Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 408

‫ﺩ‪ .

‬ﺯﻫﻴﺮ ﺍﻟﺨﻮﻳﻠﺪﻱ‬

‫ﻣﺪﻧﻴﺔ ﺍﻹﺳﻼﻡ‬
‫ﻓﻲ ﻣﻮﺍﺟﻬﺔ‬
‫ﻋﻮﻟﻤﺔ ﺍﻹﺭﻫﺎﺏ‬
‫(‬
‫(‬
‫‪E-KUTUB‬‬
‫د ِنيّة اإلسالم‬
‫مَ‬‫َ‬

‫يف مواجهة عوملة اإلرهاب‬

‫د‪ .‬زهري الخويلدي‬

‫إصدارات إي‪-‬كتب‬
‫لندن‪2016 ،‬‬
‫‪Civil Islam in the face of globalization of terrorism‬‬
‫‪By: Dr. Zouhaier Khouildi‬‬
‫‪All Rights Reserved to the Author‬‬
‫‪Published by E-Kutub.com, 2016‬‬
‫‪ISBN: 9781780581958‬‬

‫*****‬
‫اﻟطﺑﻌﺔ اﻷوﻟﻰ‪ ،‬لندن‪ ،‬شباط‪-‬فبراير ‪2016‬‬
‫الﻣؤلف‪ :‬د‪ .‬زهير اﻟخويلدي‬
‫الناشر‪ ،E-kutub Ltd :‬شركﺔ بريطانيﺔ ﻣﺳﺟﻠﺔ فﻲ انﺟﻠترا برﻗم‪7513024 :‬‬
‫© ﺟﻣيﻊ اﻟﺣﻘوق ﻣﺣﻔوظﺔ ﻟلﻣؤﻟف‬
‫ﻻ تﺟوز إﻋادة طباﻋﺔ أي ﺟزء ﻣن ھذا الكتاب ألكترونيا أو ﻋﻠﻰ ورق‪ .‬كﻣا ﻻ‬
‫يﺟوز اﻻﻗتباس ﻣن دون اﻹشارة الﻰ الﻣصدر‪.‬‬
‫أي ﻣﺣاولﺔ لﻠنﺳﺦ أو إﻋادة النشر تﻌرض صاﺣبﮭا الﻰ الﻣﺳؤوليﺔ الﻘانونيﺔ‪.‬‬
‫إذا ﻋﺛرت ﻋﻠﻰ نﺳﺧﺔ ﻋبر أي وﺳيﻠﺔ اﺧرى ﻏير ﻣوﻗﻊ الناشر (إي‪ -‬ﻛﺗب) أو‬
‫ﻏوﻏل بوكس‪ ،‬نرﺟو إشﻌارنا بوﺟود نﺳﺧﺔ ﻏير ﻣشروﻋﺔ‪ ،‬وذلك بالكتابﺔ إلينا‪:‬‬
‫‪ekutub.info@gmail.com‬‬
‫يﻣكنك الكتابﺔ الﻰ الﻣؤلف ﻋﻠﻰ الﻌنوان التالﻲ‪:‬‬
‫‪zkhouildi@gmail.com‬‬

‫‪2‬‬
‫الفهرس‬
‫اسﺗهالل‪ ....‬ص‪9‬‬
‫اﻟﺑاب اﻷول‪ :‬ﻣدنيﺔ االسالم واالنﻔﺗاح علﻰ اﻟﻌاﻟم‪ ....‬ص‪13‬‬
‫ﻣﻘدﻣﺔ‪ ....‬ص ‪13‬‬
‫اﻟﻔصل ‪ :1‬ﺗاريخ اﻟﻌالقﺔ ﺑين اإلسالم واﻟغرب‪ ....‬ص‪17‬‬
‫اﻟﻔصل ‪ :2‬االسالم اﻟﻣدني واﻟﻔلسﻔﺔ اﻟغرﺑيﺔ‪ ....‬ص‪41‬‬
‫اﻟﻔصل ‪ :3‬صورة االسالم في اﻟثﻘافﺔ اﻟغرﺑيﺔ‪ ....‬ص‪47‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :4‬اﻟثﻘافﺔ ﺑين االنغالق علﻰ اﻟﺗراث واالنﻔﺗاح علﻰ اﻟﻌاﻟم‪....‬‬
‫ص‪53‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :5‬سيرورة اﻟﺗثﻘف وﺗﺑدل اﻷطوار اﻟﺣضاريﺔ‪ ....‬ص‪59‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :6‬اﻟﻌيش اﻟﻣشﺗرك في ظل اﻟﺗصادم ﺑين اﻟﺣضارات‪ ....‬ص‪73‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :7‬اﻷنثرﺑوﻟوﺟيا اﻟثﻘافيﺔ ﺑين اﻟوﺣدة واالخﺗالف‪ ....‬ص‪79‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :8‬اﻟدين واﻟسياسﺔ في اﻟزﻣن اﻟﻣﺑﻛر ﻟإلسالم‪ ....‬ص‪89‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :9‬رساﻟﺔ اإلسالم ﺑين اﻟﻌرب واﻟﻌﺟم‪ ....‬ص‪95‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :10‬اﻟﻔﻛر اإلسالﻣي ﺑين اخﺗزال اإليديوﻟوﺟيا وادعاء اﻟيوﺗوﺑيا‪....‬‬
‫ص‪103‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :11‬اﻟﻘرآن اﻟﻛريم ﺑين اﻟسرد واﻟﻘصص‪ ....‬ص‪131‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :12‬آراء سياسيﺔ ﻟلﻔلسﻔﺔ اﻟﻌرﺑيﺔ‪ ....‬ص‪137‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :13‬اﻟﻌﻘالنيﺔ اﻟﻌرﺑيﺔ ﺑين إﺣياء اﻟﺗﻘليد واﻟﺣداثﺔ اﻟﻣﻌطوﺑﺔ‪....‬‬
‫ص‪141‬‬
‫اﻟﻔصل ‪ :14‬أﺣوال اﻟديﻣﻘراطيﺔ اﻟﻌرﺑيﺔ‪ ....‬ص‪147‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :15‬اﻟديﻣﻘراطيﺔ اﻟﻌرﺑيﺔ ﺑين اﻟﺗدﻣير اﻟذاﺗي وخﻔظ اﻟﻛيان‪....‬‬
‫ص‪155‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :16‬ﻣن اﻟﺗﺑﻌيﺔ اﻟثﻘافيﺔ اﻟﻰ االسﺗﻘالل اﻟﺣضاري‪ ....‬ص‪163‬‬
‫خاﺗﻣﺔ اﻟﺑاب اﻷول‪ ....‬ص‪177‬‬
‫اﻟﺑاب اﻟثاني‪ :‬اﻟﻔلسﻔﺔ واﻟديﻣﻘراطيﺔ في ﻣواﺟهﺔ عوﻟﻣﺔ االرهاب‪....‬‬
‫ص‪181‬‬
‫‪3‬‬
‫ﻣﻘدﻣﺔ‪ ....‬ص‪181‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :1‬عﺑثيﺔ اﻟﻌنف اﻟسياسي وأوﻟويﺔ اﻟسلم اﻷهلي‪ ....‬ص‪187‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :2‬االغﺗراب اﻟديني وشروط اﻟﺗﺣرر االنساني‪ ....‬ص‪205‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :3‬أنثرﺑوﻟوﺟيا اﻟﻣﻘدس واﻟرغﺑﺔ في اﻟﻣﺣاﻛاة‪ ....‬ص‪237‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :4‬اﻟﺗسويﺔ وﺣرب اﻟﻣواقﻊ واﻟثورة اﻟثﻘافيﺔ‪ ....‬ص‪243‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :5‬ضرورة ﻣراﺟﻌﺔ اﻟغرب صورﺗه عن ذاﺗه‪ ....‬ص‪249‬‬
‫اﻟﻔصل ‪ :6‬في اﻟﻣواﺟهﺔ اﻟﻔلسﻔيﺔ ﻣﻊ عوﻟﻣﺔ اإلرهاب‪ ....‬ص‪263‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :7‬ثورة اﻟﺣشود واإلﻣﺑراطوريﺔ اﻟﻣضادة‪ ....‬ص‪271‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :8‬اﻟﺗزام اﻟﻣثﻘف واالشﺗﺑاك ﻣﻊ اﻟسلطﺔ‪ ....‬ص‪281‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :9‬اﻟنشاط االﺟﺗﻣاعي ﺑين اﻟﻌﻘلنﺔ واﻟشرعنﺔ‪ ....‬ص‪299‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :10‬اﻟﻘضيﺔ اﻟﻔلسطينيﺔ واﻟﺣق في اﻟوﺟود‪ ....‬ص‪307‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :11‬اﻟﻣﻌاناة اﻟﻔلسطينيﺔ وصﺣوة اﻟضﻣير اﻟغرﺑي‪ ....‬ص‪313‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :12‬صﻌود اﻟروﺣانيﺔ اﻟسياسيﺔ‪ ....‬ص‪333‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :13‬اﻟالّوعي اﻟديني ﻟلﺟﻣاعات اﻟسياسيﺔ‪ ....‬ص‪347‬‬
‫اﻟﻔصل ‪ :14‬نﻔوذ اﻟسياسي ﻣن ﻣنظور فنوﻣينوﻟوﺟي‪ ....‬ص‪351‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :15‬ﺗشريح اﻟﺗدﻣيريﺔ وأنسنﺔ اﻷﻣل‪ ....‬ص‪363‬‬
‫اﻟﻔصل‪ :16‬اﻟﻌداﻟﺔ االﺟرائيﺔ واﻟﻣساواة اﻟديﻣﻘراطيﺔ‪ ....‬ص‪371‬‬
‫خاﺗﻣﺔ عاﻣﺔ‪ ....‬ص‪383‬‬
‫اﻟﻣصادر واﻟﻣراﺟﻊ‪ ....‬ص‪395‬‬

‫‪4‬‬
‫إهداء‬

‫اﻟﻰ اﻟﻣؤﻣنين عسﻰ أن يﻔﻌلوا خيرا ﺑأنﻔسهم إليﻣانهم‬


‫واﻟﻰ غير اﻟﻣؤﻣنين عسﻰ أن ينﻔﻌوا اﻟناس ﺑارﺗياﺑهم‬

‫‪5‬‬
6
‫تصدير‬

‫"تضﻊ الﺣريﺔ الﺣﻘيﻘيﺔ لﻠﻌﻘل اﻻﻋتﻘاد فﻲ الﺣﻘيﻘﺔ ﻣوضﻊ‬


‫تﺳاؤل"‪.‬‬
‫فريدريك نيﺗشه‬
‫** * **‬

‫"ليس ھناك ﻣن ﺣكوﻣﺔ تﺳتطيﻊ أن تﺣتفظ باﺳتﻘاﻣتﮭا اﻻ ذا‬


‫كانت تﺣت ﺳيطرة الشﻌب"‪.‬‬
‫ﺗوﻣاس ﺟيﻔرسون‬

‫** * **‬
‫"شيئان ليس لﮭﻣا ﺣدود‪ :‬الﻌالم وﺣﻣاﻗﺔ اﻻنﺳان‪ ،‬ﻣﻊ أنﻲ لﺳت‬
‫ﻣتأكد ﻣن األول"‪.‬‬
‫أﻟﺑرت أينشﺗاين‬

‫‪7‬‬
8
‫استهالل‬

‫"الفشل نوﻋان‪ :‬نوع يأتﻲ ﻣن التفكير دون فﻌل‪،‬‬


‫ونوع يأتﻲ ﻣن الفﻌل دون تفكير"‪.‬‬
‫ﺟان ﺗشارﻟز ساالك‬

‫لو ﻗﻣنا بوصف دﻗيق لﻠوﻗائﻊ التﻲ تﺟري واألﺣداث التﻲ تﺟد‬
‫ھذه األيام واﺳتﻌﻣﻠنا فﻲ ذلك كل ﻣا نﻣﻠك ﻣن ﻋدة ﻣنﮭﺟيﺔ وشبكﺔ‬
‫ﻣفﮭوﻣيﺔ فإننا نصطدم بتشذر الفكر وشرود الذھن وتشتت الذاكرة‬
‫وانﻘﺳام الﻣﻌرفﺔ وتزايد الﺣيرة وتفاﻗم اآلفات وتوالد النزﻋات‬
‫وتكاﺛر التﺳاؤﻻت ﺣول روح الﻌصر وتوﺟه الفكر وﻣﻌنﻰ الﺣياة‬
‫والﻌالﻗﺔ بالﻣﻌرفﺔ وﻣﺳتﻘبل الطبيﻌﺔ البشريﺔ وتشكيل الﮭويﺔ‬
‫والنظام الﺟديد الذي يﺣكم الﻌالم ونﮭايﺔ دور الﻣدرﺳﺔ ووظيفﺔ‬
‫التﻌﻠيم وطغيان أشكال ﺟديدة ﻣن الﻌﻘﻠنﺔ الوﺳائطيﺔ واألنشطﺔ‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وﻣﺧﻠفات التﻘدم التﻘنﻲ واﻗتران اﻹرھاب بالتﻌصب‬
‫الﻌﻘدي والتﻣييز الﻌرﻗﻲ والتﻣركز الﺛﻘافﻲ وتﺳارع وتيرة اﻹنتاج‬
‫وصﻌود نﺳب اﻻﺳتﮭالك والﺣاﺟﺔ الضاﻏطﺔ ﻋﻠﻰ التدﺧل‬
‫الﻌالﺟﻲ والﻌنايﺔ بالصﺣﺔ والﻣرفﻘات الطبيﺔ‪ .‬ولو أﻋادنا التفكير‬
‫فﻲ ھذه األﺳئﻠﺔ الكبرى التﻲ تطرح ﺣول الﻣﺟتﻣﻊ والﻣﻌرفﺔ والدين‬
‫وﺣاولنا اﻻرتﻘاء نﺣو اﻻھتﻣاﻣات التفصيﻠيﺔ وبﺣﺛنا ﻋن أﺳباب‬
‫الفشل وﻋواﻣل التﻌﺛر وتتبﻌنا الﻣكانﺔ التﻲ أصبﺣت تﺣتﻠﮭا‬
‫الرﻗﻣيات فﻲ ﺣياتنا الﻣﻌاصرة ورصدنا التغيرات التﻲ طرأت فﻲ‬
‫الﻣﺳار الذي يربط بين الﻣدرﺳﺔ والﻣؤﺳﺳﺔ فإننا نﻌﺛر ﻋﻠﻰ‬

‫‪9‬‬
‫ﻣﻌطيات ﺟديدة وﺣﻘائق ﻣﺳتﺣدﺛﺔ ﻋﻠﻰ ﻏرار تبدل الﺟغرافيا‬
‫الﺳياﺳيﺔ وكشفت الﺣروب ﻋن وﺟﮭﮭا الﻘبيح وﻣآﻻتﮭا الكارﺛيﺔ‬
‫واﻣتدت الﻌولﻣﺔ الﻣتوﺣشﺔ إلﻰ ﺟﻣيﻊ ﺟوانب الﺣياة وﺳدت كل‬
‫الﺛغرات والﻣنافذ التﻲ تتﺳرب ﻣنﮭا رياح اﻻﺳتﻘالليﺔ والﻌزلﺔ‬
‫واﻻنطواء ﻋﻠﻰ الذات وفاﻗﻣت اﻻدﻣاج وظﮭر ارتياب ﺣول‬
‫الﻣتﺳبب األول فﻲ األﺣداث والﺣاكم الفﻌﻠﻲ لﻠﻌالم والفكر الذي‬
‫يﻌكس نبض الواﻗﻊ‪.‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك يطرح الفكر الﻣتباﻋد ﻋن ذاته ﺟﻣﻠﺔ ﻣن األﺳئﻠﺔ‪:‬‬
‫ﻣن يﺣكم الﻌالم اليوم؟ وﻣاھو الﻌصر الﺟديد الذي تﺳير إليه‬
‫الﻌولﻣﺔ؟ وﻣاذا تشبه ھذه الﺣروب الﺟديدة التﻲ تﺧوضﮭا‬
‫الﺟﻣاﻋات والدول؟ وﻣا الﻣﻘصود بالﺟﮭاد؟ ھل ﺳتظل الديﻣﻘراطيﺔ‬
‫ﺳياﺳيﺔ ﻣﻌتﻣدة فﻲ الﻘرن الواﺣد والﻌشرين؟ وأﻻ ينبغﻲ فتح‬
‫الﺣدود أﻣام البضائﻊ والبشر ورؤوس األﻣوال والﺧبرات؟ وﻣاھو‬
‫الﻣنﻌطف الكوكبﻲ لنظم الصﺣﺔ؟ وأﻻ يﻣكن لﻠﻣواضيﻊ الﻣرتبطﺔ‬
‫باألنترنات أن تﺳاھم فﻲ تﺛوير الطب؟ أي طاﻗﺔ ﻣﻣكنﺔ فﻲ‬
‫الﻣﺳتﻘبل؟ لﻣاذا تزداد الفوارق اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ؟ ﻣا الﻌﻣل أﻣام انﻘﺳام‬
‫الﻣﺟتﻣﻌات إلﻰ ﻗﺳﻣين‪ :‬أﻏنياء وفﻘراء؟ وكيف يﻣكن الترفيﻊ فﻲ‬
‫ﻣﻌدﻻت التنﻣيﺔ والتطور؟ وھل ﻣازال الشغل ھو ﻣصدر اﻹنتاج‬
‫والﺛروة؟ ﻣتﻰ يصبح التﺧﻠص ﻣن الشغل ﻣﺟرد يوتوبيا؟ أﻻ توﺟد‬
‫فوضﻰ بين الﺣياة الﻣﮭنيﺔ والﺣياة الﺧاصﺔ؟ كيف يﻣﺛل اﻗتصاد‬
‫التﻘاﺳم ﻣﺣاولﺔ ﻣن الرأﺳﻣاليﺔ لتﺟاوز انتﻘاداتﮭا وتﺟديد نفﺳﮭا؟ أﻻ‬
‫يﺟوز التﺧوف ﻣن ﺣكم الﻘضاة؟ ھل يﻣكن التﺧﻠص ﻣن النفوذ؟‬
‫ﻣاذا تصﻠح الﻣدرﺳﺔ اليوم؟ ولﻣاذا بﻘيت الﻌائﻠﺔ ھﻲ النواة‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ التﻲ يتشبث بوﺟودھا األشﺧاص؟ إلﻰ أي ﻣدى تكون‬

‫‪10‬‬
‫إيتيﻘا لﻠﺣيوانات ﻣﻣكنﺔ؟ أﻻ يﻣكن لﻠﻣرء أن يﺧتار ھويته‬
‫النوﻋيﺔ؟ھل يﻣكن لﻠناس أن يﻌيشوا دون اﻻﻋتﻘاد فﻲ وﺟود اله؟‬
‫وﻣاذا يفﻌﻠون فﻲ طبائﻌﮭم الﻣتناھيﺔ وﻋطوبيﺔ أوضاﻋﮭم الﮭشﺔ؟‬
‫وكيف يﺳﻌون إلﻰ ضﻣان ﺳﻌادتﮭم؟ ﻣتﻰ تصبح الرياضﺔ تﻣرينا‬
‫روﺣيا وﺟﺳديا فﻲ ذات الوﻗت؟ لﻣاذا يﻣﺛل النﺟاح الفردي ھو‬
‫الﻣؤشر الشﺧصﻲ ﻋﻠﻰ النﺟاح؟ وبأي ﻣﻌنﻰ يغيب ﻋند الﺟﻣيﻊ‬
‫التفكير فﻲ تﺣﻘيق النﺟاح الﺟﻣاﻋﻲ والﻣنفﻌﺔ الﻌاﻣﺔ؟ إلﻰ أي ﻣدى‬
‫تﻘدر الﻌﻠوم الﻌرفانيﺔ ﻋﻠﻰ تفﺳير كل شﻲء؟ وھل يﻣكن‬
‫لﻠرياضيات أن تﺳتﻌيد الريادة ﻣن الﻌﻠوم األﺧرى؟ أي ﻗدرة ﻋﻠﻰ‬
‫التﺣكم فﻲ الواب؟ كيف تﻣنح الﻣﺳﻠﺳالت التﻠفزيﺔ ﺣياة الناس‬
‫الﻣتﻌﺔ والبﮭﺟﺔ؟ وأي تطور لإلنﺳان الﻌارف؟ وأي إنﺳانيﺔ‬
‫لﻌصرنا؟ ﻣن أين أتﻰ اﻻنﺳان؟ وﻣاھﻲ طبيﻌﺔ الكائن البشري؟‬
‫فيﻣا يﺧتﻠف ﻋن ﻋن طبيﻌﺔ الكائن؟ وھل يوﺟد الﻌالم بالفﻌل ﺧارج‬
‫ذواتنا؟ وﻣن أين أتت اﺟتﻣاﻋيﺔ اﻻنﺳان؟ وﻣاھو ﻣﺣرك التاريﺦ‬
‫البشري؟ وﻣا ﻣصدر الﻠغﺔ؟ وكيف تتكون األفكار؟ ھل الدين أصل‬
‫اﻻﻏتراب؟ وﻣن أين تنﺣدر الﻘيم األﺧالﻗيﺔ؟ وﻣا طبيﻌﺔ الﺣﻘيﻘﺔ؟‬
‫لﻘد تراﺟﻌت الﻣﻘاربات الفكريﺔ التﻲ تﻣتد ﻣن ﻣﺟال اﻹيتيﻘا إلﻰ‬
‫دوائر الﺣﻘوق وتضم الﻌطوبيﺔ والﮭشاشﺔ والنوع اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫والﻣﺧاطر البﺳيكولوﺟيﺔ وتﻌﻠن ﺧﺳوف شﻣس الﺣياة الﺳياﺳيﺔ‬
‫الﻣشتركﺔ وارادة الﻌيش الﺳوي والتﻌدد الﺛﻘافﻲ وتﻌتنﻲ بﺣريﺔ‬
‫الفرد وتبﺣث ﻋﻠﻰ الصﻌيد اﻻﻗتصادي ﻋن بناء اﻗتصاد الﺛﻘﺔ‬
‫والنﻣاء‪.‬‬
‫لﻘد تزايدت ﺣاﺟيات اﻹنﺳان الﻣﻌاصر وصارت الكﻣاليات‬
‫ضروريات وتﻌطﻠت الﻌديد ﻣن البدائل وﺳﻘطت ﻋدة اﻻﺧتيارات‬

‫‪11‬‬
‫وﻋم الﻌرضﻲ والﻣفاﺟئ والﻣداھم ﻋﻠﻰ الﺛابت والﻣﺳتﻘر والﻣتوﻗﻊ‬
‫وﻏاب الترابط بين الفكر والتﺟربﺔ والﻌالﻗﺔ التكاﻣﻠيﺔ بين النظر‬
‫الﻌﻘﻠﻲ والﻌﻣل الﻣيدانﻲ واكتﺳﺣت الفوضﻰ ﻣا تبﻘﻰ ﻣن نظام‪.‬‬
‫ربﻣا ﻣن أكﺛر الﻘضايا التﻲ ﻣازالت تشغل البال اليوم ھﻲ‬
‫الﻣﻌرفﺔ والديﻣﻘراطيﺔ واألديان والﮭﺟرة والطاﻗﺔ والﻌدالﺔ‬
‫والالّﻣﺳاواة والصﺣﺔ والشغل والفرديﺔ واألﺳرة والنوع‬
‫والﺣيوانات والﺛﻘﺔ وﺣفظ كراﻣﺔ اﻹنﺳانيﺔ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو تﺣتاج البشريﺔ اليوم أكﺛر ﻣن أي وﻗت إلﻰ‬
‫تﺣديد ﻣفﮭوﻣﻲ لإلرھاب واﻹﺳالم والﻌﻠﻣنﺔ والتﺣضر والﻰ وضﻊ‬
‫ﻣﻘياس ﻣنﮭﺟﻲ لﻠتﻣييز بين الﻘوة والﺣق وبين الﻌنف الالّﻣشروع‬
‫والالّﻋنف الناﺟﻊ والﻰ تﻘديم أﺟوبﺔ واضﺣﺔ ﺣول دور الدولﺔ‬
‫ووﺟﮭﺔ الﻌالم وﻣصير الكوكب وﻣﺳتﻘبل الﺣياة ﻋﻠﻰ األرض‪.‬‬
‫لكن كيف ﺳﻘطت النزﻋﺔ اﻹنﺳانويﺔ فﻲ الﻌدﻣيﺔ الﻘيﻣيﺔ؟ وﻣا‬
‫الﺳبيل إلﻰ اﺳتﻌادة روح التفاؤل واألﻣل؟‬

‫الﻣصدر‪:‬‬
‫‪Revue Sciences Humaines, numéro spécial, N°‬‬
‫‪266,Janvier 2015‬‬

‫‪12‬‬
‫الباب األول‬

‫مدنية االسالم واالنفتاح على العالم‬

‫مقدمة‬
‫"الﻘدر ھو ﻻ أﺣد والﻣﺳؤوليﺔ ھﻲ شﺧص ﻣا"‪.‬‬
‫ﺑول ريﻛور‪ ،‬الزﻣان والﺳرد‪.‬‬

‫ﻻ ينﻘﺳم الﻌالم فﻘط إلﻰ ﻏرب وشرق فﮭذا تﻘﺳيم تاريﺧﻲ أﺳاﺳه‬
‫ﻋﻘائدي وﺳببه النزاﻋات والﺣروب التﻲ اندلﻌت ﻋﻠﻰ ﻣر الﻌصور‬
‫والتﻲ كونت األﺣالف واﻻﺳتﻘطابات‪ ،‬ولكنه أيضا ينﻘﺳم إلﻰ شﻣال‬
‫وﺟنوب وھذا تﻘﺳيم ﺟغرافﻲ أﺳاﺳه اﻗتصادي يكون فيه الشﻣال‬
‫ھو الغنﻲ الﻣزدھر والﻣتطور والﺟنوب ھو الفﻘير الناﻣﻲ‬
‫والﻣﺳتضﻌف ولذلك تكونت الﻌﻘد والصور الﻣزيفﺔ وتكاﺛرت‬
‫اﻻنتﻘادات باﺣتﻘار وﻣﺧادﻋﺔ دول الﻣركز الﻣوﺟودة فﻲ الشﻣال‬
‫وﺧاصﺔ فﻲ أوروبا وأﻣريكا الشﻣاليﺔ وشﻣال آﺳيا ﻣﻣﺛﻠﺔ فﻲ اﻻتﺣاد‬
‫الروﺳﻲ واليابان لدول األطراف وﻣناطق الظل الﻣوﺟودة فﻲ‬
‫الﺟنوب وﺧاصﺔ فﻲ إفريﻘيا وأﻣريكا الوﺳطﻰ والالتينيﺔ وﺟنوب‬
‫آﺳيا وشرق أوروبا وﺟنوبﮭا‪.‬‬
‫بﻌد أﺣداث ‪11‬ﺳبتﻣبر ‪ 2001‬الداﻣيﺔ والتﻲ كانت تداﻋياتﮭا‬
‫كارﺛيﺔ ﻋﻠﻰ الﻌرب والﻣﺳﻠﻣين والﻣﻌﻣورة والتﻲ ﺧدشت الﻘيﻣﺔ‬
‫اﻻﻋتباريﺔ لﻠغرب وبﻌد بروز الﺟيل الﺛالث لﻣنظوﻣﺔ ﺣﻘوق‬

‫‪13‬‬
‫اﻹنﺳان وانتشار ﻣوﺟات التشﺟيﻊ ﻋﻠﻰ الديﻣﻘراطيﺔ وتشكل ﻣﺟتﻣﻊ‬
‫ﻣدنﻲ ﻋالﻣﻲ ﻋزﻣت ﻋدة دول وأﺣزاب وھيئات وشﺧصيات‬
‫تاريﺧيﺔ وﻣنظرون كبار تﺟاوز ﻣﺧﻠفات الﺣﻘبﺔ اﻻﺳتﻌﻣاريﺔ‬
‫واﻻنتﻘال ﻣن ﻣرﺣﻠﺔ إﻋطاء الﺣريﺔ واﻻﺳتﻘالل إلﻰ اﻻﻋتراف‬
‫بالغيريﺔ الﺛﻘافيﺔ والﺳيادة الوطنيﺔ لدول الﺟنوب وتﻘديم اﻻﻋتذار‬
‫وطﻠب الصفح ﻣن شﻌوبﮭا ﻣن أﺟل الوصول إلﻰ ﻣصالﺣﺔ وشراكﺔ‬
‫ﻣﻌﮭا‪ ،‬فﮭل يكفﻲ لﻠشرق طﻠب اﻻﻋتذار ﻣن الغرب أم يفترض أن‬
‫يﺳﻠك أﺳﻠوب الكفاح الديﻣﻘراطﻲ والنضال الﺳﻠﻣﻲ ﻣن أﺟل نزع‬
‫اﻻﻋتراف ﻣنه؟‬
‫والﺣق أنه ﻻ يﮭم ﻣن يﻌتذر ولﻣن يﻘدم اﻋتذاره وﻻ يﮭم ﻗبول‬
‫الطرف اآلﺧر اﻻﻋتذار أم رفضه بل األھم ﻣن كل ذلك ھو ﺣركﺔ‬
‫اﻻﻋتذار نفﺳﮭا وطﻠب الﻣﺟاھرة بالﺣﻘيﻘﺔ والتوﺟه نﺣو الصفح‬
‫والتصالح‪ ،‬فﮭذه التﺟارب الﺣﻘوﻗيﺔ تﻣﺛل ﻗيﻣﺔ نبيﻠﺔ وتوﺟه نﺣو‬
‫ﻣﺣو أﺛار الﻣاضﻲ وطﻲ الﻣﻣارﺳات الﻣظﻠﻣﺔ وتدشين صفﺣﺔ‬
‫ﺟديدة كﻠﮭا ﻋزم وإﻗبال‪ ،‬فاﻻﻋتذار فﻌل نبيل يﻌبر ﻋن رﻗﻲ تفكير‬
‫ﻣن يﻘوم به وﺳﻣوه األﺧالﻗﻲ ويﻘطﻊ ﻣﻊ أﺧالق الﻌبيد وﻋادات‬
‫اﻻضطغان واﻻنتﻘام والتشفﻲ ويتفوق ﻋﻠﻰ ﻣنطق ﺟنون الﻌظﻣﺔ‬
‫ويﻘطﻊ ﻣﻊ ﻋﻘﻠيﺔ التﻣركز ﻋﻠﻰ الذات‪.‬‬
‫الالفت لﻠنظر أنه ﺳواء نظرنا إلﻰ الﻌالﻗات الدوليﺔ ﻣن زاويﺔ‬
‫التﻘﺳيم شرق‪/‬ﻏرب أو إلﻰ الﺟغرافيا الﺳياﺳيﺔ الﻌالﻣيﺔ ﻣن زاويﺔ‬
‫شﻣال‪ /‬ﺟنوب فإننا نﺣصل ﻋﻠﻰ نفس النتيﺟﺔ وھﻲ أن الﻌرب‬
‫والﻣﺳﻠﻣين ينتﻣون إلﻰ الﻣﺟال الدول التابﻌﺔ والتﻲ ﻣورﺳت ضدھا‬
‫كل أشكال اﻻﺳتغالل والتﺟﮭيل واﻹفﻘار‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫فﻲ ھذا الﺳياق ﺧاضت بﻌض الدول ﺣركات التﺣرر الوطنﻲ‬
‫وصراع ﻣن أﺟل اﻻﻋتراف الكاﻣل باﻹنﺳانيﺔ وﻣن أﺟل تﺣﻘيق‬
‫اﻻﺳتﻘالل والﺳيادة التاﻣﺔ ﻋﻠﻰ أراضيﮭا وتﻘرير ﻣصير شﻌوبﮭا‬
‫بنفﺳﮭا ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو‪.‬‬
‫لم تﻌد ھيﻣنﺔ دول الﻣركز ﻋﻠﻰ دول الﻣﺣيط تﻣﺛل ﻗدرا نﮭائيا‬
‫وﻻ تتﺣﻣل دول الشﻣال ﻣﺳؤوليﺔ كاﻣﻠﺔ فﻲ ﺣالﺔ التبﻌيﺔ التﻲ ظﻠت‬
‫دول الﺟنوب كﻣا ھﻲ ﻋﻠيﮭا وبدل ﺣيل الدبﻠوﻣاﺳيﺔ والتظاھر‬
‫بتﻘديم اﻻﻋتذارات الﻌﻠنيﺔ وفق ﺳﻠوك برﻏﻣاتﻲ ﻣكشوف يﺧفﻲ‬
‫الرﻏبﺔ فﻲ تﺣﻘيق ﻣصالح ﻣاديﺔ كبيرة ينبغﻲ رد اﻻﻋتبار‬
‫والﻣﺳاھﻣﺔ الفﻌﻠيﺔ فﻲ ردم الفﺟوة الرﻗﻣيﺔ بين الطرفين‪ .‬فﮭل‬
‫نطﻠب ﻣن دول األطراف تﺣالف ﺟنوب ﺟنوب ﻣن أﺟل التنﻣيﺔ‬
‫والﻠﺣاق بالركب أم أن ﻣﺳتﻘبﻠﮭا رھين اﻋتذار دول الشﻣال لﮭا‬
‫واﻻﻋتراف بﮭا كند وشريك فﻌﻠﻲ ﻣن أﺟل بناء إنﺳانيﺔ اﻹنﺳان‬
‫اآلﺧر؟ أليس اﻻنتﻘال ﻣن ﻣﺟرد اﻋتراف الشﻣال بﺣق الﺟنوب فﻲ‬
‫الﺣياة إلﻰ اﻻﻋتذار ورد اﻻﻋتبار ھو ﻣن أوكد األﻣور ﺣتﻰ ﻻ‬
‫تتكرر ﻣﺛل تﻠك الﻌﻣﻠيات الﻌدﻣيﺔ؟‬
‫تﺳتوﺟب ھذه اﻹشكاليات التﻲ طرﺣت التطرق إلﻰ الﻣﺣاور‬
‫التاليﺔ‪:‬‬
‫‪ -1‬دراﺳﺔ الروابط بين الﺛﻘافات والكشف ﻋن دوافﻊ الصدام‬
‫‪ -2‬اﻋتبار الفﻠﺳفﺔ وﺳيط رﻣزي بين اﻻﺳالم والغرب‬
‫‪ -3‬نﻘد األﺣكام الﻣﺳبﻘﺔ التﻲ التصﻘت بالﺣضارة اﻻﺳالﻣيﺔ‬
‫‪ -4‬تنشيط البﻌد الﺛﻘافﻲ ﻣن ﻣﺟرد دائرة انتﻣاء الﻰ ﻋاﻣل انﻣاء‬
‫‪ -5‬تبدل الﺛﻘافﺔ الﻰ ﺣضارة واﺳتﻌﺟال ﻣواﺟﮭﺔ الﺟﮭل‬
‫الﻣﻘدس‬

‫‪15‬‬
‫‪ -6‬طرق اﺳتبدال التطاﺣن بين الﺣضارات بالﺣوار والتفاھم‬
‫‪ -7‬اﻻﺳترشاد بالﺧطابﻲ األنﺛربولوﺟﻲ وتﻘريظ اﻻﺧتالف‬
‫‪ -8‬تفصيل الﺧطاب فﻲ الﻌروة الوﺛﻘﻰ بين اﻻﺳالم والﻣدنيﺔ‬
‫‪ -9‬اﻣاطﺔ الﻠﺛام ﻋن تﻣفصل اﻻيديولوﺟيا واليوتوبيا فﻲ الفكر‬
‫اﻻﺳالﻣﻲ‬
‫‪-10‬اﻻرتﻘاء بالﺧطاب الﻘرآنﻲ ﻣن ﻋﻠوم الﺳرد الﻰ فﻠﺳفﺔ‬
‫الﻘصص‬
‫‪ -11‬أھﻣيﺔ رﺳم صور رﺳالﺔ اﻻﺳالم ﻣن ﻣنظور ﻏير ﻋربﻲ‬
‫‪-12‬اﺳتﺧالص بﻌض الرؤى الﺳياﺳيﺔ ﻣن التراث الفﻠﺳفﻲ‬
‫الﻌربﻲ‬
‫‪-13‬وضﻌيﺔ الﺣداﺛﺔ الﻌربيﺔ بين ﺳﻠطﺔ الﻣيراث وﺟاذبيﺔ التﻘدم‬
‫‪ -14‬التفتيش ﻋن أﺳباب ﺟنوح الﻌرب الﻰ التﺧريب والﮭدم‬
‫‪-15‬تزايد أﻣراض الديﻣﻘراطيﺔ فﻲ ﺣضارة اﻗرأ‬
‫‪ -16‬ﺟﺳور الﻣرور ﻣن التبﻌيﺔ الﺛﻘافيﺔ الﻰ اﻻﺳتﻘالل‬
‫الﺣضاري‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الفصل األول‬

‫تاريخ عالقة بني اإلسالم والغرب‬

‫استهالل‪:‬‬

‫"انه ﻣن الضروري أن يُﻣت َﺣن ﻣا كان الغرب ﻗد فكر فيه‪ ،‬وأن يُﻌاد بناء‬
‫‪1‬‬
‫الفكر التيﻠوﺟﻲ لالﺳالم"‬

‫ﻣن ﺣيث الﻣبدأ ينبغﻲ أن يﻘوم ﺣوار بين الﺛﻘافات وتفاﻋل بين‬
‫الشﻌوب وتﺳاﻣح بين األديان والتﻘاء بين الﻣﺟتﻣﻌات وترﺟﻣﺔ ونﻘل‬
‫بين الﻠغات ﻣن أﺟل بناء ﻣشترك انﺳانﻲ كونﻲ ﻗيﻣﻲ ولكن ﻣن‬
‫ﺣيث الواﻗﻊ وبكل أﺳف ﺛﻣﺔ تصادﻣا بين الدول وﺳوء تفاھم بين‬
‫الﺧصوصيات وﺣروب ونزاﻋات بين الﺟﻣاﻋات الكبرى فﻲ كافﺔ‬
‫أرﺟاء الﻣﻌﻣورة ولﻌل الﻌالﻗﺔ بين الغرب واﻹﺳالم لم تشذ ﻋن‬
‫ھذه الﻘاﻋدة ﺣيث لم تبارح األزﻣﺔ ﻣكانﮭا ﻣنذ تشكل ھذه الﻌالﻗﺔ‬
‫بالرﻏم ﻣن تﻘاﺳم اﻻنتﻣاء الروﺣﻲ والﺟغرافﻲ لﻠطرفين‬
‫والتشارك واﻻﺣتكاك الطويل بينﮭﻣا‪ .‬ان ﻣظاھر ھذه األزﻣﺔ‬
‫كانت فﻲ ﻣا ﻋرف باﻻنتشار اﻹﺳالﻣﻲ أو الفتح والتﻲ رد ﻋﻠيﮭا‬
‫الغرب بﻣا يﺳﻣﻰ الﺣروب الصﻠيبيﺔ واﻻﺳترﺟاع والتﻲ ﺧفت‬

‫‪1‬‬
‫‪Le Point Références – Penser l’islam hier et aujourd’hui,‬‬
‫‪Novembre- Décembre 2015, p77.‬‬

‫‪17‬‬
‫ﺣدتﮭا ﻣﻊ الﺣداﺛﺔ والتنوير وبروز الدولﺔ األﻣﺔ لتﻌاود الظﮭور‬
‫بشكل أكﺛر ﺣدة ﻣﻊ اﻻﺳتﻌﻣار الﺳياﺳﻲ والﮭيﻣنﺔ الﻌﺳكريﺔ‬
‫الﻣباشرة فﻲ ﻋصر اﻹﻣبراطوريات وﺣتﻰ نيل بﻌض الدول‬
‫ﻻﺳتﻘاللﮭا وتﻣتﻌﮭا بﺣق تﻘرير ﻣصيرھا ﻣن الﺟانب اﻹﺳالﻣﻲ و‬
‫رﻏم تﻘيد الدول الغربيﺔ بﻣنظوﻣﺔ ﺣﻘوﻗيﺔ إنﺳانيﺔ فانه لم ينه ﺣالﺔ‬
‫اﻻﺣتﻘان والتشنج الباديﺔ ﻋﻠﻰ الﻣﻌﺳكرين والتﻲ تﺟﻠت فﻲ تبادل‬
‫ﻣشاﻋر الكراھيﺔ والﺣﻘد واﻻﻋتداء ﻋﻠﻰ الرﻣوز الﺣضاريﺔ‬
‫لﻠطرفين وﻣﻣارﺳﺔ اﻹﻗصاء والتﮭﻣيش‪.‬‬
‫فﻲ ھذا اﻹطار تبدو ﻣﮭﻣﺔ الﻌﻠﻣاء والﻣﺛﻘفين ﻣن الﺟانبين‬
‫ﺣاﺳﻣﺔ وضروريﺔ ﻣن أﺟل إزالﺔ ﺣالﺔ اﻻلتباس وتنﻘيﺔ األﺟواء‬
‫وتﺣكيم الﻌﻘل وتﻘديم صورة ﻣﻘبولﺔ لآلﺧر بالنﺳبﺔ لألنا ولكن‬
‫البﻌض ﻣنﮭم انﺳاق وراء الدﻋايات الﻣغرضﺔ ونذر نفﺳه ﻣن أﺟل‬
‫تغذيﺔ ھذه الصراﻋات والﻣدافﻌﺔ ﻋن الﮭويﺔ وﻣﻌاداة كل ﻣاھو‬
‫ﻏيري‪ ،‬وﻣن بين ھؤﻻء الﻣنظرين نذكر صاﻣوال ھنتغتون فﻲ‬
‫كتابه صدام الﺣضارات والذي تناول فﻲ ﻣواضﻊ ﺛالﺛﺔ ﻣنه ظاھر‬
‫اﻹﺳالم بالنﻘد والتشريح والتفكيك ﻻ لشﻲء اﻻ لﻠتﮭويل والتﺧويف‬
‫والتﺣاﻣل وﻣن أﺟل تﺣضير األرضيﺔ الفكريﺔ لﻠﻘضاء ﻋﻠﻰ ھذه‬
‫الﺣضارة التﻲ أفادت البشريﺔ ونﮭل ﻣن ﻣﻌينﮭا الغرب نفﺳه‪،‬لكن‬
‫ﻣاھﻲ نظرة صاﻣوال ھنتغتون الﻰ اﻹﺳالم؟ والﻰ أي ﻣدى كانت‬
‫وﺟﮭﺔ نظره ﻋن الﻌالﻗﺔ بين الغرب واﻹﺳالم صﺣيﺣﺔ؟ أﻻ يﻣكن‬
‫أن نتﺟاوز صدام الﺣضارات وتأﺳيس تﺣالف وﺣوار بينﮭا؟‬
‫ﻣا نراھن ﻋﻠيه ھو تفكيك األﺣكام الﻣﺳبﻘﺔ والصور الﻣشوھﺔ‬
‫التﻲ تﺣﻣﻠﮭا الﻣﺟتﻣﻌات ﻋن بﻌضﮭا البﻌض لﻠتﺧﻠص ﻣن الﻣيراث‬
‫فﻲ نظرة الﻰ اآلﺧر والﻌﻣل ﻋﻠﻰ بناء ﺟﺳور التواصل ﻣﻊ‬

‫‪18‬‬
‫اﻻنﺳانيﺔ بغيﺔ إفادتﮭا واﻻﺳتفادة ﻣنﮭا فﻲ الﻣﻌارف والﻘيم والتﻘنيات‬
‫التﻲ تﺳﮭل الﺣياة وتشﺟﻊ اﻹﻗبال ﻋﻠﻰ الوﺟود‪.‬‬

‫‪ -1‬أسﺑاب انﺑﻌاث اإلسالم اﻟسياسي‪:‬‬


‫اﻻنبﻌاث أﺛر فﻲ الﻣﺳﻠﻣين فﻲ كل دولﺔ وفﻲ ﻣﻌظم ﻣظاھر‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ والﺳياﺳﺔ فﻲ ﻣﻌظم الدول اﻹﺳالﻣيﺔ‪.‬‬
‫يرصد ھنتغنتون ﺣالﺔ التشدد التﻲ يبدو ﻋﻠيﮭا الشرﻗيون ويفﺳر‬
‫ذلك بالتطور اﻻﻗتصادي وبﻣﺣاولتﮭم التكيف ﻣﻊ التأﺛيرات التﻲ‬
‫أﺣدﺛﮭا الغرب فيﮭم وبﺣﺛﮭم ﻋن ﺣل لﻠﻣشاكل الﻣطروﺣﺔ فﻲ‬
‫الﺳاﺣﺔ الدوليﺔ‪.‬‬
‫يربط بين اﻻنبﻌاث اﻹﺳالﻣﻲ واألصوليﺔ والصﺣوة واﻹﺣياء‬
‫ويﻌتبرھا ﺣركﺔ ﺛﻘافيﺔ وفكريﺔ ذات ﻗاﻋدة اﺟتﻣاﻋيﺔ ﻋريضﺔ‬
‫وتﺣﻣل ﻣشروﻋا ﺳياﺳيا ويؤكد أن ھذا التيار ليس ﻣتطرفا وﻻ‬
‫ﻣﻌزوﻻ بل ھو ﻣﻌتدل وﻣنتشر ﻣﺳتﻌد لتكريم اﻹﺳالم واﻻلتزام به‬
‫واﺳتﻌادته كﻣرشد فﻲ الﺣياة‪ .‬ويكشف ھنتغتون ﻋن وﺟود‬
‫ﻣفارﻗات بﺧصوص ﻋالﻗﺔ اﻹﺳالم الﺳياﺳﻲ بالغرب‪ ،‬الﻣفارﻗﺔ‬
‫األولﻰ تتﻣﺛل فﻲ ﻗبول الشرﻗيين لﻠﺣداﺛﺔ والﻣنتﺟات التﻘنيﺔ وفﻲ‬
‫رفضﮭم الغربنﺔ واألفكار الﺳياﺳيﺔ واألﺧالﻗيﺔ التﻲ تبشر بﮭا ھذه‬
‫الﺣداﺛﺔ‪ ،‬الﻣفارﻗﺔ الﺛانيﺔ تتﻣﺛل فﻲ اﻻنبﻌاث ھو ﻣﺣاولﺔ لﻠتكيف ﻣﻊ‬
‫الﻌالم الغربﻲ ﻣن ﺟﮭﺔ والبﺣث ﻋن ﺣل لﻣواكبﺔ الﻌصر باﻻﻋتﻣاد‬
‫ﻋﻠﻰ اﻹﺳالم لوﺣده والتﺧﻠﻲ ﻋن الﺣﻠول التﻲ يوفرھا الﻌالم‬
‫الغربﻲ‪.‬‬
‫يﻘول فﻲ ھذا الﺳياق‪ :‬ان الﻣﺳﻠﻣين بأﻋدادھم الﮭائﻠﺔ كانوا فﻲ‬
‫نفس الوﻗت يتﺟﮭون نﺣو اﻹﺳالم كﻣصدر لﻠﮭويﺔ والﻣﻌنﻰ‬

‫‪19‬‬
‫واﻻﺳتﻘرار والشرﻋيﺔ والتطور والﻘوة واألﻣل‪ .‬ويﻌرج ھذا الكاتب‬
‫ﻋﻠﻰ أھم ﻗﺳﻣين يتﺣكﻣان فﻲ الشرق وھﻣا ايران والﺳﻌوديﺔ‬
‫ويشير الﻰ شﻌاراﻹﺳالم ھو الﺣل ويفﺳره بأنه دﻋوة الﻰ اﻋتبار‬
‫اﻹﺳالم ليس ﻣﺟرد دين يﻌبد بل ينبغﻲ تﺣويﻠه الﻰ وﺳيﻠﺔ لﻠتﻘدم‬
‫ونﮭج فﻲ الﺣياة‪ .‬فﮭل نفﮭم ﻣن ھذه الﻘراءة لالنبﻌاث أن الكاتب‬
‫يﻌتبرھا ظاھرة تضاھﻲ ﻣن ﺣيث ﻗيﻣتﮭا اﻹصالح الدينﻲ فﻲ‬
‫أوروبا فﻲ الﻌصر ﻗبل الﺣديث والﺛورات الفرنﺳيﺔ واألﻣريكيﺔ‬
‫والبﻠشفيﺔ فﻲ روﺳيا؟‬
‫لﻘد تﺟﻠﻰ اﻻنبﻌاث اﻹﺳالﻣﻲ ﺣﺳب ھنتغنتون فﻲ الﺣرص ﻋﻠﻰ‬
‫أداء الشﻌائر الدينيﺔ والتشبث بﻣا يﻌتﻘد أنه الزي الدينﻲ ﻣﺛل‬
‫الﺣﺟاب ﻋند الﻣرأة والﻘﻣيص ﻋند الرﺟل وتكاﺛر الفضائيات‬
‫والبراﻣج اﻹﻋالﻣيﺔ اﻹيﻣانيﺔ والﻌودة الﻣكﺛفﺔ الﻰ التصوف‬
‫والروﺣانيات وتبنﻲ بﻌض الدول شﻌارات دينيﺔ ﻣن أﺟل تﻘويﺔ‬
‫ﻣشروﻋيتﮭا وظﮭور نظم تربويﺔ واﻗتصاديﺔ واﺟتﻣاﻋيﺔ ذات ﻣنﺣﻰ‬
‫إﺳالﻣﻲ‪ .‬لﻘد أدرك الﺟﻣيﻊ الﻘوة الكاﻣنﺔ فﻲ الدين بﺣيث أن األنظﻣﺔ‬
‫الﺣاكﻣﺔ والﺣركات الﺳياﺳيﺔ الﻣﻌارضﺔ أصبﺣت تﺳتﻣد ﻣنه‬
‫ﺳﻠطتﮭا لتﺣافظ ﻋﻠﻰ بﻘائﮭا ولتضﻣن التأييد الشﻌبﻲ‪ ،‬وبالتالﻲ‬
‫طرﺣت الشريﻌﺔ اﻹﺳالﻣيﺔ كبديل ﻋن الﻘانون الوضﻌﻲ الغربﻲ‬
‫والتﺣالف بين الدول اﻹﺳالﻣيﺔ ﻣكان اﻻنتﻣاء الﻰ الﻣنظوﻣﺔ‬
‫الدوليﺔ‪.‬‬
‫يفﺳر األصولﻲ ظاھرة فﺳاد الوﺟود وانﺣدار الﺧﻠق نﺣو‬
‫الﻣﮭالك بأنه ﻏضب الﮭﻲ نتيﺟﺔ اﻻبتﻌاد ﻋن الصراط الﻣﺳتﻘيم‬
‫ويﻌﻠق ھنتغنتون‪:‬ان انتﻘام اآللﮭﺔ ظاھرة ﻋالﻣيﺔ ولكن هللا ﻗد ﺟﻌل‬
‫انتﻘاﻣه أكﺛر انتشارا وتﺣﻘﻘا فﻲ األﻣﺔ ﺟﻣاﻋﺔ اﻹﺳالم‪ .‬ولذلك فانه‬

‫‪20‬‬
‫يدﻋو الﻰ أﺧذ ھذه الظاھرة بﻌين اﻻﻋتبار ودراﺳتﮭا دراﺳﺔ ﺟديﺔ‬
‫ألنﮭا تشبه ﻣن ﺣيث الﻘيﻣﺔ ﺣركﺔ اﻹصالح الدينﻲ وتأﺛيرھا ﻋﻠﻰ‬
‫الفكر الﺳياﺳﻲ الﺣديث وتشبه كذلك تأﺛير الفﻠﺳفﺔ الﻣاركﺳيﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫الﺳياﺳﺔ الدوليﺔ الﻣﻌاصرة‪.‬‬
‫يرى ھنتغنتون أن اﻻنبﻌاث اﻹﺳالﻣﻲ الذي أﺛر تﻘريبا فﻲ كل‬
‫ﻣﺟتﻣﻊ إﺳالﻣﻲ ليس ﻣﺟرد إصالﺣا ﺣﻘق تﻘدﻣا بﺳيطا فﻲ بﻌض‬
‫الﻣﺟاﻻت فﻲ ﻣﺟتﻣﻊ دون آﺧر بل ھو تيار رئيﺳﻲ ذو ﺣركﺔ ﻣﻌﻘدة‬
‫تتكون ﻣن ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن النصوص الﻣؤﺳﺳﺔ وتنطﻠق ﻣن نظرة‬
‫ﻣتكاﻣﻠﺔ ﻋن الﻣﺟتﻣﻊ الﻣﺛالﻲ ترد الفﻌل ضد ركود وفﺳاد‬
‫الﻣؤﺳﺳات الﻘائﻣﺔ ﻋن طريق الﻌنف الﺛوري وترفض التنوع‬
‫الﻌﻘائدي والﻘوى الﻣﮭيﻣنﺔ وتﺳﻌﻰ الﻰ التغيير الﺟذري بالتوﺟه‬
‫نﺣو الطبﻘﺔ الصاﻋدة وتدافﻊ ﻋن الﻌودة الﻰ شكل نﻘﻲ وطاھر ﻣن‬
‫التدين‪.‬‬
‫يﻌترف ھنتغتون بأن ﻣظاھر اﻻنبﻌاث ھﻲ اﺟتﻣاﻋيﺔ وتربويﺔ‬
‫وﺛﻘافيﺔ أكﺛر ﻣنﮭا ﺳياﺳيﺔ ألن اﻋتبار ﻣﻌظم الدول اﻹﺳالم كﻌنصر‬
‫ﻣركزي ليس ﻣرده اﻋتﻣاده كنظام فﻲ الﺣكم بل النظر اليه كﻌنصر‬
‫أﺳاﺳﻲ فﻲ التﺣديث والتطوير وتﻣكينه لشرائح شبابيﺔ صاﻋدة ﻣن‬
‫الﻣشاركﺔ الفﻌالﺔ فﻲ ھذا التﺣديث إذ يﻘول فﻲ ھذا الﺳياق‪ :‬الﻣظاھر‬
‫الﺳياﺳيﺔ لالنبﻌاث ھﻲ أﻗل انتشارا ﻣن الﻣظاھر اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫والﺛﻘافيﺔ ولكن ﻣا زالت تﻌتبر التطور الﺳياﺳﻲ الوﺣيد األكﺛر‬
‫أھﻣيﺔ فﻲ الﻣﺟتﻣﻌات اﻹﺳالﻣيﺔ فﻲ الربﻊ األﺧير ﻣن الﻘرن‬
‫الﻌشرين‪.‬‬
‫لﻘد أﻗر ھذا الكاتب توﺟه اﻹﺳالم الﺳياﺳﻲ نﺣو الﻌﻣل الﺧيري‬
‫الطوﻋﻲ وﻣﺳاﻋدة الﻣﺟتﻣﻊ ﻋند ﺣصول الكوارث الطبيﻌيﺔ‬

‫‪21‬‬
‫واألزﻣات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ﻣن أﺟل توفير الرﻋايﺔ الصﺣيﺔ الﻣﺟانيﺔ أو‬
‫بﻌض الﻣﺳاﻋدات التﻣوينيﺔ لﻠفئات التﻲ تﻌانﻲ ﻣن الﺧصاصﺔ‪.‬‬
‫الﻣﺟاﻻت الﺛالث التﻲ ركز ﻋﻠيﮭا اﻹﺳالم الﺳياﺳﻲ شغﻠه وانتباھه‬
‫ھﻲ النﺳاء والشباب والﻣﮭاﺟرين فﻘد أولﻰ ﻋنايﺔ فائﻘﺔ بﺣﻘوق‬
‫النﺳاء وركز ﻋﻠﻰ الﻌرض والدين واألﺧالق واھتم بالطﻠبﺔ‬
‫والﺟاﻣﻌات ﻋبر الدﻋوة والتبشير والكتب الﻣبﺳطﺔ التﻲ تركز ﻋﻠﻰ‬
‫تربيﺔ الشباب وتوﺟيﮭﮭم نﺣو الصالح أﻣا الﻣﮭاﺟرون فﻘد ھيئت‬
‫لﮭم ﻣركز ﻋبادة تنﺣت ھويتﮭم بﻣﻌزل ﻋن الﻣﺟتﻣﻌات الغربيﺔ‬
‫وﻗدﻣت لﮭم ﻣﺳاﻋدات ﻣن ﺣيث الشغل والتﻌﻠيم‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك‬
‫يﮭتم ھنتغنتون بوصول اﻹﺳالﻣيين الﻰ الﺣكم فﻲ كل ﻣن ايران‬
‫والﺳودان وتركيا والباكﺳتان والﻣغرب والﺳﻌوديﺔ ويشير الﻰ‬
‫وﻗوع فﻲ ﺧﻠط بين النظام اﻹﺳالﻣﻲ والنظام ﻏير الديﻣﻘراطﻲ‬
‫ويﺳتنكر ﻣﻣارﺳﺔ ھذه األنظﻣﺔ لﻠﺳﻠطﺔ بطريﻘﺔ فرديﺔ وتﺳييرھا‬
‫لﻠﻣﺟتﻣﻊ الﺳياﺳﻲ ﻋﻠﻰ أﺳس ﻋائﻠيﺔ ﻋشائريﺔ واﺳتﻣرارھا بتﻠﻘﻲ‬
‫الدﻋم األﺟنبﻲ وﺟنوﺣﮭا النﺳبﻲ نﺣو الشﻣوليﺔ واﻻﺳتبداد‬
‫ويﺳتﺧﻠص ﺟﻣﻠﺔ ﻣن النتائج التاليﺔ‪ :‬ﻣﻌظم ھذه الﺣكوﻣات ﻣﻊ ذلك‬
‫افتﻘدت أي أﺳاس لتبرير ﺣكﻣﮭا فﻲ شكل ﻗيم إﺳالﻣيﺔ ديﻣﻘراطيﺔ‬
‫أو وطنيﺔ‪ .‬وﻋن ﺳؤال ﻣن ﺳيﺧﻠف ھؤﻻء ﻋﻠﻰ ﺳدة الﺣكم بﻌد‬
‫رﺣيﻠﮭم؟ يﺟيب ھنتغتون بأنه نظام الﺣكم اﻹﺳالﻣﻲ ويبرر ذلك‬
‫بنﺟاح الﺣركات اﻻﺳالﻣويﺔ فﻲ الﮭيﻣنﺔ ﻋﻠﻰ الﻣﻌارضﺔ وبناء‬
‫أنفﺳﮭم كبديل ﺣيوي وﺣيد لﻠنظم الﻌاﺟزة ﺳاھﻣت فيه أيضا‬
‫ﺳياﺳات تﻠك النظم‪.‬‬
‫ان ﻋواﻣل نﺟاح اﻻنبﻌاث اﻹﺳالﻣﻲ ﺣﺳب الكاتب ھو اﻻنفﺟار‬
‫الديﻣوﻏرافﻲ فﻲ البﻠدان اﻹﺳالﻣيﺔ بﺣيث أن الفئﺔ الﻌﻣريﺔ الشابﺔ‬

‫‪22‬‬
‫ھﻲ ﻣن األﻋﻠﻰ فﻲ الﻌالم وﻣن الﻣﻌﻠوم أن الشباب ھم الﻣؤيدون‬
‫دائﻣا لالﺣتﺟاج وﻋدم اﻻﺳتﻘرار واﻹصالح والﺛورة تاريﺧيا وﺟود‬
‫شرائح واﺳﻌﺔ ﻣن الشباب كان يﻣيل الﻰ التزاﻣن ﻣﻊ ﻣﺛل تﻠك‬
‫الﺣركات‪.‬‬
‫الﺳبب الﺛانﻲ ھو إﺧفاق الديﻣﻘراطيﺔ الﻠيبراليﺔ فﻲ ترﺳيﺦ‬
‫ﻣوطن ﻗدم لﮭا فﻲ ﻣﺣيط ﻋربﻲ إﺳالﻣﻲ وتراﺟﻊ اﻻتﺟاھات‬
‫الﻌﻘالنيﺔ والوضﻌيﺔ وتﻣكن الﺣكوﻣات ﻣن إضﻌاف الﻣﻌارضات‬
‫التﻲ تنﮭل ﻣن ﻣرﺟﻌيات ﻋﻠﻣانيﺔ‪.‬فﻲ ﺣين يتﻣﺛل الﺳبب الﺛالث فﻲ‬
‫لﻌب اﻹﺳالﻣيون دورا بارزا فﻲ ﻣﻌارضﺔ األنظﻣﺔ اﻻﺳتبداديﺔ‬
‫ودفاﻋﮭم ﻋن الﺛﻘافﺔ الوطنيﺔ لبﻠدانﮭم فﻲ وﺟه كل التﮭديدات‬
‫الﺧارﺟيﺔ‪.‬‬
‫الﺳبب الرابﻊ ھو ﻣﺳاھﻣﺔ األنظﻣﺔ فﻲ تﻌزيز ﻣوﺟﺔ التدين‬
‫وتشﺟيﻌﮭا ﺛﻘافﺔ اﻻنتﻣاء والدفاع ﻋن الﮭويﺔ وھو ﻣا أضﻌف التيار‬
‫الﻌﻠﻣانﻲ وزاد ﻣن ﻗوة التيار اﻹﺳالﻣﻲ فﻲ الشارع يﻘول ھنتغنتون‬
‫فﻲ ھذا األﻣر‪:‬ان ﻗوة اﻻنبﻌاث وﺟاذبيﺔ الﺣركات اﻻﺳالﻣويﺔ‬
‫ﺣفزت الﺣكوﻣات ﻋﻠﻰ تﻌزيز الﻣﻣارﺳات والﻣؤﺳﺳات اﻹﺳالﻣيﺔ‬
‫وأن تدﻣج فﻲ نظاﻣﮭا الﻣﻣارﺳات والرﻣوز اﻹﺳالﻣيﺔ‪.‬‬
‫أﻣا الﺳبب الﺧاﻣس الذي ﻗوى ظاھرة اﻻنبﻌاث اﻹﺳالﻣﻲ فﮭو‬
‫تراﺟﻊ الﺛﻘافﺔ الغربيﺔ وانﺣﺳار تأﺛيرھا فﻲ الشريﺣﺔ الشابﺔ بﺣكم‬
‫ﺳياﺳﺔ الﻣكيالين والتناﻗض بين الوﻋود واﻻنﺟازات وبين‬
‫الشﻌارات والﻣﻣارﺳات وبﺣكم رﻏبﺔ بﻌض األنظﻣﺔ الغربيﺔ‬
‫فرضﮭا ﻋﻠيﮭم بالﻘوة‪،‬ﺣول ھذه الرأي يﻘول ھنتغتون‪:‬كان اﻹﺣياء‬
‫اﻹﺳالﻣﻲ نتاﺟا ﻻضﻣﺣالل ﻗوة وﻣكانﺔ الغرب‪...‬فﻌندﻣا تﺧﻠﻰ‬
‫الغرب ﻋن ﺳطوته فﻘدت ﻣﺛالياته وﻣؤﺳﺳاته بريﻘﮭا‪ ،‬وﺧاصﺔ‬

‫‪23‬‬
‫كونيﺔ ﺣﻘوق اﻻنﺳان والديﻣﻘراطيﺔ التﻲ شوھﮭا الغرب بالتدﺧل‬
‫بالﻘوة فﻲ شؤون اآلﺧرين وﻣيﻠه الﻰ الﻌدوان واﻻﺣتكار‬
‫واﻻﺳتغالل‪.‬‬
‫لكن ھذا اﻻنبﻌاث اﻹﺳالﻣﻲ واﻗترانه بالشباب والتﻌﻠيم‬
‫والﮭﺟرة ﺳيطرح ﻋدة تﺣديات تضغط نﺣو الداﺧل ﻣن أﺟل‬
‫اﻻندﻣاج والﻣشاركﺔ ونﺣو الﺧارج ﻣن أﺟل البﺣث ﻋن فرص‬
‫أفضل لﻠﺣياة ﻗد ﻻ يﻘدر أي نظام ﺳياﺳﻲ ﻋﻠﻰ ﻣﺟابﮭتﮭا ويذكر‬
‫ھنتغنتون واﺣدة ﻣنﮭا‪ :‬التوﺳﻊ الﺳريﻊ فﻲ ﻣﺣو األﻣيﺔ فﻲ‬
‫الﻣﺟتﻣﻌات الﻌربيﺔ أيضا يﺧﻠق فﺟوة بين الﺟيل األصغر الﻣتﻌﻠم‬
‫والﺟيل األكبر ﻏير الﻣتﻌﻠم فﻲ ﻣﻌظﻣه وبالتالﻲ فان انفصاﻻ بين‬
‫الﻣﻌرفﺔ والﺳﻠطﺔ يﻣيل الﻰ أن يضﻊ توترا ﻋﻠﻰ النظام الﺳياﺳﻲ‪.‬‬

‫‪ -2‬صورة اإلسالم عند اﻟغرب‪:‬‬


‫اذا ﺳئﻠت ھنتغنتون ﻋن فﮭﻣه لإلﺳالم فانه ﺳيﺟيبك ﻋﻠﻰ التو‬
‫بأنه وﻋﻲ بال تﻣاﺳك ويﻘصد بذلك أن أﺳاس الوﺣدة بين الﻌرب‬
‫والﻣﺳﻠﻣين ھﻣا الدين والﻌرق ألنﮭﻣا يﻠﻌبان دورا ھاﻣا وﺣاﺳﻣا فﻲ‬
‫تﻣتين الروابط اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والصالت الروﺣيﺔ بين األفراد‬
‫والﻣﺟﻣوﻋات وھو ﻋكس الوﻻء فﻲ الغرب الذي يكون ﻋادة لﻠدولﺔ‬
‫الﻘوﻣيﺔ وبﻣﻌزل ﻋن الﻌرق والدين بل تكون ﺟﻣيﻊ الوﻻءات‬
‫األﺧرى ﺧاضﻌﺔ لﻠﺳﻠطﺔ الﺳياﺳيﺔ‪.‬يﻘول ھنتغنتون ﺣول ھذا‬
‫الﻣوضوع‪ :‬الﺟﻣاﻋات الﻣﻣتدة فيﻣا وراء الدول الﻘوﻣيﺔ –‬
‫الﺟﻣاﻋات الﻠغويﺔ أو الدينيﺔ أو الﺣضارتيﺔ – كانت ﻗد طالبت‬
‫بوﻻء والتزام أﻗل ﺣدة‪ .‬ﻋﻠﻰ طول ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻣن الكيانات الﻣﻣتدة ﻣن‬
‫األضيق الﻰ األوﺳﻊ‪ ،‬الوﻻءات الغربيﺔ بالتالﻲ تﻣيل الﻰ أن تظﮭر‬

‫‪24‬‬
‫بارزة فﻲ وﺳط تﻠك الﺳﻠﺳﻠﺔ وﻣنﺣنﻰ شدة الوﻻء يشكل الﻰ ﺣد ﻣا‬
‫ﻣنﺣنﻰ ﻋﻠﻰ شكل ﺣرف ‪ U‬ﻣﻌكوﺳا أو ﻣﻘﻠوبا‪.‬‬
‫فﻲ الﻌالم اﻹﺳالﻣﻲ تركيبﺔ الوﻻء كانت ﻗريبا ﻋﻠﻰ الﻌكس ﻣن‬
‫ذلك تﻣاﻣا‪ .‬اﻹﺳالم توﺟد به ﺛغرة فﻲ الوﺳط فﻲ نظاﻣه التراتبﻲ‬
‫لﻠوﻻءات‪...‬ان التركيبتين الﺟوھرتين األصﻠيتين الﻣﺳتﻣرتين كانت‬
‫الﻌائﻠﺔ والﻌشيرة والﻘبيﻠﺔ ﻣن ناﺣيﺔ وتوﺣدات الﺛﻘافﺔ والدين‬
‫واﻹﻣبراطوريﺔ الﻣﻣتدة ﻋﻠﻰ نطاق واﺳﻊ ﻣن ناﺣيﺔ أﺧرى‪ .‬كﻣا‬
‫يﻘر ھنتغنتون أن اﻹﺳالم يﮭﻣش الشﻌور الﻘوﻣﻲ الﺳياﺳﻲ ألن‬
‫الﮭويات الﻘوﻣيﺔ لم يكتب لﮭا وﺟود وألن طوال اﻹﺳالم كانت‬
‫الﺟﻣاﻋﺔ الصغيرة واﻹيﻣان الﻌظيم واألﻣﺔ ھﻲ بؤر التركيز‬
‫األﺳاﺳيﺔ لﻠوﻻء واﻻلتزام وكانت الدولﺔ الﻘوﻣيﺔ أﻗل أھﻣيﺔ‪.‬‬
‫يﺣﻣل ھنتغنتون اﻻﻣبرياليﺔ األوروبيﺔ ﻣﺳؤوليﺔ تﻘﺳيم األﻣﺔ‬
‫الﻌربيﺔ ووضﻊ ﺣدودا وھﻣيﺔ وﻣنﻊ تكون دولﺔ ﻋربيﺔ واﺣدة تشﻣل‬
‫كل الﻌرب وتتﺟﺳد ﻋﻠﻰ أرض الواﻗﻊ ويرى أن الدولﺔ الﻘطريﺔ‬
‫الﻘائﻣﺔ تﻌانﻲ ﻣن ﻣشاكل فﻲ الشرﻋيﺔ لوﺟود ﻋدة أﻗﻠيات ﻣضطﮭدة‬
‫ولكونﮭا نتاج تﻌﺳفﻲ لﻣصالح ﻏربيﺔ ولﻠتناﻗض بين ﻣبدأ ﺳيادة‬
‫الشﻌب و الﺣاكﻣيﺔ هلل‪ .‬ويرﺟﻊ ضﻌف الدولﺔ الﻘوﻣيﺔ فﻲ اﻹﺳالم‬
‫الﻰ انتصار اﻻنبﻌاث اﻹﺳالﻣﻲ ﻋﻠﻰ دولﺔ الﺧالفﺔ الدينيﺔ وتفضيل‬
‫التيار الﻣاركﺳﻲ األﻣﻣيﺔ الﻌﻣاليﺔ ودفاﻋه ﻋن ﻣصالح الﻌﻣال أينﻣا‬
‫كانوا وتفﺟر نزاﻋات ﺣدوديﺔ بين ﻋدة دول ﻋربيﺔ‪.‬‬
‫ھكذا بدأ الﺣديث ﻋن التﻘارب اﻹﺳالﻣﻲ بدل التﻣﺳك بﻣبدأ‬
‫الوﺣدة الﻌربيﺔ وﻗد ﺳاﻋد اﻻﺳتﻘالل ﻣن اﻻﺳتﻌﻣار والنزوح نﺣو‬
‫الﻣدن وتصنيﻊ الﺣياة والطفرة النفطيﺔ وﺛورة اﻻتصاﻻت ﻋﻠﻰ ھذا‬

