Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 7

‫بقلم نايلة أبي نادر‬

‫قسم‪ :‬الفلسفة والعلوم اإلنسانية‬

‫حجم الخط ‪+18-‬‬

‫للنشر‪:‬‬

‫وقفة تأمليَّة في رجم العقالنيَّة([‪)]1‬‬

‫يُتَّهم اإلنسان العربي إجماالً بالمغاالة واالبتعاد عن العقالنيَّة والموضوعيَّة‪ ،‬إذ نراه يتأرجح بين ّ‬
‫تطرفين‪،‬‬
‫يتراوحان بين إفراط وتفريط‪ :‬لدينا من جهة‪ ،‬العربي الذي ينبهر بأنوار الغرب انبهارا ً يُعمي بصيرته‬
‫إلى ح ٍّ ّد يجعله غير آب ٍّه بتراثه‪ ،‬فيحجّمه‪ ،‬ويرميه في دائرة التخلّف والماضي السحيق الذي ت َّم تجاوزه‪ ،‬إذ‬
‫ال نفع منه البتة اليوم‪ .‬نراه يخجل من نفسه ومن تاريخه ومن إنجازات أسالفه مقارنة مع ما يتم ضخه‬
‫من أفكار وتقنيات واكتشافات متسارعة على الساحة العالميَّة‪ .‬لذا نجده يَطوي صفحات مشرقة ّ‬
‫خطها‬
‫األوائل مر ّكزا ً فقط على البضاعة المستوردة باعتبارها األجود واألنفع واألكثر مالءمة للعصر‪.‬‬

‫عظمائه مكتفيا ً‬ ‫وفي المقابل‪ ،‬هناك العربي الذي مسَّه جنون ال َع َ‬


‫ظمة‪ ،‬فغرق في التباهي بماضيه وتراثه و ُ‬
‫المس به‪ ،‬معتبرا ً أنَّهم قاموا بك ّل ما‬
‫ّ‬ ‫بالتغنّي باألمجاد الغابرة وتقديس ك ّل ما أنتجه األسالف‪ ،‬وتحريم‬
‫يجب فعله في هذا المجال أو ذاك‪ ،‬فال ضرورة للبحث عن المزيد‪َّ ،‬‬
‫ألن التراث يحوي ك َّل ما نحتاج إليه‪،‬‬
‫صبهم سادة ً على حاضره بك ّل أبعاده وحاجاته‬ ‫ّ‬
‫تخطي الكبار الذين سبقونا‪ ،‬لذلك يُن ِّ ّ‬ ‫ولن نتمكن من‬
‫وأزماته‪.‬‬

‫ويحرك‬
‫ّ‬ ‫لألسف‪ ،‬نجد الفيلسوف يقف وحيداً‪ ،‬تتو َّهج في عقله شعلة نور ترشده بعيدا ً عن هذين التطرفين‪،‬‬
‫شغف البرهان على َّ‬
‫أن الحقيقة أبعد من التعصب واألدلجة والتشرنق ونفي اآلخر المختلف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قلبَه‬

‫كثر أُعجبوا بتراثك‪ ،‬فانكبوا عليه‪،‬‬


‫األول فيعلن له ما يأتي‪ :‬في الغرب ٌ‬
‫للمتطرف َّ‬
‫ّ‬ ‫يتصدَّى الفيلسوف‬
‫وأمضوا العمر في الحفر فيه‪ ،‬والتحلّق من حوله‪ ،‬واالنهمام بمقوالته‪ ،‬فكم بالحري بك أن تلتفت بدورك‬
‫إلى ما تكتنزه طبقات تاريخك العابقة بالفكر‪ ،‬وتنض ّم إلى قافلة الباحثين فتسهم بجهدك في مسيرة بناء‬
‫صروح المعرفة‪.‬‬

