Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 37

‫المحاضرة األولى‪ :‬مفهوم االنثروبولوجيا وبعض المفاهيم القريبة *االثنوغرافيا *االثنولوجيا‬

‫جيمع الباحثون يف علم االنثروبولوجيا على أنه علم حديث العهد إذا ما قيس ببقية العلوم األخرى‪ ،‬حيث‬
‫مل يع رف الفك ر االن ثروبولوجي اال قب ل النص ف الث اين من الق رن العش رين‪ ،‬ورغم ذل ك فاألنثروبولوجیا تتب وأ‬
‫كعلم حدیث النشأة مكانة كبریة بنی العلوم الیوم‪ ،‬نظرا ملا تتمیز به من خصائص‪ ،‬وملا تتمتع به موضوعاهتا من‬
‫جاذبیة وٕاغراء خاصة أن موضوع الدراسة األساسي هو اإلنسان يف صوره الثقافیة املختلفة وأمناطه التفاعلیة‬
‫املتعددة‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مفهوم االنثروبولوجيا‪:‬‬
‫إن لفظة انثروبولوجيا ‪ ANTHROPOLOGY‬هي كلمة اجنليزية مشتقة من األصل اليوناين املكون من مقطعني‬
‫‪:‬‬

‫انثروبوس ‪ANTHROPOS‬ومعناه "اإلنسان"‬


‫لوجوس ‪ LOGOS‬ومعناه "علم" أو "دراسة"‬
‫وبذلك يصبح معىن االنثروبولوجيا من حيث اللفظ "علم اإلنسان" أي العلم الذي يدرس اإلنسان‪ ،‬واإلنسان‬
‫هو االطار الوحيد الذي حيدد املوضوعات اليت يدرسها هذا العلم أما الزمان أو املكان فال يقيدان املوضوعات‬
‫اليت تدخل يف نطاقه‪ ،‬مبعىن انه العلم الذي يدرس اإلنسان وأجداده وأصوله منذ أقدم العصور واألزمنة حىت‬
‫يومنا هذا‪ ،‬وكلمة اإلنسان هنا مطلقة لذلك اعترب هذا العلم شامال يف دراسته ملختلف اجلوانب‪:‬‬
‫الطبيع ـ ــية واالجتم ـ ـ ــاعية والحـ ـ ـ ــضارية‪-‬‬
‫وتعرف االنثروبولوجيا أيضا بأهنا علم (االناسة) أي العلم الذي يدرس اإلنسان كمخلوق ينتمي إىل العامل‬
‫احليواين من جهة ومن جهة أخرى أنه الوحيد من األنواع احليوانية كلها الذي يصنع الثقافة ويبدعها‪.‬‬
‫وعلي ه فعلم اإلنس ان يتن اول بالدراس ة اجلانب ال بيولوجي لإلنس ان باعتب اره كائن ا عض ويا ‪ ،‬فيص ف تركيبت ه‬
‫العضوية يف احلاضر والغابر‪ ،‬ويقارن بني اخلصائص الطبيعية إلنسان اليوم مع إنسان احلضارات القدمية‪.‬‬
‫ام ا فيم ا تعل ق باجلانب االجتم اعي واحلض اري فنج د االنثروبولوج يي يرك ز على البن اء االجتم اعي حماوال فهم‬
‫خمتل ف البني ات املكون ة ل ه وال يت تتجس د يف خمتل ف النظم واملؤسسس ات االجتماعي ة كنظ ام األس رة وال دين‬
‫والقرابة والزواج‪...‬اخل‪ ،‬وهذه النظم املشكلة للبناء االجتماعي هي املوضوع األساسي لالنثروبولوجيا يف جانبها‬

‫‪1‬‬
‫االجتماعي‪ ،‬اما اجلانب احلضاري ( الثقايف) فهو يشري اىل اجتاه االنثروبولوجي اىل حماولة فهم ثقافة الشعوب‬
‫بوصفها ومقارنة بعضها بالبعض االخر‪.‬‬
‫ولتق ريب النظ ر أك ثر ن ورد م ا قالت ه االنثروبولوجي ة االمريكي ة "م‪-- -‬ارغريت ميد" ‪ :‬حنن نص ف اخلص ائص‬
‫االنس انية ‪ ،‬البيولوجي ة‪ ،‬والثقافية‪ ،‬للنوع البشري عرب االزمان ويف سائر االم اكن‪ ،‬وحنلل الصفات البيولوجية‬
‫والثقافية احمللية كانساق مرتابطة ومتغرية‪ ،‬كما هنتم بوصف وحتليل النظم االجتماعية والتكنولوجيا‪ ،‬ونعىن ايضا‬
‫ببحث االدراك العقلي لالنسان وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصاالته"‪.‬‬
‫ول ذلك‪ ،‬تع ّرف األنثروبولوجي ا‪ ،‬بأهّن ا العلم ال ذي ي درس اإلنس ان من حيث ه و ك ائن عض وي حي‪ ،‬يعيش يف‬
‫جمتمع‬
‫ظل ثقافة معيّنة ‪ ..‬ويقوم بأعمال متع ّددة‪ ،‬ويسلك سلوكاً حم ّدداً‪ .‬وهو أيض اً‬
‫تسوده نظم وأنساق اجتماعية يف ّ‬
‫تطوره‬
‫العلم الذي يدرس احلياة البدائية‪ ،‬واحلياة احلديثة املعاصرة‪ ،‬وحياول التنبّؤ مبستقبل اإلنسان معتمداً على ّ‬
‫عرب التاريخ اإلنساين الطويل‪.‬‬
‫وعليه تعرف األنثروبولوجيا بصورة خمتصرة وشاملة بأهّن ا " علم دراسة اإلنسان طبيعي اً واجتماعي اً وحضارياً أي‬
‫أ ّن األنثروبولوجيا ال تدرس اإلنسان ككائن وحيد بذاته‪ ،‬أو منعزل عن أبناء جنسه‪ ،‬إمّن ا تدرسه بوصفه كائن اً‬
‫اجتماعياً بطبعه‪ ،‬حييا يف جمتمع معنّي له ميزاته اخلاصة يف مكان وزمان معينني ‪.‬‬

‫**االنثروبولوجيا واالثنولوجيا و االثنوغرافيا‪:‬‬


‫االثن ‪--‬و غرفي ‪--‬ا‪ :‬هي من حيث االص ل اللغ وي كلم ة يوناني ة مركب ة من لفظ ة اثن ‪--‬وس أي االقلي ة أو الش عب أو‬
‫القبيلة أو العشرية‪ ،‬ولفظة كرافوس أي الوصف والتصوير ليصبح املعىن الدراسة الوصفية للشعوب‪.‬‬
‫فالبحث االثن وغرايف يس عى اىل رصد املعلوم ات من خالل الدراسة الوصفية للمجتمع ات والثقافات املختلف ة‪،‬‬
‫ومن ناحي ة أخ رى فإن ه يع ىن الدراس ة الوص فية ألس لوب احلي اة وجمموعة التقالي د والع ادات والقيم واألدوات‬
‫والفن ون واملأثوات الش عبية ل دى مجاع ة معين ة أو جمتم ع معني خالل ف رتة زمني ة حمددة‪ ،‬وع ادة م ا يتم البحث‬
‫االثن وغرايف على جمتمع ات حملي ة ص غرية احلجم غالب ا‪(.‬وع ادة م ا تقتص ر االثنوغرافي ا يف دراس اهتا على الناحي ة‬
‫الوصفية للحضارات دون تقدمي تفسري أو حتليل هلا أي دون التعليق عليها)‪.‬‬
‫االثنولوجيا‪ :‬هي من حيث االصل اللغوي كلمة يونانية مركبة من لفظة اثنوس أي االقلية أو الشعب أو القبيلة‬
‫أو العشرية‪ ،‬ولفظ لوغوس ويعين الدراسة او العلم ‪ ،‬ليصبح املعىن هو علم الشعوب‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫وتش ري اىل الدراس ة التحليلي ة واملقارن ة للم ادة االثنوغرافي ة بغ رض الوص ول اىل تعميم ات ح ول خمتل ف النظم‬
‫واصوهلا وتطورها وتنوعها‪ .‬وعليه فان االثنولوجيا تستفيد عمليا من البيانات اليت تزودها هبا االثنوغرافيا‪ ،‬ليقوم‬
‫الباحث االثنولوجي بعد ذلك بتصنيف احلضارات يف جمموعات أو أشكال على اساس مقاييس معينة وحتليلها‪،‬‬
‫واستخالص املبادئ منها‪.‬فهدف االثنولوجي هو الوصول اىل قوانني عامة للعادات االنسانية ولظاهرة التغري‬
‫احلضاري‪.‬‬
‫ورغم وضوح مفهوم االنثروبولوجيا إال أن استخداماته ختتلف من بلد آلخر ومن مدرسة ألخرى‪ ،‬لذلك قد‬
‫جيد الباحث تداخالت بينه وبني املفاهيم سابقة الذكر‪.‬وميكن إيضاح ذلك باجياز يف النقاط التالية‪:‬‬
‫ففي أمريكا جند استخدامني اساسيني ملفهوم االنثروبولوجيا مها‪:‬‬
‫االنثروبولوجيا اجلسمية ( الفيزيقية)‪ :‬وتشري اىل دراسة اجلانب العضوي واحليوي لالنسان‪.‬‬
‫االنثروبولوجيا الثقافية‪ :‬وتشري اىل جمموعة التخصصات اليت تدرس النواحي االجتماعية والثقافية حلياة االنسان‪.‬‬
‫ويدخل يف نطاق االنثروبولوجيا الثقافية جمموعة من الفروع الدراسية وهي‪:‬‬
‫علم اللغويات ‪ ،‬االثنوغرافيا‪ ،‬االثنولوجيا‪ ،‬علم االثار باعتبار أن علماء اآلثار هم أنثروبولوجيون متخصصون يف‬
‫إعادة بناء وحتليل ثقافات املاضي‪.‬‬
‫ويف مقاب ل االنثروبولوجي ا الثقافي ة ال ذي يتداول ه األمريكي ون يس تخدم االجنل يز مص طلحا أخ ر ه و مص طلح‬
‫"االنثروبولوجيا االجتماعية"فمهمة االنثروبولوجيا االجتماعية مثلما يرى ايفانز بريتشارد ‪ :‬اهنا تدرس السلوك‬
‫االجتماعي الذي يتخذ يف العادة شكل نظم اجتماعية كالعائلة ونسق القرابة والتنظيم السياسي واالجراءات‬
‫القانونية والعبادات وغريه ا‪ ،‬كم ا تدرس العالقة بني ه ذه النظم سواء يف اجملتمع ات املعاص رة او يف اجملتمع ات‬
‫التارخيية اليت يوجد لدينا عنها معلومات مناسبة من هذا النوع‪ ،‬ميكن معها القيام مبثل هذه الدراسات"‪ .‬وعليه‬
‫فوحدة التحليل االساسية يف االنثروبولوجيا االجتماعية هي اجملتمع –العالقات االجتماعية اليت تشكل خمتلف‬
‫النظم واالنساق االجتماعية‪ -‬وليست الثقافة واجزاؤها كما يعتقد االمريكيون‪.‬‬
‫ويبدو خالل ماسبق ان االختالف قائم على األساس الذي تنطلق منه كل جمموعة‪ ،‬االنثروبولوجيا االجتماعية‬
‫تنطل ق يف العم ل ب دءا من الك ل (البني ة االجتماعي ة) او على االق ل اعط اء األولوي ة للك ل على األج زاء‪ ،‬مقاب ل‬
‫االنثروبولوجيا الثقافية اليت تعمل عكس ذلك حيث تعطي األولوية لألجزاء (العناصر املادية واملعنوية )لتصل اىل‬
‫فهم البنية الكلية للمجتمع‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫وعلى العم وم ف ان االختالف يف حتدي د التس مية ه و اختالف ش كلي فحس ب ‪ ،‬فك ل من االنثروبولوجي ا‬
‫االجتماعية والثقافية تؤوالن اىل نفس املواضيع خالل عملية الدراسة فاالختالف بني ما هو "اجتماعي" وما هو‬
‫"ثقافي" ليس باالختالف الكبري‪.‬‬
‫وح ىت الق رن التاس ع عش ر ميي ل الفرنس يون أك ثر اىل اس تخدام مص طلح االثنولوجي ا ومرافقته ا االثنوغرافي ا‬
‫(دراسة اجملتمعات البدائية من وجهة نظر وحيدة تتمثل يف تصنيف األعراق واحلفريات البشرية‪ ،‬ومن احملتمل‬
‫جدا ان ما مسي اثنوغرافيا يعاجل جمال االحاثة البشرية حيث متت اعادة التسمية باعتبارها ختصصا اكادمييا عرف‬
‫فيما بعد) للتعبري عن اجلانب الثقايف وكثريا ما يدرسونه حتت مظلة علم االجتماع ‪.‬‬
‫وعلى العموم فان الشعوب الناطقة باللغة االنجليزية جميعها تطل‪--‬ق على علم االنثروبولوجي‪--‬ا "علم االنس‪--‬ان‬
‫وأعمال‪-- -‬ه" بينم‪-- -‬ا يطل‪-- -‬ق المص‪-- -‬طلح ذات‪-- -‬ه في البل‪-- -‬دان االوروبي‪-- -‬ة غ‪-- -‬ير الناطق‪-- -‬ة باالنجليزي‪-- -‬ة على " دراس‪-- -‬ة‬
‫الخص ‪--‬ائص الجس‪--‬مية لالنس‪--‬ان" ‪.‬ففي انجل ‪--‬ترا مثال يطل ‪--‬ق مص ‪--‬طلح االنثروبولوجي‪--‬ا على دراس ‪--‬ة الش‪--‬عوب‬
‫وكياناتها االجتماعية مع ميل خاص للتأكيد على دراسة الشعوب البدائية‪ ،‬أما في أمريكا ف‪--‬يرى العلم‪--‬اء أن‬
‫االنثروبولوجيا هي علم دراسة الثقافات البشرية البدائية والمعاصرة‪ ،‬في حين أن علماء فرنسا يعنون به‪-‬ذا‬
‫المصطلح دراسة االنسان من الناحية الطبيعية أي العضوية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المحاضرة الثانية‪ :‬عالقة االنثروبولوجيا بالعلوم األخرى‪:‬‬

