مقال حول المادية التاريخية عند كارل ماركس

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 7

‫بِدَايَات‬

‫بحث‬

‫الصفحة الرئيسية ‪‬‬


‫‪‬‬ ‫العددان ‪ ١٩-١٨‬خريف ‪ / ٢٠١٧‬شتاء ‪٢٠١٨‬‬
‫فيها نظر ‪‬‬
‫ي للتّاريخ؟ ‪‬‬
‫الماديّة التاريخيّة أم التصوّر الماد ّ‬

‫العددان ‪ ١٩-١٨‬خريف ‪ / ٢٠١٧‬شتاء ‪٢٠١٨‬‬


‫مقال سابق ‪‬‬
‫‪‬‬ ‫مقال تالي‬

‫ي للتّاريخ؟‬
‫الماديّة التاريخيّة أم التص ّور الماد ّ‬
‫إن طرح إعادة النظر بالمادية التاريخية أو استبدالها بالتصور المادي للتاريخ ليس شكليّا ً بل إنّه يعبّر عن اختالف جوهريّ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ي للتّاريخ إلى منظور يُحكم فهم التاريخ‪،‬‬ ‫حيث ّ‬
‫إن الماديّة التاريخيّة تشير إلى تص ّور منجز‪ ،‬مكتمل‪ ،‬بينما يشير التصوّر الماد ّ‬
‫وبالتالي هو ينطلق من عدم اكتمال البحث في التاريخ بل يؤكد ضرورة هذا البحث‪ .‬لكن إال َم ينحكم هذا البحث؟ هنا ال ب ّد من‬
‫‪.‬تل ّمس مسار نشوء وتطوّر الماركسيّة‪ ،‬لنصل إلى كيف تش ّكلت الماديّة التاريخيّة‬

‫ما هي أه ّميّة ماركس؟‬

‫ي األفكار كانت هي‬ ‫ماذا أضاف كارل ماركس؟ بالتأكيد ليس سهالً التوافق على إجابة واضحة على ما أضافه ماركس‪ ،‬وأ ّ‬
‫المفصل الذي ش ّكل ما بات يُس ّمى الماركسيّة‪ .‬ففي تاريخ الماركسيّة إجابات متع ّددة‪ ،‬وأفكار مختلفة‪ ،‬كان واضحا ً أنّها نتاج‬
‫‪.‬تأثُّر بتيّارات سابقة‪ ،‬لكن أيضا ً بمصالح فئات باتت تعتبر ذاتها ماركسيّة‬

‫أن أه ّميّة ماركس خضعت لمنظورات مختلفة من «مريديه»‪ f،‬ومن الماركسيّات الالحقة‪ .‬فقد سادت «نظرة‬ ‫ك في ّ‬ ‫فال ش ّ‬
‫ي ينطلق من انتقال أنماط اإلنتاج بشكل‬ ‫اقتصاديّة» نتيجة تركيز ماركس على االقتصاد الرأسمال ّي‪ ،‬وساد منظور تطور ّ‬
‫تدرّج ّي و«عفويّ» (أي بال فاعليّة ذاتيّة)‪ .‬ولقد انعكس ك ّل ذلك في تحديد‪ f‬دور الماركسيّة في الصراع الطبق ّي‪ ،‬وفي تحديد‪f‬‬
‫التكتيكات الضروريّة النتصار البروليتاريا‪ .‬وكان واضحا ً ّ‬
‫أن عالقةً ملتبسة تقوم بين االقتصاد ّ‬
‫ي والفلسف ّي‪ ،‬و َميل للتّركيز‬
‫لكن يورغي بليخانوف تمسّك بالجدل‬ ‫ي»‪ .‬لقد انتقد إدوارد بيرنشتاين «بقايا هيغليّة» لدى ماركس‪ ،‬وقصد الجدل‪ّ ،‬‬ ‫على «الماد ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مختصراً إيّاه إلى منظور خط ّي يتعلق بمبدأ التراكم الك ّم ّي والتغيّر النوع ّي‪ ،‬بينما حاول لينين باعتماد فريدريك إنجلز‪،‬‬
‫أن االقتصاد هو المغري‪ ،‬حيث‬ ‫وبالعودة إلى هيغل‪ ،‬أن «ي ْتبَع» إنجلز في فهم ال ّديالكتيك‪ f.‬وفي ك ّل هذه المراحل كان يبدو ّ‬
‫‪.‬تتمظهر الماركسيّة في طابعها االقتصاد ّ‬
‫ي‬

‫مع هيمنة ستالين و«أدلجته» الماركسيّة ساد منظور «تخصّص ّي» قسّم الماركسيّة إلى أربعة فروع «علميّة»‪ :‬األوّل هو‬
‫الماديّة الديالكتيكيّة‪ ،‬والثّاني هو الماديّة التاريخيّة‪ ،‬والثّالث هو االقتصاد السياس ّي‪ ،‬والرّابع هو االشتراكيّة العلميّة‪ّ .‬‬
‫لكن موت‬
‫ستالين فرض «إعادة نظر»‪ ،‬ومحاولةً لتجاوز «الماركسيّة السوفياتيّة بالعودة إلى ماركس»‪ .‬هذا ما أ ّدى إلى «اكتشاف»‬
‫ي»‪ ،‬الذي حظي بتنظير وبحث ونقاش طيلة‬ ‫نصوص لماركس جرت التغطية عليها‪ ،‬منها ما يتعلّق بـ«نمط اإلنتاج اآلسيو ّ‬
‫لكن األه ّم هنا هو «نقد الديامات» (والديامات هي الشكل الذي اتخذه المفهوم المادي‬ ‫خمسينيّات القرن العشرين وستّينيّاته‪ّ .‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫للديالكتيك في االتحاد السوفيتي خالل الفترة الستالينية) التي «غرزها» المنظرون السوفيات في الماركسيّة استنادا إلى‬
‫‪.‬إنجلز‪ ،‬وكان القصد يتعلّق بالجدل‪ .‬هذا ما أنتج النظريّة الماديّة التاريخيّة التي أصبحت سمة الماركسيّة الغربيّة‬

