Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 7

‫دروس األستاذ بنمحمد الحسين‬ ‫مقرر السنة األول ى باكالوريا‬

‫المجزوءة الثانية الفاعلية واإلبداع‬


‫تمهيد‪:‬‬
‫تتحدد ماهية اإلنسان من خالل مجموعة من الخصائص الثابتة والدائمة واألساسية التي تميزه عن غيره من الكائنات‪ :‬فهو‬
‫كائن يتوفر على ملكة عقلية تمكنه من معرفة الواقع ومعرفة ذاته‪ ،‬كما يتميز بأنه يعي رغباته وحاجاته‪ ،‬ويتواصل مع غيره‬
‫من خالل عالمات ورموز لسانية‪ ،‬ويحتاج إلى العيش ضمن مجتمع ألنه ال يمكن أن يكتفي بذاته‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ما سبق‪ ،‬يتميز اإلنسان كذلك بأنه كائن فاعل ومبدع‪ ،‬ويتجلى هذا في قدرته على إنتاج األدوات واآلالت‬
‫والتقنيات ومراكمة الخبرات والمعارف حول ذاته وحول العالم الخارجي‪ ،‬وهذا ال يكون ممكننا إال بفضل تحويله لمعطيات‬
‫الطبيعة بواسطة الشغل‪ ،‬فيجعلها منتوجات ثقافية وإنسانية‪ .‬وهو كذلك ينفتح على غيره من الناس فيتبادل معهم الموارد‬
‫والخدمات واألدوار من أجل قيام حياة اجتماعية‪ ،‬وهو ال يكتفي بتبادل األشياء المادية‪ ،‬ولكن كذلك يتبادل األشياء الرمزية‬
‫مثل الكالم واألفكار‪ .‬وتمثل األعمال الفنية نموذجا أساسيا للفاعلية البشرية‪ ،‬باعتبار أن الفن ظاهرة إنسانية تعبر عن الذوق‬
‫الفني والتصورات الجمالية للكون وللتجربة الخاصة‪.‬‬

‫التقنية والعلم‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن ما يميز حياة اإلنسان المعاصر هو االعتماد الكبير على اآلالت والمعدات التقنية‪ ،‬التي يستخدمها باستمرار‪ ،‬والتي أصبحت‬
‫تشكل جزءا من وجوده‪ .‬وقد ارتبطت التقنية دائما بالمعرفة العلمية‪ .‬فليس هناك من العلماء من يقوم بالبحث العلمي بشكل‬
‫خالص ومجرد عن المنفعة‪ ،‬فاألمر يتعلق في أغلب األحيان ببحث تطبيقي في مجاالت متعددة‪ .‬ومن جهة أخرى يقتضي العلم‬
‫االعتماد على آالت وتقنيات جديدة‪ .‬لذلك فقد ساهم التطور التقني والتكنولوجي في تقدم وتطور العلوم‪ .‬فما طبيعة العالقة التي‬
‫تجمع التقنية بالعلم؟ وهل تمكن اإلنسان بفضل التقنية من السيطرة على الطيعة؟ وما إيجابيات وسلبيات التقدم التقني؟‬
‫المحور األول‪ :‬التقنية والعلم‪.‬‬
‫‪ .1‬المستوى المفاهيمي‪:‬‬
‫التقنية‪ :‬يستعمل التقنية بالمعاني التالية‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬من الناحية االشتقاقية يرجع مفهوم التقنية إلى اللفظ اإلغريقي ‪ techné‬والذي يعني الصنع واإلنتاج والنشاط‬
‫الفعال‪.‬‬
‫‪ -‬تدل التقنية على اإلتقان والمهارة والتفنن في إنجاز عمل ما أو صنع شيء من األشياء‪ ،‬نقول مثال العب له تقنيات‬
‫عالية‪.‬‬
‫‪ -‬ما ينتمي إلى مجال محدد ومتخصص في الممارسة والمعرفة‪ ،‬بهذا المعنى نقول مصطلحات تقنية‪.‬‬
‫‪ -‬مجموع اإلجراءات المستعملة قصد إنتاج شيء ما أو الحصول على نتيجة محددة‪ .‬مثال‪ :‬تقنيات المسرح‪ ،‬تقنيات‬
‫السينما‪ ،‬تقنيات فنون الحرب‪... ،‬‬
‫‪ -‬مجموع اإلجراءات المنهجية المؤسسة على معرفة علمية والمستعملة في اإلنتاج‪.‬‬
‫‪ -‬مجموع اآلالت واألجهزة وما يمثل التقدم الصناعي‪.‬‬
‫‪ -‬وفي المعجم النقدي والتقني للفلسفة يقدم أندري الالند التعريف التالي للتقنية‪« :‬مجموعة من العمليات واإلجراءات‬
‫المحددة تحديدا دقيقا‪ ،‬والقابلة للنقل والتحويل والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة»‪.‬‬
‫يتبين من هذا التعريف أن التقنية هي‪ :‬أوال‪ ،‬عمليات وإجراءات محددة بدقة وهادفة إلى تحقيق غرض معين وجدت‬
‫دروس األستاذ بنمحمد الحسين‬ ‫مقرر السنة األول ى باكالوريا‬

