Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 9

‫المحاضرة الثالثة‪ :‬مصادر المدارس النحوية‪.

‬‬

‫تمهيد‪:‬‬

‫مر بنا‪-‬مجع من العلماء األفذاذ إىل‬


‫جاء النحو العريب محاية للغة العربية من اللحن‪ ،‬وانربى –على ما ّ‬
‫جمرد هوى أو خاطرة‪ ،‬وإّّنا استنبطت‬
‫وضع قواعد للغة‪ ،‬واجلدير بالذكر أن تلك القواعد مل تكن تصدر عن ّ‬
‫"املدونة العربية"‬
‫من مصادر معلومة‪ ،‬ش ّكلت يف جمموعها مصادر السماع‪ ،‬أو ما يصطلح عليه حديثًا بـ ّ‬
‫ممثّلة يف‪ :‬القرآن الكرمي وقراءاته‪ ،‬واحلديث النبوي الشريف‪ ،‬وكالم العرب شعره ونثره‪.‬‬

‫أوال‪ :‬االستشهاد بالقرآن الكريم وقراءاته‪.‬‬

‫القرآن هو كالم اهلل تعاىل املنزل على النيب حممد –صلى اهلل عليه وسلم‪-‬بوساطة الروح األم‪،‬ن‪ ،‬باللظ‬
‫العريب‪ ،‬املنقول إلينا بالتواتر‪ ،‬واملكتوب ب‪،‬ن دفيت املصحف‪ ،‬املبدوء بسورة الظاحتة‪ ،‬واملختوم بسورة الناس‪.‬‬
‫وتتّصل هبذا النص القرآين أوجه ألدائه تعرف بالقراءات القرآنية‪.‬‬
‫والقراءات هي األوجه املختلظة اليت مسح الرسول (ص) بقراءة نص املصحف هبا قصد التيسري‪.‬‬
‫وهي علم بكيظيات أداء كلمات القرآن الكرمي من ختظيف‪ ،‬وتشديد‪ ،‬واختالف ألظاظ الوحي يف كتابة‬
‫احلروف‪ ،‬وكيظية نطقها‪.‬‬
‫نصه حبيث ال يرقى إليه أدىن ريب‪ ،‬وأصبح املثل األعلى‪،‬‬
‫وقد نال القرآن الكرمي اهتماما كب ًريا‪ ،‬وضبط ّ‬
‫أقر النحاة بأنه‬
‫إليه مظزع الظقهاء‪ ،‬ومنه يأخذ علماء اللغة شواهدهم اليت يبنون عليها قواعدهم‪ ،‬وأصوهلم‪ .‬و ّ‬
‫كالم اهلل أجري على كالم العباد‪ ،‬فكلِّموا بكالمهم‪ .‬وجاء القرآن على لغتهم‪ ،‬وعلى ما يعنون‪ .‬كما أنّه‬
‫ليس مثة خالف يف حجيّة النصوص القرآنية‪.‬‬
‫من هنا ظهرت شواهد القرآن الكرمي يف كتب النحو منذ سيبويه‪ ،‬ومن تاله من النحاة على اختالف‬
‫مذاهبهم‪ ،‬وإن كانت الغلبة للشاهد من الشعر‪ ،‬وهو تقليد دأب عليه مجهور النحاة‪ ،‬وله ما يربره؛ فالشعر‬
‫ديوان العرب وروايته شائعة قبل نزول القرآن‪ ،‬ورمبا حاكى النحاة يف اعتدادهم بالشعر أكثر من القرآن‬
‫الظقهاءَ يف تظسريهم للقرآن الكرمي؛ فكان إذا خظي عليهم احلرف من القرآن عادوا إىل الشعر فالتمسوا ذلك‬
‫فيه‪ ،‬ومن مثة برز الشاهد من الشعر يف كتب الظقهاء‪ ،‬واملظسرين‪ ،‬كما غلب يف كتب النحاة واللغوي‪،‬ن‪.‬‬
‫احدا؛ فهم ّإما‬
‫منهجا و ً‬
‫مناهج ال ً‬
‫َ‬ ‫وإذا تتبعنا منهج النحاة يف االستشهاد بالقرآن الكرمي‪ ،‬وجدناها‬
