Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 29

‫‪ -1‬الملكات اللغوية‪ - :‬فهم اللغة – إنشاء اللغة‬

‫ختمنا محاضرتنا السابقة بحرص المختصين على ضرورة إيالء اللغة‬


‫بمختلف هيئاتها أهمية‪ ،‬ألنها اآللية اإلجرائية الوحيدة في تحقيق التواصل‬
‫بين البشر وفي ضمان نجاحه‪ .‬وال يمكن الحديث عن وجود تواصل إذا‬
‫لم يكن هناك إنشاء للغة بأي هيئة تتمظهر عليها‪ ،‬وال يمكن للتواصل أن‬
‫فهم للغة‪ ،‬وهما بهذا ملكتان لغويتان‬ ‫ينجح إذا لم يتبع إنشاء اللغة‬
‫مهمتان في عملية التواصل اإلنساني‪ .‬لو عدنا إلى الرسم الذي اقترحه‬
‫دي سوسير في إشارته لعناصر الكالم في كتابه لتبين لنا التحديد الفعلي‬
‫‪1:‬‬
‫لهاتين المهارتين‬

‫سمع‬ ‫نطق‬

‫م = المفهوم‬
‫صم‬ ‫ص = الصورة السمعية‬ ‫صم‬

‫نطق‬ ‫سمع‬
‫‪ -‬أ ‪-‬‬ ‫‪ -‬ب ‪-‬‬
‫تحدد في صورته البسيطة لكنها‬
‫فمن خالل الرسم نفهم أن اللغة وإنشاءها ّ‬
‫أصيلة وأصلية ومجسدة في اللغة الشفهية حيث المتكلم والسامع‪ ،‬وهذا ال‬
‫يمنع أن يطبق على اللغة في هيئتها الكتابية حيث الكاتب والقارئ؛‬
‫باعتبار الفهم ميزة تمس اللغة الشفهية والكتابية معا‪ ،‬وينتصب شرطا‬
‫ضروريا إلنجاح التواصل تماما كما في اللغة الشفهية‪ .‬هذه الدائرة المغلقة‬
‫على عناصر التواصل ما يجعلها حية ليس وظيفية عناصرها المادية‬
‫فحسب‪ ،‬بل ما يضمن جدوى لوظيفية عناصرها هو الفهم؛ فهم اللغة‬
‫المتواصل بها‪ ،‬وهذا ال يتحقق دون اشتراك المتواصلين في السنن‬

‫‪1‬‬
‫‪F.de Saussure, Cours de linguistique générale, P :28.‬‬
‫الموظف في إنشاء اللغة‪ ،‬هذا ما عبر عنه وبوضوح أحد رواد المدرسة‬
‫الوظيفية رومان جاكبسون حين اقترح ترسيمته التالية‪:2‬‬

‫املرجع‬
‫املرسل‪...................‬الرسالة‪................‬املرسل إليه‬
‫قناة‬
‫سنن‬
‫تنوع وظائفها‪ ،‬اتّخذ من تحديد‬
‫فمن باب دراسة الّلغة بكامل ّ‬
‫ائيا لذلك‪ ،‬وضرورّيا لبلوغه‪ ،‬انتهى به في‬
‫عناصر التّواصل عمال إجر ّ‬
‫آخر المطاف إلى تصميم مسار التّواصل الكالمي بعناصر جديدة‪.‬‬

‫يتكون من ستّة عناصر‬


‫كل فعل تواصلي ّ‬ ‫أن ّ‬
‫يتبين ّ‬
‫من المخطط ّ‬
‫تجسدها الترسيمة‪ ،‬لكن العامل األول الفاعل في إنجاح التواصل هو‬
‫السنن باعتباره نظاما يعتمده المرسل في تركيب رسالته‪ ،‬وعليه يعتمد‬
‫الرسالة نفسها عند استقبالها‪ ،‬حتّى يهتدي إلى‬
‫المرسل إليه في فك ّ‬
‫الحمولة اإلخبارية اّلتي تحتويها‪ .‬وجعل من التواصل تفاهما حين ألقى‬
‫الضوء أكثر عليه بقوله‪ ..." :‬إن التّواصل بمعنى التّفاهم المتبادل هو‬
‫اّلذي يجب تثبيته على ّأنه الوظيفة المركزّية لهذه األداة اّلتي هي الّلغة"‪،3‬‬
‫ّ‬
‫وكأن بهذه الوظيفة تعتبر الوظائف األخرى محمولة على غايتها‪ ،‬وما‬ ‫ّ‬
‫أساسية هذا من‬
‫ّ‬ ‫أهلها لتكون‬
‫وجدت إال لتخدمها‪ .‬هذا ما جعلها مركزّية و ّ‬
‫جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فهذه المقولة تجعل مصطلح التّبادل ينتصب‬
‫النظام الّلغوي الواحد‬
‫عنص ار مائ از للتّواصل؛ إذ يوحي أكثر ما يوحي إلى ّ‬
‫تفاهما‬
‫ً‬ ‫فهما وال‬
‫نتصور ً‬
‫ّ‬ ‫اّلذي يجمع فاعلي التّواصل‪ ،‬فبدونه ال يمكن أن‬
‫الشخص إلى ذاك دون أن‬ ‫متبادال "إذن ال يمكن أن ننقل تجربة هذا ّ‬
‫يكون لهما نفس ّ‬
‫النظام"‪ 4‬وبهذا تطفو وظيفة الّلغة بكونها وسيلة لل ّتبادل‬
‫يتجسد إالّ مع اآلخر؛ ويؤّكد األستاذ أحمد رايص في‬
‫ّ‬ ‫ال ّثقافي‪ ،‬وهذا ال‬

‫‪2‬‬
‫‪Roman Jaksbon, Essais de linguistique générale, tra Nicolat Ruet les‬‬
‫‪èditions de minuit, paris, 1963, p214.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪André Martinet, idem, p10‬‬

‫أحمد رايص‪ ،‬التواصل واللسانيات الحديثة‪ ،‬ص ‪.115‬‬ ‫‪4‬‬


‫إن "الّلغة وسيلة إبالغ‪ ،‬يستطيع اإلنسان بها أن يحّلل‬
‫تعبير آخر بالقول ّ‬
‫أما‬
‫خبرته إلى وحدات‪ ،‬ولكن هذا التحليل يختلف من مجتمع إلى مجتمع‪ّ ،‬‬
‫الوحدات فهي ذات مضمون داللي وتعبير صوتي" و ّ‬
‫المتمعن في هذا‬ ‫‪5‬‬

‫يثبت أن التعابير الصوتية المتتابعة تنشئ مفهوما‪ ،‬وهذا األخير‬


‫التّصريح ّ‬
‫ال يستقر جامدا حبيس منشئ اللغة‪ ،‬بل وجد بهدف نقله على اطمئنان أن‬
‫يستقر عند السامع أو المتلقي واضحا مفهوما‪.‬‬

‫ومادامت المحاضرة الالحقة ستعالج ملكة القراءة والكتابة سيكون حديثنا‬


‫مرك از اليوم على إنشاء اللغة قوال ال كتابة‪ ،‬والحديث عن اللغة في هيئتها‬
‫الشفهية تقودنا إلى الحديث عن هذه الملكة‪.‬‬

‫يعتبر الكالم من الرسائل اللغوية‪ ،‬واللغة في تمظهرها الشفهي‪ ،‬وهذا‬


‫التمظهر يترتب عليه نوع من أنواع المهارات في الترميز وفك الترميز‪،‬‬
‫فالكالم يستوجب االستماع‪ ،‬والكتابة تستوجب القراءة‪ .‬والرسالة اللغوية‬
‫على الهيئة الشفهية تختلف في دواعي‪6‬اعتمادها أسلوبا للتواصل مقارنة‬
‫بالرسالة التي تكون على الهيئة الكتابية‪ ،‬بالرغم من ّأنهما يشتركان في‬
‫تأدية الرسالة موضوع التواصل باإلمكانات‬ ‫كونهما مقتصرتين على ّ‬
‫المحسوبة على هيئة اللغة المعتمدة (شفهية كانت أم كتابية)‪ .‬فحتى تصل‬
‫الرسالة الشفهية كاملة يستعين المتكلم بالتنغيم والنبر وكثي ار ما كانت‬
‫اإلشارات معبرة عن مدلول اللفظ‪ ،‬السيما اليد‪ ،‬ومالمح الوجه‪ .‬وهذا ما‬
‫أن " حسن اإلشارة باليد والرأس من تمام‬
‫ذهب إليه الجاحظ حين أ ّكد ّ‬
‫حسن البيان باللسان "‪ 7‬فكثي ار ما تصاحب هذه اإلشارات وغيرها‬
‫أن المعنى ال يكتمل إال بها‪ ،‬بل قد تكون‬
‫الملفوظات شعو ار من المتكلم ّ‬
‫هي أكثر تعبيرا؛ فقد تتعطل لغة الكالم في مواقف معينة لكن ما اعتاد‬

‫أندري مارتيني‪ ،‬مبادئ في اللسانيات العامة‪ ،‬تر‪ :‬أحمد الحمو‪ ،‬د ط‪ .‬دمشق‪1985 :‬المطبعة‬ ‫‪5‬‬

‫الجديدة‪ ،‬ص ‪15‬‬


‫‪6‬‬
‫‪JEAN DUBOIS, Grammaire de base, Larousse, France 1988 PP :11-12.‬‬

‫الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر‪ ،‬البيان والتبيين‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬لجنة التأليف‬ ‫‪7‬‬

‫والترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪ 1948‬ج‪ 1‬ص ‪.79‬‬


‫مصاحبتها من إشارات وحركات دائبة الحضور والنشاط في المواقف‬
‫نفسها لتعوضها ولتحل محّلها‪ ،‬مادام الجسم قاد ار على التعبير عن‬
‫األشياء‪ ،8‬لذلك اشتهر على لسان بعض الحكماء قولهم‪ " :‬االبتسامة‬
‫كلمة مفهومة دون حروف"‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫والكالم عند سوسير هو الممارسة الفعلية للغة حين تحدث عن الثنائيات‬
‫(اللغة والكالم) وهو هيئة من هيئات إنشاء اللغة‪ .‬أما الحديث عن الفهم‪،‬‬
‫فيبدأ بمعرفة السامع أو المخاطب بالنظام اللغوي للغة المتحدث بها ‪-‬‬
‫واللغة نظام من أدلة ولكل لغة نظام خاص بها‪ -‬لكن ال يتوقف عندها‪،‬‬
‫فلالستماع مثال دور فاعل في تحقيق الفهم واالعتماد عليه في‬
‫اإلفهام‪ .‬وشومسكي نفسه يركز على مسألة الفهم ويعتبرها والعناصر‬
‫المحققة لها أساسية في الفعل اللغوي؛ إذ نجده قد بدأ برفض " وصف‬
‫االنجاز الفعلي للكالم دون االهتمام بالقدرة اللغوية( ‪La compétence‬‬
‫‪ )linguistique‬التي تجعل متكلما مستمعا قاد ار على استعمال وفهم‬
‫اللغة والحكم على صحتها النحوية "‪ 10‬وهذا ما يؤكد ّأنه بنى تصوراته في‬
‫تفسير عملية ممارسة اللغة على تحصيل الملكة اللغوية األساسية‪،‬‬
‫والسيما القدرة اإلبداعية في استعمال اإلنسان للغة‪ .‬جاعال من السماع‬
‫محطة أولية وفاعلة الستعمال اللغة وفهمها ليتسنى للمتكلم الحكم على‬
‫الصحة النحوية للمتوالية الصوتية‪ ،‬إذا فالفهم معيار للحكم على اإلنشاء‬
‫تردد أو‬
‫أن اللغة مجرد أصوات ّ‬ ‫فإن شومسكي ال يرى ّ‬ ‫اللغوي‪ .‬وبذلك ّ‬
‫تحفظ‪ ،‬بل يحصر اللغة في المعرفة الضمنية بقواعد اللغة‪ ،‬وهي وحدها‬
‫وتتجسد في القدرة على الربط بين األصوات‬
‫ّ‬ ‫كفيلة بضبط عملية الكالم‪،‬‬

‫‪ 8‬أفالطون‪" ،‬هل العالقة بين األسماء واألشياء عالقة طبيعية أم عالقة اتفاقية" دفاتر فلسفية‪ ،‬ترجمة‬

