬
‫ين‪.)1(﴾...‬‬ ‫ّللا م ْخلِ ِصين َله هِ‬ ‫ِ‬
‫الد َ‬ ‫َ ُ‬ ‫لَي ْعُبُدوا َّ َ ُ‬
‫يسى‬ ‫ِ‬
‫ّللا َيا ع َ‬ ‫ال ه ُ‬‫وهذا الختالف هو الذي بينه سبحانه في سورة المائدة‪َ ﴿ :‬وِا ْذ َق َ‬
‫ُمي ِإَلهي ِن ِمن دو ِن ِ‬ ‫ِ‬ ‫لت لِ َّلن ِ ِ‬
‫ال ُسْب َحاَن َك َما‬ ‫ّللا َق َ‬‫ه‬ ‫ُ‬ ‫اس َّاتخ ُذوِني َوأ ه َ َ ْ‬ ‫َنت ُق َ‬‫ْاب َن َمْرَي َم أَأ َ‬
‫نت ُقْل ُت ُه َفَق ْد َعلِ ْم َت ُه َت ْعَل ُم َما ِفي َن ْف ِسي‬ ‫ق ِإن ُك ُ‬ ‫س لي ِب َح ه‬
‫َن أَ ُقول ما َلي ِ‬
‫َ َ َْ‬ ‫َي ُكو ُن لِي أ ْ‬
‫َن‬‫وب‪ ،‬ما ُقْل ُت َل ُه ْم ِإالَّ ما أَمْرَتِني ِب ِه أ ِ‬ ‫َنت َعالَّم اْل ُغُي ِ‬
‫ُ‬ ‫َعَل ُم َما ِفي َن ْف ِس َك ِإَّن َك أ َ‬‫َوالَ أ ْ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ّللا َرهِبي َوَرَّب ُك ْم‪.)2(﴾...‬‬
‫اعُبُدوْا ه َ‬ ‫ْ‬
‫ين َل ُه‬ ‫ِِ‬ ‫َِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا ُم ْخلص َ‬ ‫وهذا هو معنى قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َما أُمُروا إال لَي ْعُبُدوا َّ َ‬
‫ين‪.﴾...‬‬ ‫هِ‬
‫الد َ‬
‫ِ‬
‫يب َعَلْي ِه ْم‬ ‫الرِق َ‬
‫َنت َّ‬ ‫نت أ َ‬ ‫يدا َّما ُد ْم ُت ِفي ِه ْم َفَل َّما َت َوَّفْي َتني ُك َ‬
‫نت َعَلْي ِه ْم َش ِه ً‬
‫﴿‪َ ...‬وُك ُ‬
‫يد﴾(‪.)3‬‬ ‫َنت َعَلى ُك ِهل َش ْيء َش ِه ٌ‬ ‫َوأ َ‬
‫ولعلك تقول‪ :‬لِّ َم توفى هللا سيدنا عيسى ‪ ،‬ذلك التوفي الذي بيَّناه‪ ،‬ووعده‬
‫بأن يعيده في آخر الزمان‪ ،‬وما وقع هذا ألحد من المرسلين؟‬

‫(‪ _ )1‬سورة البينة اآلية (‪)5‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة المائدة اآليات (‪)117-116‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة المائدة اآلية (‪)117‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 178‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫حق‬
‫حق اإليمان‪ ،‬وأقبل على هللا تعالى‪َّ ،‬‬
‫فأقول‪ :‬إذا آمن اإلنسان بخالقه‪َّ ،‬‬
‫أن هللا‬‫اإلقبال‪ ،‬امتألت نفسه بالكمال‪ ،‬وأصبحت تهوى فعل الخير واإلحسان‪ .‬وبما َّ‬
‫قدم من‬ ‫تعالى ل يعطي امرءاً يوم القيامة منزلة من المنازل‪ ،‬إلَّ بناء على ما َّ‬
‫ً‬
‫أن سيدنا عيسى ‪ ‬لما جاء بالبينات عارضته بنو إسرائيل‬ ‫أعمال طيبة‪ ،‬وحيث َّ‬
‫كما رأينا من قبل‪ ،‬تلك المعارضة الشديدة‪ ،‬وما استطاع أن يحِّّقق رغائبه ونيَّته‬
‫العالية‪ ،‬في تعريف الناس بخالقهم‪ ،‬ودللتهم عليه تعالى‪ ،‬إلخراجهم من الظلمات‬
‫إلى النور‪ ،‬فما اهتدى على يديه إل القليل وهذه وظيفته‪ ،‬ولذلك وعده هللا َّ‬
‫عز وجل‬
‫أن ُيعيده في آخر الزمان‪ ،‬وأن يرفعه بعمله العالي‪ ،‬وأن يجعل المؤمنين الذين‬
‫سيتَّبعونه‪ ،‬فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة‪ ،‬تطييباً لنفسه‪ ،‬واظها اًر لعمله‪ ،‬ولما‬
‫خفي من عالي نيَّته‪ ،‬وذلك ما أشارت إليه اآلية الكريمة التي َّ‬
‫قدمناها من قبل في‬
‫قوله تعالى‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿إِ ْذ َقال ّللا يا ِعيسى إِِهني م َتوهِفيك ور ِ‬
‫ين َك َفُروْا‬‫ط هِهُر َك م َن َّالذ َ‬ ‫اف ُع َك إَِل َّي َو ُم َ‬ ‫ُ َ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ هُ َ‬
‫اعل َّال ِذين َّاتبعوك َفوق َّال ِذين ك َفروْا إَِلى يومِ اْل ِقي ِ‬ ‫ِ‬
‫امة ثُ َّم إَِل َّي َمْر ِج ُع ُك ْم َفأ ْ‬
‫َح ُك ُم‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َُ َ ْ َ‬ ‫َو َج ُ‬
‫بي َنكم ِفيما كنتم ِف ِ‬
‫يه َت ْخ َتلِ ُفو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫َْ ُ ْ َ ُ ُ ْ‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)55‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 179‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫وجاهة السيد المسيح ‪‬‬
‫يسى‬ ‫آلئ َك ُة يا مريم ِإ َّن ّللا يب ِهشرِك ِب َكلِمة ِمْنه اسمه اْلم ِس ِ‬ ‫﴿ِإ ْذ َقاَل ِت اْلم ِ‬
‫يح ع َ‬ ‫َ ه ُ ْ ُُ َ ُ‬ ‫هَ َُ ُ‬ ‫َ َْ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اس في اْل َم ْهد َوَك ْهالً‬
‫الن َ‬ ‫الدْنَيا َواآلخَرِة َو ِم َن اْل ُمَقَّربِ َ‬
‫ين‪َ ،‬وُي َكهل ُم َّ‬ ‫يها في ُّ‬ ‫ْاب ُن َمْرَي َم َو ِج ً‬
‫و ِمن َّ ِ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫الصال ِح َ‬ ‫َ َ‬
‫فاآلية تبين أن السيد المسيح ‪ ‬سيكون وجيهاً في الدنيا وفي اآلخرة‪ ،‬فإذا‬
‫كانت وجاهة اآلخرة ل ريب فيها فوجاهة الدنيا لم تحصل له بعد‪ ،‬ففي فترة قدومه‬
‫األولى‪ ،‬لم يكن الذين معه يتجاوزون األحد عشر‪ ،‬لذا فتلك الوجاهة هي التي‬

‫ستكون له عند عودته ثانية‪ ،‬فيؤمن به كل من بقي ّ‬


‫حياً تقريباً‪ ،‬فيصبح الملك‬
‫يؤم‬
‫العالمي للناس قاطبة (يأتي على سحابة من المجد) ويغدو للعالمين إماماً إذ ُّ‬
‫إليه الرجال‪ ،‬والى أمه عليها السالم النساء جميعهن‪.‬‬
‫كالم الكهل ليس بمعجزة إالَّ‪ :‬واآلية الثانية وبحديث القرآن عن معجزاته ‪‬‬
‫بقضية تكليمه بالمهد فكالمه يعتبر بحق معجزة‪ ،‬أما أن‬
‫ال فليس بمعجزة‪ ،‬إلَّ إذا غاب حينًا من الدهر يتجاوز أضعافًا‬ ‫يكلم الناس كه ً‬
‫مضاعفة من عمر اإلنسان الوسطي‪ ،‬وبما تجاوز ألفي سنة ثم يعود ليكّلِّم الناس بنفس‬
‫العمر كهالً‪ :‬مجيؤه بعد عشرين قرناً تقريباً معجزة عظمى‪ ،‬وهو بنفس السن الذي توفاه‬
‫هللا به‪.‬‬
‫أما وقد تكلمنا عن مجيئه‪ ،‬فعلينا حتى يكمل البحث‪ ،‬أن نشرح الغاية التي يأتي‬
‫من أجلها‪ .‬إن القرآن جاء بأعلى مستوى وأكمله من التشريع والتنظيم والبرهان‪ ،‬وفي‬
‫الحدود التي ارتضاها رب العالمين للبشرية‪ ،‬وهذه الحدود تبقى في المجال الذي ل‬
‫ينصرف به اإلنسان كلياً إلى الدنيا‪ ،‬وتمتص كل طاقاته الفكرية والنفسية والجسمية‪.‬‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة آل عمران اآليات (‪)46 -45‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 180‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فأرضية المجتمع الديني‪ ،‬والمناخ الذي يجب أن يعيش فيه اإلنسان ويتالءم مع‬
‫معتقداته‪ ،‬هو مجتمع ل يتجاوز مستواه الحضاري مستوى التعقيد وامتصاص طاقات‬
‫اإلنسان لدنياه فقط‪ ،‬ألن التجاوز عن هذا المستوى يولد الشقاء واأللم والظلم والتفرقة‪،‬‬
‫تماماً كما نلحظه في هذا العصر‪ ،‬وكل زيادة على هذا المستوى‪ ،‬يعتبر فساداً وافساداً‪،‬‬
‫واطمئناناً إلى الدنيا‪ ،‬وانصرافًا عن الغاية التي جاء من أجلها اإلنسان‪.‬‬
‫لذلك فالسيد المسيح ‪ ‬عند مجيئه‪ ،‬لن يحمل معه إنجيالً يستوعب حضارة‬
‫ِّ‬
‫يصحح القرآن الكريم‪ ،‬ألنه كتاب ل يدخل عليه الباطل‪ ،‬بل يأتي‬ ‫هذا القرن‪ ،‬ولن‬
‫ّ‬
‫ليمحو الصدأ الذي حجب الناس عن القرآن الكريم من تلك التفاسير الضحلة‪ ،‬ومن‬
‫كثرة التفاسير المضللة‪ ،‬المنقولة عن دسوس إسرائيلية وغيرها والمخالفة للقرآن كالم‬
‫هللا‪ ،‬مخالفات صريحة‪ ،‬والتي فرقت الناس إلى أحزاب وشيع‪ ،‬كل حزب بما لديهم‬
‫فرحون‪ ،‬هذه الدعوة نفسها عندما أراد ‪ ‬من قبل أن يجلو الصدأ الذي تراكم‬
‫على التوراة‪ ،‬نتيجة التفاسير الباطلة والتحريف المقصود من علماء بني إسرائيل‪،‬‬
‫يلق هذا الرسول الكريم من التحدي‪ ،‬من قبل بعض‬‫ولكن عند مجيئه الثاني مهما َ‬
‫مقّلِّدة علماء األديان الثالثة ِّّ‬
‫وفريسيهم‪ ،‬أو من الذين يتبعونهم بغير علم‪ ،‬فاهلل‬
‫سينصره حتماً‪ ،‬هو والذين آمنوا معه‪ ،‬وسيجعل عداءهم له حسرًة في قلوبهم إلى‬
‫يوم يلقونه‪ ،‬وعندئذ سيحكم تعالى بينهم‪ ،‬وهو خير الحاكمين‪.‬‬
‫انتهاء جوَّت الباطل‬
‫إن الدين بدأ غريباً‪ ،‬فقد بدأ رسولنا محمد ﷺ بدعوته لقو ٍم قد مزقت الخالفات‬
‫ٍ‬
‫ودويالت‬ ‫وحدتهم‪ ،‬وأبعدت القبلية تضامنهم‪ ،‬وكانوا عبارة عن قبائل متفر ٍ‬
‫قة‪،‬‬ ‫ً‬
‫تستخدمها دول أجنبية كبرى‪ ،‬وبين أظهرهم أمة تعالت عليهم بما لهم " أبناؤها "‬
‫بأن رسولً اسمه أحمد " أي أحمد‬ ‫ٍ‬
‫ماض مجيد‪ ،‬ويستفتحون عليهم بما يعتقدون َّ‬ ‫من‬
‫الخلق أسماهم وأعالهم " قد قارب زمانه‪ ،‬وبمجيئه سينتصرون على العرب‪،‬‬‫ْ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 181‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ويأخذون ديارهم وأمالكهم‪ ،‬ويصبحون أسيادهم‪ .‬هذا الوضع قبل أربعة عشر قرناً‪،‬‬
‫مزقتها‬
‫"يشبه ضمناً وضعنا الحالي"‪ .‬فاألمة العربية خاصة‪ ،‬واإلسالمية عامة‪ ،‬قد ّ‬
‫شيع ودويالت متناحرة‪ِّّ ،‬‬
‫تسير قسماً منها دول استعمارية كبرى‪ ،‬وبين‬ ‫الخالفات إلى ٍ‬
‫ظ ُه ِّرها أم ٌة يتعالون علينا اآلن بحاضرهم‪ ،‬وهم اآلن كما كانوا باألمس‪ ،‬ينتظرون‬
‫أْ‬
‫ظهور سيدنا محمد ﷺ فهم اآلن ينتظرون قدوم السيد المسيح في أرض الميعاد‪،‬‬
‫فلسطين التي تجمعوا اآلن بها‪ ،‬كما تجمعوا بعهد الرسول ﷺ بالمدينة المنورة‬
‫وخيبر‪ ،‬ليكون الملك العالمي‪ .‬فالدين أصبح غريباً إذ ما من ٍ‬
‫أحد تقريباً يأمل أن‬
‫تقوم للدين بعد اليوم قائمة‪ ،‬ألن عصر األديان باعتقادهم قد وّلى منذ زمن بعيد‪،‬‬
‫والى غير رجعة‪.‬‬
‫أل إن الزمان قد دار دورته‪ ،‬وعاد الوضع كما بدأ‪ .‬في هذا الزمان الذي كفرت‬
‫الناس فيه باهلل وكتبه ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬سيظهر الدين غريباً كما بدأ قبل أربعة‬
‫عشر قرناً‪ ...﴿.‬ويأْبى ّللا إِالَّ أَن ي ِت َّم ُنوره وَلو َك ِره اْل َك ِ‬
‫افُرو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫َُ َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ هُ‬
‫فطوبى للمؤمنين الغرباء بقدوم الرسول‪ ،‬السيد المسيح ‪ ،‬فقد آن أوان ظهوره‬
‫حقاً وصدقاً‪ ،‬وذلك معلوم وظاهر لمن كان له قلب‪ ،‬أو ألقى السمع وهو شهيد‪.‬‬
‫اب ِإالَّ َلُي ْؤ ِمَن َّن ِب ِه َقْب َل َم ْوِت ِه‪ :)2(﴾...‬وهذه اآلية‬
‫َه ِل اْل ِك َت ِ‬
‫عندها‪َ ﴿ :‬وِان ِهم ْن أ ْ‬
‫الكريمة‪ ،‬دليل واضح على عودته‪ ،‬وايمان أهل الكتاب به قبل موته ‪.‬‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة التوبة اآلية (‪)32‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة النساء اآلية (‪)159‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 182‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫طوِى لمولود هذا الزمان‬
‫إن السيد المسيح ‪ ،‬ل يكاد يذكر بالقرآن الكريم إل ومع ذكره دليل على‬
‫عودته ثانية‪ ،‬وان كانت األدلة التي سقناها سابقاً‪ ،‬كافية لكل ذي لب‪ ،‬إلَّ أننا‬
‫أحببنا أن نستكمل البحث‪ ،‬وذلك ألهميته الكبيرة التي أولها له القرآن الكريم‪.‬‬
‫* إن اسمه (‪ )‬لهو من أكبر األدلة على عودته‪ ،‬وذلك ألن لكل مسمى من‬
‫اسمه نصيب‪ ،‬أما األنبياء الكرام‪ ،‬فلهم النصيب الكامل من أسمائهم التي سماهم‬
‫هللا تعالى بها‪.‬‬
‫سمى هللا تعالى سيدنا محمداً ﷺ بهذا السم الكريم بما حوى من الكمالت‬‫فمثالً ّ‬
‫جميعها‪ ،‬وبما انطوت عليه هذه النفس الكريمة العالية من المحامد كلها‪ ،‬فكان اسمه‬
‫(محمداً)‪.‬‬
‫أما السيد المسيح ‪ ،‬فقد أطلق هللا تعالى عليه اسمين كريمين (المسيح‬
‫ومسح الشيء أي‪ :‬أزاله‪ ،‬وبما أن وظيفة كل‬
‫َ‬ ‫عيسى) وكلمة المسيح‪ :‬من المسح‪،‬‬
‫رسول هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬وبالتالي إزالة ومسح حب الدنيا‬
‫من قلوبهم‪ ،‬وربطها باهلل تعالى بمعيته‪.‬‬
‫وبما أنه بمجيئه أول مرة‪ ،‬لم يمسح الكفر من األرض‪ ،‬فإنه ببعثته الثانية حتماً‬
‫سيمسح الكفر من الكون‪ ،‬وكلمة عيسى مشتقة من (عسى) وكلمة عسى تعني‬
‫احتمال حصول الشيء أو عدم حصوله مثال‪ :‬عسى أن يأتي زيد‪ ،‬فاحتمال أن‬
‫يأتي‪ ،‬أو ل يأتي‪ ،‬أما كلمة (عيسى) فمعناها حتماً سيأتي‪ ،‬وليس هناك احتمال‪ ،‬إذ‬
‫يكون معنى اسمه الشريف بالتمام (عيسى المسيح) أي حتماً سيأتي ويمسح الكفر‬
‫من الكون‪ ،‬وتكون له الوجاهة في الدنيا‪ ،‬بإيمان أهل األرض به وهؤلء المؤمنين‬
‫التابعين له‪ ،‬سيكونون فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة‪ ،‬كما في اآلية الكريمة‪:‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 183‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ام ِة ُث َّم ِإَل َّي َمْرِج ُع ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َك َفُروْا إَلى َي ْو ِم اْلقَي َ‬
‫اعل َّال ِذين َّاتبعوك َفو ِ‬
‫ق َّالذ َ‬ ‫َ َُ َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫﴿‪َ ...‬و َج ُ‬
‫يه َت ْخَتلُِفو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫َفأَحكم بيَنكم ِفيما كنتم ِف ِ‬
‫ْ ُ ُ َْ ُ ْ َ ُ ُ ْ‬
‫ِ‬ ‫اع ِة َف َال َت ْم َتُر َّن ِب َها َو َّات ِب ُعو ِن َه َذا ِصَار ٌ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬واَِّن ُه َل ِعْل ٌم هلِ َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫يم﴾ ‪.‬‬ ‫ط ُّم ْس َتق ٌ‬ ‫لس َ‬
‫علم للبر‪ ،‬أي برؤية المنارة نعلم بوجود البر‪ ،‬إن كنا تائهين‬ ‫نقول‪ ،‬المنارة ٌ‬
‫علم للساعة‪ :‬أي ظهوره دليل على قيام الساعة‪ ،‬فبمجيئه‬
‫بالبحار‪ ،‬فالمسيح ‪ٌ ،‬‬
‫سينبئنا بحدوث زلزلة عظيمة‪ ،‬تشمل األرض كلها‪ ،‬حيث تكون الحرب قد وضعت‬
‫سيعلمنا بها السيد المسيح ‪ ،‬ستبتلع ما بقي من آثار‬
‫أوزارها‪ .‬فهذه الزلزلة التي ُ‬
‫الحرب المدمرة‪ ،‬ومن اإلشعاعات الذرية والنووية‪.‬‬
‫* جاء ذكر السيد المسيح ‪ ‬بسورة مريم‪ ،‬على إثر ذكر سيدنا يحيى ‪ ،‬وذلك‬
‫الترتيب في مسرى اآليات الكريمة‪ ،‬له مدلولت ذات معنى‪ .‬حيث ورد في كتب اليهود‬
‫المحرفة‪:‬‬
‫(أن سيدنا يحيى ‪ ‬قد ُقتل‪ ،‬وقطع رأسه)‪ ،‬وذكر عن النصارى‪( :‬أن سيدنا‬
‫عيسى ‪ ،‬قد قتل على الصليب)‪ ،‬فجاءت اآليات القرآنية داحضة تلك األقوال‪،‬‬
‫وناسفة تلك المزاعم الباطلة‪ :‬ففيما يخص سيدنا يحيى ‪ ‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َس َال ٌم‬
‫ِ‬
‫َعَلْيه َي ْوَم ُولِ َد َوَي ْوَم َي ُم ُ‬
‫وت َوَي ْوَم ُيْب َع ُث َحًّيا﴾(‪.)3‬‬
‫(‪،)4‬‬
‫فالسالم أي األمان‬ ‫وفي الحديث الشريف‪( :‬السالم أمان هللا في األرض)‬
‫على سيدنا يحيى يوم يموت‪ ،‬فمعنى ذلك أنه لم يجرؤ أحد على التعرض له‪ ،‬وقد‬
‫عاش بعد أبيه‪ ،‬سيدنا زكريا ‪ ،‬وقام مقامه باإلرشاد والهداية‪ .‬وهللا تعالى بيَّن‬
‫لنا باآلية أعاله بأنه مات موتاً عادياً ولم يقل بأنه قتل أو ذبح‪ ،‬وما عدا ذلك‪ ،‬فهو‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران اآلية (‪)55‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الزخرف اآلية (‪)61‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة مريم اآلية (‪)15‬‬
‫(‪ _ )4‬أخرجه الترمذي عن أبي بكر الصديق‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 184‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫دس خبيث ل أصل له‪ .‬ثم ذكر هللا عز وجل السيد المسيح ‪ ،‬ولكن بصيغة‬
‫أخرى‪ ،‬فحين ّبين هللا تعالى أن سيدنا يحيى عاش بسالم ومات بسالم‪ ،‬ويبعث‬
‫بسالم‪ ،‬مدافعاً عنه وعن سيرته الشريفة‪ .‬جعل تعالى صيغة الخطاب عند ذكر‬
‫الس َال ُم َعَل َّي َي ْوَم ُولِ ُّ‬
‫دت َوَي ْوَم‬ ‫سيدنا عيسى ‪‬تكون من فمه الشريف بآية‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫وت َوَي ْوَم أُْب َع ُث َحًّيا﴾(‪ .)1‬وما ذلك إل ألنه سيعود ثانية‪ ،‬ويقولها بنفسه‪ ،‬فال‬
‫َم ُ‬
‫أُ‬
‫يستطيع الكافرون أن يلمسوه بلمسة أذى‪ ،‬فهو رسول هللا ‪ ،‬وأنه لم يمت بعد بل‬
‫هو وأمه عليهما السالم بمغارة كأهل الكهف‪ ،‬أما سيدنا يحيى ‪ ،‬فإنه مات ولن‬
‫يعود‪ ،‬فلذلك دافع عنه تعالى بكلمة وسالم عليه‪ .‬كما أن السورة تحمل مدلولت‬
‫بذكر هذين الرسولين الكريمين‪ ،‬ومقارنة لطيفة بسيرتهما‪ ،‬فبسيرة سيدنا يحيى‬
‫‪‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وَبًّار ِب َو ِال َدْي ِه َوَل ْم َي ُكن‪ .﴾...‬في يوم من األيام‪َ ..﴿ :‬جَّب ًارا‪:﴾...‬‬
‫على الخلق‪َ ..﴿ :‬ع ِصًّيا﴾(‪ :)2‬عمله كله ضمن أمر هللا تعالى‪ .‬أما بذكر سيدنا‬
‫ار‪ .)3(﴾...‬على الخلق‪..﴿ :‬‬ ‫عيسى فجاءت اآلية‪َ ﴿ :‬وَبًّار ِب َوالِ َد ِتي َوَل ْم َي ْج َعْلِني َجَّب ًا‬
‫َش ِقًّيا﴾‪ :‬أي محروماً من الخيرات واألعمال‪ ،‬فسيدنا عيسى ‪‬سيأتي‪ ،‬وسيكون‬
‫خير كثير‪ ،‬وأعمال عظيمة‪.‬‬ ‫على يديه ٌ‬
‫* لقد جاء ذكر سيدنا المسيح وأمه الصديقة عليهما السالم بسورتي "المؤمنون‬
‫ُم ُه َآي ًة‬
‫واألنبياء"‪ ،‬وعلى أثر ذكرهما‪ ،‬ترد هاتين اآليتين الكريمتين‪َ ﴿ :‬و َج َعْلَنا ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ‬
‫اع َمُلوا َصالِ ًحا‬ ‫الرسل ُكُلوا ِمن َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الطهِيَبات َو ْ‬ ‫َ‬ ‫اه َما إَلى َرْب َوة َذات َقَرار َو َمعين‪َ ،‬يا أَُّي َها ُّ ُ ُ‬
‫آوْيَن ُ ِ‬ ‫َو َ‬
‫ُم ًة و ِ‬
‫احَد ًة َوأََنا َرُّبُك ْم َف َّاتُقو ِن﴾(‪.)4‬‬ ‫يم‪َ ،‬واِ َّن َهِذ ِه أ َّ‬
‫ُمُت ُك ْم أ َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ِإهني ب َما َت ْع َمُلو َن َعل ٌ‬

‫(‪ _ )1‬سورة مريم اآلية (‪)33‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة مريم اآلية (‪)14‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة مريم اآلية (‪)32‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة المؤمنون اآلية (‪)52-50‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 185‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِفيها ِمن ُّر ِ‬ ‫ِ‬
‫اها َو ْابَن َها‬
‫وحَنا َو َج َعْلَن َ‬ ‫َ‬ ‫واآلية الثانية‪َ ﴿ :‬و َّالتي أ ْ‬
‫َح َصَن ْت َفْر َج َها َفَن َف ْخَنا‬
‫اعُبُدو ِن﴾(‪.)1‬‬
‫َف ْ‬ ‫ُم ًة و ِ‬
‫اح َد ًة َوأََنا َرُّب ُك ْم‬ ‫ين‪ِ ،‬إ َّن َه ِذ ِه أ َّ‬
‫ُم ُت ُك ْم أ َّ َ‬
‫ِ ِ‬
‫آي ًة هلْل َعاَلم َ‬
‫َ‬
‫أي أن البشرية كلها ستصبح أمة واحدة‪ ،‬حين ظهورهما عليهما السالم‪ ،‬وسيؤم‬
‫لهما كافة المؤمنين‪ ،‬حيث يؤم الرجال جميعاً بالعاَلم إلمامهم سيدنا عيسى ‪،‬‬
‫والنساء تؤم بسيدتنا مريم عليها السالم والكل بمعيته ‪.‬‬
‫ومن المالحظ في اآليتين اآلنفتين الذكر أن سيدتنا مريم عليها السالم ذكرها‬
‫اها‬
‫ُم ُه َآي ًة‪ .﴾...‬و﴿‪َ ...‬و َج َعْلَن َ‬
‫تعالى كآية ومعجزة للعالمين‪َ ﴿ :‬و َج َعْلَنا ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ‬
‫ين﴾(‪ .)2‬فمتى تكون سيدتنا مريم آية أي معجزة؟ وهي ولدت‬ ‫ِ ِ‬
‫آي ًة هلْل َعاَلم َ‬
‫َو ْابَن َها َ‬
‫ألبوين وعاشت كما يعيش عموم الناس ولم تأت بمعجزات‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل تكون المعجزة معجزة عليها السالم إل حين قدومها الثاني مع ابنها‬
‫العظيم ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يح ْاب ُن‬
‫ّللا ُه َو اْل َمس ُ‬ ‫ِ‬ ‫* قال تعالى في سورة المائدة‪َّ﴿ :‬لَق ْد َك َفَر َّالذ َ‬
‫ين َقآُلوْا إ َّن ه َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مريم ُقل َفمن يملِك ِمن ِ‬
‫ُم ُه َو َمن‬ ‫ّللا َشْيًئا ِإ ْن أََرَاد أَن ُي ْهل َك اْل َمس َ‬
‫يح ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ‬ ‫َْ َ َ ْ َ َ ْ ُ َ ه‬
‫يعا‪ .)3(﴾...‬وهذا دليل قاطع بأنه ‪‬لم يمت هو وأمه‪ ،‬فلو كانا‬ ‫ِفي األَر ِ ِ‬
‫ض َجم ً‬ ‫ْ‬
‫ميتين لكان الخطاب بغير هذه الصيغة‪ ،‬إذ أن كلمة يهلك جاءت بصيغة‬
‫المضارع‪ ،‬فلو كان ميتاً‪ ،‬لجاءت بصيغة الماضي أي‪ :‬أهلك‪ .‬وهذا واضح وضوح‬
‫الشمس في رابعة النهار‪.‬‬
‫* رسول هللا سيد الكون سيدنا محمد العظيم ﷺ خاطبه تعالى بآية صريحة قائالً‬
‫جل وعال‪:‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنبياء اآليات (‪)92-91‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األنبياء اآلية (‪)91‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة المائدة اآلية (‪)17‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 186‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫﴿ِإَّن َك َمهِي ٌت َواَِّن ُهم َّمهِي ُتو َن﴾(‪ .)1‬أما سيدنا المسيح ‪ ،‬فال توجد آية في القرآن‬
‫الكريم تقول أنه مات‪ ،‬فلو كان ميتاً ‪ ،‬لذكر تعالى ذلك بوضوح‪ ،‬كما ذكر تعالى‬
‫على سيدنا محمد ﷺ‪ ،‬بل لكرره في أكثر من موضع‪ ،‬بسبب أن هناك أقواماً يدعون‬
‫أن السيد المسيح إلٓه‪ ،‬ولكن اآليات جاءت مبينة أنه نائم وأنه موجود هو وأمه‪،‬‬
‫وأنهما في ربوة ذات قرار ومعين‪ ،‬وآيات أخرى داحضة للمزاعم بأنه إلٓه‪ .‬فمن ذلك‬
‫ُم ُه‬ ‫ول َق ْد َخ َل ْت ِم ن َق ْب لِ ِه ُّ‬
‫الر ُس ُل َوأ ُّ‬ ‫يح ْاب ُن َم ْرَي َم إِالَّ َر ُس ٌ‬
‫ِ‬
‫قوله تعالى‪َّ ﴿ :‬م ا ا ْل َمس ُ‬
‫ام‪.)2(﴾...‬‬ ‫َّ‬ ‫ِص هِد ي َق ٌة َكا َنا َي أ ُ‬
‫ْك الَ ِن الط َع َ‬
‫الذي يأكل الطعام فقير وضعيف فهذا يكون إلٓهاً! هل يكون اإللٓه فقي اًر وضعيفاً‪،‬‬
‫ات‪ :﴾...‬أل تكفي هذه الحجة‬ ‫ظر َكيف ُنبِين َلهم اآلي ِ‬
‫كيف ُيطعم غيره؟!﴿‪ ...‬ان ُْ ْ َ َ ه ُ ُ ُ َ‬
‫ظْر أََّنى ُي ْؤَف ُكو َن﴾(‪ .)3‬كيف يتحولون‪ ،‬الذي ل يأكل ليوم واحد‪،‬‬
‫عليهم﴿‪ُ ...‬ث َّم ان ُ‬
‫تذهب قوته‪ ،‬فكيف ُيعين الخلق؟!‬
‫ٍ‬
‫كرد على من‬
‫هذا ولو كان السيد المسيح ‪‬ميتاً‪ ،‬ألضافها تعالى إلى تلك اآلية ّ‬
‫يعبد السيد المسيح‪ ،‬لكنه تعالى لم يقل ذلك‪ ،‬بل بيَّن سبحانه (بشرية السيد المسيح‬
‫وأمه عليهما السالم) من خالل افتقارهما للطعام والشراب‪ ،‬ولم يتعرض لذكر الموت‬
‫هنا‪.‬‬
‫***‬
‫َّ‬
‫محط‬ ‫صب‬ ‫الن َ‬
‫ولما كان هبوط سيدنا آدم ‪‬من الجنة السامية إلى دار العمل و َ‬
‫ّ‬
‫طأوا آبينا آدم ‪‬ورموه بالمعصية‬ ‫خالف عند أهل الكتب السماوية‪ ،‬حيث أنهم خ ّ‬
‫والجحود‪ ،‬كما ع از إخواننا النصارى مجيء سيدنا عيسى ‪‬ليكِّّفر عنهم سيئاتهم‬

‫(‪ _ )1‬سورة الزمر اآلية (‪)30‬‬


‫(‪ _ ) 2‬سورة المائدة اآلية (‪)75‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة المائدة اآلية (‪)75‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 187‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ويفتدي بدمه الخطيئة األولى آلدم ‪( ‬وحاشاه)‪ ،‬لذا كان لزاماً تبيان الحقيقة في‬
‫قضية هبوط سيدنا آدم ‪‬وأسبابها‪:‬‬
‫***‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 188‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الفصل الخامس‬
‫في هذا الفصل‪:‬‬
‫المعلم األول سيدنا آدم ‪‬أبو البشرية ومعلمها‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫حقيقة الشفاعة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫يغره؟!‬
‫كيف نسي سيدنا آدم ‪‬وصية هللا تعالى واستطاع الشيطان أن ه‬ ‫‪‬‬
‫غاية قصة سيدنا آدم ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫هل كان خروج سيدنا آدم ‪‬إلى هذه الدنيا ومجيء بني اإلنسان من بعده‬ ‫‪‬‬
‫الجنة‪ ،‬رأساً دون‬
‫الجنة وخلق بني اإلنسان في َّ‬
‫إليها أحسن‪ ،‬أم أن بقاءه في َّ‬
‫خروجهم إلى الدنيا أحسن؟ وأي الحالين يعود على اإلنسان بالسعادة والخير‪ ،‬أكثر‬
‫من اآلخر؟‬
‫***‬
‫المعلم األول‬
‫ِّ‬
‫سيدنا آدم عليه الصالة والسالم أبو البشرية ومعهلِمها‬
‫(‪)1‬‬
‫ض َخلِي َف ًة‪﴾...‬‬ ‫﴿واِ ْذ َقال رُّبك لِْلمالَ ِئ َك ِة ِإِهني ج ِ‬
‫اع ٌل ِفي األَْر ِ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫َ‬
‫وقد ذكر لنا تعالى في القرآن طائفة من قصص األنبياء تتجلى فيها طهارة تلك‬
‫النفوس المؤمنة التي عصمت بإقبالها الدائم على ربها من كل معصية‪ ،‬أدركها من‬