‫يظردون الشواهد من القرآن يف مسألة ما‪ ،‬أو إهنم يقرنوهنا مبا ورد عن العرب من شعر أو نثر‪ ،‬وهذا األغلب‪.‬‬
‫صح عن العرب‪ ،‬وليس وراء‬
‫مبتدئ‪،‬ن حينًا بالقرآن‪ ،‬وحينًا بالشعر أو النثر‪ ،‬وحينًا بأمثلة يقتبسوهنا على ما ّ‬
‫كثريا ما يوردون اآليات دون ذكر سورها‪ ،‬ورقمها‪ ،‬وأحيانًا ال يق ّدمون هلا مبا‬
‫ذلك توثيق للنص القرآين؛ فهم َ‬
‫كثريا نص اآلية كلّه‪ .‬بل يكتظون مبوضع الشاهد منها فحسب‪،‬‬
‫يدل على أهنا كالم اهلل تعاىل‪ ،‬وال يذكرون ً‬
‫ّ‬
‫تب‪،‬ن منهجه من االستشهاد بالقرآن باعتباره إمام النحاة‪ ،‬وأكثرهم اتبّع‬
‫ويف الكتاب لسيبويه ّناذج ممّا ذكرناه ّ‬
‫منهجه ذاك‪.‬‬
‫وإذا كان هذا موقف النحاة من االستشهاد بالقرآن‪ ،‬فما موقفهم من االستشهاد بالقراءات القرآنية؟‬
‫نص اللغوي‪،‬ن‪ ،‬والنحاة صراحة على أن القرآن سيّد احلجج‪ .‬وأن قراءاته سنّة واجبة االتبّاع‪ ،‬وسواء‬
‫ّ‬
‫رده‪ ،‬وال اجلدال فيه‪ .‬وإن كانت القراءة اليت وردت‬
‫يصح ّ‬
‫آحادا‪ ،‬أم شاذة فهي ّما ال ّ‬
‫أكانت متواترة‪ ،‬أم ً‬
‫خمالظة للقياس؛ إذ ينبغي أن تقبل القراءة الصحيحة أيًّا كانت دون حت ّكم شيء آخر فيها‪.‬‬
‫اترا أم‬
‫يقول السيوطي(‪199‬ه)‪« :‬كل ما ورد أنه قرئ به جاز االحتجاج به يف العربية‪ ،‬سواء أكان متو ً‬
‫قياسا معروفًا‪ ،‬بل لو خالظته ُيتَ ّج هبا‬
‫شا ًذا‪ ،‬وقد أطبق الناس على االحتجاج بالقراءات الشاذة إذا مل ختالف ً‬
‫يف ذلك الوارد بعينه‪ .‬وال يقاس عليه حنو‪ :‬ا ْستَ ْح َو َذ»‪.‬‬
‫عز امسه أفصح‬
‫ويقول البغدادي (ت ‪9911‬ه)‪« :‬قائل ذلك [يقصد النثر] ّإما ربّنا تبارك وتعاىل‪ :‬فكالمه ّ‬
‫كالم‪ ،‬وأبلغه‪ ،‬وجيوز االستشهاد مبتواتره‪ ،‬وشاذه»‪.‬‬
‫ص القرآن‪،‬‬
‫إىل هنا‪ ،‬وهذا الكالم النظري السابق متّظق مع جيب أن يكون بعد هذا التوثيق الرائع لن ّ‬
‫لكن ما كان ف ْعال مل يّتظق مع هذا النظر املعقول ذلك أن املمارسة العلمية للدراسة يف كتب النحو مل تتوافق‬
‫ّ‬
‫كبريا للنّمو بالنحو‪.‬‬
‫تأخرت يف الزمن عنها بعد أن قطع النحاة شوطًا ً‬
‫مع تلك اآلراء اليت ّ‬
‫فاملتصظح لكتب النحو ‪-‬على تعدد مذاهب أصحاهبا‪-‬يلح أن النحاة تباينت مواقظهم من االستشهاد‬
‫أصال يف بناء القاعدة‪ ،‬السيما مجهور‬
‫بالقراءات‪ .‬فمنهم من قَبل القراءات‪ ،‬واستشهد هبا‪ ،‬و ّاختذها ً‬
‫حرجا يف ختطئتها‪ ،‬ورميها بالشذوذ‪ ،‬والضعف إذا ما خالظت قواعده‪ ،‬وعجز‬