‫ي هو الذي كان يتع ّمم في الماركسيّة الغربيّة منذ األمميّة الثانية‪ ،‬ومن ثَ ّم تحوّل منظورات‬ ‫ال شك في ّ‬
‫أن ال َميل االقتصاد ّ‬
‫ً‬
‫األحزاب االشتراكيّة الديمقراطيّة‪ ،‬رغم مجهودات أنطونيو غرامشي لتنظير «المستوى السياس ّي» انطالقا من الديالكتيك‪f،‬‬
‫ي الذي تضمنّته «ك ّراسات السجن»‪ .‬ورغم مجهودات جورج لوكاش هائلة األه ّميّة في «نقد‬ ‫ي الثر ّ‬
‫وك ّل البحث النظر ّ‬
‫العقل»‪ ،‬وتأسيس أنطولوجيا الوجود االجتماع ّي‪ ،‬ورغم أفكار فلهالم رايش‪ ،‬وربّما آخرين‪ .‬لهذا‪ ،‬ربّما‪ ،‬كان هذا ال َميل في‬
‫أساس العودة إلى «الماديّة» التي كانت تبدو أنها تمثّل تجاوزاً لديالكتيك يع ّممه السوفيات معتمدين‪ f‬على إنجلز‪ ،‬هذا األخير‬
‫الذي بات يشير إلى انحراف مب ّكر في الماركسيّة‪ ،‬وتكريس لما جهد ماركس لتجاوزه‪ ،‬أي «لوثة هيغل»‪ .‬فإنجلز هو الذي‬
‫‪».‬نظّر أسس الديالكتيك في كتابه «ض ّد دوهرنغ‬

‫أفضى رفض الماركسيّة السوفياتيّة إلى رفض «الماديّة الديالكتيكيّة» وقبول «الماديّة التاريخيّة»‪ .‬ولقد جرى تحميل إنجلز‬
‫أن مشكلة الماركسيّة السوفياتيّة تكمن في اعتمادها على «الديامات»إذن‪ ،‬لقد‪ ‬أفضى‬ ‫«خطيئة» الجدل‪ ،‬كما جرى اعتبار ّ‬
‫رفض الماركسيّة السوفياتيّة إلى رفض «الماديّة الديالكتيكيّة» وقبول «الماديّة التاريخيّة»‪ .‬ولقد جرى تحميل إنجلز‬
‫أن مشكلة الماركسيّة السوفياتيّة تكمن في اعتمادها على «الديامات»‪( ‬الجدل)‪ ،‬رغم أنّها‬ ‫«خطيئة» الجدل‪ ،‬كما جرى اعتبار ّ‬
‫أوّل من تخلّى عن الجدل حينما حوّلته إلى «موضوع تأ ّمل ّي» بعدما فصلته عن الواقع من خالل إبعاده عن البحث فيه‪،‬‬
‫ْ‬
‫وباتت الماديّة التاريخيّة هي المنظور الذي يحكم فهم التّاريخ (أو يك ّرر فهم التاريخ كما جرت صياغته انتقائيّاً)‪ ،‬وبات‬
‫االقتصاد السياس ّي هو المنظور الذي يك ّرر مفاهيم االقتصاد الرأسمال ّي‪ .‬ومن ث ّم قاد هذا الرفض إلى تأسيس الماديّة التاريخيّة‬
‫في الماركسيّة الغربيّة على نصّ ماركس الوارد في مق ّدمة كتاب «إسهام في نقد االقتصاد السياس ّي»‪ .‬فما يوضحه ماركس‬
‫ْ‬
‫أصبحت‪ ،‬بعد‪ f‬اكتسابها‪ ،‬الخيط الموجِّ ه‬ ‫ُ‬
‫وصلت إليها‪ ،‬والتي‬ ‫في هذا الكتاب هو التالي‪ )…(« :‬والنتيجة العا ّمة التي‬
‫صالت معيّنة‬ ‫ّ‬
‫لدراساتي‪ ،‬يمكن أن تصاغ صياغة موجزة كما يلي‪ :‬تقوم بين الناس‪ ،‬في اإلنتاج االجتماع ّي لحياتهم‪ِ ،‬‬
‫ضروريّة مستقلّة عن إرادتهم‪ ،‬وهي عالقات إنتاج تقابل درجةً معيّنةً من درجات نم ّو قواهم اإلنتاجيّة الماديّة‪ ،‬ويؤلّف‬
‫مجموع هذه العالقات اإلنتاجيّة البنية االقتصاديّة للمجتمع‪ ،‬وهي القاعدة المش ّخصة التي تقوم فوقها بنية حقوقيّة وسياسيّة‪،‬‬
‫«إن أسلوب إنتاج الحياة الماديّة يشرط سلسلة أفاعيل الحياة‬ ‫والتي تقابلها أشكال معيّنة من الوعي االجتماع ّي»‪ ،‬ويكمل ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة بصورة عا ّمة»‪ ،‬بالتالي «فليس وعي الناس هو الذي يعيّن وجودهم‪ ،‬بل إن وجودهم‬
‫االجتماع ّي على العكس من ذلك هو الذي يعيّن وعيهم» (ط‪ /‬دمشق ص‪ .)٢٥‬وهي الفكرة التي يقول إنجلز إنّها من اكتشاف‬
‫‪.‬ماركس‪ ،‬وهي اإلضافة التي قام بها (مق ّدمة البيان الشيوع ّي‪ ،‬ط‪ /‬موسكو ص‪)١١‬‬

‫كما جرى تكرار ك ّل أفكار ماركس حول التاريخ باعتبار أنّها حقائق علميّة‪ ،‬بما في ذلك «المراحل الخمس» و«النّمط‬
‫اآلسيويّ»‪ ،‬وك ّل السّياقات التي ذكرها فيه‪ .‬وفي هذا تواف ٌ‬
‫ق كامل مع منظور الماركسيّة السوفياتيّة للتاريخ‪ ،‬والمس ّمى الماديّة‬
‫‪.‬التاريخيّة‬

‫إن منطلقات الماديّة التاريخيّة تتمثّل في التعاقب في تط ّور المجتمعات اإلنسانيّة‪ ،‬أي «التحوّل المستم ّر في البنى التحتيّة‬
‫ّ‬
‫ك في ص ّحة هذه الفكرة‪ ،‬لكن كيف يمكن فهم هذا‬ ‫التاريخيّة للمجتمعات» (سمير أمين «عن األزمة»‪ ،‬ص‪ .)٦١‬وال ش ّ‬
‫التعاقب؟ لقد أشار ماركس وإنجلز إلى تعاقب أنماط اإلنتاج‪ ،‬وأشارا إلى ذلك منذ «البيان الشيوع ّي»‪ّ ،‬‬
‫لكن الفكرة كانت عا ّمة‬
‫هنا‪ ،‬وعموميّة‪ ،‬حيث ال ب ّد من تحديد األسس التي تح ّدد طبيعة ك ّل نمط‪ ،‬وكيف ينتقل إلى آخر‪ .‬وباألساس ما هو المنظور‬
‫الذي يحكم فهم ك ّل ذلك؟ أي ما هو المنطق الذي يحكم النظر لفهم ذلك؟‬