‫من أجله‪ .‬وهي ثانيا‪ ،‬قابلة للتعليم والتعلم والتطوير والتداول واالنتشار داخل وسط ما ومن هنا طابعها االجتماعي‪.‬‬
‫وهي أخيرا‪ ،‬تحقيق ألهداف عملية نفعية معينة‪ ،‬بمعنى أن التقنية ليست ترفا بل هي سد لحاجة أو نقص ما لدى‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫التكنولوجيا‪ :‬مجموع التقنيات واإلجراءات التي تمكن من صنع منتوج معين باالعتماد على تطبيق المعرفة العلمية‬ ‫‪‬‬

‫على مهام عملية (مثال تكنولوجيا الفضاء)‪ .‬ويدل كذلك هذا المفهوم على مبحث يهتم بالتفكير في التقنيات‪.‬‬
‫‪ .2‬المستوى اإلشكالي‪:‬‬
‫هل التقنية مجرد تطبيق للعلم أم أنها مستقلة بشكل كامل عن العلم؟‬
‫هل العلم هو الجزء النظري للتقنية‪ ،‬وهذه األخيرة هي الجزء العملي والتطبيقي للعلم؟‬
‫هل العلم يبني على التقنية أم أن التقنية تبنى على العلم؟‬
‫هل التقنية سابقة على العلم ام أنها الحقة عليه؟‬
‫هل التقنية والعلم أمران مستقالن من حيث طبيعتهما؟‬
‫‪ .3‬تحليل نص بول فيريليو‪ :‬الصفحة ‪ 68‬من كتاب منار الفلسفة‪ ،‬الشعبة العلمية‪.‬‬
‫❖ صاحب النص‪ :‬بول فيريليو )‪ (Paul Virilio‬هو فيلسوف فرنسي ولد سنة ‪ 1932‬وتوفي سنة ‪ .2018‬اشتهر بشكل‬
‫أساسي بكتاباته حول التكنولوجيا والسرعة‪.‬‬
‫❖ المرجع‪ :‬الحرب‪ ،‬السرعة والصورة‪.‬‬
‫أفكار النص‪:‬‬ ‫❖‬

‫• ترتبط التقنية بشكل كبير بحادثة لها خصوصية‪.‬‬


‫• ساهم تحليل الحوادث وفهمها في تطوير التقنيات وتحسينها وجعلها مسايرة للحياة اإلنسانية‪.‬‬
‫• لقد أصبحت الحاجة ماسة لعلوم جديدة بفضل تطور بعض التقنيات‪.‬‬
‫❖ الفكرة األساسية‪:‬‬
‫يؤكد صاحب النص على ارتباط التقنيات بحوادث لها خصوصية معينة‪ ،‬ذلك أن تطوير التقنيات وتحسينها وإعطائها بعدا‬
‫اجتماعيا وإنسانيا يقتضي الكشف عن الحوادث المتعلقة بها وتحليلها وفهمها‪.‬‬
‫❖ موضوع النص‪ :‬عالقة التقنية بالحادثة‪.‬‬

‫❖ إشكال النص‪ :‬ما عالقة التقنية بالحادثة؟ وما هي اآلثار المترتبة عنها؟‬

‫❖األساليب الحجاجية‪:‬‬
‫• أسلوب العرض‪ :‬وظف الفيلس وف في بداية نصه فكرة أساسية مضمونها أن اختراع التقنيات يكشف عن حوادث لها‬
‫خصوصية‪.‬‬
‫• أسلوب المثال‪ :‬استدل صاحب النص بمجموعة من األمثلة من أجل توضيح وتوسيع فكرته‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -‬اختراع الباخرة هو اختراع لغرقها‪ ،‬واختراع القطار هو اختراع لخروجه عن السكة‪ ،‬واختراع الطائرة هو اختراع‬
‫لسقوطها‪ ،‬واختراع الكهرباء هو اختراع للصعق بها‪ ،‬والغرض من ذلك أن يبين ارتباط ظهور التقنيات بحوادث لها‬
‫خصوصية‪.‬‬
‫‪ -‬إن اختراع السكة الحديدية ارتبط بالحاجة لهندسة الجسور والطرقات وكذلك لهندسة اآللة البخارية وهندسة حركة‬
‫المرور من أجل تطوير التقنية وجعلها مسايرة للحياة اإلنسانية‪.‬‬
‫• أسلوب التبرير‪ :‬يبرر صاحب النص فكرة أن الحوادث المرتبطة بشبكات االتصال كاالنترنت وغيرها ال نرى فيها سيارات‬
‫دروس األستاذ بنمحمد الحسين‬ ‫مقرر السنة األول ى باكالوريا‬

