Professional Documents
Culture Documents
شرفة على العدم - إبراهيم المكرمي
شرفة على العدم - إبراهيم المكرمي
Telegram @Numidia_Library
شرفة على العدم
رشفة عىل العدم /رواية
إبراهمي املكريم
مينع نسخ أو استعامل أي جزءٍ من هذا الكتاب بأي وسيلة تصويرية أو
الكرتونية أو مياكنيكية ..مبا فيه التجسيل الفوتوغرايف والتجسيل عىل أرشطة
أو أقراص مقروءة أو أي وسيلة نرش أخرى ..مبا فهيا حفظ املعلومات أو
اسرتجاعها من دون إذن خيط من النارش.
إبراهيم المكرمي
أال حبـــذا هنـــد وأرض هبـــا هنـــ ُد
وهنــد أىت مــن دوهنا النأي والبع ُد
احلطيئة
5
1
بخلع
ِ قدمي بعد أن أ َمرين ٍ
مستفزة القيدَ أمام ٍ
بطريقة ِ
الرشطة رمى ُ
رجل
ّ
دونية منه كانت خليط ًا من االزدراء والواجب والشفقة ٍ ٍ
نظرة حذائي ،ويف
-واألخرية أكثر وقع ًا يف نفيس -كان واضح ًا ّ
بأن املكلفني هبذا األعامل
مترنوا عىل مقابلة السجني
حيث يبدو عليهم أهنم ّ ُ جرى اختيارهم بعناية
ري حرب. والتعامل معه كأس ِ
ٍ
ولكنة ال تدعو إىل الثقة وال ٍ
وشخصية متعالية قال يل بصوته اجلهوري
رت وكأنني سأهليه ثم ألوذاألرحييةُ :خ ْذّ ،قيد قدميك .وابتعد عني مسافة م ٍ
أي حلظة .عندها أيقنت أنه ال يرى يل يف ّ بالفرار ،فبدا مستعد ًا لالنقضاض ع ّ
جيد ًا ،فأنا مل أعرف اهلرب إال من واقعي ومن أفكاري ومن رصاعايت النفسية
ومع ذلك مل أستطع اهلروب منها ،ولكن يبدو أهنا بروتوكوالت اعتادوا عليها
فهم ال هيتمون بقضيتك بقدر اهتاممهم بتفعيل إجراءات األمان التي ظلت
يدي ورحت أمتعن هذه َ
الثقيل بكلتا ّ تتطور مع تطور البرشية .أمسكت القيدَ
القطعة التي خيطف ملعاهنا بريق العني .أحكمت الوثاق عىل قدمي اليمنى
ومن ثم اليرسى ،ثم وقفت أنتظر قراره هل أحترك أم أبقى يف مكاين.
ُ -مدّ يديك.
بكل قوةّ ،
وظل هيز قال يل .ثم جلب قيد ًا آخر وضغط به عىل معصمي ّ
ِ
القيد حتى لو يدي لن تستطيعا النجا َة منوأن ّموقعه ّ
ُ القيدَ ليتأكد أنه َ
أخذ
العب خفة .أمرين باالنتظار ،ابتعد مساف ًة أربع َة أمتا ٍر التفت
َ كنت ساحر ًا أو
7
فيها إيل ليتأكد من أنني أطيع أوامره ،ثم مىض يكمل بقية إجراءات نقيل إىل
السجن.
ِ
وأطرافه احلا ّدة ،مل يكن األمل الذي سيخلفه ِ
القيد يف يدي نظرت إىل
ّ
بالذل والعار القيد وهو حيتك بالعظمة اخللفية يعني يل الكثري بقدر شعوري
اللذين شعرت هبام تلك اللحظة مع هذا القيد والسري يف الشوارع أمام أعني
الناس كان أكرب إهانة يتعرض هلا أي إنسان ،حينها سألت نفيس هل أستحق
هذا القيد؟ أو بمعنى أكثر وضوح ًا هل ما فعلته يستوجب تقييد معصمي
تعن يل احلرية كثري ًا بقدر ما كنت أنظر إىل العدالة الكونية .كانت
وقدمي؟ مل ِ
ملعة القيد تعكس صورة وجهي ،تلك الصورة التي مل تتغري منذ أن عرفت
نفيس .يف حيايت كنت أهتم بالنظر إىل وجهي يف أعني الناس .ويف احلقيقة،
مل تكن تعجبني نظريت إىل نفيس وال نظرة الناس إيل ،ويبدو أن حالة الال رضا
من األشياء التي رافقتني للدرجة التي بات هلا يد يف قدومي إىل هنا ،مل أكن
شديد احلرص ،وإن كنت أرى أن الظروف هي من تصنع مالحمك العقلية
فكيف اجلسمية ،فوجهي ممتلئ وهادئ وقسامته سلسلة يسهل التعرف عىل
ما حيمل صاحبها من نوايا .هذه القوالب من الوجوه يصعب استبداهلا
بوجوه اصطناعية أخرى ،باإلضافة إىل أنني مل أكن ذو شخصية نرجسية،
ومظهري وإن كان يبعث شعور ًا باإلجيابية لدى األشخاص فقد كان آخر
اهتاممايت .فإن كنت تعرفني منذ فرتة زمنية طويلة أو قصرية فإنك لن ترى
فرق ًا كبري ًا ،سوى أنني أجيد االبتسامة حتى يف أكثر اللحظات خيب ًة ،حتى
أبتسم ال شعوري ًا وهذا ما جيعله
ُ عندما كان أيب يرضبني يف صغري كنت
ٍ
بعنف أكثر كمالكم يف اجلولة األوىل يستشيط غضب ًا فينسى نفسه ويرضبني
من النزال ،ورغم صغر سني كنت أقدر وضع أيب ،فالقرية تقوم لغضبه
وتقعد وأنا أبتسم يف وجهه ،ولكن األمر مل يكن بيدي بل عفوي متام ًا .أال
ترى أهيا القدر أنني أبتسم ملجهولك وأنا مقيد اليدين ال حيلة يل وال قوة؟
8
جلب الرشطي كامريا التصوير ليلتقط يل صورة جنائية توضع يف ملف
سوابقي الناصع والذي يشبه إىل حد كبري صحيفة ذنويب يدون يف أعالها
أكرب تلك الذنوب عىل اإلطالق وهي أنني ولدت يف هذه الدنيا .أمرين أن
زره العلويأرفع رأيس وبقيت مبتس ًام بثويب الكتاين األبيض الذي أغلقت ّ
وعدلت وضعيته من طريف كتفي .ألتقط صوريت ،ثم أمرين باالستدارة.
مل تتغري ابتسامتي ،وألتقط الصورة الثانية .سحب الذاكرة من خلفية الكامريا
ثم أدخلها يف جهاز احلاسوب ومحل الصور ثم طبعها عىل الورقة ،وقبل أن
يضعها يف ملفي نظرت إليها وكانت أمجل صورة التقطت يل يف حيايت .ثم
بحركة مفاجئة دفعني إىل األمام حتى كدت أقع عىل وجهي:
-تقدم أهيا األبله.
ظ ّلت القيود تعيق حركتي فقدمي ثقيلة وخطوايت غري كاملة وأطراف
القيود احلادة أدمت كاحيل .رست مسافة أربعني مرت ًا ،كل مرت يعادل مسرية
كادح مل يعد يشعر باجلوع واخلوف .فتح يل باب ظهر السيارة التي تقلني إىل
السجن وأمرين بالصعود .وما أن جلست حتى أغلق الباب بقوة ،وشعرت
أنني داخل قفص حيوانات السريك .أعاد تشغيل حمرك السيارة ثم انطلق يب
مرسع ًا يف شوارع املدينة وسلك الطرق الفرعية بني البيوت واألزقة .سألته
ملاذا مل تذهب عرب الطريق الرئييس؟ لكنه مل جيبني وأقفل النافذة بيني وبينه.
مؤخر ًا عرفت السبب ،فمن يعتربوهنم جمرمني خطرين ال يسلكون الطرق
الرئيسية عند نقلهم بل الطرق غري املعروفة حتسب ًا ألي هجوم أو خديعة.
عندما عرفت هذه املعلومة ضحكت فمن الذي سيتذكرين هنا أو يفكر
ٍ
خطة إلنقاذي. بوضع
9
2
10
املوقوف فرتة العقوبة بسبب ما قام به وليس مكان خلدمة العمالء .األخالق
يف هذا املكان ال تعني ألحد اليشء الكثري ،فنظرة السجني للسجان لن تتغري
وكذلك العكس.
األدهى من كل ذلك بأن ما من أحد يعرف شيئ ًا! ال السجني يعلم إىل
أين تذهب كل فرتات االنتظار التي قضاها هنا يف هذا املكان املوحش وما
يؤول إليه كل هذا البقاء ،وال السجان يعلم متى يذهب كل هؤالء املجرمني
من أمام عينه ومن فوق رأسه ،فهم يراقبونه خلف الزجاجات املثبتة من عىل
يمني وشامل الباب عىل الدوام و يف كل حركة يقوم هبا وكأنه تلفازهم الوحيد
ونرشهتم اإلخبارية املتجددة عىل رأس كل ساعة ،ومتى ما مهوا بسؤاله أو
اإلشارة بحركات اليد إليه عام حيدث يف اخلارج من خرب جديد يذكر أو
جدير بالتطرق إليه أو يشغلهم عن التفكري يف قضاياهم التي جلبتهم إىل
هنا فإن السجان يسبقهم بكلمة ال أعلم ،أو يلوح بحركة صامتة بأصبعه
السبابة يمنة ويرسة ،وهنا تأخذ عبارة ال أعلم مكانتها من ال جديد يذكر
يف احلياة أو ما من أخبار عاجلة تستحق أن يعرفها السجني يف اخلارج ،فهذه
احلياة مل تقرر الوقوف من أجل أحد بعد ،وال يوجد اعتقاد وارد بأن احلركة
العامة هلذه املدينة املحرمة تكرتث بمن هم داخل هذه املنشأة السحيقة ذات
اجلدران املتصدعة والتي حتمل ألوان ًا ال وجود هلا يف الطبيعة ،ومن املؤكد أن
املهندس الذي استعانوا به هلذا البناء مل يسبق له أن درس العامرة وال حتى
التخطيط فوق الرمل ،وهذا ما يعطي الصورة التي متلئ خميلة املارة كلام تبادر
إىل أذهاهنم أو مرت أعينهم عىل هذه املكان ،الصورة اخليالية عن أناس يتم
تعذيبهم باجللد وبوابل من أقبح األلفاظ مستغلني تقييد أيدهيم وأرجلهم ،أو
كام هو احلال يف األفالم الوثائقية فالسجني ذو الوجه القبيح املزدحم باملالمح
التي جتلب الضجر ال يكف عن افتعال املشكالت وتنظيم العصابات طوال
فرتة سجنه .ما هذا اهلراء؟ كل ما يف األمر أنك مسجون تقف هنا يف مواجهة
11
دائمة مع نفسك يف تعمد دائم من السجان بقطع األخبار عنك والتواصل
معك ،فهذه هي سياسة السجن التي يريد أن ينتهجها القائمني عليها ،لكي
تبقى رهني نفسك ويف مواجهة مع قضيتك اللعينة التي جاءت بك إىل هنا.
والتعمد هنا هو أن يبقى كل يشء غري مفهوم كنوع من التضليل وتشتيت
ذهن اجلاين ،وإذا تكلمنا عن الوقت فيجب إدراجه يف قائمة أحدث وسائل
التعذيب التي يتعرض هلا املرء وهو حر طليق فكيف به معزو ً
ال عن العامل
وبني هذه والوقت أزمة أخرى فعقارب الساعة بالكاد تتحرك والوقت نفسه
بالكاد يميض فال توجد ساعة حائط تشري إىل الوقت وخيوط الليل والنهار
تشتبك ببعضها إىل أن يبدو لك اليوم سحر كله أو فجر كله ،وعدم رؤية
السجني للوقت جيعله يف حرية ورصاع حلظي دائ ًام بينه وبني دفع هذا الوقت
إىل األمام ،وهنا ترى غريزة البقاء يف أوج أشكاهلا وكل ذلك ملعرفة ما إن كان
الوقت قد أسدل ستاره لبداية يوم جديد ،ليشعر السجني بإنجاز عظيم يف
سبيل اخلروج من جحيمه .وبرغم أن اجلميع خيتلفون يف قضاياهم إال أهنم
يتشاهبون يف إرصارهم عىل براءهتم ،فالكل هنا بريء مل تقرتف أيدهيم املوغلة
أي ذنب يذكر ،وهنا جيب أن تعلم بأن جزء من النص مفقود، يف اإلجرام ّ
فاحلقيقة غائبة كلي ًا أو جزئي ًا ،وهي رهينة نظرة اآلخر ومن ثم نظرة املجتمع
الذي ال يكف عن البطش بسمعتك حتى وأنت بني أيدي العدالة ،واحلق هنا
أشبه برجل صويف يضع القلنسوة عىل رأسه وجيوب األماكن خافي ًا حقيقته
إىل أن خيرج من القرية الغريبة.
ينظر املساجني إىل بعضهم بني احلني واآلخر نظرات ريبة حتى إن ضحك
كأن اآلخر وضع ليكون خمرب ًا عليه أو
يف وجه زميله السجني فإن الشك قائمّ ،
جاسوس ًا بوجه جمرم يتلقط األخبار ويعرف مالبسات اجلريمة التي أخفاها
عن املحققني والعدالة بشكل عام ،فإن كنت بينهم ستشعر باالكتئاب فأنت
12
مدعي الرباءة الذين رمي هبم هنا بينام املجرمون األصليون
ّ ٍ
حفنة من بني
أحرار يتمتعون بيومهم أو أن اجلرم مل حيدث من األساس.
يا للخيبة فرغم تقدم البرشية يف العلوم إال أن السلوك البرشي ال يزال
يصيبك باحلرية ،ومهام اعتقدت أنك فهمت هذا الكائن املعقد سرتى نفسك
ال تعرف شيئ ًا عنه .ففي موقع اجلريمة يبدو الفرد منهم بط ً
ال مغوار ًا ال
يكرتث بام سيحدث وما إن تضع السلطات يدها عليه حتى يتحول إىل كائن
هزيل ضعيف البنية ّ
شل التفكري عقله الذي مل يستخدمه يف السابق .فاإلجرام
وإن كان وسيلة للتعبري عن حالة اإلرضاء التي يشعر هبا الفرد لكنه رسعان
ما يتحول إىل كابوس جيثم عىل صدر املجرم ملجرد أن يضع قدمه هنا ،وهنا
تستطيع أن ترى النفس البرشية بتواضعها وقلة حيلتها وضعفها يف السجن.
ينظر السجان نظرة استطالعية عرب النافذة الزجاجية املطلة عىل الزنزانة
لريى الفراغ يف الغرفة ويف يده اليمنى مفتاحها الذي يلوح هبا وكأنه يلف
األقدار بإصبع واحدة .يستطلع إن كان ثمة مكان يتحمل ضيف ًا جديد ًا،
وهذا قد يكون أمجل خرب للسجناء الذين مجدهتم التعاسة ،فهذا اجلديد يعني
قصة جديدة ُتسمع ويتم حتليلها وتدقيقها وال مانع بالعبث بتفاصيلها،
ومن املؤكد أنه سيجلب هلم األخبار ،فهو قادم من احلرية من حيث البقاع
اخلرضاء ورفاهة العيش وأطيب ما تسمع وتتذوق ،والنساء املرتاميات يف
الطريق يبتسمن لكل املارة ،وهذا ال يعكس شيئ ًا يف واقع األمر بل هي
إفرازات عقوهلم يف السجن وما ينتج عنها من أحالم وردية .وللعودة هلذا
اجلديد الذي يعني أننا سنصغي إىل أشياء جديدة حدثت وتغريت ،فقد أثقل
كواهلنا الصمت وجثت اهلموم عىل صدورنا .يعد اجلديد أهم شخصية
لدينا كمساجني فهو الوحيد الذي بمقدوره أن حيفز أملنا و وينشط ذاكرتنا
وخيترب معرفتنا باخلارج .ما أحالها تلك املشاعر التي نسينا طعهام ورائحتها،
13
تلبس جتاويف أعامقنا
ولعله يغري مذاق مشاعرنا البائسة يف هذا املكان التي ّ
وعقولنا ،وحينها سنجد من جييبنا عىل أسئلتنا التافهة القابعة حتت ألسنتنا
دون طائل أو جميب جييب عنها.
وليست سوى حلظات من قبل الظهرية حتى سمع صوت خطوات
األقدام التي ستكون فاحتة هذا اليوم البائس.
-قف عند الباب أهيا األبله.
صوت السجان ينادي شخص ًا ما.
دهشة من هذا املشهد الذي حيدث ،إنه ٍ حدق املساجني ببعضهم يف
السجني اجلديد ،جيره السجان بقوة وكأن ثمة أمر شخيص بينهام ،ثم يفتح
السجان باب الزنزانة ويدفع العضو اجلديد إىل الداخل ويغلق الباب بقوة.
وشك وريبة يف ٍ
آن مع ًا .فال يشء ّ وحيول املساجني تص ّنع الالمباالة إىل دهشة
ّ
يدل عىل يشء ،فال شكل هذا الشخص يدل عىل أنه اقرتف ذنب ًا ما وال حتى ّ
الفظ ّ
يدل عىل أنه فعل جرم ًا شنيع ًا .وظل خطيئة ،وال أسلوب السجان ّ
العقل يف تلك اللحظة يقلب خياراته ،وحتركت فرائس املساجني ونظراهتم
االستطالعية إىل وضع نظرية مبدئية عن هذا السجني.
حترك الرجل البسيط بخط مستقيم يف الغرفة بعد أن ألقى التحية عىل
املساجني عىل استحياء .وأخذ يمسح بعينه كل وعورة وتشققات وجحور
هذه الزنزانة التي رميت فيها الوسائد ومفارش النوم املتسخة واحلاممات
املجاورة ذات الرائحة النتنة .ويف حركة عفوية تدل أن هذا الشخص مل يسبق
له أن دخل مركز رشطة أو حتى سجن يف حياته جلس يف زاوية السجن
ال منا يدعوه إىل مكان نومه اخلاص كنوع من كرم كطفلٍ فقد أبويه .أخذ ك ً
الضيافة التي بوسع املساجني أن يقدموه ،لكنه رفض وشكرهم مجيع ًا ووضع
ظهره إىل الزاوية مطرق ًا رأسه إىل اخللف وكأنه يريد أن يسرتيح من محل أثقل
14
كاهله .جلس بكل هدوء يلتقط أنفاسه التي ختطفتها رسعة األحداث هذا
الصباح.
كثري ًا ما بدا هذا اجلديد مستغرق ًا يف التفكري ،ال يشء يوحي بأنه غاضب
أو منهار ،كام أن شكله و هندامه وإن كان متواضع ًا فال تدل عىل أن له عالقة
هبذا املكان .ويف هذه اللحظة يظهر تنافس املساجني يف موهبة الفراسة ويبدأ
كل شخص منهم يعطي ختمينه األويل ،فمالحمة بسيطة ال تدل عىل أنه ينتمي
لبيئة غنية ،كام أن مصطلحاته تدل عىل أنه شخص متعلم.
كأي سجني يقابل بوابلٍ من األسئلة عند دخوله ،وخلف كل سؤال
يسود الصمت لبعض ٍ
ثوان.
-ما جنايتك أهيا الرجل؟
-ال جناية يل ،يدي مل تطل أحد ًا باألذى ومل تأخذ حق أحد إطالق ًا.
ضحك أحدهم وقال بسخرية:
-أال يوجد غري هذه اإلجابة؟ مجيع هؤالء أتوا هنا مظلومني.
