‫كتاب أسرار الصوم‬

‫وهو الكتاب السادس من ربع العبادات‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫احلمد هلل ال ذي أعظم على عب اده املنة ‪ ،‬مبا دفع عنهم كيد الش يطان وفنه ‪ ،‬ورد أمله وخيب ظنه ‪ ،‬إذ جعل الص وم حص نا‬
‫ألوليائه وجنة ‪ ،‬وفتح هلم به أبواب اجلنة ‪ ،‬وعرفهم أن وسيلة الشيطان إىل قلوهبم الشهوات املستكنة ‪ ،‬وإن بقمعها تصبح النفس‬
‫املطمئنة ظ اهرة الش وكة يف قصم خص مها قوية املنة ‪ ،‬والص الة على حممد قائد اخللق ‪ ،‬وممهد الس نة ‪ ،‬وعلى آله وأص حابه ذوي‬
‫األبصار الثاقبة والعقول املرجحة وسلم تسليما كثريا‪.‬‬
‫أما بعد ‪ :‬فإن الصوم ربع اإلميان مبقتضى قوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬الصوم نصف الصبر ))‪ 1‬ومبقتضى قوله صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬الصبر نصف اإليمان ))‪ 2‬مث هو متميز خباصية النسبة إىل اهلل تعاىل من بني سائر األركان إذ قال اهلل تعاىل فيما‬
‫‪3‬‬
‫حك اه عنه نبيه ص لى اهلل عليه وس لم ‪ (( :‬كل حس نة بعشر أمثالها إلى س بعمائة ض عف إال الص يام ‪ ،‬فإنه لي وأنا أج زي به ))‬
‫والص وم نصف الصرب فقد ج اوز ثوابه ق انون‬ ‫(الزمر ‪))10 :‬‬ ‫وقد ق ال اهلل تع اىل ‪ ﴿ :‬إنما ي وفى الص ابرون أج رهم بغ ير حس اب ﴾‬
‫التقدير واحلساب وناهيك يف معرفة فضله قوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند اهلل‬
‫من ريح المسك يقول اهلل عز وجل إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه ألجلي فالصوم لي وأنا أجزي به ))‪ 4‬وقال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ (( :‬للجنة باب يقال له الريال ال يدخله إال الصائمون وهو موعود بلقاء اهلل تعالى في جزء صومه ))‪ 5‬وقال صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ (( :‬للصائم فرحتان ‪ :‬فرحة عند إفطاره ‪ ،‬وفرحة عند لقاء ربه ))‪ 6‬وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬لكل شيء باب‬
‫وباب العبادة الصوم ))‪ 7‬وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬نوم الصائم عبادة ))‪ 8‬وروى أبو هريرة رضي اهلل عنه أنه صلى اهلل عليه‬
‫وس لم ق ال ‪ (( :‬إذا دخل ش هر رمض ان فتحت أب واب الجنة وغلقت أب واب الن ار وص فدت الش ياطين ون ادى من اد يا ب اغي‬
‫الخير هلم ويا باغي الشر أقصر ))‪ 9‬وقال وكيع يف قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في األيام الخالية ﴾‬
‫(احلاقة ‪:‬‬

‫‪ )24‬هي أيام الصيام إذ تركوا فيها األكل والشرب ‪ ،‬وقد مجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف رتبة املباهاة بني الزهد يف الدنيا‬

‫‪ 1‬حديث (( الصوم نصف الصرب )) أخرجه الرتمذي وحسنه من حديث رجل من بين سليم وابن ماجه من حديث أيب هريرة ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 2‬حديث (( الصرب نصف اإلميان )) أخرجه أبو نعيم يف احللية ‪ ،‬واخلطيب يف التاريخ من حديث ابن مسعود بسند حسن ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ 3‬حديث ((كل حسنة بعشر أمثاهلا إىل سبعمائة ضعف إال الصوم ‪..‬احلديث )) أخرجاه من حديث أيب هريرة ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ 4‬حديث (( والذي نفسي بيده خللوف فم الصائم ‪..‬احلديث)) أخرجاه من حديثه وهو بعض الذي قبله ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ 5‬حديث (( للجنة باب يقال له الريان ‪..‬احلديث )) أخرجاه من حديث سهل بن سعد ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪ 6‬حديث (( للصائم فرحتان ‪..‬احلديث )) أخرجاه من حديث أيب هريرة ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ 7‬حديث (( لكل شيء باب وباب العبادة الصوم)) أخرجه ابن املبارك يف الزهد ‪ ،‬ومن طريقه أبو الشيخ يف الثواب من حديث أيب الدرداء بسند ضعيف ‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ 8‬حديث (( نوم الصائم عبادة )) رويناه يف أمايل ابن منده من رواية ابن املغرية القواس عن عبد اهلل بن عمر بسند ضعيف ولعله عبد اهلل بن عمرو فإهنم مل‬ ‫‪8‬‬

‫يذكروا البن املغرية رواية إال عنه ‪ ،‬ورواه أبو منصور الديلمي يف مسند الفردوس من حديث عبد اهلل بن أيب أوىف ‪ ،‬وفيه سليمان بن عمرو النخعي أحد الكذابني ‪.‬‬
‫‪ 9‬حديث (( إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب اجلنة)) أخرجه الرتمذي وقال ‪ :‬غريب ‪ .‬وابن ماجه واحلاكم وصححه على شرطهما من حديث أيب هريرة ‪،‬‬ ‫‪9‬‬

