Professional Documents
Culture Documents
السيد المسيح رسول السلام يلوح بالأفق
السيد المسيح رسول السلام يلوح بالأفق
إعداد
سامر أحمد الهندي
ــــــــ 3ـــــــــ
مقدمة
ٍ
مبعوث األتمان األكمالن على خير رب العالمين ،والصالة والسالم ِّ
َّ الحمد هلل ّ
للعالمين سيدنا محمد ﷺ الصادق الوعد األمين.
َّ
الجهل وتغلب الهوى ،واستعصت الشهو ُ
ات في ُ عم
لقد أضحينا في آخر الزمنَّ ،
وفتح الناس باب اإلباحية.
الحاللَ ،
ُ وح ِّّرم
حل الحرُام ُ النفوس ،استُ َّ
أسمل
َ ضباب الحضارة الكثيف
ُ لوب والنفوس.
وليل أعتم الق َ
ٌ دامس
ٌ ظالم
ٌ
ِّ
غياهب الخمور والفجور ،كما أغرق ففر الناس من الواقع ،وغاصوا في
البصائرَّ ،
عب ل يفار ُق اب ،ور ٌ الحق المقيم ،قلق واضطر ٌ ِّّ وحجب نور
َ الضياء والنعيم،
يجتاح الحنايا ،يستنزف ُ عاصف
ٌ ألم
الصدور ،من ظلم بني اإلنسان لإلنسانٌ ،
وعم ِّائها. ِّ
غاض ماؤها لقسوة أهل الحضارة َ مآق َالدمع من ٍ
َ
الذل من َّ
ذل تخطى القيم لنفوس أبت إل ّ القلوب تحت وطأتهٌّ ، ُ هيب ترزُح
كابوس ر ٌ
ٌ
أذهل الكائنات لمن َّيدعون بالحضا ِّرة واإلنسانية َ عسف
ٌ أجل لقمة عيش كريهة،
ِّ والمكرمات ،مهرجان عظيم ولكن من َّ ِّ
األنات إذ بط َش القو ُّي بالضعيف ،والر ُ
جال بالنساء ٌ ٌ
التوجع واآلهات تترى والعذاب ِّسجال.
ِّ األغنياء بالفقراء ،صرخات
ُ واألطفال ،و
فحلت بواديهم مآسي اغِّتيلت الفضيل ُة ،وأمسكت الرذيل ُة بصولجان اإلمارةَّ ، ْ
الطاغوت ،فُقتلت النفوس وا ْفتقدت السعادة،
ُ الخزي والخسارةُ ،دفنت القيم ،واستعلى
حل البالء وانعدم الرضى الحياء فأصبحت سوق الشيطان رائج ًة ،عندها َّ ُ طِّّلق
ُ
وأضحت الحياةُ جحيماً ل يطاق.
هجر الناس القرآن ،كما هجر من قبله اإلنجيل والتوراة ،وتكالبوا
اندثرت الحقيقة إذ َ
على العلم ،اإللٓه المزيَّف (علم المخلوق الضعيف ال علم الخالق العظيم) ،وأشاحوا
الديان مبدع الكمال ورب النعيم والسرور العميم ،فانقطعت سبل السعادة ،وغرق
عن ّ
الناس في بحر الضنك والم اررة.
ــــــــ 5ـــــــــ
ض َعن ِذ ْكرِي َفِإ َّن َل ُه َم ِع َ
()1
انكبوا على ألوان
نكاّ . ﴾... يش ًة َض ً َعَر َ
﴿ َو َم ْن أ ْ
ليعود األمر ُّ
أشد وأدهى َ يعبون منها ،وينشدون بها الفرار فترات، الخمور والمخدرات ّ
أكثر شراس ًة وأطغى ،حتى دفع اليأس والقنوط وخيبة األمل من الدنيا الكثير الكثير و ُ
دنية.
وهجر ما هفوا إليه من دنيا ّ
الغررة إلى النتحار ْ
الخداعة ّا
أم الحضارات ّ
في ِّّ
آن األوان ودار الزمان دورته ،ومّلت النفوس من اإلعراض ،إذ أترعت
باألمراض ،حتى زاغت األبصار ،وبلغت القلوب الحناجر ،فتعالت النداءات أن
خير وأحب إلى هللا من التمادي
فالعود أحمد ،والرجوع إلى الحق ٌ عودوا إلى الحقْ ،
في الباطل ،لقد أبى الرحمن الرحيم إلَّ أن ينقذ بني اإلنسان من هذا الهوان ،فبعد أن
ذاقوا م اررة اإلعراض من طغيانهم وبغيهم وفسادهم ،عندما تخلوا عن اإللٓه مبدع
فحل فيهم الشقاء والبؤس والبأساء ،طلبوا الخالص من األكوان واألرض والسمواتَّ ،
َّاع ِإ َذا َد َع ِ
ان،)2(﴾... يب َد ْع َوَة الد ِ رب الخالص :فاستجاب لهم ربهم أني ..﴿ :أ ِ
ُج ُ
وغمكم وهمكم بهجة وحبو اًر ،وسأجعل أرضكم َّ
جنات وغبطة سأبدل شقاءكم نعيماًّ ،
ّ
يطيب عيشكم في ظالل روح وريحان، أبدية ،سأعيد إليكم رسولً عظيماً كريماًِّّ ،
ّ
سيد األكوان (في عصره) سيدنا (عيسى المسيح ) ورضى وبهجة وأمان ،بظهور ّ
إلى يوم تلقوني وأنا عنكم راض .فمن نعيم إلى نعيم أكبر ،ومن سعادة إلى سعادة
أعظم.
هذا العظيم الذي جاء للدنيا لهداية قومه ،وجبر عثراتهم وايقاظهم من رقادهم،
ونقلهم من السعادة الموهومة الكاذبة إلى الحقيقة المنيرة المشرقة والكسب العظيم،
وهم للمنطق ما استجابوا ،وللعمى أرادوا ،ب َذل الكثير في نصحهم ،وشقي إلسعادهم،
أهم ُه َّ
ونغصه وأضناه، حل في ٍ
قلب إل َّ لكن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة ،وما َّ
وفي الرذيلة والقسوة أرداه ،فشهوتهم مستيقظة ،وفكرهم في رقاد.
ــــــــ 6ـــــــــ
األبرص ،و أروا معجزاته كلها ،وشاهدوا كمالته
َ األكمه و
َ الميت ،وأب أر
أحيا لهم ّ
وحساً ،ولكن قلبهم األعمى بحب الدنيا جحد به ونكره ،فاتهموه بالسحر،
ولطفه لمساً ّ
ناسين بغمرتهم المنحطة كمالته الرفيعة التي لم يدانه فيها مخلوق ،ولم يروا
بمنظارهم المنحرف منطقه العالي الذي هو من هللا مباشرًة ،بل لم يشاهدوا لطفه
يردون ،فنكروا الوحي و ُّ
أصموا وكماله ،ورحمته وحنانه ،فلم يعلموا لجهلهم على من ُّ
طهم من سمائهم ُم ْحتماً ،وفقدانهم لمنزلتهم أسماعهم عن نداء ربهم الرحيم ،فكان ُهبو ُ
التكليفية مبرماً ،وقالوا كلمة الكفر ويا لهول ما قالوا ،ظناً ل تحقيقاً بقولهم إنه المسيح
أطهر نساء العالمينَ..﴿ :يا َمْرَي ُم ِإ َّن
الصديقة ،التي هي ُ ّ أمه
الغض من ّ
الدجال ،ثم ّ
ين﴾( ،)1فكانوا كمن يهوي من ِ ِ ط َّهرِك واص َ ِ ّللا اص َ ِ
ط َفاك َعَلى ن َساء اْل َعاَلم َ ط َفاك َو َ َ َ ْ هَ ْ
السماء فتخطفه الطير ،أو تهوي به الريح في مكان سحيق ،هذا عن اليهود ،أما
النصارى فكان قولهم ل واقع ول منطق فيه ،إذ نسبوا له وألمه األلوهية وهو
براء من الشرك ،فالشرك شيء عظيم ولم ولن يخطر له على بال ،ألنه ل يرى إل
فان ٍ
وباق باهلل ،ألنه مشاهد مبصر ،فما نسبوه إليه هللا مستغر ٌق بالحضرة اإللٓهيةٍ ،
ل أصل ول وجود له في نفسه ،وهو مستسلم بروحه وكّليته وجسمه إلى هللا ،فمن
وحذرهم من الشركأين جاؤوا بهذا القول وخرقوه وهو منه براء ،بل سبق َّ
بقوله:
اّلل َفَقد حَّرم ّللا عَل ِ
ِ
يه اْل َجَّن َة.)2(﴾... ﴿ِ ...إَّن ُه َمن ُي ْش ِر ْك ِب ه ْ َ َ ه ُ َ
جالء لوجه الحقيقة ،وتبياناً حقاً للخليقة أن نبين في هذا الكتاب: وا ً
(السيد المسيح رسول السالم يلوح باألفق)
قصة السيد المسيح كاملة ،وعالمات الساعة قبل مجيئه ،ومفهوم الساعة
وغيرها من البحوث الهامة ،معتمدين على المنطق الصحيح بما نطق به الذكر
ــــــــ 7ـــــــــ
ورداً على ما
الحكيم من آيات بينات ،ومن صلب الواقع المحسوس الملموسّ ،
ذهب إليه البعض من مزاعم باطلة ،ل أصل لها ول وجود.
فهذا كتاب جديد كل الجدة ،غريب كل الغرابة ،لم يعهد الناس كتاباً مثله ،ولم
تألف البشر مثل هذه المعاني ،ومع ذلك فإن هذا الكتاب لم يكن بدعاً من البدع،
ألن العالَّمة اإلنساني َّ
محمد أمين شيخو َّ
قدس هللا سره لم يخرج به عن كتاب هللا
سنة رسوله ﷺ.
ول ّ
وكل ما خ َّ
ط ضمن هذا الكتاب اقتبسناه من ثنايا علومه القرآنية. ُ
إن هذا العلم غريب ،ألن الدين أصبح غريباً ،جديد ،ألن معظم الناس قد
هجروا ما أنزل هللا واتَّبعوا ما نسب إلى آبائهم.
لقد هجر المسلمون القرآن الكريم ،ويمموا وجوههم شطر الحديث والفقه وغير
ذلك ،دون النظر إلى توافقهما والقرآن الكريم.
من أجل ذلك غدا الدين غريباً ،ألن القرآن أصبح مهجو اًر ،واذا ما أضعنا
القرآن ولم نتدبر آياته ،وجعلناه وراء ظهورنا ،فإننا أضعنا الدين كله ،وانك لترى
عفت حقائقه ،فلم يبق من اإلسالم إلَّ اسمه ،ومن القرآن إلَّ رسمه.
الدين قد َّ
لقد ورثنا مما نسب إلى اآلباء ،تركة ل خير في معظمها ،فبدلً من أن يوجهوا
الناس إلى التفكر في آيات هللا الكونية ،والى التدبر في هذا القرآن العظيم ،راحوا
يوجهونهم إلى سفاسف األمور ،من الخرافات والقصص اإلسرائيلية ،واإلفاضة بما هو
غير جوهري ،وذلك بغية تحويل الناس عن طريق اإليمان ،وعن معاني هذا القرآن
العظيم ،ثم إغراق الناس في اختالفات الفقهاء ،وكثرة اآلراء التي ل يعرف اإلنسان
ٍّ
بأي يأخذ.
ــــــــ 8ـــــــــ
و ْأولى لمن أراد أن يخوض هذا البحر الخضم أن يحسن العوم ،أو يصطحب
قارباً للنجاة ودليالً مرشداً ،وال ابتلعه الموج إن لم تدركه رحمة من ربه ،وسوف
يعيش في ظلمة ،بل في ظلمات من الشكوك بعضها فوق بعض.
ور َف َما َل ُه ِمن ُّنور﴾( :)1يهتدي به في حياته وفي ّللا َل ُه ُن ًا ِ َّ
﴿َ ...و َمن ل ْم َي ْج َعل َّ ُ
أعماله.
آمُنوا ِبَر ُسولِ ِه ُي ْؤِت ُك ْم ِكْفَلْي ِن ِمن َّر ْح َم ِت ِه َوَي ْج َعل
ّللا و ِ
آمُنوا َّاتُقوا َّ َ َين َ
ِ
﴿َيا أَُّي َها َّالذ َ
ِ ِ ِِ َّل ُك ْم ُن ًا
يم﴾( :)2فال تحصل التقوى وهذه ور َّرح ٌ ور َت ْم ُشو َن به َوَي ْغفْر َل ُك ْم َو َّ ُ
ّللا َغ ُف ٌ
الرؤية بالنور إلَّ بعد اإلقبال القلبي النفسي بصحبة رسول هللا ﷺ على هللا تعالى.
لقد أمرنا هللا أن نتبع ما أنزل ،ل أن نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ،ولم يأمرنا أن
نتخذهم أرباباً ،نسمع كالمهم ونشركه مع كالم هللا.
ول تغرَّنك هذه الماليين المطمئنة والمصدقة للذي جاءت به األجداد ،ألن أغلب
الناس ل يتبعون إل الظن ،وان الظن ل يغني من الحق شيئاًَ ﴿.واِن ُت ِط ْع أَ ْك َثَر َمن
يل ِ
ّللا ِإن يَّت ِبعو َن ِإالَّ َّ ِفي األَر ِ ِ
الظ َّن َواِ ْن ُه ْم ِإالَّ َي ْخُر ُصو َن﴾(:)3 َ ُ ض ُيضُّل َ
وك َعن َسِب ِ ه ْ
يسكتون إذ ل حجة لهم في رد الحق عند مجابهتهم به ،دنيا وآخرة.
لذلك فإن هللا تعالى خلق اإلنسان في هذه الدنيا وهداهِ﴿ :إ َّن َعَلْيَنا َلْل ُه َدى﴾(،)4
بأن أرسل له الرسل الكرام ،معِّّلمين هادين لطريق اإليمان ،كي ل يضّل ُه أكثر من
سر بسيرهم ،ولم يدرس ولمفي األرض عن الحق ،ومن لم يدخل مدرستهم ولم َي ْ
بهد ِّي ٍ ٍ
يتبع ما أنزل هللا عليهم ،فإنه بواد والهداية بواد آخر ،لذا علينا أن نقتدي ْ
رسله الكرام ،ونسلك الطريق التي بها اهتدوا إليه ،وندخل المدرسة التي منها تخرجوا،
ــــــــ 9ـــــــــ
ونحصل على شهادة (ل إٓله إل هللا) التي منها حصلوا عليها ،والتي أصبحت لهم العين
التي يرون بها الحقائق ،واألذن التي يسمعون بها ،والقلب الذي يفقهون به معاني كالم
هللا الذي أحاط بأسرار الكون ،واللسان الذي ينطقون به(.)1
ومن لم يتخرج من هذه المدرسة ،فال وربك ل يؤمن ولو ق أر كتب األولين واآلخرين،
كلمه الموتى ،أو أي شيء يكبر في صدره.أو َّ
ق ِمن َّرهِب َك( :﴾...أنت يا ِ ﴿اْلح ُّ ِ
ق من َّرهِب َك َفالَ َت ُكوَن َّن م َن اْل ُم ْمَتِر َ
ين﴾(﴿ :)2اْل َح ُّ َ
ِ
ين﴾ :فلن تكون أبدًا من الممترين. حبيبي يا محمد)َ ﴿ :فالَ َت ُكوَن َّن م َن اْل ُم ْمَتِر َ
فمن لم يؤمن باهلل ،فلن يجعل هللا له نو اًر ،ولن يجعل له فرقاناً يفرق الحق من
الباطل ،و َّ
الغث من السمين ،وهذه المدرسة مفتوحة األبواب في كل حين ،ولمن يشاء،
وليس علم هللا أو العلم بكتابه مقصو ًار على أمة دون أمة ،ول زمان دون زمان ،ول
خزائن رحمته مفتوحة على أناس دون أناس.
ّللا ي ْؤِت ِ
يه َمن َي َشاءُّ :)3(﴾...
كل من يشأ بصدق فاهلل يؤتيه فضله ِ ِ
﴿ َذل َك َف ْض ُل َّ ُ
خص عالماً دونالعظيم .فما أرسل هللا رسله ورسوله إلَّ رحمة للعالمين .فما َّ
عالم.
طاء َرهِب َك :)4(﴾...الكل عند هللا واحد ،كل امرئ ﴿ ُكالًّ ُّن ِمُّد َه ُؤالء َو َه ُؤالء ِم ْن َع َ
يعطى على حسب صدقه وسعيهِ..﴿ :إ َّن أَ ْكرم ُكم ِعند َّ ِ
ّللا أَ ْتَق ُ
اك ْمَ ...﴿ .)5(﴾...و َما ََ ْ َ
ور﴾( :)6ما تطلبه تجده. طاء َرهِب َك َم ْحظُ ًا ان َع َ َك َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 10ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ُنز َل َعَلْي ِه ال ِهذ ْكُر ِمن َبْيِنَنا :)1(﴾...ألم
لقد تساءلت قريش من قبل فقالوا﴿ :أَأ ِ
يجد هللا من القوم سواه؟
أجل ،لقد أنزل عليه الذكر ل من بينهم فحسب ،بل من بين كل األمم ،ألنه
كان صادق النيَّة والطلب ألن يتعرف على مبدع الوجود ،فكان يذهب إلى شعاب
مكة ،يسير فوق بطاحها ،ويتسلق جبالها ،ويقضي األيام والليالي يتفكر في خلق
السماوات واألرض ،حتى أتاه اليقين من رب اليقين ،في وقت كانت فيه قريش
تلهو وتلعب وتسمر ،وتشغل نفسها بزينة الدنيا ومتاعها.
وعلى اإلنسان قبل أن يستغرب ،فهل حاول ولو لمرة واحدة ،أن يسلك النهج
الذي سلكه القدوة الحسنة ﷺ ؟
أم أن العتقاد والذي كتب في الماضي دون توافقه والقرآن الكريم هو الذي
يوصل إلى اإليمان باهلل واليوم اآلخر ،أما لحظت كم من آية يمرون عليها في
تفاسيرهم وهم عنها معرضون؟
أما أمرنا هللا تعالى أن نتفكر في خلق السماوات واألرض؟
والتفكر بالخلوات والموت ،لتزهد النفس بالدنيا الدنية المنقضية ،والتفكر
بالفلوات للوصول لرب الكائنات ،فبأي حديث بعد هللا وآياته يؤمنون؟
أم أنهم ينتظرون أن تأتيهم الهداية من رب العالمين ،دون أن يطلبوها هم ،كما
طلبها أبونا إبراهيم ،أو دون أن يكلفوا أنفسهم قليالً من الجهد؟
وكيف يهدي هللا قوماً يقضون أعمارهم في مراتع اللهو واللعب ،أو القيل والقال؟
أم كيف يهدي هللا من أغفل عنه قلبه ،واتخذ إلٓهه هواه وكان أمره فرطاً؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 11ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فلو شاء هللا لهدى الناس جميعاً ،ولكن أي فائدة يجنيها اإلنسان إذا سيق إلى
ما يكره بالقوة؟ أل تبقى نفسه معرضة إذا أكرهت على عمل ما؟! بل قد يزداد
إعراضها إذا أُجبرت على شيء ليس لها رغبة فيه.
أن ُيقبل اإلنسان عن طوع وبدافع ذاتي ،حتى يكون إن الهداية الحقة هي
عاينه هو وتحقق منه وعقَله ،وأيقن به قلبه ،فيقول أشهد
شهودياً
ّ اإليمان إيماناً ذاتياً
أن ل إلٓه إل هللا شهوداً .فاإليمان شهود بالعين عين الرأس ،ثم شهود قلبي بعين
النفس.
عندئذ يشاهد الخير والعدل ،ويلمس الرحمة والحب يسري في الوجود كله ،فال
رحمته تعالى تسبق عدله ،ول غضبه يسبق رأفته ،فهو سبحانه قائم بالقسط ،وهو
جل شأنه على صراط مستقيم.
َّ
إن هللا وحده بيده الخير للمحسن والمسيء على حد سواء ،ومن لم يشهد ذلك
في الدنيا ،فسوف يشهده في اآلخرة ،وما دام األمر كذلك ،وهو كذلك ،فإنه ل
يوجد ظلم بين الناس ،وما دام ل يوجد ظلم فال يوجد شر.
إن ما نراه ش ًار ،هو محض الخير لمن يصيبه ،ألن هذا الشر الذي أصابه
سينقذه من شر أعظم لو لم يصبه ،وهذا الشر ما كان ليصيبه لول ما قدمت يداه،
إن شق البطن شر بالنسبة للمعافى ،إل أنه الخير كل الخير لمن تخرج به َّ
علته.
والظلم أيضاً ل يقع إل على من يستحقه ،والظالم ل يقع ظلمه إلَّ على ظالم
ين َب ْع ًضا ِب َما َكاُنوْا َي ْك ِسُبو َن﴾( :)1من ض َّ ِ ِ
مثله قال تعالىَ ﴿ :وَك َذلِ َك ُن َوهلِي َب ْع َ
الظالم َ
أعمالهم.
إذ لعله بتلك المصيبة يرجع عن غيه ويتذكر ما قدمت يداه ،ويتوب إلى هللا
توبة نصوحاً ،عندئذ يرتفع عنه الظلم .بل قد يمكنه تعالى من الذي ظلمه.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 12ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هذا التصرف ل يقتصر على األفراد فحسب ،بل يتعداه إلى األمم والشعوب،
فاألمة التي يكون فيها من القابلية لإليمان أكثر من غيرها ،يسلط هللا عليها أمة
أظلم تسومها سوء العذاب لعلها تتضرع إلى هللا ،وتبتعد عما هي فيه من اجتراح
السيئات ،فتنيب إليه تعالى ،عندئذ يبدل هللا سيئاتها حسنات ،ويرد لها الكرة على من
ظلمها ،ل لتبطش وتنتقم لنفسها ،بل لتردها أيضاً إلى طريق الهداية والصالح.
ينقسم الجنس البشري إلى أصناف ثالثة( :إنساني ،وظالم ،وأظلم).
والظالم هنا هو الظالم لنفسه ،الذي يسلك مسالك (حيوانية) لتحقيق أهوائه،
واألظلم هو ظالم لنفسه ولكن يسلك مسالك (شيطانية) لتحقيق أغراضه المنحطة.
وهذا التقسيم ينطبق على األمم كما ينطبق على األفراد ،وبما أن اإلنسان اإلنساني
بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى مفقود أو شبه مفقود في هذا العصر ،لذلك لم
يبق إلَّ الظالم واألظلم منه ،وفي هذه الحالة يسّلط هللا األمة األظلم ،على األمة
الظالمة ،لعلها تصحو من غفلتها ،وترجع إلى إنسانيتها ،فيبدل هللا ضعفها قوة،
وخذلنها نص اًر على من ظلمها ،لعل األخرى ترجع إلى هللا ،وترتاح وذلها ع اًزُ ،
البشرية بعدها من هذا الشقاء ،ومن هذه اآللم التي تصيبها.
ال
يصبح مستحيالًَ ..﴿ :والَ َيَز ُ غير أن الواقع يشير إلى أن األمل في الرجوع كاد
ِمن د ِارِهم حَّتى يأِْتي وعد ِ ين َكَفُروْا ُت ِص ُيب ُهم ِب َما َصَن ُعوْا َق ِارَع ٌة أ َْو َت ُح ُّل َق ِر ًيبا ِ
ّللا
ه َ ْ َ َ َ َ ُْ ه َّالذ َ
ِ
ّللا َال ُي ْخلِ ُ ِ
()1
والساعة قريبة ،والسيد المسيح يع َاد﴾ ،لذا بات البالء متوقعاً ف اْلم َ إ َّن ه َ
،المنقذ للبشرية من الشقاء واآللم ،ومن الكفر والحرمان ،قد لح باألفق:
نصُر َمن َي َشاء َو ُه َو ا ْل َع ِز ُ
يز ﴿ ...ويوم ِئذ ي ْفرح ا ْلم ْؤ ِم ُنو َنِ ،ب َن ص ِر َّ ِ
ّللا َي ُ ْ ََْ َ َ َ ُ ُ
ّللاُ َو ْع َد ُه َوَل ِك َّن أَ ْك َثَر َّ الر ِحيم ،وعد َّ ِ
الن ِ
اس َال َي ْع َل ُمو َن﴾ . ّللا َال ُي ْخ لِ ُ
() 2
ف َّ َّ ُ َ ْ َ
تقديم الناشر
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 13ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الفصل األول
في هذا الفصل:
نحو مفهوم الساعة.
قوم سيدنا نوح .
قوم سيدنا هود ( قوم عاد المعروفين بالعمالقة األشداء).
قوم سيدنا صالح ( قوم ثمود).
قوم سيدنا لوط .
قوم سيدنا شعيب ( أهل مدين).
غاية الحق من إيجاد الخلق.
نحو مفهوم الساعة
إن البشرية في هذا العصر تعاني قلقاً نفسياً حاداً .وذلك بما أحدثته الثورة
التقنية من طغيان مادي كثيف ،ألقى ظالله القاتمة على األنفس َّ
فسد عليها منابع
النور ،وحجبها عن موطن الخلود.
وهذه الثورة أغرقت الناس في متاهات فكرية ،متعاكسة أحياناً ،ومتشابكة في
أحيان كثيرة.
لقد كانت الثورة العلمية التقنية حلماً يدغدغ أحالم بعض المفكرين ،وكانوا ينظرون
إليها منذ أواخر القرن التاسع عشر نظرة المنقذ من الفقر والمرض والجهل .وقد أطلقوا
ألفكارهم العنان ،فوصفوها وصفاً مسرفاً في الالواقعيةُّ ،
وشنوا حرباً شعواء على النظم
والمعتقدات القديمة ،وقالوا إنها شاخت واهترأت ،ولم تعد تصلح لهذا العصر ،وكما
حكموا على النظم والمعتقدات بالشيخوخة والهتراء ،حكموا على اإللٓه بالموت ]انظر
كتاب (نيتشه) هكذا تكلم زرادشت[.
وأعلنوا عن مولد إلٓه جديد ،هو إلٓه العلم أو العقل الجبار ،وأن هذا اإللٓه سوف
ِّّ
يسخر الطبيعة ،أكثر مما َّ
سخرها لهم اإللٓه القديم.
وصدقت الناس داعي الشيطان ،وخاصة الغرب والشرق األقصى ،وأشاحت
َّ
بوجهها عن مبدع السماوات واألرض ،فهجرت بل واستهزأت ،بكل ما جاء به من
سد َن ِّة هذا الشيطان المريد.
ومثل ،واستبدلتها بشرائع وسنن من وحي َ
سنن وشرائع ُ
غير أن هذا اإللٓه الذي داعب مولده مخيلة المفتونين به ،قد تمخض عن نار
ِّ
يلوح للبشرية بين الحين والحين ،بالدمار الشامل والهالك األكيد.
ّ
لشوباً،
غصة ،وان عليه ْ
أن طعامه ذو َّ فاههَّ ،
ولقد أروا من بعد ما تبين لهم ر ُ
والسعادة المنتظرة التي كانوا يحلمون بها ،إنما كانت كسراب بقيعة ،يحسبه الذين
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 17ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
استحبوا الحياة الدنيا ماء ،فيه الحياة وفيه السعادة والهناء .ولما جاءوه لم يجدوه إلَّ
ً
وهماً ،ولم يجدوه إل ألماً وشقاء ،وكفى بذلك واعظاً ،لو كانوا يعقلون.
إن فاطر السماوات واألرض قد أبدع الوجود ،على أحسن ما يكون اإلبداع،
وشرع لنا من النظم ما تتوافق والفطرة التي فطر الناس عليها.
َّ
لقد بنى الوجود على سنن غاية في الدقة ،وغاية في اإلبداع والجالل ،وترك
لإلنسان المجال لكي ينظر في نفسه حين كان نطفة ،وكيفية أطواره في بطن
أمه ،وينظر إلى السماء كيف ُرفعت ،والى النجوم كيف حبكت ،والى الجبال
كيف ُنصبت ،والى البحار كيف ملئت ،والى ما بث في األرض من دابة كيف
خلقت ،والى ما أنبت فيها من كل زوج كريم.
مد ُّ
ويمد الوجود ترى من الذي قام بكل هذا ويقوم؟ ومن الموجد العظيم ،الذي َّ
اآلن وفي كل آن؟
"جل شأنه" شرائعه متوافقة مع الفطرة التي فطر الناس عليها ،وهي
ثم جعل َّ
تهدف إلى سعادة اإلنسان في الدنيا واآلخرة ،فقد بنيت تلك الشرائع على مبادئ
قويمة ،تنهض باألنفس لتسمو بها ،وتربطها بخالقها ،وبهذا الرباط أو هذه الصلة
تستطيع أن تتحرر من عبودية المادة ،التي ما إن تستولي على النفوس حتى
ترديها ،وتجعلها تعيش معيشة ضنكاً .وبهذه الصلة ،يتبدد الخوف من قلب
المؤمن ،ويزداد الرجاء كلما تقدمت به السنونَّ ،
وقربته إلى المصير المحتوم ،ل
يتضجر إن أقبلت الدنيا عليه ،أو أدبرت.
وكذلك ل يبالي إن اعتل أو أصابته مصيبة ،ألنه يعلم أن الحياة الدنيا ليس لها
من بقاء ،واآلخرة هي الحياة الباقية.
أما الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ،وجعلوها مبلغ همهم ،فإن قلقهم يزداد
في أمسيات العمر ،فيزدادون هماً وغماً ،إن أقبلت أو أدبرت ،أو أصابهم مكروه.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 18ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
إن الذين يأملون ،أن يجعل لهم إلٓههم الحياة الدنيا فردوساً جميالً ،وأن ِّّ
يسخر
لهم الطبيعة بأكثر مما تجود به ،أولئك هم الموهومون ،وأولئك هم المغبونون ل
في اآلخرة فحسب ،بل وفي الحياة الدنيا أيضاً.
وهذا اإللٓه الذي يأملون منه أن يجعل لهم الدنيا جنات وقصو اًر ،سوف يفسد
عليهم أحالمهم ،وسوف يكتوون بناره عن غضبة يغضبها ،ويجعل ما بنوه
بواسطته من حضارة ،قاعاً صفصفاً.
إن هذه الثورة (التقنية) قد جاءت مخيبة لآلمال ،إذ أنها أبعدت الناس عن السعادة
الحقيقية التي ل تقارن مع تلك السعادة الحسيَّة الموهومة ،ذلك ألن السعادة الحسية
بحقيقتها ليست سعادة ،وانما هي لذائذ وقضاء شهوات ورغائب ،وشتان بين هذه
وتلك.
ذلك ألن شهوات النفس كثيرة ،وطاقتها غير محدودة ،بينما طاقات اإلنسان
الجسمية محدودة ،والفارق بين الطاقتين هو مبعث األلم ومبعث الشقاء ،فتركيب
طاقة غير محدودة على طاقة محدودة ،يجعل األخيرة ل تستطيع أن تلبي رغائب
األولى.
النفس كالفرس الجموح ،كلما قضت من شهوة وط اًر طلبت أخرى من غير ملل
يعدها
أو كلل ،ألن ماهية تكوينها غير مادي ،وهذه الطاقة غير المحدودة لم ّ
تعالى لتمأل أوضا اًر ،وانما أعدت لتمأل كمالً وجمالً مطلقين ،ولتشرب من معين
ل ينضب.
بالهم
وشتان بين تلكما الحالتين ،لذائذ زائفة كفيلة بإنتاج الضجر والسأم مشوبة ِّّ
والغم واأللم ومنتهية من قبل أن ينتهي اإلنسان من الدنيا ،وسعادة مستمرة ومتزايدة
(.)1
تظل معه إلى األبد
( _ )1لطفا ً انظر كتاب اآلية (الفتوحات المح َّمدية) للعالَّمة مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره اآلية (بحث السعادة وحقيقتها).
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 19ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وفي اآلخرة ل توجد إل حقائق ،والزيف ليس له وجود هناك ،ولذا فإن نفس
المعرض عن هللا في الحياة الدنيا ،بسبب ِّاتّباعه لشهواته ،تذهب إلى بارئها
﴿ َو َم ْن عمياء ،ألنها لم تحاول أن تتعرف على الحق في الدنيا .قال تعالى:
َر ِهب لِ َمال يش ًة َضنكا وَنح ُشره يوم اْل ِقي ِ ض َعن ِذ ْكرِي َفِإ َّن َل ُه َم ِع َ
َع َمىَ ،ق َ امة أ ْ
ً َ ْ ُُ َْ َ َ َ َعَر َ
أْ
الدنيا. ال َك َذلِ َك :﴾...كنت أعمى البصيرة في نت َب ِص ًا ِ
يرَ ،ق َ َع َمى َوَق ْد ُك ُ َح َشْرَتني أ ْ
بد أن ُيساق نسى﴾ ! أننساك اليوم! ل ّ
()1 ِ آي ُاتَنا َفَن ِس َ
يت َها َوَك َذل َك اْلَي ْوَم ُت َ ﴿...أ ََت ْت َك َ
لنفسك ما يلزمها من عالج .ويدعم هذه الحقيقة قوله تعالىَ ..﴿ :فِإَّن َها َال َت ْع َمى
ور﴾(.)2 وب َّالِتي ِفي ُّ
الصُد ِ ِ
ْاألَْب َص ُار َوَلكن َت ْع َمى اْلُقُل ُ
َعمى َفهو ِفي ِ ﴿ومن ك ِ ِ ِ
َض ُّل َس ِبيالً﴾(.)3 اآلخَرِة أ ْ
َع َمى َوأ َ ان في َهذه أ ْ َ ُ َ ََ َ َ
وبما أن هللا سبحانه وتعالى حريص على سعادتنا ،فإنه يسوق لمن كفر به من
العذاب األدنى دون العذاب األكبر ،لعلهم يرجعون َّ
عما هم فيه من الشقاء ،إلى ما فيه
سعادتهم في الدنيا واآلخرة ،وتخليصهم من حب الدنيا التي هي مصدر كل شقاء وكل
ألم.
اب ْاأل َْكَبِر َل َعَّل ُه ْم َيْرِج ُعو َن﴾(:)4 قال تعالىَ﴿ :وَلُنِذ َيقَّن ُهم ِم َن اْل َع َذ ِ
اب ْاألَْدَنى ُدو َن اْل َع َذ ِ
ْ
لعل) هنا تبين بوضوح أن الختيار مطلق لإلنسان.
و( ه
يحل بساحة البشرية إذا خالفت السنن أو القوانين التي
لذلك فإن الهالك سوف ُّ
أوجدها تعالى لهم ،وتجاوزت إلى نقطة الالعودة إلى هللا عز وجل .لقد ضرب
تعالى من األمثلة العملية فيما حل باألمم السابقة ،عندما تجاوزت تلك السنن
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 20ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الموضوعة لسعادتهم ،ولم يقبلوا بتحطيم الحواجز التي حالت بينهم وبين السبيل
إلى هللا تعالى ،كقوم نوح وقوم عاد وثمود وفرعون...
أما اليوم ،فمهما بذلت البشرية من جهد لكي تتخلص من اآللم والشقاء الذي
الظل لصاحبه ،من هذاِّ حل بها ،أو من هذا القلق الحاد المالزم لها مالزمة
َّ
ّ
الضياع والضالل البعيد ،ومن تلك المتاهات الفكرية المتعاكسة والمتشابكة ،التي
منها يظنون أنهم سوف يتوصلون إلى السعادة المنتظرة .فإنهم لن يفلحوا أبداً
بذلك ،ولن يفلحوا إل بشرط واحد ،هو العودة إلى إقامة شريعة هللا في أرضه قولً
وعمالً ،وأخذها بقوة ،فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا! فلينظروا زلزل وبراكين وأعاصير
مدمرة ،وأمراضاً فتاكة ،كما وقع ويقع اليوم ،وبعدها ينظرون نا اًر تصهر الحديد
الصلد ،وما ذلك عن الظالمين ببعيدَ ﴿ :وَك َذِل َك أ ْ
َخ ُذ َرهِب َك ِإ َذا الصلب ،وتُ ِّفتّت الحجر َّ
يد﴾( :)1هذا قانون ،كل من سار بهذا يم َشِد ٌظالِم ٌة ِإ َّن أ ْ ِ
َخ َذ ُه أَل ٌ
ى ِ
َخ َذ اْلُقَر َوه َي َ َ
أَ
السير ،حق عليه الهالك.
لقد ضرب لنا تعالى في كتابه العزيز الكثير من القصص عن هالك األمم،
التي َّ
تخلت عن السنن اإللٓهية ،واتَّبعت شرائع من وضع أهوائها ،وبين لنا األسباب
التي حالت بينهم وبين الرجوع إلى دين الحق ،ثم النتائج المؤسفة التي انتهوا إليها.
وكان تعالى قبل هالكهم يرسل إليهم نذي اًر ،يحذرهم من مغبة معتقداتهم
وأعمالهم المخالفة لسنن الوجود ،ويبين لهم أن تلك المعتقدات ل تزيدهم إل شقاء،
ول تزيدهم إل بؤساً وابتعاداً عن منبع السعادة الحقيقية ،إل أن دعوتهم غالباً ما
كانت لتلقى إل آذاناً صماء وقلوباً غلفاً ،ذلك ألن المادة قد أوصدت أبوابها على
عقولهم ،وأغرقتهم إلى األذقان فهم مقمحون .ل يفلحون بل لجهلهم وعدم إيمانهم
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 21ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
السهِيَئ ِة َقْب َل اْل َح َسَن ِة َوَقْد َخَل ْت ِمن َقْبلِ ِه ُم اْل َمُثالَ ُت :)1(﴾...ما حدث
يستعجلونِ ..﴿ :ب َّ
حل بهم؟! لألمم الغابرة ،ماذا َّ
نبين معنى الساعة التي يأتي فيها السيد المسيح ،ونميزها
واآلن وقبل أن ّ
عن الساعة التي بها تقوم القيامة ،نريد أن نستعرض معتقدات وأعمال تلك األمم
نتقصى األسباب التيالتي أُهلكت ،والحوار الذي دار بين تلك األقوام ورسلهم ،ثم ّ
منعتهم من أن يستجيبوا لداعي هللا .وأخي اًر ذكر النهاية المؤسفة التي انتهوا إليها.
فإذا وفقنا إلى ذلك ،وهذا ما نأمله من هللا سبحانه وتعالى ،فإن موضوع الساعة
سوف يتكشف لنا معناه ،وسوف يزول كل التباس نتيجة المقارنة بين مفهوم الساعة
التي يأتي فيها السيد المسيح ،ليمسح آلم البشرية وينقذها ،وبين الساعة التي بها
تقوم القيامة.
إن أول األمم التي ذكرها تعالى في كتابه الكريم والتي أهلكت بسبب انحرافها
عن الطريق المستقيم ،هم قوم سيدنا نوح .
تلك األمم التي ساقها هللا ُمثالً كافية من حيث الموعظة والعبرة ،لمن كان له
قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ،ألن ما قيل للرسل الذين لم يذكرهم تعالى ،هو
نفس ما قيل لغيرهم من الرسل ( ،)2الذين ذكروا في القرآن الكريم ،أو ألي رجل
يل لِ ُّلر ُس ِل ِمن َقْبلِ َك ِ َِّ
ال َل َك إال َما َق ْد ق َ
صالح يهدي إلى الحق .قال تعالىَ ﴿ :ما ُيَق ُ
ِإ َّن َرَّب َك َل ُذو َم ْغ ِفَرة َوُذو ِعَقاب أَلِيم﴾(.)3
ين ِمن َقبلِ ِهم ِمن َّرسول ِإَّال َقاُلوا س ِ ِ ِ
احٌر أ َْو َ ه ُ ْ جل شأنهَ ﴿ :ك َذل َك َما أ ََتى َّالذ َ وقال َّ
طا ُغو َن﴾(.)4 اص ْوا ِب ِه َب ْل ُه ْم َق ْوٌم َ
َم ْجُنو ٌن ،أ ََت َو َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 22ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وهاك ما قاله أبو الفتح أحمد الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) حول هذه
الفكرة:
.....ومن جادل نوحاً ،وهوداً ،وصالحاً ،وابراهيم ،ولوطاً ،وشعيباً ،وموسى،
وعيسى ،ومحمد صلوات هللا عليهم أجمعين .كلهم نسجوا على منوال اللعين األول
((إبليس)) في إظهار سفاهته ،وحاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم ،أو
جحد أصحاب الشرائع والتكاليف بأسرهم) .إذ ل فرق بين قولهم ..﴿ :أََب َشٌر
َس ُجُد لِ َم ْن َخَل ْق َت ِطيًنا﴾( ،)2وعن هذا صار
َي ْهُدوَنَنا ، ﴾...وبين قوله..﴿ :أَأ ْ
()1
اس أَن ُي ْؤ ِمُنوْا مفصل الخالف ومحز الفتراق ما هو في قوله تعالىَ ﴿ :وما مَن َع َّ
الن َ َ َ
ِ ِإ ْذ َج ُ
اءه ُم اْل ُهَدى إالَّ أَن َقاُلوْا أََب َع َث ه ُ
()3
ّللا َب َشًار َّرُسوالً﴾
ال َمافبيَّن أن المانع من اإليمان هو هذا المعنى ،كما قال المتقدم األولَ ﴿ :ق َ
ال أََن ْا َخْيٌر ِهمْن ُه َخَل ْق َتِني ِمن َّنار َو َخَل ْق َت ُه ِمن ِطين﴾(.)4
َمْرُت َك َق َ
ِ َّ
َمَن َع َك أَال َت ْس ُج َد إ ْذ أ َ
وقال المتأخر من ذريته على لسان فرعون كما قال المتقدم﴿ ،أ َْم أََنا َخْيٌر ِهم ْن َه َذا
ِ
َّالذي ُه َو َم ِه ٌ
ين َوَال َي َك ُاد ُي ِب ُ
()5
ين﴾
وكذلك لو تعقبنا أقوال المتقدمين منهم وجدناها مطابقة ألقوال المتأخرين:
ين ِمن َقْبلِ ِهم ِ ِ ِ ِ ِ
ال َّالذ َ
آي ٌة َك َذل َك َق َ ين الَ َي ْعَل ُمو َن َل ْوالَ ُي َكهل ُمَنا ه ُ
ّللا أ َْو َتأْتيَنا َ ال َّالذ َ ﴿ َوَق َ
وب ُه ْم ،)6(﴾...إن اآلية التي مرت معنا قبل قليلَ ﴿ :ك َذلِ َك َما ِ
هم ْث َل َق ْولِ ِه ْم َت َش َاب َه ْت ُقُل ُ
ين ِمن َقبلِ ِهم ِمن َّرسول ِإَّال َقاُلوا س ِ ِ
احٌر أ َْو َم ْجُنو ٌن﴾( :)7تعتبر من السنن َ ه ُ ْ أ ََتى َّالذ َ
التي ل تتبدل ول تتحول على مر الزمن ،و َّأنى مرت كلمة (كذلك) في القرآن
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 23ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الكريم ،وكما هي في اآلية اآلنفة الذكر ،فإن القول الذي يأتي بعدها يكون في
أغلب األحيان قانوناً أو سنة من تلك السنن التي عناها تعالى بقوله﴿ :سَّن َة َّ ِ
ّللا ُ
ِفي َّال ِذين َخَلوا ِمن َقبل وَلن َت ِجد لِسَّن ِة َّ ِ
ّللا َتْب ِد ً
يال﴾(.)1 َ ُ ُْ َ َ ْ
تلك سنن وقوانين ل تتبدل ول تتحول ،فما قام به األولون الذين لم يؤمنوا من
قول أو فعل ،ل يختلف من حيث الجوهر عما قاله المتأخرون ،لذلك فإن هللا َّ
جل
وعال اقتصر في ضرب األمثلة على بعض األمم التي تعتبر أقوالها التي تنم عن
معتقدها وأفعالها ،نماذج عملية لهالك كل أمة تسلك مسلكهم ،وتعترض على
رسولها اعتراضاتهم.
واآلن وبعد هذا الذي ذكرنا ،نريد أن نتناول بشيء من التفصيل أهم األمم التي
طبقت عليها تلك السنن ،فمن تلك األمم:
(قوم سيدنا نوح)
(قوم سيدنا هود)
(قوم سيدنا صالح)
(قوم سيدنا لوط)
(قوم سيدنا شعيب)
عليهم السالم
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 24ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قوم سيدنا نوح
وحا ِإَلى َق ْو ِم ِه لقد أرسل هللا سيدنا نوحاً إلى قومه فقالَ ﴿ :وَلَق ْد أَْر َسْلَنا ُن ً
ّللا ِإِهن َي أ َ ِ
ال ِ
اب َي ْوم أَليمَ ،فَق َ اف َعَلْي ُك ْم َع َذ ََخ ُ ِ ِإِهني َل ُك ْم َنذ ٌير ُّم ِب ٌ
ين ،أَن الَّ َت ْعُبُدوْا إالَّ ه َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ين ُه ْم اك َّاتَب َع َك ِإالَّ َّالذ َ
اك ِإالَّ َب َشًار هم ْثَلَنا َو َما َنَر َ
ين َك َفُروْا من ق ْو ِمه َما َنَر َ اْل َمألُ َّالذ َ
ِ الر ِي َو َما َنَرى َل ُك ْم َعَلْيَنا ِمن َف ْضل َب ْل َن ُ أََرِاذُلَنا َب ِاد َي َّ ْأ
ين﴾( )1إن دعوة ظُّن ُك ْم َكاذ ِب َ
سيدنا نوح أو أي رسول من رسل هللا الكرام ،هي توجيه الناس نحو عبادة هللا،
خالقنا الذي ل إلٓه إل هو ،وتلك كلمة باقية إلى يوم القيامة ،وتلك خير ما جاءت به
الرسل صلوات هللا عليهم أجمعين ،وتلك هي الغاية التي خلقنا من أجلها .أما الغاية
من عبادتنا له ،فهي ليس كما يدعي البعض بأن هللا يتباهى أمام مالئكته ،فسبحانه
وتعالى عن مثل هذا الوصف .وانما الغاية هي تزكية األنفس ،وتطهيرها مما علق
بها من الشوائب ،ذلك ألن تزكية األنفس ل تكون إل بالصلة باهلل وبالصالة،
وبعبادتنا هلل ،التي تعني الطاعة التامة ،والستسالم المطلق ألوامر هللا ،حيث
تكتسب األنفس المطيعة الثقة برضاء هللا عنها ،وبتلك الثقة تتوجه األنفس من غير
خجل ،أو من غير حجاب يحجبها عنه فتصبغ النفس بإقبالها على هللا بصبغة
ّللا ومن أَحسن ِمن ِ
ّللا ِصْب َغ ًة َوَن ْح ُن َل ُه َعاِبدو َن﴾( ،)2وبذلك ِ ِ
الكمال﴿ :صْب َغ َة ه َ َ ْ ْ َ ُ َ ه
اإلقبال والصلة باهلل والصالة ،تمحى من النفس شوائبها وذنوبها ،وتحل محلها
الفضائل ،وتلك الفضائل التي اكتسبها اإلنسان من هللا ،تصلح سريرته ،ويصلح
عمله ،واذا صلحت األنفس ،صلحت األعمال ،وبالتالي صلح المجتمع .واذا صلح
المجتمع ،فكيف ل يعيش أفراده في سعادة وهناء؟ من أجل ذلك طلب إلينا تعالى أن
نتمسك بشريعته ،لكي نعيش سعداء في الدنيا واآلخرة.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 25ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لقد َّبلغ سيدنا نوح ما أوحي إليه من ربه ،ولقى من الذين كفروا من قومه
اك َّاتَب َع َك ِإالَّ ِ
اك ِإالَّ َب َشًار هم ْثَلَنا َو َما َنَر َ
مثل ما لقى غيره من الرسل فقالواَ ..﴿ :ما َنَر َ
ِ ين ُه ْم أََرِاذُلَنا َب ِاد َي َّ ْأ
الر ِي َو َما َنَرى َل ُك ْم َعَلْيَنا ِمن َف ْضل َب ْل َن ُ ِ
ين﴾(.)1 ظُّن ُك ْم َكاذ ِب َ َّالذ َ
وهذا اإلنكار على الرسول ،هو الذي يمنع الناس من اإليمان باهلل.
اءه ُم اْل ُه َدى إِالَّ أَن َقاُلوْا أ ََب َع َث
اس أَن ُي ْؤ ِمُنوْا إِ ْذ َج ُ قال تعالىَ ﴿ :وما م َن َع َّ
الن َ َ َ
ّللا َب َشًار َّر ُسوالً﴾( .)2وهذا اإلنكار إنما يرجع إلى عدم رؤية كمال الرسول الكريم هُ
ند ِه
آت ِاني رحم ًة ِمن ِع ِ
َ َْ هْ نت َعَلى َبهِي َنة ِهمن َّرهبِ َي َو َ َر َْي ُت ْم ِإن ُك ُ
ال َيا َق ْومِ أَأ لذلكَ ﴿ :ق َ
ارُهو َن﴾(.)3 َنت ْم َل َها َك ِ ِ
َف ُع هم َي ْت َعَل ْي ُك ْم أَُن ْل ِزُم ُك ُم َ
وها َوأ ُ
كذلك اعترضت قريش على سيدنا محمد ﷺ بمثل هذا العتراضَ ﴿ :وَقاُلوا َل ْوَال
آن َعَلى َر ُجل ِهم َن اْلَقْرَي َتْي ِن َع ِظيم﴾(.)4 ُن هِز َل َه َذا اْلُقْر ُ
والسبب في هذا العتراض هو وكما ذكرنا عدم رؤية كمال الرسول محمد ﷺ،
وانما شاهدوا عظمة الرجال بالمال أو الجاه ،وبمعنى آخر إن معظم الناس تنظر
إلى ظواهر األمور دون البحث في حقيقتها.
لقد بيَّن سيدنا نوح ما لقيه من قومه من إعراض ،بالرغم من دعوته
المتواصلة ليل نهار ،إس ار اًر واعالناً ،ومع ذلك فإن دعوته ما كانت لتلقى آذاناً
صاغية من قومه ،بل جعلوا أصابعهم في آذانهم ،وأصروا على كفرهم إص ار اًر،
واستكبروا عن سماع الحق استكبا اًر ،فقد بين لهم رسولهم كيف أن هللا تعالى خلقهم
سبع سماوات طباقاً ،وجعل القمر فيهن نو اًر ،وجعل الشمس
أطوا اًر ،وكيف خلق هللا َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 26ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
سراجاً ،وكيف حثهم على التفكر فيما ذ أر هللا في األرض من كل دابة ،وما أنبت
من كل زوج بهيج.
ولكنهم وبدلً من أن يلتفتوا إلى ما دعاهم إليه ،راحوا ينظرون إليه نظرة استغراب
وتعجب ،بل نظرة استهزاء خفي وتكذيب .وما رأوه إل بش اًر مثلهم ،نظروا في صورته
فلم يروا سمو حقيقته ،أعمى قلوبهم حب الدنيا ولم يلتفتوا للموت ،فاستحبوا حياة
الفناء ،وعزفوا عن البقاء األبدي .وقالوا إن هي إل حياتنا الدنيا نموت ونفنى وما
نحن بمبعوثين ،فأنكروا البعث وأشاحوا عن اإللٓه ،بل إنهم أروا أنه ما اتبعه إل
األراذل منهم ،الذين ليس لهم قيمة اجتماعية (بنظرهم األعمى) ،ومن أنه فرد،
وحيث أنهم ل يستطيعون إنكار شأنه وسيرته العالية ومنطقه ،استكبروا وما آمنوا،
ِ
وما منعهم من الهدى ..﴿ :إالَّ أَن َقاُلوْا أََب َع َث ه ُ
ّللا َب َشًار َّر ُسوالً﴾(.)1
فإذا لم ينظر اإلنسان إلى خلق السماوات واألرض ،ويسلك طريق التفكير
الذاتي حتى يؤمن باهلل ،وحتى تطهر نفسه من الخبث بالصلة باهلل ،فلن يعرف
يظل مستو اًر عنه ،ولم يبق
الرسول ولن يؤمن به وبدعوته أبداً .ذلك ألن الكمال ُّ
أمام عينيه إل صورة الرسول أو شكله ،فال يعرف حقيقته .
ظُرو َن ِإَلْي َك َو ُه ْم الَ ُيْب ِصُرو َن﴾ :2حقيقتك.اه ْم َين ُ
قال تعالىَ ..﴿ :وَتَر ُ
ُنز َل ِإَلْي ِه َمَل ٌك
اق َل ْوَال أ ِ
َس َو ِ ِ ِ
ام َوَي ْمشي في ْاأل ْ
َّ ال َه َذا َّ ِ
الر ُسول َيأ ُْك ُل الط َع َ
﴿ َوَقاُلوا م ِ
َ
ير﴾ :يتخيل تخيالت ،نظرهم للدنيا ،وظنوا أن المال واألمالك خير ()3 ِ
َفَي ُكو َن َم َع ُه َنذ ًا
لإلنسان ودليل عظمته ورضى هللا عليه.
ولذلك ،فال عجب إذا لبث سيدنا نوح في قومه ألف سنة إل خمسين عاماً
يدعوهم إلى هللا ،ولم يؤمن معه إل قليل.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 27ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ولو بقي فيهم إلى يوم يبعثون ،ما كانوا ليؤمنوا ،إل إذا سلكوا القوانين التي رسمها
سعدوا تعالى لهداية الناس ،عندها يفتّح هللا بصائرهم بالتقوى ،فيستنيروا ويسعدوا وي ِّ
ُ َ َ
البشرية.
ّللا أَْب َت ِغي َح َك ًما َو ُه َو َّال ِذي
قال رسول هللا ﷺ على لسان هللا عز وجل﴿ :أَ َف َغير ِ
َْ ه
اب َي ْعَل ُمو َن أََّن ُه ُمَن َّز ٌل ِهمن َّرهِب َك ِ أََن َزل ِإَلي ُكم اْل ِك َتاب م َف َّص ً ِ
اه ُم اْلك َت َ
آتْيَن ُ ال َو َّالذ َ
ين َ َ ُ َ ْ ُ
ِباْلح ِق َفالَ ت ُكوَن َّن ِمن اْلممت ِرين ،وت َّمت كلِمت رِبك ِصد ًقا وعدالً الَّ مب ِد ِل لِ َكلِم ِاتهِ
َ َُه َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َه َ ْ َ َْ َ َ ه
يم﴾(.)1 ِ وهو َّ ِ
يع اْل َعل ُ
السم ُ َ َُ
تلك سنن وقوانين ،إذ ل يمكن لنفس أن تؤمن إل بسلوكها التفكير الذاتي المقرون
بنيَّة البحث عن الحقيقة واكتشاف وجود اإللٓه المسير المربي الخالق من ثنايا صنعه
تعالى ،فإن لم يؤمنوا باهلل ويعملوا صالحاً ،فلن يؤتوا الكتاب ،الذي هو صبغة هللا
التي تصبغ األنفس بالحق والكمال ،ولن يكون القرآن ،أو أي كتاب أُنزل على رسله
آيات بينات في صدورهم ،بل يظل عليهم عمى ،وتظل أعمالهم السيئة حائالً دون
فقهه ،ولن تنفعهم لغتهم كذلك ،ول قربهم الزماني من عصر الرسول ﷺ ،ألن هذا
يمس معانيه الرفيعة إل المطهرون ،2
القرآن كتاب مكنون في قلب الرسول ﷺ ،ول ُّ
الدنية ومعاصيها المهلكة.
المطهرة قلوبهم عن أدران الدنيا ّ
لقد لبث سيدنا نوح في قومه ذلك الدهر الطويل ،ولكن وبالرغم من طول
هذه الفترة التي قضاها بينهم ،لم يؤمن معه من قومه إلَّ القليل ،فأنذرهم إن ظلوا
وح
معرضين من عذاب أليم سيحل بهم ،فأجابه الذين كفروا من قومهَ ﴿ :قاُلوْا َيا ُن ُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 28ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
نت ِمن َّ ِ ِ ِ ِ
ين﴾( :)1إن كنت
الصادق َ َق ْد َج َادْل َتَنا َفأَ ْك َثْر َت ِج َداَلَنا َفأ َْتنا ِب َما َتعُدَنا ِإن ُك َ َ
صادقاً فلينزل البالء علينا ،ل نريد ترك ما نحن فيه.
لقد تألم عليهم ،وتألموا منه ،وناح عليهم وسخروا منه ،وأنذرهم بالهالك
ِ
فاسته أزوا به ،وبين لهم سخف معتقدهم فمكروا به .عندئذ دعا ربه..﴿ :أَهني َم ْغُل ٌ
وب
رب أيدني بحجج أُخرى مقنعة عّلهم يغيروا ما بأنفسهم فيهتدي ِّ ()2 َف َ ِ
انتصْر﴾ ،أيّ :
فبين له تعالى أنه ل فائدة تُرجى منهم ،وأن كؤوس نفوسهم قد أترعت بها قوميّ ،
بالفساد ،ولن يطلبوا الهدى ولن يؤمنوا ،فال فائدة ترجى منهم ،وكانوا قوماً بو اًر،
وأوحى إليه أن يصنع الفلك بوحي منه ،ألن القوم قد استحقوا الهالك ،ولم يبق أي
أمل يرتجى من إيمانهم ،وقد أصبحوا ول خير فيهم.
ار َفَلم ي ِجدوا َلهم ِمن دو ِن َّ ِ ِ ِ
ار﴾(.)3
َنص ًا
ّللا أ َ ﴿ ِم َّما َخط َيئات ِه ْم أُ ْغ ِرُقوا َفأ ُْد ِخُلوا َن ًا ْ َ ُ ُ ه ُ
وقبل أن نختم الكالم عن قوم سيدنا نوح نريد أن نلفت النظر إلى ناحية
هامة ،وهي أنهم قالوا أن سيدنا نوحاً دعا على قومه بالهالك ( ،)4بسبب
سخريتهم منه وأنها خطيئة ،والحقيقة هي أن سيدنا نوحاً ،لم يدع على قومه
ِ بقوله﴿ :وَقال ُنوح َّر ِب َال َت َذر عَلى ْاألَر ِ ِ
ار﴾( ،)5إل من بعد أن ض م َن اْل َكاف ِر َ
ين َدَّي ًا ْ ْ َ َ َ ٌ ه
أوحى إليه ربه بأنه لن يؤمن معه إل من قد آمن .فمن حنانه لما أخبره تعالى
أنهم ل يمكن أن يؤمنوا ،طلب لهم الهالك ،كرجل له قريب عزيز مريض يتألم ل
يمكن شفاؤه يتطلب له الموت كي يخلص من آلمه ،وكذلك سيدنا نوح طلب
ليقل شقاؤهم ،حيث أنهم لن يزدادوا إل
لهم الهالك بعد وحي هللا له أنهم لن يؤمنوا َّ
ضاللً وكف اًر وعناداً ،فالموت إيقاف لشرورهم التي تكويهم بنارها في اآلخرة.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 29ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ُوحي ِإَلى ُنوح :﴾...لما طلبوا الهالك..﴿ :أََّن ُه َلن ُي ْؤ ِم َن ِمن قال تعالى﴿ :وأ ِ
َ َ
آم َن :﴾...ل جدوى لهمَ ..﴿ :فالَ َتْب َت ِئ ْس ِب َما َكاُنوْا َي ْف َعُلو َن﴾ :ل ِ ِ َّ
َق ْوم َك إال َمن َق ْد َ
َعُيِنَنا ﴾...نراك ونلهمك. اصَن ِع اْلُفْل َك ِبأ ْ
تحزن ول تتألم من عدم اهتدائهمَ ﴿ :و ْ
ِ ِِ ِ
ظَل ُموْا :﴾...ل تتوسط في ين َ ﴿َ ...و َو ْحِيَنا ﴾...دللتناَ ..﴿ :والَ ُت َخاطْبني في َّالذ َ
سنة إلَّ خمسين عاماً ،لما دفع البالء عنهم ول تترجى فيهم .بعد أن دعاهم ألف ٍ
حق عليهم الهالك ،لكن سيدنا نوحاً رغم امتنعوا عن اإليمان والطاعةّ ،
معارضاتهم له ،كان يتمنى هدايتهمِ..﴿ :إَّن ُهم ُّم ْغَرُقو َن﴾( :)1ل َّبد منها.
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 30ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قوم عاد
ّللا َما َل ُكم ِهم ْن ِإَله
اعُبُدوْا ه َ َ ..﴿ :يا َق ْومِ ْ
لقد أرسل هللا إلى عاد أخاهم هوداً
ِي ِإالَّ َعَلى َّال ِذي ِ
َجرََجًار ِإ ْن أ ْ َنت ْم ِإالَّ ُم ْف َتُرو َنَ ،يا َق ْومِ ال أ ْ
َسأَُل ُك ْم َعَلْيه أ ْ َغْيُرُه ِإ ْن أ ُ
طَرِني أَ َفالَ َت ْع ِقُلو َن﴾(.)1 َف َ
ّللا :﴾...أطيعوا أوا مره واسمعوا كالمه ،ل كالم اعُبُدوْا ه َ
قال لهم ْ ..﴿ :
ومسير سواه ،من الذي ينزل ِّّ عبد مثلكمَ ..﴿ :ما َل ُكم ِهم ْن ِإَله َغْيُرُه :﴾...ما من رزاق
األمطار ،من يسوق الشمس والقمر؟ الليل ،النهار ،الفصول ،من يدير الكرة
َنت ْم ِإالَّ ُم ْف َتُرو َن﴾ :على هللا بادعائكم بهذه اآللهة ،بعبادتكم األرضية؟﴿ِ...إ ْن أ ُ
ِي ِإالَّ َعَلى َّال ِذي َف َ
طَرِني:﴾... ِ
َجًار ِإ ْن أ ْ
َجرَ َسأَُل ُك ْم َعَلْيه أ ْ
األصنامَ﴿،يا َق ْومِ ال أ ْ
أظهرني..﴿ :أَ َفالَ َت ْع ِقُلو َن﴾ :أفال تفكرون ولو قليالً؟! العاقل يفكر بأي كلمة
يسمعها ،إن كانت صحيحة اتَّبعها وال َّ
ردها ،أليس األجدر باإلنسان أن يعقل بذاته؟
يتوصل للوجود اإللٓهي ويلمس الحقيقة من آلئه الكونية! من يطعمه ومن يسقيه؟
ومن إذا مرض يشفيه؟
لقد قال لهم رسولهم سيدنا هود ،مثل ما قاله سيدنا نوٌح ،ومثل ما قاله
ّللا َما َل ُكم ِهم ْن
اعُبُدوْا ه َ
الرسل صلوات هللا عليهم أجمعين ،من قبل ،ومن بعدْ ..﴿ :
المسير لهذا الكون ،هو هللا ِّّ ِإَله َغْيُرُه :﴾...لقد بين لهم هذا الرسول الكريم ،أن
سبحانه وتعالى ،وأنه ما من شيء إل ويؤول إليه ،ول يتحرك متحرك إل من بعد
إذنه ،فهو وحده الحي القيوم ،ألنه هو وحده الخالق ،مصدر الحياة ،ومصدر القيام
ذرة من ذرات هذا الوجود .وهو الذي ُّ
يمد ول يستمد ،ألنه فرد صمد. لكل َّ
كذلك فإن يمسسكم هللا بضر فال كاشف له إل هو ،وان يردكم بخير فال رَّاد
لفضله ،ولكن بمقدار ما تستحقونه .يا قوم إن هذه اآللهة التي تعبدونها ،أنتم الذين
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 31ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
صورتم شكلها بأيديكم ،أفتعبدون ما تنحتون؟! تباً لكم (أي الهالك عليكم) أفال
َّ
تعقلون .أما ترون أنها ل تستطيع دفع الضر عنكم ،ول عن كيانها ،ما لكم كيف
تحكمون؟!
يا قوم لِّ َم تعرضون عن مبدع السماوات واألرض؟ وتعبدون ما ل يضركم ول
ينفعكم .إن هذا إل إفك افتريتموه أنتم وآباؤكم ،ما أنزل هللا به من سلطان ،وما كان
ين ،إِ ْن َه َذا إَِّال ِِ ِ
جوابهم إل أنَ ﴿ :قاُلوا َس َواء َعَل ْي َنا أ ََو َع ْظ َت أ َْم َل ْم َت ُكن هم َن اْل َواعظ َ
ين﴾( .)1وقال لهم يا قوم ل تغرَّنكم الحياة الدنيا، ينَ ،و َما َن ْح ُن ِب ُم َع َّذ ِب َ
ق ْاأل ََّولِ َ
ُخُل ُ
َشُّد ِمَّنا ُق َّوًة :)2(﴾...أفال
تتبجحون بها ،وقولكمَ ..﴿ :م ْن أ َ وتغرَّنكم أموالكم وقوتكم التي َّ
ترون أن الذي خلقكم هو أشد منكم قوة .واذاً فلم الستكبار بغير الحق؟ ولم الجحود
صدهم عن هللا الترف المادي ،والغنى الفاحش الذي حصلوا عليه وأنتم تشهدون؟ لقد َّ
من التجارة العالمية ،فمنطقتهم الممتدة من غرب الفرات إلى سواحل المتوسط ،كانت
ات اْل ِع َم ِادَّ ،الِتي
مرك ًاز لتالقي التجارة العالمية ،وبهذا الغنى أشادوا عاصمتهمِ﴿ :إرم َذ ِ
ََ
ِ ِ ()3
َل ْم ُي ْخَل ْق ِمْثُل َها ِفي اْلبَالد﴾
وقد وصف لنا تعالى أعمالهم العمرانية التي تنم عن غناهم الفاحش ،فقال تعالى في
سورة الشعراء﴿ :أََتْبُنو َن ِبُك ِهل ِريع َآيةً :﴾...بكل ريع :روعة واتقان ،وتبنون قصو اًر،
مقاهي (بناء المقاهي والمالهي في األماكن المختارة( ،)4مقاصف ،منتزهات رائعة هي
آية في الجمال ،وتتخذونها للهو والترفَ ..﴿ :ت ْعَبُثو َن :)5(﴾...تضيعون فيه الوقت ،أهذا
للجنة؟! ﴿ َوَتَّت ِخ ُذو َن َم َص ِان َع :﴾...مصانع :المعامل المخازن ،وما فيها من
يؤهلكم ّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 32ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
حرير وألعاب ،أماكن التخزين والبيع تزينونهاَ ..﴿ :ل َعَّل ُك ْم َت ْخُلُدو َن﴾( :)1ظانين أنكم
ستخلدون ،ناسين الموت( ،كل ذلك زينة في الحياة تؤذي المتوسطين والفقراء من الناس،
وتجعلهم يميلون إلى الدنيا ،والى الخسة والبخل والشح ،ونكران فعل الخير والمعروف):
ين﴾( :)2بعضكم مع بعض ،واذا التحمتم في أمر كدتم أن ﴿ َواِ َذا َب َط ْشُتم َب َط ْشُت ْم َجَّب ِار َ
يذهب بعضكم بنفس اآلخرين منكم بوحشية ،لفقدان الرحمة من قلوبكمَ ﴿ :ف َّاتُقوا َّ َ
ّللا
تجره عليكم هذه األبنية ،وهذه القصور ،وهذا الترف ،من يعو ِن﴾( :)3انظروا لما ُّ ِ
َوأَط ُ
َّ ِ
َّكم :﴾...أقبلوا فساد لقلوب الناس ،ونكد لعيشهم ،وتنافس بالدنياَ ﴿ :و َّاتُقوا الذي أ َ
َمدُ
َّكم ِبأَْن َعام:﴾... َمدُ ن ِ
عليه ،وفكروا بما أنعم عليكم ..﴿ :ب َما َت ْعَل ُمو َ ﴾ :من الخيرات﴿ :أ َ
ين﴾ :وأولدَ﴿ :و َجَّنات :﴾...بساتينَ ..﴿ :و ُع ُي ون ﴾( :)4نعم وعطاء ِ
غنمَ..﴿ :وَبن َ
عظيم.
إذن حينما يبعث هللا رسولً فإنه يخلقه في منطقة متوسطة من العالم ،ل في منطقة
تكاد تكون منعزلة عن العالم ،إل من بعض التجار القادمين من الهند أو من الشرق
ِ ِ ِ
ان َرُّب َك ُم ْهل َك اْلُقَرى َحَّتى َيْب َع َث في أ ه
ُم َها َر ُسوًال.)5(﴾... األقصى .قال تعالىَ ﴿ :و َما َك َ
أما قوم ثمود فتكاد آراء المؤرخين تجمع بأن موطنهم يقع في منطقة وادي
القرى في طريق الحج الشامي إلى مكة المكرمة.
وقد جاء ذكر ثمود في جملة البالد التي غلبها الملك اآلشوري (سرجون)
عام/715/ق م ،في بالد الحجاز .ويؤخذ من سياق الوصف أنها كانت بجوار مكة
مما يلي الشمال ،كذلك ورد ذكرها في كتب اليونان ،وقد عينوا موقعها في منطقة
الحجر ،وهم يسمونها ثمود يني ( ،)Thamudeniوالحجر يسمونها ( ،)Agraواذا
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 33ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
كانت ثمود تسكن هذه المنطقة فال بد أن تكون عاد تسكن في منطقة سورية
الحالية.
لقد استفاد قوم عاد ،ومن بعدهم قوم ثمود ،من الموقع الجغرافي الممتاز الذي
يقطنونه ،ألنهم كانوا يقطنون في منطقة تالقي التجارة العالمية القادمة من الشرق،
والذاهبة إلى الغرب ،وهذه المنطقة كانت يوم ذاك ولزمن ليس بالبعيد ،ملتقى لثالث
طرق عالمية.
األول :الطريق التجاري القادم من اليمن فالحجاز ،ومن ثم إلى بالد الشام
وافريقيا عبر سيناء.
الثاني :طريق الخليج العربي ،ومنه عبر الصحراء إلى بالد الشام وافريقيا.
الثالث :طريق بالد فارس فبالد الرافدين ،فسوريا ،فغرب البحر المتوسط،
وبحكم هذا الموقع الستراتيجي استفادت تلك األقوام من التجارة ،وذلك بما كانوا
يقدمونه من وسائط لنقل البضائع ،ومن خدمات أمنية لحفظها من اللصوص ،إلى
جانب الخدمات األخرى من مأكل ومشرب ،وعلف للدواب ،وخانات لستراحة
التجار ،ومخازن لحفظ البضائع ،ول يستبعد أن أصبحوا فيما بعد من التجار
العالميين.
ومن تلك اآليات نستنتج أيضاً أن قوم عاد ،ومن بعدهم قوم ثمود ،كانت لهم
حضارة متقدمة ،ليس من الناحية العمرانية فحسب ،بل ومن الناحية الثقافية أيضاً،
ود َوَقد َّتَبَّي َن َل ُكم ِهمن
فقد وصفهم تعالى بأنهم كانوا قوماً مستبصرينَ ﴿ :و َع ًادا َوَث ُم َ
يل َوَكاُنوا الس ِب ِ َّ َع َماَل ُه ْم َف َصَّد ُه ْم َع ِن
ان أ ْ
طُ َّ
الشْي َ اكِن ِه ْم َو َزَّي َن َل ُه ُم
َّمس ِ
َ
ِ
ُم ْس َتْبص ِر َ
()1
ين﴾ :تفننوا بالعلم الدنيوي.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 34ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وليس بمستغرب من أن تكون تلك األقوام متنورة بأنواع الثقافات العلمية
المشيدة ل بد لها من مهندسين َّ
أكفاء ،وهذا ّ واألدبية ،ألن البناء الرائع ،والمصانع
ل يكون إل بعلم راق في الرياضيات ،وبالتالي في جميع أنواع الثقافة ،ساعدهم في
ذلك موقعهم الجغرافي الممتاز ،وقد قيل (حيثما تتالقى التجارة تتالقح العقول).
لقد بين لهم رسولهم أن اعبدوا هللا وأطيعوه ،يرسل السماء عليكم مد ار اًر ،ويزدكم
قوة إلى قوتكم .وقول سيدنا هود هو قول عالم بالسنن اإللٓهية ،ألن هللا عندما
يرسل رسولً إلى قوم من األقوام ،ول يستمعون له ،يأخذهم بالبأساء والضراء،
ويذيقهم من العذاب األدنى دون العذاب األكبر ،لعلهم يتضرعونَ ﴿ .وَلَق ْد أَْر َسلَنآ
ُمم ِهمن َقْبلِ َك﴾ :رسالً ،كما أرسلناك ،فعارضوا رسلهم .فأرسل هللا لهم الشدائد ِ
إَلى أ َ
الضَّراء :﴾...لماذا هذه ْساء َو َّ ِ
اه ْم باْلَبأ َ
َخ ْذَن ُ
والفقر والمرضَ ..﴿ :فأ َ
الشدائد؟﴿َ...ل َعَّل ُه ْم َي َت َضَّر ُعو َن﴾( :)1حتى يتضرعوا وتطهر نفوسهم( .هذه
الشدائد حتى تتضرع وتشفى نفسك .إذن البالء ل بد له من سبب في نفسك .تُ ْب
إلى هللا ،التجئ .إن التجأت وأقبلت ،تطهر نفسك من "المكروب" الذي سبَّب هذا
الفقر والمرض والشدائد ،عندها يعطيك هللا الخير ،ويرفع عنك البالء)َ ﴿ .و َما
لما جاء الرسل ْساء َو َّ
الضَّراء﴾َّ : َهَل َها باْلَبأ َ أَْر َسْلَنا ِفي َقْرَية ِهمن َّن ِب هي ِإالَّ أ َ
َخ ْذَنا أ ْ ِ
شدد هللا على الناس ،هكذا تقتضي الرحمة والحنان .وما أرسل هللا وكذبهم الناسَّ ، َّ
تعالى في بلدة من بلدان العالم دللة ليؤمنوا بال إلٓه إلَّ هللا ،ولم يؤمنوا ،إل أخذ
أهلها بالبأساء .فاهلل تعالى ل يهلك أم ًة ،حتى يرسل لها الرسل ،إن لم يرجعوا،
أخذهم بالشدائد" .بالبأساء" :عذاب النفس" .الضراء" :عذاب الجسمَ..﴿ :ل َعَّل ُه ْم
َي َّضَّر ُعو َن﴾( :)2يدل هذا التعذيب والتشديد على أن هنالك قابلية للرجوع ،كل ذلك
لكي َّ
يضرعوا ،فتشفى نفوسهم مما كمن فيها .فانظر إلى كالم هللا تعالى وانظر إلى
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 35ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قول كثير من المفسرين ،أن هللا خلق أناساً للجنة ،وآخرين للنار ،فإن هذا القول
يناقض العدل اإللٓهي.
يضيق عليهمَّ ،
علهم فاهلل تعالى يقول :عندما يعاند الناس رسولهم ،فإنه تعالى ِّّ
بتضرعهم إلى هللا ،يزول الخبث من أنفسهم ،وتطهر أنفسهم .دعوة هللا
ُّ يضرعون. َّ
أصروا فما رجعوا ،بل ثابروا على
ُّ تعالى عامة لسائر الخلقُ ﴿ :ث َّم :﴾...عندما
فلما استحكم الجرثوم في أنفسهم.السهِيَئ ِة اْل َح َسَن َةَّ :﴾.. ضاللهمَ..﴿ :بَّدْلَنا َم َك َ
ان َّ
ثمة رجاء بالشفاء :أعطاهم كافة رغائبهم .أعطيناهم الدنيا لعلهم يشكرون. ولم يعد َّ
قل من يشكر ،لذا يبدؤهم
وكان باإلمكان البدء لهؤلء باإلنعام بالدنيا ،لكن َّ
بالشدائد :إن لم يرجعوا هلكواَ ..﴿ :ح َّتى َع َفوْا :﴾..لم يتذكر هؤلء نعم هللا،
وأصبحوا أغنياء وكثرت أموالهم ،فما رجعوا وما عادوا دعوا هللا ،نسوا كل شيء:
السَّراء :﴾..أصابت آباءنا ظروف َّ
شدة آباءَنا َّ
الضَّراء َو َّ س َ﴿َّ ..وَقاُلوْا َق ْد َم َّ
وظروف سعة :ما نسبوا األشياء لعملهم وفعلهم ،بل قالوا هذه عادة الزمان..﴿ :
اهم َب ْغ َت ًة َو ُه ْم الَ َي ْش ُعُرو َن﴾( :)1من دون أن يشعروا وعلى حين غفلة ،أتاهم
َخ ْذَن ُ
َفأ َ
ولم الشدائد؟! ن
فلم الرسل َ
البالء بغت ًة .فلو كانت مقطوعة فيها أزلياً كما يقولو َ ،
قولهم خطأ كله :هناك طريق للرجوع ،وامكان للتوبة واإلنابة .أرسل هللا الرسل،
َّ
لتتذكر ،فإن استدللت أهل اإلرشاد ،أعطاك الفكر ،جعل الكون كله أمامك
ِّ
يشدد عليك.
بتفكيرك ،أعطاك كل خير ولم ّ
وفعالً إن هللا أخذهم بالعذاب األدنى ،فقد حبس عنهم األمطار ،وتضررت
وضرب اقتصادهم وبنيتهم التحتية ،وقد بين لهم سيدنا هود بساتينهم ومواشيهمُ ،
اس َت ْغ ِفُروْا َرَّب ُك ْم :﴾...آمنوا بالمرِّّبي ،كل شيء إن ّ
فكرت به األسباب فقالَ ﴿ :وَيا َق ْو ِم ْ
لما كنت نطفة؟! استدللت ،من رّباك في بطن أمك ّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 36ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
كل شيء يدل على المرّبي .إن لم تستغفر فتطلب الشفاء من هذه الشهوات فإنها
تظل متعّلقة بقلبك .الزنا ،السرقة ،القتل ،كلها جرائم تقع في النفس ،إن استغفرت
بمعيتهفشفيت نفسك ،عندها تصاحب رسول هللا ﷺّ ، ْ وتبت وعملت صالحاً ،أقبلت،
نجاك من المعاصي ،لما تراه فيهاُ ..﴿ :ث َّم تشاهد الخير من الشر ،وتحمد هللا أن ّ
ار :﴾..و كانوا في شدة ُتوُبوْا ِإَلْي ِه :﴾..مما أنتم عليهُ ..﴿ :يْرِس ِل َّ
الس َماء َعَلْي ُكم ِهمْدَرًا
ين﴾( :)1حارمين وضيقَ ..﴿ :وَي ِزْد ُك ْم ُق َّوًة ِإَلى ُق َّوِت ُك ْم َو َال َت َت َوَّل ْوْا :﴾..وأنتمُ ..﴿ :م ْج ِرِم َ
أنفسكم من الخيرات ،وأنتم ما فيكم خير أبداً .جئت للدنيا لتكون من أهل الكمال
والمعروف .خلقت لإلحسان.
لذلك تجد كل قوم يتطيَّرون برسولهم إن لم يستجيبوا له ،بسبب ما يذيقهم هللا من
أنواع العذاب .لقد أخذ هللا قوم عاد بالعذاب األدنى دون العذاب األكبر ،فما استكانوا
وما رجعوا ،بل قالوا إن قولك هذا ل يكفي أن يكون حجة علينا ،لكي نهجر آلهتنا،
ونعبد إلٓهاً واحداً ،وان قولك هذا إن هو إل تخيالت ،ل يتوافق وواقعنا ،إذ كيف ل
َّ
نعتز بدنيانا وبمصانعنا وقصورنا التي هي عنوان التقدم والرقي ،وهي التي تميزنا
عن غيرنا من الشعوب المتأخرة ،ونلتفت للعبادة وسبل اإليمان بالغيب .وان هذا
الذي تراه فسادًا ،فإننا نراه صالحاً وتقدماً( ،)2وما نظنك إل اعتراك بعض آلهتنا
بسوء ،بسبب إنكارك عبادتهم ،فسترت نفسك عن الحق ،وجعلتك تقول ما تقول،
وننصحك أن ترجع عن هذا التخريف ،وتعبد ما كان يعبد آباؤك .فأجابهمِ ..﴿ :إِهني
اش َهُدوْا أَِهني َبرِي ٌء ِهم َّما ُت ْش ِرُكو َنِ ،من ُدوِن ِه :﴾...فأفحمهم بل ُش ِهد ِ
ّللا َو ْ
أْ ُ ه
نظرو ِنِ ،إِهني َتوَّكْلت عَلى ِ
ِ ِ
ّللا َرهبِي
ه َ ُ َ يعا ُث َّم الَ ُت ُ وتحداهم أجمعينَ ..﴿ :ف ِك ُ
يدوِني َجم ً
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 37ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِ ِ ِ ِ ِ َوَرهِب ُكم َّما ِمن َد َّ
آبة ِإالَّ ُه َو آخ ٌذ ِبَناصَيت َها ِإ َّن َرهِبي َعَلى صَراط ُّم ْس َتقيم﴾ ِّّ :
()1
دبروا ما
فشل هللا
شئتم ،شجاع ،ألنه أمين من نفسه كونه سائ اًر على الحق متوكالً على هللاَّ ،
قواهم وسرى الجبن والرعب إلى أعماق قلوبهم ،وخفضوا رؤوسهم صاغرين أمام
عظمته المهيبة ،إذ كساه تعالى ثوب المهابة الربانية ألنه رسوله .ولما أنذرهم من
ين﴾ :هذا سيرنا ومعتقدنا ول ِِ ِ
مغبة أعمالهم قالوا..﴿ :أ ََو َع ْظ َت أ َْم َل ْم َت ُكن هم َن اْل َواعظ َ
ين﴾ :هذا ما سار عليه أجدادنا ،فما بالك تريد أن نباليِ﴿ :إ ْن َه َذا ِإَّال ُخُل ُ
ق ْاأل ََّولِ َ
ين﴾( :)2قولك هذا كله ل تغير ما نحن عليه وما ورثناه من قبلَ ﴿ .و َما َن ْح ُن ِب ُم َع َّذِب َ ِّّ
أصل له .لقد أنكر قوم عاد على رسولهم قوله ،وأصروا على محبة دنياهم الدنية،
وطلبوا من سيدنا هود أن يأتيهم بما يعدهم إن كان من الصادقين.
