Professional Documents
Culture Documents
F.de Saussure, Cours de Linguistique Générale, P:28
F.de Saussure, Cours de Linguistique Générale, P:28
سمع نطق
م = المفهوم
صم ص = الصورة السمعية صم
نطق سمع
-أ - -ب -
تحدد في صورته البسيطة لكنها
فمن خالل الرسم نفهم أن اللغة وإنشاءها ّ
أصيلة وأصلية ومجسدة في اللغة الشفهية حيث المتكلم والسامع ،وهذا ال
يمنع أن يطبق على اللغة في هيئتها الكتابية حيث الكاتب والقارئ؛
باعتبار الفهم ميزة تمس اللغة الشفهية والكتابية معا ،وينتصب شرطا
ضروريا إلنجاح التواصل تماما كما في اللغة الشفهية .هذه الدائرة المغلقة
على عناصر التواصل ما يجعلها حية ليس وظيفية عناصرها المادية
فحسب ،بل ما يضمن جدوى لوظيفية عناصرها هو الفهم؛ فهم اللغة
المتواصل بها ،وهذا ال يتحقق دون اشتراك المتواصلين في السنن
1
F.de Saussure, Cours de linguistique générale, P :28.
الموظف في إنشاء اللغة ،هذا ما عبر عنه وبوضوح أحد رواد المدرسة
الوظيفية رومان جاكبسون حين اقترح ترسيمته التالية:2
املرجع
املرسل...................الرسالة................املرسل إليه
قناة
سنن
تنوع وظائفها ،اتّخذ من تحديد
فمن باب دراسة الّلغة بكامل ّ
ائيا لذلك ،وضرورّيا لبلوغه ،انتهى به في
عناصر التّواصل عمال إجر ّ
آخر المطاف إلى تصميم مسار التّواصل الكالمي بعناصر جديدة.
2
Roman Jaksbon, Essais de linguistique générale, tra Nicolat Ruet les
èditions de minuit, paris, 1963, p214.
3
André Martinet, idem, p10
أندري مارتيني ،مبادئ في اللسانيات العامة ،تر :أحمد الحمو ،د ط .دمشق1985 :المطبعة 5
الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر ،البيان والتبيين ،تحقيق عبد السالم هارون ،لجنة التأليف 7
9
والكالم عند سوسير هو الممارسة الفعلية للغة حين تحدث عن الثنائيات
(اللغة والكالم) وهو هيئة من هيئات إنشاء اللغة .أما الحديث عن الفهم،
فيبدأ بمعرفة السامع أو المخاطب بالنظام اللغوي للغة المتحدث بها -
واللغة نظام من أدلة ولكل لغة نظام خاص بها -لكن ال يتوقف عندها،
فلالستماع مثال دور فاعل في تحقيق الفهم واالعتماد عليه في
اإلفهام .وشومسكي نفسه يركز على مسألة الفهم ويعتبرها والعناصر
المحققة لها أساسية في الفعل اللغوي؛ إذ نجده قد بدأ برفض " وصف
االنجاز الفعلي للكالم دون االهتمام بالقدرة اللغوية( La compétence
)linguistiqueالتي تجعل متكلما مستمعا قاد ار على استعمال وفهم
اللغة والحكم على صحتها النحوية " 10وهذا ما يؤكد ّأنه بنى تصوراته في
تفسير عملية ممارسة اللغة على تحصيل الملكة اللغوية األساسية،
والسيما القدرة اإلبداعية في استعمال اإلنسان للغة .جاعال من السماع
محطة أولية وفاعلة الستعمال اللغة وفهمها ليتسنى للمتكلم الحكم على