‫‪25‬‬
‫التﺣول نﺣو تﻌزيز الروابط بين الﻣﺟتﻣﻌات ﻋﻠﻰ أﺳاس رابطﺔ‬
‫الدين واﻹيﻣان ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب الﻠغﺔ والﻌرق والتاريﺦ‪.‬‬
‫يكشف ھنتغنتون ﻋن وﺟود تناﻗضين فﻲ فكرة ﺣركﺔ اﻹﺳالم‬
‫ﻣن الوﻋﻲ الﻰ التﻣاﺳك‪:‬‬
‫التناﻗض األول ھو وﺟود ﻣراكز ﻗوى ﻣتنافﺳﺔ ﻋﻠﻰ تﺣﻘيق ھذه‬
‫الوﺣدة الﻣنشودة ﻣن أﺟل تﺣﻘيق أﻗصﻰ الﻣصالح الﻘطريﺔ الﻣﻣكنﺔ‬
‫وبالتالﻲ فان كل دولﺔ تﺣاول الﮭيﻣنﺔ ﻋﻠﻰ الﮭويﺔ اﻹﺳالﻣيﺔ ﻣن‬
‫أﺟل الﻘيادة‪.‬‬
‫التناﻗض الﺛانﻲ يظﮭر بين فكرة األﻣﺔ الﺟاﻣﻌﺔ والالﻣﺣدودة‬
‫وفكرة الﻘوﻣيﺔ الﺣصريﺔ والﻣﺣدودة وﻣن الﻣﻌﻠوم أن الﺟﻣاﻋﺔ فﻲ‬
‫اﻹﺳالم ﻣوﺣدة دينيا وﺳياﺳيا وأنﮭا تﺟﺳدت فﻲ الﻣاضﻲ ﻋندﻣا‬
‫وﻗﻊ الﺟﻣﻊ بين الﺳﻠطان الروﺣﻲ والﺳﻠطان الزﻣنﻲ وأنه وﻗﻊ إلغاء‬
‫الﺧالفﺔ وضياع الﺳﻠطان الروﺣﻲ بﻌد انﮭيار اﻹﻣبراطوريﺔ‬
‫الﻌﺛﻣانيﺔ وبالتالﻲ يصﻌب إﻋادة الربط بين البﻌدين ﻣﺟددا‪.‬‬
‫النتيﺟﺔ التﻲ يﺧﻠص إليﮭا ھنتغنتون أن الدول الﻌربيﺔ‬
‫واﻹﺳالﻣيﺔ ضﻌيفﺔ وليس لﮭا أي وزن اﺳتراتيﺟﻲ فﻲ الﻌالﻗات‬
‫الدوليﺔ وذلك لﻌدم وﺟود دولﺔ واﺣدة تﻣتﻠك ﻣوارد الﻘوة الﻌﺳكريﺔ‬
‫واﻻﻗتصاديﺔ والتنظيﻣيﺔ يﺟﻌﻠﮭا تكون إﻗﻠيم ﻗاﻋدة لﻠوﺣدة الﻣنشودة‬
‫وﺣتﻰ إندونيﺳيا وتركيا وإيران فﮭﻲ ﻋﻠﻰ ھاﻣش الﻣﺣيط الﻌربﻲ‬
‫اﻹﺳالﻣﻲ وليس فﻲ ﻗﻠبه أو أﺣد نﻘاط ﻣركزه‪ .‬فﻲ ھذا الﺳياق‬
‫يصرح‪ :‬ان ﻏياب دولﺔ إﺳالﻣيﺔ ھو ﻋاﻣل رئيﺳﻲ فﻲ الصراﻋات‬
‫الﺳائدة الداﺧﻠيﺔ والﺧارﺟيﺔ التﻲ تﻣيز اﻹﺳالم‪ .‬الوﻋﻲ بدون‬
‫تﻣاﺳك ھو ﻣصدر ضﻌف فﻲ اﻹﺳالم وﻣصدر تﮭديد لﻠﺣضارات‬
‫األﺧرى‪ .‬ويﻘصد أن الﻣﺳﻠﻣين واﻋون بضرورة أن يتوﺣدوا ولكن‬

‫‪26‬‬
‫ﺣالﺔ التشرذم والتفرق والضﻌف التﻲ ھم فيﮭا بﺳب ﻏياب ﻗوة‬
‫ﺟاذبﺔ الﻰ الﻣركز يﺟﻌﻠﮭم فﻲ ﺣالﺔ دفﻊ ﻣﺳتﻣرة لكل ﻣن ﺟاورھم‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو تدﺧل ﺣروب ﺧط الصدع ﻋﻣﻠيات التوﺳﻊ والﺣدة‬
‫واﻻﺣتواء واﻻنﻘطاع ونادرا ﻣا تﺧل ﻋﻣﻠيﺔ الﺣل‪ .‬كﻣا يالﺣظ‬
‫ھنتغنتون تشكل ﺣضارة كونيﺔ واﺣدة واﺳتﻣرار وﺟود ﺛﻘافات‬
‫ﻣتنوﻋﺔ وﻣتباينﺔ ويبرھن ﻋﻠﻰ ذلك بأن انبﺛاق ﺣضارة ﻋالﻣيﺔ‬
‫يﻌنﻲ اﻻلتﻘاء الﺛﻘافﻲ لﻠبشريﺔ والﻘبول الﻣتزايد لﻠﻘيم واﻻتﺟاھات‬
‫والﻣﻣارﺳات والﻣؤﺳﺳات الﻣشتركﺔ لﻠشﻌوب فﻲ ﺟﻣيﻊ الﻌالم‪.‬‬
‫يﻘدم ھنتغنتون ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن الﺣﺟج ﻋﻠﻰ وﺟود ﺣضارة كونيﺔ‬
‫ﻣشتركﺔ وھﻲ‪:‬‬
‫‪ -‬تﻘاﺳم البشر لﺣس أﺧالﻗﻲ ﻣتشابه‬
‫‪ -‬اشتراك الﻣﺟتﻣﻌات الﻣتﺣضرة فﻲ ﻗيم وﻣؤﺳﺳات التﻣدن‬
‫والتﻌﻠيم والﻌنايﺔ الصﺣيﺔ وﺣالﺔ الرفاه واﻻزدھار الﻣادي والتوﺳﻊ‬
‫الﮭائل فﻲ الﻣﻌرفﺔ الﻌﻠﻣيﺔ والﮭندﺳيﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬تﻣﺳك الﻌديد ﻣن الشﻌوب بﺛﻘافﺔ ﻣﻌينﺔ تتكون ﻣن ﻣﺟﻣوﻋﺔ‬
‫ﻣن اﻻفتراضات والﻘيم والﻣذاھب‪.‬‬
‫‪ -‬انتشار نﻣاذج اﻻﺳتﮭالك والبدع واﻻﺧتراع ھﻲ التﻲ‬
‫تؤدي الﻰ ﺧﻠق ﺣضارة ﻋالﻣيﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬ظﮭور وﺳائل اﻻتصال الﻌالﻣيﺔ يولد التﻘاء ھاﻣا فﻲ‬
‫اﻻتﺟاھات والﻣﻌتﻘدات الﻣﺧتﻠفﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬وﺟود اتﺟاھات نﺣو انبﺛاق لغﺔ ﻋالﻣيﺔ وديانﺔ ﻋالﻣيﺔ اذا‬
‫كانت ھناك ﺣضارة آﺧذة فﻲ اﻻنبﺛاق ألن الﻌناصر الرئيﺳيﺔ ألي‬
‫ﺣضارة ھﻲ الﻠغﺔ والدين‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫‪ -‬انبﺛاق ﺣضارة ﻋالﻣيﺔ ھو نتيﺟﺔ الﻌﻣﻠيات الواﺳﻌﺔ‬
‫لﻠتﺣديث والتصنيﻊ والﻣدنيﺔ وتزايد ﻣﻌدﻻت الﻘراءة والكتابﺔ‬
‫والتﻌﻠيم والﺛروة والتﻌبئﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وبنيات وظيفيﺔ ﻣﻌﻘدة‬
‫وﻣتنوﻋﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬ايﺟاد ﺣل لﻠتﻌدديﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ﻋبر اﻻلتزام بفكرة ﺳيادة‬
‫الﻘانون والكيانات التﻣﺛيﻠيﺔ واﺣترام الﺣﻘوق الفرديﺔ‬
‫والﺧصوصيات‪.‬‬
‫‪ -‬اﺳتﺟابﺔ الشﻌوب والﻣﺟتﻣﻌات ﻏير الغربيﺔ الﻰ التﺣديث‬
‫وﻣيﻠﮭا نﺣو الغرب ﻋﻠﻰ ﻣﺳتوى نﻣط‬
‫‪ -‬الﺣياة ونﻣوذج التطوير‪.‬‬
‫لكن يطرح ھنتغنتون اشكاﻻ يدور ﺣول األﺳباب التﻲ أدت‬
‫ھيﻣنﺔ الﺛﻘافﺔ الغربيﺔ وبدايﺔ بروز ألﻋراض انﺣطاط وأفول‬
‫ويﺳتنتج أن توزيﻊ الﺛﻘافات فﻲ الﻌالم يﻌكس توزيﻊ الﻘوة ويرفض‬
‫أن تتوافق اﻻنﺣيازات الﺳياﺳيﺔ ﻣﻊ اﻻنﺣيازات الﺛﻘافيﺔ‬
‫والﺣضاريﺔ ويﻘر أن ﺳياﺳﺔ الﮭويﺔ ﻣغايرة لﺳياﺳﺔ الﻣصﻠﺣﺔ ونراه‬
‫يطرح الﺳؤال التالﻲ‪ :‬لﻣاذا يؤدي التﺟانس الﺛﻘافﻲ الﻰ تﺳﮭيل‬
‫التﻌاون والترابط فيﻣا بين الشﻌوب بينﻣا الﺧالفات الﺛﻘافيﺔ تﻌزز‬
‫اﻻنﻘﺳاﻣات والصراع؟‬
‫لﻘد كان ﺟواب ھنتغنتون ﻋﻠﻰ النﺣو التالﻲ‪:‬‬
‫‪ -‬كل واﺣد لديه ھويات ﻣتﻌددة‪.‬‬
‫‪ -‬التﺣديث يﺧﻠق اﻻنفصال واﻻﻏتراب فيﻌاد إﺣياء الﮭويﺔ‬
‫الﺛﻘافيﺔ ﻋند البﻌض ويوﺟد ﻋند النﺧب الﺣاﺟﺔ إلﻰ ھويات ذات‬
‫ﻣغزى اكبر‪.‬‬
‫‪ -‬تﺣدد الﮭويﺔ بﻌالﻗتﮭا باآلﺧر‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ان اﻻﺧتالفات فﻲ الرؤى ونشوب النزاﻋات بين الﺛﻘافات ناتﺟﺔ‬
‫ﻋن األﺳباب التاليﺔ‪:‬‬
‫‪ -‬الوﻋﻲ الﻌﻣيق باﻻﺧتالف وﺣاﺟﺔ النﺣن الﻰ الﺣﻣايﺔ ﻣن‬
‫الﮭم‪.‬‬
‫‪ -‬ﻣشاﻋر التفوق أو الدونيﺔ ﻣن ھويﺔ ﺛﻘافيﺔ تﺟاه أﺧرى‬
‫تنظر اليﮭا ﻋﻠﻰ أنﮭا ﻣباينﺔ لﮭا‪.‬‬
‫‪ -‬فﻘدان الﮭويﺔ الﺛﻘافيﺔ لﻠﺛﻘﺔ فﻲ ذاتﮭا والﺧوف ﻣن الﮭويات‬
‫الﻣباينﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬تﺣول اﻻﺧتالفات فﻲ التﺣديدات (لغﺔ ودين وﻋرق‬
‫وﺛﻘافﺔ) الﻰ صﻌوبﺔ فﻲ التفاھم بين الﮭويات‪.‬‬
‫‪ -‬فﻘدان التﺟانس فﻲ الﻣﻌتﻘدات والدوافﻊ والﻌالﻗات‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ بين الشﻌوب‪.‬‬
‫‪ -‬الصراع بين الدول والﺟﻣاﻋات ﻋﻠﻰ الﻣصﻠﺣﺔ اﻻﻗتصاديﺔ‬
‫والتﺣكم فﻲ الﺛروة والﻘدرة ﻋﻠﻰ فرض ﻗيم وﺛﻘافﺔ وﻣؤﺳﺳات‬
‫ﻣﻌينﺔ ﻋﻠﻰ اآلﺧرين‪.‬‬
‫‪ -‬اﻻنتشار الدائم لﻠصراع بين الﺛﻘافات ألن" البشر ﺟبﻠوا‬
‫ﻋﻠﻰ أن يكرھوا ﻣن أﺟل التﺣديد بالﮭويﺔ والﺣافز فان البشر فﻲ‬
‫ﺣاﺟﺔ الﻰ أﻋداء‪ :‬الﻣنافﺳون فﻲ الﻌﻣل والﻣنافﺳون فﻲ اﻻنﺟاز‬
‫الﻣﻌارضون فﻲ الﺳياﺳﺔ"‪.‬‬
‫ينتﮭﻲ ھنتغنتون إلﻰ ﺣتﻣيﺔ صدام الﺛﻘافات ويرى أن‪ ":‬الدول‬
‫تﻣيل إلﻰ إتباع الدول ذات نفس الﺛﻘافﺔ وتتوازن ضد الدول التﻲ‬
‫تفتﻘر ﻣﻌﮭا إلﻰ التﺟانس الﺛﻘافﻲ" ويؤكد أنه " ﻋندﻣا تفتﻘر‬
‫الﺣضارات الﻰ وﺟود دول أﺳاﺳيﺔ تصبح ﻣشاكل وضﻊ نظام‬

‫‪29‬‬
‫داﺧل الﺣضارة أو الﻣفاوضﺔ ﻣن أﺟل النظام بين الﺣضارات أكﺛر‬
‫صﻌوبﺔ‪".‬‬
‫لكن كيف نفﺳر اندﻻع نزاﻋات وتصادم بين ھويات وﺟﻣاﻋات‬
‫لﮭا ﺧصائص ﺛﻘافيﺔ ﻣشتركﺔ؟والﻰ أي ﻣدى يصح ﺣكﻣه ﻋﻠﻰ‬
‫اﻹﺳالم ﻋﻠﻰ أن افتﻘاره لدولﺔ أﺳاﺳيﺔ ﻣﻌترف بﮭا يزيد ﻣن ﺣدة‬
‫وﻋيه الﻌام ولكن إلﻰ اآلن فﻠم ينم ﺳوى بنيﺔ ﺳياﺳيﺔ ﻋاﻣﺔ بدائيﺔ؟‬
‫وھل ﻣن الﻣشروع أن يﻘر بأن التﻘﺳيم بين الشرق والغرب ﻋﻠﻲ‬
‫الﻣﺳتوى الكﻠﻲ يكون ﻣرتبطا بصراﻋات شرﻋيﺔ بين الﻣﺟتﻣﻌات‬
‫الﻣﺳﻠﻣﺔ واآلﺳيويﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ والﻣﺟتﻣﻌات الغربيﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ أﺧرى‬
‫وھﻲ الصداﻣات األﺧطر فﻲ الﻣﺳتﻘبل ألنﮭا ﻣن ربﻣا تكون نابﻌﺔ‬
‫ﻣن الغطرﺳﺔ الغربيﺔ والتﺳاﻣح اﻹﺳالﻣﻲ واﻹصرار الصينﻲ؟‬
‫وھل ھذه الظروف ﺳتبﻘﻰ ﻣﺳتﻣرة؟ وھل يﻣكن ألﺣد الدول‬
‫الصاﻋدة ﻣﺛل ايران أو تركيا أن تﻘوم بﮭذه الﻣﮭﻣﺔ؟‬
‫ايران لديﮭا الﻣوﻗﻊ الﻣركزي والشﻌب والتﻘاليد التاريﺧيﺔ‬
‫والﻣصادر النفطيﺔ واﻻﻗتصاد الﻣﺳتﻘر ﻣﺣترم وھو ﻣا يؤھﻠﮭا‬
‫لتكون دولﺔ أﺳاﺳيﺔ‪ ،‬كذلك الﺳﻌوديﺔ فﮭﻲ الﻣوطن األصﻠﻲ لإلﺳالم‬
‫ويوﺟد فيﮭا الﺣرﻣين الشريفين ﻣكﺔ والﻣدينﺔ ولغتﮭا الﻌربيﺔ لغﺔ‬
‫الﻘرآن وفيﮭا أكبر اﺣتياطﻲ لﻠنفط فﻲ الﻌالم والباكﺳتان لديﮭا ﻗوة‬
‫ﻋﺳكريﺔ ضاربﺔ وتﻣتﻠك ﺣﺟﻣا وﺳكانا ولﮭا نفوذ وروابط ﻣﻊ بﻠدان‬
‫أﺧرى وأﺧيرا تركيا تﺣوز ﻋﻠﻰ ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن الﻣؤھالت ﻣﺛل‬
‫الﺟغرافيا والﺳكان والتاريﺦ والتﻣدن والﻘدرات الﻌﺳكريﺔ والنﻣو‬
‫اﻻﻗتصادي الﺳريﻊ والنظام اﻹداري الﻌﻠﻣانﻲ الﻣتطور والتﺣالفات‬
‫ﻣﻊ أوروبا والﻌالم الغربﻲ ﻣﻣا يؤھﻠﮭا لتكون الدولﺔ األﺳاﺳيﺔ فﻲ‬
‫اﻹﺳالم‪ ،‬فﻣاذا لو أﻋادت ايران ﻣشروع تصدير الﺛورة فﻲ ظل‬

‫‪30‬‬
‫ﻏياب ﻋراق صدام ﺣﺳين الﻘوي؟ أﻻ يﺳتﻘيم األﻣر أكﺛر ﻣﻊ تركيا‬
‫ﺧاصﺔ ﻋندﻣا تﻘوم بإﻋادة تﺣديد نفﺳﮭا فﻲ ﻋالﻗﺔ باﻻتﺣاد‬
‫األوروبﻲ وآﺳيا الوﺳطﻰ والﺟاﻣﻌﺔ الﻌربيﺔ وإفريﻘيا والﻌالم‬
‫الﮭندي؟‬

‫‪ -3‬ﻣن اﻟصدام اﻟﻰ اﻟﺣوار ﺑين اإلسالم واﻟغرب‪:‬‬


‫"ان لدى الغرب الكﺛير ﻣﻣا يﻘدﻣه لﻠﻣﺳتﻌﻣرات الﺳابﻘﺔ‪ ،‬بوصفه‬
‫رائدا لتطور ﻣن ھذا النوع‪ ،‬ﺣيث يﻣكنه أﻻ يﻘتصر ﻋﻠﻰ تﻘديم‬
‫الرﺳاﻣيل والﻣشورة التﻘنيﺔ‪ ،‬بل أيضا التﻘاليد اﻻنﺳانيﺔ‪...‬انﮭا تﻘاليد‬
‫تﺣرر اﻻنﺳان‪ ،‬ليس فﻘط (ﻣن) بل ﺣريته فﻲ أن يطور طاﻗاته‬
‫‪1‬‬
‫اﻻنﺳانيﺔ‪ :‬تﻘاليد الكراﻣﺔ اﻻنﺳانيﺔ واألﺧوة اﻻنﺳانيﺔ"‬
‫الﺣضارة اﻹﺳالﻣيﺔ والﺣضارة الصينيﺔ تﺧتﻠفان أﺳاﺳا فﻲ‬
‫إطار الدين والﺛﻘافﺔ والبناء اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والتﻘاليد الﺳياﺳيﺔ‬
‫والفرضيات األﺳاﺳيﺔ ألصل الﺣياة وطريﻘﮭا وربﻣا ﻣن الﻣﺣتﻣل‬
‫أن يكون بينﮭﻣا الﻘﻠيل ﻣن الﻘواﺳم الﻣشتركﺔ أكﺛر لكل واﺣد ﻣنﮭﻣا‬
‫ﻣﻊ الﺣضارات الغربيﺔ‪.‬‬
‫يرى ھنتغنتون أن الﻌالﻣيﺔ ﺳتشﮭد تصدﻋا كبيرا واندﻻع‬
‫صراع بين الغرب والشرق وأكﺛر ﺧطوط الصراع ﻋنفا تﻠك التﻲ‬
‫ﺳتكون بين اﻹﺳالم وﺟيرانه ويفﺳر ذلك بأن الﻌﺟرفﺔ الغربيﺔ التﻲ‬
‫تﻌتﻘد بضرورة التزام الشﻌوب ﻏير الغربيﺔ بالﻘيم الديﻣﻘراطيﺔ‬

‫فروم (ايريك )‪ ،‬مفهوم االنسان عند ماركس‪ ،‬ترجمة محمد سيد رصاص‪ ،‬دار الحصاد‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،‬طبعة أولى‪.1998 ،‬ص‪.12.‬‬

‫‪31‬‬
‫الغربيﺔ واﻹصرار الصينﻲ وانﮭيار الشيوﻋيﺔ وتﺧﻠﻲ الﻣﺳﻠﻣين‬
‫ﻋن تﺳاﻣﺣﮭم بﺳبب انبﻌاث اﻹﺳالم الﺳياﺳﻲ وصﻌود األصوليﺔ‬
‫اﻻﺳالﻣويﺔ الﻰ الﺳﻠطﺔ ﻋن طريق اﻻنتﺧابات واﻻلتزام بﺣكم‬
‫الﻘانون‪ ،‬إذ يﻘول فﻲ ھذا اﻹطار‪:‬ان الطﻣوﺣات الﻌالﻣيﺔ لﻠﺣضارة‬
‫الغربيﺔ وانﺧفاض الﻘوة النﺳبيﺔ لﻠغرب وتزايد اﻹصرار الﺛﻘافﻲ‬
‫لﻠﺣضارات األﺧرى يؤكد بشكل ﻋام صﻌوبﺔ الﻌالﻗات بين الغرب‬
‫وباﻗﻲ الﻌالم‪ .‬ويﻌترف أن الغرب ﺳتكون له ﻋالﻗات ﻣتوترة ﻣﻊ‬
‫الﻌالم ولكن ھذا التوتر ﺳيكون أﻗل ﺣدة ﻣﻊ الﺣضارة الﻣوﺟودة‬
‫فﻲ أﻣريكا الالتينيﺔ وأفريﻘيا ولكنﮭا ﺳتصل ﻣرﺣﻠﺔ الﻌداوة ﻣﻊ‬
‫الﺣضارة الصينيﺔ واﻹﺳالﻣيﺔ لكونﮭا ﺣضارة ﻣتﺣديﺔ لكونﮭا‬
‫تتضﻣن تﻘاليد ﻋريﻘﺔ وﻗيم ﺛﻘافيﺔ أفضل فﻲ ﻋيون ﻣﻌتنﻘيﮭا ﻣن‬
‫الﺛﻘافﺔ الغربيﺔ ولتناﻗض الﻣصالح واألھداف بين الطرفين وكﻠﻣا‬
‫ازداد اﻹصرار والتصﻣيم ازداد الصراع بين الﻘيم والﻣصالح‪.‬‬
‫ﺳبب الصراع بين الغرب والشرق ھو افتﻘاد اﻹﺳالم لدولﺔ‬
‫أﺳاﺳيﺔ يﻣكن لﻠغرب أن يتفاھم ﻣﻌﮭا ويﻘيم ﻣﻌﮭا ﻋالﻗات ﺣﺳن‬
‫ﺟوار وتﻌاون وﺛيق ﺣﺳب نظر الكاتب الذي يﻘﺳم دول الﻌالم الﻰ‬
‫صنفين دول شﻘيﻘﺔ لﻠغرب ويﻣكن التواصل ﻣﻌﮭا ودول الشتات‬
‫وھﻲ التﻲ تﻣﺛل ﻣصدر إزﻋاج لﻠغرب وﻣن بينﮭا الدول اﻹﺳالﻣيﺔ‬
‫والﻌربيﺔ ولذلك ينصح بأن يﺣافظ الغرب ﻋﻠﻰ تفوﻗه الﻌﺳكري‬
‫بﻣنﻊ انتشار أﺳﻠﺣﺔ الدﻣار الشاﻣل لدى الدول الﻣﻌاديﺔ وأن يﻌزز‬
‫الغرب ويﻌﻣق فﻲ الدول األﺧرى ﻗيﻣه الﺳياﺳيﺔ الكونيﺔ وأن يﺣﻣل‬
‫ﻋﻠﻰ ﺣﻣايﺔ الوﺣدة اﻻﺛنيﺔ الﺛﻘافيﺔ واﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الغربيﺔ بتﻘييد‬
‫الﮭﺟرة وﻣكافﺣتﮭا‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫يرفض ھنتغتون فكرة كﻠينتون التﻲ ترى أن الﻌالﻗﺔ بين الغرب‬
‫واﻹﺳالم ليﺳت ﻋدائيﺔ ﻣن ﺣيث الﺟوھر وأن البﻌض ﻣن‬
‫الﻣتشددين اﻻﺳالﻣويين ھم الذين أفﺳدوا ھذه الﻌالﻗﺔ ﻋندﻣا دﻋوا‬
‫الﻰ الﻌنف ويرى ﻋكس ذلك بﻘوله‪:‬الﻌالﻗات بين اﻹﺳالم‬
‫والﻣﺳيﺣيﺔ كانت ﻏالبا ﻋاصفﺔ‪ ،‬كل واﺣد كان آﺧر لآلﺧر‪ .‬ويﻘصد‬
‫كل الصراﻋات التﻲ ﺣدﺛت بين اﻻتﺟاھات والتيارات ھﻲ ﻣﺟرد‬
‫إفراز لﻠصراع األبدي الﻘائم بين اﻹﺳالم والﻣﺳيﺣيﺔ ويذكر الكاتب‬
‫اﻻنتشار اﻹﺳالﻣﻲ الذي بدأ فﻲ ﻣنتصف الﻘرن الﺛاﻣن والذي انﻘﻠب‬
‫ﻣﻊ الﻘرن الﺧاﻣس ﻋشر لفائدة الﻣﺳيﺣيين الذين اﺳتﻌادوا زﻣام‬
‫الﻣبادرة وتوﺟوا ذلك بتفوﻗﮭم فﻲ الﺣرب الﻌالﻣيﺔ األولﻰ ﻋﻠﻰ‬
‫الرﺟل الﻣريض والﺳيطرة ﻋﻠﻰ وﻻياته الﻌربيﺔ اﻹﺳالﻣيﺔ ﻋبر‬
‫اﻻنتداب والﺣﻣايﺔ واﻻﺳتﻌﻣار الﻣباشر والتﻲ انتﮭت باﺳتﻘالل ھذه‬
‫البﻠدان كل ﻋﻠﻰ ﺣدة‪.‬‬
‫يﺳتﺧﻠص أيضا أن الﻌالﻗﺔ بين الشرق والغرب تﻣيزت ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣر الﻌصور بالطبيﻌﺔ الﻌنيفﺔ ويفﺳر ھذا الﻌنف ليس بﺣدوث‬
‫تﺣوﻻت فﻲ دائرة الﻣﻘدس وبالرﺟوع الﻰ التناﻗض بين الﻌﻘيدتين‬
‫والﺧالفات ﺣول ﻋالﻗﺔ الدين بالﺳياﺳﺔ بل بالتطرق الﻰ أوﺟه‬
‫التشابه بينﮭﻣا وﺧاصﺔ اﻹيﻣان باله واﺣد ونفيﮭم الشرك واﻹيﻣان‬
‫بأن الﺣياة الدنيا ھﻲ ﻣﺟرد وﻗفﺔ ﻋبور وأن اآلﺧرة ھﻲ الوﺟود‬
‫األبﻘﻰ وأن دﻋوتﮭم الدينيﺔ ھﻲ دﻋوة ﻋالﻣيﺔ وأن اﻹيﻣان الﺣﻘيﻘﻲ‬
‫يﺟيب أن تﻌتنﻘه كل اﻻنﺳانيﺔ وبالتالﻲ يرى كل ﻣن الﻣﺳﻠم نفﺳه‬
‫ﻣﻠزم بأن ينشر رﺳالته ﻋند ﻏير الﻣؤﻣنين‪ ،‬لكن لئن ربط الﻣﺳيﺣﻲ‬
‫التبشير بﻌﻠبﺔ الدواء ورﻏيف الﺧبز فان الﻣﺳﻠم أراد ذلك بﺣد‬
‫الﺳيف وبﻣفﮭوم الﺟﮭاد‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫لﻘد تأﺛرت الﻌالﻗﺔ بين اﻹﺳالم والﻣﺳيﺣيﺔ بﻌدة ﻋواﻣل أھﻣﮭا‬
‫التطورات اﻻﻗتصاديﺔ والﺛورة التكنولوﺟيﺔ وشيﺧوﺧﺔ الﮭرم‬
‫الﺳكانﻲ فﻲ الغرب واﻻنفﺟار الديﻣوﻏرافﻲ الﮭائل فﻲ الشرق ﻣﻣا‬
‫ﺧﻠق ضغطا ھائال ﻣن طرف الﻌاطﻠين وولد ظاھرة الﮭﺟرة ﻏير‬
‫الشرﻋيﺔ وأدى ذلك الﻰ اندﻻع ﻣوﺟﺔ ﻣن الصراع الﻌنيف بين‬
‫الﻣﻌﺳكرين ﻏذتﮭا إيديولوﺟيا اﻹﺣياء اﻹﺳالﻣﻲ التﻲ أﻋادت الﺛﻘﺔ‬
‫لﻠﻣﺳﻠﻣين بأن بينت لﮭم أھﻣيﺔ ھويتﮭم وﺛﻘافتﮭم بالﻣﻘارنﺔ ﻣﻊ‬
‫الﺣضارة الغربيﺔ الﻣاديﺔ الفاﺳدة فﻲ نظرھم‪ ،‬وﺣتﻰ الﺳياﺳﺔ التﻲ‬
‫اتبﻌتﮭا الدول الغربيﺔ فإنﮭا ﻗد زادت ﻣن ﺣدة ﺳوء التفاھم ألنﮭا‬
‫انصبت ﺣول ﺟﻌل الﻘيم الغربيﺔ ﻗيﻣا كونيﺔ وﺣول الﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫التفوق الﻌﺳكري والﮭيﻣنﺔ الغربيﺔ ﻋﻠﻰ الﻌالم‪.‬‬
‫تﺟدد الصراع بين اﻹﺳالم والغرب ھو ﺣول ﻣن يﺣكم الﻌالم؟‬
‫وﻣن يﻣتﻠك الﻣﻘوﻣات األﺳاﺳيﺔ لﻠﻘوة والﺛﻘافﺔ ألن كالھﻣا رؤيتين‬
‫ﻣﺧتﻠفتين ﻋن الﺣﻘيﻘﺔ وﻋن الﻘيﻣﺔ ﺣيث أن الغرب ﺳيبﻘﻰ ﻏربا‬
‫واﻹﺳالم ﺳيبﻘﻰ إﺳالﻣا والصراع بينﮭﻣا ﺳيظل أبد الدھر ﻣادﻣت‬
‫الﻌواﻣل الﻣؤديﺔ الﻰ الصراع ﻣوﺟودة‪.‬‬
‫الﻣشكﻠﺔ ليس فﻲ ﻏياب الﻌالﻗات الديبﻠوﻣاﺳيﺔ بين الطرفين أو‬
‫فﻲ وﺟودھا بل فﻲ الصورة التﻲ يﺣﻣﻠﮭا الواﺣد ﻋن اآلﺧر فﮭﻲ‬
‫لم تﺧﻠو ﻣن فردوﺳيﺔ األنا وشيطنﺔ اآلﺧر إذ يرى الﻣﺳﻠﻣون‬
‫الغرب ﻣتكبرا ﻣتﻌﺳفا‪،‬وﺣشيا وﻣاديا ويرى الغربيون الﻣﺳﻠﻣين‬
‫ھﻣج وﺳفاكﻲ دﻣاء وباﺣﺛين ﻋن الﻠذة وھنا ﻣربط الفرس وبيت‬
‫الﻘصيد ألن ﺟﻣيﻊ الﻣشاكل والتوترات نابﻌﺔ ﻣن ھذه الصورة‬
‫الﻣشوھﺔ والﻣتﻌاكﺳﺔ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ﻣا الذي يﺟب فﻌﻠه ﺣتﻰ ﻻ تتﺣول ﺣدود اﻹﺳالم الﻰ ﻣﺳرح‬
‫لﻠﺣرب الداﻣيﺔ ﻣﻊ الغرب؟‬
‫الﺣل يوﺟد فﻲ تغيير الصورة واﻻﻋتراف الﻣتبادل وإتباع‬
‫ﺳياﺳﺔ اﻻﺣترام لآلﺧر واﻹﻗرار باﻻﺧتالف بين اﻹﺳالم والغرب‬
‫وتنظيم الﮭﺟرة والتشﺟيﻊ ﻋﻠﻰ التﻘارب والتﻌاون بتكﺛيف زيارات‬
‫التﻌارف وأواصر الصداﻗﺔ والﻘيام بتنوير دينﻲ ﻣن الﺟانبين تنﻘد‬
‫فيه األﺣكام الﻣﺳبﻘﺔ ﻋن الغير ويتﺧﻠﻰ بﻣﻘتضاه ﻋن فكرة أفضل‬
‫الﻣﻠل وينظر ﻣن ﺧالله الﻰ تﻌظيم كل الﻣﻘدﺳات واألنبياء ﻋﻠﻰ‬
‫وﺟه الﻣﺳاواة والدﺧول فﻲ وضﻌيﺔ تفﮭﻣيﺔ ﺣضاريﺔ شاﻣﻠﺔ تتﻣﺛل‬
‫فﻲ‪:‬إﻋطاء فﮭم الﻣﺳﻠﻣين والغربيين واﺣد لآلﺧر‪ .‬كﻣا يﻣكن أن‬
‫نناﻗش تﺣﻠيل ھنتغنتون ﻣن ﻋدة ﺟوانب وﺧاصﺔ ربطه بين الﻌنف‬
‫واﻹﺳالم وﻗراءته لالنبﻌاث اﻻﺳالﻣوي ﻋﻠﻰ أنه ﺣدث ھام يشبه‬
‫ﺣركﺔ اﻹصالح الدينﻲ ودﻋوته الﻰ ضرورة ﻗيام دولﺔ إﺳالﻣيﺔ‬
‫ﻗويﺔ يﻣكن لﻠغرب أن يتﻌاﻣل ﻣﻌﮭا كشريك فﻌﻠﻲ وتضبط‬
‫اﻻﺳتﻘرار فﻲ الﻣﺟال الﺣضاري اﻹﺳالﻣﻲ وكذلك اﻋتباره الدول‬
‫اﻹﺳالﻣيﺔ دول شتات وليﺳت دول ﺟوار وتنبيﮭه ﻋﻠﻰ أن ﺣروب‬
‫ﺧط الصدع ﺳتكون ﻋﻠﻰ ﺣدود اﻹﺳالم الداﻣيﺔ زيادة ﻋﻠﻰ دﻋوته‬
‫الﻰ نﮭوض الوﻋﻲ الﺣضاري الغربﻲ ﻋبر الصدام وتﻘﻠيم أظافر‬
‫الﺛﻘافات الﻣﻌاديﺔ ونشر الﻘيم الغربيﺔ فﻲ الﻌالم وﺧاصﺔ ﺣﻘوق‬
‫اﻻنﺳان والديﻣﻘراطيﺔ‪ .‬ان ﻣﺳتﻘبل البشريﺔ ﻣتوﻗف ﻋﻠﻰ ﻗيام‬
‫تﺣالف بين الﺛﻘافات وليس ﻣرتبط بﻣا ﺳﻣاه ھنتغنتون صدام‬
‫الﺣضارات ألن ﻣﺛل ھذا الصدام ﻗد يشرع لﻠﻌنف ويؤدي الﻰ الﻘتل‬
‫الﻌشوائﻲ ويﺧﻠف ضﺣايا أبرياء ويﮭدد النوع البشري باﻻندﺛار‬
‫ويكرس ﻣنطق الﮭيﻣنﺔ والتفوق ويبرر الﺳﻠوكات الﻌنصريﺔ‬

‫‪35‬‬
‫والنزﻋات الﻌدوانيﺔ أﻣا ﻣنطق التﺧاصب واﻻندﻣاج والتالﻗح بين‬
‫الﺧصوصيات ﻣن أﺟل الدفاع ﻋن الﮭويﺔ اﻻنﺳانيﺔ الواﺣدة فانه‬
‫يﺣاول ﺟاھدا تﻘييد الطبيﻌﺔ بالﺛﻘافﺔ وإلﺟام األھواء بالﻌﻘل وإرﺳاء‬
‫ﻗيم التﺳاﻣح والﺳالم الدائم بين الشﻌوب‪ ،‬ربﻣا تكون نظرة‬
‫صاﻣوال ھنغنتون واﻗﻌيﺔ تاريﺧيﺔ ولكنﮭا نظرة ﻣتشائﻣﺔ وﻣتﺣاﻣﻠﺔ‬
‫ﻋﻠﻰ اﻹﺳالم ألنه نظر اليه ﻣن زاويﺔ اﺳتشراﻗيﺔ ضيﻘﺔ وأھﻣل فيه‬
‫ﻋدة تيارات ﻣﻌتدلﺔ تنادي بالوﺳطيﺔ وتنبذ الﺣرب وتﻘبل فكرة‬
‫الديﻣﻘراطيﺔ وتﺣترم األبﻌاد الكونيﺔ والﻘيم الﻣدنيﺔ الﻌظيﻣﺔ التﻲ‬
‫تدﻋو الﻰ الﻣﺣبﺔ والتﻌايش وﺣﺳن الضيافﺔ وترفض الﻌنف‬
‫والتﻌصب لﻠرأي وتنأى ﻋن ﻣنطق اﻹﻗصاء والتفوق وتطﻣح الﻰ‬
‫الشراكﺔ واﻻندﻣاج وتﺳﻌﻰ نﺣو الﺣوار وإﻗاﻣﺔ ﺳﻠم دائﻣﺔ فﻲ‬
‫الﻣﻌﻣورة‪ .‬ﻣا رأيه فيﻣا ﻗاله أدريان روﻻند فﻲ رﺳالته الدين‬
‫الﻣﺣﻣدي‪ :‬لو كان اﻹﺳالم كﻣا وصفه ھؤﻻء الﻣﮭاﺟﻣين‬
‫األوروبيين الﻣﺳيﺣيين فﻠيس ﻣن الﻣﻌﻘول أن كﺛيرا ﻣن الناس يﻣكن‬
‫أن يﻌتنﻘوا دينا ﻋبﺛيا وﻻ يﻣكن أن يفﮭم أن أتباع ﻣﺣﻣد كﻠﮭم أﻏبياء‬
‫وﺣﻣﻘﻰ‪ ،‬كﻣا أنه ليس ﻣﺳﻣوﺣا لنا أن نشك ونﺣن نرﺟﻊ الﻰ آﺛار‬
‫وكتابات ھذه الﻣﻠﺔ والتﻲ أﺧرﺟت ﻋبﻘريات وﻋظﻣاء لم ير الﻌالم‬
‫ﻣﺛيال لﮭا فﻲ أي شﻌب آﺧر ان لم نﻘل أن الﻌرب ولدوا بفضل ھذا‬
‫الدين اﻣتﻠكوا ناصيﺔ الﻌﻠم والفنون الﺟﻣيﻠﺔ لﻘرون ﻋديدة ﻻﺳيﻣا‬
‫الﻘرن الﻌاشر بينﻣا ترك الﻣﺳيﺣيون كل شﻲء يذبل ويﻣوت ويتبﻠد‬
‫فﻲ ﻏربنا؟‬

‫‪36‬‬
‫خاتمة‬

‫لﻘد دﻋا بﻌض الﻌﻠﻣاء ﻣن الﺟﮭتين الﻰ ﺣوار الﺣضارات‬


‫وﺧاصﺔ الفيﻠﺳوف الفرنﺳﻲ روﺟﻲ ﻏارودي الذي أكد ﻋﻠﻰ‬
‫ضرورة صنﻊ الﻣﺳتﻘبل الﻣشترك ﻋبر انﺟاز الﻣشروع الكونﻲ‬
‫الذي يرتكز ﻋﻠﻰ الﻠﻘاءات الﻘديﻣﺔ والتﺣالفات الﺣديﺛﺔ وتشﺟﻊ ﻋﻠيه‬
‫التربيﺔ ﻏير الﻘﻣﻌيﺔ وتبرزه الﺛورة الﺛﻘافيﺔ‪،‬إذ يﻘول ﺣول ھذا‬
‫الﻣوضوع‪ :‬ان ﺣوار الﺣضارات الﻣﻠﻣﻊ اليه يكافح ﻋزلﺔ أنا‬
‫الصغيرة الﻣتبﺟﺣﺔ ويبرز واﻗﻊ األنا الﺣﻘيﻘﻲ الذي ھو بالدرﺟﺔ‬
‫األولﻰ ﻋالﻗﺔ باآلﺧر وﻋالﻗﺔ بالكل‪ .‬وھو يﻌﻠﻣنا أﻻ نتصور‬
‫الﻣﺳتﻘبل فﻲ شكل إيﻣان ﺳاذج بالتﻘدم وﻻ فﻲ صورة فيض ﻣن‬
‫انﺟاز ﻣشاريﻌنا انﺟازا تﻘنيا بل ﻋﻠﻰ ھيأة طفو ﺣياة ﺟديدة ﺟدة‬
‫بنﺳك الالأنا والالﻋﻣل والالﻣﻌرفﺔ‪ .‬ان ﺣوار الﺣضارات ھذا‬
‫يﺳاﻋدنا ﻋﻠﻰ أن ننفتح ﻋﻠﻰ الصﻌيد الﺛﻘافﻲ ﻋﻠﻰ آفاق ﻻ نﮭايﺔ لﮭا‬
‫فﻲ الﻣنظور الذي توﺣﻲ به فﻲ ﺟﻣيﻊ الﻣﺟاﻻت أﺣدﺛت تﺟددات‬
‫الﺛﻘافﺔ الغربيﺔ‪.‬‬
‫لﻘد ارتبط ﺣوار الﺣضارات ﻋند ﻏارودي بالﺣﻠف الﺛالث الذي‬
‫يﻘول ﻋنه‪ :‬ان الﺣﻠف الﺛالث ھو الوﻋﻲ الذي ﻣا يزال فﻲ ﺣالﺔ‬
‫ﻣﺧاض ﻋﻠﻰ الﺳﻠم الﻌالﻣﻲ بأن ﻋالﻗﺔ ﺟديدة بين اﻹيﻣان والتاريﺦ‪،‬‬
‫بين اﻹيﻣان والﻌﻣل‪ ،‬بين اﻹيﻣان والﻌالم‪ .‬انه وﻋﻲ بأن كل إنﺳان‬
‫ﻗد لﻘﻲ لﻘاح اﻹلﮭﻲ فﻲ ﻣا وراء ﺟﻣيﻊ تﺧوم الطبﻘﺔ والﻌرق والﺛﻘافﺔ‬
‫وأنه بﮭذا اﻻﻋتبار ﻣﺳؤول ﻣﺳؤوليﺔ تاﻣﺔ ﻋن ﻣصيره الﺧاص‪.‬‬
‫وان إيﻣانه ﺳيكون إيﻣانا ﺧادﻋا اذا لم يكن باﻋث ﻋﻣﻠه اليوﻣﻲ أنه‬

‫‪37‬‬
‫ﺳيكون أفيونا اذا اﻋتبر أن ﺛﻘﺔ باﻹنﺳان وبكل إنﺳان أﻣر يتﮭدد‬
‫اﻹيﻣان باهلل‪ .‬ان الﺣﻠف الﺛالث ھو اﻹيﻣان الذي يﻌﺛر ﻣن ﺟديد‬
‫ﻋﻠﻰ ﺟذوره فﻲ صﻣيم الشﻌوب‪ ،‬والشﻌوب تﻣنح ﻣن إيﻣانﮭا الﻘوة‬
‫واألﻣل بتغيير الﻌالم والﺣياة‪ .‬فﻣاھﻲ الشروط التﻲ ينبغﻲ أن تتوفر‬
‫لكﻲ يﻘوم ﺣوار بين الﺣضارات ﺟدي وﻣﺛﻣر؟ أليس الفرق بين‬
‫ﻣن يﻘول بالصدام بين الﺣضارات و بين ﻣن يﻘوم بالﺣوار‬
‫والتﺣالف كالفرق بين الواﻗﻌﻲ الﻣتشائم والطوباوي الﺣالم؟‬
‫ﺛم ﻣتﻰ يفﮭم البﻌض ﻣن ﻋﻠﻣاء الغرب أن نظرتﮭم لإلﺳالم‬
‫ورﻣوزه الﺣضاريﺔ ﺧاطئﺔ وﻣﺟﺣفﺔ فﻲ ﺣق إﺳﮭاﻣاته الكبيرة فﻲ‬
‫صنﻊ الﺣضارة الكونيﺔ وأن النور ينبﻌث دائﻣا ﻣن الشرق وليس‬
‫ﻣن الغرب؟ أليس ﻣن الضروري اآلن أن يتم ﺣوار أكﺛر واﻗﻌيﺔ‬
‫وﻣباشرة بين بناءين يشتغالن فﻲ تشييد ﻋﻣارة واﺣدة وﺣتﻰ‬
‫يﺣصل كول بناء ﻋﻠﻰ ﻗدرة ﻻﺳتيﻌاب اآلﺧر وتفﮭﻣه؟‬

‫‪38‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻷول‬

‫روﺟﻲ ﻏارودي‪ ،‬في سﺑيل ﺣوار اﻟﺣضارات‪ ،‬تﻌريب ﻋادل‬


‫الﻌوا‪،‬ﻋويدات لﻠنشر والطباﻋﺔ‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبﻌﺔ‬
‫الرابﻌﺔ‪.1999،‬‬
‫صاﻣوال ھنتغتون‪ ،‬صدام اﻟﺣضارات وإعادة ﺑناء اﻟنظام‬
‫اﻟﻌاﻟﻣي‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣالك ﻋبيد أبو شﮭيوة وﻣﺣﻣود ﻣﺣﻣد ﺧﻠف الدار‬
‫الﺟﻣاھيريﺔ لﻠنشر والتوزيﻊ لبيا ‪.1999‬‬
‫فروم (ايريك )‪ ،‬ﻣﻔهوم االنسان عند ﻣارﻛس‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد‬
‫ﺳيد رصاص‪ ،‬دار الﺣصاد‪ ،‬دﻣشق‪ ،‬ﺳوريا‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.1998 ،‬‬
‫‪Le Point Références – Penser l’islam hier‬‬
‫‪et aujourd’hui, Novembre- Décembre 2015‬‬

‫‪39‬‬
40
‫الفصل الثاني‬

‫االسالم املدني والفلسفة الغربية‬

‫"إن أھم شﻲء يﺟب ﻋﻠينا أن نراﻋيه فﻲ تﻌاﻣﻠنا ھو أن نبين لﻠﻣﺳﻠﻣين‬


‫‪1‬‬
‫بوﺟه ﻋام أننا نريد أن نفﮭﻣﮭم ﻻ أن نﺣاربﮭم"‬

‫الﺟدير بالﻣالﺣظﺔ ھو وﺟود ﻣفارﻗﺔ تﺣكم ﻋالﻗﺔ اﻹﺳالم‬


‫بالغرب ﻋﻠﻰ ﻣﺳتوى الفﻠﺳفﺔ والتربيﺔ والﺳياﺳﺔ وتتﻣﺛل فﻲ كون‬
‫الﻣﺳﻠﻣين ﻣازالوا يﺟدون أنفﺳﮭم فﻲ تبﻌيﺔ تاﻣﺔ لﻠغرب وفﻲ ﺣاﺟﺔ‬
‫إلﻰ اﻻﻋتﻣاد ﻋﻠيﮭم فﻲ كل ضرورات الﺣياة ولكنﮭم فﻲ الﻣﻘابل‬
‫يﺳﻌون بكل ﻣا أوتوا ﻣن ﺟﮭد لﻠتﺧﻠص ﻣن ھذه التبﻌيﺔ والتﺣرر‬
‫ﻣن ﺳﻠطﺔ الغرب ﻋﻠيﮭم ويبﺣﺛون ﻋن ﻣﺳالك أﺧرى‪ ،‬ولذلك كانت‬
‫الﻌالﻗﺔ بينﮭﻣا ﻣتناﻗضﺔ وفصاﻣيﺔ‪ .‬فﻣاھﻲ ﻋالﻣات ھذا التوتر‬
‫وتداﻋياته؟‬
‫فﻲ البدايﺔ لم تﺣظ الفﻠﺳفﺔ فﻲ اﻹﺳالم بالتشﺟيﻊ الضروري‬
‫لﻠتﻘدم بينﻣا ربط الغرب تﻘدﻣه بتﺣﻘيق الﺣداﺛﺔ الفﻠﺳفيﺔ‪ .‬لﻘد أﺧذ‬
‫الﻌرب صناﻋﺔ التفﻠﺳف ﻋن اﻹﻏريق والفرس والشرﻗيين بصفﺔ‬
‫ﻋاﻣﺔ واصطدﻣوا بأﺣكام الدين ونظرته الﻣﻌياريﺔ ورؤيته‬
‫الصارﻣﺔ لﻠﺣياة‪ .‬بينﻣا اﺳتفاد الﻌﻘل الغربﻲ ﻣن اﺟتﮭادات الفﻠﺳفﺔ‬
‫الﻌربيﺔ وترﺟم ﻣﻌظم الﻣؤلفات الﻌﻠﻣيﺔ التﻲ كتبت بﻠغﺔ الضاد‬

‫‪ 1‬فريتس شتيبات ‪ ،‬االسالم شريكا‪ ،‬ترجمة عبد الغفار مكاوي ‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة ‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬عدد‪ ،302‬أبريل‪، ،2014 ،‬ص‪83‬‬

‫‪41‬‬
‫وانﺳﻠﺦ ﻋن كل الﻣناخ الﻘروﺳطﻲ وﻗام بﺛورة ضد التراث الﻘديم‬
‫وفتح الباب أﻣام الغد‪.‬‬
‫لﻘد تناولت الفﻠﺳفﺔ ﻋندنا الﻣاورائيات والﻣنطق واألﺧالق وتم‬
‫تطﻌيم ذلك ببﻌض اﻻكتشافات ﺣول الطبيﻌﺔ والﻠغﺔ والﺣﺳاب‬
‫والﮭندﺳﺔ والفﻠك والﺟغرافيا والﮭندﺳﺔ وﻋﻠوم الﺣيل والﻌﻣران‬
‫والتاريﺦ والﺣضارة ولكن انتصر فﻲ النﮭايﺔ ﻋﻠم األصول وﺣاز‬
‫الفﻘه أولويﺔ ﻣطﻠﻘﺔ فﻲ ﺳياﺳﺔ ﺣياة الناس وتدبير شؤون الﻣﻌاش‬
‫وإﻋداد الﻣﻌاد وكﺛرت كتب الشروح والتفاﺳير واﻻﻗتباﺳات وﻗل‬
‫التأليف واﻻبتكار واﻹضافﺔ‪.‬‬
‫بينﻣا ركزت الفﻠﺳفﺔ ﻋند الغربيين ﻋﻠﻰ الﻌﻘل والوﻋﻲ والذات‬
‫والفرد والشﺧص والﻣواطن والكيان فﻲ الﻌالم وأﻋطت ﻣﻌنﻰ‬
‫لﻠﺣياة والطبيﻌﺔ والوﺟود وشكﻠت رؤيﺔ تاريﺧيﺔ لﻠﻌﻘل وأنتﺟت‬
‫ﻋدة نظريات ﻋن الﻘوة والطاﻗﺔ والﺳرﻋﺔ والزﻣان والﻣكان‬
‫وﺣرصت ﻋﻠﻰ اﻻلتزام بالﻣوضوﻋيﺔ فﻲ األﺣكام وتﺣﻠت بالنﺳبيﺔ‬
‫الﻣﻌرفيﺔ وﻣنظوريﺔ الﻌالم وﻋدﻣيﺔ الﻘيم‪.‬‬
‫أﻣا فﻠﺳفﺔ التربيﺔ فﻲ ﺣضارة إﻗرأ فﻘد اتصفت بالضغط‬
‫واﻹكراه واتبﻌت ﻋادة التأديب والضرب وتوﺧت أﺳﻠوب اﻹﻣالء‬
‫والتﻠﻘين وكﺛر فيﮭا الوﻋظ واﻹرشاد وﺳيطر ﻋﻠيﮭا التﻘﻠيد والنﻘل‬
‫وﺧﻠت ﻣن روح اﻹبداع واﻻبتكار وظﻠت الﻌﻠوم الﻌﻘﻠيﺔ ﻣﺣصورة‬
‫فﻲ تبﻌيﺔ لﻠﻌﻠوم النﻘﻠيﺔ والﻌﻠوم الﻠغويﺔ والتصوف والﺳير والﻌبر‪.‬‬
‫فﻲ ﺣين أن فﻠﺳفﺔ التربيﺔ فﻲ الﺣضارة الغربيﺔ ﻗد تﻣﺣورت‬
‫ﺣول ﻣبدأ الﺣريﺔ وفﻌﻠت النﻘد وتﺟربﺔ التنوير وﺳﻣﺣت بالتﻌﻠم‬
‫الذاتﻲ وﻣبادرة الفرد وشﺟﻌت ﻋﻠﻰ الﺣوار والتفاﻋل وإبداء الرأي‬

‫‪42‬‬
‫والتﻌبير ﻋن الﻣوﻗف الشﺧصﻲ وشﺟﻌت اﺳتﻌﻣال الﻠغات الﻣغايرة‬
‫وﻋﻣل الترﺟﻣﺔ وتﺳاھﻠت ﻣﻊ فﻌل اﻹبداع والﻣﺧتﻠف والﺟديد‪.‬‬
‫ﻣن الﻣفروض أن يكف الﻣﺳﻠﻣون ﻋن ﻣﻌاندة الﻌﻠوم الفﻠﺳفيﺔ‬
‫وأن تتضﻣن نظم التﻌﻠيم لديﮭم التربيﺔ الفﻠﺳفيﺔ وﻣناھج التفكير‬
‫الﺣﻲ وتﺟد الﻌﻠوم اﻹنﺳانيﺔ الﻣكانﺔ الالئﻘﺔ وأن يتم تشﺟيﻊ ﺣريات‬
‫التﻌبير والنﻘد واﻻﻋتﻘاد‪ .‬وﻣن الﻣطﻠوب أن يتوﻗف الرب ﻋن‬
‫النظر إلﻰ اﻹﺳالم بوصفه ﺛﻘافﺔ ﻣغايرة وﻣﻌاديﺔ وأن يﻌاﻣﻠه ليس‬
‫فﻘط باﻋتباره شريكا فﻲ صنﻊ الﺣضارة الكونيﺔ وإنﻣا ﻋنصر‬
‫داﺧﻠﻲ وﻣكون ﺛﻘافﻲ أﺳاﺳﻲ لﻠﻣشﮭد الكوكبﻲ‪.‬‬
‫لﻘد تأﺛرت ﺣكﻣﺔ الضاد بالﻌناصر الﺛابتﺔ والﻣتﺣولﺔ والﻣوروﺛﺔ‬
‫والوافدة التﻲ شﮭدتﮭا الﺣياة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ واﻻﻗتصاديﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ‬
‫الﻌربﻲ اﻹﺳالﻣﻲ وﻋكس النﺛر الﻌربﻲ والشﻌر الﻌربﻲ ھذا التدفق‬
‫والتراكم والغربﻠﺔ التﻲ ﻋرفتﮭا تﻠك الﺛﻘافﺔ فﻲ الﺣﻘبﺔ الوﺳيطﺔ‪.‬‬
‫ولﻘد لﻌبت الﻌالﻗﺔ الﺟدليﺔ بين الﻣدن والنواﺣﻲ النائيﺔ فﻲ ﻣﺳتوى‬
‫اﻻﻗتصادي الزراﻋﻲ والطبيﻌﺔ اﻹﻗطاﻋيﺔ لﻠﻌالﻗات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫وﺳياﺳﺔ الناس ﻣن ﺧالل األﺣكام الﺳﻠطانيﺔ ونظام ﻣﻠكيﺔ األرض‬
‫والﺳياﺳﺔ الﻣاليﺔ ذات النﻣط التﺟاري فﻲ تﺣديد رؤيﺔ اﻹنﺳان‬
‫لﻠﻌالم الفﻠﺳفيﺔ وتوﺟيه طريﻘﺔ التفكير التﻲ يﻌول ﻋﻠيﮭا لﻣواﺟﮭﺔ‬
‫الﻣشاكل الﻣﻌرﻗﻠﺔ لألھداف الﻣتﻌاليﺔ والﻣﺛاليﺔ فﻲ الﻣنظور البﻌيد‬
‫ﻣن ﺟﮭﺔ الﻣﻘصد والدنيويﺔ ﻣرتبطﺔ بالﻣصﻠﺣﺔ ﻋﻠﻰ الﻣﺳتوى‬
‫الﻣباشر ﻣن ﺟﮭﺔ ﺛانيﺔ‪.‬‬
‫أﻣا الﺣكﻣﺔ الغربيﺔ فﻘد تأﺛرت بﺣركﺔ اﻹصالح الدينﻲ التﻲ‬
‫أنﮭت ﺣﻘب ﻣن الﺣروب األھﻠيﺔ والالّتﺳاﻣح بين الﻣذاھب‬
‫والتﻌصب الفكري وزرﻋت ﻣوﺟات ﻣن التنوير وﻣﺳارات ﻣن‬

‫‪43‬‬
‫التﺣديث لﻠﻣﺟتﻣﻌات األوروبيﺔ ولﻘد ﺳاھﻣت الﺛورات الﻌﻠﻣيﺔ‬
‫واﻻﺧتراﻋات التﻘنيﺔ فﻲ تفﺟير الﺛورة الصناﻋيﺔ فﻲ ﻣرﺣﻠﺔ أولﻰ‬
‫وفﻲ تشكل الﺛورة الﺳياﺳيﺔ التﻲ ترتبت ﻋنﮭا أصداء اﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫وتداﻋيات فكريﺔ ﻣﮭﻣﺔ ﻋﺟﻠت بنﮭايﺔ النظرة الﻘروﺳطيﺔ التﻲ‬
‫ترتكز ﻋﻠﻰ انغالق الكون وتشكل نظرة ﺣداﺛيﺔ تﻌتﻣد أﺳاﺳا ﻋﻠﻰ‬
‫انفتاح الكون والﮭيﻣنﺔ ﻋﻠﻰ الطبيﻌﺔ‪.‬‬
‫لﻘد ارتكزت ﺣكﻣﺔ الرب ﻋﻠﻰ ﻣﻌرفﺔ ﻣا يفكر فيه اآلﺧرون فﻲ‬
‫أزﻣنﺔ ﻣﺧتﻠفﺔ وذلك بﻌيﺔ ﻣﻌرفتﮭم بصورة ﻣﻌﻣﻘﺔ وإدراك تﺟارب‬
‫ﺣياتﮭم وطرﻗﮭم فﻲ تنظيم ﻣﺟتﻣﻌاھم واﺳتﺛﻣار ذلك فﻲ بﻠوغ‬
‫أﺳﻠوب لﺣياة ﺟيدة‪ .‬وبالتالﻲ " الشﻲء الذي ﻣيز الغرب ﻋن بﻘيﺔ‬
‫الﻌالم ھو‪ ،‬فﻲ نﮭايﺔ الﻣطاف‪ ،‬أﺧالق الفﻌاليﺔ والنشاط‪ ،‬وكﻣا أن‬
‫التكنولوﺟيا ﻗد ﻏزت الﻌالم فكذلك اكتﺳبت األﺧالق الﻣتﻣاشيﺔ ﻣﻌﮭا‬
‫ﻗدرا ﻻ يﺳتﮭان به ﻣن النفوذ الﻣتﺟدد"‪ 1.‬لﻘد ﻋبر الفكر اﻹﺳالﻣﻲ‬
‫فﻲ اآلونﺔ األﺧيرة ﻋن أزﻣﺔ ﻋﻣيﻘﺔ فﻲ تﻣﻠك التراث والوفاء لﮭويته‬
‫الﺛﻘافيﺔ واﻋتﻘد أن الﺧالص ھو فﻲ الرﺟوع الﻰ الﻣبادئ والتﻌاليم‬
‫التﻘﻠيديﺔ وبذلك ﺳﻘطت فﻲ األصوليﺔ والنصيﺔ والشﻣوليﺔ ودب‬
‫اليأس ﺣول إﻣكانيﺔ بناء التنﻣيﺔ والﻠﺣاق بركب الﺣداﺛﺔ وتزايد‬
‫الﺳﺧط ﻋﻠﻰ الﺣكوﻣات والتذﻣر ﻣن ظﻠم الﻌولﻣﺔ ووﻗﻊ تﺣﻣيل‬
‫اﻻﺳتﻌﻣار الﺟديد ﻣﺳؤوليﺔ الفوات الﺣضاري وازداد الشﻌور‬
‫بالغرابﺔ فﻲ الﻌالم ولكن ﻻ ينبغﻲ أن يشﻌر الناطﻘون بﻠغﺔ الضاد‬
‫بالتﮭديد واﻻﺳتﮭداف ﻣن ﻗبل اآلﺧر الغربﻲ وأن يتوﻗفوا بشكل‬

‫‪ 1‬برتراند رسل‪ ،‬حكمة الغرب‪ ،‬عرض تاريخي للفلسفة الغربية في اطارها االجتماعي‬
‫والسياسي‪ ،‬ترجمة فؤاد زكرياء‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،364 ،‬يونيو‪ ،2009‬الكويت‪،‬‬
‫ص‪294‬‬

‫‪44‬‬
‫ﻣنﮭﺟﻲ وإﺟرائﻲ ﻋن تغذيﺔ الﺣنين إلﻰ األصول والبﺣث الﮭووي‬
‫وإﺛارة أشكال ﻣن ﺳوء التفاھم ﻣﻊ الﻌالم وأن يدﺧﻠوا فﻲ ﺣوار ﻣﻊ‬
‫الواﻗﻊ التاريﺧﻲ وأن يﺟروا اﺟتﮭادا ﻋﻘالنيا ﺣول النصوص‬
‫والﻣرﺟﻌيات‪ .‬لﻌل اﻻﺧتالفات الناتﺟﺔ ﻋن أﺳباب ﺳياﺳيﺔ‬
‫واﻗتصاديﺔ بين الغرب واﻹﺳالم ﻻ تؤدي إلﻰ تفﺟر صراع‬
‫إيديولوﺟﻲ يﺳتﻣر ﻋﻠﻰ ﻣرور التاريﺦ وﻋﻠﻰ طول الﺟغرافيا وﻻ‬
‫تﺣول ﻗيام أشكال ﻣن التالﻣس الﺛﻘافﻲ والﻌﻠﻣﻲ بينﮭﻣا وﻣن وﺟود‬
‫تشابﮭات روﺣيﺔ وأنﺛربولوﺟيﺔ بين الﻌالﻣين ﻗد تﻌزز التشارك‬
‫بينﮭﻣا فﻲ تﺣﻣل ﻣﺳؤوليﺔ رﻋايﺔ الﺣياة ﻋﻠﻰ األرض وتدبير‬
‫شؤون الكون والﻌنايﺔ بالﻣﻌﻣورة ﻣن كل تصﺣر وانﺣدار‪.‬‬
‫فﻲ الﺧتام يﻣكن الﻘول بأن اﻹﺳالم ﻣن ﺣيث ھو دين ﺳﻣاوي‬
‫وظاھرة تاريﺧيﺔ ﻻ يﻣﺛل أي تﮭديد ﻋﻠﻰ الﻌالم وﻻ يﺟﻌل ﻣن‬
‫الﻣؤﻣنين به كائنات ﻋنفيﺔ بالضرورة وﻻ يتكﻠم بﻠغﺔ ﺣربيﺔ تﺟاه‬
‫الﮭويات واألديان األﺧرى بل يﺟب أن يكف الغرب ﻋن التﻣركز‬
‫الﺣضاري ويشرع لﻠتﻌدديﺔ الﺛﻘافيﺔ ويﻌاﻣل اﻹﺳالم باﻋتباره‬
‫شريكا ﺣتﻰ يشﻌر الﻣﺳﻠﻣون بأنﮭم ليﺳوا ﻣنبوذين وأن ﻣﺳتﻘبﻠﮭم‬
‫ليس فﻲ ﺧطر‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ أن "ﻣا يﻘدﻣه الﻌالم اﻹﺳالﻣﻲ ھو بديل‬
‫نﻣوذﺟﻲ ألوروبا يﻣكن لﻠﻣرء ﻣن رؤيﺔ الشكل الفﻌﻠﻲ لﻣﺟتﻣﻊ‬
‫ﻣنظم وفق ﻣبادئ ﻣﺧتﻠفﺔ "‪.13‬‬

‫‪ 1‬أنتونيو بالك‪ ،‬الغرب واإلسالم ‪ ،‬الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي‪ ،‬ترجمة‬
‫فؤاد عبد المطلب‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬عدد‪ ،394‬نوفمبر‪ ،2012 ،‬الكويت‪،‬ص‪.42‬‬

‫‪45‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟثاني‬

‫فريتس شتيبات‪ ،‬اإلسالم شريﻛا‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋبد الغفار ﻣكاوي‪،‬‬


‫ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻋالم الﻣﻌرفﺔ‪ ،‬الكويت‪ ،‬ﻋدد‪ ،302‬أبريل‪،2014 ،‬‬
‫برتراند رﺳل‪ ،‬ﺣﻛﻣﺔ اﻟغرب‪ ،‬ﻋرض تاريﺧﻲ لﻠفﻠﺳفﺔ الغربيﺔ‬
‫فﻲ اطارھا اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والﺳياﺳﻲ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ فؤاد زكرياء‪ ،‬ﺳﻠﺳﻠﺔ‬
‫ﻋالم الﻣﻌرفﺔ‪ ،‬الكويت‪ ،364 ،‬يونيو‪،2009‬‬
‫أنتونيو بالك‪ ،‬اﻟغرب واإلسالم‪ ،‬اﻟدين واﻟﻔﻛر اﻟسياسي في‬
‫اﻟﺗاريخ اﻟﻌاﻟﻣي‪ ،‬ترﺟﻣﺔ فؤاد ﻋبد الﻣطﻠب‪ ،‬ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻋالم الﻣﻌرفﺔ‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬ﻋدد‪ ،394‬نوفﻣبر‪،2012 ،‬‬

‫‪46‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫صورة االسالم يف الثقافة الغربية‬

‫"طبﻘت ﻋبارة إﺳالم ﻋﻠﻰ ﻋالم‬


‫‪1‬‬
‫ذي تاريﺦ اتﺳم بﺣضارة ﻗاﻣت فيه بصورة تدريﺟيﺔ"‬

‫فﻲ الكتاب الذي دون فيه فرنﺳيس فوكوياﻣا تفاؤله بﺧصوص‬


‫الﻣﺳتﻘبل بالنﺳبﺔ لﻠﺣضارة الغربيﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺳتوى الصﺣﺔ والﺳﻌادة‬
‫وذلك لﻘدرة الﻌﻠم والتﻘنيﺔ ﻋﻠﻰ تﺣﺳين الﺣياة اﻻنﺳانيﺔ بﻣﺣو‬
‫الﻣرض والفﻘر والشروع فﻲ تفكيك األنظﻣﺔ الشﻣوليﺔ وإﺣالل‬
‫األنظﻣﺔ الديﻣﻘراطيﺔ والﺣكوﻣات الﺣريﺔ ﻣكانﮭا والشروع فﻲ نشر‬
‫النﻣوذج الﻠيبرالﻲ فﻲ الﻌالم ذكر فيه أيضا ان اﻹﺳالم ھو الذي‬
‫يبﻌث التشاؤم والتﺧوف بالنﺳبﺔ الﻰ الغرب وﻣصدر ﻗﻠق وانشغال‬
‫كبيرين وذلك لﻣا تﺣﻣﻠه ﻋﻘائده ﻣن تﮭديد بالﺣرب واﻹرھاب ﺣﺳب‬
‫رأيه بالنﺳبﺔ الﻰ الﻌالم بأﺳره‪ .‬ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو إن اﻹﺳالم يﻣﺛل‬
‫بالنﺳبﺔ الﻰ الغرب ﻣصدر الصدﻣﺔ الﻘاﺳيﺔ ويﻌود ذلك الﻰ الﺧيبﺔ‬
‫التﻲ تﻌرفﮭا التوﻗﻌات بتﺧﻠﻲ الﻣﺳﻠﻣين ﻋن األﺳﻠوب الﻘصووي‬
‫فﻲ التﻌاﻣل ﻣﻊ الﻘضايا الﻌالق وأن األنظﻣﺔ التﺳﻠطيﺔ ذات‬

‫دومينيك سورديل‪ ،‬اإلسالم في القرون الوسطى‪ ،‬ترجمة علي مقلد‪ ،‬دار التنوير للطباعة‬ ‫‪1‬‬

‫والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،1983 ،‬ص‪.5.‬‬

‫‪47‬‬
‫الﻣرﺟﻌيﺔ التﻘﻠيديﺔ لم تتﺣول ﻣن تﻠﻘاء نفﺳﮭا الﻰ أنظﻣﺔ ديﻣﻘراطيﺔ‬
‫ليبراليﺔ التﻲ تﻌترف بالتﻌدديﺔ وﺣق اﻻﺧتالف وﺣﻘوق الﻣواطنﺔ‬
‫والتبادل الﺳﻠﻣﻲ لﻠﺣكم والتﻘﺳيم بين الﺳﻠطات وﺣريﺔ النشاط‬
‫والتبادل ﻋﻠﻰ أﺳاس الﻣﻠكيﺔ الﺧاصﺔ وﻗوانين الﺳوق‪.‬‬
‫فﻲ الواﻗﻊ ان بﻌض الصفﺣات التﻲ ﺧصصﮭا فوكوياﻣا لإلﺳالم‬
‫فﻲ ﻣؤلفه "نﮭايﺔ التاريﺦ واﻹنﺳان األﺧير" تتضﻣن نظرة‬
‫اﺳتشراﻗيﺔ ﻣوﻏﻠﺔ فﻲ التﺟنﻲ واﻹﻗصاء وتﻌبر ﻋن نزﻋﺔ ﻋرﻗيﺔ‬
‫وﺛﻘافيﺔ ﻣتﻣركزة ﻋﻠﻰ ذاتﮭا وﻣﻌاديﺔ لﻠﺣضارات األﺧري ورافضﺔ‬
‫لﻠنﺳبيﺔ الﺛﻘافيﺔ‪.‬‬
‫يﻌترف فوكوياﻣا ﻣن ناﺣيﺔ بأن اﻹﺳالم يشكل ﻋاﻣال بارزا فﻲ‬
‫بﻌض الدول وأنه يتضﻣن نظاﻣا ﺧاصا به فﻲ الﻌدالﺔ الﺳياﺳيﺔ‬
‫واﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وتصورات أﺧالﻗيﺔ تﻣيزه ﻋن ﻏيره وأنه ﻗد أبدى‬
‫الكﺛير ﻣن الﻘوة فﻲ تﺟدده الﺣالﻲ وھزم الديﻣﻘراطيﺔ الﻠيبراليﺔ فﻲ‬
‫الﻌديد ﻣن الﻣناﺳبات‪ .‬لكنه ﻣن ناﺣيﺔ ﺛانيﺔ يﺣذر ﻣن الصﻌود الكبير‬
‫لإلﺳالم ويﻌتبر دﻋوة اﻹﺳالم ذات طابﻊ تﺳﻠطﻲ وكﻠيانﻲ تﻘﮭر‬
‫اﻹﺛنيات والﻘوﻣيات وتﻌطﻲ ﻗيﻣﺔ لﻠرابطﺔ الروﺣيﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب‬
‫الرابطﺔ الﻘانونيﺔ والﻠغويﺔ والﺛﻘافيﺔ ويضﻌه فﻲ نفس الﺧانﺔ التﻲ‬
‫توضﻊ فيﮭا الشيوﻋيﺔ واﻹيديولوﺟيات الﻣغﻠﻘﺔ بل أنه يشكل تﮭديدا‬
‫كبيرا لﻠﻣﻣارﺳات الﻠيبراليﺔ ويﻣﺛل تﺣديا ﺟديا لﻠغرب‪.1‬‬

‫فرانسيس فوكوياما‪ ،‬نهاية التاريخ واإلنسان األخير‪ ،‬ترجمة مركز االنماء القومي‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫بيروت‪ .1993 ،‬ص‪.71.‬‬