‫محمد سبيال وعبد السالم بنعبد العالي‪،‬ص ‪.90‬‬

‫للتعمق أكثر ينظر‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪- F.de Saussure, Cours de linguistique générale.‬‬

‫‪ -‬أحمد مومن‪ ،‬اللسانيات النشأة والتطور‪.‬‬

‫عبد اللطيف الفارابي‪ ،‬خطاب اللسانيات في التربية‪ ،‬مجلة ديداكتيكا‪ ،‬المغرب‪ ،1998 :‬بابل‬ ‫‪10‬‬

‫للطباعة والنشر والتوزيع ع‪ ،3‬ص‪.44‬‬


‫المعبر عنها (الشكل الباطني لها)‪ .‬فال‬
‫ّ‬ ‫(الشكل الخارجي للغة) والمعاني‬
‫يتجسد الشكل‬
‫ّ‬ ‫معنى للشكل الخارجي دون شكل باطني يقابله ويؤطره‪ ،‬وال‬
‫الباطني للغة دون شكل خارجي ّيدل عليه؛ إذ األفكار " تظل في العقل‬
‫حبيسة ما لم ُيتح لها قدر من القوالب – المباني – صوتا ونقشا ليبرز‬
‫وهذه القدرة علـى‬ ‫‪11‬‬
‫فكر اإلنسان من حيز الكتمان إلى حيز الوجود "‬
‫الربط هي ذاتها الكفاية اللغوية (‪)La compétence linguistique‬‬
‫وهي" قدرة المتكلم المستمع المثالي* على أن يجمع بين األصوات اللغوية‬
‫‪12‬‬
‫ويقابل هذا المصطلح بمصطلح‬ ‫وبين المعاني في تناسق وثيق مع قواعد لغته"‬
‫الم َج َّسدة في تلك‬
‫آخر هو التأدية (‪ )La performance‬وهي الوجه الخارجي للغة ُ‬
‫األصوات أو األشكال الحاملة للمعاني الباطنية المنحصرة في الدماغ والعقل‬
‫والذاكرة‪ ،‬وببساطة هو الكالم عند دي سوسيروعليه فتعلم اللغة حسب شومسكي‪ ،‬ال‬
‫يقوم على أساس الترديد الشكلي لألنماط اللغوية والوقوف عنده باعتباره كاف‬
‫ليتمكن المتعلم من إتقان مختلف هذه األشكال واألنماط األساسية‪ ،‬بل تعلم اللغة‬
‫يجسدها الفرد خارجيا في شكلها الظاهري هي تمثيل قبلي يتم بالداخل‬‫قبل أن ّ‬
‫ألن األصوات التي يركبها‬
‫ضمن متوالية كلية وقد ركز على فهم الكالم ال لشيء إال ّ‬
‫الكالم هي نتاج المعاني المجردة العميقة لعمليات ذهنية فاعلة تتم بالداخل‪.‬‬

‫ومادام فهم المنطوق ال يمكن أن يتحقق دون استماع‪ ،‬والسيما أن السماع هو أبو‬
‫الملكات كما يقول ابن خلدون‪ ،‬فإن االستماع في حد ذاته مهارة تكتسب‪ ،‬وذات‬
‫صلة وثقى باللغة‪ ،‬وبدونه ما كان للغة الشفهية من دور في التواصل‪ ،‬وأكثر من‬
‫هذا فباعتبار االستماع واسطة وظيفية بين المتواصلين‪ ،‬فأي خلل يعتري الواسطة‬

‫حسني عبد الباري‪ ،‬تعليم اللغة العربية في االبتدائية‪ ،‬د ط‪ .‬اإلسكندرية‪ 1997-1966 :‬الدار‬ ‫‪11‬‬

‫الجامعية للطبع والنشر والتوزيع‪ ،‬ص‪.38‬‬

‫ميشال زكريا‪ ،‬الملكة اللسانية في مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ط‪ .1‬بيروت‪ ،1986 :‬المؤسسة الجامعية‬ ‫‪12‬‬

‫للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬ص‪ 18:‬عن‪:‬‬

‫‪Chomesky, The formel nature of language appendice to E.H, P :126.‬‬

‫جيدة فحسب‪ ،‬بل‬


‫المتكلم المستمع المثالي ليس ذاك الشخص الذي يعرف لغة مجتمع معرفة ّ‬
‫*‬

‫باإلضافة إلى ذلك يجب أن يكون سليما من حيث الذاكرة حاضر االنتباه واالهتمام لحظة استنفاره‬

‫لمعرفته اللغوية في كل تأدية فعلية للغة‪.‬‬


‫إال ويؤثر بالسلب على التواصل ونجاحه‪ ،‬ألنه يتحكم في الفهم‪،‬وبالتالي في الفعل‬
‫اللغوي برمته‪ .‬ولعل الضجيج في معناه العام الذي تحدث عنه ويفر في التواصل‬
‫اإللكتروني عند شانون نموذج حي عن معوقات التواصل‪ .‬بوجود الضجيج‬
‫(الصوتي) الذي يؤثر حتما على السماع الجيد ويعيق وصول الرسالة إلى السامع‬
‫في أكمل صورها يؤثر بالضرورة على الفهم‪ ،‬ويرهن مصير التواصل‪ .‬ومن أنواع‬
‫الضجيج الذي قصده ويفر والمعيق للسماع وبالتالي للفهم نجد العوامل النفسية‬
‫كاالنفعال الذي يشتت بسببه الذهن أثناء عملية التواصل‪ ،‬ويبعد التركيز عن محتوى‬
‫التواصل (الرسالة)‪ ،‬محتوى الرسالة وأهميتها قد تزيد من تركيز السامع‪ ،‬وقد تقلل‬
‫منه وغيرها من أنواع العوائق المسهمة في تراجع االستماع والمؤثرة في الفهم‪.‬‬
‫وبهذا حتى يتحقق الفهم يجب قبل ذلك تحقق االستماع الجيد الذي ال‬
‫يكون دون توفر االنتباه الجيد لما يقال واستحضار العقل في عملية‬
‫مزاوجة بين الذهن واالستماع‪.‬‬
‫‪ -2‬الملكات اللغوية‪ - :‬الكتابة – القراءة‪.‬‬

‫تعتبر القراءة والكتابة ملكتين من الملكات التي من أجلها وجدت‬


‫المقررات التعليمية في مختلف المستويات وال سيما األولى منها؛ فإذا‬
‫كانت مهارة القراءة تعتمد على ملكة البصر أو اللمس عند فئة المكفوفين‬
‫فإن الكتابة مهارة تعتمد على سالمة اليد واألصابع التي تعتبر اآللية‬
‫الوظيفية الفاعلة في تجسيد اللغة خطا سواء عند األسوياء أو عند ذوي‬
‫االحتياجات الخاصة‪.‬‬

‫والملكتان كالهما تولي لهما جميع المنظومات التربوية في العالم‬


‫أهمية الفتة لالنتباه‪ ،‬وجندت لها المختصين‪ ،‬ورجال الميدان‪ ،‬والبرامج‪،‬‬
‫والمناهج‪ ،‬حتى تصل بمجتمعاتها إلى مجتمعات تق أر برغبة وتكتب‬
‫بنوعية‪ ،‬فهي عندنا لم تجد ضالتهما بعد‪.‬‬

‫فنشاط القراءة في المنظومات التربوية المتعاقبة قطع أشواطا المست‬


‫الحدود المعرفية المختلفة‪ ،‬وقد كان بين مد وجزر في برمجته نشاطا ذا‬
‫أولوية في التعليم ما قبل الجامعي في المدرسة الجزائرية‪ ،‬تحكمت في‬
‫وجوده أو إلغائه‪ ،‬مرامي وأهداف كل مرحلة يقال عنها إصالحية‪ .‬لكن‬
‫وبالرغم من كون القراءة نشاطا وظيفيا بامتياز باعتباره يملك المزايا التي‬
‫تمكنه كنشاط تعليمي أن يحفظ لسان المتعلم من اللحن وقلمه من الغلط‪،‬‬
‫ويرتقي باللغة إلى وظيفتها األصلية التي هي التواصل‪ ،‬إال أنه – والواقع‬
‫التعليمي يؤكد ذلك – لم يصل إلى األهداف التي من أجله وجد‪ ،‬والدليل‬
‫إخفاق المتعلم من تحرير فقرة دون أخطاء‪ ،‬والمبادرة بأخذ الكلمة والتعبير‬
‫عن أفكاره بكل طالقة‪ ،‬وهذا في كامل مستويات التعليم المختلفة – إال‬
‫من رحم ربك – لكن الغالب األعم ال يثلج الصدر وال يشفي الغليل‪ .‬وهذه‬
‫المحاضرة تحاول أن تقف عند أهمية إيالء نشاط القراءة األهمية‬
‫القصوى‪ ،‬سواء من حيث برمجته نشاطا وظيفيا أم النصوص السند التي‬
‫يجب أن تتزيا بجملة من الصفات التي تجعل منه نشاطا محبوبا وذا‬
‫قيمة‪ ،‬تدفع المتعلم والمعلم على حد سواء إلى االهتمام به من جملة‬
‫أهداف اكتساب القراءة ملكة تسهم وال شك في توسيع معارف المتعلم‬
‫وتشجعه على اإلقبال على العملية التعليمية كما قيل(( فمن يق أر كثي ار‬
‫يتعلم سريعا))‪.‬‬

‫تبرمج القراءة نشاطا تعليميا في المنظومات التربوية على غرار‬


‫النشاطات التربوية األخرى المختلفة عنها كنشاط القواعد والبالغة والتعبير‬
‫الكتابي والشفهي لما لها من وظائف مكملة لالكتساب اللغوي المنشود‬
‫الذي تستهدفه النشاطات التربوية المقررة‪ ،‬وال سيما أن القراءة تختلف‬
‫شكال ومحتوى عن النشاطات الموازية لها‪ ،‬واألكثر من ذلك فإذا كان‬
‫نشاط القواعد أكثر ما يستهدف عصمة اللسان من الخطأ سواء في جانبه‬
‫النظري أو التطبيقي‪ ،‬والبالغة أكثر ما تسمو إليه االرتقاء بأسلوب المتعلم‬
‫بالتعابير الجميلة المؤثرة في المتلقي‪ ،‬فإن القراءة نشاط‬

‫تربوي يجمع كل أهداف النشاطات األخرى النظري منها والتطبيقي‪ ،‬وقد‬


‫يكون نقطة مركزية تلتقي فيها كل النشاطات التربوية في اللغة العربية‬
‫لتحقق في الوقت نفسه سالمة اللسان من األخطاء وبالغته في األداء‪.‬‬
‫فإن نشاط القراءة يالمس حدود معرفية كثيرة النحوية‬
‫وفي هذه الحالة ّ‬
‫منها والصرفية وحتى البالغية‪ ،‬وال يتوقف عند هذه الحدود بل يتعداها‬
‫إلى مجاالت معرفية أخرى ال يمكن تجاهلها من كل من يصبو االرتقاء‬
‫باالكتساب اللغوي إلى درجات أعلى ومن ذلك الجانب المعجمي‪ ،‬إذ‬
‫النصوص السند التي تتناول في القراءة كفيلة بمالمسة هذه الحدود‬
‫اللغوية وبلوغ األهداف القرائية التي تعجز النشاطات التعليمية األخرى‬
‫بلوغها‪ ،‬وبها يرتقي النشاط التعليمي(( فتصبح اللغة ممارسة لمختلف‬
‫المواقف المتصلة بحياة المتعلم))‪ ،13‬وكما هو معروف فنصوص السند ال‬
‫تقف موقفا حياديا إزاء ما تحتويه من أفكار فهي تنقل معها مفاهيم هي‬
‫من األهمية بما كان تؤثر في تكوين شخصية المتعلم‪ ،‬وتحدد توجهاته‬
‫وقناعاته‪ ،‬لذلك فالقراءة هي الحلقة الجامعة لما تفرق في النشاطات‬
‫التعليمية األخرى‪ ،‬وهذا ما يجعل منها نشاطا رئيسا مقارنة بالنشاطات‬
‫األخرى‪ ،‬ومن العجب واألمر كذلك أن يهمل في بعض المنظومات‬

‫‪-‬رضا السويسي‪ ((،‬من المنطلقات اللسانية واللسانية النفسية في طرق تدريس اللغة العربية ألبنائها‬ ‫‪13‬‬