الصحة النحوية للمتوالية الصوتية ،إذا فالفهم معيار للحكم على اإلنشاء
تردد أو
أن اللغة مجرد أصوات ّ فإن شومسكي ال يرى ّ اللغوي .وبذلك ّ
تحفظ ،بل يحصر اللغة في المعرفة الضمنية بقواعد اللغة ،وهي وحدها
وتتجسد في القدرة على الربط بين األصوات
ّ كفيلة بضبط عملية الكالم،
8أفالطون" ،هل العالقة بين األسماء واألشياء عالقة طبيعية أم عالقة اتفاقية" دفاتر فلسفية ،ترجمة
عبد اللطيف الفارابي ،خطاب اللسانيات في التربية ،مجلة ديداكتيكا ،المغرب ،1998 :بابل 10
ومادام فهم المنطوق ال يمكن أن يتحقق دون استماع ،والسيما أن السماع هو أبو
الملكات كما يقول ابن خلدون ،فإن االستماع في حد ذاته مهارة تكتسب ،وذات
صلة وثقى باللغة ،وبدونه ما كان للغة الشفهية من دور في التواصل ،وأكثر من
هذا فباعتبار االستماع واسطة وظيفية بين المتواصلين ،فأي خلل يعتري الواسطة
حسني عبد الباري ،تعليم اللغة العربية في االبتدائية ،د ط .اإلسكندرية 1997-1966 :الدار 11
ميشال زكريا ،الملكة اللسانية في مقدمة ابن خلدون ،ط .1بيروت ،1986 :المؤسسة الجامعية 12
باإلضافة إلى ذلك يجب أن يكون سليما من حيث الذاكرة حاضر االنتباه واالهتمام لحظة استنفاره
-رضا السويسي ((،من المنطلقات اللسانية واللسانية النفسية في طرق تدريس اللغة العربية ألبنائها 13
بالبريق اللغوي الذي تكون عليه النصوص السند .وعطفا على ما تقدم
النصوص السند الكثير منها يجب أال يهمل عناصر الهوية الوطنية ألنه
في حقيقته هو مركزّية التّعليم والتّعّلم على المتعّلم ،وهذا ما نادت به
عليمية الحديثة ،ألنها أقامت عناصرها كّلها على خدمة المقاربات التّ ّ
بتلبية متطلبات
وظيفيته ،وذلك ّ
ّ المتعّلم؛ فاهتمت بالمحتوى من جانب
-عبد القادر الزاكي(( ،تحليل عملية التلقي من خالل سيكولوجية القراءة)) ،سلسلة ندوات 14
17
- Henri Besse et Robert Galisson, polémique en didactique, Du
renouveau en question, collection des langues étrangères, s éd. Paris :
1980, Clé international,p 53.
-محمد عابد الجابري ،مواقف ،إضاءات وشهادات ،قضية التعليم في مسار متعدد 18
-محمد عابد الجابري ،مواقف ،إضاءات وشهادات ،العولمة والهوية بين عالمين،ع،44 19
-محمد عابد الجابري ،مواقف ،إضاءات وشهادات ،قضية التعليم في مسار متعدد 20
-زكريا إسماعيل ،طرق تدريس اللغة العربية .اإلسكندرية :دار المعرفة الجامعية ،د.ت، 23
ص.111
تجربته في الحياة ،فبنص القراءة نكتسب اللغة ونمارسها ،ونطعم أفكارنا
ونكون شخصيتنا ،أليست النصوص المقروءة هي التي تصنع المرء
بأفكاره؟ وتقوم اللسان ببيانه؟
والمتتبع لطريقة تعليم مهارة القراءة في مدارسنا وال سيما المراحل األولى
منها (االبتدائي) سيجد أنها ال تولي اهتماما مطلقا لتعليم المقاطع كمرحلة