‫وصحح البخاري وقفه على جماهد وأصله متفق عليه دون قوله ((ونادى مناد))‪.‬‬
‫وبني الصوم فقال ‪ (( :‬إن اهلل تعالى يباهي مالئكته بالشاب العابد فيقول أيها الشاب التارك شهوته ألجلي المبذل شبابه لي‬
‫أنت عندي كبعض مالئكتي ))‪ 10‬وقال صلى اهلل عليه وسلم يف الصائم ‪ (( :‬يقول اهلل عز وجل ‪ :‬انظروا يا مالئكتي إلى عبدي‬
‫ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي ))‪ 11‬وقيل يف قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬فال تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما‬
‫(الزمر ‪)10 :‬‬‫كانوا يعملون ﴾ (الس جدة ‪ )17 :‬قيل كان عملهم الصيام ألنه قال ‪ ﴿ :‬إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾‬
‫فيف رغ للص ائم ج زاؤه إفراغا وجيازف جزافا فال ي دخل حتت وهم وتق دير ‪ ،‬وج دير ب أن يك ون ك ذلك ؛ ألن الص وم إمنا ك ان له‬
‫ومشرفا بالنسبة إليه وإن كانت العبادات كلها له كما شرف البيت بالنسبة إىل نفسه واألرض كلها له ملعنيني أحدمها ‪ :‬أن الصوم‬
‫كف وترك وهو يف نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد ‪ ،‬ومجيع أعمال الطاعات مبشهد من اخللق ومرأى ‪ ،‬والصوم ال يراه إال اهلل عز‬
‫وجل فإنه عمل يف الباطن بالصرب اجملرد ‪ .‬والثاين ‪ :‬أنه قهر لعدو اهلل عز وجل فإن وسيلة الشيطان لعنه اهلل الشهوات ‪ ،‬وإمنا تقوى‬
‫الش هوات باألكل والش رب ‪ ،‬ول ذلك ق ال ص لى اهلل عليه وس لم ‪ (( :‬إن الش يطان ليج ري من ابن آدم مج رى ال دم فض يقوا‬
‫مجاريه بالجوع ))‪ ، 12‬ولذلك قال صلى اهلل عليه وسلم لعائشة رضي اهلل عنها ‪ (( :‬داومي قرع باب الجنة ‪ ،‬قالت ‪ :‬بماذا ؟‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬بالجوع ))‪ 13‬وسيأيت فضل اجلوع يف كتاب شره الطعام ‪ ،‬وعالجه من ربع املهلكات ‪ .‬فلما كان‬
‫الصوم على اخلصوص قمعا للشيطان وسدا ملسالكه وتضييقا جملاريه استحق التخصيص بالنسبة إىل اهلل عز وجل ففي قمع عدو اهلل‬
‫(حممد ‪:‬‬ ‫نصرة هلل سبحانه وناصر اهلل تعاىل موقوف على النصرة له قال اهلل تعاىل ‪ ﴿ :‬إن تنصروا اهلل ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾‬
‫فالبداية باجلهد من العبد واجلزاء باهلداية من اهلل عز وجل ‪ ،‬ول ذلك ق ال تع اىل ‪ ﴿ :‬وال ذين جاه دوا فينا لنه دينهم س بلنا ﴾‬ ‫‪)7‬‬

‫(العنكب وت ‪ )69 :‬وقال تعاىل ‪ ﴿ :‬إن اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ (الرعد ‪ )11 :‬وإمنا التغري تكثري الشهوات فهي‬
‫مرتع الشياطني ومرعاهم فما دامت خمصبة مل ينقطع ترددهم وما داموا يرتددون مل ينكشف للعبد جالل اهلل سبحانه وكان حمجوبا‬
‫عن لقائه ‪ ،‬وق ال ص لى اهلل عليه وس لم ‪ (( :‬ل وال أن الش ياطين يحوم ون على قل وب ب ني آدم لنظ روا إلى ملك وت الس موات‬
‫))‪ 14‬فمن ه ذا الوجه ص ار الص وم ب اب العب ادة وص ار جنة وإذا عظمت فض يلته إىل ه ذا احلد فال بد من بي ان ش روطه الظ اهرة‬
‫والباطنة بذكر أركانه وسننه وشروطه الباطنة ونبني ذلك بثالثة فصول ‪.‬‬

‫الفصل األول ‪ :‬في الواجبات والسنن الظاهرة واللوازم بإفساده‬

‫أما الواجبات الظاهرة فستة‬

‫( األول ) ‪ :‬مراقبة أول شهر رمض ان وذلك برؤية اهلالل فإن غم فاستكمال ثالثني يوما من شعبان ونعين بالرؤية العلم‬
‫" وحيصل ذلك بقول عدل واحد " وال يثبت هالل شوال إال بقول عدلني احتياطا للعبادة ومن مسع عدال ووثق بقوله وغلب على‬
‫ظنه ص دقه لزمه الص وم وإن مل يقض القاضي به فليتبع كل عبد يف عبادته م وجب ظنه ‪ ،‬وإذا رؤي اهلالل ببل دة ومل ير ب أخرى‬
‫وكان بينهما أقل من مرحلتني وجب الصوم على الكل ‪ ،‬وإن كان أكثر كان لكل بلدة حكمها وال يتعدى الوجوب ‪ ( .‬الثاني )‬

