Professional Documents
Culture Documents
المحاضرة الأولى
المحاضرة الأولى
وأفضل الصالة وأمت التسليم على سيدان حممد وعلى آله وصحابته
الطيبني الطاهرين ،أما بعد:
()1
فهذا شرح ميسر لعلم املنطق مسيته إرشاد املستنريين لفهم قواعد املنطقيني .نسأل هللا تبارك وتعاىل أن يكون يسريا
عرف العلماء علم املنطق أبنه علم تعصم مراعاته الذهن عن اخلطأ يف الفكر .وبينوا ذلك ،أن الفكر
على األفهام .وقد ّ
ه و ترتيب أمور معلومة للتوصل إىل أمر جمهول ،وذلك أن اإلنسان إذا جهل أمرا وأراد أن يعلمه فالبد من أن يعلمه
من املعلومات املخزونة عنده ،يفتّش عنها لريى عن املناسبة منها ألمر جمهول مث البد من أن يرتّبها ترتيبا معينا يتوصل
به إىل معرفة هذا األمر اجملهول ،حينئذ يقال :إن قد ف ّكر ،وذلك ألنه فتّش عن األمور املعلومة اليت تناسب أمرا جمهوال
درس يف هذا الفن ،والفكر هو نفس هذا الرتتيب؛ لذمل قلنا :الفكر ترتيب أمور معلومة يكون عند مث رتبها ترتيبا يُ َ
الشخص معلوما سابقا للتوصل برتتيبها إىل معرفة األمر اجملهول.
ختيارها
اختيار املناسبة املعلومة لألمر اجملهول الذي يريد أن يعلمه ،وإذا أحسن ا َ
والشك أنه ال حيسن كثري من الناس َ
وضع قواعد تساعد على اختيار املعلومة املناسبة
فإنه كثريا ما يقع اخلطأ يف ترتيب هذه األمور ،فال حيسن ترتيبَها فوجب ُ
للمجهول وعلى معرفة الرتيتب السليم ومعرفة األخطاء اليت تعرتي هذا الرتتيب فوضعوا هذه القواعد اليت تُعلم هبا األمور
الثالثة ومسَوها بعلم املنطق ،فلذلك قالوا :علم املنطق هو علم أي قواعد تعصم مراعاهتا الذهن أي ذهن الشخص الذي
اكتسب هذه القواعد عن اخلطأ يف الفكر أي عن اخلطأ يف الواقع يف اختيار املعلومات املناسبة لألمر اجملهول الذي
علم تعصم مراعاهتا الذهن عن اخلطأ
يطلبه وعن اخلطأ يف ترتيب املعلومات اليت تناسب هذا األمر ،فلذلك عرفوه أبنه ٌ
يف هذا الرتتيب وعن اخلطأ يف املعلومات املناسبة لألمر اجملهول.
الشخص هذه القواعد ويعلمها علم جيدا إال أنه ال يستعملها فحينما يف ّكر ال يستعمل هذهُ حيصل
مث إنه قد ّ
القواعد اليت درسها يف علم املنطق .فحينئذ يترتق إليه اخلطأ يف الفكر ،فلذلك قالوا :هو علم تعصم مراعاته ،ومل يقولوا
هو علم يعصم عن اخلطأ يف الفكر بل بشرط املراعاة .هذا معىن قوهلم :املنطق علم علم تعصم مراعاته الذهن عن اخلطأ
يف الفكر.