الن ُذُر ِمن َبْي ِن اف َوَق ْد َخَل ْت ُّ َخا عاد ِإ ْذ أَن َذر َقومه ِب ْاألَحَق ِ
ْ َ َُْ قال تعالىَ ﴿ :وا ْذ ُكْر أ َ َ
َجْئ َتَنا اب َي ْوم َع ِظيمَ ،قاُلوا أ ِ اف َعَلْي ُك ْم َع َذ َ ّللا ِإِهني أ َ
َخ ُ َِّ ِ ِ َّ ِ ِ
َي َدْيه َوم ْن َخْلفه أَال َت ْعُبُدوا إال َّ َ
الص ِاد ِقينَ ،قال ِإَّنما اْل ِعْلم ِعند َّ ِ نت ِم َن َّ ِ ِ
ّللا ُ َ َ َ َ لِ َتأ ِْف َكَنا َع ْن آلِ َهتَنا َفأْتَنا ِب َما َت ِعُدَنا ِإن ُك َ
اك ْم َق ْو ًما َت ْج َهُلو َنَ ،فَل َّما َأر َْوُه َع ِار ًضا ُّم ْس َت ْق ِب َل َوأَُبهلِ ُغ ُكم َّما أُْرِسْل ُت ِب ِه َوَل ِكِهني أََر ُ
يح ِفيها ع َذ ِ ِ ِ أ َْوِدَي ِت ِه ْم َقاُلوا َه َذا َع ِار ٌ
يم،اب أَل ٌ اس َت ْع َجْل ُتم ِبه ِر ٌ َ َ ٌ ض ُّم ْمطُرَنا َب ْل ُه َو َما ْ
اكُن ُه ْم َك َذلِ َك َن ْجزِي اْلَق ْوَم ُت َد ِمر ُك َّل َشيء ِبأَم ِر ربِها َفأَصبحوا َال يرى ِإَّال مس ِ
ََ َُ َُْ ْ َه َ ْ هُ
اكم ِفيهِ اهم :﴾...كانوا سادة العالمِ ...﴿.ف ِ
يما إن َّم َّكَّن ُ ْ َ اْل ُم ْج ِرِم َ
ينَ ،وَلَق ْد َم َّكَّن ُ ْ
ار َوأَ ْف ِئ َد ًة :﴾...تقدموا بالعلومَ ...﴿ .ف َما أَ ْغَنى َعْن ُه ْم َو َج َعْلَنا َل ُه ْم َس ْم ًعا َوأَْب َص ًا
اق ِب ِهم ات َّ ِ
سمعهم وَال أَبصارهم وَال أَ ْف ِئد ُتهم ِمن َشيء ِإ ْذ َكاُنوا يجحدو َن ِبآي ِ
ّللا َو َح َ َ َ ْ َُ ْ َ ُ ه َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ُ ُْ َ
َّما َكاُنوا ِب ِه َي ْس َت ْه ِزُؤون﴾ .
()3
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 38ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قوم ثمود
اه ْم َصالِ ًحا َخ ُ
ود أ َ
لقد أرسل هللا تعالى إلى ثمود أخاهم صالحاً فقالَ ﴿ :وِاَلى َث ُم َ
اس َت ْع َمَرُك ْم
ض َو َْكم ِهم َن األَْر ِ ّللا َما َل ُكم ِهم ْن ِإَله َغْيُرُه ُه َو أ َ
َنشأ ُ اعُبُدوْا ه َال َيا َق ْومِ َْق َ
ِ ِ ِ
يب ُّم ِج ٌ
يب﴾(.)1 وبوْا ِإَلْيه ِإ َّن َرهبِي َق ِر ٌ
وه ُث َّم ُت ُ
اس َت ْغفُر ُ
يها َف ْ
ف َ
إن دعوة الرسل واحدة في كل زمان ومكان ،وهي دعوة الناس إلى هللا،
وتعريفهم بكماله ،وتبيان الحكمة من أوامره ونواهيه ،ذلك ألن اإلنسان إذا عرف
ربه ،فقد عرف كل شيء ،ومن أضل نفسه عن ربه ،فلن تجد له ولياً مرشداً،
وعاش في ظلمات ،وأعشته الضاللة عن معرفة الحقيقة ،وأصبح ل يرى إل صور
األشياء ،وهكذا فإن الكافر ينظر إلى الحق بمنظار معكوس.
ولذلك عندما تخاطبهم رسلهم بالحق ،يستنكرون دعوتهم ،ويسفهون تصرفهم،
ِّ
ظنهم الخاطئ .ويعملون من الطهارة
ألنهم يخاطبونهم بمقلوب ما يفهمون على ّ
والشرف والتضحيات بعكس ما يريدون من سفالت ،فال عجب إذاً أن يرى أعمى
القلب ظالماً في رابعة النهار الصائف ،وأن يجادل في الحق بعدما تبيَّن ،وهكذا
استنكر قوم ثمود دعوة رسولهم لهم للعودة إلى هللا ،وأبدوا تعجبهم مما يدعوهم
نت ِفيَنا َمْر ُج ًّوا َقْب َل َه َذا :﴾...ناظرين فيك أنك عاقل:إليهَ ﴿ :قاُلوْا َيا َصالِ ُح َق ْد ُك َ
آب ُاؤَنا :﴾...أتأتينا بدين جديد؟! كل من سبقنا سار ﴿..أ ََتْن َهاَنا أَن َّن ْعُب َد َما َي ْعُبُد َ
على هذا الطريق! هل جئتنا أنت بشيء جديد؟! أتخالف كل من سبق؟! ﴿َ ...واَِّنَنا
َل ِفي َش هك ِهم َّما َت ْد ُعوَنا ِإَلْي ِه ُم ِريب﴾( :)2هذا شيء ظاهر خطؤه.
َصالَ ُت َك بعد أهل مدين حينماَ ﴿ :قاُلوْا َيا ُش َعْي ُب أ َ
ومثل هذا اإلنكار قد أنكره من ُ
ْمُر َك أَن َّن ْتُر َك َما َي ْعُبُد َ
آب ُاؤَنا :﴾...طول عمرنا ونحن سائرون بهذا ،واآلن أنت َتأ ُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 39ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وحدك فهمان! كل الناس سائرون بهذا وكانوا يعبدون األصنام..﴿ :أ َْو أَن َّن ْف َع َل
التصرف بها كما َم َوالَِنا َما َن َشاء :﴾...ألسنا أح ار اًر في أموالنا؟! تمانعنا في ِ
ّ في أ ْ
يد﴾( :)1وكانوا من قبل يثنون عليه الثناء الرِش ُ
يم َّ ِ نشاء! ﴿ِ...إَّن َك َأل َ
َنت اْل َحل ُ
العظيم ،فقالوا له :هل عقلك يدلّك على هذا اآلن؟! أهذا كالم المنطق؟!
ومثل ذلك قد يحصل اليوم أيضاً ،فلو أوضحت لهم مساوئ حضارتهم ،وبينت
لهم أنها غدت مصد اًر للشقاء واأللم ،وأن هذا األلم والشقاء ،ينبع من نفس المصدر
الذي يحسبه الناس سعادة ،فاستبدلوه بدين هللا الخالق الرازق ،لستنكروا عليك ذلك،
يل َل ُه ْم الَ ِ
واسته أزوا بك ،واتهموك بالتهمة نفسها ،التي اتهموا بها غيركَ ﴿ :واِ َذا ق َ
ض :﴾...إن قلت له ل تفسد الناس بعملك ،بالبناء ،بالزخرف ُت ْف ِسُدوْا ِفي األَْر ِ
والترف والمالهي ،يقول لك هذه ِّن َع ٌم من هللا ،أترجع بنا إلى القرون الماضية.
مدنيةَ ..﴿ :قاُلوْا ِإَّن َما َن ْح ُن ُم ْصِل ُحو َن﴾ :نحن في هذه قديماً ما كان عندهم ّ
المالهي نتسلى تسلية ل نعمل شيئاً﴿ :أَال ِإَّن ُه ْم ُه ُم اْل ُم ْف ِسُدو َن َوَل ِكن الَّ َي ْش ُعُرو َن﴾:
اس :﴾...إن قيل له انظر َم ْن آمُنوْا َكما آم َن َّ يظن نفسه محسناً﴿ :واِ َذا ِقيل َلهم ِ
الن ُ َ َ َ ُْ َ
ِ
الس َف َهاء :﴾...هؤلء كانوا جهالً ،ل آم َن ُّ قبلك وماذا فعلواَ ..﴿ :قاُلوْا أَُن ْؤم ُن َك َما َ
مدنية عندهم ،هل نحن خلقنا للعمل فقط؟ يجب أن نتسلى ..﴿ :أَال ِإَّن ُه ْم ُه ُم
سيحل بهم.
ُّ الس َف َهاء َوَل ِكن الَّ َي ْعَل ُمو َن﴾( :)2ما
ُّ
إن قوم ثمود كقوم عاد كانت لهم حضارة متقدمة ،وكان طابعها المميز هو
البناء ،وبذلك سماهم تعالى ..﴿ :أَصحاب ِ
الح ْج ِر.)3(﴾... ْ َ ُ
( _ )1سورة هود اآلية ()87
( _ )2سورة البقرة اآليات ()13-11
( _ )3سورة الحجر اآلية ( )80لقد مر معنا عندما تكلمنا عن قوم عاد ،بأن قوم ثمود كانوا يقطنون في وادي القرى أو منطقة الحجر ،وليست
تلك التسمية قد جاءت من وجود الحجارة في منطقة سكناهم ،وإنما جاءت من استعمالهم الحجارة بكثرة في أغراض البناء .لقد ذكر تعالى في
ْف فَعَ َل سورة الفجر الميزة الرئيسية لحضارات ثالث :حضارة عاد وثمود وقوم فرعون ،تلك الميزة هي الناحية العمرانية .قال تعالى﴿:أَلَ ْم ِ ََر َكي َ
ت ا ْل ِّع َمادِّ ،الَّتَِّ لَ ْم َ ُْخلَقْ مِّ ثْلُهَا فَِّ ا ْلبِّ َالدَِّ ،وثَ ُمو َد الَّذَِّنَ جَاُِوا الص َّْخ َر ِِّا ْل َوادَِّ ،وف ِّْرع َْونَ ِّْي ْاألَ ْوَِادِّ ،الَّذَِّنَ َطغَ ْوا فَِّ ا ْلبِّ َال ِّد،
َرُِّكَ ِِّعَادَ ِِّ ،ر َم َْا ِّ
عذَابِِّ ،نَّ َر َِّكَ لَ ِّبا ْل ْ
مِّرصَادِّ﴾ سورة الفجر اآليات ( .)14-6من تلك اآليات الكريمة يتبين أن الفساد علَي ِّْه ْم َر ُِّكَ س َْو َط َ فَْ َ ْكثَ ُروا فِّيهَا ا ْلفَسَادَ ،فَص َّ
َب َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 40ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لقد ساعد قوم ثمود على تشييد حضارتهم الغنى المادي الذي حصلوا عليه عن
طريق التجارة أيضاً ،والموقع التجاري الممتاز على طريق التجارة العالمية ،وقد
استثمروا تلك األموال في استعمار ( )1األرض ،فأنشأوا بها جنات تسقيها العيون،
الشامخات ،كذلك كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً
()2
وبنوا في وسطها القصور
يصطافون بها فارهين .قال تعالى على لسان سيدنا صالح ﴿ :أ َُت ْتَرُكو َن ِفي
ين﴾( :)3ظانين البقاء! أتظنون أنه ل إلٓه لهذا الكون قابض على ِِ
اهَنا آمن َ
َما َه ُ
فكر بمن سبق ،مات ناصيتكم! آمنين من الموت! ﴿ ِفي َجَّنات َو ُعُيون﴾ :باقينّ ،
طْل ُع َها :﴾...ثمرها .متسق ممشوق في وصار تحت الترابَ ﴿ :وُزُروع َوَن ْخل َ
الفضاءَ ...﴿ .ه ِضيم﴾ :يهضم بسهولة .فقط لألكل! ﴿ َوَتْن ِح ُتو َن ِم َن اْل ِجَب ِ
ال ٌ
وتا :﴾...تأخذون منها الحجارة لتبنوا القصور الضخمة المنتظمة والمرتبة..﴿ : ُبُي ً
ين﴾ :رفاهية العيش( .كم بيَّن هللا وح ّذر من خطر التطاول في البنيان ،ذلك َف ِارِه َ
ِ َط ِ لعظيم خطره على الناس)َ ﴿ :ف َّاتُقوا َّ ِ
يعوا أ َْمَر اْل ُم ْس ِرِف َ
ين﴾ :أسرفوا يعونَ ،وَال ُتط ُ
ّللا َوأ َُ
ِ ين ُي ْف ِسُدو َن ِفي ْاألَْر ِ ِ
ض َوَال ُي ْصل ُحو َن﴾ :يحرضون وينشرون على أنفسهمَّ ﴿ :الذ َ
()4
هنا كان نتيجة ما أحدثوه من البناء الضخم الفخم ،فقوم عاد قد أشادوا مدينتهم حتى غدت أجمل بالد الدنيا في ذلك العصر ،وقوم ثمود الذين جابوا
الصخر من الجبال ،ويجلبونها إلى مدينتهم لبناء القصور بواسطة الماء الجاري في الوديان محموالً على ألواح = =من خشب أو على سفن معدة
لذلك .والفراعنة أيضا ً استخدموا وادي النيل لجلب الحجارة من الجنوب لبناء األهرامات التي وصفها تعالى كما وصف الجبال باألوتاد ،وتم بناء
المعابد والقصور وغير ذلك ،هذه األعمال وما يلحق بها من زينة وفسق قد أحدثت الفساد في قلوب العباد ،وانقسم المجتمع لطبقات مترفة أو
مدقعة بالفقر محرومة مقهورة ،فح ّل الشقاق وانهارت اإلنسانية ،عندئذ صب عليهم ربك سوط عذاب.
ستَ ْع َم َر ُك ْم فِّيهَا فَا ْ
ستَ ْغف ُِّروهُ ث ُ َّم غ ْي ُرهُ ه َُو أَنشََْكُم ِّمنَ األَ ْر ِّ
ض َوا ْ ( _ )1قال تعالىَ ﴿:وِِّلَى ثَ ُمو َد أَ َخاهُ ْم صَالِّحا قَا َل ََا قَ ْو ِّم ا ْعبُدُواْ َ
ّلل َما لَكُم ِّمنْ ِِّلَه َ
يب ﴾ سورة هود .اآلية ()61 ِ ُوُِواْ ِِّلَ ْي ِّه ِِّنَّ َرَِِّ قَ ِّر ٌ
َب ُّم ِّج ٌ
اْك ُُرواْ ِِّ ْْ َجعَلَ ُك ْم ُخلَفَاء مِّ ن َِ ْع ِّد عَاد َوِ ََّوأَ ُك ْم فَِّ األَ ْر ِّ
ض َِتَّخِّ ذُونَ مِّ ن ُ
سهُو ِّلهَا قُصُورا َوَِ ْنحِّ ت ُونَ ا ْل ِّجبَا َل ( _ )2قال تعالى على لسان سيدنا صالحَ ﴿:و ْ
سدَِّنَ ﴾ سورة األعراف .اآلية ()74 ْ
ض ُمف ِّ اْك ُُرواْ آَّء ّللِّ َوََّ َِ ْعثَ ْوا فَِّ األَ ْر ِّ
ُِيُوِا فَ ْ
( _ ) 3سورة الشعراء اآلية ( ) 146
( _ )4سورة الشعراء اآليات ()152-147
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 41ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ويمكن القول أن ثمود خلفت عاداً بحضارتها ونسجت على منوالها ،إل أنها لم
تفْقها قوة ول علماً.
هذا واذا رجعنا إلى اآليات التي ذكرناها آنفاً ،وأمعنا النظر فيها ثانية ،نرى
أن صالحاً ،قد حذرهم من تلك الحضارة ،وبين لهم فسادها ،وما تجلبه لهم
من شقاء ،كما جلبت ٍ
لعاد الشقاء ومن ثم الهالك قبلهم.
وبديهي أن يستنكر المترفون منهم دعوة سيدنا صالح ،ويتهموه بشتى
التهم .ذلك ألن معظم الناس ل تؤمن إل بالرفاه المادي سبيالً للسعادة ،أو على
األقل هو أحد األسباب الرئيسية لها.
أما الرسل ،وهم الذين يرون بقلوبهم حقائق األمور ،فإنهم ينظرون إلى الرفاه
المادي بعكس ما ينظر إليه المترفون ،فالمترفون ينظرون إلى األمور بمنظار
معكوس ،بينما الرسل تنظر إليه بنور من هللا ،فيرون ما ل يرى أولئك ،إذ يرون
خداعة .ومن تلكما النظرتين ،أو من اختالف
حقائق األمور ،بينما المظاهر ّ
المفهومين ،ينشأ الخالف بين الرسل وأتباعهم من جهة ،وبين المترفين وأشياعهم
من جهة أخرى ول يخفى ما للرفاه المادي وما يتلوه من تمايز طبقي وتفرقة وعداوة
بين الفقراء واألغنياء في المجتمع حتى يكون سبباً للمترفين لتكذيب الرسل
فالهالك.
واآلن نريد أن نبين الكيفية في توليد الفساد ،ومن ثم الشقاء الذي يحسبه الناس
سعادة.
إن اإلنسان يظل بمعيشته راضياً إذا شاهد أفراد مجتمعه يعيشون المستوى نفسه،
الذي يعيشه تقريباً .وهذا الرضى يظل باقياً ،طالما لم ير غيره قد سبقه في هذا
المضمار كثي اًر.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 42ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فبيته مثالً يبقى في عينه جميالً ،ما لم ير قصو اًر منيفة قد أشيدت إلى جانبه،
ويبقى مسرو اًر بأثاثه ولباسه ،ما لم ير جاره قد استحدث من األثاث واللباس ،ما
يفوق أثاثه ،جودة وأناقة.
كذلك يظل مسرو اًر بمأكله ومشربه ،وأماكن لهوه وعاداته وتقاليده ،سواء كانت
سيئة أو حسنة ،ما لم ير الدنيا قد تغيرت من حوله ،عندئذ ينظر إلى ما كان
يستحسنه باألمس ويرتضيه ،نظرة ازدراء واحتقار ،ثم يبدأ الهم والغم يطارده في
كل مكان ،والضجر والسخط والتبرم من الحياة.
تُرى من الذي أحدث هذا الهم في نفس هذا اإلنسان؟ ومن المسؤول عن
شقائها؟ ومن الذي سلبه ذلك الرضى ،وتلك السعادة ،التي كان يتمتع بها نسبياً؟
أليس المترفون ،هم الذين أفسدوا على السواد األعظم من أفراد المجتمع
حياتهم؟ فلكي تتمتع هذه الفئة القليلة في كل مجتمع بالحياة ،فإنها تفسد الحياة
على الغالبية العظمى من الناس.
ليس بوسع الناس جميعاً أن تبني قصو اًر ،وتقتني أثاثاً يناسب تلك القصور ،ولو
حصلوا على ذلك ،وهذا محال ،فهل يقف األغنياء منهم عند حد ،أم أنهم يسعون
جاهدين إلى اختالق تفنن جديد في الحياة ،لكي يظلوا متميزين عن غيرهم من
الناس؟
أجل :إن التسابق يظل موجوداً ،ل من أجل الرفاه وحسب ،بل من أجل التفاخر
الد ْن َيا َل ِع ٌب َوَل ْه ٌو َو ِزيَن ٌة َوَت َفا ُخٌر اعَل ُموا أََّن َما اْل َح َيا ُة ُّ
والتباهي أمام اآلخرينْ ﴿ :
ِ َب ْي َن ُكم َوَت َكاثٌُر ِفي ْاألَم َو ِ
اه
يج َف َتَر ُ ال َو ْاأل َْوَالد َك َم َث ِل َغ ْيث أ ْ
َع َج َب اْل ُك َّف َار َن َب ُات ُه ثُ َّم َي ِه ُ ْ ْ
يد وم ْغ ِفرٌة ِمن َّ ِ ِ ِ
ان َو َما ّللا َو ِر ْض َو ٌ اب َشد ٌ َ َ َ ه َ اما َوِفي ْاآلخَرِة َع َذ ٌ ط ًُم ْص َفًّار ُث َّم َي ُكو ُن ُح َ
ور﴾(.)1 الد ْن َيا ِإَّال َم َت ُ
اع اْل ُغُر ِ اْل َح َيا ُة ُّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 43ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
إذاً فالتسابق نحو الرفاه أو نحو التفاخر ،ليس له نهاية ،ألن النفس ل يستقر
تمجه وتطلب غيره ،فكلما قضت من
سرورها ورضاها طويالً على شيء ألفته ،بل َّ
مطلب وط اًر تفتقت لها مطالب جديدة ،وتنقضي الحياة ،وشهواتها ل تنقضي:
الت َكا ُثُرَ ،ح َّتى ُزْرُت ُم اْل َمَقاِبَر﴾( :)1ذلك ألن النفس ل نهاية لطاقاتها،
اك ُم َّ
﴿أَْل َه ُ
فباستطاعتها أن تبتلع لذة الوجود من غير أن تشبع ،أو من غير أن تروي طاقاتها
الالمتناهية.
أما هللا تعالى فقد أعد لها تلك الطاقات الهائلة ،لترتوي من معينه الذي ل
ينضب ،ومن جماله وجالله وعلمه ورحمته.
وفي الحديث القدسي:
(ما وسعني أرضي وال سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن) (.)2
لذا إن أطاع اإلنسان نفسه ،وأراد إشباعها من شهوات الدنيا ،فإنه يتردى ،من
غير أن يحقق لها إل يسي اًر من لذائذ الشقاء والضجر والسأم والضنك ويحسب أن
وهماً.
فيها سعادته والحقيقة أنها ل تخلصه من شقائه ول يزداد إل ضنكاً ّ
وبذلك التسابق نحو الرفاه ،تأخذ الحياة بالتعقيد بدل التبسيط ،والشقاء بدل
السعادة ،ويكون السبب في هذا هم المترفون ،الذين أفسدوا الحياة على الفقراء،
بما أحدثوه من زخرف وزينة ،ونتيجة لهذا الفساد ،تفسد الضمائر ،وتفسد القيم،
هم الناس جمع المال ،ليحققوا به شهواتهم ورغائبهم ول يهمهم من أي ويصبح ُّ
طريق ُجلِّب ،ليكونوا كأمثال من فاقوهم بالترف أو ليتعالوا على من دونهم
فيفسدوا قلوبهم ومعيشتهم.
إذاً ،فإن الحضارة قد جلبت للناس شقاء وبؤساًَّ ،
وولدت في نفوسهم حقداً وألماً،
واستطاعت أن توقع بينهم العداوة ،ل سيما بين المترفين والمحرومين ،فالمترفون
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 44ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
يزدادون غنى وتسلطاً واستغاللً ،والمحرومون يزدادون فق اًر وعبودية وحقداً واذللً.
ً
ول عجب عندئذ أن يتكتل الفقراء ضد األغنياء ،ليسقوهم الكأس نفسه الذي سقوهم
منه .ولكن هؤلء الفقراء الذين حلوا محل ساداتهم ،ل بد أن يعيشوا بعد حين
بالعقلية ذاتها التي كانت لساداتهم ،ألن الغاية التي قاتلوا من أجلها ،هي نفسها
التي تسنموا ذروتها .فضالً عن ذلك ،فإن كثرة المتطلبات الحضارية ،تجعل
اإلنسان بخيالً نحو نفسه ونحو ذويه ،ول يفعل من المعروف إل قليالً ،وعدم فعل
المعروف ،يعتبر من األسباب الهامة في تقطيع أواصر المجتمع ،وفقدان المحبة
فيما بينهم.
ومهما يكن من أمر فإن األزمة الروحية والخلقية في كل حضارة ،لن تُ َح َّل إل
بالقضاء على مسبباتها ،وهذا يعني الرجوع إلى شرعة هللا ،وامتثال أوامره ،ألنها
هي الشرعة الوحيدة التي تنقذنا من شقاء الدارين .والتي أنقذت الصحب الكرام ومن
تابعهم ،من أجل ذلك حذر سبحانه وتعالى على لسان رسله من الستغراق والتوغل
في الدنيا لتمحيص طاقاتنا كلها ،حتى ل نخسر اآلخرة الباقية ،وطلب إلينا أن
نمشي في مناكبها ،أي في أطرافها ل أن نغوص في أعماقها قال تعالى..﴿ :
ور﴾( .)1ألن التوغل كما رأينا ،وكما اكِب َها َوُكُلوا ِمن هِرْزِق ِه َوِاَلْي ِه ُّ
الن ُش ُ
َفام ُشوا ِفي مَن ِ
ْ
َ
نعيشه اآلن في هذا العصر ،يحدث في األرض الفساد ،واذا فسد الشيء ،يصبح
نفع أبدًا.
ضرره أكثر من نفعه ،إن لم نقل لم يعد له ٌ
لم يقتصر إفساد الحضارة على أحوال المعيشة واألخالق فحسب ،بل إنها تفسد
علينا طريق الوصول إلى سعادتنا األبدية ،أو الغاية التي خلقنا هللا من أجل تحقيقها.
من أجل ذلك ،حذر سيدنا صالح قومه من مغبة أعمالهم ،وبين لهم فسادها،
وفساد معتقداتهم ،وحذرهم من الفساد الذي أحدثوه في األرض بعد إصالحها ،فما
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 45ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
كان جواب قومه إل أنَ ﴿ :قاُلوا إَِّنما أ َ ِ
تخيالت
تتخيل ّ ّ ين﴾: َنت م َن اْل ُم َس َّح ِر َ َ
ِ ِ
َنت ِإَّال َب َشٌر هم ْثُلَنا َفأْت ِب َ
آية وتتكلم .مستور عليك ما في هذه األمور من نعيمَ ﴿.ما أ َ
نت ِمن َّ ِ ِ
ين﴾(.)1
الصادق َ ِإن ُك َ َ
وقد طلبوا منه آية ،تثبت بأنه رسول من هللا ( ،)2فأرسل هللا إليهم ناقة ضخمة،
لها ِّوْرُد يوم ،ولهم ِّوْرُد اليوم التالي ،وبتلك اآلية أصبح الماء قسمة بينهم وبينها ،إل
أنهم لم يصبروا على تلك القسمة فعقروا الناقة.
وكان تعالى قبلها قد أخذهم بألوان من العذاب ليتوبوا ،ويعودوا للحق فيصلحوا
سيرهم المعوج ،لكنهم تطيروا بصالح ومن معهَّ ،
فرد عليهم بأن ما تطيروا به هو
من عند هللا ،وذلك نتيجة أعمالهم المنحرفة ،نتيجة افتتانهم في الدنيا وغرورهم بها.
أجل لقد نصحهم رسولهم م ار ًار ،وبين لهم فساد مسلكهم ،وبين لهم طريق
سعادتهم في الدنيا واآلخرة ،إل أنهم لم يقبلوا نصيحته( ،)3بسبب انهماكهم بالدنيا،
وعدم تفكرهم بآلء هللا ،وبالتالي عماهم القلبيَ .أو يحبون من يحاول نهيهم عن
َّ
المنحطة؟ حتى لو أدت بهم إلى الفساد والتعاسة والشقاء ،مما يظنونه شهواتهم
ولما أطال نصحه لهمُّ ،
وظنوه عائقاً فيما بينهم وبين سم زؤامّ ،
دسماً وهو بالحقيقة ٌ
ما يشتهون ،أراد المترفون من قومه أن يتخلصوا منه ،فكادوا له مؤامرة ،ولكن هللا
كان لهم بالمرصاد ،فقبل أن تصل إليه أيديهم ،وقبل أن ينفذوا مكرهم ،أخذهم هللا،
يمكن مخلوقاً من أن يلمس هم وأتباعهم ،من حيث ل يشعرون ،إذ حاشا هلل أن ِّّ
اه ْم َصالِ ًحا أ ِ
َن َخ ُ الرسول بلمسة أذى ،قال تعالىَ ﴿ :وَلَق ْد أَْر َسْلَنا ِإَلى َث ُم َ
ود أ َ
ان َي ْخ َت ِص ُمو َن﴾ :منهم من آمن ومنهم من لم يؤمن، ّللا َفِإ َذا ُه ْم َف ِر َيق ِ
اعُبُدوا َّ َ
ْ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 46ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ال َي ا َق ْومِ لِ َم
فالذين لم يؤمنوا قالوا ائتنا بعذاب من عند هللا ،فأجابهمَ ﴿ :ق َ
الس هِي َئ ِة َق ْب َل ا ْل َح َس َن ِة :﴾...
َت ْس َت ْع ِج ُلو َن :﴾...قالوا ليفعل هللا بنا ما يريد..﴿ :بِ َّ
ِ
ّللا :﴾...أهكذا بدلً من أن تطلبوا الشفاء يستعجلون العذابَ ..﴿ :ل ْوَال َت ْس َت ْغفُرو َن َّ َ
لنفوسكمَ ..﴿ :ل َع َّل ُك ْم ُت ْر َح ُمو َن﴾ :يغفر هللا لكمَ ﴿ .ق اُلوا اطَّ َّي ْرَن ا بِ َك َو ِب َمن
َنت ْم َق ْو ٌم ُت ْف َت ُنو َن :﴾...ما ّللاِ َب ْل أ ُ
ند َّ ِ َّمع ك :﴾...تشاءمناَ ..﴿ :قال َ ِ
ط ائُرُك ْم ع َ َ ََ
تفعلونه معلوم عند هللا ،وان ما يحدث لكم من إنذارات هو من عند هللا ورحمته بكم،
ان ِفي اْلمِديَن ِة ِت ْس َع ُة َرْهط :﴾...قبائلُ ..﴿ :ي ْف ِسُدو َن حول ول قوةَ ﴿ :وَك َ وليس لي به ٌ َ
َ
اّلل َلُنَبهِي َتَّن ُه :﴾...نقتله ،ضاقوا به ذرعاً: ض وَال يصلِحو َنَ ،قاُلوا َتَقاسموا ِب َّ ِ ِ
َُ في ْاألَْر ِ َ ُ ْ ُ
َهلِ ِه َواَِّنا َل َص ِاد ُقو َنَ ،و َم َكُروا َم ْكًرا:﴾... ِ
َهَل ُه ُث َّم َلَنُقوَل َّن لِ َولِهيِه َما َش ِهْدَنا َم ْهِل َك أ ْ
﴿َ ..وأ ْ
دبروا تدبي اًرَ ..﴿ :و َم َكْرَنا َم ْكًار َو ُه ْم َال َي ْش ُعُرو َن﴾ :بأن َيد هللا فوق تسييرهم .أي أنّه ل ّ
ِ
ان َعاقَب ُة َم ْك ِرِه ْم أََّنا َد َّمْرَن ُ
اه ْم ف َك َ
ظْر َكْي َ
مسي ر إل هللاَ ﴿ .فان ُ فعال ،ل ِّّ إلٓه إل هللا ،ل ّ
اوَي ًة ِب َما َظَل ُموا ِإ َّن ِفي َذِل َك َآلَي ًة هِلَق ْوم َي ْعَل ُمو َن،
وت ُه ْم َخ ِ ينَ ،فِتْل َك ُبُي ُ وَقومهم أ ِ
َج َمع َ
َ ْ َ ُْ ْ
ِ
آم ُنوا َو َكا ُنوا َي َّت ُقو َن﴾(.)1ين ََنج ْي َن ا َّالذ َ
َوأ َ
يفكر في كل هذه األمثلة تبين رحمة هللا تعالى بعباده بأنه يبين لإلنسان أن ِّّ
مصيره وما سيؤول إليه أمره هل هو إلى النعيم أم إلى الجحيم وما الذي يجب عليه
أن يعمله ليتجنب الهاوية ويسمو إلى الجنان.
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 47ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قوم سيدنا لوط
آمن لسيدنا إبراهيم ،سيدنا لوط ،عليهما السالم ،وراح بعد ذلك يدعو قومه إلى
عبادة هللا ،وتَ ْرِّك السيئات ،وكان لقوم سيدنا لوط سيئة انفردوا بها ،دون غيرهم من
األمم التي سبقتهم.
تلك السيئة هي مباشرة الذكران من دون النساء ،وهذه السيئة تترك في المجتمع
آثا اًر اجتماعية خطيرة ،إذ أن ممارسة تلك العادة تخلق جيالً متحلالً من القيم ،ومن
تتويج لسلوكية مجتمع منحرف .إن الفاعلين لتلك الشهوة
ٌ األخالق .وهي بالحقيقة
الشاذة تفقد من المفعول بهم صفة الحياء والرجولة ،وتحولهم إلى أشباه الرجال .إذ
ل نستطيع أن نعدهم من الرجال ول من النساء ومن الفاعلين تفقد صفة المروءة
والوجدان .لذلك فاجتثاث الفاعل والمفعول به من األرض أولى من بقائهم ،ما داموا
مصرين ،ألنهم أصبحوا يفسدون في األرض ول يصلحون ،وحيث أن قوم لوط ِّّ
هم أول من فتح باب الشذوذ الجنسي بالعالمين واخترعه وابتدعه ،لذا كان
عقابهم الردعي عنيفاً ،وعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
َحد ِهمن ِ ِ طا ِإ ْذ َق ِ ِ
ال لَق ْو ِمه أ ََتأ ُْتو َن اْل َفاح َش َة َما َسَبَق ُكم ِب َها م ْن أ َ
َ قال تعالىَ ﴿ :وُلو ً
ال َش ْه َوًة ِهمن ُدو ِن الِهن َساء َب ْل أ ُ
َنت ْم َق ْوٌم ُّم ْس ِرُفو َن﴾(:)1 ينِ ،إَّن ُك ْم َل َتأ ُْتو َن هِ
الر َج َ
ِ
اْل َعاَلم َ
تلقون بهذا الماء الطاهر في مكان نجس وتهدرونه وأنتم تبصرون ضعة نفوسكم
وانحطاطها.
إن لوطاً ،قد حذرهم من مسلكهم الشاذ هذا ،وبين لهم أن فعلهم لم يسبقهم
وهم ِهمن َقْرَيِت ُك ْم
َخ ِر ُج ُ
إليه أحد من العالمين .فما كان جواب قومه إل أن قالوا ..﴿ :أ ْ
ط َّهُرو َن﴾( :)2هؤلء جماعة يتظاهرون بالصالح ،هذه شهوة بكل إنسان. ِإَّن ُه ْم أَُن ٌ
اس َي َت َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 48ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لقد بلغت الوقاحة بقوم سيدنا لوط حد المجاهرة بخطيئتهم ،وبلغ بهم العمى أن
راودوا لوطاً عن ضيفه ،وقد ضاق بهم ذرعاً ،وعرض عليهم الزواج
الشرعي من بناته حيث أن هذا هو أطهر لهم ،حتى ل يخزوه في ضيفه ،إل أنهم
ق :)1(﴾...ل ِ ِ ِ ِ
رفضوا هذا العرض وقالواَ ﴿ :قاُلوْا َلَق ْد َعل ْم َت َما َلَنا في َبَنات َك م ْن َح ه
نحب النساءَ ...﴿ .وِاَّن َك َل َت ْعَل ُم َما ُن ِر ُيد﴾ :من الوساخة والسفالة.
ُّ
فلما رفضوا الزواج من بناته ،وأصروا على ما جاؤوا من أجله ،طمأنه ضيوفه
بأنهم لن يصلوا إليه ،وأخبروه بأنهم مالئكة ،جاؤوا ليقطعوا دابرهم مصبحين ،ثم
طلبوا من سيدنا لوط أن يسري بأهله بق ْ
طع من الليل ،من غير أن يلتفت منكم أحد
بنفسه إلى أقربائه ،ألنهم كفرة فجرة ،وذلك كيال تتلوث نفوسكم بالتفاتكم إليهم من
شفقة أو عطف ،أما امرأتك فقد قدرنا عليها ما قدرنا على قومك وانه مصيبها ما
أصابهم ،ألن نفسها تغبَّرت من نفوس قومها ،بسبب حبها ألهلها وميلها لهم ،بدل
اللتفات إليك ،أو الستماع لك.
من أجل ذلك حذر هللا سبحانه وتعالى المؤمنين ،أن يعّلقوا قلوبهم بمن َّ
حاد هللا
ورسوله.
ِ قال تعالىَ﴿ :ال َت ِجد َقوما ي ْؤ ِمُنو َن ِب َّ ِ
اّلل َواْلَي ْومِ ْاآلخ ِر ُي َو ُّادو َن َم ْن َح َّاد َّ َ
ّللا ُ ًْ ُ
اءه ْم أ َْو ِإ ْخ َواَن ُه ْم أ َْو َع ِش َيرَت ُه ْم أ ُْوَل ِئ َك َك َت َب ِفي
اءه ْم أ َْو أَْبَن ُ
آب َُوَر ُسوَل ُه َوَل ْو َكاُنوا َ
ِِ ِ ِ ِ
ينان َوأََّي َد ُهم ِبُروح همْن ُه َوُي ْد ِخُل ُه ْم َجَّنات َت ْجرِي من َت ْحت َها ْاألَ ْن َه ُار َخالد َ ِ ِ
ُقُلوبِه ُم ْاإل َ
يم َ
ّللا أََال ِإ َّن ِح ْزب َّ ِ
ّللا ُه ُم ّللا عْنهم ور ُضوا عْنه أُوَل ِئك ِح ْزب َّ ِ ِ ِ
َ ُ َ ُ ْ َ يها َرض َي َّ ُ َ ُ ْ َ َ ف َ
اْل ُمْفلِ ُحو َن﴾(.)2
إن إتيان هذا المنكر أصبح في المجتمعات الحديثة شائعاً ،كما أنه أصبح
مشروعاً عند بعض الدول الغربية ،وهذا الشذوذ تفشى كثي اًر في بعض دول الشرق
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 49ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
األدنى ،فإذا أهلك هللا قوم لوط بهذا العمل السيء ،الذي يقضي على الحرث
والنسل ،والذي ليس له من شهوة سوى الشذوذ الجنسي في نفوس مرتكبيه ،فما
بالك وحال المجتمع الحديث كما نراه من تخنث ومشابهة بين الرجال والنساء ،إل
أن نتوقع هالكاً مروعاً يشيب لهوله الولدان.
يء ِب ِه ْم :﴾...استاء وضاق صدره اءت رسُلَنا ُلو ً ِ
طا س َ قال تعالىَ ﴿ :وَل َّما َج ْ ُ ُ
اق ِب ِه ْم َذْر ًعا :﴾...ضاق صدره من مجيئهم ،ألنه يعرف أن قومه بهمَ ..﴿ :و َض َ
اءه َق ْو ُم ُه ُي ْهَر ُعو َن ِإَلْي ِه
يب﴾ :ل خالص بهَ ﴿ :و َج ُ
ِ
ال َه َذا َي ْوٌم َعص ٌ
أرذالَ ..﴿ :وَق َ
ال َيا َق ْومِ و ِمن َقبل َكاُنوْا يعمُلو َن َّ ِ ِ
السهيَئات :﴾...السفالة :هذه صفتهمَ ..﴿ :ق َ ََْ ُْ َ
ِ
ّللا :﴾...أل أزوجكم ّإياهنَ ..﴿ :ف َّاتُقوْا ه َ َه ُؤالء َبَناتي ُه َّن أَ ْط َهُر َل ُك ْمّ :﴾...
يد﴾ :أل يوجد فيكم س ِم ُ
نك ْم َر ُج ٌل َّرِش ٌ ِ ِ ِ
تخجلون؟! ﴿َ ...والَ ُت ْخ ُزون في َضْيفي أََلْي َ
ق:﴾... ِ ِ ِ ِ
رجل عاقل يستنكر هذا العمل؟! ﴿ َقاُلوْا َلَق ْد َعل ْم َت َما َلَنا في َبَنات َك م ْن َح ه
َن نحب النساءَ ..﴿ :واَِّن َك َل َت ْعَل ُم َما ُن ِر ُيد﴾ :من الوساخة والسفالةَ ﴿ :ق َ
ال َل ْو أ َّ ل ّ
ِ
ظهر أستند إليه ،أو أحد ردكم..﴿ :أ َْو آوِي ِإَلى ُرْكن َشديد﴾ٌ : لِي ِب ُك ْم ُق َّوًة :﴾...أل ّ
ط ِإَّنا ُر ُس ُل َرهِب َك :﴾...الملك ل ُيعرف وهو أركن إليه في دفعكمَ ﴿ :قاُلوْا َيا ُلو ُ
بصورة إنسان ،سيدنا إبراهيم ،زوجة سيدنا إبراهيم وسيدنا لوط لم
اللْي ِل َوالَ َيْل َت ِف ْت ِم ُ
نك ْم َهلِ َك ِب ِق ْطع ِم َن َّ
ه َس ِر ِبأ ْ ِ
يعرفوهمَ ..﴿ :لن َيصُلوْا ِإَلْي َك َفأ ْ
ِ
بحبها
امَأر ََت َك :﴾...كانت تحب قومها ،كفرت ّ َحٌد :﴾...إليهم بالمحبة..﴿ :إالَّ ْ أَ
ِ
َص َاب ُه ْم:﴾... يجره لحال من يحبِ ..﴿ :إَّن ُه ُمص ُيب َها َما أ َ حب المرء ّ لقومها ،كذلك ّ
ستهلك معهم ،ألنها كافرة مثلهم .على اإلنسان أن يعلّق قلبه بأهل الطهارة:
الصْب ُح ِبَق ِريب﴾ :جاؤوا وقت الصبحَ ﴿ :فَل َّما َجاء
س ُّ ﴿ِ..إ َّن َم ْو ِع َد ُه ُم ُّ
الصْب ُح أََلْي َ
طْرَنا
َم َ ِ ِ
َمُرَنا َج َعْلَنا َعالَي َها َسافَل َها :﴾...حصل لهم زلزال إذ َقَلب األرضَ ..﴿ :وأ ْ أْ
مسجل عليه عمله من ّ َعَلْي َها ِح َجاَرًة ِهمن ِس ِهجيل :﴾...من سجل عملهم ،كل واحد
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 50ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
نضود﴾ :متتالية ،واحد بعد واحدُّ ﴿ .م َس َّو َم ًة :﴾..كل واحد
حسنات وسيئاتَّ ..﴿ :م ُ
حجر وعليه اسم صاحبه ،يصيبه على حسب وبالؤه على حسب ما يستحق ،كل َ
ند َرهِب َك َو َما ِهي ِم َن ِ
حاله ،فالبالء مخصص والرحمة مخصصة..﴿ :ع َ
َ
ين :﴾...اآلنِ ..﴿ :بَب ِعيد﴾( :)1كل واحد سينال حّقه .زلزل هربوا منها ،فإذا َّ ِ ِ
الظالم َ
الحجارة ترجمهم من السماء.
إذن :على اإلنسان أل يعلق قلبه بالمعرضين فهذه زوجة رسول هللا لوط
كانت مغبرة النفس حيث كان لها محبة لقومها فجاءها البالء معهم بمقدار ما تستحق،
فمن حبها لهم وتعلقها بهم اغبرت واتسخت نفسها فصارت رائحتها القلبية من رائحتهم.
علي عبدي وانظر نتائج المعاصي) اإلنسان هللا تعالى يقول لإلنسان (أقبل َّ
الصحيح المؤمن ل يعلق قلبه إل بأهل الحق ،ول يعلق قلبه بالكفرة (المؤمن يبغض
هلل ويحب هلل) فأحبب أهل الكمال ،فالمرء يحشر مع من يحب وأولئك هم الناجون من
ِ ِّ
آمُنوْا َّاتُقوْا ف َعَلْي ِه ْم َوالَ ُه ْم َي ْحَزُنو َن﴾ َ﴿.يا أَُّي َها َّالذ َ
()2
ين َ كل كرب وهمَ ...﴿ :ال َخ ْو ٌ ّ
ين﴾(.)3 ّللا وُكوُنوْا مع َّ ِ ِ
الصادق َ ََ هَ َ
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 51ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أهل مدَن
ومن حنان هللا علينا أن يضرب األمثلة لنا للموعظة والعبرة لعل عاص يتوب
ويقلع مرتكب ،ويزول الفساد من األرض ويعيش الناس بسعادة حقيقية ل نغص
فيها ،ويضرب لنا مثالً آخر عن أسباب هالك األمم :أهل مدين.
ّللا َما َل ُكم ِهم ْن
هَاع ُب ُدوْا
ال َيا َق ْو ِم ْ
لقد أرسل هللا إلى مدين أخاهم شعيباًَ ..﴿ :ق َ
اسالن ََت ْب َخ ُسوْا َّ
ان َوالَ إَِل ه َغ ْيُرُه َق ْد َجاء ْت ُكم َبهِي َن ٌة ِهمن َّرهبِ ُك ْم َفأ َْوُفوْا اْل َك ْي َل َواْل ِم َ
يز َ
ض َب ْع َد إِ ْصالَ ِح َها َذلِ ُك ْم َخ ْيٌر َّل ُك ْم إِن ُك ُ
نتم اءه ْم َوالَ ُت ْف ِس ُدوْا ِفي األ َْر ِ َش َي ُ أْ
ِ
ين﴾(.)1 ُّم ْؤ ِمن َ
كان قوم سيدنا شعيب ،قوم مدين ،أي أهل دنيا ورفاهية وترف ،إثراء
وس ّموا (بأصحاب األيكة) إذ جعلوا منوغنى فاحش .أقاموا حضارة دنيوية رائعة ُ
حضارتهم جنة أرضية ،أسسها الفساد والغش والخداع والحرام.
إذ كانوا أهل حضارة راقية ومدنيَّة عالية جمعوا صنوف لذائذ الحياة الدنيا
وتباروا بالتنافس بها ،كما كانت لديهم حدائق وجنائن وبساتين معطاءة أكرمهم
ربهم بها فضلوا وأضلوا عن سبيله ،وعلى مذبح الدنيا الدنية ضحوا بالقيم
اإلنسانية ،فكان همهم الجمع والمنع ،فالبائع يود السلب والنهب من الشاري،
يود سلب البائع ،وغدوا ل يهمهم إل أمر أنفسهم ،حتى فقدوا إنسانيتهم والشاري ّ
على حساب أنانيتهم ،وغدا اإلنسان ذئباً ُمناه سلب أخيه اإلنسان ،وبما أن هذا
األسلوب من الحياة يفرق اإلنسان عن أخيه اإلنسان ،ويوقع البغض والنفور
والعداء ويجعل الحياة جحيماً نفسياً ل يطاق ،وحين يذهب اإلنسان إلى ربه إثر
مفارقته الحياة .يذهب وليس له عمل صالح بين يديه يواجه به ربه ليرقى في
قدم ،إنه لم ُيحسن لمخلوقاته بل أساء ما استطاع دون رادع أو
جناته جزاء ما َّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 52ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وازع ،فال أعمال يتقرب بها لربه لينال الجنات وبذا يخسر الدارْين دنياه وأخراه،
وحباً بهم نهضفيسقط في وديان الحسرات والندامة والخجل ،وخوفاً على قومه ّ
سيدنا شعيب ناصحاً لهم رؤوفاً بهم شفوقاً عليهم ،عّله ينقذهم ،من وديان
ومراتع الشقاء إلى مرابع السعادة والهناء .فالرسل كلهم على نسق واحد وكل متابع
ّللا َما َل ُكم ِهم ْن إَِله َغ ْيُرُه،﴾...
اع ُب ُدوْا ه َ
لهم من أهل الحق هذا قولهَ ...﴿ :يا َق ْومِ ْ
وقد جاء أهل مدين محل (قحط) وحفظ هللا لسيدنا شعيب ماله فذكرهم بمن
سبق ممن هلكوا بسبب حبهم للدنيا وتنافسهم بها ،وحذرهم من الفساد في األرض
بعد إصالحها ،بعمارة األبنية والقصور ،وما تبثه من فساد في قلوب العباد،
حل بهم! فانظروا نتائج أهل الفساد الذين ُّ
دلوا غيرهم على األعمال المنحطة ماذا َّ
ولقد حذرهم سيدنا شعيب من الفسق ،ومن التالعب بالكيل والميزان ،أو
أن يبخسوا الناس أشياءهم .ألن هذا األسلوب الشيطاني ،يولد الحقد والبغضاء بين
البائع والمشتري ،والغش والتحايل ل في البيع والشراء فحسب ،بل في جميع
المعامالت المعاشية .وهو أيضاً يفسد الضمائر ويعتادون على الكذب ،واذا فسد
وحل الشقاء ،وخسروا الحياة األبدية األُخروية
الضمير ،شاع الفساد في األرضَّ ،
الباقية ،على مذبح الحياة الدنيا الفانية .من أجل ذلك حذرهم رسولهم بقوله..﴿ :
ِ َوالَ ُت ْف ِس ُدوْا ِفي األ َْر ِ
ض َب ْع َد إِ ْصالَ ِح َها َذلِ ُك ْم َخ ْيٌر َّل ُك ْم إِن ُك ُ
نتم ُّم ْؤ ِمن َ
ين﴾(.)1
إن مثل الذين يبتاعون حاجيات الناس بثمن بخس ،ويبيعونهم ما يحتاجون إليه
بثمن مرتفع ،كمثل المنشار الذي يأكل من الخشب في الذهاب واإلياب .من غير
أن يفيد الخشب إل التقطيع والتمزيق.
كذلك فإن األعمال التي كان يقوم بها أولئك القوم ،تولد البغض بدل الحب،
والقطيعة والتفرقة بدل التآزر والتعاون .إن شراء مقتنيات الناس بثمن بخس ،ثم بيعهم
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 53ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
بضائعهم بثمن مرتفع ،هو أسلوب من يأكل ول يطعم ،وهو بالتالي أسلوب
ِ
وه ْم اس َي ْس َت ْوُفو َنَ ،واِ َذا َكاُل ُ
وه ْم أَو َّو َزُن ُ المطففينَّ ﴿ :الذ َ
ين إِ َذا ا ْك َتاُلوْا َعَلى َّ
الن ِ
( )1
ُي ْخ ِسُرو َن﴾
ولما حذرهم سيدنا شعيب من هذا األسلوب ،وبعد أن بين لهم النتائج التي تنجم
عن تلك المعاملة ،راحوا يحذرون الناس منه ومن أتباعه ،ويقعدون لهم في كل
طريق( )2ليصدوهم عن سماع الحق ،وهكذا وبدل أن يستمعوا إلى موعظة رسولهم،
قاموا يصدون عن سبيل هللا ويتوعدونهم ،ألنهم يريدونها ِّعوجاً .ناجزوه مناجزة
وطلبوا منه تعنتاً أن يمطر عليهم كسفاً من السماء إن كان صادقاً فأخذهم هللا
الظَّل ِة.)3(﴾...
بالهالكَ ..﴿ :ع َذاب ي ْومِ ُّ
ُ َ
أما جوابهم فال يختلف عما قيل لغيره من الرسل الكرام ،كذلك فإن سيدنا شعيباً
لم يقل غير ما قاله الرسل من قبل ومن بعد ،لما فيه شفاؤهم وسعادتهم .إل أن
كل رسول يعطي اهتمامًا خاصاً لمعالجة الظاهرة السيئة البارزة في قومه.
ين، َم ٌ لذلك قال لهم رسولهمِ﴿ :إ ْذ َقال َلهم ُشعيب أََال َتَّتُقو َنِ ،إِهني َل ُكم رسول أ ِ
ْ َُ ٌ َ ُ ْ َْ ٌ
ِ ِ ِ َط ِ َف َّاتُقوا َّ ِ
ين ،أ َْوُفوا ِي ِإَّال َعَلى َرِهب اْل َعاَلم َ َجر ِإ ْن أ ْ
َجرَ يعونَ ،و َما أ ْ
َسأَُل ُك ْم َعَلْيه م ْن أ ْ ّللا َوأ َُ
اس الن َ اس اْلم ْس َت ِقيمَِ ،وَال َتْب َخ ُسوا َّ ينَ ،و ِزُنوا ِباْل ِق ْس َط ِ ِ
اْل َكْي َل َوَال َت ُكوُنوا م َن اْل ُم ْخ ِس ِر َ
ُ
بخس له البضاعة وتحقرها لتأخذها بثمن بخسَ ..﴿ :وَال َت ْع َث ْوا ِفي اءه ْم :﴾...تُ ّ َشَي ُ أْ
يجر الفساد بين الناسَ ﴿ :و َّاتُقوا َّالِذي َخَلَق ُك ْم َواْل ِجِبَّل َة ين﴾ :كل ذلك ُّ ِ
ض ُم ْف ِسد َ ْاألَْر ِ
ين﴾(.)4 ْاأل ََّولِ َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 54ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
َنت
ين﴾ :تتخيلَ ﴿ :و َما أ َ َنت ِم َن اْل ُم َسح ِ
َّر َ وما كان جوابهم إل أنَ ﴿ :قاُلوا ِإَّن َما أ َ
َس ِق ْط َعَلْيَنا ِك َسًفا ِهم َن ِ ِ ِإَّال َب َشٌر ِهمْثُلَنا َوِان َّن ُ
ين﴾ :هذا ظنناَ ﴿ .فأ ْ ظُّن َك َلم َن اْل َكاذِب َ
نت ِمن َّ ِ ِ
ال َرهِبي أ ْ
َعَل ُم نزل البالء علينا .هذا هو الكفرَ ﴿ :ق َ ين﴾ِّّ : الصادق َ الس َماء ِإن ُك َ َ َّ
الظَّل ِة :﴾...سحابة َخ َذ ُهم َع َذاب ي ْو ِم ُّ
ُ َ وه َفأ َ ْ
َّ
ينزلَ ﴿ :ف َكذُب ُ ِب َما َت ْع َمُلو َن﴾َ :هو الذي ِّّ
ِ ِ ِ
اب َي ْوم َعظيمِ ،إ َّن في َذل َك َآلَي ًة َو َما َك َ
ان ان َع َذ َ غمت عليهم فأهلكتهمِ ..﴿ :إَّن ُه َك َ ّ
ِ
أَ ْك َثُرُهم ُّم ْؤ ِمن َ
()1
ين﴾ .
لقد بادت تلك الحضارة والمدنية وكأنها لم تكن وعاد الطابع البدوي الرعوي،
وغدت الجنات والعيون غابات وأحراشاً طبيعية أصبحت للناجين بمثابة مراع يرعون
فيها مواشيهم وسوائمهمَ ﴿ :ذلِك ِمن أَنباء اْلُقرى َنُق ُّصه عَليك ِمْنها َق ِ
آئ ٌم :﴾...بآثارها ُ ََْ َ َ َ ْ َ
يد﴾ :زالت عن بكرة أبيها ،لم يبق لها أثرَ ﴿ :و َما ما تزال قائمة ظاهرة﴿َ ...و َح ِص ٌ
تامة .فكيف يقولون :إنه اه ْم :﴾...حاشا هلل أن يظلم أحدًا ،خلقك وأعطاك أهلية َّ ظَل ْمَن ُ
َ
للجنة؟! هذا كله يكِّّذبه قوله تعالى :وما ظلمناهمَ ..﴿ :وَل ِكن
كتب أناساً للنار ،وأناساً َّ
ظَل ُموْا أَنُف َس ُه ْم :﴾...هم أعرضوا ،فضلوا ،أرسل لهم الرسل ليرشدوهم ،ما َّقدر هللا َ
عليك الشقاوة ،لكن ّقدر أنك إن سرت بهذا الطريق أصابك الشقاء ،وان سرت بهذا
ففكر وعقليفكروا ،كل من اجتهد ّ أصابك الخير ،ما حتّم عليك .ظلموا أنفسهم إذ لم ّ
آله ُتهم َّالِتي ي ْدعو َن ِمن دو ِن ِ
ّللا ِمن ِ
ه ُ َ ُ سبق ،المجتهد يرقىَ ..﴿ :ف َما أَ ْغَن ْت َعْن ُه ْم َ ُ ُ
َشيء :﴾...التي كانوا يعبدونها ،كانوا يدعون آلهة ،فما أفادتهم عند البالء شيئاً.
ْ
َمُر َرهِب َك :﴾..ما استطاعوا دفع ِ
كذلك كل من يطيع ما سوى هللا ..﴿ :هل َّما َجاء أ ْ
يحل الموت بأحد ،ل يستطيع دفعه عنه أحد ،مهما كان له البالء ،كذلك اآلن عندما ّ
وه ْم َغْيَر َت ْتِبيب﴾ :خسارة وخسرانَ ﴿ :وَك َذلِ َك :﴾...هذا قانون،
وقوةَ ..﴿ :و َما َزُاد ُ
جند ّ
أهلية ،تستطيع
فكر بنفسك ،أعطاك هللا ّ كل من سار بهذا السير حق عليه الهالكّ .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 55ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
َخ ُذ َرهِب َك ِإ َذا أ َ
َخ َذ اْلُقَرى بهذا الكون ،الوصول لإليمان وحدك ،من دون أحد..﴿ :أ ْ
يد﴾ :ولكن يم َشِد ٌ ظالِم ٌة :﴾...ضمن عدالة ،ل يأخذ إلّ الظالمِ ..﴿ :إ َّن أ ْ ِ
َخ َذ ُه أَل ٌ
ِ
َوه َي َ َ
ِ ِ
آلي ًة :﴾...داّلة ،ظاهرة ،مكشوفة..﴿ : يفكر :يراها بعيدةِ﴿ :إ َّن في َذل َك َ
ليس ثمة من ّ
فكر واستدل ،فعرف أن هناك موتاً، اآلخَرِة :﴾..فقط ،وهو كل من ّ اف ع َذاب ِ ِ
هل َم ْن َخ َ َ َ
وملكاً سيقبض روحه ،ومن بعده عذاب أو جنة ،هذا الشخص يستفيد من هذا الكالم.
يفكر ويؤمن باآلخرة، ففكر يا إنسان ،مهما فعلت ل ّبد من الموت .هذه آية لمن ّ ّ
يفكر بالموت ،ل يفقه من كالم هللا شيئاً ،األماني ل تغنيَ ..﴿ :ذلِ َك َي ْوٌم فمن ل ّ
ود﴾(:)1 اس :﴾...من آدم ،إلى يوم القيامةَ ..﴿ :وَذلِ َك َي ْوٌم َّم ْش ُه ٌ َّم ْجموٌع َّل ُه َّ
الن ُ ُ
تنكشف حقائق الخلق ،كل إنسان لبس ثوبه ،كل واحد لبس عمله .هنالك الخزي
وصل اآلن، ِّ ضيعوا الغاية التي خلقوا وأوجدوا من أجلها ،فتب
ّ والهوان ،لقد ّ
فالحسنات يذهبن السيئات ،فتالف أمرك ،ل تنقطع عن هللا حتى تنزع الثوب الوسخ،
وتلبس الثوب النظيف وتحقق الغاية التي خلقت ألجلها .فال تنشغل بما هو ليس لك
عما ُخلِّقت ألجله.
عما هو لك وبما ُخلق ألجلك ّ
تلكم لمحة موجزة سقناها في هذا البحث ،تكلمنا فيها عن حياة معظم األمم البائدة
التي ذكرها تعالى في كتابه الكريم .وأشرنا إلى أهم األعمال التي كانت تفعلها،
واألقوال التي عارضت بها رسلها .ثم تحدثنا عن المستوى الحضاري الذي بلغته
بعض تلك األمم كقوم عاد ،وهذه الحضارات الزائغة بأفانينها المتعددة التي تشغل
النفوس عن ذكر هللا ،واذا أعرضت النفوس عن هللا ،أصبحت تعيش معيشة ضنكاً
ولن تغنيها المادة عن الروح .كذلك تبين لنا من خالل دراستنا لتلك األمم النتائج
المؤسفة التي وصلت إليها ،لما ظلموا أنفسهم ،واتبعوا أهواءهم ،ونسوا الغاية التي
خلقوا من أجلها.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 56ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وكيال يقع علينا ما وقع على قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السالم
وكيال ِّّ
نضيع الغاية التي خلقنا من أجلها ،لذا ل َّبد من وقفة نبين فيها غاية الحق
من إيجاد الخلق:
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 57ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
غاَة الحق من َِجاد الخلق
ل َّبد أن كل إنسان ْ
وعبر فترات عمره قد دارت في خلده أسئلة كثيرة ،فهو منذ
طفولته ومع بداية إدراكه وتمييزه يسأل عما يراه .فقد يسأل الطفل إذا نظر إلى
السماء مثالً ،لماذا تلمع هذه النجوم؟ وأين تذهب الشمس في المساء؟ ومن أين
تجيء الغيوم؟ إلى غير ذلك من األسئلة.
إلهامات وتساؤالت :ومع نمو إدراك هذا الطفل تكثر أسئلته ،طالباً من خاللها
التعرف إلى هذا الكون ،وهكذا..
إلى أن يتجاوز في تساؤلته حدود هذا الكون المادي ،فينتقل إلى مجال آخر،
فيتساءل عن موجد هذا الكون؟! وأين هو؟! وما غايته من إيجاده؟! فحب
الستطالع من أسس طبائع اإلنسان ،فما حقيقة تلك األسئلة؟ وما مصدرها؟ قد
تظهر وكأنها منبعثة من نفس ذلك الطفل ،إلَّ أن الحقيقة غير ذلك ،فهذه األسئلة
موجهة من هللا عن طريق مالئكته لهذا الطفل ،على شكل صوت خفي ينبض كلها َّ
عما ُخِّل َق من أجله. في ق اررة نفسهَّ ،
علها تقوم بتحريض هذا اإلنسان ودفعه للبحث َّ
فمن أجل أي شيء خلق هذا اإلنسان؟ وهل صحيح أن هذا السؤال ل جواب له؟
أم هل ُخلِّ َق من أ جل مأكل ومشرب وزواج أو غير ذلك من شهوات؟ حتماً
فكل ما هو دونك من المخلوقات خلقت من أجلهاُّ ..
َ ليست هي الغاية التي
والحيوانات تحصل على مثل هذا ،وهي أوفر حظاً منك بالحصول على تلك
الشهوات والتمتُّع بها ..فإن كانت الغاية لألكل والشرب ،فالبقرة مثالً تأكل
ون َهم ،فأي إنسان مهما بلغ هل
عشرات األرطال من طعامها ..بلذة وشهوة َ
يسبقها بالطعام؟!
فأي ديك عنده األعداد
وان كانت الغاية النكاح ،فالطيور أسبق منه بكثيرُّ ،
الكثيرة وقد تصل للعشرات من الدجاجات ،وكذا كساء الطيور وأرياشها فهي ذات
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 58ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
جمال منقطع النظير كالطاووس مثالً بما حوى من روائع الخلق ،ما يغنيها عن
ِّ
نسيجه وصنع المالبس وما إليها من تعقيدات الحضارة علوم البشر ومصانع
ومدنيتهاَ ،ولخَلق هللا البشر على نهج الطيور الفتانة الرائعة الجمال دونما جهد
ونصب لتكاليف الحياة المعقدة المرهقة ،ولكفاه كما يكفي تلك الطيور الراقية
البديعة التي تشدهُ العقول وتسبي القلوب ،تغدو بالصباح خماصاً ،وتعود بالمساء
ٍ
مضن. بطاناً ،بال جهد ول عمل
فما الغاية التي جئنا ألجلها إلى الدنيا إذن؟
قيل :خلقنا هللا من أجل عبادته ،والدليل قوله تعالىَ ﴿ :و َما َخَل ْق ُت اْل ِج َّن
نس ِإَّال لَِي ْعُبُدو ِن﴾(.)1 َو ِْ
اإل َ
لماذا خلقنا؟!
ِّ
حد ذاته ،فلم خلقنا هللا
صحيح هذا ،ولكن هذا الجواب للبعض هو سؤال في ّ
وأمرنا بعبادته؟ هل ألنه إلٓه وينبغي لإللٓه أن يكون لديه من يعبده؟ وهل هو
الصمد الذي ُّ
يمد ول يستمد؟ سبحانه وتعالى بحاجة لعبادتنا وهو تعالى َ
أم أنه خلقنا وأمرنا بالعبادة ليذيقنا صنوفاً من المشقات من أوامر ونواه؟! حتماً
ما كانت الغاية ل هذه ول تلك ،وحاشا هلل أن تكون كذلك .فإن كمال هللا وأسماءه
عنا وعن عبادتنا. الحسنى تتنافى وهذه الغايات ،فاهلل تعالى غني ّ
إذ يقول تعالىَ ﴿ :ما أ ُِر ُيد ِمْن ُهم ِهمن هِرْزق َو َما أ ُِر ُيد أَن ُي ْط ِع ُمو ِن﴾(.)2
وفي الحديث القدسي الشريف:
أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد
( ..يا عبادي :لو َّ
كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إالَّ كما ينقص فأعطيت ه
ُ فسألوني
ط إذا أُدخل البحر.)1( )..
المخي ُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 59ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
غاية َخلقنا:
إذن غاية الحق من إيجاد الخْلق هو أن يتعرف اإلنسان على خالقه ،وأن يعمل
المعروف واإلحسان ،وذلك بأن يؤمن باهلل ورسوله ،ويصبح صاحب بصيرة يرى
الخير من الشر ،فيعمل الخير ،فيسعد في دنياه ويلقى ربه بعد موته بوجه أبيض
قدم لعباده تعالى من خيرات ،فيخلد في َّ
جناته بالغبطة األبدية. بما َّ
كنت قد قدَّمت له فأقول:
إليك بيان ما ُ
كان هللا ولم يكن معه شيء ،فال أرض ول سماء ،ول قمر ول نجوم ،ول غير
ذلك من مخلوقات.
قلت أول ،فهو أول وأول ،وليس لوجوده تعالى أول ،ول شيء قبله. فمهما َ
يم﴾.2 ِ ِ ِ ِ َّ ِ ِ
﴿ ُه َو ْاأل ََّو ُل َو ْاآلخُر َوالظاهُر َواْلَباط ُن َو ُه َو ب ُك هل َش ْيء َعل ٌ
الغاية من خلقنا..
وقد أراد هللا وهو معدن الجود واإلحسان ،والرحمة والفضل والحنان ،والجمال
والعظمة والجالل ،وما إليها من األسماء الحسنى الدالة على الكمال ،أراد تعالى أن
ٍ
بفيض من ِّّبره واحسانه. يخلق المخلوقات ليذيقها من رحمته ،وليغمرها
وان شئت فقل :أراد تعالى أن يخلق المخلوقات ليغمرها بذاته ،حتى تسبح
متنعمة في شهود جماله ،وتتمتع مستغرقة في رؤية كماله.
وفي الحديث القدسي الشريف( :كنت كن اًز مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت
الخلق وعرفتهم بي فبي عرفوني).3
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 60ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
والمراد بالكنز هنا :هو ذلك الجمال اإللٓهي العظيم ،والكمال العالي الرفيع.
ومعنى المخفي :أي الذي ل يعرفه أحد.
فأحببت أن أُعرف :وذلك من كرمه تعالى وكبير فضله ،ألن من شأن الكريم
أن يظهر كرمه وفضله ،ويفيض َّبره واحسانه.
فخلقت الخلق :ليتمتعوا بشهود ذلك الجمال اإللٓهي ،وليستغرقوا في رؤية ذلك
الكمال الذي ل يتناهى .وهي تشير هنا إلى إيجاده تعالى المخلوقات في ذلك
العالم الذي يسمونه عالم األزل.
توصلوا لمعرفتي ،فتمتعوا برؤية
وعرفتهم بي :أي عن طريق رؤيتهم ألنفسهمَّ ،
ذلك الكنز العالي ،إذ شاهدوا طرفاً من جمالي وكمالي :كان ذلك كله قبل مجيئنا
إلى الدنيا.
هذا ،وسبب الخروج إلى الدنيا هو أن وقوف هذه المخلوقات عند درجة واحدة
تمل الحال الذي
من الرؤية للجمال والجالل اإللٓهي الذي شهدته ،يجعلها فيما بعد ّ
هي فيه ،مهما كان عالياً ،ول َّبد لها حتى يكون النعيم والفضل تاماً ،من أن تترقى
في الرؤية من حال إلى حال أعلى ،بصورة جديدة كل َّ
الجدة ول تتناهى .وتقريباً
لذلك من األذهان نقول:
لو أن رجالً يجلس في مزرعة فاتنة جميلة لم تر مثلها العين ،وظل مقيماً
فيها أمداً طويالً ..فال شك أنه يمّلها ،ول يعود يرى بعد حين ما فيها من متعة
وجمال ،ول بد له حتى يدوم له النعيم ،من أن ينتقل إلى بستان جديد آخر أجمل
وأحلى وأبهى مما هو فيه.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 61ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تمل تكرار ودوام األصوات واألنغام الطروبة ،بل والمآكل الفاخرة حتى أنها ّ
بتكرارها ،وكافة المشتهيات المتكررة بذاتها.
وحيث أن المخلوق ل يستطيع أن يترقى في رؤية الجمال اإللٓهي من حال إلى
حال أعلى ،إلَّ إذا كانت له أعمال طيبة تجعله واثقاً من رضاء خالقه عنه ،وتكون له
يتقرب بها إلى هللا تعالى زلفى ،لذا منحنا تعالى حرية
بمثابة مدارج يستطيع أن َّ
الختيار لنكسب األكثر ،وأخرجنا تعالى إلى هذه الدنيا لنصبح أولي بصيرةِّّ ،
نميز
الغث من الثمين ،والعمل الدنيء من األعمال اإلنسانية السامية، الخير من الشر ،و َّ
والباقي من الزاهق الفاني ،فننطلق إلى فعل الخيرات ،لذا أرسل لنا رسالً وأنبياء ،أدلَّء
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 62ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
بالحياة الدنيا الدنيئة ،فإن البالء بات بكل لحظة متوقعاً ،شأنهم بذلك شأن األقوام
َمر.
السابقة الهالكة بل أدهى من بالئهم وأ ّ
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 63ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الفصل الثانَ
في هذا الفصل:
الساعة وحتمية وقوعها.
***
الساعة وحتمية وقوعها
يعتبر موضوع الساعة من المواضيع الغامضة والمشوشة ،ليس عند المسلمين
وحسب ،بل عند غيرهم من أصحاب الديانتين اليهودية والنصرانية.لقد خلط علماء
المسلمين ،وعلماء النصارى ،بين الساعة التي يأتي بها السيد المسيح ،وبين
الساعة التي تقوم بها القيامة .فكان معنى قولهم إذ قالوا :إن الساعة التي يأتي بها
السيد المسيح ،هي نفسها الساعة التي بها تقوم القيامة ،وكما أن مفهوم الساعة
غامض ومشوش لديهم ،فإنهم لم يدركوا الغاية التي يأتي بها السيد المسيح .
فاليهود مثالً الذين لم يعترفوا بالسيد المسيح عندما جاء في المرة األولى،
يأملون من مجيء السيد المسيح الحقيقي بزعمهم ،أن يعيد لهم عزهم اآلفل
ومجدهم المنهار ،وذلك بعد أن يصبح الملك العالمي.
والنصارى يأملون أيضاً ،أن يدخلهم السيد المسيح ملكوت اآلب ،بعد أن كفر
عنهم سيئاتهم وافتدى بدمه الخطيئة األولى.
أما المسلمون فغايتهم منه عند مجيئه ،أن يقتل الدجال واليهود ،ويكسر
الصليب ،من غير أن تمسهم األحداث التي ترافق مجيئه بسوء ،وهم اآلن على ما
هم عليه ،تلك أمانيهم ،أما الحقيقة فليست كذلك ،الحقيقة أن تتعرف على رب
الحق والحقيقة ،فإذا آمنت باهلل من ذاتك بذاتك ،عن طريق الستدلل بالكون حق
اإليمان ،تجد كل مسألة في القرآن واضحة أشد الوضوح ،مبينة كفلق الصبح.
من أجل ذلك لن تجد لهذا الكتاب مصد اًر سوى القرآن الكريم ،الجامع للصحف
السماوية ،والتوراة والزبور واإلنجيل ،والسنة النبوية المطهرة التي تشرح عملياً معاني
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 67ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
القرآن ،ذلك ألن هللا سبحانه وتعالى ما فرط في الكتاب من شيء(َّ )1
وبين فيه كل
شيء.
إننا إزاء مفهوم جديد ،وان شئت فقل إزاء حقيقة واقعنا ،فهي جديدة كل الجدة،
غريبة كل الغرابة ،عما ألفه الناس وما سمعوه من منقول ،وهذه الحقيقة الواقعية
اليقينية ،مبنية على الستنباط من القرآن وحده ،الذي يشمل السنة والحديث والفقه،
وكل ما يفيد اإلنسان ويسعده في الدنيا واآلخرة.
وان شئت الحقيقة فقل إن اإليمان التقليدي ،غير المبني على اليقين الذاتي
بالبحث والستدلل ،هو الذي يجعل القرآن على الناس عمى ،وهذا اإليمان الذي
يخلو من اليقين ،هو الذي يجعل بيننا وبين معانيه الرفيعة السامية ،حجاباً مستو اًر،
وهو الذي يمنعنا أن نستشف ثقل القول الذي أنزله هللا تعالى على رسوله الكريم
ﷺ.
وهذه الحقيقة قد توافق أو توازي ما قاله األولون في بعض األحيان ،وقد
تخ الفهم أو تعاكسهم في أحيان كثيرة .لهذا ل نريد أن نناقش أقوالهم أو آراءهم
المتضاربة ،كأن ننفي قولً ونثبت آخر ،أو نستخلص من مجموع اآلراء رأياً وسطاً،
ثم نخرج كتاباً ليس فيه إل الجمع والتنسيق ،ثم نقول للناس قد َّألفنا كتاباً ،من غير
أن نقول لهم إننا جمعنا لهم مما قاله األولون كتاباً.
واآلن لنرجع إلى موضوع الساعة ،نستجلي معناها من المعين الذي ل ينضب،
ٍ
كتاب أحكمت آياته ثم ومن ذلك المصدر الذي ل عوج فيه ول اختالف ،من
فصلت من لدن حكيم خبير.
ير ِِّ َجنَا َح ْي ِّه ََِِّّّ أ ُ َم ٌم أ َ ْمثَالُكُم َّما فَ َّر ْطنَا فَِّ ال ِّكت َا ِّ
ب مِّ ن ش ََْء ث ُ َّم ِِّلَى َرِِّ ِّه ْم َُحْ ش َُرونَ﴾ اآلية ( _ )1قال تعالىَ ﴿:و َما مِّ ن دَآَِّة فَِّ األَ ْر ِّ
ض َوََّ َطائِّر ََطِّ ُ
علَيْكَ ا ْل ِّكت َ َ
اب ِِّ ْبيَانا ِّلك ُِّل ش ََْء علَي ِّْهم ِّمنْ أَنفُس ِِّّه ْم َو ِّجئْنَا ِِّكَ ش َِّهيدا َ
علَى َهؤَُّء َونَزَّ ْلنَا َ َث فَِّ ك ُِّل أ ُ َّمة ش َِّهيدا َ
( )38من سورة األنعامَ ﴿ ،وَ َْو َم نَ ْبع ُ
سلِّمِّ ينَ ﴾ اآلية ( )89من سورة النحل َوهُدى َو َرحْ َمة َوُِش َْرى ِّل ْل ُم ْ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 68ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وبينا
لقد ذكرنا في فصل سابق أهم أعمال ومعتقدات معظم األمم البائدةَّ ،
األسباب التي أدت إلى هالكهم ،ونريد في هذا الفصل أن نستعرض أعمال
ومعتقدات البشرية اليوم ،ثم نقارن بعد ذلك هذه األعمال والمعتقدات مع تلك ،وبعد
المقارنة سيتبين لنا ما إذا كنا في نجوة من الهالك الوشيك ،أو أننا سوف ننتهي إلى
نفس المصير الذي انتهوا إليه ،إن لم نغير السلوك الخاطئ ،ونخضع لحكم هللا في
كتابه الكريم.
إن معتقدات األمم البائدة ل تختلف من حيث الجوهر أو المضمون ،عن
معتقدات أمم هذا العصر ،ولم يتبدل فيها إل الشكل والعرض ،ذلك ألن األنفس
البشرية ل تتبدل باختالف الزمان والمكان ،وانما الذي يتبدل هو ما تعيه النفس أو
تحويه من حق أو باطل ،أو من حقائق وأوهام .وعلى أساس هذا الوعي أو هذا
الحتواء ،تطلب النفس من الفكر أن يبحث لها عن المبررات ،ليمنطق لها ما
تعتقد وتهوى ،وبما أن النفس الكافرة بربها ل تحوي إل شهوات الدنيا أو شهواتها،
ول ترى إل صور األشياء واألشكال ،لذلك فإن الذي يتبدل من المعتقدات لديها،
هو التغيير والتبديل الذي يط أر على شكل المادة ،وهذا التبديل هو الذي دعيناه
بالعرض.
فإذا كانت األمم البائدة تعبد الكواكب ،وتتخذ لها رمو اًز ،فإن الغاية هي جلب
منفعة أو اتقاء خطر ،وان تعلقهم بالصورة دون شهود الحقيقة ،هي التي أوحت
لهم مثل تلك المعتقدات.
واذا كنا ننظر إلى تلك المعتقدات نظرة ازدراء وسخف ،فإن معتقدات األمم
الحاضرة ل تقل عن تلك سخفاً وازدراء.
فمهما تبدلت المفاهيم وتغيرت الشكليات ،فإن الجوهر يظل واحداً ،لقد استبدلت
الناس اآللهة المتعددة ،بآلهة متعددة أخرى ،فمن البشر من اتخذ الطبيعة إلٓهاً،
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 69ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وغيرهم اعتبر العقل المتفوق هو اإللٓه .فالطبيعة بنظر الشيوعية مثالً هي البارئة
المصورة ،أما سر خلقها فلم تبح به إل لرسلها (دارون وماركس وانجلز ولينين).
إن نظرية دارون( :االختيار الطبيعي أو بقاء األصلح) التطورية قد مهدت
لآلخرين نظريتهم المسماة (النظرية الديالكتيكية) وهذه النظرية التي بها قوام الخلق
والمعاش ،تقوم على أسس ثالثة:
األول :تحول التبدالت الكمية إلى تبدلت كيفية ،وهذه الفكرة أوحتها الطبيعة
إلى دارون وأضرابه الذين سبقوه ،وخالصتها أن التباين بين ظواهر الطبيعة ،هو
تباين كمي .أي هي عبارة عن عملية تجميع وتركيب كمي لألجسام ،فال تتبدل
نوعياً ،وهذا التفسير الميكانيكي للتطور أو لالرتقاء ،أوقعهم في أخطاء كثيرة،
وو ِّج ْ
هت إلى تلك النظرية سهام نقد مميتة. ُ
الثاني :وحدة صراع المتناقضات ،وهذا القانون كما تقول الشيوعية يكمن في
العالقات المتبادلة بين محتوى الشيء وشكله ،بين الجوهر والظاهر .والعالقات
المتبادلة تعني أن جميع األشياء والظواهر ذات تناقضات داخلية ،وان كل شيء
هو وحدة متناقضات ،وهذه المتناقضات في الشيء ،هي سلبية وايجابية ،لها
ماضيها ولها مستقبلها ،وفيها ما مضى زمانه ،وهو في طريقه إلى الموت ،وفيها
ما هو في طريق النمو والتطور ،وصراع هذه التجاهات المتناقضة التي تحتويها
األشياء ،هو مصدر التطور والقوة المحركة له.
وفي اعتقادهم أن مرحلة حل المتناقضات هامة جداً في التطور ،فعندما يستنفد
القديم ذاته ،ويصبح لجاماً عائقاً في طريق الجديد ،فإن التناقض بين القديم
والجديد ينبغي أن يحل عن طريق انعدام القديم ،وظفر الجديد.
الثالث :قانون نفي النفي ،وهذا القانون يعني نفي النوعية القديمة ،واحالل
حلت محل اإلقطاع بعد أن نفته ،والشتراكية النوعية الجديدة ،فمثالً البرجوازية َّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 70ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
سوف تحل محل الرأسمالية ،ويمكن القول على أساس ذلك بأن الشيوعية ستحل
محل الشتراكية ،ول بد أن يأتي يوم ونتيجة لهذا الصراع أن تنفى الشيوعية من
األرض(.)1
إن رسل الطبيعة قد اعترفوا بأن آلهتهم عمياء ،وغير واعية .وأهدافها من خلقها
تتم بدون وعي.
ولكن ما يضير هذه اآللهة العمياء عماها وعدم وعيها ،طالما أنها تخلق خلقاً
واعياً ،وتنظم األمور تنظيماً عقالنياً على غاية من الدقة واإلبداع والتكامل ،وهذا
اإلبداع في التنظيم ،وهذا السر في الخلق كله ،قد ساقته يد المصادفة!
