23 04 2023

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 7

‫اإلنسان وجوهر اإلميان ‪ ..

‬بني احلقيقة والواقع‬


‫نشر في جريدة أخبار الخليج بتاريخ ‪ 23‬إبريل ‪2023‬‬

‫بقلم‪ :‬الدكتور زكريا الخنجي‬

‫يمكن أن يُعد القرآن الكريم – في أحد جزئياته – سجلا هائلا وموثوقاا‬


‫لكثير من األحداث التي وقعت على مدار التاريخ‪ .‬فمنذ لحظة خلق سيدنا‬
‫آدم حتى بعثة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يمكن أن تجدها في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬مروراا بالكثير من األقوام واألنبياء واألحداث التي لم تتمكن‬
‫أي السجلت أن تذكرها كما ذكرها الخالق عز وجل في القرآن الكريم‪.‬‬

‫علماا – كما نعتقد – أن كل هذا السجل‪ ،‬وهذا الكم من الحكايات‬


‫والقصص لم ترد في القرآن الكريم‪ ،‬لمجرد االستمتاع بها فقط‪ ،‬وإنما هي‬
‫عبر وعظات يمكن أن يستفيد منها اإلنسان على مر التاريخ‪ ،‬سواءا اليوم‬
‫أو حتى في المستقبل‪.‬‬

‫فلو استلينا جزئية صغيرة من تلك الحكايات وحاولنا أن نستشف منها‬


‫بعض العبر‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بالحقيقة والواقع وطول النظر وقصر‬
‫النظر‪ ،‬فنرى كيف ستكون ؟‬

‫والحقيقة؛ وهي طول النظر‪ ،‬وهي ببساطة تلك األمور التي تتعارض مع‬
‫الكذب والخيال واألوهام‪ ،‬وما لم يختلط بها أي من عناصر التدليس‬
‫والتزييف لتغييرها فتحولها إلى محض كذب‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أما الواقع؛ فهي قصر النظر‪ ،‬فهو اللحظة التي يعيش فيها المرء‪ ،‬سواء‬
‫كان يعيش كذبه أو وهماا فصدقها بنفسه وعقله‪ ،‬فاعتقدت أنها‬
‫حقيقة‪.‬‬

‫دعونا بهذا المفهومين نتجول بين بعض األحداث والحكايات‪،‬‬

‫فرعون؛ عاش فرعون في وهم وواقع كبيرين‪ ،‬وأعتبر أنه إله‪ ،‬وأوهم الناس‬
‫الذين يعيشون معه أنه فعلا إله‪ .‬وعندما بُعث سيدنا موسى عليه‬
‫السلم رفض أن يكون للحياة إله غيره وأعظم منه‪ ،‬لذلك حاول أن يفرض‬
‫واقعه هو بشتى الطرق‪ ،‬ولم يرعو‪ ،‬وبسبب قصر نظره لألمور فجاء تارة‬
‫بالسحرة وتارة طلب من هامان أن يبني له بناء حتى يطلع على ذلك اإلله‬
‫الذي يعيش في السماء‪.‬‬

‫عاش فرعون في واقع الثراء والسلطة حتى آمن بكل جوارحه أنه هو اإلله‪،‬‬
‫فرفض الحقيقة التي تقول له ليس إله وأنه يوجد إله أعظم منه وهو‬
‫الذي يمتلك كل شيء‪ ،‬وأنه هو؛ فرعون مجرد رجل عادي ال يختلف عن‬
‫بقية البشر في شيء‪ ،‬وكان هذا قصر نظر منه‪.‬‬

‫تغلغل الواقع في عقل فرعون جعله يصارع‪ ،‬ويقتل كل من آمن بالحقيقة‬


‫الكبرى التي جاء بها سيدنا موسى عليه السلم‪ ،‬أغلق عقله وقلبه‬
‫ووجدانه حتى ال تتسرب الحقيقة فتزيل ورقة الواقع الرقيقة التي كان‬
‫يعيش فيها‪.‬‬

