Professional Documents
Culture Documents
Untitled
Untitled
أريج الزهر
66
2016 ص 10 د خخص
أريجُ الزهر
تأليف :الشيخ مصطفى الغالييني
الناشر :
وزارة ّ
الثقافة والرياضة -دولة قطر
رقم اإليداع بدار الكتب القطرية :
الترقيم الدولي (ردمك) :
ّ
المجلة. كتابها ،وال ُتع ِّبر -بالضرورة -عن رأي الوزارة أو
المواد المنشورة في الكتاب ُتع ِّبر عن آراء ّ
ُ
أريج الزهر
أدبي
ّ اجتماعي
ّ أخالقي
ّ كتاب
فإىل روحه الطاهرة البا ّرة أهدي هذا الكتاب ،اعرتافا ً بفضله عيلَّ ،وعىل
األ ّمة جمعاء.
املق ّر بالجميل
الغالييني
بريوت :غ ّرة ذي الحجة1329 ،هـ
مق ِّدمة
وبعد ،فقد ُفطر البرش ،منذ ُع ِرف البرش ،عىل ُح ّب الظهور .نعم ،لوال ُح ّب
الظهور ملا ظهر يف هذا العالم اإلنساني فضيلة ،وال بدت مأثرة ،وال أُثِرت
حب الظهور ملا ظهرت األُمم ،وال تك َّونت الجماعات ،وال منقبة ،بل لوال ّ
تألَّفت املمالك ،وال انتظم شمل االجتماع ،بل وال ظهر اخرتاع ،وال ُحمِل
يراع ،وال أُلِّف سِ ْفر ،وال جال ٌّ
أثري يف قفر.
7
8u:h*7
ˆ
ودب ،وهام وعام، هب ّالنحل يف خليَّته ،والنمل يف رس َّيته ،بل سائر ما َّ
السماك ،ويطاول األفالك ،دون أن يبايل بالهالك، يحاول أن يطول ِّ
فالنحل يحزب األحزاب ،ويتَّخذ اليعاسيب ،وقد يهاجم بجيشه اإلنسان،
واملستبسل من جنده يف الهجوم هو أكثرهم حبّا ً يف الظهور؛ ومن َث َّم يتب ّوأ
مقاما ً محمودا ً يف أ َّمته ،فيقدم أمام الصف ،يوم الزحف ،وحني الحتف،
وهو بني هذا وذاك يجد ل ّذة ال ُت َكيَّف بكيف ،وال توصف بوصف ،أ ّما
النمل ،وهو الضعيف ،فقد يدفعه ُح ّب الظهور إىل السم ّو بجناحيه إىل
الج ّو غري مبال بالوبال ،هازئا ً بقول من قال:
ســـمت بجناحيها إلى الج َّو تصعد إذا ما أراد الله إهـــــــالك نمــــلة
وقد يحمل أضعاف أضعافه عىل قارعة الطريق تحت الحطم واللطم ،غري
مبا ٍل بتحطيم سليمان ،وال تلطيم سامان.
كل ذي روح ،هي سائقة العالء ،وداعية هذه املوهبة الفطرية ،يف ّ
أس األساس لعمران هذا الكون؛ ألنها رائد الفضائل االرتقاء ،وهي ّ
ودليل املجد ،ولوالها ملا وصلت املدنيّة املا ّد ّية إىل حالتها الحاليّة ،فإن
األ ّمم كاألفراد؛ فكما أن الفرد يحاول الظهور بني أقرانه بما يراه حسنا ً
يف نظر الجماهري ،فكذلك األمم تحاول أن تظهر عىل غريها بما تراه
حسنا ً يف نظر الجماهري.
فحب الظهور هو الذي ُمدِّنت به املدن ،و ُم ِّصت األمصار ،وأنشئت املعاهد
ّ
8
واملشاهد ،و ُبنِيت اآلثار الخوالد .وما مدهشات األهرام ،ومعجزات بعلبك،
وبدائع الزهراء ،والحمراء ،وعجائب أنس الوجود ،وغرائب تدمر وطرائف
بابل ولطائف سام ّرا ّإل أث ٌر من آثار ُح ّب الظهور.
حضت عليها الرشائع اإللهية، نعم ،إن هذه الخلّة هي خلّة رشيفةَّ ،
كل إنسان أن يخدم نفسه خدمة يسود والوضعية .ومتى سادت ،وحاول ّ
كل إنسانبها ويظهر ،سادت املواهب العالية ،واملظاهر السامية ،وأصبح ّ
أ ّمة بنفسه ،ومن َث َّم يرتقي النوع البرشي االرتقاء الذي يحلم به الفالسفة،
ويطمح إليه األخالقيون ،وترمي إليه الرشائع.
ّ
الشق الثاني ،أو ولكن ،هيهات! فإن طبيعة النوع -أيضاً -تناديهم من
من وراء تلك الحجب الكثيفة ،إن ذلك االرتقاء املوهوم يتطلَّب مستقبالً
مطردا ً عى ما نراه ،ولم يجتحبعيدا ً جدّا ً هذا إذا َظ ّل االرتقاء اإلنساني َّ
األريض جائحة سماوية ،أو يصدمه َ
مذ َّنب كمذ َّنب هايل، ّ هذا الكوكب
فيجعله كالهباء ،تذروه النكباء.
9
8u:h*7
ˆ
وعىل هذه النسبة ،كان أعرق األمم حبّا ً يف الظهور َم ْن لم تزل ألبنائها،
حتى اليوم ،آثار مدنيّة باقية ،وأسبق الجميع إىل هذه اآلثار هي السابقة
يف هذه املوهبة العالية.
يقول املؤ ِّرخون األثر ّيون ،يف هذا العرص :إن أسبق األمم إىل املدنيّة
وتدوين اآلثار ،من رشائع وأنظمة وقوانني وبناء مدارس ومعاهد ،هم
عمالة العراق العرب ،أو ما يس ّميهم العرصيون «الحمواربيِّني» الذين
حكموا عىل الدولة البابلية العراقية قبل ميالد عيىس -عليه السالم -بزهاء
مؤخراً ،يف آثار بابل وآشور.
أل َف ْي وخمس مئة سنة ،تقريباً ،كما ظهرَّ ،
فالعرب -إذاً -أسبق األمم إىل الظهور ،ولكن لم ند ِر ما طرأ علينا -نحن
الحجب ،وأُرخيت الستور،
ُ أخالف أولئك األسالف -حتى أُسدِلت علينا
وأصبحنا مثالً يف الخمول منذ عصور ،ولعل دماءنا النقية اختلطت بدماء
وشاد اآلفاق ،فأصبحنا عىل ما ترى األخالط واألوشاب من ُش ّذاذ األمم ُ ّ
اليوم ،ألسنا ً عربية يف أشالء رومية ،وأدمغة فارسية ،وأطمار إفرنجية،
ونحن ،مع ذلك ،نزعم العراقة يف العربية ،وهي وذمة العرب ،لم تربح
أباطح الحجاز وأبارق تهامة ،بل لم تبارح مشارف الشام ،وأنحاء
العراق ،وأغوار اليمن.
10
ّ
«وكل أ ّمة تدعي السبق يف املدنيّة» أن األثر ِّيني اكتشفوا ،منذ من يصدِّق
أعوام ،يف «زيبارا» ،مدرسة عربيّة لتعليم األطفال ،وهي أقدم مدرسة
يف تاريخ التمدُّن القديم ،يرتقي تاريخها إىل أربعة آالف سنة .وقد رأوا
بني أنقاضها ألواحا ً من اآلج ّر ،مكتوبا ً عليها دروس لألطفال يف الحساب
والهجاء وجداول الرضب ،ورأوا كثريا ً من الكتب والرسائل املنقوشة عىل
األحجار واآلج ّر ،وفيها الصكوك والعقود واملسائل الرياضية واألرصاد
الفلكية والنصوص التاريخية وأمثالها((( ،ثم يجد األُ ّمة العربية يف القرن
العرشين قرن املدارس واملعاهد ال تملك كلّها مدرسة يصحّ أن ُيطلق
عليها نصف مدرسة أمام الكلّيّات والجامعات ،ومع ذلك نفاخر ونكاثر،
ذاهلني عن قول الشاعر:
فخـــار الذي يبقي الفخـــار بنفسه وما الفخـــر بالعظـــم الرميم وإنما
املطلع عىل فلسفة اللغات وكيفية وضعها أن اللّغة عنوان األُمم، يعلم َّ
أو أنموذج حالتها ،فاللّغة التي تكثر فيها أسماء السيف أو الرمح أو
الجمل أو األسد ،مثالً ،يكون أهلها -بالطبع -عانوا هذه املس ّميات كثرياً،
وشاهدوها ،وعاشوا معها ،وتفنَّنوا يف أسمائها عىل حسب أوصافها،
واأللفاظ ال تتولَّد بسائق الحاجة والفطرة ّإل للتعبري عن املعاني ،كما هو
ً
بداهة. معروف
11
8u:h*7
ˆ
إذاً ،فاألُ ّمة التي تكثر فيها األلفاظ االجتماعية ،والسياسيّة ،والعمرانية،
واألخالقية تكون -بالطبع -عانت االجتماع والسياسة والعمران واألخالق،
كما أن األ ّمة التي تكثر فيها أسماء املالبس واملآكل ،مثالً ،تكون لبست تلك
املالبس ،وأكلت تلك املآكل ..وهكذا.
هذا املجموع
لسنا ،اآلن ،يف صدد بيان مدنيّة األ ّمة العربية قبل اإلسالم ،وال مدنيَّتها
وحض لناشئة هذه ّ بعد ،وإنما موضوع هذا املجموع الذي هو استنفار
األ ّمة الكريمة عىل الظهور بمظهر األ ّمم الراقية ،بحسب ما أرشنا يف صدر
ِّ
املتأخرين «باملعنى املقال تش ُّبها ً بأسالفهم األ َّولني ومجاراة ملعارصيهم
اللغوي ،ال العرصي» ،دعانا إىل أن نشري إىل موضوع الظهور واملدنيّة
وحضاً ،بحسب موضوع هذا املجموع. ّ استنفارا ً
13
8u:h*7
ˆ
توسمت فيه النبوغ الشيخ مصطفى الغالييني ،صاحب هذا املجموعَّ ،
منذ أ َّول يوم درس فيه قواعد العربية ،فإنه استظهرها ،حفظا ً وفهماً،
يف مدّة شهرين م ّما يندر مثيله بني الدارسني ،وكان ينظم الشعر بسائق
توسمت فيه التف ُّوه يف الخطابة
السليقة وهو يافع لم يبلغ أشدّه ،وقد َّ
منذ ذلك الحني ،أيضاً؛ نظرا ً لذالقة لسانه ،ورشاقة بيانه ،ثم ّ
ظل يتد َّرج
يف مدارج النم ّو بنفس عصامية ،وه ّمة استقاللية ،إىل أن ظهر ّ
كل ما
توسمت ،ووقع ّ
كل ما تف َّرست. َّ
«إن الحكومة هي تابعة لألمم ،رقيّا ً وانحطاطاً ،فمتى كانت األ ّمة
انحطت حكومتها ،القرس ،ومتى كانت األ ّمة راقية تر ّقت معها، ّ ّ
منحطة
بحكم الرضورة ،ألن الحكومة هي صورة أفراد الشعب املحكوم ومثاله
كل حال .فإن ا َّتفق أن الحكومة كانت وخالصته؛ إذ هي منه وله ،عىل ّ
تنحط وتتقهقر إليه ،والعكس بالعكس« :كما ّ أرقى من األ ّمة فال تلبث أن
تكونون ُي َو ّل عليكم» ،فإن كانت األ ّمة مستقيمة ميّالة إىل العدل والح ّر ّية
والفضائل حكمت بحكومة ال عوج فيها وال استبداد وال جور وال رذيلة،
ّ
للحق، وإن كانت األ ّمة جاهلة فاجرة ال يريد أفرادها العدل وال يخضعون
ّ
الحق ،وال ُحكمت بحكومة جاهلة فاجرة ظاملة مستبدّة عوجاء ال تميل إىل
تخضع للعدل .والخالصة أن أخالق األ ّمة -إن خريا ً وإن رشاً -تنطبع يف
مرآة وجدان الحكومة.
فإن أرادت األ ّمة أن يكون لها حكومة عادلة ودولة قو ّية ،فعليها بإصالح
وحب العلم وغري
ّ أخالق أفرادها وتعويدهم الفضيلة والحر ّية الصحيحة
ذلك من الصفات وامللكات العادلة ،ومتى َت ّم لها ذلك وصار الشعب عادال ً
عاملا ً مرت ِّبيا ً أضحت الحكومة تابعة له رقيّا ً وعدالً ،ومتى أضحت الحكومة
الحقّ ،
وكل هذه األسباب ّ كذلك انقطعت أسباب الرشوة والحكم بغري
املتقدِّمة يدعو الشعب ملساعدة الحكومة ما ّد ّيا ً وأدبيّاً .ومتى استغنت
الحكومة ،وكانت متن ِّزهة عن الرذائل كما قدَّمنا ،تسعى لجمع شتاتها،
وإصالح فاسدها ،وتقوية جيوشها وأساطيلها ،حتى تصبح دولة مرهوبة
السطوة ،مرعيّة الجانب».
15
8u:h*7
ˆ
«القوانني ال تجعل الناس أحراراً ،مهما كانت فاضلة ،غري أن الناس قد
اعتادوا أن يعتقدوا أن خريهم ونجاحهم مسبَّبان عن األنظمة التي ُتحكم
بها بالدهم ،وهم مخطئون يف هذا االعتقاد خطأ بيِّنا ً ال يغتفر ،إذ أ ّية فائدة
من القوانني إن لم تكن نفوس الشعب مستعدّة ملا تحويه من األصول
أي نفع من النظامات إذا لم يوجد لها حاكم أمني ينفذها ّ
بكل واملوادّ؟ بل ّ
صدق واستقامة ،فالقوانني ال تجعل الخامل ذكيّا ً وال الكسول مجتهدا ً وال
فاسد األخالق طاهرا ً كامالً ،واألنظمة ال تمحو الجرائم ،وال تردع الناس
عن املنكرات ،وال تخ ِّفف عنهم الويالت ،وال تجعلهم سعداءّ ،إل اذا أتاح
حكام أمناء ،قال عثمان بن عفان ريض الله عنه« :يزع الله بالسلطان لها ّ
ما ال يزع بالقرآن» .وما للقوانني من فائدة عملية سوى أنها تكون بمثابة
املرشد للشعب والدليل للحاكم ،يستعني به عىل إجراء العدل والحكم
يجنف. ّ
بالحق حتى ال يميل وال ْ
فالنظامات التي يحكم بها قوم أُولو نصفة وعدل ،وذوو وجدان ح ّر
وتمكنهم من اكتساب ماِّ طاهر ،تكون وسيلة لجعل املحكومني سعداء،
يجعلهم يف سعة من العيش ورغد من الحياة ،وتسهِّل لهم اجتناء ثمرة
أعمالهم وأفكارهم.
والنظامات التي يحكم بها قوم أولو َجنَف واستبداد ،وذوو وجدان
خبيث يميل مع الهوى ،تكون سببا ً لشقاء الشعوب ووسيلة ليأسهم من
الحياة الطيِّبة والعيشة الراضية ،مهما كانت تلك النظامات عادلة وجيِّدة؛
الحكام من هذه الطبقة يؤ ّولون النصوص عىل حسب رغباتهم ّ ذلك ألن
ومشتهياتم ،وعىل ما يوافق هواهم ومنفعتهم الشخصية.
16
وقوله يف مقالة «أساليب الكالم العربي»:
«طلب الكتابة البالغية كثريون ،ولكن الواصلني إليها والضاربني بني ّ
فيها بسهم قليلون .وما ذلك ّإل من جهل الطريق املؤدِّية إليها ،فإن كثريا ً
من طالبيها يعمدون إىل مطالعة كتب ،ليس فيها من بليغ الكالم ّإل النزر
اليسري ،حتى إذا نالوا منها منالهم ،أخذوا يتحدُّونها ،ويحيكون عىل
منوالها ،فتكون كتابتهم مغلطة ومعانيهم سخيفة -وهؤالء عىل رض َب ْي:
رضب يعمد إىل أمثال كتب املقامات والرسائل التي أنشئت بعد جفاف
رونق البالغة والكتابة الصحيحة ،فهم مغرمون باملجازات الساقطة
والبعيدة ،والتساجيع املتكلَّفة الباردة ،وليس يف كتابتهم معنى يفيد ،وال
مغزى تنعش به األرواح ،ورضب يعمد إىل بعض املؤلَّفات العرصية أو
املرتجمة بالعربية عن كتب اإلفرنج التي ليس عليها أثارة من األسلوب
العربي الصحيح ،فيحتذون بأسلوبهم مثالها ،فتكون كتابتهم ال عربية
يركبون منها جملهمُتعرف ،وال إفرنجية ُتوصف ،ألن األلفاظ التي ِّ
عربية ،غري أن أسلوب الرتكيب إفرنجي محض؛ وذلك م ّما يقيض عىل
اللغة العربية ويرجع بها إىل ما وراء.
17
8u:h*7
ˆ
وال يقدح فيه أنه يوجد يف بعض مقاالته أفكار شا ّذة أو متط ِّرفة أو آراء
تناقض ما ورد له يف غريها من املقاالت ،فإن ذلك شأن الضعف البرشي،
كل حني .وهذا ابن مسعود ،من أكرب واإلنسان تتقاذفه تيّارات التقلُّب يف ّ
علماء األ ّمة كان يقول ألحد مريديه -كما روى عنه الشعراني يف امليزان:-
ّ
ولعل الرأي الذي أفتي كل ما أفتي به ،وإنما ُي َكتب الحديث.
ال تكتب عني ّ
به اليوم أرجع عنه غداً» .فإذا كانت الفتوى التي تبنى عىل أصول الدين
رجع عنها لظهور دليل واضح من الدليل األ َّول ،فأوىل باالجتهاد الفكري ُي َ
أن يرجع عنه صاحبه حني ظهور غريه أجىل منه ،عىل أن هذا املجموع لم أ َر
فيه كثريا ً من أمثال تلك املقاالت املعنيّة ،وهو دليل بأنه أراد إغفالها قصداً.
أ ّما نظمه فأكثره منشور يف الصحف السيّارة ،ومن أحاسنه قوله يف
قصيدة «السلم والحرب»:
لهــــوًى في النفوس غير خفا ِء فــرميتم بها إلى حيث شـــــــئتم
18
وقوله يف قصيدة «الحرب واملنطاد»:
ٍ
عطــــــف ورحـــــم ٍة وحـــيا ِء ّ
كل ذبح القوم في ســـــــــبيل مُ ناهم
ن األعــادي من فوق كأس البال ِء واستق ّلوا في الج ّو حــــيث يذيقـو
في أمــــــــان ومنــــــع ٍة واعـــتال ِء فهي تجري بهم إلى حـــيث شاؤوا
تكشــــف الس ّر عن حمى الب َؤسا ِء فهي تعدو يوم النضــال عـــــــيون ًا
..........
العفا ِء
بس هذا العمــــــران ثـوب َ من مبيد األقـــوام من ّ
كل ما يُلـــ
19
8u:h*7
ˆ
بأنــــــــاس من ِ ّ
كل عـــــيب برا ِء أن تذلّوا الضـــعف أن تســــتهينوا
أن تلك الضـــــعاف ث ّل ُة شـــــــا ِء ما أراكم إ ّلا ذئـــــابــ ًا ظـــــــــننتم
وقوله يف القصيدة التي قالها يوم موافاة األسطول العثماني إىل ثغر
بريوت:
وما ســــــوى قـــلبنا الخفّ اق أجراها ســارت فماغير عين الله ترعـــــــاها
أجـــــــرت سفائنها والوجد اذكاها نار القلوب التي بين الجـــــوانح قد
ُ
كاأل ْســد ترقب في الغابات أعداها ترس رابضة
تجري ،وأن هي ترســـو ُ
ضــــمته حشــاياها
َّ ســــــــ ٌر من الله بصرت بالخـطب يحـــفرها
حتى إذا ُ
ومنها:
20
حتى امتطــوا من ذرى الجوزاء أعالها فأصــــــبحوا ودليل النجــــح قائدهم
لوال فضــــــــــائلنا الغــــــــ ّراء لوالها كانوا بقوا في ظالم الجهل يســــترهم
كســــب المعــالي دنت منهم مطاياها باال ِ ّتحاد وبالســـــــعي الحــــثيث إلى
ّ
الذل نُسقاها لهــــــم غــــدونا وكأس ونحن -يا قوم -من ك ّنا أســــــــاتذة
يا قـــــــــوم ،من بعد ما القت مناياها عار علينا إذا لم نُحـــــي أنفســـــــــنا
يـــرج إ ّلاها
ُ الحـــــــت له فرصــــــة لم فالغــرب يرقــــــب م ّنا غِ ــــــ ّر ًة فمتى
الصـــم أرداها؟
ُّ قـــــــلب ،إذا نازلــــته
ٌ هل يبلغ الغــــرب منــــها مأمـــ ً
ال ولنا
ُ
فكـــــــاألسود رأت في مـــــهم ٍه شاها فنحن نحن األلى ،إن جاش غــــاربنا
..........
بداركـــــمٍ ،
بيد فاحت خزاماها هذي بنوالترك وافتكم تصــــافحكم
21
8u:h*7
ˆ
ضمتهم حناياها
الدين الحـــــنيفي َّ والعرب -إخوان -وجـامعة
فالترك ُ
ُشـــ َّلت يداه ،فعن سبل الهدى تاها يمد يــــــديه كي يفــــــ ِ ّرقهم
فمــن ّ
األمم
ُ يا أمّةغضـــــــبت من جورها والشـمم؟
ُ أين الشهامة؟ أين العدل
الظ َل ُم
فعمت سماء المغرب ُّ
وخمَّ - مـــــرتعه
ُ هم -والبغي
طاشت حلومُ ُ
مضطرم
ُ والب ّر محـــــــــــتدم ،والبحر مضطرب ،واألمن مسـت َل ٌب
ٌ فالسلم
والندم
ُ ّ
والـذل يتبعـــــــكم والخــذل أإن فررتم ونار الغيظ تحــــــرقكم
عـــصــم
ُ وصـــــــبيةونســاءمــالـهــا ُتق ِ ّتلون شيـــــــوخــ ًا ما لهـــــا َو َز ٌر
ض َّلت بنوها ،وعن سبل الرشاد ُعموا! ياللفظاعة من (روما) وما صـــــنعت
النعم
ُ لو كان فيكم -بني الطليان -من ٍ
شرف لم تثـــــأروا من ضعاف ِش ْبهها
تزدحم
ُ والسيــــــف يعمل واألرماح َهلّا صــــــبرتم على خطب أ َل َّم بكم
22
والموت يخطب ،والهامات تنحطمُ والع ْرب تذبحـــكم
والجند تقتلكمُ ،
والحرم
ُ عــــــا ٌر بأن تقتل األطفال أمم
ليس الشجاعة قتـل الشيب عن ٍ
ومنها:
والحمم
ُ أســطول ،تقذف منه النار ُ
بجيشكم الج ّرار يحرسه الــــ جئتم
دم
ـم ورمـــــــــــال المقــفرات ُ
وأب ُت ْ كم
وعــدتم وغمام الخــــــــذل َع َّم ُ
ُ
والظلم»
ُ «قد استوت عنده األنوار فكلْكم وهو بالخــذالن ملتحـــــف
والرخم
ُ فعـــــاف مآ كــله الغربان تركتم الجــــيش للغربان ُتطـــــعمه
قمم
من بعـــــدها لكم نحو العلى ُ ماذي الجبانة -ياطليان -الرفــعت
قد ُم
والمشـــــت بكم نحو المنى َ وال لقـــــــــــيتم ســوى ٍ ّ
ذل وأيلـم ٍة
والشم ُم
َ والدين مرشــدنا ،والحلم فالعدل شيـــــــمتنا ،والبأس عادتنا
ســــلم وأنــهم
ٌ فــغـــــــــــ َّر ُه ْم أننـا فقد حمــــلنا على أوباش «رومية»
طيشهم
ُ ّ
يخــف ،فازداد عند الصبر وقد صــبرنا كرام ًا َع َّل طيشــــــــهم
23
8u:h*7
ˆ
الغنم
ُ مات الرعاء ،وبادت تلكم «ومن رعى غنم ًا في أرض مأسدة»
وبالجملة ،فإن هذا املجموع جدير بأن يقتنيه النشء ،ويطالعوه ،ويعملوا
بما فيه من الفوائد الثمينة؛ فإنها فيه كنز ال يفنى.
َقدَّمها
صديق املؤلِّف ،األستاذ الشيخ
محــيي الدين الخــيّاط
24
نهج البالغة
العربي
ّ أو أساليب الكالم
فعىل األسلوب مدار البالغة؛ فمتى كان األسلوب سامياً ،واملعنى حسنا ً
صحيحاً ،فهناك الكالم البليغ.
واألساليب ثالثة :عا ٍل ،ووسط ،وسافل ،فعىل األ َّول والثاني مدار البالغة،
وفيهما تتفاضل البلغاء .ومرجع ذلك كلّه إ ّنما هو إىل تخريج الكالم عىل
ما تقتضيه الحال ،ويستدعيه املقام.
25
8u:h*7
ˆ
ولو كان ما يظنّون صحيحاً ،لم يبق من مغ ًزى وال فائدة من املوضوع
امله ّم الذي عليه مدار علم املعاني ،وهو (مقتىض الحال) ،ذلك األمر
الذي ال يمكن ألحد أن يكون بليغا ً ّإل بمراعاته.
البالغة أن ينظر املرء إىل املوضوع الذي يريد أن يكتب أو يخطب فيه،
وإىل القوم الذين يكتب إليهم أو يخطب فيهم ،ثم يعمد إىل ما تقتضيه
حال السامعني والقارئني ،وحالة املوضوع الذي يكتب فيه ،ويصوغ له
من الكالم ما يطابق املعنى الذي يريده ،ويناسب حال من يقرأ كتابه،
أو يسمع خطابه .فإن راعى ذلك مع فصاحة الكالم املعروفة عند
أرباب املعاني ،فهو الكاتب البليغ ،والخطيب البليغ ،ألن الكالم إنما هو
قوالب للمعاني ،والغاية منه إفهام السامع أو القارئ ما يريده املتكلَّم
أو الكاتب من األغراض التي تجول يف نفسه ،وتم ُّر بخاطره .فمتى
عرف أن القصد من الكالم هو هذا وجب عىل الكاتب ،أو الخطيب،
أن يكون كالمه حسب الحاجة ،مع مراعاة حال السامعني والقارئني،
فيأتي بالكالم عىل املناحي واألغراض التي حملته عىل الكالم أو الكتابة.
وإل كان كالمه من الفضول الذي ال يأتيه كاتب أو خطيب بليغان. ّ
طلب الكتابة البالغية كثريون ،لكن الواصلني إليها والضاربني فيها ّ
بسهمهم قليلون .وما ذلك ّإل من جهل الطريقة املؤدِّية إليها؛ فإن كثريا ً
من طالبها يعمدون إىل مطالعة كتب ليس فيها من بليغ الكالم ّإل
26
النزر اليسري ،حتى إذا نالوا منها منالهم ،أخذوا يتحدّونها ،ويحيكون
عىل منوالها ،فتكون كتابتهم معسلطة ومعانيهم سخيفة -وهؤالء عىل
رضبني :رضب يعمد إىل أمثال كتب املقامات والرسائل التي أنشئت
بعد جفاف رونق البالغة والكتابة الصحيحة ،فهم مغرمون باملجازات
الساقطة والبعيدة ،والتساجيع املتكلَّفة الباردة ،وليس يف كتابتهم
معنى يفيد وال مغزى تنعش به األرواح ،ورضب يعمد إىل بعض
املؤلَّفات العرصية أو املرتجمة بالعربية عن كتب اإلفرنج ،التي ليس
عليها أثارة من األسلوب العربي الصحيح ،فيحتذون بأسلوبهم مثالها،
فتكون كتابتهم ال عربية ُتعرف وال إفرنجية ُتوصف؛ ألن األلفاظ التي
يركبون منها ُجملهم عربية ،غري أن أسلوب الرتكيب إفرنجي محض. ِّ
وذلك م ّما يقيض عىل اللغة العربية ،ويرجع بها إىل ما وراء.
27
8u:h*7
ˆ
مناحي اإلفرنج.
رأيت كثريا ً من أهل هذا األسلوب يتش َّوقون إىل معرفة ما يهديهم لتكون
كتابتهم موافقة لألسلوب العربي ،حتى يخلِّصوا كالمهم من شوائب
العجمة -فإىل هؤالء أقول:
من أراد أن يكون كاتبا ً عربيا ً فعليه باإلكثار من مطالعة الشعر الراقي،
كديوان الحماسة ،واملتنبّي ،والبحرتي ،وأبي تمام ،وغريها من دواوين
وأشعار فحول الشعراء ،ومطالعة كتاب األغاني ،والعقد الفريد ،وكتب
عبدالقاهر ،والغزايل ،والشيخ محمد عبده ،وكتابات السيِّد محمد رشيد
رضا ،والزهراوي ،واليازجي ،واملنفلوطي ،ومحمد كرد عيل ،والخيّاط،
والحوراني ،وغري هؤالء الكتاب املجيدين ،من قديم وحديث.
ومن أحسن ما ينبغي مطالعته ،ملن يتطلَّب األسلوب العايل ،كتاب «نهج
البالغة» لإلمام عيل ،رىض الله عنه .وهو الكتاب الذي أنشأت هذا املقال
ألجله ،فإن فيه من بليغ الكالم ،واألساليب املدهشة ،واملعاني الرائعة،
ومناحي املوضوعات الجليلة ،ما يجعل مطالعه -إذا زاوله مزاولة
صحيحة -بليغا ً يف كتابته ،وخطابته ،ومعانيه.
كان هذا الكتاب ُد ّرة يف صدف بعض املكتبات ،حتى أُتيح لشيخنا
املرحوم األستاذ اإلمام الشيخ محمد عبده ،مفتي الديار املرصية ،أن
يطلع عليه ،و ُيربِزه إىل عالم املطبوعات ،ليكون أستاذا ً للمنشئني ورائدا ً
َّ
لل ُبلَغاء .وقد علّق عليه رشحا ً جزيل الفائدة كبري املغزى .وقد ُطبِع
الكتاب بضع م ّرات مرشوحا ً بقلم األستاذ ،عليه الرحمة .فاستفاد منه
28
أقوام كثريون منهم كاتب هذه السطور.
29
أيُّها اإلنسان
الحي النامي ،وال هذه الهيئة وتلك التقاطيع ،بل أنتّ لستَ ذلك الكائن
ّ
املحل ذلك الجوهر السامي املج َّرد عن املادّة ،الهابط عىل هذا الهيكل من
األرفع واملكان األمنع .ولواله ملا كان لهذه الهيئة ما لها من التمييز عن
املوجودات كا ّفة ،فأنت -يف الحقيقة -ابن السماء ال ابن األرض ،وأصلك
من العالء ال من الحضيض .وما وجودك عىل سطح هذه الكرة ّإل وجود
ضيف ،عن قريب يرحل ،ويرجع إىل األرض التي فيها نشأ ،ومن ُتربها
نبت .فما بالك قد ادّعيت التملُّك ،وزعمت أنك ُّ
كل يشء وأنت ال يشء ،ألنك
تحرجك البعوضة ،ويقلقك الوهم ،ويحرمك املنام الربغوث؟!
ألستَ الذي إن أصابك زكام ،قلت غدا ً أرشب كأس الحِ مام؟؟ ألستَ الذي
إن أصابتك مصيبة ،ناديت بالويل والثبور ،وعظائم األمور؟؟ ألستَ الذي
إن لم يجد ما يأكل أو يرشب ،خارت قواه ،وانحلَّت عزائمه ،وعلم أنه
ضعيف حقري؟؟
31
8u:h*7
ˆ
ألستَ الذي إن أصبح فقريا ً معدماً ،ذهب ما كان له من املقام الرفيع ،و َب ِلَ
ثوب كربيائه وعظمته ،فالتجأ إىل من كانوا إليه يلتجئون ،وطلب منهم
اإلحسان إليه ،كما كانوا منه يطلبون؟؟
فانّ ،
وكل ما يف إذن ،فليس لك من األمر يشء ،وما أنت ّإل كائن ضعيف ٍ
تترصف بها أو تدَّعي تملُّكها ،فما هي ّإلَّ يدك عارة مسرتَدَّة ،فإ ّياك أن
واحفظ كرامة املودِعّ ،
وإل ْ وديعة لديك ،فأحسن القيام عىل ما اُستو ِد ْعت،
انتزعها منك قرساً ،وتركك حائرا ً بائراً ،ال تلوي عىل يشء ،وال يعطف عليك
أحد .إيهِ ،أ ُّيها اإلنسان!