‫هناك عالقة وطیدة بنی علم اإلنسان وباقي العلوم األخرى سواء تلك اليت تنتمي إىل حقل العلوم اإلنسانیة‬
‫واالجتماعیة أو اليت تنتمي إىل حقل العلوم الطبیعیة‪ ،‬فشمولیة الدراسة يف جمال األنثروبولوجیا وتغطیتها للعدید‬
‫من اجملاالت جعله ا تتق اطع م ع حق ول معرفیة أخ رى تتقاس م معها اجملاالت ذاهتا‪ ،‬أو تتب ادل معه ا املعلوم ات‬
‫واملعارف اليت یوفرها فرع معريف معنی مبثابة قاعدة وأساس لالنطالق يف الدراسة بالنسبة لفرع معريف آخر‪،‬‬
‫ذل ك م ا یب دو مثال يف اعتم اد الب احث األن ثروبولوجي على م ا یوفره ع امل اآلث ار من معلوم ات على الش عوب‬
‫الغابرة‪ ،‬ولبیان العالقة بنی‬
‫األنثروبولوجیا وغریها من العلوم حناول إیراد بعض األمثلة على ذلك‪.‬‬
‫*عالقة األنثروبولوجیا بالبیولوجیا ‪-‬علم األحیاء‪:-‬‬
‫يتن اول علم األحي اء دراس ة الكائن ات احلي ة من وحي د اخللي ة األبس ط تركيب ا إىل كث ري اخلالي ا األك ثر تعقي دا‪،‬‬
‫ويرتبط علم األحياء بالعلوم الطبيعية وال سيما علم وظائف األعضاء والتشريح وحياة الكائن احلي‪ ،‬وتدخل يف‬
‫ذلك نظرية التطور اليت تقول بأن أجسام أجناس الكائنات احلية وأنواعها ووظائف أعضائها تتغري باستمرار ما‬
‫دامت هذه الكائنات تتكاثر وتنتج أجياال جديدة قد تكون ارقي من األجيال السابقة‪.‬‬
‫وعلي ه االنثروبولوجي ا من الناحي ة النظري ة ش ديدة الق رب من البيولوجي ا ‪ ،‬وم رد ه ذا على وج ه اخلص وص إىل‬
‫اعتماد األنثروبولوجیا حنی نشأهتا على نظریة التطور البیولوجي اليت تزعمها " تشارلز داروین"‪ ،‬والعمل على‬
‫وصف الثقافة واجملتمع من منطلق هذه اخللفیة التطوریة‪ .‬لقد كان هربرت سبنسر رائدا هلذا النزعة التطوریة‬
‫حیث ماث ل بنی تط ور الك ائن احلي وتط ور اجملتم ع البش ري‪ ،‬مت أثرا بنزع ة التط ور يف البیولوجیا‪ ،‬فنم و جس م‬
‫اإلنس ان ینطل ق من خلیة مث ینمو لیص بح جس ما مكتمال مش كال من العدید من األعض اء ال يت ت ؤدي وظ ائف‬
‫حتفظ توازن واستمرار اإلنساين مبا یشبه متاما منو اجملتمع البشري الذي یبدأ بأسرة مث یتوسع إىل عشائر وقبائل‬
‫تشكل جمتمعا كبریا‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫وقد أدى الربط بنی البیولوجیا واألنثروبولوجیا وخاصة يف جانبها الفیزیقي إىل تسمیة األنثروبولوجیا البیولوجیة‬
‫ب" البیولوجیا اإلنسانیة "‪ ،‬باإلضافة إىل هذا جند أن الرجوع إىل البیولوجیا بالنسبة لألنثروبولوجینی قد ساعد‬
‫كثریا يف فهم األسس البیولوجیة للسلوك الثقايف لإلنسان‪.‬‬
‫أما فیما خیص موضوع كل منهما فإهنما یشرتكان يف العمل على فهم التنوع واالختالف‪ ،‬فإذا كان موضوع‬
‫البیولوجیا یركز على حماولة فهم التنوع واالختالف اجلیين‪ ،‬فإن حماولة فهم االختالف االجتماعي هو املقصود‬
‫من الدراسات األنثروبولوجیة‪ ،‬كما میكن ملوضوع الساللة والعرق أن یوحد بنی البیولوجیا واألنثروبولوجیا‬
‫من خالل عملیة التصنیف وحتدید اخلصائص البیولوجیة والثقافیة هلذه السالالت واألعراق‪.‬‬
‫*عالقة االنثروبولوجيا بالجيولوجيا والجغرافيا‪:‬‬
‫تساعد الدراسات يف جمال اجلیولوجیا (علم طبقات األرض) يف حتدید الفرتات الزمنیة اليت عاش فیها اإلنسان‪،‬‬
‫وذلك بتتبع البقایا العظمیة إلنسان ما قبل التاریخ‪ ،‬اليت یتم احلصول علیها يف ثنایا القشرة األرضیة الرسوبیة‬
‫واملنضدة بعضها فوق بعض‪ ،‬وفقا خلاصیة النشوء والتقادم حیث یكون أسفلها أقدمها وأعالها أحدثها‪ ،‬كما‬
‫میكننا هذا أیضا من معرفة طبیعة احلیوانات اليت كانت مرافقة لذلك اجلنس البشري من خالل البقایا العظمیة‬
‫للحیوانات اليت كانت ترافقه يف نفس البیئة اجلغرافیة‬
‫ویعمل اجلیولوجي على تزوید األركیولوجي (عامل اآلثار) بعمر األشیاء اليت یعثر علیها‪ ،‬فاجلیولوجي یستطیع‬
‫أن حیدد بعض البقایا الثقافیة ال يت یع ثر علیه ا يف بعض الش قوق األرض یة أو يف بعض الرتس بات أو يف بعض‬
‫الطبق ات األرض یة ال يت تنتمي إىل عص ر جیول وجي معنی‪ .‬ویس تفید األن ثروبولوجي من املعلوم ات ال يت یق دمها‬
‫اجلیول وجي أو األركیول وجي من خالل تك وین معرف ة باإلنس ان الق دمی ومقارن ة خصائص ه الفیزیقیة والثقافیة‬
‫باإلنسان احلايل‪ ،‬وكذلك من خالل رصد خمتلف املراحل التطوریة للجنس البشري‪.‬‬
‫باإلض افة إىل اس تفادة األن ثروبولوجي من اجلیول وجي تش كل املعطیات اجلغرافیة خلفیة أساس یة يف تفس ری‬
‫األنثروبولوجي للسلوك البشري ولعادات وطبائع األفراد واجلماعات‪ ،‬فالعوامل اجلغرافیة من تضاریس ومناخ‬
‫وبیئة هلا تأثری واضح على سلوك البشر‪ ،‬لذلك جند‪ ،‬األحوال املعیشیة والبىن االجتماعیة عند اجملتمعات البشریة‬
‫لیست متشاهبة بسبب تباین الظروف اجلغرافیة اليت توجد يف تلك اجملتمعات‪ ،‬فسكان املناطق اجلبلیة املرتفعة‬
‫یكونون يف مأمن عن األخطار اخلارجیة بینما یتعرض سكان السهول دوما إىل غزوات واجتیاحات‪ ،. .‬ويف‬
‫املقابل‬
‫یكون سكان املناطق الساحلیة أكثر انفتاحا يف عالقاهتم مع العامل اخلارجي‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وميكن الرج وع يف ه ذا إىل نظ رة ابن خل دون يف ربط ه بنی البیئ ة والس لوك اإلنس اين حیث ت ؤدي البیئ ة‬
‫والتضاریس إىل تشكیل نوع معنی من السلوك‪.‬‬
‫*عالقة االنثروبولوجيا بعلم النفس‪:‬‬
‫يعرف علم النفس بأنه " العلم الذي يهتم بدراسة العقل البشري والطبيعة البشرية والسلوك الناتج عنهما‪ ،‬أي‬
‫انه جمموعة احلقائق اليت يتم احلصول عليها من وجهة النظر النفسية" مبعىن انه العلم الذي يدرس سلوك االنسان‬
‫هبدف فهمه وتفسريه‪.‬‬
‫وملا ك انت االنثروبولوجي ا توص ف بأهنا العلم ال ذي ي درس االنس ان من حيث تط وره وس لوكاته وأمناط حيات ه‬
‫ف إن علم النفس يش ارك االنثروبولوجي ا يف دراس ة س لوك االنس ان ولكنهم ا خيتلف ان يف طريق ة البحث‬
‫وسياقه‪:،‬فعلم النفس يركز على سلوك االنسان‪ /‬الفرد‪ ،‬أما االنثروبولوجيا فرتكز على السلوك االنساين بشكل‬
‫عام‪ /‬السلوك اجلماعي النابع عن ثقافة اجلماعة‪ .‬وعلى الرغم من ان علم النفس يقصر دراسته على الفرد‪ ،‬بينما‬
‫ترك ز االنثروبولوجي ا اهتمامه ا على اجملموع ة‪ ،‬فثم ة ص لة وثيق ة بني العلمني حيث اكتش ف علم اء النفس ان‬
‫االنسان ال يعيش اال يف بيئة اجتماعية يؤثر ويتأثر هبا ‪.‬‬
‫*عالقة االنثروبولوجيا بعلم االجتماع‪:‬‬
‫تكاد تكون العالقة بني العلمني متداخلة للسبب األول أن غالبية علماء األنثروبولوجيا هم كذلك علماء‬
‫االجتماع والسبب الثاين هو التداخل يف معظم املوضوعات املدروسة‪ ،‬فكالمها یتناول السلوك اإلنساين‬
‫بالدراس ة‪ ،‬كم ا یرك زان على عملیات التفاع ل ال يت حتدث بنی أف راد اجملتم ع‪ ،‬واختاذ العالق ات االجتماعیة ال يت‬
‫حتدث داخل مجاعة معینة حمال للمالحظة من قبل السوسیولوجي واألنثروبولوجي على سواء‪ ،‬وكذلك االهتمام‬
‫ب النظم االجتماعیة املختلفة مث ل النظام الدیين والنظ ام السیاسي والنظام االقتص ادي‪. .‬اخل‪ ،‬هذا ما جعل أحد‬
‫رواد االنثروبولوجیا االجتماعیة وهو رادكلیف براون یصرح بأنه میكن اعتبار األنثروبولوجیا االجتماعیة فرعا‬
‫من فروع علم االجتماع‪ ،‬بل وقد اعتربها مبثابة علم االجتماع املقارن‪.‬‬
‫غ ری أن األنثروبولوجیا يف عمومه ا باعتباره ا تتن اول اإلنس ان بالدراس ة من ك ل جوانب ه الطبیعیة واالجتماعیة‬
‫والثقافیة أمشل نوع ا م ا من علم االجتم اع ال ذي یرك ز اهتمام ه على اجلانب االجتم اعي والثق ايف فق ط‪ ،‬بینم ا‬
‫تشكل مباحث االنثروبولوجیا الفیزیقیة إضافة قیمة جملال األنثروبولوجیا على وجه العموم‪.‬‬
‫ویب دو االختالف قائم ا بنی األنثروبولوجیا االجتماعیة وعلم االجتم اع يف ترك یز االنثروبولوجیا على دراس ة‬
‫اجملتمع ات ال يت تس مى " بدائیة " وباملقاب ل اهتم ام علم االجتم اع ب الظواهر واملش كالت االجتماعیة داخ ل‬

‫‪7‬‬
‫اجملتمع ات املعق دة‪ ،‬ه ذا ال ذي جع ل االنثروبولوجیا تتن اول اجملتمع ات املدروسة يف كلیته ا باعتباره ا جمتمع ات‬
‫ص غریة احلجم‪ ،‬فتتن اول مثال نظامه ا ال دیين والق رايب والسیاسي وتغ وص يف حتلیل عاداهتا وتقالیدها وأمناطه ا‬
‫السلوكیة وأشكاهلا التعبرییة‪.‬اخل‪ ،‬ويف املقابل كان اجتاه علم االجتماع حنو دراسة اجملتمعات املعقدة كنوع من‬
‫التناول اجلزئي للمشكالت والظواهر‬
‫مثل مشكالت األسرة والطالق واجلرمیة والبطالة‪. .‬اخل‪.‬‬
‫غری أننا الیوم بصدد نوع من التقارب بنی األنثروبولوجیا وعلم االجتماع فقد ضاقت احلدود بینهما وتالشت‬
‫الفروق إىل حد مل فیه التفریق واردا يف كثری من املواضع‪ ،‬فقد تقلص اهتمام األنثروبولوجینی بتلك املشكالت‬
‫التقلیدیة يف األمناط اجملتمعیة البدائیة كدراسة نظم الزواج والشعائر الدینیة املرتبطة بالطوطم‪ ،‬وأصبحت هناك‬
‫دراسات انثروبولوجیة حقلیة لكثری من مشكالت اجملتمع الصناعي كمشكلة اهلجرة والصراع العرقي والتنمیة‬
‫االجتماعیة واالحنراف والرتبیة‪. .‬اخل‪ ،‬وباملقابل هناك مزید من االهتمام يف الدراسات السوسیولوجیة باجملتمعات‬
‫احمللیة الصغریة ونظمها االجتماعیة‪ ،‬ولعل مسامهات علم االجتماع الریفي خری دلیل على ذلك‪.‬‬
‫ومن اخلصائص األساسیة للبحوث السوسیولوجیة التقلیدیة اعتمادها على املعلومات الكمیة عند عملیة التحلیل‬
‫واملقارنة يف مقابل البحوث األنثروبولوجیة اليت متیزت باعتمادها على البحوث الكیفیة اليت تستند بوجه خاص‬
‫إىل تطبیق تقنیة املالحظة باملشاركة‪ ،‬غری أن األمر أصبح خمتلفا الیوم يف ظل االجتاه املتزاید لألنثروبولوجینی حنو‬
‫استخدام األسالیب اإلحصائیة‪ ،‬هذا الذي یزید من تقارب األنثروبولوجیا وعلم االجتماع إىل احلد الذي جیعل‬
‫التفریق بنی الدراسات يف كال احلقلنی املعرفینی أمرا صعبا‪.‬‬
‫باإلض افة إىل ه ذا تتم یز الدراس ات األنثروبولوجیة عن غریه ا من الدراس ات ال يت تتن اول الظ واهر والنظم‬
‫االجتماعیة بأهنا دراس ات حقلیة (میدانیة)حیث یقیم الب احث بنی اجلماع ة ال يت یدرس ها لف رتة زمنیة حمددة‬
‫حددها بعض العلماء بأهنا ال تقل عن سنة حىت یستطیع أن یالحظ عن قرب طریقة حیاة هذه اجلماعة‪ ،‬غری أن‬
‫الدراسة احلقلیة ال تقتصر على اجملتمعات التقلیدیة ولكنها ضروریة أیضا عند دراسة األنثروبولوجي للمجتمع‬
‫الصناعي مثال‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫المحاضرة الثالثة ‪:‬التطبيقات االنثروبولوجية قبل نشأة االنثروبولوجيا‬
‫حیاول املختصون يف كل علم البحث عن تأسیسات تارخییة یصنفوهنا كبوادر أوىل يف سیاق نشأة العلم الذي‬
‫یصفونه ومیارسونه‪ ،‬ولالنثروبولوجیا كعلم حدیث النشأة بوادر غابرة يف التاریخ‪ ،‬حیث جند الكثری من صفات‬
‫األنثروبولوجیا احلدیثة لدى مفكري وكتاب وشعراء األزمنة القدمیة‪ ،‬ويف خمتلف اجملتمعات واحلضارات‪ ،‬فمن‬
‫احلض ارة املص ریة إىل الیونانیة إىل العص ور الوس طى مثة ممارس ات أنثروبولوجیة وتنظ ریات تتص ل ب الفكر‬
‫االنثروبولوجي‪ .‬وسنحاول ذكر البعض من هذه املمارسات يف النقاط التالية‪:‬‬
‫‪/1‬عند اليونان‪:‬‬
‫ٕا ذا م ا رجعن ا إىل احلض ارة الیونانیة القدمیة (اإلغریقیة) فإن ا جند فیه ا ب وادر واض حة مه دت لعلم اإلنس ان‪،‬‬
‫ف الكثري من الفالس فة اليون انيني ذائعي الص یت ق دموا إس هامات واض حة ك انت مبثابة القاع دة األساس یة لك ل‬
‫العلوم االجتماعیة واإلنسانیة‪ ،‬ومنها األنثروبولوجیا‪.‬‬
‫ويعت رب ه ريودوت (‪425-484‬ق م) من رواد الفك ر االنثروبولوج يي ألن ه أول من وص ف احلي اة االجتماعي ة‬
‫لإلنسان يف العديد من الشعوب‪ ،‬كما مجع العديد من احلكايات واألساطري حول العديد من البلدان يف رحالته‬
‫املتعددة (مصر‪ ،‬ليبيا‪ ،‬لبنان‪ ،‬العراق‪ ،‬ايطاليا‪ )....‬لقد قدم هریودوت وخاصة يف كتابه" الت‪--‬واریخ" معلومات‬
‫وص فیة دقیق ة عن العدید من الش عوب غ ری األوروبیة‪ ،‬من خالل وص ف عاداهتا وتقالیدها ومالحمه ا اجلس میة‬
‫وأصوهلا الساللیة‪. .‬اخل‪ ،‬كما عمل على وصف احلرب اليت دارت بنی الفرس واإلغریق خالل القرن السادس‬
‫قبل املیالد‪ ،‬ومن خالل رحالته املتعددة وقراءاته الغزیرة استطاع هریودوت أن یقدم معلومات عن حوايل‬
‫مخسنی شعبا وبأسلوب یزاوج بنی الوصف واملقارنة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫كما أن أفالطون (‪ 347-428‬ق م) قد تناول دراسة السالالت البش رية و قسم اجملتمع اىل طبق ات‪ :‬طبق ة‬
‫الفالسفة‪ ،‬اجلند‪ ،‬العبيد‪ .‬كما حاول يف كتابه "اجلمهوریة" أن یقدم صورة عن الكیفیة اليت " جیب" أن یكون‬
‫علیها اجملتمع‪ ،‬ذلك ما جعل أفكاره حمل انتقاد كبری باعتبارها تأمالت ملا جیب أن یكون ولیس تصویرا ملا هو‬
‫ك ائن‪ ،‬غ ری أن ه ذه األفك ار وٕا ن ك انت تعكس تص ورات مثالیة إال أهنا تس تند إىل الواق ع ال ذي ك ان حییاه‬
‫أفالط ون‪ ،‬واألح داث والتغ ریات السائدة يف جمتم ع أثین ا‪ ،‬فال دافع هلذه التص ورات هو تلك األزم ات السیاسیة‬
‫واحلروب واضطراب أحوال اجملتمع آنذاك بصفة عامة‪.‬‬
‫وال خیتلف أرسطو عن أفالطون حیث قدم إسهامات واضحة يف تصنیف ووصف احلكومات مبا میهد لدراسة‬
‫النظام السیاسي كأحد أهم النظم االجتماعیة يف الدراسات االنثروبولوجیة‪.‬‬
‫‪/2‬العص‪--‬ور الوس‪--‬طى في أوروب‪--‬ا‪ :‬خالل العصور الوسطى ظه رت بعض احملاوالت يف أوروبا صنفت على أهنا‬
‫أعم ال ذات ص لة باألنثروبولوجیا‪ ،‬ومن ه ذه األعم ال حماول ة األس قف " إس یدور ‪" isidore‬ال ذي أع د‬
‫موسوعة‬
‫عن املعرف ة خالل الق رن الس ابع املیالدي أش ار فیه ا إىل بعض ع ادات وتقالید الش عوب اجملاورة‪ ،‬حیث ق رر‬
‫إسیدور وبنظ رة عنصریة أن ق رب الش عوب أو بع دها من أوروب ا ه و ال ذي حیدد درجة تق دمها‪ ،‬كم ا وص ف‬
‫الذین یعیشون يف أماكن نائیة أهنم أناس غریبو اخللقة‪ ،‬كما ظهرت أیضا خالل القرن الثالث عشر موسوعة‬
‫أخرى للفرنسي " باتولو ماكوس" واليت مل ختتلف عن سابقتها يف اعتمادها على اخلیال يف وصف الشعوب‪.‬‬
‫‪ /3‬الحضارة العربیة اإلسالمیة‪ :‬أما عند العرب خالل هذه الفرتة (القرون الوسطى)فكان السائد يف البدایة هو‬
‫االجتاه حنو ما مسي بالفتوحات اإلسالمیة‪ ،‬مبا اقتضى حماولة معرفة البالد املفتوحة وفهم عادات أهلها‪ ،‬فربزت‬
‫العدید من املعاجم اجلغرافیة مثل " معجم البلدان ‪ :‬لیاقوت احلموي "‪ ،‬وكذلك بعض املوسوعات الكبریة مثل‬
‫"مسالك األمصار " البن فضل اهلل العمري‪ ،‬و "هنایة األرب يف فنون العرب" للنویري‪.‬‬
‫ومن اآلثار اليت تدل على املمارسة األنثروبولوجیة جند كتاب البریوين " حتریر ما للهند من مقولة‪ ،‬مقبولة يف‬
‫العقل أو مرذولة "‪ ،‬لقد حاول البریوين أن یصف اجملتمع اهلندي من ناحیة نظمه الدینیة واالجتماعیة والثقافیة‪،‬‬
‫كم ا عم ل على مقارن ة تل ك النظم مبثیالهتا عن د الیون ان والع رب والف رس‪ ،‬كم ا تط رق أیض ا ل دور ال دین يف‬
‫التوجیه االجتماعي داخل اجملتمع اهلندي و ٕاىل طبیعة اللغة ومستویاهتا‪.. .‬اخل‬
‫كم ا جند أیض ا كتاب ات الرحال ة ابن بطوط ة يف وص ف البالد ال يت ارحتل إلیه ا‪ ،‬فخالل الق رن الث امن اهلج ري‬
‫(الرابع عشر املیالدي)أفاض ابن بطوطة يف وصف عادات وتقالید أهل هذه البالد وخمتلف أمناط حیاهتم‪ ،‬ومما‬