سابقة لتعّلم قراءة الكلمة؛ إذ ينطلق المتعلم بالقراءة من الحرف المستقل
مباشرة إلى الكلمة دونما المرور بالمقاطع المشكلة للكلمة .فالنص المعد
للقراءة من مكوناته الكلمات والكلمات أجزاؤها المقاطع ،والمقاطع تتكون
من الحروف ،فلماذا هذا االنتقال المفاجئ من أدق جزء من الكلمة إلى
أوسعا على اإلطالق ،هذا القفز غير مبرر علميا وعمليا قد يكون هو
العائق الوظيفي األول في تعلم القراءة عند الطفل في خطواته التعليمية
األولى ،وال سيما أن في هذا السن العامل النفسي المحفز للفعل التربوي
أو المحبط جد مؤثر في الفعل التربوي والتلقي المعرفي .والمفارقة عجيبة
في إكساب مهارة الكتابة فاالنطالق وظيفي جدا بكتابة الحروف مستقلة
وال يتم االنتقال من كتابة الحرف إلى كتابة الكلمة إال بعد اكتساب المتعلم
لملكة كت ابة الحرف في وسط الكلمة ،والتفريق في رسمه حسب موقعه في
الجملة :أكان في بداية الكلمة أم في وسطها أم في آخرها؟ فرسم حرف
التاء على سبيل المثال ال الحصر تختلف هيئته حسب موقعه( تــ :في
بداية الكلمة ،ـ ـ ـت ــ :في وسط الكلمة ،ـ ــت أو ت أو ــة ،أو ة :في آخر
الكلمة) ويصعب خطه عند المبتدئ ،وقد يتراءى له بأنه حرف آخر
بعدد خمسة حروف تماثل نطقها واختلف رسمها ،هذا االختالف في
الرسم هو الذي يشكل له عائقا في التفريق بينها وكيفية ذلك .فإذا كان
المتقدم في التعليم يدرك أن عدد حروف العربية ثمانية وعشرون حرفا،
فالمبتدئ ي ارها تتضاعف خمس مرات على أقل تقدير ،ولتصور ذلك
يمكن استحضار كتابة الهمزة مثال .ففي مهارة الكتابة قد يكون األمر
هين بالرغم من اإلشكال الذي يقع فيه المتعلم المبتدئ ،لكن لو أسقطنا
هذا الوضع على مهارة القراءة فاألمر سيزداد إشكاال ،إذ وفي هذا السن
التعليمي قد يملي المنطق االستيعابي إلى أن االختالف في الرسم الخطي
يقتضي اختالفا في النطق الصوتي وهذا مخالف للواقع ،ال يدرك هذا
المتعلم ذلك إال بعد مران وممارسة ،ووقت ،وجهد.
وبالعودة إلى تعلم مهارة الكتابة وطريقتها فيها إجراء فاعل تمهيدا لكتابة
الكلمة بكامل حروفها ،كيف ال يطبق اإلجراء نفسه في تعليم القراءة،
علما أنها هي المهارة القبلية التي تتعلم قبل مهارة الكتابة؟ وال سيما ما
يردده المختصون أننا عندما نكتب نق أر مرتين؛ معنى هذا أن تأثير الكتابة
على القراءة كبير ،والقراءة آلية وظيفية تخدم الكتابة كثيرا.
-3السلوكية واالرتباطية
المادي27لهذه
ّ طابع
ألنه أسقط ال ّ
باآلليةّ ،
ّ ولقد اتّسم منهج (بلوم فيلد)
الشيء
أن ّ
غوية اّلتي أنجزها؛ إذ انطلق من مبدأ ّ
الدراسة الّل ّ
العلوم على ّ
وقياسه وبالتّالي التح ّكم فيه تعديال وتغيي ار هو وحده
اّلذي يمكن مالحظته ّ
الفلسفة الوضعية ( :) Positivismeترى بأن المعرفة مصدرها الخبرة وليس العقل ،وهذا ما 24
يؤكد نفيها لكل تفكير تجريدي وال تؤمن إال بالظواهر والوقائع اليقينية.
