Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 184

‫ُ‬

‫أريج الزهر‬
‫‪66‬‬
‫‪2016‬‬ ‫ص‬ ‫‪10‬‬ ‫د‬ ‫خخص‬

‫أريجُ الزهر‬
‫تأليف‪ :‬الشيخ مصطفى الغالييني‬

‫الناشر ‪:‬‬
‫وزارة ّ‬
‫الثقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬

‫العمل الفني للغالف‪ :‬صورة الشيخ مصطفى الغالييني‬


‫ّ‬
‫مجلة الدوحة‬ ‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم الفني ‪-‬‬

‫ّ‬
‫المجلة‪.‬‬ ‫كتابها‪ ،‬وال ُتع ِّبر ‪-‬بالضرورة‪ -‬عن رأي الوزارة أو‬
‫المواد المنشورة في الكتاب ُتع ِّبر عن آراء ّ‬
‫ُ‬
‫أريج الزهر‬
‫أدبي‬
‫ّ‬ ‫اجتماعي‬
‫ّ‬ ‫أخالقي‬
‫ّ‬ ‫كتاب‬

‫الشيخ مصطفى الغالييني‬


‫إهداء الكتاب‬
‫جرت عادة السلَف‪ ،‬كما درج عىل ذلك الخلَف‪ ،‬أن يقدِّم املؤلِّف كتابه إىل‬
‫رجل من رجال األ ّمة الذين تو َّفرت فيهم امللَكات الفاضلة‪ ،‬ونالوا نصيبا ً‬
‫فكرت فيمن أهدي‬ ‫غري قليل من املصاعب يف سبيل الخدمة العا ّمة‪ .‬وقد َّ‬
‫إليه كتابي هذا‪ ،‬فكان أ َّول من َم ّر بخاطري وأوسطه وآخره شيخي‬
‫وأستاذي عالم الرشق وفيلسوفه‪ ،‬وإنسان ناظره‪ ،‬األستاذ األمام «الشيخ‬
‫محمد عبده» مفتي الديار املرصية‪ ،‬أكرمه الله‪.‬‬

‫فإىل روحه الطاهرة البا ّرة أهدي هذا الكتاب‪ ،‬اعرتافا ً بفضله عيلَّ‪ ،‬وعىل‬
‫األ ّمة جمعاء‪.‬‬

‫املق ّر بالجميل‬
‫الغالييني‬
‫بريوت‪ :‬غ ّرة ذي الحجة‪1329 ،‬هـ‬
‫مق ِّدمة‬

‫ُحبّ الظهور والبرش‬

‫وبعد‪ ،‬فقد ُفطر البرش‪ ،‬منذ ُع ِرف البرش‪ ،‬عىل ُح ّب الظهور‪ .‬نعم‪ ،‬لوال ُح ّب‬
‫الظهور ملا ظهر يف هذا العالم اإلنساني فضيلة‪ ،‬وال بدت مأثرة‪ ،‬وال أُثِرت‬
‫حب الظهور ملا ظهرت األُمم‪ ،‬وال تك َّونت الجماعات‪ ،‬وال‬ ‫منقبة‪ ،‬بل لوال ّ‬
‫تألَّفت املمالك‪ ،‬وال انتظم شمل االجتماع‪ ،‬بل وال ظهر اخرتاع‪ ،‬وال ُحمِل‬
‫يراع‪ ،‬وال أُلِّف سِ ْفر‪ ،‬وال جال ٌّ‬
‫أثري يف قفر‪.‬‬

‫ُحبّ الظهور‪ّ ،‬‬


‫وكل ذي روح‬

‫كل ذي روح؛‬‫ُح ّب الظهور ال يقترص عىل جنس البرش‪ ،‬بل هو غريزة يف ّ‬


‫فالخيل يف خيالئها وهبواتها‪ ،‬واآلساد يف زهواتها ولهواتها‪ ،‬بل النمور يف‬
‫نزواتها‪ ،‬والذئاب يف غزواتها‪ ،‬والهجان يف سبحاتها‪ ،‬والغزالن يف شنجاتها‪،‬‬
‫كل ما َشد وأَنِس يحاول أن يظهر بأبدع مظهر‪:‬‬ ‫بل ّ‬

‫الطيور مع أرسابها‪ ،‬والدواجن مع أرضابها‪ ،‬الحمام مع إلفه‪ ،‬واليمام مع‬


‫حِ لفه‪ ،‬والنعام مع صنوه‪ ،‬والغراب مع قنوه‪ ،‬بل سائر ما طار ودرج‪ ،‬كلّها‬
‫تتسابق عىل الظهور‪ ،‬حني الطري‪ ،‬وحني السري‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ودب‪ ،‬وهام وعام‪،‬‬ ‫هب ّ‬‫النحل يف خليَّته‪ ،‬والنمل يف رس َّيته‪ ،‬بل سائر ما َّ‬
‫السماك‪ ،‬ويطاول األفالك‪ ،‬دون أن يبايل بالهالك‪،‬‬ ‫يحاول أن يطول ِّ‬
‫فالنحل يحزب األحزاب‪ ،‬ويتَّخذ اليعاسيب‪ ،‬وقد يهاجم بجيشه اإلنسان‪،‬‬
‫واملستبسل من جنده يف الهجوم هو أكثرهم حبّا ً يف الظهور؛ ومن َث َّم يتب ّوأ‬
‫مقاما ً محمودا ً يف أ َّمته‪ ،‬فيقدم أمام الصف‪ ،‬يوم الزحف‪ ،‬وحني الحتف‪،‬‬
‫وهو بني هذا وذاك يجد ل ّذة ال ُت َكيَّف بكيف‪ ،‬وال توصف بوصف‪ ،‬أ ّما‬
‫النمل‪ ،‬وهو الضعيف‪ ،‬فقد يدفعه ُح ّب الظهور إىل السم ّو بجناحيه إىل‬
‫الج ّو غري مبال بالوبال‪ ،‬هازئا ً بقول من قال‪:‬‬

‫ســـمت بجناحيها إلى الج َّو تصعد‬ ‫إذا ما أراد الله إهـــــــالك نمــــلة‬

‫وقد يحمل أضعاف أضعافه عىل قارعة الطريق تحت الحطم واللطم‪ ،‬غري‬
‫مبا ٍل بتحطيم سليمان‪ ،‬وال تلطيم سامان‪.‬‬

‫ُحبّ الظهور واملدنيّات‬

‫كل ذي روح‪ ،‬هي سائقة العالء‪ ،‬وداعية‬ ‫هذه املوهبة الفطرية‪ ،‬يف ّ‬
‫أس األساس لعمران هذا الكون؛ ألنها رائد الفضائل‬ ‫االرتقاء‪ ،‬وهي ّ‬
‫ودليل املجد‪ ،‬ولوالها ملا وصلت املدنيّة املا ّد ّية إىل حالتها الحاليّة‪ ،‬فإن‬
‫األ ّمم كاألفراد؛ فكما أن الفرد يحاول الظهور بني أقرانه بما يراه حسنا ً‬
‫يف نظر الجماهري‪ ،‬فكذلك األمم تحاول أن تظهر عىل غريها بما تراه‬
‫حسنا ً يف نظر الجماهري‪.‬‬

‫فحب الظهور هو الذي ُمدِّنت به املدن‪ ،‬و ُم ِّصت األمصار‪ ،‬وأنشئت املعاهد‬
‫ّ‬
‫‪8‬‬
‫واملشاهد‪ ،‬و ُبنِيت اآلثار الخوالد‪ .‬وما مدهشات األهرام‪ ،‬ومعجزات بعلبك‪،‬‬
‫وبدائع الزهراء‪ ،‬والحمراء‪ ،‬وعجائب أنس الوجود‪ ،‬وغرائب تدمر وطرائف‬
‫بابل ولطائف سام ّرا ّإل أث ٌر من آثار ُح ّب الظهور‪.‬‬

‫ُحبّ الظهور واإلنسانية الراقية‬

‫مهما حاولت اإلنسانية الراقية أن تتربَّأ من هذه الغريزة الطبيعية‪ ،‬ومهما‬


‫حاول زعماؤها وقادتها إظهار أنهم يخدمون يف زعامتهم وقيادتهم‪،‬‬
‫أو‪ -‬بعبارة أرصح‪« :‬يف ظهورهم وتف ُّوقهم عىل غريهم»‪ -‬اإلنسانية البحتة‬
‫فلن تقدر‪ ،‬بل ال يقدرون أن يحاولوا؛ كونهم بخدمتهم التي سادوا بها‬
‫وظهروا قد خدموا أنفسهم‪ ،‬قبل أن يخدموا غريهم‪.‬‬

‫حضت عليها الرشائع اإللهية‪،‬‬ ‫نعم‪ ،‬إن هذه الخلّة هي خلّة رشيفة‪َّ ،‬‬
‫كل إنسان أن يخدم نفسه خدمة يسود‬ ‫والوضعية‪ .‬ومتى سادت‪ ،‬وحاول ّ‬
‫كل إنسان‬‫بها ويظهر‪ ،‬سادت املواهب العالية‪ ،‬واملظاهر السامية‪ ،‬وأصبح ّ‬
‫أ ّمة بنفسه‪ ،‬ومن َث َّم يرتقي النوع البرشي االرتقاء الذي يحلم به الفالسفة‪،‬‬
‫ويطمح إليه األخالقيون‪ ،‬وترمي إليه الرشائع‪.‬‬

‫ّ‬
‫الشق الثاني‪ ،‬أو‬ ‫ولكن‪ ،‬هيهات! فإن طبيعة النوع‪ -‬أيضاً‪ -‬تناديهم من‬
‫من وراء تلك الحجب الكثيفة‪ ،‬إن ذلك االرتقاء املوهوم يتطلَّب مستقبالً‬
‫مطردا ً عى ما نراه‪ ،‬ولم يجتح‬‫بعيدا ً جدّا ً هذا إذا َظ ّل االرتقاء اإلنساني َّ‬
‫األريض جائحة سماوية‪ ،‬أو يصدمه َ‬
‫مذ َّنب كمذ َّنب هايل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هذا الكوكب‬
‫فيجعله كالهباء‪ ،‬تذروه النكباء‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ُحبّ الظهور والعرب‬

‫يتفاوت ُح ّب الظهور يف األمم واألفراد بتفاوت الغرائز والف َِطر‪ ،‬فأكثر‬


‫األمم آثارا ً وأعماال ً هي أكثرهم حبّا ً يف الظهور‪ ،‬وأحرصهم عىل السيادة‪،‬‬
‫وأكثر األفراد خدمة وأعماال ً هو أكثرهم حرصا ً عىل إظهار نفسه وتس ُّيده‬
‫بني بني جنسه‪.‬‬

‫وعىل هذه النسبة‪ ،‬كان أعرق األمم حبّا ً يف الظهور َم ْن لم تزل ألبنائها‪،‬‬
‫حتى اليوم‪ ،‬آثار مدنيّة باقية‪ ،‬وأسبق الجميع إىل هذه اآلثار هي السابقة‬
‫يف هذه املوهبة العالية‪.‬‬

‫يقول املؤ ِّرخون األثر ّيون‪ ،‬يف هذا العرص‪ :‬إن أسبق األمم إىل املدنيّة‬
‫وتدوين اآلثار‪ ،‬من رشائع وأنظمة وقوانني وبناء مدارس ومعاهد‪ ،‬هم‬
‫عمالة العراق العرب‪ ،‬أو ما يس ّميهم العرصيون «الحمواربيِّني» الذين‬
‫حكموا عىل الدولة البابلية العراقية قبل ميالد عيىس‪ -‬عليه السالم‪ -‬بزهاء‬
‫مؤخراً‪ ،‬يف آثار بابل وآشور‪.‬‬
‫أل َف ْي وخمس مئة سنة‪ ،‬تقريباً‪ ،‬كما ظهر‪َّ ،‬‬

‫فالعرب‪ -‬إذاً‪ -‬أسبق األمم إىل الظهور‪ ،‬ولكن لم ند ِر ما طرأ علينا‪ -‬نحن‬
‫الحجب‪ ،‬وأُرخيت الستور‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أخالف أولئك األسالف‪ -‬حتى أُسدِلت علينا‬
‫وأصبحنا مثالً يف الخمول منذ عصور‪ ،‬ولعل دماءنا النقية اختلطت بدماء‬
‫وشاد اآلفاق‪ ،‬فأصبحنا عىل ما ترى‬ ‫األخالط واألوشاب من ُش ّذاذ األمم ُ ّ‬
‫اليوم‪ ،‬ألسنا ً عربية يف أشالء رومية‪ ،‬وأدمغة فارسية‪ ،‬وأطمار إفرنجية‪،‬‬
‫ونحن‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬نزعم العراقة يف العربية‪ ،‬وهي وذمة العرب‪ ،‬لم تربح‬
‫أباطح الحجاز وأبارق تهامة‪ ،‬بل لم تبارح مشارف الشام‪ ،‬وأنحاء‬
‫العراق‪ ،‬وأغوار اليمن‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫ّ‬
‫«وكل أ ّمة تدعي السبق يف املدنيّة» أن األثر ِّيني اكتشفوا‪ ،‬منذ‬ ‫من يصدِّق‬
‫أعوام‪ ،‬يف «زيبارا»‪ ،‬مدرسة عربيّة لتعليم األطفال‪ ،‬وهي أقدم مدرسة‬
‫يف تاريخ التمدُّن القديم‪ ،‬يرتقي تاريخها إىل أربعة آالف سنة‪ .‬وقد رأوا‬
‫بني أنقاضها ألواحا ً من اآلج ّر‪ ،‬مكتوبا ً عليها دروس لألطفال يف الحساب‬
‫والهجاء وجداول الرضب‪ ،‬ورأوا كثريا ً من الكتب والرسائل املنقوشة عىل‬
‫األحجار واآلج ّر‪ ،‬وفيها الصكوك والعقود واملسائل الرياضية واألرصاد‬
‫الفلكية والنصوص التاريخية وأمثالها(((‪ ،‬ثم يجد األُ ّمة العربية يف القرن‬
‫العرشين قرن املدارس واملعاهد ال تملك كلّها مدرسة يصحّ أن ُيطلق‬
‫عليها نصف مدرسة أمام الكلّيّات والجامعات‪ ،‬ومع ذلك نفاخر ونكاثر‪،‬‬
‫ذاهلني عن قول الشاعر‪:‬‬

‫فخـــار الذي يبقي الفخـــار بنفسه‬ ‫وما الفخـــر بالعظـــم الرميم وإنما‬

‫من يصدِّق‪ّ ،‬‬


‫وكل األمم أكفاء وأقران يف مق ِّومات العمران‪ ،‬أن العرب الذين‬
‫نس ّميهم جاهلني هم أرقى من العرب املدنيِّني‪ ،‬اآلن‪ .‬وإليك بعض البيان‪:‬‬

‫املطلع عىل فلسفة اللغات وكيفية وضعها أن اللّغة عنوان األُمم‪،‬‬ ‫يعلم َّ‬
‫أو أنموذج حالتها‪ ،‬فاللّغة التي تكثر فيها أسماء السيف أو الرمح أو‬
‫الجمل أو األسد‪ ،‬مثالً‪ ،‬يكون أهلها‪ -‬بالطبع‪ -‬عانوا هذه املس ّميات كثرياً‪،‬‬
‫وشاهدوها‪ ،‬وعاشوا معها‪ ،‬وتفنَّنوا يف أسمائها عىل حسب أوصافها‪،‬‬
‫واأللفاظ ال تتولَّد بسائق الحاجة والفطرة ّإل للتعبري عن املعاني‪ ،‬كما هو‬
‫ً‬
‫بداهة‪.‬‬ ‫معروف‬

‫((( تاريخ آداب اللغة العربية‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫إذاً‪ ،‬فاألُ ّمة التي تكثر فيها األلفاظ االجتماعية‪ ،‬والسياسيّة‪ ،‬والعمرانية‪،‬‬
‫واألخالقية تكون‪ -‬بالطبع‪ -‬عانت االجتماع والسياسة والعمران واألخالق‪،‬‬
‫كما أن األ ّمة التي تكثر فيها أسماء املالبس واملآكل‪ ،‬مثالً‪ ،‬تكون لبست تلك‬
‫املالبس‪ ،‬وأكلت تلك املآكل‪ ..‬وهكذا‪.‬‬

‫فاللغة العربية املوجودة فيها‪ ،‬منذ أ ّيام جاهليَّتها‪ ،‬كثري من األلفاظ‬


‫لرضوب االجتماع والجماعات‪ ،‬عىل اختالف الغايات واالجتماعات‪ ،‬م ّما‬
‫لم يقدر العرب املتمدّنون عىل زيادة لفظ واحد عليها من عندهم‪ ،‬وذلك‬
‫كل من الشعب‪ ،‬واللجنة‪ ،‬والجماعة‪ ،‬والقبيلة‪ ،‬والفصيلة‪ ،‬والرهط‪،‬‬ ‫كلفظ ٍّ‬
‫والعشرية‪ ،‬والزرافة‪ ،‬والرسب‪ ،‬والكوكبة‪ ،‬والوقم‪ ،‬والنفر‪ ،‬والرشذمة‪،‬‬
‫والعصابة‪ ،‬واملوجود فيها ألماكن االجتماع كالنادي‪ ،‬واملنتدى‪ ،‬والندوة‪،‬‬
‫واملحفل‪ ،‬واملجتمع‪ ،‬واملأتم واملجلس‪ ،‬واملوسم‪ ،‬واملوجود فيها للتعبري‬
‫كالس ْفر للكتاب الكبري‪ ،‬والقمطر‬
‫ِّ‬ ‫عن أسماء الكتب عىل اختالف أنواعها‬
‫السجلت‪ ،‬والرهنامج لكتاب الطريق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لصك‬ ‫لكتاب األعمال‪ ،‬والوصري‬
‫الذي يهتدي به ر ّبان السفن‪ ،‬عدا ألفاظ الزبور والرقيم والضبار والدفرت‪،‬‬
‫واملوجود فيها للتعبري عن القلم مثل الرياع واملرقم واألنبوبة واألسلة‬
‫ّ‬
‫والرف والطلس‬ ‫والجلف‪ ،‬وعن الورق مثل الطرس والقرطاس واملهزف‬
‫واملجلّة والصحيفة‪ ،‬واملوجود فيها للتعبري عن األلفاظ االقتصاد ّية‬
‫مثل الربا والتالد والركاز والضمار‪ ،‬والطارف والتالد من أسماء املال‪،‬‬
‫عدا نفس الذهب الذي له أكثر من عرشين اسماً‪ ،‬وعدا أسماء السفن‬
‫والطرق والبقاع الدالة عىل اال ِّتجار واألسفار‪ ،‬وعدا أسماء عديدة للرياح‬
‫عىل اختالف مها ّبها‪ ،‬الدالّة عىل معرفة الظواهر الجوية‪ ،‬وذلك كالنكباء‬
‫املهاب‪ ،‬والنافخة للمبتدئة بشدّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ريح ْي‪ ،‬واملتناوحة املختلفة‬
‫للريح بني َ‬
‫‪12‬‬
‫والزعزع واإلعصار للشديدة‪ ،‬وعدا أسماء كثرية للموازين وأدوات‬
‫الصناعة وأواني األطعمة والرياش واللباس‪ ،‬وألفاظا ً كثرية للعواطف‬
‫واألخالق والشعور السامي(((‪ ...‬ال يقال عن أهلها «جاهليون»‪ ،‬عىل أن‬
‫آثارهم يف حرضموت وسائر البالد اليمانية والعراقية لم تنزل ناطقة‬
‫بعلمهم وعراقتهم يف التمدُّن والعمران‪.‬‬

‫هذا املجموع‬

‫لسنا‪ ،‬اآلن‪ ،‬يف صدد بيان مدنيّة األ ّمة العربية قبل اإلسالم‪ ،‬وال مدنيَّتها‬
‫وحض لناشئة هذه‬ ‫ّ‬ ‫بعد‪ ،‬وإنما موضوع هذا املجموع الذي هو استنفار‬
‫األ ّمة الكريمة عىل الظهور بمظهر األ ّمم الراقية‪ ،‬بحسب ما أرشنا يف صدر‬
‫ِّ‬
‫املتأخرين «باملعنى‬ ‫املقال تش ُّبها ً بأسالفهم األ َّولني ومجاراة ملعارصيهم‬
‫اللغوي‪ ،‬ال العرصي»‪ ،‬دعانا إىل أن نشري إىل موضوع الظهور واملدنيّة‬
‫وحضاً‪ ،‬بحسب موضوع هذا املجموع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫استنفارا ً‬

‫هذا املجموع هو «زهر» شبيبة فاضلة فاح «أريجها»‪ ،‬إذ لم تد ِّنسها‬


‫أوضار الغرب‪ ،‬ولم ينهكها ذبول الرشق فهو «زهر» أخالق وفضائل‪،‬‬
‫مجسمة‪ ،‬وحماسة مقتنمة تريد النهوض بناشئة الرشق‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بل هو غرية‬
‫واإلرشاف بهم عىل مدنيّة الغرب‪ ،‬شأن أصحاب النفوس الكبرية التي تريد‬
‫الصعود من مدارج املجد‪ ،‬والظهور من رشفات العالء‪.‬‬

‫املخصص‪ ،‬ولطائف اللّغة‪.‬‬


‫َّ‬ ‫((( راجع‪:‬‬

‫‪13‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫صاحب هذا املجموع‬

‫توسمت فيه النبوغ‬ ‫الشيخ مصطفى الغالييني‪ ،‬صاحب هذا املجموع‪َّ ،‬‬
‫منذ أ َّول يوم درس فيه قواعد العربية‪ ،‬فإنه استظهرها‪ ،‬حفظا ً وفهماً‪،‬‬
‫يف مدّة شهرين م ّما يندر مثيله بني الدارسني‪ ،‬وكان ينظم الشعر بسائق‬
‫توسمت فيه التف ُّوه يف الخطابة‬
‫السليقة وهو يافع لم يبلغ أشدّه‪ ،‬وقد َّ‬
‫منذ ذلك الحني‪ ،‬أيضاً؛ نظرا ً لذالقة لسانه‪ ،‬ورشاقة بيانه‪ ،‬ثم ّ‬
‫ظل يتد َّرج‬
‫يف مدارج النم ّو بنفس عصامية‪ ،‬وه ّمة استقاللية‪ ،‬إىل أن ظهر ّ‬
‫كل ما‬
‫توسمت‪ ،‬ووقع ّ‬
‫كل ما تف َّرست‪.‬‬ ‫َّ‬

‫موضوعات هذا املجموع‬

‫حس ينطق بحالة صاحبه‬ ‫عىل أن هذا املجموع هو أحسن مثال ّ ّ‬


‫الروحية‪ ،‬فإنه طرق باب الرتبية النظرية يف مقالة «أ ُّيها اإلنسان»‪،‬‬
‫كما طرق الرتبية العملية يف مقالة «الرتبية أساس النجاح»‪ ،‬فجمع‬
‫بني الرتبيتَ ْي‪ ،‬وفاز ُ‬
‫بالحسنيَ ْي‪ .‬وقد انتقد األخالق والعادات يف مقالة‬
‫ي كيف تكون الحياة سعيدة يف مقالة «سعادة الحياة»‪،‬‬ ‫«العادات»‪ ،‬و َب َّ َ‬
‫وفص َل كيان هذه السعادة يف مقالة «الثورة األدبيّة أو ثورة املبادئ‬ ‫َّ‬
‫واألخالق»‪ .‬ولم تقترص كتابته عىل األخالقيات‪ ،‬بل أصابها ّ‬
‫رشاش من‬
‫السياسيات يف مقالة «مجلس األ ّمة» و«قحط رجال أم قحط وجدان»‪،‬‬
‫كل بحث‪ ،‬ويطرق ّ‬
‫كل‬ ‫وغريهما‪ .‬وكأني به يحاول أن يدخل يف غمار ّ‬
‫باب‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫ومن أحاسن قوله‪ ،‬يف مقالة «االستقالل الشخيص واالعتماد عىل النفس»‪،‬‬
‫هذه الجمل‪:‬‬

‫«إن الحكومة هي تابعة لألمم‪ ،‬رقيّا ً وانحطاطاً‪ ،‬فمتى كانت األ ّمة‬
‫انحطت حكومتها‪ ،‬القرس‪ ،‬ومتى كانت األ ّمة راقية تر ّقت معها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫منحطة‬
‫بحكم الرضورة‪ ،‬ألن الحكومة هي صورة أفراد الشعب املحكوم ومثاله‬
‫كل حال‪ .‬فإن ا َّتفق أن الحكومة كانت‬ ‫وخالصته؛ إذ هي منه وله‪ ،‬عىل ّ‬
‫تنحط وتتقهقر إليه‪ ،‬والعكس بالعكس‪« :‬كما‬ ‫ّ‬ ‫أرقى من األ ّمة فال تلبث أن‬
‫تكونون ُي َو ّل عليكم»‪ ،‬فإن كانت األ ّمة مستقيمة ميّالة إىل العدل والح ّر ّية‬
‫والفضائل حكمت بحكومة ال عوج فيها وال استبداد وال جور وال رذيلة‪،‬‬
‫ّ‬
‫للحق‪،‬‬ ‫وإن كانت األ ّمة جاهلة فاجرة ال يريد أفرادها العدل وال يخضعون‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬وال‬ ‫ُحكمت بحكومة جاهلة فاجرة ظاملة مستبدّة عوجاء ال تميل إىل‬
‫تخضع للعدل‪ .‬والخالصة أن أخالق األ ّمة‪ -‬إن خريا ً وإن رشاً‪ -‬تنطبع يف‬
‫مرآة وجدان الحكومة‪.‬‬

‫فإن أرادت األ ّمة أن يكون لها حكومة عادلة ودولة قو ّية‪ ،‬فعليها بإصالح‬
‫وحب العلم وغري‬
‫ّ‬ ‫أخالق أفرادها وتعويدهم الفضيلة والحر ّية الصحيحة‬
‫ذلك من الصفات وامللكات العادلة‪ ،‬ومتى َت ّم لها ذلك وصار الشعب عادال ً‬
‫عاملا ً مرت ِّبيا ً أضحت الحكومة تابعة له رقيّا ً وعدالً‪ ،‬ومتى أضحت الحكومة‬
‫الحق‪ّ ،‬‬
‫وكل هذه األسباب‬ ‫ّ‬ ‫كذلك انقطعت أسباب الرشوة والحكم بغري‬
‫املتقدِّمة يدعو الشعب ملساعدة الحكومة ما ّد ّيا ً وأدبيّاً‪ .‬ومتى استغنت‬
‫الحكومة‪ ،‬وكانت متن ِّزهة عن الرذائل كما قدَّمنا‪ ،‬تسعى لجمع شتاتها‪،‬‬
‫وإصالح فاسدها‪ ،‬وتقوية جيوشها وأساطيلها‪ ،‬حتى تصبح دولة مرهوبة‬
‫السطوة‪ ،‬مرعيّة الجانب»‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫قوله يف املقالة نفسها‪:‬‬

‫«القوانني ال تجعل الناس أحراراً‪ ،‬مهما كانت فاضلة‪ ،‬غري أن الناس قد‬
‫اعتادوا أن يعتقدوا أن خريهم ونجاحهم مسبَّبان عن األنظمة التي ُتحكم‬
‫بها بالدهم‪ ،‬وهم مخطئون يف هذا االعتقاد خطأ بيِّنا ً ال يغتفر ‪ ،‬إذ أ ّية فائدة‬
‫من القوانني إن لم تكن نفوس الشعب مستعدّة ملا تحويه من األصول‬
‫أي نفع من النظامات إذا لم يوجد لها حاكم أمني ينفذها ّ‬
‫بكل‬ ‫واملوادّ؟ بل ّ‬
‫صدق واستقامة‪ ،‬فالقوانني ال تجعل الخامل ذكيّا ً وال الكسول مجتهدا ً وال‬
‫فاسد األخالق طاهرا ً كامالً‪ ،‬واألنظمة ال تمحو الجرائم‪ ،‬وال تردع الناس‬
‫عن املنكرات‪ ،‬وال تخ ِّفف عنهم الويالت‪ ،‬وال تجعلهم سعداء‪ّ ،‬إل اذا أتاح‬
‫حكام أمناء‪ ،‬قال عثمان بن عفان ريض الله عنه‪« :‬يزع الله بالسلطان‬ ‫لها ّ‬
‫ما ال يزع بالقرآن»‪ .‬وما للقوانني من فائدة عملية سوى أنها تكون بمثابة‬
‫املرشد للشعب والدليل للحاكم‪ ،‬يستعني به عىل إجراء العدل والحكم‬
‫يجنف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بالحق حتى ال يميل وال ْ‬

‫فالنظامات التي يحكم بها قوم أُولو نصفة وعدل‪ ،‬وذوو وجدان ح ّر‬
‫وتمكنهم من اكتساب ما‬‫ِّ‬ ‫طاهر‪ ،‬تكون وسيلة لجعل املحكومني سعداء‪،‬‬
‫يجعلهم يف سعة من العيش ورغد من الحياة‪ ،‬وتسهِّل لهم اجتناء ثمرة‬
‫أعمالهم وأفكارهم‪.‬‬

‫والنظامات التي يحكم بها قوم أولو َجنَف واستبداد‪ ،‬وذوو وجدان‬
‫خبيث يميل مع الهوى‪ ،‬تكون سببا ً لشقاء الشعوب ووسيلة ليأسهم من‬
‫الحياة الطيِّبة والعيشة الراضية‪ ،‬مهما كانت تلك النظامات عادلة وجيِّدة؛‬
‫الحكام من هذه الطبقة يؤ ّولون النصوص عىل حسب رغباتهم‬ ‫ّ‬ ‫ذلك ألن‬
‫ومشتهياتم‪ ،‬وعىل ما يوافق هواهم ومنفعتهم الشخصية‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫وقوله يف مقالة «أساليب الكالم العربي»‪:‬‬

‫«طلب الكتابة البالغية كثريون‪ ،‬ولكن الواصلني إليها والضاربني بني‬ ‫ّ‬
‫فيها بسهم قليلون‪ .‬وما ذلك ّإل من جهل الطريق املؤدِّية إليها‪ ،‬فإن كثريا ً‬
‫من طالبيها يعمدون إىل مطالعة كتب‪ ،‬ليس فيها من بليغ الكالم ّإل النزر‬
‫اليسري‪ ،‬حتى إذا نالوا منها منالهم‪ ،‬أخذوا يتحدُّونها‪ ،‬ويحيكون عىل‬
‫منوالها‪ ،‬فتكون كتابتهم مغلطة ومعانيهم سخيفة‪ -‬وهؤالء عىل رض َب ْي‪:‬‬
‫رضب يعمد إىل أمثال كتب املقامات والرسائل التي أنشئت بعد جفاف‬
‫رونق البالغة والكتابة الصحيحة‪ ،‬فهم مغرمون باملجازات الساقطة‬
‫والبعيدة‪ ،‬والتساجيع املتكلَّفة الباردة‪ ،‬وليس يف كتابتهم معنى يفيد‪ ،‬وال‬
‫مغزى تنعش به األرواح‪ ،‬ورضب يعمد إىل بعض املؤلَّفات العرصية أو‬
‫املرتجمة بالعربية عن كتب اإلفرنج التي ليس عليها أثارة من األسلوب‬
‫العربي الصحيح‪ ،‬فيحتذون بأسلوبهم مثالها‪ ،‬فتكون كتابتهم ال عربية‬
‫يركبون منها جملهم‬‫ُتعرف‪ ،‬وال إفرنجية ُتوصف‪ ،‬ألن األلفاظ التي ِّ‬
‫عربية‪ ،‬غري أن أسلوب الرتكيب إفرنجي محض؛ وذلك م ّما يقيض عىل‬
‫اللغة العربية ويرجع بها إىل ما وراء‪.‬‬

‫وأعجب من ذلك أن هذا القسم من ُ‬


‫الكتّاب يظ ّن أن هذا السلوب هو‬
‫الذي يجب أن يكون عليه اإلنشاء العربي‪ ،‬لسهولة فهمه عىل القارئني‪،‬‬
‫كل الخطأ‪ ،‬ألنهم‪ ،‬إن كانوا يفهمون باألسلوب‬ ‫ولكنهم مخطئون يف هذا ّ‬
‫العربي البليغ أن يكون الكالم محش ّوا ً بغريب الكلمات والرتاكيب السمجة‬
‫املعسلطة‪ ،‬فهو وهم باطل‪ ،‬وال يقول به ّإل من لم يفهم البالغة العربية‬
‫ّ‬
‫حق فهمها‪ ،‬كما رشحناها يف هذا املقال‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫نحن نعني باألسلوب العربي أن يكون الكالم بعيدا ً عن مناحي العجمة‪،‬‬


‫خل بالنحو واللغة وأصول البالغة‪ .‬والكالم إذا كان عىل هذه‬‫مج َّردا ً ع ّما ُي ّ‬
‫الخاصة‪ ،‬بل‪ -‬ر ّبما‪ -‬كان أدعى‬
‫ّ‬ ‫الصورة فهو مفهوم عند العا ّمة وعند‬
‫الكتّاب الذين ينحون يف أساليبهم مناحي‬ ‫إىل الفهم من كالم كثري من ُ‬
‫اإلفرنج»‪.‬‬

‫وال يقدح فيه أنه يوجد يف بعض مقاالته أفكار شا ّذة أو متط ِّرفة أو آراء‬
‫تناقض ما ورد له يف غريها من املقاالت‪ ،‬فإن ذلك شأن الضعف البرشي‪،‬‬
‫كل حني‪ .‬وهذا ابن مسعود‪ ،‬من أكرب‬ ‫واإلنسان تتقاذفه تيّارات التقلُّب يف ّ‬
‫علماء األ ّمة كان يقول ألحد مريديه ‪ -‬كما روى عنه الشعراني يف امليزان‪:-‬‬
‫ّ‬
‫ولعل الرأي الذي أفتي‬ ‫كل ما أفتي به‪ ،‬وإنما ُي َكتب الحديث‪.‬‬
‫ال تكتب عني ّ‬
‫به اليوم أرجع عنه غداً»‪ .‬فإذا كانت الفتوى التي تبنى عىل أصول الدين‬
‫رجع عنها لظهور دليل واضح من الدليل األ َّول‪ ،‬فأوىل باالجتهاد الفكري‬ ‫ُي َ‬
‫أن يرجع عنه صاحبه حني ظهور غريه أجىل منه‪ ،‬عىل أن هذا املجموع لم أ َر‬
‫فيه كثريا ً من أمثال تلك املقاالت املعنيّة‪ ،‬وهو دليل بأنه أراد إغفالها قصداً‪.‬‬

‫أ ّما نظمه فأكثره منشور يف الصحف السيّارة‪ ،‬ومن أحاسنه قوله يف‬
‫قصيدة «السلم والحرب»‪:‬‬

‫ب دمـــــــــاء األنام بيع الماءِ!‬ ‫يا بني الظلم كم تبيعون في الحر‬

‫لم ُت َكـــــــ َّون إ ّلا َ‬


‫لسفك الدماء؟‬ ‫أحســــــبتم أن البـــرايا شــــــــيا ٌه‬

‫لهــــوًى في النفوس غير خفا ِء‬ ‫فــرميتم بها إلى حيث شـــــــئتم‬

‫مــــــوت إ ّلا لشـــــــهوة ُ‬


‫األمرا ِء‬ ‫ما أرى هذه الجيوش تذوق الـــ‬

‫‪18‬‬
‫وقوله يف قصيدة «الحرب واملنطاد»‪:‬‬

‫ٍ‬
‫عطــــــف ورحـــــم ٍة وحـــيا ِء‬ ‫ّ‬
‫كل‬ ‫ذبح القوم في ســـــــــبيل مُ ناهم‬

‫ض مــــــــرام ًا فح َّلقوا في السما ِء‬


‫ِ‬ ‫لم يُنلهم ما يجــــــتـنـون على األر‬

‫ن األعــادي من فوق كأس البال ِء‬ ‫واستق ّلوا في الج ّو حــــيث يذيقـو‬

‫خــــــــارقات بهــــم خاليا الفضاء‬ ‫فالمناطيد ســـــفنهم في الهــــــواء‬

‫في أمــــــــان ومنــــــع ٍة واعـــتال ِء‬ ‫فهي تجري بهم إلى حـــيث شاؤوا‬

‫ال تبــــــالي قــــــــنابل األعــدا ِء‬ ‫العداة فســـــــارت‬


‫درّعوها خوف ُ‬

‫تكشــــف الس ّر عن حمى الب َؤسا ِء‬ ‫فهي تعدو يوم النضــال عـــــــيون ًا‬

‫رائـــــــدات المنــــــــون واألرزا ِء‬ ‫لســــت أدعو تلك المنـــــاطيد إ ّلا‬

‫‪..........‬‬

‫قـــــبلها من وســـــائل اإلفــــــنا ِء‬ ‫يا بني الغرب‪ ،‬حسبكم ما صنعتم‬

‫العفا ِء‬
‫بس هذا العمــــــران ثـوب َ‬ ‫من مبيد األقـــوام من ّ‬
‫كل ما يُلـــ‬

‫فعـــمـدتم‪ -‬يا قـــــوم‪ -‬للخضرا ِء‬ ‫أتضــــــيق الغبراء دون منــــــاكم‬

‫فسلكتم أسـطولكم في الهـــواءِ؟‬ ‫أم تضيق البحــور وهي بحــور‬

‫أن ُتذيقوا األغـــيار كأس الشقاءٍ؟‬ ‫أين تلك العــلوم قد ع َّلــــــــمتكم‬

‫‪19‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫بأنــــــــاس من ِ ّ‬
‫كل عـــــيب برا ِء‬ ‫أن تذلّوا الضـــعف أن تســــتهينوا‬

‫والنســـــاء‪ -‬استهانةً‪ -‬كاالماءِ؟!‬ ‫تعدوا رجــــالهم كــــــــــــعبيد‬


‫أن ُّ‬

‫لفعال الوحــــــوش في البيــــدا ِء‬ ‫بئس تلك العـــلوم إن أرشـــدتكم‬

‫أن تلك الضـــــعاف ث ّل ُة شـــــــا ِء‬ ‫ما أراكم إ ّلا ذئـــــابــ ًا ظـــــــــننتم‬

‫ونبذتـــــــم عظــــــامها بالعــــرا ِء‬ ‫َف َأبحـــتم ذاك الحــــــــــريم و ُأبتم‬

‫أن تــــــروهم بمــــقل ٍة شـــوســـاء‬ ‫خــــــفّ فوا ويلة الشرور وعـــــــانوا‬

‫قـــــــيد عـــــنهم ينجوا من الغما ِء‬ ‫وارفعوا الظلم عن حماهم ّ‬


‫وفكوا الـ‬

‫وقوله يف القصيدة التي قالها يوم موافاة األسطول العثماني إىل ثغر‬
‫بريوت‪:‬‬

‫وما ســــــوى قـــلبنا الخفّ اق أجراها‬ ‫ســارت فماغير عين الله ترعـــــــاها‬

‫أجـــــــرت سفائنها والوجد اذكاها‬ ‫نار القلوب التي بين الجـــــوانح قد‬

‫باســـم المهـــيمن مجراها ومرساها‬ ‫اليم ســـــابح ًة‬


‫بعرض ّ‬
‫ترسو وتجري ُ‬

‫ُ‬
‫كاأل ْســد ترقب في الغابات أعداها‬ ‫ترس رابضة‬
‫تجري‪ ،‬وأن هي ترســـو ُ‬

‫ضــــمته حشــاياها‬
‫َّ‬ ‫ســــــــ ٌر من الله‬ ‫بصرت بالخـطب يحـــفرها‬
‫حتى إذا ُ‬

‫ومنها‪:‬‬

‫ظـ َل ٌم كانت تغشّ اها‬


‫عــــــــن أفـقــهم ُ‬ ‫مدنوا األقوام فانقشـــعـت‬
‫نحن األلى َّ‬

‫‪20‬‬
‫حتى امتطــوا من ذرى الجوزاء أعالها‬ ‫فأصــــــبحوا ودليل النجــــح قائدهم‬

‫لوال فضــــــــــائلنا الغــــــــ ّراء لوالها‬ ‫كانوا بقوا في ظالم الجهل يســــترهم‬

‫كســــب المعــالي دنت منهم مطاياها‬ ‫باال ِ ّتحاد وبالســـــــعي الحــــثيث إلى‬

‫من المكـــــــارم أدنــــاها وأقصـــــاها‬ ‫هم بالعلوم وجهد النفـــــــس قد بلغوا‬

‫ّ‬
‫الذل نُسقاها‬ ‫لهــــــم غــــدونا وكأس‬ ‫ونحن‪ -‬يا قوم‪ -‬من ك ّنا أســــــــاتذة‬

‫يا قـــــــــوم‪ ،‬من بعد ما القت مناياها‬ ‫عار علينا إذا لم نُحـــــي أنفســـــــــنا‬

‫للمجــــــــد والبــــأس والعليا سناماها‬ ‫مجـدكم‪ ،‬فهما‬


‫َ‬ ‫بالعلم والسيف أحيوا‬

‫يـــرج إ ّلاها‬
‫ُ‬ ‫الحـــــــت له فرصــــــة لم‬ ‫فالغــرب يرقــــــب م ّنا غِ ــــــ ّر ًة فمتى‬

‫بـــــالدنا‪ ،‬فهي مـــــبغاها ومـــــــرماها‬ ‫جاست بنوه خالل الدار واقــــتحمت‬

‫أن يبــــــــلغ الغــــــرب سن ًا من ثناياها‬ ‫لكن أبى الله‪ ،‬واآلساد تحرســـــــــها‬

‫الصـــم أرداها؟‬
‫ُّ‬ ‫قـــــــلب‪ ،‬إذا نازلــــته‬
‫ٌ‬ ‫هل يبلغ الغــــرب منــــها مأمـــ ً‬
‫ال ولنا‬

‫ُ‬
‫فكـــــــاألسود رأت في مـــــهم ٍه شاها‬ ‫فنحن نحن األلى‪ ،‬إن جاش غــــاربنا‬

‫‪..........‬‬

‫لهم في الناس أشباها‬


‫م َْن لم نجد ُ‬ ‫ــــــمية‪ ،‬يا‬
‫ّ‬ ‫الح‬
‫العرب‪ ،‬يا أهل َ‬
‫يامعشر ُ‬

‫بداركـــــم‪ٍ ،‬‬
‫بيد فاحت خزاماها‬ ‫هذي بنوالترك وافتكم تصــــافحكم‬

‫‪21‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫فـــــــمدوا قـــــلوب ًا طاب ريّاها‬


‫ّ‬ ‫ود ًا‬
‫ّ‬ ‫يمدوا لكم‪ -‬يا قـــوم‪ -‬أيديهم‬
‫فإن ُّ‬

‫ضمتهم حناياها‬
‫الدين الحـــــنيفي َّ‬ ‫والعرب‪ -‬إخوان‪ -‬وجـامعة‬
‫فالترك ُ‬

‫ُشـــ َّلت يداه‪ ،‬فعن سبل الهدى تاها‬ ‫يمد يــــــديه كي يفــــــ ِ ّرقهم‬
‫فمــن ّ‬

‫تــرد األوطـــــــان ُسقــياها‬


‫ُ‬ ‫عــ ٌز به‬ ‫فاال ِ ّتحاد‪ -‬بني األوطــــان‪ -‬فهو لنا‬

‫أوطــــان يُرضـــي رسول الله والل َه‬ ‫ُ‬


‫حـــادك ُم تبغون ترقـــــية الـــــ‬‫إن ا ِ ّت‬

‫وقوله من قصيدة يذكر فيها فظائع اإليطاليِّني يف طرابلس الغرب‪:‬‬

‫األمم‬
‫ُ‬ ‫يا أمّةغضـــــــبت من جورها‬ ‫والشـمم؟ ‬
‫ُ‬ ‫أين الشهامة؟ أين العدل‬

‫لؤم الطــــــباع‪ ،‬لهم بين الورى َع َل ُم!‬ ‫ياللمــروُة من قـــوم زعــــــــانــفـة ‬

‫الظ َل ُم‬
‫فعمت سماء المغرب ُّ‬
‫وخم‪َّ -‬‬ ‫مـــــرتعه ‬
‫ُ‬ ‫هم‪ -‬والبغي‬
‫طاشت حلومُ ُ‬

‫مضطرم‬
‫ُ‬ ‫والب ّر محـــــــــــتدم‪ ،‬والبحر‬ ‫مضطرب‪ ،‬واألمن مسـت َل ٌب ‬
‫ٌ‬ ‫فالسلم‬

‫والندم‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫والـذل يتبعـــــــكم والخــذل‬ ‫أإن فررتم ونار الغيظ تحــــــرقكم ‬

‫عـــصــم‬
‫ُ‬ ‫وصـــــــبيةونســاءمــالـهــا‬ ‫ُتق ِ ّتلون شيـــــــوخــ ًا ما لهـــــا َو َز ٌر ‬

‫ض َّلت بنوها‪ ،‬وعن سبل الرشاد ُعموا!‬ ‫ياللفظاعة من (روما) وما صـــــنعت‬

‫النعم‬
‫ُ‬ ‫لو كان فيكم‪ -‬بني الطليان‪ -‬من ٍ‬
‫شرف لم تثـــــأروا من ضعاف ِش ْبهها‬

‫تزدحم‬
‫ُ‬ ‫والسيــــــف يعمل واألرماح‬ ‫َهلّا صــــــبرتم على خطب أ َل َّم بكم‬

‫‪22‬‬
‫والموت يخطب‪ ،‬والهامات تنحطمُ‬ ‫والع ْرب تذبحـــكم‬
‫والجند تقتلكم‪ُ ،‬‬

‫والحرم‬
‫ُ‬ ‫عــــــا ٌر بأن تقتل األطفال‬ ‫أمم‬
‫ليس الشجاعة قتـل الشيب عن ٍ‬

‫ومنها‪:‬‬

‫والحمم‬
‫ُ‬ ‫أســطول‪ ،‬تقذف منه النار‬ ‫ُ‬
‫بجيشكم الج ّرار يحرسه الــــ ‬ ‫جئتم‬

‫فالجــــمع مفــترق والجيش منهزم‬ ‫عــــــــزمكم‬


‫ُ‬ ‫مما َّ‬
‫فل‬ ‫فكان ما كان ّ‬

‫دم‬
‫ـم ورمـــــــــــال المقــفرات ُ‬
‫وأب ُت ْ‬ ‫كم‬
‫وعــدتم وغمام الخــــــــذل َع َّم ُ‬
‫ُ‬

‫والظلم»‬
‫ُ‬ ‫«قد استوت عنده األنوار‬ ‫فكلْكم وهو بالخــذالن ملتحـــــف‬

‫والرخم‬
‫ُ‬ ‫فعـــــاف مآ كــله الغربان‬ ‫تركتم الجــــيش للغربان ُتطـــــعمه‬

‫قمم‬
‫من بعـــــدها لكم نحو العلى ُ‬ ‫ماذي الجبانة‪ -‬ياطليان‪ -‬الرفــعت‬

‫قد ُم‬
‫والمشـــــت بكم نحو المنى َ‬ ‫وال لقـــــــــــيتم ســوى ٍ ّ‬
‫ذل وأيلـم ٍة‬

‫لكنــــهم يكرهون الظلم إن ُظلموا‬ ‫فنحن قوم إذا ما اس ُت ِ‬


‫غضـبوا غضبوا‬

‫والشم ُم‬
‫َ‬ ‫والدين مرشــدنا‪ ،‬والحلم‬ ‫فالعدل شيـــــــمتنا‪ ،‬والبأس عادتنا‬

‫ســــلم وأنــهم‬
‫ٌ‬ ‫فــغـــــــــــ َّر ُه ْم أننـا‬ ‫فقد حمــــلنا على أوباش «رومية»‬

‫طيشهم‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫يخــف‪ ،‬فازداد عند الصبر‬ ‫وقد صــبرنا كرام ًا َع َّل طيشــــــــهم‬

‫ـــــــد ذاك الب ّر‪ ،‬لو علموا‬


‫ُ‬ ‫وإننا ُأ ْس‬ ‫جاؤوا بأغنامهم ترعى بســـــــاحتنا‬

‫‪23‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫الغنم‬
‫ُ‬ ‫مات الرعاء‪ ،‬وبادت تلكم‬ ‫«ومن رعى غنم ًا في أرض مأسدة»‬

‫وبالجملة‪ ،‬فإن هذا املجموع جدير بأن يقتنيه النشء‪ ،‬ويطالعوه‪ ،‬ويعملوا‬
‫بما فيه من الفوائد الثمينة؛ فإنها فيه كنز ال يفنى‪.‬‬

‫َقدَّمها‬ ‫ ‬ ‫ ‬
‫صديق املؤلِّف‪ ،‬األستاذ الشيخ‬
‫محــيي الدين الخــيّاط‬

‫‪24‬‬
‫نهج البالغة‬
‫العربي‬
‫ّ‬ ‫أو أساليب الكالم‬

‫نقرأ ُ كال َم ْي مختل َف ْي يف األسلوب‪ ،‬متَّف َق ْي يف املعنى‪ ،‬فنجد ألحدهما ل ّذ ًة‬


‫نحس بها يف الثاني‪ ،‬مع‬‫ُّ‬ ‫تتجل فيه‪ ،‬ال‬‫ّ‬ ‫ال نجدها يف اآلخر‪ ،‬ونشعر بروح‬
‫أن موضوعهما واحد‪ ،‬والغاية التي يرميان إليها واحدة‪ .‬وإذا أردنا أن‬
‫رس األمر‪ ،‬فال نجد له من سبب ّإل شيئا ً واحداً‪ ،‬هو اختالفهما‬
‫نبحث عن ّ‬
‫يف األسلوب‪.‬‬

‫فعىل األسلوب مدار البالغة؛ فمتى كان األسلوب سامياً‪ ،‬واملعنى حسنا ً‬
‫صحيحاً‪ ،‬فهناك الكالم البليغ‪.‬‬

‫واألساليب ثالثة‪ :‬عا ٍل‪ ،‬ووسط‪ ،‬وسافل‪ ،‬فعىل األ َّول والثاني مدار البالغة‪،‬‬
‫وفيهما تتفاضل البلغاء‪ .‬ومرجع ذلك كلّه إ ّنما هو إىل تخريج الكالم عىل‬
‫ما تقتضيه الحال‪ ،‬ويستدعيه املقام‪.‬‬

‫ري من الناس يرغبون يف أن يكونوا ُبلغاء‪ ،‬ويسعون جهدهم ليجعلوا‬


‫كث ٌ‬
‫كالمهم من األسلوب العايل‪ ،‬ولكنهم يجهلون السبيل املوصلة إىل ما‬
‫يقصدون إليه‪ :‬فمنهم من يظ ّن أن بالغة الكالم إ ّنما هي باالكثار‬

‫‪25‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫من غريب الكالم وحوشيه‪ ،‬واإلتيان بالوفري من املجازات والكنايات‪،‬‬


‫خصوصا ً ماكان منها بعيدا ً غريباً‪.‬‬

‫ولو كان ما يظنّون صحيحاً‪ ،‬لم يبق من مغ ًزى وال فائدة من املوضوع‬
‫امله ّم الذي عليه مدار علم املعاني‪ ،‬وهو (مقتىض الحال)‪ ،‬ذلك األمر‬
‫الذي ال يمكن ألحد أن يكون بليغا ً ّإل بمراعاته‪.‬‬

‫البالغة أن ينظر املرء إىل املوضوع الذي يريد أن يكتب أو يخطب فيه‪،‬‬
‫وإىل القوم الذين يكتب إليهم أو يخطب فيهم‪ ،‬ثم يعمد إىل ما تقتضيه‬
‫حال السامعني والقارئني‪ ،‬وحالة املوضوع الذي يكتب فيه‪ ،‬ويصوغ له‬
‫من الكالم ما يطابق املعنى الذي يريده‪ ،‬ويناسب حال من يقرأ كتابه‪،‬‬
‫أو يسمع خطابه‪ .‬فإن راعى ذلك مع فصاحة الكالم املعروفة عند‬
‫أرباب املعاني‪ ،‬فهو الكاتب البليغ‪ ،‬والخطيب البليغ‪ ،‬ألن الكالم إنما هو‬
‫قوالب للمعاني‪ ،‬والغاية منه إفهام السامع أو القارئ ما يريده املتكلَّم‬
‫أو الكاتب من األغراض التي تجول يف نفسه‪ ،‬وتم ُّر بخاطره‪ .‬فمتى‬
‫عرف أن القصد من الكالم هو هذا وجب عىل الكاتب‪ ،‬أو الخطيب‪،‬‬
‫أن يكون كالمه حسب الحاجة‪ ،‬مع مراعاة حال السامعني والقارئني‪،‬‬
‫فيأتي بالكالم عىل املناحي واألغراض التي حملته عىل الكالم أو الكتابة‪.‬‬
‫وإل كان كالمه من الفضول الذي ال يأتيه كاتب أو خطيب بليغان‪.‬‬ ‫ّ‬

‫طلب الكتابة البالغية كثريون‪ ،‬لكن الواصلني إليها والضاربني فيها‬ ‫ّ‬
‫بسهمهم قليلون‪ .‬وما ذلك ّإل من جهل الطريقة املؤدِّية إليها؛ فإن كثريا ً‬
‫من طالبها يعمدون إىل مطالعة كتب ليس فيها من بليغ الكالم ّإل‬
‫‪26‬‬
‫النزر اليسري‪ ،‬حتى إذا نالوا منها منالهم‪ ،‬أخذوا يتحدّونها‪ ،‬ويحيكون‬
‫عىل منوالها‪ ،‬فتكون كتابتهم معسلطة ومعانيهم سخيفة‪ -‬وهؤالء عىل‬
‫رضبني‪ :‬رضب يعمد إىل أمثال كتب املقامات والرسائل التي أنشئت‬
‫بعد جفاف رونق البالغة والكتابة الصحيحة‪ ،‬فهم مغرمون باملجازات‬
‫الساقطة والبعيدة‪ ،‬والتساجيع املتكلَّفة الباردة‪ ،‬وليس يف كتابتهم‬
‫معنى يفيد وال مغزى تنعش به األرواح‪ ،‬ورضب يعمد إىل بعض‬
‫املؤلَّفات العرصية أو املرتجمة بالعربية عن كتب اإلفرنج‪ ،‬التي ليس‬
‫عليها أثارة من األسلوب العربي الصحيح‪ ،‬فيحتذون بأسلوبهم مثالها‪،‬‬
‫فتكون كتابتهم ال عربية ُتعرف وال إفرنجية ُتوصف؛ ألن األلفاظ التي‬
‫يركبون منها ُجملهم عربية‪ ،‬غري أن أسلوب الرتكيب إفرنجي محض‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وذلك م ّما يقيض عىل اللغة العربية‪ ،‬ويرجع بها إىل ما وراء‪.‬‬

‫وأعجب من هذا أن هذا القسم من الكتاب يظنّون أن هذا األسلوب هو‬


‫الذي يجب أن يكون عليه اإلنشاء العربي‪ ،‬لسهولة فهمه عىل القارئني‪.‬‬
‫كل الخطأ ألنهم إن كانوا يفهمون باألسلوب‬‫ولكنهم مخطئون يف هذا ّ‬
‫محشوا ً بغريب الكالم والرتاكيب السمجة‬
‫ّ‬ ‫العربي البليغ أن يكون الكالم‬
‫املعسلطة‪ ،‬فهو وهم باطل‪ ،‬وال يقول به ّإل من لم يفهم البالغة العربية‬
‫ّ‬
‫حق فهمها‪ ،‬كما رشحناها يف هذا املقال‪.‬‬

‫نحن نعني باألسلوب العربي أن يكون الكالم بعيدا ً عن مناحي العجمة‬


‫مج َّردا ً ع ّما ُي ُّ‬
‫خل بالنحو واللغة وأصول البالغة‪ .‬والكالم إذا كان عىل‬
‫الخاصة‪ ،‬بل‪ -‬ر َّبما‪ -‬كان‬
‫ّ‬ ‫هذه الصورة فهو مفهوم عند العا ّمة وعند‬
‫أدعى إىل الفهم من كالم كثري من الكتّاب الذين ينحون يف أساليبهم‬

‫‪27‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫مناحي اإلفرنج‪.‬‬

‫رأيت كثريا ً من أهل هذا األسلوب يتش َّوقون إىل معرفة ما يهديهم لتكون‬
‫كتابتهم موافقة لألسلوب العربي‪ ،‬حتى يخلِّصوا كالمهم من شوائب‬
‫العجمة ‪ -‬فإىل هؤالء أقول‪:‬‬

‫من أراد أن يكون كاتبا ً عربيا ً فعليه باإلكثار من مطالعة الشعر الراقي‪،‬‬
‫كديوان الحماسة‪ ،‬واملتنبّي‪ ،‬والبحرتي‪ ،‬وأبي تمام‪ ،‬وغريها من دواوين‬
‫وأشعار فحول الشعراء‪ ،‬ومطالعة كتاب األغاني‪ ،‬والعقد الفريد‪ ،‬وكتب‬
‫عبدالقاهر‪ ،‬والغزايل‪ ،‬والشيخ محمد عبده‪ ،‬وكتابات السيِّد محمد رشيد‬
‫رضا‪ ،‬والزهراوي‪ ،‬واليازجي‪ ،‬واملنفلوطي‪ ،‬ومحمد كرد عيل‪ ،‬والخيّاط‪،‬‬
‫والحوراني‪ ،‬وغري هؤالء الكتاب املجيدين‪ ،‬من قديم وحديث‪.‬‬

