Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 82

233 �‫ﻣﻜ�ﺒﺔ ﻧﻮﻣ�ﺪ‬

Telegram @Numidia_Library
‫شرفة على العدم‬
‫رشفة عىل العدم ‪ /‬رواية‬
‫إبراهمي املكريم‬

‫الطبعة األوىل ‪2021 / 1443‬‬


‫ردمك‪978-603-91647-8-4 :‬‬
‫رمق اإليداع‪1443 / 56 :‬‬

‫دار أثر للنرش والتوزيع‬


‫اململكة العربية السعودية ‪ -‬الدمام‬
‫تلفون‪00966549966668 :‬‬
‫املوقع اإللكرتوين‪www.darathar.net :‬‬
‫الربيد اإللكرتوين‪info@darathar.net :‬‬

‫مينع نسخ أو استعامل أي جزءٍ من هذا الكتاب بأي وسيلة تصويرية أو‬
‫الكرتونية أو مياكنيكية‪ ..‬مبا فيه التجسيل الفوتوغرايف والتجسيل عىل أرشطة‬
‫أو أقراص مقروءة أو أي وسيلة نرش أخرى‪ ..‬مبا فهيا حفظ املعلومات أو‬
‫اسرتجاعها من دون إذن خيط من النارش‪.‬‬

‫إن اآلراء الواردة يف هذا الكتاب ال تعرب بالرضورة عن رأي النارش‬


‫شرفة على العدم‬

‫إبراهيم المكرمي‬
‫أال حبـــذا هنـــد وأرض هبـــا هنـــ ُد‬
‫وهنــد أىت مــن دوهنا النأي والبع ُد‬
‫احلطيئة‬

‫‪5‬‬
‫‪1‬‬

‫بخلع‬
‫ِ‬ ‫قدمي بعد أن أ َمرين‬ ‫ٍ‬
‫مستفزة القيدَ أمام‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة‬ ‫ِ‬
‫الرشطة‬ ‫رمى ُ‬
‫رجل‬
‫ّ‬
‫دونية منه كانت خليط ًا من االزدراء والواجب والشفقة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫نظرة‬ ‫حذائي‪ ،‬ويف‬
‫‪ -‬واألخرية أكثر وقع ًا يف نفيس ‪ -‬كان واضح ًا ّ‬
‫بأن املكلفني هبذا األعامل‬
‫مترنوا عىل مقابلة السجني‬
‫حيث يبدو عليهم أهنم ّ‬ ‫ُ‬ ‫جرى اختيارهم بعناية‬
‫ري حرب‪.‬‬ ‫والتعامل معه كأس ِ‬
‫ٍ‬
‫ولكنة ال تدعو إىل الثقة وال‬ ‫ٍ‬
‫وشخصية متعالية‬ ‫قال يل بصوته اجلهوري‬
‫رت وكأنني سأهليه ثم ألوذ‬‫األرحيية‪ُ :‬خ ْذ‪ّ ،‬قيد قدميك‪ .‬وابتعد عني مسافة م ٍ‬
‫أي حلظة‪ .‬عندها أيقنت أنه ال يرى‬ ‫يل يف ّ‬ ‫بالفرار‪ ،‬فبدا مستعد ًا لالنقضاض ع ّ‬
‫جيد ًا‪ ،‬فأنا مل أعرف اهلرب إال من واقعي ومن أفكاري ومن رصاعايت النفسية‬
‫ومع ذلك مل أستطع اهلروب منها‪ ،‬ولكن يبدو أهنا بروتوكوالت اعتادوا عليها‬
‫فهم ال هيتمون بقضيتك بقدر اهتاممهم بتفعيل إجراءات األمان التي ظلت‬
‫يدي ورحت أمتعن هذه‬ ‫َ‬
‫الثقيل بكلتا ّ‬ ‫تتطور مع تطور البرشية‪ .‬أمسكت القيدَ‬
‫القطعة التي خيطف ملعاهنا بريق العني‪ .‬أحكمت الوثاق عىل قدمي اليمنى‬
‫ومن ثم اليرسى‪ ،‬ثم وقفت أنتظر قراره هل أحترك أم أبقى يف مكاين‪.‬‬
‫‪ُ -‬مدّ يديك‪.‬‬
‫بكل قوة‪ّ ،‬‬
‫وظل هيز‬ ‫قال يل‪ .‬ثم جلب قيد ًا آخر وضغط به عىل معصمي ّ‬
‫ِ‬
‫القيد حتى لو‬ ‫يدي لن تستطيعا النجا َة من‬‫وأن ّ‬‫موقعه ّ‬
‫ُ‬ ‫القيدَ ليتأكد أنه َ‬
‫أخذ‬
‫العب خفة‪ .‬أمرين باالنتظار‪ ،‬ابتعد مساف ًة أربع َة أمتا ٍر التفت‬
‫َ‬ ‫كنت ساحر ًا أو‬

‫‪7‬‬
‫فيها إيل ليتأكد من أنني أطيع أوامره‪ ،‬ثم مىض يكمل بقية إجراءات نقيل إىل‬
‫السجن‪.‬‬
‫ِ‬
‫وأطرافه احلا ّدة‪ ،‬مل يكن األمل الذي سيخلفه‬ ‫ِ‬
‫القيد يف يدي‬ ‫نظرت إىل‬
‫ّ‬
‫بالذل والعار‬ ‫القيد وهو حيتك بالعظمة اخللفية يعني يل الكثري بقدر شعوري‬
‫اللذين شعرت هبام تلك اللحظة مع هذا القيد والسري يف الشوارع أمام أعني‬
‫الناس كان أكرب إهانة يتعرض هلا أي إنسان‪ ،‬حينها سألت نفيس هل أستحق‬
‫هذا القيد؟ أو بمعنى أكثر وضوح ًا هل ما فعلته يستوجب تقييد معصمي‬
‫تعن يل احلرية كثري ًا بقدر ما كنت أنظر إىل العدالة الكونية‪ .‬كانت‬
‫وقدمي؟ مل ِ‬
‫ملعة القيد تعكس صورة وجهي‪ ،‬تلك الصورة التي مل تتغري منذ أن عرفت‬
‫نفيس‪ .‬يف حيايت كنت أهتم بالنظر إىل وجهي يف أعني الناس‪ .‬ويف احلقيقة‪،‬‬
‫مل تكن تعجبني نظريت إىل نفيس وال نظرة الناس إيل‪ ،‬ويبدو أن حالة الال رضا‬
‫من األشياء التي رافقتني للدرجة التي بات هلا يد يف قدومي إىل هنا‪ ،‬مل أكن‬
‫شديد احلرص‪ ،‬وإن كنت أرى أن الظروف هي من تصنع مالحمك العقلية‬
‫فكيف اجلسمية‪ ،‬فوجهي ممتلئ وهادئ وقسامته سلسلة يسهل التعرف عىل‬
‫ما حيمل صاحبها من نوايا‪ .‬هذه القوالب من الوجوه يصعب استبداهلا‬
‫بوجوه اصطناعية أخرى‪ ،‬باإلضافة إىل أنني مل أكن ذو شخصية نرجسية‪،‬‬
‫ومظهري وإن كان يبعث شعور ًا باإلجيابية لدى األشخاص فقد كان آخر‬
‫اهتاممايت‪ .‬فإن كنت تعرفني منذ فرتة زمنية طويلة أو قصرية فإنك لن ترى‬
‫فرق ًا كبري ًا‪ ،‬سوى أنني أجيد االبتسامة حتى يف أكثر اللحظات خيب ًة‪ ،‬حتى‬
‫أبتسم ال شعوري ًا وهذا ما جيعله‬
‫ُ‬ ‫عندما كان أيب يرضبني يف صغري كنت‬
‫ٍ‬
‫بعنف أكثر كمالكم يف اجلولة األوىل‬ ‫يستشيط غضب ًا فينسى نفسه ويرضبني‬
‫من النزال‪ ،‬ورغم صغر سني كنت أقدر وضع أيب‪ ،‬فالقرية تقوم لغضبه‬
‫وتقعد وأنا أبتسم يف وجهه‪ ،‬ولكن األمر مل يكن بيدي بل عفوي متام ًا‪ .‬أال‬
‫ترى أهيا القدر أنني أبتسم ملجهولك وأنا مقيد اليدين ال حيلة يل وال قوة؟‬

‫‪8‬‬
‫جلب الرشطي كامريا التصوير ليلتقط يل صورة جنائية توضع يف ملف‬
‫سوابقي الناصع والذي يشبه إىل حد كبري صحيفة ذنويب يدون يف أعالها‬
‫أكرب تلك الذنوب عىل اإلطالق وهي أنني ولدت يف هذه الدنيا‪ .‬أمرين أن‬
‫زره العلوي‬‫أرفع رأيس وبقيت مبتس ًام بثويب الكتاين األبيض الذي أغلقت ّ‬
‫وعدلت وضعيته من طريف كتفي‪ .‬ألتقط صوريت‪ ،‬ثم أمرين باالستدارة‪.‬‬
‫مل تتغري ابتسامتي‪ ،‬وألتقط الصورة الثانية‪ .‬سحب الذاكرة من خلفية الكامريا‬
‫ثم أدخلها يف جهاز احلاسوب ومحل الصور ثم طبعها عىل الورقة‪ ،‬وقبل أن‬
‫يضعها يف ملفي نظرت إليها وكانت أمجل صورة التقطت يل يف حيايت‪ .‬ثم‬
‫بحركة مفاجئة دفعني إىل األمام حتى كدت أقع عىل وجهي‪:‬‬
‫‪ -‬تقدم أهيا األبله‪.‬‬
‫ظ ّلت القيود تعيق حركتي فقدمي ثقيلة وخطوايت غري كاملة وأطراف‬
‫القيود احلادة أدمت كاحيل‪ .‬رست مسافة أربعني مرت ًا‪ ،‬كل مرت يعادل مسرية‬
‫كادح مل يعد يشعر باجلوع واخلوف‪ .‬فتح يل باب ظهر السيارة التي تقلني إىل‬
‫السجن وأمرين بالصعود‪ .‬وما أن جلست حتى أغلق الباب بقوة‪ ،‬وشعرت‬
‫أنني داخل قفص حيوانات السريك‪ .‬أعاد تشغيل حمرك السيارة ثم انطلق يب‬
‫مرسع ًا يف شوارع املدينة وسلك الطرق الفرعية بني البيوت واألزقة‪ .‬سألته‬
‫ملاذا مل تذهب عرب الطريق الرئييس؟ لكنه مل جيبني وأقفل النافذة بيني وبينه‪.‬‬
‫مؤخر ًا عرفت السبب‪ ،‬فمن يعتربوهنم جمرمني خطرين ال يسلكون الطرق‬
‫الرئيسية عند نقلهم بل الطرق غري املعروفة حتسب ًا ألي هجوم أو خديعة‪.‬‬
‫عندما عرفت هذه املعلومة ضحكت فمن الذي سيتذكرين هنا أو يفكر‬
‫ٍ‬
‫خطة إلنقاذي‪.‬‬ ‫بوضع‬

‫‪9‬‬
‫‪2‬‬

‫متجهمني بأعينهم الغائرة املليئة باالستغراب واليقظة التي أعياها النظر‬


‫إىل هذا الباب الرمادي املوصد أمام وجوههم كل دقائق اليوم وثوانيه‪.‬‬
‫أنوار ساطعة تتدىل من سقف الغرقة أطرافها حممية بدعامات حديدية‬
‫متنع أي حماولة للعبث هبا‪ ،‬تنري كل املكان ولعلها وضعت من أجل أال‬
‫تنطفئ إىل األبد‪ ،‬كأن هذه اإلنارة الشديدة وضعت لرتصد النوم يف أعني‬
‫السجناء ومتنع مروره إليها‪ ،‬ويف أعىل اجلدار األمامي كامريا ساكنة احلركة‬
‫ذات عدسات أفقية تلتقط ما حيدث يف الزنزانة عىل مدار الساعة‪ ،‬ولو أن‬
‫وجودها ال يبدو رضوري ًا بسبب وجود احلراس بيد أن أثرها النفيس يبدو‬
‫أكثر وقع ًا عىل السجناء‪ ،‬فهم يشعرون بأهنا تراقب كل حتركاهتم وتلتقط‬
‫أدنى ما تقوله شفاههم حتى وإن وصل الصوت إىل اهلمس إذ ال يستغرب‬
‫إن كانت هذه الكامرية تلتقط وتسجل حديثك مع نفسك‪ ،‬وهؤالء العسكر‬
‫السجانون الذين ال هيمهم من أنت أو ما نوع املصيبة التي اقرتفتها أو من أين‬
‫أتى هذا احلظ العاثر الذي قادك إىل هذه الزاوية املظلمة من العامل‪ ،‬ال يمكن‬
‫لك كسجني أن تفهمهم أو أن تتنبأ باللحظة املناسبة التي حتدثهم فيها أو أن‬
‫متارس عليهم ما تعرف أنه حقّ من حقوقك‪ ،‬فهم يبدلون أمزجتهم كأنام‬
‫يبدلون ثياهبم العسكرية‪ ،‬ولعيل ال ألوم السجان الذي طاملا تىل اللعنات عىل‬
‫هذه الوظيفة املقززة أو اليوم الذي قاده إىل مقر التوظيف ذاك‪ ،‬فالنظر إىل‬
‫هؤالء املساجني هبيئاهتم الرثة جيلب البؤس‪ ،‬و ّحتمل أسئلتهم الدائمة بشكل‬
‫روتيني ودائم ال جيعلك يف حالة جيدة‪ ،‬ففي النهاية هذا سجن يقيض فيه‬

‫‪10‬‬
‫املوقوف فرتة العقوبة بسبب ما قام به وليس مكان خلدمة العمالء‪ .‬األخالق‬
‫يف هذا املكان ال تعني ألحد اليشء الكثري‪ ،‬فنظرة السجني للسجان لن تتغري‬
‫وكذلك العكس‪.‬‬
‫األدهى من كل ذلك بأن ما من أحد يعرف شيئ ًا! ال السجني يعلم إىل‬
‫أين تذهب كل فرتات االنتظار التي قضاها هنا يف هذا املكان املوحش وما‬
‫يؤول إليه كل هذا البقاء‪ ،‬وال السجان يعلم متى يذهب كل هؤالء املجرمني‬
‫من أمام عينه ومن فوق رأسه‪ ،‬فهم يراقبونه خلف الزجاجات املثبتة من عىل‬
‫يمني وشامل الباب عىل الدوام و يف كل حركة يقوم هبا وكأنه تلفازهم الوحيد‬
‫ونرشهتم اإلخبارية املتجددة عىل رأس كل ساعة‪ ،‬ومتى ما مهوا بسؤاله أو‬
‫اإلشارة بحركات اليد إليه عام حيدث يف اخلارج من خرب جديد يذكر أو‬
‫جدير بالتطرق إليه أو يشغلهم عن التفكري يف قضاياهم التي جلبتهم إىل‬
‫هنا فإن السجان يسبقهم بكلمة ال أعلم‪ ،‬أو يلوح بحركة صامتة بأصبعه‬
‫السبابة يمنة ويرسة‪ ،‬وهنا تأخذ عبارة ال أعلم مكانتها من ال جديد يذكر‬
‫يف احلياة أو ما من أخبار عاجلة تستحق أن يعرفها السجني يف اخلارج‪ ،‬فهذه‬
‫احلياة مل تقرر الوقوف من أجل أحد بعد‪ ،‬وال يوجد اعتقاد وارد بأن احلركة‬
‫العامة هلذه املدينة املحرمة تكرتث بمن هم داخل هذه املنشأة السحيقة ذات‬
‫اجلدران املتصدعة والتي حتمل ألوان ًا ال وجود هلا يف الطبيعة‪ ،‬ومن املؤكد أن‬
‫املهندس الذي استعانوا به هلذا البناء مل يسبق له أن درس العامرة وال حتى‬
‫التخطيط فوق الرمل‪ ،‬وهذا ما يعطي الصورة التي متلئ خميلة املارة كلام تبادر‬
‫إىل أذهاهنم أو مرت أعينهم عىل هذه املكان‪ ،‬الصورة اخليالية عن أناس يتم‬
‫تعذيبهم باجللد وبوابل من أقبح األلفاظ مستغلني تقييد أيدهيم وأرجلهم‪ ،‬أو‬
‫كام هو احلال يف األفالم الوثائقية فالسجني ذو الوجه القبيح املزدحم باملالمح‬
‫التي جتلب الضجر ال يكف عن افتعال املشكالت وتنظيم العصابات طوال‬
‫فرتة سجنه‪ .‬ما هذا اهلراء؟ كل ما يف األمر أنك مسجون تقف هنا يف مواجهة‬

‫‪11‬‬
‫دائمة مع نفسك يف تعمد دائم من السجان بقطع األخبار عنك والتواصل‬
‫معك‪ ،‬فهذه هي سياسة السجن التي يريد أن ينتهجها القائمني عليها‪ ،‬لكي‬
‫تبقى رهني نفسك ويف مواجهة مع قضيتك اللعينة التي جاءت بك إىل هنا‪.‬‬
‫والتعمد هنا هو أن يبقى كل يشء غري مفهوم كنوع من التضليل وتشتيت‬
‫ذهن اجلاين‪ ،‬وإذا تكلمنا عن الوقت فيجب إدراجه يف قائمة أحدث وسائل‬
‫التعذيب التي يتعرض هلا املرء وهو حر طليق فكيف به معزو ً‬
‫ال عن العامل‬
‫وبني هذه والوقت أزمة أخرى فعقارب الساعة بالكاد تتحرك والوقت نفسه‬
‫بالكاد يميض فال توجد ساعة حائط تشري إىل الوقت وخيوط الليل والنهار‬
‫تشتبك ببعضها إىل أن يبدو لك اليوم سحر كله أو فجر كله‪ ،‬وعدم رؤية‬
‫السجني للوقت جيعله يف حرية ورصاع حلظي دائ ًام بينه وبني دفع هذا الوقت‬
‫إىل األمام‪ ،‬وهنا ترى غريزة البقاء يف أوج أشكاهلا وكل ذلك ملعرفة ما إن كان‬
‫الوقت قد أسدل ستاره لبداية يوم جديد‪ ،‬ليشعر السجني بإنجاز عظيم يف‬
‫سبيل اخلروج من جحيمه‪ .‬وبرغم أن اجلميع خيتلفون يف قضاياهم إال أهنم‬
‫يتشاهبون يف إرصارهم عىل براءهتم‪ ،‬فالكل هنا بريء مل تقرتف أيدهيم املوغلة‬
‫أي ذنب يذكر‪ ،‬وهنا جيب أن تعلم بأن جزء من النص مفقود‪،‬‬ ‫يف اإلجرام ّ‬
‫فاحلقيقة غائبة كلي ًا أو جزئي ًا‪ ،‬وهي رهينة نظرة اآلخر ومن ثم نظرة املجتمع‬
‫الذي ال يكف عن البطش بسمعتك حتى وأنت بني أيدي العدالة‪ ،‬واحلق هنا‬
‫أشبه برجل صويف يضع القلنسوة عىل رأسه وجيوب األماكن خافي ًا حقيقته‬
‫إىل أن خيرج من القرية الغريبة‪.‬‬
‫ينظر املساجني إىل بعضهم بني احلني واآلخر نظرات ريبة حتى إن ضحك‬
‫كأن اآلخر وضع ليكون خمرب ًا عليه أو‬
‫يف وجه زميله السجني فإن الشك قائم‪ّ ،‬‬
‫جاسوس ًا بوجه جمرم يتلقط األخبار ويعرف مالبسات اجلريمة التي أخفاها‬
‫عن املحققني والعدالة بشكل عام‪ ،‬فإن كنت بينهم ستشعر باالكتئاب فأنت‬

‫‪12‬‬
‫مدعي الرباءة الذين رمي هبم هنا بينام املجرمون األصليون‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫حفنة من‬ ‫بني‬
‫أحرار يتمتعون بيومهم أو أن اجلرم مل حيدث من األساس‪.‬‬
‫يا للخيبة فرغم تقدم البرشية يف العلوم إال أن السلوك البرشي ال يزال‬
‫يصيبك باحلرية‪ ،‬ومهام اعتقدت أنك فهمت هذا الكائن املعقد سرتى نفسك‬
‫ال تعرف شيئ ًا عنه‪ .‬ففي موقع اجلريمة يبدو الفرد منهم بط ً‬
‫ال مغوار ًا ال‬
‫يكرتث بام سيحدث وما إن تضع السلطات يدها عليه حتى يتحول إىل كائن‬
‫هزيل ضعيف البنية ّ‬
‫شل التفكري عقله الذي مل يستخدمه يف السابق‪ .‬فاإلجرام‬
‫وإن كان وسيلة للتعبري عن حالة اإلرضاء التي يشعر هبا الفرد لكنه رسعان‬
‫ما يتحول إىل كابوس جيثم عىل صدر املجرم ملجرد أن يضع قدمه هنا‪ ،‬وهنا‬
‫تستطيع أن ترى النفس البرشية بتواضعها وقلة حيلتها وضعفها يف السجن‪.‬‬
‫ينظر السجان نظرة استطالعية عرب النافذة الزجاجية املطلة عىل الزنزانة‬
‫لريى الفراغ يف الغرفة ويف يده اليمنى مفتاحها الذي يلوح هبا وكأنه يلف‬
‫األقدار بإصبع واحدة‪ .‬يستطلع إن كان ثمة مكان يتحمل ضيف ًا جديد ًا‪،‬‬
‫وهذا قد يكون أمجل خرب للسجناء الذين مجدهتم التعاسة‪ ،‬فهذا اجلديد يعني‬
‫قصة جديدة ُتسمع ويتم حتليلها وتدقيقها وال مانع بالعبث بتفاصيلها‪،‬‬
‫ومن املؤكد أنه سيجلب هلم األخبار‪ ،‬فهو قادم من احلرية من حيث البقاع‬
‫اخلرضاء ورفاهة العيش وأطيب ما تسمع وتتذوق‪ ،‬والنساء املرتاميات يف‬
‫الطريق يبتسمن لكل املارة‪ ،‬وهذا ال يعكس شيئ ًا يف واقع األمر بل هي‬
‫إفرازات عقوهلم يف السجن وما ينتج عنها من أحالم وردية‪ .‬وللعودة هلذا‬
‫اجلديد الذي يعني أننا سنصغي إىل أشياء جديدة حدثت وتغريت‪ ،‬فقد أثقل‬
‫كواهلنا الصمت وجثت اهلموم عىل صدورنا‪ .‬يعد اجلديد أهم شخصية‬
‫لدينا كمساجني فهو الوحيد الذي بمقدوره أن حيفز أملنا و وينشط ذاكرتنا‬
‫وخيترب معرفتنا باخلارج‪ .‬ما أحالها تلك املشاعر التي نسينا طعهام ورائحتها‪،‬‬

‫‪13‬‬
‫تلبس جتاويف أعامقنا‬
‫ولعله يغري مذاق مشاعرنا البائسة يف هذا املكان التي ّ‬
‫وعقولنا‪ ،‬وحينها سنجد من جييبنا عىل أسئلتنا التافهة القابعة حتت ألسنتنا‬
‫دون طائل أو جميب جييب عنها‪.‬‬
‫وليست سوى حلظات من قبل الظهرية حتى سمع صوت خطوات‬
‫األقدام التي ستكون فاحتة هذا اليوم البائس‪.‬‬
‫‪ -‬قف عند الباب أهيا األبله‪.‬‬
‫صوت السجان ينادي شخص ًا ما‪.‬‬
‫دهشة من هذا املشهد الذي حيدث‪ ،‬إنه‬ ‫ٍ‬ ‫حدق املساجني ببعضهم يف‬
‫السجني اجلديد‪ ،‬جيره السجان بقوة وكأن ثمة أمر شخيص بينهام‪ ،‬ثم يفتح‬
‫السجان باب الزنزانة ويدفع العضو اجلديد إىل الداخل ويغلق الباب بقوة‪.‬‬
‫وشك وريبة يف ٍ‬
‫آن مع ًا‪ .‬فال يشء‬ ‫ّ‬ ‫وحيول املساجني تص ّنع الالمباالة إىل دهشة‬
‫ّ‬
‫يدل عىل يشء‪ ،‬فال شكل هذا الشخص يدل عىل أنه اقرتف ذنب ًا ما وال حتى‬ ‫ّ‬
‫الفظ ّ‬
‫يدل عىل أنه فعل جرم ًا شنيع ًا‪ .‬وظل‬ ‫خطيئة‪ ،‬وال أسلوب السجان ّ‬
‫العقل يف تلك اللحظة يقلب خياراته‪ ،‬وحتركت فرائس املساجني ونظراهتم‬
‫االستطالعية إىل وضع نظرية مبدئية عن هذا السجني‪.‬‬
‫حترك الرجل البسيط بخط مستقيم يف الغرفة بعد أن ألقى التحية عىل‬
‫املساجني عىل استحياء‪ .‬وأخذ يمسح بعينه كل وعورة وتشققات وجحور‬
‫هذه الزنزانة التي رميت فيها الوسائد ومفارش النوم املتسخة واحلاممات‬
‫املجاورة ذات الرائحة النتنة‪ .‬ويف حركة عفوية تدل أن هذا الشخص مل يسبق‬
‫له أن دخل مركز رشطة أو حتى سجن يف حياته جلس يف زاوية السجن‬
‫ال منا يدعوه إىل مكان نومه اخلاص كنوع من كرم‬ ‫كطفلٍ فقد أبويه‪ .‬أخذ ك ً‬
‫الضيافة التي بوسع املساجني أن يقدموه‪ ،‬لكنه رفض وشكرهم مجيع ًا ووضع‬
‫ظهره إىل الزاوية مطرق ًا رأسه إىل اخللف وكأنه يريد أن يسرتيح من محل أثقل‬