‫المتطرف الثاني قائالً له‪ :‬استيقظ أيها‬


‫ّ‬ ‫وفي الوقت عينه‪ ،‬يقف الفيلسوف ليرفع الصوت عاليا ً في وجه‬
‫تكتف بمواكبة التطور المادي‬
‫ِّ‬ ‫النائم واضبط ساعتك وفق زمنك الحاضر‪ ،‬انغرس في واقعك الفكري وال‬
‫للحضارة الغربيَّة‪ ،‬غافالً عن مسار الفكر في السعي وراء المزيد من النقد والحفر والتفكيك والقفز إلى‬
‫تخش من ارتكاب متعة التفكير‪ ،‬وتعرية الواقع من اإلسقاطات‪ .‬معاشرة‬
‫َ‬ ‫األمام نحو األفق األبعد‪ .‬ال‬
‫العقالنيَّة جر ٌم حالل عرفه األقدمون فنجوا لحظة القيام به من الفناء في َّ‬
‫الالمعنى‪.‬‬

‫ما أحوجنا اليوم في العالم العربي وفي لبنان على وجه الخصوص‪ ،‬في هذا الزمن الحاضر تحديداً‪ ،‬وفي‬
‫خض ّم ما نشهده من ورش عمل لتجديد المناهج التربويَّة‪ ،‬وبخاصة في ما يتعلق بالفلسفة العربيَّة‪ ،‬ما‬
‫أحوجنا إلى أن نبذل ك َّل الجهد لالبتعاد عن هذين التطرفين‪ ،‬فنحافظ على خصوصيَّة الفكر العربي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬بما يتض َّمنه من سياقات ومصطلحات وإشكاليَّات تميَّز بها‪ ،‬من دون تقليص أهميَّة الغرب وما‬
‫أنتجه من مناهج ومصطلحات وأفكار‪َّ .‬‬
‫إن الفترة الراهنة تح ّملنا مسؤوليَّة كبرى‪ ،‬والويل لنا من لعنة‬
‫األجيال إن تغاضينا عنها؛ مسؤوليتنا تكمن في كشف الثروة الدفينة‪ ،‬ونفخ الغبار عن الذهب‪ ،‬وتشجيع‬
‫المزيد من الشباب على عشق الفلسفة العربيَّة بدالً من جلدها‪ ،‬وفي إبراز َّ‬
‫قوتها واالشتغال على تأوينها‬
‫وجعلها أكثر قابليَّة الحتواء القلق الفكري والعطش المعرفي‪ .‬نحن‪ ،‬وأكثر من أي وقت مضى‪ ،‬مدعوون‬
‫لاللتفات إلى الذات العربيَّة في المرآة‪ ،‬والتأمل في مكامن وجعها‪ ،‬والعمل على النهوض بها من كبوتها‪.‬‬
‫نحن اليوم‪ ،‬ولكي يعترف بنا الغرب‪ ،‬علينا قبل ك ّل شيء أن نعترف بأنفسنا‪ ،‬أن نقيّم تراثنا بنظرة‬
‫موضوعيَّة‪ .‬علينا أن نتدافع في سبيل المعرفة العلميَّة الرصينة التي تضيء ظلمة الجهل‪ ،‬وتكبح سرعة‬
‫انتشاره‪ ،‬وتنظر إلى الواقع الفكري والحضاري كما هو‪ ،‬ال كما نريده أن يكون‪ .‬كفانا انشغاالً بـ"تأسيس‬
‫الجهل" والعمل على انتشاره‪ .‬الجهل بماضينا وحاضرنا‪ ،‬بمشاكلنا وكيفيَّة التصدّي لها‪ .‬كفانا هدرا ً‬
‫للطاقات والمجهودات الفكريَّة في سبيل بناء مناهج تزيدنا اغترابا ً عن ذاتنا وعن مجتمعنا‪ ،‬وعن تاريخنا‬
‫بك ّل ما يتض َّمن من فصول‪.‬‬