‫ومن أحسن ما ينبغي مطالعته‪ ،‬ملن يتطلَّب األسلوب العايل‪ ،‬كتاب «نهج‬
‫البالغة» لإلمام عيل‪ ،‬رىض الله عنه‪ .‬وهو الكتاب الذي أنشأت هذا املقال‬
‫ألجله‪ ،‬فإن فيه من بليغ الكالم‪ ،‬واألساليب املدهشة‪ ،‬واملعاني الرائعة‪،‬‬
‫ومناحي املوضوعات الجليلة‪ ،‬ما يجعل مطالعه‪ -‬إذا زاوله مزاولة‬
‫صحيحة‪ -‬بليغا ً يف كتابته‪ ،‬وخطابته‪ ،‬ومعانيه‪.‬‬

‫كان هذا الكتاب ُد ّرة يف صدف بعض املكتبات‪ ،‬حتى أُتيح لشيخنا‬
‫املرحوم األستاذ اإلمام الشيخ محمد عبده‪ ،‬مفتي الديار املرصية‪ ،‬أن‬
‫يطلع عليه‪ ،‬و ُيربِزه إىل عالم املطبوعات‪ ،‬ليكون أستاذا ً للمنشئني ورائدا ً‬
‫َّ‬
‫لل ُبلَغاء‪ .‬وقد علّق عليه رشحا ً جزيل الفائدة كبري املغزى‪ .‬وقد ُطبِع‬
‫الكتاب بضع م ّرات مرشوحا ً بقلم األستاذ‪ ،‬عليه الرحمة‪ .‬فاستفاد منه‬

‫‪28‬‬
‫أقوام كثريون منهم كاتب هذه السطور‪.‬‬

‫فإىل اقتناء هذا األثر العظيم‪ ،‬يا ّ‬


‫طلب األسلوب العايل و ُر َّواد الكالم‬
‫البليغ‪ ،‬فإن فيه ما ترغبون‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫أيُّها اإلنسان‬

‫الحي النامي‪ ،‬وال هذه الهيئة وتلك التقاطيع‪ ،‬بل أنت‬‫ّ‬ ‫لستَ ذلك الكائن‬
‫ّ‬
‫املحل‬ ‫ذلك الجوهر السامي املج َّرد عن املادّة‪ ،‬الهابط عىل هذا الهيكل من‬
‫األرفع واملكان األمنع‪ .‬ولواله ملا كان لهذه الهيئة ما لها من التمييز عن‬
‫املوجودات كا ّفة‪ ،‬فأنت‪ -‬يف الحقيقة‪ -‬ابن السماء ال ابن األرض‪ ،‬وأصلك‬
‫من العالء ال من الحضيض‪ .‬وما وجودك عىل سطح هذه الكرة ّإل وجود‬
‫ضيف‪ ،‬عن قريب يرحل‪ ،‬ويرجع إىل األرض التي فيها نشأ‪ ،‬ومن ُتربها‬
‫نبت‪ .‬فما بالك قد ادّعيت التملُّك‪ ،‬وزعمت أنك ُّ‬
‫كل يشء وأنت ال يشء‪ ،‬ألنك‬
‫تحرجك البعوضة‪ ،‬ويقلقك الوهم‪ ،‬ويحرمك املنام الربغوث؟!‬

‫شأن من يخال أنه عىل ّ‬


‫كل يشء قدير؟؟ إن هذا ألمر نكري!‬ ‫أهكذا يكون ُ‬
‫ألستَ أنت الذي تأكل وترشب‪ ،‬وتمرح وتلعب‪ ،‬وإن هاجتك ال ُغلمة هدرت‬
‫دم رشفك دون تكسينها؟؟‬

‫ألستَ الذي إن أصابك زكام‪ ،‬قلت غدا ً أرشب كأس الحِ مام؟؟ ألستَ الذي‬
‫إن أصابتك مصيبة‪ ،‬ناديت بالويل والثبور‪ ،‬وعظائم األمور؟؟ ألستَ الذي‬
‫إن لم يجد ما يأكل أو يرشب‪ ،‬خارت قواه‪ ،‬وانحلَّت عزائمه‪ ،‬وعلم أنه‬
‫ضعيف حقري؟؟‬

‫‪31‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ألستَ الذي إن أصبح فقريا ً معدماً‪ ،‬ذهب ما كان له من املقام الرفيع‪ ،‬و َب ِلَ‬
‫ثوب كربيائه وعظمته‪ ،‬فالتجأ إىل من كانوا إليه يلتجئون‪ ،‬وطلب منهم‬
‫اإلحسان إليه‪ ،‬كما كانوا منه يطلبون؟؟‬
‫فان‪ّ ،‬‬
‫وكل ما يف‬ ‫إذن‪ ،‬فليس لك من األمر يشء‪ ،‬وما أنت ّإل كائن ضعيف ٍ‬
‫تترصف بها أو تدَّعي تملُّكها‪ ،‬فما هي ّإل‬‫َّ‬ ‫يدك عارة مسرتَدَّة‪ ،‬فإ ّياك أن‬
‫واحفظ كرامة املودِع‪ّ ،‬‬
‫وإل‬ ‫ْ‬ ‫وديعة لديك‪ ،‬فأحسن القيام عىل ما اُستو ِد ْعت‪،‬‬
‫انتزعها منك قرساً‪ ،‬وتركك حائرا ً بائراً‪ ،‬ال تلوي عىل يشء‪ ،‬وال يعطف عليك‬
‫أحد‪ .‬إيهِ‪ ،‬أ ُّيها اإلنسان!‬

‫ما هذه الكربياء التي تلبسها؟ وما تلك العظمة التي تتق َّمصها؟ عىل من‬
‫رب مال وفري‪ ،‬وعقار كثري‪ ،‬وخدمة‬ ‫َ‬
‫لِجل أنك ّ‬‫تتكب؟ وعال َم تتعاظم؟ أ ْ‬
‫َّ‬
‫وأثاث‪ ،‬وقصور ذات رياش؟؟‬

‫يس مثلك‪ ،‬يأكلون‬ ‫تتكب‪ ،‬وفيهم تحتكم‪ ،‬هل هم ّإل أنا ّ‬‫َّ‬ ‫انظر إىل من عليهم‬
‫كما تأكل‪ ،‬ويمشون كما تميش‪ ،‬لهم جسوم مثل جسمك‪ ،‬وأرواح مثل‬
‫روحك‪ ،‬و‪ -‬ر َّبما‪ -‬فضلوك بعقولهم‪ ،‬وب ُّزوك بآدابهم‪ ،‬وعَل َ ْوك بأخالقهم‪،‬‬
‫وطاولوك بشهامتهم‪ ،‬وطالوك بكرب نفوسهم‪ ،‬وصفاء رسيرتهم‪ ،‬وطهارة‬
‫سريتهم‪ ،‬وفاقوك بحسن َخ َبهم وطيب ُخ ْبهم! وملثل ذلك فليعمل‬
‫العاملون‪ ،‬وبمثله فليفتخر املفتخرون‪:‬‬

‫فه َّلا بفضلي كاثروني‪ ،‬ومحتدي!‬


‫(((‬
‫مســـــــــتردة‬
‫َّ‬ ‫وما المال إ ّلا عــــارة‬

‫يرضهم أن لو كانوا ذوي ثياب َّ‬


‫رثة ومال قليل‪ ،‬إذا زانت نفوسهم ُح َل‬ ‫ما ُّ‬

‫((( البيت للطغرائي صاحب «الميّة العجم»‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫الفضائل‪ ،‬وك َّملتها نبالة الشمائل‪:‬‬
‫(((‬
‫منهن أكثرا‬
‫َّ‬ ‫بِ فَ لْس لكان الفلس‬ ‫علي ثيــاب لو ُتـــــباع جـــــــميعها ‬
‫َّ‬

‫َّ‬
‫أجل وأ كبرا‬ ‫نفـوس الورى كانت‬ ‫نفــس لو ُتقـاس بقـــــــــدرها‬
‫ٌ‬ ‫وفيهن‬
‫َّ‬

‫إذا كان َعضب ًا حيث َّ‬


‫وج ْهته برى‬ ‫وما ض َّر نصل السيف إخـــالق غمده‬

‫طي لسانه‪ ،‬ال تحت طيلسانه» وهو قيْ ُد‬


‫املر ُء‪ -‬يا هذا‪« -‬مخبوء تحت ّ‬
‫أعماله‪ ،‬ال قيد أمواله؛ فمن ك ُرمت نفسه كرم عمله‪ ،‬ومن َس ُفلَت نفسه‬
‫امرئ بما كسب رهني‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫َس ُف َل عمله‪ّ ،‬‬
‫وكل‬

‫ما ذا يفيدك أن لو حييت حياة امللوك‪ ،‬وأنت غري مالك نفسك؟ بل ماذا‬
‫تنتفع أ َّمتك من وجودك‪ ،‬إذا كنت ال تحسن إليها؟ أتظ ّن أن أموالك تزينك‪،‬‬
‫وأن ملبسك يعليك‪ ،‬وحسن هيئتك ُتسميك؟ إنك إذن ملن املخطئني‪ .‬أتزعم‬
‫أقل منك مقاما ً وأدنى منزلة؟ إنك‪ -‬إذن‪ -‬ملن‬
‫أن الفقري ذا الخلق العظيم‪ّ ،‬‬
‫الظاملني‪.‬‬

‫قيمة املرء ما يحسن‪ ،‬فإ ّياك أن ترجو املنزلة السامية يف الدنيا‪ ،‬واملقام‬
‫املحمود يف اآلخرة‪ ،‬إذا لم تخدم قومك‪ ،‬وتس َع يف إنجاح وطنك‪ ،‬فإنك‬
‫أن سعيت وخدمت‪َ ،‬تنْ ُب ُه بعد الخمول‪ ،‬و ُتح َمد بعد الذ ّم‪ .‬والله يجزي‬
‫املحسنني‪ ،‬وقد قال أحد الفزار ّيني‪:‬‬

‫ُ‬
‫َصول‬
‫له بالخصال الصالحات و‬ ‫إ ّلا يكـــــن عظــــمي طوي ً‬
‫ال فإنني‬

‫((( األبيات لإلمام الشافعي (رىض الله عنه)‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ُ‬
‫عقول‬ ‫حسن الجسوم‬
‫َ‬ ‫تـــزِن‬
‫ْ‬ ‫إذا لم‬ ‫ونبلها‬
‫وال خي َر في حسن الجســــوم ْ‬
‫ُ‬
‫طويل‬ ‫بعــــــارف ٍة حتى يُقـــال‬ ‫تهم‬
‫إذا كنت في القوم الطـــوال عل ْو ْ‬
‫ُ‬
‫فجميل‬ ‫فحـــــل ٌو وأمّا وجـهه‬ ‫ولم أ َر كـــــالمعروف‪ ،‬أمّا مـــذاقه‬

‫أيّها اإلنسان!‬

‫إنك ُخلقتَ ألم ٍر‪ ،‬لو علمت خفيَّه‪ُ .....‬خلقتَ ملا هو أسمى م ّما يخطر ببالك‪،‬‬
‫وأعىل م ّما تتص َّور‪ .‬فانزع عنك ثوب الرياء‪ ،‬واخلع رداء الذي هو أدنى‬
‫فتهبط مرصا ً غري مرصك‪ ،‬فإن فيها ما سألت من النعيم‬ ‫َ‬ ‫ري‪،‬‬‫بالذي هو خ ٌ‬
‫الظاهر والل ّذة الحارضة‪ ،‬غري أنك تندم بعد ذلك‪ ،‬حيث ال ينفعك الندم‪،‬‬
‫ّ‬
‫ولعل‪.‬‬ ‫وال تغنيك ليتَ‬

‫ُخلقت لعمارة األرض وحسن السري يف مناكبها‪ُ .‬خلقت لتكون خليفة الله‬
‫فيها‪ .‬أهكذا تكون عمارتها؟ وهل بهذه األعمال الشائنة ّ‬
‫تتول خالفتها؟‬
‫ما بهذا أُمِرنا‪ ،‬وال ملثل ذلك خلقنا!‬

‫خليفة األ ّمة‪ ،‬يحسن سياستها‪ ،‬ويدّبر أعمالها‪ ،‬ويدير دوالب حياتها‬
‫سكانها وخادميها‪،‬‬‫االجتماعية‪ ،‬والعمرانية‪ .‬وعامر األرض يسعى لرفاهيّة ّ‬
‫كل ما يحتاجون‬ ‫ويهّيء لهم األسباب التي تدعوهم لعمارتها‪ ،‬ويقدّم لهم ّ‬
‫إليه لصالح تلك األرض‪ ....‬فهل أنت‪ -‬أ ّيها اإلنسان‪ ،‬يا من ُخلقت لعمارة‬
‫األرض‪ ،‬يا من ُوجدت لتكون خليفة الله فيها‪ -‬تعمل بمقتىض سنّة الله يف‬
‫األكوان‪ ،‬لتصحّ خالفتك عليها‪ ،‬وتكون عامرا ً لها؟؟؟‬
‫‪34‬‬
‫أهلها ج َّوع‪ ،‬وقاطنوها جهالء‪ ،‬فهم يأكلون بجهلهم لحوم إخوانهم‪،‬‬
‫ويخربون بسوء عملهم ما أمر الله بعمارته‪ ،‬وأنت أنت قادر عىل تعليمهم‬
‫وإطعامهم‪ ،‬وتدبري أمورهم‪ ،‬والنظر يف إصالح شؤونهم‪.‬‬

‫فا َّت ِق الله يف الوديعة التي استودعك إ ّياها‪ ،‬فقد ادَّعيتَ أنها ملك لك‪،‬‬
‫فترصفت فيها عىل ما يريض هواك‪ ،‬ال عىل ما يريد املودع‪.‬‬
‫َّ‬

‫إنما جعلك غنيّا ً لتنظر يف حالة الفقراء واملساكني‪ ،‬فتدرأ عنهم عوادي‬
‫الزمان‪ ،‬وتدفع طوارئ الحدَثان‪ ،‬فاستأثرت باألمانة‪ ،‬ورصت من أهل‬
‫الخيانة‪ ،‬ولسوف تندم‪ ،‬والت ساعة مندم‪.‬‬

‫تكتف بما فعلت‪ ،‬بل طفقت ُتنكر عليهم ح َّقهم‪ ،‬وتعبث‬ ‫ِ‬ ‫ثم إنك لم‬
‫أضل سبيالً‪ ،‬فكأنك لم تنظر إىل‬
‫ّ‬ ‫بمرافقهم‪ ،‬وتحتقرهم كأنهم األنعام أو‬
‫قول الله الكريم‪« :‬ويف أموالهم ٌّ‬
‫حق معلوم للسائل واملحروم»‪.‬‬

‫أيُّها اإلنسان!‬

‫ورب هذا الفلك املدار‪ .‬فأ ّد‬


‫استيقظ من غفلتك‪ ،‬فإن الزمان قد استدار‪ّ ،‬‬
‫وأصلح ما‬
‫ْ‬ ‫الحق الواجب‪ ،‬فإنه عليك رضبة الزب‪ ،‬وانهض من سباتك‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وإل فارتقب جزاء سيِّئاتك‪ ،‬وويالت‬ ‫فات من غلطاتك‪ ،‬وتدارك هفواتك‪ّ .‬‬
‫غفالتك‪ .‬يوم يطالبك رشكاؤك بما أكلت من ح ِّقهم الالزم‪ ،‬فينأى عنك‬
‫أولياؤك‪ ،‬فال تستطيع تأدية املغارم‪ ،‬ثم يأتيك يوم هو أش ّد األ ّيام هوالً‪،‬‬
‫وأثقلها وطأ ًة؛ هو يوم ُينتَ َص فيه للمظلوم من الظالم‪ ،‬وللضعيف من‬
‫الغاشم‪ ،‬ذاك يوم تدور فيه رحى الشقاء عىل أهل الجور‪ ،‬ويهيم فيه‬

‫‪35‬‬
‫ّ‬
‫ولكل‬ ‫كل نجد وغور‪ ،‬فال يجدون مكانا ً يعصمهم من البالء‪،‬‬
‫البخالء يف ّ‬
‫قوم دور‪.‬‬

‫أيُّها اإلنسان!‬

‫تنبَّه‪ ،‬إني لك من الناصحني‪ ،‬واحذر أن تخالف عن أمري‪ ،‬فتكون من‬


‫الخارسين‪« .‬اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً‪ ،‬واعمل آلخرتك كأنك تموت‬
‫و«إن أكرمكم عند الله أتقاكم» و«ليس‬ ‫ّ‬ ‫غداً»‪ ،‬فاإلنسان أخو اإلنسان‪.‬‬
‫و«إن أقربكم مني مجالس‬ ‫ّ‬ ‫ألحد فضل عىل أحد ّإل بدي ٍن أو عم ٍل صالح»‪،‬‬
‫املوطؤون أكنافاً‪ ،‬الذي يألفون و ُيؤلَفون»‪،‬‬‫َّ‬ ‫يوم القيام أحاسنكم أخالقاً‪،‬‬
‫ً‬
‫صفقة َم ْن أخلق يديه يف آماله‪ ،‬ولم تساعده األ ّيام عىل‬ ‫و«إن أخرس الناس‬
‫حجة»‪ ،‬و«قد برئ‬ ‫أمنيته‪ ،‬فخرج من الدنيا بغري زاد‪ ،‬وقدم عىل الله بغري ّ‬
‫الشح َم ْن أدّى الزكاة‪ ،‬و َقرى الضيف‪ ،‬وأعطى يف النائبة»‪ ،‬و«ال يؤمن‬ ‫من ُّ‬
‫يحب لنفسه» و«الكيّس من دان نفسه وعمل‬ ‫ّ‬ ‫يحب ألخيه ما‬
‫ّ‬ ‫أحدكم حتى‬
‫ملا بعد املوت‪ ،‬والعاجز من أتبع نفسه هواها‪ ،‬وتمنّى عىل الله األماني»‪،‬‬
‫كل ذات كب ٍد ح َّرى أجر»‪ ،‬و«العفو ال يزي ُد العبد ّإل ع ّزاً‪ ،‬والتواضع‬
‫و«يف ّ‬
‫ال يزيده ّإل رفعة»‪ ،‬و«ما نقص مال من صدقة»‪ ،‬و«اليوم الرهان‪ ،‬وغدا ً‬
‫السباق والغاية الجنّة‪ ،‬والهالك من دخل النار»‪ ،‬و« ُيحرض الجبّارون‬
‫واملتكبون يوم القيامة أمثال الذ ّر يط ُؤهم الناس»‪.‬‬
‫ِّ‬

‫فانزع عنك‪ -‬أ ُّيها اإلنسان‪ -‬ثوب الغرور‪ ،‬واخلع معاطف الزهو والخيالء‪،‬‬
‫وانظر إىل أخيك يف اإلنسانية‪ ،‬وأ َ ِعنْه بما تستطيع‪ ،‬وخ ّفف ويالته‪ ،‬وقلّل‬
‫من نكباته‪ ،‬فماذا تفيدك كربياؤك؟ وما تغني عنك خيالؤك»؟‪:‬‬
‫إن ملكـــــت الورى من الغُ َلواء‬ ‫قــــــــــــــوي وخفّ ْ‬
‫ض ‬ ‫ُّ‬ ‫فا َّت ِ‬
‫ــق الله يا‬

‫ٍ‬
‫خــــــــلق من طينها والماء‬ ‫ّ‬
‫كل‬ ‫ُّ‬
‫قــــــــــوي‪ -‬سواء‬ ‫إنما الناس‪ -‬يا‬

‫فجـــــــــــميع األنام من ح ّواء‬ ‫التكــبر تنمو‬


‫ُّ‬ ‫تدع شـــــــــــوكة‬
‫ْ‬ ‫ال‬

‫ببطــــش فهاك أسد الشرا ِء‬


‫ٍ‬ ‫أو‬ ‫إن تفـــــاخ ْر باألصل فالطين والما‬

‫فارحم يرحمك م َْن في السما ِء‬ ‫خــــــفّ ف الوطء فالبرايا عيال الله‬

‫قبعات اإلعجــــاب والكبريا ِء‬


‫َّ‬ ‫وانتزع عنك مِ طْ رف الزهو‪ ،‬واخلع‬

‫‪..........‬‬

‫‪37‬‬
‫َقحْ ُط رجال‪ ،‬أم َقحْ ُط وجدان؟‬

‫‪ ...‬يشكو الناس‪ ،‬اليوم‪ ،‬من قحط الرجال‪ ،‬وعدم وجود األكفاء العاملني‬
‫ّ‬
‫الحكام الذين ينظرون إىل‬ ‫املد ّربني‪ .‬وأنا أشكو من قحط الوجدان‪ ،‬وندرة‬
‫الجريمة ال إىل املجرم‪ ،‬وما يتبعه من الذيول والغيوث‪.‬‬
‫ّ‬
‫والحل‬ ‫وقحط الوجدان ليس قارصا ً عىل املرت ِّبعني فوق دست األمر والنهي‬
‫والعقد‪ ،‬بل هو عا ّم شامل األ ّمة ّإل َم ْن رحم ر ُّبك‪ ،‬وقليل ما هم‪ ،‬ومع ذلك‬
‫الحق‪ ،‬وأننا أحرار معتصمون بحبل الدستور‬ ‫ّ‬ ‫فكلُّنا ندَّعي املحافظة عىل‬
‫املتني‪.‬‬

‫نرم باألغراض إىل مكان‬


‫نرب الوجدان تربية صحيحة‪ ،‬وإذا لم ِ‬ ‫إذا لم ِّ‬
‫َق ّ‬
‫يص‪ ،‬فلسنا بأحرار‪ ،‬ولو سبَّحنا باسم الح ّر ّية‪ ،‬آناء الليل وأطراف النهار‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬وينرص‬ ‫حاكم أو محكوم أن يتبع‬ ‫ألن الح ّر ّية تقيض عىل ّ‬
‫كل إنسان‬
‫ٍ‬
‫كل عمل شائن‪.‬‬ ‫املظلوم‪ ،‬ويبتعد عن ّ‬

‫كل امرئ ح ّر‪ ،‬غري أن وجوده يف‬ ‫الوجدان الصحيح يجب أن يكون يف ّ‬
‫الحق وإبطال الباطل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحاكم آك ُد منه يف سائر الناس؛ ألن بيده إحقاق‬
‫فإن راعى وجدانه‪ ،‬وانصاع لحكم العدل‪ ،‬فقد أحيا ميّت الرجاء يف األ ّمة‪،‬‬
‫رش مندثر األمل‪.‬‬‫وأن َ‬

‫‪39‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫الرجال عندنا كثريون‪ ،‬ال كما يتو َّهم الناس‪ ،‬فإن بيننا‪ ،‬من أهل الثروة‬
‫والعلم والقوانني وأرباب اإلدارة‪ ،‬رجاال ً ُيفتخر بهم لو راعوا وجدانهم‬
‫وخدموا أ َّمتهم خدمة صادقة‪ .‬غري أن األهواء تصدف بهم عن سلوك جادّة‬
‫املنفعة العا ّمة‪ ،‬وتقذف بهم يف طريق الغاية الشخصية‪ ،‬والنظر إىل منفعة‬
‫ّ‬
‫وحكامنا ر ّواد آمال‪،‬‬ ‫الذات‪ .‬فأغنياؤنا عبَّاد أموال‪ ،‬وعلماؤنا َخدَمة أقوال‪،‬‬
‫وقليل من هؤالء وأولئك من يجود ملنفعة األ ّمة‪ ،‬ويعمل بما يعلم‪ ،‬ويحكم‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬ويمليه عليه الوجدان‪.‬‬ ‫بما يوجبه‬

‫األغنياء لو راعوا وجدانهم‪ ،‬وخدموا األ ّمة بأموالهم املكنوزة يف الصناديق‪،‬‬


‫وأفاضوا عليها من وابل اإلحسان‪ ،‬وشيَّدوا لها املدارس‪ ،‬لنهضت من‬
‫رقدتها‪ ،‬وأقيلت من عثرتها‪ .‬لكنهم عن ذلك غافلون‪ ،‬وبرتفهم منهمكون‪.‬‬
‫ولو أَهبْتَ بهم ليتنبَّهوا‪ ،‬ولو ح َّرضتهم لينفحوا املرشوعات الخريية بجزء‬
‫من أموالهم‪ ،‬لَل َ َّو ْوا رؤوسهم وهم معرضون!!‬

‫فهل نقول ليس عندنا رجال أغنياء‪ ،‬أم نقول إنه ليس لكثري من أغنيائنا‬
‫وجدان ح ّر يدفعهم إىل األخذ بيد األ ّمة وإقالتها من هذه العثرة؟ العلماء‬
‫يقولون ما ال يفعلون‪ ،‬وبأهوائهم مشتغلون‪ ،‬وعن تعليم األ ّمة وتهذيبها‬
‫مطلعون‪ .‬فهل نقول‬ ‫وإرشادها الهون‪ ،‬مع أنهم عاملون‪ ،‬وعىل الحقيقة َّ‬
‫ليس عندنا علماء‪ ،‬أم نقول إنهم باعوا الدين بالدنيا‪ ،‬واستبدلوا الذي هو‬
‫أدنى بالذي هو خري؟‬
‫ّ‬
‫الحكام‪ ،‬وما أدراك ما هم؟ قوم ف ّوضت األ ّمة إليهم أمورها‪ ،‬وألقت عليهم‬
‫أثقالها‪ ،‬ورمت إليهم بمقاليد الحكم عىل أعراضها وأموالها ودمائها‪ .‬ثم‬
‫بصت بكثري منهم حادوا عن سبيل الرشاد‪ ،‬وا َّتبعوا غري طريق السداد‪،‬‬ ‫ُ‬

‫‪40‬‬
‫تلقاء وصاية أو رجاء‪ ،‬وميالً ملنفعة أورياء‪ .‬ويظ ّن الكثري أن سبب ميلهم‬
‫الحق هو الجهل بالقوانني‪ ،‬وأن من ُسلِّموا زمام الحكم غري أكفاء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عن‬
‫وهو حكم عليهم غري صحيح‪ ،‬وإنما عادات الدور البائد لم تزل ِّ‬
‫مؤثرة يف‬
‫الجل منهم‪ .‬فهل نقول ليس عندنا‬ ‫ّ‬ ‫نفوس أكثرهم‪ ،‬ومسيطرة عىل طبائع‬
‫حكام أكفاء‪ ،‬أم نقول إن الوجدان ضعيف؟‬

‫الحكام‪ ،‬راعوا وجدانكم‪ ،‬وأصيخوا إىل صوت ضمريكم‪ ،‬وال تدعوا‬ ‫ّ‬ ‫فيا أ ُّيها‬
‫من ال أخالق لهم يقولون‪ :‬ال فرق بني املايض والحارض‪ ،‬وأننا لم ننل من‬
‫فوائد الح ّر ّية والدستور‪ّ ،‬إل انطالق األلسنة وح ّر ّية الجرائد‪ ،‬التي ا َّتخذ‬
‫كثري منها الح ّر ّية ذريعة لهتك األعراض وشتم الناس والتطا ُول عىل أهل‬
‫الفضل‪.‬‬

‫حق‪ ،‬فال‬‫إن كثريا ً من الدعاوي التي تنظرون فيها ليس عليها أثارة من ّ‬
‫ترسعوا بالحكم فيها ّإل بعد قتلها علماً‪ ،‬وإ َّياكم أن تب ُّتوا األمر قبل أن‬
‫تأصلت جذورها يف‬ ‫تتثبّتوا فيه‪ .‬فوالله‪ ،‬إن التزوير والكذب والنفاق قد ّ‬
‫نفوس األ ّمة‪ ،‬فال تكونوا عونا ً للظالم عىل املظلوم‪ ،‬وال تسهِّلوا للمز ِّورين‬
‫السبيل‪ ،‬وال تفتحوا ألهل النفاق والشقاق األبواب‪ ،‬فيَل ِجوها‪ ،‬فإن دخلوها‬
‫الفساق وأهل‬
‫ّ‬ ‫فقد اختلط الحابل بالنابل‪ ،‬وضاعت الحقوق‪ ،‬وتطاولت‬
‫ّ‬
‫والحق‪.‬‬ ‫الرشور عىل األبرياء‪ ،‬وأهل الفضل‬

‫‪41‬‬
‫الرتبية أساس النجاح‬

‫يف الرتبية‪ ،‬وفضائلها‬

‫الرتبية كلمة صغرية اللفظ‪ ،‬كبرية املعنى‪ ،‬تنطوي تحتها الكماالت أجمعها؛‬
‫فهي مالك الخري كلّه‪ ،‬وجماع الفضيلة بأرسها‪ ،‬وعليها مدار الكون‪ ،‬وبها‬
‫ننال الفالح‪ ،‬وفيها قبعت ذ َّرات النجاح‪.‬‬

‫وهي‪ ،‬يف اللّغة‪ ،‬مصدر (ر ّباه‪ ،‬ير ّبيه) بمعنى‪ :‬نمأه‪ .‬ويف اصطالح علماء‬
‫األخالق والرتبية هي تنمية األخالق الفاضلة يف النفس‪ ،‬وتعهُّدها باإلرشاد‪،‬‬
‫لتكون َملَكة راسخة فيها‪ ،‬فتثمر الفضيلة والخري‪.‬‬

‫الحق سعادة األمم وفالحها‪ ،‬وشقاؤها وانخذالها‪ .‬فمتى كانت‬ ‫ّ‬ ‫فعىل الرتبية‬
‫ُّ‬
‫التأخر إىل ذروة الفالح‪،‬‬ ‫الرتبية صحيحة يف أ ّمة من األمم‪ ،‬رفعتها من وهاد‬
‫والعكس بالعكس‪ .‬وعىل مقدار الرتبية تكون تجلية األقوام يف مضمار‬
‫الحق يف قلوب أبنائها متَّسعا ً ّإل‬
‫ّ‬ ‫هذه الحياة‪ ،‬فما من أ ّمة وجدت الرتبية‬
‫بلغوا ما يأملون من رفاه العيش وسعادة الحياة‪ .‬وبقدر الرتبية يكون‬
‫املفكرون الذين يبذلون وسعهم‪ ،‬وينفدون مجهودهم‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يف األمم الرجال‬
‫لرتقية أ َّمتهم وأوطانهم‪.‬‬

‫خذ أ ّية أ ّمة من األمم الراقية‪ ،‬اليوم وقبل اليوم‪ ،‬تجد أنها قد تقدَّمت‪ ،‬وبلغت‬

‫‪43‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ما بلغت من العظمة واملدنيّة‪ ،‬بواسطة أناس تر ّبوا تربية صحيحة‪ ،‬فعرفوا‬
‫مرتخص وغا ٍل‪ ،‬حتى أرواحهم‬ ‫َ‬ ‫فضحوا ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫وتأخرها‪،‬‬ ‫انحطاط أ ّمتهم‬
‫ودماءَهم‪ ،‬يف سبيل تخليص أ ّمتهم من مخالب واالستبداد‪ ،‬واألخذ بأيديها‬
‫ونشلها من مهاوي الجهل والفساد‪ ،‬حتى أنافوا بها عىل يفاع الح ّر ّية‬
‫وذروة املدنيّة‪ .‬واألمثال عىل ذلك كثرية تكاد ال تحىص‪ ،‬والتاريخ طافح‬
‫وهاك مثاال ً من ذلك‪ -‬األ ّمة العربية‪:‬‬
‫َ‬ ‫بها‪.‬‬

‫‪ -‬األ ّمة العربية‪ ،‬وما أدراك ما هي؟ تلك األ ّمة الرفيعة الشأن‪ ،‬البعيدة‬
‫الصيت‪ ،‬التي بلغت من املدنيّة والعمران شأوا ً بعيدا ً التزال آثاره ناطقة‬
‫شاهدة عىل ما كان لهم من العظمة يف امللك والسلطان وامتداد السطوة‪.‬‬
‫تلك األ ّمة التي مدّت جناح ملكها عىل الحجاز واليمن والشام والعراق‪،‬‬
‫وفارس وإفريقيا واألندلس وقسم من أوروبا‪ ،‬ووصلت حوافر خيولها إىل‬
‫قسنطينية وباريس‪ .‬تلك األ ّمة التي نرشت العلوم واملعارف والصناعات‪،‬‬
‫وبثَّت يف أرجاء املعمور أنوار الهداية لسلوك مناهج العلم والفضيلة‪ .‬تلك‬
‫األ ّمة التي لم تزل أوروبا‪ ،‬اليوم‪ ،‬تعرتف لها بالتقدُّم‪ ،‬وتقول إنها تلميذة‬
‫لها‪ ،‬وعنها تل َّقت العلوم والصناعات التي كانت لها نورا ً أوصلها إىل ما‬
‫كل يشء‪.‬‬‫هي عليه‪ ،‬اآلن‪ ،‬من التقدُّم والرباعة يف ّ‬

‫تلك األ ّمة التي هذا شأنها‪ ،‬ماذا أصابها حتى أصبحت اآلن ضعيفة‪،‬‬
‫متأخرة يف ّ‬
‫كل يشء؟‬ ‫ِّ‬

‫‪ -‬من نظر إليها‪ْ ،‬‬


‫بعي الرت ّوي والبصرية‪ ،‬نظ َر املنتقد الخبري‪ ،‬يعلم أن‬
‫ضعف الرتبية وفساد األخالق هما اللذان أوصالها إىل هذه الحال من‬
‫ُّ‬
‫التأخر‪ -‬فسدت أخالق الناس بفساد أخالق امللوك‪« :‬إن امللوك إذا دخلوا‬
‫‪44‬‬
‫قرية أفسدوها‪ ،‬وجعلوا أع ّزة أهلها أذلّة»‪.‬‬

‫ملوكها بطرت معيشتهم‪ ،‬فاستبدّوا برعيَّتهم‪ ،‬فقام عليهم ثائر من أهلهم‬


‫أو من غريهم‪ ،‬بداعي اإلصالح‪ ،‬فاشتعلت الحروب الداخلية‪ ،‬فلَها الناس‬
‫بها‪ ،‬وتركوا التعليم والعلم والتهذيب والرتبية‪ -‬زد عىل ذلك أن األجنبي‬
‫اغتنم فرصة هذه املشاكل الداخلية‪ ،‬فجاءهم عىل حني غ ّرة‪ ،‬فأصبحوا‬
‫بني ش ّقني من عصا‪ :‬عد ّو يف الداخل‪ ،‬وعد ّو من الخارج‪ ،‬وتلك هي الطا َّمة‬
‫الكربى‪ ،‬والبلية العظمى‪ .‬ومازالوا عىل أنفسهم والعد ّو الخارجي عليهم‪،‬‬
‫ينقص أرضهم من أطرافها‪ ،‬إىل أن زالت مدنيَّتهم‪ ،‬وبقيت أثرا ً بعد عني‪.‬‬
‫واضمحل ملكهم‪ ،‬وذهب من أيديهم إىل أيدي غريهم‪ ،‬فكادت ُتمحى الدول‬‫ّ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬لوال أن قبض عىل ناصية الخالفة خلفا ُء بني عثمان‪.‬‬

‫هذا مثال من أمثلة األمم التي كان ضعف الرتبية وفساد األخالق من‬
‫ُّ‬
‫وتأخرها بعد التقدُّم‪.‬‬ ‫أسباب انحطاطها بعد االرتفاع‪،‬‬

‫وهاك مثاال ً آخر‪ ،‬وهو أقرب ما أرضبه للقارئ‪:‬‬


‫ني من الدهر (‪ 33‬سنة)‪ ،‬لم تكن فيه شيئا ً‬ ‫مىض عىل األ ّمة العثمانية ح ٌ‬
‫مذكوراً‪ ،‬بعد أن كانت تتخ َّوفها دول العالم‪ ،‬وتحسب لها ألف حساب‪.‬‬
‫فقد كانت يف مقدِّمة الدول استعمارا ً واستعداداً‪ .‬فل ّما نخر سوس فساد‬
‫الرتبية واألخالق عظم مجتمعها‪ ،‬بسبب ما طرأ عليها من استبداد الهيئة‬
‫الحاكمة‪ ،‬وإماتة الشعور فيها‪ ،‬والضغط عىل عقولها‪ -‬لَ ّما حصل ذلك يف‬
‫رف ها ٍر من االضمحالل‪،‬‬‫األ ّمة‪ ،‬أرشفت عىل الهالك‪ ،‬وأشفت عىل شفا ُج ٍ‬
‫فطمعت فيها الدول الحارضة التي كانت تخافها‪ ،‬وكادت تقتسمها‪ ،‬فعالً‪،‬‬
‫ً‬
‫صيحة‬ ‫لوال أن أسعفها أولئك األحرار الذين صاحوا باالستبداد وأهله‬

‫‪45‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫أما َتتْهم‪ ،‬فأجفلت عند ذلك الدول الطامعة باغتيال اململكة واقتسامها َّ‬
‫رش‬
‫اقتسام‪ ،‬ووقفت عىل الحياد‪.‬‬

‫أولئك األحرار الذين كانوا سبب إنالتنا الح ّر ّية‪ ،‬وواسطة كرس قيود‬
‫االستبداد والظلم عن أيدينا وأرجلنا‪ّ ،‬‬
‫وفك عقاالت املراقبة عن أقالمنا‪،‬‬
‫وتحطيم أغالل الجاسوسية عن ألسنتنا ‪ -‬أولئك األقوام األحرار كانوا‬
‫سبب هذا االنقالب العظيم الذي أبدل شكل الحكومة من مطلقة مستبدَّة‪،‬‬
‫إىل مقيَّدة عادلة‪ .‬وهل يظ ّن أحد أن هذا الفكر كان يجول يف غري أدمغة‬
‫كل‪ .‬ثم‬ ‫املرت ِّبني من األ ّمة‪ ،‬إىل أن أظهره‪ ،‬إىل عالم الربوز‪ ،‬هؤالء األحرار؟ ّ‬
‫كل‪ .‬هذا الفكر لم يكن لينشأ ّإل من قوم قتلوا الرتبية علماً‪ ،‬ثم سعوا يف‬ ‫ّ‬
‫وحي عقول‬ ‫أم ٍر كان موضع إعجاب العالم أجمع‪ ،‬حتى أدهش الساسة‪َّ ،‬‬
‫الناس كا ّفة‪ ،‬عىل اختالف طبقاتهم وتبا ُين مشاربهم‪.‬‬
‫فالرتبية‪ -‬إذاً‪ -‬هي منار التقدُّم‪ ،‬ورائد الفالح ّ‬
‫لكل أ ّمة تريد أن تربأ‬
‫بنفسها أن تكون خاملة الذكر‪ ،‬أو تكون مع الهالكني‪.‬‬

‫تربية األخالق والشعور‬

‫الرتبية املنزلية‬

‫خري الرتبية ما كان ُي َ‬


‫رضع مع اللبن‪ ،‬فمن تر ّبى الرتبية املطلوبة وهو يف‬
‫وصحة الرأي وصدق‬‫ّ‬ ‫س ّن الطفولية‪ ،‬نشأ واألخالق الفاضلة خلُق فيه‪،‬‬
‫العزيمة تنشئة له‪ .‬لذلك‪ ،‬يجب أن ُيعتَنى بالولد االعتناء الالزم منذ يرى‬
‫وحب الخري‪ ،‬وغري ذلك‬
‫َّ‬ ‫نور الحياة الدنيا‪ .‬ف ُي َع َّود كرم األخالق والشجاعة‬
‫‪46‬‬
‫من الفضائل واملحامد‪ .‬ومتى كان كذلك يرجى من الناشئ أن يكون عضوا ً‬
‫صحيحا ً يف جسم األ ّمة‪ ،‬يبذل روحه ودمه يف خدمة أوطانه ودولته‪ ،‬ألنه‬
‫يكون‪ ،‬بمقتىض تلك الرتبية‪ ،‬مجربا ً مقهورا ً عىل أداء الواجب نحو األ ّمة‬
‫(ولو كان يف زمن ح ّر ّية القول والعمل)؛ إذ ليس منشأ ذلك اإلجبار أو‬
‫القهر هو السلطة االستبدادية‪ ،‬ألن هذه السلطة تكره ّ‬
‫كل من يقوم بأعباء‬
‫الخدمة الوطنيّة‪ ،‬وأثقال منفعة األ ّمة‪ .‬وليس منشأه من قوم يأمرونه‬
‫بذلك‪ ،‬فيفعل حيا ًء أو رياءً‪ .‬لكن‪ ،‬ما هو منشأ ذلك؟‬

‫‪ -‬منشأ اإلجبار عىل القيام بالواجب‪ ،‬هو تلك العاطفة التي ر َّباها املر ّبي‪،‬‬
‫وعمل عىل إحيائها العلم الصحيح؛ أال وهي الضمري‪ ،‬هذا الضمري أو تلك‬
‫النفس الطاهرة هي التي تجربه عىل خدمة وطنه وأ ّمته ودولته‪ ،‬وال‬
‫تحصل تلك العاطفة بغري الرتبية الصحيحة‪ .‬فالرتبية جماع الخري كلّه‪،‬‬
‫وأساس الفضائل بأرسها‪ .‬فر ُّبوا أبناءَكم وبناتكم‪ ،‬وأودعوا يف نفوسهم‬
‫التعاليم القويمة‪ ،‬وابذروا يف قلوبهم تلك البذور الطيِّبة‪ ،‬وتعهَّدوا أفكارهم‬
‫بمياه الفضائل‪ ،‬وال تدعوا لسلطان األوهام والخرافات عىل عقولهم سبيالً‪.‬‬
‫بكل صدق‬ ‫وبذلك يحيون حياة طيبة‪ ،‬ويكونون أبناء املستقبل‪ ،‬يخدمونه ّ‬
‫وأمانة وإخالص‪.‬‬

‫التعليم أمر عظيم‪ ،‬جليل القدر‪ ،‬عظيم الفائدة‪ ،‬ولكن الرتبية أرشف‬
‫وأجل‪ .‬فإن العاقل الخبري‪ ،‬والناقد البصري‪ ،‬يرى من نفسه‬‫ّ‬ ‫وأنبل‪ ،‬وأعظم‬
‫وك ُرمت نفوسهم‪ ،‬ولو‬ ‫ارتياحا ً لقوم َح ُسنت تربيتهم‪ ،‬و َن ُبلت أخالقهم‪َ ،‬‬
‫كانوا غري متعلّمني‪ .‬وال ُيرى هذا االرتياح وذلك األنس بفئة من املتعلّمني‪،‬‬
‫ليس عندهم من الرتبية الصحيحة ما ير ِّغب الناس يف مخالطتهم واألنس‬
‫بهم‪ .‬وهذا ُمشاهَد بالعيان‪ ،‬ال يحتاج يف صدقه إىل برهان‪ .‬وقد ورد يف‬

‫‪47‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫الحديث الرشيف‪« :‬خري الناس من يألف ويؤلَف»‪.‬‬

‫وليس املراد م ّما قدّمناه إنكار مزية العلم والتعليم‪ ،‬حاشا لله أن أكون من‬
‫الرقي يف معارج‬
‫ّ‬ ‫الجاهلني‪ ،‬فالعلم من أقوى دعائم املدنيّة‪ ،‬وأقوى أسباب‬
‫الحضارة والعمران‪ .‬وإ ّنما القصد أن الرتبية واألخالق ومعرفة الواجب‪،‬‬
‫خري من العلم املج ّرد عن التهذيب واآلداب واألخالق الفاضلة‪ ،‬وهذا أمر ال‬
‫ينكره عاقل‪ ،‬وما أحالهما إذا اجتمعا يف املرء!‪.‬‬

‫كم رأينا من شبّان درسوا ما درسوا‪ ،‬واغرتفوا من بحر العلوم ما اغرتفوا‪،‬‬


‫ولكنهم يف فساد األخالق غارقون‪ ،‬ويف حمأة الرشور منغمسون‪ ،‬ال ينفعون‬
‫األ ّمة والوطن‪ ،‬وليس مرادهم ّإل «ر ّيى‪ ،‬وسعدى‪ ،‬وهنداً»‪ ،‬وغريهن من‬
‫دواعي الرسور وأسباب الحبور‪ ....‬غري أنهم لو علموا العاقبة لقالوا‪ :‬إنها‬
‫رشور‪ ،‬وأ ّية رشور!‪.‬‬

‫ناشدتك الله‪ :‬هل أمثال هؤالء املتعلِّمني سوى أعضاء أشالء يف جسم‬
‫املجتمع؟ وهل ِّ‬
‫تفضلهم عىل أولئك األخيار األطهار‪ ،‬أصحاب القلوب النقيّة‬
‫ّ‬
‫الحظ بالجلوس‬ ‫البيضاء‪ ،‬واألخالق الكريمة السمحة‪ ،‬الذين لم يسعفهم‬
‫وراء مناضد املدارس؟؟‪.‬‬

‫‪......‬‬

‫ليس القصد من الرتبية أن تكون األلفة بني النوع اإلنساني فقط‪ ،‬بل‬
‫األمر أعىل من ذلك وأرفع‪ ،‬وأرشف وأنبل‪ ،‬فإن الغاية التي نقصد إليها‪،‬‬
‫والضالّة التي ننشدها‪ ،‬هي أن نوجد‪ ،‬بواسطة التهذيب والرتبية‪ ،‬يف نفوس‬
‫النشء‪ ،‬شعورا ً لطيفاً‪ ،‬وعاطفة ش ّفافة‪ ،‬يجربانه عىل القيام بالواجب نحو‬
‫‪48‬‬
‫األ ّمة والوطن والناس أجمعني‪ .‬وذلك ال يكون ّإل بتعويد األحداث مكارم‬
‫األخالق وأحاسن األعمال‪ ،‬منذ نشأتهم‪ ،‬وبذلك نكون قد خدمنا الوطن‬
‫ذكر ف ُت َ‬
‫شكر‪ .‬فتعويد األحداث عىل العمل بالواجب‬ ‫أجل خدمة ُت َ‬
‫واإلنسانية َّ‬
‫منذ الصغر ير ّبي يف نفوسهم تلك العاطفة التي نريدها‪ ،‬وذلك الشعور‬
‫الذي نتطلَّبه‪ .‬فالرتبية يف الصغر كالنقش يف الحجر‪.‬‬

‫يشب عىل ُخلُق حميد أو ذميم‪ ،‬ألنه‪ ،‬بحكم القرس والطبيعة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫الولد الب َّد أن‬
‫مفطور عىل اكتساب ما يسمعه أو يراه من خري أو رش‪ ،‬نفع أو ّ‬
‫رض‪ ،‬فهو‬
‫بالقياس إىل ما يسمعه كالصدى «الفونوغراف»‪ ،‬وبالنسبة إىل ما يراه كناقل‬
‫الهيئة «الفوتوغراف»‪ ،‬فكما أن األول يحفظ يف أسطوانته ما ُيلقى إليه من‬
‫األلفاظ‪ ،‬والثاني ينطبع يف زجاجته ما يكون أمامه من األشباح والهيئات‪،‬‬
‫رشا ً ف ّ‬
‫رش‪ ،‬فكذلك‬ ‫كل منهما ما أكنَّه وأخفاه‪ ،‬إن خريا ً فخري‪ ،‬وإن ّ‬
‫ثم يبدي ّ‬
‫الولد‪ ،‬ينطبع يف مرآة عقله ما يراه من األفعال‪ ،‬وينقش يف صفائح ذهنه ما‬
‫يسمعه من األقوال‪ ،‬ثم يبدي ذلك للناس‪ ،‬ويعاملهم حسب ما رآه وسمعه‪.‬‬

‫لكل نقش وصورة‪ ،‬فاحذر‪ -‬أ َّيها‬‫ف َمثَ ُل قلب الولد مثل الشمعة‪ ،‬قابلة ّ‬
‫الرجل‪ -‬أن تنقش يف فؤاد ولدك وفلذة كبدك ما يكون وباال ً عليه وعىل‬
‫أ ّمته‪ ،‬يف مستقبل حياته‪ .‬قال اإلمام الغزايل‪:‬‬
‫«إن الولد أمانة عند والديه‪ ،‬وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية عن ّ‬
‫كل‬
‫وس ِع َد يف الدنيا واآلخرة‪،‬‬ ‫نقش وصورة‪ ،‬فإن ُع ِّو َد الخري وعُل ِّ َمه نشأ عليه‪َ ،‬‬
‫وكل معلِّم ومؤدِّب‪ .‬وإن ُع ِّو َد الرش وأُهمِل َشق َِي‬ ‫وشاركه يف ثوابه أبواه ّ‬
‫وهَلَك‪ ،‬وكان الوزر يف رقبة وليِّه والقيِّم عليه»‪.‬‬

‫فسعادة الوطن ‪ -‬معرش أبنائه‪ -‬أن ندأب يف تهذيب األحداث‪ ،‬وتربية‬

‫‪49‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫الصبيان‪ ،‬قبل أن يأتيهم يوم ال ينفع فيه مال وال بنون‪ ،‬وهو يوم الجهاد‬
‫األكرب يف معرتك الحياة املستقبَلة‪ .‬فالرتبية ال ّ‬
‫تؤثر ّإل أن كانت منذ الصغر‪،‬‬
‫تتأصل فيهم شأفات الجهل وفساد‬‫َّ‬ ‫كما قدَّمنا‪ .‬وأ ّما تربية الشبّان‪ ،‬بعد أن‬
‫األخالق‪ ،‬فهي عسرية‪ ،‬وأعرس منها تأديب الكهول والشيوخ‪ .‬وهؤالء قد‬
‫ينفعهم التعهُّد بالوعظ واإلرشاد‪ ،‬من حني إىل آخر‪:‬‬

‫أدب‬
‫وليـس ينفعهم من بعده ُ‬ ‫َ‬
‫األحـداث في صغرٍ ‬ ‫األدب‬
‫ُ‬ ‫قد ينفع‬

‫الخشب‬
‫ُ‬ ‫وال يُق َّوم لو قـــــ َّوم َته‬ ‫إن الغصون إذا قـــــــ َّومتها اعتدلت ‬
‫َّ‬

‫تلك هي الرتبية األوىل يف هذا الدور؛ دور الطفولة أو دور التهذيب املنزيل‬
‫أو األرسي‪ .‬وهو دور يجب التن ُّبه له أش ّد التن ُّبه‪ ،‬إذ عليه مدار رحى اآلمال‪.‬‬

‫لبث املبادئ القويمة يف نفوس النابتة‪ ،‬وأفضل‬ ‫الرتبية املنزلية خري واسطة ّ‬
‫سبب يرقى بهم يف سلَّم النجاح والخري‪ .‬ويف الجملة‪ ،‬فتأثري األرسة «العائلة»‬
‫يف طبائع الناشئني وعقولهم أمر ال َ‬
‫ينكر‪ ،‬بل إن طبائع اآلباء‪ -‬ر َّبما‪ -‬تنتقل‬
‫إىل بنيهم بطريق اإلرث‪ ،‬حتى ذكروا أن بعض فالسفة األمريكان «أوليفيه‬
‫ويندل هلمس» ُسئِل عن مبدأ تربية الطفل فقال‪« :‬تبتدئ تربية الطفل قبل‬
‫أن يولَد بمئة سنة»؛ يريد بذلك أن الرتبية تراث يرثه الولد عن آبائه‪ ،‬كما‬
‫تحسن أخالق‬ ‫ُ‬ ‫يغي الطباع»‪ -‬فإن لم‬‫ورد يف الحديث الرشيف‪« :‬الرضاع ِّ‬
‫الوالدين والوالدات أثر ذلك يف أوالدهم؛ لهذا يجب عىل املربني واملر ِّبيات‬
‫أن يتكلَّفوا األخالق الحسنة ‪ -‬وإن لم يكونوا من أهلها‪ -‬حتى تنطبع يف‬
‫مخيِّلة الولد صور السجايا الحسنة‪ ،‬وهيئات األخالق الصحيحة‪.‬‬
‫ومن َ‬
‫آك ِد الواجبات يف هذا الدور أن يرتك الوالدان ّ‬
‫كل خصام وجدال‪،‬‬
‫‪50‬‬
‫كل من الزوجني‬ ‫كل خلق سيِّئ يؤدّي إىل النفور‪ .‬وذلك بأن يعرف ّ‬ ‫وينبذا ّ‬
‫وإل كان خصامهما وتنافرهما‬ ‫ما ألحدهما عىل اآلخر من الحقوق فيؤدّيها‪ّ .‬‬
‫رضبة قاضية عىل البنني والبنات‪ ،‬ألنهم يحفظون من اآلباء واأل َّمهات‬
‫روايات سيِّئة يمثّلونها متى بلغوا مبلغ الحياة الزوجية‪.‬‬

‫ول ُيعلَم أن تربية الولد بني ظهراني أرسته «عائلته» هو خري له وأوىل من‬
‫يترصفن فيه بسوء أخالقه ّن و ّ‬
‫رش عاداته ّن‪ .‬وإ ّنا لنرجو‬ ‫َّ‬ ‫دفعه إىل املر ِّبيات‪،‬‬
‫من السيِّدات أن يتح َّملن تلك املش ّقة‪ ،‬مش ّقة الرتبية والتهذيب‪ ،‬بأنفسهن‪،‬‬
‫وح ْسن مستقبل ألوالده ّن‪.‬‬
‫فهي‪ -‬يف الحقيقة‪ -‬راحة ُ‬

‫الرتبية املدرسية‬

‫ثان‪ ،‬وتربية ثانية‪ ،‬هو دور التلمذة والرتبية املدرسية‪ .‬وهو‬ ‫هناك دور ٍ‬
‫دور يجب االهتمام به كسابقة‪ ،‬فإنه نتيجة ما تعلَّمه من أبويه‪ ،‬وما‬
‫اختربه من أخالقهما وأخالق أرسته‪ .‬فإن كان من ُح ْسن ِّ‬
‫حظه أنه ُو ِجد يف‬
‫مدرسة مستوفاة الرشوط‪ ،‬من ُح ْسن الرتبية والتهذيب‪ ،‬فتلك سعادة فوق‬
‫طلبها والقائمني بأعبائها‪،‬‬‫سعادة‪ .‬وإن وجد يف مدرسة فسدت أخالق ّ‬
‫يترصف الطلبة بأخالق‬
‫ّ‬ ‫فهناك الطا ّمة الكربى‪ ،‬والبليّة العظمى‪ .‬إذ هناك‪،‬‬
‫بعضهم‪ ،‬واملعلمون بأخالق تالميذهم‪.‬‬

‫ولـ ّما كانت املدرسة منزال ً ثانيا ً للناشئ‪ ،‬وجب أن تكون كمنزله األصيلّ‪،‬‬
‫وإل كانت رضبة قاضية عىل‬ ‫معهدا ً لألخالق الكريمة والسجايا الفاضلة‪ّ .‬‬
‫رشا ً عليه من األفعى والوحش الضاري؛ لهذا وجب عىل األب أو‬‫التلميذ‪ ،‬بل ّ‬

‫‪51‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫الويلّ أن يختار لولده أو للقيِّم عليه‪ ،‬من املدارس‪ ،‬أسماها تربية وأرقاها‬
‫تهذيباً‪ .‬وذلك هو أ َّول ما يجب أن يهت ّم به حني يريد إدخاله يف املدارس‪.‬‬
‫ثانوي باإلضافة إىل الرتبية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأ ّما أمر التعليم فهو يشء‬

‫املدارس كثرية‪ ،‬فيجب علينا أن نسعى إلصالحها‪ ،‬ونبذل الجهد إليجاد‬


‫كل حجر من أحجارها‪ّ ،‬‬
‫وكل خشبة من‬ ‫روح الفضيلة والتهذيب العايل يف ّ‬
‫أخشابها‪ .‬وبذلك نضمن مستقبل أبنائنا‪.‬‬

‫كيف نصلح املدارس؟‬

‫‪ -‬نصلحها بإصالح القائمني بأعبائها‪ ،‬وذلك بأن نحمل رؤساءها عىل أن‬
‫يختاروا لها األكفاء من املعلِّمني واملر ِّبني‪ ،‬وأن ال ينتخبوا لها ّإل من هو‬
‫ثقة‪ ،‬معروف بآدابه وأخالقه‪ ،‬ألن التالميذ أمانة بني يديه؛ وذلك بأن ال‬
‫يكون املر ِّبي أحمق‪ ،‬أنانيّاً‪ ،‬وسخ الذيل‪ ،‬بل يكون طاهر السرية والرسيرة‪،‬‬
‫وقوراً‪ ،‬محبّا ً للنفع‪ ،‬وأن يكون من أصحاب الدين والوجدان‪ .‬ولست‬
‫أقصد أن يكون املر ِّبي شيخا ً أو كاهناً‪ ،‬وإ ّنما أعني بذلك أن يكون متَّبعا ً‬
‫للحق‪ ،‬محبّا ً للخري والسالم‪ ،‬ذا وجدان صحيح‪ ،‬وأخالق فاضلة‪ ،‬وعواطف‬ ‫ّ‬
‫رشيفة‪ ،‬يسري بتالميذه نحو ما يعود عليهم بالسالمة والنجاح‪ .‬فإن فعلنا‬
‫غري ذلك‪ ،‬فعىل مستقبل النابتة السالم‪.‬‬