‫‪14‬‬
‫كاهله‪ .‬جلس بكل هدوء يلتقط أنفاسه التي ختطفتها رسعة األحداث هذا‬
‫الصباح‪.‬‬
‫كثري ًا ما بدا هذا اجلديد مستغرق ًا يف التفكري‪ ،‬ال يشء يوحي بأنه غاضب‬
‫أو منهار‪ ،‬كام أن شكله و هندامه وإن كان متواضع ًا فال تدل عىل أن له عالقة‬
‫هبذا املكان‪ .‬ويف هذه اللحظة يظهر تنافس املساجني يف موهبة الفراسة ويبدأ‬
‫كل شخص منهم يعطي ختمينه األويل‪ ،‬فمالحمة بسيطة ال تدل عىل أنه ينتمي‬
‫لبيئة غنية‪ ،‬كام أن مصطلحاته تدل عىل أنه شخص متعلم‪.‬‬
‫كأي سجني يقابل بوابلٍ من األسئلة عند دخوله‪ ،‬وخلف كل سؤال‬
‫يسود الصمت لبعض ٍ‬
‫ثوان‪.‬‬
‫‪ -‬ما جنايتك أهيا الرجل؟‬
‫‪ -‬ال جناية يل‪ ،‬يدي مل تطل أحد ًا باألذى ومل تأخذ حق أحد إطالق ًا‪.‬‬
‫ضحك أحدهم وقال بسخرية‪:‬‬
‫‪ -‬أال يوجد غري هذه اإلجابة؟ مجيع هؤالء أتوا هنا مظلومني‪.‬‬
‫فنطق كبريهم يف حركة هادئة وأخذ يشري بسبابته إىل كل واحد من زمالءه‬
‫يف الزنزانة وبدا أنه حاد الطباع يتكلم بجرأة وصوت جهوري‪ .‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا الذي أمامك كان ينعم بحياة طموحة ال ينقصها يشء وسط وظيفته‬
‫املرموقة وحياته املستقرة ونفوذه االجتامعي الذي يزداد مع مرور الوقت‬
‫بسبب منصبة احلساس وأسلوبه الراقي يف التعامل مع اجلميع‪ ،‬لكن نزواته‬
‫الفردية التي كان يامرسها بعيد ًا عن الناس من ليال محراء وإدمان للكحول‬
‫هي من جلبته إىل هنا‪ .‬ففي حالة اإلدمان وفقدان العقل وبعد جتاوز حد‬
‫الرشاب خرج إىل حتفه متجه ًا من خمدعه الرسي إىل حيث ساقته األقدار هنا‪،‬‬
‫وحتول من األعىل إىل اهلاوية‪ ،‬ويده التي تعود هبا عىل املصافحة وملس األشياء‬

‫‪15‬‬
‫برقي والتي مل تتعب قط ربط هبا الرصافة اآللية عىل جانب الطريق بسالسل‬
‫حديدية وشد الغالل جيد ًا ثم صعد بجسمه الضخم سيارته الصغرية واقتلع‬
‫الرصافة من جذورها يف األرض وهو فاقد اإلحساس بام حولة وأخذ‬
‫يسحبها يف الشوارع معلن ًا هناية رجل كان قد وضع له أهداف ًا حيققها وماهي‬
‫إال حلظات قدرية حتى انتهى به املطاف جمرم ًا قبضت عليه الرشطة دون أدنى‬
‫مقاومة وأودعته السجن‪ ،‬وال أخفيك أهيا اجلديد أن املدينة ذهلت وصدمت‬
‫وبد ً‬
‫ال من أن تشكره عىل ما قدم هلا يف سنواته املاضية‪ ،‬كانت السباقة إىل تأييد‬
‫إجرامه ونبذه إىل األبد‪ ،‬أما هو فلم تتغري سجيته التي تراها اآلن‪ ،‬إذ ملجرد أن‬
‫تسأله عن حقيقة احلادثة التي انترشت يف أوساط هذه املدينة يقول ال عالقة‬
‫يل باألمر وأن هنالك أشخاص كانوا خلف اإلطاحة يب‪ ،‬لست سوى مشتبه‬
‫به‪ ،‬وحتت الشعار الذي يرفع دائ ًام كل ناجح حمارب‪ ،‬مل يقتنع بأن القدر كان‬
‫خصمة اللدود وما أن التفت إليه حتى رده هببة ريح‪ ،‬بينام كل األدلة تشري إىل‬
‫أنه صاحب اجلرم‪ .‬نحن جمرمون ونعرف بعضنا جيد ًا‪ ،‬أما مدينتنا فال حتتاج‬
‫إىل قناة تلفزيونية أو مذياع فاألخبار ما تلبث أن تنترش كالنار يف اهلشيم وقد‬
‫أخذت موقعها يف كل بيت وكل أذن‪ ،‬وإنكاره هنا مل ينفعه فهو يقيض سنته‬
‫اخلامسة يف السجن وكأن كل من كان يعرفهم وهو يف املنصب مل يعد يعرفونه‬
‫بعد أن وصل السجن‪ .‬يا هلذه احلرية واخلذالن‪.‬‬
‫أما الصعلوك بجانبك والذي تشري مالمح وجهه إىل املكر واخلديعة‬
‫فإنه ينكر أن له عالقة بفضيحة التحويالت املالية إىل اخلارج التي هزت‬
‫اإلعالم وحتولت إىل قضية رأي عام‪ ،‬فعلم اجلريمة خيربنا بأن كلام زادت‬
‫وسائل األمان وسدت الثغرات التي كان املجرمني يستخدموهنا كلام ازداد‬
‫معها دهاء املجرمني يف تطوير وسائلهم يف اخلدع املرصفية‪ ،‬وهذا أحد هؤالء‬
‫املجرمني الدهاة إذ إن ذكاءه مل يسعفه يف أن يبعده كثري ًا عن هذا املكان‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫واخلطأ الصغري يف عامل اإلجرام وإن كان ال يرى فإنه يسري ويكرب ككرة‬
‫الثلج إىل أن يوقع صاحبه يف رش أعامله‪ .‬وبرغم أنه استطاع أن حيول ماليني‬
‫األموال يف السنوات املاضية دون ضجيج أو أن يضع خلفه دلي ً‬
‫ال واحد ًا‬
‫يدينه فإن خطأ بسيط ًا ألقاه نحو حتفه‪ :‬تأيت قصته عندما اتصل بأحد مستقبيل‬
‫املاليني يف اخلارج ليعطيه تعليامته اجلديدة والتي يغريها بشكل مستمر لكي‬
‫يصعب تقفي أثره‪ ،‬ويف أثناء املكاملة سمع املستقبل صوت ًا يف سامعة أخينا‬
‫وهو إعالن املطار النهائي للرحلة اجلوية املغادرة واملتجهة إىل مدينة ورقم‬
‫الرحلة اخلاص هبا‪ ،‬وظلت األجهزة األمنية تراقب التحويالت دون معرفتها‬
‫اسم املرسل ولكنها عرفت املستقبل وقبضت عليه يف دولته بعد املوافقة عىل‬
‫التعاون األمني بني الدولتني‪ .‬وما إن استجوب املستقبل وقدمت له تسويات‬
‫اعرتف يف احلال باسم املرسل وأخرب اجلهاز بام يعرف من معلومات‪.‬‬
‫احلقيقة هو مل خيربهم إنام قال أنا ال أعرفه ألنه حريص ويغري معلوماته‬
‫بشكل دائم وهو حذر وذكي للغالية لكن يف هناية االستجوابات الكثرية أفاد‬
‫بأنه سمع صوت منادي املطار خالل مكاملة دارت بينهام وأعطاهم الرقم‬
‫واجتاه الرحلة وخالل مراقبة مجيع ركاب تلك الطائرة التي دونت أسامؤهم‬
‫اتضح أنه هذا الرجل الذي يستلقي عىل رسيره منذ ثالث سنوات وأربعة‬
‫أشهر‪ .‬بقي حتت املراقبة املكثفة ملدة شهرين حتى قبضوا عليه متلبس ًا أمام‬
‫جهاز احلاسوب وقبل أي يقوم بأي عملية حذف‪ ،‬أتعلم كنت أمتنى أن‬
‫ال من‬‫يستفيدوا منه ومن قدرته عىل القرصنة والتالعب باألنظمة البنكية بد ً‬
‫سجنة وخسارة موهبته‪ ،‬فاملجرم يف هذه املدينة ال ُيرى إال بمنظر يسء واحد‪،‬‬
‫وال يمكن هلذه النظرة أن تتغري‪ ،‬وعىل الرغم من طول فرتة حمكوميته إال‬
‫أن ذكاءه ودهاءه مل يتأثرا كثري ًا‪ ،‬فال يزال يرى نصف الذين معه يف الزنزانة‬
‫بام فيهم أنا خمربين يرصدون كل حتركاته يف السجن وال عجب يف ذلك‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫فهو عضو غري مفيد وكل ما يعرفه أنه ال يعرف شيئ ًا ولكن شاهد كيف هي‬
‫األقدار رشيكة يف اإلطاحة به‪ ،‬فهي ال تفرق بني الذكي والغبي وال تعني هلا‬
‫هذه الفروقات أي يشء عىل اإلطالق‪.‬‬
‫أما اآلخر الذي يضع ظهره عىل اجلدار ويمد قدميه أمام الذي جيلس‬
‫بجانبك أيض ًا فقد تسبب بجروح سطحية كادت أن تودي بحياة اجلاين وال‬
‫زال يرص عىل أنه مل يكن يف املدينة يف ذلك اليوم مع أن الكامريات شاهدته‬
‫ملث ًام وتم التعرف عليه من نوعية الرصاص املطلقة من البندقية يف موقع‬
‫اجلريمة‪ ،‬وعند البحث عن قائمة األشخاص الذين يشك هبم املجني عليه‬
‫ُذكر زميلنا هذا يف أعىل قائمة املشكوك فيهم‪ ،‬وكل ذلك من أجل أرض‬
‫جديدة يف صحراء سادها الصمت منذ مئات السنني وال تصلح للعيش‬
‫وال الزراعة وكأن مجيع عقد احلياة التي خيتصمون من أجلها الناس انتهت‬
‫ومل يعد إال هذه األرض البائسة‪ ،‬وال تزال املرأة واألرض أكثر ما يثري رجل‬
‫هذه املدينة ويقلق مضجعه وحيوله إىل كائن تسقط لدية قيم ومعاين احلياة ثم‬
‫ترتكه معلق ًا يف تارخيه القائم عىل البطش والغيلة‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال فأنا حمدثك متهم برتويج املخدرات وقد أمضيت يف هذا‬
‫املكان ثالثة أشهر وأنا كغريي بريء‪ ،‬وإن كنت ستسألني ‪ -‬وهذا سؤال‬
‫أتعرض له دائ ًام ‪ -‬ما إن كنت نادم ًا عىل فعلتي فأريد أن أخربك شيئ ًا‪ :‬أنا‬
‫رجل من عائلة غنية ثرية هلا تاريخ بمئات السنني يف جتارة التجزئة حول‬
‫العامل‪ ،‬فنحن نوحد العامل والبرشية يف مائدة الطعام اخلاصة بنا و اليومية‬
‫فاللحم يأتينا من رشق آسيا واألرز من أطراف جبال اهلماليا واملكرسات‬
‫صينية والكاكاو من أغىل ما عرفت البرشية ونستورده من بلجيكا ونخصص‬
‫له طائرة خاصة وحتت درجة حرارة معينة تقله إىل ساحة بيتنا يف قلب‬
‫املدينة‪ ،‬وأحاديثنا ليست كبقية الناس فنحن نتحدث بكل ثقة عن األحداث‬
‫قبل وقوعها‪ ،‬فإن مل نكن مشاركني يف صنعها أو تغيريها فنحن يف أضعف‬

‫‪18‬‬
‫األحوال ملمني هبا ونعلم من يقف خلفها‪ ،‬أعلم بأنك ستقول يف نفسك‬
‫بأن هذه من أكاذيب دعايات املؤامرات وكتاهبا الذي يسوقوهنا ولكنها‬
‫احلقيقة‪ ،‬فنحن يف هذه املدينة نمثل الطبقة الربجوازية والتي تدير األحداث‬
‫وتصنعها وتنرشها دون أن نظهر يف الواجهة أو أن يعرف عنا أحد‪ .‬وإن‬
‫كنت تسأل ملاذا أنا هنا يف قضية ال ترقى ملكانتي االجتامعية وهي ترويج‬
‫املخدرات؟ سأجيبك بكل جترد وبعيد ًا عن املثالية‪ :‬انظر أهيا اجلديد‪ ،‬نحن‬
‫خلقنا لنصنع املجد ولكل زمن جمده اخلاص‪ ،‬فمجد هذا الزمان هو وسائل‬
‫الربح الرسيعة‪ ،‬وعندما تنرش املخدرات يف املدينة بشكل كبري فإن أرباحك‬
‫تزداد بشكل كبري وخرايف‪ ،‬وكلام ازداد ما متلك من مال زادت حاجة الناس‬
‫إليك حتى وهم يعرفون بأنك يسء السمعة فاملال هو من يطوع املبادئ‬
‫ويعيد تعريف كل األشياء التي عرفت نفسك هبا‪ .‬املبادئ والقيم ختضع أمام‬
‫سيدها املال‪ ،‬وحتى وإن كنت ال ختضع هلا لكنك جتد نفسك تابع ًا لقطيع‬
‫حيركون رؤوسهم باملوافقة والرضا‪ ،‬وهبذا الطريقة استطاع املال أن حيكم‬
‫الغرائز البرشية ويطوعها خلدمته‪ ،‬وإن كنت تعتقد أنني نادم أو يف طريقي‬
‫للتوبة فأنت واهم‪ ،‬فأنا هنا وإن طالت املدة يف اسرتاحة حمارب‪ ،‬فأنا ال أجيد‬
‫إال هذا العمل وإن توقفت عنه فأنا إنسان ال قيمة يل ال يف نفيس وال لدى‬
‫الناس‪.‬‬
‫ظهرت عىل وجه اجلديد أثار الفجيعة واالستغراب مما سمعه من كبري‬
‫املساجني وهو حيكي قصصهم‪ .‬فهو يعلم أن األمر يسء ومقيت ولكنه مل‬
‫يعتقد بأن وصل إىل هذه املرحلة الضحلة والكارثية‪ .‬نظر إىل الكبري وقال‬
‫بكلامت مرتبكة‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا عن ما تسببه للمجتمع واملدينة؟! أال تعلم أن املخدرات‪...‬‬
‫لكن الكبري قطع حديثه وقال له بنربة غاضبة‪:‬‬
‫اسمع أهيا األبله‪ ،‬كف عن احلديث بلغة املثاليات فأنا ال أهواها‪ ،‬أنا‬

‫‪19‬‬
‫أقدم هلذه املدينة ما مل يقدمه أجدادنا هلا من قبلنا‪ .‬هبذا املال افتتحنا املساجد‬
‫ودور الرعاية وحفرنا اآلبار للناس وأطعمنا الفقراء واملساكني فإن كانت‬
‫يدنا اليسار متسخة فإننا نضعها خلف ظهورنا ونقدم اليمنى بيضاء ناصعة‬
‫ال عنها‪ ،‬وما أن أخرج من هذا السجن سأغرق املدينة باملخدرات‪ ،‬ولتعلم‬ ‫بد ً‬
‫بأنكم أهيا املثاليون تتذكرون ما تريدون وتنسون ما تريدون‪ ،‬الناس هنا‬
‫يموتون باملجان قبل أن أخلق أنا وأنت‪ ،‬وتاريخ هذه املدينة محام من الدم‬
‫مغلفة بقيم واهية ضعيفة تظلم اإلنسان وتستعبده وتضعه يف قوالب طبقية‬
‫يعيش ويموت فيها‪ ،‬ومهام كان ما أقدمه اآلن من سوء إال أنه يقل عن فظاعة‬
‫ما كان يقوم به أجدادنا ومع ذلك تقدمونه ألبنائكم كقدوة حيتذى هبا‪ ،‬وال‬
‫خيدعك مظاهر الناس فأشهر جتار املدينة الذي يدعون أهنم بدأوا حياهتم‬
‫من الصفر بالكفاح وأهنم حفروا الصخر ما هم إال دجالني‪ ،‬بدايتهم كانت‬
‫برتويج املخدرات‪ ،‬صحيح بأن تكلفة الوقوع يف يد السلطات باهظة وثمنها‬
‫كبري ولكن األجماد التي ستحققها تستحق اإلقدام والتضحية‪..‬‬
‫قاطعه اجلديد‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ال يبدو عليك بأنك مستخدم؟!‬
‫رد عليه الكبري‪:‬‬
‫‪ -‬ومن قال لك بأنك جيب أن تكون مستخدم ًا أو متعاطي ًا هلا‪ ،‬يف حيايت‬
‫كلها مل أستخدمها ولن أستخدمها‪ ،‬فهي مضيعة وهالك وذلك الكالم الذي‬
‫نعرفه مجيعنا‪ .‬أترى هذا السجني املتكئ عىل جنبه األيمن ذو السمرة الشديدة‬
‫واهلالة السوداء حتت عينه وكأهنا فحم منجم؟ نطلق عليه اسم ملك احلشيش‪،‬‬
‫كان فيام مىض أهم شخصية عرفتها املدينة‪ ،‬وهذه األمهية ليست إال ألنه جييد‬
‫تقييم نوعية احلشيش ويعرف البضاعة اجليدة من الفاسدة‪ ،‬وهذا يف جمال‬
‫جتارتنا يعد مه ًام جد ًا‪ ،‬فقبل أن نطرح بضاعتنا يف املدينة وننرشها للموزع‬

‫‪20‬‬
‫نعطيه عينة منها ليدخنها وخيربنا هل هي ذات جودة عالية أم ضعيفة‪ ،‬وبعد‬
‫أن يلف الورقة عىل قطعة احلشيش و برشفه واحدة خيربنا رأيه‪ ،‬حينئذ رأيه هو‬
‫من حيدد سعر ونوعية املشرتي‪ ،‬فرشائح املجتمع مجيعها تستخدم هذا املخدر‬
‫بام فيها النساء واألطفال ولكن حسب مكانتك جتد النوعية املناسبة لك‪،‬‬
‫وألن الزعيم الذي ال يعرفه أحد و املوزع الكبري يف املدينة وجد من ينوب‬
‫عن هذا املسكني رسعان ما أصبح كالورقة املحروقة‪ ،‬قرر أن يضحي به بكل‬
‫سهولة وها هو أمامك يقيض سنواته السبع وبقي منها ستة أشهر‪ .‬يا عزيزي‬
‫القوة هلا السبق يف كل يشء‪ ،‬نحن وإن وجدنا هنا فنحن سادة زماننا ومكاننا‪،‬‬
‫املخدرات أصبحت بطولة وأرسع الطرق للمكانة االجتامعية والنفوذ‪،‬‬
‫وقصص أكرب مروجي املخدرات يف العامل أصبحت تقدم كشخصيات‬
‫بطولية يقتدي هبا الصغار‪ ،‬هل تعتقد بأن اإلعالم ال يتعمد تقديم هؤالء‬
‫كأبطال؟! إهنم لغة عاملنا احلديث التي سينطق هبا اجلميع عام قريب‪ ،‬وهناك‬
‫دول أصبحت تسمح باستخدام املخدرات ودول أخرى أصبحت تصدرها‬
‫وتؤمن طرق سريها للعامل‪ ،‬وهي الطريقة املثىل لكي حيافظ الفقراء عىل فقرهم‬
‫وتتضاعف أموال األغنياء‪.‬‬
‫أخذت االبتسامة الصفراء تشق وجه الكبري‪:‬‬
‫‪ -‬اسمع أهيا اجلديد ال دا ٍع أن ختربنا بقضيتك التعيسة فال أعتقد أن‬
‫هيئتك وضحالة إدراكك بام حييط حولك تدالن عىل أن لديك قضية أكرب‬
‫منا‪ ،‬ولكننا بلهفة نريدك أن حتدثنا عن اخلارج‪ .‬ما األخبار؟ ما الذي تغري منذ‬
‫دخولنا إىل هنا؟‬
‫تلهف باقي املساجني للسامع وكأهنم كالب جوعت وينتظرون سيدهم‬
‫يلقي عليهم اللحم لينقضوا عليه‪ ،‬عندها اعتدل اجلديد ورضب اجلدار‬
‫بقبضة يده قائ ً‬
‫ال‪:‬‬

‫‪21‬‬
‫‪ -‬يا هلذه الريبة و االرتباك فام عساي أحدثك عنه‪ ،‬شعوري باألسى عىل‬
‫هذه املدينة التي ضاعت وانعدمت مالمح االجتاهات فيها‪ ،‬كل األشياء‬
‫ال تربح أن تغري أماكنها‪ ،‬وال حتى أناسها الذين أصبحوا ينافسون صالبة‬
‫أرضها‪ ،‬وهذي احلياة فيها جرداء خاوية‪ ،‬تدور فيها الظروف والرصاعات‬
‫بتشابه كام لو أهنا مستقيمة حتى يف انحناءاهتا‪ ،‬وإن كنت غريب ًا فهذه‬
‫الالفتات عىل الطرقات ال تصف لك الكثري عنها‪ ،‬أسامؤها يصعب عليك‬
‫قراءهتا وكأن اللغة فيها مل يطرأ عليها تغيري منذ اجلاهلية األوىل‪ ،‬أو كام لو‬
‫أنك تقرأ الكلمة بالالتينية من أقىص اليسار إىل اليمني‪ ،‬وأرضها التي حتمل‬
‫شجر الفخر يتساقط منها يف كل حول ثمر العزة والكرامة وتطل بأوراقها‬
‫كظل ينعم به إنساهنا ها هي كام تروهنا من رشفة السجن جفت وذبلت ومل‬
‫يعد يف وسعها أن تعطي أكثر‪ ،‬وحتولت مزارعها التي كانت خرضاء عىل مد‬
‫النظر إىل مستنقعات بارود وظلت رائحة املوتى عالقة يف سامئها‪ ،‬وتبخر‬
‫األكسجني كام لو أن األسمنت هو املصدر الذي تتنفس منه كائنات هذه‬
‫املدينة‪ ،‬أعلم بأن فرتة وجودكم هنا ليست طويلة ومل يفتكم الكثري سوى‬
‫الروتني اململ‪ ،‬فكل فئة من الناس جمتمعه كالثكنات عسكرية منزوعة‬
‫السالح‪ ،‬ال يربط بينها وبني الفئة اآلخرى سوى األعراف والنظم البائدة‪،‬‬
‫وما أن يعود اجلميع إىل حيث خرجوا جتدهم يف كل يوم يتصارعون كالديكة‪.‬‬
‫أسمعوين جيد ًا‪ ،‬أنا أعلم أنكم ترون احلياة يف اخلارج‪ ،‬وتعتقدون أن ما خلف‬
‫هذا اجلدار يستحق العيش ألجله ولكن من أخربكم أن ثمة حرية تنتظركم‬
‫فهو ال يقل غباء عنكم‪ .‬البرشية عرب التاريخ زهقت أرواحها حتت شعار‬
‫احلرية‪ ،‬ومع كل حرب كانت تنتهي كان هناك وهم قد أسقط أمام أعينهم‪،‬‬
‫مما قاد البرش إىل الشك بأن احلرية ليست إال شعارات ترفع من احلني واآلخر‬
‫ليصل أرباهبا إىل غايتهم ومن ثم ختتفي حتى تظهر حتت شعار آخر ويف زمن‬
‫آخر‪ ،‬كام ّ‬
‫أن مفهوم احلرية إن اتفقنا بأنّه فك القيود بأشكاهلا‪ ،‬فإننا نعيش يف‬