‫‪48‬‬
‫يواصل فوكوياﻣا اﺳتنﻘاصه الﻣﻣنﮭج لإلﺳالم بتأكيده أن‬
‫اﻹﺳالم لم يﻌد يﻣارس أيﺔ ﺟاذبيﺔ ﺧارج الدول والشﻌوب ﻏير‬
‫اﻹﺳالﻣيﺔ وأن زﻣن الغزو الﺛﻘافﻲ لإلﺳالم لغيره ﻗد انتﮭﻰ‪ .‬بل إنه‬
‫ﻗام بﻌكس الﮭﺟوم وبين أن اﻹﺳالم ھو الذي يتﻌرض لﻠغزو الﺛﻘافﻲ‬
‫الغربﻲ وأن شبيبته ھﻲ اآلن لﻘﻣﺔ صائغﺔ فﻲ يد األفكار الﻠيبراليﺔ‬
‫الغربيﺔ وأن ﻗوة التﮭديد الذي تﻣﺛﻠه الﻘيم التﺣرريﺔ ﻗد أدت الﻰ‬
‫تﺟدد اﻻنطواء ﻋﻠﻰ الذات وانبﻌاث الصﺣوة األصوليﺔ وبالتالﻲ‬
‫التفويت فﻲ التﻘدم واألنوار والﺧنوع الﻰ النكوص والتﺧﻠف‬
‫والﻌودة الﻰ الﻣاضﻲ‪ .‬كﻣا أنه يفﺳر اليﻘظﺔ األولﻰ التﻲ ﺣدث‬
‫لﻠﻣﺳﻠﻣين والﻘيام باﻹصالﺣات الدﺳتوريﺔ بﻣنافﻊ اﻻﺳتﻌﻣار وﻗدوم‬
‫ﺟيوش نابﻠيون الﻰ الﻘاھرة وتﺧﻠيص الشرق ﻣن النظام اﻻﻗطاﻋﻲ‬
‫والنﻣوذج اﻻﺳتبدادي الﻌﺛﻣانﻲ‪.1‬‬
‫كل ھذه اآلراء ھﻲ ﻣﺟرد ترھات وﻣﻘاربﺔ ﺧارﺟيﺔ ﺳطﺣيﺔ‬
‫وأﺣكام ﻣﺳبﻘﺔ نابﻌﺔ ﻋن نظرة ﻋنصريﺔ ورؤيﺔ اﺳتشراﻗيﺔ تﻌاﻣل‬
‫اﻹﺳالم كﻣﺟال ﺣيوي لﻠغزو والترويض واﻻﺳتﻌباد‪ .‬ويﻣكن الرد‬
‫ﻋﻠيﮭا باﻻﺟتﮭاد والتأويل ﻣن داﺧل ﺣضارة إﻗرأ نفﺳﮭا والنظرة‬
‫اﻻنفتاﺣيﺔ لﻠغيريﺔ وتشريﻊ الﺣريات والﺣﻘوق لإلنﺳان والشﻌوب‬
‫فﻲ اﻹﺳالم وﺣﻣل رﺳالﺔ الﺳالم والﺣب والصداﻗﺔ والتﻌارف الﻰ‬
‫الﻌالم واﻹﻗرار بأن الدﻋوة تتم بالﻠﺳان والﻌﻣل الطيب واألﺳوة‬
‫الﺣﺳنﺔ وتنبذ الﻌنف والﺣرب واﻻﺳتيالء وتﺣترم الﺧصوصيات‬
‫واألديان والﻠغات األﺧرى وتؤﻣن كذلك بأن التﺣضر يتم بواﺳطﺔ‬

‫فرانسيس فوكوياما‪ ،‬نهاية التاريخ واإلنسان األخير‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.‬ص‪96-95.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪49‬‬
‫ﻣا يﺳتﺣوذ ﻋﻠيه ﻣن كنوز ﻣطﻣورة ورﻣوز نيرة فﻲ داﺧﻠه‬
‫وباﻻﺳتفادة ﻣن الﻘيم الكونيﺔ والﻣكاﺳب الﻣدنيﺔ لألﻣم الﻣغايرة له‬
‫وأن الداﺧﻠين الﻰ اﻹﺳالم ھم أكبر بكﺛير ﻣن الﺧارﺟين ﻋنه وأنه‬
‫الﻌﻠوم اﻹﺳالﻣيﺔ والفﻠﺳفات الﻌربيﺔ كانت تﻌد رافدا فﻲ ﺣداﺛﺔ‬
‫الغرب وﻻ تزال‪ .‬الالفت لﻠنظر أن ھذا الﻣوﻗف الﻣﻌﻠن فﻲ الكتاب‬
‫ليس ﻣوﻗفا ﻣﺣايدا وﻻ ﺣكﻣا ﻋﻠﻣيا ﻣوضوﻋيا وإنﻣا ھو ﻣوﻗف‬
‫ايديولوﺟﻲ ﻣﺣافظ يﻌبر ﻋن رؤيﺔ اليﻣين الغربﻲ الﻠيبرالﻲ ويﻌبر‬
‫ﻋن ﺛﻘافﺔ الﻌولﻣﺔ الﻣتوﺣشﺔ ويبرر ﺳياﺳتﮭا اﻹﺧتراﻗيﺔ‬
‫اﻹﺳتﻘطابيﺔ تﺟاه األﻣم والشﻌوب والﺛﻘافات الﻣغايرة ويﻣارس‬
‫نوﻋا ﻣن البروباﻏاندا الدﻋائيﺔ لﮭذه األفكار الﻣﻌاديﺔ لﺣﻘوق‬
‫الشﻌوب الﻣضطﮭدة فﻲ الﺳيادة وفﻲ تﻘرير ﻣصيرھا بنفﺳﮭا‪.‬‬
‫ربﻣا الﺧطأ الكبير الذي وﻗﻊ فيه فوكوياﻣا أنه ﺣكم ﻋﻠﻰ اﻹﺳالم‬
‫باﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ الﻣﻌايير والﻘيم الغربيﺔ ولم يتفطن الﻰ الفرق الكبير‬
‫بين الطرفين وكان ﻋﻠيه أن يﺣكم ﻋﻠﻰ اﻹﺳالم ﻣن زاويﺔ الﻣﻌايير‬
‫والﻘيم اﻹﺳالﻣيﺔ ذاتﮭا وأن يﺣترم الﺧصوصيﺔ الروﺣيﺔ والﺛﻘافيﺔ‬
‫لﺣضارة إﻗرأ وﺧاصﺔ ﻣفاھيم الدين الﻘيم وﺧتم النبوة وﻋالﻣيﺔ‬
‫الرﺳالﺔ واﺳتكﻣال ﻣكارم األﺧالق‪.‬‬
‫ھذا األﻣر كان ﻗد انتبه اليه برنار لويس ﺣينﻣا صرح ذات يوم‪:‬‬
‫"ان اﻹﺳالم فﻲ ﻣﻌظم األفكار اﻹﺳالﻣيﺔ يظل الﻣﻌيار الرئيﺳﻲ‬
‫لﻠتﻣاﺛل والﮭويﺔ الﻌاﻣﺔ والوﻻء‪ ،‬فاﻹﺳالم ھو الذي يﻣيز بين األنا‬
‫واألﺧر بين ﻣن ھو داﺧل الﺟﻣاﻋﺔ وﻣن ھو ﺧارﺟﮭا‪ ،‬بين األخ‬
‫والغريب‪ .‬ونﺣن فﻲ الﻌالم الغربﻲ ﻗد أصبﺣنا ﻣﻌتادين ﻋﻠﻰ‬

‫‪50‬‬
‫ﻣﻌياريﺔ أﺧرى لﻠتصنيف ﻋﻠﻰ ﺣﺳب الﻌرق أو الﻣوطن أو ﻋﻠﻰ‬
‫‪1‬‬
‫تﻘﺳيﻣات ﻣﺧتﻠفﺔ رئيﺳيﺔ ﻣن ھذا الﻘبيل‪".‬‬
‫كﻣا يﻣكن الرد ﻋﻠيه أيضا باﻻنطالق ﻣن نظرة اﺳتشراﻗيﺔ‬
‫ﻣنصفﺔ نﺟدھا ﻋند ﻣاكﺳيم رودنﺳون فﻲ كتابه ﺟاذبيﺔ اﻹﺳالم‬
‫وﺧاصﺔ ﻗوله‪ ":‬إن اﻹﺳالم ھو أﺳرع الديانات انتشارا ً فﻲ الﻌالم‬
‫اليوم‪ .‬ھناك إذن شﻲء ﺣﻘيﻘﻲ يﺟذب إليه الﻌديد ﻣن نﺧبﺔ الناس"‪،2‬‬
‫لكن ﻣاھﻲ أﺳرار الﺟاذبيﺔ التﻲ يﻣارﺳﮭا اﻹﺳالم ﻋﻠﻰ البشر كافﺔ‬
‫ويﺟﻌﻠﮭم يدﺧﻠون اليه فرادى وﺟﻣاﻋات ويﺳتوي فﻲ ذلك اﻻنﺳان‬
‫الﻌادي ورﺟل الﻌﻠم؟ وكﻣا يتﺳاءل برنار لويس‪ ":‬ﻣاھو ﻣكﻣن الﻘوة‬
‫‪3‬‬
‫فﻲ اﻹﺳالم أو ﺟاذبيته كﻣﺟال وﻻء وأﺳاس ﺛورة؟"‬

‫‪ 1‬برنارد لويس‪ ،‬لغة السياسة في اإلسالم‪ ،‬ترجمة ابراهيم الباشا‪ ،‬دار قرطبة للنشر‪،‬‬
‫‪ ،1993‬ص‪13‬‬
‫ماكسيم رودنسون‪ ،‬جاذبية اإلسالم‪ ،‬ترجمة الياس مرقص‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫بيروت‪.1982 ،‬‬

‫برنارد لويس‪ ،‬لغة السياسة في اإلسالم‪ ،‬مصدر مذكور ‪ ،‬ص‪.13‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪51‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟثاﻟث‬

‫برنارد لويس‪ ،‬ﻟغﺔ اﻟسياسﺔ في اإلسالم‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ابراھيم‬


‫الباشا‪ ،‬دار ﻗرطبﺔ لﻠنشر‪،1993 ،‬‬
‫فرانﺳيس فوكوياﻣا‪ ،‬نهايﺔ اﻟﺗاريخ واإلنسان اﻷخير‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﻣركز اﻻنﻣاء الﻘوﻣﻲ‪ ،‬بيروت‪.1993 ،‬‬
‫دوﻣينيك ﺳورديل‪ ،‬اإلسالم في اﻟﻘرون اﻟوسطﻰ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋﻠﻲ‬
‫ﻣﻘﻠد‪ ،‬دار التنوير لﻠطباﻋﺔ والنشر‪ ،‬بيروت‪،1983 ،‬‬
‫ﻣاكﺳيم رودنﺳون‪ ،‬ﺟاذﺑيﺔ اإلسالم‪ ،‬ترﺟﻣﺔ الياس ﻣرﻗص‪،‬‬
‫دار التنوير لﻠطباﻋﺔ والنشر‪ ،‬بيروت‪.1982 ،‬‬

‫‪52‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫الثقافة بني االنغالق‬

‫يف الرتاث واالنفتاح على العالم‬

‫"فﻲ الﺛﻘافﺔ األﺧالﻗيﺔ‪ ،‬ﻻبد ﻣن الﺳﻌﻲ فﻲ ﺳن ﻣبكرة إلﻰ تﻣكين الطفل‬


‫ﻣن تصورات لﻠﺣﺳن أو الﻘبيح‪ .‬وإذا أردنا تأﺳيس الﺧﻠﻘيﺔ ينبغﻲ تﺟنب‬
‫‪1‬‬
‫الﻌﻘاب‪ .‬فالﺧﻠﻘيﺔ ھﻲ أﻣر فﻲ ﻏايﺔ الﻘداﺳﺔ والﺳﻣو‪"...‬‬

‫ﻗد ﻻ تﺣتاج الﺛﻘافﺔ إلﻰ التذكير بشكل ﻣﺳتﻣر بفائدتﮭا بالنﺳبﺔ‬


‫إلﻰ األفراد والﺟﻣاﻋات‪ ،‬فأھﻣيتﮭا فﻲ تربيﺔ النوع وتطوير‬
‫الﻣﺟتﻣﻌات وتﻘدم الدول وتﺣضر الشﻌوب ﻻ تزال ﻗائﻣﺔ فﻲ كل‬
‫ﻣكان وﻣﺣل اتفاق وﻗبول‪.‬‬
‫لم تكن الﺛﻘافﺔ فﻲ ﺣركﺔ ﻣد وﺟزر ﻣﻊ الﺟانب الطبيﻌﻲ ﻗصد‬
‫إدﺧال اﻹضافات والتنﻘيﺣات التﻲ تصل إلﻰ ﺣد التغييرات الﻣفيدة‬
‫واﻹصالﺣات النافﻌﺔ فﺣﺳب وإنﻣا فاق ﻣﺳتواھا كل ذلك نﺣو بناء‬
‫الﻣشاريﻊ وإنتاج الﻣﻌنﻰ وتفﺟير الﺛورات وتأﺳيس الﻣدنيﺔ‬
‫واﺧتراع التﻘنيات واكتشاف الﻣﺟﮭول واﺳتكﻣال الوﺟود البشري‪.‬‬
‫وإذا كان أوﻻ لكل ﺛﻘافﺔ ﺧصوصيتﮭا وﻣنطﻠﻘاتﮭا وﻣنابتﮭا فإن‬
‫تﺟذرھا فﻲ ﻣوروث ﻣادي وارتباطﮭا بتﻘاليد ﻣﺣﻣولﺔ ﻣن الﻣاضﻲ‬

‫‪ 1‬كانط (عمونيال)‪ ،‬تأمالت في التربية‪ ،‬ضمن ثالثة نصوص‪ ،‬تعريب وتعليق محمد بن‬
‫جماعة ‪ ،‬دار محمد علي الحامي للنشر‪ ،‬صفاقس ‪ ،‬تونس‪ ،‬طبعة أولى ‪.2005 ،‬ص‪.59.‬‬

‫‪53‬‬
‫وانشدادھا إلﻰ ذاكرة ﺟﻣاﻋيﺔ ﻗد يؤدي إلﻰ انغالﻗﮭا ﻋﻠﻰ ذاتﮭا‬
‫وتﺣوطﮭا بﺳور تراﺛﮭا‪ .‬وإذا كان ﺛانيﺔ لكل ﺛﻘافﺔ ﻣﺣاور كونيﺔ‬
‫ونﻘاط ﻣضيئﺔ وإبداﻋات ﻋالﻣيﺔ فإن إشﻌاﻋﮭا ﻋﻠﻰ اآلﺧرين‬
‫وإفادتﮭا الﻣتواضﻌﺔ لﻠكون وﺧدﻣتﮭا لإلنﺳانيﺔ ﻗد تتﺣول إلﻰ ﻣوطن‬
‫ضﻌف وﺳيتﺳبب فﻲ ذوبانﮭا وضياﻋﮭا فﻲ الﻌالم‪.‬‬
‫لم تغادر الﺛﻘافﺔ فﻲ ﻣﻌناھا الﻠغوي الطبيﻌﺔ فﮭﻲ تفيد زراﻋﺔ‬
‫األرض وتﺳويتﮭا وتﮭذيب الطبﻊ بالتﺳﻠح بالوﻋﻲ والتﺛﻘيف ھﻲ‬
‫ﺣركﺔ يؤديﮭا الﻣرء ويكتﺳب بﮭا الﻣرء التربيﺔ والذوق والﺣكم‬
‫ولكنﮭا تتﺣول إلﻰ ﺣالﺔ يﺳتﻘر ﻋندھا الﺳﻠوك وكيفيﺔ تتأﻗﻠم بﮭا‬
‫الﻌاطفﺔ ﻣﻊ ﻣﺳتﻠزﻣات اﻹرادة وﻗوانين الﻣﺟتﻣﻊ والواﺟب‪.‬‬
‫بيد أن اﻻﺳتﻌﻣاﻻت الﻌﻠﻣيﺔ لﻠﺛﻘافﺔ ﺟﻌﻠﮭا ترتبط بالتربيﺔ‬
‫بواﺳطﺔ الكﻠﻲ وتتنزل ضﻣن دوائر الروح الﻌﻠﻣيﺔ والواﻗﻌيﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ والنظريات النﻘديﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ والدين واﻻﻗتصاد وتوﺛق‬
‫صالتﮭا ﻣﻊ تﻘدم التﻘنيﺔ الصناﻋيﺔ‪.‬‬
‫ﻣاھو الﻣفﮭوم النﺳﻘﻲ لﻠﺛﻘافﺔ؟ وﻣن يﺣدد الﮭدف الكاﻣل ﻣن‬
‫التﺛﻘيف؟ ھل ﺛﻣﺔ طريﻘﺔ لتﺣﻘيق ھذا الﮭدف؟‬
‫يﻣيز ﻋﻣونيال كانط بين الﻌام والﺧاص فﻲ تﺣديد ﻣفﮭوم الﺛﻘافﺔ‬
‫رابطا إياھا بالتربيﺔ والتفكير والﺧﻠﻘيﺔ‪ .‬ﻣن ﺟﮭﺔ أولﻰ تﮭتم الﺛﻘافﺔ‬
‫الﻌاﻣﺔ بتكوين الﻘوى الذھنيﺔ والﻌﻘﻠيﺔ لإلنﺳان وتنشد اﻹتﻘان‬
‫والﻣﮭارة وتنﻘﺳم إلﻰ بﻌد ﻣادي يركز ﻋﻠﻰ اﻻنضباط والتﻣرين‬
‫وتشترط ﺣﺳن التﻘبل واﻻﻣتﺛال إلﻰ التوﺟيﮭات دون الﺣاﺟﺔ إلﻰ‬
‫ﻣﻌرفﺔ ﻣبادئ الﻣﻌارف والﻌﻠوم والﻰ بﻌد أﺧالﻗﻲ يؤﺳس الﺳﻠوك‬
‫البشري ﻋﻠﻰ اﻻﻗتداء بالﻣﺛل الﻌﻠيا والﻣبادئ الﺣﺳنﺔ والشﺧصيات‬
‫النﻣوذﺟيﺔ ويبتﻌد ﻋن ﻣنطق التﮭديد واﻹكراه والتﻌﺳف والﻌﻘوبﺔ‬

‫‪54‬‬
‫ويﻌتﻣد ﻋﻠﻰ نشاط الﻣرء الﺣر ودافﻌيته نﺣو الﺧير واﺳتنتاﺟه‬
‫الﺧاص لﻣبادئ الفﻌل والواﺟب وليس ﻋﻠﻰ تﻘبﻠه واﻣتﺛاله لألواﻣر‪.‬‬
‫ﻣن ﺟﮭﺔ ﺛانيﺔ تﺣضر الﺛﻘافﺔ الﺧاصﺔ الﻘوى الﻌﻘﻠيﺔ والﻣﻠكات‬
‫الذھنيﺔ الباطنيﺔ وتنﻣﻲ ﻗدراتﮭا ﻋﻠﻰ اﻹﺣﺳاس والتﻘدير البصري‬
‫والتﺧيل والتذكر والتصور واﻻنتباه والﮭزل والتﺳﻠيﺔ والﺣﻠم‪.‬‬
‫كﻣا توﺳﻊ ﻣن ﻗدرات الﻘوى الﻌﻘﻠيﺔ الﻌﻠيا ﻋﻠﻰ الفﮭم‬
‫واﻻﺳتدﻻل وتدفﻊ الفاھﻣﺔ والﺣكم والﻌﻘل إلﻰ توليد الﻣﻌارف‬
‫بصوريﺔ ذاتيﺔ والتفكير فيﻣا يﺣدث وتﺣاول تﺟنيبﮭا الشرود‬
‫والتكرار والﻣﻣاﺣكﺔ والﺣفظ اآللﻲ‪.‬‬
‫تﺣرص الﺛﻘافﺔ الﺧاصﺔ ﻋﻠﻰ توظيف الشﻌور بالﻠذة أو األلم‬
‫ﻣن أﺟل تﻣتﻊ الﻣرء بالترفيه دون الوﻗوع فﻲ الﻣيوﻋﺔ ولكﻲ يﻘوي‬
‫الﻣرء إﻣكانيات الصبر لديه بالﻣران والﻣكابدة والتﺣﻠﻲ بالشﺟاﻋﺔ‬
‫دون ﻗﮭر اﻹرادة‪.‬‬
‫تﺟنب الﺛﻘافﺔ وﻗوع الﻣرء فﻲ انﻌدام الكياﺳﺔ والالّإﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫وتطﮭره ﻣن ﻣشاﻋر الﺣﻘد والغيرة الﻣرضيﺔ والكﺳل والكذب‬
‫والوﻗاﺣﺔ والتﮭور والﺧنوع والﻌصيان والتوﺳل واﻻﺳتﺟداء‬
‫والﺧبث واﻻنﻘياد والﻣيوﻋﺔ والالّﺧﻠﻘيﺔ التﻲ تﺳتوﺟب الردع‬
‫والتأديب واﺳتﻌﻣال الﻌﻘوبات الﺳﻠبيﺔ وتﻘويﺔ اﻹﺣﺳاس بالكراﻣﺔ‬
‫والشرف والصدق فﻲ الﻘول واﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والتأنﺳن وفرح‬
‫اﻻﺳتﻣتاع بالﺣياة وﺧﻠق الﻣﻘاوﻣﺔ الطبيﻌيﺔ لالﺟترار‪.1‬‬
‫فﻲ الﺣﻘبﺔ الﻣﻌاصرة أﻋاد أدﻏار ﻣوران تﻌريف الﻣﺳألﺔ‬
‫الﺛﻘافيﺔ ضﻣن إطار ﻣا ﺳﻣاه باألنﺳنﺔ الﺛﻘافيﺔ ﻣبينا أن الﺛﻘافﺔ ھﻲ‬
‫أﻋظم انبﺛاق يتصل بالﻣﺟتﻣﻊ البشري وبأنﮭا التراث الﻣنظم الذي‬

‫كانط (عمونيال)‪ ،‬تأمالت في التربية‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬صص‪(55-52.‬بتصرف)‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪55‬‬
‫يتصل بالذاكرة الﺟﻣاﻋيﺔ والﻣوروث الﺟينﻲ وأنﮭا تضم داﺧﻠﮭا‬
‫ﻋنصرين ھﻣا‪ - :‬رأﺳﻣال ﻣﻌرفﻲ وتﻘنﻲ ويتﻌﻠق بالﻣﻌارف‬
‫والﻘواﻋد والﻣﻣارﺳات والﻣﮭارات‪ - ،‬رأﺳﻣال ﻣيﺛولوﺟﻲ‬
‫وطﻘوﺳﻲ يﺧص الﻣﻌتﻘدات والﻣﻣنوﻋات والﻘيم والﻣﻌايير‪ .1‬ﻋﻠﻰ‬
‫ھذا األﺳاس تﺣتوي كل ﺛﻘافﺔ ﻋﻠﻰ شبكﺔ رﻣزيﺔ وﻣاديﺔ ﻣركبﺔ‬
‫وﻣتشابكﺔ وتﺣوز ﻋﻠﻰ لغﺔ ﺧاصﺔ بﮭا تﺳﻣح بتﺳﺟيل الﻣوروث‬
‫واﺳتذكاره ونﻘل الﻣﻌارف والتواصل بين الذوات والﻣﺟﻣوﻋات‬
‫ولذلك فﮭﻲ تبﻌث لﻠﺣياة فﻲ كل زﻣن يتشكل فيه ﺟيل ﺟديد وتﻌﻣل‬
‫ﻋﻠﻰ تغذيﺔ ھويته‪ .‬تبﻌا لذلك " تفرض الﺛﻘافﺔ نظاﻣﮭا الﻣنظم ﻋﻠﻰ‬
‫التكاﺛر البيولوﺟﻲ وتنشئ ﻗواﻋد الﺣياة الﻣشتركﺔ ﻣن ﺧالل ذلك‬
‫النظام"‪.2‬‬
‫ﻏير أن الﺛﻘافﺔ تتﻣيز بالطابﻊ الﻣزدوج فﮭﻲ ﺧصوصيﺔ وﻣغﻠﻘﺔ‬
‫ﻣن ناﺣيﺔ ولكنﮭا كونيﺔ وﻣفتوﺣﺔ ﻣن ناﺣيﺔ أﺧرى وتﻌﻣل ﻋﻠﻰ‬
‫إنتاج ﻋالم روﺣانﻲ ﻣﻠﻲء باألﺳاطير والرﻣزيات ولكنﮭا تﺳاھم فﻲ‬
‫تشكل اﻻبتكارات التﻘنيﺔ وتﻣنح الشكل والﻣﻌيار إلﻰ األفراد لكﻲ‬
‫يندﻣﺟوا فﻲ وﺟود اﺟتﻣاﻋﻲ يتﻣتﻊ بالتنظيم الذاتﻲ والتﺟدد‪.‬‬
‫ﺣينﻣا يتم تأھيل الﻣﺟتﻣﻊ ﺛﻘافيا فإنه يكتﺳب ھويﺔ ﻣﻣيزة ويبدأ‬
‫فﻲ التفتح والنﻣاء واﻻزدھار وتشتغل فيه آليات الﺣواريﺔ بين‬
‫أفراده والتكاﻣﻠيﺔ بين اندفاﻋاته وآﻣاله ﻣن ﺟﮭﺔ وﻗدراته وتصوراته‬
‫وﻣنﺟزاته ﻣن ﺟﮭﺔ أﺧرى وتتشكل ﻣﻘاوﻣﺔ تآزريﺔ تﻌﻣل ﻋﻠﻰ درء‬
‫الﻣﺧاطر وصون تﻣاﺳكه واﺳتﻣراره والتأﻗﻠم ﻣﻊ الﻌصر‪.‬‬

‫‪ 1‬موران (أدغار)‪ ،‬النهج‪ ،‬إنسانية البشرية‪ ،‬الهوية البشرية‪ ،‬ترجمة هناء صبحي‪ ،‬كلمة‬
‫‪ ،‬أبو ظبي‪ ،‬طبعة أولى ‪،2009‬ص‪.193‬‬
‫‪ 2‬موران (أدغار)‪ ،‬النهج‪ ،‬إنسانية البشرية‪ ،‬الهوية البشرية‪ ،‬مرجع مذكور‪،‬ص‪.200‬‬

‫‪56‬‬
‫لكن ﻣاھﻲ الﻣﺣصنات التﻲ يﺟب أن تتوفر ﺣتﻰ ﻻ تفﻘد الﺛﻘافﺔ‬
‫ھويتﮭا ﻋند كل انفتاح وﻻ تﺳﻘط فﻲ تﻣركز ﻋند كل انغالق؟ وھل‬
‫ﻣن تﻌارض بين ﺣركﺔ اﻻبداع ﻋن طريق التوليد الذاتﻲ والنواة‬
‫الﺳرديﺔ الﻣنظﻣﺔ؟‬

‫‪57‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟراﺑﻊ‬

‫كانط (ﻋﻣونيال)‪ ،‬ﺗأﻣالت في اﻟﺗرﺑيﺔ‪ ،‬ضﻣن ثالثﺔ نصوص‪،‬‬


‫تﻌريب وتﻌﻠيق ﻣﺣﻣد بن ﺟﻣاﻋﺔ‪ ،‬دار ﻣﺣﻣد ﻋﻠﻲ الﺣاﻣﻲ لﻠنشر‪،‬‬
‫صفاﻗس‪ ،‬تونس‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.2005 ،‬‬
‫ﻣوران (أدﻏار)‪ ،‬اﻟنهج‪ ،‬إنسانيﺔ اﻟﺑشريﺔ‪ ،‬اﻟهويﺔ اﻟﺑشريﺔ‪،‬‬
‫ترﺟﻣﺔ ھناء صبﺣﻲ‪ ،‬كﻠﻣﺔ‪ ،‬أبو ظبﻲ‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ ‪،2009‬‬

‫‪58‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫سريورة التثقف وتبدل األطوار الحضارية‬

‫استهالل‬
‫"إذا كانت الﺛﻘافﺔ تتﺟﻠﻰ ﻋبر نوع‬
‫‪1‬‬
‫ﻣن األذى الدائم فإنﮭا ﻣﻊ ذلك نﻌﻣﺔ ﻻ تﻘدر بﺛﻣن"‬

‫يبدو أن النظر فﻲ ﻣاھو إنﺳانﻲ يﺳتوﺟب ﻣنا الﻌودة إلﻰ ﻣاھو‬


‫ﺛﻘافﻲ وﺣضاري وذلك لكون الﮭويﺔ اﻹنﺳانيﺔ ﻻ تتﺣﻘق إﻻ بالﺛﻘافﺔ‬
‫والتﺣضر وذلك لكون الﮭويﺔ الذاتيﺔ لﻠفرد ﻻ تتشكل بﻣﻌزل ﻋن‬
‫ھويته اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ولﻘائﮭا باألﻏيار واﺳتفادتﮭا ﻣن التراث اﻹنﺳانﻲ‬
‫والتﺟارب التاريﺧيﺔ الﻣشتركﺔ‪ .‬إذا أضفنا ﻣا يﻣيز اﻹنﺳان ﻋن‬
‫ﻏيره ﻣن ﻣﺟﻣوﻋﺔ الﻣﺣددات الﺛﻘافيﺔ ﻣﺛل الﻠغﺔ والدين والفنون‬
‫وﻣﺧتﻠف الﻌناصر الﻣكونﺔ لﻠﺧصوصيﺔ وﻣنظوﻣﺔ الﻘيم وأنﻣاط‬
‫الﺳﻠوك األﺧرى التﻲ ينﺧرط فﻲ ﻣﻣارﺳتﮭا تأكيدا لالنتﻣاء فإننا‬
‫نﺳتﺧﻠص ﻣن ذلك انﻘﺳام اﻹنﺳانيﺔ الكونيﺔ إلﻰ ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن‬
‫الﺧصوصيات تتﺟﻠﻰ فﻲ تﻌدد الﮭويات الﺛﻘافيﺔ وتنوﻋﮭا‪ .‬ﻏير أن‬
‫الﻣشكل الفﻠﺳفﻲ الذي يطرأ ھنا يتﻌﻠق بﻣﺟال تكوينيﺔ الﮭويﺔ‬
‫الﺛﻘافيﺔ بين الﻣفرد والﺟﻣﻊ وﻣراوﺣتﮭا ﻋﻠﻰ الﻣﺳتوى التاريﺧﻲ‬

‫‪1‬‬
‫‪Assoun (Paul Taurent), nature , inconscient et culture, in Analyses‬‬
‫‪et réflexions sur la nature, E. Marketing, 1990.p.93.‬‬

‫‪59‬‬
‫بين التشكل واﻻزدھار ﻣن ﺟﮭﺔ واﻻنﺣطاط واألفول ﻣن ﺟﮭﺔ‬
‫أﺧرى‪ .‬بﻌد ذلك يتراءى لنا ﻣشكل ﺟديد يتﻌﻠق بﻌالﻗات الﺛﻘافات‬
‫فيﻣا بينﮭا وﻣيﻠﮭا إلﻰ التﻣركز ﻋﻠﻰ الذات وإﻋالن التفوق واﺣتكار‬
‫التكﻠم باﺳم بالتﺣضر والﻌالﻣيﺔ ودﺧولﮭا فﻲ تنافس يتﺣول إلﻰ‬
‫صراع واﺳتبﻌاد لغيرھا‪.‬‬
‫الﻣشكل الﺛالث الذي يبرز لﻠﻌيان ھو ﻣﺧاطر الﻣديح الذاتﻲ‬
‫والﻘول بالﺧصوصيﺔ الﺛﻘافيﺔ ﻋﻠﻰ ترﺳيﺦ ﻗيم كونيﺔ ﺣضاريﺔ تبشر‬
‫بالتﺳاﻣح والتﺳاوي وتدﻋو إلﻰ اﻻنفتاح والتﻌارف وﻣﺧاطر‬
‫الﻌولﻣﺔ ﻋﻠﻰ الﮭويﺔ‪ .‬فﻲ ھذا اﻹطار ﻣاھو ﻣفﮭوم الﺛﻘافﺔ؟ وﻣا‬
‫الﮭويﺔ؟ وھل توﺟد ﺛﻘافﺔ أم ﻋدة ﺛﻘافات؟ وﻣا ﻋالﻗﺔ الﺛﻘافات‬
‫بﻌضﮭا ببﻌض؟ ھل تﻘوم ﻋﻠﻰ التﮭﻣيش والﮭيﻣنﺔ والﻘول بأفضﻠيتﮭا‬
‫ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب األﺧرى أم تتغذى ﻣن التنوع والديناﻣيكيﺔ واﻻنفتاح‬
‫وتﺳتﺛﻣر التﻘاطﻊ ﻣﻊ ﻏيرھا ﻣن أﺟل التﺛاﻗف الﻣﺛﻣر والتفاﻋل‬
‫التوليدي الﺧالق؟ وﻣا الﻣصير الذي ينتظر كل ھويﺔ ﺛﻘافيﺔ؟ ھل‬
‫تتﻌرض لﻠتﺣﺟر والﺟدب أم تنصﮭر فﻲ الﺣضارة الكونيﺔ؟ بﻌبارة‬
‫أﺧرى ﻣا الذي يﻣيز الﮭويﺔ الﺛﻘافيﺔ؟ ھل ﻗدرتﮭا ﻋﻠﻰ أن تظل ﺣيﺔ‬
‫وﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ ﻗوتﮭا وإبداﻋيتﮭا أم أن ﻣصيرھا ينتﮭﻲ إلﻰ التﻘوﻗﻊ‬
‫واﻻنﺣدار والﺳﻘوط؟ وكيف الﺳبيل إلﻰ اﺣترام ﺣق الضيافﺔ‬
‫الكونيﺔ؟‬
‫ﻣا ھو فﻲ ﻣيزان الفكر ھو رفض الﻘول بﻣركزيﺔ ﺛﻘافﺔ واﺣدة‬
‫وﺳيادتﮭا األبديﺔ وتزﻋﻣﮭا ريادة اﻹنﺳانيﺔ ورفﻌﮭا ﻣشﻌل التﺣضر‬
‫بشكل دائم والﻘول بأن الﺛﻘافﺔ ھﻲ ﻣن الﺧصوصيات التداوليﺔ التﻲ‬
‫تضيفﮭا الشﻌوب إلﻰ الطبيﻌﺔ ﻗصد التغﻠب ﻋﻠﻰ التوﺣش وﻗﮭر‬
‫الغريزة وزرع ﺣق الضيافﺔ بدل ووضﻌيﺔ التدافﻊ والتدافﻊ‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫‪ -1‬في ﺗشﻛل اﻟهويﺔ اﻟثﻘافيﺔ‪:‬‬
‫" يﺣدد الناس ھويتﮭم بﻣا ھم ليﺳوا ﻋﻠيه"‬
‫‪1‬‬

‫تﻌتبر الﺛﻘافﺔ ﻣن أكﺛر الﻣفاھيم الﻌﻠﻣيﺔ تﻌﻘيدا بل ﻣن أكﺛر‬


‫التﻌريفات تداوﻻ فﻲ ﺣﻘل الﻌﻠوم اﻹنﺳانيﺔ وذلك لتﻌارضﮭا ﻣﻊ‬
‫الطبيﻌﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ أولﻰ والﺧﻠط بينﮭا والتربيﺔ الذوﻗيﺔ ووضﻌﮭا إلﻰ‬
‫ﺟوار الﺣضارة فﻲ ﻣرتبﺔ ﺛانيﺔ‪ .‬بناء ﻋﻠﻰ ذلك ليﺳت الﺛﻘافﺔ ﻣﺳألﺔ‬
‫ﺛانويﺔ بل ھﻲ ﻋنصر ضروري وﻣﺳألﺔ ﺣيويﺔ بالنﺳبﺔ إلﻰ اﻹنﺳان‬
‫إذ تتشكل ﻣن أﺟل إﺧراج الﻣﺟتﻣﻊ ﻣن ﻣآزق ﻣتنوﻋﺔ أھﻣﮭا‬
‫الفوضﻰ والالّنظام وﺣالﺔ الطفولﺔ والﻘصور الذاتﻲ والوضﻌيﺔ‬
‫الﮭﻣﺟيﺔ والتوﺣش والﻣشاﻋر األنانيﺔ وﻣﺳايرة الغرائز واألھواء‬
‫دون ضوابط‪.‬‬
‫تتﺣدد الﺛﻘافﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ الﻣضاف إلﻰ الطبيﻌﺔ ﻗصد اﻻنتصار‬
‫ﻋﻠيﮭا ووضﻊ الﺣدود والتﻣيز ﻋنﮭا وتتﺟه نﺣو التﻘنيﺔ والصناﻋﺔ‬
‫والتﻣدن بالترويض والﺧبرة والتﮭذيب والصﻘل والتنﻣيﺔ والتربيﺔ‬
‫واﻹشباع واﻻﺧتراع‪ .‬كﻣا تظﮭر الﺛﻘافﺔ فﻲ كل الﻌالﻗات الﻣبتكرة‬
‫التﻲ تصل الناس بالطبيﻌﺔ وتصل الناس بﻌضﮭم ببﻌض‪ .‬فﻲ ھذا‬
‫الﺳياق يصرح شبﻠنغر‪ ":‬تنشأ ﺛﻘافﺔ لﺣظﺔ ﻣا تﺳتيﻘظ روح نبيﻠﺔ"‬
‫وتغادر اﻻھتﻣام بالﺟزئﻲ نﺣو الكﻠﻲ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو تتناﻗض الﺛﻘافﺔ ﻣﻊ التوﺣش والﮭﻣﺟيﺔ والرﻋونﺔ‬
‫والﺟﮭل والغﻠظﺔ والتﺧﻠف وتﻌتﻣد ﻋﻠﻰ ﻣا يﻣارﺳه الناس ﻣن‬
‫أﻋﻣال وتﺟارب وﺧبرات وﻣا يراكﻣونه ﻣن ﻣﻌارف وﻋﻠوم‬
‫ونظريات وتنﮭل ﻣﻣا يكتﺳبونه ﻣن ﻣﺣيطﮭم اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وﻋالﻗاتﮭم‬

‫‪ 1‬هنتنجتون (صامويل) ‪ ،‬صدام الحضارات‪ ،‬ترجمة طلعت الشايب ‪ ،‬شركة سطور ‪،‬‬
‫المعادي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1999 ،‬ص‪.203.‬‬

‫‪61‬‬
‫ببﻌض وتﻘترب ﻣن الﻣﻌرفﺔ والتكوين والتﺣويل والفالﺣﺔ والﺣذق‬
‫والفﮭم والذكاء والتﺳويﺔ والتﻘويم والفكر الﺛاﻗب وﺳﻌﺔ اﻻطالع‬
‫وتدل ﻋﻠﻰ الﻌادات والتﻘاليد والﻣأﺛورات والﺳﻠوك الﻣشترك‬
‫الﻣتناﻗل ﻣن ﺟيل إلﻰ آﺧر وتشير إلﻰ الفنون الﺟﻣيﻠﺔ واﻹنﺳانيات‬
‫واآلداب‪.‬‬
‫ﻏنﻲ ﻋن البيان " أننا نتناول كﻠﻣﺔ الﺛﻘافﺔ فﻲ ﻣﻌنيين‪-1 :‬‬
‫ﻣنتﺟات أنظﻣﺔ رﻣزيﺔ‪ ،‬وﻣؤﺳﺳات ﺧاصﺔ بﻣﺟتﻣﻊ‪ -2 .‬الﻣنتﺟات‬
‫الرﻣزيﺔ الﻣﻘوﻣﺔ اﺟتﻣاﻋيا كأصناف ﺟﻣاليﺔ ﻣﺳتﻘﻠﺔ ذاتيا ( الفن‬
‫)"‪ .1‬بناء ﻋﻠﻰ ذلك يبرز التﺛﻘيف بوصفه ﺣركﺔ تتﻘدم نﺣو الكﻣال‬
‫بواﺳطﺔ اﻻرتﻘاء وﻋن طريق النﻣو الﻣﻌرفﻲ‪ .‬وبالتالﻲ تﺣﻣﻲ‬
‫الﺛﻘافﺔ اﻹنﺳان ﻣن النزوات الﻌدائيﺔ وترفﻌه فوق الﺣياة الغريزيﺔ‬
‫وتﻣيزه ﻋن بﻘيﺔ الكائنات وتنزع ﻋنه الﻘوى التدﻣيريﺔ وتدفﻌه إلﻰ‬
‫إنتاج الﺧيرات وانتزاع النافﻊ ﻣن الطبيﻌﺔ والﺣفاظ ﻋﻠﻰ الﺣياة‬
‫وتﺛبيت الوﺟود البشري وتتكون ﻣن اﻻﺳتﻌدادات الضروريﺔ‬
‫لتنظيم الﻌالﻗات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وتوزيﻊ الﻣنافﻊ‪.2‬‬
‫ليﺳت الﺛﻘافﺔ ﻣﻌرفﺔ وﻣﻘدرة لﻠﺳيطرة ﻋﻠﻰ الطبيﻌﺔ بل ھﻲ‬
‫أيضا األﺳﻠوب الﻌام لﻠﺣياة التﻲ يتﻣيز بﮭا ﻣﺟتﻣﻊ ﻣﻌين والﺳﻠوك‬
‫الﻣكتﺳب الذي يﻣكن وصف به أنواع النشاط والﻣواﻗف والرؤى‬
‫والنظم الﻘيﻣيﺔ‪ .‬ان الﺛﻘافﺔ ھﻲ التﻲ تﺟﻌل الكائن البشري فريدا وﻣا‬
‫تﻣيز ھذا الﺣيوان اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻋن ﻏيره وتﻣكنه ﻣن التالئم ﻣﻊ‬

‫‪ 1‬روا (أوليفيه) ‪ ،‬الجهل المقدس ‪ ،‬زمن دين بال ثقافة ‪ ،‬ترجمة صالح األشمر‪ ،‬دار‬
‫الساقي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪، 2012 ،‬ص‪.55.‬‬
‫‪ 2‬فرويد ( سغموند) ‪ ،‬مستقبل وهم‪ ،‬ترجمة جورج طرابيشي‪ ،‬دار الطليعة ‪ ،‬بيروت ‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،1974 ،‬ص‪.70.‬‬

‫‪62‬‬
‫ﻣﺣيطه الطبيﻌﻲ وﻣن التﻌارف واﻻندﻣاج ﻣﻊ بﻘيﺔ أﻋضاء الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫والتكيف ﻣﻊ أنﻣاط ﺣياتﮭم الﻣتنوﻋﺔ‪.‬‬
‫نﺳتﺧﻠص ﻣن ذلك أن الﺛﻘافﺔ ليﺳت ظاھرة بيولوﺟيﺔ تﺳتند ﻋﻠﻰ‬
‫الطبﻊ والﻣزاج والﻣواد الﻌضويﺔ بل ھﻲ كل ﻣا يضﻌه اﻹنﺳان فﻲ‬
‫ﻣﺣيطه الطبيﻌﻲ بالتﻌاون ﻣﻊ ﻏيره وھذا الكل الﻣركب الذي يتكون‬
‫ﻣن الفردي والﺟﻣاﻋﻲ وﻣن الرﻣزي والﻣادي وﻣن الﻣؤﺳﺳات‬
‫والﻣﻌتﻘدات وﻣن الﻌادات واألﻋراف والﻘوانين والشيم‪.‬‬
‫ھكذا تتﻣيز الﺛﻘافﺔ بالطابﻊ الﻌام وتغطﻲ ﻣﻌظم ﺟوانب الﺣياة‬
‫اليوﻣيﺔ وتتراوح بين الﺛبات والتغير‪ .‬وبالتالﻲ ليﺳت الﺛﻘافﺔ شيئا‬
‫ينضاف إلﻰ الﺣياة بل ﻗوام تدفﻘﮭا ودم وﺟود الشﻌب وھذا الكل‬
‫الﺳائد لديه ﻣن لغﺔ ودين‪.‬‬
‫تنﻣو الﺛﻘافﺔ وتتطور ﺣينﻣا توﺟد فئﺔ ﻣن الﻣﺟتﻣﻊ تﻌﻣل بﺟد‬
‫وﻣﺛابرة وتضﺣوا بنفﺳﮭا ﻣن أﺟل الشأن الﻌام وتﻌبر ﻋن طابﻌﮭا‬
‫الديناﻣيكﻲ والتفتح والتﺟدد ﺣينﻣا تتفرغ فئﺔ أﺧرى لﻠتأﻣل والتنظير‬
‫والتذوق واﻹبداع وتظل ھذه الﺛﻘافﺔ ﻗويﺔ وﻣﺳتﻣرة طالﻣا تﻣارس‬
‫النﻘد ﻋﻠﻰ ذاتﮭا وتفكر ﺧارج نﺳﻘﮭا الﺧاص وتذبل وتتدﺣرج‬
‫وتضﻌف وتنﻘرض ﺣينﻣا تﺳﻘط فﻲ التﻘﻠيد والتﻣاﺛل والتكرار‬
‫وتﮭﻣل اﻻﺧتالف والتنوع والﺧﻠق‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫‪ -2‬في ﺗﺣول اﻟثﻘافﺔ إﻟﻰ ﺣضارة‪:‬‬
‫"تنﻣو الﺣضارة فﻲ دائرة النفﻌﻲ‪ ،‬وتنﻣو الﺛﻘافﺔ فﻲ دائرة الﻘيﻣﻲ"‬
‫كﻠود ليفﻲ ‪ -‬شتراوس‬

‫بﻌض ﻣن الفالﺳفﺔ يزدري كل تفريق بين الﺣضارة والﺛﻘافﺔ‬


‫ويﻘر بوﺟود ﻗرابﺔ ﻣتينﺔ بينﮭﻣا تصل إلﻰ ﺣد التطابق ﻣﺛل ﺳغﻣوند‬
‫فرويد ويتصورون الﻘرابﺔ ﻋﻠﻰ ﻏرار الﻌﻠم والتﻘنيﺔ والبﻌض‬
‫اآلﺧر ﻣﺛل ﻣاكس فيبر يﻌﻣﻠون ﻋﻠﻰ التﻣييز بينﮭﻣا ويﺟﻌﻠون ﻣفﮭوم‬
‫الﺛﻘافﺔ يدل ﻋﻠﻰ الﻘيم والﻣﻌانﻲ الروﺣيﺔ التﻲ يضيفﮭا اﻹنﺳان إلﻰ‬
‫الطبيﻌﺔ بينﻣا يﻠصﻘون بالﺣضارة دﻻلﺔ نفﻌيﺔ ويشيرون إلﻰ‬
‫الﺟانب الﻣادي التنظيﻣﻲ لﻠتﻘدم الﻌﻠﻣﻲ والتكنولوﺟﻲ ويتوﻗفون ﻋند‬
‫الﺧاصيﺔ التراكﻣيﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ كون الﺣضارة ﺛﻣرة ﺟﮭود لﻠتﺣﺳين‬
‫والتطوير تﺧص الظروف الﻣاديﺔ التﻲ يﻌيشﮭا اﻹنﺳان وترتبط‬
‫بتغيير الﻣﺣيط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وترتكز ﻋﻠﻰ الصناﻋﺔ‪.‬‬
‫الﻣﻌنﻰ اﻻيتيﻣولوﺟﻲ لﻠﺣضارة يدل ﻋﻠﻰ التﺣضر والﺣضر‬
‫والﺣاضرة وھو الﻣدينﺔ والﻣدنيﺔ والتﻣدين وتتﻣيز الﺣضارة‬
‫بالطابﻊ الكونﻲ وتتنزل فﻲ إطار الزﻣن والتاريﺦ وترتبط بالتﻘدم‬
‫والتﺣول نﺣو األفضل‪ .‬بالرﻏم ﻣن وﺟود ﺣضارة واﺣدة فﻲ كل‬
‫ﻋصر إلﻰ ﺟانب ﻋدة ﺛﻘافات ﻗوﻣيﺔ فإن الﺣضارة تفترض وﺟود‬
‫ﺛﻘافات ﻣتنوﻋﺔ لﻠغايﺔ يﻘوم بينﮭا تﺣالف والتﻘاء وﻻ صراع وإﻗصاء‬
‫ﻣﻊ ﻣﺣافظﺔ كل ﺛﻘافﺔ ﻋﻠﻰ ﻣا يﺧصﮭا‪ .‬إذا كان صاﻣوال ھنتغتون‬
‫يكشف ﻋن الﻌالﻗات الﻌدائيﺔ بين الشﻌوب وتفﺟر الﺣروب بشكل‬
‫ﻣﺳتﻣر بين الدول ويﻘول بصدام الﺣضارات فإن ﻋﻣونيال كانط‬
‫وبول ريكور وروﺟﻲ ﻏارودي وﻏيرھم يﻘولون بﺣوار‬

‫‪64‬‬
‫الﺣضارات ويدﻋون إلﻰ إﻗاﻣﺔ ﺣالﺔ الﺳﻠم بشكل دائم بين الدول‬
‫وتكﺛيف روح التﻌاون والصداﻗﺔ‪ .‬بيد أن الﺣضارة ﻣﻌرضﺔ إلﻰ‬
‫النكوص واﻻنﺣطاط وﻗد تﻌرف ﻋودة بالبشريﺔ إلﻰ ﺣالﺔ الﮭﻣﺟيﺔ‬
‫والتوﺣش وذلك بﺳبب الغزو واﻻﺳتيالء والغﻠبﺔ ﻣن طرف‬
‫ﺣضارة أﺧرى ﺣﻘﻘت صﻌودھا بشكل ﻣفاﺟﻰء وﺳريﻊ‪.‬‬
‫إذا أرادت ھويﺔ ﺛﻘافيﺔ ﻣﻌينﺔ أن تﺟتاز ﻣﺳافﺔ اﻹبداع‬
‫الﺣضاري فإنﮭا ﻣطالبﺔ بفك الغربﺔ ﻋن الﻌالم والتﺧﻠص ﻣن الفراغ‬
‫الذي يغﻣر الﺣياة اليوﻣيﺔ والتوﻗف ﻋن التﮭالك ﻋﻠﻰ أشكال الﻣدنيﺔ‬
‫وﻣداواة الذات الﻣغرﻗﺔ فﻲ الﻘدم وإﻋادة النظر فﻲ اﻹنﺳان وإﻋادة‬
‫بناء الﻌﻠوم وتغيير البنيﺔ الﻌﻣيﻘﺔ لﻠﻌﻘل والﻣﺟتﻣﻊ‪ .‬بيد أن الﺣضارة‬
‫تولد ﺣينﻣا يﺣصل تطور فﻲ وﺳائل اﻻتصال وتراكم فﻲ اﻻﻗتصاد‬
‫وتداﺧل فﻲ الﻌالﻗات تبﺳط ھويﺔ ﻣﻌينﺔ ﺛﻘافتﮭا ﻋﻠﻰ الكون‬
‫وانتشارا فﻲ الﻌالم وتتﻣركز ﻋﻠﻰ ذاتﮭا وتﺟد التأييد ﻣن الﮭويات‬
‫األﺧرى‪.‬‬
‫" ﻣن ﻏير الﻣﻣكن صﮭر ﺟﻣيﻊ الشﻌوب فﻲ بوتﻘﺔ واﺣدة ﻋﻠﻰ‬
‫أﺳاس ﺧاصيﺔ ﻣشتركﺔ تﺟﻌل ﻣنﮭا ﻣﺟتﻣﻌات بدائيﺔ أو ﺟاھﻠﺔ وھذه‬
‫ﻣصطﻠﺣات ﻣشكوك فﻲ صﺣتﮭا تطﻠق ﻋﻠﻰ كل شكل ﻣن أشكال‬
‫الﺣياة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ التﻲ اﺳتﻣرت إلﻰ ﻋﮭد ﻗريب وﻻ تزال ﻣﺳتﻣرة‬
‫‪1‬‬
‫إلﻰ اآلن فﻲ بﻌض الﺣاﻻت"‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن التﺣضر ينبنﻲ باألﺳاس ﻋﻠﻰ ﻣﺣاربﺔ التﻌصب‬
‫وتشﺟيﻊ التنوع وينتﻘل ﻣن الﻣواﺟﮭﺔ بين الﺛﻘافات إلﻰ التكاﻣل‬
‫الكونﻲ بينﮭا ويﺟﻌل ﻣن التﻌدديﺔ واﻻﺧتالف وضﻌيﺔ لالﻋتراف‬

‫‪ 1‬ليتش ( إدموند)‪ ،‬كلود ليفي – شتراوس‪ ،‬البنيوية في مشروعه ااألنثربولوجي‪ ،‬ترجمة‬


‫ثائر ديب‪ ،‬دار الفرقد‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،‬الطبعة الثانية‪ .2010 ،‬ص‪.203 .‬‬

‫‪65‬‬
‫الﻣتبادل والتﺳاﻣح‪ .‬كﻣا ينشر التﺣضر التوافق بين البشر ﻋن‬
‫طريق تشبيك الﻌالﻗات البيذاتيﺔ والبيﺛﻘافيﺔ ويﺟﺳر الﮭوة بين‬
‫األﻏيار ويﻌتﻣد باألﺳاس ﻋﻠﻰ الﻠغﺔ بوصفﮭا ﺳيرورة ﺣيﺔ لﻠتفاھم‬
‫ﻋن طريق الﺣوار والترﺟﻣﺔ والتﺛاﻗف‪.‬‬

‫‪ -3‬ﺗﺑدل اﻷطوار اﻟﺣضاريﺔ‪:‬‬


‫" كان يﻣكنﮭم الﻘبول بفكرة وﺟود ﺛﻘافات ﻣﺧتﻠفﺔ‪ ،‬ولكن ﻻ توﺟد‬
‫فﻲ نظرھم ﺳوى ﺣضارة واﺣدة ھﻲ الﺛﻘافﺔ الغربيﺔ بﻣاھﻲ نتاج‬
‫الﻣﺳيﺣيﺔ وھﻲ بﮭذه الصفﺔ ﻣتفوﻗﺔ ﻋﻠﻰ الﺛﻘافات األﺧرى‪ .‬وھم‬
‫‪1‬‬
‫يﻌتﻘدون بوﺟود تﻘدم أﺧالﻗﻲ‪ ،‬ﻣﻌنوي واﺟتﻣاﻋﻲ"‬
‫تنﻘل الﺛﻘافﺔ الﻣﺟتﻣﻌات ﻣن الفوضﻰ إلﻰ النظام وﻣن الالّشكل‬
‫إلﻰ الشكل وتتطور وتصل إلﻰ ﻣﺟدھا وﻗﻣتﮭا ﺣينﻣا تنتصر ﻋﻠﻰ‬
‫رﻏباتﮭا األنانيﺔ وتصوراتﮭا الضيﻘﺔ وتتﻌالﻰ ﻋﻠﻰ اﻻنتﻣاءات‬
‫الﺟﮭويﺔ والﻣﺣﻠيﺔ والﻘطريﺔ وتتﺧﻠﻰ ﻋن اﻹﻗصاء والتﻣركز ﻋﻠﻰ‬
‫الذات والنظرة الﻌنصريﺔ وتﺳتبدل اھتﻣاﻣﮭا بالﺟزئيات والﻣصالح‬
‫الﻘريبﺔ وتنشد الغايات الكﻠيﺔ لﻠنوع البشري وتﺳﻌﻰ إلﻰ تﺣﻘيق‬
‫األبﻌاد الروﺣيﺔ وتطﻠب الكﻠﻲ والﻣطﻠق والكونﻲ وتشرع‬
‫اﻻﺧتالف وتﻌترف بالتنوع وتﺟﻌل ﻣن التﻌدد والكﺛرة فضاء‬
‫لﻠتالﻗﻲ والتﺧاصب وفرصﺔ لالﺛراء‪ .‬لﻌل أھم شروط الترﻗﻲ‬
‫الﺛﻘافﻲ إلﻰ الطور الﺣضاري ھﻲ اﻻنفتاح والﻣرونﺔ والنﮭل ﻣن‬
‫األﻏيار واﻻﺳتفادة ﻣن الﺛﻘافات األﺧرى ويﺣدث ذلك ﻋن طريق‬
‫الﻣﺛاﻗفﺔ والفﻌل البيﺛﻘافﻲ واﻻﺣتكاك والنﻘل والﻣﺣاكاة وتﻘدم‬

‫روا (أوليفيه) ‪ ،‬الجهل المقدس ‪ ،‬زمن دين بال ثقافة ‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.101.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪66‬‬
‫اﻹضافﺔ وتﻌيش ﺣالﺔ ابداﻋيﺔ ﻋﻠﻰ الصﻌيد الﻣادي والتﻘنﻲ وفﻲ‬
‫الﻣﺟال الروﺣﻲ والفنﻲ‪.‬‬
‫لكن ﻣاھﻲ األﺳباب الﻣؤديﺔ بالﺛﻘافﺔ الﻰ التﺣﺟر؟ وﻣا الذي‬
‫يﺟﻌل ﺣضارة تذبل وتﻣوت بﻌد ﺳؤدد وﻣﺟد؟‬
‫يﻘول شبﻠنغر فﻲ ھذا اﻻطار‪" :‬تتﺣﺟر ﺛﻘافﺔ فﺟأة‪ ،‬فتﻣوت‬
‫ويﺳيل دﻣﮭا وتﺧور ﻗواھا فتصير ﺣضارة"‪.‬‬
‫أﺳباب ھذا التراﺟﻊ واﻻنﺣطاط ھﻲ كاآلتﻲ‪:‬‬
‫‪ -‬ﻋندﻣا تتﻣكن ﺛﻘافﺔ ﻣﻌينﺔ ﻣن تﺣﻘيق اﻻكتﻣال الداﺧﻠﻲ‬
‫والﺧارﺟﻲ وتبﻠغ األھداف الﻣرﺳوﻣﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬ﻋندﻣا تﻌود الﺛﻘافﺔ الﻰ اﻻھتﻣام بارضاء الغريزة‬
‫والﺟوانب الﻣاديﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب ﻣاھو روﺣﻲ وتﮭﻣل الﻌﻘل واﻻبداع‬
‫الفنﻲ وتتوﻗف ﻋن طﻠب الﻣطﻠق‪.‬‬
‫‪ -‬ﻋندﻣا تﻘﻊ فﻲ فﺦ ﻣﺣاكاة الﺛﻘافات األﺧرى وتصاب بداء‬
‫التﻘﻠيد واﻻﺳتنﺳاخ واﻻﻏتراب الﺛﻘافﻲ وتتوﻗف ﻋن اﻻبداع‬
‫والتﺟدد والﺧﻠق‪.‬‬
‫‪ -‬ﻋندﻣا تصاب بﻣرض الوله الذاتﻲ ويتكاﺛر فيﮭا الﺧطاب‬
‫اﻻفتﺧاري والنكوص واﺟترار الﻣاضﻲ وتﮭﻣل أھﻣيﺔ الوﻋﻲ‬
‫بالزﻣن ويﺳيطر ﻋﻠيﮭا ﺣراس التاريﺦ التذكاري وتكتفﻲ باﻋادة‬
‫انتاج نفﺳﮭا وتﺧﻠيد الذكريات‪.‬‬
‫‪ -‬ﻋندﻣا تنتصر فيﮭا أﺣد الﻣﺣددات وشكل ﻣن الﺛوابت ﻋﻠﻰ‬
‫البﻘيﺔ وھﻲ الﻌرق والدين والﻠغﺔ والنظام الﺳياﺳﻲ وتتشكل دوﻏﻣا‬
‫اﻗصائيﺔ وتﺳيطر ايديولوﺟيا الﺳﻠطﺔ الرﺳﻣيﺔ ﻋﻠﻰ الفضاء الﻌام‪.‬‬
‫‪ -‬ﻋندﻣا يغيب نﻣط الﻣﺛﻘفين الﻣﺟددين الذين يﻣارﺳون‬
‫التﺣﻠيل والنﻘد والتغيير واﻻلتزام ويبرز نﻣط آﺧر ﻣن الﻣﺛﻘفين‬

‫‪67‬‬
‫التﻘﻠيديين الذي يﻘتصرون ﻋﻠﻰ التبرير والشرح والتفﺳير ونشر‬
‫لﺛﻘافﺔ الﺳائدة‪.‬‬
‫‪ -‬دﺧول الﺛﻘافﺔ ﻋصر اﻻﻣبريالﻲ ورﻏبتﮭا الشديدة فﻲ‬
‫اﻻﺳتﺣواذ والﮭيﻣنﺔ ﻋﻠﻰ الشﻌوب والﻣﺟتﻣﻌات الﻣﺟاورة وتﺣولﮭا‬
‫الﻰ ﻗوة ﻋﺳكريﺔ تفرض ھويﺔ ﻣابﻌد ﺛﻘافيﺔ وتﺟﻌل ﻣن النﻣط‬
‫اﻻﻣبراطوري شكال ﻣن اﻻﻗاﻣﺔ فﻲ الﻌالم‪.‬‬
‫‪ -‬تﺟاوز الغرابﺔ الﻣطﻠﻘﺔ أو الغيريﺔ الﺟذريﺔ التﻲ ﻣن ﺟانب‬
‫الذات تﺟاه الﺛﻘافات الﻣغايرة واﻻﻋتراف بوﺟود اﻻﺧتالف بين‬
‫الذاتﻲ واألﺟنبﻲ ووﺣدة الﻣصير واﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ الترﺟﻣﺔ لفﮭم‬
‫اآلﺧر الﺛﻘافﻲ‪.‬‬
‫" الترﺟﻣﺔ ﻻ تطرح فﻘط ﻋﻣال فكريا نظريا أو تطبيﻘيا ولكنﮭا‬
‫تطرح ﻣشكﻠﺔ أﺧالﻗيﺔ تتﻣﺛل فﻲ تﻘريب الﻘارىء ﻣن الكاتب‬
‫وتﻘريب الكاتب ﻣن الﻘارىء‪ ...‬ﻣﻣا يﻌنﻲ ﻣﻣارﺳﺔ الضيافﺔ‬
‫‪1‬‬
‫الﻠغويﺔ"‬
‫لكن ﻣاھﻲ الﻣﺧاطر الناتﺟﺔ ﻋن ھذا التصﺣر الﺛﻘافﻲ؟ وﻣاذا‬
‫يﺣدث لﻠﺛﻘافات ﺣينﻣا تﺳﻘط الﺣضارة؟ وھل يﻣكن اﻻﺳتئناف‬
‫وتﺣﻘيق اﻻنطالﻗﺔ الﺟديدة واﻻﺳترﺟاع الﺣضاري؟‬

‫‪ 1‬ريكور (بول) ‪ ،‬عن الترجمة‪ ،‬ترجمة حسين خمري‪ ،‬منشورات االختالف‪ -‬الجزائر‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪.2008 ،‬ص‪.46.‬‬

‫‪68‬‬
‫خاتمة‬

‫"ظﮭر ﻣفﮭوم تﺳاوي الﺛﻘافات (فﻲ الﻣكانﺔ والتﻌﻘيد) ونﺳبويتﮭا‪،‬ﻣﻣا أدى‬


‫الﻰ تﻌﻠيق ﻣفﮭوم الﺣضارة الﻣدركﺔ بوصفﮭا اﻻنﺟاز الﻣادي والﻣﻌنوي‬
‫‪1‬‬
‫لﺛﻘافﺔ ﻣﻌينﺔ واﺧتفت األﺣكام التﻘويﻣيﺔ"‬

‫لﻘد ارتبط التطور الﻣﻌاصر لﻠﻌولﻣﺔ بزوال الصفﺔ اﻹﻗﻠيﻣيﺔ‬


‫وانتﻘاص ﺳيادة الدولﺔ الوطنيﺔ وفشل ﻣشروع الﺣداﺛﺔ وانﻘالب‬
‫ﺣركﺔ التنوير ﻋﻠﻰ ﺳياﺳﺔ اﻣبرياليﺔ كﻠيانيﺔ وفﻘدت الﻌﻠﻣنﺔ الﻌديد‬
‫ﻣن الﻣكاﺳب أﻣام الﻣد التيولوﺟﻲ وفﻲ ظل ﻋودة الدينﻲ ﻋن طريق‬
‫الﻣتﺣولين الﺟدد أو إﻋادة إنتاج الﻣاضﻲ بتنشيط ذھنيﺔ التﺣريم‬
‫وتركيز ﻣؤﺳﺳات التبشير والدﻋوى وبواﺳطﺔ التوريث‬
‫واﻹرﺳاليات الﺧيريﺔ وھيﻣنﺔ الﻣﻘدس ﻋﻠﻰ الوﻋﻲ‪.‬‬
‫ﺣينﻣا التﻘﻰ الدينﻲ بالﺛﻘافﺔ ﺣصل اصطدام بينﮭﻣا وتم الﻘضاء‬
‫ﻋﻠﻰ الﮭويﺔ الﺛﻘافيﺔ باﺳم الدينﻲ الﻣﺣض وأدرج الﺛﻘافﻲ فﻲ دائرة‬
‫الوﺛنﻲ والدنيوي فﻲ ﻣﻘابل الﻘدﺳﻲ بدل التﻌاﻣل ﻣﻊ الدين بوصفه‬
‫ﺟزء ﻣن الﺛﻘافﺔ‪ .‬كﻣا أن الﺣضارة الغربيﺔ بررت تﻣركزھا ﻻ ﻣن‬
‫ﺟﮭﺔ تفوﻗﮭا الﺛﻘافﻲ فﻲ شكﻠﮭا الدنيوي ﻋﻠﻰ بﻘيﺔ الﮭويات بل‬
‫بوصفﮭا ﻣﻠﮭﻣﺔ بالدين ﻋﻠﻰ الدوام وﻗادرة ﻋﻠﻰ ﻣنح دين ﻣﺣض‬
‫أﻋﻠﻰ ﻣن كل ﺛﻘافﺔ وﻋابر لﻠﻣﺟتﻣﻌات‪ .‬ﻏايﺔ الﻣراد أن اﻻﺳتئناف‬
‫الﺣضاري يطرح فﻲ إطار اﻻﺳتﻘالل الذاتﻲ لﻠﺛﻘافات وتﺳاويﮭا فﻲ‬
‫الﻣكانﺔ ونﺳبيتﮭا الﻣﻌرفيﺔ والﻣﻌياريﺔ وتتوﻗف ﻋﻠﻰ اندراج الدينﻲ‬

‫روا (أوليفيه) ‪ ،‬الجهل المقدس ‪ ،‬زمن دين بال ثقافة ‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.107.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪69‬‬
‫ضﻣن الﺛﻘافﺔ والتﻌاﻣل ﻣﻌه بوصفه أﺣد الرﻣز الﺛﻘافيﺔ وليس كل‬
‫الوﻋﻲ الفكري الذي يﻣنح الﮭويﺔ الﺛﻘافيﺔ أﺳﺳﮭا واﻹطار الﻌام‬
‫الذي يغطﻲ الﺣياة اليوﻣيﺔ‪ .‬ﻣن ھذا الﻣنطﻠق يﺟب رد التﻌدديﺔ‬
‫الﺛﻘافيﺔ إلﻰ أصولﮭا الﻌﻠﻣيﺔ والﻘيام بﻌﻠﻣنﺔ ﻏير ﻋنيفﺔ لﻠدين وذلك‬
‫برده إلﻰ الﺛﻘافﺔ بدل أن يؤكد ﻋالﻣيته ﻋن طريق الﮭيﻣنﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫الﮭويﺔ والتأكيد ﻋﻠﻰ اﻹيﻣان الﻣﺣض والتﺣرر ﻣن الذوق الﺟﻣالﻲ‬
‫وﺟﻌل النظريﺔ الالھوتيﺔ ھﻲ ﻣرﺟﻊ األﺣكام الﺛﻘافيﺔ الﻣﺳبﻘﺔ فيﻣا‬
‫يتﻌﻠق نﻣط الﺣياة والفرد‪ .‬إذا كان التﺛﻘف ھو الﺳيرورة التﻲ‬
‫يكتﺳب بﻣﻘتضاھا الفرد ﺛﻘافته الﺧاصﺔ فإن التﺣضر ھو الﻣﺳار‬
‫الشائك والﻣﻌﻘد الذي يﻘطﻌه شﻌب بأﺳره فﻲ ﺳبيل الترﻗﻲ والتﻘدم‬
‫والﺣصول ﻋﻠﻰ درﺟﺔ ﻣن التﻣدن والتﺣديث‪ .‬لكن ﻣا ﺣيﻠﺔ ﺣضارة‬
‫إﻗرأ ﻣن أﺟل الﻌود ﻋﻠﻰ بدء؟ ھل تﻘيم ﻣأتﻣا ﻋﻠﻰ الدين أم تﺣرص‬
‫ﻋﻠﻰ اندراﺟه الﺛﻘافﻲ؟‬

‫‪70‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟخاﻣس‬

‫‪Assoun (Paul Taurent),‬‬ ‫‪nature ,‬‬


‫‪inconscient et culture, in Analyses et‬‬
‫‪réflexions sur la nature, E. Marketing, 1990.‬‬
‫ھنتنﺟتون (صاﻣويل)‪ ،‬صدام اﻟﺣضارات‪ ،‬ترﺟﻣﺔ طﻠﻌت‬
‫الشايب‪ ،‬شركﺔ ﺳطور‪ ،‬الﻣﻌادي‪ ،‬الﻘاھرة‪ ،‬الطبﻌﺔ الﺛانيﺔ‪،‬‬
‫‪.1999‬‬
‫فرويد ( ﺳغﻣوند)‪ ،‬ﻣسﺗﻘﺑل وهم‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺟورج طرابيشﻲ‪،‬‬
‫دار الطﻠيﻌﺔ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪.1974 ،‬‬
‫ليتش ( إدﻣوند)‪ ،‬ﻛلود ﻟيﻔي – شﺗراوس‪ ،‬اﻟﺑنيويﺔ في‬
‫ﻣشروعه ااﻷنثرﺑوﻟوﺟي‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺛائر ديب‪ ،‬دار الفرﻗد‪ ،‬دﻣشق‪،‬‬
‫ﺳوريا‪ ،‬الطبﻌﺔ الﺛانيﺔ‪.2010 ،‬‬
‫ريكور (بول)‪ ،‬عن اﻟﺗرﺟﻣﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺣﺳين ﺧﻣري‪ ،‬ﻣنشورات‬
‫اﻻﺧتالف‪ -‬الﺟزائر‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪.2008 ،‬‬
‫روا (أوليفيه)‪ ،‬اﻟﺟهل اﻟﻣﻘدس‪ ،‬زﻣن دين ﺑال ثﻘافﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫صالح األشﻣر‪ ،‬دار الﺳاﻗﻲ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪.2012 ،‬‬

‫‪71‬‬
72
‫الفصل السادس‬

‫كيف يتحقق العيش املشرتك‬

‫يف ظل التصادم بني الحضارات؟‬

‫"إن التاريﺦ البشري ھو تاريﺦ الﺣضارات وانه لﻣن الﻣﺳتﺣيل أن نفكر‬


‫‪1‬‬
‫فﻲ أي شكل آﺧر ﻣن تطور البشريﺔ"‬

‫فﻲ البدايﺔ يفرق ھنتنغتون بين الﺣضارة فﻲ صيغﺔ الﻣفرد‬


‫والﺣضارات فﻲ صيغﺔ الﺟﻣﻊ ويﻘدر فكرة الﺣضارة بوصفﮭا‬
‫ﻣﻌيارا ونﻘيضا لفكرة الﮭﻣﺟيﺔ ويﻌتبرھا ﻣﺛاﻻ لﻠﻣﺟتﻣﻊ الﻣتﺣضر‬
‫ﻋﻠﻰ ﺧالف الﻣﺟتﻣﻊ البدائﻲ ويﻘر بوﺟود ﺣضارة إنﺳانيﺔ ﻋاﻣﺔ‬
‫وكونيﺔ وﺛﻘافات ﻗوﻣيﺔ تابﻌﺔ وبﻌد ذلك فإنه يﺳتشكل الﻌالﻗﺔ بين‬
‫الﺣضارة والﺛﻘافﺔ ويﻌتبر ﻣفﮭوم الﺣضارة كيانا ﺛﻘافيا ويشترك‬
‫كالھﻣا فﻲ اﻹشارة إلﻰ نﻣط الﺣياة الﻌام لﻠبشر ويتضﻣنان الﻘيم‬
‫والﻣبادئ والﻣؤﺳﺳات وأنﻣاط التفكير التﻲ تﻌطﻲ لﮭا األﺟيال‬
‫الﻣتﻌاﻗبﺔ فﻲ ﻣﺟتﻣﻊ ﻣﻌين ﻣنزلﺔ فريدة‪.‬‬
‫بيد أن ﻣا يﻠفت اﻻنتباه إلﻰ تفرﻗﺔ األﻣان بين تضﻣن الﺣضارة‬
‫لآلليﺔ والتﻘنيات والﻌواﻣل الﻣاديﺔ والتطور التكنولوﺟﻲ وبين‬