‫ي للتاريخ والسياسة‪ ،‬نقد‬ ‫أن الماركسيّة «في شكلها الناضج» تتح ّدد‪ f‬في «تفسير ماد ّ‬ ‫تسود في الماركسيّة الغربيّة فكرة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لالقتصاد السياس ّي الرأسمال ّي‪ ،‬والتزام بالثورة االشتراكيّة»‪ .‬وتعتبر النصّ الوارد في مقدمة «إسهام في نقد االقتصاد‬
‫صا ً برنامجيّاً‪« ،‬يتمتّع بسلطة مرجعيّة رفيعة ج ّداً»‪ ،‬وهو «اإلطار العا ّم الذي وضعه ماركس لتحليل التاريخ ّي‬ ‫السياس ّي» ن ّ‬
‫ي‪ ،‬الذي صار يعرف الحقا ً باسم‪ :‬الماديّة التاريخيّة» (جاكسون‪ ،‬ص‪ .)١٤١‬ويشير هابرماس‪ ،‬الذي‬ ‫والسياس ّي واالقتصاد ّ‬
‫أن ماركس «كان ينظر إلى الماديّة التاريخيّة كنظريّة كليّة للتطوّر االجتماع ّي‪،‬‬ ‫كتب حول إعادة بناء الماديّة التاريخيّة‪ ،‬إلى ّ‬
‫وكأن هابرماس ير ّد على‬
‫ّ‬ ‫وكان يرى في نظريّة الرأسماليّة وحدةً فرعيّة من تلك النظريّة» (بعد ماركس‪ ،‬ص‪ .)٥٥‬ويبدو هنا‬
‫فصلت الماديّة التاريخيّة التي تتعلّق بالتاريخ وأنماط اإلنتاج‪ ،‬عن االقتصاد السياس ّي الذي يخصّ‬ ‫ْ‬ ‫الماركسيّة السوفياتيّة التي‬
‫أن أسس تحليل ماركس للرأسماليّة «يمكن أن تكون أساس النّظر إلى المجتمعات قبل‬ ‫المرحلة الرأسماليّة‪ .‬ويعتبر هابرماس ّ‬
‫رأسماليّة» (ص‪« ،)٥٥‬فليست الماديّة التاريخيّة بالنسبة إل ّي داللة كشفيّة فحسب‪ ،‬بل هي نظريّة‪ ،‬وبالتدقيق نظريّة للتطوّر‬
‫االجتماع ّي تمتلك أيضاً‪ ،‬بفضل مكانتها التأ ّمليّة‪ ،‬قيمةً استدالليّة بالنسبة إلى العمل السياس ّي»‪ ،‬ومن ث ّم يؤ ّكد على «تعاقب‬
‫أساليب اإلنتاج» (ص‪ ،)٨٥‬ومكرّراً وشارحا ً ما ورد في نصّ ماركس في مق ّدمة «إسهام حول هذا التعاقب كحقائق مطلقة‬
‫‪.‬الصحّة» (ص‪ ،٧٥‬و‪)٨٨ - ٨٧‬‬

‫لست في وارد إطالة االستشهاد في هذا المجال‪ ،‬حيث حاولت أن أوضح جوهر الفكرة التي تنبني عليها «نظريّة» الماديّة‬
‫التاريخيّة‪ ،‬التي باتت تتمتّع‪« f‬بسلطة مرجعيّة رفيعة ج ّداً» وتستخدم مقوالت ماركسيّة وهي تشرع في تحليل التاريخ‬
‫والسياسة‪ .‬وهي المقوالت المتداولة والصحيحة‪ ،‬مثل االقتصاد والطبقات والدولة واأليديولوجية‪ f،‬وقوى اإلنتاج وعالقات‬
‫لكن المشكل هنا يتمثّل في اعتبار ّ‬
‫أن هذه المقوالت (أو‬ ‫اإلنتاج‪ ،‬البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة‪ ،‬وأسلوب (أو نمط) اإلنتاج‪ّ .‬‬
‫‪».‬المصطلحات) هي إطار التفسير الماد ّ‬
‫ي للتاريخ‪ ،‬أي تحويلها الى «أداة منهجيّة‬

‫ماهيّة الماركسيّة‬

‫ي» فصاح «أبلغوا هؤالء أنّني‬ ‫كان السؤال حول ماهيّة الماركسيّة متكرّراً منذ‪ f‬ماركس‪ ،‬حيث لمس «االنحراف االقتصاد ّ‬
‫لست ماركسيّاً» (حسب ما أورد إنجلز وهو يفسّر موقع االقتصاد في بنية الماركسيّة كما ذكر في رسائل كتبها لزعماء‬
‫األمميّة الثانية‪« ،‬رسائل حول الماديّة التاريخيّة»)‪ .‬وإذا كانت الماركسيّة ُولدت من هيغل ومن نفيه (أي فورباخ)‪ ،‬فقد مال‬
‫بعض الماركسيّين إلى رفض «البقايا الهيغليّة» في الماركسيّة كما فعل بيرنشتاين‪ ،‬والميل إلى اعتبارها منظوراً اقتصاديّاً‪.‬‬
‫وهو الرفض الذي تكرّر في خمسينيّات القرن العشرين وما بعد‪ f،‬مع الميل لـ «تجاوز االقتصادويّة» نحو الماديّة التاريخيّة‪.‬‬
‫لكن ما هو موقع الديالكتيك في نظريّة ماركس؟‬