وبعد ذلك هل رأيت سخفاً أشد من هذا المعتقد؟ أم رأيت عمى أبعد من هذا
العمى ،أليس هذا هو الضالل البعيد؟ وهل المصادفة تتكرر؟ إن تكررت أصبحت
مسيرة لها ،فمن ُيشرق الشمس في نفس اللحظة من كل يوم قانوناً وخضعت إلرادة ّ
في كل عام سابق ولحق؟! هل هذه مصادفة؟ ولكن ل عجبَ ..﴿ :و َمن َّل ْم َي ْج َع ِل
ور َف َما َل ُه ِمن ُّنور﴾( .)2من ل يؤمن بال إلٓه إل هللا فهو في ظالم قلبي،
ّللا َل ُه ُن ًا
َّ ُ
نوره الدنيا الزائلة.
ومن هذه اآللهة السائدة في هذا العصر أيضاً ،إلٓه العقل أو إلٓه العلم .إن هذا
اإللٓه هو من جنس اإلنسان نفسه ،إل أنه يمتاز عن اإلنسان العادي بتفوق ذكائه
وقدرته على الكشف والختراع ،والبشرية تأمل من هذه اآللهة المتفوقة ،أن تحقق
لها كل ما كانت تصبو إليه من اإللٓه القديم الذي قضى نحبه ،باعتقاد الفيلسوف
نيتشه.
شر بها العالَّمة مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره بزوال الشيوعية من روسيا من ذلك العهد بالخمسينات من القرن الماضي ،حين
( _ )1وهذه ب ّ
كان االتحاد السوفيتي بذروة مجده وقوته.
( _ )2سورة النور اآلية ()40
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 71ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وهذا اإللٓه (أي اإلنسان المتفوق) هو من نتاج الطبيعة التي أّلهها ماركس
وأضرابه ،يحاول أن يتمرد على آلهته األم ،ويسخرها لمشيئته ويتصرف بها كيف
يشاء ،ألن أمه فضالً عن عماها وعدم وعيها ،رعناء وظالمة ،وتأبى أن تجود عليه
إل بالنزر اليسير ،بالرغم من غناها الفاحش ،لذلك فبمحاولته للسيطرة عليها ،يريد
أن يجعل على األرض جنات النعيم ،ولم يكتف هذا اإللٓه أو هذا البن العاق ألمه،
أن يسيطر عليها ،بل يسعى ليسلب منها سر الحياة ،حتى ل يبقى تحت رحمتها أو
تحت وصايتها ،تقضي عليه متى شاءت ،من غير أن تتركه يتمتع بالحياة .فأمه
باعتقاده ،تتخبط في مصير مخلوقاتها تخبطاً عشوائياً .إن الذي ساعد الناس على
تقبل فكرة هذا اإللٓه الجديد ،واإليمان بقدرته ،هو ما أحرزه اإلنسان من تقدم تكنيكي
هائل .إذ أصبح نتاج هذا اإللٓه هو شغل البشرية الشاغل في العصر الحديث ،والى
جانب هذا النتاج خلق لها من المتاعب ما يفوق التمتع بنتاجه أضعافاً مضاعفة،
فضالً عن ذلك فقد وضع من أسلحة الدمار الشامل ما تستطيع أن تقضي به عليه،
وعلى البشرية جمعاء.
أما شريعة هذا اإللٓه ،فقد جاءت نتيجة طبيعية لنتاجه ،فقد عّلم الناس البخل،
والجشع ،والمكر ،والخديعة ،والفسق ،والغلظة ،والظلم ،والخيانة ،وبمعنى آخر فقد
استطاعت هذه اآللهة من خالل نتاجها ،أن تفسد على اإلنسان نفسه ،وبالتالي
يؤمن ما صنعه من زخرف ِّ
أفسدت عليه معيشته ،إذ كيف يتمكن اإلنسان أن ّ
ويسخر كل طاقاته وملكاته من ِّّ وزينة إذا لم ينغمس ويسترسل في الحياة الدنيا،
وي ْحتَ ْل ويفسق
يبخل َ
ْ أجل تأمين متطلبات الحياة التي يعيشها مجتمعه ،واذا لم
ويكذب ويسرق .كذلك لم تقف شريعته عند تلك الحدود ،بل استطاع أن يقيد الناس
ويسلبهم حرياتهم التي منحت لهم ،وأصبح الفرد عنص اًر تافهاً ل قيمة له ،وأضحى
وكأنه جزء من أجزاء آلته الصماء.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 72ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ليت شعري ،كيف تستسيغ البشرية حياة تقوم على الظلم والفسق والصراع
والعبودية؟! وكيف يمكن أن تحل السعادة على مجتمع يحيا حياة مشحونة بالحقد
والرياء؟
إنه ل يمكن أن تكون السعادة المنتظرة في ظل إلٓه العلم إل وهماً ابتدعته مخيلة
المهووسين به .إذ كيف يكون ذلك في مجتمع فقد القيم اإلنسانية ،وفقد صفته
اإلنسانية؟
لقد تجرد إنسان هذا العصر من كل القيم التي تجعله إنساناً ،واستبدلها بقيم
بهيمية من نوع مفترس أو محتال ،ثم أحل محل الفضيلة ،الرذيلة ،واستبدل
شريعته المثلى ،بشريعة الغاب.
َوَل ُه ْم الَّ َي ْف َق ُهو َن ِب َها وب
َل ُه ْم ُقُل ٌ اإل ِ
نس ﴿ َوَل َق ْد َذَ ْأر َنا لِ َج َهَّن َم َك ِث ًا
ير ِهم َن اْل ِج هِن َو ِ
َض ُّل
أَ َكاألَ ْن َعامِ َب ْل ُه ْم ِب َها أ ُْوَل ِئ َك ان الَّ َي ْسم ُعو َن
َ َع ُي ٌن الَّ ُي ْب ِصُرو َن ِب َها َوَل ُه ْم آ َذ ٌ أْ
افُلو َن﴾(.)1 أُوَل ِئك هم اْل َغ ِ
ْ َ ُُ
الذرة ،فهل نعتقد بعد هذا
تلك نماذج عن أهم المعتقدات المستحدثة في عصر َّ
أن تكون الشعوب القديمة قد وصلت بكفرها بخالقها ومربيها إلى ما توصلت إليه
البشرية اليوم؟ وهل أنكرت وجود الخالق كما أنكرته في هذا العصر؟
إن إبليس على شدة كفره لم ينكر وجود الخالق ،ول العزة اإللٓهية ،ول الربوبية
أيضاً ( ،)2بل أنكر العدل اإللٓهي ،عندما ظن بأن هللا فضل سيدنا آدم عليه بغير
الحق بزعمه ،كذلك فإن عبدة األصنام لم ينكروا هللا ،بل اعتقدوا بأن تلك
األصنام (الحجارة) هي الوسيلة لتقربهم إلى هللا زلفى .أما أن يحكموا على هللا
األولون .ليس باألمر العجاب
بالموت (مجانين) أو ينفوا وجوده ،فهذا ما لم يفعله َّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 73ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أن تصل الناس بكفرها وانكارها وجحودها إلى ما وصلت إليه اآلن ،كما أنه ليس
بمستبعد أن يصبح إبليس تلميذاً عند أئمة الكفر منهم ،يعلمونه كيف ي ِّ
ضل ُ
الناس ،ذلك ألن للكفر قوانينه ،ولإليمان قوانينه أيضاً.
فالكفر أو اإليمان يزداد وينقص ،بحسب سلوك هذا الطريق أو ذاك.
فأيما السبيلين سلك فإنه يبتعد عن اآلخر.
وبما أن معظم الناس في هذا العصر اتخذت الدنيا سبيالً ،واكتفت وارتضت بها
حياة ،فال نعجب إن صدرت من أفواههم مثل تلك األقوال ،وظهرت منهم مثل تلك
األعمال ،ل سيما في المجتمعات األوروبية خاصة ،وفي سائر المجتمعات البشرية
عامة.
أما سبيل اآلخرة أو سبيل هللا ،فهو باتجاه معاكس لطريق الدنيا الدنية ،فكلما ابتعد
اإلنسان عن حب الدنيا ،اقترب من هللا واستقام له طريقه .وما دام في قلبه شيء منها،
يظل مشدوداً إليها ،بقوة ما في قلبه منها .وفي اللحظة التي يتخلص من عقالها ،يكون
قد تخلص من أكبر عقبة تعترض سبيله إلى هللا ،وعندها تبدو له الحقيقة ،سافرة من
غير قناع.
إن السبب في عدم رؤية الحقيقة ،هو أن اإلنسان إذا أحب الدنيا فإن النفس ل
تتذكر إل ما تعي ،ول تفقه إل ما تحتوي ،فإذا يممت وجهها شطر الدنيا ،فإنها
تختزن من الشهوات بقدر توغلها فيها ،وتصبح لها غطاء ،وهذا الغطاء يكون
بمثابة حاجز يمنعها من سماع الحق ،لذلك فحينما يلقى عليها شيء من الحق ،ل
يكون له وقع فيها ،ول ميل له ،ألنها لم تع منه شيئاً ،وبالتالي ل تفقه منه شيئاً.
ين الَ ي ْؤ ِم ُنو َن بِ ِ ِ
اآلخَرِة آن َج َع ْل َن ا َب ْي َن َك َوَب ْي َن َّالذ َ ُقال تعالىَ ﴿ :واِ َذ ا َق َرأْ َت ا ْل ُقر َ
وه َو ِفي آ َذ ِان ِه ْم َو ْقًرا َواِ َذا ِ
وراَ ،و َج َع ْل َن ا َع َل ى ُقُلوبِ ِه ْم أَك َّن ًة أَن َي ْف َق ُه ُ
ِ
ح َج ًاب ا َّم ْس ُت ً
َع َل ُم ِب َماوراَّ ،ن ْح ُن أ ْ ارِه ْم ُن ُف ً آن َو ْح َد ُه َوَّل ْوْا َع َل ى أ َْد َب ِ َذ َك ْر َت َرَّب َك ِفي ا ْل ُق ْر ِ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 74ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ول الظَّالِمو َن إِن َت َّت ِب ُعو َن ِ ِ ِ ِِ ِ ِ
ُ َي ْس َتم ُع و َن به إ ْذ َي ْس َتم ُعو َن إ َل ْي َك َواِ ْذ ُه ْم َن ْج َوى إ ْذ َي ُق ُ
ورا﴾ .1فهم نجوى مع الشيطان وللدنيا ،يخاطبهم الشيطان ويزين إِالَّ َر ُجالً َّم ْس ُح ً
لهم أعمالهم ،ألنهم بعيدون عن هللا مثله ،وحب الدنيا الفانية قد ملك قلبهم.
َكَّنة ِهم َّما َت ْد ُعوَنا إَِل ْي ِه َوِفي آ َذ ِان َنا َو ْقٌر َو ِمن
قال تعالى﴿ :و َقاُلوا ُقُلوب َنا ِفي أ ِ
ُ َ
امُلو َن﴾ :هنا يصف حالهم وقولهم :قلوبنا ( )2 بيِن َنا وبيِنك ِحجاب َفاعمل إِ َّن َنا ع ِ
َ َْْ َْ َ َْ َ َ ٌ
مستورة مرتاحة مما تأمرنا به ،ل نريد سماع بيانك اتركنا واعمل بما ترى إننا
عاملون بما نشتهيه .كانت الدنيا الزائلة غاية ُمناهم.
أما المؤمن فإن القرآن يصبح له تذكير وهدى ،يذكره بالحقائق التي رآها بنفسه،
فكلما وعى المؤمن من الحقائق أكثر ،رأى من القرآن حقائق أعمق وأغزر ،ويرى
القرآن وكأنه ترجمان لمكنونات نفسه أو لما كان قد شاهده من الحقائق التي نالها
بإيمانه باآليات الكونية (صنع هللا) من قبل.
ومهما تقدم اإلنسان في معارج القدس كمالً وعلماً ،ومهما رأى من الحقائق
الفكرية والعقلية يجد القرآن ليس سابقاً إليها وحسب ،بل شارحاً ومفصالً لتلك
الحقائق أيما تفصيل.
وبذلك الفهم للقرآن ،يستعظم الرسول ،المفيض لحقائق القرآن فيضاً ،لما حوت نفسه
الكريمة ﷺ ،من العلم ومن الكمال ،الذي لم يدانه بمثله أحد في العالمين.
وكيف ل يكون ذلك ،وقد بلغ ﷺ سدرة المنتهى في العلم اإللٓهي والرحمة
والكمال؟ إن القرآن وان كان ذكرى للعالمين ،إل أن معانيه الرفيعة ل يتذكرها إل
العالِّمون ،الذين يخشون ربهم بالغيب.
ولذا فإن هللا جل شأنه ،ل يطلب من الرسل إل أن ِّّ
يذكروا الناس بعهد هللا
وميثاقه والبعث والجزاء ،والنظر إلى ما يؤول إلى خالقهم ومربيهم ومسيرهم.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 75ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
غير أن هذه الذكرى ما كانت لتلقى جزافاً من الرسل ،بدون وحي من حضرة
هللا إليهم ،أما غيرهم من الذين أصبح لهم علم بالكتاب ،فيكون عن طريق رابطة
المؤمن القلبية برسول هللا ﷺ وفهمه لمعاني الكتاب ،وهذه ناحية جد مهمة ،ذلك أن
الرسول ل يعلم ما في نفوس البشر ،بل هللا هو العليم بالسر وأخفى ،ولذا فإنه
سبحانه يوحي إلى الرسول ،القول الذي يجب أن ينطق به عند اجتماع الناس إليه،
ألن هذا القول هو األنسب لهم في تلك اللحظة .ومن أجل ذلك أوحى تعالى إلى
رسوله الكريم ،أن ل يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه ،ولم يقتصر هذا
التنبيه على الرسول الكريم ﷺ وحده ،بل ذكر سبحانه أن جميع الرسل ل يسبقونه
بالقول .معصومون( ،)1ل ينطقون إل بعد قول هللا وأمره .عباد مكرمون منزهون عن
الزلل.
وبما أنه تعالى وحده هو المطلع على أسرار نفوس خلقه ،ول يأذن ألحد أن
يطلع على ما في نفوس اآلخرين ،ألن من صفاته الستار ،لذلك هو الذي يوحي
إلى الرسول أن يتكلم بهذا القول أو بذاك ،أما الرسل وان كان قولهم حقاً ،إل أنهم
سبِّقُونَهُ ِِّا ْلقَ ْو ِّل َوهُم ِِّْ َ ْم ِّر ِّه ََ ْع َملُونَ ﴾اآلية ( )27من سورة األنبياء،
( _ )1لقد جاء في التفاسير :أن الذين ال يسبقونه بالقول من اآلية الكريمةْ ََ ََّ ﴿:
هم المالئكة ،أما الحقيقة فإن الذين ال يسبقونه بالقول في هذه اآلية هم الرسل ،كما ال ننكر أن المالئكة أيضا ً ال يسبقونه بالقول.
ودليلنا على صحة ما ذهبنا إليه هو :مسرى اآليات ،كذلك فإن السورة التي وردت فيها هذه اآلية الكريمة هي سورة األنبياء ،واآليات تدور حول
سول ِِّ ََّّ نُوحِّ َ ِِّلَ ْي ِّه أَنَّهُ ََّ ِِّلَهَ س ْلنَا مِّ ن قَ ْب ِّلكَ مِّ ن َّر ُأعمالهم .واآلن لننظر إلى اآليات التي تسبق تلك اآلية ثم اآليات التي تليها .قال تعالىَ ﴿:و َما أَ ْر َ
َِّه ْم َو َما َخ ْلفَ ُه ْمِّ د َ
ْ َ أ نَيْ ِ ا م مَ
َْ ُ َ َ ل ع َ ، ونَ ُ ل م ع َ ه
ِّ رم َ
س ِّبقُونَهُ ِِّا ْلقَ ْو ِّل َو ِّ ْ ِّ َ ْ َ
ْ ِ ُم ه =الرحْ َمنُ َولَدا ُ
س ْبحَانَهُ َِ ْل ِّعبَا ٌد ُّمك َْر ُمونَ ْ ََ ََّ ، َّ ِِّ ََّّ أَنَا فَا ْعبُد ِّ
ُونَ ،وقَالُوا اَِّ َخذَ =
ش ِّفقُونَ ﴾اآليات ( )28-25من سورة األنبياء..من خالل قراءة هذه اآليات الكريمة لم يرد ذكر
شيَتِّ ِّه ُم ْ شفَعُونَ ِِّ ََّّ ِّل َم ِّن ْ
ارَِضَى َوهُم ِّمنْ َخ ْ َو ََّ ََ ْ
للمالئكة بل السورة كلها تدور حول األنبياء وإذا كان المفسرون قد ضربوا لذلك إبليس مثالً لتدعيم حجتهم فإن ذلك المثال غير صحيح أيضا ً من
ب ِِّ َمي أَ ْغ َو َْتَنَِّ ألُزَ َِّنَنَّ لَ ُه ْم فَِّ األ َ ْر ِّ
ض ﴾...اآلية ( )39من ناحيتين :الناحية األولى إن إبليس لم يدّع األلوهية بل اعترف بالربوبية بقوله﴿:قَا َل َر ِّ
سورة الحجر كما أنه اعترف بالعزة ۤ
اإللهية عندما قال﴿:قَا َل فَ ِّب ِّعزَّ ِِّكَ َأل ُ ْغ ِّوََنَّ ُه ْم أَجْ َم ِّعينَ ﴾اآلية ( )82من سورة ص.
أما الذي أنكره إبليس هو (العدل اإللهي) عندما زعم بأن هللا فضَّل آدم عليه وهو خير منه كما أنه نسب الغواية إلى هللا وتلك صفة كل كافر يتخذ
الشيطان ولياً .الناحية الثانية :إن إبليس ليس من المالئكة ،ألن المالئكة ال يتوالدون حتى تكون لهم ذرية أما الذين لهم ذرية فهم اإلنس والجن
ِّيس كَانَ مِّ نَ ا ْل ِّج ِّن فَفَسَقَ عَنْ وإبليس كما ذكر تعالى هو من الجن ،قال تعالى في سورة الكهفَ ﴿:وِِّ ْْ قُ ْلنَا ِّل ْل َم َالئِّ َك ِّة ا ْ
س ُجدُوا ِِّل َد َم فَ َ
س َجدُوا ِِّ ََّّ ِِّ ِْل َ
أَ ْم ِّر َرِِّهِّ﴾ ...كذلك فإن هللا خلق الجن وإبليس أبوهم من النار بينما المالئكة من نور.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 76ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ل يعلمون أي الكالم أحق بالقول من غيره ،ألنهم ل يعرفون ما في نفوس
المجتمعين إليهم عموماً واحاط ًة .ونتيجة للوحي تجد لكالمهم وقعاً في النفوس،
ويظنون َّ
وكأن الرسول يعلم ما في أنفسهم ،ألنهم يرونه يتحدث بما يهمهم وما يعنيهم
فرداً فرداً كل في مجاله وأفقه.
أما المؤمنون ،فإنه بحديثه يذكرهم بما شاهدوا من الفضل اإللٓهي ،أو بما
شاهدوا من ملكوت السماوات واألرض ،فيزدادون إيماناً ،ويزدادون خشوعاً .وأما
الكافرون والمنافقون ،فإنهم يرون كل كالم الرسول إنذا اًر ،بينما يراه المؤمنون
بشي اًر .فحينما يق أر المؤمن القرآن يستبشر به ،بينما يجده الكافر عائقاً أمام رغباته
وأعماله.
واذا مر على المؤمن شيء من قصص األنبياء ،يجد كمالهم ويجدهم دائماً
وأبداً الطليعة لكل مكرمة .بينما المنافق أو الكافر يؤول أقوالهم وأفعالهم نقصاً فإذا
الن ِ
اس اح ُك م َب ْي َن َّ اك َخ لِي َف ًة ِفي ْاأل َْر ِ
ض َف ْ ود إِ َّن ا َج َع ْل َن َ
او ُ
قال تعالى مثالًَ ﴿ :ي ا َد ُ
ق َوَال َتتَّبِ ِع ا ْل َه َوى .)1(﴾...فإنه يفسر هذا الهوى هوى جنسياً ،بينما يراه بِ ا ْل َح ِه
المؤمن عشقاً إلٓهياً ،وهياماً بحضرة هللا وجماله وجالله ،وذلك هو الحق(.)2
وا ذا أراد هللا أن يقضي على عادة من عادات الجاهلية السيئة ،كعادة التبني
مثالً واختار الرسول ﷺ لتلك المهمة ،وأمره بأن يتزوج من زينب زوجة متبنيه
زيد ،واذا تحرج الرسول الكريم الطاهر من اختراق تلك العادة المتأصلة ،وخشي
من انطالق ألسنة الناس بسبب اختراقه لتلك العادة ،وأراد ربك أن يبدي ما كان
يخفيه الرسول ﷺ من هذا الحرج ،راح الذين في قلوبهم مرض يتهمون الرسول
( _ )1سورة ۤ
ص اآلية ()26
( _ )2انظر كتاب عصمة األنبياء للعالَّمة مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 77ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الطاهر بحبه لزينب ،ويختلقون لتلك الحادثة قصصاً شيطانية ،ما أنزل هللا بها
من سلطان(.)1
وقل مثل ذلك في السادة األنبياء يوسف ،وسليمان ،وأيوب عليهم السالم.
أما الناحية األخرى فإنها ل تقل سوءاً عن هذه الناحية.
وتلك الناحية هي اعتبار أعمالهم السيئة ونسبتها قدر مقدر من هللا ،ونفي المشيئة
والختيار عن أنفسهم ،ونسبتها إلى هللا .وفي هذا القول ما فيه من اإلغراء على ارتكاب
السيئات.
أما إذا خاضوا في ذات هللا ،فإنهم يصورونه إلٓهاً محدوداً بعرشه ،بعيداً عنا بعداً
مسرفاً ،ويوم القيامة يكون جالساً على عرشه ،والمالئكة يحملونه هو وعرشه ،أما يده،
وأما عينيه ،وأما وجهه فللمعرضين تصورات غريبة وبعيدة كل البعد عما يعني فيها.
وأما أسماؤه الحسنى ،فإنهم يؤولونها تأويالً مخالفاً لما اتصف به سبحانه من
صفات الكمال المطلق ،في كل اسم من أسمائه .لذلك فحينما يق أر الذين في قلوبهم
آن ،ل يجدون فيه إل قصصاً وأمثالً ،ل رابط يربطها ول انسجام بينها.
مرض القر َ
ذلك ألن نفس المعرض عن هللا ،لم تكتسب من هللا شيئاً ،فال علم ول طهارة ،ول
كمالً ول حقائق ،سوى ما اكتسبه في عالم األزل ،ومن هذا العلم الضئيل الذي
طمس معظمه باجتراحه السيئات ،يراوده حينما يق أر القرآن الشك وربما التكذيب.
آن َال َي ْس ُجُدو َن*َ ،ب ِل َل ُه ْم َال ُي ْؤ ِمُنو َنَ ،واِ َذا ُقر َ
ِئ َعَلْي ِه ُم اْلُقْر ُ قال تعالىَ ﴿ :ف َما
ين َك َفُروْا ُي َك ِهذُبو َن،
وعو َن﴾(.)2 َعَل ُم ِب َما ُي ُ
ّللا أ ْ
ِ
َّالذ َ
َو َّ ُ
إن سبب عدم استعظامهم لكتاب هللا ،وتكذيبهم لمعانيه السامية الرفيعة هو ما
وعته نفوسهم من الباطل ،وهذا التكذيب أو الشك هو ما حصل لعلماء بني إسرائيل
( _ )1انظر كتاب حقيقة سيدنا مح َّمد صلى هللا عليه وسلم تظهر في القرن العشرين للعالَّمة مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره (بحث قصة زواجه
صلى هللا عليه وسلم من السيدة زينب رضي هللا عنها).
( _ )2سورة اإلنشقاق اآليات ()23-20
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 78ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
من قبل ،ألن نفوسهم ،نتيجة كفرهم ،قد تغلفت بالباطل ،فأصبحت قلوبهم كالحجارة
بل أشد قسوة ،وأصبحت التوراة عليهم عمى ،ولما لم يروا بالتوراة شيئاً ،هجروها،
وراحوا يخطون للناس ديناً من عند أنفسهم ،ويقولون هو من عند هللا وما هو من
عند هللا .تماماً كما هجر بعض المسلمين القرآن ،وولوا وجوههم شطر الخرافات،
التي ما أنزل هللا بها من سلطان.
إن الكثير يظنون أنهم إذا حفظوا شيئاً من القرآن ،وكثي اًر من الحديث والفقه،
أصبحوا مؤمنين ،وهذا جميل ولكن ل يكفي لنطلق على أحدهم صفة عالم أو
مؤمن ،فالعالم الحقيقي هو من يرى ويذوق ما يحفظ ،فإذا ذكرت الرحمة اإللٓهية
فال بد وانه ذاق شيئاً منها ،واذا ذكر العدل فال بد أن يكون قد لمس شيئاً منه،
وبمعنى آخر أن يؤمن بحقيقة ومعنى ما يقوله من الكالم ،ويشهد حقائقه ،ل أن
يؤمن بالكالم نفسه ،ألن الكلمة بحد ذاتها ،رمز لمعنى ،وليست هي المعنى ،فإذا
شاهدنا أحد المحيطات على الخارطة ،فهذا ل يعني أنه هو ذلك المحيط .فإذا لم
تشاهد البحر يظل تصورك له ناقصاً إن لم نقل يظل بحدود الخريطة التي رأيتها
أو رسمتها .وهكذا فإذا لم تلمس القدرة اإللٓهية ،فإن حفظك لكلمة القدير ل وزن
لها ،وهذه الكلمة سرعان ما تفلت منك إذا رأيت سيفاً شهر في وجهك .فلو كنت
لمست القدرة أو لمست بأنه القاهر فوق عباده ،وعلمت بأنه سبحانه على صراط
مستقيم ،لما أرهبك هذا السيف الذي أشهر في وجهك أبداً إن كنت مستقيماً.
إن اإليمان القائم على الشرك ( )1هو السبب في التكذيب والشك ،وهذا اإليمان
اإلشراكي ،يرجع إلى عدم التقيد بالسنن اإللٓهية التي رسمها رب العالمين ،طريقاً
للوصول إليه ،واإليمان به إيماناً سليماً من كل شائبة .وخير الطرق هو الطريق
الذي سلكته الرسل ،صلوات هللا عليهم أجمعين ،وبذلك أمرنا بقوله تعالى﴿ :أ ُْوَل ِئ َك
( _ )1قال تعالىَ ﴿:و َما َُؤْ مِّ نُ أَ ْكثَ ُرهُ ْم ِِّ ِّ
اّلل ََِِّّّ َوهُم ُّمش ِّْركُونَ ﴾اآلية ( )106من سورة يوسف.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 79ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
َجًار ِإ ْن ُه َو ِإالَّ ِذ ْكَرى ِ ِ ِ
ّللا َف ِب ُه َد ُ
اه ُم ا ْق َتد ْه ُقل الَّ أ ْ
َسأَُل ُك ْم َعَلْيه أ ْ ين َه َدى ه ُ َّالذ َ
ِ ول َّ ِ
ان َل ُكم ِفي َرس ِ ِ ِ
ُس َوٌة َح َسَن ٌة هل َمن َك َ
()1
ان ّللا أ ْ ُ ين﴾ .وقال جل شأنهَ﴿ :لَق ْد َك َ ْ لْل َعاَلم َ
ّللا َك ِث ًا
ير﴾(.)2 ِ
ّللا َواْلَي ْوَم ْاآلخَر َوَذ َكَر َّ َ
َيْر ُجو َّ َ
فلو رجعنا إلى مسلك الرسول قبل البعثة وأثناءها ،ثم تدبرنا معاني القصص
التي أوردها تعالى عن رسله الكرام .ومن ثم نظرنا إلى اآليات المكية كيف أنها
تحث اإلنسان على التفكير ،والتعمق في آيات هللا الكونية صنع اإللٓه العظيم،
ونسلك باإليمان مسلك أبينا إبراهيم ﷺ .لجنينا ثما اًر يانعة وايماناً ل يتزعزع ،ولكننا
وبدل أن ندخل البيوت من أبوابها راح البعض من علمائنا يحشون أذهان الطالب
بمعلومات سابقة ألوانها ،إن لم نقل خالية من كل فائدة ،بل ربما كان ضررها
أكثر من نفعها .وتلك العلوم التي حشوا بها أذهان الطالب ل تستطيع أن تقف
أمام النظريات الملحدة ،بالرغم من سخف األخيرة وتفاهتها.
ولو كان ما حشته مقلدة العلماء في أذهان طالبها من عند هللا ،لما وقفت في
طريقهم أعتى نظرية فلسفية جاء بها علماء هذا العصر المتوحش ،بل لجعلوها
أضحوكة أمام المعتقدين بصحتها ،ذلك ألن هللا أنزل على رسوله قولً ثقيالً ،وهذا
القول يزهق الباطل أنى وجده .إذ أن معاني القرآن محجوبة عن الناس بسبب ما
تحمله أنفسهم من السيئات ،وبسبب زعمهم القائل أن األوائل قد فسروا القرآن
تفسي اًر ل يجوز من بعده الجتهاد ،ألنهم هم وحدهم الذين فهموا الدين ،وأي فهم
لمن جاء بعدهم ل يمكن أن يتعالى على فهمهم أو حتى يصل إلى مستواه
ووضعوا حولها هالت مقدسة .وبذلك الدعاء الماكر ،عطلوا على الناس فكرة
دساً لهم
الجتهاد ،وحرموهم من نعمة التفكير ،إل ضمن المجال الذي رسمته ّ
األجداد.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 80ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِ ِ
ّللا َقاُلوْا َب ْل َن َّت ِب ُع َما أَْل َف ْي َنا َعَل ْيه َ
آباء َنا أ ََوَل ْو هُ يل َل ُه ُم َّات ِب ُعوا َما أ َ
َنز َل ﴿ َواِ َذا ق َ
يصدون الناس عن ُّ َي ْه َت ُدو َن﴾( .)1وبهذا راحوا اؤ ُه ْم الَ َي ْع ِقُلو َن َش ْيئاً َوالَ
آب ُ
ان َ َك َ
سبيل هللا تعالى ،وما من أحد ُّ
يصد زورهم ويقيم عليهم الحجج فيدحضهم ويردهم
خائبين.
العجاب أن مقّلدة العلماء بالرغم مما يصل إليه المسلمون ،من ترك دينهم
والعجب ُ
بأسباب هذه الصفاقات المدسوسة ،راحوا يضعون حول الكتب القديمة هالت َّ
مقدسة،
فجمدوا
واثباتات واهية ،جعلتها عندهم بديل القرآن الكريم ،بل كانت قرآنهم العمليَّ .
التفكير ،وأغلقوا باب الجتهاد ،وألقى فريق منهم كتاب هللا وراء ظهورهم ،فنسبوا
قصص الرذيلة والسفالة للرسل واألنبياء (وحاشاهم عليهم الصالة والسالم).
كيف نؤمن ببعض ما أوردوه في تفاسيرهم وخاصة وصفهم الرسل الكرام الذين
هم خيرة هللا من خلقه بصفات يندى لها الجبين .وكيف نصدق تفسيرهم لآلية:
﴿ِإ َّن أَصحاب اْلجَّن ِة اْليوم ِفي ُش ُغل َف ِ
اك ُهو َن﴾( :)2من قول يتندى له وجه َْ َ ْ َ َ َ
الفضيلة ،ونأبى تكرار قولهم المدسوس السافل الخبيث.
عنا هذا البعد الذي وصفوه لنا ،وهللا يقول بأنه
ثم كيف نصدق بأن هللا بعيد ّ
أقرب إلينا من حبل الوريد ،أم كيف نصدق بأن هللا بعرشه محاط ،وهو تعالى يقول
أنه بكل شيء محيط ،وكيف نؤمن بأن (طه) اسم رجل اسمه بالنبطية (عك) "
انظر تفسير الطبري" أم كيف نؤمن بتفسير سورة الناس والفلق ،وقضية سحر
الرسول من ِّقبل لبيد اليهودي ،إذ متى كان للشيطان سلطان على عباده
ال َر ِهب ِب َمآ
المخَلصين والشيطان ذاته ينفي عن نفسه ذلك بقوله لرب العالمينَ ﴿ :ق َ
ينِ ،إالَّ ِعَب َاد َك ِمْن ُه ُم ض وألُ ْغ ِويَّنهم أ ِ ِ ِ
أَ ْغ َوْي َتني أل َُزهيَِن َّن َل ُه ْم في األَْر ِ َ َ ُ ْ ْ
َج َمع َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 81ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ين﴾( :)1بفتح الالم وهم األنبياء والرسل فكيف بسيدنا محمد ﷺ سيد ِ
اْل ُم ْخَلص َ
المخَلصين؟!
وما اتهموه به ﷺ أنه( :كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ،وكانت أم
حرام تحت عبادة بن الصامت ،فدخل عليها رسول هللا ﷺ فأطعمته ،وجعلت تفلي
()2
رأسه ،فنام رسول هللا ﷺ)...
فمن هي أم حرام حتى ينام عندها ،هل هي زوجته؟!! أليس لرسول هللا ﷺ
زوجات ولكل منهن حجرتها الخاصة وينام عندهن؟ ما حاجته أن يذهب إلى امرأة
أجنبية؟ إل أن تكون فرية نكراء ،ودسيسة خبيثة ،بحق أشرف الخلق ،وهل لرسول
هللا ﷺ من وقت (وهو المشغول دائماً بالدعوة) للذهاب والنوم عند أم حرام ،ومهام
العباد والبالد كثيرة وكبيرة ،وهي ملقاة على عاتقه الشريف ﷺ ،وهو الذي لم يصافح
امرًأة قط ،وقولهم كانت أم حرام تفلي رأسه؟! ما الذي كانت تفليه برأسه؟!! هل هذا
الظن يليق برسول هللا ﷺ ؟! إن رسول هللا ﷺ الهادي المهدي ،مب أر من تلك األقوال،
طئه ،والتي تزيغ القلوب عنه ﷺ وتجعل الناس يظنون به ومن كل األقوال التي تخ ِّّ
الظنون ،ويقطعون الناس من الصالة عليه ،والستشفاع به إلى هللا تعالى.
وفي بحوثهم عن الغسل والجنابة ،يتكلمون بأحاديث مرعبة بحق زوجات
أمنا عائشة رضي هللا عنها بأنها وحاشاها قالت:
الرسول الطاهرات ،ل سيما َّ
(كنت أغتسل أنا والنبي ﷺ من إناء واحد ،كالنا جنب ،وكان يأمرني فأتزر،
فيباشرني وأنا حائض )3( )...أليس هذا بقول شيطان َمريد؟!
وقد استغل الحاقدون على الدين اإلسالمي ،وعلى رسول هللا ﷺ ،هذه ّ
الترهات
المبر ﷺ.
وغيرها واستخدموها مطاعن بحق ّأ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 82ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
واألدهى من ذلك أنهم يضعون لتلك الروايات تبريرات وغايات ،ل تمت
لصفات الرسول ﷺ وألهل بيته الطاهرات بصلة ،لتنطلي على عامة الناس.
لن نؤمن بما قالته األجداد إل بالحق ،بالحدود التي ل تنسب إلى هللا الظلم ول
تنافي األسماء اإللٓهية الحسنى ،وبالحدود التي تظهر كمال رسله الكرام وكمال
كالم هللا تعالى واحكام بعضه ببعض.
تلك نبذة عن معتقدات هذا العصر ،أما أعمالهم فإنها ل تقل سوءاً عن
معتقداتهم ،فالمصانع التي أقامتها األمم القديمة قد ل تكون بذات بال أمام مفاعل
الذرة ،ومصانع أسلحة الدمار الشامل ،وأما التالعب بالكيل والميزان فيعتبر حيل
أطفال أمام التالعب بقوت الشعوب وامتصاص ثرواتهم ،وأما بطشهم فال يعتد به
أمام اإلبادة الجماعية وأمام اآللت الجهنمية.
واللباس ،وما أدراك ما اللباس ،إنه يشف حتى يصف ،ثم أصبح العري أو شبه
العري هو الدارج في هذه األيام.
وتشبُّه الرجال بالنساء ،والنساء بالرجال ،يكاد يكون مألوفاً اليوم .والزنى تبعاً لذلك قد
تفشى تماماً في كل المجتمعات ،والشذوذ الجنسي قد أقرته بعض الحكومات بشكل
رسمي.
وخالصة القول لقد تجاوزت معتقدات وأعمال البشرية في هذا العصر َّ
حد
المألوف ،وبلغ الفساد والفسق عند أكثر الشعوب ذروته ،وما تبقى منها فإنها
ماضية على سنن من سبقوهم في الفساد بخطى سريعة.
إن هللا سبحانه وتعالى قد ارتضى للبشرية حدوداً ،ورسم لها سنناً ،وأنزل إليها
شرائع ،فإذا تجاوزت البشرية تلك السنن ،وتخطت تلك الحدود ،وأهملت الشرائع ،فإنها
ِّ
المتعمد بطغيانه ،ل خير
تفسد النفوس وبفسادها تفسد الحياة ،وبما أن الفاسد المفسد و ّ
فيه ،فالنار عندئذ مثواه ،وبئس المثوى والمصير.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 83ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ول أظن بعد هذا الذي بيناه ،أن َّ
تظن أن البشرية بمفازة من الهالك ،بل األصح
أنها أصبحت على قمة الهاوية ،أو على شفا جرف هار ،وهم اآلن في سكرتهم
يعمهون ،وفي غمرتهم لهون .ولقد أنذرنا تعالى كثي اًر في كتابه الكريم ،ولكن اآليات
َّكرَ ،وَلَقْد َجاء والنذر ل تغني لقوم ل يؤمنون﴿.وَلَقْد ي َّسرَنا اْلُقرآن ِللِهذ ْك ِر َفهل ِمن ُّمد ِ
َْ ْ َ َ َ ْ
َخ َذ َع ِزيز ُّمْق َتِدر ،أ َُكَّف ُارُك ْم َخْيٌر ِهم ْن
اه ْم أ ْ الن ُذُرَ ،ك َّذُبوا ِب َآي ِاتَنا ُكهِل َها َفأ َ
َخ ْذَن ُ آل ِفْرَع ْو َن ُّ
َ
ِ
نتصٌرَ ،سُي ْهَزُم اْل َج ْم ُع َوُي َوُّلو َن ِ ِ ِ
أ ُْوَلئ ُك ْم أ َْم َل ُكم َبَراء ٌة في الُّزُب ِر ،أ َْم َيُقوُلو َن َن ْح ُن َجم ٌ
يع ُّم َ
َمُّر﴾(.)1اع ُة أَْد َهى َوأ َ اع ُة َم ْو ِعُد ُه ْم َو َّ
الس َ الس َ ُّبَرَ ،ب ِل َّ
الدُ
أما وقد بين لنا تعالى نوع البالء الذي أصاب كل أمة من تلك األمم السابقة،
فقوم سيدنا نوح وقوم فرعون قد أغرقهم ،وقوم ثمود أهلكت بالطاغية ،وعاد أهلكت
بريح صرصر عاتية .أما أمم هذا العصر ،فسوف تهلك بنار حامية ،ل تبقي ول
تذر .وأما مصادر هذه النار ،فهذا ما سنبينه بعد قليل.
إن المتعمق بمشاكل العصر يرجع بخيبة أمل ،ويشعر بأن قوى الشر قد
رسخت جذورها ،إذ ل يمكن إصالح البشرية ،إل باجتثاث مسببات الشر والفساد،
ول يوجد شر ول يوجد ضالل أكبر من هذه المفاسد الدنيوية المأساوية التي
تغلغلت في القلوب فأتعستها ،وكانوا قد ظنوها فيها الحياة والماء الغدق ،فإذا بها
سبل البالء والوباء ،والشقاء والحروب ،وغضب الطبيعة ،وجنون األنعام وهالكها،
إذن لن تسعد البشرية إل بإزالتها ،ثم إقامة شريعة هللا في أرضه ،وتلك الخيبة التي
يتحسسها المرء تتجلى في عوامل عدة منها:
سباق التسلح والصراع المحموم بين الدول الكبرى على مناطق النفوذ ،والتقدم
العلمي المخيف ،ثم عدم كفاية األنظمة المالئمة لهذه الثورة التقنية الهائلة ،وقلة
مرونتها.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 84ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هذه األسباب وغيرها ،تدعو اإلنسان بأل يتفاءل بمستقبل يسوده السالم .كذلك
فإن الجهد المبذول إلنقاذ السالم ل يزال ضعيفاً ،والنتائج التي تمخضت عنها
مؤتمرات السالم من نزع السالح ،أو الحد من انتشاره ،أو تقليص كميته ،ل يذكر،
ولم تتمكن الدول الكبرى بعد من اتخاذ قرار يحول دون وقوع الكارثة.
إن مؤتمرات نزع السالح ،والجهود المبذولة إلنقاذ السالم ،تعترضها عقبات
كثيرة ،نذكر منها:
أوالً :فقدان الثقة بين األطراف المتصارعة المالكة لألسلحة النووية
والهيدروجينية ،والنظر بعين الشك والحذر كل إلى خصمه.
ثانياً :عدم التفريط بالمصلحة الوطنية والسيادة القومية ،لصالح الجنس البشري،
فالسلوك الدولي ،لم َّ
يتعد بعد المستوى القومي ،ول يزال محصو اًر في فلك المصلحة
الوطنية ،ولذا فأي تهديد للسيادة القومية ،أو إضرار في النواحي القتصادية ،أو
تلوح لمن يهدد مصالحها باستعمال تلك األسلحة الرهيبة
السياسية أو األمنية ،يجعلها ّ
التي لن يقتصر ضررها على الخصم وحسب ،بل يتعداه ليعم البشرية بأسرها تقريباً.
ثالثاً :وجود نظامين متصارعين في العالم وهما ،النظام الغربي والشرقي ،وكل
نظام تقف وراءه كتل بشرية هائلة تمتلك أفتك األسلحة ،وتسعى من خالل نظامها أن
تبسط يدها على البشرية جمعاء .وبما أن القائمين على كل نظام يمقت كل منهما
النظام اآلخر ،فإن الرد سوف يكون حاسمًا إذا شعر أحدهما بأن النظام اآلخر بدأت
ترجح كفته.
رابعاً :التسابق الجنوني نحو التسلح كماً وكيفاً ،وحجتهم في ذلك (إذا أردت
السالم فتهيأ للحرب) ومعنى ذلك أنه إذا كان أحد الطرفين أكثر قوة ،فإن اآلخر
سيتلكأ عن إثارة الكارثة ،وحسب هذه النظرية يظل التسابق قائماً ،حتى ل يتج أر
أحد الطرفين المتنازعين على ذبح خصمه ،وهذه النظرية إن دلت على شيء،
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 85ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فإنما تدل على الذعر الدائم ،والتوتر المستمر ،بين أفراد المجتمع البشري .ولكن
أما يكون للخوف والتوتر من نهاية؟ فإذا رأينا استحالة نزع السالح وتدميره ،أما
تكون الحرب هي السبيل الوحيد للوصول إلى النهاية؟
مما أسلفنا يتبين لنا أن عوامل الشر الدافعة نحو الحرب ،أكثر وأقوى بكثير،
من عوامل الخير الدافعة نحو السالم .كذلك فإن عوامل الفساد ل تزال مستشرية،
ول تزال تزداد عمقاً وانتشا اًر.
من كل ذلك نستنتج َّ
أن البالء بات وشيكاً ،وفي أية لحظة ،والكارثة آتية ل
ريب فيها ،وهي ليست من الظالمين ببعيد.
عما نحن فيه ،لرتفع البالء ،وألوجد هللا إن البالء ليس قد اًر محتوماً ،لو رجعنا ّ
كنا أم أفراداً .قال لنا وسيلة ،تخلصنا من هذا الخطر الجاثم على صدرنا ،أمماً ّ
آمُنوْا َك َش ْفَنا
س َل َّمآ َيماُن َها ِإالَّ َق ْوَم ُيوُن َِ
تعالى َ ﴿ :ف َل ْوالَ َكاَن ْت َقْرَي ٌة َ
آمَن ْت َفَنَف َع َها إ َ
الدْنيا ومَّتعَن ُ ِ ِ ِ ِ
اب الخ ْزِي في اْل َحَيا َة ُّ َ َ َ ْ
1
فباب التوبة والرجوع اه ْم إَلى حين﴾ ُ . َعْن ُه ْم َع َذ َ
إلى هللا مفتوح ول يغلق أبداً إل عند الموت أو وقوع الهالك.2
لقد أطلق رب العالمين على هذه الكارثة اسم (الساعة) والساعة أينما ذكرت
في القرآن فإنها عموماً تحمل معاني عدة:
الساعة التي يموت فيها اإلنسان ،أو الساعة التي تقوم بها القيامة ،أو
الساعة التي نحن بصددها.
واذا تركنا ساعة الموت ،وساعة يوم القيامة حالياً واكتفينا بالساعة التي يأتي بها
السيد المسيح ،لوجدنا أن تسمية الحرب العالمية أو الحرب النووية القادمة ،هي
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 86ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
َمُّر﴾( :)1وهي
اع ُة أ َْد َهى َوأ َ
الس َ
َو َّ اع ُة َم ْو ِع ُد ُه ْم المطهرةَ﴿ :ب ِل َّ
الس َ ِّ
ّ تسمية للحرب
للبشرية رسول السالم والطمأنينة الساعة المرافقة لقدوم السيد المسيح المنقذ
واألمان بعد القلق المرهق والشقاء وطوبى لمولود زمانه .إذ وعده تعالى بقولهِ﴿ :إ ْذ
ط ِهرك ِمن َّال ِذين َك َفروْا وج ِ ِ ِ ِ ِ
اع ُل َ ُ ََ يك َوَراف ُع َك ِإَل َّي َو ُم َ ه ُ َ َ يسى ِإهني ُم َت َوهف َّللا َيا ع َ ال ه ُ
َق َ
ِ َّال ِذين َّاتبعوك َفوق َّال ِذين ك َفروْا ِإَلى يومِ اْل ِقي ِ
يما امة ُث َّم ِإَل َّي َمْرِج ُع ُك ْم َفأ ْ
َح ُك ُم َبْيَن ُك ْم ف َ َ َ َْ َ َ ُ َ َُ َ ْ َ
كنتم ِف ِ
يه َت ْخَتلِ ُفو َن﴾(.)2 ُ ُْ
أي عند ظهوره اآلن ،وقريباً جداً ،فاألمارات السابقة لظهوره تمت بإذن هللا
وانتهت ،وجاء الفرج لكل المؤمنين ،وقد حق قول رسول هللا ﷺ:
(ال تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة
دعواهما واحدة) (.)3
ِشَرِار اْل َخْل ِق) ( :)4وهي ساعة هالك العالم اع ُة إاله َعَلى
الس َ
وم ه
وقوله ﷺ( :الَ َتُق ُ
َ
الحرب النووية القادمة تمتاز كغيرها من الفاسد ،وقصم ظهر الكفر وأهله .إذ أن
الحروب بالسرعة والمفاجأة ،ولكن هذه الحرب تختلف من حيث الغاية عن
الحروب التي سبقتها ،إذ في الحروب السابقة كانت الغاية من السرعة والمفاجأة
هي إحراز النصر ،أما في هذه الحرب ،أي الحرب النووية والهيدروجينية ،فغايتها
اتقاء خطر الفناء ،والقضاء على الخصم قضاء تاماً ،قبل إعطاء الفرصة له
ليتمكن من الرد على خصمه .ولذا فإن البادئ في هذه الحرب ،سوف يلقي أكبر
كمية ممكنة من القنابل الذرية والهيدروجينية وغيرها من أنواع األسلحة ذات
قضاء مبرماً ،ومحوه من
ً التدمير الشامل ،في الدقائق األولى ،للقضاء على العدو
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 87ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الوجود ،غير أن وسائل اإلنذار الحديثة ،والتيقظ التام سوف تفوت على البادئ
هذه المباغتة ،وسيتمكن الخصم من الرد عليه ،وافنائه أيضاً .لذلك فإن الحرب
القادمة ل نصر فيها ،بل هالك شبه مبرم .ومن هنا يتبين أن الحرب القادمة
سوف تكون سريعة ،ل تتجاوز الساعة من الزمن ،وسوف تأتيهم بغتة وهم ل
يشعرون.
اع ِة﴾ :يسألونك عن الساعة قال تعالىَ﴿ :ي ْسأَُلوَن َك﴾ :بعد بيانك هذاَ ﴿ :ع ِن َّ
الس َ
ويتبعوه ،حيث إنهم لم يعبؤوا بقوله سألوه هذا متى وقوعها ،بدلً من أن ِّّ
يفكروا في قولك ّ
يها لِ َوْق ِت َها ِ ِ ِ
اها﴾ :متى وقوعها؟﴿ ُق ْل ِإَّن َما عْل ُم َها ع َ
ند َرهِبي الَ ُي َجهل َ ان ُمْر َس َ
السؤال﴿ :أََّي َ
ِإالَّ ُه َو﴾ :ل أحد يعلم وقتها ،أنا ُمبّلغ ل أعلم الوقت ،ولكن لها إشارات
ظمت :هولها عظيم ،من فوقهم ومن تحت أرجلهم ،نيران وعالماتَ ﴿.ثُقَل ْت﴾ :ع ُ
وزلزل ،ل تبقي ول تذر .أتدري ما فيها من هول؟ فقط تسأل عنها! ماذا أعددت لها؟
فكر لعرف عظمة هللا ولما سأل هذا السؤال ،بل لخاف منهاِ ﴿ :في لو َّ
ض﴾ :هول ،شدائد من السماء واألرض ،من األرض ينبعث بالء، السماو ِ
ات َواألَْر ِ َّ َ َ
يك ْم ِإالَّ َب ْغ َت ًة﴾ :على غفلة ،على حين ِّغ َّرة .لكن البالء ومن السماء بالء﴿ :الَ َتأ ِْت ُ
ما هو فقط بالء الدنيا :بالء في الدنيا وفي اآلخرةَ﴿ :ي ْسأَُلوَن َك َكأََّن َك َح ِف ٌّي َعْن َها﴾:
كأنك ل تعرف شيئاً عنها ،ول تعلمها .كأنك ل تدري عنها شيئاً :تريد أن تُخِّّلصهم
من العذاب ،وهم يريدون أن يمتحنوك امتحاناً .وهم كفرة اليهود ،إذ أرادوا امتحان
ّللا﴾ :وقت وقوعها ل يعلمه الرسول ألنها مذكورة عندهمُ ﴿ :قل ِإَّنما ِعْلمها ِعند ِ
َ ه َُ ْ َ
اس الَ َي ْعَل ُمو َن﴾ :هذا الهول الذي فيها.
()1
سواهَ ﴿ :وَل ِك َّن أَ ْك َثَر َّ
الن ِ
يفكر فيها أحد .وهللا عليم أن وقتها قريب جداً وجميع ل يعلمون شيئاً عنها ول ِّّ
اإلشارات وقعت .فما أشقى من ل ِّّ
يفكر ويستعد لها! كما أنه ورد في األثر عنه ﷺ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 88ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
يحدثنا عن القنابل النووية والهيدروجينية( :ال تقوم الساعة حتى تزول الجبال عن
أماكنها وترون األمور العظام التي لم تكونوا ترونها) (.)1
ولما كانت هذه الكارثة تهم البشرية عامة ،لذا كان لزاماً علينا أن نعطي صورة
واضحة عنها ،وأما ما سيعقبها من أحداث يتوقف عليها مصير البشرية ،فهذا ما
سنذكره بعد قليل بإذن هللا .إن ما يحول بين الناس وبين هللا ،هو حب الدنيا الدنية
بهذه الحضارة المادية العمياء المدمرة ،التي طغت على عقول الناس وقلوبهم ،لذا
أن البشرية ل تتنازل عن هذه الحضارة فإن الرجوع إلى هللا مرهون بإزالتها ،وبما
ِ
ينوعلى أيدي صانعيهاَ ﴿ :ق ْد َم َكَر َّالذ َ
الدنيوية طوعاً ،فإن هللا هو الذي يزيلها،
اه ُم الس ْق ِ
ف من َف ْوِق ِه ْم َوأ ََت ُ اع ِد
ِمن َقبلِ ِهم َفأ ََتى ّللا بْنياَنهم ِمن اْلَقو ِ
َف َخَّر َعَلْي ِه ُم َّ ُ
هُ ُ َ ُ ه َ َ ْ ْ
اب ِم ْن َحْي ُث الَ َي ْش ُعُرو َن﴾ :عملوا تدبيرات وحيل وترتيبات لرد الحق فأتى
()2
اْل َع َذ ُ
ِّ
لصد
دبروا ّ فخر عليهم ما صنعوه ،ونزلت قنابلهم عليهم ،هم ّ هللا بنيانهم من أصله َّ
حدها ضرب نفسه بها ،أذاهالناس عن الحق ،وهللا أرسل لهم بالء فالسكين التي َّ
ام ِة ُي ْخ ِزي ِه ْم.)3(﴾... ِ
عاد عليهُ ﴿ :ث َّم َي ْوَم اْلقَي َ
إن البشرية لم ولن تمر عليها كارثة بلغت من الشدة مثل ما ستبلغه هذه
الكارثة .ولن ينجو منها إل كل مؤمن ،أو من عنده القابلية لإليمان .أما المالجئ
األرضية فإنها لن تغني من هللا شيئاً ،إن شاء أن يهلكهم ،ومنطق هذه الحرب
يؤكد ذلك ،فالذين لم ُيقض عليهم من الصدمة األولى ،فإن اإلشعاعات الذرية
والتلوث ،وفساد الجثث ،والزلزل ،ستحول بينهم وبين الحياة ،بعد خروجهم من
المالجئ ،ول ندري أيضاً ما سيخرج لهم من باطن األرض .فاإلنسان ل يستطيع
أن يبقى في الملجأ زمناً طويالً ،ولو افترضنا أن كل شيء قد هيئ فيه ،فإن الحياة
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 89ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
خارجه غدت مستحيلة ،فكل شيء خارج الملجأ غدا هامداً ل حراك فيه ،هدوء
مرعب ،إل من أنين الرياح ،ل أهل ول بيت ول ولد إذ أن كل شيء قد تحول إلى
رماد.
ترى ماذا تتصور أن تكون حال هذا اإلنسان الذي خرج من ملجئه بعد حين،
ناهيك عن الغبار الذري المرعب وآثاره السامة ،إن حالته النفسية سوف تبلغ حد
الجنون أو النهيار .وسيدرك المتفائلون بإعادة الحضارة بعد الحرب من جديد،
أنها أماني ،وأن ذلك لرجع بعيد.
إن الدمار سوف يكون متناسباً مع شدة الفسق ،وعلى أساس ذلك فإن مناطق
المعسكرين الشرقي والغربي ،ستصبح قاعاً صفصفاً ،وستكون جثث شعوبها حطباً
لتلك النار ،ومن ثم رماداً تذروه الرياح .وسوف ل تحس منهم من أحد أو تسمع
لهم بعد ذلك رك اًز.
أما منطقة الشرق األوسط خاصة التي هي مهد األنبياء ،فسوف يكون حظها
من الدمار أقل ،وهذا ل يعني أن تبقى فيها بعض مظاهر الحضارة فهذا محال،
فهي كغيرها من المناطق ،ستعاني من الزلزل األرضية والمجاعة ،الشيء الكثير،
وسوف تكون مسرحاً للحروب التقليدية ،ولن ينجو منها إل القليل ،بعد أن تكون
الحرب قد أخرجت لهم كل أمراضهم النفسية ،وهيأتهم للطهارة نتيجة التجائهم إلى
هللا ،من شدة ما سيعانون ،من الجوع والخوف واأللم.
لذلك فالمالجئ التي يجب أن نعدها فقط ،هي اللتجاء إلى هللا ،واللتجاء من
اآلن ،ولن يفيد اللتجاء إذا أزفت اآلزفة ،إذ ليس لها من دون هللا كاشفة ،فالتوبة،
التحرس يجب أن يكون قبل أن يأتي يوم ل ينفع فيه الدعاء.
والستعداد ،و ُّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 90ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
حل بهمَ ﴿ :وَك ْم َق َص ْمَنا ِمن َقْرَية َكاَن ْت َ
ظالِ َم ًة﴾: انظروا إلى األمم السابقة ماذا َّ
آخ ِرين﴾(ِّّ :)1
فكر بمن سبق أين هم اآلن؟ ماذا كانت َنش ْأَنا َب ْع َد َها َق ْو ًما َ َ
مثلكمَ ﴿ :وأ َ
نتائج أحوالهم؟ وأنتم إن لم ترجعوا للحق ستُهلكون :هذا تهديد عام لكل منحرف.
فاإلنسان ولو عرف بفكره فلن يستفيد شيئاً ،ل َّبد من العقل :بالعقل اإلنسان يعرف
ْسَنا﴾ :جاء البالء ،جاءهم الهالكِ﴿ :إ َذا ُهم ِهمْن َها
َح ُّسوا َبأ َ
الحقائقَ ﴿ :فَل َّما أ َ
َيْرُك ُضو َن﴾ :من البلد ،تراكضوا ليخلصوا من البالءَّ .
()2
لما حصلت الزلزل :أين
المفر؟ ستُسأل غداً عند الموت عن الصوم ،الصالة ،الحج ،كل شيء له صورة
وحقيقة ،والحقيقة بال صورة ل تفيد ،والصورة بال حقيقة ل فائدة منها :ل َّبد من
ضوا﴾ :أنتم غداً مثلهم .قلنا
الجمع ،فالذي يأتي بالصور ل يستفيد شيئاًَ﴿ :ال َتْرُك ُ
لهم قبل ذلك على لسان رسلهم ل تركضوا غداً عند البالء ،هكذا قالت الرسل:
يه﴾ :ل تفسدوا الخلق ،عملكم هل هو منطقي ﴿وارِجعوا ِإَلى ما أُ ْت ِرْفتم ِف ِ
ُْ َ َْ ُ
اكِن ُك ْم﴾ :التي تسكنونها ،ما سكنت نفوسكم فيه من الدناءة والخبث،وطيب؟﴿ومس ِ
َََ ِّّ
وانظروا إلى هذه المدن من حكمها؟ من سكن بها؟ أين هم الذين سبقوا وعاشوا
قبلك؟
هل ستبقى أنت وتخلد؟﴿َل َعَّل ُكم﴾ :تعرفون إن َّ
فكرتم فتدركون أنكم بعد هذه الحياة: ْ
﴿ ُت ْسأَُلو َن﴾ :تعرف لماذا خلقت وتتدارك األمر فتعرف أنك ستُسأل عن هذه
تفكر ،فلن يخطر السؤال لك األشياء كلها :ستُسأل عن كل ما فعلت .أما إن لم ِّّ
ين﴾ :ولكن ما على بالَ ﴿ :قاُلوا يا ويَلَنا﴾ :عند نزول البالء عليهمِ﴿ :إَّنا ُكَّنا َ ِ ِ
ظالم َ َ َْ
اه ْم﴾ :ومعارضتهم ِ
الفائدة من هذا القول عند البالء والهالك؟﴿ َف َما َازَلت هتْل َك َد ْع َو ُ
ِِ
ظل اإلنسان متعّلِّقاً ين﴾ :إذا َّ يدا َخامد َ اه ْم َح ِص ً
للحق وتكذيبهم لرسليَ ﴿ :ح َّتى َج َعْلَن ُ
يفكر بالموت ،يظل مكِّّذباً للحقَ ﴿ :و َما َخَل ْقَنا يفكر بالموت" ،فإن لم ِّّ بالدنيا "ل ِّّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 91ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فكر يا إنسان بالسماء ض وما بيَنهما َال ِع ِبين﴾( :)1لعب اتخذناها! ِّّ
َ الس َماء َو ْاألَْر َ َ َ َ ْ ُ َ
َّ
واألرض والجبال هل هي لعب؟! كلها لسعادتك .هل خلقنا الدنيا لعباً؟! أل ِّّ
تفكر
لماذا خلق هللا الكون؟ خلقك لتكون إنساناً.
وهذه الواقعة ،سوف ل ينجو منها إل كل مؤمن ،أو من هو قابل لإليمان ،إذ في
هذه الساعة سوف يهلك كل مجرم ،أما الذين لديهم قابلية لإليمان ،فإن الحق
سيعرض عليه إما على لسان السيد المسيح ،واما على لسان أتباعه ،فإن آمن
واهتدى وصدق بالحسنى ،فسوف يحيا حياة طيبة في الدنيا ،وفي اآلخرة يكون من
الصالحين ،وال سيهلك مع الهالكين .إن البالء سوف ل يأخذ الصالح بجريرة
الطالح ،كما أنه ليس صحيحاً المثل القائل( :الرحمة مخصصة والبالء يعم) وهو
مثل مغلوط ،فالقرآن الكريم ُّ
كله وبه الحجة البالغة ،ل يؤيد هذا الزعم ،بل يبين أن
الرحمة مخصصة ،والبالء مخصص أيضاً .إن هللا سبحانه وتعالى قد بين لنا عن
نجا من بينهم المؤمنين ،قال تعالىَ ﴿ :وَل َّما َجاء األقوام السابقة التي أهلكت ،أنه قد ّ
اهم ِهم ْن َع َذاب َغلِيظ﴾(.)2 ِ ِ
آمُنوْا َم َع ُه ِبَر ْح َمة همَّنا َوَنجَّْيَن ُ ودا َو َّالذ َ
ين َ َمُرَنا َنجَّْيَنا ُه ً
أْ
آمُنوْا َم َع ُه ِبَر ْح َمة ِهم َّنا َو ِم ْن ِخ ْزِي َي ْو ِم ِئذ ِ ِ
ين َ َمُرَنا َن َّج ْي َنا َصال ًحا َو َّالذ َ
﴿ َفَل َّما َجاء أ ْ
إِ َّن َرَّب َك ُه َو اْل َقو ُّ
ِي اْل َع ِز ُ
يز﴾( .)3وقل مثل ذلك عن قوم لوط ،وأهل مدين وغيرها من
اآليات.
تلك سنن وقوانين ل تتبدل ول تتغير ،وهذه القوانين تنطبق على الفرد كما
تنطبق على الجماعة ..وقد وعد سبحانه بأنه سوف ينجي المؤمنين إذا أصاب
ِ قومهم البالء ،قال تعالىَ ..﴿ :ك َذلِ َك َحًّقا َعَلْيَنا ُن ِ
نج اْل ُم ْؤ ِمن َ
ين﴾(.)4
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 92ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ظَل ُموْا ِم ُ ِ ِ ِ
اعَل ُموْا
آص ًة َو ْ
نك ْم َخ َّ أما اآلية الكريمةَ ﴿ :و َّاتُقوْا ف ْتَن ًة الَّ ُتص َيب َّن َّالذ َ
ين َ
اب﴾( :)1فهي تعني أولئك الذين بإمكانهم محاربة الفتنة ثم يد اْل ِعَق ِ ِ
ّللا َشد ُ
َن ه َ
أ َّ
تقاعسوا عنها ،لذلك فإنه ل بد أن يصيبهم ما أصاب الذين كانوا سبباً في إيقاظها،
()2
بعدم نهيهم عنها دليل على رضاهم بها ،أما إذا استشرت الفتنة ألنهم
واستفحلت ،وخرجت عن نطاق مقاومة المؤمنين لها ،فما على المؤمن إل نفسه،
ومن يستطيع هدايتهم ،أو من له سلطة عليهم.
لقد بين لنا تعالى هول هذه الساعة ،وبين لنا أن النجاة في عصرها ،ل يكون
إل بالتقوى ،أي اإليمان المبني على الشهود ،إذ ل يمكن لإليمان التقليدي أن
يثبت صاحبه أمام هذه الشدائد.
ِ الس ِ
يمَ ،ي ْوَم
اعة َش ْي ٌء َعظ ٌ اس َّاتُقوا َرَّب ُك ْم ِإ َّن َزْل َزَل َة َّ َ قال تعالىَ﴿ :يا أَُّي َها َّ
الن ُ
اس َتروَنها َت ْذهل ُك ُّل مر ِضعة ع َّما أَر َضع ْت وَت َضع ُك ُّل َذ ِ
ات َح ْمل َح ْمَل َها َوَتَرى َّ
الن َ ُْ َ َ ْ َ َ ُ َُ َْ َ
يد﴾(.)3 ّللا َش ِد ٌس َكارى وما هم ِبس َكارى وَل ِك َّن ع َذاب َّ ِ
َ َ ُ َ ََ ُ ُ َ َ
إن هذه اآلية ل تشير كما ُيظن ،إلى يوم القيامة ،ألن أحمال النفس من شهوات
كالنساء والمال والجاه والبناء والسيارات واللباس وما شابه ذلك ( )4تكون سقطت جملة
وتفصيالً عند الموت ،فال حمل ول أطفال ترضع وأمهات تُرضع يوم القيامة ،كما
أنه ل يبقى لإلنسان أية أمنية سيئة يحملها في ذلك اليوم ،فإنه يتمنى أن يكون بينه
وبينها أمداً بعيداً ،أما أحمال النفس وكل ما يشغلها قبل قيام الساعة ،تكون موجودة
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 93ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فيها ،ول تضعها إل عندما ترى شدة هولها ،حتى أن كل مرضعة تذهل عما
أرضعت ،كم عند الوالدة من عطف على ولدها ،ولكن ساعتها تذهل عنه ،بل هذه
األحداث الهائلة تحدث في الدنيا عند وقوع الزلزل المرعبة ،إذ ل يبقى للنفس من
هم إل اتقاء شدة البالء ،وينسى اإلنسان كل شيء ،إل هذا الخطر المحدق به..﴿ :
اس ُس َك َارى :﴾...الهول ينسيهم كل شيءَ ..﴿ :و َما ُهم ِب ُس َك َارى :﴾...ما َوَتَرى َّ
الن َ
ّللا َش ِد ٌ
يد﴾: شربوا خم اًر ،لكن العذاب أسكرهم وشغلهم عن كل شيء ..﴿ :وَل ِك َّن ع َذاب َّ ِ
َ َ َ
إذا كان هللا تعالى يصف هذا اليوم وعذابه بالشدة ،فكيف هو يا ترى؟!
هذا وقد ورد ذكر للساعة في اإلنجيل أيضاً ،وسنذكره في حينه.
ول غرابة ،فالسيد المسيح ِّ عْلٌم للساعة ،وهو المعني باألمر ،وهو المأمور
بإعالء كلمة الحق في األرض من قيام الساعة والى يوم القيامة بإمداد من هللا تعالى،
ولكن فهمت النصارى كما فهم المسلمون بأن الساعة التي يأتي بها هي ساعة يوم
القيامة.
أقول :ما فائدة مجيء الرسول عند يوم القيامة؟!
كل منهم كتابه؟! إما بيمينه
أما انتهت فترة المتحان؟! أما ينتظر الناس ليؤتى ٌّ
واما بشماله ،وما فائدة النصح وهل تنفع موعظة عندئذ؟! أما كشف الغطاء
وأصبح البصر يومئذ حديد؟!
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 94ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الفصل الثالث
في هذا الفصل:
أشراط الساعة.
خروج بيت المقدس من أيدي المسلمين.
طلوع الشمس من مغربها وانشقاق القمر.
النفوذ من أقطار السماوات واألرض.
خروج يأجوج ومأجوج.
خروج دابة األرض.
زخرفة األرض.
ظهور الدخان.
أشراط الساعة الصغرى.
***
أشراط الساعة
َهُلها َغ ِ
افُلو َن﴾ ()1
﴿ َذلِ َك أَن َّل ْم َي ُكن َّرُّب َك ُم ْهلِ َك اْلُقَرى ِب ُ
ظْلم َوأ ْ َ
إن هللا سبحانه ل يأخذ الناس على حين غرة ،ودون سابق إنذار ،وهو جل
شأنه لرحمته بعباده يرسل( )2إليهم رسولً يحذرهم مما هم فيه من الكفر والضالل،
وينذرهم إذا لم يتوبوا نا اًر أعدت للكافرين.
فإذا رجعوا عما هم فيه ،ونهوا النفس عن الهوى ،فإن هللا من بعدها لغفور
آمَن ْتَقْرَي ٌة َ رحيم ،يبدل سيئاتهم حسنات ،ويرفع عنهم عذاب الخزيَ ﴿ :فَل ْوالَ َكاَن ْت
ِفي اْل َحَيا َة َفَن َفعها ِإيماُنها ِإالَّ َقوم يوُنس َل َّمآ آمُنوْا َك َش ْفَنا عْنهم ع َذاب ِ
الخ ْزِي َ ُْ َ َ َ َْ ُ َ ََ َ َ
اه ْم ِإَلى ِحين﴾ .
()3
الدْنَيا َو َم َّت ْعَن ُ
ُّ
وأما إذا عتوا عن أمر ربهم ،وأصروا على كفرهم ،فإن هللا يأخذهم بالعذاب
األدنى دون العذاب األكبر ،لعلهم يرجعون ،أو يبلوهم بالبأساء والضراء ،ويلبسهم
شيعاً ليذيق بعضهم بأس بعض ،أو يضرب عليهم الذلة والمسكنة ،أو يذيقهم شيئاً
من الجوع والخوف وعدم األمن ،إلى غير ذلك من ألوان العذاب ،لعلهم بتلك
المصائب أو تلك العالجات ،يصحون من سكرتهم ،ويتنبهون من غفلتهم ،فإذا لم
يذعنوا ألمر هللا ،ولم يعتبروا من تلك المصائب الناشبة اآلن في كل بقاع المعمورة،
من أعاصير وعواصف استوائية ،وزلزل وب راكين ،وجفاف وفيضانات في بقاع
أُخرى ،وطوفانات كسونامي وغيرها الكثير في أرجاء األرض ،وحروب مدمرة،
وأمراض مستعصية لإلنسان واألنعام ،كجنون البقر ،وانفلون از الطيور ،وطاعون
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 97ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
األغنام ،ونفوق النوق والجمال ،وغيرها ،فإن هللا بعد ذلك يأخذهم بعذاب يوم بئيس:
يم َشِد ٌ
يد﴾(.)1 ظالِم ٌة ِإ َّن أ ْ ِ
َخ َذ ُه أَل ٌ
ى ِ ﴿ َوَك َذلِ َك أ ْ
َخ ُذ َرهِب َك ِإ َذا أ َ
َخ َذ اْلُقَر َوه َي َ َ
حذرنا تعالى على لسان رسوله الكريم ،بالعالمات أو اإلشارات التي لذلك فقد َّ
تسبق تلك الساعة ،لعلنا نتدارك أمرنا ،ونثوب إلى رشدنا ،فنرجع إلى ديننا ،ونؤمن
باهلل ورسوله ،وعندئذ سوف ينصرنا نص اًر عزي اًز ،ويبدل خوفنا أمناً ،وعسرنا يس اًر،
وضعفنا قوة ،فنخدم إخواننا بني البشر ،لسلوك الطريق المستقيم ،وكي ننعم جميعاً
بحياة الرغد والهناء والمحبة والوئام ،تحت لواء الرسول الرحيم ،فنغدو بهذه الحياة
جنة حقيقية ننعم بها جميعاً ،نحن األخوة أولد أبينا آدم وأمنا حواء عليهما
في ّ
السالم ،فيعم ذلك بالعالم ،ل لننهب ثرواتهم ،أو نذلهم بغير الحق ،كما تفعل بعض
()2
من عبودية المادة ومن عبودية شهواتهم ،وبمعنى الدول اليوم ،بل لنحررهم
أشمل لنؤدي لهم رسالة السماء ،كي يعرفوا طعم الحرية ،وطعم العدل ،وطعم
السعادة .وننال بذلك األجر والثواب من هللا تعالى.
والَّ نفعل ذلك ونبقى ِّّ
مصرين على ما نحن عليه ،فحاشا هلل أن ينصرنا ،وحاشا له أن
يعزنا ،ألن هللا َّ
جلت قدرته لو سودنا على العالم ألعطينا الناس فكرة مشوهة عن اإلسالم.
هذا وان كنت قد فصلت في هذا الموضوع ،فإني أضيف هنا ُلمحاً عن كيفية
الدنية ،وما فيها من مفاتن ،هي األساس في إعراض
الفساد ،ذلك ألن حب الدنيا ّ
الناس عن هللا جل شأنه.
فإذا التفتت النفس إلى الدنيا ،واستغنت بها عن اآلخرة ،يصبح همها شهوتها
طة ،وما أكثرها ،وتشغل ساحتها ،وتصرفها عما سواها.
المنح ّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 98ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وبغية تحقيق تلك الرغبات المتزايدة ،يسعى اإلنسان بكل ما أوتي من قوة،
ويبذل كل ما وسعه من جهد ،لسد متطلبات الحياة الكثيرة والمعقدة التي فرضها
مجتمع ُه ،وهو في غنى عنها.
ُ عليه
إن السعادة نسبية ،فالنفس ترضى بالقليل إن وجدت المجتمع اإلنساني كله أو
حتى البيئة التي يقطنها ،تعيش في مستوى معين بسيط ،ولكن اإلنسان إذا سكن
في بيئة متفاوتة الطبقات أو المستويات المعاشية ،فإنه من غير شك تأخذه الغيرة،
واأللم ،والحقد ،وبمعنى آخر ،لقد أفسد عليه مجتمعه حياته ،وهللا ل يحب الفساد،
وعندها يشمر عن ساعد الجد ،ويسعى بشتى الطرق ،ويتذرع بمختلف الوسائل،
ليسد الرغائب التي فرضها عليه مجتمعه الفاسد ،ول يبالي إذا سلك طرقاً ملتوية
دون وازع من ضمير ،إلرواء غليله ،ما دام هذا الطريق أو ذاك يحقق له ما يريد.
إن مهمة الرسول الكريم إذًا هي تصحيح الوضع الجتماعي المتردي ،الذي
يقودهم نحو الهاوية ،نحو الشقاء األبدي .فيأتيهم بالهدى ،والكتاب المنير ،ويعظهم
ويقارعهم بالحجة ،فإن سمعوا وعملوا بما سمعوا ،فإن هللا من بعدها لغفور رحيم،
يبدل سيئاتهم حسنات ،ويبتعد الهم والقلق واأللم والظلم والشقاء بطبيعته ،ويصلح
بالهم .وان أبوا واستكبروا فإن هللا يأخذهم كما ذكرنا بألوان من العذاب ،لعلهم
يرجعون ،واذا لم يفدهم العالج ،ولم يقبلوا نصح الرسول الكريم ،فعندئذ ينذرهم تعالى
على لسان رسوله ،فإن أصروا على كفرهم ،واسته أزوا بما أنذروا ،عندئذ فإن البالء
حال بهم ل محالة ،وسينجي هللا الذين آمنوا منهم برحمة منه ومتاع إلى حين. ٌّ
آمُنوْا َم َع ُه ِبَر ْح َمة ِهمَّنا ِ
ودا َو َّالذ َ
ين َ َمُرَنا َنجَّْيَنا ُه ً
قال تعالىَ ﴿ :وَل َّما َجاء أ ْ
اهم ِهم ْن َع َذاب َغلِيظ﴾(.)1
َوَنجَّْيَن ُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 99ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِ ِ َخ رج َن ا م ن َك ِ
يه ا م َن ا ْل ُم ْؤ ِم ن َ
ين َ ،ف َم ا ان ف َ َ وقال سبحانه عن قوم لوطَ ﴿ :ف أ ْ َ ْ َ
ين ﴾(.)1 ِِ ِ ِ
يه ا َغ ْي َر َب ْي ت هم َن ا ْل ُم ْس ل م َ
َو َج ْد َن ا ف َ
ِ
آمُنوْا َم َع ُه ِبَر ْح َمة
ين َ َمُرَنا َنجَّْيَنا ُش َعْيًبا َو َّالذ َ
وعن قوم شعيب قالَ ﴿ :وَل َّما َجاء أ ْ
ِِ ِ ِ َّمَّنا وأ َ ِ ِ
ين﴾(.)2َصَب ُحوْا في دَي ِارِه ْم َجاثم َ الصْي َح ُة َفأ ْ
ظَل ُموْا َّ
ين ََخ َذت َّالذ َ َ
هذا ولما أصبحت الفتن تتوارد كقطع الليل مظلماً ،فإن هللا سيهلك الذين كفروا
أصروا على كفرهم ،وسينجي الذين آمنوا برحمة منه ،وسيجعلهم بعد ذلك فوق منا و ُّ
الذين كفروا إلى يوم القيامة.
تلك قوانين ل يمكن التغلب عليها ،ألن هللا غالب على أمره ،فإذا فسقت أمة،
أو أمم فإن هالكهم سيكون محققاً ،فال مؤتمرات السالم ،ول اجتماعات نزع
السالح ،ول فكرة التعايش السلمي ،ول توازن القوى ،ول أي شيء في الوجود،
يمكنه أن يصرف البالء المنتظر إذا آن أوانه ،اللهم إل بشرط واحد فقط ،وهذا
الشرط هو ابتعاد البشرية عما أُترفوا فيه ،وتغيير هذا النهج ،نهج الضالل والكفر،
والرجوع إلى رياض الدين ،والتمسك بتعاليمه قولً وفعالً ،وأخذ الكتاب بقوة ،والعمل
به بقوة أيضاً ،ولما كان هذا الشرط ،يكاد يكون مستحيالً ،بسبب النصراف الكلي
نحو الدنيا ،والبتعاد الكلي بالنسبة لمعظم البشرية عن هللا ،فإن الساعة آتية ل
ريب فيها ،وهذا ما بينه سبحانه وتعالى ،عندما قرن وقوع القول على الناس بخروج
دابة األرض( ،)3وبما أن دابة األرض قد أخرجت ،فإن البالء بات محققاً ،ذلك ألن
البشرية في هذا العصر ،تقترف من السيئات ما فاق أعمال األمم السابقة جميعها،
وأنها بلغت من الطغيان مبلغاً لم يصله أحد من العالمين من قبل ،لذا فإن هللا عز
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 100ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وجل لن يتركنا نعيث في األرض فساداً .كال ...فإنه مصيب الذين ظلموا في
أمر.
عصرنا ما أصابهم ،بل أدهى من ذلك كله و ُّ
إن الرسول الكريم محمد ﷺ ،حذرنا من هذا البالء ،وبين لنا األشراط الدالة على
وقوعه .وكذلك سوف يظهر هللا السيد المسيح ،وهذا الظهور بات وشيكاً،
مؤكداً ما قاله سيدنا محمد ﷺ .واذا لم تستمع البشرية لداعي هللا ،فإن البالء سوف
ل يلبث طويالً ،وسوف ل ينجو منه إل كل مؤمن ،أو قابل لإليمان ،ولن تفيدهم
صياصيهم ،ول غيرها من الستعدادات ،إذا أراد هللا أن يهلكهم.
أما األشراط أو العالمات أو اإلشارات التي تسبق الساعة ،فهي كثيرة ،لذا نذكر
منها ما جاء ذكرها في القرآن الكريم وتم وقوعها فعالً.
فمن هذه األشراط الكبرى:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 101ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
خروج ِيت المقدس من أَدي المسلمين
وقبل تفصيل هذا الشرط نقول من هم الذين تكون القدس في أيديهم عند فتحها
من قبل المسلمين؟
لقد جاء في األثر بأن القدس قد فتحت في زمن عمر بن الخطاب ،وكانت
يومئذ تحت سيطرة النصارى من الرومان ،كما فتحت ثانية على يد صالح الدين
األيوبي ،وكانت يوم ذاك تحت سيطرة النصارى من الصليبيين ،ولكن هل إلى
هذين الفتحين أشار القرآن؟ أم إلى فتح آخر؟ إذا ما رجعنا إلى القرآن الكريم نجده
يل ِفي ِ ِ ِ ِ
قد نوه إلى ذلك الفتح في سورة اإلسراء .قال تعالىَ ﴿ :وَق َضْيَنا إَلى َبني إ ْسَرائ َ
يرَ ،فِإ َذا َجاء َو ْعُد أُو ُ
اله َما َب َع ْثَنا اب َل ُت ْف ِسُد َّن ِفي األَْر ِ
ض َمَّرَتْي ِن َوَل َت ْعُل َّن ُعُل ًّوا َك ِب ًا اْل ِك َت ِ
عَلي ُكم ِعبادا َّلَنا أُولِي بأْس َش ِديد َفجاسوْا ِخالَ ل هِ
ان َو ْعًدا َّم ْف ُعوالًُ ،ث َّم الدَي ِار َوَك َ َ َ ُ ْ َ َْ ْ ًَ
اك ْم أَ ْك َثَر َن ِف ًا ِ َرَد ْدَنا َل ُكم اْل َكَّرَة َعَلْي ِهم َوأَم َد ْدَن ُ ِ
نت ْمَح َس ُيرِ ،إ ْن أ ْ ين َو َج َعْلَن َُم َوال َوَبن َ اكم بأ ْ ْ ْ ُ
وه ُك ْم َولَِي ْد ُخُلوْا
وؤوْا ُو ُج َاآلخَرِة لَِي ُس ُ نتم ِألَن ُف ِس ُكم واِ ْن أَسأ ُْتم َفَلها َفِإ َذا جاء و ْعُد ِ
َ َ َ ْ َ ْ َ َح َس ُ ْ أْ
اْل َم ْس ِج َد َك َما َد َخُل ُ
وه أ ََّو َل َمَّرة َولُِي َتهِبُروْا َما َعَل ْوْا َت ْت ِب ًا
ير﴾(.)1
من هذه اآليات يتبين أن بيت المقدس عند فتحه يكون بيد اليهود اإلسرائيليين،
وليس بيد المسيحيين من رومان وصليبيين.
