Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 18

‫جمةل دراسات انسانية واجامتعية ‪ /‬ج وهران‪ /02‬ع‪ /9 :‬جانفي‪2019‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫السؤال السياسي في الفكر اليوناني بين المثال والواقع‬


‫‪The Greek political question between model and reality‬‬
‫*‬
‫د‪ /‬بن علي محمد‬
‫املركز الجامعي احمد زبانة ‪-‬غليزان‪-‬الجزائر‬
‫تاريخ الارسال‪ 2018/02/05 :‬تاريخ القبول‪ 2018/05/07 :‬تاريخ النشر‪2019/01/16 :‬‬

‫ملخص‪:‬‬
‫تهدف هذه الدراسة ملناقشة الشأن السياس ي في الفكر اليوناني‪ ،‬على اعتبار أن هذا األخير يعتبر االمتداد الحقيقي للفكر الغربي‬
‫بعد ذلك‪ ،‬فمعظم القيم السياسية الحديثة‪ ،‬كالعدالة والحرية والحكومة الدستورية واحترام القانون‪ ،‬نجد جذورها األولى في تلك‬
‫الحقبة من تاريخ األفكار السياسية‪.‬‬
‫في مقابل ذلك يكتشف الباحث في تمفصالت هذا الفكر‪ ،‬انه لم يكن كله في اتجاه ايجابي‪ ،‬بل هناك ممارسات ال إنسانية‪ ،‬تلقي‬
‫بظاللها على هذا الجانب املنير‪ ،‬وذلك هو وجه االنفصام في املجتمع اليوناني القديم ‪.‬‬
‫الكلمات املفتاحية‪ :‬السياسة; الفكر; الفكر اليوناني; االستبداد; االستعباد‬
‫‪Abstract:‬‬
‫‪The purpose of this study, is to discuss the political question in Greek thought; and to reveal its internal‬‬
‫‪contradictions between discourse and reality. Greek political thought is, in one way or another, the true extension‬‬
‫‪of Western thought. Most modern political values such as justice, freedom, constitutional rule, and respect for the‬‬
‫‪law are rooted in this era. From the history of political ideas.‬‬
‫‪Thus, while it is easy for the reader of the political literature of Greek thought to find high values, he is undoubtedly‬‬
‫‪shocked by inhuman practices in everyday reality. This reflects a state of schism in Greek thought between‬‬
‫‪example and reality.‬‬
‫‪key words: Politics; thought; Greek thought; tyranny; Enslavement‬‬

‫‪ -1‬مقدمة‪:‬‬
‫تبدوا أهمية الفكر السياس ي اليوناني في قدرته على تجاوز ما وصلت إليه البشرية قبله‪ ،‬ووضعه في‬
‫شق فلسفي خاص‪" ،‬فمعظم املثل السياسية الحديثة‪ ،‬كالعدالة والحرية والحكومة الدستورية‬
‫واحترام القانون‪ ،‬قد بدأت أو على األقل بدأ تحديد مدلولها بتأمل فالسفة اإلغريق لنظم دولة‬
‫املدينة‪ ،‬التي كانت تحت أنظارهم"‪ ،1‬لكن هذه الفكرة التي أوردها جورج سباين في مؤلفه حول تطور‬

‫*الباحث املرسل‪/mohamedbenali912@gmail.com :‬خمرب الابعاد القميية للتحوالت الفكرية والس ياس ية ابجلزائر‬
‫‪ - 1‬س باين‪ ،‬جورج‪ ،‬تطور الفكر الس يايس‪ ،‬ج‪ ،1‬تر‪ ،‬حسن جالل العرويس‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪39‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫‪555‬‬
‫اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‪ISSN: 2253 – 0592‬‬
‫الفكر السياس ي في فصل دولة املدينة‪ ،‬ال ينبغي النظر إليها من زاوية أنها تمثل حالة من االزدهار‬
‫والرفاهية‪ ،‬فاملدينة اليونانية عرفت شتى أنواع الطغيان والظلم واالستبداد‪ ،‬وأصبحت مدينة غير‬
‫مرغوب فيها‪ "،‬فاألنظمة األرستقراطية واألولغارشية والتيموقراطية‪ ،‬جعلت من القانون وسيلة للقهر‬
‫والسيطرة‪ ،‬وبالتالي غابت العدالة تحت معول القانون الجائر‪ .‬لقد أصبح الجور والظلم ضمن دائرة‬
‫القانون‪ ،‬أي أن القانون أصبح حامي الطغاة واملحافظ على مصالحهم الخاصة"‪ ،1‬الواقع الذي‬
‫أصبحت معه السلطة قوة صرفه‪ ،‬تخضع في ممارستها ملصلحة أولئك الذين نجحوا في االستيالء عليها‪.‬‬
‫انطالقا من هذه املقدمة نتساءل‪ ،‬كيف نفسر حالة االنفصام التي يكشف عنها الفكر السياس ي‬
‫اليوناني‪ ،‬بين مثال متشبع باملثل السياسية‪ ،‬وبين و اقع شهد مختلف التجاوزات في حق اإلنسان؟‬
‫‪2-‬مفاهيم البحث‪:‬‬
‫أ‪-‬مفهوم السياسة‪:‬‬
‫ليس باألمر الهين تعريف السياسة فهي وبالرغم من أنها مفهوم شائع االستعمال بين العامة‬
‫والخاصة‪-‬خاصة وأنها مثل" كيس سفر يحتوي على ما تنوع من األشياء ‪ ...‬الصراع والحيلة والقوة ‪...‬‬
‫والتفاوض والعنف‪ ،‬واإلرهاب والتخريب والحرب والقانون"‪ ،2‬لكن ورغم هذه الريبة التي يثيرها‬
‫املفهوم‪ ،‬فإننا سوف نعتمد في تحديده على الرجوع إلى األصل العربي ثم االشتقاقي للكلمة‪:‬‬
‫‪*-‬مفهوم السياسة في األصل العربي‪:‬‬
‫يكاد مفهوم السياسة عند العرب يكون مقابل التدبير والقيام على األمر‪ ،‬ومنه "ساس األمر سياسة‬
‫وسوس الرجل أمور الناس‪ ،‬إذا ملك أمرهم‪ ،‬وفي الحديث"‬ ‫وسوسه القوم‪ :‬جعلوه يسوسهم ّ‬ ‫قام به‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫ْ َ َ َ َ َ ُ ُ ُ ُ ْ َ ُ ُ َ َ َ َ ٌّ َ َ َ‬
‫ام ن ِب ٌّي‪ ،" 3‬أي تتولى أمرهم كما يفعل األمراء‬ ‫إن َب ِني إسر ا ِئيل كان يسوسهم األن ِبياء كلما مات ن ِبي ق‬
‫والوالة بالرعية"‪. 4‬‬
‫من حيث االشتقاق اللغوي‪ ،‬لفظه سياسة مشتقة من الفعل الثالثي "ساس"‪ ،‬ومنها السائس أي‬
‫املروض‪ ،‬وهذا ما عبر عنه ابن منظور بقوله‪ :‬السياسة فعل السائس‪ ،‬يقال‪ :‬هو يسوس الدواب‪ ،‬إذا‬
‫قام عليها وراضها‪ ،‬والوالي يسوس رعيته"‪ .5‬هذا التعريف قريب من ذلك الذي يعطيه جميل صليبا‬
‫للمفهوم‪ ،‬قائال‪" :‬يطلق لفظ سياسة على سياسة الرجل نفسه‪ ،‬أو على سياسة دخله وخرجه‪ ،‬أو على‬

‫‪- 1‬بوعرفة‪ ،‬عبد القادر‪ ،‬وآخرون‪ ،‬العداةل واالنسان‪ ،‬منشورات خمرب ا ألبعاد القميية يف اجلزائر‪ ،‬دار آل الرضوان‪ ،‬ط‪ ،2008 ،1‬ص ‪20‬‬
‫‪ - 2‬فروند‪ ،‬جوليان‪ ،‬ما يه الس ياسة؟‪ ،‬تر‪ ،‬حيي أآديب‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة واالرشاد القويم‪ ،‬دمشق‪ ،1981 ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ - 3‬أآخرجه البخاري‪ ،‬ابب ما ذكر عن بين ارسائيل‪ ،‬رمق‪3268‬‬
‫‪ - 4‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مج‪ ،06‬دار احياء الرتاث‪ ،‬مؤسسة التارخي العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1997 ،2‬ص ‪.429‬‬
‫‪ - 5‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪430‬‬
‫‪556‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ /ISSN: 2253 – 0592‬اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‬
‫جمةل دراسات انسانية واجامتعية ‪ /‬ج وهران‪ /02‬ع‪ /9 :‬جانفي‪2019‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫سياسة أهله وولده وخدمه‪ ،‬أو على سياسة الوالي رعيته‪ ،‬وقد يطلق على كل عمل مبني على تخطيط‬
‫مسبق"‪ ،1‬ومن ذلك قول الحطيئة‪:‬‬
‫لقد سوست أمر بنيك حتى ‪‬تركتهم أدق من الطحين‪2‬‬

‫*مفهوم السياسة في الو افد الغربي‪:‬‬


‫تقابل كلمة سياسة بالعربية لفظة –بوليتيكوس‪ )Πολιτικός -POLITIKOS(-‬اليونانية‪"،‬وهي‬
‫متعلقة ب )‪ ،)POLIS‬بمعنى مدينة‪ .‬حيث استخدم لفظ "‪ "political‬عند اإلغريق لتعيين ما ينتمي‬
‫للمدينة في إطار املجتمع الناش ئ‪ ،‬الذي أصبح كل شيئ فيه مرتبط باملدينة‪ .‬و( ‪ )politikê‬هي املفردة‬
‫التي يشير بها أرسطو للسياسة‪ ،‬وهي اختصار ل ‪ pistêmê politikê‬أو العلوم السياسية‪ ،‬التي تعد‬
‫فرعا من الفروع الثالثة األساسية للعلوم‪( ،‬العلوم التأملية‪،‬العلم اإلنتاجي‪ ،‬العلوم العملية)‪ ،‬والتي‬
‫يميزها أرسطو بواسطة غاي اتها وأهدافها‪ ،‬والسياسة علم عملي يهتم باألفعال النبيلة أو بسعادة‬ ‫ّ‬
‫املواطنين"‪ .3‬وما دامت كذلك‪ ،‬فإنه ليس من املستغرب أن يجعلها أرسطو مهيمنة على بقية العلوم‬
‫األخرى‪ ،‬ألن "الخير يتبع العلم األعلى بل العلم األساس ي أكثر من جميع العلوم‪ .‬وهذا هو على التحقيق‬
‫علم السياسة"‪ .4‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل تمتد هيمنة علم السياسة لتجعل من بقية العلوم تابعة له‪"،‬‬
‫نظرا إلى أنه هو الذي يستخدم جميع العلوم العملية األخرى‪...‬إن غرضه يشمل األغراض ّ‬
‫املتنوعة‬
‫األخرى لجميع العلوم األخرى‪ .‬وبالنتيجة يكون غرض السياسة هو الخير الحقيقي"‪.5‬‬
‫أما في الفكر ا ملسيحي فسوف نجد أنفسنا أمام نوع أخر من التفكير‪ ،‬تفكير يعبر عن حالة نكوص‬
‫أفرزتها األحداث املأساوية‪ ،‬املتمثلة في تدمير روما على يد البرابرة‪ ،‬مع األخذ في الحسبان ما تمثله روما‬
‫في الوجدان املسيحي‪ .‬هذا الوجدان الصوفي سوف يمتزج لدى أوغسطين بالطرح السياس ي‪ ،‬ليؤسس‬
‫لفلسفة سياسية قائمة على الحدس اإليماني والعمل السياس ي‪ ،‬إنها فلسفة تؤسس للتناغم والعدالة‪،‬‬
‫وتربط السياسة بالسلم دون اللجوء إلى القوة والحرب‪ ...‬ومن ثمة خضوع اإلنسان للسلطة الدنيوية‪،‬‬
‫يعتبر امتدادا لخضوعه لربه‪ ،‬يقول القديس بولس في رسالته ألهل رومية‪" :‬لتخضع كل نفس‬