الفلسفة التجريبية :)Empiricisme (:وهي أكثر ارتباطا بالعلوم الطبيعية .ترى أن كل معرفة 25
حتى تكون علمية يجب أن تخضع للتجربة والحقيقة عندها يجب أن تبنى على المالحظة واالختبار ال
البراجماتية النفعية :) Pragmatisme (:وهي فلسفة ترى إن معيار صدق اآلراء واألفكار في 26
قيمة عواقبها العملية والمعيار األوحد للحقيقة نجاحها ،وهي من المبادئ التي تشبعت بها الثقافة
استقر مفهوم ثابت عند (بلوم فيلد) ومن يقاسمهم القناعة على انعدام
ّ
الكالمية ذات
ّ الصلة بين التّواصل والتّفكير(العقل) باعتبار االستجابة
ّ
تدخل األفكار لذلك الّلغة في
مباشرة بالحافز؛ أي ال تستدعي ّ
صلة ّ
للنشر ،ص.51
القصبة ّ
للتوسع ينظر:
ّ -
30
-جاكبسون وآخرون ،التّواصل ،نظرّيات ومقاربات ،تصدير:عبد الكريم غريب ،ترجمة :عز ّ
الدين
الرباط2007 :م ،منشورات عالم التَّربي ّّة.
الخطابي وزهور حوتي طّ .1
ب أ
____________________________________________
الجامعية،
ّ -أحمد حساني ،مباحث في الّلسانيات ،ط .1الجزائر1999 :م ،ديوان المطبوعات 31
ص .152نقال عن :ميشال زكريا ،األلسنية (علم الّلغة الحديث) مبادئها وأعالمها ،ص .73
-4الحدث الكالمي كوجود عيني حاضر بين ( أ ) و( ب) لكن صورته
( ب) .فعند ( أ ) ما هو إالّ استجابة، عند ( أ ) تختلف كوجود عند
وعند ( ب) ما هو إالّ منبه.
حكم فيه
وارتسم تأثّرهم بنظرّيات التّعلم باعتبار تعّلم الّلغة هو سلوك متّ َ
سلوكية أخرى ،وقد نضج هذا التّأثّر ضمن تيار فكري معرفي ّ كأي مهارة
ّ
السلوكي
لوكية أو المذهب ّ
الس ّ
النفس ،أال وهو ّ
تبلور في دراسات علم ّ
اإلنسانية المعاصرة نزعة
ّ ( )behaviorismeاّلذي ظهر في الثّقافة
من ألف وتسع مائة وأربعة وعشرين ( 1924م) تاريخ متميزة ابتداء
ّ
32
الرحمان الوافي ،المختصر في عوامل إكساب الّلغة ،د ط .الجزائر1998 :م ،دار نجوم
-عبد ّ
للنشر والتّوزيع.
العلم ّ
35
- Daniel Gaonac’ h, Théories d’apprentissage et acquisition d’une langue
étrangère, s éd. paris : 1991, édition Didier, pp12-13.
موجه،
السلوك ّ
المبدلة ،وهذا ما يؤّكد أن ّ
المعدلة أو ّ
ّ استجابة لتلك الحوافز
وما دام األمر كذلك ،ما اإلجراء الواجب اتّخاذه إذا أردنا المحافظة على
السؤال ذكره (ب.ف سكينر
االستجابة أو إلغاءها؟ الجواب على هذا ّ
(Skinner B.f.هذا األخير اّلذي تقاطع مع َمن سبقه إلى المذهب
يتضمن المثيرات اّلتي
ّ أهمية ،36باعتباره
ّ السلوكي في إعطاء المحيط ّ
تحددها تلك المثيرات .وقد اهتدى سكينر إلى تستوجب استجابات ّ
أي
جعلهما األساس الكتساب ّ
ُ عاملين 37اثنين بعد التّجارب اّلتي أجراها،
سلوك ،وهما:
36
- Daniel Gaonac’ h, Théories d’apprentissage et acquisition d’une
langue étrangère, p15.
37
- Idem, p13-14.
الجامعية ،ص
ّ طفل العربي ،د ط .بيروت1984 :م ،المنشورات
األلسنية لغة ال ّ
ّ -جورج كالس، 38
.106
كل
تقويته باإلكثار منه عند ّ
الحي إلى ّ بالضرورة يسعى الكائن
)ّ positif
ّ
استجابة مرغوبة ومستحسنة ،وتعزيز سلبي ( Renforcement
كل استجابة غير
تجنبه عند ّالحي على ّ )négatifيحرص الكائن
ّ
يجية إلى
ظهور وبصفة تدر ّ
السلوك في ال ّ
مرغوب فيها فيتراجع تلقائيا ذلك ّ
درجة اإلنطفاء.
