Professional Documents
Culture Documents
عالمية الإسلام بين التراث والحداثة
عالمية الإسلام بين التراث والحداثة
ب� ت
ال�اث والحداثة عالمية اإلسالم ي ن
عاملية اإلسالم ضرورة من ضرورات هذا الدين ،ودليل يؤكد على أنه الدين القومي الصاحل لكل زمان
ومكان ،وإدراك هذا يفرض على املسلمني اخلروج من قواقعهم اليت حبسوا أنفسهم هبا وأن يعوا ويفهموا
معىن عاملية اإلسالم وأن يسعوا لتبصري الناس هبا ،وضمن مسعى إظهار وتبصري الناس بعاملية اإلسالم
لتتغري الصورة املشوهة اليت رمسها املغرضون واجلهالء عن اإلسالم وأظهروه كدين ال يصلح ّإل جملموعة من
أهل البادية فقط ،ودين يعادي احلضارة والتقدم وجيايف الرقي واالزدهار.
مل تكن الرسالة اخلامتة لتكون لقوم دون قوم أو أمة دون أمة بل للناس مجيعاً ،ومادة هذه الرسالة هي
القرآن الكرمي ،الوحي الذي أنزل على رسولنا الكرمي صلى هللا عليه وسلم ،وهو رسالة هللا للناس أمجعني
يف مشارق األرض ومغارهبا ،وعلى املسلمني أن يدركوا هذا ويتعاملوا مع الرسالة احملمدية على هذا
األساس ما يرتب عليهم مسؤوليات يف تعاملهم مع اآلخرين وطريقة تقدمي اإلسالم.
إن عاملية اإلسالم أمر ال خيتلف عليه املسلمون فقد ورد يف الذكر احلكيم مرات عديدة وإبنشاء
بالغي جزل واضح والقرآن خياطب الناس مجيعاً فاألايت اليت ختاطب بلفظ «اي أيها الناس» بلغت 20
َّاس إِ َّن َخلَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن ذَ َك ٍر
{ي أَيـَُّها الن ُ
آية ومجيعها تؤكد عاملية اإلسالم وأنه جلميع البشر ،قال تعاىلَ :
اللَ َعل ٌيم َخبِريٌ} .
1 ِ وأُنـثى وجع ْلنا ُكم شعوب وقـبائِل لِتـعارفُوا إِ َّن أَ ْكرم ُكم ِعْن َد َِّ
الل أَتـَْقا ُك ْم إِ َّن َّ ََ ْ َ َْ َ َ َ َ ْ ُ ُ ً َ ََ َ ََ َ
ثوخلَ َق ِمنـَْها َزْو َج َها وبَ َّ وقال تعاىل{ :ي أَيـُّها النَّاس اتـَُّقوا ربَّ ُكم الَّ ِذي خلَ َق ُكم ِمن نـ ْف ٍ ِ ٍ
س ،واح َدةَ ، َ ْ ْ َ َ ُ ُ َ َ
اللَ َكا َن َعلَْي ُك ْم َرقِيبًا} ،2وقال تعاىل: َّ
ن ِ
إ ام ح َر
َ َ َُ َ ْ ْ َ َ َّ الو ِ
ه ِ
ب نو ل اء س ت ي ِ
ذ َّ
ل ا الل او قـ ت ا
و اء ِ ِ ِ
منـْ ُه َما ِر َج ًال َكث ًريا ون َس ً َُّ ََّ
ِ ِِ َّاس قَ ْد َجاءَتْ ُك ْم َم ْو ِعظَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم َو ِش َفاءٌ لِ َما ِف ُّ
ني}{ ،3قُ ْل َي الص ُدوِر َوُه ًدى َوَر ْحَةٌ ل ْل ُم ْؤمن َ {اي أَيـَُّها الن ُ
ض َّل فَِإَّنَا ي ِ ِِ ِ ِ أَيـُّها النَّاس قَ ْد جاء ُكم ْ ِ
ض ُّل َعلَيـَْها َوَما َ الَ ُّق من َّربِّ ُك ْم فَ َم ِن ْاهتَ َد ٰى فَِإَّنَا يـَْهتَدي لنـَْفسه َوَمن َ ُ ََ ُ َ
ِ ِ ٍ 4
أ ََن َعلَْي ُكم ب َوكيل} .