‫أدركها من أهل التقوى واإليمان‪ ،‬و أروا ما تشير إليه تلك القصص الكريمة من ّ‬
‫سمو‬
‫هؤلء الرجال‪ ،‬وما قاموا به من جليل األعمال‪ ،‬وما امتازوا به من كريم األخالق‬
‫ِّ‬
‫يقدر أهل اإليمان إلَّ أهل اإليمان‪ ،‬ول يعرف الفضل‬
‫وعالي الصفات‪ .‬والحقيقة أنه ل ّ‬
‫متحل‬
‫ّ‬ ‫إلَّ ذووه‪ ،‬ول يدرك عظمة ما في القرآن من عبر وأمثال‪ ،‬إل كل قريب من هللا‬
‫بحلية الكمال‪.‬‬
‫اب‪.)2(﴾...‬‬ ‫ان ِفي َقص ِص ِهم ِعْبَرٌة هِأل ُْولِي األَ ْلَب ِ‬ ‫قال تعالى‪َ﴿ :‬لَق ْد َك َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫اس َو َما َي ْع ِقُل َها ِإَّال اْل َعالِ ُمو َن﴾(‪.)3‬‬
‫ال َن ْض ِرُب َها لِ َّلن ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ َوتْل َك ْاأل َْم َث ُ‬
‫واليك اآلن ما بيَّنه هللا تعالى عن سيدنا آدم ‪ ،‬في قوله تعالى‪:‬‬
‫يها َمن ُي ْف ِسُد‬ ‫ِ‬ ‫اعل ِفي األَر ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫ض َخلي َف ًة َقاُلوْا أ ََت ْج َع ُل ف َ‬ ‫ْ‬ ‫ال َرُّب َك لْل َمالَ ئ َكة ِإهني َج ٌ‬ ‫﴿ َوِا ْذ َق َ‬
‫الدماء وَنحن ُنس ِبح ِبحمِدك وُنَقهِدس َلك َق ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعَل ُم َما الَ‬ ‫ال ِإهني أ ْ‬ ‫يها َوَي ْسف ُك ه َ َ ْ ُ َ ه ُ َ ْ َ َ ُ َ َ‬ ‫ف َ‬
‫َت ْعَل ُمو َن﴾(‪.)4‬‬
‫لما عرض هللا تعالى على‬
‫والمالئكة‪ :‬جمع َمَلك‪ ،‬وهم نوع من المخلوقات‪َّ ،‬‬
‫األنفس في عالم األزل أن يمنحها حرية الختيار أحجموا‪ ،‬كما أحجم غيرهم عن‬
‫الدخول في ذلك الميدان الذي دخله اإلنسان‪ ،‬ورضوا أل يكون لهم إطالق وحرية‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)30‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة يوسف اآلية (‪)111‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة العنكبوت اآلية (‪)43‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة البقرة اآلية (‪)30‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 191‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫في الختيار‪ .‬لقد َّ‬
‫ملك هؤلء اختيارهم هلل‪ ،‬ولذلك ُس ُّموا مالئكة‪ .‬وبما أنهم ليس لهم‬
‫مجردون عن هذه الشهوات المادية التي يميل‬ ‫أجسام كما لإلنسان‪ ،‬لذلك هم َّ‬
‫اإلنسان إليها‪ ،‬وليس لهم تلك الحاجات الجسمية‪ ،‬فال يأكلون ول يشربون‪ ،‬ول‬
‫يتزوجون ول يتوالدون‪ ،‬ول يميلون لشيء من هذه األشياء‪.‬‬
‫ولما قال ربُّك للمالئكة‪:‬‬
‫َّ‬
‫﴿‪ِ ...‬إِهني ج ِ‬
‫اع ٌل ِفي األَْر ِ‬
‫ض َخلِي َف ًة‪ :﴾...‬طمعوا أن ينالوا ذلك المقام‪ ،‬ألن‬ ‫َ‬
‫الخليفة معناه ذلك المخلوق العالي الذي يكون أهالً للنيابة عن هللا تعالى في تبليغ‬
‫عباده أوامره‪ ،‬وتعريفهم به تعالى والدخول بهم عليه‪ ،‬فبما اكتسبه ‪‬من خالقه من‬
‫الخُلق‪ ،‬وغير ذلك من‬ ‫ٍ‬
‫وسمو في ُ‬ ‫رأفة ورحمة‪ ،‬وعلم وحكمة‪ ،‬وعدل وحب للحق‪،‬‬
‫ّ‬
‫صفات الكمال‪ ،‬صار أهالً ألن يقوم بذلك المقام‪ ،‬فيكون خليفة هللا في أرضه‪،‬‬
‫ويقيم العدل ويحكم بين الناس بالحق‪ ،‬وينشر الخير والصالح في األرض‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وقد أشارت اآلية الكريمة إلى ذلك‪ ،‬في قوله تعالى مخاطباً سيدنا داوود ‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ق‪﴾...‬‬ ‫اس ِباْل َح ِه‬
‫الن ِ‬ ‫اح ُكم َبْي َن َّ‬
‫ض َف ْ‬ ‫اك َخلِي َف ًة ِفي ْاألَْر ِ‬‫ود ِإَّنا َج َعْلَن َ‬
‫﴿َيا َد ُاو ُ‬
‫يتولى منصب الحكم‪ ،‬يتولى منصب الدللة واإلرشاد‪ ،‬قال تعالى‬ ‫والخليفة كما َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫النُب َّوَة‪ ،)2( ﴾...‬إذ بما‬‫اب َواْل ُح ْك َم َو ُّ‬
‫اه ُم اْلك َت َ‬
‫آتْيَن ُ‬
‫ين َ‬ ‫في سورة األنعام‪﴿ :‬أُ ْوَلئ َك َّالذ َ‬
‫اكتسبه من دللت ربه وأسمائه الحسنى‪ ،‬وبما انطبع في قلبه من حب لخالقه‬
‫وشغف به‪ ،‬أضحى خليقاً بأن يكون وسيطاً بين الخْلق وبين هللا‪ ،‬يبّلِّغهم أوامره‬
‫ويعرفهم بكمالته وأسمائه الحسنى‪ ،‬ويرشدهم إلى طريق معرفته‪ ،‬فإذا ما‬ ‫تعالى ِّّ‬
‫ارتبطت نفوسهم به وأقبلت بمعيَّته‪ ،‬دخل بتلك األنفس على هللا تعالى‪ ،‬وكان لها‬

‫سراجاً مني اًر ترى به طرفاً من تلك األسماء اإللٓهية‪ ،‬وتشاهد الكمال اإللٓهي‪ّ ،‬‬
‫فتحبه‬
‫وتعشقه‪ ،‬وهنالك تقتبس به من هللا نو اًر‪ ،‬ترى به الخير خي اًر والشر ّاً‬
‫شر‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤ‬
‫ص‪ .‬اآلية (‪)26‬‬
‫(‪ _ )2‬سورة األنعام اآلية (‪)89‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 192‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فالخليفة والحالة هذه هو من الخْلق‪ ،‬بمنزلة األب العطوف على بنيه‪ ،‬أو األخ‬
‫الراشد من إخوته وذويه‪ ،‬أشفقهم وأعطفهم عليهم‪ ،‬وأرأفهم وأرحمهم بهم‪ ،‬وأنفعهم لهم‪،‬‬
‫وهو بهذا أحب الخْلق إلى هللا‪ ،‬وأحظاهم عنده‪ ،‬وأرفعهم شأناً إليه‪ ،‬وأقربهم زلفى لديه‪.‬‬
‫ذلك هو مقام الخالفة الذي أهَّل هللا تعالى له اإلنسان‪ ،‬وطمعت به المالئكة‬
‫الكرام‪.‬‬
‫وكان خْلق الجن قد سبق خْلق اإلنسان‪ ،‬والى ذلك تشير اآلية الكريمة في قوله‬
‫اه ِمن‬ ‫ان ِمن َصْل َصال ِهم ْن َح َمإ َّم ْسُنون‪َ ،‬واْل َج َّ‬
‫آن َخَل ْقَن ُ‬ ‫نس َ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬وَلَق ْد َخَل ْقَنا ِ‬
‫اإل َ‬
‫الس ُمومِ﴾(‪ .)1‬وحيث أن إبليس وذريته أفسدوا في األرض بإعراضهم‬ ‫َقْب ُل ِمن َّن ِار َّ‬
‫يها َمن ُي ْف ِسُد‬ ‫ِ‬
‫عن هللا‪ ،‬لذلك خاطب المالئكة ربَّهم بنفوسهم قائلين‪ ..﴿ :‬أ ََت ْج َع ُل ف َ‬
‫الد َماء‪ :﴾...‬أي أيصدر من هذا المخلوق ما صدر من الجن‪ ،‬ويفعل ما‬ ‫ِفيها ويس ِفك هِ‬
‫َ ََْ ُ‬
‫فعله إبليس وذريته من قبل؟﴿‪َ ...‬وَن ْح ُن ُن َسهِب ُح ِب َح ْم ِد َك‪ :﴾...‬أي نجعل نفوس‬
‫عبادك تسبح في فضلك بما نلقيه فيها من التعريف بإحسانك‪ ،‬وما تُحمد عليه من‬
‫فكر ابحث عن‬ ‫عظيم عنايتك‪ .‬فالمَلك يلقي اإللهام بنفسك‪ :‬يا عبد هللا ارجع إلى هللا‪ِّّ ،‬‬
‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫س‬ ‫سعادتك‪ ،‬يا نفس اسمعي كالم هللا‪ ،‬انظري في الكون استدلي على هللا‪َ ..﴿ .‬وُنَقهد ُ‬
‫نطهر نفوسهم لك‪،‬‬ ‫َل َك‪ :﴾..‬أي‪ :‬وبهذا نجعل نفوسهم طاهرة بإقبالها عليك‪ ،‬أي‪ِّ :‬‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫ونطهر قلوبهم لتكون صالحة لإلقبال عليك‪.‬‬ ‫ِّّ‬
‫نسبحهم بما تُحمد عليه‪،‬‬
‫ّ‬
‫فإن جعلتنا خلفاء ظهر منا الخير لعبادك‪ ،‬وكنا وسطاء في إيصال نفوسهم إليك‬
‫والدخول بها عليك‪ .‬وهنالك خاطبهم ربُّهم بما أشارت إليه اآلية الكريمة في قوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫﴿‪َ ...‬ق ِ‬
‫ال ِإهني أ ْ‬
‫َعَل ُم َما الَ َت ْعَل ُمو َن﴾(‪.)2‬‬ ‫َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة الحجر اآليات (‪)27-26‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة البقرة اآلية (‪)30‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 193‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أي‪ :‬إني أعلم من قابلية هذا اإلنسان وأهليته ما ل تعلمون‪ .‬آدم أعلى منكم‪،‬‬
‫وأرقى منكم‪ ،‬وكذلك المؤمن الكامل‪ ،‬أرقى من المالئكة الكرام‪ .‬فاإلنسان لديه أهلية‬
‫أحط من كل شيء‪ ،‬هذا والحيوان جاء‬ ‫ألن يكون أعلى من كل شيء‪ ،‬لكن الكافر ُّ‬
‫و َّأدى الوظيفة‪ ،‬فهو ُيجازى في الدنيا على شذوذه عنها‪ ،‬وغداً ل نار له‪ ،‬جزاؤه هنا‬
‫ممن كفروا‪.‬‬
‫فقط‪ ،‬لكن الكافر غداً للنار‪ :‬فالكلب خير من كثير من الخْلق َّ‬
‫عظم ‪ ‬فضل‬‫وخلق هللا تعالى سيدنا آدم ‪‬وأخرجه إلى هذا الوجود‪ ،‬وقد َّ‬
‫وقدر إحسانه إليه‪ ،‬وبهذا التقدير والتعظيم اتَّجهت نفسه إلى هللا تعالى‬
‫خالقه عليه‪َّ ،‬‬
‫مقبلة عليه‪.‬‬
‫وجهتها انطبعت فيها‬
‫وبما أن النفس البشرية مثلها كمثل المرآة الصافية‪ ،‬حيثما َّ‬
‫آثار ما اتَّجهت إليه‪ ،‬لذلك انطبعت في نفس سيدنا آدم ‪ ‬انطباعات من األسماء‬
‫اإللٓهية‪ ،‬وبهذا صار له علم بها كلها‪ ،‬والى ذلك أشارت اآلية الكريمة في قوله تعالى‪:‬‬
‫َس َماء ُكَّل َها‪ :)1(﴾...‬الرحيم‪ ،‬العليم‪ ،‬القدير‪ ،‬الحليم‪ ..‬أسماء هللا‬ ‫﴿ َو َعَّل َم َ‬
‫آد َم األ ْ‬
‫علمها هللا تعالى سيدنا آدم ‪ ‬إنما هي أسماء‬ ‫الحسنى‪ :‬تلك هي األسماء التي َّ‬
‫ممن سيكون خليفة هللا في األرض‪ ،‬حقيقاً بذلك المقام‬
‫الحضرة اإللٓهية التي تجعل َّ‬
‫جدي اًر بهذا المنصب‪َّ ،‬‬
‫فإن من صار له علم باسم هللا تعالى الرحمن‪ ،‬بما انطبع في‬
‫نفسه من الرحمة اإللٓهية‪ ،‬يضحي جدي اًر بأن يكون خليفة هللا في خْلقه‪ ،‬قال تعالى‬
‫مشي اًر إلى هذه الناحية مخاطباً رسوله سيدنا محمداً ﷺ‪َ ﴿ :‬ف ِبما رحمة ِمن ِ‬
‫نت‬‫ّللا لِ َ‬
‫َ َ َْ هَ ه‬
‫اس َت ْغ ِفْر َل ُه ْم‬
‫ف َعْن ُه ْم َو ْ‬ ‫اع ُ‬
‫ظ اْلَقْل ِب الَ ن َف ُّ ِ‬
‫ضوْا م ْن َح ْولِ َك َف ْ‬ ‫ظا َغلِي َ‬ ‫نت َف ًّ‬‫َل ُه ْم َوَل ْو ُك َ‬
‫ِِ‬
‫ّللا ُي ِح ُّب اْل ُم َت َوهكل َ‬ ‫اوْرُهم ِفي األَم ِر َفِإ َذا َع َزم َت َف َت َوَّك ْل َعَلى ه ِ ِ‬
‫ين﴾(‪َ﴿ .)2‬لَق ْد‬ ‫ّللا إ َّن ه َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َو َش ِ ْ‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)31‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة آل عمران اآلية (‪)159‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 194‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ول ِهم ْن‬
‫وف‬ ‫يص َعَلْي ُكم ِباْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين َرُؤ ٌ‬ ‫أَن ُفس ُك ْم َع ِز ٌيز َعَلْيه َما َعن ُّت ْم َح ِر ٌ‬ ‫اءك ْم َر ُس ٌ‬
‫َج ُ‬
‫(‪) 1‬‬
‫يم﴾‬ ‫ِ‬
‫َّرح ٌ‬
‫فبما انطبع في نفس رسول هللا ﷺ من الرحمة التي اكتسبها بإقباله على خالقه‪،‬‬
‫صار ّليناً مع الخْلق‪ ،‬لطيفاً في معاملتهم‪ ،‬حريصاً على هدايتهم ودللتهم‪ ،‬رؤوفاً‬
‫تحققت في نفس سيدنا محمد‬‫رحيماً بهم‪ ،‬وذلك ما يتطلَّبه مقام الخالفة من صفات َّ‬
‫ﷺ‪ ،‬وفي نفس سيدنا آدم ‪ ‬من قبل‪ ،‬ل بل في نفس كل رسول ونبي ومرشد‪،‬‬
‫كل على حسب إقباله على خالقه وقربه منه‪ ،‬ومن لم يحصل له اإلقبال على هللا‪،‬‬
‫ٌّ‬
‫ولم تنطبع في نفسه تلك األسماء اإللٓهية‪ ،‬فلم يكتسب من خالقه الرحمة والرأفة‪،‬‬
‫والعدل والحلم والحكمة‪ ،‬وغير ذلك من الصفات الكاملة‪ ،‬فليس أهالً ألن يقوم في‬
‫تحقق هذه الصفة في نفوس أصحاب رسوله‬ ‫ذلك المقام‪ .‬وقد أشار تعالى إلى ُّ‬
‫الكرام في قوله تعالى‪:‬‬
‫ين َم َع ُه أ َِشدَّاء َعَلى اْل ُك َّف ِار ُر َح َماء َبْيَن ُه ْم‪.)2(﴾...‬‬ ‫﴿ ُّمح َّمٌد َّرسول َّ ِ ِ‬
‫ّللا َو َّالذ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ونعود إلى الكالم عن سيدنا آدم ‪ ‬فنقول‪:‬‬
‫لقد صار لسيدنا آدم ‪ ‬علم بأسماء هللا تعالى الرحمن والعادل والرؤوف والحليم‬
‫والغفور‪ ..‬إلى غير ذلك من األسماء اإللٓهية‪ ،‬بما انطبع في نفسه الصافية منها‪ ،‬فكان‬
‫رحيماً وكان عادلً وكان حليماً وكان‪ ..‬وبذلك استحق ألن يكون أهالً لذلك المقام‪.‬‬
‫علم سيدنا آدم ‪ ‬القصعة‬ ‫أما ما يذهب إليه أناس من أن هللا تعالى َّ‬
‫والقصيعة‪ ،‬وأسماء الحيوانات والنباتات‪ ،‬وغير ذلك من الموجودات‪ ،‬فذلك بعيد كل‬
‫أن مسرى اآليات‬
‫البعد عن ذلك المعنى العالي الذي تشير إليه اآلية الكريمة‪ ،‬كما َّ‬
‫ينفي ذلك نفياً قطعياً‪ ،‬فإن المقام الذي يقوم فيه سيكون خليفة هللا في أرضه وهادياً‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة التوبة‪ .‬اآلية ( ‪) 128‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الفتح اآلية (‪)29‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 195‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫يتطلب منه أن يعّلِّمه هللا اسم القصعة والقصيعة‪ ،‬إنما َّ‬
‫يتطلب‬ ‫ومرشداً لعباده‪ ،‬ل َّ‬
‫منه أن يكون مصطبغاً قلبه بالرأفة والرحمة‪ ،‬وغير ذلك من الصفات الكاملة‪.‬‬
‫ثم إن هللا تعالى أمر سيدنا آدم ‪ ‬أن يعرض على المالئكة األسماء اإللٓهية‬
‫التي اصطبغت نفسه بصبغتها‪ ،‬وانطبعت بانطباعات منها‪.‬‬
‫وعرض سيدنا آدم ‪ ‬على المالئكة تلك األسماء‪ ،‬وذلك ما أشارت إليه اآلية‬
‫الكريمة في قوله تعالى‪ُ ..﴿ :‬ث َّم َعَر َض ُه ْم َعَلى اْل َمالَ ِئ َك ِة‪ :﴾...‬فسألهم سيدنا آدم‬
‫‪ ‬عن معاني أسماء هللا الحسنى‪ :‬القدير‪ ،‬الحليم‪ ،‬العليم‪ ،‬الرحيم‪..‬‬
‫تدل عليه تلك األسماء‪:‬‬
‫وقد طلب تعالى من المالئكة أن ينبئوه بما ُّ‬
‫ِِ‬
‫ين﴾(‪ :)1‬أي‪ :‬أخبروني‬‫نت ْم َصادق َ‬ ‫ال أَنِبُئوِني ِبأ ْ‬
‫َس َماء َه ُؤالء ِإن ُك ُ‬ ‫﴿‪َ ...‬فَق َ‬
‫بمدلولت ومعاني األسماء التي عرضها عليكم آدم‪ ،‬فما المعنى المنطوي مثالً تحت‬
‫القهار‪ ..‬إلى غير ذلك من األسماء‪ ،‬اسماً بعد اسم‪ِ ..﴿ :‬إن‬
‫الجبار و َّ‬
‫اسم المهيمن و َّ‬
‫ين﴾‪ :‬في أنكم أهل للخالفة‪ .‬فما كان منهم إلَّ أن‪َ ﴿ :‬قاُلوْا‬ ‫ِِ‬
‫نت ْم َصادق َ‬
‫ُك ُ‬
‫ُسْب َحاَن َك‪ :)2(﴾...‬ما أعظم كمالك وما أعظمك!‬
‫علمتنا‪ ،‬فقد أجبنا‬ ‫﴿‪ ...‬الَ ِعْل َم َلَنا ِإالَّ َما َعَّل ْم َتَنا‪ :﴾...‬أي‪ :‬ل علم لنا أكثر َّ‬
‫مما َّ‬
‫يم‪:﴾...‬‬ ‫بحسب ما علمناه بإقبالنا عليك‪ ،‬وبحسب صدقنا معك‪ِ ..﴿ :‬إَّن َك أ َ ِ‬
‫َنت اْل َعل ُ‬
‫يم﴾‪ :‬عملك كله ضمن حكمة‪ .‬فأنت الحكيم‬ ‫ِ‬
‫بنا وبدرجة علمنا بأسمائك‪ ..﴿ :‬اْل َحك ُ‬
‫بفعلك واختيارك‪ .‬فما قلنا ما قلناه اعتراضاً‪ ،‬إنما طمعاً في ذلك المقام‪ ،‬طمعاً بغية‬
‫التقرب إليك‪ ،‬وأنت أدرى وأعلم بمن هو بهذا المقام أجدر َوأَْل َيق‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫عرف المالئكة بتلك األسماء اإللٓهية‬‫هنالك أمر هللا تعالى سيدنا آدم ‪ ‬أن ُي ِّّ‬
‫تكل ْم عن أسمائي‬ ‫التي عرضها عليهم‪َ ﴿ :‬قال يا آدم أَن ِبْئهم ِبأ ِ‬
‫آئ ِهم‪َّ :﴾...‬‬
‫َس َم ْ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َُ‬
‫عرفهم باألسماء التي عرضتها عليهم‪:‬‬ ‫الحسنى التي شرحوها َّ‬
‫وتكلموا عنها‪ :‬أي‪ِّّ :‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)31‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة البقرة اآلية (‪)32‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 196‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫عرفهم آدم ‪ ‬باألسماء اإللٓهية المعروضة‬ ‫فلما َّ‬ ‫﴿‪َ ..‬فَل َّما أَنبأَهم ِبأَسم ِ‬
‫آئ ِه ْم‪َّ :﴾...‬‬ ‫َ ُْ ْ َ‬
‫وتفوقه على المالئكة في ذلك‬‫مبيناً ِّعْل َمه بتلك األسماء اإللٓهية‪ُّ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫مفصالً ِّّ‬
‫عليهم ّ‬
‫العلم والبيان‪ ،‬فبيَّن ما ينطوي فيها من كمالت هللا تعالى بحسب إقباله العظيم‬
‫تفوقه عليهم‪ ،‬هنالك خاطبهم‬ ‫على رّبِّه‪ ،‬كالماً سبق به المالئكة أجمعين‪ ،‬فظهر ّ‬
‫ِ‬
‫ال أََل ْم أَ ُقل َّل ُك ْم ِإهني أ ْ‬
‫َعَل ُم‬ ‫ربُّهم بما أشارت إليه اآلية الكريمة في قوله تعالى‪َ ..﴿ :‬ق َ‬
‫َعَل ُم َما ُتْبُدو َن‪ :﴾...‬اآلن‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواألَْر ِ‬
‫ض‪ :﴾...‬آدم أعلى منكم‪َ ..﴿ :‬وأ ْ‬ ‫َغْي َب َّ َ َ‬
‫نت ْم َت ْك ُت ُمو َن﴾(‪ :)1‬من طلبكم الخالفة ألنفسكم‪.‬‬ ‫من اإلقرار بالحق آلدم‪َ ..﴿ :‬و َما ُك ُ‬
‫والغيب‪ :‬كل ما غاب علمه عن المخلوق‪ .‬فكل ما وقع وما سيقع‪ ،‬وكل ما‬
‫أوجده هللا تعالى وما سيوجده في السماوات واألرض‪ ،‬مما ل علم للمخلوق به ول‬
‫إطالع له عليه‪ ،‬إنما هو غيب‪ .‬وهللا تعالى يعلم غيب السماوات واألرض ألنه‬
‫تعالى هو الخالق الموجد‪ ،‬وكل ما فيهما قائم به تعالى مستمد الحياة منه‪ ،‬متوِّّقف‬
‫بقاؤه ووجوده وحدوثه على دوام إمداد هللا وتجّلِّيه‪.‬‬
‫وهو تعالى عليم بكل نفس وبما انطوت عليه‪ ،‬فقد علم تعالى ما انطوت عليه‬
‫نفوس المالئكة من العلم‪ ،‬والوظيفة التي تتناسب مع علمهم‪ ،‬كما علم تعالى أهلية‬
‫هذا اإلنسان العظيم ‪ ‬وقابلياته‪.‬‬
‫أما المخلوق فال علم له إلَّ بما ُيطلعه هللا تعالى عليه‪ ،‬فقد يغيب عنه مثالً ما في‬
‫لما طلبوا الخالفة‪ ،‬إذ‬
‫نفسه وقد تخفى عليه درجة علمه ومعرفته‪ ،‬كما وقع للمالئكة َّ‬
‫ُّ‬
‫ظنوا أن لديهم األهلية لذلك المقام‪ ،‬وغاب عنهم ما عليه سيدنا آدم ‪ ‬من سبق‬
‫وتفوق في ذلك المضمار‪ ،‬وهنالك أراهم هللا تعالى الحقيقة‪ ،‬وبيَّن لهم درجة علمهم‪،‬‬
‫ُّ‬
‫نت ْم َت ْك ُت ُمو َن﴾‪ :‬الواردة في‬
‫‪...‬و َما ُك ُ‬
‫وأوقفهم على جلية األمر‪ .‬ويتبيَّن لنا من كلمة ﴿ َ‬
‫نت ْم َت ْكُت ُمو َن﴾‪ :2‬أن قول المالئكة عندما قالوا‪:‬‬
‫َعَل ُم َما ُتْبُدو َن َو َما ُك ُ‬
‫قوله تعالى‪َ ..﴿ :‬وأ ْ‬
‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)33‬‬
‫(‪ _ )2‬سورة البقرة اآلية (‪)33‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 197‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿‪َ ..‬قاُلوْا أ ََتجعل ِفيها من ي ْف ِسد ِفيها ويس ِفك هِ‬
‫س‬ ‫الد َماء َوَن ْح ُن ُن َسهِب ُح ِب َح ْمد َك َوُنَقهد ُ‬ ‫َُْ َ َ ُ ُ َ ََْ ُ‬
‫فاطلع هللا‬‫سرهم وكتموه في أنفسهم‪َّ ،‬‬ ‫َل َك‪ :)1(﴾...‬إنما كان قولً نفسيًا‪ .‬فقد قالوا ذلك في ِّّ‬
‫تعالى عليه وخاطبهم به وأراهم من علم سيدنا آدم ‪ ‬ما أراهم‪ ،‬حتى جعل نفوسهم‬
‫تقر بحكمته تعالى وتخضع لختياره وعلمه‪ ،‬مستسلمة له مذعنة إليه‪.‬‬
‫ُّ‬
‫َعَل ُم َما ُتْبُدو َن‪ِّّ :﴾...‬‬
‫تبين لنا علمه تعالى بما أبداه‬ ‫وكما أن كلمة ﴿‪َ ..‬وأ ْ‬
‫المالئكة اآلن من اإلقرار بالحق آلدم ‪ ،‬وأظهروه من التسليم هلل واإلقرار‬
‫نت ْم َت ْك ُت ُمو َن﴾‪ :‬من طلبكم الخالفة‬
‫‪...‬و َما ُك ُ‬
‫بحكمته في اختياره‪ ،‬فكذلك كلمة ﴿ َ‬
‫أسروه في أنفسهم‪.‬‬ ‫ألنفسكم‪ِّّ ،‬‬
‫وتبين لنا علمه تعالى بما كتموه و ُّ‬
‫ليبين لنا‪ ،‬أن علمه بالسر الذي يخفيه المخلوق‬ ‫وقد ذكر لنا تعالى هاتين الكلمتين ِّّ‬
‫في نفسه ل يختلف عند هللا تعالى عن الجهر الذي يبديه بلسانه‪ ،‬فالجهر والسر عند‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َخَفى﴾(‪.)2‬‬ ‫هللا تعالى سيَّان‪ .‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬واِن َت ْج َهْر باْلَق ْول َفِإَّن ُه َي ْعَل ُم ه‬
‫السَّر َوأ ْ‬
‫َو اجهروا ِب ِه إِ َّنه ع لِيم ِب َذ ِ‬ ‫ِ‬
‫ق‬
‫ور‪ ،‬أ ََال َي ْع َل ُم َم ْن َخ َل َ‬ ‫الص ُد ِ‬
‫ات ُّ‬ ‫ُ َ ٌ‬ ‫﴿ َوأَسُّروا َق ْوَل ُك ْم أ ِ ْ َ ُ‬
‫يف ا ْل َخ ِب ُير﴾(‪ .)3‬واآلن وبعد أن بيَّنا المراد من كلمة ﴿‪..‬‬ ‫وهو َّ ِ‬
‫اللط ُ‬ ‫َ َُ‬
‫لبد لنا من اإلجابة على سؤال نستطيع‬ ‫َس َماء‪ )4(﴾...‬الواردة في اآليات السابقة َّ‬ ‫األ ْ‬
‫نلخصه بما يلي‪ :‬فإذا َّأولنا قوله تعالى‪َ ﴿ :‬قال يا آدم أَن ِبْئهم ِبأَسم ِ‬
‫آئ ِه ْم‪:)5(﴾...‬‬ ‫ُ َْ‬ ‫َ َ َُ‬ ‫أن ِّّ‬
‫أي‪ :‬أنبئهم بأسمائي التي عرضتها عليهم‪ ،‬مع أن الكلمة قد وردت في اآلية‬
‫آئ ِه ْم‪ ﴾..‬ولم ترد بأسمائي فنقول‪ :‬رأينا أن الهدف الذي ترمي‬ ‫الكريمة‪ِ ..﴿ :‬بأَسم ِ‬
‫َْ‬
‫إليه القصة‪ ،‬والغاية التي وردت من أجلها‪ ،‬إنما هي بيان سمو سيدنا آدم ‪‬‬
‫التفوق الذي جعله خليقاً‬
‫وتفوقه على المالئكة الكرام في العلم بأسماء هللا‪ ،‬ذلك ُّ‬
‫ّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)30‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة ۤطه اآلية (‪)7‬‬
‫(‪ _ ) 3‬سورة الملك اآليات (‪)14 -13‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة البقرة اآلية (‪)31‬‬
‫(‪ _ )5‬سورة البقرة اآلية (‪)33‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 198‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫بمقام الخالفة‪ .‬وقد كنا بيَّنا أن ذلك الهدف يقتضي بأن يكون المراد من كلمة ﴿‪..‬‬
‫َس َماء‪ :﴾...‬الواردة في هذه القصة إنما هو األسماء اإللٓهية‪ ،‬وان مسرى القصة‬
‫األ ْ‬
‫ينفي ما سوى ذلك من المعاني التي تتناولها كلمة‪ ..﴿ :‬األ ْ‬
‫َس َماء‪ :﴾...‬نفياً قطعياً‪،‬‬
‫َس َماء‪ :﴾...‬في هذه القصة إنما يعني األسماء اإللٓهية‬
‫ولهذا فتكرار كلمة ﴿‪ ..‬األ ْ‬
‫دون سواها‪ ،‬إذ هي موضوع الخطاب ومحور القصة‪.‬‬
‫وكلمة ﴿‪ِ ...‬بأَسم ِ‬
‫آئ ِه ْم‪ :﴾..‬ل تعني والحالة هذه أسماء المالئكة‪ ،‬إنما تعني‬ ‫َْ‬
‫األسماء اإللٓهية المعروضة عليهم‪ ،‬ألن معرفة سيدنا آدم ‪ ‬بأسماء المالئكة ل‬
‫يزيده عند هللا رفعة‪ ،‬ول يجعله أسمى من المالئكة منزلة‪.‬‬
‫***‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 199‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫َّ‬
‫ولعلك تقول‪:‬‬
‫نؤول كلمة ﴿‪َ ...‬فَل َّما أَنبأَهم ِبأَسم ِ‬
‫آئ ِه ْم‪ :)1(﴾...‬أي‪ :‬بما عرفوه هم من‬ ‫لماذا ل ِّ‬
‫َ ُْ ْ َ‬ ‫ّ‬
‫أسماء ربهم فنقول‪ :‬لو َّأولنا معنى اآلية بهذا التأويل‪ ،‬لما كان لسيدنا آدم ‪ ‬تلك‬
‫المكانة التي سما بها ِّ‬
‫متفوقاً على المالئكة جميعاً‪ ،‬ألنه إنما أنبأهم بشيء عرفوه‬
‫ّ‬
‫من قبل وأدركوه‪ ،‬وبهذا ل يكون خليقاً بأن يستحق الخالفة ويكون أسمى منهم‬
‫مقاماً‪ ،‬ألنه لم يزد على شرح المالئكة لألسماء المعروضة عليهم شيئاً‪ ،‬وما هو‬
‫بذلك البيان إلَّ كواحد منهم‪ ،‬ولكنه إنما أنبأهم بتلك األسماء اإللٓهية المعروضة‬
‫تفوق به عليهم جميعاً‪.‬‬ ‫عليهم‪ِّّ ،‬‬
‫مبيناً فيها بياناً عالياً َّ‬
‫نبين الفرق في المعنى بين كلمة ﴿‪ِ ...‬بأَسم ِ‬
‫آئ ِه ْم‪ :﴾..‬حسبما‬ ‫َْ‬ ‫بقي علينا أن ِّّ‬
‫وردت في اآليات الكريمة‪ ،‬وبين كلمة "بأسمائي" التي جعلناها موضوعاً لسؤالنا‬
‫الذي نحن بصدده فنقول‪ :‬لو أن الخطاب في اآلية الكريمة قد جاء "أنبئهم‬
‫بأسمائي" بدلً من ﴿‪ ..‬أَنبأَهم ِبأَسم ِ‬
‫آئ ِه ْم‪ :﴾...‬لختلف المعنى اختالفاً كلِّّياً‪ ،‬ألن‬ ‫َ ُْ ْ َ‬
‫كلمة "أنبئهم بأسمائي" معناها أنبئهم بكل اسم من أسمائي على وجه اإلحاطة‪.‬‬
‫وبما أنه ليس باستطاعة مخلوق أن يحيط باسم الرحمن‪ ،‬فيعلم مبلغ رحمة هللا‬
‫تعالى ُفي ِّّنبئ الخْلق بها‪ ،‬ول يستطيع أن يحيط أحد باسم العليم‪ ،‬فيعلم علم هللا تعالى‬
‫وينبئ الخْلق به‪ ،‬وكذا سائر األسماء اإللٓهية‪ ،‬ولذلك لم ترد اآلية "أنبئهم بأسمائي"‬
‫آئ ِه ْم‪ :﴾...‬أي‪ :‬بأسمائهم التي عرضتها عليهم والتي‬‫إنما وردت ﴿‪ ..‬أَنبأَهم ِبأَسم ِ‬
‫َ ُْ ْ َ‬
‫مبيناً مبلغ علمك منها‪ ،‬وما ينطوي فيها من الكمال بحسب إقبالك‬ ‫شرحوها هم ِّّ‬
‫العظيم‪.‬‬
‫والحقيقة أنه ل يعلم أسماء هللا إلَّ هللا تعالى‪ ،‬ول يحيط أحد بها علماً‪ ،‬إذ ل َّ‬
‫حد‬
‫لها ول انتهاء‪ ،‬وكل ما في األمر أن األسماء اإللٓهية إنما يشاهد اإلنسان منها بقدر‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)33‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 200‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ويتوسع في تعريف غيره برحمة هللا ورأفته وعلمه وسائر‬‫َّ‬ ‫قربه من هللا تعالى‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حد ما‪ ،‬وهللا واسع عليم‪.‬‬
‫أسمائه‪ ،‬وذلك إلى ّ‬
‫فكلما وصلت إلى درجة من العلم بأسماء هللا‪ ،‬فهي أوسع وأوسع‪ ،‬وكلما بلغت‬ ‫َّ‬
‫مرتبة في ذلك المضمار‪ ،‬فرّبك سبحانه أعلى وأرفع‪ ،‬وفوق كل ذي عل ٍم عليم‪.‬‬
‫سبقاً فاقهم‬
‫سبق سيدنا آدم ‪ ‬في العلم بأسماء هللا ْ‬
‫أما وقد ظهر للمالئكة الكرام ْ‬
‫فيه جميعاً‪ ،‬هنالك أمرهم هللا تعالى أن ُيقبلوا عليه‪ ،‬بصحبة آدم ‪ ،‬فيتَّخذوه سراجًا‬
‫مني اًر لنفوسهم‪ ،‬واماماً لهم في إقبالهم عليه تعالى‪ ،‬لذلك أمر هللا تعالى المالئكة‬
‫آلد َم‪ :)1(﴾...‬اطلبوا‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اس ُجُدوْا َ‬ ‫بالسجود لسيدنا آدم ‪ ،‬قال تعالى﴿ َوِا ْذ ُقْلَنا لْل َمالَئ َكة ْ‬
‫علي‪ ،‬فتشاهدوا مشاهدات‬ ‫منه "بواسطته" العلم والمعرفة‪ ،‬اربطوا نفوسكم معه لتدخلوا َّ‬
‫ِ‬
‫يس‪ :﴾...‬لجهله‪ ،‬إذ‬ ‫أجل من مشاهداتكم‪َ ..﴿ :‬ف َس َجُدوْا‪ :﴾...‬كلهم‪ِ ..﴿ :‬إالَّ ِإْبل َ‬ ‫أعلى و َّ‬
‫لم يكن يعرف شيئاً عن هللا‪.‬‬
‫أبلس عليه األمر فما عرف عن هللا إلَّ أنه خالق‪ ..﴿ :‬أََبى‪ :﴾...‬عن السجود‪،‬‬
‫ان ِم َن‬
‫اس َت ْكَبَر‪ :﴾...‬عن آدم‪َ ..﴿ :‬وَك َ‬ ‫قال أنا أكبر من آدم وأعظم منه‪َ ..﴿ :‬و ْ‬
‫َّ‬ ‫فكر بآيات هللا‪ ،‬لو َّ‬ ‫ين﴾‪ :‬ما َّ‬ ‫ِ‬
‫وعظم‪ ،‬لخضع آلدم ونال من الكمالت‬ ‫فكر‬ ‫اْل َكاف ِر َ‬
‫والسعادة ما نال‪.‬‬
‫َّ‬
‫ولعلك تقول‪ :‬ما هو هذا السجود الذي أمر هللا تعالى به مالئكته؟ وهل يكون‬
‫السجود ألحد غير هللا تعالى فنقول‪:‬‬
‫السجود‪ :‬هو الطلب المقرون بالخضوع النفسي والتقدير‪ .‬فالسجود هلل تعالى هو‬
‫طلب المعونة منه واإلمداد‪ ،‬وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في مواضع عديدة من‬
‫السماو ِ‬
‫ات َو َمن ِفي‬ ‫ِ‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬كما بقوله‪﴿ :‬أََل ْم َتَر أ َّ‬
‫ّللا َي ْس ُجُد َل ُه َمن في َّ َ َ‬
‫َن َّ َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)34‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 201‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫اب َوَك ِث ٌير ِهم َن َّ‬ ‫ال َو َّ‬
‫الش َجُر َو َّ‬
‫الد َو ُّ‬ ‫ِ‬
‫وم َواْلجَب ُ‬ ‫س َواْلَقمُر َو ُّ‬
‫الن ُج ُ‬ ‫ض َو َّ‬
‫الش ْم ُ‬ ‫ْاألَْر ِ‬
‫َ‬
‫( ‪)1‬‬
‫اب‪﴾...‬‬ ‫ِ‬ ‫َوَك ِث ٌير َح َّ‬
‫ق َعَلْيه اْل َع َذ ُ‬
‫ض طَ ْو ًع ا َوَك ْر ًه ا َو ِظال ُل ُه م بِ ا ْلغُ ُد هِو‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ َو هّلل َي ْس ُج ُد َم ن في َّ َ َ‬
‫ِِ‬
‫ال﴾(‪.)2‬‬ ‫َواآلص ِ‬
‫َ‬
‫الش َجُر َي ْس ُج َد ِ‬
‫ان﴾(‪ :)3‬فما سجود الشمس والقمر والنجوم والجبال‬ ‫الن ْج ُم َو َّ‬
‫﴿ َو َّ‬
‫والشجر والدواب‪ ،‬وما سجود من في السماوات ومن في األرض هلل إل خضوعهم‬
‫له تعالى مفتقرين إليه‪ ،‬طالبين منه دوام اإلمداد بالحياة‪ ،‬إذ لو أن هذا اإلمداد‬
‫يبق لهم وجود ول أثر‪ ،‬فكل ما‬
‫اإللٓهي انقطع عنهم طرفة عين لزالوا وانعدموا ولم َ‬
‫في الكون ساجد هلل مستديم الستمداد منه واإلقبال بنفسه عليه‪.‬‬
‫ظم شأنهم وعلمهم لتستزيد منه‪ ،‬وبهذا‬ ‫وهنالك سجود آخر وهو السجود لمن تُع ِّّ‬
‫التعظيم وطلب المزيد منه‪ ،‬ترتبط نفسك بنفسهم‪ ،‬فإن كانوا مؤمنين باهلل‪ ،‬دخلت‬
‫من بابهم عليه ﷺ وحصل لك الشهود لكمال هللا وتلك هي الشفاعة‪:‬‬
‫حقيقة الشفاعة‪ :‬إن النفس البشرية بفطرتها مجبولة على تقدير الكمال لكن‬
‫هذا التقدير والتعظيم َّ‬
‫يتطلب من النفس عيناً تستطيع أن ترى بها وتشاهد‪ ،‬إذ بعين‬
‫الرأس نرى األشياء الظاهرة بواسطة األنوار المادية كنور الشمس والقمر والكهرباء‬
‫ووسائط اإلنارة‪.‬‬
‫أما عين القلب‪ ،‬قلب النفس‪ ،‬فإنما ترى بنور هللا ونور رسوله ﷺ‪ ،‬نور دائمي‬
‫أبدي متعاظم‪ ،‬ما هذه األنوار المادية تجاهه إل أنوا اًر بسيطة ضئيلة تكاد تجاهه ل‬
‫َّ‬
‫ظم‬ ‫تكون شيئاً مذكو اًر‪ ،‬وهي أثر بسيط من أنوار الخالق العظيم جلت عظمته َ‬
‫وع ُ‬
‫المدسم بالغبطة اإللٓهية والشفاء النفسي العذب‬
‫َّ‬ ‫سلطانه وباهر أللء سناء نوره‬