‫‪ 1‬صامويل هنتغنتون‪ ،‬صدام الحضارات واعادة بناء النظام العالمي‪ ،‬ترجمة مالك عبيد‬
‫أبو شهيوة ومحمود محمد خلف‪ ،‬الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع‪ ،‬ليبيا‪ ،‬طبعة أولى‪،‬‬
‫‪،1999‬ص‪.101.‬‬

‫‪73‬‬
‫اﺣتواء الﺛﻘافﺔ ﻋﻠﻰ الﻘيم الﻌاليﺔ والﻣﺛاليات والﺧصائص الﻌﻘﻠيﺔ‬
‫والفنيﺔ واألﺧالﻗيﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ‪ .‬ولكنه يﺧفف ﻣن ھذه الفروﻗات ويشيد‬
‫باﺳتيﻌاب الﻣﺟتﻣﻌات الﮭﻣﺟيﺔ وﻏير الﻣتﻣدنﺔ وﻏير الﻣتغيرة‬
‫لﻠﺛﻘافﺔ بل يذھب إلﻰ اﻋتبار الﺣضارة فضاء ﺛﻘافﻲ وﻣﺳاﺣﺔ تتشكل‬
‫ﻣن ظواھر ﺛﻘافيﺔ ويﻘر فﻲ نﮭايﺔ األﻣر بأن" الﺣضارة ھﻲ ﺛﻘافﺔ‬
‫كتبت بﺣروف كبيرة" ويﻘصد الﺣضارة نﺳق ﻣن الﻌادات واألبنيﺔ‬
‫الﻣاديﺔ والﻣﻌنويﺔ التﻲ تشكل نوﻋا ﻣن الكيان التاريﺧﻲ لشﻌب‬
‫ﻣﻌين وبالتالﻲ يصبح التﺣضر ﻋﻣﻠيﺔ أصﻠيﺔ ﻣن الﺧﻠق الﺛﻘافﻲ‬
‫يترﺟم بﮭا شﻌب ﻗدرته ﻋﻠﻰ الﻌﻣل واﻻﺟتﮭاد واﻹبداع‪ .‬وھكذا‬
‫تﻣﺛل الﺛﻘافﺔ الﻣوضوع الﻣشترك فﻲ تﻌريف الﺣضارة‪.‬وتكون‬
‫الﺣضارة الﻣصير الﻣﺣتوم ﻣن ﻋﻣﻠيﺔ الﻣﺛاﻗفﺔ وكيانا ﺛﻘافيا فﻲ‬
‫أوﺳﻊ ﻣﻌانيه تتﻣيز بالشﻣوليﺔ وتﻌﻣر طويال وتتطور وتتكيف‬
‫ولكنﮭا تﻌرف الﻣﺟد واﻻزدھار والفناء واﻻنﮭيار‪.1‬‬
‫لكن ﻣا الفرق بين الﺛﻘافﺔ والﺣضارة وبين الﻣﺛاﻗفﺔ والتﺣضر؟‬
‫وكيف يتم اﻻنتﻘال ﻣن الﺛﻘافﺔ إلﻰ الﺣضارة؟ وھل الﻌالﻗﺔ بين‬
‫الﺛﻘافات ھﻲ ﻣبنيﺔ ﻋﻠﻰ التﻌاون والتواصل أم ﻋﻠﻰ الﻣغالبﺔ‬
‫والصراع؟ وﻣا ﺳبب التصادم بين الﺣضارات؟ وھل يﻣكن تفادي‬
‫ھذا التصادم وتأﺳيس أرضيﺔ لﻠتالﻗﻲ والتفاھم بين الشﻌوب؟ و‬
‫الﻲ أي ﺣد يتﺣﻘق الﻌيش الﻣشترك فﻲ ظل التصادم بين‬
‫الﺣضارات؟‬
‫بﻌد ذلك يﻘر الكاتب بأن " الﺣضارات ھﻲ الﻘبائل اﻹنﺳانيﺔ‬
‫وصدام الﺣضارات ھو صراع ﻗبﻠﻲ ﻋﻠﻰ الﻣﺳتوى الﻌالﻣﻲ‪...‬‬

‫‪ 1‬صامويل هنتغنتون‪ ،‬صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي‪ ،‬مرجع‬


‫مذكور‪،‬صص‪.104-103‬‬

‫‪74‬‬
‫والﻌالﻗات بين ﺟﻣاﻋات ﻣن ﺣضارات ﻣﺧتﻠفﺔ لن تكون ﺣﻣيﻣﻲ‬
‫فﮭﻲ ﻋادة باردة وﻏالبا ﻋدائيﺔ"‪ .1‬ﻋﻠﻰ ھذا األﺳاس إن ﻣن بين‬
‫أﺳباب الﻣواﺟﮭﺔ ھو اﻻنﺣراف نﺣو التﻌاﻣل ﻣﻊ الﺣضارات ﻣن‬
‫زاويﺔ اﻋتبارھا كيانات ﺳياﺳيﺔ وليﺳت كيانات ﺛﻘافيﺔ واﻹشارة‬
‫إلﻰ الﺣضارة الغربيﺔ ﻋالﻣيا بوصفﮭا ﺣضارة كونيﺔ والﻰ الغربنﺔ‬
‫باﻋتبارھا نﻣط التﺣديث ونﻣوذج التﻣدن وانتشال الﺣضارة ﻣن‬
‫ﻣﺣتواھا التاريﺧﻲ والﺟغرافﻲ والﺛﻘافﻲ وتبرير ذلك بأن الغرب‬
‫ھو الﺣضارة الوﺣيدة التﻲ تشكﻠت فﻲ اتﺟاه دائري وليس ﻣن‬
‫ﺧالل ﻣﺳاھﻣﺔ شﻌب أو دين أو ﻣﺟال ﺟغرافﻲ وبالتالﻲ نفﻲ‬
‫ﻣﺳاھﻣات الﺛﻘافات والشﻌوب األﺧرى فﻲ نﻘل التﺣضر إلﻲ‬
‫أوروبا‪ .‬والﺣق" أن الشﻌوب ﻻ تﺳتﻌﻣل الﺳياﺳﺔ لﻣﺟرد أن تدفﻊ‬
‫بﻣصالﺣﮭا ﻗدﻣا ولكن أيضا ﻣن أﺟل تﺣديد ھويتﮭا‪ .‬إننا نﻌرف ﻣن‬
‫نﺣن فﻘط ﻋندﻣا نﻌرف ﻣن لﺳنا نﺣن وفﻲ أﻏﻠب األﺣيان ﻋندﻣا‬
‫نﻌرف أولئك الذين ضدنا"‪.2‬‬
‫زد ﻋﻠﻰ ذلك اﻋتﻣاد الﺣضارة الغربيﺔ ﻋﻠﻰ الﻣيراث الكالﺳيكﻲ‬
‫لإلﻏريق والروﻣان وﻋﻠﻰ التﻘاء ﺟوھرانﻲ بين الديانتين اليﮭوديﺔ‬
‫والﻣﺳيﺣيﺔ ( الكاﺛولوكيﺔ والبروتﺳتانتينيﺔ) وﻣﺳاﻋدة الﻠغات‬
‫األوربيﺔ ﻋﻠﻰ النﻘل والترﺟﻣﺔ واﻻنفتاح واﻹضافﺔ وكذلك اﺳتﺟابﺔ‬
‫الغرب نفﺳه إلﻰ ﻋﻣﻠيﺔ التﺣديث وتكريس ﺳيادة الﻘانون والتﻌدديﺔ‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والكيانات التﻣﺛيﻠيﺔ وتﻘديس الفردانيﺔ وتصدير البﺣث‬

‫‪ 1‬صامويل هنتغنتون‪ ،‬صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي‪ ،‬مرجع‬


‫مذكور‪،‬ص‪.367.‬‬
‫‪ 2‬صامويل هنتغنتون‪ ،‬صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي‪ ،‬مرجع‬
‫مذكور‪،‬ص‪.74.‬‬

‫‪75‬‬
‫ﻋن الرﺧاء فﻲ دولﺔ الرفاه‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك يضيف ھنتنغتون‬
‫أﺳباب أﺧرى ﻣﺛل‪:‬‬
‫‪ -‬ﻣشاﻋر التفوق (ﻣركزيﺔ الذات الﺣضاريﺔ) نﺣو شﻌب‬
‫يﻌتﻘد أنه ﻣﺧتﻠف ﺟدا ﻋن الشﻌوب األﺧرى‪.‬‬
‫‪ -‬ﻣشاﻋر الﺧوف ﻣن الﻣﺟﮭول وﻣن صﻌود ﻗوة أﺧرى‬
‫ﻣنافﺳﺔ أو فﻘدان الﺛﻘﺔ فﻲ ذلك الشﻌب‪.‬‬
‫‪ -‬صﻌوبﺔ التفاھم ﻣﻊ ذلك الشﻌب بﺣكم وﺟود اﺧتالفات فﻲ‬
‫الﻠغﺔ والدين والنﻣوذج الﺣضاري الﻣتبﻊ‪.‬‬
‫‪ -‬فﻘدان التﺟانس ﻣﻊ ذلك الشﻌب فيﻣا يتﻌﻠق بالﻌالﻗات‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وتصورات الﺣياة ورؤى الﻌالم‪.‬‬
‫‪ -‬اﻻنتشار الدائم لﻠصراع نتيﺟﺔ ﻋدوانيﺔ لﻠبشر وﺣاﺟتﮭم‬
‫الدائﻣﺔ إلﻰ صناﻋﺔ األﻋداء لتﺣديد ھويتﮭم‪.1‬‬
‫‪ -‬ھيﺟان أزﻣﺔ الﮭويﺔ لدى البشر والتﻘارب ﻋﻠﻰ أﺳاس‬
‫اﻻرتباط باألصل الﺛﻘافﻲ والﻣﮭم ﻋند البشر ھو الدم والﻌﻘيدة‬
‫واﻹيﻣان والﻌائﻠﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬ﻣﻌظم الصراﻋات فﻲ الﻌالم ليﺳت اﻗتصاديﺔ أو‬
‫إيديولوﺟيﺔ بل ألﺳباب ﺛﻘافيﺔ وﻣن أﺟل تأكيد الﮭويﺔ الﺛﻘافيﺔ وھﻲ‬
‫أكﺛر الﻣصادﻣات ﺧطورة ألن توزيﻊ الﺛﻘافات فﻲ الﻌالم يﻌكس‬
‫توزيﻊ الﻘوة‪.‬‬
‫‪ -‬تراﺟﻊ اﻹنتاج اﻻﻗتصادي لﻠغرب وانﺣﺳار الﻘدرة‬
‫الﻌﺳكريﺔ وانبﻌاث الﺛﻘافات ﻏير الغربيﺔ ﻣن ﺳباتﮭا وﻣنافﺳتﮭا‬
‫الﺟديﺔ ﻋﻠﻰ اﻹنتاج دفﻊ بالدول الﻣتﻘدﻣﺔ إلﻰ الدفاع ﻋن نفﺳﮭا‬

‫‪ 1‬صامويل هنتغنتون‪ ،‬صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي‪ ،‬مرجع‬


‫مذكور‪،‬صص‪.245-244‬‬

‫‪76‬‬
‫بزرع الفوضﻰ فﻲ الﻌالم وﺧﻠق الﺣروب والتصدﻋات والفتن‬
‫الداﺧﻠيﺔ ﻗصد التفرﻗﺔ واﻹضﻌاف واﻹلﮭاء‪.‬‬
‫" ليس ھناك أصدﻗاء ﺣﻘيﻘيون بدون وﺟود أﻋداء ﺣﻘيﻘيين‪ .‬إننا‬
‫ﻣا لم نكره اآلﺧرين فﻠن نﺳتطيﻊ أن نﺣب أنفﺳنا‪...‬وبالنﺳبﺔ إلﻰ‬
‫البشر الذين يبﺣﺛون ﻋن ھويﺔ ويﻌيدون اﺧتراع نﺳب ﻋرﻗﻲ ﺟديد‬
‫فإن األﻋداء شﻲء ﺟوھري‪.‬وان أكﺛر األﻋداء ﻗابﻠيﺔ وأكﺛرھم‬
‫ﺧطرا ھم أولئك الذين يﻘيﻣون ﻋند ﺧطوط الصدع بين ﺣضارات‬
‫الﻌالم الكبرى‪ 1" .‬لكن كيف يﻣكن تﺟنب ﺣرب ﻋالﻣيﺔ بين‬
‫الﺣضارات؟‬
‫‪ -‬التﻘﻠيل ﻣن صدام الﺣضارات يكون ﻣن ﺧالل تﻘويﺔ‬
‫الﺣضارة فﻲ تفردھا وﺧصوصيتﮭا‬
‫‪ -‬الكف ﻋن النظر إلﻰ الغربنﺔ ﻋﻠﻰ أنﮭا نﻣوذج التﺣديث‬
‫والتﻣدن وفﺳح الﻣﺟال لنﻣاذج أﺧرى‬
‫‪ -‬ايﺟاد توﺟه ﻋﻠﻣانﻲ يتﺟاوز الﺣضارات الﻣتصارﻋﺔ نﺣو‬
‫ﻣﺳتوى أﻋﻠﻰ ﻣن التﺣضر والتﺣديث‬
‫‪ -‬بناء نظام دولﻲ ﻣؤﺳس ﻋﻠﻰ ﺣوار الﺣضارات والﺳالم‬
‫والتضاﻣن والتفاھم وﻣﻌادي لﻠﮭﻣﺟيﺔ بوصفه الضﻣان األكيد ضد‬
‫ﻗيام ﺣرب الﻌالم‬
‫‪ -‬الﺣفاظ ﻋﻠﻰ الطابﻊ الﻣتﻌدد لﻠﺣضارات والﺳﻣﺔ الﻣتنوﻋﺔ‬
‫لﻠﺛﻘافات بالنﺳبﺔ لﻠﺳياﺳﺔ الﻌالﻣيﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كانت اﻹيديولوﺟيا تفصل بين الشﻌوب وتزيد ﻣن‬
‫درﺟﺔ الﻌداء وتغذي الشﻌور بالكراھيﺔ فإن دور الﺛﻘافﺔ يكون فﻲ‬

‫‪ 1‬صامويل هنتغنتون‪ ،‬صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي‪ ،‬مرجع‬


‫مذكور‪،‬ص‪.71‬‬

‫‪77‬‬
‫اﻻتﺟاه الﻣﻌاكس وتزيد ﻣن درﺟﺔ التﺣضر والتﻘارب والتﻌاون بين‬
‫الشﻌوب‪.‬‬
‫" إن الﺛورة ضد الغرب كانت أصال ﻣشروﻋﺔ بالتأكيد ﻋﻠﻰ‬
‫ﻋالﻣيﺔ الﻘيم الغربيﺔ وھﻲ اآلن ﻣشروﻋﺔ ﻣن ﺧالل التأكيد ﻋﻠﻰ‬
‫تفوق الﻘيم ﻏير الغربيﺔ"‪.1‬‬
‫لكن فﻲ نﮭايﺔ الﻣطاف إلﻰ أي ﻣدى تشكل الﺣضارة األوروبيﺔ‬
‫لﻠغرب ھﻲ الﺣضارة الﻌالﻣيﺔ لﻠﻌالم؟ ھل الغرب ﻣﺳتﺛنﻰ ﻣن نﻣط‬
‫الﻣﺟتﻣﻌات التﻲ تفترض بأن تاريﺧﮭا ﻗد انتﮭﻰ؟ كيف نﺳتطيﻊ بيان‬
‫صﻌود وھبوط تطور الﺣضارات اﻹنﺳانيﺔ؟ وﻣاذا تﻣتﻠك‬
‫الﻣﺟتﻣﻌات ﻏير الغربيﺔ ﻋﻣوﻣا فيﻣا بينﮭا ﻋدا الﺣﻘيﻘﺔ بأنﮭا ﻏير‬
‫ﻏربيﺔ؟ ھل بالﺣفاظ ﻋﻠﻰ الطابﻊ الﻣتﻌدد لﻠﺣضارة الﻌالﻣيﺔ نتﺟنب‬
‫ﺣربا بين الﺛﻘافات؟‬

‫اﻟﻣصدر‪:‬‬
‫صاﻣويل ھنتغنتون‪ ،‬صدام اﻟﺣضارات واعادة ﺑناء اﻟنظام اﻟﻌاﻟﻣي‪،‬‬
‫ترﺟﻣﺔ ﻣالك ﻋبيد أبو شﮭيوة وﻣﺣﻣود ﻣﺣﻣد ﺧﻠف‪ ،‬الدار الﺟﻣاھيريﺔ لﻠنشر‬
‫والتوزيﻊ‪ ،‬ليبيا‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.1999 ،‬‬

‫‪ 1‬صامويل هنتغنتون‪ ،‬صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي‪ ،‬مرجع‬


‫مذكور‪،‬ص‪.186‬‬

‫‪78‬‬
‫الفصل السابع‬

‫األنثربولوجيا الثقافية‬

‫بني البنية واالختالف‬

‫"إن تﺣديد ﻣا ھو فطري وﻣاھو ﻣكتﺳب فﻲ ﺳﻠوك اﻹنﺳان ﻗد يكون‬


‫‪1‬‬
‫ﻣﺟاﻻ ﻣﺛيرا لﻠبﺣث إذا ﻣا كان ھذا التﺣديد ﻣﻣكنا"‬

‫األنﺛربولوﺟيا الﺛﻘافيﺔ ھﻲ أﺣد ﻣناھج الﻌﻠوم اﻹنﺳانيﺔ التﻲ ﺣﻠت‬


‫ﻣﺣل األﺛنولوﺟيا ﻋند فرايزر وتايﻠور التﻲ ادﻋت ﻣﻌرفﺔ ﻣباشرة‬
‫بأﺣوال الشﻌوب البدائيﺔ وﺳﻌت إلﻰ اكتشاف الﺣﻘائق األﺳاﺳيﺔ‬
‫بطبيﻌﺔ النفس البشريﺔ ﻣن ﺧالل الﻣﻘارنﺔ بين ﻋناصر وتفاصيل‬
‫الﺛﻘافﺔ البشريﺔ ﻋﻠﻰ صﻌيد ﻋالﻣﻲ‪ .‬كﻣا نﻘدت اﻻتﺟاه الوظيفﻲ ﻋند‬
‫برونيﺳالف ﻣالينوفﺳكﻲ الذي ھدف إلﻰ تبيان كيفيﺔ ﻗيام الﺟﻣاﻋﺔ‬
‫الغربيﺔ بوظيفتﮭا بوصفﮭا نظاﻣا اﺟتﻣاﻋيا وركز ﻋﻠﻰ الفروق‬
‫الﻘائﻣﺔ بين الﺛﻘافات البشريﺔ أكﺛر ﻣن التشابه‪.‬‬
‫بيد أن ﻣيزة الﻣنﮭج األنﺛربولوﺟﻲ البنيوي ﻋند كﻠود ليفﻲ‬
‫شتراوس تكﻣن فﻲ دراﺳﺔ الﺳﻠوك الﺛﻘافﻲ الذي يتﺧذ شكل نظم‬
‫اﺟتﻣاﻋيﺔ كالﻌائﻠﺔ ونظام الﻘرابﺔ والتنظيم الﺳياﺳﻲ واﻹﺟراءات‬

‫‪ 1‬اموند ليتش‪ ،‬كلود ليفي شتراوس‪ ،‬البنيوية في مشروعها األنثربولوجي‪ ،‬ترجمة ثائر‬
‫ذيب‪ ،‬دار الفرقد‪ ،‬دمشق‪ ،‬طبعة ثانية‪ ،2010 ،‬ص‪.217‬‬

‫‪79‬‬
‫الﻘانونيﺔ والﻌبادات الدينيﺔ والﻌادات والتﻘاليد والنظام اﻻﻗتصادي‬
‫وذلك بﮭدف تﺣديد الﻌالﻗﺔ والتأﺛير الﻣتبادل بينﮭا ﺳواء بالنﺳبﺔ‬
‫لﻠﻣﺟتﻣﻌات الﻘديﻣﺔ التﻲ نﻌرفﮭا ﻋن طريق اآلﺛار التﻲ تركتﮭا أو‬
‫فيﻣا يتﻌﻠق بالﻣﺟتﻣﻌات الﻣﻌاصرة ﻋن طريق الرصد الﻣباشر‪.‬‬
‫يﻌبر شتراوس ﻋن ﺣاﺟﺔ التﺣﻠيل البنيوي إلﻰ وضﻊ كل‬
‫التبديالت الﻣﻣكنﺔ وفﺣص األدلﺔ التﺟريبيﺔ ﻋﻠﻰ األﺳاس الﻣﻘارنﺔ‬
‫بﻘوله‪ ":‬يشتﻣل الﻣنﮭج الذي نتبناه ﻋﻠﻰ الﻌﻣﻠيات التاليﺔ‪ )1 :‬ﺣدد‬
‫الظاھرة الﻣدروﺳﺔ بوصفﮭا ﻋالﻗﺔ بين اﺛنين أو أكﺛر ﻣن الﺣدود‬
‫أو الﻌناصر‪ ،‬الﺣﻘيﻘيﺔ أو الﻣفترضﺔ‪ )2 ،‬ضﻊ ﺟداوﻻ لﻠتبديالت‬
‫الﻣﺣتﻣﻠﺔ بين ھذه الﺣدود‪ )3 ،‬تناول ھذا الﺟدول بوصفه‬
‫الﻣوضوع الﻌام لﻠتﺣﻠيل‪ ،‬ھذا األﺧير الذي ﻻ يتﻣكن ﻣن كشف‬
‫الروابط الضروريﺔ إﻻ ﻋند ھذا الﻣﺳتوى‪ ،‬فالظاھرة التﺟريبيﺔ ﻻ‬
‫تكون ﻋند بدايﺔ النظر فيﮭا ﺳوى تركيب واﺣد بين ﻋدد ﻣن‬
‫التركيبات الﻣﻣكنﺔ األﺧرى‪ ،‬والتﻲ ينبغﻲ بناء نظاﻣﮭا ﻣﻘدﻣا"‪.1‬‬
‫لﻘد شرع شتراوس لالﺧتالف وآﻣن بالتنوع بين الﺛﻘافات ونﻘد‬
‫نظريﺔ اﻻنتشار الﺛﻘافﻲ التﻲ تﻘر بذيوع الﺳﻣات الﺛﻘافيﺔ ﻋن طريق‬
‫اﻗتباﺳﮭا أو بالﮭﺟرة ﻣن ﻣنطﻘﺔ إلﻰ أﺧرى وتؤكد أھﻣيﺔ ھذا‬
‫اﻻنتشار فﻲ نﻣو الﺛﻘافﺔ البشريﺔ وﻗدرة اﻻﺧتراﻋات الﺟديدة‬
‫وأھﻣيﺔ اﻻﺳتﻌارة الﻣﺳتﻣرة والﺳﻣات الﻣشتركﺔ فﻲ تاريﺦ‬
‫اﻹنﺳان‪ .‬لﻘد ضم الﻣنﮭج األنﺛربولوﺟﻲ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ كل ﻣن البنيويﺔ‬
‫والﺟيولوﺟيا واأللﺳنيﺔ والتﺣﻠيل النفﺳﻲ والﻣاركﺳيﺔ واألﺛنوﻏرافيا‬

‫‪ 1‬كلود ليفي شتراوس‪ ،‬الطوطمية اليوم‪ ،‬الترجمة األنغليزية‪ ،‬ص‪ .16‬ذكره اموند ليتش‪،‬‬
‫كلود ليفي شتراوس‪ ،‬البنيوية في مشروعها األنثربولوجي‪ ،‬ص‪37‬‬

‫‪80‬‬
‫والتاريﺦ وتناول نظريﺔ الﻘرابﺔ وﻣنطق األﺳطورة ونظريﺔ‬
‫التصنيف البدائﻲ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ كل ﺣال تﮭتم األنﺛربولوﺟيا البنيويﺔ بﻣﺳائل تطور اﻹنﺳان‬
‫بدءا ﻣن أشكال ﺣيوانيﺔ وتوزﻋه الﺣالﻲ فﻲ ﺟﻣاﻋات ﻋرﻗيﺔ‬
‫ﻣتﻣيزة بصفات تشريﺣيﺔ أو فﺳيولوﺟيﺔ وتدرس أيضا ﻣراﺣل‬
‫تطوره األﺧيرة بوصفه نوﻋا بيولوﺟيا والﻣراﺣل التﻲ ﻗادته فﻲ‬
‫ظروف ﻣﺧتﻠفﺔ ﻋن األنواع الﺣيﺔ األﺧرى إلﻰ اكتﺳاب الﻠﺳان‪.‬‬
‫"ﻋﻠﻰ الرﻏم ﻣن أن األنﺛربولوﺟيا الطبيﻌيﺔ تﻠﺟأ إلﻰ ﻣﻌارف‬
‫وﻣناھج ﻣتفرﻋﺔ ﻣن الﻌﻠوم الطبيﻌيﺔ فإنﮭا تؤول الﻰ ﺣد كبير إلﻰ‬
‫دراﺳﺔ التﺣوﻻت التشريﺣيﺔ والفزيولوﺟيﺔ الناﺟﻣﺔ بﻣا يتﻌﻠق بنوع‬
‫ﺣﻲ ﻣﻌين ﻋن ظﮭور الﺣياة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والﻠﺳان وﻣنظوﻣﺔ ﻗيم أو‬
‫بكالم أصح ظﮭور الﺛﻘافﺔ‪ 1".‬ﻣن ھذا الﻣنظور يوﺟد اﻹنﺳان فﻲ‬
‫وضﻊ بيو‪ -‬ﺛﻘافﻲ‪ ،‬فﮭو فﻲ ﻣنطﻘﺔ وﺳطﻰ بين الغريزة والﻌﻘل وبين‬
‫التوﺣش والتﺣضر وبين الطبيﻌﺔ والﺛﻘافﺔ وبين البداوة والﺣضارة‪.‬‬
‫ولكن ﻣاذا يضيف تشكل الﺛﻘافﺔ إلﻰ ظاھرة الطبيﻌﺔ؟‬
‫ﻏنﻲ ﻋن البيان أن الﺛﻘافﺔ فﻲ ﻣﻌناھا الﻌام ھﻲ الﺣصول ﻋﻠﻰ‬
‫ﻗدر ﻣﻌين ﻣن التربيﺔ والتﻌﻠيم واكتﺳاب نشاط ﻣﻌين ﻋند فئﺔ ﻣﻌينﺔ‬
‫تﻣتﻠك صفات الﻣﺛﻘف‪ ،‬أﻣا الﻣﻌنﻰ الﺧاص لﻠﺛﻘافﺔ فيشير إلﻰ ﺟﻣيﻊ‬
‫األنشطﺔ بين أفراد الﻣﺟتﻣﻊ الواﺣد وبالتالﻲ ھﻲ الﻣظﮭر الﺧارﺟﻲ‬
‫لﻠﺳﻠوك الﻣكتﺳب الذي تؤلف ﻋناصره ﻗدرا ﻣشتركا ويتناﻗﻠه أفراد‬
‫ﻣﺟتﻣﻊ ﻣﻌين وبالتالﻲ اﻹنﺳان كائن ﺛﻘافﻲ والﺛﻘافﺔ ﻻ تنﺣصر فﻲ‬
‫فئﺔ دون ﻏيرھا وﻻ وﺟود لﻣﺟتﻣﻊ ﻏير ﻣﺛﻘف‪ .‬ھكذا تدل الﺛﻘافﺔ‬

‫‪ 1‬كلود ليفي شتراوس‪ ،‬األنثربولوجيا البنيوية‪ ،‬ترجمة مصطفى صالح‪ ،‬منشورات وزارة‬
‫الثقافة‪ ،‬دمشق‪،1977 ،‬ص‪.406‬‬

‫‪81‬‬
‫ﻋﻠﻰ طريﻘﺔ ﺣياة يتﻣيز بﮭا ﻣﺟتﻣﻊ وتﺣتوي ﻋﻠﻰ ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن‬
‫األنﻣاط الﺳﻠوكيﺔ وتتضﻣن ﺟﻣﻠﺔ ﻣن الﻣﻣارﺳات الﻣشتركﺔ‬
‫الﻣوروﺛﺔ والﻣتطورة وتنﻘﺳم إلﻰ ﺟانب ﻣادي تﻘنﻲ وﺟانب ﻣﻌنوى‬
‫ذوﻗﻲ‪ .‬ﻣن الﻣﻌﻠوم أن الدراﺳات األنﺛربولوﺟيﺔ تﻌتﻣد ﻋﻠﻰ ﺛنائيﺔ‬
‫الطبيﻌﺔ والﺛﻘافﺔ وتﻌتبر اﻹنﺳان كائن طبيﻌﻲ وﺛﻘافﻲ فﻲ ذات‬
‫الوﻗت وﻻ يﻣكن الفصل بين الﻌواﻣل البيولوﺟيﺔ والﻌواﻣل‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ فﻲ تكوين الﻣﺣيط الذي يﻌيش فيه الناس بل ﺛﻣﺔ تداﺧل‬
‫بين الﻌناصر الطبيﻌيﺔ والﻣﻌطيات الﺛﻘافيﺔ فﻲ تكوين اﻹنﺳان‬
‫وبالتالﻲ ﻻ وﺟود لطبيﻌﺔ ﺧالصﺔ وليس ﺛﻣﺔ ﺛﻘافﺔ ﻏير ﻣتداﺧﻠﺔ ﻣﻊ‬
‫الطبيﻌﺔ‪ .‬كﻣا تﺣاول النظرة األنﺛربولوﺟيﺔ التﺧﻠص ﻣن النظرة‬
‫الﻣﻌياريﺔ التﻲ تفاضال بين الﻣﺟتﻣﻌات وفق ﺛنائيﺔ التﺣضر‬
‫والتﺧﻠف أو الزوج الﻣفﮭوﻣﻲ بدائﻲ وتﻘدﻣﻲ وتﻌاﻣل ﺟﻣيﻊ الﺛﻘافات‬
‫وفق ﻣبدأ الﻣﺳاواة وبطريﻘﺔ ﻣوضوﻋيﺔ بالرﻏم ﻣن اﻋترافﮭا بأن‬
‫كل ﺛﻘافﺔ لﮭا ﺣركيتﮭا الﺧاصﺔ وبنيﺔ ﻣاديﺔ وبنيﺔ ﻣﻌنويﺔ تﻌبر ﻋن‬
‫ﻣﺣاوﻻت فﮭم ظواھر الطبيﻌﺔ‪ " .‬أﻣا اﻻﻋتﻘاد بأن اﻹنﺳانيﺔ ﻗد‬
‫ﺣﻠت فﻲ نﻣط واﺣد ﻣن األنﻣاط الﺟغرافيﺔ أو التاريﺧيﺔ فيﺳتﺣيل‬
‫أن يﺳود فﻲ تﻠك الﻣﺟتﻣﻌات أو فﻲ ﻣﺟتﻣﻌنا دون أن تكون الﺳذاﺟﺔ‬
‫واألنانيﺔ ﻗد طبﻌتﮭا ذلك أن ﺣﻘيﻘﺔ اﻹنﺳان ﻻ تكﻣن إﻻ فﻲ اﺧتالف‬
‫‪1‬‬
‫اﺟتﻣاﻋاته وﺧصائصه الﻣشتركﺔ فﻲ آن ﻣﻌا‪".‬‬
‫كﻣا يفﺳر كﻠود ليفﻲ شتراوس اﻻنتﻘال ﻣن الطبيﻌﺔ إلﻰ الﺛﻘافﺔ‬
‫بوصفه انتﻘال ﻣن النيئ إلﻰ الﻣطبوخ وﻣن الﻌري إلﻰ التبادﻻت‬
‫التﺟاريﺔ ويﻌتﻣد ﻋﻠﻰ دراﺳﺔ األﺳاطير والفكر البري وﻣنظوﻣات‬

‫‪ 1‬كلود ليفي شتراوس‪ ،‬الفكر البري‪ ،‬ترجمة نظير جاهل‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪،1987 ،‬ص‪.298‬‬

‫‪82‬‬
‫الﻘرابﺔ وتفﺳير تﺣريم ﺳفاح الﻣﺣارم (الزواج الداﺧﻠﻲ والﺧارﺟﻲ‬
‫والتفضيﻠﻲ واألﺣادي والﻣتﻌدد) وضبط ﻗانون التبادل ويرى أن‬
‫كل ﻣﺟتﻣﻊ يتﻣﺛل بﻌض الﻘواﻋد ويﻌدل شروط اﺳتﻣراره الفيزيائﻲ‬
‫وفﻘﮭا ويشﺟﻊ بﻌض أنﻣاط اﻻتﺣاد ويﺳتبﻌد األﺧرى ويﻘوم بتطبيق‬
‫ﻣنﮭﺟﻲ لﻌدد ﻣن الﻣﻌايير األﺧالﻗيﺔ واﻻﺟتﻣاﻋيﺔ واﻻﻗتصاديﺔ‬
‫والﺟﻣاليﺔ‪.‬‬
‫لﮭذا الﺳبب يﻘر شتراوس بأن ﻣﺳألﺔ التﻌارض بين الطبيﻌﺔ‬
‫والﺛﻘافﺔ ليﺳت ﻣﻌطﻰ أوليا وﻻ ﻣظﮭرا ﻣوضوﻋيا لنظام الكون بل‬
‫ﻋﻣال دفاﻋيا ﺣفرته الﺛﻘافﺔ فﻲ دائرتﮭا ﻗصد تأكيد وﺟودھا‬
‫وتواطؤھا األصﻠﻲ ﻣﻊ الﺣياة‪.‬‬
‫إن إﻗاﻣﺔ التﻌارض بين النظام الطبيﻌﻲ والنظام الﺛﻘافﻲ ھو‬
‫إبداع ﻣن صنﻊ الﺛﻘافﺔ ويﮭتدي بﺣضور أو ﻏياب الﻠغﺔ الﻣنطوﻗﺔ‬
‫واﺳتﺧدام الرﻣوز فﻲ الﻌﻣﻠيات الﻣﻌﻘدة لﻠتواصل ويكتﺳﻲ ﻣظﮭر‬
‫ﻗصدي وتناول تركيبﻲ لﺳيادة تراتبيﺔ وتدرﺟيﺔ وفق آليات ﻣتراكبﺔ‬
‫وبنيات دﻣاﻏيﺔ وتﺣوﻻت أدائيﺔ وتشريﺣيﺔ فﻲ الدﻣاغ‪ .‬والﺣق أن‬
‫" بين الﺛﻘافﺔ والطبيﻌﺔ ﻣﻘايضﺔ تﻌطﻲ الﻣتشابه لتنال الﻣتغاير وھﻲ‬
‫تﺟري تارة بين الناس أو فﻲ ﻣا بينﮭم وتارة بين الﺣيوانات‬
‫والناس‪ ...‬أﻣا اﻻﺧتالفات فينتزﻋﮭا اﻹنﺳان ﻣن الطبيﻌﺔ ويﺣﻣﻠﮭا‬
‫ﻋﻠﻰ الﺛﻘافﺔ‪ ...‬فتصبح شﻌارات تتﻣيز بﮭا الﺟﻣاﻋات وتنفﻲ‬
‫بواﺳطتﮭا الصفﺔ الطبيﻌيﺔ ﻋن اتﺣادھا "‪.1‬‬
‫ھكذا يبﻘﻰ ظﮭور الﺛﻘافﺔ لغزا إنﺳانيا ونتاﺟا طبيﻌيا ويﺧضﻊ‬
‫إلﻰ الﻣﺟتﻣﻊ أكﺛر ﻣنه إلﻰ الفرد ويﻘتضﻲ الﻌودة إلﻰ ﺟﻣﻠﺔ ﻣن‬
‫الﻘواﻋد والﻣﺟﻣوع الﻣﻌﻘد ﻣن الﻣواضﻌات والﻣؤﺳﺳات والتﺣريم‬

‫كلود ليفي شتراوس‪ ،‬الفكر البري‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.134.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪83‬‬
‫الﺟنﺳﻲ لألﻗارب‪ .‬ﻣن الﻣنطﻘﻲ أن تﻣتﻠك كل ﻗاﻋدة اﺟتﻣاﻋيﺔ ﻣﺛل‬
‫ھذا التﺣريم صفﺔ الكونيﺔ ولكنﮭا تطبق فﻲ وضﻌيات ﺧاصﺔ وفﻲ‬
‫ذلك يصرح شتراوس ﻣا يﻠﻲ‪ ":‬لنفترض أن كل ﻣاھو كونﻲ‬
‫وشﻣولﻲ‪ ،‬لدى اﻹنﺳان‪ ،‬ينتﻣﻲ إلﻰ ﻣﺳتوى الطبيﻌﺔ ويتﻣيز‬
‫بالتﻠﻘائيﺔ‪ ،‬وأن كل ﻣاھو ﺧاضﻊ لﻘاﻋدة ينتﻣﻲ إلﻰ الﺛﻘافﺔ ويﻣﺛل‬
‫ﻣاھو نﺳبﻲ وﺧصوصﻲ"‪.1‬‬
‫فﻲ الﻣﺟﻣل الﻌالﻣﺔ الﻣﻣيزة لﻠﺛﻘافﺔ ليﺳت األشياء الﻣصنوﻋﺔ‬
‫وﻻ يتوﻗف ﻋﻠﻰ إﻋادة تﻌريف اﻹنﺳان بكونه صانﻊ أدوات بل‬
‫الﻠغﺔ الﻣنطوﻗﺔ ھﻲ التﻲ تﻣﺛل كيان الﺛﻘافﺔ والواﻗﻌﺔ الﺛﻘافيﺔ الﻣﻣيزة‬
‫وإﺣدى اﻻﺳتﻌدادات التﻲ يتﻠﻘاھا اﻹنﺳان ﻣن التراث الﻣﺣيط به‬
‫وتتشكل ﻋبر تﻣفصل الﻌالﻣات‪ ،‬وكذلك تﻣﺛل الﻠغﺔ الﺣالﺔ الفﻌﻠيﺔ‬
‫التﻲ أنﺟز ﻋبرھا اﻹنﺳان ﻋﻣﻠيﺔ اﻻنتﻘال ﻣن الطبيﻌﺔ إلﻰ الﺛﻘافﺔ‬
‫بل ھﻲ ﻣﻠكﺔ تواصل لﺳانﻲ وأداة تﻌبير وإﻋالم وأكﺛر ﻣظاھر‬
‫النظام الﺣضاري اكتﻣاﻻ‪" .‬فﮭاھنا بين الﺛﻘافﺔ والطبيﻌﺔ ﻣﻘايضﺔ‬
‫تﻌطﻲ الﻣتشابه لتنال الﻣتغاير وھﻲ تﺟري تارة بين الناس أو فﻲ‬
‫ﻣا بينﮭم وتارة بين الﺣيوانات والناس‪ ...‬أﻣا اﻻﺧتالفات فينتزﻋﮭا‬
‫اﻹنﺳان ﻣن الطبيﻌﺔ ويﺣﻣﻠﮭا ﻋﻠﻰ الﺛﻘافﺔ‪ ...‬فتصبح شﻌارات تتﻣيز‬
‫بﮭا الﺟﻣاﻋات وتنفﻲ بواﺳطتﮭا الصفﺔ الطبيﻌيﺔ ﻋن اتﺣادھا"‪.2‬‬
‫فﻲ نﮭايﺔ الﻣطاف تﺣد الفرد بصورة ﺣتﻣيﺔ ﻗوانين ﻻشﻌور‬
‫ﻣﺟﮭول وﻻ زﻣنﻲ والتﻲ ھﻲ ﻗوانين الكون ويترتب ﻋن ذلك أن‬
‫الﺣريﺔ والﻘدرة الﺧالّﻗﺔ لإلنﺳان ودور الفاﻋل التاريﺧﻲ ھﻲ ﻣﺟرد‬

‫‪ 1‬كلود ليفي شتراوس‪ ،‬البنيات األولية للقرابة‪ ،‬الطبعة الفرنسية ‪ ،1971‬ص‪.10.‬‬


‫‪ 2‬كلود ليفي شتراوس‪ ،‬الفكر البري‪ ،‬ترجمة نظير جاهل‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪،1987 ،‬ص‪.134.‬‬

‫‪84‬‬
‫أوھام وبالتالﻲ النزﻋﺔ الﻣضادة لإلنﺳانويﺔ والﻣﺛاليﺔ الﻣاديﺔ ﺟﻌﻠت‬
‫شتراوس يفترض وﺟود بنيات تفﺳر الظواھر وﻻ يﻣكن إرﺟاﻋﮭا‬
‫إلﻰ أي شﻲء آﺧر ويتبنﻰ تصورا ﺳﻠبيا ﻋن التاريﺦ والتطور‬
‫الزﻣنﻲ والذاتيﺔ والتﻘدم ويرى أن اﻹنﺳان يتﺣول ﻣن ذات فﻌالﺔ‬
‫إلﻰ ﻣﺟال تﻣارس فيه األنﺳاق والبنيات والﺣتﻣيات الالواﻋيﺔ‬
‫تأﺛيرھا الفﻌال وﺳيطرتﮭا‪.‬‬
‫وبالتالﻲ ليﺳت البنيﺔ ﻣﻌروضﺔ لﻠﻣالﺣظﺔ الﻣباشرة بل تفﻠت‬
‫ﻣن دائرة الوﻋﻲ الﻌادي والﻣﻌنﻰ األول ليس ھو األﺣﺳن وليس‬
‫ﻣاﺛال بل ﻣنشأ وﻻ يتم اﺳتﺧراج الﺳﻣات األﺳاﺳيﺔ والﺛابتﺔ لﻠظواھر‬
‫إﻻ ﻣن طرف الوﻋﻲ الﻌﻠﻣﻲ ﺣيث يتم الكشف ﻋن الﺳﻣﺔ‬
‫الالشﻌوريﺔ الﻣﺟﮭولﺔ لﻠبنيات التﻲ يﺳتﻌﻣﻠﮭا اﻹنﺳان دون أن‬
‫يصنﻌﮭا‪.‬‬
‫ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك تضﻊ البنيويﺔ بين ﻗوﺳين النشاط الﻘصدي‬
‫لﻠوﻋﻲ وترفض الرﺟوع إلﻰ الﻣﻌاش وﻻ تزﻋم اﻣتالك الوﻋﻲ بل‬
‫تﻌتبر الوﺟود الواﻋﻲ لﻠكائن يطرح ﻣشكﻠﺔ ﻻ يﻣكن ﺣﻠﮭا وتدرس‬
‫ﻣنتوﺟات النشاط وتصﻌد إلﻰ ﺣﻘيﻘته الالشﻌوريﺔ وﻻ تبالﻲ‬
‫بالﻌﻣﻠيات التاريﺧيﺔ والتﻌبيرات الواﻋيﺔ ﻋن الظواھر اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫بل تﻌطﻲ اﻋتبار أكبر إلﻰ النﻣاذج وتنتﻘل ﻣن دراﺳﺔ الﻣضاﻣين‬
‫الشﻌوريﺔ إلﻰ دراﺳﺔ األشكال الالشﻌوريﺔ وتﻘر بأن البنيﺔ‬
‫الﻣﻌﮭودة لﻠظواھر تفﻠت ﻣن الوﻋﻲ‪.‬‬
‫وبالتالﻲ ﻻ تﻌطﻰ الﻣﻌﻘوليﺔ الﻌﻠﻣيﺔ فﻲ التﺟربﺔ الﻣﻌيشﺔ فﻲ‬
‫ﻣﺳتوى اﻹدراك الﺣﺳﻲ بل ﺛﻣرة ﻋﻣﻠيﺔ إنشاء نﻣاذج وﻣنظوﻣات‬
‫ﻣن األشكال ضﻣن لغﺔ رﻣزيﺔ وﻣﻌالﺟﺔ ﺟبريﺔ‪ .‬ﻋندئذ ﻻ تتوﻗف‬
‫البنيويﺔ ﻋند التشابه والﺛوابت والواﺣديﺔ ﻋند دراﺳتﮭا لﻠﻣﺟتﻣﻌات‬

‫‪85‬‬
‫بل تنتج الﻣﻌرفﺔ الﻌالئﻘيﺔ والفوارﻗيﺔ وتركز ﻋﻠﻰ اﻻﺧتالف‬
‫والتﺣول والفوارق الدالﺔ بوصفﮭا تﻣﺛل البنيﺔ الﻣﻌﻘولﺔ لﻠنﺳق‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‪.‬‬
‫لكن ﻣا الفرق بين الﺛﻘافﺔ والﺣضارة وبين الﻣﺛاﻗفﺔ والتﺣضر؟‬
‫وﻣتﻰ تنتﻘل الﺛﻘافﺔ إلﻰ الﺣضارة؟ والﻰ أي ﺣد تﻣﺛل الﺣضارة‬
‫نﻘطﺔ الالﻋودة ﻣﻊ الﮭﻣﺟيﺔ؟‬

‫‪86‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟساﺑﻊ‬

‫كﻠود ليفﻲ شتراوس‪ ،‬اﻷنثرﺑوﻟوﺟيا اﻟﺑنيويﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣصطفﻰ‬


‫صالح‪ ،‬ﻣنشورات وزارة الﺛﻘافﺔ‪ ،‬دﻣشق‪،1977 ،‬‬
‫كﻠود ليفﻲ شتراوس‪ ،‬اﻟﻔﻛر اﻟﺑري‪ ،‬ترﺟﻣﺔ نظير ﺟاھل‪،‬‬
‫الﻣؤﺳﺳﺔ الﺟاﻣﻌيﺔ لﻠدراﺳات والنشر والتوزيﻊ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ‬
‫الﺛانيﺔ‪،1987 ،‬‬
‫كﻠود ليفﻲ شتراوس‪ ،‬اﻟﺑنيات اﻷوﻟيﺔ ﻟلﻘراﺑﺔ‪ ،‬الطبﻌﺔ الفرنﺳيﺔ‬
‫‪.1971‬‬
‫اﻣوند ليتش‪ ،‬ﻛلود ﻟيﻔي شﺗراوس‪ ،‬اﻟﺑنيويﺔ في ﻣشروعها‬
‫اﻷنثرﺑوﻟوﺟي‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺛائر ذيب‪ ،‬دار الفرﻗد‪ ،‬دﻣشق‪ ،‬طبﻌﺔ ﺛانيﺔ‪،‬‬
‫‪.2010‬‬

‫‪87‬‬
88
‫الفصل الثامن‬

‫الدين والسياسة يف الزمن املبكر لإلسالم‬

‫"ان ﻣشكﻠتنا نﺣن الﻣنتﺳبين إلﻰ اﻹﺳالم ﻣنذ ﻗرون ﻻ تكﻣن فﻲ ﻋدم تطبيﻘنا‬
‫لإلﺳالم بل فﻲ أننا لم نفﮭﻣه بﻌد"‪.‬‬
‫د‪ .‬علي شريﻌﺗي‬

‫لﻘد تشابكت صﻠﺔ الﻣﻘدس بالدنيوي وﺣضر الﺳياﺳﻲ بﻘوة فﻲ‬


‫دائرة الدينﻲ وتم الﻌﺛور ﻋﻠﻰ اﻹيﻣان فﻲ ﻗﻠب الشك وصدق الناس‬
‫بﻣاذا ھبط ﻣن الوﺣﻲ بالرﻏم ﻣن ﺣالﺔ اﻹنكار والتردد واﻹﻋراض‬
‫ولكن ظﻠت الﺣيرة ﻣتصاﻋدة وﺳط اليﻘين وتكاﺛرت ﻣوﺟات‬
‫الﻣﻌاندة والﻣﻌارضﺔ والرفض واﻻرتداد والﺧروج بﻌد إظﮭار‬
‫التأييد والﻣبايﻌﺔ والﻣناصرة والوﻻء وتم التﺣول ﻣنذ بدايﺔ اﻹﺳالم‬
‫ﻣن وضﻊ التنزيل إلﻰ ﻣرتبﺔ التفصيل وتشكﻠت ﻋالﻗﺔ اتصال‬
‫ﻣتشابك وﻣﻌﻘدة بين الﻣصدر اﻹلﮭﻲ لﻠوﺣﻲ والﻣضاف اﻹنﺳانﻲ‬
‫فﻲ التﺟربﺔ التاريﺧيﺔ‪ .‬لﻘد ﺣدث انتﻘال ﺟوھري فﻲ الزﻣن الﻣبكر‬
‫لإلﺳالم ﻣن توظيف الﺳياﺳﺔ لفائدة الدين بغيﺔ تدﻋيم اﻹﺳالم وتبﻠيغ‬
‫الرﺳالﺔ ونشر الدﻋوة إلﻰ توظيف الدين لفائدة الﺳياﺳﺔ بغيﺔ تركيز‬
‫الدولﺔ الفتيﺔ وتدﻋيم أركان الﺣكم الصاﻋد والﺧروج ﻣن الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫الﻘبﻠﻲ ﻣا ﻗبل الدولﺔ الذي يتﻣيز بالتناﺣر والفوضﻰ إلﻰ الوﺟود‬
‫الﻣدنﻲ ﻣا بﻌد الدولﺔ الذي يشﮭد ﻣيالد التنظيم اﻹداري وبﻌث‬
‫الوزارات والدواوين والﻘضاء وتوليﺔ الوﻻة فﻲ األﻗاليم‪ .‬لﻘد اندلﻊ‬

‫‪89‬‬
‫صراع‪ ،‬لم يﮭدأ إلﻰ اآلن‪ ،‬بين الﻌﻠﻣاء والﺣكام ﺣول اﻣتالك‬
‫الﻣشروﻋﺔ والﺳﻠطﺔ وظﮭر فﻲ كل ﻣرة فﻲ شكل ﺟديد ﻣﺛل‬
‫الصراع بين الفﻘﮭاء والﻣﺣاربين أو بين الﻘﻠم والﺳيف‪ .‬لكن ﻣن‬
‫اﻣتﻠك زﻣام الﻣبادرة فﻲ التاريﺦ اﻹﺳالﻣﻲ الﻣبكر؟ ھل الﺳياﺳﻲ‬
‫أم الدينﻲ؟ ولﻣن آلت الكﻠﻣﺔ فﻲ النﮭايﺔ وﻣن انتصر؟ ھل انتصر‬
‫الﻣنطق اﻻﻋتﻘادي أم الﻣصﻠﺣﺔ الﺳياﺳيﺔ؟ ولﻣاذا وﻗﻊ اﻻكتﺳاح‬
‫وﺳاد التزﻣت؟‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أنه توﺟد بﻌض الشذرات الﺳياﺳيﺔ فﻲ الﻘرآن تتﻌﻠق‬
‫بالﺣكم والﺳﻠطﺔ والشورى واألﻣﺔ والﻘيادة والتدبير واﻻﺳتيالء‬
‫والغﻠبﺔ وتتوزع ﺣول اﻹﻣاﻣﺔ والﺧالفﺔ واﻹﻣارة والوزارة والﻌنايﺔ‬
‫والرﻋايﺔ وتتﺣرك ضﻣن ﺣﻘل دﻻلﻲ ﻣشبﻊ بﻣفاھيم الﻌدل‬
‫والﻣﺳاواة والﻘﺳط والﻣﺳؤوليﺔ والﺣق والتشريﻊ الﺟيد واﻻﺳتﻘاﻣﺔ‬
‫والﻣيزان والﻣنفﻌﺔ وتفرق بين الﻣفاﺳد والﻣصالح وبين األنظﻣﺔ‬
‫الﻣﮭﻠكﺔ البائدة واألنظﻣﺔ الفائزة الﻣﻌﻣرة‪.‬‬
‫كﻣا يﻣكن تصور بﻌض الﻘواﻋد األﺧالﻗيﺔ والتربويﺔ التﻲ تفيد‬
‫فﻲ تﮭذيب الﺳﻠوك الﺳياﺳﻲ لﻠﺣكام وافتراض ﺟﻣﻠﺔ ﻣن الﻣبادىء‬
‫النافﻌﺔ فﻲ توﺟيه الﻌﻣل الﺳياﺳﻲ تﺳاﻋد ﻋﻠﻰ اﻻرتﻘاء بالبشر ﻣن‬
‫التناﺣر إلﻰ التﻌاون‪.‬‬
‫ﻣن ﺟﮭﺔ الﻣﻘابﻠﺔ تبدو بﻌض الطﻘوس والشﻌائر والﻣﻣارﺳات‬
‫والﻣﻌتﻘدات ﻣﮭيئﺔ بطبﻌﮭا لﻠتوظيف الﺳياﺳﻲ وﻻﺳتﻌﻣاﻻت دنيويﺔ‬
‫ﻣﺛل الصالة والﺣج واألﻋياد وكل التﺟارب اﻹيﻣانيﺔ التﻲ تتم بصفﺔ‬
‫ﺟﻣاﻋيﺔ ويكﺛر فيﮭا اﻻﺧتالط واﻻشتراك وتﺣدث فﻲ الفضاءات‬
‫الﻌاﻣﺔ وتشترط التكافل والتﻌاون وتبادل الرﻣوز والﻘيم‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫الالفت لﻠنظر أن اﻹﺳالم ﻋﻠﻰ ﺧالف ﻣﻌظم األديان الﺳﻣاويﺔ‬
‫األﺧرى ﻗد ﻋرف نﺟاح النبﻲ فﻲ إﻗاﻣﺔ الدولﺔ فﻲ الﻣدينﺔ وتوﺣيد‬
‫الﻘبائل الﻌربيﺔ وإﻋطاء لﻠﻣنتﺳبين إلﻰ الديانات األﺧرى ﺣﻘوق‬
‫األﻣان والﻣواطنﺔ وﺣريﺔ الﻣﻌتﻘد‪ ،‬ﻏير أن الﻣنﻌرج الﺧطير ﻗد‬
‫ﺣصل أيام الفتنﺔ والصراع ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ ﺣينﻣا تم افتكاك الﺣكم‬
‫ﻋنوة وﺟﻌﻠه ﻣﻠكا وتوريﺛه وبالتالﻲ الﺳﻣاح بﻘيام دولﺔ ﺛيوﻗراطيﺔ‬
‫اﺳتبداديﺔ تنادي بﻣبدأ الﺣاكﻣيﺔ وتﻌﻣل ﻋﻠﻰ تطبيق الشريﻌﺔ وإﻗاﻣﺔ‬
‫الﺣدود ﻣﻊ تبنﻲ ﻗاﻋدة رفﻊ الﻣظالم‪.‬‬
‫ﻣا يﺟدر ﻣالﺣظته أن وظيفﺔ الدين اﻹﺳالﻣﻲ لم تكن ﺣﺳب‬
‫الﻘرآن والﺣديث إنشاء دولﺔ تﺟبر الناس ﻋﻠﻰ اﻋتناق الدين الﺟديد‬
‫وأن اﻹﺳالم لم يﻌرف ﻣن وﺟﮭﺔ نظر ﺛﻘافيﺔ وﺣضاريﺔ ﻗيام الدولﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ الﻣدنيﺔ بل أشكال ﺣكم تتراوح بين اﻹﻣارة‬
‫واﻹﻣبراطوريﺔ والﻣﻣﻠكﺔ وترتكز ﻋﻠﻰ الفﻘه الﺳياﺳﻲ واآلداب‬
‫الﺳﻠطانيﺔ‪.‬‬
‫لﻘد اﺣتاج النبﻲ الﻣصطفﻰ إلﻰ تﻘديم ﺟﻣاﻋته الدينيﺔ ﻻ ﻣن‬
‫ﺣيث ھﻲ ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن الﻣوﺣدين باهلل والﻣؤﻣنين بالﻘرآن وبنبوته‬
‫والﻣﻌاد فﻘط بل بوصفﮭا بديال ﺳياﺳيا ألنظﻣﺔ الﺣكم الﻣتغيرة‬
‫ليتﻣكن ﻣن التوﺳﻊ واكتﺳاح الفضاء وتﺣشيد األنصار وبﺳط النفوذ‬
‫وتوﺳيﻊ الﺳيطرة ﻋﻠﻰ الﺛغور وتﺣدي اﻹﻣبراطوريات الﻣﺟاورة‪.‬‬
‫ﻏير أن الﺣكام الدنيويين الذي ﺟاؤوا بﻌد تﺟربﺔ دولﺔ الﻣدينﺔ‬
‫اﺣتاﺟوا إلﻰ الﻣرﺟﻌيﺔ الدينيﺔ ﻣن أﺟل كﺳب الشرﻋيﺔ وصبغ ھالﺔ‬
‫الﻘداﺳﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﻣارﺳاتﮭم اليوﻣيﺔ واﺳتندوا إلﻰ الفتاوي الفﻘﮭيﺔ لكﻲ‬
‫يبرروا أﺧطائﮭم‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫لﻘد ﻋرف اﻹﺳالم الﻣبكر اﻋتﻣاد اﺳتراتيﺟيتين ﻣتﻌاكﺳتين‬
‫تتكون ﻣن الﻣﺣايﺛﺔ ﻣن أﺟل التبﻠيغ الرﺳالﻲ والتﻌالﻲ ﻣن أﺟل بناء‬
‫الﺳيادة الﺳياﺳيﺔ لﻠﺟﻣاﻋﺔ الصاﻋدة وكانت الغايﺔ ﻣن الﺣركﺔ‬
‫األولﻰ التدﺧل فﻲ التاريﺦ لترﺳيﺦ ﻣؤﺳﺳﺔ النبوة والﻣﺟاھرة‬
‫بالدﻋوة بينﻣا ھدفت الﺣركﺔ الﺛانيﺔ إلﻰ تشكيل الكيان الﺳياﺳﻲ‪.‬‬
‫ھذا الﻣنﻌرج يؤرخ لبدايﺔ التوظيف الﺳياﺳﻲ لﻠدين ويؤذن‬
‫ببدايﺔ تشكل األﺣزاب الﺳياﺳيﺔ والفرق الدينيﺔ وﺣاﺟﺔ كل فريق‬
‫ﺳﻠطوي إلﻰ ايديولوﺟيا إيﻣانيﺔ تؤﺳس له ﻣشروﻋيﺔ صراﻋه ﻋﻠﻰ‬
‫الﺣكم وتﺳاﻋده ﻋﻠﻰ كﺳب التأييد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وتكريس اﻻنﻘﺳام‬
‫الﺳياﺳﻲ لألﻣﺔ ﻋن طريق إﺣداث البدع وﻣﺣاصرة اﻻﺟتﮭاد‪.‬‬
‫بيد أنه توﺟد آليات الفﻌل الﺳياﺳﻲ وطرق إدارة شؤون الﺟﻣاﻋﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ ﻣذكورة فﻲ الوﺣﻲ وتم أﺧذ ﻣواﻗف ﺳياﺳيﺔ واضﺣﺔ فﻲ‬
‫اﻹﺳالم ﻣنﺣازة إلﻰ الفﻘراء والﻣضطﮭدين وﻣﻌارضﺔ لﻠظﻠم‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ واﻻﻗتصادي وﻣﻣانﻌﺔ لالﺳتبداد الﺳياﺳﻲ واﻻنﺣالل‬
‫األﺧالﻗﻲ ووﻗﻊ اﻋتبار التفاوت والطبﻘيﺔ واﻻﺣتكار والغش‬
‫والكذب والرياء أشكال ﻣن الفﺳاد واﻹفﺳاد فﻲ األرض يﺟب‬
‫اﻻبتﻌاد ﻋنﮭا وإصالح ﻋواﻗبﮭا‪ .‬كﻣا يطالب اﻹﺳالم األنبياء‬
‫والرﺳل والﻣؤﻣنين بأن ينصروا الﻣﺣتاﺟين ويغيﺛوا الﻣظﻠوﻣين‬
‫وأن يصارﻋوا الﻣﺣتكرين والطغاة ويﺣﻣﻠوا ﻋﻠﻰ الفاﺳدين‬
‫والﻣﺳتغﻠين ويﻘودوا نضال الناس ﻣن أﺟل اﺳترداد الﺣﻘوق‬
‫والﻣطالبﺔ بالﻌدالﺔ والﻣﺳاواة والﻘﺳط فﻲ توزيﻊ الﺛروات وﻣﻌالﺟﺔ‬
‫اآلفات واﻻﺳتشارة فﻲ ﻣصير األﻣﺔ‪.‬‬
‫لﻘد انﻘﺳم الﻣﺳﻠﻣون وتفرﻗوا بين ﻗائﻠين بالوصيﺔ فﻲ الﻣﻠك‬
‫والتﻌيين باﻻنتﻣاء والدرﺟﺔ وبين الﻣشترطين لإلﺟﻣاع وانﻌﻘاد‬

‫‪92‬‬
‫البيﻌﺔ الكبرى واﺧتيار األﺟدر ولكنﮭم اتفﻘوا ﻋﻠﻰ الﺳيادة لألﻣﺔ‬
‫والطاﻋﺔ ألولﻲ األﻣر‪ .‬ﻣا ﻋدى بﻌض الﻣدارس الكالﻣيﺔ والفرق‬
‫الدينيﺔ التﻲ أﻗرت ﺣريﺔ األنفس وتصدت لﻠﺳﻠطﺔ الﺧارﺟﺔ ﻋن‬
‫دائرة الﻌدل وشرﻋت الﺛورة ﻋﻠﻰ الظﻠم ودافﻌت ﻋﻠﻰ كﻠيات الﺣياة‬
‫والﻣال والدين والﻌرض والﻌﻘل والنﺳب‪.‬‬
‫ﻣنتﮭﻰ الﻘول ھو ﺣصول تفاﻋل بين الدينﻲ والﺳياﺳﻲ فﻲ‬
‫اﻹﺳالم وفﻲ البدايﺔ وﻗﻊ تﻘديم الﺳياﺳﻲ ﻣن أﺟل ﺧدﻣﺔ الدينﻲ ﻗصد‬
‫نشر الدﻋوة ﻋﻠﻰ طول الفترة التﻲ ﺳبﻘت تشكل دولﺔ الﻣدينﺔ ولكن‬
‫بﻌد ذلك وﻗﻊ تﻘديم الدينﻲ ﻋﻠﻰ الﺳياﺳﻲ ﻣن أﺟل التوﺳﻊ وإﺧضاع‬
‫األﻣم الﻣﺟاورة لﻠدولﺔ فﻲ فترة اﻻنتشار والتﺣول إلﻰ نﻣط‬
‫إﻣبراطوري ﻣن التواﺟد فﻲ الﻌالم وانتزاع اﻻﻋتراف بالﻣﺳﻠﻣين‬
‫كﺟﻣاﻋﺔ دينيﺔ تﺣﻣل ﻣشﻌل الﺣضارة‪ .‬ﻏايﺔ الﻣراد أن ﻣا يﺣتاﺟه‬
‫اﻹنﺳان الﻣﻌاصر اليوم ليس تطبيق اﻹﺳالم بﺣذافيره وإنﻣا بذل‬
‫الﺟﮭد لفﮭﻣه ﻋﻠﻰ ضوء ﺛﻘافﺔ الﻌصر وﻣﻌرفﺔ أين يبدأ الدينﻲ‬
‫وينتﮭﻲ الﺳياﺳﻲ ورﺳم الﺣدود الفاصﻠﺔ والواصﻠﺔ بينﮭﻣا‪ .‬لﻣاذا‬
‫ترك نبﻲ اﻹﺳالم نظريﺔ الﺣكم وﻣفﮭوم الدولﺔ ضﻣن باب الدرايﺔ‬
‫بشؤون الدنيا؟ أﻻ تﺣتاج البشريﺔ والﻣﺳﻠﻣين ‪ -‬ﻋﻠﻰ ﺣد ﻋبارة‬
‫ﺟورج برنارد شو‪ -‬إلﻰ رﺟل ﻣﺧﻠص يﻘتدي بالنبﻲ ﻣﺣﻣد ليﺣل‬
‫ﻣشاكل الﻌالم؟‬

‫‪93‬‬
94
‫الفصل التاسع‬

‫رسالة اإلسالم بني العرب والعجم‬

‫"إذا لم يبق دين ﻗوﻣﻲ ﻣنفرد ينبغﻲ التﺳاﻣح ﻣﻊ ﺟﻣيﻊ األديان التﻲ تتﺳاﻣح‬
‫ﻣﻊ ﻏيرھا بﻘدر ﻣا ﻻ تنطوي ﻋﻘائدھا ﻋﻠﻰ شﻲء ﻣضاد لواﺟبات‬
‫الﻣواطن"‪.‬‬
‫ﺟان ﺟاك روسو‪ ،‬فﻲ الﻌﻘد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬

‫الفرضيﺔ التﻲ تﺣتاج إلﻰ اﻻﺳتﻘصاء والتدبر ھﻲ أنه ﻻ يوﺟد‬


‫إﺳالم واﺣد بل تﻌدد فﻲ اﻻﺳالم بﻣﻌنﻰ أنه ﺛﻣﺔ تصورات تاريﺧيﺔ‬
‫لإلﺳالم وﻻ يﻘتصر األﻣر ﻋﻠﻰ تصور ﻣوﺣد ﻣنﺳﺟم يﻌتنﻘه الﺟﻣيﻊ‬
‫ويطبﻘه ﻋﻠﻰ أرض الواﻗﻊ إذ ھناك تفاوت كبير بين اﻹﺳالم فﻲ‬
‫ﺣد ذاته واﻹﺳالم التاريﺧﻲ وبين الظاھرة الﻘرآنيﺔ والفكر‬
‫اﻹﺳالﻣﻲ‪ ،‬وﻣا يشرع تﻠك الفرضيﺔ ليس كﺛرة الﻣذاھب ﻣن ﺳنﺔ‬
‫وشيﻌﺔ وﺧوارج أو تﻌدد الﻣﻠل والنﺣل ﻣن بﮭائيﺔ وﻗديانيﺔ ودروز‬
‫وصابئﺔ ويزيديﺔ بل ھو ﻣا نراه اآلن ﻣن صراع ﺣول ھذا الدين‬
‫وﻣن ﻗتال بين ﻣﻌتنﻘيه وﻣناوئيه بﺣيث تﺣدث البﻌض ﻋن "اﻹﺳالم‬
‫فﻲ األﺳر" وتذكر البﻌض اآلﺧر الﻘول الﻣأﺛور‪":‬كﻠكم يبكﻲ فﻣن‬
‫ﺳرق الﻣصﺣف" وادﻋﻰ الﺟﻣيﻊ أنه الﻣؤﻣن الﻣﺧﻠص الﻣنتﻣﻲ إلﻰ‬
‫الفرﻗﺔ الناﺟيﺔ وتصاﻋدت أﺳﮭم الفتاوي ﺳواء لﻣنح البركﺔ‬

‫‪95‬‬
‫والتﻌظيم لﻠﻣريدين أو ﻣن أﺟل التكفير والتﺣريم لﻠﻣﻌاندين والكل‬
‫يغنﻲ ﻋﻠﻰ لياله دون أدنﻰ تريث أو تنﺳيب‪.‬‬
‫ﻏير أن الﺣدث الﻣداھم ھذه األيام ھو أن اﻹﺳالم لم يﻌد‬
‫البوصﻠﺔ الﮭاديﺔ لﻣﺳيرة الﺣضارة ﻋند الﻌرب وأن الﻌرب فﻘدوا‬
‫ﻗبﻠتﮭم اﻹبراھيﻣيﺔ وتاھوا فﻲ صﺣراء الوﺟود وبالتالﻲ ﺳﻠﻣوا‬
‫ﻣشﻌل الﻌنايﺔ بالﻣﻘدس إلﻰ األﻣم األﺧرى وﻗد اﺧتصر أﺣدھم األﻣر‬
‫بﻘوله‪:‬إنﮭا ﻋﻣﻠيﺔ ﺧطف ﻣبرﻣﺟﺔ لإلﺳالم ﻣن الﻌرب إلﻰ ﻏيرھم؟‬
‫فﻣن ﺧطف اﻹﺳالم ولﻣاذا؟وكيف فرط الﻌرب بﮭذه الﺳﮭولﺔ فﻲ‬
‫كنزھم الﺛﻣين وﻗد ﻋدوا ﻣن الﻣؤتﻣنين ﻋﻠﻰ الرﺳالﺔ وﻣن‬
‫الﻣﺳتﺧﻠفين فﻲ األرض؟ وﻣاذا ﺳيفﻌﻠون بﻌد أن ﺣصل الذي‬
‫ﺣصل؟ھل يﺳارﻋون إلﻲ اﺳتيراد اﻹﺳالم ﻏير الﻌربﻲ ﺣتﻰ‬
‫يﺳتأنفون التﺟدد الﺣضاري أم ھم ﻣطالبون باﻻﺳتذكار ونﺳيان‬
‫النﺳيان؟ وﻋن أي إﺳالم ﻏير ﻋربﻲ نتﺣدث؟ وﻣاھﻲ ﻣشروﻋيﺔ‬
‫وﺟوده؟ وھل ﻗدر اﻹﺳالم أن يكون ﻋربيا وﻗدر الﻌرب أن يكونوا‬
‫ﻣﺳﻠﻣين؟وھل أنزل اﻹﺳالم كرﺳالﺔ لﻠﻌرب دون ﺳائر األﻣم أم ھو‬
‫كتاب لﻠﻌالﻣين؟ كيف نﻘدر ﻋﻠﻰ التﻣييز بين الﺧيط األبيض والﺧيط‬
‫األﺳود فﻲ كل ﻣا يﻘال اليوم ﺣول ﻋﻣﻠيﺔ ﺧطف اﻹﺳالم؟‬
‫ﻣا نﺳﻌﻰ إلﻰ تأكيده ھو التﻌاﻣل ﻣﻊ اﻹﺳالم كوﺳيﻠﺔ وﻣﻊ اﻻنﺳان‬
‫الﻌربﻲ كغايﺔ‪ ،‬إذ ﻻ ﺧوف ﻋﻠﻰ اﻹﺳالم ﻣن الﺳرﻗﺔ والﺧطف‬
‫فﮭناك ﻣن يﺣﻣيه ويضﻣن اﺳتﻣراريته أﻣا اﻻنﺳان الﻌربﻲ فﻘد‬
‫صبت ﻋﻠﻰ رأﺳه ﺟﻣيﻊ كوارث الكون ويتﻌرض يوﻣيا إلﻰ ﻋﻣﻠيﺔ‬
‫ﺧﻠﻊ لﻠكراﻣﺔ بالﻣﻌنﻰ الﺣﻘيﻘﻲ لﻠكﻠﻣﺔ ونﺧشﻰ أن يتﻣادى فﻲ تﺟربﺔ‬
‫ضياﻋه فﻲ الﻌالم ولذلك ﻋوض أن يكون اﻻنﺳان الﻌربﻲ فﻲ ﺧدﻣﺔ‬