فنطق كبريهم يف حركة هادئة وأخذ يشري بسبابته إىل كل واحد من زمالءه
يف الزنزانة وبدا أنه حاد الطباع يتكلم بجرأة وصوت جهوري .قال:
-هذا الذي أمامك كان ينعم بحياة طموحة ال ينقصها يشء وسط وظيفته
املرموقة وحياته املستقرة ونفوذه االجتامعي الذي يزداد مع مرور الوقت
بسبب منصبة احلساس وأسلوبه الراقي يف التعامل مع اجلميع ،لكن نزواته
الفردية التي كان يامرسها بعيد ًا عن الناس من ليال محراء وإدمان للكحول
هي من جلبته إىل هنا .ففي حالة اإلدمان وفقدان العقل وبعد جتاوز حد
الرشاب خرج إىل حتفه متجه ًا من خمدعه الرسي إىل حيث ساقته األقدار هنا،
وحتول من األعىل إىل اهلاوية ،ويده التي تعود هبا عىل املصافحة وملس األشياء
15
برقي والتي مل تتعب قط ربط هبا الرصافة اآللية عىل جانب الطريق بسالسل
حديدية وشد الغالل جيد ًا ثم صعد بجسمه الضخم سيارته الصغرية واقتلع
الرصافة من جذورها يف األرض وهو فاقد اإلحساس بام حولة وأخذ
يسحبها يف الشوارع معلن ًا هناية رجل كان قد وضع له أهداف ًا حيققها وماهي
إال حلظات قدرية حتى انتهى به املطاف جمرم ًا قبضت عليه الرشطة دون أدنى
مقاومة وأودعته السجن ،وال أخفيك أهيا اجلديد أن املدينة ذهلت وصدمت
وبد ً
ال من أن تشكره عىل ما قدم هلا يف سنواته املاضية ،كانت السباقة إىل تأييد
إجرامه ونبذه إىل األبد ،أما هو فلم تتغري سجيته التي تراها اآلن ،إذ ملجرد أن
تسأله عن حقيقة احلادثة التي انترشت يف أوساط هذه املدينة يقول ال عالقة
يل باألمر وأن هنالك أشخاص كانوا خلف اإلطاحة يب ،لست سوى مشتبه
به ،وحتت الشعار الذي يرفع دائ ًام كل ناجح حمارب ،مل يقتنع بأن القدر كان
خصمة اللدود وما أن التفت إليه حتى رده هببة ريح ،بينام كل األدلة تشري إىل
أنه صاحب اجلرم .نحن جمرمون ونعرف بعضنا جيد ًا ،أما مدينتنا فال حتتاج
إىل قناة تلفزيونية أو مذياع فاألخبار ما تلبث أن تنترش كالنار يف اهلشيم وقد
أخذت موقعها يف كل بيت وكل أذن ،وإنكاره هنا مل ينفعه فهو يقيض سنته
اخلامسة يف السجن وكأن كل من كان يعرفهم وهو يف املنصب مل يعد يعرفونه
بعد أن وصل السجن .يا هلذه احلرية واخلذالن.
أما الصعلوك بجانبك والذي تشري مالمح وجهه إىل املكر واخلديعة
فإنه ينكر أن له عالقة بفضيحة التحويالت املالية إىل اخلارج التي هزت
اإلعالم وحتولت إىل قضية رأي عام ،فعلم اجلريمة خيربنا بأن كلام زادت
وسائل األمان وسدت الثغرات التي كان املجرمني يستخدموهنا كلام ازداد
معها دهاء املجرمني يف تطوير وسائلهم يف اخلدع املرصفية ،وهذا أحد هؤالء
املجرمني الدهاة إذ إن ذكاءه مل يسعفه يف أن يبعده كثري ًا عن هذا املكان،
16
واخلطأ الصغري يف عامل اإلجرام وإن كان ال يرى فإنه يسري ويكرب ككرة
الثلج إىل أن يوقع صاحبه يف رش أعامله .وبرغم أنه استطاع أن حيول ماليني
األموال يف السنوات املاضية دون ضجيج أو أن يضع خلفه دلي ً
ال واحد ًا
يدينه فإن خطأ بسيط ًا ألقاه نحو حتفه :تأيت قصته عندما اتصل بأحد مستقبيل
املاليني يف اخلارج ليعطيه تعليامته اجلديدة والتي يغريها بشكل مستمر لكي
يصعب تقفي أثره ،ويف أثناء املكاملة سمع املستقبل صوت ًا يف سامعة أخينا
وهو إعالن املطار النهائي للرحلة اجلوية املغادرة واملتجهة إىل مدينة ورقم
الرحلة اخلاص هبا ،وظلت األجهزة األمنية تراقب التحويالت دون معرفتها
اسم املرسل ولكنها عرفت املستقبل وقبضت عليه يف دولته بعد املوافقة عىل
التعاون األمني بني الدولتني .وما إن استجوب املستقبل وقدمت له تسويات
اعرتف يف احلال باسم املرسل وأخرب اجلهاز بام يعرف من معلومات.
احلقيقة هو مل خيربهم إنام قال أنا ال أعرفه ألنه حريص ويغري معلوماته
بشكل دائم وهو حذر وذكي للغالية لكن يف هناية االستجوابات الكثرية أفاد
بأنه سمع صوت منادي املطار خالل مكاملة دارت بينهام وأعطاهم الرقم
واجتاه الرحلة وخالل مراقبة مجيع ركاب تلك الطائرة التي دونت أسامؤهم
اتضح أنه هذا الرجل الذي يستلقي عىل رسيره منذ ثالث سنوات وأربعة
أشهر .بقي حتت املراقبة املكثفة ملدة شهرين حتى قبضوا عليه متلبس ًا أمام
جهاز احلاسوب وقبل أي يقوم بأي عملية حذف ،أتعلم كنت أمتنى أن
ال منيستفيدوا منه ومن قدرته عىل القرصنة والتالعب باألنظمة البنكية بد ً
سجنة وخسارة موهبته ،فاملجرم يف هذه املدينة ال ُيرى إال بمنظر يسء واحد،
وال يمكن هلذه النظرة أن تتغري ،وعىل الرغم من طول فرتة حمكوميته إال
أن ذكاءه ودهاءه مل يتأثرا كثري ًا ،فال يزال يرى نصف الذين معه يف الزنزانة
بام فيهم أنا خمربين يرصدون كل حتركاته يف السجن وال عجب يف ذلك،
17
فهو عضو غري مفيد وكل ما يعرفه أنه ال يعرف شيئ ًا ولكن شاهد كيف هي
األقدار رشيكة يف اإلطاحة به ،فهي ال تفرق بني الذكي والغبي وال تعني هلا
هذه الفروقات أي يشء عىل اإلطالق.
أما اآلخر الذي يضع ظهره عىل اجلدار ويمد قدميه أمام الذي جيلس
بجانبك أيض ًا فقد تسبب بجروح سطحية كادت أن تودي بحياة اجلاين وال
زال يرص عىل أنه مل يكن يف املدينة يف ذلك اليوم مع أن الكامريات شاهدته
ملث ًام وتم التعرف عليه من نوعية الرصاص املطلقة من البندقية يف موقع
اجلريمة ،وعند البحث عن قائمة األشخاص الذين يشك هبم املجني عليه
ُذكر زميلنا هذا يف أعىل قائمة املشكوك فيهم ،وكل ذلك من أجل أرض
جديدة يف صحراء سادها الصمت منذ مئات السنني وال تصلح للعيش
وال الزراعة وكأن مجيع عقد احلياة التي خيتصمون من أجلها الناس انتهت
ومل يعد إال هذه األرض البائسة ،وال تزال املرأة واألرض أكثر ما يثري رجل
هذه املدينة ويقلق مضجعه وحيوله إىل كائن تسقط لدية قيم ومعاين احلياة ثم
ترتكه معلق ًا يف تارخيه القائم عىل البطش والغيلة.
وبطبيعة احلال فأنا حمدثك متهم برتويج املخدرات وقد أمضيت يف هذا
املكان ثالثة أشهر وأنا كغريي بريء ،وإن كنت ستسألني -وهذا سؤال
أتعرض له دائ ًام -ما إن كنت نادم ًا عىل فعلتي فأريد أن أخربك شيئ ًا :أنا
رجل من عائلة غنية ثرية هلا تاريخ بمئات السنني يف جتارة التجزئة حول
العامل ،فنحن نوحد العامل والبرشية يف مائدة الطعام اخلاصة بنا و اليومية
فاللحم يأتينا من رشق آسيا واألرز من أطراف جبال اهلماليا واملكرسات
صينية والكاكاو من أغىل ما عرفت البرشية ونستورده من بلجيكا ونخصص
له طائرة خاصة وحتت درجة حرارة معينة تقله إىل ساحة بيتنا يف قلب
املدينة ،وأحاديثنا ليست كبقية الناس فنحن نتحدث بكل ثقة عن األحداث
قبل وقوعها ،فإن مل نكن مشاركني يف صنعها أو تغيريها فنحن يف أضعف
18
األحوال ملمني هبا ونعلم من يقف خلفها ،أعلم بأنك ستقول يف نفسك
بأن هذه من أكاذيب دعايات املؤامرات وكتاهبا الذي يسوقوهنا ولكنها
احلقيقة ،فنحن يف هذه املدينة نمثل الطبقة الربجوازية والتي تدير األحداث
وتصنعها وتنرشها دون أن نظهر يف الواجهة أو أن يعرف عنا أحد .وإن
كنت تسأل ملاذا أنا هنا يف قضية ال ترقى ملكانتي االجتامعية وهي ترويج
املخدرات؟ سأجيبك بكل جترد وبعيد ًا عن املثالية :انظر أهيا اجلديد ،نحن
خلقنا لنصنع املجد ولكل زمن جمده اخلاص ،فمجد هذا الزمان هو وسائل
الربح الرسيعة ،وعندما تنرش املخدرات يف املدينة بشكل كبري فإن أرباحك
تزداد بشكل كبري وخرايف ،وكلام ازداد ما متلك من مال زادت حاجة الناس
إليك حتى وهم يعرفون بأنك يسء السمعة فاملال هو من يطوع املبادئ
ويعيد تعريف كل األشياء التي عرفت نفسك هبا .املبادئ والقيم ختضع أمام
سيدها املال ،وحتى وإن كنت ال ختضع هلا لكنك جتد نفسك تابع ًا لقطيع
حيركون رؤوسهم باملوافقة والرضا ،وهبذا الطريقة استطاع املال أن حيكم
الغرائز البرشية ويطوعها خلدمته ،وإن كنت تعتقد أنني نادم أو يف طريقي
للتوبة فأنت واهم ،فأنا هنا وإن طالت املدة يف اسرتاحة حمارب ،فأنا ال أجيد
إال هذا العمل وإن توقفت عنه فأنا إنسان ال قيمة يل ال يف نفيس وال لدى
الناس.
ظهرت عىل وجه اجلديد أثار الفجيعة واالستغراب مما سمعه من كبري
املساجني وهو حيكي قصصهم .فهو يعلم أن األمر يسء ومقيت ولكنه مل
يعتقد بأن وصل إىل هذه املرحلة الضحلة والكارثية .نظر إىل الكبري وقال
بكلامت مرتبكة:
-وماذا عن ما تسببه للمجتمع واملدينة؟! أال تعلم أن املخدرات...
لكن الكبري قطع حديثه وقال له بنربة غاضبة:
اسمع أهيا األبله ،كف عن احلديث بلغة املثاليات فأنا ال أهواها ،أنا
19
أقدم هلذه املدينة ما مل يقدمه أجدادنا هلا من قبلنا .هبذا املال افتتحنا املساجد
ودور الرعاية وحفرنا اآلبار للناس وأطعمنا الفقراء واملساكني فإن كانت
يدنا اليسار متسخة فإننا نضعها خلف ظهورنا ونقدم اليمنى بيضاء ناصعة
ال عنها ،وما أن أخرج من هذا السجن سأغرق املدينة باملخدرات ،ولتعلم بد ً
بأنكم أهيا املثاليون تتذكرون ما تريدون وتنسون ما تريدون ،الناس هنا
يموتون باملجان قبل أن أخلق أنا وأنت ،وتاريخ هذه املدينة محام من الدم
مغلفة بقيم واهية ضعيفة تظلم اإلنسان وتستعبده وتضعه يف قوالب طبقية
يعيش ويموت فيها ،ومهام كان ما أقدمه اآلن من سوء إال أنه يقل عن فظاعة
ما كان يقوم به أجدادنا ومع ذلك تقدمونه ألبنائكم كقدوة حيتذى هبا ،وال
خيدعك مظاهر الناس فأشهر جتار املدينة الذي يدعون أهنم بدأوا حياهتم
من الصفر بالكفاح وأهنم حفروا الصخر ما هم إال دجالني ،بدايتهم كانت
برتويج املخدرات ،صحيح بأن تكلفة الوقوع يف يد السلطات باهظة وثمنها
كبري ولكن األجماد التي ستحققها تستحق اإلقدام والتضحية..
قاطعه اجلديد:
-ولكن ال يبدو عليك بأنك مستخدم؟!
رد عليه الكبري:
-ومن قال لك بأنك جيب أن تكون مستخدم ًا أو متعاطي ًا هلا ،يف حيايت
كلها مل أستخدمها ولن أستخدمها ،فهي مضيعة وهالك وذلك الكالم الذي
نعرفه مجيعنا .أترى هذا السجني املتكئ عىل جنبه األيمن ذو السمرة الشديدة
واهلالة السوداء حتت عينه وكأهنا فحم منجم؟ نطلق عليه اسم ملك احلشيش،
كان فيام مىض أهم شخصية عرفتها املدينة ،وهذه األمهية ليست إال ألنه جييد
تقييم نوعية احلشيش ويعرف البضاعة اجليدة من الفاسدة ،وهذا يف جمال
جتارتنا يعد مه ًام جد ًا ،فقبل أن نطرح بضاعتنا يف املدينة وننرشها للموزع
20
نعطيه عينة منها ليدخنها وخيربنا هل هي ذات جودة عالية أم ضعيفة ،وبعد
أن يلف الورقة عىل قطعة احلشيش و برشفه واحدة خيربنا رأيه ،حينئذ رأيه هو
من حيدد سعر ونوعية املشرتي ،فرشائح املجتمع مجيعها تستخدم هذا املخدر
بام فيها النساء واألطفال ولكن حسب مكانتك جتد النوعية املناسبة لك،
وألن الزعيم الذي ال يعرفه أحد و املوزع الكبري يف املدينة وجد من ينوب
عن هذا املسكني رسعان ما أصبح كالورقة املحروقة ،قرر أن يضحي به بكل
سهولة وها هو أمامك يقيض سنواته السبع وبقي منها ستة أشهر .يا عزيزي
القوة هلا السبق يف كل يشء ،نحن وإن وجدنا هنا فنحن سادة زماننا ومكاننا،
املخدرات أصبحت بطولة وأرسع الطرق للمكانة االجتامعية والنفوذ،
وقصص أكرب مروجي املخدرات يف العامل أصبحت تقدم كشخصيات
بطولية يقتدي هبا الصغار ،هل تعتقد بأن اإلعالم ال يتعمد تقديم هؤالء
كأبطال؟! إهنم لغة عاملنا احلديث التي سينطق هبا اجلميع عام قريب ،وهناك
دول أصبحت تسمح باستخدام املخدرات ودول أخرى أصبحت تصدرها
وتؤمن طرق سريها للعامل ،وهي الطريقة املثىل لكي حيافظ الفقراء عىل فقرهم
وتتضاعف أموال األغنياء.
أخذت االبتسامة الصفراء تشق وجه الكبري:
-اسمع أهيا اجلديد ال دا ٍع أن ختربنا بقضيتك التعيسة فال أعتقد أن
هيئتك وضحالة إدراكك بام حييط حولك تدالن عىل أن لديك قضية أكرب
منا ،ولكننا بلهفة نريدك أن حتدثنا عن اخلارج .ما األخبار؟ ما الذي تغري منذ
دخولنا إىل هنا؟
تلهف باقي املساجني للسامع وكأهنم كالب جوعت وينتظرون سيدهم
يلقي عليهم اللحم لينقضوا عليه ،عندها اعتدل اجلديد ورضب اجلدار
بقبضة يده قائ ً
ال:
21
-يا هلذه الريبة و االرتباك فام عساي أحدثك عنه ،شعوري باألسى عىل
هذه املدينة التي ضاعت وانعدمت مالمح االجتاهات فيها ،كل األشياء
ال تربح أن تغري أماكنها ،وال حتى أناسها الذين أصبحوا ينافسون صالبة
أرضها ،وهذي احلياة فيها جرداء خاوية ،تدور فيها الظروف والرصاعات
بتشابه كام لو أهنا مستقيمة حتى يف انحناءاهتا ،وإن كنت غريب ًا فهذه
الالفتات عىل الطرقات ال تصف لك الكثري عنها ،أسامؤها يصعب عليك
قراءهتا وكأن اللغة فيها مل يطرأ عليها تغيري منذ اجلاهلية األوىل ،أو كام لو
أنك تقرأ الكلمة بالالتينية من أقىص اليسار إىل اليمني ،وأرضها التي حتمل
شجر الفخر يتساقط منها يف كل حول ثمر العزة والكرامة وتطل بأوراقها
كظل ينعم به إنساهنا ها هي كام تروهنا من رشفة السجن جفت وذبلت ومل
يعد يف وسعها أن تعطي أكثر ،وحتولت مزارعها التي كانت خرضاء عىل مد
النظر إىل مستنقعات بارود وظلت رائحة املوتى عالقة يف سامئها ،وتبخر
األكسجني كام لو أن األسمنت هو املصدر الذي تتنفس منه كائنات هذه
املدينة ،أعلم بأن فرتة وجودكم هنا ليست طويلة ومل يفتكم الكثري سوى
الروتني اململ ،فكل فئة من الناس جمتمعه كالثكنات عسكرية منزوعة
السالح ،ال يربط بينها وبني الفئة اآلخرى سوى األعراف والنظم البائدة،
وما أن يعود اجلميع إىل حيث خرجوا جتدهم يف كل يوم يتصارعون كالديكة.
أسمعوين جيد ًا ،أنا أعلم أنكم ترون احلياة يف اخلارج ،وتعتقدون أن ما خلف
هذا اجلدار يستحق العيش ألجله ولكن من أخربكم أن ثمة حرية تنتظركم
فهو ال يقل غباء عنكم .البرشية عرب التاريخ زهقت أرواحها حتت شعار
احلرية ،ومع كل حرب كانت تنتهي كان هناك وهم قد أسقط أمام أعينهم،
مما قاد البرش إىل الشك بأن احلرية ليست إال شعارات ترفع من احلني واآلخر
ليصل أرباهبا إىل غايتهم ومن ثم ختتفي حتى تظهر حتت شعار آخر ويف زمن
آخر ،كام ّ
أن مفهوم احلرية إن اتفقنا بأنّه فك القيود بأشكاهلا ،فإننا نعيش يف
22
مدينة قيدها الزمان وأعاق وجودها ووضعها خارج الطريق دون أن نفهم
السبب .ال يوجد ما يستحق أن تشتاقوا إليه أو أن تعيشوا من أجله يف هذه
املدينة املوحشة فهي ليست إال وكر للكآبة والضياع والناس هنا أثقلتهم
املاديات واملظاهر وحطمت إنسانيتهم وجعلتهم ال يضعون للعلم واملعرفة
أي وزن يذكر .كلام زادت معرفتك هبذه املدينة املحرمة زاد أعداؤك وزاد
بؤسك ،وفرحتي بأنني هنا بمنأى ومعزل عن كل ما يف اخلارج ال تعادهلا
فرحة ،لكنها مل تتم إىل أن سمعت حديث كبريكم عن مديتنا وما وصلنا إليه،
ما فائدة األخبار؟! يبدو أن التي تنتظروهنا تغذي لديكم ما لن جتدوه عندي
ولست من أهله.