‫على مستوى الثانوي)) ص‪.178‬‬


‫التربوية‪ ،‬أو يقلل من شأنه في األخرى‪ .‬وحتى يكون نشاط المطالعة‬
‫هادفا في برمجته ووظيفيا في تحقيق األهداف خضوعه لبعض المقاييس‬
‫أمر يطرح نفسه بقوة‪.‬‬

‫فإذا كان بعض المختصين يصفون القراءة بكونها "لعبة تخمين‬


‫النص إالّ مجموعة من المؤثّرات اّلتي ينتقي‬
‫سيكولساني ال يش ّكل فيها ّ‬
‫منها القارئ ما يحتاج إليه"‪ 14‬جدير بهذا النشاط أن يتناول ما له صلة‬
‫بالمتعلم وحاجياته‪ ،‬وباعتبار مراحل التعليم مختلفة باختالف عمر المتعلم‬
‫فالحاجيات التعليمية تختلف باختالف عمر المتعلم‪ ،‬ولهذا فانتقاء‬
‫النصوص أمر يطرح نفسه بقوة ليس العتبارات علمية بيداغوجية بل‬
‫العتبارات سيكولوجية ذات صلة وثقى بالمتعلم وسنه‪ ،‬فالحاجيات تكفل‬
‫تفاعل المتعلم بالمحتوى‪ ،‬وخلو النص من تلك الحاجيات قد تفقد قيمتها‬
‫الوظيفية وإن كانت النصوص ذات بريق أدبي ملفت لالنتباه‪ ،‬وهذا ما قد‬
‫يضعف اإلقبال على النص وبالتالي اإلقبال المنشود على تعلم اللغة وهذا‬
‫ما يجعل(( بعض المتعّلمين يفقدون بسرعة دوافع تعّلم الّلغة اّلتي ال تغني‬
‫أويلية ))‪ ،15‬وليس معنى هذا أن‬
‫فية وإمكاناتهم التّ ّ‬
‫كفاءاتهم السوسيوثقا ّ‬
‫اللغة واألسلوب ال قيمة لهما‪ ،‬بل (( تولي الّلغة واألسلوب في األعمال‬
‫عملية تفاعل‬
‫ّ‬ ‫ولكنها ترفض عزل الّلغة واألسلوب عن‬
‫األدبية عنايتها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫القارئ مع ّ‬
‫النص)) لكن فهم المقروء قد يحتل المراتب المتقدمة مقارنة‬
‫‪16‬‬

‫بالبريق اللغوي الذي تكون عليه النصوص السند‪ .‬وعطفا على ما تقدم‬
‫النصوص السند الكثير منها يجب أال يهمل عناصر الهوية الوطنية ألنه‬
‫في حقيقته هو مركزّية التّعليم والتّعّلم على المتعّلم‪ ،‬وهذا ما نادت به‬
‫عليمية الحديثة‪ ،‬ألنها أقامت عناصرها كّلها على خدمة‬ ‫المقاربات التّ ّ‬
‫بتلبية متطلبات‬
‫وظيفيته‪ ،‬وذلك ّ‬
‫ّ‬ ‫المتعّلم؛ فاهتمت بالمحتوى من جانب‬

‫‪ -‬عبد القادر الزاكي‪(( ،‬تحليل عملية التلقي من خالل سيكولوجية القراءة))‪ ،‬سلسلة ندوات‬ ‫‪14‬‬

‫‪،‬الرباط‪ :،‬د‪.‬ت ‪،‬ع ‪ ،24‬ص ‪.218‬‬


‫ومناضرات ّ‬
‫‪15‬‬
‫‪- Sophie Moirand, Enseigner à communiquer en langue étrangère, s éd.‬‬
‫‪Paris:1982, Hachette,p29.‬‬

‫‪ -‬نبيلة إبراهيم‪(( ،‬القارئ في ّ‬


‫النص))‪ ،‬مجّلة فصول‪،‬القاهرة‪ ،1984:‬م‪،5‬ع‪ ،1‬ص ‪.102‬‬ ‫‪16‬‬
‫النص السند يأتي‬ ‫الوطنية في ّ‬
‫ّ‬ ‫الهوية‬
‫ّ‬ ‫المتعلم وحاجاته‪ 17‬وحضور عناصر‬
‫المستقبلية‪ ،‬وال معنى‬
‫ّ‬ ‫اآلنية ومتطّلباته‬
‫ّ‬ ‫على رأس حاجات المتعّلم‬
‫الوطنية؛ إذ (( الهوية‬ ‫الهوية‬ ‫للمتطّلبات األخرى وإن لُِبيت إذا أ ِ‬
‫ُهملت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ليست شيئا جامدا جاه از بل هي كيان يكون ويصير‪ ،‬ينمو ويغتني باللغة‬
‫بل بحضور هذه األخيرة‬ ‫‪18‬‬
‫وما تحمله وتنشره من موروث حضاري‪)).‬‬
‫وتوضح معنى وجودها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عليمية األخرى‬
‫تمنح جدوى لحضور العناصر التّ ّ‬
‫النص السند‪ ،‬وبذلك‬
‫هوية ّ‬ ‫تتعدد الحاجات إالّ ِوفق ما ّ‬
‫يميز تحديد ّ‬ ‫فال ّ‬
‫الوطنية حتّى تكون‬
‫ّ‬ ‫الهوية‬
‫ّ‬ ‫عليمية األخرى تُ ّ‬
‫حدد معالمها‬ ‫فالعناصر التّ ّ‬
‫خادمة لها‪ .‬والسيما ونحن في زمن العولمة يتحتم علينا تحصين األجيال‬
‫بتاريخهم وهويتهم ونوعية العلم الذي يتلقونه (( العالقة بين العولمة‬
‫ومسألة الهوية ‪...‬ال تطرح مشكلة واحدة يمكن حلها بل هي تنسج‬
‫إشكالية ال يمكن حلها إال بتجاوزها‪ .‬وعملية التجاوز تتطلب هنا مقاومة‬
‫فالنص‬ ‫‪19‬‬
‫هذه اإلشكالية بأقوى أسلحتها‪ ،‬أقصد تعميم المعرفة العلمية))‬
‫السند في نشاط القراءة يجب أن يحتكم إلى موضوعات هادفة من حيث‬
‫المحتوى أما من حيث الشكل فاحتكامه إلى اإلنقرائية أمر ضروري حتى‬
‫يتسنى للقارئ التواصل معرفيا مع صاحب النص‪ ،‬وإال كان أجنبيا عنه‬
‫فينبري المتعلم إلى نصوص أخرى‪ ،‬أو يعزف مطلقا عن القراءة‪ ،‬وهذا ما‬
‫من شأنه االنتهاء بالعزوف عن الدراسة في العموم‪ .‬ومادامت النشاطات‬
‫الخاصة بمادة اللغة العربية متنوعة متكاملة بالرغم من استقالليتها عن‬
‫بعضها البعض فمن الضروري بما كان إيالء االستعمال اللغوي أهمية‬
‫قصوى تدعيما لالكتساب فاللغة استعمال كما يشير إلى ذلك المختصون‪،‬‬
‫وباعتبار (( اللغة هي الوعاء الذي تنصهر فيه الهوية ووحدة الوطن‬
‫والمواطنة‪ ،‬ففي هذا الوعاء وبه تتحقق وحدة المشاعر ووحدة الفكر ووحدة‬

‫‪17‬‬
‫‪- Henri Besse et Robert Galisson, polémique en didactique, Du‬‬
‫‪renouveau en question, collection des langues étrangères, s éd. Paris :‬‬
‫‪1980, Clé international,p 53.‬‬

‫‪ -‬محمد عابد الجابري‪ ،‬مواقف‪ ،‬إضاءات وشهادات‪ ،‬قضية التعليم في مسار متعدد‬ ‫‪18‬‬

‫األوجه‪،‬ع‪ ،14‬المغرب‪،2003:‬دار النشر المغربية‪،‬ص‪91‬‬

‫‪ -‬محمد عابد الجابري‪ ،‬مواقف‪ ،‬إضاءات وشهادات‪ ،‬العولمة والهوية بين عالمين‪،‬ع‪،44‬‬ ‫‪19‬‬

‫المغرب‪،2005:‬دار النشر المغربية‪ ،‬ص‪17‬‬


‫الذاكرة‪ ،‬ووحدة التطلعات‪.‬بدون هذا لن تكون هناك هوية ممتلئة وغنية‪،‬‬
‫وهذا مايؤكد أن نصوص السند‬ ‫‪20‬‬
‫ولن تكون هناك جذور وال ثقة بالنفس))‬
‫تصنع المتعلم فكريا‪ ،‬تماما كما تصنعه المحاور العلمية علميا وتقنيا‪،‬‬
‫وهذا ما يجعله أداة للتغيير وإال يغير دون سابق إنذار ّ‬
‫ألن (( التعليم‬
‫عندنا ال يفرض فيه أن يخدم ما هو موجود فقط بل أن يغير ما هو‬
‫موجود‪ ،‬وأن يصنع شيئا جديدا ‪ ،‬فمطلوب منا‪ ،‬إذن أن نجعل منه أداة‬
‫فإذا لم يؤثر تأثر‪.‬‬ ‫‪21‬‬
‫للتغيير‪)).‬‬

‫أن ما ُيطمح إلى إكسابه‬


‫الدراسات تؤّكد ميدانيا ّ‬
‫الرغم من ذلك فإ ّن ّ‬
‫وعلى ّ‬
‫لغوية في مستوى التّعليم ما قبل الجامعي لم يرق إلى‬ ‫ّ‬ ‫من حصيلة‬
‫"إن اطالعنا على الحصيلة من المفردات اّلتي‬ ‫المختصين؛ إذ ّ‬
‫ّ‬ ‫طموحات‬
‫االبتدائية أظهر لنا – معشر الّلسانيين في‬
‫ّ‬ ‫طفل في المدارس‬
‫تقدم لل ّ‬
‫ّ‬
‫يتصورها‬
‫ّ‬ ‫المغرب العربي‪ -‬عيوبا ونقائص في هذه الحصيلة ال يكاد‬
‫كمية كبيرة جدا من العناصر‬
‫قدم للطفل غالبا ّ‬
‫الكم‪ :‬تُ ّ‬
‫المرّبي‪ .‬فمن حيث ّ‬
‫غوية‪ ،‬وقد يكون ذلك سببا في توّقف آليات االستيعاب ال ّذهني‬ ‫الّل ّ‬
‫عليمية وطبيعة دوره فيها ‪،‬‬
‫العملية التّ ّ‬
‫ّ‬ ‫واإلمتثالي"‪ 22‬فمنزلة المتعّلم في‬
‫الكم الهائل من العناصر‬
‫حشو ذهنه بهذا ّ‬
‫ّ‬ ‫أملى على مريديها ضرورة‬
‫بحساسية هذه‬
‫ّ‬ ‫غوية‪ ،‬أثقلوا كاهله بها وأتعبوه في تحصيلها‪ ،‬ولم يأبهوا‬
‫الّل ّ‬
‫عليمية باعتبارها ّأول مرحلة يواجه فيها العر ّبية الفصحى‬
‫المرحلة التّ ّ‬
‫مطية عند غالبيتهم‪ ،‬ولهذا فليس كل النصوص السند الئقة‬‫الن ّ‬
‫بقواعدها ّ‬
‫لكل مرحلة تعليمية‪.‬‬

‫لغوية ينبغي خلقها وتنميتها عند المتعلم‬


‫صحيح أن القراءة مهارة ّ‬
‫فبوجودها تتولد مهارتان األولى مهارة القراءة الجهرّية وما تُحّققه من‬
‫السماع اّلتي‬
‫السليم للحروف والكلمات‪ ،‬والثانية ملكة ّ‬
‫تدريب على النطق ّ‬
‫يعتبرها الّلغويون ركنا مكينا الكتساب الّلغة‪ ،‬أضف إلى ذلك مهارة‬

‫‪ -‬محمد عابد الجابري‪ ،‬مواقف‪ ،‬إضاءات وشهادات‪ ،‬قضية التعليم في مسار متعدد‬ ‫‪20‬‬

‫األوجه‪،‬ع‪ ،14‬المغرب‪،2003:‬دار النشر المغربية‪ ،‬ص‪.91‬‬

‫‪ -‬محمد عابد الجابري‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.61‬‬ ‫‪21‬‬