‫وسائل الرتبية يف َدو ِ‬


‫ْري األرسة واملدرسة‬

‫تختلف وسائل الرتبية وأسباب التهذيب باختالف مشارب املر ّبني‪ ،‬فمنهم‬
‫‪52‬‬
‫من يرى أنها ال تكون ّإل بالقسوة والشدّة والرضب‪ ،‬وغري ذلك من الوسائل‬
‫التي كانت محظورة يف أ ّيام االستبداد‪ ،‬فأح ِر بها أن تكون كذلك يف أ ّيام‬
‫الح ّر ّية والعدل‪.‬‬

‫التهذيب‪ ،‬عىل تلك الصورة‪ ،‬هو من األعمال الوحشية‪ ،‬وهو بقيّة من بقايا‬
‫الهمجية‪ ،‬ألنها ُتفقِد الناشئ ذلك الخلق الكريم‪ ،‬وهي الشجاعة التي هي‬
‫ّ‬
‫يستل مديته‬ ‫كل فضيلة‪ .‬ولست أعني بالشجاعة أن يكون وحشيّا ً‬ ‫مالك ّ‬
‫كل‪ ،‬وإنما أريد بالشجاعة تلك الروح التي‬ ‫أو مسدَّسه عند ّ‬
‫أقل طارئ‪ّ .‬‬
‫تح ِّفز املرء للدفاع عن وطنه بقلمه أو ماله‪ ،‬بل بسالحه وروحه‪ ،‬إن طرأ‬
‫رشا ً (ال َق َّد َر الله ذلك)‪.‬‬
‫أجنبي يريد بها ّ‬
‫ّ‬ ‫عىل البالد طارئ‬

‫ومنهم من يرى أن الرتبية بشتم النشء وسبِّهم وإهانتهم وتخويفهم‪،‬‬


‫والصغار‪ .‬فالرتبية عىل‬
‫َّ‬ ‫وغري ذلك م ّما ير ّبي يف نفوسهم ّ‬
‫الذل والهوان‬
‫كل صفة من‬‫كل شعور وإحساس‪ ،‬وتنزع عنه ّ‬ ‫هذه الصفة ُتفقِد الناشئ ّ‬
‫كل مدير‪ ،‬فال‬ ‫لكل ِّ‬
‫مؤثر‪ ،‬وآلة صماء ِبيَد ّ‬ ‫صفات الخري والكمال‪ ،‬وتجعله ّ‬
‫يتح َّرك ألمر‪ ،‬وال َّ‬
‫يتأثر من هوان‪ ،‬فاملوت والحياة لديه سيّان‪:‬‬

‫إيالم‬
‫ُ‬ ‫بميت‬
‫لجــــــــــــــــرح ّ‬
‫ٍ‬ ‫ما‬ ‫يه ْن يســـــــهل الهـــــــوان عليه ‬
‫من ُ‬

‫الرتبية الصحيحة التي جاء بها الرشع‪ ،‬وأق َّر عليها العقل‪َّ ،‬‬
‫ودل عليها‬
‫االختبار‪ ،‬وأ َم َر بها عمالء الرتبية والتهذيب‪ ،‬تكون بتعويد النشء الفضائل‪،‬‬
‫ويوسع نطاق العقول‪ ،‬مع‬
‫ِّ‬ ‫وإرضاعهم املحامد‪ ،‬وتغذيتهم بما ينري األذهان‪،‬‬
‫لبن التغذية ودروس العلم‪ ،‬بال مخ ّوف وال إهانة وال رضب‪ ،‬بل بالرتغيب‬
‫والتنشيط‪ ،‬وتمثيل الفضائل‪ ،‬بصورها الكاملة‪ ،‬ومستقبلها الحسن‪ ،‬وتمثيل‬
‫الرذائل واألخالق السافلة والكسل‪ ،‬بصورها القبيحة‪ ،‬ومستقبلها السيِّئ‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫وهناك أمر مه ّم يف الرتبية‪ ،‬وهو أن ال يتكلَّم أحد بحرضة األطفال‬


‫والناشئني بما ينايف الرتبية القويمة من ألفاظ الفحش والبذاء‪ ،‬وكلمات‬
‫التخويف والتهويل‪ ،‬كالبعبع والج ّن والعفاريت‪ ،‬وغري ذلك م ّما ُيحدِث يف‬
‫نفوس النابتة أثرا ً سيِّئاً‪ ،‬ال يمحوه كرور األعوام‪ ،‬وال مرور الزمان‪ .‬ألن‬
‫ما ينطبع يف الناشئ ال يفنى ّإل بفناء جسمه‪ ،‬وال أدري إن كان يصاحب‬
‫روحه‪ ،‬بعد موته‪ ،‬أيضاً‪.‬‬

‫أ ّما ما يفعله بعض من ال أخالق لهم‪ ،‬من ّ‬


‫بث جراثيم الفساد يف أوالدهم‪،‬‬
‫وذلك بأن يتكلَّموا أمامهم بكلمات السفاهة‪ ،‬وعبارات الوقاحة‪ ،‬فهو مما‬
‫ال يجدر بالعاقل السكوت عنه‪ ،‬إن رأى مثل ذلك‪ ،‬ألنه من باب َ‬
‫املنكر الذي‬
‫تجب إزالته بأية وسيلة من الوسائل‪.‬‬

‫الرتبية العمليّة‬

‫متى ت ّم للناشئ هذان الدوران‪ :‬دور الرتبية املنزلية‪ ،‬ودور الرتبية املدرسة‪،‬‬
‫ينتهي إىل دور ثالث هو أش ّد األدوار وأجدرها باالعتناء؛ أال وهو دور‬
‫الجهاد يف معرتك الحياة‪ ،‬دور الج ّد والعمل‪ ،‬دور السعي بال ملل‪ ،‬وهو‬
‫نتيجة الدورين السابقني‪ .‬فإن كانا حسنني فهو َح َسن‪ ،‬والض ّد بالضدّ‪.‬‬
‫غري أنه يل َزم التنبّه ألم ٍر عظيم‪ ،‬هو أنه ال يكفي أن تكون الرتبيتان األُولَيان‬
‫وإل ضاع‬ ‫ساميتَ ْي‪ ،‬فقط‪ ،‬بل يجب أن يكون دور الجهاد من َّزها ً مقدَّساً‪ّ ،‬‬
‫التعب املايض ُسدًى‪ ،‬ألن هذا الدور الثالث دور اجتناء ثمرة الجهاد والج ّد‬
‫والرتبيتَ ْي اللتني تقدَّمتاه‪ ،‬فإن لم نحسن اقتطاف هذه الثمرات تذبل‬
‫شجرة الحياة‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫كيف تكون الرتبية يف هذا الدور؛ دور الجهاد والعمل؟ وكيف ُتجنَى‬
‫نتائجها؟‬

‫‪ -‬تكون الرتبية يف هذا الدور‪ ،‬كسابقيه‪ ،‬باملحافظة عىل اآلداب الصحيحة‪،‬‬


‫واألخالق الفاضلة‪ ،‬والسعي وراء تنمية القوى العقلية‪ ،‬واألدبيّة‪ ،‬باالختبار‬
‫واملشاهدة واملطالعة‪ ،‬وغري ذلك من وسائل ترقية النفس وإذكاء نار‬
‫اله ّمة‪.‬‬

‫أقوام فسدت أخالقهم‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫وهناك أمر مه ّم جدّاً‪ ،‬هو أن يبتعد الشاب عن‬
‫وخبثت ضمائرهم‪ ،‬ليس لهم َه ّم ّإل الفساد وتدنيس رشفهم وأعراضهم‬
‫بقاذورات املواخري والحانات وامليرس «القمار»‪.‬‬

‫وإني ألعلم طائفة م َّمن تر ّبوا تربية حسنة‪ ،‬يف دور األرسة «العائلة»‬
‫واملدرسة‪ ،‬ثم خرجوا منهما إىل دور العمل والجهاد‪ ،‬فأحاط بهم قوم فسدوا‬
‫وانحطوا آداباً‪ ،‬فأفسدوا عليهم أخالقهم ورشفهم‪ ،‬وغمسوهم يف‬ ‫ّ‬ ‫أخالقاً‪،‬‬
‫حمأة الرشور واملنكرات‪ ،‬فخرسوا أموالهم وعقولهم وأجسامهم وثقة‬
‫أ ّمتهم بهم‪ .‬فال حول وال ق َّوة ّإل بالله‪.‬‬

‫يجب أن نلتفت إىل هذا الدور الْت ِفاتَ متي ِّقظ حاذق حذِر‪ .‬والرتبية يف هذا‬
‫للحكام أكثر منها لآلباء‪ .‬فيجب عىل الق ّوة الحاكمة أن تبحث‬ ‫ّ‬ ‫الدور هي‬
‫عن الرشور وأصحابها‪ ،‬وتن ِّقب عن مواضع قتل العقل والرشف‪ ،‬وإهالك‬
‫األجسام‪ ،‬وإتالف األموال‪ ،‬فتقفلها‪ .‬وإن لم تفعل ذلك‪ ،‬ضاع مستقبل‬
‫الشبّان‪ ،‬ورجعوا بخ َّف ْي ُحنَني‪ ،‬بعد عناء الرتبيتَ ْي‪.‬‬

‫أ َّيتها الق ّوة الحاكمة‪ ،‬ال عذر لك يف إهمال الشبّان‪ ،‬وعدم النظر إىل تحسني‬

‫‪55‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫يرض بدينهم ودنياهم وأجسامهم وعقولهم‪،‬‬ ‫كل ما ّ‬ ‫أحوالهم‪ ،‬بمنعهم من ّ‬


‫فاحريص عىل تخليصهم م ّما هم فيه من الفساد والفجور‪ ،‬وال تتوهَّمي أن‬
‫القانون يبيح أمثال هذه الرشور واملوبقات‪ّ .‬‬
‫كل‪ ،‬إن القانون أباح الح ّر ّية‬
‫الشخصية برشط أن ال يتعدّى رضرها إىل الغري‪ .‬وأفعال الشبّان مت َع ٍّد‬
‫ظان أن الحكومة ال تقدر أن تمنع الشخص‬ ‫رضرها إىل غريهم‪ ،‬وال يظنَّ ّن ٌّ‬
‫يرض به‬ ‫كل ما ّ‬‫يرض بنفسه ال غري‪ ،‬بل هي مف َّوضة يف منعه من ّ‬ ‫من عمل ّ‬
‫وبغريه‪ّ .‬أل ترى أنها لو رأت أحدا ً يريد أن يقتل نفسه‪ ،‬فهل تدعه يفعل‬
‫الشك أنها تمنعه‪ ،‬فكذلك لو رأته يعاطي‬ ‫ّ‬ ‫ما يشاء‪ ،‬أو تمنعه من ذلك؟‪-‬‬
‫القمار والرشور فهي تمنعه منها‪ ،‬فإن لم يكن املنع حبّا ً بمن يعاطي هذه‬
‫األمور‪ ،‬فهو للحرص عىل أن ال يراه غريه‪ ،‬فيعمل مثل عمله‪ ،‬إذ لو تركوه‬
‫خاصاً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وشأنه فعمل غريه بعمله‪ ،‬يصري الرضر عا ّما ً ال‬

‫‪.............‬‬

‫وصفوة القول أن الرتبية الصحيحة لألخالق والشعور‪ ،‬هي أساس‬


‫الفضائل ونرباس التقدُّم‪ ،‬وسلَّم الرت ّقي‪ ،‬وروح النجاح‪ ،‬وأن تر ّقي املجتمع‬
‫واألمم‪ ،‬إ ّنما يكون بحسب الهمم ومقدار العزائم‪ ،‬وال تكون العزائم‬
‫القو ّية‪ ،‬والهمم العالية ّإل بتصحيح املبادئ‪ ،‬وتقويم األخالق؛ وذلك يكون‬
‫بزرع بذور امللَكات الصحيحة يف عقول النابتة‪ ،‬وتعويدهم الفضائل منذ‬
‫نشأتهم‪ ،‬حتى يكونوا رجال املستقبل‪ ،‬مع مالحظتهم يف دور الجهاد‬
‫والعمل‪ ،‬إىل أن يؤ َمن جانبهم‪.‬‬

‫ويعجبني يف هذا املقام قول الفيلسوف الطويراني‪:‬‬


‫ُّ‬
‫«كل جيل من البرش هو عنوان ما قبله‪ ،‬ومقدِّمة ما بعده‪ ،‬وشبّان ّ‬
‫كل عرص‬
‫‪56‬‬
‫كبار آتيه وصغار ما فيه‪ .‬فكيفما كانت مقدِّمات األعمال يف أ ّمة‪ ،‬كانت‬
‫نتيجة اآلمال فيها»‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫األنانيّة وحبّ الذات‬

‫خلق الله اإلنسان‪ ،‬وأعطاه من اإلدراك ما يستعني به عىل مكافحة أهوال‬


‫هذه الحياة‪ ،‬ومصادمة املصاعب التي تحول بينه وبني ج ّر ما ينفعه‪،‬‬
‫يرضه‪ ،‬وهداه النج َد ْين‪ ،‬وأوضح له الطري َق ْي‪ ،‬وس ّن له من‬ ‫ّ‬ ‫ودرء ما‬
‫النظامات ما لو ا َّتبعه لكان سعيدا ً يف الحيا َت ْي‪ .‬أرسل له الرسل‪ ،‬فأبان‬
‫له عىل ألسنتها السبل‪ ،‬وعرض عليه األمانة التي أبت أن تحملها السموات‬
‫واألرض‪ ،‬إبا ًء طبيعيا ً لعدم االستعداد لذلك‪ ،‬ألنه لم ُيودعْ فيها ما يجعلها‬
‫أهالً لتلك التكاليف التي يرت َّتب عليها الثواب والعقاب‪ ،‬وحملها اإلنسان‪،‬‬
‫ص به من جوهر العقل‪ ،‬وسداد الرأي‪ ،‬وسالمة الفطرة‪« :‬إ ِ َّنا‬ ‫وتل ّقاها بما ُخ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي أن َي ْحمِلْنَهَا َوأ ْش َف ْق َن‬ ‫الس َما َواتِ َواأل َ ْر ِ‬
‫ض َوالْ ِجبَا ِل َفأ َب ْ َ‬ ‫ضنَا األ َ َما َن َة ع ََل َّ‬
‫َع َر ْ‬
‫ان َظلُو ًما َجهُوال»‪ ،‬فخان الله يف أمانته‪ ،‬وأضاع‬ ‫ان إ ِ َّن ُه َك َ‬ ‫ِمنْهَا َو َح َملَهَا اإل ِ َ‬
‫نس ُ‬
‫ما أخذه عليه من العهود واملواثيق‪« ،‬إنه كان ظلوما ً جهوالً» طغى‪ ،‬وبغى‪،‬‬
‫السوي‪ ،‬طمعا ً يف إرضاء الهوى‪ ،‬والنفس األ َّمارة بالسوء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وترك النهج‬
‫فسدَّت أبواب السعادة الحقيقية يف وجهه‪ ،‬وسوف يندم عىل ما فعل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫والت ساعة مندم‪.‬‬

‫ما السبب الذي دعاه إىل ذلك‪ ،‬يا ترى؟ وما العلّة التي قعدت به عن‬
‫الطريان يف سماء الفضائل‪ ،‬إىل السفيف((( عىل حضيض الرذائل‪ ،‬وحا َدتْ‬

‫((( َّ‬
‫سف الطائر‪ :‬م َّر عىل وجه األرض‬

‫‪59‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫به عن سلوك الرصاط املستقيم‪ ،‬إىل املرتع الوخيم؟‬

‫‪ -‬لو دققنا‪ ،‬الفكر وأمعنّا النظر‪ ،‬لرأينا أن السبب لذلك‪ ،‬والعلّة الكربى‬
‫حب الذات عىل غري وجهه‪ ،‬واالستئثار باملنفعة‬
‫القتحامه هذه املهالك‪ ،‬هو ّ‬
‫دون غريه‪ ،‬واألنانية التي تصحبه من مهده إىل قربه؛ وعن ذلك تنشأ سائر‬
‫الرذائل املمقوتة‪ ،‬واألخالق املذمومة‪.‬‬

‫حب الذات ُيطلَق عىل معنيَ ْي‪ :‬أحدهما مذموم‪ ،‬واآلخر ممدوح مقبول‬ ‫ّ‬
‫معقول‪ .‬أ ّما األ َّول‪ ،‬فهو أن يميل إىل االستبداد باألمر‪ ،‬واالمتناع باملنفعة‬
‫دون غريه‪ ،‬ويبذل ما يف وسعه وطاقته لس ّد أبواب الخري عن سواه‪،‬‬
‫وتضحية املئات من منافع الخلق يف سبيل خري جزئي يعود له‪ ،‬أو نفع‬
‫فحب الذات‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬رذيلة وحشية‪ ،‬ال تصدر ّإل‬ ‫ُّ‬ ‫قليل يرجع إليه‪.‬‬
‫س من الهمجية ثوبا ً‬ ‫ع َّمن فقد الشعور اإلنساني واملرحمة القلبية‪ ،‬ولبِ َ‬
‫طويل األذيال‪ ،‬واسع األردان‪ ،‬وكيف ال يكون كذلك؛ وهو القائل‪:‬‬

‫أحد‬
‫ذهبت نفســـــــــي فال عاش ْ‬
‫ْ‬ ‫إنَّما ُدنياي نفــــــســـــــي‪ ،‬فإذا‬

‫البلد‬
‫ْ‬ ‫تطـــــــــلع على أهـــل‬
‫ْ‬ ‫ثم لم‬ ‫َت‬
‫ليت أن الشـــمس بعدي غ ُرب ْ‬

‫وال أبالغ إذا قلت إن أكثر الناس قد نهج هذا الخلق السيِّئ‪ ،‬وخاض يف‬
‫تيّار ذلك األمر الذي كاد يقيض علينا أو قىض‪ ،‬فنزع ما يف قلوبنا من‬
‫الحب والشعور‪ ،‬فاستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خري‪ .‬ترى أحدنا إن‬
‫ّ‬
‫وهمي‪ ،‬سعى لذلك سعيا ً‬ ‫ّ‬ ‫الح بارق‪ -‬ولو ُخلّباً‪ -‬أو بصيص من نور نفع‬
‫حثيثاً‪ ،‬وإن ّ‬
‫أرض بمجموع األ ّمة التي هو عائش يف بيئتها‪ ،‬ومتمتِّع يف‬
‫بحبوحة خريها‪:‬‬

‫فما الناس عندي غير حصبة صاحب‬ ‫يقول‪ :‬إذا ما كـــــنت أمرح في المنى‬

‫‪60‬‬
‫أرشده فكره السافل‪ ،‬ورأيه العاطل‪ ،‬إىل أن االستئثار باملنفعة خري له‬
‫وأبقى‪ ،‬فجنى عىل نفسه وعىل غريه‪ .‬ألن ذلك دا ٌء معدٍ‪ ،‬ما رسى يف أ ّمة من‬
‫األمم ّإل كان أقوى سبب لسقوطها‪ ،‬وجعلها يف أخريات الناس‪ ،‬يف هذا‬
‫املعرتك الحيوي‪.‬‬

‫اخترب حالة الناس‪ ،‬اليوم‪ ،‬ون ِّقب عن أفعالهم وأعمالهم‪ ،‬ت َر أنهم يغتنمون‬
‫الفرص‪ ،‬ويطلون الوسائل بمغناطيس الحيل‪ ،‬وكهرباء املداهنة‪ ،‬لجذب‬
‫املنافع إليهم‪ ،‬ودفعها أن ُتنيخ بباب غريهم‪ .‬بل هناك داهية أعظم ونكباء‬
‫أشدّ‪ ،‬وهي أن كثريا ً منّا‪ ،‬لغاية نفسية خبيثة كمنت يف فؤاده كمون النار‬
‫يف صلد الزناد‪ ،‬يسعى إلفساد ذات البَ ْي‪ ،‬وإيقاع ذات البَ ْي‪ ،‬والتفريق‬
‫بني األخ َو ْين‪ ،‬وإلقاء الناس يف التهلكة‪ ،‬وج ّر املصائب والويالت عليهم‪.‬‬
‫وماله بذلك من فائدة‪ ،‬وال يناله من عائدة‪ ،‬بل ألنه حنق عليه م َّر ًة يف‬
‫عمره‪ ،‬أو أصابه منه أذى‪ ،‬ولو اليعبأ به‪ .‬وال أُب ِّرئ كثريا ً منّا من هذه‬
‫الوصمة‪ .‬فإن البعض إذا حصل بينه وبني أحد نفور ما تراه يز ّور القول‪،‬‬
‫ويختلق األكاذيب‪ ،‬إلثبات ذنب عىل من بينه وبينه حزازة أو نفور‪ ،‬تش ّفيا ً‬
‫الحق ال يخفى‪ ،‬ولو ُسرت بأسجاف الباطل الكثيفة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منه وانتقاماً‪ ،‬ولكن‬
‫وستائر الوهميّات الغليظة‪ ،‬فال يلبث أن يزول هذا الغطاء‪ ،‬وينهتك ذاك‬
‫الرين‪ ،‬فتبدو الحقيقة بأجىل مظاهرها‪ ،‬وأبهى حليّها وحللها‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬هذه حالة اليأس اليوم‪ّ :‬‬
‫كل يج ّر النار إىل قرصه‪ ،‬ويطلب املاء إىل‬
‫غرسه‪ .‬ولو علموا ما يف األثرة بذلك من الرضر املبني‪ ،‬ألقلعوا عنه تائبني‪.‬‬
‫ومع ذلك فهم ُيظهرون خالف ما ُيبطنون‪ ،‬ويقولون ماال يفعلون‪ .‬أ ّما‬
‫الذات باملعنى الثاني‪ ،‬فهو أن يسعى املرء ملا يعود عليه بالنفع‪ ،‬برشط‬
‫أن ال ُيلحق بغريه رضراً‪ ،‬فهو‪ -‬بهذا املعنى‪ -‬ممدوح مطلوب‪ ،‬بل فضيلة‬
‫عليها قوام أمر املدنيّة وعمارة هذا الكون‪ ،‬إذ من املحال أن يعمل أحد عمالً‬

‫‪61‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫الترجع له منه فائدة دنيوية‪ ،‬أو أخروية‪ .‬ولو أن هذه الفائدة أمر وهمي‪،‬‬
‫يخرج من األفواه‪ ،‬فيحمل عىل أجنحة الهواء‪ ،‬فيطري يف الفضاء‪ ،‬كاملدح‬
‫والثناء‪ ،‬أتظ ّن أن أصحاب هذه املعامل العظيمة‪ ،‬واالخرتاعات الجسيمة‪،‬‬
‫لوال حبّهم لذاتهم‪ ،‬هل أتوا بغرائب هذه املدنيّة التي نشاهدها بأبصارنا‪،‬‬
‫ونحكم باستحسانها‪ ،‬إجماالً‪ ،‬ببصريتنا؟‪ ،‬وهل كنّا قد رأينا البواخر‬
‫تمخر عباب البحار‪ُ ،‬تق ِّل ما عليها من األثقال والسفارة‪ ،‬إىل بلد لم يكونوا‬
‫بالغيه ّإل يشق األنفس؟‪ ،‬وهل كنّا قد أبرصنا القطار‪ ،‬يقطع السهوب‬
‫والقفار‪ ،‬قد ا َّتخذ سبيله يف الربّ سهالً ورسباً‪ ،‬فأرانا أمرا ً عجباً‪ ،‬فإن أردته‬
‫وقد أُطل ِق له العنان‪ ،‬فلن تستطيع له طلباًَ‪ ،‬تار ًة يص ِّوب وطورا ً يصعِّد‪،‬‬
‫لهفة مشوقاً‪ ،‬وآنا تستويل عليه‬‫ً‬ ‫ً‬
‫وآونة يبكي‬ ‫وأخرى يبدي زفريا ً وشهيقاً‪،‬‬
‫الدَّعة والخمول‪ ،‬فيخلد إىل السكون وقطع العويل‪ ،‬يسري إىل حيث يراد به‪،‬‬
‫كما هو يريد؟ وهذا هو شأن املشتاق العميد‪:‬‬

‫الحبائب‬
‫ِ‬ ‫جـــنوب‬
‫ُ‬ ‫غــــرام أثارت ُه‬
‫ٌ‬ ‫وما هو إ ّلا كالمشـــــوق حدا به‬

‫الترائب‬
‫ِ‬ ‫ونيران ُه في الصدر تحت‬ ‫وهذي بخارات الجوى ودخان ُه‬

‫أُراني قد ُجذبت بعامل التص ُّور‪ ،‬ورسحت يف عالم الخيال‪ ،‬فأستجديكم‪-‬‬


‫أ ّيها الق ّراء‪ -‬عذراً‪.‬‬

‫حب الذات ملا قام لدي ٍن قائمة‪ ،‬بل وال ُعبِد الل ُه يف أرضه‪ ،‬وال‬
‫نعم‪ ،‬ولوال ُّ‬
‫سمعت للكرام اسماً‪ ،‬وال رأيت للشجاعة واملروءة رسماً‪ .‬فلو أن حاتما ً‬
‫وعنرتة والسموءل‪ ،‬لم يكونوا م َّمن يحبّون أنفسهم‪ ،‬بل م َّمن هم َكل ِفوا‬
‫بمحبِّها‪ ،‬ملا ألبسوا أرواحهم ثوبا ً من املدح ال يبىل ولو َبل الدهر‪ ،‬وتاجا ً‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫حب الذات وبقاء الذكر املخلد املسطر‬ ‫تتمنّى الثريا أن تكون يف سمائه‪ .‬لوال ّ‬
‫نفسه إىل أن يجود بها يف بعض‬ ‫عىل صفحات الكون‪ ،‬لَما دعتِ األ ّو َل ُ‬
‫‪62‬‬
‫األحايني‪ ،‬ولَما خاض الثاني املعامع‪ ،‬ورغب يف عناق األسمر َ‬
‫الخ ّطار‪،‬‬
‫ومصاحبة األبيض البتّار‪ ،‬غري مبا ٍل بالكوارث‪ ،‬وال مهت ّم بالحوادث‪،‬‬
‫يستيضء بسيفه إن أظلم الليل‪ ،‬ويستصبح بسنان رمحه إن اختلطت‬
‫حب الذات‪ ،‬وطيب املدح‪َ ،‬‬
‫وعظمة‬ ‫حنادس الخطوب بظلمات الليل‪ .‬ولوال ّ‬
‫حب الشهرة والتقريظ عىل‬ ‫الفخر‪ ،‬لَما جاد ثالثهم بولده وفلذة كبده‪ ،‬وآثر َّ‬
‫روح ولده‪ ،‬وما كان سلَّم تلك الدروع‪ ،‬لوال ما قدَّمناه من حبّه لذاته‪ ،‬ليقال‬
‫ف‪ ،‬دون حفظِ ما اُئ ُتمن‪ ،‬روحَ نجله‪.‬‬ ‫رص َ‬
‫إنه أمني‪َ ،‬‬

‫حب الذات عىل غري الوجه‬ ‫فسوا ّ‬ ‫وهناك قوم ليسوا يف العري وال النفري‪َّ ،‬‬
‫فسه به أصحاب الرأ َي ْي‪ :‬األ َّول‪ ،‬والثاني‪ ،‬فأدَّى بهم حبّهم لذاتهم‬
‫الذي َّ َ‬
‫أن تعالوا عىل أبناء جنسهم‪ ،‬واحتقروا َم ْن سواهم‪ ،‬فظنّوا أن الله لم يخلق‬
‫ُجم ال يستح ّقون‬
‫غريهم‪ ،‬وأن ما عداهم خياالت وأوهام‪ ،‬أو حيوانات ع ْ‬
‫اإلكرام‪ ،‬فهم كاألنعام‪ ،‬أو عبيد لهم والسالم‪ .‬وحسبوا أنهم‪ ،‬بذلك‪ ،‬محبّون‬
‫لذاتهم ُمك ِرمون لها‪ .‬ولو علموا أنهم‪ ،‬بفعلهم هذا‪ ،‬أغضبوا الخالق‬
‫حب الذات يف يشء‪ ،‬بل هو من‬ ‫واملخلوق‪ ،‬بل لو د َر ْوا أن هذا ليس من ّ‬
‫بغضها وكراهية الخري لها‪ ،‬ألقلعوا عن ذلك‪ ،‬ورجعوا عن العبور يف هذه‬
‫املسالك‪ ،‬التي توصل إىل املهالك‪.‬‬

‫من كان هذا دأبه مع أبناء جنسه‪ ،‬وتلك فعلته بمن هو منهم‪ ،‬فقد فتح‬
‫لهم طريقا ً ليسلكوا يف ه ْ‬
‫َجوه والقدح فيه‪ ،‬و ُيتبِعوه االحتقار حيث مال‪،‬‬
‫ّ‬
‫الحل والرتحال‪ ،‬وهو غافل عن أفعالهم‪ ،‬يظ ّن‪ ،‬لفرط جهله‬ ‫والنفور منه يف‬
‫وأنانيّته وعجبه بنفسه‪ ،‬أن كالمهم كلّه مدح‪ ،‬وفعلهم جلّه تعظيم وتبجيل‪.‬‬

‫الطغام‪ ،‬أن هذا من باب‬‫يظ ّن هذا الجاهل العَبام‪ ،‬ومن هو عىل شاكلته من ّ‬
‫تكريم النفس‪ ،‬فمن ا َّت َ‬
‫صف به فهو ذو نفس أبيّة‪ ،‬و‪ -‬ر َّبما‪ -‬ينشد‪« :‬ومن‬

‫‪63‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫والتكب عليهم‬
‫ُّ‬ ‫ويفسه بمعنى الرت ُّفع عن الناس‬
‫ِّ‬ ‫ال يك ّر ْم نفسه ال يك َّرم»‬
‫واحتقارهم‪ :‬إ ّما ليخافوا بأسه وشدّته‪ ،‬أو ليخضعوا لِجاهِه وثروته‪ ،‬ال‬
‫يو ّقر كبريا ً لسنِّه‪ ،‬وال عاملا ً لفضله‪ ،‬وال يرحم صغريا ً لضعف ُمنَّته‪.‬‬

‫ُحكِي أن مطرف بن عبدالله بن الشخري نظر إىل املهلَّب بن أبي صفرة‪،‬‬


‫وعليه حلّة يسحبها ويميش الخيالء‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا عبدالله‪ ،‬ما هذه املشية‬
‫التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال املهلَّب‪ :‬أما تعرفني؟ فقال‪ :‬بل أعرفك‪..‬‬
‫أ َّولك نطفة مذرة‪ ،‬وآخرك جيفة قذرة‪ ،‬وحشوك فيما بني ذلك بول وعذرة‪.‬‬
‫فأخذ ابن عوف هذا الكالم فنظمه شعراً‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫وكان باألمـــــــس نطفة مذ َر ْه‬ ‫معج ٍب بصـــــــورته ‬


‫َ‬ ‫ُ‬
‫عجبت من‬

‫يصير في اللحــــد جيفة قذ َر ْه‬ ‫وفي ٍ‬


‫غد بعد حسن صــــــــورته‬

‫ما بين ثــــوبيه يحمل العذ َر ْه‬ ‫وهــو على تيــهـــــ ِه ونخــــوت ِه‬

‫وكان املهلَّب أفضل من أن يخدع نفسه بهذا الجواب الغري الصواب‪،‬‬


‫ولكنها زلّة من ّ‬
‫زلت االسرتسال‪ ،‬وخطيئة من خطايا اإلدالل‪.‬‬

‫واختص بهذا‬
‫َّ‬ ‫وشواهد ذلك كثرية بيننا‪ ،‬اليوم‪ ،‬فأ ِد ْر طرفك يف هذا العالم‪،‬‬
‫كل ذلك‬‫الحكم بني آدم‪ ،‬ت َر صدق النتيجات‪ ،‬من هذه املقدِّمات‪ .‬يفعلون ّ‬
‫املعجبون‬
‫َ‬ ‫اعتمادا ً عىل أنه من باب تكريم النفس واإلباء‪ .‬ألم ي ْد ِر هؤالء‬
‫بأنفسهم أن معنى تكريم النفس‪ ،‬هو أن يحملها عىل معايل األمور‪،‬‬
‫ويجهدها للصرب تحت أعباء املجد‪ ،‬ويسدي الجميل إىل الناس‪ ،‬ويغيض‬
‫زلتهم‪ ،‬مع القدرة عىل االنتقام‪ ،‬وأن يبذل جهده وطاقته دون إيصال‬ ‫عن ّ‬
‫ّ‬
‫املرضة عنهم‪.‬‬ ‫الخري إليهم‪ ،‬ودفع‬
‫‪64‬‬
‫ّ‬
‫استحق اإلكرام‬ ‫حب الذات وتكريم النفس‪ .‬فإن فعل ذلك فقد‬ ‫هذا معنى ّ‬
‫منهم‪ ،‬ور ْفع املنزلة بينهم‪ ،‬وأن تكون له الكلمة العليا‪ ،‬واألمر النافذ‪:‬‬
‫يقومون إن قام‪ ،‬ويعقدون إن قعد‪:‬‬

‫الشتم يُش َت ِم‬


‫َ‬ ‫َي ِف ْرهُ‪ ،‬ومن ال ي َّت ِق‬ ‫َ‬
‫المعروف من دون عرضه‬ ‫يجعل‬
‫ِ‬ ‫ومن‬

‫ُستغن عنه ويُذمم‬


‫َ‬ ‫على قومِ ه ي‬ ‫ْ‬
‫فيبخل بفضله ‬ ‫ومن ُ‬
‫يك ذا فضل‬

‫يتجمجم‬
‫ِ‬ ‫مطمئن الب ّر ال‬
‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫ُهد قلبه‬
‫مم‪ ،‬ومن ي َ‬ ‫ومن ي ِ‬
‫ُوف ال ي َُذ ْ‬
‫وإن فعل غري ذلك فقد أساء إىل نفسه وبني جنسه‪ .‬ويكون قد ّ‬
‫أرض‬
‫بنفسه من حيث ال يشعر‪ ،‬وجنى عليها من حيث ال يدري‪ .‬فيكون «كالتي‬
‫نقضت َغ ْزلها من بعد ق ّوة أنكاثا ً(((»‪ ،‬هذا إن كان له َغ ْزل‪ ،‬وقدّم بني يد َْي‬
‫حسنات‪.‬‬
‫سيِّئاته َ‬

‫ُمحِ ّب الذات‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬أيضاً‪ ،‬سافل‪ ،‬ساقط املروءة والدين‪ ،‬ناقص‬
‫العقل‪ ،‬مفتون بالرذيلة‪ .‬بل هو عني اإلعجاب الذي أنكره الله والعقالء‪،‬‬
‫يس‪« :‬الكربياء‬ ‫وشدِّد الوعيد عىل من تردَّى بردائه‪ ،‬كما جاء يف الحديث القد ّ‬ ‫ُ‬
‫ردائي‪ ،‬والعظمة إزاري‪ ،‬فمن نازعني فيهما قصمته»‪ ،‬وكما جاء يف حديث‬
‫«ثالث مهلكات‪ :‬شحٌّ مطاع‪ ،‬وهوى ُمتَّبع‪ ،‬وإعجاب املرء بنفسه»‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫آخر‪:‬‬
‫واآليات يف ذلك كثرية‪ ،‬نكتفي منها بقوله تعاىل‪« :‬وال تمش يف األرض‬
‫مرحاً‪ ،‬إنك لن تخرق األرض ولن تبلغ الجبال طوالً»‪ ،‬وقوله تعاىل‪َ « :‬وال‬
‫ش ِف األ َ ْر ِ‬
‫ض َم َر ًحا إ ِ َّن الل َّ َه ال يُحِ ُّب ُك َّل ُم ْختَا ٍل‬ ‫اس َوال َت ْم ِ‬‫ص ِّع ْر َخد ََّك لِلنَّ ِ‬ ‫ُت َ‬
‫ص ْوتُ‬‫ص َواتِ لَ َ‬ ‫ص ْوت َِك إ ِ َّن أ َ َ‬
‫نك َر األ َ ْ‬ ‫ض مِن َ‬ ‫ض ْ‬ ‫ص ْد ِف َم ْشيِ َك َوا ْغ ُ‬ ‫َف ُخو ٍر‪َ .‬وا ْق ِ‬
‫الْ َح ِمريِ»‪.‬‬

‫((( األنكاث‪ :‬األلبسة البالية التي ُتن َقض ل ُتغ َزل ثانية‪ ،‬ومفردها ِن ْكث‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫يفسونه ّإل عجب وك ِْب‪ ،‬وج ٌّر لذيول الفخر الباطل‪ ،‬واملجد‬ ‫وما اإلباء الذي ِّ‬
‫الوهمي‪ ،‬فيمثّلون نقيصة اإلعجاب‪ ،‬تحت ستائر االمتناع عن الضيم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫واسم اإلباء املحمود‪ .‬وأ ّما اإلباء واالمتناع عن الضيم‪ّ ،‬إل أن تلبس مطارف‬
‫ذل النفس يف‬ ‫الحق أينما كان‪ ،‬و ُت َّ‬
‫ّ‬ ‫الفضيلة‪ ،‬وتنزع ثوب الرذيلة‪ ،‬وتتبع‬
‫طلب الكمال‪ ،‬و ُتهينها تحت عبء املجد‪ ،‬لتنال‪ ،‬بذلك‪ ،‬ع ّز األبد وفخار‬
‫األمد‪ .‬وال أقصد بتذليل النفس وإهانتها أن يكون اإلنسان خاضعا ً تحت‬
‫رشق بسهام الكالم فال يدَّكر‪ّ .‬‬
‫كل‪ ،‬وإ َّنما‬ ‫نري األغيار؛ ُيص َفع فال يعترب‪ ،‬و ُي َ‬
‫هو الخضوع للحقيقة‪ ،‬وتح ُّمل املش ّقات يف سبيل املكرمات‪ ،‬غري مبا ٍل بما‬
‫يعرتضه من العقبات‪ ،‬وال عابئٍّ بما يحول بينه وبني القصد من املخوفات‪.‬‬

‫حب الذات‪ ،‬وهذه هي فضيلته‪ ،‬ورذيلته‪ ،‬فأُعيذ قومي بالله أن‬


‫هذا هو ّ‬
‫فسوه عىل غري وجهه‪ ،‬ولم يدركوا حقيقة كنهه‪.‬‬
‫يكونوا مع من َّ‬

‫أح ُّبوا أنفسكم‪ ،‬واس َع ْوا ملنفعة ذواتكم‪ ،‬وتر َّفعوا عن النقائص وقرين‬
‫بغض الغري والرض ِر بهم سبيالً يجوزه‪ ،‬وال‬
‫ِ‬ ‫إلبليس‬
‫ِ‬ ‫السوء‪ ،‬لكن ال َتدعوا‬
‫لوساوس النفس األ ّمارة بالسوء طريقا ً تعربه‪ ،‬فتأمركم باحتقار سواكم‪،‬‬
‫والرت ُّفع عن أبناء جنسكم‪ -‬الله ّم‪ّ -‬إل أن يكونوا م َّمن عُرفوا بنقص الدين‬
‫والعقل‪ ،‬وفساد األعراق‪ ،‬وامليل ملنكرات األخالق‪ .‬ومع ذلك فال ينبغي‬
‫احتقارهم واالزدراء بهم ألنفسهم‪ .‬بل َّ‬
‫إن الرتفع عن أفعالهم‪ ،‬واالبتعاد‬
‫عن شائن أعمالهم‪ ،‬كافيان يف احتقار ما هم فيه من فاسد أحوالهم‪.‬‬

‫وإ ّياكم أن تدَعوا للعجب والكربياء عىل عقولكم سلطاناً‪ ،‬فقد قال بعض‬
‫الحكماء‪« :‬عجب املرء بنفسه أحد ُح ّساد عقله» وأعيذكم بالله أن تكونوا‬
‫من الحاسدين‪.‬‬

‫جدُّوا واجتهدوا وتقدَّموا‪ ،‬فقد كفانا ذلك الخمول الطويل‪ ،‬والسبات الذي‬
‫‪66‬‬
‫كاد ُيدعى بالدائم‪ ،‬أو دُعي‪ ،‬وحسبنا ذلك االنحطاط الذي جعلنا آخر األمم‪،‬‬
‫منصات الفضل‪،‬‬ ‫بعد أن كنَّا القابضني عىل نوايص العلم‪ ،‬والجالسني عىل َّ‬
‫رجع يف املشكالت‪ ،‬وعلينا ُيعتمد يف امله ّمات‪ ،‬وبنا ُتناط الصناعات‪،‬‬
‫إلينا ُي َ‬
‫تحل املكرمات‪ .‬تركنا ذلك الهدي الواضح‪ ،‬والعقل الراجح‪ ،‬ومِلنا‬ ‫وفينا ّ‬
‫عن تلك املناهج إىل هذا الجهل الفاضح‪ .‬وسلكنا مفاوز مظلمة األرجاء‪،‬‬
‫يضل فيها الخِ ّريت(((‪ ،‬ونبذنا العلوم والفنون والصناعات‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وطرقا ً‬
‫ُ‬
‫واالخالق ومستحسن العادات‪ ،‬تقليدا ً لألهواء‪ ،‬وه ًوى للتقليد‪ .‬وما بهذا‬
‫حل فينا من جراء ذلك‪:‬‬ ‫أُمرنا‪ ،‬وال لذلك خلقنا‪ .‬وقد َّ‬

‫الشـــم لم َتسطِ ِع‬


‫ُّ‬ ‫ــــملتها‬
‫لو ُح ّ‬ ‫هم من ثقال األسى‬ ‫أعــــــــبا ُء ٍّ‬

‫أرزاؤُ نا الدهــــــما ُء لم تستطَ ِع‬ ‫ولو بدت للشـــــمس في ُأفقها‬

‫تســــــجع‬
‫ِ‬ ‫عـــــيت ولم‬
‫َّ‬ ‫آمن ًة‬ ‫ولو ر َأتها الطــــير في وكـــــرها‬

‫ولنتمسك بما يوصلنا إىل غاية‬


‫َّ‬ ‫فلنطرح عنّا تلك االخالق والعادات‪،‬‬
‫رقي وال نجاح‪ ،‬وال صالح وال إصالح‪.‬‬‫وإل فال ّ‬‫الغايات‪ ،‬ورفيع الدرجات‪ّ .‬‬
‫فسالم ع ََل من يسعى إلحياء الوطن بإبادة جراثيم األخالق الضا ّرة‪ ،‬ونرش‬
‫العادات السليمة‪ ،‬والعلم والرتبية الصحيحة‪.‬‬

‫((( الخِ ّريت‪ :‬الدليل الحاذق‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫رجال اإلصالح‬

‫اختلف الباحثون يف أحوال النوع اإلنساني‪ ،‬من حيث جبلَّته‪ ،‬عىل ثالثة‬
‫رش وإرادة السوء‪ ،‬وأنه ال‬ ‫أن اإلنسان مفطور ع ََل ال ّ‬
‫أقسام‪ :‬قسم يعتقد َّ‬
‫يكتسب الخري وال يعتاده ّإل بعد عناد طويل ُيرصف يف تهذيبه وتعويده‬
‫الفضائل‪ ،‬وقسم يعتقد أَنه مفطور عىل الخري والفضيلة‪ ،‬وإ ّنما يرصفه‬
‫رش‪ ،‬وقسم يقول إنه ُخلق غريَ ميَّال إىل‬ ‫عنهما دواعي السوء وأسباب ال ّ‬
‫الخري وال إىل الرش‪ ،‬بل هو مستع ّد لهما معاً‪ ،‬فإن وجد له أسباب تدفعه إىل‬
‫الفضيلة‪ ،‬وتصدف ِبه عن الرذيلة‪ ،‬فهو ذاك‪ ،‬والعكس بالعكس‪.‬‬
‫كل حال‪ ،‬فهم‪ -‬وإن اختلفوا يف املبدأ‪ -‬متَّفقون عىل أن اإلنسان ِّ‬
‫تؤثر‬ ‫وعىل ّ‬
‫فيه الرتبية والوعظ واإلرشاد ملا فيه سعادته يف الدارين‪ .‬فإن أُهمل وشأُنه‬
‫يصدأ ُ فكره‪ ،‬وتعلو بصريته غشاوة‪ ،‬وتغلب عليه األخالق السافلة‪ ،‬وتأرسه‬
‫الحق‪ ،‬وتعهَّده الواعظون واملصلحون‬‫ّ‬ ‫الرذائل‪ .‬وإن هُ ِّذب و ُر ّب َي الرتبية‬
‫السوي‪ ،‬فذلك ينزع مافيه من‬
‫ّ‬ ‫باإلرشاد إىل السبيل القويمة‪ ،‬والطريق‬
‫فساد‪ ،‬ويربأ ُ به أن يسري يف غري منهج السداد‪.‬‬

‫أن النفس‬‫بأن املرء مفطور عىل الفضيلة‪ .‬وذلك َّ‬


‫وإني مع القوم القائلني َّ‬
‫نقي‪ ،‬ألنها‬
‫صاف ّ‬‫ٍ‬ ‫التي أودعها الله‪ -‬سبحا َن ُه‪ -‬يف اإلنسان هي من جوهر‬
‫هبطت إىل هذا الهيكل اإلنساني من مكان مقدَّس رفيع‪ ،‬ليس فيه سوء‬

‫‪69‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ً‬
‫لطافة‬ ‫وال رذيلة‪ .‬وإ ّنما يكتسبها من البيئة التي يوجد فيها‪ ،‬كما أنه يزداد‬
‫وطهار ًة من بيئته‪ ،‬إن كان أهلها من األصفياء واألطهار‪ .‬فالنفس كالبلَّور‬
‫النقي الش ّفاف‪ ،‬يبقى محفوظا ً من الدنس واألوساخ إن ُمنع عن ُه الغبار‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫والطوارئ التي تزيل بهجته وصفاءَه‪ ،‬ويزداد صفا ًء ورونقا إن زيد عىل‬
‫بالصقل والتنظيف‪ .‬ثم إنه يعدم تلك البهجة وذلك الصفاء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ذلك تعهُّده‬
‫لكل طارئ يطرأ عليه‪ ،‬و‪-‬ر َّبما‪ -‬تأتيه صدمة شديدة‬ ‫عرضة ّ‬‫ً‬ ‫إن ُت ِرك‬
‫تحطم ُه تحطيماً‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫إذا ثبت هذا‪ ،‬وأن جبلَّة اإلنسان‪ -‬عىل اختالف اآلراء فيها‪ -‬تفسد باإلهمال‬
‫وفساد البيئة‪ ،‬وتصلح وترت ّقى باإلرشاد والوعظ والنصائح‪ ،‬فالب َّد أن‬
‫كل أ ُ ّمة قوم يقفون حياتهم‪ ،‬ويبذلون جهدهم إلصالح الفاسدين‪،‬‬ ‫يكون يف ّ‬
‫الخيين‪ .‬وأولئك هم الرجال املصلحون الذين ما وجدوا يف‬ ‫ِّ‬ ‫وزيادة خري‬
‫ّ‬
‫التدل إىل أوج الرت ّقي‪ ،‬ووسيلة تقدُّمها‬ ‫أ ّمة ّإل كانوا سبب رفعها من وهاد‬
‫ُّ‬
‫التأخر واالنحطاط‪.‬‬ ‫وعل ّوها بعد‬

‫وب َقدْر عدد املصلحني يف األ ّمة يكون تر ّقيها وبلوغها مبلغ الحياة العالية‬
‫تأخرها وتقهقرها؛ لذلك يجب‬ ‫واملدنيّة الراقية‪ ،‬وبنسبة قلَّتهم يكون ُّ‬
‫السعي الحثيث ورا َء تخريج رجال عظماء‪ ،‬يعرفون الداء وموضعه‪،‬‬
‫فيعملون عىل مالشاته وتطهري جسم األ ّمة واملجتمع منه‪.‬‬

‫املصلحون أقسام‪ :‬قسم يبذل الجهد لتنقية األ ّمة م ّما أل َّم بها من األمراض‪،‬‬
‫ال لغاية يسعى وراءَها‪ ،‬وال ملصلحة يتطلّبها‪ .‬وأولئك هم الذين ُيرجى‬
‫منهم النفع الصحيح‪ ،‬وعليهم ُتعلَّق اآلمال برتقية الشعب‪ ،‬والنهوض به‬
‫من كبوته إىل صهوة النجاح‪ .‬وهذا القسم قليل يف ّ‬
‫كل أ ّمة‪ .‬وهو‪ -‬عىل‬
‫قلَّته‪ -‬يفعل ماال تفعله الكثرة التي مزجت غايتها باإلصالح‪ .‬وبهذه القلّة‬

‫‪70‬‬
‫والرقي‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬ ‫نالت األمم ح ِّر َّيتها‪ ،‬ووصلت إىل ما ترجوه وتطلبه من املدنيّة‬
‫تفعل القلَّة ما ال تفعل الكثرة‪.‬‬

‫وقسم يريد الخري‪ ،‬لكنه جاهل طريق اإلصالح‪ ،‬وقد يكون رضره أكثر من‬
‫نفعه‪ ،‬وهؤالء كثريون يف األ ّمة‪ ،‬وأغرب من ذلك َّ‬
‫أن اكثرهم يدَّعي املعرفة‬
‫واملقدرة عىل العمل‪ ،‬ودماغه ُ‬
‫أفرغ من فؤاد أ ّم موىس‪ ،‬غري أنه ُّ‬
‫يغش العا ّمة‬
‫بهذه الدعوة‪ ،‬ويتسلَّط عىل عقولهم‪ ،‬فينقادون إليه صاغرين‪ ،‬فيسري بهم‬
‫إىل ه َّوة الجهل‪ ،‬و ُيركِبهم متون الغباوة والخرسان‪.‬‬

‫وقسم قادر عىل اإلصالح‪ ،‬وعارف وجوه الخلل واألسباب املُحِ ّطة باأل ّمة إىل‬
‫الدرك األسفل‪ ،‬غري أنه ال يريد خريها‪ ،‬وال كشف َر ْين الجهالة عن قلبها‪،‬‬
‫وال إزالة برقع األوهام عن بصائرها وأبصارها‪ .‬وذلك ألن يف خريها إضاعة‬
‫وعظمته‪ ،‬ألن‬ ‫َ‬ ‫مصلحة له‪ ،‬عىل زعمه‪ ،‬كضعف سلطته‪ ،‬وذهاب أ ُ َّبهثه‬
‫العلم واالستبداد ال يجتمعان‪ ،‬فهو يسعى إلبقاء األ ّمة يف لي ٍل من الجهالة‬
‫بهيم‪ ،‬كيال تتنبَّه إذا عرفت الواجب وما لها من الحقوق‪ ،‬فيتساوى معها‪.‬‬
‫والظالم يبغض املساواة‪ ،‬وذلك كان شأن رؤسائنا يف الدور املايض البائد‪،‬‬
‫ونرجو أن اليكون رجال اليوم كرجال األمس‪.‬‬

‫وهناك قسم ليس يف العري وال يف النفري؛ فهو يعرف من أين تؤكل الكتف‪،‬‬
‫وكيف يكون اإلصالح‪ ،‬فيحرش نفسه يف زمرة املصلحني‪ ،‬و ُيظهر للناس‬
‫أنه من أكابرهم وخيارهم‪ ،‬غري أنه ال يقصد من وصف نفسه بذلك ّإل‬
‫مأربا ً يسعى وراءه‪ ،‬وغاية يقصد إليها‪ ،‬فهو يلبس رداء اإلصالح‪ ،‬ونفسه‬
‫الذاتي معاً‪ ،‬لكن اإلصالح متى ُمزج‬
‫ّ‬ ‫عد َّوة له‪ .‬وقد يقصد اإلصالح والنفع‬
‫بنفع الذات يكون ضئيالً قليل الفائد‪ ،‬وكثريا ً ما يتغلَّب طلب النفع للنفس‬
‫رشا ً بحتاً‪.‬‬
‫عىل اإلصالح‪ ،‬و‪ -‬ر َّبما‪ -‬كانت النتيجة ّ‬

‫‪71‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫مَ ن املُطالَب باإلصالح؟‬

‫املطالَبون باإلصالح خمسة‪:‬‬

‫رجال الدين‪ :‬وه ُؤالء عليهم أن يقوموا بوعظ الشعب والنصح له‪ ،‬وإفهامه‬
‫واجباته نحو الخالق واملخلوق والحكومة‪ ،‬وتهذيبه تهذيبا ً رشيفا ً عالياً‪،‬‬
‫كل بدعة وخرافة‪ .‬فمتى قاموا بهذا‬ ‫وتعليمه الدين كما أُنزل‪ :‬خاليا ً من ّ‬
‫رش إىل‬‫وصفهم عن ال ّ‬ ‫تجل سلطان الدين عىل قلوب العا ّمة‪َ َ ،‬‬ ‫الواجب َّ‬
‫الخري‪ ،‬وجعَلَهم ينقادون ملا فيه خريهم وسعادتهم‪.‬‬

‫ورجال املال‪ :‬وه ُؤالء عليهم أن يمدّوا يد املساعدة الفتتاح املدارس وإنشاء‬
‫املعامل واملصانع‪ ،‬وتشييد رصوح عالية للصناعات الوطنيّة‪ .‬ومتى َت َّم لنا‬
‫ذلك بقيت أموال البالد محفوظة فيها‪ ،‬فنستغني‪ ،‬إذ ذاك‪ ،‬عن األجانب‬
‫الذين يبت ُّزون أموالنا بل دماءَنا‪ ،‬ونحن عن ذلك ساهون الهون‪.‬‬
‫َ‬
‫وتحصيل ما‬ ‫كل مرغوب‪،‬‬ ‫نحن يف حاجة شديدة إىل املال ألن به نوال ّ‬
‫فقدنا من املدنيّة والتقدُّم‪ .‬وهو الذي يعيننا عىل افتتاح املعامل‪ ،‬وإنشاء‬
‫املد َّرعات‪ ،‬وإحياء مدنيّة أسالفنا الكرام‪ ،‬التي بنوها بجدّهم واجتهادهم‬
‫وسعيهم وراء تحصيل العلوم واملعارف وتعلُّم الصناعات‪.‬‬
‫وأصحاب الجرائد واألقالم‪ :‬وهؤالء عليهم أن يتج َّردوا عن ّ‬
‫كل غاية سافلة‪،‬‬
‫ويتنحوا عن ذكر ما يوقع األ ّمة يف االختالف والتفريق‪ ،‬أو يجلب عليها‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫ويسكن‬ ‫هواجس وأفكارا ً سيِّئة‪ -‬وهي يف حاجة إىل ما يطمنئ بالها‬
‫جأشها‪ -‬وعليهم أن ال يذكروا ّإل ما كان خربا ً يغلب عليه الصدق‪ ،‬أو‬
‫مقاال ً يفيد األ ّمة‪ ،‬ويبعث فيها روح الج ّد والسعي إىل ما ينهض بها من‬
‫كبوتها‪ ،‬و ُيقيلها من عثرتها‪ .‬فرجال األقالم هم قادة الشعب‪ ،‬فإن أَحسنوا‬
‫‪72‬‬
‫القيادة أَوصلوه إىل الغاية الحسنة والعاقبة الحميدة‪ ،‬وإن أَسا ُؤوها كانت‬
‫عاقبت ُه االضمحالل والدمار‪ ،‬وغايته السوء وخراب الديار‪ ،‬وقد كنّا نظ ّن‬
‫أن صحافتنا تنهج منهجا ً حسنا ً بعد االنقالب‪ ،‬فإذا كثري من أربابها لم‬
‫يقصدوا‪ ،‬بإنشائها‪ّ ،‬إل غاية غري مشكورة‪ ،‬فلم يودعوا فيها ّإل ما هو‬
‫ضا ٌر باأل ّمة والوطن‪ ،‬ولم ينرشوا َّإل ما يتقاضون عليه الدنانري‪ ،‬كالرسائل‬
‫املأجورة التي مل ُؤها السفاهة والوقاحة والطعن يف أعراض الناس‬
‫والتش ّفي منهم‪ .‬غري أن طائفة من الصادقني يف خدمة البالد‪ ،‬الذين ال ذنب‬
‫لهم ّإل أنهم أحرار يبذلون جهدهم لتوطيد الدستور واالنتصار للمظلوم‬
‫وردع الظالم عن ظلمه‪ ،‬قد ج َّرتهم قافية اصحاب اإلمضاءات املكذوبة‬
‫والرسائل املأجورة‪ ،‬فاختلط الحابل بالنابل‪ ،‬والربيء باملجرم‪ .‬فا ّتقوا‬
‫وتفكروا‪ ،‬يا أصحاب الجرائد! وال تدعوا األصفر‬ ‫َّ‬ ‫الله‪ ،‬يا أرباب األقالم!‬
‫الر ّنان يسيطر عليكم فتنرشوا األكاذيب واملطاعن الشخصية‪ .‬ا ّتقوا الله يف‬
‫هذه األ ّمة‪ ،‬وخذوا بأيديها إىل ما يفيدها‪ ،‬وانرشوا لها ما ينهض بها‪ ،‬فإنكم‬
‫ّ‬
‫«وكل راع مسؤول عن رعيَّته»‪.‬‬ ‫ُرعاة لها‪،‬‬