‫الكوفيون‪ ،‬ومنهم من مل جيد ً‬
‫عن تأويلها‪ ،‬وخترجيها وفق قواعده‪ ،‬وهذا دأب أكثر البصري‪،‬ن‪.‬‬
‫وهلذا املوقف املتباين ب‪،‬ن البصري‪،‬ن‪ ،‬والكوفيون ما يعللّه؛ فالكوفة مدينة فن اشتهرت فيها القراءات‪،‬‬
‫القراء السبعة‪ ،‬مقابل قارئ واحد يف البصرة‪.‬‬
‫والقراء‪ ،‬وفيها ثالثة من ّ‬
‫توسع يف أصول اللغة‪ ،‬وقياس على القليل‪ ،‬واعتداد باملثال الواحد‪.‬‬
‫كما أنّه يرجع إىل ما عرفوا به من ّ‬
‫فأمكنهم بذلك توجيه كثري من القراءات وخترجيها على مقتضى أصوهلم‪ ،‬ومن هنا قلّت ختطئتهم هلا‪ .‬وكانت‬
‫مصدرا من مصادر النحو الكويف‪ ،‬يقول مهدي املخزومي‪« :‬والقراءات مصدر هام من مصادر‬
‫ً‬ ‫القراءات‬
‫النحو الكويف‪ ،‬ولكن البصري‪،‬ن كانوا قد وقظوا منها موقظهم من سائر النصوص اللغوية‪ ،‬وأخضعوها ألصوهلم‬
‫وأقيستهم‪ .‬فما وافق منها أصوهلم ولو بالتأويل قبلوه‪ ،‬وما أباها رفضوا االحتجاج به‪ ،‬ووصظوه بالشذوذ‪ ،‬كما‬
‫رفضوا االحتجاج بكثري من الروايات اللغوية وع ّدوها شاذة حتظ ‪ ،‬وال يقاس عليها»‪.‬‬
‫غري أن املتصظح لكتب النحاة على تع ّدد مشارهبم‪ ،‬وأزماهنم يلح أن تعاملهم مع القراءات متشابه‪،‬‬
‫حرجا يف ختطئة القراءات على اختالف مراتبها‪ ،‬ورميها بالقبح‪ ،‬أو الضعف‪ ،‬والشذوذ إذا‬
‫فأكثرهم مل جيد ً‬
‫عجزوا عن فهمها‪ ،‬أو توجيهها وفق قواعدهم‪.‬‬
‫وفيما يلي عرض لبعض مواقف النحاة من بعض القراءات‪:‬‬
‫القراء قراءهتم‪ ﴿:‬وما‬
‫‪-9‬حكى البغدادي يف خزانته أن النحاة يف عصر أيب عمرو بن العالء أنكروا على ّ‬
‫ص ِرِخي ﴾بكسر الياء‪ ،‬فظزع أحدهم إىل أيب عمرو قائال له‪« :‬إ ّن أصحاب النحو يلحنوننا فيها»‬
‫أنْ تُ ْم بِ ُم ْ‬
‫أيضا‪ ،‬فال تـبَال»‪.‬‬
‫فقال‪« :‬هي جائزة ً‬
‫"الظراء" الذي وصظها بأهنا من وهم القراء؛ إذ ظنوا أن الباء يف‬
‫وممّن طعن يف هذه القراءة من قدامى النحاة‪ّ :‬‬
‫جارة" للظ كلّه مع أن الياء للمتكلم‪ ،‬كذلك طعن فيها أبو عبيدة‪ ،‬وقال‪« :‬نراهم‬
‫"مبصرخي" خافضة "أي ّ‬ ‫ِّ‬
‫قد غلطوا ظنًّا أنّ الباء تكسر ملا بعدها»‪ ،‬وطعن فيها أيضا الزجاج‪ ،‬وأبو حامت‪ ،‬واألخظش الذ بلغ به األمر‬
‫أن قال‪« :‬لو صليت خلف إمام يقرأ " مبصرخ ِّي" حلملت نعلي ومضيت»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫‪-2‬قرئ قوله تعاىل‪ ﴿:‬هَؤُ َلءِ ب ناتي ُه َّن أطْهر ل ُك ْم ﴾بنصب‪َ :‬‬
‫أطهر‪ ،‬وقد قال أبو عمرو بن العالء يف‬