‫الرحمن الحاج صالح‪ ،‬بحوث ودراسات في علوم الّلسان‪ ،‬ص ‪.211‬‬


‫‪ -‬عبد ّ‬
‫‪22‬‬
‫الكتابة‪ ،‬وبذلك فهي وسيلة من وسائل تعّلم الّلغة ومجال من مجاالتها؛ إذ‬
‫يمكن االنتقال بدرس الّلغة من مجاله النظري إلى مجاله التطبيقي؛ أي‬
‫من التحليل إلى التركيب‪ ،‬وتركز القراءة أكثر على فهم المقروء‪ ،‬وال‬
‫دعم‬
‫سيما إذا وفرت له عوامل نجاحه؛ إذ فهم المقروء يجب أن ُي ّ‬
‫ألنها‬
‫العمليات لذلك‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ولعل عملية التلخيص هي أبسط وأنجع‬‫ّ‬ ‫بتنظيمه‪،‬‬
‫يسهل استرجاعها‪،‬‬
‫تم ّكن من تنظيم المعارف وحفظها في ال ّذاكرة وهذا ما ّ‬
‫ألننا عندما نكتب نق أر مرتين كما يؤّكد ذلك المختصون‪ ،‬االبتكار فيها‬
‫ّ‬
‫يكاد يكون متمي از مقارنة بالنشاطات التعليمية األخرى‪ّ ،‬‬
‫ألنها تتيح فرصة‬
‫يؤديها بهدف يرسمه لكل نص‪،‬‬ ‫الدراسة الحيوية النشطة؛ حيث المعلم ّ‬ ‫ّ‬
‫ينميها‪ .‬والمتعّلم يراها‬
‫بتعيين مهارة أو قدرة يجب أن يفجرها في المتعّلم أو ّ‬
‫يؤديه على صورة نشطة تحقق أكثر من اإلجابة على‬ ‫مطلبا مدرسيا ّ‬
‫بالضرورة تصّفح‬
‫مدرس في أكثر األحيان‪ ،‬هذه األسئلة تستوجب ّ‬‫أسئلة ال ّ‬
‫بعض الكتب خارج الكتاب المدرس ‪ ،‬وهذا ما من شأنه دفع المتعلم إلى‬
‫حسن االتصال بالمكتبة المدرسية‪ ،‬وغيرها من المكتبات التي قد تنفعه في‬
‫توسيع مداركه‪ ،‬وبذلك سنحقق بهذا مقولة الكتاب خير جليس ألن القراءة‬
‫كنش اط تعليمي ال يجب االعتناء به ((‪...‬كهدف في حد ذاته بل وسيلة‬
‫وهذا ما حاولنا إظهاره سابقا‪ ،‬وحتى‬ ‫‪23‬‬
‫لتحقيق أهداف وغايات كثيرة))‬
‫يهتم المتعلم بنشاط القراءة من الواجب بما كان أن يمتحن فيه؛ ففي‬
‫منظوماتنا التربوية المتعاقبة ال يمتحن المتعلم في هذا النشاط وربما هذا‬
‫ما دفع بالمتعلمين إلى عدم إيالئه األهمية الالئقة‪ ،‬بل الالتقييم في هذا‬
‫النشاط جر معه عدم جدواه فتضاعفت الالمباالة التي مست النشاط من‬
‫طرف المعلمين والمتعلمين على حد سواء‪.‬‬

‫ومما تقدم يجب أن تحتل القراءة مكانة مهمة في المنظومة‬


‫التربوية‪ ،‬حتى يهتم بها كنشاط تعليمي هادف‪ ،‬يسهم وظيفيا في‬
‫االكتساب اللغوي من خالل طريقة تأديته‪ ،‬والنصوص السند التي يجب‬
‫أن تكون معالجة لواقع المتعلم وحاجاته التعليمية باعتبار سنه‪ ،‬وتوجهاته‬
‫المناسبة لعمره حتى تكون المحتويات للمتعلم هي السند يعوض بها قلة‬

‫‪ -‬زكريا إسماعيل‪ ،‬طرق تدريس اللغة العربية‪ .‬اإلسكندرية ‪ :‬دار المعرفة الجامعية ‪ ،‬د‪.‬ت‪،‬‬ ‫‪23‬‬

‫ص‪.111‬‬
‫تجربته في الحياة‪ ،‬فبنص القراءة نكتسب اللغة ونمارسها‪ ،‬ونطعم أفكارنا‬
‫ونكون شخصيتنا‪ ،‬أليست النصوص المقروءة هي التي تصنع المرء‬
‫بأفكاره؟ وتقوم اللسان ببيانه؟‬

‫والمتتبع لطريقة تعليم مهارة القراءة في مدارسنا وال سيما المراحل األولى‬
‫منها (االبتدائي) سيجد أنها ال تولي اهتماما مطلقا لتعليم المقاطع كمرحلة‬
‫سابقة لتعّلم قراءة الكلمة؛ إذ ينطلق المتعلم بالقراءة من الحرف المستقل‬
‫مباشرة إلى الكلمة دونما المرور بالمقاطع المشكلة للكلمة‪ .‬فالنص المعد‬
‫للقراءة من مكوناته الكلمات والكلمات أجزاؤها المقاطع‪ ،‬والمقاطع تتكون‬
‫من الحروف‪ ،‬فلماذا هذا االنتقال المفاجئ من أدق جزء من الكلمة إلى‬
‫أوسعا على اإلطالق‪ ،‬هذا القفز غير مبرر علميا وعمليا قد يكون هو‬
‫العائق الوظيفي األول في تعلم القراءة عند الطفل في خطواته التعليمية‬
‫األولى‪ ،‬وال سيما أن في هذا السن العامل النفسي المحفز للفعل التربوي‬
‫أو المحبط جد مؤثر في الفعل التربوي والتلقي المعرفي‪ .‬والمفارقة عجيبة‬
‫في إكساب مهارة الكتابة فاالنطالق وظيفي جدا بكتابة الحروف مستقلة‬
‫وال يتم االنتقال من كتابة الحرف إلى كتابة الكلمة إال بعد اكتساب المتعلم‬
‫لملكة كت ابة الحرف في وسط الكلمة‪ ،‬والتفريق في رسمه حسب موقعه في‬
‫الجملة ‪ :‬أكان في بداية الكلمة أم في وسطها أم في آخرها؟ فرسم حرف‬
‫التاء على سبيل المثال ال الحصر تختلف هيئته حسب موقعه( تــ‪ :‬في‬
‫بداية الكلمة‪ ،‬ـ ـ ـت ــ‪ :‬في وسط الكلمة‪ ،‬ـ ــت أو ت أو ــة‪ ،‬أو ة‪ :‬في آخر‬
‫الكلمة) ويصعب خطه عند المبتدئ‪ ،‬وقد يتراءى له بأنه حرف آخر‬
‫بعدد خمسة حروف تماثل نطقها واختلف رسمها‪ ،‬هذا االختالف في‬
‫الرسم هو الذي يشكل له عائقا في التفريق بينها وكيفية ذلك‪ .‬فإذا كان‬
‫المتقدم في التعليم يدرك أن عدد حروف العربية ثمانية وعشرون حرفا‪،‬‬
‫فالمبتدئ ي ارها تتضاعف خمس مرات على أقل تقدير‪ ،‬ولتصور ذلك‬
‫يمكن استحضار كتابة الهمزة مثال‪ .‬ففي مهارة الكتابة قد يكون األمر‬
‫هين بالرغم من اإلشكال الذي يقع فيه المتعلم المبتدئ‪ ،‬لكن لو أسقطنا‬
‫هذا الوضع على مهارة القراءة فاألمر سيزداد إشكاال‪ ،‬إذ وفي هذا السن‬
‫التعليمي قد يملي المنطق االستيعابي إلى أن االختالف في الرسم الخطي‬
‫يقتضي اختالفا في النطق الصوتي وهذا مخالف للواقع‪ ،‬ال يدرك هذا‬
‫المتعلم ذلك إال بعد مران وممارسة‪ ،‬ووقت‪ ،‬وجهد‪.‬‬

‫وبالعودة إلى تعلم مهارة الكتابة وطريقتها فيها إجراء فاعل تمهيدا لكتابة‬
‫الكلمة بكامل حروفها‪ ،‬كيف ال يطبق اإلجراء نفسه في تعليم القراءة‪،‬‬
‫علما أنها هي المهارة القبلية التي تتعلم قبل مهارة الكتابة؟ وال سيما ما‬
‫يردده المختصون أننا عندما نكتب نق أر مرتين؛ معنى هذا أن تأثير الكتابة‬
‫على القراءة كبير‪ ،‬والقراءة آلية وظيفية تخدم الكتابة كثيرا‪.‬‬
‫‪ -3‬السلوكية واالرتباطية‬

‫الدرس الّلغوي األوروبي األخير‬


‫الدرس الّلغوي األمريكي عن ّ‬
‫لم يشذ ّ‬
‫مقومات‬
‫بالرغم من اختالف ّ‬ ‫في تناول الّلغة ومحاولة دراستها لذاتها‪ّ ،‬‬
‫المدونة‬
‫ّ‬ ‫الدرس الّلساني األمريكي عن مثيله األوروبي في طبيعة‬ ‫ّ‬
‫(‪ )Corpus‬اّلتي أقاما عليها درسيهما‪ ،‬وما زاد من وفاء علماء أمريكا‬
‫أن كان‬
‫الدراسة؛ فال مراء ْ‬
‫فهية لّلغة موضوع ّ‬
‫الش ّ‬
‫لهذا المبدأ‪ ،‬الطبيعة ّ‬
‫الوصف واالستقراء منهجين‪ ،‬بل مطلبين سعت إلى تحقيقهما بعض‬
‫السعي لم يكن في منأى عن تأثير‬ ‫يكية‪ ،‬لكن هذا ّ‬
‫غوية األمر ّ‬
‫الدراسات الّل ّ‬
‫ّ‬
‫الدراسة في تناول الّلغة؛ إذ الجهود اّلتي‬
‫بعض العلوم اّلتي رافقت هذه ّ‬
‫تلونت بمبادئ تلك العلوم اّلتي‬
‫بذلها بعض الّلغويين من بينهم (بلوم فيلد) ّ‬
‫‪24‬‬
‫الوضعية (‪)positivism‬‬
‫ّ‬ ‫العلمية‪ ،‬ومن بينها الفلسفة‬
‫ّ‬ ‫الساحة‬
‫اكتسحت ّ‬
‫فأضحت‬ ‫‪26‬‬
‫اجماتية (‪)pragmatism‬‬ ‫يبية (‪ )Empiricism‬والبر ّ‬
‫‪25‬‬
‫والتّجر ّ‬
‫المنهجية والفكرّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وفلسفيا‪ ،‬منه استوحت مبادئها‬
‫ّ‬ ‫معرفيا‬
‫ّ‬ ‫مرجعا‬

‫المادي‪27‬لهذه‬
‫ّ‬ ‫طابع‬
‫ألنه أسقط ال ّ‬
‫باآللية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ولقد اتّسم منهج (بلوم فيلد)‬
‫الشيء‬
‫أن ّ‬
‫غوية اّلتي أنجزها؛ إذ انطلق من مبدأ ّ‬
‫الدراسة الّل ّ‬
‫العلوم على ّ‬
‫وقياسه وبالتّالي التح ّكم فيه تعديال وتغيي ار هو وحده‬
‫اّلذي يمكن مالحظته ّ‬

‫الفلسفة الوضعية ( ‪ :) Positivisme‬ترى بأن المعرفة مصدرها الخبرة وليس العقل‪ ،‬وهذا ما‬ ‫‪24‬‬

‫يؤكد نفيها لكل تفكير تجريدي وال تؤمن إال بالظواهر والوقائع اليقينية‪.‬‬

‫الفلسفة التجريبية‪ :)Empiricisme (:‬وهي أكثر ارتباطا بالعلوم الطبيعية‪ .‬ترى أن كل معرفة‬ ‫‪25‬‬

‫حتى تكون علمية يجب أن تخضع للتجربة والحقيقة عندها يجب أن تبنى على المالحظة واالختبار ال‬

‫على العلم والعقل‪.‬‬

‫البراجماتية النفعية‪ :) Pragmatisme (:‬وهي فلسفة ترى إن معيار صدق اآلراء واألفكار في‬ ‫‪26‬‬