أحاطت السلبية باملكان فاجلميع مل حيصل عىل غايته من اآلخر ومل جيدوا
عند اجلديد ما كان السجان خيفيه عنهم ،واجلديد مل تتحقق له فرحة اهلدوء
من صخب املدينة.
حتدث أحدهم هبدوء:
-أنت ال تريد أن ختربنا بسبب قدومك احلقيقي وال تريد أن ختربنا بام
يف املدينة من جديد ،وكأن ك ً
ال منا يرى املدينة من منظوره اخلاص الذي لن
يفهمه اآلخر ،ومن حديثك عرفنا من أنت ومل أكن أتوقع بأين سأجدك يف
هذا املكان ،ولكن يف هذا الزمن كل يشء ممكن.
نظر املساجني إىل املتحدث ولكن اجلديد قطع عنه حديثه:
-اسمعني جيد ًا يا هذا فأنا مل أفعل ما يستجوب الزج يب هنا ،كلام قمت
اطلع وأتفحص ما بني السطور ألرى إىل أين نحن ذاهبون ،أو به أنني بقيت ّ
إىل أين ستقذف يب األقدار ،ففي صغري كنت سعيد ًا ألين ال أعرف ،وظل
جهيل يؤنسني ويضع الدنيا بيضاء يف يدي بلغت احللم مل يتغري األمر كثري ًا
شعرت أن العامل يدور من حويل وحدي ،وأن ال رأس يطل رأيس ،وما إن
23
ال وخرجت من غاليف إىل العامل اآلخر حتى أدركت بأن يف األمر كربت قلي ً
خطأ ،نحن يف اهلامش هذا والعامل من حولنا سبقونا بينام نحن ال نزال يف هذا
التيه وهذه الغبطة الطويلة ،أغوتنا العظمة واالعتزاز بموروثات عفا عليها
الزمن حتى نسينا قدر أنفسنا لدى العاملني.
مرت الساعة تلو الساعة وساد الصمت يف الزنزانة وكأنه مل يمر عليها
حلظات كهذه من قبل .فقدوم هذا اجلديد إىل هنا أعاد كل سجني إىل التفكري
يف مصيبته اخلاصة وبدا وجوده وكأنه عقوبة مرصودة فوق عقوبتهم التي
يقضوهنا ،وحاول الكبري أن يضفي بعض الدعابة إىل اجلو العام يف الزنزانة
لكن حماولته باءت بالفشل ومل تساعده خربته كثري ًا يف التغري كام يفعل دائ ًام
وقبل أن يأيت هذا السجني ،عندها اعتذر اجلديد من السجناء وقال هلم أعلم
بأين كئيب وأعيتني السوداوية حتى مألت جتاويف صدري وسيطرت عىل
مناطق حرويف إال أنني أرى ما ال يراه أحد يف هذه املدينة وأتى يب قدري إىل
هنا ليثبت يل ما كنت أعتقده ،ولعل كل ما قمت به وجلبني إىل هذا السجن
هو أنني عرفت وفكرت وقررت بأن أعيد تعريف األشياء ،ويف يوم ما من
استيقظت من نومي وباملصادفة نظرت إىل ساعتي التي كانت تتضمن مربع
ال وستني ثانية وهذا يعني بأين التاريخ داخل حميطها تشري إىل الثانية عرش لي ً
أمضيت ثالثني سنة ودقيقة يف هذه احلياة ،وضللت أجهش بالبكاء بسبب
رسعة األيام وكيف محلني الوقت إىل هذا العمر يف أرسع مما يمكن ،وما
الذي قدمته لنفيس وعندها أدركت بأنني كنت كالوعاء الفارغ ،وأول
خطوات املعرفة هي أن تعرف بأنك جاهل ،ومن هنا كان طريقي إىل هذا
املكان ،وتوالت األحداث والصدامات وبدى يل أنني أواجه قطيع ًا لوحدي
فهنا كل اجلرائم رأيتها تغتفر ألصحاهبا ما عدا جريمتي يف أن أكون خمتلف ًا،
وأن أعيش حياة أختارها حسب قرارايت وليس كام وجدت أيب وجدي
عليها ،حينها قبضوا عيل وها أنا بينكم.
24
سأل الكبري باستغراب:
-وما التهمة التي وجهت إليك؟
-كل ما قاله يل املحقق هو أنني متهم بمخالفة السائد واإلخالل بالنظام
املجتمعي ،وحماولة زعزعة القيم الراسخة لدى إنسان املدينة.
يوم ولكن اجلديد مل ينم .ظل مستلقي ًا عىل ظهره ،بالعادة ال يكف مر ٌ
السجني عن األسئلة عندما يدخل الزنزانة أول مرة ،إال هو وكأنه ال حيتاج
ملعرفة أي يشء عن هذا املكان أو ما قد يتعرض له ،بينام غط املساجني الباقني
يف نوم عميق ،وما أن صحوا من نومهم حتى عادوا ليتهامسوا فيام بينهم عن
اجلديد.
قال أحدهم:
-أعرفه .إنه ابن زعيم كان يف القرية ،وعندما كنت يف اخلارج سمعت
عنه الكثري من األشياء ،والده الذي جتاوز الستني من عمره متزوج من أربع
نساء ولديه من األبناء ست وأربعون ما بني ذكور وإناث ،وحيظى بمكانة
وتقدير لكونه إمام مسجد القرية وزعيم قبيل وبرغم تواضع حاهلم لكن هذا
مل يكن عائق ًا ألن يظل حمرتم ًا يف عيون الناس ،ولكن الغريب هو ما إن يكرب
الواحد من أبناءه حتى يقرر هجر املنطقة بال عودة ،ويتساءل اجلميع عن
سبب القطيعة بني األب وأبنائه ،عدا هذا السجني اجلديد الوحيد من بينهم
الذي خدم أباه والقرية ،فأبوه معروف بشهامته وكرمه ومساعدته ألقاربه
واملحتاجني وما أن يقبل عىل قوم بينهم مشكلة ويدخل فيها حيلها وتعود
املياه إىل جمارهيا ،وهو متعصب للعادات والتقاليد وال يقبل النقاش فيها ،كام
أن حب الناس له وحمافظته عىل صورته أمامهم جعله يف مشكلة مع اآلراء
املتعددة يمثل خط الدفاع األول عن املوروثات ،وعند احلديث عنها يصبح
دكتاتوري ًا ال يعرتف بأهلية الذين ال يطبقوهنا فكيف بمن ينتقدوهنا أو يرون
25
زماهنا قد وىل بال عودة ،ومن هنا كسب والد ُه سمعة كبرية جعلته زعيم
القرية وأحد رجاالت املدينة املعروفني ،ولكن مكانته االجتامعية مل تشفع له
ألن يكون حميطه جيد ًا معه ،فهو دائم الصدام مع أبنائه وبناته بسبب مسلامته
التي ال حياول تغيريها .لقد أحرق التلفزيونات واعتربها مفسدة للعقول
وحرمها وكان يذيق أبناءه العذابات والتوبيخ أمام اجلميع إن أخطأوا،
وبالنسبة هلم مل يكن هذا الزعيم شخصية طيبة كام يراها الناس يف اخلارج،
بيد أنه كان مقتنع ًا أن قمع األبناء والنساء والعبيد هتذيب ونوع مفيد من
الرتبية .نظرة الناس إليه كانت أولوية جتعله يتخذ قراراته من أجلها .ويف
يوم من األيام هربت إحدى بناته بعد أن أهنت مع عشيقها أوراقها الثبوتية
لتحلق به إىل اخلارج نحو وجهة غري معروفة .ولكن هذا مل جيعل والدها يتأثر
كثري ًا من العار فلقد قال للقرية أن ابنته ماتت يف فراشها ملدوغة من عقرب
وألن العادات حترم تشييع جثامن اإلناث فلقد استغل هذا يف أن ينرش خرب
موهتا .يؤمن كثري ًا بأن هذه الدنيا تصفية حسابات وسيظل حوله يف النهاية
من حيبونه من أبنائه فقط .مضت فرتة زمنية جتاوزت السنة اتصلت الفتاة ب
أبيها تطلب نجدته بعد أن خاهنا عشيقها وباعها ملنظمة إجتار بالبرش لتعمل
عاهرة ،فاستجاب لندائها ودفع ما يملك لتعود ابنته وأعادها بعد أشهر إىل
القرية دون أن يعرف أحد عنها ،ولكن حبه للناس وسمعته جعلته يفعل ما
مل خيطر يف احلسبان فلقد قتل ابنته بدم بارد ثم قربها يف املكان الذي كان يشيع
فيه جثامهنا املزيف وكأن شيئ ًا مل يكن ،وواصل الزعيم حياته إذ إن شكله
وسمعته أمام اجلميع تكلف يف نظره ما هو أكرب من ذلك إذا كلف األمر،
ورغم أن الشائعات بدأت تنترش يف املدينة والقرى املحيطة حوهلا ،غري أن
هذا مل يكن باليشء الرضوري أو املهم فليس هناك دليل عىل فعلة الكهل كام
أنه يف نظر العامة إن كان اخلرب صحيح ًا فعل الصائب يف حق ابنته التي كانت
تريد أن تطمر رأس أبيها يف األرض ،أما حميط بيته فلقد واصلوا حياهتم ألن
26
التفوه بكلمة خارج ما هو متفق عليه يكلف الواحد منهم الكثري ،وما من
مهرب من هذا األب وهذا املجتمع سوى أن تصمت إىل األبد ،باقي األبناء
يذهبون بال عودة ،أما البنات فام إن يتزوجوا حتى ينشغلوا باخلدمة يف بيت
أزواجهن وتربية أبنائهن الذين سيتحولون ألجداد قبائل ،وأما اجلديد فلقد
تعود منذ طفولته عىل أعامل املزارع واحلقول ومعيشة القرية ،وعزله عمله
منذ الصغر عن معارشة الناس ،ظل برفقة والده ذلك الولد املطيع الذي
ينفذ أوامره بدون تردد ،ولكن األسئلة مل تكن تتوقف داخل اجلديد إىل أن
أتت اللحظة التي تغري فيها كل يشء بالنسبة له ،ففي ليلة وضحاها حتول من
مطيع إىل معارض لكل ما قام به أباه ،وظل يف صدام مع الناس ،إىل أن كتب
ال من أن يتحول موضوع هذه الفتاة قصة أخته القتيلة ونرشها يف كتاب وبد ً
املسكينة إىل رأي عام حدث العكس وحتول هذا السجني إىل رأي عام ألنه
جترأ وانتقد ما مل يستطع من سبقه أن ينتقده ،من املؤكد بأن هناك تفاصيل ال
نعرفها عن قصته.
27
3
لطاملا كنت أقود سياريت ببهجة ال أمحل من هذه الدنيا سوى تساؤاليت
الوجودية التي تظل تسيطر عىل تفكريي وترسم طريقي كل ليلة أقضيها
حتت وطأة التفكري يف اإلجابة ،حتى باتت قيمة السؤال لدي أعىل بكثري من
اإلجابة ،وكلام مررت بجانب سجن املدينة كنت أضيف ألسئلتي شيئ ًا عن
ما حيتويه هذا املبنى الشاهق ،فمناراته املنصوبة عالي ًا واحلراس الذين يراقبون
من أعالها طوال الساعة وبال حركة متسمري األقدام ويف وقفة ثابتة ،مل أكن
أعلم بأن السؤال عن هذا السجن كان السبب األول الذي رسم طريقي
إىل هنا ،كوين سجني فهذا قدري ولكن أن أستحق ذلك فهذا ما ال أستطيع
احلكم عليه .أعلم أن مفهومنا عن اإلجرام يتغري مع تغري الزمن ،وما كان
مباح ًا يف القدم أصبح ممنوع ًا اآلن ،فاملرء الذي كان حتت يده عبيد وجواري
ال ذو مكانة ،أما اآلن العبودية أصبحت جرم يعاقب كان يعترب سيد ًا ورج ً
عليه القانون إىل مخس سنوات سجن ،وهذا هو احلال يف املخدرات فاألفيون
كان مصدر الدخل األسايس لدول ،أما اآلن فاملخدرات يف نظر العدالة جرم
يستحق مروجه أن يقتل أو يسجن .حتى األخالق تبدلت ،فالكرم اآلن
أصبح مذموم ًا وغري حممود ،بينام الفضل كله للجشع والطمع يف أن يعمل
ال من التسول وانتظار إكرامية من أحد األغنياء أو الكثري من أهل املدينة بد ً
ميسوري احلال ،يا هلذه احلرية ،يف حني أن العامل بدأ يقبل االختالف وتقلبات
الزمان ظلت هذه املدينة تقاوم التغيري وتقاتل من أجل بقائها ،ومن فرط
املقاومة تسمرت احلياة فيها ومل يعد يف مقدورها أن تتحرك إال ببطء.
28
مىض اليوم السابع واألربعني منذ أن دخلت هذا السجن ،اعتادت يدي
عىل صقيع قضبان حديد الباب ،وظل صدري يستنشق نرتات احلديد املنبعثة
ال من االوكسجني ،و كعادة رافقتني منذ الصغر وأتيت هبا من اخلارج منها بد ً
وهي أن أنظر إىل األفق ألستجوب املستقبل عام حيرض يل ،وعىل الرغم بأنه
مل جيلب يل يف الغالب إال اخليبات إال أن عقيل الباطن رسخها واستوحى كل
قرارايت منها ،وظلت بؤرة عيني طوال وجودي هنا ختتلس النظر بال شعور
مني إىل ذلك الباب املوصد وكأهنا تنتظر أن يقرع السجان الباب لينادي
اسمي ويعلن خروجي .أعلم أن عيني وقعت رهينة إرادة البقاء واحلياة
واحلرية ،وأن نفيس اشتاقت للخارج وللقهوة والليل الدامس والطريق
الطويل الذي ترحتل فيه أفكاري وتذوب فيه مشاعري وأسئلتي املتقدة ،كام
أنني كنت أنعزل عن العامل بشكل مستمر ولكن الفرق هنا بأنه بمحض إراديت
وليس بأمر قضائي وحتت تعريف جمرم ،بالرغم أهنا أربعة جدران سواء هنا
أو فيام يعرف باحلرية ،ولكنها أفكار لن جتدي معي كثري ًا يف هذا املكان ،فأنا
هنا مستمر يف التشبث بسوداويتي وبرداء السجن املخطط باألزرق واألبيض
وكأنه السرتة الواقية من الرصاص التي حتميني لكي ال خترتق صدري مشاعر
اهلزيمة واالستسالم ،وبدا يل أنني رسعان ما انسجمت هنا ،بداخيل بذرة
إجرامية كانت ختتبئ يف قعر أعامقي إىل أن أحياها هذا املكان ،وجعلتني أبدو
هنا جمرم ًا حتولت مالحمة البسيطة واهلادئة إىل معقدة وكثرية التضاريس ،أو
سجين ًا قىض قرن ًا من الزمان وأصبح السجن حياته األبدية العالق هبا .أعلم
أن السجان سينادي باسمي ليعلن خروجي ذات يوم ،ولكنني مل أرغب يف
أن يقرتب هذا اليوم ،فجراح املدينة ال زالت غائرة وتدمي قلبي ،أقنع نفيس
بأن كابوس املدينة ذهب بال عودة إال أن كرهي للنهار وشمسه التي ترسل
أشعتها عرب رشفة الزنزانة املطلة عىل املدينة لتذكرين بحقيقة نفيس ،حقيقة
ذلك الشاب الذي يدخل يف قيود وضعها لنفسه لعله خيرج منها قيود ًا وضعها
29
التاريخ واملوروث ،ولكن السجن أتى ليعلمني ما مل أدركه يف اخلارج و أهم
دروس أواجهها وأحاول أن أغريها ،وبالنظر إىل حديث السجناء وتأقلمهم
مع ًا ،فقد استطاعوا هنا أن يشكلوا حياهتم اخلاصة وأن يدفعوا بدفة يومهم
إىل األمام ،إىل أن شاع الروتني بينهم وأصبح لكل سجني مهامه التي جييدها،
الكل هنا يقاتل التفكري وفلوله املرتزقة ويزيل كل آثاره فال وقت للموت
اآلن ،نعم ما أن تلتفت إىل التفكري عن اخلارج وأنت رهني هذه اجلدران
األربعة حتى يبدأ العد التنازيل لفنائك يف هذا السجن ،وهذي هي معركتك
مع البقاء فكل يوم تبقى فيه حي ًا هو صفعة يف وجه العدمية والفناء ،واجلميع
اتفقوا أن ذنوهبم ليست عدوهتم ومل يأتوا هنا من أجل أن يتوبوا عنها بل هو
الوقت ،فكلام نقص الوقت من مؤقت بقائك كلام شعرت بلذة االنتصار
ومعانقة احلرية ،وكأنك سحقت أعداءك بكال قدميك ورقصت عىل جثتهم،
فاخلروج من هنا بالنسبة للسجناء يعادل لذة االنتصار.
وبينام السجن يعيد روتينه اليومي بعد أن انتصف اليوم دخلت القوات
اخلاصة بأمر من مدير السجن ،وهم رجال يرتدون املالبس سوداء القامتة
وخيفون وجوههم باألقنعة ،بعد أن وصلتهم من جاسوس داخل السجن أن
هنالك ممنوعات تستخدم وتباع ،فهذه الفرقة األمنية مهمتها مباغتة الزنزانة
و اجلميع فيها ليلقوا القبض عىل املمنوعات التي هترب إىل داخل السجن،
وهنا يقومون بجمع السجناء من أرجاء السجن لتفتيشهم بشكل دقيق ومن
ثم يقلبون أرسهتم رأس ًا عىل عقب ويلقوا بكل أشيائهم يف األرض ،وبطريقة
فوضوية مستفزة ،وما أن تنتهي احلملة خالل وقت وجيز ورسيع حتى
جتد نفسك أمام كومة من األوراق واألدوات اخلاصة واملالبس املرتاكمة
يف وسط الغرفة ،ويف حلظة يسود الصمت عىل السجناء ،فإن كنت مستقي ًام
داخل السجن فهذا ال يعفيك من النكبة التي ستحل باجلميع ،فهذه احلملة
30
أشبه باإلعصار الذي دمر بيوت الكفار وبيوت املؤمنني سوي ًة ،خرجت
القوات ويف يدها املمنوعات املضبوطة من حشيش وخمدرات و بطاريات
الليثيوم التي تستخدم لتسخني الطعام وصنع أدوات حادة وماكينات احلالقة
مجيعها تعترب من املمنوعات ،وماهي إال حلظات حتى قبضوا عىل أصحاب
األرسة التي وجدت هذه األغراض فيها ،وأحد املقبوض عليهم ظل يرصخ
أنا بريء هذه األغراض ليست يل ،إنام وضعت يف رسيري وال أعلم من
صاحبها ،صدقوين أنا بريء ومجيع هؤالء املساجني يعرفوين جيد ًا ،ولكن
هذا الرصاخ كله مل يؤخذ بعني االعتبار من قبل القوات فال وقت لدهيم
للتحقيق ،سحل السجناء ليذهبوا إىل حتفهم ،وبينام أنا أنتظر أي ردة فعل من
املساجني إال أهنم بدو كاألصنام ،فاملوضوع مل يعن هلم شيئ ًا عىل اإلطالق،
كل منهم لريعى شؤونه ،فهذه املواقف ليست جديدة وحتدث دائ ًام، وذهب ّ
أما أنا فكنت أبحث عمن خبأ املخدرات يف رسير السجني الذي قبض عليه،
ومهمتي أن أعرف هل السجني صادق أم رصخ ليخرج نفسه من الورطة.