‫ليس أفضل هنا من ر ّد ماركس في المق ّدمة الثانية لكتاب «رأس المال» على تبخيس بعض المعلّقين على الكتّاب الذين‬
‫ساء ْتهم طريقة عرضه التي هي «ديالكتيكيّة‪ f‬على نحو ألمان ّي» (ماركس ص‪ .)٢٥‬يقول ماركس «عندما كنت منهمكا ً في‬
‫كتابة المجلّد األ ّول من رأس المال شرع المقلّدون الصاخبون‪ ،‬المتصنّعون‪ ،‬والتافهون للغاية‪ ،‬الذين يلعبون الدور األوّل في‬
‫ألمانيا المعاصرة المثقّفة‪ ،‬يستهينون بهيغل‪ ،‬مثلما كان المقدام موزيس مندلسون في عهد ليسنغ يستهين بسبينوزا ككلب ميت‪.‬‬
‫ولذلك أعلنت عن نفسي بصراحة أنّني تلمي ٌ‪f‬ذ لهذا المف ّكر العظيم‪ ،‬وحتى أنّني عمدت في بعض مواضع الفصل المتعلّق‬
‫وإن الطّابع الصّوف ّي الذي ارتداه الديالكتيك على يدَي هيغل لم يحُل‬ ‫بنظريّة القيمة إلى محاكاة طريقة هيغل في التعبير‪ّ .‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بالذات أوّل من ق ّدم تصويرا شامال وواعيا لألشكال العا ّمة لحركته‪ .‬فالديالكتيك يقف على رأسه‬ ‫إطالقا ً دون أن يكون هيغل ّ‬
‫عند هيغل‪ ،‬بينما ينبغي إيقافه على قدميه بغية الكشف عن اللبّ العقالن ّي تحت القشرة الصوفيّة» (ص‪ .)٢٨-٢٧‬ويشرح‬
‫«إن طريقتي الديالكتيكيّة من حيث أساسُها ال تختلف عن طريقة هيغل وحسب‪ ،‬بل‬ ‫ماركس هذه الفكرة األخيرة بالقول ّ‬
‫فإن عمليّة التّفكير‪ ،‬التي يحوّلها حتّى تحت اسم الفكرة إلى ذات مستقلّة‪ ،‬هي‬ ‫وتناقضها بصورة مباشرة‪ .‬وبالنّسبة إلى هيغل ّ‬
‫ديمبورغ (خالق‪ ،‬مبدع)‪ f‬الواقع الذي ال يش ّكل سوى مجرّد مظهر لتجلّيها الخارج ّي‪ .‬أ ّما عندي فعلى العكس‪ ،‬فالمثال ّي ما هو‬
‫ي منقول إلى رأس اإلنسان ومحوَّل فيه» (ص‪ .)٢٧‬يكمل ماركس‪« :‬لقد أصبح الديالكتيك بشكله الصوف ّي موضةً‬ ‫إاّل ماد ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ألمانيّة‪ ،‬ألنه بدا وكأنه يمجّد األوضاع القائمة‪ .‬وإن الديالكتيك‪ f‬بشكله العقالن ّي ال يثير لدى البرجوازيّة وأيديولوجيّيها‬
‫والذعر‪ ،‬إذ إنّه يتض ّمن إلى جانب الفهم اإليجاب ّي لما هو موجود فهْم نفيه أيضا ً وهالكه‬‫المتحذلقين الجامدين سوى الحقد ّ‬
‫ي شيء‪،‬‬ ‫المحتوم‪ ،‬وينظر إلى ك ّل شكل مجسَّد من خالل الحركة‪ ،‬وبالتّالي من خالل جانبه العابر أيضاً‪ ،‬والديالكتيك‪ f‬ال يعبد أ ّ‬
‫ي من حيث جوهرُه ذاته» (ص‪)٢٨‬‬ ‫ي وثور ّ‬‫‪.‬وهو انتقاد ّ‬

‫‪bid1819_fihanazar_image001_bw.jpg‬‬
‫أن الديالكتيك‪ f‬هو «نتوء هيغلي» في الماركسيّة يجب تجاوزه‪ ،‬وال تكريس االقتصاد كـ «جوهر»‬ ‫ليس من الممكن أن نعتبر ّ‬
‫أن الديالكتيك هو طريقته‪ ،‬ولكنّه‬
‫للماركسيّة‪ ،‬وبالتّالي تجاوز الفهم الذي قامت عليه الماديّة التاريخيّة‪.‬ماركس يعلن هنا ّ‬
‫يميّزها عن طريقة هيغل من حيث «وضع الفكرة»‪ .‬ولقد قام إنجلز بمه ّمة توضيح الديالكتيك‪ f،‬وطابعه الجوهري في جزء‬
‫مه ّم من كتاباته‪ .‬فقد شرح األمر في كتاب «ض ّد دوهرنغ» الذي قرأه ماركس (وأسهم في جزء من الفصل المتعلّق باالقتصاد‬
‫كما يشير إنجلز)‪ ،‬وحاول فهم الطبيعة من خالل الديالكتيك في كتاب «ديالكتيك الطبيعة» (رغم تجاوز العلم لكثير م ّما ورد‬
‫فيه)‪ ،‬وأعاد صياغة جزء من كتاب «ض ّد دوهرنغ» في كتاب «االشتراكيّة‪ :‬الطوبا والعلم» حيث أوضح بك ّل دقّة كيف ّ‬
‫أن‬
‫االشتراكيّة باتت ممكنة نتيجة عنصرين‪ :‬نشوء الطّبقة العاملة واكتشاف الديالكتيك‪ .‬وربّما حاول أن يشرح بالتفصيل عالقة‬
‫الماركسيّة بهيغل وفورباخ في كتاب «لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكالسيكيّة األلمانيّة»‪ ،‬حيث أوضح كيف جرى إيقاف‬
‫ي اعتماداً على فورباخ‪ .‬كذلك لينين كان ينطلق من محوريّة الديالكتيك في‬ ‫جدل هيغل على قدميه عبر بلورة الفهم الماد ّ‬
‫الماركسيّة‪ ،‬وعاد لقراءة هيغل من هذا المنظور (الدفاتر الفلسفيّة‪ ،‬التي هي مل ّخصاته لكتب هيغل وغيره)‪ .‬بهذا‪ ‬ليس من‬
‫أن الديالكتيك هو «نتوء هيغلي» في الماركسيّة يجب تجاوزه‪ ،‬وال تكريس االقتصاد كـ «جوهر»‬ ‫الممكن أن نعتبر ّ‬
‫‪.‬للماركسيّة‪ ،‬وبالتّالي تجاوز الفهم الذي قامت عليه الماديّة التاريخيّة‬