‫‪10‬‬
‫ذك ره ابن بطوط ة عن ع ادات أه ل الس ودان م ایلي "‪:‬فمن أفع اهلم احلس نة قل ة الظلم‪ ،‬فهم أبع د الن اس عن ه‪،‬‬
‫وس لطاهنم ال یس امح أح دا يف ش يء من ه‪ ،‬ومنه ا مشول األمن يف بالدهم‪ ،‬فال خیاف املس افر فیه ا وال املقیم من‬
‫سارق والغاصب"‬
‫ورغم قیمة ما قدمه البریوين وابن بطوطة وغریمها إال أن أشهر األعمال يف تلك الفرتة – ورمبا يف غریها‪ -‬هي‬
‫ما قدمه العالمة عبد الرمحان ابن خلدون يف كتابه " العرب ودیوان املبتدأ واخلرب يف أیام العرب والعجم والرببر‬
‫ومن عاص رهم من ذوي الس لطان األك رب" ال ذي ك ان عمال تأص یلیا لعلم االجتم اع واألنثروبولوجیا‪ ،‬وه ذا‬
‫بشهادة الكثری من الكتاب الغربینی‪.‬‬
‫لق د كانت مقدم ة ابن خلدون الشهریة عمال أصیال يف وصف الس لوكات اإلنسانیة والظ واهر االجتماعیة يف‬
‫اتص اهلا بالبیئ ة اجلغرافیة‪ ،‬یب دو ذل ك خاص ة يف رب ط ابن خل دون بنی طبیع ة البیئ ة وطبیع ة س لوك اإلنس ان‪،‬‬
‫والتفاوت يف ذلك بنی سلوك أهل البدو وسلوك أهل احلضر‪ ،‬و يعد ابن خلدون من أبرز العلماء الذين تفطنوا‬
‫لدراسة ظاهرة التطور وقدم حوهلا اسهامات جليلة وتبىن نظرية التفسري الدوري حيث أكد أن للتاريخ تسلسال‬
‫دوري ا وأن اجملتم ع والدول ة ميران مبراح ل متعاقب ة و هلا عم ر كم ا ه و احلال عن د االنس ان ‪ .‬وأك د أن الت اريخ‬
‫البش ري يس ري وفق خط ة معين ة‪ ،‬ف اجملتمع البشري شأنه ش أن الف رد الذي مير مبراح ل من ذ والدته وح ىت وفاته‬

‫وكذلك حيدث للدول فمسريهتا دائرية تبدأ وتنتهي يف النقطة اليت كانت قد بدأت منها‪ .‬ويف ذلك يقول ‪":‬‬
‫ومن الغل ط اخلفي ال ذهول عن تب دل األح وال من األمم واألجي ال بتب دل العص ور وم رور األي ام ‪ ،‬وذل ك ألن‬
‫أح وال األمم وعوائ دهم وحنلهم ال ت دوم على وت رية واح دة ومنه اج مس تقر ‪ ،‬وإمنا ه و اختالف على األي ام‬
‫واألزمنة و انتقال من حال إىل حال ‪ ،‬وكما يكون ذلك من األشخاص واألوقات واألمصار فكذلك يقع يف‬
‫األفاق و األقطار واألزمنة و الدول"‪.‬‬
‫‪/4‬أوروبا في عصر النهضة‪ :‬وخالل عصر النهضة األوروبیة برزت بعض احملطات اليت اعتربت تأسیسا‬
‫لألنثروبولوجیا أبرزه ا اكتش اف الق ارة األمریكیة خالل الرحل ة ال يت ق ام هبا " كریس توف كولومب وس (‬
‫‪ )1502-1492‬حیث ع این وش اهد طریق ة عیش الس كان األص لینی يف الع امل اجلدید‪ ،‬من خالل احتكاكه‬
‫املباشر بالسكان ومعایشتة املباشرة ملختلف أمناط حیاهتم‪ ،‬ذلك الذي جعل وصفه یتسم بشيء من املوضوعیة‪.‬‬
‫كما تبلور يف الفرتة ذاهتا االجتاه اإلنساين العلمي الذي یقوم على املنهج العلمي التجریيب منه والعقلي الریاضي‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫على ید ك ل من فرانس یس بیكون (‪ )1626-1561‬ورونیه دیك ارث(‪ )1650-1596‬حبیث أص بح ینظر‬
‫لإلنسان باعتباره ظاهرة طبیعیة میكن دراسته باستخدام املنهج العلمي من أجل الكشف عن القواننی اليت حتكم‬
‫تط ور اإلنس ان واجملتم ع مبا مه د لبل ورة قاع دة نظریة ومنهجیة للعل وم االجتماعیة واإلنس انیة‪ ،‬وأس هم بش كل‬
‫واضح يف تشكیل األرضیة العلمیة لألنثروبولوجیا كعلم خالل القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫وفیما یتعلق بالدراسات اإلثنوغرافیة واألنثروبولوجیة خالل هذه الفرتة فكانت مثة بعض احملاوالت لعل أبرزها‬
‫حماول ة الرحال ة اإلس باين " جوزیه آكوس تا" خالل الق رن الس ادس عش ر ال ذي عم ل على تص نیف الش عوب‬
‫وتطوره ا احلض اري بن اء على معرف ة الق راءة والكتاب ة‪ ،‬فص نف أوروبا يف الدرج ة األوىل مث الص نی وبع دها‬
‫املكسیك‪ ،‬ووفقا هلذا املعیار أیضا مت تصنیف شعوب أخرى يف أسفل السلم‪ ،‬باإلضافة إىل تقدمیه افرتاضا حول‬
‫أصل السكان األصلینی يف العامل اجلدید الذین نزحوا حسبه من آسیا إىل أمریكا‪.‬‬
‫وباإلض افة إىل جوزیه آكوس تا میكن احلدیث أیض ا عن حماوالت الفرنس ي " میش یل دي مونت اين" الذي أجرى‬
‫مقابالت مع السكان األصلینی الذین أحضرهم بعض املكتشفنی إىل أوروبا واستخدمهم كإخبارینی‪ ،‬بغرض‬
‫حتص یل معلوم ات عن ع ادات وتقالید م وطنهم األص لي‪ ،‬ولع ل من أعم ال "دي مونت اين "الش هریة مقال ه عن "‬
‫آكلة حلوم البشر"‪.‬‬
‫‪/5‬خالل عص‪--‬ر األن‪--‬وار‪ :‬ومیكن احلدیث أیض ا خالل عص ر التن ویر عن بعض املفك رین ال ذین س امهوا يف إث راء‬
‫الفكر األن ثروبولوجي والتمهید ب ذلك لألنثروبولوجیا حنی ظهوره ا خالل الق رن ‪ 19‬م‪ ،‬ون ذكر من ه ؤالء‬
‫الفرنس ي " إلب ارون دي مونتیس كیو" ص احب " روح الق واننی"‪ ،‬لق د أوىل مونتیس كیو اهتمام ا واض حا بعالق ة‬
‫البیئ ة االجتماعیة والثقافیة بالق انون وأث ر ك ل منهم ا يف اآلخ ر‪ " ،‬وترج ع أمهیة كت اب روح الق واننی للفك ر‬
‫األنثروبولوجي ملا ورد فیه من إبراز لفكرة الرتابط الوظیفي بنی القواننی والعادات والتقالید والبیئة‪ ،‬أي كافة‬
‫النواحي الطبیعیة والثقافیة‪ ،‬وقد سادت فیما بعد فكرة الرتابط أو التساند الوظیفي بنی هذه النظم االجتماعیة‬
‫خاص ة يف أعم ال األنثروبولوج ینی األجنل یز يف أوائ ل الق رن العش رین‪ .‬ومیكن الرج وع أیض ا يف الف رتة ذاهتا إىل‬
‫فلسفة " جان جاك روسو" صاحب كتاب " العقد االجتماعي" والذي أثر يف كثری من أعالم األنثروبولوجیا‬
‫فیما بعد‪ ،‬فقد اهتم روسو يف العقد االجتماعي بالقیم واألخالق وخمتلف جوانب احلیاة يف اجملتمع الفرنسي ويف‬
‫غ ریه من اجملتمع ات‪ ،‬ولع ل مما استحس نه البعض يف كتاب ات روس و " أن ه اس تطاع أن خیلص نفس ه من التح یز‬
‫الثقايف جملتمعه‪ ،‬وأن ینقد قیمه‪ ،‬بینما یشید ویستحسن طرق حیاة الشعوب يف اجملتمعات األخرى‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫المحاضرة الرابعة‪ :‬نشأة االنثروبولوجيا وعالقتها باالستعمار‬
‫ان فالسفة القرن الثامن عشر ميالدي مهدوا لظهور علوم موضوعية تدرس النظم االجتماعية‪ ،‬ومن أهم تلك‬
‫العلوم اليت مهدوا هلا االنثروبولوجيا‪ ،‬ولعل من مظاهر هذا التمهيد االهتمام باجملتمعات البدائية‪ ،‬غري أن مصادر‬
‫املعلومات عن تلك اجملتمعات الخترج عن الكتابات التخمينية وبعض رحالت االستكشاف‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫تأكيدهم ضرورة استخدام املناهج االستقرائية يف دراسة اجملتمعات االنسانية جند احباثهم خالية متاما من تلك‬
‫املناهج واالعتماد على التخمني‪ ،‬وكان االجتاه الغالب يصور االنسان البدائي على أنه شخصية فظة متوحشة‪،‬‬
‫ويضع اجملتمع البدائي اهلمجي على طريف نقيض بالنسبة للمجتمع املتمدن املتقدم‪.‬‬
‫ومبا أن الدراسة امليدانية هي أحد االركان األساسية لالنثروبولوجيا فإنه ال ميكن اعتبار القرن التاسع عشر فرتة‬
‫نضوج االنثروبولوجيا واستكمال عناصرها وامنا هي فرتة نشأة هذا العلم‪.‬‬
‫یربط الب احثون يف جمال العل وم االجتماعیة نشأة األنثروبولوجیا بظاهرة االس تعمار احلدیث‪ ،‬فق د كانت نش أة‬
‫هذه األخریة خالل النصف الثاين من القرن التاسع عشر مبا یتزامن مع هبة الدول الرأمسالیة الغربیة للبحث عن‬
‫جماالت جدیدة وراء البح ر من أج ل حتص یل املادة اخلام للمص انع املتزایدة يف أوروب ا‪ ،‬وباملقاب ل تس ویق م ا‬

‫‪13‬‬
‫أصبحت تنتجه هذه املصانع باستمرار‪ ،‬وبغض النظر عن اجلذور التارخییة لألنثروبولوجیا واليت متتد يف العصور‬
‫القدمیة من خالل عملیات وصف ومقارن ة اخلص ائص املختلف ة للش عوب واألجن اس‪ ،‬ذل ك ال ذي مارس ه‬
‫ه ریودوت الیون اين أو ابن بطوط ة وابن خل دون من املس لمنی خالل رحالهتم املختلف ة ومعایش اهتم ملختل ف‬
‫األعراق البشریة‪ ،‬فإن میالدها باملعىن " العلمي" كان متزامنا مع اشتداد عود الثورة الصناعیة يف أوروبا‪ ،‬لقد‬
‫كانت هذه الفرتة مهدا لنشأة العلوم االجتماعیة عموما‪ ،‬من أجل التصدي للمشكالت والظواهر اليت أفرزهتا‬
‫تل ك املرحل ة‪ ،‬ف إذا ك ان علم االجتم اع مثال ق د نش أ من أج ل ح ل املش كالت االجتماعیة اليت ب رزت خالل‬
‫الثورة الصناعیة داخل اجملتمعات األوروبیة‪ ،‬فإن األنثروبولوجیا القریبة جدا من علم االجتماع قد مت إنشاؤها‬
‫وتطویرها بغرض فهم اجملتمعات غری األوروبیة‪ ،‬من أجل مساعدة األوروبینی على التوسع خارج أوروبا من‬
‫خالل ظاهرة االستعمار‪،‬‬
‫ه ذا ولق د ك ان اإلنس ان املختل ف عن إنس ان املرك ز" اإلنس ان األورويب" ه و ال ذي هیأ األس اس األول لعلم‬
‫اإلنسان‪ ،‬حیث كان هاجس تكوین معرفة بأولئك الربابرة واهلمج والذین مل یعرفوا للحضارة سبیال بعد‪ ،‬هو‬
‫املسیطر على عقول الباحثنی األوائل يف جمال األنثروبولوجیا‪ ،‬هذا الذي یدل على أن األنثروبولوجیا نشأت يف‬
‫س یاق محالت االس تعمار للبل دان والش عوب األخ رى حیث مثلت بامتیاز ال درع األیدیولوجي ال ذي رافق‬
‫السیف والبندقیة خالل‬
‫محالت السیطرة على الشعوب واألوطان‪،‬‬
‫فمنذ هنایة القرن التاسع عشر وبدایة القرن العشرین أصبحت ظاهرة االستعمار متثل رابطا حقیقیا بنی خمتلف‬
‫الشعوب‪ ،‬فقد حدث منذ هذا التاریخ أن احتكت احلضارات املختلفة بعضها ببعض‪ ،‬وأخذت تربز الفروقات‬
‫الثقافیة املتنوعة لدى الشعوب‪ ،‬ومشلت هذه الفروقات املمارسات واملعتقدات الدینیة والقیم احلضاریة واملسلك‬
‫االجتم اعي‪ ،‬كم ا مشلت أمناط العیش املتنوع ة من مأك ل وملبس ومس كن‪ ،‬مض افا إلیه ا الفروق ات يف التنظیم‬
‫االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬
‫ومع سیادة النزعة التطوریة يف تفسری الظواهر خالل نشأة األنثروبولوجیا استقر لدى األوروبینی أن‪ :‬احلضارة‬
‫البشریة كلها تتطور حسب نظم وقواعد ثابتة وموحدة التتغری باختالف املكان والزمان‪ ،‬هذا یعين أن الشعوب‬
‫البدائیة متثل املراحل األوىل يف التطور بالنسبة للمجتمعات املتقدمة‪ ،‬لتكون بذلك صورة اجملتمعات البدائیة يف‬
‫إفریقیا وأسرتالیا وأمریكا أصال حضاریا للشعوب األوروبیة املتقدمة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫میثل هذا نوع ا من " التربیر العلمي" الندفاع األوروبینی حنو فهم تركیبة وثقافة اجملتمعات األخرى‪ ،‬مبا یظهر‬
‫نوع ا من التواف ق بنی األنثروبولوجیا واالس تعمار‪ ،‬بنی أیدیولوجیة االس تعمار وأیدیولوجیة العلم اجلدید‬
‫(األنثروبولوجیا)‪ ،‬لقد عم دت ه ذه األیدیولوجیة اليت ترتدي ثوب العلم إىل تسفیه ثقافة الشعوب األخرى‪،‬‬
‫باعتبارها ثقافة بدائیة حتتاج إىل تطویر‪ ،‬هذه الثقافة البدائیة اليت متثل اخلرافة مقابل " املوضوعیة العلمیة" اليت‬
‫تبشر هبا األنثروبولوجیا‪ ،‬فعلى النظریة األنثروبولوجیة أن تتحمل مسؤولیة إزاحة اخلرافة من خالل تقدمی تفسری‬
‫" علمي" هلا‪ " ،‬فالنظریة‬
‫األنثروبولوجیة هي النظریة الوحیدة " املعقلنة " من هذه الزاویة‪.‬‬
‫وا ىٕل جانب الشق األیدیولوجي لالستعمار الذي یتم تربیره من قبل األنثروبولوجیا‪ ،‬یتم أیضا وباملقابل تربیر‬
‫الشق القمعي له‪ ،‬فإذا امتاز االستعمار بالعنف والنهب‪ ،‬فهوعنف " معقلن " أي أنه شرعي وضروري‪.‬‬
‫ومیكن الرج وع إىل احلض ور الالفت واملدروس لبعض املق والت واملف اهیم عن د بعض منظ ري االس تعمار مث ل‬
‫مفهوم " احلمایة" الذي حیل حمل مفهوم االستعمار لدى " روبری مونتاين" الذي ركز دراساته يف البالد العربیة‬
‫اخلاضعة لالستعمار‪ ،‬مع االهتمام باملغرب كمیدان خصب للدراسة األنثروبولوجیة‪ ،‬یلعب مفهوم احلمایة "على‬
‫ص عید األیدیولوجیا ال دور ال ذي جیع ل ظ اهرة االس تعمار مقبول ة‪ .‬ویعم ل ه ذا املفه وم على ه ذا الص عید على‬
‫تلمیع صورة االستعمار‪ ،‬فاالستعماروا ٕن كان میثل كیانا جدیدا (من الناحیة االجتماعیة والثقافیة) إىل جانب‬
‫الكیان احمللي‪ ،‬ف إن ذل ك مفید للمجتمع ات ال يت ختضع لالس تعمار‪ ،‬إن ه ذا االلتق اء یع رب عن ص دمة حض اریة‬
‫نتیجة اللقاء بنی حضارتنی خمتلفتنی‪ ،‬تتغری إثرها البىن التقلیدیة للمجتمعات املستعمرة‪ ،‬بفعل قوة خارجیة تفرض‬
‫ثقاف ة جدیدة وأمناط ا من العالق ات جدیدة أیض ا على كاف ة املس تویات االجتماعیة‪ ،‬إن النتیج ة الفوریة هلذا‬
‫الفرض من‬
‫اخلارج أن التغ ری اجملتمعي احلادث على البنیات اجملتمعیة هلذه اجملتمع ات التقلیدیة یس ری يف تط وره بوت ریة غ ری‬
‫عادیة‪ ،‬فتجد هذه البنیات ذاهتا مضطرة إىل أن تنتقل عرب جیل واحد أحیانا من مرحلة القبیلة إىل مرحلة املدینة‬
‫مث إىل مرحلة الدولة وهو األمر الذي تطلب يف حضارات أخرى قرونا من الزمن‪.‬‬
‫یدخل هذا ضمن أسطورة " التمدین " اليت دأب منظرو االستعمار على االختباء خلفها من أجل التمكنی لبقاء‬
‫النظام االستعماري واحلفاظ على الوضع القائم‪ ،‬لقد كان للنظام االستعماري منظروه الذین یعملون على توفری‬
‫املعرف ة الكافیة بالش عوب املس تعمرة كعام ل أساس ي للس یطرة‪ ،‬فاألحباث األنثروبولوجیة ال يت متت على ه ذه‬
‫الش عوب مل تكن منفص لة عن خمطط ات وأه داف االس تعمار‪ ،‬ب ل ك انت موج ودة يف ص لب ه ذه املخطط ات‬