‫‪ - 1‬صليبا‪ ،‬مجيل‪ ،‬املعجم الفلسفي ج‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،1982 ،‬ص ‪.670‬‬
‫‪ - 2‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مج‪ ،7‬دار ومكتبة الهالل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪301‬‬
‫‪ 3‬ميلر‪ ،‬فْريدْ ‪ ،‬نظرية أآرسطو الس ياس ية‪ ،‬تر‪ ،‬لينا احلضيف ومحمد الرشودي‪ ،‬موسوعة س تانفورد للفلسفة‪ .‬نقال عن‪:‬‬
‫‪/ http://hekmah.org‬نظرية‪ -‬أآرسطو‪-‬الس ياس ية‪-‬موسوعة‪-‬س تانفورد‪ftn2_#/‬‬
‫‪ - 4‬أآرسطو‪ ،‬طاليس‪ ،‬عمل ا ألخالق اىل نيقوماخوس‪ ،‬ج‪ ،1‬نقهل عن اليواننية‪ ،‬ابرتيل سانهتلري‪ ،‬نقهل اىل العربية‪ ،‬لطفي الس يد‪ ،‬مطبعة دار‬
‫الكتب املرصية ابلقاهرة‪ ،1924 ،‬ص‪171‬‬
‫‪ -5‬املصدر نفسه‪172‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫‪557‬‬
‫اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‪ISSN: 2253 – 0592‬‬
‫للسالطين‪ ،‬ألنه ليس سلطان إال من هللا والسالطين‪ ،‬الكائنة هي مرتبة من هللا‪ ،‬حتى أنه من يقاوم‬
‫السلطان يقاوم هللا‪...‬افعل الصالح يكن لك مدح منه‪ ،‬ألنه خادم هللا‪...‬ولكن إذا فعلت الشر فخف‬
‫ألنه ال يحمل السيف عبثا إذ هو خادم هللا منتقم‪ ،‬من الذي يفعل الشر‪ ،‬لذلك يجب أن يخضع له‪،‬‬
‫ليس سبب الغضب فقط بل أيضا سبب الضمير‪ ،‬فإنكم بهذا توفون الجزية أيضا إذ هم خدام هللا"‪1‬‬

‫مع بروز مالمح العصر الحديث‪ ،‬يصادفنا تفكير على النقيض تماما من األفكار السياسية السابقة‪،‬‬
‫فمفهوم الدولة لم يعد يعبر عن ضرورة طبيعية‪ ،‬كما كان مع أرسطو‪ ،‬والسلطة لم تعد تفويضا إلهيا‬
‫كما كانت مع الفكر السياس ي املسيحي‪ .‬لقد أصبحنا أمام واقعية سياسية‪ ،‬تقول‪":‬إن البشر في تنافس‬
‫دائم نحو األمجاد والكرامات‪...‬وبالتالي تظهر الرغبة والكره على هذه القاعدة بين البشر‪...‬على أن‬
‫اإلنسان الذي يستمتع في مقارنة نفسه باآلخرين‪ ،‬ال يستحسن سوى ما ّ‬
‫يفرقه عنهم"‪. 2‬‬
‫أما الوسيلة الوحيدة القادرة على كبح جماح الرغبة وحب السيطرة والتعدي‪ ،‬فهي السلطة املشتركة‪،‬‬
‫القائمة على مبدأ االتفاق بين األفراد‪ ،‬لتفويض السلطة لشخص أو مجموعة أشخاص‪ ،‬لتأمين‬
‫انضباطهم وتوجههم نحو الخير العام"‪ .3‬وبموجب هذه اآللية(االتفاق‪-‬التخلي) تنشأ الدولة التي هي‬
‫عبارة عن شخص اصطناعي يمتلك سلطة التصرف باسم الجميع‪" ،‬نتيجة االتفاقات املتبادلة‬
‫املعقودة بين كل عضو من املجموعة الكبرى‪ ،‬بغية تمكين هذا الشخص من ممارسة القوة والوسائل‬
‫املمنوحة من الجميع‪ ،‬والتي يعتبرها متالئمة مع سلمهم ومع دفاعهم املشترك"‪.4‬‬
‫ان اإلنسان موجود مدرك‪ ،‬ومع ذلك فهو كائن محدود اإلدراك‪ ،‬فهو عرضة للجهل والخطأ‪ ،‬فما ان‬
‫تدب األنانية وحب السيطرة على ما في يد الغير‪ ،‬ومن هنا تنشأ‬ ‫يحقق اجتماعه بغيره ويستأنس‪ ،‬حتى ّ‬
‫الصراعات بين األفراد‪" ،‬ولذلك شرعت القوانين السياسية واملدنية لترده إلى واجباته"‪.5‬‬
‫‪-3‬املالمح العامة الفكرالسياس ي اليوناني‪:‬‬
‫الفكر السياس ي اليوناني‪ ،‬فكر وثيق الصلة بالحياة العملية‪ ،‬واألمر الذي ساعدهم رسم معالم املدينة‬
‫السياسية‪ ،‬يكمن في أن"اليونان لم تعرف منذ القديم األنظمة الشمولية كممارسة وإنما عرفت‬
‫األنظمة التعددية"‪ ،6‬فكل مدينة كانت وحدة سياسية‪ ،‬تحاول في نفس الوقت أن تكون أفضل من‬

‫‪ - 1‬رساةل بولس الرسول اىل أآهل رومية‪ ،‬احصاح ‪.13‬‬


‫‪ - 2‬هوبز‪ ،‬توماس‪ ،‬الليفيااتن‪ ،‬ا ألصول الطبيعية والس ياس ية لسلطة ادلوةل‪ ،‬تر‪ ،‬دنيا حرب وبرشى صعب‪ ،‬هيئة أآبو ظيب للثقافة‬
‫والرتاث(لكمة) ودار الفارايب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2011 ،1‬ص‪178‬‬
‫‪ - 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪179‬‬
‫‪ - 4‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪180‬‬
‫‪ 5‬لتفاصيل أآكرث انظر‪ :‬مونتيسكيو‪ ،‬روح الرشائع‪ ،‬ج‪ ،1‬تر‪ ،‬عادل زعيرت‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1953 ،‬ص‪14‬‬
‫‪ - 6‬بوعرفة‪ ،‬عبد القادر‪ ،‬مقدمات يف الس ياسة املدنية‪ ،‬رايض العلوم للنرش والتوزيع‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص ‪80‬‬
‫‪558‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ /ISSN: 2253 – 0592‬اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‬
‫جمةل دراسات انسانية واجامتعية ‪ /‬ج وهران‪ /02‬ع‪ /9 :‬جانفي‪2019‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫عما يشعره باألمن‬‫مثيالتها في باقي املدن‪ ،‬ولهذا اتجه البحث إلى كيفية االهتمام بالفرد والبحث ّ‬
‫والراحة واالستقرار‪ ،‬فخير الفرد وخير املجتمع هما من ناحية املثل األعلى ش يء واحد‪ ،‬والفضيلة التي‬
‫يتحلى بها الفرد هي أيضا فضيلة املجتمع‪ ،‬ولهذا فال " غرابة أن نجد رؤية أرسطو تميل إلى التوحيد بين‬
‫علم السياسة والفلسفة األخالقية‪ ،‬ووحدة بين هذين العلمين وعلم الفقه القانوني‪ ،‬ألن الشريعة‬
‫األخالقية للدولة هي نفسها القانون أو الصواب"‪.1‬‬
‫باإلضافة إلى ما ذكرنا‪ ،‬ال ينكر أحد أن الوعي السياس ي لدى املواطن اليوناني‪ ،‬كان أكثر من غيره‪،‬‬
‫فاالشتراك في السياسة لم يكن" امتيازا أو حقا فقط‪ ،‬ولكنه فرض واجب على املواطن‪ .‬ويبدو‪-‬كما‬
‫يقول‪ ،‬لينتون‪-‬أن املواطن اإلغريقي كان يمض ي معظم وقته ونشاطه في النقاش السياس ي‪ ،‬وفي تدبير‬
‫املؤامرات التي ال يمكن فصلها عن السياسة"‪.2‬‬

‫أ‪ -‬الو اقعية السياسية عند السفسطائيين‪:‬‬


‫ال شك في أن السفسطائية كحركة فكرية‪ ،‬غيرت مجرى النظرة التي ألفناها في تناولنا للفلسفة‬
‫الشرقية القديمة‪ ،‬حيث كانت املشكلة الرئيسية تكمن في مركزية السماء وتابعية األرض‪ ،‬فالسماء‬
‫وفق النظرة التيولوجية‪ ،‬هي من يتحكم في كل دواليب الكون‪ ،‬ومن خالله الشأن السياس ي‬
‫واالقتصادي واالجتماعي على األرض‪ ،‬لكن مع السفسطائيين ظهر اإلنسان للوجود‪ ،‬كذات لها موقعها‬
‫في الطبيعة‪.‬‬
‫لقد أصبح اإلنسان مركز األشياء‪ ،‬وهو مقياس كل ش يء ‪ ،‬واملسؤول املباشر عن وضعه‪ ،‬فال شأن‬
‫‪3‬‬