عندها علمت بأن السجني نمرود يف داخله ،وخياطر بسهولة ولكن من
الصعب أن تكسب احرتامه ففي أي حلظة ما سيضحي بك ،ولكني عدت إىل
زنزانتي ألرى ما فعلوا هبا ،ما هذا؟! أين أغرايض ومالبيس وأوراقي وأين
الصفحات التي كتبتها ،رحت أبحث عنها كاملجنون كالتائه كالطفل الذي
أضاع والدته يف مكان عام ،أرفع األشياء وأقلبها بحث ًا عن أوراقي إىل أن
رفع أحد السجناء صوته منادي ًا من صاحب الكتابات السخيفة هذه؟ عندها
ركضت إليه سعيد ًا لكنه وضع يده جتاهي بحركة تشري إىل أن عيل أن أقف
مكاين .تسمرت قدماي ،هلفتي لألوراق أثارت تساؤ ً
ال لديه عام فيها ،وأعاد
قراءة الورقة من جديد إال أنه مل يفهم ما تعني كل هذه الكلامت املرتاكمة،
فمستوى لغته الشعبية مل يسعفه يف اعتبار هذه النصوص جديرة باالهتامم،
31
ولكن عيناه وهذا من سوء حظي وقعت عىل أهم ما يف النص ،إنه اسم هند.
وهنا نظرت إىل السامء ألذكرها بخيباهتا التي تتساقط عيل كوابل من احلجارة
الربكانية يف كل مرة تتذكرين فيه ؛ عندها نظر يل بخبث و بابتسامة صفراء
تدالن عىل أنه مهام تصنع األخالق إال أن نفسه الدنيئة ال بد أن تظهر يف
موقف ما ،ومن هي هند هذه أهيا اجلديد؟! وهنا وبلهفة غضب ويف حركة
رسيعة خطفت الورقة من يده ولكنها متزقت وقطعت الورقة إىل نصفني ،يا
لسخرية القدر فقد كان القطع يمر عىل اسمها ،فجعل اهلاء يف جزء الورقة
التي يف يده والنون والدال يف جزء الورقة التي يف يدي ،وهو هذا ذات اخلط
املؤمل الذي يمر عىل قلبي كلام شاهدهتا أو تذكرهتا .اعتذر مني بكل سخرية
وأعطاين الورقة ،وما أن ناولني إياها حتى بدت الضغينة تضع مكانتها يف
قلبي جتاهه ،فلم أجرؤ عىل أن يتعدى عىل أرساري التي لطاملا خبأهتا يف قعر
أعامقي فكيف بمجرم متهم بعدة جرائم منها الرسقة والسطو املسلح؟ نفسه
اخلبيثة مل تردعه من انتهاك خصوصيات الناس ناهيك عن السخرية مني
ومما أعتربه أغىل ما أملك ،فإذا القانون مل يردعه فكيف يب ،سوف يندم ،حت ًام
سيلعن اليوم الذي جترأ فيه عىل مس قطعة من قلبي؛ أخذت الرشيط الالصق
ألعيد الورقة لوضعها السابق ،ولكنها ال ختتلف عن حماواليت الفاشلة برأب
صدع قلبي عندما يعتيل اسمها ذاكريت.
تركت كل أشيائي ملقاة عىل األرض مبعثرة فلم تعد هتمني كثري ًا وعدت
لرتتيب رسيري و االستلقاء عليه حمدق ًا يف سقف الغرفة ،ويف حلظة اشتياق
ال تتكرر دائ ًام زاد األدرينالني من نبضات قلبي ،تذكرت تلك احلظة التي
صافحت فيها تلك الفتاة األرستقراطية ،كانت املرة األوىل ،املكان مكتظ
باحلضور ،مل يكن يعني يل ال املكان وال الناس وال املناسبة ،وألنني ال
أعرف كثري ًا فلقد سمعت قصص ًا من هذا النوع بأن كائنني تقاربا أكثر من
الالزم ،فانعكس ذلك عىل حمياهم وابتسامتهم ،وحتى عىل أيامهم املاضية
32
واملستقبلية ،عندها شعرت بالتيارات العصبية تطلق إشارهتا من كف يدي
اليمنى مرور ًا بقلبي إىل هناك إىل األعامق إىل حيث تلك األماكن التي أرهبها
اخلوف واجلزع من هذه احلياة ،وكأهنا ومضة قادمة من املجهول ،أو قنديل
ظل صامد ًا أمام الرياح ،أو منارة الشاطئ أخذت تشري بمصابيحها للسفينة
الضائعة يف عرض املحيط ،لكن رسعان ما اختفت وعاد التيه إىل ما كان
وصمة ظ ّلت يف قلبي ،وكأن مركز الذاكرة حتول من عقيل إىل أن ٌ عليه،
انتصف برشيط ذكرياته يف القلب ،وبدأت كل الذكريات املاضية واحلارضة
واملستقبلية ذات طعم عاطفي ورديء ،بالرغم من أين جيد يف إخفاء إعجايب
باألشياء بام أنني نشأت يف بيئة ال يعجبها يشء ،إال أنني مل أستطع أن أقاوم
حالة اهلسترييا التي دامهتني ،فغدت األمور غري متوازنة ،أصابني االرتباك
يف مقتل وبدا أن اجلميع الحظ أنني لست عىل ما يرام ،وبال رغبة مني
ذهبت إليها ملحاولة افتعال حديث ،وكانت تستقبل حديثي بكل و ّد ،وهذه
كانت إشارة جيدة فلم تأخذ عني نظرة استعالئية أو كغشاش يريد أن يبيع
يف وهي معلومايت وثقافتي بضاعة مزيفة ،ويف حماولة مني إلبراز أحسن ما ّ
العامة حتدثت عام أعرف وعن عالقة أجدادنا التارخيية بعد أن عرفتها عىل
نفيس وعرفتني عىل اسمها ،فذكرت هلا خمطوطة تارخيية كانت بني جدي
وجدها اللذين مل يلتقيا يف أرض وال معركة وال حتى باملصادفة ولكن
سمعتهم الطيبة يف ذلك الزمان القاحل لدى بعضهام جعلت الرسائل وسيلة
تواصلهام ،وكانت املخطوطة التي أمتلكها رثائية جلدها البعيد من جدي
األبعد ،وعىل الرغم بأين كنت أعرض هذه املخطوطة التي وجدهتا يف إحدى
صناديق جدي املتويف منذ أكثر من مخسني سنة للناس وأقاريب كاكتشاف ال
يقل عن االنتصارات العلمية يف القرن العرشين ،إال أن من حويل مل يلقوا هلا
اعتبار ًا أو أمهية ،فجدي وجدها (أعتقد العارش) كانا يعكسان ما ال ندرسه
يف كتب التاريخ التي تعرض علينا من أخالق وهتذيب ،وأنا مستغرق يف
33
رشح مأزق التاريخ مع واقعنا املعارص نظرت إيل عيناها العسلية املتقدتان
باألمل والرسور فإذا هي أشبه بطوق النجاة الذي يلقى للغريق قبل أن يفقد
حياته ،فالنظر إىل عينيها فقط يعادل سنني من الكتابة عن ملحمة تارخيية
انترصت فيها احلقيقة وغاب الظالم إىل األبد ،فكيف بوجهها النرض حلو
املالمح واملرشق ،هي ليست فرد ًا برشي ًا تعرض ملاليني السنني من مراحل
التطور واالرتقاء ،هي جمموعة من األرواح الطيبة التي ضلت طريقها يف
السامء وقررت أن جتتمع داخل هيكل مالئكي يسكن األرض ،وأكملت
هلا احلديث عن أجدادنا الذين مل يكونوا يعلموا بأنه سيخرج من أصالهبم
أناس يتالقون ويكون بينهم حديث رائع كهذا ،وقلت يف نفيس مل أرى كام ً
ال
مماث ً
ال كهذا يف حيايت ،فاجلامل والوعي وشعلة املعرفة يف املرء أشياء يف العادة
ٍ
برباءة أن أرسل هلا املخطوطة ال تتسق أو تلتقي إال يف األساطري ،طلبت مني
وأعطتني رقم هاتفها النقال ،وكان رقمها غالي ًا كوسام شجاعة وضع عىل
صدر جندي بعد معارك احلرب العاملية الثانية ،فليس هنالك ما هو أمجل من
أن تكون ضمن الكامل أو جزء منه ،أو حتى تقف عىل عتباته لرتاه بني احلني
واآلخر ،كام يندر أن توجد أرواح طاهرة كهذه وتقدم ملن هم مثل أرواحنا
الثقيلة والغائرة يف الظلمة كل هذه السعادة .مل تعرين ذلك االهتامم الكثري بعد
أن زودتني برقمها ،فلقد أرخت كلتا ذراعيها ،وجلست بال مباالة ،وبإمهال
راق ،بدا شكلها ابنة ماء السامء التي أتت لتعيد األشياء لوضعها الطبيعي ٍ
وتنقذ النفوس من براثن الشقاء البرشي ،ظهرت حقارة يف نفيس مل أعهدها
من قبل ،بشكل فيه حسدت كل يشء حوهلا سواء كانوا برش ًا أم جوامد،
وبدأ عقيل يرسم الصور الوردية لألشياء ،ذهبت من عندي وهي ال تعلم ما
تركت وراءها ،فهتاهنا الساموي أنبت ما مل أتوقع.
أرسلت هلا املخطوطة عىل هاتفها وشكرتني بكل لطف ثم غادرت
املكان ،ومل تعد جتيب عىل رسائيل ومعلومايت التي كنت أرسلها هلا بني الفينة
34
واآلخرى ،يظهر عىل رسالتي املرسلة هلا متت القراءة من قبل املستلم ولكن
مل يكن هناك رد ،كنت أتصنع أن الرسائل التي كنت أرسل هلا بصيغة مجاعية
وهي يف احلقيقة هلا وحدها ألخترب جتاوهبا معي ،فمن بعد إجابتها األوىل مل
جتب عىل اإلطالق ،وكان هذا ما أثار جنوين ،إال أنني مل أيأس فظل قلبي
يقود دفة األوامر يف جسدي ،وكنت عندما تبهرين معلومة أو فائدة أو كتاب
أذهب رسيع ًا ألفتح رسالة جديدة وأضيف اسمها وحيد ًا يف قائمة املرسل
إليهم ثم أبعث هلا الرسالة ،وكل ما كنت أرجوه هو أن ترد عيل ،ختيلت أنني
أحدثها عن نفيس كثري ًا وأبوح هلا بام مل أقوله ألحد ،ولكن الوقت ظل جيرت
عقارب الساعة إىل أن أكملت السنة وأنا أختيل وأعيش معها يف قالب ختياليت
الوردية ،وما أن يشقيني واقعي حتى أذهب ملخيلتي وأراها تنتظرين كام لو أن
العوامل املوازية تقاطعت عند نقطة خميلتي لتشكل عامل ًا آخر ال عالقة له بعاملنا
الذي نعيش فيه.
مضت سنة عىل أول لقاء لنا ويف حلظة مفاجئة أضاء هاتفي النقال
ليعرض يل رسالة منها ،إهنا منها ،كان اسمها أشبه بالشمس وهي ترشق،
كان شعاع الشاشة ينسل بخيوط ضوئه إىل صدري ،كأنه نفس ذلك الضوء
الذي أرشق عىل أعامقي عندما صافحتها ،فكرت هل جيب أن أتأخر يف ردي
عىل الرسالة ،ألبني هلا أنني رجل مشغول وأن لدي ما يشغلني عن اهلاتف،
وهي ال تعلم بأين أنتظر رسالتها منذ اثني عرش شهر ًا ولكن بال حيلة مني،
فقد كنت عاجز ًا عن فعل يشء ،أو باملعنى األصح جبان أصبحت اخلسارة
بيته ومالذه ،فاخلوف من أن تدفعني للخلف وتقذف يب يف غياهب اجلب
ظل يقف بيني وبني التجربة ،ولكنني يف نفس الوقت أعذر نفيس كثري ًا ،مل
أعد بحاجة خليبة جديدة ،ولكي ال أتصنع النسيان فجانبي السوداوي ذكرين
بنظريت السابقة لألنثى التي طاملا اعتربهتا أحد خيبات الطبيعة وفخاخها التي
تنصب يف طريقك يف كل مرة ،إذ عىل مدى العقود الثالثة املاضية مل تشكل
35
يل فكرة االرتباط بفتاة أي أمهية تذكر ،ومل أكن مؤمن ًا بفكرة أن يسري قلبني يف
طريق واحدة ،فأنت وجدت يف احلياة وحيد ًا وستغادرها وحيد ًا وهذا قدري،
ما هي إال مصافحة وابتسامة عابرة غريت كل ما كنت تعتقده أو حتول إىل
معتقد راسخ لديك ،كانت ملحة خاطفة منها عصفت بعقيل املتكدس منذ
فرتة طويلة ،وعندها تالشت كل األسئلة يف عقيل ،يا لنا من كائنات هشة
الوجود ،سنني وسنني من العصف الذهني والتحليل والنقد والرصاعات
الفكرية التي خضت غامرها وحيد ًا وأصابت جسدي بضمور عاطفي قيد
أحاسييس ،وما أن ظهرت هند هذه الفتاة حتى ألقت عىل صدري ثق ً
ال مل أكن
يوم ًا ألحتمله ،ومل يستطع شيئ ًا تغيريي بل زادين إرصار ًا عىل ما كنت أعتقده
ومع كل يوم وكل حالة رفض وشجب واستنكار وهتديد ووعيد يل ،كنت
أزداد إرصار ًا وتأكيد ًا من أنني احلقيقة املطلقة التي ال تقبل .نظرة من مالك
جعلتني أفيق من غفوة الزمتني كل تلك السنني ،مل أكن أعلم بأهنا بداية
عذاب جديد ،وأزمة من نوع آخر ،وكأن املليئني باخليبات ال هيمهم اإلقدام
عىل خيبة جديدة ،فهذه احلالة لن جتدي معها طرق االستقراء املنطقي وال
النظرة الشمولية وال حتى الشك املعريف ،هذا اهلاجس بدا وكأنه غلف عقيل
ومل أعد أفكر إال من منطلق هند الفتاة ومن منتهاها .أخذ مني التفكري يف
رسالتها قبل أن أفتحها أكثر مما كنت لو فتحتها.
ال يشء يذكر ،كانت رسالة مجاعية تتضمن اإلجابة عىل استبيان من
إعدادها يف موضوع من الواضح بأنه خيص عملها ،بعد سنة اتضح أنني
لست سوى عدد من حميطها ،فلو مل يكن رقمي لدهيا ملا أرسلت يل ،يا للخيبة
واألمل ولكن هناك أمل أراه يف آخر النفق ،فأن تكون عدد ًا أفضل من أن
تكون ال يشء ،فتحت االستبيان ووضعت اسمي أعاله ومألته بام أعرف،
من رسالتها هذه عرفت أن اقرتايب منها لن يسفر عن أشياء بقيت طوال تلك
36
األيام أنتظرها ،وأن بيني وبينها كام بني السامء واألرض ،وأن األبد سيكون
عنوان هذا الفرقة.
نظر الكبري باحث ًا عمن يوكله بتنظيف األرض بعد أن اتسخت باألغراض
واألدوات .وقع االختيار عيل ،هز حينها رسيري بقوة ليوقظني من أفكاري:
-قم أهيا اجلديد ،فال وقت لدينا هلواجسك ،خذ املكنسة ونظف الزنزانة
جيد ًا ،فأنا ال أحتمل أن يغمض يل جفن مع كل هذه األوساخ.
عندها طردت التفكري وهنضت وقمت بمهمتي املوكلة يل كعاملٍ نظافة.
37
4
يف جبوب الصحاري املقفرة هناك حيث العدم والفراغ الكوين وضوضاء
لتتسيد املشهد ،ويف هذه اخلالء الفج كانوا
ّ الصمت التي تضع أوزارها
أجدادي يوصمون قلوب أعدائهم إما بالسهام والنبال أثناء احلروب وإما
بالنبل والكرم وشيم املروءة أثناء السلم ،إال أن الناس مل ينسوا مصاهبم من
أجدادي ما جعلهم يطلقون عليهم لقب ًا من جنس أفعاهلم.
أول إرثي من صفات أجدادي هو العناد تلك الصفة املوغلة يف جيناتنا
الوراثية والتي وإن كانت ذميمة إال أهنا أبقتنا أحياء واثقني نضع من خالهلا
رشوطنا عىل طاولة الطبيعة األم بال تردد وال نرىض بغري تنفيذها ،يا هلذه
القوة التي تضمها أجسادنا وعقولنا قبلها ،لذلك كفتاة مل أرض أن أبني يل
ال أذهب عنه أو ألدعه خلفي بال حمقق ،عندها عشقت املستحيالت خيا ً
منذ الصغر وركبت اخليل وكنت حديث جمتمعي الذي مل يقبل أن يرى فتاة
متارس الفروسية ،وكان حلمي أن أقفز احلواجز وسط ذهول اجلموع املنبهرة
كام لو أنني أقفز من فوق اخليبات والظنون وفخاخ البرش التي ال تنتهي،
وحيث إن معنى اسمي بالفارسية هو الفتاة القوية ،وال أظن أن أيب اختار
يل هذا االسم إال ألنه أراد مني أن أكون كذلك دوم ًا ،لكننا دائ ًام ما نخذل
أسامءنا التي تظل كالكابوس تالحقنا أسباب تسميتنا هبا إىل األبد ،وكأنك
حتمل من قبل مولدك ذنب ًا مل تقرتفه وتعيش لتثبت عكسه أو تكفر عنه طوال
حياتك .ظل شجرة أجدادي العظيمة الضاربة يف عروق التاريخ كان يفيء
عيل بني احلني واآلخر لتذكرين بأنني ابنة الشامل ،ذلك االجتاه الطاعن يف
38
الكهولة والذي أخذت الطبقات الصخرية تتكالب عليه من كل صوب
إىل أن أخفت مالحمه ،لكن آبائي ظلوا أوفياء لذاكرة املكان ،يف الزمن الذي
اتبعت البرشية نزواهتا وشهواهتا يف حب املال والسلطة ،وبينام السنني تتقلب
و تتقدم حتى توسعت الفوارق الطبقية بني أفراد املجتمع الشاميل ،تسيد أيب
عشريته وكان واجهة الشامل برمتها ،وألن أيب قىض جل حياته حيمل تلك
اجلهة بثقلها الكبري عىل عاتقة وحيد ًا ،إال أنه مل ينس يوم ًا عائلته الصغرية
ومستقبلها ،كان له رؤية ثاقبة يضع من خالهلا جسده العريض والقوي
ليحمينا من خمالب ذلك التفاوت الطبقي ،ومن الطبقات الدنيا التي تتصلب
من فرط النظر إلينا وتفرس كل حتركاتنا .كل تلك الغوغائية كنا نراقصها كام
يراقص الساحر اهلندي األفعى ،ننظر إىل عينها ونومئ برؤوسنا دون أن
نبني هلا أننا خائفون أو مرتبكون كي ال تقيض علينا ،ومع خربتنا يف التعامل
الطويل معها نعلم جيد ًا بأن الغفلة أجزاء من الثانية ستكتب هنايتنا .ومما
يزيد من قوتنا هو معرفتنا بأنفسنا جيد ًا وإدراك املخاطر التي حتيط بنا ،وهذا
ما وجد فينا حذر ًا شديد ًا وحساسية مفرطة مما يقع حولنا ،أما مساحتنا يف
احلرية فلم تكن تتجاوز قرصنا الذي يقع يف منتصف الشامل ،وهذا ما جعلنا
نعيش أسلوبني يف احلياة يف أن واحد ،أرستقراطيتنا من جهة وتعلقنا الباهت
بأسلوب الشامل القديم من جهة أخرى ،إال أن ازدواجيتنا يف هذا التباين بني
احلداثة والرجعية جعلتنا نجيد التعامل مع اجلميع ،فقرصنا كان يستضيف
أكابر الزوار ووجهاء املدن األخرى ويف نفس الوقت كان مكاننا هو مربع
عمليات الشامل الذي يصلها مجيع أحداثه ،وظلت أحداث الشامل وإن
كانت رتيبة ومملة متنح شخصياتنا نوع ًا من احلكمة ومعرفة مصاحلنا ،ومع
كل هذه املميزات مل نتصف باللؤم بالقدر الكايف الذي من املمكن أن جيعلنا
فاحيش الثراء واهليمنة ،وكل ما كان نصب عني أيب هو أن يرى العامل هذا
الشامل بالشكل الذي يريده.