يل ِفي ِ ِ ِ ِ
وهذا ما تدل عليه تلك اآليات الكريمة َ ﴿ :وَق َضْيَنا إَلى َبني إ ْسَرائ َ
اب :﴾..إن هللا قضى في الكتاب ،أي في التوراة ،أن بني إسرائيل ما داموا اْل ِك َت ِ
على استكبارهم ،وعدم تقديرهم لرسولهم ،وعدم تفكيرهم في آلء هللا ،وبالتالي عدم
إيمانهم باهلل ،فإنهم سيفسدون في األرض مرتين ،وهذا الفساد قد جاء ذكره في
العهد القديم ،لقد جاء في سفر ُأرميا في اإلصحاح الثاني( :إنذهلي أيتها
السماوات من هذا الفساد واقشعري وانتفضي جسداً فإن شعبي صنع َّ
شرين).
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 102ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وهذا مصداق لآلية الكريمةَ ..﴿ :ل ُت ْف ِسُد َّن ِفي األَْر ِ
ض َمَّرَتْي ِن ،﴾..وبما أن العهد
القديم هو عبارة عن تاريخ بني إسرائيل بغض النظر عن صحة رواياته فإن هذا القول
شرْين) فال يؤخذ بمعناها الحرفي
ل شك مأخوذ من التوراة كالم هللا .وأما جملة (صنع َّ
بأن الشرين قد حدثا في الماضي بسبب التحريفات التي أحدثوها ،وبسبب سوء
الترجمة ،كذلك فإن في القرآن الكريم آيات جاءت بصيغة الماضي ،وهي تعني
المستقبل (.)1
ضمنوه أسفارهم ل سيما (سفر أشعيا وأرميا) فإنك
أما الفساد األول فانظر ما َّ
ترى وصفاً لفسادهم وافسادهم يفوق حد الوصف ( ،)2وهذا الفساد واإلفساد قد جاء
قبيل تنفيذ الوعيد من رب العالمين ،لقد ّبين تعالى بأن اإلفساد األول ستكون عقوبته
إرسال عباد له أولي بأس شديد .واآلن لننظر ما جاء في اإلصحاح السابع من سفر
أشعيا:
( ...تقتلون ،وتسرقون وتزنون ،وتحلفون ،ثم تأتون وتقفون بين يدي الرب
في هذا البيت الذي دعي باسمي وتقولون أْنق ْذنا حتى تصنعوا جميع تلك
األرجاس .أفصار هذا البيت الذي دعي باسمي مغارة للصوص).
ونتيجة لذلك الفساد جاء جواب الرب كما ورد في نفس اإلصحاح:
س ْبحَانَهُ َوَِعَالَى َ
ع َّما َُش ِّْركُونَ ﴾ اآلية ( )1من سورة النحل. ( _ )1مثال ذلك قوله تعالى﴿:أََِى أَ ْم ُر ّللِّ فَالَ َِ ْ
ستَع ِّْجلُوهُ ُ
( _ )2من ذلك الفساد نذكر ما جاء في اإلصحاح الخامس من سفر أشعيا ..( :كيف أصفح وقد ِركنَ ِنوك وحلفوا ِما ليس ِۤله .وحين أشبعتهم
فسقوا وِلى ِيت الزانية ِبادروا ،صاروا أحصنة معلفة هائمة =
=كل َصهل على امرأة قرَبه أفال أفتقد على هذا َقول ا لرب ،وَّ ِنتقم نفس من أمة مثل هؤَّء" ،لقد غدر َِ آل ِسرائيل وآل َهوْا ،ها أنذا
أجلب عليكم أمة من ِعيد َا آل ِسرائيل أمة قوَة ،أمة قدَمة ،أمة عرَقة" أمة ليست ِعرف لسانها وَّ ِفهم ما ِتكلم ِه .جعبتها كقبر مفتوح
شدَِّد) َْكلون حصادك ،وخبزك وغنمك ،وَدحرون ِالسيف مدنك الحصينة ،آثامكم وخطاَاكم منعت كلهم جباِرة وصفهم تعالى( :أ ُ ْولَِّ َِْْس َ
الخير عنكم).
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 103ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
(وبما أنكم عملتم كل هذه األعمال وقد كلمتكم مبك اًر ( )1ولم تسمعوا فسأصنع بهذا
البيت الذي دعي باسمي كما صنعت ((بشيلو)) وأنبذكم على وجهي كما نبذت جميع
إخوتكم).
وفعالً كان تدمير البيت أم اًر مفعولً على يد الملك الكلداني (بختنصر) .وبعد
توبتهم ورفع شأنهم بعصر سيدنا داود الذي قتل (جالوت) وأصبحوا خير أمة،
ولكنهم عادوا للفساد وافساد حياة األمم ،فغيروا سيرتهم التي كانوا عليها بعهد سيدنا
داود وسليمان عليهما السالم.
ومنذ ذلك الحين وحتى عام /1967/ظل هذا الشعب خاس اًر للقدس وخارجها
تحت حكم ووصاية الدول ورعايتها.
لقد بين تعالى في اآلية السابقة ،بأن هللا قضى لهم في الكتاب ،بأنهم سيفسدون
في األرض مرتين ،ويعلون علواً كبي اًر ،أما وقد أشرنا وذكرنا شيئاً من فسادهم ،إل
أننا لم نذكر عن إفسادهم شيئاً ،ألننا نعلم أن كل فساد يتبعه اإلفساد ،إذ كل فاسد
يحاول إفساد غيره ليكون له ذلك مبر اًر أمام هللا والناس بزعمه ،فمن ذلك قولهم:
اك ْم.)2(﴾... ﴿َّ ..ات ِب ُعوا َس ِبيَلَنا َوْلَن ْح ِم ْل َخ َ
ط َاي ُ
ذلك ألن الشيء ل يظهر بشكل واضح إل بضده ،فإذا وجدت فئة مؤمنة وأخرى
كافرة ،فإن سلوك الثانية يظهر بشعاً أمام سلوك األولى ،ونتيجة لهذا التفاضل يتولد
الحسد والغيظ من قبل الكفار ،وعندئذ يسعون إلفسادهم ،لكي يزول ذلك التفاضل،
ولكيال ينكشف للناس زيفهم .وبالنسبة لبني إسرائيل عندما أصبحت نفوسهم خبيثة،
ولكيال يظهر للناس فسادهم ،أو تقام عليهم الحجة يوم القيامة ،بزعمهم ،راحوا يسعون
في األرض الفساد ،وقد تذرعوا بشتى الوسائل ،لتبرير إفسادهم.
( _ )1إن جملة (وقد كلمتكم مبكرا) دليل آخر بأن هللا قضى لبني إسرائيل مبكرا ً أي في التوراة بأنه سيدمر البيت إذا بلغوا من الفسق هذا الحد.
( _ )2سورة العنكبوت اآلية ()12
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 104ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لقد جاء في أسفارهم قصص كثيرة من األساليب الملتوية ،التي كانوا يتبعونها في سبيل
اإلفساد ،فمن جملة األساليب مثالً ،استخدامهم للنساء ،والمال ،والفسق ،ونشر الترف.
والكثير من هذا الشعب كان ول يزال ،ينشر الفساد كلما سنحت له الفرص
وواتته الظروف .ألنه كان يبغي جمع المال ،والمال مادة الشهوات والفساد ،ل
يقتصر على اإلغراء بالشهوات ،وانما يلحقها إفساد العقائد التي تدين بها األمم
أيضاً .وتلك المحاولت قد نلمسها في بعض كتب التفسير ،وفي األحاديث
المدسوسة ،وقد تمكن هؤلء مع غيرهم من الداسين ،أن يدسوا في الدين اإلسالمي
الشيء الكثير( ،)1كما أنهم استطاعوا بالمساعي مع غيرهم ،بهذه الدسوس وسذاجة
من يتقبلها ،أن يفرقوا األمة اإلسالمية ،إلى شيع وأحزاب وطوائف كثيرة متناحرة.
تلك لمحة موجزة عن فسادهم وافسادهم ،وعن علوهم وتدميرهم في المرة األولى ،أما
في المرة الثانية من فسادهم الثاني في األرض ،فهو ِّّبين لكل ذي عين ،وما فساد أوربا،
إل من مكر المفسدين من هذا الشعب ،وتمكنوا في فترة ل تزيد عن ربع قرن ،بواسطة
حبل من الناس الغربيين والشرقيين ،وهم الذين أمدوهم ،بأن يبسطوا نفوذهم على كامل
فلسطين ،وبعض األراضي المجاورة لها ،وكان عام 1967/م /أكبر علو لهم ،فقد أتموا
َسأ ُْت ْم َفَل َها َحس ُ ِ ِ سيطرتهم واحتاللهم لمدينة القدسِ﴿ :إ ْن أ ْ
نت ْم ألَن ُفس ُك ْم َواِ ْن أ َ نت ْم أ ْ َ
َح َس ُ
وه أ ََّو َل َمَّرةوه ُك ْم َولَِي ْد ُخُلوْا اْل َم ْس ِج َد َك َما َد َخُل ُ اآلخَرِة لَِي ُس ُ
وؤوْا ُو ُج َ َفِإ َذا جاء و ْعُد ِ
َ َ
ير﴾( :)2فيتم هالك الكفرة الجاهلين منهم ،على أيدي المؤمنين ،ثم َولُِي َتهِبُروْا َما َعَل ْوْا َت ْت ِب ًا
ل َّبد وأن يؤمن الباقون منهم جميعاً ،على يد سيدنا عيسى ،بدللة قوله تعالى
( _ )1ما يسمونه باإلسرائيليات كتلك الروايات التي تشوه سيرة أشرف الخلق صلى هللا عليه وسلم من أن يهوديا ً رهن عنده النبي الكريم درعه.
ويهوديا ً سحره .ويهودية سممت النبي الكريم .وأن اليهودي (دحية الكلبي) الذي كان يشبه جبريل (بزعمهم) خدع الرسول وأوحى له بالخروج
إلى بني قريظة .فما دمنا نقول صلى هللا عليه وسلم فال يمكن أن يتسمم ،أو يُسحر ،أو يخدع ،أو يفتقر مطلقاً ،ألن السالم يعني األمان من هللا
تعالى .كما قال صلى هللا عليه وسلم (السالم أمان هللا في األرض) فأنّى لمخلوق أن يضرّ ه أو يذلّه وهللا مانع رسله .قال تعالىَ ...﴿:وّللُ ََع ِّ
ْص ُمكَ
مِّ نَ ال َّن ِّ
اس ﴾...اآلية ( )67من سورة المائدة.
( _ )2سورة اإلسراء اآلية ()7
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 105ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ام ِة َيُكو ُن َعَلْي ِه ْم ِ ِِ ووعده﴿ :واِن ِمن أ ِ ِ ِ ِ َّ ِ ِ ِ
َهل اْلكَتاب إال َلُي ْؤمَن َّن به َقْب َل َم ْوته َوَي ْوَم اْلقَي ََ هْ ْ
جمعهم بفلسطينَ ﴿ :وُقْلَنا ِمن َب ْعِد ِه عما قريب ،وأما آية ْ
()1
َشه ًيدا﴾ :هذا حتماً سيقع ّ
ِ
اآلخَرِة ِجْئَنا ِب ُك ْم َل ِفيًفا﴾( .)2وليست كلمة ض َفِإ َذا جاء و ْعُد ِ اس ُكُنوْا األَْر َ ِِ ِ ِ
َ َ يل ْ
لَبني إ ْسَرائ َ
اآلخَرِة﴾ :تعني يوم القيامة بل هي آخر فسادهم وكفرهم وذلك بعد تجمعهم ،فقد وقعت، ﴿ ِ
وقد اجتمعوا اآلن بفلسطين.
وقبل أن نختم هذا الشرط أو هذه العالمة الكبرى من عالمات الساعة عن خروج بيت
المقدس من أيدي المسلمين لليهود ،حيث وقع ذلك عام /1967/نود أن نتعرض للنقطة
التالية:
لقد ذكر لنا تعالى في كتابه الكريم ،أن بني إسرائيل قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة،
وباؤوا بغضب من هللا ،كما أنه كتب عليهم التشريد في اآلفاق .وما دام األمر كذلك،
فلماذا أصبح لهم هذا الشأن؟
الحقيقة أن بني إسرائيل ل يزال مضروباً عليهم الذلة والمسكنة ،ضمن حالتين كما ورد
الن ِ
اس في اآلية التاليةُ ﴿ :ض ِرب ْت عَلي ِهم الِهذَّل ُة أَين ما ُث ِقُفوْا ِإالَّ ِبحبل ِمن ِ
ّللا َو َحْبل ِهم َن َّ
َْ ه ْ ه َْ َ َ َْ ُ
ات ِ ّللا و ُض ِرب ْت عَلي ِهم اْلمس َكَن ُة َذِلك ِبأََّنهم َكاُنوْا ي ْكُفرو َن ِبآي ِ ِ ِ
ّللا
ه َ َ ُ َ ُْ آؤوا ِب َغ َضب هم َن ه َ َ َ ْ ُ َ ْ َوَب ُ
ق َذِل َك ِب َما َع َصوا َّوَكاُنوْا َي ْعَتُدو َن﴾(.)3
َوَيْقُتُلو َن األَنِبَياء ِب َغْي ِر َح ه
الحبل األول :هو حبل هللا :أي تحت سيطرة أمم إسالمية.
والحبل الثاني :وهو حبل الناس ،يعني بأن هللا ل يمد بني إسرائيل وهم على هذه
الحال إل عن طريق الناس من غير المؤمنين ،وهؤلء يسخرونهم لخدمة مصالحهم،
فرِّق تسد .وهذا أمر واضح لكل ذي بصر بأن وتنفيذ غاياتهم ومآربهم ،على مبدأ ّ
قيام دولة إسرائيل وبقاءها مرهون بحبل أمريكا وأوروبا .أما الغاية من تسليط هؤلء
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 106ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وهؤلء علينا من قبل هللا تعالى ،هي رحمته تعالى بنا ،لعلنا نتعظ ونرجع إلى ديننا
وانسانيتنا ،ونتوب إلى هللا متاباً ،بعد أن بلغنا من الفسق والضالل ما بلغنا .وألننا
دون غيرنا المعنيون والمكلفون بنشر الحق إلى العالم أجمع ،ونحن األمة الوسط
الذين اختارنا هللا ،منذ أن بعث الرسول الكريم سيدنا محمد ﷺ فينا ،وهذا الرسول
الكريم جاء ليكون علينا شهيداً ،ونكون شهداء على الناس ،ولكن بيان شهادة الحق
للناس ل تكون إل إذا أقمنا الصالة ،وحصلنا على الزكاة القلبية والطهارة .وهذه
الصالة ل تقام إل إذا اعتصمنا باهلل تعالى ،وأصبح لنا الولي ،دون دول الشرق
والغرب.
اك ْم َو َم ا َج َع َل َع َل ْي ُك ْم ِفي ِِ ّللاِ َح َّ
اه ُدوا ِفي َّ قال تعالى﴿ :وج ِ
ق ِج َه اده ُه َو ْ
اج َت َب ُ ََ
مين ِم ن َق ْب ُل َو ِفي َه َذا ِ ين ِم ن حرج ِم َّل َة أَ ِب ُ ِ ِ هِ
اك ُم اْل ُم ْسل َ يم ُه َو َس َّم ُ يك ْم إ ْب َراه َ الد ِ ْ َ َ ه
الص َال َة
يم وا َّ َّ ِ ِ ول َش ِه ً لِ َي ُكو َن َّ
يدا َع َل ْي ُك ْم َوَت ُكوُنوا ُش َه َد اء َع َلى الن اس َفأَق ُ الر ُس ُ
() 1
اّللِ ُه َو م ْوَال ُك ْم َف ِن ْع َم ا ْلم ْوَلى َوِن ْع َم َّ
الن ِص ُير﴾ اع َت ِص ُموا بِ َّ آتوا َّ
الزَك ا َة َو ْ َو ُ
َ َ
غينا ،فإن هللا جلت حكمته ،سوف يظل مسّلِّطاً علينا سوطاً وما لم نرجع عن ِّّ
ين َب ْع ًضا ض َّ ِ ِ ومن يذيقنا كأس الذل والهوانَ ﴿ :وَك َذلِ َك ُن َوهلِي َب ْع َ
الظالم َ من العذابَ ،
ِب َما َكاُنوْا َي ْك ِسُبو َن﴾(.)2
أما العز ،ونحن على ما نحن عليه ،فهو محال ،وما لم نتب توبة نصوحاً،
ونرجع إلى ديننا ،نحكم بما أنزل هللا ،فإن البالء سوف ل يفارقنا ،حتى يقضي هللا
بأمره.
وهنالك قانون عام ساري :فاهلل يسلط الكافر على المؤمن العاصي ،عله يتوب
ويرجع إلى إنسانيته ،فإن عاد واستقام ،وللصالة والزكاة أقام ،وأمر بالمعروف ونهى
سلطه تعالى بدوره على الكافر فيردعه ،لعله يؤمن ،فإن آمن ،رفع عنهعن المنكرَّ ،
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 107ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الذل .وأفعاله تعالى كلها خير بحق الجميعَ ..﴿ :وُت ِعُّز َمن َت َشاء َوُتِذ ُّل َمن َت َشاء
ِبَيِد َك اْل َخْيُر ِإَّن َك َعَلى ُك ِهل َشيء َقِد ٌير﴾(.)1
ْ َ
وأما بنو إسرائيل ،فقد سحبت منهم شهادة الحق للناس ،منذ أن جاء السيد
المسيح في المرة األولى ،ولول كلمة سبقت من هللا لقضي بينهم من بعد أن
يبين ذلك بعد ذكر في القرآن الكريم ما ِّّ هموا بقتل السيد المسيح .وقد جاء
ِ ِ
اه ُم
آتْيَن ُ
ين َ ال عن األنبياء﴿ :أ ُْوَلئ َك َّالذ َ
قائ ً
طائفة من أنبياء بني إسرائيل ذكر تعالى
َه ُؤالء :﴾...اليهود﴿َ ...فَق ْد َوَّكْلَنا ِب َها
النُب َّوَة َفِإن َي ْكُفْر ِب َها
اب َواْل ُح ْك َم َو ُّ ِ
اْلك َت َ
ِ
َق ْو ًما :﴾...العربَّ..﴿ :لْي ُسوْا ِب َها ِب َكاف ِر َ
ين﴾( .)2وهذه الكلمة متوقف انتهاؤها على
عودة السيد المسيح في المرة الثانية ،فمن ل يستجيب له ،فإن هالكهم سيكون
محققاً وكامالً.
ِّ
ويقدروا
وخالصة القول :أن هللا وعد بني إسرائيل إن لم يتوبوا ويستقيموا فيؤمنوا ّ
وعدين:
ْ رسوله
األول :عند خروجهم من مصر ،بقيادة الرسول الكريم موسى واستقرارهم
في فلسطين ،حين كانوا هداة مرشدين للبشرية ،وبتطاول الزمن عليهم فسدوا
وأفسدوا ،وحادوا عن طريق الحق ،فسلط هللا عليهم بختنصر ،فتابوا وعادوا للحق،
تحت لواء سيدنا داود وسليمان عليهما السالم.
الثاني :إذا جاء وعد اآلخرة (أي الوعد الثاني)َ ..﴿ :فِإ َذا جاء و ْعُد ِ
اآلخَرِة ِجْئَنا َ َ
ِب ُك ْم َل ِفي ًفا﴾( :)3من بعد هذا التشريد عند أمم األرض ،وهذا ما نلحظه في هذه
األيام ،فقد اجتمعوا في فلسطين من جميع أنحاء المعمورة وأصبح المسجد األقصى
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 108ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
المسجد
َ أسي اًر عندهم والوقعة الثانية سيدخل المؤمنون مع السيد المسيح
فاتحين.
وبيناِ﴿ :إَلى َبِني
وهاكم تأويل اآليات في سورة اإلسراءَ ﴿ :وَق َضْيَنا﴾ :حكمنا ّ
علي ،ولم تسيروا ضمن اب﴾ :إن لم تدخلوا من باب موسى َّ ِإ ْسَرِائيل ِفي اْل ِك َت ِ
َ
أمريَ﴿ :ل ُت ْف ِسُد َّن ِفي األَْر ِ
ض َمَّرَتْي ِن﴾ :إن تركتم ل إلٓه إل هللا ،ملتم لغير هللا ،ما
آمنتم باهلل :ستميلون للدنيا ،وتجعلون الناس يميلون إليها ،سيكون هذا مصيركم.
ير﴾( :)1حيث أن قلبهم ممتلئ بالخبث .إن تباعدتم وتفسدون مرتينَ ﴿ :وَل َت ْعُل َّن ُعُل ًّوا َك ِب ًا
عن هللا ولم تعظموه ،سيقع بقلبكم حب الدنيا وستعلون بهاَ ﴿ :فِإ َذا َجاء َو ْعُد أُو ُ
اله َما﴾:
سيكون هذا لكم :الفساد األولَ﴿ :ب َع ْثَنا َعَلْيُك ْم ِعَب ًادا َّلَنا أ ُْولِي َبأْس َشِديد﴾ :وقد فسدتم ،وهذا
الدَي ِار﴾ :فجاؤوا لتأديبكم ،وحصل لكم ما وقع لما تسلّط عليهم (بختنصر)َ ﴿ :فجاسوْا ِخالَل هِ
َ َ ُ ّ
ان َو ْعًدا َّمْف ُعوالً﴾( :)2مفعولً :أي وقع هذا وانتهى .هذا الخطاب لليهود في
حصلَ﴿ :وَك َ
ذكرهم هللا بما جرى لهم .ثم تبتم ورجعتم والتجأتم ،وعاهدوا فجاءهم عهد رسول هللا ﷺّ ،
سيدنا داود ُ﴿ :ث َّم َرَدْدَنا َل ُك ُم اْل َكَّرَة َعَلْي ِه ْم﴾ :بعصر داود ،وانتصر سيدنا داود
ِ
اك ْم اكم ِبأ َْمَوال َوَبن َ
ين َو َج َعْلَن ُ على العدو ورفع هللا شأنهم ،فأعطيناكم مالً وأولداًَ﴿ :وأ َْمَدْدَن ُ
ير﴾( :)3صار لكم مقامكم العالي ،بتوبتكم وايمانكم ،فغدوتم بعهد سيدنا داود وسليمان أَ ْكَثَر َن ِف ًا
عليهما السالم ،خير أمة أُخرجت للناس ،ألنكم كنتم تأمرون بالمعروف ،وتنهون عن
المنكر ،وتؤمنون باهلل .اآلن أرسلنا لكم محمداً ﷺ ومعه القرآن ،فخاطبهم تعالىِ﴿ :إ ْن
َح َس ُنت ْم ِألَنُف ِسُك ْم﴾ :اآلن قد حصل لكم يا بني إسرائيل أولً ما حصل ،ولكن إن
َح َس ُنت ْم أ ْ
أْ
حولت عنكم البالء ،خلصتم منه: علي َّ
أحسنتم وآمنتم به ،فتبتم ودخلتم من باب محمد ﷺ َّ
﴿َواِ ْن أَ َسأُْت ْم﴾ :ظللتم على ما أنتم عليه اآلن من الفسادَ﴿ :فَل َها﴾ :ستحصل لكم الثانية:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 109ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وهُك ْم﴾ :ستستاؤون كما اآلخَرِة﴾ :الوقعة الثانية واألخيرة﴿ :لَِي ُس ُ
وؤوْا ُو ُج َ ﴿ َفِإ َذا جاء و ْعُد ِ
َ َ
حصل لكم زمن (بختنصر) إذ سنرسل لكم هؤلء المؤمنين ،بقيادة السيد المسيح :
﴿َولَِيْد ُخُلوْا اْل َم ْس ِجَد َك َما َد َخُل ُ
وه أََّو َل َمَّرة َولُِيَتهِبُروْا َما َعَل ْوْا َتْتِب ًا
ير﴾( :)1ل يبقون لكم أث اًر ،بل
طعونكم تقطيعاً .وهكذا فاهلل تعالى ،يرسل على اإلنسان إن فسد (ضربة) فيرجع إلى هللا، يق ِّّ
مفر منهَ ﴿ :ع َسى َرُّبُك ْم أَن َيْر َح َمُك ْم﴾:
مر ثانية ،فإن نكل ،جاءه الهالك ول ّ
فيعطيه الدنيا ّة
إن تبتم رفعت عنكم الشدائد ،هنالك أناس كثر منهم سيؤمنون مع سيدنا عيسى
دت ْم﴾ :للمعارضاتُ ﴿ :عْدَنا﴾ :لتأديبكم .وهذه عامة لكل عند ظهوره اآلنَ﴿ :واِ ْن ُع ُّ
ِ ِ ِ
ين َحصيًار﴾ :تحصرهمِ﴿ :إ َّن َه َذا اْلُقْر َ إنسانَ﴿ :و َج َعْلَنا َج َهَّن َم لْل َكافِر َ
()2
آن﴾ :الذي أنزلناه على
رسولنا في ليلة القدرِ﴿ :ي ْهِدي لَِّلِتي ِهي أَ ْقَوُم﴾ :للبشرية ،أهدى وأقوم وأمثل طريق .خلقك
َ
ين﴾ :دنيا ِ ِ ِ
تعالى للسعادة ،لتعيش في الدنيا سعيداً ،وفي اآلخرة سعيداًَ﴿.وُيَب هشُر اْل ُم ْؤمن َ
الصالِح ِ ِ
ات﴾ :الصالح لإلنسانية ،المثمر له دوماً يؤتي أكله ين َي ْع َمُلو َن َّ َ وآخرة َّ ﴿ :الذ َ
كل حين بإذن ربه ،إذ ل شائبة فيه ،ألن غايته بعمله وجه هللا ،ونتاج هذا العمل
يديمه هللا له ،على الحرث والنسل إلى يوم القيامة ،المؤمن حّقاً يعمل الصالحات،
يرى السعادة في األعمال الصالحة ،الصالة كلها وسائل للعمل الصالح ،لتكون من
ير﴾( :)3ل نهاية ول حد لهذا العطاء﴿ :وأ َّ ِ
َن َّالذ َ
ين الَ َجًار َكِب ًا
َن َل ُه ْم أ ْ
أهل اإلحسان﴿ :أ َّ
اآلخرِة﴾ :لكنك ستترك الكل ،أنت ٍ ِ
له في الدنيا فهل أنت مؤمن باآلخرة؟ ُي ْؤ ِمُنو َن ِب َ
يما﴾(:)4 ِ
َع َت ْدَنا َل ُه ْم َع َذ ًابا أَل ً
لست بمؤمن ول بمفكر بها ،المؤمن ليس هذا عمله﴿ :أ ْ
المؤمن بها حقاً يستقيم ،فال يشذ أبداً.
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 110ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
طلوع الشمس من مغرِها وانشقاق القمر
* إن الشمس والقمر آيتان من آيات هللا ،يسيران نحو غاية معينة وألجل ،ل
يتبدلن إلى آخر الدوران ،وأي تبديل في نظامهما ،يتبعه تبديل نظام الكون كله،
فإذا طلعت الشمس من مغربها ،فمعنى ذلك أن األرض بدأت تدور بعكس اتجاهها
األول ،وبالتالي أصبح الليل سابقاً للنهار ،وهذا ما ل ينبغي أن يكون ،ألن هللا قد
الشمس َي َنب ِغي َل َها أَن ُت ْد ِر َك اْلَقمر وَال َّ
اللْي ُل َساِب ُ
ق ََ َ نفى ذلك بآية صريحةَ﴿ :ال َّ ْ ُ
الن َه ِار َوُك ٌّل ِفي َفَلك َي ْسَب ُحو َن﴾(.)1
َّ
لذلك فإن هذه اإلشارة أو هذه العالمة ل تعني هنا هذا الكوكب الملتهب الذي
يشرق في الصباح ،ويغرب في المساء وانما معنى طلوع الشمس هنا ،هو معنى
مجازي.
كما أنه تعالى حدثنا عن رسول هللا ﷺ أنه سراج منير ،والسراج هو الشمسَ﴿ :يا
اعيا ِإَلى َّ ِ ِ ِ ِِ اهًدا َو ُمَب ِهشًار َوَنِذ ًا
النِبي ِإَّنا أَرسْلَناك َش ِ
ّللا ِبِإ ْذنه َوسَر ً
اجا يرَ ،وَد ً َْ َ أَُّي َها َّ ُّ
طرف من ٌ ير﴾( .)2فكان ﷺ شمس النبيين رحمة للعالمين نور هللا الذي به ُيرى ُّمِن ًا
أسماء هللا الحسنى ،فهنا جاء معنى السراج مجازياً كشفاً لحقيقة رسول هللا ﷺ
الكاشف لما أغلق والفاتح لما سبق.
كما أن سيدنا يوسف رأى والده وأمه في الرؤيا شمساً وقم اًر واخوته
كواكب.
أما الشمس التي هي مدار بحثنا وجدها ذو القرنين تغرب في عين حمئة
فهل يعقل أن تغرب هذه الشمس التي في السماء في بقعة من بقاع األرض رغم
ضخامتها أم كيف يجد قوماً عندها وهي في السماء .وماذا يحدث لو اقتربت
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 111ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الشمس من األرض وخرجت عن مدارها المعروف علمياً بداه ًة؟ أل تتبخر الكرة
األرضية وتفنى؟
البرقة من
إذن :المقصود بطلوع الشمس من مغربها ،هو بزوغ الحضارة وعلومها َّا
جهة الغرب ،أو من الجهة التي غربت فيها ،ل من المشرق عن طريق شمس
النبيين ﷺ السراج المنير.
إن حضارة هذا القرن ،قد أشرقت على المعمورة من الغرب ،وانتشرت كالشمس في
أرجائها ،إذ ما من أحد إل وعليه أثر من آثار أشعتها ،وما من امرئ إل ووسمته
بميسمها.
تلك الحضارة التي انتشرت عمقاً واتساعاً ،في أنحاء األرض ،قد غزت عقول
الناس وقلوبهم ،وأزاغت قلوبهم عن منبع النور الحقيقي ،وجعلتهم يعيشون في
ظلمات وقلق ،ونتيجة ما أرسلته مع أشعتها من شوب ،استطاعت أن تبهر عقول
الذين كفروا ،حيث جعلتهم في ظلمات ل يبصرون ،وبهذا العمى القلبي ،راحت
عباً دنيوياً محضاً ،ل إيمان فيه.البشرية تعب منها ّ
* فما شروق الشمس من مغربها ،ول انشقاق القمر ،إل معاني مجازية ،ترمز وتدل
ق اْلَق َمُر﴾(:)1
انش َّ
اع ُة َو َ على أشراط الساعة الكبرى ،وبداية اآلية الكريمة﴿ :ا ْقَتَرَب ِت َّ
الس َ
تؤكد هذا المعنى وتبينه بوضوح ،بأن اقتراب الساعة مرتبط بانشقاق القمر ،وليست كما
يقال أنها معجزة لرسول هللا ﷺ ومما يؤكد هذا المعنى أيضًا:
* أن هللا تعالى لم يؤيد رسوله بالمعجزات ،ول بخوارق العادات ،وانما أيده
بقرآن يقذف بآياته باطل الكفار ،فإذا هو زاهق ل حياة فيه.
ٍ
تحد ،كما * ذلك ألن للمعجزة تعريف :وهي تكون ظاهرة مكشوفة للناس وفيها ّ
الزيَن ِة َوأَن ُي ْح َشَر
ال َم ْو ِعُد ُك ْم َي ْوُم هِ
بينها تعالى بمعجزة عصا سيدنا موسى َ ﴿ :ق َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 112ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
اس ُض ًحى﴾( :)1والمعجزة ليست بناقلة ألحد من الكفر إلى اإليمان ،ما لم يعمل َّ
الن ُ
فكره ،ويتأمل في هذه الكائنات ،صنع اإللٓه العظيم .وقد بين تعالى بآية واضحة
سبب منع إرساله المعجزات ،أن كذب بها األولون ،قال تعالىَ ﴿ :و َما َمَن َعَنا أَن
ُّنرِسل ِباآلي ِ
ات ِإالَّ أَن َك َّذ َب ِب َها األ ََّوُلو َن ،)2(﴾...فبعد التكذيب بالمعجزة ،الهالك َ ْ َ
الحتمي ،وهللا يدعو إلى دار السالم ،ول يرضى لعباده الهالك ،فهل يرسل لهم ما
يهلكهم ،وهو العليم بأحوالهم وبتكذيبهم؟! فإن جاءت المعجزات وما آمنوا،
وهاك نظرة سريعة لصنائع المعجزات.َ سيهلكون ،وهم لن يؤمنوا،
* فالنار :كانت على سيدنا إبراهيم ،برداً وسالماً ،وما زاد ذلك قومه إلَّ كف اًر
وعناداً ،ولم يؤمن من قومه أحد ،وأصبحوا فيما بعد ،قوم لوط المرجومين بحجارة من
سجيل.
* خروج الناقة من الصخرة :معجزة أرسلت لقوم سيدنا صالح ،بناء على
طلبهم ،ومن صخرة هم عيَّنوها ،فما جعلت قومه يعظمونه في شيء ،بل ما كان
َنت ِإَّال َب َشٌر ِهم ْثُلَنا ،)3(﴾..ثم عقروا الناقة ،وعتوا عن أمر منهم إل أن قالواَ ﴿ :ما أ َ
ين﴾( ،)4وهلكوا. ِ ربهم ،وقالوا ..﴿ :يا صالِح ْائ ِتَنا ِبما َت ِعُدَنا ِإن ُك َ ِ
نت م َن اْل ُمْر َسل َ َ َ َ ُ
أن أروا ما أروا ،من آيات * وقال آل فرعون لسيدنا موسى بعد
ِ
ِب َها َف َما َن ْح ُن َل َك ِب ُم ْؤ ِمن َ
ين﴾(،)5 بيِّّ نات ومعجزاتَ ..﴿ :م ْه َما َتأِْتَنا ِب ِه ِمن َآية هلَِت ْس َحَرَنا
وازدادوا كف اًر وعناداً.
* أيضاً معجزات سيدنا عيسى أحيا الميت وأب أر األكمه واألبرص ،وخلق من
الطين طي اًر بإذن هللا ،أما قومهَ ..﴿ :فَل َّما جاءهم ِباْلبِيَن ِ
ات َقاُلوا َه َذا ِس ْحٌر ُّمِب ٌ
ين﴾(،)1 َ ُ َه
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 113ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
اب َواْل ُحْك َم ِ
ومكروا مك اًر ليقتلوه ،وحل بهم الهالك الحقيقي ،إذ ُحرموا من ..﴿ :اْلكَت َ
َو ُّ
النُبَّوَة :)2(﴾...بعد كفرهم .وهللا آواه وأمه إلى ربوة ذات قرار ومعين ،ويقال أنها ربوة دمشق،
أي :سحب تعالى هذا الخير العظيم ، ،عنهم بكفرهم.
* وكما أشارت اآلية الكريمة إلى أنه ل فائدة من رؤية المعجزات ،إن لم
يصد ْق اإلنسان بطلب الحق ،في قوله تعالىَ ﴿ :وَل ْو َف َت ْحَنا َعَلْي ِهم َب ًابا ِهم َن َّ
الس َماء ُ
ِ َف َُّ ِ ِ
ورو َن﴾( :)3إن ظلوْا فيه َي ْعُر ُجو َنَ ،لَقاُلوْا ِإَّن َما ُس هكَر ْت أَْب َص ُارَنا َب ْل َن ْح ُن َق ْوٌم َّم ْس ُح ُ
لم يكن اإلنسان هو بذاته طالباً للحق فسينكث ويعود للمعارضة ويظن المعجزات
سح اًر ،فاإليمان أصل من دونه لن يصدق المرء بطريق الكمال.
فالمعجزات ليست بناقلة أحداً من الكفر إلى اإليمان من األقوام السابقة ،لذا أتت
اآلية الكريمة بإيقاف ظهور المعجزات﴿ :وما مَنعَنا أَن ُّنرِسل ِباآلي ِ
ات ِإالَّ أَن َك َّذ َب ْ َ َ ََ َ َ
ِب َها األ ََّوُلو َن ، ﴾...بل ل َّبد من إعمال الفكر الدقيق ،فيما يسمعه اإلنسان من
()4
الهدى والبيان ،كما آمن سيدنا إبراهيم ،وكما آمن صحابة رسول هللا ﷺ ،فرفع
تعالى شأنهم ،أو النظر والتأمل في هذه الكائنات ،مع الخشية من الفراق الذي ل ُبَّد
ِ ِ ِ ِ
منه ،قال تعالىِ﴿ :إ َّن في َذل َك َلذ ْكَرى ل َمن َك َ
ان َل ُه َقْل ٌب أ َْو أَْلَقى َّ
الس ْم َع َو ُه َو
َش ِه ٌ
()5
يد﴾
القرآن الكريم معجزة الرسول ﷺ الخالدة:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 114ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أما معجزة القرآن ،فال تنحصر في ناحية معينة ،كجمال األسلوب ،ول في
* َّ
جرسه العجيب ،ول في غ ازرة معناه ،مع إيجاز لفظه ومبناه ،وانما تشمل أيضاً،
احتواءه على علوم البشر ،في ماضيها وحاضرها ومستقبلها ،قال تعالى:
ِ ِ ِ ِ
َنزْلَنا ِإَلْي ُك ْم ك َت ًابا فيه ذ ْكُرُك ْم . ﴾...قال رسول هللا ﷺ( :كتاب ه
()1
ّللا فيه ﴿َلَق ْد أ َ
نبأ ما قبلكم ،وخبر ما بعدكم ،وحكم ما بينكم ،وهو الفصل ليس بالهزل ،من
ّللا
ّللا ،وهو حبل ه
ّللا ،ومن ابتغى الهدى في غيره أضله هتركه من جبار قصمه ه
المتين ،وهو الذكر الحكيم ،وهو الصراط المستقيم ،هو الذي ال تزيغ به األهواء،
وال تلتبس به األلسنة ،وال يشبع منه العلماء ،وال يخلق عن كثرة الرد ،وال
تنقضي عجائبه ،هو الذي لم تنته الجن اذ سمعته حتى قالوا :إنا سمعنا قرآناً
عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ،من قال به صدق ،ومن عمل به أجر ،ومن
هدي إلى صراط مستقيم) (.)2 حكم به عدل ،ومن دعا إليه َ
هذا ولم يرسل تعالى الرسل الكرام صلوات هللا عليهم ،إل بلسان قومهم .قال
ان َق ْو ِم ِه.)3(﴾...
تعالىَ ﴿ :وما أَْر َسْلَنا ِمن َّر ُسول ِإالَّ ِبلِ َس ِ
َ
ِّ
بأوجه ،فأيَّده هللا تعالى بمعجزة أبطل السحر ِّ
ففي عصر سيدنا موسى كان ّ
بها شعوذتهم ودجلهم وتخييالتهم وأما سيدنا عيسى فقد جاء بعصر الطب
وتفوقه ،بمعجزات ما أبطل علمهم ،كإحيائه الموتى بإذن هللا ،وخلق من الطين
كهيئة الطير فيكون طي اًر بإذن هللا ،وابرائه األكمه واألبرص.
وكذلك سيدنا سليمان جاء بعصر الملك ،وكيف أن هللا وهب له من الملك
ما لم يهبه أحداً من بعده.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 115ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
محمد ﷺ إذ أصبح الزمن زمناً يتبارى فيه البلغاء،
وكذلك األمر في عهد سيدنا ّ
ويتنافس فيه الشعراء ،ولم يبق للملك والسلطان تلك القيمة التي كانت له عندهم
فبيت شعر بنظر العرب آنذاك ،أثمن لديهم من قصور كسرى وقيصر، من قبلُ ،
فجاءهم رسول هللا ﷺ بالقرآن الكريم ،معجزة أبدية مكشوفة ظاهرة لكل الناس،
ِ ٍ
ود َها الن َار َّالتي َوُق ُ تحد من هللا تعالى لهمَ ﴿ :فِإن َّل ْم َت ْف َعُلوْا َوَلن َت ْف َعُلوْا َف َّاتُقوْا َّ وفيها ّ
نت ْم ِفي َرْيب ِهم َّما َن َّزْلَنا َعَلى َعْب ِدَنا َفأ ُْتوْا ينَ ،واِن ُك ُ ِ ِ ِ
اس َواْل ِح َج َارُة أُعَّد ْت لْل َكاف ِر َ
الن ُ َّ
ِِ اءكم ِمن دو ِن ِ ِ
ينَ ،فِإن َّل ْم ّللا ِإ ْن ُكْن ُت ْم َصادق َ ه ورة ِهمن ِهم ْثلِه َو ْاد ُعوْا ُش َه َد ُ ه ُ ِب ُس َ
تحد واضح من هللا تعالى لهمَ ...﴿ .وَلن َت ْف َعُلوْا :﴾...وهذا تحد َت ْفعُلوْاٍ :﴾..
ّ َ
اس َواْل ِح َج َارُة ِ
الن ُ الن َار َّالتي َوُق ُ
ود َها َّ لكل األزمان والى نهاية الدوران ،إذنَ ﴿ :ف َّاتُقوْا َّ
ِ ِ ِ
ين﴾(.)1 أُعَّد ْت لْل َكاف ِر َ
القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى الوحيدة ،التي أيَّد هللا تعالى بها رسوله الكريم ﷺ،
وقد ذكر ذلك عز وجل ،مبيناً أن ل معجزات سوى هذا القرآن الكريم بقوله تعالى:
ات ِمن َّرِب ِه ُقل ِإَّنما ْاآليات ِعند َّ ِ
ّللا َواَِّن َما أََنا َن ِذ ٌير ِ ﴿ َوَقاُلوا َل ْوَال أ ِ
َ َ ُ آي ٌ ه ه ْ َ ُنز َل َعَلْيه َ
اب ُيْتَلى َعَلْي ِه ْم ِإ َّن ِفي َذلِ َك َلَر ْح َم ًة َوِذ ْكَرى لَِق ْوم ِ ين ،أ ََوَل ْم َي ْك ِف ِه ْم أََّنا أ َ
َنزْلَنا َعَلْي َك اْلك َت َ ُّم ِب ٌ
ُي ْؤ ِمُنو َن﴾(.)2
ألم يكفهم أنه أنزل على رجل منهم ل يعرف القراءة والكتابة ،والذي يتحدى به
بل بسورة منه ،أمراء البيان وفحول الشعراء ،أن يأتوا بمثله وفي سائر األزمان
والعصور ،وعجزوا ويعجزون إلى يوم القيامة ،ولو كان اإلنس والجن بعضهم
لبعض ظهي اًر .أل يعتبر بحق معجزة .بل أعظم معجزة دائمة لمن أراد وجه الحق!
أوليس ما نحن واقعون فيه بهذا الزمان ،من إشارات وعالمات للساعة ،قد بينها
تعالى في كتابه الكريم ،منذ أربعة عشر قرناً ونيف ،أليس هذا بمعجزة؟!! أل
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 116ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
يستدل من عالمات الساعة المذكورة في القرآن الكريم ،أن هذا الكتاب ،ل يأتيه
الباطل من بين يديه ول من خلفه؟ كيف وصف رسول هللا ﷺ هذا الزمان بهذا
وعبر عنه بكلمات جامعة مانعة ...أليس هذا بمعجزة؟!
الوصف الدقيقّ ،
إن كلمة شروق الشمس من مغربها ،وانشقاق القمر ،وغيرها من اآليات التي
تخص الساعة ،لهي من أكبر المعجزات والرحمات اإللٓهية ،التي أفاضها تعالى
على رسوله الكريم ،لكي نتدارك أمرنا ،ونعود إليه تعالى.
الزُب ِرَ ،وُك ُّل َص ِغير َوَك ِبير ُم ْس َت َ
وه ِفي ُّ
()1
طٌر﴾ قال تعالىَ ﴿ :وُك ُّل َش ْيء َف َعُل ُ
* هذا ولما كان الغيب هلل ،فإنه ل يطلعه إل لمن ارتضى من رسول ،وهذا
جل وعال لرسوله الكريم ليلة أسرى به ،والرسول ﷺ لم يضن علينا
الغيب قد كشفه ّ
بما كشف له تعالى من علم الغيب(.)2
فذكر األحداث الكبرى التي ستجري في المستقبل .وما عالمات الساعة التي نتحدث
عنها اآلن إل من آثار تلك الفتوحات الغيبية ،التي أراه هللا إياها .وأوردها تعالى في كتابه
العزيز.
إذن :فإن انشقاق القمر كما ّبينا آنفاً ليس بمعجزة ،وان الروايات التي ذكرت
حول هذه اآلية ،ل صحة لها أبداً أنه انشق فلقتين ،فلقة من دون الجبل ،وفلقة من
خلف الجبل .فقال النبي ﷺ بزعمهم( :اللهم اشهد) فذلك يتنافى مع القرآن الكريم
بما أوردناه بآيات سابقة ،ويتنافى مع القوانين الكونية التي َّ
سنها تعالى ،وانما آية
النشقاق ،وحديث طلوع الشمس من مغربها ،ودابة األرض ،إشارات ودلئل لقرب
وقوع الساعة ،ولو أن آية انشقاق القمر حصلت بزمن الرسول ﷺ حينها لوقعت
الساعة في تلك األثناء ،وهذا ما لم يحدث ،بل امتدت الدنيا إلى وقتنا هذا ،ونحن
اآلن نعيش هذه العالمة ،وقرب الساعة الحتمية.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 117ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وبينا بأنها رمز للحضارة
لقد ّبينا قبل قليل عن طلوع الشمس من مغربهاّ ،
القادمة من الغرب ،هذه الحضارة التي ظلت محجوبة وبشكل عملي ،عن الشرق
اإلسالمي حتى أوائل القرن العشرين تقريباً ،وبدأ إشراقها بدون حجاب ،بعد الحرب
الكونية األولى ،وبدأ العالم اإلسالمي عامة ،والعربي خاصة ،ينسلخ عن منبع
النور اإلسالمي ،من شمس النبوة ،السراج المنير ﷺ ،مستمداً نوره من هذه الشمس
الدنيوية المحضة التي بانت من الغرب ،فأصبح قم اًر للغرب ،يعكس وهج شمسها.
لقد اختار هللا تعالى هذه األمة اإلسالمية العربية أمة وسطاً ،ليكونوا شهداء
على الناس بما يستمدونه من نور هللا ،عن طريق رسوله الكريم ﷺ ،إل أنهم اآلن
هجروا هذا النور واستبدلوه بنور الحضارة المادية المحموم ،وبذلك فقد األمل منهم
تقريباً في إقامة الحق على األرض ،ألن هذه األمة الوسط بين رسول هللا ﷺ وخلق
هللا ،والمكلفة بإنقاذ العالم ،من الظلمات إلى النور اإللٓهي ،قد تحولت بوجهتها إلى
الغرب ،لذلك ،فإن اقتراب وقوع الساعة بات محققاً ،ول بد في هذه الحالة ،من
مجيء منقذ للبشرية ينقذها من شمس الباطل إلى شمس الحق ،والسيد المسيح
رسول السالم ،هو المهيأ لهذا اإلنقاذ.
فيا أيها الناس اتقوا ربكم ،إن زلزلتها لشيء عظيم ،وان عذابها لشديد.
هذا وان انشقاق القمر الذي ورد ذكره في اآلية الكريمة ،إن هو إل حدث من
األحداث المسطرة في الزبر ،يبين هللا تعالى فيها ألهل كل عصر ،ما يهمهم من
اآليات في الوقت المناسب ،ليعلموا أن هللا حق ،وأن الرسول ﷺ وما جاء به هو
الحق من ربه ( ،)1وليعلموا أن هللا على كل شيء شهيد ،وبيده نجاة ونصر من يتقيه.
ق اْلَق َمُر﴾( :)2ل
انش َّ
اع ُة َو َ فبما أن القمر المذكور باآلية الكريمة﴿ :ا ْق َتَرَب ِت َّ
الس َ
يعني ذلك الكوكب المنير كما ذكرنا ،إنما يشير إلى معنى مجازي ،وهو البلد الذي
اق َوفَِّ أَنفُس ِِّّه ْم َحتَّى ََتَبَيَّنَ لَ ُه ْم أَنَّهُ ا ْلحَقُّ أَ َولَ ْم ََ ْكفِّ ِِّ َرِِّكَ أَنَّهُ َ
علَى ك ُِّل ش ََْء ش َِّهيدٌ﴾ اآلية ( )53من سورة فصلت َه ْم آََاِِّنَا فَِّ ْاِلفَ ِّ
سنُ ِّر ِّ
(َ ﴿ _ )1
( _ )2سورة القمراآلية ()1
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 118ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
يستمد من الحضارة الغربية ،التي هي الشمس للعالم ،من الختراعات واإلبداعات،
ولها التبعية وبكافة األقطار اإلسالمية وغير اإلسالمية ،ولفترة وجيزة كانت هذه
الدول تتنعم بنتاج حضارة شمس الغرب ،ونتاج علومه الدنيوية المحضة ،عوالم
المادة ،من سيارات وطائرات وقطارات والمصانع الضخمة ،وشبكات التصال
والفضائيات ،ووسائل اللهو واإلنترنت ،ونقلت كل فنونه حتى في اللباس واألدوات
المنزلية والغناء ،فأصبح العالم يعيش بتلك الصور الدنيوية محجوباً عن الحقائق
الباقية ،بالتجاه الكلي نحو هذه الشمس .فقد أشاح الناس بالعالم أجمع ،عن مبدع
أعده لهم من جنات باقيات ،باتباعهم لهذه الحضارة اآلنية،
السماوات واألرض ،وما ّ
والتي تعقبها خسارة أبدية.
لقد أصبح الشرق كله ،قم ًار يستمد نوره من شمس حضارة الغرب ،وما العالم
اإلسالمي إل جزء ل يتج أز من الشرق ،شأنه شأن باقي الدول ،يستمد نوره أيضاً من
هذه الشمس الحضارية .ثم وبفقدان الروح والغذاء القلبي للبشر ،بدأت تدرك ما فيه
من خطر ،وبدأت بالنشقاق ،كإيران وشعوب وقبائل باكستان وأفغانستان والقرن
األفريقي والعراق وغيرهم ،حتى أن النشقاق حاصل بين الدولة الواحدة فيما بينها
(إذاً النشقاق حاصل في كل الدول على أعلى وأصغر المستويات) بكل ما تتضمن
فتم نحو األسوأ ،ويا ليتهم لم ينشّقوا.
كلمة النشقاق من معنى .أما انشقاق الصين ّ
ولكنهم قتلوا أنفسهم إذ غدوا (كالمستجير من الرمضاء
انشّقوا عن استعمار بالدهم ّ
بالنار) ،أو كما يقول المثل العامي (طلعنا من تحت الدلف إلى تحت المزراب) ،لقد
هووا بانشقاقهم عن الغرب إلى قاع الشيوعية التي ل روح فيها أبداً ول حياة قلبية ،بل
فيها نكران اإللٓه واآلخرة ،فهم بالضالل غارقون ،وثبت عليهم وعلى بالدهم ما أطلقه
الخطا) ،حتى الكثير من األثرياء في األولون ّ
(أن بالد الصين هي بالد َ أهل الصالح ّ
العالم وغيرهم ،عبروا عن انشقاقهم عن هذه الحضارة وافالسها في نفوسهم ،بما
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 119ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
سجلت من حالت كثيرة في النتحار ،وخاصة في الدول الراقية .واليك نبذة من
اعترافاتهم:
وحتى عن ملذات ومالهي مدينة نيويورك المتنوعة فإن "جيمي والكر" المتهم
بكل شيء إل بعمق نظرته وغور تفكيره قال عنها في آخر سني حياته:
(أصبحت اليوم ال أرى سحر وفتنة األمس إال شيئاً مبهرجاً تافهاً).
ويقول "دراموند"( :إن أعلى متع األرض ليست إال ألماً متنك اًر "مقنعاً").
ويقول "سير أرنولد"( :عجباً ،كما هي الريح كذلك هي الحياة البشرية الفانية،
عويل ،ندب ،تحسر ،غضب ،كدح).
نكا .)1(﴾...وهكذا فليست ض َعن ِذ ْكرِي َفِإ َّن َل ُه َم ِع َ
يش ًة َض ً َعَر َ
قال تعالىَ ﴿ :و َم ْن أ ْ
اللذائذ الدنيوية المحضة سوى شقاء وألم وخسارة أبدية وحسرات مغلفة بغالف َّبراق
مخادع.
إن ما نعيشه اليوم من كوارث وفيضانات وزلزل ومجاعات ،وحروب وأعاصير
مدمرة وحرائق في الغابات والمدن ،ومن ذوبان القطبين الشمالي والجنوبي
وانخفاض في المياه اإلقليمية ونقص كبير من مستويات األنهار ،وارتفاع درجة
اءه ْم َلَف َسَد ِت
َه َو ُ
قأْح اررة األرض وفساد البيئة نتيجة لما ذكره تعالىَ ﴿ :وَل ِو َّاتَب َع اْل َح ُّ
ض َو َمن ِفي ِه َّن :)2(﴾...وبما أن هللا تعالى منح اإلنسان حرية ات َو ْاألَْر ُ
الس َم َاو ُ
َّ
وصمموا على ما لم يرضه هللا لهم .لِّما يعود عليهم بذلك َّ الختيار ،وهم اختاروا
أصروا فأعطاهم طلباتهم ومشتهياتهم ،وكل واحد سار بهواه
ُّ من هالك ،ولكنهم
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 120ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أصابت األنعام ،مصدر غذائنا ،ومن آلم وأمراض نفسية على مستوى العالم،
حتى أوصلت الكثير منهم إلى النتحار ،وكل ذلك نتيجة انغماس الناس بالحياة
الدنيا ،واتباعهم شمس هذه الحضارة الغربية ،التي أعمتهم عن الحقائق ،وأصمتهم
ظ َهَر اْل َف َس ُاد ِفي اْلَبهِر َواْلَب ْح ِر
عن سماع الحق ،بسبب ما اقترفت أيديهم من آثامَ ﴿ :
ض َّال ِذي َع ِمُلوا َل َعَّل ُه ْم َيْرِج ُعو َن﴾(.)1
اس لُِي ِذ َيق ُهم َب ْع َ ِبما َك َسَب ْت أَْي ِدي َّ
الن ِ
َ
فكم هو ربنا رحيم ورؤوف بهذا اإلنسان ،فالدنيا ل يمكن أن تكون جنة ،ألنها
ليست باقية ،ومصيرها إلى الزوال ،وأما المؤمنون بما يستمدون من شمس الرسول
الجنة ،وبه تعالى الحياة األبدية
الكريم ﷺ ،الذي يأتيهم باألنوار من هللا ،فهم في ّ
السرمدية الباقية ،وما وصلت الناس إليه اليوم من ضيق وحزن وألم ،فال بد أن يبدل
هللا شقاءهم سعادة ،بعودة وشروق شمس السيد المسيح ،حبيب هللا ،رسول السالم،
واألنبياء جميعاً هم شموس الحقائق ،وكان ظهورهم دومًا في الشرق األدنى ،مهبط
الرسل والنبيين ،والنشقاق ظهر في هذا العصر فقط ،عن شمس الغرب المادية
الكشف
ألم الحضارة التي وّلدتها ،و ْ
المحضة .وهذا النشقاق مرحلي ،ورْفض مبدئي ّ
عن زيفها وغرورها ،وتهيئة لرفضها الكّلي إثر الحرب العالمية الثالثة وعظيم أهوالها
التقبل باألشواق لعصر المنقذ رسول هللا الكبرى وكربها ،فعندها ّ
يتم الرْفض الكّلي و ّ
المسيح ،عندها تزول عن العيون الغشاوة ،وعن اآلذان الوقر ،وتتفتّح القلوب
السيد المسيح .
ألنوار الحقيقة بقدوم ّ
وخالصة القول:
إن سورة القمر ومن بدايتها ،تتحدث عن التكذيب واإلعراض الكلي عن هللا
ابتداء من قوم سيدنا نوح،
ً تعالى ،وتستعرض األقوام السابقة حين أتاها العذاب،
إلى قوم سيدنا هود ،إلى قوم سيدنا صالح ،إلى قوم سيدنا لوط ،إلى قوم سيدنا
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 121ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
موسى ،وبعد هالك المكذبين على طول الزمان ،يذكر تعالى في آخر السورة،
تكذيب أهل هذا الزمان ،والنهاية المؤسفة التي سينتهون إليها ،شأنهم في ذلك،
شأن من سبقهم من الكافرين ،الذين كذبوا دعوة الرسل ،وقد اجتمعت فيهم جميع
وعناد وتطاول في البنيان ،وشذوذ في األخالق ،وغش علل األقوام ،من كفر
نت ِصٌر﴾ :بالحرب القادمةَ ﴿ :سُي ْه َزُم اْل َج ْم ُع
يع ُّم َ ِ
َن ْح ُن َجم ٌ واعراض﴿ :أ َْم َيُقوُلو َن
هذه الحرب النووية الهيدروجينية ،ل نصر فيها أبداًَ﴿ :ب ِل الدُبَر﴾ :إذ أن َوُي َوُّلو َن ُّ
َمُّر﴾( :)1هذه
اع ُة أ َْد َهى َوأ َ اع ُة َم ْو ِعُد ُه ْم :﴾...ساعة البالء العامَ ..﴿ :و َّ
الس َ الس َ
َّ
الساعة هي أدهى بهالكهم ،من الساعات التي مرت على األقوام السابقة ،وكلمة
لعموميتها بأرجاء الكرة األرضية.
ّ َمُّر﴾ :أي أشد م اررة من غيرها ،وذلك
﴿َ ...وأ َ
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 122ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
النفوْ من أقطار السماوات واألرض
ط ْع ُت ْم أَن َتن ُف ُذوا ِم ْن أَ ْق َ
ط ِار نس ِإ ِن ْ
اس َت َ اإل ِ قال تعالىَ﴿ :يا م ْع َشَر اْل ِج هِن َو ِْ
َ
ِ
آالء َرهِب ُكما ُت َك هذَب ِ
انُ ،يْر َس ُل َي َ ِ ض َفان ُف ُذوا َال َتن ُف ُذو َن ِإَّال ِب ُسْل َ السماو ِ
ات َو ْاألَْر ِ
َ طانَ ،فبأ ِه َّ َ َ
ان﴾(.)1 نت ِصَر ِ اس َف َال َت َ عَلي ُكما ُشوا ٌ ِ
ظ همن َّنار َوُن َح ٌ َْ َ َ
إن هذه اآليات الكريمة ظهرت حكمتها اآلن ،إذ يبين هللا بأن نفوذ اإلنس
والجن ،من أقطار السماوات صعوداً نحو التسلح ضمناً واألرض غو اًر للتنقيب ،ل
يتم إل بسلطان ،بقدرة ومعرفة وعلم ،من استطاع أن يعرف ذهاباً في السماوات أو
غور في األرض فله ذلك ولكن يجب أن َّ
يعد العدة ،فال نفاذ إل بسلطان الفكر. اً
هذا الشيء قد تم فعالً ،واستطاعوا أن ينفذوا من أقطار السماوات واألرض ،بعد
أن تخلصوا من سلطان األرض أو جاذبيتها .ولكن على اإلنسان ألَّ يغتر بما
وصل إليه ،ألن هذا العلم إنما هو من نتاج الفكر والعقل ،اللذين وهبنا هللا إياهما
لنسمو بهما ،ل لنكون كالجن الذين يصعدون من أقطار السماوات واألرض ،للشر
اها ُم لِ َئ ْت َحَر ًسا واستراق السمع ،كما قالت الجنَ ﴿ :وأ ََّن ا َل َم ْس َن ا َّ
الس َماء َف َو َج ْد َن َ
َش ِديد ا و ُشهب ا ،وأ ََّن ا ُك َّنا َن ْقع د ِم ْنه ا :﴾...من السماء ..﴿ :م َق ِ
اع َد َ َ ُُ َ ً َ ًُ
قي إنساني ،بل كالرقي الشيطاني ،والجن أدنى مرتبة لِ َّ
لس ْم ِع :)2(﴾...فهذا ليس بر ٍ
السمو به ،فنبلغ مرتبة ومنزلة من اإلنس ،بل الرقي باإليمان باهلل واألنس و ِّ
ّ
اإلنسانية الحّقة ،وننال الجنات من حضرة هللا ،دنيا وآخرة ،وهذا الفكر يحمل
ُعد لنصل به إلى موجدنا ،لنحقق إنسانيتنا ،والغاية التي خلقنا من
طاقات هائلة ،أ ّ
أجلها كما أشرنا ،أما وقد وجهه الناس إلى غير ما أعد له ،فإنه أيضاً يبدع في
الجهة التي صوب نحوها ،ولكن بطريق يؤدي إلى هالكهم.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 123ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أما إذا استهانت الناس بالقدرة اإللٓهيةَّ ،
فغشت نفسها ،وحولتها عن مصدر
خيرها سبحانه ،وظنت أنها ستتصرف هي بالوجود ،كيفما تريد وحسبما تشاء،
ِ
عندئذ حذرنا تعالى بقولهُ﴿ :يْر َس ُل َعَلْي ُك َما ُش َواظٌ همن َّنار َوُن َح ٌ
اس َف َال
ان﴾( :)1بهذه الحضارة الفضائية النووية التي صنعتها اإلنس ل نصر فيها، نت ِصَر ِ
َت َ
ِّ
المتصارَع ْين. بل خسارة تفوق الوصف لكال
في اآليةُ﴿ :يْر َس ُل :﴾...إمهال وتحذير ،ولكنه إمهال غير طويل .وفيهما أيضاً
فعل يرسل مبني للمجهول ،ومعنى ذلك أنهم بتنفيذهم ذلكُ ،يرسل عليهما بواسطة أو
بأخرى ،شواظ من نار ونحاس ،قد تكون هذه هي القنابل النووية المحمولة بواسطة
المركبات الفضائية واألقمار الصطناعية ،عندئذ فلن تنتص ار بهذه الحضارة ،التي
قضاء مبرماً ،ولن يكون هناك بهذه الحرب النووية ً سوف يتم القضاء عليها بها
منتصر.
ِ نتم َّمن ِفي َّ قال تعالى﴿ :أَأ ِ
ض َفِإ َذا ه َي َت ُم ُ
ور ،أ َْم ف ِب ُك ُم األَْر َ الس َماء أَن َي ْخ ِس َ َم ُ
ف َن ِذ ِ
ير﴾(.)2 ِ نتم َّمن ِفي َّ
الس َماء أَن ُيْرِس َل َعَلْي ُك ْم َحاصًبا َف َس َت ْعَل ُمو َن َكْي َ
أِ
َم ُ
وهذا البالء الذي سيحصل يوم الساعة الكبرى وعندها سيعلم الكفار أي منقلب
سينقلبون ،وكيف أن هللا تعالى يحِّّذر وينذر وينِّّفذ ،ومن أصدق من هللا حديثاً.
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 124ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
خروج َْجوج ومْجوج
اها أََّن ُه ْم َال َيْرِج ُعو َنَ ،ح َّتى ِإ َذا ُف ِت َح ْت َهَل ْكَن َ
ام َعَلى َقْرَية أ ْ قال تعالىَ ﴿ :و َحَر ٌ
اخ َص ٌةق َفِإ َذا ِهي َش ِ نسُلو َنَ ،وا ْق َتَر َب اْل َو ْعُد اْل َح ُّ يأْجوج ومأْجوج و ُهم ِمن ُك ِل ح َدب ي ِ
َ َ ُ ُ ََ ُ ُ َ ه ه َ َ
ينِ ،إَّن ُك ْم َو َما أَبصار َّال ِذين َك َفروا يا ويَلَنا َق ْد ُكَّنا ِفي َغْفَلة ِم ْن ه َذا بل ُكَّنا َ ِ ِ
ظالم َ ه َ َْ َ ُ َ َْ َْ ُ
َنت ْم َل َها َو ِارُدو َن﴾ .
() 1 َتعبدو َن ِمن دو ِن َّ ِ
ّللا َح َص ُب َج َهَّن َم أ ُ ُ ُُْ
إذن حنان هللا ورأفته تقتضيان أن ُيهلك من ل يرجع إليه من القرى وحرام على
قرية أن تبقى في العصر المقبل عصر سيدنا عيسى بل يهلكها تعالى ألنها ل
ترجع إليه.
هلل جل شأنه في هذا الوجود سنن و قوانين ل تتبدل ول تتغير ،فمن تلك السنن
الخاصة في إهالك القرى.
أوالً :إن هللا ل يأخذ القرى إذا أراد هالكها ،وأهلها غافلون.
ثانياً :إن هللا حرم على نفسه إهالك قرية ،إل إذا انقطع األمل منهم في الرجوع
إليه.
ثالثاً :اعتراف أهل القرى الهالكة ،بأنهم كانوا ظالمين.
أما بالنسبة لشعوب هذا العصر ،فإن استحالة الرجوع إلى هللا مقرون بانفتاح
يأجوج ومأجوج على الناس ،لبث عقيدتهم.
فاهلل يحجب الفساد على من فيهم الخير ،فإذا نضب ذلك منهم ،بعث إليهم من يظهر
لهم كوامن أنفسهم ،حتى ل يكونوا مغشوشين بأنفسهم ،أو يظنوا بأنهم ما زالوا على الحق.
لقد أذن اآلن ليأجوج ومأجوج ،المفسد والفاسد ،اآلج والمأجوج بنار الترف وزينة
الدنيا ،أن ينشروا عقائدهم الفاسدة ،لنفوس أصبحت مستعدة لتقبل تلك العقائد.
وقد وصف تعالى الكيفية في نشر مبادئهم فقال تعالى:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 125ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
﴿ ...و ُهم ِمن ُك ِل ح َدب ي ِ
نسُلو َن﴾ والحدب هو خروج الظهر ،ودخول الصدر ه َ َ َ ه
والبطن ،دللة على الضعف والعجز.
والحدب أيضاً هو ما ارتفع من الشيء كحدب الموج والرمل بسبب ضغط
بعضه على بعض ،والغليظ المرتفع من األرض ،نتيجة التصدع والضغط.
انسل ،وتعني انطلق باستخفاء،
َّ أما كلمة﴿ ...ي ِ
نسُلو َن﴾ :الماضي منها َ
وبصورة عامة فإن النسالل ،وكل ما هو مشتق من كلمة ينسلون ،تعني :السعي
إلى ما يريده المرء بذكاء وحذر .ومن تلك المعاني األخيرة نستنتج بأن (يأجوج
ومأجوج) يسعون في نشر دعوتهم بين الناس.
ولكي تسمع دعوتهم ،ولتصبح مقبولة بين فقراء الناس ،فإنهم يأتونهم من نقاط
الضعف في المجتمعات المضطربة ،حيث ضغط األغنياء ،وتسلطهم على الفقراء،
مبينين لهم بأن شقاءهم وتعاستهم سببه أغنياؤهم ،وأن القضاء عليهم يعني القضاء
على الظلم الجتماعي ،وبالتالي القضاء على البؤس والفقر والشقاء.
وقد حصل ذلك في منتصف القرن الماضي حينما بدأت األفكار الشيوعية
اإللحادية بالتسلل إلى هذه المجتمعات وبث هذه األفكار المسمومة ،ولول حصول
الحدب أو الوضع غير الصحيح وغير السليم في تلك المجتمعات ،لما راجت
أفكارهم اإللحادية.
والحدب أيضاً :هو الشيء المتفاوت من ارتفاع وانخفاض ،وذلك بتعالي الدول
الغنية ،على الدول الفقيرة ،وبهذا التفاوت وهذا التعالي حصل أيضاً النشقاق بين
الدول ،مما أتاح الفرصة ليأجوج ومأجوج وهما الصين وروسيا ،أن يستغال هذا
الهدامة اإللحادية ،كما أن تجار الصين الشيوعية بثوا
التفاوت ،لنشر أفكارهم ّ
بضائعهم الرخيصة بين شعوب العالم ،بسبب الغالء الفاحش ،مع الفقر المدقع،
عندها استطاعوا التدخل بالقتصاد والتجارة ،ويكون لهم بذلك باع ليس بقليل.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 126ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هذا وان كافة الخرائط الجغرافية القديمة السابقة كانت تشير إليهما ،وتسمي
إقليمي الروس والصين بتسمية يأجوج ومأجوج.
أما وصف أولئك القوم بكلمتي( :يأجوج ومأجوج) فألنهم بدعوتهم تلك،
يؤججون الفتنة بين الطبقات الغنية منها والفقيرة ،ويشعلون الثورات بين األمة
الواحدة أو بين األمم ،وهذا ما حصل معظمه في منتصف القرن الماضي .لقد بين
تعالى بأن يأجوج ومأجوج إذا فتحت على العالم ،وأخذت بنشر دعوتها بين األمم،
ثم أصبحت لتلك الدعوة الفعالية والقوة صفة العموم ،فإن الوعد الحق بات قريباً،
والساعة السابقة له والتي يظهر فيها السيد المسيح ،سيد هذا الزمان ،ليمسح
كل ظلم وجور ،غدا وشيكاً ،وأما يوم القيامة فإن أبصار أصحاب النظريات
الالإنسانية ،التي انتشرت في العالم ،شاخصة يوم القيامة من شدة الرعب والهلع
ين﴾( :)1وسوف يقولون ..﴿ :يا ويَلَنا َق ْد ُكَّنا ِفي َغْفَلة ِم ْن ه َذا بل ُكَّنا َ ِ ِ
ظالم َ ه َ َْ َ َْ
يكونون هم وآلهتهم من مبدعي هذه النظريات الهدامة ،كما قال أصدق القائلين
َنت ْم َل َها َو ِارُدو َن﴾(.)2
جل جاللهَ ..﴿ :ح َص ُب َج َهَّن َم أ ُ
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 127ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
خروج داِة األرض
الد َعاء ِإ َذا َوَّل ْوا ُم ْد ِب ِر َ
ين، قال تعالىِ﴿ :إَّن َك َال ُت ْس ِم ُع اْل َم ْوَتى َوَال ُت ْس ِم ُع ُّ
الص َّم ُّ
آي ِاتَنا َف ُهم ِ ِ ِ
َنت ِب َهادي اْل ُع ْم ِي َعن َض َال َلت ِه ْم ِإن ُت ْسم ُع ِإَّال َمن ُي ْؤ ِم ُن ِب َ َو َما أ َ
اس
الن ََن َّ َخَر ْجَنا َل ُه ْم َد َّاب ًة ِهم َن ْاألَْر ِ
ض ُت َكهلِ ُم ُه ْم أ َّ ُّم ْسلِ ُمو َنَ ،واِ َذا َوَق َع اْلَق ْو ُل َعَلْي ِه ْم أ ْ
آي ِاتَنا َال ُيوِقُنو َن﴾(.)1 َكاُنوا ِب َ
بأن وقوع لقد شرط هللا جل شأنه في اآلية الكريمة ،من اآليات اآلنفة الذكرَّ ،
الهالك ل يكون إل بعد ظهور دابة األرض ،وبما أن تلك الدابة قد ظهرت ،فإن
البالء أو الساعة أصبح أم اًر مبرماً ،ولم يبق إل تنفيذه ،أما تحديد وقوع هذه
الساعة فهذا ل علم ألحد به ،ألن الغيب هلل ول يجليها لوقتها إل هو ،وألنها ل
تأتينا إل بغتة ،ولكن تكامل أشراطها ينذر بحلولها اآلن ،وفي أي وقت ،ونحن
يقيناً على أبوابها .أما اآليات التي تسبق هذه اآلية ،فإنها تبين صفة الذين يقع
أصمت آذانهم ،وطمست على
عليهم القول ،فهم الذين أماتت الدنيا قلوبهم ،و َّ
أبصارهم.
أولئك ما كان ألحد في العالمين القدرة على هدايتهم ،ألنهم أعرضوا عن الحق،
وولوا وجوههم شطر الباطل ،وما كان هللا ليهديهم ،بسبب استسالمهم لشهواتهم،
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 128ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
والج ارد ،إلَّ ابتالءات الهالك الشمولي القادم اآلن إلينا ،وهذه البتالءات الرهيبة
المتتالية ،لم يسبق لها مثيل من ألوف السنين ،ومئات األجيال.
إن الهالك أصبح لمن هذه صفته رحمة ،ألن وجوده في الدنيا ،بات له ولغيره
ضر اًر ،ولذا ومن رحمة هللا بهم ،من أن يزدادوا إثماً ،وبالتالي سعي اًر ،فإن هللا
يأخذهم ،أخذاً شديداً ومباغتاً.
إن هللا لم يشر في اآلية الكريمة السابقة ،بأنه سوف يخلق لهم دابة ،بل قال
ض ُت َكهلِ ُم ُه ْم :)1(﴾...كما َخَر ْجَنا َل ُه ْم َد َّاب ًة ِهم َن ْاألَْر ِ
تعالىَ ﴿ :واِ َذا َوَق َع اْلَق ْو ُل َعَلْي ِه ْم أ ْ
أنه جل شأنه لم يشر أن الغرض من إخراجها ،أن تكون للناس معجزة ،بل منع
محمٍد ﷺ ،لعدم جدواها كما أشرنا بآية صريحة إرسال المعجزات في زمن سيدنا ّ
سابقاً.
ات ِإالَّ أَن َك َّذ َب ِب َه ا األ ََّوُلو َن َو َ
آت ْي َنا قال تعالى﴿ :وم ا م َن ع َن ا أَن ُّنرِسل ِب اآلي ِ
َ ْ َ ََ َ َ
النا َق َة م ب ِصرًة َفظَ َلموْا ِبها وم ا ُنرِسل بِ اآلي ِ
ات إِالَّ َت ْخ ِوي ًفا﴾(.)2 ود َّ
َ ُ َ ََ ْ ُ ُْ َ َث ُم َ
هذا وليس من المصادفة في شيء ،أن يخص في هذه اآلية الكريمة (الناقة)
كمعجزة من بين تلك المعجزات الكثيرة التي أرسلها هللا تعالى على رسله الكرام قبل
ذكره لتلك المعجزة بالذات ،لها دللتها ولها ما يبررها ،وهذا
سيدنا محمد ﷺ ،وانما ْ
يعني أن ل يتوهم الناس أو يظنوا بأن الدابة التي سيخرجها للناس ،هي من جنس
حيواني ،أو أن يكون الغرض من إخراجها آية أو معجزة.
بل له من إخراجها غاية أخرى ،ل تمت إلى المعجزة في شيء ،وكذلك فإن
إخراج الدابة ليس له صفة المعجزات .ليس من المنطق في شيء أن يكرر
سبحانه معجزة مشابهة لمعجزة سابقة َّ
كذب بها الناس.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 129ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
إن معنى الدابة في اللغة ،هو كل شيء يدب على األرض ،وغلب على ما
ُيركب ومن هذا المعنى جاءت لفظة دبابة ،وهي آلية القتال ،وقد سميت بهذا السم
ألنها تدب على األرض ،ولذا فإن معنى الدابة ل يقتصر على الحيوان فحسب ،بل
يشمل ما يدب على األرض من الجماد أيضاً.
ولغة :كل ما دب على األرض فهو دابة.
لقد ذكر لنا تعالى عن ناقة سيدنا صالح بأنها ناقة هللا وسقياها ،وتلك الناقة هي
من لحم ودم وروح ،بينما لم يشر إلى هذه الدابة التي سيخرجها من األرض بأنها تتمتع
بصفة الحياة ،ما عدا لفظة تكلمهم .ومسألة الكالم فقد أصبحت اآللة تشاركنا به،
بالمسجالت والمذياع والتلفاز وغيرها.
أما حدثنا صلوات هللا عليه عن السيارة يصفها( :سيكون بعدي سلطان الفتن على
أبوابهم كمبارك اإلبل ال يعطون أحداً شيئاً إال أخذ من دينه مثله) ( .)1اإلبل تستخدم
للنقل والترحال والسيارة كذلك وتقف أمام بيت صاحبها كما تبرك اإلبل وتلزم موضعها.
كما أنه ﷺ وصفها بدقة أكثر قال ﷺ( :تبعث نار على أهل المشرق فتحشرهم إلى
المغرب تبيت معهم حيث باتوا ،وتقيل معهم حيث قالوا ،يكون لها ما سقط منهم
وتخلف تسوقهم سوق الجمل الكسير )( .)2أي أن السيارة صناعة الغرب وبها نقلوا
ثقافتهم وحضارتهم ووسائلها إلى العالم ،فتوجه أهل المشرق إليهم يعبُّون من معينها
سماها نا اًر كناية عن محركها النفجاري والنار هنا :نار المحرك
اآلسن ،وأما أنه ﷺ ّ
النفجاري للبنزين بالمكابس (البسطونات) والحقيقة أعظم والحديث( :نار تبيت معهم حيث
باتوا وتقيل معهم حيث قالوا) حيث ينام صاحب السيارة ويبيت سواء ليالً أو نها اًر ،تكون
ً
معهم أمام البيت أو الفندق ،وهذا هو وصفها من الداخل إذ وصفها لصحبه الكرام من
الخارج من أن متابعها ل يدركها وهي تدركه ،وهذه من نبوءات األنبياء التي ل
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 130ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تخطئ( .يكون في آخر هذه األمة رجال يركبون على المياثر (السيارات) حتى يأتوا
أبواب المساجد نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف
فالعنوهن فإنهن ملعونات) ( :)1فالعنوهن :واللعن هو البعد ،أي ابتعدوا عنهن ألنهن
ملعونات :أي بعيدات عن هللا.
كما أنه ﷺ حدث عن الطائرات إذ يقول( :لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة ،تغشى
الناس ،فيها عذاب أليم ،تأكل األنفس واألموال تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام،
حرها بالنهار ،ولها ما بين السماء
حرها بالليل أشد من ه
تطير طير الريح والسحاب ،ه
واألرض دوي كدوي الرعد القاصف ،هي من رؤوس الخالئق أدنى من العرش) (.)2
(تغشى الناس ،فيها عذاب أليم ،تأكل األنفس واألموال) ل يخفى ما للقوة
حرها بالنهار) ألنحرها بالليل أشد من هالعسكرية الجوية من قوة تدميرية شاملة ( .ه
الليل مظلم ساتر لها عن اإلصابة بالمدفعية المضادة للطائرات سابقاً وتنجح المفاجأة
ركب فيها من أجهزة تكييف وتعديل
عما ّ
بالقصف للمدن والمواقع العسكرية ليالً وكناية ّ
حرها بالنهار ،ولها
حرها بالليل أشد من ه
لدرجات الح اررة (تطير طير الريح والسحاب ،ه
ما بين السماء واألرض دوي كدوي الرعد القاصف ،هي من رؤوس الخالئق أدنى
من العرش) يشير ﷺ إلى ضعف إيمان الناس اليوم ،إذ يظنون أن بها حول وقوة ولها
فعل ،وينسون أن الحول والقوة بيد هللا تعالى صاحب التجلي العظيم.
ول ُيعلم إلى اآلن أن شيئاً أخرج من األرض ،وأصبح يدب على األرض إل
السيارات والدبابات وما شابه ذلك ،من القطارات وغيرها .ومادة هذه اآلليات قد
استخرجت من األرض ،أي من المناجم الحديدية ،لذلك أصبحت هذه الدابة تكلم الناس
بما ركب عليها من أجهزة ل سلكية أو مذياع (راديو) أو غير ذلك .وقد قيل بأنها
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 131ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفذه ،وتستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ،وكذلك
الشمال والجنوب.
وهذا القول صحيح ،ألن هذه األجهزة ينفذ صوتها من جميع أقطار األرض.
وهذه الدابة ركب عليها حمار الدجال الذي ُيقال بأنه المذياع.
فالمذياع المحمول منه أو الثابت ،أصبح ينقل إلى الناس أقوال الدجالين ،وهذه
اإلذاعات باستطاعتها أن تقلب الحق باطالً ،والباطل حقاً ،لما لها من قدرة
اإلسماع ،إذ معظم أقوالها تدجيل بتدجيل ،ليس فيه من الحق إل القليل.
(إن أُ ُذن حمار الدجال ُلت ِظ ُّل سبعين ألفاً) (.)1
الشعرة فيه
ْ وقوله ﷺ( :إن طول ذيل حمار الدجال بين()70- 40ذراعاً ،وأن
تغهني).
(أي إبرة المذياع أو المؤشر لنقل صوت اإلذاعات) وقوله الشريف( :وأن
الشعرة فيه تغني) أي كلما َح ّركت المؤشر أي اإلبرة مقدار شعرة تنقل صوت
إذاعة أخرى ،كما أن قوله ﷺ أنه( :ما دخل بيتاً إاله أفسده) (أي خرب نفوس
مستمعيه لما فيه من ٍ
أغان رخيصة جنسية ل أخالقية)( ،وما دخل حانوتاً إاله
خرب قلب صاحبه ،الذي غدا يهوى اللهو والمجون ،وتحقيق مآربه
خربه) (أي َّ
ٍ
كل ،فهذه األمور غدت أمو اًر
الحد اإلنساني) ،على ّوأهوائه ،بكسبه الزائد عن ّ
تاريخية بحتة غير مهمة ،إذ تالها أرقى منها ،كالتلفاز البصري و(الستاليت)
والفيديو والكومبيوتر واإلنترنت.