‫في محاولة منّي على ُ‬


‫عجالة‪ ،‬اخترت ثالثة نصوص تراثيَّة للتأمل فيها‪ ،‬لع َّل هذه القراءة توقظ الرغبة في‬
‫تسليط الضوء على مكامن مشرقة من العقالنيَّة التي سبقنا إليها مفكرون غاصوا في التنظير والبحث‬
‫والتنقيب‪ ،‬والتي تتم محاربتها عن طريق طمسها وإخفاء معالمها‪ ،‬تارة باسم التقدم التكنولوجي والتطور‬
‫العلمي المتسارعين‪ ،‬وتارة أخرى تحت عنوان مخالفة التعاليم والشرائع الدينيَّة‪.‬‬

‫توقفت عند هذه النصوص لكي نجول بمعيتها للحظات‪ ،‬فنعود إلى زمن التف ّكر الرصين‪ ،‬حيث يجتهد‬
‫األول للكندي يتحدَّث فيه عن أهميَّة‬
‫العقل في السعي وراء الحق وتأسيس المعرفة الموضوعيَّة‪ .‬النص َّ‬
‫الفلسفة‪ ،‬والثاني للرازي الذي يبرز ارتقاء منزلة العقل مشدّدا ً على دوره القيادي في عمليَّة المعرفة‪،‬‬
‫والنص الثالث البن رشد الذي ينتقد أفالطون في اعتقاده باختصاص اليونان من دون سواهم بالفلسفة‪.‬‬

‫‪َّ -‬‬
‫«إن أعلى الصناعات اإلنسانيَّة منزلة وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة‪ ،‬التي حدّها‪ :‬علم األشياء بحقائقها‬
‫بقدر طاقة اإلنسان‪َّ ،‬‬
‫ألن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق‪ ،‬وأشرف‬
‫الفلسفة وأعالها مرتبة الفلسفة األولى‪.)...( ،‬وينبغي لنا اقتناء الحق من أين أتى‪ ،‬وإن أتى من األجناس‬
‫القاصية عنا واألمم المباينة لنا‪ ،‬فإنَّه ال شيء أولى بطالب الحق من الحق (‪ .)...‬ف َح َ‬
‫سن بنا أن نلزم‬
‫إحضار ما قال القدماء (‪ )...‬وتتميم ما لم يقولوا فيه قوالً تاماً‪ ،‬على مجرى عادة اللسان و ُ‬
‫سنَّة الزمان‬
‫(‪ ،)...‬مع العلة العارضة لنا في ذلك‪ ،‬مع االنحصار عن األتباع في القول‪ ،‬اتقاء سوء تأويل كثير من‬
‫المتّسمين بالنظر في دهرنا‪ ،‬من أهل الغربة عن الحق (‪ ،)...‬ليضيق فِّطنهم عن أساليب الحق وقلة‬
‫معرفتهم»[‪.]2‬‬