ما هذه الكربياء التي تلبسها؟ وما تلك العظمة التي تتق َّمصها؟ عىل من
رب مال وفري ،وعقار كثري ،وخدمة َ
لِجل أنك ّتتكب؟ وعال َم تتعاظم؟ أ ْ
َّ
وأثاث ،وقصور ذات رياش؟؟
يس مثلك ،يأكلون تتكب ،وفيهم تحتكم ،هل هم ّإل أنا َّّ انظر إىل من عليهم
كما تأكل ،ويمشون كما تميش ،لهم جسوم مثل جسمك ،وأرواح مثل
روحك ،و -ر َّبما -فضلوك بعقولهم ،وب ُّزوك بآدابهم ،وعَل َ ْوك بأخالقهم،
وطاولوك بشهامتهم ،وطالوك بكرب نفوسهم ،وصفاء رسيرتهم ،وطهارة
سريتهم ،وفاقوك بحسن َخ َبهم وطيب ُخ ْبهم! وملثل ذلك فليعمل
العاملون ،وبمثله فليفتخر املفتخرون:
32
الفضائل ،وك َّملتها نبالة الشمائل:
(((
منهن أكثرا
َّ بِ فَ لْس لكان الفلس علي ثيــاب لو ُتـــــباع جـــــــميعها
َّ
َّ
أجل وأ كبرا نفـوس الورى كانت نفــس لو ُتقـاس بقـــــــــدرها
ٌ وفيهن
َّ
ما ذا يفيدك أن لو حييت حياة امللوك ،وأنت غري مالك نفسك؟ بل ماذا
تنتفع أ َّمتك من وجودك ،إذا كنت ال تحسن إليها؟ أتظ ّن أن أموالك تزينك،
وأن ملبسك يعليك ،وحسن هيئتك ُتسميك؟ إنك إذن ملن املخطئني .أتزعم
أقل منك مقاما ً وأدنى منزلة؟ إنك -إذن -ملن
أن الفقري ذا الخلق العظيمّ ،
الظاملني.
قيمة املرء ما يحسن ،فإ ّياك أن ترجو املنزلة السامية يف الدنيا ،واملقام
املحمود يف اآلخرة ،إذا لم تخدم قومك ،وتس َع يف إنجاح وطنك ،فإنك
أن سعيت وخدمتَ ،تنْ ُب ُه بعد الخمول ،و ُتح َمد بعد الذ ّم .والله يجزي
املحسنني ،وقد قال أحد الفزار ّيني:
ُ
َصول
له بالخصال الصالحات و إ ّلا يكـــــن عظــــمي طوي ً
ال فإنني
33
8u:h*7
ˆ
ُ
عقول حسن الجسوم
َ تـــزِن
ْ إذا لم ونبلها
وال خي َر في حسن الجســــوم ْ
ُ
طويل بعــــــارف ٍة حتى يُقـــال تهم
إذا كنت في القوم الطـــوال عل ْو ْ
ُ
فجميل فحـــــل ٌو وأمّا وجـهه ولم أ َر كـــــالمعروف ،أمّا مـــذاقه
أيّها اإلنسان!
إنك ُخلقتَ ألم ٍر ،لو علمت خفيَّهُ .....خلقتَ ملا هو أسمى م ّما يخطر ببالك،
وأعىل م ّما تتص َّور .فانزع عنك ثوب الرياء ،واخلع رداء الذي هو أدنى
فتهبط مرصا ً غري مرصك ،فإن فيها ما سألت من النعيم َ ري،بالذي هو خ ٌ
الظاهر والل ّذة الحارضة ،غري أنك تندم بعد ذلك ،حيث ال ينفعك الندم،
ّ
ولعل. وال تغنيك ليتَ
ُخلقت لعمارة األرض وحسن السري يف مناكبهاُ .خلقت لتكون خليفة الله
فيها .أهكذا تكون عمارتها؟ وهل بهذه األعمال الشائنة ّ
تتول خالفتها؟
ما بهذا أُمِرنا ،وال ملثل ذلك خلقنا!
خليفة األ ّمة ،يحسن سياستها ،ويدّبر أعمالها ،ويدير دوالب حياتها
سكانها وخادميها،االجتماعية ،والعمرانية .وعامر األرض يسعى لرفاهيّة ّ
كل ما يحتاجون ويهّيء لهم األسباب التي تدعوهم لعمارتها ،ويقدّم لهم ّ
إليه لصالح تلك األرض ....فهل أنت -أ ّيها اإلنسان ،يا من ُخلقت لعمارة
األرض ،يا من ُوجدت لتكون خليفة الله فيها -تعمل بمقتىض سنّة الله يف
األكوان ،لتصحّ خالفتك عليها ،وتكون عامرا ً لها؟؟؟
34
أهلها ج َّوع ،وقاطنوها جهالء ،فهم يأكلون بجهلهم لحوم إخوانهم،
ويخربون بسوء عملهم ما أمر الله بعمارته ،وأنت أنت قادر عىل تعليمهم
وإطعامهم ،وتدبري أمورهم ،والنظر يف إصالح شؤونهم.
فا َّت ِق الله يف الوديعة التي استودعك إ ّياها ،فقد ادَّعيتَ أنها ملك لك،
فترصفت فيها عىل ما يريض هواك ،ال عىل ما يريد املودع.
َّ
إنما جعلك غنيّا ً لتنظر يف حالة الفقراء واملساكني ،فتدرأ عنهم عوادي
الزمان ،وتدفع طوارئ الحدَثان ،فاستأثرت باألمانة ،ورصت من أهل
الخيانة ،ولسوف تندم ،والت ساعة مندم.
تكتف بما فعلت ،بل طفقت ُتنكر عليهم ح َّقهم ،وتعبث ِ ثم إنك لم
أضل سبيالً ،فكأنك لم تنظر إىل
ّ بمرافقهم ،وتحتقرهم كأنهم األنعام أو
قول الله الكريم« :ويف أموالهم ٌّ
حق معلوم للسائل واملحروم».
أيُّها اإلنسان!
35
ّ
ولكل كل نجد وغور ،فال يجدون مكانا ً يعصمهم من البالء،
البخالء يف ّ
قوم دور.
أيُّها اإلنسان!
فانزع عنك -أ ُّيها اإلنسان -ثوب الغرور ،واخلع معاطف الزهو والخيالء،
وانظر إىل أخيك يف اإلنسانية ،وأ َ ِعنْه بما تستطيع ،وخ ّفف ويالته ،وقلّل
من نكباته ،فماذا تفيدك كربياؤك؟ وما تغني عنك خيالؤك»؟:
إن ملكـــــت الورى من الغُ َلواء قــــــــــــــوي وخفّ ْ
ض ُّ فا َّت ِ
ــق الله يا
ٍ
خــــــــلق من طينها والماء ّ
كل ُّ
قــــــــــوي -سواء إنما الناس -يا
فارحم يرحمك م َْن في السما ِء خــــــفّ ف الوطء فالبرايا عيال الله
..........
37
َقحْ ُط رجال ،أم َقحْ ُط وجدان؟
...يشكو الناس ،اليوم ،من قحط الرجال ،وعدم وجود األكفاء العاملني
ّ
الحكام الذين ينظرون إىل املد ّربني .وأنا أشكو من قحط الوجدان ،وندرة
الجريمة ال إىل املجرم ،وما يتبعه من الذيول والغيوث.
ّ
والحل وقحط الوجدان ليس قارصا ً عىل املرت ِّبعني فوق دست األمر والنهي
والعقد ،بل هو عا ّم شامل األ ّمة ّإل َم ْن رحم ر ُّبك ،وقليل ما هم ،ومع ذلك
الحق ،وأننا أحرار معتصمون بحبل الدستور ّ فكلُّنا ندَّعي املحافظة عىل
املتني.
كل امرئ ح ّر ،غري أن وجوده يف الوجدان الصحيح يجب أن يكون يف ّ
الحق وإبطال الباطل. ّ الحاكم آك ُد منه يف سائر الناس؛ ألن بيده إحقاق
فإن راعى وجدانه ،وانصاع لحكم العدل ،فقد أحيا ميّت الرجاء يف األ ّمة،
رش مندثر األمل.وأن َ
39
8u:h*7
ˆ
الرجال عندنا كثريون ،ال كما يتو َّهم الناس ،فإن بيننا ،من أهل الثروة
والعلم والقوانني وأرباب اإلدارة ،رجاال ً ُيفتخر بهم لو راعوا وجدانهم
وخدموا أ َّمتهم خدمة صادقة .غري أن األهواء تصدف بهم عن سلوك جادّة
املنفعة العا ّمة ،وتقذف بهم يف طريق الغاية الشخصية ،والنظر إىل منفعة
ّ
وحكامنا ر ّواد آمال، الذات .فأغنياؤنا عبَّاد أموال ،وعلماؤنا َخدَمة أقوال،
وقليل من هؤالء وأولئك من يجود ملنفعة األ ّمة ،ويعمل بما يعلم ،ويحكم
ّ
الحق ،ويمليه عليه الوجدان. بما يوجبه
فهل نقول ليس عندنا رجال أغنياء ،أم نقول إنه ليس لكثري من أغنيائنا
وجدان ح ّر يدفعهم إىل األخذ بيد األ ّمة وإقالتها من هذه العثرة؟ العلماء
يقولون ما ال يفعلون ،وبأهوائهم مشتغلون ،وعن تعليم األ ّمة وتهذيبها
مطلعون .فهل نقول وإرشادها الهون ،مع أنهم عاملون ،وعىل الحقيقة َّ
ليس عندنا علماء ،أم نقول إنهم باعوا الدين بالدنيا ،واستبدلوا الذي هو
أدنى بالذي هو خري؟
ّ
الحكام ،وما أدراك ما هم؟ قوم ف ّوضت األ ّمة إليهم أمورها ،وألقت عليهم
أثقالها ،ورمت إليهم بمقاليد الحكم عىل أعراضها وأموالها ودمائها .ثم
بصت بكثري منهم حادوا عن سبيل الرشاد ،وا َّتبعوا غري طريق السداد، ُ
40
تلقاء وصاية أو رجاء ،وميالً ملنفعة أورياء .ويظ ّن الكثري أن سبب ميلهم
الحق هو الجهل بالقوانني ،وأن من ُسلِّموا زمام الحكم غري أكفاء.
ّ عن
وهو حكم عليهم غري صحيح ،وإنما عادات الدور البائد لم تزل ِّ
مؤثرة يف
الجل منهم .فهل نقول ليس عندنا ّ نفوس أكثرهم ،ومسيطرة عىل طبائع
حكام أكفاء ،أم نقول إن الوجدان ضعيف؟
الحكام ،راعوا وجدانكم ،وأصيخوا إىل صوت ضمريكم ،وال تدعوا ّ فيا أ ُّيها
من ال أخالق لهم يقولون :ال فرق بني املايض والحارض ،وأننا لم ننل من
فوائد الح ّر ّية والدستورّ ،إل انطالق األلسنة وح ّر ّية الجرائد ،التي ا َّتخذ
كثري منها الح ّر ّية ذريعة لهتك األعراض وشتم الناس والتطا ُول عىل أهل
الفضل.
حق ،فالإن كثريا ً من الدعاوي التي تنظرون فيها ليس عليها أثارة من ّ
ترسعوا بالحكم فيها ّإل بعد قتلها علماً ،وإ َّياكم أن تب ُّتوا األمر قبل أن
تأصلت جذورها يف تتثبّتوا فيه .فوالله ،إن التزوير والكذب والنفاق قد ّ
نفوس األ ّمة ،فال تكونوا عونا ً للظالم عىل املظلوم ،وال تسهِّلوا للمز ِّورين
السبيل ،وال تفتحوا ألهل النفاق والشقاق األبواب ،فيَل ِجوها ،فإن دخلوها
الفساق وأهل
ّ فقد اختلط الحابل بالنابل ،وضاعت الحقوق ،وتطاولت
ّ
والحق. الرشور عىل األبرياء ،وأهل الفضل
41
الرتبية أساس النجاح
الرتبية كلمة صغرية اللفظ ،كبرية املعنى ،تنطوي تحتها الكماالت أجمعها؛
فهي مالك الخري كلّه ،وجماع الفضيلة بأرسها ،وعليها مدار الكون ،وبها
ننال الفالح ،وفيها قبعت ذ َّرات النجاح.
وهي ،يف اللّغة ،مصدر (ر ّباه ،ير ّبيه) بمعنى :نمأه .ويف اصطالح علماء
األخالق والرتبية هي تنمية األخالق الفاضلة يف النفس ،وتعهُّدها باإلرشاد،
لتكون َملَكة راسخة فيها ،فتثمر الفضيلة والخري.
الحق سعادة األمم وفالحها ،وشقاؤها وانخذالها .فمتى كانت ّ فعىل الرتبية
ُّ
التأخر إىل ذروة الفالح، الرتبية صحيحة يف أ ّمة من األمم ،رفعتها من وهاد
والعكس بالعكس .وعىل مقدار الرتبية تكون تجلية األقوام يف مضمار
الحق يف قلوب أبنائها متَّسعا ً ّإل
ّ هذه الحياة ،فما من أ ّمة وجدت الرتبية
بلغوا ما يأملون من رفاه العيش وسعادة الحياة .وبقدر الرتبية يكون
املفكرون الذين يبذلون وسعهم ،وينفدون مجهودهم، ِّ يف األمم الرجال
لرتقية أ َّمتهم وأوطانهم.
خذ أ ّية أ ّمة من األمم الراقية ،اليوم وقبل اليوم ،تجد أنها قد تقدَّمت ،وبلغت
43
8u:h*7
ˆ
ما بلغت من العظمة واملدنيّة ،بواسطة أناس تر ّبوا تربية صحيحة ،فعرفوا
مرتخص وغا ٍل ،حتى أرواحهم َ فضحوا ّ
كل ّ ُّ
وتأخرها، انحطاط أ ّمتهم
ودماءَهم ،يف سبيل تخليص أ ّمتهم من مخالب واالستبداد ،واألخذ بأيديها
ونشلها من مهاوي الجهل والفساد ،حتى أنافوا بها عىل يفاع الح ّر ّية
وذروة املدنيّة .واألمثال عىل ذلك كثرية تكاد ال تحىص ،والتاريخ طافح
وهاك مثاال ً من ذلك -األ ّمة العربية:
َ بها.
-األ ّمة العربية ،وما أدراك ما هي؟ تلك األ ّمة الرفيعة الشأن ،البعيدة
الصيت ،التي بلغت من املدنيّة والعمران شأوا ً بعيدا ً التزال آثاره ناطقة
شاهدة عىل ما كان لهم من العظمة يف امللك والسلطان وامتداد السطوة.
تلك األ ّمة التي مدّت جناح ملكها عىل الحجاز واليمن والشام والعراق،
وفارس وإفريقيا واألندلس وقسم من أوروبا ،ووصلت حوافر خيولها إىل
قسنطينية وباريس .تلك األ ّمة التي نرشت العلوم واملعارف والصناعات،
وبثَّت يف أرجاء املعمور أنوار الهداية لسلوك مناهج العلم والفضيلة .تلك
األ ّمة التي لم تزل أوروبا ،اليوم ،تعرتف لها بالتقدُّم ،وتقول إنها تلميذة
لها ،وعنها تل َّقت العلوم والصناعات التي كانت لها نورا ً أوصلها إىل ما
كل يشء.هي عليه ،اآلن ،من التقدُّم والرباعة يف ّ
تلك األ ّمة التي هذا شأنها ،ماذا أصابها حتى أصبحت اآلن ضعيفة،
متأخرة يف ّ
كل يشء؟ ِّ
هذا مثال من أمثلة األمم التي كان ضعف الرتبية وفساد األخالق من
ُّ
وتأخرها بعد التقدُّم. أسباب انحطاطها بعد االرتفاع،
45
8u:h*7
ˆ
أما َتتْهم ،فأجفلت عند ذلك الدول الطامعة باغتيال اململكة واقتسامها َّ
رش
اقتسام ،ووقفت عىل الحياد.
أولئك األحرار الذين كانوا سبب إنالتنا الح ّر ّية ،وواسطة كرس قيود
االستبداد والظلم عن أيدينا وأرجلناّ ،
وفك عقاالت املراقبة عن أقالمنا،
وتحطيم أغالل الجاسوسية عن ألسنتنا -أولئك األقوام األحرار كانوا
سبب هذا االنقالب العظيم الذي أبدل شكل الحكومة من مطلقة مستبدَّة،
إىل مقيَّدة عادلة .وهل يظ ّن أحد أن هذا الفكر كان يجول يف غري أدمغة
كل .ثم املرت ِّبني من األ ّمة ،إىل أن أظهره ،إىل عالم الربوز ،هؤالء األحرار؟ ّ
كل .هذا الفكر لم يكن لينشأ ّإل من قوم قتلوا الرتبية علماً ،ثم سعوا يف ّ
وحي عقول أم ٍر كان موضع إعجاب العالم أجمع ،حتى أدهش الساسةَّ ،
الناس كا ّفة ،عىل اختالف طبقاتهم وتبا ُين مشاربهم.
فالرتبية -إذاً -هي منار التقدُّم ،ورائد الفالح ّ
لكل أ ّمة تريد أن تربأ
بنفسها أن تكون خاملة الذكر ،أو تكون مع الهالكني.
الرتبية املنزلية
-منشأ اإلجبار عىل القيام بالواجب ،هو تلك العاطفة التي ر َّباها املر ّبي،
وعمل عىل إحيائها العلم الصحيح؛ أال وهي الضمري ،هذا الضمري أو تلك
النفس الطاهرة هي التي تجربه عىل خدمة وطنه وأ ّمته ودولته ،وال
تحصل تلك العاطفة بغري الرتبية الصحيحة .فالرتبية جماع الخري كلّه،
وأساس الفضائل بأرسها .فر ُّبوا أبناءَكم وبناتكم ،وأودعوا يف نفوسهم
التعاليم القويمة ،وابذروا يف قلوبهم تلك البذور الطيِّبة ،وتعهَّدوا أفكارهم
بمياه الفضائل ،وال تدعوا لسلطان األوهام والخرافات عىل عقولهم سبيالً.
بكل صدق وبذلك يحيون حياة طيبة ،ويكونون أبناء املستقبل ،يخدمونه ّ
وأمانة وإخالص.
التعليم أمر عظيم ،جليل القدر ،عظيم الفائدة ،ولكن الرتبية أرشف
وأجل .فإن العاقل الخبري ،والناقد البصري ،يرى من نفسهّ وأنبل ،وأعظم
وك ُرمت نفوسهم ،ولو ارتياحا ً لقوم َح ُسنت تربيتهم ،و َن ُبلت أخالقهمَ ،
كانوا غري متعلّمني .وال ُيرى هذا االرتياح وذلك األنس بفئة من املتعلّمني،
ليس عندهم من الرتبية الصحيحة ما ير ِّغب الناس يف مخالطتهم واألنس
بهم .وهذا ُمشاهَد بالعيان ،ال يحتاج يف صدقه إىل برهان .وقد ورد يف
47
8u:h*7
ˆ
وليس املراد م ّما قدّمناه إنكار مزية العلم والتعليم ،حاشا لله أن أكون من
الرقي يف معارج
ّ الجاهلني ،فالعلم من أقوى دعائم املدنيّة ،وأقوى أسباب
الحضارة والعمران .وإ ّنما القصد أن الرتبية واألخالق ومعرفة الواجب،
خري من العلم املج ّرد عن التهذيب واآلداب واألخالق الفاضلة ،وهذا أمر ال
ينكره عاقل ،وما أحالهما إذا اجتمعا يف املرء!.
ناشدتك الله :هل أمثال هؤالء املتعلِّمني سوى أعضاء أشالء يف جسم
املجتمع؟ وهل ِّ
تفضلهم عىل أولئك األخيار األطهار ،أصحاب القلوب النقيّة
ّ
الحظ بالجلوس البيضاء ،واألخالق الكريمة السمحة ،الذين لم يسعفهم
وراء مناضد املدارس؟؟.
......
ليس القصد من الرتبية أن تكون األلفة بني النوع اإلنساني فقط ،بل
األمر أعىل من ذلك وأرفع ،وأرشف وأنبل ،فإن الغاية التي نقصد إليها،
والضالّة التي ننشدها ،هي أن نوجد ،بواسطة التهذيب والرتبية ،يف نفوس
النشء ،شعورا ً لطيفاً ،وعاطفة ش ّفافة ،يجربانه عىل القيام بالواجب نحو
48
األ ّمة والوطن والناس أجمعني .وذلك ال يكون ّإل بتعويد األحداث مكارم
األخالق وأحاسن األعمال ،منذ نشأتهم ،وبذلك نكون قد خدمنا الوطن
ذكر ف ُت َ
شكر .فتعويد األحداث عىل العمل بالواجب أجل خدمة ُت َ
واإلنسانية َّ
منذ الصغر ير ّبي يف نفوسهم تلك العاطفة التي نريدها ،وذلك الشعور
الذي نتطلَّبه .فالرتبية يف الصغر كالنقش يف الحجر.
لكل نقش وصورة ،فاحذر -أ َّيهاف َمثَ ُل قلب الولد مثل الشمعة ،قابلة ّ
الرجل -أن تنقش يف فؤاد ولدك وفلذة كبدك ما يكون وباال ً عليه وعىل
أ ّمته ،يف مستقبل حياته .قال اإلمام الغزايل:
«إن الولد أمانة عند والديه ،وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية عن ّ
كل
وس ِع َد يف الدنيا واآلخرة، نقش وصورة ،فإن ُع ِّو َد الخري وعُل ِّ َمه نشأ عليهَ ،
وكل معلِّم ومؤدِّب .وإن ُع ِّو َد الرش وأُهمِل َشق َِي وشاركه يف ثوابه أبواه ّ
وهَلَك ،وكان الوزر يف رقبة وليِّه والقيِّم عليه».
49
8u:h*7
ˆ
الصبيان ،قبل أن يأتيهم يوم ال ينفع فيه مال وال بنون ،وهو يوم الجهاد
األكرب يف معرتك الحياة املستقبَلة .فالرتبية ال ّ
تؤثر ّإل أن كانت منذ الصغر،
تتأصل فيهم شأفات الجهل وفسادَّ كما قدَّمنا .وأ ّما تربية الشبّان ،بعد أن
األخالق ،فهي عسرية ،وأعرس منها تأديب الكهول والشيوخ .وهؤالء قد
ينفعهم التعهُّد بالوعظ واإلرشاد ،من حني إىل آخر:
أدب
وليـس ينفعهم من بعده ُ َ
األحـداث في صغرٍ األدب
ُ قد ينفع
الخشب
ُ وال يُق َّوم لو قـــــ َّوم َته إن الغصون إذا قـــــــ َّومتها اعتدلت
َّ
تلك هي الرتبية األوىل يف هذا الدور؛ دور الطفولة أو دور التهذيب املنزيل
أو األرسي .وهو دور يجب التن ُّبه له أش ّد التن ُّبه ،إذ عليه مدار رحى اآلمال.
لبث املبادئ القويمة يف نفوس النابتة ،وأفضل الرتبية املنزلية خري واسطة ّ
سبب يرقى بهم يف سلَّم النجاح والخري .ويف الجملة ،فتأثري األرسة «العائلة»
يف طبائع الناشئني وعقولهم أمر ال َ
ينكر ،بل إن طبائع اآلباء -ر َّبما -تنتقل
إىل بنيهم بطريق اإلرث ،حتى ذكروا أن بعض فالسفة األمريكان «أوليفيه
ويندل هلمس» ُسئِل عن مبدأ تربية الطفل فقال« :تبتدئ تربية الطفل قبل
أن يولَد بمئة سنة»؛ يريد بذلك أن الرتبية تراث يرثه الولد عن آبائه ،كما
تحسن أخالق ُ يغي الطباع» -فإن لمورد يف الحديث الرشيف« :الرضاع ِّ
الوالدين والوالدات أثر ذلك يف أوالدهم؛ لهذا يجب عىل املربني واملر ِّبيات
أن يتكلَّفوا األخالق الحسنة -وإن لم يكونوا من أهلها -حتى تنطبع يف
مخيِّلة الولد صور السجايا الحسنة ،وهيئات األخالق الصحيحة.
ومن َ
آك ِد الواجبات يف هذا الدور أن يرتك الوالدان ّ
كل خصام وجدال،
50
كل من الزوجني كل خلق سيِّئ يؤدّي إىل النفور .وذلك بأن يعرف ّ وينبذا ّ
وإل كان خصامهما وتنافرهما ما ألحدهما عىل اآلخر من الحقوق فيؤدّيهاّ .
رضبة قاضية عىل البنني والبنات ،ألنهم يحفظون من اآلباء واأل َّمهات
روايات سيِّئة يمثّلونها متى بلغوا مبلغ الحياة الزوجية.
ول ُيعلَم أن تربية الولد بني ظهراني أرسته «عائلته» هو خري له وأوىل من
يترصفن فيه بسوء أخالقه ّن و ّ
رش عاداته ّن .وإ ّنا لنرجو َّ دفعه إىل املر ِّبيات،
من السيِّدات أن يتح َّملن تلك املش ّقة ،مش ّقة الرتبية والتهذيب ،بأنفسهن،
وح ْسن مستقبل ألوالده ّن.
فهي -يف الحقيقة -راحة ُ
الرتبية املدرسية
ثان ،وتربية ثانية ،هو دور التلمذة والرتبية املدرسية .وهو هناك دور ٍ
دور يجب االهتمام به كسابقة ،فإنه نتيجة ما تعلَّمه من أبويه ،وما
اختربه من أخالقهما وأخالق أرسته .فإن كان من ُح ْسن ِّ
حظه أنه ُو ِجد يف
مدرسة مستوفاة الرشوط ،من ُح ْسن الرتبية والتهذيب ،فتلك سعادة فوق
طلبها والقائمني بأعبائها،سعادة .وإن وجد يف مدرسة فسدت أخالق ّ
يترصف الطلبة بأخالق
ّ فهناك الطا ّمة الكربى ،والبليّة العظمى .إذ هناك،
بعضهم ،واملعلمون بأخالق تالميذهم.
ولـ ّما كانت املدرسة منزال ً ثانيا ً للناشئ ،وجب أن تكون كمنزله األصيلّ،
وإل كانت رضبة قاضية عىل معهدا ً لألخالق الكريمة والسجايا الفاضلةّ .
رشا ً عليه من األفعى والوحش الضاري؛ لهذا وجب عىل األب أوالتلميذ ،بل ّ
51
8u:h*7
ˆ
الويلّ أن يختار لولده أو للقيِّم عليه ،من املدارس ،أسماها تربية وأرقاها
تهذيباً .وذلك هو أ َّول ما يجب أن يهت ّم به حني يريد إدخاله يف املدارس.
ثانوي باإلضافة إىل الرتبية.
ّ وأ ّما أمر التعليم فهو يشء
-نصلحها بإصالح القائمني بأعبائها ،وذلك بأن نحمل رؤساءها عىل أن
يختاروا لها األكفاء من املعلِّمني واملر ِّبني ،وأن ال ينتخبوا لها ّإل من هو
ثقة ،معروف بآدابه وأخالقه ،ألن التالميذ أمانة بني يديه؛ وذلك بأن ال
يكون املر ِّبي أحمق ،أنانيّاً ،وسخ الذيل ،بل يكون طاهر السرية والرسيرة،
وقوراً ،محبّا ً للنفع ،وأن يكون من أصحاب الدين والوجدان .ولست
أقصد أن يكون املر ِّبي شيخا ً أو كاهناً ،وإ ّنما أعني بذلك أن يكون متَّبعا ً
للحق ،محبّا ً للخري والسالم ،ذا وجدان صحيح ،وأخالق فاضلة ،وعواطف ّ
رشيفة ،يسري بتالميذه نحو ما يعود عليهم بالسالمة والنجاح .فإن فعلنا
غري ذلك ،فعىل مستقبل النابتة السالم.
تختلف وسائل الرتبية وأسباب التهذيب باختالف مشارب املر ّبني ،فمنهم
52
من يرى أنها ال تكون ّإل بالقسوة والشدّة والرضب ،وغري ذلك من الوسائل
التي كانت محظورة يف أ ّيام االستبداد ،فأح ِر بها أن تكون كذلك يف أ ّيام
الح ّر ّية والعدل.
التهذيب ،عىل تلك الصورة ،هو من األعمال الوحشية ،وهو بقيّة من بقايا
الهمجية ،ألنها ُتفقِد الناشئ ذلك الخلق الكريم ،وهي الشجاعة التي هي
ّ
يستل مديته كل فضيلة .ولست أعني بالشجاعة أن يكون وحشيّا ً مالك ّ
كل ،وإنما أريد بالشجاعة تلك الروح التي أو مسدَّسه عند ّ
أقل طارئّ .
تح ِّفز املرء للدفاع عن وطنه بقلمه أو ماله ،بل بسالحه وروحه ،إن طرأ
رشا ً (ال َق َّد َر الله ذلك).
أجنبي يريد بها ّ
ّ عىل البالد طارئ
إيالم
ُ بميت
لجــــــــــــــــرح ّ
ٍ ما يه ْن يســـــــهل الهـــــــوان عليه
من ُ
الرتبية الصحيحة التي جاء بها الرشع ،وأق َّر عليها العقلَّ ،
ودل عليها
االختبار ،وأ َم َر بها عمالء الرتبية والتهذيب ،تكون بتعويد النشء الفضائل،
ويوسع نطاق العقول ،مع
ِّ وإرضاعهم املحامد ،وتغذيتهم بما ينري األذهان،
لبن التغذية ودروس العلم ،بال مخ ّوف وال إهانة وال رضب ،بل بالرتغيب
والتنشيط ،وتمثيل الفضائل ،بصورها الكاملة ،ومستقبلها الحسن ،وتمثيل
الرذائل واألخالق السافلة والكسل ،بصورها القبيحة ،ومستقبلها السيِّئ.
53
8u:h*7
ˆ
الرتبية العمليّة
متى ت ّم للناشئ هذان الدوران :دور الرتبية املنزلية ،ودور الرتبية املدرسة،
ينتهي إىل دور ثالث هو أش ّد األدوار وأجدرها باالعتناء؛ أال وهو دور
الجهاد يف معرتك الحياة ،دور الج ّد والعمل ،دور السعي بال ملل ،وهو
نتيجة الدورين السابقني .فإن كانا حسنني فهو َح َسن ،والض ّد بالضدّ.
غري أنه يل َزم التنبّه ألم ٍر عظيم ،هو أنه ال يكفي أن تكون الرتبيتان األُولَيان
وإل ضاع ساميتَ ْي ،فقط ،بل يجب أن يكون دور الجهاد من َّزها ً مقدَّساًّ ،
التعب املايض ُسدًى ،ألن هذا الدور الثالث دور اجتناء ثمرة الجهاد والج ّد
والرتبيتَ ْي اللتني تقدَّمتاه ،فإن لم نحسن اقتطاف هذه الثمرات تذبل
شجرة الحياة.
54
كيف تكون الرتبية يف هذا الدور؛ دور الجهاد والعمل؟ وكيف ُتجنَى
نتائجها؟
وإني ألعلم طائفة م َّمن تر ّبوا تربية حسنة ،يف دور األرسة «العائلة»
واملدرسة ،ثم خرجوا منهما إىل دور العمل والجهاد ،فأحاط بهم قوم فسدوا
وانحطوا آداباً ،فأفسدوا عليهم أخالقهم ورشفهم ،وغمسوهم يف ّ أخالقاً،
حمأة الرشور واملنكرات ،فخرسوا أموالهم وعقولهم وأجسامهم وثقة
أ ّمتهم بهم .فال حول وال ق َّوة ّإل بالله.
يجب أن نلتفت إىل هذا الدور الْت ِفاتَ متي ِّقظ حاذق حذِر .والرتبية يف هذا
للحكام أكثر منها لآلباء .فيجب عىل الق ّوة الحاكمة أن تبحث ّ الدور هي
عن الرشور وأصحابها ،وتن ِّقب عن مواضع قتل العقل والرشف ،وإهالك
األجسام ،وإتالف األموال ،فتقفلها .وإن لم تفعل ذلك ،ضاع مستقبل
الشبّان ،ورجعوا بخ َّف ْي ُحنَني ،بعد عناء الرتبيتَ ْي.
أ َّيتها الق ّوة الحاكمة ،ال عذر لك يف إهمال الشبّان ،وعدم النظر إىل تحسني
55
8u:h*7
ˆ
.............
57
األنانيّة وحبّ الذات
ما السبب الذي دعاه إىل ذلك ،يا ترى؟ وما العلّة التي قعدت به عن
الطريان يف سماء الفضائل ،إىل السفيف((( عىل حضيض الرذائل ،وحا َدتْ
((( َّ
سف الطائر :م َّر عىل وجه األرض
59
8u:h*7
ˆ
-لو دققنا ،الفكر وأمعنّا النظر ،لرأينا أن السبب لذلك ،والعلّة الكربى
حب الذات عىل غري وجهه ،واالستئثار باملنفعة
القتحامه هذه املهالك ،هو ّ
دون غريه ،واألنانية التي تصحبه من مهده إىل قربه؛ وعن ذلك تنشأ سائر
الرذائل املمقوتة ،واألخالق املذمومة.
حب الذات ُيطلَق عىل معنيَ ْي :أحدهما مذموم ،واآلخر ممدوح مقبول ّ
معقول .أ ّما األ َّول ،فهو أن يميل إىل االستبداد باألمر ،واالمتناع باملنفعة
دون غريه ،ويبذل ما يف وسعه وطاقته لس ّد أبواب الخري عن سواه،
وتضحية املئات من منافع الخلق يف سبيل خري جزئي يعود له ،أو نفع
فحب الذات ،بهذا املعنى ،رذيلة وحشية ،ال تصدر ّإل ُّ قليل يرجع إليه.