1
سورة الحج رات ،اآلية .13
2
سورة النساء ،اآلية .1
3
سورة يونس ،اآلية .57
4
سورة يونس ،اآلية .108
نارمع رازن .د
َّاس إِِّن َر ُس ُ
ول وتتكرر اآلايت اليت تؤكد عاملية دعوة اإلسالم كما يف اآلية الكرمية{ :قُ ْل َي أَيـَُّها الن ُ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ السمو ِ الل إِلَي ُكم َِ ِ ِ
ِ
َّب
يت فَآمنُوا ب َّلل َوَر ُسوله الن ِّض َل إِلَهَ إَِّل ُه َو ُْييِي َوُي ُ
ات َو ْال َْر ِ ك َّ َ َ ج ًيعا الَّذي لَهُ ُم ْل ُ َّ ْ ْ
لل َوَكلِ َماتِِه َواتَّبِعُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تـَْهتَ ُدو َن}.1
ْال ُِم ِي الَّ ِذي يـؤِمن ِب َِّ
ُْ ُ ّّ
الدعوة لإلسالم وإظهار الدين اإلسالمي بوجهه احلقيقي يصطدم يف أحناء العامل ابلصورة النمطية اليت
حياول املغرضون أن يرمسوها عن اإلسالم واملسلمني ،وهذه الصورة غالباً ما تكون سلبية يقصد منها تنفري
الناس وإبعادهم عن اإلسالم ،ومما ال شك فيه أن جهل بعض املسلمني يساهم هبذا النفور ورسم هذه
الصورة النمطية املشوهة عن اإلسالم.
األمر األخر الذي يشارك يف رسم صورة سلبية عن اإلسالم هو جزء من الرتاث املوروث الذي
تتمسك به العديد من املؤسسات الدينية التقليدية ابلرغم من عدم صالحيته ،وقد ظهرت حركات
إصالحية يف اجملتمعات اإلسالمية يف بقاع خمتلفة يف العامل خالل القرنني املاضيني لتصحيح بعض املفاهيم
واملورواثت اليت تؤثر سلباً وعائقاً يف انتشار هذا الدين احلنيف ،إال أهنا وجهت برفض وإنكار من
التيارات اإلسالمية الرتاثية ،وهي التيارات األوسع واملتحكمة ابملؤسسات اإلسالمية التقليدية اليت متتلك
السلطة والتأثري على اجملتمع والدولة ،فكان أتثري هذه احلركات اإلصالحية حمدوداً ابلرغم من أمهيتها يف
إخراج الفكر اإلسالمي من احمللية الضيقة وإعادته للعاملية الواسعة.
وابلرغم من أنه ال خيتلف اثنان من العلماء أو الفقهاء املسلمني أن رسالة هللا سبحانه وتعاىل اليت
اليت جاء هبا رسوله الكرمي حممد صلى هللا عليه وسلم هي رسالة للبشر أمجعني وهي خامتة الرساالت
وهي صاحلة لكل زمان ومكان ،ولكن لألسف فإن الغالبية العظمى تتعامل معها على أهنا رسالة حملية
ضيقة املفاهيم حمدودة مبجتمع وبيئة حمددة ،وهذا كان سبباً عائقاً يف العصور املتأخرة يف انتشار رسالة
اإلسالم ،حيث أن مفهوم اإلسالم واملسلمني نفسه مفهوم ضيق عند الكثري من املسلمني ،ويضيق هذا
املفهوم أكثر يف اجملتمعات املغلقة اليت حتاول اإلرتداد إىل العصور اإلسالمية األوىل.