-جون إي جوزيف وآخرون ،أعالم الفكر الّلغوي ،التّقليد الغربي في القرن العشرين ،تر :أحمد 39
شاكر الكالبي ،ط .1بيروت2006 :م ،دار الكتاب الجديدة المتّحدة ،ج ،2ص .175 -174
تعتبر اللغة ظاهرة بشرية بامتياز ،وهي وسيلة يتواصل بها اإلنسان مع
بني جنسه ممن يشاركهم نظامها ،وآلية ال مقابل لها لدى غيره من
الكائنات؛ فهي لغة رموز متنوعة في تأدياتها ،ثرية بالمضامين التي
تنشئها .أغنت اإلنسان وحققت له الخلود؛ بفعل اللغة أضحى اإلنسان
صاحب تاريخ وصانعه.
جورج مخايل كالس ،األلسنية لغة الطفل للعربي ،ط .2بيروت ،1974 :المنشورات الجامعية، 43
ص 108وما بعدها.نقال عن ناي فخما وآخرون ،تعليم وتعلم اللغات األجنبية.
ولو استرسلنا في شرح ما تقدم نجد مايلي :فاالرتباط المتبادل بين اللغة
والنواحي الفيزيولوجية إشارة إلى التركيبة البيولوجية لجسم اإلنسان ،وما
حبا هللا به اإلنسان من جهاز تنفس وجهاز نطق؛ فجاب حاجز ،ورئتان،
وقصبة هوائية ،فحنجرة ،فتجويف فم ،ثم لسان ،وأسنان وشفتان ،كلها
مجتمعة وجدت ألداء مهام عديدة متعددة فمنها ما وجد للتنفس حتى
يحافظ اإلنسان على حياته ،ومنها ما وجد ليوظفه اإلنسان وسيلة لتقليب
الغذاء وطحنه ،لكن في الوقت ذاته وجدت هذه األعضاء آليات إجرائية
إلنتاج اللغة؛ فلوال الهواء المندفع من الرئتين لما تمكن اإلنسان من
الكالم ،ولوال تجويف الفم وما فيه من أعضاء ملحقة لما استطاع اإلنسان
نطق الحروف باختالفها واختالف مستوياتها النطقية .أكثر من هذا
فلجهاز السمع دور فعال في تعلم اللغة ألن اللغة سماع كما يؤكد ذلك
المختصون ،والسماع أبو الملكات كما قال ابن خلدون؛ حتى اللمس ال
يمكن التقليل من وظيفيته في األداء اللغوي ،ويظهر ذلك عند فئة
أن األبكم قبل أن يكون أبكما كان أصما .ليس هذاالمكفوفين ،كما ّ
فحسب هذه األعضاء مجتمعة نشاطها ليس وليد الصدفة أو اآللية بل
استجابة ألوامر الدماغ فال يقبض النفس إال بقدر ما أمر الدماغ ،وال
يحرر اللفظ أصواتا إال بقدر ما يريده الدماغ من معان ،وال ينتج الفرد من
جواب إال بقدر ما تلقاه من سؤال ،وال يحس الفرد بما تلقاه لغويا إال
بقدر ما ّأوله الدماغ؛ أي العقل .وهذه األعضاء البيولوجية الفيزيولوجية
وظيفيتها في مجال اللغة تتحقق بتكاملها؛ فيكفي أن يتعطل عضو
بيولوجي واحد مما ذكرنا لتتراجع وظيفية األعضاء األخرى في إنتاج
اللغة ،واستقبالها ،وهذا ما يؤثر سلبا في مستوى اكتساب اللغة
وممارستها ،أما إذا سلمت وتكاملت وظائفها ظهر الفعل اللغوي في
صورته المثالية الكاملة؛ وتواصلت األجيال في ما بينها ولو لم يتقاسموا
الفترة الزمنية ذاتها ،وعليه هل يمكن لغير اإلنسان أن يرقى إلى ما ارتقى
إليه اإلنسان بواسطة اللغة؟
جاهزية الطفل للغة اكتسابا وممارسة مهما كان المجتمع الذي ينتمي
ص ِّعب من وقف تطور اللغة عنده ،حتى وإن واجهته عوائق تحيل إليه تُ َ
بينه وبين اللغة؛ قد تحدد نوعية االكتساب والممارسة لكن ال تعدمها
كوجود فعلي في فصيلة البشر؛ ولنا في ذلك نماذج حية من الواقع
المعيش؛ فكم من مكفوف لم يحرم اللغة قوال وكتابة ،وكم من أصم وأبكم
يبدع في إيصال األفكار إشارات إماءات ،ألن تكامل األعضاء البيولوجية
في األداء اللغوي يظهر بوضوح وظيفي ال نظير له في هكذا مواقف
ونقائص.