‫نص ماركس‬
‫موقع ّ‬
‫«إن الفكرة الرئيسيّة السائدة [في البيان] وهي ّ‬
‫أن اإلنتاج‬ ‫لكن أين موقع نصّ ماركس آنف ّ‬
‫الذكر في الماركسيّة؟ يقول إنجلز ّ‬ ‫ْ‬
‫ي والبناء االجتماع ّي‪ ،‬الذي ينشأ بالضرورة عنه‪ ،‬يؤلّفان في ك ّل عهد تاريخ ّي أساس التاريخ السياس ّي والفكر ّ‬
‫ي لهذا‬ ‫االقتصاد ّ‬
‫العهد‪ ،‬ولذا فالتّاريخ بأسره (منذ انحالل الملكيّة البدائيّة‪ f‬المشاعيّة لألرض) كان تاريخ نضال بين الطبقات» (ص‪ ،)١١‬وهي‬
‫الفكرة التي توصّل إليها ماركس (ص‪ .)١٢‬وهي الفكرة التي تبلورت بشكل «ناضج» في مق ّدمة «إسهام في نقد االقتصاد‬
‫ت هذه الفكرة الجوهريّة «الطريقة الديالكتيكيّة» لدى ماركس؟‬ ‫السياس ّي»‪ .‬هل نفَ ْ‬

‫لكن تمييزه ال يتعلّق‬


‫في «رأس المال» يتح ّدث ماركس عن طريقته الديالكتيكيّة‪ ،‬وكما أوضحت يميّزها عن طريقة هيغل‪ّ ،‬‬
‫إن األمر يتعلّق بموقع الفكر‪ ،‬هل أنّه هو‬
‫بالديالكتيك بل بـ«القشرة الصوفيّة» (أو المثاليّة) التي تحكم منطق هيغل‪ ،‬حيث ّ‬
‫ّ‬
‫وألن ماركس يتمسّك‬ ‫أن الواقع هو الذي يكون في أساس وجود الفكر؟ ولهذا‪،‬‬‫الجوهر وما الواقع سوى تجلّيه الخارج ّي‪ ،‬أم ّ‬
‫الذكر الوارد في المق ّدمة‪« ،‬حيث عرضت األساس‬ ‫بالديالكتيك بعد أن يوقفه على قدميه‪ f،‬يقول موضحا ً موقع النّصّ سالف ّ‬
‫ّ‬
‫ي لطريقتي» (ص‪ .)٢٥‬ولقد أوردت النصوص التي تشرح معنى ذلك‪ ،‬والتي جرى اعتبار انها من «اكتشاف مارك‬ ‫الماد ّ‬
‫س»‪ .‬وهو يشير إلى ذلك في كتابه «إسهام في نقد االقتصاد السياس ّي»‪« ،‬فالموضوع الواقع ّي يبقى‪ ،‬من قبْل ومن بعد‪،‬‬
‫للذهن فاعليّة تصوّريّة خالصة ونظريّة خالصة‪.‬‬ ‫مستم ّراً في استقالله خارج الذهن‪ ،‬ويبقى كذلك طيلة الوقت الذي يكون فيه ّ‬
‫ي أيضا ً يجب أن يبقى‪ ،‬الموضوع‪ ،‬المجتمع‪ ،‬ماثالً دوما أمام الذهن كنقطة انطالق‬
‫ً‬ ‫وبالتّالي‪ ،‬فعند استعمال المنهج النظر ّ‬
‫‪.‬أولى» (ص‪)٢٧٩‬‬

‫ي بخالف‬ ‫ي للجدل‪ ،‬حيث بتنا نتح ّدث عن الجدل الماد ّ‬ ‫أن هذا النّصّ هو الذي بلور األساس الماد ّ‬
‫ما يشير إليه ماركس هو ّ‬
‫جدل هيغل المثال ّي‪ .‬وبالتّالي لم يكن هدف ماركس تجاوز الديالكتيك‪ f‬لمصلحة الماديّة‪ ،‬بل تأسيس طريقة تفكير علميّة‬
‫جوه ُرها الجدل الذي ينطلق من الوجود وليس من أولويّة الفكر‪ .‬فالواقع يتط ّور في صيرورة جدليّة‪ ،‬وطريقة ماركس هي‬
‫ي الذي‬‫التي تسمح لنا بكشف هذه الصيرورة‪ .‬فقد أوقف ماركس ديالكتيك‪ f‬هيغل على قدميه‪ ،‬أي وضعه على أساسه الماد ّ‬
‫ي‪ ،‬أو األساس الماديّ‪ .‬هذا هو الجدل‬ ‫يشرحه هذا النّصّ ‪ .‬هنا ليس من قطع مع الديالكتيك‪ f‬بل عودة له متض ّمنا ً الفهم الماد ّ‬
‫‪.‬الماد ّ‬
‫ي‬

‫إشكالية الماديّة التاريخيّة‬

‫قامت الماديّة التاريخيّة على تحقيق الفصل بين الجدل والفهم الماديّين‪ f،‬على نفي الجدل لمصلحة الماديّة التاريخيّة‪ ،‬التي باتت‬
‫منظومة قوانين تحكم فهم التاريخ‪ .‬هذا يعيد إلى الماديّة القديمة التي هي مثاليّة‪ ،‬بعدما كان ماركس وإنجلز قد رفعاها إلى أن‬
‫تصبح علما ً عبر الجدل الذي هو صيرورة الواقع‪ ،‬وبالتّالي نقلها من النّظر الشكل ّي إلى فهم البنية‪ ،‬ومن سكونها إلى فهم‬
‫بأن هذا المنظور أعاد إنتاج الماديّة القديمة‪ f‬في شكل جديد عبر االستعانة‬ ‫حركتها‪ ،‬ومسارها‪ .‬وبالتالي‪ ،‬يمكن أن نقول ّ‬
‫أن هذه الخطوة‬ ‫بمصطلحات ومقوالت ماركسيّة‪ ،‬وأنّه أسقط ك ّل اآلليّات التي تسمح بفهم صيرورة الواقع‪ .‬وسنلمس هنا كيف ّ‬
‫ص َوري‪ ،‬المنطق الذي بات يعني «التّحديد الشكل ّي» للظّواهر‪ ،‬والسّابق لفاعليّة الجدل‪ ،‬حيث‬ ‫أفضت إلى تكريس المنطق ال ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ي يش ّكل نقلةً نوعيّة في المنطق‪ .‬وهنا‪ ،‬أسّس ماركس منطقا جديدا‪ ،‬هو في جوهره علم ّي‪ ،‬ألنه ينطلق من‬
‫ّ‬ ‫كان الجدل الماد ّ‬
‫ي هو الصيرورة الواقعيّة مجرَّدةً في الذهن في خطوطها العا ّمة‬ ‫‪.‬الواقع‪ ،‬ويحلّل آليّاته «كما هي»‪ .‬فالجدل الماد ّ‬