‫‪ 10‬حديث (( إن اهلل تعاىل يباهي مالئكته بالشاب العابد فيقول أيها الشاب التارك شهوته ‪..‬احلديث )) أخرجه ابن عدي من حديث ابن مسعود بسند ضعيف ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪ 11‬حديث (( يقول اهلل تعاىل ملالئكته ‪ :‬يا مالئكيت انظروا إىل عبدي ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي )) ‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪ 12‬حديث (( إن الشيطان جيري من ابن آدم جمرى الدم ‪..‬احلديث)) متفق عليه من حديث صفية دون قوله (( فضيقوا جماريه باجلوع ))‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪ 13‬حديث (( قال لعائشة ‪ :‬داومي قرع باب اجلنة ‪..‬احلديث )) مل أجد له أصال ‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪ 14‬حديث (( لوال أن الشياطني حيومون على قلوب بين آدم ‪..‬احلديث)) أخرجه أمحد من حديث أيب هريرة بنحوه ‪.‬‬ ‫‪14‬‬
‫‪ :‬النية ‪ :‬وال بد لكل ليلة من نية مبيتة معينة جازمة فلو نوى أن يصوم شهر رمضان دفعة واحدة مل يكفه ‪ ،‬وهو الذي عنينا بقولنا‬
‫" كل ليلة " ولو نوى بالنهار مل جيزه صوم رمضان وال صوم الفرض إال التطوع وهو الذي عنينا بقولنا " مبيتة " ولو نوى الصوم‬
‫مطلقا أو الف رض مطلقا مل جيزه حىت ين وي فريضة اهلل عز وجل ص وم رمض ان ولو ن وى ليلة الشك أن يص وم غ دا إن ك ان من‬
‫رمضان مل جيزه فإهنا ليست جازمة إال أن تستند نيته إىل قول شاهد عدل ‪ ،‬واحتمال غلط العدل أو كذبه اليبطل اجلزم أو يستند‬
‫إىل استصحاب حال كالشك يف الليلة األخرية من رمضان ‪ ،‬فذلك ال مينع جزم النية أو يستند إىل اجتهاد كاحملبوس يف املطمورة‬
‫إذا غلب على ظنه دخ ول رمض ان باجته اده فش كه ال مينعه من النية ‪ .‬ومهما ك ان ش اكا ليلة الشك مل ينفعه جزمه النية باللس ان‬
‫فإن النية حملها القلب ‪ .‬وال يتصور فيه جزم القصد مع الشك كما لو قال يف وسط رمضان أصوم غدا إن كان من رمضان فإن‬
‫ذلك اليضره ألنه ترديد لفظ وحمل النية ال يتصور فيه تردد ‪ ،‬بل هو قاطع بأنه من رمضان ‪ ،‬ومن نوى ليال مث أكل مل تفسد نيته ‪،‬‬
‫ولو نوت امرأة يف احليض مث طهرت قبل الفجر صح صومها ‪ ( .‬الثالث ) ‪ :‬اإلمساك عن إيصال شيء إىل اجلوف عمدا مع ذكر‬
‫الص وم فيفسد ص ومه باألكل والش رب والس عوط واحلقنة ‪ ،‬وال يفسد بالفصد واحلجام ةواالكتحال ‪ ،‬وإدخ ال امليل يف األذن‬
‫واإلحليل إال أن يقطر فيه ما يبلغ املثانة وما يصل بغري قصد من غب ار الطريق أو ذبابة تس بق إىل جوفه أو ما يس بق إىل جوفه يف‬
‫املضمضة ‪ ،‬فال يفطر إال إذا ب الغ يف املضمضة فيفطر ألنه مقصر وهو ال ذي أردنا بقولنا " عم دا " فأما ذكر الص وم فأردنا به‬
‫االحرتاز عن الناسي فإنه اليفطر ‪ ،‬أما من أكل عامدا يف طريف النهار مث ظهر له أنه أكل هنارا بالتحقيق فعليه القضاء وإن بقى على‬
‫حكم ظنه واجته اده فال قض اء عليه وال ينبغي أن يأكل يف ط رىف النه ار إال بنظر واجته اد ‪ ( .‬الرابع ) ‪ :‬اإلمس اك عن اجلم اع‬
‫وح ده مغيب احلش فة ‪ ،‬وإن ج امع ناس يا مل يفطر ‪ ،‬وإن ج امع ليال أو احتلم فأص بح جنبا مل يفطر ‪ ،‬وإن طلع الفجر وهو خمالط‬
‫أهله فنزع يف احلال صح صومه ‪ ،‬فإن صرب فسد ولزمته الكفارة ‪ ( .‬الخامس ) ‪ :‬اإلمساك عن االستمناء ؛ وهو إخراج املين قصدا‬
‫جبم اع أو بغري مجاع ف إن ذلك يفطر وال يفطر بقبلة زوجته وال مبض اجعتها ما مل ي نزل ‪ ،‬لكن يك ره ذلك إال أن يك ون ش يخا أو‬
‫مالكا إلربه ‪ ،‬فال بأس بالتقبيل وتركه أوىل ‪ .‬وإذا كان خياف من التقبيل أن ينزل فقبل وسبق املين أفطر لتقصريه ‪ ( .‬السادس ) ‪:‬‬
‫اإلمساك عن إخراج القيء فاالستقاء يفسد الصوم وإن ذرعه القيء مل يفسد صومه ‪ ،‬وإذا ابتلع خنامة من حلقه أو صدره مل يفسد‬
‫صومه رخصة لعموم البلوى به إال أن يبتلعه بعد وصوله إىل فيه فإنه يفطر عند ذلك ‪.‬‬

‫وأما لوازم اإلفطار فأربعة‬

‫القضاء والكفارة والفدية وإمساك بقية النهار تشبيها بالصائمني ؛ أما القضاء ‪ :‬فوجوبه عام على كل مسلم مكلف ترك‬
‫الصوم بعذر أو بغري عذر ‪ ،‬فاحلائض تقضي الصوم وكذا املرتد ‪ .‬وأما الكافر والصيب واجملنون فال قضاء عليهم وال يشرتط التتابع‬
‫يف قض اء رمض ان ولكن يقضي كيف ش اء متفرقا وجمموعا ‪ .‬وأما الكف ارة ‪ :‬فال جتب إال باجلم اع ‪ ،‬وأما االس تمناء واألكل‬
‫والشرب وما عدا اجلماع ال جيب به كفارة فالكفارة عتق رقبة فإن أعسر فصوم شهرين متتابعني وإن عجز فإطعام ستني مسكينا‬
‫م دا م دا ‪ .‬وأما إمس اك بقية النه ار ‪ :‬فيجب على من عصى ب الفطر أو قصر فيه ‪ .‬وال جيب على احلائض إذا طه رت إمس اك بقية‬
‫هنارها ‪ ،‬وال على املسافر إذا قدم مفطرا من سفر بلغ مرحلتني ‪ .‬وجيب اإلمساك إذا شهد باهلالل عدل واحد يوم الشك ‪ ،‬والصوم‬
‫يف الس فر أفضل من الفطر إال إذا مل يطق وال يفطر ي وم خيرج وك ان مقيما يف أوله وال ي وم يق دم إذا ق دم ص ائما ‪ .‬وأما الفدية ‪:‬‬
‫فتجب على احلامل واملرضع إذا أفطرتا خوفا على ول ديهما ‪ ،‬لكل ي وم مد حنطة ملس كني واحد مع القض اء والش يخ اهلرم ‪ ،‬إذا مل‬
‫يصم تصدق عن كل يوم مدا ‪ .‬وأما السنن فست ‪ :‬تأخري السحور ‪ ،‬وتعجيل الفطر بالتمر أو املاء قبل الصالة ‪ ،‬وترك السواك‬
‫بعد الزوال ‪ ،‬واجلود يف شهر رمضان ملا سبق من فضائله يف الزكاة ‪ ،‬ومدارسة القرآن ‪ ،‬واالعتكاف يف املسجد ال سيما يف العشر‬
‫األخري فهو عادة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬كان إذا دخل العشر األواخر طوى الفراش وشد المئزر ودأب وأدأب‬
‫أهله ))‪ 15‬أي ‪ :‬أدام وا النصب يف العب ادة إذ فيها ليلة الق در واألغلب أهنا يف أوتارها وأش به األوت ار ليلة إح دى وثالث ومخس‬
‫وس بع ‪ ،‬والتت ابع يف ه ذا االعتك اف أوىل ف إن ن ذر اعتكافا متتابعا ‪ ،‬أو ن واه انقطع تتابعه ب اخلروج منغري ض رورة ‪ ،‬كما لو خ رج‬
‫لعيادة أو شهادة أو جنازة أو زيارة أو جتديد طهارة ‪ ،‬وإن خرج لقضاء احلاجة مل ينقطع ‪ ،‬وله أن يتوضأ يف البيت وال ينبغي أن‬
‫يعرج على شغل آخر (( كان صلى اهلل عليه وسلم ال يخرج إال لحاجة اإلنسان وال يسأل عن المريض إال مارا ))‪ 16‬ويقطع‬
‫التتابع باجلماع وال ينقطع بالتقبيل ‪ ،‬وال بأس يف املسجد بالطيب وعقد النكاح وباألكل والنوم وغسل اليد يف الطست فكل ذلك‬
‫قد حيتاج إليه يف التتابع ‪ ،‬وال ينقطع التتابع خبروج بعض بدنه (( كان صلى اهلل عليه وسلم يدني رأسه فترجله عائشة رضي اهلل‬
‫عنها وهي في الحجرة ))‪ 17‬ومهما خرج املعتكف لقضاء حاجته فإذا عاد ينبغي أن يستأنف النية إال إذا كان قد نوى أوال عشرة‬
‫أيام مثال ‪ ،‬واألفضل مع ذلك التجديد ‪.‬‬