‫كانت نظرة فرعون لألمور سطحية وقصيرة المدى ألنه لم يستطيع أن‬
‫ينظر في األفق ولم يزيل بنفسه ورقة الواقع والوهم الكذب الرقيقة‬
‫لينظر للحقيقة الكبرى‪ ،‬فتصادم معها‪ ،‬ولكنه في اللحظة األخيرة من‬

‫‪2‬‬
‫حياته وهو يعاني من أجل رشفة هواء أعلن الحقيقة بكل بساطة‪،‬‬
‫ويصف القرآن تلك اللحظة بقوله عز وجل في سورة يونس – اآلية ‪90‬‬
‫(وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْياا وَعَدْواا حَتَّى‬
‫إِذَا أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَا إِلَهَ إِلَّا ٱلَّذِى ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُواْ إسرائيل وَأَنَا۠‬
‫مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ)‪ ،‬وكانت لحظة انكشاف الحقيقة ولكنها جاءت متأخرة‪.‬‬

‫قارون‪ ،‬كان من أغنى أغنياء البشر في زمانه‪ ،‬حتى إنه من فرط ثرائه كانت‬
‫مفاتيح خزائنه كانت أثقل من أن يحملها الرجال األشداء بسبب ثقلها‬
‫وضخامتها‪ .‬عاش هذا الواقع بكل جوانحه وكيانه وعقله ووجدانه‪ ،‬حتى‬
‫أنه رفض أن يسمع كلم الحقيقة‪ ،‬لم يرفض فحسب وإنما تعالى على‬
‫كل الحقيقة التي تقول إن الرازق والمالك هو اهلل سبحانه‪.‬‬

‫وعلى الرغم من سطوع الحقيقة‪ ،‬إال أنه قال في صورة القصص – اآلية ‪78‬‬
‫كما قال تعالى‪( :‬قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)‪ ،‬وهنا اختلطت كل‬
‫المفاهيم لديه‪ ،‬فهي واقع ممزوج بغرور وتكبر وكذلك عودة ورقة الواقع‬
‫الرقيقة التي ال تستطيع أن تغطي الحقيقة إال في النفوس والعقول التي‬
‫تتوهم أنها أكبر من الحقيقة‪ ،‬وهنا يتجلى قصر النظر لدى قارون‪.‬‬

‫ثراء ما بعده ثراء‪ ،‬وحتى يُخضع الناس الذين يعيشون حوله‪ ،‬فإنه خرج‬
‫على الناس ذات يوم بكامل زينته وثرائه‪ ،‬خرج عليهم بكل مجوهراته‬
‫وملبسه التي ال يمتلكها إال هو‪ ،‬ففُتن به الناس‪ ،‬وتمنوا أن يملكوا جزءاا‬
‫مما أوتي قارون‪ .‬وكان قارون في تلك اللحظة وكأنه يريد أن يقول للذين‬
‫تبينوا الحقيقة‪ ،‬أنه أنا الحقيقة المطلقة‪ ،‬أنا أقوى رجل فيكم ألني أثرى‬
‫منكم جميعاا‪ ،‬أما أنتم فل تكادون أن تكونوا شيئاا‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ولكن أثناء كل هذه العنجهية والجبروت‪ ،‬تبرز الحقيقة المطلقة‪ ،‬فتحرق‬
‫ورقة الواقع الرقيقة والهزيلة والشفافة‪ ،‬وحتى الذين كانت نظرتهم‬
‫قصيرة المدى والذين تمنوا مكانه باألمس‪ ،‬اكتشفوا أن الحقيقة أبعد من‬
‫هذا كله‪.‬‬