‫بالتّالي‪ ،‬إذا كانت الماديّة التاريخيّة تش ّكل انتكاسة نحو الماديّة القديمة‪ ،‬فقد ش ّكلت كذلك انتكاسة إلى المنطق القديم‪ ،‬أي‬
‫ص َوري‪ .‬فالماديّة التاريخيّة التي ع ّممتها «الماركسيّة السوفياتيّة» وراجت في أوروبّا هي «تنظير» بعض نصوص‬ ‫المنطق ال ّ‬
‫ماركس وقولبتها في قوانين حول التاريخ‪ ،‬وكان نصّ ماركس في مق ّدمة «إسهام في نقد االقتصاد السياس ّي» هو جوهر هذه‬
‫القوانين‪ ،‬التي باتت تحكم فهم التاريخ والسياسة‪ .‬لقد تش ّكلت منظومة مستم ّدة من كتابات ماركس باتت تش ّكل منهجيّة (أو‬
‫ي بمجمله وليس الجدل فقط‪ ،‬وتكريس منظومة‬ ‫طريقة) لفهم التاريخ والسياسة والواقع عموماً‪ .‬وبهذا جرت تنحية الجدل الماد ّ‬
‫ي في‬ ‫يقاس الواقع بها‪ ،‬أو يُفهم الواقع (بمعنى التاريخ والسياسة) عبرها‪ .‬هنا نعود لمنطق القياس الذي هو جزء جوهر ّ‬
‫ص َوري‪ ،‬وهو الجزء الذي لفظه هيغل في جدله‪ ،‬وبالتّالي لفظ ْته الماركسيّة‬ ‫‪.‬المنطق ال ّ‬

‫لقد جرى تلخيص بعض أفكار ماركس حول االقتصاد والواقع والتاريخ لكي تصبح نظريّة‪ ،‬وتح ّددت فكرة ماركس حول‬
‫ي بعدد من المصطلحات التي جرى اعتبار أنّها «أسس منهجيّة»‪ ،‬من ث ّم االقتصاد والطّبقات‪ ،‬والبنية‬ ‫األساس االقتصاد ّ‬
‫لكن األخطر هنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫التحتيّة والبنية الفوقيّة‪ ،‬ونمط اإلنتاج‪ ،‬وأيضا ال ّدولة واأليديولوجيّة الخاضعتين «ميكانيكيّا» للبنية التحتيّة‪ّ .‬‬
‫ق‪ ،‬اإلقطاع‪ ،‬والرأسماليّة (وأحيانا ً نمط اإلنتاج‬‫هو اتّخاذ فكرة ماركس حول أنماط اإلنتاج التي ع ّددها في‪ :‬المشاعة‪ ،‬ال ّر ّ‬
‫ّ‬
‫ي) كحقيقة مطلقة‪ ،‬وتطبيقها على ك ّل التاريخ العالم ّي‪ .‬وال شك في أن ماركس حين أشار إلى هذه «األنماط» كان‬ ‫اآلسيو ّ‬
‫«يحْ دس» بنا ًء على معلومات متف ّرقة‪ ،‬غير متسلسلة‪ ،‬وليست عميقة‪ ،‬عن كثير من مراحل التاريخ العالم ّي‪ ،‬وحتى‬
‫األوروب ّي‪ ،‬لهذا لم يعتقد أنّه يق ّرر مراحل ارتقاء التاريخ العالم ّي‪ ،‬ولم يحسم سوى بما كتبه عن الرأسماليّة‪ ،‬بالضّبط ألنّه‬
‫‪.‬درسها بدقّة العالِم‬
‫ي هنا يتمثّل في‪ :‬هل «أسسُ » الماديّة التاريخيّة المشار إليها للتّ ّو هي قوانين ومنهجيّة أم ترميزات‬ ‫السؤال الجوهر ّ‬
‫أن المنهجيّة والقوانين هي أسس تحليل الواقع بينما المصطلحات والترميزات هي‬ ‫ومصطلحات ومفهومات؟ والفارق هنا هو ّ‬
‫أن ك ّل هذه المصطلحات والمفهومات متداولة في الماركسيّة‪ ،‬وهي جزء منها‪،‬‬ ‫ك في ّ‬‫عناصر مساعدة لمنهجيّة تحليل‪ .‬وال ش ّ‬
‫لكنّها ليست قوانين وال منهجيّة‪ ،‬بل تحديدات لمسائل واقعيّة‪ ،‬ترميزات لمسائل واقعيّة‪ ،‬الهدف منها هو مساعدة اآلليّات‬
‫ص َوريّ‪ ،‬التي هي األواليّات التي يقوم عليها التحليل‪ .‬هذا يوضّح‬ ‫المنهجيّة على االشتغال‪ .‬وهي تُصنّف في إطار التحديد ال ّ‬
‫ص َو ري‪ ،‬الذي اعتبره هيغل الخطوة األولى في التفكير‪ ،‬قبل االرتقاء إلى العقل‪ ،‬الذي كان يعني الجدل‪.‬‬ ‫التزام المنطق ال ّ‬
‫ص َوري بعدما تجاوزه هيغل ث ّم ماركس‪ .‬وهذا المنطق وفق «أسس»‬ ‫بالتالي قلت ّ‬
‫إن الماديّة التاريخيّة تعيد‪ f‬إلى المنطق ال ّ‬
‫الماديّة التاريخيّة (رغم االختالف في تحديد هذه األسس‪ ،‬وسيادة التش ّوش فيه نتيجة سيطرة ميول مختلفة كما أوضحت في‬
‫كتاب «التاريخ كصيرورة‪ ،‬أنماط اإلنتاج في التاريخ العالمي») يمكن أن يساعد في تحديد‪ f‬طبيعة نمط اإلنتاج‪ ،‬حيث يمكن‬
‫تحديد‪ f‬طبيعة االقتصاد ووسيلة اإلنتاج وقوى اإلنتاج‪ ،‬والطبقات‪ ،‬ومن ثَ ّم طبيعة الدولة واأليديولوجيّة‪ ،‬أي يمكنه تحديد‪f‬‬
‫طبيعة النّمط كما هو‪ ،‬لكنّه ال يستطيع فهم كيف تش ّكل‪ ،‬وآليّات تط ّوره‪ ،‬وكيف جرى االنتقال إلى نمط آخر‪ .‬ألنّه يعطي‬
‫ص َوري‬‫‪«.‬صورة» عن نمط قائم انطالقا ً من تلك «األسس»‪ ،‬وهذه إشكاليّة المنطق ال ّ‬