‫الفصل الثاني ‪ :‬في أسرار الصوم وشروطه الباطنة‬

‫اعلم أن الصوم ثالث درجات ‪ :‬صوم العموم ‪ ،‬وصوم اخلصوص ‪ ،‬وصوم خصوص اخلصوص ‪ .‬وأما صوم العموم ‪:‬‬
‫فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله ‪ .‬وأما صوم الخصوص ‪ :‬فهو كف السمع والبصر واللسان واليد‬
‫والرجل وسائر اجلوارح عن اآلثام ‪ .‬وأما صوم خصوص الخصوص ‪ :‬فصوم القلب عن اهلضم الدنية واألفكار الدنيوية وكفه عما‬
‫سوى اهلل عز وجل بالكلية ‪ ،‬وحيصل الفطر يف هذا الصوم بالفكر فيما سوى اهلل عز وجل واليوم اآلخر وبالفكر يف الدنيا إال دنيا‬
‫تراد للدين ‪ ،‬فإن ذلك من زاد اآلخرة وليس من الدنيا حىت قال أرباب القلوب ‪ :‬من حتركت مهته بالتصرف يف هناره لتدبري ما‬
‫يفطر عليه كتبت عليه خطيئة ‪ ،‬فإن ذلك من قلة الوثوق بفضل اهلل عز وجل وقلة اليقني برزقه املوعود ‪ ،‬وهذه رتبة األنبياء‬
‫والصديقني واملقربني وال يطول النظر يف تفصيلها قوال ولكن يف حتقيقها عمال ‪ ،‬فإنه إقبال بكنه اهلمة على اهلل عز وجل وانصراف‬
‫عن غري اهلل سبحانه وتلبس مبعىن قوله عز وجل ‪ ﴿ :‬قل اهلل ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾ (األنعام ‪ )91 :‬وأما صوم اخلصوص ‪:‬‬
‫وهو صوم الصاحلني فهو كف اجلوارح عن اآلثام ومتامه بستة أمور ‪ ( :‬األول ) ‪ :‬غض البصر وكفه عن االتساع يف النظر إىل كل‬
‫ما يذم ويكره وإىل كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر اهلل عز وجل ‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬النظرة سهم مسموم من‬
‫سهام إبليس لعنه اهلل ‪ ،‬فمن تركها خوفا من اهلل آتاه اهلل عز وجل إيمانا يجد حالوته في قلبه ))‪ 18‬وروى جابر عن أنس عن‬

‫‪ 15 15‬حديث (( كان إذا دخل العشر األواخر طوى الفراش ‪..‬احلديث)) متفق عليه من حديث عائشة بلفظ (( أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد املئزر )) ‪.‬‬
‫‪ 16 16‬حديث (( كان ال خيرج إال حلاجة وال يسأل عن املريض إال مارا )) متفق على الشطر األول من حديث عائشة ‪ ،‬والشطر الثاين رواه أبو داود بنحوه بسند‬
‫لني ‪.‬‬
‫‪ 17 17‬حديث (( كان يدين رأسه لعائشة )) متفق عليه من حديثها ‪.‬‬
‫‪ 18 18‬حديث (( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ‪..‬احلديث )) أخرجه احلاكم وصحح إسناده من حديث حذيفة ‪.‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال ‪ (( :‬خمس يفطرن الصائم ‪ :‬الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة‬
‫))‪ ( . 19‬الث اني ) ‪ :‬حفظ اللس ان عن اهلذبان والك ذب والغيبة والنميمة والفحش واجلف اء واخلص ومة واملراء ‪ ،‬وإلزامه الس كوت‬
‫وش غله ب ذكر اهلل س بحانه وتالوة الق رآن فه ذا ص وم اللس ان ‪ ،‬وقد ق ال س فيان ‪ :‬الغيبة تفسد الص وم رواه بشر بن احلارث عنه ‪،‬‬
‫وروى ليث عن جماهد ‪ :‬خصلتان يفسدان الصيام ‪ :‬الغيبة والكذب ‪ .‬وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬إنما الصوم جنة فإذا كان‬
‫أح دكم ص ائما فال ي رفث وال يجهل وإن ام رؤ قاتله أو ش اتمه فليقل إني ص ائم إني ص ائم ))‪ 20‬وج اء يف اخلرب ‪ :‬أن ام رأتني‬
‫صامتا على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأجهدمها اجلوع والعطش من آخر النهار حىت كادتا أن تتلفا فبعثتا إىل رسول اهلل‬
‫ص لى اهلل عليه وس لم يس تأذناه يف اإلفط ار فأرسل إليهما ق دحا وق ال ص لى اهلل عليه وس لم ‪ (( :‬قل لهما قيئا فيه ما أكلتما ))‬
‫فقاءت إحدامها نصفه دما عبيطا وحلما غريضا ‪ ،‬وقاءت األخرى مثل ذلك حىت مألتاه فعجب الناس من ذلك فقال صلى اهلل عليه‬
‫وس لم ‪ (( :‬هات ان ص امتا عما أحل اهلل لهما وأفطرتا على ما ح رم اهلل تع الى عليهما قع دت إح داهما إلى األخ رى فجعلتا‬
‫يغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم ))‪ ( 21‬الثالث ) ‪ :‬كف السمع عن اإلصغاء إىل كل مكروه ألن كل ما حرم قوله حرم‬
‫(املائ دة‬ ‫اإلصغاء إليه ولذلك سوى اهلل عز وجل بني املستمع وآكل السحت فقال تعاىل ‪ ﴿ :‬سماعون للكذب أكالون للسحت ﴾‬
‫‪ )42 :‬وقال عز وجل ‪ ﴿ :‬لوال ينهاهم الربانيون واألحبار عن قولهم اإلثم وأكلهم السحت ﴾ (املائ دة ‪ ، )63 :‬فالسكوت على‬
‫الغيبة حرام وقال تعاىل ‪ ﴿ :‬إنكم إذا مثلهم ﴾ (النساء ‪ )140 :‬ولذلك قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬المغتاب والمستمع شريكان‬
‫في اإلثم ))‪ ( . 22‬الرابع ) ‪ :‬كف بقية اجلوارح عن اآلثام من اليد والرجل عن املكاره ‪ ،‬وكف البطن عن الشبهات وقت اإلفطار‬
‫‪ ،‬فال معىن للصوم وهو الكف عن الطعام احلالل مث اإلفطار على احلرام فمثال هذا الصائم مثال من يبين قصرا ويهدم مصرا ‪ ،‬فإن‬
‫الطعام احلالل إمنا يضر بكثرته ال بنوعه ‪ ،‬فالصوم لتقليله ‪ ،‬وتارك االستكثار من الدواء خوفا من ضرره إذا عدل إىل تناول السم‬
‫ك ان س فيها ‪ ،‬واحلرام سم مهلك لل دين ‪ ،‬واحلالل دواء ينفع قليله ويضر كث ريه ‪ .‬وقصد الص وم تقليله وقد ق ال ص لى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ (( :‬كم من صائم ليس له من صومه إال الجوع والعطش ))‪ 23‬فقيل هو الذي يفطر على احلرام ‪ ،‬وقيل هو الذي ميسك‬
‫عن الطعام احلالل ويفطر على حلوم الناس بالغيبة وهو حرام ‪ ،‬وقيل هو الذي ال حيفظ جوارحه عن اآلثام ‪ ( .‬الخامس ) ‪ :‬أن ال‬
‫يس تكثر من الطع ام احلالل وقت اإلفط ار حبيث ميتلىء جوفه فما من وع اء أبغض إىل اهلل عز وجل من بطن مليء من حالل ‪.‬‬
‫وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو اهلل وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة هناره ‪ ،‬ورمبا يزيد عليه يف ألوان‬
‫الطعام ؟ حىت استمرت العادات بأن تدخر مجيع األطعمة لرمضان فيؤكل من األطعمة فيه ما ال يؤكل يف عدة أشهر ‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫مقصود الصوم اخلواء وكسر اهلوى لتقوى النفس على التقوى ‪ .‬وإذا دفعت املعدة من ضحوة هنار إىل العشاء حىت هاجت شهوهتا‬
‫وق ويت رغبتها مث أطعمت من الل ذات وأش بعت زادت ل ذهتا وتض اعفت قوهتا وانبعث من الش هوات ما عس اها ك انت راك دة لو‬
‫ت ركت على عادهتا ‪ ،‬ف روح الص وم وس ره تض عيف الق وى اليت هي وس ائل الش يطان يف الع ود إىل الش رور ‪ ،‬ولن حيصل ذلك إال‬