‫ورجال الحكومة‪ :‬وهؤالء هم روح البالد وملح األ ّمة‪ .‬فمتى فسدوا فسدت‬
‫وتأخرت البالد‪ .‬ومن وظائفهم حفظ األمن ورقابة املفسدين‬ ‫َّ‬ ‫األ ّمة‪،‬‬
‫الحق وإبطال الباطل‪ ،‬واالنتصاف للمظلوم من‬ ‫ّ‬ ‫واألشقياء‪ ،‬وإحقاق‬
‫وكل هذه الصفات التي‬‫الظالم‪ ،‬وغري ذلك مايجعل البالد وأهلها سعداء‪ّ .‬‬
‫يجب عىل الحاكم أن يتَّصف بها كانت مفقودة يف الدور املايض‪ ،‬لذلك‬
‫أصبحت البالد خال ًء من الرجال العظام‪ ،‬وصارت الصناعات أثرا ً بعد‬
‫عني‪ ،‬واستفحل الظلم‪ ،‬واستأسدت الرشوة‪ .‬وإن ما نراه اليوم‪ ،‬بعد أن‬
‫نرش الدستور لواءَه‪ ،‬من املظالم والفوىض‪ ،‬هو أثر من آثار ذلك الدور‪.‬‬
‫وإن حكم االستمرار املعروف عند علماء الطبيعة لم يزل جارياً‪ .‬غري أن‬

‫‪73‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫التيّار الب َّد أن ينتهي عند حدّ‪ ،‬برشط أن نقاومه ونبطش بأهله‪ ،‬ونبَ ِّي‬
‫نقائصهم‪ ،‬حتى يعتدلوا أو يعتزلوا‪ ،‬وأ ّما إن تركناهم وشأنهم فسيزداد‬
‫التيّار‪ ،‬ويطرد حكم االستمرار‪ ،‬ويرجع األمر إىل ما كان عليه‪.‬‬

‫بل كلّهم‪ ،‬من ازدياد الفوىض والظلم والرشوة‬‫يشكو كثري من الناس‪ّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫الحكام ألحكام القوانني‪ .‬وإنهم مح ّقون يف ذلك‪ ،‬ألن فئات من‬ ‫ومخالفة‬
‫رجال الحكومة‪ ،‬يف الدور املايض‪ ،‬لم يزالوا رجال الحكومة يف الدور‬
‫تأصل ذلك‬‫الحايل‪ .‬وهؤالء قد اعتادوا الظلم والرشوة واالستبداد‪ ،‬حتى َّ‬
‫يف نفوسهم‪ ،‬وصار خلقا ً من أخالقهم‪ ،‬فمهما ع َّودوا نفوسهم اإلقالع‬
‫عنه‪ ،‬فالب َّد أَنهم يميلون‪ ،‬بحكم القرس‪ ،‬إىل ما تع ّودوه‪ ،‬وكان يجب عزلهم‬
‫واستبدال غريهم بهم‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬أنا ال أنكر أن بني هؤالء رجاال ً أحرارا ً صادقني يف خدمة الوطن‪ ،‬وهذا ال‬
‫التعصب عىل قلبه حتى ران عليه‪ .‬وهذا قد شاهدته يف‬ ‫ُّ‬ ‫ينكره َّإل من استوىل‬
‫مدينتنا (بريوت)‪ ،‬يوم كان االستبداد ضاربا ً أطنابه‪ ،‬والجواسيس كالجراد‬
‫املنترش‪ ،‬تن ِّقب عن األحرار ورجال النهضة‪ .‬فإن هذه الطائفة القليلة لم‬
‫تكن تجاري رجال الدور املايض عىل أعمالهم املنكرة‪ ،‬بل كانت تبذل َّ‬
‫كل‬
‫الجهد لتخليص األحرار من مخالب الجواسيس واملستبدِّين‪ .‬وإني أتكلَّم‬
‫املحن االستبدادية التي سبّبها‬
‫عن مشاهدة واختبار‪ ،‬وقد جرى يل كثري من َ‬
‫الجواسيس اللئام‪ ،‬فقاموا بنارصي‪ ،‬وعملوا عىل تمزيق التقارير بعد أن كان‬
‫كل بلدة من بالد الدولة‪،‬‬‫الخطر قاب قوسني أو أدنى‪ .‬والب َّد أن يكون‪ ،‬يف ّ‬
‫ّ‬
‫الحكام‪ ،‬هم عىل شاكلة هؤالء الكرام‪.‬‬ ‫رجال قالئل من‬

‫يا رجال الحكومة‪ ،‬أصلحوا أنفسكم‪ ،‬وع ّودوها العمل بالقانون‪ ،‬قبل أن‬
‫يأتيكم يوم ال ينفع فيه مال وال بنون‪ّ ،‬إل من كان مخلصا ً يف أعماله‪،‬‬
‫‪74‬‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬ونرصة العدل بني الرعيّة‪ .‬وال‬ ‫جاريا ً يف سنن العدل‪ ،‬سالكا ً سبيل‬
‫تظنّوا أن هذه الفوىض تدوم‪ ،‬فما هي ّإل سحابة صيف عن قليل َّ‬
‫تقشع‪.‬‬
‫وما هي ّإل الزمة من لوازم االنقالبات‪ ،‬ثم تضمحل وتذهب «فأ َّما الزبد‬
‫فيذهب جفاء‪ ،‬وأ ّما ما ينفع الناس فيمكث يف األرض»‪.‬‬

‫الندوة‪ :‬وهم الذين‬‫والقسم الخامس من رجال اإلصالح‪ ،‬هم رجال دار َّ‬
‫انتخبتهم األ ّمة لينوبوا عنها بما يلزمها من اإلصالحات‪ ،‬وما تحتاج إليه‬
‫مما يرقى بها يف مدارج املدنيّة‪ .‬وهؤالء عليهم َس ُّن األنظمة والقوانني التي‬
‫تعود عىل األ ّمة والبالد بالخري‪ .‬غري أننا نرى بعضهم أضاع ثقة األ ّمة‪،‬‬
‫وعمل بما يخالف مقصدها‪ ،‬وأضاع وقته الثمني بالسكوت‪ ،‬أو بالكالم‬
‫الذي ال طائل تحته وال نتيجة‪.‬‬

‫مجلس األ ّمة قوام حياة البالد‪ ،‬وسعادة العباد‪ ،‬فهو يحتاج إىل ا ّتفاق‬
‫وإن مجلسنا النيابي هو‬ ‫أعضائه وا ِّتحادهم ليعملوا عمالً يفيد الوطن‪َّ .‬‬
‫أش ُّد احتياجا ً إىل اال ِّتحاد والوئام من ّ‬
‫كل املجالس النيابية يف العالم؛ ألنه‬
‫يض ُّم يف ردهته أعضاء مختلفِي األديان واملذاهب واألجناس‪ ،‬فإن كان أهل‬
‫كل جنس أو دين ينظرون إىل غريهم نظر االحتقار‪ ،‬ويناوئونهم يف ّ‬
‫كل ما‬ ‫ّ‬
‫يطلبون (ولو كان وراءَه نفع عظيم) فهناك ضياع اآلمال‪.‬‬
‫األ ّمة‪ ،‬اليوم‪ ،‬كلّها جسم واحد‪ ،‬فيجب أن يسعى الن ّواب يف ّ‬
‫كل ما يعود عىل‬
‫جنس‬
‫ٍ‬ ‫أهل ّ‬
‫كل‬ ‫مجموعها بالخري‪ ،‬من غري نظر إىل جنس أو مذهب‪ ،‬وأن يساعد ُ‬
‫الجنس اآلخر فيما يطلب‪ ،‬إن كان ح ّقاً؛ فإن بذلك إنهاض األ ّمة ورقيّها‪.‬‬

‫كل غاية‪ ،‬ويسعى السعي‬‫كل رجل من رجال اإلصالح أن يتج َّرد عن ّ‬ ‫فعىل ّ‬
‫كل وسيلة لبرت ّ‬
‫كل عضو فاسد يف املجتمع‪.‬‬ ‫َ‬
‫ويعمل ّ‬ ‫الحثيث ملصلحة الوطن‪،‬‬
‫والله ال يضيِّع أجر املحسنني‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫اإلرادة‬

‫اجتمع أعضاء مجلس شورى والية بريوت «املجلس العمومي»‪ ،‬يف دار‬
‫كامل بك األسعد‪ .‬وكان بينهم السيّد محمد رشيد رضا صاحب مجلّة‬
‫«املنار» الشهرية‪ .‬فاقرتح عليه بعضهم أن يقوم فيهم خطيباً‪ ،‬فخطب‬
‫خطبة عمرانية مه ّمة‪ ،‬ذكر فيها ما يجب عىل هذا املجلس ا ِّتباعه‪ ،‬وكان‬
‫فيما َّ‬
‫ذكرهم به وحثَّهم عليه كال ٌم موج ٌز مفي ٌد عن اإلرادة‪ .‬قال‪:‬‬

‫أ ُّيها االعضاء الكرام‪ :‬إن هذا الغرض الذي تطالبون به عظيم‪ ،‬ولكن‬
‫وجهتم‬
‫كل عسري‪ .‬فإذا َّ‬‫كل عظيم‪ ،‬وتسهّل َّ‬‫ق ّوة اإلرادة يف اإلنسان تص ّغر َّ‬
‫عزائمكم إىل ذلك باإلخالص‪ ،‬فإنكم تصلون إىل الغاية‪ ،‬بإذن الله‪:‬‬

‫واســــتعمل الصــبر إ ّلافاز بالظفرِ‬ ‫ــــد في أمرٍ يحـــــاوله‬ ‫ُّ‬


‫وكل من َج َّ‬

‫أن اإلنسان ال يجزم إرادته بأمر ممكن ّإل وينفذ‪.‬‬ ‫يرى بعض الفالسفة َّ‬
‫وكان األستاذ اإلمام عىل هذا الرأي‪ ،‬وقد قال يل غري م ّرة إنه لم يجزم‬
‫إرادته بطلب يشء جزما ً تاماً‪ ،‬ال تردُّد فيه‪ّ ،‬إل وحصل‪ .‬وقد كان حكماء‬
‫الصوفيّة عىل هذا الرأي‪ ،‬وع ََّبَ عنه بعضهم بقوله‪« :‬إن لله عبادا ً إذا أرادوا‬
‫توجه إرادتهم إىل يشء تعلَّقت إرادة الله تعاىل به‪ ،‬وما‬ ‫أراد»؛ أي إذا صحَّ ُّ‬
‫تعلّقت به إرادة الله نفذ حتماً‪ .‬فعىل اإلنسان أن يعرف قيمة نعمة اإلرادة‪،‬‬

‫‪77‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫فيوجهها إىل خدمة وطنه‪ ،‬جازما ً بأنه ٌ‬


‫أهل ألن ير ِّقيه‪ ،‬وهو بهذا يكون‬ ‫ِّ‬
‫فإن تفاضل الناس باإلرادة فوق تفاضلهم‬ ‫أهالً له‪ ،‬مهما كانت معارفه‪َّ .‬‬
‫وكل من أراد أن ينفع فإنه ينفع عىل قدر‬‫كل عالم ينفع‪ُّ ،‬‬
‫باملعرفة‪ .‬فما ُّ‬
‫استعداده»‪.‬‬

‫‪....‬‬

‫ذلك ما قاله السيِّد األستاذ الرشيد‪ .‬وهو من خري ما قيل يف هذا املوضوع‬
‫الجليل‪ .‬وإنه‪ -‬عىل إيجازه واختصاره‪ -‬جمع املعاني السامية‪ ،‬واآلراء‬
‫الصائبة‪ .‬ولو ُعمِل به‪ ،‬بل بجزء منه‪ ،‬لبلغنا الدرجة الرفيعة والغاية‬
‫نفكر فيه من رفع األ ّمة من‬‫القصوى م ّما نتطلَّبه من اإلصالح‪ ،‬وما ّ‬
‫تدهورها‪ ،‬وسقوطها بني براثن الجهل‪ ،‬ومخالب االضمحالل‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬صدق الصويف الحكيم بقوله‪« :‬إن لله عبادا ً متى أَرادوا أراد»‪،‬‬ ‫ْ‬
‫فإنه صحيح معقول‪ ،‬ال يدفعه وال ينفيه ّإل من ليس له معقول‪ .‬وهذا‬
‫مبني عىل تلك القاعدة الجليلة الثابتة‪ -‬نظام ربط األسباب‬ ‫ّ‬ ‫القول الحكيم‬
‫أن الله امر اإلنسان بالعمل الذي هو سبب سعادته‬ ‫باملسببات‪ -‬وذلك َّ‬
‫وروح حياته‪ .‬وال يكون ٌ‬
‫عمل َّإل بالنيّة والعزم واإلرادة‪ ،‬وإىل هذا أشار‬
‫وسلَّم‪ -‬بقوله‪« :‬إ ّنما األعمال بالنيّات‪ ،‬وإ ّنما ّ‬
‫لكل‬ ‫النبي‪ّ -‬‬
‫صل الله عليه َ‬ ‫ّ‬
‫وتوجه للعمل بقلب ثابت‪ ،‬وإرادة‬ ‫َّ‬ ‫امرئ ما نوى»؛ فمن أحس َن النيّة‪،‬‬‫ٍ‬
‫ناضجة‪ ،‬فإن ما أراده من األعمال كائن ألبتة‪ ،‬رضورة وجود املسبّب عند‬
‫وجود السبب‪ .‬فالرجال‪ ،‬الذين يريد الله إذا أرادوا‪ ،‬هم أولئك العظام‪،‬‬
‫أصحاب العزائم العظيمة‪ ،‬والنفوس الكبرية‪ ،‬والهمم القعساء‪ ،‬واإلرادة‬
‫الشماء‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫أولئك الذين إذا َن َووا أمراً‪ ،‬أو عزموا شيئاً‪َّ ،‬‬
‫توجهت إرادتهم إليه‪ ،‬وبذلوا‬
‫ما يف وسعهم دون تنفيذه وإجرائه‪ .‬وحينئذ‪ ،‬تتعلَّق إرادة الله‪ -‬سبحانه‪-‬‬
‫بأن يكون ما أرادوا‪ ،‬ألنهم بذلوا الجهد‪ ،‬واستعملوا األسباب التي أرشدهم‬
‫إليها للحصول عىل ما يسعون وراءه‪ .‬وحاشا لله أن يخيّب قوما ً نهجوا‬
‫املنهج القويم‪ ،‬وأتعبوا النفوس‪ ،‬وعملوا األسباب املمكنة يف سبيل تحقيق‬
‫أمانيهم وإرادتهم‪.‬‬

‫كلُّنا يعلم ما كانت تقاسيه األ ّمة‪ ،‬م ّما أصبحنا نسأم من ذكره‪ ،‬ألنه صار‬
‫بديهيا ً لدى طبقات الناس كا ّف ًة‪ .‬فقد أنشئت الجمعيات ال ّ‬
‫رس ّية للقيام‬
‫ض َّد الحكومة الهالكة إلبادة الظلم واالستعباد‪ .‬ولكن‪ ،‬لم يفز أحد بما‬
‫كان يريد‪ ،‬ألنه لم تكن هناك عزائم صادقة‪ ،‬ونفوس صادقة فدائية‪ ،‬وال‬
‫دك معالم الجور واالستبداد‪ .‬ولهذا لم ينالوا‬‫تتوجه نحو ّ‬
‫َّ‬ ‫إرادة صحيحة‬
‫بادئ األمر ما كانوا ينوونه من تخليص األ ّمة ّ‬
‫وفك أغاللها وقيودها‪ ،‬غري‬
‫تضمحل نيَّتهم‪ ،‬بل ظلّوا مثابرين‬
‫ّ‬ ‫أنهم لم يفرتوا‪ ،‬ولم َّ‬
‫تكل عزائمهم‪ ،‬ولم‬
‫عىل ذلك‪ ،‬إىل أن كانت اإلرادة الناضجة التي ولَّدت فيهم روح الفدائية‬
‫الخاص‬
‫ّ‬ ‫واإلقدام‪ .‬فأقدموا‪ ،‬وأراد الله ما أرادوا‪ ،‬وكان ماكان م ّما عرفه‬
‫والعا ّم‪.‬‬

‫توجة اإلرادة يف مخليص الوطن هو الذي أحدث هذه األمور العجيبة‬ ‫إن ُّ‬
‫التي أدهشت العالم بأرسه‪ .‬ولوال اإلرادة والحزم لبقيت األُ ّمة يف حالة‬
‫ول َ ْمست البالد نهبا ً‬
‫أس العداة‪َ ،‬‬
‫الخمول والجور‪ ،‬وألصبحت الدولة يف ْ‬
‫مقسماً‪.‬‬
‫َّ‬

‫ُر َّب قوم يقولون‪ :‬إنا َّ نرى كثريا ً م َّمن يريدون أن يفعلوا‪ ،‬غري أنهم ال‬

‫‪79‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫يجنون من إرادتهم سوى خيبة املسعى‪ ،‬فلو أ َ َّن اإلرادة تفعل‪ ،‬لكان الناس‬
‫يف رخاء وهناء‪ ،‬وسعادة‪ ،‬وارتقاء‪.‬‬

‫رجل َ ْي‪ :‬رجل ضعيف‬ ‫فنقول‪ :‬إن هؤالء القوم الذين تعنونهم‪ ،‬هم أحد ُ‬
‫عمل ما يريد أن يعمله‪ ،‬يكون بني‬ ‫اإلرادة بليد الحزم‪ ،‬فهو إن خطر له ٌ‬
‫الخوف والرجاء‪ ،‬وي ْعتَ ِوره عامال اإلقدام واإلحجام؛ فتار ًة يريد‪ ،‬ثم يعرض‬
‫ِّ‬
‫ويؤخر‬ ‫له فكر‪ ،‬إ ّما صحيح أو خطأ‪ ،‬فريجع عن إرادته‪ ،‬فهو يقدِّم ِر ْجالً‬
‫املعني بقول‬
‫ّ‬ ‫كل الجهات‪ ،‬فكأَنه‬
‫أخرى‪ ،‬بني تلك العوامل التي تنتاب ُه من ّ‬
‫القائل‪:‬‬

‫ِ‬
‫زيالك‬ ‫حذا َر الردى أو خيف ًة من‬ ‫فصرت كأني بين شقَّ ْين من عصا‬
‫ُ‬

‫فأج ِد ْر بمن كان كذلك أن يقال عنه إنه ال أرادة له‪ ،‬ومن ال إرادة له فهو‬
‫قوي اإلرادة‪،‬‬
‫عن العمل بمعزل‪ .‬والرجل الثاني هو رجل صحيح العزم‪ّ ،‬‬
‫غري أنه يقدم عىل العمل قبل أوانه‪ ،‬ويريد أن يجني الثمرة قبل نضجها‪،‬‬
‫فال ينتظر اليشء إىل إ ّبانه ليقتطف فائدته‪ .‬فعملُ ُه‪ -‬إذاً‪ -‬عمل مبترس‬
‫«سابق أوانه»‪ .‬ومن أراد عمالً مبترساً‪ ،‬فهو كالرجل األ َّول من حيث إنهما‬
‫يجتمعان يف عدم نجاح عملهما‪ ،‬وسقوطه‪.‬‬

‫وهناك رجل ثالث‪ ،‬وهو وسط الرجلني‪ ،‬ليس عنده تقلُّب األ َّول وال عجلة‬
‫تغيه الحوادث‪ ،‬وال تنهنهه‬ ‫الثاني‪ ،‬بل هو ثابت الجنان رابط الجأش‪ ،‬ال ِّ‬
‫ويتح َّي الفرص إلنفاذ ما‬
‫َ‬ ‫الكوارث‪ ،‬يأخذ لألمر ُعدَّته‪ ،‬ويهيِّئ له األسباب‪،‬‬
‫يريد‪ .‬فإن رأى إنفاذ األمر خرياً‪ ،‬أنفذه‪ ،‬فكان ناجحا ً فيه‪ ،‬وإن رأى تأخريه‬
‫أ َ ْوىل‪ ،‬أَخره وتر َّقب األوان الذي يبدأ بتنفيذه فيه‪ .‬ذلك الرجل‪ ،‬هو صاحب‬
‫اإلرادة الذي يعنيه السيِّد الرشيد يف مقاله‪ ،‬ويريده ذلك الصويف العظيم يف‬
‫‪80‬‬
‫عبارته‪ .‬أ َّما التهور يف األمر وإنفاذه قبل أن يأخذ املر ُء لليشء عتاده‪ ،‬فهو‬
‫من الخطأ‪ ،‬والجهل بأسباب بلوغ املراد‪:‬‬

‫ُ‬
‫الزلل‬ ‫وقد يكون مع المســـتعجل‬ ‫قد يدرك المتأ ّني بعض حـــاجته‬

‫‪...‬‬

‫فمتى قويت روح اإلرادة‪ ،‬فإنك ترى ما يدهش و ُيعجب‪ .‬ولكن‪ ،‬أ َ ّني لنا‬
‫برجال ذوي إرادة تدفعهم إىل القيام بما ُينجح الوطن‪ ،‬وينهض به من‬
‫هذه الكبوة‪ ،‬و ُينقذهم من تلك اله ّوة‪ ،‬وأكثر رجالنا قد شغلتهم أنفسهم‬
‫وأغراضهم الذاتية عن النظر فيما ينفع األُ ّمة و ُيقيلها عثرتها‪ .‬فلو تج َّرد‬
‫رجالنا الذين أودع الله فيهم االستعداد لعظائم األمور عن األنانية‪ ،‬وتف َّرغوا‬
‫رش‪ ،‬لبلغنا ما‬ ‫ووجهوا إرادتهم إىل نفع بالدهم‪ ،‬ورصفوها عن ال ّ‬ ‫ملا يفيد‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫بلغه َسلَفنا من التقدُّم وإخضاع أمم األرض‪ ،‬بل كنّا نبلغ أكثر م ّما بلغوا‪،‬‬
‫ونفعل أكثر م ّما فعلوا‪ .‬ذلك ألن الوسائل يف هذا العرص قد كثرت‪ ،‬وطرق‬
‫كل ذلك غافلون‪ ،‬ويف وادي الكسل‬ ‫الرقي والتقدُّم قد َسهُلت‪ .‬غري أننا عن ّ‬
‫ّ‬
‫والجهل نائمون‪ ،‬ويف تيّار الرشور واملفاسد غارقون‪ ،‬وبسفاسف األمور‬
‫كل ما يفيدنا الهون‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإنا َّ لإلصالح والرت ّقي‬ ‫مشتغلون‪ ،‬وعن ّ‬
‫طالبون‪ ،‬فهل ذلك يمكن أن يكون!؟‪.‬‬

‫أ ُ َّمتنا خري األُمم‪ ،‬وشعبنا خري الشعوب‪َّ ،‬‬


‫فإن الذكاء الفطري الذي منحنا‬
‫طيب املناخ وطبيعة اإلقليم‪ ،‬ليس له مثال يف جميع بقاع األرض‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أ ّياه‬
‫غري أننا رصفنا ذلك الذكاء إىل تعاطي ال ّ‬
‫رش واالشتغال بالعبث‪ .‬يف حني‬
‫أن غرينا من األُمم األوروبية‪ ،‬بعد أن صحوا من سكرتهم‪ ،‬وأَفاقوا من‬‫َّ‬
‫غفلتهم‪ ،‬أجهدوا نفوسهم‪ ،‬وأتعبوا عقولهم‪ ،‬حتى وصلوا إىل ما نراهم‬

‫‪81‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫عليه اآلن‪ ،‬من املدنيّة الباهرة والرت ّقي املدهش‪.‬‬

‫بلغ َسلَفنا من العلوم واملعارف شوطا ً بعيداً‪ ،‬فقد كانت لهم اليد الطوىل‬
‫وكل ما يس ّمونه العلوم الكونية أو العرصية‪،‬‬ ‫يف جميع العلوم والفنون ّ‬
‫وكانت لهم مدينة زاهرة‪ُ ،‬ضبت بها األمثال‪ ،‬وقوة ال ُتبارى أخضعت‬
‫قسم عظيم من املعمور‪ ،‬وال تزال‬ ‫ٍ‬ ‫لهم األمم‪ ،‬وملك عظيم َم َّد جناحه عىل‬
‫ً‬
‫ناطقة بما كان لهم‬ ‫آثارهم العلمية‪ ،‬والفنّيّة‪ ،‬وبناياتهم الضخمة الفخمة‪،‬‬
‫حصلوا ذلك املجد العايل والفضل الباذخ‪َّ ،‬إل بما‬‫الرقي والعمران‪ .‬وما َّ‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫لهم من اإلرادة العظيمة والنفوس الكبرية‪ ،‬لكننا أضعنا ذلك السعي‪َ ،‬ف ُب ْؤنا‬
‫يخزي األبد وعار الدهر‪ .‬وذلك عا ٌر علينا عظيم‪ ،‬ال يمحوه من لوح الوجود‬
‫ّإل الج ّد واالجتهاد‪ ،‬إلرجاع مفاخر االجداد‪ ،‬وتوجيه العزم األكيد واإلرادة‬
‫والسعي الحثيث وراء‬‫ُ‬ ‫العالية‪ ،‬القتباس العلوم وإنشاء املعامل واملصانع‪،‬‬
‫كل أم ٍر نافع ينهض بالوطن‪ ،‬وبنيه‪.‬‬‫ّ‬

‫ُر َّب قائل‪ :‬إن إنفاذ األمر وايجاد العمل يتو َّقفان عىل اإلرادة‪ ،‬وال إرادة‬
‫عندنا‪ ،‬فأنت تطلب املستحيل‪.‬‬

‫ُّ‬
‫مايرض‪ ،‬ال إىل ما‬ ‫وأنا أقول‪ :‬إن اإلرادة عندنا ثابتة‪ ،‬غري أننا رصفناها إىل‬
‫وجه عزيمته إىل أم ٍر من األمور‬
‫ينفع‪ .‬والدليل عىل ذلك أن أحدنا متى َّ‬
‫السافلة‪ ،‬فإنه يبذل جهده وراء تحقيقه حتى يناله‪ ،‬ولو تحت شفار‬
‫السيوف وصليلها‪ ،‬ورصاص املسدَّسات والبنادق‪ .‬ونحن ال نطلب من‬
‫الح ّد من الخطر‪،‬‬
‫أصحاب اإلرادة والعلماء واألغنياء أن يصلوا إىل هذا َ‬
‫الغني أن يبذل ماله‪ ،‬ويسعى‬‫ّ‬ ‫وانما نطلب من العالم أن ينرش علمه‪ ،‬ومن‬
‫الكل‪ ،‬بإرادة وإخالص‪ ،‬لتخليص الوطن من مخالب الجهل‪ ،‬كما خلَّصه‬ ‫ّ‬

‫‪82‬‬
‫الجيش واألحرار من براثن االستبداد واالستعباد‪.‬‬

‫فليكن عندنا رجال إرادة وحزم وعزم‪ ،‬يرصفونها يف الخري‪ ،‬حتى ننال‬
‫املراد‪ ،‬فـ«إن لله رجاال ً إذا أرادوا أراد»‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫األلقاب وال ُّر َتب‬

‫امليل إىل املجد‪ ،‬والرغبة يف الرشف‪ ،‬والسعي وراء النفوذ‪ُ ،‬خلُق من أخالق‬
‫كل ما يف وسعه للحصول عليها‪.‬‬ ‫يضحي ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وشهوة من شهواته‪،‬‬
‫وقد يؤدّي به ذلك إىل إنفاذ ما لديه من املال‪ ،‬ولو بقي صف َر اليدين‪،‬‬
‫أو إىل بذل دمه دون الوصول إىل مبتغاه‪ .‬وأ َ َّما الذين ال يعبؤون بهذا‬
‫األمر‪ ،‬فهم قوم صغار النفوس‪ ،‬ضعاف الهمم‪ ،‬خامدو العزيمة‪ ،‬ال‬
‫يستطيعون حيلة يحتالون بها‪ ،‬لينالوا ما يسعى إليه أصحاب النفوس‬
‫الكبرية‪ ،‬واملدارك السامية‪ ،‬والهمم القعساء‪ .‬وإن ُطولبوا بأن يسعوا إىل‬
‫املجد‪ ،‬ويجدُّوا وراء العىل‪ ،‬تعلَّلوا بما هو معروف عنهم‪ ،‬من رغبتهم يف‬
‫االنقطاع عن مظاهر هذه الحياة‪ ،‬وعدم االلتفات إليها‪ .‬وقولهم هذا‪-‬‬
‫لو علمت‪ -‬رياء ومداهنة‪ ،‬وأحبولة يصطادون بها عقول الس َّذج من‬
‫العا ّمة‪ .‬وهم لو كان عندهم عزيمة صارمة‪ ،‬وه ّمة ال تعرف امللل‪ ،‬لسعوا‬
‫حصل غريهم‪ ،‬ولك َّن َّ‬
‫حب الراحة وامليل‬ ‫وحصلوا ما َّ‬
‫َّ‬ ‫إىل ذلك سعيا ً حثيثاً‪،‬‬
‫إىل الدعة واإلخالد إىل الكسل‪ّ -‬‬
‫كل ذلك يدعوهم إىل االستكانة‪ ،‬فهم كمن‪:‬‬

‫ور َأى اإلعـــــــراض عنها أنفعا‬ ‫الدنا‬


‫ظن دين الله في تــــــــرك ُّ‬
‫َّ‬

‫طــــــ َّلق الدنـــيا وعاف الورعا‬ ‫وهو لو جـــــــــا َءته منها بـــدر ٌة‬

‫‪85‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫الــــجد يُذيب األض ُلعا‬


‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫لكـــــن‬ ‫فهـــــو ال زهــــــد ًا بها عنها نأى‬

‫فـــــرأى الراحــــــة فيما صـــنعا‬ ‫خاف أن يســـــعى فيدمي رجــله‬

‫فالج ُّد يف سبيل املجد‪ ،‬والتعب يف ارتقاء مراقي العىل‪َ ،‬خلَّة حميدة‪،‬‬
‫أدب أن يتخلَّق بها‪ ،‬ويهيم يف جمالها‪ ،‬ويستميت‬ ‫وخصلة يجدر ّ‬
‫بكل ذي ٍ‬
‫يف ميدان الج ّد ألجلها‪.‬‬

‫غري أَن الناس‪ ،‬يف طلب ذلك وتفسريه‪ ،‬عىل مراتب ومذاهب‪ ،‬بعضها‬
‫حميد‪ ،‬وبعضها قبيح‪ .‬وهم كلُّهم يف املبدأ‪ ،‬وهو نيل املجد والرشف‪،‬‬
‫ينصبون ألجلها‪ ،‬الختالفهم يف تفسري‬
‫غري أنهم مختلفون يف الغاية التي َ‬
‫معانيها‪:‬‬

‫َ‬
‫والرشف‬ ‫الحقيقي فدلفوا إليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فقسم راقية عقول ذويه‪ ،‬قد عرفوا املج َد‬
‫فعضوا عليه بالنواجذ‪ .‬وهؤالء يعتقدون أن املجد والعىل يف‬ ‫ُّ‬ ‫الصحيح‬
‫التمسك بمعايل األمور‪ ،‬والتخلُّق باألخالق الفاضلة‪ ،‬والسعي ّ‬
‫بكل ما يف‬ ‫ُّ‬
‫الوسع الكتساب العلوم وتحصيل املعارف‪ ،‬وأن يعملوا َّ‬
‫كل عم ٍل يرجع‬
‫كل السعي‬‫عىل الوطن وبنيِه بما ينهض به إىل أوج النجاح‪ ،‬وأَن يسعوا ّ‬
‫إىل ما يفيد الدولة ويرفع عنها أعبا َء االنحطاط‪ .‬وهؤالء ال يه ّمهم رتبة‬
‫وال وسام‪ ،‬وال لقب من ألقاب التعظيم‪ ،‬ألنهم إ َّنما يعملون لخدمة الوطن‬
‫واأل ّمة‪ ،‬غري ناظرين إىل مقص ٍد سواه‪.‬‬

‫قص عن تلك املرتبة‪ -‬وهو أن يكون له مجد باذخ‪ ،‬وفخر‬


‫والقسم اآلخر َّ‬
‫عا ٍل‪ ،‬ومكانة سامية يف نفوس قومه‪ -‬فلم يجد واسطة لذلك سوى‬
‫‪86‬‬
‫وطلب وسام‪ ،‬ليقال إنه من املق َّربني من‬
‫ِ‬ ‫السعي وراء تحصيل رتبة‬
‫َ‬
‫وليخاطب‪ ،‬يف الرسميّات‪ ،‬بألقاب التعظيم والتبجيل‪ ،‬وهو لم‬ ‫الدولة‪،‬‬
‫يعلم أن املرء‪ ،‬بأدبه وعمله النافع‪ ،‬ال برتبته ووسامه‪ .‬فإن املرء الذي لم‬
‫تكن أخالقه وأعماله وسامات يز ِّين بها صحيفة حياته وتاج مروءته‪،‬‬
‫فال ينفعه وسام‪ ،‬وال ُتعليه رتبة‪.‬‬

‫املرصعة‪ ،‬يف الدور‬


‫َّ‬ ‫إن كثريا ً م َّمن نالوا الرتب العالية‪ ،‬والوسومات‬
‫املايض‪ ،‬لم يكن لهم عمل يستح ّقون عليه ذلك‪ .‬ولو عُوملوا بالعدل‬
‫ملا استح ّقوا ّإل الصفع عىل الرقاب‪ ،‬واللط َم عىل الوجوه‪ ،‬والقصع‬
‫عىل الرأس‪ .‬غري أن بذل األموال يف تلك السبيل قد مهَّد لهم الحصول‬
‫عىل هذا األمر‪ ،‬ليقال‪ :‬فالن صاحب السعادة أو الع ّزة أو الرفعة أو‬
‫العطوفة أو الفضيلة أو السماحة‪ ،‬وليمشوا يف أ ّيام االعياد باأللبسة‬
‫املرصعة‪ ،‬ليلفتوا إليهم األنظار‪ ،‬فيتيهوا‬
‫َّ‬ ‫املزركشة‪ ،‬والنياشني‬
‫الخاصة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عجبا ً واستكباراً‪ .‬أ َ َّما َجهَلة العا ّمة وضعفا ُء العقول من‬
‫رتون بهذه املظاهر الوهمية‪ ،‬وينحنون ألصحاب هاتيك‬ ‫فكانوا يغ ُّ‬
‫األلبسة والوسامات إجالالً‪ .‬وأ ّما أرباب العقول الصحيحة فكانوا‬
‫يسخرون من أولئك األقوام‪ ،‬ويضحكون من أعمالهم‪ ،‬ويأسفون‬
‫عىل تلك األموال التي بذلوها للحصول عىل هذه األزياء واأللقاب‬
‫التي ال تسمن‪ ،‬وال تغني من جوع‪ .‬كما َّ‬
‫أن الجميع‪ ،‬بعد الدستور‪،‬‬
‫يف االستهزاء‪ ،‬سواء‪.‬‬

‫وا أَسفاه عىل تلك اللريات التي اختلسها رجال الدور املايض وتجا َّ ُر‬
‫األلقاب والرتب من ضعفاء العقول‪ ،‬الذين ال يه ّمهم ّإل أن يقال لهم‬

‫‪87‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫«عطوفتكم‪ ،‬سعادتكم‪ ،‬سماحتكم‪ ،‬فضيلتكم»‪ ،‬وال يروق لهم ّإل أن‬


‫بحل ٍل زاهرات!‪.‬‬
‫يخرجوا يف الرسميّات ُ‬

‫وإني ألَش ُّد أسفا ً عىل الذين استدانوا األموال‪ ،‬واشرتوا بها وساما ً أو‬
‫رتبة‪ ،‬وكثري منهم لم يخلصوا‪ ،‬إىل اآلن‪ ،‬من أعباء ذلك ال َّد ْين الذي أثقل‬
‫عاتقهم‪ ،‬وأرهقهم عرساً‪.‬‬

‫مركب‪ ،‬ال يعرف للعلم معنًى‪ ،‬وال‬‫إن أكثر َم ْن نال رتبة علمية جاهل َّ‬
‫يدري للفنون مغ ًزى‪ ،‬وإنك لرتى َّ‬
‫أن العلماء العاملني لم ينالوا ما نال‬
‫كل عاقل‪.‬‬‫أولئك الجهلة من الر َتب واأللقاب‪ ،‬ألَنهم يحتقرونها‪ ،‬شأن ّ‬
‫ولو طلبوها فليس لديهم من النقود ما يرشون به الذين كانوا يبيعون‬
‫األُمة والدولة بالدرهم والدينار‪.‬‬

‫وهكذا الشأن يف أولئك املتم ِّولني الذين اشرتوا الوسامات واملناقب‬


‫َ‬
‫ورش ْوا بها الخائنني‪ ،‬ليقال‬ ‫ِبل َ ْياتهم‪ ،‬وأولئك الذين استدانوا الدنانري‪،‬‬
‫إنهم من املق َّربني‪.‬‬

‫أ ّما وقد مىض زمن التمويه والتضليل‪ ،‬ولم يبق افتخار ّإل بالعلم والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬فقد رجعت األشياء إىل أصولها‪ ،‬واملياه إىل مجاريها‪ ،‬فكان من‬
‫رتبة أو وساما ً وهو ليس أهالً لذلك‪ ،‬فقد رجع إىل أصله‪ ،‬وتساوى‬
‫ً‬ ‫حاز‬
‫ماضيه بحارضه‪ ،‬ويومه بأمسه‪.‬‬

‫فلنس َع جميعنا إىل طلب املجد والرشف الصحيحني من ُطرقهما‬


‫ْ‬
‫الرشيفة‪ ،‬ووسائلهما النبيلة‪ ،‬وذلك بتحصيل العلم‪ ،‬وإنشاء املدارس‬
‫‪88‬‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬واملجد الصحيح‪،‬‬ ‫واملعامل والعمل النافع‪َّ .‬‬
‫فإن هذا هو الفخار‬
‫و«لِ ِمثْ ِل ه ََذا َفلْيَ ْع َم ْل الْعَامِلُ َ‬
‫ون»‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫حديث مع النابتة‬

‫َّ‬
‫تستدل عىل مستقبل أ ّم ٍة من األمم‪ ،‬وتستعرف ما ست ُؤول‬ ‫إذا أردت أن‬
‫إليه حالتها االجتماعية‪ ،‬والعمرانية‪ ،‬والسياسيّة‪ ،‬فابحث عن أخالق‬
‫شبّانها‪ ،‬ون ّقب عن أحوال نابتتها‪ ،‬فتقتطف النتائج من هذه املقدِّمات‪.‬‬
‫كل أ ُ ّمة عنوان مستقبلها ومادَّة ترقيها‪ ،‬فإن رأيت نبتا ً مه َّذبا ً‬
‫ألن نش َء ّ‬
‫وبشها بأن ستكون‬ ‫نشأ متعلّماً‪ ،‬فأبرش بآتٍ حميد ومستقبل زاهر‪ّ ،‬‬
‫أ ُ ّمة حيّة‪ ،‬تنال طلباتها‪ ،‬وتفوز برغباتها‪ .‬وإن وجدت شبّانا ً جاهلني‪،‬‬
‫التأخر‪ ،‬ثم أنذرها‬‫ُّ‬ ‫ً‬
‫ونابتة فاسدة األخالق‪ ،‬سافلة املبادئ‪ ،‬فاقرأ عليها آية‬
‫مقسماً‪ ،‬تعبث بها أيدي الالعبني‪،‬‬ ‫بالخراب‪ ،‬وح ّق ْق لها أَن ستكون نهبا ً َّ‬
‫حتى تكون عربة لآلخرين‪ ،‬وتلك سنّة الله يف العاملني‪.‬‬

‫تلك سنّة الله‪ ،‬ولن تجد لسنّة الله تبديالً‪ ،‬فقد حكم‪ -‬وهو أحكم‬
‫أن األرض يرثها عبادة الصالحون‪ ،‬وينتزعها م ّمن ال يقدِّرها‬ ‫الحاكمني‪َّ -‬‬
‫قدرها‪ ،‬وال يميش يف مناكبها مشية من يحسن استعمارها‪ ،‬ويستورد‬
‫خرياتها‪ ،‬فالصالحون‪ ،‬يف هذا املقام‪ ،‬هم من يعرفون كيف تؤكل الكتف‪،‬‬
‫ويدرون من أساليب العمران ما ي َؤهِّلهم ألن يكونوا ورثا َء األرض‪.‬‬

‫فاأل ّمة التي يكثر متعلّموها وامله َّذبون من شبانها‪ ،‬هي األ ّمة التي ستكون‬

‫‪91‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫وارثة األرض‪ ،‬واملالكة زمام استعمارها‪ ،‬والقابضة عىل صولجان األمر‬


‫والنهي فيها‪ ،‬واأل ّمة التي ال تكون كذلك‪ ،‬ستكون قي َد الذل‪ ،‬وتبقى‬
‫خادمة لغريها م ّمن هي أهل لالستعمار وجديرة بالحكم‪ .‬والشواهد عىل‬
‫ذلك أكثر م ّما يحصيه القلم‪ ،‬ويحيط به الربهان‪.‬‬

‫فالهمة يف نرش املعارف مبذولة يف كثري من البلدان‪ ،‬والساعون يف هذا‬


‫العمل املجيد‪ -‬عىل قلّة عددهم‪ -‬باذلون من املجد أقصاه‪ ،‬ومن االجتهاد‬
‫منتهاه‪ .‬واألمل أن ُيو َّفقوا إىل ما يقصدون إليه يف أقرب مدّة‪ ،‬إذا أمدَّهم‬
‫األغنياء‪ ،‬وساعدهم العقالء‪ ،‬وسهلَّت الحكومة لهم السبيل‪.‬‬
‫أرباب الثروة والغنى‪ ،‬يف ّ‬
‫كل قرية‬ ‫ُ‬ ‫وإن أعظم من ُتطلَب منهم املساعدة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كل شأن من الشؤون‪ ،‬وال‬‫ومرص من البلدان‪ ،‬فإن عىل املال املع َّول يف ّ‬
‫نرى أغنياءَنا ّإل فاعلني‪ ،‬إن شا َء الله‪.‬‬

‫النهضة‪ ،‬مهما كانت عظيمة‪ ،‬ومهما بلغت من التقدُّم‪ ،‬ال تفي بالحاجة‪،‬‬
‫إذا لم يكن يف األ ّمة قادة كبار متعلِّمون التعليم الراقي‪ ،‬وعارفون أصول‬
‫الرتبية والتعليم الحديثة‪ ،‬وليس لدينا من هؤالء ّإل النزر اليسري الذي ال‬
‫يقوم بجزء م ّما نحتاج إليه؛ لذلك وجب عىل األُ ّمة أن تختار من أبنائها‬
‫من هم أهل فطنة وإقدام وأخالق رشيفة‪ ،‬وتقذف بهم إىل مدارس‬
‫الغرب‪ ،‬حيث ينالون منها قسطا ً وافرا ً م ّما نحتاج إليه‪ ،‬ثم يرجعون‬
‫إلينا وقد رضبوا‪ ،‬من العلوم والفنون وتطبيق العلم عىل العمل‪ ،‬بسهام‪.‬‬
‫تؤثر يف نفوسهم عادات‬ ‫عىل رشط أن يعودوا كما ذهبوا‪ :‬من غري أن ِّ‬
‫الغربيِّني واخالقهم التي ال تمتزج بعاداتنا وأخالقنا‪ .‬فليس ّ‬
‫كل ما يأتيه‬
‫الغربي بنافع لنا‪ .‬و ُر َّب عاداتٍ ألولئك يعدُّونها من أصول املدنية‪ ،‬ونعدُّها‬
‫‪92‬‬
‫والتوحش الذي ال يطاق‪ ،‬فإن العبادة تختلف‪ُ ،‬ح ْسنا ً‬
‫ُّ‬ ‫من فساد األخالق‪،‬‬
‫وقبحاً‪ ،‬باختالف األ ّمة والبيئة التي تقطنها‪.‬‬

‫تؤثر يف نفسه عادات أهله وأخالقهم‬ ‫إن بعض من يرحل إىل الغرب ِّ‬
‫وسياستهم‪ .‬فإذا رجع إىل قومه أخذ يحدِّثهم بما رآه‪ ،‬و‪ -‬ر َّبما‪-‬‬
‫استحسن كثريا ً م ّما نراه مخالفا ً ألخالقنا وعاداتنا وما ُفطِ رنا عليه من‬
‫التعاليم الدينية ‪ .‬وبالطبع‪ ،‬ليس ما استحسنه م ّما يج ُّر نفعاً‪ ،‬أو يدرأ ُ‬
‫رضراً‪ ،‬وإنما هو م ّما نراه مدعاة الته ُّتك‪ ،‬ومجلبة فساد األخالق‪ ،‬ويراه‬
‫الغربيّون من تت ّمة املدنية ولوازم املتمدِّنني‪.‬‬

‫رس الذي يدعو بعض الراحلني إىل الغرب إىل استحسان ما قدَّمنا‪،‬‬ ‫وال ُّ‬
‫هو أنهم لم يرت ّبوا‪ ،‬منذ نشأتهم‪ ،‬تربية رشقية‪ ،‬ولم يتع َّودوا األخالق‬
‫ً‬
‫طبيعة من‬ ‫الصحيحة‪ ،‬ولم ُتغرس يف نفوسهم أغراس الدين‪ ،‬حتى تكون‬
‫والزمة من لوازمهم‪ ،‬وهذا نقص كبري يف مدارسنا وبيوتنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫طبعائهم‪،‬‬
‫يجب أن يتنبّه إليه اآلباء واملعلِّمون‪ .‬ور َّبما‪ -‬سبَّب ذلك نفرة الناس‪،‬‬
‫نتوخاها من الشباب الذين يهجرون‬ ‫ّ‬ ‫وأضاع كثريا ً من الفوائد التي‬
‫ديارهم لتحصيل العلم‪.‬‬

‫إن من نرسلهم إىل الغرب‪ ،‬ال نرسلهم الكتساب أخالق ال تتَّفق مع‬
‫عاداتنا الرشقية‪ ،‬وأخالقنا امللّية‪ ،‬وإ ّنما نبعث بهم للعلم املج ّرد واكتساب‬
‫ما ينفعنا يف حياتنا الدنيا‪ ،‬ال غري‪ .‬ألن ما لدينا من األخالق العالية‪،‬‬
‫ري لنا وأنفع لبيئتنا‪ ،‬ويجب أن نحتفظ به ّ‬
‫كل‬ ‫والعادات الرشيفة‪ ،‬هو خ ٌ‬
‫بكل قوانا‪ ،‬ألن األُمة التي ال تحافظ عىل‬
‫االحتفاظ‪ ،‬ونذود عن حياضه ّ‬
‫ني من الدهر حتى‬ ‫عاداتها‪ ،‬وال تدافع عن أخالقها‪ ،‬ال يميض عليها ح ً‬

‫‪93‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫تكون كأمس الدابر‪:‬‬

‫فإن هم ذهبت أخالقهم ذهبوا‬ ‫ُ‬


‫األخالق مابقيت‬ ‫وإ ّنما األمم‬

‫وليس ذهابهم واندثارهم هو محو مجموعهم املحسوس من لوح‬


‫الوجود‪ ،‬وإنما هو اندماجهم يف األُمة التي يتخلَّقون بأخالقها‪،‬‬
‫ويستعيدون عاداتها‪.‬‬

‫فذهابهم هو ذهاب قوميَّتهم بذهاب أخالقهم‪ ،‬واندثار لغتهم‪ ،‬كما‬


‫حصل لكثري من األمم التي داست عاداتها وأخالقها‪ ،‬وتط َّورت بأطوار‬
‫األمم املجاورة لها‪ ،‬والتي تل َّقت العلم عنها‪ ،‬أو تزلَّفت إليها‪ .‬وماذلك ّإل‬
‫قوي لنهوض‬‫لضعف األخالق فيها‪ ،‬أو ملرض اإلرادة التي هي سبب ّ‬
‫األمم‪.‬‬

‫فإذا أراد الشبّان الراحلون إىل أوروبا أن يمحوا أ ُ ّمتهم‪ ،‬ويضيِّعوا‬


‫قوميَّتهم‪ ،‬فليكونوا كما يفعل البعض منهم‪ ،‬وال نخالهم فاعلني ذلك‪.‬‬
‫وإذا أحبّوا أن يحفظوا أ ُ ّمتهم‪ ،‬و ُيبقوا قوميَّتهم‪ ،‬فليذودوا عن أخالقها‪،‬‬
‫وليدرأُوا عن عاداتها‪ ،‬وال نظنّهم ّإل فاعلني‪ ،‬إن شا َء الله‪.‬‬

‫إ ّنا نشاهد األجانب الذين يأتون بالدنا سائحني أو مستوطنني‪ ،‬محافظني‬


‫كل املحافظة عىل عاداتهم وأخالقهم‪ ،‬مفتخرين باملحافظة عليها‪ .‬ولذلك‬‫ّ‬
‫نراهم‪ -‬مهما قطنوا بالدنا‪ -‬أُويل حِ فاظ شديد عىل ما تر ّبوا عليه‪ .‬بل‬
‫بكل قواهم‪ ،‬عىل نرش مبادئهم وأخالقهم بني أهل بالدنا‪.‬‬ ‫نراهم عاملني‪ّ ،‬‬

‫نحن النطلب‪ ،‬اآلن‪ ،‬من شبابنا أن ينرشوا عاداتنا وأخالقنا بني القوم‬
‫الذين يتل َّقون عنهم العلم‪ ،‬بل غاية ما نطلبه منهم أن يظلّوا محافظني‬
‫‪94‬‬
‫عىل أخالق قومهم‪ ،‬وأن يرجعوا إليهم كما ذهبوا‪ ،‬حتى يمكنهم االختالط‬
‫كل الرشط‪،‬‬‫وبث املبادئ العالية والعلم الصحيح فيهم‪ .‬والرشط‪ُّ ،‬‬‫بهم‪ُّ ،‬‬
‫أن ال يروا أنفسهم أرفع من قومهم؛ بحيث يحتقرونهم‪ ،‬فإن ذلك ال‬
‫ُينتِج ّإل التنافر‪ ،‬وهو يضيِّع الفائدة املبتغاة من ذهابهم إىل الديار‬
‫األجنبية لتل ّقي العلوم‪.‬‬

‫‪...‬‬

‫أحب أن أفاوضهم بحديث هو‪ ،‬من األه ّميّة‪ ،‬باملكان الذي يستح َّقه‬ ‫وهنا ّ‬
‫أن بعض من أتكلَّم عنهم يرجعون وقد علق يف‬ ‫ّ‬
‫كل أم ٍر مه ّم‪ ،‬وهو َّ‬
‫نفوسهم يشء م ّما يتعلّق باألديان‪ ،‬فرتاهم يتكلَّمون غري مبالني بما ينجم‬
‫رش‪ .‬وأنا اعتقد أن كالمهم ليس عن إلحاد‪ ،‬إ ّنما‬ ‫عن ذلك من قرون ال ّ‬
‫هو عن ُشبَ ٍه يودُّون إزالتها‪ ،‬قد َّأثرت يف أذهانهم بسبب ما يسمعونه‬
‫مختصا ً بالراحلني إىل الغرب‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫من املالحدة أعداء األديان‪ .‬وهذا ليس‬
‫هو شامل بعض من يس ّمون أنفسهم متن ِّورين‪ .‬فعىل هؤالء أن يدرسوا‬
‫أرسار الدين وحكمه‪ ،‬ويتل ّقوه عن أهله العارفني بتاريخه وفلسفته‪ ،‬وإن‬
‫الشبَه‪ ،‬فعليهم أن يسألوا أهل الذكر واألفاضل‪،‬‬ ‫م َّر بخاطرهم يشء من ُّ‬
‫ص ُغرت عقولهم‪ ،‬وضؤلت نفوسهم‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ال أن يتشدَّقوا بذلك أمام َم ْن َ‬
‫ُ‬
‫ومجلبة التخاذل‪.‬‬ ‫ذلك مدعا ُة التنافر‬

‫إن أرادت نابتة األ ّمة أن تنهض وتسري بقومها يف السبيل القويمة‪،‬‬
‫فعليها أن تحافظ عىل األخالق والعادات التي تع َّودناها‪ ،‬وأن تكون‬
‫رقي للرشق ّإل بالعلم واألخالق التي تناسبه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫متد ِّينة صالحة‪ ،‬فال‬
‫خصوصا ً بالدين الذي ِّ‬
‫يهذب األخالق‪ ،‬ويطهّر األعراق‪ .‬فإىل العلم‬

‫‪95‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫واألخالق والدين‪ ،‬أ َّيتها النابتة الكريمة‪.‬‬

‫أنا ال أعتقد‪ -‬كما يعتقد الكثري‪ -‬بأن هذا القسم من النشء سيِّئ االعتقاد‪،‬‬
‫يحب إهانة الدين‪ .‬وإ َّنما أعتقد أنه ذو‬‫ُّ‬ ‫أو ال اعتقاد له بامل ّرة‪ ،‬أو أنه‬
‫بعض ما ال دخل‬ ‫َ‬ ‫اعتقاد صحيح‪ ،‬وغري ٍة عىل الدين عظيمة‪ ،‬لكنه منتقد‬
‫َّ‬
‫يتهكم‬ ‫له يف الدين‪ ،‬وليس من أصوله وال من صحيح فروعه؛ أعني أنه‬
‫عىل ما أحدثه املبتدعة من الخرافات والبدع‪ ،‬وقالوا‪« :‬هذا من عند الله»‬
‫ليشرتوا به ثمنا ً قليالً؛ أال سا َء ما يعملون‪ .‬فإذا سمعه العا ّمة يظنّون أنه‬
‫يطعن يف الدين‪ ،‬وما طع ُنه َّإل يف الزوائد التي ليست من الدين يف يشء‪،‬‬
‫بل هي م ّما يجب عىل مصلحي العلماء أن يسعوا ورا َء إزالته ومحوه‪،‬‬
‫كل شائبة‪ ،‬نقيَّا ً من جميع األدران‪.‬‬
‫حتى يبقى الدين خالصا ً من ّ‬

‫شك يف أن اللهجة التي يستعملونها يف انتقاد البدع‬ ‫نعم‪ ،‬ليس عندي ّ‬


‫الشك من حال املنتقد‪ .‬فلو‬ ‫ّ‬ ‫شديدة‪ ،‬تن ّفر السامع‪ ،‬و َتدَعُ يف نفسه‬
‫استعملوا الت ُؤدة يف إظهار الحقيقة‪ ،‬وتر َّو ْوا يف االنتقاد‪ ،‬واستشهدوا عىل‬
‫ُمدَّعاهم بما ورد يف الكتاب والسنّة الصحيحة‪ ،‬ألذعن الخصم إذعاناً‪،‬‬
‫ً‬
‫شبهة وال خاطرة تم ُّر‬ ‫وبهذه الوسيلة ال يرتكون يف نفس املنت َقد عليه‬
‫التعصب الذي يحمله عىل سوء الظ ّن بمن يجادله‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫يف ذهنه فتثري فيه‬

‫ور َّبما تهاون بعض النابتة ببعض الفروض الدينية‪ ،‬ال عن كف ٍر وال‬
‫إلحاد‪ ،‬وإ ّنما الداعي إىل ذلك الكسل‪ ،‬فريميهم بعض الجهلة باإللحاد‪،‬‬
‫ويصمهم باملروق من الدين‪ .‬ومن الغريب أن كثريا ً من هؤالء الذين‬
‫ينسبون إىل غريهم الكفر لتهاونهم يف بعض األعمال‪ ،‬هم أنفسهم‬
‫متهاونون بها‪ ،‬أو بأعظم منها‪ ،‬فلو لم يتهاون بعض النش ِء ببعض‬
‫‪96‬‬
‫األعمال الدينية‪ ،‬بل ثابروا عىل أدائها وواظبوا عىل اإلتيان بها‪ ،‬لقطعوا‬
‫بذلك ألسنة الخ ّراصني الذين يقولون إنهم كفار أو ملحدون؛ من ج ّراء‬
‫ترك بعض الفروض‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬ر َّبما ُو ِجد أفراد ال ُيعبَأ ُ بهم‪ ،‬قد فسدت عقيدتهم‪ ،‬فهم يهرفون‬
‫بما ال يعرفون‪ ،‬ويتط َّوحون بالكالم الفارغ الذي ال يفيد ّإل النفور‪ ،‬وال‬
‫يجدي غري تف ُّرق الكلمة‪ .‬ولو سألت هؤالء أن يبيِّنوا لك موضعا ً واحدا ً‬
‫من النَّ ْقد‪ ،‬ملا استطاعوا إىل ذلك سبيالً‪ ،‬ألنهم مقلِّدون لم يدرسوا من‬
‫أصول الدين وال فروعه شيئاً‪ ،‬وإنما قرأوا يف بعض كتب امللحدين من‬
‫األوروبيِّني‪ ،‬و َم ْن نحا نحوهم‪ ،‬فعلقت يف نفوسهم ُشبَ ٌه م ّما قرأوه‪ ،‬ألنها‬
‫أن هؤالء درسوا‬ ‫أتتهم وقد ألْ َفت يف قلوبهم متَّسعاً‪ ،‬فرضبت أطنابها‪ .‬فلو َّ‬
‫الشبَه واالعرتاضات‪،‬‬ ‫من الدين ما يكفيهم مؤونة ما ير ُّد عليهم من ُّ‬
‫ألحسنوا صنعاً‪.‬‬