س من الهمجية ثوبا ً ع َّمن فقد الشعور اإلنساني واملرحمة القلبية ،ولبِ َ
طويل األذيال ،واسع األردان ،وكيف ال يكون كذلك؛ وهو القائل:
أحد
ذهبت نفســـــــــي فال عاش ْ
ْ إنَّما ُدنياي نفــــــســـــــي ،فإذا
البلد
ْ تطـــــــــلع على أهـــل
ْ ثم لم َت
ليت أن الشـــمس بعدي غ ُرب ْ
وال أبالغ إذا قلت إن أكثر الناس قد نهج هذا الخلق السيِّئ ،وخاض يف
تيّار ذلك األمر الذي كاد يقيض علينا أو قىض ،فنزع ما يف قلوبنا من
الحب والشعور ،فاستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خري .ترى أحدنا إن
ّ
وهمي ،سعى لذلك سعيا ً ّ الح بارق -ولو ُخلّباً -أو بصيص من نور نفع
حثيثاً ،وإن ّ
أرض بمجموع األ ّمة التي هو عائش يف بيئتها ،ومتمتِّع يف
بحبوحة خريها:
فما الناس عندي غير حصبة صاحب يقول :إذا ما كـــــنت أمرح في المنى
60
أرشده فكره السافل ،ورأيه العاطل ،إىل أن االستئثار باملنفعة خري له
وأبقى ،فجنى عىل نفسه وعىل غريه .ألن ذلك دا ٌء معدٍ ،ما رسى يف أ ّمة من
األمم ّإل كان أقوى سبب لسقوطها ،وجعلها يف أخريات الناس ،يف هذا
املعرتك الحيوي.
اخترب حالة الناس ،اليوم ،ون ِّقب عن أفعالهم وأعمالهم ،ت َر أنهم يغتنمون
الفرص ،ويطلون الوسائل بمغناطيس الحيل ،وكهرباء املداهنة ،لجذب
املنافع إليهم ،ودفعها أن ُتنيخ بباب غريهم .بل هناك داهية أعظم ونكباء
أشدّ ،وهي أن كثريا ً منّا ،لغاية نفسية خبيثة كمنت يف فؤاده كمون النار
يف صلد الزناد ،يسعى إلفساد ذات البَ ْي ،وإيقاع ذات البَ ْي ،والتفريق
بني األخ َو ْين ،وإلقاء الناس يف التهلكة ،وج ّر املصائب والويالت عليهم.
وماله بذلك من فائدة ،وال يناله من عائدة ،بل ألنه حنق عليه م َّر ًة يف
عمره ،أو أصابه منه أذى ،ولو اليعبأ به .وال أُب ِّرئ كثريا ً منّا من هذه
الوصمة .فإن البعض إذا حصل بينه وبني أحد نفور ما تراه يز ّور القول،
ويختلق األكاذيب ،إلثبات ذنب عىل من بينه وبينه حزازة أو نفور ،تش ّفيا ً
الحق ال يخفى ،ولو ُسرت بأسجاف الباطل الكثيفة، ّ منه وانتقاماً ،ولكن
وستائر الوهميّات الغليظة ،فال يلبث أن يزول هذا الغطاء ،وينهتك ذاك
الرين ،فتبدو الحقيقة بأجىل مظاهرها ،وأبهى حليّها وحللها.
نعم ،هذه حالة اليأس اليومّ :
كل يج ّر النار إىل قرصه ،ويطلب املاء إىل
غرسه .ولو علموا ما يف األثرة بذلك من الرضر املبني ،ألقلعوا عنه تائبني.
ومع ذلك فهم ُيظهرون خالف ما ُيبطنون ،ويقولون ماال يفعلون .أ ّما
الذات باملعنى الثاني ،فهو أن يسعى املرء ملا يعود عليه بالنفع ،برشط
أن ال ُيلحق بغريه رضراً ،فهو -بهذا املعنى -ممدوح مطلوب ،بل فضيلة
عليها قوام أمر املدنيّة وعمارة هذا الكون ،إذ من املحال أن يعمل أحد عمالً
61
8u:h*7
ˆ
الترجع له منه فائدة دنيوية ،أو أخروية .ولو أن هذه الفائدة أمر وهمي،
يخرج من األفواه ،فيحمل عىل أجنحة الهواء ،فيطري يف الفضاء ،كاملدح
والثناء ،أتظ ّن أن أصحاب هذه املعامل العظيمة ،واالخرتاعات الجسيمة،
لوال حبّهم لذاتهم ،هل أتوا بغرائب هذه املدنيّة التي نشاهدها بأبصارنا،
ونحكم باستحسانها ،إجماالً ،ببصريتنا؟ ،وهل كنّا قد رأينا البواخر
تمخر عباب البحارُ ،تق ِّل ما عليها من األثقال والسفارة ،إىل بلد لم يكونوا
بالغيه ّإل يشق األنفس؟ ،وهل كنّا قد أبرصنا القطار ،يقطع السهوب
والقفار ،قد ا َّتخذ سبيله يف الربّ سهالً ورسباً ،فأرانا أمرا ً عجباً ،فإن أردته
وقد أُطل ِق له العنان ،فلن تستطيع له طلباًَ ،تار ًة يص ِّوب وطورا ً يصعِّد،
لهفة مشوقاً ،وآنا تستويل عليهً ً
وآونة يبكي وأخرى يبدي زفريا ً وشهيقاً،
الدَّعة والخمول ،فيخلد إىل السكون وقطع العويل ،يسري إىل حيث يراد به،
كما هو يريد؟ وهذا هو شأن املشتاق العميد:
الحبائب
ِ جـــنوب
ُ غــــرام أثارت ُه
ٌ وما هو إ ّلا كالمشـــــوق حدا به
الترائب
ِ ونيران ُه في الصدر تحت وهذي بخارات الجوى ودخان ُه
حب الذات ملا قام لدي ٍن قائمة ،بل وال ُعبِد الل ُه يف أرضه ،وال
نعم ،ولوال ُّ
سمعت للكرام اسماً ،وال رأيت للشجاعة واملروءة رسماً .فلو أن حاتما ً
وعنرتة والسموءل ،لم يكونوا م َّمن يحبّون أنفسهم ،بل م َّمن هم َكل ِفوا
بمحبِّها ،ملا ألبسوا أرواحهم ثوبا ً من املدح ال يبىل ولو َبل الدهر ،وتاجا ً
ِ
َّ َّ
حب الذات وبقاء الذكر املخلد املسطر تتمنّى الثريا أن تكون يف سمائه .لوال ّ
نفسه إىل أن يجود بها يف بعض عىل صفحات الكون ،لَما دعتِ األ ّو َل ُ
62
األحايني ،ولَما خاض الثاني املعامع ،ورغب يف عناق األسمر َ
الخ ّطار،
ومصاحبة األبيض البتّار ،غري مبا ٍل بالكوارث ،وال مهت ّم بالحوادث،
يستيضء بسيفه إن أظلم الليل ،ويستصبح بسنان رمحه إن اختلطت
حب الذات ،وطيب املدحَ ،
وعظمة حنادس الخطوب بظلمات الليل .ولوال ّ
حب الشهرة والتقريظ عىل الفخر ،لَما جاد ثالثهم بولده وفلذة كبده ،وآثر َّ
روح ولده ،وما كان سلَّم تلك الدروع ،لوال ما قدَّمناه من حبّه لذاته ،ليقال
ف ،دون حفظِ ما اُئ ُتمن ،روحَ نجله. رص َ
إنه أمنيَ ،
حب الذات عىل غري الوجه فسوا ّ وهناك قوم ليسوا يف العري وال النفريَّ ،
فسه به أصحاب الرأ َي ْي :األ َّول ،والثاني ،فأدَّى بهم حبّهم لذاتهم
الذي َّ َ
أن تعالوا عىل أبناء جنسهم ،واحتقروا َم ْن سواهم ،فظنّوا أن الله لم يخلق
ُجم ال يستح ّقون
غريهم ،وأن ما عداهم خياالت وأوهام ،أو حيوانات ع ْ
اإلكرام ،فهم كاألنعام ،أو عبيد لهم والسالم .وحسبوا أنهم ،بذلك ،محبّون
لذاتهم ُمك ِرمون لها .ولو علموا أنهم ،بفعلهم هذا ،أغضبوا الخالق
حب الذات يف يشء ،بل هو من واملخلوق ،بل لو د َر ْوا أن هذا ليس من ّ
بغضها وكراهية الخري لها ،ألقلعوا عن ذلك ،ورجعوا عن العبور يف هذه
املسالك ،التي توصل إىل املهالك.
من كان هذا دأبه مع أبناء جنسه ،وتلك فعلته بمن هو منهم ،فقد فتح
لهم طريقا ً ليسلكوا يف ه ْ
َجوه والقدح فيه ،و ُيتبِعوه االحتقار حيث مال،
ّ
الحل والرتحال ،وهو غافل عن أفعالهم ،يظ ّن ،لفرط جهله والنفور منه يف
وأنانيّته وعجبه بنفسه ،أن كالمهم كلّه مدح ،وفعلهم جلّه تعظيم وتبجيل.
الطغام ،أن هذا من بابيظ ّن هذا الجاهل العَبام ،ومن هو عىل شاكلته من ّ
تكريم النفس ،فمن ا َّت َ
صف به فهو ذو نفس أبيّة ،و -ر َّبما -ينشد« :ومن
63
8u:h*7
ˆ
والتكب عليهم
ُّ ويفسه بمعنى الرت ُّفع عن الناس
ِّ ال يك ّر ْم نفسه ال يك َّرم»
واحتقارهم :إ ّما ليخافوا بأسه وشدّته ،أو ليخضعوا لِجاهِه وثروته ،ال
يو ّقر كبريا ً لسنِّه ،وال عاملا ً لفضله ،وال يرحم صغريا ً لضعف ُمنَّته.
ما بين ثــــوبيه يحمل العذ َر ْه وهــو على تيــهـــــ ِه ونخــــوت ِه
واختص بهذا
َّ وشواهد ذلك كثرية بيننا ،اليوم ،فأ ِد ْر طرفك يف هذا العالم،
كل ذلكالحكم بني آدم ،ت َر صدق النتيجات ،من هذه املقدِّمات .يفعلون ّ
املعجبون
َ اعتمادا ً عىل أنه من باب تكريم النفس واإلباء .ألم ي ْد ِر هؤالء
بأنفسهم أن معنى تكريم النفس ،هو أن يحملها عىل معايل األمور،
ويجهدها للصرب تحت أعباء املجد ،ويسدي الجميل إىل الناس ،ويغيض
زلتهم ،مع القدرة عىل االنتقام ،وأن يبذل جهده وطاقته دون إيصال عن ّ
ّ
املرضة عنهم. الخري إليهم ،ودفع
64
ّ
استحق اإلكرام حب الذات وتكريم النفس .فإن فعل ذلك فقد هذا معنى ّ
منهم ،ور ْفع املنزلة بينهم ،وأن تكون له الكلمة العليا ،واألمر النافذ:
يقومون إن قام ،ويعقدون إن قعد:
يتجمجم
ِ مطمئن الب ّر ال
ّ إلى ُهد قلبه
مم ،ومن ي َ ومن ي ِ
ُوف ال ي َُذ ْ
وإن فعل غري ذلك فقد أساء إىل نفسه وبني جنسه .ويكون قد ّ
أرض
بنفسه من حيث ال يشعر ،وجنى عليها من حيث ال يدري .فيكون «كالتي
نقضت َغ ْزلها من بعد ق ّوة أنكاثا ً(((» ،هذا إن كان له َغ ْزل ،وقدّم بني يد َْي
حسنات.
سيِّئاته َ
ُمحِ ّب الذات ،بهذا املعنى ،أيضاً ،سافل ،ساقط املروءة والدين ،ناقص
العقل ،مفتون بالرذيلة .بل هو عني اإلعجاب الذي أنكره الله والعقالء،
يس« :الكربياء وشدِّد الوعيد عىل من تردَّى بردائه ،كما جاء يف الحديث القد ّ ُ
ردائي ،والعظمة إزاري ،فمن نازعني فيهما قصمته» ،وكما جاء يف حديث
«ثالث مهلكات :شحٌّ مطاع ،وهوى ُمتَّبع ،وإعجاب املرء بنفسه». ٌ آخر:
واآليات يف ذلك كثرية ،نكتفي منها بقوله تعاىل« :وال تمش يف األرض
مرحاً ،إنك لن تخرق األرض ولن تبلغ الجبال طوالً» ،وقوله تعاىلَ « :وال
ش ِف األ َ ْر ِ
ض َم َر ًحا إ ِ َّن الل َّ َه ال يُحِ ُّب ُك َّل ُم ْختَا ٍل اس َوال َت ْم ِص ِّع ْر َخد ََّك لِلنَّ ِ ُت َ
ص ْوتُص َواتِ لَ َ ص ْوت َِك إ ِ َّن أ َ َ
نك َر األ َ ْ ض مِن َ ض ْ ص ْد ِف َم ْشيِ َك َوا ْغ ُ َف ُخو ٍرَ .وا ْق ِ
الْ َح ِمريِ».
((( األنكاث :األلبسة البالية التي ُتن َقض ل ُتغ َزل ثانية ،ومفردها ِن ْكث.
65
8u:h*7
ˆ
يفسونه ّإل عجب وك ِْب ،وج ٌّر لذيول الفخر الباطل ،واملجد وما اإلباء الذي ِّ
الوهمي ،فيمثّلون نقيصة اإلعجاب ،تحت ستائر االمتناع عن الضيم، ّ
واسم اإلباء املحمود .وأ ّما اإلباء واالمتناع عن الضيمّ ،إل أن تلبس مطارف
ذل النفس يف الحق أينما كان ،و ُت َّ
ّ الفضيلة ،وتنزع ثوب الرذيلة ،وتتبع
طلب الكمال ،و ُتهينها تحت عبء املجد ،لتنال ،بذلك ،ع ّز األبد وفخار
األمد .وال أقصد بتذليل النفس وإهانتها أن يكون اإلنسان خاضعا ً تحت
رشق بسهام الكالم فال يدَّكرّ .
كل ،وإ َّنما نري األغيار؛ ُيص َفع فال يعترب ،و ُي َ
هو الخضوع للحقيقة ،وتح ُّمل املش ّقات يف سبيل املكرمات ،غري مبا ٍل بما
يعرتضه من العقبات ،وال عابئٍّ بما يحول بينه وبني القصد من املخوفات.
أح ُّبوا أنفسكم ،واس َع ْوا ملنفعة ذواتكم ،وتر َّفعوا عن النقائص وقرين
بغض الغري والرض ِر بهم سبيالً يجوزه ،وال
ِ إلبليس
ِ السوء ،لكن ال َتدعوا
لوساوس النفس األ ّمارة بالسوء طريقا ً تعربه ،فتأمركم باحتقار سواكم،
والرت ُّفع عن أبناء جنسكم -الله ّمّ -إل أن يكونوا م َّمن عُرفوا بنقص الدين
والعقل ،وفساد األعراق ،وامليل ملنكرات األخالق .ومع ذلك فال ينبغي
احتقارهم واالزدراء بهم ألنفسهم .بل َّ
إن الرتفع عن أفعالهم ،واالبتعاد
عن شائن أعمالهم ،كافيان يف احتقار ما هم فيه من فاسد أحوالهم.
وإ ّياكم أن تدَعوا للعجب والكربياء عىل عقولكم سلطاناً ،فقد قال بعض
الحكماء« :عجب املرء بنفسه أحد ُح ّساد عقله» وأعيذكم بالله أن تكونوا
من الحاسدين.
جدُّوا واجتهدوا وتقدَّموا ،فقد كفانا ذلك الخمول الطويل ،والسبات الذي
66
كاد ُيدعى بالدائم ،أو دُعي ،وحسبنا ذلك االنحطاط الذي جعلنا آخر األمم،
منصات الفضل، بعد أن كنَّا القابضني عىل نوايص العلم ،والجالسني عىل َّ
رجع يف املشكالت ،وعلينا ُيعتمد يف امله ّمات ،وبنا ُتناط الصناعات،
إلينا ُي َ
تحل املكرمات .تركنا ذلك الهدي الواضح ،والعقل الراجح ،ومِلنا وفينا ّ
عن تلك املناهج إىل هذا الجهل الفاضح .وسلكنا مفاوز مظلمة األرجاء،
يضل فيها الخِ ّريت((( ،ونبذنا العلوم والفنون والصناعات، ُّ وطرقا ً
ُ
واالخالق ومستحسن العادات ،تقليدا ً لألهواء ،وه ًوى للتقليد .وما بهذا
حل فينا من جراء ذلك: أُمرنا ،وال لذلك خلقنا .وقد َّ
تســــــجع
ِ عـــــيت ولم
َّ آمن ًة ولو ر َأتها الطــــير في وكـــــرها
67
رجال اإلصالح
اختلف الباحثون يف أحوال النوع اإلنساني ،من حيث جبلَّته ،عىل ثالثة
رش وإرادة السوء ،وأنه ال أن اإلنسان مفطور ع ََل ال ّ
أقسام :قسم يعتقد َّ
يكتسب الخري وال يعتاده ّإل بعد عناد طويل ُيرصف يف تهذيبه وتعويده
الفضائل ،وقسم يعتقد أَنه مفطور عىل الخري والفضيلة ،وإ ّنما يرصفه
رش ،وقسم يقول إنه ُخلق غريَ ميَّال إىل عنهما دواعي السوء وأسباب ال ّ
الخري وال إىل الرش ،بل هو مستع ّد لهما معاً ،فإن وجد له أسباب تدفعه إىل
الفضيلة ،وتصدف ِبه عن الرذيلة ،فهو ذاك ،والعكس بالعكس.
كل حال ،فهم -وإن اختلفوا يف املبدأ -متَّفقون عىل أن اإلنسان ِّ
تؤثر وعىل ّ
فيه الرتبية والوعظ واإلرشاد ملا فيه سعادته يف الدارين .فإن أُهمل وشأُنه
يصدأ ُ فكره ،وتعلو بصريته غشاوة ،وتغلب عليه األخالق السافلة ،وتأرسه
الحق ،وتعهَّده الواعظون واملصلحونّ الرذائل .وإن هُ ِّذب و ُر ّب َي الرتبية
السوي ،فذلك ينزع مافيه من
ّ باإلرشاد إىل السبيل القويمة ،والطريق
فساد ،ويربأ ُ به أن يسري يف غري منهج السداد.
69
8u:h*7
ˆ
ً
لطافة وال رذيلة .وإ ّنما يكتسبها من البيئة التي يوجد فيها ،كما أنه يزداد
وطهار ًة من بيئته ،إن كان أهلها من األصفياء واألطهار .فالنفس كالبلَّور
النقي الش ّفاف ،يبقى محفوظا ً من الدنس واألوساخ إن ُمنع عن ُه الغبار ّ
ً
والطوارئ التي تزيل بهجته وصفاءَه ،ويزداد صفا ًء ورونقا إن زيد عىل
بالصقل والتنظيف .ثم إنه يعدم تلك البهجة وذلك الصفاء، َّ ذلك تعهُّده
لكل طارئ يطرأ عليه ،و-ر َّبما -تأتيه صدمة شديدة عرضة ًّ إن ُت ِرك
تحطم ُه تحطيماً. ِّ
إذا ثبت هذا ،وأن جبلَّة اإلنسان -عىل اختالف اآلراء فيها -تفسد باإلهمال
وفساد البيئة ،وتصلح وترت ّقى باإلرشاد والوعظ والنصائح ،فالب َّد أن
كل أ ُ ّمة قوم يقفون حياتهم ،ويبذلون جهدهم إلصالح الفاسدين، يكون يف ّ
الخيين .وأولئك هم الرجال املصلحون الذين ما وجدوا يف ِّ وزيادة خري
ّ
التدل إىل أوج الرت ّقي ،ووسيلة تقدُّمها أ ّمة ّإل كانوا سبب رفعها من وهاد
ُّ
التأخر واالنحطاط. وعل ّوها بعد
وب َقدْر عدد املصلحني يف األ ّمة يكون تر ّقيها وبلوغها مبلغ الحياة العالية
تأخرها وتقهقرها؛ لذلك يجب واملدنيّة الراقية ،وبنسبة قلَّتهم يكون ُّ
السعي الحثيث ورا َء تخريج رجال عظماء ،يعرفون الداء وموضعه،
فيعملون عىل مالشاته وتطهري جسم األ ّمة واملجتمع منه.
املصلحون أقسام :قسم يبذل الجهد لتنقية األ ّمة م ّما أل َّم بها من األمراض،
ال لغاية يسعى وراءَها ،وال ملصلحة يتطلّبها .وأولئك هم الذين ُيرجى
منهم النفع الصحيح ،وعليهم ُتعلَّق اآلمال برتقية الشعب ،والنهوض به
من كبوته إىل صهوة النجاح .وهذا القسم قليل يف ّ
كل أ ّمة .وهو -عىل
قلَّته -يفعل ماال تفعله الكثرة التي مزجت غايتها باإلصالح .وبهذه القلّة
70
والرقي ،وقد
ّ نالت األمم ح ِّر َّيتها ،ووصلت إىل ما ترجوه وتطلبه من املدنيّة
تفعل القلَّة ما ال تفعل الكثرة.
وقسم يريد الخري ،لكنه جاهل طريق اإلصالح ،وقد يكون رضره أكثر من
نفعه ،وهؤالء كثريون يف األ ّمة ،وأغرب من ذلك َّ
أن اكثرهم يدَّعي املعرفة
واملقدرة عىل العمل ،ودماغه ُ
أفرغ من فؤاد أ ّم موىس ،غري أنه ُّ
يغش العا ّمة
بهذه الدعوة ،ويتسلَّط عىل عقولهم ،فينقادون إليه صاغرين ،فيسري بهم
إىل ه َّوة الجهل ،و ُيركِبهم متون الغباوة والخرسان.
وقسم قادر عىل اإلصالح ،وعارف وجوه الخلل واألسباب املُحِ ّطة باأل ّمة إىل
الدرك األسفل ،غري أنه ال يريد خريها ،وال كشف َر ْين الجهالة عن قلبها،
وال إزالة برقع األوهام عن بصائرها وأبصارها .وذلك ألن يف خريها إضاعة
وعظمته ،ألن َ مصلحة له ،عىل زعمه ،كضعف سلطته ،وذهاب أ ُ َّبهثه
العلم واالستبداد ال يجتمعان ،فهو يسعى إلبقاء األ ّمة يف لي ٍل من الجهالة
بهيم ،كيال تتنبَّه إذا عرفت الواجب وما لها من الحقوق ،فيتساوى معها.
والظالم يبغض املساواة ،وذلك كان شأن رؤسائنا يف الدور املايض البائد،
ونرجو أن اليكون رجال اليوم كرجال األمس.
وهناك قسم ليس يف العري وال يف النفري؛ فهو يعرف من أين تؤكل الكتف،
وكيف يكون اإلصالح ،فيحرش نفسه يف زمرة املصلحني ،و ُيظهر للناس
أنه من أكابرهم وخيارهم ،غري أنه ال يقصد من وصف نفسه بذلك ّإل
مأربا ً يسعى وراءه ،وغاية يقصد إليها ،فهو يلبس رداء اإلصالح ،ونفسه
الذاتي معاً ،لكن اإلصالح متى ُمزج
ّ عد َّوة له .وقد يقصد اإلصالح والنفع
بنفع الذات يكون ضئيالً قليل الفائد ،وكثريا ً ما يتغلَّب طلب النفع للنفس
رشا ً بحتاً.
عىل اإلصالح ،و -ر َّبما -كانت النتيجة ّ
71
8u:h*7
ˆ
رجال الدين :وه ُؤالء عليهم أن يقوموا بوعظ الشعب والنصح له ،وإفهامه
واجباته نحو الخالق واملخلوق والحكومة ،وتهذيبه تهذيبا ً رشيفا ً عالياً،
كل بدعة وخرافة .فمتى قاموا بهذا وتعليمه الدين كما أُنزل :خاليا ً من ّ
رش إىلوصفهم عن ال ّ تجل سلطان الدين عىل قلوب العا ّمةَ َ ، الواجب َّ
الخري ،وجعَلَهم ينقادون ملا فيه خريهم وسعادتهم.
ورجال املال :وه ُؤالء عليهم أن يمدّوا يد املساعدة الفتتاح املدارس وإنشاء
املعامل واملصانع ،وتشييد رصوح عالية للصناعات الوطنيّة .ومتى َت َّم لنا
ذلك بقيت أموال البالد محفوظة فيها ،فنستغني ،إذ ذاك ،عن األجانب
الذين يبت ُّزون أموالنا بل دماءَنا ،ونحن عن ذلك ساهون الهون.
َ
وتحصيل ما كل مرغوب، نحن يف حاجة شديدة إىل املال ألن به نوال ّ
فقدنا من املدنيّة والتقدُّم .وهو الذي يعيننا عىل افتتاح املعامل ،وإنشاء
املد َّرعات ،وإحياء مدنيّة أسالفنا الكرام ،التي بنوها بجدّهم واجتهادهم
وسعيهم وراء تحصيل العلوم واملعارف وتعلُّم الصناعات.
وأصحاب الجرائد واألقالم :وهؤالء عليهم أن يتج َّردوا عن ّ
كل غاية سافلة،
ويتنحوا عن ذكر ما يوقع األ ّمة يف االختالف والتفريق ،أو يجلب عليها
ّ
ِّ
ويسكن هواجس وأفكارا ً سيِّئة -وهي يف حاجة إىل ما يطمنئ بالها
جأشها -وعليهم أن ال يذكروا ّإل ما كان خربا ً يغلب عليه الصدق ،أو
مقاال ً يفيد األ ّمة ،ويبعث فيها روح الج ّد والسعي إىل ما ينهض بها من
كبوتها ،و ُيقيلها من عثرتها .فرجال األقالم هم قادة الشعب ،فإن أَحسنوا
72
القيادة أَوصلوه إىل الغاية الحسنة والعاقبة الحميدة ،وإن أَسا ُؤوها كانت
عاقبت ُه االضمحالل والدمار ،وغايته السوء وخراب الديار ،وقد كنّا نظ ّن
أن صحافتنا تنهج منهجا ً حسنا ً بعد االنقالب ،فإذا كثري من أربابها لم
يقصدوا ،بإنشائهاّ ،إل غاية غري مشكورة ،فلم يودعوا فيها ّإل ما هو
ضا ٌر باأل ّمة والوطن ،ولم ينرشوا َّإل ما يتقاضون عليه الدنانري ،كالرسائل
املأجورة التي مل ُؤها السفاهة والوقاحة والطعن يف أعراض الناس
والتش ّفي منهم .غري أن طائفة من الصادقني يف خدمة البالد ،الذين ال ذنب
لهم ّإل أنهم أحرار يبذلون جهدهم لتوطيد الدستور واالنتصار للمظلوم
وردع الظالم عن ظلمه ،قد ج َّرتهم قافية اصحاب اإلمضاءات املكذوبة
والرسائل املأجورة ،فاختلط الحابل بالنابل ،والربيء باملجرم .فا ّتقوا
وتفكروا ،يا أصحاب الجرائد! وال تدعوا األصفر َّ الله ،يا أرباب األقالم!
الر ّنان يسيطر عليكم فتنرشوا األكاذيب واملطاعن الشخصية .ا ّتقوا الله يف
هذه األ ّمة ،وخذوا بأيديها إىل ما يفيدها ،وانرشوا لها ما ينهض بها ،فإنكم
ّ
«وكل راع مسؤول عن رعيَّته». ُرعاة لها،
ورجال الحكومة :وهؤالء هم روح البالد وملح األ ّمة .فمتى فسدوا فسدت
وتأخرت البالد .ومن وظائفهم حفظ األمن ورقابة املفسدين َّ األ ّمة،
الحق وإبطال الباطل ،واالنتصاف للمظلوم من ّ واألشقياء ،وإحقاق
وكل هذه الصفات التيالظالم ،وغري ذلك مايجعل البالد وأهلها سعداءّ .
يجب عىل الحاكم أن يتَّصف بها كانت مفقودة يف الدور املايض ،لذلك
أصبحت البالد خال ًء من الرجال العظام ،وصارت الصناعات أثرا ً بعد
عني ،واستفحل الظلم ،واستأسدت الرشوة .وإن ما نراه اليوم ،بعد أن
نرش الدستور لواءَه ،من املظالم والفوىض ،هو أثر من آثار ذلك الدور.
وإن حكم االستمرار املعروف عند علماء الطبيعة لم يزل جارياً .غري أن
73
8u:h*7
ˆ
التيّار الب َّد أن ينتهي عند حدّ ،برشط أن نقاومه ونبطش بأهله ،ونبَ ِّي
نقائصهم ،حتى يعتدلوا أو يعتزلوا ،وأ ّما إن تركناهم وشأنهم فسيزداد
التيّار ،ويطرد حكم االستمرار ،ويرجع األمر إىل ما كان عليه.
بل كلّهم ،من ازدياد الفوىض والظلم والرشوةيشكو كثري من الناسّ ،
ِّ
الحكام ألحكام القوانني .وإنهم مح ّقون يف ذلك ،ألن فئات من ومخالفة
رجال الحكومة ،يف الدور املايض ،لم يزالوا رجال الحكومة يف الدور
تأصل ذلكالحايل .وهؤالء قد اعتادوا الظلم والرشوة واالستبداد ،حتى َّ
يف نفوسهم ،وصار خلقا ً من أخالقهم ،فمهما ع َّودوا نفوسهم اإلقالع
عنه ،فالب َّد أَنهم يميلون ،بحكم القرس ،إىل ما تع ّودوه ،وكان يجب عزلهم
واستبدال غريهم بهم.
نعم ،أنا ال أنكر أن بني هؤالء رجاال ً أحرارا ً صادقني يف خدمة الوطن ،وهذا ال
التعصب عىل قلبه حتى ران عليه .وهذا قد شاهدته يف ُّ ينكره َّإل من استوىل
مدينتنا (بريوت) ،يوم كان االستبداد ضاربا ً أطنابه ،والجواسيس كالجراد
املنترش ،تن ِّقب عن األحرار ورجال النهضة .فإن هذه الطائفة القليلة لم
تكن تجاري رجال الدور املايض عىل أعمالهم املنكرة ،بل كانت تبذل َّ
كل
الجهد لتخليص األحرار من مخالب الجواسيس واملستبدِّين .وإني أتكلَّم
املحن االستبدادية التي سبّبها
عن مشاهدة واختبار ،وقد جرى يل كثري من َ
الجواسيس اللئام ،فقاموا بنارصي ،وعملوا عىل تمزيق التقارير بعد أن كان
كل بلدة من بالد الدولة،الخطر قاب قوسني أو أدنى .والب َّد أن يكون ،يف ّ
ّ
الحكام ،هم عىل شاكلة هؤالء الكرام. رجال قالئل من
يا رجال الحكومة ،أصلحوا أنفسكم ،وع ّودوها العمل بالقانون ،قبل أن
يأتيكم يوم ال ينفع فيه مال وال بنونّ ،إل من كان مخلصا ً يف أعماله،
74
ّ
الحق ،ونرصة العدل بني الرعيّة .وال جاريا ً يف سنن العدل ،سالكا ً سبيل
تظنّوا أن هذه الفوىض تدوم ،فما هي ّإل سحابة صيف عن قليل َّ
تقشع.
وما هي ّإل الزمة من لوازم االنقالبات ،ثم تضمحل وتذهب «فأ َّما الزبد
فيذهب جفاء ،وأ ّما ما ينفع الناس فيمكث يف األرض».
الندوة :وهم الذينوالقسم الخامس من رجال اإلصالح ،هم رجال دار َّ
انتخبتهم األ ّمة لينوبوا عنها بما يلزمها من اإلصالحات ،وما تحتاج إليه
مما يرقى بها يف مدارج املدنيّة .وهؤالء عليهم َس ُّن األنظمة والقوانني التي
تعود عىل األ ّمة والبالد بالخري .غري أننا نرى بعضهم أضاع ثقة األ ّمة،
وعمل بما يخالف مقصدها ،وأضاع وقته الثمني بالسكوت ،أو بالكالم
الذي ال طائل تحته وال نتيجة.
مجلس األ ّمة قوام حياة البالد ،وسعادة العباد ،فهو يحتاج إىل ا ّتفاق
وإن مجلسنا النيابي هو أعضائه وا ِّتحادهم ليعملوا عمالً يفيد الوطنَّ .
أش ُّد احتياجا ً إىل اال ِّتحاد والوئام من ّ
كل املجالس النيابية يف العالم؛ ألنه
يض ُّم يف ردهته أعضاء مختلفِي األديان واملذاهب واألجناس ،فإن كان أهل
كل جنس أو دين ينظرون إىل غريهم نظر االحتقار ،ويناوئونهم يف ّ
كل ما ّ
يطلبون (ولو كان وراءَه نفع عظيم) فهناك ضياع اآلمال.
األ ّمة ،اليوم ،كلّها جسم واحد ،فيجب أن يسعى الن ّواب يف ّ
كل ما يعود عىل
جنس
ٍ أهل ّ
كل مجموعها بالخري ،من غري نظر إىل جنس أو مذهب ،وأن يساعد ُ
الجنس اآلخر فيما يطلب ،إن كان ح ّقاً؛ فإن بذلك إنهاض األ ّمة ورقيّها.
كل غاية ،ويسعى السعيكل رجل من رجال اإلصالح أن يتج َّرد عن ّ فعىل ّ
كل وسيلة لبرت ّ
كل عضو فاسد يف املجتمع. َ
ويعمل ّ الحثيث ملصلحة الوطن،
والله ال يضيِّع أجر املحسنني.