‫‪22‬‬
‫مدينة قيدها الزمان وأعاق وجودها ووضعها خارج الطريق دون أن نفهم‬
‫السبب‪ .‬ال يوجد ما يستحق أن تشتاقوا إليه أو أن تعيشوا من أجله يف هذه‬
‫املدينة املوحشة فهي ليست إال وكر للكآبة والضياع والناس هنا أثقلتهم‬
‫املاديات واملظاهر وحطمت إنسانيتهم وجعلتهم ال يضعون للعلم واملعرفة‬
‫أي وزن يذكر‪ .‬كلام زادت معرفتك هبذه املدينة املحرمة زاد أعداؤك وزاد‬
‫بؤسك‪ ،‬وفرحتي بأنني هنا بمنأى ومعزل عن كل ما يف اخلارج ال تعادهلا‬
‫فرحة‪ ،‬لكنها مل تتم إىل أن سمعت حديث كبريكم عن مديتنا وما وصلنا إليه‪،‬‬
‫ما فائدة األخبار؟! يبدو أن التي تنتظروهنا تغذي لديكم ما لن جتدوه عندي‬
‫ولست من أهله‪.‬‬
‫أحاطت السلبية باملكان فاجلميع مل حيصل عىل غايته من اآلخر ومل جيدوا‬
‫عند اجلديد ما كان السجان خيفيه عنهم‪ ،‬واجلديد مل تتحقق له فرحة اهلدوء‬
‫من صخب املدينة‪.‬‬
‫حتدث أحدهم هبدوء‪:‬‬
‫‪ -‬أنت ال تريد أن ختربنا بسبب قدومك احلقيقي وال تريد أن ختربنا بام‬
‫يف املدينة من جديد‪ ،‬وكأن ك ً‬
‫ال منا يرى املدينة من منظوره اخلاص الذي لن‬
‫يفهمه اآلخر‪ ،‬ومن حديثك عرفنا من أنت ومل أكن أتوقع بأين سأجدك يف‬
‫هذا املكان‪ ،‬ولكن يف هذا الزمن كل يشء ممكن‪.‬‬
‫نظر املساجني إىل املتحدث ولكن اجلديد قطع عنه حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعني جيد ًا يا هذا فأنا مل أفعل ما يستجوب الزج يب هنا‪ ،‬كلام قمت‬
‫اطلع وأتفحص ما بني السطور ألرى إىل أين نحن ذاهبون‪ ،‬أو‬ ‫به أنني بقيت ّ‬
‫إىل أين ستقذف يب األقدار‪ ،‬ففي صغري كنت سعيد ًا ألين ال أعرف‪ ،‬وظل‬
‫جهيل يؤنسني ويضع الدنيا بيضاء يف يدي بلغت احللم مل يتغري األمر كثري ًا‬
‫شعرت أن العامل يدور من حويل وحدي‪ ،‬وأن ال رأس يطل رأيس‪ ،‬وما إن‬

‫‪23‬‬
‫ال وخرجت من غاليف إىل العامل اآلخر حتى أدركت بأن يف األمر‬ ‫كربت قلي ً‬
‫خطأ‪ ،‬نحن يف اهلامش هذا والعامل من حولنا سبقونا بينام نحن ال نزال يف هذا‬
‫التيه وهذه الغبطة الطويلة‪ ،‬أغوتنا العظمة واالعتزاز بموروثات عفا عليها‬
‫الزمن حتى نسينا قدر أنفسنا لدى العاملني‪.‬‬
‫مرت الساعة تلو الساعة وساد الصمت يف الزنزانة وكأنه مل يمر عليها‬
‫حلظات كهذه من قبل‪ .‬فقدوم هذا اجلديد إىل هنا أعاد كل سجني إىل التفكري‬
‫يف مصيبته اخلاصة وبدا وجوده وكأنه عقوبة مرصودة فوق عقوبتهم التي‬
‫يقضوهنا‪ ،‬وحاول الكبري أن يضفي بعض الدعابة إىل اجلو العام يف الزنزانة‬
‫لكن حماولته باءت بالفشل ومل تساعده خربته كثري ًا يف التغري كام يفعل دائ ًام‬
‫وقبل أن يأيت هذا السجني‪ ،‬عندها اعتذر اجلديد من السجناء وقال هلم أعلم‬
‫بأين كئيب وأعيتني السوداوية حتى مألت جتاويف صدري وسيطرت عىل‬
‫مناطق حرويف إال أنني أرى ما ال يراه أحد يف هذه املدينة وأتى يب قدري إىل‬
‫هنا ليثبت يل ما كنت أعتقده‪ ،‬ولعل كل ما قمت به وجلبني إىل هذا السجن‬
‫هو أنني عرفت وفكرت وقررت بأن أعيد تعريف األشياء‪ ،‬ويف يوم ما من‬
‫استيقظت من نومي وباملصادفة نظرت إىل ساعتي التي كانت تتضمن مربع‬
‫ال وستني ثانية وهذا يعني بأين‬ ‫التاريخ داخل حميطها تشري إىل الثانية عرش لي ً‬
‫أمضيت ثالثني سنة ودقيقة يف هذه احلياة‪ ،‬وضللت أجهش بالبكاء بسبب‬
‫رسعة األيام وكيف محلني الوقت إىل هذا العمر يف أرسع مما يمكن‪ ،‬وما‬
‫الذي قدمته لنفيس وعندها أدركت بأنني كنت كالوعاء الفارغ‪ ،‬وأول‬
‫خطوات املعرفة هي أن تعرف بأنك جاهل‪ ،‬ومن هنا كان طريقي إىل هذا‬
‫املكان‪ ،‬وتوالت األحداث والصدامات وبدى يل أنني أواجه قطيع ًا لوحدي‬
‫فهنا كل اجلرائم رأيتها تغتفر ألصحاهبا ما عدا جريمتي يف أن أكون خمتلف ًا‪،‬‬
‫وأن أعيش حياة أختارها حسب قرارايت وليس كام وجدت أيب وجدي‬
‫عليها‪ ،‬حينها قبضوا عيل وها أنا بينكم‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫سأل الكبري باستغراب‪:‬‬
‫‪ -‬وما التهمة التي وجهت إليك؟‬
‫‪ -‬كل ما قاله يل املحقق هو أنني متهم بمخالفة السائد واإلخالل بالنظام‬
‫املجتمعي‪ ،‬وحماولة زعزعة القيم الراسخة لدى إنسان املدينة‪.‬‬
‫يوم ولكن اجلديد مل ينم‪ .‬ظل مستلقي ًا عىل ظهره‪ ،‬بالعادة ال يكف‬ ‫مر ٌ‬
‫السجني عن األسئلة عندما يدخل الزنزانة أول مرة‪ ،‬إال هو وكأنه ال حيتاج‬
‫ملعرفة أي يشء عن هذا املكان أو ما قد يتعرض له‪ ،‬بينام غط املساجني الباقني‬
‫يف نوم عميق‪ ،‬وما أن صحوا من نومهم حتى عادوا ليتهامسوا فيام بينهم عن‬
‫اجلديد‪.‬‬
‫قال أحدهم‪:‬‬
‫‪ -‬أعرفه‪ .‬إنه ابن زعيم كان يف القرية‪ ،‬وعندما كنت يف اخلارج سمعت‬
‫عنه الكثري من األشياء‪ ،‬والده الذي جتاوز الستني من عمره متزوج من أربع‬
‫نساء ولديه من األبناء ست وأربعون ما بني ذكور وإناث‪ ،‬وحيظى بمكانة‬
‫وتقدير لكونه إمام مسجد القرية وزعيم قبيل وبرغم تواضع حاهلم لكن هذا‬
‫مل يكن عائق ًا ألن يظل حمرتم ًا يف عيون الناس‪ ،‬ولكن الغريب هو ما إن يكرب‬
‫الواحد من أبناءه حتى يقرر هجر املنطقة بال عودة‪ ،‬ويتساءل اجلميع عن‬
‫سبب القطيعة بني األب وأبنائه‪ ،‬عدا هذا السجني اجلديد الوحيد من بينهم‬
‫الذي خدم أباه والقرية‪ ،‬فأبوه معروف بشهامته وكرمه ومساعدته ألقاربه‬
‫واملحتاجني وما أن يقبل عىل قوم بينهم مشكلة ويدخل فيها حيلها وتعود‬
‫املياه إىل جمارهيا‪ ،‬وهو متعصب للعادات والتقاليد وال يقبل النقاش فيها‪ ،‬كام‬
‫أن حب الناس له وحمافظته عىل صورته أمامهم جعله يف مشكلة مع اآلراء‬
‫املتعددة يمثل خط الدفاع األول عن املوروثات‪ ،‬وعند احلديث عنها يصبح‬
‫دكتاتوري ًا ال يعرتف بأهلية الذين ال يطبقوهنا فكيف بمن ينتقدوهنا أو يرون‬

‫‪25‬‬
‫زماهنا قد وىل بال عودة‪ ،‬ومن هنا كسب والد ُه سمعة كبرية جعلته زعيم‬
‫القرية وأحد رجاالت املدينة املعروفني‪ ،‬ولكن مكانته االجتامعية مل تشفع له‬
‫ألن يكون حميطه جيد ًا معه‪ ،‬فهو دائم الصدام مع أبنائه وبناته بسبب مسلامته‬
‫التي ال حياول تغيريها‪ .‬لقد أحرق التلفزيونات واعتربها مفسدة للعقول‬
‫وحرمها وكان يذيق أبناءه العذابات والتوبيخ أمام اجلميع إن أخطأوا‪،‬‬
‫وبالنسبة هلم مل يكن هذا الزعيم شخصية طيبة كام يراها الناس يف اخلارج‪،‬‬
‫بيد أنه كان مقتنع ًا أن قمع األبناء والنساء والعبيد هتذيب ونوع مفيد من‬
‫الرتبية‪ .‬نظرة الناس إليه كانت أولوية جتعله يتخذ قراراته من أجلها‪ .‬ويف‬
‫يوم من األيام هربت إحدى بناته بعد أن أهنت مع عشيقها أوراقها الثبوتية‬
‫لتحلق به إىل اخلارج نحو وجهة غري معروفة‪ .‬ولكن هذا مل جيعل والدها يتأثر‬
‫كثري ًا من العار فلقد قال للقرية أن ابنته ماتت يف فراشها ملدوغة من عقرب‬
‫وألن العادات حترم تشييع جثامن اإلناث فلقد استغل هذا يف أن ينرش خرب‬
‫موهتا‪ .‬يؤمن كثري ًا بأن هذه الدنيا تصفية حسابات وسيظل حوله يف النهاية‬
‫من حيبونه من أبنائه فقط‪ .‬مضت فرتة زمنية جتاوزت السنة اتصلت الفتاة ب‬
‫أبيها تطلب نجدته بعد أن خاهنا عشيقها وباعها ملنظمة إجتار بالبرش لتعمل‬
‫عاهرة‪ ،‬فاستجاب لندائها ودفع ما يملك لتعود ابنته وأعادها بعد أشهر إىل‬
‫القرية دون أن يعرف أحد عنها‪ ،‬ولكن حبه للناس وسمعته جعلته يفعل ما‬
‫مل خيطر يف احلسبان فلقد قتل ابنته بدم بارد ثم قربها يف املكان الذي كان يشيع‬
‫فيه جثامهنا املزيف وكأن شيئ ًا مل يكن‪ ،‬وواصل الزعيم حياته إذ إن شكله‬
‫وسمعته أمام اجلميع تكلف يف نظره ما هو أكرب من ذلك إذا كلف األمر‪،‬‬
‫ورغم أن الشائعات بدأت تنترش يف املدينة والقرى املحيطة حوهلا‪ ،‬غري أن‬
‫هذا مل يكن باليشء الرضوري أو املهم فليس هناك دليل عىل فعلة الكهل كام‬
‫أنه يف نظر العامة إن كان اخلرب صحيح ًا فعل الصائب يف حق ابنته التي كانت‬
‫تريد أن تطمر رأس أبيها يف األرض‪ ،‬أما حميط بيته فلقد واصلوا حياهتم ألن‬

‫‪26‬‬
‫التفوه بكلمة خارج ما هو متفق عليه يكلف الواحد منهم الكثري‪ ،‬وما من‬
‫مهرب من هذا األب وهذا املجتمع سوى أن تصمت إىل األبد‪ ،‬باقي األبناء‬
‫يذهبون بال عودة‪ ،‬أما البنات فام إن يتزوجوا حتى ينشغلوا باخلدمة يف بيت‬
‫أزواجهن وتربية أبنائهن الذين سيتحولون ألجداد قبائل‪ ،‬وأما اجلديد فلقد‬
‫تعود منذ طفولته عىل أعامل املزارع واحلقول ومعيشة القرية‪ ،‬وعزله عمله‬
‫منذ الصغر عن معارشة الناس‪ ،‬ظل برفقة والده ذلك الولد املطيع الذي‬
‫ينفذ أوامره بدون تردد‪ ،‬ولكن األسئلة مل تكن تتوقف داخل اجلديد إىل أن‬
‫أتت اللحظة التي تغري فيها كل يشء بالنسبة له‪ ،‬ففي ليلة وضحاها حتول من‬
‫مطيع إىل معارض لكل ما قام به أباه‪ ،‬وظل يف صدام مع الناس‪ ،‬إىل أن كتب‬
‫ال من أن يتحول موضوع هذه الفتاة‬ ‫قصة أخته القتيلة ونرشها يف كتاب وبد ً‬
‫املسكينة إىل رأي عام حدث العكس وحتول هذا السجني إىل رأي عام ألنه‬
‫جترأ وانتقد ما مل يستطع من سبقه أن ينتقده‪ ،‬من املؤكد بأن هناك تفاصيل ال‬
‫نعرفها عن قصته‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫‪3‬‬

‫لطاملا كنت أقود سياريت ببهجة ال أمحل من هذه الدنيا سوى تساؤاليت‬
‫الوجودية التي تظل تسيطر عىل تفكريي وترسم طريقي كل ليلة أقضيها‬
‫حتت وطأة التفكري يف اإلجابة‪ ،‬حتى باتت قيمة السؤال لدي أعىل بكثري من‬
‫اإلجابة‪ ،‬وكلام مررت بجانب سجن املدينة كنت أضيف ألسئلتي شيئ ًا عن‬
‫ما حيتويه هذا املبنى الشاهق‪ ،‬فمناراته املنصوبة عالي ًا واحلراس الذين يراقبون‬
‫من أعالها طوال الساعة وبال حركة متسمري األقدام ويف وقفة ثابتة‪ ،‬مل أكن‬
‫أعلم بأن السؤال عن هذا السجن كان السبب األول الذي رسم طريقي‬
‫إىل هنا‪ ،‬كوين سجني فهذا قدري ولكن أن أستحق ذلك فهذا ما ال أستطيع‬
‫احلكم عليه‪ .‬أعلم أن مفهومنا عن اإلجرام يتغري مع تغري الزمن‪ ،‬وما كان‬
‫مباح ًا يف القدم أصبح ممنوع ًا اآلن‪ ،‬فاملرء الذي كان حتت يده عبيد وجواري‬
‫ال ذو مكانة‪ ،‬أما اآلن العبودية أصبحت جرم يعاقب‬ ‫كان يعترب سيد ًا ورج ً‬
‫عليه القانون إىل مخس سنوات سجن‪ ،‬وهذا هو احلال يف املخدرات فاألفيون‬
‫كان مصدر الدخل األسايس لدول‪ ،‬أما اآلن فاملخدرات يف نظر العدالة جرم‬
‫يستحق مروجه أن يقتل أو يسجن‪ .‬حتى األخالق تبدلت‪ ،‬فالكرم اآلن‬
‫أصبح مذموم ًا وغري حممود‪ ،‬بينام الفضل كله للجشع والطمع يف أن يعمل‬
‫ال من التسول وانتظار إكرامية من أحد األغنياء أو‬ ‫الكثري من أهل املدينة بد ً‬
‫ميسوري احلال‪ ،‬يا هلذه احلرية‪ ،‬يف حني أن العامل بدأ يقبل االختالف وتقلبات‬
‫الزمان ظلت هذه املدينة تقاوم التغيري وتقاتل من أجل بقائها‪ ،‬ومن فرط‬
‫املقاومة تسمرت احلياة فيها ومل يعد يف مقدورها أن تتحرك إال ببطء‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫مىض اليوم السابع واألربعني منذ أن دخلت هذا السجن‪ ،‬اعتادت يدي‬
‫عىل صقيع قضبان حديد الباب‪ ،‬وظل صدري يستنشق نرتات احلديد املنبعثة‬
‫ال من االوكسجني‪ ،‬و كعادة رافقتني منذ الصغر وأتيت هبا من اخلارج‬ ‫منها بد ً‬
‫وهي أن أنظر إىل األفق ألستجوب املستقبل عام حيرض يل‪ ،‬وعىل الرغم بأنه‬
‫مل جيلب يل يف الغالب إال اخليبات إال أن عقيل الباطن رسخها واستوحى كل‬
‫قرارايت منها‪ ،‬وظلت بؤرة عيني طوال وجودي هنا ختتلس النظر بال شعور‬
‫مني إىل ذلك الباب املوصد وكأهنا تنتظر أن يقرع السجان الباب لينادي‬
‫اسمي ويعلن خروجي‪ .‬أعلم أن عيني وقعت رهينة إرادة البقاء واحلياة‬
‫واحلرية‪ ،‬وأن نفيس اشتاقت للخارج وللقهوة والليل الدامس والطريق‬
‫الطويل الذي ترحتل فيه أفكاري وتذوب فيه مشاعري وأسئلتي املتقدة‪ ،‬كام‬
‫أنني كنت أنعزل عن العامل بشكل مستمر ولكن الفرق هنا بأنه بمحض إراديت‬
‫وليس بأمر قضائي وحتت تعريف جمرم‪ ،‬بالرغم أهنا أربعة جدران سواء هنا‬
‫أو فيام يعرف باحلرية‪ ،‬ولكنها أفكار لن جتدي معي كثري ًا يف هذا املكان‪ ،‬فأنا‬
‫هنا مستمر يف التشبث بسوداويتي وبرداء السجن املخطط باألزرق واألبيض‬
‫وكأنه السرتة الواقية من الرصاص التي حتميني لكي ال خترتق صدري مشاعر‬
‫اهلزيمة واالستسالم‪ ،‬وبدا يل أنني رسعان ما انسجمت هنا‪ ،‬بداخيل بذرة‬
‫إجرامية كانت ختتبئ يف قعر أعامقي إىل أن أحياها هذا املكان‪ ،‬وجعلتني أبدو‬
‫هنا جمرم ًا حتولت مالحمة البسيطة واهلادئة إىل معقدة وكثرية التضاريس‪ ،‬أو‬
‫سجين ًا قىض قرن ًا من الزمان وأصبح السجن حياته األبدية العالق هبا‪ .‬أعلم‬
‫أن السجان سينادي باسمي ليعلن خروجي ذات يوم‪ ،‬ولكنني مل أرغب يف‬
‫أن يقرتب هذا اليوم‪ ،‬فجراح املدينة ال زالت غائرة وتدمي قلبي‪ ،‬أقنع نفيس‬
‫بأن كابوس املدينة ذهب بال عودة إال أن كرهي للنهار وشمسه التي ترسل‬
‫أشعتها عرب رشفة الزنزانة املطلة عىل املدينة لتذكرين بحقيقة نفيس‪ ،‬حقيقة‬
‫ذلك الشاب الذي يدخل يف قيود وضعها لنفسه لعله خيرج منها قيود ًا وضعها‬

‫‪29‬‬
‫التاريخ واملوروث‪ ،‬ولكن السجن أتى ليعلمني ما مل أدركه يف اخلارج و أهم‬
‫دروس أواجهها وأحاول أن أغريها‪ ،‬وبالنظر إىل حديث السجناء وتأقلمهم‬
‫مع ًا‪ ،‬فقد استطاعوا هنا أن يشكلوا حياهتم اخلاصة وأن يدفعوا بدفة يومهم‬
‫إىل األمام‪ ،‬إىل أن شاع الروتني بينهم وأصبح لكل سجني مهامه التي جييدها‪،‬‬
‫الكل هنا يقاتل التفكري وفلوله املرتزقة ويزيل كل آثاره فال وقت للموت‬
‫اآلن‪ ،‬نعم ما أن تلتفت إىل التفكري عن اخلارج وأنت رهني هذه اجلدران‬
‫األربعة حتى يبدأ العد التنازيل لفنائك يف هذا السجن‪ ،‬وهذي هي معركتك‬
‫مع البقاء فكل يوم تبقى فيه حي ًا هو صفعة يف وجه العدمية والفناء‪ ،‬واجلميع‬
‫اتفقوا أن ذنوهبم ليست عدوهتم ومل يأتوا هنا من أجل أن يتوبوا عنها بل هو‬
‫الوقت‪ ،‬فكلام نقص الوقت من مؤقت بقائك كلام شعرت بلذة االنتصار‬
‫ومعانقة احلرية‪ ،‬وكأنك سحقت أعداءك بكال قدميك ورقصت عىل جثتهم‪،‬‬
‫فاخلروج من هنا بالنسبة للسجناء يعادل لذة االنتصار‪.‬‬
‫وبينام السجن يعيد روتينه اليومي بعد أن انتصف اليوم دخلت القوات‬
‫اخلاصة بأمر من مدير السجن‪ ،‬وهم رجال يرتدون املالبس سوداء القامتة‬
‫وخيفون وجوههم باألقنعة‪ ،‬بعد أن وصلتهم من جاسوس داخل السجن أن‬
‫هنالك ممنوعات تستخدم وتباع‪ ،‬فهذه الفرقة األمنية مهمتها مباغتة الزنزانة‬
‫و اجلميع فيها ليلقوا القبض عىل املمنوعات التي هترب إىل داخل السجن‪،‬‬
‫وهنا يقومون بجمع السجناء من أرجاء السجن لتفتيشهم بشكل دقيق ومن‬
‫ثم يقلبون أرسهتم رأس ًا عىل عقب ويلقوا بكل أشيائهم يف األرض‪ ،‬وبطريقة‬
‫فوضوية مستفزة‪ ،‬وما أن تنتهي احلملة خالل وقت وجيز ورسيع حتى‬
‫جتد نفسك أمام كومة من األوراق واألدوات اخلاصة واملالبس املرتاكمة‬
‫يف وسط الغرفة‪ ،‬ويف حلظة يسود الصمت عىل السجناء‪ ،‬فإن كنت مستقي ًام‬
‫داخل السجن فهذا ال يعفيك من النكبة التي ستحل باجلميع‪ ،‬فهذه احلملة‬

‫‪30‬‬
‫أشبه باإلعصار الذي دمر بيوت الكفار وبيوت املؤمنني سوي ًة‪ ،‬خرجت‬
‫القوات ويف يدها املمنوعات املضبوطة من حشيش وخمدرات و بطاريات‬
‫الليثيوم التي تستخدم لتسخني الطعام وصنع أدوات حادة وماكينات احلالقة‬
‫مجيعها تعترب من املمنوعات‪ ،‬وماهي إال حلظات حتى قبضوا عىل أصحاب‬
‫األرسة التي وجدت هذه األغراض فيها‪ ،‬وأحد املقبوض عليهم ظل يرصخ‬
‫أنا بريء هذه األغراض ليست يل‪ ،‬إنام وضعت يف رسيري وال أعلم من‬
‫صاحبها‪ ،‬صدقوين أنا بريء ومجيع هؤالء املساجني يعرفوين جيد ًا‪ ،‬ولكن‬
‫هذا الرصاخ كله مل يؤخذ بعني االعتبار من قبل القوات فال وقت لدهيم‬
‫للتحقيق‪ ،‬سحل السجناء ليذهبوا إىل حتفهم‪ ،‬وبينام أنا أنتظر أي ردة فعل من‬
‫املساجني إال أهنم بدو كاألصنام‪ ،‬فاملوضوع مل يعن هلم شيئ ًا عىل اإلطالق‪،‬‬
‫كل منهم لريعى شؤونه‪ ،‬فهذه املواقف ليست جديدة وحتدث دائ ًام‪،‬‬ ‫وذهب ّ‬
‫أما أنا فكنت أبحث عمن خبأ املخدرات يف رسير السجني الذي قبض عليه‪،‬‬
‫ومهمتي أن أعرف هل السجني صادق أم رصخ ليخرج نفسه من الورطة‪.‬‬
‫عندها علمت بأن السجني نمرود يف داخله‪ ،‬وخياطر بسهولة ولكن من‬
‫الصعب أن تكسب احرتامه ففي أي حلظة ما سيضحي بك‪ ،‬ولكني عدت إىل‬
‫زنزانتي ألرى ما فعلوا هبا‪ ،‬ما هذا؟! أين أغرايض ومالبيس وأوراقي وأين‬
‫الصفحات التي كتبتها‪ ،‬رحت أبحث عنها كاملجنون كالتائه كالطفل الذي‬
‫أضاع والدته يف مكان عام‪ ،‬أرفع األشياء وأقلبها بحث ًا عن أوراقي إىل أن‬
‫رفع أحد السجناء صوته منادي ًا من صاحب الكتابات السخيفة هذه؟ عندها‬
‫ركضت إليه سعيد ًا لكنه وضع يده جتاهي بحركة تشري إىل أن عيل أن أقف‬
‫مكاين‪ .‬تسمرت قدماي‪ ،‬هلفتي لألوراق أثارت تساؤ ً‬
‫ال لديه عام فيها‪ ،‬وأعاد‬
‫قراءة الورقة من جديد إال أنه مل يفهم ما تعني كل هذه الكلامت املرتاكمة‪،‬‬
‫فمستوى لغته الشعبية مل يسعفه يف اعتبار هذه النصوص جديرة باالهتامم‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫ولكن عيناه وهذا من سوء حظي وقعت عىل أهم ما يف النص‪ ،‬إنه اسم هند‪.‬‬
‫وهنا نظرت إىل السامء ألذكرها بخيباهتا التي تتساقط عيل كوابل من احلجارة‬
‫الربكانية يف كل مرة تتذكرين فيه ؛ عندها نظر يل بخبث و بابتسامة صفراء‬
‫تدالن عىل أنه مهام تصنع األخالق إال أن نفسه الدنيئة ال بد أن تظهر يف‬
‫موقف ما‪ ،‬ومن هي هند هذه أهيا اجلديد؟! وهنا وبلهفة غضب ويف حركة‬
‫رسيعة خطفت الورقة من يده ولكنها متزقت وقطعت الورقة إىل نصفني‪ ،‬يا‬
‫لسخرية القدر فقد كان القطع يمر عىل اسمها‪ ،‬فجعل اهلاء يف جزء الورقة‬
‫التي يف يده والنون والدال يف جزء الورقة التي يف يدي‪ ،‬وهو هذا ذات اخلط‬
‫املؤمل الذي يمر عىل قلبي كلام شاهدهتا أو تذكرهتا‪ .‬اعتذر مني بكل سخرية‬
‫وأعطاين الورقة‪ ،‬وما أن ناولني إياها حتى بدت الضغينة تضع مكانتها يف‬
‫قلبي جتاهه‪ ،‬فلم أجرؤ عىل أن يتعدى عىل أرساري التي لطاملا خبأهتا يف قعر‬
‫أعامقي فكيف بمجرم متهم بعدة جرائم منها الرسقة والسطو املسلح؟ نفسه‬
‫اخلبيثة مل تردعه من انتهاك خصوصيات الناس ناهيك عن السخرية مني‬
‫ومما أعتربه أغىل ما أملك‪ ،‬فإذا القانون مل يردعه فكيف يب‪ ،‬سوف يندم‪ ،‬حت ًام‬
‫سيلعن اليوم الذي جترأ فيه عىل مس قطعة من قلبي؛ أخذت الرشيط الالصق‬
‫ألعيد الورقة لوضعها السابق‪ ،‬ولكنها ال ختتلف عن حماواليت الفاشلة برأب‬
‫صدع قلبي عندما يعتيل اسمها ذاكريت‪.‬‬
‫تركت كل أشيائي ملقاة عىل األرض مبعثرة فلم تعد هتمني كثري ًا وعدت‬
‫لرتتيب رسيري و االستلقاء عليه حمدق ًا يف سقف الغرفة‪ ،‬ويف حلظة اشتياق‬
‫ال تتكرر دائ ًام زاد األدرينالني من نبضات قلبي‪ ،‬تذكرت تلك احلظة التي‬
‫صافحت فيها تلك الفتاة األرستقراطية‪ ،‬كانت املرة األوىل‪ ،‬املكان مكتظ‬
‫باحلضور‪ ،‬مل يكن يعني يل ال املكان وال الناس وال املناسبة‪ ،‬وألنني ال‬
‫أعرف كثري ًا فلقد سمعت قصص ًا من هذا النوع بأن كائنني تقاربا أكثر من‬
‫الالزم‪ ،‬فانعكس ذلك عىل حمياهم وابتسامتهم‪ ،‬وحتى عىل أيامهم املاضية‬