‫(‪ _ )1‬سورة الحج اآلية (‪)18‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الرعد اآلية (‪)15‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الرحمن اآلية (‪)6‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 202‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الطيب المذاق‪ .‬فإذا أقبلت النفس على هللا بالصالة واصطبغت بالكمال َّ‬
‫وتحلت به‪،‬‬ ‫ِّّ‬
‫فقد أضحت لها هذه اإلمكانية وتفتَّحت فيها تلك العين التي تُ ِّّ‬
‫مكنها من رؤية‬
‫الكمال ومشاهدته‪ ،‬وينظر هذا المؤمن فيمن حوله وتقع عينه على أهل الكمال‬
‫ويرى ما هم فيه من مسايرة له في هذا الطريق السامي فيحبُّهم‪َّ ،‬‬
‫وكلما رأى أحداً‬
‫حباً وعشقاً‪ ،‬وحيث‬
‫سبقاً كان أكثر له تقدي اًر وتعظيماً وأكثر له ّ‬
‫أكثر منه في الكمال ْ‬
‫سيد‬ ‫إن رسول هللا ﷺ هو أسبق المؤمنين كافة في هذا المضمار‪ ،‬وحيث إنه ﷺ‬
‫ّ‬
‫الكاملين قاطب ًة وأعالهم مقاماً وأقربهم إلى هللا زلفى‪ ،‬لذا تجد هذا المؤمن بما‬
‫ِّ‬
‫ويعزره‬ ‫يحب رسول هللا ﷺ ّ‬
‫ويقدره ِّّ‬ ‫اصطبغ به وبما اكتسبه من الكمال من رِّّبه ُّ‬
‫ِّ‬
‫ويوّقره‪ ،‬فليس من مخلوق لديه أرفع منزلة ول أسمى مقاماً ول ّ‬
‫أجل شأناً من رسول‬
‫وس َر ْت كوميض البرق نفسه‬
‫المحبة في قلبه َ‬
‫ّ‬ ‫هللا ﷺ‪ ،‬فإذا سمع بذكره هاجت كوامن‬

‫ِّّ‬
‫المحبين‬ ‫نحو رسول هللا ﷺ‪ ،‬فإذا هي مصاحبة له ومرافقة لنفسه الشريفة‪ ،‬وأحوال‬
‫أعظم من أن تُشبَّه بشيء أو تُمثَّل به‪.‬‬
‫حب رسول هللا ﷺ‪ ،‬وما تزال صلته به ﷺ‬ ‫ِّ‬
‫يتدرج في ّ‬‫وما يزال هذا المؤمن َّ‬
‫ِّ‬
‫تقدمًا في طريق التقدير والتعظيم‬
‫وصالته عليه في ازدياد وارتقاء‪ ،‬وما يزال ُم ّ‬
‫المحبة واإلجالل‬
‫واإلجالل‪ ،‬حتى يصل لحال تشتبك به النفسان برابطة التقدير و ّ‬
‫لرسول هللا ﷺ وتلك هي عين الشفاعة‪ ،‬ونفس رسول هللا ﷺ هي دوماً مستغرقة في‬
‫حضرة هللا عندها يكون هذا المستشفع أهالً ألن يدخل بمعية رسول هللا ﷺ على هللا‪،‬‬
‫وهنالك وفي مثل هذه اللحظة يرى بنور رسول هللا ﷺ‪ ،‬وان شئت فقل بمن أرسله هللا‬
‫تعالى سراجاً مني اًر ورحم ًة للعالمين‪ ،‬نور هللا الذي به يرى طرفاً من أسماء هللا فيهيم‬
‫فناء‬
‫ويخر في حضرة هللا تعالى ساجداً ويفنى في رؤية األسماء اإللٓهية ً‬ ‫حباً ّ‬ ‫بما رأى ّ‬
‫كِّّلياً‪ ،‬إنه يرى اسم الرحمن وقد غمر برحمته التي ل نهاية لها الكائنات جميعها‪،‬‬
‫ويرى اسم الرؤوف وقد أحاطت رأفته بالمخلوقات كّلها‪ ،‬ويرى من أسمائه تعالى‬
‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 203‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الحكيم والعليم والعلي الكبير‪ ،‬وغير ذلك من األسماء ما تجعله يستغرق بها استغراقاً‪،‬‬
‫ويستسلم لهذا الرب الرؤوف الرحيم استسالماً كّلِّياً‪ ،‬وتكون صلته برسول هللا ﷺ‬
‫وصالته عليه قد أوصلته إلى هذا الفضل اإللٓهي العظيم والشهود العالي والغبطة‬
‫األبدية‪.‬‬
‫فلعمري تلك هي الشفاعة الحّقة‪ ،‬إنها شفاعة حب وصحبة نفسية لتلك النفس‬
‫العالية الكريمة مأخوذة من الشفع‪ :‬وهو أن يقارن شيء شيئاً ويزاوجه مالزماً إياه‪،‬‬
‫الحقة وهذا الرتباط‬ ‫والى هذه الصلة النفسية برسول هللا ﷺ والى هذه الشفاعة َّ‬
‫ِ‬ ‫ّللا َوم َال ِئ َك َت ُه ُي َصُّلو َن َعَلى َّ‬
‫آمُنوا‬ ‫النِب ِهي َيا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬
‫أشارت اآلية الكريمة‪﴿ :‬إ َّن َّ َ َ‬
‫صلوا أنفسكم بنفسه الشريفة ﷺ‪،‬‬ ‫صلوا عليه أي‪ِّ :‬‬ ‫صُّلوا عَلي ِه وسهلِموا َتسلِيما﴾(‪ُّ .)1‬‬
‫َْ ََ ُ ْ ً‬ ‫َ‬
‫ليعرج بكم للحضرة اإللٓهية ذلك ألن الصالة صلة بين العبد وربه ول تتم إلَّ بالوسيط‬
‫نت ِفي ِه ْم َفأَ َق ْم َت َل ُه ُم َّ‬
‫الصالَ َة‪ .)2(﴾...‬الصالة ل كما يصِّّلي‬ ‫ﷺ‪ ،‬واآلية ﴿ َواِ َذا ُك َ‬
‫الناس صالة حركات فقط‪ ،‬الصالة الصحيحة التي يكون فيها رسول هللا في نفسك‪،‬‬
‫تدخل بمعيته على هللا‪ .‬هذه هي الصالة بحقيقتها‪ .‬ولم يقل تعالى‪" :‬إذا كنت معهم"‪..‬‬
‫إذًا الصالة الصحيحة تتم بالشفاعة برسول هللا ﷺ فبمعيته تحصل الصلة باهلل‪.‬‬
‫الصالة يجب أن يكون رسول هللا ﷺ بنفسك‪ ،‬إذ يتم الدخول على هللا بصحبته‬
‫ليردك إليه تعالى‪ ،‬يعّلِّمك ﷺ الصالة بهذه الشفاعة بينك‬‫وشفاعته ﷺ الذي أرسله ّ‬
‫وبينه فيقول لك بعد‪( :‬بسم هللا الرحمن الرحيم)‪﴿ :‬اْلحمد ِ‬
‫ّلل‪ :﴾...‬يا أخي‪َ..﴿ :‬رِهب‬
‫َ ُْ ه‬
‫ين﴾(‪ :)3‬هذه هي الصالة عندما ُيملي عليك أوامر هللا فتركع طائعاً خاضعاً هلل‬ ‫ِ‬
‫اْل َعاَلم َ‬
‫العظيم وتسجد طالباً المعونة من هللا على طاعة هللا‪ .‬وأنه لول تلك الصلة والصحبة‬

‫(‪ _ )1‬سورة األحزاب اآلية (‪)56‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة النساء اآلية (‪)102‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الفاتحة اآلية (‪)2‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 204‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫النفسية برسول هللا ﷺ‪ ،‬ولول الصالة عليه لما كان لهذا المؤمن هذا السمو والعروج‬
‫ولما حصلت له هذه الرؤية والشهود ولما َّ‬
‫سلم هلل تسليماً‪.‬‬
‫ويرجع المؤمن من تلك الرحلة النفسية بالصالة وقد أضاء في نفسه قبس من‬
‫حبه لخالقه‪ ،‬بسبب ما رآه من كمال هللا تعالى‪ ،‬وما شاهده‬
‫نور هللا أوقده في قلبه ّ‬
‫من عطفه وحنانه ورأفته ورحمته بسائر عباده‪ ،‬والحق أن المحبة ل تكون إل بعد‬
‫الشهود والرؤية‪ ،‬ولكن أتدري ماذا يفيد المؤمن من هذا النور اإللٓهي الذي سطع‬
‫في قلبه؟‬
‫َّ‬
‫المستكنة من وراء الصور فإذا هو ل يغتر بمظاهر‬ ‫إنه يرى بهذا النور الحقائق‬
‫األشياء ول تخدعه صور الرجال‪ ،‬لقد تفتَّحت منه عين البصيرة وأضحى ينظر‬

‫يفرِّق بين الخير والشر‪ِّّ ،‬‬


‫ويميز الحق من الباطل‪ ،‬يرى‬ ‫بنور هللا‪ ،‬فإذا هو فاروق ّ‬
‫شر فيعافه ويأنف منه ويزهد فيه‪ ،‬وتلك‬
‫فيحبه ويهواه ويميل إليه‪ ،‬والشر ّاً‬
‫الخير خي اًر ّ‬
‫يتبوأها كل إنسان وتلك هي التقوى بالشفاعة‬
‫هي المنزلة السامية التي يجب أن َّ‬
‫وحضهم عليها‪.‬‬ ‫التي حث هللا تعالى المؤمنين َّ‬
‫آمُنوا ِبَر ُسولِ ِه ُي ْؤِت ُك ْم ِك ْفَل ْي ِن ِمن‬ ‫ّللا و ِ‬
‫آمُنوا َّات ُقوا َّ َ َ‬ ‫ين َ‬
‫ِ‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬يا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّر ْح َم ِت ِه َوَي ْج َعل َّل ُك ْم ُن ًا‬
‫يم﴾(‪.)1‬‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫ور َت ْم ُشو َن به َو َي ْغفْر َل ُك ْم َو َّ ُ‬
‫ّللا َغ ُف ٌ‬
‫نك ْم َسهِيَئ ِات ُك ْم َوَي ْغ ِفْر‬
‫ّللا َي ْج َعل َّل ُك ْم ُفْرَقاناً َوُي َكهِفْر َع ُ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوْا إَن َتَّتُقوْا ه َ‬
‫ين َ‬ ‫﴿يِا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫ّللا ُذو اْلَف ْض ِل اْل َع ِظيمِ ﴾(‪ .)2‬وهكذا فالتقوى إنما هي استنارة بنور هللا وأثر من‬ ‫َل ُك ْم َو ه ُ‬
‫آثار استشفاعك برسول هللا ودخولك بمعيته ﷺ في حضرة هللا تعالى‪ ،‬لقد أضحت‬
‫نفسك مستنيرة بنور هللا وكان هذا النور اإللٓهي وقاية لك من السقوط في مهاوي‬
‫الضالل والوقوع في المهالك والشرور‪ ،‬ومن لم يجعل هللا له نو اًر فما له من نور‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة الحديد اآلية (‪)28‬‬


‫(‪ _ ) 2‬سورة األنفال اآلية ( ‪) 29‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 205‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فالشفاعة‪ :‬هي حال من األحوال النفسية‪ .‬فالرسول ﷺ الذي أقبل على رِّّبه‬
‫ٍ‬
‫تجل من هللا‪ ،‬وأشد نور‬
‫أعظم وأسمى إقبال‪ ،‬هذا الرسول الذي يتوارد عليه أعظم ّ‬
‫َّ‬
‫وصدقوا برسالته وبما جاءهم به‬ ‫توجه بنفسه ألصحابه الذين أقبلوا عليه‬
‫وامداد‪ ،‬إذا َّ‬
‫عن هللا‪ ،‬فهنالك يسري ذلك النور اإللٓهي‪ ،‬بواسطة الرسول ﷺ إلى أصحابه‬
‫والمؤمنين به‪ ،‬ويكون الرسول العظيم بهذا الحال وسيطاً بين هللا وخلقه‪ ،‬ووسيلة‬
‫وتحمله‪ .‬وهذه هي (حقيقة‬
‫ُّ‬ ‫تخِّّفف من شدة ذلك التجلي‪ ،‬فتتمكن األنفس من تقبُّله‬
‫الشفاعة)‪.‬‬
‫ين َي ْد ُعو َن َي ْب َت ُغو َن إَِلى َرهبِ ِه ُم اْل َو ِسيَل َة أَُّي ُه ْم أَ ْقَر ُب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعالى﴿أُوَلئ َك َّالذ َ‬
‫َوَيْر ُجو َن َر ْح َم َت ُه َوَي َخا ُفو َن َع َذ َاب ُه‪.)1(﴾...‬‬
‫تجلى مباشرة على‬ ‫وليست الشفاعة للعصاة ول ألهل الكبائر‪ .‬ولو أن هللا تعالى َّ‬
‫تقو على‬‫لتصدعت نفوسهم‪ ،‬فلم َ‬
‫ّ‬ ‫قلوب الناس‪ ،‬ومن دون وساطة الرسول ﷺ‪،‬‬
‫ص ِّعق‬ ‫ِّ‬
‫ولصعقوا وانجذبت عقولهم من ذلك النور كما ُ‬
‫تحمل ذلك التجلي اإللٓهي‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫يقدروه بالميقات‪ .‬وربُّك حكيم‪ ،‬ولذلك انتخب‬
‫صحب سيدنا موسى ‪ ‬الذين لم ّ‬
‫تحمالً لنوره‪،‬‬
‫حباً له‪ ،‬وأكثرهم ُّ‬
‫الرسل عليهم الصالة والسالم الذين كانوا أشد الناس ّ‬
‫وسطاء بينه وبين عباده‪ .‬ومن رحمة هللا وحنانه على خلقه أن أمر الرسول ﷺ بأن‬
‫يتَّجه بنفسه الشريفة إلى الذين آمنوا فيكون سبباً في سريان ذلك النور اإللٓهي إلى‬
‫قلوبهم‪ ،‬ووسيطاً بينهم وبين رّبهم‪ ،‬وهنالك وبهذا النور تحصل لهم التزكية والمغفرة‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وينالون الشفاء النفسي‪ ،‬قال تعالى‪َ ..﴿ :‬و َص هل َعَلْي ِه ْم إ َّن َصالَ َت َك َس َك ٌن ل ُه ْم َو ه ُ‬
‫ّللا‬
‫يم﴾(‪ .)2‬فما سجود أخوة سيدنا يوسف ‪ ‬وأمه وأبيه له‪ ،‬إلَّ تعظيمهم علمه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫َسم ٌ‬
‫علمه وتقديره من بعد أن أروا من سبقه إيَّاهم في العلم واإليمان‪ ،‬وبهذا التعظيم والتقدير‬

‫(‪ _ )1‬سورة اإلسراء اآلية (‪)57‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة التوبة اآلية (‪)103‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 206‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ارتبطت أنفسهم به‪ ،‬مقبلة معه على هللا‪ ،‬والى ذلك أشارت اآلية الكريمة في قوله‬
‫يل‬ ‫ال َي ا أ ََب ِت َه َذ ا َت أ ِ‬
‫ْو ُ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬وَرَف َع أ ََب َو ْي ِه َع َلى ا ْل َع ْر ِ‬
‫ش َو َخُّروْا َل ُه ُس َّج ًد ا َو َق َ‬
‫اي ِمن َق ْب ُل َق ْد َج َع َل َه ا َرهبِي َح ًّق ا‪.)1(﴾...‬‬ ‫ُر ْؤ َي َ‬
‫ويؤيد هذا المعنى أيضاً ما ورد عن سجود السحرة لسيدنا موسى ‪ ،‬بما‬
‫َن أَْل ِق َع َص َ‬ ‫ِ‬
‫اك‬ ‫وسى أ ْ‬‫أشارت إليه اآلية الكريمة في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ ْو َحْيَنا إَلى ُم َ‬
‫ط َل َما َكاُنوْا َي ْع َمُلو َن‪َ ،‬ف ُغلُِبوْا ُهَنالِ َك‬ ‫ف َما َيأ ِْف ُكو َن‪َ ،‬ف َوَق َع اْل َح ُّ‬ ‫ِ‬
‫ق َوَب َ‬ ‫َفِإ َذا ه َي َتْلَق ُ‬
‫السحرُة س ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾(‪.)2‬‬‫اجد َ‬ ‫ين‪َ ،‬وأُْلق َي َّ َ َ َ‬ ‫انقَلُبوْا َصاغ ِر َ‬
‫َو َ‬
‫فهؤلء السحرة لما أروا من سيدنا موسى ‪ ‬ما أبطل سحرهم‪ ،‬على الرغم من‬
‫وقدروه‪ ،‬وأقبلت نفوسهم‬ ‫عظموا علم سيدنا موسى ‪َّ ‬‬ ‫وقوة كيدهم‪َّ ،‬‬ ‫كثرة عددهم َّ‬
‫عليه خاضعة لعلمه‪ ،‬وهنالك وبهذا اإلقبال النفسي عليه‪َّ ،‬‬
‫تبدت لهم من وراء تلك‬
‫النفس الصافية الطاهرة الحقائق بادية ظاهرة‪ ،‬فما أن أُلقوا ساجدين حتى‪َ ﴿ :‬قاُلوْا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هددهم فرعون بالتعذيب‬ ‫وسى َو َه ُارو َن﴾(‪ .)3‬ولما َّ‬ ‫ين‪َ ،‬ر هب ُم َ‬ ‫آمَّنا ِب ِر ِهب اْل َعاَلم َ‬
‫َ‬
‫والتنكيل والتصليب‪ ،‬خاطبوه بما شهدت نفوسهم من الحق غير عابئين‪َ ﴿ :‬قاُلوا َلن‬
‫َنت َقاض ِإَّن َما َت ْق ِضي‬ ‫ض َما أ َ‬ ‫طَرَنا َفا ْق ِ‬‫ات َو َّال ِذي َف َ‬ ‫ُّن ْؤِثرك عَلى ما جاءَنا ِمن اْلبِيَن ِ‬
‫َ َه‬ ‫ََ َ َ َ‬
‫الس ْح ِر‬‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫آمَّنا ِبَرهبَِنا لَِي ْغ ِفَر َلَنا َخ َ‬ ‫َِّ‬ ‫َه ِذ ِه اْل َحَيا َة ُّ‬
‫ط َاياَنا َو َما أَ ْكَرْه َتَنا َعَلْيه م َن ه‬ ‫الدْنَيا‪ ،‬إنا َ‬
‫يها َوَال َي ْحيى‪،‬‬ ‫ْت رَّبه مج ِرما َفِإ َّن َله جهَّنم َال يم ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫وت ف َ‬ ‫ُ ََ َ َُ‬ ‫ّللا َخْيٌر َوأَْبَقى‪ ،‬إن ُه َمن َيأ َ ُ ُ ْ ً‬ ‫َو َّ ُ‬
‫ات َفأ ُْوَل ِئ َك َل ُه ُم َّ‬
‫الصالِح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ات َع ْدن‬ ‫ات اْل ُعَلى‪َ ،‬جَّن ُ‬
‫الدَر َج ُ‬ ‫َو َم ْن َيأْته ُم ْؤ ِمًنا َق ْد َعم َل َّ َ‬
‫يها َوَذلِ َك َج َزاء َمن َت َزَّكى﴾(‪.)4‬‬ ‫َتجرِي ِمن َتح ِتها ْاألَ ْنهار َخالِ ِد ِ‬
‫ين ف َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬

‫(‪ _ ) 1‬سورة يوسف اآلية (‪)100‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األعراف اآليات (‪)120-117‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة األعراف اآليات (‪)122-121‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة ۤطه اآليات (‪)76-72‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 207‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فيا ترى من أين جاء السحرة بهذا البيان الذي بيَّنوه‪ ،‬وقد جيء بهم من المدائن‬
‫محضرين‪ ،‬وما سمعوا من سيدنا موسى ‪ ‬بياناً ول دللة؟‬
‫َ‬ ‫المختلفة‬
‫إنه التعظيم والتقدير لعلمه ‪ ‬جعل نفوسهم ترتبط بنفسه مقبلة على هللا‪،‬‬
‫وهناك شاهدوا ما شاهدوا من حقائق‪ ،‬فقالوا ما قالوا من كلمات اليقين واإليمان‪،‬‬
‫يل َل َها‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫شأنهم في ذلك شأن ملكة سبأ لما عظمت ُمْلك سيدنا سليمان ‪ ،‬إذ‪﴿ :‬ق َ‬
‫ال ِإَّن ُه َصْر ٌح ُّم َمَّرٌد ِهمن‬ ‫ِ‬ ‫ْاد ُخلِي َّ‬
‫الصْر َح َفَل َّما َأَر ْت ُه َحسَب ْت ُه ُل َّج ًة َوَك َش َف ْت َعن َسا َقْي َها َق َ‬
‫المقدر من ملك سيدنا‬ ‫ِّ‬ ‫َق َو ِار َير‪ .﴾...‬وهنالك استصغرت ملكها‪ ،‬ووقفت موقف‬
‫ّ‬
‫سليمان ‪ ‬وما هو عليه من شأن عظيم‪ ،‬وما أن نظرت فيه هذه النظرة‪ ،‬حتى‬
‫عما في‬
‫دخلت نفسها على هللا من باب تلك النفس الزكية الطاهرة فكان لسانها مترجماً َّ‬
‫نفسها‪ ،‬إذ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ظَلمت َن ْف ِسي وأَسَلمت مع سَليم ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َّّلل َر ِهب اْل َعاَلم َ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫َ ْ ُْ ََ ُ َْ َ‬ ‫﴿‪َ ...‬قاَل ْت َر ِهب ِإهني َ ْ ُ‬
‫إن هذه النقطة الهامة التي نحن بصددها وأعني بها تقدير النفس واعجابها‬
‫بنفس ِّ‬
‫متفوقة عليها في ناحية من النواحي‪ ،‬لها أثرها في سلوك اإلنسان وعليها‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫المقدرة المعجبة إنما ترتبط دوماً‬ ‫َّ‬
‫يتوقف سيره واتجاهه في هذه الحياة‪ ،‬ألن النفس ّ‬
‫برباط وثيق‪ ،‬وتصاحب صحبة معنوية تلك النفس التي َّقدرتها وأُعجبت بها‪ ،‬وذلك‬
‫هو قانون من قوانين النفس َّ‬
‫وسنة من سننها التي رسمها لها خالقها وموجدها‪ ،‬ولن‬
‫لسنة هللا تبديالً ولن تجد َّ‬
‫لسنة هللا تحويالً‪.‬‬ ‫تجد َّ‬
‫على أن هذا التقدير واإلعجاب باآلخرين يختلف من شخص إلى شخص ومن‬
‫ِّ‬
‫يقدر غيره على حسب ما تميل إليه نفسه وما‬ ‫نفس إلى نفس‪ .‬فكل امرئ إنما ّ‬
‫ِّ‬
‫تقدر غيرها لعلمه ومعرفته‪ ،‬أو ملكه وسلطانه‪ ،‬أو كماله‬
‫يهوى‪ .‬فبعض األنفس ّ‬
‫وخُل ِّق ِّه‪ ،‬أو أي شيء من األشياء األخرى‪ .‬فلكل امرئ ميول ونواح يهتم بها دون‬
‫ُ‬

‫(‪ _ )1‬سورة النمل اآلية (‪)44‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 208‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِّ‬
‫يقدر إلَّ من سبقه في تلك الميول َّ‬
‫وتفوق عليه في تلك‬ ‫غيرها‪ ،‬ولذلك تراه ل ّ‬
‫النواحي‪.‬‬
‫فهؤلء إخوة سيدنا يوسف ‪ ‬وكذلك أمه وأبوه إنما َّ‬
‫قدروا فيه ‪ ‬كماله‪ ،‬ألن‬
‫نفوسهم كانت تهوى الفضيلة والكمال أكثر من كل شيء في هذه الحياة‪.‬‬
‫وأما سحرة فرعون الذين كانوا علماء بالسحر‪ ،‬فقد َّقدروا علم سيدنا موسى ‪ ‬لما أروا‬
‫منه ما أبطل سحرهم جميعاً‪ ،‬فما أن ألقى عصاه ولقفت ما يأفكون حتى أُلقوا ساجدين‪.‬‬
‫مقدرة سيدنا سليمان ‪ ‬إلَّ لكونها ذات ملك‬ ‫ِّ‬
‫وما سجدت بلقيس ملكة سبأ ّ‬
‫وقدرته‬ ‫وتفوقه عليها في هذه الناحية‪ ،‬حتى َّ‬
‫عظمته َّ‬ ‫عظيم‪ ،‬فما أن رأت ملكه ُّ‬
‫وارتبطت نفسها به خاضعة هلل تعالى‪.‬‬
‫أما آثار هذا التقدير والسجود النفسي‪ ،‬فهي كما رأينا انعكاس ما في هذه األنفس‬
‫المقدرة‪ .‬فلقد انعكس ما في نفس سيدنا يوسف ‪ ‬من‬ ‫ِّ‬
‫السابقة‪ ،‬وانطباعه في األنفس ّ‬
‫السبق في العلم باهلل ومحبته‪ ،‬في نفوس أبيه وأمه واخوته‪ ،‬فكان لهم إمامًا في هذا‬
‫المضمار‪.‬‬
‫وانعكس في نفوس السحرة ما في نفس سيدنا موسى ‪ ‬من إيمان ومعرفة‪ ،‬فقالوا‬
‫ما قالوا مما َّ‬
‫كنا أشرنا إليه وبيَّناه‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة لملكة سبأ مع سيدنا سليمان‬
‫‪.‬‬
‫وهكذا إذا أنت َّقدرت أي شخص من األشخاص‪ ،‬فال بد لك من أن تدخل مدخله‬
‫وترد مورده‪ ،‬وتنعكس أحواله في نفسك‪ .‬فإن كان من أهل الفسق واإللحاد َّ‬
‫تبدى ما فيه‬
‫ظاه اًر في نفسك ِّّبيناً‪ ،‬وان كان من أهل الكمال واإليمان صرت تشعر بهذا الكمال‬
‫ودخلت بمعيته في مداخل اإليمان‪ ،‬ولهذا كان ﷺ يقول داعياً‪:‬‬
‫(اللهم ال تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي) (‪.)1‬‬