‫‪15‬‬
‫واأله داف‪ " ،‬لق د ب دأت اهلیمنة االس تعماریة ت درك أن حكم ‪-‬األه ايل‪ -‬ال یس تقیم إال مبعرف ة معمق ة للغ اهتم‬
‫وعاداهتم وتقالیدهم‬

‫وأخالقهم‪ ،‬والعل وم االجتماعیة االس تعماریة هي ال يت ك انت متد الس لطات االس تعماریة هبذه املعرفة مثلم ا هي‬
‫حال البالد العربیة قد وجدت نفسها يف صدام مع احلضارة الغربیة اليت حلت على هذه الشعوب عن طریق‬
‫االستعمار‪ ،‬هذا الصدام تولد عن وعي هذه الشعوب بضرورة احلفاظ على هویتها اليت تشكلت خالل قرون‬
‫طویلة‪ ،‬وهنا یقرتح مونتاين اتباع منهج تارخیي من أجل تشكیل معرفة بأصول بنیات هذه الشعوب‪ ،‬ومن أجل‬
‫مقارنتها مع‬

‫بنیات اجملتمعات الغربیة‪.‬‬

‫المحاضرة الخامسة‪ :‬أقسام االنثروبولوجيا‬


‫قسم االنثروبولوجيون هذا العلم اىل فروع رئيسية حبسب نظرهتم اىل االنسان على الشكل التايل‪:‬‬
‫أوال‪ :‬النظ رة اىل االنس ان باعتب اره ك ائن حي خمل وق ض من املخلوق ات االخ رى فظه ر ف رع االنثروبولوجي ا‬
‫اجلسمية او الفيزيقية أو الطبيعية‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ثانيا‪ :‬النظ رة اىل االنس ان باعتب اره اجتم اعي بطبع ه يعيش يف مجاع ات خمتلف ة س اعدت على ظه ور ف رع‬
‫االنثروبولوجيا االجتماعية ‪.‬‬
‫ثالث ‪--‬ا‪ :‬النظ رة اىل االنس ان على اس اس أن ه حام ل للثقاف ة وناق ل هلا ع رب االجي ال س اعدت على ظه ور ف رع‬
‫االنثروبولوجيا الثقافية‪.‬‬
‫وعليه فقد تعددت تقسیمات االنثروبولوجیا وفقا للمكان والزمان‪ ،‬وتبعا للتأثر بنظریات وسیاقات معینة‬
‫مثلما هو علیه احلال عند استخدام تسمیة االنثروبولوجیا االجتماعیة بدال من االثروبولوجیا الثقافیة يف بریطانیا‬
‫نتیج ة للت أثر بالنظریة الوظیفیة ل دى بعض األنثروبولوج ینی مث ل " رادكلیف ب راون"‪ ،‬مقابل اس تخدام مفه وم‬
‫األنثروبولوجیا الثقافیة للداللة على ذالك الفرع من األنثروبولوجیا الذي یعىن باجلانب االجتماعي والثقايف لدى‬
‫اإلنسان يف أمریكا‪ ،‬ويف مقابل هذا حیظى جانب آخر له صلة بالعلوم الطبیعیة باهتمام األنثروبولوجینی وهو‬
‫اجلانب الط بیعي وال بیولوجي لإلنس ان‪ ،‬لرتسخ األنثروبولوجیا أمهیة ه ذا القس م ال ذي أص بح یدعى‬
‫باألنثروبولوجیا الطبیعیة (الفیزیقیة)‪.‬‬
‫‪/1‬االنثروبولوجي‪-- - - -‬ا الفيزيقي‪-- - - -‬ة‪ :‬تع ددت امساؤها فمن انثروبولوجي ا بيولوجي ة اىل انثروبولوجي ا فيزيقي ة‬
‫وانثروبولوجي ا طبيعي ة ‪...‬غ ري ان الش ائع عن د الع رب ه و اس م االنثروبولوجي ا الفيزيقي ة وال ذي اراده‬
‫االنثروبولوجيون تعريبا ملصطلح ‪.Anthropologie physique‬‬
‫تعت رب االنثروبولوجي ا الفيزيقي ة من أق دم ف روع االنثروبولوجي ا‪ ،‬وتع رف بأهنا " العلم ال ذي یبحث يف ش كل‬
‫اإلنس ان من حیث مساته العض ویة‪ ،‬والتغ ریات ال يت تط رأ علیه ا بفع ل املورث ات‪ ،‬كم ا یبحث يف الس الالت‬
‫اإلنسانیة من حیث األنواع البشریة وخصائصها" ‪ ،‬ویرتبط هذا القسم بشكل واضح بالعلوم الطبیعیة وخاصة‬
‫علم التشریح ‪anatomi‬وعلم وظائف االعضاء ‪ physiologie‬وعلم احلیاة ‪biologie‬‬
‫وتعت رب نظریة التط ور إح دى أهم النظریات ال يت یتم االس تناد إلیه ا يف ه ذا القس م‪ ،‬وهي نظریة تش ری إىل أن‬
‫األجناس‬
‫واألنواع تتطور وتتغری أجسامها ووظائف أعضائها خالل تكاثرها على مر العصور‪ ،‬ووفقا هلذه النظریة فإن‬
‫جسم اإلنسان قد تطور من أجناس بشریة أخرى‪ ،‬لذلك میكن إجیاد شواهد دالة على هذا التشابه من الناحیة‬
‫التشرحییة بنی املخلوقات احلیة الیوم مثل التشابه بنی جسم األرنب وجسم القرد وجسم اإلنسان العاقل‪ ،‬وقد‬
‫خضع موضوع "التطور البیولوجي" للبحث العلمي بدایة من القرن التاسع عشر على ید تشارلز داروین وألفرد‬
‫واالس‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫إن معرف ة الكیفیة ال يت تط ور هبا اإلنس ان من أس الفه‪ ،‬وعملیات التغ ری املس تمرة على جسم اإلنس ان هي املربر‬
‫للغوص يف خصائص هذا اإلنسان وتتبعه إىل عصور ما قبل التاریخ البعیدة ملعرفة إن كانت هناك أنواع أخرى‬
‫غری اإلنسان العاقل‪ ،‬هذا الذي یتیح لنا معرفة كیف أصبح اإلنسان تدرجییا خمتلفا عن سائر احلیوانات‪ ،‬وكیف‬
‫اكتسب السمات اجلسمیة اليت متیزه اليوم‪.‬‬
‫ومیكن تقسیم االنثروبولوجیا الطبیعیة حسب طبیعة الدراسات إىل فرعنی رئیسینی مها‪: ‬‬
‫ف‪--‬رع الحفریات البش‪--‬ریة ‪ :‬ویتن اول بالدراس ة اجلنس البش ري من ذ نش أته م رورا مبختل ف مراحله‬ ‫أ‪-‬‬
‫التطوریة من خالل ما تدل علیه احلفریات واآلثار‪ ،‬واهلدف من هذا الفرع هو حماولة معرفة حیاة‬
‫اإلنسان البائد من خالل البقایا واآلثار اليت تدل علیه‪.‬‬
‫فرع األجناس البشریة ‪ :‬ویتناول الصفات العضویة لإلنسان البدائي –املنقرض‪ -‬واإلنسان‬ ‫ب‪-‬‬
‫احلايل‪ ،‬ومقارنة املالمح والسمات العضویة لكلیهما‪.‬‬
‫لقد اهتم املختصون باألجناس البشریة بتصنیف هذه األجناس‪ ،‬غری أن عملیة التصنیف بقیت وا ىٕل وقت قریب‬
‫قائم ة على معیار الع رق واالحتك ام إىل بعض اخلص ائص الس طحیة مث ل ل ون اجللد وش كل الش عر‪. .‬اخل‪ ،‬لكن‬
‫االهتمام بدأ یتحول إىل فروق أكثر دقة مثل أنواع الدم واألجهزة العضلیة‪. .‬اخل‪ ،‬مث إىل الفروق املتعلقة بالنضج‬
‫اجلنسي واملناعة ضد األمراض‪. .‬اخل‪.‬‬
‫ويهتم االنثروبولوجيون الفيزقيون بالقيام بالبحوث والدراسات اليت تلقي الضوء على كثري من املفهومات اليت‬
‫مل تكن معروفة من قبل واليت متيز جماالت عديدة داخل الفرع اهلام من دراسات علم االنسان‪ ،‬ومن أهم هذه‬
‫اجملاالت ن ذكر م ايلي‪ :‬علم العظ ام وعلم االس نان ( تع د دراس ة العظ ام واالس نان من اهم اهتمام ات‬
‫االنثروبولوجيا الفيزيقية نظرا الهنا االجزاء الرئيسية بالنسبة للحفريات‪ ،‬كما واهنا حتكي قصة التطور فاجلمجمة‬
‫توضح شكل الفرد وحجم املخ‪ ،‬أما اهليكل العظمي فيحدد الشكل العام للجسم االنساين) علم األجنة والنمو‪،‬‬
‫علم الوراثة البيوكيميائية‪ ،‬البيولوجيا اجلزئية ( حتديد اوجه التشابه واالختالف بني االنسان وباقي املخلوقات‬
‫االخرى باستخدام بعض التحليالت البيولوجية مثل فصائل الدم وحتديد نسبة اهليموجلوبني) ‪...‬اخل‪.‬‬

‫‪/2‬االنثروبولوجيا االجتماعية‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫تع د االنثروبولوجي ا االجتماعي ة الف رع الث اين من أف رع علم االنس ان‪ ،‬وه ذا الف رع يع ىن بدراس ة االنس ان من‬
‫حيث أبع اده االجتماعي ة ك ذات اجتماعي ة فاعل ة ومتفاعل ة م ع اجملتم ع بك ل حمطاته ومظ اهره املادي ة واملعنوي ة‪،‬‬
‫وهتتم االنثروبولوجيا بصورة عامة باألنظمة والعالقات والبناءات واملؤسسات واألنشطة االجتماعية سواء داخل‬
‫اجملتمع الواحد أو ضمن عدد اجملتمعات املتشاهبة أو اليت خضعت لنفس املنطق االجتماعي وذلك بغية حتديد‬
‫ماهية البناءات االجتماعية ومدى تأثريها يف النمط املعيشي لالنسان‪.‬‬
‫ال ميكن احلديث عن االنثروبولوجي ا االجتماعي ة دون ال ذكر واالش ادة مبؤسس يها االوائ ل يف بریطانیا‬
‫مالینوفس‪--‬كي وراد كلیف ب‪--‬راون بعد أن استفادا من تراث علماء االجتماع األوائل‪ ،‬إن التقارب الكبری بنی‬
‫علم االجتماع واألنثروبولوجیا االجتماعیة هو الذي جعل رادكلیف براون یصرح خالل أحد خطاباته باملعهد‬
‫األنثروبولوجي امللكي أنه" على استعداد تام لتسمیة هذه املادة بعلم االجتماع املقارن إذا أراد أي فرد ذلك‪" .‬‬
‫وهتتم األنثروبولوجیا االجتماعیة بتحلیل البناء االجتماعي للمجتمعات اإلنسانیة وخاصة اجملتمعات شبه البدائیة‬
‫اليت یبدو التكامل والوضوح مسة واضحة يف بنائها االجتماعي‪.‬‬
‫وتستند األنثروبولوجیا االجتماعیة ل" النظریة الوظیفیة " اليت یتزعمها رادكلیف براون واليت تتأسس على أن‬
‫النظم االجتماعیة يف جمتم ع م ا هي نس یج متش ابك من العناص ر ال يت یؤثر بعض ها يف البعض اآلخ ر مبا یش كل‬
‫وحدة كلیة تسمح للمجتمع بالبقاء واالستمرار‪ ،‬وما هو جدیر بالذكر أن األنثروبولوجیا االجتماعیة ال هتتم‬
‫كثریا بتاریخ النظم ولكن بتحدید وظیفة النظام االجتماعي الواحد يف البناء االجتماعي الكلي‪.‬‬
‫ویعترب مفهوم البناء االجتماعي مفهوما حموریا يف األنثروبولوجیا االجتماعیة والنظریة البنائیة الوظیفیة‪ ،‬وبتحلیل‬
‫ه ذا البن اء میكن الوق وف على بعض املف اهیم األخ رى ال يت حتظى مبكان ة كب ریة ض من ه ذا الس یاق‪ ،‬ومن ه ذه‬
‫املف اهیم مفه وم ‪ :‬املكان ة وال دور‪ " ،‬فاملكان ة هي مرك ز الش خص بالنس بة ملرك ز غ ریه ممن ل ه معهم عالق ات‬
‫اجتماعیة مث ل ‪ :‬اإلبن‪ ،‬الناظر‪ ،‬الزوج‪ ،...‬كذلك یهتم الباحث األنثروبولوجي بالطریقة اليت حیدد هبا اجملتمع‬
‫األدوار اليت یقوم هبا الناس ‪.‬وتتضمن األدوار مستویات القیادة واألمر واجلماعة والطاعة والتعاون‪. .‬اخل‬
‫إن االنطالق من فكرة " البناء االجتماعي" يف التحلیل حتیل إىل أمر أساسي وهو أن األنثروبولوجي االجتماعي‬
‫ینطل ق يف عملیة التحلیل من اجملتم ع ولیس الثقاف ة‪ ،‬وان ك ان حتلیله یش مل ع ادات وتقالید اجلماع ات وأمناط‬
‫معیش تها‪ ،‬غ ری أن متث ل وتص ور عملیة االنطالق يف التحلیل من اجملتم ع كوح دة حییل بالض رورة إىل االهتم ام‬
‫والرتكیز على قضیة العالقات القائمة بنی أفراد اجلماعة وكیفیة انتظامها يف جوانب حیاهتا املختلفة‪.‬‬
‫‪/3‬االنثروبولوجيا الثقافية‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫یهتم هذا الفرع من األنثروبولوجیا بدراسة الثقافة لدى جمتمع أو مجاعة معینة‪ ،‬والثقافة يف أبسط معانیها تشری‬
‫إىل خمتل ف أمناط العیش والتفك ری والس لوك واإلب داع داخ ل أیة مجاع ة‪ ،‬س واء ك انت ه ذه اجلماع ة تنتمي إىل‬
‫جمتمع بدائي أو إىل جمتمع متقدم‪ ،‬وبواسطة الثقافة یستطیع أفراد اجملتمع أن یشبعوا حاجاهتم ومتطلباهتم احلیاتیة‪،‬‬
‫لذلك كانت الثقافة ذات أمهیة لعامل االنثروبولوجیا‪ ،‬بل إهنا متثل املوضوع اجلوهري يف علم اإلنسان على وجه‬
‫العموم‪.‬‬
‫إن أمهیة الثقافة من جهة وتعدد جوانبها (املادية واملعنوية) من جهة ثانیة جعل األنثروبولوجیا الثقافیة تتفتح على‬
‫بعض الف روع الدراس یة اجلزئیة مث ل اإلثنوغرافیا واإلثنولوجیا وعلم اآلث ار واللغویات‪ ،‬وه ذه الف روع تص نف‬
‫باعتبارها تابعة لالنثروبولوجیا الثقافیة‪ ،‬على الرغم من أننا جند نوعا من التقارب بنی هذه الفروع مجیعا ‪-‬كما‬
‫اش رنا اىل ذل ك يف حماض رة س ابقة‪ ،-‬إذ أهنا تع ىن مجیعه ا باجملتمع ات والش عوب لكن ك ل واح دة تتناوهلا من‬
‫ج انب معنی‪ ،‬فنج د مثال اإلثنولوجیا تتن اول بالدراس ة ثقاف ة اجملتم ع من لغ ة وع ادات ودین ونظ ام سیاسي‬
‫واقتصادي‪. .‬اخل بشيء من التعمق وا ٕج راء املقارنات بنی األجزاء واجلماعات املختلفة مقابل اإلثنوغرافیا اليت‬
‫تكتفي بوصف ثقافة هذه اجلماعات‪ ،‬وقد اتفق معظم العلماء على إطالق اصطالح إثنوغرافیا على الدراسة‬
‫ال يت تقتص ر على وص ف ثقاف ة جمتم ع معنی‪،‬وباإلض افة إىل اإلثنوغرافیا واإلثنولوجیا یعتم د الب احث يف جمال‬
‫األنثروبولوجیا الثقافیة على علم اآلثار –األركیولوجیا‪-‬هبدف الوصول إىل حقائق عن ثقافات الشعوب الغابرة‬
‫ال يت ليس ل دينا عنه ا ت اريخ مكت وب ‪ ،‬ویعتم د علم اآلث ار على بقایا اإلنس ان الق دمی وال يت ت دل على ثقافت ه‬
‫وتكشف عن الكثری من املعلومات املتصلة بثقافة هذا اإلنسان واتصاالته املختلفة‪ ،‬ووسائل عیشه اليت تدل على‬
‫مستوى العیش والتفكری لدیه‪ ،‬ومن هذه اآلثار میكن احلدیث عن اآلثار الصخریة واألواين الفخاریة واألقواس‬
‫والسهام القدمیة‪.. .‬اخل‪ ،‬هذه اليت تدل على عناصر الثقافة املادیة واليت تسلم أیضا إىل مستوى وطریقة تفكری‬
‫اإلنسان القدمی‪ ،‬ومن أجل هذا اعترب علم اآلثار أحد الفروع املهمة يف األنثروبولوجیا الثقافیة‪.‬‬
‫وینقسم علم اللغویات إىل قسمنی أساسینی مها ‪:‬‬
‫‪ -‬علم اللغویات الوص‪-- -‬في ‪ :‬ویهتم بتحلیل اللغ ات يف زمن حمدد‪ ،‬وبدراس ة النظم الص وتیة وقواع د اللغ ة‬
‫واملفردات‪ ،‬كما یهتم باللغة الكالمیة وخاصة اللغات الكالمیة اليت مل تكتب بعد‪ ،‬وترتكز معظم دراسات هذا‬
‫العلم يف اجملتمعات البدائیة اليت ال تعرف القراءة والكتابة ولكنها ذات لغة كالمیة‪.‬‬
‫‪ -‬علم أص‪--‬ول اللغ‪--‬ات ‪ :‬ویه دف ه ذا القس م إىل حتدید أص ول اللغ ات اإلنس انیة‪ ،‬فالب احث يف جمال أص ول‬
‫اللغات یهتم باجلانب التارخیي واملقارن حیث یتناول العالقات التارخییة بنی اللغات اليت میكن متابعة تارخیها عن‬