‫ويتكرر هذا الواقع الهزيل‪ ،‬عند صاحب الجنتين المذكور في سورة‬


‫الكهف‪ ،‬وتستمر حتى تصل إلى الوليد بن المغيرة‪ ،‬الذي كان قاب قوسين‬
‫أو أدنى من الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬إال أنه رفض التفكير الحر لذلك أنجرف‬
‫نحو الواقع الجاهلي الذي كان يعيش فيه وذلك بسبب قصر نظره‪ ،‬قال‬
‫تعالي وهو يصف لحظة اقترابه من الحقيقة والتفكير الحر واتخاذ القرار‬
‫في سورة ص – اآلية ‪( 67‬ذرني ومن خلقت وحيداا وجعلت له مالاا ممدوداا‬
‫وبنين شهوداا ومهدت له تمهيداا ثم يطمع أن أزيد كل إنه كان آلياتنا‬
‫عنيداا سأرهقه صعوداا)‪.‬‬

‫مع أن الوصول إلى الحقيقة المطلقة ال تحتاج إال إلى التفكير المجرد‬
‫والمنطقي والمنهجي وبُعد نظر‪ ،‬ربما نجد هذا النوع من التفكير في‬
‫القصص التالية‪:‬‬

‫أهل الكهف‪ ،‬يقول تعالى (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)‪ ،‬لم يوضح لنا‬
‫سبحانه وتعالى من هم فتية الكهف‪ ،‬هل هم أغنياء‪ ،‬سادة‪ ،‬أو أي أمر آخر‪،‬‬
‫ولكننا نعرف بكل بساطة أنهم كانوا أصحاب بُعد نظر فرفضوا الواقع‬
‫الذي كانوا يعيشون فيه‪ ،‬وعرفوا الحقيقة المطلقة‪ ،‬وعرفوا أن نفوسهم‬
‫تتوق إلى تلك الحقيقة الكبرى‪ ،‬وهذا واضح في اآليات التالية (وَرَبَطْنَا‬
‫عَلَى۠ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن‬

‫‪4‬‬
‫دُونِهِ إِلَ۠هاا ۠ لَّقَدْ قُلْنَا إِذاا شَطَطاا )‪ (14‬هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةا‬
‫۠ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۠ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى۠ عَلَى اللَّهِ كَذِباا‬
‫(‪.)15‬‬

‫كان قومهم يعيشون الواقع‪ ،‬وكان أهل الكهف يعرفون الحقيقة‪ ،‬ربما‬
‫حدث تفاعل وتصادم بين الطرفين‪ ،‬وهذا هو حال الحياة التي يعيشها‬
‫أهل الحقيقة‪ ،‬وربما عندما وصلت األمور ذروتها قرروا االبتعاد عن األهل‬
‫واألرض وترك كل هذا الواقع خلفهم ووراء ظهورهم‪ ،‬فكل تلك األمور ال‬
‫تستحق أن يتمسك بها اإلنسان إن عرف الحقيقة‪ ،‬وخرجوا‪ ،‬ولكنهم لم‬
‫يبتعدوا‪ ،‬فكانوا آية للحقيقة الواعية والراغبين في التفكير الحر الناضج‪،‬‬
‫والذين يمتلكون بُعد النظر‪.‬‬

‫سيدنا إبراهيم عليه السلم‪ ،‬منذ الصغر وسيدنا إبراهيم يشعر في قرارة‬
‫نفسه أن الحقيقة هي ليس ذلك الواقع وتلك األصنام التي يعبدها‬
‫قومه‪ ،‬فل شك أن الحقيقة أمر آخر‪ ،‬فذهب يبحث عنها بين النجوم‬
‫والسماء واألرض‪ ،‬وعندما اتضحت له‪ ،‬وانبلج فجر الحقيقة أمام عينيه‪،‬‬
‫وقف أمام قومه كلهم ليخبرهم أن الواقع الذي يعيشون فيه مزيف‪ ،‬وأن‬
‫الحقيقة غير ذلك تماماا وأن هذه األصنام ال تتكلم وال تنطق وال تفكر‪،‬‬
‫فكيف يخضع لها اإلنسان المفكر الحر والمتخذ القرار‪.‬‬

‫وعندما بلغت األمور إلى حد التصادم بين الحقيقة والواقع‪ ،‬تلك الحظة‬
‫يصفها القرآن الكريم في سورة األنبياء (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ‬
‫التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ )‪ (52‬قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا‬
‫عَابِدِينَ )‪ (53‬قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )‪ (54‬قَالُوا‬