‫محطمة أو أجسادا ممزقة‪ ،‬لكن نرى فيها البطالة والتجسس‪.‬‬


‫• أسلوب التضاد‪ :‬وظف صاحب النص مفاهيم متعارضة بغرض توسيع فكرته‪ ،‬وهي‪ :‬توقف‪/‬حركة‪ ،‬بطالة‪/‬مهنة‪.‬‬
‫‪ .4‬موقف حنا أرنت‪(Hannah Arendt 1906 – 1975) :‬‬
‫تميز "حنا أرنت" بين األدوات واآلالت‪ ،‬من خالل اعتبارها أن األداة تكمل عمل اإلنسان الجسدي واليدوي‪ ،‬فهي في خدمته‬
‫وال يحتاج للتكي ف معها‪ ،‬أما اآللة فهي ترتبط بالمجتمع الصناعي وعلى اإلنسان أن يكيف عمله الجسدي مع حركاتها‬
‫الميكانيكية وأن يكون في خدمتها وقد تحل محله‪ .‬لذلك فقد أصبحت اآلالت شرطا من شروط الوجود اإلنساني‪.‬‬
‫مناقشة أطروحة "حنا أرنت"‬
‫تؤكد "حنا أرنت" أ نه في الوقت الذي كان اإلنسان يصنع األدوات ويتحكم فيها بواسطة عمله اليدوي‪ ،‬فإنه قد أصبح‬
‫مضطرا لكي يكيف إيقاع حركاته الجسدية مع العمل الميكانيكي الصادر عن اآلالت‪ .‬وهذا من شأنه أن ينعكس سلبا على‬
‫نفسيته وحريته‪.‬‬
‫تبرز القيمة الفلسفية لهذه األطروحة في كون اآلالت التقنية أصبحت تشرط الوجود اإلنساني‪ ،‬إذ ال يمكنه االستغناء عنها‪.‬‬
‫كما يمكن اإلقرار مع "أرنت" بأن اآللة أصبحت تفرض إيقاعها أثناء العمل‪ ،‬وأضحى اإلنسان يضطر لتكييف جسمه مع‬
‫اإليقاع التقني والميكانيكي الذي يفرضه العمل اآللي‪ .‬وبطبيعة الحال فهذا يجعل اإلنسان في وضعية التابع والمنفعل بدل أن‬
‫يكون حرا وفاعال‪.‬‬
‫ومن بين االعتراضات التي يمكن أن نوجهها إليها أنه رغم أن العمل اآللي أصبح يعوض أحيانا العمل الجسدي‪ ،‬فإن‬
‫اإلنسان يظل مع ذلك هو المبتكر والمبرمج والمتحكم في عمل اآللة في آخر المطاف‪ ،‬كما أنه يسخرها لخدمة أغراضه‬
‫وتحقيق رفاهية العيش‪ .‬ولذلك ينبغي اإلقرار بهامش الحرية الذي يملكه اإلنسان في برمجة عمل اآللة وجعلها مكملة لما لم‬
‫يستطع جسده القيام به‪.‬‬
‫‪ .5‬موقف أالن‪(Emile Chartier -Alain 1868 – 1951) :‬‬
‫يؤكد أالن أن التقنية ال تقتضي بالضرورة معرفة علمية مسبقة‪ .‬ذلك أن تغيير األشياء ال يقتضي بالضرورة معرفة كاملة بها‪،‬‬
‫فا إلنسان البدائي كان ماهرا في القنص دون أن يكون له تفسير علمي لهذه التقنية‪ .‬فالمعرفة العملية والتقنية تختلف عن‬
‫المعرفة العلمية والفكرية المرتبطة بها‪ .‬وعليه فنشوء التقنية ال يتم بالضرورة من خالل معرفة علمية‪.‬‬
‫‪ .6‬موقف سيرج موسكوفيتشي )‪(Serge Moscovici 1925 – 2014‬‬
‫يؤكد موسكوفيتشي على ترابط العلم والتقنية وعدم انفصالهما‪ .‬فالتقنيات واآلالت في نظره ال بد وأن تقوم على معارف علمية‬
‫مؤسسة لها‪ ،‬وأنه بدون استخدامها لعلمي الهندسة والحساب لن تستطيع إيجاد حلول لمشاكل عصرنا‪ .‬كما أن علمي الهندسة‬
‫والحساب ليست لهما القدرة على حل مشاكل اإلنسان ما لم يستخدما اآلالت والتقنيات‪ .‬وعلى هذا األساس فالممارسة التقنية‬
‫لعمل المهندس تتطلب إلماما بالعلم الرياضي‪ ،‬وهذا ما يجعل العلم مؤسسا للعمل التقني‪.‬‬
‫‪ .7‬موقف إدجار موران )…‪(Edgar Morin 1921- .‬‬
‫يبين إدغار موران أن التقنية والعلم والمجتمع يشكلون سيرورة دائرية‪ ،‬وأن بينهما عالقات متبادلة ومتداخلة‪ .‬فالتجريب‬
‫العلمي يؤدي إلى ابتكار آالت تقنية‪ ،‬وهذه األخيرة تساهم بدورها في إجراء التجارب العلمية وتطويرها‪ ،‬ويرتبط كل هذا‬
‫بالمصالح االقتصادية والسياسية للمجتمع‪ .‬فهناك تفاعل وتداخل بين العلم والتقنية‪ ،‬إذ يساهم كل منهما في إغناء اآلخر‬
‫وتطويره‪.‬‬
‫‪ .8‬خالصة المحور األول‬
‫يعيش اإلنسان المعاصر وسط عالم مليء بالتقنية بين عدة أجهزة وآالت مختلفة أنتجتها التكنولوجيا الحديثة فانتظمت‬
‫حياته أفرادا وجماعات بانتظام كل ميادين الحياة بانتظامها‪ .‬فالتقنية والعلم وجهان لعملة واحدة‪ ،‬ويؤديان دورا أساسيا ال غنى‬
‫دروس األستاذ بنمحمد الحسين‬ ‫مقرر السنة األول ى باكالوريا‬