39
كانت النظرة للشامل بكثبانه الرملية الزاحفة وهدوئه املوحش والطالسم
التي تشكلها نجومه غريبة الشكل تنتصف سامء الليل ،وبيوته اإلسمنتية
ذات األلوان الباهتة ،ووجوه أناسه العابسة طوال النهار والتي ال تنبئ بأن
خلف هذه الوجوه نوايا حسنة ،فعىل قدر معرفتي هبذا التجانس بني البيئة
وأهلها إال أن هذا املكان ظل يثري بؤيس ،وطاملا كنت عىل ثقة بأنني أستحق
املكان املناسب يل ،مكاين األشبه بالعرش والذي طاملا كان أيب حيرضين نفسي ًا
له وهييئني ملستقبل ال يعرفه ولكنه متأكد من جدواه جتاهي فكان يطلق عيل
لقب ملكة الشامل ،إال أن املكان مل يكن مالئ ًام هلذا اللقب الرنان ،فالطموح
واألمل والشخصية كانت أكرب من املدينة وأهلها ،فهذه املدينة ال تستطيع أن
تكون فيها إنسان ًا مكتمل األركان ،وال بد أن تضع فيك النواقص لتتالءم
معها ،فالنساء هنا هيرمن يف سن مبكرة عندما يصلن منتصف الثالثني
خطواهتن كخطوات حيوان البطريق ،وعندما تبحث عن تفسري هلذه
املعضلة جتد أن جل أعامرهن يتحدثن عن املاورائيات وتقييم الناس من
منطلق رجعيتهن ،وكأن عجزهن يف سن مبكر لعنة قادمة من السامء ،أما
رجاهلن فلم يتبدلوا منذ مئات السنني حياهتم تدور حول املؤامرة وأعينهم
بارزة من فرط الفزع الواهي وكأهنا كاجلمر حتت الرماد يستطيع املرء منهم
إخفاء مقاصده ،فإن متعنت يف حياهتم جيد ًا ستجدها تراكامت من األكاذيب
التي جييدون متريرها عىل بعضهم البعض ،أما أنا وعائلتي فال نطيق أنفسنا
عندما نكون برفقتهم عىل الرغم أن برتوكوالتنا ً
اجلدية يف العائلة جتربنا عىل
التعامل معهم بال رشط أو قيد ،ومع تقدم الوقت ازداد وضوح عالقتنا مع
املدينة التي اتضح فيه أننا نسلك طريق ًا جتديدي ًا قائ ًام عىل جعل الشامل أكثر
تطور ًا بينام أهاليها كانوا حمافظني مع أسلحتهم البدائية التي يوجهوهنا باجتاه
كل فكرة جديدة تظهر يف الساحة ،ويبدو بأن هذا التضاد زاد من صنعي
لعزمي نحو حياة أكثر استقاللية من جمرد كوهنا عرض ،وبحكم أن لنا
40
ال ألجود عالقة زمانية أبدية باخليل والفروسية فلقد ضم حميط قرصنا إسطب ً
اخليول ،ومعرفتنا هبا تطورت لنعرف سالالهتا ومدى قدرها ،كنت الوحيدة
من أفراد العائلة التي محلت هذا اللواء الفاخر وكنت أرى نفيس كام لو أنني
برفقة أجدادي عائدين من االنتصار نقود رسب اجلنود املتوجة مرور ًا بباب
املدينة إىل حيث اجلموع التي هتتف وتنادي بأسامئهم وألقاهبم التي عرفوا هبا،
ولكن ما ال يعرفه الكثري وظل يؤملني عندما أعيد التفكري فيه هو أن الفروسية
تم تعمد تنميطها وجعلها يف قالب تنافيس بعيد عن عالقتها بنا كبرشية منذ
أكثر من 6أالف سنة ،فالفروسية ليس رياضة نامرسها بل أسلوب حياة،
فعندما تعرفها جيد ًا ستتعلم منها الكثري من األخالقيات النبيلة وسيدور
بينك وبينها حوارات كتلك التي تقرأها بني الفالسفة واحلكامء ،وكانت هذه
ثمرة نضجي األوىل التي وعيت هلا عندما بدأت أنبت كأنثى مجيلة.
من هذا املنطلق بدأت أحب نفيس كثري ًا ،ولكن حب يف سبيل الكامل.
فهيكيل ظل يستجيب إلرادة خيايل وطموحي ويصيغ قوامي األنثوي ،فطويل
القويم واملمشوق زاد من حدة نظري لألشياء بشكل أوضح إىل الدرجة التي
كنت أصيب فيها بفهم الناس قبل أن تنطق ألسنتهم وهذا ما أعطاين السبق
لتخطي أصحاب النوايا السيئة جتاهي .برشيت ناصعة البياض ذات املسامات
املتعرقة والتي تشعر اآلخر باالطمئنان عند مصافحتي له وعيناي أشبه
باجلوهرة املخبئة ولكنها أقرب إىل العسلية ،ومفاتني األنثوية التي برزت
منذ الثالثة عرش من عمري كانت تقوم بدورها كاملغناطيس جللب األنظار
إيل ،صدري البارز كان أشبه بالدرع الواقية من الرصاص ،أما خرصي فال
خيتلف عام كان ينحته مايكل أنجلوا يف عصور أوروبا املظلمة ،وكل هذه
املالمح وإن كنت أمتيز هبا إال أنني ورثتها من جديت التي كانت مرضب مثل
زماهنا بجامهلا املثري ،وهذا قد يفرس اهتامم والدي يب بشكل كبري فهو يرى ّ
يف
والدته التي أخذهتا املنية منذ عرشين عام ،ومع كل ما أمتيز به دون أقراين فأنا
41
أعاين من مرض الربو املزمن والذي جيثم كشبح عىل طموحايت ومواقفي،
ففي أي حلظة كانت عيني حتمر وينضب اهلواء عندما يتذكرين هذا العارض،
فال ينفع بعدها ال األدوية وال بخاخات اهلواء ،وبرغم أن األطباء حذروين
من مواجهة الريح أو األماكن التي يكثر فيها العوالق الرتابية كنت ال آبه بام
يقولون ،فهم ال يشعروا مثلام أشعر عندما أمتطي صهوة جوادي ألسابق
كالريح ،أو حني أمارس حيايت االجتامعية بدون مصدات توقفني.
يف يوم من تلك األيام املظلمة انبعثت من الشامل رائحة كرهيةُ .قلب
الشامل رأس ًا عىل عقب وكأن الناس موتى مبعوثني من األرض ،ركبوا
سياراهتم املقفصة واألخرى ذات الصندوق وحارصوا قرصنا .كان ذلك
الصباح غريب ،فعىل الرغم بأن األحقاد نراها يف نفوس الناس إال أننا مل
نعتقد بأهنا ستصل إىل هذه الدرجة من الغيلة .خرج أيب ليفهم موقف الناس
كعادته التي ظل عليها ،بيد أن الرصاخ تصاعد عالي ًا وتشابك مع رصير
الريح ليحدث حالة من الذعر مل نعرفها يف حياتنا ،وتقدم اجلموع رجل
أربعيني يتكلم بعجرفة كنا نعرفه قدي ًام بأنه منحرف أخالقي ًا إال أن هيئته
اجلديدة توحي بأنه التزم ديني ًا ،فقد كان مسب ً
ال غرتته و ذو حلية كثيفة ذات
منظر موحش ،وبكل جراءة ختطى حاجز السور ووضع وجهه يف وجه أيب
وقال بلكنة تدل عىل قلة االحرتام:
-أن تتسيدنا فهذا قدرك أما أن تنرش ما ليس يف مدينتا فهذا لن حيدث لو
عىل جثتنا،
ووضع سبابته عىل صدر أيب وظل هيزه ،وأكمل كالمه:
-أن نرى ابنتك تتشبه بالرجال ومتارس رياضة الفروسية فهذا ما ال نقبله
ولكن هذا اليشء كان يامرس داخل حميط قرصكم وهذا يدخل داخل نطاق
خصوصيتكم التي رضيتم هبا.
42
رد عليه أيب:
-إذا ما الذي أتى بك وخلفك كل هؤالء الفتية وأنت تعلم بأهنا
خصوصية؟
عندها ضحك امللتحي باستهزاء وقال:
هل تعتقد بأنني قدمت من اجلنوب ألخربك أن ابنتك ركبت اخليل؟ أنا
لست عىل هذه الدرجة من السخف .أتى بنا ما فعله أحد ضيوفك الذي
استضفتهم يف فندقك عىل مدخل الشامل ،هذا الضيف خطف أحد فتيات
املدينة ومارس معها الرذيلة يف إحدى اسرتاحاتك ذات السمعة السيئة ،وكام
ترى -وأخذ يشري إىل ما خلفه من مجوع -فأنا وهؤالء األبطال قبل أن
نأيت إليك أحرقنا فندقك واسرتاحتك وأتينا إليك لتخرج لنا هذا الضيف
لنترصف معه بام يمليه علينا نزعتنا القبيلة والدينية .وثق متام ًا بأننا لن نسمح
لك أن تنفذ خططك التي تريدها يف شاملنا.
تقلب وجه والدي ما بني ذهول واستنكار ،وكأن السامء أرسلت صاعقة
لتثبت قدمه من هذا اخلرب املفجع ولكنه مل يظهر استغرابه واستبدله برد قايس
موضح ًا فيه كل الكلامت وما خلفها من معاين ،وقال له غري آبه بمن خلفه:
-اسمعني جيد ًا .هذا الضيف الذي تتحدث عنه غادر املدينة منذ ليلة
البارحة وال علم يل بام فعل إن كان صحيح ًا ،وإياك أن تعود إىل هنا أنت
ومن معك مرة أخرى.
ولكن اجلموع الذي ظلوا يتفوهون بكلامت غري معروفة مستنكرين هذا
األمر زادوا من قوة موقف امللتحي ،الذي عاد قائ ً
ال:
-ال خياجلني شك يف عالقتك وعلمك بام حدث ولكنني سأنسحب
ألراقب القرص وإن ثبت أنكم ختفونه فسأحلق هذا القرص بام أحرقته من
43
قبل ،واستدار ثم غادر املكان بضوضاء.
وألن أيب سليل الثابتني ،أرسل حارس القرص ليتأكد من خرب احلريق
ومل متيض ساعة حتى عاد ليؤكد اخلرب ،فاملطافئ متكنت من إمخاد احلريق يف
الفندق واالسرتاحة ومل حتدث أرضار مادية تذكر ،ولكن خرب احلريق مل يكن
ليشغل أيب كثري ًا ،فعىل الرغم من أن أيب ظل يدافع ويناضل من أجل الشامل
إال أنه مل يتوقع حادثة كهذه وأن يأيت ضيف مغرور ينتمي ألحد أرستقراطي
املدينة البعيدة ويقوم بفعلته الرذيلة هذه ،وتذكر أيب حالة الضيف عندما قرر
بشكل مفاجئ مغادرة الشامل متعذر ًا بحالة طارئة .أدرك أيب ما سترتتب
عليه هذه الواقعة وأهنا عبارة عن متهيد ليشء ما أكثر سوء ًا ،فحالة اجلموع
غري الواعية التي يقودها امللتحي والفوىض التي قاموا هبا يف الشامل ستجعل
املدينة تعاين من صعوبات طويلة .عندها قرر أيب بشكل رسي أن نغادر أنا
وأخويت الشامل إىل املدينة البعيدة أكرب مدن الصحراء عىل اإلطالق .ظل أيب
يف الشامل وحيد ًا يقاوم هذا املد املحافظ و ينهي املشكلة بغية أن تعود املياه
إىل جمارهيا.
44
5
45
أن حتول هذا األمر إىل حدث يشغل احلكومة الرئيسية التي قررت االستعانة
بمحقق بلجيكي يعمل يف مركز اإلحتاد األورويب ،وهذا املحقق سبق له أن
كشف مؤامرات حتاك من روسيا عىل بريطانيا يف القضية الشهرية بالعميل
املزدوج والذي متت تصفيته من الروس .جلبته احلكومة وقدمت له مبلغ ًا
مالي ًا كبري ًا ليحل هذه القضية التي دامت شهور ًا ،وبعد التحقيقات ظهر
البلجيكي باحلقيقة الصادمة بأهنم ليسوا مذنبني وأن القاتل احلقيقي مل يقبض
عليه إىل اآلن ،وعند املراجعة يف سجل األخوة العائيل اتضح أن هلم أخ أكرب
غادر البالد بعد ثالثة أيام من القضية .تم مجع األخوة يف غرفة التحقيقات،
وكانوا ألول مرة يرون بعضهم منذ أن استأنفت التحقيقات يف القضية
وحينام نطق املفوض اسم شقيقهم األكرب بكوا مجيعهم وقالوا يف نفس واحد
ال عالقة ألخينا هبذه القضية ،وعىل الرغم من أن املحقق اكتشف خيط ًا متين ًا
وتم تأكيد عدم عالقة األخوة بالقضية إال أهنم مع ذلك تشبثوا برأهيم ،أما
أخيهم فلم يكن يعلم بام تعرض له أخوته ،وأي حماولة تواصل مع أهله تعني
معرفة مكانة والقبض عليه ،ولكن بعد سبعة أشهر أرسل أحد العامل الذي
تعرف عىل أهلهم يف البلد املجاور ليجلب له األخبار ،فعاد العامل وقال له:
أخوتك يف السجن منذ هروبك ،فقرر العودة للمدينة وتقديم نفسه للعدالة،
أمىض يف السجن مخسة عرش سنة ينتظر فيها أن يكرب أبناء القتيل ليقرروا إما
أن يعفى عنه أو أن يقام عليه حدّ القتل بالسيف.
بالرغم من أنني أخاف أصحاب هذه القضايا إال أنني الحظت بأن هذا
الكهل ظريف ومتواضع وحمرتم للغاية وال يتفوه إال باحلكمة ،ففي حلظة
كنت أستمع إليه مع جمموعة من املساجني يتحدثون عن ذكريات املايض،
قال بحنيه كبرية:
-لألسف أنتم مل ترونا جيد ًا بالشكل الذي جيب أن تعرفونه ،وال
تستطيعون أن حتلوا مكاننا بسببه ،نستطيع أن نسرتجع الذكريات ،كام لو أننا
46
عامل الفراعنة عندما يرفعون الصخرة ليضعوها يف أعىل هرم خوفو.
أعجبتني تلك اإلجابة احلكيمة ،ولكن أسئلة طرأت عىل خميلتي ،فام
جدوى أن تبقى كل تلك السنوات رهن قرار أبناء القتيل بأن خيتاروا لك
املوت أو احلياة؟! ومن أين أتى بكل هذه احلكمة والشخصية الرجولية
الواعية وهو قاتل؟!
كلام شاهدته يف السجن كانت تلك األسئلة تدور يف بايل طوال الوقت.
أسئلة كهذه قد حترج السجني ،إال أنني قررت أن أفعلها ،ويف عشاء يوم
اجلمعة استغليت جلوسه عىل الطاولة وحيد ًا ،وضعت صحني عىل نفس
طاولته ،وقلت له بشكل ساخر ألبدى حواري معه بأجواء لطيفة:
-أه ً
ال أهيا الشايب،
قال يل بسمو نفسه العالية وأخالقه:
-أهيا اجلديد أنا ال زلت شاب ًا ولكن االحتفاظ بشبابك يف هذا املكان
مستحيل ،فعمري العجوز بدأ منذ أن دخلت هنا.
وكانت هذه املزحة بداية حديث مجيل طال بيننا ،عندها أجاب عىل
أسئلتي وقال يل هبدوء:
أهيا اجلديد أنا أقاتل من أجل بقائي ليس جلدوى احلياة ،إنام ألعوض
الناس الذين وثقوا يب وخذلتهم ،فأنا أنتظر الفرصة ألقول هلم لست كام
ألتغي من قاتل إىل إنسان مات بني عائلته وأحبته كام يموت
ّ تعتقدون
العظامء.
كانت اإلجابة أشبه بالفرحة التي مألت صدري فلقد كان رده عىل
سؤالني ،عندها عرفت بأن ليست كل فعل إجرامي يطلق عىل صاحبه صفة
جمرم وأن ما يعرفه القضاء ال عالقة له بتعريفات اإلنسانية.
47
6
أثرت احلادثة فينا تأثري ًا قاسي ًا وزاد االمر سوء ما ألت إليه األمور يف الشامل
فالثائرين وضعوا أيب كبش فداء ،وطالبوه بتسليم الضيف اهلارب وتقديمه
للعدالة ،ويف املقابل استنفذ أيب كل خياراته السياسية لتهدئة هذه الفوىض
ليجتمع الشامل عىل طاولة واعية حلل هذه املشكلة .ظهر عىل املشهد أناس
الستغالل األزمة وتنفيذ خططهم لالستحواذ عىل سيادة الشامل واستبعاد
أيب وعائلتنا منها ،وهذه أمجل فرصة سنحت هلم منذ عرشات السنني لقلب
املعايري ،وظل هؤالء األشخاص ينفثون يف اخلطاب املحافظ بغية أن تشهد
الساحة تقلبات يف مصلحتهم .وبينام الشامل يشتعل باخلالفات ،وبدأ الناس
يستعيدون مشاكل املايض قرر أيب الصمت إىل أن هيدأ غبار املعركة وتتضح
الرؤية ومن ثم يعيد األمور بطريقته اخلاصة لنصاهبا احلقيقي.
تتصاعد من داخل أعامقي ضحكة فرح مل تعكسها مالمح وجهي عىل
مغادريت هذا الشامل .لطاملا كانت هذه رغبتي طوال سنيني املاضية إىل أن
أتت ومل تتأخر كثري ًا ،ولكن ليس هبذه الطريقة التي حتمل كثري من األمل،
فالذنب يدمهنا كلام تذكرنا ذلك الشامل وكيف تركنا أيب وحيد ًا يف ظل تلك
األوضاع املضطربة ،فإرصاره عىل مغادرتنا جعلنا ننفذ أوامره دون أن نقاوم
رغبته احلكيمة والتي قدم فيها سالمة عائلته ومستقبلنا عىل اعتبارات أخرى
باألخص تلك املشكالت الواهية والتي تتعلق بأخطاء أناس ال عالقة لنا هبم
سوى أننا قمنا بواجب الضيافة.
48
مل يكن الوضع مرحي ًا عند انتقالنا إىل املدينة البعيدة إال أننا رسعان ما
انسجمنا معها برسعة ،فعالقاتنا السابقة بوجهاء املدن األخرى سهل من
مهمة انتقالنا وتعايشنا مع األوضاع اجلديدة .املدينة البعيدة كبرية للغاية
وتتوسع سنوي ًا بشكل جنوين ،كام أهنا تضم الكثري من العوائل الثرية وذات
السمعة والصيت الكبري والتي حافظت عىل وجودها بنفسها وبالتعاون مع
بعضها البعض يف نيل املناصب العالية واملنافسة يف املشاريع التجارية وهذا
ما جعلها طبقة متامسكة للغاية .صحيح بأن أغلب تلك العوائل ذات خلفية
تارخيية ال تقارن بنا ،ولكن هذا ال يعني الكثري يف ظل الثراء املادي الذي
يضع االمتياز يف جانب صاحبه.