‫عز اسمه ـ إنَّما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة واآلجلة غاية‬
‫«إن البارئ ـ َّ‬
‫‪َّ -‬‬
‫جوهر مثا ِّلنا نيله وبلوغه‪ .‬وإنَّه أعظم ِّنعم هللا علينا وأنفع األشياء لنا وأجداها علينا‪ )...( .‬وإذا كان‬
‫ِّ‬ ‫ما في‬
‫ّ‬
‫نحطه عن رتبته وال ننزله عن درجته‪ ،‬وال نجعله‬ ‫هذا مقداره ومحله وخطره وجاللته فحقيقي علينا أن ال‬
‫الزمام مزموماً‪ ،‬وال هو المتبوع تابعاً‪ ،‬بل نرجع في األمور إليه‬
‫وهو الحاكم محكوما ً عليه‪ ،‬وال هو ِّ‬
‫ونعتبرها به ونعتمد فيها عليه‪ ،‬فنُمضيها على إمضائه ونوقفها على إيقافه‪ ،‬وال نسلّط عليه الهوى الذي‬
‫هو آفته ومكدّره والحائد به عن سننه ومحجّته وقصده واستقامته‪ ،‬والمانع من أن يُصيب به العاقل رش َده‬
‫ونذلّل ونحمله ونجبره على الوقوف عند أمره ونهيه‪ .‬فإنَّنا‬
‫ّ‬ ‫نروضه‬
‫صالح عواقب أمره‪ ،‬بل ّ‬
‫ِّ‬ ‫وما فيه من‬
‫إذا فعلنا ذلك صفا لنا غاية صفائه وأضاء لنا غاية إضاءته وبلغ بنا نهاية»[‪.]3‬‬
‫أن جنسا ً من‬
‫‪« -‬وهذا الرأي [يقصد اختصاص اليونان دون غيرهم بالفلسفة] إنَّما يكون صحيحا ً لو َّ‬
‫صة النظريَّة منها‪ .‬ويشبه أن يكون هذا هو ما كان يعتقده‬
‫الناس هو وحده ال ُمعد للكماالت اإلنسانيَّة‪ ،‬وبخا َّ‬
‫أفالطون في اليونانيين‪ ،‬وقد نسلّم أنَّهم‪ ،‬في الغالب‪ُ ،‬معدون بالطبع لقبول الحكمة؛ ولكن ال يلزم عن هذا‬
‫أن نُنكر وجود ٍّ‬
‫كثير من هؤالء أعني ال ُمعدّين للحكمة‪ ،‬أمثال أولئك الذين كانوا في بالد اليونان وما‬
‫جاورها‪ ،‬وفي بلدنا هذا‪ ،‬أعني األندلس‪ ،‬وفي الشام والعراق ومصر‪ ،‬وإن كان وجود ذلك في بالد‬
‫اليونان أكثر‪ .‬وحتى لو قبلنا بهذا‪ ،‬فاألولى أن نقول في سائر الفضائل‪ ،‬إنَّه ال ْ‬
‫يمتنِّع أن تكون أ َّمة من‬
‫األمم معدَّة بالطبع‪ ،‬على األغلب‪ ،‬لفضيلة بعينها دون غيرها‪ ،‬كأن يكون الجزء النظري (من النفس‪:‬‬
‫فحص‬
‫ٍّ‬ ‫الحكمة) لدى اليونان‪ ،‬أغلب‪ ،‬والغضبي (الشجاعة) عند األكراد والجاللقة أقوى‪ .‬وها هنا مكان‬
‫ظن أنَّه عندما يكون الجزء النظري (من النفس‪ :‬العقل) حاكما ً تكون الفضائل أنسب وأصلح؛‬
‫دقيق؛ إذ يُ َ‬
‫أعني الصالح الذي في الطبع (‪.]4[»)...‬‬

‫يعلّق الكندي‪ ،‬في النص المذكور أعاله‪ ،‬أهميةً كبرى على طلب الحق وعدم االكتفاء بذلك وحسب إنَّما‬
‫يقرنه بالسعي إلى العمل به‪ .‬يحدّد مه َّمة الفيلسوف ببُعديها النظري والعملي انطالقا ً من البحث العقالني‬
‫عن الحق‪ .‬نلحظ أنَّه يُسقط الحدود في عمليَّة البحث هذه‪ ،‬إذ يدعو إلى طلب الحق من أ ّ‬
‫ي جهة أتى‪ ،‬من‬
‫إن في هذه الخطوة إبرازا ً لقيمة االنفتاح على القدماء‪ ،‬أي‬
‫دون التقوقع في إطار اللغة أو الدين أو األ َّمة‪َّ .‬‬
‫على ك ّل من لديه تجربة ناجحة في طلب الحق‪.‬‬

‫أ َّما الرازي فنجده يضع العقل في مرتبة القيادة‪ ،‬وال يقبل بما هو دون ذلك مقاماً‪ .‬ملفتٌ ما يُلحق بالعقل‬
‫من دور‪ ،‬ومهام‪ ،‬ومسار‪ .‬يُح ّمل اإلنسان مسؤوليَّة كبرى تجاه أه ّم ِّن َعم الخالق عليه‪ .‬إطالق سراح العقل‬
‫ق يدعونا الكندي للعمل عليه‪ .‬لم يحدّد أ َّيا ً من األمور علينا أن نرجع فيها إلى العقل‬
‫من سجنه هدف را ٍّ‬
‫لكي يرشدنا نحو المسار الصحيح‪ .‬بتعبير آخر‪ ،‬جعل الكندي من العقل المرجع األساس للبتّ في مختلف‬
‫األمور التي تواجه اإلنسان في حياته‪.‬‬