‫(‪ _ )1‬أخرجه ابن مردويه‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 209‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لقد كان ﷺ يدعو بهذا الدعاء ألنه عرف قوانين النفس وسننها‪ ،‬فكان يخشى‬
‫من وصول هذا الخير إليه على يد بعيد عن هللا‪ ،‬خوفاً من أن يميل قلبه إليه‬
‫فتنعكس أحواله في نفسه‪ .‬فانظر إلى رسول هللا ﷺ وهو سيد الخْلق‪ ،‬يخشى هذه‬
‫الخشية‪ ،‬ويدعو بهذا الدعاء‪ .‬لقد كان ﷺ إنما يخشى ذلك حرصاً على صفاء‬
‫نفسه‪ ،‬أما نحن فما حالنا إذا ملنا بنفوسنا مستعظمين أهل الكفر والفسق واإللحاد؟‬
‫وماذا يكون عليه حالنا إذا ملنا بقلوبنا إلى رسول هللا ﷺ َّ‬
‫فقدرناه وعظمناه؟‬
‫ومما يؤيد لنا هذا المعنى أيضاً ما ورد عنه ﷺ حيث يقول‪:‬‬
‫َّ‬
‫الرجل على ِ‬
‫دين خليله‪ ،‬فْلينظر أحدكم َم ْن يخالل) (‪.)1‬‬ ‫( ُ‬
‫على أن تقدير رسول هللا ﷺ وتقدير المرشدين من أهل الكمال‪ ،‬ل يمكن ول يكون‬
‫لك إلَّ إذا كنت من أهل الكمال‪ ،‬إذ أنه ل يعرف الفضل إل ذووه‪ ،‬فإذا أردت أن‬
‫تحصل لك صحبة رسول هللا ﷺ النفسية‪ ،‬وأن تكون برفقته المعنوية‪ ،‬فعليك أن ِّّ‬
‫تفكر‬
‫في هذا الكون‪ ،‬حتى تصل إلى اإليمان بال إلٓه إل هللا حق اإليمان‪ .‬فإذا أنت آمنت‬
‫بها حجزتك عن معاصي هللا واستقمت على أمر هللا‪ ،‬وهناك َّ‬
‫تتولد الثقة بنفسك من‬
‫رضاء هللا عنك‪ ،‬فتُقبل بنفسك عليه تعالى‪ ،‬وبهذا اإلقبال تشتق نفسك الكمال من هللا‬
‫ظم من فاقك في الكمال وتدخل بمعيته على سيد الكاملين ﷺ‪،‬‬ ‫فتقدر وتع ِّّ‬ ‫ِّ‬
‫بالصالة‪ّ ،‬‬
‫وبتقديرك لرسول هللا وارتباطك به ﷺ تدخل نفسك بمعيته على هللا‪ ،‬وترتقي في منازل‬
‫الن ْفس اْلم ْطمِئَّن ُة‪ ،‬ارِج ِعي ِإَلى رِب ِك ر ِ‬
‫اضَي ًة َّمْر ِضَّي ًة‪َ ،‬ف ْاد ُخلِي ِفي‬ ‫محبة هللا‪َ﴿ .‬يا أََّيُت َها َّ‬
‫َه َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ِعَب ِادي‪َ ،‬و ْاد ُخلِي َجَّنِتي﴾‬
‫لما أمرهم هللا تعالى بالسجود لسيدنا آدم ‪ ‬إلَّ‬ ‫وهكذا فما سجد المالئكة الكرام َّ‬
‫لما فيهم من كمال‪ .‬فلما أروا من علمه وكماله ما سبقهم به ِّ‬
‫متفوقاً‪ ،‬سجدوا له جميعاً‪.‬‬
‫ّ‬

‫(‪ _ )1‬أخرجه أبو داود والترمذي‪.‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الفجر اآليات (‪)30-27‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 210‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أما إبليس فما عرف شيئاً من الكمال اإللٓهي‪ ،‬ولم يحصل على شيء من العلم‬
‫بأسماء هللا تعالى‪ .‬إبليس الذي لم ُيقبل على هللا في يوم من األيام‪ ،‬ولم تصطبغ‬
‫لما أمره‬
‫قدر خالقه َّ‬ ‫نفسه بشيء من صبغة الكمال‪ ،‬هذا الجاهل األحمق الذي ما َّ‬
‫ِ‬ ‫هللا تعالى بالسجود لسيدنا آدم ‪ ..﴿ :‬أَبى واس َت ْكبر وَك ِ‬
‫ان م َن اْل َكاف ِر َ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫َ َ ْ ََ َ َ‬
‫وقد أشار القرآن الكريم في مواضع أخرى‪ ،‬إلى إباء إبليس واستكباره كما في قوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫َس ُجُد لِ َم ْن َخَلْق َت‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ال أَأ ْ‬ ‫آلد َم َف َس َجُدوْا إَالَّ ِإْبل َ‬
‫يس َق َ‬ ‫اس ُجُدوْا َ‬
‫﴿ َواِ ْذ ُقْلَنا لْل َمآلئ َكة ْ‬
‫ِطيًنا﴾(‪.)2‬‬
‫﴿واِ ْذ ُق ْل َنا لِْلم َال ِئ َك ِة اسج ُدوا ِآل َدم َفسج ُدوا إَِّال إِبلِيس َك ِ‬
‫ان م َن اْل ِج هِن َف َف َس َ‬
‫ق‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َم ِر َرهبِه‪. ﴾...‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫َع ْن أ ْ‬
‫وأنت ترى من خالل هذه اآليات الكريمة أن إباء إبليس واستكباره عن السجود‪،‬‬
‫إنما هو شيء ناشئ من كفره بخالقه‪ ،‬ولذلك عمي عن الحق وأبلس عليه األمر‪،‬‬
‫وخفي عنه ما عليه سيدنا آدم ‪ ‬من الكمال‪.‬‬
‫كما ترى أن إبليس لم يكن رئيس المالئكة‪ ،‬كما يزعم فريق من الناس‪ ،‬بل كان‬
‫من الجن‪ ،‬ولم يكن له عرف بعظمة خالقه‪ ،‬ولذلك فسق عن أمر ربه‪.‬‬
‫وخلو النفس من الكمال‪ ،‬يجعل نظر النفس بمعزل عن رؤية الحقائق‪،‬‬ ‫ثم إن الكفر ّ‬
‫قاص ًار على رؤية الصور متعّلِّقاً باألوهام‪ ،‬فقد احتج إبليس بأن النار خير من الطين‪،‬‬
‫ولم ِّ‬
‫يدر أن العلم باهلل هو الذي يرفع شأن صاحبه‪ ،‬ويجعله يسمو على المخلوقات‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)34‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة اإلسراء اآلية (‪)61‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الكهف اآلية (‪)50‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 211‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وقد أشار تعالى إلى احتجاب الكافرين عن رؤية الحقائق ومعرفة رسل هللا‪ ،‬بما بيَّنته‬
‫ظُرو َن ِإَلْي َك َو ُه ْم الَ ُيْب ِصُرو َن﴾(‪.)1‬‬
‫اه ْم َين ُ‬
‫اآلية الكريمة في قوله تعالى‪َ ..﴿ :‬وَتَر ُ‬
‫ومن ذلك أيضاً ما خاطبت به أهل مدين رسولها سيدنا شعيباً ‪َ ﴿ :‬قاُلوا ِإَّن َما‬
‫ِ‬ ‫َنت ِإَّال ب َشر ِم ْثُلَنا واِن َّن ُ ِ‬ ‫َنت ِم َن اْل ُم َسح ِ‬
‫ظُّن َك َلم َن اْل َكاذ ِب َ‬
‫ين﴾(‪.)2‬‬ ‫َ ٌ ه َ‬ ‫ين‪َ ،‬و َما أ َ‬
‫َّر َ‬ ‫أ َ‬
‫وكذلك قوم عاد وثمود‪ ،‬وذلك هو أيضاً قول كل كافر ل يؤمن باهلل‪ ،‬وحال كل‬
‫أن معرفة رسل هللا عليهم الصالة والسالم‬ ‫بعيد عن هللا‪ .‬ومن هنا يتبيَّن لنا َّ‬
‫وتقديرهم‪ ،‬وكذلك الصادقين من أهل اإلرشاد‪ ،‬ل تكون إلَّ بعد الوصول إلى‬
‫اإليمان باهلل‪ ،‬ذلك اإليمان المقرون بالعقل‪ .‬فإذا َّ‬
‫عظم اإلنسان هللا تعالى‪ ،‬ورأى منه‬
‫ظم أهل‬‫الفضل واإلحسان‪ ،‬فهنالك يقبل عليه ويشتق منه الكمال‪ ،‬وعندئذ يع ِّّ‬
‫الكمال‪ ،‬فهو سبحانه وتعالى األول واآلخر‪ ،‬ومن يؤمن باهلل يهد قلبه‪ ،‬ومن يؤمن‬
‫باهلل فقد رشد وهدي إلى صراط مستقيم‪.‬‬
‫ثم إن هللا تعالى أمر سيدنا آدم ‪ ‬أن يسكن وزوجه َّ‬
‫الجنة‪ ،‬والى ذلك أشارت‬
‫اآلية الكريمة في قوله تعالى‪:‬‬
‫َنت َو َز ْو ُج َك اْل َجَّن َة َوُكالَ ِمْن َها َر َغداً َحْي ُث ِشْئ ُت َما َوالَ َت ْقَرَبا‬
‫اس ُك ْن أ َ‬
‫آد ُم ْ‬
‫﴿ َوُقْلَنا َيا َ‬
‫الشجرَة َف َت ُكوَنا ِمن اْل َّ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين﴾(‪ :)3‬كانت نفس سيدنا آدم وزوجه عليهما السالم‬ ‫ظالم َ‬ ‫َ‬ ‫َهذه َّ َ َ‬
‫ذوقياً‪ ،‬وما كان الثمر ليدخل‬
‫لبس ًة جسديهما الشريفين‪ ،‬فكان نعيمهما من الدنيا ّ‬
‫جوفيهما‪ ،‬الدخول للجوف يحتاج لهضم وعمل‪.‬‬
‫وليس المراد من الجنَّة ما يتبادر لبعض األذهان من َّ‬
‫أن سيدنا آدم ‪ ‬كان‬
‫في بادئ األمر في مكان مرتفع في السموات‪ ،‬ثم أهبطه هللا تعالى إلى األرض‬
‫التي نحن عليها‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآلية (‪)198‬‬


‫( )‪ _2‬سورة الشعراء اآلية (‪)186-185‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة البقرة اآلية (‪)35‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 212‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فإن مسرى اآليات ينفي ذلك‪ ،‬وليس هذا الظن بمطابق للحقيقة في شيء‪ ،‬فاهلل‬
‫تعالى ذكر لنا في أول هذه القصة أنه أخبر المالئكة بأنه جاعل في األرض خليفة‪،‬‬
‫وقال تعالى‪:‬‬
‫ق َب َشًار ِمن ِطين﴾(‪ )1‬والطين في األرض ل في السماوات‪ .‬كما أن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿‪ِ ...‬إهني َخال ٌ‬
‫اآليات التي ذكرها هللا تعالى في القرآن الكريم ِّّ‬
‫مبيناً فيها أصل اإلنسان وبدء خلقه‬
‫وتبين أن اإلنسان أول ما ُو ِّج َد على األرض التي نحن عليها‬ ‫تنفي ذلك أيضًا‪ِّّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اآلن‪ ،‬قال تعالى‪ِ﴿ :‬إ َّن م َثل ِعيسى ِعند ِ‬
‫ال َل ُه‬
‫آد َم َخَل َق ُه من ُتَراب ث َّم َق َ‬ ‫ّللا َك َم َث ِل َ‬ ‫َ ه‬ ‫َ َ َ‬
‫ُكن َف َي ُكو ُن﴾(‪.)2‬‬
‫ض َنب ًاتا‪ُ ،‬ث َّم ي ِع ُ ِ‬ ‫ِ‬
‫يها َوُي ْخ ِر ُج ُك ْم ِإ ْخَر ً‬
‫اجا﴾(‪.)3‬‬ ‫يد ُك ْم ف َ‬ ‫ُ‬ ‫َنب َت ُكم هم َن ْاألَْر ِ َ‬ ‫ّللا أ َ‬
‫﴿ َو َّ ُ‬
‫يها‪.)4(﴾...‬‬ ‫ِ‬ ‫َكم ِهم َن األَْر ِ‬
‫اس َت ْع َمَرُك ْم ف َ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫َنشأ ُ‬
‫﴿‪ُ ...‬ه َو أ َ‬
‫ُخَرى﴾(‪.)5‬‬ ‫يها ُن ِع ُ‬
‫يد ُك ْم َو ِمْن َها ُن ْخ ِر ُج ُك ْم َت َارًة أ ْ‬ ‫﴿ ِمْن َها َخَل ْقَن ُ‬
‫اك ْم َوِف َ‬
‫فاهلل تعالى خلق سيدنا آدم وزوجه من األرض وأسكنهما فيها وكان لهما في‬
‫جنة‪ .‬والج َّنة هي ذلك النعيم النفسي المستور الذي يجده اإلنسان في ق اررة‬
‫األرض َّ‬
‫يطلع عليه أحد من الناس‪.‬‬ ‫نفسه‪ ،‬ول َّ‬
‫فكان لسيدنا آدم ‪ ‬وزوجه إقبال على هللا ووجهة إليه‪ ،‬وشهود لذلك الكمال‬
‫اإللٓهي الذي ل يعادله نعيم ول سرور‪ ،‬وذلك ما نستطيع أن نفهمه من كلمة‬
‫" َّ‬
‫جنة"‪ ،‬ألن النفس البشرية المؤمنة ل تجد لها سرو اًر ول نعيماً ول تطمئن بشيء‬
‫كسرورها ونعيمها واطمئنانها بالنظر إلى جمال خالقها‪ ،‬وشهود كماله األسنى‬
‫"األعلى"‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة ص اآلية (‪)71‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة آل عمران اآلية (‪)59‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة نوح اآليات (‪)18-17‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة هود اآليات (‪)61‬‬
‫(‪ _ )5‬سورة ۤطه اآلية (‪)55‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 213‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وقد استغرق سيدنا آدم ‪ ‬وزوجه في ذلك النعيم النفسي وسكن فيه‪ ،‬وهو‬
‫يومئذ في حال مخالف للحال المادي الذي نحن اآلن نعيش فيه‪.‬‬
‫واذا كان لإلنسان نفس وروح وجسد‪ ،‬وكانت نفس اإلنسان اآلن في عالم الدنيا‬
‫محاطة بجسمها محبوسة فيه‪ ،‬فهي تُبصر عن طريق العينين‪ ،‬وتسمع عن طريق‬
‫األذنين‪ ،‬وتذوق بواسطة اللسان‪ .‬واذا كان حالنا الجسمي اآلن غالب على الحال‬
‫النفسي فال يعيش هذا اإلنسان ما لم ينل الجسم حظه‪ ،‬من مطعم ومشرب وملبس‪،‬‬
‫إذ ل بد من أن يبذل الجسم مجهوداً للحصول على ما يحتاجه‪ ،‬ثم هو إلى جانب‬
‫ذلك بحاجة إلى الراحة والنوم‪.‬‬
‫فقد كان سيدنا آدم ‪ ‬وكذلك زوجه لما خلقه هللا تعالى وأوجده‪ ،‬في حال‬
‫مخالف لما نحن عليه اآلن‪ ،‬ألن نفسه كانت محيطة بجسدها‪ ،‬كما يحيط لهب‬
‫الشمعة بالفتيل من كل جانب‪ ،‬ول حاجة له والحالة هذه ألذن تسمع أو عين‬
‫تُبصر أو لسان يذوق به‪ ،‬بل كانت نفسه كلها لساناً وسمعاً وبص اًر‪ ،‬وما كان‬
‫جسده يومئذ بحاجة إلى شيء من األشياء‪ ،‬فال جوع ول ظمأ‪ ،‬ول حر ول برد‪ ،‬ول‬
‫تعب ول نصب‪ .‬فالنفس لبسة جسدها محيطة به وحالها غالب عليه‪ ..‬إقبال دائم‬
‫على هللا مستمر ل ينقطع‪ ،‬ولعمري ذلك حال أهل الجنة في َّ‬
‫الجنة غداً‪ ،‬قال تعالى‬
‫مشي اًر إلى ذلك الحال الذي كان عليه سيدنا آدم ‪ ‬في بدء الحياة‪:‬‬
‫آد ُم ِإ َّن َه َذا َعُد ٌّو َّل َك َولِ َز ْو ِج َك َف َال ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِة َف َت ْشَقى‪ِ ،‬إ َّن‬
‫﴿ َفُقْلَنا َيا َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يها َوَال َت ْض َحى﴾(‪.)1‬‬ ‫يها َوَال َت ْعَرى‪َ ،‬وأََّن َك َال َت ْظ َمأُ ف َ‬ ‫َل َك أََّال َت ُجو َع ف َ‬
‫أما ذلك األكل الذي يأكله وهو في هذا الحال النفسي وان شئت فقل وهو في‬
‫ذوقياً‪ ،‬وهو أيضاً أكل اإلنسان في الدار اآلخرة في َّ‬
‫الجنة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫الجنة‪ ،‬فقد كان أكالً ّ‬
‫فتتذوقها ذوقاً‬
‫َّ‬ ‫فالنفس المحيطة بالجسد تمتد أشعتها يومئذ إلى الفواكه واألثمار‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآليات (‪)119-117‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 214‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫مستم ًار متواصالً‪ ،‬كما تمتد أشعة الشمس إلى أعماق المياه فتخالطها وتسري بها‪،‬‬
‫دون أن يدنو جرم الشمس منها‪.‬‬
‫وهذا الذوق المتواصل وهذا األكل قد يدوم أشه اًر وحيناً طويالً ول يشعر معه‬
‫اإلنسان بثقل أو شبع‪ ،‬وكلما زادت النفس من خالقها قرباً‪ ،‬زادت ذوقاً بما تأكله من‬
‫أشياء وتضاعفت لذتها‪ ،‬إذ على حسب صحة النفس وسرورها‪ ،‬يكون ذوقها‬
‫وتمتعها‪.‬‬
‫لما أسكنهما هللا‬ ‫ذلك هو حال أهل َّ‬
‫الجنة وهو حال سيدنا آدم ‪ ‬وزوجه َّ‬
‫تعالى األرض‪ .‬لقد كانا في جَّنة النعيم بشهود الجمال اإللٓهي العظيم‪ ،‬والى جانب‬
‫تتذوق ُّ‬
‫تذوقاً مستم اًر شامالً‪ ،‬فال‬ ‫ذلك كانت نفساهما تأكل من األرض رغداً‪ ،‬أي َّ‬
‫تجد ثقالً ول ضيقاً‪ .‬ولقد نهى هللا تعالى سيدنا آدم ‪ ‬وزوجه عن أن يقربا‬
‫الشجرة‪ ،‬أي‪ :‬أن ل يضعا مادة الثمر في فيهما‪ ،‬ألن دخول المادة إلى الفم ومن‬
‫يتحول اإلنسان من حال‬
‫بعد ذلك إلى الجوف‪ ،‬يحتاج إلى مضغ وهضم‪ ،‬ومن ثم َّ‬
‫إلى حال‪ ،‬فيصبح الحكم للجسم‪ ،‬وتنقلب النفس إلى الداخل‪ ،‬فتصبح محاطة بعد‬
‫َّ‬
‫ويتطلب ذلك من اإلنسان جهداً وعمالً وسعياً وراء تأمين‬ ‫أن كانت محيطة‪،‬‬
‫حاجات الجسم‪ ،‬وضروراته المادية‪ ،‬وذلك ما عنته اآلية الكريمة في قوله تعالى‪:‬‬
‫الشجرَة َف َت ُكوَنا ِمن اْل َّ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين﴾(‪ :)1‬لنفسكما فتتعبان‬ ‫ظالم َ‬ ‫َ‬ ‫﴿‪َ ...‬والَ َت ْقَرَبا َهذه َّ َ َ‬
‫ذوقياً‪.‬‬
‫وكال منها أكالً ّ‬‫تذوقا ُ‬
‫بالعمل‪ .‬أي‪ :‬ل تدنيا ثمرها من فيكما وجسديكما‪ ،‬بل َّ‬
‫عرضتماهما‬
‫أما إذا وضعتما الثمر في فيكما فتكونا من الظالمين لنفسيكما‪ ،‬إذ َّ‬
‫للتعب والنصب‪ ،‬والسعي وراء تأمين حاجات الجسم‪ .‬نعم‪ ،‬كانت نفسا سيدنا آدم‬
‫ذوقياً‪،‬‬
‫وزوجه عليهما السالم‪ ،‬لبس ًة جسديهما الشريفين‪ ،‬فكان نعيمهما من الدنيا ّ‬
‫وما كان الثمر ليدخل جوفيهما‪ ،‬إذ الدخول للجوف َّ‬
‫يتطلب الهضم والتعب‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)35‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 215‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وقد ح َّذرهما هللا تعالى من الشيطان وعداوته‪ ،‬وذلك ما أشارت إليه اآلية‬
‫الكريمة التي أوردناها آنفاً وهي قوله تعالى‪:‬‬
‫آد ُم ِإ َّن َه َذا َعُد ٌّو َّل َك َولِ َزْو ِج َك َف َال ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِة َف َت ْشَقى﴾(‪.)1‬‬
‫﴿ َفُقْلَنا َيا َ‬
‫وسكن سيدنا آدم ‪ ‬كما بيَّنا من قبل‪ ،‬وسكنت زوجه ذلك النعيم‪ ،‬نعيم اإلقبال‬
‫على هللا‪ ،‬والتمتُّع بشهود ذلك الجمال اإللٓهي العظيم‪ ،‬ل يبغيان عنه حولً‪ .‬وهل‬
‫يعدل النظر إلى وجه هللا نعيم؟ أم هل يرضى عنه المؤمن ببديل؟ وهنا ومن هذه‬
‫ليحول ذلك النبي الكريم‬ ‫النقطة أراد الشيطان أن يتَّخذ لنفسه مدخالً يدخل منه‪ِّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ال َيا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س إَلْيه َّ‬
‫ان َق َ‬
‫طُ‬‫الشْي َ‬ ‫عن خالقه‪ ،‬ويزّله عن ذلك الحال الذي هو فيه‪َ ﴿ :‬ف َو ْس َو َ‬
‫آد ُم َه ْل أَُدُّل َك َعَلى َش َجَرِة اْل ُخْل ِد َو ُمْلك َّال َيْبَلى﴾‪.2‬‬
‫َ‬
‫أدلك على الشج ةر التي إن أكلت منها‪ ،‬كانت سبباً في خلودك في هذا النعيم‬ ‫أي‪ :‬هل ُّ‬
‫وملكت هذا الحال؟ فلم تنقطع نفسك عن ذلك اإلقبال على هللا والوجهة الدائمة إليه‪.‬‬
‫ِّ‬
‫يقدر العظيم‬
‫فأقسم الشيطان باهلل العظيم لسيدنا آدم وزوجه‪ ،‬أنه لهما لمن الناصحين‪ ،‬ول ّ‬
‫حبه هلل‪ ،‬فأنساه ذلك الحب وصية هللا‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫إل العظيم‪ ،‬لذا غلب على سيدنا آدم ‪ّ ‬‬
‫﴿َوَلَقْد َع ِهْدَنا ِإَلى َآد َم ِمن َقْب ُل َفَن ِسي َوَل ْم َن ِجْد َل ُه َعْزًما﴾(‪ .)3‬أي نسي وصيتنا نسياناً‪ ،‬ولم‬
‫َ‬
‫نجد له عزماً وتصميماً على مخالفتنا‪ ،‬أي على المعصية‪.‬‬
‫حباً‬
‫وكذلك الحال بالنسبة لزوجه‪ ،‬فأكال من الشج ةر‪ ،‬أي‪ :‬طعما ثمرها ووضعاه في فيهما ّ‬
‫باهلل‪ ،‬وبذلك انقلبت نفساهما من حال إلى حال‪.‬‬
‫لقد لحقت النفس المادة الداخلة‪ ،‬وأصبحت محاطة بالجسم‪ ،‬بعد أن كانت محيطة به‪ ،‬فإذا‬
‫هما في هذا الحال الذي نحن فيه اآلن‪ ،‬يؤلمهما الجوع ويشتد عليهما الظمأ‪َ ...﴿ .‬فَل َّما َذا َقا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ط ِفَقا َي ْخ ِصَف ِ‬
‫ان َعَلْي ِه َما من َوَر ِق اْل َجَّنة َوَن َاد ُ‬
‫اه َما َرُّب ُه َما أََل ْم‬ ‫َّ‬
‫الش َجَرَة َبَد ْت َل ُه َما َسْوَء ُات ُه َما َو َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآلية (‪)117‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة ۤطه اآلية (‪)120‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة ۤطه اآلية (‪)115‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 216‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ظَل ْمَنا أَنُف َسَنا َواِن‬ ‫طا َن َل ُك َما َعُدٌّو ُّمِب ٌ‬
‫ين‪َ ،‬قاالَ َرَّبَنا َ‬ ‫الشْي َ‬ ‫أَْن َهُكما َعن ِتْل ُكما َّ‬
‫الش َجَرِة َوأَُقل َّل ُكما ِإ َّن َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّل ْم َت ْغفْر َلَنا َوَتْر َح ْمَنا َلَنُكوَن َّن م َن اْل َخاسِر َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ين﴾ ‪.‬‬
‫وقد أشارت اآلية الكريمة التابعة لآليات التي نحن بصددها في سو ةر البق ةر إلى هذا الحال‬
‫الجسمي‪ ،‬الذي أصبح فيه سيدنا آدم وزوجه‪ ،‬ذلك ألن الشيطان ببعده عن هللا‪ ،‬صار حسوداً‬
‫َخرجهما ِم َّما كاَنا ِف ِ‬
‫يه‪.﴾...‬‬ ‫فحولهما‪َ﴿ :‬فأََزَّل ُهما َّ‬
‫َ‬ ‫ان َعْن َها َفأ ْ َ َ ُ َ‬
‫طُ‬‫الشْي َ‬ ‫َ‬ ‫منحطاً‪ ،‬دفعه الحسد َّ‬
‫قال يا آدم‪ :‬رّبك ما نهاك عن الشجرة‪ ،‬فإن أكلت خلدت في النعيم‪ ،‬وحيث أنه‬
‫لم يكن لسيدنا آدم ‪ ‬فكر‪ ،‬نسي أمر هللا وأكل‪ ،‬فدخلت نفسه للداخل‪ ،‬و َّ‬
‫انسد‬
‫عليه اإلقبال على هللا‪.‬‬
‫ان َعْن َها‪ :﴾...‬أي جعلهما ينزلن وينتقالن من تلك‬ ‫والمراد بكلمة ﴿َفأََزَّل ُهما َّ‬
‫الشْي َط ُ‬ ‫َ‬
‫الحالة النفسية الذوقية‪ ،‬إلى الحالة الجسمية‪ ،‬وبذلك أخرجهما مما كانا فيه من أكل ذوقي‬
‫ونعيم معنوي‪ ،‬فأصبحت لهما حاجات جسمية‪ ،‬ومطالب مادية ما كانا يهتمان بها من‬
‫قبل‪.‬‬
‫اع ِإَلى‬ ‫طوْا َب ْع ُض ُك ْم لَِب ْعض َعُد ٌّو َوَل ُك ْم ِفي األَْر ِ‬
‫ض ُم ْس َتَقٌّر َو َم َت ٌ‬ ‫اه ِب ُ‬
‫﴿‪َ ...‬وُقْلَنا ْ‬
‫ِحين﴾ ‪ .‬وأما كلمة ﴿‪َ ...‬وُقْلَنا ْ‬
‫اه ِب ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫طوْا‪ :﴾...‬من الحال النفسي‪ ،‬أي‪ :‬انزلوا إلى‬
‫هذه الحياة الدنيا حياة السعي وراء الرزق‪ ،‬والعمل لتأمين ما تقتضيه هذه الحياة من‬
‫حاجات ومطالب‪ ،‬ذلك هو الحال الجديد الذي صار إليه سيدنا آدم ‪ ‬وزوجه‪،‬‬
‫وصار إليه بنوه من بعده‪ ،‬وهو كما نعلم مختلف كل الختالف عن الحال األول‬
‫الذي كانا فيه‪.‬‬
‫أما كلمة ﴿‪َ ...‬ب ْع ُض ُك ْم لَِب ْعض َعُد ٌّو‪ :﴾...‬الكافر ُيعادي المؤمن‪ ،‬فتفيد أن‬
‫الحكمة من هذه القصة كلها إنما هي إظهار عداوة إبليس وذريته المعرضين عن‬
‫هللا لهذا النوع البشري‪ .‬فالذين يتبعون كالم هللا من بني اإلنسان سيرون من بعد ما‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآلية (‪)23-22‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة البقرة اآلية (‪)36‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 217‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فعله إبليس وما قام به من تغرير سيدنا آدم ‪ ‬وحلف له كذباً باهلل لِّ ِّ‬
‫يحوله عن‬
‫ّ‬
‫يغترون به ول يستطيع أن يفتنهم‪ .‬والكافرون من أولد إبليس‪ ،‬وهم بعض‬‫هللا‪ ،‬فال ُّ‬
‫الجن سيكونون معه ضداً وأعداء لبني آدم‪ُّ ،‬‬
‫ليردوهم عن الحق‪ ،‬وليلبسوا عليهم‬
‫دينهم‪.‬‬
‫وهكذا فكلمة﴿‪َ ...‬ب ْع ُض ُك ْم لَِب ْعض َعُد ٌّو‪ :﴾...‬بعضكم تعني الشيطان عدواً‬
‫تعرفنا أن هللا تعالى إنما جعل خروج النوع البشري لهذه الحياة‬ ‫لإلنسان‪ ،‬وتريد أن ِّّ‬
‫الدنيا بهذا القالب وهذه الصورة‪ ،‬ليضع بين يدي هذا اإلنسان المهيَّأ للكمال مثالً‬
‫وعمالً عداوة الشيطان وكيده فيكون هذا اإلنسان على علم به‪َ ،‬حِّذ اًر من إغرائه‪،‬‬
‫يبين لنا رحمة هللا تعالى ورأفته‪ ،‬وهللا رؤوف رحيم‪.‬‬ ‫وذلك كله مما ِّّ‬
‫اع ِإَلى ِحين﴾‪ :‬مدة حياتك‪َّ ،‬‬
‫إن‬ ‫وتفيد كلمة ﴿‪َ ..‬وَل ُك ْم ِفي األَْر ِ‬
‫ض ُم ْس َتَقٌّر َو َم َت ٌ‬
‫لهذا اإلنسان على وجه األرض عم اًر محدوداً وأجالً معيَّناً‪ ،‬فإذا انقضى العمر‬
‫ووافاه األجل‪ ،‬فال بد له من فراق هذه الحياة الدنيا‪ ،‬بخالف حال اإلنسان في‬
‫اآلخرة فال حد له ول انقضاء لحياته‪ ،‬والسبب في ذلك أن اإلنسان في الدنيا َّ‬
‫تتوقف‬
‫حياته على سالمة الجسم وبقائه قاد اًر على العمل‪ ،‬فإذا َّ‬
‫تعطلت أجهزته الرئيسية‬
‫وتوقف عن العمل‪ ،‬خرجت النفس لحقة بالروح‪ ،‬وفارقت معها هذا الجسد‪ ،‬وان‬
‫ظل لها ارتباط به واشراف عليه‪.‬‬
‫َّ‬
‫أما في الدار اآلخرة‪ ،‬فالحكم للنفس‪ ،‬فهي المحيطة بالجسد‪ ،‬وليس له يومئذ‬
‫تكز ترتكز‬
‫فعالية ول عمل‪ ،‬وليس يصيبه هرم ول ضعف ول وهن‪ ،‬وان هو إل ُم ْر َ‬ ‫َّ‬
‫عليه النفس‪ ،‬وهي يومئذ صاحبة الحياة‪ .‬وبما أنها جوهر نوراني‪ ،‬ل يط أر عليها ما‬
‫المتركب منها الجسد‪ ،‬من ضعف وانحالل‪ ،‬لذلك فالحياة في‬ ‫ِّّ‬ ‫يط أر على المادة‬
‫الدار اآلخرة حياة أبدية‪ ،‬ليس لها حد ول انتهاء‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 218‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫اع ِإَلى ِحين﴾‪ :‬أن وجود‬ ‫ِفي األَْر ِ‬
‫ض ُم ْس َتَقٌّر َو َم َت ٌ‬ ‫وتفيد أيضاً كلمة ﴿‪َ ..‬وَل ُك ْم‬
‫له أجل محدود‪ ،‬فإذا ما انتهى هذا األجل‪ ،‬انتهت‬ ‫النوع البشري على وجه األرض‬
‫معه هذه الحياة‪ ،‬ثم يْقُدم الناس إلى اآلخرة‪ ،‬فيرى كل امرئ نتائج أعماله وسعيه‪.‬‬
‫ولعلك تقول‪ :‬كيف نسي سيدنا آدم ﷺ وصية هللا تعالى واستطاع الشيطان أن‬ ‫َّ‬
‫يغره؟‬
‫ه‬
‫وهل يستطيع الشيطان أن يدخل على األنبياء؟ وهل يعصون هللا تعالى؟ وكيف‬
‫نستطيع أن نوِّّفق بين ما وقع من سيدنا آدم ‪ ‬مع ما قرره القرآن الكريم من‬
‫عصمة األنبياء‪ ،‬وعدم إمكان وقوعهم في مخالفة من المخالفات؟‬
‫أقول‪ :‬هذه نقاط هامة هي مزَّلة قد ٍم بالنسبة للكثير من الناس‪ ،‬فإذا لم يفهمها‬
‫وسموهم النفسي وعصمتهم من الوقوع‬
‫َّ‬ ‫اإلنسان حق الفهم‪ ،‬ولم َير كمال رسل هللا‬
‫تزل به القدم‪ ،‬فيهوي في جحيم البعد عن هللا‪ ،‬وليس‬
‫في المخالفات‪ ،‬فال بد أن ّ‬
‫يخلصه من هذا البعد أحد‪ ،‬ما دامت نفسه محجوبة عن رؤية ذلك الكمال الذي‬
‫اصطبغت به أنفس رسل هللا صلوات هللا عليهم أجمعين‪.‬‬
‫ِّ‬
‫تقدر‬
‫فالنفس البشرية كما نعلم‪ ،‬مفطورة على حب الكمال‪ ،‬وهي ل تستطيع أن ّ‬
‫أحداً وبالتالي ل يمكن لها أن ترتبط برباط المحبة بأحد‪ ،‬ما دامت ترى فيه نقصاً‬
‫وانحرافاً أو ميالً عن الحق‪.‬‬
‫ذلك هو قانون من قوانين النفس التي ل تتبدل‪ .‬واذا كان الدخول في مداخل‬
‫َّ‬
‫التقوى واإليمان النفسي يتوقف على ّ‬
‫محبة رسل هللا صلوات هللا عليهم وصحبتهم‬
‫المعنوية‪ ،‬والدخول بهذه الصحبة والمعيَّة على هللا‪ ،‬فكيف يمكن للنفس التي ترى‬
‫تحبهم وترافقهم؟ أم كيف تستطيع أن تدخل‬
‫في رسل هللا نقيصة من النقائص‪ ،‬أن ّ‬
‫بمعيتهم على هللا؟ ل شك أنها تظل بعيدة عن هللا محجوبة عنه‪ ،‬محرومة من ذلك‬
‫كل الحرمان‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 219‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لذلك وتبياناً لهذه النقاط الهامة التي أوردناها نقول‪:‬‬
‫ل بد لنا حتى نفهم النقطة األولى وهي نسيان سيدنا آدم ‪ ‬وصية هللا‪ ،‬من‬
‫أن نرجع إلى ذلك الحال األول الذي كان عليه سيدنا آدم في َّ‬
‫جنة اإلقبال على‬
‫هللا‪ ،‬قبل انتقاله إلى هذه الحياة الدنيا أي‪ :‬قبل هبوطه من الحال النفسي إلى الحال‬
‫الجسمي الذي نحن عليه فنقول‪ :‬لإلنسان في هذه الحياة الدنيا فكر وعقل‪ ،‬وليس‬
‫في الجنة إلَّ عقل فقط‪ ،‬وهو َّ‬
‫مجرد عن الفكر‪.‬‬
‫فالفكر وهو تلك الجوهرة التي زيَّن هللا تعالى بها اإلنسان في هذه الحياة الدنيا‪،‬‬
‫وجعلها في الدماغ‪ ،‬هو اآلن بالنسبة لإلنسان جهاز المعرفة‪ ،‬والوصول إلى‬
‫الحقائق‪.‬‬
‫فالعين تُبصر‪ ،‬واألذن تسمع‪ ،‬واللسان يذوق‪ ،‬ثم تنتقل هذه المشاعر إلى النفس‪،‬‬
‫فإذا كانت النفس صادقة في طلب الحقيقة‪ ،‬وأرسلت بإشعاعات هذه المشاعر للدماغ‪،‬‬
‫هنالك يقوم الفكر بعمليات المقارنة والمقايسة والتحليل والتركيب‪ ،‬ثم تصل النفس إلى‬
‫مطلوبها‪.‬‬
‫فمن النظام‪ ،‬يهتدي إلى الحكم بوجود المن ِّّ‬
‫ظم‪ ،‬ومن األثر‪ ،‬يحكم بوجود المؤِّثّر‪،‬‬
‫ومن التربية‪ ،‬يصل إلى معرفة المرِّّبي‪ ،‬وهنالك تعقل النفس هذه الحقائق التي حكم بها‬
‫الفكر‪ ،‬فتشاهدها بذاتها‪ ،‬وتوقن بها‪ ،‬وتنتقش فيها ل تبرحها‪ ،‬فتعقلها‪ ،‬تعقل حقيقة‬
‫الوجود اإللٓهي‪ ،‬ومنها لشهود أسماء هللا تعالى الحسنى‪ ،‬وتلك غاية أقصى المنى‬
‫لوجود اإلنسان‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فالتفكير هو ما يقوم به الدماغ من عمليات المقايسة والمقارنة والتحليل‬
‫توصالً إلى إدراك الحقائق‪ ،‬والحكم بوجودها‪.‬‬
‫والتركيب‪ُّ ،‬‬
‫أما العقل‪ :‬فهو شهود النفس هذه الحقائق ومعاينتها إياها‪ .‬وكل تفكير صادق‬
‫ل بد أن يصل بصاحبه إلى العقل‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 220‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وتظل هذه الحقائق محفوظة في النفس مخزونة فيها‪ ،‬فإذا ما احتاج اإلنسان‬
‫إلى أمر من األمور السابقة‪ ،‬يعكس الفكر أشعته على ما عقلته النفس‪ ،‬فتضيء‬
‫له تلك الحقائق المخزونة في النفس‪ ،‬فيعرفها اإلنسان ويذكرها‪.‬‬