بدا أن سقف حريتي زاد كثري ًا ولكني مل أرض أن يرى أحد أسامء أجدادي
يف موقع شبهة أو نقد برغم أن املجتمع هنا بدأ أكثر انفتاح ًا وتقب ً
ال لالختالف
مما كنا نراه يف الشامل ،هنا تفجرت أنوثتي بشكل طاغي ويف املقابل زادت
نرجسيتي وتطورت ،كل يوم ألوي فيها عنق رجل كان بمثابة انتصار عىل
كل االنتقادات الرجعية التي كنت أواجهها من حمافظي الشامل.
تعودت قدمي صغرية احلجم عىل امليش نحو االحتفاالت واملناسبات
الفاخرة ،وتغريت حيايت بمسرية ساق و قدم ،فمن حذاء الفروسية القاميش
الذي يصل إىل منتصف ساقي إىل أحذية الكعب العايل التي أثري بقرع
خطواهتا قلوب الرجال .سمعت من إحداهن يوم ًا بأن أحذية الكعب تم
اخرتاعها يف األصل من قبل الفرس القدماء ليزاولوا الفروسية هبا ،ولكن
يبدو أن النساء أعجبتهن فكرة أن يرضب هبا بطون اخليل لتنطلق ،فقررت
املرأة األوىل التي خطرت هلا هذه الفكرة أن تستخدمها لقرع خطواهتا قلوب
الرجال ،ومن هنا تطورت فكرة املرأة لإليقاع بالرجال يف فخها ،واألمر كان
مستحسن ًا يل بل بدا مسلي ًا للغاية ،فهذه املحافل التي يسدل هبا ستار اليوم
49
كانت أشبه بخشبة مرسح يعرض عليها كل ما وصلت إليه املوضة واألزياء
من اجلنسني ،وهنا بدت جتري احلياة املدنية بطابعها العرصي جمرى الدم
داخل عروقي ،شبكة عالقايت تزداد بشكل مثري ،وأصبحت ال أميز النساء
و الرجال الذين ال أتأخر يف تدوين أرقام هواتفهم لدي كمبدأ تعارف،
وإن مل تكن هنالك عالقة مبارشة معهم أو مواعيد غرامية إال أن مشاهدة
صورهم وحاالهتم اليومية وهم يستعرضون مجاهلم وحالتهم االجتامعية
الفارهة كانت تشعرين بإثارة لغرائزي التي مل أكن سأعرفها يوم ًا لو مل حتدث
مشكلة الشامل.
فام كنت أعتقده يف نفيس ومل يكن صحيح ًا بأين لست من النساء اللوايت
يرتددن عىل املحافل وحياولن كسب قلوب مفعمة بالتعاطف ،فأنا لست
يف حاجة إىل احلنان والعاطفة بعد أيب ،أعظم رجال العامل عىل اإلطالق.
ويف أحدى تلك املحافل اخلاصة للرتويج بمنتج غذائي يدعم البرش ذوي
امليول النباتية جتاه وجباهتم اليومية والتي أصبحت موضة غذائية راج
بسببها مصطلح النباتني ،بدأت رشكات اإلنتاج تتنافس باستهداف هذه
الفئة ،وقامت إحدى تلك الرشكات بإرسال الدعوات للحضور وكنت
مدعوة لتدشني الرشكة ملنتجها الذي يواكب تزايد فئة النباتني بني املجتمع.
شمل املحفل عرض ًا دعائي ًا برسائل تستهدف العقل الباطن للبرش برضورة
استبدال ما يأكلونه ،إال أنه مل يكن ذو تأثري يذكر فاملحفل كان يضم كبار
أثرياء املدينة البعيدة وطبقتها األرستقراطية ،وهذه العقول تعرف الغاية
من هذه الدعايات ذات البعد املادي وما الفئة التي تستهدفها ،فاحلضور مل
يكرتث بالدعاية وتغري طابع املحفل إىل طابع تعاريف يقوم فيه األرستقراطيون
بالتعرف عىل بعضهم بشكل أكرب .وقعت عيني عىل الرجل األكثر إثارة
ووسامة بني احلضور والذي أتاين بمحض إرادته بينام كنت أتصنع عدم
اكرتاثي به ،قال يل بصوته الرقيق واهلادئ:
50
-أه ً
ال،
وكأهنا كلمة جديدة مل يسبق يل أن سمعتها من قبل ،فالكلمة وصوته
وبرقي املعتاد أجبته باملثل،
ّ أعطاها طابع ًا سحري ًا يثري األذن التي تقع عليها،
وتلك املرة األوىل التي مل يكن يعنيني فيها احلضور كثري ًا ،وبدأت احلمرة
تتخذ شكلها بربوز عىل وجهي .عرف عن نفسه وكان قريب ًا لصاحب
الرشكة ،ومن هنا تصاعدت عالقتي معه بشكل كبري وختطت ما مل أعتقد يوم ًا
بأنني سأجترأ وأختطاه .ففي اليوم التايل اتصل يب وطلب اصطحايب بجولة يف
سيارته الرياضية .ورغم مشاغيل إال أن إحلاحه كان لذيذ ًا ويصعب رفضه،
عندها أخذين لرييني تلك األماكن التي ال يزورها إال طبقته والتي رصف
يف حتسينها املاليني ،ومن ثم ذهب إىل اجلبل العايل موزع ًا ضحكاته يف كل
مكان ،صحيح أن حديثه سطحي للغاية ولكن وسامته كانت جتعلني أختطى
هذه السلبية .ركن سيارته التي جعل مقدمتها باجتاه مطل املدينة البعيدة،
ويف حركة مفاجئة مل أتوقع حدوثها ألصق شفتيه بشفتي وطبع عليها قبله
مجيلة وبدل من أن أرفض حماولته مل أختذ أي ردة فعل .اعتذر يل ولكن هذا
االعتذار أشار إىل أن ما بدأه يف طريقة إىل االنتهاء ،لذا قبضت بكلتا يدي
عىل وجنتيه وقبلت شفتيه الناعمتني كرد مني عىل حماولته األوىل عىل شكل
قبالت تتصاعد حرارهتا التي كانت تأشرية مني لدخوله الرسمي إىل جسدي
فعانقني وقال يل بصوته الرجويل اهلادئ «كم أنت مجيلة» ،ضعت ومل يعد
حيكم عقيل ال منطق وال مصدات أخرى ،وضع يده عىل كتفي وجردين ببطء
من مالبيس احلريرية مع نسامت اهلواء الطلق ،بينام رضبات قلبي تالمس
طبقة جلدي الداخلية ،مشكلة ثورة عاطفية يف مجيع أنحاء جسمي ،عندها
ال لكتفي أخذ يوزع القبالت عىل كل جزء من جسدي بدء ًا من شفتي نزو ً
ثم صدري العاري ،وبعد دقائق قليلة من ذلك العراك بني شوقي وشوقه
بدون سابق إنذار هبطت عيل غاممة سوداء وجثت عىل صدري ،صحوت
51
من املعركة املحمومة وقبل أن تصل إىل مراحل يصعب الرجوع بعدها دفعته
وقلت له «كفى» ،أعادت هذه الغاممة رشيط ذكريايت ،تذكرت قيمتي التي
مل أستمدها من املال وال املظاهر إنام من عراقتي التارخيية وجمد أجدادي
التليد ،نظرت لنفيس وأحسست بشعور قبيح ميلء باخلزي ،سألت نفيس
«من أنت؟! وما هذا التي تفعلينه؟! وهل يستحق هذا الرجل امتياز جسدك
وعبق روحك» ويا له من أمل يصيب املرء عندما يتقاطع عقله مع قلبه يف تلك
اللحظات اخلاصة .عندها أعدت مالبيس إىل وضعها السابق وطلبت منه أن
يعيدين إىل بيتي ،وطوال الطريق مل أقل شيئ ًا بينام هو ظل يثرثر باعتذارات
واهية ،كان البكاء ينتظر الفرصة املناسبة ليعرب بد ً
ال عني.
وصلت البيت ألهني يومي الذي ختمته بشعور يسء ال يعكس ما بدأت
يومي به ،وعىل الرغم بأن هذه احلادثة كشفت يل طريقة نظر رجال املدينة
البعيدة إىل النساء باعتبارهن سلعة إلفراغ شهواهتم ،إال أن احلظ واحلكمة
أسعفتني يف إنقاذ نفيس يف الوقت املناسب ،عندها تساءلت عن توافق الشامل
ذو الطابع القبيل مع املدينة البعيدة ذات الطابع املدين يف نظرهتم للنساء ،مل
أكن أتعلم من هذا الدرس ،فاالمتيازات التي قدمتها يل املدينة البعيدة ونمو
عالقايت االجتامعية جعلني بال ختطيط أجتاوز هذه العالقة ،فأنا غري قادرة عىل
احلب رغم أن هذا الرجل مل حيدث منه ما يستجوب أن أرفضه هبذا الشكل
لو مل أسمح له بذلك ،إال أنني قرأت يف حلظة ما يف عينه لؤم واستغالل كتلك
النظرة التي يستخدمها التجار اجلشعون عندما ينتظرون من املشرتي دفع
املال من أجل بضاعتهم ،وبرغم حماوالته احلثيثة إلعادة العالقة إال أنني
أقفلت يف وجهه اجلميل كل األبواب ،وماهي إال أيام حتى سمعت أنه بدأ
عالقة جديدة مع فتاة أخرى ،عندها أعجبتني نظريت لألشياء قبل وقوعها.
52
7
حالة صمت مرعبة بينام السجناء ينتظرون ما سيقوله السجان هلم ،فتح
ال ضجة ليستمع إليه مجيع من يف السجن، السجان شباك الزنزانة بقوة مفتع ً
وأخربهم أن األسمر الكبري وافته املنية بعد أن فحصة طبيب السجن وأخرب
إدارة السجن عدم جدوى قدوم اإلسعاف إىل هنا والذهاب به إىل مستشفى
املدينة ،مل يكن هذا األسمر الذي جتاوز سن الستني من عمره يتحدث
إطالق ًا ،كام أنه كان متين ًا ،مرتهل اجلسد ،عليل القدمني وكان مقعد ًا عىل
الكريس املتحرك ،ومع ساعات الصباح األوىل كان يأمر أحد املساجني أن
يدفع كرسيه املتحرك إىل مكانه املخصص الذي عرف أنه له منذ زمن طويل
مقابل باب الزنزانة ليرتك وحيد ًا ،كان يضع يده عىل خده ،وعيناه طوال
اليوم تنظران يف فتحة الباب وكأنه ينتظر اللحظة التي ستأيت بنبأ اإلفراج عنه.
حكم ست سنوات ،ومل يذهب منها إال سنتني فقط .كنت أستغرب،
ما الذي يراه يف نافذة باب الزنزانة هذه ويستوجب نظره الطويل إليها؟!،
كان هذا تساؤاليت الطفويل كلام شاهدته بتلك اللقطة الفلكلورية .يقول
يل أحد السجناء بأن األسمر الكبري عرف عنه قوة البنية فلقد كان حيمل
السيارة الصغرية من مقدمتها بكلتا يديه كام أنه كان زير نساء ،ومل يكن
يرىض بالوظائف التي تعرض عليه بشكل دائم ،فلقد كان يعترب الوظائف
نظام ًا مستحدث ًا من العبودية القديمة بمسمى جديد ،فاملدير هو نفسه ذلك
الرجل الذي يشرتي العبد من سوق النخاسة ،ويأمر باسرتاحته وإجازته
ومتى يأكل ومن ثم يرميه يف الشارع عندما يكون عديم الفائدة ،فلقد عرف
53
بدخوله بشكل مستمر إىل السجن ،ما بني قضايا متنوعة ال حكر هلا فلقد
دخل يف ثالثة عرش قضية ما بني رضب وهتديد وسطو واختالس وتزوير،
وبرغم كربه يف السن فإن نزعته اإلجرامية مل تكن تتزعزع من مكانتها فيه،
لقد كانت وسيلة الوحيدة للتعبري عن رأيه يف املجتمع ،واجلميع هنا حيرتم
مسريته اإلجرامية الباهرة ،كام أن كثري من منتجي األفالم حتدث معه ليكتب
قصته التي ستتحول إىل فيلم يعرض يف دور السينام ،إال أن أتت القضية
األخرية وبرغم أهنا خفائف كام حيلو للمساجني تسمية القضايا البسيطة إال
أنه بعد دخوله بأيام أتاه خرب وفاة زوجته ،وهذا ما شكل صدمة تسببت يف
اهنيار قواه اجلسدية والعقلية ،كام لو أنه جبل جليدي اهنار من االحتباس
احلراري يف فرتة وجيزة ،ورغم أنه قليل احلديث إال أنه كان يبتسم يل بني
احلني واآلخر ،وذات يوم ذهبت إليه ألسأله عن سبب بشاشته التي يرسلها
يل ،فقال:
-أنت ابن زعيم القرية عىل حدود ضاحية املدينة .أعرف أبيك جيد ًا،
لقد كان يلفظ من أنفاسه تلك الروائح العنرصية عندما يراين ،كنت أمتنى
ال عنه ،ومنأن يرميه تعصبه يف السجن هنا أللتقيه ولكني وجدتك هنا بد ً
خالل تركيزي يف حتركاتك وحديثك مع باقي املساجني بدا يل أنك شخص
ختتلف عن أبيك ،فلقد عكس املثل بأن النار ختلف الرماد ،وأنت عندي
شعلة حترتق من أجل من حوهلا.
كنت سأغضب بسبب ما قاله عن أيب ،إال أنني تذكرت بأن هذا السجن
بال سقف للكالم ،كام أنه عكس جزء مما ختلف البيئة الطبقة التي ظلت
تعيشها جمتمعات املدينة املحرمة.
-اسمعني أهيا اجلديد ،أنا خبري يف القضايا ،وليس هناك مسوغ قانوين
حلكمك فرتة طويلة ،اسمعها مني سينادون باسمك عام قريب ويفرجوا عنك.
54
كانت تلك آخر الكلامت التي قاهلا يل قبل وفاته بيوم واحد ،والتي أثرت
كثري ًا يف منحنى صمودي يف هذا السجن .لقد مات أحد جمرمي هذا الزمان
الذي ظل يعرب عن غضبه بانتهاك ما يمكن انتهاكه ،أنا متأكد أن كل تلك
الغزارة يف أفعاله اإلجرامية ما هي إال حالة من هياج املشاعر والغضب عىل
هذه املدينة ،وقرر أن أفضل طريقة للبقاء يف لوحة رشف املدينة أن يكون
جمرم ًا ال يشق له غبار ،أعلم بأهنا سذاجة فكرية ولكنه أقرب حتليل حلالته
الفريدة ،يبدو أين سأموت بعده من التفكري بغرابة السلوك البرشي املعقد،
فالكل هنا بام فيهم أنا غاضب بطريقته اخلاصة.
كنت أمتنى أن أرى املستقبل قبل مماته بلحظات ،ألخربه أن يلقى يف
السامء أختي التي دفنها أيب حية ،ليقول هلا:
-أختاه إياك أن تعودي إىل هنا ،إنه اجلحيم الذي نعاقب فيه بخطيئة أو
بدوهنا .خطأك اجلسيم أنك فتاة حلمت ،وخطأك الذي ال يغتفر أنك حلمت
هنا يف هذه املدينة ،إياك أن تعودي.
55
8
يف يوما ما أطلقت املدينة البعيدة مبادرة تطوعية لزراعة األشجار يف
الصحراء وطالبت املواطنني أن يغرس كل فرد منهم شجرة .كانت الفكرة
مجيلة ولكني كنت أراها صعبة التطبيق ،وكان حكمي بفشل هذه املبادرة
قائم عىل جتربتي يف زراعة األشجار حول حميط قرصنا عندما كنت يف الشامل،
والتي كانت مهمة شاقة أثقلت كاهيل الناعم وكاهل العاملني يف القرص،
فصعوبتها كانت تدور حول الرتبة الصحراوية ونوع الغرسات الشجرية
باإلضافة إىل نوع الطقس اجلاف واحلار أو البارد جد ًا الذي ال يصمد احلديد
فيها فكيف باخلشب احلي .والقادر عىل تطبيق هذه املبادرة هي اهليئات
املؤسسية والتي حتتاج إىل خربات اجليولوجيني وعلامء البيئة واملهندسني
ال من إقحام املواطن يف عمل ال يستطيع القيام به ،وألنني الزراعيني ،بد ً
قرأت عن املبادرة ورفضتها داخل نفيس إال أن صوت ًا داخلي ًا ظل يدعوين
للذهاب .عندها عللت لنفيس بالذهاب بغية رؤية يشء جديد ،وضعت
نقطة جتمع يف منتصف املدينة الستقطاب املهتمني من أنحاء البالد ،وبرغم
ال كثرية وال يوجد فيها مرسح للموضة واالستعراض أن املبادرة ال تعني أموا ً
فإن هذه املبادرة مل تنل استحسان الطبقة األرستقراطية ،وبحكم أنني أنتمي
هلا رحت أتردد يف الذهاب ،إال أنني قررت يف اللحظات األخرية أن أذهب
برفقة صديقتي التي جاملتني يف قراري .كان هنالك يشء يدفعني للميض
قدم ًا ،فصويت الداخيل مل يظهر منذ أن غادرنا الشامل من ستة أشهر إال يف
هذه اللحظات ،وكأن إرادة احلياة التي تنبعث منها مشاعرنا غري معروفة
56
املصدر تريد أن تلفت انتباهي ليشء ما ،أو أن ترسم طريق جديد يل ،كام أنني
ارتديت قناع الالمباالة ،وهذا القناع يتميز بكون الناس ستنظر إليك كفارغ
وال متلك شيئ ًا وهذا جيد يف هذه األماكن األقل شأن ًا .عندها وصلت كان
املكان بسيط ًا وغري مكلف ،كل ما يف األمر جهاز بروجكرت ذو إضاءة أفقية
وعمودية ومرسح بخلفية بيضاء لتسليط ضوء اجلهاز عليه لعرض حمتوى
املبادرة ،أو من يأيت حمارض ًا ويقدم الفكرة عىل خشبة املرسح ،ومقاعد بيضاء
بالستيكية منترشة ويف أقىص اليسار توجد طاولة طويلة وعليها مأكوالت
ومرشوبات بسيطة للحارضين ،مل حيرض الكثري من الناس ،وبلمح البرص
تستطيع إحصاء احلارضين ومتيز القادم من أجل االستفادة من غريه،
وبحكم خلفيتي يف هذا املجال الذي فشلت فيه رحت أرشح لصديقتي
أنواع األشجار ومدى تأقلمها إن زرعت يف أرض املدينة البعيدة ،إال أن
صديقتي مل تتغري وظلت تبحث عن الرجال الوسيمني وكأهنا أشعة حتت
البنفسجية تلتقط حتركات األعضاء داخل اجلسد ،وبرغم انشغاهلا يف نزواهتا
الشهوانية اال أنني واصلت احلديث ،عندها قاطعت حديثي وقالت يل:
-انظري يف وجهي ودون أن تلتفتي أو تشعريه باألمر ،هناك رجل حيدق
بك.