‫نص ابن رشد أنَّه كان يواجه في زمانه نوعا ً من تعظيم شأن شع ٍّ‬
‫ب ما أو حضارةٍّ محدَّدة‪.‬‬ ‫يبدو من خالل ّ‬
‫لم يقبل بنفي التفلسف عن العرب‪ .‬لم يحصر عشق الحق والبحث عنه بحضارة دون سواها‪ .‬وكم نجد في‬
‫كالمه هذا ما يجيب على ُك ٍّ‬
‫ثر في زمننا الحاضر‪ ،‬إذ نسمع بعض األصوات التي تتردَّد هنا وهناك حول‬
‫عدم إمكانيَّة الحضارة العربيَّة من أن تنتج علما ً عقالنيَّا ً كالفلسفة‪ ،‬وإن ُوجدت فلسفة ما فهي في أغلب‬
‫نص ابن رشد إظهارا ً لقيمة التجربة العقالنيَّة التي‬ ‫َّ‬
‫وكأن في ّ‬ ‫األحوال مأخوذة من اليونان أو الغرب‪.‬‬
‫خاضها مفكرو العصور الوسطى ومفكرو النهضة من بعدهم في الحضارة العربيَّة‪ ،‬وذلك من دون إنكار‬
‫فضل اليونان والغرب‪ ،‬وال قيمة ما أنتجوه على الصعيد الفلسفي‪َّ .‬‬
‫إن هذا الموقف الرشدي يحثنا على‬
‫مضاعفة البحث عن مزيد من التجارب العقالنيَّة‪ ،‬ليس فقط في التراث العربي اإلسالمي الوسيط‬
‫والنهضوي‪ ،‬إنَّما أيضا ً في التجربة الحديثة والمعاصرة‪ .‬فالفلسفة ليست حكرا ً على شعب واحد‪ ،‬وال على‬
‫حضارة معيَّنة‪ ،‬فبإمكان من يمسّه شغف الحكمة أن يخوض غمارها متسلحا ً باألدوات المنهجيَّة الالزمة‬
‫والمفاهيم المتوفرة في عصره‪.‬‬

‫تركت كالً من الكندي والرازي وابن رشد يعيدوننا إلى أجواء كانت تنضح بالعقالنيَّة‪ ،‬لكي ألقي الضوء‬
‫من خاللهم على ما نعانيه من تهميش لمادة الفلسفة العربيَّة‪ ،‬طارحة على مختلف المهت ّمين بالشأن‬
‫التربوي النقاط اآلتية‪:‬‬

‫إن ما تشهده المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة في زمننا الحاضر يرتّب علينا أن نبرز بوضوح مكامن‬
‫‪َّ -‬‬
‫القوة فيه‪ ،‬حيث تجلّت عبر التاريخ أبرز المقاربات والنظريات‬
‫العقالنيَّة في التراث والتي تش ّكل نقاط َّ‬
‫الفلسفيَّة‪ ،‬وذلك في مجال المعرفة واإللهيَّات واألخالق والسياسة‪.‬‬

‫إن التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬نظرا ً إلى تعدد حقوله المعرفيَّة‪ ،‬ووسع الحقبة التاريخيَّة التي ّ‬
‫يغطيها‪،‬‬ ‫‪َّ -‬‬
‫يجب أن يت َّم تقديمه إلى المتعلّم من منظور فلسفي موضوعي بعيد عن التعصب والحذف والتحوير‪،‬‬
‫األمر الذي يستدعي متابعة البحث والتدقيق وتسليط الضوء على ما يتم تجاهله في الحقبة الراهنة‪.‬‬