‫إن هؤالء املقلِّدين هم أعدا ُء العلم‪ ،‬أعدا ُء ترقية األ ّمة‪ ،‬وإن كانوا يزعمون‬
‫أنهم من أنصار املعارف‪ .‬و‪ -‬ر َّبما‪ -‬عجبوا من هذه النسبة إليهم‪ ،‬ألنهم‬
‫تملَّصوا من الدين ألجل العلم‪ ،‬بزعمهم‪ .‬فأقول لهم‪ :‬ال تعجبوا‪ ،‬ومتى‬
‫ظهر السبب َب ُط َل العجب‪ .‬إنكم‪ ،‬بإظهار فساد عقيدتكم‪ ،‬وتظاهركم‬
‫أن الذي‬ ‫بما ينايف الدين‪ ،‬تن ِّفرون الناس منكم ومن العلم‪ .‬ألنهم يظنون َّ‬
‫صح بذلك كثري من الناس‪ .‬ومتى رسخت هذه‬ ‫أفسدكم هو العلم‪ ،‬كما َ َّ‬
‫العقيدة يف النفوس كانت حائالً عظيما ً دون إرسال القوم أوالدهم إىل‬
‫يفضلون أن يبقى أوالدهم ناقيص العلم‪ ،‬عىل أن‬ ‫املدارس العالية‪ ،‬ألنهم ِّ‬
‫يكونوا ناقيص الدين‪ .‬وهذه جناية كبرية عىل العلم والدين‪ ،‬سببها ته ُّور‬
‫البعض‪ ،‬وتظاهرهم بعدم الدين‪ ،‬تقليدا ً مللْحِ دي أوروبا‪ ،‬ليقال إنه غري‬

‫‪97‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫مقيَّد‪ ،‬وما هو ّإل مقلِّد مقيَّد‪ ،‬يقول ما ال يعلم‪ ،‬ويدين بما ال يقوم عليه‬
‫برهان صحيح‪ ،‬وال دليل رجيح‪.‬‬

‫أنا أعرف رجالً متد ِّينا ً من َّور الفكر‪ ،‬له ثالثة أوالد‪ ،‬قد قذف بهم إىل‬
‫املدارس العالية‪ ،‬وهو يتكبَّد مرصفات عظيمة‪ ،‬فضالً عن تح ُّمله آالم‬
‫يرتجح عندي أن ال أُرسلهم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫البعد عنهم‪ .‬وقد سمعته‪ ،‬منذ مدّة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫بعد اآلن‪ ،‬إىل املدارس‪ ،‬بل سأرمي بهم إىل املزارع‪ .‬فسألته عن السبب‪،‬‬
‫متمسكني بعقائدهم‪ ،‬من أن يكونوا‬ ‫ِّ‬ ‫فقال‪ :‬خري يل أن يبقوا متد ِّينني‬
‫فالسفة علماء‪ ،‬وليسوا عىل يشء من الدين‪ ،‬كما نشاهد بعض املتعلّمني‬
‫كذلك‪ .‬فقلت له‪ :‬يا هذا! ليس العلم هو الذي يقلّل التد ُّين‪ ،‬بل هو م ّما‬
‫ُيعني املتد ِّين‪ ،‬ويكون له سالحا ً يحارب به اإللحاد‪ .‬وإ ُّنما الذنب عىل‬
‫اآلباء الذين ال ير ُّبون أوالدهم تربية دينية راقية‪ ،‬بل يرسلونهم إىل‬
‫آمن من أوالدك فال خوف عليهم‪ ،‬وال‬ ‫املدارس العالية قبل ذلك‪ ،‬وإني ٌ‬
‫بأس‪.‬‬

‫إن عمل هؤالء املتط ِّوحني‪ ،‬وانتهاكهم حرمة الدين‪ ،‬سيكونان‪ -‬إن لم‬
‫يتنبَّهوا‪ -‬وسيلة ملنع الناس أبناءَهم من التعليم العايل‪ ،‬ورضبة قاضية‬
‫فهل أدركوا مقدار الرضر الناجم عن ته ُّورهم!‬ ‫عىل العلم واأل ّمة معاً‪ّ .‬‬
‫وهَالّ عرفوا إىل أ َ ّية هاوية هم سائرون بأنفسهم وبأ ُ َّمتهم!‪.‬‬

‫رس‪ .‬فإن تع َّقلوا وأَنابوا‪،‬‬


‫إن مثل ه ُؤالء املفسدين يجب أن ُينبَّهوا إىل هذا ال ّ‬
‫َفبِها‪ ،‬ون ِع َّمتْ ‪ .‬واألوجب عىل األ ّمة‪ -‬خصوصا ً الفئة املتعلّمة منها‪ -‬أن‬
‫نبذ النواة؛ ألنهم أعدا ُء العلم‪ ،‬أعدا ُء الرت ّقي‪ ،‬بسبب ما يعملونه‬ ‫ينبذوهم َ‬
‫من األعمال التي تن ّفر األ ّمة من العلم‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫هذه كلمات وجيزة‪ ،‬أُرسلها إىل البعض من النش ِء الجديد املتشدّقني‪،‬‬
‫ومذكرا ً لقوم يعقلون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لعلها تكون واعظا ً‬

‫‪99‬‬
‫االنتقاد ومشارب املنت ِقدين‬

‫كل عاقل يربأ بنفسه أن ير َد موارد األوهام‪،‬‬‫السعي وراء الحقائق دأب ّ‬


‫والظنون‪ ،‬وشنشنة املرء الذي ال يهمه ّإل التنقيب ع ّما هو حقيقة راهنة‬
‫ال تقبل اإليهام‪ .‬فمعرفة الحقيقة واستطالع ش ُؤونها غاية ما يتطلَّبه‬
‫العقالء‪ ،‬ومنتهى ما يسعى ألجله األدباء‪.‬‬

‫أن ال حقيقة يف الوجود‪ .‬وهذا قول صادر ع َّمن ال رو ّية‬ ‫وقد زعم قوم ْ‬
‫الصحة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نفي الحقيقة‪ .‬وقد يكون له وجه من‬ ‫صد به ُ‬ ‫له‪ ،‬وال تع ُّقل‪ْ ،‬‬
‫إن ُق ِ‬
‫إن أراد بذلك أ َ َّن الحقيقة مستورة مقدَّمة بأباطيل املبطلني‪ ،‬وأستار‬
‫الحق أبلج‪ ،‬غري أنهم يعدلون عن الجهر به‬ ‫َّ‬ ‫املم ّوهني‪ ،‬الذين يرون‬
‫كخوف من مستبدِّ‪ ،‬أو خج ٍل من اإلقرار بالخطأ‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬‫ٍ‬ ‫ألعراض لهم‪:‬‬
‫ٍ‬
‫فإن كان املدَّعي من هذا القسم‪ ،‬فهو م َّمن يمكن إقناعهم وإرجاعهم إىل‬
‫الحق بالرباهني واألدلّة التي ال تقبل الردّ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوجه‬

‫ومتى َث ُبتَ أ َ َّن يف الوجود حقيقة راهنة‪ ،‬فالب َّد من السعي وراءها‪ ،‬وذلك‬
‫دأب من تح َّركت يف جسم ِه عاطفة األدب‪ ،‬وجرى يف جثمانه د ُم النبل‪.‬‬
‫غري أَن معرفة هذه الحقيقة صعبة عىل من لم يحلب الدهر أشطره‪،‬‬
‫ألن تحصيل هذه املعرفة يتو َّقف عىل إذكاء نار‬‫ويعرف حل َوه وم َّره‪َّ ،‬‬
‫الجدّ‪ ،‬وإيقاد جذوة الطلب واالجتهاد‪ ،‬واملباحثة واملذاكرة‪ ،‬والر ّد‬

‫‪101‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫واالعرتاض‪ ،‬واملناقشة واالنتقاد‪.‬‬

‫عرف فائد َة ذلك العقالء‪ ،‬فدرجوا عليه‪ ،‬وتح ّققوا فوائده‪ ،‬فا َّتخذوه‬
‫أساسا ً ألعمالهم‪ ،‬ورائدا ً لهم يف أمورهم‪ .‬ح ِّو ْل نظرك إىل تاريخ من ت َّقدم‬
‫تغص باألدباء‪ ،‬وتموج‬ ‫ّ‬ ‫من َسلَف العلماء‪ ،‬فرتى أن مجالسهم كانت‬
‫ّ‬
‫الكل‬ ‫بأمواج العلماء‪ :‬هذا يفيد‪ ،‬وذاك يعرتض‪ ،‬واآلخر ينتقد‪ .‬ووجهة‬
‫الحق‪ ،‬وإظهار الصحيح من قواعد العلم‪ -‬الله ّم‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫واحدة‪ ،‬وهي نرصة‬
‫ّإل ما ش َّذ عن ذلك‪ ،‬وهم قليل‪ ،‬ال ُيعبَأ بهم‪ ،‬وال ُيلت َفت إليهم‪.‬‬

‫ويوسع نطاق العقول‪ ،‬ويربز‬‫ِّ‬ ‫يمحص الحقائق‪ ،‬و ُيثري األذهان‪،‬‬


‫االنتقاد ّ‬
‫ّ‬
‫تتجل للرائني‬ ‫الحقيقة من خفايا الوجود بأبهى ُحلَلها وأجمل برودها‪،‬‬
‫كالغزالة عند الطلوع‪ ،‬فتعشو‪ ،‬عند ذلك‪ ،‬عيون املكابرين‪ ،‬فريت ّد برصهم‬
‫خاسئا ً وهو حسري‪.‬‬

‫ليس يشء كاالنتقاد ُمظ ِهرا ً للعيوب كي ُتجتَنَب‪ ،‬ومبيّنا ً للخطأ ل ُيصلَح‪،‬‬
‫ومميِّزا ً للصواب من الخطل «فأ َّما الزبد فيذهب ُجفاءً‪ ،‬وأ ّما ما ينفع‬
‫الناس فيمكث يف األرض»‪.‬‬

‫ليس من أ ُ ّم ٍة َح َّطت عنها أعبا َء الكسل‪ ،‬ورمت بإهمالها إىل أقىص مكان‪،‬‬
‫ّإل كان االنتقاد هو الداعي األكرب‪ ،‬والسبب األقوى يف تقدُّمها؛ ولذلك‬
‫أن مقدار ارتقائها إىل أوج السعادة يف املعرفة واملدنيّة‪ ،‬بكثرة‬ ‫نرى َّ‬
‫عدد املنتقدين فيها‪ ،‬واقتدا ِرهم عىل معرفة مواضع النقد ليظهروها‪،‬‬
‫وحذِقهم يف مجال العلّة فيخرجوها‪ .‬وما املنتقدون َّإل كاألطبّاء؛ يرون‬
‫صفون لها من‬ ‫العلل وأسبابها‪ ،‬فيعملون عىل تطهري البدن منها‪ ،‬و َي ِ‬
‫العالجات واألدوية ما يكون عامالً عىل إخراجها‪ ،‬وإراحةالجسم من‬
‫‪102‬‬
‫أذاها‪ .‬هذا إذا كان الطبيب نطاسيا ً حاذقاً‪ ،‬يقيس األشباه باألشباه‪،‬‬
‫وإل فيكون‬‫والنظائر بالنظائر‪ ،‬وليس فه ُم ُه قارصا ً عىل ما درسه‪ّ ،‬‬
‫رضره أكرب‪ ،‬وخطبه أعظم‪.‬‬

‫وكذا املنتقد‪ ،‬يجب أن يكون ذكيّا ً عاملا ً بمكان العلّة والزمان الذي ال‬
‫تخرج ّإل فيه‪ ،‬حكيما ً بكيفية وصف الدواء وطريقة االنتقاد‪ ،‬يخاطب‬
‫كل إنسان عىل مقدار عقله‪ ،‬وبحسب ما عنده من االستعداد‪ .‬فال يط ِّوح‬ ‫ّ‬
‫نص َب نفسه منتقداً‪ .‬وال‬
‫بلسانه أو قلمه إىل غري الغاية التي من أجلها َّ‬
‫وح ِرم‬ ‫يك ْن بذيء اللسان مته ّور الفلم‪ .‬فإن فعل ذلك فقد َّ‬
‫ضل الغاية‪ُ ،‬‬
‫ثمار النتيجة‪ .‬وأ َ ْوىل له‪ ،‬حينئذ‪ ،‬أن ينتقد نفسه‪ ،‬ويحملها عىل سلوك‬
‫طريق األدب‪.‬‬

‫كل إنسان يروم أن يكون كالمه فصيحاً‪ ،‬ورأيه صحيحاً‪ .‬لكن‪ ،‬من أين‬ ‫ّ‬
‫له أن يتح َّقق ذلك من نفسه قبل أن يحكم به جمهور العقالء‪ ،‬مع‬
‫التج ُّرد عن الغايات السيِّئة؟ ل َع ْمري‪ ،‬ال يمكنه ذلك؛ َّ‬
‫ألن العقل اإلنساني‬
‫َّ‬
‫يستقل بمعرفة كثري من األمور؛ فال‬ ‫كثري الخطأ وافر الخطل‪ ،‬ال يقدر أن‬
‫صحة رأُيه من فساده ّإل بعد أن ينتصب فريق املنتقدين‪،‬‬ ‫يعرف املر ُء ّ‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬وبذلك‬ ‫ولفيف املرشدين‪ ،‬فيهدوه للصواب‪ ،‬ويرشدوه للمهيع‬
‫ُتقال عثراته‪ ،‬وينجو من الزلل‪.‬‬

‫لوال االنتقاد لَما بعث الله األنبياء‪ ،‬وعلَّم العلماء‪ ،‬وأَمر الناس با ِّتباعهم‪،‬‬
‫واالستماع لنصائحهم؛ إذ الغاية من إرسال الرسل انتقا ُد العادات‬
‫واألخالق‪ ،‬لريجع الناس ع َّما ألفِوه من الباطل‪ ،‬وا َّتبعوه من العقائد‬
‫الفاسدة‪ ،‬واألخالق الكاسدة‪ ،‬وبذلك تصلح حالهم‪ ،‬وتستقيم سبيلهم‪،‬‬

‫‪103‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫فيكونون سعداء الدا َر ْين‪.‬‬

‫األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬اللذان أ ُ ِم ْرنا بالعمل بهما‪ ،‬عىل لسان‬
‫ألن النهي عن‬ ‫األنبياء‪ ،‬هما فرعان عن االنتقاد‪ ،‬أو هما االنتقاد عينه‪َّ .‬‬
‫املنكر يجوز أن يعترب به عموم اللفظ‪ ،‬فيصحّ حينئذ‪ ،‬أن ُيراد ما كان‬
‫منكرا ً يف الدين‪ ،‬وما كان منكرا ً يف رشيعة العلم‪ ،‬فإن رأينا أحدا ً يفعل‬
‫رشا ً نهيناه عنه‪ ،‬وأمرناه بضدِّه‪ .‬وكذا لو رأينا أحدا ً يق ّرر مسألة يف‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫صحتها‪ ،‬ونهيناه عن االعتقاد بها خطالً‪.‬‬ ‫العلم خطأ‪ ،‬علَّمناه ّ‬

‫مشارب املنت ِقدين‬

‫مشارب املنتقِدين شتّى‪ ،‬تختلف باختالف أخالقهم‪ ،‬وتبا ُين أذواقهم‪،‬‬


‫وقد قيل‪ :‬اللسان ترجمان القلب‪ ،‬والقلم أحد اللسانني‪ .‬ف ُيستَ ّ‬
‫دل عىل‬
‫طيب أخالق املنتقد‪ ،‬ولطافة طبعه‪ ،‬وحسن قصده‪ ،‬بما يربزه عىل لسانه‬
‫أو قلمه من األلفاظ والجمل‪ ،‬والعكس بالعكس‪.‬‬

‫رسع يف االنتقاد َّإل بعد أن‬‫فمنهم من يستعمل الت ُؤدة والتأ ّني‪ ،‬وال يت َّ‬
‫ويفكر فيما قاله تفكرياً‪ ،‬ثم‪ ،‬بعد ذلك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َي ْخ َب املنت َقد عليه خرب ًة تا ّمة‪،‬‬
‫يرشع يف نق ِد قوله أو فعله‪ ،‬متسلّحا ً باألدب التا ّم‪ ،‬واللطافة يف التعبري‪،‬‬
‫بقوي الربهان ومتانة‬
‫ّ‬ ‫عادال ً عن األلفاظ التي تن ِّفر املنت َقد عليه‪ ،‬ويقارعه‬
‫الحق‪ ،‬وتبيان الصحيح من الفاسد‪ ،‬ليس‬ ‫ّ‬ ‫الحجة؛ وغايته من ذلك إظها ُر‬ ‫ّ‬
‫فضح ُه بني الناس‬
‫َ‬ ‫ّإل‪ ،‬فال َيقص ُد من املجادلة تسفيه رأي املناظر‪ ،‬وال‬
‫بإظهار جهله وعيوبه‪َّ ،‬‬
‫الن ذلك م ّما ح َّرمه الرشع والعقل‪ .‬فمن نحا هذا‬
‫‪104‬‬
‫أناني متعجرف‪ ،‬يجب أن ُيط َرح يف زوايا‬ ‫ّ‬ ‫املنحى من الجدال فهو رجل‬
‫ّ‬
‫الحق‬ ‫َ‬ ‫اإلهمال‪ ،‬وأن ال ُي َ‬
‫نظر إليه ّإل بعني االحتقار واالزدراء‪ ،‬ألنه ا َّتخذ‬
‫َّ‬
‫الحق لذاته‪ ،‬بل‬ ‫ذريعة للتش ّفي من الناس وفضيحتهم‪ .‬فهو لم يطلب‬
‫ألغراضه السافلة‪ .‬فهو يجادل عن ح ٍق‪ ،‬لكنه أراد به باطالً‪ .‬ومن نحا‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬ال له ًوى يف النفس‪،‬‬ ‫غري هذا النحو‪ ،‬متَّخذا ً االنتقاد ذريعة إلحقاق‬
‫فبشه باقتناع الخصم وخضوعه لديه؛ وبذلك تت ّم الفائدة املرغوبة‪،‬‬ ‫ِّ ْ‬
‫وتحصل النتيجة املطلوبة‪.‬‬

‫ومن املنتقدين َم ْن إذا رأى هفو ًة من أحد‪ ،‬أرغى وأزبد‪ ،‬وت َّ‬
‫رسع يف النَّ ْقد‪،‬‬
‫وسلَق الخصم بألسن ٍة حِ داد‪ ،‬ورماه بصخو ٍر من الحدّة شِ داد‪ ،‬سالحه‬
‫بذاءة اللسان‪ ،‬وحدّة القلم‪ ،‬وغري ذلك من الوسائل التي تضيع معها‬
‫الحقيقة‪ ،‬وتجعل املنت َقد عليه ال يق ّر بالخطأ‪ ،‬وإن كان مخطئاً‪ .‬وكثري‬
‫الحق‪ ،‬بل إبداء عيوب الخلق‪ ،‬واإلبانة عن‬ ‫ّ‬ ‫من هؤالء ليس قصدهم إظهار‬
‫يخطئون‬ ‫ِّ‬ ‫أن جمهور هذه الفئة‪ ،‬كثريا ً ما‬‫جهلهم وتسفيه آرائهم‪ .‬عىل َّ‬
‫فيظن‬‫املصيب‪ ،‬ويص ِّوبون رأي املخطئ‪ ،‬وذلك لعارض يعرض ألحدهم‪ُّ ،‬‬
‫كل ما قام بذهنه هو الصواب‪،‬‬ ‫يف نفسه النباهة والرئاسة والحكمة‪ ،‬وأن ّ‬
‫وسلَبه‬ ‫فإن رأى شيئا ً من غريه قام وقعد‪ ،‬وس َّفه رأيه‪ ،‬وأنكر عقله‪َ ،‬‬
‫ووص َفه بالجهل والزندقة‬ ‫َ‬ ‫ما أُوتيَه من علم ومعرفة‪ ،‬وتقوى وفضيلة‪،‬‬
‫واملروق من الدين‪ ،‬إن كان الجدال يف أمر ديني‪ ،‬وإن كان يف مسألة‬
‫علمية رماه بنبال الغباوة‪ ،‬ونقص العقل‪ ،‬وقلّة االختبار‪ ،‬والتج ُّر ِد من‬
‫كل فضيلة‪.‬‬‫العلم‪ ،‬بل من ّ‬

‫أن البعض‪ ،‬م َّمن هذا شأنه‪ ،‬قد تكون غريته عىل العلم‬ ‫عىل أني ال أُنكر َّ‬
‫أو الدين هي التي تدعوه إىل ذلك‪ .‬لكن‪ ،‬يجب عليه أن يتكلَّف التأ ّني‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫وحفظ القلم أو اللسان من أن يسبحا يف بحور الشطط‪ ،‬ويتيها يف‬


‫ألن ذلك مضيع للفائدة‪،‬‬ ‫بيداء البذاءَة والسفاهة والوقيعة يف الناس‪ّ ،‬‬
‫عقيم النتيجة‪ ،‬بل كثريا ً ما يكون املنتق ُد هو املخطئ‪ ،‬واملنت َق ُد عليه هو‬
‫بخ َّف ْي ُحنَني‪ ،‬والخجل قد عال‬
‫رسع املنتقد وته ُّوره يرجعانه ُ‬ ‫املصيب‪ .‬فت ُّ‬
‫منه الوجنتَ ْي‪ ،‬فتنظر إليه الناس ش ْزراً‪ ،‬وترمق ُه احتقاراً‪ .‬فإن تأ ّنى‬
‫ني خطؤه‪ ،‬فهو‪ -‬وإن خجل من نفسه‪-‬‬ ‫َّ‬
‫وتلطف يف االنتقاد‪ ،‬ثم تب َ‬ ‫املنتقدُ‪،‬‬
‫مرموق عند الناس بنظر التعظيم‪ ،‬ألن غايته حسنة‪ ،‬وقصده نبيل‪ ،‬شأن‬
‫ّ‬
‫كل أديب مه َّذب‪.‬‬

‫الحق متى و ُ‬
‫َضح‬ ‫ّ‬ ‫ا ِّتباع‬

‫الحق‪ ،‬وظهرت آياته‪ ،‬وجب عىل املنصف أن يتَّبعه ويق َّر‬ ‫َّ‬ ‫ضح‬ ‫متى َو ُ‬
‫أحق أن ُيتَّبع‪ .‬وقد ورد‬
‫الحق ّ‬ ‫ّ‬ ‫بخطئه‪ ،‬أ ّيا ً كان املناظِ ر أو املنتقِد‪ ،‬ألن‬
‫أي وعاء خرجت»‪ .‬وطاملا أن‬ ‫يرضك من ّ‬‫ُّ‬ ‫يف الحديث‪« :‬خذ الحكمة‪ ،‬وال‬
‫ُ‬
‫وإبطال ما عداه‪ ،‬فيجب‬ ‫ّ‬
‫الحق‬ ‫ُ‬
‫إحقاق‬ ‫القصد من املناظرة أو االنتقاد هو‬
‫عىل كال الطرفني أن ُيذعن له متى بدا باألدلّة التي ال تقبل الريب‪ .‬وال‬
‫الن‬‫ني له وإظها ُر عيوبه‪َّ ،‬‬
‫للحق فيه ش ٌ‬‫ّ‬ ‫نفسه َّ‬
‫بأن قبوله‬ ‫َ‬
‫اإلنسان ُ‬ ‫تحدّثِ‬
‫بالحق هو عني الصواب‪ ،‬وفخ ٌر ملن كان له عقل‪ ،‬ونحا منحى‬ ‫ّ‬ ‫اإلقرار‬
‫أويل الفضل الصحيح‪ .‬قال عمر بن الخطاب (ريض الله عنه)‪« :‬إذا ُسئل‬
‫أحدُكم عن يشء ال يعلمه‪ ،‬فليقل‪ :‬ال أدري‪ .‬رحم الله ام َرأ اهدى إيلَّ‬
‫عيوبي»‪.‬‬

‫هذا‪َّ ،‬‬
‫وإن املعرتف بالخطأ تكون له املكانة السامية يف قلوب الناس‪،‬‬
‫‪106‬‬
‫ً‬
‫داللة رصيحة عىل أن ُه‬ ‫ألن اعرتافه بذلك ُّ‬
‫يدل‬ ‫ويجلّونه منتهى اإلجالل‪َّ ،‬‬
‫الحق الئماً‪ ،‬والعكس بالعكس‪ .‬قال اإلمام‬ ‫ّ‬ ‫رجل ح ٌّر صادق ال يخاف يف‬
‫والحجة عىل أحد ف َقبِلها منّي ّإل ِهبْته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫الحق‬ ‫الشافعي‪« :‬ما أوردتُ‬
‫الحجة ّإل سقط من‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬ودافع‬ ‫واعتقدت مودَّت ُه‪ .‬وال كا َب َرني أح ٌد عىل‬
‫عيني‪ ،‬ورفضته»‪.‬‬

‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬وهذه مشارب املنتقدين‪ ،‬فاخرت أ َّيها شئت‪،‬‬ ‫تلك فائدة االنتقاد‬
‫بعد ما بينَّا مزايا ّ‬
‫كل الفري ّقني‪.‬‬

‫خالصة رشوط االنتقاد‬

‫لالنتقاد رشوط وآداب‪ ،‬ينبغي للمنت ِق ِد مراعاتها والسري يف جادّتها‪.‬‬


‫كل منهما ما وجب عليه من‬ ‫وللمنت َق ِد عليه رشوط‪ ،‬كذلك‪ .‬فمتى راعى ّ‬
‫الحق‪ ،‬ووضح األمر‪ ،‬و َب ُط َل قول زي ٍد‬
‫ّ‬ ‫األصول التي يلزمه ا ِّتباعُها ظهر‬
‫كل منهما راتعا ً يف بحبوبة الصواب‪ ،‬آمنا ً من العثار يف‬ ‫وعم ٍرو‪ ،‬فكان ّ‬
‫عقبات األكدار‪ ،‬والنزوع إىل حسام العدواة واألحقاد‪.‬‬

‫وإ ّنا ذاكرون شيئا ً من تلك اآلداب والقواعد التي يجدر باملنت ِق ِد واملنت َق ِد‬
‫عليه أن يجعالها ُن ْ‬
‫ص َب أعينهما‪ ،‬وال ُيغفالها طرفة عني‪:‬‬

‫األ َّول‪ :‬مناظرك نظريك؛ فال يجوز احتقاره وال االزدراء برأيه‪ ،‬مهما كان‬
‫سافالً أو خطأً‪ ،‬بل يجب أن تالطفه وتجامله‪ ،‬إىل أن تفري‪ ،‬بربهانك‬
‫القاطع‪ ،‬رأس رأيه الفاسد‪ ،‬و ُتنري‪ ،‬بدليك الساطع‪ ،‬غياهب فكره املظلم‪.‬‬
‫إذ ليس املراد من االنتقاد َن ْق َد الشخص نفسه‪ ،‬أو إظهار أَنه فاسد‪ ،‬من‬

‫‪107‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬وإرشاد َم ْن‬ ‫ني الصواب وإظهار‬ ‫حيث إنه فاسد‪ ،‬وإ ّنما القصد تبي ُ‬
‫منصات الرشاد‪ .‬وإذا‬ ‫حاد بفكره عن منهج السداد‪ ،‬أو أسقطه رأيه عن َّ‬
‫والحط من كرامته‪ ،‬يحوالن دون‬ ‫ُّ‬ ‫كان الغرض كذلك‪ ،‬فاالزدراء باملناظر‪،‬‬
‫بالحق‪ ،‬أ ّيا ً كان‬
‫ّ‬ ‫الوصول إىل املطلوب‪ ،‬ويمنعان الخصم من االعرتاف‬
‫املحق‪ ،‬وقد ورد يف الحديث‪« :‬من أ َم َر بمعروف‪ ،‬فليكن أم ُر ُه بمعروف»؛‬ ‫ّ‬
‫ص َب نفسه لوعظ الناس وإرشادهم وانتقاد عاداتهم وأخالقهم‪،‬‬ ‫أي َم ْن َن َّ‬
‫فليستعمل الت َؤدة والتأ ّني واملعروف من القول؛ فال يته َّو ْر بلسانه أو‬
‫قلمه‪ ،‬بل يجعل الحكمة يف النصيحة ُن ْ‬
‫ص َب عينيه‪.‬‬

‫كل دعوى لم تكن مقرتنة بالدليل‪ ،‬فهي ساقطة عن درجة‬ ‫الثاني‪ّ :‬‬
‫االعتبار‪ ،‬فال تد َِّع دعوى قبل أن تقتل الربهان علماً‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬ال تستعمل الحدّة يف كالمك‪ ،‬إن كنت أديبا ً يف ألفاظك‪ ،‬فالحدّة ال‬
‫ُتنتج املقصود‪ ،‬بل ر َّبما أذهبت املطلوب‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬يقول علما ُء الجدل وآداب البحث واملناظرة‪« :‬إن كنت مدَّعيا ً‬
‫فالصحة»؛ أي إن كان كالمك دعوى من ِقبَل نفسك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فالدليل‪ ،‬أو ناقالً‬
‫فاجعل الربهان سياجا ً لها يمنع الداخل‪ ،‬ومجنّا ً يدفع نبال املناظر‬
‫وسيف املجادل‪ .‬وإن كنت ناقالً لكالمك عن كتاب‪ ،‬فأثبت ذلك النقل‪،‬‬
‫وصح ْح ما نقلت‪.‬‬
‫ّ‬

‫وتمسكا بأهدابها‪ ،‬وصل‬


‫َّ‬ ‫تلك أصول أربعة‪ ،‬إذا اعتصم بها املناظران‪،‬‬
‫ّ‬
‫الحق‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كل منهما إىل ما يريد من إظهار‬

‫هذا ما أردنا إيراده موجزا ً تمام اإليجاز‪ ،‬ألن املقام طويل األذيال واسع‬

‫‪108‬‬
‫األردان‪ ،‬فعىس أن نسري جميعا ً يف هذه السبيل‪ ،‬فنفوز بما نروم من‬
‫القصد‪ ،‬فالحقيقة بنت البحث‪ ،‬والله املو ِّفق للصواب‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫سعادة الحياة‬

‫الحياة ثروة للمرء‪ ،‬فإ ّما أن يحتفظ بها‪ ،‬وال يف ّرط فيها‪ ،‬وال يرصف منها‬
‫شيئا ً ّإل عند الحاجة‪ .‬وإ َّما أن يبذر ويجود بها ّ‬
‫ألقل سبب‪ ،‬سواء أكان‬
‫محمودا ً أم مذموماً‪ .‬ضارا ً أم نافعاً‪ ،‬جائزا ً أم محظوراً‪ .‬وبحسب احتفاظه‬
‫بثروته وادِّخارها إىل وقت الحاجة إليها تكون سعادته فيها واجتناء‬
‫الفوائد منها‪.‬‬

‫خلق الله اإلنسان‪ ،‬ووعده السعادة والخري‪ ،‬إن هو سار يف السنن التي‬
‫رش‪ ،‬إن هو حا َد عن طريق الهدى‪ ،‬ولم يتَّبع الطريق‬ ‫سنَّها‪ .‬وأَوعده ال ّ‬
‫السوي‪ ،‬وأَبان له األسباب وع َّرفه املسبِّبات‪ .‬وأوضح له أنه ُخلق للسعادة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأنه ال يسلبها عنه ما دام منتهجا ً سننها‪ ،‬معتصما ً بحبلها‪ .‬وتلك األسباب‬
‫لكل ذي عقل سليم‪ ،‬غري أن ا ِّتباع الهوى‪ ،‬وامليل‬‫التي ع َّرفه إ ّياها ظاهرة ّ‬
‫كل ذلك يرصف املرء عن‬ ‫الخاصة‪ّ -‬‬
‫ّ‬ ‫والسعي ورا َء املنفعة‬
‫َ‬ ‫إىل الشهوات‪،‬‬
‫النظر يف شؤون الحياة الحقيقية‪ ،‬ويصدف به عن امليل إىل ما فيه سعادة‬
‫حياته‪ ،‬وهناء معيشته‪.‬‬

‫بينا نرى أحد الناس ذا ثروة طائلة‪ ،‬وعيشة راضية‪ ،‬وقصور فخمة‪ ،‬وأثاثٍ‬
‫وحشم‪ ،‬وغري ذلك من وسائل الرفاه وأسباب النعيم‪ ،‬إذا‬ ‫َ‬ ‫ورياش‪ ،‬وخدم‬
‫هو أصبح فقريا ً ال يملك نقريا ً وال قطمرياً‪ ،‬فيخدم بعد أن كان مخدوماً‪،‬‬

‫‪111‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ويعمل للناس بعد أن كانوا يعملون له‪ .‬ولو بحثت عن أسباب فقره بعد‬
‫أن األسباب كلَّها ترجع‬ ‫الغنى‪ ،‬وبؤسه بعد النعيم‪ ،‬و ُذلّه بعد الع ّز‪ ،‬لرأَيت َّ‬
‫إىل يشء واحد‪ ،‬وهو العدول عن سنّة الله يف خلقه‪ ،‬وعدم ا ِّتباع املناهج‬
‫التي انتهجها‪ ،‬ليسلكها من أراد أن يكون سعيدا ً يف حياته‪.‬‬

‫صاحب الثروة والغنى‪ ،‬أ َمره الله أن ال يكون بخيالً شحيحاً‪ ،‬بحيث ال‬
‫مبذرا ً‬
‫ينتفع بجزء من ماله أولو الفاقة والفقر‪ ،‬كما أمره أن ال يكون ِّ‬
‫ُي ْذهِب األموال‪ ،‬ويجود بها ألم ٍر غري مرشوع‪ ،‬أو عم ٍل غري مربور‪ .‬بل أوجب‬
‫عليه أن يكون وسطا ً بني التبذير ُّ‬
‫والشحّ ؛ بحيث يرصف املال يف حاجة‪،‬‬
‫وراءَها نفع مرشوع له أو لغريه من عيال الله‪ .‬فإن خالف ذلك ألمر‪،‬‬
‫وطرق باب البخل‪ ،‬عاش يف الدنيا كئيبا ً كاسف البال متعبا ً ضيِّق الصدر‪.‬‬
‫وإن رصف أمواله ُجزافاً‪ ،‬فال يميض عليه زمن ّإل ويصبح صفر اليدين‪،‬‬
‫فارغ الصناديق‪ ،‬فيندم حيث ال ينفعه الندم‪ ،‬فهو‪ ،‬يف كلتا الحالتَ ْي‪،‬‬
‫ضل سعيهم يف الحياة‪ .‬أَما أن بقي محافظا ً‬ ‫من األخرسين أعماال ً الذين ّ‬
‫عىل سلوك الطريقة الوسطى‪ ،‬فهو سعيد يف حياته لعدم وجود ما يكدِّر‬
‫حرج عظيم‪ .‬فانحراف‬
‫ٍ‬ ‫صفوه من الوسائل التي تذهب بأمواله‪ ،‬وتدَعه يف‬
‫األ َ َّولَني عن النهج القويم أَذهب بسعادة حياتهما‪ ،‬واعتصام الثالث بحبل‬
‫الفضيلة وعدم امليل إىل طريف األمر أبقاه يف سعادة دائمة وعيش رغد‪.‬‬

‫هذا إذا نظرنا إىل جهة السعادة والشقاء‪ ،‬من حيث النعيم باملال وغريه‪،‬‬
‫صحة العقل والجسم‪ ،‬والسعادة باملنزل‬
‫ّ‬ ‫وإن نظرنا إليهما من حيث‬
‫واألهل واألصحاب أو عدم ذلك‪ ،‬نجد أن القاعدة العمرانية املتقدِّمة‪ ،‬وهي‬
‫تمشت مع سابقها‪:‬‬ ‫تتمش مع هذه األشياء كما َّ‬
‫ّ‬ ‫التوسط يف األمور‬
‫ُّ‬
‫‪112‬‬
‫نرى شخصا ً سليم العقل‪ ،‬صحيح الجسم‪ ،‬حميد الصفات‪ ،‬ال يم ُّر عليه‬
‫زمن حتى نراه شاحب اللون‪ ،‬ضئيل الجثمان‪ ،‬قليل الفهم‪ ،‬مذمو َم‬
‫الخصال‪ .‬فيعرتينا‪ ،‬عند ذلك‪ ،‬إجفال وحرية ودهشة‪ ،‬ولم نعلم لذلك سبباً‪.‬‬
‫أن إفراطه يف شهواته‪،‬‬ ‫ولو تأ َّملنا يف حالته‪ ،‬واختربناه صحيحاً‪ ،‬نرى َّ‬
‫وتفريطه يف جنب االعتماد عىل ما أ َم َره به الله‪ -‬سبحانه‪ -‬من الرت ُّفع‬
‫عن الدنايا‪ ،‬وعدم االنغماس يف حمأة الشهوات والرشور‪ ،‬وعدم مراعاة‬
‫كل ذلك كان سبب شحوبه‪ ،‬والتخليط يف عقله‪ ،‬و ُبع ِد ِه‬ ‫الصحة‪ّ -‬‬
‫ّ‬ ‫قوانني‬
‫عن اآلداب الصحيحة‪ ،‬واملزايا الحميدة‪ .‬فلو أن مثل هذا الرجل لم يح ْد عن‬
‫الحق‪ ،‬لعاش سعيدا ً يف جسمه‬ ‫ّ‬ ‫الرصاط املستقيم‪ ،‬ولم ينحرف عن جادّة‬
‫ِس عىل ذلك السعادة بأهله وأرسته وأصدقائه‪ .‬فإن‬ ‫وعقله وأخالقه‪ ،‬وق ْ‬
‫ا ِّتباعه للقواعد التي ُتع ِّرفه كيف يسري باألهل واألُرسة واألصدقاء والناس‬
‫أجمعني‪ ،‬تجعله سعيدا ً ما دام محافظا ً عليها‪ ،‬و ُتشفيه يف حياته‪ ،‬إن حاد‬
‫عنها‪.‬‬

‫يشكو كثري من الناس شقاء الحياة وبؤس العيش ولو عملوا بالواجب‬
‫السوي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أن ضاللهم عن النهج‬‫عليهم نحو الحياة لم يشكوا منها‪ ،‬غري َّ‬
‫وابتعادهم ع َّما فيه خريهم وسعادتهم‪ ،‬يسلكان بهم ُطر ُقا ً ُت ّ‬
‫ضل‪،‬‬
‫حظهم‪،‬‬ ‫ويحملنهم أثقاال ً تزهق األنفس‪ .‬فهم‪ ،‬لذلك‪ ،‬يندبون سوء َّ‬ ‫ّ‬
‫ويشكون من حياتهم‪ ،‬ولو أَنهم أقلعوا عن الهوى‪ ،‬وا َّتبعوا سبل الهدى‪،‬‬
‫فرموا بالشهوات واملنفعة الوهمية جانباً‪ ،‬ولم يعملوا ّإل بما يوافق سنن‬
‫الله واألسباب التي وضعها لعباده‪ ،‬لعاشوا عيشة راضية‪ .‬غري أن العادات‬
‫وتغش‬‫ّ‬ ‫تمكنت من املرء ُتعمي برصه‪،‬‬‫السافلة‪ ،‬واألخالق الدنيئة‪ ،‬متى َّ‬
‫السبب الوحيد لنجاته‬
‫َ‬ ‫بصريته‪ ،‬فال تدَع ُه يرى بعقله وقلبه مايكون‬

‫‪113‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫وخالصه‪ ،‬وال ِّ‬


‫تمكنه من النظر إىل سنن الله يف األكوان‪ ،‬وال من مشاهدة‬
‫أنوار الحياة السعيدة التي ترفعه عن مرتبة الحيوان‪.‬‬

‫أما األسباب التي تجعل املرء سعيدا ً يف حياته الجسمية‪ ،‬والعقلية‪ ،‬واملالية‪،‬‬
‫واألهلية‪ ،‬وغريها‪ ،‬فهي كثرية‪ .‬ومتى عمل اإلنسان بها وصل إىل ما يتطلَّبه‬
‫بكل امري ٍء كان له ذ ّرة من العقل أن يتَّبع‬ ‫من سعادة الحياة‪ ،‬فيجدر ّ‬
‫ويحصل ضالَّت ُه‬
‫ّ‬ ‫تلك القواعد‪ ،‬ويعمل بهذه األسباب‪ ،‬حتى يبلغ ما يريد‪،‬‬
‫املنشودة‪ .‬وسنتكلَّم عىل تلك الوسائل واألسباب يف املقاالت اآلتية‪.‬‬

‫سعادة املرء يف نفسه‬

‫اختلفت مذاهب الناس‪ ،‬يف تفسري هذه السعادة‪ ،‬باختالف ُميولهم‬


‫ومشاربهم‪ ،‬فال تكاد تجد ا ّتفاقا ً يف املعنى املراد منها‪ ،‬شأن الناس يف‬
‫كل معقول؛ ذلك ألن العقل ال ح ّد له‪ ،‬فهو ح ٌّر ال يقبل التقييد‪،‬‬‫تفسري ّ‬
‫وال الخضوع أل َ ّية سلطة كانت‪ .‬وأ َّما بعض العقول التي نراها خاضعة‬
‫متقيّدة بسالسل األوهام أو االستبداد فهي عقول فاسدة‪ ،‬طرأ َ عليها من‬
‫لكل طارئ‪ .‬يدلُّك عىل ذلك‬‫األحوال الخارجية ماجعلها أسرية مستكينة ّ‬
‫وجليت بمجالة الحقائق‪ ،‬وهتك سيف الربهان‬ ‫أنه متى رفع ذلك الضغط‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬رجعت‬ ‫الصحيح تلك الغشاوة التي تجلِّلُها فتمنعها عن مشاهدة‬
‫إىل أصلها‪ ،‬وتجلَّت لها الحقيقة‪ ،‬فلم تتبع سواها‪.‬‬

‫قلنا إن العقل ح ٌّر يأبى أن يكون أسرياً‪ ،‬ولذلك اختلفت العقول يف تفسري‬
‫الحسية فال تكاد تجد يف تفسريها اختالفا ً‬
‫ّ‬ ‫املعاني واملعقوالت‪ .‬أ ّما األمور‬
‫‪114‬‬
‫الحس ُيدرك بال تع ُّمل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كثريا ً كما يف األمور املعقولة‪ ،‬ألن ما يقع تحت‬
‫يتمكن من مخالفة سيِّده أو‬ ‫َّ‬ ‫ري أو عبد ّ‬
‫رق ال‬ ‫وال مش ّقة شديدة‪ ،‬فهو أس ُ‬
‫الذي أ َ َسه‪ ،‬وال يستطيع أن يف َّر أو يأبق‪ ،‬فإن أ َ ِبق فمن السهل أن يقبض‬
‫عليه مواله‪ .‬وكذلك شأن األشياء املحسوسة‪ ،‬فإن تعاصت عن اإلدراك‬
‫زمناً‪ ،‬فالب َّد أن ُتطيع‪ ،‬وتكون َر ْه َن الحواس‪ .‬وليس الشأن كذلك يف األمور‬
‫املعقولة‪ ،‬ألنها تكون من قبيل األمور الغيبية التي ال تقع تحت الحواس‪،‬‬
‫املفكرين وأصحاب العقول الراجحة‬ ‫ّ‬ ‫فهي كثريا ً ما تعتاص حتى عىل‬
‫كل منهم سبيالً يسلكها‪ ،‬ظا ّنا ً أنها الضالّة‬‫واألحالم العظيمة‪ ،‬فيختار ٌّ‬
‫املنشودة التي توصله إىل ما أجهد عقله‪ ،‬وأتعب فكره ألجله‪ .‬وتراه يناضل‬
‫بكل ما يستطيع‪ ،‬وما يملكه من القوى‬ ‫أهل املذهب اآلخر‪ ،‬ويناقش أربابه ّ‬
‫العقلية التي أودعها الخالق سبحانه فيه‪:‬‬

‫وليلى ال تقــــــ ُّر لــــــــهم بذاكا‬ ‫يدعي وصــــــ ً‬


‫ال بليلى‬ ‫ٌّ‬
‫فـكــــــل ّ‬

‫واختالف الناس يف األمور املعنوية ال يقترص عىل أمر دون آخر‪ ،‬فإنك ال‬
‫تجد أمرا ً معقوال ً ّإل وتجد بإزائه‪ ،‬من اآلراء واملذاهب‪ ،‬ما يدع املرء حائرا ً‬
‫ال يلوي عىل يشء‪ .‬غري أن العاقل البصري يدرس جميع ما يراه من اآلراء‬
‫كل عىل حسب استعداده‬ ‫الحق‪ٌّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫درسا ً صحيحاً‪ ،‬ثم يختار ما يظهر له أنه‬
‫واجتهاده‪ ،‬وإن خالف يف ذلك كثريا ً من الناس‪.‬‬

‫عىل ذلك‪ ،‬درج العلماء‪ ،‬ويف هذه السبيل‪ ،‬مىش الفالسفة‪ :‬املتقدِّمون منهم‪،‬‬
‫كلً منهم‬
‫كل له رأي وفكر‪ ،‬فهم ال يكادون يتَّفقون‪ ،‬غري أن ّ‬ ‫واملتأخرون‪ٌّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫وحسِ ب نفسه سعيدا ً با ِّتباعها‪.‬‬ ‫اختط لنفسه ّ‬
‫خطة مىش فيها‪َ ،‬‬ ‫َّ‬

‫ولـ ّما كانت السعادة من األمور املعنوية املعقولة‪ ،‬اختلف الناس فيها‬

‫‪115‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫للحس فيها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اختالفهم يف غريها من األمور التي ال دخل‬

‫ّ‬
‫بالتخل عن هذا العالم‬ ‫يحسب البعض أن سعادة املرء يف نفسه تكون‬
‫كل ما يف هذا الوجود من‬ ‫الفاني والتعلّق بالعالم الباقي‪ ،‬مع احتقار ّ‬
‫اللذات‪ ،‬وما انطوى عليه من املظاهر‪ .‬فمتى فعل اإلنسان ذلك كان سعيدا ً‬
‫يف نفسه‪ ،‬ال يشعر بما ينزل به من املصائب‪ ،‬وال بما يلُّم بجسمه من‬
‫املتاعب‪ ،‬وال تستميله الحسناء‪ ،‬وال ُتطغيه الصهباء‪ ،‬وال تستف ّزه األوتار‪،‬‬
‫وال تغريد األطيار‪ ،‬أو حفيف األشجار‪ ،‬كما ال ُتحزنه النائبات‪ ،‬وال تشجيه‬
‫النادبات وال الصارخات‪ ،‬فسوا ٌء لديه الحياة واملمات‪ ،‬فنعيم هذه الحياة‬
‫وبؤسها لديه سواء‪ ،‬إذ يستوي عنده الفناء والبقاء‪ .‬وعىل ذلك أكثر‬
‫الفالسفة وكثري من رجال الدين والصوفية الحقيقيِّني‪ .‬فهم يرغبون عن‬
‫هذا العالم اململوء باملصائب والزخارف‪ ،‬إىل ذلك العالم الباقي الذي ال ألم‬
‫فيه وال شقاء‪ ،‬بل كلّه سعادة وهناء‪.‬‬

‫وهناك قسم آخر يقابل هذه الطائفة‪ ،‬يزعم أن سعادة املرء يف حياته‬
‫تناقض هذا املبدأ مناقصة تا ّمة‪ ،‬ويقولون إن ما زعمه هذا القسم من‬
‫السعادة هو خطأ رصاح‪ ،‬وجهل بواح‪ ،‬ولو د َروا ما د َر ْينا‪ ،‬وعلموا ما علمنا‬
‫من الحياة وسعادتها‪ ،‬لعدلوا عن هذا الزعم الفاسد‪ ،‬ور َموا به جانباً‪ .‬وتزعم‬
‫هذه الطائفة من الناس أن السعادة هي أن يتمتَّع اإلنسان بما تحت هذا‬
‫الفلك الد َّوار‪ :‬من املطعم واملرشب‪ ،‬والتن ُّقل من ملهى إىل آخر‪ ،‬والتل ُّذذ ّ‬
‫بكل‬
‫مرأى جميل‪ ،‬ووجه صبيح‪ ،‬والتن ُّعم باملالبس الفاخرة‪ ،‬واملركبات الجميلة‬
‫والجياد املطهَّمة‪ ،‬وتقطيع األوقات يف جمع اللريات‪ ،‬وتضييع الساعات بني‬
‫الغانيات‪ ،‬واألنس بسحر أحاديثهن‪،‬م وسفك دم الحياة عندهن‪ ...‬إىل غري‬
‫ذلك م ّما يس ّمى عند هذه الطائفة باملدنيّة الجديدة‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫كل طائفة منهما‪،‬‬ ‫حسنا ً عند ّ‬
‫وهناك قسم وسط بني الطائفتَ ْي‪ ،‬أخذ ما رآه َ‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬وهو السعادة التا ّمة للمرء‪،‬‬ ‫واحتفظ به‪ ،‬وقال‪ :‬إن ذلك هو الحياة‬
‫يف هذه الدنيا‪.‬‬

‫ننصب العقل‬‫نبي آراء هذه الطائفة الوسط‪ ،‬يجب علينا أن ِّ‬ ‫وقبل أن ِّ‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬ثم ِّ‬
‫نبي‬ ‫محكما ً بني القومني األ َّولَ ْي‪ ،‬لنرى أ ّيهما أقرب إىل‬
‫ِّ‬ ‫الصحيح‬
‫رأي القوم اآلخرين‪.‬‬

‫تفك َر مليَّا ً يف مذاهب أهل التج ُّرد عن هذا العالم واالحتفاظ بالرغبة‬
‫‪ -‬من َّ‬
‫عنه‪ ،‬يجد أنهم أنصفوا يف كثري من األمور التي جنحوا إليها‪ ،‬فإن التج ُّرد‬
‫عن هذه الل ّذات الوهمية وعد َم اعتبارها مبدأٌ رشيف‪ ،‬غري أن اإلفراط يف‬
‫فإن الله‪ -‬سبحانه‪ -‬لم يخلق اإلنسان يف هذه الدنيا‬‫ذلك أمر غري محمود‪ّ ،‬‬
‫ّإل لحكمة سامية‪ ،‬ولم يجعل له هذه املل ّذات ّإل لحكمة‪ ،‬كذلك‪ ،‬ولم يأمره‬
‫باالعتصام باألعمال الصالحة التي ت َؤهِّله للعالم الباقي ّإل لحكمة أسمى‬
‫الترصف‬
‫ُّ‬ ‫وأرقى‪ .‬فإن أخذ املرء بطرف‪ ،‬وأهمل الطرف اآلخر‪ ،‬فقد أساء‬
‫فيما خلقه الله له‪ ،‬وما خلقه ألجله‪.‬‬

‫كل‬‫إن الله لم يخلق الطيِّبات عبثاً‪ .‬والطيبات معنًّى عا ّم شامل‪ ،‬يندمج فيه ُّ‬
‫ما ترتاح إليه النفوس واألجساد‪ ،‬سوا ٌء أكان من الطيبات املعقولة أم كان‬
‫فتمسك املرء بقسم الطيبات املعقولة‪ ،‬ورغبته‬ ‫ُّ‬ ‫من الطيّبات املحسوسة‪.‬‬
‫عن القسم اآلخر املحسوس‪ ،‬خروج عن سنّة الله التي سنَّها لعباده‪ .‬حتى‬
‫حث الناس عىل الطيِّبات الجسمية‪ ،‬فقال‪ُ « :‬ق ْل َم ْن َح َّر َم‬ ‫إنه‪ -‬سبحانه‪َّ -‬‬
‫ِزينَ َة الل َّ ِه الَّت َِي أ َ ْخ َرجَ لِ ِعبَا ِد ِه َو َّ‬
‫الطيِّبَاتِ ِم َن ال ِّر ْز ِق ُق ْل هِي لِلَّذِي َن آ َم ُنوا ْ‬
‫ِص ًة َي ْو َم الْ ِقيَا َمةِ»‪ ،‬فاإلنسان إ ّنما أوجده الله يف هذا‬ ‫ِف الْ َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َخال َ‬

‫‪117‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫الوجود لينال نصيبه من الدنيا ونصيبه من اآلخرة‪ ،‬وهذا النصيب يكون‬


‫با ِّتباع أوامره واالنزجار بزواجره التي فهمها العقل‪ ،‬وأ َّيدتها الرشائع‬
‫السماوية‪.‬‬

‫أما الذين خالفوا مبدأ أهل التج ّرد واملعقول‪ ،‬فكانوا ما ّد ِّيني دنيو ِّيني‪ ،‬ال‬
‫والضاب‪ ،‬والتن ُّقل من روضة حسن‬ ‫يه ّمهم من الحياة ّإل األكل والرشب ّ‬
‫بأي وسيلة كانت‪ ،‬زاعمني أن هذه هي الحياة‪،‬‬ ‫إىل أخرى‪ ،‬وجمع املال ّ‬
‫وأنها السعادة ال غري‪ ،‬وأنهم إ ّنما خلقوا لذلك‪ ،‬فقد ضلّوا ضالال ً مبيناً‪،‬‬
‫تفكروا يف عاقبة أمرهم لظهر لهم األمر‪،‬‬ ‫وحادوا عن سواء السبيل‪ ،‬ولو ِّ‬
‫وأدركوا خطأ فكرهم وضالل رأيهم‪.‬‬
‫أنا ال أذهب بهم إىل املدى البعيد‪ ،‬الذي يعتقد كثري منهم أنه ٌ‬
‫خلط وأوهام‪،‬‬
‫وأحسوا به‪:‬‬
‫ّ‬ ‫إنما آخذ بهم إىل املدى القريب الذي قد شاهده أكثرهم‪،‬‬

‫كل منهم يعلم أن اإلفراط يف الشهوات‪ ،‬وإعطاء النفس هواها؛ تميل إىل‬ ‫ٌّ‬
‫كل ما تشاء وتختار‪ ،‬تكون عاقبته األمراض والخسارة املادّية‪ ،‬والجسدية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وقد ح َّققوا بأنفسهم أن كثرة األوباء واألمراض التي اعرتت املجتمع‪ ،‬إ ّنما‬
‫كانت ناشئة عن اإلفراط يف املل ّذات‪ ،‬ومسبَّبة عن االنهماك يف الشهوات‪،‬‬
‫كل يوم ونسمع به من العرس‬ ‫إن ما نراه ّ‬ ‫واالنغماس يف حمأة الهوى‪ .‬بل ّ‬
‫املايل واإلفالس‪ ،‬والقضاء عىل النفوس الربيئة‪ ،‬بل وقضاء املرء عىل نفسه‪،‬‬
‫إنما هو مسبَّب عن الخروج عن سنّة الله‪ ،‬والرغبة عن ا ِّتباع الحق إىل امليل‬
‫نحو الهوى والشهوات‪.‬‬
‫هذا ما ٍّ‬
‫لكل من الطائفتني‪ ،‬وما عليهما‪ .‬ويجدر بنا‪ ،‬اآلن‪ ،‬أن نتكلَّم عىل‬
‫الطائفة الثالثة التي اختارت أن تكون طائفة وسطاً‪:‬‬
‫‪118‬‬
‫‪ -‬هذه الطائفة أعطت للروح ح ّقها من النظر يف األكوان‪ ،‬واالعتبار بأحوال‬
‫األمم الغابرة والحارضة‪ ،‬وما أل َّم بها من الطوارئ‪ ،‬املسبَّبة عن الهوى‬
‫واإلفراط يف الشهوات‪ ،‬فكبحت جماح النفس‪ ،‬وردعتها أن تميل ّ‬
‫كل امليل‬
‫خاصا ً ال تتعدّاهما‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خاصة وه ًوى‬
‫ّ‬ ‫إىل ما تريده وتطلبه‪ ،‬وحدَّدت لها مل ّذة‬
‫وربطتها بأنظمة وقوانني‪ ،‬إن خرقت واحدة منها عاقبتها عقاب التأديب‪،‬‬
‫حتى ال تعود إىل ذلك م ّر ًة أخرى‪.‬‬
‫قد أباحت للجسم أن يأخذ ّ‬
‫حظه من املل ّذات‪ ،‬لكن برشط أن ال يتجاوزها‬
‫يرض به‪ ،‬بحيث يكون دائما ً نشيطاً‪ ،‬يف مأمن من العلل واألمراض‬
‫إىل ما ُّ‬
‫لكل طارئ من األدواء‪.‬‬ ‫ً‬
‫عرضة ّ‬ ‫التي تنهكه‪ ،‬وتجعله‬