‫أطهر لكم" فقد تربّع يف حلنه»‪ .‬وقال اخلليل‪" :‬هذا ال جيوز"‪.‬‬
‫"هن َ‬ ‫شأهنا‪« :‬من قرأ‪ّ :‬‬
‫احر ِ‬
‫ان تظَّاهرا ﴾بالتشديد‪« :‬تشديده حلن؛ ألنّه فعل ما ٍ‬
‫ض‪ ،‬وإّنا‬ ‫‪-1‬ويقول ابن خالويه يف قراءة‪ ﴿:‬س ِ‬

‫تش ّدد يف املضارع»‪.‬‬


‫الم ْش ِركِين ق ْت ُل أ ْوالد ُه ْم ُشركائِ ِه ْم ﴾وقد قال عنها أبو حيان‪:‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪-4‬وقرأ بعضهم‪ ﴿:‬وكذلك ُزين لكثي ٍر من ُ‬
‫ومتأخروهم)‪.‬‬
‫(مجهور البصري‪،‬ن مينَعوهنا‪ ،‬متق ّدموهم‪ّ ،‬‬
‫ضعف البصريون قراءة نافع قوله تعاىل‪ ﴿:‬وجعلْنا ل ُك ْم فِيها معائِش ﴾فقد قال الزجاج‪« :‬إ ّن مجيع حناة‬
‫‪ّ -5‬‬
‫نافعا بأنه‪« :‬مل يكن يدري ما العربية»‪.‬‬
‫البصرة تزعم أن مهزها خطأ»‪ ،‬ووصف املازين ً‬
‫ت بِ ِه َّ‬
‫الشياطُو ُن ﴾‪« :‬غلط الشيخ»‪ ،‬وقال عنها ابن جين‪:‬‬ ‫الظراء يف قراءة احلسن‪ ﴿:‬وما ت ن َّزل ْ‬
‫‪-6‬قال ّ‬
‫«الشياطون غلط»‪ ،‬على الرغم ممّا هو ثابت أهنا لغة مسعت من بعض العرب؛ فقد حكى أبو عمرو بن‬
‫العالء عن بعض العلماء أنه مسع أعرابيا يقول‪« :‬هذه بساتون بين فالن»‪.‬‬
‫وردها‪ ،‬وكذا تشددهم يف شرط موافقتها‬
‫رد تش ّدد النحاة يف األخذ بالقراءة‪ّ ،‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬فإنه ميكن ّ‬
‫كالم العرب إىل‪:‬‬
‫نصوصا مقدسة‪.‬‬
‫ً‬ ‫نصوصا لغويّة‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫‪-9‬اعتبار القرآن وقراءاته‬
‫ظن بعضهم أن القراءة اختيارية ال توقيظية‪ ،‬وهو رأي مجاعة منهم "الزخمشري"‪.‬‬
‫‪ّ -2‬‬
‫‪-1‬اعتقادهم أن تواتر القراءات ثابت عن القراء السبعة‪ ،‬ومل يثبت عن الرسول (صلى اهلل عليه وسلم)‪،‬‬
‫وهذا رأي‪.‬‬
‫يؤدي إىل االضطراب‪ ،‬وإن كان هذا الظن باطالً؛ ألن‬
‫‪-4‬خمالظة العربية يضعف القراءة‪ ،‬واألخذ بالضعيف ّ‬
‫املنزه وهو املبتدأ واملنتهى يف االحتجاج يف الظقه‪ ،‬واللغة‪ ،‬والنحو‪.‬‬
‫القرآن هو األصل املعجز ّ‬
‫وردا على موقف هؤالء النحاة الذي رموا القراءات باللّحن يقول ابن الطيب الظاسي‪ ...« :‬مث إ ّن‬
‫ًّ‬
‫القراء ليس هلم يف القراءات املذكورة آراء ينسبون هبا إىل اخلطأ واللحن‪ ،‬وإّّنا هم نقلة ملا رووه بالتواتر‪،‬‬
‫هؤالء ّ‬
‫تقرر أن القراءة سنّة متّبعة‪ ،‬واملعترب فيها التّلقي عن األئمة ال اعتماد الرأي كما ّقرروه‪ ،‬فاالعرتاض علي‪،‬‬
‫وقد ّ‬