‫لآللهة أو ألية سلطة أخرى في سعي اإلنسان إلى تحقيق ما يراه مناسب‪ ،‬من هنا أصبحت"السياسة‪ -‬في‬
‫رأي تراسيماخوس‪ -‬ميدان املصالح اإلنسانية‪ ،‬ومصالح األقوى هي قاعدة السياسة العملية‪...‬ففي كل‬
‫دولة يضع القوانين أولئك الذين يقبضون على مقاليد الحكم‪ ،‬وبتوطيد هذه القوانين تسميها‬
‫السلطات عادلة ملن يخضع لها‪ ،‬تعاقب الخارجين باعتبارهم يخرقون العدالة‪ ،‬والخاضعون يطيعون‬

‫‪ - 1‬ابركر‪ ،‬أآرنست‪ ،‬النظرية الس ياس ية عند اليوانن‪ ،‬تر‪ ،‬لويس اسكندر‪ ،‬مؤسسة جسل العرب‪ ،‬القاهرة‪ ،1966 ،‬ص ‪20‬‬
‫‪ - 2‬لينتون‪ ،‬رالف‪ ،‬جشرة احلضارة‪ ،‬ج‪ ،2‬تر‪ ،‬خفري‪ ،‬امحد‪،‬املركز القويم للرتمجة‪ ،‬القاهرة‪ ،2010 ،‬ص‪291‬‬
‫* جيب أآن يأأخذ مفهوم املواطن وفق اترخي املصطلح آنذاك‪ ،‬فصفة املواطنة عند االغريق‪ ،‬اكنت خاضعة لتقس مي تقليدي عرفت به تركيبة اجملمتع‬
‫اليوانين‪ ،‬حيث ظهرت الرتكيبة الاجامتعية يف شلك طبقات تامتيز العتبارات س ياس ية ابدلرجة ا ألوىل‪ ،‬وهذه الطبقات يه‪ :‬طبقة املواطنني "‬
‫ا ألحرار"‪ ،‬طبقة ا ألجانب‪ ،‬طبقة العبيد‪.‬‬
‫‪ - 3‬فيصل‪ ،‬عباس‪ ،‬الفلسفة واالنسان‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1996 ،1‬ص ص ‪71 ،70‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫‪559‬‬
‫اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‪ISSN: 2253 – 0592‬‬
‫القوانين ملصلحة الحاكم‪ ،‬وبالنسبة للحاكم فإن انتزاع السلطة واالحتفاظ بالخاضعين دائما في وضع‬
‫مأزوم أفضل ملصلحته‪ ،‬بينما إظهار الشفقة وإفساح املجال للعطف ش يء خطير"‪.1‬‬
‫أما "كاليكليس"(أحد محاوري أفالطون)‪ ،‬فالعدالة بالنسبة إليه ليست شيئا آخر غير العنف‪ ،‬ذلك‬
‫أن الحق الطبيعي يدرك باعتباره حق األقوى‪ .‬إن فكرة العدالة بالنسبة ل"كاليكليس" ش يء اختلقه‬
‫الضعفاء وأغلبية الناس ليحموا أنفسهم‪ ،‬فهم ينشؤون القانون ويحددون النافع والضار‪ ،‬انطالقا من‬
‫أنفسهم‪ ،‬بهدف الدفاع عن مصالحهم الخاصة وتخويف األشخاص األكثر قوة في املجتمع‪ ،‬واألكثر‬
‫قدرة على هزمهم‪ ،‬وحتى يمنعوهم من االنتصار عليهم‪ ،‬يرددون أن التفوق سلوك قبيح وغير عادل‪،‬‬
‫"ولكن الطبيعة نفسها تثبت لنا‪ ...‬أن من هو أكثر قيمة يجب ان يتفوق على من هو اقل قيمة‪،‬‬
‫والقادر على العاجر‪ ...‬وان العدل يتمثل في سيادة القوي على الضعيف"‪ ،2‬وانطالقا من هذا القانون‬
‫هاجم "كاليكليس" القانون واملؤسسات الديمقراطية‪ ،‬القائمة على مبدأ املساواة‪.‬‬
‫إن مشكلة الحق كما تصدى لها السفسطائيون‪ ،‬في إطار معالجتهم ملشكل العالقات القائمة بين‬
‫الطبيعة والقانون‪ ،‬أفضت إلى نتيجة مفادها التقليل من شأن القانون الوضعي واإلعالء من قيمة‬
‫القوانين الطبيعة‪ ،‬وذلك في رأيهم راجع لكون" قوانين الطبيعة قوانين مطلقة‪ ،‬كونية وثابتة‪ ،‬ولذلك‬
‫فالطبيعة وحدها هي التي بإمكانها أن تقدم لنا معيارا كونيا‪ ،‬وانطالقا من ذلك تصبح العدالة الحقيقة‬
‫تكمن في الخضوع للطبيعة التي ينتمي إليها الفرد‪ ،‬قبل انتمائه لش يء آخر‪ ،‬ولذلك ليس للقانون ذي‬
‫الطبيعة السياسية قيمة مطلقة‪ ،‬ألنه نتيجة للرأي اإلنساني‪ .‬يوضح أنتيفون(أحد السفسطائيين) أن‬
‫العدالة " هي مجرد اتفاقات ومنتجات اصطناعية للرأي‪ ،‬ال ينبغي أن تثير أخالقيا أي استنكار طاملا‬
‫كان بإمكان املرء أن يفعل ذلك دون أن يرى أو يمسك‪ :‬وبالعكس إذا خرق أنظمة الطبيعة‪،‬حتى ولو‬
‫كان مجهوال من قبل الجميع‪ ،‬يثير حتما العقوبات الطبيعية‪ :‬ألن العقوبات تتعلق بحقيقة الوضع‬
‫نفسه"‪.3‬‬
‫لم ينظر السفسطائيون ملفاهيم القانون والعدالة والحق‪ ،‬إال نظرة االزدراء والتحقير‪ ،‬هذا ما يمكن‬
‫تأكيده من خالل ما أورده أفالطون في مستهل الكتاب الثاني من الجمهورية على لسان "جلوكون"‪ ،‬من‬
‫أن العدالة هي في حقيقة األمر"شر يطلب لنتائجه فحسب‪ ،‬فوفقا للطبيعة ممارسة الظلم خير‬
‫ومعاناته شر‪ ،‬ولكن كفة األلم في الشر ترجح على كفة النفع في الخير‪ ،‬فإذا ما تبادل الناس ممارسة‬

‫‪ - 1‬ف‪ .‬س‪ ،‬نرسيس يان‪ ،‬الفكر الس يايس يف اليوانن القدمية‪ ،‬تر‪ ،‬حنا عبود‪ ،‬ا ألهايل للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪،1999 ،1‬‬
‫ص‪.88:‬‬
‫‪ - 2‬أآفالطون‪ ،‬حماورة جورجياس‪ ،‬تر‪ ،‬محمد حسن ظاظا‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للتأأليف والنرش‪ ،1970 ،‬ص‪.88‬‬
‫‪ - 3‬شوفاليه‪ ،‬جان جاك‪ ،‬اترخي الفكر الس يايس (من ادلوةل القومية اىل ادلوةل ا ألممية)‪ ،‬تر‪ ،‬محمد عرب صاصيال‪ ،‬املؤسسة اجلامعية لدلراسات‬
‫والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2002 ،3‬ص‪31‬‬
‫‪560‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ /ISSN: 2253 – 0592‬اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‬
‫جمةل دراسات انسانية واجامتعية ‪ /‬ج وهران‪ /02‬ع‪ /9 :‬جانفي‪2019‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الظلم ومعاناته‪ ،‬دون أن يتمكنوا من تجنب أحد األمرين واكتساب األخر‪ ،‬فإنهم يدركون أخيرا أنه خير‬
‫لهم أن يتفقوا سويا على منع كليهما‪ ،‬فنشأت بذلك القوانين واالتفاقات املتبادلة‪ ،‬ويسمون ما يأمر به‬
‫القانون أمرا مشروعا عادال"‪" ،1‬ومادامت العدالة وسطا بين هذين الطرفين‪ ،‬فان الناس ترتاح لها‪ ،‬ال‬
‫ألنها خير واقعي‪ ،‬ولكن الن العجز عن ارتكاب الظلم يجعلها كبيرة القيمة"‪.2‬‬
‫يفصل على‬‫إن العدالة عند السفسطائيين ال تعدو أن تكون خادمة ملصالح األقوى‪ ،‬فمبدأ العدالة ّ‬
‫مقاس األقوى على حساب الرعية‪ ،‬التي ينبغي أن تطيعه وأن تقوم بما يكفل نفعه‪ ،‬وأن تتوخى في‬
‫أعمالها سعادته التي هي أبعد ما تكون عن سعادتها الخاصة‪ ،‬ومن هنا فإن عدم املساواة وسيطرة‬
‫األقوياء هي أشياء مبررة يميلها القانون الطبيعي‪.‬‬
‫من خالل استعراضنا آلراء التيار السفسطائي في قضية العدالة‪ ،‬تبين لنا أن هذه الفكرة لم تكن‬
‫غريبة على أثينا آنذاك‪ ،‬حيث وردت في املفاوضات التي جرت بين أثينا وإسبرطة قبل الحرب‬
‫البيلوبونيزية‪ ،‬عندما قال سفراء أثينا لنظرائهم‪":‬لقد كان املعمول به دائما أن صاحب القدرة األعظم‪،‬‬
‫يجب أن يسيطر على من هم دونه قدرة"‪ .‬كما وردت كذلك في حديث املندوبون األثينيون‬
‫لشعب"ميلوس"‪ .‬قال املندوبون‪":‬إنكم تعلمون‪ ،‬شعب ميلوس‪ ،‬كما نعلم أن الحق في هذا العالم ال‬
‫يقوم إال بين األنداد في القوة‪ ،‬أما إذا كان هناك أقوياء وضعفاء‪ ،‬فلألقوياء أن يفعلوا ما يستطيعون‬
‫فعله‪ ،‬وعلى الضعفاء أن يتحملوا ما يجب عليهم تحمله‪ ،‬إننا نعرف عن اآللهة ما ورد في الروايات‪ :‬أما‬
‫عن الناس‪ ،‬فالحقيقة التي نعلمها أن قانون الطبيعة يقض ي وال راد لقضائه‪ ،‬أن يحكموا أينما‬
‫استطاعوا إلى ذلك سبيال"‪.3‬‬
‫يمكن القول أن "فلسفة السفسطائيين تعبير عما هو كائن‪ ،‬فهي فلسفة تصف الواقع‪ ،‬فكل حكم‬
‫قائم بالفعل إنما يعبر عن صالح الفئة القوية في املجتمع‪ ،‬وهو وصف ال يستطيع املرء أن ينكره"‪،4‬‬
‫تسنه القوة‪ ،‬حيثما وجدت هذه القوة‪ ،‬فإذا وضع الضعفاء قوانين في‬ ‫فالحق ال يعدو أن يكون ما ّ‬
‫صالحهم‪ ،‬فإن تلك القوانين والحق الذي تقرره ال بد أن تكون عدال وصوابا‪ ،‬مادام في استطاعة‬
‫الضعفاء تنفيذها‪ ،‬ولكنها ال تكون صوابا بمجرد أن يعجزوا عن ذلك‪.‬‬
‫ب‪-‬السياسة املثلى من الوجهة األفالطونية‪:‬‬