‫‪96‬‬
‫اﻹﺳالم ينبغﻲ أن نﺟﻌل اﻹﺳالم فﻲ ﺧدﻣﺔ ھذا اﻻنﺳان الﻌربﻲ‬
‫ﺣتﻰ نصالﺣه ﻣﻊ نفﺳه وﻣﻊ الﻌالم‪.‬‬
‫إذا شﺧصنا واﻗﻌنا الﺣضاري بﻌﻣق ونﻘبنا بين طيات تاريﺧنا‬
‫نﺟد تﻠﻘيات ﻣتنوﻋﺔ لإلﺳالم واﺳتﻌﻣاﻻت ذرائﻌيﺔ ﻣتﻌددة له‪ ،‬إذ‬
‫الكل لون اﻹﺳالم بﻠون الﺧصوصيﺔ الﻠغويﺔ واﻻﺛنيﺔ والﺛﻘافيﺔ التﻲ‬
‫يتبناھا ويﻌتﻘدھا وبالتالﻲ فان اﻹﺳالم الصافﻲ كﺟوھر الﮭﻲ نفيس‬
‫ﻗد تﻠوث بالﻣوروﺛات الدﺧيﻠﺔ التﻲ اﺧتﻠط ﻣﻌﮭا واﺣتك بﮭا‪ ،1‬وھكذا‬
‫يﺟوز لنا أن نتﺣدث ﻋن إﺳالم ﻣدنﻲ وإﺳالم ﺟﻣﮭوري وإﺳالم‬
‫لبيرالﻲ وإﺳالم ديﻣﻘراطﻲ واﺳالم اﺟتﻣاﻋﻲ واﺳالم اشتراكﻲ‬
‫واﺳالم تﻘﻠيدي واﺳالم ﻋصري‪ ،‬وكل واﺣد له ﻣﻣيزاته وتوﺟﮭاته‬
‫التﻲ تفرﻗه ﻋن ﻏيره‪ ،‬فالﻲ أي ﻣدى يكون اﻹﺳالم ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو؟‬
‫ﻣا ينبغﻲ اﻻنتباه إليه أن اﻹﺳالم لم يﺧطف ﻣن الﻌرب فﺣﺳب بل‬
‫ﻣن ﻗبل كل ﻣن اطﻠﻊ ﻋﻠيه وتفاﻋل ﻣﻌه ﺳﻠبا أم إيﺟابا وأن الﺧطف‬
‫ليس فرضيﺔ بل واﻗﻌﺔ ﻣؤكدة‪ ،‬فﮭو لم يﺧطف ﻻ ﻣن ﻗبل الﮭنود‬
‫فﻘط أو الفرس وﻻ األتراك فﺣﺳب أو الغرب بل الﻌرب ھم الذين‬
‫تﺧﻠوا ﻋن كنزھم الﺛﻣين وﻗدﻣوه لغيرھم دون ﻣﻘابل وﻋيونﮭم‬
‫ﻣفتوﺣﺔ فﻲ وضح النﮭار‪،‬إنﮭم ھم الذين اﺧتطفوا ﻣن التاريﺦ‬
‫وتﻌرضوا إلﻰ ﻋﻣﻠيﺔ تغيير وﺟﮭﺔ نﻘﻠتﮭم ﻣن اﻻھتﻣام بصنﻊ‬
‫الﻣﺳتﻘبل والتﺧطيط اﻻﺳتراتيﺟﻲ له إلﻰ الدفاع ﻋن الﻣاضﻲ‬
‫واﻻﺳتﻣاتﺔ فﻲ صيانﺔ ﻣفاﺧره ﻣن التﻠف‪.‬‬
‫زيادة ﻋﻠﻰ أن اﻹﺳالم ھو بطبﻌه ﺣﻣال أوﺟه والنص الﻘرآنﻲ‬
‫يدﻋوك ﻣنذ الوھﻠﺔ األولﻰ إلﻰ تﺟاوزه وﺧطفه ﻋن طريق الفﮭم‬

‫‪1‬‬
‫‪Voir Mathieu Guidère, Etat du monde arabe, edition de boeck,‬‬
‫‪Paris, 2015.‬‬

‫‪97‬‬
‫والتدبر والتﻌﻘل والتأويل‪ ،‬كﻣا أن ھذا الدين ليس ﻣﻘتصرا ﻋﻠﻰ‬
‫الﻌرب بل ھو ﻣوﺟه إلﻰ البشريﺔ كافﺔ وﻻ يكون الﻌرب ﺧير أﻣﺔ‬
‫أﺧرﺟت إلﻰ الناس إﻻ إذا أﻣروا بالﻣﻌروف ونﮭوا ﻋن الﻣنكر‬
‫وتراﺣﻣوا فﻲ ﻣا بينﮭم وكانوا أﺳوة ﺣﺳنﺔ لغيرھم وھذا الشرط ﻻ‬
‫يﺣوز ﻋﻠيه الﻌرب اآلن وھنا ولذلك ھم فﻲ الدرك األﺳفل ﻣن‬
‫الﺳﻠم الﺣضاري بل تﺳﺧر ﻣن تﺧﻠفﮭم وﺟﮭﻠﮭم ﺟﻣيﻊ األﻣم‬
‫األﺧرى‪.‬‬
‫بيد أن األﻣر الذي يﺟب أن نتوﻗف ﻋنده أن اﻹﺳالم وﻗﻊ ﺧطفه‬
‫وتدﺟينه ﻣن ﻗبل األنظﻣﺔ اﻻﺳتبداديﺔ واﻹﻣبراطوريات‬
‫اﻻﺳتﻌﻣاريﺔ ﻣن أﺟل تطويﻌه وترويضه واﺳتﺧداﻣه لتﺣﻘيق‬
‫ﻣصالﺣﮭا وأﻏراضﮭا ﻣن أﺟل إﺣكام الﺳيطرة وتأبيد الوضﻊ الﻘائم‬
‫إلﻰ ﻣا ﻻ نﮭايﺔ وھنا وﻗﻊ إنتاج ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن األوھام وأﺳطرتﮭا‬
‫ﺣتﻰ يظل الﺟﻣيﻊ يدورون فﻲ فﻠكﮭا وﻻ يﮭتﻣون بﻣشاكﻠه الﺣﻘيﻘيﺔ‬
‫وينتبﮭون إلﻰ ﻣا يﺣدق بﮭم ﻣن ﻣﺧاطر وﻣا يﺣاك ضدھم ﻣن‬
‫ﻣؤاﻣرات‪ .‬انه ﻣن نافﻠﺔ الﻘول أن نﻣيز بين نوﻋين ﻣن اﻹﺳالم أين‬
‫ﻣا كان طالﻣا أن الﻘرآن لم يﻘرأ بﻌد بشكل ﻣوضوﻋﻲ وطالﻣا أن‬
‫اﻹﺳالم نفﺳه لم تتكشف فﻠﺳفته إﻻ ﺟزئيا‪ : +‬اإلسالم اﻟشﻣوﻟي‬
‫الذي يﺧدم الﺣكوﻣات ويﺣافظ ﻋﻠﻰ األنظﻣﺔ الﻘائﻣﺔ وھو تصور‬
‫يﻣينﻲ رﺟﻌﻲ ﻣتﺣالف ﻣﻊ الﺳﻠطات الﻣﺳتبدة والﻌروش والشركات‬
‫ﻣتﻌددة الﺟنﺳيات وإﻣبراطوريات الﻌولﻣﺔ الﻣتغطرﺳﺔ فﻲ وﺟﮭﮭا‬
‫الﺣربﻲ اﻻﻗتصادي اﻻﻣبريالﻲ‪ ،‬واإلسالم اﻟﻣدني الذي يظل فﻲ‬
‫ﺧدﻣﺔ الشﻌوب يﻘاوم الظﻠم وينتصر لﻘيم الﻌدل والﺣق ضد الﺟور‬
‫واﻻﺳتغالل وھو تصور ﻋﻠﻰ يﺳار التاريﺦ ﻣتﺣالف ﻣﻊ الطبﻘات‬
‫الناشئﺔ ويﻌبر ﻋن آﻣالﮭا وتطﻠﻌاتﮭا ويﻌيد األﻣور إلﻰ نصابﮭا‬

‫‪98‬‬
‫والرﺳالﺔ إلﻰ نﻘطﺔ انطالﻗﮭا وﻣنابتﮭا األولﻰ ويﻌطﻲ لﻠبﻌد الﻌربﻲ‬
‫دور الريادة فﻲ التﺟدد الﺣضاري الﻣنتظر‪،‬النﻣط األول ھو إﺳالم‬
‫التﻘﻠيد والتطبيﻊ والركود واﻻنﺣطاط تروج له فضائيات التنويم‬
‫اﻹيﻣانﻲ ﻋﻠﻰ طريﻘﺔ ﻋﻣر ﺧالد والنﻣط الﺛانﻲ ھو إﺳالم رأب‬
‫الصدع والتوﺣد واﻻنبﻌاث والﺛورة والﻣﻘاوﻣﺔ الذي يﻌﻣل ﻋﻠﻰ‬
‫إﻋادة إدﺧال الﻌرب إلﻲ التاريﺦ ﻣن البوابﺔ الرئيﺳيﺔ ﺣتﻰ يﻣﺳكوا‬
‫بزﻣام الريادة ويشرﻋوا فﻲ صنﻊ الﻣﺳتﻘبل الكونﻲ بأنفﺳﮭم فﻲ‬
‫الﻠﺣظﺔ التﻲ يتصالﺣون فيﮭا ﻣﻊ ﺧصوصياته ويرفﻌون رؤوﺳﮭم‬
‫ﻋاليا باﻋتزاز‪ .‬الﻣطﻠوب اليوم التﺧﻠﻲ ﻋن النظرة الشﻣوليﺔ‬
‫الﺳﻠطويﺔ لإلﺳالم ألنﮭا ﺳبب البالء وأصل اﺳتفﺣال اﻻﺳتبداد‬
‫وتﺳارع نﺳق اﻻﺳتﻌﻣار واﻻنﺧراط فﻲ ﻣشروع اﻹﺳالم الﻠيبرالﻲ‬
‫بﻣاھو تنوير أصيل يﺟﻣﻊ بين الﮭويﺔ الﻌربيﺔ الﺳرديﺔ والفﮭم‬
‫الﻌﻘالنﻲ التﻘدﻣﻲ لﻠوﺣﻲ ويﺳتنير بﻘيم التيار األﻣﻣﻲ الﻣناھض‬
‫لﻠﻌولﻣﺔ وكل أشكال التﻣييز الﻌنصري بين البشر وﻣن ﻣﺣاﺳن‬
‫اﻹﺳالم الﻠيبرالﻲ أنه يﺟﻌل ﻣن الدولﺔ فﻲ اﻹﺳالم دولﺔ ﻣدنيﺔ ﻻ‬
‫دولﺔ دينيﺔ ويكفل ﺣق الﻣواطنﺔ لﻠﺟﻣيﻊ وﻣﺳاواة كل الناس أﻣام‬
‫الﻘانون ويﻘوى ﻣن نﻘاط اﻻﺳتﺛبات والصﻣود فﻲ وﺟه التﺣديات‬
‫واألزﻣات والﺣروب ويﺣترم الﺣريات الشﺧصيﺔ وبالﺧصوص‬
‫ﺣريﺔ الﻣﻌتﻘد ويتﻣاھﻰ ھذا التصور اﻻﻋتﻘادي الﻣتﺣرر ﻣﻊ ﻣﻘولﺔ‬
‫الدين الﻣدنﻲ الذي ﻗال بشأنﮭا روﺳو فﻲ كتابه فﻲ الﻌﻘد‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‪" :‬ھناك ﻣﺟاھرة بالﻌﻘيدة الدينيﺔ ﻣدنيﺔ ﺧالصﺔ‪،‬ﻣن شأن‬
‫صاﺣب الﺳيادة أن يﺣدد ﻣوادھا ﻻ كالﻣﻌتﻘدات الدينيﺔ تﻣاﻣا وإنﻣا‬
‫كﻣشاﻋر اﺟتﻣاﻋيﺔ ﻻ يﻣكن لﻠﻣرء بدونﮭا أن يكون ﻣواطنا صالﺣا‬
‫وﻻ رﻋيﺔ ﻣﺧﻠصﺔ‪ "...‬فﻣاھﻲ ﺧصائص ھذا الدين الﻣدنﻲ؟ يﻘول‬

‫‪99‬‬
‫روﺳو فﻲ نفس الكتاب‪" :‬يﺟب أن تكون ﻋﻘائد الدين الﻣدنﻲ بﺳيطﺔ‬
‫وﻗﻠيﻠﺔ الﻌدد وﻣﺣددة بدﻗﺔ دون تفﺳير أو تﻌﻠيق‪ .‬إن اﻹيﻣان بوﺟود‬
‫اله ﻗادر‪ ،‬ذكﻲ‪ ،‬ﻣﺣﺳن‪ ،‬بصير‪ ،‬ﻣدبر‪ ،‬وبﺣياة ﺛانيﺔ‪ ،‬وبﺳﻌادة‬
‫الصالﺣين وﻋﻘاب الﺳيئين وبﻘدﺳيﺔ الﻌﻘد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وبالﻘوانين‬
‫ھﻲ الﻌﻘائد اﻻيﺟابيﺔ‪ .‬أﻣا فيﻣا يتﻌﻠق الﻌﻘائد الﺳﻠبيﺔ فإننﻲ أﻗصرھا‬
‫ﻋﻠﻰ واﺣدة ھﻲ ﻋدم التﺳاﻣح إنﮭا تدﺧل فﻲ الﻌبادات التﻲ‬
‫اﺳتبﻌدناھا"‪ ،1‬فﻣتﻰ نرى اﻹﺳالم وﻗد اﺳتصﻠح فأصبح دينا ﻣدنيا؟‬
‫يﻌتﻘد البﻌض أن الﻌرب اليوم ﻣطالبين بتﺣﻘيق الﻣواءﻣﺔ بين‬
‫اﻹﺳالم والﻌﻠﻣانيﺔ والديﻣﻘراطيﺔ أو تنبنﻲ ﺧيار اﻹﺳالم‬
‫اﻻﺣتﺟاﺟﻲ والذي يﻘﻠد الﻣاضﻲ ويﺣتذي بالﺳﻠف ويﻌﺳكر الﺣياة‬
‫الﺳياﺳيﺔ ويشرع لﻠﺟﮭاد دون ضوابط وﻗتل األﻋداء دون تﻣييز أو‬
‫اﻻنﺧراط فﻲ اﻹﺳالم الﻠيبرالﻲ ﻣن أﺟل اتﻘاء شر الﻌدو بﻣﺣاباته‬
‫وإرضائه ﺣتﻰ نﺟنب الﻣنطﻘﺔ ويالت الﺣرب والدﻣار ونتﻌض ﻣن‬
‫تﺟربﺔ الﻌناد الﺳياﺳﻲ الفاشﻠﺔ التﻲ اتبﻌتﮭا األنظﻣﺔ الشﻣولﻲ والتﻲ‬
‫انتﮭت بإﻋادتﮭا إلﻰ الﻌصور الﺣﺟريﺔ وطﻣس ﻣﻌالم الﻣدنيﺔ ﻣنﮭا‬
‫ولكن ﻣا يﺟدر ﻣالﺣظته فﻲ الﺧتام أن ﺟﻣيﻊ ھذه اﻻﻗتراﺣات ﻏير‬
‫ﻣﻣكنﺔ ﻋﻠﻰ صﻌيد التﺟربﺔ التاريﺧيﺔ لألﻣم لتباﻋد رؤى الﻌالم‬
‫وأشكال تدبره وتنافر التﻘاليد والﻣوروﺛات وبالتالﻲ ﻻ ﺧيار بالنﺳبﺔ‬
‫لﻠﻌرب اليوم إذا ﻣا أرادوا الﺳؤدد ﺳوى ﻋصرنﺔ اﺳالﻣﮭم وﻋﻠﻣنته‬
‫بشكل ﺟذري وتﺣويﻠه ﻣن دين روﺣانﻲ ﻏيبﻲ إلﻰ دين ﻣدنﻲ‬
‫ﺟﻣﮭوري يﺟﻣﻊ بين الديﻣﻘراطيﺔ والﻌﻠﻣانيﺔ وبين الﺣريﺔ والﻌدالﺔ‬

‫روسو ( جون جاك)‪ ،‬في العقد المدني‪ ،‬ﻣرﺟﻊ ﻣذكور‬ ‫‪1‬‬

‫‪100‬‬
‫وبين الﺳﻠطﺔ والﺳيادة ﺣتﻰ يفككوا أﺳوار الشﻣوليﺔ التﻲ ﺣﺟبت‬
‫أنواره ويفﺟروا طاﻗاته التﺟديديﺔ الﺧالﻗﺔ ﻣن ﻣكاﻣنﮭا واذا لم‬
‫يفﻌﻠوا ذلك ولم يﻌتبروا ﻣن دروس األﻣم األﺧرى وبالﺧصوص‬
‫تﺟارب اآلباء الﺣﻣر فﻲ أﻣريكا الالتينيﺔ وتﺟارب اليابانيين‬
‫والكوريين والصينيين ﻣﻊ ﻋﻘائدھم الدينيﺔ ويﻌوا بﺧطورة الﻣرﺣﻠﺔ‬
‫لربﻣا اﺳتبدلوا بﻘوم ﻏيرھم يتفﻘﮭوا فيتوﺣدوا وينﮭضوا ويتﻘدﻣوا‬
‫نﺣو الطريق الواﺛق لﻠﻣدنيﺔ!‬

‫اﻟﻣرﺟﻊ‪:‬‬
‫روﺳو ( ﺟون ﺟاك)‪ ،‬فﻲ الﻌﻘد الﻣدنﻲ‪ ،‬ﻣرﺟﻊ ﻣذكور‬
‫‪Mathieu Guidère, Etat du monde arabe, edition de‬‬
‫‪boeck, Paris, 2015.‬‬

‫‪101‬‬
102
‫الفصل العاشر‬

‫الفكر اإلسالمي بني اختزال‬

‫اإليديولوجيا وادعاء اليوتوبيا‬

‫مقدمة‬

‫"ان ﻣنشأ ظﮭور ﻣشكﻠﺔ األيديولوﺟيﺔ الدينيﺔ ھو الﻌالﻗﺔ الشديدة بالدين‬


‫‪1‬‬
‫وفﻲ نفس الوﻗت بالﺣياة الﻌزيزة والكريﻣﺔ فﻲ ھذا الﻌالم"‬

‫كان ﻣن الﻣﻌتاد النظر إلﻰ اﻹﺳالم ﻋﻠﻰ أنه دين ﻣتﺣرك ضﻣن‬
‫ﺟدليﺔ الﻌﻘل والوﺣﻲ والواﻗﻊ وﺣﻠﻘﺔ اﻻﺟتﮭاد واﻻﺳتنباط والتأويل‬
‫والتفﺳير ﻣن ﺟﮭﺔ ولكن تم التﻌاﻣل ﻣﻌه بوصفه ﻣﺟرد دين ﺛابت‬
‫يﻌتﻣد ﻋﻠﻰ ﻣؤﺳﺳات ﻣﺳتﻘرة وركائز اﻋتﻘاديﺔ ﻣتﺟذرة فﻲ وﺟدان‬
‫الﻣؤﻣنين ورﺳالﺔ راﺳﺧﺔ بالرﻏم ﻣن تغيرات الزن ھﻲ النبوة‬
‫والﻘرآن الكريم والﺣديث الشريف وتﺟارب الصﺣابﺔ وأھل البيت‬
‫التﻲ تركزت فﻲ الذاكرة والتراث والتﻘاليد والتاريﺦ‪ .‬ولﻘد تﺳبب‬
‫فﻲ ھذا اﻻنزياح ﻣا تﻌرض له اﻻﺳالم ﻣن أدلﺟﺔ وﻣا ﺧضﻊ له‬

‫‪ 1‬سوروش عبد الكريم‪ ،‬الدين العلماني‪ ،‬تعريب أحمد القبانجي‪ ،‬دار االنتشار العربي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2009 ،‬ص‪.185‬‬

‫‪103‬‬
‫ﻣن اﺧتزال ايديولوﺟﻲ وكذلك الطﻣوح اليوتوبﻲ الذي ﻏﻣره‬
‫والﺣﻠم بتنزيل الﻣطﻠﻘات الﻣﺛاليﺔ فﻲ الﺣﻘول النﺳبيﺔ‪.‬لكن لوﺣاولنا‬
‫الﻣﻘارنﺔ بين اﻻﺳالم واﻻيديولوﺟيا واﻻﺳالم واليوتوبيا فإننا ﻗد‬
‫نﻌﺛر ﻋﻠﻰ فوارق ﺟﻣﺔ بينﮭا‪.‬‬
‫لﻘد تم التﻌاﻣل ﻣﻊ اﻹيديولوﺟيا ﻋﻠﻰ أنﮭا تندرج ضﻣن‬
‫اﺧتصاص ﻋﻠوم الﺳياﺳﺔ واﻻﻗتصاد واﻻﺟتﻣاع والتاريﺦ والفﻠﺳفﺔ‬
‫وتدل ﻋﻠﻰ التشويه والتﺣريف والﻣغالطﺔ وتﻘابل بين التﻣﺛيل‬
‫والﻣﻣارﺳﺔ وبين الواﻗﻊ والﻌﻠم وبين األشياء كﻣا ترتﺳم فﻲ األفكار‬
‫واألشياء كﻣا تبدو فﻲ الﻌالم دون أﺣكام ﻣﺳبﻘﺔ وآراء ظنيﺔ‪.‬‬
‫بينﻣا يتبادر لألذھان أن اﻹﺳالم بﻌيد كل البﻌد ﻋن اﻹيديولوﺟيا‬
‫صم ورﺳم‬ ‫وأي تصور لتداﺧل بينﮭﻣا ھو بﻣﺛابﺔ إﺟراء ﺣوار بين ال ّ‬
‫تﻘاطﻊ بين ﺧطين ﻣتوازيين‪ .‬فاﻹﺳالم ليس ﻣﺟرد دين يدﺧل فﻲ‬
‫التنظيم اﻻﺟتﻣاﻋﻲ لﻠﺣياة الﺳياﺳيﺔ ألكﺛر ﻣن ﻣﻠيار ﻣن البشر‬
‫ويتكون ﻣن ﺟﻣﻠﺔ ﻣن الﻣﺳﻠﻣات األﺳاﺳيﺔ ھﻲ اﻹﺛبات الدائم‬
‫والﻣطﻠق والﺟذري بالتﻌالﻲ اﻹلﮭﻲ وإنﻣا ھو واﺣد ﻣن الﺣضارات‬
‫الﻣؤﺳﺳﺔ لﻠبشريﺔ ويﻌبر ﻋن ﺟﻣﻠﺔ ﻣن الوﻗائﻊ شديدة التنوع‬
‫والﺛراء‪ .‬أﻣا ﻋبارة إيديولوﺟيا فيصﻌب الﺳيطرة ﻋﻠيﮭا وذلك‬
‫لتﻌارضﮭا الضﻣنﻲ ﻣﻊ الﺣﻘيﻘﺔ وإﺣالتﮭا ﻋﻠﻰ الذات وارتكازھا‬
‫ﻋﻠﻰ بنيﺔ تﺣتيﺔ ذات ﻗاﻋدة ﻣاديﺔ اﻗتصاديﺔ‪ .‬وﺳبب ھذا التباﻋد ھو‬
‫ﺳﻣو الﻣﻘدس الﻣتﻌالﻲ الذي ﺟاء ﻣن هللا فﻲ الكتاب الﻣبين وﺣﻣﻠه‬
‫الصدوق األﻣين إلﻰ الﻌالﻣين ﻋن التاريﺦ الﻣﺣايث الذي صنﻌه‬
‫البشر فﻲ ﻗﮭرھم لﻠطبيﻌﺔ وﻣﻌركتﮭم الطويﻠﺔ ﻣﻊ الﻌﺟز والﮭشاشﺔ‬
‫والشر وطغيان الﻣادة وتﻘﻠبات الﺳياﺳﺔ وتفﺟر الﻌنف التدﻣيري‬
‫والﻣنازﻋات بين الطبﻘات والﻣﺟﻣوﻋات والدول‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫زد ﻋﻠﻰ ذلك ﻣا يﻌرفه اﻹﺳالم فﻲ الﺣﻘبﺔ الﻣﻌاصرة ﻣن تناﻣﻲ‬
‫ﻋالﻣﻲ وإﻗبال كبير ﻣن طرف الﻣﻌتنﻘين الﺟدد وتصاﻋد ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣﺳتوى الﻣنزلﺔ الﺛﻘافيﺔ واﻻھتﻣام األكاديﻣﻲ وفﻲ الﻣﻘابل يشﮭد‬
‫الﺧطاب اﻹيديولوﺟﻲ ﺧﺳوفا وﻗرب نﮭايﺔ وتﺣول إلﻰ والﻣوضوع‬
‫األبرز لﻠنﻘد الفﻠﺳفﻲ بل إن أﺟﻣﻊ ﻣﻌظم الناشطين ﻋن أفول نﺟﻣه‬
‫ﻣن ﺳاﺣات النﻘاش الﺳياﺳﻲ‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك اﻹﺳالم ينتﻣﻲ إلﻰ‬
‫الﻣﺟال الدينﻲ ويﺣﻣل وﺟﮭﺔ نظر إيﻣانيﺔ إلﻰ ﺟوانب الﺣياة‬
‫الدنيويﺔ واألﺧرويﺔ بينﻣا اﻹيديولوﺟيا تندرج ضﻣن الﻣﺟال‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وتﻠﻘﻲ بظاللﮭا ﻋﻠﻰ الﺳياﺳﺔ والﻌﻠم والوﻋﻲ اﻹنﺳانﻲ‪.‬‬
‫ﻋالوة ﻋﻠﻰ أن اﻹيديولوﺟﻲ ھو الديﻣاﻏوﺟﻲ الذي يتﻘن فن‬
‫الﻣغالطﺔ والﺧطابﺔ ويﺣرص ﻋﻠﻰ نشر أصور الﻣذھب ويتﻘن فن‬
‫الدﻋايﺔ واﻹشﮭار ﻋن طريق التأﺛير والتﻣويه والترﻏيب والتالﻋب‬
‫بالﻌﻘول بينﻣا الﻣﺳﻠم ھو الﻣﻌتﻘد فﻲ اﻹﺳالم ويتﻣيز بالطيبﺔ‬
‫والصدق ويؤﺛر الﻘناﻋﺔ واﻻﻋتدال والﺳالﻣﺔ والتﻌفف‪.‬‬
‫والﺣق أن اﻹﺳالم ﻗادم ﻣن الشرق نﺣو الﻌالم ويﺣﻣل لواءه‬
‫الﻌرب وتشﻊ ﻗبﻠته ﻋﻠﻰ ﺟﻣيﻊ أنﺣاء الﻣﻌﻣورة ﻋن طريق لغﺔ‬
‫الضاد واأللﺳن الﻣتفاﻋﻠﺔ ﻣﻌﮭا ترﺟﻣﺔ وﻣﺛاﻗفﺔ بينﻣا تﻣﺛل‬
‫اﻹيديولوﺟيا ﺛﻣرة الفﻠﺳفﺔ الﺳياﺳيﺔ النﺳﻘيﺔ وﻣصنوﻋﺔ فﻲ الﻣﺧابر‬
‫الﻌﻘالنيﺔ الغربيﺔ واتصفت بنزﻋﺔ التﻣركز ﻋﻠﻰ الذات والتﻌصب‬
‫إلﻰ الﺧاص‪ .‬لكن لﻌل كل ﻣا اتفق ﺣوله الﻣفﮭوﻣان أنﮭﻣا ﻗد تﻌرضا‬
‫ﻻﺳتﻌﻣال ﻣفرط ﻋﻠﻰ ﻣر التاريﺦ ووﻗﻊ اﺳتﮭالكﮭﻣا بطريﻘﺔ ﻋنيفﺔ‬
‫وأشبﻌت دﻻلتﮭﻣا بالكﺛير ﻣن ضروب اﻻلتباس والغﻣوض‬
‫ويتﻌرض كالھﻣا لﻠﮭﺟوم واﻻزدراء ﻣن ﻋدة ﺟﮭات ويتم التﻘﻠيل‬
‫ﻣن دورھﻣا فﻲ تطور التاريﺦ البشري‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا األﺳاس كانت األﺳئﻠﺔ اﻹشكاليﺔ التﻲ تنبﺛق ﻣن ھذا‬
‫التشابك بين الﻣدارين اﻹيديولوﺟﻲ والدينﻲ كﻣا يﻠﻲ‪ :‬ﻣا ﻣنزلﺔ‬
‫اﻹﺳالم بين اﻹيديولوﺟيا واليوتوبيا؟ وأيﮭﻣا أنﺳب له اﻹيديولوﺟيا‬
‫أم اليوتوبيا؟ھل يﻣكن أن نﻌتبر اﻹﺳالم دينا إيديولوﺟيا؟ كيف‬
‫يﻣكن إدراج اﻹﺳالم ضﻣن دائرة اﻹيديولوﺟيا الﺳياﺳيﺔ؟ أﻻ يﻘدم‬
‫اﻹﺳالم تصورا شﻣوليا لﻠﺣياة ﻋبرت به ﺟﻣاﻋﺔ تاريﺧيﺔ ﻋن‬
‫ﺣاﺟياتﮭا اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وﻣوﻗﻌﮭا فﻲ الﻌالم وأولت نصوصه الﻣﻘدﺳﺔ‬
‫وفق تصوراتﮭا الﺛﻘافيﺔ وﻣصالﺣﮭا الدنيويﺔ؟ وبأي ﻣﻌنﻰ يﺟوز لنا‬
‫الﺣديث ﻋن إﺳالم إيديولوﺟﻲ؟ كيف نفﺳر ظاھرة أدلﺟﺔ اﻹﺳالم‬
‫التﻲ تفرض نفﺳﮭا بﻘوة اليوم؟ھل ھﻲ ظاھرة صﺣيﺔ وﻣفيدة‬
‫لﻠﻣﺳﻠﻣين ولﻠبشريﺔ أم ھﻲ ظاھرة ﻣرضيﺔ وضارت بالﻌالم؟ وھل‬
‫ﻣن الﻣﻣكن تﺣييد الدين اﻹﺳالﻣﻲ ﻋن التوظيف اﻹيديولوﺟﻲ؟‬
‫كيف تﻣﺛل اليوتوبيا األفق الرﺣب الذي يﻠيق باﻹﺳالم وينﻘذ‬
‫الﻣﺳﻠﻣين ﻣن ورطﺔ اﻹيديولوﺟيا؟ وﻣا الﻣﻘصود بيوتوبيا األﻣل‬
‫والوﻋد والﺣﻠم؟ أﻻ يﺟدر بالﻌﻘل الﻌربﻲ الﻣﺳﻠم الﻌﻣل ﻋﻠﻰ بﻠوغ‬
‫ﻗراءة إنﺳانيﺔ لإلﺳالم تضﻊ األﻣل اليوتوبﻲ فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ نﻘديﺔ ﻣﻊ‬
‫بؤس الﻌﻣل اﻹيديولوﺟﻲ؟ أيﮭﻣا أﻗرب إلﻰ ﺣركﺔ الفكر اﻹﺳالﻣﻲ؟‬
‫ھل الوﻗوع فﻲ اﻻﺧتزال اﻹيديولوﺟﻲ أم اﻻدﻋاء اليوتوبﻲ‪1‬؟ لﻣاذا‬
‫يتم اﺳتبﻌاد الﺧيال الﺛﻘافﻲ باﻋتباره الشبكﺔ الرﻣزيﺔ التﻲ ﻣنﮭا البينﺔ‬
‫الﻌﻣيﻘﺔ لﻠﺟﻣاﻋﺔ الدينيﺔ؟ أﻻ يﻣكن التﻘاط ﺛنائيﺔ اﻹيديولوﺟﻲ‬
‫‪1‬‬
‫‪Paul Ricœur, l’herméneutique de la sécularisation, Foi, Idéologie,‬‬
‫‪Utopie, in actes du colloque : herméneutique de la sécularisation,‬‬
‫‪organisé par le centre international d’études humaines et par l’institut‬‬
‫‪d’études philosophiques de Rome, 3-8 Janvier 1976, aux soins de‬‬
‫‪Enrico Castelli, Aubier éditions Montaigne, Paris, 1976, pp.49-68.‬‬

‫‪106‬‬
‫واليوتوبﻲ ونﻘدھا واﻻرتفاع بالفكر اﻹﺳالﻣﻲ إلﻰ ﻣاورائﮭﻣا‬
‫والدﺧول فﻲ ﻣا بﻌدياتﮭﻣا؟ ﺛم ﻣا الﺳبيل إلﻰ بناء ھرﻣينوطيﻘا دينيﺔ‬
‫لﻠفكر اﻹﺳالﻣﻲ ﺧاليﺔ ﻣن كل اﺧتزال ايديولوﺟﻲ وادﻋاء يوتوبﻲ؟‬

‫‪ -1‬أدﻟﺟﺔ اإلسالم وإضﻔاء اﻟﻣشروعيﺔ‪:‬‬

‫"إذا كان الناس فﻲ ﻋالﻗاتﮭم يبدون فﻲ اﻹيديولوﺟيﺔ ﻣﻘﻠوبين ﻋﻠﻰ‬


‫رؤوﺳﮭم كﻣا لو كانوا فﻲ الغرفﺔ الﺳوداء آللﺔ التصوير فإن ھذه الظاھرة‬
‫‪1‬‬
‫تتولد ﻋن ﻣﺟرى ﺣياتﮭم التاريﺧيﺔ "‬

‫لﻌل النﻘطﺔ الﻣشتركﺔ بين اﻹيديولوﺟيا واﻹﺳالم ھﻲ ﻣﺳألﺔ‬


‫التﻌرض لﻠتشويه باﺳم التطور والتﻌدديﺔ‪ .‬فاﻹﺳالم يﻌرف ﻣنذ‬
‫ظﮭوره األول ﻋدة تغيرات وتﺣويرات ويتكون ﻣن الﻌديد ﻣن الﻣﻠل‬
‫والنﺣل والﻣذاھب وتتصارع ﺣوله الﻘراءات والتأويالت‪ .‬أﻣا‬
‫اﻹيديولوﺟيا فتشﮭد أيضا انﺳيابيﺔ فﻲ اﻻﺳتﻌﻣال والتوظيف‬
‫وتؤدي ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن الوظائف ھﻲ التﺣريف أو التشويه وإضفاء‬
‫الﻣشروﻋيﺔ ﻋﻠﻰ النظام الﺛﻘافﻲ الﺳائد باﻻﺳتيالء ﻋﻠﻰ الﺛﻘافﺔ‬
‫الراﻗيﺔ فﻲ اتﺟاه ﻣشروﻋﮭا الﻣﮭيﻣن وتتﺣول إلﻰ آليﺔ دﻣج وصﮭر‬
‫لﻠﻘوى الﻣتنوﻋﺔ‪.‬‬
‫ﻣا ھو ﻣتﻌارف ﻋﻠيه اﻹﺳالم ﻣن ﺣيث دﻻﻻته وتاريﺧه ھو‬
‫ضارب فﻲ الﻘدم وﻏنﻲ ﻋن التﻌريف ويفيض بالﻣﻌانﻲ ويزﺧر‬
‫بالﻌبر ويشكل البنيﺔ الﻌﻣيﻘﺔ لوﺟدان الﻣﺳﻠم ويرﺳم له األفق الذي‬

‫‪1‬‬
‫‪Marx Karl et Engels Fréderic, l’idéologie allemande, édition‬‬
‫‪sociale, Paris, 1968,p50.‬‬

‫‪107‬‬
‫ينتظره ويظل ﻗﻠبه ﻣوﻋود بﻣالﻗاة ﻣﻌاده‪ .‬بيد أن ﻏيريﺔ اﻹله تظل‬
‫ﻏير ﻣفﮭوﻣﺔ بالنﺳبﺔ لﻠبشر الفانين وﺣﻘيﻘته الﻣﻠغزة تبدو ﻣتﺟﻠيﺔ‬
‫فﻲ الوﺟود وﺣاضرة بﻘوة بالنﺳبﺔ إلﻰ الﻣﺳﻠﻣين فﻲ كافﺔ أرﺟاء‬
‫الكون ولﮭذا الﺳبب يﻘترح اﻹﺳالم ﺧشيﺔ الﻣﺧﻠوﻗات لﻠﺧالق‬
‫وتﺣﻠيﮭم بالصبر واﻻنتظار ويﺣفزھم ﻋﻠﻰ الﻌﻣل والﻣكابدة ﻣن‬
‫أﺟل تﻌﻣير األرض واﻻنتفاع بﮭا‪ .‬وﻣن البديﮭﻲ الﻘول أن اﻹﺳالم‬
‫ﻗد تﻌرض إلﻰ ﻋدة التﺣوﻻت وشﮭد الكﺛير ﻣن الﻌناصر الوافد ﻣن‬
‫لﺣظﺔ الﺣﻠم اليوتوبﻲ لدى ﺟيل الصﺣابﺔ إلﻰ واﻗﻊ الدولﺔ‬
‫اﻹيديولوﺟيﺔ وتﻘﻣص الﺟﻣاﻋﺔ الﻣؤﻣنﺔ به دور الشﺧصيﺔ الرﺳاليﺔ‬
‫التﻲ ﺣﻣﻠت لواء التوﺣيد وأشﻌت بنور الﻘرآن ﻋﻠﻰ الكون‪.‬‬
‫ھكذا يبدو اﻹﺳالم ضروريا بالنﺳبﺔ لﻠﺟﻣاﻋﺔ التاريﺧيﺔ ليس‬
‫لنشر الفضيﻠﺔ واألﺧالق فﻲ ﻣﺟتﻣﻊ تﻌﻣه الرذيﻠﺔ ويداھﻣه الشر بل‬
‫لتأﺳيس الدولﺔ وتﻣكين الﺣكوﻣﺔ ﻣن إﺧضاع الناس وﻗﮭرھم‬
‫والﺳيطرة ﻋﻠﮭم‪ .‬لﻌل أھم ﻣﺳﻠﻣﺔ ارتكزت ﻋﻠيﮭا اﻹيديولوﺟيا‬
‫اﻹﺳالﻣيﺔ ھﻲ أن الﻘرآن يأتﻲ فﻲ الﻣرتبﺔ األولﻰ وتفﺳيراته ﻣن‬
‫ﻗبل الﻣﺟتﮭدين فﻲ ﻣرتبﺔ ﺛانيﺔ وأن الﻣﺳﻠﻣين يﺣتاﺟون إلﻰ التﻘﻠيد‬
‫والطاﻋﺔ ﻣن أﺟل تﺣﻘيق التﺳيد ﻋﻠﻰ الكون‪ .‬لﻘد آﻣن الﻣﺳﻠﻣون‬
‫باله واﺣد واألنبياء والرﺳل واليوم اآلﺧر وﺧﻠود الروح وأھﻣيﺔ‬
‫الﻌﻣل الصالح لﻠنﺟاة‪.‬‬
‫ﻏير أن ﻣكانﺔ النبﻲ فﻲ اﻹﺳالم ﻣركزيﺔ وھاﻣﺔ وﻻ يﻣكن‬
‫التﻘﻠيل ﻣن شأن ﺳيرته ﻣﻊ أصﺣابه وأﺣاديﺛه والطرق الﺣواريﺔ‬
‫التﻲ اتبﻌﮭا ﻣﻊ ﻣناوئيه و تﻣﺛل التﺟربﺔ النبويﺔ التاريﺧيﺔ ﻣصدر‬
‫الﮭام ﻣتواصل لﻠﻣﺳﻠﻣين ﻋﻠﻰ ﻣر التاريﺦ ويتراوح التأﺛر بين‬
‫التﻘﻠيد والرﻏبﺔ فﻲ اﻻﺳتنﺳاخ واﻻﻋتبار واﻻھتداء بالﻣنﮭاج‬

‫‪108‬‬
‫النبوي‪ .‬لﻘد ﺣاول الفﻘﮭاء والﻣتكﻠﻣين ﻋﻠﻰ ﻏرار الغزالﻲ وابن‬
‫ﺣزم والشافﻌﻲ وفﺧر الدين الرازي والشاطبﻲ والفالﺳفﺔ‬
‫والﺣكﻣاء ﻋﻠﻰ ﻏرار الكندي والفارابﻲ وابن ﺳينا وابن رشد‬
‫اﺳتﺧالص األﺣكام الكﻠيﺔ والﻘواﻋد الﻌاﻣﺔ لﻠدين اﻹﺳالﻣﻲ وفق‬
‫ﻣنﮭج أصولﻲ ﻋند الفريق األول وﻣنﮭج ﻋﻘالنﻲ ﻣنطﻘﻲ لﻠفريق‬
‫الﺛانﻲ‪.‬‬
‫فﻲ ھذا الﺳياق يﻣكن الﺣديث ﻋن اﺳتﺧدام الﺳﻠطﺔ الﺳياﺳيﺔ‬
‫الﻣنبﺛﻘﺔ ﻣن رﺣم اﻹﺳالم لإليديولوﺟيا الدينيﺔ لكﻲ يتم تركيز ھيﻣنﺔ‬
‫الﺣكام الﺟدد والﻌﻣل ﻋﻠﻰ توطيد أركان الدولﺔ وبﺳط نفوذھا ﻋﻠﻰ‬
‫الﻣناطق الﻣﺟاورة‪ .‬وبالتالﻲ تم تﺣويل الﻌﻠوم اﻹﺳالﻣيﺔ وﺧاصﺔ‬
‫الفﻘه والكالم والﺳيرة والﺣديث إلﻰ واﺣدة ﻣن الﻣؤﺳﺳات الرﻣزيﺔ‬
‫لﻠﮭيﻣنﺔ الﺛﻘافيﺔ التﻲ تﺧفﻲ ﻣصالح طبﻘيﺔ وتﻘوم بإضفاء‬
‫الﻣشروﻋيﺔ ﻋﻠﻰ الفئﺔ الﺳياﺳيﺔ الﺣاكﻣﺔ‪.‬‬
‫ﻏير أن اﻹيديولوﺟيا اﻹﺳالﻣيﺔ التﻲ أنتﺟتﮭا الﺳﻠطﺔ ﻗاﻣت‬
‫بطﻣس الفكر النير واﺳتبﻌاد األصوات الﺣرة وإبﻌاد الكتابات‬
‫الﻣﺧتﻠفﺔ ﻋن الﻣدونﺔ الرﺳﻣيﺔ واﻋتﻣدت ﻋﻠﻰ أطر صارﻣﺔ ﻹنتاج‬
‫الﺧطاب ونشره ﻗصد الﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ وﺟودھا وفرض ھيﻣنتﮭا‬
‫ﻋﻠﻰ أتباﻋﮭا وركزت ھذا الﺧطاب الﺳﻠطوي ﻋن طريق التﻌﻠيم‬
‫والتفاﺳير‪ .‬ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو تﺳتولﻲ إيديولوﺟيا ﺳﻠطويﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫اﻹﺳالم وتﻣنح الﻣﺟتﻣﻌات التﻘﻠيديﺔ الﻣتﺟانﺳﺔ ﻣنظوﻣات اﻋتﻘاد‬
‫وﻣﻌنﻰ زائف لﻠﻌالم ولكن الﻣﺟتﻣﻌات الﻌصريﺔ الﻘائﻣﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫التنافس والصراع والتﻘدم وﺟدت فﻲ اﻹﺳالم إيديولوﺟيا ﺧاصﺔ‬
‫بﮭا ولذلك ﻗاﻣت بدﻣج ظواھر ﻣتنوﻋﺔ وﻣﺧتﻠفﺔ ﻋﻠﻰ ﻏرار الﺳﺣر‬
‫واألﺳطورة والﻌبادات والطﻘوس والشﻌائر والﻣﻌاﻣالت ﻣﻊ‬

‫‪109‬‬
‫ﻣنظوﻣﺔ اﻻتصال الﻌصريﺔ والتﻘنيﺔ والﺣداﺛﺔ الﻌﻠﻣيﺔ وﺟﻌﻠت‬
‫الوﻋﻲ الدينﻲ ھو الﻣﺣدد الﺧفﻲ لﻠوﻋﻲ الﺳياﺳﻲ وألﻘت به فﻲ‬
‫الالوﻋﻲ الﺟﻣﻌﻲ لﻠفاﻋﻠين والذاكرة التاريﺧيﺔ لﻠﻣﺣكوﻣين‪ .‬ﻣن‬
‫الﻣفروض أن يُﻌ ِّبّر اﻹﺳالم ﻋن الﻣدنيﺔ والﻣﺳاواة والﻌدل ويكون‬
‫رﺳالﺔ تﺣضر ودﻋوة إلﻰ التﻘدم لﻠبشريﺔ ويتضﻣن ﻣبادئ الرفﻘﺔ‬
‫والتوادد والﻣﺣبﺔ وينبذ الﻌنف واﻻﺳتيالء والغﻠبﺔ والظﻠم ويشﺟﻊ‬
‫ﻋﻠﻰ التراﺣم والصدﻗﺔ‪ .‬لكن البﻌض ﻣن الﻣﺳﻠﻣين ﻗد اتﺧذوا ﻣن‬
‫األوھام الغيبيﺔ واآلراء الزائف والﻣﻌتﻘدات الباليﺔ وﺧداع الناس‬
‫تﺟارة رائﺟﺔ لﮭم وذلك لتﺣﻘيق بﻌض الﻣآرب الشﺧصيﺔ الضيﻘﺔ‬
‫وﺣصد الﻣواﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والﻣنافﻊ ولتفادي الﻌﻘاب الﺳﻠطوي‬
‫وﺧدﻣﺔ لﻣشروع الﮭيﻣنﺔ ﻋﻠﻰ اﻹنﺳان والتﺳيد ﻋﻠﻰ الﻌالم‪.‬‬
‫ﻣا يﻠفت اﻻنتباه أن ﻣا يﺣدث فﻲ الواﻗﻊ الﺣالﻲ لﻠﻣﺳﻠﻣين ھو‬
‫ﺳﻘوط ﻏالبيﺔ الﻣﺳﻠﻣين فﻲ آفﺔ التﻣذھب والغﻠو وتﺣكيﻣﮭم الﻣاضﻲ‬
‫ﺳﻠطﺔ ﻣرﺟﻌيﺔ ﻋﻠﻰ الﺣاضر وترك ﻣنﮭج الﺣكﻣﺔ وأﺳﻠوب‬
‫الﻣوﻋظﺔ الﺣﺳنﺔ واتبﻌاھم التﻘاليد الباليﺔ والﻌادات الﺳيئﺔ وتغييبﮭم‬
‫اﻻﺟتﮭاد الﻌﻘﻠﻲ واﻋتﻣادھم ﻋﻠﻰ ﺳﻣاع النصوص وﻣﺣاولتﮭم‬
‫فرض آرائﮭم بالﻘوة‪ .‬زد ﻋﻠﻰ ذلك ﻏطت الﻘراءات الﻣﻌاصرة‬
‫والتطبيﻘات الﻣبتﺳرة والﻌنف التأويﻠﻲ والنظريات التﺟزيئيﺔ‬
‫الوﺣﻲ وأوﺟد الﺳياﺳيون البراﻏﻣاتيون وفﻘﮭاء الﺳﻠطﺔ ﺣوله‬
‫ﺧطابات ﻏوﻏائيﺔ وتبﺳيطيﺔ‪.‬‬
‫لﻘد ﺣصﻠت أدلﺟﺔ الﺧطاب اﻹﺳالﻣﻲ ﻋندﻣا تشكﻠت الﻣذاھب‬
‫والفرق فﻲ التاريﺦ الﺳياﺳﻲ لﻠﺟﻣاﻋﺔ الﻣؤﻣنﺔ ولﻣا أﺳﺳت كل‬
‫طائفﺔ لنفﺳﮭا ﻣدرﺳﺔ تدرس ھذا الﻣذھب وتبشر بأركانه وتنشر‬
‫أصوله وتزاﺣم الطوائف األﺧرى وفق ﻗوالب ﺟاھزة ونظرة‬

‫‪110‬‬
‫ﻣتﻌصبﺔ تﺧتزل ﺟواﻣﻊ الكﻠم التﻲ ﺣظﻲ بﮭا النبﻲ فﻲ رؤى ﻣﻠيﺔ‬
‫ضيﻘﺔ‪.‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق كانت ﻋﻣﻠيﺔ تﻘاﺳم اﻹﺳالم ﻣن طرف الﻣﻠل‬
‫والنﺣل ھو ﻋﻣﻠيﺔ أدلﺟﺔ الدين الﺟديد وإدﺧال ﻣاھو اﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫وﺛﻘافﻲ فﻲ ﻣاھو روﺣﻲ ورﻣزي ولذلك تشكل تاريﺦ الفرق‬
‫والﻣذاھب الدينيﺔ ﻣنذ ﻣيالد اﻹيديولوﺟيات الكبرى فﻲ التاريﺦ‬
‫اﻹﺳالﻣﻲ وﺣدوث صراﻋات بين الﻘراءات بين األﺣزاب‬
‫الﺳياﺳيﺔ‪.‬‬
‫إن تاريﺦ اﻹﺳالم يﻣﺛل شكال ﻣن أشكال اﻹيديولوﺟيا والفكر‬
‫اﻹﺳالﻣﻲ تﺣول إلﻰ ﺟزء ﻣن الصراع اﻻﺟتﻣاﻋﻲ واندرج فﻲ‬
‫ﺧانﺔ اﻻنﻌكاس الﻣباشر لوﻋﻲ الفئات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ التﻲ ﻋايشت‬
‫التﺟربﺔ التأﺳيﺳيﺔ األولﻰ ووﺟدت فيه ﻏذائﮭا الروﺣﻲ وﺣاﺟياتﮭا‬
‫الﻣﻌنويﺔ وﻣصالﺣﮭا اﻻﻗتصاديﺔ‪ .‬لﮭذا الﺳبب ﻻ يتﻣتﻊ التراث‬
‫اﻹﺳالﻣﻲ باﻻﺳتﻘالل الﻣطﻠق ﻋن التاريﺦ الﺣﻲ وﻻ يﻣنﻊ ﻣصدره‬
‫الﻣتﻌالﻲ ﻣن الﺳﻌﻲ إلﻰ إنﻘاذ البشريﺔ ﻣن الظﻠم والضياع والفرﻗﺔ‬
‫وتﺣﻘيق الﺧالص ﻣن أشكال اﻻﻏتراب والﻌبوديﺔ والتوﺣش‬
‫والﻌنصريﺔ والتﺣارب ويتراوح بين إرضاء ﻣطﻠب الﻌزاء لدى‬
‫الﻣﺣروﻣين وإضفاء الﻣشروﻋيﺔ ﻋﻠﻰ الﻣوﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ الذي‬
‫يظفر به بﻌض الﻣﺣظوظين فﻲ إطار الصراع الﺳياﺳﻲ‪ .‬ﻋﻠﻰ ھذا‬
‫النﺣو يﻌتﻣد التﻘاليد اﻹﺳالﻣيﺔ الﺳﻠطويﺔ ﻋﻠﻰ تﻘنيﺔ التبرير ويﻘوم‬
‫بأدلﺟﺔ النصوص وتﺣويﻠﮭا ﻣن ﻣﺟال الﻣﻘدس إلﻰ التﺟربﺔ الدنيويﺔ‬
‫ويﺣتكم إليﮭا بﻘوة فﻲ الﺣياة اليوﻣيﺔ ويﺳتند إليﮭا لﻠدفاع ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣصالﺣه‪ .‬كﻣا تكونت بيروﻗراطيﺔ تتﺣدث باﺳم اﻹﺳالم وتﻌﻘﻠن‬
‫النص وتﺳﮭر ﻋﻠﻰ تﺳيير أﻣور الﺧالص وتﻣنح البركﺔ لﻠﻣؤﻣنين‬

‫‪111‬‬
‫وتﺣتكر لنفﺳﮭا تصريف شؤون الﻣﻘدس وتفرض طﻘوس ﻣذھبيﺔ‬
‫وتطالب الناس بالطاﻋﺔ‪.‬‬
‫إن التركيز ﻋﻠﻰ ﻗيم الورع والتﻘوى والوﻻء والطاﻋﺔ فﻲ ﻣﺟال‬
‫اﻹﺳالم يﻌطﻲ األنظﻣﺔ التﺳﻠطيﺔ الﻣﺣافظﺔ ﻣشروﻋيﺔ الوﺟود بينﻣا‬
‫اﻹشارة إلﻰ اﻹﺣﺳان والﻌدل والﻣﺳاواة يﻣﺛل أداة اﺣتﺟاﺟيﺔ ضد‬
‫الظﻠم الﺳياﺳﻲ‪ .‬لكن يوﺟد تباﻋد بين تﻣﺛيل األنﻣوذج الطﮭري‬
‫الروﺣﻲ فﻲ اﻹﺳالم وﻣا يﻘتضيه ﻣن ﻣﺛاليﺔ وتﺳام وتﻌفف وتﻌال‬
‫ﻋن الﺟزئيات والتفاصيل وتركيز ﻋﻠﻰ الكﻠيات والﻣﻣارﺳﺔ الﻌﻣﻠيﺔ‬
‫فﻲ التﺟربﺔ الﻌينيﺔ لﻠﻣؤﻣنين وﻣا يرتب ﻋن الﺣضور فﻲ التاريﺦ‬
‫والنشاط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والﻣشاركﺔ الﺳياﺳيﺔ ﻣن تنﺳيب وإﺟرائيﺔ‬
‫ودنيويﺔ وﻣا يفضﻲ إليه ﻣن أﻣراض الفصام والﻣﺛال الزھدي‬
‫واﻻضطغان والالّتﺳاﻣح والتﻌصب والتﻌالﻲ‪ .‬وبالتالﻲ تتشكل‬
‫دائرة اﻹيديولوﺟيا فﻲ اﻹﺳالم ﻣن ﻣتﺧيالت وﻣنﻌكﺳات وأصداء‬
‫ﻋن ﻣﻌاناة الﻣﺳﻠﻣين فﻲ ﺣياتﮭم الدينيﺔ وتتبﻊ إﺳتراتيﺟيﺔ الدفاع‬
‫والوﻻء بادﻋاء اﻻﺳتﻘالل الذاتﻲ والتﻌالﻲ ﻋﻠﻰ التاريﺦ وتأبيد‬
‫الصالﺣيﺔ‪.‬‬
‫لﻘد اﺳتولت إيديولوﺟيا التﺣريف ﻋﻠﻰ الفكر اﻹﺳالﻣﻲ‬
‫وانتشرت تﺟارة بيﻊ األوھام وتراﺟﻌت اليوتوبيا الواﻋدة والﻘراءة‬
‫الﻣوضوﻋيﺔ وأفل الﻣوﻗف النﻘدي واندﺛرت تﺟربﺔ الﺳؤال والشك‬
‫لصالح اليﻘين والﺣﻘيﻘﺔ الﻣطﻠﻘﺔ‪ .‬إن ﻗيﻣﺔ تطبيق التﺣﻠيل‬
‫اﻹيديولوﺟﻲ ﻋﻠﻰ اﻹﺳالم ھو إﻋطاء أولويﺔ ﻣطﻠﻘﺔ لﻠنظريﺔ‬
‫الﻌﻠﻣيﺔ ﻋﻠﻰ الرأي والﺟﮭل والﺧرافﺔ واﻻﺳتناد إلﻰ الﺣﻘيﻘﺔ والواﻗﻊ‬
‫واﻻبتﻌاد ﻗدر اﻹﻣكان ﻋن الﺧيال والوھم والتذﻣر والتﺣﺳر‬
‫واﻻﺣتكام إلﻰ الﻣﻣارﺳﺔ واﻻنغﻣاس الﻌﻣل والتﺟربﺔ والتﻘﻠيل ﻣن‬

‫‪112‬‬
‫الكالم الﺧطابﻲ والتنظير الفارغ‪ .‬بيد أن " ﻣشكﻠﺔ اﻹيديولوﺟيا ھنا‬
‫تتﻌﻠق بالفﺟوة بين اﻻﻋتﻘاد واﻻدﻋاء وتتﻣﺛل فﻲ ﺳد ھذه الفﺟوة‬
‫بﻣا يوﺣﻲ بالﺣاﺟﺔ إلﻰ نظريﺔ ﺟديدة فﻲ فائض الﻘيﻣﺔ ﻻ ترتبط‬
‫ھذه الﻣرة بالﻌﻣل بﻘدر ارتباطﮭا بالﻘوة"‪.1‬‬
‫ننتﮭﻲ إذن إلﻰ أن الﻌﻣﻠيﺔ التاريﺧيﺔ التﻲ ﺣرصت ﻋﻠﻰ أدلﺟﺔ‬
‫اﻹﺳالم ﻣن طرف الشريﺣﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ التﻲ دأبت ﻋﻠﻰ اﺣتكار‬
‫الﻣﻌرفﺔ والﻘوة والﺛروة لنفﺳﮭا واﻹبﻘاء ﻋﻠﻰ الﮭرﻣيﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫ﻣﻊ بﻘيﺔ الفئات ﻗد انتﻘت ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻣن األفكار ﻻ تﺣكﻲ الﺣﻘيﻘﺔ وﻻ‬
‫تﺧبر ﻋن الواﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ بل تتظاھر بذلك وتتصوره بنوع ﻣن‬
‫الوﻋﻲ الزائف والﺟﮭل الﻣركب وبالتالﻲ أوﺟدت ﺟﻣﻠﺔ ﻣن‬
‫التصورات الباطﻠﺔ واألفكار الكاذبﺔ ورتبتﮭا فﻲ ﻣنظوﻣﺔ ﻣتﻣاﺳكﺔ‬
‫واﺳتﻌﻣﻠتﮭا لتﺣكم بﮭا ﺳيطرتﮭا ﻋﻠﻰ الﻣﺟتﻣﻊ وتﻌﻣق ﺳﻠطتﮭا‬
‫وتﺣﻘق بﮭا ﻣصالﺣﮭا‪.‬‬
‫ھل ﻣارس الدين وظيفﺔ إيديولوﺟيﺔ ايﺟابيﺔ فﻲ تاريﺦ‬
‫الﻣﺳﻠﻣين؟وﻣاھﻲ الشروط الضروريﺔ لكﻲ تﺳاھم اﻹيديولوﺟيا فﻲ‬
‫تطوير ظروف ﺣياتﮭم الﻣاديﺔ؟ وﻣتﻰ تصبح اﻻيديولوﺟيا نظرة‬
‫ﻋﻠﻣيﺔ لﻠواﻗﻊ وتغيير له؟‬

‫‪ -1‬االخﺗزال اإليديوﻟوﺟي وإرادة اﻟﺗغيير‪:‬‬


‫" وبدﻻ ﻣن أن يﺟﻠس اﻹنﺳان ﻣتفرﺟا وﻣنفﻌال لﻠﺣوادث فﻲ‬
‫‪2‬‬
‫الﻌالم فإنه يﮭدف إلﻰ ﺧﻠق إرادة لﻠتغيير"‬

‫‪ 1‬جورج تايلور‪ ،‬المقدمة‪ ،‬بول ريكور‪ ،‬محاضرات في االيديولوجيا واليوتوبيا‪ ،‬ترجمة‬


‫فالح رحيم‪ ،‬دار الكتاب الجديد المتحدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة ‪ ،،2002‬ص‪.15.‬‬
‫‪ 2‬سوروش عبد الكريم‪ ،‬السياسة والتدين‪ ،‬دقائق نظرية ومآزق عملية‪ ،‬تعريب أحمد‬
‫القبانجي‪ ،‬دار االنتشار العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2009 ،‬ص‪.42‬‬

‫‪113‬‬
‫ﻻ تﻌبر اﻹيديولوﺟيا وفق ﻣا يﺣدده لوي ألتوﺳير ﻋن ﻋالﻗات‬
‫وھﻣيﺔ بين األفراد والﻣﺟﻣوﻋات وﻻ تﺧفﻲ بالضرورة ﻣصﻠﺣﺔ‬
‫طبﻘيﺔ وليﺳت أﻣرا زائدا وﻋرضيا فﻲ التاريﺦ وإنﻣا ھﻲ ﻣناخ‬
‫فكري يﻌبر ﻋن ﻋالﻗات الﻣﻌاناة لﻠناس بﻌالﻣﮭم وبنيﺔ أﺳاﺳيﺔ‬
‫بالنﺳبﺔ إلﻰ الﺣياة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وبﮭذا الﻣﻌنﻰ تنتﻣﻲ إلﻰ ﻣنطﻘﺔ‬
‫الوﻋﻲ وتﻣﺛل وﺳيﻠﺔ فﻌالﺔ فﻲ التاريﺦ وتشكل نﺳﻘا ﻣن التﻣﺛيالت‬
‫وتؤدي وظيفﺔ تاريﺧيﺔ داﺧل ﻣﺟتﻣﻊ ﻣﻌين‪.1‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق يصبح الوﻋﻲ اﻹﺳالﻣﻲ وﻋيا اﺟتﻣاﻋيا ﺣﻘوﻗيا‬
‫ويﻘدم تصورا كونيا لﻠﻌالم ويﺣﻣل طريﻘا لﻠﺧالص الفردي‬
‫والﺟﻣاﻋﻲ ويﻣتن الﻌالﻗات بين الﻣﺟﻣوﻋات ويﻘيم الﻠﺣﻣﺔ الروﺣيﺔ‬
‫لﻠدولﺔ ويﻘوم بدور ﺳياﺳﻲ وﺛﻘافﻲ وتزداد الﺣاﺟﺔ النفﺳيﺔ إليه ﻣن‬
‫أﺟل تﺣﻘيق توازن الشﺧصيﺔ وتﻣﺳاك البناء النفﺳﻲ لألفراد‪.‬‬
‫لﻘد نظر بﻌض الﻣفكرين إلﻰ أن تﺣويل اﻹﺳالم إلﻰ إيديولوﺟيا‬
‫تتﺣﻘق ﻣنه ﻋدة فوائد لﻠشﻌوب الﻣﺳﻠﻣﺔ وﺧاصﺔ ﺣينﻣا تﻣنح اﻹطار‬
‫الﺛﻘافﻲ لﻣواﺟﮭﺔ األﻋداء وﻣﻘاوﻣﺔ الﻣزاﺣﻣين والوﻗوف فﻲ وﺟه‬
‫الﻣﺧالفين وبالتالﻲ تﺳتﺧدم اﻹيديولوﺟيا اﻹﺳالﻣيﺔ بوصفﮭا بوصﻠﺔ‬
‫ﺣضاريﺔ ووﻋاء ﺛﻘافﻲ ضد التشتت والضياع‪.‬‬
‫لﻘد تﺣول اﻹﺳالم فﻲ زﻣن الﻌولﻣﺔ وفﻲ ظل ﻣوﺟات التفكك‬
‫التﻲ تﻌرفﮭا الدول الﻌربيﺔ إلﻰ ﻣالذ الطبﻘات الﻣغﻠوبﺔ وصار‬
‫الﺧطاب الدينﻲ ھو الﺧطاب اﻹيديولوﺟﻲ الﻘادر ﻋﻠﻰ التﻌبئﺔ‬
‫والتﺣشيد والتأﺛير الرﻣزي ﻋﻠﻰ الﺟﻣوع وأصبﺣت ﻋﻣﻠيﺔ تﺣريك‬
‫الﻣشاﻋر الدينيﺔ وإلﮭاب الﺣﻣاﺳﺔ ﺣيﻠﺔ ﻣربﺣﺔ فﻲ الﻠﻌبﺔ الﺳياﺳيﺔ‬

‫‪1‬‬
‫‪Louis Althusser, pour Marx, édition Maspero, paris, 1972,pp 238-‬‬
‫‪240‬‬

‫‪114‬‬
‫ﻣن أﺟل كﺳب التأييد والتﻌاطف واﺳتﻘطاب األنصار وﻣﻣارﺳﺔ‬
‫الضغط ﻋﻠﻰ الﻘوى اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الﻣنافﺳﺔ‪ .‬لﻘد وظف الﻣﺳﻠﻣون‬
‫دينﮭم ﻹيﺟاد ﺣﻠول لﻣشكﻠﮭم التاريﺧيﺔ ولتنظيم شؤونﮭم الﺳياﺳيﺔ‬
‫وتﻌﻣير األرض وتأﻣين الدنيا وتدبير أﻣور الﻌالم ولكنﮭم أيضا‬
‫ﺣرصوا ﻋﻠﻰ إرشاد الناس إلﻰ تأﻣين اآلﺧرة وﻋﻣل الﺧير‪.‬‬
‫إذا كانت اﻹيديولوﺟيا ھﻲ دين اﻹنﺳان الﺣديث الذي يروم‬
‫التطوير والتﺣﺳين والتكاﻣل والﻌصرنﺔ وذلك بتغﻠيب لغﺔ الﻌﻘل‬
‫ﻋﻠﻰ لغﺔ األھواء وإزالﺔ الغﻣوض واألﺳاطير التﻲ تﻠف الﻌالم‬
‫وتﻌريﺔ الﺣﻘائق وإنارة الوﻗائﻊ فإنﮭا ﻗاﻣت بدفﻊ اﻹنﺳان إلﻰ‬
‫اﻻنﺧراط فﻲ الﻣﻣارﺳﺔ واﻻبتكار واﻻلتزام بﻣشروع إنﺳانﻲ‬
‫وتغﻠيب الفﻌل ﻋﻠﻰ النظر بدل البﻘاء فﻲ ﺣالﺔ اﻻنفﻌال والتفرج‬
‫ﻋﻠﻰ الﻌالم وانتظار الﻣصير واﻻﺳتﺳالم لألﻗدار‪.‬‬
‫ليﺳت ﻣﮭﻣﺔ اﻹﺳالم تفﺳير ظواھر الكون وإيﺟاد ﺣﻠول لكل‬
‫ألغاز الﺣياة وأﺳرار ظواھر الطبيﻌﺔ وإنﻣا دورھا الﺣيوي ھو ﺣفز‬
‫الﮭﻣم وإيﻘاظ الﻌﻘول وتﺣشيد اﻹرادات ﻣن اﺟل التغيير والتطوير‬
‫واﻻرتﻘاء‪ .‬وبالتالﻲ يكون فﻲ ھذا الصدد إيديولوﺟيا إرادة تغيير‬
‫الﻌالم وﺣركﺔ اﺟتﻣاﻋيﺔ نﺣو بناء إنﺳانيﺔ ﻋادلﺔ‪.‬‬
‫لﻘد ظﮭر الﺧطاب اﻹيديولوﺟﻲ فﻲ اﻹﺳالم فﻲ الفترة‬
‫الﻣﻌاصرة وتﻣيز باﺳتﺧراج الﻣفاھيم الﺣديﺛﺔ ﻣن ﺛنايا التراث‬
‫الدينﻲ وكﺳر شوكﺔ الﺧطاب التﻘﻠيدي بإفراﻏه ﻣن كل ﻣضﻣون‬
‫والتشكيك فﻲ ﻣشروﻋيته الﻣفترضﺔ والتركيز ﻋﻠﻰ التغيير فﻲ‬
‫الﻣﺟال الﺳياﺳﻲ وإيضاح الفوارق فﻲ التصورات بين الﻌالﻣين‬
‫الﻘديم والﺟديد‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫كيف يﻣكن اﻻنتﻘال ﻣن اﻋتبار اﻹﺳالم دينا إيديولوﺟيا إلﻰ‬
‫التﻌاﻣل ﻣﻌه بوصفﮭا دينا ﻋﻠﻣانيا؟ وھل بﮭذا الﻣﻘصود ھو الدين‬
‫الواﻗﻌﻲ أم الدين اﻹنﺳانﻲ؟ وﻣتﻰ يتﺣول اﻹﺳالم ﻣن طﻘس‬
‫كﮭنوتﻲ إلﻰ دين ﻣدنﻲ؟‬
‫يﺟب التﻌاﻣل ﻣﻊ اﻹﺳالم باﻋتباره ﻣﻌطﻰ تاريﺧﻲ وواﻗﻌﺔ‬
‫ﺣضاريﺔ وﻣوﺟود فﻲ التراث والتﻌاﻣل ﻣﻊ ھذا األﺧير ﻻ بوصفه‬
‫ﺟزء ﻣن الﻣاضﻲ بل النظر إلﻰ أنه ﺣﻲ فﻲ نفوس الﻣﺳﻠﻣين يوﺟه‬
‫ﺣاضرھم وﻣﺳتﻘبﻠﮭم‪.‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك ﺳاﻋد اﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ الﻌﻘل فﻲ اﻻﺟتﮭاد والتﻘيد‬
‫بالﻣنﮭج الواﻗﻌﻲ فﻲ التﻌاﻣل ﻣﻊ النصوص ﻋﻠﻰ صيرورة اﻹﺳالم‬
‫دنيويا وتﺣوله التدريﺟﻲ والبطﻲء إلﻰ أﻣر دنيوي وبالتالﻲ‬
‫الﺧروج ﻣن الﻌبادات إلﻰ الﻣﻌاﻣالت وﻣن الﻣﺳﺟد إلﻰ الﻣدينﺔ‬
‫واﻻلتفات إلﻰ ھﻣوم الناس والﻌﻣل ﻋﻠﻰ ﻣﺳاﻋدة الﻣﺣتاﺟين‪.‬‬
‫لﮭذا الﺳبب يﺟب التركيز فﻲ ھذا الﻣﻘام ﻋﻠﻰ أن اﻹﺳالم وﺳيﻠﺔ‬
‫وليس ﻏايﺔ ودين ﻣن أﺟل الدنيا ولم يﺟﻌل الدنيا لﻠدين‪ .‬كﻣا أن‬
‫ﻣﺣور الﻌبادات والﻣﻌاﻣالت ھو ﺧدﻣﺔ و تنﻣيﺔ اﻹنﺳان ﺟﺳد‬
‫وروﺣا‪ ،‬فردا وﻣﺟتﻣﻌا‪ ،‬ﺧاصﺔ وﻋاﻣﺔ‪ .‬ولﻘد لﻌب اﻹﺳالم ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣر التاريﺦ وفﻲ ﻣﺧتﻠف الدول التﻲ انتشر فيﮭا دورا أﺳياﺳيا ﻋﻠﻰ‬
‫الﻣﺳتوى اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والﺳياﺳﻲ ولم يبق ﻣﺣايدا فﻲ الصراع الدائر‬
‫ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ والﻣصﻠﺣﺔ بل تﺣول إلﻰ ﻋاﻣل تﻘدم وﻋنصر ﺣيوي‬
‫فﻲ إرشاد الناس إلﻰ الﻣبادئ الكونيﺔ والﻘيم اﻹنﺳانيﺔ وﺳاﻋد ﻋﻠﻰ‬
‫ترﺳيﺦ الﻣنﮭج الﺣضاري واألبﻌاد الﻣدنيﺔ وضﻣان الﻣنفﻌﺔ‬
‫واﻻﻗتدار والﺳﻌادة الدنيويﺔ ﻋﻠﻰ الﺳﻘوط فﻲ الﻌنف والﮭﻣﺟيﺔ‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك يﻘترح بﻌض الﻣفكرين ﻋدم التﻌويل ﻋﻠﻰ ﺟﻠب‬
‫اﻹيديولوﺟيا ﻣن الﺧارج وﻋدم اﺳتنﺳاخ اﻹيديولوﺟيا الغربيﺔ‬
‫والتﻌويل ﻋﻠﻰ الذات وبناء إيديولوﺟيا إﺳالﻣيﺔ وتﺣويل اﻹﺳالم‬
‫إلﻰ ﺳالح إيديولوﺟﻲ واﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ الﻌﻠوم النﻘﻠيﺔ فﻲ فﮭم الواﻗﻊ‬
‫التاريﺧﻲ والرد ﻋﻠﻰ التﺣديات وفﻲ ﺣل الﻣشاكل الﻣﺳتﺟدة‪.‬‬
‫" فالبﺣث ﻋن الﻣنﮭاج ھو نﮭايﺔ "التراث والتﺟديد" وبغيته‬
‫األولﻰ‪ ،‬وﻣﺣاولﺔ لﻠﻌﺛور ﻋﻠﻰ ﻣنﮭاج إﺳالﻣﻲ ﻋام لﺣياة الفرد‬
‫والﺟﻣاﻋﺔ‪ ...‬ويكون بﻣﺛابﺔ اﻹيديولوﺟيﺔ التﻲ يﻣكنﮭا تنظير الواﻗﻊ‬
‫وتطويره‪ 1".‬ﻏير أن اﻻﻗتصار فﻲ النظر إلﻰ اﻹﺳالم ﻣن زاويﺔ‬
‫اﻹيديولوﺟيا ﻗد يﺣدث الضرر به ويﻘوم بتﺣريف الدين وإلﺣاق‬
‫اﻹھانﺔ بﻣﻘدﺳاته ورﻣوزه ويشكل نظرة أﺣاديﺔ الﺟانب وتﻌاﻣل‬
‫انتﻘائﻲ ﻣﻊ تاريﺧه الﻣكﺛف وتراﺛه الغزير وفﮭم اﺧتزالﻲ تبﺳيطﻲ‬
‫يﺟفف الﺟوانب الروﺣيﺔ الﺛريﺔ التﻲ تﺧتزنﮭا ﺣواضنه الدﻻليﺔ‬
‫وﻣنابته الﻣتأصﻠﺔ‪.‬‬
‫والﺣق أن" الدين أوﺳﻊ ﻣن اﻹيديولوﺟيﺔ وأن تﺣويل الدين إلﻰ‬
‫أيديولوﺟيﺔ ﻻ يفضﻲ إﻻ إلﻰ ﻣﺳﺦ الدين وھزاله‪ ،‬فﻠو أننا نظرنا‬
‫إلﻰ الدين بﺟﻣيﻊ شؤونه وتفاصيﻠه لرأينا أنه أﻏنﻰ وأﺳﻣﻰ ﻣن‬
‫‪2‬‬
‫اﻹيديولوﺟيﺔ "‬