75
اإلرادة
اجتمع أعضاء مجلس شورى والية بريوت «املجلس العمومي» ،يف دار
كامل بك األسعد .وكان بينهم السيّد محمد رشيد رضا صاحب مجلّة
«املنار» الشهرية .فاقرتح عليه بعضهم أن يقوم فيهم خطيباً ،فخطب
خطبة عمرانية مه ّمة ،ذكر فيها ما يجب عىل هذا املجلس ا ِّتباعه ،وكان
فيما َّ
ذكرهم به وحثَّهم عليه كال ٌم موج ٌز مفي ٌد عن اإلرادة .قال:
أ ُّيها االعضاء الكرام :إن هذا الغرض الذي تطالبون به عظيم ،ولكن
وجهتم
كل عسري .فإذا َّكل عظيم ،وتسهّل َّق ّوة اإلرادة يف اإلنسان تص ّغر َّ
عزائمكم إىل ذلك باإلخالص ،فإنكم تصلون إىل الغاية ،بإذن الله:
أن اإلنسان ال يجزم إرادته بأمر ممكن ّإل وينفذ. يرى بعض الفالسفة َّ
وكان األستاذ اإلمام عىل هذا الرأي ،وقد قال يل غري م ّرة إنه لم يجزم
إرادته بطلب يشء جزما ً تاماً ،ال تردُّد فيهّ ،إل وحصل .وقد كان حكماء
الصوفيّة عىل هذا الرأي ،وع ََّبَ عنه بعضهم بقوله« :إن لله عبادا ً إذا أرادوا
توجه إرادتهم إىل يشء تعلَّقت إرادة الله تعاىل به ،وما أراد»؛ أي إذا صحَّ ُّ
تعلّقت به إرادة الله نفذ حتماً .فعىل اإلنسان أن يعرف قيمة نعمة اإلرادة،
77
8u:h*7
ˆ
....
ذلك ما قاله السيِّد األستاذ الرشيد .وهو من خري ما قيل يف هذا املوضوع
الجليل .وإنه -عىل إيجازه واختصاره -جمع املعاني السامية ،واآلراء
الصائبة .ولو ُعمِل به ،بل بجزء منه ،لبلغنا الدرجة الرفيعة والغاية
نفكر فيه من رفع األ ّمة منالقصوى م ّما نتطلَّبه من اإلصالح ،وما ّ
تدهورها ،وسقوطها بني براثن الجهل ،ومخالب االضمحالل.
أجل ،صدق الصويف الحكيم بقوله« :إن لله عبادا ً متى أَرادوا أراد»، ْ
فإنه صحيح معقول ،ال يدفعه وال ينفيه ّإل من ليس له معقول .وهذا
مبني عىل تلك القاعدة الجليلة الثابتة -نظام ربط األسباب ّ القول الحكيم
أن الله امر اإلنسان بالعمل الذي هو سبب سعادته باملسببات -وذلك َّ
وروح حياته .وال يكون ٌ
عمل َّإل بالنيّة والعزم واإلرادة ،وإىل هذا أشار
وسلَّم -بقوله« :إ ّنما األعمال بالنيّات ،وإ ّنما ّ
لكل النبيّ -
صل الله عليه َ ّ
وتوجه للعمل بقلب ثابت ،وإرادة َّ امرئ ما نوى»؛ فمن أحس َن النيّة،ٍ
ناضجة ،فإن ما أراده من األعمال كائن ألبتة ،رضورة وجود املسبّب عند
وجود السبب .فالرجال ،الذين يريد الله إذا أرادوا ،هم أولئك العظام،
أصحاب العزائم العظيمة ،والنفوس الكبرية ،والهمم القعساء ،واإلرادة
الشماء.
78
أولئك الذين إذا َن َووا أمراً ،أو عزموا شيئاًَّ ،
توجهت إرادتهم إليه ،وبذلوا
ما يف وسعهم دون تنفيذه وإجرائه .وحينئذ ،تتعلَّق إرادة الله -سبحانه-
بأن يكون ما أرادوا ،ألنهم بذلوا الجهد ،واستعملوا األسباب التي أرشدهم
إليها للحصول عىل ما يسعون وراءه .وحاشا لله أن يخيّب قوما ً نهجوا
املنهج القويم ،وأتعبوا النفوس ،وعملوا األسباب املمكنة يف سبيل تحقيق
أمانيهم وإرادتهم.
كلُّنا يعلم ما كانت تقاسيه األ ّمة ،م ّما أصبحنا نسأم من ذكره ،ألنه صار
بديهيا ً لدى طبقات الناس كا ّف ًة .فقد أنشئت الجمعيات ال ّ
رس ّية للقيام
ض َّد الحكومة الهالكة إلبادة الظلم واالستعباد .ولكن ،لم يفز أحد بما
كان يريد ،ألنه لم تكن هناك عزائم صادقة ،ونفوس صادقة فدائية ،وال
دك معالم الجور واالستبداد .ولهذا لم ينالواتتوجه نحو ّ
َّ إرادة صحيحة
بادئ األمر ما كانوا ينوونه من تخليص األ ّمة ّ
وفك أغاللها وقيودها ،غري
تضمحل نيَّتهم ،بل ظلّوا مثابرين
ّ أنهم لم يفرتوا ،ولم َّ
تكل عزائمهم ،ولم
عىل ذلك ،إىل أن كانت اإلرادة الناضجة التي ولَّدت فيهم روح الفدائية
الخاص
ّ واإلقدام .فأقدموا ،وأراد الله ما أرادوا ،وكان ماكان م ّما عرفه
والعا ّم.
توجة اإلرادة يف مخليص الوطن هو الذي أحدث هذه األمور العجيبة إن ُّ
التي أدهشت العالم بأرسه .ولوال اإلرادة والحزم لبقيت األُ ّمة يف حالة
ول َ ْمست البالد نهبا ً
أس العداةَ ،
الخمول والجور ،وألصبحت الدولة يف ْ
مقسماً.
َّ
ُر َّب قوم يقولون :إنا َّ نرى كثريا ً م َّمن يريدون أن يفعلوا ،غري أنهم ال
79
8u:h*7
ˆ
يجنون من إرادتهم سوى خيبة املسعى ،فلو أ َ َّن اإلرادة تفعل ،لكان الناس
يف رخاء وهناء ،وسعادة ،وارتقاء.
رجل َ ْي :رجل ضعيف فنقول :إن هؤالء القوم الذين تعنونهم ،هم أحد ُ
عمل ما يريد أن يعمله ،يكون بني اإلرادة بليد الحزم ،فهو إن خطر له ٌ
الخوف والرجاء ،وي ْعتَ ِوره عامال اإلقدام واإلحجام؛ فتار ًة يريد ،ثم يعرض
ِّ
ويؤخر له فكر ،إ ّما صحيح أو خطأ ،فريجع عن إرادته ،فهو يقدِّم ِر ْجالً
املعني بقول
ّ كل الجهات ،فكأَنه
أخرى ،بني تلك العوامل التي تنتاب ُه من ّ
القائل:
ِ
زيالك حذا َر الردى أو خيف ًة من فصرت كأني بين شقَّ ْين من عصا
ُ
فأج ِد ْر بمن كان كذلك أن يقال عنه إنه ال أرادة له ،ومن ال إرادة له فهو
قوي اإلرادة،
عن العمل بمعزل .والرجل الثاني هو رجل صحيح العزمّ ،
غري أنه يقدم عىل العمل قبل أوانه ،ويريد أن يجني الثمرة قبل نضجها،
فال ينتظر اليشء إىل إ ّبانه ليقتطف فائدته .فعملُ ُه -إذاً -عمل مبترس
«سابق أوانه» .ومن أراد عمالً مبترساً ،فهو كالرجل األ َّول من حيث إنهما
يجتمعان يف عدم نجاح عملهما ،وسقوطه.
وهناك رجل ثالث ،وهو وسط الرجلني ،ليس عنده تقلُّب األ َّول وال عجلة
تغيه الحوادث ،وال تنهنهه الثاني ،بل هو ثابت الجنان رابط الجأش ،ال ِّ
ويتح َّي الفرص إلنفاذ ما
َ الكوارث ،يأخذ لألمر ُعدَّته ،ويهيِّئ له األسباب،
يريد .فإن رأى إنفاذ األمر خرياً ،أنفذه ،فكان ناجحا ً فيه ،وإن رأى تأخريه
أ َ ْوىل ،أَخره وتر َّقب األوان الذي يبدأ بتنفيذه فيه .ذلك الرجل ،هو صاحب
اإلرادة الذي يعنيه السيِّد الرشيد يف مقاله ،ويريده ذلك الصويف العظيم يف
80
عبارته .أ َّما التهور يف األمر وإنفاذه قبل أن يأخذ املر ُء لليشء عتاده ،فهو
من الخطأ ،والجهل بأسباب بلوغ املراد:
ُ
الزلل وقد يكون مع المســـتعجل قد يدرك المتأ ّني بعض حـــاجته
...
فمتى قويت روح اإلرادة ،فإنك ترى ما يدهش و ُيعجب .ولكن ،أ َ ّني لنا
برجال ذوي إرادة تدفعهم إىل القيام بما ُينجح الوطن ،وينهض به من
هذه الكبوة ،و ُينقذهم من تلك اله ّوة ،وأكثر رجالنا قد شغلتهم أنفسهم
وأغراضهم الذاتية عن النظر فيما ينفع األُ ّمة و ُيقيلها عثرتها .فلو تج َّرد
رجالنا الذين أودع الله فيهم االستعداد لعظائم األمور عن األنانية ،وتف َّرغوا
رش ،لبلغنا ما ووجهوا إرادتهم إىل نفع بالدهم ،ورصفوها عن ال ّ ملا يفيدَّ ،
ُ
بلغه َسلَفنا من التقدُّم وإخضاع أمم األرض ،بل كنّا نبلغ أكثر م ّما بلغوا،
ونفعل أكثر م ّما فعلوا .ذلك ألن الوسائل يف هذا العرص قد كثرت ،وطرق
كل ذلك غافلون ،ويف وادي الكسل الرقي والتقدُّم قد َسهُلت .غري أننا عن ّ
ّ
والجهل نائمون ،ويف تيّار الرشور واملفاسد غارقون ،وبسفاسف األمور
كل ما يفيدنا الهون ،ومع ذلك ،فإنا َّ لإلصالح والرت ّقي مشتغلون ،وعن ّ
طالبون ،فهل ذلك يمكن أن يكون!؟.
81
8u:h*7
ˆ
بلغ َسلَفنا من العلوم واملعارف شوطا ً بعيداً ،فقد كانت لهم اليد الطوىل
وكل ما يس ّمونه العلوم الكونية أو العرصية، يف جميع العلوم والفنون ّ
وكانت لهم مدينة زاهرةُ ،ضبت بها األمثال ،وقوة ال ُتبارى أخضعت
قسم عظيم من املعمور ،وال تزال ٍ لهم األمم ،وملك عظيم َم َّد جناحه عىل
ً
ناطقة بما كان لهم آثارهم العلمية ،والفنّيّة ،وبناياتهم الضخمة الفخمة،
حصلوا ذلك املجد العايل والفضل الباذخَّ ،إل بماالرقي والعمران .وما َّ
ّ من
لهم من اإلرادة العظيمة والنفوس الكبرية ،لكننا أضعنا ذلك السعيَ ،ف ُب ْؤنا
يخزي األبد وعار الدهر .وذلك عا ٌر علينا عظيم ،ال يمحوه من لوح الوجود
ّإل الج ّد واالجتهاد ،إلرجاع مفاخر االجداد ،وتوجيه العزم األكيد واإلرادة
والسعي الحثيث وراءُ العالية ،القتباس العلوم وإنشاء املعامل واملصانع،
كل أم ٍر نافع ينهض بالوطن ،وبنيه.ّ
ُر َّب قائل :إن إنفاذ األمر وايجاد العمل يتو َّقفان عىل اإلرادة ،وال إرادة
عندنا ،فأنت تطلب املستحيل.
ُّ
مايرض ،ال إىل ما وأنا أقول :إن اإلرادة عندنا ثابتة ،غري أننا رصفناها إىل
وجه عزيمته إىل أم ٍر من األمور
ينفع .والدليل عىل ذلك أن أحدنا متى َّ
السافلة ،فإنه يبذل جهده وراء تحقيقه حتى يناله ،ولو تحت شفار
السيوف وصليلها ،ورصاص املسدَّسات والبنادق .ونحن ال نطلب من
الح ّد من الخطر،
أصحاب اإلرادة والعلماء واألغنياء أن يصلوا إىل هذا َ
الغني أن يبذل ماله ،ويسعىّ وانما نطلب من العالم أن ينرش علمه ،ومن
الكل ،بإرادة وإخالص ،لتخليص الوطن من مخالب الجهل ،كما خلَّصه ّ
82
الجيش واألحرار من براثن االستبداد واالستعباد.
فليكن عندنا رجال إرادة وحزم وعزم ،يرصفونها يف الخري ،حتى ننال
املراد ،فـ«إن لله رجاال ً إذا أرادوا أراد».
83
األلقاب وال ُّر َتب
امليل إىل املجد ،والرغبة يف الرشف ،والسعي وراء النفوذُ ،خلُق من أخالق
كل ما يف وسعه للحصول عليها. يضحي ّ
ّ اإلنسان ،وشهوة من شهواته،
وقد يؤدّي به ذلك إىل إنفاذ ما لديه من املال ،ولو بقي صف َر اليدين،
أو إىل بذل دمه دون الوصول إىل مبتغاه .وأ َ َّما الذين ال يعبؤون بهذا
األمر ،فهم قوم صغار النفوس ،ضعاف الهمم ،خامدو العزيمة ،ال
يستطيعون حيلة يحتالون بها ،لينالوا ما يسعى إليه أصحاب النفوس
الكبرية ،واملدارك السامية ،والهمم القعساء .وإن ُطولبوا بأن يسعوا إىل
املجد ،ويجدُّوا وراء العىل ،تعلَّلوا بما هو معروف عنهم ،من رغبتهم يف
االنقطاع عن مظاهر هذه الحياة ،وعدم االلتفات إليها .وقولهم هذا-
لو علمت -رياء ومداهنة ،وأحبولة يصطادون بها عقول الس َّذج من
العا ّمة .وهم لو كان عندهم عزيمة صارمة ،وه ّمة ال تعرف امللل ،لسعوا
حصل غريهم ،ولك َّن َّ
حب الراحة وامليل وحصلوا ما َّ
َّ إىل ذلك سعيا ً حثيثاً،
إىل الدعة واإلخالد إىل الكسلّ -
كل ذلك يدعوهم إىل االستكانة ،فهم كمن:
طــــــ َّلق الدنـــيا وعاف الورعا وهو لو جـــــــــا َءته منها بـــدر ٌة
85
8u:h*7
ˆ
فالج ُّد يف سبيل املجد ،والتعب يف ارتقاء مراقي العىلَ ،خلَّة حميدة،
أدب أن يتخلَّق بها ،ويهيم يف جمالها ،ويستميت وخصلة يجدر ّ
بكل ذي ٍ
يف ميدان الج ّد ألجلها.
غري أَن الناس ،يف طلب ذلك وتفسريه ،عىل مراتب ومذاهب ،بعضها
حميد ،وبعضها قبيح .وهم كلُّهم يف املبدأ ،وهو نيل املجد والرشف،
ينصبون ألجلها ،الختالفهم يف تفسري
غري أنهم مختلفون يف الغاية التي َ
معانيها:
َ
والرشف الحقيقي فدلفوا إليه،
ّ فقسم راقية عقول ذويه ،قد عرفوا املج َد
فعضوا عليه بالنواجذ .وهؤالء يعتقدون أن املجد والعىل يف ُّ الصحيح
التمسك بمعايل األمور ،والتخلُّق باألخالق الفاضلة ،والسعي ّ
بكل ما يف ُّ
الوسع الكتساب العلوم وتحصيل املعارف ،وأن يعملوا َّ
كل عم ٍل يرجع
كل السعيعىل الوطن وبنيِه بما ينهض به إىل أوج النجاح ،وأَن يسعوا ّ
إىل ما يفيد الدولة ويرفع عنها أعبا َء االنحطاط .وهؤالء ال يه ّمهم رتبة
وال وسام ،وال لقب من ألقاب التعظيم ،ألنهم إ َّنما يعملون لخدمة الوطن
واأل ّمة ،غري ناظرين إىل مقص ٍد سواه.
وا أَسفاه عىل تلك اللريات التي اختلسها رجال الدور املايض وتجا َّ ُر
األلقاب والرتب من ضعفاء العقول ،الذين ال يه ّمهم ّإل أن يقال لهم
87
8u:h*7
ˆ
وإني ألَش ُّد أسفا ً عىل الذين استدانوا األموال ،واشرتوا بها وساما ً أو
رتبة ،وكثري منهم لم يخلصوا ،إىل اآلن ،من أعباء ذلك ال َّد ْين الذي أثقل
عاتقهم ،وأرهقهم عرساً.
مركب ،ال يعرف للعلم معنًى ،والإن أكثر َم ْن نال رتبة علمية جاهل َّ
يدري للفنون مغ ًزى ،وإنك لرتى َّ
أن العلماء العاملني لم ينالوا ما نال
كل عاقل.أولئك الجهلة من الر َتب واأللقاب ،ألَنهم يحتقرونها ،شأن ّ
ولو طلبوها فليس لديهم من النقود ما يرشون به الذين كانوا يبيعون
األُمة والدولة بالدرهم والدينار.
أ ّما وقد مىض زمن التمويه والتضليل ،ولم يبق افتخار ّإل بالعلم والعمل
الصالح ،فقد رجعت األشياء إىل أصولها ،واملياه إىل مجاريها ،فكان من
رتبة أو وساما ً وهو ليس أهالً لذلك ،فقد رجع إىل أصله ،وتساوى
ً حاز
ماضيه بحارضه ،ويومه بأمسه.
89
حديث مع النابتة
َّ
تستدل عىل مستقبل أ ّم ٍة من األمم ،وتستعرف ما ست ُؤول إذا أردت أن
إليه حالتها االجتماعية ،والعمرانية ،والسياسيّة ،فابحث عن أخالق
شبّانها ،ون ّقب عن أحوال نابتتها ،فتقتطف النتائج من هذه املقدِّمات.
كل أ ُ ّمة عنوان مستقبلها ومادَّة ترقيها ،فإن رأيت نبتا ً مه َّذبا ً
ألن نش َء ّ
وبشها بأن ستكون نشأ متعلّماً ،فأبرش بآتٍ حميد ومستقبل زاهرّ ،
أ ُ ّمة حيّة ،تنال طلباتها ،وتفوز برغباتها .وإن وجدت شبّانا ً جاهلني،
التأخر ،ثم أنذرهاُّ ً
ونابتة فاسدة األخالق ،سافلة املبادئ ،فاقرأ عليها آية
مقسماً ،تعبث بها أيدي الالعبني، بالخراب ،وح ّق ْق لها أَن ستكون نهبا ً َّ
حتى تكون عربة لآلخرين ،وتلك سنّة الله يف العاملني.
تلك سنّة الله ،ولن تجد لسنّة الله تبديالً ،فقد حكم -وهو أحكم
أن األرض يرثها عبادة الصالحون ،وينتزعها م ّمن ال يقدِّرها الحاكمنيَّ -
قدرها ،وال يميش يف مناكبها مشية من يحسن استعمارها ،ويستورد
خرياتها ،فالصالحون ،يف هذا املقام ،هم من يعرفون كيف تؤكل الكتف،
ويدرون من أساليب العمران ما ي َؤهِّلهم ألن يكونوا ورثا َء األرض.
فاأل ّمة التي يكثر متعلّموها وامله َّذبون من شبانها ،هي األ ّمة التي ستكون
91
8u:h*7
ˆ
النهضة ،مهما كانت عظيمة ،ومهما بلغت من التقدُّم ،ال تفي بالحاجة،
إذا لم يكن يف األ ّمة قادة كبار متعلِّمون التعليم الراقي ،وعارفون أصول
الرتبية والتعليم الحديثة ،وليس لدينا من هؤالء ّإل النزر اليسري الذي ال
يقوم بجزء م ّما نحتاج إليه؛ لذلك وجب عىل األُ ّمة أن تختار من أبنائها
من هم أهل فطنة وإقدام وأخالق رشيفة ،وتقذف بهم إىل مدارس
الغرب ،حيث ينالون منها قسطا ً وافرا ً م ّما نحتاج إليه ،ثم يرجعون
إلينا وقد رضبوا ،من العلوم والفنون وتطبيق العلم عىل العمل ،بسهام.
تؤثر يف نفوسهم عادات عىل رشط أن يعودوا كما ذهبوا :من غري أن ِّ
الغربيِّني واخالقهم التي ال تمتزج بعاداتنا وأخالقنا .فليس ّ
كل ما يأتيه
الغربي بنافع لنا .و ُر َّب عاداتٍ ألولئك يعدُّونها من أصول املدنية ،ونعدُّها
92
والتوحش الذي ال يطاق ،فإن العبادة تختلفُ ،ح ْسنا ً
ُّ من فساد األخالق،
وقبحاً ،باختالف األ ّمة والبيئة التي تقطنها.
تؤثر يف نفسه عادات أهله وأخالقهم إن بعض من يرحل إىل الغرب ِّ
وسياستهم .فإذا رجع إىل قومه أخذ يحدِّثهم بما رآه ،و -ر َّبما-
استحسن كثريا ً م ّما نراه مخالفا ً ألخالقنا وعاداتنا وما ُفطِ رنا عليه من
التعاليم الدينية .وبالطبع ،ليس ما استحسنه م ّما يج ُّر نفعاً ،أو يدرأ ُ
رضراً ،وإنما هو م ّما نراه مدعاة الته ُّتك ،ومجلبة فساد األخالق ،ويراه
الغربيّون من تت ّمة املدنية ولوازم املتمدِّنني.
رس الذي يدعو بعض الراحلني إىل الغرب إىل استحسان ما قدَّمنا، وال ُّ
هو أنهم لم يرت ّبوا ،منذ نشأتهم ،تربية رشقية ،ولم يتع َّودوا األخالق
ً
طبيعة من الصحيحة ،ولم ُتغرس يف نفوسهم أغراس الدين ،حتى تكون
والزمة من لوازمهم ،وهذا نقص كبري يف مدارسنا وبيوتنا، ً طبعائهم،
يجب أن يتنبّه إليه اآلباء واملعلِّمون .ور َّبما -سبَّب ذلك نفرة الناس،
نتوخاها من الشباب الذين يهجرون ّ وأضاع كثريا ً من الفوائد التي
ديارهم لتحصيل العلم.
إن من نرسلهم إىل الغرب ،ال نرسلهم الكتساب أخالق ال تتَّفق مع
عاداتنا الرشقية ،وأخالقنا امللّية ،وإ ّنما نبعث بهم للعلم املج ّرد واكتساب
ما ينفعنا يف حياتنا الدنيا ،ال غري .ألن ما لدينا من األخالق العالية،
ري لنا وأنفع لبيئتنا ،ويجب أن نحتفظ به ّ
كل والعادات الرشيفة ،هو خ ٌ
بكل قوانا ،ألن األُمة التي ال تحافظ عىل
االحتفاظ ،ونذود عن حياضه ّ
ني من الدهر حتى عاداتها ،وال تدافع عن أخالقها ،ال يميض عليها ح ً
93
8u:h*7
ˆ
نحن النطلب ،اآلن ،من شبابنا أن ينرشوا عاداتنا وأخالقنا بني القوم
الذين يتل َّقون عنهم العلم ،بل غاية ما نطلبه منهم أن يظلّوا محافظني
94
عىل أخالق قومهم ،وأن يرجعوا إليهم كما ذهبوا ،حتى يمكنهم االختالط
كل الرشط،وبث املبادئ العالية والعلم الصحيح فيهم .والرشطُّ ،بهمُّ ،
أن ال يروا أنفسهم أرفع من قومهم؛ بحيث يحتقرونهم ،فإن ذلك ال
ُينتِج ّإل التنافر ،وهو يضيِّع الفائدة املبتغاة من ذهابهم إىل الديار
األجنبية لتل ّقي العلوم.
...
أحب أن أفاوضهم بحديث هو ،من األه ّميّة ،باملكان الذي يستح َّقه وهنا ّ
أن بعض من أتكلَّم عنهم يرجعون وقد علق يف ّ
كل أم ٍر مه ّم ،وهو َّ
نفوسهم يشء م ّما يتعلّق باألديان ،فرتاهم يتكلَّمون غري مبالني بما ينجم
رش .وأنا اعتقد أن كالمهم ليس عن إلحاد ،إ ّنما عن ذلك من قرون ال ّ
هو عن ُشبَ ٍه يودُّون إزالتها ،قد َّأثرت يف أذهانهم بسبب ما يسمعونه
مختصا ً بالراحلني إىل الغرب ،بل
ّ من املالحدة أعداء األديان .وهذا ليس
هو شامل بعض من يس ّمون أنفسهم متن ِّورين .فعىل هؤالء أن يدرسوا
أرسار الدين وحكمه ،ويتل ّقوه عن أهله العارفني بتاريخه وفلسفته ،وإن
الشبَه ،فعليهم أن يسألوا أهل الذكر واألفاضل، م َّر بخاطرهم يشء من ُّ
ص ُغرت عقولهم ،وضؤلت نفوسهمَّ ،
فإن ال أن يتشدَّقوا بذلك أمام َم ْن َ
ُ
ومجلبة التخاذل. ذلك مدعا ُة التنافر
إن أرادت نابتة األ ّمة أن تنهض وتسري بقومها يف السبيل القويمة،
فعليها أن تحافظ عىل األخالق والعادات التي تع َّودناها ،وأن تكون
رقي للرشق ّإل بالعلم واألخالق التي تناسبه،
َّ متد ِّينة صالحة ،فال
خصوصا ً بالدين الذي ِّ
يهذب األخالق ،ويطهّر األعراق .فإىل العلم
95
8u:h*7
ˆ
أنا ال أعتقد -كما يعتقد الكثري -بأن هذا القسم من النشء سيِّئ االعتقاد،
يحب إهانة الدين .وإ َّنما أعتقد أنه ذوُّ أو ال اعتقاد له بامل ّرة ،أو أنه
بعض ما ال دخل َ اعتقاد صحيح ،وغري ٍة عىل الدين عظيمة ،لكنه منتقد
َّ
يتهكم له يف الدين ،وليس من أصوله وال من صحيح فروعه؛ أعني أنه
عىل ما أحدثه املبتدعة من الخرافات والبدع ،وقالوا« :هذا من عند الله»
ليشرتوا به ثمنا ً قليالً؛ أال سا َء ما يعملون .فإذا سمعه العا ّمة يظنّون أنه
يطعن يف الدين ،وما طع ُنه َّإل يف الزوائد التي ليست من الدين يف يشء،
بل هي م ّما يجب عىل مصلحي العلماء أن يسعوا ورا َء إزالته ومحوه،
كل شائبة ،نقيَّا ً من جميع األدران.
حتى يبقى الدين خالصا ً من ّ
ور َّبما تهاون بعض النابتة ببعض الفروض الدينية ،ال عن كف ٍر وال
إلحاد ،وإ ّنما الداعي إىل ذلك الكسل ،فريميهم بعض الجهلة باإللحاد،
ويصمهم باملروق من الدين .ومن الغريب أن كثريا ً من هؤالء الذين
ينسبون إىل غريهم الكفر لتهاونهم يف بعض األعمال ،هم أنفسهم
متهاونون بها ،أو بأعظم منها ،فلو لم يتهاون بعض النش ِء ببعض
96
األعمال الدينية ،بل ثابروا عىل أدائها وواظبوا عىل اإلتيان بها ،لقطعوا
بذلك ألسنة الخ ّراصني الذين يقولون إنهم كفار أو ملحدون؛ من ج ّراء
ترك بعض الفروض.
أجل ،ر َّبما ُو ِجد أفراد ال ُيعبَأ ُ بهم ،قد فسدت عقيدتهم ،فهم يهرفون
بما ال يعرفون ،ويتط َّوحون بالكالم الفارغ الذي ال يفيد ّإل النفور ،وال
يجدي غري تف ُّرق الكلمة .ولو سألت هؤالء أن يبيِّنوا لك موضعا ً واحدا ً
من النَّ ْقد ،ملا استطاعوا إىل ذلك سبيالً ،ألنهم مقلِّدون لم يدرسوا من
أصول الدين وال فروعه شيئاً ،وإنما قرأوا يف بعض كتب امللحدين من
األوروبيِّني ،و َم ْن نحا نحوهم ،فعلقت يف نفوسهم ُشبَ ٌه م ّما قرأوه ،ألنها
أن هؤالء درسوا أتتهم وقد ألْ َفت يف قلوبهم متَّسعاً ،فرضبت أطنابها .فلو َّ
الشبَه واالعرتاضات، من الدين ما يكفيهم مؤونة ما ير ُّد عليهم من ُّ
ألحسنوا صنعاً.
إن هؤالء املقلِّدين هم أعدا ُء العلم ،أعدا ُء ترقية األ ّمة ،وإن كانوا يزعمون
أنهم من أنصار املعارف .و -ر َّبما -عجبوا من هذه النسبة إليهم ،ألنهم
تملَّصوا من الدين ألجل العلم ،بزعمهم .فأقول لهم :ال تعجبوا ،ومتى
ظهر السبب َب ُط َل العجب .إنكم ،بإظهار فساد عقيدتكم ،وتظاهركم
أن الذي بما ينايف الدين ،تن ِّفرون الناس منكم ومن العلم .ألنهم يظنون َّ
صح بذلك كثري من الناس .ومتى رسخت هذه أفسدكم هو العلم ،كما َ َّ
العقيدة يف النفوس كانت حائالً عظيما ً دون إرسال القوم أوالدهم إىل
يفضلون أن يبقى أوالدهم ناقيص العلم ،عىل أن املدارس العالية ،ألنهم ِّ
يكونوا ناقيص الدين .وهذه جناية كبرية عىل العلم والدين ،سببها ته ُّور
البعض ،وتظاهرهم بعدم الدين ،تقليدا ً مللْحِ دي أوروبا ،ليقال إنه غري
97
8u:h*7
ˆ
مقيَّد ،وما هو ّإل مقلِّد مقيَّد ،يقول ما ال يعلم ،ويدين بما ال يقوم عليه
برهان صحيح ،وال دليل رجيح.
أنا أعرف رجالً متد ِّينا ً من َّور الفكر ،له ثالثة أوالد ،قد قذف بهم إىل
املدارس العالية ،وهو يتكبَّد مرصفات عظيمة ،فضالً عن تح ُّمله آالم
يرتجح عندي أن ال أُرسلهم، َّ البعد عنهم .وقد سمعته ،منذ مدّة ،يقول:
بعد اآلن ،إىل املدارس ،بل سأرمي بهم إىل املزارع .فسألته عن السبب،
متمسكني بعقائدهم ،من أن يكونوا ِّ فقال :خري يل أن يبقوا متد ِّينني
فالسفة علماء ،وليسوا عىل يشء من الدين ،كما نشاهد بعض املتعلّمني
كذلك .فقلت له :يا هذا! ليس العلم هو الذي يقلّل التد ُّين ،بل هو م ّما
ُيعني املتد ِّين ،ويكون له سالحا ً يحارب به اإللحاد .وإ ُّنما الذنب عىل
اآلباء الذين ال ير ُّبون أوالدهم تربية دينية راقية ،بل يرسلونهم إىل
آمن من أوالدك فال خوف عليهم ،وال املدارس العالية قبل ذلك ،وإني ٌ
بأس.
إن عمل هؤالء املتط ِّوحني ،وانتهاكهم حرمة الدين ،سيكونان -إن لم
يتنبَّهوا -وسيلة ملنع الناس أبناءَهم من التعليم العايل ،ورضبة قاضية
فهل أدركوا مقدار الرضر الناجم عن ته ُّورهم! عىل العلم واأل ّمة معاًّ .
وهَالّ عرفوا إىل أ َ ّية هاوية هم سائرون بأنفسهم وبأ ُ َّمتهم!.
98
هذه كلمات وجيزة ،أُرسلها إىل البعض من النش ِء الجديد املتشدّقني،
ومذكرا ً لقوم يعقلون.
ّ لعلها تكون واعظا ً
99
االنتقاد ومشارب املنت ِقدين
أن ال حقيقة يف الوجود .وهذا قول صادر ع َّمن ال رو ّية وقد زعم قوم ْ
الصحة،
ّ نفي الحقيقة .وقد يكون له وجه من صد به ُ له ،وال تع ُّقلْ ،
إن ُق ِ
إن أراد بذلك أ َ َّن الحقيقة مستورة مقدَّمة بأباطيل املبطلني ،وأستار
الحق أبلج ،غري أنهم يعدلون عن الجهر به َّ املم ّوهني ،الذين يرون
كخوف من مستبدِّ ،أو خج ٍل من اإلقرار بالخطأ ،وغري ذلك.ٍ ألعراض لهم:
ٍ
فإن كان املدَّعي من هذا القسم ،فهو م َّمن يمكن إقناعهم وإرجاعهم إىل
الحق بالرباهني واألدلّة التي ال تقبل الردّ.
ّ الوجه
ومتى َث ُبتَ أ َ َّن يف الوجود حقيقة راهنة ،فالب َّد من السعي وراءها ،وذلك
دأب من تح َّركت يف جسم ِه عاطفة األدب ،وجرى يف جثمانه د ُم النبل.