‫وعلى ذكر الفكر والعقل‪ ،‬ل بد لنا من أن نذكر كلمة وجيزة ِّّ‬
‫نبين فيها مدى‬
‫فعالية هذا الفكر وقدرته على إدراك الحقائق فنقول‪:‬‬
‫َّ‬
‫ل بد من اهتمام النفس باألمر حتى تصل إلى عقله‪ .‬فاألمور التي ل تهتم بها‬
‫النفس اهتماماً كّلِّياً‪ ،‬ول تطلب معرفتها بصدق والحاح‪ ،‬ل يكون عمل الفكر فيها‬
‫إلَّ سطحياً‪ ،‬ولذلك ل يستطيع أن يصل فيها إلى إدراك حقيقة‪ ،‬ول أن يصدر‬
‫حكماً‪ ،‬وبذلك تبقى النفس بعيدة عن عقلها أو شهودها‪.‬‬
‫ولذلك وتوصيالً للنفس إلى العقل في معرفة الخالق والمرِّّبي‪ ،‬ثم الوصول إلى‬
‫اإليمان بال إلٓه إل هللا‪ ،‬ومعرفة َّ‬
‫أن السير كله بيد هللا‪ ،‬ل بد من تعريف النفس بأن‬
‫هذه الحياة الدنيا التي اطمأنت إليها وفرحت بها‪ ،‬إنما هي سريعة الزوال وشيكة‬
‫النقضاء‪ ،‬وأنه مهما جمع اإلنسان منها‪ ،‬ومهما عاش فيها‪ ،‬فال بد له من الموت‬
‫ول بد من الفراق‪ ،‬وهذه حقيقة واقعية ل ّبد من وقوعها حتماً‪.‬‬
‫فإذا ما ضرب المرء لنفسه أمثلة لمن عاش قبله من آبائه وأجداده وذويه‪،‬‬
‫بصرها بالموت ورهبته‪ ،‬والقبر‬
‫وعرفها بمن سكن في مساكنهم ومن سبقوه‪ ،‬ثم َّ‬
‫َّ‬
‫وكرر لها هذا الدرس وأعاده عليها‪ ،‬فهنالك تخاف وترهب‪ ،‬وتقلع عن‬
‫ووحشته‪َّ ،‬‬
‫السترسال في محبَّة الدنيا والنصراف إليها‪ ،‬وتطلب ُّ‬
‫وتجد في معرفة المرِّّبي الذي‬
‫ُيعنى بها‪ ،‬وتتَّحد جهود النفس مع الفكر‪ ،‬فيعمل منطلقاً ّ‬
‫جاداً في البحث‪ ،‬وما يزال‬
‫ويجيب‪ ،‬حتى ينتهي به اإلقرار‬ ‫يقارن ويقايس ويحِّّلل ِّّ‬
‫ويركب ويسأل ذاته بذاته ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فيتوصل‬
‫َّ‬ ‫والحكم‪ ،‬بوجود الخالق العظيم‪ ،‬الذي خلق كل شيء‪ ،‬ويستمر به البحث‪،‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 221‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫إلى اإليمان بأنه تعالى هو المرِّّبي الممد‪ ،‬يرِّّبي المخلوقات ُّ‬
‫ويمدها بما يلزمها‪ ،‬ل‬
‫شهودياً ل ريب فيه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يغفل عنها طرفة عين‪ ،‬يعقل هذا بنفسه عقالً‬
‫وأخي اًر يصل هذا الفكر الصادق منتقالً من معرفة المرِّّبي إلى معرفة اإللٓه‬

‫ِّّ‬
‫المسير‪ ،‬الذي يؤول إليه أمر الكون كله‪ ،‬فيحكم بأن سير الكون كله بيد هللا‪ ،‬وأن‬
‫ل إلٓه إل هللا‪ .‬ثم تعقل النفس هذه الحقائق‪ ،‬فتغدو مؤمنة حّقاً‪ ،‬واإليمان إنما هو‬
‫ثمرة من ثمرات العقل‪ ،‬ونتيجة من نتائجه‪ ،‬ول إيمان لمن ل عقل له‪ ،‬ول دين لمن‬
‫ل عقل له‪.‬‬
‫وهكذا فللعقل مكانه األول في الوصول إلى اإليمان‪ ،‬والعقل متوِّّقف حصوله‬
‫على التفكير‪ ،‬والتفكير ل يتم ول تدور دواليبه‪ ،‬إلَّ بالصدق في طلب المعرفة‪،‬‬
‫والصدق متوِّّقف حصوله على الخوف من الموت ونتائجه‪.‬‬
‫مر بنا من قبل‪ ،‬يتَّكئ في المسجد بين َّ‬
‫سنة الصبح والفرض‬ ‫ولذلك كان ﷺ كما َّ‬
‫مضطجعاً على جنبه األيمن ووجهه إلى القبلة‪ ،‬مقّلِّداً حال اإلنسان في القبر‪،‬‬
‫مفك اًر ومعّلِّماً هذا اإلنسان طريق الصدق‪ ،‬والوصول إلى اإليمان‪ .‬وكان ﷺ يقول‪:‬‬ ‫ِّّ‬
‫(أكثروا ذكر هاذم اللذات) (‪.)1‬‬
‫شئت‬ ‫َح ِبب من‬ ‫ويذكر اإلنسان بقوله الشريف‪ِ :‬‬ ‫ِّّ‬
‫َ‬ ‫فإنك ميت‪ ،‬وأ ْ‬
‫شئت َ‬‫َ‬ ‫ش ما‬ ‫(ع ْ‬
‫فإنك مجزٌي به) (‪.)2‬‬
‫شئت َ‬
‫اعمل ما َ‬ ‫ارقه‪ ،‬و ْ‬
‫فإنك ُم َف ُ‬
‫َ‬
‫فلعل هذا اإلنسان يهتدي ويسلك طريق اإليمان‪ ،‬وكفى بالموت واعظاً ِّّ‬
‫ومذك اًر‪.‬‬ ‫َّ‬
‫هذه كلمة ذكرناها ومن الضروري اإللحاح عليها‪ ،‬لمن أراد أن َّ‬
‫يذ َّكر وأراد أن‬
‫يصل إلى اإليمان‪ ،‬وبالتالي إلى فهم القرآن خطاب رِّّبه العظيم‪.‬‬
‫كنا بدأنا به في كالمنا عن سيدنا آدم ‪ ‬وأكله‬‫ونعود إلى أصل البحث الذي َّ‬
‫من الشجرة ونسيانه وصية هللا تعالى فنقول‪:‬‬

‫(‪ _ )1‬أخرجه الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في ذكر الموت رقم ‪./2307/‬‬
‫(‪ _ )2‬رواه الطبراني‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 222‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وضحنا في بحثنا السابق‪ ،‬أن لإلنسان في هذه الحياة الدنيا فك اًر وعقالً‪،‬‬‫لقد َّ‬
‫وأنه في الجنة ليس لإلنسان إلَّ عقل فقط‪ ،‬وهو َّ‬
‫مجرد عن التفكير‪.‬‬
‫والسبب في ذلك أن الفكر إنما يتوقف عمله على وجود الدماغ وجريان الدم‬
‫فيه‪ ،‬وان شئت فقل‪ :‬أن الفكر ُيعين النفس ويساعدها على الوصول إلى الحقائق‬
‫وعقل هذه الحقائق‪ ،‬ما دامت في هذه الدنيا محبوسة في الجسم‪ ،‬وما دام الجسم‬
‫صاحب السيطرة والحكم‪.‬‬
‫أما إذا خرجت النفس من الجسد ولبسته وأصبحت محيطة به وأضحت صاحبة‬
‫الحكم‪ ،‬فهنالك تتوقف جميع األجهزة الجسدية عن العمل‪ ،‬وبالتالي يتوقف الفكر‪،‬‬
‫ألن هذه األجهزة وهذا الفكر‪ ،‬أضحت ل عمل لها‪ ،‬وتعقل النفس والحالة هذه‬
‫الحقائق بذاتها‪ ،‬دون حاجة إلى حاسة أو فكر‪.‬‬
‫واذا كان اإلنسان َّ‬
‫يتذكر في هذه الدنيا ما وقع له من الحوادث‪ ،‬وما قام به من‬
‫األعمال بواسطة الفكر‪ ،‬الذي ُيرسل بأشعته إلى النفس‪ ،‬فتضيء له هذه الحقائق‬
‫ويذكرها‪ ،‬ففي الدار اآلخرة حين يتوقف الفكر عن العمل‪ ،‬ل يعود هذا اإلنسان‬
‫يتذكر ُّ‬
‫تذك اًر فكرياً‪ ،‬بل يعقل عقالً‪ .‬فإذا ُعرضت على اإلنسان أعماله التي قام بها‬ ‫َّ‬
‫في الدنيا‪ ،‬عقلتها النفس عقالً‪ ،‬أي‪ :‬أنها تعقل ما هو مطبوع فيها‪.‬‬
‫ذلك هو حال اإلنسان في َّ‬
‫الجنة‪ ،‬وحال سيدنا آدم ‪ ‬من قبل‪ .‬فقد كانت‬
‫نفسه محيطة بجسده‪ ،‬تعقل ما تراه عقالً‪ ،‬فلما جاء الشيطان وقال‪:‬‬
‫آدم َهل أَُدُّل َك عَلى َشجرِة اْل ُخْل ِد ومْلك َّال يبَلى﴾(‪ .)1‬أي‪ :‬هل ُّ‬
‫أدلك على‬ ‫َْ‬ ‫َُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫﴿‪َ ...‬يا َ ُ ْ‬
‫الشجرة التي إن أكلت منها خلدت نفسك في ذلك الحال العالي من اإلقبال على‬
‫ولما أقسم له باهلل أنه‬
‫هللا‪ ،‬وملكت ذلك الحال الجميل الجليل‪ُ ،‬مْلكاً أبدياً ل يبلى‪َّ .‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآلية (‪)120‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 223‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لمن الناصحين‪ ،‬غاب عنه ‪ ‬أن هللا نهاه عن األكل من الشجرة‪ ،‬وغاب عنه أنه‬
‫تعالى َّ‬
‫حذره من الشيطان‪.‬‬
‫لقد نسي سيدنا آدم ‪ ‬ذلك كله‪ ،‬وهذا أمر طبيعي‪ ،‬ألنه لم يكن له يومئذ فكر‬
‫آد َم ِمن َقْب ُل َفَن ِسي َوَل ْم َن ِجْد َل ُه َع ْزًما﴾(‪:)1‬‬ ‫َّ‬
‫يتذكر به‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وَلَقْد َع ِهْدَنا ِإَلى َ‬
‫َ‬
‫أي لم يجد له عزماً على المعصية‪.‬‬
‫وهكذا فالنسيان الذي وقع لسيدنا آدم ‪ ‬وزوجه‪ ،‬أمر يقتضيه الوضع النفسي‬
‫الذي كانا فيه‪ ،‬وهو ليس والحالة هذه بمعصية‪ ،‬وكل امرئ إذا هو لبس ذلك الحال‬
‫النفسي الذي كان عليه سيدنا آدم ‪ ‬قبل انتقاله للحال الجسمي الذي نحن فيه‪،‬‬
‫لفعل ما فعله سيدنا آدم ‪ ،‬فهو حال يقتضيه الوضع‪ ،‬ول يمكن أن يعد مخالفة‬
‫ألمر هللا‪ ،‬ول خرقاً لوصيته‪ .‬وما أجرى هللا تعالى ذلك على سيدنا آدم‪ ،‬وما جعل‬
‫هللا سيدنا آدم وزوجه محورين لهذه القصة‪ ،‬إلَّ َّ‬
‫ليتعرف أولدهما من بعدهما إذا هم‬
‫أصبحوا في الحال الجسمي‪ ،‬بعداوة الشيطان ومكائده‪ ،‬وليعطيهم درساً عملياً‬
‫ويضع بين أيديهم مثالً واقعياً في هذا الموضوع‪ ،‬فيحِّّذر األبناء من الشيطان‬
‫وعداوته‪ .‬وقد أشارت اآلية الكريمة إلى هذه الناحية في قوله تعالى‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫َخَر َج أََب َوْي ُكم ِهم َن اْل َجَّن ِة‪﴾...‬‬
‫ان َك َما أ ْ‬
‫طُ‬ ‫آد َم الَ َي ْف ِتَنَّن ُك ُم َّ‬
‫الشْي َ‬ ‫ِ‬
‫﴿َيا َبني َ‬
‫ولعلك تقول‪ :‬إذا كان األمر كما بيَّناه‪ ،‬فما تأويل اآلية الكريمة الواردة في وصف‬ ‫َّ‬
‫آد ُم َرَّب ُه َف َغ َوى﴾(‪.)3‬‬
‫هذه الواقعة في قوله تعالى‪َ ..﴿ :‬و َع َصى َ‬
‫فنقول‪ :‬بعد أن عرضنا ما عرضناه من أن الحال النفسي الذي كان عليه سيدنا‬
‫آدم ‪ ‬من قبل في خصائصه التي ل تنطبق على الحال الجسمي الذي نحن‬
‫عليه اآلن‪ ،‬وان النسيان من لوازم ذلك الحال النفسي‪ ،‬لعدم وجود الفكر‪ .‬لذلك ل‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآلية (‪)115‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة األعراف اآلية (‪)27‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة ۤطه اآلية (‪)121‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 224‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫يمكن بوجه من الوجوه أن ُيعتبر أكل سيدنا آدم ‪ ‬من الشجرة معصية بالمفهوم‬
‫الذي نفهمه نحن اآلن في حالنا الدنيوي‪ ،‬والذي يتبادر ألذهان الذين لم يعرفوا قدر‬
‫نتفهم ما قبلها وما بعدها من‬
‫رسول هللا ﷺ‪ .‬ول بد لنا لفهم هذه اآلية‪ ،‬من أن َّ‬
‫اآليات الكريمة الواردة في مسرى هذه القصة وهي قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَلَق ْد َع ِه ْدَنا ِإَلى‬
‫اس ُجُدوا ِآل َد َم َف َس َجُدوا ِإَّال‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬
‫آد َم من َقْب ُل َفَنس َي َوَل ْم َن ِج ْد َل ُه َع ْزًما‪َ ،‬وِا ْذ ُقْلَنا لْل َم َال ئ َكة ْ‬
‫آد ُم ِإ َّن َه َذا َعُد ٌّو َّل َك َولِ َز ْو ِج َك َف َال ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِة‬‫يس أََبى‪َ ،‬فُقْلَنا َيا َ‬ ‫ِ‬
‫ِإْبل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س‬ ‫يها َوَال َت ْض َحى‪َ ،‬ف َو ْس َو َ‬ ‫يها َوَال َت ْعَرى‪َ ،‬وأََّن َك َال َت ْظ َمأُ ف َ‬ ‫َف َت ْشَقى‪ِ ،‬إ َّن َل َك أََّال َت ُجو َع ف َ‬
‫آد ُم َه ْل أَُدُّل َك َعَلى َش َجَرِة اْل ُخْل ِد َو ُمْلك َّال َيْبَلى‪َ ،‬فأ ََك َال ِمْن َها‬ ‫ال َيا َ‬ ‫ان َق َ‬ ‫طُ‬ ‫ِإَلْي ِه َّ‬
‫الشْي َ‬
‫ِ‬
‫ان َعَلْي ِه َما ِمن َوَر ِق اْل َجَّنة َو َع َصى َ‬
‫آد ُم َرَّب ُه‬ ‫ط ِفَقا َي ْخ ِص َف ِ‬
‫آت ُه َما َو َ‬ ‫َفَب َد ْت َل ُه َما َس ْو ُ‬
‫اب َعَلْي ِه َو َه َدى﴾(‪.)1‬‬ ‫اه َرُّب ُه َف َت َ‬ ‫َف َغ َوى‪ُ ،‬ث َّم ْ‬
‫اج َتَب ُ‬
‫فهذه اآليات الكريمة تُ ِّّبين لنا أن سيدنا آدم ‪ ‬إنما نسي وصية هللا تعالى‪ ،‬ولم‬
‫الخُلود في َّ‬
‫الجنة‪،‬‬ ‫ط َم َع ُ‬
‫يكن له عزم على المخالفة‪ ،‬وانه ‪ ‬إنما أكل من الشجرة َ‬
‫التنعم بشهود جماله‪ ،‬وأما الدافع‬ ‫وهي كما ذكرنا من قبل‪َّ ،‬‬
‫جنة اإلقبال على هللا و ُّ‬
‫حبه هلل‪ ،‬وطمعه البقاء في نعيم اإلقبال على‬
‫الذي دفعه إلى األكل من الشجرة فهو ّ‬
‫هللا‪.‬‬
‫فيتبدى معناها ظاه اًر جلياً إذا نحن‬ ‫آد ُم َرَّب ُه َف َغ َوى﴾ َّ‬ ‫أما كلمة ﴿‪َ ...‬و َع َصى َ‬
‫ان َعَلْي ِه َما ِمن‬
‫ط ِفَقا َي ْخ ِصَف ِ‬ ‫قرناها إلى كلمة‪َ ﴿ :‬فأ ََكَال ِمْن َها َفَبَد ْت َل ُه َما َس ْو ُ‬
‫آت ُه َما َو َ‬
‫َوَر ِق اْل َجَّن ِة‪ .)2( ﴾...‬فما أن أكل سيدنا آدم ‪ ‬وزوجه من الشجرة حتى ظهر لهما‬
‫حالهما الجسمي‪ ،‬وهنالك وبظهور هذا الحال الجسمي‪َّ ،‬‬
‫تذكر سيدنا آدم ‪ ‬وصية‬
‫ُّ‬
‫التذكر بسبب أن هذا الحال الجسمي‪ ،‬يالزمه وجود الفكر الذي‬ ‫هللا‪ ،‬وكان هذا‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآلية (‪)122-115‬‬


‫(‪ _ ) 2‬سورة ۤط ه اآلية ( ‪)121‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 225‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫يحصل به ُّ‬
‫التذكر‪ .‬وقد عرف ‪ ‬أن هذا الحال الذي صار إليه‪ ،‬إنما هو بسبب‬
‫مخالفته الوصية‪ ،‬ونسيانه األمر‪.‬‬
‫***‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 226‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫غاَة قصة سيدنا آدم ‪‬‬
‫* تعليم محبة هللا‪.‬‬
‫* وعدم االستماع إلى الشيطان‪.‬‬
‫آد ُم َرَّب ُه‪ .)1(﴾...‬تقول‪:‬‬
‫كلمة ﴿‪َ ...‬و َع َصى َ‬
‫وأدرك سيدنا آدم ‪ ‬من نفسه إثر ظهور ذلك الحال الجسمي له‪ ،‬أنه نسي‬
‫آد ُم َرَّب ُه‪:﴾...‬‬
‫وفعل خالف ما أوصاه هللا تعالى به‪ .‬وهكذا‪ ،‬فكلمة ﴿‪َ ..‬و َع َصى َ‬
‫ليست من هللا تعالى إثباتاً لعصيان آدم ‪ ،‬وتقري اًر للمعصية‪ ،‬إنما هي حكاية‬
‫حال سيدنا آدم وبيان مشاعره واحساساته النفسية بالمخالفة‪ ،‬التي أوقعه فيها نسيان‬
‫األمر اإللٓهي‪.‬‬
‫التحول من ٍ‬
‫حال‬ ‫الغي‪ ،‬وهو النقالب و ُّ‬ ‫أما كلمة ﴿‪َ ...‬ف َغ َوى﴾‪ :‬فمأخوذة من‪:‬‬
‫ّ‬
‫عال فيه السعادة والخير‪ ،‬إلى حال أدنى‪ ،‬فيه المتاعب والشقاء‪.‬‬
‫ف‬ ‫الص َال َة و َّاتبعوا َّ ِ‬
‫الش َه َوات َف َس ْو َ‬ ‫َ َُ‬ ‫اعوا َّ‬
‫َض ُ‬
‫فأَ‬‫ف ِمن َب ْع ِد ِه ْم َخْل ٌ‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬ف َخَل َ‬
‫َيْلَق ْو َن َغًّيا﴾(‪ :)2‬أي سيلقون بتضييعهم الصالة و ِّاتّباع الشهوات‪ ،‬انحطاطاً من تلك‬
‫المكانة التي كانت آلبائهم من قبل‪ ،‬وسيجدون متاعب وشقاوة‪.‬‬
‫وكان ﷺ كثي اًر ما يستهل خطبه بقوله الكريم‪( :‬من يطع هللا ورسوله فقد رشد‪،‬‬
‫ومن يعص هللا ورسوله فقد غوى حتى يفيء إلى أمر هللا) (‪.)3‬‬
‫لما رأى سيدنا آدم ‪ ‬ذلك الحال الجسمي الذي صار‬ ‫وبناء على هذا نقول‪َّ :‬‬
‫ً‬
‫َّ‬
‫إليه‪ ،‬وتذكر أنه خالف وصية رّبه‪ ،‬خجلت نفسه من هذه المخالفة‪ ،‬وبهذا الخجل‬
‫الذي سيطر على نفسه احتجبت نفسه عن ذلك الحال من اإلقبال على هللا‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآلية (‪)121‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة مريم اآلية (‪)59‬‬
‫(‪ _ )3‬عن ابن عباس‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 227‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أي‪ :‬ورأى آدم ‪‬‬ ‫ويكون ما نفهمه من كلمة ﴿‪َ ...‬و َع َصى آ َد ُم َرَّب ُه َف َغ َوى﴾‬
‫(‪)1‬‬

‫من نفسه أنه خالف وصية رِّّبه‪ ،‬وبذلك احتجبت نفسه عن اإلقبال على هللا خجالً‪،‬‬
‫وتحول عن ذلك الحال العالي الذي كان فيه‪ .‬وهنالك وفي هذه اللحظة‪ ،‬ناداه ربُّه‬
‫َّ‬
‫اء على نيَّة‬
‫مبيناً له أن هذا األكل الذي أكله من هذه الشجرة‪ ،‬إنما صدر منه بن ً‬ ‫ِّّ‬
‫النية العالية‪ ،‬وهذا المقصد‬
‫عالية‪ّ ،‬نية الخلود في اإلقبال ودوام البقاء مع هللا‪ .‬وهذه ّ‬
‫عد معصية‪ ،‬ول ُيوجب استحياء وخجالً‪ ،‬ل سيما إذا اقترن مع ذلك‬‫السامي‪ ،‬ل ُي ُّ‬
‫الحال األول النفسي الذي من لوازمه النسيان‪ .‬وأراد تعالى بذلك التعريف الذي‬
‫عرف به سيدنا آدم ‪ ‬أن ُيرجعه إليه‪ ،‬ويرفع عنه ذلك الخجل الذي استولى‬ ‫َّ‬
‫اه َرُّب ُه‪ )2(﴾...‬أي‪ :‬جعله يرجع إليه وجمع‬
‫اج َتَب ُ‬
‫عليه‪ ،‬وذلك ما نفهمه من كلمة ﴿ ُث َّم ْ‬
‫قلبه عليه تعالى‪.‬‬
‫وذلك أيضاً ما عبَّرت عنه اآلية الكريمة الواردة في سورة البقرة في قوله تعالى‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫﴿ َفَتَلَّقى َ ِ‬
‫آد ُم من َّرهِبه َكل َمات‪ : ﴾...‬أي‪ :‬كلمات ِّّ‬
‫(‪)3‬‬
‫سمو ّنيته‪ ،‬وعلو‬
‫مبينات له َّ‬
‫مقصده وغايته‪ ،‬محواً للخجل من نفسه‪ ،‬وبذلك عرف أن هللا تعالى لم يؤاخذه على‬
‫ونيته‪ ،‬وانما األعمال‬
‫نسيانه‪ ،‬ولم يعامله بظاهر عمله‪ ،‬بل نظر إلى حقيقته ّ‬
‫بالنيَّات‪ .‬نعم لقد َّ‬
‫تذلل سيدنا آدم ‪ ،‬فألقى هللا تعالى في نفسه‪ ،‬أن يا آدم نيَّتك‬
‫عالية وشريفة‪ ،‬فنحن ل نؤاخذك أبداً على ما وقع‪ .‬كذلك كل من يقع عن غير‬
‫ِّ‬
‫المتعمد والمصر‪ ،‬فال رجعة له‪ .‬وهنالك أدرك أنه ما‬ ‫قصد‪ ،‬له سهولة رجعة‪ ،‬أما‬
‫ّ‬
‫عصى ربَّه‪ ،‬وما عزم على مخالفته‪ ،‬وأن هللا عليم ينظر إلى النيات‪ ،‬وبهذا رجعت‬
‫الطمأنينة والثقة إلى نفسه من أن هللا تعالى ر ٍ‬
‫اض عنه‪ ،‬فعاد إلى اإلقبال على هللا‬
‫والوجهة إليه‪ ،‬فتاب عليه رّبه‪ ،‬أي‪ :‬فكشف له ذلك الحجاب‪َّ ،‬‬
‫ورده إلى ذلك الحال‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآلية (‪)121‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة ۤطه اآلية (‪)122‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة البقرة اآلية (‪)37‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 228‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫األول‪ ،‬من رؤية الجمال والكمال اإللٓهي‪ ،‬وذلك ما أشارت إليه اآلية الكريمة في‬
‫اب َعَلْي ِه‪ :﴾...‬تلك هي عناية هللا تعالى تحوط سيدنا آدم ‪‬‬
‫قوله تعالى‪َ ..﴿ :‬ف َت َ‬
‫تبدت لك ظاهرة في هذه القصة‪ ،‬وتلك هي معاملته تعالى مع سائر‬ ‫وترعاه‪َّ ،‬‬
‫ليرد نفوسهم الشاردة إليه‪ ،‬ليتمتعوا بما َّ‬
‫أعده لهم من‬ ‫عباده‪ُ ،‬يعاملهم بما ُيعاملهم به َّ‬
‫الت َّواب َّ ِ‬
‫يم﴾‪ :‬أي‪ :‬يعامل‬
‫الرح ُ‬ ‫نعيم مقيم‪ ،‬وذلك ما نفهمه من كلمة‪ِ ..﴿ :‬إَّن ُه ُه َو َّ ُ‬
‫هذا وهذا ليرجعوا‪.‬‬
‫فانظر إلى حنان هللا تعالى ورحمته‪ ،‬وانظر إلى عظيم فضله على عباده‪ ،‬لقد‬
‫قرر على سيدنا آدم ‪ ‬قبل أن ُيخرجه إلى هذه الدنيا‪ ،‬وقبل أن ُيخرج ِّّ‬
‫ذريته من‬ ‫َّ‬
‫صلبه‪ ،‬إذ كان بحال نفسي‪ ،‬فجعل خروجه من ذلك الحال النفسي‪ ،‬إلى هذا الحال‬
‫حبه لخالقه‪ ،‬وضرب تعالى‬ ‫الجسمي‪ ،‬بأسلوب أظهر به شرف هذا الرسول‪ ،‬وعظيم ّ‬
‫بقصة هذا اإلنسان األول‪ِّ ،‬عب اًر وأمثالً باقية لبنيه‪ ،‬فأقامه في مقام المعِّّلم األول‬
‫ألولده‪ ،‬وأجرى ما أجراه له‪ ،‬ليعّلِّم الناس قوانين النفس التي ينبني عليها اإلقبال على‬
‫هللا‪ ،‬وليشهدوا الطريق الذي تعود منها النفس إلى حصيرة القدس‪ ،‬فإذا ما خجلت‬
‫ِّ‬
‫يجدد لها الثقة‬ ‫نفوسهم وتراجعت ِّّ‬
‫متأخرة‪ ،‬أمكنها الرجوع والعودة‪ ،‬إذا هي فعلت ما ّ‬
‫ويمحو منها الخجل‪ ،‬كما أراد تعالى أن ِّّ‬
‫يعرفنا كما كنا قد ذكرنا من قبل بعداوة‬
‫يتعرض ِّّ‬
‫متعرض‪،‬‬ ‫الشيطان‪ ،‬فنحذر من مكره وكيده‪ .‬أفبعد هذا كله‪ ،‬يستطيع أن َّ‬
‫ُفينقص من مكانة هذا الرسول الكريم‪ ،‬أو ينسب هلل ما ينسب‪ ،‬من قسوة على‬
‫رد عباده إلى الحق‪..﴿ :‬وهم يج ِادُلو َن ِفي ِ‬
‫ّللا َو ُه َو‬ ‫اإلنسان؟ إنه تعالى يحاول َّ‬
‫ه‬ ‫َ ُْ ُ َ‬
‫يد اْل ِم َح ِ‬
‫ال﴾(‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫َشد ُ‬
‫هذا بعض ما فهمناه من هذه القصة‪ ،‬وكم حوت هي وأمثالها من ِّعبر وأمثال‪.‬‬
‫اس َو َما َي ْع ِقُل َها ِإَّال اْل َعالِ ُمو َن﴾(‪.)2‬‬
‫ال َن ْض ِرُب َها لِ َّلن ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ َوتْل َك ْاأل َْم َث ُ‬
‫(‪ _ )1‬سورة الرعد اآلية (‪)13‬‬
‫(‪ _ )2‬سورة العنكبوت اآلية (‪)43‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 229‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِّ‬
‫مفصلين أن سيدنا آدم‬
‫أما وقد أجبنا على األسئلة التي أوردناها من قبل‪ ،‬مبينين ّ‬
‫‪ ‬ما عصى ربَّه‪ ،‬وأن حاله النفسي األول من لوازمه النسيان‪ ،‬وهذا ما ُّ‬
‫يدلنا على‬
‫َّ‬
‫أن ما أقدم عليه سيدنا آدم ‪ ‬وزوجه إنما كان بنيَّة عالية ألن الشيطان أقسم لهما‬
‫بأن يكونا ملكين أو يكونا من الخالدين إن هما أكال من هذه الشجرة‪ ،‬وبما أن هذا‬
‫النبي ﷺ ل يعرف الكذب َّ‬
‫فصدق قول الشيطان‪ ،‬ونسي وصية هللا له‪َ ..﴿ :‬رَّبَنا الَ‬
‫ط ْأَنا‪.)1(﴾...‬‬ ‫اخ ْذَنا ِإن َّن ِسيَنا أ َْو أ ْ‬
‫َخ َ‬ ‫ُت َؤ ِ‬
‫(رِف َع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (‪.)2‬‬ ‫قال ﷺ‪ُ :‬‬
‫ين﴾(‪ :)3‬هذه‬ ‫ِ‬ ‫اهيم و ِ‬ ‫ط َفى آدم وُنوحا و ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َعَلى اْل َعاَلم َ‬
‫آل ع ْمَر َ‬
‫آل إ ْبَر َ َ َ‬
‫ََ َ ً َ َ‬ ‫اص َ‬
‫ّللا ْ‬
‫﴿إ َّن ه َ‬
‫ُسر اصطفاهم تعالى على العالمين ُليرشدوا الخْلق إلى هللا‪ .‬كيف هذا الصطفاء!‬ ‫األ َ‬
‫بيَّن تعالى في سورة آل عمران‪ُ ..﴿ :‬ذهِرَّي ًة َب ْع ُض َها ِم ْن َب ْعض‪ :﴾...‬كلهم في األصل‬
‫يم﴾(‪ :)4‬ما اصطفاهم جزافاً‪ ،‬بل إنه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫ّللا َسم ٌ‬
‫واحد‪ :‬كلهم أولد آدم‪ ،‬لكن ﴿‪َ ...‬و ه ُ‬
‫عال لذلك اصطفاهم‪" :‬إن‬ ‫سميع‪ :‬لقولهم‪ ،‬عليم‪ :‬بحالهم ونيَّتهم‪ .‬كالمهم عال وحالهم ٍ‬
‫كان كالمك عالياً ونيَّتك عالية أعطاك"‪ .‬فكل من تكلَّم بحق األنبياء معناه أنه ينفي‬
‫يم﴾‪ :‬فكأن هللا تعالى ل علم له بآدم ﷺ حتى اصطفاه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫ّللا َسم ٌ‬
‫كلمة﴿‪َ ...‬و ه ُ‬
‫وهذا غير صحيح‪.‬‬
‫لعلو نفوسهم وكمالهم‪ ،‬المرشد يجب أن يكون كامالً‪ .‬فمن َّ‬
‫يتكلم‬ ‫هللا تعالى اصطفاهم ِّ‬
‫ّ‬
‫َّ‬
‫بحق األنبياء معناه أنه ل إيمان عنده‪ ،‬ولو حصل عنده إيمان بأن هللا سميع عليم لما تكلم‬
‫سوءاً بحق رسل هللا‪ ،‬ألن هللا سميع بكل مخلوق عليم بحاله‪ :‬اصطفاهم لطهارتهم ِّ‬
‫وعلو‬
‫ّ‬
‫نيَّتهم‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآليات (‪)286‬‬