‫عنه في تنمية المجتمعات المختلفة على جميع المستويات‪ .‬فعلى الرغم من أن المعنى الشائع لمفهوم التقنية في اللسان‬
‫العربي نجده يقابل العلم‪ ،‬كما تقابل الممارسة النظرية والتطبيق المعرفة‪ ،‬فهناك تفاعل بينهما ألن التقنية هي مجموع الوسائل‬
‫واألدوات التي يخترعها اإلنسان اعتمادا على العلم‪ .‬وهذا ما يدفعنا لطرح اإلشكاالت التالية‪ :‬ما طبيعة العالقة التي تجمع بين‬
‫التقنية والعلم؟ هل التقنية كانت قائمة قبل العلم؟ أم أن هذا األخير ظهر بشكل متأخر مقارنة مع التقنية؟‬
‫يؤكد معظم الفالسفة واألنثربولوجيون أن البعد التقني سابق أو على األقل مالزم للبعد المعرفي في اإلنسان‪ ،‬وأن اإلنسان‬
‫نفسه كائن صانع قبل أن يكون كائنا عارفا‪ ،‬بمعنى أن المهارات العملية لإلنسان سابقة بل متفوقة على مهاراته النظرية أو‬
‫المعرفية‪ .‬وهذا ما يبينه الفيلسوف الفرنسي أالن الذي اعتبر أن اإلنسان القديم كان ماهرا في القنص رغم امتالكه معلومات‬
‫خاطئة عن هذه العملية‪ ،‬لذلك فالتقنية لم تنشأ عن معرفة علمية مسبقة‪ .‬وإذا كانت التقنية قد تطورت عبر تاريخ اإلنسانية‬
‫تطورا بطيئا عبر عشرات القرون‪ :‬الحجر‪ ،‬الحديد‪ ،‬البروز‪ ،‬فإنها أخذت تتحول نوعيا من التقنية اليدوية إلى التقنية المعتمدة‬
‫على اآلالت مع ظهور العلم الحديث ابتداء من القرن السابع عشر في أوربا‪ .‬فقد تالحقت الثورات التقنية تباعا‪ :‬الثورة‬
‫البخارية‪ ،‬المحرك االنفجاري‪ ،‬اكتشاف الكهرباء ونتائجه‪ ،‬الثورة اإللكترونية‪ ،‬المعلوميات‪ ،‬الثورة الجينية‪ ،‬وهي تحوالت‬
‫تحكمها معايير التسارع والميل إلى االستقالل الذاتي والكونية والتطور العلمي بعيدا عن أي منظور غائي‪ ،‬وذلك في إطار‬
‫تصور جديد للعلم ذاته‪ .‬ولم يعد العلم في الف ترة الحديثة والمعاصرة كما كان في العصور القديمة معرفة نظرية شاملة متقابلة‬
‫مع التقنيات كصناعات وممارسات علمية‪ ،‬بل أصبح العلم مرتبطا عضويا بالتقنية‪ .‬وقد كشف الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو‬
‫عن هذه العالقة الوثيقة من خالل تحليله لعالقة الحوادث بتطور التقنيات‪ .‬فاكتشاف الحوادث المتعلقة بالتقنيات الحديثة‬
‫وتحليلها وفهمها يؤدي إلى تطوير التقنيات وتحسينها وإعطائها بعدا اجتماعيا وإنسانيا‪ .‬وقد تحدث الفيلسوف الفرنسي‬
‫موسكوفيتشي عن هذه العالقة الوثيقة كذلك من خالل تأكيده على أن المهندس الذي يصمم ويخطط لتطوير التقنيات يشترط‬
‫فيه أن يلم بالعلم الرياضي لتكميم الوقائع وتحويلها إلى حسابات رياضية‪ .‬وبهذا يصبح صنع اآلالت والتقنيات الميكانيكية‬
‫مرهونا بتكوين معرفة نظرية قبلية‪ ،‬تتمثل في الحساب الرياضي الذي يجريه المهندس‪ .‬وقد استشهد موسكوفيتشي بالعالم‬
‫اإليطالي الكبير ليوناردو دافنشي الذي كان يلجأ إلى الهندسة والحساب الرياضي لصياغة التقنيات التي توصل إليها‪ ،‬كالعجلة‬
‫المسننة مثال‪ ،‬وذلك لتأكيده على جدلية العلم والتقنية‪ .‬وهذا التفاعل الموجود بينهما وضحه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران‬
‫حينما اعتبر أن التجريب العلمي يؤدي إلى ابتكار آالت تقنية‪ ،‬وتساهم هذه األخيرة بدورها في إجراء التجارب العلمية‬
‫وتطويرها‪ ،‬ويرتبط كل هذا بالمصالح االقتصادية والسياسية للمجتمع‪.‬‬
‫خالصة القول‪ ،‬فعالقة التقنية بالعلم هي عالقة إشكالية‪ ،‬ففي العصور اليونانية القديمة نالحظ أن الرياضيات تطورت‬
‫بمعزل عن أي اهتمام تقني‪ ،‬كما أن هناك تقنيات ظهرت قبل أن يظهر التفسير العلمي لها (البوصلة الشمسية مثال)‪ .‬ولكن‬
‫على الرغم من ذلك ال يبدو أن التقنية تطورت بمعزل عن العلم‪ ،‬كما أنه ال يمكن أن يتطور العلم إال بفضل تقدم األدوات‬
‫التقنية‪ ،‬لذلك فهما يتفاعالن‪ .‬فالتقنية نشاط إنساني أساسي تقوم عليه باقي األنشطة اإلنسانية األخرى‪ ،‬وهو جزء من نسيج‬
‫العالقات االجتماعية‪ ،‬باعتبارها تطبيقات عملية للمعرفة العلمية مثل المفاعالت النووية واالستنساخ والطاقة الحرارية‪... ،‬‬
‫دروس األستاذ بنمحمد الحسين‬ ‫مقرر السنة األول ى باكالوريا‬