‫قيمة عواقبها العملية والمعيار األوحد للحقيقة نجاحها ‪ ،‬وهي من المبادئ التي تشبعت بها الثقافة‬

‫األنجلوساكسونية وال زالت‪.‬‬

‫النشأة والتّطور‪ ،‬ص ‪.193‬‬


‫‪ -‬أحمد مؤمن‪ ،‬الّلسانيات ّ‬
‫‪27‬‬
‫الدائرة ال يعدو أن يكون موضوعا‬
‫وكل ما خرج عن هذه ّ‬
‫للدراسة‪ّ ،‬‬
‫القابل ّ‬
‫الدوافع‬
‫الشعور والوعي وحتّى ّ‬‫الدارس وبذلك انتفى ّ‬‫يقتحم اهتمام ّ‬
‫موضوعية‪،‬‬ ‫أهليتها لتكون موضوع دراسة ّ‬
‫علمية‬ ‫اخلية من ّ‬‫الد ّ‬
‫والحاجات ّ‬
‫‪28‬‬
‫ّ‬
‫القياس‪ ،‬ال‬
‫وهذا ليس نكرانا لوجودها و ّإنما الستحالة إخضاعها للمالحظة و ّ‬
‫الخارجية باعتبارها قابلة‬
‫ّ‬ ‫داخلية‪ ،‬فطفت األشياء واألحداث‬
‫ّ‬ ‫ألنها‬
‫لشيء إالّ ّ‬
‫ّ‬
‫العلمية‪ ،‬والّلغة واحدة منها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للدراسة‬
‫نموذجيا ّ‬
‫ّ‬ ‫للمالحظة لتكون موضوعا‬
‫السلوك البشري‪ ،‬وهي عنده‬ ‫حيث جعلها (بلوم فيلد) شكال من أشكال ّ‬
‫ولعل األحداث‬
‫ّ‬
‫‪29‬‬
‫معين"‬
‫يتسبب في حدوثه مثير ّ‬ ‫ّ‬ ‫"سلوك فيزيولوجي‬
‫وحيثياتها اّلتي استقاها من لقاء جيل وجاك‪ 30‬برهان على ما ذهب إليه‬
‫ّ‬
‫الذهنية‪ ،‬واالهتمام فقط بما يمكن‬
‫ّ‬ ‫من حيث عدم االهتمام بالجوانب‬
‫ظاهري دون سواه‪،‬‬
‫السلوك ال ّ‬
‫مالحظته مالحظة مباشرة باالعتماد على ّ‬
‫ظاهرة‪،‬‬ ‫ظاهرة الّلغوية يكون بتحليل األشكال الّل ّ‬
‫غوية ال ّ‬ ‫فتناول ال ّ‬
‫ُ‬ ‫وبذلك‬
‫القصة نفسها تشير‬ ‫والمواقف المباشرة اّلتي أفرزتها في واقع لغوي ّ‬
‫مميز‪ .‬و ّ‬
‫أقل ما يكون بين اثنين‪ ،‬ويظهر هذا في صورة (جيل)‬
‫أن التّواصل ّ‬
‫إلى ّ‬
‫و(جاك)‪ ،‬وأ ّن التّواصل نوع من أنواع االستجابات )‪(Reponses‬‬
‫معينة )‪ (Stimulus‬توّفرها البيئة )‪ (Environment‬اّلتي‬
‫لحوافز ّ‬
‫تجمع المتّواصلين‪.‬‬

‫استقر مفهوم ثابت عند (بلوم فيلد) ومن يقاسمهم القناعة على انعدام‬
‫ّ‬
‫الكالمية ذات‬
‫ّ‬ ‫الصلة بين التّواصل والتّفكير(العقل) باعتبار االستجابة‬
‫ّ‬
‫تدخل األفكار لذلك الّلغة في‬
‫مباشرة بالحافز؛ أي ال تستدعي ّ‬
‫صلة ّ‬

‫طفل الجزائري‪ ،‬د ط‪ .‬الجزائر‪2003 :‬م‪ ،‬دار‬


‫‪ -‬حفيظة تازروتي‪ ،‬اكتساب الّلغة العر ّبية عند ال ّ‬ ‫‪28‬‬

‫للنشر‪ ،‬ص‪.51‬‬
‫القصبة ّ‬

‫‪ -‬أحمد مومن‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.195‬‬ ‫‪29‬‬

‫للتوسع ينظر‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪30‬‬

‫‪ -‬جاكبسون وآخرون‪ ،‬التّواصل‪ ،‬نظرّيات ومقاربات‪ ،‬تصدير‪:‬عبد الكريم غريب‪ ،‬ترجمة‪ :‬عز ّ‬
‫الدين‬
‫الرباط‪2007 :‬م‪ ،‬منشورات عالم التَّربي ّّة‪.‬‬
‫الخطابي وزهور حوتي ط‪ّ .1‬‬

‫‪ -‬مازن الوعر ‪ ،‬قضايا أساسية في علم اللسان الحديث‪.‬‬

‫‪ -‬أحمد مومن‪ ،‬المرجع نفسه‪.‬‬


‫يكيفها حافز البيئة‪ ،31‬وبذلك فالمرسل أو‬
‫صوتية ّ‬
‫ّ‬ ‫نظرهم ماهي إالّ عادات‬
‫معين‬ ‫المتكّلم عند إنتاجه للملفوظ يكون قد استجاب استجابة ّ‬
‫نطقية لمثير ّ‬
‫من محيط البيئة اّلتي يوجد فيها‪ .‬ويمكن أن تُقترح التّرسيمة الموالية تعبي ار‬
‫عن ذلك‪:‬‬

‫وقائع ناتجة‬ ‫وقائع سابقة‬


‫عن الحدث‬ ‫عن الحدث‬
‫الكالمي‬ ‫الكالمي‬

‫الحدث الكالمي (الملفوظ)‬

‫ب‬ ‫أ‬

‫____________________________________________‬

‫الرسالة عند بلوم فيلد‬


‫يوضح مسار ّ‬
‫شكل ّ‬

‫تبين التّرسيمة مايلي‪:‬‬


‫ّ‬

‫‪ -1‬التّواصل محّقق بين اثنين (أ‪ ،‬ب)‪.‬‬

‫‪ -2‬وجود وقائع سابقة عن الحدث الكالمي (الملفوظ)‪.‬‬

‫‪ -3‬وجود وقائع ناتجة عن الحدث الكالمي‪.‬‬

‫الجامعية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أحمد حساني‪ ،‬مباحث في الّلسانيات‪ ،‬ط‪ .1‬الجزائر‪1999 :‬م‪ ،‬ديوان المطبوعات‬ ‫‪31‬‬

‫ص‪ .152‬نقال عن‪ :‬ميشال زكريا‪ ،‬األلسنية (علم الّلغة الحديث) مبادئها وأعالمها‪ ،‬ص ‪.73‬‬
‫‪ -4‬الحدث الكالمي كوجود عيني حاضر بين ( أ ) و( ب) لكن صورته‬
‫( ب)‪ .‬فعند ( أ ) ما هو إالّ استجابة‪،‬‬ ‫عند ( أ ) تختلف كوجود عند‬
‫وعند ( ب) ما هو إالّ منبه‪.‬‬

‫القبلية للحدث الكالمي عند ( أ ) تطابق الحدث الكالمي عند‬


‫‪ -5‬الوقائع ّ‬
‫منبه‪.‬‬
‫( ب)‪ ،‬فكالهما ّ‬

‫البعدية عند ( ب) فكالهما‬


‫ّ‬ ‫‪ -6‬الحدث الكالمي عند ( أ ) يطابق الوقائع‬
‫استجابة‪.‬‬

‫‪ -7‬التّواصل كوجود فعلي مبني على أساس مثير فاستجابة وهكذا‪...‬‬

‫تتحّقق االستجابة بذلك ولو بتجاوز الحدث الكالمي‪ ،‬ويكفي تلك‬


‫السلوك (استجابة)‬ ‫الوقائع اّلتي استثارت هذا األخير حتّى يكون ّ‬
‫تغير في ّ‬
‫ويتجسد هذا في حال التّواصل ال ّذاتي كأن يكون (جاك) هو من شعر‬ ‫ّ‬
‫بالجوع وهو من قطف التّفاحة لنفسه‪ ،‬وإذا كان هذا االستنتاج منطقيا‪ ،‬أال‬
‫ّ‬
‫يمكن اعتبار الحدث الكالمي قد اتّخذ موقعا بديال لمثيره‪ ،‬تماما كما اتّخذ‬
‫غير في السلوك موقعا بديال للحدث الكالمي؟ وقد يتّضح هذا أكثر في‬ ‫التّ ّ‬
‫حال تحّقق التّواصل بين اثنين فأكثر‪ ،‬كما ُوجد في صورة التّواصل بين‬
‫(جيل) و(جاك)‪.‬‬

‫حكم فيه‬
‫وارتسم تأثّرهم بنظرّيات التّعلم باعتبار تعّلم الّلغة هو سلوك متّ َ‬
‫سلوكية أخرى‪ ،‬وقد نضج هذا التّأثّر ضمن تيار فكري معرفي‬ ‫ّ‬ ‫كأي مهارة‬
‫ّ‬
‫السلوكي‬
‫لوكية أو المذهب ّ‬
‫الس ّ‬
‫النفس‪ ،‬أال وهو ّ‬
‫تبلور في دراسات علم ّ‬
‫اإلنسانية المعاصرة نزعة‬
‫ّ‬ ‫(‪ )behaviorisme‬اّلذي ظهر في الثّقافة‬
‫من ألف وتسع مائة وأربعة وعشرين ( ‪1924‬م) تاريخ‬ ‫متميزة ابتداء‬
‫ّ‬
‫‪32‬‬

‫األولية اّلتي أوجدت‬


‫ّ‬ ‫نشر (جون واطسون ‪ )John Watson‬أبحاثه‬
‫سلوكية حصرت موضوع علم‬‫ّ‬ ‫تأسس نظرّية‬
‫األرضية لهذا المذهب‪ ،‬حتّى ّ‬
‫ّ‬
‫السلوك المالحظ‪ ،‬وإقصاء خالف ذلك‪ .‬وما‬ ‫النفس التّجريبي في دراسة ّ‬
‫ّ‬
‫ذهب إليه واطسون لم ينشأ من العدم‪ ،‬بل " بناء على اكتشافات بافلوف"‬

‫تعليمية الّلغات‪ ،‬ط ‪ .1‬الجزائر‪:‬‬


‫ّ‬ ‫طبيقية‪ ،‬حقل‬
‫‪ -‬أحمد حساني‪ ،‬دراسات في الّلسانيات التّ ّ‬
‫‪32‬‬

‫الجامعية‪ ،‬ص ‪.90‬‬


‫ّ‬ ‫‪2000‬م‪ ،‬ديوان المطبوعات‬
‫‪33‬اّلتي كان لها التّأثير الحاسم في بناء الجديد اّلذي أتى به واطسون‪،‬‬
‫الضروري بما كان دراسته‬
‫السلوك البشري من ّ‬‫ويتحدد في عمومه كون ّ‬ ‫ّ‬
‫السلوك‬
‫تأسس على دراسة ّ‬ ‫موضوعية‪ ،‬وال يكون كذلك إالّ إذا ّ‬
‫ّ‬ ‫دراسة‬
‫ظاهر وتفسيره تفسي ار أوحدا قائما على العالقة بين المثير واالستجابة‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫وصل إليه لم يكن المورد األوحد اّلذي غرف‬‫أن بافلوف وما ت ّ‬
‫‪34‬‬
‫شك ّ‬
‫وال ّ‬
‫منه واطسون فأعانه على ما جاء به‪ ،‬و ّإنما ألعمال العالم (ثورندايك‬
‫بالنظرّيات‬
‫‪ )Thorndike‬نصيب في ذلك؛ فأعماله تش ّكل ما يسمى ّ‬
‫تباطية ‪ (connexionnisme)35‬فإذا كانت نظرّية (ثورندايك) تقوم‬ ‫االر ّ‬
‫السلوك حسبها إلى‬
‫ويتطور ّ‬
‫ّ‬ ‫على االرتباط اآللي بين الموقف واالستجابة‬
‫فإن (بافلوف) وبعد إق ارره‬
‫ما هو أحسن اعتمادا على المحاولة والخطأ‪ّ ،‬‬
‫الشرطي والمثير‬‫ميز بين المثير ّ‬
‫بالعالقة الوطيدة بين المثير واالستجابة‪ّ ،‬‬
‫رطية‪.‬‬
‫الش ّ‬
‫رطية وغير ّ‬
‫الش ّ‬
‫طبيعي) واالستجابة ّ‬
‫الشرطي(ال ّ‬
‫غير ّ‬