هذه اللغة البشرية بشرية بامتياز إذ بقدر إبداع الفرد البشري فيها
وبها ،بقدر ما يستحيل على غير البشر اكتسابها وممارستها؛ فعلى الرغم
من توالي التجارب والدراسات المتخصصة الباحثة في نظام اللغات غير
البشرية إال أنها لم تصل بعد إلى لغة أكثر تعقيد وتنظيم وإبداع من اللغة
البشرية؛ واستنادا إلى تلك األعضاء البيولوجية وتفاصيل نموها ودقائق
وظيفيتها وتكاملها يجعل غير البشر يستعصي عليه تعلمها ألنه ال يملك
اآلليات اإلجرائية لذلك.
مما تقدم فاألسس اللغوية العامة ال تمنح اللغة صفة كونها بيولوجية
تولد مع الطفل ،بل تجعل منها ظاهرة بشرية بامتياز ،ومظاهر تمايزها
وظيفية هذه العناصر اللغوية وسرعة اكتساب اللغة بها وممارستها وما
كان لذلك أن يكون لوال األسس البيولوجية البشرية المهيأة ألداء وظيفة
منذ الوالدة ولو بمرحلية ،تطفو مظاهرها عند االستعمال والممارسة،
وبذلك فاللغة ليست عضوية بل قائمة على أساس عضوي بيولوجي من
دونه ال وجود للغة بل ال وجود لإلنسان في حد ذاته ،وبذلك فبدايات
الظهور اللغوي وتطوره مرتبط أساسا بالتطور والتغير الذي يمس بداية
الطفل من جانبه البيولوجي وما له صلة بتطوره العقلي والذهني ،ألن
التطور اللغوي ال يتوقف عند هذه المرحلة وعناصرها المرتبطة بها ،بل
يتعداها إلى المجتمع ألن هذا األخير من سماته التحول وعدم الثبات
على حال واحدة ،وهذا من شأنه التأثير على قدرة الطفل في اكتساب
اللغة وسرعته في ذلك ،وبالتالي ممارستها في جميع مراحلها وال سيما في
مراحلها األولى.
وهذا ما يصطلح على تسميته بالتنشئة اللغوية .طبيعة هذه األخيرة تؤثر
في اللغة اكتسابا وممارسة وتجعل من المراحل البيولوجية أكثر فاعلية.
وكثير من المختصين من اشتغلوا على إظهار دور المجتمع في إذكاء
ألن اللغة ليست تنظيما ُمحكما ُمنغلِقا على قواعده
االكتساب اللغوي ّ
عما حوله من أحداث ،بل قد تكون هي نفسها السبب في وجوده ومعزوال َّ
عد شيئا خطي ار
"أن تجاهل علم اللغة للمجتمع ُي ّ ِ
ونمائه ،وهذا ما يؤّكد ّ
حد ذاته" 44وبهذا فالدارس اللغوي حتى ينشدبالنسبة لعلم اللغة في ّ
أن يضيف هذه الحلقة المفقودة اإلحاطة الكاملة بحقيقة اللغة ،يجب ْ
اء عمليا من الخطإ إقصاؤه ،إذا رام الوصول
الهتماماته ،وأن يتّخذها إجر ً
إلى تعيين العناصر المرتبطة باالكتساب اللغوي وتحديدها بشكل أوسع.