‫أباحت له الطيّبات من املأكل واملرشب‪ ،‬من غري إرساف وال تبذير‪ ،‬وال‬
‫تضييق وال تقتيري‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ « :‬و ُكلُوا ْ َو ْ َ‬
‫اش ُبوا ْ َوال َ ُت ْ ِ‬
‫س ُفواْ»‪.‬‬

‫أباحت له أن يستعمل أعضاءه فيما ُخل ِقت ألجله‪ ،‬ولكن عند الحاجة‪،‬‬
‫وألمر هو أسمى م ّما يظنّه أهل الشهوات‪.‬‬

‫أباحت له أن يلبس ويتن َّعم‪ ،‬لكن برشط أن ال يصل به ذلك إىل درجة‬
‫الخنوثة‪ ،‬ويخرجه من دائرة الرجولة‪ ،‬إن كان رجالً‪ ،‬وعن دائرة األدب‪،‬‬
‫إن كانت أنثى‪.‬‬

‫أباحت له الراحة والتنقل يف أرض الله الواسعة‪ ،‬واملتن َّزهات الجميلة‪ ،‬لكن‬
‫فيتمكن منه‪ ،‬فيوجد فيه الكسل وبغض العمل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫برشط أن ال يعتاد ذلك‬
‫وحب الدعة واإلهمال؛ ألنه متى َّ‬
‫تمكن من نفسه هذا‬ ‫َّ‬ ‫وامليل إىل الراحة‪،‬‬
‫األمر‪ ،‬كانت حياته كلّها شقا ًء وعناء‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫هذه آراء الطائفة الثالثة‪ ،‬وهي آرا ٌء حميدة‪ ،‬وأفكار سديدة‪ ،‬فقد أخذت من‬
‫وح ْملها عىل معايل األمور‪،‬‬‫كل يشء أحسنه‪ :‬أخذت من األوىل تطهري النفس َ‬ ‫ّ‬
‫والنظر إىل السعادة الحقيقية‪ ،‬وأخذت من الثانية النظر إىل ما يطلبه‬
‫هذا الجسد من التغذية واملالذ‪ ،‬ولكنها ه ّذبتها تهذيبا ً جعلها صالحة‬
‫لكل منهما‬ ‫معقولة‪ ،‬فلم تهمل ل ّذة العقل وال ل ّذة الجسد‪ ،‬ألنها رأت أن ّ‬
‫ح ّقا ً يطالب به‪ ،‬ويهيم يف أن يتقاضاه‪ ،‬فسلكت الطريق الوسط‪ ،‬ألن َّ‬
‫حب‬
‫التناهي والغلّو غلط‪ .‬وقد جاء يف الحديث الرشيف‪« :‬إن لر ِّبك عليك ح ّقاً‪،‬‬
‫حق ح َّقه»‪.‬‬
‫كل ذي ّ‬‫وأن لنفسك عليك ح ّقاً‪ ،‬وإن ألهلك عليك ح ّقاً‪ ،‬فأعطِ ّ‬

‫غري أننا لو د َّققنا يف كال مذهبَي الطائفتَ ْي األولَيَ ْي‪ ،‬وأراد مريد أن ينحو‬
‫منحى إحداهما ال غري‪ ،‬نقول له إن انتهاج منهج األوىل هو خري وأبقى‬
‫وأسلَم‪ ،‬يف اآلخرة واألوىل‪ .‬هذا إن لم نقدر عىل أن نحمله بالربهان عىل سلوك‬ ‫ْ‬
‫أوسط املذاهب؛ وهو أن يعطي للعقل والروح ح ّقهما‪ ،‬وللجسد ح َّقه كذلك‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫وخالصةالقول‪ :‬إن سعادة املرء‪ ،‬يف نفسه‪ ،‬هي أن يكون مقتصدا ً فيما‬
‫كل أمر معقول أو محسوس‬ ‫يتقاضاه منه العقل والجسد‪ ،‬وإن يرجع يف ّ‬
‫إىل سنن الله يف األكوان‪ ،‬وما أتى به من الرشائع بواسطة أنبيائه املك َّرمني‪،‬‬
‫فال يطلق للروح الرساح‪ ،‬فتعرض عن الدنيا ألبتّة‪ ،‬وال يرخي للجسد‬
‫العنان‪ ،‬فينهمك يف املال ّذ التي تعود عليه بالخرسان يف دنياه‪ ،‬والشقاء يف‬
‫عقباه‪ .‬فإن من سار يف منهج وسط أَمِن العثار‪ ،‬يف هذه الدار وتلك الدار‪.‬‬
‫« َوالل َّ ُه َي ْهدِي َمن َي َشاء إ ِ َل ِصَاطٍ ُّم ْستَقِيم»‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫سعادة املرء يف َ‬
‫صحْ به‬

‫ومن يضــــ ُّر نفســه لينفع َْك‬ ‫إن صـــديق الصـــدق من كان ْ‬
‫معك‬
‫ْ‬
‫ليجمعك‬
‫(((‬ ‫و َمــ ْن إذا َر ْيب الزمــــان صـــد ْ‬
‫َّعك شـ َـتَّت فيك شــمله‬

‫حياة اإلنسان‪ ،‬يف هذه الدنيا‪َ ،‬ت ْعتَ ِورها العوامل املختلفة‪ ،‬وتكتنفها األحوال‬
‫املعني بقول‬
‫ّ‬ ‫نش‪ ،‬فكأنه‬‫رشه‪ُ ،‬يط َوى و ُي َ‬
‫املتباينة‪ ،‬وهو بني خري ذلك و ّ‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫ُ‬
‫ـــــــل‬ ‫ٌ‬
‫ــــــل رِ ْج‬‫فتلقَّ ـــفها رِ ْج‬ ‫ُ‬
‫حـــــــذفت بصــــوالج ٍة‬ ‫ُك َر ٌة‬

‫وملّا كان اإلنسان عىل هذا النمط من تأثري عوامل الوجود فيه‪ ،‬احتاج إىل‬
‫كثري من الوسائل التي يدفع بها ما يطرأ عليه من العوادي‪ ،‬وما ينتابه‬
‫من املشكالت‪.‬‬

‫والوسائل‪ ،‬يف هذا الباب‪ ،‬كثرية‪ ،‬منها امله ّم‪ ،‬ومنها ما هو أكثر أه ّميّة ‪ -‬ومن‬
‫أه ّمها اصطفاء األصدقاء‪ ،‬واصطناع األودّاء‪ ،‬فإنه بمصافاتهم واالعتماد‬
‫عليهم ين ِّفس كثريا ً من كرباته‪ ،‬ويستسهل ما يصعب عليه من شؤون‬
‫خاصة‪ ،‬ال يستطيع أن ينهض‬ ‫ّ‬ ‫حياته‪ ،‬ويقوم بأعمال جليلة عا ّمة‪ ،‬وأخرى‬
‫بها منفردا ً أو معتمدا ً عىل غري من يثق بهم‪ ،‬ويركن إليهم‪.‬‬
‫والناس يف اختيار األصحاب متباينون‪ ،‬شأنهم يف ّ‬
‫كل أمر‪ ،‬ألن أكثرهم‬
‫رس الصحبة وما تستلزم من النتائج والفوائد‪ ،‬فهم مساقون‬‫غافل عن ّ‬
‫إليها بسائق الطبيعة‪ ،‬ال بسائق العقل‪ ،‬وشوق الوجدان‪ ،‬ال بشوق الحاجة‬

‫نسبان إىل اإلمام عيلّ‪ ،‬وإىل اإلمام الشافعي (ريض الله عنهما)‪.‬‬
‫((( البيتان ُي َ‬

‫‪121‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫والرضورة‪ .‬وشتّان ما بني هذه السوائق واألشواق!؛ ولهذا ترى الناس ال‬
‫يبالون باختيار الصاحب‪ ،‬وال يحفلون بانتقاء الصديق‪ ،‬فهم يصادقون‬
‫قبل االختبار‪ ،‬وإن اختاروا فال يحسنون االختيار‪ ،‬مع أن للصداقة رشوطاً‪،‬‬
‫وللصحبة آداباً‪ ،‬فإن أهمل املرء رشطا ً منها كانت عاقبة تلك الصحبة وباال ً‬
‫عليه‪.‬‬

‫أال وإن أه ّم رشط يجب عىل املتصادقني مراعاته‪ ،‬هو أن يعلما علم اليقني‬
‫ّ‬
‫الرضاء‪،‬‬ ‫كل واحد منهما عونا ً لصديقه يف‬‫أن روح الصحبة هي أن يكون ّ‬
‫ّ‬
‫ويهش‬ ‫رساء‪ ،‬وأن يموت ملوته‪ ،‬ويحيا لحياته‪ ،‬وأن يألم ألمله‪،‬‬
‫وأنيسه يف ال ّ‬
‫لفرحه‪ ،‬وأن يساعده عند النوازل‪ ،‬ويأخذ بيده عند العثرات‪ ،‬وأن يدفع‬
‫الحق‪ّ ،‬‬
‫وإل فهي رياء‬ ‫ّ‬ ‫عنه السوء بماله وجاهه وحياته‪ .‬وتلك هي الصحبة‬
‫وخداع‪ ،‬ونفاق وتزلُّف‪ .‬وليس ذلك من دأب أرباب املروءة‪ ،‬وال من عادة‬
‫األحرار واصحاب الرشف‪.‬‬

‫إن كثريا ً م َّمن يدَّعون الصداقة يسوقهم إليها طمع يف جاه املصادق أو‬
‫ماله‪ ،‬حتى إذا نفدت أمواله‪ ،‬أو َح َجب عنهم َنداه‪ ،‬أو سقط من مركزه‪،‬‬
‫الذي كانوا يستظلّون بظلّه‪ ،‬ولَّ ْوا عنه مدبرين‪ ،‬كأن لم يكونوا يعرفونه‪،‬‬
‫فهم‪ -‬إذن‪ -‬أصدقاء ماله وجاهه‪ ،‬ال أصحاب أخالقه أو علمه أو فضائله‪.‬‬
‫عدو يف صورة صديق‪ ،‬وإ ّنما حمله عىل‬
‫ومن كان عىل هذه الشاكلة فهو ٌّ‬
‫الصداقة واإلخاء ما كان يأمله من املنفعة‪.‬‬

‫العلل‬
‫ِ‬ ‫عادت عـــداوته عند انقضا‬ ‫إذا العد ّو أحــــــاجته اإلخـــا عِ ٌ‬
‫لل‬

‫رضوري لإلنسان‪ ،‬غري َّ‬


‫أن اختيارهم أش ُّد رضورة له‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫إن وجود األصدقاء‬
‫أرض عليه م ّما لو عاش منفرداً‪ .‬فإن كان يف ا ِّتخاذ الصحب‬ ‫ّ‬
‫وإل كانوا ّ‬
‫‪122‬‬
‫منفعة للمرء‪ ،‬ففي عدم انتقائه إ ّياهم رضر كبري‪ .‬ودر ُء املفاسد مقدَّم عىل‬
‫جلب املصالح‪ .‬فأ َ ْوىل له‪ ،‬حينئذ‪ ،‬أن يعيش ف ّذا ً مستوحشاً‪ ،‬من أن تتواىل‬
‫عليه النوائب ممن ال يقدرون الصداقة َّ‬
‫حق قدرها‪.‬‬

‫فوجب‪ -‬إذن‪ -‬عىل العاقل أن ال يستخلص لنفسه ّإل املج ّربني‪ ،‬وال يركن‬
‫ّإل إىل املخلصني‪ ،‬الذين ال يبيعونه عند الشدّة بالثمن البخس‪ ،‬وأن يحذر‬
‫كل الحذر من أهل الرياء وأرباب الزلفى‪ ،‬الذين يعرفونه عند الرخاء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الرضاء‪ .‬وذلك ال يكون ّإل بتجربتهم قبل‬
‫ّ‬ ‫وينكرونه عند الرجاء‪ ،‬وحلول‬
‫االستخالص‪ ،‬واختيارهم قبل عقد أوارص الصحبة‪:‬‬

‫التجاريب‬
‫ِ‬ ‫وما مفاتيحها غير‬ ‫إن الرجال صناديق مقفَّ ل ْه‬

‫حسن االختيار أن يقلِّل من األصحاب‪ ،‬ويضيّق رشط االنخراط يف‬‫ومن ْ‬


‫سلك صداقته‪ ،‬فإن التقليل من األصحاب‪ ،‬واالقتصاد عىل االختيار منهم‬
‫أمر رضوري‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬

‫تســـــــتكثرن من الصــــحاب‬
‫َّ‬ ‫فال‬ ‫مســــــتفاد‬
‫ٌ‬ ‫عدوّك من صـــديقك‬

‫يكون من الطعـــــام أو الشـــــراب‬ ‫فــــــإن الداء أكــــــــثر ما تـــــراه‬

‫ّ‬
‫الخطة املباركة‪ ،‬واصطفى لنفسه من األصدقاء‬ ‫فمتى سار املرء يف هذه‬
‫من يركن إليه ويعتمد عليه‪ ،‬كان سعيدا ً يف صحبه‪ ،‬وعاش عيشة راضية‪،‬‬
‫ونال هنا ًء وسعادة‪.‬‬

‫ّ‬
‫فليعض عليهم بالنواجذ‪،‬‬ ‫ومتى ظفر بمثل من َقدَّمنا من األصحاب‬
‫وليثبت عىل صحبتهم‪ ،‬وال يقطع حبال مودَّتهم بالجفاء‪ ،‬وال يكدِّر ماء‬

‫‪123‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫فإن األلفة نتيجة‬ ‫ودادهم باألذى‪ ،‬وليكن حسن الخلق معهم‪ ،‬رحيما ً بهم؛ َّ‬
‫تتوطد أركان املحبّة والصداقة ّإل إذا‬ ‫َّ‬ ‫األخالق وفضيلة من فضائلها‪ .‬وال‬
‫َّ‬
‫األخلء‬ ‫الحسن بني املتحا ّبني‪ .‬كما أن التف ُّرق بني‬
‫َ‬ ‫استحكمت حلقات الخلُق‬
‫نتيجة من نتائج الخلق السيِّئ‪ ،‬ورذيلة من رذائله‪.‬‬

‫كل شائبة‪ ،‬ومن َّزهة‬ ‫واعلم أن الصداقة ال تدوم ّإل إذا كانت خالية من ّ‬
‫كل غرض ماد ّّي‪ .‬ألنها معنًى من املعاني التي ال تعلُّق لها باملادة‪.‬‬ ‫عن ّ‬
‫والحب الذي يكون كما‬ ‫ّ‬ ‫فمتى ُخلطت بها فسد جوهرها‪ ،‬وكدر صفا ُّؤه‪.‬‬
‫الحب لله‪ ،‬ويمتدحونه أش َّد االمتداح‪ .‬وقد ورد‬ ‫َّ‬ ‫قدَّمنا هو الذي يسمونه‬
‫يف الحديث الرشيف‪« :‬سبعة يظلُّهم الله يف ظلّه يوم ال َظ ّل ّإل ظلّه‪ :‬إمام‬
‫وجل)‪ ،‬ورجل قلبه معلَّق باملسجد؛‬ ‫ّ‬ ‫وشاب نشأ يف عبادة الله‪( ،‬ع ّز‬
‫ٌّ‬ ‫عادل‪،‬‬
‫إذا خرج منه يعود إليه‪ ،‬ورجالن تحا َّبا يف الله؛ اجتمعا عىل ذلك وتف َّرقا‬
‫عليه‪ ،‬ورجل ذكر الله خاليا ً ففاضت عيناه‪ ،‬ورجل دعته امرأة ذات حسب‬
‫وجمال فقال‪ :‬إني أخاف الله‪ ،‬ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى ال‬
‫تعلم شماله ما تنفق يمينه»‪ .‬وجاء يف حديث آخر‪« :‬إن رجالً زار أخا ً له يف‬
‫الله‪ ،‬فأرصد الله له َملَكاً‪ ،‬فقال‪ :‬أين تريد؟ فقال‪ :‬أريد أن أزور أخي فالناً‪.‬‬
‫فقال‪ :‬لحاجة لك عنده؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬لقرابة بينك وبينه؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪:‬‬
‫فبنعمة له عندك؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬في َم؟ قال‪ :‬أح ُّبه لله‪ .‬قال فإن الله أرسلني‬
‫إليك يخربك بأنه يحبّك لحبّك إ ّياه‪ ،‬وقد أوجب لك الجنّة»‪.‬‬

‫إن الخليل إذا كان كمن ُذكِر فهو الخليل الذي وجبت محبَّته‪ ،‬وح َّقت‬
‫يتمسك بأذياله‪ .‬وهذا هو الخليل الصالح الذي‬ ‫َّ‬ ‫كرامته‪ ،‬وجدر باملرء أن‬
‫أراده صاحب األثر بقوله‪« :‬من أراد الله به خرياً‪ ،‬رزقه خليالً صالحاً؛ إن‬
‫ذكر إعانه» وبقوله‪« :‬من أراد الله به خرياً‪ ،‬رزقه خليالً‬‫ذكره‪ ،‬وإن َّ‬
‫نيس َّ‬

‫‪124‬‬
‫صالحاً؛ إن نيس َّ‬
‫ذكره وإن ذكر أعانه» وبقوله‪َ « :‬مثَ ُل األخ َو ْين إذا التقيا‬
‫مثل الي َد ْين؛ تغسل إحداهما األخرى» واألخ َّوة عىل هذه الصورة هي داعية‬ ‫ُ‬
‫األلفة وبريد اال ّتفاق؛ إذ ال أخ ّوة بال ألفة‪ ،‬وال صداقة بغري ا ّتفاق‪ .‬لهذا ورد‬
‫والحض عىل تحسني األخالق‬‫ّ‬ ‫كثري من اآلثار واألخبار يف الرتغيب باأللفة‬
‫«إن أقربكم مني‬‫التي هي مقدِّمة لها‪ .‬وقد جاء يف الحديث الرشيف‪َّ :‬‬
‫املوطؤون أكنافاً‪ ،‬الذين يألّفون‬
‫َّ‬ ‫مجلساً‪ ،‬يوم القيامة‪ ،‬أحاسنكم أخالقاً‪،‬‬
‫ويؤلفون»‪.‬‬

‫ومن دواعي األلفة أن يكون بني الصدي َق ْي مشاكلة يف الطباع‪ ،‬ومناسبة يف‬
‫األخالق‪ ،‬ألن شبيه اليشء منجذب إليه؛ ولذا ورد يف الحديث‪« :‬األرواح جنود‬
‫مجنّدة فما تعارف منها ائتلف‪ ،‬وما تناكر منها اختلف» فالتناكر نتيجة‬
‫التناسب‪ ،‬واالئتالف واالختالف من فواعل القلوب‪ .‬واألرواح البرشية‪ ،‬التي‬
‫هي يف النفوس الناطقة‪ ،‬مجبولة عىل رضائب مختلفة وطباع متباينة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫فكل ما تشاكل منها يف الصفات واألخالق تعارف وا َّت َفق‪ّ ،‬‬
‫وكل ما تباين‬
‫وتناكر منها اختلف وتف َّرق‪ .‬فاملراد بالتعارف هو ما بني النفوس من‬
‫التناسب والتشاكل‪ ،‬واملراد بالتناكر ما بينها من التنافر والتباين‪ّ .‬‬
‫وكل‬
‫ذلك بحسب ما ُجبلت عليه من األخالق‪ ،‬وما اكتسبته من الصفات‪.‬‬

‫لذلك وجب اختيار الصديق قبل الركون إليه‪ّ ،‬‬


‫وإل آل أمرهما ‪ -‬مهما‬
‫طال‪ -‬إىل الشقاق وقطع أوارص الصداقة‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬

‫ُ‬
‫إنصاف‪:‬‬ ‫فقـــــلت قــــــــو ً‬
‫ال فيه‬ ‫وقائل‪ :‬كـــــــــيف تفارقـــــــتما؟‬
‫ٍ‬

‫والنـــــــاس أشــــــــكال و ُأ ّلاف‬ ‫لم ُ‬


‫يك من شكـــــــلي ففــــــارقته‬

‫‪125‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫و َم ْن نظ َر إىل ما يقع بني األصدقاء من الشقاق‪ ،‬وما تنتجه تلك الصداقة‬


‫حق الصحبة‪ ،‬ولم‬ ‫من النفاق‪ ،‬يحكم أن سبب ذلك إ َّنما ألنهم لم يراعوا َّ‬
‫يبنوا صداقتهم عىل أساس مكني‪ ،‬أو أنهم اصطحبوا عىل غري ما يفيد‪،‬‬
‫وتعاهدوا عىل أمور ليست من املروءة يف يشء‪ .‬وأكثر من نرى من األصدقاء‬
‫ليسوا ّإل ذؤبانا ً ووحوشا ً لبست لباس الصديق‪ .‬وكثري منهم إ ّنما ا َّتفقوا‬
‫عىل املنكرات‪ ،‬وسافل األخالق والعادات‪ ،‬حتى إذا انقىض ما أرادوا‪ ،‬رجعوا‬
‫متباينني‪ ،‬وانقلبوا خارسين‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫وصفوة القول‪ :‬إن من أراد أن يكون سعيدا ً يف صحبة فعليه أن يختار‬


‫منهم من اجتمعت فيه أمور خمسة؛ أساسها مشاكلته إ ّياه‪ ،‬ألن الجنس‬
‫فإن األحمق ال يمكن أن تدوم‬ ‫ميّال إىل الجنس‪ ،‬وأن يكون ذا عقل موفور؛ ّ‬
‫صحبته‪ ،‬وأن يكون له وجدان يحمله عىل فعل الخري‪ ،‬ويربأ به عن موارد‬
‫مريض األفعال‪ ،‬مؤثِرا ً للخري آمرا ً به‪،‬‬
‫ّ‬ ‫رش‪ ،‬وأن يكون محمود األخالق‪،‬‬ ‫ال ّ‬
‫رش ناهيا ً عنه‪ ،‬فإن مودّة الرشير ُتكسِ ب األعداء‪ ،‬وتفسد األخالق‪.‬‬
‫كارها ً لل ّ‬
‫كل من املتصادقني ميل إىل اآلخر‪ ،‬ورغبة صادقة يف املؤاخاة‪،‬‬ ‫وأن يكون يف ّ‬
‫فإن بذلك كلّه دوام الصحبة‪ ،‬وإحكام روابط األُلفة‪.‬‬‫ّ‬

‫ومتى وجد املرء صديقا ً استكمل رشوط الصداقة‪ ،‬فال ينبغي أن ين ّقب عن‬
‫زلته‪ ،‬ويبحث عن هفواته‪ ،‬فإن هذا من دواعي َح ّل أوارص املودّة‪ .‬بل يجب‬
‫ّ‬
‫عليه أن يتجاوز عن خطئه‪ ،‬وأن يسبل املعذرة عىل ما يف ِّرط منه‪ ،‬ألنه‬
‫وأي امريء ليس فيه عيب؟‬ ‫إنسان‪ ،‬واإلنسان بطبيعته يخطئ ويصيب‪ّ ،‬‬
‫كل عيب‪ ،‬فقد ركب مركبا ً‬ ‫فإن حاول أحد أن يحمل الناس عىل التج ُّرد من ّ‬

‫‪126‬‬
‫مرتقى وعراً؛ ألنه‪ ،‬بتلك املحاولة‪ ،‬يريد أن يخرجهم من‬
‫ً‬ ‫خشناً‪ ،‬وطلب‬
‫الطور اإلنساني إىل الطور امللكوتي‪ ،‬وهذا ما ال يقدر عليه املحاول‪ ،‬ومن‬
‫رام صديقا ً ال عيب فيه‪ ،‬وال تصدر عنه هفوة‪ ،‬فقد طلب العزلة والحياة‬
‫منفرداً‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬

‫وهل عـــــود يفــــوح بال دخان؟‬ ‫َّ‬


‫مهــــــذب ًا ال عـــيــب فـــــيه‬ ‫تريد‬

‫وقال النابغة الذبياني‪:‬‬

‫ب؟‬ ‫َّ‬
‫المهذ ُ‬ ‫شع ٍث؛ ُّ‬
‫أي الرجال‬ ‫على َ‬ ‫بمســــــتبق أخ ًا ال ُت ُّ‬
‫لم ُه‬ ‫ٍ‬ ‫ولســــت‬

‫وقال بشار بن برد‪ -‬وقد أجاد‪:-‬‬

‫ِ‬
‫لـــــــف الذي ال تعاتب ْه‬‫صديقك لم ُت‬ ‫إذا كــــــنت في ّ‬
‫كل األمور معـــــاتب ًا‬

‫ظمئت؛ ّ‬
‫وأي الناس تصفو مشارب ْه؟‬ ‫وإن أنت لم تشرب مرار ًا على الفذى‬

‫عـــد معايب ْه‬ ‫كـــــفى المـــر َء نب ً‬


‫ال أن ُت ّ‬ ‫ومن ذا الذي ُترضــي سجـــــاياه ك ُّلها‬

‫ذنــب مـــر ًة ومجـــــانب ْه‬


‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫مقـــــارف‬ ‫ِــش واحـــــد ًا أو ْ‬
‫صل أخـــاك فإن ُه‬ ‫فع ْ‬

‫و َم ْن نحا هذا املنحى من املجاوزة عن هفوات اإلخوان واإلغضاء عن‬


‫سيِّئاتهم فقد أراح نفسه من عناء العتاب‪ ،‬وأنزل عن عاتقه أوقارا ً من‬
‫اله ّم تنوء بها الراسيات‪ .‬نعم أن وفرت جرائمهم‪ ،‬وعظمت إساءتهم‪ ،‬حتى‬
‫غلبت سيّئاتهم عىل حسناتهم‪ ،‬فليسوا‪ ،‬حينئذٍ‪ ،‬باإلخوان األىل‪ ،‬ينبغي‬
‫الثبات عىل والئهم ومصادقتهم‪ .‬بل يجب نبذهم بعد تنبيههم وعدم‬
‫ارعوائهم‪ ،‬وأولئك هم من اللئام الذين قال فيهم املتنبي‪:‬‬

‫‪127‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫أنت أكــــــرمت اللـــئيم تمـــ َّردا‬


‫وإن َ‬
‫ْ‬ ‫إذا أنت أ كـــــرمت الكريم ملــــــكته‬

‫مض ٌّر ْ‬
‫كوض ِع السيف في موضع الندى‬ ‫ووضع الندى في موضع السيف بالعلى‬

‫أقوال يف هذا الباب‬

‫رسك‪ ،‬ويسرت عيبك‪،‬‬ ‫تصحب من الناس ّإل من يكتم َّ‬‫ْ‬ ‫قال بعض األدباء‪« :‬ال‬
‫وينرش َح َسنك‪ ،‬ويطوي سيِّئتك‪ .‬فإن لم تجده فال تصحب ّإل نفسك»‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪« :‬الناس أربعة‪ :‬فواحد حل ٌو كلّه فال ُيشبع منه‪ ،‬وآخ ُر م ٌّر‬
‫كلُّ ُه فال ي ُؤكل منه‪ ،‬وآخر فيه حموضة‪ ،‬فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك‪،‬‬
‫وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة‪ ،‬فقط»‪ .‬وقال جعفر الصادق‪-‬‬
‫ذاب فإنك منه عىل غرور‪ ،‬وهو‬ ‫ريض الله عنه‪« :-‬ال تصحب خمسة‪ّ :‬‬
‫الك َ‬
‫َ‬
‫واألحمق فإنك لست‬ ‫مثل الرساب يق ّرب منك البعيد‪ ،‬ويبعد منك القريب‪،‬‬
‫والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫فيرضك‪،‬‬ ‫منه عىل يشء؛ يريد أن ينفعك‬
‫والفاسق‪ ،‬فإنه يبيعك‬‫َ‬ ‫والجبان فإن ُيسلِّمك ويف ّر عند الشدّة‪،‬‬
‫َ‬ ‫تكون إليه‪،‬‬
‫أقل منها؟ قال‪ :‬الطمع فيها‪ ،‬ثم ال ينالها»‪.‬‬‫أقل منها‪ ،‬فقيل‪ :‬وما ّ‬ ‫بأكلة أو ّ‬

‫أحب إيلَّ من أن يصحبني‬


‫حس ُن الخلق ُّ‬ ‫قال الجنيد‪« :‬ألن يصحبني فاسق َ‬
‫قارئ سيِّئ الخلق»‪ ،‬واملراد بالقارئ الفقيه العالِم‪.‬‬

‫وقال سهل بن عبدالله التسرتي‪« :‬اجتنب صحبة ثالثة أصناف من الناس‪:‬‬


‫الجبابرة الغافلني‪ ،‬والق ّراء املداهنني‪ ،‬واملتص ِّوفني الجاهلني»‪.‬‬

‫وقال املأمون‪« :‬إن اإلخوان ثالثة‪ :‬أحدهم مثله مثل الغذاء ال يستغنى عنه‪،‬‬
‫‪128‬‬
‫واآلخر مثله مثل الدواء؛ ُيحتاج إليه يف وقت دون وقت‪ ،‬والثالث مثله مثل‬
‫الداء؛ ال يحتاج إليه يف وقت‪ ،‬ولك ّن العبد قد يبتىل به‪ ،‬وهو ال أنس فيه وال‬
‫نفع»‪.‬‬

‫وقال امل َؤ ّمل الشاعر‪:‬‬

‫ال يستوون كما ال يســــتوي الشج ُر‬ ‫الناس شـــ ّتى‪ ،‬إذا ما أنت ذقـــتهم‬

‫ٌّ‬
‫ظــــــل وال ثــــم ُر‬ ‫وذاك لـــــيس له‬ ‫هذا له ثمــــر حـــــــل ٌو مـــــذاقــــته‬

‫ري من جليس السوء‪ ،‬والجليس‬


‫وقال أبوذ ّر‪ -‬ريض الله عنه‪« :-‬الوحدة خ ٌ‬
‫ري من الوحدة»‪.‬‬
‫الصالح خ ٌ‬

‫وقال الشاعر‪:‬‬

‫ُ‬
‫وأخـــــاف خـــــــ ًّلا يعـــتريه جنون‬ ‫عــــــاقل‬
‫ٍ‬ ‫آلمن من عـــــــد ٍّو‬
‫ُ‬ ‫إني‬

‫فأرصــــد‪ ،‬والجـــنون فنون‬


‫ُ‬ ‫أدري‪،‬‬ ‫فن واحـــد وطــــــــريق ُه‬
‫فالعقل ٌّ‬

‫موصيا ً إ ّياه‪ ،‬حني حرضته الوفاة‪،‬‬


‫وقال أبوالفضل علقمة العطاردي البنه ِّ‬
‫بني‪ ،‬إذا عرضت لك‬‫وقد جمع يف قوله هذا جميع حقوق الصحبة‪« :‬يا َّ‬
‫حاجة إىل صحبة الرجال فاصحب َم ْن إذا خدمته صانك‪ ،‬وإن صحبته‬
‫زانك‪ ،‬وإن قعدت بك م ُؤنة مانك‪ .‬اصحب َم ْن إذا مددتَ يدك بخريٍ مدّها‪،‬‬
‫وإن رأى منك حسنة عدَّها‪ ،‬وإن رأى سيِّئة َسدَّها‪ .‬اصحب َم ْن إذا سألته‬
‫أعطاك‪ ،‬وإن سكتَّ ابتداك‪ ،‬وإن نزلت بك نازلة واساك‪ .‬اصحب َم ْن إذا‬
‫قلت صدّق قولك‪ ،‬وإن حاولتما أمرا ً أ َّمرك‪ ،‬وإن تنازعتما آثرك»‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫وقال عدي بن زيد‪:‬‬

‫وال تصحب األردى فتردى مع الردي‬ ‫إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم‬

‫وقال آخر‪:‬‬

‫ـن ِ ّ‬
‫بكل أخــــــــي إخــا ِء‬ ‫فال تثــــــقَ ْ‬ ‫كــــــنت م َّتـــخـــــذ ًا خــــلي ً‬
‫ال‬ ‫َ‬ ‫إذا ما‬

‫بأهــــــــل العقـــــل منهــم والحيا ِء‬ ‫ْـــــصقْ‬


‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ــــــــــيرت بينــهم فال‬‫فإن ُخ‬

‫تفاضــــــلت الفضــــائل‪ ،‬من كفاء‬ ‫فإن العقــــــل ليــــــــــس له‪ ،‬إذا ما‬

‫املاوردي‪« :‬اإلخوان أربعة‪ :‬منهم من ُيعني ويستعني‪ .‬ومنهم من‬‫ّ‬ ‫وقال‬


‫ال ُيعني وال يستعني‪ .‬ومنهم من يستعني وال يعني‪ .‬ومنهم من يعني‬
‫وال يستعني‪ .‬فأ ّما املعني واملستعني‪ ،‬فهو معاوض منصف ي َؤدّي ما‬
‫عليه ويستويف ما له‪ ،‬فهو كاملق ِرض‪ ،‬يسعف عند الحاجة ويسرتّد عند‬
‫االستغناء‪ ،‬وهو مشكور يف معونته‪ ،‬ومعذور يف استعانته‪ ،‬فهذا أعدل‬
‫اإلخوان‪ .‬وأ ّما من ال يعني وال يستعني‪ ،‬فهو مرتوك‪ ،‬قد منع خريه وقمع‬
‫عدو ُيخىش‪ .‬وأ ّما َم ْن يستعني وال يعني‪،‬‬
‫رشه‪ ،‬فهو ال صديق ُيرجى وال ٌّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫مستذل‪ ،‬قد قطع عنه الرغبة‪ ،‬وبسط فيه الرهبة‪ ،‬فال‬ ‫فهو لئيم َك ٌّل‪ ،‬و ُمعان‬
‫رشه يؤمن‪ ،‬وحسبك مهانة من رجل مستثقل عند إقالله‪،‬‬ ‫خريه ُيرجى وال ّ‬
‫حظ‪ ،‬وال يف الوداد نصيب‬ ‫ويستقل عن استقالله‪ ،‬فليس ملثله يف اإلخاء ٌ‬ ‫ُّ‬
‫وأما من يعني وال يستعني فهو كريم الطبع‪ ،‬مشكور الصنع‪ ،‬وقد حاز‬
‫فضيلتَي االبتداء‪ ،‬واالكتفاء‪ ،‬فال يرى ثقيالً يف نائبة‪ ،‬وال يقعد عن نهضة‬
‫يف معونة‪ ،‬فهذا أرشف اإلخوان نفساً‪ ،‬وأكرمهم طبعاً‪ ،‬فينبغي ملن أوجد‬
‫له الزمان مثله‪ -‬و َق َّل أن يكون له مثل‪ ،‬ألنه ال ُّ‬
‫رب الكريم‪ ،‬والد ُّر اليتيم‪ -‬أن‬
‫‪130‬‬
‫ويعض عليه ناجذه‪ ،‬ويكون أش َّد ضنّا ً منه بنفائس‬
‫َّ‬ ‫يثني عليه خنرصه‪،‬‬
‫خاص‪ .‬ومن كان‬
‫ّ‬ ‫ني ذخائره‪ .‬ألن نفع اإلخوان عا ّم ونفع املال‬
‫وس ّ‬
‫أمواله‪َ ،‬‬
‫أع ّم نفعا ً فهو باالدِّخار ّ‬
‫أحق‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫هذا غيض من فيض مما ورد يف الصحبة وآدابها‪ .‬وما رشحناه َو َش ٌل من‬
‫غمر‪ ،‬ال ُيد َرك له قعر‪ .‬وفيه كفاية مل َ ْن عمل به ليكون سعيدا ً يف صحبه‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫دالئل التوحيد‬

‫ظهرت األديان‪ ،‬وظهرت بظهورها األحزاب‪ ،‬فمِن عاض ٍد لها‪ ،‬ومن عامل‬
‫عىل خرابها‪ ،‬شأن ّ‬
‫كل جديد‪.‬‬

‫األديان‪ ،‬منها السماوية‪ ،‬ومنها الوضعية‪ .‬فالسماوية أصل الخري يف‬


‫الدا َر ْين وسعادة من ا َّتبَعها يف الحيا َت ْي‪ .‬وقد كانت معارضتها والقيام‬
‫ضدَّها من الذين طبع الله عىل قلوبهم‪ ،‬فهم ال يفقهون كثرياً‪ .‬فلهذا‬
‫تصدَّى أقوام من أهل ّ‬
‫كل دين لدفع ُّ‬
‫الشبَ ِه التي تورد عليه من امللحدين‪.‬‬
‫وكانت تلك املدافعات عىل حسن الزمان ومعلومات أهل الوقت‪.‬‬

‫وقد أصاب الدي َن اإلسالمي ما أصاب غريه من األديان‪ .‬فقد وجد له يف‬
‫كل زمان نف ٌر يوردون الشبه عىل قواعده وعقائده‪ ،‬خصوصا ً بعد أن‬ ‫ّ‬
‫ُترجمت كتب الحكمة من اليونانية إىل العربيّة‪ ،‬وتل ّقى املسلمون العلوم‬
‫الفلسفية‪ ،‬وبرعوا فيها‪ .‬وقد درس أفاضل علماء الدين تلك العلوم درسا ً‬
‫متقنا ً فأجادوها‪ ،‬حتى ُعدُّوا من املجتهدين فيها‪ ،‬ومن أعاظم رجالها‪.‬‬
‫وذلك ل َر ِّد ما يورده بعض امللحدين عىل عقائد الدين التي جاء بها الكتاب‪.‬‬
‫وقد ألّفوا يف دفع الشبهة‪ ،‬عىل طريقة الفالسفة‪ ،‬كتبا ً كثرية يف ّ‬
‫كل زمان‪.‬‬
‫أ ّما يف عرصنا هذا؛ العرص الذي هُ ّذبت فيه الفلسفة‪ ،‬وأسندت قواعدها عىل‬

‫‪133‬‬
‫الرباهني املحسوسة‪ ،‬وت َغ َّي كثري م ّما كان قاعدة مسلَّمة عىل املتقدِّمني من‬
‫الفالسفة‪ ،‬فقد أحتاج األمر إىل تآليف جديدة عىل طريقة فالسفة العرص‬
‫للر ّد عىل املالحدة الذين كثروا كثرة الجراد‪ ،‬خصوصا ً يف البالد األوروبية‪.‬‬
‫وقد رسى لبالدنا يش ٌء من ذلك فع َّم كثريا ً من أصحاب امل ِلل املختلفة‪،‬‬
‫خصوصا ً بعض الشبّان الذين ينكرون كثريا ً من أصول األديان املسلَّم‬
‫بها‪ :‬كوجود اإلله والنب ّوات‪ ،‬ملج َّرد أنهم سمعوا أن الفيلسوف اإلنكليزي أو‬
‫الفرنساوي‪ -‬مثالً‪ -‬قال بإنكارها‪ .‬ولو طالبتهم بأداتهم عىل ذلك لَ َو َجموا‬
‫ساكتني‪ ،‬ولم ينبسوا ببنت شفة؛ وما ذلك ّإل من التقليد األعمى الذي ع َّم‬
‫َّ‬
‫وأرض بالعباد‪.‬‬ ‫البالد‪،‬‬

‫عىل أن كثريا ً من هؤالء الفالسفة رجعوا عن كثري من معتقداتهم‪ ،‬وظهر‬


‫لهم‪ ،‬باألدلّة الساطعة‪ ،‬خطأ ما كانوا يعتقدون من إنكار الصانع وعظمته‪،‬‬
‫كما تشهد بذلك مؤلَّفاتهم‪.‬‬

‫وم َّمن تصدَّى‪ ،‬يف هذا العرص‪ ،‬لدفع تلك الشبه باألدلّة العقلية‪ ،‬والشواهد‬
‫الفلسفية‪ ،‬والطبيعية‪ ،‬السيِّد جمال الدين األفغاني‪ ،‬وشيخنا األستاذ اإلمام‬
‫الشيخ محمد عبده‪ ،‬والسيِّد محمد رشيد رضا صاحب مجلّة «املنار»‪،‬‬
‫وغريهم من أفاضل علماء املسلمني‪ .‬وقد حذا حذو هؤالء األفاضل األستاذ‬
‫الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي املشهور بعلمه وفضله وغريته‪،‬‬
‫فألَّف كتابا ً من أحسن املؤلَّفات يف هذه املوضوعات‪ ،‬وهو ذو العنوان‬
‫املفتَتَح به صدر هذا املقال‪ .‬وجرى فيه مجرى الباحث الناقد‪ ،‬والفيلسوف‬
‫الخبري‪ ،‬وأبان‪ ،‬بأوضح مقال‪ ،‬أن الدين ال ينايف العقل‪ ،‬وأنهما متحالفان‬
‫ال متخالفان‪ .‬وأ َّيد باألدلّة العقلية الدامغة‪ ،‬والرباهني العلمية‪ ،‬والفنّيّة‪،‬‬
‫وصحة النب َّوات‪ ،‬وغري‬
‫ّ‬ ‫والطبيعية‪ ،‬العرصية‪ ،‬إثبات الصانع‪ -‬سبحانه‪-‬‬
‫ذلك من األصول والعقائد التي جاءت ألجلها األنبياء‪ .‬فالكتاب من خري‬
‫الكتب التي أُخ ِرجت للناس يف هذا العرص‪ .‬جزى الله م َؤلِّفه خري الجزاء‪.‬‬

‫املال والرشف‬

‫الناس‪ ،‬يف هذا العالم أقسام شتّى‪ ،‬وأنواع متباينة‪ ،‬مختلفة أطوارهم‪ ،‬غري‬
‫وح ْمل الناس عىل السري يف مذهب واحد‪ ،‬وإجبارهم عىل‬ ‫متَّفقة آراؤهم‪َ .‬‬
‫اال ّتفاق يف رأي ما َ ْ‬
‫ض ٌب من املحال‪.‬‬

‫الحقيقي‪ ،‬ومنهم‬
‫ّ‬ ‫فمن الناس من يميل إىل أم ٍر فيه رفعة قدره وخريه‬
‫ربح مادي‪ ،‬غري أنه يسقطه من الهيئة‬ ‫من ُيقدم عىل اقرتاف يشء فيه ٌ‬
‫االجتماعية‪ ،‬و ُيلبسه ثوب الخزي والعار‪ ،‬وهو ال ينظر إىل الرشف وع ّزة‬
‫ودب‪ .‬فلو أردت أن‬ ‫هب َّ‬‫النفس‪ ،‬إن كان يف ضدّهما كسب املال‪ ،‬ولو م ّما َّ‬
‫الخطة‪ ،‬وتجربه عىل سلوك الطريقة‬ ‫ّ‬ ‫تحمل مثل هذا الرجل عىل ترك هذه‬
‫أرضت ببعض ربحه املادي‪ -‬لنظر إليك شزراً‪ ،‬و‪ -‬ر َّبما‪-‬‬ ‫املثىل ‪ -‬ولو َّ‬
‫رماك بما يغيظك من الكلمات‪ .‬فأج ِد ْر بمثل هذا اإلنسان أن ُينبَذ ظهرياً‪،‬‬
‫وإن يسقط من الجامعة اإلنسانية؛ إذ اإلنسان بأخالقه الفاضلة‪ ،‬وصفاته‬
‫الكاملة‪ ،‬ال بأمواله الوافرة‪ ،‬ووجاهته العظيمة‪.‬‬

‫عىل ذلك‪ ،‬درج الرجال العظام‪ ،‬ويف تلك السبيل القويمة‪ ،‬مىش العقالء‬
‫املفكرون؛ لهذا نرى أسماءهم ُت َ‬
‫ذكر والعظمة واإلجالل حليفان لها‪ .‬أ ّما‬ ‫ّ‬
‫من خالف هذا املبدأ الرشيف‪ ،‬فحدّث‪ -‬وال حرج‪ -‬ع ّما يناله من السخط‬

‫‪135‬‬
‫العا ّم واالستهزاء به متى ُذكر أو َخطر يف بال أحد‪.‬‬

‫يفكر‪ ،‬أو وجدان يتألَّم‪ ،‬لعدلت‬


‫أيهّا البائ ُع رش َفه باملال‪ ،‬لو كان لك عقل ّ‬
‫َّ‬
‫وتنكبت تلك الطريق‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الخطة‪،‬‬ ‫عن هذه‬

‫إ ّنا نعلم كثريا ً لديهم من األموال ما ال يعلم عدده ّإل الله‪ ،‬ولكن ال نرى‬
‫يف أنفسنا ميالً إليهم‪ ،‬بل هم محت َقرون يف أعيننا‪ ،‬مرذولون يف ّ‬
‫كل نا ٍد‬
‫كل مصدر‪،‬‬ ‫ُو ِجدوا فيه‪ .‬وما ذلك ّإل ألنهم يبذلون الجهد الكتساب املال من ّ‬
‫أرض ذلك بدولتهم وأ َّمتهم‪ ،‬ألنهم ال يعملون ّإل ما يفيدهم‪ ،‬ليس ّإل‪.‬‬‫ولو َّ‬
‫ومع ذلك فلو طلبت من أحدهم إعانة تفيد الوطن عال وجهه االحمرار أو‬
‫االصفرار أو االخرضار‪ ،‬إىل غري ذلك من األلوان‪ ،‬ثم هو ال يعطيك‪ .‬وإن‬
‫أحرجته وأخجلته‪ ،‬فال يقوم للبذل ّإل كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان‬
‫املس‪ ،‬وإن م َّد يده لإلعطاء فيمدُّها مرتجفة كأنها َش ّلء‪.‬‬
‫من ّ‬

‫عىل أنه إذا وجد سبيالً إلنفاقها يف غري وجهها املرشوع‪ ،‬تراه أرسع إىل‬
‫بذلها من املاء يف منحدر‪ ،‬أو السهم إىل هدف‪ ،‬يتهلَّل بذلك ف ِرحا ً مرسوراً‪.‬‬

‫من كان عىل تلك الشاكلة فهو من أضاع الرشف للسعي وراء الل ّذة‬
‫الخاصة‪ .‬وما أجدر من كان كذلك أن ال يكون له ٌّ‬
‫حظ‬ ‫ّ‬ ‫الوهمية واملنفعة‬
‫من الكرامة‪ ،‬وال نصيب من اإلعظام!‪.‬‬

‫االستقالل الشخيص أو االعتماد عىل النفس‬

‫ما من أ ّمة طرحت عنها رداء الخمول‪ ،‬ونزعت جلباب َّ‬


‫الضعة والضعف‪،‬‬
‫ّإل كان استقالل الفكر يف أفرادها قائدها إىل ذلك‪ ،‬ورائدها إىل ما هنالك‪.‬‬
‫وما من أ ّمة تقهقرت بعد التقدُّم‪ ،‬وخملت بعد التن ُّبه‪ّ ،‬إل كان التواكل‬
‫مدعاة خمولها‪ ،‬واالعتماد عىل الغري وعدم االستقالل سبب تقهقرها‪.‬‬
‫ّ‬
‫وتنحل إرادته‪ ،‬ويفرت‬ ‫ذلك ألن املرء‪ ،‬باعتماده عىل غريه‪ ،‬يضعف عزمه‪،‬‬
‫إقدامه عىل األعمال‪ ،‬ا ِّتكاال ً عىل أن يف امليدان من يقوم بهذا العمل‪ ،‬فال‬
‫حاجة إىل إرهاق نفسه وإتعاب جسمه‪ .‬وهكذا‪ ،‬يرتك املعتمد عليهم األعمال‬
‫ُّ‬
‫وتنحل عُرى‬ ‫والسعي اعتمادا ً عىل غريهم‪ ،‬وهلَّم ج َّرا؛ وبذلك يفسد النظام‪،‬‬
‫املدنية‪ ،‬ويستويل الكسل واليأس‪ ،‬إىل أن تصبح األ ّمة يف ِّ‬
‫مؤخرة األمم‪ ،‬فإما‬
‫محق و ُتمحى‪ ،‬وإ ّما أن تستويل عليها أ ّمة أخرى‪ ،‬فتندغم فيها‪ ،‬وتصري‬ ‫أن ُت َ‬
‫جزءا ً منها‪.‬‬

‫كل فرد من أفراد األ ّمة عىل نفسه فإنه يقوى عزمه‪ ،‬وتشت ّد‬ ‫أ ّما إن اعتمد ّ‬
‫إرادته‪ ،‬فيقدم عىل األعمال غري هيّاب وال َو ِجل‪ ،‬وال وغري ُمبا ٍل بإرهاق‬
‫نفس أو إتعاب جسم‪ ،‬ومتى رسى هذا الفكر يف نفوس أفراد األ ّمة نهضت‬
‫بعد القعود‪ ،‬وتر َّقت بعد التد ّني‪ ،‬وتنبَّهت بعد الغفلة‪.‬‬

‫بث هذا الروح الطاهر‬ ‫فأ َّول ما يجب عىل املصلحني عمله هو السعي وراء ّ‬
‫يف الناس حتى ترت ّبى فيهم ملكة االستقالل واالعتماد عىل النفس‪ ،‬وبسوى‬
‫ذلك ال يمكن النهوض باأل ّمة؛ إذ إن لم يكن فيها استعداد يدفعها أن تر ّقي‬
‫نفسها بنفسها‪ ،‬دون مساعدة خارجة عنها‪ ،‬فال سبيل إىل ترقيتها واألخذ‬
‫بيدها‪ ،‬وإن تر َّقت ونهضت فال تلبث أن تسقط وتتقهقر‪ ،‬متى حال دونها‬
‫ودون املساعدة الخارجة حائل‪:‬‬

‫مالم يـــــكن مــــنها لها زاجـــر‬ ‫ِّ‬


‫غــــــيها‬ ‫ال تنتـهي األنفــــس عن‬

‫‪137‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫وهذا هو الشأن يف الحكومات‪ ،‬كما هو يف األمم‪ ،‬فإن الحكومة التي ليس‬


‫لها استعداد لدفع الطوارئ‪ ،‬فإنها تكون‪ ،‬بحكم الطبيعة‪ ،‬منقادة لحكومة‬
‫أعظم منها ق ّو ًة وآثارا ً يف األرض‪ ،‬تأتمر بأمرها وتنتهي بنهيها‪ ،‬وتفتح لها‬
‫األبواب لتَل ِجَ يف أراضيها‪ ،‬وتستثمرها‪ ،‬وتستب ّد بمرافقها ومصالحها‪ ،‬يف‬
‫مقابل حمايتها ودفع الكوارث عنها‪ ،‬غري أن هذه الحماية ال تبقى أبد‬
‫تنحل يوما ً ما‪ ،‬فت ُؤول تلك الحكومة املتَّكلة عىل غريها‬
‫ُّ‬ ‫الدهر‪ ،‬بل الب َّد أنها‬
‫عرضة للحوادث‪ ،‬وهدفا ً لسهام الطامعني‪.‬‬ ‫ً‬

‫ليس معنى االستقالل الفكري أو االعتماد عىل النفس أن يرتك اإلنسان‬


‫مشورة غريه م َّمن يعتقد فيهم العقل والعلم واالختبار‪ .‬كال‪ ،‬إنما هو أن ال‬
‫يفكر‪ ،‬بل ليفتكر ويعمل‬ ‫والتفكر ا ِّتكاال ً عىل أن غريه يعمل أو ِّ‬
‫ُّ‬ ‫يرتك العمل‬
‫هو‪ ،‬أيضاً‪ ،‬فإن كان فكره وعمله خريا ً من فكر غريه وعمله‪َ ،‬فبِها‪ ،‬ونع َّمتْ ‪،‬‬
‫مستقل الفكر أيضاً‪ ،‬إذ لم‬ ‫َّ‬ ‫وإل إنقاد لفكر سواه وعمل به‪ ،‬وبذلك يكون‬ ‫ّ‬
‫يجربه أحد عىل ا ِّتباع غريه أو عدم ا ِّتباعه‪ ،‬بل إن فكره هو الذي أرشده إىل‬
‫حق‪.‬‬‫أن ما جاء به فالن من األعمال‪ ،‬أو أبداه من األفكار‪ ،‬هو ّ‬

‫الخاصة‪ ،‬كتعليم أبنائهم وتشييد‬


‫ّ‬ ‫ري من الناس يهملون شؤونهم‬ ‫كث ُ‬
‫املدارس‪ ،‬واملعامل وغري ذلك؛ اعتمادا ً عىل الحكومة‪ .‬ولو عقلوا ألقلعوا‬
‫عن هذا الفكر‪ ،‬ألن األ ّمة التي تعتمد عىل الحكومة‪ ،‬يف مثل ذلك‪ ،‬هي أ ّمة‬
‫متقهقرة ساقطة‪ ،‬واألمم الحيّة الراقية هي التي تشيِّد املدارس وتنشئُ‬
‫املعامل واملصانع غري متَّكلة عىل حكومة‪ ،‬وال معتمدة عىل حاكم‪.‬‬
‫ّ‬
‫منحطة‬ ‫إن الحكومة هي تابعة لألمم‪ ،‬رقيّا ً وانحطاطاً؛ فمتى كانت األ ّمة‬
‫انحطت حكومتها بحكم القرس‪ ،‬ومتى كانت األ ّمة راقية تر َّقت معها‬ ‫َّ‬

‫‪138‬‬
‫بحكم الرضورة‪ ،‬ألن الحكومة هي صورة أفراد الشعب املحكوم ومثاله‬
‫كل حال‪ .‬فإن ا َّتفق أن الحكومة كانت‬ ‫وخالصته؛ إذ هي منه وله‪ ،‬عىل ّ‬
‫تنحط وتتقهقر إليه‪ ،‬والعكس بالعكس‪« :‬كما‬ ‫ّ‬ ‫أرقى من األ ّمة فال تلبث أن‬
‫تكونون ُي َو َّل عليكم»‪ ،‬فإن كانت األ ّمة مستقيمة ميّالة إىل العدل والح ّر ّية‬
‫والفضائل ُحكمت بحكومة ال ِع َوج فيها وال استبداد وال جور وال رذيلة‪،‬‬
‫ّ‬
‫للحق‪،‬‬ ‫وإن كانت األ ّمة جاهلة فاجرة‪ ،‬ال يريد أفرادها العدل وال يخضعون‬
‫ّ‬
‫الحق‪،‬‬ ‫حكمت بحكومة جاهلة فاجرة ظاملة مستبدّة عوجاء‪ ،‬ال تميل إىل‬
‫وال تخضع للعدل‪ .‬والخالصة أن أخالق األ ّمة‪ ،‬إن خريا ً وإن رشاً‪ ،‬تنطبع يف‬
‫مرآة وجدان الحكومة‪.‬‬

‫فإن أرادت أ ّمة أن يكون لها حكومة عادلة ودولة قو ّية‪ ،‬فعليها بإصالح‬
‫وحب العلم وغري‬‫ّ‬ ‫أخالق أفرادها‪ ،‬وتعويدهم الفضيلة والح ّر ّية الصحيحة‬
‫ذلك من الصفات وامللَكات العادلة‪ .‬ومتى ت َّم لها ذلك‪ ،‬وصار الشعب‬
‫عادال ً عاملا ً مرت ِّبيا ً أضحت الحكومة تابعة له‪ ،‬رقيّا ً وعدالً‪ .‬ومتى أضحت‬
‫الحق‪ّ .‬‬
‫وكل هذه‬ ‫ّ‬ ‫الحكومة كذلك انقطعت أسباب الرشوة والحكم بغري‬
‫األسباب املتقدِّمة تدعو الشعب ملساعدة الحكومة‪ ،‬ما ّد ّيا ً وأدبيّاً‪ .‬ومتى‬
‫استغنت الحكومة‪ ،‬وكانت متن ِّزهة عن الرذائل‪ -‬كما قدَّمنا‪ -‬تسعى لجمع‬
‫شتاتها‪ ،‬وإصالح فاسدها‪ ،‬وتقوية جيوشها وأساطيلها‪ ،‬تصبح دولة‬
‫مرهوبة السطوة‪ ،‬مرعيّة الجانب‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫فكري‪ ،‬وعميلّ‪ .‬وقد كانت األ ّمة محرومة من كليهما‬


‫ّ‬ ‫االستقالل قسمان‪:‬‬
‫بما أفسده الظاملون من نفوسها؛ لهذا لم نكن سمع لها صوتا ً يف عالم‬

‫‪139‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫الرقي‬
‫ّ‬ ‫الحياة‪ُ ،‬يع ِرب ع ّما يخالج فؤادها من اآلراء واألفكار التي ّ‬
‫تدل عىل‬
‫الفكري‪ ،‬ولم نكن نرى لها عمالً يف ميدان الجهاد الحيوي يرفع بها إىل‬
‫ذروة االعتبار‪ ،‬ويجعلها يف صفوف األمم الحيّة الراقية‪ ،‬بل كان فكرها‬
‫كل سائر‪ ،‬وما ذلك ّإل لضعف‬ ‫لكل ناعق ومقت ِفيَ ْي أثر ّ‬
‫وعملها تابع َْي ّ‬
‫اإلرادة وخمول العقل وفتور اله ّمة‪ .‬وإنا لنرجو‪ ،‬بعد أن نالت األ ّمة‬
‫ح ِّر َّيتها‪ ،‬أن تنزع عنها رداء الخمول‪ ،‬وتربأ بنفسها أن تكون أ ّمة تابعة‪،‬‬
‫ال إرادة لها وال فكر‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬ال ننكر أننا‪ ،‬اآلن‪ ،‬لم نزل محتاجني إىل غرينا يف كثري من اآلراء‬
‫واألعمال‪ ،‬غري أننا‪ ،‬لو ثابرنا عىل تذليل الصعاب وإزالة العقبات‪ ،‬فال نلبث‬
‫بح ْول الله وق ّوته‪ .‬فإن األمم الغربية التي‬
‫أن نصل إىل الغاية املقصودة َ‬
‫أحط منا‪ ،‬اآلن‪ ،‬علما ً وعمالً‪،‬‬
‫نقلِّدها ونعتمد عليها يف العلم والعمل كانت ّ‬
‫بل لم يكن لديها ما يصحّ أن ُي َس ّمى علما ً وعمالً‪ ،‬لكنها‪ ،‬بعد اختالطها‬
‫باألمم املرشقية واأل ّمة األندلسية‪ ،‬جدَّت واجتهدت‪ ،‬حتى بلغت ما هي عليه‬
‫اآلن من الرت ّقي الباهر يف العلم والعمل‪:‬‬