‫‪20‬‬
‫طریق وث ائق مكتوبة‪ ،‬أم ا اللغات القدمیة اليت ال تت وفر على وثائق مكتوبة فیستعمل الباحث وس ائل وتقنیات‬
‫خاصة لبحث تاریخ تلك اللغات‪.‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬ان االنثروبولوجيا الثقافية هي الدراسة الوصفية والتحليلية ملظاهر الثقافة بكل عناصرها املادية‬
‫واملعنوي ة من حيث الط رح االجتم اعي والعقائ دي والسياس ي واالقتص ادي وال ديين والنفس ي والف ين‪ ،‬فهي هتتم‬
‫بكل ما صنعه وابدعه وابتكره االنسان لتلبية حاجاته املادية واملعنوية‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫المحاضرة السادسة‪ :‬االنثروبولوجيا –الموضوع والهدف‪-‬‬
‫‪ /1‬موضوع األنثروبولوجیا‪:‬‬
‫تتخذ األنثروبولوجیا من اإلنسان بكل نواحیه موضوعا أساسیا هلا‪ ،‬فإذا كان جسم اإلنسان يف ذاته ونشأته‬
‫وتطوره هو موضوع االنثروبولوجیا الفیزیقیة‪ ،‬فإن عالقات اإلنسان وسلوكه وخمتلف التفاعالت اليت تنتج عن‬
‫اتص اله ب اآلخرین هي موض وع األنثروبولوجیا االجتماعیة والثقافیة‪ ،‬وق د عم د األثروبولوجیون األوائ ل إىل‬
‫دراس ة اجملتمع ات البدائیة البس یطة يف تركیبته ا وثقافته ا فك ان اجملتم ع البس یط وال ذي وص ف بالب دائي ه و‬
‫املوضوع األساسي الذي وجهت إلیه أنظار األنثروبولوجینی قبل أن یتجهوا لدراسة اجملتمعات صغریة احلجم و‬
‫إن كان ذلك من حیث‬
‫الزمان واملكان ضمن اجملتمعات املعاصرة‪.‬‬
‫كان هناك نوع من الرتدد من أجل أن تعلن األنثروبولوجیا أن موضوعها هو اجملتمع بأمناطه املختلفة ويف خمتلف‬
‫األمناط االجتماعیة والثقافیة‪ ،‬ويف هذا الصدد نذكر أن رادكلیف براون مثال حدد جمال دراسة األنثروبولوجیا‬
‫يف مق ال ل ه عن املنهج ع ام ‪ 1923‬باجملتمع ات البدائیة لكن ه ع اد س نة ‪ 1944‬لیجع ل من مجیع أمناط اجملتم ع‬
‫اإلنساين جماال للدراسة يف األنثروبولوجیا االجتماعیة‪ ،‬وهو نفس املوقف الذي أبداه إیفانز بریتشارد ال ذي رأى‬
‫بأن األنثروبولوجیا هي" فرع من الدراسات االجتماعیة یتخذ من اجملتمعات اإلنسانیة مجیعا بأمناطها ( املختلفة)‬
‫موضوعا له‪ ،‬وإن كان یركز على دراسة النمط التقلیدي منها‪.‬‬
‫والواض ح أن املوض وع األساس ي لألنثروبولوجیا االجتماعیة والثقافیة إمجاال یرتاوح بش كل خ اص بنی االجتاه‬
‫لدراس ة البن اء االجتم اعي وخمتل ف النظم واألنس اق الفرعیة ال يت تكون ه ووظیف ة ه ذه النظم‪ ،‬إض افة إىل دراس ة‬
‫الثقافة مبكوناهتا املختلفة‪ ،‬وفیما یلي حناول أن نورد بعض هذه املوضوعات‪:‬‬
‫أ الثقافة ‪:‬‬
‫يعد مصطلح الثقافة من املصطلحات اهلامة يف االنثروبولوجيا الثقافية ولقد اختلف علماء االنثروبولوجيا حوله‬
‫بالرغم من شيوع استخدامه يف كثري من الدراسات االجتماعية والثقافية‪ ،‬وقد قام كل من كروبر وكلكهون يف‬
‫عام ‪1915‬م حبصر أكثر من مائة ومخسني تعريفا خمتلفا للثقافة‪.‬‬
‫يف احلقيقة لقد اختلفت األحباث وكذا املدارس الفكرية يف حتديد معىن الثقافة وذلك بتعدد األبعاد اليت ميكن من‬
‫خالهلا وضع تعريف دقيق هلا‪ ،‬فهناك اختالف بني املعىن القدمي واحلديث‪ ،‬وبني املعىن العام واألكادميي يقصد به‬
‫املعرف ة األكادميي ة ال يت تغيب عن أذه ان العام ة ‪ ،‬وبني تعري ف االن ثروبولوجي عن االثنول وجي وعن غريمها من‬
‫العلماء‪ ،...‬ومن هنا يتضح تضارب يف حتديد معىن املفهوم بدقة‪.‬‬
‫و تعت رب الثقاف ة عنص را أساس يا يف حي اة األف راد واجملتمع ات‪ ،‬وهي نت اج اجتم اعي ومل ك وراثي ألف راد اجملتم ع‬
‫كاف ة‪ ،‬وهي تش مل فيم ا تش مله ع ادات وتقالي د ومعتق دات وقيم وفن ون وآداب‪...‬اخل‪ ،‬وهي كم ا عرفها‬
‫الج ‪-- -‬ابري " ذل ك املركب املتج انس من ال ذكريات والتص ورات والقيم والرم وز والتعب ريات واإلب داعات‬
‫‪22‬‬
‫والتطلعات اليت حتتفظ جلماعة بشرية ‪ ،‬تشكل أمة أو ما يف معناها‪ ،‬هبويتها احلضارية‪ ،‬يف إطار ما تعرفه من‬
‫تط ورات بفع ل ديناميته ا الداخلي ة وقابليته ا للتواص ل واألخ ذ والعط اء‪ ،‬وبعب ارة أخ رى هي املع رب األص يل عن‬
‫اخلصوصية التارخيية ألمة من األمم‪ ،‬عن نظرة هذه األمة إىل الكون واحلياة واملوت واإلنسان ومهامه وقدراته‬
‫وحدوده‪ ،‬وما ينبغي أن يعمل وما ال ينبغي أن يأمل" ومبا أهنا ملك جمتمعي فهي قادرة على االنتقال من جيل‬
‫آلخر من خالل عمليات التثقيف والتنشئة االجتماعية‪،‬‬
‫** مفه‪-‬وم‪ -‬الثقاف‪-‬ة‪ : -‬تشری الثقافة باملعىن األنثروبولوجي إىل كل ما ینتجه اإلنسان خالل تفاعله مع اآلخرین‪،‬‬
‫كما أهنا تعرب عن أسلوب احلیاة لدى مجاعة معینة‪ ،‬واحلقيقة أن أجود وأشهر تعريف للثقافة هو تعريف العامل‬
‫االنثروبولوجي ادوارد تايلور حيث اعترب بأنه وافر الشرح والذي عرفها" بأهنا ذلك الكل املركب الذي حيوي‬
‫على املعرف ة واالعتق اد والفن واألخالق والق انون والع رف والع ادات والتقالي د وأي ق درات أخ رى تكتس ب‬
‫بواسطة اإلنسان باعتباره عضوا يف اجملتمع‪.‬‬
‫وجممل القول أن الثقافة هي مفهوم مركب‪ ،‬وتشمل الثقافة فيما تشمله كل ما يتلقاه الفرد عن اجلماعة من‬
‫مظ اهر الفن ون والعل وم واملع ارف والعقائ د والقيم‪ ،‬وهي ظ اهرة موض وعية أي مس تقلة عن إرادة الف رد فهي‬
‫تفرض نفسها من اخلارج‪ ،‬ذلك أهنا وسيط بني اجملتمع والفرد فال ميكن فهم هذا األخري إال بالعودة إىل وسطه‪.‬‬
‫ویق وم بعض الب احثنی بتقس یم الثقاف ة وفق ا لتج انس عناص رها‪ ،‬وم دى س عة أو ض یق ذل ك التج انس‪ ،‬فتقس م‬
‫عناصر الثقافة بناء على هذا األساس إىل ‪:‬‬
‫‪ -‬عمومیات ‪:‬وتش ری إىل جمم وع األفك ار و الع ادات و التقالید و االس تجابات العاطفیة املختلف ة و أمناط‬
‫السلوك و طرق التفكری اليت یشرتك فیها مجیع أفراد اجملتمع‪ ،‬أي أن العمومیات هي تلك العناصر الثقافیة اليت‬
‫تسود اجملتمع الكبری جبماعاته وطبقاته و فئاته املختلفة‪.‬‬
‫‪ -‬خصوصیات ‪:‬وتشری إىل جمموع العادات القیم واألنظمة األسالیب اليت خیتص هبا حزب أو فئة أو طبقة‬
‫حمددة يف اجملتمع‪ ،‬وتعمل على ممارستها بشكل واضح دون غریها من الطبقات االجتماعیة األخرى‪.‬‬
‫‪-‬متغ‪--‬یرات ب‪-‬دائل ‪ :‬وتشری إىل تلك العناصر الثقافیة اليت تدخل على الثقافة بعمومیاهتا وخصوصیاهتا فتحدث‬
‫فیها تغیریا‪ ،‬ویكون ذلك من خالل عملیات االتصال الثقايف املختلفة‪ ،‬غری أن الواضح هو أن املتغریات املتصلة‬
‫ب اجلوانب املادیة أسهل يف استقرارها عن د اتص اهلا بالعمومیات أو اخلصوص یات نتیج ة تقبله ا من قبل األف راد‪،‬‬
‫على‬
‫عكس املتغریات املعنویة اليت یصعب استقرارها وتقبلها نتیجة اتصاهلا بالعادات والقیم والقناعات واالجتاهات‬
‫الفكریة لدى األفراد‪.‬‬
‫**وظیفة‪ -‬الثقافة‪: -‬‬
‫یرى مالینوفس كي أن الوظیف ة األساس یة للثقاف ة هي إش باع احلاج ات األساس یة لألف راد‪ ،‬فالطبیع ة البیولوجیة‬
‫لإلنس ان تس تدعي حاج ات كث ریة متص لة باألك ل والش رب واللب اس واجلنس‪. .‬اخل‪ ،‬ل ذلك ك انت الثقاف ة هي‬
‫‪23‬‬
‫الكیفیة اليت تشبع هبا ه ذه الطبیع ة‪ ،‬فاجلوع یقابله أك ل وال ربد یقابله لب اس‪. .‬اخل‪،‬وا ٕذا اس تطاع اإلنسان تلبیة‬
‫حاجات ه األساس یة من خالل الثقاف ة‪ ،‬میكن ل ه ومن خالل الثقاف ة دائم ا أن یل يب حاجات ه الثانویة وال يت ت رتقب‬
‫بدورها اإلشباع ثقافیا‪ ،‬فحسب مالینوفسكي ال جید اإلنسان إال أن جید حال للمشاكل اليت تنبع من حاجاته‬
‫األساسیة كاحلاجة إىل الطعام واحلاجة إىل اإلشباع واىٕل الوقایة من اخلطر وذلك من خالل إجیاد بیئة ثانویة أو‬
‫صناعیة‪ ،‬وهذه البیئة لیست سوى الثقافة‪.‬‬
‫ويف هذا السیاق میكن اإلش ارة إىل أن النظم االجتماعیة املختلف ة كالنظام االقتصادي والدیين والسیاسي‪. .‬اخل‬
‫إمنا وج دت من أجل إش باع احلاجات اليت یتطلبه ا كل نظام من ه ذه النظم‪ ،‬فنظ ام االقتصاد مثال جاء لتلبیة‬
‫حاجات اإلنتاج واالستهالك‪. .‬والنظام الدیين جاء لتلبیة احلاجات املتصلة باجلانب الروحي وهكذا‪.. .‬‬
‫ومییز البعض بنی وظیفتنی هامتنی للثقافة مها‪:‬‬
‫الوظیف‪-‬ة االجتماعیة ‪:‬وتتضمن جتمیع الناس يف عامل عقلي أخالقي مشرتك یشعرهم بانتمائهم الواحد فتضمن‬
‫من خالل هذا استمرار ووحدة اجملتمع‪ ،‬كما تزود األفراد باألهداف واآلمال وتقدم هلم تفسریات مسلم هبا عن‬
‫احملیط والعامل‪.‬‬
‫‪ -‬الوظیف ‪--‬ة النفس ‪--‬یة ‪ :‬وت رمي إىل قولب ة شخص یات األف راد من خالل تزویدهم بأمناط الس لوك ومتكینهم من‬
‫طرق التعبری عن العواطف واالنفعاالت‪.‬‬
‫** خصائص الثقافة ‪:‬‬
‫هناك العدید من اخلصائص اليت متیز الثقافة لعل أبرزها أهنا‪:‬‬
‫‪ -‬الثقافة اجتماعیة ومكتسبة ‪ :‬تكتسب من اجملتمع عن طریق التعلم‪.‬‬
‫‪ -‬الثقافة إنسانیة ‪ :‬أهنا من مسات اإلنسان دون غریه من الكائنات‪.‬‬
‫‪ -‬الثقافة انتقالیة ‪ :‬تنتقل بنی اجملتمعات واألجیال‪.‬‬
‫‪ -‬الثقافة أفكار وأعمال ‪ :‬فهناك جانب روحي فكري للثقافة وجانب مادي ملموس‪.‬‬
‫‪ -‬الثقافة متنوعة الشكل خمتلفة املضمون ‪ :‬فلكل جمتمع لغة ودین وعادات لكن هناك‬
‫اختالف يف طبیعة هذه العناصر بنی اجملتمعات‪.‬‬
‫‪ -‬الثقافة متغریة ‪ :‬فالثقافة تتغری من خالل عملیات االتصال واالحتكاك الثقايف وعملیات‬
‫التعدیل والتطور‪.‬‬
‫ب‪/‬البناء االجتماعي‪:‬‬
‫یعترب مفهوم البناء االجتماعي من املفاهیم األساسیة املستخدمة يف الدراسات االنثروبولوجیة‪ ،‬بل ویعترب البناء‬
‫االجتماعي مبثابة املوضوع األساسي خاصة يف جمال األنثروبولوجیا االجتماعیة‪ ،‬ولعل الفكرة األوىل اليت میكن‬