‫‪ 19‬حديث جابر عن أنس (( مخس يفطرن الصائم ‪..‬احلديث )) أخرجه األزدي يف الضعفاء من رواية جابان عن أنس وقوله جابر تصحيف قال أبو حامت الرازي‬ ‫‪19‬‬

‫هذا كذاب {ذكره األلباني في الضعيفة (‪.} )1065‬‬

‫‪ 20 20‬حديث (( الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما ‪..‬احلديث )) أخرجاه من حديث أيب هريرة ‪.‬‬
‫‪ 21 21‬حديث (( إن امرأتني صامتا على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪..‬احلديث)) يف الغيبة للصائم أخرجه أمحد من حديث عبيد موىل رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم احلديث بسند فيه جمهول ‪.‬‬
‫‪ 22 22‬حديث (( املغتاب واملستمع شريكان يف اإلمث )) غريب ‪ ،‬وللطرباين من حديث ابن عمر بسند ضعيف هنى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن الغيبة وعن‬
‫االستماع إىل الغيبة ‪.‬‬
‫‪ 23‬حديث (( كم من صائم ليس له من صيامه إال اجلوع والعطش )) أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث أيب هريرة {صحيح الجامع (‪.})3490‬‬ ‫‪23‬‬
‫بالتقليل وهو أن يأكل أكلته اليت ك ان يأكلها كل ليلة لو مل يصم فأما إذا مجع ما ك ان يأكل ض حوة إىل ما ك ان يأكل ليال فلم‬
‫ينتفع بصومه ‪ .‬بل من اآلداب أن ال يكثر النوم بالنهار حىت حيس باجلوع والعطش ويستشعر ضعف القوى فيصفو عند ذلك قلبه‬
‫ويس تدمي يف كل ليلة ق درا من الض عف حىت خيف عليه هتج ده وأوراده فعسى الش يطان أن ال حيوم على قلبه فينظر إىل ملك وت‬
‫السماء ‪ ،‬وليلة القدر عبارة عن الليلة اليت ينكشف فيها شيء من امللكوت وهو املراد بقوله تعاىل ‪ ﴿ :‬إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾‬
‫(الق در ‪ )1 :‬ومن جعل بني قلبه وبني صدره خمالة من الطعام فهو عنه حمجوب ‪ ،‬ومن أخلى معدته فال يكفيه ذلك لرفع احلجاب ما‬
‫مل خيل مهته عن غري اهلل عز وجل وذلك هو األمر كله ‪ .‬ومب دأ مجيع ذلك تقليل الطع ام ‪ ،‬وس يأيت له مزيد بي ان يف كت اب األطعمة‬
‫إن شاء اهلل عز وجل ‪ ( .‬السادس ) ‪ :‬أن يكون قلبه بعد اإلفطار معلقا مضطربا بني اخلوف والرجاء إذ ليس يدرى أيقبل صومه‬
‫فهو من املق ربني ؟ أو ي رد عليه فهو من املمق وتني ؟ وليكن ك ذلك يف آخر كل عب ادة يفرغمنها فقد روى عن الحسن بن أبي‬
‫الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال ‪ :‬إن اهلل عز وجل جعل شهر رمضان مضمارا خللقه يستبقون فيه لطاعته فسبق‬
‫قوم ففازوا وختلف أقوام فخابوا فالعجب كل العجب للضاحك الالعب يف اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه املبطلون ‪ ،‬أما‬
‫واهلل لو كشف الغطاء الشتغل احملسن بإحسانه واملسيء بإساءته أي ‪ :‬كان سرور املقبول يشغله عن اللعب وحسرة املردود تسد‬
‫عليه ب اب الض حك ‪ .‬وعن األحنف بن قيس أنه قيل له ‪ :‬إنك ش يخ كبري ‪ ،‬وإن الص يام يضعفك ‪ ،‬فق ال ‪ :‬إين أع ده لسفر طويل‬
‫والصرب على طاعة اهلل سبحانه أهون من الصرب على عذابه ‪ .‬فهذه هي املعاين الباطنة يف الصوم ‪.‬‬
‫فإن قلت ‪ :‬فمن اقتصر على كف شهوة البطن والفرج وترك هذه املعاين ‪ ،‬فقد قال الفقهاء ‪ :‬صومه صحيح فما معناه ؟ فاعلم‬
‫أن فقه اء الظ اهر يثبت ون ش روط الظ اهر بأدلة هي أض عف من ه ذه األدلة اليت أوردناها يف ه ذه الش روط الباطنة ال س يما الغيبة‬
‫وأمثاهلا ‪ ،‬ولكن ليس إىل فقه اء الظ اهر من التكليف ات إال ما يتيسر على عم وم الغ افلني املقبلني على ال دنيا ال دخول حتته ‪ .‬فأما‬
‫علماء اآلخرة فيعنون بالصحة القبول وبالقبول الوصول إىل املقصود ‪ .‬ويفهمون أن املقصود من الصوم التخلق خبلق من أخالق اهلل‬
‫عز وجل وهو الص مدية ‪ ،‬واالقت داء باملالئكة يف الكف عن الش هوات حبسب اإلمك ان ف إهنم م نزهون عن الش هوات ‪ ،‬واإلنس ان‬
‫رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته ودون رتبة املالئكة الستيالء الشهوات عليه وكونه مبتلى مبجاهدهتا ‪،‬‬
‫فكلما اهنمك يف الش هوات احنط إىل أس فل الس افلني والتحق بغم ار البه ائم ‪ ،‬وكلما قمع الش هوات ارتفع إىل أعلى عل يني والتحق‬