وهنا ال بد من التعريج على مفهوم اإلسالم حسب النص القرآين لفهم بعد آخر من عاملية اإلسالم،
فقد تبادر لذهن العديد من املفسرين أن كلمة اإلسالم واملسلمني يقصد هبا أتباع النيب الكرمي حممد عليه
الس َلم وما اختـلَ َّ ِ ند َِّ ِ ِ
ين أُوتُوا
ف الذ َالل ِْ ْ ُ َ َ ْ َ َ ين ِع َ
الصالة والسالم فقط ،كما ورد يف اآلية الكرمية{ :إ َّن ال ّد َ
الِس ِ ت َِّ
الل فَِإ َّن َّ الْ ِكتاب إَِّل ِمن بـع ِد ما جاءهم الْعِْلم بـ ْغيا بـيـنـهم ومن ي ْك ُفر ِبي ِ
اب} ،2ولكن يع ْ َاللَ َس ِر ُ َْ َ َ َ ُ ُ ُ َ ً َ ْ َُ ْ َ َ َ ْ َ َ َ
لو تتبعنا مفهوم الكلمة كما وردت يف القرآن الكرمي سيتضح أن املعىن أعم من ذلك ويقصد هبا أن كل
1
سورة األع راف ،اآلية .158
2
سورة آل عم ران ،اآلية .19
من آمن ابهلل واليوم اآلخر فهو مسلم مهما كانت شريعته ،حيث أن أنبياء هللا ورسله مجيعاً جاؤوا بدعوة
اإلسالم فهو الدين عند هللا ،فلنتتبع بعض اآلايت اليت وردت يف القرآن وتذكر املسلمني ،فقد قال تعاىل:
َسلَ َم َم ْن ِف ل أ ََّن إِ َٰل ُكم إِٰلَه ٰو ِح ٌد فـهل أَنتم ُّمسلِمو َن}{ ،1أَفـغَيـر ِدي ِن َِّ {قُل إَِّنَا ي ِ
الل يـَبـْغُو َن َولَهُ أ ْ َ َْ وحى إ ََّ َ ُ ْ ٌ َ ََ ْ ُ ْ ُ ْ َُ
ض طَْو ًعا َوَك ْرًها َوإِلَْي ِه يـُْر َجعُو َن} ،2يف هذه اآلية الكرمية نرى أن اإلسالم ال يقتصر على ات َواأل َْر ِ السماو ِ
َّ َ َ
ِ َّ ِ
أهل األرض فقط بل هي عامة يف الكون ،وقال تعاىل يف دعوة نوح لقومه{ :فَإن تـََوليـْتُ ْم فَ َما َسأَلْتُ ُكم ّم ْن
ِِ ِ أَج ٍر إِ ْن أَج ِرى إَِّل علَى َِّ ِ
ني} 3يونس ،72وعن قوم لوط{ :فَ َما َو َج ْد َن ت أَ ْن أَ ُكو َن م َن ٱلْ ُم ْسلم َ ٱلل َوأُم ْر ُ ْ َ َ ْ
ِ ِ ٰ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ
صَرانيًّا َولَكن َكا َن َحني ًفا {ما َكا َن إبـَْراه ُيم يـَُهود ًّي َوَل نَ ْ
ني} ،وعن إبراهيمَ : ف َيها َغيـَْر بـَْيت ّم َن الْ ُم ْسلم َ
4
تُّمسلِما وما َكا َن ِمن الْم ْش ِركِني} ،5وعن السحرة الذين أسلموا ملوسى{ :وما تَ ِنقم ِمنَّا إَِّل أَ ْن آمنَّا ِبي ِ
َ َ ََ ُ َ ُ َ ْ ً ََ
ِ ِ
ني} ،وكذلك احلواريون الذين اتبعوا النيب عيسى عليه َربِّنَا لَ َّما َجاءَتـْنَا َربـَّنَا أَفْ ِر ْغ َعلَيـْنَا َ
صبـًْرا َوتـََوفـَّنَا ُم ْسلم َ
6
هذه الدعوة ليست لرفض الرتاث اإلسالمي أو إنكاره بل دعوة لفهم الدين اإلسالمي احلنيف