وتخبرُه فخ ُذ ُه بما
ُ اك نعلِ ِه سوط ِه ِ
وشر َ
ِ جل ع َذَب ُة ل تقوم الساعة حتىُ( :يكهِل َم َّ
الر ُ
بعده) ( .)2وعذبة السوط هو الالسلكي كالذي يحمله رجال األمن من شرطة أهله ُ
أحدث ُ
َ
المرور.
( _ )1أخرجه ابن أبي شيبة :أي صوت المذياع يصل ويغطي سبعين ألفا ً من باب الكثرة وقدرته على إسماع الكثير من الناس.
( _ )2سنن الترمذي ج 3رقم./17/
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 132ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الهاتف السلكي ،تُمسك السماعة والسلك يبقى متدليًا( .وشراك النعل) :أي أن الهاتف
يشترك والنعل (الحذاء) بالصفة الظاهرية والشكل حتى واللون ،وقد وصف ﷺ الهاتف
بشراك النعل كناية عن الهاتف إذ أنه يشبه النعل تماماً أي :الحذاء المقلوب (وتخبره
أحدث أهله من بعده) إشارة للموبايل وبيوتها الجلدية التي تعلق في أعلى
َ فخذه بما
الفخذ على الحزام أو في جيب البنطلون .كما أنها تشير إلى أجهزة التجسس التي قد
يضعها البعض على بيته أو مكان عمله .والتي تُربط بشكل أو بآخر مع الهواتف
الالسلكية.
والحقيقة لما بدأت هذه الدابة في بداية القرن الماضي ،كان الناس عن سماع
الحق في صمم ،ذلك بما أحدثته هذه الثورة الصناعية من الفتن ،وجعلتهم يكفرون
بآيات هللا ،ويؤمنون بآلهة العلم والتكنولوجيا ،وولوا وجوههم شطر شمس الغرب،
صدق علىفهذا بحث تاريخي ليس إلَّ ،وان كان ل يزال مستم اًر ،فهو شاهد ْ
أشراط الساعة التي يأتي بها سيدنا عيسى المسيح أثناء أو إثر الحرب
ِ ِ
ط هِهُر َك م َن َّالذ َ
ين َك َفُروْا :﴾...اآلية هذه ،وعد من العالمية المطهرة مباشرةَ ..﴿ :و ُم َ
ِّّ
المصرين على الكفر، يطهره من الكفار هللا تعالى لسيدنا عيسى ،بأنه عندها ِّ
ّ
ورافع شأنه على العالمين ،وشأن أتباعه إثر ظهوره ،والى يوم القيامة ..﴿ :وج ِ
اع ُل ََ
ام ِة :)1(﴾..أي إثر ظهوره المرتقب ِ ِ
ين َك َفُروْا إَلى َي ْومِ اْلقَي َ
ِ
ق َّالذ َ
ِ
َّالذ َ
ين َّاتَب ُع َ
وك َف ْو َ
تمت أشراط ظهوره .
اآلن ،وقد َّ
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 133ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
زخرفة األرض
اختَل َ ِ اه ِم َن َّ قال تعالىِ﴿ :إَّنما م َثل اْلحي ِ
ط ِبه َنَب ُ
ات الس َماء َف ْ َ َنزْلَن ُ
الدْنَيا َك َماء أ َ اة ُّ َ َ ُ ََ
َهُل َها ض ُز ْخُرَف َها َو َّازَّيَن ْت َو َ
ظ َّن أ ْ ِ
َخ َذت األَْر ُ ام َح َّت َى ِإ َذا أ َ ض ِم َّما َيأ ُْك ُل َّاألَْر ِ
اس َواألَ ْن َع ُ
الن ُ
اها َح ِص ًيدا َكأَن َّل ْم َت ْغ َن ِباأل َْم ِ ِ
س ار َف َج َعْلَن َ
َمُرَنا َلْيالً أ َْو َن َه ًا أََّن ُه ْم َقادُرو َن َعَلْي َهآ أ ََت َ
اها أ ْ
ات لَِق ْوم َي َت َف َّكُرو َن﴾(.)1 َك َذلِك ُن َف ِصل اآلي ِ
َ ه ُ َ
إن األرض أخذت زخرفها ،فقد ازيَّنت القرى والمدن باألضواء الكهربائية
الملونة .وتزينت األرض في البناء الشامخ المزخرف ،والمفروشات الوثيرة ،وأقيمت
الشوارع وعلى حافتيها المتاجر والمعارض المزينة بالزخارف (الديكورات) ،ثم
خرجت النساء بأجمل زينة وأعظم فتنةَّ ،
وطلقت اآلداب الدينية والحياء والحشمة
بالثالث .وراحت تحاكي الرجال في اللباس ،كما أخذت الرجال تحاكي النساء
أيضاً ،بتطويل الشعور وارخاء السوالف ،واللباس الملون .وقد بين الرسول الكريم
ﷺ أن من عالمات الساعة أن تخرج النساء كاسيات عاريات ،مائالت مميالت،
قصة الشعر هي ما يدعونه على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف( ،وموضة ّ
بالسد العالي) فالعنوهن ،ألنهن ملعونات ،ومن عالماتها أيضاً أنه قال ﷺ:
ّ
(تتشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء) (.)2
()3
وقال أيضاً(:أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)
ولم يقتصر الزخرف على أماكن اللهو والبيع ،بل إلى المعابد أيضاً ،فجعلت عملياً
كالمتاحف ،يزورها المؤمن بالدين والكافر به (كمتحف أثري) بدل تخصيصها
للعبادة ،وألمور صالح المسلمين .وتلك أيضاً من عالمات الساعة.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 134ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لقد بلغت شمس الحضارة بدءاً من القرن الماضي والى اآلن ،كبد السماء
المادي ،وتقدم العلم لسيما التكنيك منه ،تقدماً هائالً ،فخرجت الدنيا في أجمل
وأبهى حلة ،فأنَّى لهم اإليمان وكيف؟ وهم الذين يحلمون بأن يسيطروا على
َهُل َها أََّن ُه ْم َق ِادُرو َن
ظ َّن أ ْ
الطبيعة ،بعد أن ظنوا أنهم سيطروا على األرضَ ..﴿ :و َ
اها
َعَلْي َهآ﴾...فإذا بلغت البشرية هذا الحد ،فإن هللا من بعد ذلك يقول ..﴿ :أ ََت َ
ار :﴾...أي ينزل البالء العمومي ليالً على بالد الشرق ،ونها اًر
ال أ َْو َن َه ًا
َمُرَنا َلْي ً
أْ
على بالد الغرب ،في النصف الثاني من الكرة األرضية.
هذا وقد فصل هللا تعالى في سورة الزخرف ،كيفية تسخير ما في األرض لهم إذا
أصبحت الناس أمة واحدةِّ ،قبلتُهم الدنيا وزخرفها ،وليس أمة واحدة ِّقْبلتُهم اآلخرة
ونعيمها ،وبالتالي تتبعهم الدنيا صاغرة بإذنه تعالى ،وكما ورد في اآليات
الر ْح َم ِن لُِبُيوِت ِه ْم
اح َد ًة َل َج َعْلَنا لِ َمن َي ْك ُفُر ِب َّ
ُم ًة و ِ
اس أ َّ َ التاليةَ ﴿ :وَل ْوَال أَن َي ُكو َن َّ
الن ُ
ُسُق ًفا ِهمن َف َّضة َو َم َع ِار َج َعَلْي َها َي ْظ َهُرو َنَ ،ولُِبُيوِت ِه ْم أَْب َو ًابا َو ُسُرًار َعَلْي َها َي َّت ِك ُؤو َن،
ِ ِ ِ وُز ْخرًفا واِن ك ُّل َذلِك َل َّما م َتاع اْلحي ِ
ين﴾(.)1 الدْنَيا َو ْاآل ِخَرُة ع َ
ند َرهِب َك لْل ُم َّتق َ اة ُّ َ ُ ََ َ َ ُ َ ُ
فقوله تعالى باآلية ..﴿ :لُِبُيوِت ِه ْم ُسُق ًفا ِهمن َف َّضة :﴾...مما نراه اآلن من ديكورات
الفضية الخالَّبةَ ..﴿ :و َم َع ِار َج َعَلْي َها ّ السقوف الصطناعية الرائعة ،ذات األلوان
َي ْظ َهُرو َن﴾" :المعارج هي المصاعد باألبنية ،ويطلق عليها لفظ مصاعد أو معارج لغ ًة":
﴿َ ..عَلْي َها َي ْظ َهُرو َن﴾ :أي يصعدونَ ﴿ :ولُِبُيوِت ِه ْم أَْب َو ًابا :﴾..البيوت لغ ًة :الغرف.
والمنازل :الدور ،فالغرف بالبيوت العربية ذات باب واحد ،أما في األبنية ،فللغرفة عدة
أبواب مثالً :باب للبلكون ،وباب لغرفة الستقبال ،وباب للمطبخ ،وما إلى ذلك..﴿ :
وسر ار :﴾...أي ِّ
األسَّرة الفخمة الفاخرة ،في الموبيليا العصرية الحديثة..﴿ : َ ًُُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 135ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
َوُز ْخُرًفا :﴾...ديكورات وما أدراك بروعتها وتكاليفها لحياة فانية ،أنست البشرية الحياة
الراقية األبدية في الجنات.
لقد أرسل هللا إلى العالم عدداً من اإلنذارات ،وألواناً من العذاب ،كالحروب وما
إليها كما ألمحنا سابقاً ،ولكنهم نسوا ذلك ،وأقبلوا على الدنيا بكل ما لديهم من طاقات.
قال ﷺ( :اقتربت الساعة وال يزداد الناس على الدنيا إال حرصاً ،وال يزدادون
من هللا إال بعداً) ( .)1ولما نسوا ما ِّّ
ذكروا به ،فتح هللا عليهم كنوز األرض ،فال بد
بعد ذلك من أن يأخذهم بغتة ،وهم مبلسون.
اختَل َ ِ اه ِم َن َّ إذنِ﴿ :إَّنما م َثل اْلحي ِ
اتط ِبه َن َب ُ الس َماء َف ْ َ َنزْل َن ُ اة ُّ
الد ْن َيا َك َماء أ َ َ َ ُ ََ
ض : ﴾...واآلن هكذا حال الدنيا ،وهذا مثال عن الساعة التي ستقع غداً: األ َْر ِ
ض ُز ْخُرَف َها :﴾..طيارات، ام َح َّت َى ِإ َذا أَ َخ َذ ِت األ َْر ُ اس َواألَ ْن َع ُ الن ُ ْك ُل َّ ﴿ِ ..م َّما َيأ ُ
سيارات ،أبنية ،قصور ،هواتف ...كل شيء على أتمه :الدنيا كاملة ﴿...
َهُل َها أََّن ُه ْم َق ِادُرو َن َعَل ْي َهآ :﴾...ظنوا َو َّازَّيَن ْت :﴾..بأنوار الكهرباءَ ..﴿ ...و َ
ظ َّن أ ْ
َمُرَنا:﴾.. اها أ ْ
أنهم بعملهم سيطروا على الطبيعة فأشاحوا عن مالك الملك ..﴿ :أ ََت َ
ار :﴾...ليالً على الشرق ونها اًر على الغرب...﴿ . بالهالكَ ..﴿ :ل ْيالً أ َْو َن َه ًا
س :﴾...كأنها ما كانت. يدا َكأَن َّل ْم َت ْغ َن ِباأل َْم ِ اها َح ِص ً َف َج َعْل َن َ
ات لِ َق ْوم َي َت َف َّكُرو َن﴾ :ول يفيد شيئاً من هذا من ل يفكر ،إن ﴿َ ...ك َذلِك ُن َف ِصل اآلي ِ
َ ه ُ َ
السالَمِ :﴾...دار األمان والراحةَ ..﴿ :وَي ْهِدي ّللا َيْد ُعو ِإَلى َد ِار َّ لم يفكر فال خير فيهَ﴿ :و ه ُ
َمن َي َشاء :﴾..كل من شاء الهداية إليهِ ..﴿ :إَلى ِصَراط ُّم ْسَت ِقيم﴾( :)2والدعوة عامةُ ﴿ :ق ْل
اك ْم َع َذ ُاب ُه َبَي ًاتا أ َْو َن َهاًار َّما َذا َي ْسَت ْع ِج ُل ِمْن ُه اْل ُم ْجِرُمو َن﴾( :)3ماذا ترد عن نفسك؟
َرَْيُت ْم ِإ ْن أََت ُ
أَأ
ما يأتيك من البالء في ساعته؟ ماذا َّ
حضرت له؟ أترجو خي اًر يومها؟ هل تؤمن كما آمن
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 136ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فرعون؟! ماذا تفيد اإلنسان رجعته عند الهالك؟! أرسلك لتعمل العمل الطيب وعند البالء ل
فكر بهذا الكون وما فيه من آيات يبقى لك عمل .أعطاك هللا أهلية عالية وضيعتِّّ ،
ّ
عظيمة ،لم هذه الدقة وهذا الترتيب؟ وهذه التحذيرات واإلنذارات كلها ألجلك لكي تفكر.
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 137ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ظهور الدخان
اس َه َذا السم اء ِب ُد َخان ُّم ِبين َ ،ي ْغ َشى َّ ِ ِ
الن َ قال تعالىَ ﴿ :ف ْارَتق ْب َي ْو َم َت أْتي َّ َ
اب إِ َّنا ُم ْؤ ِم ُنو َن ،أ ََّن ى َل ُه ُم ال ِهذ ْكَرى َو َق ْد ف َع َّنا ا ْل َع َذ َ يم َ ،رَّب َن ا ا ْك ِش ْ ِ
اب أَل ٌ َع َذ ٌ
اباش ُفو ا ْل َع َذ ِين ،ثُ َّم َتوَّلوا ع ْن ُه و َق اُل وا مع َّلم َّم ْج ُنو ٌن ،إِ َّنا َك ِ ول ُّم ِب ٌ
َُ ٌ َ ْ َ َ اءه ْم َر ُس ٌ َج ُ
نت ِق ُمو َن﴾(.)1 يال إِ َّن ُك ْم َع ِائ ُدو َنَ ،ي ْو َم َن ْب ِط ُ
ش ا ْل َب ْط َش َة ا ْل ُك ْب َرى إِ َّن ا ُم َ َق لِ ً
تبين لنا هذه اآليات الكريمة ،أن الدخان الذي يغشى الناس ،فيه عذاب أليم ،هو
من غير شك دخان القنابل ،ودخان الغازات السامة ،ثم دخان حرائق الغابات
الكبيرة ،ودخان الحرائق التي تحدثها النفجارات ،على منطقة معينة محدودة ،من
كثرة الحروب ،والغازات المتصاعدة من المعامل والسيارات ،في كل أنحاء المعمورة،
حتى أن قادة العالم الكبار اجتمعوا ألكثر من مرة إليجاد حلول لهذه المشكلة الكبيرة،
ووقعوا على اتفاقيات ،ومنهم من لم يوقع ،وكلما اجتمعوا على حل هذه المعضلة، َّ
يخرجون مختلفين ،ومن آثارها السلبية على صحة اإلنسان والحيوان والنبات أيضاً
(كتلوث البيئة والحتباس الحراري) حتى بدأت
ُّ آثا اًر سيئة على الجو وارتفاع الح اررة
الثلوج في القطبين بالذوبان ،وبهذه التغيرات المناخية المفاجئة ،نتيجة هذا الدخان
أصيب الناس بكثير من األمراض الحساسة ،وخاصة األمراض الصدرية ،والجهاز
التنفسي واألمراض الجلدية .وظهور الدخان أيضاً في األماكن الساخنة بالحروب
والفتن من جراء القنابل والمتفجرات ،يجعل الناس يستغيثون بربهم ،ليكشف عنهم
البالء .إذ من بعد ظهور الدخان فإن العذاب سينكشف قليالً ،ألن هذه المنطقة التي
غشاها الدخان قد تضرع سكانها إلى هللا ،وتعهدوا أن يؤمنوا به ،بعد أن يكشف
عنهم العذاب .ولكن ادعاءهم هذا ل يلبث طويالً ،وأنهم سوف يعودون إلى ما كانوا
عليه .وعندئذ سوف يكون انتهاؤهم مع من ينتهون يوم يبطش بطشة الساعة ،قال
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 138ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
نت ِق ُمو َن﴾( :)1وتلك األشراط قد ظهرت تعالىَ﴿ :ي ْوَم َنْب ِط ُ
ش اْلَب ْط َش َة اْل ُكْبَرى ِإَّنا ُم َ
جميعها.
والى جانب هذه األشراط الكبرى ،توجد أشراط ثانوية نذكر منها:
كتاب هللا عا اًر "إذا طبقه المؤمن فيعيرونه وخاصة
(ال تقوم الساعة حتى ُيجعل ُ
الختالط على كافة األوجه" .ويكون اإلسالم غريبًا ،حتى تبدو الشحناء بين الناس،
وحتى ُيقبض العلم " العلم :المقصود به هنا العلم بأسماء هللا الحسنى" ويؤتمن
ويصدَّق الكاذب ،ويك هذب الصادق ،وحتى تبنى الغرف التهماءَّ ،
ويتهم األمناءُ ،
فتتطاول ،ويظهر البغي والحسد والشح ،ويتبع الهوى ،ويقضى بالظن ،ويغيض
العلم غيضاً ،ويفيض الجهل فيضاً ،ويكون الولد غيظاً ،والشتاء قيظاً ،ويقوم
الخطباء بالكذب فيجعلون حقي لشرار أمتي ،ويقل الصدق.)2( ).
(يأتي على الناس زمان ال يتبع فيه العالِم ،وال يستحيا فيه من الحليم ،وال
يوقر فيه الكبير ،وال يرحم فيه الصغير ،يقتل بعضهم بعضاً على الدنيا ،قلوبهم
قلوب األعاجم ،وألسنتهم ألسنة العرب ،ال يعرفون معروفاً ،وال ينكرون منك اًر،
()3
أولئك شرار خلق هللا ،ال ينظر هللا إليهم يوم يمسي الصالح فيه مستخفياً
القيامة) (.)4
من عالمات اقتراب الساعة( :أن يصلي خمسون نفساً ،ال تقبل ألحد منهم
صالة(.)6())5
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 139ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فصالتهم ظاهرية ل قلبية كأنه أمر تعبدي قسري فهم ل يشعرون َّ
بلذتها.
في آخر الزمان( :ما يبقى من القرآن إال رسمه وال من اإلسالم إال اسمه)(،)1
(تكون المشورة لإلماء ويخطب على المنابر الصبيان وتكون المخاطبة للنساء،
فعند ذلك تزخرف المساجد ،كما تزخرف الكنائس والبيع ،وتطول المنابر وتكثر
الصفوف ،مع قلوب متباغضة وألسن مختلفة وأهواء جمة ،يكون المؤمن فيهم
أذل من األمة يذوب قلبه في جوفه كما يذوب الملح في الماء مما يرى من
المنكر فال يستطيع أن يغيره ،ويكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ،ويغار
على الغلمان كما يغار على الجارية البكر) (.)2
أما صدق رسول هللا ﷺ في كل هذا ،أما كان قوله هو الفصل وليس بالهزل!
(من اقتراب الساعة إذا رأيتم الناس أضاعوا الصالة وأضاعوا األمانة،
الرشا ،وشيدوا البناء ،وباعوا الدين بالدنيا،
واستحلوا الكبائر ،وأكلوا الربا ،وأكلوا ه
القينات ،واستحلتواتخذوا القرآن مزامير ،وقلت العلماء ،وكثر القراء ،واتخذوا هِ
المعازيف ،وشربت الخمور ،وعطلت الحدود ،وشاركت المرأة زوجها في التجارة،
وتشبهت النساء بالرجال ،والرجال بالنساء (أي :بكثير من األعمال واللباس)
ويحلف بغير هللا (ويحلف الناس بعقائدهم المادية ومشتهياتهم) ،وكانت الزكاة
وقرب صديقه ،وأقصى وعق أمه ،ه
َّ مغرماً ،واألمانة مغنماً ،وأطاع الرجل امرأته،
آخر هذه األمة أولها) أباه ،وضيعتم حق هللا في أموالكم ،و ُ ِ
وسب ُ
َّ ف المكاييل، طهف َ ه
( :)3وهذا ما نلحظه اليوم بشكل علني .ومن عالماتها كثرة الحروب الحاصلة في
هذا الزمان والفتن ،كثُر القتل واراقة الدماء .وقد أشار الرسول ﷺ( :والذي نفسي
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 140ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
بيده ال تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم ال يدري القاتل فيما َق َت َل وال
المقتول فيما ُقتل)( )1أي ُيزُّجون في القتال زّجاً ،أو إشارة للمرتزقة في الجيوش.
ومن أشراط الساعة أن:
(يظهر الفحش والتفحش وسوء الخلق وسوء الجوار) ( :)2واليوم الكل يشكون
من األخالق السيئة ومن سوء الجوار.
وقال ﷺ( :في آخر الزمان إذا لم تنل المعيشة إال بمعصية هللا ،فإذا كان
العزبة ،يكون في ذلك الزمان هالك الرجل على يد أبويه ،إذا كان لهكذلك حلت ُ
أبوان واال فعلى يد زوجته وولده ،واال فعلى يدي األقارب والجي ارن .يعيرونه
بضيق المعيشة ويكهلِفونه ما ال يطيق ،حتى يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها)
(.)3
(يكون في آخر الزمان عباد جهال َّ
وقراء فسقة) (.)4
(ال تقوم الساعة حتى يقوم الخطباء بالكذب فيجعلون حقي لشرار أمتي فمن
صدقهم بذلك ورضي به لم يرح رائحة الجنة) (.)5
وهذا ما يقوله بعض الخطباء للناس أن رسول هللا ﷺ سيشفع للعصاة منهم يوم
القيامة (شفاعتي ألهل الكبائر من أمتي) .يمنونهم بهذه األماني الكاذبة .وقال ﷺ:
فش َّو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة ،وقطع
(إن بين يدي الساعة ُ
وفش َّو القلم ،وظهور الشهادة بالزور ،وكتمان شهادة الحق)(.)6
األرحامُ ،
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 141ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وكذلك قال ﷺ( :ال تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما
مقتلة عظيمة دعواهما واحدة "الحرب العالمية الثالثة بين الشرق والغرب" وحتى
يقبض العلم "العلم بال إلٓه إل هللا وبأسمائه تعالى الحسنى..
"وتكثر الزالزل" وها نحن اليوم نرى ونسمع عن هذه الزلزل في كل الدول ،ما
ظهر معشارها باألجيال البشرية السابقة" .ويتقارب الزمان " تقارب الزمان يتم بواسطة
السيارة والطائرة" وتظهر الفتن ويكثر الهرج "القتل" وحتى يكثر فيكم المال "من ثروات
باطنية كالبترول والمعادن الثمينة وغيرها" ...وحتى يتطاول الناس في البنيان ،وحتى
يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه "لهول األحداث والضيق العام بزلزل
الساعة" وحتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون
يماُن َها َل ْم َت ُك ْنِ
"بوجهتهم نحو شمس الحضارة الغربية" وذلك حين ﴿ ...الَ َينَف ُع َن ْف ًسا إ َ
يم ِان َها َخْيًار" .)1(﴾...وذلك حين وقوع ساعة البالء ِ ِ ِ
آمَن ْت من َقْب ُل أ َْو َك َسَب ْت في إ َ
َ
"ولتقومن الساعة وقد نشر الرجالن ثوبهما بينهما فال يتبايعانه وال يطويانه .ولتقومن
الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته " الناقة الحلوب" فال َيطعمه) ( ،)2وكلها تدل أن
قيام الساعة بغتة وهم مبلسون.
قال ﷺ( :ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير "والمقصود ِّ
بالح َر:
الف ْرْج ،وهو دللة على تفشي الزنا بدون حرج" .والخمر والمعازف)( :)3استحالل
َ
األغاني والمعازف.
قال ﷺ …( :وأن تتخذ المساجد طرقاً ،وأن يظهر موت الفجأة) ( ،)4أي يمر
الرجل في المسجد مرو اًر ل يصلي فيه.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 142ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
(يوشك األمم أن تداعى عليكم كما تداعى األكلة إلى قصعتها) (.)1
أما وصية الرسول ﷺ لمن شاء أن ينجو في دينه فهي:
(كيف بك إذا بقيت بين حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم،
فبم تأمرني؟ قال :إلزم بيتك،
واختلفوا ،كانوا هكذا؟ "وشبك بين أصابعه" قالَ :
وأمسك لسانك ،وخذ ما تعرف ،ودع ما تنكر ،وعليك بأمر خاصة نفسك ،ودع
عنك أمر العامة) (.)2
لقد جاء ذكر للساعة في اإلنجيل أيضاً ،وهذا أمر بديهي أن يذكر السيد
المسيح أشراط الساعة ،ألنه هو المعني باألمر ،وهو المأمور بإعالء كلمة هللا في
األرض لهذه الفترة ،والى يوم القيامة ،بإمداد من هللا تعالى .وقد فهمت النصارى
كما فهم المسلمون خطأً بأن الساعة التي يأتي بها هي ساعة يوم القيامة.
والسؤال هنا ما الفائدة من مجيء الرسول عند يوم القيامة؟! أما انتهت فترة
المتحان؟ أما ينتظر الناس ليؤتى كل إنسان كتابه .إما بيمينه واما بشماله؟ وما
فائدة النصح ،وهل تنفع الموعظة عندئذ؟ أما كشف الغطاء وأصبح البصر يومئذ
حديد؟!
لقد سئل السيد المسيح من قبل تالميذه عندما كان جالساً على جبل الزيتون
(،)3
عن عالمة مجيئه وانقضاء الدهر ،جملة انقضاء الدهر ل تعني يوم القيامة
فأجابهم عن األشراط التي تسبق الساعة ،ثم وصف لهم الساعة وهولها فقال:
( فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان
المقدس ،ليفهم القارئ ،حينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال ،والذي على
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 143ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
السطح فال ينزل ليأخذ من بيته شيئاً ،والذي في الحقل فال يرجع إلى ورائه
ليأخذ ثيابه ،وويل للحبالى والمرضعات في تلك األيام.)1( )...
أما قوله والذي على السطح فال ينزل ليأخذ من بيته شيئاً والذي ...كناية عن
المباغتة والذهول الذي يصيب الناس حين وقوعها .وهذا القول الذي ورد في
اها ُق ْل ِإَّن َما ِعْل ُم َها الس ِ
ان ُمْر َس َ اإلنجيل يوافق معنى اآليةَ﴿ :ي ْسأَُلوَن َك َع ِن َّ َ
اعة أََّي َ
ض الَ َتأ ِْت ُ
يك ْم ِإالَّ َب ْغ َت ًة ات َواألَْر ِ السماو ِ ِ ِعند رِبي الَ يجهلِ ِ ِ
يها ل َوْقت َها إِالَّ ُه َو َثُقَل ْت في َّ َ َ
َُ َ َ َه
اس الَ الن ِ يسأَُلوَنك َكأََّنك ح ِفي عْنها ُقل ِإَّنما ِعْلمها ِعند ِ
ّللا َوَل ِك َّن أَ ْك َثَر َّ
َ ه َُ َ َ ٌّ َ َ ْ َ َ َْ
َي ْعَل ُمو َن﴾(.)2
وأما قوله( :وويل للحبالى والمرضعات في تلك األيام) :وهذا أيضاً يوافق معنى
ِ الس ِ
يمَ ،ي ْوَم َتَر ْوَن َها
اعة َش ْي ٌء َعظ ٌ اس َّاتُقوا َرَّب ُك ْم ِإ َّن َزْل َزَل َة َّ َ
الن ُاآليةَ﴿ :يا أَُّي َها َّ
اس ُس َك َارى َت ْذهل ُك ُّل مر ِضعة ع َّما أَر َضع ْت وَت َضع ُك ُّل َذ ِ
ات َح ْمل َح ْمَل َها َوَتَرى َّ
الن َ ُْ َ َ ْ َ َ ُ َُ
يد﴾(.)3 ّللا َش ِد ٌ وما هم ِبس َكارى وَل ِك َّن ع َذاب َّ ِ
َ َ ََ ُ ُ َ َ
وجاء في اإلصحاح رقم /21/قوله:
(ألنه يكون حينئذ ضيق عظيم ولم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى اآلن ولن
يكون).
َمُّر﴾(.)4
اع ُة أَْد َهى َوأ َ اع ُة َم ْو ِعُد ُه ْم َو َّ
الس َ واآلية الكريمة التي تؤيد هذا القولَ﴿ :ب ِل َّ
الس َ
إن القول الذي ذكرناه آنفاً على لسان السيد المسيح ل يعني به يوم القيامة،
وانما يشير إلى الساعة ،والبالء الذي تم التحدث عنه في كتابنا هذا ع َّما يسبق
ظهوره من تطهير األرض من الفساد والمفسدين.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 144ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ويبين ذلك قول السيد المسيح نفسه:
ّ
(ألنه كما كانوا في األيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون
ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ
الجميع كذلك يكون مجيء ابن اإلنسان "أي هو نفسه ابن سيدنا آدم عليهما
السالم" حينئذ يكون اثنان في الحقل يؤخذ الواحد ويترك اآلخر ،اثنتان تطحنان
على الرحى تؤخذ الواحدة وتترك األخرى) .فإذا كان الحديث عن يوم القيامة فإن
هللا يأخذ الجميع فال يأخذ الواحد ويترك اآلخر أو يأخذ الواحدة ويترك األخرى.
ومن قول السيد المسيح هذا نستنتج استنتاجين:
االستنتاج األول :لقد شبه السيد المسيح الساعة بالطوفان.
عم قوم سيدنا نوح وكانوا هم كافة البشر على وجه
ففي الطوفان الذي ّ
البسيطة ،لم ينج منه إل أصحاب السفينة.
كذلك فإن هذا البالء المنتظر ل ينجو منه إل كل مؤمن ،فلنكن منهم ،بسلوك
طريق اإليمان ،تكتب لنا النجاة ،إلى عصر السعادة والسالم ،وطوبى لمولود هذا
الزمان.
االستنتاج الثاني :إن هذا الكالم ينفي القول القائل( :الرحمة مخصصة والبالء
يعم) وبمعنى آخر أن هللا ل يأخذ الصالح بسيئات الطالح .وقد ذكر هذا الستنتاج
سابقاً ،وذلك بسبب تفشي هذا القول وتقبله على كافة المستويات وحتى الدينية منها.
جراء ما َّقدمت يداه ،وغير ذلك كلها فالقرآن الكريم يبين أن ما يصيب اإلنسان هو َّ
ظَّالم هلِْلعِب ِ
يد﴾(.)1 ظنون سيئة باهلل تعالى ،نسفها القرآن الكريم نسفاًَ ..﴿ :و َما َرُّب َك ِب َ
َ
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 145ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الفصل الراِع
في هذا الفصل:
عودة السيد المسيح ودالئل عودته من القرآن الكريم.
ما هي النفس؟ وأين مركز وجودها؟ وما هي وظيفتها؟
ما هي الروح؟
نظام خروج اإلنسان إلى هذا العالم.
الدليل األول على عودة السيد المسيح .
معنى التوفي.
ما هو السبب في توفي سيدنا عيسى نوماً؟!
الدليل الثاني على عودة السيد المسيح .
وجاهة السيد المسيح .
الدليل الثالث على عودة السيد المسيح .
انتهاء جوالت الباطل.
طوبى لمولود هذا الزمان
***
عودة السيد المسيح
قبل قيام الساعة أو أي بالء آخر ،فإن هللا يرسل إلى الناس إنذارات وتحذيرات،
َّ
لعلهم يتنبهون من غفلتهم ،ويصحون من سكرتهم ،ثم يتداركون أمرهم من قبل أن
يحل بساحتهم العذاب ،وقبل أن يقولوا ربنا أرجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا
نعمل.
ول تقتصر تلك التحذيرات على لسان الرسل فحسب ،بل التنظيم الكوني
الصارم بدقته ،الهادف في غايته ،يحذرك أيضاً من أن هذه الحياة ما لها من
قرار .فالمراحل التي يمر بها اإلنسان أو الحيوان ،من ضعف إلى قوة ،ومن قوة
إلى ضعف وشيبة ،والنبات حينما يخرج غضاً ،ثم يستغلظ ويستوي على سوقه ،ثم
يصبح هشيماً تذروه الرياح ،إن هي إل آيات محذرات مبينات لإلنسان ،بأل
يطمئن ويركن إلى الحياة الدنيا ،بل تطلب إليه بما تقدمه من المواعظ ،أن يشمر
عن ساعد الجد ،ويسعى لما هو مخلوق له ،ألن األمر جد ،وما هو بالهزل.
وما أشراط الساعة التي ذكرها الرسول الكريم ﷺ ،وظهرت اآلن ،إل آيات
مبينات ألولي األلباب ،الذين يبحثون عن لب األمور ،ويذرون القشور ،بأن هذه
الحضارة التي بنوها وارتضوا بها ،سوف يأتي هللا بنيانها من القواعد ،فيخر عليهم
السقف .ذلك بأن هللا ل يأخذ القرى وأهلها غافلون ،أما إذا أخذها وهي ظالمة بعد
وذكرها وأنذرها وبعث تعالى عليها من البالء ألواناً ،فإن أخذه أليم شديد.
أن حذرها ّ
هذا ويجب أن ل تخدعنا األقوال بأن الدول التي تملك أسلحة الدمار ل يمكن
أن تستعملها ،ألن في استعمالها حتفها ،وهل يسعى اإلنسان إلى حفر قبره بيده
مثالً؟!
تلك أقوالهم ،أما قول رب العالمين وقوانينه ،فال تقاس بتلك العواطف ،ول بتلك
األهواء ،ألن لرب العالمين غاية سامية من وجودنا ،أما إذا انحرفنا عن تلك
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 149ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الغاية ،التي هي الحياة الطيبة بأسمى معانيها ،فإن الهالك يصبح محققاً ،وذلك
لكيال تزداد شرورنا ،فيزداد ألمنا وحسرتنا يوم الدين.
فلو كانت الحياة طيبة في ظل هذه الحضارة ،لما شاهدنا التبرم والضجر واأللم
والنتحار والحروب والبالءات الكبرى واألمراض المرعبة ،من هذا النهج الذي
ارتضته البشرية لنفسها .إن هللا أعلم بمن خلق ،وأعلم بما يسعد أنفسهم ،أوليس الذي
أبدع السماوات واألرض ،وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة ،بقادر أن يضع سنناً
تكفل لنا سعادة الدارين؟ بلى ،وهو أهون عليه ،ألنه هو أعلم بمن خلق ،وأعلم بما
يسعد أنفسهم ويشقيها ،ولكن خروج الناس ،عما أنزل من الشرائع الكفيلة بسعادتها
ومنحها حياة طيبة ،هو الذي سبب لهم النكبات ،وسبب لهم األلم والشقاء ،إذن
فالذنب ليس ذنب الدين اإللٓهي ،ولكن الذنب ذنب الخارجين عن سننه المنزلة إلينا،
من أجل ذلك ،يبعث هللا تعالى إليهم رسولً من أنفسهم ،يتلو عليهم آياته وشرائعه،
ويأمرهم أن يطيعوا هللا ورسوله بتطبيق تلك الشرائع ،ويحذرهم ويعظهم من الهالك،
إذا انحرفوا عنها واستبدلوها بشرائع من وحي أهوائهم.
ِ ِ
ُم َها َر ُسوًال َي ْتُلو َعَلْي ِه ْم ِ
ان َرُّب َك ُم ْهل َك اْلُقَرى َح َّتى َيْب َع َث في أ ه
قال تعالىَ ﴿ :و َما َك َ
ظالِ ُمو َن﴾(.)1 آي ِاتَنا َو َما ُكَّنا ُم ْهلِ ِكي اْلُقَرى ِإَّال َوأ ْ
َهُل َها َ َ
والسيد المسيح ( )2هو رسول هذا العصر ،وهو الذي أرجأه تعالى لهذه
الساعة.
ِّ
ول َّبد لنا قبل البدء بقصة سيدنا عيسى من أن ّ
نقدم الكلمة التالية فنقول:
خلق هللا اإلنسان مركباً من عناصر ثالثة :جسد ونفس وروح.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 150ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فالجسد :هو هذا الجسم المادي المؤلف من لحم وعظم وعروق وأعصاب ودم،
والجسم تنتابه أعراض كثيرة ،من قوة وضعف ،وصحة ومرض ،ونحول وسمن،
وفتوة وهرم.
النفس :هي ذات اإلنسان المعنوية الشاعرة ،وهي نور إلٓهي مركزها في الصدر
وأشعتها سارية بواسطة األعصاب في سائر أنحاء الجسم ،وهذه النفس المسجونة في
تتعرف بما يحيط بها من األشياء بواسطة الحواس ،فمن طريق العين
الجسم إنما ّ
تشم وبواسطة الجلد تحس وتلمس ،وباللسان
تُبصر ،وعن طريق األذن تسمع وباألنف ّ
عما يجول فيها من الخواطر واألفكار ،وبشيء من تذوق طعوم األشياء ،كما ّ
تعبر به ّ
التفصيل نقول:
إذا وقف أحدنا مثالً أمام شاطئ البحر فال شك أن رؤيته للبحر تجعله يخشع
أمام هذا المنظر ويستعظمه وهذا الخشوع والستعظام إنما هو خشوع النفس
واستعظامها.
واذا وقع نظرنا على شخص عزيز على قلوبنا ُجرحت يده جرحاً بليغاً ،وجعل
الدم يتقاطر منها ،فال بد أننا نحزن لهذا المشهد ونتألم على صاحبه ،فهذا الحزن
واأللم الذي نجده إنما هو حزن النفس وألمها .واذا كان أحد أقاربنا الذين نحبُّهم
نسر ونفرح ،وما ذاك إلّ فرح النفس
مساف اًر سف اًر بعيداً وسمعنا بعودته سالماً فهناك ُّ
وسرورها ،وهكذا فالنفس هي العنصر األساسي في اإلنسان فهي التي تستعظم
وتسر وتفرح وترضى وتغضب وتتلذذ وتتألم وعليها
وتتكدرُّ ،
ّ وتخشع وهي التي تحزن
المعول.
ّ
َّ
المكلفة بالسير في طريق الحق، والنفس هي المخاطبة دوماً في القرآن ،وهي
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 151ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أما بالنسبة للروح :فهي اإلمداد بالنور اإللٓهي الساري في الدم ومركزها هذا
القلب المادي ،وهي القوة المحركة لكافة أجهزة وخاليا الجسم ،وبواسطتها تتم تغذية
وحركة وقيام وحياة هذا الجسم ،وهي السلطة التنفيذية ألغراض ومتطلبات ولوازم
ومشتهيات النفس ،وهي تحت إمرة النفس السارية في األعصاب اآلمرة الناهية
على كافة األعضاء اإلرادية والالإرادية .والروح في اإلنسان والحيوان وكافة
مقدسة أي: الحية هي ذاتها ،لكنها تكون في األنبياء والرسل روحاً ه
المخلوقات ّ
تتلوث بشوائب الدنيا وأدرانها َّ
منزهة عن الشوائب واألغراض الدنيئة ألن نفوسهم لم َّ
مقدسة ،فهي ل تنطق إل بالخير والحق فحفظت الروح نقية طاهرة َّ الخبيثة ُ
ات واألنس والنعيم والسعادة والغبطة
والفضيلة والكمال ،وحيثما حّلت حّلت الخير ُ
األ بدية من هللا بواسطتهم على كل من التفت إليهم .ولقد سألوا رسول هللا ﷺ عن
الروح ،فشرح لهم ﷺ الروح وسريانها في الجسم بواسطة الدم.
وفي الحديث الشريف( :إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من الجسد)
(.)1
وذلك ما تُشير إليه اآلية الكريمةَ ﴿ :وَي ْسأَُلوَن َك َع ِن ا ُّلرو ِح…﴾(.)2
يسألونك يا محمد عن الروح ،فقد سألوه عن الروح تعجي اًز له فأجابهم تعالى:
الر ِ
َم ِر َرهِبي :﴾...وكلمة﴿َ ..رهِبيِّّ ﴾..
تبين وح م ْن أ ْ ﴿ُ ..ق ِل" :﴾..يا محمد"ُ ُّ ..﴿ :
ذلك اإلمداد اإللٓهي الساري في الوجود وبه قيامك أيها اإلنسان ومعاشك وقيام جميع
المخلوقات من إنسان وحيوان ونبات فال تتحرك حركة إل بإمداده وأمره تعالى.
ولو أنه تعالى يسحب إمداده ،أي :الروح عن المخلوقات لما بقي لها حركة ول
حياة.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 152ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ومثل الروح في المخلوقات كمثل التيار الكهربائي الذي ِّّ
يحرك كل اآللت التي
تعمل بواسطته فإذا ما انقطعت تلك الطاقة خمدت اآللت وسكنت حركتها َّ
وتوقف
عملها ،وهكذا تنصب الروح في الجسد على قلب اإلنسان وتسري في الدم الذي
يقوم بنقل الغذاء واألكسجين إلى كافة أنحاء الجسم والعودة بالفضالت والسموم
التبول والزفير.
ليتم طرحها خارج الجسم عن طريق ُّ
َم ِر َرهِبي :﴾...الواردة في اآلية إنما تعني ذلك اإلمداد على القلب ِ
﴿ ...م ْن أ ْ
والدم لتتم الحياة ،واذا ما انقطع ذلك اإلمداد عن المخلوقات الحية بقيت جث ًة هامدة
يسى ْاب ُن َمْرَي َم يؤكد ما قلناه قوله تعالىِ …﴿ :إَّنما اْلم ِس ِ ل حراك فيها ،وما ِّّ
يح ع َ
َ َ ُ
وح ِهمْن ُه …﴾(.)1 رسول ِ
ّللا َوَكلِ َم ُت ُه أَْلَق َ
اها ِإَلى َمْرَي َم َوُر ٌ َُ ُ ه
أمده هللا تعالى لسيدنا عيسى وما هذه الروح إل ذلك اإلمداد اإللٓهي الذي َّ
بواسطة سيدنا جبريل وبعد أن ّبين لهم ما ّبين َّ
رد عليهم:
يتم ِهمن اْل ِعْلمِ …﴾ل
يتم ِهمن اْل ِعْلمِ إِالَّ َقلِيالً﴾ :وكلمة ﴿… َو َما أُوِت ُ
()2
﴿… َو َما أُوِت ُ
تعود على رسول هللا ﷺ ،بل على السائلين ولو كانت تعود على رسول هللا ﷺ لجاءت
بصيغة "وما أوتيت" بل جاءت وهو المتكلم قل لهم يا محمد وما أوتيتم أنتم أيها
المعرضون من العلم إلَّ قليالً.
نظام خروج اإلنسان إلى هذا العالم:
وقد كان خلق األنفس قبل خلق األجساد ،في عالم األزل ،وقد أشرنا إلى هذا
األمر عند بحثنا (غاية الحق من إيجاد الخلق).
ض َواْل ِجَب ِ
ال َفأََبْي َن أَن السماو ِ
ات َو ْاألَْر ِ َِّ
َماَن َة َعَلى َّ َ َ قال تعالى﴿ :إنا َعَر ْضَنا ْاأل َ
وما َج ُهوًال﴾(.)3 ان ِإَّن ُه َك َ َش َف ْق َن ِمْن َها َو َحمَل َها ِْ
َي ْح ِمْلَن َها َوأ ْ
ظُل ً
ان َ نس ُ
اإل َ َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 153ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فلما أراد تعالى أن يظهر النوع اإلنساني لهذا العالم ،عالم الصور واألجساد،
جعل لذلك قانوناً وسنة ،فجعل لكل إنسان والدين :أب وأم ،يحمل األب في ظهره
ثم ينتقل البن من األب إلى رحم أمه ،منطوية
أنفس أبنائه وجميع نفوس ذريتهَّ ،
نفسه في ذلك الحوين الذي ل تدركه العين المجردة لدقته وصغر جرمه ،وما يزال
َّ
ويتخلق يوماً بعد يوم ،حتى يصبح إنساناً سوياً. مستق اًر في الرحم َّ
يتغذى وينمو
وهكذا فالناس كلهم كانوا في ظهر أبيهم آدم ومنه نسلوا ،قال تعالى:
اه ُن ْط َف ًة ِفي َقَرار َّم ِكينُ ،ث َّم ِ ِ اإل نس ِ
ان من ُس َال َلة همن طينُ ،ث َّم َج َعْلَن ُ ﴿ َوَلَق ْد َخَل ْقَنا ِْ َ َ
ام
ظَ اما َف َك َس ْوَنا اْل ِع َ
ظً الن ْط َف َة َعَلَق ًة َف َخَل ْقَنا اْل َعَلَق َة ُم ْض َغ ًة َف َخَل ْقَنا اْل ُم ْض َغ َة ِع َ
َخَل ْقَنا ُّ
ِِ
ين﴾(.)1 َح َس ُن اْل َخالق َ ّللا أ ْ
آخَر َف َتَب َار َك َّ ُ
اه َخْلًقا َ َنش ْأَن ُ
َل ْح ًما ُث َّم أ َ
شذ عن ذلك النظام الذي بموجبه توالد البشر وجاؤوا إلى هذه الدنيا ،سيدنا وقد َّ
آدم ،فقد خلق هللا تعالى جسد سيدنا آدم من تراب ،ثم أرسل نفس سيدنا آدم
محمولة بواسطة الملك إلى جسدها ،من غير أن يكون ذلك عن طريق أب.
وكذلك كان خلق سيدنا عيسى بن مريم عليهما السالم ،فقد أرسل هللا نفس سيدنا
عيسى إلى بطن أمه بواسطة الملك من غير أن يتوسط أب في نقل هذه النفس
آد َم َخَلَق ُه ِمن ُتَراب ِث َّم الكريمة إليها ،قال تعالىِ﴿ :إ َّن م َثل ِعيسى ِعند ِ
ّللا َك َم َث ِل َ
َ ه َ َ َ
ال َل ُه ُكن َفَي ُكو ُن﴾(.)2
َق َ
فصل لنا تعالى قصة حمل أم سيدنا عيسى عليهما السالم به ،وبيَّن لنا في
وقد َّ
هذه القصة أنه ل َّبد وأن يجزي الصادق بصدقه ،رجالً كان أو امرأة فقال تعالى:
ينُ ،ذهِرَّي ًة ِ اهيم و ِط َفى آدم وُنوحا و ِ ِ ِ
ان َعَلى اْل َعاَلم َ
آل ع ْمَر َ
آل إْبَر َ َ َ
ََ َ ً َ َ اص َ
ّللا ْ
﴿إ َّن ه َ
يم﴾(.)3 ِ ِ ِ
يع َعل ٌ
ّللا َسم ٌ
َب ْع ُض َها من َب ْعض َو ه ُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 154ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
المراد بكلمة﴿ ُذهِرَّي ًة َب ْع ُض َها ِمن َب ْعض﴾أيَّ :
أن البشر جميعاً متماثلون في وُ
األصل فهم يتوالدون ويتناسلون بعضهم من بعض ،ل ميزة ألحد على آخر في
يم﴾ :فإنما تُبين سبب التمايز والختالف، ِ ِ
يع َعل ٌ
ّللا َسم ٌ
أما كلمة﴿ َو ه ُ هذه الناحيةَّ .
فإذا كان البشر في األصل متماثلين ،ل فرق ول ميزة ألحد على أحد ،من جهة
النسب والحسب ،فهذا التمايز ِّإَّنما يحصل بينهم بحسب الصدق والنية العالية ،فاهلل
وصدق نفسه ،وكل من صدق مع ْ كل إنسان ،عليم بحاله تعالى سميع لما يتطلَّبه ُّ
رِّّبه في طلب الحق والكمال ،فال َّبد أن يجزيه هللا بصدقه.
ان َر ِهب ِإِهني ِ
امَأَر ُة ع ْمَر َ
ِ ِ
ثم ذكر لنا تعالى مثالً على أهل الصدق فقال﴿ :إ ْذ َقاَلت ْ
َّ
َن َذْر ُت َل َك َما ِفي َب ْطِني ُم َحَّرًرا )1(﴾...أي :عزمت أن أجعل هذا الولد الذي أنا
حاملة به محر اًر أي :خالصاً للقيام بخدمتك ،وذلك مما تعني به أن يكون ولدها،
قائماً بفعل اإلحسان والخير تجاه عباد هللا ،فلعل هللا تعالى يقبل دعاءها ويجعل
ويعرفهم به ثم تممت داعية بقولهاَ ﴿ :ف َتَقَّب ْل ولدها مرشداً ،يدل الناس على هللاِّّ ،
َنت َّ ِ ِ
يم﴾أي :سميع لقولي ،عليم بحالي ،وصدقي في مطلبي. ِ
يع اْل َعل ُ
السم ُ ِمهني ِإَّن َك أ َ
لم ا ولدت ،وضعت السيدة مريم عليها السالم ،قال تعالى َ﴿ :فَل َّما ثم إنها َّ َّ
الذَكُر َكاألُنَثى ﴾ أي: َعَلم ِبما و َضع ْت وَليس َّ ِ ِِ
ّللا أ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ َو َض َعْت َها َقاَل ْت َر هب إهني َو َض ْعُت َها أُنَثى َو ه ُ
أنها كانت تتطلب أن يكون مولودها ذك اًر ،ليستطيع أن يقوم بهذه المهمة العالية
ثم تابعت القول بما أشارت إليه اآلية الكريمة في في اإلرشاد والدللة على هللاَّ ،
الرِجيمِ﴾(.)2 طِ
ان َّالشْي َ قوله تعالى﴿ :واِِهني س َّميُتها مريم ِواِِهني أ ِ
ُعي ُذ َها ِب َك َوُذهِرَّيَت َها ِم َن َّ َ َ ْ َ َْ َ َ
وقد استجاب هللا دعوة األم الصادقة ،فأنبت هذه البنت نباتاً حسناً قال تعالى:
َنب َت َها َنَب ًاتا َح َسًنا َوَكَّفَل َها َزَك ِرَّيا ﴾...أي :جعله
﴿ َف َتَقَّبَل َها َرُّب َها ِبَقُبول َح َسن َوأ َ
ولي تربيتها ،فاهلل تعالى يولي الصادق على الصادق أو الصادقة معه تعالى،
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 155ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قلبها بمحبة هللا ِّ
وتميز ،حتى أُفع َم ُ
ونشأت هذه البنت الصغيرة ،وما أن بدأت تعي ّ
واإلقبال عليه ،بسبب تفكيرها الدائب بنعم هللا وآلء صنعه الكونية ،وفضله على
فكر
الجميع بالطعام والشراب ،شأنها في ذلك التفكير ،شأن أبينا إبراهيم ،حين ّ
محمد ﷺ بعد ذلك .وكان هللا
بآيات هللا الكونية ،وتوصل إلى هللا ،وشأن سيدنا ّ
تعالى يفيض عليها بإقبالها عليه من العلم والمعرفة ،ما يفيضه على قلوب عباده
المؤمنين المقبلين ،وكان سيدنا زكريا كلما دخل عليها المحراب ،أي مكان
خلوتها للعبادة في محاربتها للشيطان وجد عندها رزقاً ،أي علماً ومعرفة وبياناً،
عن كمال هللا ،فيعجب بذلك ويسألها يا مريم من أين جئت بهذا العلم ،وهذه
المعرفة العالية ،فتقول هو من عند هللا ،قال تعالى مبيناً ذلك بقوله الكريمُ ﴿ :كَّل َما
ال َيا َمْرَي ُم أََّنى َل ِك َه َذا َقاَل ْت ُه َو ِم ْن ِ ِ
ند َها ِرْزقاً َق َ
اب َو َج َد ع ََد َخ َل َعَلْي َها َزَك ِرَّيا اْلم ْحَر َ
ق َمن َي َشاء ِب َغْي ِر ِح َساب﴾(.)1 ند ِ ِ ِ
ّللا َيْرُز ُ
إن ه َ ّللا َّ ع ه
ق َمن َي َشاء﴾أي :يرزق كل صادق ،واني صدقت ّللا َيْرُز ُ
إن ه َ وهي تريد بكلمة﴿ َّ
مع رِّّبي في طلب الحق ،ففكرت بفضله وآمنت ،فأكرمني بما أكرمني به.
والمراد بقولهاِ ﴿ :ب َغْي ِر ِح َساب﴾أيِّ :إ َّن األمر ل يحتاج إلَّ إلى الصدق .فلما
رأى سيدنا زكريا ذلك وسمع منها ما سمع ،طلب من هللا تعالى أن يرزقه ولداً
صالحاً ،يرثه من بعده ،فيكون مرشداً وكان ل ولد له ،فدعا ربه بما أشارت
ال َر ِهب َه ْب لِي ِمن ِ
إليه اآلية الكريمة في قوله تعالىُ ﴿ :هَنال َك َد َعا َزَك ِرَّيا َرَّب ُه َق َ
ِ َّلُدْن َك ُذهِرَّي ًة َ
طهِيَب ًة ِإَّن َك َسم ُ
يع ُّ
الد َعاء﴾(.)2
وهكذا فمسرى اآلية يبين لنا أن الرزق الذي كان يجده سيدنا زكريا عند
هذه البنت في المحراب ،ليس هو الجوز والرمان ،وليست الفاكهة ،فمثل هذا ليس
يتشوق النبي للولد ويدعو هللا ،ألن هذا القول
بمطلب األنبياء ،ول يستدعي أن َّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 156ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الخبيث يشكك في عرضها وحاشاها .إنما الرزق هو ذلك العلم والمعرفة التي كان
وعظمه منها ،ول يعرف الفضل َّ يجدها عندها ويسمعه منها ،وذلك هو الذي َّ
قدره
إلَّ ذووه.
وقد استمرت سيدتنا مريم عليها السالم ،عاكف ًة على الوجهة إلى رّبِّها ،ل
تنقطع ،فكان لها من هذه الصلة الدائمة برِّّبها ،أن طهرت نفسها طهارة أوصلتها
إلى درجة تليق معها بأن يصطفيها ربها على نساء العالمين ،وبذلك أصبحت
أعلى النساء عند هللا شأناً وأعظمهن منزل ًة.
وقد زاد بها هذا الصفاء النفسي ،إلى أن بلغت الدرجة التي َّ
يتغلب بها نور النفس
اللطيف ،على حجاب الجسم الكثيف ،والتي يستطيع معها اإلنسان أن يشهد
ويخاطبونه ،وقد أشارت اآليات الكريمة إلى ما َّنوهنا عنه
المالئكة الكرامُ ،فيخاطبهم ُ
من تلك الطهارة النفسية والصطفاء ،كما أشارت إلى ذلك التسامي النفسي ،الذي
أهَّل هذه السيدة الكريمة إلى أن تتلقى خطاب المالئكة الكرام وتسمعه ،فقال تعالى
ط َف ِ
اك اص َ اك و َ ِ في كتابه العزيز﴿ :وِا ْذ َقاَل ِت اْلمالَ ِئ َك ُة يا مريم ِإ َّن ّللا اص َ ِ
ط َّهَرك َو ْ ط َف َ هَ ْ َ َْ َ ُ َ َ
()1
ين﴾ . عَلى ِنساء اْلعاَل ِمين ،يا مريم ا ْقُنِتي لِربِ ِك واسجِدي وارَك ِعي مع َّ ِ ِ
الراكع َ ََ َه َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َْ َ ُ َ َ
وبما أن الركوع في حقيقته ،هو ذلك الخضوع النفسي هلل تعالى ،ذلك الخضوع
حق قدره ،من الذي يتمثَّل في نفس المؤمن الذي شاهد كمال ربه وحنانهَّ ،
فقدره َّ
بعد أن عرف رحمته بخلقه واحسانه ،وعلى هذا ،فالراكعون هم في األصل األنبياء
ِّ
الصديقة بأن تَْقنت لرِّّبها ،أي تديم وجهتها والرسل الكرام .ولذلك أمر هللا تعالى هذه
ّ
إليه تعالى وتسجد له وتركع مع الراكعين ،المستعظمين مقام ربهم دوماً ،وهم
األنبياء حص اًر ،لمقامها العالي الرفيع ،كسيدنا زكريا وسيدنا عيسى عليهما السالم.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 157ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أماً لرسول
أمها بها من قبل ،فجعلها تعالى ّ
وقد أراد ربك أن يكرمها ،كما أكرم ّ
من رسله الكرام هو سيدنا عيسى ،ذلك الرسول الذي كان مجيؤه إلى الدنيا،
بآية من هللا تعالى ،وكانت له في طفولته آية ،وكانت على يديه من بعد آيات
بينات ،أظهرها هللا تعالى ليكون منها عبرة لمعتبر ،فلعل هذه اآليات تلفت نظر
ويتعرف بسببها إلى
ّ وتحرك فكره الخامد ،فيثوب إلى رشده،
ّ اإلنسان الجاحد،
خالقه.
ونبدأ اآلن باآلية التي كان بها مجيء هذا الرسول الكريم إلى الدنيا ،وهي آية
حمل أمه به ،من دون أن َّ
يتوسط في ذلك أب فنقول:
َّ
قدمنا في مطلع حديثنا عن قصة هذا الرسول الكريم ،أن هللا تعالى جعل لهذا
أما سيدنا عيسى فكان النوع اإلنساني في المجيء لهذه الدنيا ،نظاماً وسنةَّ ،
ك كما
المَل ُ ِّ َّ
مجيؤه وولدته مخالفاً لهذا النظام والسنة ،فما َح َمَله أب إنما جاء َ
ذكرنا ،حامالً تلك النفس الكريمة ،إلى السيدة مريم عليها السالم ،وكانت إذ ذاك
في مكان عبادتها ،ملتجئة عن أهلها ،منصرفة في الوجهة إلى رِّّبها ،مقبلة عليه
بكّلِّيتها ،فإذا بها ترى جبريل أمامها ،وقد أرسله هللا تعالى لها فتمثَّل لها على
هيئة بشر سوي ،قال تعالى ُمشي اًر إلى قصة الحمل بقوله الكريمَ ﴿ :وا ْذ ُكْر ِفي
َهلِ َها َم َكاًنا َشْرِقًّياَ ،ف َّات َخ َذ ْت ِمن ُدوِن ِه ْم ِح َج ًابا َفأَْر َسْلَنا اب َمْرَي َم ِإ ِذ َ
انتَب َذ ْت ِم ْن أ ْ اْل ِك َت ِ
وحَنا َف َت َم َّث َل َل َها َب َشًار َس ِوًّيا﴾.
ِإَلْي َها ُر َ
وقد اضطربت سيدتنا مريم وهي في خلوتها من رؤية هذا الشخص أمامها،
ِ َعوُذ ِب َّ ِ
نك ﴾...أي :أعتز وألتجئ الر ْح َمن م َ فقالت وقد حسبته رجالًَ ﴿ :قاَل ْت ِإهني أ ُ
ِ َعوُذ ِب َّ ِ
نك ﴾...أي: الر ْح َمن م َ إليه وأحتمي به ،ويكون ما نفهمه من كلمة ﴿ِ...إهني أ ُ
إنني التجأت واحتميت واعتززت بالرحمن منك فمن أنت؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 158ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
عرفها بأنَّه ملك من مالئكة هللا فأجابته..﴿ :
والذي نفهمه من مدلول اآلية أنه َّ
نت َت ِقًّيا﴾ أي :ولو كنت مَلكاً ما حاجتك؟ فهل ُّ
يحق لك مخالفة أوامر هللا ِإن ُك َ
حرم هللا عليك الخلوة بها ...والَّ فما مرادك؟ تعالى ،والدخول على من َّ
َه َب َل ِك ُغَال ًما ِ ِ ِ
ول َرهبِك أل َفأجابها بما ورد في اآلية الكريمة ..﴿ :إَّن َما أََنا َر ُس ُ
مكلف بحمل َزِكًّيا﴾( )1أي :إنني مرسل من هللا تعالى ،وأنا ل أشتهي ،لكوني غير َّ
ُ َ
ملكت نفسي هلل من عالم األزل ،فال أشتهي أبدًا ،إني مَلك ُمرسل األمانة ،واني ملك َّ
َ
لك غالماً طيباً طاه اًر عالي السم والشأن ،فعجبت أن يكون لها ولد ،ولم تتزوج ألهب ِّ
ِ
ولم يمسسها بشر ،فأجابتهَ ﴿ :قاَل ْت أََّنى َي ُكو ُن لِي ُغَال ٌم َوَل ْم َي ْم َس ْسني َب َشٌر َوَل ْم أ ُ
َك
ِ ال َرُّب ِك ُه َو َعَل َّي َههِي ٌن َولَِن ْج َعَل ُه َآي ًة ِل َّلن ِ ِِ ِ
اس َوَر ْح َم ًة همَّنا َوَك َ
ان أ َْمًار ال َك َذلك َق َ
َبغًّياَ ،ق َ
الملك نفس سيدنا عيسى بسيدتنا مريم عليها السالم عن ُ َّمْق ِضًّيا﴾ أي :ألقى
طريق الفم فيما هي تخاطب الملك الذي كان يحمل نفس سيدنا عيسى ،عندها
سرت نفس سيدنا عيسى الطاهرة إليها سريان النور ،أو كما تسري القوة الالسلكية
محملة على األثير إلى الهاتف فإذا هو محمول في بطنها ،قال تعالى ُمشي اًر إلى
ِ ِ
اض ِإَلى ِج ْذ ِع
اءها اْل َم َخ ُ
َج َانتَب َذ ْت ِبه َم َكاًنا َقصًّياَ ،فأ َ
ذلك بقوله الكريمَ ﴿ :ف َح َمَل ْت ُه َف َ
نت َنسيا َّم ِ ِ ِ َّ ِ
نسًّيا﴾( )2أي :ألجأها ألم الولدة الن ْخَلة َقاَل ْت َيا َلْي َتني م ُّت َقْب َل َه َذا َوُك ُ ْ ً
إلى الستناد والتمسك بجذع النخلة .هنالك قالت وقد اجتمع عليها ألم الولدة وألم
نفسي آخر ،هو أعظم من ذلك األلم الجسمي ،ناشئ عن خوفها أن يتَّهمها الناس
بالزنى ،وتكثر األقاويل ،وهم ل يعلمون من أمر تلك المعجزة التي حملت بها شيئاً،
ِّ
صدقونها إذا أرادت أن ِّّ
تعرفهم بحقيقة األمر، وقد ُيْن ِّكُرون عليها كل اإلنكار وقد ل ُي ّ
ٍ
بتهمة باطلة إفك، وحزناً شديداً ،والشريف َي ْكُبر عليه أن يتَّهمه َّ
الناس غماً ُ
وهكذا لقت ّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 159ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
يتكلم عليه أحد بما ِّ
يلوث سمعته وشرفه ،ولذلكَ ..﴿ :قاَل ْت َيا ويتمنى أن يموت ول َّ َّ
ّ
نت َنسيا َّم ِ ِ ِ
نسًّيا﴾. َلْي َتني م ُّت َقْب َل َه َذا َوُك ُ ْ ً
وولدت سيدتنا مريم ،سيدنا عيسى بلمح البصر ،وأراد ربك أن يخِّّفف عنها ما
غم وحزن ،فأنطق مولودها ساعة ولدته ،بما أشارت إليه اآلية الكريمة في تجده من ٍّ
اها ِمن َت ْحِت َها أََّال َت ْحَزِني َقْد َج َع َل َرُّب ِك َت ْحَت ِك َسِرًّيا﴾ .والمراد قوله تعالىَ ﴿ :فَن َاد َ
بكلمة﴿ َس ِرًّي ا﴾ أي :ولداً وجيهاً يسري ذكره وشأنه العالي في اآلفاق.
طًبا َجِنًّيا، الن ْخَل ِة ُتس ِ
اق ْط َعَلْي ِك ُر َ تمم هذا المولود قولهَ ﴿ :و ُههزِي ِإَلْي ِك ِب ِج ْذ ِع َّ ثم َّ
َ
َحًدا َفُقولِي ِإِهني َن َذْر ُت لِ َّلر ْح َم ِن اشربِي وَقرِي عيًنا َفِإ َّما َتري َّ ِ
ِن م َن اْلَب َش ِر أ َ َ َف ُكلي َو ْ َ َ ه َ ْ
ِ
نسًّيا﴾( .)1والمراد بكلمة ﴿ َص ْو ًما﴾ أي :انقطاعاً عن الكالم. صوما َفَل ْن أ َُكهلِم اْليوم ِإ ِ
َ َْ َ ًَْ
وجاءت سيدتنا مريم بمولودها ،قال تعالى ُمشي اًر إلى ذلكَ ﴿ :فأ ََت ْت ِب ِه َق ْو َم َها
امَأَر َس ْوء ِ
ان أَُبوك ْ ُخ َت َه ُارو َن َما َك َ َت ْح ِمُل ُه َقاُلوا َيا َمْرَي ُم َلَق ْد ِجْئ ِت َشْيًئا َف ِرًّياَ ،يا أ ْ
ُخ َت َه ُارو َن﴾ :في التقوى والصالح ،أي ُم ِك َب ِغًّيا﴾ والمراد بكلمة ﴿َيا أ ْ َو َما َكاَن ْت أ ُّ
مماثلة له في الطهارة.
ان ِفي اْل َم ْه ِد َص ِبًّيا﴾ (.)2 َشار ْت ِإَلي ِه َقاُلوا َكي َ ِ
ف ُن َكهل ُم َمن َك َ ْ ْ ﴿ َفأ َ َ
تكلم سيدنا عيسى في المهد ،وأراد هللا تعالى أن يجعل من كالمه آية، وقد َّ
أمه بما قد يتَّهمها به المتهمون من جهة ،وتنضم إليها معجزةتبين براءة ذمة ّ
حملها به من دون أب من جهة ثانية ،فيؤمنون من وراء ذلك بعظمة هللا تعالى،ْ
ظمون هذا المولود ،ويؤمنون برسالته يوم يبعثه هللا رسولً ،وقد أشارتِّ
كما يع ّ
اآليات الكريمة إلى كالم سيدنا عيسى في المهد بما ورد في قوله تعالى:
ِ ِ ِ ّللا َ ِ﴿ َقال ِإِهني عبد َّ ِ
اب َو َج َعَلني َن ِبًّياَ ،و َج َعَلني ُمَب َارًكا أَْي َن َما ُك ُ
نت آتان َي اْلك َت َ َُْ َ
ار َش ِقًّيا، ِ
الزَكاة َما ُد ْم ُت َحًّياَ ،وَبًّار ِب َوالِ َد ِتي َوَل ْم َي ْج َعْلِني َجَّب ًا ِ َوأ َْو َص ِاني ِب َّ
الص َالة َو َّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 160ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
َق ْو َليسى ْاب ُن َمْرَي َم ِ ِ الس َال ُم َعَل َّي َي ْوَم ُولِ ُّ
وت َوَي ْوَم أُْب َع ُث َحًّياَ ،ذل َك ع َ َم ُدت َوَي ْوَم أ ُ َو َّ
َمًار ّلل أَن َي َّت ِخ َذ ِمن َوَلد ُسْب َحاَن ُه ِإ َذا َق َضى يه يم َترو َن ،ما َكان َِّ ِ اْلح ِ َّ ِ ِ ِ
أْ َ َ ق الذي ف َ ْ ُ َ ه
ِ وه َه َذا ِصَار ٌ ِ
ول َل ُه ُكن َفَي ُكو ُنَ ،واِ َّن َّ َ
ّللا َرهبِي َوَرُّب ُك ْم َف ْ َفإَّن َما َيُق ُ
()1
يم﴾ . ط ُّم ْس َتق ٌ اعُبُد ُ
وبعد أن ذكر لنا تعالى قصة حمل سيدتنا مريم بسيدنا عيسى ،وبعد أن
تبين براءة السيدة بيَّن لنا تعالى معجزة كالمه في المهد ،تلك المعجزة التي ِّّ
تبين رسالة سيدنا عيسى وكونه عبد هللا ورسولً من رسله مريم من جهة ،كما ِّّ
ق َّال ِذي يسى ْاب ُن َمْرَي َم َق ْو َل اْل َح ِه
ِ ِ
الكرام ،ختم لنا تعالى ذلك بقوله الكريمَ ﴿ :ذل َك ع َ
ِ ِ
يه يم َترو َن ،ما َكان َِّ ِ
ّلل أَن َي َّت ِخ َذ ِمن َوَلد سْب َحاَن ُه ِإ َذا َق َضى أ ِ
َمًار َفإَّن َما َيُق ُ
ول َل ُه ْ ُ َ َ ف َْ ُ
منزه عن (سْب َحاَن ُه) الواردة في هذه اآلية معنى أنه تعالى َّ ُكن َفَي ُكو ُن﴾ وتفيد كلمة ُ
أن يكون له ولد ،ألن المولود من خصائصه أن يحمل صفة أبيه ويشابهه ،فاهلل
تعالى ُم َن َّزه عن أن يشابهه أحد ،في ذاته ،أو في أي اسم من أسمائه.
ٍ
وبشيء من التفصيل نقولِّ :إ َّن هللا تعالى أول بال بداية ،ل أول لوجوده ،فمهما
قلت أول فهو أول وأول وليس له أول ،أما سيدنا عيسى بن مريم فله أول ،وأوله
زمن ظهوره لعالم الوجود ،وهو بهذا كغيره من المخلوقات ،التي لها بداية ونهاية،
والبداية والحدوث صفة تالزم المخلوقات ،وتتنافى مع األلوهية.
وهللا تعالى صمد في ذاته ،وفي كل اسم من أسمائه ،والصمد هو الذي ُي ِّمُّد ول
صمد في حياته ،بمعنى أنه ل يستمد ٌ ال
يستمد ،ول يحتاج إلى غيره .فاهلل تعالى مث ً
تتوقف حياته على أحد ،أو على شيء من األشياء ،بل هو الحياة من غيره ،ول َّ
مد حياة كل مخلوق
تعالى الحي ،منبع الحياة ومصدر الحياة ،ومنه تعالى وحده تُ ْستَ ُ
من المخلوقات.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 161ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أما سيدنا عيسى فهو كغيره من المخلوقات في هذه الناحية ،فحياته
َّ
مستمدة من هللا تعالى ،فإذا انقطع إمداد هللا تعالى بالحياة عن سيدنا عيسى ،مات في
الحال.
إن اإللٓه َّإنما يكون قائماً بذاته ،بمعنى أنه ل يحتاج في بقاء وجوده إلى
ثم َّ
عامل من العوامل أو شيء من األشياء.
أما سيدنا عيسى فهو خاضع للقوانين الكونية التي أبدعها هللا تعالى لألحياء،
َّ
فهو محتاج إلى الطعام والشراب ،والنور والهواء ،وبقاء حياته متوقف على كثير من
ثم إن الولد يتخذ ليكون عوناً ألبيه
العوامل ،شأنه في ذلك كشأن غيره من المخلوقاتَّ .
ومساعداً له ،وهللا تعالى غني عن أن يساعده مخلوق من مخلوقاته ،واذا كان
المخلوق ِّإَّنما يستمد كل شيء من هللا تعالى ،فكيف يصح أن يستعين خالق قوي
بمخلوق ضعيف ،ل حول ول قوة له.
واإللٓه إلى جانب كل ما ذكرناهِّ ،إَّنما يكون ُمحيطاً بسائر الموجودات ،فهو
أما سيدنا عيسى فإنما كان محمولً أعظم من كل شيء ،وأكبر من كل شيءَّ .
مما يتنافى مع كله َّ على سطح األرض ،محاطاً بالهواء والفضاء والسموات ،وذلك َّ
ُ
مبينة فساد ِّّادعاء من نسب األلوهية صفات األلوهية ،وقد أشارت اآليات الكريمة ِّّ
ِ ِ
يحّللا ُه َو ا ْل َمس ُ ِ
ين َق اُلوْا إ َّن ه َإلى هذا الرسول الكريم فقال تعالىَ﴿ :ل َق ْد َك َفَر َّال ذ َ
ّللا َرهبِي َوَرَّب ُك ْم ِإ َّنهُ َمن ُي ْش ِر ْك ِ ِ ِ ِ
اع ُب ُدوْا ه َيل ْ يح َيا َبني إ ْس َرائ َ ال ا ْل َم س ُ ْاب ُن َمْرَي َم َو َق َ
َنص ار َّ ،ل َق ْد الن ار وم ا لِلظَّالِ ِم ِ اه َّ ِ بِ ِ
ين م ْن أ َ َ ُ ََ ّللاُ َع َليه ا ْل َج َّن َة َو َم أ َْو ُ اّلل َف َق ْد َحَّرَم ه ه
ين َق اُلوْا إِ َّن ّللا ثَالِ ُث ثَ الَ َثة وم ا ِم ْن إِ َل ه إِالَّ إِ َل هٌ و ِ
اح ٌد َواِن َّل ْم َي َ ِ
نت ُهوْا َ ََ هَ َك َفَر َّالذ َ
ع َّم ا ي ُقوُلو َن َليم َّس َّن َّال ِذين َك َفرواْ ِم ْنهم ع َذاب أَلِيم ،أَ َفالَ ي ُتوبو َن إِ َل ى ِ
ّللا
ه َ ُ ٌ ُْ َ ٌ َ ُ ََ َ َ
ِ ِ ِ ِ
ول َق ْد َخ َل ْت من يح ْاب ُن َم ْرَي َم إِالَّ َر ُس ٌ يم َّ ،م ا اْل َمس ُ ور َّرح ٌ ّللاُ َغ ُف ٌَو َي ْس َت ْغفُروَنهُ َو ه
ات ثُ َّم ظر َكيف ُنب ِي ن َله م اآلي ِ
ام ان ُ ْ ْ َ َ ه ُ ُ ُ َ
َّ
ْكالَ ِن الط َع َ َق ْب لِ ِه ُّ
الر ُس ُل َوأُ ُّمهُ ِص هِد ي َق ٌة َك ا َن ا َي أ ُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 162ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ّللاِ َم ا الَ َي ْم لِ ُك َل ُك ْم َ
ضًّرا َوالَ َن ْف ًعا ِ
ظ ْر أ ََّنى ُي ْؤ َف ُكو َنُ ،ق ْل أ ََت ْع ُب ُدو َن من ُدو ِن ه
ان ُ
يم﴾(.)1 ِ وّللا هو َّ ِ
يع ا ْل َع ل ُ
السم ُ َ هُ ُ َ
وهكذا فتوقف الحياة على الطعام والشراب ،ينافي األلوهية ،ويثبت الحتياج،
عف ،ولنهارت قواه،
لض َ
فلو مكث رسول هللا عيسى ،عدة أيام بال طعام َ
وحاشا لإللٓه أن يضعف ،إذن لنهار الكون .واإللٓه كما رأينا صمد ،ل تتوقف
حياته على شيء ،ول يحتاج لشيء من األشياء ،وهو غني عن كل شيءٍ ،
مغن
لكل شيء.
وقد أرسل هللا تعالى سيدنا عيسى لبني إسرائيل ،وكان الناس في عصره
على جانب عظيم من المهارة والمعرفة بالطب ،فأيَّده هللا تعالى بآيات بينات
تتناسب مع عصره ،ويعجز َّ
الناس مهما برعوا في الطب والمداواة ،أن يأتوا بمثلها،
إظها اًر لرسالته ،فلعل َّ
الناس يستعظمون رسولهم ويتبعونه ،فترافق نفوسهم تلك
النفس الزكية الطاهرة ،وتعرج بمعيَّتها إلى خالقها ،فتشهد الكمال اإللٓهي ،وتشهد
بذلك النور اإللٓهي الحقائق ،فترى الخير من الشر ،والحق من الباطل ،وهنالك
تعرض عن الدنيا وسفاسفها ،وتُقبل على هللا تعالى ،فتعمل لآلخرة وتسعى لها.
ومما أيَّد هللا تعالى به هذا الرسول الكريم ،أنه كان يبرئ األكمه واألبرص بإذن
َّ
هللا ،وأنه كان ُيحيي الموتى بإذن هللا ،وقد أشار تعالى إلى ما أظهره على يد هذا
آية ِهمن َّرهبِ ُك ْم أَِهني الرسول من المعجزات﴿ :ورسوالً ِإَلى بِني ِإسرِائ ِ
يل أَهني َق ْد ِجْئ ُت ُكم ِب َ
َْ َ َ ََ ُ
ِئ األ ْك َم َه طي ار ِبِإ ْذ ِن ِ ِ ِ ِ َّ ق َل ُكم ِهم َن ال ِه
ّللا َوأُْبر ُ
ه ين َك َهْيَئة الطْي ِر َفأَنُف ُخ فيه َفَي ُكو ُن َْ ً ط ِ َخُل ُ
أْ
َّخُرو َن ِفي ُبُيوِت ُك ْم ِإ َّن ِ
ّللا وأَُنِبُئ ُكم ِبما َتأ ُْكُلو َن وما َتد ِ
ََ َ ُحِيي اْل َم ْوَتى ِبِإ ْذ ِن ه َ ه ص َوأ ْواألَْبَر َ
ِ آلي ًة َّل ُك ْم ِإن ُك ُ ِ ِ
ين﴾(.)2 نتم ُّم ْؤ ِمن َ في َذل َك َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 163ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ّللا َيا ِعيسى ْاب َن َمْرَي َم ا ْذ ُكْر ِن ْع َم ِتي َعَلْي َك َو َعَلى َوالِ َد ِت َك ال ه ُ
ِ
قال تعالى﴿ :إ ْذ َق َ
اب َواْل ِح ْك َم َة ِ َّ ِ ِ س ُت َكهلِ ُم َّوح اْلُقُد ِ دت َك ِبُر ِِإ ْذ أََّي ُّ
اس في اْل َم ْهد َوَك ْهالً َواِ ْذ َعل ْم ُت َك اْلك َت َ الن َ
ِ ِ ِ َّ ق ِم َن ال ِه الت ْوَار َة َو ِ ِ
طْيًاريها َف َت ُكو ُن َ ين َك َهْيَئة الطْي ِر ِبِإ ْذني َف َتن ُف ُخ ف َ ط ِ يل َواِ ْذ َت ْخُل ُ
اإل نج َ َو َّ
وتى ِبِإ ْذِني َواِ ْذ َك َف ْف ُت َبِني ص ِبِإ ْذِني َواِ ْذ ُت ْخ ِر ُج اْل َم َ ِئ األَ ْك َم َه َواألَْبَر َ
ِ
ِبِإ ْذني َوُتْبر ُ
ين َك َفُروْا ِمْن ُه ْم ِإ ْن َه َذا ِإالَّ ِس ْحٌر ِ ِ ِ ِ ِإ ْسَرِائيل َع َ ِ ِ
ال َّالذ َ نك إ ْذ جْئ َت ُه ْم باْلَبهيَنات َفَق َ َ
ين﴾ .وهكذا فمهما َّ ُّم ِب ٌ
()1
تقدم الطب ،فاألطباء جميعاً في كل زمان ومكان،
ِّ
ورد روحه إليه ،وأيَّد هللا تعالى رسوله بهذه المعجزة عاجزون عن إحياء الميت ّ
أن اإلنسان مهما رأى من آيات ،ومهما ظهر له من معجزات ،ل ِّّ
البينة ،غير َّ
ويتعرف منها إلى
َّ يغني ذلك عنه شيئاً ،إن هو لم يفكر في آيات هذا الكون،
خالقه ،وما دام هذا اإلنسان كاف اًر ،أي ل تقدير لديه ول تعظيم آليات هللا ،فال
يمكن أن يرجع عن ضالله ،ول أن ُيع ِّّ
ظم ما يراه من المعجزات ،التي ُيظهرها هللا
على يد رسله.
فهذا السيد المسيح ،سيدنا عيسى بن مريم صلوات هللا عليه وسالمه ،يخلق من
الطين كهيئة الطير بإذن هللا ،وينفخ فيها فتكون طي اًر بإذن هللاُ ،
ويبرئ األكمه
ويخرج الموتى بإذن هللا ،ومع ذلك كله تجد الذين كفروا ،أي الذين لم واألبرصُ ،
ونعم هللا ولم يعبؤوا بها ،يتَّهمونه بالسحر كما اتَّهموا غيره من ِّ
يقدروا آيات هللا ِّ
ّ
الرسل صلوات هللا عليهم أجمعين .فيقولون ِّإ ْن هذا ِّإلَّ سحر مبين ،وقد سمعوا
كالم سيدنا عيسى في المهد ،ثم قالوا إلى جانب ذلك على مريم بهتاناً
عظيماً.