‫(واطسون) معالم اتجاهه‪ ،‬ودفع بعلم ّ‬


‫النفس إلى رواق العلوم‬ ‫َرَس َم‬
‫العلمية‬ ‫ِ‬
‫المادي وبذلك ارتكزت المعطيات‬ ‫على هذا األساس‬ ‫الطبيعية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتم‬
‫السلوكي على التّجارب المخبرّية اّلتي أجريت على الحيوانات ّ‬
‫للتّفسير ّ‬
‫السلوكيين‬
‫أن ّ‬ ‫سيما ّ‬
‫لوكية لدى اإلنسان‪ ،‬وال ّ‬
‫الس ّ‬
‫تعميمها على المظاهر ّ‬
‫النوع‪ ،‬وبذلك‬ ‫يرون الفرق بين اإلنسان والحيوان يكمن في ّ‬
‫الدرجة ال في ّ‬
‫السلوكيين يقتضي تشابها في‬
‫فسلوكهما متشابهان‪ ،‬والتّشابه القائم بين ّ‬
‫ألن هذا األخير يوّفر وبصفة متواصلة‬ ‫ِ‬
‫السلوكين‪ّ ،‬‬ ‫طريقة دراسة َذ ْين َك ّ‬
‫وتميزه‪،‬‬
‫تجسد سلوكه ّ‬‫حوافز تستثير الكائن الحي اّلذي يقابلها باستجابات ّ‬
‫وإذا رمنا فهم سلوكه ما علينا سوى ربط تلك االستجابات بالحوافز‬
‫الخارجية اّلتي تلّقاها من المحيط اّلذي وجد فيه‪ .‬بمعرفتنا للحوافز‬
‫ّ‬
‫السلوك‪ ،‬من باب ّأنه ال يعدو أن يكون إالّ‬
‫وطبيعتها يمكن لنا التّح ّكم في ّ‬
‫‪ -‬هـ‪ .‬دوجالس براون‪ ،‬أسس تعّلم الّلغة وتعليمها‪ ،‬ص ‪.85‬‬ ‫‪33‬‬

‫‪ -‬للتّعمق أكثر ينظر‪:‬‬ ‫‪34‬‬

‫الرحمان الوافي‪ ،‬المختصر في عوامل إكساب الّلغة‪ ،‬د ط‪ .‬الجزائر‪1998 :‬م‪ ،‬دار نجوم‬
‫‪ -‬عبد ّ‬
‫للنشر والتّوزيع‪.‬‬
‫العلم ّ‬
‫‪35‬‬
‫‪- Daniel Gaonac’ h, Théories d’apprentissage et acquisition d’une langue‬‬
‫‪étrangère, s éd. paris : 1991, édition Didier, pp12-13.‬‬
‫موجه‪،‬‬
‫السلوك ّ‬
‫المبدلة‪ ،‬وهذا ما يؤّكد أن ّ‬
‫المعدلة أو ّ‬
‫ّ‬ ‫استجابة لتلك الحوافز‬
‫وما دام األمر كذلك‪ ،‬ما اإلجراء الواجب اتّخاذه إذا أردنا المحافظة على‬
‫السؤال ذكره (ب‪.‬ف سكينر‬
‫االستجابة أو إلغاءها؟ الجواب على هذا ّ‬
‫‪ (Skinner B.f.‬هذا األخير اّلذي تقاطع مع َمن سبقه إلى المذهب‬
‫يتضمن المثيرات اّلتي‬
‫ّ‬ ‫أهمية‪ ،36‬باعتباره‬
‫ّ‬ ‫السلوكي في إعطاء المحيط‬ ‫ّ‬
‫تحددها تلك المثيرات‪ .‬وقد اهتدى سكينر إلى‬ ‫تستوجب استجابات ّ‬
‫أي‬
‫جعلهما األساس الكتساب ّ‬
‫ُ‬ ‫عاملين‪ 37‬اثنين بعد التّجارب اّلتي أجراها‪،‬‬
‫سلوك‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫أ‪ -‬وجود استجابة لمثير‪ :‬يجب أن ينتج المثير استجابة في ّأية‬


‫المحدد‬
‫ّ‬ ‫السلوك المراد إكسابه بوجود المثير‬
‫لحظة‪ ،‬واالستجابة سلوك‪ ،‬و ّ‬
‫الكيفية اّلتي ستظهر عليها االستجابة‪-‬‬
‫ّ‬ ‫يهم هنا‬
‫سيظهر ال محالة – وال ّ‬
‫السلوك اإلستجابي هذا انعكاسا طبيعيا لمثير‪ ،‬أو مجموعة‬‫وبذلك يكون ّ‬
‫آلية‪.‬‬
‫وبكيفية ّ‬
‫ّ‬ ‫مثيرات مرتبطة به ارتباطا شديدا‬

‫ب‪ -‬ال ّتعزيز )‪ :(Renforcement‬تُضاعف المكافأة اّلتي يتلّقاها‬


‫الكائن الحي بعد االستجابة للمثير احتمال إعادة ظهور االستجابة نفسها‪،‬‬
‫ّ‬
‫في حين منع المكافأة عند االستجابة‪ ،‬أو ازدراء هذه األخيرة يقّلل من‬
‫الصلة بين الحافز‬
‫احتمالية إعادة ظهورها " فالتّدعيم شيء أساسي لقيام ّ‬
‫ّ‬
‫الصلة‬ ‫واالستجابة للحافز" وحتّى يكون التّعزيز وظيفيا يجب إ ًذا ّ‬
‫تقوية ّ‬
‫‪38‬‬

‫بين الحافز واالستجابة للحافز‪ ،‬وال تكون ّ‬


‫الصلة بينهما كذلك إذا لم يكن‬
‫منية اّلتي تعقب لحظة حدوث االستجابة مباشرة‪،‬‬ ‫الز ّ‬
‫التّعزيز في الّلحظة ّ‬
‫ِ‬
‫السياق ذاته قد يكون التّعزيز بالمنح أو بالمنع‪ ،‬بالمكافأة أو بالعقاب‬
‫وفي ّ‬
‫حسب طبيعة االستجابة وما نريده لها‪ ،‬معاودة واستم ار ار أو ممانعة‬
‫‪(Renforcement‬‬ ‫وتوقفا‪ ،‬وبذلك فالتّعزيز نوعان‪ ،‬تعزيز إيجابي‬

‫‪36‬‬
‫‪- Daniel Gaonac’ h, Théories d’apprentissage et acquisition d’une‬‬
‫‪langue étrangère, p15.‬‬

‫‪37‬‬
‫‪- Idem, p13-14.‬‬

‫الجامعية‪ ،‬ص‬
‫ّ‬ ‫طفل العربي‪ ،‬د ط‪ .‬بيروت‪1984 :‬م‪ ،‬المنشورات‬
‫األلسنية لغة ال ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬جورج كالس‪،‬‬ ‫‪38‬‬

‫‪.106‬‬
‫كل‬
‫تقويته باإلكثار منه عند ّ‬
‫الحي إلى ّ‬ ‫بالضرورة يسعى الكائن‬
‫)‪ّ positif‬‬
‫ّ‬
‫استجابة مرغوبة ومستحسنة‪ ،‬وتعزيز سلبي ( ‪Renforcement‬‬
‫كل استجابة غير‬
‫تجنبه عند ّ‬‫الحي على ّ‬ ‫‪ )négatif‬يحرص الكائن‬
‫ّ‬
‫يجية إلى‬
‫ظهور وبصفة تدر ّ‬
‫السلوك في ال ّ‬
‫مرغوب فيها فيتراجع تلقائيا ذلك ّ‬
‫درجة اإلنطفاء‪.‬‬

‫تقدم إالّ أن يكون ّ‬


‫تغي ار في احتمال حدوث‬ ‫ال يعدو التّعّلم حسب ما ّ‬
‫هذه االستجابة أو تلك هذا االحتمال يغ ّذيه عامالن خارجيان عن الكائن‬
‫الصادر من‬
‫السلوك ّ‬ ‫المنبه‪ ،‬والتّعزيز‪ ،‬يربط بينهما سلوك؛ ّ‬
‫ّ‬ ‫الحي هما‪:‬‬
‫ّ‬
‫للمنبه قبل االستجابة وللتّعزيز بعد االستجابة‪.‬‬
‫تعرض ّ‬‫الحي‪ ،‬اّلذي ّ‬ ‫الكائن‬
‫ّ‬
‫‪39‬‬
‫بالسلوكيين‬
‫يطفو التّعزيز بذلك جديدا إجرائيا أتى به سكينر مقارنة ّ‬
‫لكنه لم يش ّذ عنهم في اعتبار الّلغة سلوكا‪،‬‬
‫السلبي ّ‬
‫قبله‪ ،‬بنوعيه اإليجابي و ّ‬
‫فعملية اكتساب‬ ‫أي سلوك آخر غير الّلغة‬ ‫ُّ‬
‫ّ‬ ‫تعل ُمها ال يخرج عن نطاق تعّلم ّ‬
‫آلية‬
‫وتتقدم بقدر حضور التّعزيز‪ ،‬ضمن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الّلغة تتحّقق بوجود مثير‪،‬‬
‫المستمرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التّدريب والتّكرار والممارسة‬

‫للسؤال المطروح سابقا تفسي ار‬


‫قدمه سكينر ّ‬ ‫الشافي اّلذي ّ‬
‫أضاف الجواب ّ‬
‫السلوكي‪ ،‬وبذلك‬‫لعملية اكتساب الّلغة في إطار الفكر ّ‬
‫ّ‬ ‫مكمال‬
‫جديدا بكونه ّ‬
‫هو امتداد طبيعي لهذا المذهب‪ ،‬من باب التّأكيد على المنهج العلمي في‬
‫العينية والتّجربة‬
‫ّ‬ ‫تفسير اكتساب الّلغة والمبني أساسا على المالحظة‬
‫أسس‬ ‫"السلوك الّلفظي" قد ّ‬
‫فإن كتاب ّ‬
‫كل ذلك " ّ‬ ‫الرغم من ّ‬ ‫الميدانية‪ ،‬وعلى ّ‬
‫ّ‬
‫النوع اّلذي ُيطبَّق‬
‫ولكنه من ّ‬
‫طوال و ُمستمرا‪ّ ،‬‬
‫في الحقيقة تقليدا تحليليا ُم َّ‬
‫النفس‬
‫أن علم ّ‬
‫النفس وليس علم الّلغة" إذا أخذنا بحقيقة ّ‬
‫‪40‬‬
‫كليا ضمن علم ّ‬
‫فالدراسة جاءت‬
‫السلوك مثل ما أشير إليه في موضع سابق لهذا‪ّ ،‬‬ ‫يدرس ّ‬
‫أن‬
‫بالرغم من ّ‬ ‫ذات منحى اصطبغ بلون علم ّ‬
‫النفس وليس علم الّلغة‪ّ ،‬‬
‫الشكلي لّلغة‪،‬‬
‫اهتمام (بلوم فيلد) بالجانب ّ‬
‫الدراسة هو الّلغة‪ّ .‬‬
‫موضوع ّ‬

‫‪ -‬جون إي جوزيف وآخرون‪ ،‬أعالم الفكر الّلغوي‪ ،‬التّقليد الغربي في القرن العشرين‪ ،‬تر‪ :‬أحمد‬ ‫‪39‬‬

‫شاكر الكالبي‪ ،‬ط ‪ .1‬بيروت‪2006 :‬م‪ ،‬دار الكتاب الجديدة المتّحدة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.175 -174‬‬

‫‪ -‬جون إي جوزيف وآخرون‪ ،‬أعالم الفكر الّلغوي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.186‬‬ ‫‪40‬‬