()2
والذين وضعوا املنطق هم قوم من يوانن منهم :احلاكم أفالطون ،ومنهم احلاكم إراسطوا –بكسر اهلمزة وفتح الراء
وفتح السني وضم الطاء من غري واو -وهو تلميذ احلاكم أفالطون ،ومنهم ُسقراط ،وخلف كثري .ومل يكن تدوين علم
أول من أبدأ ذلك وأحدثه
وال تدوين علم املنطق معهودا بينهم حىت ال يستدق طالب مبا ُكتب عن شيوخه ومعلمه .و ُ
هو احلاكم إراسطوا ويلقبوا ابملعلم األول .مث إهنم بعد انقراب اجليل اندرست هذه العلوم ومل يشتغل هبا أحد حىت أخرجها
بعض الناس يف العصر العباسي وترمجوها ومن املسملني من عكفوا هذه العلوم وخدمها وشرحها كاحلاكم الفاريب ،فله
شرح منطق أهل يوانن
يد طوىل يف نضر العلوم فالسفة يوانن ،ومنهم احلاكم الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا فقد ّ
وفلسفتهم وبينها تبيينا .إىل أن املنطق الذي وضعوا هؤالء قبل اإلسالم وبعده كان خملوطا ببعض عقائدهم ،وفيه ابعض
املخالفات ملبادئ شريعة اإلسالمية كالقول بـ قدم العا َمل والقول بـ التعليق وأن هللا سبحانه وتعاىل عقل إىل آخره ما هنالك
من األمور اليت ال توافق مبادئ اإلسالم.
فجاء اإلمام حجة اإلسالم أبو حامد غزايل رمحه هللا تعاىل وأخذها هذا املنطق ون ّقحه وه ّذبه وأزال منه اعتقادات
خلف كثري منهم اإلمام
دخيل من عقائد الفالسفة .مث تبعه بعد ذلك ٌ
ابلفالسفة فصار منطقا صافيا خالصا ليس فيه ٌ
الفخر الرازي واإلمام سيف الدين اآلمدي رمحهم هللا تعاىل كـ القاضي البيضاوي واإلمام سعد الدين التفتازاين والسيد
الشريف اجلرجاين وغريهم كثريون .مث إهنم أدخلوا هذا املنطق يف كل العلوم؛ يف علم الكالم ويف علوم اللغة ويف أصول
أي علم من هذه العلوم.
الفقه فصار هذا العلم مطلواب لفهم ّ
ظهرت من التعريف ،وذلك أنه يعصم الذهن عن اخلطأ يف الفكر. ْ والفائدة من هذا العلم والثمرة احلاصلة منه
فالثمرة هذا العلم هي عصمة الذهن عن اخلطأ يف اختيار معلومة مناسبة اجملهول ويف ترتيبها .ومن فوائده ومثراته فهم
الكتاب والسنة فهما صحيحا ،وكذلك إثبات ما فيهما من العقائد ومهامجة اخلصوم .ومن فوائده أيضا كما ظهر من
الكالم السابق ،أنه بفهمه تسخر مجيع العلوم اللغوية والشرعية .وهذا العلم مسي أبمساء كثرية ،فسماه احلكيم أبو النصر
ئيس العلوم ،ومساه اإلمام أبو حامد الغزايل معيار العلم ،ويسمى
خادم العلوم ،ومساه الشيخ الرئيس ابن سينا ر َ
الفاريب َ
صحيحها من فاسدها.
ُ يعلم
أيضا بعلم امليزان لما أنه توز ُن به األفكار ل َ
هذا وصلى هللا على سيدان حممد وعلى آله وصحبه وسلَم.
()3
بسم هللا الرمحن الرحيم .احلمد هلل رب العاملني .وأفضل الصالة وأمت التسليم على سيدان حممد وعلى آله وصحابته
الطيبني الطاهرين ،أما بعد:
عرفنا مما سبق من املقدمة أن املنطق علم يُتوصل به إىل معرفة األمور اجملهولة من األمور املعلومة عند الشخص،
فوجب أن تكون أمور اليت نتوصل هبا إىل اجملهول متصفةً ابلعلم وأن يكون الشخص قد علمها ،لذلك مسينها ابملعلومات.
فنحتاج ملعرفة العلم ،ذكر املناطقة أن العلم هو اإلدراك .ومعىن اإلدراك حصول صورة الشيء يف الذهن .وذلك أنه إذا
وحصلت منه صورة مطابقةٌ له يف ذهنه فحينئذ يقال :إنه أدرك زيدا ،فمعىن إدراك زيد أنه قد
ْ رأى الشخص زيدا مثال،
حصلت مه صورةٌ مطابقة له يف ذهنه .ويشبهون ذلك بصور له يف املرآت ،فإنه حيصل يف ذهن إنسان صور األمور
املوجودة يف اخلارج ،كما حتصل صور األشياء يف املرآت إال أن املرآت ال حتصل فيها إال صور احملسوسات فقط ،خبالف
غري احملسوسات كـ معىن العلم ومعىن احللم ومعىن
اإلنسان .فإنه يُدرك األمور احملسوسة كـ زيد زيدرك األمور واملعاين َ
ال َكرم ومعىن الشجاعة ،فهذه كلها معاين ليست موجودة وال حمسوسة وال ميكن تصويرها يف املرآت.