‫‪ - 1‬مصطفى س يد‪ ،‬أآمحد صقر‪ ،‬فلسفة العداةل عند االغريق‪ ،‬مكتبة اجلالء اجلديدة‪ ،‬املنصورة‪ ،‬مرص‪ ،1998 ،‬ص ‪49‬‬
‫‪ - 2‬أآفالطون‪ ،‬امجلهورية‪ ،‬تر‪ ،‬نظةل احلكمي ومحمد مظهر سعيد‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مرص‪ ،‬ط‪( ،2‬ب‪ ،‬ت)‪ ،‬ص‪42‬‬
‫‪ - 3‬ابركر‪ ،‬أآرنست‪ ،‬النظرية الس ياس ية عند اليوانن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪138‬‬
‫‪ - 4‬مصطفى س يد أآمحد‪ ،‬صقر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪57 ،56‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫‪561‬‬
‫اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‪ISSN: 2253 – 0592‬‬
‫انشغل أفالطون منذ البداية بالتفكير في تغيير األوضاع املتردية التي كانت تعيشها أثينا‪ ،‬وفي األخير‬
‫اهتدى إلى" أن كل املدن الحالية تحكم بطريقة سيئة‪ ،‬وال أمل في شفاء تشريعاتها بدون تحضيرات‬
‫نشيطة‪ ،‬تتضافر مع الظروف املواتية"‪ ،1‬لضمان سعادة الدولة بواسطة االستقرار والسلم‪ ،‬هذا‬
‫املشروع الذي حمله كان ال بد أن يمر عبر أول نقطة‪ ،‬وهي محاربة السفسطائيين وماديتهم املستترة‬
‫وراء استغالل الغرائز والشهوات‪ -‬فبروتاغوراس ‪ Protagoras‬وضع قاعدته الخطيرة "اإلنسان مقياس‬
‫جميع األشياء املوجودة والغير موجودة"‪ ،‬وهي قاعدة تعبر وال شك عن نزعة فردية متطرفة‪ ،‬تصبح‬
‫الحقيقة من خاللها هي ما اعتقده أنا والخير ما أختاره أنا‪ ،‬ومن هنا فال مجال للحديث عن قيود‬
‫القانون والسلطة‪ ،‬بل الحديث سيكون عن اإلرادة ّ‬
‫الفجة واألنانية الفردية‪ ،‬يقول‪ :‬هيبياس ‪":Hipias‬‬

‫بموجب الطبيعة البشر املتشابهون أقارب‪ ،‬لكن القانون طاغية البشر‪ ،‬يعارض بقهره الطبيعة‪،‬‬
‫ّ‬
‫فالقانون ما هو إال نوع من أنواع األلم والقهر لإلنسان‪ ...‬إن القوانين في األغلب تشده نحو غايات‬
‫معاكسة‪ ،‬تجبره على أن يجعل من نفسه بشكل ال معقول جالدا لنفسه عبدا لغيره"‪.2‬‬
‫في هذا الجو‪ ،‬ليس من الغريب أن ينشغل أفالطون بالسياسة‪ ،‬كفن لقيادة املجتمع اإلنساني من حالة‬
‫التوحش إلى حالة االستئناس‪ ،‬بهذا املعنى تصبح السياسة شبيهة بعملية الترويض‪ ،‬فهي حسب‬
‫أفالطون "فن تربية القطعان‪ ،‬قطعان البهائم‪ ،‬سواء ذات قرون أو بدون قرون‪ ،‬ذات قدمين أو رباعية‬
‫األقدام‪.‬إنها فن قيادة بهائم بدون قرون وبدون ريش"‪ ،3‬لكن هذه القيادة ورغم ما فيها من ترويض‪ ،‬إال‬
‫أنها ال يجب أن تكون بالعنف‪ ،‬ألن الناس من املمكن قيادتهم بالعنف‪ ،‬كما يمكن قيادتهم بإرادتهم‬
‫الحرة‪ ،‬ولهذا فالحكم القائم على العنف يسمى طغيان‪ ،‬لكن السياسة هي فن قيادة الناس برضاهم‪.‬‬
‫بدأ أفالطون دراسته للنظام االجتماعي بتعريف معنى العدالة وتحليله‪ ،‬فليس للدولة أي هدف أخر‬
‫أسمى من اإلشراف على العدالة‪ ،‬وإن كانت كلمة عدالة عند أفالطون ال تعني نفس املعنى السائد في‬
‫وقتنا الحالي‪ ،‬فمفهومها أعمق وأقوى‪ ،‬فهي ليست في مستوى مماثل لسائر فضائل اإلنسان‪ ،‬وليست‬
‫مجرد خاصية أو ملكة مثل الشجاعة والعفة‪ ،‬إنها تدل على املبدأ العام الذي يضم معاني الترتيب‬
‫واالنتظام والوحدة في النفس اإلنسانية‪ ،‬حيث تظهر االستقامة في حياة الفرد عندما تتوافق قدرات‬
‫النفس اإلنسان ية‪.‬أما في الدولة فتظهر العدالة في من خالل التناسب الهندس ي بين الطبقات املختلفة‪،‬‬
‫عندما يضطلع كل قسم من املجتمع بمهنته‪.‬‬

‫‪ - 1‬شوفاليه‪ ،‬جان جاك‪ ،‬اترخي الفكر الس يايس (من ادلوةل القومية اىل ادلوةل ا ألممية)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪37‬‬
‫‪ - 2‬نقال عن‪ :‬بوعرفة‪ ،‬عبد القادر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪88.‬‬
‫‪- Marcel prelot et Georges lescuyer, Histoire des idées politique, édition Dalloz , paris, 13 eme édition‬‬
‫‪3‬‬

‫‪, 1997.p58‬‬

‫‪562‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ /ISSN: 2253 – 0592‬اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‬
‫جمةل دراسات انسانية واجامتعية ‪ /‬ج وهران‪ /02‬ع‪ /9 :‬جانفي‪2019‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يقول أفالطون‪" :‬هب أن شخصا قصير النظر طلب إليه أن يقرأ حروفا صغيرة عن بعد‪ ،‬ثم أنبأه‬
‫بأنه من املمكن االهتداء إلى نفس الحروف في مكان آخر بحجم أكبر‪ ،‬فال شك أنها تكون‬ ‫ّ‬
‫شخص آخر‬
‫فرصة رائعة له لكي يبدأ بقراءة الحروف الكبيرة وينتقل إلى الصغيرة‪ ،‬ليرى إن كانت مماثلة لألولى أم‬
‫ال‪ ...‬والعدالة التي هي موضوع بحثنا‪ ،‬إذا كانت توجد في الفرد بوصفها فضيلة له‪ ،‬فإنها توجد أيضا في‬
‫الدولة‪ ...‬ولهذا أقترح أن نبحث في طبيعة العدالة أوال كما تتبدى في الدولة‪ ،‬ثم نبحثها بعد ذلك في‬
‫الفرد"‪.1‬‬
‫إن العدالة املقروءة بحروف كبيرة(الدولة)‪ ،‬ال تعني ش يء أخر سوى احترام التسلسل االجتماعي وقيام‬
‫كل فرد بوظيفته داخل املدينة‪ .‬أما العدالة املقروءة بحروف صغيرة‪ ،‬فتعني االنسجام بين مكونات‬
‫النفس الفردية (العقل‪-‬الشجاعة والشهوة)‪ ،‬وعليه إذا كان الفرد عادال تكون املدينة كذلك‪ ،‬أي أن كل‬
‫فرد يحمل نفس السمات واألخالق التي تحملها املدينة‪ ،‬وهكذا فإن العدالة هي صفة الفرد واملجتمع‬
‫ومنها يتكون السلوك الفردي والجماعي معا‪ ،‬وهي التي توفر النظام واالتساق‪ ،‬وبالتالي تجعل من الدولة‬
‫فاضلة‪ ،‬ولذلك كان مبدأ العدالة عند أفالطون مبدأ ثابت ال يمسه التغيير‪ ،‬فهو" الحد الوسط بين‬
‫الخير األكبر املتمثل في ارتكاب الظلم بال عقاب‪ ،‬والشر األكبر املتمثل في تحمل الظلم والعجز عن‬
‫االنتقام"‪.2‬‬
‫لقد حاول أفالطون مناقشة هذا التعريف محاوال إثبات أن الرجل العادل أكثر حكمة من الظالم‪ ،‬ألنه‬
‫يعترف بوجود حد يقف عنده اإلنسان‪ ،‬وهو يسعى للمنافسة‪ ،‬لكن ليس كما يفعل الظالم‪ ،‬وبما أن‬
‫الرجل العادل يعترف بوجود حد يقف عنده‪ ،‬فهو أكثر قوة من الظالم‪ ،‬تفوق يستمده من مبدأ الصلة‬
‫التي تحكم بينه وبين أقرانه‪ ،‬من هذا املنطلق‪ ،‬فأداء كل ش يء للوظيفة التي يصلح لها‪ ،‬هو املبدأ‬
‫األساس ي لتحديد مفهوم العدالة‪ ،‬وفضيلة أي ش يء هي أداؤه لوظيفته بطريقة مناسبة‪.‬‬

‫من هذا نستنتج أن غاية الجمهورية عند أفالطون هي العدالة‪ ،‬عدالة تعني أن يقوم كل عنصر بعمله‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫"فالحذاء حذاء فحسب وليس مالحا في نفس الوقت‪ ،‬واملزارع زارع فقط وليس قاضيا في الوقت ذاته‪،‬‬
‫والجندي جندي وليس تاجر كذلك‪ ،‬وهكذا األمر في الجميع"‪ .3‬إن العدالة باملفهوم األفالطوني تشير‬
‫لحالة النفس التي توافرت لها املعرفة الفسلفية‪ ،‬بحيث تحقق الفضائل التي تناسبها‪:‬العفة للنفس‬
‫الشهوانية‪-‬والشجاعة للقوة الغضبية‪ -‬والحكمة للقوة العاقلة‪-‬أما العدالة فتتحقق نتيجة النتظام‬