وإظهاره بشكله الصحيح ،فخامتة الرساالت السماوية ليست لقوم القرن السابع أو الثامن امليالدي
فقط بل هي رسالة من هللا للناس حية دائماً إىل يوم الدين ،وعلى الناس أن تقرأها يف كل زمان حسب
القاعدة املعرفية واإلدراك والوعي اإلنساين لكل زمن ،وجيب أن تكون للناس يف كل بقاع األرض مهما
اختلفت تقاليدهم وعاداهتم وأشكاهلم وألواهنم ،وهبذا تتحقق مقولة أن الدين اإلسالمي صاحل لكل زمان
1
سورة الروم ،اآلية .30
2
سورة األع راف ،اآلية .199 ،198
ومكان.
لقد الحظ بعض العلماء قدمياً وحديثاً هذا األمر والحظوا صالحية النص القرآين لكل زمان وأنه
ينسجم مع األدوات والنظم املعرفية املتطورة دائماً .وهذا يدعوان للتوقف قليالً عند هذا األمر ،فالزمن
احلايل وابلرغم من اهلجمات الشرسة على اإلسالم وحماوالت تشويهه هو أفضل األزمان اليت مرت حىت
اآلن لوصول رسالة هللا للناس عامة ،وذلك ألسباب وحقائق عديدة أمهها طبيعة هذه الرسالة اخلالدة،
والسبب اآلخر هو التقدم التقين الذي سهل التواصل بني الناس وسهل نقل األخبار واملعارف بني أبناء
اجلنس البشري عموماً ،وذلك عرب وسائل اإلتصال احلديثة وعرب وسائل اإلعالم املختلفة املسموعة
واملرئية ،والتقدم العلمي واإلكتشافات واإلخرتاعات اليت تتسارع وتريهتا.
ونالحظ هنا الدور الرايدي الفكري الذي تؤديه بعض املؤسسات اإلسالمية املتنورة واليت تدرك
هذه اخلصائص يف الرسالة اإلسالمية فتتشارك مع اآلخرين التطوير الفكري واملعريف وقبول ما هو جديد
وينفع الناس ويتناسب مع الرسالة اإلهلية ومفاهيمها اخلالدة ،وجند هذا واضحاً يف بالد عديدة وخصوصاً
البالد اليت تسمح حبرية الفكر والتعبري وقد أدرك العديد من العلماء يف هذه املؤسسات اإلسالمية أن
دائما وتساهم يف فهمها اإلكتشافات والرباهني العلمية احلديثة ال تتعارض مع الرسالة اإلهلية بل تؤكدها ً
وهذا جانب آخر مييز القرآن الكرمي عن الكتب السماوية األخرى .وهنا ال بد من ذكر دور املشيخة
اإلسالمية يف صربيا وهي املؤسسة الدينية يف اقليم السنجق اليت متثل املسلمني يف صربيا ودول الشتات
أبهنا مؤسسة رائدة يف انفتاحها وتقبلها للعلوم واألفكار والنظرايت احلديثة وهتتم بنظرايت املعرفة وأفكار
احلداثة وتتابع األحباث الفكرية اليت تتوافق مع اإلسالم الصحيح .وهناك العديد من املؤسسات اإلسالمية
يف دول العامل بدأت تلعب دوراً فكرايً مهماً يف تطوير فهم اإلسالم وأبساليبها احلديثة تؤكد على عاملية
اإلسالم وصالحيته لكل زمان ومكان.