غري أَن معرفة هذه الحقيقة صعبة عىل من لم يحلب الدهر أشطره،
ألن تحصيل هذه املعرفة يتو َّقف عىل إذكاء نارويعرف حل َوه وم َّرهَّ ،
الجدّ ،وإيقاد جذوة الطلب واالجتهاد ،واملباحثة واملذاكرة ،والر ّد
101
8u:h*7
ˆ
عرف فائد َة ذلك العقالء ،فدرجوا عليه ،وتح ّققوا فوائده ،فا َّتخذوه
أساسا ً ألعمالهم ،ورائدا ً لهم يف أمورهم .ح ِّو ْل نظرك إىل تاريخ من ت َّقدم
تغص باألدباء ،وتموج ّ من َسلَف العلماء ،فرتى أن مجالسهم كانت
ّ
الكل بأمواج العلماء :هذا يفيد ،وذاك يعرتض ،واآلخر ينتقد .ووجهة
الحق ،وإظهار الصحيح من قواعد العلم -الله ّم- ّ واحدة ،وهي نرصة
ّإل ما ش َّذ عن ذلك ،وهم قليل ،ال ُيعبَأ بهم ،وال ُيلت َفت إليهم.
ليس يشء كاالنتقاد ُمظ ِهرا ً للعيوب كي ُتجتَنَب ،ومبيّنا ً للخطأ ل ُيصلَح،
ومميِّزا ً للصواب من الخطل «فأ َّما الزبد فيذهب ُجفاءً ،وأ ّما ما ينفع
الناس فيمكث يف األرض».
ليس من أ ُ ّم ٍة َح َّطت عنها أعبا َء الكسل ،ورمت بإهمالها إىل أقىص مكان،
ّإل كان االنتقاد هو الداعي األكرب ،والسبب األقوى يف تقدُّمها؛ ولذلك
أن مقدار ارتقائها إىل أوج السعادة يف املعرفة واملدنيّة ،بكثرة نرى َّ
عدد املنتقدين فيها ،واقتدا ِرهم عىل معرفة مواضع النقد ليظهروها،
وحذِقهم يف مجال العلّة فيخرجوها .وما املنتقدون َّإل كاألطبّاء؛ يرون
صفون لها من العلل وأسبابها ،فيعملون عىل تطهري البدن منها ،و َي ِ
العالجات واألدوية ما يكون عامالً عىل إخراجها ،وإراحةالجسم من
102
أذاها .هذا إذا كان الطبيب نطاسيا ً حاذقاً ،يقيس األشباه باألشباه،
وإل فيكونوالنظائر بالنظائر ،وليس فه ُم ُه قارصا ً عىل ما درسهّ ،
رضره أكرب ،وخطبه أعظم.
وكذا املنتقد ،يجب أن يكون ذكيّا ً عاملا ً بمكان العلّة والزمان الذي ال
تخرج ّإل فيه ،حكيما ً بكيفية وصف الدواء وطريقة االنتقاد ،يخاطب
كل إنسان عىل مقدار عقله ،وبحسب ما عنده من االستعداد .فال يط ِّوح ّ
نص َب نفسه منتقداً .وال
بلسانه أو قلمه إىل غري الغاية التي من أجلها َّ
وح ِرم يك ْن بذيء اللسان مته ّور الفلم .فإن فعل ذلك فقد َّ
ضل الغايةُ ،
ثمار النتيجة .وأ َ ْوىل له ،حينئذ ،أن ينتقد نفسه ،ويحملها عىل سلوك
طريق األدب.
كل إنسان يروم أن يكون كالمه فصيحاً ،ورأيه صحيحاً .لكن ،من أين ّ
له أن يتح َّقق ذلك من نفسه قبل أن يحكم به جمهور العقالء ،مع
التج ُّرد عن الغايات السيِّئة؟ ل َع ْمري ،ال يمكنه ذلك؛ َّ
ألن العقل اإلنساني
َّ
يستقل بمعرفة كثري من األمور؛ فال كثري الخطأ وافر الخطل ،ال يقدر أن
صحة رأُيه من فساده ّإل بعد أن ينتصب فريق املنتقدين، يعرف املر ُء ّ
ّ
الحق ،وبذلك ولفيف املرشدين ،فيهدوه للصواب ،ويرشدوه للمهيع
ُتقال عثراته ،وينجو من الزلل.
لوال االنتقاد لَما بعث الله األنبياء ،وعلَّم العلماء ،وأَمر الناس با ِّتباعهم،
واالستماع لنصائحهم؛ إذ الغاية من إرسال الرسل انتقا ُد العادات
واألخالق ،لريجع الناس ع َّما ألفِوه من الباطل ،وا َّتبعوه من العقائد
الفاسدة ،واألخالق الكاسدة ،وبذلك تصلح حالهم ،وتستقيم سبيلهم،
103
8u:h*7
ˆ
األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،اللذان أ ُ ِم ْرنا بالعمل بهما ،عىل لسان
ألن النهي عن األنبياء ،هما فرعان عن االنتقاد ،أو هما االنتقاد عينهَّ .
املنكر يجوز أن يعترب به عموم اللفظ ،فيصحّ حينئذ ،أن ُيراد ما كان
منكرا ً يف الدين ،وما كان منكرا ً يف رشيعة العلم ،فإن رأينا أحدا ً يفعل
رشا ً نهيناه عنه ،وأمرناه بضدِّه .وكذا لو رأينا أحدا ً يق ّرر مسألة يف
ّ
ً
صحتها ،ونهيناه عن االعتقاد بها خطالً. العلم خطأ ،علَّمناه ّ
رسع يف االنتقاد َّإل بعد أنفمنهم من يستعمل الت ُؤدة والتأ ّني ،وال يت َّ
ويفكر فيما قاله تفكرياً ،ثم ،بعد ذلك، ّ َي ْخ َب املنت َقد عليه خرب ًة تا ّمة،
يرشع يف نق ِد قوله أو فعله ،متسلّحا ً باألدب التا ّم ،واللطافة يف التعبري،
بقوي الربهان ومتانة
ّ عادال ً عن األلفاظ التي تن ِّفر املنت َقد عليه ،ويقارعه
الحق ،وتبيان الصحيح من الفاسد ،ليس ّ الحجة؛ وغايته من ذلك إظها ُر ّ
فضح ُه بني الناس
َ ّإل ،فال َيقص ُد من املجادلة تسفيه رأي املناظر ،وال
بإظهار جهله وعيوبهَّ ،
الن ذلك م ّما ح َّرمه الرشع والعقل .فمن نحا هذا
104
أناني متعجرف ،يجب أن ُيط َرح يف زوايا ّ املنحى من الجدال فهو رجل
ّ
الحق َ اإلهمال ،وأن ال ُي َ
نظر إليه ّإل بعني االحتقار واالزدراء ،ألنه ا َّتخذ
َّ
الحق لذاته ،بل ذريعة للتش ّفي من الناس وفضيحتهم .فهو لم يطلب
ألغراضه السافلة .فهو يجادل عن ح ٍق ،لكنه أراد به باطالً .ومن نحا
ّ
الحق ،ال له ًوى يف النفس، غري هذا النحو ،متَّخذا ً االنتقاد ذريعة إلحقاق
فبشه باقتناع الخصم وخضوعه لديه؛ وبذلك تت ّم الفائدة املرغوبة، ِّ ْ
وتحصل النتيجة املطلوبة.
ومن املنتقدين َم ْن إذا رأى هفو ًة من أحد ،أرغى وأزبد ،وت َّ
رسع يف النَّ ْقد،
وسلَق الخصم بألسن ٍة حِ داد ،ورماه بصخو ٍر من الحدّة شِ داد ،سالحه
بذاءة اللسان ،وحدّة القلم ،وغري ذلك من الوسائل التي تضيع معها
الحقيقة ،وتجعل املنت َقد عليه ال يق ّر بالخطأ ،وإن كان مخطئاً .وكثري
الحق ،بل إبداء عيوب الخلق ،واإلبانة عن ّ من هؤالء ليس قصدهم إظهار
يخطئون ِّ أن جمهور هذه الفئة ،كثريا ً ماجهلهم وتسفيه آرائهم .عىل َّ
فيظناملصيب ،ويص ِّوبون رأي املخطئ ،وذلك لعارض يعرض ألحدهمُّ ،
كل ما قام بذهنه هو الصواب، يف نفسه النباهة والرئاسة والحكمة ،وأن ّ
وسلَبه فإن رأى شيئا ً من غريه قام وقعد ،وس َّفه رأيه ،وأنكر عقلهَ ،
ووص َفه بالجهل والزندقة َ ما أُوتيَه من علم ومعرفة ،وتقوى وفضيلة،
واملروق من الدين ،إن كان الجدال يف أمر ديني ،وإن كان يف مسألة
علمية رماه بنبال الغباوة ،ونقص العقل ،وقلّة االختبار ،والتج ُّر ِد من
كل فضيلة.العلم ،بل من ّ
أن البعض ،م َّمن هذا شأنه ،قد تكون غريته عىل العلم عىل أني ال أُنكر َّ
أو الدين هي التي تدعوه إىل ذلك .لكن ،يجب عليه أن يتكلَّف التأ ّني.
105
8u:h*7
ˆ
الحق متى و ُ
َضح ّ ا ِّتباع
الحق ،وظهرت آياته ،وجب عىل املنصف أن يتَّبعه ويق َّر َّ ضح متى َو ُ
أحق أن ُيتَّبع .وقد ورد
الحق ّ ّ بخطئه ،أ ّيا ً كان املناظِ ر أو املنتقِد ،ألن
أي وعاء خرجت» .وطاملا أن يرضك من ُّّ يف الحديث« :خذ الحكمة ،وال
ُ
وإبطال ما عداه ،فيجب ّ
الحق ُ
إحقاق القصد من املناظرة أو االنتقاد هو
عىل كال الطرفني أن ُيذعن له متى بدا باألدلّة التي ال تقبل الريب .وال
النني له وإظها ُر عيوبهَّ ،
للحق فيه ش ٌّ نفسه َّ
بأن قبوله َ
اإلنسان ُ تحدّثِ
بالحق هو عني الصواب ،وفخ ٌر ملن كان له عقل ،ونحا منحى ّ اإلقرار
أويل الفضل الصحيح .قال عمر بن الخطاب (ريض الله عنه)« :إذا ُسئل
أحدُكم عن يشء ال يعلمه ،فليقل :ال أدري .رحم الله ام َرأ اهدى إيلَّ
عيوبي».
هذاَّ ،
وإن املعرتف بالخطأ تكون له املكانة السامية يف قلوب الناس،
106
ً
داللة رصيحة عىل أن ُه ألن اعرتافه بذلك ُّ
يدل ويجلّونه منتهى اإلجاللَّ ،
الحق الئماً ،والعكس بالعكس .قال اإلمام ّ رجل ح ٌّر صادق ال يخاف يف
والحجة عىل أحد ف َقبِلها منّي ّإل ِهبْته،
ّ َّ
الحق الشافعي« :ما أوردتُ
الحجة ّإل سقط منّ ّ
الحق ،ودافع واعتقدت مودَّت ُه .وال كا َب َرني أح ٌد عىل
عيني ،ورفضته».
ّ
الحق ،وهذه مشارب املنتقدين ،فاخرت أ َّيها شئت، تلك فائدة االنتقاد
بعد ما بينَّا مزايا ّ
كل الفري ّقني.
وإ ّنا ذاكرون شيئا ً من تلك اآلداب والقواعد التي يجدر باملنت ِق ِد واملنت َق ِد
عليه أن يجعالها ُن ْ
ص َب أعينهما ،وال ُيغفالها طرفة عني:
األ َّول :مناظرك نظريك؛ فال يجوز احتقاره وال االزدراء برأيه ،مهما كان
سافالً أو خطأً ،بل يجب أن تالطفه وتجامله ،إىل أن تفري ،بربهانك
القاطع ،رأس رأيه الفاسد ،و ُتنري ،بدليك الساطع ،غياهب فكره املظلم.
إذ ليس املراد من االنتقاد َن ْق َد الشخص نفسه ،أو إظهار أَنه فاسد ،من
107
8u:h*7
ˆ
ّ
الحق ،وإرشاد َم ْن ني الصواب وإظهار حيث إنه فاسد ،وإ ّنما القصد تبي ُ
منصات الرشاد .وإذا حاد بفكره عن منهج السداد ،أو أسقطه رأيه عن َّ
والحط من كرامته ،يحوالن دون ُّ كان الغرض كذلك ،فاالزدراء باملناظر،
بالحق ،أ ّيا ً كان
ّ الوصول إىل املطلوب ،ويمنعان الخصم من االعرتاف
املحق ،وقد ورد يف الحديث« :من أ َم َر بمعروف ،فليكن أم ُر ُه بمعروف»؛ ّ
ص َب نفسه لوعظ الناس وإرشادهم وانتقاد عاداتهم وأخالقهم، أي َم ْن َن َّ
فليستعمل الت َؤدة والتأ ّني واملعروف من القول؛ فال يته َّو ْر بلسانه أو
قلمه ،بل يجعل الحكمة يف النصيحة ُن ْ
ص َب عينيه.
كل دعوى لم تكن مقرتنة بالدليل ،فهي ساقطة عن درجة الثانيّ :
االعتبار ،فال تد َِّع دعوى قبل أن تقتل الربهان علماً.
الثالث :ال تستعمل الحدّة يف كالمك ،إن كنت أديبا ً يف ألفاظك ،فالحدّة ال
ُتنتج املقصود ،بل ر َّبما أذهبت املطلوب.
الرابع :يقول علما ُء الجدل وآداب البحث واملناظرة« :إن كنت مدَّعيا ً
فالصحة»؛ أي إن كان كالمك دعوى من ِقبَل نفسك،
ّ فالدليل ،أو ناقالً
فاجعل الربهان سياجا ً لها يمنع الداخل ،ومجنّا ً يدفع نبال املناظر
وسيف املجادل .وإن كنت ناقالً لكالمك عن كتاب ،فأثبت ذلك النقل،
وصح ْح ما نقلت.
ّ
هذا ما أردنا إيراده موجزا ً تمام اإليجاز ،ألن املقام طويل األذيال واسع
108
األردان ،فعىس أن نسري جميعا ً يف هذه السبيل ،فنفوز بما نروم من
القصد ،فالحقيقة بنت البحث ،والله املو ِّفق للصواب.
109
سعادة الحياة
الحياة ثروة للمرء ،فإ ّما أن يحتفظ بها ،وال يف ّرط فيها ،وال يرصف منها
شيئا ً ّإل عند الحاجة .وإ َّما أن يبذر ويجود بها ّ
ألقل سبب ،سواء أكان
محمودا ً أم مذموماً .ضارا ً أم نافعاً ،جائزا ً أم محظوراً .وبحسب احتفاظه
بثروته وادِّخارها إىل وقت الحاجة إليها تكون سعادته فيها واجتناء
الفوائد منها.
خلق الله اإلنسان ،ووعده السعادة والخري ،إن هو سار يف السنن التي
رش ،إن هو حا َد عن طريق الهدى ،ولم يتَّبع الطريق سنَّها .وأَوعده ال ّ
السوي ،وأَبان له األسباب وع َّرفه املسبِّبات .وأوضح له أنه ُخلق للسعادة،
ّ
وأنه ال يسلبها عنه ما دام منتهجا ً سننها ،معتصما ً بحبلها .وتلك األسباب
لكل ذي عقل سليم ،غري أن ا ِّتباع الهوى ،وامليلالتي ع َّرفه إ ّياها ظاهرة ّ
كل ذلك يرصف املرء عن الخاصةّ -
ّ والسعي ورا َء املنفعة
َ إىل الشهوات،
النظر يف شؤون الحياة الحقيقية ،ويصدف به عن امليل إىل ما فيه سعادة
حياته ،وهناء معيشته.
بينا نرى أحد الناس ذا ثروة طائلة ،وعيشة راضية ،وقصور فخمة ،وأثاثٍ
وحشم ،وغري ذلك من وسائل الرفاه وأسباب النعيم ،إذا َ ورياش ،وخدم
هو أصبح فقريا ً ال يملك نقريا ً وال قطمرياً ،فيخدم بعد أن كان مخدوماً،
111
8u:h*7
ˆ
ويعمل للناس بعد أن كانوا يعملون له .ولو بحثت عن أسباب فقره بعد
أن األسباب كلَّها ترجع الغنى ،وبؤسه بعد النعيم ،و ُذلّه بعد الع ّز ،لرأَيت َّ
إىل يشء واحد ،وهو العدول عن سنّة الله يف خلقه ،وعدم ا ِّتباع املناهج
التي انتهجها ،ليسلكها من أراد أن يكون سعيدا ً يف حياته.
صاحب الثروة والغنى ،أ َمره الله أن ال يكون بخيالً شحيحاً ،بحيث ال
مبذرا ً
ينتفع بجزء من ماله أولو الفاقة والفقر ،كما أمره أن ال يكون ِّ
ُي ْذهِب األموال ،ويجود بها ألم ٍر غري مرشوع ،أو عم ٍل غري مربور .بل أوجب
عليه أن يكون وسطا ً بني التبذير ُّ
والشحّ ؛ بحيث يرصف املال يف حاجة،
وراءَها نفع مرشوع له أو لغريه من عيال الله .فإن خالف ذلك ألمر،
وطرق باب البخل ،عاش يف الدنيا كئيبا ً كاسف البال متعبا ً ضيِّق الصدر.
وإن رصف أمواله ُجزافاً ،فال يميض عليه زمن ّإل ويصبح صفر اليدين،
فارغ الصناديق ،فيندم حيث ال ينفعه الندم ،فهو ،يف كلتا الحالتَ ْي،
ضل سعيهم يف الحياة .أَما أن بقي محافظا ً من األخرسين أعماال ً الذين ّ
عىل سلوك الطريقة الوسطى ،فهو سعيد يف حياته لعدم وجود ما يكدِّر
حرج عظيم .فانحراف
ٍ صفوه من الوسائل التي تذهب بأمواله ،وتدَعه يف
األ َ َّولَني عن النهج القويم أَذهب بسعادة حياتهما ،واعتصام الثالث بحبل
الفضيلة وعدم امليل إىل طريف األمر أبقاه يف سعادة دائمة وعيش رغد.
هذا إذا نظرنا إىل جهة السعادة والشقاء ،من حيث النعيم باملال وغريه،
صحة العقل والجسم ،والسعادة باملنزل
ّ وإن نظرنا إليهما من حيث
واألهل واألصحاب أو عدم ذلك ،نجد أن القاعدة العمرانية املتقدِّمة ،وهي
تمشت مع سابقها: تتمش مع هذه األشياء كما َّ
ّ التوسط يف األمور
ُّ
112
نرى شخصا ً سليم العقل ،صحيح الجسم ،حميد الصفات ،ال يم ُّر عليه
زمن حتى نراه شاحب اللون ،ضئيل الجثمان ،قليل الفهم ،مذمو َم
الخصال .فيعرتينا ،عند ذلك ،إجفال وحرية ودهشة ،ولم نعلم لذلك سبباً.
أن إفراطه يف شهواته، ولو تأ َّملنا يف حالته ،واختربناه صحيحاً ،نرى َّ
وتفريطه يف جنب االعتماد عىل ما أ َم َره به الله -سبحانه -من الرت ُّفع
عن الدنايا ،وعدم االنغماس يف حمأة الشهوات والرشور ،وعدم مراعاة
كل ذلك كان سبب شحوبه ،والتخليط يف عقله ،و ُبع ِد ِه الصحةّ -
ّ قوانني
عن اآلداب الصحيحة ،واملزايا الحميدة .فلو أن مثل هذا الرجل لم يح ْد عن
الحق ،لعاش سعيدا ً يف جسمه ّ الرصاط املستقيم ،ولم ينحرف عن جادّة
ِس عىل ذلك السعادة بأهله وأرسته وأصدقائه .فإن وعقله وأخالقه ،وق ْ
ا ِّتباعه للقواعد التي ُتع ِّرفه كيف يسري باألهل واألُرسة واألصدقاء والناس
أجمعني ،تجعله سعيدا ً ما دام محافظا ً عليها ،و ُتشفيه يف حياته ،إن حاد
عنها.
يشكو كثري من الناس شقاء الحياة وبؤس العيش ولو عملوا بالواجب
السوي،
ّ أن ضاللهم عن النهجعليهم نحو الحياة لم يشكوا منها ،غري َّ
وابتعادهم ع َّما فيه خريهم وسعادتهم ،يسلكان بهم ُطر ُقا ً ُت ّ
ضل،
حظهم، ويحملنهم أثقاال ً تزهق األنفس .فهم ،لذلك ،يندبون سوء َّ ّ
ويشكون من حياتهم ،ولو أَنهم أقلعوا عن الهوى ،وا َّتبعوا سبل الهدى،
فرموا بالشهوات واملنفعة الوهمية جانباً ،ولم يعملوا ّإل بما يوافق سنن
الله واألسباب التي وضعها لعباده ،لعاشوا عيشة راضية .غري أن العادات
وتغشّ تمكنت من املرء ُتعمي برصه،السافلة ،واألخالق الدنيئة ،متى َّ
السبب الوحيد لنجاته
َ بصريته ،فال تدَع ُه يرى بعقله وقلبه مايكون
113
8u:h*7
ˆ
أما األسباب التي تجعل املرء سعيدا ً يف حياته الجسمية ،والعقلية ،واملالية،
واألهلية ،وغريها ،فهي كثرية .ومتى عمل اإلنسان بها وصل إىل ما يتطلَّبه
بكل امري ٍء كان له ذ ّرة من العقل أن يتَّبع من سعادة الحياة ،فيجدر ّ
ويحصل ضالَّت ُه
ّ تلك القواعد ،ويعمل بهذه األسباب ،حتى يبلغ ما يريد،
املنشودة .وسنتكلَّم عىل تلك الوسائل واألسباب يف املقاالت اآلتية.
قلنا إن العقل ح ٌّر يأبى أن يكون أسرياً ،ولذلك اختلفت العقول يف تفسري
الحسية فال تكاد تجد يف تفسريها اختالفا ً
ّ املعاني واملعقوالت .أ ّما األمور
114
الحس ُيدرك بال تع ُّمل،
ّ كثريا ً كما يف األمور املعقولة ،ألن ما يقع تحت
يتمكن من مخالفة سيِّده أو َّ ري أو عبد ّ
رق ال وال مش ّقة شديدة ،فهو أس ُ
الذي أ َ َسه ،وال يستطيع أن يف َّر أو يأبق ،فإن أ َ ِبق فمن السهل أن يقبض
عليه مواله .وكذلك شأن األشياء املحسوسة ،فإن تعاصت عن اإلدراك
زمناً ،فالب َّد أن ُتطيع ،وتكون َر ْه َن الحواس .وليس الشأن كذلك يف األمور
املعقولة ،ألنها تكون من قبيل األمور الغيبية التي ال تقع تحت الحواس،
املفكرين وأصحاب العقول الراجحة ّ فهي كثريا ً ما تعتاص حتى عىل
كل منهم سبيالً يسلكها ،ظا ّنا ً أنها الضالّةواألحالم العظيمة ،فيختار ٌّ
املنشودة التي توصله إىل ما أجهد عقله ،وأتعب فكره ألجله .وتراه يناضل
بكل ما يستطيع ،وما يملكه من القوى أهل املذهب اآلخر ،ويناقش أربابه ّ
العقلية التي أودعها الخالق سبحانه فيه:
واختالف الناس يف األمور املعنوية ال يقترص عىل أمر دون آخر ،فإنك ال
تجد أمرا ً معقوال ً ّإل وتجد بإزائه ،من اآلراء واملذاهب ،ما يدع املرء حائرا ً
ال يلوي عىل يشء .غري أن العاقل البصري يدرس جميع ما يراه من اآلراء
كل عىل حسب استعداده الحقٌّ ،
ّ درسا ً صحيحاً ،ثم يختار ما يظهر له أنه
واجتهاده ،وإن خالف يف ذلك كثريا ً من الناس.
عىل ذلك ،درج العلماء ،ويف هذه السبيل ،مىش الفالسفة :املتقدِّمون منهم،
كلً منهم
كل له رأي وفكر ،فهم ال يكادون يتَّفقون ،غري أن ّ واملتأخرونٌّ ،
ِّ
وحسِ ب نفسه سعيدا ً با ِّتباعها. اختط لنفسه ّ
خطة مىش فيهاَ ، َّ
ولـ ّما كانت السعادة من األمور املعنوية املعقولة ،اختلف الناس فيها
115
8u:h*7
ˆ
للحس فيها.
ّ اختالفهم يف غريها من األمور التي ال دخل
ّ
بالتخل عن هذا العالم يحسب البعض أن سعادة املرء يف نفسه تكون
كل ما يف هذا الوجود من الفاني والتعلّق بالعالم الباقي ،مع احتقار ّ
اللذات ،وما انطوى عليه من املظاهر .فمتى فعل اإلنسان ذلك كان سعيدا ً
يف نفسه ،ال يشعر بما ينزل به من املصائب ،وال بما يلُّم بجسمه من
املتاعب ،وال تستميله الحسناء ،وال ُتطغيه الصهباء ،وال تستف ّزه األوتار،
وال تغريد األطيار ،أو حفيف األشجار ،كما ال ُتحزنه النائبات ،وال تشجيه
النادبات وال الصارخات ،فسوا ٌء لديه الحياة واملمات ،فنعيم هذه الحياة
وبؤسها لديه سواء ،إذ يستوي عنده الفناء والبقاء .وعىل ذلك أكثر
الفالسفة وكثري من رجال الدين والصوفية الحقيقيِّني .فهم يرغبون عن
هذا العالم اململوء باملصائب والزخارف ،إىل ذلك العالم الباقي الذي ال ألم
فيه وال شقاء ،بل كلّه سعادة وهناء.
وهناك قسم آخر يقابل هذه الطائفة ،يزعم أن سعادة املرء يف حياته
تناقض هذا املبدأ مناقصة تا ّمة ،ويقولون إن ما زعمه هذا القسم من
السعادة هو خطأ رصاح ،وجهل بواح ،ولو د َروا ما د َر ْينا ،وعلموا ما علمنا
من الحياة وسعادتها ،لعدلوا عن هذا الزعم الفاسد ،ور َموا به جانباً .وتزعم
هذه الطائفة من الناس أن السعادة هي أن يتمتَّع اإلنسان بما تحت هذا
الفلك الد َّوار :من املطعم واملرشب ،والتن ُّقل من ملهى إىل آخر ،والتل ُّذذ ّ
بكل
مرأى جميل ،ووجه صبيح ،والتن ُّعم باملالبس الفاخرة ،واملركبات الجميلة
والجياد املطهَّمة ،وتقطيع األوقات يف جمع اللريات ،وتضييع الساعات بني
الغانيات ،واألنس بسحر أحاديثهن،م وسفك دم الحياة عندهن ...إىل غري
ذلك م ّما يس ّمى عند هذه الطائفة باملدنيّة الجديدة.
116
كل طائفة منهما، حسنا ً عند ّ
وهناك قسم وسط بني الطائفتَ ْي ،أخذ ما رآه َ
ّ
الحق ،وهو السعادة التا ّمة للمرء، واحتفظ به ،وقال :إن ذلك هو الحياة
يف هذه الدنيا.
ننصب العقلنبي آراء هذه الطائفة الوسط ،يجب علينا أن ِّ وقبل أن ِّ
ّ
الحق ،ثم ِّ
نبي محكما ً بني القومني األ َّولَ ْي ،لنرى أ ّيهما أقرب إىل
ِّ الصحيح
رأي القوم اآلخرين.
تفك َر مليَّا ً يف مذاهب أهل التج ُّرد عن هذا العالم واالحتفاظ بالرغبة
-من َّ
عنه ،يجد أنهم أنصفوا يف كثري من األمور التي جنحوا إليها ،فإن التج ُّرد
عن هذه الل ّذات الوهمية وعد َم اعتبارها مبدأٌ رشيف ،غري أن اإلفراط يف
فإن الله -سبحانه -لم يخلق اإلنسان يف هذه الدنياذلك أمر غري محمودّ ،
ّإل لحكمة سامية ،ولم يجعل له هذه املل ّذات ّإل لحكمة ،كذلك ،ولم يأمره
باالعتصام باألعمال الصالحة التي ت َؤهِّله للعالم الباقي ّإل لحكمة أسمى
الترصف
ُّ وأرقى .فإن أخذ املرء بطرف ،وأهمل الطرف اآلخر ،فقد أساء
فيما خلقه الله له ،وما خلقه ألجله.
كلإن الله لم يخلق الطيِّبات عبثاً .والطيبات معنًّى عا ّم شامل ،يندمج فيه ُّ
ما ترتاح إليه النفوس واألجساد ،سوا ٌء أكان من الطيبات املعقولة أم كان
فتمسك املرء بقسم الطيبات املعقولة ،ورغبته ُّ من الطيّبات املحسوسة.
عن القسم اآلخر املحسوس ،خروج عن سنّة الله التي سنَّها لعباده .حتى
حث الناس عىل الطيِّبات الجسمية ،فقالُ « :ق ْل َم ْن َح َّر َم إنه -سبحانهَّ -
ِزينَ َة الل َّ ِه الَّت َِي أ َ ْخ َرجَ لِ ِعبَا ِد ِه َو َّ
الطيِّبَاتِ ِم َن ال ِّر ْز ِق ُق ْل هِي لِلَّذِي َن آ َم ُنوا ْ
ِص ًة َي ْو َم الْ ِقيَا َمةِ» ،فاإلنسان إ ّنما أوجده الله يف هذا ِف الْ َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َخال َ
117
8u:h*7
ˆ
أما الذين خالفوا مبدأ أهل التج ّرد واملعقول ،فكانوا ما ّد ِّيني دنيو ِّيني ،ال
والضاب ،والتن ُّقل من روضة حسن يه ّمهم من الحياة ّإل األكل والرشب ّ
بأي وسيلة كانت ،زاعمني أن هذه هي الحياة، إىل أخرى ،وجمع املال ّ
وأنها السعادة ال غري ،وأنهم إ ّنما خلقوا لذلك ،فقد ضلّوا ضالال ً مبيناً،
تفكروا يف عاقبة أمرهم لظهر لهم األمر، وحادوا عن سواء السبيل ،ولو ِّ
وأدركوا خطأ فكرهم وضالل رأيهم.
أنا ال أذهب بهم إىل املدى البعيد ،الذي يعتقد كثري منهم أنه ٌ
خلط وأوهام،
وأحسوا به:
ّ إنما آخذ بهم إىل املدى القريب الذي قد شاهده أكثرهم،
كل منهم يعلم أن اإلفراط يف الشهوات ،وإعطاء النفس هواها؛ تميل إىل ٌّ
كل ما تشاء وتختار ،تكون عاقبته األمراض والخسارة املادّية ،والجسدية. ّ
وقد ح َّققوا بأنفسهم أن كثرة األوباء واألمراض التي اعرتت املجتمع ،إ ّنما
كانت ناشئة عن اإلفراط يف املل ّذات ،ومسبَّبة عن االنهماك يف الشهوات،
كل يوم ونسمع به من العرس إن ما نراه ّ واالنغماس يف حمأة الهوى .بل ّ
املايل واإلفالس ،والقضاء عىل النفوس الربيئة ،بل وقضاء املرء عىل نفسه،
إنما هو مسبَّب عن الخروج عن سنّة الله ،والرغبة عن ا ِّتباع الحق إىل امليل
نحو الهوى والشهوات.
هذا ما ٍّ
لكل من الطائفتني ،وما عليهما .ويجدر بنا ،اآلن ،أن نتكلَّم عىل
الطائفة الثالثة التي اختارت أن تكون طائفة وسطاً:
118
-هذه الطائفة أعطت للروح ح ّقها من النظر يف األكوان ،واالعتبار بأحوال
األمم الغابرة والحارضة ،وما أل َّم بها من الطوارئ ،املسبَّبة عن الهوى
واإلفراط يف الشهوات ،فكبحت جماح النفس ،وردعتها أن تميل ّ
كل امليل
خاصا ً ال تتعدّاهما،
ّ خاصة وه ًوى
ّ إىل ما تريده وتطلبه ،وحدَّدت لها مل ّذة
وربطتها بأنظمة وقوانني ،إن خرقت واحدة منها عاقبتها عقاب التأديب،
حتى ال تعود إىل ذلك م ّر ًة أخرى.
قد أباحت للجسم أن يأخذ ّ
حظه من املل ّذات ،لكن برشط أن ال يتجاوزها
يرض به ،بحيث يكون دائما ً نشيطاً ،يف مأمن من العلل واألمراض
إىل ما ُّ
لكل طارئ من األدواء. ً
عرضة ّ التي تنهكه ،وتجعله
أباحت له الطيّبات من املأكل واملرشب ،من غري إرساف وال تبذير ،وال
تضييق وال تقتيري ،كما قال تعاىلَ « :و ُكلُوا ْ َو ْ َ
اش ُبوا ْ َوال َ ُت ْ ِ
س ُفواْ».
أباحت له أن يستعمل أعضاءه فيما ُخل ِقت ألجله ،ولكن عند الحاجة،
وألمر هو أسمى م ّما يظنّه أهل الشهوات.
أباحت له أن يلبس ويتن َّعم ،لكن برشط أن ال يصل به ذلك إىل درجة
الخنوثة ،ويخرجه من دائرة الرجولة ،إن كان رجالً ،وعن دائرة األدب،
إن كانت أنثى.