*
(Bronislaw ولعل هذا ما أراد أن يثبته برونسيلو مالينوفسكي
"أن اللغة تعمل كأداة
) Malinovskyحين استخلص من جملة أبحاثه ّ
تواصل ضمن نشاط إنساني متعارف عليه ،فهي ضرب من النشاط،
يك ُمن معنى األداة إالّ في
وليست أداة تفكير ،وما الكلمات إال أدوات وال ْ
استعمالها" ،45وهذا ما يشير إلى وظيفة الكالم من باب ّأنه هو الذي
أن هذه الحياة متجددة متنوعة حسب االستعمال يمنح الحياة للكلمات و ّ
أن الكلمة الواحدة تَتَ َزيَّا بزي جديد
ظف فيه الكلمة؛ بمعنى ّ
المتميز الذي تو ّ
ّ
عند كل استعمال جديد ،وجديد االستعمال هذا مرتبط أساسا بالسياق (Le
أن "السياق ضروري لفهم الكلمات" ،46لكن
) ،Contexteوهذا ما يؤّكد ّ
مالينوفسكي استعان بمفهوم سياق الموقف )(Contexte situationel
بالرجوع
إال ّ أن معاني المفردات والجمل ال تُستوعب
47
الذي يشير به إلى ّ
السياقات الموقفية الخاصة التي
إلى معاينة الوظائف التي تؤديها في ّ
د .هدسون ،علم اللغة االجتماعي ،تر :د :محمد عياد ،ط .2مصر ، 1990 :عالم الكتب، 44
ص.16
-عبدو الراجحي ،اللغة وعلوم المجتمع ،ط .2لبنان 2004 :دار النهضة العربية ،ص 22وما
بعدها.
تُستعمل فيها ،وعليه فاالكتفاء بمعرفة المعاني المعجمية للكلمات غير
ظف فيه تلك
السياق الذي تو ّ
كاف لفهم لغة ما ،بل ما أفقرنا إلى معرفة ّ
الكلمات حتى تُستوعب دقائق تلك اللغة وآلياتها واستعماالتها.
آراء مالينوفسكي هذه كان لها صدى عند غيره من المفكرين ،ومن
بأن "اللغة شكل من هؤالء جون ريبرت فيرث ) (J.R.Firthالذي ّ
أقر ّ
*
دراسة اللغة هو إقصاء غير مبرر باعتباره جزءا منها ال يكتمل نظامها
أن استعمال اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي تساعد على فهم
إالّ به" ،وبما ّ
فإن فيرث قام بدراسة مكونات اللغة وفق مكونات المتعددة ّ
ّ المعاني
اجتماعية بحتة ،بالتركيز على العالقات المختلفة التي تربط اللغة
سياق الموقف،بالمجتمع ".وفق هذا المنظور للغة تبنى فيرث نظرية ّ
49
ِ 50
يفعلها أشخاص ويثرونها عند
وهي بالنسبة له حقل خصب من العالقات ّ
قيامهم باألدوار المسندة إليهم في المجتمع حسب طبيعة الحوادث
كل هذه العناصر تجد حياتها بأداء األشخاص
واألشياء المرتبطة بهمُّ ،
يتجسد
ّ لنظام لغوي معين تَُف ّعل في خضمه ،وبذلك ففي االستعمال اللغوي
ويتحدد تأثيره ،كما
ّ لكل شخص تمايز الحدث الكالمي وغير الكالمي ّ
تتعين األشياء ذات العالقة بالموقف ،وهذا ما يمنح في األخير فرصةّ
الوقوف على أنواع األساليب 51المختلفة للنطق ،وحدود االستعمال الفعلي