‫وتلحينهم ال معىن له‪ ...‬والذي عابوه‪ ،‬واعرتضوه هو احلجة والدليل على جوازه‪ ،‬وارتكابه يف العربية؛ ألن‬
‫القرآن حاكم عليها‪ ،‬وإن خالظت القواعد العربية؛ ألن غاية ما فيه أن يكون شاذًّا والشذوذ ال ينايف‬
‫الظصاحة»‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬االستشهاد بالحديث النبوي الشريف‪:‬‬
‫‪-1‬موقف جمهور النحويين من االستشهاد بالحديث‪.‬‬
‫األول من مصادر‬
‫األول من مصادر التشريع اإلسالمي‪ ،‬كما يع ّد املصدر ّ‬
‫يع ّد القرآن الكرمي املصدر ّ‬
‫االستشهاد اللغوي؛ ألنّه ميثّل أعلى درجات الظصاحة والبيان‪ .‬وكذلك احلديث النبوي الشريف‪ ،‬فهو ثاين‬
‫مصادر التشريع‪ ،‬وكان ينتظر أن يكون ثاين مصادر االستشهاد اللغوي؛ ألنّه صادر عن أفصح العرب قاطبة‬
‫سيّنا حممد صلّى اهلل عليه وسلّم‪.‬‬
‫حّت إذا‬
‫نادرا‪ّ ،‬‬
‫ّإال أ ّن املتص ّظح للكتب النحوية األوىل يلح أن النحاة األوائل مل يستشهدوا باحلديث ّإال ً‬
‫مقصودا لذاته‪.‬‬
‫ً‬ ‫وقع يف كتبهم كان تقوية لما يستَ ْش َهد به من قرآن أو كالم العرب‪ ،‬دون أن يكون‬
‫وهكذا انصرف النحاة األوائل عن االستشهاد باحلديث‪ ،‬دون أن يعلّلوا موقظهم ذاك‪.‬‬
‫وامتناع النحاة املتقدم‪،‬ن عن االحتجاج به يف استنباط األحكام النحويّة جعل النحاة املتأخرين ينقسمون‬
‫إزاء هاته املسألة طوائف ثالثة‪:‬‬
‫الطائفة األولى‪ :‬المانعون لالستشهاد بالحديث مطلقا‪.‬‬
‫لعل أبرز من ميثّل هذا االجتاه‪ :‬ابن الضائع (‪689‬ه)‪ ،‬وتلميذه‪ :‬أبو حيّان األندلسي (‪545‬ه)‪ ،‬حّت‬
‫و ّ‬
‫إ ّن قضية االستشهاد باحلديث مل تـثّر ّإال يف القرن السابع للهجرة عند حناة األندلس‪ ،‬وذلك حينما أكثر ابن‬
‫يرد عليه مسلكه‪.‬‬
‫مالك األندلسي (‪652‬ه) من االستشهاد به يف إثبات القواعد الكلية‪ ،‬فانربى أبو حيّان ّ‬
‫إماما‬
‫ويتّهمه مبخالظة املتق ّدم‪،‬ن من النحاة‪ ،‬وفيما عدا ابن الضائع‪ ،‬وتلميذه أيب حيّان‪ ،‬ال تكاد تذكر املراجع ً‬
‫آخر اعرتض على االحتجاج باحلديث مطل ًقا‪.‬‬
‫الطائفة الثانية‪ :‬المجيزون لالستشهاد بالحديث مطلقا‪.‬‬
‫وأما الذين أجازوا االستشهاد به فأصحاب املعاجم؛ إذ تذكر دراسة تناولت االستشهاد باحلديث يف‬
‫املعاجم العربية أ ّن املعاجم ‪-‬منذ أول معجم وضع يف العربية "الع‪،‬ن" – حتظل بعدد كبري من شواهد احلديث‪.‬‬
‫و ّأما النحاة فإ ّن أول من أكثر من االستشهاد باحلديث فابن مالك األندلسي‪ .‬وقد تبعه يف مسلكه هذا‬