‫‪24‬‬
‫تكوینها عن البناء االجتماعي هو ذلك االطار الذي جیمع كافة النظم وخمتلف أشكال العالقات اإلنسانیة يف‬
‫شكل منظم ومرتب‪.‬‬
‫وحس ب موس وعة علم اإلنس ان ف إن مفه وم البن اء االجتم اعي " یس تخدم عموم ا لإلش ارة إىل مالمح التنظیم‬
‫االجتم اعي مبا یض م من نظم اجتماعیة وأدوار ومكان ات‪ ،‬وال يت من ش أهنا أن تض من اس تمرار أمناط الس لوك‬
‫االجتماعي والعالقات االجتماعیة عرب الزمن "‪.‬‬
‫وهبذا یدل مفهوم البناء االجتماعي على تلك اآللیات اليت میكن من خالهلا ضمان استمرار الرتكیبة االجتماعیة‬
‫مبا هي علیه من خصائص ومسات مبا یؤدي إىل إعادة اإلنتاج االجتماعي بتعبری االجتاه املاركسي‪ ،‬وقد ارتبط‬
‫مصطلح البناء االجتماعي يف اجملال األنثروبولوجي بأعمال األنثروبولوجینی الربیطانینی وعلى رأسهم رادكلیف‬
‫براون‪.‬‬
‫‪ -‬البن‪--‬اء االجتم‪--‬اعي عن‪--‬د رادكلیف ب‪--‬راون ‪ :‬ینظ ر براون إىل البن اء االجتم اعي باعتب اره شبكة من العالقات‬
‫االجتماعیة اليت جتمع بنی شخصنی أو أكثر مثل ما هو علیه احلال يف نظام القرابة من خالل العالقات الثنائیة‬
‫ال يت جتم ع مثال بنی األب وابن ه واألخ وأخت ه‪ .‬وك ذلك عملیات التمییز القائم ة بنی األف راد على أس اس ال دور‬
‫االجتماعي مثل دور النساء ودور الر جال والزعماء‪. .‬اخل‪.‬‬
‫‪ -‬البناء االجتماعي عند إیفانز بریتشارد ‪ :‬كانت نظرة بریتشارد خمالفة نوعا ما لنظرة براون يف قضیة تشكل‬
‫البناء االجتماعي من العالقات الثنائیة‪ ،‬فعلى عكس براون ذهب بریتشارد إىل أن البناء االجتماعي یتشكل من‬
‫تلك العالقات اليت تقوم بنی اجلماعات اليت تتمتع بدرجة عالیة من الثبات واالستمرار يف اجملتمع مثل القبائل‬
‫والعش ائر‪.. .‬اخل‪ ،‬فربیتش ارد – وعلى عكس ب راون – یرى أن األس رة ال تتمت ع بتل ك الدرج ة من الثب ات‬
‫واالستمرار‪ ،‬ذلك أن أفرادها مثل الزوج والزوجة یكربون ومیوتون‪ ،‬وكذلك األوالد یكربون ویكونون أسرا‬
‫مستقلة جدیدة‪. .‬اخل أما الوحدات القبلیة مثال فإهنا تستمر يف الوجود‪ ،. .‬إضافة إىل أن العالقات الثنائیة هي‬
‫عالقات سریعة سرعان ما تتغری باختالف املصاحل ولكن العالقات اليت جتمع اجلماعات القبلیة هي عالقات ثابتة‬
‫نسبیا‪ ،‬وهي تفرض أنواعا حمددة من التعاون والتساند إزاء اجلماعات األخرى‪.‬‬
‫ویرتب ط مفه وم البن اء االجتم اعي بك ل من مفه وم النظ ام االجتم اعي و النس ق االجتم اعي‪ ،‬ف إذا ك ان البن اء‬
‫االجتماعي هو ذلك الكل املركب من أجزاء منتظمة حیث متثل هذه األجزاء خمتلف أمناط السلوك و الظواهر‪،‬‬
‫ف إن النس ق یش ری على حنو م ا یرى ت الكوت بارس ونز إىل " وج ود ن وع من التس اند واالعتم اد املتب ادل ال ذي‬

‫‪25‬‬
‫یهدف إىل حتقیق وظائف معینة أیضا بنی عدد من األفراد أو الزمر االجتماعیة الذین یقومون بأدوار مرسومة‬
‫وحمددة"‬
‫ویرتبط البناء يف استمراره بالوظیفة اليت تؤدیها خمتلف أجزائه أي نظمه املختلفة اليت تشكله فالنظام السیاسي‬
‫مثال إضافة إىل النظام االقتصادي ونظام القرابة والدین‪. .‬اخل‪ ،‬كلها تؤدي وظائف لیتمكن من خالهلا هذا البناء‬
‫من االستمرار والبقاء‪ ،‬وتشبه الوظائف اليت تؤدیها أجزاء البناء االجتماعي تلك اليت تؤدیها أجزاء الكائن احلي‪،‬‬
‫ل ذلك ك انت حماول ة فهم البن اء االجتم اعي من منطل ق الوظیف ة ال يت تؤدیه ا النظم املختلف ة وبت أثری واض ح من‬
‫الدراسات البیولوجیة‪ ،‬وعلى وجه العموم فإن وظائف النظم املختلفة تتجلى يف خمتلف العالقات والتفاعالت‬
‫االجتماعیة وخمتلف صور األدوار واملكانات االجتماعیة واليت تشكل يف األخری دعامة أساسیة لبقاء واستمرار‬
‫البناء االجتماعي‪.‬‬
‫نظام القرابة ‪:‬‬
‫یعترب نظام القرابة من املوضوعات األساسیة يف جمال االنثروبولوجیا‪ ،‬فهو اجملال الذي مبقتضاه میكن التعرف على‬
‫عالقات االتصال من خالل قنوات األسرة والزواج وخمتلف القواننی اليت حتكمها‪ ،‬لذلك یعترب الزواج ونظام‬
‫األسرة إحدى أهم النظم الداخلة يف تشكیل النظام القرايب العام‪.‬‬
‫لقد شكلت القرابة موضوعا أساسیا لالنثروبولوجیا منذ نشأهتا خاصة عندما نشر لویس مورغان مؤلفه "أنساق‬
‫قراب ة ال دم واملص اهرة " ع ام ‪ ، 1870‬كم ا ك انت حمل اهتم ام من قب ل خمتلف أعالم األنثروبولوجیا اآلخ رین‬
‫مثل براون وبریتشارد ومارسیل موس‪ ،‬ووصوال إىل األنثروبولوجینی املتأخرین من أمثال كلود لیفي سرتوس‬
‫ال ذي س اهم يف إث راء احلق ل األن ثروبولوجي من خالل حتلیالت ه للعدید من املوض وعات وعلى رأس ها موض وع‬
‫القرابة‪ ،‬ویعترب كتابه " البىن األساسیة للقرابة" الذي نشره أول مرة عام ‪ 1949‬خری دلیل على ذلك‪.‬‬
‫ویتم حتلیل القرابة من خالل " مصطلحات القرابة" بتصنیفها وفقا لبعض أسس التصنیف املتداولة وحتلیل أمناط‬
‫الزواج وأنواع األسر‪. .‬اخل‪.‬‬
‫أ‪ -‬مص‪--‬طلحات‪ -‬القراب‪--‬ة ‪ :‬یرى "كروب ر" أن مص طلحات القرابة میكن أن تنقسم إىل قسمنی رئیسینی‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل استخدام اجملتمعات اإلنسانیة هلذه املصطلحات تبعا لذلك فإن هذین القسمنی مها ‪:‬‬
‫‪ -‬مص طلحات القراب ة التص نیفیة ‪-‬الطبقیة ‪ -:‬و هي تتأس س على الفئ ات و الطبق ات العمریة فهن اك طبق ة‬
‫األجداد و طبقة األبناء و طبقة األحفاد‪ ،‬كما یتأسس هذا التصنیف على مالحظة أساسیة وهي إمكانیة إطالق‬
‫اصطالح " "أب " مثال على جیل بكامله ممن هم يف جیل واحد‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫‪ -‬مصطلحات القرابة الوصفیة –التخصصیة‪ : -‬و تتأسس على الوصف احلقیقي للعالقة القرابیة دون تصنیف‬
‫فهناك األب و األم و األخ و األخت‪ ،.. .‬فاملصطلح القرايب هنا یستخدم للداللة على قریب واحد بالذات‪.‬‬
‫ب‪ -‬بعض أسس التصنیف القرابي‪ :‬ومیكن تصنیف القرابة ومصطلحاهتا وفقا لبعض األسس مثلما یرى ألفرد‬
‫كروبر فیما یلي ‪:‬‬
‫‪ -‬اجلیل ‪ :‬ویشری إىل جیل اآلباء واألجداد أو اإلخوة واألخوات‪.. .‬‬
‫‪ -‬العمر ‪ :‬ویتم التصنیف هنا بناء على السن‪ ،‬فهناك كبار السن مثل األجداد وهناك اآلباء واألبناء‪ ،‬وهناك‬
‫إخوة كبار وا ٕخوة صغار‪..‬اخل‪.‬‬
‫‪ -‬األق ارب املباش رون واألق ارب غ ری املباش رون ‪ :‬فاألق ارب املباش رون هم ال ذین جندهم على خ ط النس ب‬
‫املرتابط مثل ‪ :‬جد – أب – إبن – إبن اإلبن‪ ،....‬أما غری املباشرون فیمثلون عالقة قرابیة بشكل غری مباشر‪،‬‬
‫أي بتوسط أشخاص آخرین مثل ‪ :‬اإلبن وابن العم وابن اخلال‪. .‬اخل‪.‬‬
‫‪ -‬اجلنس ‪:‬ویشری إىل التصنیف على أساس جنس الشخص ذكر – أنثى‪.‬‬
‫‪ -‬نوع املتكلم ‪ :‬ختتلف الصفة القرابیة باختالف املخاطب فالزوج الذي خیاطب زوجته خیتلف عن اإلبن الذي‬
‫خیاطب أمه‪. .‬اخل‪.‬‬
‫‪ -‬القراب ة الدمویة وقراب ة املص اهرة ‪ :‬هن اك ف رق بنی القراب ة القائم ة على رابط ة ال دم كعالقة االبن م ع أبیه أو‬
‫عمه‪ ،‬وهناك عالقة املصاهرة واليت أساسها الزواج بنی رجل وامرأة وما من یرتتب علیها من عالقات قرابیة‬
‫بالنسبة ألوالدمها‪. .‬اخل‪.‬‬
‫ويف حتلیل النظام القرايب یتم الرجوع إىل األمناط املختلفة للزواج وأنواعه‪ ،‬وتصنیف األسر وأنواعها‪ ،‬ففي جمال‬
‫الزواج جند أن هناك عنصرین بارزین مها ‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪--‬زواج ال‪--‬داخلي ‪-‬ال‪--‬زواج من داخ‪--‬ل الجماع‪--‬ة القرابیة‪ : -‬وفیه یتعنی على الرج ل أن یتزوج من داخ ل‬
‫اجلماعة القرابیة اليت ینتمي إلیها‪.‬‬
‫الزواج الخارجي ‪ :‬وفیه یتعنی على الرجل أن یتزوج من خارج اجلماعة القرابیة اليت ینتمي إلیها‪.‬‬
‫أما األسرة فنجد أهنا تتكون بدورها من عدة أمناط‪ ،‬لكن أبرزها مثلما یرى " مریدوك" ثالثة وهي‪:‬‬
‫‪ -‬األسرة النوویة‪ :‬وهي النواة أو اخللیة األوىل للمجتمع اإلنساين‪ ،‬وتتكون من الزوج والزوجة واألبناء‪ ،‬وتسمى أیضا‬
‫األسرة "الزواجیة" أو "األسرة الصغریة "‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫‪ -‬األس ‪--‬رة متع ‪--‬ددة األزواج أو الزوج ‪--‬ات ‪ :‬وهي جتم ع ع ائلتنی ص غریتنی أو أك ثر بش رط أن یك ون إم ا ال زوج أو‬
‫الزوج ة مش رتكا يف أك ثر من أس رة ص غریة واح دة‪ ،‬وحس ب الدراس ات اليت ق ام هبا " م ریدوك " ف إن األس رة متع ددة‬
‫الزوجات هي األكثر انتشارا من األسرة متعددة األزواج‪.‬‬
‫‪ -‬األس‪--‬رة الممت‪--‬دة ‪ :‬وتتك ون على األق ل من ع ائلتنی ص غریتنی حبیث تك ون إح داها امت دادا لألخ رى‪ ،‬وهي تش كل‬
‫أجیاال كجیل األجداد واآلباء واألحفاد‪.‬‬
‫وأخریا فإذا كانت موضوعات الثقافة والبناء االجتماعي ونظام القرابة موضوعات أساسیة للدراسة األنثروبولوجیة‪،‬‬
‫فإن هناك موضوعات أخرى ال تقل عنها أمهیة مثل النظام الدیين والنظام السیاسي والنظام االقتص ادي‪. .‬اخل‪ ،‬وهي‬
‫كلها حمل للدراسة يف جمال األنثروبولوجیا‪.‬‬
‫‪ /2‬الهدف من الدراسة في مجال األنثروبولوجیا‪:‬‬
‫ومن خالل دراسته هلذه املوضوعات فإن علم اإلنسان یسعى إىل حتقیق مجلة من األهداف لعل أمهها ‪:‬‬
‫‪ -‬وص ف مظ اهر احلیاة البش ریة واحلض اریة وص فا دقیق ا‪ ،‬وذل ك عن طریق معایش ة الب احث للجماع ة املدروس ة‪،‬‬
‫وتسجیل كل ما یقوم به أفرادها من سلوكات يف تعاملهم يف احلیاة الیومیة‪.‬‬
‫‪ -‬تصنیف مظاهر احلیاة البشریة واحلضاریة بعد دراستها دراسة واقعیة‪ ،‬وذلك للوصول إىل أمناط إنسانیة عامة‪،‬‬
‫ويف سیاق الرتتیب التطوري لعلم اإلنسان " بدائي – زراعي‪ -‬صناعي‪ -‬معريف‪ -‬تكنلوجي"‬
‫‪ -‬حتدید أصول التغری الذي حیدث لإلنسان‪ ،‬وأسباب هذا التغری وعملیاته بدقة علمیة‪ .‬وذلك بالرجوع إىل‬
‫الرتاث اإلنساين‪ ،‬وربطه باحلاضر من خالل املقارنة‪،‬وا جٕی اد عناصر التغیری املختلقة‪.‬‬
‫‪ -‬اس تنتاج املؤش رات والتوقع ات الجتاه التغیری احملتم ل يف الظ واهر اإلنس انیة ‪ /‬احلض اریة ال يت تتم دراس تها‪،‬‬
‫والوصول بالتايل إلمكانیة التنبؤ مبستقبل اجلماعة البشریة اليت أجریت علیها الدراسة‪.‬‬
‫‪ /3‬خصائص األنثروبولوجیا و أهمیتها في العصر الحالي‪:‬‬
‫وتكمن أمهیة األنثروبولوجیا فیم ا مییزه ا من خص ائص ولع ل م ا مییز علم اإلنس ان عموما وعلى اختالف‬
‫التسمیات املتداولة بنی املدارس املختلفة هو اجتاهه لدراسة اجملتمع ككل دون الرتكیز على جانب واحد فقط‪،‬‬
‫وتعت رب ه ذه اخلاص یة إح دى أهم م ا مییز علم اإلنس ان عن العل وم االجتماعیة األخ رى ال يت ترك ز على ج انب‬
‫واحد فقط مثل علم االجتماع والنفس والسیاسة‪. .‬اخل‪ ،‬فهو یتمیز " بالنظرة الكلیة الشاملة‪ ،‬أي املنهج الكلي‬
‫التكاملي الذي یهدف إىل حتدید مجیع عناصر الثقافة يف جمتمع ما‪ ،‬أي أن األنثروبولوجي علیه إذا اجته لدراسة‬
‫جمتمع معنی أن‬