‫(‪ _ )2‬الجامع الصغير‪( /4486/ :‬طب)‪ .‬عن ثوبان‪.‬‬
‫(‪ _ ) 3‬سورة آل عمران اآلية (‪)33‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة آل عمران اآلية (‪)34‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 230‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫هذا وان عدنا إلى حديث رسول هللا ﷺ بهذا الخصوص وهو الذي ل ينطق عن‬
‫سيُد َوَلِد آدم يوم القيامة‪ ،‬وال فخر‪،‬‬
‫الهوى لسمعنا قوله السامي‪ ،‬إذ يقول‪( :‬أنا هِ‬
‫وبيدي لواء الحمد وال فخر‪ ،‬وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إالَّ تحت لوائي‪ ،‬وأنا‬
‫َّأو ُل شافع‪ ،‬وال فخر)‪.‬‬
‫العلو والسمو والمكانة‬
‫ّ‬ ‫ولفهمنا بأن آدم ﷺ هو الثاني في الترتيب من حيث‬
‫العليَّة فوق جميع األنبياء والمرسلين ودون سيد الخْلق سيدنا محمد ﷺ‪ ،‬والنبيون‬
‫بالمنزلة دونه فهو كمن دونه من السادة األنبياء البررة معصوم عن الخطأ في‬
‫الصغائر والكبائر وعن المخالفة والعصيان لقوله تعالى عن النبيين جمعاً‪َ ..﴿ :‬ب ْل‬
‫َم ِرِه َي ْع َمُلو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عَب ٌاد ُّم ْكَرُمو َن‪َ ،‬ال َي ْسبُقوَن ُه باْلَق ْول َو ُهم بأ ْ‬
‫وهو الرسول النبي األول بالخلق وقد خاطبه تعالى بقوله الكريم عن المالئكة‪:‬‬
‫َّ‬
‫المكلفين والى‬ ‫﴿‪ ..‬أَنِبْئهم ِبأَسم ِ‬
‫آئ ِه ْم‪ ،)2(﴾...‬فهو نبي وهو رسول هللا إلى الجن‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬
‫ذريته الكريمة‪ .‬وأن الغرض من هذه‬ ‫المالئكة الكرام أجمعين‪ ،‬واإلنس بدءاً من ِّّ‬
‫القصة إن هو إلَّ تحذير اإلنسان من مكر الشيطان‪ ،‬وما ذلك من هللا تعالى إل محض‬
‫الرأفة والرحمة والحنان‪.‬‬
‫نتفهم نقطتين وردتا من معرض تلك األسئلة السابقة‪ ،‬فإن نحن‬
‫بقي علينا أن َّ‬
‫ضل عن فهمها كثير‬ ‫فهمناهما حق الفهم فقد َّ‬
‫تبددت من أذهاننا جميع المشكالت التي َّ‬
‫من الناس‪.‬‬
‫أما النقطة األولى فهي‪:‬‬
‫ما معنى اآلية الكريمة التي وردت في هذه القصة وهي قوله تعالى في سورة‬
‫األعراف‪ِ ﴿ :‬ب ُغُرور‪ )3(﴾...‬؟ وهل استطاع الشيطان أن يغر سيدنا آدم ‪ ‬وزوجه؟‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنبياء اآلية (‪)27-26‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة البقرة اآلية (‪)33‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة األعراف اآلية (‪)22‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 231‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أم إن لآلية معنى دقيقاً يتناسب مع مقام هذا الرسول الكريم وما هو عليه من‬
‫ً‬
‫كمال؟‬
‫وجواباً على هذا السؤال نقول‪ :‬إن كلمة ﴿ َف َدالَّ ُهما﴾ مأخوذة من َّ‬
‫دلى‪ .‬تقول‪:‬‬ ‫َ‬
‫دلى فالن الغصن‪ ،‬أي‪ :‬أدناه منه‪ .‬وهكذا فالشيطان لما حلف لسيدنا آدم ‪ ‬بأن‬ ‫َّ‬
‫أ ْكَله من الشجرة يجعله دائم البقاء مع هللا‪ ،‬ومالكاً ذلك الحال‪ ،‬جعله يدنو من‬
‫الشجرة ويأكل وزوجه منها‪ .‬أما كلمة ﴿ ِب ُغُرور﴾ فليس ينصرف معناها إلى سيدنا‬
‫آدم ‪ ‬إنما ينصرف للشيطان ذاته‪.‬‬
‫فالغرور إنما كان ُيخالط نفس الشيطان‪ ،‬ولم يخالط نفس سيدنا آدم ‪.‬‬
‫وبشيء من التفصيل نقول‪:‬‬
‫الغرور‪ :‬هو حال نفسي يسيطر على نفس اإلنسان‪ ،‬فيجعله يتوهَّم وجود شيء‪،‬‬
‫وهو بالحقيقة غير موجود‪ .‬فقد يغتر اإلنسان ليالً بضوء القمر‪ ،‬فيتوهم إذا استيقظ‬
‫ورآه بازغاً أن الصبح قريب‪ ،‬والحقيقة أنه ما يزال في أواسط الليل‪ .‬وقد يغتر‬
‫اإلنسان بنفسه‪ ،‬فيتوهم أنه قوي وأنه عالم‪ ،‬والحقيقة أنه ل علم لإلنسان‪ ،‬إلَّ بما‬
‫يعّلِّمه هللا تعالى إيَّاه‪ ،‬ول قوة إل باهلل‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فالشيطان إنما كان مغرو اًر بنفسه‪ ،‬فكان يحسب أنه بهذا القسم الذي‬
‫أقسمه باهلل ُمَّدعياً فيه أن األكل من الشجرة‪ُ ،‬يديم لسيدنا آدم ‪ ‬البقاء مع هللا‪،‬‬
‫يستطيع أن يوقع سيدنا آدم ‪ ‬في مخالفة رّبه‪ ،‬فيرميه بالخجل ويبعده عن هللا‪،‬‬
‫ولكن األمور جاءت على عكس ما أراد وتوهَّم‪ .‬فقد كانت نيَّة سيدنا آدم ‪‬‬
‫العالية أساساً متيناً ارتكز عليه في العودة والرجوع إلى هللا‪ ،‬وخرج إبليس من هذه‬
‫المحاولة مذموماً مدحو اًر‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 232‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫يغر سيدنا آدم ‪ ‬ويبعده عن هللا‪،‬‬
‫وبهذا يتبيَّن لنا أن الشيطان ما استطاع أن َّ‬
‫وأن معنى كلمة ﴿ ِب ُغُرور﴾ إنما تصف حال الشيطان من حيث أنه توهَّم شيئاً‪،‬‬
‫فجاءت األمور بخالف ما توهَّم‪ ،‬وباء بالفشل والخذلن‪.‬‬
‫***‬
‫يتوصل إلى إلقاء وساوسه إلى‬
‫َّ‬ ‫أما النقطة الثانية‪ :‬كيف استطاع الشيطان أن‬
‫سيدنا آدم‪ ،‬وسيدنا آدم ‪ ‬مقبل على هللا ل ينقطع عنه؟ وهل يمكن أن تعتبر‬
‫هذه الواقعة دليالً على إمكان دخول الشيطان على األنبياء؟‬
‫وجواباً على هذا السؤال‪ ،‬وايضاحاً لهذه النقطة نقول‪:‬‬
‫تبدو لنا هذه المشكلة جلية واضحة‪ ،‬إذا نحن رجعنا إلى حال اإلنسان األول لما‬
‫كانت نفسه محيطة بجسده‪ ،‬ثم قارَّنا ذلك الحال األول النفسي‪ ،‬بهذا الحال الجسمي‬
‫الذي نحن عليه اآلن‪.‬‬
‫لما كان في َّ‬
‫جنة اإلقبال على هللا‪ ،‬وكانت نفسه لبسة جسده‬ ‫فسيدنا آدم ‪َّ ‬‬
‫ومحيطة به‪ ،‬ما كان بين نفسه ونفس الشيطان من حجاب يحجبها عنه‪ ،‬بل كانت‬
‫تبدو ظاهرة مكشوفة‪ .‬وبما أن سيدنا آدم ‪ُ ‬مقبل على هللا دائم النظر إليه‪ ،‬لذلك‬
‫ِّ‬
‫ويحدثه بما‬ ‫ما استطاع الشيطان أن يفعل أكثر من أن ُيلقي إليه بوساوسه إلقاء‪،‬‬
‫ّ‬
‫حدثه به عن بعد‪ ،‬ودون أن يدنو منه‪ .‬فقد أكون اآلن سائ اًر في طريق وأسمع عن‬‫َّ‬
‫بعد كلمة يهمس بها إنسان‪ ،‬أو يقصدني بها ويريد أن يجعلها في أذني‪ ،‬ويرغب‬
‫يعد حديثه وهمسه ُّ‬
‫تسلطاً من‬ ‫علي‪ ،‬ول ُّ‬
‫أن تقع في نفسي‪ ،‬ول يعتبر ذلك دخولً منه َّ‬
‫مجرد قول صدرت موجاته من نفس‪ ،‬فأصابت هذه‬
‫نفسه على نفسي‪ ،‬إنما هو َّ‬
‫الموجات صفحة النفس الثانية‪ ،‬وبين النفس األولى والثانية مسافة ظاهرة‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 233‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وهكذا فقد تُرسل اآلن المحطات اإلذاعية مثالً "الالسلكية" بموجاتها من منطقة‬
‫في أقصى الشرق‪ ،‬فتعكس هذه الموجات األجهزة األخرى الالقطة التي تقع في‬
‫المغرب األقصى‪ ،‬وبين المحطتين بعد المشرقين‪.‬‬
‫ِّ‬
‫يوضح لنا هذه النقطة التي نحن بصددها وضوحاً تاماً‪ِّّ ،‬‬
‫ويبين لنا‬ ‫إن هذا المثال ّ‬
‫أن الشيطان ما دنا من سيدنا آدم ‪ ،‬ول دخل عليه‪ ،‬وهو ل يستطيع أن يدنو منه‪،‬‬
‫ألنه ‪ ‬دائم الوجهة إلى هللا‪ ،‬بل كل ما في األمر أنه وسوس إليه وسوسة عن بعد‪.‬‬
‫ان‪.)1(﴾...‬‬
‫طُ‬ ‫س ِإَلْي ِه َّ‬
‫الشْي َ‬ ‫وقد وردت اآلية صريحة بهذا المعنى‪ ،‬إذ قالت‪َ ﴿ :‬ف َو ْس َو َ‬
‫ولم تقل وسوس في صدره أو في نفسه‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫الن ِ‬ ‫س ِفي ُصُد ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اس﴾(‪ .)2‬أي المنقطعين عن هللا تعالى‪.‬‬ ‫ور َّ‬ ‫﴿الذي ُي َو ْس ِو ُ‬
‫يدل على النفصال‪ ،‬وأن حرف "في" يدل على‬ ‫ومن الواضح أن حرف "إلى" ُّ‬
‫عد هذه الوسوسة الملقاة عن بعد‪ ،‬دخولً من‬ ‫الظرفية والشتمال‪ .‬وهكذا‪ ،‬فال تُ ُّ‬
‫الشيطان على سيدنا آدم ‪ ‬أو دنواً منه‪ ،‬ول يمكن أن تُعتبر هذه القصة‪ ،‬دليالً‬
‫على إمكان دخول الشيطان على األنبياء‪ .‬بقي علينا أن ِّّ‬
‫نبين عدم إمكان دنو‬
‫الشيطان من األنبياء في هذا الحال الجسمي‪ ،‬مثلهم كمثل سائر البشر‪ ،‬من حيث‬
‫كون أجسامهم محيطة بأنفسهم‪ ،‬وكون الحكم للجسم‪ ،‬فهم يولدون كما يولد سائر‬
‫البشر‪ ،‬ويط أر على أجسامهم في الحياة الدنيا ما يط أر على أجسام غيرهم‪ ،‬من‬
‫صحة ومرض‪ ،‬وشباب وشيخوخة‪ ،‬وضعف وهرم وموت‪.‬‬
‫أما أنفسهم صلوات هللا عليهم‪ ،‬فهي دائمة اإلقبال على هللا‪ ،‬فبما َع َرَف ْت من‬
‫رأفة هللا ورحمته بخْلقه‪ ،‬وبما شهدته من كماله تعالى‪ ،‬وجماله الالمتناهي‪ ،‬أضحت‬
‫عاكفة في ذلك الجناب العالي‪ ،‬وهي والحالة هذه‪ ،‬مغمورة بذلك التجّلِّي اإللٓهي‪،‬‬
‫مشمولة بذلك النور ل ينقطع عنها طرفة عين‪.‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة ۤطه اآلية (‪)120‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الناس اآلية (‪)5‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 234‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫وبما أن النفس في هذا الحال الجسمي محاطة بالجسم‪ ،‬ول يمكن أن تصلها‬
‫وساوس الشيطان من بعيد‪ ،‬بل ل بد له من النفوذ إليها عن طريق الجسم واختراق‬
‫الصدر‪ ،‬وحيث أن أجسام األنبياء مغمورة دوماً بذلك النور اإللٓهي المتوارد على‬
‫وحبهم العظيم له تعالى‪ ،‬لذلك ل يستطيع‬ ‫نفوسهم‪ ،‬بصدقهم القوي جداً مع هللا‪ِّّ ،‬‬
‫الشيطان أن يدنو منهم‪ ،‬وأن يخترق ذلك النور اإللٓهي‪ ،‬وهم صلوات هللا عليهم بهذا‬
‫التجّلِّي‪ ،‬في حصن حصين من الشيطان وحرز منيع‪.‬‬
‫وهكذا نخلص من حديثنا هذا وقد َّبينا أن الشيطان ل سبيل له ول مدخل على‬
‫طعاً‪ ،‬كما أنه ل سبيل له على كل مؤمن‪ ،‬ما دامت نفسه مقبلة على هللا‬
‫األنبياء ق ْ‬
‫متجهة إليه‪ ،‬أو مرتبطة بأنبيائه الكرام البررة‪ .‬وقد أرشد تعالى اإلنسان بصورة‬
‫عامة إلى هذه الوسيلة التي َّ‬
‫يتخلص بها من الشيطان فقال تعالى‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫غ َفاسَت ِع ْذ ِب ِ‬ ‫﴿ َواِ َّما َي َنزَغَّن َك ِم َن َّ‬
‫يم‪ِ ،‬إ َّن َّالذ َ‬
‫ين َّاتَقوْا ِإ َذا‬ ‫يع َعل ٌ‬‫اّلل ِإَّن ُه َسم ٌ‬ ‫ه‬ ‫ان َنْز ٌ ْ‬ ‫طِ‬ ‫الشْي َ‬
‫ان َت َذَّكُروْا َفِإ َذا ُهم ُّمْب ِصُرو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫طِ‬ ‫ف ِهم َن َّ‬
‫الشْي َ‬ ‫َم َّس ُه ْم َط ِائ ٌ‬
‫ِ‬
‫آمُنوْا َو َعَلى َرهِب ِه ْم َيَت َوَّكُلو َن‪ِ ،‬إَّن َما ُسْل َطاُن ُه َعَلى‬
‫ين َ‬‫ان َعَلى َّالذ َ‬ ‫س َل ُه ُسْل َط ٌ‬ ‫﴿ِإَّن ُه َلْي َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ين ُهم ِب ِه ُم ْش ِرُكو َن﴾‬ ‫ِ‬
‫ين َيَت َوَّل ْوَن ُه َوَّالذ َ‬
‫ِ‬
‫َّالذ َ‬
‫***‬
‫كنا أوردناها‪ ،‬ل بد لنا من معالجة نقطة‬
‫واآلن‪ ،‬وبعد أن أجبنا على أسئلة دقيقة ّ‬
‫جديدة تتلخص بهذا السؤال التالي‪:‬‬
‫هل كان خروج سيدنا آدم ﷺ إلى هذه الدنيا ومجيء بني اإلنسان من بعده إليها‬
‫الجنة‪ ،‬رأساً دون خروجهم إلى‬
‫الجنة وخلق بني اإلنسان في َّ‬
‫أحسن‪ ،‬أم أن بقاءه في َّ‬
‫الدنيا أحسن؟ وأي الحالين يعود على اإلنسان بالسعادة والخير‪ ،‬أكثر من اآلخر؟‬
‫وجواباً على هذا السؤال نقول‪:‬‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآلية (‪)201‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة النحل اآلية (‪)100-99‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 235‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫تتوضح لنا هذه النقطة إذا نحن رجعنا إلى الحديث عن َّ‬
‫الجنة وحقيقتها‪ ،‬وأن منازل‬ ‫َّ‬
‫الناس في َّ‬
‫الجنة إنما تكون على حسب أعمالهم‪ .‬وزيادة في التفصيل نضرب المثال‬
‫اآلتي فنقول‪:‬‬
‫هب أن رجالً سافر في قطار‪ ،‬وكانت الطريق التي تطل عليها نافذة القطار‬‫ْ‬
‫من أجمل ما خلق هللا تعالى في مناظرها ومشاهدها وعجائبها وغرائبها‪ ..‬حدائق‬
‫وأشجار‪ ،‬وأنهار وبحار‪ ،‬ومناظر فتَّانة‪ ،‬ومدن جميلة مختلفة لم َير الراؤون نظيرها‪،‬‬
‫ولم يخطر لهم مثالها على بال‪ .‬فما دام هذا القطار مستم اًر في سيره ل يتوقف عن‬
‫المسير‪ ،‬تجد هذا اإلنسان الراكب مشرئباً بعنقه إلى تلك المشاهد‪ ،‬ل يبغي عنها‬
‫حولً ُّ‬
‫لتجددها وتباينها‪ ،‬وتراه ل ينقطع عن النظر‪ ،‬مخافة أن يفوته شيء منها‪ .‬أما‬
‫إذا وقف هذا القطار‪ ،‬وطال به الوقوف‪ ،‬تجد هذا الراكب ينصرف عن النافذة‬
‫متحولً‪ ،‬ولو كان المشهد الذي وقف أمامه من أجمل المناظر وأمتعها‪ .‬والسبب في‬
‫أن النفس بحسب ما فطرها هللا تعالى عليها وما جعله فيها من الوسعة‬ ‫ذلك هو ّ‬
‫الالمتناهية‪ ،‬تضيق إذا هي ُحبست عند حال واحدة‪ .‬وحب الستطالع على كل‬
‫تسرب‬
‫توقف على حال واحد‪َّ ،‬‬ ‫جديد‪ ،‬من األمور التي ُف ِّطر عليها اإلنسان‪ ،‬فإن َّ‬
‫َ‬
‫يتبدل‪ُ ،‬ممالًّ بل ممقوتاً‪ ،‬حتى والمطرب اللذيذ‬
‫الملل إليه‪ ،‬وأصبح الجميل الذي ل َّ‬
‫بتك ارره دون جديد‪ ،‬يغدو مرفوضاً ومدعاة للملل‪.‬‬
‫هذا وبناء على ما َّ‬
‫قدمناه نقول‪:‬‬
‫وتنقله في جنَّة اإلقبال على هللا‪ ،‬يتوقف على حسب ما‬ ‫أن ارتقاء اإلنسان ُّ‬
‫بما ّ‬
‫يقدمه اإلنسان في هذه الحياة الدنيا من صالح‬ ‫ِّ‬
‫كنا بيَّناه من قبل‪ ،‬على ما ّ‬‫ّ‬
‫األعمال‪ ،‬ولذلك‪ ،‬فلو أن اإلنسان ُخلِّ َق في َّ‬
‫الجنة رأساً‪ ،‬ولم يخرج إلى هذه الدنيا‪،‬‬
‫يتقرب به إلى خالقه زلفى‪ ،‬ولما أمكن الرتقاء من حال إلى حال‬
‫لما كان له عمل َّ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 236‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لظل في َّ‬
‫الجنة مالزماً لمنزلة واحدة ل‬ ‫جن ٍة إلى َّ‬
‫جنة أوسع وأرقى‪ ،‬بل َّ‬ ‫أعلى‪ ،‬ومن َّ‬
‫يتعداها‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فاهلل تعالى إنما خلق النفس البشرية‪ ،‬وأعطاها أعظم وأغنى عطاء‪ ،‬فقد‬
‫التوسع في هذه المشاهدة‬
‫للتدرج في مشاهدة الكمال اإللٓهي‪ ،‬و ُّ‬
‫جعل فيها من القابلية ُّ‬
‫ما ل يقف بها عند حد أو انتهاء‪ ،‬وذلك في قوله ﷺ في حديث قدسي‪( :‬ما وسعني‬
‫أرضي وال سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)‪.‬‬
‫وأخرجها تعالى إلى هذه الدنيا‪ ،‬وفتح لها مجال العمل‪ ،‬لتكون أهالً لذلك الشهود‬
‫الالمتناهي وذلك الرتقاء‪ ،‬وجعل الشهوة دافعة للعمل‪ ،‬مانح ًة إيَّاه قيمته‪ ،‬إذ لو لم‬
‫تكن لإلنسان شهوة إلى المال مثالً‪ ،‬لما كان للصدقة عنده وزن ول قيمة‪ ،‬وكذلك‬
‫غض النظر عن النساء اللواتي ل يحل النظر إليهن‪ ،‬وبذلك كله أهَّل هللا تعالى‬
‫ُّ‬
‫هذا اإلنسان ألعظم ما يمكن أن يناله مخلوق من الفضل اإللٓهي‪ ،‬والنعيم المقيم‪.‬‬
‫أفليس إخراج اإلنسان والحالة هذه إلى الحياة الدنيا فضالً من هللا ونعمة‪ ،‬خير‬
‫ات ُعال‬ ‫الجنة؟ أي‪ :‬من جنَّ ٍة واحدة عالية قطوفها دانية‪ ،‬إلى َّ‬
‫جن ٍ‬ ‫من إبقائه في َّ‬
‫وعلواً‪،‬‬
‫سمواً ّ‬‫لتنوعها وتفاضلها ّ‬
‫تنكب عليها النفس ُّ‬
‫بمسرات عالية متزايدة متسامية‪ُّ ،‬‬
‫َّ‬
‫حباً باإللٓه الرحيم العظيم الذي دوماً ُيغدق عليه‬ ‫ِّ‬
‫المتذوق‪ ،‬وتملؤه ّ‬ ‫تروق للرائي‬
‫ّ‬
‫سعادة أسمى من السعادة التي قبلها‪ ،‬فال ملل ول كلل‪ ،‬بل سرور مغمور بحبور‪،‬‬
‫المنان‪ ،‬أي‪ :‬من َّ‬
‫جنة إلى جنان‪ ،‬وهذا‬ ‫مع زيادة في العلو والقرب من الرحيم َّ‬
‫المؤمن متّكئاً في معارجه‪ ،‬على أعمال ممزوجة بالنوايا اإلنسانية! قال تعالى مشي اًر‬
‫إلى أن إخراج اإلنسان إلى هذه الدنيا‪ ،‬خير من ذلك الحال الذي كان فيه سيدنا‬
‫َنزْلَنا‬
‫آد َم َق ْد أ َ‬ ‫ِ‬
‫آدم ‪ ‬سابقاً‪ ،‬بما بيَّنته اآلية الكريمة في قوله تعالى‪َ﴿ :‬يا َبني َ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 237‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ات ِ‬ ‫الت ْقوى َذلِك َخير َذلِك ِمن آي ِ‬ ‫اسا ُي َوارِي َس ْوَء ِات ُك ْم َو ِر ً‬ ‫ِ‬
‫ّللا‬
‫ه‬ ‫اس َّ َ َ َ ْ ٌ َ ْ َ‬ ‫يشا َولَِب ُ‬ ‫َعَلْي ُك ْم لَب ً‬
‫(‪)1‬‬
‫َل َعَّل ُه ْم َي َّذ َّكُرو َن﴾‬

‫ولباس التقوى الذي ازدان به آدم ‪ٌ ،‬‬


‫خير من الحال األول الذي كان فيه‪.‬‬
‫كذا إخراج الطفل من بيته السعيد إلى المدرسة‪ ،‬وما فيها من قيود وتشديدات‪ ،‬خير‬
‫الحرية‪ ،‬ألن رقيَّه يتم من تدريسه‪ ،‬فالدنيا‬
‫له من البقاء في بيته‪ ،‬بيت النطالق و ّ‬
‫مدرسة ويليها الرقي في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وما لم يخرج للمدرسة‪ ،‬يبقى مقعداً عن‬
‫قي له‪ ،‬كذا كان سيدنا آدم ‪ ‬في َّ‬
‫جنة واحدة‪ ،‬لكنه بعد الحياة الدنيا‪،‬‬ ‫السمو ل ر َّ‬
‫جنات متعالية ِّ‬
‫متنوعة متسامية‪ ،‬نحو األفضل واألكمل‪ ،‬بديمومة مرغوبة‬ ‫غدا في َّ‬
‫ّ‬
‫الجنة َّ‬
‫جنات‪.‬‬ ‫محبوبة أي‪ :‬بدل َّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة األعراف اآلية (‪)26‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 238‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الفصل السادس‬
‫في هذا الفصل‪:‬‬
‫طريق اإليمان‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫محمد أمين شيخو َّ‬
‫قدس هللا سره‪.‬‬ ‫َّ‬
‫مقتطفات من علوم العالمة اإلنساني ه‬ ‫‪‬‬
‫***‬
‫طرَق اْلَمان‬
‫إن هذا الكون بما فيه من شمس وقمر وكواكب وأجرام‪ ،‬بما فيه من أمطار‬
‫وثلوج وسحب ورياح‪ ،‬بما فيه من أرض وسماء وحيوان ونبات‪ ،‬حتى الكرة‬
‫األرضية في جريانها ودورانها‪ ،‬والفصول األربعة في ُّ‬
‫تبدلها وتعاقبها‪ ،‬والليل والنهار‬
‫في اختالفهما وتالحقهما‪ ،‬وان شئت فقل‪:‬‬
‫هذا العالم الخضم الزاخر بالمخلوقات وبجميع ما فيه من كائنات‪ ،‬حتى جسمك‬
‫تألف منه من أجهزة وأعضاء‪ ،‬وما يجري فيه من مبادلت وتحليل وتركيب‬ ‫وما َّ‬
‫وقيام غدده بما يتطلَّبه من إف ارزات‪ ،‬وتهيئة ما يلزمه من مواد مختلفات‪ ،‬ذلك كله‬
‫مما تعلمه وما ل تعلمه إنما يجري ضمن قانون ثابت ووفق نظام‪.‬‬
‫َّ‬
‫واذا كان الخالق العظيم قد جعل لهذا الكون بجميع ما فيه من مخلوقات قانوناً‬
‫وذلَّلُ‬ ‫يتعداه‪ ،‬واذا كان الخالق العظيم قد َّ‬
‫سخر هذا الكون ََّ‬ ‫ونظاماً يسير عليه ول َّ‬
‫ويعقل أن ل يكون لهذا اإلنسان وهو أكرم المخلوقات‬‫تصور ُ‬
‫لهذا اإلنسان‪ ،‬فهل ُي َّ‬
‫وأفضلها قانون ونظام؟ هل َّ‬
‫نظم الخالق العظيم الكون كله وترك اإلنسان يسير في‬
‫هذه الحياة على غير هدى ونظام؟ هل َّ‬
‫نظم الخالق العظيم الكون َّ‬
‫كله وأهمل هذا‬
‫اإلنسان‪ ،‬وتركه يتخبَّط في الظلمات فال يعرف خيره من شره ول يدري كيف يسير‬
‫في مجاهل هذه الحياة؟ الفكر المستقيم والمنطق الصحيح والوعي السليم‪ ،‬كل هذا‬
‫مقر بوجود هذا النظام المرسوم لهذا اإلنسان‪ ،‬فأين يا تُرى ذلك القانون‬
‫يحكم ّاً‬
‫والنظام؟‬
‫عامة عن هللا‪ ،‬تعال نستمع إلى َّأول‬ ‫تعال معي ننظر فيما جاء به الرسل الكرام َّ‬ ‫َ‬
‫كلمة أوحى بها هللا تعالى إلى الرسول ﷺ ِّ‬
‫اس ِم‬ ‫ُليبّلغها للناس إذ قال تعالى‪﴿ :‬ا ْقَ ْأر ِب ْ‬
‫ان ِم ْن َعَلق‪ ،‬ا ْقَ ْأر َوَرُّب َك ْاأل َْكَرُم‪َّ ،‬ال ِذي َعَّل َم ِباْلَقَلمِ‪َ ،‬عَّل َم‬
‫نس َ‬ ‫ق ِْ‬
‫اإل َ‬ ‫ق‪َ ،‬خَل َ‬
‫ِ‬
‫َرهِب َك َّالذي َخَل َ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 241‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ان َما َل ْم َي ْعَل ْم﴾(‪.)1‬‬
‫نس َ‬ ‫ِْ‬
‫اإل َ‬
‫تعال لُِّندِّّقق في هذه الكلمة التي َّبلغها الرسول محمد ﷺ للعرب َّ‬
‫كافة ولجميع‬
‫دل الرسول عليها أصحابه الكرام‪ ،‬تعال‬
‫العالمين‪ ،‬تعال ننظر في تلك الدللة التي َّ‬
‫ننظر إلى ما كان يتلوه عليهم في مكة وفي األيام األولى من بعثته ﷺ من قرآن‬
‫ِّ‬
‫المتمسك بما وجد‬ ‫ُم َّنزل من عند هللا‪ ،‬تعال ننظر نظرات الظامئ إلى الحقيقة ل‬
‫ّ‬
‫عليه آباءه األولين دون وعي أو تفكير‪ ،‬تعال نخرج من هذه الجهالت التي َّ‬
‫ركبتها‬
‫فئات من ذوي األهواء والضاللت‪ ،‬تعال نرجع إلى الحق والحق أحق أن ُيتَّبع‪،‬‬
‫ولنقتد بالرسل الكرام ولنتبع النهج القويم الذي ساروا عليه َّ‬
‫كافة تجد النظام المنشود‬
‫والقانون المرسوم في القرآن‪ ،‬والذي طبَّقه رسول هللا ﷺ بذاته ودعا إلى تطبيقه‬
‫صحابته الكرام‪ ،‬فكان لهم ما كان من شأن حتى مأل ذكرهم الخافقين‪ ،‬وفازوا بما‬
‫فازوا به من السعادة والخيرات‪.‬‬
‫أقول‪ :‬ذلك القانون والنظام هو أن َّ‬
‫تتعرف إلى أصلك وتنظر في بدايتك أيها‬
‫اإلنسان‪ ،‬فمن عرف نفسه عرف ربَّه‪ ،‬ومن عرف ربه هداه طريق السعادة وحفظه‬
‫من الشقاوة والضالل‪ ،‬ومن ِّ‬
‫يهد هللا فهو المهتدي‪ ،‬ومن ُيضلل فلن تجد لهم أولياء‬
‫من دونه‪ِّّ .‬‬
‫فكر أيُّها اإلنسان في أصلك‪ ،‬وتفكيرك في أصلك وبدايتك َّأول مواد هذا‬
‫تفضل عليك ربُّك‬‫فكر وقد َّ‬ ‫شرعه لك هللا‪ِّّ ،‬‬
‫فكر وكيف ل تُ ّ‬ ‫القانون والنظام الذي َّ‬
‫َ‬
‫بتلك الجوهرة الثمينة التي تساعدك على التفكير وتصل بك إلى معرفة خالقك‬
‫فكر وقد جعل لك في هذا الكون من اآليات العظيمة‬ ‫فكر وكيف ل تُ ِّّ‬
‫ومربيك‪ِّّ ،‬‬
‫ّ‬
‫فكر وكيف‬ ‫ِّ‬
‫والنظام البديع مراتع واسعة ومجالت كبرى يرتع ويجول فيها التفكير‪ّ ،‬‬
‫فكر والكون أمامك كتاب مفتوح تستطيع أن تق أر فيه ولو لم يعّلِّمك ُمعّلِّم‪ ،‬ولو‬ ‫ل تُ ِّّ‬
‫فكر في أصلك‬ ‫يتول أمرك أحد‪ ،‬فاهلل تعالى لك إن صدقت خير معِّّلم ودليل‪ِّّ ،‬‬‫لم َّ‬
‫ُ‬

‫(‪ _ )1‬سورة العلق اآلية (‪)15‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 242‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫تركبت‪ِّّ ،‬‬
‫فكر‬ ‫ومم َّ‬
‫تكونت َّ‬ ‫يوم كنت نطفة في ظهر أبيك‪ِّّ ،‬‬
‫فكر في هذه النطفة كيف َّ‬
‫في هذه النطفة أين وضعت واستقرت؟‬
‫فكر في نفسك وقد أصبحت في ظلمات الرحم وفي ذلك المستودع األمين‪ِّّ ،‬‬
‫فكر‬ ‫ِّّ‬
‫في تلك األطوار التي مررت بها فمن نطفة إلى علقة ومن علقة إلى مضغة ومن‬
‫وخِّل َق‬ ‫ِّ‬ ‫مضغة إلى عظام‪ ،‬عظام َّ‬
‫مركبات بنظام واتساق‪ُ ،‬رّكبت عليها العضالت ُ‬
‫منها تجويف الدماغ وللعين واألذن والفم منه مكان‪ ،‬وللقلب والرئتين قفصهما‬
‫ولألحشاء منها حوامل ومراكز للعروق واألوتار‪.‬‬
‫ُفصل لك في هذا كل التفصيل‪ ،‬بل أدع لك المجال لتُشاهد‬ ‫ِّ‬ ‫ِّّ‬
‫فكر ول أريد أن أ ّ‬
‫ِّ‬
‫وقدر‬ ‫تحولت إلى إنسان سوي ومخلوق كريم‪ِّّ ،‬‬ ‫وترى كيف َّ‬
‫فكر ّ‬ ‫أن النطفة األمشاج َّ‬
‫وسوت لك هذه األعضاء وجعلت الدماغ‬ ‫وصورتك َّ‬
‫َّ‬ ‫عظمة تلك اليد التي أوجدتك‬
‫ٍ‬
‫وحرز‬ ‫ظ ٍم وأجزاء في مكان أمين‬
‫َع ُ‬
‫والقلب واألجهزة الرئيسية‪ ،‬وما تتألف منه من أ ْ‬
‫حريز‪ ،‬فكر في تلك اليد التي كانت تسوق لك الغذاء وأنت في طريقك إلى الدنيا‬
‫وحيداً فريداً ل حول لك ول قوة‪ ،‬وما تملك لنفسك رزقاً وما يملك لك أحد رزقاً‪ ،‬لكن‬
‫تلك اليد التي سهرت على خْلقك هي التي كانت ترزقك‪ ،‬فتسوق لك الغذاء َّ‬
‫وتمد‬
‫كل عضو من أعضائك بما يلزمه من مواد‪.‬‬
‫فكر في تلك اليد التي استطاعت خالل بضعة أشهر نقلك من نطفة إلى‬‫ِّّ‬
‫إنسان‪ ،‬فما َّ‬
‫تأخر خلقها وما هي بمسبوقة عن إنجاز الخلق وتركيب اإلنسان في‬
‫مدته المعيَّنة‪ ،‬فما أن أزف موعد الولدة والخروج إلى الدنيا حتى َقَل َب ْت َك وأنت في‬ ‫َّ‬
‫ويسرت لك‬ ‫بطن أمك رأساً على عقب‪ ،‬فجعلت رأسك إلى أسفل وأرجلك إلى أعلى َّ‬
‫َي َشيء َخَلَق ُه‪ِ ،‬من‬ ‫اإل نسان ما أَكفره‪ِ ،‬من أ‬ ‫السبيل إلى الولدة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ق ِتل ِ‬
‫ُ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ ُ ْ ِه ْ‬
‫َم َات ُه َفأَ ْقَبَرُه‪ُ ،‬ث َّم ِإ َذا َشاء أ َ‬
‫َنشَرُه﴾(‪.)1‬‬ ‫يل َي َّسَرُه‪ُ ،‬ث َّم أ َ‬
‫ُّن ْط َفة َخَلَق ُه َفَقَّدَرُه‪ُ ،‬ث َّم َّ ِ‬
‫السب َ‬