‫يُنتج آالف األطنان من األبحاث التي ال قيمة علميّة لها نتيجة أنّها تتح ّدث عن تاريخ وعن واقع انطالقا ً من نصّ لماركس لم‬
‫يتأسّس على فهم عميق للتاريخنتيجة إيالء ماركس األه ّميّة األكبر لدراسة الرأسماليّةيظهر ذلك واضحا ً عبر تل ّمس كيفيّة‬
‫التّعامل مع أنماط اإلنتاج‪ ،‬إذ يقوم البحث على تفسير أفكار ماركس‪ ،‬ويجري الشغل على تأويلها‪ ،‬واستنتاج تص ّورات جديدة‬
‫انطالقا ً منها‪ .‬فك ّل ما أشار إليه ماركس صحيح‪ ،‬وهنا تح ّل نتائج ماركس (ضعيفة األساس المعرف ّي) مح َّل تحليل التاريخ‪،‬‬
‫ويجري الغوص في تأويالت للتّاريخ بعيدة عن دراسة التاريخ‪ .‬وهذا ما كان‪ ‬يُنتج آالف األطنان من األبحاث التي ال قيمة‬
‫علميّة لها نتيجة أنّها تتح ّدث عن تاريخ وعن واقع انطالقا ً من نصّ لماركس لم يتأسّس على فهم عميق للتاريخ‪( ‬بالطبعنتيجة‬
‫إيالء ماركس األه ّميّة األكبر لدراسة الرأسماليّة)‪ .‬وبهذا‪ ،‬بدل حتى «األسس» التي يجب أن يقوم البحث في التاريخ عليها‪،‬‬
‫باتت التحديدات ألنماط اإلنتاج هي التي تحكم التاريخ‪ ،‬وهذا ما كان يُنتج أطنانا ً من األبحاث «المجرَّدة»‪ ،‬وحتى المزوّرة‪.‬‬
‫وكان االعتماد على «خماسيّة» ماركس‪ ،‬وحتى على فكرة نمط اإلنتاج اآلسيويّ‪ ،‬يمنع تحديد‪ f‬األسس التي تخصّ «التحديد‬
‫أن هذا التّحديد‪ f‬كان سيوصل إلى‬ ‫ك في ّ‬‫الص َّوري» لنمط اإلنتاج بشكل صحيح‪ ،‬ولهذا سادت عشوائيّةٌ في هذا المجال‪ .‬وال ش ّ‬
‫ي‪ ،‬ويعيد البحث في التاريخ على أسس علميّة‬ ‫‪.‬نفي هذه الخماسيّة‪ ،‬وكذلك النّمط اآلسيو ّ‬

‫ي الى اتّباع المنطق‬


‫ي وثور ّ‬
‫كان ذلك يقتضي تحديد ماهيّة الماركسيّة بشكل صحيح‪ .‬فقد سمح تجاوز الديالكتيك كمنهج نقد ّ‬
‫الص َّوري‪ ،‬وإلى التزام نص ّي ببعض أفكار ماركس «غير النّاضجة» حول أنماط اإلنتاج‪ ،‬بتشكيل «صورة» عن التاريخ هي‬
‫‪.‬ال تاريخيّة‪ ،‬وكذلك الكسل عن البحث المع ّمق في التاريخ‪ ،‬وأصالً فهم المنظور الماركس ّي للتاريخ‬

‫ي للواقع وللتاريخ وبين الديالكتيك‪ f،‬حيث اكتشف هيغل القوانين العا ّمة للحركة في الفكر‪،‬‬ ‫ربط ماركس بين فهمه الماد ّ‬
‫ي هو منظور فهم الواقع والتاريخ‪،‬‬ ‫واعتبر ماركس أنّها انعكاس للقوانين العا ّمة للحركة في الواقع‪ .‬وبهذا بات الجدل الماد ّ‬
‫الذهن في بحثه في الواقع والتاريخ‪ .‬فك ّل شيء ينحكم للجدل‪ ،‬والصيرورة هي الواقع‬ ‫بالضّبط ألنّه القوانين العا ّمة التي تحكم ّ‬
‫في حركته الجدليّة‪ .‬والواقع متع ّدد‪ f‬المستويات‪ ،‬كما أن التاريخ متعدد‪ f‬أنماط اإلنتاج‪ ،‬وللبحث في الواقع والتاريخ هناك‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أن ك ّل المصطلحات التي أشرت‬ ‫ك في ّ‬
‫«ترميزات»‪ ،‬أو مصطلحات تح ّدد عناصر الواقع ال ب ّد منها لفهم الصيرورة‪ .‬وال ش ّ‬
‫إليها من قبل أساسيّة كترميزات أثناء البحث في الواقع‪ ،‬لكنّها ترميزات يجب أن تخضع لمنطق الجدل الماديّ‪ .‬فالواقع يبدأ‬
‫في االقتصاد حسب ماركس والماركسيّة‪ ،‬رغم الخلط الذي شاب ذلك وفرض االنحراف االقتصادوي في الماركسيّة‪ ،‬وهو ما‬
‫أن االقتصاد هو العنصر المحدِّد «في التحليل األخير»‪ ،‬أي دون أن يبخس‬ ‫حاول إنجلز مواجهته منذ البدء حين أشار إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪.‬العناصر األخرى فاعليّتها‪ .‬وعلى أساس االقتصاد تتشكل الطبقات وتصارعها‪ ،‬وعليهما معا تقوم ال ّدولة وتتشكل األفكار‬