‫‪28‬‬
‫حییط بكل جوانبه املادیة واملعنویة‪ ،‬فینظر يف طریقة عیش اجلماعة املدروسة وطرق تفكریها‪ ،‬وخمتلف طقوسها‬
‫وعاداهتا وتقالیدها‪ ،‬وكیفیة بن اء مس اكنها وطریق ة لب اس أفراده ا‪ ،‬وأمناط احلكم ل دیها‪...‬اخل‪ ،‬غ ری أن اإلحاط ة‬
‫بك ل ه ذه اجلوانب یتطلب من األن ثروبولوجي أن یتن اول بالدراسة جمتمع ا مص غرا یتم یز ببس اطة تركیبت ه‬
‫وعالقات أفراده‪ ،‬ألن دراسة اجملتمعات املعقدة يف كلیته أمر غری ممكن‪ ،‬لذلك نرى تعددا للعلوم االجتماعیة اليت‬
‫یهتم كل واحد منها جبانب واحد فقط من هذه اجلوانب‪ ،‬هذا الذي جعل علم اإلنسان یتجه يف بدایاته األوىل‬
‫لدراسة اجملتمعات البدائیة اليت تمثل البساطة يف بنائها وعالقاهتا‪ " ،‬فقد اهتم األنثروبولوجیون األوائل بدراسة‬
‫مظاهر احلیاة االجتماعیة‬
‫للمجتمعات البدائیة إذ اجتذبتهم غرابة تلك اجملتمعات واختالفها عن اجملتمعات األخرى وخباصة اجملتمعات‬
‫األوروبیة‪.. .‬فكان أهم ما یبحثون عنه هو اللغات والعادات الغریبة اليت ختتلف وتتناقض مع لغات وعادات‬
‫جمتمعاهتم األوروبیة املتمدینة‪ ،‬وأصبح هذا تقلیدا على ممر السننی ‪.‬‬
‫غ ری أن الق ول بتم یز األنثروبولوجیا بدراس ة اجملتمع ات البدائیة مقاب ل ختلیه ا عن اجملتمع ات املتمدین ة (املعق دة)‬
‫لصاحل العلوم االجتماعیة األخرى كعلم االجتماع واالقتصاد والسیاسة أصبح جمانبا للحقیقة يف الوقت الراهن‪،‬‬
‫" حیث انتش رت الدراس ات األنثروبولوجیة اخلاص ة باجملتمع ات املتمدین ة وخاص ة الق رى‪ ،‬وك ذلك بعض‬
‫الدراسات املختصة بتحدید معامل حضارات اجملتمعات املتقدمة مثل اجملتمع األمریكي والروسي والصیين‪ ،‬وقد‬
‫حبث بعضهم يف عملیات الصراع أو االمتزاج بنی احلضارات املتقدمة اليت تتالقى يف حاالت اهلجرة أو احلروب‬
‫"‪.‬‬
‫إن ن زول األن ثروبولوجي إىل عم ق ه ذه اجملتمع ات البس یطة أو " ش به البدائیة" من أجل دراس تها يف خمتل ف‬
‫جوانبه ا البنائیة والوظیفیة یس لم إىل خاص یة جوهریة ل دى ه ذا العلم‪ ،‬وهي الرتك یز على الدراس ة احلقلیة‬
‫واملیدانیة‪ ،‬فعلم اإلنس ان یق وم جبم ع معطیات ه من املیدان من خالل عملیات الوص ف واملقارن ة ال يت یق وم هبا‬
‫األن ثروبولوجي ملختل ف ط رق العیش والتفكری والع ادات والس لوكات والطق وس واملظ اهر ال يت متیز اجلماع ات‬
‫املدروسة‪ ،‬لذلك كانت عملیة‬
‫الوصف واملقارنة أیضا إحدى اخلصائص اجلوهریة لعلم اإلنسان‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫المحاضرة السابعة‪ :‬التیارات والنظریات األساسیة في األنثروبولوجیا‬
‫ميكن حصر أهم االجتاهات و النظریات االساسية يف علم االنثروبولوجيا يف ما یلي ‪:‬‬
‫‪/1‬االتجاه التطوري‪ :‬يرجع املؤرخون تاريخ نشأة االجتاه التطوري اىل الفرتة املمتدة ما بني ‪1900-1860‬‬
‫مستلهمني يف ذلك نتائج الدراسات الداروينية‪ ،‬يف اجملال البيولوجي التطوري‪ ،‬واليت ميكن تلخيصها يف النقاط‬
‫التالية‪:‬‬
‫ان مجيع اشكال احلياة تتغري وتنتج أشكاال جديدة باستمرار‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫بعض هذه االشكال أكثر مالئمة مع الظروف البيئية من غريها‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ‬ان االشكال االكثر مالئمة للبقاء واحلياة تبقى وتستمر‪ ،‬اما االخرى فيقضى عليها‪.‬‬
‫لقد تفاعلت املعارف االنسانية واالجتماعية مع النظرية الداروينية تفاعال مثمرا ومفيدا‪ ،‬حيث استلهمت من‬
‫اطروح ات داروين مب دأ تط ور االش كال وانتقاهلا من حال ة اىل اخ رى‪ ،‬واجته د العلم اء يف اجملال االنس اين‬
‫واالجتم اعي يف مقارب ة موض وعاهتم مقارب ة تطوري ة حيث اص بح االعتق اد الراس خ أن ك ل ظ اهرة موض وع‬
‫الدراسة البد من معرفة اصوهلا وكيفية نشاهتا ومراحل تطورها ومتابعة مساراهتا املختلفة‪.‬‬
‫وقد كان لالجتاه التطوري الفضل يف احتضان االنثروبولوجیا حنی نشأهتا خالل القرن ال ‪ 19‬م‪ ،‬فقد كان هم‬
‫األنثروبولوج ینی آن ذاك ه و فهم الكیفیة ال يت تنش ا وتتط ور من خالهلا اجملتمع ات وثقافاهتا‪ ،‬فموض وع البحث‬
‫األساس ي بالنس بة للتط ورینی ه و التفس ری الت ارخیي ملختل ف املراح ل اليت م رت هبا البش ریة من خالل اكتش اف‬
‫الق واننی ال يت أت احت عملیة االنتق ال من مرحل ة إىل أخ رى‪ ،‬وك ان التطوریون یعتق دون بوج ود مس ریة خطیة‬
‫واحدة تسری وفقها اجملتمعات البشریة‪ ،‬وأن كل جمتمع البد له من االنتقال من مرحلة إىل أخرى دون مواجهة‬

‫‪30‬‬
‫أشكال أخرى من التطور‪ ،‬لكن هذه النظرة مل تكن شاملة جلمیع التطورینی‪ ،‬فقد رأى البعض أن التطور یسری‬
‫بكیفیة بطیئة ومتدرجة ( فیما رأى البعض اآلخر أنه یسری بوتریة خمتلفة من جمتمع آلخر‪.).‬‬
‫وقد كان اجملتمع الغريب مبثابة املرجع األساسي يف قیاس درجة تقدم وختلف اجملتمعات‪ ،‬فاجملتمع الغريب میثل قمة‬
‫مراحل التطور‪ ،‬وباملقابل متثل اجملتمعات األخرى اليت تقبع يف درجات دنیا من التطور األصول األوىل للتطور‬
‫بالنسبة للمجتمع الغريب‪ ،‬هذا الذي سوغ عملیة ( املقارنة بالنسبة للباحثنی التطورینی‪ ،‬فكان املنهج املقارن أحد‬
‫أهم املناهج البحثیة لدیهم‪( .‬‬
‫ك ان األم ریكي " ل ویس مورغ ان" ‪ 1883-1818‬اح د أهم أقط اب ه ذا االجتاه من خالل أعمال ه ال يت‬
‫تركزت على وجه اخلصوص حول القبائل من سكان أمریكا األصلینی‪ ،‬وقد قدم مورغان إسهامات هامة حول‬
‫حیاة وثقافة هؤالء السكان الذین عاش معهم‪ ،‬خاصة يف عمله حول القرابة(أنساق القرابة واملصاهرة للعائلة‬
‫البش ریة)ع ام ‪ ، 1870‬وهلذا فق د ك انت القراب ة م دخال أساس یا لدراس ة التط ور االجتم اعي‪ ،‬فق د تغ ریت‬
‫مصطلحات القرابة مثال بصورة بطیئة‪ ،‬وأعطت إشارات لفهم املراحل املبكرة للتطور االجتماعي‪.‬‬
‫ويف كتابه اجملتمع القدمی الذي صدر عام ‪ 1877‬یقر مورغان أن اجملتمعات البشریة متر مبراحل تطوریة حیث‬
‫كل مرحلة تشكل منطا معینا وفقا ملراحل التطور الثقايف‪ ،‬فكل اجملتمعات حسب مورغان ختضع لقانون واحد‬
‫خالل عملیة االنتق ال من مرحل ة إىل أخ رى‪ ،‬وهبذا یصل مورغ ان إىل أن البش ریة تط ورت ع رب ثالث مراح ل‬
‫تطوریة هي ‪:‬‬
‫‪ -‬مرحل ‪--‬ة الهمجیة الت ‪--‬وحش ‪ :‬ویقس مها إىل ثالث مراح ل وهي مرحل ة الت وحش ال دنیا ومرحلة الت وحش‬
‫الوس طى ومرحل ة الت وحش العلیا‪ ،‬ویوض ح مورغ ان أن هن اك ارتق اء ثق ايف خالل االنتق ال ع رب ك ل مرحل ة يف‬
‫تقنیات العیش والنظم االجتماعیة‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة البربریة ‪ :‬وتنقسم بدورها إىل ثالث مراحل ‪ :‬دنیا ووسطى وعلیا‪.‬‬
‫‪ -‬مرحل‪--‬ة المدنیة الحض‪--‬ارة‪ :‬وهي ال يت تتم یز ب اخرتاع الكتاب ة واحلروف اهلجائیة وهي م ازالت مس تمرة إىل‬
‫الیوم‪.‬‬
‫كم ا یع د إدوارد ت ایلور ‪،1917-1832‬من رواد ه ذا االجتاه‪ ،‬لق د اهتم ت ایلور بالثقاف ة‪ ،‬وه و ص احب‬
‫التعریف الش هری للثقاف ة وال ذي أورده يف كتاب ه " الثقاف ة البدائیة " ع ام ‪ 1871‬وعلى ال رغم من أن ه اجنل یزي‬
‫بریطانیا معقل األنثروبولوجیا االجتماعیة ولیس الثقافیة إال أنه ساهم يف إضفاء قیمة أكرب على مفهوم الثقافة‪،‬‬
‫لقد كان تایلور یؤمن أن " املسارات الثقافیة اليت سلكتها الشعوب مل یكن هلا أن تتكرر أینما كان على وجه‬
‫واح د ع رب تل ك احلركة األحادیة‪.. .‬فق د كش فت ل ه خربت ه املیدانیة يف املكس یك عن أمهیة االحتك اك الثق ايف‬
‫وحماكاة الشعوب األخرى‪ ،‬مما جعله یعتقد بإمكانیة أن التطور قد یتم بناء على مسامهات خارجیة‪ ،‬وأنه كان‬
‫واحلالة هذه أشد تنوعا مما یضن البعض‪".‬‬

‫‪31‬‬
‫ورغم اهتمام تایلور جبوانب احلیاة االجتماعیة املختلفة إال أنه اشتهر أكثر بدراسة املعتقدات الدینیة‪ ،‬ففي البدایة‬
‫ب دأ اإلنس ان ب التفكری يف ال روح املالزم ة لإلنس ان مث ت درج يف التفك ری حیث اعتق د أن هن اك أرواح ا تس كن‬
‫الطبیعة متاما مثل الروح اليت تسكن اجلسد‪ ،‬ويف األخری توصل اإلنسان إىل فكرة اإلله الواحد كمرحلة أخریة‬
‫تعرب عن قمة تفكریه‪.‬‬
‫‪/2‬االتج‪--‬اه االنتش‪--‬اري‪ :‬يع ود أصل تس مية االجتاه االنتش اري اىل طبيع ة موض وعه ومقاص ده املعرفي ة واملنهجي ة‬
‫وااليديولوجية‪ ،‬فهو اجتاه انثروبولوجي يعىن مبتابعة النماذج والظواهر الثقافية واالجتماعية اليت ظهرت يف منطقة‬
‫جغرافية وثقافية واجتماعية ومن ابداع شعب بعينه مث انتشرت وشاعت متعدية حدود فضاء نشأهتا االصلي‬
‫وذلك نتيجة تفاعل عدد من االسباب الثقافية والسياسية واالقتصادية والدينية واالجتماعية‪.‬‬
‫یرى أصحاب هذا االجتاه أن االتصال بنی اجلماعات و الشعوب ادى اىل انتشار بعض السمات الثقافية‪ ،‬فعملية‬
‫االنتشار الثقايف تنطلق من مركز ثقايف إىل باقي املناطق كما أن االنتشار یتم أیضا من خالل انتقال السمات‬
‫الثقافیة من مجاعة سابقة إىل مجاعة الحقة‪.‬ويعتقد االنثروبولوجيون االنتشاريون أن الظواهر واملظاهر الثقافية‬
‫واالجتماعية املادية منها أو املعنوية متتاز باحليوية واحلركة فهي تولد وتنمو وتتطور وتسافر داخل اجملتمع الواح د‬
‫أو عرب عدد من اجملتمعات بدرجات ومستويات خمتلف ة‪ ،‬حيث ان انتشارها يكون وفق صور وهيئات خمتلفة‬
‫حيث انه ال يكون دائما سهال فقد توجد حواجز متنعه من ذلك‪.‬‬

‫وتعترب فكرة " املنطقة الثقافیة " اليت طورها "وسلر" أداة هامة يف دراسة الثقافة‪ ،‬و جوهرها تقسیم و تصنیف‬
‫ثقاف ات الع امل إىل جمموع ات ثقافیة بن اء على تش ابه العناصر الثقافیة ال يت تكوهنا‪ ،‬و املنطق ة الثقافیة إقلیم یض م‬
‫جمتمع ات إنس انیة متش اهبة الثقاف ة‪ ،‬و من أجل حتدید و متییز منطق ة عن أخ رى یتم تتب ع م دى انتش ار العناص ر‬
‫الثقافیة املمیزة لتلك الثقافة (طرق و أدوات الصید‪ ،‬طهي الطعام‪ ،‬العناصر املشكلة ملختلف النظم‪.)...‬‬
‫ويف أجنلرتا برز من یقول بوجود مركز للثقافة تنطلق منه إىل باقي أحناء العامل‪ ،‬و خری مثال على هذا نظرة العامل‬
‫"إلیوت مسیت" الذي رأى بأن مصر القدمیة هي مركز كل الثقافات احلالیة حیث انتشرت العناصر الثقافیة من‬
‫مصر إىل باقي أحناء العامل‪ ،‬فقد كانت نظرة مسیت هذه مؤسسة على تشابه اآلثار املختلفة يف العامل مع اآلثار‬
‫اليت اكتشفها عامل اآلثار " برتي" ( كنظم القرابة و فن التحنیط و عبادة الشمس‪... .‬إخل‪.‬‬
‫‪/3‬التیار التاریخي ‪:‬‬
‫ویتزعمه العامل األملاين فرانز بواز ‪1942-1885‬و الذي كان رائدا هلذا االجتاه يف أمریكا وبفضله مت االنتقال‬
‫من النظرة اخلطیة التطوریة للتاریخ كما كانت علیه نظریات التطورینی إىل دراسة ثقافات حمددة كثقافة العشائر‬
‫و القبائل‪ ،‬مع التأكید على ضرورة دراسة هذه الثقافات يف إطار منطقتها اإلقلیمیة الثقافیة‪ ،‬و اهلدف من ذلك‬
‫هو معرفة أصول و تواریخ الثقافات و حتدید خصائصها و لكن اهلدف األمسى یتجلى أخریا يف املقارنة بنی هذه‬
‫التواریخ واليت متیز هذه الثقافات من أجل الوصول إىل القواننی العامة اليت حتكم منوها و تطورها‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫‪/4‬التیار التناسقي التكاملي‪:‬‬
‫املنط ق الع ام هلذا االجتاه ه و ض رورة النظ ر إىل الثقاف ة كك ل متكام ل جیم ع بنی األفك ار واملش اعر من جه ة و‬
‫السلوك الظاهر من جهة ثانیة‪ ،‬و قد كان " سابری " من املمهدین هلذا االجتاه من خالل نظرته للثقافة يف صورة‬
‫تفاع ل األف راد فیم ا بینهم‪ ،‬و م ا ینتج عن ذل ك من مع ان ومش اعر مش رتكة‪ ،‬ل ذلك یع رف الثقاف ة بأهنا" ك ل‬
‫متكامل من أمناط فكر و عواطف و أمناط عمل"‬
‫و تع د العاملة األمریكیة " روت بن دكت" واح دة من أهم املمثلنی هلذا االجتاه‪ ،‬و یتجلى ذلك يف قوهلا ب أن‬
‫"الثقاف ة مث ل الف رد ل دیها منط متناس ق من الفك ر و العم ل‪ ،‬كم ا أن ه لفهم الثقاف ة الب د من األخ ذ يف االعتب ار‬
‫االجتاهات العقلیة و الشعوریة السائدة فیها و القیم و األهداف املشرتكة بنی أفراد اجملتمع الذي تتم فیه دراسة‬
‫الثقاف ة"‪ ،‬ففي دراس تها لبعض القبائ ل اهلندیة يف جن وب غ رب أمریك ا الش مالیة وج دت بن دكت اختالف ا بنی‬
‫القبائل‪ ،‬فمنها اليت تركز على املظهر اخلارجي للسلوك و هتتم بالطقوس و احرتام العادات و التقالید وأطلقت‬
‫علیه ا اس م " ثقاف ات منبس طة "‪ ،‬و منه ا اليت تتم یز بالعدائیة و تعطي لل دافع النفس ي ال داخلي أمهیة أك رب من‬
‫العوام ل اخلارجیة و أطلقت علیها اس م " ثقاف ات منطویة "‪ ،‬فالوص ول إىل فهم ثقاف ة م ا الب د أن یأخ ذ يف‬
‫االعتبار السلوك الظاهري يف صوره املتكررة و خمتلف االجتاهات العقلیة الشعوریة يف تناسقها و تكاملها‪.‬‬

