جدل السياسة ونكبة ابن رشد

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 3

‫جدل السياسة ونكبة ابن رشد‬

‫عزيز الحدادي‬

‫لننطلق من هذا التساؤل عن عالقة الفيلسوف بالعلوم النظرية التي ال يمكن أن تكون سوى‬
‫برهانية‪ ،‬وليست جدلية‪ ،‬فالبرهان غاية نفوس السعداء «من ذوي العدل من النعيم واللذة»‪.‬‬
‫والسفسطة غاية نفوس األشقياء الحيارى‪ ،‬وبعبارة أخرى «هل كان ابن رشد يسعى من خالل‬
‫تقديمه للسياسة كعلم نظري برهاني‪ ،‬إلى جعلها مهنة للسعداء فقط؟ وهل بإمكان األشقياء أن‬
‫يسعدوا الناس؟‬
‫وإال ما معنى هذه العالقة بين علم السياسة ومرتبة السعداء؟ بل كيف يكون علم السياسة ممكنا‬
‫بدون أن يتقدمه علم األخالق والفلسفة؟‬
‫لنفترض أن ابن رشد لم يكتب هذا النص السياسي الوحيد‪ ،‬وظل مخلصا لمهمة الشارح المخلص‬
‫ألرسطو‪ ،‬كما طلب منه وحداني التسلط‪ ،‬فهل كان أمير المؤمنين سيكرمه ويسمح له بتأسيس‬
‫أكاديمية رشدية‪ ،‬كما هو الحال مع أكاديمية افالطون؟ ولنفترض أيضا أن إهداء هذا الكتاب كان‬
‫موجها إلى الخليفة بدال من األمير أبي يحيى الذي طلب منه تلخيص الكتاب‪ ،‬فهل كانت الفلسفة‬
‫ستستمر في بناء النهضة العلمية والفكرية؟ والحق أن الفلسفة ال تزدهر في أمة إال بالمقدار الذي‬
‫توجبه السياسة المدنية‪ ،‬فهي بنت المدينة الفاضلة التي ينبغي أن يكون رؤساؤها حكماء‪ ،‬وبما أن‬
‫المدينة ال تكون سعيدة إال بالسعداء‪ ،‬وبلغة ابن باجة فمدينة السعادة ال تتحقق إال بمرتبة النظار‪،‬‬
‫فإن استراتيجية ابن رشد في تلخيصه لسياسة أفالطون كانت تعتمد على التربية والتعليم‪،‬‬
‫باعتبارهما التأسيس األبستيمولوجي للسياسة‪ ،‬إذ ال يمكن للمدينة أن تحقق كمالها إال باإلنسان‬
‫الكامل «وبما أن الفضيلة التي تنتج عن اجتماع الحكمة والشجاعة والعفة على مستوى النفس‬
‫هي العدل‪ ،‬فكذلك الشأن في المدينة‪ ،‬يكون نظام الحكم فيها عادال إذا تحقق فيها التوافق‬
‫والتوازن بين طبقتها‪ ،‬بحيث يقوم كل منها بما هو مؤهل له‪ ،‬وهذا يحصل عندما يكون الفيلسوف‬
‫هو الرئيس»‪.‬‬
‫وإذا لم يكن الفيلسوف هو رئيس المدينة الفاضلة تتحول إلى مدينة جاهلة‪ ،‬وبلغة ابن رشد‪ ،‬إن‬
‫نسبة الفضائل في أجزاء المدينة‪ ،‬هي كنسبة القوى النفسانية في أجزاء النفس‪ ،‬فتكون هذه المدينة‬
‫حكيمة في جزئها النظري‪ ،‬أعني تكون مرتبطة بالعقل‪ ،‬عقالنية وليست ثيولوجية‪ ،‬فالمهم في‬
‫ال مدينة ليست مساحتها وعمرانها وخيرها‪ ،‬بل أهلها‪ ،‬إن كانوا فضالء‪ ،‬كانت فاضلة‪ ،‬وإن كانوا‬
‫جهالء كانت المدينة جاهلة‪ .‬والشاهد على ذلك ما نشاهده في زمننا هذا ومدننا هذه‪ ،‬فكلما كان‬
‫المدبر حكيما وعاقال في تدبيره‪ ،‬تأثرت المدينة به‪ ،‬ذلك أن نشر المعرفة بواسطة العلم والفلسفة‬
‫والفن‪ ،‬سيساهم في ازدهار السياسة واالقتصاد‪ ،‬لكن هل يمكن تشييد المدينة الفاضلة على أرض‬
‫جاهلة؟ وما هي الخصال المطلوبة في رئيس هذه المدينة؟ وهل هناك من صعوبة في وجود هذا‬
‫الرئيس الحكيم وإمكانية قيام المدينة الفاضلة؟ سيكون أمير المؤمنين محبطا من هذا النقد‬
‫ا لرشدي‪ ،‬حتى لو كان يفسر آراء أفالطون‪ ،‬يضاف إلى ذلك إن المنصور الذهبي كان قائدا‬
‫عسكريا غير مهتم بالعلم والفلسفة‪ ،‬فهو جاهل بالذات عالم بالعرض‪ ،‬وال يسمع سوى للنظار‪،‬‬
‫ولذلك فإن أزمته النفسية هي في الواقع أزمة فلسفية‪ ،‬فحين يتم إخباره بالنقد الرشدي للمدينة‬