‫من تاله من حناة القرون املتعاقبة‪ ،‬ومنهم‪ :‬ابن هشام األنصاري‪ ،‬وشرف الدين األسرتباذي‪ ،‬والبدر الدماميين‪،‬‬
‫واخلطيب البغدادي‪ ،‬وابن الطيب الظاسي‪ ،‬وما إىل ذلك من النحاة املتأخرين‪.‬‬
‫الطائفة الثالثة‪ :‬المتوسطون في االستشهاد بالحديث‪.‬‬
‫و ّأما الطائظة الثالثة فقد مشلت النحاة الذين قبلوا االحتجاج ببعض األحاديث دون بعض بشروط حمددة‪.‬‬
‫نص الشاطيب‬
‫لعل أبرز من ميثل هذا االجتاه‪ :‬اإلمام الشاطيب (‪519‬ه) واإلمام السيوطي(‪199‬ه)؛ حيث ّ‬
‫و ّ‬
‫ين بنقل ألظاظها‪ ،‬وتبعه يف ذلك السيوطي‪ ،‬قال‪« :‬وأما كالمه (صلى‬
‫على جواز االحتجاج باألحاديث اليت اعت َ‬
‫جدا»‪.‬‬
‫اهلل عليه وسلم) في ْستَ َد ّل منه مبا ثبت أنه قاله على اللظ املروي‪ ،‬وذلك نادر ً‬
‫‪-2‬أسباب رفض االستشهاد بالحديث النبوي‪.‬‬
‫ما ينبغي علمه يف بادئ األمر أن االستشهاد باحلديث النبوي عند النحاة األوائل ينظر إليه من جانب‪،‬ن‪:‬‬
‫الجانب األول‪ :‬اختاذ احلديث ً‬
‫شاهدا يدعم الشواهد اللغوية األخرى من القرآن‪ ،‬وكالم العرب‪ ،‬وهذا ال‬
‫خالف فيه حّت عند النحاة املعارض‪،‬ن لالحتجاج به أمثال ابن الضائع وأيب حيّان؛ إذ تذكر املراجع أن هذا‬
‫األخري استشهد يف كتابه "ارتشاف الضََّرب من لسان العرب" بعدد ال بأس به من األحاديث‪.‬‬
‫أساسا يف استنباط القواعد الكلية‪ ،‬وهذا أمر ْجي َمع فيه على‬
‫مصدرا ً‬
‫ً‬ ‫وأما الجانب الثاني‪ :‬فهو اختاذ احلديث‬
‫يرد عليه‬
‫أنه مل يقع عند النحاة األوائل ّإال مع ابن مالك األندلسي‪ ،‬وهذا ما عابه عليه أبو حيّان‪ ،‬وعكف ّ‬
‫مذهبه‪ ،‬ويتّهمه مبخالظة مذهب املتقدم‪،‬ن من النحاة يف ترك االستشهاد باحلديث‪ ،‬واستنباط األحكام بناءً‬
‫عليه‪.‬‬
‫االستشهاد باحلديث‪ ،‬فقد حصرها املتأخرون منهم يف سبب‪،‬ن‪:‬‬
‫َ‬ ‫وأما عن أسباب ترك املتقدم‪،‬ن من النحاة‬
‫األول‪ :‬رواية احلديث باملعىن؛ فتعددت إذ ذاك األلظاظ يف القصة الواحدة‪ ،‬واألرجح أهنا ليست كلّها ألظاظه‬
‫(ص)‪ ،‬ولو ثبت أهنا ألظاظه جلاز االستشهاد هبا‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن رواة احلديث كانوا من األعاجم فوقع اللحن فيما رووه من أحاديث‪.‬‬
‫وذهب أحدهم إىل أن علة االمتناع تعود إىل عدم تعاطيهم إيّاه؛ ألهنم استغنوا مبا وجدوه يف كالم اهلل‪،‬‬
‫وكالم العرب عن احلديث‪.‬‬
‫وأما الدارسون احملدثون فحصروا أسباب إعراض النحاة األوائل عن االحتجاج باحلديث يف‪:‬‬