‫‪ 5-‬التیار البنائي الوطیفي ‪:‬‬


‫یع د البن اء والوظیف ة من املف اهیم احملوریة يف حتلیل اجملتم ع‪ ،‬ويف االنثروبولوجیا االجتماعیة یش ری مفه وم البن اء‬
‫االجتماعي الذي طوره " رادكلیف براون" إىل تلك العناصر اليت ینسجم ویتكامل بعضها مع البعض اآلخر‬
‫بغرض احلفاظ على بقاء واستمرار هذا البناء‪.‬‬
‫لق د ارتب ط االجتاه البن ائي ال وظیفي بأمساء مالینوفس كي ورادكلیف ب راون‪ ،‬فق د ك ان ه ذا العاملان ويف س یاق‬
‫نق دمها للنزع ة التطوریة واالنتش اریة یرفض ان اللج وء للت اریخ‪ ،‬ول ذلك كرس ا جهودمها للتحلیل الزم ين اآلين‬
‫لعناصر الثقافة املختلفة يف جمتمع معنی ويف الوقت احلاضر‪ ،‬أي دون االهتمام بالسریورة التارخییة لتطور العناصر‬
‫الثقافیة مث ل الع ادات والتقالید واملؤس ات‪.. .‬ولكن ب البحث عن الوظ ائف ال يت تؤدیه ا ه ذه العناص ر داخ ل‬
‫اجلماعة املدروسة‪.‬‬
‫وا ٕذا ك ان ك ل من ب راون ومالینوفس كي وظیف ینی يف اجتاههم ا الع ام من حیث تركیزمها على دراس ة البنیات‬
‫اجملتمعیة يف زمنه ا ال راهن‪ ،‬إال أهنم ا اختلف ا يف نظرهتم ا ملفه وم الوظیف ة‪ ،‬حیث ك ان مالینوفس كي یهتم أك ثر‬
‫مبفه وم الثقاف ة وحتدید الوظ ائف ال يت تؤدیه ا‪ ،‬ويف املقاب ل اهتم ب راون أك ثر بالعالق ات االجتماعیة أو البنیة‬
‫االجتماعیة‪ ،‬ذل ك م ا یعكس ت أثره باملدرس ة الوض عیة ال يت تزعمها إمییل دورك امی‪ ،‬وال يت ت ؤمن بق درة العل وم‬
‫االجتماعیة على اكتشاف القواننی املتحكمة يف الظواهر‪ ،‬باإلضافة إىل اجتاهه الستعارة منهج البیولوجیا وتطبیقه‬
‫على اجملتمع‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫یرى ب راون أن اجملتمع ات هي كائن ات بیولوجیة‪ ،‬مبع ىن أن هن اك تش اهبا حقیقیا بنی البن اء العض وي والبن اء‬
‫االجتم اعي‪ ،‬وم ا على الب احث إال أن یدرس عناص ر البن اء االجتم اعي بغ رض الكش ف عن تف اعالت ه ذه‬
‫العناصر اليت تشكل من خالل تفاعلها نسقا قائما بذاته‪ ،‬مث یقوم بعد ذلك باستنتاج القواننی الوظیفیة جملتمع أو‬
‫جمتمعات معینة‪ ،‬واالنتقال بعدها إىل تعمیمات عن طبیعة اجملتمعات اإلنسانیة‪.‬‬
‫‪ 6-‬تیار البنیویة األنثروبولوجیة‪:‬‬
‫لعل أهم سؤال يطرح نفسه هنا هو ما معىن البنيوية؟‬
‫ان أص ل البنيوي ة ه و من البني ة وهي كلم ة تع ين الكيفي ة ال يت ش يد عليه ا بن اء م ا‪ ،‬وانطالق ا من ه ذا املفه وم‬
‫اصبحت الكلمة تعين الكيفية تنظم هبا عناصر جمموعة ما‪ ،‬أي اهنا تعين جمموعة العناصر املتماسكة فيما بينها‬
‫حبيث يتوقف كل عنصر على باقي العناصراالخرى‪ ،‬وحبيث يتحدد هذا العنصر لعالقته بتلك العناصراالخرى‪،‬‬
‫فالبني ة هي جمموع ة العالق ات الداخلي ة الثابت ة ال يت متيز جمموع ة م ا‪ ،‬حبيث تك ون هن اك اس بقية منطقي ة للكلعلى‬
‫االجزاء‪ ،‬أي ان أي عنصر من البنية ال يتخذ معناه اال بوضع الذي حيتله داخل اجلماعة‪.‬‬
‫أم ا البنیویة على الطریق ة الفرنس یة وال يت ك ان كل ود لیفي س رتوس ‪2009-1908‬رائ دا هلا فق د اختلفت عن‬
‫البنیویة الوظیفیة كما فهمت ومورست من قبل أوائل الوظیفینی وعلى رأسهم براون ومالینوفسكي‪ ،‬فقد سعى‬
‫لیفي سرتوس ومن منطلق نزعته الفلسفیة إىل حماولة معرف ة " اإلنس ان الكامل" جبمیع أبع اده‪ ،‬لذلك نراه یقر‬
‫بتنوع الثقافات وخصوصیاهتا‪ ،‬مبا یدعو ملعاینتها يف أشكاهلا اجملزأة‪ ،‬وهبذا فقد انطلق لیفي سرتوس يف دراساته‬
‫العدیدة (األنثروبولوجیا البنیویة – البىن األولیة للقرابة – العرق والتاریخ‪ -‬مدارات حزینة‪ ). .‬من االختالفات‬
‫القائمة بنی اجملتمعات‪ ،‬ه ذه االختالفات ال يت رأى أهنا ذات طابع تكاملي‪ ،‬هلذا كانت األنثروبولوجیا بالنسبة‬
‫إلیه مبثابة علم‬
‫(االختالفات املتكاملة اليت تبحث عما هو جامع يف اخلصائص املشرتكة بنی كل اجملتمعات‪( .‬‬
‫یبحث األن ثروبولوجي وفق ا لنظ رة لیفي س رتوس البنیویة عم ا یتخفى وراء العق ل‪ ،‬أي عم ا وراء العقلي‬
‫والش عوري‪ ،‬وعن ال ذي یتخفى خل ف التنظیم اجملتمعي‪ ،‬وخل ف املمارس ات واملع اش الیومي‪ ،‬فهن اك ش يء‬
‫مش رتك حس ب لیفي س رتوس جنده عن د ك ل إنس ان مهم ا ك ان أص له ومهم ا ك انت ثقافت ه‪ ،‬وه و الالوعي‬
‫اجلماعي للذهن البشري‪ ،‬إن الشيء الذي یریده لیفي سرتوس بالذات هو البحث فیما (وراء النظم والبنیات‬
‫الظاهرة‪ ،‬يف النفسیات اجلماعیة اليت حتكم اجلماعات بالذات‪( .‬‬
‫یستعری لیفي سرتوس من األلسنینی طریقة عملهم لیطبقها على اجملتمع‪ ،‬فطریقة عمل األلسنینی كما جندها عند‬
‫دوسوس ور وتروبتس كوي وجاكبس ون تق وم على اس تخراج مع ىن الكالم من ذل ك االتس اق ال ذي حیدث بنی‬
‫العناصر الصوتیة (فونیمات)‪ ،‬فرتتیب هذه األجزاء أهم للفهم من تعقب تكوینها وتطورها التارخیي‪.‬‬
‫هبذه الطریق ة یتم تط بیق " املنط ق األلس ين" على اجملتم ع يف جمال االنثروبولوجیا وخاصة على بعض النظم‬
‫األساسیة كنظام القرابة ونظام األسطورة وهي املوضوعات املفضلة لدى لیفي سرتوس‪ ،‬وباإلضافة إىل هذا جند‬
‫‪34‬‬
‫أن هناك تقاربا بنی " الفونولوجیا" علم وظائف األصوات اللغویة من جهة وبنی مصطلحات وتسمیات القرابة‬
‫من جه ة ثانیة‪ ،‬فه ذه التس میات تتش كل على مس توى الالوعي من خالل اس تخدام أزواج تض ادیة وعناص ر‬
‫تفاضلیة (أب – إبن‪ ،‬أخ – اخت‪ ،‬زوج – زوجة‪) .‬ویصل لیفي سرتوس إىل إبراز أمهیة االتصال والتبادل يف‬
‫جمال األنثروبولوجیا‪ ،‬فوجد أن هناك ثالثة مستویات من التبادل‪ ،‬یتصل املستوى األول بقواعد القرابة والزواج‬
‫ویتصل املستوى‬
‫الثاين بالقواعد االقتصادیة‪ ،‬أما املستوى الثالث فیتصل بالقواعد اللغویة‪.‬‬

‫المحاضرة الثامنة‪ :‬تقنیات البحث المیداني في ميدان االنثروبولوجيا‬


‫إذا كانت املعلومات اليت تثار حول الشعوب تعتمد على طرق غری علمیة (أي ال تعتمد على املنهج العلمي)‬
‫قبل هنایة القرن التاسع عشر نتیجة االعتماد على ما یقرره الرحالة والتجار والعسكریون‪. .‬اخل‪ ،‬فإهنا اختذت بعد‬
‫ذلك سبیال آخر من خالل الدراسة املیدانیة للجماعات والشعوب وتطبیق بعض الطرائق العلمیة‪ ،‬ولعل أحد‬
‫أهم الشروط العلمیة يف الدراسة االنثروبولوجیة هو حتمیة نزول الباحث ال املیدان واقامة مالحظاته عن ثقافة‬
‫ونظم اجملتمعات املدروسة بشكل مباشر‪ ،‬ولعل أول دراسة میدانیة يف هذا العلم حسب بعض الكتابات " هي‬
‫دراسة بعثة جامعة كمربدج ملنطقة مضایق – توریس‪ -‬يف احملیط اهلادي يف عامي ‪ 1898‬و ‪ ، 1899‬وترأس‬
‫العالم ة االجنل یزي – ه ادون‪ -‬تل ك البعث ة‪ ،‬رغم أن البعض اآلخ ر یتح دث عن تل ك الدراس ات ال يت ق ام هبا "‬
‫فرانز بواس " عن " اإلسكیمو " بنی عامي ‪ 1883‬و ‪ ، 1884‬وقد توالت الدراسات على هذا النحو فكانت‬
‫هناك دراسات ذات قیمة كبریة لعل أمهها دراسة مالینوفسكي عن قبائل الرتوبریاند " واليت دامت أربع سنوات‬
‫‪1918-1914‬‬

‫‪35‬‬
‫حیث ك انت ه ذه الدراس ة األوىل اليت اس تخدمت فیه ا لغ ة األه ايل ومت من خالهلا تقمص طریق ة عیش هم‬
‫وممارسة عاداهتم االجتماعیة‪ .‬وبعد هذا فإن أهم الطرق املستخدمة على وجه العموم يف البحث األنثروبولوجي‬
‫هي ‪:‬‬
‫‪/1‬المالحظة بالمشاركة ‪:‬‬
‫وتشری إىل مشاركة الباحث يف خمتلف النشاطات اليت میارسها أعضاء اجلماعة املدروسة‪ ،‬فیتعلم الباحث خالل‬
‫عیش ه وس ط ه ذه اجلماع ة اللغ ة ال يت یتكلم ون هبا‪ ،‬ومیارس ما میارس ون من نش اطات وع ادات‪ ،‬ویلبس نفس‬
‫اللباس الذي یلبسون‪ ،‬وحیاول أن یبدي السلوكات والتصرفات نفسها اليت یسلكوهنا يف حیاهتم الیومیة‪ ،‬وهذا‬
‫ح ىت یك ون قریب ا منهم فیس هل علیه فهم منط معیش تهم وتفك ریهم من جه ة‪ ،‬وتس هل علیه أیض ا حتص یل‬
‫املعلوم ات اخلاص ة بالدراس ة‪ ،‬خاصة إذا اس تطاع أن یش عرهم أن ه ق ریب منهم مبا یزید من ثقتهم ب ه مما یس هل‬
‫عملیة احلصول على‬
‫املعلومات‪.‬‬
‫وحسب إیف انز بریتش ارد فإن إح دى ش روط املالحظ ة باملش اركة أن یقیم الب احث بنی اجلماعة املدروس ة م دة‬
‫التق ل عن س نة‪ ،‬یتعلم خالهلا لغتهم ویش رتك يف معظم ج وانب حیاهتم‪ ،‬كم ا على الب احث أن یتخلى خالل‬
‫الدراسة عن قیمه وثقافته قدر املستطاع بغرض حتقیق قدر من املوضوعیة‪ ،‬إضافة إىل ضرورة توفر الباحث على‬
‫نوع من املقدرة على حتمل مشاق العیش وسط اجلماعات البدائیة‪.‬‬
‫‪/2‬المقابلة ‪:‬‬
‫وتشری إىل ذلك احلوار اللفظي الذي یتم بنی طرفنی مها الباحث واملبحوث‪ ،‬حیث یقوم الباحث بتوجیه جمموعة‬
‫من األسئلة للمبحوث من أجل اإلجابة علیها‪ ،‬وجند يف أدبیات منهجیة البحث يف العلوم االجتماعیة عموما أن‬
‫املقابلة قسمان ‪ :‬موجهة وغری موجهة‪ ،‬غری أن النوع األكثر استخداما يف حقل االنثروبولوجیا هو " املقابلة غری‬
‫املوجه ة"‪ .‬یتم اس تخدام املقابل ة غ رب "املوجه ة " من خالل مقابل ة الب احث لبعض أف راد اجملتم ع ال ذین هلم مسعة‬
‫طیبة والذین هلم خربة مبوضوع البحث‪ ،‬وهلم أیضا اتصال هبذا املوضوع‪ ،‬ویشرتط يف الباحث أن یعمل على‬
‫كسب ثقة املبحوثنی من أجل اإلدالء مبعلومات غری مزیفة عن الواقع املدروس ‪ -‬وتعرف هذه الطریقة أیضا‬
‫واليت یتم فیها استخدام أهل اخلربة يف معرفة الواقع املدروس بطریقة " االعتماد على اإلخبارینی" ‪ ،-‬وعلیه أال‬
‫یعم ل على توجیه اإلجاب ة حنو وجهة معین ة‪ ،‬ومیكن للب احث اس تخدام آالت التس جیل بش رط أن یك ون ق د‬
‫كسب ثقة املبحوثنی‪ ،‬أما إذا أحس أنه مل یكسب ثقتهم بعد فعلیه تسجیل املعلومات بطریقة ال تثری الشك‪.‬‬
‫أم ا عن طریق ة املقابل ة املوجه ة وال يت یتم خالهلا حتدید جمموع ة من األس ئلة يف اس تمارة حبث فإهنا ن ادرة‬
‫االستخدام يف الدراسات االنثروبولوجیة‪ ،‬وهي التتناسب مع طبیعة هذه الدراسات التصال هذه األخریة أكثر‬
‫باجملتمع ات البدائیة ال يت ال یع رف بعض ها الق راءة والكتاب ة من جه ة‪ ،‬وال يت مل تتع ود على مث ل ه ذه الط رق من‬

‫‪36‬‬
‫جه ة ثانیة‪ ،‬ل ذلك ف إن املقابل ة املوجه ة هي أك ثر اتص اال ببح وث علم االجتم اع ال ذي یع ىن بش كل خ اص‬
‫باجملتمعات املتمدینة‪.‬‬
‫‪/3‬سیرة الحیاة ‪:‬‬
‫تس تخدم س ریة احلیاة بش كل كب ری خالل الدراس ات األنثروبولوجیة‪ ،‬وس ریة احلیاة تع رب عن اجتاه الب احث‬
‫حنوشخص معنی غالبا ما تكون له خربة ودرایة مبجتمع الدراسة طالبا منه أن یروي له قصة أو سریة حیاته‪ ،‬غری‬
‫أن هذه القصة ال ختص شخص الراوي فقط ولكن هذا الراوي مدخل لفهم اجلماعة اليت ینتمي إلیها‪.‬‬
‫وباعتبار سریة احلیاة نوعا من أنواع املقابلة فإهنا ختضع لنفس شروط املقابلة من حیث ضرورة توفری الباحث‬
‫للج و املالئم للمقابل ة من خالل بن اء الثق ة بین ه وبنی املبح وث‪ ،‬والتص رف مبرون ة ح ىت یتس ىن ل ه احلص ول على‬
‫املعلومات الالزمة‪.‬‬
‫‪/4‬االختبارات النفسیة ‪:‬‬
‫ویس تخدم األن ثروبولوجیون بعض االختب ارات النفس یة خالل دراس اهتم املیدانیة من أج ل حتدید خص ائص‬
‫شخصیة أفراد اجملتمع موضوع الدراسة‪ ،‬ومن هذه االختبارات اختبار " رورشاخ"نسبة إىل خمرتعه السویسري‬
‫هریمان رورشاخ‪ ،‬وهو یتكون من عشر لوحات‪ ،‬رسم على كل لوحة صورة مكربة لنقطة حرب قذف هبا على‬
‫ورق ة فاختذت ش كال غ ری منتظم‪ ،‬ویطلب من الش خص أن یصف م ا یتص وره من أش كال عن دما ینظ ر لك ل‬
‫لوحة‪ ،‬وبناء على هذا میكن التوصل لتحدید بعض خصائص شخصیة الفرد‪ ،‬وتستخدم هذه الطریقة خاصة يف‬
‫جمال االنثروبولوجیا الثقافیة وخاصة (ل دى املهتمنی بالعالق ة بنی الثقاف ة والشخص یة)‪ ،‬وأخ ریا ف إن هن اك بعض‬
‫الطرائق األخرى اليت میكن أن یستعنی هبا الباحث االنثروبولوجي اجلماعة املدروسة‪ ،‬لتكون جنبا إىل جنب مع‬
‫املالحظة باملشاركة باعتبارها مالحظة مباشرة‪.‬‬

‫‪37‬‬

You might also like