‫‪ 1‬حنفي حسن‪ ،‬التراث والتجديد ‪ ،‬موقفنا من التراث القديم‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الخامسة‪ ،2002 ،‬ص‪.185.‬‬
‫‪ 2‬سوروش عبد الكريم‪ ،‬الدين العلماني‪ ،‬مرجع مذكور‪،‬ص‪.180.‬‬

‫‪117‬‬
‫‪ -2‬االدعاء اﻟيوﺗوﺑي واﻷﻣل اإلنساني‪:‬‬

‫"يﺟب أن نﻣيز داﺧل كل دين بين ﻣا ھو ركيزة لﻠطبﻘات الﺳائدة وﻣاھو‬


‫‪1‬‬
‫ﻣﻠﺟأ وﻣالذ لﻠطبﻘات الﻣغﻠوبﺔ"‬

‫ﻣﺛﻠﻣا يﻣارس اﻹﺳالم التاريﺧﻲ وظيفﺔ إيديولوﺟيﺔ ﻣﻌينﺔ‬


‫يتضﻣن أيضا ﻋناصر يوتوبيﺔ ويشﻊ بالﺣﻠم ﻋﻠﻰ الﻌالم ويرﺳل‬
‫ﺣﻘائب ﻣن الﺣﻠم واألﻣل ويبشر الناس بالوﻋود الﺟﻣيﻠﺔ ويرﺳم‬
‫تﺟربﺔ ﻣن اﻻنتظارات وأفق ﻣن التﺣﻘيﻘات‪ .‬لكن تراث اﻹﺳالم‬
‫يتضﻣن الﻌديد ﻣن الﻌناصر التكوينيﺔ ﻣﺛل الفﻘه والكالم والﺳيرة‬
‫والﺣديث والتفﺳير والتصوف واﻹلﮭيات والﻌﻘيدة والشريﻌﺔ‬
‫والﻌبادات والﻣﻌاﻣالت تﺣد ﻣن ھذا الطﻣوح التﺧييﻠﻲ‪ .‬كﻣا تتﻣيز‬
‫ﻣنظوﻣﺔ اﻹﺳالم الدينيﺔ باﻹيﻣانيﺔ والﻌﻘديﺔ واألﺣكام التشريﻌيﺔ‬
‫والﺣﻘائق الﻣطﻠﻘﺔ ولكنﮭا تتﺳاﻣح ﻣﻊ الﻌﻘائد الﻣغايرة والدھريﺔ‬
‫وتﺣتوي ﻋﻠﻰ رؤيﺔ ﺛيولوﺟيﺔ أﺧرويﺔ تراﻋﻲ ﻣصالح أنﺛربولوﺟيﺔ‬
‫دنيويﺔ‪.‬‬
‫لﻘد ﻗاوم اﻹﺳالم الغش والرق والتدليس واﻻﺳتﻌباد والتﻣييز‬
‫وﻣنح الناس الكراﻣﺔ واﻻﺣترام واﻻﻋتراف وﺟﻌل البر الﻘيﻣﺔ‬
‫األﺧالﻗيﺔ التﻲ تتﺣكم فﻲ ﺳﻠوكات البشر وتزكﻲ النفوس وتطﮭر‬
‫الﻘﻠوب ﻣن الرﺟس والكبر‪ .‬والﺣق أن اﻹﺳالم دين اﺳتﺛنائﻲ ﻣن‬
‫ﺟﮭﺔ الﺣﻣولﺔ اليوتوبيﺔ التﻲ يكتنزھا والنظرة اﻹﺳتشرافيﺔ التﻲ‬
‫يصوبﮭا والضديد الذي يدﺧره بين دفاتره واﻹﻋﺟاز البيانﻲ الذي‬

‫‪1‬‬
‫‪Etienne Balibar, « problèmes de la recherche islamologique au‬‬
‫‪Maroc », in Islam et politique au Magreb,CNRS, Paris, 1981 ,p203.‬‬

‫‪118‬‬
‫يفتن به الﻌﻘول والﺣكﻣﺔ التﻲ يبشر بﮭا‪ .‬فﻲ ھذا الصدد يﻣﺟد‬
‫اﻹﺳالم تﺟربﺔ اﻹيﻣان الﻌﻣﻠﻲ ويدﻋو إلﻰ لزوﻣيﺔ ﻣﻌرفﺔ الﺣﻘيﻘﺔ‬
‫الﻣطﻠﻘﺔ والﺟوھريﺔ والتﻌرف ﻋﻠﻰ أﺳرار الكون بالﻌﻘل وﻣن‬
‫ﺧالل تدبير آيات الوﺣﻲ واﻻﺣتكام إلﻰ تﺟارب التاريﺦ ودروﺳه‪.‬‬
‫كﻣا يﻌول ﻋﻠﻰ الﻘوى اﻹدراكيﺔ البشريﺔ فﻲ فﮭم الدين وإدراك‬
‫الﺣﻘيﻘﺔ اﻹلﮭيﺔ والبﻌد الروﺣانﻲ لﻠكينونﺔ ويتكون ﻣن اﻻﻋتﻘاد‬
‫بالﻘﻠب واﻹﻗرار بالﻠﺳان والﻌﻣل بالﺟوارح واﻹيﻣان بالﻣﻌاد‬
‫والﺟزاء والﻌدل اﻹلﮭﻲ‪.‬‬
‫فﻲ الواﻗﻊ " إن وراء ﻣﺳائل فﻘﮭيﺔ ودينيﺔ كﻣﺳألﺔ ﺧﻠق الﻘرآن‬
‫والتوﺣيد والتنزيه والﻘدريﺔ وﻣرتكب الكبيرة والﻌﻠم اﻹلﮭﻲ والﺟبر‬
‫واﻻﺧتيار ﻗضايا أو تبﻌات ﺳياﺳيﺔ وإيديولوﺟيﺔ يتﻌين ﻋﻠﻰ البﺣث‬
‫الﻌﻠﻣﻲ الكشف ﻋنﮭا"‪.1‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو ﻻ يوفر اﻹﺳالم ﺣال إيﻣانيا لﻠﻣشاكل اليوﻣيﺔ‬
‫والتﺣديات الﺳياﺳيﺔ والرھانات التاريﺧيﺔ وﻻ يبرر التواكل‬
‫والكﺳل باﺳم الرضوخ لألﻗدار وإنﻣا يﻌتﻣد ﻋﻠﻰ الﻣﻌرفﺔ‬
‫الﻣاورائيﺔ فﻲ إصالح الﻣﻌاش ويوكل إلﻰ الﻌﻘل األﺧالﻗﻲ ﻣﮭﻣﺔ‬
‫تربويﺔ لﻠبشر ويﺟﻌل ﻣن الفﻘه ﻋﻠم دنيوي ويوكل إليه ﻣﮭﻣﺔ‬
‫إصالح الﻣﺟتﻣﻊ وتوﺟيه الناس نﺣو الﻘيام باألﻋﻣال النافﻌﺔ وﺧدﻣﺔ‬
‫ﻗضايا الناس وتطﮭير األﻋراق وتﮭذيب الطباع ويوﺟه إلﻰ اﻹرادة‬
‫الواﻋيﺔ يﻘظﺔ الكائن الﺣر والكﻠﻣﺔ الصادﻗﺔ ونداء الضﻣير والرفق‬
‫بالضﻌيف‪.‬‬

‫‪ 1‬محمد سبيال ‪ ،‬اإليديولوجيا ‪ ،‬نحو نظرة تكاملية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬طبعة أولى‪ ،1992 ،‬ص‪.194 .‬‬

‫‪119‬‬
‫لﻘد ﻣارس اﻹﺳالم وظيفﺔ التﺟﻣيﻊ الﺛﻘافﻲ ﻋبر آليات التﻌارف‬
‫والصﮭر التﻲ تضﻣن التالﺣم الداﺧﻠﻲ واألﻣن والﺳالم‪ .‬أﻣا الﺳياﺳﺔ‬
‫فﻘد ﺟﻌﻠت ﻣنه ﻣطيﺔ لﻠتبرير والتشﻣيل واﻻﺳتﻘطاب والتﺣشيد‬
‫لﻠفاﻋﻠين واألنصار واكتﺳاح الﻣيادين‪ ،‬وﻋﻠﻰ الﻣﺳتوى النفﺳﻲ‬
‫يﺧفﻲ الدين انفﻌاﻻت البشر وﺧوفﮭم وأنانيتﮭم ويربﻲ ﻋدوانيتﮭم‬
‫ويﺣول ﻗﺳوتﮭم إلﻰ ﻗوة ﻣﺣركﺔ وطاﻗﺔ إبداﻋيﺔ ويﻣﺛل ﻣالذا‬
‫لإلنﺳان الﻣﺳﺣوق وﻣﻠﺟأ الطبﻘات الﻣضطﮭدة‪ .‬لﻘد ﻣﺛل اﻹﺳالم‬
‫ﻣرﺟﻌيﺔ ﻣشتركﺔ لﻌدة شﻌوب وﻣﺟتﻣﻌات فﻲ الﻌالم تﺣﻣل ﻋناصر‬
‫ﺛﻘافيﺔ ورﻣوز ﺣضاريﺔ ﻣتنوﻋﺔ وشكل نوﻋا ﻣن الوﺳاطﺔ الرﻣزيﺔ‬
‫بين الﻣﺳﻠم والتاريﺦ وبين الوﺟدان الفردي والالّشﻌور الﺟﻣﻌﻲ‪.‬‬
‫كﻣا اﻗترح ﻣﻌنﻰ لﻠﺣياة وﻗدم أﺟوبﺔ ﻗويﺔ لﻌدة ﻣﺳائل ﻣصيريﺔ‬
‫بالنﺳبﺔ لإلنﺳانيﺔ تتﻌﻠق بالغيب واآلﺧرة ونظام الكون والبﻌد‬
‫الﻣفارق ورﺟح تفوق الﺧير ﻋﻠﻰ الشر والﺟانب الطيب ﻣن‬
‫اﻹنﺳان ﻋﻠﻰ الﺧبيث‪.‬‬
‫الالفت لﻠنظر أن اﺳتكشاف البنيﺔ الرﻣزيﺔ لﻠﻌﻣل اﻹيديولوﺟﻲ‬
‫فﻲ اﻹﺳالم يﻣكن ﻣن فﮭم الصراﻋات الﺣادة فﻲ التﺟربﺔ التاريﺧيﺔ‬
‫لﻠﻣﺳﻠﻣين وﻣن اﻹﻣﺳاك بالﻣﺧزون اليوتوبﻲ الﮭائل الذي يدﺧره‬
‫النص الﻣﻘدس وﺣواشيه‪.‬‬
‫وتتكون اليوتوبيا اﻹﺳالﻣيﺔ ﻣن ﺣركتين‪ :‬األولﻰ تبنﻲ أشكال‬
‫ﻣن الالّتطابق واﻻنﺣراف واألفضﻠيﺔ والتﻌارض ﻣﻊ الواﻗﻊ الراھن‬
‫وذلك باﻻرتﻣاء بين أﺣضان الﺧيال والوھم واألﺳطورة‬
‫واﻻفتراضﻲ والﻣﺛالﻲ والالّﻣﻌﻘول بالتﺣول ﻣن الﺣاضر إلﻰ‬
‫الﻣﺳتﻘبل‪ ،‬والﺛانيﺔ ھﻲ فضح الفﺟوة بين زﻋم الﺳﻠطﺔ اﻣتالك‬

‫‪120‬‬
‫الشرﻋيﺔ وتصديق األفراد لﻣﺛل ھذا اﻻدﻋاء واتﺧاذ الﻘرار بﮭدم‬
‫الواﻗﻊ والﺳﻌﻲ نﺣو إﻋادة بنائه‪.‬‬
‫ھكذا تتﺣرك الﺣياة الدينيﺔ فﻲ اﻹﺳالم بين ﻋدة ﺛنائيات ﻣنﮭا‬
‫الﺧير والشر وتبﺣث ﻋن شروط تﺧفيف األلم وإزالﺔ التﺧدير‬
‫وتﺳﻌﻰ ﺟاھدة إلﻰ تغيير الﻌﻘاب إلﻰ ﺛواب والتﺳﻠيﺔ إلﻰ ﻣكابدة‬
‫وﻋﻣل ﺟدي وتﻘﻠص ﻣن ﺳيطرة الﻘدر الﻣﺣتوم وتتفادى وﻗوع فﻲ‬
‫الﻣصائب وتريد الﺧير الوافر بواﺳطﺔ الطﻣأنينﺔ وﺟﻠب الﻌالج‬
‫والصﺣﺔ والرﻋايﺔ‪ .‬كﻣا يبرز الطابﻊ اﻻﺣتفالﻲ فﻲ الطﻘوس الدينيﺔ‬
‫وتﺧتﻠط شﻌائر الﻣﻌتﻘد باألداء الفنﻲ وتصبح تالوة اآليات وذكر‬
‫األﺣاديث طريﻘﺔ فﻲ الﻘص تﺳاھم فﻲ تنشيط الذاكرة واﺧتراق‬
‫زﻣن الﻌالم وﻣالﻣﺳﺔ لﺣظﺔ وﻻدة الﺣﻘائق‪.‬‬
‫ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك يﺳاﻋد الدﺧول إلﻰ اﻹﺳالم ﻣن بوابﺔ الﻌﻘل‬
‫ﻋﻠﻰ إزالﺔ الﺧوف والتيه بزرع الشك واﺳتﺛﻣار اﻻنفﻌال بإشباع‬
‫ﻣﻠكﺔ الفﮭم ويتيح الشكل الﻣﺟازي لﻠنصوص ﻣن إبرام صداﻗﺔ ﻣﻊ‬
‫الﻣﻘدس وتﻣتين الﻘرابﺔ ﻣﻊ الﻌﻣل وتﻘويﺔ الﻌالﻗﺔ ﻣﻊ الطبيﻌﺔ‬
‫واﺣترام نظام الكون وﻣراﻋاة التﺳﻠﺳل الطبيﻌﻲ لألﺣداث والتفكير‬
‫ﻣن ﺧالل األﺳباب والنظر بالطبائﻊ والﺣكم بالوﻗائﻊ‪.‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك ﻻ تكون اليوتوبيا ھروبا ﻣن الواﻗﻊ نﺣو الفنطازيا‬
‫والﺟنون وتصور ﻣا ﻻ يﻘبل التﺣﻘيق وإنﻣا ھﻲ ﺳﺣر الفكر ورﺳم‬
‫الغايات الﻣتناﻏﻣﺔ التﻲ تﻣﺛل دائرة تﺣدي واﻗﻌﻲ وإﺛارة لﻠفﻌل‬
‫الشاق بالنﺳبﺔ لإلرادة‪ .‬والﺣق أن التﺟربﺔ الدينيﺔ لﻠﻣﺳﻠم تتضﻣن‬
‫ﻣنظوﻣﺔ ﻗيﻣيﺔ ﻣﺳتﻠﮭﻣﺔ ﻣن الﻣرويات الكبرى وﻗصص الﺣياة‬
‫وتﻠﻌب الﻠغﺔ الﻌربيﺔ دورا كبيرا فﻲ إﻗاﻣﺔ شﻌريﺔ لﻠﻣﻘدس ضﻣن‬
‫صيرورة األﺣداث التاريﺧيﺔ‪ .‬وبطبيﻌﺔ الﺣال تﻣنﻊ ھذه البنيﺔ‬

‫‪121‬‬
‫الﺳرديﺔ لﻠتﺟربﺔ الدينيﺔ ﻣن ﺣدوث تناﻗض بين الﻌناصر‬
‫الﻣيﺛولوﺟيﺔ فﻲ اﻹﺳالم والتفﺳيرات الﻣنطﻘيﺔ والﻣﻘاربﺔ‬
‫الﻣوضوﻋيﺔ التﻲ توفرھا الﻌﻠوم الطبيﻌيﺔ والصﺣيﺣﺔ الﻣتزاﻣنﺔ‬
‫ﻣﻌه‪.‬‬
‫ﻏير أن اﻹﺳالم يﺣﻣل بين طياته يوتوبيا ﺟﻣيﻠﺔ تضﻊ هللا فﻲ‬
‫ﻣركز نظرتﮭا لﻠﻌالم وتﻌتبره ﻣصدر الﺣق وﻣرﺟﻊ كل شﻲء ﻣﮭم‬
‫وﺧالق الكون وأصل الﻘيم وأﺳاس الوﺟود ويتدﺧل فﻲ األﺣداث‬
‫ويتصف بالالّتﺣدد والالنﮭائيﺔ‪ .‬كﻣا تشرف اﻹنﺳان وتتﻌاﻣل ﻣﻊ‬
‫النظام البشري بوصفه ﻣشتق ﻣن النظام اﻹلﮭﻲ ويشترط ﻣﻌرفﺔ‬
‫اﻹنﺳان لنفﺳه ﻣن أﺟل ﻣﻌرفته هلل ويشترط اﻻﺳتﺟابﺔ لنداء الكﻠﻲ‬
‫بغيﺔ ارتﻘاء اﻹنﺳان ﻣن الﮭشاشﺔ إلﻰ اﻹكتﻣاليﺔ‪.‬‬
‫لﻘد وﺟدت داﺧل ﺣضارة إﻗرأ الﻌديد ﻣن التيارات واﻻتﺟاھات‬
‫وﺟﻣﻊ تاريﺦ اﻹﺳالم بين الوﺣدة والتﻌدد وتصارﻋت النزﻋﺔ‬
‫الﻣاديﺔ ﻣﻊ النزﻋﺔ الﻣﺛاليﺔ وتبارى أھل النﻘل ﻣﻊ أھل الرأي‬
‫وتنافس التيار الﻣشائﻲ ﻣﻊ التيار اﻹشراﻗﻲ وتنازع ﻋﻠﻣاء الفﻘه‬
‫وﻋﻠﻣاء الكالم ﻣشروﻋيﺔ تأويل الوﺣﻲ وظﮭر فﻲ الﻌصر الﺣديث‬
‫دﻋاة التﻘﻠيد ودﻋاة التﺟديد وبرزت أفكار ﻋالﻣيﺔ اﻹﺳالم وﻋروبته‬
‫وتﻘاﺳم الﻠيبراليون الﻌصرنﺔ ﻣﻊ اليﺳاريين‪ .‬ﻻ يﻣكن ﺣﺟب البﻌد‬
‫اﻹنﺳﻲ فﻲ اﻹﺳالم وتﺟﻠيه فﻲ الربط بين النبوة والرﺳالﺔ وفﻲ‬
‫الطبيﻌﺔ البشريﺔ لﻠﺣريﺔ والطبيﻌﺔ الربانيﺔ لﻠﺣكﻣﺔ ويتﺟﻠﻰ‬
‫بوضوح فﻲ تكريم الشريﻌﺔ لﻠكائن اآلدﻣﻲ وتشﺟﻌﮭا ﻋﻠﻰ الﺧﻠق‬
‫والبذل‪.‬‬
‫ھكذا يبرز اﻹنﺳان وﺳط الكون باﻋتباره شاھد ﻋﻠﻰ التﺟﻠﻲ‬
‫اﻹلﮭﻲ فﻲ الكون وناطﻘا بصوت الﻣﺧﻠوﻗات ويشﮭد بوﺣدة الﺣق‬

‫‪122‬‬
‫ﻋﻠﻰ الصﻌيد الﻌﻣﻠﻲ وتﻌدد ﻣﺳالكه ﻋﻠﻰ الصﻌيد النظري وﺣاﺟﺔ‬
‫اﻹنﺳان إلﻰ الترﻗﻲ‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ أن اﻹﺳالم يتكون ﻣن ﺟﻣﻠﺔ ﻣن‬
‫الوﻋود التأﺳيﺳيﺔ وتﻣظﮭر إلﻰ الناس فﻲ شكل نداء وتالوة وبﻌد‬
‫ذلك الﻣطالبﺔ بﺣﺳن التﻠﻘﻲ والﻣرور إلﻰ ﻣﺟال التطبيق باﻻلتزام‬
‫بفﺣوى اآليات وﻣﻘتضﻰ األﻗوال واﻻنتشار فﻲ األرض‪ .‬توﺟد فﻲ‬
‫الﺧطاب اﻹﺳالﻣﻲ تﺟارب ﺳرديﺔ ﻣتنوﻋﺔ صيغت فﻲ شكل‬
‫ﺣبكات وﻋﻘد ﺣكائيﺔ وتﻘتضﻲ ﻣن الﻣتﻠﻘين الﻣﺣاكاة فﻲ الوضﻌيﺔ‬
‫التاريﺧيﺔ واﻻﻗتداء بالشﺧصيات الﺳرديﺔ بغيﺔ تغيير التاريﺦ نﺣو‬
‫األفضل‪.‬‬
‫إﺣﻘاق لﻠﺣق تتﻌاﻣل ھذه الﻘراءة اﻹيتيﻘيﺔ الﺳرديﺔ لإلﺳالم ﻣﻊ‬
‫األنبياء بوصفﮭم أطباء روﺣانيين يﺟﻌﻠون ﻣن فضائل الﺣق‬
‫والﺧير والﺟﻣال ﻣﺳارات لتزكيﺔ األنفس وتﮭذيب الﺳﻠوك‬
‫واﻻرتﻘاء بالﻌﻘول نﺣو ﻋشق الذات اﻹلﮭيﺔ‪ .‬لﻘد تﺣول الدين إلﻰ‬
‫ﻋنصر تﺧﻠيص ﻣن الﻌذاب الواﻗﻌﻲ ودافﻊ لالنﻌتاق ﻣن الظﻠم‬
‫الﺳياﺳﻲ وﻣﺣرض ﻋﻠﻰ اﻻﺣتﺟاج الﺳﻠﻣﻲ والﺳﻌﻲ نﺣو التﺣرر‬
‫ﻣن ھيﻣنﺔ الﻣيراث الﺳﻠطوي‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫خاتمة‬

‫"إن اﻻﺳتئصال الكاﻣل لﻠﻌناصر الﻣتﻌاليﺔ ﻋﻠﻰ الواﻗﻊ ﻣن ﻋالﻣنا ﺳيﻘود‬


‫‪1‬‬
‫إلﻰ نزﻋﺔ واﻗﻌيﺔ تﻌنﻲ فﻲ نﮭايﺔ الﻣطاف انﺣالل اﻹرادة اﻹنﺳانيﺔ"‬

‫صفوة الﻘول أن الﻣﺧاطر ﻻ تتأتﻰ ﻣن الدين فﻲ ﺣد ذاته بل ﻣن‬


‫الﮭيئﺔ اﻹيكﻠيروﺳيﺔ (رﺟال الدين) التﻲ تﺳﮭر ﻋﻠﻰ ﺣﻣايته والدور‬
‫اﻹيديولوﺟﻲ الذي تﻘوم به وتﺣالفﮭا ﻣﻊ الﺳﻠطﺔ الﺳياﺳيﺔ ﻹﻋادة‬
‫إنتاج الﺳائد‪.‬‬
‫ﻣن الﻣؤكد أن اﻹﺳالم لم يتم إنصافه ﻣن طرف اﻹيديولوﺟيا‬
‫الﺣديﺛﺔ وﻣن الﻣؤكد كذلك أن الﻣﺳﻠﻣين كانوا ﻣنذ الﻘدم ﻗد ابتﻌدوا‬
‫كﺛيرا ﻋن اﻹنصاف بﻣﻌاﻣﻠتﮭم لدينﮭم بتﻌﻠق شديد وبﻘولﮭم بأنه‬
‫يﻌبر بشكل ﻣﺟازي ﻋن الﺣق ﻣراﻋاة لفﮭم الﺟﻣﮭور ويﻘدم ﻣﻌرفﺔ‬
‫شاﻣﻠﺔ ويﻣﺛل ﻣنظوﻣﺔ ﺣياة ويﺳود فﻲ الﻌالم باﻻنتشار بين الناس‪.‬‬
‫لﻘد تﻌرض اﻹﺳالم إلﻰ التوظيف اﻹيديولوﺟﻲ واﺳتند الﻌﻣل‬
‫اﻹيديولوﺟﻲ الﺳياﺳﻲ ﻋﻠﻰ اﻹﺳالم وكل ذلك تم تﺣت ﻋنوان‬
‫اﻹيﻣان الﻣذھبﻲ باﻹﺳالم أو التناول البراﻏﻣاتﻲ له وآن األوان‬
‫لﻠكف ﻋن أدلﺟﺔ اﻹﺳالم والتوﻗف ﻋن النظر إليه كشكل ﻣن أشكال‬
‫اﻹيديولوﺟيا وأنﺟﻊ الوﺳائل فﻲ الصراع الﺳياﺳﻲ واﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫والﻣﻌارك الفكريﺔ والتﺣدي الﺛﻘافﻲ واﻻكتفاء بإﺳالم ﻣا بﻌد‬
‫إيديولوﺟﻲ وإيﻣان أﺧالﻗﻲ باﻹﺳالم اﻹنﺳانﻲ‪ .‬وآيتنا ﻋﻠﻰ ذلك أن"‬

‫‪ 1‬كارل مانهايم ‪ ،‬اإليديولوجيا واليوتوبيا‪ ،‬فقرة ‪ ،262‬ذكره بول ريكور في محاضرات في‬
‫اإليديولوجيا واليوتوبيا‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.377‬‬

‫‪124‬‬
‫الدين فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ يﻘوم بوظيفتين ﻣتﻘابﻠتين‪ :‬الدين فﻲ أيدي‬
‫الﺳﻠطتين الدينيﺔ والﺳياﺳيﺔ كوﺳيﻠﺔ لﻠﺳكون اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‪ ،‬والدين‬
‫فﻲ أيدي الطبﻘات الصاﻋدة والﻣفكرين األﺣرار كوﺳيﻠﺔ لﻠﺣراك‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‪ .‬األول فﻲ صالح األﻗﻠيﺔ باﺳم الدفاع ﻋن ﺣﻘوق هللا‬
‫والﺛانﻲ فﻲ صالح األﻏﻠبيﺔ باﺳم الدفاع ﻋن ﺣﻘوق اﻹنﺳان"‪ .1‬لﻘد‬
‫ظﮭرت أﻣراض اﻹﺳالم اﻹيديولوﺟﻲ فﻲ تناﻗضﮭا ﻣﻊ الﻌﻠم‬
‫وتﺳاﻣﺣﮭا ﻣﻊ األﺳطورة وتداﺧﻠﮭا ﻣﻊ الرأي والظن والﺟﮭل‬
‫وﻏربتﮭا ﻋن الواﻗﻊ واتصافﮭا بالطابﻊ الﻣﺛالﻲ واﻹشراﻗيات‬
‫والالﻣﻌﻘول واﻹفراط فﻲ الروﺣانيات والﻣيتافيزيﻘا والتﻘاﻋس ﻋن‬
‫األﻋﻣال النافﻌﺔ والتواكل واﻹرﺟاء واﻻكتفاء بالنوايا والكالم دون‬
‫الﻌزم والتنفيذ‪ .‬ﻣن ھذا الﻣنظور إن ھروبيﺔ اليوتوبيا أفضل ﻣن‬
‫تﺳﻠط اﻹيديولوﺟيا واﻋتﻣادھا اﺳتراتيﺟيات التﺣريف والتشويه‬
‫والتبرير وان اﻹﺳالم يظل ﻗويا باألفق اليوتوبﻲ الذي يفتﺣه أكﺛر‬
‫ﻣن الوظائف اﻹيديولوﺟيﺔ التﻲ يؤديﮭا لﻠﻣﺟتﻣﻊ‪ .‬زد ﻋﻠﻰ ذلك تدفﻊ‬
‫اﻹيديولوﺟيا إلﻰ الﺣروب بين األديان والتﻘاتل باﺳم الﻣﻘدس وتﻘدم‬
‫لﻠناس األﺳباب الكافيﺔ التﻲ تﺟﻌﻠﮭم يضﺣون بأنفﺳﮭم ﻣن أﺟل‬
‫اﻻنتصار لﻠﻘناﻋات الدينيﺔ والدفاع ﻋﻠﻰ األفكار الذاتيﺔ وتأويﻠﮭم‬
‫الﺧاص لﻠتاريﺦ‪.‬‬
‫ھكذا تكون اﻹيديولوﺟيا ظاھرة دينيﺔ ﻣﺣايﺛﺔ ويتدﺧل الدين فﻲ‬
‫الﻌﻣل اﻹيديولوﺟﻲ وتﻌبر طبﻘﺔ صاﻋدة ﻋن إرادة اﻻﻗتدار وتدﻋﻲ‬
‫الشﻣوليﺔ وتﺣاول توﺟيه رﺳالﺔ صالﺣﺔ لﻠﺟﻣيﻊ وفرض نفﺳﮭا ﻋﻠﻰ‬
‫اﻹنﺳانيﺔ كﻠﮭا‪.‬‬

‫‪ 1‬حسن حنفي‪ ،‬تطور الفكر الديني الغربي‪ ،‬في األسس والتطبيقات‪ ،‬دار الهادي ‪ ،‬بيروت‬
‫‪،‬طبعة أولى ‪ ،2004‬ص‪.163.‬‬

‫‪125‬‬
‫ﻏنﻲ ﻋن البيان أنه ﻻ يﻣكن الرد ﻋﻠﻰ اﻹيديولوﺟيات ﻣن ﺣيث‬
‫ديانات ﻣﺳتترة إﻻ بإطالق ﻣﻠكﺔ الﺧيال الﺧالق لﻠيوتوبيات ﻣن‬
‫ﺣيث ھﻲ ديانات ﻣﻌﻠنﺔ وﻣﻌالﺟﺔ أﻣراض اﻹيديولوﺟيا بﻣاھو‬
‫صﺣﻲ فﻲ اليوتوبيا وتفكيك ﻣظاھر التﺣﺟر الفكري والتصﻠب‬
‫الﻌﻘائدي والتﻌصب الﺣزبﻲ باﻻنفتاح اليوتوبﻲ والﻘدرة‬
‫اﻻفتراضيﺔ ﻋﻠﻰ تﺧطﻲ الﺣدود وﻣالﻣﺳﺔ الﻣﺳتﺣيل وتشكيك فيﻣا‬
‫ھو ﻗائم واﻻنﺣراف ﻋن الواﻗﻊ واﺳتكشاف الﻣﻣكن وتغيير النظام‬
‫الراھن‪ .‬ﻏنﻲ البيان أن اﻹﺳالم ﻣن ﺣيث النواة الروﺣيﺔ التﻲ‬
‫يكتنزھا يريد الﺣياة ويكره ﺛﻘافﺔ الﻣوت فﮭو دين بﻘاء وليس ﻋﻘيدة‬
‫فناء ويأﻣل فﻲ إنﻘاذ اﻹنﺳان ﻣن الضياع فﻲ الكون ويﺣطم األوﺛان‬
‫ويﺣارب التزلف ألرباب األرض والﻣتألﮭين ﻣن ﺟبابرة الﻣال‬
‫والﺟاه والﺳﻠطﺔ ويتﺟه صوب بناء ﻣشروع انﺳﻲ ﻣتكاﻣل يﺣﻣل‬
‫أھداف ﺣضاريﺔ ﻣﺳتﻘبﻠيﺔ‪ .‬تبﻌا لذلك يﺟوز التﺣدث ﻋن ﻣشروﻋيﺔ‬
‫الﺛورة والﻣﻘاوﻣﺔ والتنوير فﻲ اﻹﺳالم ضد نزﻋات اﻻﺳتبداد‬
‫والطغيان والﻣﺣافظﺔ التﻲ تظﮭر فﻲ التاريﺦ اﻹﺳالﻣﻲ‪ .‬كﻣا يﻣكن‬
‫التأكيد ﻋﻠﻰ أھﻣيﺔ التﻌﻘل والتفﮭم والتأويل ضد اﻹفراط فﻲ التﻌبد‬
‫والتكﻠف والﻌﺳر‪،‬وتغﻠيب ﺟانب الﻌﻣل والنشاط واﻹﺣﺳان ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣشاﻋر التواكل واﻻنتظار والﻘﻌود والﺧﻣول‪ ،‬وانتصار ﻣظاھر‬
‫التﺣرر والﺳﻣاﺣﺔ والتﻌايش ﻋﻠﻰ ﻋﻘد التﺳﻠط والغﻠو واﻹﻗصاء‪،‬‬
‫وتﺛﻣين األبﻌاد الﻣدينﺔ والرؤيﺔ الﺣضاريﺔ ﻋﻠﻰ ﻣوروﺛات البداوة‬
‫والﻌناصر اﻹﻋتﻘاديﺔ الوافدة‪ ،‬واﻻھتﻣام باليوتوبيا الﺣالﻣﺔ بدل‬
‫اﻹيديولوﺟيا الﻣشوھﺔ والتكفيريﺔ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ﺳبيل الﺧتم نﻘول ﻣا أﻗرب اﻹﺳالم الﻣدنﻲ إلﻰ الﻌﻠم‬
‫واألﺧالق والواﻗﻊ ﻣن دين الﻣصﻠﺣﺔ والتﺟارة والغنيﻣﺔ‪ ،‬وﻣا أبﻌده‬

‫‪126‬‬
‫ﻋن الﺧيال والوھم والتغﻠيط وﻣا أشد توافﻘه ﻣﻊ روح الﻌصر‬
‫وﻣصالح الﻣﺟتﻣﻊ‪ .‬ﻏايﺔ الﻣراد أن اﻹﺳالم الواﻗﻌﻲ يبﺣث ﻋن‬
‫الﻣﻌنﻰ والﻣﻘصد األﺳنﻰ وﻻ يﻘتصر ﻋﻠﻰ الﻘواﻋد واألﺣكام‬
‫النﮭائيﺔ‪ ،‬ويﺣتكم إلﻰ إرادة الشﻌب واﺟتﮭاد الﻌﻠﻣاء بدل فتوى‬
‫الﺣكام وآراء الدﻋاة‪ .‬ﻋندئذ أﻻ يﺟدر بنا التفكير فﻲ الرﺳالﺔ الﺛانيﺔ‬
‫لإلﺳالم باﻋتبارھا الطريق الﻣﻠكﻲ الذي يﺟﻣﻊ بين ﻣا ﻗبﻠه وﻣا‬
‫بﻌده؟‬

‫‪127‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟﻌاشر‬

‫‪Actes du colloque: herméneutique de la‬‬


‫‪sécularisation, organisé par le centre international‬‬
‫‪d’études humaines et par l’institut d’études‬‬
‫‪philosophiques de Rome, 3-8 Janvier 1976, aux‬‬
‫‪soins de Enrico Castelli, Aubier éditions Montaigne,‬‬
‫‪Paris, 1976.‬‬
‫‪Actes du colloque: Islam et politique au‬‬
‫‪Magreb,CNRS, Paris, 1981.‬‬
‫‪Marx Karl et Engels Fréderic, l’idéologie‬‬
‫‪allemande, édition sociale, Paris, 1968‬‬
‫‪Louis Althusser, Pour Marx, édition Maspero,‬‬
‫‪Paris, 1972,‬‬
‫بول ريكور‪ ،‬ﻣﺣاضرات في االيديوﻟوﺟيا واﻟيوﺗوﺑيا‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫فالح رﺣيم‪ ،‬دار الكتاب الﺟديد الﻣتﺣدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ ‪،2002‬‬
‫ﻣﺣﻣد ﺳبيال‪ ،‬اإليديوﻟوﺟيا‪ ،‬نﺣو نظرة ﺗﻛاﻣليﺔ‪ ،‬الﻣركز الﺛﻘافﻲ‬
‫الﻌربﻲ‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪،1992 ،‬‬
‫ﺣنفﻲ ﺣﺳن‪ ،‬اﻟﺗراث واﻟﺗﺟديد‪ ،‬ﻣوقﻔنا ﻣن اﻟﺗراث اﻟﻘديم‪،‬‬
‫الﻣؤﺳﺳﺔ الﺟاﻣﻌيﺔ لﻠدراﺳات والنشر والتوزيﻊ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ‬
‫الﺧاﻣﺳﺔ‪.2002 ،‬‬
‫ﺣﺳن ﺣنفﻲ‪ ،‬ﺗطور اﻟﻔﻛر اﻟديني اﻟغرﺑي‪ ،‬في اﻷسس‬
‫واﻟﺗطﺑيﻘات‪ ،‬دار الﮭادي‪ ،‬بيروت‪،‬طبﻌﺔ أولﻰ ‪،2004‬‬
‫ﺳوروش ﻋبد الكريم‪ ،‬اﻟدين اﻟﻌلﻣاني‪ ،‬تﻌريب أﺣﻣد الﻘبانﺟﻲ‪،‬‬
‫دار اﻻنتشار الﻌربﻲ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪،2009 ،‬‬

‫‪128‬‬
‫ﺳوروش ﻋبد الكريم‪ ،‬اﻟسياسﺔ واﻟﺗدين‪ ،‬دقائق نظريﺔ وﻣآزق‬
‫عﻣليﺔ‪ ،‬تﻌريب أﺣﻣد الﻘبانﺟﻲ‪ ،‬دار اﻻنتشار الﻌربﻲ‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبﻌﺔ األولﻰ‪،2009 ،‬‬

‫‪129‬‬
130
‫الفصل الحادي عشر‬

‫القرآن الكريم بني الواقع والقصص‬

‫ت َوﻗَ ِّد ّْر فِّﻲ الﺳ َّْر ِّد َوا ْﻋ َﻣﻠُوا صال َﺣا إِّنِّّﻲ بِّ َﻣا تَ ْﻌ َﻣﻠُونَ‬ ‫"أ َ ِّن ا ْﻋ َﻣ ْل َ‬
‫ﺳابِّغَا ٍ‬
‫صير"‬ ‫بَ ِّ‬
‫الﻘرآن الكريم‪ ،‬ﺳورة ﺳبأ‪،‬اآليﺔ ‪.11‬‬

‫تﻌانﻲ ﻋﻠوم الﻘرآن ﻣن ضﻌف فﻲ األﺳاس الﮭرﻣينوطيﻘﻲ الذي‬


‫تﻘف ﻋﻠيه ﺟﻌﻠﮭا تنتصر تاريﺧيا لﻠتفﺳير ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب التأويل‬
‫ولﻠنص ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب الواﻗﻊ وتضيق دوائر الﺣكم فﻲ ﺛنائيﺔ الﻣنﻊ‬
‫واﻻباﺣﺔ وتتناﺳﻰ الﻣندوب والﻣكروه وتﺣصر انتاج الﻣﻌنﻰ فﻲ‬
‫آليﺔ ﻗياﺳيﺔ تﻌﻣل ﻋﻠﻰ رد الفروع الﺟزئيﺔ الﻰ األصول الكﻠيﺔ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو يﻣﺛل اﻻﺳتنﺟاد بالﻣنﮭﺟيﺔ الﺳرديﺔ ﺟرﻋﺔ تﺟديديﺔ‬
‫تﻣنح لﮭا الكفاءة التأويﻠيﺔ الناﻗصﺔ وتﺳاﻋدھا ﻋﻠﻰ التﺧﻠص ﻣن‬
‫الﻌراﻗيل التفﺳيريﺔ واألﺧطاء اﻻبﺳتيﻣولوﺟيﺔ التﻲ وﻗﻌت فيﮭا‪.‬‬
‫لو طبﻘنا اآلن الﻣﻘاربﺔ الفﻠﺳفيﺔ الﺳرديﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺳالم بشكل‬
‫ﻋام وﻋﻠﻰ الﻘرآن بشكل ﺧاص وﺟﻌﻠنا ﻣن التﻘاطﻊ بين الﺣدث‬
‫والﺳرد نبراﺳا ھاديا لفﮭم الدائرة الروﺣيﺔ لﻠﻣﻌتﻘد الدينﻲ فإننا‬
‫نطرح اﻻشكال الﮭرﻣينوطيﻘﻲ الﻣﺳتﻌصﻲ التالﻲ‪ :‬ھل الﻘرآن ھو‬
‫ﻣﺟرد ﺳرد لوﻗائﻊ كونيﺔ وأﺣداث تاريﺧيﺔ أم ھو أﺣﺳن الﻘصص‬
‫والبيان اﻻﻋﺟازي؟‬

‫‪131‬‬
‫والﺣق أن لﻘاء الﺣدث بالﺳرد ﻋﻠﻰ أرضيﺔ الﻠﺳان الﻌربﻲ‬
‫وضﻣن ﻣﺳطح الﻣﺣايﺛﺔ الذي تﺣركت فوﻗه فﻠﺳفﺔ الﻘرآن أفﻘيا رﺳم‬
‫ﺧطوط التﻘاطﻊ بين الواﻗﻊ والﻘصص دفﻌا لﻣﻌنﻰ اليافﻊ وصغير‬
‫الﺳن وﻗﻠيل التﺟربﺔ التﻲ تفيض بﮭا الﻌبارة الﻌربيﺔ وﻣطالبﺔ‬
‫بالتﺧﻠﻲ ﻋن أﺳاطير األولين واﻋتﻣاد الﺣكﻣﺔ والﻣﺟادلﺔ بالتﻲ ھﻲ‬
‫أﺣﺳن‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ أن الوﺣﻲ ﺣدث ليس ﻣن ﺟﮭﺔ ﻗوة الدليل‬
‫وﺛبات الﺣﺟﺔ وﻣتانﺔ البرھان وصدق الرﺳالﺔ والكالم اليﻘين‬
‫وفصل الﺧطاب واﻹﺣكام فﻲ التنزيل بل ﻣن ﺟﮭﺔ ضرب األﻣﺛال‬
‫الﻰ الناس وأﺣﺳن الﻘصص وﻣطابﻘته ﻣﻊ الواﻗﻊ‪ . 11‬ﻋﻠﻰ ھذا‬
‫الﻣنظور إن الﺣدث ھو الواﻗﻊ فﻲ الﻘرآن وليس الﻣﺛال ولﻘد ورد‬
‫فﻲ اﺛنين وﻋشرين ﻣرة وأفاد ﺛﻣانيﺔ ﻣﻌان تتراوح بين الﺣﺳﻲ‬
‫والﻣﻌنوي وبين الفﻌل واﻻنفﻌال وبين الﻣطابﻘﺔ والتصديق وبين‬
‫اﻻﻋتﻘاد واﻹﻗرار وبين التﻣنﻰ والﻣتﺣﻘق وھﻲ كاآلتﻲ‪ "- :‬ان الدين‬
‫لواﻗﻊ "‪" ،‬ﻣشفﻘين ﻣﻣا كﺳبوا وھو واﻗﻊ بﮭم"‪ " ،‬وظنوا أنه واﻗﻊ‬
‫بﮭم"‪ " ،‬انﻣا توﻋدون لواﻗﻊ"‪" ،‬ان ﻋذاب ربك لواﻗﻊ"‪" ،‬ﺳأل ﺳائل‬
‫بﻌذاب واﻗﻊ"‪.‬‬
‫ـ الﻣﻌنﻰ األول ورد فﻲ الصيغﺔ الفﻌﻠيﺔ ويشير الﻰ وﻗوع‬
‫الﺣدث‪" ،‬فوﻗﻊ الﺣق وبطل ﻣا كانوا يﻌﻣﻠون"‪.‬‬
‫ـ الﻣﻌنﻰ الﺛانﻲ يفيد اﻣتداد الزﻣان ويتوزع الﻰ ﻣﻘام الدنيا وﻣآل‬
‫اآلﺧرة ويشير الﻰ الذي وﻗﻊ فﻲ الﻣاضﻲ وﻣاھو بصدد الوﻗوع‬
‫فﻲ الﺣاضر والﻰ ﻣا ﻗد يﻘﻊ فﻲ الﻣﺳتﻘبل‪" ،‬اذا وﻗﻌت الواﻗﻌﺔ‪.‬‬
‫ليس لوﻗﻌتﮭا كاذبﺔ"‪.‬‬

‫‪ 1‬د حسن حنفي‪ ،‬الوحي والواقع ‪ ،‬تحليل المضمون‪ ،‬مركز الناقد الثقافي‪ ،‬دمشق ‪ ،‬طبعة‬
‫أولى ‪ ،2010‬ص‪.24-23‬‬

‫‪132‬‬
‫ـ الﻣﻌنﻰ الﺛالث ھو الﺟزاء بالكﺳب ﺛوابا أو ﻋﻘابا‪" ،‬ترى‬
‫الظالﻣين ﻣشفﻘين ﻣﻣا كﺳبوا وھو واﻗﻊ بﮭم"‪.‬‬
‫ـ الﻣﻌنﻰ الرابﻊ ھو وﻗوع الوﻋد والوفاء بالوﻋيد صدﻗا بال‬
‫تكذيب‪" ،‬انﻣا توﻋدون لواﻗﻊ"‪.‬‬
‫ـ الﻣﻌنﻰ الﺧاﻣس يدل ﻋﻠﻰ ﻣواﻗﻊ فﻲ الطبيﻌﺔ والكون ووﻗوع‬
‫أفﻌال البشر فﻲ الﻌالم‪" ،‬فال أﻗﺳم بﻣواﻗﻊ النﺟوم وانه ﻗﺳم لو‬
‫تﻌﻠﻣون ﻋظيم"‪.‬‬
‫ـ الﻣﻌنﻰ الﺳادس يشير الﻰ اﻻﺣترام والتﻘديس والطاﻋﺔ‬
‫والتوافق ﻣﻊ نظام الكون‪" ،‬فإذا ﺳويته ونفﺧت فيه ﻣن روﺣﻲ‬
‫فﻘﻌوا له ﺳاﺟدين"‪.‬‬
‫لكن كيف يﻣﺛل الﻘرآن ھدى لﻠناس ورﺣﻣﺔ لﻠﻌالﻣين اذا كان‬
‫تنزيال ﻣن ﻋند هللا فﻲ كتاب ﻣبين يﻌﻠﻣه الﻣتﻘين؟ أليس الﻘرآن كريم‬
‫وﺣكيم وﺟيد وﻋظيم وﻣﻌﺟز وﺣق وفيه شفاء وﻣنافﻊ لﻠناس‬
‫وﻣﺣفوظ؟‬
‫لﻘد ﺟاء فﻲ الذكر الﺣكيم‪ ":‬ولﻘد ضربنا لﻠناس فﻲ ھذا الﻘرآن‬
‫ﻣن كل ﻣﺛل"‪ " ،‬ﻋﻠﻰ أن يأتوا بﻣﺛل ھذا الﻘرآن"‪ .‬والﻣﻘصود ھو‬
‫اﻻﻋتﻘاد ﻣن أﺟل والفﮭم ﻣن أﺟل اﻻﻋتﻘاد وإلﻣام الﻘرآن بالﺣﻘيﻘﺔ‬
‫الكونيﺔ وﺳالﻣته ﻣن التﺣريف وﺣيﻠﺔ التاريﺦ وﻣكره وﻋدم فﻘدانه‬
‫لﺣوافه الدﻻليﺔ وﻣﺣافظته ﻋﻠﻰ طاﻗته اﻻﻋﺟازيﺔ‪.‬‬
‫ﻏايﺔ الﻣراد أن الﻘرآن ليس ﻣﺟرد كتاب يﻘرأ تنفيذا لﻠألﻣر‬
‫الﻘطﻌﻲ اﻻلﮭﻲ لﻠكائن اآلدﻣﻲ‪:‬إﻗرأ ﻣﺛﻠﻣا تﻘرأ الكتب الﻣﻘدﺳﺔ فﻲ‬
‫األناشيد الدينيﺔ وﻻ يﻣﺛل كتاب فﻲ الﺳرد التاريﺧﻲ لألﺣداث‬

‫‪133‬‬
‫الﻣاضيﺔ الﺧاصﺔ باألﻣم الغابرة بالﻣﻌنﻰ الﺣصري لﻠكﻠﻣﺔ بل ھو‬
‫أﺣﺳن الﻘصص ولﻘد ورد لفظ الﻘصص فﻲ ﺳتﺔ وﻋشرين ﻣرة‪.21‬‬
‫تبﻌا لذلك ينتﻘل الﻘرآن بالذوق ﻣن الﻣﻌرفﺔ الﻰ الوﺟود وﻣن‬
‫الﻌﻠم الﻰ الﻌرفان وﻣن الﺳرد الﻰ الﻘصص وﻣن الفﮭم والتأويل‬
‫الﻰ اﻻلتزام والتطبيق وﻣن الﺣياة الروﺣيﺔ الﻰ الوﺟود الﻌﻣﻠﻲ‬
‫وبﮭذا الشكل يﻣكن اﺳتﺧالص ﺛﻣانيﺔ ﻣﻌان وﺟوديﺔ وﻣﻌرفيﺔ‬
‫وايتيﻘيﺔ وﺟﻣاليﺔ وتﻌﻘﻠيﺔ لﻠﻘص ھﻲ كاآلتﻲ‪:‬‬
‫‪ -‬اﻻﺧبار ﻋن التﺟارب الﻣاضيﺔ ﻣن أﺟل تربيﺔ الوﻋﻲ‬
‫التاريﺧﻲ‪" ،‬ورﺳال ﻗد ﻗصصناھم ﻋﻠيك ﻣن ﻗبل"‪.‬‬
‫‪ -‬ذكر أنباء وﻗﻌت فﻲ الﻣاضﻲ وتوﻗﻊ أنباء أﺧرى فﻲ‬
‫الﻣﺳتﻘبل‪ " ،‬تﻠك الﻘرى نﻘص ﻋﻠيك ﻣن أنبائﮭا"‪.‬‬
‫‪ -‬اﻻتيان بالﺣﺟج والبينات والﻘرائن والبراھين ﻋﻠﻰ الصدق‪،‬‬
‫" ألم يأتكم رﺳل ﻣنكم يﻘصون ﻋﻠيكم آياتﻲ"‪.‬‬
‫‪ -‬أﺧذ الﻌبر واﺳتﺧالص الدروس والتﻌﻠم ﻣن التﺟارب‪،‬‬
‫"فﻠﻣا ﺟاءه وﻗص ﻋﻠيه الﻘصص ﻗال ﻻ تﺧف"‪" ،‬لﻘد كان فﻲ‬
‫ﻗصصﮭم ﻋبرة ألولﻲ األلباب"‪.‬‬
‫‪ -‬اكتﺳاب الﺛﻘﺔ واألھﻠيﺔ فﻲ الﻌﻠم وﻗول الصدق‪" ،‬وكال‬
‫نﻘص ﻋﻠيك ﻣن انباء الرﺳل ﻣا نﺛبت به فؤادك"‪.‬‬
‫‪ -‬تﺣصيل الﺟﻣال واﻻﻋتدال واﻻنﺳﺟام والتوﺳط دون‬
‫ﻣبالغﺔ او تضﺧيم‪" ،‬نﺣن نﻘص ﻋﻠيك أﺣس الﻘصص"‪" ،‬ﻗال ذلك‬
‫ﻣا كنا نبغ فارتدا ﻋﻠﻰ آﺛارھﻣا ﻗصصا"‪.‬‬
‫‪ -‬التأويل والﺣدس واﻻفتراض والتشكيل والتﻌبير‪ " ،‬ﻗال يا‬
‫بنﻲ ﻻ تﻘصص رؤياك ﻋﻠﻰ إﺧوتك"‪.‬‬

‫د حسن حنفي‪ ،‬الوحي والواقع‪ ،‬تحليل المضمون‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬صص‪.211-209‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪134‬‬
‫‪ -‬تشرع اﻻﺧتالف والﻘبول بالتﻌدديﺔ فﻲ الرأي ويﺳﻣح‬
‫باﻻنفتاح ﻋﻠﻰ الغيريﺔ‪" ،‬ان ھذا الﻘرآن يﻘص ﻋﻠﻰ بنﻲ اﺳرائيل‬
‫أكﺛر الذين ھم فيه يﺧتﻠفون"‪.‬‬
‫‪ -‬ﻣتابﻌﺔ الواﻗﻊ ورصد األﺣداث والتﻘاطﮭا واﺳتيﻌابﮭا‬
‫وتﺣﻘيق اليﻘظﺔ والبصيرة والوﻋﻲ بالﻣتغيرات التﻲ تطرأ ﻋﻠﻰ‬
‫الﻌالم‪" ،‬وﻗالت ألﺧته ﻗصيه فبصرت به ﻋن ﺟنب وھم ﻻ‬
‫يشﻌرون"‪" ،‬فﻠنﻘصص ﻋﻠيﮭم بﻌﻠم وﻣا كنا ﻏائبين"‪.‬‬
‫‪ -‬ﻣشاھدة الﺣق وﻣﻌرفﺔ لﺣﻘيﻘﺔ والﺣضور فﻲ الذات‬
‫وﻣطابﻘﺔ الواﻗﻊ وتﺣصيل الﻌﻠم بالكائن‪" ،‬نﺣن نﻘص ﻋﻠيك نبأھم‬
‫بالﺣق"‪" ،‬ان ھذا لﮭو الﻘصص الﺣق وﻣا ﻣن اله اﻻ هللا"‪" ،‬فﻠنﻘصن‬
‫ﻋﻠيﮭم بﻌﻠم وﻣا كنا ﻏائبين"‪.‬‬
‫‪ -‬ﻣﻣارﺳﺔ التفكر وتﺣصيل الدرايﺔ بﻣﺟاري األﻣور والتﻌﻘل‬
‫ﻋند اﻻﺧتيار‪ " ،‬فاﻗصص الﻘصص لﻌﻠﮭم يتفكرون"‪.‬‬
‫ننتﮭﻲ الﻰ النتائج النظريﺔ التاليﺔ‪:‬‬
‫‪ -‬الﻘرآن الكريم يﺣﻣل نبأ ﻣن ﻋاش ﻗبﻠنا وﻣا ﺳيأتﻲ بﻌدنا‬
‫ويﻣﺛل ﺣدﺛا ھاﻣا فﻲ تاريﺦ البشريﺔ يﺧتم ﺟﻣيﻊ الﺣﻘب الﻣاضيﺔ‬
‫ويؤﺳس ألفق انتظار ﻣﻠﻲء بالوﻋود واألﻣل‪.‬‬
‫‪ -‬الطبيﻌﺔ الﻘصصيﺔ لﻠنص الﻘرآنﻲ وﻣا تﺧتزنه ﻣن طاﻗﺔ‬
‫اﻋﺟازيﺔ ولغﺔ رﻣزيﺔ واﺳتﻌارات ﺣيﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬الﻘراءة التأويﻠيﺔ لﻠﻘرآنﻲ تﻘوم ﻋﻠﻰ التﻘاطﻊ بين الﺣدث‬
‫والﺳرد والتﻣازج بين الواﻗﻊ والﻘصص‪.‬‬
‫‪ -‬أھﻣيﺔ األبﻌاد اﻻيتيﻘيﺔ الﺣاصﻠﺔ ﻣن التﻘاطﻊ بين الﺣدث‬
‫والﺳرد فﻲ التدبير الصالح لﺣياة البشر‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫لﻘد اﺳتفاد ﻋﻠﻣاء الﻘرآن ﻣن الﻌارفين ولشﻌراء والفﻘﮭاء وﻋﻠﻣاء‬
‫الﻠغﺔ والﺣكﻣاء ﻣن التﺣدي اﻻلﮭﻲ وﻣن اﻻﻋﺟازي الﻘرآنﻲ البيانﻲ‬
‫وﺣولوا التﺣدي الﻰ طريق لالبداع تنفيذا لآليﺔ الكريﻣﺔ‪" :‬ائت‬
‫بﻘرآن ﻏير ھذا أو بدله"‪.‬لكن فﻲ نﮭايﺔ الﻣطاف ﻣتﻰ يتوﻗف الناس‬
‫ﻋن اﺳﻘاط ھﻣوم الدنيا ﻋﻠﻰ آﻣال اآلﺧرة والتكذيب بﻣا ﺟاء فﻲ‬
‫الفرﻗان؟ " أﻋﻠينا ﺟﻣﻌه وﻗرآنه"؟‪ ،‬وبالتﺣديد" أفال يتدبرون الﻘرآن‬
‫أم ﻋﻠﻰ ﻗﻠوب أﻗفالﮭا"؟‬

‫ﻣرﺟﻌا اﻟﻔصل اﻟﺣادي عشر‬

‫الﻣصﺣف الشريف‪.‬‬
‫د ﺣﺳن ﺣنفﻲ‪ ،‬اﻟوﺣي واﻟواقﻊ‪ ،‬ﺗﺣليل اﻟﻣضﻣون‪ ،‬ﻣركز الناﻗد الﺛﻘافﻲ‪،‬‬
‫دﻣشق‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ ‪.2010‬‬

‫‪136‬‬
‫الفصل الثاني عشر‬

‫آراء سياسية من الفلسفة العربية‬

‫"اﺳتﻌﻣال تﻌبير "فﻠﺳفﺔ ﻋربيﺔ" يﻣتﻠك ﺳبق التأكيد ﻋﻠﻰ أھﻣيﺔ الﻣرور‬
‫إلﻰ الﻌربيﺔ بينﻣا صياﻏﺔ "فﻠﺳفﺔ إﺳالﻣيﺔ" تﺳﺟل انتﻣاء ﺛﻘافيا أكﺛر ﻣنه‬
‫‪1‬‬
‫دينيا "‬

‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن الﻘراءات الﺳائدة تﻘﻠل ﻣن ﻗيﻣﺔ التناول الفﻠﺳفﻲ‬


‫الﻌربﻲ لﻠﻘضايا الﺳياﺳيﺔ وتﻌطﻲ األولويﺔ لﻠﻣيتافيزيﻘا والﻣنطق‬
‫والﻠغﺔ واألﺧالق وبدرﺟﺔ أﻗل الﻣﺟتﻣﻊ والتاريﺦ واﻻﻗتصاد وتدرج‬
‫شؤون الﺣكم وﻣﺳألﺔ الﺣﻘوق فﻲ ﺧانﺔ األﻣور الﻣﺳكوت ﻋنﮭا إلﻰ‬
‫ﺟانب الدين والﺟنس وأشياء ﻣﺣرﻣﺔ ينصح بتركﮭا‪ .‬لكن ھذا الﺣكم‬
‫الﻣﺳبق يﻣكن ﻣراﺟﻌته وإﻋادة التفكير فﻲ ﺣضور الﻣﺳألﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ فﻲ الفﻠﺳفﺔ الﻌربيﺔ وإﺛارة ﻣواﻗف ﺣكﻣاء الﻌرب ﻣن‬
‫اﻹشكاليات الﻣطروﺣﺔ ﻋﻠﻰ الﺣكام فﻲ زﻣنﮭم وطرق تﻌاطيﮭم‬
‫ﻣﻌﮭا‪ .‬لﻌل اﺳتذكار بﻌض النظريات الفﻠﺳفيﺔ الﻣاضيﺔ والتركيز‬
‫ﻋﻠﻰ ﺟﻣﻠﺔ ﻣن الﻣفاھيم اﻻﺟرائيﺔ والﻣﻘاربات الﺟديﺔ واﺳتدﻋاء‬
‫آراء وﻣناھج ﻣفكري ﺣضارة اﻗرأ وﻋﻠﻣاء لغﺔ الضاد يﺧرﺟﮭم ﻣن‬
‫ﺳراديب التﻘاليد وﻗبو التراث ويﻠﻘﻲ بﮭم فﻲ ﻣﻌارك الﻌصر وﺣركﺔ‬
‫التاريﺦ ويصﻠح ﻣا أفﺳده الدھر ﻣن ناﺣيﺔ أولﻰ‪ ،‬وربﻣا يﻣﺛل ھذا‬

‫‪1‬‬
‫‪Pauline Koetschet, la philosophie arabe, éditions Points Essais,‬‬
‫‪Paris, 2011 , p20.‬‬

‫‪137‬‬
‫اﻻﺳتنﺟاد دليال ﺳاطﻌا ﻋﻠﻰ اﺳتﻣرار نفس الﻣزالق الﻌﻣﻠيﺔ‬
‫والتشويشات النظريﺔ التﻲ ظل الوﻋﻲ اﻹﺳالﻣﻲ يﻌانﻲ ﻣنﮭا‬
‫وتﻌيﻘه ﻋن تشﺧيص الﻌﻠل وفتح طرق الﺧروج ﻣن األزﻣات ﻣن‬
‫ناﺣيﺔ ﺛانيﺔ‪.‬‬
‫الرأي األول يتﻌﻠق بغائيﺔ األﺧالق الفﻠﺳفيﺔ التﻲ تتﻌالﻰ ﻋﻠﻰ‬
‫تﺣصيل الﺳﻌادة الفرديﺔ والﺧير األﺳﻣﻰ وتﮭتم بالﺧيرات الفرديﺔ‬
‫وتركز ﻋﻠﻰ البﻌد الﺳياﺳﻲ لﻠﺧير وتﻣنح الﺳﻌادة الﻣاديﺔ لﻠﻣدينﺔ‬
‫فﻲ ﻣﺟﻣوﻋﮭا‪.‬‬
‫الرأي الﺛانﻲ يشير إلﻰ ضرورة التربيﺔ الﺳياﺳيﺔ لﻠﻣواطنين‬
‫وإﻋطاء األفراد تكوينا أﺧالﻗيا ﻣن أﺟل تأھيﻠﮭم ﻋﻠﻰ الفوز‬
‫بالفضائل واﺣترام الﻘوانين وإتيان أفﻌال ﺣﺳنﺔ واﻻبتﻌاد ﻋن‬
‫الرذائل وترك الﻣفاﺳد‪.‬‬
‫الرأي الﺛالث يتطرق إلﻰ ﻣنزلﺔ الﺣكﻣاء والفالﺳفﺔ والﻌﻠﻣاء فﻲ‬
‫الﻣدينﺔ ويطالب بإﺧراﺟﮭم ﻣن ﻋزلتﮭم وﻏربتﮭم وﻣن وضﻊ‬
‫النوابت والﮭراطﻘﺔ إلﻰ وضﻊ الﻣتوﺣدين والﻣرابطين ﻋﻠﻰ ﻋﻠم‬
‫الﺣق والﻌﻣل به‪.‬‬
‫الرأي الرابﻊ يطالب باﻋتﻣاد ﺳياﺳﺔ ﻋﻘالنيﺔ فﻲ تنصيب‬
‫الﺣكوﻣﺔ ويﺟﻌل ﻣن وضﻊ النواﻣيس وتفصيل األﺣكام وﺣﺳن‬
‫اﻻﺟتﮭاد فﻲ الشرائﻊ ﺳبيال نﺣو تدبير الﻣدينﺔ وتنظيم الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫وضﻣان الﻣصﻠﺣﺔ الﻌاﻣﺔ‪.‬‬
‫الرأي الﺧاﻣس يﮭتم بالﻌﻠم الﻣدنﻲ وطرق الﺣكم وصفات الﺣاكم‬
‫وأنواع الﻣدن وينتﻘﻲ الﻘوانين الﺟيدة والوﺳائل الناﺟﻌﺔ ﻹرضاء‬
‫الﻌاﻣﺔ واﻹﺣﺳان إلﻰ الﺧاصﺔ واﻻﺳتفادة ﻣن الﻌﻠﻣاء واتﻘاء الفتن‬
‫والنزاﻋات‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫الرأي الﺳادس يﺧص وضﻊ الدين ﻣن الدنيا وﻣنزلﺔ الشريﻌﺔ‬
‫ﻣن الواﻗﻊ ودور الﻣﺳﺟد فﻲ الﻣدينﺔ وظيفﺔ الفﻘﮭاء فﻲ الﺳياﺳﺔ‬
‫وﻣرتبﺔ الﺳﻠطان الروﺣﻲ ﻣن الﺳﻠطان الزﻣنﻲ ويطﻠب فيﮭا‬
‫بالتروي والتﻌﻘل والتﻣييز‪.‬‬
‫الرأي الﺳابﻊ يﻣنح األﻣﺔ الشرﻋيﺔ التاريﺧيﺔ ﻋﻠﻰ الﺟﻣاﻋات‬
‫التﻲ تتكون ﻣنﮭا ويﻌطﻲ الدولﺔ الﺳيادة ﻋﻠﻰ األرض ويﻌادل بين‬
‫الﺳﻠطﺔ والﺣريﺔ وبين الﻘوة والﺣق وينتصر إلﻰ بنائيﺔ الﻌفو ﻋﻠﻰ‬
‫تدﻣيريﺔ الﻌنف‪.‬‬
‫لكن إلﻰ أي ﻣدى تنفﻊ اآلراء النظريﺔ الﻣوروﺛﺔ ﻋن الﻣاضﻲ‬
‫ﻣن تﺧﻠيص الﺣاضر ﻣن أوﺣال الﻌنف الﺳياﺳﻲ؟ وﻣا ﺣيﻠﺔ‬
‫ﻣصداﻗيﺔ النظريات الفﻠﺳفيﺔ فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ تﺣريفات الﻣﻣارﺳﺔ‬
‫وﻏوايﺔ الﻣنفﻌﺔ؟‬

‫اﻟﻣرﺟﻊ‪:‬‬
‫‪Pauline Koetschet, la philosophie arabe, éditions‬‬
‫‪. 1Points Essais, Paris, 201‬‬

‫‪139‬‬
140
‫الفصل الثالث عشر‬

‫العقالنية العربية‬

‫بني إحياء التقليد والحداثة املعطوبة‬

‫"كيف أﻣكن ﻏﻠق باب اﻹﺳالم فﻲ وﺟه البشريﺔ ﺟﻣﻌاء وﻋزل الﻣﺳﻠم‬
‫فﻲ بالده وھو يتﺧبط فﻲ الﺟﮭالﺔ واﻗصاؤه ﻋن كل ﺣركﺔ تﻘدﻣيﺔ‬
‫‪1‬‬
‫وﺣضاريﺔ"‬

‫لﻘد اﻣتد ﻣشكل تردي الﻌﻘالنيﺔ الﻌربيﺔ ﻣن الﻘديم إلﻰ الراھن‬


‫وبرز بين أبو ﺣاﻣد الغزالﻲ الداﻋﻲ إلﻰ كﺳر زﺟاﺟﺔ التﻘﻠيد‬
‫وﻣؤلف كتاب اﻹﺣياء‪ 2‬إلﻰ ﻣﺣﻣد بنيس صاﺣب كتاب الﺣداﺛﺔ‬
‫الﻣﻌطوبﺔ‪ 3‬والفوات الﺣضاري‪.‬‬
‫إذا بﺣث الﻌرب ﻋن الﻌﻘالنيﺔ ترددوا بين الﻘول بوﺟود ﻋﻘل‬
‫واﺣد أو ﻋﻘول فﻲ الﺟﻣﻊ واﺧتﻠفوا ﺣول أن يكون ﺟوھر الﻌﻘل‬
‫دينيا أم فﻠﺳفيا وتباينوا ﺣول ھويﺔ الﻌﻘل ھل بنيﺔ ﻋربيﺔ أم بنيﺔ‬
‫ﻣﺳﻠﻣﺔ وتصارﻋوا ﺣول تكوين الﻌﻘل ضﻣن نظام ﻋﻠم الكالم أم‬

‫‪ 1‬الثعالبي (عبد العزيز) ‪ ،‬روح التحرر في القرآن‪ ،‬نقله من الفرنسية حمادي الساحلي‪،‬‬
‫دار الغرب اإلسالمي‪،‬الطبعة األولى‪ .1985 ،‬ص‪.98.‬‬
‫‪ 2‬أنظر (الغزالي) أبو حامد ‪ ،‬إحياء علوم الدين ‪ ،‬خمسة أجزاء‪ ،‬تصحيح عبد المعطي‬
‫القلعجي‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪,2010 ،‬‬
‫‪ 3‬أنظر (بنيس) محمد‪ ،‬الحداثة المعطوبة‪ ،‬دار طوبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء ‪ ،‬المغرب‪،‬‬
‫طبعة أولى‪.2004 ،‬‬

‫‪141‬‬
‫ﻋﻠم الفﻘه وافترﻗوا بين التصوف والﻠغﺔ وانﻘﺳﻣوا إلﻰ رأي‬
‫وﺣديث‪.‬‬
‫الﻌﻘالنيﺔ ﻋند الﻌرب ﻻ تﻌنﻲ ﺣﺳن اﺳتﺧدام الﻣنطق البرھانﻲ‬
‫وتفﺳير ﺣدوث الظواھر الطبيﻌيﺔ باألﺳباب وﺟﻌل نﺳق الﻣﻌرفﺔ‬
‫الﻌﻠﻣيﺔ ﻣوافﻘا لﻣﺳارات التﺟربﺔ بل تتطﻠب الﻌﻘالنيﺔ الﻌﻣيﻘﺔ‬
‫التطرق إلﻰ الﻣيﺛاق التاريﺧﻲ بالتوﺳﻊ واﻻنتشار وتبﻠيغ الرﺳالﺔ‬
‫الﺣضاريﺔ إلﻰ الﻌالم والشﻌور بوﺣدة األﻣﺔ وضرورة الﻌودة إلﻰ‬
‫الﻘوى الﻣﺣركﺔ لﻠتاريﺦ وﻣصالح الﻘوى والﺟﻣاﻋات وتوظيف‬
‫التفاﻋل بين الرﻣوز الﺳياﺳيﺔ والدينيﺔ‪.‬‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن الﻌﻘل ﻋندنا ﻻ يرتبط بنظام الكون وﻻ يﮭتم‬
‫بترتيب الﻣﺟتﻣﻊ وﻻ يتﺟه نﺣو التفكير والفﮭم وليس دوره تﺟنب‬
‫الوﻗوع فﻲ الزلل والغفﻠﺔ وإنﻣا يتﻌﻠق دوﻣا باألﺣوال الوﺟدانيﺔ‬
‫لﻠذات وتﺣكﻣه نظرة ﻣﻌياريﺔ لألشياء ﻣشدودة إلﻰ التﻣييز بين‬
‫الﺧير والشر وأﻗرب إلﻰ الﻌاطفﺔ والفؤاد والﻘﻠب وإﻋﻣال الﺧاطر‪.‬‬
‫كﻣا أن ﻣاھيﺔ الﻌﻘل الﻌربﻲ ﻻ ترتكز ﻋﻠﻰ اﻻﺳتدﻻل البرھانﻲ‬
‫وانتزاع صور الﻣوﺟودات وﻻ يﻌتبر الﺳببيﺔ رابطﺔ ضروريﺔ بين‬
‫ظواھر الطبيﻌﺔ وأفﻌالﮭا وﻻ يﻌﻣل ﻋﻠﻰ تأﺳيس وﺟود البشر ﻋﻠﻰ‬
‫ﻗانون الﻌالم الصادر ﻋن الﻌﻘل الكونﻲ بل يكتفﻲ بالتوفيق بين‬
‫ﻣﻌﻘوليﺔ الطبيﻌﺔ ودﻻﻻت الشرع ويضﻊ النظر ﻋﻠﻰ ذﻣﺔ الﻌﻣل‬
‫ويﺧضﻊ لﻠوﺣﻲ الﻣﻌطﻰ ويﻘدم الطاﻋﺔ والوﻻء لﻣن يﻣتﻠك الﺳيادة‬
‫ويظل ﺳﺟين الفضاء الذھنﻲ الﻌام‪.‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك تتﺣدد الﻌﻘالنيﺔ الﻌربيﺔ بﺟﻣﻠﺔ ﻣن الﻌواﻣل‬
‫والشروط الذاتيﺔ والﻣوضوﻋيﺔ أھﻣﮭا الﻠغﺔ والدين والﻣﺟتﻣﻊ‬
‫والتاريﺦ والﺳياﺳﺔ والﺛﻘافﺔ واألﺧالق وتتأﺛر ﻣﺟﻣوﻋﺔ الفرضيات‬