‫‪32‬‬
‫واملستقبلية‪ ،‬عندها شعرت بالتيارات العصبية تطلق إشارهتا من كف يدي‬
‫اليمنى مرور ًا بقلبي إىل هناك إىل األعامق إىل حيث تلك األماكن التي أرهبها‬
‫اخلوف واجلزع من هذه احلياة‪ ،‬وكأهنا ومضة قادمة من املجهول‪ ،‬أو قنديل‬
‫ظل صامد ًا أمام الرياح‪ ،‬أو منارة الشاطئ أخذت تشري بمصابيحها للسفينة‬
‫الضائعة يف عرض املحيط‪ ،‬لكن رسعان ما اختفت وعاد التيه إىل ما كان‬
‫وصمة ظ ّلت يف قلبي‪ ،‬وكأن مركز الذاكرة حتول من عقيل إىل أن‬ ‫ٌ‬ ‫عليه‪،‬‬
‫انتصف برشيط ذكرياته يف القلب‪ ،‬وبدأت كل الذكريات املاضية واحلارضة‬
‫واملستقبلية ذات طعم عاطفي ورديء‪ ،‬بالرغم من أين جيد يف إخفاء إعجايب‬
‫باألشياء بام أنني نشأت يف بيئة ال يعجبها يشء‪ ،‬إال أنني مل أستطع أن أقاوم‬
‫حالة اهلسترييا التي دامهتني‪ ،‬فغدت األمور غري متوازنة‪ ،‬أصابني االرتباك‬
‫يف مقتل وبدا أن اجلميع الحظ أنني لست عىل ما يرام‪ ،‬وبال رغبة مني‬
‫ذهبت إليها ملحاولة افتعال حديث‪ ،‬وكانت تستقبل حديثي بكل و ّد‪ ،‬وهذه‬
‫كانت إشارة جيدة فلم تأخذ عني نظرة استعالئية أو كغشاش يريد أن يبيع‬
‫يف وهي معلومايت وثقافتي‬ ‫بضاعة مزيفة‪ ،‬ويف حماولة مني إلبراز أحسن ما ّ‬
‫العامة حتدثت عام أعرف وعن عالقة أجدادنا التارخيية بعد أن عرفتها عىل‬
‫نفيس وعرفتني عىل اسمها‪ ،‬فذكرت هلا خمطوطة تارخيية كانت بني جدي‬
‫وجدها اللذين مل يلتقيا يف أرض وال معركة وال حتى باملصادفة ولكن‬
‫سمعتهم الطيبة يف ذلك الزمان القاحل لدى بعضهام جعلت الرسائل وسيلة‬
‫تواصلهام‪ ،‬وكانت املخطوطة التي أمتلكها رثائية جلدها البعيد من جدي‬
‫األبعد‪ ،‬وعىل الرغم بأين كنت أعرض هذه املخطوطة التي وجدهتا يف إحدى‬
‫صناديق جدي املتويف منذ أكثر من مخسني سنة للناس وأقاريب كاكتشاف ال‬
‫يقل عن االنتصارات العلمية يف القرن العرشين‪ ،‬إال أن من حويل مل يلقوا هلا‬
‫اعتبار ًا أو أمهية‪ ،‬فجدي وجدها (أعتقد العارش) كانا يعكسان ما ال ندرسه‬
‫يف كتب التاريخ التي تعرض علينا من أخالق وهتذيب‪ ،‬وأنا مستغرق يف‬

‫‪33‬‬
‫رشح مأزق التاريخ مع واقعنا املعارص نظرت إيل عيناها العسلية املتقدتان‬
‫باألمل والرسور فإذا هي أشبه بطوق النجاة الذي يلقى للغريق قبل أن يفقد‬
‫حياته‪ ،‬فالنظر إىل عينيها فقط يعادل سنني من الكتابة عن ملحمة تارخيية‬
‫انترصت فيها احلقيقة وغاب الظالم إىل األبد‪ ،‬فكيف بوجهها النرض حلو‬
‫املالمح واملرشق‪ ،‬هي ليست فرد ًا برشي ًا تعرض ملاليني السنني من مراحل‬
‫التطور واالرتقاء‪ ،‬هي جمموعة من األرواح الطيبة التي ضلت طريقها يف‬
‫السامء وقررت أن جتتمع داخل هيكل مالئكي يسكن األرض‪ ،‬وأكملت‬
‫هلا احلديث عن أجدادنا الذين مل يكونوا يعلموا بأنه سيخرج من أصالهبم‬
‫أناس يتالقون ويكون بينهم حديث رائع كهذا‪ ،‬وقلت يف نفيس مل أرى كام ً‬
‫ال‬
‫مماث ً‬
‫ال كهذا يف حيايت‪ ،‬فاجلامل والوعي وشعلة املعرفة يف املرء أشياء يف العادة‬
‫ٍ‬
‫برباءة أن أرسل هلا املخطوطة‬ ‫ال تتسق أو تلتقي إال يف األساطري‪ ،‬طلبت مني‬
‫وأعطتني رقم هاتفها النقال‪ ،‬وكان رقمها غالي ًا كوسام شجاعة وضع عىل‬
‫صدر جندي بعد معارك احلرب العاملية الثانية‪ ،‬فليس هنالك ما هو أمجل من‬
‫أن تكون ضمن الكامل أو جزء منه‪ ،‬أو حتى تقف عىل عتباته لرتاه بني احلني‬
‫واآلخر‪ ،‬كام يندر أن توجد أرواح طاهرة كهذه وتقدم ملن هم مثل أرواحنا‬
‫الثقيلة والغائرة يف الظلمة كل هذه السعادة‪ .‬مل تعرين ذلك االهتامم الكثري بعد‬
‫أن زودتني برقمها‪ ،‬فلقد أرخت كلتا ذراعيها‪ ،‬وجلست بال مباالة‪ ،‬وبإمهال‬
‫راق‪ ،‬بدا شكلها ابنة ماء السامء التي أتت لتعيد األشياء لوضعها الطبيعي‬ ‫ٍ‬
‫وتنقذ النفوس من براثن الشقاء البرشي‪ ،‬ظهرت حقارة يف نفيس مل أعهدها‬
‫من قبل‪ ،‬بشكل فيه حسدت كل يشء حوهلا سواء كانوا برش ًا أم جوامد‪،‬‬
‫وبدأ عقيل يرسم الصور الوردية لألشياء‪ ،‬ذهبت من عندي وهي ال تعلم ما‬
‫تركت وراءها‪ ،‬فهتاهنا الساموي أنبت ما مل أتوقع‪.‬‬
‫أرسلت هلا املخطوطة عىل هاتفها وشكرتني بكل لطف ثم غادرت‬
‫املكان‪ ،‬ومل تعد جتيب عىل رسائيل ومعلومايت التي كنت أرسلها هلا بني الفينة‬

‫‪34‬‬
‫واآلخرى‪ ،‬يظهر عىل رسالتي املرسلة هلا متت القراءة من قبل املستلم ولكن‬
‫مل يكن هناك رد‪ ،‬كنت أتصنع أن الرسائل التي كنت أرسل هلا بصيغة مجاعية‬
‫وهي يف احلقيقة هلا وحدها ألخترب جتاوهبا معي‪ ،‬فمن بعد إجابتها األوىل مل‬
‫جتب عىل اإلطالق‪ ،‬وكان هذا ما أثار جنوين‪ ،‬إال أنني مل أيأس فظل قلبي‬
‫يقود دفة األوامر يف جسدي‪ ،‬وكنت عندما تبهرين معلومة أو فائدة أو كتاب‬
‫أذهب رسيع ًا ألفتح رسالة جديدة وأضيف اسمها وحيد ًا يف قائمة املرسل‬
‫إليهم ثم أبعث هلا الرسالة‪ ،‬وكل ما كنت أرجوه هو أن ترد عيل‪ ،‬ختيلت أنني‬
‫أحدثها عن نفيس كثري ًا وأبوح هلا بام مل أقوله ألحد‪ ،‬ولكن الوقت ظل جيرت‬
‫عقارب الساعة إىل أن أكملت السنة وأنا أختيل وأعيش معها يف قالب ختياليت‬
‫الوردية‪ ،‬وما أن يشقيني واقعي حتى أذهب ملخيلتي وأراها تنتظرين كام لو أن‬
‫العوامل املوازية تقاطعت عند نقطة خميلتي لتشكل عامل ًا آخر ال عالقة له بعاملنا‬
‫الذي نعيش فيه‪.‬‬
‫مضت سنة عىل أول لقاء لنا ويف حلظة مفاجئة أضاء هاتفي النقال‬
‫ليعرض يل رسالة منها‪ ،‬إهنا منها‪ ،‬كان اسمها أشبه بالشمس وهي ترشق‪،‬‬
‫كان شعاع الشاشة ينسل بخيوط ضوئه إىل صدري‪ ،‬كأنه نفس ذلك الضوء‬
‫الذي أرشق عىل أعامقي عندما صافحتها‪ ،‬فكرت هل جيب أن أتأخر يف ردي‬
‫عىل الرسالة‪ ،‬ألبني هلا أنني رجل مشغول وأن لدي ما يشغلني عن اهلاتف‪،‬‬
‫وهي ال تعلم بأين أنتظر رسالتها منذ اثني عرش شهر ًا ولكن بال حيلة مني‪،‬‬
‫فقد كنت عاجز ًا عن فعل يشء‪ ،‬أو باملعنى األصح جبان أصبحت اخلسارة‬
‫بيته ومالذه‪ ،‬فاخلوف من أن تدفعني للخلف وتقذف يب يف غياهب اجلب‬
‫ظل يقف بيني وبني التجربة‪ ،‬ولكنني يف نفس الوقت أعذر نفيس كثري ًا‪ ،‬مل‬
‫أعد بحاجة خليبة جديدة‪ ،‬ولكي ال أتصنع النسيان فجانبي السوداوي ذكرين‬
‫بنظريت السابقة لألنثى التي طاملا اعتربهتا أحد خيبات الطبيعة وفخاخها التي‬
‫تنصب يف طريقك يف كل مرة‪ ،‬إذ عىل مدى العقود الثالثة املاضية مل تشكل‬

‫‪35‬‬
‫يل فكرة االرتباط بفتاة أي أمهية تذكر‪ ،‬ومل أكن مؤمن ًا بفكرة أن يسري قلبني يف‬
‫طريق واحدة‪ ،‬فأنت وجدت يف احلياة وحيد ًا وستغادرها وحيد ًا وهذا قدري‪،‬‬
‫ما هي إال مصافحة وابتسامة عابرة غريت كل ما كنت تعتقده أو حتول إىل‬
‫معتقد راسخ لديك‪ ،‬كانت ملحة خاطفة منها عصفت بعقيل املتكدس منذ‬
‫فرتة طويلة‪ ،‬وعندها تالشت كل األسئلة يف عقيل‪ ،‬يا لنا من كائنات هشة‬
‫الوجود‪ ،‬سنني وسنني من العصف الذهني والتحليل والنقد والرصاعات‬
‫الفكرية التي خضت غامرها وحيد ًا وأصابت جسدي بضمور عاطفي قيد‬
‫أحاسييس‪ ،‬وما أن ظهرت هند هذه الفتاة حتى ألقت عىل صدري ثق ً‬
‫ال مل أكن‬
‫يوم ًا ألحتمله‪ ،‬ومل يستطع شيئ ًا تغيريي بل زادين إرصار ًا عىل ما كنت أعتقده‬
‫ومع كل يوم وكل حالة رفض وشجب واستنكار وهتديد ووعيد يل‪ ،‬كنت‬
‫أزداد إرصار ًا وتأكيد ًا من أنني احلقيقة املطلقة التي ال تقبل‪ .‬نظرة من مالك‬
‫جعلتني أفيق من غفوة الزمتني كل تلك السنني‪ ،‬مل أكن أعلم بأهنا بداية‬
‫عذاب جديد‪ ،‬وأزمة من نوع آخر‪ ،‬وكأن املليئني باخليبات ال هيمهم اإلقدام‬
‫عىل خيبة جديدة‪ ،‬فهذه احلالة لن جتدي معها طرق االستقراء املنطقي وال‬
‫النظرة الشمولية وال حتى الشك املعريف‪ ،‬هذا اهلاجس بدا وكأنه غلف عقيل‬
‫ومل أعد أفكر إال من منطلق هند الفتاة ومن منتهاها‪ .‬أخذ مني التفكري يف‬
‫رسالتها قبل أن أفتحها أكثر مما كنت لو فتحتها‪.‬‬
‫ال يشء يذكر‪ ،‬كانت رسالة مجاعية تتضمن اإلجابة عىل استبيان من‬
‫إعدادها يف موضوع من الواضح بأنه خيص عملها‪ ،‬بعد سنة اتضح أنني‬
‫لست سوى عدد من حميطها‪ ،‬فلو مل يكن رقمي لدهيا ملا أرسلت يل‪ ،‬يا للخيبة‬
‫واألمل ولكن هناك أمل أراه يف آخر النفق‪ ،‬فأن تكون عدد ًا أفضل من أن‬
‫تكون ال يشء‪ ،‬فتحت االستبيان ووضعت اسمي أعاله ومألته بام أعرف‪،‬‬
‫من رسالتها هذه عرفت أن اقرتايب منها لن يسفر عن أشياء بقيت طوال تلك‬

‫‪36‬‬
‫األيام أنتظرها‪ ،‬وأن بيني وبينها كام بني السامء واألرض‪ ،‬وأن األبد سيكون‬
‫عنوان هذا الفرقة‪.‬‬
‫نظر الكبري باحث ًا عمن يوكله بتنظيف األرض بعد أن اتسخت باألغراض‬
‫واألدوات‪ .‬وقع االختيار عيل‪ ،‬هز حينها رسيري بقوة ليوقظني من أفكاري‪:‬‬
‫‪ -‬قم أهيا اجلديد‪ ،‬فال وقت لدينا هلواجسك‪ ،‬خذ املكنسة ونظف الزنزانة‬
‫جيد ًا‪ ،‬فأنا ال أحتمل أن يغمض يل جفن مع كل هذه األوساخ‪.‬‬
‫عندها طردت التفكري وهنضت وقمت بمهمتي املوكلة يل كعاملٍ نظافة‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫‪4‬‬

‫يف جبوب الصحاري املقفرة هناك حيث العدم والفراغ الكوين وضوضاء‬
‫لتتسيد املشهد‪ ،‬ويف هذه اخلالء الفج كانوا‬
‫ّ‬ ‫الصمت التي تضع أوزارها‬
‫أجدادي يوصمون قلوب أعدائهم إما بالسهام والنبال أثناء احلروب وإما‬
‫بالنبل والكرم وشيم املروءة أثناء السلم‪ ،‬إال أن الناس مل ينسوا مصاهبم من‬
‫أجدادي ما جعلهم يطلقون عليهم لقب ًا من جنس أفعاهلم‪.‬‬
‫أول إرثي من صفات أجدادي هو العناد تلك الصفة املوغلة يف جيناتنا‬
‫الوراثية والتي وإن كانت ذميمة إال أهنا أبقتنا أحياء واثقني نضع من خالهلا‬
‫رشوطنا عىل طاولة الطبيعة األم بال تردد وال نرىض بغري تنفيذها‪ ،‬يا هلذه‬
‫القوة التي تضمها أجسادنا وعقولنا قبلها‪ ،‬لذلك كفتاة مل أرض أن أبني يل‬
‫ال أذهب عنه أو ألدعه خلفي بال حمقق‪ ،‬عندها عشقت املستحيالت‬ ‫خيا ً‬
‫منذ الصغر وركبت اخليل وكنت حديث جمتمعي الذي مل يقبل أن يرى فتاة‬
‫متارس الفروسية‪ ،‬وكان حلمي أن أقفز احلواجز وسط ذهول اجلموع املنبهرة‬
‫كام لو أنني أقفز من فوق اخليبات والظنون وفخاخ البرش التي ال تنتهي‪،‬‬
‫وحيث إن معنى اسمي بالفارسية هو الفتاة القوية‪ ،‬وال أظن أن أيب اختار‬
‫يل هذا االسم إال ألنه أراد مني أن أكون كذلك دوم ًا‪ ،‬لكننا دائ ًام ما نخذل‬
‫أسامءنا التي تظل كالكابوس تالحقنا أسباب تسميتنا هبا إىل األبد‪ ،‬وكأنك‬
‫حتمل من قبل مولدك ذنب ًا مل تقرتفه وتعيش لتثبت عكسه أو تكفر عنه طوال‬
‫حياتك‪ .‬ظل شجرة أجدادي العظيمة الضاربة يف عروق التاريخ كان يفيء‬
‫عيل بني احلني واآلخر لتذكرين بأنني ابنة الشامل‪ ،‬ذلك االجتاه الطاعن يف‬

‫‪38‬‬
‫الكهولة والذي أخذت الطبقات الصخرية تتكالب عليه من كل صوب‬
‫إىل أن أخفت مالحمه‪ ،‬لكن آبائي ظلوا أوفياء لذاكرة املكان‪ ،‬يف الزمن الذي‬
‫اتبعت البرشية نزواهتا وشهواهتا يف حب املال والسلطة‪ ،‬وبينام السنني تتقلب‬
‫و تتقدم حتى توسعت الفوارق الطبقية بني أفراد املجتمع الشاميل‪ ،‬تسيد أيب‬
‫عشريته وكان واجهة الشامل برمتها‪ ،‬وألن أيب قىض جل حياته حيمل تلك‬
‫اجلهة بثقلها الكبري عىل عاتقة وحيد ًا‪ ،‬إال أنه مل ينس يوم ًا عائلته الصغرية‬
‫ومستقبلها‪ ،‬كان له رؤية ثاقبة يضع من خالهلا جسده العريض والقوي‬
‫ليحمينا من خمالب ذلك التفاوت الطبقي‪ ،‬ومن الطبقات الدنيا التي تتصلب‬
‫من فرط النظر إلينا وتفرس كل حتركاتنا‪ .‬كل تلك الغوغائية كنا نراقصها كام‬
‫يراقص الساحر اهلندي األفعى‪ ،‬ننظر إىل عينها ونومئ برؤوسنا دون أن‬
‫نبني هلا أننا خائفون أو مرتبكون كي ال تقيض علينا‪ ،‬ومع خربتنا يف التعامل‬
‫الطويل معها نعلم جيد ًا بأن الغفلة أجزاء من الثانية ستكتب هنايتنا‪ .‬ومما‬
‫يزيد من قوتنا هو معرفتنا بأنفسنا جيد ًا وإدراك املخاطر التي حتيط بنا‪ ،‬وهذا‬
‫ما وجد فينا حذر ًا شديد ًا وحساسية مفرطة مما يقع حولنا‪ ،‬أما مساحتنا يف‬
‫احلرية فلم تكن تتجاوز قرصنا الذي يقع يف منتصف الشامل‪ ،‬وهذا ما جعلنا‬
‫نعيش أسلوبني يف احلياة يف أن واحد‪ ،‬أرستقراطيتنا من جهة وتعلقنا الباهت‬
‫بأسلوب الشامل القديم من جهة أخرى‪ ،‬إال أن ازدواجيتنا يف هذا التباين بني‬
‫احلداثة والرجعية جعلتنا نجيد التعامل مع اجلميع‪ ،‬فقرصنا كان يستضيف‬
‫أكابر الزوار ووجهاء املدن األخرى ويف نفس الوقت كان مكاننا هو مربع‬
‫عمليات الشامل الذي يصلها مجيع أحداثه‪ ،‬وظلت أحداث الشامل وإن‬
‫كانت رتيبة ومملة متنح شخصياتنا نوع ًا من احلكمة ومعرفة مصاحلنا‪ ،‬ومع‬
‫كل هذه املميزات مل نتصف باللؤم بالقدر الكايف الذي من املمكن أن جيعلنا‬
‫فاحيش الثراء واهليمنة‪ ،‬وكل ما كان نصب عني أيب هو أن يرى العامل هذا‬
‫الشامل بالشكل الذي يريده‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫كانت النظرة للشامل بكثبانه الرملية الزاحفة وهدوئه املوحش والطالسم‬
‫التي تشكلها نجومه غريبة الشكل تنتصف سامء الليل‪ ،‬وبيوته اإلسمنتية‬
‫ذات األلوان الباهتة‪ ،‬ووجوه أناسه العابسة طوال النهار والتي ال تنبئ بأن‬
‫خلف هذه الوجوه نوايا حسنة‪ ،‬فعىل قدر معرفتي هبذا التجانس بني البيئة‬
‫وأهلها إال أن هذا املكان ظل يثري بؤيس‪ ،‬وطاملا كنت عىل ثقة بأنني أستحق‬
‫املكان املناسب يل‪ ،‬مكاين األشبه بالعرش والذي طاملا كان أيب حيرضين نفسي ًا‬
‫له وهييئني ملستقبل ال يعرفه ولكنه متأكد من جدواه جتاهي فكان يطلق عيل‬
‫لقب ملكة الشامل‪ ،‬إال أن املكان مل يكن مالئ ًام هلذا اللقب الرنان‪ ،‬فالطموح‬
‫واألمل والشخصية كانت أكرب من املدينة وأهلها‪ ،‬فهذه املدينة ال تستطيع أن‬
‫تكون فيها إنسان ًا مكتمل األركان‪ ،‬وال بد أن تضع فيك النواقص لتتالءم‬
‫معها‪ ،‬فالنساء هنا هيرمن يف سن مبكرة عندما يصلن منتصف الثالثني‬
‫خطواهتن كخطوات حيوان البطريق‪ ،‬وعندما تبحث عن تفسري هلذه‬
‫املعضلة جتد أن جل أعامرهن يتحدثن عن املاورائيات وتقييم الناس من‬
‫منطلق رجعيتهن‪ ،‬وكأن عجزهن يف سن مبكر لعنة قادمة من السامء‪ ،‬أما‬
‫رجاهلن فلم يتبدلوا منذ مئات السنني حياهتم تدور حول املؤامرة وأعينهم‬
‫بارزة من فرط الفزع الواهي وكأهنا كاجلمر حتت الرماد يستطيع املرء منهم‬
‫إخفاء مقاصده‪ ،‬فإن متعنت يف حياهتم جيد ًا ستجدها تراكامت من األكاذيب‬
‫التي جييدون متريرها عىل بعضهم البعض‪ ،‬أما أنا وعائلتي فال نطيق أنفسنا‬
‫عندما نكون برفقتهم عىل الرغم أن برتوكوالتنا ً‬
‫اجلدية يف العائلة جتربنا عىل‬
‫التعامل معهم بال رشط أو قيد‪ ،‬ومع تقدم الوقت ازداد وضوح عالقتنا مع‬
‫املدينة التي اتضح فيه أننا نسلك طريق ًا جتديدي ًا قائ ًام عىل جعل الشامل أكثر‬
‫تطور ًا بينام أهاليها كانوا حمافظني مع أسلحتهم البدائية التي يوجهوهنا باجتاه‬
‫كل فكرة جديدة تظهر يف الساحة‪ ،‬ويبدو بأن هذا التضاد زاد من صنعي‬
‫لعزمي نحو حياة أكثر استقاللية من جمرد كوهنا عرض‪ ،‬وبحكم أن لنا‬