مث إنه إذا أدرك الشيءَ يف نفسه أي أدرك حقيقة الشيء كـ إدراك حقيقة زيد مثال ،ومل حيكم عليه حبكم فإننا نقول
حينئذ ،إن هذا اإلدراك يسمى تصورا .فالتصور هو إدراك الشيء من غري حكم عليه ،كـ إدراك معىن زيد وكـ إدراك معىن
وتنطبع يف نفسه من غري أن حيكم عليه حبكم ،فهذا هو
ُ اإلنسان إىل آخر ما هنالك من األمور اليت يدركها اإلنسان
القسم األول للعلم وهو املسمى ابلتصور .وإذا أدرك شيئا وحكم عليه حبكم كـ أن أدرك زيدا وأدرك أنه قائم ،فقال" :زيد
قائم" فحينئذيكون قد أدرك أمور معها حكم فيسمى هذا اإلدراك ابلتصديق.
فانقسم العلم إىل تصور وتصديق ،إلنه إن أدرك شيئا من غري حكم عليه فاتصور ،وإن أدركه وحكم عليه فيكون
تصديقا .فيضرب يف ذلك أن التصديق حيتاج إىل تصور أمر وتصور حكم عليه يف تصور زيد وتصور قائم مث ينسب
األمر الثاين لألول فينسب القيام لزيد فهو قد تصور زيدا تصور من غري حكم وهو أن حتصل صورة الشخص يف ذهنه،
َ
لكن هل هو قائم؟ أو قاعد؟ أو ان ئم؟ ما حاله؟ مل يتطرف تصوره هلذا األمر ولكنه تصور زيدا من حيث هو .وتصور
مفهوم القائم ،هل هذا قائم هو زيد أو عمرو أو بكر ،هو تصوره مطلقا .مث إنه ينسب صورة الثانية لألوىل فينسب
القيام الذي علمه وأدركه خلصوص زيد ،فحينما ينسب صورة الثانية لألوىل تكون قد حصلت صورة زيد يف ذهنه وهو
منتسب القدمني ويقف عليهما ،فهذه صورة مركبة من زيد والقيام.
مث بعد ذلك ،هل حصلت هذه الصورة يف اخلارج أم مل حتصل؟ أي هل وقعت وحتققت ابلفعل أم مل تتحقق؟ إذ
قد يتصور زيدا ويتصور معىن القيام وننسب القيام إىل زيد ،ألن تصور زيدا وهو منتسب القدمني ،ومع لك ال يدرك
أهنا وقعت أو مل تقع ،ونكون شاك يف ذلك .فيكون إدراك وقوع هذه الصورة وإدراك حتققها أو إدراك عدم حتققها أمرا
رابعا ،بعد األمور الثالثة اليت ذكرانها .فإن أدرك أن هذه النسبة وقعت تسمى ذلك تصديقا ابإلجياب ،فيكون التصديق
ابإلجياب إدر َاك وقوع ن سبة شيء .وإن أدرك أن هذه النسبة مل تقع ومل تتحقق أي زيد مل تنسب قدمه ،والصورة الثانية
اليت نُسبت إليه وهي صورة القيام مل تتحقق فيه ومل حتصل ،فحينئذ نقول؛ إنه تصديق ابلسليب.
فانقسم العلم حينئذ عند املناطقة إىل تصور وهو إدراك للشيء من غري حكم عليه ،وإىل تصديق وهو إدراك أن
النسبة واقعة أو ليست بواقعة .وانقسم التصديق إىل تصديق ابإلجياب وتصديق ابلسلب.
هذا وصلى هللا على سيدان حممد وعلى آله وصحبه وسلَم.