‫المحور الثاني‪ :‬التقنية والطبيعة‪.‬‬


‫‪ .1‬المستوى المفاهيمي‪:‬‬
‫• الطبيعة‪ :‬يستعمل مفهوم الطبيعة بالمعاني التالية‪:‬‬
‫❖ مجموع األشياء الخارجية التي لم يتدخل اإلنسان في صنعها كاألشجار والجبال مثال‪.‬‬
‫❖ مجموع الخصائص الفطرية والغريزية التي تولد مع اإلنسان والمشتركة بين جميع الناس‪ ،‬كاألكل والنوم‪.‬‬
‫وبهذا المعنى فالطبيعة تشير إلى ما هو فطري وموروث وبيولوجي‪ ،‬بخالف ما هو مكتسب وثقافي‪.‬‬
‫❖ هي الخصائص الثابتة التي تميز كائنا أو شيئا ما بحيث ال يمكن تصوره بدونها‪ ،‬كاالحتراق بالنسبة للنار‪.‬‬
‫❖ و تعني أيضا ما هو خالص وغير مصنع‪ ،‬كالعسل الذي لم يضف إليه اإلنسان موادا جديدة‪.‬‬
‫‪ .2‬المستوى اإلشكالي‪:‬‬
‫ما هي نتائج علم الطبيعة على الوجودين الطبيعي واإلنساني ؟ و كيف يجعلنا العلم سادة و مالكين للطبيعة؟‬
‫‪ .3‬تحليل نص ديكارت‪ :‬الصفحة ‪ 72‬من كتاب منار الفلسفة‪ ،‬الشعبة العلمية‪.‬‬
‫❖ صاحب النص‪ :‬هو العالم الرياضي والفيزيائي والفيلسوف الفرنسي روني ديكارت (‪ )René Descartes‬ولد عام‬
‫‪ 1596‬وتوفي عام ‪ .1650‬يعتبر أحد مؤسسي الفلسفة الحديثة‪.‬‬
‫❖ المرجع‪ :‬كتاب مقال في المنهج‪.‬‬