‫ب أفق املالئكة ‪ ،‬واملالئكة مقرب ون من اهلل عز وجل وال ذي يقت دى هبم ويتش به ب أخالقهم يق رب من اهلل عز وجل كق رهبم ‪ ،‬ف إن‬
‫الش بيه من الق ريب ق ريب ‪ ،‬وليس الق ريب مث باملك ان بل بالص فات ‪ ،‬وإذا ك ان ه ذا سر الص وم عند أرب اب األلب اب وأص حاب‬
‫القلوب فأي جدوى لتأخري أكلة ومجع أكلتني عند العشاء مع اإلهنماك يف الشهوات اآلخر طول النهار ؟ ولو كان ملثله جدوى‬
‫فأي معىن لقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬كم من صائم ليس له من صومه إال الجوع والعطش )) وهلذا قال أبو الدرداء ‪ :‬يا‬
‫حبذا نوم األكياس وفطرهم كيف ال يعيبون صوم احلمقى وسهرهم ‪ ،‬ولذرة من ذوي يقني وتقوى أفضل وأرجح من أمثال اجلبال‬
‫عب ادة من املغ رتبني ‪ .‬ول ذلك ق ال بعض العلم اء ‪ :‬كم من ص ائم مفطر وكم من مفطر ص ائم ‪ .‬واملفطر الص ائم هو ال ذي حيفظ‬
‫جوارحه عن اآلثام ويأكل ويشرب ‪ ،‬والصائم املفطر هو الذي جيوع ويعطش ويطلق جوارحه ‪ .‬ومن فهم معىن الصوم وسره علم‬
‫أن مثل من كف عن األكل واجلم اع وأفطر مبخالطة اآلث ام كمن مسح على عضو من أعض ائه يف الوض وء ثالث م رات فقد وافق‬
‫يف الظ اهر الع دد إال أنه ت رك املهم وهو الغسل فص الته م ردودة عليه جبهله ‪ ،‬ومثل من أفطر باألكل وص ام جبوارحه عن املك اره‬
‫كمن غسل أعضاؤه مرة مرة فصالته متقبلة إن شاء اهلل إلحكامه األصل وإن ترك الفضل ‪ .‬ومثل من مجع بينهما كمن غسل كل‬
‫عضو ثالث مرات فجمع بني األصل والفضل وهو الكمال ‪ ،‬وقد قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم‬
‫وضع يده على مسعه وبصره‬ ‫(النساء ‪)58 :‬‬ ‫أمانته ))‪24‬وملا تال قوله عز وجل ‪ ﴿ :‬إن اهلل يأمركم أن تؤدوا األمانات إلى أهلها ﴾‬
‫فقال ‪ (( :‬السمع أمانة والبصر أمانة ))‪ 25‬ولوال أنه من أمانات الصوم ملا قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬فليقل إني صائم )) أي‬
‫‪ :‬إين أودعت لس اين ألحفظه فكيف أطلقه جبوابك ؟ ف إذن قد ظهر أن لكل عب ادة ظ اهرا وباطناوقش را ولبا ولقش رها درج ات‬
‫ولكل درجة طبقات فإليك اخلرية اآلن يف أن تقنع بالقشر عن اللباب أو تتحيز إىل غمار أرباب األلباب‪.‬‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬في التطوع بالصيام وترتيب األوراد فيه‬

‫اعلم أن اس تحباب الص وم يتأكد يف األي ام الفاض لة وفواضل األي ام بعض ها يوجد يف كل س نة وبعض ها يوجد يف كل ش هر‬
‫وبعضها يف كل أسبوع ‪ ،‬أما يف السنة بعد أيام رمضان فيوم عرفة ويوم عاشوراء والعشر األول من ذي احلجة والعشر األول من‬
‫احملرم ‪ ،‬ومجيع األشهر احلرم مظان الصوم وهي أوقات فاضلة (( وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يكثر صوم شعبان حتى‬
‫كان يظن أنه في رمضان ))‪ ، 26‬ويف اخلرب (( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر اهلل المحرم ))‪ 27‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ (( :‬ص وم ي وم من ش هر ح رام أفضل من ثالثين من غ يره وص وم ي وم من رمض ان أفضل من ثالثين من ش هر ح رام ))‪ 28‬ويف‬
‫احلديث ‪ (( :‬من صام ثالثة أيام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب اهلل له بكل يوم عبادة تسعمائة عام ))‪ 29‬ويف‬
‫اخلرب (( إذا ك ان النصف من ش عبان فال ص وم ح تى رمض ان ))‪ 30‬وهلذا يس تحب أن يفطر قبل رمض ان أياما ف إن وصل ش عبان‬
‫برمضان فجائز (‪ ) 31‬فعل ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مرة وفصل مرارا كثرية ( ‪ ) 32‬وال جيوز أن يقصد استقبال رمضان‬
‫بيومني أو ثالثة إال أن يوافق وردا له وكره بعض الصحابة أن يصام رجب كله حىت ال يضاهي بشهر رمضان فاألشهر الفاضلة ‪:‬‬
‫ذو احلجة واحملرم ورجب وشعبان ‪ .‬واألشهر احلرم ‪ :‬ذو القعدة وذو احلجة واحملرم ورجب ‪ .‬واحد فرد وثالثة سرد ‪ ،‬وأفضلها ذو‬
‫احلجة ألن فيه احلج واألي ام املعلوم ات واملع دودات وذو القع دة من األش هر احلرم وهو من أش هر احلج ‪ .‬وش وال من أش هر احلج‬
‫وليس من احلرم ‪ ،‬واحملرم ورجب ليسا من أش هر احلج ‪ ،‬ويف اخلرب (( ما من أي ام العمل فيهن أفضل وأحب إلى اهلل عز وجل من‬