‫‪40‬‬
‫ال ألجود‬ ‫عالقة زمانية أبدية باخليل والفروسية فلقد ضم حميط قرصنا إسطب ً‬
‫اخليول‪ ،‬ومعرفتنا هبا تطورت لنعرف سالالهتا ومدى قدرها‪ ،‬كنت الوحيدة‬
‫من أفراد العائلة التي محلت هذا اللواء الفاخر وكنت أرى نفيس كام لو أنني‬
‫برفقة أجدادي عائدين من االنتصار نقود رسب اجلنود املتوجة مرور ًا بباب‬
‫املدينة إىل حيث اجلموع التي هتتف وتنادي بأسامئهم وألقاهبم التي عرفوا هبا‪،‬‬
‫ولكن ما ال يعرفه الكثري وظل يؤملني عندما أعيد التفكري فيه هو أن الفروسية‬
‫تم تعمد تنميطها وجعلها يف قالب تنافيس بعيد عن عالقتها بنا كبرشية منذ‬
‫أكثر من ‪ 6‬أالف سنة‪ ،‬فالفروسية ليس رياضة نامرسها بل أسلوب حياة‪،‬‬
‫فعندما تعرفها جيد ًا ستتعلم منها الكثري من األخالقيات النبيلة وسيدور‬
‫بينك وبينها حوارات كتلك التي تقرأها بني الفالسفة واحلكامء‪ ،‬وكانت هذه‬
‫ثمرة نضجي األوىل التي وعيت هلا عندما بدأت أنبت كأنثى مجيلة‪.‬‬
‫من هذا املنطلق بدأت أحب نفيس كثري ًا‪ ،‬ولكن حب يف سبيل الكامل‪.‬‬
‫فهيكيل ظل يستجيب إلرادة خيايل وطموحي ويصيغ قوامي األنثوي‪ ،‬فطويل‬
‫القويم واملمشوق زاد من حدة نظري لألشياء بشكل أوضح إىل الدرجة التي‬
‫كنت أصيب فيها بفهم الناس قبل أن تنطق ألسنتهم وهذا ما أعطاين السبق‬
‫لتخطي أصحاب النوايا السيئة جتاهي‪ .‬برشيت ناصعة البياض ذات املسامات‬
‫املتعرقة والتي تشعر اآلخر باالطمئنان عند مصافحتي له وعيناي أشبه‬
‫باجلوهرة املخبئة ولكنها أقرب إىل العسلية‪ ،‬ومفاتني األنثوية التي برزت‬
‫منذ الثالثة عرش من عمري كانت تقوم بدورها كاملغناطيس جللب األنظار‬
‫إيل‪ ،‬صدري البارز كان أشبه بالدرع الواقية من الرصاص‪ ،‬أما خرصي فال‬
‫خيتلف عام كان ينحته مايكل أنجلوا يف عصور أوروبا املظلمة‪ ،‬وكل هذه‬
‫املالمح وإن كنت أمتيز هبا إال أنني ورثتها من جديت التي كانت مرضب مثل‬
‫زماهنا بجامهلا املثري‪ ،‬وهذا قد يفرس اهتامم والدي يب بشكل كبري فهو يرى ّ‬
‫يف‬
‫والدته التي أخذهتا املنية منذ عرشين عام‪ ،‬ومع كل ما أمتيز به دون أقراين فأنا‬

‫‪41‬‬
‫أعاين من مرض الربو املزمن والذي جيثم كشبح عىل طموحايت ومواقفي‪،‬‬
‫ففي أي حلظة كانت عيني حتمر وينضب اهلواء عندما يتذكرين هذا العارض‪،‬‬
‫فال ينفع بعدها ال األدوية وال بخاخات اهلواء‪ ،‬وبرغم أن األطباء حذروين‬
‫من مواجهة الريح أو األماكن التي يكثر فيها العوالق الرتابية كنت ال آبه بام‬
‫يقولون‪ ،‬فهم ال يشعروا مثلام أشعر عندما أمتطي صهوة جوادي ألسابق‬
‫كالريح‪ ،‬أو حني أمارس حيايت االجتامعية بدون مصدات توقفني‪.‬‬
‫يف يوم من تلك األيام املظلمة انبعثت من الشامل رائحة كرهية‪ُ .‬قلب‬
‫الشامل رأس ًا عىل عقب وكأن الناس موتى مبعوثني من األرض‪ ،‬ركبوا‬
‫سياراهتم املقفصة واألخرى ذات الصندوق وحارصوا قرصنا‪ .‬كان ذلك‬
‫الصباح غريب‪ ،‬فعىل الرغم بأن األحقاد نراها يف نفوس الناس إال أننا مل‬
‫نعتقد بأهنا ستصل إىل هذه الدرجة من الغيلة‪ .‬خرج أيب ليفهم موقف الناس‬
‫كعادته التي ظل عليها‪ ،‬بيد أن الرصاخ تصاعد عالي ًا وتشابك مع رصير‬
‫الريح ليحدث حالة من الذعر مل نعرفها يف حياتنا‪ ،‬وتقدم اجلموع رجل‬
‫أربعيني يتكلم بعجرفة كنا نعرفه قدي ًام بأنه منحرف أخالقي ًا إال أن هيئته‬
‫اجلديدة توحي بأنه التزم ديني ًا‪ ،‬فقد كان مسب ً‬
‫ال غرتته و ذو حلية كثيفة ذات‬
‫منظر موحش‪ ،‬وبكل جراءة ختطى حاجز السور ووضع وجهه يف وجه أيب‬
‫وقال بلكنة تدل عىل قلة االحرتام‪:‬‬
‫‪ -‬أن تتسيدنا فهذا قدرك أما أن تنرش ما ليس يف مدينتا فهذا لن حيدث لو‬
‫عىل جثتنا‪،‬‬
‫ووضع سبابته عىل صدر أيب وظل هيزه‪ ،‬وأكمل كالمه‪:‬‬
‫‪ -‬أن نرى ابنتك تتشبه بالرجال ومتارس رياضة الفروسية فهذا ما ال نقبله‬
‫ولكن هذا اليشء كان يامرس داخل حميط قرصكم وهذا يدخل داخل نطاق‬
‫خصوصيتكم التي رضيتم هبا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫رد عليه أيب‪:‬‬
‫‪ -‬إذا ما الذي أتى بك وخلفك كل هؤالء الفتية وأنت تعلم بأهنا‬
‫خصوصية؟‬
‫عندها ضحك امللتحي باستهزاء وقال‪:‬‬
‫هل تعتقد بأنني قدمت من اجلنوب ألخربك أن ابنتك ركبت اخليل؟ أنا‬
‫لست عىل هذه الدرجة من السخف‪ .‬أتى بنا ما فعله أحد ضيوفك الذي‬
‫استضفتهم يف فندقك عىل مدخل الشامل‪ ،‬هذا الضيف خطف أحد فتيات‬
‫املدينة ومارس معها الرذيلة يف إحدى اسرتاحاتك ذات السمعة السيئة‪ ،‬وكام‬
‫ترى ‪ -‬وأخذ يشري إىل ما خلفه من مجوع ‪ -‬فأنا وهؤالء األبطال قبل أن‬
‫نأيت إليك أحرقنا فندقك واسرتاحتك وأتينا إليك لتخرج لنا هذا الضيف‬
‫لنترصف معه بام يمليه علينا نزعتنا القبيلة والدينية‪ .‬وثق متام ًا بأننا لن نسمح‬
‫لك أن تنفذ خططك التي تريدها يف شاملنا‪.‬‬
‫تقلب وجه والدي ما بني ذهول واستنكار‪ ،‬وكأن السامء أرسلت صاعقة‬
‫لتثبت قدمه من هذا اخلرب املفجع ولكنه مل يظهر استغرابه واستبدله برد قايس‬
‫موضح ًا فيه كل الكلامت وما خلفها من معاين‪ ،‬وقال له غري آبه بمن خلفه‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعني جيد ًا‪ .‬هذا الضيف الذي تتحدث عنه غادر املدينة منذ ليلة‬
‫البارحة وال علم يل بام فعل إن كان صحيح ًا‪ ،‬وإياك أن تعود إىل هنا أنت‬
‫ومن معك مرة أخرى‪.‬‬
‫ولكن اجلموع الذي ظلوا يتفوهون بكلامت غري معروفة مستنكرين هذا‬
‫األمر زادوا من قوة موقف امللتحي‪ ،‬الذي عاد قائ ً‬
‫ال‪:‬‬
‫‪ -‬ال خياجلني شك يف عالقتك وعلمك بام حدث ولكنني سأنسحب‬
‫ألراقب القرص وإن ثبت أنكم ختفونه فسأحلق هذا القرص بام أحرقته من‬

‫‪43‬‬
‫قبل‪ ،‬واستدار ثم غادر املكان بضوضاء‪.‬‬
‫وألن أيب سليل الثابتني‪ ،‬أرسل حارس القرص ليتأكد من خرب احلريق‬
‫ومل متيض ساعة حتى عاد ليؤكد اخلرب‪ ،‬فاملطافئ متكنت من إمخاد احلريق يف‬
‫الفندق واالسرتاحة ومل حتدث أرضار مادية تذكر‪ ،‬ولكن خرب احلريق مل يكن‬
‫ليشغل أيب كثري ًا‪ ،‬فعىل الرغم من أن أيب ظل يدافع ويناضل من أجل الشامل‬
‫إال أنه مل يتوقع حادثة كهذه وأن يأيت ضيف مغرور ينتمي ألحد أرستقراطي‬
‫املدينة البعيدة ويقوم بفعلته الرذيلة هذه‪ ،‬وتذكر أيب حالة الضيف عندما قرر‬
‫بشكل مفاجئ مغادرة الشامل متعذر ًا بحالة طارئة‪ .‬أدرك أيب ما سترتتب‬
‫عليه هذه الواقعة وأهنا عبارة عن متهيد ليشء ما أكثر سوء ًا‪ ،‬فحالة اجلموع‬
‫غري الواعية التي يقودها امللتحي والفوىض التي قاموا هبا يف الشامل ستجعل‬
‫املدينة تعاين من صعوبات طويلة‪ .‬عندها قرر أيب بشكل رسي أن نغادر أنا‬
‫وأخويت الشامل إىل املدينة البعيدة أكرب مدن الصحراء عىل اإلطالق‪ .‬ظل أيب‬
‫يف الشامل وحيد ًا يقاوم هذا املد املحافظ و ينهي املشكلة بغية أن تعود املياه‬
‫إىل جمارهيا‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫‪5‬‬

‫قليل من التفاهات تستطيع أن تزعج أناس مثيل‪ ،‬وجتعلهم قلقني يف أي‬


‫مكان يعيشونه‪ .‬يف السجن كان ال بد هلا من جديد‪ ،‬أبحث عن قصص جديدة‬
‫يف السجن‪ .‬وكنت أالحظ ذلك الرجل الذي جتاوز السبعني من عمره‪ .‬بدا‬
‫بصحة جيده ومن الواضح اهتاممه بنفسه‪ ،‬فمع ساعات الفجر األوىل ويف‬
‫كل يوم يبدأ يومه بالتامرين فوق رسيره‪ ،‬ومن ثم يرفع الرسير بقدميه االثنتني‬
‫إىل أن يصل العدد عرشين‪ ،‬بعدها يعود ليامرس رياضة الضغط‪ ،‬ومل يرتك‬
‫هذه العادة منذ مخسة عرش سنة‪ ،‬كان مصدر إهلام املساجني مجيعهم‪ .‬سألت‬
‫أحد السجناء عن قضيته وأصبت بالذهول‪ ،‬فتهمته هي القتل وهذه مل تكن‬
‫الصدمة‪ ،‬إنام قصة هذا الرجل؛ ففي أحد األيام نشب خالف بينه وبني أحد‬
‫أقاربه ولكنه مل يستطع السيطرة عىل غضبه فرفع السالح الناري وصوبه‬
‫عىل ساق اجلاين يف حماولة منه ألن يكرس قدمه غري أن األمور ازدادت سوء ًا‬
‫ومات بعد عدة أيام يف املستشفى‪ ،‬أما هو فقد الذ بالفرار‪ .‬وكانت تربطه‬
‫بأخوته الثامنية عالقة متينه قوية‪ ،‬ف سلم أخوته أنفسهم إىل الرشطة وادعى‬
‫كل شخص منهم بأنه القاتل احلقيقي كنوع من التضحية ألخيهم الكبري‬
‫الذي حتمل عبء حياهتم بعد أبيهم‪ .‬أخذهتم الرشطة مجيع ًا وحبستهم ملدة‬
‫طويلة لكي يعرتف أحدهم بالفعلة‪ ،‬ولكن الرشطة فوجئت عندما قامت‬
‫ببعض احليل يف التحقيقات بأن كل فرد منهم يقول ما ال عالقة به بالضحية‬
‫وموقع اجلريمة واألسباب وظل التناقض سيد املوقف‪ ،‬وكل حمقق يفشل يف‬
‫التوصل إىل حل القضية مع متسك األخوة الثامنية بموقفهم بحادثة القتل إىل‬

‫‪45‬‬
‫أن حتول هذا األمر إىل حدث يشغل احلكومة الرئيسية التي قررت االستعانة‬
‫بمحقق بلجيكي يعمل يف مركز اإلحتاد األورويب‪ ،‬وهذا املحقق سبق له أن‬
‫كشف مؤامرات حتاك من روسيا عىل بريطانيا يف القضية الشهرية بالعميل‬
‫املزدوج والذي متت تصفيته من الروس‪ .‬جلبته احلكومة وقدمت له مبلغ ًا‬
‫مالي ًا كبري ًا ليحل هذه القضية التي دامت شهور ًا‪ ،‬وبعد التحقيقات ظهر‬
‫البلجيكي باحلقيقة الصادمة بأهنم ليسوا مذنبني وأن القاتل احلقيقي مل يقبض‬
‫عليه إىل اآلن‪ ،‬وعند املراجعة يف سجل األخوة العائيل اتضح أن هلم أخ أكرب‬
‫غادر البالد بعد ثالثة أيام من القضية‪ .‬تم مجع األخوة يف غرفة التحقيقات‪،‬‬
‫وكانوا ألول مرة يرون بعضهم منذ أن استأنفت التحقيقات يف القضية‬
‫وحينام نطق املفوض اسم شقيقهم األكرب بكوا مجيعهم وقالوا يف نفس واحد‬
‫ال عالقة ألخينا هبذه القضية‪ ،‬وعىل الرغم من أن املحقق اكتشف خيط ًا متين ًا‬
‫وتم تأكيد عدم عالقة األخوة بالقضية إال أهنم مع ذلك تشبثوا برأهيم‪ ،‬أما‬
‫أخيهم فلم يكن يعلم بام تعرض له أخوته‪ ،‬وأي حماولة تواصل مع أهله تعني‬
‫معرفة مكانة والقبض عليه‪ ،‬ولكن بعد سبعة أشهر أرسل أحد العامل الذي‬
‫تعرف عىل أهلهم يف البلد املجاور ليجلب له األخبار‪ ،‬فعاد العامل وقال له‪:‬‬
‫أخوتك يف السجن منذ هروبك‪ ،‬فقرر العودة للمدينة وتقديم نفسه للعدالة‪،‬‬
‫أمىض يف السجن مخسة عرش سنة ينتظر فيها أن يكرب أبناء القتيل ليقرروا إما‬
‫أن يعفى عنه أو أن يقام عليه حدّ القتل بالسيف‪.‬‬
‫بالرغم من أنني أخاف أصحاب هذه القضايا إال أنني الحظت بأن هذا‬
‫الكهل ظريف ومتواضع وحمرتم للغاية وال يتفوه إال باحلكمة‪ ،‬ففي حلظة‬
‫كنت أستمع إليه مع جمموعة من املساجني يتحدثون عن ذكريات املايض‪،‬‬
‫قال بحنيه كبرية‪:‬‬
‫‪ -‬لألسف أنتم مل ترونا جيد ًا بالشكل الذي جيب أن تعرفونه‪ ،‬وال‬
‫تستطيعون أن حتلوا مكاننا بسببه‪ ،‬نستطيع أن نسرتجع الذكريات‪ ،‬كام لو أننا‬

‫‪46‬‬
‫عامل الفراعنة عندما يرفعون الصخرة ليضعوها يف أعىل هرم خوفو‪.‬‬
‫أعجبتني تلك اإلجابة احلكيمة‪ ،‬ولكن أسئلة طرأت عىل خميلتي‪ ،‬فام‬
‫جدوى أن تبقى كل تلك السنوات رهن قرار أبناء القتيل بأن خيتاروا لك‬
‫املوت أو احلياة؟! ومن أين أتى بكل هذه احلكمة والشخصية الرجولية‬
‫الواعية وهو قاتل؟!‬
‫كلام شاهدته يف السجن كانت تلك األسئلة تدور يف بايل طوال الوقت‪.‬‬
‫أسئلة كهذه قد حترج السجني‪ ،‬إال أنني قررت أن أفعلها‪ ،‬ويف عشاء يوم‬
‫اجلمعة استغليت جلوسه عىل الطاولة وحيد ًا‪ ،‬وضعت صحني عىل نفس‬
‫طاولته‪ ،‬وقلت له بشكل ساخر ألبدى حواري معه بأجواء لطيفة‪:‬‬
‫‪ -‬أه ً‬
‫ال أهيا الشايب‪،‬‬
‫قال يل بسمو نفسه العالية وأخالقه‪:‬‬
‫‪ -‬أهيا اجلديد أنا ال زلت شاب ًا ولكن االحتفاظ بشبابك يف هذا املكان‬
‫مستحيل‪ ،‬فعمري العجوز بدأ منذ أن دخلت هنا‪.‬‬
‫وكانت هذه املزحة بداية حديث مجيل طال بيننا‪ ،‬عندها أجاب عىل‬
‫أسئلتي وقال يل هبدوء‪:‬‬
‫أهيا اجلديد أنا أقاتل من أجل بقائي ليس جلدوى احلياة‪ ،‬إنام ألعوض‬
‫الناس الذين وثقوا يب وخذلتهم‪ ،‬فأنا أنتظر الفرصة ألقول هلم لست كام‬
‫ألتغي من قاتل إىل إنسان مات بني عائلته وأحبته كام يموت‬
‫ّ‬ ‫تعتقدون‬
‫العظامء‪.‬‬
‫كانت اإلجابة أشبه بالفرحة التي مألت صدري فلقد كان رده عىل‬
‫سؤالني‪ ،‬عندها عرفت بأن ليست كل فعل إجرامي يطلق عىل صاحبه صفة‬
‫جمرم وأن ما يعرفه القضاء ال عالقة له بتعريفات اإلنسانية‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫‪6‬‬

‫أثرت احلادثة فينا تأثري ًا قاسي ًا وزاد االمر سوء ما ألت إليه األمور يف الشامل‬
‫فالثائرين وضعوا أيب كبش فداء‪ ،‬وطالبوه بتسليم الضيف اهلارب وتقديمه‬
‫للعدالة‪ ،‬ويف املقابل استنفذ أيب كل خياراته السياسية لتهدئة هذه الفوىض‬
‫ليجتمع الشامل عىل طاولة واعية حلل هذه املشكلة‪ .‬ظهر عىل املشهد أناس‬
‫الستغالل األزمة وتنفيذ خططهم لالستحواذ عىل سيادة الشامل واستبعاد‬
‫أيب وعائلتنا منها‪ ،‬وهذه أمجل فرصة سنحت هلم منذ عرشات السنني لقلب‬
‫املعايري‪ ،‬وظل هؤالء األشخاص ينفثون يف اخلطاب املحافظ بغية أن تشهد‬
‫الساحة تقلبات يف مصلحتهم‪ .‬وبينام الشامل يشتعل باخلالفات‪ ،‬وبدأ الناس‬
‫يستعيدون مشاكل املايض قرر أيب الصمت إىل أن هيدأ غبار املعركة وتتضح‬
‫الرؤية ومن ثم يعيد األمور بطريقته اخلاصة لنصاهبا احلقيقي‪.‬‬
‫تتصاعد من داخل أعامقي ضحكة فرح مل تعكسها مالمح وجهي عىل‬
‫مغادريت هذا الشامل‪ .‬لطاملا كانت هذه رغبتي طوال سنيني املاضية إىل أن‬
‫أتت ومل تتأخر كثري ًا‪ ،‬ولكن ليس هبذه الطريقة التي حتمل كثري من األمل‪،‬‬
‫فالذنب يدمهنا كلام تذكرنا ذلك الشامل وكيف تركنا أيب وحيد ًا يف ظل تلك‬
‫األوضاع املضطربة‪ ،‬فإرصاره عىل مغادرتنا جعلنا ننفذ أوامره دون أن نقاوم‬
‫رغبته احلكيمة والتي قدم فيها سالمة عائلته ومستقبلنا عىل اعتبارات أخرى‬
‫باألخص تلك املشكالت الواهية والتي تتعلق بأخطاء أناس ال عالقة لنا هبم‬
‫سوى أننا قمنا بواجب الضيافة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫مل يكن الوضع مرحي ًا عند انتقالنا إىل املدينة البعيدة إال أننا رسعان ما‬
‫انسجمنا معها برسعة‪ ،‬فعالقاتنا السابقة بوجهاء املدن األخرى سهل من‬
‫مهمة انتقالنا وتعايشنا مع األوضاع اجلديدة‪ .‬املدينة البعيدة كبرية للغاية‬
‫وتتوسع سنوي ًا بشكل جنوين‪ ،‬كام أهنا تضم الكثري من العوائل الثرية وذات‬
‫السمعة والصيت الكبري والتي حافظت عىل وجودها بنفسها وبالتعاون مع‬
‫بعضها البعض يف نيل املناصب العالية واملنافسة يف املشاريع التجارية وهذا‬
‫ما جعلها طبقة متامسكة للغاية‪ .‬صحيح بأن أغلب تلك العوائل ذات خلفية‬
‫تارخيية ال تقارن بنا‪ ،‬ولكن هذا ال يعني الكثري يف ظل الثراء املادي الذي‬
‫يضع االمتياز يف جانب صاحبه‪.‬‬
‫بدا أن سقف حريتي زاد كثري ًا ولكني مل أرض أن يرى أحد أسامء أجدادي‬
‫يف موقع شبهة أو نقد برغم أن املجتمع هنا بدأ أكثر انفتاح ًا وتقب ً‬
‫ال لالختالف‬
‫مما كنا نراه يف الشامل‪ ،‬هنا تفجرت أنوثتي بشكل طاغي ويف املقابل زادت‬
‫نرجسيتي وتطورت‪ ،‬كل يوم ألوي فيها عنق رجل كان بمثابة انتصار عىل‬
‫كل االنتقادات الرجعية التي كنت أواجهها من حمافظي الشامل‪.‬‬
‫تعودت قدمي صغرية احلجم عىل امليش نحو االحتفاالت واملناسبات‬
‫الفاخرة‪ ،‬وتغريت حيايت بمسرية ساق و قدم‪ ،‬فمن حذاء الفروسية القاميش‬
‫الذي يصل إىل منتصف ساقي إىل أحذية الكعب العايل التي أثري بقرع‬
‫خطواهتا قلوب الرجال‪ .‬سمعت من إحداهن يوم ًا بأن أحذية الكعب تم‬
‫اخرتاعها يف األصل من قبل الفرس القدماء ليزاولوا الفروسية هبا‪ ،‬ولكن‬
‫يبدو أن النساء أعجبتهن فكرة أن يرضب هبا بطون اخليل لتنطلق‪ ،‬فقررت‬
‫املرأة األوىل التي خطرت هلا هذه الفكرة أن تستخدمها لقرع خطواهتا قلوب‬
‫الرجال‪ ،‬ومن هنا تطورت فكرة املرأة لإليقاع بالرجال يف فخها‪ ،‬واألمر كان‬
‫مستحسن ًا يل بل بدا مسلي ًا للغاية‪ ،‬فهذه املحافل التي يسدل هبا ستار اليوم‬