‫أفكار النص‪:‬‬ ‫❖‬

‫‪ -‬يدعو ديكارت إلى اإلفصاح عن مبادئ العلم الطبيعي ألنه يحقق فائدة لإلنسان‪ .‬فقيمة هذه المبادئ عملية وليست‬
‫نظرية‪ ،‬وبالتالي تمكن من تحقيق المصالح وجلب الخير للناس‪.‬‬
‫‪ -‬يدعو ديكارت إلى البحث عن بديل للفلسفة التأملية وليس نبذها وعدم االهتمام واالكتراث بها‪.‬‬
‫‪ -‬يعتبر صاحب النص أن العلم الطبيعي يقدم معرفة بقوانين الطبيعية تسمح لإلنسان بالسيطرة على الطبيعة‬
‫وتسخيرها لمصالحه واستغالل ثرواتها وجلب المنافع‪.‬‬
‫❖ موضوع النص‪ :‬الفلسفة العملية والفلسفة النظرية‪.‬‬

‫❖ إشكال النص‪ :‬ما العالقة التي أقامها اإلنسان بالطبيعة؟ وإلى أي حد تمكن من السيطرة عليها بواسطة التقنيات؟‬

‫أطروحة صاحب النص‪:‬‬ ‫❖‬

‫إن العلم الطبيعي (الفلسفة العملية) يمكننا من معرفة القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية‪ ،‬وهو األمر الذي يجعل‬
‫اإلنسان قادرا على السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لما يحقق مصالحه‪ ،‬فيصبح مالكا لها وسيدا عليها‪.‬‬
‫األساليب الحجاجية‪:‬‬ ‫❖‬

‫▪ أسلوب العرض‪ :‬يبدأ النص بفكرة عامة وهي أن مبادئ العلم الطبيعي توفر الخير للجميع‪.‬‬
‫▪ أسلوب المثال‪ :‬وظف الفيلسوف أمثلة لظواهر طبيعية‪ :‬النار‪ ،‬الماء‪ ،‬الهواء‪ ،‬الكواكب‪ ،‬السماوات‪ ،‬والغرض من ذلك هو‬
‫توضيح أن معرفة مكوناتها والقوانين المتحكمة فيها‪ ،‬يؤدي إلى السيطرة عليها وتسخيرها لخدمة مصالح اإلنسان‪ ،‬وهذا‬
‫فيه تبيان فائدة العلم الطبيعي‪.‬‬
‫▪ أسلوب التفسير‪ :‬يوضح صاحب النص فكرته األساسية من خالل تأكيده على أن الفلسفة العملية تمكن من جعل الناس‬
‫سادة للطبيعة ومالكيها وتحقق حفظ الصحة وضمان أسباب الراحة‪.‬‬
‫▪ أسلوب التبرير‪ :‬برر الفيلسوف فكرته من خالل اعتباره أن معرفة قوانين الطبيعة تجلب منفعة عظيمة في الحياة (‪...‬‬
‫دروس األستاذ بنمحمد الحسين‬ ‫مقرر السنة األول ى باكالوريا‬

‫ألن هذه المبادئ أبانت لي أنه يمكن الوصول إلى معارف عظيمة النفع في الحياة ‪.)...‬‬
‫▪ أسلوب التضاد‪ :‬نظرية‪/‬عملية‪.‬‬
‫▪ أسلوب الدحض‪ :‬يدحض ديكارت الفلسفة التأملية النظرية التي كانت سائدة في القرون السابقة‪ ،‬ألنها فلسفة عقيمة‪،‬‬
‫وغير اختبارية‪ ،‬وغير مفيدة‪ ،‬وال تؤدي إلى السيطرة على الطبيعة‪ ،‬ويتبين هذا في الجملتين التاليتين‪:‬‬
‫«‪ ...‬ومبلغ اختالفها عن المبادئ التي استخدمت إلى اآلن‪»...‬‬
‫«‪ ...‬أنه يمكننا أن نجد بدال من هذه الفلسفة النظرية ‪ ...‬فلسفة عملية‪»...‬‬
‫تعليق حول النص‪:‬‬ ‫❖‬