‫(‪ _ )1‬سورة عبس اآلية (‪)22-17‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 243‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فكر وقد نزلت إلى هذا العالم الجديد في أرض جديدة‪ ،‬فأحاطك بعطف أُمك‬ ‫ِّّ‬
‫ولطفها َّ‬
‫وبث في قلبها محبَّتك وأودعه حنانها وهيأ لك طعامك في ثدييها فإذا هو‬
‫كل ما يحتاجه جسمك من مواد وجميع ما‬ ‫سائغ شرابه‪ ،‬لذيذ طعمه‪ ،‬مغٍّذ ٍ‬
‫حاو َّ‬
‫يتطلَّبه‪ِّّ .‬‬
‫فكر في تلك الوجبات من الغذاء التي كانت تُ ِّّ‬
‫هيئها لك تلك اليد الرحيمة‬
‫بك‪ ،‬فتزيد لك في معاييرها الغذائية لحظة بعد لحظة ووجبة بعد وجبة زيادةً‬
‫موك ُّ‬
‫وتقدمك في السن‪ ،‬حتى إذا ما احتاج جسمك مزيداً من التغذية‬ ‫متناسبة مع ُن ّ‬
‫سناً بعد سن‬
‫وأصبحت معدتك قادرة على هضم األطعمة‪ ،‬أنبت لك األسنان اللبنية ّ‬
‫حسبما يقتضيه النماء وتتطلبه الحاجة‪.‬‬
‫سيهيَّأ ألن يضطلع بأمور‬ ‫سبع خلت من سني الحياة‪ ،‬ومن أجل جسم ُ‬ ‫ِّّ‬
‫ولسن ٍ‬
‫وفكر ِّّ‬
‫يدبر أمو اًر جليلة َّبدل لك تلك األسنان اللبنية بأسنان‬ ‫هامة وأعمال عظيمة ْ‬
‫فكر في تلك اليد التي‬‫يتطلبه من غذاء‪ِّّ ،‬‬
‫دائمة تستطيع أن تهيئ لهذا الجسم ما َّ‬
‫وتمر الرياح‬ ‫تُرِّّبيك اآلن فترسل بأشعة الشمس الحارة على البحار تُ ِّّ‬
‫بخر مياهها‪ُّ ،‬‬
‫فتسوق السحب وتُثيرها من مكامنها ثم حييت األرض من بعد موتها وارتوت من‬
‫بعد عطشها كشفت الغيوم وأعادت إلى السماء صفاءها وللشمس إشراقها فإذا‬
‫َت ْحُرُثو َن‪ ،‬أَأ ُ‬
‫َنت ْم‬ ‫الزرع في نماء واذا األرض تجود بالخيرات‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أَ َفَأرَْي ُتم َّما‬
‫َت َف َّك ُهو َن‪ِ ،‬إَّنا‬‫ظَلْل ُت ْم‬
‫اما َف َ‬ ‫طً‬ ‫الز ِار ُعو َن‪َ ،‬ل ْو َن َشاء َل َج َعْلَنا ُه ُح َ‬‫َت ْزَر ُعوَن ُه أ َْم َن ْح ُن َّ‬
‫ومو َن‪ ،‬أَ َفَأرَْي ُت ُم اْل َماء َّال ِذي َت ْشَرُبو َن‪ ،‬أَأ ُ‬
‫َنت ْم‬ ‫ن‬ ‫ن َِّ‬
‫َل ُم ْغَرُمو َ ‪ ،‬إنا َل ُم ْغَرُمو َ ‪َ ،‬ب ْل َن ْح ُن َم ْحُر ُ‬
‫اجا َفَل ْوَال َت ْش ُكُرو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫ُج ً‬ ‫اه أ َ‬ ‫وه ِم َن اْل ُم ْز ِن أ َْم َن ْح ُن اْل ُم ِ‬
‫نزُلو َن‪َ ،‬ل ْو َن َشاء َج َعْلَن ُ‬ ‫َنزْل ُت ُم ُ‬
‫أَ‬
‫فكر في األغذية وأنواعها‪ ،‬واألزهار وأشكالها وروائحها‪ ،‬والفواكه وألوانها‬ ‫ِّّ‬
‫فكر في النوم وقد جعله هللا تعالى لك‬ ‫وتقلبها‪ِّّ ،‬‬
‫فكر في الفصول األربعة ُّ‬ ‫وطعومها‪ِّّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫يقدم لك ما في التنفس والستنشاق وما‬ ‫سباتاً وفي النهار معاشاً‪ِّّ ،‬‬
‫فكر في الهواء ّ‬

‫(‪ _ )1‬سورة الواقعة اآليات (‪)70-63‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 244‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫تمدك بالح اررة والضياء‪ِّّ ،‬‬
‫فكر في‬ ‫فكر في الشمس وهي ُّ‬ ‫يساعد على الحتراق‪ِّّ ،‬‬
‫البحار‪ ،‬في األنهار‪ ،‬في السهول والجبال‪ ،‬في الحيوان والنبات‪ ،‬في المالبس‬
‫ِّ‬
‫تؤمن لك جميع ما‬ ‫والثياب في الصوف والقطن والكتَّان‪ِّّ ،‬‬
‫فكر في هذه اليد التي ّ‬
‫تحتاج‪ ،‬وتسهر على تربيتك فإذا هي تغدق عليك من خيراتها وتغمرك بفضلها‬
‫وتواصل عليك إمدادها في كل لحظة وآن دون أدنى انقطاع‪.‬‬
‫ِّّ‬
‫فكر على هذا النمط وبهذه التربية فبمثل هذا التفكير بدأ سيدنا إبراهيم أولى‬
‫خطواته سائ اًر في طريق اإليمان‪ ،‬وبمثل هذا التفكير بدأ سائر الرسل الكرام من‬
‫فكرت اهتديت وعرفت َّ‬
‫أن‬ ‫فكر فإن أنت َّ‬‫لدن سيدنا آدم ‪ ‬حتى سيدنا محمد ﷺ‪ِّّ ،‬‬
‫لك مرِّّبياً عظيماً ساه اًر عليك ل يغفل عنك طرفة عين‪َّ ،‬‬
‫أمدك جنيناً ثم مولوداً‬
‫وطفالً صغي اًر‪ ،‬ثم رجالً وانساناً كامالً ما يزال إمداده عليك دائماً‪ ،‬وخيره إليك جارياً‬
‫استقر في نفسك وعقلته فتحققت فيه‪ ،‬فهنالك سينفتح أمامك‬
‫َّ‬ ‫متواصالً‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫أفق جديد ونمط آخر من التفكير‪.‬‬
‫سترى أن جسمك سوف ل يبقى قوياً جلِّداً وأنك سوف ل تعيش في الحياة‬
‫ودع الحياة ومات‪ ،‬وهذا جارك قد فارق زوجه وبنيه وقضى‬
‫مخلداً‪ ،‬فهذا قريبك قد َّ‬
‫نحبه‪ ،‬ولم يتمتَّع بالحياة الدنيا سوى أعوام معدودات‪ ،‬وذاك صديقك لم يفرح بمتجره‬
‫(‪)1‬‬
‫اللذات كل أمل له في الحياة ووافاه‬ ‫ول ببيته الذي شاده وبناه‪ ،‬بل قطع هاذم‬
‫األجل ولم ُينظره لحظات‪ .‬وذا مات مريضاً وذا عليالً وهذا فجأة دون أدنى‬
‫القواد‬
‫استعداد‪ ،‬وتنظر إلى هذا وذاك‪ ،‬حتى أنك لتمر بذهنك على الملوك واألمراء و َّ‬
‫العظماء واألغنياء والفقراء‪ ،‬حتى الرسل الكرام فما تجد الموت أبقى أحداً‪ ،‬وهنالك‬
‫أن الموت مصيرك المحتوم رغم كل المحاولت‪ ،‬كما هو مصير من كان‬ ‫تعلم َّ‬
‫قبلك فال نجاة منه ول خالص‪ ،‬وهنا تنقطع آمالك من هذه الحياة الدنيا‪ ،‬وتعلم أنها‬

‫(‪ _ )1‬هاذم‪ :‬بالذال‪ ،‬بمعنى قاطعها‪ ،‬ألنه إذا جاء ال يبقي من لذائذ الدنيا شيئاً‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 245‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫دار الرحلة والفناء‪.‬‬
‫ويبعث التفكير في الموت الخشية في نفسك والرهبة ويوّلِّد الصدق في معرفة‬
‫وتهب تبحث صادقاً عنه وتتساءل من هو هذا المربي الذي خلقني من‬ ‫ُّ‬ ‫المربي‪،‬‬
‫نطفة‪ ،‬ولم أكن من قبل شيئاً مذكو اًر‪ ،‬ثم جعلني طفالً فرجالً كبي اًر؟ وتنظر في الكون‬

‫المسير الذي ِّّ‬


‫يسير‬ ‫ِّّ‬ ‫من جديد نظرة أخرى أوسع من سابقتها‪ ،‬فتجد أن هذا المربي هو‬
‫الشمس والقمر‪ ،‬ويدير الكون كله بما فيه من أجل تربيتك وتأمين ما يلزمك‪ ،‬فال يد‬
‫تصرف لغيره‪ ،‬وهو هللا وحده ل إلٓه إل هو‪ .‬وهنا تنتقل من اإليمان‬
‫ألحد معه ول ُّ‬
‫ِّّ‬
‫المسير‪،‬‬ ‫بالمربي إلى خطوة جديدة أخرى‪ ،‬وهي اإليمان بأن هذا المربي هو اإللٓه‬
‫فترى األجرام السماوية جارية في مسابحها وأفالكها‪ ،‬وتشهد الشمس تُرسل بأشعتها‬
‫وح اررتها‪ ،‬والغيوم وقد هبَّت ثائرة من مكامنها‪ ،‬والرياح وهي تجري عاصفة في‬
‫اتجاهاتها‪ ،‬والبحار الزاخرة متدافعة مياهها متالطمة بأمواجها‪ ،‬واألنهار منطلقة من‬
‫منابعها سائرة إلى مصبَّاتها منحدرة شاللتها‪ ،‬حتى الكرة األرضية السابحة في فضائها‬
‫الجارية في فلكها الدائرة حول نفسها بما فيها من المخلوقات التي على ظهرها‪ ،‬ترى‬
‫ذلك كله سائ اًر بأمره تعالى وقدرته‪.‬‬
‫تعمقاً فترى أنه ل يخطو مخلوق خطوة ول يرفع يداً‬
‫وتتعمق في النظر وتزداد ُّ‬
‫َّ‬
‫ول يتحرك حركة‪ ،‬إل من بعد إذنه تعالى وارادته‪ ،‬وتنتقل في التفكير مرتقياً متسامياً‬
‫حتى تصل إلى درجة تشهد معها‪ ،‬أن الكون كله وحدة متّصلة األجزاء مترابطة‬
‫الذرات يعمل كله في اتساق وانسجام‪ ،‬وتلك اإلرادة اإللٓهية هي المشرفة والقائمة‬ ‫َّ‬
‫المسير لهذا الكون كله‪ ،‬فال ِّّ‬
‫مسير غيره ول إلٓه سواه‪.‬‬ ‫ِّّ‬ ‫عليه‪ ،‬وذلك المربي هو اإللٓه‬
‫َّإنك تعلم أن ربك هو هللا وهنالك تشهد أن ل إلٓه إل هللا‪ ،‬بلسانك من بعد أن‬
‫شهدتها نفسك في الكون كله‪ ،‬ومن بعد مشاهدتها في صميمك‪ ،‬تقولها بلسانك وقد‬
‫عقلتها عقالً ل عن سماع وتقليد‪ ،‬وتؤمن بها كما آمن السلف الصالح والصحابة‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 246‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الكرام‪ ،‬ل إيماناً كإيمان العجائز مبنياً على ُخرافات وأوهام‪ ،‬واذا أنت والحالة هذه قد‬
‫آمنت بتلك الكلمة صدقاً‪ ،‬وقلت ل إلٓه إل هللا حقاً وذلك بعض ما نفهمه من قوله‬
‫ِ َِّ‬
‫ّللا‪.)1(﴾...‬‬‫اعَل ْم أََّن ُه َال إَل َه إال َّ ُ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬ف ْ‬
‫وقوله ﷺ‪( :‬من قال ال إۤله إالَّ هللا مخلصاً دخل الجنة‪ ،‬قيل‪ :‬وما إخالصها؟‬
‫محارمِ هللا) (‪.)2‬‬
‫ِ‬ ‫قال‪ :‬أن َت ْح ُج َزُه عن‬
‫وكيف ل تحجزه عن محارم هللا وقد أضحى في حال يرى هللا تعالى معه‬
‫مشاهداً رقيباً كيفما سار وأنَّى اتَّجه؟‬
‫واآلن وبعد أن َّبلغتك هذه المرحلة‪ ،‬مرحلة اإليمان بال إلٓه إل هللا من بعد أن‬
‫ممن‬
‫وصلت بك بمرحلة اإليمان بالمربي‪ ،‬سأسرع في المسير وقد أضحيت َّ‬
‫يستطيع السير معي بسرعة دون إبطاء‪ ،‬أريد أن أ ِّّ‬
‫ُبين لك آثار اإليمان بكلمة (ال‬
‫إۤله إال هللا)‪ ،‬وأن أنقلك إلى محبة رسول هللا ﷺ فأقول‪ :‬إذا أنت وصلت إلى‬
‫اإليمان بال إلٓه إل هللا‪ ،‬وأصبحت ممن يرى أن سير الكون كله بيد هللا‪ ،‬وانغمرت‬
‫وتتجمع‪ ،‬ول‬
‫َّ‬ ‫نفسك بهذه المشاهدة فصرت ترى أنه ل رياح ُّ‬
‫تهب‪ ،‬ول غيوم تتلبَّد‬
‫أمطار تهطل‪ ،‬ول برق يلمع ويومض ول رعد يدوي‪ ،‬ول بحر يموج بعضه في‬
‫تدفق متواصل‪ ،‬ول بركان يثور في‬‫بعض فيعلو ويهبط‪ ،‬ول نهر يتدافع ماؤه في ُّ‬
‫هز فيلقي ُّ‬
‫الذعر‬ ‫غضب‪ ،‬ول سيل يجري في عنفوان وشدة‪ ،‬ول زلزال ُّ‬
‫يهز األرض ًّا‬
‫في قلوب غافلة لهية‪ ،‬ول أرض تدور في سبيل توليد ليل ونهار وفصول أربعة‪،‬‬
‫ول نجوم تجري لمعة في أفالك م َّ‬
‫نظمة‪ ،‬وان شئت فقل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ممن ُيشاهد أن الكون بجميع ما فيه من مخلوقات‪ ،‬وحدة‬ ‫إذا أنت أصبحت َّ‬
‫تُ ِّّ‬
‫صرفه يد عزيز حكيم وارادة عليم خبير‪ ،‬حتى أن يدك ل تتحرك بحركة وعينك ل‬

‫(‪ _ )1‬سورة محمد اآلية (‪)19‬‬


‫(‪ _ )2‬رواه الطبراني في األوسط الكبير‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 247‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫تطرف بنظرة‪ ،‬وأذنك ل تستمع إلى صوت أو جلبة‪ ،‬وقلبك ل يخفق نابضاً بين‬
‫انقباض وانبساط‪ ،‬وأن معدتك ل تفرز عصاراتها على ما فيها من أطعمة‪ ،‬وكبدك‬
‫ل يقوم بتخزين مواد وافراز مواد وفق معايير َّ‬
‫منظمة‪ ،‬ورئتك ل تتَّسع وتنقبض في‬
‫شهيق وزفير‪ ،‬ودمك ل يجري في شرايين وأوردة‪ ،‬والكريات الحمر ل تنقل ما تنقل‬
‫في ٍ‬
‫غدو ورواح‪ ،‬والكريات البيض ل تقف مع الجراثيم في صراع وعراك‪ ،‬والجراثيم ل‬
‫ّ‬
‫وشدة‪ ،‬أقول‪:‬‬
‫تُهاجم الجسم في عنفوان ّ‬
‫إذا أنت وصلت إلى هذا عن طريق العقل والمشاهدة النفسية‪ ،‬ل عن طريق‬
‫المجلدات والكتب‪ ،‬وصرت ترى أن األمر‬‫َّ‬ ‫السماع من ذوي الختصاص و َّ‬
‫النقل عن‬
‫قويهم‬
‫وعامتهم‪ ،‬قريبهم وبعيدهم‪ّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫خاصتهم‬
‫َّ‬ ‫كله بيد هللا‪ ،‬وأن الناس جميعهم‬
‫وضعيفهم‪ ،‬ل بل الخالئق َّ‬
‫كلها ل يستطيع أحد منها أن يجلب لك خي ًار أو يدفع‬

‫يمد لك يده بسوء أو أذى‪ ،‬أو ِّّ‬


‫يغير من شأنك تغيي اًر‪ ،‬إل من بعد إذن‬ ‫عنك ش ًار أو َّ‬
‫هللا‪ :‬تدخل في حصن الستقامة ول تستطيع أن تخرج عن حدود هللا‪ ،‬وبما أن النفس‬
‫ل تستطيع أن تظل هادئة بال عمل‪ ،‬وبما أنها هجرت المنكر وهاجرت إلى هللا لذلك‬
‫تراها تنطلق جاهدة في فعل المعروف واإلحسان‪ ،‬وتشتغل في مساعدة كل ذي‬
‫تقرباً بفعلها إلى هللا‪.‬‬
‫حاجة ُّ‬
‫التقرب بفعل المعروف‬
‫هنا وفي هذه المرحلة مرحلة الستقامة على أمر هللا‪ ،‬و ُّ‬
‫زلفى إلى هللا‪َّ ،‬‬
‫تتولد في النفس الثقة بإحسانها والثقة برضاء هللا عنها‪ ،‬وهنالك‬
‫وبمثل هذه الثقة تقبل النفس على خالقها وتستقيم إليه وجهتها وتنعقد صلتها‬
‫وتصلح صالتها‪ ،‬فترى أنها في حال القرب ل البعد‪ ،‬والوداد والصفاء ل البعد‬
‫ٍ‬
‫وعندئذ وبهذه الصلة والوجهة وبتلك‬ ‫والجفاء‪ ،‬والحياة الطيبة والروح والريحان‪،‬‬
‫الصلوات الطيبات تحصل النفس على ثمرتين ما كانت لتجنيهما لول صلتها‬
‫بخالقها‪ ،‬وما كانت لتظفر بهما لول إقبالها على هللا‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 248‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫أما الثمرة األولى‪ :‬فهي أنها بوجهتها إلى خالقها تتساقط منها الذنوب‪ ،‬وأعني‬
‫بالذنوب ما َعلِّق بالنفس من شهوات دنيئة وما َّ‬
‫تمكن فيها من أدران‪ .‬فبهذه الصلة‬ ‫َ‬
‫ُّ‬
‫تنحت هذه الشهوات الدنيئة ُمتساقطة‪ ،‬وتنغسل النفس من أدرانها‪ ،‬فتخرج من‬ ‫باهلل‪،‬‬
‫صالتها وقد اكتسبت طهارة ونقاوة‪ ،‬وخلصت من شهو ٍ‬
‫ات كانت تُ ِّّ‬
‫نغصها وأدران‬
‫كانت ُت ّلوثها‪ ،‬فال بخل ول جبن ول حرص على الدنيا ول شح‪ ،‬ول فظاظة ول‬
‫غالظة‪ ،‬ول قساوة قلب ول حب إيذاء‪ ،‬ول ذل ول خنوع‪ ،‬ول ميل إلى بغي ول‬
‫عدوان‪ ،‬ول مطمع بما في الدنيا من جاه وسلطان‪ ،‬حتى ول أي صفة رديئة تُنقص‬
‫من قيمة اإلنسان وتُحط من شأنه بين الناس وعند هللا‪.‬‬
‫ذلك كله تمحوه الصلة باهلل واإلقبال عليه تعالى‪ ،‬وفي حديث شريف ورد عنه‬
‫مبيناً فيه أثر الصالة في نفس اإلنسان إذ يقول ﷺ‪:‬‬ ‫ﷺ‬
‫ِّّ‬
‫كل يوم خمس مرات ما تقولون؟‬
‫أن نه اًر بباب أحدكم يغتسل فيه ُّ‬
‫(أرأيتم لو َّ‬
‫ذلك يبقي من درنه شيئاً؟ قالوا‪ :‬ال يبقي من درنه شيئاً‪ ،‬قال‪ :‬فذلك مثل الصلوات‬
‫( )‬
‫الخمس يمحو هللا بها الخطايا) ‪. 1‬‬
‫تلك هي أولى ثمرات اإلقبال على هللا تعالى ونتائج الصالة الصحيحة‪.‬‬
‫أما الثمرة الثانية‪ :‬فإليكها وكم أنت ُمغتبط إن نلتها‪ ،‬إنك وفي حالة صلة نفسك‬
‫بخالقك لتشعر بالحياة تسري في أعماقها كما يشعر المرء بدفء الشمس المنعش‬
‫في أيام البرد الشديد القارس‪ ،‬وتشعر بالحياة تسري في نفسك كما يشعر المرء‬
‫بنسيم الهواء الرطب العليل إذا جلس تحت شجرة يتفيَّأ ظاللها في أيام الصيف‬
‫الشديدة القيظ‪ ،‬وتشعر بالحياة تسري في نفسك كما يشعر الظامئ الهيمان بجرعة‬
‫وينعش جسمه وروحه‪ ،‬وتشعر‬‫الماء البارد يسري ريُّها في عروقه فيطفئ ظمأه ُ‬
‫وتشعر وليس من شعور لدى المؤمن بأجمل من ذلك الشعور الذي يجده في‬

‫(‪ _ )1‬أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 249‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ساعات إقباله على خالقه ومرّبِّيه‪ ،‬وفيما أنت منغمس بهذا الحال من الشعور‬
‫ٍ‬
‫معان عالية من الكمال وتلك هي‬ ‫السامي الرفيع‪ ،‬تنطبع على صفحات نفسك‬
‫الثمرة الثانية التي تجنيها النفس من تلك الصالة الصحيحة وذلك اإلقبال على هللا‪.‬‬
‫ومن آثار هذا الكمال الذي اصطبغت به النفس في ساعات اإلقبال على هللا‪ ،‬ومن‬
‫مظاهره في نفس هذا المؤمن السائر في ذلك المضمار‪ :‬الرحمة والحنان‪ ،‬والكرم‬
‫وص ْد ُق الحديث والصراحة في‬‫السخاء والمروءة ومُّد يِّد المعونة للمحتاج‪ِّ ،‬‬
‫والجود و َّ‬
‫َ َ‬
‫األقوال‪ ،‬واللطف والرقة ودماثة األخالق والحلم واألناة والحياء‪ ،‬والشجاعة والوقوف‬
‫ِّ‬
‫عد ْد ما‬
‫وعزة النفس واإلباء‪ ،‬وهكذا ّ‬
‫في وجه الباطل وقفة األبطال‪ ،‬والعدل واإلنصاف ّ‬
‫شئت من صفات الكمال ومظاهره تجد النفس قد نالت في حال إقبالها على هللا‬
‫تعالى شط اًر منه واصطبغت به‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ّللا ومن أَحسن ِمن ِ‬
‫ّللا ِصْب َغ ًة َوَن ْح ُن َل ُه َعا ِبدو َن﴾(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿صْب َغ َة ه َ َ ْ ْ َ ُ َ ه‬
‫واآلن وقد بلغت النفس هذه المرحلة وأضحت في تلك المنزلة‪ ،‬وأصبحت ذات‬
‫عال‪ ،‬إنها تحب كل ذي كمال‬‫وخلق ٍ‬ ‫عال‪ ،‬تجدها تُحب كل ذي كمال ُ‬ ‫لق ٍ‬ ‫وخ ٍ‬‫كمال ُ‬
‫قدر الفضل إل أهل الفضل ول يعرف الكمال إل‬ ‫ِّ‬
‫بسبب ما فيها من كمال‪ ،‬إذ ل ُي ّ‬
‫أهل الكمال‪ ،‬فإذا رأت أهل الكرم والجود َّ‬
‫قدرت سبقهم إياها في الكرم والجود‪ ،‬وان‬
‫تفوقهم عليها في الرحمة والحنان‪ ،‬وكذلك األمر‬ ‫شاهدت أهل الرحمة والحنان َّ‬
‫قدرت ُّ‬
‫متفوِّق عليها وسبقه إياها‪ ،‬فإن‬ ‫ِّ‬
‫قدر كل ّ‬ ‫بالنسبة لسائر الصفات واألخالق‪ ،‬فهي تُ ّ‬
‫وجدت مؤمناً كامالً أحب َّْته‪ ،‬وان اجتمعت بمرشد صادق عشقته وصاحبته‪ ،‬وبما أن‬
‫رسول هللا ﷺ‬
‫هو ِّّ‬
‫سيد أهل الكمال‪ ،‬وأسبق العالمين قاطب ًة في هذا المضمار‪،‬‬
‫وحيث إنه ﷺ بقربه العالي من خالقه اكتسب من تلك الحضرة اإللٓهية أوفر حظ‬
‫من الكمال‪ ،‬حتى إنه لم يدانه في ذلك المقام ملك ول إنسان‪ ،‬لذلك تجد هذا‬

‫(‪ _ )1‬سورة البقرة اآلية (‪)138‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 250‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ِّ‬
‫قدر رسول هللا ﷺ تقدي اًر عظيماً يمأل قلبه وجوارحه‪ ،‬فال يرى مخلوقاً أعظم‬
‫المؤمن ُي ّ‬
‫في نظره ول يجد إنساناً أسمى مكانة من رسول هللا ﷺ‪ ،‬فإذا ما سمع بذكره َّ‬
‫حن‬
‫إليه قلبه‪ ،‬واذا ما ذكر اسمه وُذكرت شمائله وأعماله َس َر ْت إليه نفسه قاطعة شاسع‬
‫طية وبأقل من لمح البصر القرون واألجيال‪ ،‬فإذا هي في صحبة‬ ‫المسافات متخ ِّّ‬
‫مع تلك النفس العالية‪ ،‬واذا هي متمسكة بتلك العروة الوثقى استمساكاً ل انقطاع‬
‫له ول انفصام‪.‬‬
‫هنا وبهذا السريان النفسي وبذلك الرتباط المعنوي والصحبة لتلك النفس‪ ،‬وأعني‬
‫بها نفس رسول هللا ﷺ الزكية الطاهرة‪ ،‬تعرج نفسك إن كنت َّ‬
‫ممن وصل إلى هذا‬
‫المقام بلطف ومن دون شعور مصاحب ًة نفس رسول هللا ﷺ المقبلة دوماً على هللا‪،‬‬
‫سماه هللا تعالى بالسراج المنير‬
‫فإذا النفسان معًا في حضرة هللا‪ ،‬وهنا ُيضيء لك ما َّ‬
‫وهو نور رسول هللا ﷺ عن طرف من كمالت هللا تعالى فتُشاهد ما تُشاهد ما أنت‬
‫لمشاهدته من رحمة إلٓهية وحنان وعطف ولطف ورأفة واحسان وعدل وقدرة‬ ‫أهل ُ‬
‫وعلم وحكمة‪ ،‬وواسع فضل وتربية وامداد برزق لكل ذي روح وحياة‪ ،‬وتسيير شامل‬
‫إلى غير ذلك من األسماء اإللٓهية التي ما رأى طرفاً منها رٍاء إل وهام بها عشقاً‬
‫وشغف بها ُحّباً‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهنا وبمثل هذا العشق لذلك الكمال اإللٓهي والحب المنبعث عن رؤية تلك‬
‫األسماء الحسنى تحصل النفس على صلة عالية بخالقها‪ ،‬صلة َّ‬
‫ولدها الحب‬
‫المنبعث عن رؤية األسماء اإللٓهية والكمال‪ ،‬وهنالك وبهذه الصلة تكتسب النفس‬

‫نو اًر من هللا تعالى ترى به الخير خي اًر ّ‬


‫فتحبه وتميل إليه‪ ،‬والشر ش اًر فتأنف منه‬
‫وتزهد فيه‪ ،‬ولعمري تلك هي التقوى التي َّ‬
‫حث هللا تعالى عليها وندب إليها عباده‬
‫المؤمنين إذ قال تعالى‪:‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 251‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫﴿يا أَُّيها َّال ِذين آمُنوْا َّاتُقوْا ّللا وُكوُنوْا مع َّ ِ ِ‬
‫الصادق َ‬ ‫ََ‬ ‫هَ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫آمُنوا ِبَر ُسولِ ِه ُي ْؤِت ُك ْم ِكْفَلْي ِن ِمن َّر ْح َم ِت ِه َوَي ْج َعل‬‫ّللا و ِ‬
‫آمُنوا َّاتُقوا َّ َ َ‬ ‫ين َ‬
‫ِ‬
‫﴿َيا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّل ُك ْم ُن ًا‬
‫يم﴾(‪.)2‬‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫ور َت ْم ُشو َن به َوَي ْغفْر َل ُك ْم َو َّ ُ‬
‫ّللا َغ ُف ٌ‬
‫نك ْم َسهِيَئ ِات ُك ْم‬
‫ّللا َي ْج َعل َّل ُك ْم ُفْرَقاناً َوُي َك هِفْر َع ُ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوْا إَن َت َّتُقوْا ه َ‬ ‫ين َ‬ ‫﴿يِا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫ّللا ُذو اْل َف ْض ِل اْل َع ِظيمِ﴾(‪.)3‬‬ ‫ِ‬
‫َوَي ْغفْر َل ُك ْم َو ه ُ‬
‫َع َماَل ُك ْم َوَي ْغ ِفْر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يدا‪ُ ،‬ي ْصل ْح َل ُك ْم أ ْ‬ ‫ّللا َوُقوُلوا َق ْوًال َسد ً‬ ‫آمُنوا َّاتُقوا َّ َ‬ ‫ين َ‬ ‫﴿َيا أَُّي َها َّالذ َ‬
‫يما﴾(‪.)4‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا َوَر ُسوَل ُه َفَق ْد َف َاز َف ْوًاز َعظ ً‬‫وب ُك ْم َو َمن ُيط ْع َّ َ‬ ‫َل ُك ْم ُذُن َ‬
‫نعم تلك هي التقوى على حقيقتها‪ ،‬إنها ِّاتّقاء الشرور بنور هللا تعالى‪ ،‬إنها ِّاتّقاء‬
‫المهالك ورؤية ما في الدنيا من مفاسد بذلك النور اإللٓهي‪ ،‬الذي ما كنت تستطيع‬
‫أن تصل إليه لول ارتباط نفسك بنفس رسول هللا ﷺ‪.‬‬
‫وهكذا فاإليمان برسول هللا نتيجة من نتائج اإليمان باهلل‪ ،‬وحب رسول هللا ﷺ‬
‫مقترن دوماً باإليمان الصحيح مترافق مع الصلة الحقيقية باهلل‪ ،‬وفي الحديث‬
‫الشريف الذي ورد عنه ﷺ إذ يقول‪( :‬أالَ الَ إيمان لمن ال محبة له‪ ،‬أالَ ال إيمان‬
‫لمن ال محبة له‪ ،‬أالَ الَ إيمان لمن ال محبة له)‪.‬‬
‫اطق ِب َفمِ‬ ‫في ِ‬ ‫ول ِ‬ ‫إن َفضل رس ِ‬
‫عرب َعْن ُه َن ٌ‬ ‫َحٌّد ُ‬ ‫هللا ليس َل ُه‬ ‫َ ُ‬ ‫َف َّ‬
‫***‬

‫(‪ _ )1‬سورة التوبة اآلية (‪)119‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة الحديد اآلية (‪)28‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة األنفال اآلية (‪)29‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة األحزاب اآليات (‪)71-70‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 252‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫مقتطفات من علوم العالَّمة اْلنسانَ مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره‬
‫هكذا هو دأْب هذا العالَّمة اإلنساني الجليل َّ‬
‫قدس هللا سره في كل ما أتحفنا به‬
‫من علوم غزيرة‪ ،‬تدير العقول‪ ،‬وتحني الجباه‪ ،‬إجاللً واستعظاماً لمعاني القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬فقد مألت علومه القرآنية أطباق السماوات بما أفاض هللا تعالى عليه‪ ،‬فهو‬
‫بر األنبياء الكرام في كتابه (عصمة األنبياء) من كل ما يتنافى مع عصمتهم‬
‫الذي َّأ‬
‫وكمالهم وطهارة نفوسهم‪ ،‬وشرح أعمالهم العالية التي استحقوا بها رسالة ربهم‪،‬‬
‫فأصبحوا هادين مهديين‪َّ ،‬‬
‫ورد كل قول أو رواية تتنافى مع عصمة سيدنا محمد ﷺ‬
‫محمد ﷺ تظهر في القرن‬
‫بكتابين أفردهما عن الحبيب المصطفى (حقيقة سيدنا ه‬
‫العشرين) وكتاب (زيارة الرسول ﷺ وأثر محبته في رقي النفس المؤمنة)‪.‬‬
‫جل وعال‪،‬‬
‫* لقد ّبين الحكمة من آيات القرآن الكريم‪ ،‬ومن كل أمر أمرنا به َّ‬
‫فشرح أحرف أوائل السور التي عجز عن إدراكها كافة علماء المسلمين‪ ،‬وبيانه‬
‫وسر قراءتها في الصالة التي وقف أمامها كافة العلماء‬
‫المعجز لفاتحة أم الكتاب‪ّ ،‬‬
‫واألولياء حيارى‪ .‬وذلك في كتاب (أسرار السبع المثاني) وكتاب (تأويل األمين‬
‫للقرآن العظيم)‪.‬‬
‫وبين الحكمة منها‬
‫* كما أنه استنبط أوقات الصلوات الخمس من القرآن الكريم‪ّ ،‬‬
‫وسر التوجه إلى الكعبة‪ ،‬كما استنبط نسبة الزكاة (‪ )%2.5‬من اآليات القرآنية‪ ،‬وشرح‬
‫ّ‬
‫معنى التقوى وكيفية الحصول عليها برمضان‪ ،‬وشرح معاني ليلة القدر‪ّ ،‬‬
‫وبين سبب‬
‫نزول القرآن في تلك الليلة المباركة‪ ،‬وبيَّن أسرار مناسك الحج والحكمة من كل عمل‬
‫ودل على طريق اإليمان الحقيقي‪ ،‬وأن اإليمان باهلل هو شهود‪ ،‬وليس‬
‫يقوم به الحاج‪َّ ،‬‬
‫مبيناً معنى كلمة (أشهد أن ل إلٓه إل هللا وأشهد أن محمداً رسول‬
‫قول أو اعتراف فقط‪ّ ،‬‬
‫هللا) وكل ذلك في كتابه‪( :‬المدارس العليا للتقوى‪ ،‬درر األحكام في شرح أركان‬
‫اإلسالم)‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 253‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫* وقد ّبين معضلة القضاء والقدر التي حيَّرت أفهام العلماء وفالسفة اليونان‬
‫والرومان والجبرية والمعتزلة‪ ،‬وعلماء وفالسفة اإلسالم واليهود والمسيحيين‪ .‬وفهمه‬
‫العالي لقوله تعالى﴿‪َ ...‬ي ْغ ِفُر لِ َمن َي َشاء َوُي َع ِهذ ُب َمن َي َشاء‪ُ ...﴿ )1(﴾...‬ي ِض ُّل َمن‬
‫َي َشاء َوَي ْه ِدي َمن َي َشاء‪ .)2(﴾...‬وأن المشيئة للعبد السالك بصدق والطالب للهداية‬
‫وتجنب سبل الغواية‪ ،‬ابتغاء وجه الحقيقة والحق والدين‪ ،‬وبيَّن حرية الختيار لكل‬
‫امرٍئ في هذه الدنيا‪.‬‬
‫ِ‬
‫ّللا َّالذي َخَل َ‬
‫ق‬ ‫ِ‬
‫فصل معنى األيام الستة المذكورة بالقرآن الكريم﴿إ َّن َرَّب ُك ُم ه ُ‬ ‫* ّ‬
‫اس َت َوى َعَلى اْل َعْر ِ‬ ‫ات واألَر َ ِ ِ ِ‬
‫ِ‬
‫ش‪ .)3(﴾...‬والتي تاه بها‬ ‫ض في س َّتة أََّيام ُث َّم ْ‬ ‫الس َم َاو َ ْ‬
‫َّ‬
‫علماء اليهود وعلماء النصارى وعلماء المسلمين‪ ،‬وشرح معنى الليالي العشر‪،‬‬
‫الجبار‪ ،‬الحقيقة الرهيبة‬
‫َّ‬ ‫ومعنى السماوات السبع‪ ،‬في كتابه (الكشف العلمي‬
‫للسموات السبع واأليام الستة)‪.‬‬
‫وبين بالمنطق السليم المدح العظيم الذي استحقه رسول هللا ﷺ بسورة عبس‪،‬‬
‫* ّ‬
‫حين عبس النبي الكريم‪ ،‬صاحب الخلق العظيم‪ ،‬لما جاءه عبد هللا ابن أم مكتوم‪،‬‬
‫في حين أن المفسرين كلهم َّ‬
‫خطأوا رسول هللا ﷺ بمطلع هذه السورة الكريمة‪ ،‬ونفى‬
‫عن رسول هللا ﷺ كل ما ألصق من دسوس باألدلة القرآنية‪ ،‬فكشف الغطاء عن‬
‫المحمدية الطاهرة َّ‬
‫المقدسة المعصومة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقة‬
‫عم كلها‪ ،‬وكلمة‪َ ﴿ :‬ع َّم َي َت َساءُلو َن﴾ ‪ ،‬شرحاً وتفصيالً‬
‫(‪)4‬‬
‫وبين معاني جزء ّ‬
‫* ّ‬
‫عم)‪.‬‬
‫معج اًز بكتابه (تأويل جزء ه‬