‫ثنائية المثير واالستجابة وفي ذلك إجحاف‬
‫ومفهومه اآللي لها ُبني على ّ‬
‫إنسانية اإلنسان‪ ،‬فالكائن البشري ليس حيوانا‪ ،‬بل هو إنسان ّ‬
‫ميزه‬ ‫ّ‬ ‫في حق‬
‫كل تكليف‪ .‬باإلضافة‬ ‫عد أساس ّ‬ ‫هللا عن باقي المخلوقات بالعقل اّلذي ُي ّ‬
‫الصارمة في اكتساب اّللغة اعتمادا على التّقليد والتّكرار‪،‬‬
‫اآللية ّ‬
‫إلى هذه ّ‬
‫اإلبداعية‬
‫ّ‬ ‫جردت اإلنسان من العقل وال ّذكاء الّلذين يقودان إلى‬
‫َّ‬

‫السلوكي الكتساب‬ ‫المختصين ال ُيجمعون على" ّ‬


‫أن التّفسير ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكن معظم‬
‫مهد‪ ،‬بل ودفع‬
‫العادات بوجه عام ينطبق على اكتساب الّلغة"‪41‬وهذا ما َّ‬
‫بقوة إلى ظهور رؤية مخالفة‪ ،‬وبمبادئ جديدة‪.‬‬
‫ّ‬

‫األجنبية تعليمها وتعّلمها‪ ،‬ص ‪.32‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬نايف خرما وعلي حجاج ‪ ،‬الّلغات‬ ‫‪41‬‬
‫‪ -4‬نظريات التعلم‪ :‬البيولوجية‪.‬‬

‫تعتبر اللغة ظاهرة بشرية بامتياز‪ ،‬وهي وسيلة يتواصل بها اإلنسان مع‬
‫بني جنسه ممن يشاركهم نظامها‪ ،‬وآلية ال مقابل لها لدى غيره من‬
‫الكائنات؛ فهي لغة رموز متنوعة في تأدياتها‪ ،‬ثرية بالمضامين التي‬
‫تنشئها‪ .‬أغنت اإلنسان وحققت له الخلود؛ بفعل اللغة أضحى اإلنسان‬
‫صاحب تاريخ وصانعه‪.‬‬

‫تستحق هذه الظاهرة البشرية الخادمة لإلنسان أن يعنى بها هذا‬


‫األخير بالدراسة‪ ،‬ويولي لها اهتماما بقدر فضلها عليه‪ ،‬لذا بدأ االنشغال‬
‫بها منذ أن بدأ يعي نفسه والمحيط الذي من حوله‪ ،‬فانكب على تناولها‬
‫بالدراسة والتحليل‪.‬‬

‫وخير ما نبدأ به المحاضرة لتأكيد هذه األهمية قوله تعالى في محكم‬


‫تنزيله‪ ((:‬وعلم آدم األسماء كلها))‪42‬حتى نقف على اللغة باعتبارها ميزة‬
‫إنسانية بامتياز‪ .‬فهذه اآلية على قدر قصرها إال أنها تجمل حقيقة أن‬
‫اإلنسان والممثل في آدم عليه السالم يمتلك اللغة والقدرة على التعبير‬
‫بخالف الكائنات األخرى‪ .‬صفة حاول المختصون االستدالل عليها من‬
‫الجانب البيولوجي إلثبات القدرة الفطرية لإلنسان على إنتاج اللغة‪.‬‬

‫ولعل ليننبرغ(‪ )LENNEBERG‬أحد الحرصين على إثبات تلك القدرة‬


‫‪43‬‬
‫الفطرية بأدلة بيولوجية يراها فاعلة في ذلك؛ منها‪:‬‬

‫‪ -1‬االرتباط المتبادل بين اللغة والنواحي الفيزيولوجية‪ -2 ،‬تطور اللغة‬


‫حسب جدول زمني‪ -3،‬صعوبة وقف تطور اللغة‪ -4،‬اليمكن تعليم اللغة‬
‫لغير البشر‪ -5،‬األسس اللغوية العامة‪.‬‬

‫سورة البقرة ‪ ،‬اآلية ‪.31‬‬ ‫‪42‬‬

‫جورج مخايل كالس‪ ،‬األلسنية لغة الطفل للعربي‪ ،‬ط‪ .2‬بيروت‪ ،1974 :‬المنشورات الجامعية‪،‬‬ ‫‪43‬‬

‫ص‪ 108‬وما بعدها‪.‬نقال عن ناي فخما وآخرون‪ ،‬تعليم وتعلم اللغات األجنبية‪.‬‬
‫ولو استرسلنا في شرح ما تقدم نجد مايلي‪ :‬فاالرتباط المتبادل بين اللغة‬
‫والنواحي الفيزيولوجية إشارة إلى التركيبة البيولوجية لجسم اإلنسان‪ ،‬وما‬
‫حبا هللا به اإلنسان من جهاز تنفس وجهاز نطق؛ فجاب حاجز‪ ،‬ورئتان‪،‬‬
‫وقصبة هوائية‪ ،‬فحنجرة ‪ ،‬فتجويف فم‪ ،‬ثم لسان ‪ ،‬وأسنان وشفتان‪ ،‬كلها‬
‫مجتمعة وجدت ألداء مهام عديدة متعددة فمنها ما وجد للتنفس حتى‬
‫يحافظ اإلنسان على حياته‪ ،‬ومنها ما وجد ليوظفه اإلنسان وسيلة لتقليب‬
‫الغذاء وطحنه‪ ،‬لكن في الوقت ذاته وجدت هذه األعضاء آليات إجرائية‬
‫إلنتاج اللغة؛ فلوال الهواء المندفع من الرئتين لما تمكن اإلنسان من‬
‫الكالم‪ ،‬ولوال تجويف الفم وما فيه من أعضاء ملحقة لما استطاع اإلنسان‬
‫نطق الحروف باختالفها واختالف مستوياتها النطقية‪ .‬أكثر من هذا‬
‫فلجهاز السمع دور فعال في تعلم اللغة ألن اللغة سماع كما يؤكد ذلك‬
‫المختصون‪ ،‬والسماع أبو الملكات كما قال ابن خلدون؛ حتى اللمس ال‬
‫يمكن التقليل من وظيفيته في األداء اللغوي‪ ،‬ويظهر ذلك عند فئة‬
‫أن األبكم قبل أن يكون أبكما كان أصما‪ .‬ليس هذا‬‫المكفوفين‪ ،‬كما ّ‬
‫فحسب هذه األعضاء مجتمعة نشاطها ليس وليد الصدفة أو اآللية بل‬
‫استجابة ألوامر الدماغ فال يقبض النفس إال بقدر ما أمر الدماغ‪ ،‬وال‬
‫يحرر اللفظ أصواتا إال بقدر ما يريده الدماغ من معان‪ ،‬وال ينتج الفرد من‬
‫جواب إال بقدر ما تلقاه من سؤال‪ ،‬وال يحس الفرد بما تلقاه لغويا إال‬
‫بقدر ما ّأوله الدماغ؛ أي العقل‪ .‬وهذه األعضاء البيولوجية الفيزيولوجية‬
‫وظيفيتها في مجال اللغة تتحقق بتكاملها؛ فيكفي أن يتعطل عضو‬
‫بيولوجي واحد مما ذكرنا لتتراجع وظيفية األعضاء األخرى في إنتاج‬
‫اللغة‪ ،‬واستقبالها‪ ،‬وهذا ما يؤثر سلبا في مستوى اكتساب اللغة‬
‫وممارستها‪ ،‬أما إذا سلمت وتكاملت وظائفها ظهر الفعل اللغوي في‬
‫صورته المثالية الكاملة؛ وتواصلت األجيال في ما بينها ولو لم يتقاسموا‬
‫الفترة الزمنية ذاتها‪ ،‬وعليه هل يمكن لغير اإلنسان أن يرقى إلى ما ارتقى‬
‫إليه اإلنسان بواسطة اللغة؟‬

‫فعلى الرغم من أن الشانبانزي أقرب مايكون إلى اإلنسان‪ -‬كما يقول‬


‫بعضهم وال سيما دارون والمتأثرين به‪ -‬من حيث تركيبته البيولوجية إال‬
‫أنه ال يستطيع أن ينشئ اللغة ألسباب عديدة يرجعها بعضهم إلى غياب‬
‫العقل‪ ،‬واختالف في فجوة الفم‪ ،‬وكبر اللسان وغيرها‪ .‬أما ما يردده الببغاء‬
‫من كالم سمعه فما هي إال إعادة ميكانكية ال تمت لإلنتاج اللغوي بصلة‪،‬‬
‫ألن اإلنتاج إبداع واإلبداع مصدره العقل وهو ال يستطيع أن ينشئ كالما‬
‫لم يسمعه‪ ،‬بخالف الطفل الصغير عندنا؛ فيستطيع أن ينشئ كالما لم‬
‫يسمعه مطلقا‪ -‬كما أكد ذلك شومسكي في الحديث عن نظريته اللغوية ‪-‬‬
‫وهذا أكبر دليل على أن اللغة ميزة بشرية ال يضاهيه فيها أحد من‬
‫المخلوقات‪ .‬فلوال هذا التميز البيولوجي وتكامل وظيفية أعضائه لما ساد‬
‫اإلنسان على هذه األرض‪.‬‬

‫هذه األعضاء البيولوجية التظهر في أول يوم من والدة اإلنسان‪،‬‬


‫وإن ظهر بعضها ال تظهر كاملة النمو في أول يومها‪ ،‬ولنا في حجم‬
‫الرئة نموذجا حيا عن تطور بعضها‪ ،‬وظهور األسنان ونموها وتغيرها‬
‫عبر فترات من حياة اإلنسان‪ ،‬وناهيك عن المستوى العقلي واإلدراكي لهذا‬
‫األخير‪ .‬هذا النمو البيولوجي لهذه األعضاء وغيرها تتوافق وظيفيتها ونمو‬
‫اء بداية بالمحاوالت األولى ونهاية‬
‫اللغة‪ .‬أكثر من هذا فنمو اللغة أد ً‬
‫باكتسابها واإلبداع فيها‪ ،‬يتوافق فيها وبها جميع أطفال العالم حسب جدول‬
‫زمني مضبوط وإن اختلفت اللغات والمجتمعات؛ فمن مرحلة المناغات‬
‫في الشهر الثالث والثغثغة في الشهر السادس وما بعده‪ ،‬وترديد بعض‬
‫األصوات دون غيرها إلى مرحلة إنشاء كلمات ‪ -‬وهو تطور طبيعي‬
‫لألداء اللغوي عند فصيلة البشر‪ -‬فجمل قد تنتمي في بداياتها إلى‬
‫تصنيفات معينة ومحدودة‪ ،‬لكن وبحكم النمو البيولوجي لتلك األعضاء‬
‫سرعان ما تتضاعف الكلمات وتتسع الجمل إلى أحياز أخرى بعد أن‬
‫يكتسب الطفل األسس التي بموجبها ُيم ّكن لنفسه ذلك‪ ،‬أسس قد تكون لها‬
‫عالقة باللغة في حد ذاتها أو ما له عالقة بالعناصر الخارجة عنها‪،‬‬
‫نتيجتها أنها تتحكم في النمو اللغوي ونوعيته‪ ،‬وفي ذلك توافقت فصيلة‬
‫البشر وما اختلفت‪.‬‬

‫جاهزية الطفل للغة اكتسابا وممارسة مهما كان المجتمع الذي ينتمي‬
‫ص ِّعب من وقف تطور اللغة عنده‪ ،‬حتى وإن واجهته عوائق تحيل‬ ‫إليه تُ َ‬
‫بينه وبين اللغة؛ قد تحدد نوعية االكتساب والممارسة لكن ال تعدمها‬
‫كوجود فعلي في فصيلة البشر؛ ولنا في ذلك نماذج حية من الواقع‬
‫المعيش؛ فكم من مكفوف لم يحرم اللغة قوال وكتابة‪ ،‬وكم من أصم وأبكم‬
‫يبدع في إيصال األفكار إشارات إماءات‪ ،‬ألن تكامل األعضاء البيولوجية‬
‫في األداء اللغوي يظهر بوضوح وظيفي ال نظير له في هكذا مواقف‬
‫ونقائص‪.‬‬