‫إن موقف ديكارت من الفلسفة التأملية النظرية هو موقف تجاوز وقطيعة ورفض‪ ،‬ألنها في نظره فلسفة عقيمة وجوفاء‪ ،‬وال‬
‫تنتج عنها أية منافع ملموسة على المستوى العملي‪ .‬فبدل االهتمام بشكل نظري بالمبادئ التي ترتكز عليها الفلسفة‬
‫السكوالئية التي كانت سائدة في القرون الوسطى‪ ،‬دعا ديكارت إلى تعميق البحث في الشق العملي من الفلسفة والعلوم‪ ،‬وذلك‬
‫يتم عن طريق فهم ومعرفة القوانين التي تتحكم في الظواهر‪ ،‬وهي خطوة أساسية للسيطرة عليها وتحويلها إلى منتوجات‬
‫صناعية وثقافية يستفيد منها اإلنسان‪ .‬فإذا أحاط اإلنسان بمبادئ التقنية‪ ،‬فإنه يتمكن من فهم قوى الطبيعة وتسخيرها‬
‫لصالحه‪ ،‬وبالتالي التحكم فيها‪ ،‬والتملص من التبعية للظروف الطبيعية‪ .‬فالتوصل إلى طرق تسخير قوى الطبيعة‪ ،‬سيجعل‬
‫اإلنسان مالكا لها وسيدا بعدما كان عبدا ذليال لها‪.‬‬
‫‪ .4‬موقف سيرج موسكوفيتشي )‪(Serge Moscovici 1925 – 2014‬‬
‫يؤكد هذا الفيلسوف الفرنسي ذو األصل الروماني أن التقنية ال تتعارض مع الطبيعة‪ ،‬وإنما تؤدي إلى تطوير العالم‬
‫الطبيعي‪ .‬فهو يعترض بشدة على القول الذي يذهب إلى اعتبار التقنية الحديثة معارضة ومناقضة للطبيعة‪ ،‬سواء كانت‬
‫طبيعتنا كبشر (مشاهد التدمير الذي تخلفه الصواريخ مثال) أو تعلقت بالوسط الطبيعي (المدن التي تقصي األشجار‬
‫والحيوانات مثال)‪ .‬فالتقنية في نظره تسهم في اختراع قوى مادية أخرى تنضاف إلى القوى الطبيعية‪ ،‬فهي لم تقلص الطبيعة‬
‫ولم تدمرها‪ ،‬ولكن غيرتها وأضفت عليها طابعا تقنيا وصناعيا‪ .‬فالعالم الطبيعي لم يعد عالما تقنيا‪ ،‬ولكن التقنية أسهمت في‬
‫تطوره وتغييره‪ .‬فإذا كانت األدوات المصنوعة هي امتداد لجسم اإلنسان ومتكيفة معه‪ ،‬فإن اآللة بدورها ستكون متكيفة معه‬
‫ومع الوسط الطبيعي‪ .‬فالممارسات اإلنسانية ال يتولد عنها بالضرورة ما مضاد للطبيعة‪ ،‬وإنما تندرج في إطار سيرورة‬
‫تتوافق مع حركة السير الطبيعي للكون‪.‬‬
‫‪ .5‬موقف هنري برجسون )‪(Henri Bergson 1849 – 1941‬‬
‫يعتبر الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون أن ذكاء اإلنسان يستعمل الطبيعة وموادها ويبتكر منها أشياء صناعية‬
‫وأدوات وتقنيات‪ ،‬تستعمل هي األخرى في صنع أشياء أخرى‪ .‬فهناك عالقة تأثير وتأثر وتفاعل بين الذكاء اإلنساني وابتكار‬
‫األدوات المصنوعة‪ .‬فإذا كانت التكنولوجيا تؤثر في الذكاء اإلنساني وتؤدي إلى تطويره‪ ،‬فهذا األخير يتجلى في األشياء‬
‫الصناعية‪ .‬والتصنيع بطبيعة الحال يتطلب استعمال مواد طبيعية خام‪ ،‬غير أنه يتم النظر إلى هذه األخيرة كمواد جامدة دون‬
‫االهت مام بطبيعتها الحيوية‪ .‬ومعنى ذلك أن التدخل التقني في الطبيعة نزع عنها جانبها الحيوي‪ ،‬وحولها لمجرد أدوات ال حياة‬
‫لها‪ ،‬وأهمل طبيعتها الحية‪.‬‬
‫‪ .6‬خالصة المحور‬
‫إن ما يميز التقنية هو كونها خاصية إنسانية ضاعفت قوة اإلنسان وغيرت نمط تعامله مع الطبيعة ومكنته من توسع‬
‫مجاالت نشاطه وتنويعها‪ .‬وقد سعى اإلنسان من خالل استعماله للتقنية إلى ترويض الطبيعة من أجل استعمالها والتحكم فيها‪.‬‬
‫أي أن التقنية وسيلة يسعى اإلنسان من خاللها ممارسة سلطته على الطبيعة‪ .‬فما عالقة التقنية بالطبيعة؟‬
‫إن التقنية كما قال أريسطو إما أن تحاكي الطبيعة أو تقوم بما تعجز الطبيعة عن فعله‪ .‬فالتقنية تصنع شيئا ما‪ ،‬وليس‬
‫دروس األستاذ بنمحمد الحسين‬ ‫مقرر السنة األول ى باكالوريا‬