‫لكن الواقع «في حركة دائمة»‪ ،‬م ّما يفرض فهمه انطالقا ً من صيرورته‬ ‫هذا تحديد «ستاتيك ّي»‪ ،‬يشير إلى الفهم الماديّ‪ّ ،‬‬
‫إن مسار االقتصاد‬ ‫الجدليّة‪ .‬وهنا يتح ّول الستاتيك إلى فاعليّة‪ ،‬إلى حركة‪ .‬وسنلمس في ك ّل هذه العمليّة فاعليّة الجدل‪ ،‬إذ ّ‬
‫أن الجدل يخترق «رأس‬ ‫يفترض صيرورة جدليّة (وهذا ما أربك إلتوسير حينما اكتشف‪ ،‬اعتماداً على موريس غودلييه‪ّ ،‬‬
‫المال»)‪ ،‬وصراع الطبقات يخترقه التناقض الجدل ّي‪ ،‬وأيضا ً األفكار (واأليديولوجيّة)‪ ،‬ومن ث ّم ال ّدولة التي هي نفي النفي‬
‫لمصلحة الطبقة المسيطرة‪ .‬في ك ّل هذه المستويات يسري الجدل‪ ،‬حيث إنّها تتض ّمن تناقضها الخاصّ ‪ْ .‬‬
‫لكن ال ب ّد من أن نلمس‬
‫إن تناقض مستوى ينعكس على تناقض المستوى اآلخر‬ ‫أن التّناقض يحكم العالقة بين المستويات ذاتها‪ ،‬حيث ّ‬ ‫‪.‬كذلك ّ‬

‫المسألة هنا ال تتعلّق باالقتصاد فقط‪ ،‬رغم أهميّته وأساسيّته‪ ،‬بل بكلّيّة البنية المجتمعيّة التي تتط ّور في صيرورة تناقضيّة‪،‬‬
‫صيرورة‪ ،‬كما حدثت في الماضي‪ ،‬وكما هي اآلن‪،‬‬ ‫ي هو المنهجيّة التي تسمح لنا بفهم هذه ال ّ‬ ‫وتنحكم للجدل‪ .‬والجدل الماد ّ‬
‫‪.‬وبالتالي فهم ما يجب فعله من أجل المستقبل‬
‫ال ب ّد من استعادة هيغل في ماركس والماركسيّة‪ ،‬وال ب ّد من فهم التركيب الذي قام به ك ّل من ماركس وإنجلز بين الجدل‬
‫الهيغل ّي الذي هو خالصة تط ّور الفكر الفلسف ّي‪ ،‬وبين الماديّة التي نضجت مع فورباخ‪ ،‬لتشكيل منهجيّة «طريقة» جديدة‬
‫ص َوري) وتصبح هي المنهج العلم ّي الوحيد حسب ما أشار موريس كونفورث (الفلسفة‬ ‫تتجاوز منطق أرسطو (المنطق ال ّ‬
‫المفتوحة والمجتمع المفتوح‪ ،‬ص‪ .)٥٧‬وقد شرّح ماركس وإنجلز ذلك بك ّل دقّة كما ّ‬
‫أظن‪ .‬بالتّالي في الماركسيّة هناك الجدل‬
‫ي هو جوهر (ومركز)‬ ‫ي للتاريخ‪ .‬الجدل الماد ّ‬
‫ي الذي هو منهجيّة التفكير في الواقع‪ ،‬والذي يقوم على الفهم الماد ّ‬
‫الماد ّ‬
‫ي بعد منطق‬ ‫الماركسيّة‪ ،‬هو اإلضافة الجوهريّة التي تبلورت مع ماركس وإنجلز‪ ،‬وحقّ ْ‬
‫قت نقلة نوعيّة في الوعي البشر ّ‬
‫أرسطو (المنطق الص َّوري)‪ .‬األمر هنا يتعلّق بطريقة تفكير جديدة‪ ،‬هي أعظم ما جاء به ماركس وإنجلز معتمدَين‪ f‬على‬
‫ي يصبح هو القانون الحاكم لهذا التطوّر‪ .‬هذا األمر األخير هو الماديّة‬ ‫هيغل‪ ،‬وليس بوضع «سيستم» للتط ّور البشر ّ‬
‫‪.‬التاريخيّة‪ ،‬التي ليست سوى انحراف نقوص ّي‬

‫المراجعالمراجع‬
‫‪‬‬ ‫إسهام في نقد االقتصاد السياسي‪ ،‬كارل‪ f‬ماركس‪ ،‬ترجمة أنطون حمصي‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪١٩٧٠ ,١‬‬
‫ي ‪ ،‬كارل ماركس وفريدريك إنجلز‪ ،‬دار التقدم موسكو‪ ,‬د‪.‬ت ‪‬‬ ‫‪.‬بيان الحزب الشيوع ّ‬
‫عن األزمة‪ ،‬الخروج من أزمة الرأسماليّة أو الخروج من الرأسماليّة المأزومة‪ ،‬سمير أمين ترجمة إنعام ابراهيم شرف‪ ،‬‬
‫روافد للنشر والتوزيع‪ ,‬القاهرة‪ ,‬ط‪٢٠١٤ ,١‬‬
‫نزع ما ّديّة كارل ماركس‪ ،‬األدب والنظريّة الماركسيّة‪ ،‬ليونارد جاكسون‪ ،‬ترجمة ثائر ديب‪ ،‬المركز القومي للترجمة‪ ,‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪٢٠١٤ ,١‬‬
‫بعد ماركس‪ ،‬يورغن هابرماس‪ f،‬ترجمة مح ّمد ميالد‪ ،‬دار الحوار للنشر والتوزيع‪ ,‬الالذقيّة ‪ -‬سوريا‪ ،‬ط‪ ٢٠٠٢ ,١‬‬
‫رسائل حول الما ّديّة التاريخيّة‪ ،‬فريدريك إنجلز‪ ،‬دار التق ّدم موسكو ‪‬‬
‫رأس المال‪ ،‬كارل ماركس‪ ،‬ترجمة فهد كم نقش‪ ،‬دار التقدم‪ ,‬موسكو‪ ،‬ط‪ ١٩٨٥ ,١‬‬
‫التاريخ كصيرورة‪ ،‬أنماط اإلنتاج في التاريخ‪ f‬العالمي (نقد النظريّة الماركسيّة‪ f‬حول أنماط اإلنتاج)‪ ،‬سالمة كيلة‪ ،‬دار ‪‬‬
‫التنوير‪ ,‬بيروت‪ ،‬ط‪٢٠١٠ ,١‬‬
‫العقالنيّة والال عقالنيّة في االقتصاد‪ ،‬موريس غودلييه‪ ،‬ترجمة عصام الخفاجي‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ,‬دمشق‪ ،‬ط‪ ١٩٩٥ ,١‬‬
‫الفلسفة المفتوحة والمجتمع المفتوح‪ ،‬ر ّد على نقد كارل بوبر للماركسيّة‪ ،‬موريس كونفورث‪ ،‬ترجمة فاروق عبد القادر‪ ،‬‬
‫دار األدب والثقافة‪ ,‬بيروت‪ ،‬ط‪١٩٧١ ,١‬‬

You might also like