‫هذه اللغة البشرية بشرية بامتياز إذ بقدر إبداع الفرد البشري فيها‬
‫وبها‪ ،‬بقدر ما يستحيل على غير البشر اكتسابها وممارستها؛ فعلى الرغم‬
‫من توالي التجارب والدراسات المتخصصة الباحثة في نظام اللغات غير‬
‫البشرية إال أنها لم تصل بعد إلى لغة أكثر تعقيد وتنظيم وإبداع من اللغة‬
‫البشرية؛ واستنادا إلى تلك األعضاء البيولوجية وتفاصيل نموها ودقائق‬
‫وظيفيتها وتكاملها يجعل غير البشر يستعصي عليه تعلمها ألنه ال يملك‬
‫اآلليات اإلجرائية لذلك‪.‬‬

‫مما تقدم فاألسس اللغوية العامة ال تمنح اللغة صفة كونها بيولوجية‬
‫تولد مع الطفل‪ ،‬بل تجعل منها ظاهرة بشرية بامتياز‪ ،‬ومظاهر تمايزها‬
‫وظيفية هذه العناصر اللغوية وسرعة اكتساب اللغة بها وممارستها وما‬
‫كان لذلك أن يكون لوال األسس البيولوجية البشرية المهيأة ألداء وظيفة‬
‫منذ الوالدة ولو بمرحلية‪ ،‬تطفو مظاهرها عند االستعمال والممارسة‪،‬‬
‫وبذلك فاللغة ليست عضوية بل قائمة على أساس عضوي بيولوجي من‬
‫دونه ال وجود للغة بل ال وجود لإلنسان في حد ذاته‪ ،‬وبذلك فبدايات‬
‫الظهور اللغوي وتطوره مرتبط أساسا بالتطور والتغير الذي يمس بداية‬
‫الطفل من جانبه البيولوجي وما له صلة بتطوره العقلي والذهني‪ ،‬ألن‬
‫التطور اللغوي ال يتوقف عند هذه المرحلة وعناصرها المرتبطة بها ‪ ،‬بل‬
‫يتعداها إلى المجتمع ألن هذا األخير من سماته التحول وعدم الثبات‬
‫على حال واحدة‪ ،‬وهذا من شأنه التأثير على قدرة الطفل في اكتساب‬
‫اللغة وسرعته في ذلك‪ ،‬وبالتالي ممارستها في جميع مراحلها وال سيما في‬
‫مراحلها األولى‪.‬‬

‫وهذا ما يصطلح على تسميته بالتنشئة اللغوية‪ .‬طبيعة هذه األخيرة تؤثر‬
‫في اللغة اكتسابا وممارسة وتجعل من المراحل البيولوجية أكثر فاعلية‪.‬‬
‫وكثير من المختصين من اشتغلوا على إظهار دور المجتمع في إذكاء‬
‫ألن اللغة ليست تنظيما ُمحكما ُمنغلِقا على قواعده‬
‫االكتساب اللغوي ّ‬
‫عما حوله من أحداث‪ ،‬بل قد تكون هي نفسها السبب في وجوده‬ ‫ومعزوال َّ‬
‫عد شيئا خطي ار‬
‫"أن تجاهل علم اللغة للمجتمع ُي ّ‬ ‫ِ‬
‫ونمائه‪ ،‬وهذا ما يؤّكد ّ‬
‫حد ذاته"‪ 44‬وبهذا فالدارس اللغوي حتى ينشد‬‫بالنسبة لعلم اللغة في ّ‬
‫أن يضيف هذه الحلقة المفقودة‬ ‫اإلحاطة الكاملة بحقيقة اللغة‪ ،‬يجب ْ‬
‫اء عمليا من الخطإ إقصاؤه‪ ،‬إذا رام الوصول‬
‫الهتماماته‪ ،‬وأن يتّخذها إجر ً‬
‫إلى تعيين العناصر المرتبطة باالكتساب اللغوي وتحديدها بشكل أوسع‪.‬‬
‫*‬
‫‪(Bronislaw‬‬ ‫ولعل هذا ما أراد أن يثبته برونسيلو مالينوفسكي‬
‫"أن اللغة تعمل كأداة‬
‫)‪ Malinovsky‬حين استخلص من جملة أبحاثه ّ‬
‫تواصل ضمن نشاط إنساني متعارف عليه‪ ،‬فهي ضرب من النشاط‪،‬‬
‫يك ُمن معنى األداة إالّ في‬
‫وليست أداة تفكير‪ ،‬وما الكلمات إال أدوات وال ْ‬
‫استعمالها"‪ ،45‬وهذا ما يشير إلى وظيفة الكالم من باب ّأنه هو الذي‬
‫أن هذه الحياة متجددة متنوعة حسب االستعمال‬ ‫يمنح الحياة للكلمات و ّ‬
‫أن الكلمة الواحدة تَتَ َزيَّا بزي جديد‬
‫ظف فيه الكلمة؛ بمعنى ّ‬
‫المتميز الذي تو ّ‬
‫ّ‬
‫عند كل استعمال جديد‪ ،‬وجديد االستعمال هذا مرتبط أساسا بالسياق ‪(Le‬‬
‫أن "السياق ضروري لفهم الكلمات"‪ ،46‬لكن‬
‫)‪ ،Contexte‬وهذا ما يؤّكد ّ‬
‫مالينوفسكي استعان بمفهوم سياق الموقف )‪(Contexte situationel‬‬
‫بالرجوع‬
‫إال ّ‬ ‫أن معاني المفردات والجمل ال تُستوعب‬
‫‪47‬‬
‫الذي يشير به إلى ّ‬
‫السياقات الموقفية الخاصة التي‬
‫إلى معاينة الوظائف التي تؤديها في ّ‬
‫د‪ .‬هدسون‪ ،‬علم اللغة االجتماعي‪ ،‬تر‪ :‬د‪ :‬محمد عياد‪ ،‬ط ‪ .2‬مصر‪ ، 1990 :‬عالم الكتب‪،‬‬ ‫‪44‬‬

‫ص‪.16‬‬

‫*برونسيلو مالينوفسكي ‪ :1942-1884Bronislaw Malinovsky‬أنثروبولوجي بولندي‪ ،‬عمل‬


‫أستاذا بمدرسة العلوم االقتصادية بلندن عام ‪ ، 1927‬أجرى عدة أبحاث لغوية ميدانية على قبائل‬
‫أن الّلغة تستغل كأداة تواصل‪ ،‬وإليه يعود الفضل في ابتكار مفهوم‬
‫توصل بها إلى حقيقة ّ‬
‫بدائية‪ّ ،‬‬
‫سياق الموقف ‪contexte situationnel‬‬
‫ّ‬
‫‪45‬أحمد مومن‪ ،‬اللسانيات‪ ،‬النشأة والتطور‪ ،‬ص ‪.177‬‬

‫‪46‬الموسوعة‪ ،‬ص ‪.157‬‬

‫‪47‬للتعمق أكثر ينظر‪:‬‬

‫‪ -‬أحمد مومن‪ ،‬اللسانيات‪ ،‬النشأة والتطور‪ ،‬ص ‪.178‬‬

‫‪ -‬عبدو الراجحي‪ ،‬اللغة وعلوم المجتمع‪ ،‬ط‪ .2‬لبنان‪ 2004 :‬دار النهضة العربية‪ ،‬ص ‪ 22‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫تُستعمل فيها‪ ،‬وعليه فاالكتفاء بمعرفة المعاني المعجمية للكلمات غير‬
‫ظف فيه تلك‬
‫السياق الذي تو ّ‬
‫كاف لفهم لغة ما‪ ،‬بل ما أفقرنا إلى معرفة ّ‬
‫الكلمات حتى تُستوعب دقائق تلك اللغة وآلياتها واستعماالتها‪.‬‬

‫آراء مالينوفسكي هذه كان لها صدى عند غيره من المفكرين‪ ،‬ومن‬
‫بأن "اللغة شكل من‬ ‫هؤالء جون ريبرت فيرث )‪ (J.R.Firth‬الذي ّ‬
‫أقر ّ‬
‫*‬

‫أشكال الحياة اإلنسانية وليست مجرد مجموعة من اإلشارات والرموز‬


‫أن إقصاء الجانب االجتماعي في‬ ‫االعتباطية" وهذا تأكيد منه على ّ‬
‫‪48‬‬

‫دراسة اللغة هو إقصاء غير مبرر باعتباره جزءا منها ال يكتمل نظامها‬
‫أن استعمال اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي تساعد على فهم‬
‫إالّ به‪" ،‬وبما ّ‬
‫فإن فيرث قام بدراسة مكونات اللغة وفق مكونات‬ ‫المتعددة ّ‬
‫ّ‬ ‫المعاني‬
‫اجتماعية بحتة‪ ،‬بالتركيز على العالقات المختلفة التي تربط اللغة‬
‫سياق الموقف‪،‬‬‫بالمجتمع‪ ".‬وفق هذا المنظور للغة تبنى فيرث نظرية ّ‬
‫‪49‬‬

‫‪ِ 50‬‬
‫يفعلها أشخاص ويثرونها عند‬
‫وهي بالنسبة له حقل خصب من العالقات ّ‬
‫قيامهم باألدوار المسندة إليهم في المجتمع حسب طبيعة الحوادث‬
‫كل هذه العناصر تجد حياتها بأداء األشخاص‬
‫واألشياء المرتبطة بهم‪ُّ ،‬‬
‫يتجسد‬
‫ّ‬ ‫لنظام لغوي معين تَُف ّعل في خضمه‪ ،‬وبذلك ففي االستعمال اللغوي‬
‫ويتحدد تأثيره‪ ،‬كما‬
‫ّ‬ ‫لكل شخص‬ ‫تمايز الحدث الكالمي وغير الكالمي ّ‬
‫تتعين األشياء ذات العالقة بالموقف‪ ،‬وهذا ما يمنح في األخير فرصة‬‫ّ‬
‫الوقوف على أنواع األساليب‪ 51‬المختلفة للنطق‪ ،‬وحدود االستعمال الفعلي‬

‫*جون روبيرت فيرث‪:1960-1980 :‬‬

‫لغوي بريطاني درس التاريخ‪ ،‬تعّلم بعض اللغات الشرفية وال ّ‬


‫سيما عند استق ارره بالهند‪ ،‬حيث عمل‬
‫أستاذا للغة اإلنجليزية‪ ،‬وفي عام ‪ 1928‬عاد إلى لندن ليشتغل أستاذا بمعهد الصوتيات‪ ،‬وفي عام‬
‫‪ 1938‬انتقل إلى قسم اللغة في كلية الدراسات الشرقية و اإلفريقية حتّى تقاعده‪.‬‬

‫‪48‬جون إي جوزيف وآخرون‪ ،‬أعالم الفكر اللغوي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.104‬‬

‫‪49‬أحمد مومن‪ ،‬اللسانيات النشأة والتطور‪ ،‬ص ‪.175‬‬

‫‪50‬للتعمق أكثر ينظر‪:‬‬

‫‪ -‬عبده الراجحي‪ ،‬اللغة وعلوم المجتمع‪ ،‬ص ‪ 26‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪ -‬أحمد مومن‪ ،‬اللسانيات‪ ،‬النشأة والتطور‪ ،‬ص ‪.178‬‬

‫عبده الراجحي‪ ،‬اللغة وعلوم المجتمع‪ ،‬ص ص ‪.30،31‬‬ ‫‪51‬‬


‫معين‪ ،‬و وظيفة التركيبات النحوية في تحديد‬
‫معين في موقف ّ‬‫لنطق ّ‬
‫الداللية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوظائف‬

‫فإن فيرث لم يلتق مع مالينوفسكي في تثمين الجانب‬‫وبهذا ّ‬


‫االجتماعي للغة فحسب باعتبار اللغة تحيا وتنمو في سياق اجتماعي‬
‫سياق الموقف فانطلق به من محيط الكالم‬
‫وسع من مفهوم ّ‬‫معين‪ ،‬بل ّ‬
‫الطبيعي الفعلي إلى حقل العالقات بين األشخاص‪ ،‬ومما له تأثير في‬
‫األداء الفعلي للكالم من أشياء مرتبطة بهم ومزايا يتفردون بها‪.‬‬

‫وعليه فالنظرية البيولوجية أعطت اهتماما لألعضاء البيولوجية‬


‫المسهمة في اللغة اكتسابا وممارسة‪ ،‬وهي في ذلك محقة‪ ،‬لكن في الوقت‬
‫نفسه ال يمكن إهمال ما يمكن أن يقدمه المجتمع من إسهامات في ذلك‪.‬‬

You might also like