‫هناك شيء في الطبيعة يماثل المطرقة وآلة الكتابة‪ .‬لقد ارتبطت التقنية دائما باعتبارها مهارة بالعمل اليدوي‪ .‬فاإلنسان هو‬
‫الكائن الوحيد بين الكائنات الطبيعية الذي يستخدم يديه كأدوات‪ ،‬ويقدر على استخدام أدوات بيديه‪ .‬فتطور اليد كأداة جاء‬
‫نتيجة وضعية االنتصاب التي تميز اإلنسان وكذلك بفضل تطور الدماغ وتمفصل اللغة‪ .‬فالتقنية عند اإلنسان هي استراتيجية‬
‫وخطة للحياة بهدف التخلص من سيطرة الطبيعة‪ .‬وقد اعتبر فرانسيس بيكون أنه ال يمكن السيطرة على الطبيعة إال‬
‫بالخضوع لها‪ ،‬وذلك يقتضي فهمها عن طريق اكتشاف القوانين التي تحكمها وابتكار األدوات التقنية األولية وصنع اآلالت‬
‫التقنية الحديثة‪ .‬من هنا يمكن تلخيص طبيعة العالقة من خالل التصور الديكارتي‪ .‬فقد دافع ديكارت عن علم الطبيعة‪ ،‬وعن‬
‫الفلسفة العملية المرتبطة به‪ ،‬ألنهما أثبتا فائدتهما على مستوى الواقع الفعلي‪ .‬فعلم الطبيعة يضع المبادئ النظرية والقوانين‬
‫التي تحكم الظواهر الطبيعية‪ .‬وتمكن معرفة مكونات هذه األخيرة اإلنسان من أن يصبح سيدا على الطبيعة ومالكا لها‪ .‬وفي‬
‫هذا الصدد يؤكد الفيلسوف الفرنسي موسكوفيشي أن التقنية ليست مضادة للطبيعة كما هو الشأن بالنسبة لديكارت‪ ،‬بل هي‬
‫جزء منها‪ ،‬أي هي الوجه اآلخر للتطور الذي حصل في العالم الطبيعي ككل‪ ،‬فاألشياء التي حولها اإلنسان إلى صناعات آالت‬
‫هي جزء ال يتجزأ من الطبيعة وليست غريبة عنها‪ .‬فكل ممارسة إنسانية‪ ،‬بما هي إنسانية‪ ،‬ال يتولد عنها ما هو مصطنع أو‬
‫ما هو مضاد للطبيعة‪ ،‬بل إنها تنخرط بشكل توافقي في حركة الكون المادي نفسه‪.‬‬
‫لقد أدى الحلم الديكارتي بأن يكون اإلنسان سيدا للطبيعة ومالكا لها إلى إلحاق أضرار بالغة بالطبيعة واإلنسان مادام أن هدفه‬
‫هو اإلنتاج‪ .‬وفي هذا الصدد يؤكد الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون أن التدخل التقني في الطبيعة نزع عنها ما يتعلق‬
‫بالحياة واالندفاع الحيوي‪ .‬فاإلنسان بتغييره لمواد الطبيعة بهدف صنع أدوات وأشياء نزع عنها طابعها الحيوي وحولها إلى‬
‫مواد جامدة خالية من الحياة‪ .‬فاستعمال اإلنسان لذكائه يقتضي جعل الطبيعة موضوعا جامدا ال حياة فيه‪.‬‬
‫في الختام‪ ،‬يتبين أن عالقة التقنية بالطبيعة يحكمها التناقض‪ ،‬ففي القديم كان اإلنسان خاضعا للطبيعة وفي حاجة‬
‫ماسة إليها لتلبية ضرورياته البيولوجية‪ ،‬ولتحويل موادها إلى أدوات صناعية‪ ،‬لذلك فقد كان سعيه دائما التحكم فيها‬
‫لتسخيرها لمصلحته‪ .‬أما اليوم فيمكن الحديث عن خضوع من نوع ثاني لإلنسان تجاه الطبيعة حيث أصبح ضعيفا أمامها‬
‫وتهدده وتتملكه‪ ،‬وذلك بسبب إفراطه في التحكم فيها بواسطة العلم والتقنية‪.‬‬

You might also like