Professional Documents
Culture Documents
23 04 2023
23 04 2023
23 04 2023
والحقيقة؛ وهي طول النظر ،وهي ببساطة تلك األمور التي تتعارض مع
الكذب والخيال واألوهام ،وما لم يختلط بها أي من عناصر التدليس
والتزييف لتغييرها فتحولها إلى محض كذب.
1
أما الواقع؛ فهي قصر النظر ،فهو اللحظة التي يعيش فيها المرء ،سواء
كان يعيش كذبه أو وهماا فصدقها بنفسه وعقله ،فاعتقدت أنها
حقيقة.
فرعون؛ عاش فرعون في وهم وواقع كبيرين ،وأعتبر أنه إله ،وأوهم الناس
الذين يعيشون معه أنه فعلا إله .وعندما بُعث سيدنا موسى عليه
السلم رفض أن يكون للحياة إله غيره وأعظم منه ،لذلك حاول أن يفرض
واقعه هو بشتى الطرق ،ولم يرعو ،وبسبب قصر نظره لألمور فجاء تارة
بالسحرة وتارة طلب من هامان أن يبني له بناء حتى يطلع على ذلك اإلله
الذي يعيش في السماء.
عاش فرعون في واقع الثراء والسلطة حتى آمن بكل جوارحه أنه هو اإلله،
فرفض الحقيقة التي تقول له ليس إله وأنه يوجد إله أعظم منه وهو
الذي يمتلك كل شيء ،وأنه هو؛ فرعون مجرد رجل عادي ال يختلف عن
بقية البشر في شيء ،وكان هذا قصر نظر منه.
كانت نظرة فرعون لألمور سطحية وقصيرة المدى ألنه لم يستطيع أن
ينظر في األفق ولم يزيل بنفسه ورقة الواقع والوهم الكذب الرقيقة
لينظر للحقيقة الكبرى ،فتصادم معها ،ولكنه في اللحظة األخيرة من
2
حياته وهو يعاني من أجل رشفة هواء أعلن الحقيقة بكل بساطة،
ويصف القرآن تلك اللحظة بقوله عز وجل في سورة يونس – اآلية 90
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْياا وَعَدْواا حَتَّى
إِذَا أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَا إِلَهَ إِلَّا ٱلَّذِى ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُواْ إسرائيل وَأَنَا۠
مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ) ،وكانت لحظة انكشاف الحقيقة ولكنها جاءت متأخرة.
قارون ،كان من أغنى أغنياء البشر في زمانه ،حتى إنه من فرط ثرائه كانت
مفاتيح خزائنه كانت أثقل من أن يحملها الرجال األشداء بسبب ثقلها
وضخامتها .عاش هذا الواقع بكل جوانحه وكيانه وعقله ووجدانه ،حتى
أنه رفض أن يسمع كلم الحقيقة ،لم يرفض فحسب وإنما تعالى على
كل الحقيقة التي تقول إن الرازق والمالك هو اهلل سبحانه.
وعلى الرغم من سطوع الحقيقة ،إال أنه قال في صورة القصص – اآلية 78
كما قال تعالى( :قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) ،وهنا اختلطت كل
المفاهيم لديه ،فهي واقع ممزوج بغرور وتكبر وكذلك عودة ورقة الواقع
الرقيقة التي ال تستطيع أن تغطي الحقيقة إال في النفوس والعقول التي
تتوهم أنها أكبر من الحقيقة ،وهنا يتجلى قصر النظر لدى قارون.
ثراء ما بعده ثراء ،وحتى يُخضع الناس الذين يعيشون حوله ،فإنه خرج
على الناس ذات يوم بكامل زينته وثرائه ،خرج عليهم بكل مجوهراته
وملبسه التي ال يمتلكها إال هو ،ففُتن به الناس ،وتمنوا أن يملكوا جزءاا
مما أوتي قارون .وكان قارون في تلك اللحظة وكأنه يريد أن يقول للذين
تبينوا الحقيقة ،أنه أنا الحقيقة المطلقة ،أنا أقوى رجل فيكم ألني أثرى
منكم جميعاا ،أما أنتم فل تكادون أن تكونوا شيئاا.
3
ولكن أثناء كل هذه العنجهية والجبروت ،تبرز الحقيقة المطلقة ،فتحرق
ورقة الواقع الرقيقة والهزيلة والشفافة ،وحتى الذين كانت نظرتهم
قصيرة المدى والذين تمنوا مكانه باألمس ،اكتشفوا أن الحقيقة أبعد من
هذا كله.