ثم ِّإَّنك إلى جانب هؤلء الكافرين المعرضين ،تجد آخرين ما آمنوا باهلل حق
َّ
تعرفوا إلى خالقهم عن طريق النظر والستدلل ،بل َّقلدوا آباءهم
اليمان ،وما َّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 164ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لما أروا على يد سيدنا عيسى ما رأوه من معجزات ،غلوا
تقليداً أعمى ،فهؤلء َّ
في دينهم ،وكفروا أيضاً باهلل ،فقال فريق منهم إن هللا هو المسيح ابن مريم .وقال
أن سيدنا عيسىفريق المسيح ابن هللا ،وقال آخرون إن هللا ثالث ثالثة ،فزعموا َّ
مر بنا في آيات مضت ،وقد َّندد تعالى بكذبهم
وأمه إلٓهين من دون هللا ،كما َّ
وكفرهم ،فذكر لنا موقف سيدنا عيسى يوم القيامة بين يديه ،وأشار إلى كذب
يسى ْاب َن ِ
ّللا َيا ع َ
ال ه ُ هؤلء فيما قالوه عن لسان رسوله الكريم ،فقال تعالىَ ﴿ :واِ ْذ َق َ
ُمي ِإَلهي ِن ِمن دو ِن ِ ِ لت لِ َّلن ِ ِ
ال ُسْب َحاَن َك ما َي ُكو ُن
َ ّللا َق َ ه ُ اس َّاتخ ُذوِني َوأ ه َ َ ْ َنت ُق َ َمْرَي َم أَأ َ
نت ُقْل ُت ُه َفَق ْد َعلِ ْم َت ُه َت ْعَل ُم َما ِفي َن ْف ِسي َوالَ ق ِإن ُك ُ َن أَ ُقول ما َلي ِ
س لي ِب َح ه َ َ َْ لِي أ ْ
وب ،ما ُقْل ُت َل ُه ْم ِإالَّ ما أَمْرَتِني ِب ِه أ ِ
َن َنت َعالَّم اْل ُغُي ِ
ُ َعَل ُم َما ِفي َن ْف ِس َك ِإَّن َك أ َ أْ
َ َ َ
ِ
َنت
نت أ َ يدا َّما ُد ْم ُت ِفي ِه ْم َفَل َّما َت َوَّفْي َتني ُك َ
نت َعَلْي ِه ْم َش ِه ً ّللا َرهبِي َوَرَّب ُك ْم َوُك ُ
اعُبُدوْا ه َ ْ
يد﴾(.)1َنت َعَلى ُك ِهل َش ْيء َش ِه ٌ يب َعَلْي ِه ْم َوأ َالرِق ََّ
وقد عارضت بنو إسرائيل سيدنا عيسى معارضة شديدة ،كما عارضوا من
قبل من جاءهم من الرسل الكرام ،ألنهم فتنوا بالدنيا وشهواتها ،بسبب إعراضهم
عن ربهم ،فما كان يروق لهم أن يأتيهم رسول بما ل تهوى أنفسهم .قال تعالى
ول ِب َما الَ َت ْهَوى أَنُف ُسُك ُم ُمشي اًر إلى موقفهم هذا تجاه رسله ..﴿ :أََف ُكَّل َما َج ُ
اءك ْم َرُس ٌ
اسَت ْكَبْرُت ْم َفَفِريقاً َك َّذْبُت ْم َوَفِريقاً َتْقُتُلو َن﴾(.)2
ْ
وكاد بنو إسرائيل لسيدنا عيسى كيداً شديداً قال تعالى ُمشي اًر إلى ذلك بقوله
ال اْل َحَو ِارُّيو َن َن ْح ُن س ِعيسى ِمْنهم اْل ُكْفر َقال من أَنصارِي ِإَلى ِ
ّللا َق َ
ه ُُ َ َ َ ْ َ َ َح َّ الكريمَ﴿ :فَل َّما أ َ
اش َهْد ِبأََّنا ُم ْسلِ ُمو َن﴾(.)3 ّللا آمَّنا ِب ِ
اّلل َو ْ ِ
َنص ُار ه َ ه أ َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 165ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وقد حمل الكفر أولئك المعارضين الذين كفروا برِّّبهم ،على تدبير المؤامرات لقتل
رسوله كما هي عادتهم ،قال تعالى ُمشي اًر إلى ذلك بقوله الكريمَ ﴿ :و َم َكُروْا َو َم َكَر
ِ
ين﴾( .)1وقد ضاق صدر سيدنا عيسى بهؤلء الكفرة، ّللا َخْيُر اْل َماك ِر َ
ّللا َو ه ُ
هُ
وهكذا نفس المؤمن كالمرآة الصافية ،تنعكس فيها أحوال المعرضين عن هللا،
غماً شديداً ،ولذلك وعد هللا جراء اجتماعه بهم ّ فيضيق بهم صد اًر ،ويلقى من َّ
ّللا َيا ِ َّ رسوله بأن ُي ِّ
ال ه ُ طهره من الذين كفروا ،وبشره بذلك ،فقال تعالى﴿ :إ ْذ َق َ ّ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ين َّاتَب ُع َ
وك ين َك َفُروْا َو َجاع ُل َّالذ َ
ط هِهُر َك م َن َّالذ َ
يك َوَراف ُع َك ِإَل َّي َو ُم َ
يسى ِإهني ُم َت َوهف َ
ع َ
َفوق َّال ِذين ك َفروْا ِإَلى يومِ اْل ِقيام ِة ُث َّم ِإَلي مرِجعكم َفأَحكم بيَنكم ِفيما كنتم ِف ِ
يه َّ َ ْ ُ ُ ْ ْ ُ ُ َ ْ ُ ْ َ ُ ُ ْ َ َ َْ َ َ ُ ْ َ
َت ْخَتلِ ُفو َن﴾ .
()2
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 166ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الدليل األول على عودة السيد المسيح :
ِ ِ
يك﴾ ،وليس المراد من التوفي الموت، وقد بدأت اآلية الكريمة بكلمة ﴿ِإهني ُم َت َوهف َ
ألن التوفي يقع في حال النوم أيضاً ،قال تعالىَ ﴿ :و ُه َو َّال ِذي َي َت َوَّف ُ
اكم ِب َّ
اللْي ِل َوَي ْعَل ُم
ِ ِ ِ ما َجَر ْح ُتم ِب َّ
َج ٌل ُّم َس ًّمى.)1(﴾... الن َه ِار ُث َّم َيْب َع ُث ُك ْم فيه لُي ْق َضى أ َ َ
َخذك الشيء واستيفاؤك إيَّاه ،بعد أن تكون قد منحت فيه والتوفي لغ ًة :هو أ ْ
التصرف لغيرك حيناً .تقول :توفيت َد ْيني من فالن ،أي :أخذته واستعدته ُّ حق
توفى فالن َّ
حقه من غريمه .وبناء على ما َّ
قدمناه ،ولبيان المراد من منه ،وتقولَّ :
ً
توفي النفس نقول :إن هللا تعالى منح النفس في هذه الحياة الدنيا الختيار ،وبناء
على اختيارك ينفذ هللا تعالى لك مرادك ومطلوبك ،فمن اإلنسان الختيار والطلب،
ومن هللا تعالى اإلمداد والحول والقوة والتسيير ،وتوفي النفس إنما يكون بقبض
الختيار.
وكما يقع التوِّّفي في حال الموت ،يقع في حالة النوم.
ففي حال النوم ،يكون توفي النفس بأن يقبض هللا تعالى الختيار من النفس
مدة وجيزة ،وهنالك يستسلم اإلنسان لنو ٍم ل يستيقظ منه ،إلَّ إذا أعاد هللا تعالى
للنفس اختيارها ،وعاد عليها بسابق فضله.
أما في حال الموت ،فيكون توفي النفس ،بأن يقبض هللا تعالى من النفس
َّ
اختيارها قبضاً نهائياً ،قال تعالى ُمشي اًر إلى وفاة النفس في حال الموت ،ووفاتها
ومبيناً لنا الفرق بين الوفاتين بقوله تعالى: في حال النومِّّ ،
ام َها َفُي ْم ِس ُك َّالِتي َق َضى
ّللا يَتوَّفى ْاألَنُفس ِحين موِتها وَّالِتي َلم َتم ْت ِفي مَن ِ
َ ْ ُ َ َْ َ َ َ ﴿ َّ ُ َ َ
َعَلْي َها اْل َم ْو َت َوُيْرِس ُل ْاأل ْ
ُخَرى ِإَلى أ َ
َجل ُم َس ًّمى.)2(﴾...
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 167ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ويختلف توفي النفس في حال الموت ،عن توفي النفس في حال النوم أيضاً،
َّ
بأن توفي النفس في حال الموت ،يرافقه توفي الروح وقبضها من الجسم.
فالروح :وهي ذلك النور اإللٓهي ،والذي تكون به حياة الجسم ،وانتظام سير
فعندئذ يتوقف عن الحركة ،وتنقطع أجهزته عن ٍ أجهزته ،إذا هي ُقبضت من الجسم
إن توِّّفي الروح
القيام بوظائفها ،وتنعدم منه الحياة ،فتمتد إليه يد البلى والفناء .ثم َّ
الموكل بنفخ الروح في اإلنسان عندما يكون َّ
إنما يكون بواسطة الملكَ ،
فالملك
الموكل أيضاً بقبض الروح من َّ جنيناً ،عند خلق النطفة وانتقالها إلى رحم أمه ،هو
الجسم حين الموت ،قال تعالى ُمشي اًر إلى ذلك بقوله الكريمُ ﴿ :ق ْل َي َت َوَّف ُ
اكم َّمَل ُك
اْل َم ْو ِت َّال ِذي ُوهِك َل ِب ُك ْم.)1(﴾...
طو َن﴾(.)2 َح َد ُك ُم اْل َم ْو ُت َت َوَّف ْت ُه ُرُسُلَنا َو ُه ْم الَ ُي َفهِر ُ
قال تعالىَ ..﴿ :ح َّت َى ِإ َذا َجاء أ َ
(المَل ْك) فهي إنما تعني
قدمناه ،إذا قرنت كلمة (التوفي) بكلمة َ وبناء على ما َّ
ً
توِّّفي الروح ،وأعني بذلك الموت وانقطاع الحياة.
واآلن وبعد أن بيَّنا معنى التوِّّفي ،والفرق بين وفاة الموت ووفاة النوم نقول :بما
ِ ِ
يك﴾ التي خاطب هللا تعالى بها سيدنا عيسى لم تقترن أن كلمة ﴿ِإهني ُم َت َوهف َ
بذكر الملك ،فهي إذاً ل تعني قبض الروح المعبَّر عنه بالموت ،واَّنما تُشير إلى
توفي النفس ،وأعني به قبض الختيار الذي يقع في حال النوم ،وهكذا فقد توّفى
هللا تعالى سيدنا عيسى توّفياً أخفى به جسمه عن األنظار ،وجعله في حال
النائم ،ويشبه ذلك ما وقع ألصحاب الكهف ،الذين َّ
توفاهم هللا تعالى مئات السنين،
دون أن يتطرق البلى إلى أجسامهم ،ثم بعثهم ليكونوا عبرة لّل َ
ذين كانوا في ذلك
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 168ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِ ِ ِ ِ
العصر الذي بعثهم هللا فيه ،قال تعالىَ ﴿ :ف َضَرْبَنا َعَلى آ َذان ِه ْم في اْل َك ْهف ِسن َ
ين
َمًدا﴾(.)1 ِ ِ اه ْم لَِن ْعَل َم أ ُّ
َي اْل ِح ْزَبْي ِن أ ْ
َح َصى ل َما َلب ُثوا أ َ َع َدًداُ ،ث َّم َب َع ْثَن ُ
وبما أن سيدنا عيسى يعلم أنه ل ُيَق ِّّرب العبد من خالقه زلفى سوى عمله
العالي ،وليس يرفعه إلى ذلك الجناب اإللٓهي الكريم غير فعله المعروف ،ودعوته
أن سيدنا عيسى لقي من قومه ما لقي الناس إلى طريق الحق واإليمان ،وبما َّ
من الكفر والمعارضة ،ولم يذعن لدللته إلَّ نفر قليل أو ضئيل من الناس ،لذلك
لما أخبره هللا تعالى بأنه متوِّّفيه ،حزن أسفاً على أنه لم َّ
تحقق له نيته العالية ،ولم َّ
يتم له مطلبه في ذلك الجيل.
بشره بما سيجعله من الخير على يديه وي ِّّ ِّ
وقد أراد هللا تعالى أن ُيسّليه عن ذلكُ ،
فقال تعالىَ ..﴿ :وَر ِاف ُع َك ِإَل َّي :)2(﴾...أي ل تحزن فال بد من أن أُعيدك للناس
ثانية ،وستدعوهم إلى اإليمان فيؤمنون ،واني رافعك ِّإلي باألعمال اإلنسانية ،التي
ّ
حينئذ في المستقبل من دللتك ٍ ستقدمها بصدقك ونيتك العالية ،وبما ستقوم به
لخلقي علي ،وجهادك في سبيل األخذ بأيديهم إلى سبيل اإليمان.
ّ
ِ ِ
واذاً فليس المراد من كلمة﴿َ ...وَراف ُع َك إَل َّي﴾...ما يتبادر إلى األذهان ،أذهان
بعض الناس من أنه ُرِّف َع إلى السماء .فإن اآلية جاءت صريحة بقوله تعالى..﴿ :
َوَر ِاف ُع َك ِإَل َّي ﴾...ولم تقل ورافعك إلى السماء ،وهللا تعالى هذا الخالق العظيم،
الذي ل نهاية لهُ ،م َّنزهٌ عن أن ُيحيط به زمان ومكان ،فهو خالق الزمان والمكان.
ثم َّ
إن السماء واألرض عند هللا تعالى سيَّان في المنزلة والشأن ،وكالهما
فعه إلى السماءَّ ،إنما الذي يرفع اإلنسان
مخلوق ،وليس يرفع من شأن اإلنسان ر ُ
إلى خالقه ويدنيه من جنابه الكريم ،عمله العالي ،وجهاده في سبيل هللا ،ودعوته
الناس إلى طريق الحق ،وهدايتهم إلى الصراط المستقيم .واذاً فالذي جاءت به
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 169ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
اآلية الكريمة ليس رفعاً جسمياًَّ ،إنما هو رفع المنزلة والشأن نقول :رفع األمير
فالناً إليه ،أي أدناه منه منزلة ومكانة ،ل جسمياً ومكاناً.
الصالِ ُح َيْرَف ُع ُه.)1(﴾... قال تعالىَ ..﴿ :واْل َع َم ُل َّ
اه َم َكاًنا َعلًِّيا﴾(.)2 اب ِإ ْد ِريس ِإَّنه َك ِ ِ ﴿ َوا ْذ ُكْر ِفي اْل ِك َت ِ
ان صهد ًيقا َّن ِبًّياَ ،وَرَف ْعَن َُ ُ َ
ُوتوا اْل ِعْل َم َدَر َجات.)3(﴾... ّللا َّالِذين آمُنوا ِم ُ ِ
ين أ ُ نك ْم َوَّالذ َ ﴿َ ...يْرَف ِع َّ ُ َ َ
أقول :والذي ينفي أيضاً رفع سيدنا عيسى إلى السماء قوله تعالى:
ات َقَرار َو َم ِعين﴾(.)4 ُمه آي ًة وآويَناهما ِإَلى ربوة َذ ِ
ََْ ﴿ َو َج َعْلَنا ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ ُ َ َ َ ْ ُ َ
والربوة :هي المكان المرتفع من األرض .والقرار :هو الجبل الراسخ المستقر.
والمعين :الماء الجاري الذي ل ينقطع.
عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال في هذه اآلية ..﴿ :وآويَناهما ِإَلى ربوة َذ ِ
ات ََْ َ َْ ُ َ
َقَرار َو َم ِعين﴾( .قال أتدرون أين هي؟ قالوا هللا ورسوله أعلم .قال :هي بالشام
بأرض يقال لها الغوطة ،في مدينة يقال لها دمشق هي خير مدن الشام) (.)5
وهذا ما رواه البيضاوي في تفسيره ،والمؤرخ ابن جبير في كتابه "تذكرة األخبار عن
أن هذا اإليواء ِّإَّنما كان إلى ربوة دمشق ،وجاء في بعض اآلثار،
اتفاقات األسفار" َّ
أن ظهور سيدنا عيسى في آخر الزمان ،سيكون في دمشق.
واآلن وبعد أن بيَّنا ما تُشير إليه اآلية الكريمة من التوفي والرفع نقول:
ِّّ
الحق، بشر هللا تعالى سيدنا عيسى ،بالعودة والقيام بالدعوة إلى بعد أن َّ
المقبل سيهتدون به، َّ
أراد تعالى أن يطمئن قلب رسوله ،بأن الناس في زمنه ُ
وتحل
ُّ وسينقلب العالم بأسره إلى عالم مؤمن باهلل ،وستُمحى دولة الكفر من الوجود
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 170ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
محلها دولة التوحيد واإليمان ،وهنالك ينطوي َّ
الناس تحت لواء الحق جميعاً ،فال
يعود يضيق صدرك من أحد ،ول تعود تشعر بهذا الضيق الذي تلقاه اليوم ،من
صفاء وسرو اًر ،وستشعر بهذه الطهارة ً اجتماعك بأهل الكفر والضاللِّ ،إَّنك ستجد
من هؤلء الكفار طهارة دائمية ،وذلك ما أشارت إليه اآلية الكريمة بقوله تعالى:
ِ ِ
أن هذه الدولة ،دولة اإليمان، ين َك َفُروْا ﴾...ثم بيَّن تعالى َّ ط هِهُر َك م َن َّالذ َ
﴿َ ..و ُم َ
بهديهم ستبقى إلى يوم القيامة ،وسيبقى للمؤمنين الشأن والسيطرة ،يهتدي العالم ْ
ام ِة ُث َّم ِإَل َّي ِ ِ اعل َّال ِذين َّاتبعوك َفو ِ
ق َّالذ َ
ين َك َفُروْا إَلى َي ْومِ اْلقَي َ َ َُ َ ْ َ
ِ
قال تعالىَ ..﴿ :و َج ُ
مرِجعكم َفأَحكم بيَنكم ِفيما كنتم ِف ِ
يه َت ْخَتلِ ُفو َن﴾(.)1 َْ ُُ ْ ْ ُ ُ َْ ُ ْ َ ُ ُ ْ
المراد من التوِّّفي والرفع والتطهير ،الواردة في اآلية الكريمة واآلن وبعد أن بيَّنا ُ
السابقة ،ال َّ
بد لنا من ذكر موجز القصة ،التي كانت سبباً في توفي سيدنا عيسى
نوماً ،وحجبه عن األنظار ،فنقول :لما تآمر اليهود على قتل سيدنا عيسى
،شاركهم في ذلك رجل منافق منهم كان قد تظاهر باإليمان ،وأنه من أتباعه
ودلهم على المغارة التي كانت مركز قيادة حربية لسيدنا عيسى ،وفي َّ ،
اليوم الذي أرادوا فيه تنفيذ المؤامرة ،كان ذلك الرجل مالزماً المكان الذي كان فيه
سابقاً سيدنا عيسى حيث حجب هللا تعالى رسوله وأخفاه عن األنظار ،بأن أمره
بالذهاب مع أمه إلى أن يصل إلى مغارة بيَّنها تعالى له ،وهنالك ناما ،فأبقاهما
نائمين كأصحاب الكهف ،فكانت هذه الفترة الطويلة من النوم آية ،كما أورد تعالى ْ
ُمه آي ًة وآوي َناهما إَِلى ربوة َذ ِ
ات َقَرار َو َم ِعين﴾ :
( )2
ََْ بقولهَ ﴿ :و َج َع ْل َنا ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ ُ َ َ َ ْ ُ َ
إلى حين ظهورهما في زمننا هذا .وألقى الشبه على ذلك الخائن ،الذي كان يبالغ
في العناية باللباس والمظهر الديني ،واطالة اللحية والعمامة ،للتعمية على نفاقه،
فظنه الزبانية الرومان هو اإلمام ،أي ظنوه من بين الحواريين أنه هو سيدنا عيسى
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 171ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ولما لم يكن سيدنا عيسى موجوداً بالمغارة ،إذ سبق أمر هللا بالمغادرة،ّ ،
سيرهما تعالى إليها ،وكان األمر الصادر بإلقاء ومعه أمه إلى مغارة أُخرى بربوة ّ
القبض على سيدنا عيسى صارماً لزبانية الرومان ،ذلك ألن اليهود أعلموا الحاكم
بشعبية سيدنا عيسى ،وأنه غدا يهدد استق ارر حكمه ،ألن
ّ الروماني إذ ذاك
جماهير فلسطين تبعته ،بسبب الخوارق والمعجزات السحرية بزعمهم .عندها خشي
الحاكم الروماني من الخطر بنشوء ثورة أو قتال من قبل الجماهير المتأثرة والتابعة
لهذا الشخص ،الذي بلغت شهرته مبلغاً رهيباً ،بسبب عجائبه وخوارقه ،فأمر بأن
يقتلوه فور القبض عليه ،ألنهم إن لم يقتلوه ،فستثور الجماهير والعوام بثورة ساحقة
ماحقة .أما إن وضع الشعب أمام أمر واقع ،وهو أنه قد قتل وقضي األمر،
فسيقضى على الفتنة في مهدها ،ويجد الناس أنه مقتول فسيهمدون .كانت هذه
ضد سيدنا عيسى ،فأصدروجهة نظر الحاكم الروماني ،الذي أثاره علماء اليهود ِّ
أمر قتله وصلبه فور القبض عليه ،دون إبقائه وسجنه ،فتثور الناس بثورة قد تودي
بالحاكم وجنده ،لذا أمر الجنود الذين أرسلهم بقتله مباشرة ،وهؤلء الزبانية كانوا
جنوداً منفذين ،ل يعرفون شخص سيدنا عيسى ،فلما ولجوا الكهف وشاهدوا
الحواريين األحد عشر ،ومعهم هذا المنافق الخائن ،بمظهره الديني الرائع ،ولم
يجدوا سواه ،ظنوه سيدنا عيسى ،واألمر بقتله كان مشدداً صارماً من الحاكم ،لذا
اعتقلوه ،فقاوم فأذلوه ،وبصقوا عليه وعذبوه .فأخذوه يريدون أن يقتلوه ويصلبوه،
تمنعاً شديداً ،وبيَّن لهم أنه ليس بعيسى ،ونفى ذلك نفياً قوياً ،فما سمعوا له فتمنع ُّ
َّ
قولً ،بل قتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى ،وهكذا فقد لقي ذلك الخائن
ِ
ّللا َخْيُر اْل َماك ِر َ
ين﴾(.)1 ّللا َو ه ُ
مصرعه ،ونال جزاءه قال تعالىَ ﴿ :و َم َكُروْا َو َم َكَر ه ُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 172ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ثم ِّإن هؤلء المتآمرين بعد أن فعلوا ما فعلوا خامرهم الشك فقالوا وهم يتساءلون
كنا قد قتلنا عيسى فأين صاحبنا ،وان كنا قد قتلنا صاحبنا ،فأين فيما بينهم ،إن َّ
يسى عيسى ،وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله الكريم﴿ :وَقولِ ِهم ِإَّنا َقَتْلَنا اْلم ِس ِ
يح ع َ َ َ َ ْ ْ
اختَل ُفوْا ِف ِ ِ ِ ابن مريم رسول ِ
يه ين ْ َوه َوَلكن ُشهِب َه َل ُه ْم َواِ َّن َّالذ َ
وه َو َما َصَلُب ُ ّللا َو َما َقَتُل ُ
ْ َ َْ َ َ َ ُ َ ه
الظ ِن وما َقَتُل ِ ِ ِ ِ
ّللا
وه َيقيًناَ ،بل َّرَف َع ُه ه ُ ُ ه ََ
اع ََّل ِفي َش هك ِهمْن ُه َما َل ُهم ِبه ِم ْن عْلم ِإالَّ ا هتَب َ
يما﴾(.)1 ِإَلي ِه وَكان ّللا ع ِز ًا ِ
يز َحك ً ْ َ َ هُ َ
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 173ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الدليل الثانَ:
ِ ِ َه ِل اْل ِك َت ِ ِ
ين َح َّتى اب َواْل ُم ْش ِرك َ
ين ُمن َف هك َ ين َك َفُروا ِم ْن أ ْ
قال تعالىَ﴿ :ل ْم َي ُك ِن َّالذ َ
َتأ ِْتَي ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾.
رسول من هللا فقال تعالى:
ٌ البينةَّ ،أنها
فما هي البينة؟ :لقد َّبين تعالى هذه ه
ط َّهَرًة﴾ :والصحف المطهرة ،ما أرسله هللا تعالى من ﴿رسول ِمن َّ ِ
ّللا َيْتُلو ُص ُحًفا ُّم َ َ ُ ٌ هَ
األوامر اإللٓهية ،والتشريع الحكيم ،الدال على طريق السعادة والخير ،وهي بحسب
سور القرآن الكريم ،الذي حوى كافة الكتب
اآلية التالية الموضحة لها ،إنما تعني َ
المقدسة.
السماوية الثالثة السابقة والصحف األربع ّ
يها ُك ُت ٌب َقهِي َم ٌة﴾( ،)1أي أن هذه الصحف المطهرة ،التي يتلوها ِ
قال تعالى﴿ :ف َ
رسول من هللاَّ ،إنما تضمنت بين طياتها ُكتباً ذات قيمة عالية .وما هذه الكتب
القيِّمة إلَّ الكتب اإللٓهية ،التي أنزلها هللا تعالى ،على من سبق سيدنا محمداً ﷺ
ّ
سور القرآن الكريم ،الذي حوى َّ
من المرسلين ،وما هذه الصحف المطهرة ،إل َ
الكتب اإللٓهية السابقة .ولذلك فالقرآن الكريم ،بحسب ما ورد في هذه اآليات ،هو
الكتاب الذي سيتلوه سيدنا عيسى بن مريم يوم عودته ،على الخلق كافة:
اب ِإَّال ِمن َب ْع ِد َما َجاء ْت ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾( :)2أي أن الذين ﴿وما َت َفَّرق َّال ِذين أ ُ ِ
ُوتوا اْلك َت َ َ َ ََ
أوتوا الكتاب وهم بنو إسرائيل ،لم يتفرقوا إلى يهود ونصارى ،إل من بعد ما جاءهم
سيدنا عيسى .
إذن :هذه اآلية دليل واضح ،على أن البينة هو سيدنا عيسى ،إذ في بعثة
سيدنا محمد ﷺ كان اليهود منذ حوالي 600/سنة /متفرقين إلى يهود ونصارى من
قبل ،ولم تكن بعثته الشريفة سبب شقاقهم واختالفهم ،وعلى هذا أصبحت كلمة:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 174ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تفرق أهل ﴿اْلَبهِيَن ُة﴾ تعني بال شك ،سيدنا عيسى ،الذي بعهده وظهوره األولَّ ،
آمَّنا الكتاب إلى نصارى أرادوا نصر سيدنا عيسى وقالواَ ..﴿ :نحن أَنصار ِ
ّللا َ
ُْ َ ُ ه
اش َه ْد ِبأََّنا ُم ْسلِ ُمو َن﴾( :)1أي حين طلب سيدنا عيسى قتال كفرة اليهود ِب ِ
اّلل َو ْ
ه
وطلب أنصاره ،فكانوا فقط الحواريين ،الذين فيما بعد تغلبوا على اليهود ،وأصبحوا
ِ
َمُنوا ُكونوا ين آ َ ظاهرين بالعاَلم ،إذ آمنت معهم دولة روما الكبرىَ﴿ :يا أَُّي َها َّالذ َ
ال ّللا َكما َقال ِعيسى ابن مريم لِْلحو ِاريِين من أَنصارِي ِإَلى َّ ِ ِ
ّللا َق َ َ ْ ُ َْ َ َ َ َ ه َ َ ْ َ َ َنص َار َّ َ أ َ
ط ِائ َف ٌة َفأََّي ْدَنا
ط ِائ َف ٌة ِمن بِني ِإسرِائيل وَك َفرت َّ ِ
ّللا َفآَمَنت َّ
َْ َ َ َ ه َ َنص ُار َّ َ اْل َح َو ِارُّيو َن َن ْح ُن أ َ
ِ
َمُنوا :﴾...وهم الحواريون ،وتبعتهم الدولة الرومانية مع أممها الثماني عشرة ين آ َ َّالذ َ
ِ أمة﴿ :عَلى عد ِو ِهم َفأَصبحوا َ ِ
ق َّالذ َ ظاه ِر َ
()2
ُوتوا
ين أ ُ ين﴾ .إذنَ ﴿ :و َما َت َفَّر َ َُْ َُ ه ْ َ
اب :﴾...اليهود .إلى يهود ونصارىِ ..﴿ :إَّال ِمن َب ْع ِد َما َجاء ْت ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾ :
()3
اْلك َت َ
ِ
أي الرسول الكريم عيسى البينة .وهو بينة بمعجزاته وكلماته باإلنجيل ،وولدته
دون أب ،ونطقه وكالمه بالمهد ،والذي بعودته في آخر الزمان ،سينفك الفريقان
ِ
اليهود والنصارى عن كفرهم ،كما بينت اآلية من السورة الكريمةَ﴿ :ل ْم َي ُك ِن َّالذ َ
ين
ين َح َّتى َتأ ِْتَي ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾( :)4واذا كان ِ ِ َه ِل اْل ِك َت ِ
اب َواْل ُم ْش ِرك َ
ين ُمن َف هك َ َك َفُروا ِم ْن أ ْ
المقصود بكلمة البينة ،هي سيدنا محمد ﷺ ،والمشركين هم أهل مكة أو عبدة
األصنام ،كما يدعي المفسرون ،لحصل النفكاك حينها ألهل الكتاب اليهود عن
الكفر! وهذا ما لم يحصل ،بل طردهم رسول هللا ﷺ من المدينة المنورة بسبب
بقائهم على كفرهم .إن السورة الكريمة تبين بما ل يدع مجالً لتفسير أعوج ل ترابط
فيه ،أن البينة ،هي سيدنا عيسى حتماً ،وذلك لتفرق اليهود إلى فريقين بعد
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 175ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
بعثته األولى ،فانقسموا إلى يهود ونصارى ،وهذا ما أكدته اآلية الثانية بكلمة:
اب﴾...أي اليهود تفرقوا إلى فرقتينِ ..﴿ :إَّال ِمن َب ْع ِد ﴿وما َت َفَّرق َّال ِذين أ ُ ِ
ُوتوا اْلك َت َ َ َ ََ
َما َجاء ْت ُه ُم اْلَبهِيَن ُة﴾ .وهو سيدنا عيسى ،إذن بداية اآلية الذين أوتوا الكتاب
ِِ ِ َِّ ِ
ين َل ُه هم اليهود ،والمشركين هم النصارىَ ﴿ :و َما أُمُروا إال لَي ْعُبُدوا َّ َ
ّللا ُم ْخلص َ
ين اْلَقهِي َم ِة﴾(.)1إذًا ،إن الذين ِ ِ لص َال َة َوُي ْؤُتوا َّ
الزَكا َة َوَذل َك د ُ يموا ا َّ ِ
ين ُحَن َفاء َوُيق ُ
هِ
الد َ
كفروا من أهل الكتاب ،أي من اليهود والمشركين من النصارى لن ينفكوا عما هم فيه
من كفرهم واشراكهم( ،كما لن ينفكوا عن اختالفهم من تكذيب اليهود للمسيح ،
واختالف النصارى في طبيعته) حتى تأتيهم هذه البينة ،وهذه البينة وصفها تعالى ،بأنها
رسول من هللا يتلو صحفاً مطهرة.
إذ أن المسيح ،هو الذي يفض الخالف الذي نشأ بين اليهود والنصارى،
عندما يأتي إليهم ،ألن كل رسول مكلف بحل خالفات أمته ،لذلك فإن سيدنا
محمداً ﷺ لم يحاول أن يحل الخالف بين اليهود والنصارى ،إل بالتي هي أحسن،
فمثالً حينما كان يحارب قوماً كافرين ،كعبدة األصنام بالجزيرة العربية ،وعبدة
النيران بعدها ،كان يشرط عليهم شرطين :اإلسالم أو الحرب حتى يسلموا .وبما أنه
لم تُقبل جزية من عبدة األصنام بالجزيرة ،ول من عبدة النيران ،لذا ل نجد معابد
لألصنام بالجزيرة العربية ،ول معابد للنيران بإيران ،ولو ُقبلت الجزية منهم لبقيت
معابدهم ،كما بقيت معابد النصارى واليهود وقبلت منهم الجزية حتى يظهر سيدنا
عيسى ،فيحل خالفهم ويسلموا ،وهكذا بالنسبة لليهود والنصارى ،فكانت لهم
شروط ثالثة هي :اإلسالم .الجزية .الحرب .فإن أسلموا فتلك الغاية ،وان أبوا،
فدفع الجزية ،وال الحرب حتى يسلموا ،أو يدفعوا الجزية ،التي هي بحقيقتها رمز
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 176ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لعلهم يسلمون ،فإذا أسلموا ،ارتفعت عنهم وأعيد لهم عزهم ،وأصبح لهم ما
للمسلمين.
وهذا دليل واضح على أن الذي يحل الخالف الناشب بين اليهود والنصارى هو
رسولهم سيدنا عيسى .
إن تسمية المشركين ل تقتصر على كفار مكة ،أو غيرهم من عبدة األصنام،
وانما تشمل أيضاً الذين اعتقدوا بأن المسيح هو ابن هللا أو ثالث ثالثة ،ألن
معتقدات هؤلء وهؤلء متضاهئة(.)1
ِ ِ ِ
يح
ال اْل َمس ُ يح ْاب ُن َمْرَي َم َوَق َ ّللا ُه َو اْل َمس ُ ِ
ين َقاُلوْا إ َّن ه َقال تعالىَ﴿ :لَق ْد َك َفَر َّالذ َ
اّلل َفَقد حَّرم ّللا عَل ِ ِ ِ ِ ِ
يه اْل َجَّن َة ّللا َرهبِي َوَرَّب ُك ْم ِإَّن ُه َمن ُي ْش ِر ْك ِب ه ْ َ َ ه ُ َ اعُبُدوْا ه َيل َْيا َبني إ ْسَرائ َ
ّللا َثالِ ُث َثالَ َثة َو َما ِ لظ ِال ِم ِ ِ
ِ
ين َقاُلوْا إ َّن ه َ َنصارَّ ،لَق ْد َك َفَر َّالذ َ
ين م ْن أ َ الن ُار َو َما ل َّ َ اه ََّو َمأ َْو ُ
ِ ِ ِم ْن ِإَله ِإالَّ ِإَل ٌه و ِ
ابين َك َفُروْا مْن ُه ْم َع َذ ٌ نت ُهوْا َع َّما َيُقوُلو َن َلَي َم َّس َّن َّالذ َ
احٌد َواِن َّل ْم َي َ َ
يم﴾(.)2 ِ
أَل ٌ
ِ وقال جل جالله﴿ :وَقاَل ِت اْليهود ع َزير ابن ِ
يح ْاب ُن الن َص َارى اْل َمس ُ ّللا َوَقاَل ْت َّ َ ُ ُ ُ ٌْ ْ ُ ه َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ّللا أََّنىين َك َفُروْا من َقْب ُل َق َاتَل ُه ُم ه ُ ّللا َذل َك َق ْوُل ُهم ِبأَ ْف َواه ِه ْم ُي َضاه ُؤو َن َق ْو َل َّالذ َ ه
ُي ْؤَف ُكو َن﴾( .)3ومن الناحية التاريخية نقول :لقد أنكر اليهود على السيد المسيح
رسالته ،وادعوا بأنه ليس هو المسيح المنتظر الذي سيكون ملكاً علينا وقالوا،
وبذلك لعنهم هللا ،بأنه المسيح الكذاب ،ثم شنوا عليه حرباً دعائية ل هوادة فيها،
التقول عن أمه ،التي هي أطهر
واتهموه بالتدجيل ،ثم أساؤوا بالدسوس واإلفك ،و ُّ
نساء العالمين ،وتلك هي عادتهم ،فكلما جاءهم رسول بما ل تهوى أنفسهم كذبوه.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 177ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ونتيجة لتلك المقاومة وذلك الدس ،استطاعوا أن يصرفوا الناس عنه ،وما
انصرف عنه إل القوم المجرمون .ولم تؤمن معه إل فئة قليلة ،استطاعت بإيمانها
الرفيع أن تنشر الديانة النصرانية بين رعايا اإلمبراطورية ،لسيما في روما نفسها،
بالرغم من أنهم كانوا في ظل الحتالل الروماني.
إل أن تلك الديانة شوهت فيما بعد ،وبمرور بضع مئات من السنين حصل
ضعف بسبب عدم التفكير واإليمان ،وذلك بما دخل عليها من المعتقدات الوثنية
اليونانية بسبب عدم تفكيرهم ،وسيرهم بالتقليد األعمى.
ُمُروا ِإَّال أما نوع الخالف الذي شب بينهم فهو ما جاء في اآلية الكريمة﴿ :وما أ ِ
ََ
ين.)1(﴾... ّللا م ْخلِ ِصين َله هِ ِ
الد َ َ ُ لَي ْعُبُدوا َّ َ ُ
يسى ِ
ّللا َيا ع َ ال ه ُوهذا الختالف هو الذي بينه سبحانه في سورة المائدةَ ﴿ :وِا ْذ َق َ
ُمي ِإَلهي ِن ِمن دو ِن ِ ِ لت لِ َّلن ِ ِ
ال ُسْب َحاَن َك َما ّللا َق َه ُ اس َّاتخ ُذوِني َوأ ه َ َ ْ َنت ُق َْاب َن َمْرَي َم أَأ َ
نت ُقْل ُت ُه َفَق ْد َعلِ ْم َت ُه َت ْعَل ُم َما ِفي َن ْف ِسي ق ِإن ُك ُ س لي ِب َح ه
َن أَ ُقول ما َلي ِ
َ َ َْ َي ُكو ُن لِي أ ْ
َنوب ،ما ُقْل ُت َل ُه ْم ِإالَّ ما أَمْرَتِني ِب ِه أ ِ َنت َعالَّم اْل ُغُي ِ
ُ َعَل ُم َما ِفي َن ْف ِس َك ِإَّن َك أ ََوالَ أ ْ
َ َ َ
ّللا َرهِبي َوَرَّب ُك ْم.)2(﴾...
اعُبُدوْا ه َ ْ
ين َل ُه ِِ َِّ ِ ِ
ّللا ُم ْخلص َ وهذا هو معنى قوله تعالىَ ﴿ :و َما أُمُروا إال لَي ْعُبُدوا َّ َ
ين.﴾... هِ
الد َ
ِ
يب َعَلْي ِه ْم الرِق َ
َنت َّ نت أ َ يدا َّما ُد ْم ُت ِفي ِه ْم َفَل َّما َت َوَّفْي َتني ُك َ
نت َعَلْي ِه ْم َش ِه ً
﴿َ ...وُك ُ
يد﴾(.)3 َنت َعَلى ُك ِهل َش ْيء َش ِه ٌ َوأ َ
ولعلك تقول :لِّ َم توفى هللا سيدنا عيسى ،ذلك التوفي الذي بيَّناه ،ووعده
بأن يعيده في آخر الزمان ،وما وقع هذا ألحد من المرسلين؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 178ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
حق
حق اإليمان ،وأقبل على هللا تعالىَّ ،
فأقول :إذا آمن اإلنسان بخالقهَّ ،
أن هللااإلقبال ،امتألت نفسه بالكمال ،وأصبحت تهوى فعل الخير واإلحسان .وبما َّ
قدم من تعالى ل يعطي امرءاً يوم القيامة منزلة من المنازل ،إلَّ بناء على ما َّ
ً
أن سيدنا عيسى لما جاء بالبينات عارضته بنو إسرائيل أعمال طيبة ،وحيث َّ
كما رأينا من قبل ،تلك المعارضة الشديدة ،وما استطاع أن يحِّّقق رغائبه ونيَّته
العالية ،في تعريف الناس بخالقهم ،ودللتهم عليه تعالى ،إلخراجهم من الظلمات
إلى النور ،فما اهتدى على يديه إل القليل وهذه وظيفته ،ولذلك وعده هللا َّ
عز وجل
أن ُيعيده في آخر الزمان ،وأن يرفعه بعمله العالي ،وأن يجعل المؤمنين الذين
سيتَّبعونه ،فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ،تطييباً لنفسه ،واظها اًر لعمله ،ولما
خفي من عالي نيَّته ،وذلك ما أشارت إليه اآلية الكريمة التي َّ
قدمناها من قبل في
قوله تعالى:
ِ ِ ﴿إِ ْذ َقال ّللا يا ِعيسى إِِهني م َتوهِفيك ور ِ
ين َك َفُروْاط هِهُر َك م َن َّالذ َ اف ُع َك إَِل َّي َو ُم َ ُ َ َ ََ َ َ هُ َ
اعل َّال ِذين َّاتبعوك َفوق َّال ِذين ك َفروْا إَِلى يومِ اْل ِقي ِ ِ
امة ثُ َّم إَِل َّي َمْر ِج ُع ُك ْم َفأ ْ
َح ُك ُم َ َ َْ َ َ ُ َ َُ َ ْ َ َو َج ُ
بي َنكم ِفيما كنتم ِف ِ
يه َت ْخ َتلِ ُفو َن﴾(.)1 َْ ُ ْ َ ُ ُ ْ
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 179ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الدليل الثالث:
وجاهة السيد المسيح
يسى آلئ َك ُة يا مريم ِإ َّن ّللا يب ِهشرِك ِب َكلِمة ِمْنه اسمه اْلم ِس ِ ﴿ِإ ْذ َقاَل ِت اْلم ِ
يح ع َ َ ه ُ ْ ُُ َ ُ هَ َُ ُ َ َْ َ ُ َ
ِ ِ ِ ِ ِ
اس في اْل َم ْهد َوَك ْهالً
الن َ الدْنَيا َواآلخَرِة َو ِم َن اْل ُمَقَّربِ َ
ينَ ،وُي َكهل ُم َّ يها في ُّ ْاب ُن َمْرَي َم َو ِج ً
و ِمن َّ ِ
ين﴾(.)1 الصال ِح َ َ َ
فاآلية تبين أن السيد المسيح سيكون وجيهاً في الدنيا وفي اآلخرة ،فإذا
كانت وجاهة اآلخرة ل ريب فيها فوجاهة الدنيا لم تحصل له بعد ،ففي فترة قدومه
األولى ،لم يكن الذين معه يتجاوزون األحد عشر ،لذا فتلك الوجاهة هي التي
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 180ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فأرضية المجتمع الديني ،والمناخ الذي يجب أن يعيش فيه اإلنسان ويتالءم مع
معتقداته ،هو مجتمع ل يتجاوز مستواه الحضاري مستوى التعقيد وامتصاص طاقات
اإلنسان لدنياه فقط ،ألن التجاوز عن هذا المستوى يولد الشقاء واأللم والظلم والتفرقة،
تماماً كما نلحظه في هذا العصر ،وكل زيادة على هذا المستوى ،يعتبر فساداً وافساداً،
واطمئناناً إلى الدنيا ،وانصرافًا عن الغاية التي جاء من أجلها اإلنسان.
لذلك فالسيد المسيح عند مجيئه ،لن يحمل معه إنجيالً يستوعب حضارة
ِّ
يصحح القرآن الكريم ،ألنه كتاب ل يدخل عليه الباطل ،بل يأتي هذا القرن ،ولن
ّ
ليمحو الصدأ الذي حجب الناس عن القرآن الكريم من تلك التفاسير الضحلة ،ومن
كثرة التفاسير المضللة ،المنقولة عن دسوس إسرائيلية وغيرها والمخالفة للقرآن كالم
هللا ،مخالفات صريحة ،والتي فرقت الناس إلى أحزاب وشيع ،كل حزب بما لديهم
فرحون ،هذه الدعوة نفسها عندما أراد من قبل أن يجلو الصدأ الذي تراكم
على التوراة ،نتيجة التفاسير الباطلة والتحريف المقصود من علماء بني إسرائيل،
يلق هذا الرسول الكريم من التحدي ،من قبل بعضولكن عند مجيئه الثاني مهما َ
مقّلِّدة علماء األديان الثالثة ِّّ
وفريسيهم ،أو من الذين يتبعونهم بغير علم ،فاهلل
سينصره حتماً ،هو والذين آمنوا معه ،وسيجعل عداءهم له حسرًة في قلوبهم إلى
يوم يلقونه ،وعندئذ سيحكم تعالى بينهم ،وهو خير الحاكمين.
انتهاء جوَّت الباطل
إن الدين بدأ غريباً ،فقد بدأ رسولنا محمد ﷺ بدعوته لقو ٍم قد مزقت الخالفات
ٍ
ودويالت وحدتهم ،وأبعدت القبلية تضامنهم ،وكانوا عبارة عن قبائل متفر ٍ
قة، ً
تستخدمها دول أجنبية كبرى ،وبين أظهرهم أمة تعالت عليهم بما لهم " أبناؤها "
بأن رسولً اسمه أحمد " أي أحمد ٍ
ماض مجيد ،ويستفتحون عليهم بما يعتقدون َّ من
الخلق أسماهم وأعالهم " قد قارب زمانه ،وبمجيئه سينتصرون على العرب،ْ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 181ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ويأخذون ديارهم وأمالكهم ،ويصبحون أسيادهم .هذا الوضع قبل أربعة عشر قرناً،
مزقتها
"يشبه ضمناً وضعنا الحالي" .فاألمة العربية خاصة ،واإلسالمية عامة ،قد ّ
شيع ودويالت متناحرةِّّ ،
تسير قسماً منها دول استعمارية كبرى ،وبين الخالفات إلى ٍ
ظ ُه ِّرها أم ٌة يتعالون علينا اآلن بحاضرهم ،وهم اآلن كما كانوا باألمس ،ينتظرون
أْ
ظهور سيدنا محمد ﷺ فهم اآلن ينتظرون قدوم السيد المسيح في أرض الميعاد،
فلسطين التي تجمعوا اآلن بها ،كما تجمعوا بعهد الرسول ﷺ بالمدينة المنورة
وخيبر ،ليكون الملك العالمي .فالدين أصبح غريباً إذ ما من ٍ
أحد تقريباً يأمل أن
تقوم للدين بعد اليوم قائمة ،ألن عصر األديان باعتقادهم قد وّلى منذ زمن بعيد،
والى غير رجعة.
أل إن الزمان قد دار دورته ،وعاد الوضع كما بدأ .في هذا الزمان الذي كفرت
الناس فيه باهلل وكتبه ورسله واليوم اآلخر ،سيظهر الدين غريباً كما بدأ قبل أربعة
عشر قرناً ...﴿.ويأْبى ّللا إِالَّ أَن ي ِت َّم ُنوره وَلو َك ِره اْل َك ِ
افُرو َن﴾(.)1 َُ َ ْ َ ُ َ َ َ هُ
فطوبى للمؤمنين الغرباء بقدوم الرسول ،السيد المسيح ،فقد آن أوان ظهوره
حقاً وصدقاً ،وذلك معلوم وظاهر لمن كان له قلب ،أو ألقى السمع وهو شهيد.
اب ِإالَّ َلُي ْؤ ِمَن َّن ِب ِه َقْب َل َم ْوِت ِه :)2(﴾...وهذه اآلية
َه ِل اْل ِك َت ِ
عندهاَ ﴿ :وِان ِهم ْن أ ْ
الكريمة ،دليل واضح على عودته ،وايمان أهل الكتاب به قبل موته .
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 182ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
طوِى لمولود هذا الزمان
إن السيد المسيح ،ل يكاد يذكر بالقرآن الكريم إل ومع ذكره دليل على
عودته ثانية ،وان كانت األدلة التي سقناها سابقاً ،كافية لكل ذي لب ،إلَّ أننا
أحببنا أن نستكمل البحث ،وذلك ألهميته الكبيرة التي أولها له القرآن الكريم.
* إن اسمه ( )لهو من أكبر األدلة على عودته ،وذلك ألن لكل مسمى من
اسمه نصيب ،أما األنبياء الكرام ،فلهم النصيب الكامل من أسمائهم التي سماهم
هللا تعالى بها.
سمى هللا تعالى سيدنا محمداً ﷺ بهذا السم الكريم بما حوى من الكمالتفمثالً ّ
جميعها ،وبما انطوت عليه هذه النفس الكريمة العالية من المحامد كلها ،فكان اسمه
(محمداً).
أما السيد المسيح ،فقد أطلق هللا تعالى عليه اسمين كريمين (المسيح
ومسح الشيء أي :أزاله ،وبما أن وظيفة كل
َ عيسى) وكلمة المسيح :من المسح،
رسول هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور ،وبالتالي إزالة ومسح حب الدنيا
من قلوبهم ،وربطها باهلل تعالى بمعيته.
وبما أنه بمجيئه أول مرة ،لم يمسح الكفر من األرض ،فإنه ببعثته الثانية حتماً
سيمسح الكفر من الكون ،وكلمة عيسى مشتقة من (عسى) وكلمة عسى تعني
احتمال حصول الشيء أو عدم حصوله مثال :عسى أن يأتي زيد ،فاحتمال أن
يأتي ،أو ل يأتي ،أما كلمة (عيسى) فمعناها حتماً سيأتي ،وليس هناك احتمال ،إذ
يكون معنى اسمه الشريف بالتمام (عيسى المسيح) أي حتماً سيأتي ويمسح الكفر
من الكون ،وتكون له الوجاهة في الدنيا ،بإيمان أهل األرض به وهؤلء المؤمنين
التابعين له ،سيكونون فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ،كما في اآلية الكريمة:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 183ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ام ِة ُث َّم ِإَل َّي َمْرِج ُع ُك ْم ِ ِ
ين َك َفُروْا إَلى َي ْو ِم اْلقَي َ
اعل َّال ِذين َّاتبعوك َفو ِ
ق َّالذ َ َ َُ َ ْ َ
ِ
﴿َ ...و َج ُ
يه َت ْخَتلُِفو َن﴾(.)1 َفأَحكم بيَنكم ِفيما كنتم ِف ِ
ْ ُ ُ َْ ُ ْ َ ُ ُ ْ
ِ اع ِة َف َال َت ْم َتُر َّن ِب َها َو َّات ِب ُعو ِن َه َذا ِصَار ٌ قال تعالىَ ﴿ :واَِّن ُه َل ِعْل ٌم هلِ َّ
()2
يم﴾ . ط ُّم ْس َتق ٌ لس َ
علم للبر ،أي برؤية المنارة نعلم بوجود البر ،إن كنا تائهين نقول ،المنارة ٌ
علم للساعة :أي ظهوره دليل على قيام الساعة ،فبمجيئه
بالبحار ،فالمسيح ٌ ،
سينبئنا بحدوث زلزلة عظيمة ،تشمل األرض كلها ،حيث تكون الحرب قد وضعت
سيعلمنا بها السيد المسيح ،ستبتلع ما بقي من آثار
أوزارها .فهذه الزلزلة التي ُ
الحرب المدمرة ،ومن اإلشعاعات الذرية والنووية.
* جاء ذكر السيد المسيح بسورة مريم ،على إثر ذكر سيدنا يحيى ،وذلك
الترتيب في مسرى اآليات الكريمة ،له مدلولت ذات معنى .حيث ورد في كتب اليهود
المحرفة:
(أن سيدنا يحيى قد ُقتل ،وقطع رأسه) ،وذكر عن النصارى( :أن سيدنا
عيسى ،قد قتل على الصليب) ،فجاءت اآليات القرآنية داحضة تلك األقوال،
وناسفة تلك المزاعم الباطلة :ففيما يخص سيدنا يحيى قال تعالىَ ﴿ :و َس َال ٌم
ِ
َعَلْيه َي ْوَم ُولِ َد َوَي ْوَم َي ُم ُ
وت َوَي ْوَم ُيْب َع ُث َحًّيا﴾(.)3
(،)4
فالسالم أي األمان وفي الحديث الشريف( :السالم أمان هللا في األرض)
على سيدنا يحيى يوم يموت ،فمعنى ذلك أنه لم يجرؤ أحد على التعرض له ،وقد
عاش بعد أبيه ،سيدنا زكريا ،وقام مقامه باإلرشاد والهداية .وهللا تعالى بيَّن
لنا باآلية أعاله بأنه مات موتاً عادياً ولم يقل بأنه قتل أو ذبح ،وما عدا ذلك ،فهو
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 184ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
دس خبيث ل أصل له .ثم ذكر هللا عز وجل السيد المسيح ،ولكن بصيغة
أخرى ،فحين ّبين هللا تعالى أن سيدنا يحيى عاش بسالم ومات بسالم ،ويبعث
بسالم ،مدافعاً عنه وعن سيرته الشريفة .جعل تعالى صيغة الخطاب عند ذكر
الس َال ُم َعَل َّي َي ْوَم ُولِ ُّ
دت َوَي ْوَم سيدنا عيسى تكون من فمه الشريف بآيةَ ﴿ :و َّ
وت َوَي ْوَم أُْب َع ُث َحًّيا﴾( .)1وما ذلك إل ألنه سيعود ثانية ،ويقولها بنفسه ،فال
َم ُ
أُ
يستطيع الكافرون أن يلمسوه بلمسة أذى ،فهو رسول هللا ،وأنه لم يمت بعد بل
هو وأمه عليهما السالم بمغارة كأهل الكهف ،أما سيدنا يحيى ،فإنه مات ولن
يعود ،فلذلك دافع عنه تعالى بكلمة وسالم عليه .كما أن السورة تحمل مدلولت
بذكر هذين الرسولين الكريمين ،ومقارنة لطيفة بسيرتهما ،فبسيرة سيدنا يحيى
قال تعالىَ ﴿ :وَبًّار ِب َو ِال َدْي ِه َوَل ْم َي ُكن .﴾...في يوم من األيامَ ..﴿ :جَّب ًارا:﴾...
على الخلقَ ..﴿ :ع ِصًّيا﴾( :)2عمله كله ضمن أمر هللا تعالى .أما بذكر سيدنا
ار .)3(﴾...على الخلق..﴿ : عيسى فجاءت اآليةَ ﴿ :وَبًّار ِب َوالِ َد ِتي َوَل ْم َي ْج َعْلِني َجَّب ًا
َش ِقًّيا﴾ :أي محروماً من الخيرات واألعمال ،فسيدنا عيسى سيأتي ،وسيكون
خير كثير ،وأعمال عظيمة. على يديه ٌ
* لقد جاء ذكر سيدنا المسيح وأمه الصديقة عليهما السالم بسورتي "المؤمنون
ُم ُه َآي ًة
واألنبياء" ،وعلى أثر ذكرهما ،ترد هاتين اآليتين الكريمتينَ ﴿ :و َج َعْلَنا ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ
اع َمُلوا َصالِ ًحا الرسل ُكُلوا ِمن َّ ِ ِ ِ
الطهِيَبات َو ْ َ اه َما إَلى َرْب َوة َذات َقَرار َو َمعينَ ،يا أَُّي َها ُّ ُ ُ
آوْيَن ُ ِ َو َ
ُم ًة و ِ
احَد ًة َوأََنا َرُّبُك ْم َف َّاتُقو ِن﴾(.)4 يمَ ،واِ َّن َهِذ ِه أ َّ
ُمُت ُك ْم أ َّ َ
ِ ِ ِ
ِإهني ب َما َت ْع َمُلو َن َعل ٌ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 185ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِفيها ِمن ُّر ِ ِ
اها َو ْابَن َها
وحَنا َو َج َعْلَن َ َ واآلية الثانيةَ ﴿ :و َّالتي أ ْ
َح َصَن ْت َفْر َج َها َفَن َف ْخَنا
اعُبُدو ِن﴾(.)1
َف ْ ُم ًة و ِ
اح َد ًة َوأََنا َرُّب ُك ْم ينِ ،إ َّن َه ِذ ِه أ َّ
ُم ُت ُك ْم أ َّ َ
ِ ِ
آي ًة هلْل َعاَلم َ
َ
أي أن البشرية كلها ستصبح أمة واحدة ،حين ظهورهما عليهما السالم ،وسيؤم
لهما كافة المؤمنين ،حيث يؤم الرجال جميعاً بالعاَلم إلمامهم سيدنا عيسى ،
والنساء تؤم بسيدتنا مريم عليها السالم والكل بمعيته .
ومن المالحظ في اآليتين اآلنفتين الذكر أن سيدتنا مريم عليها السالم ذكرها
اها
ُم ُه َآي ًة .﴾...و﴿َ ...و َج َعْلَن َ
تعالى كآية ومعجزة للعالمينَ ﴿ :و َج َعْلَنا ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ
ين﴾( .)2فمتى تكون سيدتنا مريم آية أي معجزة؟ وهي ولدت ِ ِ
آي ًة هلْل َعاَلم َ
َو ْابَن َها َ
ألبوين وعاشت كما يعيش عموم الناس ولم تأت بمعجزات.
إذن :ل تكون المعجزة معجزة عليها السالم إل حين قدومها الثاني مع ابنها
العظيم .
ِ ِ
يح ْاب ُن
ّللا ُه َو اْل َمس ُ ِ * قال تعالى في سورة المائدةَّ﴿ :لَق ْد َك َفَر َّالذ َ
ين َقآُلوْا إ َّن ه َ
ِ ِ مريم ُقل َفمن يملِك ِمن ِ
ُم ُه َو َمن ّللا َشْيًئا ِإ ْن أََرَاد أَن ُي ْهل َك اْل َمس َ
يح ْاب َن َمْرَي َم َوأ َّ َْ َ َ ْ َ َ ْ ُ َ ه
يعا .)3(﴾...وهذا دليل قاطع بأنه لم يمت هو وأمه ،فلو كانا ِفي األَر ِ ِ
ض َجم ً ْ
ميتين لكان الخطاب بغير هذه الصيغة ،إذ أن كلمة يهلك جاءت بصيغة
المضارع ،فلو كان ميتاً ،لجاءت بصيغة الماضي أي :أهلك .وهذا واضح وضوح
الشمس في رابعة النهار.
* رسول هللا سيد الكون سيدنا محمد العظيم ﷺ خاطبه تعالى بآية صريحة قائالً
جل وعال:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 186ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
﴿ِإَّن َك َمهِي ٌت َواَِّن ُهم َّمهِي ُتو َن﴾( .)1أما سيدنا المسيح ،فال توجد آية في القرآن
الكريم تقول أنه مات ،فلو كان ميتاً ،لذكر تعالى ذلك بوضوح ،كما ذكر تعالى
على سيدنا محمد ﷺ ،بل لكرره في أكثر من موضع ،بسبب أن هناك أقواماً يدعون
أن السيد المسيح إلٓه ،ولكن اآليات جاءت مبينة أنه نائم وأنه موجود هو وأمه،
وأنهما في ربوة ذات قرار ومعين ،وآيات أخرى داحضة للمزاعم بأنه إلٓه .فمن ذلك
ُم ُه ول َق ْد َخ َل ْت ِم ن َق ْب لِ ِه ُّ
الر ُس ُل َوأ ُّ يح ْاب ُن َم ْرَي َم إِالَّ َر ُس ٌ
ِ
قوله تعالىَّ ﴿ :م ا ا ْل َمس ُ
ام.)2(﴾... َّ ِص هِد ي َق ٌة َكا َنا َي أ ُ
ْك الَ ِن الط َع َ
الذي يأكل الطعام فقير وضعيف فهذا يكون إلٓهاً! هل يكون اإللٓه فقي اًر وضعيفاً،
ات :﴾...أل تكفي هذه الحجة ظر َكيف ُنبِين َلهم اآلي ِ
كيف ُيطعم غيره؟!﴿ ...ان ُْ ْ َ َ ه ُ ُ ُ َ
ظْر أََّنى ُي ْؤَف ُكو َن﴾( .)3كيف يتحولون ،الذي ل يأكل ليوم واحد،
عليهم﴿ُ ...ث َّم ان ُ
تذهب قوته ،فكيف ُيعين الخلق؟!
ٍ
كرد على من
هذا ولو كان السيد المسيح ميتاً ،ألضافها تعالى إلى تلك اآلية ّ
يعبد السيد المسيح ،لكنه تعالى لم يقل ذلك ،بل بيَّن سبحانه (بشرية السيد المسيح
وأمه عليهما السالم) من خالل افتقارهما للطعام والشراب ،ولم يتعرض لذكر الموت
هنا.
***
َّ
محط صب الن َ
ولما كان هبوط سيدنا آدم من الجنة السامية إلى دار العمل و َ
ّ
طأوا آبينا آدم ورموه بالمعصية خالف عند أهل الكتب السماوية ،حيث أنهم خ ّ
والجحود ،كما ع از إخواننا النصارى مجيء سيدنا عيسى ليكِّّفر عنهم سيئاتهم
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 187ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ويفتدي بدمه الخطيئة األولى آلدم ( وحاشاه) ،لذا كان لزاماً تبيان الحقيقة في
قضية هبوط سيدنا آدم وأسبابها:
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 188ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الفصل الخامس
في هذا الفصل:
المعلم األول سيدنا آدم أبو البشرية ومعلمها.
حقيقة الشفاعة.
يغره؟!
كيف نسي سيدنا آدم وصية هللا تعالى واستطاع الشيطان أن ه
غاية قصة سيدنا آدم .
هل كان خروج سيدنا آدم إلى هذه الدنيا ومجيء بني اإلنسان من بعده
الجنة ،رأساً دون
الجنة وخلق بني اإلنسان في َّ
إليها أحسن ،أم أن بقاءه في َّ
خروجهم إلى الدنيا أحسن؟ وأي الحالين يعود على اإلنسان بالسعادة والخير ،أكثر
من اآلخر؟
***
المعلم األول
ِّ
سيدنا آدم عليه الصالة والسالم أبو البشرية ومعهلِمها
()1
ض َخلِي َف ًة﴾... ﴿واِ ْذ َقال رُّبك لِْلمالَ ِئ َك ِة ِإِهني ج ِ
اع ٌل ِفي األَْر ِ َ ََ َ َ َ
وقد ذكر لنا تعالى في القرآن طائفة من قصص األنبياء تتجلى فيها طهارة تلك
النفوس المؤمنة التي عصمت بإقبالها الدائم على ربها من كل معصية ،أدركها من
أدركها من أهل التقوى واإليمان ،و أروا ما تشير إليه تلك القصص الكريمة من ّ
سمو
هؤلء الرجال ،وما قاموا به من جليل األعمال ،وما امتازوا به من كريم األخالق
ِّ
يقدر أهل اإليمان إلَّ أهل اإليمان ،ول يعرف الفضل
وعالي الصفات .والحقيقة أنه ل ّ
متحل
ّ إلَّ ذووه ،ول يدرك عظمة ما في القرآن من عبر وأمثال ،إل كل قريب من هللا
بحلية الكمال.
اب.)2(﴾... ان ِفي َقص ِص ِهم ِعْبَرٌة هِأل ُْولِي األَ ْلَب ِ قال تعالىَ﴿ :لَق ْد َك َ
ْ َ
اس َو َما َي ْع ِقُل َها ِإَّال اْل َعالِ ُمو َن﴾(.)3
ال َن ْض ِرُب َها لِ َّلن ِ ِ
﴿ َوتْل َك ْاأل َْم َث ُ
واليك اآلن ما بيَّنه هللا تعالى عن سيدنا آدم ،في قوله تعالى:
يها َمن ُي ْف ِسُد ِ اعل ِفي األَر ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ض َخلي َف ًة َقاُلوْا أ ََت ْج َع ُل ف َ ْ ال َرُّب َك لْل َمالَ ئ َكة ِإهني َج ٌ ﴿ َوِا ْذ َق َ
الدماء وَنحن ُنس ِبح ِبحمِدك وُنَقهِدس َلك َق ِ ِ ِ ِ
َعَل ُم َما الَ ال ِإهني أ ْ يها َوَي ْسف ُك ه َ َ ْ ُ َ ه ُ َ ْ َ َ ُ َ َ ف َ
َت ْعَل ُمو َن﴾(.)4
لما عرض هللا تعالى على
والمالئكة :جمع َمَلك ،وهم نوع من المخلوقاتَّ ،
األنفس في عالم األزل أن يمنحها حرية الختيار أحجموا ،كما أحجم غيرهم عن
الدخول في ذلك الميدان الذي دخله اإلنسان ،ورضوا أل يكون لهم إطالق وحرية
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 191ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
في الختيار .لقد َّ
ملك هؤلء اختيارهم هلل ،ولذلك ُس ُّموا مالئكة .وبما أنهم ليس لهم
مجردون عن هذه الشهوات المادية التي يميل أجسام كما لإلنسان ،لذلك هم َّ
اإلنسان إليها ،وليس لهم تلك الحاجات الجسمية ،فال يأكلون ول يشربون ،ول
يتزوجون ول يتوالدون ،ول يميلون لشيء من هذه األشياء.
ولما قال ربُّك للمالئكة:
َّ
﴿ِ ...إِهني ج ِ
اع ٌل ِفي األَْر ِ
ض َخلِي َف ًة :﴾...طمعوا أن ينالوا ذلك المقام ،ألن َ
الخليفة معناه ذلك المخلوق العالي الذي يكون أهالً للنيابة عن هللا تعالى في تبليغ
عباده أوامره ،وتعريفهم به تعالى والدخول بهم عليه ،فبما اكتسبه من خالقه من
الخُلق ،وغير ذلك من ٍ
وسمو في ُ رأفة ورحمة ،وعلم وحكمة ،وعدل وحب للحق،
ّ
صفات الكمال ،صار أهالً ألن يقوم بذلك المقام ،فيكون خليفة هللا في أرضه،
ويقيم العدل ويحكم بين الناس بالحق ،وينشر الخير والصالح في األرض. ُ
وقد أشارت اآلية الكريمة إلى ذلك ،في قوله تعالى مخاطباً سيدنا داوود :
()1
ق﴾... اس ِباْل َح ِه
الن ِ اح ُكم َبْي َن َّ
ض َف ْ اك َخلِي َف ًة ِفي ْاألَْر ِود ِإَّنا َج َعْلَن َ
﴿َيا َد ُاو ُ
يتولى منصب الحكم ،يتولى منصب الدللة واإلرشاد ،قال تعالى والخليفة كما َّ
ِ ِ ِ
النُب َّوَة ،)2( ﴾...إذ بمااب َواْل ُح ْك َم َو ُّ
اه ُم اْلك َت َ
آتْيَن ُ
ين َ في سورة األنعام﴿ :أُ ْوَلئ َك َّالذ َ
اكتسبه من دللت ربه وأسمائه الحسنى ،وبما انطبع في قلبه من حب لخالقه
وشغف به ،أضحى خليقاً بأن يكون وسيطاً بين الخْلق وبين هللا ،يبّلِّغهم أوامره
ويعرفهم بكمالته وأسمائه الحسنى ،ويرشدهم إلى طريق معرفته ،فإذا ما تعالى ِّّ
ارتبطت نفوسهم به وأقبلت بمعيَّته ،دخل بتلك األنفس على هللا تعالى ،وكان لها
سراجاً مني اًر ترى به طرفاً من تلك األسماء اإللٓهية ،وتشاهد الكمال اإللٓهيّ ،
فتحبه
وتعشقه ،وهنالك تقتبس به من هللا نو اًر ،ترى به الخير خي اًر والشر ّاً
شر.
( _ )1سورة ۤ
ص .اآلية ()26
( _ )2سورة األنعام اآلية ()89
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 192ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فالخليفة والحالة هذه هو من الخْلق ،بمنزلة األب العطوف على بنيه ،أو األخ
الراشد من إخوته وذويه ،أشفقهم وأعطفهم عليهم ،وأرأفهم وأرحمهم بهم ،وأنفعهم لهم،
وهو بهذا أحب الخْلق إلى هللا ،وأحظاهم عنده ،وأرفعهم شأناً إليه ،وأقربهم زلفى لديه.
ذلك هو مقام الخالفة الذي أهَّل هللا تعالى له اإلنسان ،وطمعت به المالئكة
الكرام.
وكان خْلق الجن قد سبق خْلق اإلنسان ،والى ذلك تشير اآلية الكريمة في قوله
اه ِمن ان ِمن َصْل َصال ِهم ْن َح َمإ َّم ْسُنونَ ،واْل َج َّ
آن َخَل ْقَن ُ نس َ تعالىَ ﴿ :وَلَق ْد َخَل ْقَنا ِ
اإل َ
الس ُمومِ﴾( .)1وحيث أن إبليس وذريته أفسدوا في األرض بإعراضهم َقْب ُل ِمن َّن ِار َّ
يها َمن ُي ْف ِسُد ِ
عن هللا ،لذلك خاطب المالئكة ربَّهم بنفوسهم قائلين ..﴿ :أ ََت ْج َع ُل ف َ
الد َماء :﴾...أي أيصدر من هذا المخلوق ما صدر من الجن ،ويفعل ما ِفيها ويس ِفك هِ
َ ََْ ُ
فعله إبليس وذريته من قبل؟﴿َ ...وَن ْح ُن ُن َسهِب ُح ِب َح ْم ِد َك :﴾...أي نجعل نفوس
عبادك تسبح في فضلك بما نلقيه فيها من التعريف بإحسانك ،وما تُحمد عليه من
فكر ابحث عن عظيم عنايتك .فالمَلك يلقي اإللهام بنفسك :يا عبد هللا ارجع إلى هللاِّّ ،
َ ُ
ِ
س سعادتك ،يا نفس اسمعي كالم هللا ،انظري في الكون استدلي على هللاَ ..﴿ .وُنَقهد ُ
نطهر نفوسهم لك، َل َك :﴾..أي :وبهذا نجعل نفوسهم طاهرة بإقبالها عليك ،أيِّ :
ّ
ِّ
ونطهر قلوبهم لتكون صالحة لإلقبال عليك. ِّّ
نسبحهم بما تُحمد عليه،
ّ
فإن جعلتنا خلفاء ظهر منا الخير لعبادك ،وكنا وسطاء في إيصال نفوسهم إليك
والدخول بها عليك .وهنالك خاطبهم ربُّهم بما أشارت إليه اآلية الكريمة في قوله
تعالى:
﴿َ ...ق ِ
ال ِإهني أ ْ
َعَل ُم َما الَ َت ْعَل ُمو َن﴾(.)2 َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 193ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أي :إني أعلم من قابلية هذا اإلنسان وأهليته ما ل تعلمون .آدم أعلى منكم،
وأرقى منكم ،وكذلك المؤمن الكامل ،أرقى من المالئكة الكرام .فاإلنسان لديه أهلية
أحط من كل شيء ،هذا والحيوان جاء ألن يكون أعلى من كل شيء ،لكن الكافر ُّ
و َّأدى الوظيفة ،فهو ُيجازى في الدنيا على شذوذه عنها ،وغداً ل نار له ،جزاؤه هنا
ممن كفروا.
فقط ،لكن الكافر غداً للنار :فالكلب خير من كثير من الخْلق َّ
عظم فضلوخلق هللا تعالى سيدنا آدم وأخرجه إلى هذا الوجود ،وقد َّ
وقدر إحسانه إليه ،وبهذا التقدير والتعظيم اتَّجهت نفسه إلى هللا تعالى
خالقه عليهَّ ،
مقبلة عليه.
وجهتها انطبعت فيها
وبما أن النفس البشرية مثلها كمثل المرآة الصافية ،حيثما َّ
آثار ما اتَّجهت إليه ،لذلك انطبعت في نفس سيدنا آدم انطباعات من األسماء
اإللٓهية ،وبهذا صار له علم بها كلها ،والى ذلك أشارت اآلية الكريمة في قوله تعالى:
َس َماء ُكَّل َها :)1(﴾...الرحيم ،العليم ،القدير ،الحليم ..أسماء هللا ﴿ َو َعَّل َم َ
آد َم األ ْ
علمها هللا تعالى سيدنا آدم إنما هي أسماء الحسنى :تلك هي األسماء التي َّ
ممن سيكون خليفة هللا في األرض ،حقيقاً بذلك المقام
الحضرة اإللٓهية التي تجعل َّ
جدي اًر بهذا المنصبَّ ،
فإن من صار له علم باسم هللا تعالى الرحمن ،بما انطبع في
نفسه من الرحمة اإللٓهية ،يضحي جدي اًر بأن يكون خليفة هللا في خْلقه ،قال تعالى
مشي اًر إلى هذه الناحية مخاطباً رسوله سيدنا محمداً ﷺَ ﴿ :ف ِبما رحمة ِمن ِ
نتّللا لِ َ
َ َ َْ هَ ه
اس َت ْغ ِفْر َل ُه ْم
ف َعْن ُه ْم َو ْ اع ُ
ظ اْلَقْل ِب الَ ن َف ُّ ِ
ضوْا م ْن َح ْولِ َك َف ْ ظا َغلِي َ نت َف ًَّل ُه ْم َوَل ْو ُك َ
ِِ
ّللا ُي ِح ُّب اْل ُم َت َوهكل َ اوْرُهم ِفي األَم ِر َفِإ َذا َع َزم َت َف َت َوَّك ْل َعَلى ه ِ ِ
ين﴾(َ﴿ .)2لَق ْد ّللا إ َّن ه َ ْ ْ َو َش ِ ْ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 194ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِ ِ ِ ِ ول ِهم ْن
وف يص َعَلْي ُكم ِباْل ُم ْؤ ِمن َ
ين َرُؤ ٌ أَن ُفس ُك ْم َع ِز ٌيز َعَلْيه َما َعن ُّت ْم َح ِر ٌ اءك ْم َر ُس ٌ
َج ُ
() 1
يم﴾ ِ
َّرح ٌ
فبما انطبع في نفس رسول هللا ﷺ من الرحمة التي اكتسبها بإقباله على خالقه،
صار ّليناً مع الخْلق ،لطيفاً في معاملتهم ،حريصاً على هدايتهم ودللتهم ،رؤوفاً
تحققت في نفس سيدنا محمدرحيماً بهم ،وذلك ما يتطلَّبه مقام الخالفة من صفات َّ
ﷺ ،وفي نفس سيدنا آدم من قبل ،ل بل في نفس كل رسول ونبي ومرشد،
كل على حسب إقباله على خالقه وقربه منه ،ومن لم يحصل له اإلقبال على هللا،
ٌّ
ولم تنطبع في نفسه تلك األسماء اإللٓهية ،فلم يكتسب من خالقه الرحمة والرأفة،
والعدل والحلم والحكمة ،وغير ذلك من الصفات الكاملة ،فليس أهالً ألن يقوم في
تحقق هذه الصفة في نفوس أصحاب رسوله ذلك المقام .وقد أشار تعالى إلى ُّ
الكرام في قوله تعالى:
ين َم َع ُه أ َِشدَّاء َعَلى اْل ُك َّف ِار ُر َح َماء َبْيَن ُه ْم.)2(﴾... ﴿ ُّمح َّمٌد َّرسول َّ ِ ِ
ّللا َو َّالذ َ ُ ُ َ
ونعود إلى الكالم عن سيدنا آدم فنقول:
لقد صار لسيدنا آدم علم بأسماء هللا تعالى الرحمن والعادل والرؤوف والحليم
والغفور ..إلى غير ذلك من األسماء اإللٓهية ،بما انطبع في نفسه الصافية منها ،فكان
رحيماً وكان عادلً وكان حليماً وكان ..وبذلك استحق ألن يكون أهالً لذلك المقام.
علم سيدنا آدم القصعة أما ما يذهب إليه أناس من أن هللا تعالى َّ
والقصيعة ،وأسماء الحيوانات والنباتات ،وغير ذلك من الموجودات ،فذلك بعيد كل
أن مسرى اآليات
البعد عن ذلك المعنى العالي الذي تشير إليه اآلية الكريمة ،كما َّ
ينفي ذلك نفياً قطعياً ،فإن المقام الذي يقوم فيه سيكون خليفة هللا في أرضه وهادياً
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 195ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
يتطلب منه أن يعّلِّمه هللا اسم القصعة والقصيعة ،إنما َّ
يتطلب ومرشداً لعباده ،ل َّ
منه أن يكون مصطبغاً قلبه بالرأفة والرحمة ،وغير ذلك من الصفات الكاملة.
ثم إن هللا تعالى أمر سيدنا آدم أن يعرض على المالئكة األسماء اإللٓهية
التي اصطبغت نفسه بصبغتها ،وانطبعت بانطباعات منها.
وعرض سيدنا آدم على المالئكة تلك األسماء ،وذلك ما أشارت إليه اآلية
الكريمة في قوله تعالىُ ..﴿ :ث َّم َعَر َض ُه ْم َعَلى اْل َمالَ ِئ َك ِة :﴾...فسألهم سيدنا آدم
عن معاني أسماء هللا الحسنى :القدير ،الحليم ،العليم ،الرحيم..
تدل عليه تلك األسماء:
وقد طلب تعالى من المالئكة أن ينبئوه بما ُّ
ِِ
ين﴾( :)1أي :أخبرونينت ْم َصادق َ ال أَنِبُئوِني ِبأ ْ
َس َماء َه ُؤالء ِإن ُك ُ ﴿َ ...فَق َ
بمدلولت ومعاني األسماء التي عرضها عليكم آدم ،فما المعنى المنطوي مثالً تحت
القهار ..إلى غير ذلك من األسماء ،اسماً بعد اسمِ ..﴿ :إن
الجبار و َّ
اسم المهيمن و َّ
ين﴾ :في أنكم أهل للخالفة .فما كان منهم إلَّ أنَ ﴿ :قاُلوْا ِِ
نت ْم َصادق َ
ُك ُ
ُسْب َحاَن َك :)2(﴾...ما أعظم كمالك وما أعظمك!
علمتنا ،فقد أجبنا ﴿ ...الَ ِعْل َم َلَنا ِإالَّ َما َعَّل ْم َتَنا :﴾...أي :ل علم لنا أكثر َّ
مما َّ
يم:﴾... بحسب ما علمناه بإقبالنا عليك ،وبحسب صدقنا معكِ ..﴿ :إَّن َك أ َ ِ
َنت اْل َعل ُ
يم﴾ :عملك كله ضمن حكمة .فأنت الحكيم ِ
بنا وبدرجة علمنا بأسمائك ..﴿ :اْل َحك ُ
بفعلك واختيارك .فما قلنا ما قلناه اعتراضاً ،إنما طمعاً في ذلك المقام ،طمعاً بغية
التقرب إليك ،وأنت أدرى وأعلم بمن هو بهذا المقام أجدر َوأَْل َيق. ُّ
عرف المالئكة بتلك األسماء اإللٓهيةهنالك أمر هللا تعالى سيدنا آدم أن ُي ِّّ
تكل ْم عن أسمائي التي عرضها عليهمَ ﴿ :قال يا آدم أَن ِبْئهم ِبأ ِ
آئ ِهمَّ :﴾...
َس َم ْ
ْ ُ َ َ َُ
عرفهم باألسماء التي عرضتها عليهم: الحسنى التي شرحوها َّ
وتكلموا عنها :أيِّّ :
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 196ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
عرفهم آدم باألسماء اإللٓهية المعروضة فلما َّ ﴿َ ..فَل َّما أَنبأَهم ِبأَسم ِ
آئ ِه ْمَّ :﴾... َ ُْ ْ َ
وتفوقه على المالئكة في ذلكمبيناً ِّعْل َمه بتلك األسماء اإللٓهيةُّ ، ِّ
مفصالً ِّّ
عليهم ّ
العلم والبيان ،فبيَّن ما ينطوي فيها من كمالت هللا تعالى بحسب إقباله العظيم
تفوقه عليهم ،هنالك خاطبهم على رّبِّه ،كالماً سبق به المالئكة أجمعين ،فظهر ّ
ِ
ال أََل ْم أَ ُقل َّل ُك ْم ِإهني أ ْ
َعَل ُم ربُّهم بما أشارت إليه اآلية الكريمة في قوله تعالىَ ..﴿ :ق َ
َعَل ُم َما ُتْبُدو َن :﴾...اآلن السماو ِ
ات َواألَْر ِ
ض :﴾...آدم أعلى منكمَ ..﴿ :وأ ْ َغْي َب َّ َ َ
نت ْم َت ْك ُت ُمو َن﴾( :)1من طلبكم الخالفة ألنفسكم. من اإلقرار بالحق آلدمَ ..﴿ :و َما ُك ُ
والغيب :كل ما غاب علمه عن المخلوق .فكل ما وقع وما سيقع ،وكل ما
أوجده هللا تعالى وما سيوجده في السماوات واألرض ،مما ل علم للمخلوق به ول
إطالع له عليه ،إنما هو غيب .وهللا تعالى يعلم غيب السماوات واألرض ألنه
تعالى هو الخالق الموجد ،وكل ما فيهما قائم به تعالى مستمد الحياة منه ،متوِّّقف
بقاؤه ووجوده وحدوثه على دوام إمداد هللا وتجّلِّيه.
وهو تعالى عليم بكل نفس وبما انطوت عليه ،فقد علم تعالى ما انطوت عليه
نفوس المالئكة من العلم ،والوظيفة التي تتناسب مع علمهم ،كما علم تعالى أهلية
هذا اإلنسان العظيم وقابلياته.
أما المخلوق فال علم له إلَّ بما ُيطلعه هللا تعالى عليه ،فقد يغيب عنه مثالً ما في
لما طلبوا الخالفة ،إذ
نفسه وقد تخفى عليه درجة علمه ومعرفته ،كما وقع للمالئكة َّ
ُّ
ظنوا أن لديهم األهلية لذلك المقام ،وغاب عنهم ما عليه سيدنا آدم من سبق
وتفوق في ذلك المضمار ،وهنالك أراهم هللا تعالى الحقيقة ،وبيَّن لهم درجة علمهم،
ُّ
نت ْم َت ْك ُت ُمو َن﴾ :الواردة في
...و َما ُك ُ
وأوقفهم على جلية األمر .ويتبيَّن لنا من كلمة ﴿ َ
نت ْم َت ْكُت ُمو َن﴾ :2أن قول المالئكة عندما قالوا:
َعَل ُم َما ُتْبُدو َن َو َما ُك ُ
قوله تعالىَ ..﴿ :وأ ْ
( _ )1سورة البقرة اآلية ()33
( _ )2سورة البقرة اآلية ()33
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 197ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِ ِ ﴿َ ..قاُلوْا أ ََتجعل ِفيها من ي ْف ِسد ِفيها ويس ِفك هِ
س الد َماء َوَن ْح ُن ُن َسهِب ُح ِب َح ْمد َك َوُنَقهد ُ َُْ َ َ ُ ُ َ ََْ ُ
فاطلع هللاسرهم وكتموه في أنفسهمَّ ، َل َك :)1(﴾...إنما كان قولً نفسيًا .فقد قالوا ذلك في ِّّ
تعالى عليه وخاطبهم به وأراهم من علم سيدنا آدم ما أراهم ،حتى جعل نفوسهم
تقر بحكمته تعالى وتخضع لختياره وعلمه ،مستسلمة له مذعنة إليه.