‫لمجــــــدنا من هـــــ َّوة المصـــرع‬ ‫وليس بدع ًا إن نكـــــن‪ ،‬ترتقــي‬

‫وتنجـــــلي في رائــــع المطــــــلع‬ ‫فالشمس بعد الكســـف تبدو لنا‬

‫واليــأس يُقصــي داني المنجع‬


‫(((‬
‫والجد يدني شـــاســعات المنى‬
‫ّ‬

‫‪..........‬‬

‫((( األبيات ملؤلِّف الكتاب‪ ،‬من إحدى «القصائد الرشقيات»‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫شب ولم‬‫يجب أن نر ّبي ملَكة االستقالل يف النشء‪ ،‬منذ الصغر‪ ،‬حتى إذا َّ‬
‫يكن له من َيعوله أو يعتمد عليه‪ ،‬كان اعتماده عىل نفسه رأس مال عظيم‪،‬‬
‫حب االستقالل مل َ ً‬
‫كة‬ ‫يستعني به عىل مكافحة أهوال هذه الحياة‪ ،‬فإن َم ْن ُّ‬
‫فيه تهون عليه الصعاب‪ ،‬و ُت َذ ُّل لديه العِقاب‪ ،‬ويبذل يف سبيل الحياة َّ‬
‫كل‬
‫ما يف وسعه‪ ،‬ويفرغ مجهوده دون الوصول إىل غايته والحصول عىل‬
‫بغيته‪.‬‬
‫أ ّما َم ْن ينشأ كما ينشأ أكثر الرشقيني‪ً ،‬‬
‫عالة عىل آبائهم‪ ،‬ال يعرفون للحياة‬
‫الحقيقية معنى‪ ،‬وال يدرون لحقوق الوطنيّة كنهاً‪ ،‬فهم يعيشون كما‬
‫تعيش البهائم السائمة‪ ،‬ألن ل ّذة الحياة بالعمل‪ ،‬وال عمل‪ -‬ح ّقاً‪ّ -‬إل العمل‬
‫الناشئ‪ ،‬عن االجتهاد واالعتماد عىل النفس واالستقالل يف الفكر والعمل‪.‬‬

‫متى نشأ الولد فليع ِّوده أبواه‪ ،‬أو من له الوالية عليه عد َم اال ِّتكال عىل أحد‬
‫كل عمل‪ ،‬حتى إذا بلغ الحياة العملية فليرتَك وشأنه‪ ،‬يد ِّبر لنفسه عمالً‬ ‫يف ّ‬
‫يستعني به عىل الحياة حياة طيِّبة‪ ،‬غري أننا عىل غري هذا املبدأ‪ ،‬فإن الوالد ال‬
‫يرتك ولده يعمل ويفتكر ّإل بعد أن يبلغ من الك َِب عتيّاً‪ ،‬فينشأ الولد خامالً‬
‫كسالنا ً معتمدا ً عىل أبيه أو عىل ما يرتكه له من املال والعقار؛ لذلك تراه‬
‫ال يمكنه أن يأتي عمالً أو يجيد يف رأي‪ ،‬وهناك املستقبل التعس وحياة‬
‫الشقاء‪ .‬والحال غري هذا يف النشء الغربي‪ ،‬فإنه ُي َع َّود‪ ،‬منذ نعومة أظفاره‪،‬‬
‫هذا املبدأ الرشيف الراقي؛ مبدأ االستقالل يف الفكر والعمل‪ ،‬حتى إذا بلغ‬
‫تخل عنه أبواه وقذفا به يف معرتك الحياة وميدان الجهاد‪،‬‬ ‫مبلغ الشباب ّ‬
‫وهناك املستقبل الحسن والغاية الجيِّدة والحياة الطيبة والعيشة الراضية‪:‬‬

‫من ال يع ِ ّول في الدنيا على ر َُج ِل‬ ‫وإنما رجـــل الدنيا وواحــــدها‬

‫‪141‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫إذا لم تكن أفراد األ ّمة معتمدة عىل نفسها متَّكلة عىل ما لديها من األخالق‬
‫رقي‪ ،‬مهما كانت قوانينها‬‫والعلم والعمل‪ ،‬فال ح ّر ّية لديها‪ ،‬وال ُيرجى لها ّ‬
‫عادلة ومشتملة عىل ما فيه خري األ ّمة والوطن؛ ذلك ألن القوانني واألنظمة‬
‫لف استعدادا ً يف النفوس‪ ،‬ورجاال ً يعملون بها وين ِّفذونها‪ ،‬فإنما‬
‫إذا لم ُت ِ‬
‫هي حرب عىل ورق‪ .‬و َمثَلها‪ ،‬حينئذ‪ ،‬ك َمثَل ما ُسقِيت به الصخور؛ فال تنبت‬
‫شيئاً‪ ،‬ويكون املاء قد ذهب هدرا ً وضياعاً‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫القوانني ال تجعل الناس أحراراً‪ ،‬مهما كانت فاضلة‪ ،‬غري أن الناس قد‬
‫حكم بها‬ ‫اعتادوا أن يعتقدوا خريهم ونجاحهم مسبَّبان عن األنظمة التي ُت َ‬
‫بالدهم‪ ،‬وهم مخطئون‪ ،‬يف هذا االعتقاد‪ ،‬خطأ ً بيِّنا ً ال ُيغتَفر‪ .‬إذ أية فائدة‬
‫من القوانني‪ ،‬إن لم تكن نفوس الشعب مستعدّة ملا تحويه من األصول‬
‫أي نفع من النظامات‪ ،‬إذا لم يوجد لها حاكم أمني ين ِّفذها‬ ‫واملواد؟‪ ،‬بل ّ‬
‫بكل صدق واستقامة؟ فالقوانني ال تجعل الخامل ذكيّاً‪ ،‬وال الكسول‬ ‫ّ‬
‫مجتهداً‪ ،‬وال فاسد األخالق طاهرا ً كامالً‪ ،‬واألنظمة ال تمحو الجرائم‪ ،‬وال‬
‫تردع الناس عن املنكرات‪ ،‬وال تخ ِّفف عنهم الويالت‪ ،‬وال تجعلهم سعداء‪،‬‬
‫ّإل إذا أتاح لها َح ّكام أ ُ َمناء‪ .‬قال عثمان بن عفان‪ -‬ريض الله عنه‪« :-‬يزع‬
‫الله بالسلطان ما ال يزع بالقرآن» وما للقوانني من فائدة عملية سوى‬
‫أنها تكون بمثابة املرشد للشعب‪ ،‬والدليل للحاكم‪ ،‬يستعني به عىل إجراء‬
‫ّ‬
‫بالحق‪ ،‬حتى ال يميل‪ ،‬وال يجنف‪.‬‬ ‫العدل والحكم‬

‫فالنظامات التي يحكم بها قوم أولو َنصفة وعدل‪ ،‬وذوو وجدان ح ّر‬
‫ِّ‬
‫وتمكنهم من اكتساب ما‬ ‫طاهر‪ ،‬تكون وسيلة لجعل املحكومني سعداء‪،‬‬

‫‪142‬‬
‫يجعلهم يف سعة من العيش ورغد من الحياة‪ ،‬وتسهّل لهم اجتناء ثمرة‬
‫أعمالهم وأفكارهم‪.‬‬

‫والنظامات التي يحكم بها قوم أولو َجنَف واستبداد‪ ،‬وذوو وجدان‬
‫خبيث يميل مع الهوى‪ ،‬تكون سببا ً لشقاء الشعوب‪ ،‬ووسيلة ليأسهم من‬
‫الحياة الطيِّبة والعيشة الراضية‪ ،‬مهما كانت تلك النظامات عادلة وجيِّدة؛‬
‫الحكام من هذه الطبقة يؤ ِّولون النصوص عىل حسب رغباتهم‬ ‫ّ‬ ‫ذلك ألن‬
‫ومشتهياتهم‪ ،‬وعىل ما يوافق هواهم ومنفعتهم الشخصية‪.‬‬

‫وهذا هو الشأن يف الحكومة املاضية‪ ،‬فإن ما لديها من القوانني عادل‬


‫وصحيح (وإن لزمه بعض تحوير وتنقيح)‪ ،‬غري أن الذين كانوا يحكمون‬
‫بها قوم ال وجدان ح ّرا ً لهم وال عدل وال إنصاف لديهم (اللهم‪ّ ،‬إل قليالً‬
‫نادراً‪ ،‬والنادر ال حكم له)‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫كل عمل من األعمال الب َّد لحصوله من القابليّة والفاعليّة‪ ،‬فإن عدمت‬ ‫ّ‬
‫أحداهما َب ُطل العمل‪ .‬فإن لم توجد قابلية اإلصالح يف الشعب فال يمكن‬
‫أن يكون راقياً‪ ،‬مهما كانت الوسائل ف ّعالة قو ّية‪ ،‬وإن لم توجد الفاعليّة‬
‫فمن العبث محاولة ترقية الشعب‪ ،‬مهما كانت القابليّة عظيمة‪ ،‬ومهما‬
‫كان مستعدّا ً لإلصالح واالرتقاء‪ ،‬ألن املسبّب ال يوجد بدون السبب‪ ،‬فمتى‬
‫انعدم السبب انعدم املسبّب‪ ،‬ال محالة‪.‬‬

‫فاألمم التي يوجد لها فاعلية‪ ،‬وليست فيها قابلية ليتح َّقق معنى االستقالل‪،‬‬
‫يجب أن تر ّبى‪ ،‬و ُيبَ ّث فيها روح النشاط والحياة االجتماعية‪ ،‬حتى إذا‬

‫‪143‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫َّ‬
‫تمكنت منها تلك الروح نشطت واستعدّت ملا ُتلقيه إليها تلك الفاعليّة‪.‬‬

‫تؤثر فيها وتنهض بها‪،‬‬‫واألمم التي يوجد فيها قابلية‪ ،‬وليست لها فاعلية ِّ‬
‫يجب أن يذهب أفراد منها لتل ّقي العلم ودرس الح ّر ّية الصحيحة وتعلُّم‬
‫كل ذلك رجعوا إىل قومهم‬ ‫تمكنوا من ّ‬
‫األعمال املفيدة والصناعات‪ ،‬حتى إذا َّ‬
‫وقد أتوهم بفاعليّة عظيمة وأسباب قو ّية‪ .‬وهناك‪ ،‬يبثّون فيهم ما درسوه‪،‬‬
‫ويوحون إليهم ما تعلَّموه‪ .‬وليست القابليّة ّإل االستعداد لليشء‪ ،‬وليست‬
‫كل أ ّمة امتازت برجاحة عقلها‪ ،‬وسم ّو مداركها‪،‬‬ ‫الفاعليّة ّإل طائفة من ّ‬
‫ووفرة معارفها‪ ،‬وإحكامها األعمال والصناعات‪.‬‬

‫ّ‬
‫لتجل لنا‬ ‫رقي األمم ونجاحها؛ إذ لو بحثنا بحثا ً دقيقا ً‬
‫فعىل هؤالء يتو َّقف ّ‬
‫كل الشعوب املتمدِّنة الراقية لم تصل إىل ما وصلت إليه من التقدُّم ّإل‬ ‫أن ّ‬
‫بواسطة أفراد قالئل‪ ،‬بالنسبة إىل مجموع ذلك الشعب‪ .‬وهؤالء األفراد هم‬
‫وكل ما يفيد بني‬ ‫األىل أوجدوا املدنية‪ ،‬وأحدثوا الصناعات‪ ،‬ونرشوا العلم ّ‬
‫أقوامهم‪.‬‬

‫يجب أن ال تنتظر األ ّمة املساعدة الخارجة‪ ،‬وال تعتمد‪ ،‬يف ترقيتها ونجاحها‪،‬‬
‫ّإل عىل نفسها‪ ،‬ألن تلك املساعدة‪ ،‬متى انقطعت قبل أن تصل األ ّمة إىل‬
‫الغاية املقصودة‪ ،‬تقهقرت‪ ،‬ورجعت إىل ّ‬
‫رش م ّما كانت عليه‪.‬‬

‫وكذا يجب أن ال يرتقب الشعب املساعدة من الحكومة‪ ،‬بل يجب عليه أن‬
‫يساعد ‪ -‬هو‪ -‬الحكومة بما ّد ّياته وأدبيّاته‪ ،‬ألن الشعب الذي يكون عالة‬
‫عىل الحكومة يثقل كاهلها‪ .‬وقد َقدَّمنا أن الحكومة تكون تابعة للشعب‬
‫تر ِّقيا ً وتقهقراً‪ ،‬فلو لجأ الشعب إىل حكومته تكون‪ ،‬حينئذ‪ ،‬الحكومة أقوى‬
‫ّ‬
‫تنحط الحكومة‪،‬‬ ‫أحط منها فال يميض مدّة حتى‬ ‫منه‪ ،‬ويكون ‪ -‬هو ‪َّ -‬‬

‫‪144‬‬
‫وتقهقر إىل الشعب‪ ،‬وبذلك يكون انحالل القسمني وفساد الق َّوتني‪.‬‬

‫أ َ ّما إن لم تعتمد األ ّمة عىل الحكومة‪ ،‬بل كانت ُمتَّكلة عىل نفسها‪ ،‬فإنها‬
‫للرقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ترقى‪ ،‬يف يسري من الزمن‪ ،‬متى استكملت الرشوط املطلوبة‬
‫وحينئذ‪ ،‬إن كانت حكومتها متقهقرة متد ّنية فالب َّد أن تنهض وترقى‪،‬‬
‫حتى تجاري األ ّمة الراقية التي تحكمها‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫القابليّة والفاعليّة‬

‫القابليّة هي استعداد الحيوان أو النبات أو الجماد للرت ّقي ع ّما هو فيه‬


‫أحط وأدنى‪ ،‬والفاعليّة هي ِّ‬
‫املؤثر‬ ‫ُّ‬ ‫إىل ما هو أسمى وأفضل‪ ،‬أو ملا هو‬
‫يف هذه املواليد الثالثة‪ ،‬ارتقا ًء وانحطاطاً‪ ،‬غري أنهما شائعتان يف الرت ّقي‬
‫واألفضليّة‪ ،‬وذلك من باب تغليب اللفظ عىل أحد معنَيَيْه‪ ،‬وال مشاحة يف‬
‫اإلصالح‪.‬‬
‫خلق الله هذه املواليد‪ ،‬وجعل فيها استعدادا ً وقابليّة للخري وال ّ‬
‫رش أو‬
‫الرت ّقي والتد ّني‪ ،‬غري أن بعضها يكون االستعداد فيه عظيماً‪ ،‬واآلخر يكون‬
‫وسطاً‪ ،‬وغريهما يكون فيه متد ِّنيا ً أو ًّ‬
‫مغش‪ ،‬بحيث ُيعتَ َب كأنه غري‬ ‫فيه َ‬
‫موجود‪ ،‬ثم خلق لهذا االستعداد أو القابليّة أسبابا ً ووسائل أو ِّ‬
‫مؤثرات‬
‫وفواعل‪ُ ،‬تعمِل محراثها يف أرضهما ليظهر ما َكمن فيهما من خري و ّ‬
‫رش‪،‬‬
‫عىل مقتىض ذلك ِّ‬
‫املؤثر‪.‬‬
‫املؤثر فيكون ِّ‬
‫املؤثر كالعدم‪،‬‬ ‫فإن لم يوجد يف املواليد استعداد لق ّوة ذلك ِّ‬
‫وهكذا إن ُعدِم ِّ‬
‫املؤثر مع وجود القابليّة يف املواليد‪ ،‬فتكون القابليّة كالعدم‪،‬‬
‫أيضاً‪.‬‬

‫وتوضيح ذلك أنك لو عمدت إىل أرض ليس فيها استعداد لإلنبات كأن‬

‫‪147‬‬
‫تكون سبخة أو صخرية‪ ،‬وبذرت فيها البذور‪ ،‬مع االعتناء التا ّم‪ ،‬فال ُتنبِت‬
‫واملؤثر موجودان‪ ،‬ذلك ألن القابليّة‬ ‫ِّ‬ ‫تلك األرض شيئاً‪ ،‬مع أن الفاعليّة‬
‫مفقودة يف تلك األرض‪ .‬ولو عمدت إىل أرض فيها استعداد لإلنبات‪ ،‬فإن‬
‫أنبتت تلك األرض فيكون نباتها قليالً غري جيِّد‪ ،‬ذلك لفقدان الق ّوة ِّ‬
‫املؤثرة‪.‬‬
‫ولو كانت األرض صالحة ووسائل إنباتها موجودة ألنبتت نباتا ً حسناً‪،‬‬
‫وأعطت أ ُ ُكلَها كما يريد الزارع‪.‬‬
‫ّ‬
‫«الفخار»‪ ،‬وطرقتها بمطرقة‪ ،‬لتجعلها‬ ‫ولو أتيت بقطعة من الخزف‬
‫تتحطم؛ ألنها غري قابلة لذلك‪ .‬وكذا لو جئت بقطعة‬ ‫َّ‬ ‫إنا ًء فال تلبث أن‬
‫من النحاس‪ ،‬وأردت أن تح ِّولها إىل إناء بيدك‪ ،‬من غري مطرقة‪ ،‬فال يت ّم‬
‫املؤثر‪ .‬ولو أتيت بقطعة نحاس إىل صانع‪َ ،‬‬
‫وط َرقها عىل‬ ‫ذلك لفقد السبب ِّ‬
‫مقتىض األصول‪ ،‬تصري إنا ًء صالحا ً لالستخدام‪.‬‬

‫ولو أتيت بإنسان وحملته عىل أن يتعلَّم علماً‪ ،‬ليس يف استطاعته أن‬
‫يتعلَّمه‪ ،‬لِ َعدَم امليل إليه‪ ،‬أو لضيق عقله عنه‪ ،‬فال يتعلَّم ذلك العلم ولو‬
‫أتيت له بأمهر املعلِّمني وأبرع األساتذة؛ ذلك ألنه لم يكن فيه استعداد‬
‫رس يف عدم نجاح كثري من‬ ‫يؤ ّهله لتعلُّم ما تريد تعليمه إ ّياه‪ .‬وهذا هو ال ّ‬
‫نظر يف ميل التلميذ ورغبته‬ ‫طلبة العلوم وتالميذ املدارس‪ .‬لذلك يجب أن ُي َ‬
‫فليخصص‬‫َّ‬ ‫ومقدار عقله‪ ،‬فإن ُو ِجد ميّاال ً للعلم‪ ،‬وكان فيه استعداد له‬
‫فليخصص لهما‪،‬‬‫َّ‬ ‫لذلك‪ ،‬وإن ُو ِجد فيه ميل للتجارة أو الزراعة أو الصناعة‬
‫وإل أضاع عمره ووقته ومستقبل أ ّيامه سدًى‪ .‬ولو أتيت بإنسان فيه‬ ‫ّ‬
‫استعداد للعلم مطلقاً‪ ،‬أو لف ٍّن من الفنون‪ ،‬كاألدب والفلسفة‪ ،‬غري أنك جئت‬
‫بمعلِّم ال يعرف ذلك الف ّن أو هو غري متق ٍن فله‪ ،‬فال يمكن للتلميذ أن يتعلَّم‬
‫املؤثرة مفقودة‪ ،‬وهذا‬ ‫هذا الف ّن‪ ،‬ولو مكث بضع سنني‪ ،‬ذلك ألن الق َّوة ِّ‬
‫رس يف ضياع كثري من التالميذ وإضاعة أوقاتهم عىل غري جدوى وال‬ ‫هو ال ّ‬
‫فائدة‪ ،‬وهذا ما يجب أن ينظر إليه أصحاب املدارس‪ -‬خصوصا ً املدارس‬
‫سني‬
‫ّ‬ ‫التابعة للحكومة‪ -‬حرصا ً عىل هؤالء التالميذ املساكني من تمضية‬
‫يحصلوا ما قصدوا إليه من الفنون‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫والنصب‪ ،‬دون أن‬ ‫َ‬ ‫حياتهم يف التعب‬
‫ولو أتيت بتلميذ فيه استعداد ل َف ّن من الفنون‪ ،‬وسلَّمته إىل معلِّم قادر عىل‬
‫تدريس هذا الف ّن لَنَجح يف وقت قصري‪.‬‬
‫كل شعب ّ‬
‫وكل أ ّمة عليه‪ ،‬فإن األ ّمة‬ ‫إذا وضح ما تقدَّم أمكن أن نطبِّق حالة ّ‬
‫التي سمت مداركها واشتدَّت عزيمتها‪ ،‬واستدّت سهام إقدامها تكون قابلة‬
‫لكل نجاح‪ ،‬وهذا هو الشأن يف األمم األوروبية‪ ،‬فإنها‬ ‫لكل رقي‪ ،‬ومستعدّة ّ‬ ‫ّ‬
‫تتسكع يف دياجري األوهام‪ ،‬وتخبط يف‬ ‫َّ‬ ‫بعد أن كانت أمما ً خاملة جاهلة‬
‫ظالم الجهل‪ ،‬وتسبح يف بحار االستبداد‪ ،‬نبغ فيها قوم أجهدوا نفوسهم‪،‬‬
‫وذلَّلوا الصعاب‪ ،‬وهاجروا يف سبيل تحصيل العلم وتل ّقيه عن أساتذتهم‬
‫العرب ‪ -‬الذين كانوا يف ذلك الحني أ ّمة حيّة‪ ،‬هي مثال العلوم والفنون‬
‫والرقي والق ّوة واملنعَة والتربيز عىل األقران‪ ،‬يف ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫والصناعات والتقدُّم‬
‫معنى من معاني الحياة االجتماعية‪ ،‬واملا ّد ّية‪ ،‬والسياسة‪ -‬فل ّما نالوا ما‬
‫قصدوا إليه رجعوا إىل قومهم‪ ،‬وبثّوا فيهم تلك الروح العالية التي نالوها‬
‫من العرب‪ ،‬سوا ٌء يف املرشق ويف األندلس‪ ،‬ونرشوا بينهم أنوار تلك العلوم‬
‫التي اقتبسوها‪ ،‬وما زالوا بشعوبهم يعلِّمونهم ويحثّونهم عىل اكتساب‬
‫العلم والهجرة إليه‪ ،‬حتى تنبّهوا‪ ،‬شيئا ً فشيئاً‪ ،‬إىل أن وصلوا إىل ما هم فيه‬
‫اآلن‪ ،‬فصاروا أساتذة العلوم والفنون‪ ،‬ومرجع الصناعات واالخرتاعات‪،‬‬
‫تأخرنا باعاً‪ ،‬وكلَّما تقدَّموا باعا ً‬
‫فكانوا كلَّما تقدَّموا إىل العلم واملدنيّة ذراعا ً َّ‬
‫وقصنا‪ ،‬وأفاقوا ونمنا‪ ،‬وصاروا يفتخرون بأعمالهم‪،‬‬ ‫تأخرنا ميالً‪ ،‬فبلغوا ّ‬ ‫َّ‬

‫‪149‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ونفتخر بأجدادنا‪ ،‬ويباهون بمجدهم الحارض‪ ،‬و ُنزهي بمجدنا الغابر‪:‬‬

‫على ما تجلى يومه ال ابن أمسه‬ ‫لعمرك‪ ،‬ما اإلنسان إ ّلا ابن يومه‬

‫فخار الذي يبغي الفخار بنفسه‬ ‫وما الفخر بالعظم الرميم وإنما‬

‫هذا مثال من أمثلة الشعوب التي تر َّقت بعد االنحطاط بسبب تربية النقل‬
‫وامليل إىل الفضائل‪ ،‬حتى ُغ ِرست فيها شجرة القابليّة التي أثمرت ما نراه‪،‬‬
‫اليوم‪ ،‬من الثمرات الجنيّة الطيِّبة‪.‬‬

‫ّ‬
‫الحق‪،‬‬ ‫فعىس أن يقوم فينا رجال كما قام فيهم رجال‪ ،‬فريشدونا إىل املهيع‬
‫ويأخذوا بأيدينا إىل رصاط الحياة املستقيم‪ ،‬وير ّبوا يف نفوسنا االستعداد‬
‫لصالح األعمال‪ ،‬حتى نرجع إىل مجدنا السالف‪ ،‬ونحيي ما مات من‬
‫وإل فعبثا ً يحاول من ينادي األ ّمة لرتقى‪ ،‬دون أن يمهِّد لها السبيل‪،‬‬ ‫آثارنا‪ّ ،‬‬
‫ويغرس يف نفوسها أدواح املَيْل‪ ،‬ويقذف بأبنائها يف املدارس‪ ،‬حتى تدرك‬
‫معنى الحياة واالجتماع وفائدة النهوض‪ ،‬فإن املدارس الحقيقية هي التي‬
‫تر ِّبي االستعداد وتن ّمي القابليّة‪ ،‬ومتى ت َّم هذان األمران يف األ ّمة ووجد لها‬
‫فبشها بالنجاح العاجل والفالح القريب‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫مؤثر وفاعل‪ِّ ،‬‬

‫فإن قيل‪ :‬أ ّية فائدة من إيجاد املدارس التي تر ِّبي االستعداد‪ ،‬إذا لم يكن‬
‫هناك فاعليّة‪ ،‬وهي الق ّوة التي تقوم بتنظيم هذه املدارس وإدارتها ّ‬
‫وبث‬
‫هذه الروح فيها‪ ،‬فإن هذه الق ّوة مفقودة عندنا؟‪ ،‬فنقول‪ :‬لقد أخطأ من‬
‫قال ذلك‪ ،‬فإن الق ّوة ليست بمفقودة‪ ،‬ولكن من يتطلَّبها مفقود‪ ،‬ولو بحث‬
‫عنها لوجدها‪ ،‬وهي بمنزلة الق ّوة الكهربائية‪ ،‬ال تظهر ّإل باالحتكاك‪ ،‬فلو‬
‫طلبها الطالبون لرأوا من آثارها عجباً‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫نعم‪ ،‬إن هذه الق ّوة ليست كما نريد؛ ألنها منحرصة يف فئة قليلة ال تكاد‬
‫تقوم بحاجيّات األ ّمة‪ ،‬لكنها‪ ،‬لعدم استخدامها واالنتفاع بها‪ ،‬فرتت ه َّمتها‬
‫وقلَّت الفئة املودَعة هي فيها‪ .‬عىل أنها‪ ،‬وإن كانت قليلة اليوم‪ ،‬ستكون‬
‫عظيمة يف املستقبل‪ ،‬خصوصا ً إذا أرسلنا طائفة غريها إىل بالد العلم‪،‬‬
‫حتى إذا نالت ما ترجوه رجعت ونفعت قومها‪« :‬اطلبوا العلم من املهد إىل‬
‫اللحد»‪« ،‬اطلبوا العلم ولو يف الصني»‪.‬‬

‫رقي هذه األ ّمة‪ ،‬وحكموا بعدم نهوضها من كبوتها؛‬ ‫قوم يئسوا من ّ‬ ‫ُر َّب ٍ‬
‫بسبب ما أفسده الظاملون من نفوسها‪ ،‬وما د ّمروه من قواعد مجدها‪ ،‬ولو‬
‫تأ َّملوا قليالً‪ ،‬ونظروا يف حال الشعوب الغربية وما كانت فيه وما آلت إليه‪،‬‬
‫لرجعوا عن هذا االعتقاد‪ ،‬فإن حالتنا‪ ،‬اليوم‪ ،‬هي خري من حالة تلك األمم‬
‫قبل أن ترى بصيصا ً من العلم‪ ،‬ومع ذلك فقد نجحت حتى بهرت الرشق‬
‫بعلومها واخرتاعاتها‪ ،‬وما ذلك ّإل بما بذلته من اله ّمة القعساء‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬إن بقي فينا قوم يائسون‪ ،‬ورهط من ّفرون‪ ،‬يثبِّطون الهمم‪،‬‬
‫ويلقون العقبات يف سبيل املصلحني والذين يريدون إنهاض األ ّمة‪،‬‬
‫فإننا‪ -‬بال ريب‪ -‬نبقى كما نحن اآلن؛ عالة عىل األوروبيني يف ّ‬
‫كل‬
‫يشء‪ .‬أ ّما إن رفعنا بر ُقع الجهل‪ ،‬وقتلنا مكاريب اليأس‪ ،‬وأنحينا‬
‫الرقي‪ ،‬ثم أخذنا بأيدي املصلحني‬
‫ّ‬ ‫بالالئمة عىل مثبّطي الهمم وأعداء‬
‫وأعَناَّهم عىل ما يقصدون‪ ،‬فال يميض حني من الدهر حتى نضارع‬
‫كل يشء‪ .‬وما ذلك‪ ،‬عىل الهمم العالية‬ ‫األمم الغربية‪ ،‬بل نفوقها يف ّ‬
‫الرشقي مشهور‪ ،‬واألقاليم‬
‫ّ‬ ‫والنفوس الطاهرة‪ ،‬بعزيز؛ فإن الذكاء‬
‫ُ‬
‫رين‬ ‫التي يقطنها هي أحسن األقاليم‪ ،‬ولكن‪ ،‬قد َ‬
‫ران عىل ذكائنا‬
‫الخمول والظلم‪ ،‬واختلط برتب أراضينا ميكروب اإلهمال واال ِّتكال‪،‬‬

‫‪151‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ومتى كشف الغطاء‪ ،‬وماتت جراثيم ذلك الداء‪ ،‬فسريى الغربي منا‬
‫عجائب األشياء‪ ،‬ويسمع غرائب األنباء‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫مؤكد‪ ،‬متى وضعنا هذه األقوال موضع العمل‬ ‫الرقي مح َّقق‪ ،‬والنجاح َّ‬ ‫ّ‬
‫واإلجراء‪ ،‬أ ّما إن بقينا نقول وال نعمل‪ ،‬فعلينا السالم ورحمة الله وبركاته‪:‬‬

‫شـــ ُّر املقال عليك إن لم تفع ِل‬ ‫الــــرقي بمق َو ِل‬


‫َّ‬ ‫ُ‬
‫شــرق‬ ‫ترج يا‬
‫ال ُ‬

‫الرشف العيل ودع الفخار بمن مضوا واستبس ِل‬


‫ِ‬ ‫فانهض ‪ -‬وال ترهب ‪ -‬إىل‬

‫ّ‬
‫حــق اللقــا يف األ َّول(((»‬ ‫«وأقـــدم إذا‬

‫‪..........‬‬

‫الثورة األدبية‬
‫أو ثورة األخالق واملبادئ‬

‫نهوض األمم وقعودها‪ ،‬وتقدُّمها ُّ‬


‫وتأخرها‪ ،‬وحفظ كيانها‪ ،‬وانهيار مكانتها‪،‬‬
‫كل ذلك أثر من آثار أخالقها‪ ،‬ومفعول من مفعوالت صفاتها‪ ،‬وتلك قاعدة‬ ‫ّ‬
‫صحتها علماء األخالق واالجتماع‪ ،‬وع ّول عليها أهل العمران‬
‫َّ‬ ‫أجم َع عىل‬

‫((( هذه القطعة لصاحب الكتاب من إحدى «القصائد الرشقيات»‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫وحب الفضيلة‪ ،‬وحيث ُركزت‬ ‫ّ‬ ‫والسياسة؛ فحيث ُو ِجدت األخالق الصحيحة‬
‫ُ‬
‫األعمال عىل دعائم القلوب الح ّرة‪ ،‬و ُبنيت عىل أسس الوجدانات الفاضلة‪،‬‬
‫الح ّي‪ .‬وحيث فسدت األخالق‪ ،‬وتق َّوضت دعائم‬ ‫فهناك األ ّمة الراقية والشعب َ‬
‫ّ‬
‫املنحطة‪ .‬ومن العبث املحض‬ ‫الطباع الح ّرة‪ ،‬فهناك الشعوب السافلة واألمم‬
‫املعوجة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫محاولة ترقية أ ّمة من غري سلوك تلك السبيل‪ ،‬سبيل تقوم األخالق‬
‫وتنقية القلوب الدنسة‪ ،‬وتصفية الطباع الكدرة‪ .‬ومن سعى غري هذا املسعى‬
‫فقد ذهب سعيه أدراج الرياح‪ ،‬فكانت أعماله هبا ًء منثوراً‪.‬‬
‫تلك سنّة الله يف عباده « َولَن َت ِج َد ل ُِسنَّ ِة الل َّ ِه َتبْدِيال»‪ ،‬وقد أنبأتنا األخبار‪،‬‬
‫وعلَّمتنا األسفار‪ ،‬وأرشدتنا دالئل االعتبار‪ ،‬وأوضحت لنا شواهد االختبار‪،‬‬
‫مؤثر يف نفوس األمم‪ ،‬وأنها هي السبب‬ ‫أن عوامل الرتبية والتعليم هي أعظم ِّ‬
‫رقي وال نجاح ّإل بتغيري األخالق‬ ‫الوحيد‪ ،‬والدواء الشايف ألدوائها‪ ،‬فال ّ‬
‫الشائنة‪ ،‬ونزع الصفات الضا ّرة‪.‬‬

‫درج عىل ذلك األنبياء والفالسفة‪ ،‬و َتبِعهم علماء األخالق واالجتماع‪ ،‬ولنا‬
‫فيهم أسوة حسنة‪ ،‬وقدوة صالحة‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫الحق‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫ضال ً طريق‬ ‫جاء موىس‪ -‬عليه السالم‪ -‬فوجد شعب إرسائيل ّ‬
‫انغمس يف حمأة املفاسد‪ ،‬وتل َّوث بأوضار العادات السيِّئة‪ ،‬فبذل الجهد‬
‫يف إصالحهم‪ ،‬ورصف وسعه وطاقته لحملهم عىل معايل األمور‪ ،‬فكانت‬
‫نتيجة سعيه قليلة‪ ،‬ونور عمله ضئيالً‪ ،‬فل ّما عزم عىل أن يسري بهم فاتحا ً‬
‫َب أَنتَ َو َر ُّب َك‬
‫ومبلّغا ً أوامر ربه‪ ،‬امتنعوا؛ جبنا ً وخوراً‪ ،‬وقالوا له‪َ « :‬فا ْذه ْ‬
‫ُون»‪ ،‬ذلك ألن الشعب قد كهلت يف نفسه العادات‪،‬‬ ‫َف َقاتِال إ ِ َّنا هَاهُ نَا َقا ِعد َ‬
‫وشاخت يف قلبه الخرافات‪ ،‬واستولت عليه التقاليد والجبن‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫فل ّما ضاق موىس ذرعاً‪ ،‬حتى حار يف أمر إصالحهم‪ ،‬أفهمه الله أن السبيل‬
‫إىل ذلك‪ ،‬وال وسيلة ملا يبغي‪ .‬لكنه أرشده إىل أن يسري بهم إىل املكان‬
‫املعروف بتيه بني إرسائيل‪ .‬والحكمة من ذلك أن يبتعدوا عن األمم‬
‫ليتمكن م ّما يريد‪ .‬فسار بهم‪ ،‬وبقوا أربعني سنة يتيهون يف‬ ‫ّ‬ ‫املجاورة‬
‫تأصلت يف نفسه التقاليد التي‬ ‫األرض‪ ،‬فانقرض بسبب ذلك الجيل الذي َّ‬
‫كانت تمنع من تل ّقي تعاليم موىس (عليه السالم)‪ ،‬ونشأ منه جيل لم‬
‫شب عىل حسب ما يريد موىس‪ ،‬ودرج‬ ‫يتع َّود الرتف وفساد األخالق‪ ،‬بل َّ‬
‫عىل األخالق القويمة‪ ،‬ومىش يف سنن العدل والفضيلة‪ .‬وهناك‪ ،‬زحف‬
‫موىس بالنشء الجديد فاتحاً‪ ،‬داعيا ً إىل الله‪ ،‬فلبَّاه طوعا ً واختياراً؛ وما‬
‫سبب ذلك ّإل تربية ملكة األخالق والفضائل حتى صارت طبيعة له‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫جاء عيىس (عليه السالم) وقد فسدت طباع هذا الشعب‪ ،‬فبذل مايف‬
‫فاض ُط ِهد وأُهني‪ ،‬غري أنه‬ ‫ً‬
‫تربية صالحة‪ْ ،‬‬ ‫طاقته لتثقيف عقله وتربيته‬
‫بقي مثابرا ً عىل ذلك حتى استخلص لنفسه اثني عرش صديقاً‪ ،‬ع َّودهم‬
‫حب العمل الصالح وخدمة األ ّمة‪ ،‬إىل أن‬‫وبث يف روعهم ّ‬ ‫مكارم األخالق‪َّ ،‬‬
‫رفعه الله إليه‪ ،‬فانترش تالميذه يف اآلفاق وبثّوا دعوته‪ ،‬ونرشوا تعاليمه‬
‫بالرتغيب والرتهيب والوعظ واإلرشاد‪ ،‬فخلَّصوا أمما ً كثرية من الرشك‬
‫وفساد الرضائب والعادات الضا ّرة‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫جاء محمد (عليه الصالة والسالم)‪ ،‬وكان الجهل والفساد قد ع َّما البالد‪،‬‬
‫واستوليا عىل جميع األمم‪ ،‬خصوصا ً األ ّمة العربيّة التي استباحت إهراق‬
‫‪154‬‬
‫الدماء‪ ،‬ووأد البنات‪ ،‬وعبادة األصنام‪ ،‬وغري ذلك من األعمال الشائنة‬
‫والعادات الضا ّرة‪ ،‬فسعى لتحسني حالهم وإنهاضهم من طريق الرتبية‬
‫تمض مدّة حتى َح ُسنت أحوالهم‪ ،‬واستقامت‬ ‫ِ‬ ‫واملوعظة الحسنة‪ ،‬فلم‬
‫ورقي األفكار شأوا ً بعيداً‪ .‬ولم يجئهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أفكارهم‪ ،‬وبلغوا من التقدُّم‬
‫إلصالحهم‪ ،‬من طريق القسوة والشدّة وإشهار السيوف يف وجوههم‪ .‬وإن‬
‫ما حصل من الغزوات والحروب إ ّنما هو لحماية الدعوة من املعارضني‪،‬‬
‫ومقابلة العتداء املعتدين‪ ،‬وظلم الظاملني‪ ،‬من املرشكني الذين كانوا يؤذونه‬
‫ويسلّطون أرشارهم عليه وعل أتباعه‪ ،‬ويشنّون الغارة‪ ،‬ويقطعون السبل‪،‬‬
‫ويفعلون األفاعيل‪ ،‬ويعملون من رضوب العدوان والجور ما ال ُيحىص‪.‬‬
‫كل ذلك ليحولوا بينه وبني ما جاء به من الهداية‪ ،‬مع أنهم يعلمون أنه‬ ‫ّ‬
‫الحق من ر ِّبهم‪ ،‬ولكنها األنفة واالستكبار‪ .‬وهم يعلمون ّ‬
‫حق العلم أنه متى‬ ‫ّ‬
‫يل بينهم وبني ما يشتهون‪ ،‬وانقطعت‬ ‫وك ُثر متّبعوه حِ َ‬
‫انترشت دعوته‪َ ،‬‬
‫وطمِست أعالم عت ّوهم وجربوتهم‪ ،‬ألن من‬ ‫آمالهم‪ ،‬و ُمحِ يت سيطرتهم‪ُ ،‬‬
‫كل حق من الحقوق‪ ،‬فهم كأهل‬ ‫قواعد الدين مساواة الصعلوك باألمري‪ ،‬يف ّ‬
‫االرتجاع يعلمون فوائد الدستور‪ ،‬ويعرفون نتائج العدل والح ّر ّية‪ ،‬ولكنهم‬
‫يشايعون الظاملني‪ ،‬وينرصون املستبدّين‪ ،‬ويعارضون الح ّر ّية والدستور‪،‬‬
‫بكل قواهم‪ ،‬كلَّما الحت لهم بارقة أو اغتنموا فرصة؛ ذلك ألن الح ّر ّية قد‬
‫ّ‬
‫قضت عىل آمالهم ومآربهم‪ ،‬والدستور قد ساوى بينهم وبني من كانوا‬
‫رشهم ّإل إذا حوكموا‬ ‫يظلمون‪ .‬وال تسكن ثائرة هؤالء الزعانف‪ ،‬ويؤ َمن ُّ‬
‫النبي وأصحابه أشبه بحروب‬ ‫ّ‬ ‫لدى املحاكم العرفية‪ .‬وهكذا‪ ،‬كانت حروب‬
‫قصد منها در ُء العدوان واستئصال شأفة املنافقني املستبدّين‬ ‫عرقية‪ُ ،‬ي َ‬
‫الذين كانوا يهيِّجون عليهم القبائل‪ ،‬ويجيّشون لهم الجيوش‪ ،‬لذلك لم‬
‫يكن يحارب ّإل من حاربه‪ ،‬وال يناوئ ّإل من ناوأه‪ ،‬وال يجرب أحدا ً عىل‬

‫‪155‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ا ِّتباعه واإليمان بما جاء به‪« :‬ال إكراه يف الدين»‪« ،‬لكم دينكم ويلَ دي ِن»((( ‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫هكذا كانت سرية األنبياء (عليهم الصالة والسالم)‪ ،‬وهكذا شأن العقالء‬
‫كل جيل ّ‬
‫وكل أ ّمة؛ يأتون األ ّمة من أبواب الرتبية وتنوير‬ ‫والفالسفة يف ّ‬
‫العقول حتى إذا ت َّم لهم ما أرادوا نهض الشعب من ِقبَل نفسه‪ ،‬ونزع عنه‬
‫أردية الخمول‪ ،‬وطرح معاطف الجهل والفساد‪ -‬وتلك هي الثورة األدبية‬
‫أو ثورة األخالق واملبادئ‪ ،‬وبها نجح األنبياء‪ ،‬وأفلح املصلحون‪.‬‬

‫ّ‬
‫الحق والح ّر ّية بالسيف‪ ،‬إن لم تتقدَّمها الثورة إلصالح‬ ‫إن الثورة لطلب‬
‫العادات وما درج عليه الشعب من األخالق السافلة‪ ،‬ال تجدي نفعا ً وال‬
‫تغني فتيالً‪ ،‬ألنه متى سكنت ثائرة املطالبني بالق ّوة‪ ،‬واستمالهم الباطل‬
‫إليه عادت األ ّمة إىل أش ّد ما كانت عليه‪ ،‬من الظلم والخمول ورقدة العزيمة‪.‬‬

‫أ ّما إن كانت األ ّمة هي املطالبة بذلك؛ بسبب ما عندها من األخالق الراقية‬
‫النية واالستعداد ملعايل األمور‪ ،‬فال يمكن أن َّ‬
‫يتمكن أهل الباطل من‬ ‫واآلراء ِّ‬
‫إرجاعها إىل الحالة الغابرة بعد أن نالت ح ِّر َّيتها‪ ،‬واستولت عىل رغباتها‪،‬‬
‫فإنها‪ ،‬عند ذلك‪ ،‬تقوم قومة هائلة‪ ،‬وتناضل عن ح ِّقها‪ ،‬وتدافع دون م ّد يد‬
‫أحب حبيب لديها‪ ،‬وأع ّز مشتهى عندها‪...‬‬‫السوء إىل ّ‬

‫‪..........‬‬

‫((( أوضحنا هذا املقام‪ ،‬مقام كيفية انتشار الدين اإلسالمي‪ ،‬يف كتابنا «اإلسالم روح املدنية»‪ ،‬الذي‬
‫رددنا به عىل «لورد كرومر» يف كتابنا «خيار املقول يف سرية الرسول»‪ ،‬وأ َبنّا‪ -‬بأجىل بيان‪ -‬أن الدين إنما‬
‫شع لحماية الدعوة عند املعارضة‪ ،‬ودفعا ً العتداء املعتدين‪.‬‬ ‫قام بالدعوة ال بالسيف‪ ،‬وأن السيف إنما ُ ِّ‬

‫‪156‬‬
‫الثورة‪ :‬نهوض يقصد منه تغيري يف السياسة أو االجتماع أو األخالق‬
‫يعب عن الغاية األوىل‬ ‫من قبيح إىل حسن‪ ،‬أو من حسن إىل قبيح‪ ،‬وقد َّ‬
‫ّ‬
‫الحق‬ ‫ص القيام لطلب‬ ‫باالنقالب‪ ،‬وعن الثانية بالهيجان‪ .‬وقد ُي َخ ّ‬
‫للحق من مطالب‬ ‫ّ‬ ‫باالنقالب‪ ،‬والنهوض ملنارصة الباطل بالثورة‪ -‬والثورة‬
‫األمم الراقية‪ .‬غري أن النهوض لتغيري نظام السياسة ال يفلح أنصاره‪،‬‬
‫وال تثبت دعائم مطالبهم إن لم يسعوا‪ ،‬قبل ذلك‪ ،‬لتغيري نظام االجتماع‬
‫واألخالق حتى يكون لأل ّمة استعداد لتل ّقي ما يراد إيجاده‪ .‬وحتى ال تثور‬
‫حب التغيري‬‫ض ّد ما يخالف األنظمة القديمة والعادات السائرة فينتج ّ‬
‫تث ْر‪ ،‬ولم تعارض يف جديد النظام‬ ‫عكس املقصود‪ .‬ولو فرضنا أنها لم ُ‬
‫وحديث التغيري‪ ،‬فإنها ال يمكن أن تستفيد من اإلصالح شيئاً‪ ،‬بل‪ -‬ر َّبما‪-‬‬
‫رشا ً عليها من عاداتها القديمة‪ ،‬ولو كانت ضا ّرة‪ .‬وهذا‬ ‫يكون اإلصالح ّ‬
‫قول‪ -‬ر َّبما‪ -‬ال يسلِّم به كثري من الناس‪ ،‬لكنهم لو تر َّووا قليالً‪ ،‬وسلكوا يف‬
‫البحث جادّة االستطالع والتنقيب لسلَّموا بما نقول تسليماً‪ .‬وهاك‪ ،‬عىل ما‬
‫كل إنسان‪:‬‬‫نقول‪ ،‬أدلّة بسيطة يسلِّم بمقدِّمتها ونتائجها ّ‬

‫‪ -‬ال ريب يف أن حالة األمم املريضة األخالق والجاهلة كحالة الرجل‬


‫القوي أو املبتىل بمرض من األمراض‪ .‬وال ينكر أحد أن املآكل‬ ‫ّ‬ ‫الضعيف‬
‫الصحة‪ .‬ومع‬‫ّ‬ ‫املغذية كاللحوم والخرضاوات مفيدة جدّاً‪ ،‬إن لم تت َع ّد قانون‬
‫ِّ‬
‫شك يف أن مرضه يزيد‪،‬‬ ‫هذا‪ ،‬فلو تناول ذلك الرجل املريض شيئا ً منها‪ ،‬فال ّ‬
‫وشفاءه يبط ُؤ؛ لذلك يسعى الطبيب إىل إعطاء العالج املناسب لتقوية‬
‫جسمه وإرجاع قواه وإذهاب مرضه‪ .‬حتى إذا بلغ القصد وزالت العلّة‪،‬‬
‫يصف له من املآكل اللطيفة ما يناسب معدته‪ .‬وحىن يصل إىل درجة‬
‫الشفاء التا ّم يبيح له أن يأكل ما شاء‪ ،‬وير ِّغبه يف تناول األطعمة املق ِّوية‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ترضهم السياسة‪ ،‬والثورة لها‪ ،‬والنظامات‬ ‫وهكذا مرىض العقول واألخالق‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫تتمكن‬ ‫الراقية التي ُتنال بواسطتها‪ ،‬ألنها بمنزلة األطعمة املق ِّوية التي ال‬
‫املعدة من هضمها ّإل بعد تقويتها باألدوية‪ .‬فيجب‪ ،‬قبل ذلك‪ ،‬أن تداوي‬
‫صلُ َحت َ‬
‫وح ُسنَت‬ ‫عقولهم وأخالقهم التي هي معدة االجتماع‪ ،‬حتى إذا َ‬
‫وصارت مستعدّة للحكم الراقي‪ ،‬وهي غري نائلة إ ّياه‪ ،‬ثارت لطلبه من‬
‫طريق السياسة‪.‬‬

‫وليعلم أنه بقدر استعداد األ ّمة للحكم الدستوري واإلصالح تنتفع من ذلك‪.‬‬
‫فإن نالت الدستور‪ ،‬وأبيح لها اإلصالح غري أنها لم تستنتج شيئاً‪ ،‬فاعلم‬
‫أنها أ ّمة غري صالحة لهذه النعمة؛ ألنها لم تقدِّرها قدرها‪ ،‬ولم تهيِّئ لها‬
‫األسباب الالزمة الكافلة ببقائها واملستخرجة لفوائدها‪ .‬وليس الذنب عىل‬
‫القوانني‪ ،‬وال عىل القائمني بتنفيذها‪ ،‬بل الذنب عىل األ ّمة التي تحكم بتلك‬
‫يفسون موادّها بحسب مشتهياتهم‪ ،‬دون‬ ‫القوانني‪ .‬ألنها تدع من ِّفذيها ِّ‬
‫ّ‬
‫الحكام غري ملومني‪.‬‬ ‫معارضة وال مصادمة‪ .‬وعندي أن هؤالء املن ِّفذين أو‬
‫ألنهم يرون شعبا ً حقريا ً وأ ّمة جاهلة خاملة فاسدة األخالق‪ ،‬فيعتقدون‬
‫أنهم إن مشوا يف سنّة العدل‪ ،‬وسلكوا السبيل القويمة‪ ،‬يعا َرضون من ِقبَل‬
‫تلك األ ّمة‪ ،‬ألنها ال تريد العدل‪ ،‬وال تميل إىل اإلنصاف‪ .‬وحني يرى الحاك ُم‬
‫الصبي بالكرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬من األ ّمة‪ ،‬يعلم أنها ضعيفة‪ ،‬فيلعب بها كما يلعب‬
‫ويترصف بمصالحها بحسب إرادته ومشتهاه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ويستب ّد بشؤونها‪،‬‬
‫ومن الغريب أنه توجد طائفة منها‪ ،‬فضالً عن استكانتها وخنوعها ّ‬
‫لكل‬
‫إشارة من الحاكم‪ ،‬فإنها تدلّه عىل طريق العبث باملرافق واالستئثار‬
‫ّ‬
‫الحكام‬ ‫أخصاء‬‫ّ‬ ‫باألعمال‪ ،‬وتسهِّل له الطريق إىل ذلك تسهيالً‪ .‬وهؤالء هم‬
‫وأعداء األ ّمة‪ ،‬وإن هم كانوا بعض أفرادها‪ ،‬فإن نفوسهم قد تع َّودت الرياء‬
‫‪158‬‬
‫واملداهنة والتزلُّف وغريها من األوهام التي يعدّونها رشفاً؛ ألنهم يحسبون‬
‫التق ّرب من الحاكم فخرا ً ومجداً‪.‬‬
‫ِّ‬
‫وتعظم مقامهم‬ ‫وتبجلهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فاأل ّمة التي ترىض عن مثل هؤالء األفراد منها‪،‬‬
‫هي أ ّمة ساقطة‪ ،‬ال يجدر بها ّإل الظلم‪ ،‬وال يناسبها ّإل االضطهاد‪ ،‬ألنها‬
‫فقدت عاطفة اإلباء‪ ،‬وماتت فيها روح املجد‪ ،‬لذلك استسهلت الهوان‪:‬‬

‫بمـــــــي ٍت إيالم‬
‫ّ‬ ‫لجـــــرح‬
‫ٍ‬ ‫ما‬ ‫ـــــن يـــسهل الهــوان عليه‬
‫من ي َُه ْ‬

‫‪..........‬‬

‫إن األ ّمة التي هي عىل هذه الشاكلة‪ ،‬إن ثارت يف متن ِّوريها وعظماء‬
‫رجالها ثائرة اإلصالح السيايس‪ ،‬قبل أن يتقدَّمه اإلصالح األخالقي وثورة‬
‫الفالسفة وأهل الرتبية‪ ،‬يكون ويالً عليها‪ ،‬كما أسلفنا‪ .‬فإن َت َّم نوال‬
‫وحمل‬‫اإلصالح السيايس قبل األخالقي‪ ،‬وانترشت يف األ ّمة القوانني الراقية‪ُ ،‬‬
‫كل األسف عىل ماضيها‬ ‫الحكام عىل القضاء بها‪ ،‬رأيت تلك األ ّمة آسفة ّ‬‫ّ‬
‫وعىل الحالة التي كانت فيها‪ ،‬وتتمنّى لو ترجع يف حافرتها‪ ،‬مع أنه ال‬
‫وأي ذي‬
‫يشك عاقل يف أن حالتها الحارضة هي خري من حالتها املاضية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫يشك يف أن العدل واملساواة خري من الجور والحكم بمقتىض الهوى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لب‬
‫ٍّ‬
‫ورغبات النفوس الظاملة الفاسدة؟‪.‬‬

‫وأعجب من هذا كلّه أنك ترى حالة هذه األ ّمة‪ ،‬بعد انتشار العدالة والحكم‬
‫رشا ً من حالتها الغابرة؛ لهذا تتمنّى الرجوع إىل سالف عيشها‪،‬‬
‫الحق فيها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫رس يف ذلك معروف ألهل التفكري‬ ‫ّ‬
‫الحق إىل الباطل‪ .‬وال ّ‬ ‫وتو ّد االرتداد عن‬
‫والعلم بأحوال البرش؛ ذلك أن األ ّمة التي اعتادت الظلم واالستكانة وفساد‬

‫‪159‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫األخالق تستل ُّذ ذلك‪ ،‬وال تشعر بوخزه‪ ،‬لضعف الشعور ومرض العقل‪،‬‬
‫ولكنها أن ُحملت عىل أضداد هذا الصفات‪ ،‬و ُنهنهت عن عاداتها الضا ّرة‪،‬‬
‫وثبِّتت عىل النفور عنها‪ ،‬فتنغرس يف نفوسها الفضائل حتى تتش َّعب‬
‫جذورها‪ ،‬وتكثر أغصانها‪ ،‬فلو أريدت‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬عىل الرجوع إىل حالتها‬
‫املاضية أبت أن تعود‪ ،‬وقاومت ُمريدها أش َّد املقاومة‪ .‬وما سبب هذا وذاك‬
‫وغرس‬
‫ُ‬ ‫تأصل اليشء يمكن استئصاله‪،‬‬ ‫تحكم العادات‪ ،‬فكما أمكن ُّ‬‫ُّ‬ ‫ّإل‬
‫تتأصل جذورها‪ ،‬وتنمو فروعها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الفضيلة يف مكانه‪ ،‬وتعهُّدها حتى‬

‫تأخر اإلصالح وسوء الحال منشأه مرض‬ ‫هذا‪ ،‬وإن ما نشاهده‪ ،‬اليوم‪ ،‬من ُّ‬
‫ُّ‬
‫وتحكم عاداته الدور البائد فيها‪،‬‬ ‫أخالق األ ّمة وضعف قوى اجتماعها‪،‬‬
‫ولوال ذلك لكانت نتيجة اإلصالح‪ ،‬اليوم‪ ،‬دانية القطوف‪ ،‬عا ّم ًة اململكة‬
‫بأرسها‪.‬‬

‫يفضلون املايض عىل الحارض؛ ال حبّا ً يف األ ّول‬


‫نسمع أن كثريا ً من الناس ّ‬
‫وال كرها ً يف الثاني‪ ،‬بل ألنهم لم يشاهدوا من اإلصالح والرقي ما كانوا‬
‫ينتظرون‪ ،‬بل رأوا أن حركة األعمال والتجارة قد ضعفت ع ّما قبل‪ -‬إنهم‬
‫يقولون ح َّقاً‪ ،‬غري أنهم يجب أن يرت َّبصوا قليالً‪ ،‬ويسعوا إلصالح أخالق‬
‫الفكري‬
‫ّ‬ ‫الرقي‬
‫ّ‬ ‫أ ّمتهم حتى تصري أ ّمة راقية‪ .‬ومتى وصلت األ ّمة إىل درجة‬
‫واألخالقي فإنها تثور ثورة أخالقية اجتماعية من ِقبَل نفسها‪ ،‬فال ترىض‪،‬‬
‫ّ‬
‫الحكام‪ّ ،‬إل من هو أهل للمنصب الذي َّ‬
‫يوسد إليه‪ ،‬وتكون‬ ‫ّ‬ ‫إذ ذاك‪ ،‬من‬
‫مراقبة أعماله وماجريات أحواله وشؤونه العا ّمة‪ ،‬حتى إذا رأته صادقا ً‬
‫وخادما ً أمينا ً رضيت عنه‪ّ ،‬‬
‫وإل أرجعته إىل العدل وسنن القانون‪ ،‬فإن لم‬
‫يس يف تلك السبيل أسقطته‪ ،‬واضط ّرته إىل االعتزال‪.‬‬
‫ِ ْ‬
‫‪160‬‬
‫ّ‬
‫الحكام‪ ،‬ال من القوانني واالنقالب‬ ‫ال جدال يف أن شكوى هؤالء إ ّنما هي من‬
‫الدستوري‪.‬‬