‫الجاهلة سيعتقد أن هذا النقد موجه إليه‪ ،‬خاصة أن ابن رشد يصفه بوحداني التسلط‪ .‬ويشير إلى‬
‫مأساة عصره‪ ،‬باعتبارها مأساة معرفية‪.‬‬
‫هناك أسئلة قلقة تنتشر على مساحة كبيرة من كتاب السياسة البن رشد‪ ،‬وكلها تقود إلى هدف‬
‫واحد وهو نقد االستبداد الديني بواسطة السياسة المدنية‪ ،‬نشأة الدولة المدنية إعالن عن نهاية‬
‫الدولة الدينية‪ ،‬وأول هذه األسئلة؛ من يكون وحداني التسلط؟‬
‫بإمكان السياسة ان تعجل بنهاية الفلسفة‪ ،‬خاصة إذا كانت سياسة جاهلة ومن يدبرها جاهال‪ ،‬فكل‬
‫ما يتناقض مع طموحه المرتبط بالمال والسلطة واللذة‪ ،‬يقوم بإزاحته بعنف‪ ،‬ال يهمه أن يقول‬
‫الفيلسوف إن األقاويل البرهانية تحافظ على فضيلة السياسة‪ ،‬واألقاويل الجدلية تعجل بتجريدها‬
‫من الحكمة والفضيلة « وأما المقالة األولى من هذا الكتاب فكلها أقاويل جدلية وليس فيها برهان‬
‫إال ما كان عرضا‪ ،‬ولذلك لم نفسرها»‪ .‬كم هو جميل أن يقول الفيلسوف بشجاعة إن الجدل ال‬
‫يمكن تفسيره‪ ،‬ألنه مفسد للمدينة‪ ،‬مع العلم أن المتكلمين كانوا يهيمنون على الدولة الموحدية‪،‬‬
‫ألنهم يشكلون األطر المعرفية‪.‬‬
‫هناك أسئلة قلقة تنتشر على مساحة كبيرة من كتاب السياسة البن رشد‪ ،‬وكلها تقود إلى هدف‬
‫واحد وهو نقد االستبداد الديني بواسطة السياسة المدنية‪ ،‬نشأة الدولة المدنية إعالن عن نهاية‬
‫الدولة الدينية‪ ،‬وأول هذه األسئلة؛ من يكون وحداني التسلط؟ من هو الطاغية الذي يكره المدينة‬
‫الفاضلة ويمجد المدينة الجاهلة؟ وبعبارة رشدية‪ ،‬من حول السياسة الفاضلة إلى السياسة‬
‫الكرامية في األندلس؟ بل من حرمنا من األندلس؟ أال يكون هذا الطاغية الذي زعزعه النقد‬
‫الرشدي؟‬
‫يتحرك النص الفلسفي في اتجاه صياغة بيان سياسي يدين الطاغية المنصور ودولته االستبدادية‪،‬‬
‫ولذلك يقول الفيلسوف؛ «وهذه األعمال جميعا من أعمال رئاسة وحدانية التسلط‪ ،‬وهي شيء بين‬
‫في زمننا هذا ليس بالقول وحسب‪ ،‬ولكن أيضا بالحس والمشاهدة»‪ .‬ربما تكون هذه الشجاعة‬
‫على مهاجمة االستبداد الموحدي‪ ،‬أفضل من جبن األحزاب السياسية الراهنة التي تقدس‬
‫االستبداد‪ ،‬من أجل السلطة والمال‪ ،‬ولعل الجابري كان معجبا بشجاعة الفيلسوف ابن رشد‪،‬‬
‫وبعمق نقده لالستبداد الثيوقراطي‪ ،‬حيث نجده يقول؛ «نستطيع أن نقول باعتزاز إن في تراثنا ما‬
‫يستجيب لهمومنا السياسية المعاصرة‪ ،‬بل يتحدى شجاعتنا وقدرتنا لينوب عنا في نقد أساليب‬
‫الحكم في مدننا هذه وزمننا هذا»‪ .‬ومعنى ذلك أن الجابري كان يخشى غضب الحاكم ويمارس‬
‫التقية‪ ،‬ما لم يستطيع المفكر المعاصر فعله‪ ،‬ناب عنه ابن رشد‪ ،‬وبرهن على أنه فيلسوف‬
‫بالحقيقة وليس بالشواهد العليا ‪.‬‬
‫مهما يكن من قوة هذه الشجاعة‪ ،‬وإرادة الفيلسوف العظيمة‪ ،‬فإنه ظل يقاوم االستبداد لوحده‪،‬‬
‫بدون أن يكون منتميا لحزب سياسي أو نقابة‪ ،‬ومع ذلك فقد تحدى شجاعة الجابري الذي كان‬
‫محميا بحزب سياسي عتيد‪ ،‬ونقابة قوية‪ ،‬لكنه ال يستطيع أن ينتقد االستبداد في زمانه الذي كان‬
‫شبيها باالستبداد الموحدي في بنيته الثيوقراطية‪ ،‬وكان ابن رشد يسميه سياسة البيوتات‪ ،‬أي‬
‫العصبية التي تقوم على القبيلة والعشيرة والعقيدة؛ «واالجتماعات في كثير من الممالك‬
‫اإلسالمية اليوم‪ ،‬إنما هي اجتماعات بيوتات ال غير‪ ،‬وإنما بقي لهم من النواميس الناموس الذي‬
‫يحفظ عليهم حقوقهم األولى»‪.‬‬

‫كاتب مغربي‬

You might also like