‫‪142‬‬
‫والﻣبادئ التﻲ يﺳتﻌﻣﻠﮭا بالﻣﺣيط الﺟغرافﻲ والﻣﺟال التداولﻲ‬
‫والﻌادات والتﻘاليد والشيم واألﻋراف والﻘيم والﻣبادﻻت‬
‫اﻻﻗتصاديﺔ‪.‬‬
‫الالفت لﻠنظر أن أھﻣيﺔ الﻌاﻣل الدينﻲ فﻲ الﺣياة الﺛﻘافيﺔ لﻠﻌرب‬
‫ﺟﻌﻠت الﻌﻘل الذي يتﺣرك ضﻣن تﺟارب الﻣﻌرفﺔ وأدوات التفكير‬
‫تابﻌا لﻠدين ويشتغل فﻲ إطار األﺣكام الﻣﻌياريﺔ والرؤى الﺟاھزة‬
‫لﻘداﺳﺔ الوﺣﻲ‪ .‬لذلك اﻗتصرت ﻣﮭﻣﺔ الﻌﻘل ﻋﻠﻰ التأصيل الشرﻋﻲ‬
‫بﻣﻣارﺳﺔ آليات اﻻﺳتنباط والﻘياس والتفﺳير والتطبيق واﺳتﺧراج‬
‫األﺣكام ﻣن النصوص وﺧﻠﻊ التﻘديس ﻋﻠﻰ الﻣواﻗف الدنيويﺔ‬
‫وإﺳﻘاط أﺣوال النفس ﻋﻠﻰ الﻣﻌنﻰ‪.‬‬
‫بيد أن الﻌﻘالنيﺔ الﻌربيﺔ تتﺣرك ضﻣن ﺟﻣﻠﺔ ﻣن الدوائر ھﻲ‬
‫البﺣث الﻣتواصل ﻋن تﻠبيﺔ الﺣاﺟات فﻲ الﺣياة اليوﻣيﺔ وتنتﻘل بﻌد‬
‫ذلك الﻰ ﺧوض التﺟارب وﻣراكﻣﺔ الﺧبرات وﻣﻣارﺳﺔ النﻘد‬
‫والتﺣﻠيل ﻗصد التﻣييز ﺛم تشغيل آليات التأويل والتفﺳير والتدبير‬
‫لﻠنصوص وفق ﻣتطﻠبات الﻌصر وتتراوح بين الرد الذاتﻲ ﻋﻠﻰ‬
‫التﺣديات وتبنﻰ الﻣواﺟﮭﺔ والﻣﻘاوﻣﺔ وبين ﻋﻘد الﻌزم ﻋﻠﻰ التﺣديث‬
‫والﻣواكبﺔ والﻌصرنﺔ واﻻﻗتداء‪.‬‬
‫لكن إلﻰ أي ﻣدى ظﻠت الﻌﻘالنيﺔ ﻋندنا تتراوح بين الﻣضاﻣين‬
‫اﻹﺳالﻣيﺔ والصياﻏﺔ األﺳﻠوبيﺔ الﻌربيﺔ؟ ھل كتب ﻋﻠﻰ الﻌﻘل فﻲ‬
‫ﻣﺟتﻣﻌاتنا أن يظل إﺳالﻣﻲ الﮭوى والتصورات وﻋربﻲ الﻣالﻣح‬
‫والرﺳوم والﻣظﮭر؟ بأي ﻣﻌنﻰ تﺣولت لغﺔ الضاد إلﻰ أداة تﻌبير‬
‫ووﻋاء لﻠفكر اﻹﺳالﻣﻲ وفضﻠت ﻋائﻠﺔ روﺣيﺔ ﻋﻠﻰ البﻘيﺔ؟ ﻣن‬
‫يﻣنح الﻣشروﻋيﺔ والﺳيادة الﻌﻠيا فﻲ ﻣﺟال الﺣﻘيﻘﺔ والﻘيﻣﺔ ويكون‬
‫بﻣﺛابﺔ ﻣﻌيار التﻣييز بين الﺣﺳن والﻘبيح؟ لﻣاذا اﺳتﺣال التأصيل‬

‫‪143‬‬
‫وتﻌﺛرت ﻣﺣاوﻻت كﺳر زﺟاﺟﺔ التﻘﻠيد؟ وﻣاھﻲ أﺳباب فشل‬
‫تﺟارب التﺣديث؟‬
‫"ﻣا بوﺳﻌنا تأكيده ھو أن اﻻﺳتﻣراريﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الرائﻌﺔ‬
‫لﻠﺟﻣيﻊ ﻣردھا الﺟذر الﺣضاري الواﺣد ( أو ﻣا ﺳﻣاه أبو ﺣنيفﺔ‪:‬‬
‫الدين الواﺣد) والﻣنظوﻣﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والﺳياﺳيﺔ الواﺣدة ﻋﻠﻰ‬
‫األرض الواﺣدة‪ ،‬ولم تكن ھناك بدائل اﻻ الﻌﻣل ﻣن الداﺧل وفﻲ‬
‫‪1‬‬
‫الداﺧل‪".‬‬
‫لﻘد ظل الﻌرب يﻌيدون نفس الﺣركﺔ الذھنيﺔ ﻋند كل أزﻣﺔ‬
‫وﺟوديﺔ وھﻲ إﺣياء التﻘﻠيد كرد ﻋﻠﻰ انتكاﺳﺔ الﺣداﺛﺔ والتفريط فﻲ‬
‫التﻘدم ولكنﮭم أصيب بالفوات الﺣضاري والتصﺣر الﺛﻘافﻲ‬
‫وأضاﻋوا تﻘاليدھم الﺣيﺔ‪.‬‬
‫لﻘد اﺳتشرت فﻲ الﺛﻘافﺔ الﻌربيﺔ نزﻋات تﻘديس الﻌﻘالنيﺔ‬
‫الﻣذھبيﺔ ﻣن طرف النﺧب وتﻌاﻣل البﻌض ﻣﻊ الﻌﻘل كصنم ﻻ‬
‫يﻣكن نﻘده وﻣراﺟﻌته ونصب فريﻘا آﺧر الﻣنﮭج الﻌﻘﻠﻲ إلﮭا ﺟديدا‬
‫فﻲ دنيا الﻣﻌرفﺔ والﻌﻠم وتناﺳﻰ الﺟﻣيﻊ أن وراء إرادة الﻣﻌرفﺔ‬
‫إرادة ﻗوة وأن الفكر ﻣا ھو إﻻ ﻗناع لﺣب الﺳيطرة وإﺧفاء‬
‫الضﻌف‪.‬‬
‫ﻏير أن ﺣضور الﻌﻘالنيﺔ فﻲ الﻣﺟال الﻌﻣوﻣﻲ واألوﺳاط‬
‫الشﻌبيﺔ لم يﺧرج ﻋن إطار الﻣﻌﻘوليﺔ الدينيﺔ الﻘروﺳطيﺔ وبﻘﻲ‬
‫الﻣتﺧيل الشﻌبﻲ يتغذى ﻣن األﺳاطير والﺧرافات والﺣكايات‬
‫الكبرى وﺳﻠطﺔ الﻣيراث‪ .‬لﻘد نتج ﻋن ﻏﻠق باب اﻻﺟتﮭاد فﻲ الفﻘه‬
‫وتﺣريم اﻻشتغال بالفﻠﺳفﺔ وإلﺟام الﻌوام ﻋن ﻋﻠم الكالم انتصارا‬

‫‪ 1‬السيد ( رضوان )‪ ،‬مفاهيم الجماعات في االسالم‪ ،‬دراسات في السوسيولوجيا التاريخية‬


‫لالجتماع العربي االسالمي‪ ،‬دار المنتخب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة أولى‪.1993 ،‬ص‪.120 .‬‬

‫‪144‬‬
‫لنزﻋﺔ الﻣﺣافظﺔ والتﻘﻠيد وتوﺳﻊ ﻋﻣﻠيﺔ التﻘديس وﻣنح صفات‬
‫التﻌالﻲ والﻣﻌصوﻣيﺔ التاﻣﺔ ﻋﻠﻰ الﻣاضﻲ التاريﺧﻲ‪.‬‬
‫"ليس التراث وﺣده وﻻ ﺣتﻰ الﻠغﺔ نفﺳﮭا بل الﻌﻘل نفﺳه‪ ...‬يبدو‬
‫ﻣﺣكوﻣا ﻋﻠيه بوضﻌيﺔ الالﻋﻘل‪ ...‬ألنه يتفﻘد الﺳﻠطﺔ التﻲ تﺟﻌل‬
‫ﻣنه ﻋﻘال ﺣيا‪ ،‬الﺳﻠطﺔ التﻲ بﮭا يفرض النظام ﻋﻠﻰ نفﺳه وﻋﻠﻰ‬
‫‪1‬‬
‫الﻌالم‪".‬‬
‫ان التفكير فﻲ الﺧروج ﻣن التﻘﻠيد والتوﺟه نﺣو اﻻبداع ﻻ يكون‬
‫باﺳتيراد التﺣديث واصطناع الﻘطائﻊ ﻣﻊ الذات وﻣﺣاكاة الﺟديد‬
‫والتنكر لﻠذات وﻻ باصالح الﻘديم والكشف ﻋن الﻣناطق الﻣضيئﺔ‬
‫فﻲ التراث والﻣكاﺳب النيرة فﻲ الﻣﻌارف التﻘﻠيديﺔ وانﻣا بالتﻌويل‬
‫ﻋﻠﻰ الﻘوة الﺧالﻗﺔ فﻲ ﻣﻣارﺳات الﺟﻣاﻋﺔ التاريﺧيﺔ واﻻنتﻘال ﻣن‬
‫اﻻصالح الﻰ التﺛوير والتفكيك وﻣن ﺣال اﻻنﺳداد والﻌطالﺔ الﻰ‬
‫وضﻌيﺔ ھرﻣينوطيﻘيﺔ ﻣتﺣركﺔ تﻌيد تﻌريف ﻣفﮭوم اﻻنﺳان بشكل‬
‫كونﻲ وتﺟدد بشكل ﺟذري نظرته الﻰ ﻏيره والﻰ الﻌالم‪ .‬أليس‬
‫التفكير اﻻصالﺣﻲ ھو تكريس ﻣنطق الﮭزيﻣﺔ واﻻنتكاس؟ أﻻ‬
‫يﻌنﻲ اﺳتﻌادة التﻘﻠيد و تشريﻊ ﻏﻠبﺔ الﻣاضﻲ ﻋﻠﻰ الﺣاضر وإﻋالن‬
‫ﻋﺟز الﺟﻣاﻋﺔ التاريﺧيﺔ ﻋن الﺣﻠم وافتﻘادھا الﻘدرة ﻋﻠﻰ صناﻋﺔ‬
‫الﻣﺳتﻘبل؟ ﻣتﻰ نﻌطﻲ الكﻠﻣﺔ لﻠﻌﻘل الﺟﻣﮭوري صانﻊ ﻣﻠﺣﻣﺔ‬
‫الﺣراك اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ونﮭتدي بأنواره وﺳط ﻣتاريس الﺟﮭل؟‬

‫‪ 1‬طرابيشي ( جورج )‪ ،‬مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة‪ ،‬دار الساقي‪،‬‬


‫بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2006 ،‬ص‪.126.‬‬

‫‪145‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟثاﻟث عشر‬

‫الﺛﻌالبﻲ (ﻋبد الﻌزيز)‪ ،‬روح اﻟﺗﺣرر في اﻟﻘرآن‪ ،‬نﻘﻠه ﻣن‬


‫الفرنﺳيﺔ ﺣﻣادي الﺳاﺣﻠﻲ‪ ،‬دار الغرب اﻹﺳالﻣﻲ‪،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪،‬‬
‫‪.1985‬‬
‫الﺳيد (رضوان)‪ ،‬ﻣﻔاهيم اﻟﺟﻣاعات في االسالم‪ ،‬دراﺳات فﻲ‬
‫الﺳوﺳيولوﺟيا التاريﺧيﺔ لالﺟتﻣاع الﻌربﻲ اﻻﺳالﻣﻲ‪ ،‬دار‬
‫الﻣنتﺧب الﻌربﻲ‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.1993 ،‬‬
‫طرابيشﻲ (ﺟورج)‪ ،‬ﻣذﺑﺣﺔ اﻟﺗراث في اﻟثﻘافﺔ اﻟﻌرﺑيﺔ‬
‫اﻟﻣﻌاصرة‪ ،‬دار الﺳاﻗﻲ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ الﺛانيﺔ‪.2006 ،‬‬

‫‪146‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬

‫أحوال الديمقراطية العربية‬

‫"رﺳم ﺣال الﻌالم الﻌربﻲ ھو ارباك كبير بالنظر الﻰ تتالﻲ األﺣداث‬
‫والتطورات الﺳريﻌﺔ وتﻌﻘيد الوضﻌيات الﻣﺣﻠيﺔ‪ .‬انه تﺣد يكون ﻣن الﻌاﺟل‬
‫رفﻌه ﻣن ﺧالل األزﻣنﺔ التﻲ تﻣر بﺳبب أھﻣيﺔ الرھانات بالنﺳبﺔ الﻰ الﺳﻠم‬
‫‪1‬‬
‫والﻰ الﺣﻣايﺔ"‬

‫تﻌانﻲ الديﻣﻘراطيﺔ ﻋند الﻌرب ﻣن ﻋدة أﻣراض أھﻣﮭا تأﺛير‬


‫ﻣراكز النفوذ واﺳتفﺣال الفﺳاد والﻌﺟز ﻋن الفﻌل ولذلك تﻘترح‬
‫الفﻠﺳفﺔ الﺳياﺳيﺔ الﻣﻌاصرة التوﻗﻲ بالشفافيﺔ ضد الفﺳاد واﻹﻋالم‬
‫اﻻﺳتﻘصائﻲ باﻋتباره ﺳﻠطﺔ رابﻌﺔ تﻘوم بوظيفﺔ الﻣراﻗبﺔ والتشﮭير‬
‫والﻣالﺣﻘﺔ والترصد والفضح والﻣﺟاھرة بالﺣﻘيﻘﺔ فﻲ وﺟه الﺳﻠطﺔ‬
‫الﻣاليﺔ والتﻘﻠيديﺔ والﺳياﺳيﺔ وتنظر الﻰ الديﻣﻘراطيﺔ اآلتيﺔ التﻲ‬
‫تتﻣاشﻰ ﻣﻊ روح الﻌصور الﻘادﻣﺔ‪.‬‬
‫الﻣرض األول الذي تﻌانﻲ ﻣنه الديﻣﻘراطيﺔ الﻌربيﺔ ‪ -‬ان‬
‫ُو ِّﺟ َدت‪ -‬ھو اﺧتراق ﻣراكز النفوذ الﻣالﻲ ﻣواﻗﻊ اتﺧاذ الﻘرار‬
‫والﺳيطرة البيروﻗراطيﺔ ﻋﻠﻰ الﻣؤﺳﺳات واﺣتكار آليات التنظيم‬
‫اﻻداري وتكوين ﻣﺟﻣوﻋات ضغط ﻋاليﺔ تﻣارس نوع ﻣن الﮭيﻣنﺔ‬
‫الناﻋﻣﺔ والذكيﺔ ﻋﻠﻰ النشاط اﻻﻗتصادي بالتﺣكم فﻲ الﻣشﮭد‬

‫‪1‬‬
‫‪Mathieu Guidère, Etat du monde arabe, edition de boeck, Paris,‬‬
‫‪2015.p05.‬‬

‫‪147‬‬
‫الﺳياﺳﻲ وتتﺳبب فﻲ تفﺟر صراﻋات وانﻘﺳاﻣات اﺟتﻣاﻋيﺔ نتيﺟﺔ‬
‫تضارب الﻣصالح وتغير الﻣﻌطيات والتوﺟﮭات‪.‬‬
‫الﻣرض الﺛانﻲ الذي أصابت ﺟرﺛوﻣته الﺟﺳد الﺳياﺳﻲ الﻌربﻲ‬
‫وﺟﻌﻠته فﻲ ﺣالﺔ ﻣﻣانﻌﺔ تﻠﻘائيﺔ لﻠديﻣﻘراطيﺔ ھو الفﺳاد ويظﮭر ذلك‬
‫فﻲ الوﻻء والﻣﺣﺳوبيﺔ والرشوة والوصوليﺔ واﻻنتﮭازيﺔ واصطياد‬
‫الفرص الﻣواتيﺔ وﺣصد الﻣواﻗﻊ ﻋن طريق اتﻘان فنون الﻣضاربﺔ‬
‫والﻣﻘاولﺔ والﻣزايدة والبروباﻏاندا والديﻣاﻏوﺟيا واﻹلﮭاء‪ .‬لﻘد‬
‫تﺣول الفﺳاد الﻰ ﺟدار ﺳﻣيك يﻣنﻊ الكائن الديﻣﻘراطﻲ الﻌربﻲ‬
‫الوليد ﻣن اﺳتنشاق ھواء الﺣريﺔ والﺣق ويتﻌود ﻋﻠﻰ واﻗﻊ الﻌنف‬
‫والكذب والغبار الﻣﻠوث وانتشار الﺳﻣﺳرة والزبونيﺔ والﺳﻠﻌنﺔ‬
‫والﮭدر والفوات‪.‬‬
‫الﻣرض الﺛالث الذي تﺣول الﻰ ﺧﻠل بنيوي وإﻋاﻗﺔ دائﻣﺔ يتﻌﻠق‬
‫بﺣالﺔ الﻌﺟز الﻣﺳتﻣر ﻋﻠﻰ الﻘيام الذاتﻲ وتﺣﻘيق وﺛبﺔ اﻻﺳتﻣرار‬
‫والديﻣوﻣﺔ والبﻘاء واﻻﺣتفاظ والﻣبادرة بالفﻌل واﻻبتكار والﺧﻠق‬
‫واﻹبداع ولذلك ظل الﺳاﺳﺔ الﻌرب ﻣﻘﻌدين ﻣﻘﻠدين و يؤﺛرون‬
‫الﺧطابﺔ والﺳفﺳطﺔ والتﺣشيد ﻋﻠﻰ الﻣناظرة والﻣبارزة‪ .‬كيف‬
‫تواﺟه الﺳياﺳﺔ الﻌربيﺔ ﻻﻣﻌﻘوليﺔ الفﺳاد؟وﻣن يﻘوم بﻣﮭﻣﺔ الطبيب‬
‫الﻣﻌالج لألﻣراض الﺳياﺳيﺔ؟ ھل الﺣاكم األصﻠﻲ أم الﻣﻌارض‬
‫الﻣناضل؟ وأي دور يﻠﻌبه الﻣتﺣزب الﺳياﺳﻲ والناشط الﺣﻘوﻗﻲ‬
‫فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ الﻣدنﻲ؟‬
‫ﻣن الﻣرﺟح أن تكون ھيﻣنﺔ ﻋﻘﻠيﺔ الﮭبﺔ واﻗتصاد الﻌطاء ﻋﻠﻰ‬
‫الﻣﻌاﻣالت ﺳبب انتشار الفﺳاد فﻲ األﺟﮭزة اﻹداريﺔ لﻠدول‬
‫الﻌربيﺔ‪ ،‬وﻗد يؤدي تﻘديم يد الﻌون والﻣﺳاﻋدة الﻰ اﻻﺧالل بالنﺳق‬

‫‪148‬‬
‫الﻌادي لﻠتنظيم اﻻداري وبروز تفاوت فﻲ التﻌاﻣل وفﻲ ﻗضاء‬
‫الﺣاﺟات بين الﻣواطنين وﻋدم التكافؤ الفرص فﻲ نظام الﻣبادﻻت‪.‬‬
‫أﻣا الضغوط الﻘويﺔ الذي تﻣارﺳﮭا الشﺧصيات الفاﻋﻠﺔ فﻲ‬
‫ﻣراكز النفوذ ﻋﻠﻰ الﺳياﺳيين واﻹﻋالﻣيين والﺧبراء واﻹداريين‬
‫فإنﮭا ﻗد تؤﺛر فﻲ طبيﻌﺔ الﻘرارات الﺳياﺳيﺔ ونﺟاﻋتﮭا وﻗد يﺳرع‬
‫فﻲ تنفيذھا أو يﺣول دون اﻻلتزام به ﻋند التطبيق وﻗد يﻌرﻗل ﻋﻣﻠيﺔ‬
‫ترﺟﻣﺔ التدابير ﻋﻠﻰ صﻌيد الواﻗﻊ ويدﺧل اﻻضطراب ﻋﻠﻰ الﺳير‬
‫الﻌادي لألﺟﮭزة والﻣؤﺳﺳات ويتم توﺟيﮭﮭا واﺳتﺧداﻣﮭا فﻲ ﺳبيل‬
‫تﺣﻘيق ﻣصالح ﻣﺟﻣوﻋﺔ ضيﻘﺔ‪.‬‬
‫ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك تشكل الﻘوانين والدﺳاتير نﻘطﺔ الضﻌف فﻲ‬
‫النظام الديﻣﻘراطﻲ وﻻ يﻌود ذلك الﻰ التالﻋب بﮭا وإﺧضاﻋﮭا‬
‫لﻣشيئﺔ الﺣكام وأھوائﮭم بالتﻌديل والتغيير وفق الظروف‬
‫والتوازنات والﻣصالح وإنﻣا الﻰ صﻌوبﺔ اﻻلتزام بﮭا ﻋند التطبيق‬
‫والتﻘيّد بروﺣﮭا وﺣﺳن ﻗراءة النصوص التشريﻌيﺔ واتباﻋﮭا‬
‫بﺣذافيرھا فﻲ الﻣﻣارﺳﺔ الﻌاديﺔ وإﺧضاع تفاصيل الﺣياة اليوﻣيﺔ‬
‫بتﻌﻘيداتﮭا وتﺣوﻻتﮭا الﻰ ﻣنظوﻣﺔ الﺟزاء والردع‪.‬‬
‫ﻏنﻲ ﻋن البيان أن ﻣﻘاوﻣﺔ الفﺳاد فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ ﻣرتبطﺔ بتﻘويﺔ‬
‫النظام الديﻣﻘراطﻲ وتركيز ﻣؤﺳﺳاته بشكل ﻋﻠﻣﻲ وﻋﻘالنﻲ فﻲ‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ وﻋدم الوﻗوع فﻲ الﺧﻠط بين اﻻﺟراءات اﻻداريﺔ‬
‫والتبادﻻت اﻻﻗتصاديﺔ وتفادي تفﺟر تضارب الﻣصالح وايﺛار‬
‫الﻣشترك والﻌﻣوﻣﻲ والوطنﻲ ﻋﻠﻰ الﺧاص والفردي وﻣا أﻗل وﻣا‬
‫بﻌد الوطنﻲ وصنﻊ التناﻏم بين الﻘاﻋدة الشﻌبيﺔ الﻌريضﺔ والﻘرار‬
‫الﺳياﺳﻲ الﻣتﺧذ وبين الﺳياﺳﻲ والشارع‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫ﻣن الﻣفروض أن يتم التنبيه ﻋﻠﻰ أن الديﻣﻘراطيﺔ كﻣا تم‬
‫تصديرھا إلﻰ الديار الﻌربيﺔ بالﻘوة واﻹكراه ﻗد أصبﺣت ﺧطيرة‬
‫وأفضت إلﻰ نتائج كارﺛيﺔ وانﻘﻠبت ﻋﻠﻰ األﻣﺔ بالوبال والتدﻣير‬
‫وبالتالﻲ آن األوان لﻠشروع فﻲ تفكيك ھذا التراث الديﻣﻘراطﻲ‬
‫الغربﻲ الﻣوروث ﻋن الﺣركات البرﺟوازيﺔ اﻹصالﺣيﺔ والتﻲ تم‬
‫تﻌديﻠﮭا بﻌد بروز الﻌولﻣﺔ وطغيان النزﻋات اﻻﻣبرياليﺔ الﻣتﺳترة‬
‫وراء رداء كونيﺔ ﺣﻘوق اﻹنﺳان وﺛﻘافﺔ الﻣواطنﺔ‪ .‬لﻘد اتضح بﻌد‬
‫تاريﺦ طويل أن الفكرة الﻣشتركﺔ التﻲ أنتﺟتﮭا الﻌﻘالنيﺔ الغربيﺔ‬
‫ﻋن الديﻣﻘراطيﺔ ﻗد اﺳتنفذت واﺳتﮭﻠكت ﻣا تبﻘﻰ ﻣن نفﺳﮭا وأن‬
‫الﻣكونات النظريﺔ والﻌﻣﻠيﺔ ﻗد أفرﻏت ﻣن ﻣضﻣونﮭا وفﻘدت بريﻘﮭا‬
‫ولم تﻌد كافيﺔ لﻣواصﻠﺔ ريادة البشريﺔ والتبشير بالوفرة والرﺧاء‬
‫واألﻣان بوصفﮭا ﺟنﺔ ﻣوﻋودة ﻋﻠﻰ األرض‪ .‬يﻌنﻲ تفكيك‬
‫الديﻣﻘراطيﺔ التﺳاؤل ﻋن الﻣﺳﻠﻣات الﺳياﺳيﺔ الﺛاويﺔ فﻲ النزﻋات‬
‫الﺛﻘافيﺔ الﻣتﻣركزة ﺣول الﻌرق والﻠغﺔ والدين واﻹﻗﻠيم والكشف‬
‫ﻋن اﺳتراتيﺟيات الﮭيﻣنﺔ فﻲ ﺧطاب الذات الﻌارفﺔ والﺣاﺳبﺔ ‪.11‬‬
‫ينبغﻲ تﺣﻣل الﻣﺳؤوليﺔ الفﻠﺳفيﺔ فﻲ الكشف ﻋن رذائل‬
‫الديﻣﻘراطيﺔ والتﺣﻠﻲ بالوﻋﻲ الضروري لتشﺧيص األﻣراض‬
‫الﺳياﺳيﺔ لﻣﺛل ھذا التﻘﻠيد الذي ابتكره الﻌﻘل الغربﻲ فﻲ زﻣن‬
‫التوﺳﻊ واﻹرادة الغازيﺔ لﻠكوكب‪ .‬ويﺟب اﻹﻗرار بأن الديﻣﻘراطيﺔ‬
‫ليﺳت فﺣﺳب نﻣطا فﻲ الﺣكم يﻘره نظام ﺳياﺳﻲ ﻣﻌين وﻻ تنظيﻣا‬
‫لﻠﻣﺟتﻣﻊ بل ھﻲ وﻋد بالتنوير ينﺳﺦ اﻻتباﻋيﺔ والﺟﮭل والوصايﺔ‬
‫بالنﺳبﺔ لﻠﺟﻣﮭور وبالتالﻲ أصبﺣت ﻏير ﻣطابﻘﺔ لروح الﻌصر‬

‫‪1‬‬
‫‪Derrida (Jacques), Politique et amitié, entretiens avec Michael‬‬
‫‪Sprinker sur Marx et Althusser, édition Galilée, Paris,2011, p.99.‬‬

‫‪150‬‬
‫وﻣطالب الناس فﻲ الﻌدالﺔ والﻣﺳاواة والﺣﻘوق والﺣريات‬
‫واﻻﻋتراف واﻻندﻣاج والتﻘدير‪.‬‬
‫تتكون الديﻣﻘراطيﺔ ﻣن بنيﺔ الوﻋد والﻌالﻗﺔ ﻣﻊ الغيريﺔ ويﻣﺛل‬
‫الﺣﻘل الﺳياﺳﻲ ﻣكان الظﮭور وﻣا يﺳﻣح بالﺣضور أﻣام الذات‬
‫ولكن الكل يتوﻗف ﻋﻠﻰ فﮭم الﻣفارﻗﺔ الﺳياﺳيﺔ التﻲ تﻘر بأن‬
‫اﻻﻣتياز الديﻣﻘراطﻲ ﻻ يﺣضر إﻻ بالضياع فﻲ الﻌﻣوﻣيﺔ والﻣﺛاليﺔ‬
‫وأن الﺳياﺳﻲ ﻻ ينﺧرط فﻲ الفﻌل إﻻ بإطالق الوﻋود اليوتوبيﺔ‪.‬‬
‫فﻲ ھذا الﻣﻘام يﻣكن التأليف بين الﺣﻠم الﻣاركﺳﻲ بﻣﺟتﻣﻊ بال‬
‫تفاوت وبال صراع بين الطبﻘات وبين الﻣﻘترح الذي بﻠوره ﺟاك‬
‫دريدا ﺣول انتظار الديﻣﻘراطيﺔ اآلتيﺔ التﻲ تؤلف بين الﻣﺣبﺔ‬
‫النابﻌﺔ ﻣن الوﻋود التأﺳيﺳيﺔ لﻠالّھوت الفﻠﺳفﻲ وبين الﺟﻣﮭوريﺔ‬
‫بوصفﮭا ﻣكان إﺟراء الﻣفاوضات وإبرام اﻻتفاﻗات بين الﻘوى‬
‫الفاﻋﻠﺔ‪ .‬يﻘال أن البديل الديﻣﻘراطﻲ ھو أﻗل األنظﻣﺔ الﺳياﺳيﺔ ﺳوء‬
‫وأننا ﻻ يﻣكن أن نﻘارنه بالﺣكم الفردي الﻣطﻠق واﻻﺳتبداد األﻏﻠبﻲ‬
‫األوليغراشﻲ والنظم الﻣﻠكيﺔ التوريﺛيﺔ الﻣغﻠﻘﺔ والتصورات‬
‫الفوضويﺔ والنزﻋات الالّﺳﻠطويﺔ‪ ،‬ولكن يﻘال أيضا أن الﺣكم‬
‫الديﻣﻘراطﻲ ﻏالبا ﻣا يكون ﻣطيﺔ لوصول ﻗوى ﻏير ديﻣﻘراطيﺔ‬
‫لﻠﺣكم وتنتﮭﻲ بالﻌنف وتﮭيﻣن أﻗﻠيﺔ ويﺳود الﻌﻘل الﺣﺳابﻲ‬
‫والبراﻏﻣاتيﺔ الﻣشوھﺔ والﻣيكيافﻠيﺔ الﺳﻠطويﺔ‪.‬‬
‫ﻻ ﻣناص ﻣن اﺳتبدال الﺳياﺳﺔ بالﺳياﺳﻲ وﻣنح الفﻌل الﺳياﺳﻲ‬
‫ﻣرتبﺔ الﻘاﻋدة اﻹﺳتراتيﺟيﺔ والبروتوكول الشرفﻲ لﻠظﮭور فﻲ‬
‫الﻣشﮭد الﻌﻣوﻣﻲ الﻘادم والتوﺟه نﺣو إﻋادة بناء وتشكيل الفكر‬
‫الﺳياﺳﻲ الﻣﺳتﻘبﻠﻲ‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫فﻲ ھذا الﺳياق يﺟب أن تولد ﻣﻠﺣﻣﺔ ﺳياﺳيﺔ تﻌﻠن ﻗيام الﻣﻘاوﻣﺔ‬
‫ضد الشﻣوليﺔ وتفشﻲ اﻹرھاب والﻌنصريﺔ والﻌولﻣﺔ الﻣتوﺣشﺔ‬
‫والبيروﻗراطيﺔ اﻹداريﺔ والتصدي لﮭيﻣنﺔ الﺧبراء والتكنوﻗراط‬
‫ﻋﻠﻰ الﻣؤﺳﺳات الﻌاﻣﺔ‪.‬‬
‫ﻣن الضروري الﻘيام بﻘفزة ﻋﻠﻰ الﻘواﻋد الﻘديﻣﺔ التﻲ تدﻋﻲ‬
‫الﻣوضوﻋيﺔ والﺣضور فﻲ الﺳياﺳﺔ وﻣﻣارﺳﺔ الظﮭور ﻣن ﺧالل‬
‫الﻠﻌب ﺧارج كل ﻣنطق ﺳياﺳﻲ ونﺳق ﺣﻘوﻗﻲ والتﺣرك ضﻣن‬
‫اﻹﻣكانيات الﻣﻘتدر ﻋﻠيﮭا‪.‬‬
‫إذا كانت الفﻠﺳفﺔ الﺳياﺳيﺔ تتراوح بين األنطوﺛيولوﺟيا‬
‫واألﺳكاتولوﺟيا واذا كان شغل التفكيك ھو تﺟربﺔ الﻣﺳتﺣيل فإن‬
‫الديﻣﻘراطيﺔ اآلتيﺔ ھﻲ بناء لﻠﻣﻣكن ضﻣن ﻣﺳطح ﻣﺣايﺛﺔ يﺳﻣح‬
‫لألﻣل الﺳﻌيد بأن يشرق‪ .‬فكيف يتﺣول البارديغم الديﻣﻘراطﻲ‬
‫الﻌربﻲ ﻣن ﺳياﺳﺔ الﻣﺳتﺣيل فﻲ ظل تفشﻲ أﻣراض الفﺳاد‬
‫واﻻﺣتكار والﮭشاشﺔ إلﻰ تﺟربﺔ ﻣنفتﺣﺔ ﻋﻠﻰ الﺣدوث تضﻊ ﺣدا‬
‫لﻠﺣاضر الﻣﺣدود والﻣنﻘﻠب ﻋﻠﻰ الﺳياﺳﺔ الﻣﮭترئﺔ؟‬

‫‪152‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟراﺑﻊ عشر‬

Derrida (Jacques), Politique et amitié,


entretiens avec Michael Sprinker sur Marx et
Althusser, édition Galilée, Paris,2011, p.99.
Mathieu Guidère, Etat du monde arabe,
edition de boeck, Paris, 2015.

153
154
‫الفصل الخامس عشر‬

‫الديمقراطية العربية‬

‫بني التدمري الذاتي وحفظ الكيان‬

‫"شيئان فﻲ بﻠدي ﻗد ﺧيبا أﻣﻠﻲ‪ ،‬الصدق فﻲ الﻘول واﻻﺧالص فﻲ‬


‫‪1‬‬
‫الﻌﻣل"‬

‫لﻘد أرادت الﺣشود الﻌربيﺔ اﺳﻘاط أنظﻣﺔ اﻻﺳتبداد فﻲ ﺛورات‬


‫الربيﻊ الﻌربﻲ فأفضﻰ ذلك الﻰ اضﻌاف ﻣﻘدرتﮭا ﻋﻠﻰ ﻣﻘاوﻣﺔ‬
‫اﻻﺳتﻌﻣار ورد الﻌدوان وإھدار ﺳيادة األوطان واﺳتﻘالليﺔ الﻘرار‪.‬‬
‫لﻘد تﻣﺛل طﻣوح الﻣواطن الﻌربﻲ فﻲ اﻻنتﻣاء الﻰ دولﺔ ديﻣﻘراطيﺔ‬
‫تشﮭد تﻌدديﺔ وتداول ﺳﻠﻣﻲ ﻋﻠﻰ الﺣكم ويﺣكم فيﮭا الشﻌب نفﺳه‬
‫بنفﺳه بواﺳطﺔ الﻘانون ويتم فيﮭا الفصل بين الﺳﻠط وضﻣان ﺣﻘوق‬
‫اﻻنﺳان وتﺣترم األﻏﻠبيﺔ ﺧصوصيﺔ األﻗﻠيات ويتﺣﻣل فيﮭا األفراد‬
‫كاﻣل ﻣﺳؤوليتﮭم فﻲ الﻣشاركﺔ الفﻌﻠيﺔ فﻲ ادارة الشأن الﻌام وتنﻣيﺔ‬
‫ﻣوارد البﻠدان وبناء ﻣؤﺳﺳاتﮭا الﻌصريﺔ ضﻣن أنظﻣﺔ ﻋادلﺔ‪ .‬لكن‬
‫كل ھذا الطﻣوح ظل الﻰ اآلن ﻣﺟرد ﺣﻠم طوباوي ﺣاصرته‬

‫منور صمادح ‪ -‬شاعر تونسي ( ‪)1931-1998‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪155‬‬
‫اﻻيديولوﺟيات وﻣنﻌه ﻣن التﺣﻘق صراع ﻣﺣﻣوم ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ تارة‬
‫باﺳم الﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ الشرﻋيﺔ وإتﻣام الﻣرﺣﻠﺔ اﻻنتﻘاليﺔ بﺳالم‬
‫وطورا باﺳم ﻣواصﻠﺔ الﺛورة واﺳتكﻣال رﺣﻠﺔ الﻌصيان والتﻣرد‬
‫ﻋﻠﻰ األنظﻣﺔ الﻘديﻣﺔ وأﺧيرا تﺣت رايات اﻻنﻘاذ وتدارك ﻣا فات‬
‫واﻻﺳتفادة ﻣن ﺧبرات الﻣاضﻲ وﻋدم تﻌريض الدول الﻰ الﮭالك‪.‬‬
‫ھناك أﻣور ﻏريبﺔ ﻋاودت الظﮭور بﻌد الﺣراك فﻘد ﺳيطرت‬
‫ﻣشاﻋر ذرائﻌيﺔ ﻋﺟيبﺔ ﻋﻠﻰ الناشطين واﺳتبد بالﺟﻣاھير ﻏريزيﺔ‬
‫ﻋرﻗيﺔ بالﻌظﻣﺔ والﻣﺟد واﺳتفاق ﺣنينﮭم البدائﻲ الﻰ اﻻﺳتبداد بﻌد‬
‫ﺧيبﺔ األﻣل وانفالت الﻘوى التدﻣيريﺔ ﻣن الرﻗابﺔ اآلليﺔ التﻲ تﻠوذ‬
‫بﮭا الذات الﺟﻣﻌيﺔ ﻋند الﻣﺣن‪ .‬لﻘد ﺣﻠم الﺳواد األﻋظم بدولﺔ‬
‫الرﻋايﺔ والﻣتﺟﻣﻊ الﻣتكافل والﻣﺳتﻘبل الﻣشرق والشغل الﻘار‬
‫والﺣﻣايﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الﻣتكاﻣﻠﺔ والﺣياة الﻣواطنيﺔ الﻣتوازنﺔ‬
‫ودﺧول زﻣن التطور والﻠﺣاق بركب األﻣم الﻣتﻘدﻣﺔ‪ .‬ﻏير أن‬
‫األوضاع تﺳير ﻣن ﺳﻲء الﻰ أﺳوأ واألزﻣات تتفاﻗم والﻣصير‬
‫ﻣﺟﮭول‪ .‬لﻘد تفﺟر الﻌنف الﺳياﺳﻲ وﺣل اﻹرھاب الﻌالﻣﻲ ﻋﻠﻰ‬
‫أرض األھﻠﻲ وصار ﺳﻣاﺳرة الﻣال الفاﺳد يصولون ويﺟولون‬
‫وﻋم الفﺳاد األرض والبﺣر وأصبح التكفير والتﺧوين والتﺟريح‬
‫والشتم لغﺔ الﺣياة اليوﻣيﺔ وتﺣول الﻘتل والذبح والتفﺟير‬
‫واﻻﺣتراب والﻣواﺟﮭات إلﻰ ﻣﻣارﺳات اﻋتياديﺔ‪.‬‬
‫لﻘد نظر الكتاب والﻣفكرون والفالﺳفﺔ إلﻰ وﺟود ﻣﺟتﻣﻊ بال‬
‫ظالﻣين ونظام ﻏير شﻣولﻲ وﻣؤﺳﺳات بال بيروﻗراطيﺔ وأﺣزاب‬
‫ترتكز ﻋﻠﻰ الﻌﻘالنيﺔ والنﻘاش الﻌﻣوﻣﻲ والﻣﺣاﺟﺟﺔ‪ .‬ﻏير أن‬
‫التﺣزب بات ﻣرض الﻌصر والتنظم الﺳياﺳﻲ تم بطريﻘﺔ تﻘﻠيديﺔ‬
‫والفاشيﺔ ﻏزت الﻣؤﺳﺳات ﻣن ﺟديد والفظائﻊ اﺳتﻣرت فﻲ‬

‫‪156‬‬
‫الﺣدوث واألزﻣات تصاﻋدت والﻣواﺟﮭﺔ بين ﻣﻌﺳكرين باتت‬
‫وشيكﺔ‪.‬‬
‫كﻣا ظﮭرت ﻋدة تبريرات لذلك ﻣن ﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ األﻣن الﻘوﻣﻲ‬
‫ﻣرورا بالﺣرص ﻋﻠﻰ الﺳﻠم األھﻠﻲ وصوﻻ الﻰ الدفاع ﻋﻠﻰ‬
‫الﻣنﺟزات والﻣكاﺳب الكونيﺔ ﻣﻊ اﺧفاء الﻣصﻠﺣﺔ الﺣزبيﺔ والتشبث‬
‫بالﻣواﻗﻊ والﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ بكل الطرق والبﻘاء فﻲ الﺣكم‬
‫ﻋبر التغﻠغل فﻲ الدولﺔ‪.‬‬
‫وفﻲ الﺣﻘيﻘﺔ ﺛﻣﺔ تﻘاﺳم لﻠﻣﻌاناة وﻋدالﺔ فﻲ توزيﻊ الﻣﺳاوئ‬
‫واألزﻣات والﺧاﺳر األكبر ھو الوطن والشﻌب الكريم والنتيﺟﺔ‬
‫الﺳاطﻌﺔ لﻠﻌيان ھو ﺣصول تﻣاھﻲ ﻏريب بين الواﻗﻊ وﻣاھو ضد‬
‫الﻌﻘل وﺧﺳوف شﻣس الﺣداﺛﺔ واﺳتﻌصاء تشييد الديﻣﻘراطيﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫األرضيﺔ الﻌربيﺔ وتﻌﺛر اتﻣام الﺛورة واﻻﺳتفادة ﻣن التﺣوﻻت‬
‫والﻠﻘاء باآلﺧر والفشل فﻲ صناﻋﺔ الكونيﺔ والدﺧول الﻰ التاريﺦ‪.‬‬
‫األﺳباب ﻣتﻌددة وأولﮭا الﺣرص ﻋﻠﻰ الشرﻋيﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ‬
‫واﻻﻋتداء ﻋﻠﻰ الﻣشروﻋيﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ أﺧرى وكذلك فﻲ ﻣﺳتوى ﺛان‬
‫تﻌويض اﻻﺳتبداد البونابارتﻲ باﻻﺳتبداد الديﻣﻘراطﻲ تارة باﺳم‬
‫الدين وطورا باﺳم الﻌﺳكر‪ ،‬بﻌد ذلك فﻲ ﻣﻘام ﺛالث الوﻗوع فﻲ‬
‫الﺧﻠط بين الﻣرﺟﻌيات واألوليات‪ .‬وفﻲ نﻘطﺔ رابﻌﺔ يﻣكن التذكير‬
‫بالﺧطوات الﻣنﻘوصﺔ التﻲ تﻘطﻌﮭا الشﻌوب الﺛائرة واألنظﻣﺔ‬
‫الصاﻋدة وﻋﺟزھا الﮭيكﻠﻲ ﻋن الﺣﺳم فﻲ ﻣﻌاركﮭا الكبرى‬
‫والتنازل ﻏير الﻣشروط ﻋن الﺣﻘوق والتأﺟيل الﻣﺳتﻣر لﻌﻣﻠيات‬
‫الفرز والﻘطﻊ والتﻌويل ﻋﻠﻰ النﺧب وتفويض األﻣور الﻣصيريﺔ‬
‫اليﮭا‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫ﻻ يﻣكن تبرير ﺳﻠوك ﻏير ﺣضاري وﻻإنﺳانﻲ وھﻣﺟﻲ ﺳبب‬
‫األذى لغيره بتﻌﻣد وانتﻘام وتشفﻲ وطال ﺣياة انﺳان بغير ﺣق‬
‫وأزھق روح بشريﺔ‪ ،‬فال يﺟوز بأي ﺣال تبرير ﻣﻣارﺳات الغﻠبﺔ‬
‫والﻘتل واﻻنﻘالب واﻻلتفاف واﻻﺣتكار والﻣﻣاطﻠﺔ والتﺳويف‬
‫والفﺳاد واﻹرھاب واﻻﻏتيال وﻣن ﻏير الﻣﻌﻘول بتاتا ﺟﻌل ارتكاب‬
‫ﻣﺣرﻗﺔ اﻣرا ﻋاديا وﻣن ﻏير الﻣنطﻘﻲ كذلك التﻌاﻣل ﻣﻊ ﺧيانﺔ‬
‫األوطان ﻋﻠﻰ أنﮭا ﻣﺟرد وﺟﮭﺔ نظر‪ ،‬وﻣن الﺧطأ الكبير التغاضﻲ‬
‫ﻋن الﺟﮭر بالﺣﻘائق لﻠﻣأل‪.‬‬
‫الﻣﻌضﻠﺔ أن الﺳياﺳﺔ الﻌربيﺔ أصيبت بالالﻋﻘالنيﺔ وتﻣﺣور‬
‫ﻋﻣل األﺣزاب ﺣول الطبﻘﺔ أو الﻘبيﻠﺔ أو الﻣذھب أو رأﺳﻣال‬
‫الﻣضارب وأن الديﻣﻘراطيﺔ تﻌطﻠت وتﻌانﻲ ﻣن ھشاشﺔ الﻌظام‬
‫والتدﻣير الذاتﻲ بﺣيث تﺣﻣل فﻲ داﺧﻠﮭا بذور فنائﮭا ويبدو أنﮭا‬
‫ﻋاﺟزة ﻋن الدفاع ﻋﻠﻰ نفﺳﮭا بﻣﻌاييرھا الذاتيﺔ‪ ،‬فﮭﻲ ﻣﺣاصرة‬
‫بكﮭنﺔ الالھوت وﺧدم اﻹﻗطاع وﺳﻣاﺳرة الرأﺳﻣاليﺔ الطفيﻠيﺔ‬
‫والﻠوبيات الﺳياﺳيﺔ‪.‬‬
‫ﻋنئذ ﻻ يتطﻠب األﻣر الﻘيام بتﻌديالت طفيفﺔ وإصالﺣات ظرفيﺔ‬
‫وترﻗيﻌات ﺧارﺟيﺔ وتغيير بﻌض األشﺧاص فﻲ بﻌض الﻣواﻗﻊ‬
‫واﺳتبدال أﺣزاب بأﺧرى والتضﺣيﺔ بفئات ﻣن أﺟل ﺣياة الكل‬
‫وإنﻣا يﻘتضﻲ تﺳريﻊ الﻣضﻲ نﺣو ﻋالم تﺳوده الديﻣﻘراطيﺔ وذلك‬
‫بالﺣفاظ ﻋﻠﻰ الﺣريﺔ وﻣﺳاﻋدتﮭا ﻋﻠﻰ النﻣو واﻻنفتاح وتﺟاوز‬
‫الطريﻘﺔ التﻲ نتصور بﮭا التاريﺦ ونﺣول نﻘد التنوير الﻰ وضﻌيﺔ‬
‫ﻣﺳتﻘرة ونضاﻋف ﺟﮭودنا نظريا وﻋﻣﻠيا فﻲ اتﺟاه ﻣﺣاربﺔ نزﻋﺔ‬
‫اﻻنغالق والﻘضاء ﻋﻠﻰ آفﺔ اﻻرھاب‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫الديﻣﻘراطيﺔ ﻗيﻣﺔ كونيﺔ يﻣكن توظيفﮭا لكﻲ تﺧدم أﻏراض ﻏير‬
‫ديﻣﻘراطيﺔ ﻣﺛﻠﮭا ﻣﺛل كل الﻘيم الكونيﺔ األﺧرى ﻋﻠﻰ ﻏرار التﻌدديﺔ‬
‫والتﺳاﻣح واﻻﺧتالف وﺣﻘوق اﻻنﺳان التﻲ تم اﺳتﻌﻣالﮭا ﻻﺣتالل‬
‫الﻌراق وﻏيرھا ﻣن البﻠدان وتﺣﺟيم دور طائفﺔ أو ﺟﮭﺔ فﻲ ﻣﻘابل‬
‫ترﻗيﺔ طائفﺔ أو ﺟﮭﺔ أﺧرى‪.‬‬
‫ربﻣا نﺣتاج الﻰ بناء نوع ﻣن الديﻣﻘراطيﺔ الﻣﺣﻠيﺔ األفﻘيﺔ الﻲ‬
‫تراﻋﻲ الﺧصوصيات وتضﻊ ﺟﻣيﻊ الﻣتنافﺳين فﻲ نفس الﻣرتبﺔ‬
‫وتﺳاوي فﻲ ﺣظوظﮭم ﻋند نﻘطﺔ اﻻنطالق‪ ،‬وﻣا نﺣتاﺟه أكﺛر ھو‬
‫الﺛﻘافﺔ الديﻣﻘراطيﺔ وتنﺳيب اآلراء وﻣراﺟﻌﺔ الﻘناﻋات وﻣﻣارﺳﺔ‬
‫النﻘد الذاتﻲ لكﻲ نتﻘدم‪.‬‬
‫الﻣطﻠوب ھو أﻻ يتوﻗف الفكر الﺣر فﻲ اطار ﺣﻘل النضال‬
‫اليوﻣﻲ واﻻشتباك ﻣﻊ الواﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ البائس ﻋن التﻘدم نﺣو‬
‫الﻣزيد ﻣن الﻌﻘالنيﺔ التواصﻠيﺔ واتﺧاذ ﻣواﻗف ﺣاﺳﻣﺔ لصالح‬
‫الﻣبادىء اﻻنﺳانيﺔ والدفاع ﻋن الﺣريات وطرد الﺧوف ﻣن‬
‫الﻣﺳتﻘبل والتدرب ﻋﻠﻰ التﺣرر‪.‬‬
‫"ﻻ يﺟد التنوير ذاته إﻻ ﺣين يرفض كل تواطؤ ﻣﻊ أﻋدائه‬
‫وﺣين يﺟرؤ ﻋﻠﻰ نفﻲ الﺧطأ الﻣطﻠق الذي ھو ﻣبدأ الﺳيطرة‬
‫الﻌﻣياء"‪ 1‬ويتﺧﻠص ﻣن ﻣأزق أﺳطرة ذاته وتأليه الﻌﻘل وتﻌطيل‬
‫التﺣرر‪ .‬لﻘد شارف الﻌﻘل الﻌربﻲ بﻠوغ ﺣدود النفاق والﻌنف‬

‫ماكس هور كهايمر‪ ،‬ثيودورف أدورنو‪ ،‬جدل التنوير‪ ،‬شذرات فلسفية‪ ،‬ترجمة جورج‬ ‫‪1‬‬

‫كتورة‪ ،‬دار الكتاب الجديد المتحدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪ .2006 ،‬ص‪.64.‬‬

‫‪159‬‬
‫والوھم والكذب والنفﻌيﺔ والﻣكابرة والغرور والشﻣوليﺔ وتﺣول‬
‫الﻰ أداة فﻲ ﺧدﻣﺔ الﺳﻠطان الروﺣﻲ والﺳﻠطﺔ الزﻣنيﺔ وضﺣﻰ‬
‫بالﻣﻌيش اليوﻣﻲ وﺟدير به أن يﻌود أكﺛر تواضﻌا وإنﺳانيﺔ وأكﺛر‬
‫انفتاﺣا ﻋﻠﻰ الﮭاﻣش والﻣﻘصﻲ وﻋﻘﻠنﺔ لالّﻣﻌﻘول‪.‬‬
‫اذا كنا لﺣظﺔ صناﻋﺔ الفتنﺔ وتواطؤ بين الداﺧل والﺧارج ﻋﻠﻰ‬
‫اﺣداث الﺧﻠل فﻲ نظام األشياء وارباك الﻣشﮭد وتﺧﻠيف الفوضﻰ‬
‫فﻲ ترتيب األفكار وزلزلﺔ البؤر الﻣﻘاوﻣﺔ واألوتاد الواﻗفﺔ فﺣري‬
‫بالﺛﻘافﺔ الﻣﻠتزﻣﺔ أن تنبه الشﻌب ﻣن الﻣؤاﻣرة التﻲ تﺣاك ضده وأن‬
‫تﻌارض ارتﮭانه لوﺳائل اﻻﻋالم والتوﺟيه وتﻣنﻌه ﻣن الغرق فﻲ‬
‫ﻣﺳتنﻘﻊ البربريﺔ الﺟديدة وﻣن التورط ﻣﺟددا فﻲ ﺳياﺳﺔ التدﻣير‬
‫الذاتﻲ و تﺣول دون انﺟرافه نﺣو الﮭدر الوﺟودي والتطبيق‬
‫الﺳاذج لﻠﺧطط الﻣﻌدة لﮭالكه وتوفر له شروط أكﺛر انﺳانيﺔ‬
‫وتﺣرضه ﻋﻠﻰ ﺣفظ الكيان وتوﻗظ فيه الرﻏبﺔ فﻲ ﺣﺳن البﻘاء‬
‫وتدفﻌه نﺣو تﻣﺣل ﻣﺳؤوليﺔ ﻣصيره والﻣبادرة بﻌﻣل تفكير ﻣتنور‬
‫يفكك الﻣظﮭر التدﻣيري لﻠتﺣرر والتﻘدم يﺟﻌل الﺟﻣاھير تﺧﻠﻊ ﻋنﮭا‬
‫ھالﺔ اﻻﻋﺟاب باﻻﺳتبداد وتﺳتﻌيد الرﻏبﺔ فﻲ البﻘاء‪ " .‬فﻲ ﺣين‬
‫ينكر ھذا الﻣفﮭوم كل ﻣﻌالﺟﺔ ﺳﻠبيﺔ يفرضﮭا ھذا الفكر ﻋﻠﻰ الوﻗائﻊ‬
‫وﻋﻠﻰ األشكال الﺳائدة بوصفه فكرا ﻏاﻣضا وﻣﻌﻘدا ليﻌﻠنه بﻣﺛابﺔ‬
‫أﻣر ﻣﺣرم‪ ،‬فإنه بذلك يﺣﻣل الﻌﻘل الﻰ الﻌﻣﻲ الﻣتناﻣﻲ"‪ ،1‬فكيف‬

‫ماكس هور كهايمر‪ ،‬ثيودورف أدورنو‪ ،‬جدل التنوير‪ ،‬شذرات فلسفية‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص‪.17.‬‬

‫‪160‬‬
‫يتﻣكن الﻌﻘل الﺳياﺳﻲ الﻌربﻲ ﻣن تفادي الوﻗوع فﻲ الﻌﻣﻲ الﻣﻌرفﻲ‬
‫واﻹتيﻘﻲ؟‬

‫اﻟﻣصدر‪:‬‬
‫ﻣاكس ھور كﮭايﻣر‪ ،‬ﺛيودورف أدورنو‪ ،‬ﺟدل اﻟﺗنوير‪ ،‬شذرات فلسﻔيﺔ‪،‬‬
‫ترﺟﻣﺔ ﺟورج كتورة‪ ،‬دار الكتاب الﺟديد الﻣتﺣدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪،‬‬
‫‪2006‬‬

‫‪161‬‬
162
‫الفصل السادس عشر‬

‫من التبعية الثقافية‬

‫اىل االستقالل الحضاري‬

‫توطئة‪:‬‬

‫"أنا يا تونس الﺟﻣيﻠﺔ فﻲ لج ‪ -‬الﮭوى ﻗد ﺳبﺣت أي ﺳباﺣه‬


‫‪1‬‬
‫شرﻋتﻲ ﺣبك الﺟﻣيل وأنﻲ ‪ -‬ﻗد تذوﻗت ﻣره وﻗراﺣه"‬

‫يﻘﻊ الفكر فريﺳﺔ ﺳﮭﻠﺔ لاليديولوﺟيا ﺣينﻣا يﺳﻌﻰ الﻰ تﺣﻘيق‬


‫أﻏراضه الﺧاصﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب الﻣﻘوﻻت الكﻠيﺔ ولﻣا ينظر الﻰ‬
‫أﺣكام الواﻗﻊ ﻣن زاويﺔ اﻋتبارات الﻣصﻠﺣﺔ واآلراء الﻣتداولﺔ‪.‬‬
‫بينﻣا آن األوان بالنﺳبﺔ لﻠكتاب والشﻌراء والنﻘاد لكﻲ يتركوا‬
‫الﺟدران الﺳﻣيكﺔ لاليديولوﺟيا ويغادروا األرض الصﻠبﺔ‬
‫لﻠديﻣاﻏوﺟيا ويكفوا ﻋن تدوير الزوايا وتربيﻊ الدوائر الفارﻏﺔ‬
‫ويﻘﻠﻌوا ﻋن الﺳير فﻲ الﻣتاھات الوﻋرة ويﻌتبروا ﻣن دروس‬
‫التاريﺦ ويتﻌظوا ﻣن ﻋناد الﺳائد ونﮭشﺔ الواﻗﻊ ويﺳﻘطوا ﻣن‬

‫(الشابي) أبو القاسم ‪ ،‬األعمال الكاملة‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬دون تاريخ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪163‬‬
‫ﺣﺳابﮭم واﺟبات تﻠبيﺔ نداء األﻗاصﻲ وتﺟﺳيم األﺣالم الورديﺔ اآلن‬
‫وھنا‪.‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق ﺣري بالفكر الﺣاذق أن يطرح الﻣزاﻋم‬
‫والدﻋاوي وﻋناصر الﻘيﻣﺔ ﺟانبا وأن يتنﺣﻰ ﻋن التﻘييم الذاتﻲ‬
‫والتأﻣالت الفارﻏﺔ ويفتح الباب ﻋﻠﻰ التو نﺣو ﻋالم الﺣياة وينﺧرط‬
‫فﻲ أفﻌال ﻗصديﺔ ويباشر التفريق بين الﺟيد والرديء وبين الضار‬
‫والنافﻊ وبين الﻣؤﺟل والﻌاﺟل‪.‬‬
‫ﻣا يراھن ﻋﻠيه الفيﻠﺳوف ھﮭنا ھو اﺧراج الﻌﻘل ﻣن أبنيته‬
‫الﻣﻌرفيﺔ الﻣﺟردة الﻰ الﻣيدان الﻌام والزج به فﻲ التاريﺦ الﺣﻲ‬
‫لﻠشﻌوب وﺟﻌﻠه ﻣنظوﻣﺔ ﻣﻌياريﺔ وفضاء تﻘويﻣﻲ لﻠﺣياة البيذاتيﺔ‬
‫التواصﻠيﺔ واﻻﺣتكام اليه فﻲ فض النزاﻋات واﻣتصاص الﻌنف‬
‫وايﺟاد ﻣﺧرج لﻠﻘضايا الﻣﺳتﻌصيﺔ‪.‬‬
‫فﻲ ھذا الﺳياق ﻻ يتﺣرك الﻌﻘل النﻘدي لدينا ضﻣن ﺣيز ﻣا يﻣﻠك‬
‫بل يدارك ﻣا ينﻘصه وﻻ يﻘتصر الفكر الباﺣث ﻋن اﻻﻗاﻣﺔ فﻲ بيته‬
‫ﻋﻠﻰ الﺣكم الفنﻲ ويﻘوم بالتﻣييز بين الﺟﻣيل والﻘبيح بﺧصوص‬
‫الوطن وبدل الﺣديث ﻋن تونس الﺧضراء وﻋن تونس الشﮭيدة‬
‫كﻣا فﻌل الﻣصﻠح الكبير ﻋبد الﻌزيز الﺛﻌالبﻲ وﻋوض اﺳتﻌادة‬
‫ﻋنوان تونس الﺛائرة لﻠزﻋيم الوطنﻲ ﻋﻠﻲ بﻠﮭوان فإنه يﺟدر به‬
‫التﻘاط ﻣا ﺟادت به الﻘريﺣﺔ الشﻌريﺔ ألبﻲ الﻘاﺳم الشابﻲ ﻋن تونس‬
‫الﺟﻣيﻠﺔ‪ .‬لكن لﻣاذا الﺣديث ﻋن بالدنا الﺟﻣيﻠﺔ فﻲ زﻣن الﺟدب‬
‫الﺣضاري والتفكك الﺳياﺳﻲ؟ وﻣاھﻲ الدوافﻊ التﻲ ﺟﻌﻠت الفكر‬
‫الﻌربﻲ يطالب فﻲ الﻠﺣظﺔ الراھنﺔ الﺣﻠم الﺟﻣيل بالﻘدوم؟ والﻰ أي‬
‫ﻣدى يكون ھذا الﺣﻠم ﻣأﻣوﻻ؟‬

‫‪164‬‬
‫والﺣق أن األﻣر يتﻌﻠق بالوﺟود الﻣنشود وصناﻋﺔ الﻣﺳتﻘبل‬
‫والﺣﻠم باآلتﻲ بالنﺳبﺔ الﻰ ھذه البالد أكﺛر ﻣن الواﻗﻊ الﻣوﺟود‬
‫وﻗراءة لﻠﺣاضر أو اﺳتﻌادة لﻠﻣاضﻲ والﺣنين الﻰ الﻣوروث أو‬
‫الذكرى‪.‬‬
‫لﻌل ﻣا يشرع ذلك ھو ارتباط الﺟﻣال بالشباب واﻹرادة والﺣياة‬
‫والﺟود والكرم واﻹﻗبال ﻋﻠﻰ فضائل الﻣﺣبﺔ والصداﻗﺔ والﻌﻣل‬
‫والﻣودة والﺳﻣاﺣﺔ والتﻌاون اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وتﻣتين تﺟارب الﺣوار‬
‫والتواصل‪ .‬لكن ﻋن أي ﺟﻣال يﻣكن الﺣديث فﻲ ظل التبﻌيﺔ الﺛﻘافيﺔ‬
‫وتزايد الﻣديونيﺔ وتﻌﺛر تﺟارب التنﻣيﺔ؟ وكيف يتﺧطﻰ الفكر لدينا‬
‫ورطﺔ التبﻌيﺔ الﺛﻘافيﺔ ويﺣﻘق اﻻﺳتﻘالل الﺣضاري؟ أﻻ يﺟب أن‬
‫نﺟﻌل ﻣن ﻣﺳألﺔ توطين ﻣفﮭوم الﺳيادة ﻋﻠﻰ الﻣﻌﻣورة ﻗاﻋدة ذھبيﺔ‬
‫وﻋنوانا كبيرا لﻠﻣرﺣﻠﺔ الﻘادﻣﺔ؟‬
‫ﻣا نراھن ﻋﻠيه فﻲ ھذا الﻣﻘام ھو اﺣداث ﻗراءات لﻠبنيﺔ الفكريﺔ‬
‫الﻣنتﺟﺔ لﻠﺧطاب الﺳياﺳﻲ واﻹﻋالﻣﻲ والﻣطالبﺔ بإﻋادة بناء ھذه‬
‫اآلليات الﻣتﺣكﻣﺔ فﻲ األﻗوال ضﻣن أرضيﺔ ﺳياديﺔ‪.‬‬

‫‪ -1‬شراك اﻟﺗﺑﻌيﺔ اﻟثﻘافيﺔ‪:‬‬


‫" فالﻣﺛﻘف‪ ،‬وﻋﻠﻰ النﻘيض ﻣن الﺧبير الﻌﻠﻣﻲ والطبيب الﻣﻌالج‪،‬‬
‫ﺣيث يضﻊ كل ﻣنﮭﻣا نصائﺣه بتصرف وكاﻻت تابﻌﺔ لﻠدولﺔ أو‬
‫ألفراد ﺧواص‪ ،‬يتوﺟه ﻣباشرة الﻰ الﻣﺟال الﻠيبرالﻲ أو الﻌﻣوﻣﻲ‬
‫‪1‬‬
‫الﻣوﺟود فيه ﻣؤﺛرا وﻣتأﺛرا"‬

‫‪ 1‬هابرماس ( يورغن ) ‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬الديمقراطية الدستورية‪ ،‬ترجمة‬


‫عمر مهيبل‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬الطبعة األولى‪ .2010،‬ص‪.65 .‬‬

‫‪165‬‬
‫الفيﻠﺳوف ھو األﻗدر ﻋﻠﻰ الﺧوض فﻲ الﻣﺳائل الﺧالفيﺔ الﻣﻌﻘدة‬
‫وتشريح األﺣكام الﻣﺳبﻘﺔ وتفكيك النظرات الﻌنصريﺔ وﻣﻌالﺟﺔ‬
‫الﺟروح الﺧفيﺔ لﻠذاكرة الﺟﻣاﻋيﺔ وﻣﺳاءلﺔ ﻣنكوبيﺔ اﻹﻗصاء‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والتﮭﻣيش الﺛﻘافﻲ والتﺣﻠﻲ بالتﺟرد والﺣياد وتﺣﻠيل‬
‫الﻣشاكل الﻣتﻌﻠﻘﺔ بالﻌدالﺔ الﺳياﺳيﺔ واﻻلتزام بﺛﻘافﺔ الﺣﻘيﻘﺔ‬
‫والنزاھﺔ وتﻘديم فﮭم أفضل ألوضاع الﻣﺟتﻣﻌات وﻣﻣارﺳﺔ نﻘد‬
‫صارم تﺟاه األزﻣات الﮭيكﻠيﺔ التﻲ تﺣدث داﺧل الدول وتﺧفيف‬
‫الﻣﻌاناة الناتﺟﺔ ﻋن فظاظﺔ التفاوت ووﻗاﺣﺔ اﻻﺳتغالل وﻗﺳاوة‬
‫اﻻزدراء والرد ﻋﻠﻰ ﺟنون اﻻﺳتﮭالك وﻣﻌالﺟﺔ أﻣراض‬
‫البيروﻗراطيﺔ وانﺳداد اآلفاق واﻻﻋتراض ﻋﻠﻰ تفشﻲ ﻣشاﻋر‬
‫الﻘنوط والﻌدم ﻣن ﺟديد فﻲ دنيا الﺳياﺳﺔ واﻻﺟتﻣاع‪ .‬كﻣا ﻻ يشﻣل‬
‫التﺣﻠيل دوائر الﺳياﺳﺔ واﻻﻗتصاد واﻻﺟتﻣاع واألﻣن وإنﻣا يركز‬
‫ﻋﻠﻰ تشﺧيص التبﻌيﺔ فﻲ ﻣﺟاﻻت الفكر والﺛﻘافﺔ والﻌﻠم وﻋﻠﻰ‬
‫وﺳائل اﻻتصال الﺣديﺛﺔ وﻣنظوﻣﺔ اﻻﻋالم والتكنولوﺟيا الرﻗﻣيﺔ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو نﺣن نتﺣرك ضﻣن ﺛﻘافﺔ تابﻌﺔ وﻣتواطئﺔ ﻣﻊ‬
‫الﺳﻠطﺔ اﻻﻣبرياليﺔ ينتﺟﮭا فكر ضﻌيف يغﻠب ﻋﻠيه التﻘﻠيد‬
‫واﻻﺟترار وتداول ﻋﻠﻰ ﻣﺧﻠفاتﮭا نﺧب ﻣرتﮭنﺔ وﻣواليﺔ لﻠﺛﻘافات‬
‫الﻣﮭيﻣنﺔ تارة وﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ نظام الﺧطاب وأبنيﺔ الﻣﻌرفﺔ طورا‪.‬‬
‫وﻣن ﺳﻣات ھذه الﺛﻘافﺔ التابﻌﺔ ھو ﻣيﻠﮭا الﻰ الﻌنف ﻋند اصطداﻣﮭا‬
‫بﺳوء تفاھم ﻣﻊ الﺛﻘافات الﻣغايرة وتﻌﺛر ﻣشاريﻊ اﻻصالح وتتالﻲ‬
‫اﻻﺧفاﻗات والكبوات وضياع ﻣﺣاوﻻت التﺛوير اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وتأﺟيل‬
‫ﻋﻣﻠيﺔ التغيير اﻻﺟتﻣاﻋﻲ لألطر الﻣنتﺟﺔ لﻠﺣﻘيﻘﺔ‪.‬‬
‫لﻌل الﺳبب الﺣﻘيﻘﻲ لﮭذه التبﻌيﺔ الﺛﻘافيﺔ ھو اﻻﻏتراب ﻋن‬
‫الذات والﻘطيﻌﺔ ﻣﻊ الﺟوانب النيرة ﻣن التراث وﻋدم الﻣراھنﺔ‬

‫‪166‬‬
‫ﻋﻠﻰ التﻌويل ﻋﻠﻰ النفس فﻲ ﻣﺳتوى بناء ﺣداﺛﺔ ﻋﻠﻰ ﻏير الﻣﻌيار‬
‫الغربﻲ‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك وﻗوع النﺧب الﺛﻘافيﺔ فﻲ شراك‬
‫اﻻﺳتشراق وتبنﻲ النظرة الﻘاصرة والﻣتﺣاﻣﻠﺔ التﻲ يﺣﻣﻠﮭا اآلﺧر‬
‫الغربﻲ ﻋن الذات الشرﻗيﺔ وتكريس الﻘصور النظري ﻋند الوﻋﻲ‬
‫وآليات التﺣﻠيل والتفﺳير وتأبيد الوصايﺔ الﻌﻠﻣيﺔ والتﻘنيﺔ لﻠدول‬
‫اﻻﺳتﻌﻣاريﺔ ﻋﻠﻰ البﻠدان الﻣﺳتﻌﻣرة‪ .‬تبﻌا لذلك ان " ھذا الﻣاضﻲ‬
‫الﻣﺟيد ھو التبرير الرﺳﻣﻲ لﻠﻌنصريﺔ اﻻﺳتﻌﻣاريﺔ التﻲ أﻗرھا ﺟيل‬
‫فيري‪ Jules Ferry‬فﻲ الﺟﻣﻌيﺔ الوطنيﺔ يوم ‪ 28‬ﻣن يوليو ﻋام‬
‫‪ 1885‬ﺣين ﻗال‪ :‬يﺟب أن نﻘولﮭا بصراﺣﺔ وبدون ﻣواراة‪ :‬فﻲ‬
‫الواﻗﻊ إن األﺟناس األرﻗﻰ لﮭا ﺣﻘوق ﻋﻠﻰ األﺟناس‬
‫األدنﻰ‪...‬وﺳتظل فرنﺳا ھذه لألبد ﺟندي هللا أو ﺟندي الﻘانون وذلك‬
‫‪1‬‬
‫بﺣﺳب الﻣﻘام‪".‬‬
‫ﻏير أن كشف األلغام التﻲ تﺧفيﮭا النظرة اﻻﺳتﻌالئيﺔ وتﺣويل‬
‫الﻣبادئ الكونيﺔ لﻠﺛورة الفرنﺳيﺔ الﻰ تبرير اﻻﺳتيالء ﻋﻠﻰ البﻠدان‬
‫الﻣﺟاورة باﺳم نشر ﺛﻘافﺔ الﻌﻘالنيﺔ والتنوير وﻏرس ﻗيم التﻣدن‬
‫والتطور تﺣت رايﺔ ﻣنافﻊ اﻻﺟبار الﻘﺳري ﻋﻠﻰ اﻻنضﻣام الﻰ‬
‫ركب التاريﺦ الكونﻲ ھﻲ الﻣﮭﻣﺔ ﻗام بﮭا ﻋﻠم نﻘد اﻻﺳتشراق ﻋند‬
‫الﻣبدع ادوارد ﺳﻌيد ﺣينﻣا أﻣاط الﻠﺛام ﻋن الﺧدﻣﺔ اﻻيديولوﺟيﺔ‬
‫التﻲ يؤديﮭا ﻋﻠم اﻻﺳتشراق لﻠنزﻋﺔ اﻻﺳتﻌﻣاريﺔ التﻲ اﺳتوطنت‬
‫فﻲ ذھنيﺔ الفرد الغربﻲ الباﺣث ﻋن الﺳيطرة ﻋﻠﻰ الﻌالم وﻣراكﻣﺔ‬
‫الﺛروة ﻣنذ ﻏزوه الﻌالم الﺣر الﺟديد وﺳﻌيه الدؤوب ﻋﻠﻰ ﺟﻌل‬
‫الراﺳيو الالتينﻲ ھو النﻣوذج الﺛﻘافﻲ لﻠنظام والرﻗﻲ والتﺣضر لدى‬

‫‪ 1‬غارودي ( رجاء)‪ ،‬كيف نصنع المستقبل؟ ‪ ،‬ترجمة منى طلبة وأنور مغيث‪ ،‬دار‬
‫الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ .2002‬ص‪.179‬‬