‫‪ 24 24‬حديث (( إمنا الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته )) أخرجه اخلرائطي يف مكارم األخالق من حديث ابن مسعود يف حديث يف األمانة والصوم وإسناده‬
‫حسن ‪.‬‬
‫‪ 25 25‬حديث (( ملا تال قوله تعاىل ﴿ إن اهلل يأمركم أن تؤدوا األمانات إىل أهلها ﴾ وضع يده على مسعه وبصره وقال ‪ :‬السمع أمانة والبصر أمانة )) أخرجه أبو‬
‫داود من حديث أيب هريرة دون قوله (( السمع أمانة )) ‪.‬‬
‫‪ 26 26‬حديث (( كان يكثر صيام شعبان ‪..‬احلديث )) متفق عليه من حديث عائشة ‪.‬‬
‫‪ 27 27‬حديث (( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر اهلل احملرم )) أخرجه مسلم من حديث أيب هريرة ‪ .‬ألنه ابتداء السنة فبناؤها على اخلري أحب وأرجى لدوام‬
‫بركته ‪.‬‬
‫‪ 28 28‬حديث (( صوم يوم من شهر حرام أفضل من صوم ثالثني ‪..‬احلديث )) مل أجده هكذا ويف املعجم الصغري للطرباين من حديث ابن عباس (( من صام يوما‬
‫من احملرم فله بكل يوم ثالثون يوما )) ‪.‬‬
‫‪ 29 29‬حديث (( من صام ثالثة أيام من شهر حرام اخلميس واجلمعة والسبت ‪..‬احلديث )) أخرجه األزدي يف الضعفاء من حديث أنس ‪.‬‬
‫‪ 30 30‬حديث (( إذا كان النصف من شعبان فال صوم حىت رمضان )) أخرجه األربعة من حديث أيب هريرة وابن حبان يف صحيحه عنه (( إذا كان النصف من‬
‫شعبان فأفطروا حىت جييء رمضان)) وصححه الرتمذي ‪.‬‬
‫‪ 31 31‬حديث (( وصل شعبان برمضان مرة )) أخرجه األربعة من حديث أم سلمة (( مل يكن يصوم من السنة شهرا تاما إال شعبان يصل به رمضان )) وأخرج أبو‬
‫داود والنسائي حنوه من حديث عائشة ‪.‬‬
‫‪ 32 32‬حديث (( فصل شعبان من رمضان مرارا )) أخرجه أبو داود من حديث عائشة قالت ‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتحفظ من هالل شعبان ما ال‬
‫يتحفظ من غريه فإن غم عليه عد ثالثني يوما مث صام )) وأخرجه الدارقطين وقال ‪ :‬إسناده صحيح ‪ ،‬واحلاكم وقال ‪ :‬صحيح على شرط الشيخني ‪.‬‬
‫أيام عشر ذي الحجة إن صوم يوم منه يعدل صيام سنة وقيام ليلة منه تعدل قيام ليلة القدر ‪ ،‬قيل ‪ :‬وال الجهاد في سبيل اهلل‬
‫تع الى ؟ ق ال ‪ :‬وال الجه اد في س بيل اهلل عز وجل ‪ ،‬إال من عقر ج واده وأهريق دمه ))‪ 33‬وأما ما يتك رر يف الش هر ‪ :‬ف أول‬
‫الشهر وأوسطه وآخره ووسطه األيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر واخلامس عشر ‪ ،‬وأما يف األسبوع ‪ :‬فاإلثنني واخلميس‬
‫واجلمعة فهذه هي األيام الفاضلة فيستحب فيها الصيام وتكثري اخلريات لتضاعف أجورها بربكة هذه األوقات ‪ .‬وأما صوم الدهر ‪:‬‬
‫فإنه ش امل للكل وزي ادة وللس الكني فيه ط رق فمنهم من ك ره ذلك إذ وردت أخب ار ت دل على كراهته ‪ ،‬والص حيح أنه إمنا يك ره‬
‫لشيئني ‪ :‬أحدمها ‪ :‬أن ال يفطر يف العيدين وأيام التشريق فهو الدهر كله (‪ )34‬واآلخر أن يرغب عن السنة يف اإلفطار وجيعل الصوم‬
‫حجرا على نفسه مع أن اهلل سبحانه حيب أن تؤتى رخصه كما حيب أن تؤتى عزائمه ‪ ،‬فإذا مل يكن شيء من ذلك ورأى صالح‬
‫نفسه يف صوم الدهر فليفعل ذلك ‪ ،‬فقد فعله مجاعة من الصحابة والتابعني رضي اهلل عنهم ‪ .‬وقال صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه‬
‫أبو موسى األش عري ‪ (( :‬من ص ام ال دهر كله ض يقت عليه جهنم وعقد تس عين ))‪ 35‬ومعن اه ‪ :‬مل يكن له فيها موضع ‪ ،‬ودونه‬
‫درجة أخ رى وهو ص وم نصف ال دهر ب أن يص وم يوما ويفطر يوما وذلك أشد على النفس وأق وى يف قهرها ‪ ،‬وقد ورد يف فض له‬
‫أخب ار كث رية ألن العبد فيه بني ص وم ي وم وش كر ي وم ‪ ،‬فقد ق ال ص لى اهلل عليه وس لم ‪ (( :‬عرضت علي مف اتيح خ زائن ال دنيا‬
‫وكنوز األرض فرددتها وقلت ‪ :‬أجوع يوما وأش بع يوما ‪ ،‬أحم دك إذا ش بعت وأتضرع إليك إذا جعت ))‪ 36‬وق ال صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ (( :‬أفضل الصيام صوم أخي داود ‪ ،‬كان يصوم ويفطر يوما ))‪ 37‬ومن ذلك (( منازلته صلى اهلل عليه وسلم لعبد‬
‫اهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما في الصوم وهو يقول ‪ :‬إني أطيق أكثر من ذلك ‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم صم يوما وأفطر‬
‫يوما ‪ ،‬فق ال ‪ :‬إني أريد أفضل من ذلك ‪ ،‬ق ال ص لى اهلل عليه وس لم ‪ :‬ال أفضل من ذلك ))‪ 38‬وقد روي أنه ص لى اهلل عليه‬
‫وسلم ما صام شهرا كامال قط إال رمضان (‪ )39‬بل كان يفطر منه ومن ال يقدر على صوم نصف الدهر فال بأس بثلثه ‪ ،‬وهو أن‬
‫يص وم ويفطر ي ومني ‪ ،‬وإذا ص ام ثالثة من من أول الش هر ‪ ،‬وثالثة من الوسط ‪ ،‬وثالثة من اآلخر فهو ثلث ‪ ،‬وواقع يف األوق ات‬
‫الفاضلة وإن صام اإلثنني واخلميس واجلمعة فهو قريب من الثلث وإذا ظهرت أوقات الفضيلة فالكمال يف أن يفهم اإلنسان معىن‬
‫الصوم وأن مقصوده تصفية القلب وتفريغ اهلم هلل عز وجل ‪ .‬والفقيه بدقائق الباطن ينظر إىل أحواله فقد يقتضي حاله دوام الصوم‬
‫وقد يقتضي دوام الفطر وقد يقتضي م زج اإلفط ار بالص وم ‪ .‬وإذا فهم املعىن وحتقق ح ده يف س لوك طريق اآلخ رة مبراقبة القلب مل‬
‫خيف عليه صالح قلبه وذلك ال يوجب ترتيبا مستمرا ‪ .‬ولذلك روي أنه صلى اهلل عليه وسلم (( كان يصوم حتى يقال ال يفطر ‪،‬‬