‫حرز الديين‪.‬‬
‫أ‪-‬التّ ّ‬
‫ب‪-‬قلّة مادة احلديث يف أيدي هؤالء‪.‬‬
‫ج‪-‬امتناعهم ألسباب مذهبية‪ ،‬وسياسية جعلتهم حمافظ‪،‬ن إزاء االستشهاد به‪.‬‬
‫د‪-‬كثرة الوضع يف احلديث‪.‬‬
‫‪-3‬موقف علماء اللغة المحدثين من االستشهاد بالحديث‪:‬‬
‫تباينت مواقف احملدث‪،‬ن يف بادئ األمر من مسألة االستشهاد باحلديث على حنو ما عرفت به عند املتأخرين‬
‫من النحاة‪.‬‬
‫إالّ أن هذه املسألة فصل األمر فيها يف جممع اللغة العربية بالقاهرة‪ ،‬وخرج أعضاء اجملمع بقرار خيص مسألة‬
‫ونصه‪:‬‬
‫االستشهاد باحلديث‪ ،‬هذا بيان القرار‪ّ ،‬‬
‫«اختلف علماء العربية يف االحتجاج باألحاديث النبوية جلواز روايتها باملعىن‪ ،‬ولكثرة األعاجم يف رواهتا‪ .‬وقد‬
‫رأى اجملمع االحتجاج ببعضها يف أحوال خاصة‪ ،‬مبيّنة فيما يأيت‪:‬‬
‫الصحاح الستة‪ ،‬فما قبلها‪.‬‬
‫املدونة يف الصدر األول ككتب ّ‬
‫‪-9‬ال ُْيتَ ُّج يف العربية حبديث مل ي َد َّون يف الكتب ّ‬
‫املدون يف هذه الكتب اآلنظة الذكر على الوجه اآليت‪:‬‬
‫ُيتج باحلديث ّ‬
‫‪ّ -2‬‬
‫أ‪-‬األحاديث املتواترة املشهورة‪.‬‬
‫ب‪-‬األحاديث اليت تستعمل ألظاظها يف العبادات‪.‬‬
‫جـ‪-‬األحاديث اليت تع ّد من جوامع الكلم‪.‬‬
‫د‪-‬كتب النيب (صلى اهلل عليه وسلم)‪.‬‬
‫ه‪-‬األحاديث املروية لبيان أنه كان (صلى اهلل عليه وسلم) خياطب كل قوم بلغتهم‪.‬‬
‫و‪-‬األحاديث اليت رواها من نشأ ب‪،‬ن العرب الظصحاء‪.‬‬
‫ز‪-‬األحاديث اليت عرف من حال رواهتا أهنم ال جييزون رواية احلديث باملعىن‪.‬‬
‫ح‪-‬األحاديث املروية من طرق متعددة‪ ،‬وألظاظها واحدة»‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬كالم العرب شعره ونثره‪:‬‬
‫‪ /9‬النثر‪:‬‬
‫يشتمل كالم العرب على نوع‪،‬ن من املادة اللغوية‪ :‬الشعر والنثر‪ .‬و ّأما النثر فمصطلح يتّسع لنوع‪،‬ن من املادة‬
‫اللغوية‪:‬‬
‫لعل‬
‫األوىل‪ :‬ما يندرج ضمن الظنون األدبية العامة املشهورة عند العرب يف إطار عصر االستشهاد اللغوي‪ ،‬و ّ‬
‫أمهها‪ :‬اخلطابة واملثل واحلكمة والنادرة‪ ،‬وحّت األلغاز‪ .‬وهذه الظنون يستشهد هبا على حنو ما يستشهد بالشعر‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬الكالم اليومي العادي املسموع عن عرب البادية‪ ،‬وهذا الذي خرج اللغويون جلمعه حقيقة من البوادي‬
‫العربية‪ ،‬وخضع ملعياري الزمان واملكان‪.‬‬
‫وفيه اختلف البصريون والكوفيون؛ حيث اقتصر مساع البصري‪،‬ن على ست قبائل تقع يف أواسط شبه اجلزيرة‬