‫‪ - 1‬زكراي‪ ،‬ابراهمي‪ ،‬دراسة مجلهورية أآفالطون‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،1967 ،‬ص ‪55‬‬
‫‪ - 2‬شوفاليه‪ ،‬جون جاك‪ ،‬اترخي الفكر الس يايس‪ ،‬من املدينة ادلوةل اىل ادلوةل القومية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪39‬‬
‫‪ - 3‬زكراي‪ ،‬ابراهمي‪ ،‬دراسة مجلهورية أآفالطون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪82‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫‪563‬‬
‫اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‪ISSN: 2253 – 0592‬‬
‫هذه القوى أو الفضائل الثالث مع بعضها‪ ،‬والعدالة من هذا املنظور ال تتحقق في الدولة إال إذا كانت‬
‫السلطة بيد الفالسفة (القوة العاقلة)‪ ،‬ألن " اإلنسان العادل هو اإلنسان الذي يؤدي كل جزء فيه من‬
‫أجزاء النفس عمله جيدا‪ ،‬وألن الجزء األسمى من النفس هو العقل‪...‬فإن الفيلسوف هو الذي يمكن‬
‫ً‬
‫ان يكون فقط عادال بحق"‪. 1‬‬
‫إن أفالطون ال يريد لدولته سوى السعادة والفضيلة‪ ،‬وهذه القيم ال تتحقق ما لم "يصبح الفالسفة‬
‫ّ‬
‫ملوكا في بالدهم‪ ،‬أو يصبح هؤالء الذين نسميهم ملوكا وحكاما فالسفة جادين متعمقين‪ ،‬وما لم تتجمع‬
‫السلطة السياسية والفلسفية في فرد واحد"‪ ،2‬فاملدن حسب أفالطون لن تتخلص من الشرور‪ " ،‬حتى‬
‫يكون الفالسفة ملوكا في مدنهم‪ ،‬أو أن يمتلك ملوك وأمراء هذا العالم نفسية وسلطان الفلسفة‪ ،‬وان‬
‫السياسية في شخص واحد‪ ...‬إذا لم يتم كل ذلك فاملدن لت تملك ّ‬
‫الراحة‬ ‫يلتقي سمو وحكمة العلوم ّ‬
‫من شرورها أبدا"‪ .3‬وهكذا يصبح التمكين لحكم الفالسفة هو النقطة املركزية في فلسفة أفالطون‬
‫السياسية‪ ،‬بل وفي مدينته الفاضلة‪.‬‬
‫من أجل هذا ثار أفالطون على األنظمة‪ ،‬التيوقراطية‪ ،‬واألليجارشية‪ ،‬والديمقراطية واالستبدادية‪،‬‬
‫ألنها كانت قائمة على الدسائس واملكائد‪ ،‬ففي املدينة الفاضلة التي صورها‪ ،‬استبعد تشتت املصالح‬
‫وتضاربها‪ ،‬فاملجتمع قائم على التكامل والتعاون وقيام كل فرد بالوظيفة املنوط به‪.‬‬
‫ّ‬
‫املالحظ هنا أن أفالطون أطلق العنان للفالسفة الحكام‪ ،‬فلم يعترف بوجود قانون يسري على‬
‫قمة تحليله‪ ،‬حكم ال يتقيد‬ ‫الجميع‪ ،‬حكام ومحكومين‪ ،‬فحكم الفالسفة الذي جعله أفالطون ّ‬
‫يقيده هو ضميره الداخلي‪ ،‬املنبثق من الحكمة والعقل‬ ‫بالقانون‪ ،‬فالحاكم فوق كل القيود‪ ،‬وما ّ‬
‫املسيطر على الفيلسوف الحاكم‪ ،‬القادر على الوصول للقرارات الصائبة‪ ،‬املنزهة عن الهوى‪ ،‬ومن غير‬
‫املنطقي أن ّيقيد الفيلسوف الحاكم بالقانون وهو مصدره‪ ،‬فأساس الحكم يقوم على حقيقة التفوق‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العقلي‪ ،‬عند قلة لديها الكفاية السياسية**‪ ،‬لكن ما الضامن أال ينقلب هؤالء الحكام الفالسفة إلى‬
‫جسمه في شخص امللك الفيلسوف‪،‬‬ ‫طغاة مستبدين؟مادام كل ش يء يخضع لذلك املثل األعلى الذي ّ‬
‫الذي ينحصر سنده لتولي السلطة في كونه الوحيد الذي يعرف ما هو خير للناس وللدولة‪ ،‬وقد نتج‬
‫عن التوسع في هذا املنحنى من التفكير‪ ،‬أن استبعد القانون كلية من الدولة املثالية‪ ،‬وصورت الدولة‬

‫‪ - 1‬شرتاوش‪ ،‬ليو‪ ،‬واترخي الفلسفة الس ياس ية‪ ،‬ج‪ ،1‬تر‪ ،‬محمود‪ ،‬س يد امحد‪ ،‬اجمللس الاعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،2005 ،‬ص‪98‬‬
‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪68‬‬
‫‪ - 3‬أآفالطون‪ ،‬احملاورات الاكمةل‪ ،‬مج‪ ،1‬امجلهورية‪ ،‬ك‪ ، 5‬تر‪ ،‬شويق‪ ،‬داوود متراز‪ ،‬ا ألهلية للنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪262‬‬
‫** انظر تفصيل املوضوع يف‪ :‬أآفالطون‪ ،‬احملاورات الاكمةل‪ ،‬مج‪ ،2‬حماور‪ ،‬بوليتيكوس‪ ،‬ص‪ 100‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪564‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ /ISSN: 2253 – 0592‬اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‬
‫جمةل دراسات انسانية واجامتعية ‪ /‬ج وهران‪ /02‬ع‪ /9 :‬جانفي‪2019‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫على أنها مجرد مؤسسة تعليمية‪ ،‬فرضت فيها على أغلبية املواطنين وصاية دائمة‪ ،‬يتوالها الحاكم‬
‫الفيلسوف‪.‬‬
‫إن أفالطون ورغم تهذيبه لهذه الوضعية‪ ،‬بقوله على لسان سقراط مخاطبا الحكام" نحن الذين‬
‫أنجبناكم من أجل الدولة‪ ،‬ومن أجل أنفسكم لتكونوا قواد خلية وملوكها‪ ،‬وأكمل تدريب للعب دوركم‬
‫في شؤون الحياة‪ ،‬فينبغي أن تنزلوا بالدور وتخاطبوا بقية املجتمع"‪ .1‬ورغم اعترافه بفائدة القوانين من‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫منطلق أن الناس بدون قوانين "ال يختلفون عن أشر الحيوانات وحشية"‪ ،‬إال أنه يتغاض ى عن أهميتها‬
‫في حالة توفر الحاكم الكفء‪ ،‬إذ ليس ثمة قانون وال شرعية أعظم من املعرفة شأنا‪.‬‬
‫لكن كيف نقنع الناس بهذا التمييز الطبقي؟‬
‫ّ‬
‫وكيف يقنع أفالطون الحكام بأنهم خلقوا ليحكموا؟‬
‫وكيف يدرب باقي املواطنين على االعتقاد بأنهم ولدوا ليكونوا محكومين‪ ،‬وأن هذه الفروق جزء من‬
‫نظام إلهي‪.2‬‬
‫في هذه الجزئية يلجأ أفالطون إلى ما سماه "الكذبة الضرورية أو "الكذبة النبيلة" إلقناع الحكام بأنهم‬
‫ينتمون لطبقة أسمى‪ ،‬وأنهم ولدوا ليكونوا حكاما‪ .‬سأقول لهم "إنه من الصحيح أنكم جميعا يا أهل‬
‫هذا البلد إخوة‪ ،‬غير أن هللا الذي فطركم قد مزج تركيب أولئك الذين يستطيعون الحكم منكم‬
‫ّ‬
‫بالذهب‪ ،‬لهذا كان هؤالء أنفسكم‪ ،‬ثم مزج تركيب الحراس بالفضة‪ ،‬وتركيب الفالحين والصناع‬
‫بالحديد والنحاس‪ ،‬وملا كنتم جميعا قد نبتم من بذرة واحدة‪ ،‬فإن أبناءكم على الرغم من أنهم يشبهون‬
‫آباءهم عادة‪ ،‬قد يأتون أحيانا من الفضة ألبوين من ذهب أو من الذهب ألبوين من الفضة‪ ،‬وكذلك‬
‫الحال في املعادن األخرى"‪.3‬‬
‫من الواضح أن أفالطون ومن خالل مبدأ حكم الفالسفة‪ ،‬اللذين أطلق أيدهم وجعلهم فوق القانون‪،‬‬
‫قد أسس عن قصد أو غير قصد لحكم الطغيان** الفردي‪ ،‬الذي يحق له استخدام العنف والقوة‬
‫لردع األفراد‪".‬إن أولئك اللذين يملكون العلم امللكي الرفيع‪ ،‬في الواقع قادة حقيقيون سواء حكموا‬
‫حسب رض ى رعيتهم‪ ،‬أو خالفا لرضاهم‪ ،‬فإن الرجال مثلهم ال يجوز لهم أن يواجهوا أية عقوبة‪ ،‬ففي‬

‫‪ - 1‬توفيق جماهد‪ ،‬حورية‪ ،‬الفكر الس يايس من أآفالطون اىل محمد عبده‪ ،‬مكتبة الاجنلومرصية‪ ،1986 ،‬ص‪57‬‬
‫‪ - 2‬لويز برنريي‪ ،‬ماراي‪ ،‬املدينة الفاضةل عرب التارخي‪ ،‬عامل املعرفة رمق‪ ،225‬س نة‪ ،1997‬ص‪33‬‬
‫‪ - 3‬املرجع واملاكن نفسه‪.‬‬
‫**‪ .‬للمزيد حول موضوع الطغيان انظر‪ :‬امام عبد الفتاح‪ ،‬امام‪ ،‬الطاغية‪ ،‬دراسة فلسفية لصور من الاستبداد الس يايس‪ ،‬عامل املعرفة ع‪،184‬‬
‫مارس‪1994 ،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫‪565‬‬
‫اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‪ISSN: 2253 – 0592‬‬
‫إمكانهم أن يقتلوا وأن ينفوا‪.‬باختصار في إمكانهم التصرف بكل حرية‪ ،‬لصون املدينة وجعلها مدينة‬
‫ممكنة‪ ،‬بعدما كانت فاسدة‪ ،‬وتاليا تكون القوة ممكنة لالستعمال شرعا‪ ،‬إن كان ذلك لخير املدينة"‪.1‬‬