‫مقرر الفلسفة العربيَّة‪ ،‬أو التقليل من شأنه‪ ،‬أو اعتباره عبئا ً‬ ‫‪َّ -‬‬
‫إن ما يحصل من حولنا بخصوص تهميش َّ‬
‫على المتعلّم ال يفيده الكثير في التحضير لمستقبله األكاديمي‪َّ ،‬‬
‫إن هذا النهج يم ّهد على األرجح لعمليَّة‬
‫تسطيح األجيال‪ ،‬وعدم تحفيزها على البحث‪ ،‬أو مواجهة أيَّة صعوبة‪ .‬كما أنَّه يعمل على اقتالع المتعلّم‬
‫من جذوره الفكريَّة والحضاريَّة‪ ،‬وجعله يعيش في غربة عنها‪ .‬كذلك َّ‬
‫إن تهميش مادة الفلسفة العربيَّة في‬
‫المناهج التربويَّة‪ ،‬التي هي بمثابة نموذج ظ ّهرته الحضارة العربيَّة عن عقالنيتها‪ ،‬وعن كيفيَّة مقاربتها‬
‫إن هذا التهميش من شأنه أن يجعل المتعلّم يحتفظ بصورة تقليديَّة متحجّرة عن تراث‬
‫إشكاليات عصرها‪َّ ،‬‬
‫غارق في الصراعات الدينيَّة التي يطغى عليها طابع التذمت وإقصاء الرأي المغاير‪ ،‬والتسليم التلقائي‬
‫لسلطة العقل الديني‪.‬‬

‫‪َّ -‬‬
‫إن السير المتع َّمد في سبيل دمج مادة الفلسفة العربيَّة بالفلسفة العا َّمة‪ ،‬يبقى في نظرنا مقدّمة إللغائها‪،‬‬
‫وهو ما يجوز لنا أن نصنّفه بالجريمة الكبرى في حق العقالنيَّة العربيَّة‪ ،‬كما في حق بناء فكر نقدي حر‬
‫ومنفتح ومستقل‪ .‬وهو أيضا ً محاولة صريحة وواضحة للقضاء على نهج فكري من شأنه أن يتصدَّى‬
‫للظالميَّة المستفحلة‪ .‬يتعلّق األمر بخطوة غير مسؤولة تُسهم في ترسيخ صورة غير مستحبَّة عن‬
‫الحضارة العربيَّة اإلسالميَّة‪ ،‬إن في الوعي العربي أو في الوعي الغربي‪ .‬إنَّه خدمة ال سابق لها تُقدَّم‬
‫ومروجي الجهل المقنَّع بكثرة‬
‫ّ‬ ‫على طبق من ذهب إلى ك ّل أعداء الحضارة العربيَّة‪ ،‬ومحبّذي التسطيح‬
‫المعلومات الممكننة والمبرمجة‪ ،‬كما أنَّه خدمة ألولئك المنكبّين على سلخ األجيال الطالعة عن لغتهم األم‬
‫وتراثهم ومنابعهم الفكريَّة المتو ّهجة‪.‬‬

‫‪ -‬من المؤسف أن يفاخر الغرب بأعالمه من أدباء وشعراء وفالسفة‪ ،‬ويوفّيهم حقهم من خالل إدخالهم‬
‫في منهاج التدريس‪ ،‬بينما نجد من يحاول عندنا التقليل من أهميَّة مفكرينا عن طريق اختصار إنجازاتهم‪،‬‬
‫ق ال يحتاج إلى المزيد‪.‬‬
‫ودمجها بتاريخ فكر غني يزخر بالمبدعين‪ ،‬وفيه ما يكفي من نتاج را ٍّ‬