قلت هلا:
-دعيه وشأنه فلقد اعتدنا عىل حتديق الرجال لينتظروا منا حركة تسمح
هلم بالقدوم واحلديث إلينا،
ال بد ً
ال من النظر إىل هذه األوعية -دعيه يأيت أريد أن أضحك عليه قلي ً
املليئة باألتربة والغرسات الشجرية،
مل أوافق ولكن قدوم صديقتي برفقتي جعلني مدينة هلا بتنفيذ ما تقرتحه،
نظرت إليه فإذا هو شاب ذو هيئة ومالمح بسيطة وزي تقليدي مل يلفتني يف
57
يشء بحكم أين أرى كل يوم األمجل واألوسم ،كام أين رأيت فيه هيئة حمافظي
الشامل ،فكنت أعد الثواين التي يأيت فيها ويغادر من أمامي ومن الذاكرة إىل
األبد ،مر بجانبنا عدة مرات ،ومل نبد أية حركة وكأنني يف كل مرة يمر بنا
ال خلق موضوع ،وقال: أسمع ارجتاف قلبه ،ثم أتى وحيانا حماو ً
58
وكل ما أردته من هذا السؤال أن أخذل معلوماته ويسكت ثم نغادر هذا
املكان ولن أعود له من جديد ،عندها أجابني بنعم التي قامت بدورها بإثارة
أعصايب عندها رسم عقيل خمطط االنسحاب من هذه املحادثة باالستئذان
منه بشكل مفاجئ واملغادرة معللة بمشاغلنا اخلاصة ،لكنه أكمل برسعة قبل
أن أعتذر منه وأغادر وقال:
-أنا أعرف جدك العارش الذي حرك الشامل برمته من أجل إرجاع حق
مرأة عجوز استنجدت به من قطاع طرق رسقوا حالهلا وأطاحوا بخيمتها.
وكانت تلك الوقعة من أشهر ما عرف التاريخ القديم.
عندها ارتسمت يف وجهي عالمات الدهشة واالستغراب ،فهذه القصة
قد نسيها أهل الشامل أنفسهم ومل يعد يتذكروهنا ،كام أن كتب التاريخ
املدرسية وحتى اجلامعية مل تتكلم عن هذه الواقعة ،وأكمل حديثه:
-إن مل خيب ظني فانتي حفيدهتم فعيناك العسلية قريبة ملا وصفه املؤرخني
ألجدادك ،كام أن قوامك قوام فارسات القفز عىل احلواجز.
عندها أخذ يدي وقال:
-والدليل امحرار املنطقة هذه بني سبابة يدك و إهبامها فهذه املنطقة تتأثر
بشد جلام اخليل كثري ًا ،وهذا دليل بأنك فارسة متتطني اخليل كثري ًا.
أذهلني إملامه فلقد أيقظ ّ
يف ما مل أعتقد بأن هذه املدينة برمتها ستوقظه،
وواصل حديثه:
-أنا أملك خمطوطة نادرة جد ًا وهي عبارة عن مراسلة بني جدي الذي
قطن اجلنوب وجدك يف أقىص الشامل ،وهذه املخطوطة يظهر لك فيها
أخالق الصحراء النبيلة.
عندها طالبته برضورة أن يرسل يل املخطوطة ودونت رقمه عىل هاتفي،
59
ومل متيض ٍ
ثوان حتى أرسل يل ملف املخطوطة عندها شكرته بابتسامة وغادرنا
املكان.
طوال الطريق كنت أفكر بمعرفته هبوايتي يف الفروسية والتي مل أعد
أمارسها منذ أن أتيت املدينة البعيدة وتذكرت أجدادي الذي أعاد هذا
الغريب إحياء ذكرهم يف الوقت الذي نستني إياهم مظاهر هذه املدينة .من
هذا القادم من املجهول ،وما الرسالة التي أراد مني القدر قراءهتا ومل أستطع.
60
9
أطرق رأيس بشكل مائل كعاديت ،ويف حركة تدل عىل استغراقي بالتفكري
يف أمر ما ،كنت عىل جانبي األيرس أستند إىل وساديت الصلبة التي يتفجر
القطن الرديء من جوانبها ،وتتدىل يدي اليمنى من رسيري يف الطابق الثاين،
فوضعيتي املرتنحة ال تدل عىل أين أبايل بام أنا فيه ولكني يف اجلانب اآلخر
مهتم بأفكاري اخلاصة ،ويف حماواليت احلثيثة إىل فهم السلوك البرشي داخل
هذا السجن ضيق املساحة ،يبدو أين فقدت كثري ًا من هتذيبي األخالقي،
أعجبتني فكرة أن أكون سيئ ًا ألستطيع العيش يف هذا املكان ،أو يتقبل
السجناء وجودي ند ًا هلم سوئهم.
يف بداية قدومي كان بعض السجناء يطلقون عيل لقب الصويف ،والصويف
تعني من ال يدخن أو يستخدم املخدرات ،أو يعاقر مع اخلمر .بلغت به
االستقامة مبلغ ًا ال يستهان به ،وعىل الرغم بأن هذا يشء جيد إال أن الصويف
يف مكان كهذا ُيعد منبوذ ًا ،بحسب خربة السجناء عندما كانوا طلقاء يف
اخلارج و يعانقون احلرية فإن هذه الفئة ينتمي إليها املخربون واملتلصصون
أو الذين يقتاتون عىل أذية املجرمني عندما يقدمون للسلطات معلومات
عنهم ،وكأن املخربين يرتدون القناع الصويف هذا إلسقاط ما يمكن إسقاطه
من هذه الفئة ،فإن حاولت التعمق كثري ًا يف املجتمع اإلجرامي ستجد أن
نواح أكثر قوة من غريه ،فاخلطاب اإلجرامي يبدو لك رجولي ًا وضد بداخله ٍ
اخلونة ،كام أن تكاتف املجرمني مع بعضهم يستحق دراسة خاصة وعلمية،
61
عل ًام أن سقوطهم يف الغالب مؤمل وال هنوض بعده إال أن الناس يتساقطون
كأوراق اخلريف عىل أي حالّ ،
وكل بخيبته اخلاصة.
ازداد منسوب النسيان يف وعاء عقيل فذاكريت التي تتعلق باألماكن
فقدت خاصيتها يف التقفي والتحليل .بيد أن اإلنسان حمكوم عليه يف هذا
الزمن أن يأكل من نفسه .كنا كالنرتونات داخل نواة الذرة نتحرك داخلها
برسعة كبرية ،دون أن يتغري يف شكلها اخلارجي يشء ،وهذا ما يفرس خصوبة
األحداث داخل السجن ،فالسجناء يتصاحلون ويتقاتلون وعدوك اليوم هو
صديقك يف األمس وغد ًا ،اختذت شكيل اجلديد وقررت أن أكون سيئ ًا بام فيه
الكفاية ،ويبدو أنني اخرتت املشاعر الصحيحة يف املكان املناسب ،وبرغم أن
عقيل حييك خطة الصمود التي سأعتمد عليها طوال فرتة وجودي إال أنني
استطعت أن أخفي ضمري اإلنسان الذي طاملا أظهرته بني احلني واآلخر.
كان السجناء يغطون يف نوم عميق وكنت أنا أنظر كعاديت يف السقف
العلوي أحاول أن أستجلب بقواي اخلارقة ستار النوم ليهبط عىل عيني.
وفجأة نظرت إىل الرسير الثامن فإذا بالسجني الذي وصل منذ يومني يبكي،
مل أتفاجأ فمن الطبيعي أن تكون لياليك األوىل هنا هبذا الشكل ،ولن أتفاجأ
لو حدث األسوأ .أدرك أنني شاهدته وأنا بدوري عدت ألنظر إىل سقف
الزنزانة ،فال تعنيني دموعه كام أنه ال يعنيني علمه بأنني شاهدهتا.
ومع ساعات الظهرية يف اليوم التايل وعند وقفي عىل باب الغرفة الثالثة
وضع وجهه األسمر ذي اخلدوش أسفل عينه اليمنى يف وجهي وقال:
-إياك أن تروي ما شاهدته ألحد.
جديد ال يعلم بأن شكيل مل يعد يصف تطورايت السيئة التي سلكتها
مؤخر ًا ،عندها قبضت عىل عنقه وثبته يف حركة رسيعة عىل اجلدار ،ورحت
أكرس الكلامت كام يفعل أبناء الشوارع .قلت له:
62
-إياك أن تعيد هتديدي مرة أخرى فام أنت عليه ال يعنيني.
وأفلت قميصه ،ورغم أين وضعت يف عقيل خيار حق الرد بالنسبة له إما
باملثل أو أعنف مما فعلت إال أنه مل يفعل شيئ ًا ،بل أطبق فمه الواسع ذو الشفة
السفلية املتدلية وعدل وضعية ردائه وغرب عن وجهي ،ومن حسن احلظ مل
يالحظ أحد هذا الشجار الصغري الذي مل يستغرق سوى ٍ
ثوان بسيطة للغاية.
ويف مساء نفس اليوم أتى مرة أخرى وقال يل:
-اسمعني جيد ًا ،أعتذر عن أسلويب الفظ ولكن معرفة السجناء ببكائي
جيعلني حتت طائلة التنمر طوال فرتة سجني ،وأنت تعلم ذلك جيد ًا ،ولكني
سأفتح لك قلبي ولعيل ال أندم ولكني بحاجة صديق يف هذا السجن ألحدثه
ال ملشكلتي .أنا أستحق ما حيدث يل ،ولكن مشكلتي احلقيقة يف وأجد ح ً
زوجتي التي هجرتني بعد أن قبض عيل بأيام قليلة ،ورغم أين رسقت ألبدو
هلا أنني قادر عىل أن أكون بمستوى أهلها األثرياء إال أن ذلك مل يشفع يل
عندها بأن تصرب وتؤازرين عىل حمنتي .أتت عند أمي وقالت هلا لقد رضيت
بمستوى ابنك املادي ومعاقرته للخمر وطرده من عمله ولكني لن أرىض أن
يقال يل زوجة السارق ،أنت تعلمني طبيعة جمتمعاتنا اجلنوبية التي تنتظر أن
تعلق أي هالة سوداء لتبقى يف الذاكرة والزمن .ووضعت مفتاح البيت يف يد
أمي وتركتها وحيدة.
كانت قصته ذات وقع كبري يف قلبي .عدت ذلك الرجل الذي حيزن حلزن
غريه ،عندها أكمل حديثه بصوته الشاحب التي يبدو بأنه ترشب حزنه وقال:
-إنني أعشق تلك احلمقاء أكثر من أي يشء آخر يف هذه احلياة ،ويبدو
أن تكلفة أن أقاتل من أجل إرضائها باهظة وها أنا أدفع ثمنها من عمري يف
هذا السجن.
63
واغرورقت عيناه بالدموع ،عندها ألتفت يمين ًا وشام ً
ال ألضمن أن ال
أحد يرانا وقلت له:
-خذ قطعة القامش يا غبي وامسح دموعك فال املكان وال الوقت
مالئامن هلذه املشاعر ،اذهب إىل رسيرك وغد ًا نكمل حديثنا .هيا اغرب عن
وجهي .مل أعد صديق ًا ألحد ،فقط مستمع جيد ،وهذه هي الصفة الوحيدة
التي أبقيت عليها مني ،وأرجو أال يطول اضطراري يف هذا املكان عىل هذا
التصنع.
ويف قفزة صعدت عىل رسيري ،وأخذت حلايف وغطيت وجهي لتتخذ
هواجيس ومهومي وضعيه مناسبة لترتبع عىل صدري وعقيل .لألمانة مل
أفكر يف مشكلة السجني فأنا لست أخصائي ًا نفسي ًا وعمري ال يملك الرصيد
الكايف من اخلربة ألجد ملشكلته احلل ،كام أن لدي ما يكفي والذي ال جيعلني
أفكر بيشء ال يتعلق بنفيس وباألخص يف مثل هذا املكان.
اليشء باليشء يذكر ،فام األخبار يا هند؟ وهل ال زلت تذكرين ذلك التائه
الذي قبضت عىل قلبه وأرسلته إىل غيابات اجلب وظلت أطيافك تلتقط
أنفاسه يف كل مرة يتذكرك فيها؟ أعلم أنني جبان ،كان جبني هو حكمتي
ورشيعتي احلياتية ودستوري اخلالد الذي أستمد منه طريقي يف مواجهتك،
فقدماي ويداي ظلت ترجتف طوال سنة كاملة عندما أنوي الذهاب إليك أو
أن أراسلك من هاتفي ،لقد واجهة احلياة برضاوة كنت أهنض منها خارس ًا
يف كل مرة ،مع ذلك كنت أهنض ولكن مواجهتك كانت تقيض عيل لو ملرة
واحد فقط دفعتني للخلف.
بدأ عىل لساين ذلك الطعم املر الذي تفرزه مشاعري ويلوث مذاقي
لألشياء والتعاطي معها ،عندها شعرت بالضياع والقلق عندما انتابتني
هذه املعضلة الوجودية األخرى وليس موضوع جانبي عارض ،نعم يا هند
64
وجودك هو التفسري الوحيد هلذه احلياة وغريه هرطقات فالسفة وأهواء
مفكرين أضاعوا عقوهلم بال طائل.
ولكن كيف مل خيطر عىل بايل بأن هند ًا علمت بسجني كل هذه املدة،
ال هذا ما ال أريده ،أخذ قلبي ينبض بقوة ،فام هي ردة فعلها إن عرفت أين
أنا اآلن؟! ستقول يف نفسها كام قالت زوجة السجني ألمه« :هل تريدين أن
يقول عني الناس أنني زوجة سارق؟» ،هند حت ًام ستقوهلا بطريقة هادئة فأنا
ال أعنيها بالشكل الذي كانت عليه زوجة السجني ،فمن املؤكد أهنا ستندب
حظها العاثر أن أحد معارفها سجني ،عندها ستضيع الفوارق بينها وبني
مدينتي املحرمة يف مشاعرهم اجتاهي ،ال هيم ما هتمتي وماذا فعلت فيكفي أن
يعرفك الناس بأنك سجني وهذا وحده يطرح سمعتك يف األرض ،كل ما
أعتقد بأين اقرتبت منها أجد نفيس ابتعد مسافات ضوئية ،ال وقت لدي هلذه
األفكار ولكني أخذت أضع مربرات لنفيس وخاطبت نفيس بصوت داخيل
عال« :هي مل ُتعرك انتباها طوال سنة فكيف خالل بضعة شهور قضيتها يف ٍ
السجن».
ولكن هذا املربر مل هيدئ غضبي وعادت االنتفاضات تشتعل يف صدري
ملت نفيس عىل الذهاب إىل حمفل التشجري التافه يف املدينة البعيدة
مرة أخرىُ ،
الذي ألتقيتها فيه أول مرة ،فمنذ متى قد كان تعلقي بالطبيعة بذلك الشكل؟!،
اجلنوب ممتلئ باألشجار التي مل آبه هلا وال برضورة وجودها يف حياتنا يف
األصل ،وهرويب من واقعي ومن نفيس جعلني أذهب لتلك األماكن التي
أعادت تقزيمي لنفيس وأضاعت مني جدوى التعايف من سوداويتي احلانقة
والتي ختنقني يف هذا السجن الكئيب.
65
10
أسدل الصبح ستاره الفضفاض الذي يوبخ قضبان السجن مل يتغري معه
يشء منذ حلظايت األوىل يف هذا املكان ،فجسدي أصبح كالرتس الصغري
داخل ماكينة ضخمة اعتادت عىل عمل األشياء وفق روتني ثابت ،حتى
أن أفكاري التي ظلت تالحقني م ّلت مني وذهبت ليحل النسيان حملها.
ورغم أنه مل يمض عىل قدومي إال بضعة أشهر إال أنني فقدت مالمح املدينة
املحرمة ،فمنذ أيامي األوىل يف السجن قلت للسجان إياك أن تسمح أن
يزورين أحد من أهيل أو أقاريب ،أو من يدعون بأهنم أحبايب ،فرؤية خيبتي
يف وجوههم سيعذبني ويزيد من هتتك عزمي الذي بدأت أفقده ،ومل أعد
يف حاجة لكلامت الصمود وال طبطبة األكتاف فلم يعد وجودي إال حماولة
النتشال جسدي من سوداوية احلياة.
ركض أحد السجناء املعمرين بلهفة نحوي ،وكانت هذه وظيفته أن
يستدعي السجناء لنداءات وكأنه ساعي الربيد الذي يوصل الرسائل دون
أن يعرف ما فيها:
-قم أهيا اجلديد ،العسكري ينادي باسمك.
-ماذا يريد؟
-ال أعلم ولكن يف يده ورقة وحمربة اخلتم.
هنضت من رسيري الذي ملني ،فإذا يب أمام نفس العسكري الذي قيدين
بإذالل إىل هذا املكان مبتس ًام.
66
-أسمع يا هذا .استعد ،لقد أتى أمر بالعفو عنك واالكتفاء بالشهور
القليلة التي سجنت فيها.
يتحدث وكأنه صاحب الفضل يف خروجي ،أخذ ورقة إطالق رساحي
وأمسك إصبعي اإلهبام وصبغها باللون األزرق ثم وضعها حتت خانة
املوافقة ،وقال يل عند الظهرية سيتم إطالق رساحك من السجن فأرجوا
منك أن جتهز أغراضك للخروج.
لن أخرج إال عندما أصفي حسابايت اخلاصة ،وأوهلا ذلك السجني
الذي مزق الورقة ،فال تعتقد أن خروجي ينسيني تلقينك الدرس الذي
تستحقه ،ومل أقدم عىل هذا العمل إال بعد دراسة وحتري خاصني ،ذهبت
للغرفة ورفعت ساق رسيري وأخرجت من حتته قطعة من القامش يوجد يف
داخلها كميات من احلشيش ،ثم ذهبت إىل غرفة الضحية ووضعتها بخفة
حتت رأسه األصلع النائم و املزدحم باجلروح واآلثار التي تشبه الكتابة
الثمودية يف الصخور ،ما أمجل أن تعيد اخلسة ألهلها يف هذا املكان ،إنه شعور
االنتصار يف هذا السجن ،عندها ذهبت لرسيري اليشء الوحيد الذي أحببته
يف هذا املكان ،وقفت دقيقة حداد وكأن رسيري أشبه بجثامن نجدي قتل يف
معركة األبدية ،وودت لو كنت أملك بندقية أصوهبا عالي ًا وأطلق الرصاصة
هلذه القطعة احلديدة التي حتملتني طوال فرتة وجودي ،فلم يسبق ليشء يف
هذا الكوكب أن حتملني كام حتملني هذا الرسير ،حتى أعظم أرساري كقطعة
القامش التي حتمل احلشيش أحتفظ هبا لتعينني عىل الثأر ،وعند تفكريي بام
سأخذ معي كان قراري بأين لن أمحل يشء من هذا الزنزانة ،سواء أوراقي
التي نثرت فيها دموعي وشوقي وخيبايت وكل ما كتبته عن هند واحلياة.
حانت الظهرية وفتح يل السجان باب السجن ،وكأين يف تلك اللحظة
مالكم وقف عىل خشبة احللبة ليعاد تقديمه للجامهري واملشاهدين بعد أن
67
صقلتني هذه القضبان احلديدية وجعلت خطاي ثابتة ال تتزحزح عندما
أهبط هبا عىل األرض ،ولكن يف املقابل كان هنالك شعور بعدم جدوى
خروجي من هذا السجن ،فلم أكن مستعد ًا بعد ملواجهة املدينة املحرمة
ولكنه قدري ،سجنت بال موعد وأطلق رساحي بال سابق إنذار.
ذهبت للسجان وقلت له:
-سأقدم لك معلومة ستنال عليها ترقية وثقة مدير السجن إن أحببت.
-وما هذه املعلومة؟
-أعلم أن خيبأ احلشيش يف السجن ،ولكن رشطي أن أخربك بعد أن
خترجني من البوابة اخلارجية.