‫إن نظرية الطغيان الصالح ال ت ستعبد القوة والعنف كوسيلة في خدمة الدولة‪ ،‬فبإمكان الحاكم‬
‫ّ‬
‫استخدام القوة ضد مصلحة األفراد‪ ،‬ألن املواطن في نظر أفالطون ال حق له بوصفه فردا‪ ،‬وإنما عليه‬
‫واجبات ال غير‪ ،‬فمسألة الحق غير مطروحة في منظومته الفلسفية‪ ،‬إذ ال قيمة للفرد ذاته إال بوصفه‬
‫عضوا في املدينة‪.‬‬
‫لقد أنكر أفالطون‪-‬كما سيفعل تلميذه أرسطو – قيمة الفرد لصالح الدولة‪ ،‬فليس للفرد حق‪ ،‬بل‬
‫ليس له وجود إال بالدولة وللدولة‪ ،‬التي تدبر كل ش يء حتى الحياة الخاصة‪ ،‬فالدولة التي يكون سلطانها‬
‫مبسوط في كافة املجاالت‪ ،‬تفرض على الفرد طاعة غير مشروطة‪ ،‬وما عليه سوى اإلذعان للسلطان‪.‬‬
‫هذا ما يبرر وقوف أفالطون بقوة ضد الحكم الديمقراطي‪ ،‬ألنه حسب رأيه أفسد معنى الحكم ومعنى‬
‫الحرية‪ " ،‬فالحكم أصبح فوض ى‪ ،‬والحرية إباحية وتمرد شامل‪ ،‬فإذا لم يتساهل الحكام تساهال مفرطا‬
‫مع الشعب‪ ،‬وإذا لم يعطوا ملء الحرية‪ ،‬اعتبرهم الشعب حكاما أشرارا مستبدين‪ ،‬وعاقبهم على‬
‫استبدادهم‪ .‬وعدوى الفوض ى املتفشية في الدولة‪ ،‬تتسرب إلى البيت وتنتشر في كل ناحية‪ ،‬فيحسب‬
‫األب ابنه مساويا له فيخاف منه‪ ،‬ويعتبر االبن أباه مساويا له فال يعود يحترمه‪ ،‬في دولة كهذه يضحى‬
‫ّ‬
‫املعلم خائفا من تالميذه فيتملقهم‪ ،‬ويروح الطالب يحتقرون معلميهم ومهذبيهم‪ ،‬وتظهر هذه الحرية‬
‫ظهورا واضحا في تطاول العبيد على أسيادهم‪ ،‬وال أعرف الحد الذي تبلغه الحرية املتبادلة بين الرجال‬
‫والنساء"‪.2‬‬
‫علما أن أكثر ما كان يخيف أفالطون في الحكم الديمقراطي‪ ،‬هو مسألة الحرية‪ ،‬حتى ولو كانت هذه‬
‫عما سواه‪-‬يقول أفالطون‪ّ -‬‬
‫مهد‬ ‫األخيرة أجمل ما في الديمقراطية‪" ،‬ألن مطلب الحرية املتزايد واإلغفال ّ‬
‫ّ‬
‫لالستبداد واالستعباد والشقاء‪ ،‬وتحول لحكم الطغيان‪...‬الحرية املفرطة التي ولدت الحكم الشعبي‪،‬‬
‫ستقود هذا الحكم إلى هالكه (ألن) الرغبة املفرطة في الحصول على الحرية واملساواة ستقود حتما‬
‫الحكم الشعبي إلى حكم الطغاة"‪.3‬‬

‫‪ - 1‬خرض خنافر‪ ،‬دوةل‪ ،‬يف الطغيان والاستبداد وادليكتاتورية‪ ،‬دار املنتخب العريب لدلراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،1995 ،1‬ص ص‬
‫‪12 ،11‬‬
‫‪ - 2‬غوش‪ ،‬رميون‪ ،‬الفلسفة الس ياس ية يف العهد السقراطي‪ ،‬دار السايق‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،2008،1‬ص‪98‬‬
‫‪ - 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪100،99‬‬
‫‪566‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ /ISSN: 2253 – 0592‬اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‬
‫جمةل دراسات انسانية واجامتعية ‪ /‬ج وهران‪ /02‬ع‪ /9 :‬جانفي‪2019‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫إن "الديمقراطية‪-‬في رأي أفالطون‪-‬حكم يشمل على تهاون وتساهل مفرط‪ ،‬واحتقار ّ‬
‫لقيم اآلباء‬
‫واألجداد‪ ،‬إذ أنها –الديمقراطية‪-‬ال تقيم لنبل املولد‪ ،‬وال لسمو الروح وال لعلو املعرفة أي قيمة‪ ،‬بل‬
‫تتيح فرص متساوية للجميع‪ ،‬لكي يتقلدوا مقاليد الحكم"‪ ،1‬بصرف النظر عن جدارتهم الشخصية‪.‬‬
‫خالصة القول أن "أفالطون لم يهتم في تخطيطه لدولته املثالية‪ ،‬بالفرد وحريته على اإلطالق‪ ،‬بل كان‬
‫يخطط ونظره مركز أوال وأخيرا على املدينة ككل‪ ،‬ولم تكن فكرة العدالة التي أخذت جل تفكيره سوى‬
‫تنظير ملنطق الثبات‪ ،‬واالستقرار للكيان الكلي أي الدولة‪ ،‬فكل ش يء يخدم مصلحة املدينة يكون عدال‬
‫والعكس‪ ،‬ومن هنا جاءت مطالبته بضرورة إخضاع كافة أمور الحياة اإلنسانية إلشراف سلطة‬
‫الدولة"‪.2‬‬
‫ال يمكننا في ظل هذه الرؤية الشمولية التي يقدمها أفالطون ملدينته‪ ،‬أن نقول أنه يؤمن بالحرية‬
‫ّ‬
‫إال لصفوة املجتمع (الفالسفة(‪ ،‬التي تكون‬ ‫السياسية لجميع املواطنين‪ ،‬فهو في الحقيقة ال يؤمن بها‬
‫ّ‬
‫معرفتها باملثل قد جعلتها تقف على حقائق األمور فتحسن استغاللها‪ ،‬أما أغلبية الشعب فال يهتم‬
‫أفالطون بهم في دولته‪ ،‬سوى بوصفهم أدوات مساعدة على تدعيم ركائز حكم الفيلسوف*‪.‬‬
‫ج‪-‬أرسطو الدولة من املثال إلى النسق‪:‬‬
‫يشكل الفكر السياس ي عند أرسطو‪ ،‬نموذجا واقعيا في دراسة الحياة السياسية انطالقا من التجارب‬
‫واملالحظات‪ -‬ال نتيجة لتأمل مثالي خالص‪ -‬فهو يرى منذ بداية مشروعه*أن الدولة هي اإلطار املناسب‬
‫الذي تشكل فيه ماهية اإلنسان‪ ،‬بوصفه حيوان مدني يعرف الخير والشر‪ ،‬والعدل والظلم‪ ،‬وهو‬
‫وحده قادر على تشكيل املدينة‪" ،‬إنه من البديهي أن يكون اإلنسان حيوانا سياسيا‪ ،‬على درجة أعلى‬
‫من النملة ومن أي حيوان آخر يعيش في قطيع‪ ،‬واإلنسان وحده‪-‬من بين كل الحيوانات‪-‬يمتلك الكالم‪،‬‬
‫وهو الوحيد الذي يعرف معنى العدل والظلم"‪ ،3‬وبهذا فالعيش في الجماعة هو أفضل طريقة للعيش‬
‫بأحسن طريقة ممكنة أخالقيا وماديا‪ ،‬من أجل تحقيق السعادة والفضيلة‪" ،‬فالغرض من السياسة‬
‫ليس املعرفة بل العمل أو التنفيذ‪..‬فهي ال تتعلق بش يء أكثر مما تتعلق بإنتاج أخالق معينة في‬
‫املواطنين"‪.4‬‬

‫‪ - 1‬محمود‪ ،‬مراد‪ ،‬احلرية يف الفلسفة اليواننية‪ ،‬دار الوفاء دلنيا الطباعة والنرش‪ ،‬مل يذكر البدل‪( ،‬ب ط)‪( ،‬ب ت)‪ ،‬ص‪183‬‬
‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪186،‬‬
‫‪ - 3‬أآرسطو‪ ،‬الس ياسات‪ ،‬نقهل للعربية‪ ،‬ا ألب أآوغسطني ابرابرة البوليس‪( ،‬مل تذكر دار النرش)‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،1957،‬ص ‪212‬‬
‫‪ - 4‬سعفان‪ ،‬حسن حشاتة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪63‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫‪567‬‬
‫اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‪ISSN: 2253 – 0592‬‬
‫من هذا املنطلق تصبح الدولة فوق الفرد وفق العائلة‪ ،‬فالدولة نوع من املشاركة‪ ،‬لكنها نوع خاص من‬
‫املعيشة املشتركة‪ ،‬بحيث يتألف من األفراد‪ ،‬الكل والكل بالضرورة فوق الجزء‪ ،‬لكن متى تكون الدولة‬
‫فضلى بحيث تضمن الخيروالسعادة للجميع؟‬
‫يرى أرسطو أن "مهمة الدولة تكمن في غرس الفضيلة في األفراد‪ ،‬وتعليمهم كيف يكونوا فضالء‪،‬‬
‫انطالقا من نظام سياس ي يتيح لكل فرد أن يبلغ غاية الفالح‪ ،‬وأن يحيا حياة سعيدة"‪ .1‬واملدينة‬
‫الفاضلة أو املثلى من هذا املنظور‪ ،‬هي تلك املدينة املرتبطة بالواقع املعاش‪ ،‬فليس ثمة عالم مستقل‬
‫عن عاملنا به صورة ملدينة فاضلة‪ ،‬كما ادعى أفالطون‪-‬لذلك ربط أرسطو السياسة باألخالق‪ ،‬بل جعل‬
‫من األخالق القاعدة األساسية للدولة‪ ،‬ألن القانون ال ينفع في حالة غياب األخالق‪ ،‬باعتباره تعبيرا عن‬
‫األوامر الخالدة لألخالق‪ .‬فالنظام السياس ي ال يحدد طرق السياسة في الدولة فقط‪ ،‬بل له بالغ التأثير‬
‫على أخالق األفراد‪ ،‬فالفضيلة تحت دستور ملكي غيرها تحت حكم األقلية‪ ،‬وهذا راجع بالدرجة األولى‬
‫إلى أن" الدستور مرتبط جوهريا بنسق الحياة الذي سيتبع في املدينة‪ ،‬فإن تغيرت بنية املجتمع ّ‬
‫تغير‬
‫الدستور"‪ ،2‬وطبيعة هذا األخير هي التي تحدد طبيعة الخير في الدولة‪.‬‬
‫وأفضل دستور هو الذي يجعل الناس سعداء‪ ،‬والذي يؤمن االعتدال والعدل والحذر والشجاعة‬
‫والفضيلة‪ ،‬بحيث"تحصل املدينة على الغنى والخيرات والسلطة واملجد على أنواعه بشكل كلي"‪ ،3‬ومن‬
‫هذا‪ ،‬فالحكومات حسب أرسطو منها ما هو صالح‪ ،‬يعمل على خدمة املصلحة العامة وخير الجميع‪،‬‬
‫ومنها ما هو فاسد يعمل ملصلحته الخاصة‪ ،‬والحكومات املثلى أو الفاضلة في نظر أرسطو ثالث‪:‬‬
‫أ‪-‬امللكيـة‪ :‬وهي التي يكون على رأسها ملك أو فرد واحد فاضال بعقله وحكمته‪ ،‬يتوخى في عمله املصلحة‬
‫العامة‪ ،‬وال ينشد مصلحته الخاصة‪ ،‬ومتى كان الحكم امللكي فاضال‪ ،‬كان امللك يحب رعاياه بسبب‬
‫علوه الذي يسمح له بأن يتفضل عليهم‪ ،‬ألن ه يسعد الناس اللذين يحكمهم‪ ،‬وبما له من الفضائل يعني‬
‫بتصييرهم سعداء‪-‬عناية الراعي لقطيعه‪. 4‬‬
‫ب‪-‬األرستقراطية ‪ :‬وهي التي تتولى فيها السلطة جماعة من األفراد ولكنهم ليسوا كثرة أو أغلبية‪ ،‬وهم‬
‫يحكمون ألنهم أكثر حكمة "إن الفضيلة هي الهدف‪.‬الفضيلة هي مقياس األلقاب الشرفية املعطاة‬
‫للمواطنين‪ ...‬وبما أن كل األشياء يجب أن تقدر على أساس أهدافها‪ ،‬فإنه يجب أن نخلص لوصف‬
‫النظام بأنه أرستقراطي‪.5‬‬