‫يكرس المستشرقون ومراكز األبحاث والجامعات الغربية جهدا ً كبيرا ً‬


‫‪ -‬من المؤسف أيضاً‪ ،‬أنَّه في حين ّ‬
‫من أجل دراسة التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬نجد أنَّه في لبنان يتم بذل الجهد المضاعف لتقريب هذه المادة‬
‫من الطالب‪ ،‬وإلقناعه بأهميتها‪ ،‬واألستاذ مضطر اليوم إلى إقناع المسؤولين التربويين بأهميَّة المحافظة‬
‫على استقالليَّة هذه المادة التي من شأنها أن تُسهم في فسح المجال أمام التلميذ واألستاذ للتف ّكر في كيفية‬
‫ترسيخ هذه المساحة المشتركة بين الحضارتين‪ ،‬والدينين‪ ،‬بعيدا ً عن أجواء الضغط واتباع وتيرة‬
‫السرعة‪ ،‬من أجل إنجاز عدد كبير من الفصول‪ ،‬في سياق مادة واحدة تجمع ك َّما ً كبيرا ً من الموضوعات‬
‫واإلشكاليَّات‪ ،‬وذلك قبل الموعد المحدَّد لالمتحان‪.‬‬
‫‪ -‬أخيرا ً نود أن نشير إلى َّ‬
‫أن هدف تعليم الفلسفة في النهاية هو بناء اإلنسان‪ ،‬من خالل تمتين المقاربة‬
‫العقالنيَّة لدى المتعلّم‪ ،‬وتوسيع أفق تفكيره‪ ،‬وتقعيد أسس االنفتاح الفكري على اآلخر المختلف في ّ ٍّ‬
‫جو من‬
‫الحوار العقالني والنقاش المرتكز على الحجج والبراهين وإعادة النظر الدائمة بالفرضيات الفكريَّة‪.‬‬

‫يبقى لنا أن نطرح هذه األسئلة لتنخر في وعينا‪ ،‬لعلَّنا نبحث سويا ً عن أفق جديد بشأنها‪:‬‬

‫ألم يحن الوقت بع ُد لكي يقف أهل الفلسفة في بالدنا مش ّمرين عن سواعدهم ليكتبوا بأحرف من نور‬
‫مناهج تعليميَّة‪ ،‬في المرحلة الثانويَّة وفي التعليم الجامعي‪ ،‬تبرز لطالب المعرفة أبهى وأرقى ما أنتجه‬
‫الفكر العربي في مساره الحضاري‪ ،‬ولكي يعطوه ما يستحقّه من جهد ودراسة؟ ألم ّ‬
‫تدق بعد ساعة‬
‫المصالحة مع الماضي والتعاطي معه في المجال التربوي بصفته مجاالً واسعا ً للبحث والتدقيق والحفر‬
‫ٌ‬
‫جبان إلى الخلف‪ ،‬وكس ٌل مشرعن‬ ‫والتحليق؟ ألم نقتنع بع ُد َّ‬
‫بأن اعتماد الطريق السهلة في التربية هروبٌ‬
‫وممدوح زوراً‪ ،‬ال يجلب لنا سوى المزيد من الجهل المسيَّس المؤدّي إلى نهايات قاتلة؟ ألم تأ ِّ‬
‫ت الساعة‬
‫صة‪ ،‬من تعاظم مخاوفه وتضخم‬
‫بع ُد لتتوحَّد الجهود في سبيل تحرير اإلنسان العربي عا َّمة واللبناني خا َّ‬
‫أوهامه‪ ،‬عاملين نحن ـ التربويين ـ على كسر حواجز االغتراب عن الذات وعن اآلخر؟‬

‫[‪ -]1‬نشر هذه المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بال حدود‪ ،‬عدد ‪2017 ،10‬‬

‫[‪ -]2‬الكندي‪ ،‬رسالة إلى المعتصم باهلل‪ ،‬تحقيق أحمد فؤاد األهواني‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ص ‪86-85‬‬

‫[‪ -]3‬أبو بكر الرازي‪ ،‬الطب الروحاني‪ ،‬ضمن رسائل فلسفيَّة‪ ،‬نشره بول كراوس‪ ،‬القاهرة‪،1939 ،‬‬
‫ص ‪19-17‬‬

‫[‪ -]4‬أبو الوليد بن رشد‪ ،‬الضروري في السياسة ألفالطون‪ ،‬ترجمة أحمد شحالن‪ ،‬تقديم محمد عابد‬
‫الجابري‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربيَّة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1998 ،1‬ص ‪82‬‬

You might also like