‫‪49‬‬
‫كانت أشبه بخشبة مرسح يعرض عليها كل ما وصلت إليه املوضة واألزياء‬
‫من اجلنسني‪ ،‬وهنا بدت جتري احلياة املدنية بطابعها العرصي جمرى الدم‬
‫داخل عروقي‪ ،‬شبكة عالقايت تزداد بشكل مثري‪ ،‬وأصبحت ال أميز النساء‬
‫و الرجال الذين ال أتأخر يف تدوين أرقام هواتفهم لدي كمبدأ تعارف‪،‬‬
‫وإن مل تكن هنالك عالقة مبارشة معهم أو مواعيد غرامية إال أن مشاهدة‬
‫صورهم وحاالهتم اليومية وهم يستعرضون مجاهلم وحالتهم االجتامعية‬
‫الفارهة كانت تشعرين بإثارة لغرائزي التي مل أكن سأعرفها يوم ًا لو مل حتدث‬
‫مشكلة الشامل‪.‬‬
‫فام كنت أعتقده يف نفيس ومل يكن صحيح ًا بأين لست من النساء اللوايت‬
‫يرتددن عىل املحافل وحياولن كسب قلوب مفعمة بالتعاطف‪ ،‬فأنا لست‬
‫يف حاجة إىل احلنان والعاطفة بعد أيب‪ ،‬أعظم رجال العامل عىل اإلطالق‪.‬‬
‫ويف أحدى تلك املحافل اخلاصة للرتويج بمنتج غذائي يدعم البرش ذوي‬
‫امليول النباتية جتاه وجباهتم اليومية والتي أصبحت موضة غذائية راج‬
‫بسببها مصطلح النباتني‪ ،‬بدأت رشكات اإلنتاج تتنافس باستهداف هذه‬
‫الفئة‪ ،‬وقامت إحدى تلك الرشكات بإرسال الدعوات للحضور وكنت‬
‫مدعوة لتدشني الرشكة ملنتجها الذي يواكب تزايد فئة النباتني بني املجتمع‪.‬‬
‫شمل املحفل عرض ًا دعائي ًا برسائل تستهدف العقل الباطن للبرش برضورة‬
‫استبدال ما يأكلونه‪ ،‬إال أنه مل يكن ذو تأثري يذكر فاملحفل كان يضم كبار‬
‫أثرياء املدينة البعيدة وطبقتها األرستقراطية‪ ،‬وهذه العقول تعرف الغاية‬
‫من هذه الدعايات ذات البعد املادي وما الفئة التي تستهدفها‪ ،‬فاحلضور مل‬
‫يكرتث بالدعاية وتغري طابع املحفل إىل طابع تعاريف يقوم فيه األرستقراطيون‬
‫بالتعرف عىل بعضهم بشكل أكرب‪ .‬وقعت عيني عىل الرجل األكثر إثارة‬
‫ووسامة بني احلضور والذي أتاين بمحض إرادته بينام كنت أتصنع عدم‬
‫اكرتاثي به‪ ،‬قال يل بصوته الرقيق واهلادئ‪:‬‬

‫‪50‬‬
‫‪ -‬أه ً‬
‫ال‪،‬‬
‫وكأهنا كلمة جديدة مل يسبق يل أن سمعتها من قبل‪ ،‬فالكلمة وصوته‬
‫وبرقي املعتاد أجبته باملثل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أعطاها طابع ًا سحري ًا يثري األذن التي تقع عليها‪،‬‬
‫وتلك املرة األوىل التي مل يكن يعنيني فيها احلضور كثري ًا‪ ،‬وبدأت احلمرة‬
‫تتخذ شكلها بربوز عىل وجهي‪ .‬عرف عن نفسه وكان قريب ًا لصاحب‬
‫الرشكة‪ ،‬ومن هنا تصاعدت عالقتي معه بشكل كبري وختطت ما مل أعتقد يوم ًا‬
‫بأنني سأجترأ وأختطاه‪ .‬ففي اليوم التايل اتصل يب وطلب اصطحايب بجولة يف‬
‫سيارته الرياضية‪ .‬ورغم مشاغيل إال أن إحلاحه كان لذيذ ًا ويصعب رفضه‪،‬‬
‫عندها أخذين لرييني تلك األماكن التي ال يزورها إال طبقته والتي رصف‬
‫يف حتسينها املاليني‪ ،‬ومن ثم ذهب إىل اجلبل العايل موزع ًا ضحكاته يف كل‬
‫مكان‪ ،‬صحيح أن حديثه سطحي للغاية ولكن وسامته كانت جتعلني أختطى‬
‫هذه السلبية‪ .‬ركن سيارته التي جعل مقدمتها باجتاه مطل املدينة البعيدة‪،‬‬
‫ويف حركة مفاجئة مل أتوقع حدوثها ألصق شفتيه بشفتي وطبع عليها قبله‬
‫مجيلة وبدل من أن أرفض حماولته مل أختذ أي ردة فعل‪ .‬اعتذر يل ولكن هذا‬
‫االعتذار أشار إىل أن ما بدأه يف طريقة إىل االنتهاء‪ ،‬لذا قبضت بكلتا يدي‬
‫عىل وجنتيه وقبلت شفتيه الناعمتني كرد مني عىل حماولته األوىل عىل شكل‬
‫قبالت تتصاعد حرارهتا التي كانت تأشرية مني لدخوله الرسمي إىل جسدي‬
‫فعانقني وقال يل بصوته الرجويل اهلادئ «كم أنت مجيلة»‪ ،‬ضعت ومل يعد‬
‫حيكم عقيل ال منطق وال مصدات أخرى‪ ،‬وضع يده عىل كتفي وجردين ببطء‬
‫من مالبيس احلريرية مع نسامت اهلواء الطلق‪ ،‬بينام رضبات قلبي تالمس‬
‫طبقة جلدي الداخلية‪ ،‬مشكلة ثورة عاطفية يف مجيع أنحاء جسمي‪ ،‬عندها‬
‫ال لكتفي‬ ‫أخذ يوزع القبالت عىل كل جزء من جسدي بدء ًا من شفتي نزو ً‬
‫ثم صدري العاري‪ ،‬وبعد دقائق قليلة من ذلك العراك بني شوقي وشوقه‬
‫بدون سابق إنذار هبطت عيل غاممة سوداء وجثت عىل صدري‪ ،‬صحوت‬

‫‪51‬‬
‫من املعركة املحمومة وقبل أن تصل إىل مراحل يصعب الرجوع بعدها دفعته‬
‫وقلت له «كفى»‪ ،‬أعادت هذه الغاممة رشيط ذكريايت‪ ،‬تذكرت قيمتي التي‬
‫مل أستمدها من املال وال املظاهر إنام من عراقتي التارخيية وجمد أجدادي‬
‫التليد‪ ،‬نظرت لنفيس وأحسست بشعور قبيح ميلء باخلزي‪ ،‬سألت نفيس‬
‫«من أنت؟! وما هذا التي تفعلينه؟! وهل يستحق هذا الرجل امتياز جسدك‬
‫وعبق روحك» ويا له من أمل يصيب املرء عندما يتقاطع عقله مع قلبه يف تلك‬
‫اللحظات اخلاصة‪ .‬عندها أعدت مالبيس إىل وضعها السابق وطلبت منه أن‬
‫يعيدين إىل بيتي‪ ،‬وطوال الطريق مل أقل شيئ ًا بينام هو ظل يثرثر باعتذارات‬
‫واهية‪ ،‬كان البكاء ينتظر الفرصة املناسبة ليعرب بد ً‬
‫ال عني‪.‬‬
‫وصلت البيت ألهني يومي الذي ختمته بشعور يسء ال يعكس ما بدأت‬
‫يومي به‪ ،‬وعىل الرغم بأن هذه احلادثة كشفت يل طريقة نظر رجال املدينة‬
‫البعيدة إىل النساء باعتبارهن سلعة إلفراغ شهواهتم‪ ،‬إال أن احلظ واحلكمة‬
‫أسعفتني يف إنقاذ نفيس يف الوقت املناسب‪ ،‬عندها تساءلت عن توافق الشامل‬
‫ذو الطابع القبيل مع املدينة البعيدة ذات الطابع املدين يف نظرهتم للنساء‪ ،‬مل‬
‫أكن أتعلم من هذا الدرس‪ ،‬فاالمتيازات التي قدمتها يل املدينة البعيدة ونمو‬
‫عالقايت االجتامعية جعلني بال ختطيط أجتاوز هذه العالقة‪ ،‬فأنا غري قادرة عىل‬
‫احلب رغم أن هذا الرجل مل حيدث منه ما يستجوب أن أرفضه هبذا الشكل‬
‫لو مل أسمح له بذلك‪ ،‬إال أنني قرأت يف حلظة ما يف عينه لؤم واستغالل كتلك‬
‫النظرة التي يستخدمها التجار اجلشعون عندما ينتظرون من املشرتي دفع‬
‫املال من أجل بضاعتهم‪ ،‬وبرغم حماوالته احلثيثة إلعادة العالقة إال أنني‬
‫أقفلت يف وجهه اجلميل كل األبواب‪ ،‬وماهي إال أيام حتى سمعت أنه بدأ‬
‫عالقة جديدة مع فتاة أخرى‪ ،‬عندها أعجبتني نظريت لألشياء قبل وقوعها‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫‪7‬‬

‫حالة صمت مرعبة بينام السجناء ينتظرون ما سيقوله السجان هلم‪ ،‬فتح‬
‫ال ضجة ليستمع إليه مجيع من يف السجن‪،‬‬ ‫السجان شباك الزنزانة بقوة مفتع ً‬
‫وأخربهم أن األسمر الكبري وافته املنية بعد أن فحصة طبيب السجن وأخرب‬
‫إدارة السجن عدم جدوى قدوم اإلسعاف إىل هنا والذهاب به إىل مستشفى‬
‫املدينة‪ ،‬مل يكن هذا األسمر الذي جتاوز سن الستني من عمره يتحدث‬
‫إطالق ًا‪ ،‬كام أنه كان متين ًا‪ ،‬مرتهل اجلسد‪ ،‬عليل القدمني وكان مقعد ًا عىل‬
‫الكريس املتحرك‪ ،‬ومع ساعات الصباح األوىل كان يأمر أحد املساجني أن‬
‫يدفع كرسيه املتحرك إىل مكانه املخصص الذي عرف أنه له منذ زمن طويل‬
‫مقابل باب الزنزانة ليرتك وحيد ًا‪ ،‬كان يضع يده عىل خده‪ ،‬وعيناه طوال‬
‫اليوم تنظران يف فتحة الباب وكأنه ينتظر اللحظة التي ستأيت بنبأ اإلفراج عنه‪.‬‬
‫حكم ست سنوات‪ ،‬ومل يذهب منها إال سنتني فقط‪ .‬كنت أستغرب‪،‬‬
‫ما الذي يراه يف نافذة باب الزنزانة هذه ويستوجب نظره الطويل إليها؟!‪،‬‬
‫كان هذا تساؤاليت الطفويل كلام شاهدته بتلك اللقطة الفلكلورية‪ .‬يقول‬
‫يل أحد السجناء بأن األسمر الكبري عرف عنه قوة البنية فلقد كان حيمل‬
‫السيارة الصغرية من مقدمتها بكلتا يديه كام أنه كان زير نساء‪ ،‬ومل يكن‬
‫يرىض بالوظائف التي تعرض عليه بشكل دائم‪ ،‬فلقد كان يعترب الوظائف‬
‫نظام ًا مستحدث ًا من العبودية القديمة بمسمى جديد‪ ،‬فاملدير هو نفسه ذلك‬
‫الرجل الذي يشرتي العبد من سوق النخاسة‪ ،‬ويأمر باسرتاحته وإجازته‬
‫ومتى يأكل ومن ثم يرميه يف الشارع عندما يكون عديم الفائدة‪ ،‬فلقد عرف‬

‫‪53‬‬
‫بدخوله بشكل مستمر إىل السجن‪ ،‬ما بني قضايا متنوعة ال حكر هلا فلقد‬
‫دخل يف ثالثة عرش قضية ما بني رضب وهتديد وسطو واختالس وتزوير‪،‬‬
‫وبرغم كربه يف السن فإن نزعته اإلجرامية مل تكن تتزعزع من مكانتها فيه‪،‬‬
‫لقد كانت وسيلة الوحيدة للتعبري عن رأيه يف املجتمع‪ ،‬واجلميع هنا حيرتم‬
‫مسريته اإلجرامية الباهرة‪ ،‬كام أن كثري من منتجي األفالم حتدث معه ليكتب‬
‫قصته التي ستتحول إىل فيلم يعرض يف دور السينام‪ ،‬إال أن أتت القضية‬
‫األخرية وبرغم أهنا خفائف كام حيلو للمساجني تسمية القضايا البسيطة إال‬
‫أنه بعد دخوله بأيام أتاه خرب وفاة زوجته‪ ،‬وهذا ما شكل صدمة تسببت يف‬
‫اهنيار قواه اجلسدية والعقلية‪ ،‬كام لو أنه جبل جليدي اهنار من االحتباس‬
‫احلراري يف فرتة وجيزة‪ ،‬ورغم أنه قليل احلديث إال أنه كان يبتسم يل بني‬
‫احلني واآلخر‪ ،‬وذات يوم ذهبت إليه ألسأله عن سبب بشاشته التي يرسلها‬
‫يل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪ -‬أنت ابن زعيم القرية عىل حدود ضاحية املدينة‪ .‬أعرف أبيك جيد ًا‪،‬‬
‫لقد كان يلفظ من أنفاسه تلك الروائح العنرصية عندما يراين‪ ،‬كنت أمتنى‬
‫ال عنه‪ ،‬ومن‬‫أن يرميه تعصبه يف السجن هنا أللتقيه ولكني وجدتك هنا بد ً‬
‫خالل تركيزي يف حتركاتك وحديثك مع باقي املساجني بدا يل أنك شخص‬
‫ختتلف عن أبيك‪ ،‬فلقد عكس املثل بأن النار ختلف الرماد‪ ،‬وأنت عندي‬
‫شعلة حترتق من أجل من حوهلا‪.‬‬
‫كنت سأغضب بسبب ما قاله عن أيب‪ ،‬إال أنني تذكرت بأن هذا السجن‬
‫بال سقف للكالم‪ ،‬كام أنه عكس جزء مما ختلف البيئة الطبقة التي ظلت‬
‫تعيشها جمتمعات املدينة املحرمة‪.‬‬
‫‪ -‬اسمعني أهيا اجلديد‪ ،‬أنا خبري يف القضايا‪ ،‬وليس هناك مسوغ قانوين‬
‫حلكمك فرتة طويلة‪ ،‬اسمعها مني سينادون باسمك عام قريب ويفرجوا عنك‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫كانت تلك آخر الكلامت التي قاهلا يل قبل وفاته بيوم واحد‪ ،‬والتي أثرت‬
‫كثري ًا يف منحنى صمودي يف هذا السجن‪ .‬لقد مات أحد جمرمي هذا الزمان‬
‫الذي ظل يعرب عن غضبه بانتهاك ما يمكن انتهاكه‪ ،‬أنا متأكد أن كل تلك‬
‫الغزارة يف أفعاله اإلجرامية ما هي إال حالة من هياج املشاعر والغضب عىل‬
‫هذه املدينة‪ ،‬وقرر أن أفضل طريقة للبقاء يف لوحة رشف املدينة أن يكون‬
‫جمرم ًا ال يشق له غبار‪ ،‬أعلم بأهنا سذاجة فكرية ولكنه أقرب حتليل حلالته‬
‫الفريدة‪ ،‬يبدو أين سأموت بعده من التفكري بغرابة السلوك البرشي املعقد‪،‬‬
‫فالكل هنا بام فيهم أنا غاضب بطريقته اخلاصة‪.‬‬
‫كنت أمتنى أن أرى املستقبل قبل مماته بلحظات‪ ،‬ألخربه أن يلقى يف‬
‫السامء أختي التي دفنها أيب حية‪ ،‬ليقول هلا‪:‬‬
‫‪ -‬أختاه إياك أن تعودي إىل هنا‪ ،‬إنه اجلحيم الذي نعاقب فيه بخطيئة أو‬
‫بدوهنا‪ .‬خطأك اجلسيم أنك فتاة حلمت‪ ،‬وخطأك الذي ال يغتفر أنك حلمت‬
‫هنا يف هذه املدينة‪ ،‬إياك أن تعودي‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫‪8‬‬

‫يف يوما ما أطلقت املدينة البعيدة مبادرة تطوعية لزراعة األشجار يف‬
‫الصحراء وطالبت املواطنني أن يغرس كل فرد منهم شجرة‪ .‬كانت الفكرة‬
‫مجيلة ولكني كنت أراها صعبة التطبيق‪ ،‬وكان حكمي بفشل هذه املبادرة‬
‫قائم عىل جتربتي يف زراعة األشجار حول حميط قرصنا عندما كنت يف الشامل‪،‬‬
‫والتي كانت مهمة شاقة أثقلت كاهيل الناعم وكاهل العاملني يف القرص‪،‬‬
‫فصعوبتها كانت تدور حول الرتبة الصحراوية ونوع الغرسات الشجرية‬
‫باإلضافة إىل نوع الطقس اجلاف واحلار أو البارد جد ًا الذي ال يصمد احلديد‬
‫فيها فكيف باخلشب احلي‪ .‬والقادر عىل تطبيق هذه املبادرة هي اهليئات‬
‫املؤسسية والتي حتتاج إىل خربات اجليولوجيني وعلامء البيئة واملهندسني‬
‫ال من إقحام املواطن يف عمل ال يستطيع القيام به‪ ،‬وألنني‬ ‫الزراعيني‪ ،‬بد ً‬
‫قرأت عن املبادرة ورفضتها داخل نفيس إال أن صوت ًا داخلي ًا ظل يدعوين‬
‫للذهاب‪ .‬عندها عللت لنفيس بالذهاب بغية رؤية يشء جديد‪ ،‬وضعت‬
‫نقطة جتمع يف منتصف املدينة الستقطاب املهتمني من أنحاء البالد‪ ،‬وبرغم‬
‫ال كثرية وال يوجد فيها مرسح للموضة واالستعراض‬ ‫أن املبادرة ال تعني أموا ً‬
‫فإن هذه املبادرة مل تنل استحسان الطبقة األرستقراطية‪ ،‬وبحكم أنني أنتمي‬
‫هلا رحت أتردد يف الذهاب‪ ،‬إال أنني قررت يف اللحظات األخرية أن أذهب‬
‫برفقة صديقتي التي جاملتني يف قراري‪ .‬كان هنالك يشء يدفعني للميض‬
‫قدم ًا‪ ،‬فصويت الداخيل مل يظهر منذ أن غادرنا الشامل من ستة أشهر إال يف‬
‫هذه اللحظات‪ ،‬وكأن إرادة احلياة التي تنبعث منها مشاعرنا غري معروفة‬

‫‪56‬‬
‫املصدر تريد أن تلفت انتباهي ليشء ما‪ ،‬أو أن ترسم طريق جديد يل‪ ،‬كام أنني‬
‫ارتديت قناع الالمباالة‪ ،‬وهذا القناع يتميز بكون الناس ستنظر إليك كفارغ‬
‫وال متلك شيئ ًا وهذا جيد يف هذه األماكن األقل شأن ًا‪ .‬عندها وصلت كان‬
‫املكان بسيط ًا وغري مكلف‪ ،‬كل ما يف األمر جهاز بروجكرت ذو إضاءة أفقية‬
‫وعمودية ومرسح بخلفية بيضاء لتسليط ضوء اجلهاز عليه لعرض حمتوى‬
‫املبادرة‪ ،‬أو من يأيت حمارض ًا ويقدم الفكرة عىل خشبة املرسح‪ ،‬ومقاعد بيضاء‬
‫بالستيكية منترشة ويف أقىص اليسار توجد طاولة طويلة وعليها مأكوالت‬
‫ومرشوبات بسيطة للحارضين‪ ،‬مل حيرض الكثري من الناس‪ ،‬وبلمح البرص‬
‫تستطيع إحصاء احلارضين ومتيز القادم من أجل االستفادة من غريه‪،‬‬
‫وبحكم خلفيتي يف هذا املجال الذي فشلت فيه رحت أرشح لصديقتي‬
‫أنواع األشجار ومدى تأقلمها إن زرعت يف أرض املدينة البعيدة‪ ،‬إال أن‬
‫صديقتي مل تتغري وظلت تبحث عن الرجال الوسيمني وكأهنا أشعة حتت‬
‫البنفسجية تلتقط حتركات األعضاء داخل اجلسد‪ ،‬وبرغم انشغاهلا يف نزواهتا‬
‫الشهوانية اال أنني واصلت احلديث‪ ،‬عندها قاطعت حديثي وقالت يل‪:‬‬
‫‪ -‬انظري يف وجهي ودون أن تلتفتي أو تشعريه باألمر‪ ،‬هناك رجل حيدق‬
‫بك‪.‬‬
‫قلت هلا‪:‬‬
‫‪ -‬دعيه وشأنه فلقد اعتدنا عىل حتديق الرجال لينتظروا منا حركة تسمح‬
‫هلم بالقدوم واحلديث إلينا‪،‬‬
‫ال بد ً‬
‫ال من النظر إىل هذه األوعية‬ ‫‪ -‬دعيه يأيت أريد أن أضحك عليه قلي ً‬
‫املليئة باألتربة والغرسات الشجرية‪،‬‬
‫مل أوافق ولكن قدوم صديقتي برفقتي جعلني مدينة هلا بتنفيذ ما تقرتحه‪،‬‬
‫نظرت إليه فإذا هو شاب ذو هيئة ومالمح بسيطة وزي تقليدي مل يلفتني يف‬

‫‪57‬‬
‫يشء بحكم أين أرى كل يوم األمجل واألوسم‪ ،‬كام أين رأيت فيه هيئة حمافظي‬
‫الشامل‪ ،‬فكنت أعد الثواين التي يأيت فيها ويغادر من أمامي ومن الذاكرة إىل‬
‫األبد‪ ،‬مر بجانبنا عدة مرات‪ ،‬ومل نبد أية حركة وكأنني يف كل مرة يمر بنا‬
‫ال خلق موضوع‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫أسمع ارجتاف قلبه‪ ،‬ثم أتى وحيانا حماو ً‬

‫‪ -‬الحظت أنك ترشحني عن األشجار وأعجبني إملامك ولكن كنت‬


‫تتحدثني عن شجرة العتم أو ما يطلق عليها الزيتون الربي وكان رشحك‬
‫عنها غري صائب‪ ،‬فهذه الشجرة غري مناسبة للزراعة يف صحراء هذه املدينة‪،‬‬
‫وألهنا كبرية وظليلة فيبدو أن الناس اعتقدوا بأهنا مالئمة‪ ،‬ولكن احلقيقة‬
‫عكس ذلك فهي شجرة ال تعيش إال عىل سفوح اجلبال وتالئم املناطق‬
‫املعتدلة وليست احلارة جد ًا‪.‬‬
‫عندها ضحكت صديقتي لتبدأ السخرية من حديثه ولكنه رمقها بنظرة‬
‫حتذيرية‪ ،‬وأكمل حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أنك لست من سكان هذه املدينة؟‬
‫أجبته باملوافقة ولكن بطريقة متعالية ال تنم عىل األرحيية‪ ،‬ولكني سألته‬
‫عن سبب هذه املالحظة؟ فقال يل‪:‬‬
‫‪ -‬طريقة حديثك وإن كانت باللهجة البيضاء الدارجة فإن فيها بعض‬
‫املصطلحات الشاملية‪،‬‬
‫قلت له أنا من قلب الشامل‪ ،‬وبرغم أن ردي عليه مل يستحسن صديقتي‬
‫التي اعتربت سؤاله دخو ً‬
‫ال يف اخلصوصية إال أنني أكملت ردي بجواب ثم‬
‫بسؤال لعيل أهني احلديث معه‪:‬‬
‫‪ -‬أنا من اهلضبة العالية يف قلب الشامل ومن املؤكد بأن استداللك عىل‬
‫هويتي من هلجتي األصلية جيعلك تعرف شيئ ًا عن مسقط رأيس؟‬