عندها نظر يل السجان وكأين قدمت له هدية عيد ميالد ،وعند باب
اخلروج مهست يف أذنه وأدليت له بمكاهنا وباسم صاحبها.
68
11
69
حسن وهذا العمل شاق عليك ،عندها انفعلت وأوضحت له بأن عالقتي
هبذه الرياضة هي عالقة وجود وتاريخ وأشياء ال يمكن ملدرب يف اإلسطبل
أن يفهمها ،وبرغم بأن أسلويب كان مشحون ًا وحاد ًا إال أنه نظر إيل وقال
اسمعي أيتها الفتاة أنا لست معلم أساسيات ففي اجلهة املقابلة اسطبل يقبل
املبتدئني ،ويف أثناء استعراضه لرشوطه أعطيته ظهري وسحبت جلام اخليل
من أحد العاملة ووضعت قدمي عىل الركاب ثم أخذت وضعيتي عىل رسج
اخليل ،بينام صمت املعلم يف ذهول ينظر إيل ،أطلقت اخليل حول الساحة،
رهبة احلواجز ما زالت يف قلبي ،وعدت نفيس أن أقفز من فوقها بني مجوع
الناس و كان هذا حلم طفولتي ،وافق عيل ومل يرتدد ،وكان مهارته ومسريته
يف هذه الرياضة سبب ًا يف اختياري له ،فلقد ذهل بموهبتي يف الفروسية ،وضع
رشوط ًا وجعل عدم التقييد هبا مصدر هتديد لعالقتي التدريبية ،منها زمن
احلضور وجتنب بعض األطعمة.
لقد أعاد صياغة الكثري من املفاهيم التي مل أكن أعرفها عن اخليل ،وهنا
عدت هند التي أعرفها يف نفيس فلقد خطفت حيايت من أيدي املحيط حويل
وسلمتها نفيس ،ولكن أجزاء مني مل تنس حميطي كثري ًا ،فلقد اختفيت عن
األنظار وبت أشبه حيوان اخللد الذي حيفر مسالكه يف األرض ويظهر متى
أراد الظهور للحياة والعامة يعود ليختفي مرة أخرى ،بدأت فكرت االرتباط
باألشياء ختتفي تدرجيي ًا ،وزاد ارتباطي بام أهواه.
وفرت لنفيس بيئة رائعة ،ووضعت أمام عيني السباق العاملي للفروسية
الذي يقام سنوي ًا يف املدينة البعيدة ،وطوال ستة أشهر كافحت لتكون
مشاركتي األوىل مبهرة بالشكل الذي جيعل أجدادي حيفرون األرض
صعود ًا ليخرجوا من قبورهم ،ويفيقوا من غفوهتم األبدية مبتهجني ألن
فتاة من صلبهم أعادت اسم أجدادها إىل الشاشات واإلعالم وذاكرة البرش.
70
كانت مشاعري ال يفوقها وصف وأنا أختيل مشهدهم يطلون عيل من السامء
وحيفزوين بكلامهتم البدوية التي يستمدوهنا من قاحلة الصحاري ،وخياطبون
الطبيعة هبا.
وطوال مشوار متاريني سقطت ما يقارب سبع مرات عىل أماكن متفرقة
من جسدي ،وكل وقعة عن ظهر اخليل كانت ستكتب هنايتي ،إال أنني أشعر
بأن أرواح أجدادي ختفف من وقعتي ،وجتعلني أهنض مرة أخرى ،ولكني
متسكت بقول احلكامء ،الرضبة التي ال تقتلك تقويك .الفروسية مدرسة
للحياة ،تعلمك النهوض الرسيع بعد كل سقطة ،يا هلا من فلسفة يعرف
الكثريون التفوه هبا وقليل جد ًا من يعرف كيف يطبقها ،ولكن مع الفروسية
تعترب قاعدة جيب عليك أن تطبقها ،وتتحامل عىل كل آالمك من أجل ذلك
النهوض ،نعم إنه أمر شاق عىل نفسك وبدنك ولكني جيب أن تقوم بذلك،
من تلك السقطات كانت عند حماولتي األوىل للقفز فوق احلاجز القصري
الذي يتوسط الساحة بشكل عريض ،فلم أكن مهيئة للمحاولة واحلصان مل
يكن يف حالة جيدة ،فصعوبة التمرين جعلته ال يستجيب لقراريت ،ويف حلظة
مباغته وقبل وصويل للحاجز سقطت عىل كتفي األيمن عىل األرض ،بعد أن
ال إسقاطي عن ظهره ،وبرغم ظل احلصان يتحرك بطريقة غري متوازنة حماو ً
من قوة السقطة وإحسايس باألمل والرضوض يف فخذي وقدمي اليرسى
إال أنني عدت لركوب اخليل برسعة لكي ال تشعر اخليل بأهنا تغلبت عيل،
وكأنني أشعره بأنني قوية بام يكفي العتالء الظروف فكيف بظهرك ،ومن
تلك السقطة توثقت عالقتي باحلصان كثري ًا ،حتى أصبح عربون عبوري
ألي حواجز قادمة عىل ظهره ،عندها ذهبت لبيت احلصان يف اإلسطبل
أللقي نظريت عليه وأطمئن بأنه ال زال يعرفني وأنني رسعان ما أبدلت سوء
مزاجه يف ذلك اليوم ،كرسعة جتاوزي لإلصابة يف أقل من أسبوعني ،فنظام
71
نومي املبكر ومتارين االستشفاء التي كنت أقوم هبا دائ ًام مع كل صباح كانت
تساعدين عىل التعايف والنهوض مرة أخرى.
وقبل منافسات السباق العاملي للفروسية بأسبوع وبعد أن متت املوافقة
من جلنة السباقات عىل اسمي كمشاركة وأثناء ذهايب إىل اإلسطبل بفرحة
كبرية ،تلقيت مكاملة من أيب وكان صوته كان خمتلف ًا ،وكأن الذي حيدثني
شخص مل أسمع صوته من قبل ،وكانت الصدمة التي مل أتوقعها ،حلقتني
لعنة الشامل إىل هنا ،طلب أيب أال أشارك يف السباقات العاملية القادمة متعل ً
ال
بأن مشكلته مع الشاملني مل تنته وال يبدو أهنا ستنتهي يف الوقت القريب،
وإهنم كمحافظني حت ًام سيستغلونني كابنته لإلرضار به عندما أشارك ويرتفع
اسمي واسمه عالي ًا .أيب مل يرفض مشاركتي ولكن طلب تأجيل هذه الفكرة
إىل أن تأيت الفرصة املناسبة التي مل أعد أثق بأهنا ستأيت بعد هذه املرة ،عندها
وقفت بسياريت عىل جانب الطريق وبكيت بحرقة لساعات طويلة ،فأنا
أحرتم أيب كثري ًا ولن أرفض له طلب .ظل أيب طوال املكاملة يعتذر بعد كل
عبارة ،أعلم أنه يشعر باخليبة التي أشعر هبا ،ولكن تربيتي مل تكن لتجعلني
يوم ًا أسهم يف أن يستخدمني أحد ضد عائلتي وباألخص أيب.
72
12
73
رسالة منذ قبل ثالثة أشهر ،سلسلة من رسائله خلف بعضها دون رد مني،
إهنا الالمباالة التي أستخدمها ضد هذا الرجل ،ضحكت يف داخيل .فمن
الطبيعي أن بعد سنة من دون رد واحد ستجعله يكف عن مراسلتي ،هو
مل يكن من أوائل خيارايت وال حتى هنايتها بل ظل هنالك يف اهلامش حيث
ال ثم إيموجي مبتسم ،وعبارة وضعته .قررت أن أبدأ املحادثة ،كتبت أه ً
أين أنت؟ كنت أتساءل عن غيابه يف أعىل الرسالة وكأنني مهتمة وبعثت هبا
لعله جييب .عدت ألوزع الضحكات عىل صديقايت ،مر يوم ثم يومان وزاد
تعلقي بشاشة اهلاتف والغريب مل يرد عىل رسالتي ،قررت أن أبحث عن
رقمه اجلديد إن وجد ،سأتعلل بطلب خمطوطات تارخيية أخرى وأعلم بأن
سيتلهف خلدمتي ،فال أزال متشبثة بفوقيتي عليه ،مرت األيام واألسابيع
واألشهر ،وأصبح الغريب يشكل لغز ًا يف خميلتي ،بحث أصدقائي الذين
يعملون يف رشكة اهلاتف عن أرقامه لكنهم مل جيدوا يشء سوى رقمه الوحيد
الذي بحوزيت ،ثم بحثت عن أرقام أقاربه إىل أن وجدت أحدهم الذي
أخربين بأنه سجني ،وعند سؤايل عن سبب سجنه تعلل بأنه ال يعرف شيئ ًا،
وهذا ما أثار استغرايب فلقد كانت طريقته وهو حيدثني عنه توحي بيشء مل
أفهمه ،يشء من التفكك واإلمهال ،ما هذه العائلة؟! فال يبدو بأن سجن
قريبه يعني له الكثري.
رغم أن هذا الغريب يوجد يف مكان مشبوه ومن اخلطأ أن أسأل عنه،
لكن ثمة أشياء يكتنفها الغموض .قررت أن أعرف رس هذا اإلنسان ،وبعد
تواصيل مع أحد املتنفذين الذي كان عشيق إحدى صديقايت ،قال يل بأن
قضيته حساسة وتتعلق بالرأي العام واإلخالل بالنظام املجتمعي ،وأن هناك
عريضة قدمها شيخ قبيل وفيها أالف التوقيعات من أهايل املدن اجلنوبية التي
تطالب السلطات فيها بإيقاع أقىص العقوبة عليه ،وعند بحثي ظهر بأن األمر
74
يتعلق بام كتبه عن أخته التي يقال أن والده قتلها بسبب هروهبا مع عشيقها،
وأنه نرصها ووقف مع قضيتها منتقد ًا الظواهر املجتمعية التي كان هلا نصيبها
يف هذه القضية ،ذهلت بالتقارب الرجعي بني الشامل واجلنوب وكيف أهنم
مل يشاركوا إال يف نظرهتم للمرأة ،ففي كل رجعية هناك رجل يناضل من
أجل يشء ما ،أحببت هذا الغريب من حيث املبدأ والظروف ،ولكن جيب
أن أوقف البحث عنه ،فمن أجل املجتمع تنازلت عن سباق الفروسية،
ومن املؤكد بأين سأتنازل عن عالقتي هبذا الرجل من أجل املجتمع كذلك،
وبحركات بسيطة من أصبعي وأنا أمحل هاتفي النقال حجبت رقمة وحذفته
هنائي ًا ،يكفي أن هذا الغريب حتول إىل قصة عرفتها وأعجبت هبا ولكني لن
أعيشها ،إىل هذا احلد ال يعنيني الباقي.
75
13
ال أعلم ملاذا ختيلتها تقف خلف الباب تنتظرين والشوق يسدد طعناته
األليمة يف صدرها الطعنة تلو الطعنة ،وعند ترقبها تتحول ثوانيها إىل سنني
عجاف ،ودقات قلبها تصلني كأهنا طبول احلرب .أرى عيوهنا الواسعة
تدمع بل تتكدس من الفرحة ،إهنا حلظتي املوعودة ،هبيئتها األخرية حيث
كان لقائنا األول ،مشوار مئة ومخسني يوم ًا ينتهي بلقاء مالئكي ،وكأنني
أراها متد ذراعيها الناعمة ذات الربيق األبيض لتحضنني داخل معطفها
احلريري وهترب يب بعيد ًا إىل أبعد نقطة يف األفق ،حت ًام ستتنازل عن الفروق
الطبقية واملسافة الرهيبة بني املدينة البعيدة واملحرمة ،ستطرح كل الفروق
البرشية أرض ًا وتضعني نصب عينها ،حيث ذلك الغريق الذي مل جتعله قوة
األمواج يلتقط أنفاسه وينقذ نفسه ،إنني يف أمس احلاجة ليدها لرتفعني عالي ًا
وتنتشلني ،إنه اإلنقاذ من الشفقة التي تنتظرين ومن اليأس ،ومن ظنون
الناس ،ومن املجهول األبدي.
سار يب السجان املرسور وكأنه حتول إىل حارس شخيص يل ملجرد
أن وشيت بسجني له ،فمرضّ ة السجني وإن كان يستحق ذلك هي منفعة
للسجان حيث سينظر مدير السجن إليه كسجان ذكي جييد إدارة األمور
يف هذا املكان املعقد ،عندها سينال تلك احلظوة التي طاملا انتظرها وانتظر
املميزات التي ستأيت معها ،إهنا حرية الوجود بني السجان والسجني.
فتح يل الباب األول ثم وقعت وأنا مكبل بيدي اليمنى عىل ورقة
76
خروجي النهائية ،ثم فتح صندوق األمانات وأخرج مالبيس القديمة
وبقع الزيت الزالت متلئ كمي األيرس وساعتي الغالية التي طاملا حتركت
عقارهبا من أجيل .دخلت غرفة املالبس أستبدل وأرمي مالبس السجن التي
أرتدهيا .وجدت يف تلك الغرفة مرآة طولية مكسورة ،من املؤكد أن سجين ًا
قبيل هشمها حتى أن وجهي بدا عليها متصدع ًا غري متالئم املالمح ،ورغم
أنني فرح ومتلهف ورسيع احلركة لكنني مل أركز عىل وجهي كثري ًا ،فقبل
أن أدخل السجن كنت أقول إن ما تفكر به ينعكس عىل مالمح وجهك،
ولكن وأنا يف طريقي للخروج قلت إن قلبي وشوقي هلند هو ما سينعكس
عىل مالحمي السعيدة أمامها ،عندها سأصبح لوهلة واحدة الرجل الوحيد يف
العامل اجلميل الذي مأل يوم ًا عيني فتاة وقلبها.
أرسع أهيا اجلديد ،ال وقت لدي ،فالفريسة التي أخربتني عنها تنتظرين،
سأراقبها أليام ،ال ال بل سأقبض عليه اآلن باجلرم املشهود ،وسأطلب من
السجانني زمالئي أن يكونوا حارضين ليشهدوا هذا اليوم الذي سأحتول فيه
من حارس أبواب يلبي طلبات السجناء إىل قائد فرقتي ،لن أتأخر إهنا أشياء
ال تتكرر كثري ًا يف هذا املكان اللعني ومع هؤالء املساجني .عندها نظرت
إليه وتذكرت نظراته التي رمقني هبا عند دخويل أول مرة وكانت ترصفاته
هتينني ،أما اآلن فشاهد كيف تغري احلال .إن الدخول دائ ًام يف املتاعب ال يشبه
اخلروج منها إطالق ًا ،وال حتى تعامل الناس من حولك معها .فتح يل الباب
وكأين ملك متوج عىل العرش وقال يل:
-اذهب إهنا احلرية ،وإياك أن تعود إىل هذا املكان مرة أخرى .فلن
أرمحك ،كام أن الذي وشيت به حت ًام سيقتلك ويقطعك إرب ًا إن أبرصك.
السجان من طبقة صوته حيث جعلها حانية أكثر وكأنه حتول إىل
غي ّ ّ
صديقي:
77
-هيا اذهب وتذكر دائ ًام أنك عندما سجنت مل تتوقف احلياة من أجلك،
ولن تتوقف ألجل غريك ،ومن اعتربهتم أصدقاء -إن وجدوا -مل ولن
يأهبوا بك.
أخرجني وسحب باب السجن خلفي وزجمره باملغاليق السوداء.
ما هذا اخلروج؟! إنه فخ نصبه يل القدر ،اخلروج من هنا أشبه بحياء
الفتيات اللوايت تتصنعنه لينصبن رشاكهن ومن ثم يقع الشاب يف املصيدة،
إن كانت هذه احلرية فإهنا الفتنة التي لعن اهلل من أيقظها ،فام احلرية يف هذه
املدينة املحرمة إال سجن كبري بال قضبان حديدية وال حدود عينية وال ختيلية،
إهنا القايض وسوط اجلالد ،والعذاب اخلالد الذي يالحقك حتى بعد مماتك.
يا للخيبة ..طال وقويف بعد أن أوصدت الباب خلفي ،مل يكن أحد يعلم
بخروجي ،وال أظن أن أحد ًا يكرتث وال حتى مالكي الساموي هند.
واصل هبوط األمل لدي ألدنى مستوياته ،وصل إىل نقطته احلرجة
ال عنها تلك الشقوق التي متأل قلبي عندما أتذكرها ،فكل لتستبدل بد ً
الفواتري الباهظة دفعتها منذ عرفت نفيس وها أنا أواصل دفعها ،ما قيمة
أن تنتظر وتنتظر وأنت تعلم بأن ال أحد سيأيت من أجلك ،إنه الفراغ الذي
عهدته ،نظرت بشكل أفقي ومل أكن أصدق أن السامء مل تعاقب هذه املدينة
عىل ما فعلت .إنه هدوء احلياة امللوث كام تركته ،إهنا وجوه املارة التي تتقلب
أقنعتها يف الدقيقة الواحدة ،كام أهنا تلك اجلسور اآليلة للسقوط التي تلصق
الضفف املرتبة ببعضها ،وأبنيتها الطينية األزلية البائدة التي ترهلت جدراهنا.
مضيت لعيل أرى ما يلجم غضبي من هذه املدينة .كنت أسري بال وجهة.
مل يتعرف عيل أحد ،مالبيس القديمة منحتني طابع غريب ًا وحليتي الكثة
الغوغائية التي جتاوزت قبضة يدي ومل أشذهبا منها منذ دخويل ،ووجهي
78
الشاحب الذي ثقبه عفن تلك الوسادة التي بقيت أتشبث هبا طوال وقتي يف
السجن ،وكل املؤرشات تدل عىل أنني جمنون أضاع وسيلة كسبه املضمونة.
إن هذا الطريق الذي أميض فيه أشبه بفيلم ذكريايت فكل الطرق انحناءات
ال استقامة فيها ،بقيت أسري إىل أن وصلت إىل اجلبل العايل ذو الصخور
اجلرانيت النارية السوداء ،والتي يقال بأنه كان بركان ًا مخدت نريانه ومل تعد
تسيل محمه الربكانية منذ آالف السنني ،صعدت اجلبل عرب مسلكه املرصوف
باحلجارة الذي بناه أجدادنا ليصعدوه كل ما أتت األمراض واألوبئة و
احلروب ،اختبئوا مما نصبته هلم الطبيعة األم ،وبرغم أن الصعود شاق إال
أنني أدركت منذ زمن بعيد بأن الصمود يف القمة أصعب ،فلم أعر أمل قدمي
أي اهتامم رغم ازدياده طوال تقدم الدرب يب نحو القمة ،وصلت قمة اجلبل،
عندها تساءلت برباءة كم من شخص امتأل جسده بالعدمية صعد إىل هنا
وقرر ما سأفعله ،قلبي كان آخر األشياء التي كنت أنتظر أن ينقذين ،،نظرت
إىل املدينة املحرمة ورفعت يدي عالي ًا عىل مستوى كتفي ،وقررت أن ألقي
بنفيس من أعىل جباهلا كطائر صغري قرر ألول مرة أن يطري .وعندما كنت
أهوي من أعىل اجلبل إىل األسفل بتلك الرسعة التي شاهدهتا فيها رشيط
الذكريات من قبل والديت ،بقيت أقول بصويت األخري مل تشاهدوين إنسان ًا
وأنا أتنفس بينكم ولكن حت ًام ستشاهدونني اآلن كفكرة عدمية تالحقكم إىل
أبد اآلبدين ،وأنا؟! ما أنا إال فكرة ستبقى وحت ًام ستنساكم الذاكرة.
79
الهنـــــــاية
80