‫‪ - 1‬أآرسطو‪ ،‬الس ياسات‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪212‬‬


‫‪ - 2‬غوش‪ ،‬رميون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪153‬‬
‫‪ - 3‬املرجع والصفحة نفسها‬
‫‪ - 4‬أآرسطو‪ ،‬عمل ا ألخالق اىل نيقوماخوس‪ ،‬ج‪ ،2‬مل تذكر البياانت‪ ،‬ص‪258‬‬
‫‪ - 5‬شوفاليه‪ ،‬جون جاك‪ ،‬اترخي الفكر الس يايس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪94‬‬
‫‪568‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ /ISSN: 2253 – 0592‬اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‬
‫جمةل دراسات انسانية واجامتعية ‪ /‬ج وهران‪ /02‬ع‪ /9 :‬جانفي‪2019‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ج‪-‬الديمقراطية‪ :‬وهو نظام تحكم فيه األغلبية عن طريق دستور يضبط الحقوق والواجبات‪" ،‬ففي‬
‫الحكومة الديمقراطية الحق السياس ي هو املساواة‪ ،‬ال على أساس األهلية بل حسب العدد‪ ،‬ومتى‬
‫وضعت هذه القاعدة ينتج عنها أن السواد يجب ضرورة أن تكون لهم السيادة‪ ،‬وأن قرارات األكثرية‬
‫يجب أن تكون هي القانون األعلى‪ ،‬هي العدل املطلق‪ ،‬الفقراء في الديمقراطية هم السادة‪ ...‬ورأي‬
‫األكثرية يشرع القانون‪ ،‬تلك هي إحدى ّ‬
‫الشيم املميزة للحرية"‪.1‬‬
‫إن تقدير أرسطو للحكم الديمقراطي‪ ،‬راجع إلى كون الديمقراطية تعتبر النظام السياس ي األكثر‬
‫استقرار‪ ،‬واألحسن من حيث التوازنات االجتماعية‪ ،‬واألقل مغامرة من غيره‪ ،‬ألنه من الصعب إفساد‬
‫الشعب بكامله أو التغرير به‪ ،‬وبصورة أعمق هو النظام الوحيد الذي يسمح بالتناوب الفعلي‬
‫للمواطنين على تحمل األعباء‪ ،‬وألنه يقوم على قاعدة مثلى للجماعة السياسية‪ ،‬التي تتألف من‬
‫املتساوين بالطبع‪ ،‬أين يتجسد حكم الجميع للجميع‪ ،‬وهي قاعدة عامة للتناوب على السلطة املمكنة‪،‬‬
‫واألكثر عدالة وتوافقا مع نمط النظام الديمقراطي‪ ،‬الذي يتوخى مصلحة الجميع‪ ،‬وتتحول املنافع‬
‫املنتظر أن تتحقق من وجود الدولة كغاية عظمى إلى ممارسة فعلية يتمتع بها الكل وليس البعض دون‬
‫البعض اآلخر‪ ،‬كما هي الحال في األنظمة السياسية ألخرى‪.‬‬
‫من الواضح أن أرسطو لم يكن أمام خيار أخر‪ ،‬فكل األنظمة التي درسها تباينت عيوبها‪ ،‬ولم يجد بينها‬
‫ّ‬
‫إال الديمقراطية " فهي أسوأ األنظمة الصالحة‪ ،‬ولكنها أحسن أو أفضل األنظمة الفاسدة"‪ .2‬ولكن أكثر‬
‫ما خاف منه أرسطو هو التمادي في استخدام آليات الديمقراطية‪ ،‬وخاصة مبادئ الحرية واملساواة‬
‫وسيادة األغلبية املنتخبة‪ ،‬فاإلفراط في استخدام هذه املبادئ يؤدي إلى السقوط في حالة الفوض ى‪،‬‬
‫فمبدأ الحرية يعني االنعتاق من سلطة ممثلي الدولة‪ ،‬ومبدأ املساواة يفهم من قبل العامة فهما‬
‫خاطئا‪ ،‬ألن املساواة عند أرسطو تقوم على مبدأ االستحقاق وليس على أساس املساواة بين املختلفين‬
‫كفاءة‪ ،‬والعكس صحيح‪.‬‬
‫" وانطالقا من مبدأ املساواة هذا‪ ،‬يثير أرسطو مشكلة عميقة وهامة تتضمنها ديمقراطية اليونان‪ ،‬وهي‬
‫املساواة بين غير املتساويين‪ ،‬ويعني طبقة امليسرين وطبقة املعسرين‪ ،‬فإذا كانت عدالة الدولة أن ينال‬
‫املساواة كل املواطنين عن طريق اختيار األغلبية‪ ،‬فالحاصل هو أن يكون املعسرين أعظم سلطة من‬
‫امليسرين‪ ،‬ألن املعسرين أكثر عددا واملرجع األعلى هو ما قد يبدوا لألكثرية "(‪.*)3‬‬

‫‪ - 1‬أآرسطو‪ ،‬الس ياسات‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪366‬‬


‫‪ - 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪322‬‬
‫‪ - 3‬املصدر والصفحة نفسها‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫‪569‬‬
‫اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‪ISSN: 2253 – 0592‬‬
‫وعطفا على ما ذكر‪ ،‬تصبح الديمقراطية اليونانية‪-‬التي تعني حكم شعبي تفرضه أكثرية املواطنين‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأنها تحقق العدل واملساواة بينهم‪-‬ال جدوى منها‪ ،‬وما هي في حقيقة األمر إال حكم الطبقة املعسرة‪ ،‬أي‬
‫ما يميز أساسا حسب أرسطو بين الديمقراطية واألليغارشية هو الفقر والغنى‪ ،‬فأينما وجد حكم‬
‫األغنياء حتى ولو كانوا أغلبية فهو حكم أوليغارش ي‪ .‬وأينما وجد حكم الفقراء حتى ولو كانوا أقلية فهو‬
‫حكم ديمقراطي‪ ،‬والوسط العادل بين الحكمين والذي بإمكانه أن يضمن توازن وبقاء أحد الحكمين‪،‬‬
‫وكأنها تفضل مصالح الشعب‪...‬فتحول‬ ‫هو أن تساير الديمقراطية األغنياء واألليغارشية يجب أن تبدو ّ‬
‫ّ‬
‫أال تكون‬ ‫تلك املساواة أو األسبقية في الحكم الشعبي للميسورين وفي حكم األقلية للمعسرين‪ ،‬بشرط‬
‫العطايا تخص السلطات العليا املشرفة على سياسة البالد‪" ،1‬إذن الشرط األساس ي لصالحية كل هذه‬
‫األنواع من الحكم‪ ،‬هو مراعاة الصالح العام‪ّ ،‬أما إذا انقلبت عن ذلك صارت حكومات فاسدة‪.‬‬
‫فالحكومة امللكية‪ :‬تنقلب إلى طغيان واستبداد فردي والحكومة األرستقراطية‪ :‬فتنقلب من حكومة‬
‫خيرة إلى حكومة أشرار تنزع عنها صفات الفضيلة والعدل‪ ،‬وترتدي صفات الطمع واالستغالل‬ ‫أقلية ّ‬
‫بحيث يقسمون بينهم الثروة العامة‪ ،‬وعوض أن يكون الحكام من أكفاء األهالي وأشرفهم يتولى الحكم‬
‫أناس قليلو العدد كثيرو الشرور‪ ،‬في حين تنقلب الحكومة الديمقراطية إلى نظام غوغائي أو‬
‫ديماغوجي‪ ،‬بحيث تعدد اآلراء وتتضارب املصالح ويصل إلى السلطة من هب ودب‪"...‬وألجل هذا يصبح‬
‫املتملقون قريبا في مراتب الشرف"‪.2‬‬
‫أما املثل األعلى الذي يجب تطبيقه في ميدان الحكم‪ ،‬فهو ذاك الذي يلتزم باألخالق والقانون وخدمة‬
‫الصالح العام‪ ،‬وهذا املثل عند أرسطو‪ ،‬يتمثل في الحكومة الدستورية‪" ،‬التي تمثل مزيجا بين‬
‫األليجارشية ‪ oligarchie‬والديمقراطية‪ ،‬الشكل الذي يتكيف أفضل من غيره مع كل األجسام‬
‫السياسية‪ ،‬بصفة عامة‪ ،‬ويكون بإمكانها جميعا أن تحققه‪ ،‬ويتضمن نمطا من الحياة يكون الدخول‬
‫إليه مفتوح أمام اإلنسان العادي‪ ،‬وال يتطلب فضيلة ليست في متناول هذا اإلنسان"‪ .3‬حكومة تستمد‬
‫مزاياها من مبادئ أخ القية‪" ،‬فالحياة السعيدة حقا هي الحياة الخيرية التي يعيشها الفرد في حرية‪.‬‬
‫وثانيها أن الخيرية تشتمل على وسط بين طرفين‪ ،‬ويتبع هذا أن خير حياة هي الحياة التي تتكون من‬
‫وسط‪ ،‬وسط من الذي يستطيع أن يبلغه كل فرد‪ ،‬وأبعد من ذلك أن املقاييس ذاتها التي يتقرر وفقها‬
‫أسلوب الحياة لدى املواطنين‪ ،‬يجب أن تنطبق أيضا على الدستور‪ ،‬ألن الدستور هو طريقة الحياة‬