‫توسع الكوفيون ومسعوا من كل القبائل‬
‫أسد وبعض كنانة وبعض الطائي‪،‬ن‪ ،‬بينما ّ‬ ‫العربية وهي‪ :‬قيس ومتيم و ْ‬
‫العربية‪ ،‬حّت إهنم مسعوا من أعراب سواد لكوفة وبغداد‪.‬‬
‫وال يشرتط يف هذا النوع من الكالم معرفة قائله بعينه كما هو احلال يف الشعر‪ ،‬وإّّنا الثقة تكون ملن روى‪،‬‬
‫ويف أي عصر وأي قبيلة‪ ،‬وهو معيار ّاختذه النحاة وأصحاب اللغة للشواهد عامة‪.‬‬
‫‪ /2‬الشعر‪:‬‬
‫حد سواء‪ ،‬واعتربوه الدعامة األساسية هلم‪ ،‬حّت‬
‫اهتماما كبريا من اللغوي‪،‬ن والنحوي‪،‬ن على ٍّ‬
‫ً‬ ‫القى الشعر‬
‫ختصصت يف زمن ما وأصبحت مقصورة على الشعر‪ ،‬ولذلك جند أكثر كتب الشواهد‬
‫إن كلمة "الشاهد" ّ‬
‫ال حتوي غري الشعر‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن الشواهد الشعرية ش ّكلت أكرب نسبة من شواهد النحوي‪،‬ن عموما‪ ،‬فإ ّن الشعر مل يكن‬
‫مبستوى واحد عندهم‪ ،‬ونظروا إليه باعتبار طبقات شعرائه‪ ،‬اليت ق ِّسمت إىل أربع طبقات‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫الطبقة األوىل‪ّ :‬‬


‫وتضم الشعراء اجلاهل‪،‬ن‪ ،‬وهم قبل اإلسالم‪ ،‬من أمثال امرئ القيس وزهري بن أيب سلمى‪ .‬وقد‬
‫أمجع النحويون على صحة األخذ بشعر هاته الطبقة دون خالف‪.‬‬

‫الطبقة الثانية‪ :‬وتضم الشعراء املخضرم‪،‬ن‪ :‬وهم الذين أدركوا اجلاهلية واإلسالم كلبيد ّ‬
‫وحسان بن ثابت‪،‬‬
‫ويؤخذ عنهم بإمجاع شأهنم شأن اجلاهلي‪،‬ن‪.‬‬
‫الطبقة الثالثة‪ :‬وتضم الشعراء املتقدم‪،‬ن‪ ،‬ويقال هلم "اإلسالميون" وهم الذين كانوا يف صدر اإلسالم كجرير‬
‫والظرزدق‪ ،‬وآخرهم ابن هرمة‪ ،‬قال أبو عبيدة‪" :‬افتتح الشعر بامرئ القيس‪ ،‬وختم بابن هرمة"‪ .‬والصواب‬
‫يتورع النحويون الذين‬
‫صحة االستشهاد بشعر هؤالء الشعراء ألهنم ضمن عصر الظصاحة‪ ،‬ومع ذلك مل ّ‬
‫ّ‬
‫عاصروهم عن ختطئتهم‪ ،‬على حنو ما يروى لنا من وقائع ب‪،‬ن عبد اهلل بن أيب إسحاق احلضرمي والظرزدق‬
‫ومشاحنات‪ ،‬انتهت هبجاء الظرزدق له يف غري موضع‪.‬‬

‫الطبقة الرابعة‪ّ :‬‬


‫وتضم الشعراء املولدين‪ ،‬ويقال هلم "احملدثون"‪ ،‬وهم من بعد اإلسالم‪،‬ن كبشار بن برد وأيب‬
‫نواس وأيب متّام‪ .‬والصواب عدم صحة االستشهاد بشعرهم؛ ألهنم جتاوزوا عصر الظصاحة‪ ،‬وقيل يستشهد‬
‫بكالم من يوثق به منهم‪ ،‬واختاره الزخمشري فاستشهد بشعر أيب متام يف عدة مواضع‪.‬‬

You might also like