أباحت له الراحة والتنقل يف أرض الله الواسعة ،واملتن َّزهات الجميلة ،لكن
فيتمكن منه ،فيوجد فيه الكسل وبغض العمل، َّ برشط أن ال يعتاد ذلك
وحب الدعة واإلهمال؛ ألنه متى َّ
تمكن من نفسه هذا َّ وامليل إىل الراحة،
األمر ،كانت حياته كلّها شقا ًء وعناء.
119
8u:h*7
ˆ
هذه آراء الطائفة الثالثة ،وهي آرا ٌء حميدة ،وأفكار سديدة ،فقد أخذت من
وح ْملها عىل معايل األمور،كل يشء أحسنه :أخذت من األوىل تطهري النفس َ ّ
والنظر إىل السعادة الحقيقية ،وأخذت من الثانية النظر إىل ما يطلبه
هذا الجسد من التغذية واملالذ ،ولكنها ه ّذبتها تهذيبا ً جعلها صالحة
لكل منهما معقولة ،فلم تهمل ل ّذة العقل وال ل ّذة الجسد ،ألنها رأت أن ّ
ح ّقا ً يطالب به ،ويهيم يف أن يتقاضاه ،فسلكت الطريق الوسط ،ألن َّ
حب
التناهي والغلّو غلط .وقد جاء يف الحديث الرشيف« :إن لر ِّبك عليك ح ّقاً،
حق ح َّقه».
كل ذي ّوأن لنفسك عليك ح ّقاً ،وإن ألهلك عليك ح ّقاً ،فأعطِ ّ
غري أننا لو د َّققنا يف كال مذهبَي الطائفتَ ْي األولَيَ ْي ،وأراد مريد أن ينحو
منحى إحداهما ال غري ،نقول له إن انتهاج منهج األوىل هو خري وأبقى
وأسلَم ،يف اآلخرة واألوىل .هذا إن لم نقدر عىل أن نحمله بالربهان عىل سلوك ْ
أوسط املذاهب؛ وهو أن يعطي للعقل والروح ح ّقهما ،وللجسد ح َّقه كذلك.
..........
وخالصةالقول :إن سعادة املرء ،يف نفسه ،هي أن يكون مقتصدا ً فيما
كل أمر معقول أو محسوس يتقاضاه منه العقل والجسد ،وإن يرجع يف ّ
إىل سنن الله يف األكوان ،وما أتى به من الرشائع بواسطة أنبيائه املك َّرمني،
فال يطلق للروح الرساح ،فتعرض عن الدنيا ألبتّة ،وال يرخي للجسد
العنان ،فينهمك يف املال ّذ التي تعود عليه بالخرسان يف دنياه ،والشقاء يف
عقباه .فإن من سار يف منهج وسط أَمِن العثار ،يف هذه الدار وتلك الدار.
« َوالل َّ ُه َي ْهدِي َمن َي َشاء إ ِ َل ِصَاطٍ ُّم ْستَقِيم».
120
سعادة املرء يف َ
صحْ به
ومن يضــــ ُّر نفســه لينفع َْك إن صـــديق الصـــدق من كان ْ
معك
ْ
ليجمعك
((( و َمــ ْن إذا َر ْيب الزمــــان صـــد ْ
َّعك شـ َـتَّت فيك شــمله
حياة اإلنسان ،يف هذه الدنياَ ،ت ْعتَ ِورها العوامل املختلفة ،وتكتنفها األحوال
املعني بقول
ّ نش ،فكأنهرشهُ ،يط َوى و ُي َ
املتباينة ،وهو بني خري ذلك و ّ
الشاعر:
ُ
ـــــــل ٌ
ــــــل رِ ْجفتلقَّ ـــفها رِ ْج ُ
حـــــــذفت بصــــوالج ٍة ُك َر ٌة
وملّا كان اإلنسان عىل هذا النمط من تأثري عوامل الوجود فيه ،احتاج إىل
كثري من الوسائل التي يدفع بها ما يطرأ عليه من العوادي ،وما ينتابه
من املشكالت.
والوسائل ،يف هذا الباب ،كثرية ،منها امله ّم ،ومنها ما هو أكثر أه ّميّة -ومن
أه ّمها اصطفاء األصدقاء ،واصطناع األودّاء ،فإنه بمصافاتهم واالعتماد
عليهم ين ِّفس كثريا ً من كرباته ،ويستسهل ما يصعب عليه من شؤون
خاصة ،ال يستطيع أن ينهض ّ حياته ،ويقوم بأعمال جليلة عا ّمة ،وأخرى
بها منفردا ً أو معتمدا ً عىل غري من يثق بهم ،ويركن إليهم.
والناس يف اختيار األصحاب متباينون ،شأنهم يف ّ
كل أمر ،ألن أكثرهم
رس الصحبة وما تستلزم من النتائج والفوائد ،فهم مساقونغافل عن ّ
إليها بسائق الطبيعة ،ال بسائق العقل ،وشوق الوجدان ،ال بشوق الحاجة
نسبان إىل اإلمام عيلّ ،وإىل اإلمام الشافعي (ريض الله عنهما).
((( البيتان ُي َ
121
8u:h*7
ˆ
والرضورة .وشتّان ما بني هذه السوائق واألشواق!؛ ولهذا ترى الناس ال
يبالون باختيار الصاحب ،وال يحفلون بانتقاء الصديق ،فهم يصادقون
قبل االختبار ،وإن اختاروا فال يحسنون االختيار ،مع أن للصداقة رشوطاً،
وللصحبة آداباً ،فإن أهمل املرء رشطا ً منها كانت عاقبة تلك الصحبة وباال ً
عليه.
أال وإن أه ّم رشط يجب عىل املتصادقني مراعاته ،هو أن يعلما علم اليقني
ّ
الرضاء، كل واحد منهما عونا ً لصديقه يفأن روح الصحبة هي أن يكون ّ
ّ
ويهش رساء ،وأن يموت ملوته ،ويحيا لحياته ،وأن يألم ألمله،
وأنيسه يف ال ّ
لفرحه ،وأن يساعده عند النوازل ،ويأخذ بيده عند العثرات ،وأن يدفع
الحقّ ،
وإل فهي رياء ّ عنه السوء بماله وجاهه وحياته .وتلك هي الصحبة
وخداع ،ونفاق وتزلُّف .وليس ذلك من دأب أرباب املروءة ،وال من عادة
األحرار واصحاب الرشف.
إن كثريا ً م َّمن يدَّعون الصداقة يسوقهم إليها طمع يف جاه املصادق أو
ماله ،حتى إذا نفدت أمواله ،أو َح َجب عنهم َنداه ،أو سقط من مركزه،
الذي كانوا يستظلّون بظلّه ،ولَّ ْوا عنه مدبرين ،كأن لم يكونوا يعرفونه،
فهم -إذن -أصدقاء ماله وجاهه ،ال أصحاب أخالقه أو علمه أو فضائله.
عدو يف صورة صديق ،وإ ّنما حمله عىل
ومن كان عىل هذه الشاكلة فهو ٌّ
الصداقة واإلخاء ما كان يأمله من املنفعة.
العلل
ِ عادت عـــداوته عند انقضا إذا العد ّو أحــــــاجته اإلخـــا عِ ٌ
لل
فوجب -إذن -عىل العاقل أن ال يستخلص لنفسه ّإل املج ّربني ،وال يركن
ّإل إىل املخلصني ،الذين ال يبيعونه عند الشدّة بالثمن البخس ،وأن يحذر
كل الحذر من أهل الرياء وأرباب الزلفى ،الذين يعرفونه عند الرخاء، ّ
الرضاء .وذلك ال يكون ّإل بتجربتهم قبل
ّ وينكرونه عند الرجاء ،وحلول
االستخالص ،واختيارهم قبل عقد أوارص الصحبة:
التجاريب
ِ وما مفاتيحها غير إن الرجال صناديق مقفَّ ل ْه
تســـــــتكثرن من الصــــحاب
َّ فال مســــــتفاد
ٌ عدوّك من صـــديقك
ّ
الخطة املباركة ،واصطفى لنفسه من األصدقاء فمتى سار املرء يف هذه
من يركن إليه ويعتمد عليه ،كان سعيدا ً يف صحبه ،وعاش عيشة راضية،
ونال هنا ًء وسعادة.
ّ
فليعض عليهم بالنواجذ، ومتى ظفر بمثل من َقدَّمنا من األصحاب
وليثبت عىل صحبتهم ،وال يقطع حبال مودَّتهم بالجفاء ،وال يكدِّر ماء
123
8u:h*7
ˆ
فإن األلفة نتيجة ودادهم باألذى ،وليكن حسن الخلق معهم ،رحيما ً بهم؛ َّ
تتوطد أركان املحبّة والصداقة ّإل إذا َّ األخالق وفضيلة من فضائلها .وال
َّ
األخلء الحسن بني املتحا ّبني .كما أن التف ُّرق بني
َ استحكمت حلقات الخلُق
نتيجة من نتائج الخلق السيِّئ ،ورذيلة من رذائله.
كل شائبة ،ومن َّزهة واعلم أن الصداقة ال تدوم ّإل إذا كانت خالية من ّ
كل غرض ماد ّّي .ألنها معنًى من املعاني التي ال تعلُّق لها باملادة. عن ّ
والحب الذي يكون كما ّ فمتى ُخلطت بها فسد جوهرها ،وكدر صفا ُّؤه.
الحب لله ،ويمتدحونه أش َّد االمتداح .وقد ورد َّ قدَّمنا هو الذي يسمونه
يف الحديث الرشيف« :سبعة يظلُّهم الله يف ظلّه يوم ال َظ ّل ّإل ظلّه :إمام
وجل) ،ورجل قلبه معلَّق باملسجد؛ ّ وشاب نشأ يف عبادة الله( ،ع ّز
ٌّ عادل،
إذا خرج منه يعود إليه ،ورجالن تحا َّبا يف الله؛ اجتمعا عىل ذلك وتف َّرقا
عليه ،ورجل ذكر الله خاليا ً ففاضت عيناه ،ورجل دعته امرأة ذات حسب
وجمال فقال :إني أخاف الله ،ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى ال
تعلم شماله ما تنفق يمينه» .وجاء يف حديث آخر« :إن رجالً زار أخا ً له يف
الله ،فأرصد الله له َملَكاً ،فقال :أين تريد؟ فقال :أريد أن أزور أخي فالناً.
فقال :لحاجة لك عنده؟ قال :ال .قال :لقرابة بينك وبينه؟ قال :ال .قال:
فبنعمة له عندك؟ قال :ال .قال :في َم؟ قال :أح ُّبه لله .قال فإن الله أرسلني
إليك يخربك بأنه يحبّك لحبّك إ ّياه ،وقد أوجب لك الجنّة».
إن الخليل إذا كان كمن ُذكِر فهو الخليل الذي وجبت محبَّته ،وح َّقت
يتمسك بأذياله .وهذا هو الخليل الصالح الذي َّ كرامته ،وجدر باملرء أن
أراده صاحب األثر بقوله« :من أراد الله به خرياً ،رزقه خليالً صالحاً؛ إن
ذكر إعانه» وبقوله« :من أراد الله به خرياً ،رزقه خليالًذكره ،وإن َّ
نيس َّ
124
صالحاً؛ إن نيس َّ
ذكره وإن ذكر أعانه» وبقولهَ « :مثَ ُل األخ َو ْين إذا التقيا
مثل الي َد ْين؛ تغسل إحداهما األخرى» واألخ َّوة عىل هذه الصورة هي داعية ُ
األلفة وبريد اال ّتفاق؛ إذ ال أخ ّوة بال ألفة ،وال صداقة بغري ا ّتفاق .لهذا ورد
والحض عىل تحسني األخالقّ كثري من اآلثار واألخبار يف الرتغيب باأللفة
«إن أقربكم منيالتي هي مقدِّمة لها .وقد جاء يف الحديث الرشيفَّ :
املوطؤون أكنافاً ،الذين يألّفون
َّ مجلساً ،يوم القيامة ،أحاسنكم أخالقاً،
ويؤلفون».
ومن دواعي األلفة أن يكون بني الصدي َق ْي مشاكلة يف الطباع ،ومناسبة يف
األخالق ،ألن شبيه اليشء منجذب إليه؛ ولذا ورد يف الحديث« :األرواح جنود
مجنّدة فما تعارف منها ائتلف ،وما تناكر منها اختلف» فالتناكر نتيجة
التناسب ،واالئتالف واالختالف من فواعل القلوب .واألرواح البرشية ،التي
هي يف النفوس الناطقة ،مجبولة عىل رضائب مختلفة وطباع متباينة.
ُّ
فكل ما تشاكل منها يف الصفات واألخالق تعارف وا َّت َفقّ ،
وكل ما تباين
وتناكر منها اختلف وتف َّرق .فاملراد بالتعارف هو ما بني النفوس من
التناسب والتشاكل ،واملراد بالتناكر ما بينها من التنافر والتباينّ .
وكل
ذلك بحسب ما ُجبلت عليه من األخالق ،وما اكتسبته من الصفات.
ُ
إنصاف: فقـــــلت قــــــــو ً
ال فيه وقائل :كـــــــــيف تفارقـــــــتما؟
ٍ
125
8u:h*7
ˆ
..........
ومتى وجد املرء صديقا ً استكمل رشوط الصداقة ،فال ينبغي أن ين ّقب عن
زلته ،ويبحث عن هفواته ،فإن هذا من دواعي َح ّل أوارص املودّة .بل يجب
ّ
عليه أن يتجاوز عن خطئه ،وأن يسبل املعذرة عىل ما يف ِّرط منه ،ألنه
وأي امريء ليس فيه عيب؟ إنسان ،واإلنسان بطبيعته يخطئ ويصيبّ ،
كل عيب ،فقد ركب مركبا ً فإن حاول أحد أن يحمل الناس عىل التج ُّرد من ّ
126
مرتقى وعراً؛ ألنه ،بتلك املحاولة ،يريد أن يخرجهم من
ً خشناً ،وطلب
الطور اإلنساني إىل الطور امللكوتي ،وهذا ما ال يقدر عليه املحاول ،ومن
رام صديقا ً ال عيب فيه ،وال تصدر عنه هفوة ،فقد طلب العزلة والحياة
منفرداً .قال الشاعر:
ب؟ َّ
المهذ ُ شع ٍث؛ ُّ
أي الرجال على َ بمســــــتبق أخ ًا ال ُت ُّ
لم ُه ٍ ولســــت
ِ
لـــــــف الذي ال تعاتب ْهصديقك لم ُت إذا كــــــنت في ّ
كل األمور معـــــاتب ًا
ظمئت؛ ّ
وأي الناس تصفو مشارب ْه؟ وإن أنت لم تشرب مرار ًا على الفذى
127
8u:h*7
ˆ
مض ٌّر ْ
كوض ِع السيف في موضع الندى ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
رسك ،ويسرت عيبك، تصحب من الناس ّإل من يكتم َّْ قال بعض األدباء« :ال
وينرش َح َسنك ،ويطوي سيِّئتك .فإن لم تجده فال تصحب ّإل نفسك».
وقال بعضهم« :الناس أربعة :فواحد حل ٌو كلّه فال ُيشبع منه ،وآخ ُر م ٌّر
كلُّ ُه فال ي ُؤكل منه ،وآخر فيه حموضة ،فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك،
وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة ،فقط» .وقال جعفر الصادق-
ذاب فإنك منه عىل غرور ،وهو ريض الله عنه« :-ال تصحب خمسةّ :
الك َ
َ
واألحمق فإنك لست مثل الرساب يق ّرب منك البعيد ،ويبعد منك القريب،
والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما َ ّ
فيرضك، منه عىل يشء؛ يريد أن ينفعك
والفاسق ،فإنه يبيعكَ والجبان فإن ُيسلِّمك ويف ّر عند الشدّة،
َ تكون إليه،
أقل منها؟ قال :الطمع فيها ،ثم ال ينالها».أقل منها ،فقيل :وما ّ بأكلة أو ّ
وقال املأمون« :إن اإلخوان ثالثة :أحدهم مثله مثل الغذاء ال يستغنى عنه،
128
واآلخر مثله مثل الدواء؛ ُيحتاج إليه يف وقت دون وقت ،والثالث مثله مثل
الداء؛ ال يحتاج إليه يف وقت ،ولك ّن العبد قد يبتىل به ،وهو ال أنس فيه وال
نفع».
ال يستوون كما ال يســــتوي الشج ُر الناس شـــ ّتى ،إذا ما أنت ذقـــتهم
ٌّ
ظــــــل وال ثــــم ُر وذاك لـــــيس له هذا له ثمــــر حـــــــل ٌو مـــــذاقــــته
وقال الشاعر:
ُ
وأخـــــاف خـــــــ ًّلا يعـــتريه جنون عــــــاقل
ٍ آلمن من عـــــــد ٍّو
ُ إني
129
8u:h*7
ˆ
وال تصحب األردى فتردى مع الردي إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
وقال آخر:
ـن ِ ّ
بكل أخــــــــي إخــا ِء فال تثــــــقَ ْ كــــــنت م َّتـــخـــــذ ًا خــــلي ً
ال َ إذا ما
تفاضــــــلت الفضــــائل ،من كفاء فإن العقــــــل ليــــــــــس له ،إذا ما
..........
هذا غيض من فيض مما ورد يف الصحبة وآدابها .وما رشحناه َو َش ٌل من
غمر ،ال ُيد َرك له قعر .وفيه كفاية مل َ ْن عمل به ليكون سعيدا ً يف صحبه.
131
دالئل التوحيد
ظهرت األديان ،وظهرت بظهورها األحزاب ،فمِن عاض ٍد لها ،ومن عامل
عىل خرابها ،شأن ّ
كل جديد.
وقد أصاب الدي َن اإلسالمي ما أصاب غريه من األديان .فقد وجد له يف
كل زمان نف ٌر يوردون الشبه عىل قواعده وعقائده ،خصوصا ً بعد أن ّ
ُترجمت كتب الحكمة من اليونانية إىل العربيّة ،وتل ّقى املسلمون العلوم
الفلسفية ،وبرعوا فيها .وقد درس أفاضل علماء الدين تلك العلوم درسا ً
متقنا ً فأجادوها ،حتى ُعدُّوا من املجتهدين فيها ،ومن أعاظم رجالها.
وذلك ل َر ِّد ما يورده بعض امللحدين عىل عقائد الدين التي جاء بها الكتاب.
وقد ألّفوا يف دفع الشبهة ،عىل طريقة الفالسفة ،كتبا ً كثرية يف ّ
كل زمان.
أ ّما يف عرصنا هذا؛ العرص الذي هُ ّذبت فيه الفلسفة ،وأسندت قواعدها عىل
133
الرباهني املحسوسة ،وت َغ َّي كثري م ّما كان قاعدة مسلَّمة عىل املتقدِّمني من
الفالسفة ،فقد أحتاج األمر إىل تآليف جديدة عىل طريقة فالسفة العرص
للر ّد عىل املالحدة الذين كثروا كثرة الجراد ،خصوصا ً يف البالد األوروبية.
وقد رسى لبالدنا يش ٌء من ذلك فع َّم كثريا ً من أصحاب امل ِلل املختلفة،
خصوصا ً بعض الشبّان الذين ينكرون كثريا ً من أصول األديان املسلَّم
بها :كوجود اإلله والنب ّوات ،ملج َّرد أنهم سمعوا أن الفيلسوف اإلنكليزي أو
الفرنساوي -مثالً -قال بإنكارها .ولو طالبتهم بأداتهم عىل ذلك لَ َو َجموا
ساكتني ،ولم ينبسوا ببنت شفة؛ وما ذلك ّإل من التقليد األعمى الذي ع َّم
َّ
وأرض بالعباد. البالد،
وم َّمن تصدَّى ،يف هذا العرص ،لدفع تلك الشبه باألدلّة العقلية ،والشواهد
الفلسفية ،والطبيعية ،السيِّد جمال الدين األفغاني ،وشيخنا األستاذ اإلمام
الشيخ محمد عبده ،والسيِّد محمد رشيد رضا صاحب مجلّة «املنار»،
وغريهم من أفاضل علماء املسلمني .وقد حذا حذو هؤالء األفاضل األستاذ
الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي املشهور بعلمه وفضله وغريته،
فألَّف كتابا ً من أحسن املؤلَّفات يف هذه املوضوعات ،وهو ذو العنوان
املفتَتَح به صدر هذا املقال .وجرى فيه مجرى الباحث الناقد ،والفيلسوف
الخبري ،وأبان ،بأوضح مقال ،أن الدين ال ينايف العقل ،وأنهما متحالفان
ال متخالفان .وأ َّيد باألدلّة العقلية الدامغة ،والرباهني العلمية ،والفنّيّة،
وصحة النب َّوات ،وغري
ّ والطبيعية ،العرصية ،إثبات الصانع -سبحانه-
ذلك من األصول والعقائد التي جاءت ألجلها األنبياء .فالكتاب من خري
الكتب التي أُخ ِرجت للناس يف هذا العرص .جزى الله م َؤلِّفه خري الجزاء.
املال والرشف
الناس ،يف هذا العالم أقسام شتّى ،وأنواع متباينة ،مختلفة أطوارهم ،غري
وح ْمل الناس عىل السري يف مذهب واحد ،وإجبارهم عىل متَّفقة آراؤهمَ .
اال ّتفاق يف رأي ما َ ْ
ض ٌب من املحال.
الحقيقي ،ومنهم
ّ فمن الناس من يميل إىل أم ٍر فيه رفعة قدره وخريه
ربح مادي ،غري أنه يسقطه من الهيئة من ُيقدم عىل اقرتاف يشء فيه ٌ
االجتماعية ،و ُيلبسه ثوب الخزي والعار ،وهو ال ينظر إىل الرشف وع ّزة
ودب .فلو أردت أن هب َّالنفس ،إن كان يف ضدّهما كسب املال ،ولو م ّما َّ
الخطة ،وتجربه عىل سلوك الطريقة ّ تحمل مثل هذا الرجل عىل ترك هذه
أرضت ببعض ربحه املادي -لنظر إليك شزراً ،و -ر َّبما- املثىل -ولو َّ
رماك بما يغيظك من الكلمات .فأج ِد ْر بمثل هذا اإلنسان أن ُينبَذ ظهرياً،
وإن يسقط من الجامعة اإلنسانية؛ إذ اإلنسان بأخالقه الفاضلة ،وصفاته
الكاملة ،ال بأمواله الوافرة ،ووجاهته العظيمة.
عىل ذلك ،درج الرجال العظام ،ويف تلك السبيل القويمة ،مىش العقالء
املفكرون؛ لهذا نرى أسماءهم ُت َ
ذكر والعظمة واإلجالل حليفان لها .أ ّما ّ
من خالف هذا املبدأ الرشيف ،فحدّث -وال حرج -ع ّما يناله من السخط
135
العا ّم واالستهزاء به متى ُذكر أو َخطر يف بال أحد.
إ ّنا نعلم كثريا ً لديهم من األموال ما ال يعلم عدده ّإل الله ،ولكن ال نرى
يف أنفسنا ميالً إليهم ،بل هم محت َقرون يف أعيننا ،مرذولون يف ّ
كل نا ٍد
كل مصدر، ُو ِجدوا فيه .وما ذلك ّإل ألنهم يبذلون الجهد الكتساب املال من ّ
أرض ذلك بدولتهم وأ َّمتهم ،ألنهم ال يعملون ّإل ما يفيدهم ،ليس ّإل.ولو َّ
ومع ذلك فلو طلبت من أحدهم إعانة تفيد الوطن عال وجهه االحمرار أو
االصفرار أو االخرضار ،إىل غري ذلك من األلوان ،ثم هو ال يعطيك .وإن
أحرجته وأخجلته ،فال يقوم للبذل ّإل كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان
املس ،وإن م َّد يده لإلعطاء فيمدُّها مرتجفة كأنها َش ّلء.
من ّ
عىل أنه إذا وجد سبيالً إلنفاقها يف غري وجهها املرشوع ،تراه أرسع إىل
بذلها من املاء يف منحدر ،أو السهم إىل هدف ،يتهلَّل بذلك ف ِرحا ً مرسوراً.
من كان عىل تلك الشاكلة فهو من أضاع الرشف للسعي وراء الل ّذة
الخاصة .وما أجدر من كان كذلك أن ال يكون له ٌّ
حظ ّ الوهمية واملنفعة
من الكرامة ،وال نصيب من اإلعظام!.
كل فرد من أفراد األ ّمة عىل نفسه فإنه يقوى عزمه ،وتشت ّد أ ّما إن اعتمد ّ
إرادته ،فيقدم عىل األعمال غري هيّاب وال َو ِجل ،وال وغري ُمبا ٍل بإرهاق
نفس أو إتعاب جسم ،ومتى رسى هذا الفكر يف نفوس أفراد األ ّمة نهضت
بعد القعود ،وتر َّقت بعد التد ّني ،وتنبَّهت بعد الغفلة.
بث هذا الروح الطاهر فأ َّول ما يجب عىل املصلحني عمله هو السعي وراء ّ
يف الناس حتى ترت ّبى فيهم ملكة االستقالل واالعتماد عىل النفس ،وبسوى
ذلك ال يمكن النهوض باأل ّمة؛ إذ إن لم يكن فيها استعداد يدفعها أن تر ّقي
نفسها بنفسها ،دون مساعدة خارجة عنها ،فال سبيل إىل ترقيتها واألخذ
بيدها ،وإن تر َّقت ونهضت فال تلبث أن تسقط وتتقهقر ،متى حال دونها
ودون املساعدة الخارجة حائل:
137
8u:h*7
ˆ
138
بحكم الرضورة ،ألن الحكومة هي صورة أفراد الشعب املحكوم ومثاله
كل حال .فإن ا َّتفق أن الحكومة كانت وخالصته؛ إذ هي منه وله ،عىل ّ
تنحط وتتقهقر إليه ،والعكس بالعكس« :كما ّ أرقى من األ ّمة فال تلبث أن
تكونون ُي َو َّل عليكم» ،فإن كانت األ ّمة مستقيمة ميّالة إىل العدل والح ّر ّية
والفضائل ُحكمت بحكومة ال ِع َوج فيها وال استبداد وال جور وال رذيلة،
ّ
للحق، وإن كانت األ ّمة جاهلة فاجرة ،ال يريد أفرادها العدل وال يخضعون
ّ
الحق، حكمت بحكومة جاهلة فاجرة ظاملة مستبدّة عوجاء ،ال تميل إىل
وال تخضع للعدل .والخالصة أن أخالق األ ّمة ،إن خريا ً وإن رشاً ،تنطبع يف
مرآة وجدان الحكومة.
فإن أرادت أ ّمة أن يكون لها حكومة عادلة ودولة قو ّية ،فعليها بإصالح
وحب العلم وغريّ أخالق أفرادها ،وتعويدهم الفضيلة والح ّر ّية الصحيحة
ذلك من الصفات وامللَكات العادلة .ومتى ت َّم لها ذلك ،وصار الشعب
عادال ً عاملا ً مرت ِّبيا ً أضحت الحكومة تابعة له ،رقيّا ً وعدالً .ومتى أضحت
الحقّ .
وكل هذه ّ الحكومة كذلك انقطعت أسباب الرشوة والحكم بغري
األسباب املتقدِّمة تدعو الشعب ملساعدة الحكومة ،ما ّد ّيا ً وأدبيّاً .ومتى
استغنت الحكومة ،وكانت متن ِّزهة عن الرذائل -كما قدَّمنا -تسعى لجمع
شتاتها ،وإصالح فاسدها ،وتقوية جيوشها وأساطيلها ،تصبح دولة
مرهوبة السطوة ،مرعيّة الجانب.
..........
139
8u:h*7
ˆ
الرقي
ّ الحياةُ ،يع ِرب ع ّما يخالج فؤادها من اآلراء واألفكار التي ّ
تدل عىل
الفكري ،ولم نكن نرى لها عمالً يف ميدان الجهاد الحيوي يرفع بها إىل
ذروة االعتبار ،ويجعلها يف صفوف األمم الحيّة الراقية ،بل كان فكرها
كل سائر ،وما ذلك ّإل لضعف لكل ناعق ومقت ِفيَ ْي أثر ّ
وعملها تابع َْي ّ
اإلرادة وخمول العقل وفتور اله ّمة .وإنا لنرجو ،بعد أن نالت األ ّمة
ح ِّر َّيتها ،أن تنزع عنها رداء الخمول ،وتربأ بنفسها أن تكون أ ّمة تابعة،
ال إرادة لها وال فكر.
نعم ،ال ننكر أننا ،اآلن ،لم نزل محتاجني إىل غرينا يف كثري من اآلراء
واألعمال ،غري أننا ،لو ثابرنا عىل تذليل الصعاب وإزالة العقبات ،فال نلبث
بح ْول الله وق ّوته .فإن األمم الغربية التي
أن نصل إىل الغاية املقصودة َ
أحط منا ،اآلن ،علما ً وعمالً،
نقلِّدها ونعتمد عليها يف العلم والعمل كانت ّ
بل لم يكن لديها ما يصحّ أن ُي َس ّمى علما ً وعمالً ،لكنها ،بعد اختالطها
باألمم املرشقية واأل ّمة األندلسية ،جدَّت واجتهدت ،حتى بلغت ما هي عليه
اآلن من الرت ّقي الباهر يف العلم والعمل:
..........
140
شب ولميجب أن نر ّبي ملَكة االستقالل يف النشء ،منذ الصغر ،حتى إذا َّ
يكن له من َيعوله أو يعتمد عليه ،كان اعتماده عىل نفسه رأس مال عظيم،
حب االستقالل مل َ ً
كة يستعني به عىل مكافحة أهوال هذه الحياة ،فإن َم ْن ُّ
فيه تهون عليه الصعاب ،و ُت َذ ُّل لديه العِقاب ،ويبذل يف سبيل الحياة َّ
كل
ما يف وسعه ،ويفرغ مجهوده دون الوصول إىل غايته والحصول عىل
بغيته.
أ ّما َم ْن ينشأ كما ينشأ أكثر الرشقينيً ،
عالة عىل آبائهم ،ال يعرفون للحياة
الحقيقية معنى ،وال يدرون لحقوق الوطنيّة كنهاً ،فهم يعيشون كما
تعيش البهائم السائمة ،ألن ل ّذة الحياة بالعمل ،وال عمل -ح ّقاًّ -إل العمل
الناشئ ،عن االجتهاد واالعتماد عىل النفس واالستقالل يف الفكر والعمل.
متى نشأ الولد فليع ِّوده أبواه ،أو من له الوالية عليه عد َم اال ِّتكال عىل أحد
كل عمل ،حتى إذا بلغ الحياة العملية فليرتَك وشأنه ،يد ِّبر لنفسه عمالً يف ّ
يستعني به عىل الحياة حياة طيِّبة ،غري أننا عىل غري هذا املبدأ ،فإن الوالد ال
يرتك ولده يعمل ويفتكر ّإل بعد أن يبلغ من الك َِب عتيّاً ،فينشأ الولد خامالً
كسالنا ً معتمدا ً عىل أبيه أو عىل ما يرتكه له من املال والعقار؛ لذلك تراه
ال يمكنه أن يأتي عمالً أو يجيد يف رأي ،وهناك املستقبل التعس وحياة
الشقاء .والحال غري هذا يف النشء الغربي ،فإنه ُي َع َّود ،منذ نعومة أظفاره،
هذا املبدأ الرشيف الراقي؛ مبدأ االستقالل يف الفكر والعمل ،حتى إذا بلغ
تخل عنه أبواه وقذفا به يف معرتك الحياة وميدان الجهاد، مبلغ الشباب ّ
وهناك املستقبل الحسن والغاية الجيِّدة والحياة الطيبة والعيشة الراضية:
من ال يع ِ ّول في الدنيا على ر َُج ِل وإنما رجـــل الدنيا وواحــــدها
141
8u:h*7
ˆ
إذا لم تكن أفراد األ ّمة معتمدة عىل نفسها متَّكلة عىل ما لديها من األخالق
رقي ،مهما كانت قوانينهاوالعلم والعمل ،فال ح ّر ّية لديها ،وال ُيرجى لها ّ
عادلة ومشتملة عىل ما فيه خري األ ّمة والوطن؛ ذلك ألن القوانني واألنظمة
لف استعدادا ً يف النفوس ،ورجاال ً يعملون بها وين ِّفذونها ،فإنما
إذا لم ُت ِ
هي حرب عىل ورق .و َمثَلها ،حينئذ ،ك َمثَل ما ُسقِيت به الصخور؛ فال تنبت
شيئاً ،ويكون املاء قد ذهب هدرا ً وضياعاً.
..........
القوانني ال تجعل الناس أحراراً ،مهما كانت فاضلة ،غري أن الناس قد
حكم بها اعتادوا أن يعتقدوا خريهم ونجاحهم مسبَّبان عن األنظمة التي ُت َ
بالدهم ،وهم مخطئون ،يف هذا االعتقاد ،خطأ ً بيِّنا ً ال ُيغتَفر .إذ أية فائدة
من القوانني ،إن لم تكن نفوس الشعب مستعدّة ملا تحويه من األصول
أي نفع من النظامات ،إذا لم يوجد لها حاكم أمني ين ِّفذها واملواد؟ ،بل ّ
بكل صدق واستقامة؟ فالقوانني ال تجعل الخامل ذكيّاً ،وال الكسول ّ
مجتهداً ،وال فاسد األخالق طاهرا ً كامالً ،واألنظمة ال تمحو الجرائم ،وال
تردع الناس عن املنكرات ،وال تخ ِّفف عنهم الويالت ،وال تجعلهم سعداء،
ّإل إذا أتاح لها َح ّكام أ ُ َمناء .قال عثمان بن عفان -ريض الله عنه« :-يزع
الله بالسلطان ما ال يزع بالقرآن» وما للقوانني من فائدة عملية سوى
أنها تكون بمثابة املرشد للشعب ،والدليل للحاكم ،يستعني به عىل إجراء
ّ
بالحق ،حتى ال يميل ،وال يجنف. العدل والحكم
فالنظامات التي يحكم بها قوم أولو َنصفة وعدل ،وذوو وجدان ح ّر
ِّ
وتمكنهم من اكتساب ما طاهر ،تكون وسيلة لجعل املحكومني سعداء،
142
يجعلهم يف سعة من العيش ورغد من الحياة ،وتسهّل لهم اجتناء ثمرة
أعمالهم وأفكارهم.