‫*النص آأورده كذكل‪ :‬طييب مسعود‪ ،‬فكرة امجلاعة يف احلمك عند املسلمني ومفهوم ادلميقراطية دلى اليوانن والرومانيني‪ ،‬أآطروحة دكتورة‪،‬‬
‫فلسفة‪ ،‬جامعة اجلزائر‪ ،‬ارشاف‪ ،‬ع‪ .‬رشيط‪338 ،2005 ،‬‬
‫‪ - 1‬للمزيد انظر‪ :‬أآرسطو‪ ،‬الس ياسات‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬الكتاب ‪8-7‬‬
‫‪ - 2‬أآرسطو‪ ،‬يف الس ياسة‪ ،‬نقال عن‪ :‬اسامعيل زرويخ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪60‬‬
‫‪ - 3‬شوفاليه‪ ،‬جان جاك‪ ،‬اترخي الفكر الس يايس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪110‬‬
‫‪570‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ /ISSN: 2253 – 0592‬اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‬
‫جمةل دراسات انسانية واجامتعية ‪ /‬ج وهران‪ /02‬ع‪ /9 :‬جانفي‪2019‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫لهيئة املواطنين"‪ .1‬بهدف بضمان العيش الكريم وضمان السعادة‪ .‬لكن هل يمكن أن تكون هذه‬
‫السعادة متاحة للجميع وعلى مستوى واحد؟‬
‫تبين آراء أرسطو حول مسألة العبودية أن فكرة املساواة لم تكن مطروحة بتاتا‪ ،‬وكل ما تكشف عن‬
‫تحليالت أرسطو يتعلق "باملساواة التناسبية أو الهندسية‪ ،‬تأخذ بالحسبان االختالفات املوجودة‬
‫وتبقي عليها‪ .‬إنها مساواة تعترف باألعلى باعتباره أعلى‪ ،‬وهي تتناقض بعنف مع املساواة الديمقراطية‬
‫البسيطة‪ ،‬التي تعامل املواطنين كوحدات متساوية بشكل دقيق"‪ .2‬ومن الواضح في الرؤية‬
‫األرسطوطالية أننا أمام مفهومين لإلنسان يكشف عنها بناء املدينة‪" ،‬فالحضارة اليونانية الكالسيكية‬
‫التي كانت راضية عن نفسها‪...‬كانت تقوم على أساس وجود طبقة وفيرة من العبيد‪ ،‬أغلبيتهم من‬
‫األجانب أومن املنحدرين من أصل أجنبي ‪ ..‬إنهم باختصار برابرة‪..‬مستبعدون من كل تربية وال يملكون‬
‫أي حق من أي نوع"‪.3‬‬
‫إن العبد عند أرسطو‪ ،‬هو ذلك الذي ال يملك نفسه بطبيعته‪ ،‬بل هو ملك إلنسان آخر‪ ،‬وبناء عليه‬
‫فكل من "انحط شأنهم انحطاط الجسد عن النفس أو الحيوان عن اإلنسان كانوا عبيدا من طبعهم‪،‬‬
‫ال سيما إذا بلغ بهم االنحطاط إلى حد ال يرتجى معه منهم سوى استعمال أجسادهم كأفضل ما يصدر‬
‫عنهم‪ ،‬وأنه خير لهؤالء أن يخضعوا لسلطة سيد"‪.4‬‬
‫إن التبريرات التي يقدمها أرسطو ال تتطرق إلى مسألة قبول أو رفض العبودية‪ ،‬بل كل ما هنالك أن‬
‫ّ‬
‫أرسطو يعالج مسألة إلى أي حد هي طبيعيه؟ ثم يجيب ما دامت الطبيعة تريد التباين بين أجسام‬
‫األحرار وأجسام األرقاء‪ ،‬فتبرز هذه قوية تصلح ملا يلزمها من الخدمة وتبرز تلك قوية غير صالحة‬
‫لألشغال الوظيفية‪ ،‬مالئمة للحياة املدنية‪ ،‬من هذا املنظور الجميع يعترفون بأن من حازوا في جسمهم‬
‫من الجمال مقدار ما حازت تماثيل اآللهة‪ ،‬يحق لهم أن يستعبدون من هم دونهم روعة !!‬
‫إن البرهنة التي يقدمها أرسطو لتبرير العبودية‪ ،‬تطرح عالمة استفهام كبيرة‪ ،‬وتشكل ثغرة في البناء‬
‫الفكري الذي يبنى عليه أرسطو رؤيته السياسية‪ ،‬فإذا كانت عبودية رهائن الحرب مثال‪ ،‬مستساغة‪،‬‬
‫فكيف نبرر قوله‪" ،‬لقد ظهر بجالء أن البعض أحرار بالطبع وأن البعض أرقاء بالطبع"‪ ،5‬وقوله‪":‬إن‬

‫‪ - 1‬عبد املعز نرص‪ ،‬محمد‪ ،‬يف النظرايت والنظم الس ياس ية‪ ،‬دار الهنضة العربية‪ ،‬بريو‪ ،1981 ،‬ص ‪57‬‬
‫‪ - 2‬شوفاليه‪ ،‬جان جاك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪91‬‬
‫‪ - 3‬شاتليه‪ ،‬فرنسوا وآخرون‪ ،‬معجم املؤلفات الس ياس ية‪ ،‬تر‪ ،‬محمد عرب صاصيال‪ ،‬املؤسسة اجلامعية لدلراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪ ،2،2001‬صص‪47،46‬‬
‫‪ - 4‬أآرسطو‪ ،‬الس ياسات‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪15،16‬‬
‫‪ - 5‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪17‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫‪571‬‬
‫اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‪ISSN: 2253 – 0592‬‬
‫بعضهم عبيد بالطبع وبعضهم أحرار بالطبع‪ ،‬وأن هذه الصفة أو تلك ّبينة في فئة دون فئة‪ ،‬وأنه‬
‫وأن اإلمرة التي خلق لها بعضهم واالئتمار الذي يحيل له‬‫يصلح لهذه أن تستعبد ولتلك أن تتسلط‪ّ ،‬‬
‫البعض اآلخر عادالن ال بل متوجبان‪ ،‬ومن ثم فالسيادة أيضا عادلة ومتوجبة"‪.1‬‬
‫إن الوجهة التي أخذها مصطلح العبد في فكر أرسطو‪ ،‬ال يمكن أن تقرأ بمعزل عن الظروف السائدة‬
‫آنذاك‪ ،‬ففي أجواء املواجهة العسكرية بين اليونان والفرس‪ ،‬وقع ضرب من التقاطع الداللي بين‬
‫البربرية واالستبدادية في مجرى الخطاب اليوناني‪" ،‬بمعنى أن الشعوب الواقعة خارج الفضاء اليوناني‬
‫خصوصا واألوربي عموما‪ ،‬واملنعوتة بالبربرية عند أرسطو‪ .‬ولذلك وجب التعاطي مع هذه الشعوب‬
‫تعاطي السادة بالعبيد‪ ،‬على ما يقول أرسطو‪ ...‬فالبرابرة والعبيد هما ش يء واحد بالطبيعة‪ ،‬لذلك وجب‬
‫أن يكون مصير هؤالء البرابرة األسيويين بين يدي السيد اليوناني‪ ،‬وال يكونوا في مكانهم الطبيعي‬
‫ّ‬
‫واملناسب إال كعبيد"‪.2‬‬
‫لم يجد أرسطو غضاضة في الرق‪ ،‬والتمس له عذرا طبيعيا‪ ،‬بأن الطبيعة قد خلقت البعض عبيدا‬
‫بالفطرة‪ ،‬ألنها حرمتهم من نعمة العقل واإلرادة‪ ،‬خلقتهم للطاعة فحسب‪ ،‬وقد قامت املدينة نتيجة‬
‫الرتباط العبد بسيده‪ ،‬حيث كان السادة هم العقل املدبر والعبيد هم القوة املنفذة‪.‬‬
‫‪ -4‬خاتمة‪:‬‬
‫خالصة القول إن هذا الواقع يضعنا أمام مفارقة وتناقض صارخ‪ ،‬يبين لنا حالة االنفصام‬
‫السياس ي واالجتماعي واالقتصادي‪ ،‬التي عاشها املجتمع اليوناني القديم‪ ،‬انفصام راجع لطبيعة‬
‫ّ‬
‫النظام السائد آنذاك في كل املجتمعات القديمة تقريبا‪ ،‬حيث شكل العبيد وسيلة إنتاج رائجة‬
‫في سوق‪.‬‬
‫نقطة أخرى يجب التركيز عليها تتعلق بمسألة املشاركة السياسية في الحكم‪ ،‬فقد كانت حكرا‬
‫على الرجال األحرار دون غيرهم‪ ،‬والعبودية للفقراء العمال والفالحين واألجراء‪ ،‬وال مجال‬
‫للمشاركة السياسية للنساء‪ ،‬بهذا يكون املجتمع اليوناني مجتمع ديمقراطي‪ ،‬مقصور على‬
‫األحرار من الرجال‪ ،‬مع عبودية املمارسة االجتماعية اليومية لغير أولئك الرجال األحرار وذلك‬
‫هو وجه االنفصام في املجتمع اليوناني القديم‪.‬‬

‫‪ - 1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪20،19‬‬


‫‪ - 2‬عبد السالم‪ ،‬رفيق‪( ،‬الاستبداد احلدايث العريب‪ ،‬التجربة التونس ية منوذجا)‪ ،‬جمةل منرب ابن رشد‪ ،‬ع‪.6،2004‬‬
‫نقال عن موقع‪www.ibn.rushd.org:‬‬
‫‪572‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ /ISSN: 2253 – 0592‬اإليداع القانوني‪ 2012 – 2751 :‬صنف (ج)‬

You might also like