‫‪58‬‬
‫وكل ما أردته من هذا السؤال أن أخذل معلوماته ويسكت ثم نغادر هذا‬
‫املكان ولن أعود له من جديد‪ ،‬عندها أجابني بنعم التي قامت بدورها بإثارة‬
‫أعصايب عندها رسم عقيل خمطط االنسحاب من هذه املحادثة باالستئذان‬
‫منه بشكل مفاجئ واملغادرة معللة بمشاغلنا اخلاصة‪ ،‬لكنه أكمل برسعة قبل‬
‫أن أعتذر منه وأغادر وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أعرف جدك العارش الذي حرك الشامل برمته من أجل إرجاع حق‬
‫مرأة عجوز استنجدت به من قطاع طرق رسقوا حالهلا وأطاحوا بخيمتها‪.‬‬
‫وكانت تلك الوقعة من أشهر ما عرف التاريخ القديم‪.‬‬
‫عندها ارتسمت يف وجهي عالمات الدهشة واالستغراب‪ ،‬فهذه القصة‬
‫قد نسيها أهل الشامل أنفسهم ومل يعد يتذكروهنا‪ ،‬كام أن كتب التاريخ‬
‫املدرسية وحتى اجلامعية مل تتكلم عن هذه الواقعة‪ ،‬وأكمل حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬إن مل خيب ظني فانتي حفيدهتم فعيناك العسلية قريبة ملا وصفه املؤرخني‬
‫ألجدادك‪ ،‬كام أن قوامك قوام فارسات القفز عىل احلواجز‪.‬‬
‫عندها أخذ يدي وقال‪:‬‬
‫‪ -‬والدليل امحرار املنطقة هذه بني سبابة يدك و إهبامها فهذه املنطقة تتأثر‬
‫بشد جلام اخليل كثري ًا‪ ،‬وهذا دليل بأنك فارسة متتطني اخليل كثري ًا‪.‬‬
‫أذهلني إملامه فلقد أيقظ ّ‬
‫يف ما مل أعتقد بأن هذه املدينة برمتها ستوقظه‪،‬‬
‫وواصل حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أملك خمطوطة نادرة جد ًا وهي عبارة عن مراسلة بني جدي الذي‬
‫قطن اجلنوب وجدك يف أقىص الشامل‪ ،‬وهذه املخطوطة يظهر لك فيها‬
‫أخالق الصحراء النبيلة‪.‬‬
‫عندها طالبته برضورة أن يرسل يل املخطوطة ودونت رقمه عىل هاتفي‪،‬‬

‫‪59‬‬
‫ومل متيض ٍ‬
‫ثوان حتى أرسل يل ملف املخطوطة عندها شكرته بابتسامة وغادرنا‬
‫املكان‪.‬‬
‫طوال الطريق كنت أفكر بمعرفته هبوايتي يف الفروسية والتي مل أعد‬
‫أمارسها منذ أن أتيت املدينة البعيدة وتذكرت أجدادي الذي أعاد هذا‬
‫الغريب إحياء ذكرهم يف الوقت الذي نستني إياهم مظاهر هذه املدينة‪ .‬من‬
‫هذا القادم من املجهول‪ ،‬وما الرسالة التي أراد مني القدر قراءهتا ومل أستطع‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫‪9‬‬

‫أطرق رأيس بشكل مائل كعاديت‪ ،‬ويف حركة تدل عىل استغراقي بالتفكري‬
‫يف أمر ما‪ ،‬كنت عىل جانبي األيرس أستند إىل وساديت الصلبة التي يتفجر‬
‫القطن الرديء من جوانبها‪ ،‬وتتدىل يدي اليمنى من رسيري يف الطابق الثاين‪،‬‬
‫فوضعيتي املرتنحة ال تدل عىل أين أبايل بام أنا فيه ولكني يف اجلانب اآلخر‬
‫مهتم بأفكاري اخلاصة‪ ،‬ويف حماواليت احلثيثة إىل فهم السلوك البرشي داخل‬
‫هذا السجن ضيق املساحة‪ ،‬يبدو أين فقدت كثري ًا من هتذيبي األخالقي‪،‬‬
‫أعجبتني فكرة أن أكون سيئ ًا ألستطيع العيش يف هذا املكان‪ ،‬أو يتقبل‬
‫السجناء وجودي ند ًا هلم سوئهم‪.‬‬
‫يف بداية قدومي كان بعض السجناء يطلقون عيل لقب الصويف‪ ،‬والصويف‬
‫تعني من ال يدخن أو يستخدم املخدرات‪ ،‬أو يعاقر مع اخلمر‪ .‬بلغت به‬
‫االستقامة مبلغ ًا ال يستهان به‪ ،‬وعىل الرغم بأن هذا يشء جيد إال أن الصويف‬
‫يف مكان كهذا ُيعد منبوذ ًا‪ ،‬بحسب خربة السجناء عندما كانوا طلقاء يف‬
‫اخلارج و يعانقون احلرية فإن هذه الفئة ينتمي إليها املخربون واملتلصصون‬
‫أو الذين يقتاتون عىل أذية املجرمني عندما يقدمون للسلطات معلومات‬
‫عنهم‪ ،‬وكأن املخربين يرتدون القناع الصويف هذا إلسقاط ما يمكن إسقاطه‬
‫من هذه الفئة‪ ،‬فإن حاولت التعمق كثري ًا يف املجتمع اإلجرامي ستجد أن‬
‫نواح أكثر قوة من غريه‪ ،‬فاخلطاب اإلجرامي يبدو لك رجولي ًا وضد‬ ‫بداخله ٍ‬
‫اخلونة‪ ،‬كام أن تكاتف املجرمني مع بعضهم يستحق دراسة خاصة وعلمية‪،‬‬

‫‪61‬‬
‫عل ًام أن سقوطهم يف الغالب مؤمل وال هنوض بعده إال أن الناس يتساقطون‬
‫كأوراق اخلريف عىل أي حال‪ّ ،‬‬
‫وكل بخيبته اخلاصة‪.‬‬
‫ازداد منسوب النسيان يف وعاء عقيل فذاكريت التي تتعلق باألماكن‬
‫فقدت خاصيتها يف التقفي والتحليل‪ .‬بيد أن اإلنسان حمكوم عليه يف هذا‬
‫الزمن أن يأكل من نفسه‪ .‬كنا كالنرتونات داخل نواة الذرة نتحرك داخلها‬
‫برسعة كبرية‪ ،‬دون أن يتغري يف شكلها اخلارجي يشء‪ ،‬وهذا ما يفرس خصوبة‬
‫األحداث داخل السجن‪ ،‬فالسجناء يتصاحلون ويتقاتلون وعدوك اليوم هو‬
‫صديقك يف األمس وغد ًا‪ ،‬اختذت شكيل اجلديد وقررت أن أكون سيئ ًا بام فيه‬
‫الكفاية‪ ،‬ويبدو أنني اخرتت املشاعر الصحيحة يف املكان املناسب‪ ،‬وبرغم أن‬
‫عقيل حييك خطة الصمود التي سأعتمد عليها طوال فرتة وجودي إال أنني‬
‫استطعت أن أخفي ضمري اإلنسان الذي طاملا أظهرته بني احلني واآلخر‪.‬‬
‫كان السجناء يغطون يف نوم عميق وكنت أنا أنظر كعاديت يف السقف‬
‫العلوي أحاول أن أستجلب بقواي اخلارقة ستار النوم ليهبط عىل عيني‪.‬‬
‫وفجأة نظرت إىل الرسير الثامن فإذا بالسجني الذي وصل منذ يومني يبكي‪،‬‬
‫مل أتفاجأ فمن الطبيعي أن تكون لياليك األوىل هنا هبذا الشكل‪ ،‬ولن أتفاجأ‬
‫لو حدث األسوأ‪ .‬أدرك أنني شاهدته وأنا بدوري عدت ألنظر إىل سقف‬
‫الزنزانة‪ ،‬فال تعنيني دموعه كام أنه ال يعنيني علمه بأنني شاهدهتا‪.‬‬
‫ومع ساعات الظهرية يف اليوم التايل وعند وقفي عىل باب الغرفة الثالثة‬
‫وضع وجهه األسمر ذي اخلدوش أسفل عينه اليمنى يف وجهي وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إياك أن تروي ما شاهدته ألحد‪.‬‬
‫جديد ال يعلم بأن شكيل مل يعد يصف تطورايت السيئة التي سلكتها‬
‫مؤخر ًا‪ ،‬عندها قبضت عىل عنقه وثبته يف حركة رسيعة عىل اجلدار‪ ،‬ورحت‬
‫أكرس الكلامت كام يفعل أبناء الشوارع‪ .‬قلت له‪:‬‬

‫‪62‬‬
‫‪ -‬إياك أن تعيد هتديدي مرة أخرى فام أنت عليه ال يعنيني‪.‬‬
‫وأفلت قميصه‪ ،‬ورغم أين وضعت يف عقيل خيار حق الرد بالنسبة له إما‬
‫باملثل أو أعنف مما فعلت إال أنه مل يفعل شيئ ًا‪ ،‬بل أطبق فمه الواسع ذو الشفة‬
‫السفلية املتدلية وعدل وضعية ردائه وغرب عن وجهي‪ ،‬ومن حسن احلظ مل‬
‫يالحظ أحد هذا الشجار الصغري الذي مل يستغرق سوى ٍ‬
‫ثوان بسيطة للغاية‪.‬‬
‫ويف مساء نفس اليوم أتى مرة أخرى وقال يل‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعني جيد ًا‪ ،‬أعتذر عن أسلويب الفظ ولكن معرفة السجناء ببكائي‬
‫جيعلني حتت طائلة التنمر طوال فرتة سجني‪ ،‬وأنت تعلم ذلك جيد ًا‪ ،‬ولكني‬
‫سأفتح لك قلبي ولعيل ال أندم ولكني بحاجة صديق يف هذا السجن ألحدثه‬
‫ال ملشكلتي‪ .‬أنا أستحق ما حيدث يل‪ ،‬ولكن مشكلتي احلقيقة يف‬ ‫وأجد ح ً‬
‫زوجتي التي هجرتني بعد أن قبض عيل بأيام قليلة‪ ،‬ورغم أين رسقت ألبدو‬
‫هلا أنني قادر عىل أن أكون بمستوى أهلها األثرياء إال أن ذلك مل يشفع يل‬
‫عندها بأن تصرب وتؤازرين عىل حمنتي‪ .‬أتت عند أمي وقالت هلا لقد رضيت‬
‫بمستوى ابنك املادي ومعاقرته للخمر وطرده من عمله ولكني لن أرىض أن‬
‫يقال يل زوجة السارق‪ ،‬أنت تعلمني طبيعة جمتمعاتنا اجلنوبية التي تنتظر أن‬
‫تعلق أي هالة سوداء لتبقى يف الذاكرة والزمن‪ .‬ووضعت مفتاح البيت يف يد‬
‫أمي وتركتها وحيدة‪.‬‬
‫كانت قصته ذات وقع كبري يف قلبي‪ .‬عدت ذلك الرجل الذي حيزن حلزن‬
‫غريه‪ ،‬عندها أكمل حديثه بصوته الشاحب التي يبدو بأنه ترشب حزنه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أعشق تلك احلمقاء أكثر من أي يشء آخر يف هذه احلياة‪ ،‬ويبدو‬
‫أن تكلفة أن أقاتل من أجل إرضائها باهظة وها أنا أدفع ثمنها من عمري يف‬
‫هذا السجن‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫واغرورقت عيناه بالدموع‪ ،‬عندها ألتفت يمين ًا وشام ً‬
‫ال ألضمن أن ال‬
‫أحد يرانا وقلت له‪:‬‬
‫‪ -‬خذ قطعة القامش يا غبي وامسح دموعك فال املكان وال الوقت‬
‫مالئامن هلذه املشاعر‪ ،‬اذهب إىل رسيرك وغد ًا نكمل حديثنا‪ .‬هيا اغرب عن‬
‫وجهي‪ .‬مل أعد صديق ًا ألحد‪ ،‬فقط مستمع جيد‪ ،‬وهذه هي الصفة الوحيدة‬
‫التي أبقيت عليها مني‪ ،‬وأرجو أال يطول اضطراري يف هذا املكان عىل هذا‬
‫التصنع‪.‬‬
‫ويف قفزة صعدت عىل رسيري‪ ،‬وأخذت حلايف وغطيت وجهي لتتخذ‬
‫هواجيس ومهومي وضعيه مناسبة لترتبع عىل صدري وعقيل‪ .‬لألمانة مل‬
‫أفكر يف مشكلة السجني فأنا لست أخصائي ًا نفسي ًا وعمري ال يملك الرصيد‬
‫الكايف من اخلربة ألجد ملشكلته احلل‪ ،‬كام أن لدي ما يكفي والذي ال جيعلني‬
‫أفكر بيشء ال يتعلق بنفيس وباألخص يف مثل هذا املكان‪.‬‬
‫اليشء باليشء يذكر‪ ،‬فام األخبار يا هند؟ وهل ال زلت تذكرين ذلك التائه‬
‫الذي قبضت عىل قلبه وأرسلته إىل غيابات اجلب وظلت أطيافك تلتقط‬
‫أنفاسه يف كل مرة يتذكرك فيها؟ أعلم أنني جبان‪ ،‬كان جبني هو حكمتي‬
‫ورشيعتي احلياتية ودستوري اخلالد الذي أستمد منه طريقي يف مواجهتك‪،‬‬
‫فقدماي ويداي ظلت ترجتف طوال سنة كاملة عندما أنوي الذهاب إليك أو‬
‫أن أراسلك من هاتفي‪ ،‬لقد واجهة احلياة برضاوة كنت أهنض منها خارس ًا‬
‫يف كل مرة‪ ،‬مع ذلك كنت أهنض ولكن مواجهتك كانت تقيض عيل لو ملرة‬
‫واحد فقط دفعتني للخلف‪.‬‬
‫بدأ عىل لساين ذلك الطعم املر الذي تفرزه مشاعري ويلوث مذاقي‬
‫لألشياء والتعاطي معها‪ ،‬عندها شعرت بالضياع والقلق عندما انتابتني‬
‫هذه املعضلة الوجودية األخرى وليس موضوع جانبي عارض‪ ،‬نعم يا هند‬

‫‪64‬‬
‫وجودك هو التفسري الوحيد هلذه احلياة وغريه هرطقات فالسفة وأهواء‬
‫مفكرين أضاعوا عقوهلم بال طائل‪.‬‬
‫ولكن كيف مل خيطر عىل بايل بأن هند ًا علمت بسجني كل هذه املدة‪،‬‬
‫ال هذا ما ال أريده‪ ،‬أخذ قلبي ينبض بقوة‪ ،‬فام هي ردة فعلها إن عرفت أين‬
‫أنا اآلن؟! ستقول يف نفسها كام قالت زوجة السجني ألمه‪« :‬هل تريدين أن‬
‫يقول عني الناس أنني زوجة سارق؟»‪ ،‬هند حت ًام ستقوهلا بطريقة هادئة فأنا‬
‫ال أعنيها بالشكل الذي كانت عليه زوجة السجني‪ ،‬فمن املؤكد أهنا ستندب‬
‫حظها العاثر أن أحد معارفها سجني‪ ،‬عندها ستضيع الفوارق بينها وبني‬
‫مدينتي املحرمة يف مشاعرهم اجتاهي‪ ،‬ال هيم ما هتمتي وماذا فعلت فيكفي أن‬
‫يعرفك الناس بأنك سجني وهذا وحده يطرح سمعتك يف األرض‪ ،‬كل ما‬
‫أعتقد بأين اقرتبت منها أجد نفيس ابتعد مسافات ضوئية‪ ،‬ال وقت لدي هلذه‬
‫األفكار ولكني أخذت أضع مربرات لنفيس وخاطبت نفيس بصوت داخيل‬
‫عال‪« :‬هي مل ُتعرك انتباها طوال سنة فكيف خالل بضعة شهور قضيتها يف‬ ‫ٍ‬
‫السجن»‪.‬‬
‫ولكن هذا املربر مل هيدئ غضبي وعادت االنتفاضات تشتعل يف صدري‬
‫ملت نفيس عىل الذهاب إىل حمفل التشجري التافه يف املدينة البعيدة‬
‫مرة أخرى‪ُ ،‬‬
‫الذي ألتقيتها فيه أول مرة‪ ،‬فمنذ متى قد كان تعلقي بالطبيعة بذلك الشكل؟!‪،‬‬
‫اجلنوب ممتلئ باألشجار التي مل آبه هلا وال برضورة وجودها يف حياتنا يف‬
‫األصل‪ ،‬وهرويب من واقعي ومن نفيس جعلني أذهب لتلك األماكن التي‬
‫أعادت تقزيمي لنفيس وأضاعت مني جدوى التعايف من سوداويتي احلانقة‬
‫والتي ختنقني يف هذا السجن الكئيب‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫‪10‬‬

‫أسدل الصبح ستاره الفضفاض الذي يوبخ قضبان السجن مل يتغري معه‬
‫يشء منذ حلظايت األوىل يف هذا املكان‪ ،‬فجسدي أصبح كالرتس الصغري‬
‫داخل ماكينة ضخمة اعتادت عىل عمل األشياء وفق روتني ثابت‪ ،‬حتى‬
‫أن أفكاري التي ظلت تالحقني م ّلت مني وذهبت ليحل النسيان حملها‪.‬‬
‫ورغم أنه مل يمض عىل قدومي إال بضعة أشهر إال أنني فقدت مالمح املدينة‬
‫املحرمة‪ ،‬فمنذ أيامي األوىل يف السجن قلت للسجان إياك أن تسمح أن‬
‫يزورين أحد من أهيل أو أقاريب‪ ،‬أو من يدعون بأهنم أحبايب‪ ،‬فرؤية خيبتي‬
‫يف وجوههم سيعذبني ويزيد من هتتك عزمي الذي بدأت أفقده‪ ،‬ومل أعد‬
‫يف حاجة لكلامت الصمود وال طبطبة األكتاف فلم يعد وجودي إال حماولة‬
‫النتشال جسدي من سوداوية احلياة‪.‬‬
‫ركض أحد السجناء املعمرين بلهفة نحوي‪ ،‬وكانت هذه وظيفته أن‬
‫يستدعي السجناء لنداءات وكأنه ساعي الربيد الذي يوصل الرسائل دون‬
‫أن يعرف ما فيها‪:‬‬
‫‪ -‬قم أهيا اجلديد‪ ،‬العسكري ينادي باسمك‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا يريد؟‬
‫‪ -‬ال أعلم ولكن يف يده ورقة وحمربة اخلتم‪.‬‬
‫هنضت من رسيري الذي ملني‪ ،‬فإذا يب أمام نفس العسكري الذي قيدين‬
‫بإذالل إىل هذا املكان مبتس ًام‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫‪ -‬أسمع يا هذا‪ .‬استعد‪ ،‬لقد أتى أمر بالعفو عنك واالكتفاء بالشهور‬
‫القليلة التي سجنت فيها‪.‬‬
‫يتحدث وكأنه صاحب الفضل يف خروجي‪ ،‬أخذ ورقة إطالق رساحي‬
‫وأمسك إصبعي اإلهبام وصبغها باللون األزرق ثم وضعها حتت خانة‬
‫املوافقة‪ ،‬وقال يل عند الظهرية سيتم إطالق رساحك من السجن فأرجوا‬
‫منك أن جتهز أغراضك للخروج‪.‬‬
‫لن أخرج إال عندما أصفي حسابايت اخلاصة‪ ،‬وأوهلا ذلك السجني‬
‫الذي مزق الورقة‪ ،‬فال تعتقد أن خروجي ينسيني تلقينك الدرس الذي‬
‫تستحقه‪ ،‬ومل أقدم عىل هذا العمل إال بعد دراسة وحتري خاصني‪ ،‬ذهبت‬
‫للغرفة ورفعت ساق رسيري وأخرجت من حتته قطعة من القامش يوجد يف‬
‫داخلها كميات من احلشيش‪ ،‬ثم ذهبت إىل غرفة الضحية ووضعتها بخفة‬
‫حتت رأسه األصلع النائم و املزدحم باجلروح واآلثار التي تشبه الكتابة‬
‫الثمودية يف الصخور‪ ،‬ما أمجل أن تعيد اخلسة ألهلها يف هذا املكان‪ ،‬إنه شعور‬
‫االنتصار يف هذا السجن‪ ،‬عندها ذهبت لرسيري اليشء الوحيد الذي أحببته‬
‫يف هذا املكان‪ ،‬وقفت دقيقة حداد وكأن رسيري أشبه بجثامن نجدي قتل يف‬
‫معركة األبدية‪ ،‬وودت لو كنت أملك بندقية أصوهبا عالي ًا وأطلق الرصاصة‬
‫هلذه القطعة احلديدة التي حتملتني طوال فرتة وجودي‪ ،‬فلم يسبق ليشء يف‬
‫هذا الكوكب أن حتملني كام حتملني هذا الرسير‪ ،‬حتى أعظم أرساري كقطعة‬
‫القامش التي حتمل احلشيش أحتفظ هبا لتعينني عىل الثأر‪ ،‬وعند تفكريي بام‬
‫سأخذ معي كان قراري بأين لن أمحل يشء من هذا الزنزانة‪ ،‬سواء أوراقي‬
‫التي نثرت فيها دموعي وشوقي وخيبايت وكل ما كتبته عن هند واحلياة‪.‬‬
‫حانت الظهرية وفتح يل السجان باب السجن‪ ،‬وكأين يف تلك اللحظة‬
‫مالكم وقف عىل خشبة احللبة ليعاد تقديمه للجامهري واملشاهدين بعد أن‬

‫‪67‬‬
‫صقلتني هذه القضبان احلديدية وجعلت خطاي ثابتة ال تتزحزح عندما‬
‫أهبط هبا عىل األرض‪ ،‬ولكن يف املقابل كان هنالك شعور بعدم جدوى‬
‫خروجي من هذا السجن‪ ،‬فلم أكن مستعد ًا بعد ملواجهة املدينة املحرمة‬
‫ولكنه قدري‪ ،‬سجنت بال موعد وأطلق رساحي بال سابق إنذار‪.‬‬
‫ذهبت للسجان وقلت له‪:‬‬
‫‪ -‬سأقدم لك معلومة ستنال عليها ترقية وثقة مدير السجن إن أحببت‪.‬‬
‫‪ -‬وما هذه املعلومة؟‬
‫‪ -‬أعلم أن خيبأ احلشيش يف السجن‪ ،‬ولكن رشطي أن أخربك بعد أن‬
‫خترجني من البوابة اخلارجية‪.‬‬
‫عندها نظر يل السجان وكأين قدمت له هدية عيد ميالد‪ ،‬وعند باب‬
‫اخلروج مهست يف أذنه وأدليت له بمكاهنا وباسم صاحبها‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫‪11‬‬

‫كنت‪ ،‬أعيش من أجل سعادة املحيط حويل‪ ،‬ورددت ذلك من جديت‪،‬‬


‫كان هيمني أن أطل عىل موائد طعامهم ألضيف هلا ما ينقصهم‪ ،‬وأحتول أللة‬
‫تبعث التحفيز يف نفوسهم وال تتوقف‪ ،‬كنت أقف بجانبهم عىل ما يوجهونه‪،‬‬
‫أضفي لوجودهم يف حيايت أكرب قدر من الكامل املمكن‪ ،‬كنت أحاول أال‬
‫تتأثر حياتنا من غري أيب‪ ،‬الذي ظل يؤجل فكرة عودتنا وفكرة قدومه إلينا‪ ،‬يف‬
‫املقابل حتولت من إنسانة طموحة تضع قدمها عىل ركاب اخليل بكل توازن‬
‫ومتيض مرسعة إىل حيث أرادت إىل صندوق أسود تضع فيه أرسارها وأرسار‬
‫من حوهلا‪ .‬أنه ألمر حمزن أن ال نكون ما أردنا‪ ،‬وأن نكون ما يريده الناس‬
‫منا‪ ،‬فأنا هنا كالبنائني الذي يشيدون ما ليس هلم‪ ،‬نساعد أن يكرب الناس‬
‫ويعيشوا برسور بينام نسياننا ألنفسنا يصبح عقوبة علينا‪ ،‬ولعل احلظ ساعدين‬
‫يف تدارك ذلك قبل فوات األوان‪ .‬قررت أن أكتفي هبذا القدر من املساعدة‬
‫املبالغ هبا‪ ،‬أعلم بأين سأعود إىل ما أنا عليه ولكن يكفيني رشف املحاولة أن‬
‫أكون أنا وفقط‪.‬‬
‫عدت ألزور اإلسطبالت يف املدينة البعيدة‪ ،‬وكانت مشاهدهتا مبهجة‪،‬‬
‫عندها قلت يف نفيس ها أنا هنا وأنتمي هلذه األماكن‪ ،‬كنت أتذكر يف طفولتي‬
‫كيف قررت ذات يوم أال أخذل اخليل والفروسية وأين لن أتركها يوم ًا‪،‬‬
‫وبدون مقدمات عرضت نفيس عىل أفضل مدرب يف املدينة ليدربني‪ ،‬زجمر‬
‫وأخذ ينظر يل وقال ما عالقتك هبذه الرياضة؟! فيام يبدو يل أنك فتاة ذات‬