‫الحكام؟ أليسوا من األ ّمة؟ فلو كانوا راقية أفكارهم صحيحة‬ ‫ّ‬ ‫‪َ -‬م ْن هؤالء‬
‫أخالقهم‪ ،‬فهل كانوا كما هم اليوم؟ ال ريب يف أنهم لو تر ّبوا تربية‬
‫صحيحة‪ ،‬و ُع ِّودوا الحكم بالحق‪ ،‬دون مراعاة وال ميل ملنفعة‪ ،‬لرأينا‬
‫منهم يف هذا الدور السعيد رجاال ً ينهضون باأل ّمة‪ ،‬ويق ِّومون من اعوجاج‬
‫ّ‬
‫الحكام‪ ،‬ال عىل الدستور والح ّر ّية‪.‬‬ ‫أعمالها‪ .‬فلنسخط‪ -‬إذن‪ -‬عىل‬
‫ّ‬
‫الحكام‪ ،‬اليوم‪،‬‬ ‫فإن قيل‪ :‬إن الدور املايض والدور الحارض سواء؛ ألن أكثر‬
‫حق‪ ،‬ولكنهم بعد أن كانوا مطلقني صاروا‬ ‫ّ‬
‫الحكام باألمس‪ .‬ن ُق ْل‪ :‬ذلك ّ‬ ‫هم‬
‫مقيَّدين بإرادة األ ّمة‪ ،‬غري أنه ملا لم يكن لأل ّمة إرادة‪ ،‬بل سلّمت إرادتها‬
‫إليهم‪ ،‬أخذوا يرجعون إىل ما اعتادوا من ذي قبل‪ ،‬شيئا ً فشيئاً‪ .‬فهل‬
‫لألُ ّمة أن تقف يف وجوههم وتجربهم عىل عدم الخروج عن موا ّد القوانني‬
‫الدستورية؟‬

‫فإن فعلت ذلك نجحت‪ ،‬وجنت فوائد األنظمة الجديدة‪ ،‬وإن بقيت كما هي‬
‫ً‬
‫خاملة مستكينة‪ ،‬فالعاقبة غري حميدة‪.‬‬ ‫اليوم‬

‫فأين رجال األ ّمة الذين يريدون إصالحها‪ ،‬ويسعون وراء ترقيتها؟‬
‫فليبذلوا جهدهم يف استخالص الشوائب من نفوسها‪ ،‬وتنقية األوضار من‬
‫أخالقها‪ ،‬وتشذيب املفاسد من بساتني قلوبها‪.‬‬

‫الرقي الذي نسعى وراءه‬


‫ّ‬ ‫وبغري هذه الوسيلة‪ ،‬ال يمكن الفالح‪ ،‬وال يتأ ّتى‬
‫ونطالب به‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫والخالصة أن األ ّمة هي السبب يف إنجاح مقاصدها‪ ،‬وهي السبب يف ذهاب‬


‫مطالبها أدراج الرياح‪.‬‬

‫وما سبب ذلك كلّه ّإل األخالق‪ ،‬فعلينا بإصالح األخالق‪:‬‬

‫هـــم ذهبت اخــالقهم ذهبوا‬


‫ُ‬ ‫فإن‬ ‫وإنمــــا األمم األخــــــالق ما بقيت‬

‫ّ‬
‫السل االجتماعي‬

‫اإلنسان مخلوق يف أحسن تقويم وأبدع نظام‪ُ ،‬كملت صفاته الظاهرة‪،‬‬


‫كما حسنت مميِّزاته الباطنة‪ .‬أسكنه الله هذه البسيطة ليعمرها‪ ،‬وأطلق‬
‫فيها يده ليستخرج خرياتها‪ .‬أوجده ليكون خليفته فيها‪ ،‬فيد ِّبر ش ُؤونها‪،‬‬
‫ويحسن سريه يف مناكبها‪ ،‬وقيَّده بأنظمة عادلة‪ ،‬ور َبطه بأسباب قو ّية‪،‬‬
‫بأمم ُو ِجدت قبله‪ ،‬ويناله‬ ‫ّ‬
‫ماحل‬ ‫َّ‬
‫فيحل به‬ ‫حتى ال يتعدّى ما ُخلق ألجله‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ما نالها من التاليش‪ ،‬ويصيبه ما أصابها من املحو من لوح هذه الكرة‪.‬‬
‫كل اجتماع‬‫اإلنسان اجتماعي‪ ،‬فهو عرضة ألن يطرأ ُ عليه ما يطرأ ُ عىل ّ‬
‫فيبدّد شمله‪ ،‬ويفرط عقد نظامه‪ ،‬كما أصاب األمم التي سكنت هذه‬
‫األرض قبل أن يقطنها اإلنسان‪.‬‬

‫تلك أمم قد خلت‪ ،‬وقد كانت‪ -‬كما نحن اليوم‪ -‬عامر ًة األرض ومثريتها‪،‬‬
‫ً‬
‫عاملة عىل استخراج خرياتها‪ ،‬جا ّد ًة نحو إحيائها‪ .‬ولكن‪ ،‬قد أصابها ما‬
‫‪162‬‬
‫َم َحقها‪ ،‬وترك ديارها قاعا ً صفصفاً‪ ،‬ال ترى فيه عوجا ً وال أمتاً‪ .‬أجل‪ ،‬لقد‬
‫مرض قىض عىل اجتماعها‪ ،‬ولم تقض اللبانةمن وجودها‪ ،‬قد‬ ‫ٌ‬ ‫رسى فيه‬
‫اندس يف أ ّمة من األمم‪ ،‬وتغافلت عن‬
‫َّ‬ ‫اندس فيها ذلك الداء العياء‪ ،‬الذي ما‬
‫َّ‬
‫مداواته‪ّ ،‬إل كان سبب اندثارها وعلّة محقها‪.‬‬

‫وحب األثرة‪ ،‬فنشأ عن ذلك ترك‬ ‫ّ‬ ‫التحاسد والتباغض‬ ‫ُ‬ ‫نشأ يف نفوس تلك األمم‬
‫رقاب‬
‫َ‬ ‫واالشتغال بسفك الدماء‪ ،‬ورضب األقوام‪ ،‬بعضهم‬ ‫ُ‬ ‫عمران األرض‪،‬‬
‫حكم الله فيهم نظامه يف األكوان‪ ،‬ذلك النظام‬ ‫بعض‪ ،‬حتى آل ذلك إىل أن َّ‬
‫بق منهم أحداً‪ ،‬فال ترى‬ ‫الذي يؤخذ فيه خلقه بما ظلموا‪ ،‬تدريجاً‪ ،‬حتى لم ُي ِ‬
‫لهم اليوم من باقية‪ ،‬وإىل ذلك اإلشارة بقوله تعاىل‪َ « :‬وإ ِ ْذ َق َ‬
‫ال َر ُّب َك لِل ْ َمالئ َِك ِة‬
‫ض َخل ِي َف ًة َق ُالوا ْ أ َ َت ْجع َُل فِيهَا َمن ُي ْفسِ ُد فِيهَا َو َي ْسف ُِك ال ِّد َماء‬ ‫إ ِ ِّني َجاع ٌِل ِف األ َ ْر ِ‬
‫ال إ ِ ِّني أ َ ْعل َ ُم َما ال َ َت ْعل َ ُم َ‬
‫ون»‪.‬‬ ‫ِّس لَ َك َق َ‬
‫َو َن ْح ُن ُن َسبِّحُ ِب َح ْمد َِك َو ُن َقد ُ‬

‫ذلك الخليفة هو آدم وبنوه‪ ،‬وقد تشاءَم املالئكة أن يكونوا كما كان من‬
‫سفكة للدماء‪ ،‬مفسدين يف األرض‪ ،‬فيصيبهم من‬ ‫ً‬ ‫ُو ِجد قبلهم من األمم‪:‬‬
‫املحق واملحو ما أصاب أولئك األقوام‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫كل جنس نوعاً‪ .‬من‬ ‫خلق الله املخلوقات‪ ،‬وجعلها أجناساً‪ ،‬وجعل تحت ّ‬
‫هذه هذه األجناس الحيوان‪ ،‬ومن أنواعه اإلنسان‪ ،‬وهو الحيوان الناطق‬
‫أي املدرك العاقل‪ .‬فإليه انتهى ارتقاء هذا الجنس‪ ،‬وعنده انقطعت‬
‫سلسلة تر ّقيه‪ .‬قال الله تعاىل‪َ « :‬ولَ َق ْد َك َّر ْمنَا َبنِي آ َد َم»‪ ،‬وما هذا التكريم ّإل‬
‫بما أودعه فيه من القوى الكاملة‪ ،‬وبما ميَّزه به من العقل‪ ،‬ذلك الجوهر‬
‫واملحل األرفع‪ .‬فبه يؤخذ اإلنسان‪ ،‬وبه‬ ‫ّ‬ ‫الصايف املرشق من امللكوت األسمى‬

‫‪163‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫يكون مظهرا ً للرضوان‪ ،‬وبه يسري يف مناهج الحياة‪ ،‬وبه يعرف الخري من‬
‫ال ّ‬
‫رش‪ ،‬ويميز الخبيث من الطيِّب‪.‬‬

‫فاإلنسان‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬ليس مج َّرد هذه الصورة الظاهرة‪ ،‬وال هذا الجسم‬
‫النامي‪ ،‬وال تلك التقاطيع‪ ،‬بل هو ذلك الجوهر السامي‪ ،‬الهابط عىل هذا‬
‫ّ‬
‫املتحل عىل هذا الهيكل الجسماني‪.‬‬ ‫الجسم النامي‪ .‬هو ذلك األمر الر ّباني‪،‬‬
‫ألن اإلنسان إنسان‪ ،‬من يوم ُيخلَق إىل يوم يموت‪ ،‬وما يدركه ويعمله يف‬
‫حياته دائم ال يزول‪ .‬ومع أن جسمه يتبدَّل ّ‬
‫كل مدّة‪ ،‬فإن أجزاءه‪ ،‬اليوم‪،‬‬
‫هي غريها قبل عرش سنني‪ ،‬بال ريب‪ .‬فاإلنسان‪ -‬إذن‪ -‬هو تلك الروح‬
‫رس‬
‫العالية والجوهر املدرك‪ ،‬وما سواهما هو آلة وواسطة‪ ،‬وهذا هو ال ّ‬
‫الذي َّ‬
‫فضله الله به عىل خلقه‪.‬‬

‫إذا كان لهذا الكائن الصغري‪ ،‬وهو اإلنسان‪ ،‬تلك املنزلة العظمى‪ ،‬فليس‬
‫وجوده ّإل لحكمة عظيمة‪ ،‬هي غاية ما يمكن أن يصل إليه عقل البرش‪.‬‬
‫وتلك الحكمة مجملة يف قوله تعاىل‪َ « :‬و َما َخل َ ْقتُ الْ ِج َّن َواإل ِ َ‬
‫نس إِالَّ لِيَ ْع ُبد ِ‬
‫ُون»‬
‫املفسين‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫والعبادة‪ ،‬هنا‪ ،‬بمعنى املعرفة كما ح َّقق ذلك جمهور من‬
‫حق معرفته‪ ،‬ومتى‬ ‫فالغاية‪ -‬إذن‪ -‬من خلق اإلنسان هي أن يعرف الله ّ‬
‫عرف اإلنسان ر َّبه يتش َّوق إىل طريق يسلكه ليصل إليه‪ ،‬ويتق َّرب منه‪.‬‬
‫وما الوصول إليه والتق ُّرب منه ّإل العمل بما يرضيه‪ ،‬ليكون ذلك واسطة‬
‫اإلحسان وإغداق النِعَم‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫األمم التي تسري بما يريض الله‪ ،‬وتجعل عمران األرض هدفها الذي ترمي‬
‫إليه‪ ،‬وغايتها التي تقصد إليها‪ ،‬هي األمم التي يغدق الله عليها نعمه‪،‬‬

‫‪164‬‬
‫ويجعلها سيِّدة األرض‪ ،‬والقابضة عىل زمام منافعها وخرياتها‪ ،‬واآلمرة‬
‫سكانها‪ ،‬واإلمام الذي ُيقتدى به من‬ ‫كل شأن من شؤون ّ‬ ‫الناهية يف ّ‬
‫تقاعس عن انتهاج منهجها‪ ،‬ثم د َّبت فيه الحياة دبيبها‪ ،‬فاهت ّم بإصالح‬
‫حاله‪ ،‬و ُعنِي بكرس قيود الخمول عن عقله‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫إن نهوض األمم وتر ّقيها‪ ،‬وتسامي درجاتها وتعاليها‪ ،‬ليس من اال ّتفاق‬
‫يف يشء‪ ،‬بل إن للرت ّقي نظاماً‪ ،‬وأن لبلوغ األ ّمة غاية املجد قانوناً‪ ،‬فمتى‬
‫وجهت األ ّمة عزيمتها نحو العمل بنظام الرت ّقي واألخذ بأسباب النجاح‪،‬‬
‫وصربت عىل ما تالقيه من العقبات‪ ،‬يف سبيل تطبيق هذا القانون‪ ،‬فإنها‬
‫تصل إىل ما ترجوه من السعادة‪ ،‬وما تتطلَّبه من الفالح‪ ،‬ولو بعد حني‪.‬‬

‫إن اإلنسان املادّي‪ -‬وأعني به هذا الهيكل املرئي‪ -‬إذا لم يعمل بقانون‬
‫الصحة ‪ ،‬ويتَّخذ الحيطة دفعا ً للعوادي‪ ،‬أحاطت به األدواء من ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫حفظ‬
‫كل مكان سحيق‪.‬‬ ‫جانب‪ ،‬وهرعت إليه األمراض من ّ‬

‫أال وإن اإلنسان املعنوي‪ -‬أعني به الروحي‪ -‬إذا لم يعمل بقانون حفظ‬
‫صحة اجتماعه‪ ،‬انهالت عليه الطوارئ املعنوية‪ ،‬وانصبَّت عىل مجموعه‬‫ّ‬
‫املدني أمطار من السوء تفقده مميِّزاته وأخالقه‪ ،‬وتجعل وجوده الروحي‬
‫كأمس الدابر‪.‬‬
‫ِ‬

‫األمراض املا ّد ّية كثرية‪ ،‬ومن أقبحها‪ ،‬فعالً واسماً‪ ،‬ذلك الداء الوبيل الذي‬
‫ّ‬
‫السل‪ ،‬وقانا الله وإ ِّياكم وسائر‬ ‫ترتعد الفرائص فرقا ً من ذكره‪ ،‬وهو‬
‫خلقه من فتكاته‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫وكذلك هي األمراض املعنوية كثرية‪ ،‬ومن أقبحها‪ ،‬فعالً واسماً‪ ،‬ذلك‬


‫الداء الضاري الذي ال يخافه ّإل القليل‪ ،‬وهو الذي اخرتت أن أُس ّميه‬
‫«السل االجتماعي» أَعان الله صلحاء األ ّمة ومصلحيها عىل ر ّد هجماته‪،‬‬
‫ّ‬
‫والتخفيف من ويالته‪.‬‬

‫السل فإنه ال يزال يضؤل وينحل حتى‬ ‫ّ‬ ‫إن اإلنسان املادّي‪ ،‬متى نزل به داء‬
‫يدعه كالخالل‪ ،‬ويجعله كالخيال‪ّ ،‬إل إذا تعهَّده األطبّاء باألدوية الشافية‪.‬‬
‫والعالجات التي تص ُّد تيّاره‪.‬‬
‫ّ‬
‫«السل االجتماعي»‪ ،‬فإنه ال‬ ‫وكذلك اإلنسان املعنوي‪ ،‬متى أَلَّم بساحته‬
‫يجف غصن حياته الروحية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتنحل مميِّزاته‪ ،‬حتى‬ ‫يزال تض ُؤل أخالقه‪،‬‬
‫فيصبح كالحيوان األعجم‪ ،‬ال يعرف من الحياة َّإل ما يشاركه به الحيوان‪،‬‬
‫ويظ ّن‪ ،‬بل يعقتد‪ ،‬كما يعتقد من ُب ِلَ بهذا الداء‪ ،‬أنه لم ُيخلق لغري هذا‪،‬‬
‫كما قال قائلهم‪:‬‬

‫ومـــــــــــنام‬
‫ْ‬ ‫وشـــــــــــــــــــراب‬ ‫إنــــــــما الدنيــــــــا طــــــــعــام‬

‫الســـــــــــالم‬
‫ْ‬ ‫فـــــــــــعلى الدنيا‬ ‫فــــــــــــإذا فــــــــــــــاتك هـــذا‬

‫َام َب ْل هُ ْم أ َ َ‬
‫ض ُّل‬ ‫َ َ‬
‫وهؤالء هم الذين قال الله تعاىل فيهم‪« :‬إ ِ ْن هُ ْم إِالَّ كاأل ْنع ِ‬
‫َسبِيال»‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬إن الحيوانات السائمة هي خري من هذا الصنف الذي ُي َع ُّد من‬
‫اإلنسان‪ ،‬وليس من اإلنسانية يف يشء‪ ،‬ألن اإلنسان يشء واإلنسانية يشء‬
‫ترض‪ ،‬بل إن كثريا ً منها ينفع‬
‫آخر‪ ،‬ذلك ألن السوائم إن لم تنفع فإنها ال ّ‬
‫غريه‪ ،‬إ ّما بحمل األثقال إىل بلد لم نكن بالغيه ّإل بشق األنفس‪ ،‬وإ ّما بأن‬
‫يكون غذاءً‪ ،‬منه نم ّو أجسامنا وبقا ُؤها‪ ،‬إىل غري ذلك من املنافع املادية‪.‬‬
‫‪166‬‬
‫مرضا ً بنفسه‪ ،‬فإن رضره يتعدّى‬
‫ّ‬ ‫وأ ّما اإلنسان الحيواني‪ ،‬فضالً عن كونه‬
‫إىل غريه من أبناء جنسه‪ ،‬ويكون وجوده رضبة قاضية عىل اإلنسانية‪،‬‬
‫وسيفا ً مسلوال ً عىل عنق االجتماع والعمران‪ .‬ألن هذا الصنف من الناس‬
‫ليل نها َر‪ ،‬لتقويض أركان املجتمع‪ ،‬بما يأتيه من رضوب‬ ‫ال يفتأ يسعى‪َ ،‬‬
‫وجلْب‬
‫األنانية وما يعمله من أنواع املخازي واألضاليل لج ّر منفعة ذاتية‪َ ،‬‬
‫أرض ذلك بمجموع األ ّمة التي هو عائش‬ ‫ما يأمره به هواه النفيس‪ ،‬ولو َّ‬
‫يف بيئتها‪ ،‬ومتمتّع بخريات أعمالها‪ ،‬وثمرات ِجدّها واجتهادها‪ ،‬دون أن‬
‫يفكر يف أن رضر عمله هذا ليس عائدا ً عىل أ ُ َّمته فقط‪ ،‬بل هو راجع إليه‪،‬‬
‫ِّ‬
‫أيضاً‪ ،‬ألنه واحد منها‪ ،‬وما يعود عىل املجموع هو عائد عىل الفرد ألبتّة‪،‬‬
‫رضورة أن البالء متى نزل فهو يع ّم‪ ،‬وأن الفرد ال حياة له ّإل باملجموع‪.‬‬
‫لكنهم ال يأبهون لهذا املعنى‪ ،‬وال يحفلون بذلك املغزى‪ .‬وكيف يعبأون‬
‫بهذه الفلسفة‪ ،‬وقد قال قائلهم‪:‬‬

‫أحد‬
‫ذهــــــبت نفسي فال عاش ْ‬ ‫إ ّنما دنيــــــاي نفســــــــي فـــإذا‬

‫البلد‬
‫ْ‬ ‫ثم لم تـــــطـــــلع على أهل‬ ‫ليت أن الشمس بعدي غــــربت‬

‫متى ع َّمت هذه الفكرة السيِّئة‪ ،‬وانترشت بني أفراد األ ّمة‪ ،‬فإنها تكون‬
‫عامالً كبريا ً يف هدم أساس األخالق الفاضلة‪ ،‬وسببا ً عظيما ً لقذف األُ ّمة‬
‫من الحالق إىل الحضيض‪ ،‬فتفقد ما لديها من مجد‪ ،‬وتضيّع ما عندها من‬
‫سؤدد؛ ذلك ألن األ ّمة تعتورها عوامل األهواء‪ ،‬وتحيط بها عوادي األنانية‪،‬‬
‫فيحل بها البالء‪ ،‬ويالزمها الشقاء‪ ،‬وتنزل بها‬ ‫ُّ‬ ‫وتساورها أراقم األحقاد‪،‬‬
‫األدواء‪َ « :‬و َما َظل َ َم ُه ُم الل َّ ُه َولَكِن َكا ُنوا ْ أَن ُف َس ُه ْم َي ْظل ِ ُم َ‬
‫ون»‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫‪167‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫إن هذه الفكرة‪ ،‬فكرة التعلّق باملا ّد ّيات الخالصة‪ ،‬قد أصاب هذه األُ ّمة‬
‫املسكينة كثري من أرضارها‪ ،‬حتى كادت‪ -‬بسبب ذلك‪ -‬ت َّمحي من لوح‬
‫كل من يويل عمالً يف هذه الدولة‪ ،‬ال يرغب فيه ّإل لج ّر‬ ‫الوجود‪ ،‬فقد كان ّ‬
‫ّ‬
‫األقل‪.‬‬ ‫مغنم لنفسه‪ ،‬ال ليسعى لخدمة األ ّمة أو يدفع عنها مغرماً‪ ،‬عىل‬
‫فانترشت‪ -‬بسبب ذلك‪ -‬الجاسوسية والرشوة وفساد األخالق‪ ،‬وأرشفت‬
‫جرف ها ٍر‪ ،‬فانهارت به‪ ،‬أو كادت‪ ،‬ألن من لوازم هذه‬ ‫ٍ‬ ‫الدولة عىل شفا‬
‫الفكرة السافلة االستبداد باأل ّمة واستعبادَها‪ ،‬واستنزاف أموالها‪ ،‬والقضاء‬
‫عىل أخالقها‪ ،‬وقتل روح الحياة االجتماعية من جسم مجموعها‪ ،‬وإماتة‬
‫العواطف الوطنيّة التي تض ّمها جوانحها‪ ،‬حتى تصبح كالحيوانات‬
‫السائمة‪ ،‬مقيمة عىل ّ‬
‫الذل‪ ،‬راضية بالخنوع‪ ،‬ال يل ُّذها ّإل الخضوع‪:‬‬

‫الحــي‪ ،‬والوتد‬
‫ّ‬ ‫إ ّلا األذ ّلان‪ :‬عير‬ ‫وال يقيم على ضــــيم يراد به‬

‫ُّ‬
‫والتأخر‬ ‫أال وإن ّ‬
‫كل ما نراه‪ ،‬اليوم‪ ،‬يف األ ّمة‪ ،‬من فساد األخالق والجهل‬
‫وحب الذات عىل‬
‫ّ‬ ‫وغري ذلك من رضوب الشقاء‪ ،‬إ ّنما سببه َ‬
‫األثرة واألنانية‬
‫غري املعنى الصحيح‪ .‬وعن هذه األدواء القتّالة قد نشأ ّ‬
‫كل فساد نراه‪،‬‬
‫رش نشاهده‪.‬‬ ‫وصدَر ّ‬
‫كل ٍّ‬ ‫َ‬

‫‪..........‬‬
‫ً‬
‫حاملة لوا َء التضامن‪ ،‬ضا ّمة بني‬ ‫قلَّما نرى األ ّمة تعمل جماعات جماعات‪،‬‬
‫جوانحها روح التكاتف‪ ،‬بل نراها مشتَّتة اآلراء‪ ،‬متشعِّبة املقاصد‪ ،‬مختلفة‬
‫األهواء‪ ،‬إذا دعوتها لتجمع شملها شمست‪ ،‬وإذا أَهبتَ بها لتل َّم شعثها‬
‫لح ّل األوارص‪ -‬إن كان هناك أوارص معقود ُة‪-‬‬ ‫جمحت‪ .‬أ ّما إذا ناديتها َ‬
‫حسنتَ لها منكوراً‪ ،‬وز َّينت لها أمرا ً فر ّياً‪َ ،‬ثلُجَ صدرها‪،‬‬
‫هُ ِرعت‪ .‬وإذا َّ‬
‫‪168‬‬
‫وأرشق جبينها‪ ،‬كأنك جئت شيئا ً مشكوراً!‪.‬‬

‫يتهافت كثري من األ ّمة عىل املال ّذ املا ّد ّية تها ُفتَ الفراش عىل النار‪ ،‬أو‬
‫الجياع عىل القصاع‪ ،‬ويجودون‪ ،‬يف سبيلها‪ ،‬بما ال يعلمه ّإل هم من األموال‬
‫التي لو أعانوا بها أ ُ ّمتهم‪ ،‬لترصفها عىل املرشوعات العا ّمة‪ ،‬لكانت خري أ ُ ّمة‬
‫أخرجت للناس‪ ،‬حتى إذا دعوا ملا فيه ترقية األوطان‪ ،‬وإعالء الشأن‪ ،‬ل َّو ْوا‬
‫ر ُؤوسهم معرضني‪ ،‬وولَّ ْوا مدبرين‪ ،‬كأنك تدعوهم إىل داهية نكر‪ ،‬أو أم ٍر‬
‫ُبجر‪َّ ،‬‬
‫إن هذا‪ -‬والله‪ -‬لهو الخرسان املبني‪ ،‬والدا ُء الدفني‪.‬‬

‫‪..........‬‬

‫يفكك عرى االجتماع‪،‬‬‫ذلكم هو اإلنسان (الذي ماخلق ّإل ليكون اجتماعياً) ِّ‬
‫بما يأتيه من رضوب الفسوق عن اإلنسانية‪ ،‬وما يعمله من أنواع الهجمية‪.‬‬
‫وأن الخلق كلهم عيال‬ ‫وقد نيس أن «اإلنسان أَخو اإلنسان‪َّ ،‬‬
‫حب أم َك ِره‪َّ ،‬‬
‫رس‬
‫الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله»‪ ،‬كما جاء يف الحديث الرشيف‪ .‬ما ال ّ‬
‫الذي صدق بهذا املخلوق الكريم عن سلوك السبيل التي أم َر باملسري‬
‫فيها؟ وما السبب الذي قعد به عن الطريان يف ج ّو الفضائل؟ وما الذي‬
‫يحب لنفسه‪ ،‬مع أن‬
‫يحب ألخيه ما ّ‬ ‫أفقده عاطفة العمل متضامنا ً متكامالً ّ‬
‫نية؟‪.‬‬ ‫له عقالً مفكرا ً وبصرية ِّ‬

‫شاف عنها‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫جواب‬
‫ٍ‬ ‫هذه أسئلة‪ ،‬يتش َّوق ّ‬
‫كل امرئ إىل‬
‫ّ‬
‫وكل واحد منهما‬ ‫‪ -‬يف اإلنسان عقل ونفس يتنازعان هذا املخلوق‪،‬‬
‫يبذل جهد الطاقة ليكون له الفوز عليه‪ :‬فأ ّولهما يدعوه ليكون إنسانا ً‬
‫ِّ‬
‫ويحذره موارد‬ ‫فيحسن له الخري‪ ،‬ويهديه طريق الصواب‪،‬‬‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫كل اإلنسان‪،‬‬

‫‪169‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫ويحسن له سوء‬
‫ِّ‬ ‫الهلكة‪ .‬وثانيهما يريه الخطأ صواباً‪ ،‬والرساب ماءً‪،‬‬
‫ّ‬
‫الحق‪،‬‬ ‫عمله‪ ،‬فرياه حسناً‪ ،‬فإذا غلب العقل النفس فسار اإلنسان يف مهيع‬
‫وعمل ما ُخل ِق ألجله‪ ،‬فذلك هو اإلنسان الكامل‪ ،‬ذو العقل الراجح‪ .‬وإذا‬
‫غلبت النفس العقل‪ ،‬فا َّتبَع اإلنسان أوامرها‪ ،‬وصار قيد نواهيها‪ ،‬فذلك هو‬
‫الحيوان األعجم‪ ،‬يف صورة اإلنسان املك َّرم‪.‬‬

‫«كل مولود يولد عىل الفطرة» تلك قاعدة عظيمة ملانحن يف صدده‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كل شائبة‪ .‬وإ َّنما ينحرف‬ ‫عيب‪ ،‬نقيّا ً من ّ‬
‫كل ٍ‬‫فاإلنسان يولد طاهرا ً مربَّأ ً من ّ‬
‫عن الجادّة‪ ،‬وينطبع فيه ما لم ُيخلق ألجله ما تل َّقنه من التعليم‪ ،‬وما‬
‫ينغرس فيه من الرتبية‪ .‬فعىل التعليم والرتبية مدار تر ّقيه أو تد ِّنيه‪ .‬فهما‬
‫قطب سعادته وسعادة أ ّمته أو شقا ُؤهما‪ ،‬وعبثا ً نحاول النهوض باأل ّمة‪،‬‬
‫السل االجتماعي‪ -‬أال‬‫ّ‬ ‫وسدًى نضيّع األوقات يف تحسني حالتها‪ ،‬إذا كان‬
‫وهو فساد الرتبية‪ -‬فاشيا ً يف جسمها‪ ،‬عامالً عىل إضئالها وإنحالها‪.‬‬

‫فإصالح الرتبية‪ ،‬والعمل عىل تهذيب األخالق‪ ،‬والسعي وراء تنقية األدران‬
‫املعنوية هي العامل األكرب عىل إماتة داء االجتماع‪.‬‬

‫ُينَ َّشأ ُ الطفل عىل االسرتسال يف الهوى‪ ،‬و ُي َّع َود الكسل‪ ،‬وير َّوض عىل الجبن‬
‫قس ع ََل أن يتكلَّف ما ليس من‬‫الذل والخنوع‪ ،‬و ُي َ‬ ‫والضعة‪ ،‬و ُيطبَع عىل ّ‬
‫شب أُلق َِي حبله عىل غاربه‪ ،‬وأُطلق له الرساح فريى‬ ‫طبعه ‪ ،‬حتى إذا ما َّ‬
‫من مفاسد البيئة التي تحيط به مالم يكن يرى‪ ،‬ويشاهد ما يدعوه إىل‬
‫االنغماس يف حمأة أوضارها‪ ،‬فكيف‪ ،‬بعد هذا‪ ،‬يرجى أن يكون خادما ً‬
‫األقل‪ -‬أمينا ً عىل نفسه؟‬‫ّ‬ ‫لأل ّمة‪ ،‬أو ي َؤمل منه أن يكون‪ -‬عىل‬

‫أ ّما لو ُن ِّشئ عىل الفضيلة‪ ،‬و ُر ِّب َي عىل الشجاعة‪ ،‬و ُع ِّود أن يكون رجالً‪ ،‬منذ‬
‫‪170‬‬
‫وطبِع عىل النفور من الرذيلة‪،‬‬ ‫ض عىل الخري واألخالق الكريمة‪ُ ،‬‬ ‫الصغر‪ ،‬ور ُو ّ‬
‫شب وخاض غمرات الحياة‪ ،‬فال‬ ‫حتى يكون ذلك ُخلقا ً من أخالقه‪ ،‬فإنه متى َّ‬
‫خوف عليه من تيّارها‪ ،‬ألنه يكون قد أخذ ملثل هذا األمر أ ُ ْهبَته‪ ،‬ال كمن طلب‬
‫َ‬
‫سيف يدفع عنه املل ّمات‪.‬‬ ‫مج َّن يقيه الصدمات‪ ،‬وال‬
‫الباز وهو أعزل‪ ،‬وال َ‬
‫ِ‬

‫فس ُّل االجتماع فساد الرتبية‪ ،‬ودواؤه إصالحها‪ ،‬وتعهُّد النشء باملحافظة‬ ‫ُ‬
‫عليه‪ ،‬ومراقبته مراقبة الزراع لزرعه والصانع لعمله‪ .‬فكما أن الحارث‬
‫يتعهَّد حرثه إىل أن ينمو ويثمر ف ُيتَمتَّع بثمراته‪ ،‬وكما أن الصانع يفرغ‬
‫الجهد ليكون عمله متقنا ً ف ُينتَ َفع بخرباته‪ ،‬فكذلك يجب عىل املر ّبي أن‬
‫وينصب‪ ،‬ويتعهَّد من ُسلِّم إليه أمر تربيته وتهذيبه‪ ،‬لينشأ مرباه‬ ‫َ‬ ‫يتعب‬
‫عىل أحسن صورة من صور الكمال‪ ،‬فيكون منه الخري والربكة لوطنه‬
‫والناس أجمعني‪ .‬قال اإلمام الغزايل (عليه الرحمة)‪« :‬إن الولد أمانه عند‬
‫كل نقش وصورة‪ ،‬فإن‬ ‫والديه‪ ،‬وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية من ّ‬
‫وسعد يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وساعده يف ثوابه‬ ‫ُع ِّو َد الخري وعُل ِّ َمه نشأ عليه ُ‬
‫رش وأُهمل‪َ ،‬شق َِي وهلك‪ ،‬وكان الوزر‬
‫وكل معلِّم وم َؤدِّب‪ .‬وأن ُع ِّو َد ال َّ‬
‫أبواه ّ‬
‫يف رقبة ولِيِّه والقيِّم عليه»‪.‬‬

‫ّ‬
‫الحق التي‬ ‫فمرض اجتماعنا‪ -‬أ ُّيها القوم‪ -‬مزمن‪ ،‬وال دواء له ّإل الرتبية‬
‫ُتصلح النفوس‪ ،‬وترأَب صدوع مجتمعنا‪ ،‬الذي انهالت عليه معاول فساد‬
‫كل جانب‪.‬‬ ‫األخالق‪ ،‬من ّ‬

‫وال أعني بالرتبية ّإل الرتبية الوطنيّة الصحيحة التي تحفظ لنا أخالقنا‬
‫وآدابنا وعاداتنا ومميِّزاتنا‪ ،‬مع اقتباس ما نراه حسنا ً من مدنيّة القوم‬
‫الذين سبقونا يف ميدان الحياة أشواطاً‪ ،‬هيهات أن نلحقهم فيها‪ّ ،‬إل إذا‬

‫‪171‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫نبذ النواة‪ ،‬ولم نتَّخذ لنا رائدا ً‬


‫طرحنا الخمول‪ ،‬ونبَذنا العصبيّات الجاهلية َ‬
‫حب الوطن‪ ،‬ولم نجعل لنا قائدا ً ّإل املصلحة العا ّمة‪.‬‬
‫ّإل ّ‬

‫‪..........‬‬

‫فهيّا‪ -‬أ ُّيها القوم‪ -‬إىل ثورة عا ّمة‪ ،‬ينكشف دجاها عن تغيري يف األخالق‪،‬‬
‫وينجيل نقعها عن تبديل يف أوضاع حالتنا االجتماعية‪ ،‬ف ُنخلق‪ ،‬بعد ذلك‪،‬‬
‫نشأ إنشا ًء جديداً‪.‬‬
‫خلقا ً آخر‪ ،‬ونحيا حياة ثانية‪ ،‬و ُن َّ‬

‫قد نلنا الدستور وقبضنا عىل أز ّمة الح ّر ّية‪ ،‬فظننّا أننا بلغنا من املدنيّة‬
‫مكانا ً قصيّاً‪ ،‬ووصلنا إىل حياة‪ ،‬ما بعدها مطلب لطالب‪ ،‬وال مرغب لراغب‪،‬‬
‫ثم ما لبثنا أن استيقظنا من منامنا‪ ،‬وقمنا من سباتنا‪ ،‬فإذا نحن عىل‬
‫فراشنا‪ ،‬وأيدينا عىل وجوهنا‪ ،‬نمسح بها قذى عيوننا‪ ،‬فعلمنا أن الدستور‬
‫كل ما رأَيناه‬
‫قد زارنا يف املنام‪ ،‬وأن الح ّر ّية قد نلناها يف الرقاد‪ ،‬وأيقنّا أن ّ‬
‫كان حلما ً من االحالم‪ ،‬ألن كالم الليل يمحوه النهار‪.‬‬

‫كل ذلك كان؛ ألننا رصفنا معنى الح ّر ّية إىل غري وجهه‪ ،‬وفهمنا من‬ ‫أجل‪ّ ،‬‬
‫الدستور ما ال يفهمه غرينا منه؛ لهذا‪ ،‬لم ن َر من آثاره ما كنّا نأمل‪ ،‬ولم‬
‫نج ِن من ثماره يانعاً‪.‬‬

‫ذلك ألن جماهري األ ّمة لم تستع ّد لهذه النعمة الكربى‪ ،‬وليست أهالً لتلك‬
‫الهد ّية الفضىل‪ ،‬ألن اخالقها مريضة‪ ،‬وعقولها مسلولة‪ ،‬فهي ترى الصالح‬
‫رشا ً واإليمان كفراً‪ ،‬والنور ظالماً‪.‬‬
‫طالحاً‪ ،‬والخري ّ‬

‫«السل االجتماعي» الذي أَنهك قواها‪،‬‬


‫ّ‬ ‫فلو أن األ ّمة لم يكن فاشيا ً فيها‬
‫‪172‬‬
‫وبدَّد أخالقها‪ ،‬فكم كنا جنينا‪ ،‬يف هذه املدّة‪ ،‬من يانع الخريات‪ ،‬وعملنا من‬
‫األعمال الصالحات!‪.‬‬

‫‪..........‬‬
‫ّ‬
‫السل بالرتبية‬ ‫فالبدار البدار‪ ،‬أ ُّيها القوم‪ ،‬وتعاونوا عىل مداواة هذا‬
‫والتهذيب ونرش التعليم الصحيح وتأليف الجمعيّات التهذيبية إلرشاد‬
‫العا ّمة‪ ،‬وتقويم ما اع َو َّج من أخالقهم‪ ،‬وإصالح ما فسد من تربيتهم‪،‬‬
‫فإن بذلك نجاح األوطان‪ ،‬وإعالء رأيه األ ّمة‪ ،‬وال إخالكم ّإل فاعلني‪ .‬والله‬
‫املو ِّفق واملعني‪.‬‬

‫القول والفعل‬

‫تم ّر الشهور‪ ،‬وتنقيض السنون‪ ،‬ويحيا‪ ،‬بانقضائها‪ ،‬أقوام‪ ،‬ويذهب‬


‫والكل يصيحون‪ ،‬ويقولون فيبالغون‪ ،‬ويف ّ‬
‫كل وا ٍد من املوضوعات‬ ‫ّ‬ ‫آخرون‪،‬‬
‫ِّ‬
‫يتفكرون‪ ،‬وبأعمالهم يندِّدون‪ ،‬وعاقبة‬ ‫يهيمون‪ ،‬ويف سوء حال قومهم‬
‫أمرهم يندبون‪ ،‬غري أنهم‪ -‬عىل رفعهم م ّما هم فيه‪ -‬ال يقدمون‪ ،‬وبيدهم‬
‫ال يأخذون‪ ،‬وبرقيِّهم ال يحفلون‪ ،‬وهم عليهم يتح َّرقون‪َ ،‬‬
‫وليل نها َر يف ذلك‬
‫يتكلَّمون‪ ،‬غري أنهم يقولون ما ال يفعلون‪ ،‬ويفعلون ما ال يقولون‪.‬‬
‫َ‬
‫محكم كما تفتقر النتائج إىل‬ ‫ّ‬
‫كل بناء محتاج‪ ،‬يف ثبوته‪ ،‬إىل أساس‬

‫‪173‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫املقدِّمات‪ ،‬وأساس الفعل القول‪ ،‬وعىل هذا األساس تقام هياكل األفعال‪،‬‬
‫فالقول مقد ِّمة‪ ،‬والفعل نتيجة‪ ،‬وال تكون النتيجة مركونا ً إليها ومعتمدا ً‬
‫صحة املقدِّمات‪ ،‬كما ال يعبَأ ُ باملقدِّمات إذا لم تكن‬
‫عليها‪ّ ،‬إل بعد النظر يف ّ‬
‫لها نتيجة يرتاح إليها العقل‪ ،‬ويسلِّم بها‪.‬‬

‫حبه أقالم كتَّابنا نجد أن األقوال أعراض‬


‫وإذا نظرنا إىل أقوالنا وما ُت ِّ‬
‫سيّالة تنقيض بمجرد النطق بها‪ ،‬ونرى أن الكتابات هي‪ ،‬كما يقول املثل‬
‫العا ّمي‪« ،‬حرب عىل ورق»؛ فال نتيجة لقول أو كتابة وال تأثري لهما‪ّ .‬‬
‫وكل‬
‫مقدِّمة ال نتيجة لها‪ ،‬فهي غري معبوء بها‪ ،‬فأقوالنا وكتاباتنا خالية من‬
‫النتيجة معدومة الفائدة‪ ،‬ألنها ال تتعدّى ح ّد الزخارف والتزويق‪ ،‬وال‬
‫يعمد أصحابها إىل استنتاج ثمراتها واستخراج نتائجها‪ ،‬فلها‪ -‬إذن‪ -‬ذلك‬
‫الحكم نفسه‪.‬‬

‫قلنا فأطنبنا‪ ،‬وخطبنا فأجدنا‪ ،‬وكتبنا حتى مألَنا الطروس وس ّودنا‬


‫أي أثر أحدثت تلك الخطب؟ وأ ّية فائدة أفادت‬ ‫صفحات الجرائد‪ ،‬ولكن‪ّ ،‬‬
‫هاتيك املقاالت؟ هل صنعت معمالً لحاجيّاتنا‪ ،‬أو أقامت هياكل ملا ُدثِر‬
‫يصدق القول حتى‬‫ُ‬ ‫من مجدنا؟؛ فأقوالنا غري صادقة لكذب نتائجها‪ ،‬وال‬
‫َ‬
‫يصدق العمل‪.‬‬

‫دعونا من األقوال‪ ،‬وخذوا بأيدينا إىل صالح األعمال‪ ،‬وانهضوا باأل ّمة من‬
‫هذه الوهدة العظيمة التي هي ساقطة فيها‪ ،‬وأنيفوا بها عىل يفاع العلوم‬
‫النافعة والصناعات الجليلة‪.‬‬

‫كنّا إذا طلبنا من أحد أن يبذل ما له يف سبيل خدمة الوطن؛ من إنشاء‬


‫املعامل وترقية الصناعات‪ ،‬يقول‪ :‬أ ّنى لنا ذلك‪ ،‬والضغط مستو ٍل عىل‬
‫‪174‬‬
‫العقول واألفكار‪ ،‬والقيود محيطة باأليدي واألرجل‪ ،‬والجواسيس منترشة‬
‫فأي عذر لنا بعد أن ُرفِعت عنا تلك األغالل‪،‬‬ ‫يف ّ‬
‫كل ناحية؟ أ ّما اآلن‪ُّ ،‬‬
‫وانقشعت هاتيك الظلمات؟ أما‪ -‬والله‪ -‬ما لنا من عذر سوى البخل‬
‫واإلهمال والكسل‪ .‬وقد ظهر‪ ،‬ظهو َر الشمس‪ ،‬أن تلك األقوال لم تكن‬
‫تتجاوز الشفاه‪ ،‬وليس مصدرها سوى اللسان‪ ،‬وما للقلب ُّ‬
‫أقل ُّ‬
‫تفكر فيها‬
‫قبل أن كنّا نلفظها‪.‬‬
‫أي حرج عىل متم ِّولينا لو سعوا إىل تأليف رشكات صناعية‪ ،‬ودفعوا جزأ ً‬
‫ّ‬
‫مساهمة‪ ،‬فكان من ذلك رأس مال عظيم‪ ،‬يرصفونه يف هذه‬ ‫ً‬ ‫من أموالهم‬
‫السبيل التي تعود باملنفعة العا ّمة‪ ،‬عليهم وعىل البالد وأهليها‪.‬‬

‫مفكرون‪ ،‬وقوم يؤثرون املنفعة‬ ‫إن لدينا أمواال ً كثرية‪ ،‬ولكن ُيعوزنا رجال ِّ‬
‫كل ما يف وسعهم وطاقتهم إلنجاح‬ ‫الخاصة‪ ،‬ويبذلون ّ‬
‫ّ‬ ‫العا ّمة عىل املنفعة‬
‫الحق‪ ،‬والصناعات‬‫البالد وترقيتها‪ ،‬وال نجاح لها ّإل بالعلم الصحيح‪ ،‬والرتبية ّ‬
‫النافعة والزراعة التي بها حياة الشعوب والبالد‪ ،‬فمتى ُوجد لدينا ه ُؤالء‬
‫الرجال واهت ّموا بما قدَّمناه فحدّث‪ -‬وال حرج‪ -‬ع ّما نناله من التقدُّم والنجاح‪.‬‬

‫لدينا رجال فيهم الصفات املطلوبة‪ ،‬بل فيهم فوق ما نتص َّوره من املقدرة‬
‫عىل األعمال‪ ،‬والتفكري الذي يأتي بالنتائج املطلوبة‪ ،‬غري أنهم ال يريدون‬
‫أن يجهدوا نفوسهم ويتعبوا أفكارهم يف ذلك‪ ،‬فهم تاركون األمور لطبيعة‬
‫ويحب أن يبذل الجهد يف رفع‬
‫ّ‬ ‫الحال‪ .‬وإن ُو ِجد فيهم من يريد أن يخدم‪،‬‬
‫أ ّمته وتشييد املدارس واملعامل وغري ذلك لنستغني عن األغيار‪ ،‬فهو ضيّق‬
‫ذات اليد‪ ،‬فارغ الجيب‪ ،‬رأس ماله قوله وفكره‪ ،‬وأ ّية فائدة من القول‬
‫تعضدهما الدنانري؟‬
‫والتفكري‪ ،‬إذا لم ِ‬

‫‪175‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫رجال األقوال عندنا كثريون‪ ،‬غري أنهم مفلسون‪ ،‬ومن املال خالون‪،‬‬
‫يتفكرون‪ ،‬فهل‬‫ِّ‬ ‫ويف تحصيل ما يس ُّد عوزهم يجتهدون‪ ،‬ويف غري ذلك ال‬
‫هم معذورون؟ بىل‪ -‬ور ِّبك‪ -‬إنهم ملعذورون‪ ،‬وإن عملوا غري ذلك فهم‬
‫مخطئون‪ ،‬ومن يقولون غري هذا فهم ال يعقلون‪ ،‬أو هم عىل الناس‬
‫يم ّوهون‪ ،‬فا ّتقوا الله‪ -‬أ ُّيها املستغنون‪ -‬واعملوا عىل تشييد املعامل وإنشاء‬
‫املدارس‪ ،‬فإنكم‪ -‬إذن‪ -‬ملفلحون‪ ،‬فالله يطالبكم والناس‪ ،‬وإن احتجتم‬
‫إىل آراء املفلسني وأقوالهم فادفعوا إليهم ما يستعينون به عىل َس ّد ما‬
‫يتقاضاهم من أمور املعيشة‪ ،‬وهم يمدّونكم باألفكار‪ ،‬ويعينونكم باآلراء‪،‬‬
‫وبذلك يت ّم التعاون‪ ،‬ويحصل اال ِّتحاد‪« :‬وتعاونوا عىل الربّ والتقوى»‪.‬‬

‫وأ ّما إن بقينا‪ ،‬كما نحن اآلن؛ (أقوال بال أعمال)‪ ،‬فعلينا السالم‪.‬‬
‫فا ّتقوا الله‪ ،‬أ ُّيها القادرون عىل إنجاح الوطن‪ ،‬املتشدِّقون يف ّ‬
‫كل مجلس بما‬
‫يلزمنا من اإلصالحات التي ال يت ّم عمل بدونها‪ :‬ابذلوا جهدكم‪ ،‬وافتحوا‬
‫خزائنكم‪ ،‬وازرعوا لرياتكم يف هذه األرض‪ ،‬فتعود عليكم وعىل أبناء وطنكم‬
‫املحبوب بالربح الجزيل والخري العميم‪.‬‬

‫أراكم تنظرون إيلَّ‪ -‬أ ّيها الخطبا ُء والشعراء والكتّاب‪ -‬شزراً‪ ،‬وترمقونني‬
‫ثانية‪ ،‬أجمعتم رأيكم قائلني يل‪ :‬أَلستَ منّا؟ أما‬
‫ً‬ ‫بعني االنتقاد‪ ،‬ثم أراكم‪،‬‬
‫خطبت كما خطبنا؟ أما كتبت كما كتبنا؟ أما نظمت كما نظمنا؟‪.‬‬

‫‪ -‬بىل‪ ،‬أ ّيها األخوان‪ .‬وما أدراكم أني استثنيت نفيس من مجموعكم‪،‬‬
‫وب َّرأُتها م ّما نسبته إليكم؟‪« :‬وما اب ِّر ُئ نفيس‪ .‬إن النفس أل ّمارة بالسوء‪،‬‬
‫ّإل من رحم ربي»‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫و ُر َّب قائل‪ :‬إن املتكلِّم ال يدخل يف عموم كالمه‪ ،‬كما ق َّرر ذلك علماء األصول‪،‬‬
‫فأقول‪ :‬إنه اليدخل وجوباً‪ ،‬بل يجوز دخوله وعدم دخوله‪ .‬وأنا داخل يف‬
‫باب الجواز‪ ،‬وقد جزت هذا املجاز‪.‬‬

‫فسدِّدوا‪ -‬رحمكم الله‪ -‬األقالم‪ ،‬وأرشعوا يف وجوه الطروس الرياع‪،‬‬


‫كل معاند وممانع‪ ،‬وح ِّرضوا‬ ‫وقاوموا‪ ،‬يف سبيل اإلصالح الحقيقي‪ّ ،‬‬
‫املتم ِّولني عىل بذل األموال يف إنشاء املعامل‪ ،‬وإيجاد الوسائل التي ُتغني‬
‫كل خلق يدعونا إىل أن نكتب ما‬ ‫الوطن عن األغيار‪ ،‬ولنرفع من قلوبنا ّ‬
‫ال نعتقد‪ ،‬ويحملنا عىل عدم االعرتاف بالخطأ‪ ،‬إن صدر من أحدنا؛ فما‬
‫ّ‬
‫الحق ل ُي ْع َرف‪ ،‬وإبطال‬ ‫القصد من الكالم والخطابة والكتابة ّإل إحقاق‬
‫الباطل ل ُينْبَذ‪ .‬ولنجعل أقوالنا عنوانا ً ألفعالنا‪ ،‬وأفعالنا مصداقا ً ألقوالنا؛ إذ‬
‫ال يصدق القول حتى يصدق العمل‪.‬‬
‫الحق ويعمل به‪ ،‬ويسعى‪ّ ،‬‬
‫بكل ما يف وسعه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والسالم عىل من يقول‬
‫لخدمة أ ّمته ووطنه‪ .‬وال سالم عىل من يقدِّم الغاية الشخصية‪ ،‬التي ّ‬
‫ترض‬
‫باملجتمع‪ ،‬عىل املنفعة العا ّمة‪.‬‬
‫َ‬
‫العمل العمل‪.‬‬ ‫َ‬
‫فالعمل‬ ‫والخالصة أننا نحتاج إىل قول فعمل؛‬

‫‪177‬‬
‫الفهرس‬

‫مقدّمــة ‪7.................................................................................................................‬‬
‫نهج البالغــة ‪25........................................................................................................‬‬
‫أيُّهــا اإلنســان ‪31.....................................................................................................‬‬
‫َقحْ ــط رجــال‪ ،‬أم َقحْ ــط وجــدان؟ ‪39..........................................................................‬‬
‫الرتبيــة أســاس النجــاح ‪43........................................................................................‬‬
‫‪ -‬يف الرتبيــة وفضائلهــا ‪43........................................................................................‬‬
‫‪ -‬تربيــة األخــاق والشــعور (الرتبيــة املنزليــة) ‪46........................................................‬‬
‫‪ -‬الرتبيــة املدرســية ‪51.............................................................................................‬‬
‫‪ -‬وســائل الرتبيــة يف َد ْو َري األرسة واملدرســة ‪52..............................................................‬‬
‫‪ -‬الرتبيــة العلميــة ‪54................................................................................................‬‬
‫األنانيّــة وحــبّ الــذات ‪59.........................................................................................‬‬
‫رجــال اإلصــاح ‪69................................................................................................‬‬
‫‪َ -‬مــن املُطالَــب باإلصــاح؟ ‪72....................................................................................‬‬
‫اإلرادة ‪77..................................................................................................................‬‬
‫األلقــاب وال ُّر َتــب ‪85...............................................................................................‬‬
‫حديــث مــع النابتــة ‪91..............................................................................................‬‬
‫االنتقــاد ومشــارب املنتقِديــن ‪101...........................................................................‬‬
‫‪ -‬مشــارب املنتقِديــن ‪104.........................................................................................‬‬
‫ضــح ‪106...........................................................................‬‬ ‫الحــق متــى َو ُ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ا ِّتبــاع‬
‫‪ -‬خالصة رشوط االنتقــاد ‪107....................................................................................‬‬
‫ســعادة الحياة ‪111...................................................................................................‬‬
‫‪ -‬ســعادة املرء يف نفســه ‪114.......................................................................................‬‬
‫ص ْحبه ‪121......................................................................................‬‬ ‫‪ -‬ســعادة املرء يف َ‬
‫‪ -‬أقــوال يف هذا البــاب ‪128..........................................................................................‬‬
‫دالئــل التوحيــد ‪133................................................................................................‬‬
‫‪ -‬املــال والــرف ‪135................................................................................................‬‬
‫‪ -‬االســتقالل الشــخيص أو االعتمــاد عــى النفــس ‪136........................................................‬‬
‫القابليّة والفاعليّــة ‪147.............................................................................................‬‬
‫‪ -‬الثــورة األدبيــة أو ثــورة األخــاق واملبــادئ ‪15........................................................‬‬
‫ـل االجتماعــي ‪162..........................................................................................‬‬ ‫‪ - 2‬السـ ّ‬
‫‪ -‬القــول والفعــل ‪173................................................................................................‬‬
‫‪8u:h*7‬‬
‫ˆ‬

‫صدر من سلسلة كتاب الدوحة‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬


‫غسان كنفاني‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليمان فياض‬ ‫األئمة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشابي‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حريّة الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدنية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجماته‬ ‫‪12‬‬
‫فتنة الحكاية‬
‫ترجمة‪ :‬غادة حلواني‬ ‫‪--‬‬
‫جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكثر ‪ -‬مختارات شعرية ونثرية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياسية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫رساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامليّني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسالم ح ّميش‬ ‫عن سريتي ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والديموقراطية‪ ،‬والغريية)‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫نماذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زكي نجيب محمود‬ ‫الرشق الفنّان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة “العصفور الصغري”‬ ‫‪43‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداني‬ ‫‪45‬‬
‫ُجرجي زيدان‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫املُعتم ُد بنُ عبّاد يف سنواته األخرية باألرس‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف ذ ّنون‬ ‫زينة املعنى (الكتابة ‪ ،‬الخط ‪ ،‬الزخرفة )‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬ ‫‪52‬‬
‫( تحـ ُّوالت الصـفـوة العارفة يف املجتمع العربي الحديث)‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياني‬ ‫آباي ( كتاب األقوال )‬ ‫‪54‬‬
‫محمد محمود الزبريي‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫مي زيادة‬ ‫بني الجزْر وامل ّد (صفحات يف اللغة واآلداب والف ّن والحضارة)‬ ‫‪56‬‬
‫قسم التحرير «مجلة الدوحة»‬ ‫ظل ال ّذاكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة»)‬ ‫ّ‬ ‫‪57‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫الرحلة الفنّية إىل الديار املرصية (‪ )١٩٣٢‬تحقيق‪ :‬رشيد العفاقي‬ ‫‪58‬‬
‫إسماعيل مظهر‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫ذكي محمود حسن‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫براع ُم األمل ( ُمختارات شِ ْعريّة للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫‪61‬‬

‫محمد العرويس املطوي‬ ‫التّوت امل ُ ّر‬ ‫‪62‬‬

‫غونار إيكيلوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬

‫أحمد حافظ عوض بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬

‫پول بُورجيه‬ ‫التلــــمِيذ‬ ‫‪65‬‬

‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫مَلحَ مة جلجامِش‬ ‫‪66‬‬


8u:h*7
ˆ

i=i=h 74a \d rl px8!eh 1=qh .zE neqem


www.aldohamagazine.compx8!eh,x4hi)lV‘yl}iT

You might also like