‫(‪ _ )1‬سورة آل عمران‪ .‬اآلية (‪)129‬‬


‫(‪ _ )2‬سورة النحل اآلية (‪)93‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة األعراف اآلية (‪)54‬‬
‫(‪ _ )4‬سورة النبأ اآلية (‪)1‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 254‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫* كما ّبين الحقيقة والرحمة المنطوية بقضية تعدد الزوجات‪ ،‬في أوائل سورة‬
‫وحل استعصاء هذه القضية المعضلة‪ ،‬ونسف كل قول يجعل من اإلسالم‬ ‫النساء‪َّ ،‬‬
‫ديناً شهوانياً بالسماح للرجل بالزواج من أربع نساء‪ ،‬دون الرجوع إلى اآلية الكريمة‬
‫وتمامها‪ ،‬والبحث فيها ضمن سياقها‪ ،‬إذ ل يجوز للمسلم الزواج إل بامرأة واحدة‪ ،‬أما‬
‫الثانية والثالثة والرابعة فلها شروط مذكورة ببداية اآلية الكريمة والتي أهملت ولم يعمل‬
‫بها‪ ،‬وهي أن تكون المرأة أرملة وعندها أيتام‪ ،‬فالغاية من التعدد غاية سامية إنسانية‬
‫ألجل األرامل وتربية األيتام‪ ،‬وبناء مجتمع صحيح‪ ،‬ل شهوانية نفسية‪ ،‬كما يفسرها‬
‫جروا السمعة السيئة‬ ‫الكثيرون‪ ،‬ويعملون على تطبيقها دون ربط اآلية ببدايتها‪ ،‬وبذلك ّ‬
‫لإلسالم والمسلمين‪ ،‬وأصبح الدين (تعدد الزوجات) بمنظارهم ديناً شهوانياً ل إنسانياً‪.‬‬
‫كذلك بيَّن قوانين الطالق استنباطاً من القرآن الكريم‪ ،‬وكيفية تطبيق هذه‬
‫ودب الخالف بين الرجل والمرأة‪ ،‬كل ذلك‬
‫الشروط واألحكام‪ ،‬في حال النشوز ّ‬
‫ولم أكثر من زوجة يا إسالم)؟!‬
‫ولم الطالق َ‬
‫لم الحجاب َ‬
‫بكتابه( َ‬
‫* كما ّبين غاية الحق من إيجاد الخلق‪ ،‬وسبب خلق اإلنسان ومجيئه إلى هذه‬
‫الدنيا‪ ،‬فشرح عالم األزل والخْلق األول وحمل األمانة‪ ،‬وتصدي اإلنسان لها‪ ،‬وشرح‬
‫السؤال المعجز لماذا يولد األنبياء أنبياء؟! وعلى أي أساس حكم فيهم تعالى بذلك‪،‬‬
‫فقرر من قبل ولدتهم أنهم أنبياء ورسل كرام!‬
‫كما شرح العدل اإللٓهي‪ ،‬وبيَّنه بالمنطق الرفيع‪ ،‬وبيَّن سبب الفقر واألمراض‬
‫والبالءات‪ ،‬وكل ما يصيب اإلنسان في هذه الحياة الدنيا من خير أو شر‪ ،‬وبيَّن‬
‫عناصر اإلنسان بشرح لفت‪ ،‬فتكلم عن الفرق بين النفس والروح‪ ،‬والفرق بين‬
‫العقل والفكر‪ ،‬وتحدث عن ماهية كل منهم‪ ،‬وذلك حين أسلم على يديه العالم‬
‫اإلنكليزي الشهير السير جون بينت‪ ،‬حين قصده ليطرح عليه أسئلته التي لم يجد‬
‫فتم اللقاء بينهما‬
‫لها طيلة حياته جواباً عنده ول عند غيره من العلماء قاطبة‪َّ ،‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 255‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫بمدينة دمشق وطرح السير جون بينت أسئلته الكبرى وعن كل ما يجول في فكره‬
‫عن اإلسالم وقوانينه‪ ،‬وعن الصيام والحج والزكاة‪ ،‬والحكمة من كل واحدة منها إلى‬
‫أن سأله العالَّمة قائالً له (هل توصلتم أيها السير أن تدركوا عن كأس الماء الذي‬
‫تشربونه من أين مصدره؟ فأجاب السير بينت بأن مياه األمطار هي المصدر‬
‫فرد عليه العالَّمة‪ :‬إن مياه األمطار للمزروعات والحيوانات‪،‬‬
‫األساسي لشربنا‪َّ ،‬‬
‫وبين بالحجة الدامغة واستنباطاً من القرآن الكريم‪ ،‬مصادر مياه الينابيع في العالم‬
‫ّ‬
‫كله‪ ،‬وجريان األنهار الكبيرة والصغيرة على وجه المعمورة بأنه ليس من مياه‬
‫األمطار قطعاً‪ ،‬وذلك ما لم يعلمه أحد من علماء الغرب والشرق‪ ،‬حّقاً إنها معجزة‬
‫وبين‬
‫علمية جبَّارة‪ ،‬إذ أن لهذه الينابيع مصادر أكبر وأغزر من مياه األمطار‪ّ ،‬‬
‫بأكثر من ثالثين دليل علمي وباستناد إلى اآليات الكريمة‪ ،‬أن القطبين الشمالي‬
‫والجنوبي هما مصدر المياه في كل الينابيع‪ ،‬ولما سمع السير بينت منه هذا‬
‫البحث وناقشه فيه‪ ،‬أعلن على الفور إسالمه وقال‪( :‬عجباً لي طيلة حياتي لم‬
‫يخطر هذا السؤال على بالي)‪ .‬ولما عاد إلى بالده قال كلمته المشهورة أمام حشد‬
‫من العلماء والمثقفين‪(( ،‬إن كل ما توصلنا إليه من علوم ال يعدل بحر ذلك العالم‬
‫الكبير في الشرق))‪.‬‬
‫* بين الحكمة أيضاً من الختان للذكور‪ ،‬وسبب خلقه تعالى هذه (الحشفة)‬
‫للذكر وهو في بطن أمه‪ ،‬ثم الحكمة من إزالتها بعد الولدة‪ .‬وهذا الكتشاف لم‬
‫يسبقه إليه أطباء العصر ول أطباء العصور السابقة كلها‪ .‬وكل ذلك في كتابه‬
‫(مصادر مياه الينابيع في العالم وبحث كشوفات سر الختان)‪.‬‬
‫* وانقاذه لألنعام‪ ،‬بأن ّبين فائدة ذكر اسم هللا تعالى على األنعام أثناء ذبحها‬
‫بكلمة (هللا أكبر)‪ ،‬وأن هذه األنعام حين الذبح وسماعها لهذه الكلمة العظيمة يفور‬
‫دمها كله‪ ،‬وينتفض جسمها‪ ،‬فتطرح كل الدم خارج الجسم‪ ،‬ول يبقى منه شيء‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 256‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫داخل لحمها‪ ،‬فيعطينا هللا تعالى لحماً نقياً طاه اًر‪ ،‬خالياً من كل جرثوم‪ ،‬وعلى‬
‫العكس‪ ،‬كل ذبيحة ل يذكر اسم هللا عليها‪ ،‬تبقى الجراثيم فيها‪ ،‬ويصبح آكلها‬
‫معرضاً لألمراض‪ ،‬وأن إهمال ذكر اسم هللا على األنعام‪ ،‬سيعرض األنعام‬
‫لإلصابة بأمراض خطيرة وفتاكة‪ ،‬كل ذلك استنبطه من اآليات القرآنية‪.‬‬
‫ولما خضع كالمه للبحث الطبي قام فريق طبي مخبري من أساتذة الطب‬
‫المخبري في الشرق األوسط بإجراء التحاليل ألنعام ذبحت وذكر اسم هللا عليها‪،‬‬
‫وأنعام ذبحت ولم يذكر اسم هللا عليها‪ ،‬فكانت النتائج مثلما قال العالّمة‬
‫(مستعمرات الفيروسات والجراثيم تبقى في جسد الذبيحة غير المكبَّر عليها)‪.‬‬
‫ُذيع هذا الخبر العلمي من قبل وكالت األنباء والفضائيات والصحف‬ ‫وقد أ َ‬
‫والمجالت واإلذاعات‪ ،‬تحذي اًر من عدم ذكر اسم هللا على األنعام‪ ،‬ولألسف بقي‬
‫الكثير لم يذكر اسم هللا عليها‪ ،‬فابتلي العالم بأمراض جنون البقر‪ ،‬وأنفلون از الطيور‪،‬‬
‫حذر منه العالّمة استنباطاً من قوله تعالى‪..﴿ :‬‬ ‫وطاعون الغنم‪ ،‬وهو ما كان قد َّ‬
‫وكل‬ ‫ّللا َعَلْي َها ا ْفِتَراء َعَلْي ِه َسَي ْج ِزي ِهم ِب َما َكاُنوْا َي ْف َتُرو َن﴾‬
‫(‪)1‬‬ ‫وأَْنعام الَّ ي ْذ ُكرو َن اسم ِ‬
‫َْ ه‬ ‫َ ٌَ َ ُ‬
‫ذلك بكتابه‪( :‬هللا أكبر رفقاً بالحيوان)‪.‬‬
‫* أحيا السنة النبوية الطاهرة‪ ،‬من بعد أن أغلقت عليها كتب القدامى‪ ،‬فجال‬
‫األمراض المعضلة بإحيائه لسنة الحجامة‪ ،‬فبين شروطها الصحيحة والسليمة‪،‬‬
‫بأنها تجرى على منطقة الكاهل حص اًر بالظهر‪ ،‬وأنها تجرى صباحاً‪ ،‬وعلى الريق‪،‬‬
‫وفي فصل الربيع‪ ،‬وحينما يكون القمر بالتنازل‪ ،‬أي بعد السابع عشر من الشهر‬
‫القمري‪ ،‬لعالقة تأثيره الفعلي على األرض‪ ،‬فقام فريق طبي كبير مؤلف من حوالي‬
‫‪ /350/‬ثالثمائة وخمسين أستاذاً وطبيباً في الشرق األوسط‪ ،‬قاموا بدراستها ضمن‬
‫الشروط التي ّبينها العالَّمة لمدة ثالث سنين متتاليات‪ ،‬فجاءت النتائج صاعقة‬

‫(‪ _ )1‬سورة األنعام‪ .‬اآلية (‪)138‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 257‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫عمت المعمورة‪ ،‬من شدة‬
‫بعالم الطب‪ ،‬وظل الهتمام يزداد بها سنة بعد سنة‪ ،‬حتى َّ‬
‫فوائدها‪ ،‬ولقد انهالت تقارير الشكر والمتنان لمعيد هذا الفن العالجي الناجع من‬
‫جميع أقطار األرض‪ ،‬في حين طبقها المسلمون وغير المسلمين تحقيقاً من‬
‫فوائدها‪ ،‬ولقد تبين ذلك من خالل كتابه (الدواء العجيب الذي شفى من مرض‬
‫علم طبي نبوي في منظوره‬ ‫القلب القاتل والسرطان والشلل والشقيقة "الحجامة‬
‫ٌ ٌ‬
‫الجديد")‪.‬‬
‫كما بثَّتها معظم الفضائيات ووكالت األنباء‪ ،‬وتكلمت عنها الصحف‬
‫وصحية في‬
‫ّ‬ ‫وعقدت حولها المؤتمرات والندوات‪ ،‬وتبنتها مراكز طبية‬
‫والمجالت‪ُ ،‬‬
‫العالم التماساً لفوائدها الكثيرة‪ ،‬حيث أنها حوت الطب بكامله بضربة مشرط‪.‬‬
‫* كذلك كشف السحرة والمشعوذين والدجالين‪ ،‬الذين يتعاونون مع الشياطين‪،‬‬
‫لضرب وأذى الناس بالسحر‪ ،‬وشرح كل األلعيب والتخيالت التي يجريها السحرة‬
‫مع الناس‪ ،‬وهم ل يعلمون عن حقيقة السحر شيئاً‪ ،‬وأنه تعاون وثيق بين الساحر‬
‫والشياطين (القرائن) كإخبار بالمغيبات الوهمية على عمومها‪ ،‬وهذا األمر قد تفشى‬
‫في معظم الناس في هذه المعمورة‪ ،‬حتى تكاد ل تجد بيتاً خال من ألعيب وحيل‬
‫ومكر السحرة‪ ،‬أو من الضيق والهموم نتيجة تصديقهم لداعي الشيطان‪ ،‬وخاصة‬
‫أولئك السحرة الذين يخرجون للناس على الفضائيات‪ ،‬ويحدثونهم بأمورهم وعللهم‬
‫وأمراضهم‪ ،‬فيصدقهم المشاهد أو المتصل من دون علم له أن الساحر يتفق مع‬
‫قرينه‪ ،‬ويأخذ منه أخباره‪.‬‬
‫كما بيَّن الحلول وطريق الخالص والشفاء من هذا الداء دون الرجوع إلى أحد من‬
‫الناس‪ ،‬وخاصة الذين َّيدعون أنهم يعالجون بالرقية أو آيات القرآن الكريم‪ ،‬وهم ل‬
‫يعلمون‪ ،‬وكل ذلك في كتابه (كشف خفايا علوم السحرة)‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 258‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫* شرح حالة اإلنسان عند الموت في كلتا الحالتين إن كان صالحاً أو كاف اًر‪،‬‬
‫وبين حالته بعد الموت وهو بالبرزخ‪.‬‬
‫ّ‬
‫* كما شرح آيات الحساب يوم القيامة‪ ،‬وأن أعمال اإلنسان بدنياه مطبوعة على‬
‫صفحات نفسه‪ ،‬يراها يوم القيامة ماثلة أمامه‪.‬‬
‫* ّبين حقيقة الج ّنة بأنها النظر إلى وجه ربه الكريم ذي الجالل والجمال‬
‫واإلكرام‪ ،‬وأن كل ما يناله من نعيم واكرام ولذائذ‪ ،‬هو دون تلك ّ‬
‫الجنة العالية‪ ،‬وذلك‬
‫بأدّلة منطقية من القرآن الكريم‪.‬‬
‫كما بيَّن أن النار يوم القيامة هي بمثابة مشفى يعالج بها أرباب العلل واألمراض‬
‫النفسية بما حملوه معهم من دنياهم‪ ،‬من أعمال منحطة َّ‬
‫حطت من قدرهم أمام هللا‬
‫تعالى‪ ،‬فجعلهم خزيهم وعارهم يطلبون النار (العالج) ليستريحوا مما هم فيه من آلم‬
‫تفتك بهم فتكاً‪ ،‬قال رسول هللا‪( :‬إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول‪ :‬يا رب‬
‫علي مما ألقى واَّنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب)‬
‫إلرسالك بي إلى النار أيسر َّ‬
‫(‪.)1‬‬
‫كل ذلك في كتابه (تأويل القرآن العظيم) وكتاب (تأويل األمين)‪.‬‬
‫* كما بين حقيقة الشفاعة والتي تاه فيها معظم العلماء‪ ،‬فظنوها شفاعة وساطة‬
‫وظلم‪ُ ،‬ي ْخ ِّرُج الرسول الكريم ﷺ بها من يشاء من النار‪ ،‬وفي ذلك ما فيه من إغراء‬
‫بارتكاب السيئات‪ ،‬على أمل الشفاعة يوم القيامة‪ ،‬فبيَّن من خالل آيات القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬أن الشفاعة للمؤمن في الدنيا‪ ،‬وتستمر معه إلى اآلخرة‪ ،‬وأن الشفاعة‬
‫اقتران نفس بنفس‪ ،‬كما أن الشفع‪ :‬وهو أن يقارن شيء شيئاً ويزاوجه مالزماً إياه‪،‬‬
‫أي رابطة النفوس المؤمنة واستشفاعها بالرسول ﷺ‪ ،‬كي يعرج بها إلى الحضرة‬
‫اإللٓهية‪ ،‬كما ارتبطت نفوس الصحابة الكرام واستشفعت بنفسه الزكية الطاهرة ﷺ‪،‬‬

‫(‪ _ )1‬الجامع الصغير ‪( /2074/‬ك) عن جابر (ح)‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 259‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫فدخل بهم على هللا تعالى‪ ،‬وهم معه دنيا وبرزخ وآخرة‪ ،‬ومن لم يستشفع برسول هللا‬
‫ﷺ في الدنيا‪ ،‬فال شفاعة له في اآلخرة‪ ،‬وان هي إل أماني يمنون أنفسهم بها‪،‬‬
‫مغبة‬
‫ينبه اإلنسان من ّ‬ ‫ل ِّّ‬
‫يرخصوا لبعضهم ارتكاب المحرمات‪ ،‬وأن القرآن الكريم كله ِّّ‬
‫فللجنة‪ ،‬أو ش اًر بعالج في‬
‫ّ‬ ‫أعماله‪ ،‬وأنه سيحاسب على كل ذرة من أعماله‪ ،‬إما خي اًر‬
‫النار‪ .‬وأن رسول هللا ﷺ ليس بيده شيء سوى النصح والتذكير‪ ،‬ول يملك لمخلوق‬
‫شيئاً بل ول يملك لنفسه الشريفة شيئاً﴿ ُقل الَّ أ َْملِ ُك لَِنْف ِسي َضًّار َوالَ َنْف ًعا‪.)1(﴾...‬‬
‫﴿يوم َال َتملِك َنْفس هلَِنْفس َشيًئا و ْاألَمر يومِئذ َِّ ِ‬
‫ّلل﴾(‪.)2‬‬ ‫ْ َ ُْ َ ْ َ‬ ‫َْ َ ْ ُ ٌ‬
‫الن ِار﴾ ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫نق ُذ من ِفي َّ‬ ‫اب أَ َفأ َ ِ‬ ‫ق َعَلْي ِه َكلِم ُة اْل َع َذ ِ‬
‫﴿أَ َف َم ْن َح َّ‬
‫َنت ُت َ‬ ‫َ‬
‫هذا البحث الهام َّبينه مفصالً في معظم كتبه‪ ،‬وباألخص كتاب(حقيقة‬
‫الشفاعة) حوار هادئ بين الدكتور مصطفى محمود‪ .‬والدكتور يوسف القرضاوي‪.‬‬
‫* كما أنه ّبين حقيقة خروج أبينا آدم من الجنة‪ ،‬وسبب أكله من الشجرة‪،‬‬
‫والحالة التي كان فيها أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السالم‪ ،‬قبل األكل من الشجرة‪،‬‬
‫وأنه بحبه العظيم لربه‪ ،‬نسي الوصية‪ ،‬وأكل من تلك الشجرة‪ ،‬وكل ذلك كان‬
‫بترتيب من هللا تعالى بخروج أبينا آدم ‪ ‬من الجنة‪ ،‬وليعطيه بدلً منها هو‬
‫وذريته جنات‪ ،‬وليريه تعالى هو وذريته عداوة الشيطان‪ ،‬ليعلم اإلنسان أن له عدواً‬
‫بالمرصاد‪ ،‬فيحتاط منه‪ ،‬ويأخذ حذره فيسير على هدى من ربه الذي اهتدى به‬
‫األنبياء الكرام‪ .‬فيحفظ من الوقوع بالمعاصي‪ ،‬ومن ُّ‬
‫تسلط الشيطان عليه‪.‬‬
‫* كما أنه أول من ّبين حقيقة اإليمان وطريقه المستقيم الذي نص عليه القرآن‬
‫وسار على نهجه كافة األنبياء والرسل الكرام‪.‬‬

‫(‪ -)1‬سورة يونس اآلية (‪)49‬‬


‫(‪ -)2‬سورة اإلنفطار اآلية (‪)19‬‬
‫(‪ _ )3‬سورة الزمر اآلية (‪)19‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 260‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫* كما بين سبب ورود قصة بني إسرائيل بكثرة في القرآن الكريم‪ ،‬ومجادلتهم‬
‫لرسولهم الكريم سيدنا موسى ‪ ،‬وأن كل امرئ إذا لم يسلك السبيل التي َّ‬
‫سنها‬
‫هللا تعالى لهذا اإلنسان‪ ،‬فليس ُيفيده أن يرى المعجزات وخوارق العادات‪ ،‬وليس‬
‫يجعله في عداد المؤمنين أن تأتيه بما تأتيه من آيات‪ ،‬وحجج دامغات‪ ،‬إنما‬
‫الصدق في طلب الحقيقة واعمال الفكر في البحث عنها‪ ،‬هو الذي يهدي النفس‬
‫ويوردها موارد المعرفة الحقيقية‪ ،‬كل ذلك في كتابه (تأويل األمين)‪.‬‬
‫ُ‬
‫* كما بيَّن كل عالمات الساعة‪ ،‬ودلئل عودة السيد المسيح ‪ ‬من القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬بهذا الكتاب الذي بين أيدينا‪.‬‬
‫غيض من فيض‪ :‬كل هذا غيض من فيض مما بيَّنه هذا العالَّمة اإلنساني‬
‫الكبير‪ ،‬فالبحوث ومجالت التفكير بدللته‪ ،‬ل تكفيها سطور لمطالعتها‪ ،‬وانما هي‬
‫لفتة لبعض ما قدمه وأبداه للبشرية‪ ،‬من علوم القرآن الكريم‪ ،‬وقد تحدث عنه كثير‬
‫من العلماء األفاضل‪ ،‬وامتدحوا علمه واستنباطه العميق‪ ،‬وفهمه الكبير للقرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ووجدوا بدعوته ودللته الصدق واإلخالص‪ ،‬وأنها تجمع الكل تحت لواء‬
‫المطهرة لرسول هللا الكريم ﷺ‪ ،‬فتزال بهذه الدعوة والدللة‬
‫َّ‬ ‫القرآن الكريم و َّ‬
‫السنة‬
‫الختالفات المذهبية المقيتة‪ ،‬المحطمة لدين سيدنا محمد ﷺ والتي أصبحت (هذه‬
‫المذهبيات) ِّاتّباعاً لآلباء بدلً من التباع للقرآن الكريم‪ ،‬فتحولت األمة الواحدة إلى‬
‫أمم‪ ،‬وعن الطريق الحق‪ ،‬إلى فرق وشيع وطوائف‪ ،‬كل حزب بما لديهم فرحون‪،‬‬
‫الداسون‪ ،‬بما أشبعوا كتبهم من األخطاء والمخالفات والتفسيرات المخالفة‬
‫مكر بهم ُّ‬
‫ألسماء هللا الحسنى‪ ،‬ولكمال األنبياء الكرام‪ ،‬فتاه المسلم‪ ،‬وغرق باختالف المذاهب‬
‫والفرق‪ ،‬وعزف عن الدين‪ ،‬ومال إلى الدنيا بسببهم‪ .‬وقد قال (الدكتور مصطفى‬
‫محمود) إن القرآن الكريم كان مهجو اًر قبل علوم هذا العالم الكبير‪ ،‬فعلمه إشراقي‬
‫وبيانه منطقي‪ ،‬وأنا لم أق أر بحياتي كلها كلمة واحدة مثل كلماته عند غيره‪ .‬وقد أفرد‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 261‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫كتاباً خاصاً عنه أسماه‪( :‬نظرات في صحائف فضيلة العالَّمة الكبير محمد أمين شيخو‬
‫قدَّس هللا سره)‪.‬‬
‫سامر أحمد الهندي‬
‫المدير العام لدار نور البشير‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 262‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫صدر لفضيلة العالَّمة اْلنسانَ الكبير مح َّمد أمين شيخو (قدِّس سره)‬
‫عم‪.‬‬
‫‪ -1‬تأويل جزء َّ‬
‫‪ -2‬زيارة الرسول ﷺ وأثر محبته في رقي النفس المؤمنة‪.‬‬
‫‪ -3‬عصمة األنبياء‪.‬‬
‫‪ -4‬درر األحكام في شرح أركان اإلسالم (المدارس العليا للتقوى)‪.‬‬
‫‪ -5‬مصادر مياه الينابيع في العالم وبحث كشوفات سر الختان (باللغة‬
‫العربية)‪.‬‬
‫َّ‬
‫المجلد األول‪.‬‬ ‫‪ -6‬تأويل القرآن العظيم (أنوار التنزيل وحقائق التأويل)‬
‫َّ‬
‫المجلد الثاني‪.‬‬ ‫‪ -7‬تأويل القرآن العظيم (أنوار التنزيل وحقائق التأويل)‬
‫َّ‬
‫المجلد األول‪.‬‬ ‫عم (آلء الرحمن في تأويل القرآن)‬ ‫‪ -8‬موسوعة َّ‬
‫‪ -9‬من سير األبطال لألولد واألطفال (الغالم الشجاع والجنيَّة) رقم (‪.)1‬‬
‫‪ -10‬من سير األبطال لألولد واألطفال (الكلب الذي أصبح حصاناً) رقم (‪.)2‬‬
‫ورده العملي على‬‫ِّ‬
‫‪ -11‬من سير األبطال لألولد واألطفال (الغالم الشجاع ّ‬
‫خاله) رقم (‪.)3‬‬
‫‪ -12‬من سير األبطال لألولد واألطفال (حلبة الصراع) رقم (‪.)4‬‬
‫‪ -13‬من سير األبطال لألولد واألطفال (تأديب بائع الخضار) رقم(‪.)5‬‬
‫‪ -14‬من سير األبطال لألولد واألطفال (سلمت يداك يا شبل الحي) رقم(‪.)6‬‬
‫‪ -15‬من سير األبطال لألولد واألطفال (مغامرة الفارس الصغير) رقم(‪.)7‬‬
‫‪ -16‬تأويل األمين للقرآن العظيم ( َّ‬
‫المجلد األول)‪.‬‬
‫‪ -17‬الترجمة اإلنكليزية لكتاب مصادر مياه الينابيع في العالم وبحث كشوفات سر‬
‫الختان‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 263‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫‪ -18‬صفحات من المجد الخالد (سيرة حياة العالَّمة العربي الكبير َّ‬
‫محمد أمين‬
‫َّ‬
‫المجلد األول‪.‬‬ ‫شيخو)‬
‫‪ -19‬حقيقة الشفاعة‪ :‬حوار بين (د‪ .‬مصطفى محمود) و(د‪ .‬يوسف‬
‫القرضاوي)‪.‬‬
‫محمد ﷺ تظهر في القرن العشرين‪.‬‬
‫‪ -20‬حقيقة سيدنا َّ‬
‫محمد ﷺ تظهر في القرن العشرين‪.‬‬
‫‪ -21‬الترجمة الفارسية لكتاب حقيقة سيدنا َّ‬
‫‪ -22‬هللا أكبر (رفقًا بالحيوان)‪ :‬دراسة علمية طبية حول فائدة ذكر اسم هللا على‬
‫الذبيحة‪.‬‬
‫‪ -23‬لِّ َم الحجاب‪ ،‬ولِّ َم الطالق‪ ،‬ولِّ َم أكثر من زوجة‪ ..‬يا إسالم؟!‬
‫حرر اإلنسان من العبودية‪ ،‬واإلسالم لِّم َلم ُي ِّّ‬
‫حرره؟!‬ ‫‪ -24‬الغرب َّ‬
‫َ ْ‬
‫‪ -25‬الكشف العلمي الجبَّار (الحقيقة الرهيبة للسموات السبع واأليام الستة)‪.‬‬
‫‪ -26‬صواعق معجزات ّأم الكتاب في القرن الحادي والعشرين‪.‬‬
‫‪ -27‬اإليمان (أول المدارس العليا للتقوى)‪.‬‬
‫‪ -28‬الصالة (ثاني المدارس العليا للتقوى)‪.‬‬
‫‪ -29‬الزكاة (ثالث المدارس العليا للتقوى)‪.‬‬
‫‪ -30‬الصيام (رابع المدارس العليا للتقوى)‪.‬‬
‫‪ -31‬الحج (خامس المدارس العليا للتقوى)‪.‬‬
‫‪ -32‬حوار هادئ عن فضيلة العالَّمة العربي الكبير َّ‬
‫محمد أمين شيخو‪.‬‬
‫عم (‪ )8‬تأويل سورة الماعون‪.‬‬‫‪ -33‬موسوعة َّ‬
‫عم (‪ )9‬تأويل سورة قريش‪.‬‬
‫‪ -34‬موسوعة َّ‬
‫عم (‪ )10‬تأويل سورة الفيل‪.‬‬
‫‪ -35‬موسوعة َّ‬
‫عم (‪ )11‬تأويل سورة الهمزة‪.‬‬
‫‪ -36‬موسوعة َّ‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 264‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫‪ -37‬الدواء العجيب الذي شفى من مرض القلب القاتل والشلل والناعور والشقيقة‬
‫والعقم والسرطان‪.‬‬
‫‪ -38‬العالَّمة العربي الكبير َّ‬
‫محمد أمين شيخو يرد على معارضيه‪.‬‬
‫‪ -39‬البحوث المجيدة‪.‬‬
‫المحمدية (الجزء األول)‪.‬‬
‫َّ‬ ‫‪ -40‬الفتوحات‬
‫َّ‬
‫المجلد الثالث‪.‬‬ ‫‪ -41‬تأويل القرآن العظيم (أنوار التنزيل وحقائق التأويل)‬
‫‪ -42‬كشف خفايا علوم السحرة‪.‬‬
‫‪ -43‬الترجمة الفارسية لكتاب هللا أكبر (رفقاً بالحيوان)‪.‬‬
‫‪ -44‬حقيقة تيمورلنك العظيم تظهر في القرن الواحد والعشرين (الجزء األول)‪.‬‬
‫‪ -45‬السيد المسيح رسول السالم يلوح باألفق‪.‬‬
‫***‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 265‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الفهرس‬
‫مالحظة هامة جداً‪3 ....................................................... :‬‬
‫مقدمة‪5 ........................................................................‬‬
‫الفصل األول‪15 ...............................................................‬‬
‫نحو مفهوم الساعة ‪17 ......................................................‬‬
‫قوم سيدنا نوح ‪25 ......................................................‬‬
‫قوم عاد ‪31 ................................................................‬‬
‫قوم ثمود‪39 ................................................................‬‬
‫قوم سيدنا لوط ‪48 ..................................................... ‬‬
‫أهل مدين‪52 ...............................................................‬‬
‫غاية الحق من إيجاد الخلق‪58 ..............................................‬‬
‫الفصل الثاني ‪65 ..............................................................‬‬
‫الساعة وحتمية وقوعها ‪67 ..................................................‬‬
‫الفصل الثالث ‪95 ..............................................................‬‬
‫أشراط الساعة‪97 ...........................................................‬‬
‫خروج بيت المقدس من أيدي المسلمين‪102 .................................‬‬
‫طلوع الشمس من مغربها وانشقاق القمر‪111 ................................‬‬
‫النفوذ من أقطار السماوات واألرض‪123 ....................................‬‬
‫خروج يأجوج ومأجوج‪125 ..................................................‬‬
‫خروج دابة األرض ‪128 ....................................................‬‬
‫زخرفة األرض ‪134 ........................................................‬‬
‫ظهور الدخان‪138 .........................................................‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 267‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫الفصل الرابع ‪147 .............................................................‬‬
‫عودة السيد المسيح ‪149 ............................................... ‬‬
‫الدليل األول على عودة السيد المسيح ‪167 .............................:‬‬
‫الدليل الثاني‪174 ..........................................................:‬‬
‫الدليل الثالث‪180 ......................................................... :‬‬
‫انتهاء جولت الباطل‪181 ...................................................‬‬
‫طوبى لمولود هذا الزمان ‪183 ...............................................‬‬
‫الفصل الخامس‪189 ...........................................................‬‬
‫المعّلِّم األول‪191 ...........................................................‬‬
‫غاية قصة سيدنا آدم ‪227 ..............................................‬‬
‫الفصل السادس‪239 ...........................................................‬‬
‫طريق اإليمان ‪241 .........................................................‬‬
‫مقتطفات من علوم العالَّمة اإلنساني َّ‬
‫محمد أمين شيخو َّ‬
‫قدس هللا سره ‪253 ....‬‬
‫ِّ‬
‫(قدس سره) ‪263 ....‬‬ ‫صدر لفضيلة العالَّمة اإلنساني الكبير َّ‬
‫محمد أمين شيخو ّ‬
‫الفهرس‪267 ................................................................‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ‪ 268‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬

You might also like