‫‪69‬‬
‫حسن وهذا العمل شاق عليك‪ ،‬عندها انفعلت وأوضحت له بأن عالقتي‬
‫هبذه الرياضة هي عالقة وجود وتاريخ وأشياء ال يمكن ملدرب يف اإلسطبل‬
‫أن يفهمها‪ ،‬وبرغم بأن أسلويب كان مشحون ًا وحاد ًا إال أنه نظر إيل وقال‬
‫اسمعي أيتها الفتاة أنا لست معلم أساسيات ففي اجلهة املقابلة اسطبل يقبل‬
‫املبتدئني‪ ،‬ويف أثناء استعراضه لرشوطه أعطيته ظهري وسحبت جلام اخليل‬
‫من أحد العاملة ووضعت قدمي عىل الركاب ثم أخذت وضعيتي عىل رسج‬
‫اخليل‪ ،‬بينام صمت املعلم يف ذهول ينظر إيل‪ ،‬أطلقت اخليل حول الساحة‪،‬‬
‫رهبة احلواجز ما زالت يف قلبي‪ ،‬وعدت نفيس أن أقفز من فوقها بني مجوع‬
‫الناس و كان هذا حلم طفولتي‪ ،‬وافق عيل ومل يرتدد‪ ،‬وكان مهارته ومسريته‬
‫يف هذه الرياضة سبب ًا يف اختياري له‪ ،‬فلقد ذهل بموهبتي يف الفروسية‪ ،‬وضع‬
‫رشوط ًا وجعل عدم التقييد هبا مصدر هتديد لعالقتي التدريبية‪ ،‬منها زمن‬
‫احلضور وجتنب بعض األطعمة‪.‬‬
‫لقد أعاد صياغة الكثري من املفاهيم التي مل أكن أعرفها عن اخليل‪ ،‬وهنا‬
‫عدت هند التي أعرفها يف نفيس فلقد خطفت حيايت من أيدي املحيط حويل‬
‫وسلمتها نفيس‪ ،‬ولكن أجزاء مني مل تنس حميطي كثري ًا‪ ،‬فلقد اختفيت عن‬
‫األنظار وبت أشبه حيوان اخللد الذي حيفر مسالكه يف األرض ويظهر متى‬
‫أراد الظهور للحياة والعامة يعود ليختفي مرة أخرى‪ ،‬بدأت فكرت االرتباط‬
‫باألشياء ختتفي تدرجيي ًا‪ ،‬وزاد ارتباطي بام أهواه‪.‬‬
‫وفرت لنفيس بيئة رائعة‪ ،‬ووضعت أمام عيني السباق العاملي للفروسية‬
‫الذي يقام سنوي ًا يف املدينة البعيدة‪ ،‬وطوال ستة أشهر كافحت لتكون‬
‫مشاركتي األوىل مبهرة بالشكل الذي جيعل أجدادي حيفرون األرض‬
‫صعود ًا ليخرجوا من قبورهم‪ ،‬ويفيقوا من غفوهتم األبدية مبتهجني ألن‬
‫فتاة من صلبهم أعادت اسم أجدادها إىل الشاشات واإلعالم وذاكرة البرش‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫كانت مشاعري ال يفوقها وصف وأنا أختيل مشهدهم يطلون عيل من السامء‬
‫وحيفزوين بكلامهتم البدوية التي يستمدوهنا من قاحلة الصحاري‪ ،‬وخياطبون‬
‫الطبيعة هبا‪.‬‬
‫وطوال مشوار متاريني سقطت ما يقارب سبع مرات عىل أماكن متفرقة‬
‫من جسدي‪ ،‬وكل وقعة عن ظهر اخليل كانت ستكتب هنايتي‪ ،‬إال أنني أشعر‬
‫بأن أرواح أجدادي ختفف من وقعتي‪ ،‬وجتعلني أهنض مرة أخرى‪ ،‬ولكني‬
‫متسكت بقول احلكامء‪ ،‬الرضبة التي ال تقتلك تقويك‪ .‬الفروسية مدرسة‬
‫للحياة‪ ،‬تعلمك النهوض الرسيع بعد كل سقطة‪ ،‬يا هلا من فلسفة يعرف‬
‫الكثريون التفوه هبا وقليل جد ًا من يعرف كيف يطبقها‪ ،‬ولكن مع الفروسية‬
‫تعترب قاعدة جيب عليك أن تطبقها‪ ،‬وتتحامل عىل كل آالمك من أجل ذلك‬
‫النهوض‪ ،‬نعم إنه أمر شاق عىل نفسك وبدنك ولكني جيب أن تقوم بذلك‪،‬‬
‫من تلك السقطات كانت عند حماولتي األوىل للقفز فوق احلاجز القصري‬
‫الذي يتوسط الساحة بشكل عريض‪ ،‬فلم أكن مهيئة للمحاولة واحلصان مل‬
‫يكن يف حالة جيدة‪ ،‬فصعوبة التمرين جعلته ال يستجيب لقراريت‪ ،‬ويف حلظة‬
‫مباغته وقبل وصويل للحاجز سقطت عىل كتفي األيمن عىل األرض‪ ،‬بعد أن‬
‫ال إسقاطي عن ظهره‪ ،‬وبرغم‬ ‫ظل احلصان يتحرك بطريقة غري متوازنة حماو ً‬
‫من قوة السقطة وإحسايس باألمل والرضوض يف فخذي وقدمي اليرسى‬
‫إال أنني عدت لركوب اخليل برسعة لكي ال تشعر اخليل بأهنا تغلبت عيل‪،‬‬
‫وكأنني أشعره بأنني قوية بام يكفي العتالء الظروف فكيف بظهرك‪ ،‬ومن‬
‫تلك السقطة توثقت عالقتي باحلصان كثري ًا‪ ،‬حتى أصبح عربون عبوري‬
‫ألي حواجز قادمة عىل ظهره‪ ،‬عندها ذهبت لبيت احلصان يف اإلسطبل‬
‫أللقي نظريت عليه وأطمئن بأنه ال زال يعرفني وأنني رسعان ما أبدلت سوء‬
‫مزاجه يف ذلك اليوم‪ ،‬كرسعة جتاوزي لإلصابة يف أقل من أسبوعني‪ ،‬فنظام‬

‫‪71‬‬
‫نومي املبكر ومتارين االستشفاء التي كنت أقوم هبا دائ ًام مع كل صباح كانت‬
‫تساعدين عىل التعايف والنهوض مرة أخرى‪.‬‬
‫وقبل منافسات السباق العاملي للفروسية بأسبوع وبعد أن متت املوافقة‬
‫من جلنة السباقات عىل اسمي كمشاركة وأثناء ذهايب إىل اإلسطبل بفرحة‬
‫كبرية‪ ،‬تلقيت مكاملة من أيب وكان صوته كان خمتلف ًا‪ ،‬وكأن الذي حيدثني‬
‫شخص مل أسمع صوته من قبل‪ ،‬وكانت الصدمة التي مل أتوقعها‪ ،‬حلقتني‬
‫لعنة الشامل إىل هنا‪ ،‬طلب أيب أال أشارك يف السباقات العاملية القادمة متعل ً‬
‫ال‬
‫بأن مشكلته مع الشاملني مل تنته وال يبدو أهنا ستنتهي يف الوقت القريب‪،‬‬
‫وإهنم كمحافظني حت ًام سيستغلونني كابنته لإلرضار به عندما أشارك ويرتفع‬
‫اسمي واسمه عالي ًا‪ .‬أيب مل يرفض مشاركتي ولكن طلب تأجيل هذه الفكرة‬
‫إىل أن تأيت الفرصة املناسبة التي مل أعد أثق بأهنا ستأيت بعد هذه املرة‪ ،‬عندها‬
‫وقفت بسياريت عىل جانب الطريق وبكيت بحرقة لساعات طويلة‪ ،‬فأنا‬
‫أحرتم أيب كثري ًا ولن أرفض له طلب‪ .‬ظل أيب طوال املكاملة يعتذر بعد كل‬
‫عبارة‪ ،‬أعلم أنه يشعر باخليبة التي أشعر هبا‪ ،‬ولكن تربيتي مل تكن لتجعلني‬
‫يوم ًا أسهم يف أن يستخدمني أحد ضد عائلتي وباألخص أيب‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫‪12‬‬

‫عدت لسجيتي عندما قدمت للمدينة وأصبحت أتشبث بالعالقات التي‬


‫املر و تأثريه عىل نسيان خيبايت‪ .‬كان األمر‬
‫كنت أرى أهنا تشبه النبيذ بطعمه ّ‬
‫جمد مع منهم مثل حالتي‪ ،‬عدت لصديقايت اللوايت يفضلن املال عىل أي صفة‬ ‫ٍ‬
‫رجولية أخرى يف عالقاهتم العابرة‪ ،‬فربغم أن حلظاهتم الطائشة تبدو سعيدة‬
‫إال أهنا غالب ًا ما تنتهي باإلذالل‪ ،‬فالرجل يف هذه املدينة يبحث عن متعة مؤقتة‬
‫وما أن يشعر بأن هذه املتعة اقرتبت نحو اجتاه ارتباطه باملسؤولية‪ ،‬رسعان‬
‫ما يتخىل عنها ولو دفعه األمر إىل استخدام أرذل الطرق دون مراعاة مشاعر‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫بحثت يف خمزون ذاكريت وأرشيف عقيل األشبه بسلة رسائل غري مهمة يف‬
‫بريدي اإللكرتوين‪ ،‬وتذكرت ذلك الشاب الذي التقيته يف مؤمتر التشجري‪،‬‬
‫لقد راسلني لوقت طويل بينام كنت اعترب رسائله روتينية ال غاية منها ال‬
‫ذوق ال طعم وال رائحة‪ ،‬ورغم أنه متيز بحدة ذكائه ومعلوماته التارخيية التي‬
‫أذهلتني عند مقابلته‪ ،‬إال أنني كنت أرى بأنه أقل مني بكثري‪ ،‬أعلم بأين لست‬
‫هبذه احلدة جتاه األشخاص ولكني بالفعل شعرت بذلك التفاوت‪ ،‬يف املقابل‬
‫ما الذي جيعلني أفكر به‪ ،‬فالرجل الواثق هو من يصنع وجوده يف حياة الفتاة‬
‫وهذا ما مل يفعله هذا الغريب‪ ،‬سأعود ألراسله لعل لديه ما يعجبني وأستطيع‬
‫التسيل به لفرتة معينة‪ ،‬ويكفي بأن يصبح كالراديو وأنا مستمعة أغري املوجة‬
‫كام حيلو يل‪ .‬فتحت هاتفي النقال عىل حمادثتي معه‪ ،‬األمر غريب‪ .‬كانت آخر‬

‫‪73‬‬
‫رسالة منذ قبل ثالثة أشهر‪ ،‬سلسلة من رسائله خلف بعضها دون رد مني‪،‬‬
‫إهنا الالمباالة التي أستخدمها ضد هذا الرجل‪ ،‬ضحكت يف داخيل‪ .‬فمن‬
‫الطبيعي أن بعد سنة من دون رد واحد ستجعله يكف عن مراسلتي‪ ،‬هو‬
‫مل يكن من أوائل خيارايت وال حتى هنايتها بل ظل هنالك يف اهلامش حيث‬
‫ال ثم إيموجي مبتسم‪ ،‬وعبارة‬ ‫وضعته‪ .‬قررت أن أبدأ املحادثة‪ ،‬كتبت أه ً‬
‫أين أنت؟ كنت أتساءل عن غيابه يف أعىل الرسالة وكأنني مهتمة وبعثت هبا‬
‫لعله جييب‪ .‬عدت ألوزع الضحكات عىل صديقايت‪ ،‬مر يوم ثم يومان وزاد‬
‫تعلقي بشاشة اهلاتف والغريب مل يرد عىل رسالتي‪ ،‬قررت أن أبحث عن‬
‫رقمه اجلديد إن وجد‪ ،‬سأتعلل بطلب خمطوطات تارخيية أخرى وأعلم بأن‬
‫سيتلهف خلدمتي‪ ،‬فال أزال متشبثة بفوقيتي عليه‪ ،‬مرت األيام واألسابيع‬
‫واألشهر‪ ،‬وأصبح الغريب يشكل لغز ًا يف خميلتي‪ ،‬بحث أصدقائي الذين‬
‫يعملون يف رشكة اهلاتف عن أرقامه لكنهم مل جيدوا يشء سوى رقمه الوحيد‬
‫الذي بحوزيت‪ ،‬ثم بحثت عن أرقام أقاربه إىل أن وجدت أحدهم الذي‬
‫أخربين بأنه سجني‪ ،‬وعند سؤايل عن سبب سجنه تعلل بأنه ال يعرف شيئ ًا‪،‬‬
‫وهذا ما أثار استغرايب فلقد كانت طريقته وهو حيدثني عنه توحي بيشء مل‬
‫أفهمه‪ ،‬يشء من التفكك واإلمهال‪ ،‬ما هذه العائلة؟! فال يبدو بأن سجن‬
‫قريبه يعني له الكثري‪.‬‬
‫رغم أن هذا الغريب يوجد يف مكان مشبوه ومن اخلطأ أن أسأل عنه‪،‬‬
‫لكن ثمة أشياء يكتنفها الغموض‪ .‬قررت أن أعرف رس هذا اإلنسان‪ ،‬وبعد‬
‫تواصيل مع أحد املتنفذين الذي كان عشيق إحدى صديقايت‪ ،‬قال يل بأن‬
‫قضيته حساسة وتتعلق بالرأي العام واإلخالل بالنظام املجتمعي‪ ،‬وأن هناك‬
‫عريضة قدمها شيخ قبيل وفيها أالف التوقيعات من أهايل املدن اجلنوبية التي‬
‫تطالب السلطات فيها بإيقاع أقىص العقوبة عليه‪ ،‬وعند بحثي ظهر بأن األمر‬

‫‪74‬‬
‫يتعلق بام كتبه عن أخته التي يقال أن والده قتلها بسبب هروهبا مع عشيقها‪،‬‬
‫وأنه نرصها ووقف مع قضيتها منتقد ًا الظواهر املجتمعية التي كان هلا نصيبها‬
‫يف هذه القضية‪ ،‬ذهلت بالتقارب الرجعي بني الشامل واجلنوب وكيف أهنم‬
‫مل يشاركوا إال يف نظرهتم للمرأة‪ ،‬ففي كل رجعية هناك رجل يناضل من‬
‫أجل يشء ما‪ ،‬أحببت هذا الغريب من حيث املبدأ والظروف‪ ،‬ولكن جيب‬
‫أن أوقف البحث عنه‪ ،‬فمن أجل املجتمع تنازلت عن سباق الفروسية‪،‬‬
‫ومن املؤكد بأين سأتنازل عن عالقتي هبذا الرجل من أجل املجتمع كذلك‪،‬‬
‫وبحركات بسيطة من أصبعي وأنا أمحل هاتفي النقال حجبت رقمة وحذفته‬
‫هنائي ًا‪ ،‬يكفي أن هذا الغريب حتول إىل قصة عرفتها وأعجبت هبا ولكني لن‬
‫أعيشها‪ ،‬إىل هذا احلد ال يعنيني الباقي‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫‪13‬‬

‫ال أعلم ملاذا ختيلتها تقف خلف الباب تنتظرين والشوق يسدد طعناته‬
‫األليمة يف صدرها الطعنة تلو الطعنة‪ ،‬وعند ترقبها تتحول ثوانيها إىل سنني‬
‫عجاف‪ ،‬ودقات قلبها تصلني كأهنا طبول احلرب‪ .‬أرى عيوهنا الواسعة‬
‫تدمع بل تتكدس من الفرحة‪ ،‬إهنا حلظتي املوعودة‪ ،‬هبيئتها األخرية حيث‬
‫كان لقائنا األول‪ ،‬مشوار مئة ومخسني يوم ًا ينتهي بلقاء مالئكي‪ ،‬وكأنني‬
‫أراها متد ذراعيها الناعمة ذات الربيق األبيض لتحضنني داخل معطفها‬
‫احلريري وهترب يب بعيد ًا إىل أبعد نقطة يف األفق‪ ،‬حت ًام ستتنازل عن الفروق‬
‫الطبقية واملسافة الرهيبة بني املدينة البعيدة واملحرمة‪ ،‬ستطرح كل الفروق‬
‫البرشية أرض ًا وتضعني نصب عينها‪ ،‬حيث ذلك الغريق الذي مل جتعله قوة‬
‫األمواج يلتقط أنفاسه وينقذ نفسه‪ ،‬إنني يف أمس احلاجة ليدها لرتفعني عالي ًا‬
‫وتنتشلني‪ ،‬إنه اإلنقاذ من الشفقة التي تنتظرين ومن اليأس‪ ،‬ومن ظنون‬
‫الناس‪ ،‬ومن املجهول األبدي‪.‬‬
‫سار يب السجان املرسور وكأنه حتول إىل حارس شخيص يل ملجرد‬
‫أن وشيت بسجني له‪ ،‬فمرضّ ة السجني وإن كان يستحق ذلك هي منفعة‬
‫للسجان حيث سينظر مدير السجن إليه كسجان ذكي جييد إدارة األمور‬
‫يف هذا املكان املعقد‪ ،‬عندها سينال تلك احلظوة التي طاملا انتظرها وانتظر‬
‫املميزات التي ستأيت معها‪ ،‬إهنا حرية الوجود بني السجان والسجني‪.‬‬
‫فتح يل الباب األول ثم وقعت وأنا مكبل بيدي اليمنى عىل ورقة‬

‫‪76‬‬
‫خروجي النهائية‪ ،‬ثم فتح صندوق األمانات وأخرج مالبيس القديمة‬
‫وبقع الزيت الزالت متلئ كمي األيرس وساعتي الغالية التي طاملا حتركت‬
‫عقارهبا من أجيل‪ .‬دخلت غرفة املالبس أستبدل وأرمي مالبس السجن التي‬
‫أرتدهيا‪ .‬وجدت يف تلك الغرفة مرآة طولية مكسورة‪ ،‬من املؤكد أن سجين ًا‬
‫قبيل هشمها حتى أن وجهي بدا عليها متصدع ًا غري متالئم املالمح‪ ،‬ورغم‬
‫أنني فرح ومتلهف ورسيع احلركة لكنني مل أركز عىل وجهي كثري ًا‪ ،‬فقبل‬
‫أن أدخل السجن كنت أقول إن ما تفكر به ينعكس عىل مالمح وجهك‪،‬‬
‫ولكن وأنا يف طريقي للخروج قلت إن قلبي وشوقي هلند هو ما سينعكس‬
‫عىل مالحمي السعيدة أمامها‪ ،‬عندها سأصبح لوهلة واحدة الرجل الوحيد يف‬
‫العامل اجلميل الذي مأل يوم ًا عيني فتاة وقلبها‪.‬‬
‫أرسع أهيا اجلديد‪ ،‬ال وقت لدي‪ ،‬فالفريسة التي أخربتني عنها تنتظرين‪،‬‬
‫سأراقبها أليام‪ ،‬ال ال بل سأقبض عليه اآلن باجلرم املشهود‪ ،‬وسأطلب من‬
‫السجانني زمالئي أن يكونوا حارضين ليشهدوا هذا اليوم الذي سأحتول فيه‬
‫من حارس أبواب يلبي طلبات السجناء إىل قائد فرقتي‪ ،‬لن أتأخر إهنا أشياء‬
‫ال تتكرر كثري ًا يف هذا املكان اللعني ومع هؤالء املساجني‪ .‬عندها نظرت‬
‫إليه وتذكرت نظراته التي رمقني هبا عند دخويل أول مرة وكانت ترصفاته‬
‫هتينني‪ ،‬أما اآلن فشاهد كيف تغري احلال‪ .‬إن الدخول دائ ًام يف املتاعب ال يشبه‬
‫اخلروج منها إطالق ًا‪ ،‬وال حتى تعامل الناس من حولك معها‪ .‬فتح يل الباب‬
‫وكأين ملك متوج عىل العرش وقال يل‪:‬‬
‫‪ -‬اذهب إهنا احلرية‪ ،‬وإياك أن تعود إىل هذا املكان مرة أخرى‪ .‬فلن‬
‫أرمحك‪ ،‬كام أن الذي وشيت به حت ًام سيقتلك ويقطعك إرب ًا إن أبرصك‪.‬‬
‫السجان من طبقة صوته حيث جعلها حانية أكثر وكأنه حتول إىل‬
‫غي ّ‬ ‫ّ‬
‫صديقي‪:‬‬

‫‪77‬‬
‫‪ -‬هيا اذهب وتذكر دائ ًام أنك عندما سجنت مل تتوقف احلياة من أجلك‪،‬‬
‫ولن تتوقف ألجل غريك‪ ،‬ومن اعتربهتم أصدقاء ‪ -‬إن وجدوا ‪ -‬مل ولن‬
‫يأهبوا بك‪.‬‬
‫أخرجني وسحب باب السجن خلفي وزجمره باملغاليق السوداء‪.‬‬
‫ما هذا اخلروج؟! إنه فخ نصبه يل القدر‪ ،‬اخلروج من هنا أشبه بحياء‬
‫الفتيات اللوايت تتصنعنه لينصبن رشاكهن ومن ثم يقع الشاب يف املصيدة‪،‬‬
‫إن كانت هذه احلرية فإهنا الفتنة التي لعن اهلل من أيقظها‪ ،‬فام احلرية يف هذه‬
‫املدينة املحرمة إال سجن كبري بال قضبان حديدية وال حدود عينية وال ختيلية‪،‬‬
‫إهنا القايض وسوط اجلالد‪ ،‬والعذاب اخلالد الذي يالحقك حتى بعد مماتك‪.‬‬
‫يا للخيبة‪ ..‬طال وقويف بعد أن أوصدت الباب خلفي‪ ،‬مل يكن أحد يعلم‬
‫بخروجي‪ ،‬وال أظن أن أحد ًا يكرتث وال حتى مالكي الساموي هند‪.‬‬
‫واصل هبوط األمل لدي ألدنى مستوياته‪ ،‬وصل إىل نقطته احلرجة‬
‫ال عنها تلك الشقوق التي متأل قلبي عندما أتذكرها‪ ،‬فكل‬ ‫لتستبدل بد ً‬
‫الفواتري الباهظة دفعتها منذ عرفت نفيس وها أنا أواصل دفعها‪ ،‬ما قيمة‬
‫أن تنتظر وتنتظر وأنت تعلم بأن ال أحد سيأيت من أجلك‪ ،‬إنه الفراغ الذي‬
‫عهدته‪ ،‬نظرت بشكل أفقي ومل أكن أصدق أن السامء مل تعاقب هذه املدينة‬
‫عىل ما فعلت‪ .‬إنه هدوء احلياة امللوث كام تركته‪ ،‬إهنا وجوه املارة التي تتقلب‬
‫أقنعتها يف الدقيقة الواحدة‪ ،‬كام أهنا تلك اجلسور اآليلة للسقوط التي تلصق‬
‫الضفف املرتبة ببعضها‪ ،‬وأبنيتها الطينية األزلية البائدة التي ترهلت جدراهنا‪.‬‬
‫مضيت لعيل أرى ما يلجم غضبي من هذه املدينة‪ .‬كنت أسري بال وجهة‪.‬‬
‫مل يتعرف عيل أحد‪ ،‬مالبيس القديمة منحتني طابع غريب ًا وحليتي الكثة‬
‫الغوغائية التي جتاوزت قبضة يدي ومل أشذهبا منها منذ دخويل‪ ،‬ووجهي‬

‫‪78‬‬
‫الشاحب الذي ثقبه عفن تلك الوسادة التي بقيت أتشبث هبا طوال وقتي يف‬
‫السجن‪ ،‬وكل املؤرشات تدل عىل أنني جمنون أضاع وسيلة كسبه املضمونة‪.‬‬
‫إن هذا الطريق الذي أميض فيه أشبه بفيلم ذكريايت فكل الطرق انحناءات‬
‫ال استقامة فيها‪ ،‬بقيت أسري إىل أن وصلت إىل اجلبل العايل ذو الصخور‬
‫اجلرانيت النارية السوداء‪ ،‬والتي يقال بأنه كان بركان ًا مخدت نريانه ومل تعد‬
‫تسيل محمه الربكانية منذ آالف السنني‪ ،‬صعدت اجلبل عرب مسلكه املرصوف‬
‫باحلجارة الذي بناه أجدادنا ليصعدوه كل ما أتت األمراض واألوبئة و‬
‫احلروب‪ ،‬اختبئوا مما نصبته هلم الطبيعة األم‪ ،‬وبرغم أن الصعود شاق إال‬
‫أنني أدركت منذ زمن بعيد بأن الصمود يف القمة أصعب‪ ،‬فلم أعر أمل قدمي‬
‫أي اهتامم رغم ازدياده طوال تقدم الدرب يب نحو القمة‪ ،‬وصلت قمة اجلبل‪،‬‬
‫عندها تساءلت برباءة كم من شخص امتأل جسده بالعدمية صعد إىل هنا‬
‫وقرر ما سأفعله‪ ،‬قلبي كان آخر األشياء التي كنت أنتظر أن ينقذين‪ ،،‬نظرت‬
‫إىل املدينة املحرمة ورفعت يدي عالي ًا عىل مستوى كتفي‪ ،‬وقررت أن ألقي‬
‫بنفيس من أعىل جباهلا كطائر صغري قرر ألول مرة أن يطري‪ .‬وعندما كنت‬
‫أهوي من أعىل اجلبل إىل األسفل بتلك الرسعة التي شاهدهتا فيها رشيط‬
‫الذكريات من قبل والديت‪ ،‬بقيت أقول بصويت األخري مل تشاهدوين إنسان ًا‬
‫وأنا أتنفس بينكم ولكن حت ًام ستشاهدونني اآلن كفكرة عدمية تالحقكم إىل‬
‫أبد اآلبدين‪ ،‬وأنا؟! ما أنا إال فكرة ستبقى وحت ًام ستنساكم الذاكرة‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫الهنـــــــاية‬

‫‪80‬‬

You might also like