‫‪5‬‬
‫أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ )‪ (55‬قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ‬
‫وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (‪.)56‬‬

‫في تلك اللحظة‪ ،‬وحتى تظل عقول أصحاب النظر القصير وتحت سيطرة‬
‫الواقع طلبوا أن يوقدوا له ناراا عظيمة بهدف إحراقه وإحراق الحقيقة التي‬
‫جاء بها‪ ،‬ولكن الحقيقة التي كانت تعيش في جوف سيدنا إبراهيم عليه‬
‫السلم كانت أكبر من تلك النار‪ .‬كان سيدنا إبراهيم عليه السلم يعلم‬
‫من خلل منطق الواقع أن النار سوف تحرقه إن وضع رجليه فيها‪ ،‬ولكنه‬
‫في الوقت ذاته كان يعلم أن اهلل سبحانه وتعالى صاحب الحقيقة‬
‫المطلقة سوف ينجيه‪ ،‬في اللحظة التي يريدها هو سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫فتجلت الحقيقة وتبخر الواقع‪.‬‬

‫وسيدنا العظيم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬لم يعش الحقيقة‬
‫فحسب‪ ،‬ولكنه أنصهر فيها‪ ،‬فكانت حياته ووجدانه وتفكيره كلها‬
‫تنطق بالحقيقة‪ .‬فمنذ اللحظة األولى التي صدع بالحقيقة أمام قومه‬
‫وحتى لحظة ارتقائه إلى الرفيق األعلى‪ ،‬فهو يدعو لتلك الحقيقة‪ ،‬تلك‬
‫الحقيقة التي تقول إنه (ال إله إال اهلل وأن محمداا رسول اهلل)‪ .‬وعلى الرغم‬
‫من كل الذي حدث له من معاناة وعناد الواقع األليم والمرير‪ ،‬إال أنه وفي‬
‫لحظات ضعفه البشري كان يلجأ إلى الحقيقة المطلقة‪ ،‬في تلك اللحظة‬
‫رفع يديه إلى اهلل سبحانه وتعالى وقال‪( :‬إن لم يكن بك علي غضب فل‬
‫أبالي‪ ،‬ولكن عافيتك هي أوسع لي‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له‬
‫الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا واآلخرة من أن تنزل بي غضبك‪ ،‬أو يحل‬
‫علي سخطك‪ ،‬لك العتبى حتى ترضى‪ ،‬وال حول وال قوة إال بك)‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وفي مكان آخر‪ ،‬وفي حديث آخر طويل نقتبس هذه الجزئية قال‪( :‬فنظرتُ‬
‫فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلمُ ‪ ،‬فَناداني فقالَ‪ :‬يا محمَّدُ‪ ،‬إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ‪،‬‬
‫قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ‪ ،‬وما ردُّوا عليكَ‪ ،‬وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ‬
‫بما شئتَ فيهِم قالَ‪ :‬فَناداني ملَكُ الجبالِ‪ :‬فسلَّمَ عليَّ‪ ،‬ثمَّ قالَ‪ :‬يا محمَّدُ‪:‬‬
‫إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ‪ ،‬وأَنا ملَكُ الجبالِ‪ ،‬وقد بعثَني ربُّكَ‬
‫إليكَ لتأمرَني أمرَكَ‪ ،‬وبما شئتَ‪ ،‬إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ األخشبَينِ‬
‫فعلتُ‪ ،‬فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ‪ :‬بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ‬
‫ك بِهِ شيئاا)‪ .‬وهكذا هم العظماء‬
‫مِن أصلبِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ‪ ،‬ال يشرِ ُ‬
‫أصحاب بُعد النظر الذين يؤمنون بالحقيقة‪.‬‬

‫واآلن‪ ،‬هل نحن نعيش الواقع أو الحقيقة ؟ األمر متروك لك‪.‬‬

‫‪7‬‬

You might also like