ُّ
َعَل ُم َما ُتْبُدو َنِّّ :﴾...
تبين لنا علمه تعالى بما أبداه وكما أن كلمة ﴿َ ..وأ ْ
المالئكة اآلن من اإلقرار بالحق آلدم ،وأظهروه من التسليم هلل واإلقرار
نت ْم َت ْك ُت ُمو َن﴾ :من طلبكم الخالفة
...و َما ُك ُ
بحكمته في اختياره ،فكذلك كلمة ﴿ َ
أسروه في أنفسهم. ألنفسكمِّّ ،
وتبين لنا علمه تعالى بما كتموه و ُّ
ليبين لنا ،أن علمه بالسر الذي يخفيه المخلوق وقد ذكر لنا تعالى هاتين الكلمتين ِّّ
في نفسه ل يختلف عند هللا تعالى عن الجهر الذي يبديه بلسانه ،فالجهر والسر عند
ِ ِ ِ
َخَفى﴾(.)2 هللا تعالى سيَّان .قال تعالىَ ﴿ :واِن َت ْج َهْر باْلَق ْول َفِإَّن ُه َي ْعَل ُم ه
السَّر َوأ ْ
َو اجهروا ِب ِه إِ َّنه ع لِيم ِب َذ ِ ِ
ق
ور ،أ ََال َي ْع َل ُم َم ْن َخ َل َ الص ُد ِ
ات ُّ ُ َ ٌ ﴿ َوأَسُّروا َق ْوَل ُك ْم أ ِ ْ َ ُ
يف ا ْل َخ ِب ُير﴾( .)3واآلن وبعد أن بيَّنا المراد من كلمة ﴿.. وهو َّ ِ
اللط ُ َ َُ
لبد لنا من اإلجابة على سؤال نستطيع َس َماء )4(﴾...الواردة في اآليات السابقة َّ األ ْ
نلخصه بما يلي :فإذا َّأولنا قوله تعالىَ ﴿ :قال يا آدم أَن ِبْئهم ِبأَسم ِ
آئ ِه ْم:)5(﴾... ُ َْ َ َ َُ أن ِّّ
أي :أنبئهم بأسمائي التي عرضتها عليهم ،مع أن الكلمة قد وردت في اآلية
آئ ِه ْم ﴾..ولم ترد بأسمائي فنقول :رأينا أن الهدف الذي ترمي الكريمةِ ..﴿ :بأَسم ِ
َْ
إليه القصة ،والغاية التي وردت من أجلها ،إنما هي بيان سمو سيدنا آدم
التفوق الذي جعله خليقاً
وتفوقه على المالئكة الكرام في العلم بأسماء هللا ،ذلك ُّ
ّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 198ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
بمقام الخالفة .وقد كنا بيَّنا أن ذلك الهدف يقتضي بأن يكون المراد من كلمة ﴿..
َس َماء :﴾...الواردة في هذه القصة إنما هو األسماء اإللٓهية ،وان مسرى القصة
األ ْ
ينفي ما سوى ذلك من المعاني التي تتناولها كلمة ..﴿ :األ ْ
َس َماء :﴾...نفياً قطعياً،
َس َماء :﴾...في هذه القصة إنما يعني األسماء اإللٓهية
ولهذا فتكرار كلمة ﴿ ..األ ْ
دون سواها ،إذ هي موضوع الخطاب ومحور القصة.
وكلمة ﴿ِ ...بأَسم ِ
آئ ِه ْم :﴾..ل تعني والحالة هذه أسماء المالئكة ،إنما تعني َْ
األسماء اإللٓهية المعروضة عليهم ،ألن معرفة سيدنا آدم بأسماء المالئكة ل
يزيده عند هللا رفعة ،ول يجعله أسمى من المالئكة منزلة.
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 199ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
َّ
ولعلك تقول:
نؤول كلمة ﴿َ ...فَل َّما أَنبأَهم ِبأَسم ِ
آئ ِه ْم :)1(﴾...أي :بما عرفوه هم من لماذا ل ِّ
َ ُْ ْ َ ّ
أسماء ربهم فنقول :لو َّأولنا معنى اآلية بهذا التأويل ،لما كان لسيدنا آدم تلك
المكانة التي سما بها ِّ
متفوقاً على المالئكة جميعاً ،ألنه إنما أنبأهم بشيء عرفوه
ّ
من قبل وأدركوه ،وبهذا ل يكون خليقاً بأن يستحق الخالفة ويكون أسمى منهم
مقاماً ،ألنه لم يزد على شرح المالئكة لألسماء المعروضة عليهم شيئاً ،وما هو
بذلك البيان إلَّ كواحد منهم ،ولكنه إنما أنبأهم بتلك األسماء اإللٓهية المعروضة
تفوق به عليهم جميعاً. عليهمِّّ ،
مبيناً فيها بياناً عالياً َّ
نبين الفرق في المعنى بين كلمة ﴿ِ ...بأَسم ِ
آئ ِه ْم :﴾..حسبما َْ بقي علينا أن ِّّ
وردت في اآليات الكريمة ،وبين كلمة "بأسمائي" التي جعلناها موضوعاً لسؤالنا
الذي نحن بصدده فنقول :لو أن الخطاب في اآلية الكريمة قد جاء "أنبئهم
بأسمائي" بدلً من ﴿ ..أَنبأَهم ِبأَسم ِ
آئ ِه ْم :﴾...لختلف المعنى اختالفاً كلِّّياً ،ألن َ ُْ ْ َ
كلمة "أنبئهم بأسمائي" معناها أنبئهم بكل اسم من أسمائي على وجه اإلحاطة.
وبما أنه ليس باستطاعة مخلوق أن يحيط باسم الرحمن ،فيعلم مبلغ رحمة هللا
تعالى ُفي ِّّنبئ الخْلق بها ،ول يستطيع أن يحيط أحد باسم العليم ،فيعلم علم هللا تعالى
وينبئ الخْلق به ،وكذا سائر األسماء اإللٓهية ،ولذلك لم ترد اآلية "أنبئهم بأسمائي"
آئ ِه ْم :﴾...أي :بأسمائهم التي عرضتها عليهم والتيإنما وردت ﴿ ..أَنبأَهم ِبأَسم ِ
َ ُْ ْ َ
مبيناً مبلغ علمك منها ،وما ينطوي فيها من الكمال بحسب إقبالك شرحوها هم ِّّ
العظيم.
والحقيقة أنه ل يعلم أسماء هللا إلَّ هللا تعالى ،ول يحيط أحد بها علماً ،إذ ل َّ
حد
لها ول انتهاء ،وكل ما في األمر أن األسماء اإللٓهية إنما يشاهد اإلنسان منها بقدر
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 200ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ويتوسع في تعريف غيره برحمة هللا ورأفته وعلمه وسائرَّ قربه من هللا تعالى،
ٍ
حد ما ،وهللا واسع عليم.
أسمائه ،وذلك إلى ّ
فكلما وصلت إلى درجة من العلم بأسماء هللا ،فهي أوسع وأوسع ،وكلما بلغت َّ
مرتبة في ذلك المضمار ،فرّبك سبحانه أعلى وأرفع ،وفوق كل ذي عل ٍم عليم.
سبقاً فاقهم
سبق سيدنا آدم في العلم بأسماء هللا ْ
أما وقد ظهر للمالئكة الكرام ْ
فيه جميعاً ،هنالك أمرهم هللا تعالى أن ُيقبلوا عليه ،بصحبة آدم ،فيتَّخذوه سراجًا
مني اًر لنفوسهم ،واماماً لهم في إقبالهم عليه تعالى ،لذلك أمر هللا تعالى المالئكة
آلد َم :)1(﴾...اطلبوا ِ ِ ِ
اس ُجُدوْا َ بالسجود لسيدنا آدم ،قال تعالى﴿ َوِا ْذ ُقْلَنا لْل َمالَئ َكة ْ
علي ،فتشاهدوا مشاهدات منه "بواسطته" العلم والمعرفة ،اربطوا نفوسكم معه لتدخلوا َّ
ِ
يس :﴾...لجهله ،إذ أجل من مشاهداتكمَ ..﴿ :ف َس َجُدوْا :﴾...كلهمِ ..﴿ :إالَّ ِإْبل َ أعلى و َّ
لم يكن يعرف شيئاً عن هللا.
أبلس عليه األمر فما عرف عن هللا إلَّ أنه خالق ..﴿ :أََبى :﴾...عن السجود،
ان ِم َن
اس َت ْكَبَر :﴾...عن آدمَ ..﴿ :وَك َ قال أنا أكبر من آدم وأعظم منهَ ..﴿ :و ْ
َّ فكر بآيات هللا ،لو َّ ين﴾ :ما َّ ِ
وعظم ،لخضع آلدم ونال من الكمالت فكر اْل َكاف ِر َ
والسعادة ما نال.
َّ
ولعلك تقول :ما هو هذا السجود الذي أمر هللا تعالى به مالئكته؟ وهل يكون
السجود ألحد غير هللا تعالى فنقول:
السجود :هو الطلب المقرون بالخضوع النفسي والتقدير .فالسجود هلل تعالى هو
طلب المعونة منه واإلمداد ،وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في مواضع عديدة من
السماو ِ
ات َو َمن ِفي ِ القرآن الكريم ،كما بقوله﴿ :أََل ْم َتَر أ َّ
ّللا َي ْس ُجُد َل ُه َمن في َّ َ َ
َن َّ َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 201ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الن ِ
اس اب َوَك ِث ٌير ِهم َن َّ ال َو َّ
الش َجُر َو َّ
الد َو ُّ ِ
وم َواْلجَب ُ س َواْلَقمُر َو ُّ
الن ُج ُ ض َو َّ
الش ْم ُ ْاألَْر ِ
َ
( )1
اب﴾... ِ َوَك ِث ٌير َح َّ
ق َعَلْيه اْل َع َذ ُ
ض طَ ْو ًع ا َوَك ْر ًه ا َو ِظال ُل ُه م بِ ا ْلغُ ُد هِو ات َواأل َْر ِالسماو ِ ِ
﴿ َو هّلل َي ْس ُج ُد َم ن في َّ َ َ
ِِ
ال﴾(.)2 َواآلص ِ
َ
الش َجُر َي ْس ُج َد ِ
ان﴾( :)3فما سجود الشمس والقمر والنجوم والجبال الن ْج ُم َو َّ
﴿ َو َّ
والشجر والدواب ،وما سجود من في السماوات ومن في األرض هلل إل خضوعهم
له تعالى مفتقرين إليه ،طالبين منه دوام اإلمداد بالحياة ،إذ لو أن هذا اإلمداد
يبق لهم وجود ول أثر ،فكل ما
اإللٓهي انقطع عنهم طرفة عين لزالوا وانعدموا ولم َ
في الكون ساجد هلل مستديم الستمداد منه واإلقبال بنفسه عليه.
ظم شأنهم وعلمهم لتستزيد منه ،وبهذا وهنالك سجود آخر وهو السجود لمن تُع ِّّ
التعظيم وطلب المزيد منه ،ترتبط نفسك بنفسهم ،فإن كانوا مؤمنين باهلل ،دخلت
من بابهم عليه ﷺ وحصل لك الشهود لكمال هللا وتلك هي الشفاعة:
حقيقة الشفاعة :إن النفس البشرية بفطرتها مجبولة على تقدير الكمال لكن
هذا التقدير والتعظيم َّ
يتطلب من النفس عيناً تستطيع أن ترى بها وتشاهد ،إذ بعين
الرأس نرى األشياء الظاهرة بواسطة األنوار المادية كنور الشمس والقمر والكهرباء
ووسائط اإلنارة.
أما عين القلب ،قلب النفس ،فإنما ترى بنور هللا ونور رسوله ﷺ ،نور دائمي
أبدي متعاظم ،ما هذه األنوار المادية تجاهه إل أنوا اًر بسيطة ضئيلة تكاد تجاهه ل
َّ
ظم تكون شيئاً مذكو اًر ،وهي أثر بسيط من أنوار الخالق العظيم جلت عظمته َ
وع ُ
المدسم بالغبطة اإللٓهية والشفاء النفسي العذب
َّ سلطانه وباهر أللء سناء نوره
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 202ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الطيب المذاق .فإذا أقبلت النفس على هللا بالصالة واصطبغت بالكمال َّ
وتحلت به، ِّّ
فقد أضحت لها هذه اإلمكانية وتفتَّحت فيها تلك العين التي تُ ِّّ
مكنها من رؤية
الكمال ومشاهدته ،وينظر هذا المؤمن فيمن حوله وتقع عينه على أهل الكمال
ويرى ما هم فيه من مسايرة له في هذا الطريق السامي فيحبُّهمَّ ،
وكلما رأى أحداً
حباً وعشقاً ،وحيث
سبقاً كان أكثر له تقدي اًر وتعظيماً وأكثر له ّ
أكثر منه في الكمال ْ
سيد إن رسول هللا ﷺ هو أسبق المؤمنين كافة في هذا المضمار ،وحيث إنه ﷺ
ّ
الكاملين قاطب ًة وأعالهم مقاماً وأقربهم إلى هللا زلفى ،لذا تجد هذا المؤمن بما
ِّ
ويعزره يحب رسول هللا ﷺ ّ
ويقدره ِّّ اصطبغ به وبما اكتسبه من الكمال من رِّّبه ُّ
ِّ
ويوّقره ،فليس من مخلوق لديه أرفع منزلة ول أسمى مقاماً ول ّ
أجل شأناً من رسول
وس َر ْت كوميض البرق نفسه
المحبة في قلبه َ
ّ هللا ﷺ ،فإذا سمع بذكره هاجت كوامن
ِّّ
المحبين نحو رسول هللا ﷺ ،فإذا هي مصاحبة له ومرافقة لنفسه الشريفة ،وأحوال
أعظم من أن تُشبَّه بشيء أو تُمثَّل به.
حب رسول هللا ﷺ ،وما تزال صلته به ﷺ ِّ
يتدرج في ّوما يزال هذا المؤمن َّ
ِّ
تقدمًا في طريق التقدير والتعظيم
وصالته عليه في ازدياد وارتقاء ،وما يزال ُم ّ
المحبة واإلجالل
واإلجالل ،حتى يصل لحال تشتبك به النفسان برابطة التقدير و ّ
لرسول هللا ﷺ وتلك هي عين الشفاعة ،ونفس رسول هللا ﷺ هي دوماً مستغرقة في
حضرة هللا عندها يكون هذا المستشفع أهالً ألن يدخل بمعية رسول هللا ﷺ على هللا،
وهنالك وفي مثل هذه اللحظة يرى بنور رسول هللا ﷺ ،وان شئت فقل بمن أرسله هللا
تعالى سراجاً مني اًر ورحم ًة للعالمين ،نور هللا الذي به يرى طرفاً من أسماء هللا فيهيم
فناء
ويخر في حضرة هللا تعالى ساجداً ويفنى في رؤية األسماء اإللٓهية ً حباً ّ بما رأى ّ
كِّّلياً ،إنه يرى اسم الرحمن وقد غمر برحمته التي ل نهاية لها الكائنات جميعها،
ويرى اسم الرؤوف وقد أحاطت رأفته بالمخلوقات كّلها ،ويرى من أسمائه تعالى
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 203ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الحكيم والعليم والعلي الكبير ،وغير ذلك من األسماء ما تجعله يستغرق بها استغراقاً،
ويستسلم لهذا الرب الرؤوف الرحيم استسالماً كّلِّياً ،وتكون صلته برسول هللا ﷺ
وصالته عليه قد أوصلته إلى هذا الفضل اإللٓهي العظيم والشهود العالي والغبطة
األبدية.
فلعمري تلك هي الشفاعة الحّقة ،إنها شفاعة حب وصحبة نفسية لتلك النفس
العالية الكريمة مأخوذة من الشفع :وهو أن يقارن شيء شيئاً ويزاوجه مالزماً إياه،
الحقة وهذا الرتباط والى هذه الصلة النفسية برسول هللا ﷺ والى هذه الشفاعة َّ
ِ ّللا َوم َال ِئ َك َت ُه ُي َصُّلو َن َعَلى َّ
آمُنوا النِب ِهي َيا أَُّي َها َّالذ َ
ين َ
ِ
أشارت اآلية الكريمة﴿ :إ َّن َّ َ َ
صلوا أنفسكم بنفسه الشريفة ﷺ، صلوا عليه أيِّ : صُّلوا عَلي ِه وسهلِموا َتسلِيما﴾(ُّ .)1
َْ ََ ُ ْ ً َ
ليعرج بكم للحضرة اإللٓهية ذلك ألن الصالة صلة بين العبد وربه ول تتم إلَّ بالوسيط
نت ِفي ِه ْم َفأَ َق ْم َت َل ُه ُم َّ
الصالَ َة .)2(﴾...الصالة ل كما يصِّّلي ﷺ ،واآلية ﴿ َواِ َذا ُك َ
الناس صالة حركات فقط ،الصالة الصحيحة التي يكون فيها رسول هللا في نفسك،
تدخل بمعيته على هللا .هذه هي الصالة بحقيقتها .ولم يقل تعالى" :إذا كنت معهم"..
إذًا الصالة الصحيحة تتم بالشفاعة برسول هللا ﷺ فبمعيته تحصل الصلة باهلل.
الصالة يجب أن يكون رسول هللا ﷺ بنفسك ،إذ يتم الدخول على هللا بصحبته
ليردك إليه تعالى ،يعّلِّمك ﷺ الصالة بهذه الشفاعة بينكوشفاعته ﷺ الذي أرسله ّ
وبينه فيقول لك بعد( :بسم هللا الرحمن الرحيم)﴿ :اْلحمد ِ
ّلل :﴾...يا أخيَ..﴿ :رِهب
َ ُْ ه
ين﴾( :)3هذه هي الصالة عندما ُيملي عليك أوامر هللا فتركع طائعاً خاضعاً هلل ِ
اْل َعاَلم َ
العظيم وتسجد طالباً المعونة من هللا على طاعة هللا .وأنه لول تلك الصلة والصحبة
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 204ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
النفسية برسول هللا ﷺ ،ولول الصالة عليه لما كان لهذا المؤمن هذا السمو والعروج
ولما حصلت له هذه الرؤية والشهود ولما َّ
سلم هلل تسليماً.
ويرجع المؤمن من تلك الرحلة النفسية بالصالة وقد أضاء في نفسه قبس من
حبه لخالقه ،بسبب ما رآه من كمال هللا تعالى ،وما شاهده
نور هللا أوقده في قلبه ّ
من عطفه وحنانه ورأفته ورحمته بسائر عباده ،والحق أن المحبة ل تكون إل بعد
الشهود والرؤية ،ولكن أتدري ماذا يفيد المؤمن من هذا النور اإللٓهي الذي سطع
في قلبه؟
َّ
المستكنة من وراء الصور فإذا هو ل يغتر بمظاهر إنه يرى بهذا النور الحقائق
األشياء ول تخدعه صور الرجال ،لقد تفتَّحت منه عين البصيرة وأضحى ينظر
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 205ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فالشفاعة :هي حال من األحوال النفسية .فالرسول ﷺ الذي أقبل على رِّّبه
ٍ
تجل من هللا ،وأشد نور
أعظم وأسمى إقبال ،هذا الرسول الذي يتوارد عليه أعظم ّ
َّ
وصدقوا برسالته وبما جاءهم به توجه بنفسه ألصحابه الذين أقبلوا عليه
وامداد ،إذا َّ
عن هللا ،فهنالك يسري ذلك النور اإللٓهي ،بواسطة الرسول ﷺ إلى أصحابه
والمؤمنين به ،ويكون الرسول العظيم بهذا الحال وسيطاً بين هللا وخلقه ،ووسيلة
وتحمله .وهذه هي (حقيقة
ُّ تخِّّفف من شدة ذلك التجلي ،فتتمكن األنفس من تقبُّله
الشفاعة).
ين َي ْد ُعو َن َي ْب َت ُغو َن إَِلى َرهبِ ِه ُم اْل َو ِسيَل َة أَُّي ُه ْم أَ ْقَر ُب ِ ِ
قال تعالى﴿أُوَلئ َك َّالذ َ
َوَيْر ُجو َن َر ْح َم َت ُه َوَي َخا ُفو َن َع َذ َاب ُه.)1(﴾...
تجلى مباشرة على وليست الشفاعة للعصاة ول ألهل الكبائر .ولو أن هللا تعالى َّ
تقو علىلتصدعت نفوسهم ،فلم َ
ّ قلوب الناس ،ومن دون وساطة الرسول ﷺ،
ص ِّعق ِّ
ولصعقوا وانجذبت عقولهم من ذلك النور كما ُ
تحمل ذلك التجلي اإللٓهيُ ،
ّ
ِّ
يقدروه بالميقات .وربُّك حكيم ،ولذلك انتخب
صحب سيدنا موسى الذين لم ّ
تحمالً لنوره،
حباً له ،وأكثرهم ُّ
الرسل عليهم الصالة والسالم الذين كانوا أشد الناس ّ
وسطاء بينه وبين عباده .ومن رحمة هللا وحنانه على خلقه أن أمر الرسول ﷺ بأن
يتَّجه بنفسه الشريفة إلى الذين آمنوا فيكون سبباً في سريان ذلك النور اإللٓهي إلى
قلوبهم ،ووسيطاً بينهم وبين رّبهم ،وهنالك وبهذا النور تحصل لهم التزكية والمغفرة
َّ ِ ِ
وينالون الشفاء النفسي ،قال تعالىَ ..﴿ :و َص هل َعَلْي ِه ْم إ َّن َصالَ َت َك َس َك ٌن ل ُه ْم َو ه ُ
ّللا
يم﴾( .)2فما سجود أخوة سيدنا يوسف وأمه وأبيه له ،إلَّ تعظيمهم علمه ِ ِ
يع َعل ٌ
َسم ٌ
علمه وتقديره من بعد أن أروا من سبقه إيَّاهم في العلم واإليمان ،وبهذا التعظيم والتقدير
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 206ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ارتبطت أنفسهم به ،مقبلة معه على هللا ،والى ذلك أشارت اآلية الكريمة في قوله
يل ال َي ا أ ََب ِت َه َذ ا َت أ ِ
ْو ُ تعالىَ ﴿ :وَرَف َع أ ََب َو ْي ِه َع َلى ا ْل َع ْر ِ
ش َو َخُّروْا َل ُه ُس َّج ًد ا َو َق َ
اي ِمن َق ْب ُل َق ْد َج َع َل َه ا َرهبِي َح ًّق ا.)1(﴾... ُر ْؤ َي َ
ويؤيد هذا المعنى أيضاً ما ورد عن سجود السحرة لسيدنا موسى ،بما
َن أَْل ِق َع َص َ ِ
اك وسى أ ْأشارت إليه اآلية الكريمة في قوله تعالىَ ﴿ :وأَ ْو َحْيَنا إَلى ُم َ
ط َل َما َكاُنوْا َي ْع َمُلو َنَ ،ف ُغلُِبوْا ُهَنالِ َك ف َما َيأ ِْف ُكو َنَ ،ف َوَق َع اْل َح ُّ ِ
ق َوَب َ َفِإ َذا ه َي َتْلَق ُ
السحرُة س ِ ِ ِ ِ
ين﴾(.)2اجد َ ينَ ،وأُْلق َي َّ َ َ َ انقَلُبوْا َصاغ ِر َ
َو َ
فهؤلء السحرة لما أروا من سيدنا موسى ما أبطل سحرهم ،على الرغم من
وقدروه ،وأقبلت نفوسهم عظموا علم سيدنا موسى َّ وقوة كيدهمَّ ، كثرة عددهم َّ
عليه خاضعة لعلمه ،وهنالك وبهذا اإلقبال النفسي عليهَّ ،
تبدت لهم من وراء تلك
النفس الصافية الطاهرة الحقائق بادية ظاهرة ،فما أن أُلقوا ساجدين حتىَ ﴿ :قاُلوْا
ِ ِ
هددهم فرعون بالتعذيب وسى َو َه ُارو َن﴾( .)3ولما َّ ينَ ،ر هب ُم َ آمَّنا ِب ِر ِهب اْل َعاَلم َ
َ
والتنكيل والتصليب ،خاطبوه بما شهدت نفوسهم من الحق غير عابئينَ ﴿ :قاُلوا َلن
َنت َقاض ِإَّن َما َت ْق ِضي ض َما أ َ طَرَنا َفا ْق ِات َو َّال ِذي َف َ ُّن ْؤِثرك عَلى ما جاءَنا ِمن اْلبِيَن ِ
َ َه ََ َ َ َ
الس ْح ِرِ ِ ِ آمَّنا ِبَرهبَِنا لَِي ْغ ِفَر َلَنا َخ َ َِّ َه ِذ ِه اْل َحَيا َة ُّ
ط َاياَنا َو َما أَ ْكَرْه َتَنا َعَلْيه م َن ه الدْنَيا ،إنا َ
يها َوَال َي ْحيى، ْت رَّبه مج ِرما َفِإ َّن َله جهَّنم َال يم ُ ِ ِ َِّ
وت ف َ ُ ََ َ َُ ّللا َخْيٌر َوأَْبَقى ،إن ُه َمن َيأ َ ُ ُ ْ ً َو َّ ُ
ات َفأ ُْوَل ِئ َك َل ُه ُم َّ
الصالِح ِ ِ ِِ
ات َع ْدن ات اْل ُعَلىَ ،جَّن ُ
الدَر َج ُ َو َم ْن َيأْته ُم ْؤ ِمًنا َق ْد َعم َل َّ َ
يها َوَذلِ َك َج َزاء َمن َت َزَّكى﴾(.)4 َتجرِي ِمن َتح ِتها ْاألَ ْنهار َخالِ ِد ِ
ين ف َ َ َُ ْ َ ْ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 207ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فيا ترى من أين جاء السحرة بهذا البيان الذي بيَّنوه ،وقد جيء بهم من المدائن
محضرين ،وما سمعوا من سيدنا موسى بياناً ول دللة؟
َ المختلفة
إنه التعظيم والتقدير لعلمه جعل نفوسهم ترتبط بنفسه مقبلة على هللا،
وهناك شاهدوا ما شاهدوا من حقائق ،فقالوا ما قالوا من كلمات اليقين واإليمان،
يل َل َها ِ َّ
شأنهم في ذلك شأن ملكة سبأ لما عظمت ُمْلك سيدنا سليمان ،إذ﴿ :ق َ
ال ِإَّن ُه َصْر ٌح ُّم َمَّرٌد ِهمن ِ ْاد ُخلِي َّ
الصْر َح َفَل َّما َأَر ْت ُه َحسَب ْت ُه ُل َّج ًة َوَك َش َف ْت َعن َسا َقْي َها َق َ
المقدر من ملك سيدنا ِّ َق َو ِار َير .﴾...وهنالك استصغرت ملكها ،ووقفت موقف
ّ
سليمان وما هو عليه من شأن عظيم ،وما أن نظرت فيه هذه النظرة ،حتى
عما في
دخلت نفسها على هللا من باب تلك النفس الزكية الطاهرة فكان لسانها مترجماً َّ
نفسها ،إذ:
ِ ظَلمت َن ْف ِسي وأَسَلمت مع سَليم ِ ِ ِ
ان َّّلل َر ِهب اْل َعاَلم َ
ين﴾(.)1 َ ْ ُْ ََ ُ َْ َ ﴿َ ...قاَل ْت َر ِهب ِإهني َ ْ ُ
إن هذه النقطة الهامة التي نحن بصددها وأعني بها تقدير النفس واعجابها
بنفس ِّ
متفوقة عليها في ناحية من النواحي ،لها أثرها في سلوك اإلنسان وعليها
ّ
ِّ
المقدرة المعجبة إنما ترتبط دوماً َّ
يتوقف سيره واتجاهه في هذه الحياة ،ألن النفس ّ
برباط وثيق ،وتصاحب صحبة معنوية تلك النفس التي َّقدرتها وأُعجبت بها ،وذلك
هو قانون من قوانين النفس َّ
وسنة من سننها التي رسمها لها خالقها وموجدها ،ولن
لسنة هللا تبديالً ولن تجد َّ
لسنة هللا تحويالً. تجد َّ
على أن هذا التقدير واإلعجاب باآلخرين يختلف من شخص إلى شخص ومن
ِّ
يقدر غيره على حسب ما تميل إليه نفسه وما نفس إلى نفس .فكل امرئ إنما ّ
ِّ
تقدر غيرها لعلمه ومعرفته ،أو ملكه وسلطانه ،أو كماله
يهوى .فبعض األنفس ّ
وخُل ِّق ِّه ،أو أي شيء من األشياء األخرى .فلكل امرئ ميول ونواح يهتم بها دون
ُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 208ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِّ
يقدر إلَّ من سبقه في تلك الميول َّ
وتفوق عليه في تلك غيرها ،ولذلك تراه ل ّ
النواحي.
فهؤلء إخوة سيدنا يوسف وكذلك أمه وأبوه إنما َّ
قدروا فيه كماله ،ألن
نفوسهم كانت تهوى الفضيلة والكمال أكثر من كل شيء في هذه الحياة.
وأما سحرة فرعون الذين كانوا علماء بالسحر ،فقد َّقدروا علم سيدنا موسى لما أروا
منه ما أبطل سحرهم جميعاً ،فما أن ألقى عصاه ولقفت ما يأفكون حتى أُلقوا ساجدين.
مقدرة سيدنا سليمان إلَّ لكونها ذات ملك ِّ
وما سجدت بلقيس ملكة سبأ ّ
وقدرته وتفوقه عليها في هذه الناحية ،حتى َّ
عظمته َّ عظيم ،فما أن رأت ملكه ُّ
وارتبطت نفسها به خاضعة هلل تعالى.
أما آثار هذا التقدير والسجود النفسي ،فهي كما رأينا انعكاس ما في هذه األنفس
المقدرة .فلقد انعكس ما في نفس سيدنا يوسف من ِّ
السابقة ،وانطباعه في األنفس ّ
السبق في العلم باهلل ومحبته ،في نفوس أبيه وأمه واخوته ،فكان لهم إمامًا في هذا
المضمار.
وانعكس في نفوس السحرة ما في نفس سيدنا موسى من إيمان ومعرفة ،فقالوا
ما قالوا مما َّ
كنا أشرنا إليه وبيَّناه ،وكذلك األمر بالنسبة لملكة سبأ مع سيدنا سليمان
.
وهكذا إذا أنت َّقدرت أي شخص من األشخاص ،فال بد لك من أن تدخل مدخله
وترد مورده ،وتنعكس أحواله في نفسك .فإن كان من أهل الفسق واإللحاد َّ
تبدى ما فيه
ظاه اًر في نفسك ِّّبيناً ،وان كان من أهل الكمال واإليمان صرت تشعر بهذا الكمال
ودخلت بمعيته في مداخل اإليمان ،ولهذا كان ﷺ يقول داعياً:
(اللهم ال تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي) (.)1
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 209ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لقد كان ﷺ يدعو بهذا الدعاء ألنه عرف قوانين النفس وسننها ،فكان يخشى
من وصول هذا الخير إليه على يد بعيد عن هللا ،خوفاً من أن يميل قلبه إليه
فتنعكس أحواله في نفسه .فانظر إلى رسول هللا ﷺ وهو سيد الخْلق ،يخشى هذه
الخشية ،ويدعو بهذا الدعاء .لقد كان ﷺ إنما يخشى ذلك حرصاً على صفاء
نفسه ،أما نحن فما حالنا إذا ملنا بنفوسنا مستعظمين أهل الكفر والفسق واإللحاد؟
وماذا يكون عليه حالنا إذا ملنا بقلوبنا إلى رسول هللا ﷺ َّ
فقدرناه وعظمناه؟
ومما يؤيد لنا هذا المعنى أيضاً ما ورد عنه ﷺ حيث يقول:
َّ
الرجل على ِ
دين خليله ،فْلينظر أحدكم َم ْن يخالل) (.)1 ( ُ
على أن تقدير رسول هللا ﷺ وتقدير المرشدين من أهل الكمال ،ل يمكن ول يكون
لك إلَّ إذا كنت من أهل الكمال ،إذ أنه ل يعرف الفضل إل ذووه ،فإذا أردت أن
تحصل لك صحبة رسول هللا ﷺ النفسية ،وأن تكون برفقته المعنوية ،فعليك أن ِّّ
تفكر
في هذا الكون ،حتى تصل إلى اإليمان بال إلٓه إل هللا حق اإليمان .فإذا أنت آمنت
بها حجزتك عن معاصي هللا واستقمت على أمر هللا ،وهناك َّ
تتولد الثقة بنفسك من
رضاء هللا عنك ،فتُقبل بنفسك عليه تعالى ،وبهذا اإلقبال تشتق نفسك الكمال من هللا
ظم من فاقك في الكمال وتدخل بمعيته على سيد الكاملين ﷺ، فتقدر وتع ِّّ ِّ
بالصالةّ ،
وبتقديرك لرسول هللا وارتباطك به ﷺ تدخل نفسك بمعيته على هللا ،وترتقي في منازل
الن ْفس اْلم ْطمِئَّن ُة ،ارِج ِعي ِإَلى رِب ِك ر ِ
اضَي ًة َّمْر ِضَّي ًةَ ،ف ْاد ُخلِي ِفي محبة هللاَ﴿ .يا أََّيُت َها َّ
َه َ ْ ُ ُ َ
()2
ِعَب ِاديَ ،و ْاد ُخلِي َجَّنِتي﴾
لما أمرهم هللا تعالى بالسجود لسيدنا آدم إلَّ وهكذا فما سجد المالئكة الكرام َّ
لما فيهم من كمال .فلما أروا من علمه وكماله ما سبقهم به ِّ
متفوقاً ،سجدوا له جميعاً.
ّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 210ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أما إبليس فما عرف شيئاً من الكمال اإللٓهي ،ولم يحصل على شيء من العلم
بأسماء هللا تعالى .إبليس الذي لم ُيقبل على هللا في يوم من األيام ،ولم تصطبغ
لما أمره
قدر خالقه َّ نفسه بشيء من صبغة الكمال ،هذا الجاهل األحمق الذي ما َّ
ِ هللا تعالى بالسجود لسيدنا آدم ..﴿ :أَبى واس َت ْكبر وَك ِ
ان م َن اْل َكاف ِر َ
ين﴾(.)1 َ َ ْ ََ َ َ
وقد أشار القرآن الكريم في مواضع أخرى ،إلى إباء إبليس واستكباره كما في قوله
تعالى:
َس ُجُد لِ َم ْن َخَلْق َت ِ ِ ِ ِ
ال أَأ ْ آلد َم َف َس َجُدوْا إَالَّ ِإْبل َ
يس َق َ اس ُجُدوْا َ
﴿ َواِ ْذ ُقْلَنا لْل َمآلئ َكة ْ
ِطيًنا﴾(.)2
﴿واِ ْذ ُق ْل َنا لِْلم َال ِئ َك ِة اسج ُدوا ِآل َدم َفسج ُدوا إَِّال إِبلِيس َك ِ
ان م َن اْل ِج هِن َف َف َس َ
ق َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ َ
ِ
َم ِر َرهبِه. ﴾...
( )3
َع ْن أ ْ
وأنت ترى من خالل هذه اآليات الكريمة أن إباء إبليس واستكباره عن السجود،
إنما هو شيء ناشئ من كفره بخالقه ،ولذلك عمي عن الحق وأبلس عليه األمر،
وخفي عنه ما عليه سيدنا آدم من الكمال.
كما ترى أن إبليس لم يكن رئيس المالئكة ،كما يزعم فريق من الناس ،بل كان
من الجن ،ولم يكن له عرف بعظمة خالقه ،ولذلك فسق عن أمر ربه.
وخلو النفس من الكمال ،يجعل نظر النفس بمعزل عن رؤية الحقائق، ثم إن الكفر ّ
قاص ًار على رؤية الصور متعّلِّقاً باألوهام ،فقد احتج إبليس بأن النار خير من الطين،
ولم ِّ
يدر أن العلم باهلل هو الذي يرفع شأن صاحبه ،ويجعله يسمو على المخلوقات.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 211ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وقد أشار تعالى إلى احتجاب الكافرين عن رؤية الحقائق ومعرفة رسل هللا ،بما بيَّنته
ظُرو َن ِإَلْي َك َو ُه ْم الَ ُيْب ِصُرو َن﴾(.)1
اه ْم َين ُ
اآلية الكريمة في قوله تعالىَ ..﴿ :وَتَر ُ
ومن ذلك أيضاً ما خاطبت به أهل مدين رسولها سيدنا شعيباً َ ﴿ :قاُلوا ِإَّن َما
ِ َنت ِإَّال ب َشر ِم ْثُلَنا واِن َّن ُ ِ َنت ِم َن اْل ُم َسح ِ
ظُّن َك َلم َن اْل َكاذ ِب َ
ين﴾(.)2 َ ٌ ه َ ينَ ،و َما أ َ
َّر َ أ َ
وكذلك قوم عاد وثمود ،وذلك هو أيضاً قول كل كافر ل يؤمن باهلل ،وحال كل
أن معرفة رسل هللا عليهم الصالة والسالم بعيد عن هللا .ومن هنا يتبيَّن لنا َّ
وتقديرهم ،وكذلك الصادقين من أهل اإلرشاد ،ل تكون إلَّ بعد الوصول إلى
اإليمان باهلل ،ذلك اإليمان المقرون بالعقل .فإذا َّ
عظم اإلنسان هللا تعالى ،ورأى منه
ظم أهلالفضل واإلحسان ،فهنالك يقبل عليه ويشتق منه الكمال ،وعندئذ يع ِّّ
الكمال ،فهو سبحانه وتعالى األول واآلخر ،ومن يؤمن باهلل يهد قلبه ،ومن يؤمن
باهلل فقد رشد وهدي إلى صراط مستقيم.
ثم إن هللا تعالى أمر سيدنا آدم أن يسكن وزوجه َّ
الجنة ،والى ذلك أشارت
اآلية الكريمة في قوله تعالى:
َنت َو َز ْو ُج َك اْل َجَّن َة َوُكالَ ِمْن َها َر َغداً َحْي ُث ِشْئ ُت َما َوالَ َت ْقَرَبا
اس ُك ْن أ َ
آد ُم ْ
﴿ َوُقْلَنا َيا َ
الشجرَة َف َت ُكوَنا ِمن اْل َّ ِ ِ ِِ
ين﴾( :)3كانت نفس سيدنا آدم وزوجه عليهما السالم ظالم َ َ َهذه َّ َ َ
ذوقياً ،وما كان الثمر ليدخل
لبس ًة جسديهما الشريفين ،فكان نعيمهما من الدنيا ّ
جوفيهما ،الدخول للجوف يحتاج لهضم وعمل.
وليس المراد من الجنَّة ما يتبادر لبعض األذهان من َّ
أن سيدنا آدم كان
في بادئ األمر في مكان مرتفع في السموات ،ثم أهبطه هللا تعالى إلى األرض
التي نحن عليها.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 212ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فإن مسرى اآليات ينفي ذلك ،وليس هذا الظن بمطابق للحقيقة في شيء ،فاهلل
تعالى ذكر لنا في أول هذه القصة أنه أخبر المالئكة بأنه جاعل في األرض خليفة،
وقال تعالى:
ق َب َشًار ِمن ِطين﴾( )1والطين في األرض ل في السماوات .كما أن ِ ِ
﴿ِ ...إهني َخال ٌ
اآليات التي ذكرها هللا تعالى في القرآن الكريم ِّّ
مبيناً فيها أصل اإلنسان وبدء خلقه
وتبين أن اإلنسان أول ما ُو ِّج َد على األرض التي نحن عليها تنفي ذلك أيضًاِّّ ،
ِ ِ اآلن ،قال تعالىِ﴿ :إ َّن م َثل ِعيسى ِعند ِ
ال َل ُه
آد َم َخَل َق ُه من ُتَراب ث َّم َق َ ّللا َك َم َث ِل َ َ ه َ َ َ
ُكن َف َي ُكو ُن﴾(.)2
ض َنب ًاتاُ ،ث َّم ي ِع ُ ِ ِ
يها َوُي ْخ ِر ُج ُك ْم ِإ ْخَر ً
اجا﴾(.)3 يد ُك ْم ف َ ُ َنب َت ُكم هم َن ْاألَْر ِ َ ّللا أ َ
﴿ َو َّ ُ
يها.)4(﴾... ِ َكم ِهم َن األَْر ِ
اس َت ْع َمَرُك ْم ف َ ض َو ْ َنشأ ُ
﴿ُ ...ه َو أ َ
ُخَرى﴾(.)5 يها ُن ِع ُ
يد ُك ْم َو ِمْن َها ُن ْخ ِر ُج ُك ْم َت َارًة أ ْ ﴿ ِمْن َها َخَل ْقَن ُ
اك ْم َوِف َ
فاهلل تعالى خلق سيدنا آدم وزوجه من األرض وأسكنهما فيها وكان لهما في
جنة .والج َّنة هي ذلك النعيم النفسي المستور الذي يجده اإلنسان في ق اررة
األرض َّ
يطلع عليه أحد من الناس. نفسه ،ول َّ
فكان لسيدنا آدم وزوجه إقبال على هللا ووجهة إليه ،وشهود لذلك الكمال
اإللٓهي الذي ل يعادله نعيم ول سرور ،وذلك ما نستطيع أن نفهمه من كلمة
" َّ
جنة" ،ألن النفس البشرية المؤمنة ل تجد لها سرو اًر ول نعيماً ول تطمئن بشيء
كسرورها ونعيمها واطمئنانها بالنظر إلى جمال خالقها ،وشهود كماله األسنى
"األعلى".
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 213ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وقد استغرق سيدنا آدم وزوجه في ذلك النعيم النفسي وسكن فيه ،وهو
يومئذ في حال مخالف للحال المادي الذي نحن اآلن نعيش فيه.
واذا كان لإلنسان نفس وروح وجسد ،وكانت نفس اإلنسان اآلن في عالم الدنيا
محاطة بجسمها محبوسة فيه ،فهي تُبصر عن طريق العينين ،وتسمع عن طريق
األذنين ،وتذوق بواسطة اللسان .واذا كان حالنا الجسمي اآلن غالب على الحال
النفسي فال يعيش هذا اإلنسان ما لم ينل الجسم حظه ،من مطعم ومشرب وملبس،
إذ ل بد من أن يبذل الجسم مجهوداً للحصول على ما يحتاجه ،ثم هو إلى جانب
ذلك بحاجة إلى الراحة والنوم.
فقد كان سيدنا آدم وكذلك زوجه لما خلقه هللا تعالى وأوجده ،في حال
مخالف لما نحن عليه اآلن ،ألن نفسه كانت محيطة بجسدها ،كما يحيط لهب
الشمعة بالفتيل من كل جانب ،ول حاجة له والحالة هذه ألذن تسمع أو عين
تُبصر أو لسان يذوق به ،بل كانت نفسه كلها لساناً وسمعاً وبص اًر ،وما كان
جسده يومئذ بحاجة إلى شيء من األشياء ،فال جوع ول ظمأ ،ول حر ول برد ،ول
تعب ول نصب .فالنفس لبسة جسدها محيطة به وحالها غالب عليه ..إقبال دائم
على هللا مستمر ل ينقطع ،ولعمري ذلك حال أهل الجنة في َّ
الجنة غداً ،قال تعالى
مشي اًر إلى ذلك الحال الذي كان عليه سيدنا آدم في بدء الحياة:
آد ُم ِإ َّن َه َذا َعُد ٌّو َّل َك َولِ َز ْو ِج َك َف َال ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِة َف َت ْشَقىِ ،إ َّن
﴿ َفُقْلَنا َيا َ
ِ ِ
يها َوَال َت ْض َحى﴾(.)1 يها َوَال َت ْعَرىَ ،وأََّن َك َال َت ْظ َمأُ ف َ َل َك أََّال َت ُجو َع ف َ
أما ذلك األكل الذي يأكله وهو في هذا الحال النفسي وان شئت فقل وهو في
ذوقياً ،وهو أيضاً أكل اإلنسان في الدار اآلخرة في َّ
الجنة. َّ
الجنة ،فقد كان أكالً ّ
فتتذوقها ذوقاً
َّ فالنفس المحيطة بالجسد تمتد أشعتها يومئذ إلى الفواكه واألثمار
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 214ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
مستم ًار متواصالً ،كما تمتد أشعة الشمس إلى أعماق المياه فتخالطها وتسري بها،
دون أن يدنو جرم الشمس منها.
وهذا الذوق المتواصل وهذا األكل قد يدوم أشه اًر وحيناً طويالً ول يشعر معه
اإلنسان بثقل أو شبع ،وكلما زادت النفس من خالقها قرباً ،زادت ذوقاً بما تأكله من
أشياء وتضاعفت لذتها ،إذ على حسب صحة النفس وسرورها ،يكون ذوقها
وتمتعها.
لما أسكنهما هللا ذلك هو حال أهل َّ
الجنة وهو حال سيدنا آدم وزوجه َّ
تعالى األرض .لقد كانا في جَّنة النعيم بشهود الجمال اإللٓهي العظيم ،والى جانب
تتذوق ُّ
تذوقاً مستم اًر شامالً ،فال ذلك كانت نفساهما تأكل من األرض رغداً ،أي َّ
تجد ثقالً ول ضيقاً .ولقد نهى هللا تعالى سيدنا آدم وزوجه عن أن يقربا
الشجرة ،أي :أن ل يضعا مادة الثمر في فيهما ،ألن دخول المادة إلى الفم ومن
يتحول اإلنسان من حال
بعد ذلك إلى الجوف ،يحتاج إلى مضغ وهضم ،ومن ثم َّ
إلى حال ،فيصبح الحكم للجسم ،وتنقلب النفس إلى الداخل ،فتصبح محاطة بعد
َّ
ويتطلب ذلك من اإلنسان جهداً وعمالً وسعياً وراء تأمين أن كانت محيطة،
حاجات الجسم ،وضروراته المادية ،وذلك ما عنته اآلية الكريمة في قوله تعالى:
الشجرَة َف َت ُكوَنا ِمن اْل َّ ِ ِ ِِ
ين﴾( :)1لنفسكما فتتعبان ظالم َ َ ﴿َ ...والَ َت ْقَرَبا َهذه َّ َ َ
ذوقياً.
وكال منها أكالً ّتذوقا ُ
بالعمل .أي :ل تدنيا ثمرها من فيكما وجسديكما ،بل َّ
عرضتماهما
أما إذا وضعتما الثمر في فيكما فتكونا من الظالمين لنفسيكما ،إذ َّ
للتعب والنصب ،والسعي وراء تأمين حاجات الجسم .نعم ،كانت نفسا سيدنا آدم
ذوقياً،
وزوجه عليهما السالم ،لبس ًة جسديهما الشريفين ،فكان نعيمهما من الدنيا ّ
وما كان الثمر ليدخل جوفيهما ،إذ الدخول للجوف َّ
يتطلب الهضم والتعب.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 215ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وقد ح َّذرهما هللا تعالى من الشيطان وعداوته ،وذلك ما أشارت إليه اآلية
الكريمة التي أوردناها آنفاً وهي قوله تعالى:
آد ُم ِإ َّن َه َذا َعُد ٌّو َّل َك َولِ َزْو ِج َك َف َال ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِة َف َت ْشَقى﴾(.)1
﴿ َفُقْلَنا َيا َ
وسكن سيدنا آدم كما بيَّنا من قبل ،وسكنت زوجه ذلك النعيم ،نعيم اإلقبال
على هللا ،والتمتُّع بشهود ذلك الجمال اإللٓهي العظيم ،ل يبغيان عنه حولً .وهل
يعدل النظر إلى وجه هللا نعيم؟ أم هل يرضى عنه المؤمن ببديل؟ وهنا ومن هذه
ليحول ذلك النبي الكريم النقطة أراد الشيطان أن يتَّخذ لنفسه مدخالً يدخل منهِّ ،
ّ
ال َيا ِ ِ
س إَلْيه َّ
ان َق َ
طُالشْي َ عن خالقه ،ويزّله عن ذلك الحال الذي هو فيهَ ﴿ :ف َو ْس َو َ
آد ُم َه ْل أَُدُّل َك َعَلى َش َجَرِة اْل ُخْل ِد َو ُمْلك َّال َيْبَلى﴾.2
َ
أدلك على الشج ةر التي إن أكلت منها ،كانت سبباً في خلودك في هذا النعيم أي :هل ُّ
وملكت هذا الحال؟ فلم تنقطع نفسك عن ذلك اإلقبال على هللا والوجهة الدائمة إليه.
ِّ
يقدر العظيم
فأقسم الشيطان باهلل العظيم لسيدنا آدم وزوجه ،أنه لهما لمن الناصحين ،ول ّ
حبه هلل ،فأنساه ذلك الحب وصية هللا ،قال تعالى: إل العظيم ،لذا غلب على سيدنا آدم ّ
﴿َوَلَقْد َع ِهْدَنا ِإَلى َآد َم ِمن َقْب ُل َفَن ِسي َوَل ْم َن ِجْد َل ُه َعْزًما﴾( .)3أي نسي وصيتنا نسياناً ،ولم
َ
نجد له عزماً وتصميماً على مخالفتنا ،أي على المعصية.
حباً
وكذلك الحال بالنسبة لزوجه ،فأكال من الشج ةر ،أي :طعما ثمرها ووضعاه في فيهما ّ
باهلل ،وبذلك انقلبت نفساهما من حال إلى حال.
لقد لحقت النفس المادة الداخلة ،وأصبحت محاطة بالجسم ،بعد أن كانت محيطة به ،فإذا
هما في هذا الحال الذي نحن فيه اآلن ،يؤلمهما الجوع ويشتد عليهما الظمأَ ...﴿ .فَل َّما َذا َقا
ِ ِ ط ِفَقا َي ْخ ِصَف ِ
ان َعَلْي ِه َما من َوَر ِق اْل َجَّنة َوَن َاد ُ
اه َما َرُّب ُه َما أََل ْم َّ
الش َجَرَة َبَد ْت َل ُه َما َسْوَء ُات ُه َما َو َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 216ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ظَل ْمَنا أَنُف َسَنا َواِن طا َن َل ُك َما َعُدٌّو ُّمِب ٌ
ينَ ،قاالَ َرَّبَنا َ الشْي َ أَْن َهُكما َعن ِتْل ُكما َّ
الش َجَرِة َوأَُقل َّل ُكما ِإ َّن َّ
َ َ َ
ِ ِ ِ
َّل ْم َت ْغفْر َلَنا َوَتْر َح ْمَنا َلَنُكوَن َّن م َن اْل َخاسِر َ
()1
ين﴾ .
وقد أشارت اآلية الكريمة التابعة لآليات التي نحن بصددها في سو ةر البق ةر إلى هذا الحال
الجسمي ،الذي أصبح فيه سيدنا آدم وزوجه ،ذلك ألن الشيطان ببعده عن هللا ،صار حسوداً
َخرجهما ِم َّما كاَنا ِف ِ
يه.﴾... فحولهماَ﴿ :فأََزَّل ُهما َّ
َ ان َعْن َها َفأ ْ َ َ ُ َ
طُالشْي َ َ منحطاً ،دفعه الحسد َّ
قال يا آدم :رّبك ما نهاك عن الشجرة ،فإن أكلت خلدت في النعيم ،وحيث أنه
لم يكن لسيدنا آدم فكر ،نسي أمر هللا وأكل ،فدخلت نفسه للداخل ،و َّ
انسد
عليه اإلقبال على هللا.
ان َعْن َها :﴾...أي جعلهما ينزلن وينتقالن من تلك والمراد بكلمة ﴿َفأََزَّل ُهما َّ
الشْي َط ُ َ
الحالة النفسية الذوقية ،إلى الحالة الجسمية ،وبذلك أخرجهما مما كانا فيه من أكل ذوقي
ونعيم معنوي ،فأصبحت لهما حاجات جسمية ،ومطالب مادية ما كانا يهتمان بها من
قبل.
اع ِإَلى طوْا َب ْع ُض ُك ْم لَِب ْعض َعُد ٌّو َوَل ُك ْم ِفي األَْر ِ
ض ُم ْس َتَقٌّر َو َم َت ٌ اه ِب ُ
﴿َ ...وُقْلَنا ْ
ِحين﴾ .وأما كلمة ﴿َ ...وُقْلَنا ْ
اه ِب ُ
()2
طوْا :﴾...من الحال النفسي ،أي :انزلوا إلى
هذه الحياة الدنيا حياة السعي وراء الرزق ،والعمل لتأمين ما تقتضيه هذه الحياة من
حاجات ومطالب ،ذلك هو الحال الجديد الذي صار إليه سيدنا آدم وزوجه،
وصار إليه بنوه من بعده ،وهو كما نعلم مختلف كل الختالف عن الحال األول
الذي كانا فيه.
أما كلمة ﴿َ ...ب ْع ُض ُك ْم لَِب ْعض َعُد ٌّو :﴾...الكافر ُيعادي المؤمن ،فتفيد أن
الحكمة من هذه القصة كلها إنما هي إظهار عداوة إبليس وذريته المعرضين عن
هللا لهذا النوع البشري .فالذين يتبعون كالم هللا من بني اإلنسان سيرون من بعد ما
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 217ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فعله إبليس وما قام به من تغرير سيدنا آدم وحلف له كذباً باهلل لِّ ِّ
يحوله عن
ّ
يغترون به ول يستطيع أن يفتنهم .والكافرون من أولد إبليس ،وهم بعضهللا ،فال ُّ
الجن سيكونون معه ضداً وأعداء لبني آدمُّ ،
ليردوهم عن الحق ،وليلبسوا عليهم
دينهم.
وهكذا فكلمة﴿َ ...ب ْع ُض ُك ْم لَِب ْعض َعُد ٌّو :﴾...بعضكم تعني الشيطان عدواً
تعرفنا أن هللا تعالى إنما جعل خروج النوع البشري لهذه الحياة لإلنسان ،وتريد أن ِّّ
الدنيا بهذا القالب وهذه الصورة ،ليضع بين يدي هذا اإلنسان المهيَّأ للكمال مثالً
وعمالً عداوة الشيطان وكيده فيكون هذا اإلنسان على علم بهَ ،حِّذ اًر من إغرائه،
يبين لنا رحمة هللا تعالى ورأفته ،وهللا رؤوف رحيم. وذلك كله مما ِّّ
اع ِإَلى ِحين﴾ :مدة حياتكَّ ،
إن وتفيد كلمة ﴿َ ..وَل ُك ْم ِفي األَْر ِ
ض ُم ْس َتَقٌّر َو َم َت ٌ
لهذا اإلنسان على وجه األرض عم اًر محدوداً وأجالً معيَّناً ،فإذا انقضى العمر
ووافاه األجل ،فال بد له من فراق هذه الحياة الدنيا ،بخالف حال اإلنسان في
اآلخرة فال حد له ول انقضاء لحياته ،والسبب في ذلك أن اإلنسان في الدنيا َّ
تتوقف
حياته على سالمة الجسم وبقائه قاد اًر على العمل ،فإذا َّ
تعطلت أجهزته الرئيسية
وتوقف عن العمل ،خرجت النفس لحقة بالروح ،وفارقت معها هذا الجسد ،وان
ظل لها ارتباط به واشراف عليه.
َّ
أما في الدار اآلخرة ،فالحكم للنفس ،فهي المحيطة بالجسد ،وليس له يومئذ
تكز ترتكز
فعالية ول عمل ،وليس يصيبه هرم ول ضعف ول وهن ،وان هو إل ُم ْر َ َّ
عليه النفس ،وهي يومئذ صاحبة الحياة .وبما أنها جوهر نوراني ،ل يط أر عليها ما
المتركب منها الجسد ،من ضعف وانحالل ،لذلك فالحياة في ِّّ يط أر على المادة
الدار اآلخرة حياة أبدية ،ليس لها حد ول انتهاء.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 218ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
اع ِإَلى ِحين﴾ :أن وجود ِفي األَْر ِ
ض ُم ْس َتَقٌّر َو َم َت ٌ وتفيد أيضاً كلمة ﴿َ ..وَل ُك ْم
له أجل محدود ،فإذا ما انتهى هذا األجل ،انتهت النوع البشري على وجه األرض
معه هذه الحياة ،ثم يْقُدم الناس إلى اآلخرة ،فيرى كل امرئ نتائج أعماله وسعيه.
ولعلك تقول :كيف نسي سيدنا آدم ﷺ وصية هللا تعالى واستطاع الشيطان أن َّ
يغره؟
ه
وهل يستطيع الشيطان أن يدخل على األنبياء؟ وهل يعصون هللا تعالى؟ وكيف
نستطيع أن نوِّّفق بين ما وقع من سيدنا آدم مع ما قرره القرآن الكريم من
عصمة األنبياء ،وعدم إمكان وقوعهم في مخالفة من المخالفات؟
أقول :هذه نقاط هامة هي مزَّلة قد ٍم بالنسبة للكثير من الناس ،فإذا لم يفهمها
وسموهم النفسي وعصمتهم من الوقوع
َّ اإلنسان حق الفهم ،ولم َير كمال رسل هللا
تزل به القدم ،فيهوي في جحيم البعد عن هللا ،وليس
في المخالفات ،فال بد أن ّ
يخلصه من هذا البعد أحد ،ما دامت نفسه محجوبة عن رؤية ذلك الكمال الذي
اصطبغت به أنفس رسل هللا صلوات هللا عليهم أجمعين.
ِّ
تقدر
فالنفس البشرية كما نعلم ،مفطورة على حب الكمال ،وهي ل تستطيع أن ّ
أحداً وبالتالي ل يمكن لها أن ترتبط برباط المحبة بأحد ،ما دامت ترى فيه نقصاً
وانحرافاً أو ميالً عن الحق.
ذلك هو قانون من قوانين النفس التي ل تتبدل .واذا كان الدخول في مداخل
َّ
التقوى واإليمان النفسي يتوقف على ّ
محبة رسل هللا صلوات هللا عليهم وصحبتهم
المعنوية ،والدخول بهذه الصحبة والمعيَّة على هللا ،فكيف يمكن للنفس التي ترى
تحبهم وترافقهم؟ أم كيف تستطيع أن تدخل
في رسل هللا نقيصة من النقائص ،أن ّ
بمعيتهم على هللا؟ ل شك أنها تظل بعيدة عن هللا محجوبة عنه ،محرومة من ذلك
كل الحرمان.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 219ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لذلك وتبياناً لهذه النقاط الهامة التي أوردناها نقول:
ل بد لنا حتى نفهم النقطة األولى وهي نسيان سيدنا آدم وصية هللا ،من
أن نرجع إلى ذلك الحال األول الذي كان عليه سيدنا آدم في َّ
جنة اإلقبال على
هللا ،قبل انتقاله إلى هذه الحياة الدنيا أي :قبل هبوطه من الحال النفسي إلى الحال
الجسمي الذي نحن عليه فنقول :لإلنسان في هذه الحياة الدنيا فكر وعقل ،وليس
في الجنة إلَّ عقل فقط ،وهو َّ
مجرد عن الفكر.
فالفكر وهو تلك الجوهرة التي زيَّن هللا تعالى بها اإلنسان في هذه الحياة الدنيا،
وجعلها في الدماغ ،هو اآلن بالنسبة لإلنسان جهاز المعرفة ،والوصول إلى
الحقائق.
فالعين تُبصر ،واألذن تسمع ،واللسان يذوق ،ثم تنتقل هذه المشاعر إلى النفس،
فإذا كانت النفس صادقة في طلب الحقيقة ،وأرسلت بإشعاعات هذه المشاعر للدماغ،
هنالك يقوم الفكر بعمليات المقارنة والمقايسة والتحليل والتركيب ،ثم تصل النفس إلى
مطلوبها.
فمن النظام ،يهتدي إلى الحكم بوجود المن ِّّ
ظم ،ومن األثر ،يحكم بوجود المؤِّثّر،
ومن التربية ،يصل إلى معرفة المرِّّبي ،وهنالك تعقل النفس هذه الحقائق التي حكم بها
الفكر ،فتشاهدها بذاتها ،وتوقن بها ،وتنتقش فيها ل تبرحها ،فتعقلها ،تعقل حقيقة
الوجود اإللٓهي ،ومنها لشهود أسماء هللا تعالى الحسنى ،وتلك غاية أقصى المنى
لوجود اإلنسان.
وهكذا ،فالتفكير هو ما يقوم به الدماغ من عمليات المقايسة والمقارنة والتحليل
توصالً إلى إدراك الحقائق ،والحكم بوجودها.
والتركيبُّ ،
أما العقل :فهو شهود النفس هذه الحقائق ومعاينتها إياها .وكل تفكير صادق
ل بد أن يصل بصاحبه إلى العقل.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 220ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وتظل هذه الحقائق محفوظة في النفس مخزونة فيها ،فإذا ما احتاج اإلنسان
إلى أمر من األمور السابقة ،يعكس الفكر أشعته على ما عقلته النفس ،فتضيء
له تلك الحقائق المخزونة في النفس ،فيعرفها اإلنسان ويذكرها.
وعلى ذكر الفكر والعقل ،ل بد لنا من أن نذكر كلمة وجيزة ِّّ
نبين فيها مدى
فعالية هذا الفكر وقدرته على إدراك الحقائق فنقول:
َّ
ل بد من اهتمام النفس باألمر حتى تصل إلى عقله .فاألمور التي ل تهتم بها
النفس اهتماماً كّلِّياً ،ول تطلب معرفتها بصدق والحاح ،ل يكون عمل الفكر فيها
إلَّ سطحياً ،ولذلك ل يستطيع أن يصل فيها إلى إدراك حقيقة ،ول أن يصدر
حكماً ،وبذلك تبقى النفس بعيدة عن عقلها أو شهودها.
ولذلك وتوصيالً للنفس إلى العقل في معرفة الخالق والمرِّّبي ،ثم الوصول إلى
اإليمان بال إلٓه إل هللا ،ومعرفة َّ
أن السير كله بيد هللا ،ل بد من تعريف النفس بأن
هذه الحياة الدنيا التي اطمأنت إليها وفرحت بها ،إنما هي سريعة الزوال وشيكة
النقضاء ،وأنه مهما جمع اإلنسان منها ،ومهما عاش فيها ،فال بد له من الموت
ول بد من الفراق ،وهذه حقيقة واقعية ل ّبد من وقوعها حتماً.
فإذا ما ضرب المرء لنفسه أمثلة لمن عاش قبله من آبائه وأجداده وذويه،
بصرها بالموت ورهبته ،والقبر
وعرفها بمن سكن في مساكنهم ومن سبقوه ،ثم َّ
َّ
وكرر لها هذا الدرس وأعاده عليها ،فهنالك تخاف وترهب ،وتقلع عن
ووحشتهَّ ،
السترسال في محبَّة الدنيا والنصراف إليها ،وتطلب ُّ
وتجد في معرفة المرِّّبي الذي
ُيعنى بها ،وتتَّحد جهود النفس مع الفكر ،فيعمل منطلقاً ّ
جاداً في البحث ،وما يزال
ويجيب ،حتى ينتهي به اإلقرار يقارن ويقايس ويحِّّلل ِّّ
ويركب ويسأل ذاته بذاته ُ ُ ُ
فيتوصل
َّ والحكم ،بوجود الخالق العظيم ،الذي خلق كل شيء ،ويستمر به البحث،
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 221ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
إلى اإليمان بأنه تعالى هو المرِّّبي الممد ،يرِّّبي المخلوقات ُّ
ويمدها بما يلزمها ،ل
شهودياً ل ريب فيه.
ّ يغفل عنها طرفة عين ،يعقل هذا بنفسه عقالً
وأخي اًر يصل هذا الفكر الصادق منتقالً من معرفة المرِّّبي إلى معرفة اإللٓه
ِّّ
المسير ،الذي يؤول إليه أمر الكون كله ،فيحكم بأن سير الكون كله بيد هللا ،وأن
ل إلٓه إل هللا .ثم تعقل النفس هذه الحقائق ،فتغدو مؤمنة حّقاً ،واإليمان إنما هو
ثمرة من ثمرات العقل ،ونتيجة من نتائجه ،ول إيمان لمن ل عقل له ،ول دين لمن
ل عقل له.
وهكذا فللعقل مكانه األول في الوصول إلى اإليمان ،والعقل متوِّّقف حصوله
على التفكير ،والتفكير ل يتم ول تدور دواليبه ،إلَّ بالصدق في طلب المعرفة،
والصدق متوِّّقف حصوله على الخوف من الموت ونتائجه.
مر بنا من قبل ،يتَّكئ في المسجد بين َّ
سنة الصبح والفرض ولذلك كان ﷺ كما َّ
مضطجعاً على جنبه األيمن ووجهه إلى القبلة ،مقّلِّداً حال اإلنسان في القبر،
مفك اًر ومعّلِّماً هذا اإلنسان طريق الصدق ،والوصول إلى اإليمان .وكان ﷺ يقول: ِّّ
(أكثروا ذكر هاذم اللذات) (.)1
شئت َح ِبب من ويذكر اإلنسان بقوله الشريفِ : ِّّ
َ فإنك ميت ،وأ ْ
شئت ََ ش ما (ع ْ
فإنك مجزٌي به) (.)2
شئت َ
اعمل ما َ ارقه ،و ْ
فإنك ُم َف ُ
َ
فلعل هذا اإلنسان يهتدي ويسلك طريق اإليمان ،وكفى بالموت واعظاً ِّّ
ومذك اًر. َّ
هذه كلمة ذكرناها ومن الضروري اإللحاح عليها ،لمن أراد أن َّ
يذ َّكر وأراد أن
يصل إلى اإليمان ،وبالتالي إلى فهم القرآن خطاب رِّّبه العظيم.
كنا بدأنا به في كالمنا عن سيدنا آدم وأكلهونعود إلى أصل البحث الذي َّ
من الشجرة ونسيانه وصية هللا تعالى فنقول:
( _ )1أخرجه الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في ذكر الموت رقم ./2307/
( _ )2رواه الطبراني.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 222ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وضحنا في بحثنا السابق ،أن لإلنسان في هذه الحياة الدنيا فك اًر وعقالً،لقد َّ
وأنه في الجنة ليس لإلنسان إلَّ عقل فقط ،وهو َّ
مجرد عن التفكير.
والسبب في ذلك أن الفكر إنما يتوقف عمله على وجود الدماغ وجريان الدم
فيه ،وان شئت فقل :أن الفكر ُيعين النفس ويساعدها على الوصول إلى الحقائق
وعقل هذه الحقائق ،ما دامت في هذه الدنيا محبوسة في الجسم ،وما دام الجسم
صاحب السيطرة والحكم.
أما إذا خرجت النفس من الجسد ولبسته وأصبحت محيطة به وأضحت صاحبة
الحكم ،فهنالك تتوقف جميع األجهزة الجسدية عن العمل ،وبالتالي يتوقف الفكر،
ألن هذه األجهزة وهذا الفكر ،أضحت ل عمل لها ،وتعقل النفس والحالة هذه
الحقائق بذاتها ،دون حاجة إلى حاسة أو فكر.
واذا كان اإلنسان َّ
يتذكر في هذه الدنيا ما وقع له من الحوادث ،وما قام به من
األعمال بواسطة الفكر ،الذي ُيرسل بأشعته إلى النفس ،فتضيء له هذه الحقائق
ويذكرها ،ففي الدار اآلخرة حين يتوقف الفكر عن العمل ،ل يعود هذا اإلنسان
يتذكر ُّ
تذك اًر فكرياً ،بل يعقل عقالً .فإذا ُعرضت على اإلنسان أعماله التي قام بها َّ
في الدنيا ،عقلتها النفس عقالً ،أي :أنها تعقل ما هو مطبوع فيها.
ذلك هو حال اإلنسان في َّ
الجنة ،وحال سيدنا آدم من قبل .فقد كانت
نفسه محيطة بجسده ،تعقل ما تراه عقالً ،فلما جاء الشيطان وقال:
آدم َهل أَُدُّل َك عَلى َشجرِة اْل ُخْل ِد ومْلك َّال يبَلى﴾( .)1أي :هل ُّ
أدلك على َْ َُ ََ َ ﴿َ ...يا َ ُ ْ
الشجرة التي إن أكلت منها خلدت نفسك في ذلك الحال العالي من اإلقبال على
ولما أقسم له باهلل أنه
هللا ،وملكت ذلك الحال الجميل الجليلُ ،مْلكاً أبدياً ل يبلىَّ .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 223ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لمن الناصحين ،غاب عنه أن هللا نهاه عن األكل من الشجرة ،وغاب عنه أنه
تعالى َّ
حذره من الشيطان.
لقد نسي سيدنا آدم ذلك كله ،وهذا أمر طبيعي ،ألنه لم يكن له يومئذ فكر
آد َم ِمن َقْب ُل َفَن ِسي َوَل ْم َن ِجْد َل ُه َع ْزًما﴾(:)1 َّ
يتذكر به ،قال تعالىَ ﴿ :وَلَقْد َع ِهْدَنا ِإَلى َ
َ
أي لم يجد له عزماً على المعصية.
وهكذا فالنسيان الذي وقع لسيدنا آدم وزوجه ،أمر يقتضيه الوضع النفسي
الذي كانا فيه ،وهو ليس والحالة هذه بمعصية ،وكل امرئ إذا هو لبس ذلك الحال
النفسي الذي كان عليه سيدنا آدم قبل انتقاله للحال الجسمي الذي نحن فيه،
لفعل ما فعله سيدنا آدم ،فهو حال يقتضيه الوضع ،ول يمكن أن يعد مخالفة
ألمر هللا ،ول خرقاً لوصيته .وما أجرى هللا تعالى ذلك على سيدنا آدم ،وما جعل
هللا سيدنا آدم وزوجه محورين لهذه القصة ،إلَّ َّ
ليتعرف أولدهما من بعدهما إذا هم
أصبحوا في الحال الجسمي ،بعداوة الشيطان ومكائده ،وليعطيهم درساً عملياً
ويضع بين أيديهم مثالً واقعياً في هذا الموضوع ،فيحِّّذر األبناء من الشيطان
وعداوته .وقد أشارت اآلية الكريمة إلى هذه الناحية في قوله تعالى:
()2
َخَر َج أََب َوْي ُكم ِهم َن اْل َجَّن ِة﴾...
ان َك َما أ ْ
طُ آد َم الَ َي ْف ِتَنَّن ُك ُم َّ
الشْي َ ِ
﴿َيا َبني َ
ولعلك تقول :إذا كان األمر كما بيَّناه ،فما تأويل اآلية الكريمة الواردة في وصف َّ
آد ُم َرَّب ُه َف َغ َوى﴾(.)3
هذه الواقعة في قوله تعالىَ ..﴿ :و َع َصى َ
فنقول :بعد أن عرضنا ما عرضناه من أن الحال النفسي الذي كان عليه سيدنا
آدم من قبل في خصائصه التي ل تنطبق على الحال الجسمي الذي نحن
عليه اآلن ،وان النسيان من لوازم ذلك الحال النفسي ،لعدم وجود الفكر .لذلك ل
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 224ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
يمكن بوجه من الوجوه أن ُيعتبر أكل سيدنا آدم من الشجرة معصية بالمفهوم
الذي نفهمه نحن اآلن في حالنا الدنيوي ،والذي يتبادر ألذهان الذين لم يعرفوا قدر
نتفهم ما قبلها وما بعدها من
رسول هللا ﷺ .ول بد لنا لفهم هذه اآلية ،من أن َّ
اآليات الكريمة الواردة في مسرى هذه القصة وهي قوله تعالىَ ﴿ :وَلَق ْد َع ِه ْدَنا ِإَلى
اس ُجُدوا ِآل َد َم َف َس َجُدوا ِإَّال ِ ِ ِ ِ َ ِ
آد َم من َقْب ُل َفَنس َي َوَل ْم َن ِج ْد َل ُه َع ْزًماَ ،وِا ْذ ُقْلَنا لْل َم َال ئ َكة ْ
آد ُم ِإ َّن َه َذا َعُد ٌّو َّل َك َولِ َز ْو ِج َك َف َال ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِةيس أََبىَ ،فُقْلَنا َيا َ ِ
ِإْبل َ
ِ ِ
س يها َوَال َت ْض َحىَ ،ف َو ْس َو َ يها َوَال َت ْعَرىَ ،وأََّن َك َال َت ْظ َمأُ ف َ َف َت ْشَقىِ ،إ َّن َل َك أََّال َت ُجو َع ف َ
آد ُم َه ْل أَُدُّل َك َعَلى َش َجَرِة اْل ُخْل ِد َو ُمْلك َّال َيْبَلىَ ،فأ ََك َال ِمْن َها ال َيا َ ان َق َ طُ ِإَلْي ِه َّ
الشْي َ
ِ
ان َعَلْي ِه َما ِمن َوَر ِق اْل َجَّنة َو َع َصى َ
آد ُم َرَّب ُه ط ِفَقا َي ْخ ِص َف ِ
آت ُه َما َو َ َفَب َد ْت َل ُه َما َس ْو ُ
اب َعَلْي ِه َو َه َدى﴾(.)1 اه َرُّب ُه َف َت َ َف َغ َوىُ ،ث َّم ْ
اج َتَب ُ
فهذه اآليات الكريمة تُ ِّّبين لنا أن سيدنا آدم إنما نسي وصية هللا تعالى ،ولم
الخُلود في َّ
الجنة، ط َم َع ُ
يكن له عزم على المخالفة ،وانه إنما أكل من الشجرة َ
التنعم بشهود جماله ،وأما الدافع وهي كما ذكرنا من قبلَّ ،
جنة اإلقبال على هللا و ُّ
حبه هلل ،وطمعه البقاء في نعيم اإلقبال على
الذي دفعه إلى األكل من الشجرة فهو ّ
هللا.
فيتبدى معناها ظاه اًر جلياً إذا نحن آد ُم َرَّب ُه َف َغ َوى﴾ َّ أما كلمة ﴿َ ...و َع َصى َ
ان َعَلْي ِه َما ِمن
ط ِفَقا َي ْخ ِصَف ِ قرناها إلى كلمةَ ﴿ :فأ ََكَال ِمْن َها َفَبَد ْت َل ُه َما َس ْو ُ
آت ُه َما َو َ
َوَر ِق اْل َجَّن ِة .)2( ﴾...فما أن أكل سيدنا آدم وزوجه من الشجرة حتى ظهر لهما
حالهما الجسمي ،وهنالك وبظهور هذا الحال الجسميَّ ،
تذكر سيدنا آدم وصية
ُّ
التذكر بسبب أن هذا الحال الجسمي ،يالزمه وجود الفكر الذي هللا ،وكان هذا
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 225ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
يحصل به ُّ
التذكر .وقد عرف أن هذا الحال الذي صار إليه ،إنما هو بسبب
مخالفته الوصية ،ونسيانه األمر.
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 226ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
غاَة قصة سيدنا آدم
* تعليم محبة هللا.
* وعدم االستماع إلى الشيطان.
آد ُم َرَّب ُه .)1(﴾...تقول:
كلمة ﴿َ ...و َع َصى َ
وأدرك سيدنا آدم من نفسه إثر ظهور ذلك الحال الجسمي له ،أنه نسي
آد ُم َرَّب ُه:﴾...
وفعل خالف ما أوصاه هللا تعالى به .وهكذا ،فكلمة ﴿َ ..و َع َصى َ
ليست من هللا تعالى إثباتاً لعصيان آدم ،وتقري اًر للمعصية ،إنما هي حكاية
حال سيدنا آدم وبيان مشاعره واحساساته النفسية بالمخالفة ،التي أوقعه فيها نسيان
األمر اإللٓهي.
التحول من ٍ
حال الغي ،وهو النقالب و ُّ أما كلمة ﴿َ ...ف َغ َوى﴾ :فمأخوذة من:
ّ
عال فيه السعادة والخير ،إلى حال أدنى ،فيه المتاعب والشقاء.
ف الص َال َة و َّاتبعوا َّ ِ
الش َه َوات َف َس ْو َ َ َُ اعوا َّ
َض ُ
فأَف ِمن َب ْع ِد ِه ْم َخْل ٌ
قال تعالىَ ﴿ :ف َخَل َ
َيْلَق ْو َن َغًّيا﴾( :)2أي سيلقون بتضييعهم الصالة و ِّاتّباع الشهوات ،انحطاطاً من تلك
المكانة التي كانت آلبائهم من قبل ،وسيجدون متاعب وشقاوة.
وكان ﷺ كثي اًر ما يستهل خطبه بقوله الكريم( :من يطع هللا ورسوله فقد رشد،
ومن يعص هللا ورسوله فقد غوى حتى يفيء إلى أمر هللا) (.)3
لما رأى سيدنا آدم ذلك الحال الجسمي الذي صار وبناء على هذا نقولَّ :
ً
َّ
إليه ،وتذكر أنه خالف وصية رّبه ،خجلت نفسه من هذه المخالفة ،وبهذا الخجل
الذي سيطر على نفسه احتجبت نفسه عن ذلك الحال من اإلقبال على هللا.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 227ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أي :ورأى آدم ويكون ما نفهمه من كلمة ﴿َ ...و َع َصى آ َد ُم َرَّب ُه َف َغ َوى﴾
()1
من نفسه أنه خالف وصية رِّّبه ،وبذلك احتجبت نفسه عن اإلقبال على هللا خجالً،
وتحول عن ذلك الحال العالي الذي كان فيه .وهنالك وفي هذه اللحظة ،ناداه ربُّه
َّ
اء على نيَّة
مبيناً له أن هذا األكل الذي أكله من هذه الشجرة ،إنما صدر منه بن ً ِّّ
النية العالية ،وهذا المقصد
عاليةّ ،نية الخلود في اإلقبال ودوام البقاء مع هللا .وهذه ّ
عد معصية ،ول ُيوجب استحياء وخجالً ،ل سيما إذا اقترن مع ذلكالسامي ،ل ُي ُّ
الحال األول النفسي الذي من لوازمه النسيان .وأراد تعالى بذلك التعريف الذي
عرف به سيدنا آدم أن ُيرجعه إليه ،ويرفع عنه ذلك الخجل الذي استولى َّ
اه َرُّب ُه )2(﴾...أي :جعله يرجع إليه وجمع
اج َتَب ُ
عليه ،وذلك ما نفهمه من كلمة ﴿ ُث َّم ْ
قلبه عليه تعالى.
وذلك أيضاً ما عبَّرت عنه اآلية الكريمة الواردة في سورة البقرة في قوله تعالى:
ِ ِ ﴿ َفَتَلَّقى َ ِ
آد ُم من َّرهِبه َكل َمات : ﴾...أي :كلمات ِّّ
()3
سمو ّنيته ،وعلو
مبينات له َّ
مقصده وغايته ،محواً للخجل من نفسه ،وبذلك عرف أن هللا تعالى لم يؤاخذه على
ونيته ،وانما األعمال
نسيانه ،ولم يعامله بظاهر عمله ،بل نظر إلى حقيقته ّ
بالنيَّات .نعم لقد َّ
تذلل سيدنا آدم ،فألقى هللا تعالى في نفسه ،أن يا آدم نيَّتك
عالية وشريفة ،فنحن ل نؤاخذك أبداً على ما وقع .كذلك كل من يقع عن غير
ِّ
المتعمد والمصر ،فال رجعة له .وهنالك أدرك أنه ما قصد ،له سهولة رجعة ،أما
ّ
عصى ربَّه ،وما عزم على مخالفته ،وأن هللا عليم ينظر إلى النيات ،وبهذا رجعت
الطمأنينة والثقة إلى نفسه من أن هللا تعالى ر ٍ
اض عنه ،فعاد إلى اإلقبال على هللا
والوجهة إليه ،فتاب عليه رّبه ،أي :فكشف له ذلك الحجابَّ ،
ورده إلى ذلك الحال
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 228ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
األول ،من رؤية الجمال والكمال اإللٓهي ،وذلك ما أشارت إليه اآلية الكريمة في
اب َعَلْي ِه :﴾...تلك هي عناية هللا تعالى تحوط سيدنا آدم
قوله تعالىَ ..﴿ :ف َت َ
تبدت لك ظاهرة في هذه القصة ،وتلك هي معاملته تعالى مع سائر وترعاهَّ ،
ليرد نفوسهم الشاردة إليه ،ليتمتعوا بما َّ
أعده لهم من عبادهُ ،يعاملهم بما ُيعاملهم به َّ
الت َّواب َّ ِ
يم﴾ :أي :يعامل
الرح ُ نعيم مقيم ،وذلك ما نفهمه من كلمةِ ..﴿ :إَّن ُه ُه َو َّ ُ
هذا وهذا ليرجعوا.
فانظر إلى حنان هللا تعالى ورحمته ،وانظر إلى عظيم فضله على عباده ،لقد
قرر على سيدنا آدم قبل أن ُيخرجه إلى هذه الدنيا ،وقبل أن ُيخرج ِّّ
ذريته من َّ
صلبه ،إذ كان بحال نفسي ،فجعل خروجه من ذلك الحال النفسي ،إلى هذا الحال
حبه لخالقه ،وضرب تعالى الجسمي ،بأسلوب أظهر به شرف هذا الرسول ،وعظيم ّ
بقصة هذا اإلنسان األولِّ ،عب اًر وأمثالً باقية لبنيه ،فأقامه في مقام المعِّّلم األول
ألولده ،وأجرى ما أجراه له ،ليعّلِّم الناس قوانين النفس التي ينبني عليها اإلقبال على
هللا ،وليشهدوا الطريق الذي تعود منها النفس إلى حصيرة القدس ،فإذا ما خجلت
ِّ
يجدد لها الثقة نفوسهم وتراجعت ِّّ
متأخرة ،أمكنها الرجوع والعودة ،إذا هي فعلت ما ّ
ويمحو منها الخجل ،كما أراد تعالى أن ِّّ
يعرفنا كما كنا قد ذكرنا من قبل بعداوة
يتعرض ِّّ
متعرض، الشيطان ،فنحذر من مكره وكيده .أفبعد هذا كله ،يستطيع أن َّ
ُفينقص من مكانة هذا الرسول الكريم ،أو ينسب هلل ما ينسب ،من قسوة على
رد عباده إلى الحق..﴿ :وهم يج ِادُلو َن ِفي ِ
ّللا َو ُه َو اإلنسان؟ إنه تعالى يحاول َّ
ه َ ُْ ُ َ
يد اْل ِم َح ِ
ال﴾(.)1 ِ
َشد ُ
هذا بعض ما فهمناه من هذه القصة ،وكم حوت هي وأمثالها من ِّعبر وأمثال.
اس َو َما َي ْع ِقُل َها ِإَّال اْل َعالِ ُمو َن﴾(.)2
ال َن ْض ِرُب َها لِ َّلن ِ ِ
﴿ َوتْل َك ْاأل َْم َث ُ
( _ )1سورة الرعد اآلية ()13
( _ )2سورة العنكبوت اآلية ()43
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 229ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِّ
مفصلين أن سيدنا آدم
أما وقد أجبنا على األسئلة التي أوردناها من قبل ،مبينين ّ
ما عصى ربَّه ،وأن حاله النفسي األول من لوازمه النسيان ،وهذا ما ُّ
يدلنا على
َّ
أن ما أقدم عليه سيدنا آدم وزوجه إنما كان بنيَّة عالية ألن الشيطان أقسم لهما
بأن يكونا ملكين أو يكونا من الخالدين إن هما أكال من هذه الشجرة ،وبما أن هذا
النبي ﷺ ل يعرف الكذب َّ
فصدق قول الشيطان ،ونسي وصية هللا لهَ ..﴿ :رَّبَنا الَ
ط ْأَنا.)1(﴾... اخ ْذَنا ِإن َّن ِسيَنا أ َْو أ ْ
َخ َ ُت َؤ ِ
(رِف َع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (.)2 قال ﷺُ :
ين﴾( :)3هذه ِ اهيم و ِ ط َفى آدم وُنوحا و ِ ِ ِ
ان َعَلى اْل َعاَلم َ
آل ع ْمَر َ
آل إ ْبَر َ َ َ
ََ َ ً َ َ اص َ
ّللا ْ
﴿إ َّن ه َ
ُسر اصطفاهم تعالى على العالمين ُليرشدوا الخْلق إلى هللا .كيف هذا الصطفاء! األ َ
بيَّن تعالى في سورة آل عمرانُ ..﴿ :ذهِرَّي ًة َب ْع ُض َها ِم ْن َب ْعض :﴾...كلهم في األصل
يم﴾( :)4ما اصطفاهم جزافاً ،بل إنه ِ ِ
يع َعل ٌ
ّللا َسم ٌ
واحد :كلهم أولد آدم ،لكن ﴿َ ...و ه ُ
عال لذلك اصطفاهم" :إن سميع :لقولهم ،عليم :بحالهم ونيَّتهم .كالمهم عال وحالهم ٍ
كان كالمك عالياً ونيَّتك عالية أعطاك" .فكل من تكلَّم بحق األنبياء معناه أنه ينفي
يم﴾ :فكأن هللا تعالى ل علم له بآدم ﷺ حتى اصطفاه، ِ ِ
يع َعل ٌ
ّللا َسم ٌ
كلمة﴿َ ...و ه ُ
وهذا غير صحيح.
لعلو نفوسهم وكمالهم ،المرشد يجب أن يكون كامالً .فمن َّ
يتكلم هللا تعالى اصطفاهم ِّ
ّ
َّ
بحق األنبياء معناه أنه ل إيمان عنده ،ولو حصل عنده إيمان بأن هللا سميع عليم لما تكلم
سوءاً بحق رسل هللا ،ألن هللا سميع بكل مخلوق عليم بحاله :اصطفاهم لطهارتهم ِّ
وعلو
ّ
نيَّتهم.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 230ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هذا وان عدنا إلى حديث رسول هللا ﷺ بهذا الخصوص وهو الذي ل ينطق عن
سيُد َوَلِد آدم يوم القيامة ،وال فخر،
الهوى لسمعنا قوله السامي ،إذ يقول( :أنا هِ
وبيدي لواء الحمد وال فخر ،وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إالَّ تحت لوائي ،وأنا
َّأو ُل شافع ،وال فخر).
العلو والسمو والمكانة
ّ ولفهمنا بأن آدم ﷺ هو الثاني في الترتيب من حيث
العليَّة فوق جميع األنبياء والمرسلين ودون سيد الخْلق سيدنا محمد ﷺ ،والنبيون
بالمنزلة دونه فهو كمن دونه من السادة األنبياء البررة معصوم عن الخطأ في
الصغائر والكبائر وعن المخالفة والعصيان لقوله تعالى عن النبيين جمعاًَ ..﴿ :ب ْل
َم ِرِه َي ْع َمُلو َن﴾(.)1 ِ ِ ِ ِ ِ
عَب ٌاد ُّم ْكَرُمو َنَ ،ال َي ْسبُقوَن ُه باْلَق ْول َو ُهم بأ ْ
وهو الرسول النبي األول بالخلق وقد خاطبه تعالى بقوله الكريم عن المالئكة:
َّ
المكلفين والى ﴿ ..أَنِبْئهم ِبأَسم ِ
آئ ِه ْم ،)2(﴾...فهو نبي وهو رسول هللا إلى الجن َْ ُ
ذريته الكريمة .وأن الغرض من هذه المالئكة الكرام أجمعين ،واإلنس بدءاً من ِّّ
القصة إن هو إلَّ تحذير اإلنسان من مكر الشيطان ،وما ذلك من هللا تعالى إل محض
الرأفة والرحمة والحنان.
نتفهم نقطتين وردتا من معرض تلك األسئلة السابقة ،فإن نحن
بقي علينا أن َّ
ضل عن فهمها كثير فهمناهما حق الفهم فقد َّ
تبددت من أذهاننا جميع المشكالت التي َّ
من الناس.
أما النقطة األولى فهي:
ما معنى اآلية الكريمة التي وردت في هذه القصة وهي قوله تعالى في سورة
األعرافِ ﴿ :ب ُغُرور )3(﴾...؟ وهل استطاع الشيطان أن يغر سيدنا آدم وزوجه؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 231ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أم إن لآلية معنى دقيقاً يتناسب مع مقام هذا الرسول الكريم وما هو عليه من
ً
كمال؟
وجواباً على هذا السؤال نقول :إن كلمة ﴿ َف َدالَّ ُهما﴾ مأخوذة من َّ
دلى .تقول: َ
دلى فالن الغصن ،أي :أدناه منه .وهكذا فالشيطان لما حلف لسيدنا آدم بأن َّ
أ ْكَله من الشجرة يجعله دائم البقاء مع هللا ،ومالكاً ذلك الحال ،جعله يدنو من
الشجرة ويأكل وزوجه منها .أما كلمة ﴿ ِب ُغُرور﴾ فليس ينصرف معناها إلى سيدنا
آدم إنما ينصرف للشيطان ذاته.
فالغرور إنما كان ُيخالط نفس الشيطان ،ولم يخالط نفس سيدنا آدم .
وبشيء من التفصيل نقول:
الغرور :هو حال نفسي يسيطر على نفس اإلنسان ،فيجعله يتوهَّم وجود شيء،
وهو بالحقيقة غير موجود .فقد يغتر اإلنسان ليالً بضوء القمر ،فيتوهم إذا استيقظ
ورآه بازغاً أن الصبح قريب ،والحقيقة أنه ما يزال في أواسط الليل .وقد يغتر
اإلنسان بنفسه ،فيتوهم أنه قوي وأنه عالم ،والحقيقة أنه ل علم لإلنسان ،إلَّ بما
يعّلِّمه هللا تعالى إيَّاه ،ول قوة إل باهلل.
وهكذا ،فالشيطان إنما كان مغرو اًر بنفسه ،فكان يحسب أنه بهذا القسم الذي
أقسمه باهلل ُمَّدعياً فيه أن األكل من الشجرةُ ،يديم لسيدنا آدم البقاء مع هللا،
يستطيع أن يوقع سيدنا آدم في مخالفة رّبه ،فيرميه بالخجل ويبعده عن هللا،
ولكن األمور جاءت على عكس ما أراد وتوهَّم .فقد كانت نيَّة سيدنا آدم
العالية أساساً متيناً ارتكز عليه في العودة والرجوع إلى هللا ،وخرج إبليس من هذه
المحاولة مذموماً مدحو اًر.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 232ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
يغر سيدنا آدم ويبعده عن هللا،
وبهذا يتبيَّن لنا أن الشيطان ما استطاع أن َّ
وأن معنى كلمة ﴿ ِب ُغُرور﴾ إنما تصف حال الشيطان من حيث أنه توهَّم شيئاً،
فجاءت األمور بخالف ما توهَّم ،وباء بالفشل والخذلن.
***
يتوصل إلى إلقاء وساوسه إلى
َّ أما النقطة الثانية :كيف استطاع الشيطان أن
سيدنا آدم ،وسيدنا آدم مقبل على هللا ل ينقطع عنه؟ وهل يمكن أن تعتبر
هذه الواقعة دليالً على إمكان دخول الشيطان على األنبياء؟
وجواباً على هذا السؤال ،وايضاحاً لهذه النقطة نقول:
تبدو لنا هذه المشكلة جلية واضحة ،إذا نحن رجعنا إلى حال اإلنسان األول لما
كانت نفسه محيطة بجسده ،ثم قارَّنا ذلك الحال األول النفسي ،بهذا الحال الجسمي
الذي نحن عليه اآلن.
لما كان في َّ
جنة اإلقبال على هللا ،وكانت نفسه لبسة جسده فسيدنا آدم َّ
ومحيطة به ،ما كان بين نفسه ونفس الشيطان من حجاب يحجبها عنه ،بل كانت
تبدو ظاهرة مكشوفة .وبما أن سيدنا آدم ُ مقبل على هللا دائم النظر إليه ،لذلك
ِّ
ويحدثه بما ما استطاع الشيطان أن يفعل أكثر من أن ُيلقي إليه بوساوسه إلقاء،
ّ
حدثه به عن بعد ،ودون أن يدنو منه .فقد أكون اآلن سائ اًر في طريق وأسمع عنَّ
بعد كلمة يهمس بها إنسان ،أو يقصدني بها ويريد أن يجعلها في أذني ،ويرغب
يعد حديثه وهمسه ُّ
تسلطاً من علي ،ول ُّ
أن تقع في نفسي ،ول يعتبر ذلك دخولً منه َّ
مجرد قول صدرت موجاته من نفس ،فأصابت هذه
نفسه على نفسي ،إنما هو َّ
الموجات صفحة النفس الثانية ،وبين النفس األولى والثانية مسافة ظاهرة.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 233ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وهكذا فقد تُرسل اآلن المحطات اإلذاعية مثالً "الالسلكية" بموجاتها من منطقة
في أقصى الشرق ،فتعكس هذه الموجات األجهزة األخرى الالقطة التي تقع في
المغرب األقصى ،وبين المحطتين بعد المشرقين.
ِّ
يوضح لنا هذه النقطة التي نحن بصددها وضوحاً تاماًِّّ ،
ويبين لنا إن هذا المثال ّ
أن الشيطان ما دنا من سيدنا آدم ،ول دخل عليه ،وهو ل يستطيع أن يدنو منه،
ألنه دائم الوجهة إلى هللا ،بل كل ما في األمر أنه وسوس إليه وسوسة عن بعد.
ان.)1(﴾...
طُ س ِإَلْي ِه َّ
الشْي َ وقد وردت اآلية صريحة بهذا المعنى ،إذ قالتَ ﴿ :ف َو ْس َو َ
ولم تقل وسوس في صدره أو في نفسه ،كما في قوله تعالى:
الن ِ س ِفي ُصُد ِ َّ ِ
اس﴾( .)2أي المنقطعين عن هللا تعالى. ور َّ ﴿الذي ُي َو ْس ِو ُ
يدل على النفصال ،وأن حرف "في" يدل على ومن الواضح أن حرف "إلى" ُّ
عد هذه الوسوسة الملقاة عن بعد ،دخولً من الظرفية والشتمال .وهكذا ،فال تُ ُّ
الشيطان على سيدنا آدم أو دنواً منه ،ول يمكن أن تُعتبر هذه القصة ،دليالً
على إمكان دخول الشيطان على األنبياء .بقي علينا أن ِّّ
نبين عدم إمكان دنو
الشيطان من األنبياء في هذا الحال الجسمي ،مثلهم كمثل سائر البشر ،من حيث
كون أجسامهم محيطة بأنفسهم ،وكون الحكم للجسم ،فهم يولدون كما يولد سائر
البشر ،ويط أر على أجسامهم في الحياة الدنيا ما يط أر على أجسام غيرهم ،من
صحة ومرض ،وشباب وشيخوخة ،وضعف وهرم وموت.
أما أنفسهم صلوات هللا عليهم ،فهي دائمة اإلقبال على هللا ،فبما َع َرَف ْت من
رأفة هللا ورحمته بخْلقه ،وبما شهدته من كماله تعالى ،وجماله الالمتناهي ،أضحت
عاكفة في ذلك الجناب العالي ،وهي والحالة هذه ،مغمورة بذلك التجّلِّي اإللٓهي،
مشمولة بذلك النور ل ينقطع عنها طرفة عين.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 234ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وبما أن النفس في هذا الحال الجسمي محاطة بالجسم ،ول يمكن أن تصلها
وساوس الشيطان من بعيد ،بل ل بد له من النفوذ إليها عن طريق الجسم واختراق
الصدر ،وحيث أن أجسام األنبياء مغمورة دوماً بذلك النور اإللٓهي المتوارد على
وحبهم العظيم له تعالى ،لذلك ل يستطيع نفوسهم ،بصدقهم القوي جداً مع هللاِّّ ،
الشيطان أن يدنو منهم ،وأن يخترق ذلك النور اإللٓهي ،وهم صلوات هللا عليهم بهذا
التجّلِّي ،في حصن حصين من الشيطان وحرز منيع.
وهكذا نخلص من حديثنا هذا وقد َّبينا أن الشيطان ل سبيل له ول مدخل على
طعاً ،كما أنه ل سبيل له على كل مؤمن ،ما دامت نفسه مقبلة على هللا
األنبياء ق ْ
متجهة إليه ،أو مرتبطة بأنبيائه الكرام البررة .وقد أرشد تعالى اإلنسان بصورة
عامة إلى هذه الوسيلة التي َّ
يتخلص بها من الشيطان فقال تعالى:
ِ ِ ِ غ َفاسَت ِع ْذ ِب ِ ﴿ َواِ َّما َي َنزَغَّن َك ِم َن َّ
يمِ ،إ َّن َّالذ َ
ين َّاتَقوْا ِإ َذا يع َعل ٌاّلل ِإَّن ُه َسم ٌ ه ان َنْز ٌ ْ طِ الشْي َ
ان َت َذَّكُروْا َفِإ َذا ُهم ُّمْب ِصُرو َن﴾(.)1 طِ ف ِهم َن َّ
الشْي َ َم َّس ُه ْم َط ِائ ٌ
ِ
آمُنوْا َو َعَلى َرهِب ِه ْم َيَت َوَّكُلو َنِ ،إَّن َما ُسْل َطاُن ُه َعَلى
ين َان َعَلى َّالذ َ س َل ُه ُسْل َط ٌ ﴿ِإَّن ُه َلْي َ
()2
ين ُهم ِب ِه ُم ْش ِرُكو َن﴾ ِ
ين َيَت َوَّل ْوَن ُه َوَّالذ َ
ِ
َّالذ َ
***
كنا أوردناها ،ل بد لنا من معالجة نقطة
واآلن ،وبعد أن أجبنا على أسئلة دقيقة ّ
جديدة تتلخص بهذا السؤال التالي:
هل كان خروج سيدنا آدم ﷺ إلى هذه الدنيا ومجيء بني اإلنسان من بعده إليها
الجنة ،رأساً دون خروجهم إلى
الجنة وخلق بني اإلنسان في َّ
أحسن ،أم أن بقاءه في َّ
الدنيا أحسن؟ وأي الحالين يعود على اإلنسان بالسعادة والخير ،أكثر من اآلخر؟
وجواباً على هذا السؤال نقول:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 235ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تتوضح لنا هذه النقطة إذا نحن رجعنا إلى الحديث عن َّ
الجنة وحقيقتها ،وأن منازل َّ
الناس في َّ
الجنة إنما تكون على حسب أعمالهم .وزيادة في التفصيل نضرب المثال
اآلتي فنقول:
هب أن رجالً سافر في قطار ،وكانت الطريق التي تطل عليها نافذة القطارْ
من أجمل ما خلق هللا تعالى في مناظرها ومشاهدها وعجائبها وغرائبها ..حدائق
وأشجار ،وأنهار وبحار ،ومناظر فتَّانة ،ومدن جميلة مختلفة لم َير الراؤون نظيرها،
ولم يخطر لهم مثالها على بال .فما دام هذا القطار مستم اًر في سيره ل يتوقف عن
المسير ،تجد هذا اإلنسان الراكب مشرئباً بعنقه إلى تلك المشاهد ،ل يبغي عنها
حولً ُّ
لتجددها وتباينها ،وتراه ل ينقطع عن النظر ،مخافة أن يفوته شيء منها .أما
إذا وقف هذا القطار ،وطال به الوقوف ،تجد هذا الراكب ينصرف عن النافذة
متحولً ،ولو كان المشهد الذي وقف أمامه من أجمل المناظر وأمتعها .والسبب في
أن النفس بحسب ما فطرها هللا تعالى عليها وما جعله فيها من الوسعة ذلك هو ّ
الالمتناهية ،تضيق إذا هي ُحبست عند حال واحدة .وحب الستطالع على كل
تسرب
توقف على حال واحدَّ ، جديد ،من األمور التي ُف ِّطر عليها اإلنسان ،فإن َّ
َ
يتبدلُ ،ممالًّ بل ممقوتاً ،حتى والمطرب اللذيذ
الملل إليه ،وأصبح الجميل الذي ل َّ
بتك ارره دون جديد ،يغدو مرفوضاً ومدعاة للملل.
هذا وبناء على ما َّ
قدمناه نقول:
وتنقله في جنَّة اإلقبال على هللا ،يتوقف على حسب ما أن ارتقاء اإلنسان ُّ
بما ّ
يقدمه اإلنسان في هذه الحياة الدنيا من صالح ِّ
كنا بيَّناه من قبل ،على ما ّّ
األعمال ،ولذلك ،فلو أن اإلنسان ُخلِّ َق في َّ
الجنة رأساً ،ولم يخرج إلى هذه الدنيا،
يتقرب به إلى خالقه زلفى ،ولما أمكن الرتقاء من حال إلى حال
لما كان له عمل َّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 236ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لظل في َّ
الجنة مالزماً لمنزلة واحدة ل جن ٍة إلى َّ
جنة أوسع وأرقى ،بل َّ أعلى ،ومن َّ
يتعداها.
وهكذا ،فاهلل تعالى إنما خلق النفس البشرية ،وأعطاها أعظم وأغنى عطاء ،فقد
التوسع في هذه المشاهدة
للتدرج في مشاهدة الكمال اإللٓهي ،و ُّ
جعل فيها من القابلية ُّ
ما ل يقف بها عند حد أو انتهاء ،وذلك في قوله ﷺ في حديث قدسي( :ما وسعني
أرضي وال سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن).
وأخرجها تعالى إلى هذه الدنيا ،وفتح لها مجال العمل ،لتكون أهالً لذلك الشهود
الالمتناهي وذلك الرتقاء ،وجعل الشهوة دافعة للعمل ،مانح ًة إيَّاه قيمته ،إذ لو لم
تكن لإلنسان شهوة إلى المال مثالً ،لما كان للصدقة عنده وزن ول قيمة ،وكذلك
غض النظر عن النساء اللواتي ل يحل النظر إليهن ،وبذلك كله أهَّل هللا تعالى
ُّ
هذا اإلنسان ألعظم ما يمكن أن يناله مخلوق من الفضل اإللٓهي ،والنعيم المقيم.
أفليس إخراج اإلنسان والحالة هذه إلى الحياة الدنيا فضالً من هللا ونعمة ،خير
ات ُعال الجنة؟ أي :من جنَّ ٍة واحدة عالية قطوفها دانية ،إلى َّ
جن ٍ من إبقائه في َّ
وعلواً،
سمواً ّلتنوعها وتفاضلها ّ
تنكب عليها النفس ُّ
بمسرات عالية متزايدة متساميةُّ ،
َّ
حباً باإللٓه الرحيم العظيم الذي دوماً ُيغدق عليه ِّ
المتذوق ،وتملؤه ّ تروق للرائي
ّ
سعادة أسمى من السعادة التي قبلها ،فال ملل ول كلل ،بل سرور مغمور بحبور،
المنان ،أي :من َّ
جنة إلى جنان ،وهذا مع زيادة في العلو والقرب من الرحيم َّ
المؤمن متّكئاً في معارجه ،على أعمال ممزوجة بالنوايا اإلنسانية! قال تعالى مشي اًر
إلى أن إخراج اإلنسان إلى هذه الدنيا ،خير من ذلك الحال الذي كان فيه سيدنا
َنزْلَنا
آد َم َق ْد أ َ ِ
آدم سابقاً ،بما بيَّنته اآلية الكريمة في قوله تعالىَ﴿ :يا َبني َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 237ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ات ِ الت ْقوى َذلِك َخير َذلِك ِمن آي ِ اسا ُي َوارِي َس ْوَء ِات ُك ْم َو ِر ً ِ
ّللا
ه اس َّ َ َ َ ْ ٌ َ ْ َ يشا َولَِب ُ َعَلْي ُك ْم لَب ً
()1
َل َعَّل ُه ْم َي َّذ َّكُرو َن﴾
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 238ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الفصل السادس
في هذا الفصل:
طريق اإليمان.
محمد أمين شيخو َّ
قدس هللا سره. َّ
مقتطفات من علوم العالمة اإلنساني ه
***
طرَق اْلَمان
إن هذا الكون بما فيه من شمس وقمر وكواكب وأجرام ،بما فيه من أمطار
وثلوج وسحب ورياح ،بما فيه من أرض وسماء وحيوان ونبات ،حتى الكرة
األرضية في جريانها ودورانها ،والفصول األربعة في ُّ
تبدلها وتعاقبها ،والليل والنهار
في اختالفهما وتالحقهما ،وان شئت فقل:
هذا العالم الخضم الزاخر بالمخلوقات وبجميع ما فيه من كائنات ،حتى جسمك
تألف منه من أجهزة وأعضاء ،وما يجري فيه من مبادلت وتحليل وتركيب وما َّ
وقيام غدده بما يتطلَّبه من إف ارزات ،وتهيئة ما يلزمه من مواد مختلفات ،ذلك كله
مما تعلمه وما ل تعلمه إنما يجري ضمن قانون ثابت ووفق نظام.
َّ
واذا كان الخالق العظيم قد جعل لهذا الكون بجميع ما فيه من مخلوقات قانوناً
وذلَّلُ يتعداه ،واذا كان الخالق العظيم قد َّ
سخر هذا الكون ََّ ونظاماً يسير عليه ول َّ
ويعقل أن ل يكون لهذا اإلنسان وهو أكرم المخلوقاتتصور ُ
لهذا اإلنسان ،فهل ُي َّ
وأفضلها قانون ونظام؟ هل َّ
نظم الخالق العظيم الكون كله وترك اإلنسان يسير في
هذه الحياة على غير هدى ونظام؟ هل َّ
نظم الخالق العظيم الكون َّ
كله وأهمل هذا
اإلنسان ،وتركه يتخبَّط في الظلمات فال يعرف خيره من شره ول يدري كيف يسير
في مجاهل هذه الحياة؟ الفكر المستقيم والمنطق الصحيح والوعي السليم ،كل هذا
مقر بوجود هذا النظام المرسوم لهذا اإلنسان ،فأين يا تُرى ذلك القانون
يحكم ّاً
والنظام؟
عامة عن هللا ،تعال نستمع إلى َّأول تعال معي ننظر فيما جاء به الرسل الكرام َّ َ
كلمة أوحى بها هللا تعالى إلى الرسول ﷺ ِّ
اس ِم ُليبّلغها للناس إذ قال تعالى﴿ :ا ْقَ ْأر ِب ْ
ان ِم ْن َعَلق ،ا ْقَ ْأر َوَرُّب َك ْاأل َْكَرُمَّ ،ال ِذي َعَّل َم ِباْلَقَلمَِ ،عَّل َم
نس َ ق ِْ
اإل َ قَ ،خَل َ
ِ
َرهِب َك َّالذي َخَل َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 241ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ان َما َل ْم َي ْعَل ْم﴾(.)1
نس َ ِْ
اإل َ
تعال لُِّندِّّقق في هذه الكلمة التي َّبلغها الرسول محمد ﷺ للعرب َّ
كافة ولجميع
دل الرسول عليها أصحابه الكرام ،تعال
العالمين ،تعال ننظر في تلك الدللة التي َّ
ننظر إلى ما كان يتلوه عليهم في مكة وفي األيام األولى من بعثته ﷺ من قرآن
ِّ
المتمسك بما وجد ُم َّنزل من عند هللا ،تعال ننظر نظرات الظامئ إلى الحقيقة ل
ّ
عليه آباءه األولين دون وعي أو تفكير ،تعال نخرج من هذه الجهالت التي َّ
ركبتها
فئات من ذوي األهواء والضاللت ،تعال نرجع إلى الحق والحق أحق أن ُيتَّبع،
ولنقتد بالرسل الكرام ولنتبع النهج القويم الذي ساروا عليه َّ
كافة تجد النظام المنشود
والقانون المرسوم في القرآن ،والذي طبَّقه رسول هللا ﷺ بذاته ودعا إلى تطبيقه
صحابته الكرام ،فكان لهم ما كان من شأن حتى مأل ذكرهم الخافقين ،وفازوا بما
فازوا به من السعادة والخيرات.
أقول :ذلك القانون والنظام هو أن َّ
تتعرف إلى أصلك وتنظر في بدايتك أيها
اإلنسان ،فمن عرف نفسه عرف ربَّه ،ومن عرف ربه هداه طريق السعادة وحفظه
من الشقاوة والضالل ،ومن ِّ
يهد هللا فهو المهتدي ،ومن ُيضلل فلن تجد لهم أولياء
من دونهِّّ .
فكر أيُّها اإلنسان في أصلك ،وتفكيرك في أصلك وبدايتك َّأول مواد هذا
تفضل عليك ربُّكفكر وقد َّ شرعه لك هللاِّّ ،
فكر وكيف ل تُ ّ القانون والنظام الذي َّ
َ
بتلك الجوهرة الثمينة التي تساعدك على التفكير وتصل بك إلى معرفة خالقك
فكر وقد جعل لك في هذا الكون من اآليات العظيمة فكر وكيف ل تُ ِّّ
ومربيكِّّ ،
ّ
فكر وكيف ِّ
والنظام البديع مراتع واسعة ومجالت كبرى يرتع ويجول فيها التفكيرّ ،
فكر والكون أمامك كتاب مفتوح تستطيع أن تق أر فيه ولو لم يعّلِّمك ُمعّلِّم ،ولو ل تُ ِّّ
فكر في أصلك يتول أمرك أحد ،فاهلل تعالى لك إن صدقت خير معِّّلم ودليلِّّ ،لم َّ
ُ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 242ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تركبتِّّ ،
فكر ومم َّ
تكونت َّ يوم كنت نطفة في ظهر أبيكِّّ ،
فكر في هذه النطفة كيف َّ
في هذه النطفة أين وضعت واستقرت؟
فكر في نفسك وقد أصبحت في ظلمات الرحم وفي ذلك المستودع األمينِّّ ،
فكر ِّّ
في تلك األطوار التي مررت بها فمن نطفة إلى علقة ومن علقة إلى مضغة ومن
وخِّل َق ِّ مضغة إلى عظام ،عظام َّ
مركبات بنظام واتساقُ ،رّكبت عليها العضالت ُ
منها تجويف الدماغ وللعين واألذن والفم منه مكان ،وللقلب والرئتين قفصهما
ولألحشاء منها حوامل ومراكز للعروق واألوتار.
ُفصل لك في هذا كل التفصيل ،بل أدع لك المجال لتُشاهد ِّ ِّّ
فكر ول أريد أن أ ّ
ِّ
وقدر تحولت إلى إنسان سوي ومخلوق كريمِّّ ، وترى كيف َّ
فكر ّ أن النطفة األمشاج َّ
وسوت لك هذه األعضاء وجعلت الدماغ وصورتك َّ
َّ عظمة تلك اليد التي أوجدتك
ٍ
وحرز ظ ٍم وأجزاء في مكان أمين
َع ُ
والقلب واألجهزة الرئيسية ،وما تتألف منه من أ ْ
حريز ،فكر في تلك اليد التي كانت تسوق لك الغذاء وأنت في طريقك إلى الدنيا
وحيداً فريداً ل حول لك ول قوة ،وما تملك لنفسك رزقاً وما يملك لك أحد رزقاً ،لكن
تلك اليد التي سهرت على خْلقك هي التي كانت ترزقك ،فتسوق لك الغذاء َّ
وتمد
كل عضو من أعضائك بما يلزمه من مواد.
فكر في تلك اليد التي استطاعت خالل بضعة أشهر نقلك من نطفة إلىِّّ
إنسان ،فما َّ
تأخر خلقها وما هي بمسبوقة عن إنجاز الخلق وتركيب اإلنسان في
مدته المعيَّنة ،فما أن أزف موعد الولدة والخروج إلى الدنيا حتى َقَل َب ْت َك وأنت في َّ
ويسرت لك بطن أمك رأساً على عقب ،فجعلت رأسك إلى أسفل وأرجلك إلى أعلى َّ
َي َشيء َخَلَق ُهِ ،من اإل نسان ما أَكفرهِ ،من أ السبيل إلى الولدة ،قال تعالى﴿ :ق ِتل ِ
ُ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ ُ ْ ِه ْ
َم َات ُه َفأَ ْقَبَرُهُ ،ث َّم ِإ َذا َشاء أ َ
َنشَرُه﴾(.)1 يل َي َّسَرُهُ ،ث َّم أ َ
ُّن ْط َفة َخَلَق ُه َفَقَّدَرُهُ ،ث َّم َّ ِ
السب َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 243ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فكر وقد نزلت إلى هذا العالم الجديد في أرض جديدة ،فأحاطك بعطف أُمك ِّّ
ولطفها َّ
وبث في قلبها محبَّتك وأودعه حنانها وهيأ لك طعامك في ثدييها فإذا هو
كل ما يحتاجه جسمك من مواد وجميع ما سائغ شرابه ،لذيذ طعمه ،مغٍّذ ٍ
حاو َّ
يتطلَّبهِّّ .
فكر في تلك الوجبات من الغذاء التي كانت تُ ِّّ
هيئها لك تلك اليد الرحيمة
بك ،فتزيد لك في معاييرها الغذائية لحظة بعد لحظة ووجبة بعد وجبة زيادةً
موك ُّ
وتقدمك في السن ،حتى إذا ما احتاج جسمك مزيداً من التغذية متناسبة مع ُن ّ
سناً بعد سن
وأصبحت معدتك قادرة على هضم األطعمة ،أنبت لك األسنان اللبنية ّ
حسبما يقتضيه النماء وتتطلبه الحاجة.
سيهيَّأ ألن يضطلع بأمور سبع خلت من سني الحياة ،ومن أجل جسم ُ ِّّ
ولسن ٍ
وفكر ِّّ
يدبر أمو اًر جليلة َّبدل لك تلك األسنان اللبنية بأسنان هامة وأعمال عظيمة ْ
فكر في تلك اليد التييتطلبه من غذاءِّّ ،
دائمة تستطيع أن تهيئ لهذا الجسم ما َّ
وتمر الرياح تُرِّّبيك اآلن فترسل بأشعة الشمس الحارة على البحار تُ ِّّ
بخر مياههاُّ ،
فتسوق السحب وتُثيرها من مكامنها ثم حييت األرض من بعد موتها وارتوت من
بعد عطشها كشفت الغيوم وأعادت إلى السماء صفاءها وللشمس إشراقها فإذا
َت ْحُرُثو َن ،أَأ ُ
َنت ْم الزرع في نماء واذا األرض تجود بالخيرات ،قال تعالى﴿ :أَ َفَأرَْي ُتم َّما
َت َف َّك ُهو َنِ ،إَّناظَلْل ُت ْم
اما َف َ طً الز ِار ُعو َنَ ،ل ْو َن َشاء َل َج َعْلَنا ُه ُح ََت ْزَر ُعوَن ُه أ َْم َن ْح ُن َّ
ومو َن ،أَ َفَأرَْي ُت ُم اْل َماء َّال ِذي َت ْشَرُبو َن ،أَأ ُ
َنت ْم ن ن َِّ
َل ُم ْغَرُمو َ ،إنا َل ُم ْغَرُمو َ َ ،ب ْل َن ْح ُن َم ْحُر ُ
اجا َفَل ْوَال َت ْش ُكُرو َن﴾(.)1 ُج ً اه أ َ وه ِم َن اْل ُم ْز ِن أ َْم َن ْح ُن اْل ُم ِ
نزُلو َنَ ،ل ْو َن َشاء َج َعْلَن ُ َنزْل ُت ُم ُ
أَ
فكر في األغذية وأنواعها ،واألزهار وأشكالها وروائحها ،والفواكه وألوانها ِّّ
فكر في النوم وقد جعله هللا تعالى لك وتقلبهاِّّ ،
فكر في الفصول األربعة ُّ وطعومهاِّّ ،
ِّ
يقدم لك ما في التنفس والستنشاق وما سباتاً وفي النهار معاشاًِّّ ،
فكر في الهواء ّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 244ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تمدك بالح اررة والضياءِّّ ،
فكر في فكر في الشمس وهي ُّ يساعد على الحتراقِّّ ،
البحار ،في األنهار ،في السهول والجبال ،في الحيوان والنبات ،في المالبس
ِّ
تؤمن لك جميع ما والثياب في الصوف والقطن والكتَّانِّّ ،
فكر في هذه اليد التي ّ
تحتاج ،وتسهر على تربيتك فإذا هي تغدق عليك من خيراتها وتغمرك بفضلها
وتواصل عليك إمدادها في كل لحظة وآن دون أدنى انقطاع.
ِّّ
فكر على هذا النمط وبهذه التربية فبمثل هذا التفكير بدأ سيدنا إبراهيم أولى
خطواته سائ اًر في طريق اإليمان ،وبمثل هذا التفكير بدأ سائر الرسل الكرام من
فكرت اهتديت وعرفت َّ
أن فكر فإن أنت َّلدن سيدنا آدم حتى سيدنا محمد ﷺِّّ ،
لك مرِّّبياً عظيماً ساه اًر عليك ل يغفل عنك طرفة عينَّ ،
أمدك جنيناً ثم مولوداً
وطفالً صغي اًر ،ثم رجالً وانساناً كامالً ما يزال إمداده عليك دائماً ،وخيره إليك جارياً
استقر في نفسك وعقلته فتحققت فيه ،فهنالك سينفتح أمامك
َّ متواصالً ،حتى إذا ما
أفق جديد ونمط آخر من التفكير.
سترى أن جسمك سوف ل يبقى قوياً جلِّداً وأنك سوف ل تعيش في الحياة
ودع الحياة ومات ،وهذا جارك قد فارق زوجه وبنيه وقضى
مخلداً ،فهذا قريبك قد َّ
نحبه ،ولم يتمتَّع بالحياة الدنيا سوى أعوام معدودات ،وذاك صديقك لم يفرح بمتجره
()1
اللذات كل أمل له في الحياة ووافاه ول ببيته الذي شاده وبناه ،بل قطع هاذم
األجل ولم ُينظره لحظات .وذا مات مريضاً وذا عليالً وهذا فجأة دون أدنى
القواد
استعداد ،وتنظر إلى هذا وذاك ،حتى أنك لتمر بذهنك على الملوك واألمراء و َّ
العظماء واألغنياء والفقراء ،حتى الرسل الكرام فما تجد الموت أبقى أحداً ،وهنالك
أن الموت مصيرك المحتوم رغم كل المحاولت ،كما هو مصير من كان تعلم َّ
قبلك فال نجاة منه ول خالص ،وهنا تنقطع آمالك من هذه الحياة الدنيا ،وتعلم أنها
( _ )1هاذم :بالذال ،بمعنى قاطعها ،ألنه إذا جاء ال يبقي من لذائذ الدنيا شيئاً.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 245ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
دار الرحلة والفناء.
ويبعث التفكير في الموت الخشية في نفسك والرهبة ويوّلِّد الصدق في معرفة
وتهب تبحث صادقاً عنه وتتساءل من هو هذا المربي الذي خلقني من ُّ المربي،
نطفة ،ولم أكن من قبل شيئاً مذكو اًر ،ثم جعلني طفالً فرجالً كبي اًر؟ وتنظر في الكون
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 246ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الكرام ،ل إيماناً كإيمان العجائز مبنياً على ُخرافات وأوهام ،واذا أنت والحالة هذه قد
آمنت بتلك الكلمة صدقاً ،وقلت ل إلٓه إل هللا حقاً وذلك بعض ما نفهمه من قوله
ِ َِّ
ّللا.)1(﴾...اعَل ْم أََّن ُه َال إَل َه إال َّ ُ
تعالىَ ﴿ :ف ْ
وقوله ﷺ( :من قال ال إۤله إالَّ هللا مخلصاً دخل الجنة ،قيل :وما إخالصها؟
محارمِ هللا) (.)2
ِ قال :أن َت ْح ُج َزُه عن
وكيف ل تحجزه عن محارم هللا وقد أضحى في حال يرى هللا تعالى معه
مشاهداً رقيباً كيفما سار وأنَّى اتَّجه؟
واآلن وبعد أن َّبلغتك هذه المرحلة ،مرحلة اإليمان بال إلٓه إل هللا من بعد أن
ممن
وصلت بك بمرحلة اإليمان بالمربي ،سأسرع في المسير وقد أضحيت َّ
يستطيع السير معي بسرعة دون إبطاء ،أريد أن أ ِّّ
ُبين لك آثار اإليمان بكلمة (ال
إۤله إال هللا) ،وأن أنقلك إلى محبة رسول هللا ﷺ فأقول :إذا أنت وصلت إلى
اإليمان بال إلٓه إل هللا ،وأصبحت ممن يرى أن سير الكون كله بيد هللا ،وانغمرت
وتتجمع ،ول
َّ نفسك بهذه المشاهدة فصرت ترى أنه ل رياح ُّ
تهب ،ول غيوم تتلبَّد
أمطار تهطل ،ول برق يلمع ويومض ول رعد يدوي ،ول بحر يموج بعضه في
تدفق متواصل ،ول بركان يثور فيبعض فيعلو ويهبط ،ول نهر يتدافع ماؤه في ُّ
هز فيلقي ُّ
الذعر غضب ،ول سيل يجري في عنفوان وشدة ،ول زلزال ُّ
يهز األرض ًّا
في قلوب غافلة لهية ،ول أرض تدور في سبيل توليد ليل ونهار وفصول أربعة،
ول نجوم تجري لمعة في أفالك م َّ
نظمة ،وان شئت فقل: ُ
ممن ُيشاهد أن الكون بجميع ما فيه من مخلوقات ،وحدة إذا أنت أصبحت َّ
تُ ِّّ
صرفه يد عزيز حكيم وارادة عليم خبير ،حتى أن يدك ل تتحرك بحركة وعينك ل
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 247ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تطرف بنظرة ،وأذنك ل تستمع إلى صوت أو جلبة ،وقلبك ل يخفق نابضاً بين
انقباض وانبساط ،وأن معدتك ل تفرز عصاراتها على ما فيها من أطعمة ،وكبدك
ل يقوم بتخزين مواد وافراز مواد وفق معايير َّ
منظمة ،ورئتك ل تتَّسع وتنقبض في
شهيق وزفير ،ودمك ل يجري في شرايين وأوردة ،والكريات الحمر ل تنقل ما تنقل
في ٍ
غدو ورواح ،والكريات البيض ل تقف مع الجراثيم في صراع وعراك ،والجراثيم ل
ّ
وشدة ،أقول:
تُهاجم الجسم في عنفوان ّ
إذا أنت وصلت إلى هذا عن طريق العقل والمشاهدة النفسية ،ل عن طريق
المجلدات والكتب ،وصرت ترى أن األمرَّ السماع من ذوي الختصاص و َّ
النقل عن
قويهم
وعامتهم ،قريبهم وبعيدهمّ ،
َّ خاصتهم
َّ كله بيد هللا ،وأن الناس جميعهم
وضعيفهم ،ل بل الخالئق َّ
كلها ل يستطيع أحد منها أن يجلب لك خي ًار أو يدفع
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 248ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أما الثمرة األولى :فهي أنها بوجهتها إلى خالقها تتساقط منها الذنوب ،وأعني
بالذنوب ما َعلِّق بالنفس من شهوات دنيئة وما َّ
تمكن فيها من أدران .فبهذه الصلة َ
ُّ
تنحت هذه الشهوات الدنيئة ُمتساقطة ،وتنغسل النفس من أدرانها ،فتخرج من باهلل،
صالتها وقد اكتسبت طهارة ونقاوة ،وخلصت من شهو ٍ
ات كانت تُ ِّّ
نغصها وأدران
كانت ُت ّلوثها ،فال بخل ول جبن ول حرص على الدنيا ول شح ،ول فظاظة ول
غالظة ،ول قساوة قلب ول حب إيذاء ،ول ذل ول خنوع ،ول ميل إلى بغي ول
عدوان ،ول مطمع بما في الدنيا من جاه وسلطان ،حتى ول أي صفة رديئة تُنقص
من قيمة اإلنسان وتُحط من شأنه بين الناس وعند هللا.
ذلك كله تمحوه الصلة باهلل واإلقبال عليه تعالى ،وفي حديث شريف ورد عنه
مبيناً فيه أثر الصالة في نفس اإلنسان إذ يقول ﷺ: ﷺ
ِّّ
كل يوم خمس مرات ما تقولون؟
أن نه اًر بباب أحدكم يغتسل فيه ُّ
(أرأيتم لو َّ
ذلك يبقي من درنه شيئاً؟ قالوا :ال يبقي من درنه شيئاً ،قال :فذلك مثل الصلوات
( )
الخمس يمحو هللا بها الخطايا) . 1
تلك هي أولى ثمرات اإلقبال على هللا تعالى ونتائج الصالة الصحيحة.
أما الثمرة الثانية :فإليكها وكم أنت ُمغتبط إن نلتها ،إنك وفي حالة صلة نفسك
بخالقك لتشعر بالحياة تسري في أعماقها كما يشعر المرء بدفء الشمس المنعش
في أيام البرد الشديد القارس ،وتشعر بالحياة تسري في نفسك كما يشعر المرء
بنسيم الهواء الرطب العليل إذا جلس تحت شجرة يتفيَّأ ظاللها في أيام الصيف
الشديدة القيظ ،وتشعر بالحياة تسري في نفسك كما يشعر الظامئ الهيمان بجرعة
وينعش جسمه وروحه ،وتشعرالماء البارد يسري ريُّها في عروقه فيطفئ ظمأه ُ
وتشعر وليس من شعور لدى المؤمن بأجمل من ذلك الشعور الذي يجده في
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 249ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ساعات إقباله على خالقه ومرّبِّيه ،وفيما أنت منغمس بهذا الحال من الشعور
ٍ
معان عالية من الكمال وتلك هي السامي الرفيع ،تنطبع على صفحات نفسك
الثمرة الثانية التي تجنيها النفس من تلك الصالة الصحيحة وذلك اإلقبال على هللا.
ومن آثار هذا الكمال الذي اصطبغت به النفس في ساعات اإلقبال على هللا ،ومن
مظاهره في نفس هذا المؤمن السائر في ذلك المضمار :الرحمة والحنان ،والكرم
وص ْد ُق الحديث والصراحة فيالسخاء والمروءة ومُّد يِّد المعونة للمحتاجِّ ،
والجود و َّ
َ َ
األقوال ،واللطف والرقة ودماثة األخالق والحلم واألناة والحياء ،والشجاعة والوقوف
ِّ
عد ْد ما
وعزة النفس واإلباء ،وهكذا ّ
في وجه الباطل وقفة األبطال ،والعدل واإلنصاف ّ
شئت من صفات الكمال ومظاهره تجد النفس قد نالت في حال إقبالها على هللا
تعالى شط اًر منه واصطبغت به ،قال تعالى:
ّللا ومن أَحسن ِمن ِ
ّللا ِصْب َغ ًة َوَن ْح ُن َل ُه َعا ِبدو َن﴾(.)1 ِ ِ
﴿صْب َغ َة ه َ َ ْ ْ َ ُ َ ه
واآلن وقد بلغت النفس هذه المرحلة وأضحت في تلك المنزلة ،وأصبحت ذات
عال ،إنها تحب كل ذي كمالوخلق ٍ عال ،تجدها تُحب كل ذي كمال ُ لق ٍ وخ ٍكمال ُ
قدر الفضل إل أهل الفضل ول يعرف الكمال إل ِّ
بسبب ما فيها من كمال ،إذ ل ُي ّ
أهل الكمال ،فإذا رأت أهل الكرم والجود َّ
قدرت سبقهم إياها في الكرم والجود ،وان
تفوقهم عليها في الرحمة والحنان ،وكذلك األمر شاهدت أهل الرحمة والحنان َّ
قدرت ُّ
متفوِّق عليها وسبقه إياها ،فإن ِّ
قدر كل ّ بالنسبة لسائر الصفات واألخالق ،فهي تُ ّ
وجدت مؤمناً كامالً أحب َّْته ،وان اجتمعت بمرشد صادق عشقته وصاحبته ،وبما أن
رسول هللا ﷺ
هو ِّّ
سيد أهل الكمال ،وأسبق العالمين قاطب ًة في هذا المضمار،
وحيث إنه ﷺ بقربه العالي من خالقه اكتسب من تلك الحضرة اإللٓهية أوفر حظ
من الكمال ،حتى إنه لم يدانه في ذلك المقام ملك ول إنسان ،لذلك تجد هذا
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 250ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ِّ
قدر رسول هللا ﷺ تقدي اًر عظيماً يمأل قلبه وجوارحه ،فال يرى مخلوقاً أعظم
المؤمن ُي ّ
في نظره ول يجد إنساناً أسمى مكانة من رسول هللا ﷺ ،فإذا ما سمع بذكره َّ
حن
إليه قلبه ،واذا ما ذكر اسمه وُذكرت شمائله وأعماله َس َر ْت إليه نفسه قاطعة شاسع
طية وبأقل من لمح البصر القرون واألجيال ،فإذا هي في صحبة المسافات متخ ِّّ
مع تلك النفس العالية ،واذا هي متمسكة بتلك العروة الوثقى استمساكاً ل انقطاع
له ول انفصام.
هنا وبهذا السريان النفسي وبذلك الرتباط المعنوي والصحبة لتلك النفس ،وأعني
بها نفس رسول هللا ﷺ الزكية الطاهرة ،تعرج نفسك إن كنت َّ
ممن وصل إلى هذا
المقام بلطف ومن دون شعور مصاحب ًة نفس رسول هللا ﷺ المقبلة دوماً على هللا،
سماه هللا تعالى بالسراج المنير
فإذا النفسان معًا في حضرة هللا ،وهنا ُيضيء لك ما َّ
وهو نور رسول هللا ﷺ عن طرف من كمالت هللا تعالى فتُشاهد ما تُشاهد ما أنت
لمشاهدته من رحمة إلٓهية وحنان وعطف ولطف ورأفة واحسان وعدل وقدرة أهل ُ
وعلم وحكمة ،وواسع فضل وتربية وامداد برزق لكل ذي روح وحياة ،وتسيير شامل
إلى غير ذلك من األسماء اإللٓهية التي ما رأى طرفاً منها رٍاء إل وهام بها عشقاً
وشغف بها ُحّباً.
ُ
وهنا وبمثل هذا العشق لذلك الكمال اإللٓهي والحب المنبعث عن رؤية تلك
األسماء الحسنى تحصل النفس على صلة عالية بخالقها ،صلة َّ
ولدها الحب
المنبعث عن رؤية األسماء اإللٓهية والكمال ،وهنالك وبهذه الصلة تكتسب النفس
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 251ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ين﴾(.)1 ﴿يا أَُّيها َّال ِذين آمُنوْا َّاتُقوْا ّللا وُكوُنوْا مع َّ ِ ِ
الصادق َ ََ هَ َ َ َ َ َ
آمُنوا ِبَر ُسولِ ِه ُي ْؤِت ُك ْم ِكْفَلْي ِن ِمن َّر ْح َم ِت ِه َوَي ْج َعلّللا و ِ
آمُنوا َّاتُقوا َّ َ َ ين َ
ِ
﴿َيا أَُّي َها َّالذ َ
ِ ِ ِِ َّل ُك ْم ُن ًا
يم﴾(.)2 ور َّرح ٌ ور َت ْم ُشو َن به َوَي ْغفْر َل ُك ْم َو َّ ُ
ّللا َغ ُف ٌ
نك ْم َسهِيَئ ِات ُك ْم
ّللا َي ْج َعل َّل ُك ْم ُفْرَقاناً َوُي َك هِفْر َع ُ ِ
آمُنوْا إَن َت َّتُقوْا ه َ ين َ ﴿يِا أَُّي َها َّالذ َ
ّللا ُذو اْل َف ْض ِل اْل َع ِظيمِ﴾(.)3 ِ
َوَي ْغفْر َل ُك ْم َو ه ُ
َع َماَل ُك ْم َوَي ْغ ِفْر ِ ِ ِ
يداُ ،ي ْصل ْح َل ُك ْم أ ْ ّللا َوُقوُلوا َق ْوًال َسد ً آمُنوا َّاتُقوا َّ َ ين َ ﴿َيا أَُّي َها َّالذ َ
يما﴾(.)4 ِ ِ
ّللا َوَر ُسوَل ُه َفَق ْد َف َاز َف ْوًاز َعظ ًوب ُك ْم َو َمن ُيط ْع َّ َ َل ُك ْم ُذُن َ
نعم تلك هي التقوى على حقيقتها ،إنها ِّاتّقاء الشرور بنور هللا تعالى ،إنها ِّاتّقاء
المهالك ورؤية ما في الدنيا من مفاسد بذلك النور اإللٓهي ،الذي ما كنت تستطيع
أن تصل إليه لول ارتباط نفسك بنفس رسول هللا ﷺ.
وهكذا فاإليمان برسول هللا نتيجة من نتائج اإليمان باهلل ،وحب رسول هللا ﷺ
مقترن دوماً باإليمان الصحيح مترافق مع الصلة الحقيقية باهلل ،وفي الحديث
الشريف الذي ورد عنه ﷺ إذ يقول( :أالَ الَ إيمان لمن ال محبة له ،أالَ ال إيمان
لمن ال محبة له ،أالَ الَ إيمان لمن ال محبة له).
اطق ِب َفمِ في ِ ول ِ إن َفضل رس ِ
عرب َعْن ُه َن ٌ َحٌّد ُ هللا ليس َل ُه َ ُ َف َّ
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 252ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
مقتطفات من علوم العالَّمة اْلنسانَ مح َّمد أمين شيخو قدَّس هللا سره
هكذا هو دأْب هذا العالَّمة اإلنساني الجليل َّ
قدس هللا سره في كل ما أتحفنا به
من علوم غزيرة ،تدير العقول ،وتحني الجباه ،إجاللً واستعظاماً لمعاني القرآن
الكريم ،فقد مألت علومه القرآنية أطباق السماوات بما أفاض هللا تعالى عليه ،فهو
بر األنبياء الكرام في كتابه (عصمة األنبياء) من كل ما يتنافى مع عصمتهم
الذي َّأ
وكمالهم وطهارة نفوسهم ،وشرح أعمالهم العالية التي استحقوا بها رسالة ربهم،
فأصبحوا هادين مهديينَّ ،
ورد كل قول أو رواية تتنافى مع عصمة سيدنا محمد ﷺ
محمد ﷺ تظهر في القرن
بكتابين أفردهما عن الحبيب المصطفى (حقيقة سيدنا ه
العشرين) وكتاب (زيارة الرسول ﷺ وأثر محبته في رقي النفس المؤمنة).
جل وعال،
* لقد ّبين الحكمة من آيات القرآن الكريم ،ومن كل أمر أمرنا به َّ
فشرح أحرف أوائل السور التي عجز عن إدراكها كافة علماء المسلمين ،وبيانه
وسر قراءتها في الصالة التي وقف أمامها كافة العلماء
المعجز لفاتحة أم الكتابّ ،
واألولياء حيارى .وذلك في كتاب (أسرار السبع المثاني) وكتاب (تأويل األمين
للقرآن العظيم).
وبين الحكمة منها
* كما أنه استنبط أوقات الصلوات الخمس من القرآن الكريمّ ،
وسر التوجه إلى الكعبة ،كما استنبط نسبة الزكاة ( )%2.5من اآليات القرآنية ،وشرح
ّ
معنى التقوى وكيفية الحصول عليها برمضان ،وشرح معاني ليلة القدرّ ،
وبين سبب
نزول القرآن في تلك الليلة المباركة ،وبيَّن أسرار مناسك الحج والحكمة من كل عمل
ودل على طريق اإليمان الحقيقي ،وأن اإليمان باهلل هو شهود ،وليس
يقوم به الحاجَّ ،
مبيناً معنى كلمة (أشهد أن ل إلٓه إل هللا وأشهد أن محمداً رسول
قول أو اعتراف فقطّ ،
هللا) وكل ذلك في كتابه( :المدارس العليا للتقوى ،درر األحكام في شرح أركان
اإلسالم).
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 253ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* وقد ّبين معضلة القضاء والقدر التي حيَّرت أفهام العلماء وفالسفة اليونان
والرومان والجبرية والمعتزلة ،وعلماء وفالسفة اإلسالم واليهود والمسيحيين .وفهمه
العالي لقوله تعالى﴿َ ...ي ْغ ِفُر لِ َمن َي َشاء َوُي َع ِهذ ُب َمن َي َشاءُ ...﴿ )1(﴾...ي ِض ُّل َمن
َي َشاء َوَي ْه ِدي َمن َي َشاء .)2(﴾...وأن المشيئة للعبد السالك بصدق والطالب للهداية
وتجنب سبل الغواية ،ابتغاء وجه الحقيقة والحق والدين ،وبيَّن حرية الختيار لكل
امرٍئ في هذه الدنيا.
ِ
ّللا َّالذي َخَل َ
ق ِ
فصل معنى األيام الستة المذكورة بالقرآن الكريم﴿إ َّن َرَّب ُك ُم ه ُ * ّ
اس َت َوى َعَلى اْل َعْر ِ ات واألَر َ ِ ِ ِ
ِ
ش .)3(﴾...والتي تاه بها ض في س َّتة أََّيام ُث َّم ْ الس َم َاو َ ْ
َّ
علماء اليهود وعلماء النصارى وعلماء المسلمين ،وشرح معنى الليالي العشر،
الجبار ،الحقيقة الرهيبة
َّ ومعنى السماوات السبع ،في كتابه (الكشف العلمي
للسموات السبع واأليام الستة).
وبين بالمنطق السليم المدح العظيم الذي استحقه رسول هللا ﷺ بسورة عبس،
* ّ
حين عبس النبي الكريم ،صاحب الخلق العظيم ،لما جاءه عبد هللا ابن أم مكتوم،
في حين أن المفسرين كلهم َّ
خطأوا رسول هللا ﷺ بمطلع هذه السورة الكريمة ،ونفى
عن رسول هللا ﷺ كل ما ألصق من دسوس باألدلة القرآنية ،فكشف الغطاء عن
المحمدية الطاهرة َّ
المقدسة المعصومة. ّ الحقيقة
عم كلها ،وكلمةَ ﴿ :ع َّم َي َت َساءُلو َن﴾ ،شرحاً وتفصيالً
()4
وبين معاني جزء ّ
* ّ
عم).
معج اًز بكتابه (تأويل جزء ه
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 254ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* كما ّبين الحقيقة والرحمة المنطوية بقضية تعدد الزوجات ،في أوائل سورة
وحل استعصاء هذه القضية المعضلة ،ونسف كل قول يجعل من اإلسالم النساءَّ ،
ديناً شهوانياً بالسماح للرجل بالزواج من أربع نساء ،دون الرجوع إلى اآلية الكريمة
وتمامها ،والبحث فيها ضمن سياقها ،إذ ل يجوز للمسلم الزواج إل بامرأة واحدة ،أما
الثانية والثالثة والرابعة فلها شروط مذكورة ببداية اآلية الكريمة والتي أهملت ولم يعمل
بها ،وهي أن تكون المرأة أرملة وعندها أيتام ،فالغاية من التعدد غاية سامية إنسانية
ألجل األرامل وتربية األيتام ،وبناء مجتمع صحيح ،ل شهوانية نفسية ،كما يفسرها
جروا السمعة السيئة الكثيرون ،ويعملون على تطبيقها دون ربط اآلية ببدايتها ،وبذلك ّ
لإلسالم والمسلمين ،وأصبح الدين (تعدد الزوجات) بمنظارهم ديناً شهوانياً ل إنسانياً.
كذلك بيَّن قوانين الطالق استنباطاً من القرآن الكريم ،وكيفية تطبيق هذه
ودب الخالف بين الرجل والمرأة ،كل ذلك
الشروط واألحكام ،في حال النشوز ّ
ولم أكثر من زوجة يا إسالم)؟!
ولم الطالق َ
لم الحجاب َ
بكتابه( َ
* كما ّبين غاية الحق من إيجاد الخلق ،وسبب خلق اإلنسان ومجيئه إلى هذه
الدنيا ،فشرح عالم األزل والخْلق األول وحمل األمانة ،وتصدي اإلنسان لها ،وشرح
السؤال المعجز لماذا يولد األنبياء أنبياء؟! وعلى أي أساس حكم فيهم تعالى بذلك،
فقرر من قبل ولدتهم أنهم أنبياء ورسل كرام!
كما شرح العدل اإللٓهي ،وبيَّنه بالمنطق الرفيع ،وبيَّن سبب الفقر واألمراض
والبالءات ،وكل ما يصيب اإلنسان في هذه الحياة الدنيا من خير أو شر ،وبيَّن
عناصر اإلنسان بشرح لفت ،فتكلم عن الفرق بين النفس والروح ،والفرق بين
العقل والفكر ،وتحدث عن ماهية كل منهم ،وذلك حين أسلم على يديه العالم
اإلنكليزي الشهير السير جون بينت ،حين قصده ليطرح عليه أسئلته التي لم يجد
فتم اللقاء بينهما
لها طيلة حياته جواباً عنده ول عند غيره من العلماء قاطبةَّ ،
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 255ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
بمدينة دمشق وطرح السير جون بينت أسئلته الكبرى وعن كل ما يجول في فكره
عن اإلسالم وقوانينه ،وعن الصيام والحج والزكاة ،والحكمة من كل واحدة منها إلى
أن سأله العالَّمة قائالً له (هل توصلتم أيها السير أن تدركوا عن كأس الماء الذي
تشربونه من أين مصدره؟ فأجاب السير بينت بأن مياه األمطار هي المصدر
فرد عليه العالَّمة :إن مياه األمطار للمزروعات والحيوانات،
األساسي لشربناَّ ،
وبين بالحجة الدامغة واستنباطاً من القرآن الكريم ،مصادر مياه الينابيع في العالم
ّ
كله ،وجريان األنهار الكبيرة والصغيرة على وجه المعمورة بأنه ليس من مياه
األمطار قطعاً ،وذلك ما لم يعلمه أحد من علماء الغرب والشرق ،حّقاً إنها معجزة
وبين
علمية جبَّارة ،إذ أن لهذه الينابيع مصادر أكبر وأغزر من مياه األمطارّ ،
بأكثر من ثالثين دليل علمي وباستناد إلى اآليات الكريمة ،أن القطبين الشمالي
والجنوبي هما مصدر المياه في كل الينابيع ،ولما سمع السير بينت منه هذا
البحث وناقشه فيه ،أعلن على الفور إسالمه وقال( :عجباً لي طيلة حياتي لم
يخطر هذا السؤال على بالي) .ولما عاد إلى بالده قال كلمته المشهورة أمام حشد
من العلماء والمثقفين(( ،إن كل ما توصلنا إليه من علوم ال يعدل بحر ذلك العالم
الكبير في الشرق)).
* بين الحكمة أيضاً من الختان للذكور ،وسبب خلقه تعالى هذه (الحشفة)
للذكر وهو في بطن أمه ،ثم الحكمة من إزالتها بعد الولدة .وهذا الكتشاف لم
يسبقه إليه أطباء العصر ول أطباء العصور السابقة كلها .وكل ذلك في كتابه
(مصادر مياه الينابيع في العالم وبحث كشوفات سر الختان).
* وانقاذه لألنعام ،بأن ّبين فائدة ذكر اسم هللا تعالى على األنعام أثناء ذبحها
بكلمة (هللا أكبر) ،وأن هذه األنعام حين الذبح وسماعها لهذه الكلمة العظيمة يفور
دمها كله ،وينتفض جسمها ،فتطرح كل الدم خارج الجسم ،ول يبقى منه شيء
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 256ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
داخل لحمها ،فيعطينا هللا تعالى لحماً نقياً طاه اًر ،خالياً من كل جرثوم ،وعلى
العكس ،كل ذبيحة ل يذكر اسم هللا عليها ،تبقى الجراثيم فيها ،ويصبح آكلها
معرضاً لألمراض ،وأن إهمال ذكر اسم هللا على األنعام ،سيعرض األنعام
لإلصابة بأمراض خطيرة وفتاكة ،كل ذلك استنبطه من اآليات القرآنية.
ولما خضع كالمه للبحث الطبي قام فريق طبي مخبري من أساتذة الطب
المخبري في الشرق األوسط بإجراء التحاليل ألنعام ذبحت وذكر اسم هللا عليها،
وأنعام ذبحت ولم يذكر اسم هللا عليها ،فكانت النتائج مثلما قال العالّمة
(مستعمرات الفيروسات والجراثيم تبقى في جسد الذبيحة غير المكبَّر عليها).
ُذيع هذا الخبر العلمي من قبل وكالت األنباء والفضائيات والصحف وقد أ َ
والمجالت واإلذاعات ،تحذي اًر من عدم ذكر اسم هللا على األنعام ،ولألسف بقي
الكثير لم يذكر اسم هللا عليها ،فابتلي العالم بأمراض جنون البقر ،وأنفلون از الطيور،
حذر منه العالّمة استنباطاً من قوله تعالى..﴿ : وطاعون الغنم ،وهو ما كان قد َّ
وكل ّللا َعَلْي َها ا ْفِتَراء َعَلْي ِه َسَي ْج ِزي ِهم ِب َما َكاُنوْا َي ْف َتُرو َن﴾
()1 وأَْنعام الَّ ي ْذ ُكرو َن اسم ِ
َْ ه َ ٌَ َ ُ
ذلك بكتابه( :هللا أكبر رفقاً بالحيوان).
* أحيا السنة النبوية الطاهرة ،من بعد أن أغلقت عليها كتب القدامى ،فجال
األمراض المعضلة بإحيائه لسنة الحجامة ،فبين شروطها الصحيحة والسليمة،
بأنها تجرى على منطقة الكاهل حص اًر بالظهر ،وأنها تجرى صباحاً ،وعلى الريق،
وفي فصل الربيع ،وحينما يكون القمر بالتنازل ،أي بعد السابع عشر من الشهر
القمري ،لعالقة تأثيره الفعلي على األرض ،فقام فريق طبي كبير مؤلف من حوالي
/350/ثالثمائة وخمسين أستاذاً وطبيباً في الشرق األوسط ،قاموا بدراستها ضمن
الشروط التي ّبينها العالَّمة لمدة ثالث سنين متتاليات ،فجاءت النتائج صاعقة
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 257ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
عمت المعمورة ،من شدة
بعالم الطب ،وظل الهتمام يزداد بها سنة بعد سنة ،حتى َّ
فوائدها ،ولقد انهالت تقارير الشكر والمتنان لمعيد هذا الفن العالجي الناجع من
جميع أقطار األرض ،في حين طبقها المسلمون وغير المسلمين تحقيقاً من
فوائدها ،ولقد تبين ذلك من خالل كتابه (الدواء العجيب الذي شفى من مرض
علم طبي نبوي في منظوره القلب القاتل والسرطان والشلل والشقيقة "الحجامة
ٌ ٌ
الجديد").
كما بثَّتها معظم الفضائيات ووكالت األنباء ،وتكلمت عنها الصحف
وصحية في
ّ وعقدت حولها المؤتمرات والندوات ،وتبنتها مراكز طبية
والمجالتُ ،
العالم التماساً لفوائدها الكثيرة ،حيث أنها حوت الطب بكامله بضربة مشرط.
* كذلك كشف السحرة والمشعوذين والدجالين ،الذين يتعاونون مع الشياطين،
لضرب وأذى الناس بالسحر ،وشرح كل األلعيب والتخيالت التي يجريها السحرة
مع الناس ،وهم ل يعلمون عن حقيقة السحر شيئاً ،وأنه تعاون وثيق بين الساحر
والشياطين (القرائن) كإخبار بالمغيبات الوهمية على عمومها ،وهذا األمر قد تفشى
في معظم الناس في هذه المعمورة ،حتى تكاد ل تجد بيتاً خال من ألعيب وحيل
ومكر السحرة ،أو من الضيق والهموم نتيجة تصديقهم لداعي الشيطان ،وخاصة
أولئك السحرة الذين يخرجون للناس على الفضائيات ،ويحدثونهم بأمورهم وعللهم
وأمراضهم ،فيصدقهم المشاهد أو المتصل من دون علم له أن الساحر يتفق مع
قرينه ،ويأخذ منه أخباره.
كما بيَّن الحلول وطريق الخالص والشفاء من هذا الداء دون الرجوع إلى أحد من
الناس ،وخاصة الذين َّيدعون أنهم يعالجون بالرقية أو آيات القرآن الكريم ،وهم ل
يعلمون ،وكل ذلك في كتابه (كشف خفايا علوم السحرة).
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 258ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* شرح حالة اإلنسان عند الموت في كلتا الحالتين إن كان صالحاً أو كاف اًر،
وبين حالته بعد الموت وهو بالبرزخ.
ّ
* كما شرح آيات الحساب يوم القيامة ،وأن أعمال اإلنسان بدنياه مطبوعة على
صفحات نفسه ،يراها يوم القيامة ماثلة أمامه.
* ّبين حقيقة الج ّنة بأنها النظر إلى وجه ربه الكريم ذي الجالل والجمال
واإلكرام ،وأن كل ما يناله من نعيم واكرام ولذائذ ،هو دون تلك ّ
الجنة العالية ،وذلك
بأدّلة منطقية من القرآن الكريم.
كما بيَّن أن النار يوم القيامة هي بمثابة مشفى يعالج بها أرباب العلل واألمراض
النفسية بما حملوه معهم من دنياهم ،من أعمال منحطة َّ
حطت من قدرهم أمام هللا
تعالى ،فجعلهم خزيهم وعارهم يطلبون النار (العالج) ليستريحوا مما هم فيه من آلم
تفتك بهم فتكاً ،قال رسول هللا( :إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول :يا رب
علي مما ألقى واَّنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب)
إلرسالك بي إلى النار أيسر َّ
(.)1
كل ذلك في كتابه (تأويل القرآن العظيم) وكتاب (تأويل األمين).
* كما بين حقيقة الشفاعة والتي تاه فيها معظم العلماء ،فظنوها شفاعة وساطة
وظلمُ ،ي ْخ ِّرُج الرسول الكريم ﷺ بها من يشاء من النار ،وفي ذلك ما فيه من إغراء
بارتكاب السيئات ،على أمل الشفاعة يوم القيامة ،فبيَّن من خالل آيات القرآن
الكريم ،أن الشفاعة للمؤمن في الدنيا ،وتستمر معه إلى اآلخرة ،وأن الشفاعة
اقتران نفس بنفس ،كما أن الشفع :وهو أن يقارن شيء شيئاً ويزاوجه مالزماً إياه،
أي رابطة النفوس المؤمنة واستشفاعها بالرسول ﷺ ،كي يعرج بها إلى الحضرة
اإللٓهية ،كما ارتبطت نفوس الصحابة الكرام واستشفعت بنفسه الزكية الطاهرة ﷺ،
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 259ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فدخل بهم على هللا تعالى ،وهم معه دنيا وبرزخ وآخرة ،ومن لم يستشفع برسول هللا
ﷺ في الدنيا ،فال شفاعة له في اآلخرة ،وان هي إل أماني يمنون أنفسهم بها،
مغبة
ينبه اإلنسان من ّ ل ِّّ
يرخصوا لبعضهم ارتكاب المحرمات ،وأن القرآن الكريم كله ِّّ
فللجنة ،أو ش اًر بعالج في
ّ أعماله ،وأنه سيحاسب على كل ذرة من أعماله ،إما خي اًر
النار .وأن رسول هللا ﷺ ليس بيده شيء سوى النصح والتذكير ،ول يملك لمخلوق
شيئاً بل ول يملك لنفسه الشريفة شيئاً﴿ ُقل الَّ أ َْملِ ُك لَِنْف ِسي َضًّار َوالَ َنْف ًعا.)1(﴾...
﴿يوم َال َتملِك َنْفس هلَِنْفس َشيًئا و ْاألَمر يومِئذ َِّ ِ
ّلل﴾(.)2 ْ َ ُْ َ ْ َ َْ َ ْ ُ ٌ
الن ِار﴾ .
()3
نق ُذ من ِفي َّ اب أَ َفأ َ ِ ق َعَلْي ِه َكلِم ُة اْل َع َذ ِ
﴿أَ َف َم ْن َح َّ
َنت ُت َ َ
هذا البحث الهام َّبينه مفصالً في معظم كتبه ،وباألخص كتاب(حقيقة
الشفاعة) حوار هادئ بين الدكتور مصطفى محمود .والدكتور يوسف القرضاوي.
* كما أنه ّبين حقيقة خروج أبينا آدم من الجنة ،وسبب أكله من الشجرة،
والحالة التي كان فيها أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السالم ،قبل األكل من الشجرة،
وأنه بحبه العظيم لربه ،نسي الوصية ،وأكل من تلك الشجرة ،وكل ذلك كان
بترتيب من هللا تعالى بخروج أبينا آدم من الجنة ،وليعطيه بدلً منها هو
وذريته جنات ،وليريه تعالى هو وذريته عداوة الشيطان ،ليعلم اإلنسان أن له عدواً
بالمرصاد ،فيحتاط منه ،ويأخذ حذره فيسير على هدى من ربه الذي اهتدى به
األنبياء الكرام .فيحفظ من الوقوع بالمعاصي ،ومن ُّ
تسلط الشيطان عليه.
* كما أنه أول من ّبين حقيقة اإليمان وطريقه المستقيم الذي نص عليه القرآن
وسار على نهجه كافة األنبياء والرسل الكرام.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 260ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* كما بين سبب ورود قصة بني إسرائيل بكثرة في القرآن الكريم ،ومجادلتهم
لرسولهم الكريم سيدنا موسى ،وأن كل امرئ إذا لم يسلك السبيل التي َّ
سنها
هللا تعالى لهذا اإلنسان ،فليس ُيفيده أن يرى المعجزات وخوارق العادات ،وليس
يجعله في عداد المؤمنين أن تأتيه بما تأتيه من آيات ،وحجج دامغات ،إنما
الصدق في طلب الحقيقة واعمال الفكر في البحث عنها ،هو الذي يهدي النفس
ويوردها موارد المعرفة الحقيقية ،كل ذلك في كتابه (تأويل األمين).
ُ
* كما بيَّن كل عالمات الساعة ،ودلئل عودة السيد المسيح من القرآن
الكريم ،بهذا الكتاب الذي بين أيدينا.
غيض من فيض :كل هذا غيض من فيض مما بيَّنه هذا العالَّمة اإلنساني
الكبير ،فالبحوث ومجالت التفكير بدللته ،ل تكفيها سطور لمطالعتها ،وانما هي
لفتة لبعض ما قدمه وأبداه للبشرية ،من علوم القرآن الكريم ،وقد تحدث عنه كثير
من العلماء األفاضل ،وامتدحوا علمه واستنباطه العميق ،وفهمه الكبير للقرآن
الكريم ،ووجدوا بدعوته ودللته الصدق واإلخالص ،وأنها تجمع الكل تحت لواء
المطهرة لرسول هللا الكريم ﷺ ،فتزال بهذه الدعوة والدللة
َّ القرآن الكريم و َّ
السنة
الختالفات المذهبية المقيتة ،المحطمة لدين سيدنا محمد ﷺ والتي أصبحت (هذه
المذهبيات) ِّاتّباعاً لآلباء بدلً من التباع للقرآن الكريم ،فتحولت األمة الواحدة إلى
أمم ،وعن الطريق الحق ،إلى فرق وشيع وطوائف ،كل حزب بما لديهم فرحون،
الداسون ،بما أشبعوا كتبهم من األخطاء والمخالفات والتفسيرات المخالفة
مكر بهم ُّ
ألسماء هللا الحسنى ،ولكمال األنبياء الكرام ،فتاه المسلم ،وغرق باختالف المذاهب
والفرق ،وعزف عن الدين ،ومال إلى الدنيا بسببهم .وقد قال (الدكتور مصطفى
محمود) إن القرآن الكريم كان مهجو اًر قبل علوم هذا العالم الكبير ،فعلمه إشراقي
وبيانه منطقي ،وأنا لم أق أر بحياتي كلها كلمة واحدة مثل كلماته عند غيره .وقد أفرد
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 261ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
كتاباً خاصاً عنه أسماه( :نظرات في صحائف فضيلة العالَّمة الكبير محمد أمين شيخو
قدَّس هللا سره).
سامر أحمد الهندي
المدير العام لدار نور البشير
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 262ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
صدر لفضيلة العالَّمة اْلنسانَ الكبير مح َّمد أمين شيخو (قدِّس سره)
عم.
-1تأويل جزء َّ
-2زيارة الرسول ﷺ وأثر محبته في رقي النفس المؤمنة.
-3عصمة األنبياء.
-4درر األحكام في شرح أركان اإلسالم (المدارس العليا للتقوى).
-5مصادر مياه الينابيع في العالم وبحث كشوفات سر الختان (باللغة
العربية).
َّ
المجلد األول. -6تأويل القرآن العظيم (أنوار التنزيل وحقائق التأويل)
َّ
المجلد الثاني. -7تأويل القرآن العظيم (أنوار التنزيل وحقائق التأويل)
َّ
المجلد األول. عم (آلء الرحمن في تأويل القرآن) -8موسوعة َّ
-9من سير األبطال لألولد واألطفال (الغالم الشجاع والجنيَّة) رقم (.)1
-10من سير األبطال لألولد واألطفال (الكلب الذي أصبح حصاناً) رقم (.)2
ورده العملي علىِّ
-11من سير األبطال لألولد واألطفال (الغالم الشجاع ّ
خاله) رقم (.)3
-12من سير األبطال لألولد واألطفال (حلبة الصراع) رقم (.)4
-13من سير األبطال لألولد واألطفال (تأديب بائع الخضار) رقم(.)5
-14من سير األبطال لألولد واألطفال (سلمت يداك يا شبل الحي) رقم(.)6
-15من سير األبطال لألولد واألطفال (مغامرة الفارس الصغير) رقم(.)7
-16تأويل األمين للقرآن العظيم ( َّ
المجلد األول).
-17الترجمة اإلنكليزية لكتاب مصادر مياه الينابيع في العالم وبحث كشوفات سر
الختان.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 263ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
-18صفحات من المجد الخالد (سيرة حياة العالَّمة العربي الكبير َّ
محمد أمين
َّ
المجلد األول. شيخو)
-19حقيقة الشفاعة :حوار بين (د .مصطفى محمود) و(د .يوسف
القرضاوي).
محمد ﷺ تظهر في القرن العشرين.
-20حقيقة سيدنا َّ
محمد ﷺ تظهر في القرن العشرين.
-21الترجمة الفارسية لكتاب حقيقة سيدنا َّ
-22هللا أكبر (رفقًا بالحيوان) :دراسة علمية طبية حول فائدة ذكر اسم هللا على
الذبيحة.
-23لِّ َم الحجاب ،ولِّ َم الطالق ،ولِّ َم أكثر من زوجة ..يا إسالم؟!
حرر اإلنسان من العبودية ،واإلسالم لِّم َلم ُي ِّّ
حرره؟! -24الغرب َّ
َ ْ
-25الكشف العلمي الجبَّار (الحقيقة الرهيبة للسموات السبع واأليام الستة).
-26صواعق معجزات ّأم الكتاب في القرن الحادي والعشرين.
-27اإليمان (أول المدارس العليا للتقوى).
-28الصالة (ثاني المدارس العليا للتقوى).
-29الزكاة (ثالث المدارس العليا للتقوى).
-30الصيام (رابع المدارس العليا للتقوى).
-31الحج (خامس المدارس العليا للتقوى).
-32حوار هادئ عن فضيلة العالَّمة العربي الكبير َّ
محمد أمين شيخو.
عم ( )8تأويل سورة الماعون. -33موسوعة َّ
عم ( )9تأويل سورة قريش.
-34موسوعة َّ
عم ( )10تأويل سورة الفيل.
-35موسوعة َّ
عم ( )11تأويل سورة الهمزة.
-36موسوعة َّ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 264ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
-37الدواء العجيب الذي شفى من مرض القلب القاتل والشلل والناعور والشقيقة
والعقم والسرطان.
-38العالَّمة العربي الكبير َّ
محمد أمين شيخو يرد على معارضيه.
-39البحوث المجيدة.
المحمدية (الجزء األول).
َّ -40الفتوحات
َّ
المجلد الثالث. -41تأويل القرآن العظيم (أنوار التنزيل وحقائق التأويل)
-42كشف خفايا علوم السحرة.
-43الترجمة الفارسية لكتاب هللا أكبر (رفقاً بالحيوان).
-44حقيقة تيمورلنك العظيم تظهر في القرن الواحد والعشرين (الجزء األول).
-45السيد المسيح رسول السالم يلوح باألفق.
***
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 265ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الفهرس
مالحظة هامة جداً3 ....................................................... :
مقدمة5 ........................................................................
الفصل األول15 ...............................................................
نحو مفهوم الساعة 17 ......................................................
قوم سيدنا نوح 25 ......................................................
قوم عاد 31 ................................................................
قوم ثمود39 ................................................................
قوم سيدنا لوط 48 .....................................................
أهل مدين52 ...............................................................
غاية الحق من إيجاد الخلق58 ..............................................
الفصل الثاني 65 ..............................................................
الساعة وحتمية وقوعها 67 ..................................................
الفصل الثالث 95 ..............................................................
أشراط الساعة97 ...........................................................
خروج بيت المقدس من أيدي المسلمين102 .................................
طلوع الشمس من مغربها وانشقاق القمر111 ................................
النفوذ من أقطار السماوات واألرض123 ....................................
خروج يأجوج ومأجوج125 ..................................................
خروج دابة األرض 128 ....................................................
زخرفة األرض 134 ........................................................
ظهور الدخان138 .........................................................
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 267ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الفصل الرابع 147 .............................................................
عودة السيد المسيح 149 ...............................................
الدليل األول على عودة السيد المسيح 167 .............................:
الدليل الثاني174 ..........................................................:
الدليل الثالث180 ......................................................... :
انتهاء جولت الباطل181 ...................................................
طوبى لمولود هذا الزمان 183 ...............................................
الفصل الخامس189 ...........................................................
المعّلِّم األول191 ...........................................................
غاية قصة سيدنا آدم 227 ..............................................
الفصل السادس239 ...........................................................
طريق اإليمان 241 .........................................................
مقتطفات من علوم العالَّمة اإلنساني َّ
محمد أمين شيخو َّ
قدس هللا سره 253 ....
ِّ
(قدس سره) 263 .... صدر لفضيلة العالَّمة اإلنساني الكبير َّ
محمد أمين شيخو ّ
الفهرس267 ................................................................
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ 268ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