والنظامات التي يحكم بها قوم أولو َجنَف واستبداد ،وذوو وجدان
خبيث يميل مع الهوى ،تكون سببا ً لشقاء الشعوب ،ووسيلة ليأسهم من
الحياة الطيِّبة والعيشة الراضية ،مهما كانت تلك النظامات عادلة وجيِّدة؛
الحكام من هذه الطبقة يؤ ِّولون النصوص عىل حسب رغباتهم ّ ذلك ألن
ومشتهياتهم ،وعىل ما يوافق هواهم ومنفعتهم الشخصية.
..........
كل عمل من األعمال الب َّد لحصوله من القابليّة والفاعليّة ،فإن عدمت ّ
أحداهما َب ُطل العمل .فإن لم توجد قابلية اإلصالح يف الشعب فال يمكن
أن يكون راقياً ،مهما كانت الوسائل ف ّعالة قو ّية ،وإن لم توجد الفاعليّة
فمن العبث محاولة ترقية الشعب ،مهما كانت القابليّة عظيمة ،ومهما
كان مستعدّا ً لإلصالح واالرتقاء ،ألن املسبّب ال يوجد بدون السبب ،فمتى
انعدم السبب انعدم املسبّب ،ال محالة.
فاألمم التي يوجد لها فاعلية ،وليست فيها قابلية ليتح َّقق معنى االستقالل،
يجب أن تر ّبى ،و ُيبَ ّث فيها روح النشاط والحياة االجتماعية ،حتى إذا
143
8u:h*7
ˆ
َّ
تمكنت منها تلك الروح نشطت واستعدّت ملا ُتلقيه إليها تلك الفاعليّة.
تؤثر فيها وتنهض بها،واألمم التي يوجد فيها قابلية ،وليست لها فاعلية ِّ
يجب أن يذهب أفراد منها لتل ّقي العلم ودرس الح ّر ّية الصحيحة وتعلُّم
كل ذلك رجعوا إىل قومهم تمكنوا من ّ
األعمال املفيدة والصناعات ،حتى إذا َّ
وقد أتوهم بفاعليّة عظيمة وأسباب قو ّية .وهناك ،يبثّون فيهم ما درسوه،
ويوحون إليهم ما تعلَّموه .وليست القابليّة ّإل االستعداد لليشء ،وليست
كل أ ّمة امتازت برجاحة عقلها ،وسم ّو مداركها، الفاعليّة ّإل طائفة من ّ
ووفرة معارفها ،وإحكامها األعمال والصناعات.
ّ
لتجل لنا رقي األمم ونجاحها؛ إذ لو بحثنا بحثا ً دقيقا ً
فعىل هؤالء يتو َّقف ّ
كل الشعوب املتمدِّنة الراقية لم تصل إىل ما وصلت إليه من التقدُّم ّإل أن ّ
بواسطة أفراد قالئل ،بالنسبة إىل مجموع ذلك الشعب .وهؤالء األفراد هم
وكل ما يفيد بني األىل أوجدوا املدنية ،وأحدثوا الصناعات ،ونرشوا العلم ّ
أقوامهم.
يجب أن ال تنتظر األ ّمة املساعدة الخارجة ،وال تعتمد ،يف ترقيتها ونجاحها،
ّإل عىل نفسها ،ألن تلك املساعدة ،متى انقطعت قبل أن تصل األ ّمة إىل
الغاية املقصودة ،تقهقرت ،ورجعت إىل ّ
رش م ّما كانت عليه.
وكذا يجب أن ال يرتقب الشعب املساعدة من الحكومة ،بل يجب عليه أن
يساعد -هو -الحكومة بما ّد ّياته وأدبيّاته ،ألن الشعب الذي يكون عالة
عىل الحكومة يثقل كاهلها .وقد َقدَّمنا أن الحكومة تكون تابعة للشعب
تر ِّقيا ً وتقهقراً ،فلو لجأ الشعب إىل حكومته تكون ،حينئذ ،الحكومة أقوى
ّ
تنحط الحكومة، أحط منها فال يميض مدّة حتى منه ،ويكون -هو َّ -
144
وتقهقر إىل الشعب ،وبذلك يكون انحالل القسمني وفساد الق َّوتني.
أ َ ّما إن لم تعتمد األ ّمة عىل الحكومة ،بل كانت ُمتَّكلة عىل نفسها ،فإنها
للرقي.
ّ ترقى ،يف يسري من الزمن ،متى استكملت الرشوط املطلوبة
وحينئذ ،إن كانت حكومتها متقهقرة متد ّنية فالب َّد أن تنهض وترقى،
حتى تجاري األ ّمة الراقية التي تحكمها.
145
القابليّة والفاعليّة
وتوضيح ذلك أنك لو عمدت إىل أرض ليس فيها استعداد لإلنبات كأن
147
تكون سبخة أو صخرية ،وبذرت فيها البذور ،مع االعتناء التا ّم ،فال ُتنبِت
واملؤثر موجودان ،ذلك ألن القابليّة ِّ تلك األرض شيئاً ،مع أن الفاعليّة
مفقودة يف تلك األرض .ولو عمدت إىل أرض فيها استعداد لإلنبات ،فإن
أنبتت تلك األرض فيكون نباتها قليالً غري جيِّد ،ذلك لفقدان الق ّوة ِّ
املؤثرة.
ولو كانت األرض صالحة ووسائل إنباتها موجودة ألنبتت نباتا ً حسناً،
وأعطت أ ُ ُكلَها كما يريد الزارع.
ّ
«الفخار» ،وطرقتها بمطرقة ،لتجعلها ولو أتيت بقطعة من الخزف
تتحطم؛ ألنها غري قابلة لذلك .وكذا لو جئت بقطعة َّ إنا ًء فال تلبث أن
من النحاس ،وأردت أن تح ِّولها إىل إناء بيدك ،من غري مطرقة ،فال يت ّم
املؤثر .ولو أتيت بقطعة نحاس إىل صانعَ ،
وط َرقها عىل ذلك لفقد السبب ِّ
مقتىض األصول ،تصري إنا ًء صالحا ً لالستخدام.
ولو أتيت بإنسان وحملته عىل أن يتعلَّم علماً ،ليس يف استطاعته أن
يتعلَّمه ،لِ َعدَم امليل إليه ،أو لضيق عقله عنه ،فال يتعلَّم ذلك العلم ولو
أتيت له بأمهر املعلِّمني وأبرع األساتذة؛ ذلك ألنه لم يكن فيه استعداد
رس يف عدم نجاح كثري من يؤ ّهله لتعلُّم ما تريد تعليمه إ ّياه .وهذا هو ال ّ
نظر يف ميل التلميذ ورغبته طلبة العلوم وتالميذ املدارس .لذلك يجب أن ُي َ
فليخصصَّ ومقدار عقله ،فإن ُو ِجد ميّاال ً للعلم ،وكان فيه استعداد له
فليخصص لهما،َّ لذلك ،وإن ُو ِجد فيه ميل للتجارة أو الزراعة أو الصناعة
وإل أضاع عمره ووقته ومستقبل أ ّيامه سدًى .ولو أتيت بإنسان فيه ّ
استعداد للعلم مطلقاً ،أو لف ٍّن من الفنون ،كاألدب والفلسفة ،غري أنك جئت
بمعلِّم ال يعرف ذلك الف ّن أو هو غري متق ٍن فله ،فال يمكن للتلميذ أن يتعلَّم
املؤثرة مفقودة ،وهذا هذا الف ّن ،ولو مكث بضع سنني ،ذلك ألن الق َّوة ِّ
رس يف ضياع كثري من التالميذ وإضاعة أوقاتهم عىل غري جدوى وال هو ال ّ
فائدة ،وهذا ما يجب أن ينظر إليه أصحاب املدارس -خصوصا ً املدارس
سني
ّ التابعة للحكومة -حرصا ً عىل هؤالء التالميذ املساكني من تمضية
يحصلوا ما قصدوا إليه من الفنون. ِّ والنصب ،دون أن َ حياتهم يف التعب
ولو أتيت بتلميذ فيه استعداد ل َف ّن من الفنون ،وسلَّمته إىل معلِّم قادر عىل
تدريس هذا الف ّن لَنَجح يف وقت قصري.
كل شعب ّ
وكل أ ّمة عليه ،فإن األ ّمة إذا وضح ما تقدَّم أمكن أن نطبِّق حالة ّ
التي سمت مداركها واشتدَّت عزيمتها ،واستدّت سهام إقدامها تكون قابلة
لكل نجاح ،وهذا هو الشأن يف األمم األوروبية ،فإنها لكل رقي ،ومستعدّة ّ ّ
تتسكع يف دياجري األوهام ،وتخبط يف َّ بعد أن كانت أمما ً خاملة جاهلة
ظالم الجهل ،وتسبح يف بحار االستبداد ،نبغ فيها قوم أجهدوا نفوسهم،
وذلَّلوا الصعاب ،وهاجروا يف سبيل تحصيل العلم وتل ّقيه عن أساتذتهم
العرب -الذين كانوا يف ذلك الحني أ ّمة حيّة ،هي مثال العلوم والفنون
والرقي والق ّوة واملنعَة والتربيز عىل األقران ،يف ّ
كل ّ والصناعات والتقدُّم
معنى من معاني الحياة االجتماعية ،واملا ّد ّية ،والسياسة -فل ّما نالوا ما
قصدوا إليه رجعوا إىل قومهم ،وبثّوا فيهم تلك الروح العالية التي نالوها
من العرب ،سوا ٌء يف املرشق ويف األندلس ،ونرشوا بينهم أنوار تلك العلوم
التي اقتبسوها ،وما زالوا بشعوبهم يعلِّمونهم ويحثّونهم عىل اكتساب
العلم والهجرة إليه ،حتى تنبّهوا ،شيئا ً فشيئاً ،إىل أن وصلوا إىل ما هم فيه
اآلن ،فصاروا أساتذة العلوم والفنون ،ومرجع الصناعات واالخرتاعات،
تأخرنا باعاً ،وكلَّما تقدَّموا باعا ً
فكانوا كلَّما تقدَّموا إىل العلم واملدنيّة ذراعا ً َّ
وقصنا ،وأفاقوا ونمنا ،وصاروا يفتخرون بأعمالهم، تأخرنا ميالً ،فبلغوا ّ َّ
149
8u:h*7
ˆ
على ما تجلى يومه ال ابن أمسه لعمرك ،ما اإلنسان إ ّلا ابن يومه
فخار الذي يبغي الفخار بنفسه وما الفخر بالعظم الرميم وإنما
هذا مثال من أمثلة الشعوب التي تر َّقت بعد االنحطاط بسبب تربية النقل
وامليل إىل الفضائل ،حتى ُغ ِرست فيها شجرة القابليّة التي أثمرت ما نراه،
اليوم ،من الثمرات الجنيّة الطيِّبة.
ّ
الحق، فعىس أن يقوم فينا رجال كما قام فيهم رجال ،فريشدونا إىل املهيع
ويأخذوا بأيدينا إىل رصاط الحياة املستقيم ،وير ّبوا يف نفوسنا االستعداد
لصالح األعمال ،حتى نرجع إىل مجدنا السالف ،ونحيي ما مات من
وإل فعبثا ً يحاول من ينادي األ ّمة لرتقى ،دون أن يمهِّد لها السبيل، آثارناّ ،
ويغرس يف نفوسها أدواح املَيْل ،ويقذف بأبنائها يف املدارس ،حتى تدرك
معنى الحياة واالجتماع وفائدة النهوض ،فإن املدارس الحقيقية هي التي
تر ِّبي االستعداد وتن ّمي القابليّة ،ومتى ت َّم هذان األمران يف األ ّمة ووجد لها
فبشها بالنجاح العاجل والفالح القريب. ِّ
مؤثر وفاعلِّ ،
فإن قيل :أ ّية فائدة من إيجاد املدارس التي تر ِّبي االستعداد ،إذا لم يكن
هناك فاعليّة ،وهي الق ّوة التي تقوم بتنظيم هذه املدارس وإدارتها ّ
وبث
هذه الروح فيها ،فإن هذه الق ّوة مفقودة عندنا؟ ،فنقول :لقد أخطأ من
قال ذلك ،فإن الق ّوة ليست بمفقودة ،ولكن من يتطلَّبها مفقود ،ولو بحث
عنها لوجدها ،وهي بمنزلة الق ّوة الكهربائية ،ال تظهر ّإل باالحتكاك ،فلو
طلبها الطالبون لرأوا من آثارها عجباً.
150
نعم ،إن هذه الق ّوة ليست كما نريد؛ ألنها منحرصة يف فئة قليلة ال تكاد
تقوم بحاجيّات األ ّمة ،لكنها ،لعدم استخدامها واالنتفاع بها ،فرتت ه َّمتها
وقلَّت الفئة املودَعة هي فيها .عىل أنها ،وإن كانت قليلة اليوم ،ستكون
عظيمة يف املستقبل ،خصوصا ً إذا أرسلنا طائفة غريها إىل بالد العلم،
حتى إذا نالت ما ترجوه رجعت ونفعت قومها« :اطلبوا العلم من املهد إىل
اللحد»« ،اطلبوا العلم ولو يف الصني».
رقي هذه األ ّمة ،وحكموا بعدم نهوضها من كبوتها؛ قوم يئسوا من ّ ُر َّب ٍ
بسبب ما أفسده الظاملون من نفوسها ،وما د ّمروه من قواعد مجدها ،ولو
تأ َّملوا قليالً ،ونظروا يف حال الشعوب الغربية وما كانت فيه وما آلت إليه،
لرجعوا عن هذا االعتقاد ،فإن حالتنا ،اليوم ،هي خري من حالة تلك األمم
قبل أن ترى بصيصا ً من العلم ،ومع ذلك فقد نجحت حتى بهرت الرشق
بعلومها واخرتاعاتها ،وما ذلك ّإل بما بذلته من اله ّمة القعساء.
نعم ،إن بقي فينا قوم يائسون ،ورهط من ّفرون ،يثبِّطون الهمم،
ويلقون العقبات يف سبيل املصلحني والذين يريدون إنهاض األ ّمة،
فإننا -بال ريب -نبقى كما نحن اآلن؛ عالة عىل األوروبيني يف ّ
كل
يشء .أ ّما إن رفعنا بر ُقع الجهل ،وقتلنا مكاريب اليأس ،وأنحينا
الرقي ،ثم أخذنا بأيدي املصلحني
ّ بالالئمة عىل مثبّطي الهمم وأعداء
وأعَناَّهم عىل ما يقصدون ،فال يميض حني من الدهر حتى نضارع
كل يشء .وما ذلك ،عىل الهمم العالية األمم الغربية ،بل نفوقها يف ّ
الرشقي مشهور ،واألقاليم
ّ والنفوس الطاهرة ،بعزيز؛ فإن الذكاء
ُ
رين التي يقطنها هي أحسن األقاليم ،ولكن ،قد َ
ران عىل ذكائنا
الخمول والظلم ،واختلط برتب أراضينا ميكروب اإلهمال واال ِّتكال،
151
8u:h*7
ˆ
ومتى كشف الغطاء ،وماتت جراثيم ذلك الداء ،فسريى الغربي منا
عجائب األشياء ،ويسمع غرائب األنباء.
..........
مؤكد ،متى وضعنا هذه األقوال موضع العمل الرقي مح َّقق ،والنجاح َّ ّ
واإلجراء ،أ ّما إن بقينا نقول وال نعمل ،فعلينا السالم ورحمة الله وبركاته:
ّ
حــق اللقــا يف األ َّول(((» «وأقـــدم إذا
..........
الثورة األدبية
أو ثورة األخالق واملبادئ
152
وحب الفضيلة ،وحيث ُركزت ّ والسياسة؛ فحيث ُو ِجدت األخالق الصحيحة
ُ
األعمال عىل دعائم القلوب الح ّرة ،و ُبنيت عىل أسس الوجدانات الفاضلة،
الح ّي .وحيث فسدت األخالق ،وتق َّوضت دعائم فهناك األ ّمة الراقية والشعب َ
ّ
املنحطة .ومن العبث املحض الطباع الح ّرة ،فهناك الشعوب السافلة واألمم
املعوجة،
َّ محاولة ترقية أ ّمة من غري سلوك تلك السبيل ،سبيل تقوم األخالق
وتنقية القلوب الدنسة ،وتصفية الطباع الكدرة .ومن سعى غري هذا املسعى
فقد ذهب سعيه أدراج الرياح ،فكانت أعماله هبا ًء منثوراً.
تلك سنّة الله يف عباده « َولَن َت ِج َد ل ُِسنَّ ِة الل َّ ِه َتبْدِيال» ،وقد أنبأتنا األخبار،
وعلَّمتنا األسفار ،وأرشدتنا دالئل االعتبار ،وأوضحت لنا شواهد االختبار،
مؤثر يف نفوس األمم ،وأنها هي السبب أن عوامل الرتبية والتعليم هي أعظم ِّ
رقي وال نجاح ّإل بتغيري األخالق الوحيد ،والدواء الشايف ألدوائها ،فال ّ
الشائنة ،ونزع الصفات الضا ّرة.
درج عىل ذلك األنبياء والفالسفة ،و َتبِعهم علماء األخالق واالجتماع ،ولنا
فيهم أسوة حسنة ،وقدوة صالحة.
..........
الحق ،وقد ّ ضال ً طريق جاء موىس -عليه السالم -فوجد شعب إرسائيل ّ
انغمس يف حمأة املفاسد ،وتل َّوث بأوضار العادات السيِّئة ،فبذل الجهد
يف إصالحهم ،ورصف وسعه وطاقته لحملهم عىل معايل األمور ،فكانت
نتيجة سعيه قليلة ،ونور عمله ضئيالً ،فل ّما عزم عىل أن يسري بهم فاتحا ً
َب أَنتَ َو َر ُّب َك
ومبلّغا ً أوامر ربه ،امتنعوا؛ جبنا ً وخوراً ،وقالوا لهَ « :فا ْذه ْ
ُون» ،ذلك ألن الشعب قد كهلت يف نفسه العادات، َف َقاتِال إ ِ َّنا هَاهُ نَا َقا ِعد َ
وشاخت يف قلبه الخرافات ،واستولت عليه التقاليد والجبن.
153
8u:h*7
ˆ
فل ّما ضاق موىس ذرعاً ،حتى حار يف أمر إصالحهم ،أفهمه الله أن السبيل
إىل ذلك ،وال وسيلة ملا يبغي .لكنه أرشده إىل أن يسري بهم إىل املكان
املعروف بتيه بني إرسائيل .والحكمة من ذلك أن يبتعدوا عن األمم
ليتمكن م ّما يريد .فسار بهم ،وبقوا أربعني سنة يتيهون يف ّ املجاورة
تأصلت يف نفسه التقاليد التي األرض ،فانقرض بسبب ذلك الجيل الذي َّ
كانت تمنع من تل ّقي تعاليم موىس (عليه السالم) ،ونشأ منه جيل لم
شب عىل حسب ما يريد موىس ،ودرج يتع َّود الرتف وفساد األخالق ،بل َّ
عىل األخالق القويمة ،ومىش يف سنن العدل والفضيلة .وهناك ،زحف
موىس بالنشء الجديد فاتحاً ،داعيا ً إىل الله ،فلبَّاه طوعا ً واختياراً؛ وما
سبب ذلك ّإل تربية ملكة األخالق والفضائل حتى صارت طبيعة له.
..........
جاء عيىس (عليه السالم) وقد فسدت طباع هذا الشعب ،فبذل مايف
فاض ُط ِهد وأُهني ،غري أنه ً
تربية صالحةْ ، طاقته لتثقيف عقله وتربيته
بقي مثابرا ً عىل ذلك حتى استخلص لنفسه اثني عرش صديقاً ،ع َّودهم
حب العمل الصالح وخدمة األ ّمة ،إىل أنوبث يف روعهم ّ مكارم األخالقَّ ،
رفعه الله إليه ،فانترش تالميذه يف اآلفاق وبثّوا دعوته ،ونرشوا تعاليمه
بالرتغيب والرتهيب والوعظ واإلرشاد ،فخلَّصوا أمما ً كثرية من الرشك
وفساد الرضائب والعادات الضا ّرة.
..........
جاء محمد (عليه الصالة والسالم) ،وكان الجهل والفساد قد ع َّما البالد،
واستوليا عىل جميع األمم ،خصوصا ً األ ّمة العربيّة التي استباحت إهراق
154
الدماء ،ووأد البنات ،وعبادة األصنام ،وغري ذلك من األعمال الشائنة
والعادات الضا ّرة ،فسعى لتحسني حالهم وإنهاضهم من طريق الرتبية
تمض مدّة حتى َح ُسنت أحوالهم ،واستقامت ِ واملوعظة الحسنة ،فلم
ورقي األفكار شأوا ً بعيداً .ولم يجئهم،
ّ أفكارهم ،وبلغوا من التقدُّم
إلصالحهم ،من طريق القسوة والشدّة وإشهار السيوف يف وجوههم .وإن
ما حصل من الغزوات والحروب إ ّنما هو لحماية الدعوة من املعارضني،
ومقابلة العتداء املعتدين ،وظلم الظاملني ،من املرشكني الذين كانوا يؤذونه
ويسلّطون أرشارهم عليه وعل أتباعه ،ويشنّون الغارة ،ويقطعون السبل،
ويفعلون األفاعيل ،ويعملون من رضوب العدوان والجور ما ال ُيحىص.
كل ذلك ليحولوا بينه وبني ما جاء به من الهداية ،مع أنهم يعلمون أنه ّ
الحق من ر ِّبهم ،ولكنها األنفة واالستكبار .وهم يعلمون ّ
حق العلم أنه متى ّ
يل بينهم وبني ما يشتهون ،وانقطعت وك ُثر متّبعوه حِ َ
انترشت دعوتهَ ،
وطمِست أعالم عت ّوهم وجربوتهم ،ألن من آمالهم ،و ُمحِ يت سيطرتهمُ ،
كل حق من الحقوق ،فهم كأهل قواعد الدين مساواة الصعلوك باألمري ،يف ّ
االرتجاع يعلمون فوائد الدستور ،ويعرفون نتائج العدل والح ّر ّية ،ولكنهم
يشايعون الظاملني ،وينرصون املستبدّين ،ويعارضون الح ّر ّية والدستور،
بكل قواهم ،كلَّما الحت لهم بارقة أو اغتنموا فرصة؛ ذلك ألن الح ّر ّية قد
ّ
قضت عىل آمالهم ومآربهم ،والدستور قد ساوى بينهم وبني من كانوا
رشهم ّإل إذا حوكموا يظلمون .وال تسكن ثائرة هؤالء الزعانف ،ويؤ َمن ُّ
النبي وأصحابه أشبه بحروب ّ لدى املحاكم العرفية .وهكذا ،كانت حروب
قصد منها در ُء العدوان واستئصال شأفة املنافقني املستبدّين عرقيةُ ،ي َ
الذين كانوا يهيِّجون عليهم القبائل ،ويجيّشون لهم الجيوش ،لذلك لم
يكن يحارب ّإل من حاربه ،وال يناوئ ّإل من ناوأه ،وال يجرب أحدا ً عىل
155
8u:h*7
ˆ
ا ِّتباعه واإليمان بما جاء به« :ال إكراه يف الدين»« ،لكم دينكم ويلَ دي ِن»((( .
..........
هكذا كانت سرية األنبياء (عليهم الصالة والسالم) ،وهكذا شأن العقالء
كل جيل ّ
وكل أ ّمة؛ يأتون األ ّمة من أبواب الرتبية وتنوير والفالسفة يف ّ
العقول حتى إذا ت َّم لهم ما أرادوا نهض الشعب من ِقبَل نفسه ،ونزع عنه
أردية الخمول ،وطرح معاطف الجهل والفساد -وتلك هي الثورة األدبية
أو ثورة األخالق واملبادئ ،وبها نجح األنبياء ،وأفلح املصلحون.
ّ
الحق والح ّر ّية بالسيف ،إن لم تتقدَّمها الثورة إلصالح إن الثورة لطلب
العادات وما درج عليه الشعب من األخالق السافلة ،ال تجدي نفعا ً وال
تغني فتيالً ،ألنه متى سكنت ثائرة املطالبني بالق ّوة ،واستمالهم الباطل
إليه عادت األ ّمة إىل أش ّد ما كانت عليه ،من الظلم والخمول ورقدة العزيمة.
أ ّما إن كانت األ ّمة هي املطالبة بذلك؛ بسبب ما عندها من األخالق الراقية
النية واالستعداد ملعايل األمور ،فال يمكن أن َّ
يتمكن أهل الباطل من واآلراء ِّ
إرجاعها إىل الحالة الغابرة بعد أن نالت ح ِّر َّيتها ،واستولت عىل رغباتها،
فإنها ،عند ذلك ،تقوم قومة هائلة ،وتناضل عن ح ِّقها ،وتدافع دون م ّد يد
أحب حبيب لديها ،وأع ّز مشتهى عندها...السوء إىل ّ
..........
((( أوضحنا هذا املقام ،مقام كيفية انتشار الدين اإلسالمي ،يف كتابنا «اإلسالم روح املدنية» ،الذي
رددنا به عىل «لورد كرومر» يف كتابنا «خيار املقول يف سرية الرسول» ،وأ َبنّا -بأجىل بيان -أن الدين إنما
شع لحماية الدعوة عند املعارضة ،ودفعا ً العتداء املعتدين. قام بالدعوة ال بالسيف ،وأن السيف إنما ُ ِّ
156
الثورة :نهوض يقصد منه تغيري يف السياسة أو االجتماع أو األخالق
يعب عن الغاية األوىل من قبيح إىل حسن ،أو من حسن إىل قبيح ،وقد َّ
ّ
الحق ص القيام لطلب باالنقالب ،وعن الثانية بالهيجان .وقد ُي َخ ّ
للحق من مطالب ّ باالنقالب ،والنهوض ملنارصة الباطل بالثورة -والثورة
األمم الراقية .غري أن النهوض لتغيري نظام السياسة ال يفلح أنصاره،
وال تثبت دعائم مطالبهم إن لم يسعوا ،قبل ذلك ،لتغيري نظام االجتماع
واألخالق حتى يكون لأل ّمة استعداد لتل ّقي ما يراد إيجاده .وحتى ال تثور
حب التغيريض ّد ما يخالف األنظمة القديمة والعادات السائرة فينتج ّ
تث ْر ،ولم تعارض يف جديد النظام عكس املقصود .ولو فرضنا أنها لم ُ
وحديث التغيري ،فإنها ال يمكن أن تستفيد من اإلصالح شيئاً ،بل -ر َّبما-
رشا ً عليها من عاداتها القديمة ،ولو كانت ضا ّرة .وهذا يكون اإلصالح ّ
قول -ر َّبما -ال يسلِّم به كثري من الناس ،لكنهم لو تر َّووا قليالً ،وسلكوا يف
البحث جادّة االستطالع والتنقيب لسلَّموا بما نقول تسليماً .وهاك ،عىل ما
كل إنسان:نقول ،أدلّة بسيطة يسلِّم بمقدِّمتها ونتائجها ّ
157
8u:h*7
ˆ
ترضهم السياسة ،والثورة لها ،والنظامات وهكذا مرىض العقول واألخالقّ ،
َّ
تتمكن الراقية التي ُتنال بواسطتها ،ألنها بمنزلة األطعمة املق ِّوية التي ال
املعدة من هضمها ّإل بعد تقويتها باألدوية .فيجب ،قبل ذلك ،أن تداوي
صلُ َحت َ
وح ُسنَت عقولهم وأخالقهم التي هي معدة االجتماع ،حتى إذا َ
وصارت مستعدّة للحكم الراقي ،وهي غري نائلة إ ّياه ،ثارت لطلبه من
طريق السياسة.
وليعلم أنه بقدر استعداد األ ّمة للحكم الدستوري واإلصالح تنتفع من ذلك.
فإن نالت الدستور ،وأبيح لها اإلصالح غري أنها لم تستنتج شيئاً ،فاعلم
أنها أ ّمة غري صالحة لهذه النعمة؛ ألنها لم تقدِّرها قدرها ،ولم تهيِّئ لها
األسباب الالزمة الكافلة ببقائها واملستخرجة لفوائدها .وليس الذنب عىل
القوانني ،وال عىل القائمني بتنفيذها ،بل الذنب عىل األ ّمة التي تحكم بتلك
يفسون موادّها بحسب مشتهياتهم ،دون القوانني .ألنها تدع من ِّفذيها ِّ
ّ
الحكام غري ملومني. معارضة وال مصادمة .وعندي أن هؤالء املن ِّفذين أو
ألنهم يرون شعبا ً حقريا ً وأ ّمة جاهلة خاملة فاسدة األخالق ،فيعتقدون
أنهم إن مشوا يف سنّة العدل ،وسلكوا السبيل القويمة ،يعا َرضون من ِقبَل
تلك األ ّمة ،ألنها ال تريد العدل ،وال تميل إىل اإلنصاف .وحني يرى الحاك ُم
الصبي بالكرة،
ّ ذلك ،من األ ّمة ،يعلم أنها ضعيفة ،فيلعب بها كما يلعب
ويترصف بمصالحها بحسب إرادته ومشتهاه. َّ ويستب ّد بشؤونها،
ومن الغريب أنه توجد طائفة منها ،فضالً عن استكانتها وخنوعها ّ
لكل
إشارة من الحاكم ،فإنها تدلّه عىل طريق العبث باملرافق واالستئثار
ّ
الحكام أخصاءّ باألعمال ،وتسهِّل له الطريق إىل ذلك تسهيالً .وهؤالء هم
وأعداء األ ّمة ،وإن هم كانوا بعض أفرادها ،فإن نفوسهم قد تع َّودت الرياء
158
واملداهنة والتزلُّف وغريها من األوهام التي يعدّونها رشفاً؛ ألنهم يحسبون
التق ّرب من الحاكم فخرا ً ومجداً.
ِّ
وتعظم مقامهم وتبجلهم،
ّ فاأل ّمة التي ترىض عن مثل هؤالء األفراد منها،
هي أ ّمة ساقطة ،ال يجدر بها ّإل الظلم ،وال يناسبها ّإل االضطهاد ،ألنها
فقدت عاطفة اإلباء ،وماتت فيها روح املجد ،لذلك استسهلت الهوان:
بمـــــــي ٍت إيالم
ّ لجـــــرح
ٍ ما ـــــن يـــسهل الهــوان عليه
من ي َُه ْ
..........
إن األ ّمة التي هي عىل هذه الشاكلة ،إن ثارت يف متن ِّوريها وعظماء
رجالها ثائرة اإلصالح السيايس ،قبل أن يتقدَّمه اإلصالح األخالقي وثورة
الفالسفة وأهل الرتبية ،يكون ويالً عليها ،كما أسلفنا .فإن َت َّم نوال
وحملاإلصالح السيايس قبل األخالقي ،وانترشت يف األ ّمة القوانني الراقيةُ ،
كل األسف عىل ماضيها الحكام عىل القضاء بها ،رأيت تلك األ ّمة آسفة ّّ
وعىل الحالة التي كانت فيها ،وتتمنّى لو ترجع يف حافرتها ،مع أنه ال
وأي ذي
يشك عاقل يف أن حالتها الحارضة هي خري من حالتها املاضيةّ ، ّ
يشك يف أن العدل واملساواة خري من الجور والحكم بمقتىض الهوى، ّ لب
ٍّ
ورغبات النفوس الظاملة الفاسدة؟.
وأعجب من هذا كلّه أنك ترى حالة هذه األ ّمة ،بعد انتشار العدالة والحكم
رشا ً من حالتها الغابرة؛ لهذا تتمنّى الرجوع إىل سالف عيشها،
الحق فيهاّ ،
ّ
رس يف ذلك معروف ألهل التفكري ّ
الحق إىل الباطل .وال ّ وتو ّد االرتداد عن
والعلم بأحوال البرش؛ ذلك أن األ ّمة التي اعتادت الظلم واالستكانة وفساد
159
8u:h*7
ˆ
األخالق تستل ُّذ ذلك ،وال تشعر بوخزه ،لضعف الشعور ومرض العقل،
ولكنها أن ُحملت عىل أضداد هذا الصفات ،و ُنهنهت عن عاداتها الضا ّرة،
وثبِّتت عىل النفور عنها ،فتنغرس يف نفوسها الفضائل حتى تتش َّعب
جذورها ،وتكثر أغصانها ،فلو أريدت ،بعد ذلك ،عىل الرجوع إىل حالتها
املاضية أبت أن تعود ،وقاومت ُمريدها أش َّد املقاومة .وما سبب هذا وذاك
وغرس
ُ تأصل اليشء يمكن استئصاله، تحكم العادات ،فكما أمكن ُُّّ ّإل
تتأصل جذورها ،وتنمو فروعها.