‫‪167‬‬
‫الشﻌوب والﺛﻘافات األﺧرى‪ " .‬وھكذا فإن الشرق ﺳوف يبدو ﻣﺟاﻻ‬
‫ﻣغﻠﻘا أو ﺧشبﺔ ﻣﺳرح ﻣﻠتصﻘﺔ بأوروبا‪ ،‬ﻻ اﻣتداد ﻏير ﻣﺣدود‬
‫ﺧارج الﻌالم األوروبﻲ الﻣألوف‪ .‬والﻣﺳتشرق ﻻ يزيد ﻋن‬
‫ﻣتﺧصص فﻲ ﻣﻌرفﺔ ﺧاصﺔ‪ ،‬وتﻌتبر أوروبا بأﺳرھا ﻣﺳؤولﺔ‬
‫ﻋنﮭا"‪ .1‬لكن كيف يتم الرد ﻋﻠﻰ دﻋاوي اﻻﺳتشراق ويﻣكن بناء‬
‫رؤيﺔ ﻣتﺳاﻣﺣﺔ وﻣنصفﺔ لﻠذات الﺣضاريﺔ؟‬

‫‪ – 2‬شروط االسﺗﻘالل اﻟﺣضاري‪:‬‬


‫" وﺣدھا الﺛﻘافﺔ الﺣيﺔ‪ ،‬الوفيﺔ لﺟذورھا‪ ،‬وفﻲ اآلن نفﺳه تكون‬
‫فﻲ ﺣالﺔ ابداﻋيﺔ ﻋﻠﻰ صﻌيد الفن واألدب والفﻠﺳفﺔ والروﺣانيﺔ‪،‬‬
‫ھﻲ الﻘادرة ﻋﻠﻰ تﺣﻣل الﻠﻘاء بالﺛﻘافات األﺧرى"‪.2‬‬
‫ﻣاھﻲ شروط الﻠﻘاء الﻣﺛﻣر بين الﺛﻘافات؟ وكيف يتم ضﻣان‬
‫شروط اﻻﺳتﻘالل الﺣضاري؟‬
‫اذا كان الزﻣن الراھن يتﻣيز بﻌبور الﺧصوصيات نﺣو الﻌالﻣيﺔ‬
‫وتطاير الشرر ﻣن ھذه الﻌولﻣﺔ الﻣتوﺣشﺔ ذات النﮭج اﻻﺧتراﻗﻲ‬
‫اﻻﺳتﻘطابﻲ فإن نتيﺟﺔ ذلك ھو ذوبان الﮭويات فﻲ الﻌولﻣﺔ وھالك‬
‫الكونﻲ الﻘابﻊ داﺧﻠﮭا أو فﻘدان الﺧصوصيات ﻗيﻣتﮭا وتﻣركزھا‬
‫ﻋﻠﻰ نفﺳﮭا وتﺟﻣدھا وضياع الفرصﺔ التاريﺧيﺔ لردم الفﺟوة‬
‫الرﻗﻣيﺔ ﻣﻊ الفاﻋﻠين الكونيين والﻠّﺣاق بركب التطور‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو يﻣكن أن نذكر ﻣن شروط‬
‫اﻻﺳتﻘالل‪ indépendance‬الﺣضاري ﻣا يﻠﻲ‪:‬‬

‫‪ 1‬سعيد ( ادوارد) ‪ ،‬االستشراق‪ ،‬المفاهيم الغربية للشرق‪ ،‬ترجمة محمد عناني‪ ،‬دار رؤية‬
‫للنشر‪ ،‬القاهرة‪.2006 ،‬ص‪.129.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ricœur (Paul), Histoire et vérité, édition du Seuil. Paris,1955-‬‬
‫‪1964.p.298‬‬

‫‪168‬‬
‫‪ -‬فك اﻻرتباط ﻣﻊ دول الﻣركز والكف ﻋن النظر الﻰ الذات‬
‫بوصفﮭا ﻣﺟرد صفﺣﺔ ﻣن صفﺣات ﺛﻘافات الﮭاﻣش وﻣن تﺧوم‬
‫الﮭويﺔ اﻻنﺳانيﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬التوﺟه ﻋﻠﻰ الفور نﺣو الﻣشاركﺔ فﻲ صناﻋﺔ الكونيﺔ ﻋن‬
‫طريق الﻣﺛاﻗفﺔ ﻣﻊ األﻏيار والتﻌاﻣل بنديﺔ ﻣﻌﮭم‪.‬‬
‫‪ -‬ترﺟيح كفﺔ الﺟﮭات التﻲ تدﻋم كونيﺔ اﻻدﻣاج والتﻌارف‬
‫والتصافﻲ ﻋﻠﻰ الدوائر التﻲ تغذي ﻋولﻣﺔ التفكك والتدافﻊ‬
‫والتشابك‪.‬‬
‫‪ -‬اﻻنضﻣام الﻰ ﺟبﮭﺔ ﻋالﻣيﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ الﻣدنﻲ واﻻنﺣياز الﻰ‬
‫ﻋولﻣﺔ ﻣضادة أكﺛر انﺳانيﺔ وﻋدالﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬اﻻﺳتئناف الﺣضاري الﺛانﻲ بالنﺳبﺔ الﻰ أﻣﺔ اﻗرأ وإﺣداث‬
‫تﻘاطﻊ ﺣﻘيﻘﻲ بين أﺧالق الﻣروءة والﻘصص الدينﻲ بالنﺳبﺔ‬
‫لﻠناطﻘين بﻠغﺔ الضاد‪.‬‬
‫‪ -‬الﻣﺳاھﻣﺔ فﻲ بﻠورة ﻣشروع انﺳﻲ يتضﻣن ﺟﻣﻠﺔ ﻣن‬
‫الﻣبادئ اﻹتيﻘيﺔ الﻣنفتﺣﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺳتﻘبل الﺣياة ﻋﻠﻰ الكوكب ويﺣﻣل‬
‫رﺳالﺔ ﺳﻠم وتﻌاون وصفح لﻠبشريﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬اكتﺳاب وﺳائل الﻘوة والﻣنﻌﺔ الﺣضاريﺔ وإﻋادة تفﻌيل‬
‫الﻣشروع الديﻣﻘراطيﺔ الدﺳتوريﺔ لبناء الدولﺔ األﻣﺔ ضﻣن تﻘالب‬
‫ﻣفﮭوﻣﻲ الﻣواطنﺔ والﺳيادة وﺟدليﺔ الوطنﻲ والﻘوﻣﻲ وتكاﻣل‬
‫الﻣﺣﻠﻲ ﻣﻊ الﻌالﻣﻲ‪.‬‬
‫‪ -‬ﻻ ﻣناص ﻣن اﻻﺣتكام الﻰ ﻣﻌﻘوليﺔ ﻗيﻣيﺔ ﻣضيافيﺔ تﻌبد‬
‫الطريق نﺣو ﻣؤازرة لﻘوى الﻌدل والﺧير فﻲ الﻌالم وترافﻊ‬
‫ﺣضوريا ﻋﻠﻰ ابرام ﻣيﺛاق ﻋالج لﻠبشريﺔ ﻣن الشر الﺳياﺳﻲ‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫‪ -‬التﻘويﻣات الﺳديدة لﻠﺣياة الﺟيدة ﻣﻊ اآلﺧرين وﻣن أﺟﻠﮭم‬
‫فﻲ ﻣؤﺳﺳات ﻋادلﺔ تﻘتضﻲ اﻻلتزام الشﺧصﻲ بصيانﺔ اﻻﺳتﻘالليﺔ‬
‫الفكريﺔ لﻠذات الﺟﻣاﻋيﺔ وتﺛﻣين الﻌﻣل الﻣنتج وإﻋادة بناء الﻘيم‬
‫واﻹيﻣان بديناﻣيﺔ التغير وتﻘريظ اﻻﺧتالف وﺟدوى اﻻنفتاح‪.‬‬
‫ﻏايﺔ الﻣراد أن" ان الرابطﺔ اﻻنﺳانيﺔ الوﺣيدة ﺣﻘا لﺟﻣاﻋﺔ‬
‫انﺳانيﺔ ﺣﻘا تتﻣﺛل فﻲ اشتراك ھذه الﺟﻣاﻋﺔ فﻲ ﻣشروع ﻋام‬
‫وتﻌاونﮭا ﻋﻠﻰ تﺣﻘيق ھذا الﻣشروع بوصفه ﻣشروﻋا ﻣشتركا‬
‫لإلنﺳانيﺔ كﻠﮭا كوﺣدة كﻠيﺔ ھكذا يﺳاھم كل شﻌب ﻣن ﺧالل ﺛﻘافته‬
‫األصيﻠﺔ فﻲ أنﺳنﺔ اﻻنﺳان ونﻣوه وتﻘدﻣه الﺣﻘيﻘﻲ فﻲ اﻻنﺳانيﺔ "‪.1‬‬
‫لكن كيف يﺳاھم توﺟه النﺣن نﺣو صناﻋﺔ الﻣﺳتﻘل فﻲ اﺳتكﻣال‬
‫شروط اﻻنﻌتاق ﻣن التبﻌيﺔ وانﺟاز ﻣﺳيرة التﺣرير الكاﻣل وبناء‬
‫اﻻﺳتﻘالل الﺣضاري؟‬

‫‪ -3‬ﺗوطين ﻣﻔهوم اﻟسيادة‪:‬‬


‫" ﻣن ﺟﮭﺔ نﺣﻣﻲ ﻣناطق ﺣريﺔ الﻣبادرة ونرتبط بالﺟﻣاﻋﺔ‪،‬‬
‫وﻣن ﺟﮭﺔ أﺧرى نﺣتج ضد الالّنظام والالّﻋدالﺔ والبؤس‪ ،‬وھكذا‬
‫‪2‬‬
‫نﻌيش فﻲ نظاﻣين أﺧالﻗيين‪ :‬أﺧالق ﺧاصﺔ وأﺧالق الﺟﻣاﻋﺔ"‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن الﺳيد ‪Souverain‬ھو الذي الشﺧص الفردي‬
‫أو الﺟﻣاﻋﻲ الذي تنتﻣﻲ اليه الﺳﻠطﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ الﺣق فﻲ ﺣين أن‬
‫الﺳيادة ‪Souveraineté‬ھﻲ الواﺟب الذي ﻻ يﻣكن ﻣﻘارنته ﻣﻊ‬
‫ﻣﻌﻘوليات الفﻌل األﺧرى ولذلك تﻌتبر ﺳيادة الﺳﻠطﺔ الﻘانونيﺔ ھﻲ‬
‫الﻣصدر األصﻠﻲ لكل الﺳﻠطات األﺧرى وﻣبدأ الﻣشروﻋيﺔ لكل‬

‫غارودي ( رجاء)‪ ،‬كيف نصنع المستقبل؟ ‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.182‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪2‬‬
‫‪Ricœur (Paul), Histoire et vérité, op.cit, p.304.‬‬

‫‪170‬‬
‫الﻣﻣارﺳات الﺳياﺳيﺔ والتنفيذيﺔ‪.‬لﻘد كان الﺣاكم بوصفه الﺳيد‬
‫الﻣطﻠق ھو الناطق باﺳم الﺳيادة ﺛم أصبح الوطن ھو ﻣبدأ الﺳيادة‬
‫ولكن فالﺳفﺔ الﻌﻘد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻗد ﺟﻌﻠوا ﻣن الشﻌب وليس الفرد‬
‫ھو الذي يؤﺳس الﺳيادة التاﻣﺔ ﻏير ﻗابﻠﺔ لﻠتﻘﺳيم واﻻﻏتراب‪.‬‬
‫كﻣا تطرح الﺳيادة فﻲ ﻣﺳتويين‪:‬‬
‫الﻣﺳتوى األول ھو الﺳيادة الداﺧﻠيﺔ‪:‬‬
‫ﻋالﻗﺔ الدولﺔ باألفراد ﺣيث تﻣارس نفوذا تاﻣا فﻲ اطار اﺣترام‬
‫الﺣﻘوق والواﺟبات ﻋﻠﻰ األفراد وتﻌاﻣﻠﮭم كﻣواطنين‪ .‬ولذلك يتم‬
‫ﻣﺟابﮭﺔ كل أشكال التﻣرد والﻌصيان واﻻنفصال والﺧروج بالردع‪.‬‬
‫الﻣﺳتوى الﺛانﻲ ھو الﺳيادة الﺧارﺟيﺔ‪:‬‬
‫ﻋالﻗﺔ الدولﺔ بالدول األﺧرى ﺣيث تتﻣتﻊ الدولﺔ باﻻﺳتﻘالل التام‬
‫والكاﻣل والﺳﻠطﺔ الﻌﻠيا والنفوذ الﻣطﻠق فﻲ ﻣﺳتوى اتﺧاذ الﻘرار‬
‫وﻻ تﺳﻣح لﻠدول الﺧارﺟيﺔ بالتدﺧل فﻲ شؤونﮭا الداﺧﻠيﺔ والتﺣكم‬
‫فﻲ ﻗرارھا واﺳتغالل ﺛرواتﮭا والتﺣكم فﻲ ﻣصائر ﻣواطنيﮭا‬
‫والتصرف بدﻻ ﻋنﮭا فﻲ ﻣﻘدراتﮭا‪.‬‬
‫اذا كانت الﺳيادة ﻋند ﺟان ﺟاك روﺳو ھﻲ ﻣﻣارﺳﺔ اﻻرادة‬
‫الﻌاﻣﺔ‪ 1‬فإن كونﺳتون يشترط ضﻣان الﺳيادة الﻣشتركﺔ ﻻﺳتﻘالليﺔ‬
‫الفرد لكﻲ يتم الﺣديث ﻋن دولﺔ الﺣريات والﺣﻘوق‪ 2‬ويﺳانده‬

‫‪1‬‬
‫‪Rousseau J.J , Du contrat social , livre 2, édition GF- Flammarion,‬‬
‫‪Paris, 1992, pp.51.56‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Constant, De la liberté des anciens comparée à celle des modernes,‬‬
‫‪in De l’esprit de conquête et de l’usurpation, édition GF-‬‬
‫‪Flammarion, Paris, 1986, p.265.‬‬

‫‪171‬‬
‫كوﺳترياديس فﻲ التأﺳيس الذاتﻲ لﻠﻣﺟتﻣﻊ ﻋند ترك األفراد أﺣرار‬
‫وﺳيادتﮭم ﻋﻠﻰ آﺛارھم‪.1‬‬
‫ﻻ يﻣكن الﺣديث ﻋن ديﻣﻘراطيﺔ دﺳتوريﺔ دون اﻻنطالق ﻣن‬
‫الﻣزج بين الﻣصارﺣﺔ بالﺣﻘيﻘﺔ وﺳياﺳﺔ اﻻنصاف وبال تذكير‬
‫بأھﻣيﺔ اتيﻘا النﻘاش الﻌﻣوﻣﻲ فﻲ ﻣﻘابل الﮭويﺔ الﻌنيفﺔ وﺳياﺳﺔ‬
‫الﻣصﻠﺣﺔ‪ .‬كﻣا الرﻏبﺔ الشديدة فﻲ توطين ﻣفﮭوم الﺳيادة فﻲ‬
‫الﻣﻌﻣورة ﻻ يﺟب أن تتﺣول الﻰ ﻋاﻣل ﺟدب لﻠﺣريات وﻣنظوﻣﺔ‬
‫الﻣواطنﺔ وﻗيم الفردانيﺔ وﺛﻘافﺔ ﺣﻘوق اﻻنﺳان وﻣبادئ التﺣرريﺔ‪.‬‬
‫ﻋالوة ﻋﻠﻰ أن الﺳيادة ﻻ تﻘتصر ﻋﻠﻰ ﻣاھو ﻗانونﻲ وضﻌﻲ‬
‫وﻣا يتم اﻻتفاق ﻋﻠيه بﻣﻘتضﻰ النصوص الدﺳتوريﺔ بل تتﻌدى ذلك‬
‫الﻰ الﺳيادة الﺳياﺳيﺔ التﻲ تﺣتكم الﻰ اﻻرادة الشﻌبيﺔ وتﺣترﻣﮭا‬
‫وﻣا يفضﻲ ذلك ﻣن اﺳتﻘالليﺔ الﻘرار الﺳياﺳﻲ الوطنﻲ وتﺣصين‬
‫ﺣريﺔ اﻻﺧتيار فﻲ ﻣﺳتوى الﺳياﺳات الﺣيويﺔ وإتﻘان فن التﺣالفات‬
‫اﻻﺳتراتيﺟيﺔ وﺣﺳن التﻣوﻗﻊ الﺟيو‪ -‬ﺳياﺳﻲ فﻲ لﻌبﺔ األﻣم‬
‫الﻣتﺣكﻣﺔ فﻲ ﻣصائر الدول وﺛروات الشﻌوب وﻣﺳتﻘبل الﺣياة‬
‫الﺟيدة فﻲ الكوكب‪.‬‬
‫ﻻ يﻣكن اﻻنتﻘال ﻣن الﺳيادة الﻣنﻘوصﺔ لﻠدولﺔ الرﺧوة إﻻ بتوفير‬
‫ﻣﻘوﻣات الدولﺔ الﻘويﺔ التﻲ تﻌبر ﻋن الﻌﻘل فﻲ ﻗدرته التشريﻌيﺔ‬
‫ﻋﻠﻰ تﺧطﻲ الﻌنف الﺳياﺳﻲ واألزﻣﺔ الروﺣيﺔ واﻻنبتات‬
‫الوﺟودي‪ .‬فكيف تﻌﻣل الديﻣﻘراطيﺔ الدﺳتوريﺔ ﻋﻠﻰ تﺛبيت ﻣفﮭوم‬
‫الﺳيادة فﻲ الﻘاﻣوس الﺳياﺳﻲ الراھن؟‬

‫‪1‬‬
‫‪Castoriadis, Domaines de l’homme, les carrefours du labyrinthe, 2,‬‬
‫‪édition du Seuil, Paris, 1986, pp.318 .323.‬‬

‫‪172‬‬
‫خاتمة‬

‫"ان الفﻠﺳفﺔ والديﻣﻘراطيﺔ ﻻ يشتركان فﺣﺳب فﻲ أصﻠﮭﻣا الﻣشترك‪،‬‬


‫‪1‬‬
‫ولكن وﺟودھﻣا ذاته وﺟود ﻣشترك"‬

‫فﻲ الﺧتام يﺣتاج الفكر اليﻘظ الﻰ رﺟﺔ ﻣﻌرفيﺔ لكﻲ يﺳتفيق ﻣن‬
‫ﻏفوته وينتﻘل ﻣن التبﻌيﺔ الﺛﻘافيﺔ الﻰ اﻻﺳتﻘالل الﺣضاري ويتطﻠب‬
‫اﻻنﻌتاق ﻣﻣارﺳﺔ التفكيك والﻘيام بالتﺣطيم والﺧﻠﺧﻠﺔ لﻠبديﮭيات‪.‬‬
‫والﺣق أن ﻣطﻠب الﺣريﺔ يتناﻗض ﻣﻊ واﻗﻊ الﻌبوديﺔ وأن األﻣل‬
‫فﻲ اﻻﺳتﻘالل يَﺟُبُّ ﻣا ﻗبﻠه ﻣن التبﻌيﺔ الﺛﻘافيﺔ وﻋندئذ يشترط‬
‫تﺣﻘيق الﺳيادة اكتﻣال اﻻﺳتﻘالليﺔ الذاتيﺔ لﻠﮭويﺔ الﺣضاريﺔ لﻠﺟﻣاﻋﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ‪ .‬بيد أن ﻣفﮭوم الﺳيادة الوطنيﺔ ليﺳت ﻣﺟرد افتكاك ﺣﻘوق‬
‫الﻣﻠكيﺔ ﻣن الﻌولﻣﺔ الﻣتوﺣشﺔ ووكالء اﻻﺳتﻌﻣار بل ﻗداﺳﺔ ﻣﻠكيﺔ‬
‫الذات الوطنيﺔ لذاتﮭا واﺳتﻌادة تراﺛﮭا بوصفه رأﺳﻣالﮭا الرﻣزي‬
‫والﻣصالﺣﺔ ﻣﻊ الذاكرة والتغﻠب ﻋﻠﻰ شﻘاء التاريﺦ وتصﺣيح‬
‫األوضاع التﻲ أفرزت التفاوت الﻣادي بين الﻣركز واألطراف‬
‫وبين بﻠدان الشﻣال الﻣتﻘدﻣﺔ وبﻠدان الﺟنوب الناﻣيﺔ واﻻﻋتذار‬
‫الﺣضاري ﻋن الﺟرائم والتﻌديات وتﺣﻣيل الفاﻋﻠين ﻣﺳؤوليﺔ‬
‫اﺧتياراتﮭم وﺟبر األضرار لدى الضﺣايا وتﺣﻘيق ﻣبادئ الﻌدالﺔ‬
‫اﻻنتﻘاليﺔ فﻲ دوائر الﺣريﺔ والﻣﺳاواة واﻹنصاف واﻻﺳتﺣﻘاق‬
‫والصفح واﻻﻋتراف والوﻋد واألﻣل‪ .‬والﺣق أن توطين ﻣفﮭوم‬
‫الﺳيادة بصفﺔ ﻣﺳتﻘرة ﻋﻠﻰ أرضنا يتطﻠب تﺣرير الفاﻋﻠيين‬

‫هابرماس ( يورغن ) ‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.66.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪173‬‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيين ﻣن ﺛﻘافﺔ الﺳﻠطﺔ وتوﺳيﻊ أنظﻣﺔ الشرﻋنﺔ والبﺣث فﻲ‬
‫الﮭويﺔ الوطنيﺔ ﻣن زاويﺔ تﻌدديﺔ تشاركيﺔ‪ .‬لكن كيف يﻣكن الﻘضاء‬
‫ﻋﻠﻰ الظروف والﻣالبﺳات والوضﻌيات الﻘصوى الﻣولدة لﻠفﻘر‬
‫والﺟﮭل والﻣرض والﻣفرﺧﺔ لﻠغﻠو والﻌنف واﻹرھاب والﻣنتﺟﺔ‬
‫الرفاه‬
‫لﻠتطاﺣن والتﺣارب والتدﻣير والتﮭﻣيش؟ وھل ﺳاﻋدت دول ّ‬
‫ﻣن ﺟﮭﺔ التنظير والتنفيذ دول الرﻋايﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ﻋﻠﻰ التﺧﻠص‬
‫ﻣن أوضاﻋﮭا الﺳيئﺔ وتبﻌيتﮭا وﻋﻠﻰ الﻘضاء ﻋﻠﻰ الﻣديونيﺔ وﻣنوال‬
‫التنﻣيﺔ الﻣتﺧﻠف والفاشل؟ والﻰ أي ﻣدى ينتشر الفﻘر نتيﺟﺔ تفاوت‬
‫الﺣظوظ وﺳوء الطالﻊ ويزداد التﺧﻠف بﺣكم الظروف ﻏير‬
‫الﻣنصفﺔ وﻗﻠﺔ الﻣشاركﺔ فﻲ الﺣياة اﻻﻗتصاديﺔ؟ ھل تﻣﻠك دولﺔ‬
‫الرﻋايﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الﻘدرة ﻋﻠﻰ ﻣﻌالﺟﺔ األضرار وﻣﻘاوﻣﺔ اآلفات‬
‫‪1‬‬
‫التﻲ ﺳببت التبﻌيﺔ وتﺣﻘق الﻣﺳاواة فﻲ الظروف بين الناس؟‬

‫كيملشكا ( ويل) ‪ ،‬مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة‪ ،‬ترجمة منير الكشو‪ ،‬المركز‬ ‫‪1‬‬

‫الوطني للترجمة ‪ ،‬دار سيناترا‪ ،‬تونس‪،‬طبعة أولى‪ .2010 ،‬ص‪.212.‬‬

‫‪174‬‬
‫اﻟﻣراﺟﻊ‪:‬‬
‫‪Castoriadis , Domaines de l’homme, les‬‬
‫‪carrefours du labyrinthe, 2, édition du Seuil,‬‬
‫‪Paris, 1986,‬‬
‫‪Constant, De la liberté des anciens‬‬
‫‪comparée à celle des modernes, in De l’esprit‬‬
‫‪de conquête et de l’usurpation, édition GF-‬‬
‫‪Flammarion, Paris, 1986, p.265.‬‬
‫‪Ricœur (Paul), Histoire et vérité, édition du‬‬
‫‪Seuil. Paris,1955- 1964. Rousseau J.J , Du‬‬
‫‪contrat social , livre 2, édition GF-‬‬
‫‪Flammarion, Paris, 1992,‬‬
‫كيﻣﻠشكا ( ويل)‪ ،‬ﻣدخل اﻟﻰ اﻟﻔلسﻔﺔ اﻟسياسيﺔ اﻟﻣﻌاصرة‪،‬‬
‫ترﺟﻣﺔ ﻣنير الكشو‪ ،‬الﻣركز الوطنﻲ لﻠترﺟﻣﺔ‪ ،‬دار ﺳيناترا‪،‬‬
‫تونس‪،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.2010 ،‬‬
‫ھابرﻣاس ( يورﻏن )‪ ،‬اﺗيﻘا اﻟﻣناقشﺔ وﻣسأﻟﺔ اﻟﺣﻘيﻘﺔ‪،‬‬
‫الديﻣﻘراطيﺔ الدﺳتوريﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋﻣر ﻣﮭيبل‪ ،‬ﻣنشورات‬
‫اﻻﺧتالف‪ ،‬الﺟزائر‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪.2010،‬‬
‫( الشابﻲ ) أبو الﻘاﺳم‪ ،‬اﻷعﻣال اﻟﻛاﻣلﺔ‪ ،‬الدار التونﺳيﺔ لﻠنشر‪،‬‬
‫دون تاريﺦ‪.‬‬
‫ﺳﻌيد ( ادوارد)‪ ،‬االسﺗشراق‪ ،‬اﻟﻣﻔاهيم اﻟغرﺑيﺔ ﻟلشرق‪،‬‬
‫ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد ﻋنانﻲ‪ ،‬دار رؤيﺔ لﻠنشر‪ ،‬الﻘاھرة‪.2006 ،‬‬
‫ﻏارودي ( رﺟاء)‪ ،‬ﻛيف نصنﻊ اﻟﻣسﺗﻘﺑل؟‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣنﻰ طﻠبﺔ‬
‫وأنور ﻣغيث‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الﻘاھرة‪ ،‬الطبﻌﺔ الﺛالﺛﺔ‪.2002 ،‬‬

‫‪175‬‬
176
‫خاتمة الباب األول‬
‫"كﻠﻣا كان ﻣﺳتوى الﺧيار رفيﻌا‪ ،‬كان ﻣﺳتوى الﺣريﺔ أرفﻊ‪ ،...‬وكﻠﻣا‬
‫تنوﻋت الﺧيارات الﻣﻣكنﺔ‪ ،‬كانت اﻣكانات الﺣريﺔ أوﺳﻊ‪ ،...‬كﻠﻣا كانت ھناك‬
‫‪1‬‬
‫اﻣكانات ﻗرار وفﻌل‪ ،‬توفرت اﻣكانات ﺣريﺔ"‬

‫تﺣاول الكتﻠﺔ التاريﺧيﺔ أن تتدارك الفوات الﺣضاري وأن تﻌﺛر‬


‫ﻋﻠﻰ الﺟواب الشافﻲ لﻠﺳؤال ﻋن الﮭويﺔ وأن ترد ﻋﻠﻰ تﺣديات‬
‫الﻌولﻣﺔ وأن تﺟد طريق الﺧالص ﻣن أزﻣﺔ ﺧطاب الﮭويﺔ التﻲ‬
‫ﺳببﮭا اﻹﻗصاء والﺣرب‪ .‬لكنﮭا تﻘﻊ فﻲ كﻣاشﺔ تﻌﺛر البدائل وفشل‬
‫الﻣرﺟﻌيات وﺣالﺔ التﺧبط اﻹيديولوﺟﻲ بين الﻘوى الﻣتنافﺳﺔ‬
‫وﻏياب الﻣشروع الﺣضاري الﻣتكاﻣل وتﻌبر ﻋن ﺣاﺟﺔ ﻣاﺳﺔ إلﻰ‬
‫رؤيﺔ ﻣﻌﻣﻘﺔ لﻠواﻗﻊ وﻗراءة تشﺧيصيﺔ نﻘديﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ وﻏربﻠﺔ فكريﺔ‬
‫لﻠﻌﻘل الذي يﺳكننا‪.‬‬
‫ﻻ يﻣكن بناء ﻋﻣارة الﮭويﺔ ﻋﻠﻰ أﺳاس الدين فﺣﺳب وﻻ يﺟوز‬
‫التﻌويل ﻋﻠﻰ الﮭويﺔ الدينيﺔ لﻣواﺟﮭﺔ الﻣﺧاطر والصﻣود أﻣام‬
‫ﻣوﺟات التفكيك والتﻘﺳيم بالرﻏم ﻣن ادﻋاء ھذا الدين الﻌالﻣيﺔ‬
‫واكتﺳاﺣه الﺳريﻊ لﻠﻣﻌﻣورة‪ .‬كﻣا ﻻ يتﻌﻠق األﻣر بالبﺣث ﻋن‬
‫األصل والتفتيش ﻋن الﻣصير بالنﺳبﺔ لﻠﮭويﺔ التﻲ تﺧصنا لإلﺟابﺔ‬
‫ﻋن ﺳؤال ﻣن نﺣن؟ وذلك بطرح ﺳؤال ﻣن أين أتينا؟ والﻰ أين‬
‫ﺳنذھب؟ وإنﻣا الﻣطﻠوب تﺣديد ﻣوﻗﻌنا فﻲ الﻌالم وﻗيﻣﺔ الرصيد‬

‫موران (أدغار)‪ ،‬النهج‪ ،‬إنسانية البشرية‪ ،‬الهوية البشرية‪ ،‬ترجمة هناء صبحي‪ ،‬كلمة ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫أبو ظبي‪ ،‬طبعة أولى ‪ ،2009‬ص‪312‬‬

‫‪177‬‬
‫الﮭووي الذي تﺣوز ﻋﻠيه الﺟﻣاﻋﺔ التاريﺧيﺔ الناطﻘﺔ بﻠغﺔ الضاد‬
‫واﻹﺟابﺔ ﻋﻠﻰ ﺳؤال أين نﺣن؟‬
‫ﻣا انفكت ﺣضارة اﻗرأ تطرح أﺳئﻠﺔ شائكﺔ ﺣول نفﺳﮭا ودورھا‬
‫فﻲ الﻌالم ﺳواء ﻣن أﺟل الرد ﻋﻠﻰ اﻻﻋتداءات واﻻﺳتﺛبات أو بغيﺔ‬
‫توطيد الﺳيادة الﺣضاريﺔ وتدﻋيم اﻹشﻌاع واﻻﺳتفاﻗﺔ وتوكيد‬
‫اﻻنتشار الﺛﻘافﻲ فﻲ الكون‪ .‬لكنﮭا ﻻ تدﻋﻲ اﻣتالكﮭا لﮭويﺔ ﻣتفوﻗﺔ‬
‫واﺳتﻣدادھا لﮭذا التفوق ﻣن الدين وﻻ تزﻋم ﻣواصﻠﺔ الريادة وﻗيادة‬
‫الﻘاطرة الﺣضاريﺔ فﻲ الﻠﺣظﺔ الراھنﺔ بل تﻌترف بفﻘدان البوصﻠﺔ‬
‫وبالضياع فﻲ الﻌالم‪ .‬كﻣا أنﮭا ﻻ تﺣﻣل الدين ﺣال الﮭزيﻣﺔ التﻲ‬
‫ﻣنيت بﮭا الﻣﻠﺔ وﻻ تتﻌاﻣل ﻣﻊ نفﺳﮭا كﮭويﺔ ﻣغﻠوبﺔ وإنﻣا تطﻣح‬
‫إلﻰ اﻻﺳترﺟاع والﻰ الﻌودة إلﻰ الذات والتﺧﻠص ﻣن اﻻﻏتراب‬
‫والﺟﻣود والتذبذب وزرع اﻻﺳتنارة والﻣدنيﺔ فﻲ الﻣدينﺔ اﻻنﺳيﺔ‪.‬‬
‫ﻣا يﺛير اﻻﺳتغراب ويﻣﺛل ﻣفارﻗﺔ أن الذين يتﺣركون فﻲ فﻠك‬
‫الﮭويﺔ ويﻘدﻣون أنفﺳﮭم كﻣدافﻌين ﻋن الذات الﺣضاريﺔ ينتﺟون‬
‫ﺧطابا ﻣبتﺳرا ويكتفون بكيل الﻣديح اﻹفتﺧاري ﻋن وضﻌيتنا‬
‫التاريﺧيﺔ ويﺳﻘطون فﻲ زھو وﻏرور الﺧطاب األبولوﺟﻲ‬
‫النرﺟﺳﻲ‪ ،‬فﻲ ﺣين أن الذين يﺟاھرون باﻻنتﻣاء إلﻲ اﻹنﺳانيﺔ‬
‫ويﺣﺳﻣون أﻣرھم ﻣﻊ الﻣوروث والتﻘاليد يشكﻠون ﻣادة ﻋﻠﻣيﺔ دﺳﻣﺔ‬
‫ﻋن زﻣانيﺔ الوﺟود الذي يﺣوينا واﻹطار اﻻﺟتﻣاﻋﻲ الذي يتبﻌنا‪.‬‬
‫فﮭل يدل ذلك ﻋﻠﻰ أن ﺛبت الﮭويﺔ يﻣر ﻋبر اﻹفالت ﻣن رﻗابﺔ‬
‫الذاتيﺔ واﻻﻋتصام بالﻣوضوﻋيﺔ؟ وكيف نتﺟاوز ھذه الفصاﻣيﺔ فﻲ‬
‫البﺣث األكاديﻣﻲ بين ذاتيﺔ بال ھويﺔ وﺧطاب ھووي بال‬
‫ﻣوضوﻋيﺔ؟‬

‫‪178‬‬
‫ربﻣا يكون اﻻﺳتنﺟاد بالﻣﺛﻘف النوﻋﻲ ھو الﺧيار الذي يفيد فﻲ‬
‫تﻘويﺔ اﻻﻗتدار ﻋﻠﻰ ﻣواﺟﮭﺔ الﺧطر باﻻلتزام بالطابﻊ الﻣركب‬
‫لﻠﮭويﺔ والتأصل الكونﻲ واألنﺳنﺔ الﺛﻘافيﺔ وتﻌﻠيم الﺣشود التﻲ‬
‫ننتﻣﻲ إليﮭا ﻣن ﺟﮭﺔ اﻻﺟتﻣاع والﻘانون والﺛﻘافﺔ واﻻﻗتصاد الﻘيم‬
‫الكونيﺔ واﻹنﺳانيﺔ التﻘدﻣيﺔ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا األﺳاس ﻻ يتوﻗف التفكير الفﻠﺳفﻲ فﻲ الﮭويﺔ التﻲ‬
‫تﺧصنا ﻋند ضبط الﻣفﮭوم وتﻘديم التﻌريف ووضﻊ الﺣد الﺟاﻣﻊ‬
‫والﻣانﻊ بل يتﻌدى ذلك نﺣو تﺣويل الﺛوابت وتﺣريك الﺳواكن‬
‫وإدﺧال التﻌﻘد فﻲ البﺳائط وزرع اﻻﺧتالف فﻲ الواﺣد والتﻌدد فﻲ‬
‫الوﺣدة واﻻﻋتصام بالﻣنﮭج الﻣركب والتدبير اﻹيتيﻘﻲ لﻣﺳتﻘبل‬
‫النوع البشري واﺧتيار أنﻣاط الﺣياة الﻣالئﻣﺔ ﻋﻠﻰ األرض‬
‫والﺳﻣاح بالتالﻗﻲ بين الذات والغير وبين الفرد والﻣﺟتﻣﻊ‬
‫واﻻﺳترﺳال بين الطبيﻌﻲ والﺛﻘافﻲ‪.‬‬
‫لﻘد ﺟﻌل أدﻏار ﻣوران ﻣن ﻗضيﺔ أنﺳنﺔ البشريﺔ اﻻھتﻣام‬
‫األكبر بالنﺳبﺔ لﻠفﻠﺳفﺔ الﻣﻌاصرة وأوكل إلﻰ الﻌﻘل اﻻيكولوﺟﻲ‬
‫ﻣﮭﻣﺔ الﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﻗاﻣﺔ فﻲ الﻌالم وركز ﻋﻠﻰ إبداع الﮭويﺔ‬
‫الﻣركبﺔ وصوب ﺳﮭام نﻘده إلﻰ الﻣراوﺣات الﻌﻘيﻣﺔ والطرق‬
‫التبﺳيطيﺔ واﻻﺧتزاليﺔ لﻠطبيﻌﺔ البشريﺔ وﺟﻌل ﻣن ﻗضيﺔ الﻣنﮭج‬
‫البوابﺔ الﻣﻌرفيﺔ الﺣاﺳﻣﺔ لﻠتطرق إلﻰ ﻣطالب إنﺳانيﺔ اﻹنﺳانيﺔ‬
‫وﻣﻌرفﺔ الﻣﻌرفﺔ وطبيﻌﺔ الطبيﻌﺔ وﺣياة الﺣياة‪ .‬وبالتالﻲ تﺳﻣح‬
‫األنﺛربولوﺟيا الفﻠﺳفيﺔ ﻋند أدﻏار ﻣوران بوﻻدة ﺳياﺳﺔ لﻠﺣضارة‬
‫ترتكز باألﺳاس ﻋﻠﻰ ﻣﺣاربﺔ الﮭﻣﺟيﺔ والشﻣوليﺔ وتوطن التأصل‬
‫فﻲ الكون واﻻندﻣاﺟيﺔ فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ واألنﺳنﺔ فﻲ الﺛﻘافﺔ والﺧﻠﻘنﺔ‬
‫فﻲ الﺳياﺳﺔ وتضﻊ اﻹيتيﻘا فﻲ ﺣضن الوﺟود وتﺟﻌل ﻣن النﮭايﺔ‬

‫‪179‬‬
‫الكارﺛيﺔ بدء ﺟديد لﮭويﺔ البشر ﻋﻠﻰ ﻣنﺣﻰ ﻣﺧتﻠف‪ .‬أليس شرط‬
‫ابداع نﻣط ﻣركب ﻣن الﮭويﺔ الﻣتﺟددة ھو التﺣرر ﻣن اﻻﻏتراب‬
‫الدينﻲ؟‬

‫اﻟﻣرﺟﻊ‪:‬‬
‫ﻣوران (أدﻏار)‪ ،‬اﻟنهج‪ ،‬إنسانيﺔ اﻟﺑشريﺔ‪ ،‬اﻟهويﺔ اﻟﺑشريﺔ‪،‬‬
‫ترﺟﻣﺔ ھناء صبﺣﻲ‪ ،‬كﻠﻣﺔ‪ ،‬أبو ظبﻲ‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ ‪،2009‬‬

‫‪180‬‬
‫الباب الثاني‬

‫الفلسفة والديمقراطية‬

‫يف مواجهة عوملة االرهاب‬

‫‪1‬‬
‫"اذا لم يتبن الﻣرء البﻌد التاريﺧﻲ فإن الﺣرب الﻣﻘدﺳﺔ تﻘوم"‬

‫مقدمة‬

‫"لﻘد كشفت األوضاع الالّإنﺳانيﺔ لﻠﺣرب ﻋن ھذا البﻌد ﻣن الالإنﺳانيﺔ‬


‫‪2‬‬
‫الذي يتﺣكم فﻲ أشد الﻌالﻗات اﻻنﺳانيﺔ ﻋاديﺔ"‬

‫ربﻣا نﺣتاج اليوم فﻲ ھذا الوضﻊ الﻣتشنج والﺟو الﻣﻠﻲء‬


‫بالكراھيﺔ والتﻌصب والتصارع ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ والﻣصﻠﺣﺔ وفﻲ ظل‬
‫بروز الﻌنف والالّتﺳاﻣح الﻰ اﻻﺣتﻣاء بﻘيم الﺣق والﺣريﺔ‬
‫واﺳتنشاق ھواء الﻣفاھيم وتنفس رائﺣﺔ الﻣﻌانﻲ وايﺛار البﺣث ﻋن‬
‫الرﻗﻲ الفﻠﺳفﻲ‬
‫الﺣﻘائق واﻻﻋتصام بالﺳرد الﺣالم والطﻣوح الﻰ ّ‬
‫والصفاء الفكري والﺳﻣو اﻹتيﻘﻲ والﻰ ﻗﻠيل ﻣن التآلف اﻻنﺳانﻲ‬
‫واﻹﺣﺳاس باآلﺧر‪ .‬ﻋﻠﻰ الرﻏم ﻣن أن الفﻠﺳفﺔ أضﺣت ﻣن‬

‫‪1‬‬
‫‪Revue Philosophie Magazine , N°96, Décembre 2015, p19.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Grimaldi (Nicolas), L’humain, edition PUF, Paris, 2011 ,p.66.‬‬

‫‪181‬‬
‫الكالﺳيكيات ﻏير الﻣﺛيرة لالھتﻣام وأنﮭا صارت ﻣﺟال ﻣتراﻣﻲ‬
‫األطراف وﺣﻘال ﻻ يﻣكن تﺳييﺟه اﻻ أن الﻣؤلفات النﻘديﺔ‬
‫الﻣﻌاصرة تﻌتبر ﻣن الﻣفضالت ﻋند الﻌديد ﻣن الﻘراء والﻣتابﻌين‬
‫وذلك لﻣا تطرﺣه ﻣن زيادة فﻲ الﻣﻌرفﺔ وفائض فﻲ الﻘيﻣﺔ‬
‫وﺧصوبﺔ فﻲ الﻣﻌنﻰ ﺣينﻣا تتدﺧل فﻲ الشأن الﻌام وتناﻗش الﻌﻠوم‬
‫واآلداب وتﮭتم بالالّفﻠﺳفﻲ وتتفﮭﻣه وتﻌﻘﻠنه‪ .‬ولﻌل ﻣن الﻘضايا التﻲ‬
‫برزت الﻰ الﻌيان فﻲ الﻣتن الفﻠﺳفﻲ ھﻲ فﻲ الﻌﻣوم ﻋالﻗﺔ الﮭويﺔ‬
‫بالزﻣان وبالتﺣديد تﻣييزاته الﺣاﺳﻣﺔ والدﻗيﻘﺔ بين التاريﺦ والذاكرة‬
‫وبين النﺳيان والصفح وﻣﺣاوﻻته الﺟادة لتﺟاوز الﻣواﻗف الﻣطﻠﻘﺔ‬
‫والﺧروج ﻣن الوضﻌيات الﺣديﺔ ﻣﺛل الﺣرب والﻌدوان ولﻠتﻘﻠيل‬
‫ﻣن النزاﻋات الفكريﺔ والﺣﻠول الﻘصوويﺔ‪ .‬والﺣق أن الﻌرب‬
‫يتﻌرضون اليوم الﻰ ﺳياﺳات اﻻبادة الﺟﻣاﻋيﺔ وﻗتل ﻋﻠﻰ الﮭويﺔ‬
‫والتﮭﺟير الﻘﺳري بال ذنب ارتكبوه ووﻗﻊ تﻌطيل ﻣشروع الدولﺔ‬
‫األﻣﺔ واﺟبروا ﻋﻠﻰ التﺧﻠﻲ ﻋن ﻣفﮭوم الﺳيادة دون ﻣﻘابل أو بديل‪.‬‬
‫وتم اﺧتطاف أديانﮭم وتوظيفﮭا بشكل ھﺟين ﻣن أﺟل ﺧدﻣﺔ‬
‫ﻣشاريﻊ كﻠيانيﺔ وتم تبريرھا بغيﺔ ﻻزھاق األرواح وتﺧريب‬
‫الﻌﻣران‪ .‬كﻣا تبدو الذاكرة الﻌربيﺔ ﻣﮭانﺔ وﻣﻌاﻗﺔ وﻣﮭزوﻣﺔ‬
‫وﻣتالﻋب بﮭا وﻏارﻗﺔ فﻲ ﻣﺳتنﻘﻊ األدلﺟﺔ والشﻌور بالذنب ويﺟب‬
‫تﺣريرھا ﻣن كﺳر التاريﺦ وﺳﻠطﺔ الﻣيراث لﻠوصول الﻰ ذاكرة‬
‫ﻣتصالﺣﺔ ﻣﻊ ذاتﮭا وھادئﺔ وﻣرتاﺣﺔ‪ .‬رب وضﻊ ﻣزري يتردى‬
‫فيه الناطﻘون بﻠغﺔ الضاد يﺟﻌﻠﮭم أبﻌد ﻋن لغﺔ الﻣﺳاوﻣﺔ والصﻠح‬
‫واﻻﻋتراف وأﻗرب إلﻰ الدفاع ﻋن النفس واﻻﺳتﺛبات ﻣن أﺟل‬
‫ﺣفظ الكيان‪ .‬فﻣاذا فﻌﻠنا بأنفﺳنا ﺣتﻰ ينتشر التﺣارب وتﻌم الفتن‬
‫ويتﻌولم الﻘتل فﻲ كل ناﺣيﺔ ﻣن ديارنا؟ ھل يﻘبل الذنب الﻌربﻲ‬

‫‪182‬‬
‫اﺧتفاء الﺟالد أم تغيير الضﺣايا لﻠدفاع ﻋن الﻘضايا الﻌادلﺔ؟ وھل‬
‫الﻌدو يتربص بنا فﻲ الﺧارج ويﺣيك ﺧيوط ﻣؤاﻣراته أم يﻘبﻊ‬
‫داﺧﻠنا ويدفﻌنا إلﻰ إتباع ﺳياﺳﺔ التدﻣير الذاتﻲ؟ وﻋن أي صفح‬
‫وﻋفران وﻋفو وتﺟاوز ونﺳيان يتﺣدث الﻌرب فﻲ ظل ﺣضور ﻣا‬
‫ﻻيﻣر أضرار وﻻ ينﺳﻰ ﻣن انتﮭاكات وﻻ يﻌوض ﻣن ﺧﺳائر؟‬
‫" وھكذا فإن أﻗصﻰ الضرر الالﺣق بالغير ﻣن ﺧالل ﻗطﻊ‬
‫الﻌالﻗﺔ اﻻنﺳانيﺔ يصبح الﻣؤشر الﻰ ھذا التطرف اﻻﺧر وھو‬
‫التطرف الﺣﻣيم ألذيﺔ الﻣﺟرم وفﻲ ھذه النﻘطﺔ تبرز ﻣفاھيم ﻣا ﻻ‬
‫يﻌوض ﻣن ﺟﮭﺔ النتائج وﻣا ﻻيﻣر ﻋﻠيه زﻣن بالنﺳبﺔ الﻰ الﻌدالﺔ‬
‫‪1‬‬
‫الﺟزائيﺔ وﻣا ﻻ يغفر ﻣن ﺟﮭﺔ الﺣكم اﻻﺧالﻗﻲ"‬
‫يصﻌب ﻋﻠﻰ الﻌرب ﻣﻣارﺳﺔ النﺳيان والتﺳﻠح بالﻌفو‬
‫واﻻﻋتصام بالصفح واﻋتﻣاد ﻗيﻣﺔ الغفران فﻲ بناء ﻋالﻗﺔ ﻣﺳتﻘبﻠيﺔ‬
‫ﻣﻊ اآلﺧر وذلك بالنظر الﻰ اﺳتﻣرار الﻣﻌاناة وبﻣا أن ﺣﺟم الدﻣار‬
‫كبير وﻋدد الﻣﺟاز ﻻ تﺣصﻰ والضﺣايا ھم ﻣن األطفال والﻌزل‬
‫واألبرياء والدم البشري ﻣﺳفوح والﺣريﺔ اﻹنﺳانيﺔ ﻣذبوﺣﺔ‬
‫ودرﺟﺔ اﻻنتﮭاك لﻠكراﻣﺔ اﻹنﺳانيﺔ ھائﻠﺔ والﺟرح الذي أصاب‬
‫الذاكرة ﻋﻣيق والﻌار ﻗد يﻠﺣق بالﺛﻘافﺔ والتصﺣر ﻗد يصيب الﺣياة‪.‬‬
‫كل ذلك يﺣدث وفق ﻋنوان ولكن تﻌﺟز الﻠغﺔ ﻋن التبرير وﻋن‬
‫التنصل ﻣن الﻣﺳؤوليﺔ وتتﻌﺛر ﺣينﻣا تﺣاول تﺟﻣيل الﻣشﮭد أو‬
‫تبييض الﺳواد الﻣﻠطﺦ لوﺟه الراھن الﻘبيح‪.‬‬
‫ﻣن ﺟﮭﺔ الذنب الﻌربﻲ الذي يتنزل ضﻣن النوع الﺳياﺳﻲ نﺣن‬
‫فﻲ ﺣاﺟﺔ الﻰ اكتﻣال الﺣداﺛﺔ الﺧاصﺔ بنا وليس اﺳتنﺳاخ ﻣﻌيار‬

‫‪ 1‬ريكور (بول)‪ ،‬الذاكرة‪ ،‬التاريح‪ ،‬النسيان‪ ،‬ترجمة جورج زيناتي‪ ،‬دار الكتاب الجديد‬
‫المتحدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة أولى‪،2009 ،‬ص‪.670‬‬

‫‪183‬‬
‫لﻠﺣداﺛﺔ يتم ﻋولﻣته ﻋﻠﻰ كل الﺛﻘافات‪ .‬ليس الﻣﺳﻠم ﻣذنبا بالطبﻊ وﻻ‬
‫ﺧطاء بالضرورة وبﻌيدا أن يكون فﻲ طور اﻻﺧتفاء والتالشﻲ‬
‫واﻻﺣتضار فﻲ نﮭايﺔ التاريﺦ وإنﻣا الﻌولﻣﺔ الﻣتوﺣشﺔ واﻻﺳتﺣﻣار‬
‫والﺟﮭل الﻣﻘدس فﻲ الداﺧل واﻻﺳتﻌﻣار ﻣن الﺧارج واﻹرادة‬
‫الغازيﺔ والصراع بين الﺣضارات ھﻲ التﻲ دفﻌته الﻰ ابتداع‬
‫أشكال الالّﻋﻘالنيﺔ لﻠدفاع ﻋﻠﻰ نفﺳه تدﻣر اﻻنﺳانيﺔ التﻲ ينتﻣﻲ‬
‫اليﮭا‪.‬‬
‫نﺣن نتﺣرك فﻲ اطار الوﺟود الﻣدين تﺟاه التﻘاليد ونﺣﻣل دينا‬
‫كبيرا تﺟاه التراث ﻋﻠينا ارﺟاﻋه وفكرة الﻘطيﻌﺔ ﻣﺟرد وھم‬
‫وﺳراب اذ ﻻ يﻣكن طرح الذاكرة ﺟانبا‪ .‬والﺛﻘافﺔ الغربيﺔ بفﻠﺳفاتﮭا‬
‫وﻋﻘالنيتﮭا وﻋﻠوﻣﮭا وتﻘنياتﮭا ليس ﻏيريﺔ بالنﺳبﺔ الينا بل نﺣن‬
‫أنتﺟنا ﻏيرتنا الﻌدائيﺔ ﻣن داﺧﻠنا وﺟﻌﻠناه فﻲ ﻗﻠب ذاتيتنا وتﺣولت‬
‫الﻰ ﻋائق يﻣنﻌنا ﻣن التﻘدم ويؤﺟج الصراﻋات الداﺧﻠيﺔ ويصﻌد‬
‫ﻣن ﻣوﺟات الﮭدم الذاتﻲ‪ .‬اﻻﺳالم الكونﻲ لم يبدأ بﻌد‪ ،‬الﻘرآن لم‬
‫يﻘرأ بالﻘدر الكافﻲ أو تم التﻌاطﻲ ﻣﻌه بشكل تاريﺧﻲ ﻣؤﻗت‪ ،‬نﺣن‬
‫فﻲ انتظار ﻣﺟﻲء الفﮭم الﺣﻘيﻘﻲ لإلﺳالم‪ .‬أﻻ يوﺟد تفاوت كبير‬
‫بين ﻋﻣق الذنب وﻋﻠو الغفران يزيد ﻣن الﮭﻣوم الﻌربيﺔ؟‬
‫" ان الذنب يشكل وضﻌا ھو ﺣد أﻗصﻰ ﻣغاير لﻠتناھﻲ الﻣكون‬
‫لﻠﺣالﺔ البشريﺔ‪...‬وان اﻻھتﻣام الذي نبديه بأﺳاطير الذنب له‬
‫نفﻌه‪ ،...،‬ﻣن أﺟل اﺳتكشاف ﻣوارد اﺣياء ﺟديدة بﻘيت دون أن‬
‫تﻣس‪...‬ففﻲ الﻣﻌالﺟﺔ الﺳرديﺔ واألﺳطوريﺔ ألصل الشر يرتﺳم‬
‫ﻣكان فارغ ﻣن أﺟل الغفران"‪.1‬‬

‫ريكور (بول)‪ ،‬الذاكرة‪ ،‬التاريح‪ ،‬النسيان‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ص‪.671‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪184‬‬
‫فﺣوى الﻘول أنه يﺟب أن نكون ذاتنا وننﺟز ھويتنا ﻣتﻌددة‬
‫الﻣنابﻊ أوﻻ ونفكر بﻌد ذلك فﻲ الﻠﻘاء باآلﺧر والتﺛاﻗف ﻣﻌه‬
‫واﻻنفتاح ﻋﻠيه واﻻﺳتفادة ﻣن تطوره وﺛوراته ورﻗيه الﺣضاري‪.‬‬
‫فبأي ذنب يﻘتل اﻹنﺳان فﻲ ﺣضارة إﻗرأ اليوم؟ وھل يتوﻗف ھذا‬
‫النزيف فﻲ الغد؟ وكيف يتﺣول تﻣنﻲ الﻣوت الﻰ ارادة ﺣياة؟ وﻣتﻰ‬
‫يﻘدر الﻌرب ﻋﻠﻰ تصويب بوصﻠتﮭم فﻲ اتﺟاه اﺳتراتيﺟيﺔ ﻣﻘاوﻣﺔ‬
‫ألي ضياع لﻣﻠتﮭم فﻲ الﻌالم؟ تﺳتوﺟب ھذه اﻹشكاليات التﻲ‬
‫طرﺣت التطرق إلﻰ الﻣﺣاور التاليﺔ‪:‬‬
‫‪ -1‬واﻗﻊ الﻣرواﺣﺔ فﻲ الﺳياﺳﺔ بين األﻣن والﺣريﺔ‬
‫‪ -2‬تأﺛير الدينﻲ فﻲ الوﻋﻲ وترابط الفﻌل والﺣريﺔ‬
‫‪ -3‬تأرﺟح الرﻏبﺔ بين التﻌل بالﻣﻘدس وﻣﺣاكاة الﻌنف‬
‫‪ -4‬تأﺟيل الصراع اﻻيديولوﺟﻲ واﺣداث الﺛورة الﺛﻘافيﺔ‬
‫‪ -5‬نﻘد التﻣركز ﻋﻠﻰ الذات ﻣن طرف الﻌﻘالنيﺔ الغربيﺔ‬
‫‪ -6‬ضرورة ﻣﻘاوﻣﺔ اﻻرھاب والتصدي لﻠﻌولﻣﺔ الﻣتوﺣشﺔ‬
‫‪ -7‬الﻣراھنﺔ ﻋﻠﻰ ﺛورة الﺣشود فﻲ بناء انﺳيﺔ كونيﺔ ﻋادلﺔ‬
‫‪ -8‬صورة الﻣﺛﻘف ووواﺟب ﻣﻘاوﻣﺔ اﻻﻣبرياليﺔ‬
‫‪ -9‬تﺣديد ﻣصادر الﻣشروﻋيﺔ وﻋﻘﻠنﺔ األنشطﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫‪ -10‬فﻠﺳفﺔ ﺣق الوﺟود واﻻﻋتراف بوﺟاھﺔ الﻘضيﺔ‬
‫‪ -11‬النﻣوذج الﻌﻠﻣانﻲ لﻠدولﺔ والشﺟرة اﻻبراھيﻣيﺔ‬
‫‪ -12‬وﻻدة ﺳياﺳﺔ روﺣانيﺔ ﻣن رﺣم ﺛورة الشرق‬
‫‪ -13‬نﻘد الﻌﻘل الﺳياﺳﻲ وﺣضور الﻌاﻣل الدينﻲ‬
‫‪ -14‬فنوﻣينولوﺟيا الﺳياﺳﺔ وارادة الﻌيش الﻣشترك‬
‫‪ -15‬اﻻنﺳان بين ﻣظﮭر التﻣﻠك وﺟوھر الكيان‬
‫‪ 16‬تﺣﻠيﻠيﺔ الوضﻊ األصﻠﻲ وﺣكﻣﺔ اﻻنصاف‪.‬‬

‫‪185‬‬
186
‫الفصل األول‬

‫عبثية العنف السياسي‬

‫وأولوية السلم األهلي‬

‫استهالل‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫"ان التﻘدم نﺣو الالّﻋنف يﺣدد بالنﺳبﺔ الﻰ الفيﻠﺳوف ﻣﻌنﻰ التاريﺦ"‬

‫أﻏﻠب الظن أن الكتابﺔ ﻋن األﺣياء ھﻲ ﻣﺟرد انتباه الﻰ‬


‫الﺣاضر وتوصيف لﻠﻣشﮭد وتﺣﻠيل لﻠواﻗﻊ وﺣوار ﻣﻊ الفاﻋﻠين‬
‫وﻣﻣارﺳﺔ النﻘد والتﻘويم لﻠنصوص وتفﺳير لﻠغاﻣض والﻣﻠغز‬
‫وتشﺧيص لﻠﺣال الﻣتأزم وزيادة فﻲ التﻌبير وتواصل ﻣﻊ األﻏيار‪،‬‬
‫ولكن الكتابﺔ ﻋن الشﮭداء ھﻲ واﺟب وطنﻲ والتزام فﻠﺳفﻲ وانﺣياز‬
‫ﺳياﺳﻲ وشﮭادة وﺟوديﺔ ﻋﻠﻰ الﺣق وتﺣﻣل لﻠﻣﺳؤوليﺔ وصالة ﻋﻠﻰ‬
‫الغائب وﻣشاركﺔ فﻲ الشﺟب وتﻌبير ﻋن اﻻدانﺔ الشديدة لﻠﻌار‬
‫الذي ﺣدث وﺳﺧط ﻋﻠﻰ الفاﺟﻌﺔ وتشﮭير بالﺟريﻣﺔ النكراء‬
‫واﻋتراض ﻋﻠﻰ اﻻﻏتيال الغادر وﻻإﻋتراف بالﺳائد الﮭابط‬
‫والردىء والﻣبتذل ودﻋوة الﻰ التﻌﻘل والتروي والﺣكﻣﺔ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Eric Weil, Philosophie politique, édition Vrin, Paris, 1966. p.233‬‬

‫‪187‬‬
‫والﺣق أن اﻻﻏتيال الﺳياﺳﻲ ﻣﮭﻣا كانت األطراف الﻘائﻣﺔ‬
‫والﺟﮭات الداﻋﻣﺔ له وﻣﮭﻣا كانت الضﺣايا التﻲ ﺧﻠفﮭا ھو أكﺛر‬
‫الﺳﻠوكيات الﺧﺳيﺳﺔ التﻲ يشﻣئز ﻣنﮭا الضﻣير البشري وتنفر ﻣنه‬
‫فطرة اﻻنﺳان الﺳﻠيﻣﺔ‪ ،‬ألنه فﻌل دنﻲء وﻏدر بالﺣياة اآلدﻣيﺔ‬
‫وتدنيس لﻠبراءة األصﻠيﺔ وانتﮭاك لﻣا ﺟبﻠت ﻋﻠيه الطبيﻌﺔ البشريﺔ‬
‫ﻣن ﺣب ورأفﺔ وتﻌبير ﻋن ﻣوﻗف ﺟبان وإﺧفاء ضﻌف وتﺳتر‬
‫ﻋﻠﻰ الفشل وھروب الﻰ األﻣام وتﺣﻣيل الغير ﻣﺳؤوليﺔ الﻌﺟز‬
‫وتﻘديم كبش فداء ﻣن أﺟل تﺣﻘيق ﺧالص ﺟزئﻲ وبﺣث ﻻﻣشروع‬
‫ﻋن انتفاع فئوي‪.‬‬
‫لﻌل الشﻲء الوﺣيد الذي يﻣكن أن نفكر فيه فﻲ ھذه األيام‬
‫الﻌصيبﺔ التﻲ يﻣر بﮭا الﻣشﮭد الداﺧﻠﻲ ﺧاصﺔ والﻣنطﻘﺔ الﻌربيﺔ‬
‫ﻋاﻣﺔ ھو أن نﻠتﻘﻲ بالواﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ الﻣتدھور كﻣاھو فﻲ ﺣد ذاته‬
‫واآلن وھنا ونﺣاول التفكير فﻲ األﺣداث الﻣتﺳارﻋﺔ ونتﺳاءل ﻋن‬
‫دواﻋﻲ تفﺟر ﻣوﺟﺔ الﻌنف األﻋﻣﻲ ونﻘف ﻋند نﻘطﺔ األزﻣﺔ ونﻠتﻘﻲ‬
‫بالغير فﻲ ﻣﺳتوى اﺳتﺧالص الدروس ﻣن ﻗضيﺔ اﻻﻏتيال الغادر‬
‫ﺧارج اطار ﻣنطق الﻣؤاﻣرة وﻋﻘﻠيﺔ الدﺳيﺳﺔ وﺟدليﺔ الﺟريﻣﺔ‬
‫والﻌﻘاب وضﻣن اﻻﺳتراتيﺟيات التﺣكم فﻲ الشﻌوب والبﺣث ﻋن‬
‫الﻣشروﻋيﺔ ﻣن ﻗبل األنظﻣﺔ الﺳياﺳيﺔ الﻣﮭترئﺔ والفاﻗدة لﻠشرﻋيﺔ‪.‬‬
‫أن الﺣكوﻣات ﻣا زالت تضطﮭد الشﻌوب ﻋﻠﻰ نﺣو‬ ‫"فالواﻗﻊ ّ‬
‫واضح‪ ،‬وﺳوء تطبيق الﻌدالﺔ ﻣا زال يﺣدث‪ ،‬واﺳتﻣالﺔ الﺳﻠطﺔ‬
‫لﻠﻣﺛﻘفين واﺣتواؤھم ﻣا زاﻻ ﻗادرين بفﻌاليﺔ ﻋﻠﻰ ﺧفض أصواتﮭم‬
‫وانﺣراف الﻣﺛﻘفين ﻋن ﻣﮭﻣتﮭم األﺳاﺳيﺔ فﻲ ﻣﻌظم األﺣيان"‪.1‬‬
‫فﻣا الﻣﻘصود بالﻌنف؟ وﻣا طبيﻌته ودوائره؟ وكيف تتﺟﻠﻰ النزﻋﺔ‬

‫ادوارد سعيد‪ ،‬صورة المثقف‪ ،‬ترجمة غسان غصن‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بيروت‪ 1996،‬ص‪.33.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪188‬‬
‫الﻌدوانيﺔ فﻲ اﻻﻏتيال الﺳياﺳﻲ؟ وﻣاھﻲ الﻣﺧاطر الﻣترتبﺔ ﻋنه‬
‫ﻋﻠﻰ الصﻌيد الفردي والﻣﺟتﻣﻌﻲ والكونﻲ؟ وھل يﻣكن لﻠالّﻋنف‬
‫أن يﺣل ﻣﺣل اﻹرھاب؟ وﻣتﻰ يﻌوض الﺳﻠم األھﻠﻲ الﻌنف‬
‫الﺳياﺳﻲ؟ وﻣاھو الدرس الﻣﺳتفاد ﻣن التضﺣيﺔ والشﮭادة؟‬
‫ﻣا ھو فﻲ ﻣيزان الﻌﻘل وﻋﻠﻰ ﻣﺣك الﺣكﻣﺔ الﻌﻣﻠيﺔ ھو الكف‬
‫ﻋن تبرير الﻌنف واﺳتﺧداﻣه لﻠﻣصﻠﺣﺔ والﺣرص ﻋﻠﻰ تﺣﻘيق‬
‫الﺳﻠم األھﻠﻲ وإرادة الﻌيش الﻣشترك فﻲ الفضاء الﻌﻣوﻣﻲ بالنﺳبﺔ‬
‫لﻠﻣﺟﻣوﻋات‪.‬‬

‫‪ -1‬عﺑثيﺔ اﻟﻌنف‪:‬‬
‫" تبﻌا لﮭذه الكراھيﺔ األوليﺔ الﻣوﺟودة لدى الناس تﺟاه بﻌضﮭم‬
‫‪1‬‬
‫البﻌض‪ ،‬فإن الﻣﺟتﻣﻊ والﺛﻘافﺔ ﻣﮭددان باﺳتﻣرار بالتفكك "‬
‫الالفت لﻠنظر أن الﻣﻌنﻰ اﻻصطالﺣﻲ لﻠﻌنف‪ violence‬يشير‬
‫الﻰ ﺣﻣل اﻻنﺳان ﻋﻠﻰ الﻘيام بشﻲء ﻻ يريده ﻋن طريق الﻘوة‬
‫والترھيب والتأﺛير فيه ﻣن ﺧالل اﻻكراه بﻣا يصادر رﻏبته ويﺣول‬
‫دون ﻗدرته ﻋﻠﻰ اﻻﺧتيار‪ .‬ﻣن ھذا الﻣنطﻠق يدل الﻌنف ﻋﻠﻰ ﻣا‬
‫يﻣارس بﻘوة وﻣا يفرض ﻋﻠﻰ الكائن ﻣن الﺧارج بشكل يتناﻗض‬
‫ﻣﻊ طبيﻌته وﻗد يشكل ﺣالﺔ اﺳتﺛنائيﺔ يكون ﻋﻠيﮭا الﻣرء تتﻣيز‬
‫باﻻنفﻌال الشديد والﮭيﺟان واﻻندفاع واﻻنفالت والفوضﻰ ويﻌبر‬
‫ﻋن نوع ﻣن األفﻌال الﻣﺟنونﺔ والﻣيوﻻت الﻌدوانيﺔ والرﻏبﺔ فﻲ‬
‫التدﻣير‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Freud Sigmund, malaise dans la civilisation, edition Quadrige‬‬
‫‪/PUF,Paris, 1995, p.54‬‬

‫‪189‬‬
‫الﻣفارﻗﺔ تظﮭر ﻋﻠﻰ الﺳطح ﺣينﻣا يتﺣول اﻻنﺳان ھذا الكائن‬
‫األﺧالﻗﻲ الرﺣيم الﻰ وﺣش كاﺳر يرتكب الﺣﻣاﻗات ويؤذي‬
‫الطبيﻌﺔ ويزھق األرواح وﺣينﻣا ينﻘﻠب ھذا الﻣﺧﻠوق الذي يولد ﻣن‬
‫أﺟل الصداﻗﺔ والﻣﺣبﺔ الﻰ ﻣصدر الشر فﻲ الﻌالم وﻣنبﻊ الﻌنف‬
‫والﺟريﻣﺔ ويتﺣول ﻣن كائن رؤوف وﻋطوف ويشفق ﻋﻠﻰ ﻏيره‬
‫ويبكﻲ ﻣن أﺟل نفﺳه ﻋند الﻣرض واﻻﺣتضار ويبكﻲ اآلﺧرين‬
‫ﻋند البؤس والﻣوت الﻰ صانﻊ الﻘبح والظﻠم والشتيﻣﺔ ويتفنن فﻲ‬
‫التنكيل بالﻣﺧﻠوﻗات الوديﻌﺔ ويذبح اﻻنﺳان ويأﺳر الﺣياة فﻲ ﺳﺟن‬
‫التﺧويف والرﻋب‪.‬‬
‫لﻌل تغﻠيب طريﻘﺔ الﻌنف فﻲ الﻌالﻗات اﻻنﺳانيﺔ وتنظيم الشأن‬
‫الﻌام ھو اﻻﻋتﻘاد بأن اﻻﺳتﻌﻣال الﻣفرط فﻲ الﻘوة ھو الﻘانون‬
‫األﺳﻣﻰ لتﺣﻘيق التوازن فﻲ الكون وإرﺳاء النظام فﻲ الطبيﻌﺔ‬
‫واألﻣان فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ‪ .‬ھكذا ينبغﻲ التﻣييز بين الﻌنف الطبيﻌﻲ الذي‬
‫يتﺟﻠﻰ كأﻣر واﻗﻊ وﻗوة فيزيائيﺔ ﻣنفﻠتﺔ ﻣن كل رﻗابﺔ ونزﻋﺔ‬
‫داروينيﺔ ﻻنتﺧاب األصﻠح ﻻ تردھا أيﺔ ﻣﻘاوﻣﺔ والﻌنف الرﻣزي‬
‫الذي يﺳتﻌﻣل الﺣيﻠﺔ الﻌﻘﻠيﺔ والﻣﮭارة الﻠغويﺔ والتشريﻊ الﻘانونﻲ‬
‫والﻘرار الﺳياﺳﻲ ﻣن أﺟل الﻘﮭر واﻻﺳتﺣواذ والﺳيطرة والتغﻠب‬
‫والﮭيﻣنﺔ والضبط‪.‬ﻋﻠﻰ ھذا األﺳاس إن الﻌنف الﺳياﺳﻲ ھو ﻋﺟز‬
‫الﻌﻘل ﻋن كبح اﻻنفﻌاﻻت الﮭوﺟاء والﺳيطرة ﻋﻠﻰ ﺣاﻻت الغضب‬
‫الﻌﻣياء وإﻋالن ﻋن فشل اﻹرادة فﻲ اﻣتصاص نزوﻋات البشر‬
‫الﻌدوانيﺔ واﻻنتصار ﻋﻠﻰ رﻏباتﮭم التدﻣيريﺔ‪ .‬لﻘد ارتبط اﻻرھاب‬
‫بالالّتﺳاﻣح والفظاﻋﺔ وكشف ﺳفك الدﻣاء ﻋن اﻻﺳتﺣواذ ﻋﻠﻰ‬
‫الوﺟود واﺣتكار الﺣياة وبشاﻋﺔ األنانيﺔ ونوايا ﺣﺟب الﺣﻘيﻘﺔ‬
‫وتفﻌيل ﻏريزة الﻘضاء ﻋﻠﻰ ﻣنابﻊ الفضيﻠﺔ والﺣب وتغذيﺔ‬

‫‪190‬‬
‫الكراھيﺔ والتصادم بين األفراد والﻣﺟﻣوﻋات‪.‬كﻣا أن اﻻرھابﻲ‬
‫يرفض الﻣواﺟﮭﺔ ويفر أﻣام الصراع ويﻠﺟﻰء الﻰ زرع بذور ﻋدم‬
‫اﻻﺳتﻘرار فﻲ النﺳيج اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والﺳياﺳﻲ ويﺧﻠط فﻲ ﺧطابه بين‬
‫الﺣﻘيﻘﺔ والكذب ويدﻋو الﻰ الﺣﻘد والكراھيﺔ والفوضﻰ ويﺣول‬
‫الضﺣيﺔ الﻰ ﺟالد والﻣﻌتدى ﻋﻠيه الﻰ ﻣﻌتدى ويﻣارس نوع ﻣن‬
‫الﺣرب الﺛﻘافيﺔ والتصﻌيد الﻌﺳكري األبوكاليبﺳﻲ ﻗصد ﺧﻠﺧﻠﺔ‬
‫ركائز التﻣدن الﺣضاري ودﻋائم الﺣياة الﺟيدة ويﻌبر ﻋن نوع ﻣن‬
‫التﻌصب اﻻيديولوﺟﻲ األﻋﻣﻰ‪.‬كﻣا يتصرف اﻻرھابﻲ ﻣن ﻣوﻗﻊ‬
‫ﻣاﻗبل ديﻣﻘراطﻲ أو ﻣابﻌده ويأتﻲ ﻣن ﻣنطﻘﺔ ﺛﻘافيﺔ ﻣنطويﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫نفﺳﮭا وباردة‪ ،‬وربﻣا ﺧطورته تكﻣن بﻌدم ايﻣانه بالﻘيم الكونيﺔ بﻣا‬
‫فﻲ ذلك ﻣصداﻗيﺔ فكرة الديﻣﻘراطيﺔ نفﺳﮭا ولذلك نراه يدشن ﻣرﺣﻠﺔ‬
‫ﻣن الﻌنف والﻌصبيