Professional Documents
Culture Documents
وقفة تأمليَّة في رجم العقلانيَّة
وقفة تأمليَّة في رجم العقلانيَّة
للنشر:
يُتَّهم اإلنسان العربي إجماالً بالمغاالة واالبتعاد عن العقالنيَّة والموضوعيَّة ،إذ نراه يتأرجح بين ّ
تطرفين،
يتراوحان بين إفراط وتفريط :لدينا من جهة ،العربي الذي ينبهر بأنوار الغرب انبهارا ً يُعمي بصيرته
إلى ح ٍّ ّد يجعله غير آب ٍّه بتراثه ،فيحجّمه ،ويرميه في دائرة التخلّف والماضي السحيق الذي ت َّم تجاوزه ،إذ
ال نفع منه البتة اليوم .نراه يخجل من نفسه ومن تاريخه ومن إنجازات أسالفه مقارنة مع ما يتم ضخه
من أفكار وتقنيات واكتشافات متسارعة على الساحة العالميَّة .لذا نجده يَطوي صفحات مشرقة ّ
خطها
األوائل مر ّكزا ً فقط على البضاعة المستوردة باعتبارها األجود واألنفع واألكثر مالءمة للعصر.
ويحرك
ّ لألسف ،نجد الفيلسوف يقف وحيداً ،تتو َّهج في عقله شعلة نور ترشده بعيدا ً عن هذين التطرفين،
شغف البرهان على َّ
أن الحقيقة أبعد من التعصب واألدلجة والتشرنق ونفي اآلخر المختلف. ُ قلبَه
ما أحوجنا اليوم في العالم العربي وفي لبنان على وجه الخصوص ،في هذا الزمن الحاضر تحديداً ،وفي
خض ّم ما نشهده من ورش عمل لتجديد المناهج التربويَّة ،وبخاصة في ما يتعلق بالفلسفة العربيَّة ،ما
أحوجنا إلى أن نبذل ك َّل الجهد لالبتعاد عن هذين التطرفين ،فنحافظ على خصوصيَّة الفكر العربي
اإلسالمي ،بما يتض َّمنه من سياقات ومصطلحات وإشكاليَّات تميَّز بها ،من دون تقليص أهميَّة الغرب وما
أنتجه من مناهج ومصطلحات وأفكارَّ .
إن الفترة الراهنة تح ّملنا مسؤوليَّة كبرى ،والويل لنا من لعنة
األجيال إن تغاضينا عنها؛ مسؤوليتنا تكمن في كشف الثروة الدفينة ،ونفخ الغبار عن الذهب ،وتشجيع
المزيد من الشباب على عشق الفلسفة العربيَّة بدالً من جلدها ،وفي إبراز َّ
قوتها واالشتغال على تأوينها
وجعلها أكثر قابليَّة الحتواء القلق الفكري والعطش المعرفي .نحن ،وأكثر من أي وقت مضى ،مدعوون
لاللتفات إلى الذات العربيَّة في المرآة ،والتأمل في مكامن وجعها ،والعمل على النهوض بها من كبوتها.
نحن اليوم ،ولكي يعترف بنا الغرب ،علينا قبل ك ّل شيء أن نعترف بأنفسنا ،أن نقيّم تراثنا بنظرة
موضوعيَّة .علينا أن نتدافع في سبيل المعرفة العلميَّة الرصينة التي تضيء ظلمة الجهل ،وتكبح سرعة
انتشاره ،وتنظر إلى الواقع الفكري والحضاري كما هو ،ال كما نريده أن يكون .كفانا انشغاالً بـ"تأسيس
الجهل" والعمل على انتشاره .الجهل بماضينا وحاضرنا ،بمشاكلنا وكيفيَّة التصدّي لها .كفانا هدرا ً
للطاقات والمجهودات الفكريَّة في سبيل بناء مناهج تزيدنا اغترابا ً عن ذاتنا وعن مجتمعنا ،وعن تاريخنا
بك ّل ما يتض َّمن من فصول.
توقفت عند هذه النصوص لكي نجول بمعيتها للحظات ،فنعود إلى زمن التف ّكر الرصين ،حيث يجتهد
األول للكندي يتحدَّث فيه عن أهميَّة
العقل في السعي وراء الحق وتأسيس المعرفة الموضوعيَّة .النص َّ
الفلسفة ،والثاني للرازي الذي يبرز ارتقاء منزلة العقل مشدّدا ً على دوره القيادي في عمليَّة المعرفة،
والنص الثالث البن رشد الذي ينتقد أفالطون في اعتقاده باختصاص اليونان من دون سواهم بالفلسفة.
َّ -
«إن أعلى الصناعات اإلنسانيَّة منزلة وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة ،التي حدّها :علم األشياء بحقائقها
بقدر طاقة اإلنسانَّ ،
ألن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق ،وأشرف
الفلسفة وأعالها مرتبة الفلسفة األولى.)...( ،وينبغي لنا اقتناء الحق من أين أتى ،وإن أتى من األجناس
القاصية عنا واألمم المباينة لنا ،فإنَّه ال شيء أولى بطالب الحق من الحق ( .)...ف َح َ
سن بنا أن نلزم
إحضار ما قال القدماء ( )...وتتميم ما لم يقولوا فيه قوالً تاماً ،على مجرى عادة اللسان و ُ
سنَّة الزمان
( ،)...مع العلة العارضة لنا في ذلك ،مع االنحصار عن األتباع في القول ،اتقاء سوء تأويل كثير من
المتّسمين بالنظر في دهرنا ،من أهل الغربة عن الحق ( ،)...ليضيق فِّطنهم عن أساليب الحق وقلة
معرفتهم»[.]2
عز اسمه ـ إنَّما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة واآلجلة غاية
«إن البارئ ـ َّ
َّ -
جوهر مثا ِّلنا نيله وبلوغه .وإنَّه أعظم ِّنعم هللا علينا وأنفع األشياء لنا وأجداها علينا )...( .وإذا كان
ِّ ما في
ّ
نحطه عن رتبته وال ننزله عن درجته ،وال نجعله هذا مقداره ومحله وخطره وجاللته فحقيقي علينا أن ال
الزمام مزموماً ،وال هو المتبوع تابعاً ،بل نرجع في األمور إليه
وهو الحاكم محكوما ً عليه ،وال هو ِّ
ونعتبرها به ونعتمد فيها عليه ،فنُمضيها على إمضائه ونوقفها على إيقافه ،وال نسلّط عليه الهوى الذي
هو آفته ومكدّره والحائد به عن سننه ومحجّته وقصده واستقامته ،والمانع من أن يُصيب به العاقل رش َده
ونذلّل ونحمله ونجبره على الوقوف عند أمره ونهيه .فإنَّنا
ّ نروضه
صالح عواقب أمره ،بل ّ
ِّ وما فيه من
إذا فعلنا ذلك صفا لنا غاية صفائه وأضاء لنا غاية إضاءته وبلغ بنا نهاية»[.]3
أن جنسا ً من
« -وهذا الرأي [يقصد اختصاص اليونان دون غيرهم بالفلسفة] إنَّما يكون صحيحا ً لو َّ
صة النظريَّة منها .ويشبه أن يكون هذا هو ما كان يعتقده
الناس هو وحده ال ُمعد للكماالت اإلنسانيَّة ،وبخا َّ
أفالطون في اليونانيين ،وقد نسلّم أنَّهم ،في الغالبُ ،معدون بالطبع لقبول الحكمة؛ ولكن ال يلزم عن هذا
أن نُنكر وجود ٍّ
كثير من هؤالء أعني ال ُمعدّين للحكمة ،أمثال أولئك الذين كانوا في بالد اليونان وما
جاورها ،وفي بلدنا هذا ،أعني األندلس ،وفي الشام والعراق ومصر ،وإن كان وجود ذلك في بالد
اليونان أكثر .وحتى لو قبلنا بهذا ،فاألولى أن نقول في سائر الفضائل ،إنَّه ال ْ
يمتنِّع أن تكون أ َّمة من
األمم معدَّة بالطبع ،على األغلب ،لفضيلة بعينها دون غيرها ،كأن يكون الجزء النظري (من النفس:
فحص
ٍّ الحكمة) لدى اليونان ،أغلب ،والغضبي (الشجاعة) عند األكراد والجاللقة أقوى .وها هنا مكان
ظن أنَّه عندما يكون الجزء النظري (من النفس :العقل) حاكما ً تكون الفضائل أنسب وأصلح؛
دقيق؛ إذ يُ َ
أعني الصالح الذي في الطبع (.]4[»)...
يعلّق الكندي ،في النص المذكور أعاله ،أهميةً كبرى على طلب الحق وعدم االكتفاء بذلك وحسب إنَّما
يقرنه بالسعي إلى العمل به .يحدّد مه َّمة الفيلسوف ببُعديها النظري والعملي انطالقا ً من البحث العقالني
عن الحق .نلحظ أنَّه يُسقط الحدود في عمليَّة البحث هذه ،إذ يدعو إلى طلب الحق من أ ّ
ي جهة أتى ،من
إن في هذه الخطوة إبرازا ً لقيمة االنفتاح على القدماء ،أي
دون التقوقع في إطار اللغة أو الدين أو األ َّمةَّ .
على ك ّل من لديه تجربة ناجحة في طلب الحق.
أ َّما الرازي فنجده يضع العقل في مرتبة القيادة ،وال يقبل بما هو دون ذلك مقاماً .ملفتٌ ما يُلحق بالعقل
من دور ،ومهام ،ومسار .يُح ّمل اإلنسان مسؤوليَّة كبرى تجاه أه ّم ِّن َعم الخالق عليه .إطالق سراح العقل
ق يدعونا الكندي للعمل عليه .لم يحدّد أ َّيا ً من األمور علينا أن نرجع فيها إلى العقل
من سجنه هدف را ٍّ
لكي يرشدنا نحو المسار الصحيح .بتعبير آخر ،جعل الكندي من العقل المرجع األساس للبتّ في مختلف
األمور التي تواجه اإلنسان في حياته.
نص ابن رشد أنَّه كان يواجه في زمانه نوعا ً من تعظيم شأن شع ٍّ
ب ما أو حضارةٍّ محدَّدة. يبدو من خالل ّ
لم يقبل بنفي التفلسف عن العرب .لم يحصر عشق الحق والبحث عنه بحضارة دون سواها .وكم نجد في
كالمه هذا ما يجيب على ُك ٍّ
ثر في زمننا الحاضر ،إذ نسمع بعض األصوات التي تتردَّد هنا وهناك حول
عدم إمكانيَّة الحضارة العربيَّة من أن تنتج علما ً عقالنيَّا ً كالفلسفة ،وإن ُوجدت فلسفة ما فهي في أغلب
نص ابن رشد إظهارا ً لقيمة التجربة العقالنيَّة التي َّ
وكأن في ّ األحوال مأخوذة من اليونان أو الغرب.
خاضها مفكرو العصور الوسطى ومفكرو النهضة من بعدهم في الحضارة العربيَّة ،وذلك من دون إنكار
فضل اليونان والغرب ،وال قيمة ما أنتجوه على الصعيد الفلسفيَّ .
إن هذا الموقف الرشدي يحثنا على
مضاعفة البحث عن مزيد من التجارب العقالنيَّة ،ليس فقط في التراث العربي اإلسالمي الوسيط
والنهضوي ،إنَّما أيضا ً في التجربة الحديثة والمعاصرة .فالفلسفة ليست حكرا ً على شعب واحد ،وال على
حضارة معيَّنة ،فبإمكان من يمسّه شغف الحكمة أن يخوض غمارها متسلحا ً باألدوات المنهجيَّة الالزمة
والمفاهيم المتوفرة في عصره.
تركت كالً من الكندي والرازي وابن رشد يعيدوننا إلى أجواء كانت تنضح بالعقالنيَّة ،لكي ألقي الضوء
من خاللهم على ما نعانيه من تهميش لمادة الفلسفة العربيَّة ،طارحة على مختلف المهت ّمين بالشأن
التربوي النقاط اآلتية:
إن ما تشهده المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة في زمننا الحاضر يرتّب علينا أن نبرز بوضوح مكامن
َّ -
القوة فيه ،حيث تجلّت عبر التاريخ أبرز المقاربات والنظريات
العقالنيَّة في التراث والتي تش ّكل نقاط َّ
الفلسفيَّة ،وذلك في مجال المعرفة واإللهيَّات واألخالق والسياسة.
إن التراث العربي اإلسالمي ،نظرا ً إلى تعدد حقوله المعرفيَّة ،ووسع الحقبة التاريخيَّة التي ّ
يغطيها، َّ -
يجب أن يت َّم تقديمه إلى المتعلّم من منظور فلسفي موضوعي بعيد عن التعصب والحذف والتحوير،
األمر الذي يستدعي متابعة البحث والتدقيق وتسليط الضوء على ما يتم تجاهله في الحقبة الراهنة.
مقرر الفلسفة العربيَّة ،أو التقليل من شأنه ،أو اعتباره عبئا ً َّ -
إن ما يحصل من حولنا بخصوص تهميش َّ
على المتعلّم ال يفيده الكثير في التحضير لمستقبله األكاديميَّ ،
إن هذا النهج يم ّهد على األرجح لعمليَّة
تسطيح األجيال ،وعدم تحفيزها على البحث ،أو مواجهة أيَّة صعوبة .كما أنَّه يعمل على اقتالع المتعلّم
من جذوره الفكريَّة والحضاريَّة ،وجعله يعيش في غربة عنها .كذلك َّ
إن تهميش مادة الفلسفة العربيَّة في
المناهج التربويَّة ،التي هي بمثابة نموذج ظ ّهرته الحضارة العربيَّة عن عقالنيتها ،وعن كيفيَّة مقاربتها
إن هذا التهميش من شأنه أن يجعل المتعلّم يحتفظ بصورة تقليديَّة متحجّرة عن تراث
إشكاليات عصرهاَّ ،
غارق في الصراعات الدينيَّة التي يطغى عليها طابع التذمت وإقصاء الرأي المغاير ،والتسليم التلقائي
لسلطة العقل الديني.
َّ -
إن السير المتع َّمد في سبيل دمج مادة الفلسفة العربيَّة بالفلسفة العا َّمة ،يبقى في نظرنا مقدّمة إللغائها،
وهو ما يجوز لنا أن نصنّفه بالجريمة الكبرى في حق العقالنيَّة العربيَّة ،كما في حق بناء فكر نقدي حر
ومنفتح ومستقل .وهو أيضا ً محاولة صريحة وواضحة للقضاء على نهج فكري من شأنه أن يتصدَّى
للظالميَّة المستفحلة .يتعلّق األمر بخطوة غير مسؤولة تُسهم في ترسيخ صورة غير مستحبَّة عن
الحضارة العربيَّة اإلسالميَّة ،إن في الوعي العربي أو في الوعي الغربي .إنَّه خدمة ال سابق لها تُقدَّم
ومروجي الجهل المقنَّع بكثرة
ّ على طبق من ذهب إلى ك ّل أعداء الحضارة العربيَّة ،ومحبّذي التسطيح
المعلومات الممكننة والمبرمجة ،كما أنَّه خدمة ألولئك المنكبّين على سلخ األجيال الطالعة عن لغتهم األم
وتراثهم ومنابعهم الفكريَّة المتو ّهجة.
-من المؤسف أن يفاخر الغرب بأعالمه من أدباء وشعراء وفالسفة ،ويوفّيهم حقهم من خالل إدخالهم
في منهاج التدريس ،بينما نجد من يحاول عندنا التقليل من أهميَّة مفكرينا عن طريق اختصار إنجازاتهم،
ق ال يحتاج إلى المزيد.
ودمجها بتاريخ فكر غني يزخر بالمبدعين ،وفيه ما يكفي من نتاج را ٍّ
يبقى لنا أن نطرح هذه األسئلة لتنخر في وعينا ،لعلَّنا نبحث سويا ً عن أفق جديد بشأنها:
ألم يحن الوقت بع ُد لكي يقف أهل الفلسفة في بالدنا مش ّمرين عن سواعدهم ليكتبوا بأحرف من نور
مناهج تعليميَّة ،في المرحلة الثانويَّة وفي التعليم الجامعي ،تبرز لطالب المعرفة أبهى وأرقى ما أنتجه
الفكر العربي في مساره الحضاري ،ولكي يعطوه ما يستحقّه من جهد ودراسة؟ ألم ّ
تدق بعد ساعة
المصالحة مع الماضي والتعاطي معه في المجال التربوي بصفته مجاالً واسعا ً للبحث والتدقيق والحفر
ٌ
جبان إلى الخلف ،وكس ٌل مشرعن والتحليق؟ ألم نقتنع بع ُد َّ
بأن اعتماد الطريق السهلة في التربية هروبٌ
وممدوح زوراً ،ال يجلب لنا سوى المزيد من الجهل المسيَّس المؤدّي إلى نهايات قاتلة؟ ألم تأ ِّ
ت الساعة
صة ،من تعاظم مخاوفه وتضخم
بع ُد لتتوحَّد الجهود في سبيل تحرير اإلنسان العربي عا َّمة واللبناني خا َّ
أوهامه ،عاملين نحن ـ التربويين ـ على كسر حواجز االغتراب عن الذات وعن اآلخر؟
[ -]1نشر هذه المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بال حدود ،عدد 2017 ،10
[ -]2الكندي ،رسالة إلى المعتصم باهلل ،تحقيق أحمد فؤاد األهواني ،بيروت ،ص ص 86-85
[ -]3أبو بكر الرازي ،الطب الروحاني ،ضمن رسائل فلسفيَّة ،نشره بول كراوس ،القاهرة،1939 ،
ص 19-17
[ -]4أبو الوليد بن رشد ،الضروري في السياسة ألفالطون ،ترجمة أحمد شحالن ،تقديم محمد عابد
الجابري ،مركز دراسات الوحدة العربيَّة ،بيروت ،ط ،1998 ،1ص 82