‫‪ 33 33‬حديث (( ما من أيام العمل فيهن أفضل وأحب إىل اهلل من عشر ذي احلجة ‪..‬احلديث )) أخرجه الرتمذي وابن ماجه من حديث أيب هريرة دون قوله (( قيل‬
‫‪ :‬وال اجلهاد ‪..‬اخل )) وعند البخاري من حديث ابن عباس (( ما العمل يف أيام أفضل من العمل يف هذا العشر ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وال اجلهاد ؟ قال ‪ :‬وال اجلهاد ‪ ،‬إال رجل‬
‫خرج خياطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء )) ‪.‬‬
‫‪ 34 34‬األحاديث الدالة على كراهة صيام الدهر أخرجها البخاري ومسلم من حديث عبد اهلل بن عمرو ويف حديث البن ماجه (( ال صام من صام األبد )) وملسلم‬
‫من حديث أيب قتادة (( قيل ‪ :‬يا رسول اهلل كيف مبن صام الدهر ؟ قال ‪ :‬ال صام وال أفطر )) وأخرج النسائي حنوه من حديث عبد اهلل بن عمر وعمران بن‬
‫حصني وعبد اهلل بن الشخري ‪.‬‬
‫‪ 35 35‬حديث أيب موسى األشعري (( من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعني )) أخرجه أمحد والنسائي يف الكربى وابن حبان وحسنه أبو علي‬
‫الطوسي ‪.‬‬
‫‪ 36 36‬حديث (( عرضت علي مفاتيح خزائن الدنيا ‪..‬احلديث )) أخرجه الرتمذي من حديث أيب أمامة بلفظ ((عرض علي ريب ليجعل يل بطحاء مكة ذهبا ))‬
‫وقال ‪ :‬حسن ‪.‬‬
‫‪ 37 37‬حديث (( أفضل الصيام صوم أخي داود ‪..‬احلديث )) أخرجاه من حديث عبد اهلل بن عمر ‪.‬‬
‫‪ 38 38‬حديث (( منازلته لعبد اهلل بن عمر وقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬صم يوما وأفطر يوما ‪..‬احلديث )) أخرجاه من حديثه ‪.‬‬
‫‪ 29‬حديث (( ما صام شهرا كامال قط إال رمضان )) أخرجاه من حديث عائشة ‪.‬‬ ‫‪39‬‬
‫ويفطر حتى يقال ال يصوم ‪ ،‬وينام حتى يقال ال يقوم ‪ ،‬ويقوم حتى يقال ال ينام ))‪ 40‬وكان ذلك حبسب ما ينكشف له بنور‬
‫النبوة من القيام حبق وق األوقات ‪ .‬وقد كره العلم اء أن يوايل بني اإلفطار أكثر من أربعة أيام تقديرا بيوم العيد وأي ام التش ريق ‪،‬‬
‫وذكروا أن ذلك يقسي القلب ‪ ،‬ويولد رديء العادات ويفتح أبواب الشهوات ‪ ،‬ولعمري هو كذلك يف حق أكثر اخللق ال سيما‬
‫من يأكل يف اليوم والليل مرتني ‪ .‬فهذا ما أردنا ذكره من ترتيب الصوم املتطوع به ‪ .‬واهلل أعلم بالصواب ‪.‬‬

‫مت كتاب (( أسرار الصوم )) واحلمد هلل جبميع حمامده كلها ما علمنا منها وما مل نعلم ‪ ،‬على مجيع نعمه كلها ما علمنا منها‬
‫وما مل نعلم وصلى اهلل على س يدنا حممد وآله وص حبه وسلم وك رم وعلى كل عبد مصطفى من أهل األرض والس ماء ‪ .‬يتلوه إن‬
‫شاء اهلل تعاىل كتاب (( أسرار الحج )) واهلل املعني ال رب غريه وما توفيقي إال باهلل وحسبنا اهلل ونعم الوكيل‪.‬‬

‫‪ 4040‬حديث (( كان يصوم حىت يقال ال يفطر ‪..‬احلديث)) أخرجاه من حديث عائشة وابن عباس دون ذكر (( القيام والنوم ))‬
‫والبخاري من حديث أنس (( كان يفطر من الشهر حىت يظن أن ال يصوم منه شيئا ‪ ،‬ويصوم حىت يظن أن ال يفطر منه شيئا ‪،‬‬
‫وكان ال تشاه تراه من الليل مصليا إال رأيته وال نائما إال رأيته )) ‪.‬‬