َّ الفضيلة يف مكانه ،وتعهُّدها حتى
تأخر اإلصالح وسوء الحال منشأه مرض هذا ،وإن ما نشاهده ،اليوم ،من ُّ
ُّ
وتحكم عاداته الدور البائد فيها، أخالق األ ّمة وضعف قوى اجتماعها،
ولوال ذلك لكانت نتيجة اإلصالح ،اليوم ،دانية القطوف ،عا ّم ًة اململكة
بأرسها.
الحكام؟ أليسوا من األ ّمة؟ فلو كانوا راقية أفكارهم صحيحة ّ َ -م ْن هؤالء
أخالقهم ،فهل كانوا كما هم اليوم؟ ال ريب يف أنهم لو تر ّبوا تربية
صحيحة ،و ُع ِّودوا الحكم بالحق ،دون مراعاة وال ميل ملنفعة ،لرأينا
منهم يف هذا الدور السعيد رجاال ً ينهضون باأل ّمة ،ويق ِّومون من اعوجاج
ّ
الحكام ،ال عىل الدستور والح ّر ّية. أعمالها .فلنسخط -إذن -عىل
ّ
الحكام ،اليوم، فإن قيل :إن الدور املايض والدور الحارض سواء؛ ألن أكثر
حق ،ولكنهم بعد أن كانوا مطلقني صاروا ّ
الحكام باألمس .ن ُق ْل :ذلك ّ هم
مقيَّدين بإرادة األ ّمة ،غري أنه ملا لم يكن لأل ّمة إرادة ،بل سلّمت إرادتها
إليهم ،أخذوا يرجعون إىل ما اعتادوا من ذي قبل ،شيئا ً فشيئاً .فهل
لألُ ّمة أن تقف يف وجوههم وتجربهم عىل عدم الخروج عن موا ّد القوانني
الدستورية؟
فإن فعلت ذلك نجحت ،وجنت فوائد األنظمة الجديدة ،وإن بقيت كما هي
ً
خاملة مستكينة ،فالعاقبة غري حميدة. اليوم
فأين رجال األ ّمة الذين يريدون إصالحها ،ويسعون وراء ترقيتها؟
فليبذلوا جهدهم يف استخالص الشوائب من نفوسها ،وتنقية األوضار من
أخالقها ،وتشذيب املفاسد من بساتني قلوبها.
161
8u:h*7
ˆ
ّ
السل االجتماعي
تلك أمم قد خلت ،وقد كانت -كما نحن اليوم -عامر ًة األرض ومثريتها،
ً
عاملة عىل استخراج خرياتها ،جا ّد ًة نحو إحيائها .ولكن ،قد أصابها ما
162
َم َحقها ،وترك ديارها قاعا ً صفصفاً ،ال ترى فيه عوجا ً وال أمتاً .أجل ،لقد
مرض قىض عىل اجتماعها ،ولم تقض اللبانةمن وجودها ،قد ٌ رسى فيه
اندس يف أ ّمة من األمم ،وتغافلت عن
َّ اندس فيها ذلك الداء العياء ،الذي ما
َّ
مداواتهّ ،إل كان سبب اندثارها وعلّة محقها.
وحب األثرة ،فنشأ عن ذلك ترك ّ التحاسد والتباغض ُ نشأ يف نفوس تلك األمم
رقاب
َ واالشتغال بسفك الدماء ،ورضب األقوام ،بعضهم ُ عمران األرض،
حكم الله فيهم نظامه يف األكوان ،ذلك النظام بعض ،حتى آل ذلك إىل أن َّ
بق منهم أحداً ،فال ترى الذي يؤخذ فيه خلقه بما ظلموا ،تدريجاً ،حتى لم ُي ِ
لهم اليوم من باقية ،وإىل ذلك اإلشارة بقوله تعاىلَ « :وإ ِ ْذ َق َ
ال َر ُّب َك لِل ْ َمالئ َِك ِة
ض َخل ِي َف ًة َق ُالوا ْ أ َ َت ْجع َُل فِيهَا َمن ُي ْفسِ ُد فِيهَا َو َي ْسف ُِك ال ِّد َماء إ ِ ِّني َجاع ٌِل ِف األ َ ْر ِ
ال إ ِ ِّني أ َ ْعل َ ُم َما ال َ َت ْعل َ ُم َ
ون». ِّس لَ َك َق َ
َو َن ْح ُن ُن َسبِّحُ ِب َح ْمد َِك َو ُن َقد ُ
ذلك الخليفة هو آدم وبنوه ،وقد تشاءَم املالئكة أن يكونوا كما كان من
سفكة للدماء ،مفسدين يف األرض ،فيصيبهم من ً ُو ِجد قبلهم من األمم:
املحق واملحو ما أصاب أولئك األقوام.
..........
كل جنس نوعاً .من خلق الله املخلوقات ،وجعلها أجناساً ،وجعل تحت ّ
هذه هذه األجناس الحيوان ،ومن أنواعه اإلنسان ،وهو الحيوان الناطق
أي املدرك العاقل .فإليه انتهى ارتقاء هذا الجنس ،وعنده انقطعت
سلسلة تر ّقيه .قال الله تعاىلَ « :ولَ َق ْد َك َّر ْمنَا َبنِي آ َد َم» ،وما هذا التكريم ّإل
بما أودعه فيه من القوى الكاملة ،وبما ميَّزه به من العقل ،ذلك الجوهر
واملحل األرفع .فبه يؤخذ اإلنسان ،وبه ّ الصايف املرشق من امللكوت األسمى
163
8u:h*7
ˆ
يكون مظهرا ً للرضوان ،وبه يسري يف مناهج الحياة ،وبه يعرف الخري من
ال ّ
رش ،ويميز الخبيث من الطيِّب.
فاإلنسان ،يف الحقيقة ،ليس مج َّرد هذه الصورة الظاهرة ،وال هذا الجسم
النامي ،وال تلك التقاطيع ،بل هو ذلك الجوهر السامي ،الهابط عىل هذا
ّ
املتحل عىل هذا الهيكل الجسماني. الجسم النامي .هو ذلك األمر الر ّباني،
ألن اإلنسان إنسان ،من يوم ُيخلَق إىل يوم يموت ،وما يدركه ويعمله يف
حياته دائم ال يزول .ومع أن جسمه يتبدَّل ّ
كل مدّة ،فإن أجزاءه ،اليوم،
هي غريها قبل عرش سنني ،بال ريب .فاإلنسان -إذن -هو تلك الروح
رس
العالية والجوهر املدرك ،وما سواهما هو آلة وواسطة ،وهذا هو ال ّ
الذي َّ
فضله الله به عىل خلقه.
إذا كان لهذا الكائن الصغري ،وهو اإلنسان ،تلك املنزلة العظمى ،فليس
وجوده ّإل لحكمة عظيمة ،هي غاية ما يمكن أن يصل إليه عقل البرش.
وتلك الحكمة مجملة يف قوله تعاىلَ « :و َما َخل َ ْقتُ الْ ِج َّن َواإل ِ َ
نس إِالَّ لِيَ ْع ُبد ِ
ُون»
املفسين.
ِّ والعبادة ،هنا ،بمعنى املعرفة كما ح َّقق ذلك جمهور من
حق معرفته ،ومتى فالغاية -إذن -من خلق اإلنسان هي أن يعرف الله ّ
عرف اإلنسان ر َّبه يتش َّوق إىل طريق يسلكه ليصل إليه ،ويتق َّرب منه.
وما الوصول إليه والتق ُّرب منه ّإل العمل بما يرضيه ،ليكون ذلك واسطة
اإلحسان وإغداق النِعَم.
..........
األمم التي تسري بما يريض الله ،وتجعل عمران األرض هدفها الذي ترمي
إليه ،وغايتها التي تقصد إليها ،هي األمم التي يغدق الله عليها نعمه،
164
ويجعلها سيِّدة األرض ،والقابضة عىل زمام منافعها وخرياتها ،واآلمرة
سكانها ،واإلمام الذي ُيقتدى به من كل شأن من شؤون ّ الناهية يف ّ
تقاعس عن انتهاج منهجها ،ثم د َّبت فيه الحياة دبيبها ،فاهت ّم بإصالح
حاله ،و ُعنِي بكرس قيود الخمول عن عقله.
..........
إن نهوض األمم وتر ّقيها ،وتسامي درجاتها وتعاليها ،ليس من اال ّتفاق
يف يشء ،بل إن للرت ّقي نظاماً ،وأن لبلوغ األ ّمة غاية املجد قانوناً ،فمتى
وجهت األ ّمة عزيمتها نحو العمل بنظام الرت ّقي واألخذ بأسباب النجاح،
وصربت عىل ما تالقيه من العقبات ،يف سبيل تطبيق هذا القانون ،فإنها
تصل إىل ما ترجوه من السعادة ،وما تتطلَّبه من الفالح ،ولو بعد حني.
إن اإلنسان املادّي -وأعني به هذا الهيكل املرئي -إذا لم يعمل بقانون
الصحة ،ويتَّخذ الحيطة دفعا ً للعوادي ،أحاطت به األدواء من ّ
كل ّ حفظ
كل مكان سحيق. جانب ،وهرعت إليه األمراض من ّ
أال وإن اإلنسان املعنوي -أعني به الروحي -إذا لم يعمل بقانون حفظ
صحة اجتماعه ،انهالت عليه الطوارئ املعنوية ،وانصبَّت عىل مجموعهّ
املدني أمطار من السوء تفقده مميِّزاته وأخالقه ،وتجعل وجوده الروحي
كأمس الدابر.
ِ
األمراض املا ّد ّية كثرية ،ومن أقبحها ،فعالً واسماً ،ذلك الداء الوبيل الذي
ّ
السل ،وقانا الله وإ ِّياكم وسائر ترتعد الفرائص فرقا ً من ذكره ،وهو
خلقه من فتكاته.
165
8u:h*7
ˆ
السل فإنه ال يزال يضؤل وينحل حتى ّ إن اإلنسان املادّي ،متى نزل به داء
يدعه كالخالل ،ويجعله كالخيالّ ،إل إذا تعهَّده األطبّاء باألدوية الشافية.
والعالجات التي تص ُّد تيّاره.
ّ
«السل االجتماعي» ،فإنه ال وكذلك اإلنسان املعنوي ،متى أَلَّم بساحته
يجف غصن حياته الروحية، ّ ّ
وتنحل مميِّزاته ،حتى يزال تض ُؤل أخالقه،
فيصبح كالحيوان األعجم ،ال يعرف من الحياة َّإل ما يشاركه به الحيوان،
ويظ ّن ،بل يعقتد ،كما يعتقد من ُب ِلَ بهذا الداء ،أنه لم ُيخلق لغري هذا،
كما قال قائلهم:
ومـــــــــــنام
ْ وشـــــــــــــــــــراب إنــــــــما الدنيــــــــا طــــــــعــام
الســـــــــــالم
ْ فـــــــــــعلى الدنيا فــــــــــــإذا فــــــــــــــاتك هـــذا
َام َب ْل هُ ْم أ َ َ
ض ُّل َ َ
وهؤالء هم الذين قال الله تعاىل فيهم« :إ ِ ْن هُ ْم إِالَّ كاأل ْنع ِ
َسبِيال».
أجل ،إن الحيوانات السائمة هي خري من هذا الصنف الذي ُي َع ُّد من
اإلنسان ،وليس من اإلنسانية يف يشء ،ألن اإلنسان يشء واإلنسانية يشء
ترض ،بل إن كثريا ً منها ينفع
آخر ،ذلك ألن السوائم إن لم تنفع فإنها ال ّ
غريه ،إ ّما بحمل األثقال إىل بلد لم نكن بالغيه ّإل بشق األنفس ،وإ ّما بأن
يكون غذاءً ،منه نم ّو أجسامنا وبقا ُؤها ،إىل غري ذلك من املنافع املادية.
166
مرضا ً بنفسه ،فإن رضره يتعدّى
ّ وأ ّما اإلنسان الحيواني ،فضالً عن كونه
إىل غريه من أبناء جنسه ،ويكون وجوده رضبة قاضية عىل اإلنسانية،
وسيفا ً مسلوال ً عىل عنق االجتماع والعمران .ألن هذا الصنف من الناس
ليل نها َر ،لتقويض أركان املجتمع ،بما يأتيه من رضوب ال يفتأ يسعىَ ،
وجلْب
األنانية وما يعمله من أنواع املخازي واألضاليل لج ّر منفعة ذاتيةَ ،
أرض ذلك بمجموع األ ّمة التي هو عائش ما يأمره به هواه النفيس ،ولو َّ
يف بيئتها ،ومتمتّع بخريات أعمالها ،وثمرات ِجدّها واجتهادها ،دون أن
يفكر يف أن رضر عمله هذا ليس عائدا ً عىل أ ُ َّمته فقط ،بل هو راجع إليه،
ِّ
أيضاً ،ألنه واحد منها ،وما يعود عىل املجموع هو عائد عىل الفرد ألبتّة،
رضورة أن البالء متى نزل فهو يع ّم ،وأن الفرد ال حياة له ّإل باملجموع.
لكنهم ال يأبهون لهذا املعنى ،وال يحفلون بذلك املغزى .وكيف يعبأون
بهذه الفلسفة ،وقد قال قائلهم:
أحد
ذهــــــبت نفسي فال عاش ْ إ ّنما دنيــــــاي نفســــــــي فـــإذا
البلد
ْ ثم لم تـــــطـــــلع على أهل ليت أن الشمس بعدي غــــربت
متى ع َّمت هذه الفكرة السيِّئة ،وانترشت بني أفراد األ ّمة ،فإنها تكون
عامالً كبريا ً يف هدم أساس األخالق الفاضلة ،وسببا ً عظيما ً لقذف األُ ّمة
من الحالق إىل الحضيض ،فتفقد ما لديها من مجد ،وتضيّع ما عندها من
سؤدد؛ ذلك ألن األ ّمة تعتورها عوامل األهواء ،وتحيط بها عوادي األنانية،
فيحل بها البالء ،ويالزمها الشقاء ،وتنزل بها ُّ وتساورها أراقم األحقاد،
األدواءَ « :و َما َظل َ َم ُه ُم الل َّ ُه َولَكِن َكا ُنوا ْ أَن ُف َس ُه ْم َي ْظل ِ ُم َ
ون».
..........
167
8u:h*7
ˆ
إن هذه الفكرة ،فكرة التعلّق باملا ّد ّيات الخالصة ،قد أصاب هذه األُ ّمة
املسكينة كثري من أرضارها ،حتى كادت -بسبب ذلك -ت َّمحي من لوح
كل من يويل عمالً يف هذه الدولة ،ال يرغب فيه ّإل لج ّر الوجود ،فقد كان ّ
ّ
األقل. مغنم لنفسه ،ال ليسعى لخدمة األ ّمة أو يدفع عنها مغرماً ،عىل
فانترشت -بسبب ذلك -الجاسوسية والرشوة وفساد األخالق ،وأرشفت
جرف ها ٍر ،فانهارت به ،أو كادت ،ألن من لوازم هذه ٍ الدولة عىل شفا
الفكرة السافلة االستبداد باأل ّمة واستعبادَها ،واستنزاف أموالها ،والقضاء
عىل أخالقها ،وقتل روح الحياة االجتماعية من جسم مجموعها ،وإماتة
العواطف الوطنيّة التي تض ّمها جوانحها ،حتى تصبح كالحيوانات
السائمة ،مقيمة عىل ّ
الذل ،راضية بالخنوع ،ال يل ُّذها ّإل الخضوع:
الحــي ،والوتد
ّ إ ّلا األذ ّلان :عير وال يقيم على ضــــيم يراد به
ُّ
والتأخر أال وإن ّ
كل ما نراه ،اليوم ،يف األ ّمة ،من فساد األخالق والجهل
وحب الذات عىل
ّ وغري ذلك من رضوب الشقاء ،إ ّنما سببه َ
األثرة واألنانية
غري املعنى الصحيح .وعن هذه األدواء القتّالة قد نشأ ّ
كل فساد نراه،
رش نشاهده. وصدَر ّ
كل ٍّ َ
..........
ً
حاملة لوا َء التضامن ،ضا ّمة بني قلَّما نرى األ ّمة تعمل جماعات جماعات،
جوانحها روح التكاتف ،بل نراها مشتَّتة اآلراء ،متشعِّبة املقاصد ،مختلفة
األهواء ،إذا دعوتها لتجمع شملها شمست ،وإذا أَهبتَ بها لتل َّم شعثها
لح ّل األوارص -إن كان هناك أوارص معقود ُة- جمحت .أ ّما إذا ناديتها َ
حسنتَ لها منكوراً ،وز َّينت لها أمرا ً فر ّياًَ ،ثلُجَ صدرها،
هُ ِرعت .وإذا َّ
168
وأرشق جبينها ،كأنك جئت شيئا ً مشكوراً!.
يتهافت كثري من األ ّمة عىل املال ّذ املا ّد ّية تها ُفتَ الفراش عىل النار ،أو
الجياع عىل القصاع ،ويجودون ،يف سبيلها ،بما ال يعلمه ّإل هم من األموال
التي لو أعانوا بها أ ُ ّمتهم ،لترصفها عىل املرشوعات العا ّمة ،لكانت خري أ ُ ّمة
أخرجت للناس ،حتى إذا دعوا ملا فيه ترقية األوطان ،وإعالء الشأن ،ل َّو ْوا
ر ُؤوسهم معرضني ،وولَّ ْوا مدبرين ،كأنك تدعوهم إىل داهية نكر ،أو أم ٍر
ُبجرَّ ،
إن هذا -والله -لهو الخرسان املبني ،والدا ُء الدفني.
..........
يفكك عرى االجتماع،ذلكم هو اإلنسان (الذي ماخلق ّإل ليكون اجتماعياً) ِّ
بما يأتيه من رضوب الفسوق عن اإلنسانية ،وما يعمله من أنواع الهجمية.
وأن الخلق كلهم عيال وقد نيس أن «اإلنسان أَخو اإلنسانَّ ،
حب أم َك ِرهَّ ،
رس
الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله» ،كما جاء يف الحديث الرشيف .ما ال ّ
الذي صدق بهذا املخلوق الكريم عن سلوك السبيل التي أم َر باملسري
فيها؟ وما السبب الذي قعد به عن الطريان يف ج ّو الفضائل؟ وما الذي
يحب لنفسه ،مع أن
يحب ألخيه ما ّ أفقده عاطفة العمل متضامنا ً متكامالً ّ
نية؟. له عقالً مفكرا ً وبصرية ِّ
شاف عنها:
ٍ جواب
ٍ هذه أسئلة ،يتش َّوق ّ
كل امرئ إىل
ّ
وكل واحد منهما -يف اإلنسان عقل ونفس يتنازعان هذا املخلوق،
يبذل جهد الطاقة ليكون له الفوز عليه :فأ ّولهما يدعوه ليكون إنسانا ً
ِّ
ويحذره موارد فيحسن له الخري ،ويهديه طريق الصواب،ِّ َّ
كل اإلنسان،
169
8u:h*7
ˆ
ويحسن له سوء
ِّ الهلكة .وثانيهما يريه الخطأ صواباً ،والرساب ماءً،
ّ
الحق، عمله ،فرياه حسناً ،فإذا غلب العقل النفس فسار اإلنسان يف مهيع
وعمل ما ُخل ِق ألجله ،فذلك هو اإلنسان الكامل ،ذو العقل الراجح .وإذا
غلبت النفس العقل ،فا َّتبَع اإلنسان أوامرها ،وصار قيد نواهيها ،فذلك هو
الحيوان األعجم ،يف صورة اإلنسان املك َّرم.
«كل مولود يولد عىل الفطرة» تلك قاعدة عظيمة ملانحن يف صدده، ّ
كل شائبة .وإ َّنما ينحرف عيب ،نقيّا ً من ّ
كل ٍفاإلنسان يولد طاهرا ً مربَّأ ً من ّ
عن الجادّة ،وينطبع فيه ما لم ُيخلق ألجله ما تل َّقنه من التعليم ،وما
ينغرس فيه من الرتبية .فعىل التعليم والرتبية مدار تر ّقيه أو تد ِّنيه .فهما
قطب سعادته وسعادة أ ّمته أو شقا ُؤهما ،وعبثا ً نحاول النهوض باأل ّمة،
السل االجتماعي -أالّ وسدًى نضيّع األوقات يف تحسني حالتها ،إذا كان
وهو فساد الرتبية -فاشيا ً يف جسمها ،عامالً عىل إضئالها وإنحالها.
فإصالح الرتبية ،والعمل عىل تهذيب األخالق ،والسعي وراء تنقية األدران
املعنوية هي العامل األكرب عىل إماتة داء االجتماع.
ُينَ َّشأ ُ الطفل عىل االسرتسال يف الهوى ،و ُي َّع َود الكسل ،وير َّوض عىل الجبن
قس ع ََل أن يتكلَّف ما ليس منالذل والخنوع ،و ُي َ والضعة ،و ُيطبَع عىل ّ
شب أُلق َِي حبله عىل غاربه ،وأُطلق له الرساح فريى طبعه ،حتى إذا ما َّ
من مفاسد البيئة التي تحيط به مالم يكن يرى ،ويشاهد ما يدعوه إىل
االنغماس يف حمأة أوضارها ،فكيف ،بعد هذا ،يرجى أن يكون خادما ً
األقل -أمينا ً عىل نفسه؟ّ لأل ّمة ،أو ي َؤمل منه أن يكون -عىل
أ ّما لو ُن ِّشئ عىل الفضيلة ،و ُر ِّب َي عىل الشجاعة ،و ُع ِّود أن يكون رجالً ،منذ
170
وطبِع عىل النفور من الرذيلة، ض عىل الخري واألخالق الكريمةُ ، الصغر ،ور ُو ّ
شب وخاض غمرات الحياة ،فال حتى يكون ذلك ُخلقا ً من أخالقه ،فإنه متى َّ
خوف عليه من تيّارها ،ألنه يكون قد أخذ ملثل هذا األمر أ ُ ْهبَته ،ال كمن طلب
َ
سيف يدفع عنه املل ّمات. مج َّن يقيه الصدمات ،وال
الباز وهو أعزل ،وال َ
ِ
فس ُّل االجتماع فساد الرتبية ،ودواؤه إصالحها ،وتعهُّد النشء باملحافظة ُ
عليه ،ومراقبته مراقبة الزراع لزرعه والصانع لعمله .فكما أن الحارث
يتعهَّد حرثه إىل أن ينمو ويثمر ف ُيتَمتَّع بثمراته ،وكما أن الصانع يفرغ
الجهد ليكون عمله متقنا ً ف ُينتَ َفع بخرباته ،فكذلك يجب عىل املر ّبي أن
وينصب ،ويتعهَّد من ُسلِّم إليه أمر تربيته وتهذيبه ،لينشأ مرباه َ يتعب
عىل أحسن صورة من صور الكمال ،فيكون منه الخري والربكة لوطنه
والناس أجمعني .قال اإلمام الغزايل (عليه الرحمة)« :إن الولد أمانه عند
كل نقش وصورة ،فإن والديه ،وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية من ّ
وسعد يف الدنيا واآلخرة ،وساعده يف ثوابه ُع ِّو َد الخري وعُل ِّ َمه نشأ عليه ُ
رش وأُهملَ ،شق َِي وهلك ،وكان الوزر
وكل معلِّم وم َؤدِّب .وأن ُع ِّو َد ال َّ
أبواه ّ
يف رقبة ولِيِّه والقيِّم عليه».
ّ
الحق التي فمرض اجتماعنا -أ ُّيها القوم -مزمن ،وال دواء له ّإل الرتبية
ُتصلح النفوس ،وترأَب صدوع مجتمعنا ،الذي انهالت عليه معاول فساد
كل جانب. األخالق ،من ّ
وال أعني بالرتبية ّإل الرتبية الوطنيّة الصحيحة التي تحفظ لنا أخالقنا
وآدابنا وعاداتنا ومميِّزاتنا ،مع اقتباس ما نراه حسنا ً من مدنيّة القوم
الذين سبقونا يف ميدان الحياة أشواطاً ،هيهات أن نلحقهم فيهاّ ،إل إذا
171
8u:h*7
ˆ
..........
فهيّا -أ ُّيها القوم -إىل ثورة عا ّمة ،ينكشف دجاها عن تغيري يف األخالق،
وينجيل نقعها عن تبديل يف أوضاع حالتنا االجتماعية ،ف ُنخلق ،بعد ذلك،
نشأ إنشا ًء جديداً.
خلقا ً آخر ،ونحيا حياة ثانية ،و ُن َّ
قد نلنا الدستور وقبضنا عىل أز ّمة الح ّر ّية ،فظننّا أننا بلغنا من املدنيّة
مكانا ً قصيّاً ،ووصلنا إىل حياة ،ما بعدها مطلب لطالب ،وال مرغب لراغب،
ثم ما لبثنا أن استيقظنا من منامنا ،وقمنا من سباتنا ،فإذا نحن عىل
فراشنا ،وأيدينا عىل وجوهنا ،نمسح بها قذى عيوننا ،فعلمنا أن الدستور
كل ما رأَيناه
قد زارنا يف املنام ،وأن الح ّر ّية قد نلناها يف الرقاد ،وأيقنّا أن ّ
كان حلما ً من االحالم ،ألن كالم الليل يمحوه النهار.
كل ذلك كان؛ ألننا رصفنا معنى الح ّر ّية إىل غري وجهه ،وفهمنا من أجلّ ،
الدستور ما ال يفهمه غرينا منه؛ لهذا ،لم ن َر من آثاره ما كنّا نأمل ،ولم
نج ِن من ثماره يانعاً.
ذلك ألن جماهري األ ّمة لم تستع ّد لهذه النعمة الكربى ،وليست أهالً لتلك
الهد ّية الفضىل ،ألن اخالقها مريضة ،وعقولها مسلولة ،فهي ترى الصالح
رشا ً واإليمان كفراً ،والنور ظالماً.
طالحاً ،والخري ّ
..........
ّ
السل بالرتبية فالبدار البدار ،أ ُّيها القوم ،وتعاونوا عىل مداواة هذا
والتهذيب ونرش التعليم الصحيح وتأليف الجمعيّات التهذيبية إلرشاد
العا ّمة ،وتقويم ما اع َو َّج من أخالقهم ،وإصالح ما فسد من تربيتهم،
فإن بذلك نجاح األوطان ،وإعالء رأيه األ ّمة ،وال إخالكم ّإل فاعلني .والله
املو ِّفق واملعني.
القول والفعل
173
8u:h*7
ˆ
املقدِّمات ،وأساس الفعل القول ،وعىل هذا األساس تقام هياكل األفعال،
فالقول مقد ِّمة ،والفعل نتيجة ،وال تكون النتيجة مركونا ً إليها ومعتمدا ً
صحة املقدِّمات ،كما ال يعبَأ ُ باملقدِّمات إذا لم تكن
عليهاّ ،إل بعد النظر يف ّ
لها نتيجة يرتاح إليها العقل ،ويسلِّم بها.
دعونا من األقوال ،وخذوا بأيدينا إىل صالح األعمال ،وانهضوا باأل ّمة من
هذه الوهدة العظيمة التي هي ساقطة فيها ،وأنيفوا بها عىل يفاع العلوم
النافعة والصناعات الجليلة.
مفكرون ،وقوم يؤثرون املنفعة إن لدينا أمواال ً كثرية ،ولكن ُيعوزنا رجال ِّ
كل ما يف وسعهم وطاقتهم إلنجاح الخاصة ،ويبذلون ّ
ّ العا ّمة عىل املنفعة
الحق ،والصناعاتالبالد وترقيتها ،وال نجاح لها ّإل بالعلم الصحيح ،والرتبية ّ
النافعة والزراعة التي بها حياة الشعوب والبالد ،فمتى ُوجد لدينا ه ُؤالء
الرجال واهت ّموا بما قدَّمناه فحدّث -وال حرج -ع ّما نناله من التقدُّم والنجاح.
لدينا رجال فيهم الصفات املطلوبة ،بل فيهم فوق ما نتص َّوره من املقدرة
عىل األعمال ،والتفكري الذي يأتي بالنتائج املطلوبة ،غري أنهم ال يريدون
أن يجهدوا نفوسهم ويتعبوا أفكارهم يف ذلك ،فهم تاركون األمور لطبيعة
ويحب أن يبذل الجهد يف رفع
ّ الحال .وإن ُو ِجد فيهم من يريد أن يخدم،
أ ّمته وتشييد املدارس واملعامل وغري ذلك لنستغني عن األغيار ،فهو ضيّق
ذات اليد ،فارغ الجيب ،رأس ماله قوله وفكره ،وأ ّية فائدة من القول
تعضدهما الدنانري؟
والتفكري ،إذا لم ِ
175
8u:h*7
ˆ
رجال األقوال عندنا كثريون ،غري أنهم مفلسون ،ومن املال خالون،
يتفكرون ،فهلِّ ويف تحصيل ما يس ُّد عوزهم يجتهدون ،ويف غري ذلك ال
هم معذورون؟ بىل -ور ِّبك -إنهم ملعذورون ،وإن عملوا غري ذلك فهم
مخطئون ،ومن يقولون غري هذا فهم ال يعقلون ،أو هم عىل الناس
يم ّوهون ،فا ّتقوا الله -أ ُّيها املستغنون -واعملوا عىل تشييد املعامل وإنشاء
املدارس ،فإنكم -إذن -ملفلحون ،فالله يطالبكم والناس ،وإن احتجتم
إىل آراء املفلسني وأقوالهم فادفعوا إليهم ما يستعينون به عىل َس ّد ما
يتقاضاهم من أمور املعيشة ،وهم يمدّونكم باألفكار ،ويعينونكم باآلراء،
وبذلك يت ّم التعاون ،ويحصل اال ِّتحاد« :وتعاونوا عىل الربّ والتقوى».
وأ ّما إن بقينا ،كما نحن اآلن؛ (أقوال بال أعمال) ،فعلينا السالم.
فا ّتقوا الله ،أ ُّيها القادرون عىل إنجاح الوطن ،املتشدِّقون يف ّ
كل مجلس بما
يلزمنا من اإلصالحات التي ال يت ّم عمل بدونها :ابذلوا جهدكم ،وافتحوا
خزائنكم ،وازرعوا لرياتكم يف هذه األرض ،فتعود عليكم وعىل أبناء وطنكم
املحبوب بالربح الجزيل والخري العميم.
أراكم تنظرون إيلَّ -أ ّيها الخطبا ُء والشعراء والكتّاب -شزراً ،وترمقونني
ثانية ،أجمعتم رأيكم قائلني يل :أَلستَ منّا؟ أما
ً بعني االنتقاد ،ثم أراكم،
خطبت كما خطبنا؟ أما كتبت كما كتبنا؟ أما نظمت كما نظمنا؟.
-بىل ،أ ّيها األخوان .وما أدراكم أني استثنيت نفيس من مجموعكم،
وب َّرأُتها م ّما نسبته إليكم؟« :وما اب ِّر ُئ نفيس .إن النفس أل ّمارة بالسوء،
ّإل من رحم ربي».
176
و ُر َّب قائل :إن املتكلِّم ال يدخل يف عموم كالمه ،كما ق َّرر ذلك علماء األصول،
فأقول :إنه اليدخل وجوباً ،بل يجوز دخوله وعدم دخوله .وأنا داخل يف
باب الجواز ،وقد جزت هذا املجاز.
177
الفهرس
مقدّمــة 7.................................................................................................................
نهج البالغــة 25........................................................................................................
أيُّهــا اإلنســان 31.....................................................................................................
َقحْ ــط رجــال ،أم َقحْ ــط وجــدان؟ 39..........................................................................
الرتبيــة أســاس النجــاح 43........................................................................................
-يف الرتبيــة وفضائلهــا 43........................................................................................
-تربيــة األخــاق والشــعور (الرتبيــة املنزليــة) 46........................................................
-الرتبيــة املدرســية 51.............................................................................................
-وســائل الرتبيــة يف َد ْو َري األرسة واملدرســة 52..............................................................
-الرتبيــة العلميــة 54................................................................................................
األنانيّــة وحــبّ الــذات 59.........................................................................................
رجــال اإلصــاح 69................................................................................................
َ -مــن املُطالَــب باإلصــاح؟ 72....................................................................................
اإلرادة 77..................................................................................................................
األلقــاب وال ُّر َتــب 85...............................................................................................
حديــث مــع النابتــة 91..............................................................................................
االنتقــاد ومشــارب املنتقِديــن 101...........................................................................
-مشــارب املنتقِديــن 104.........................................................................................
ضــح 106........................................................................... الحــق متــى َو ُ
ّ -ا ِّتبــاع
-خالصة رشوط االنتقــاد 107....................................................................................
ســعادة الحياة 111...................................................................................................
-ســعادة املرء يف نفســه 114.......................................................................................
ص ْحبه 121...................................................................................... -ســعادة املرء يف َ
-أقــوال يف هذا البــاب 128..........................................................................................
دالئــل التوحيــد 133................................................................................................
-املــال والــرف 135................................................................................................
-االســتقالل الشــخيص أو االعتمــاد عــى النفــس 136........................................................
القابليّة والفاعليّــة 147.............................................................................................
-الثــورة األدبيــة أو ثــورة األخــاق واملبــادئ 15........................................................
ـل االجتماعــي 162.......................................................................................... - 2السـ ّ
-القــول والفعــل 173................................................................................................
8u:h*7
ˆ