مع أن الوصول إلى الحقيقة المطلقة ال تحتاج إال إلى التفكير المجرد
والمنطقي والمنهجي وبُعد نظر ،ربما نجد هذا النوع من التفكير في
القصص التالية:
أهل الكهف ،يقول تعالى (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) ،لم يوضح لنا
سبحانه وتعالى من هم فتية الكهف ،هل هم أغنياء ،سادة ،أو أي أمر آخر،
ولكننا نعرف بكل بساطة أنهم كانوا أصحاب بُعد نظر فرفضوا الواقع
الذي كانوا يعيشون فيه ،وعرفوا الحقيقة المطلقة ،وعرفوا أن نفوسهم
تتوق إلى تلك الحقيقة الكبرى ،وهذا واضح في اآليات التالية (وَرَبَطْنَا
عَلَى۠ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن
4
دُونِهِ إِلَ۠هاا ۠ لَّقَدْ قُلْنَا إِذاا شَطَطاا ) (14هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةا
۠ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۠ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى۠ عَلَى اللَّهِ كَذِباا
(.)15
كان قومهم يعيشون الواقع ،وكان أهل الكهف يعرفون الحقيقة ،ربما
حدث تفاعل وتصادم بين الطرفين ،وهذا هو حال الحياة التي يعيشها
أهل الحقيقة ،وربما عندما وصلت األمور ذروتها قرروا االبتعاد عن األهل
واألرض وترك كل هذا الواقع خلفهم ووراء ظهورهم ،فكل تلك األمور ال
تستحق أن يتمسك بها اإلنسان إن عرف الحقيقة ،وخرجوا ،ولكنهم لم
يبتعدوا ،فكانوا آية للحقيقة الواعية والراغبين في التفكير الحر الناضج،
والذين يمتلكون بُعد النظر.
سيدنا إبراهيم عليه السلم ،منذ الصغر وسيدنا إبراهيم يشعر في قرارة
نفسه أن الحقيقة هي ليس ذلك الواقع وتلك األصنام التي يعبدها
قومه ،فل شك أن الحقيقة أمر آخر ،فذهب يبحث عنها بين النجوم
والسماء واألرض ،وعندما اتضحت له ،وانبلج فجر الحقيقة أمام عينيه،
وقف أمام قومه كلهم ليخبرهم أن الواقع الذي يعيشون فيه مزيف ،وأن
الحقيقة غير ذلك تماماا وأن هذه األصنام ال تتكلم وال تنطق وال تفكر،
فكيف يخضع لها اإلنسان المفكر الحر والمتخذ القرار.
وعندما بلغت األمور إلى حد التصادم بين الحقيقة والواقع ،تلك الحظة
يصفها القرآن الكريم في سورة األنبياء (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ
التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) (52قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا
عَابِدِينَ ) (53قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) (54قَالُوا
5
أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ) (55قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (.)56
في تلك اللحظة ،وحتى تظل عقول أصحاب النظر القصير وتحت سيطرة
الواقع طلبوا أن يوقدوا له ناراا عظيمة بهدف إحراقه وإحراق الحقيقة التي
جاء بها ،ولكن الحقيقة التي كانت تعيش في جوف سيدنا إبراهيم عليه
السلم كانت أكبر من تلك النار .كان سيدنا إبراهيم عليه السلم يعلم
من خلل منطق الواقع أن النار سوف تحرقه إن وضع رجليه فيها ،ولكنه
في الوقت ذاته كان يعلم أن اهلل سبحانه وتعالى صاحب الحقيقة
المطلقة سوف ينجيه ،في اللحظة التي يريدها هو سبحانه وتعالى،
فتجلت الحقيقة وتبخر الواقع.
وسيدنا العظيم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،لم يعش الحقيقة
فحسب ،ولكنه أنصهر فيها ،فكانت حياته ووجدانه وتفكيره كلها
تنطق بالحقيقة .فمنذ اللحظة األولى التي صدع بالحقيقة أمام قومه
وحتى لحظة ارتقائه إلى الرفيق األعلى ،فهو يدعو لتلك الحقيقة ،تلك
الحقيقة التي تقول إنه (ال إله إال اهلل وأن محمداا رسول اهلل) .وعلى الرغم
من كل الذي حدث له من معاناة وعناد الواقع األليم والمرير ،إال أنه وفي
لحظات ضعفه البشري كان يلجأ إلى الحقيقة المطلقة ،في تلك اللحظة
رفع يديه إلى اهلل سبحانه وتعالى وقال( :إن لم يكن بك علي غضب فل
أبالي ،ولكن عافيتك هي أوسع لي ،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له
الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا واآلخرة من أن تنزل بي غضبك ،أو يحل
علي سخطك ،لك العتبى حتى ترضى ،وال حول وال قوة إال بك).
6
وفي مكان آخر ،وفي حديث آخر طويل نقتبس هذه الجزئية قال( :فنظرتُ
فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلمُ ،فَناداني فقالَ :يا محمَّدُ ،إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ،
قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ ،وما ردُّوا عليكَ ،وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ
بما شئتَ فيهِم قالَ :فَناداني ملَكُ الجبالِ :فسلَّمَ عليَّ ،ثمَّ قالَ :يا محمَّدُ:
إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ ،وأَنا ملَكُ الجبالِ ،وقد بعثَني ربُّكَ
إليكَ لتأمرَني أمرَكَ ،وبما شئتَ ،إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ األخشبَينِ
فعلتُ ،فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ :بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ
ك بِهِ شيئاا) .وهكذا هم العظماء
مِن أصلبِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ ،ال يشرِ ُ
أصحاب بُعد النظر الذين يؤمنون بالحقيقة.
7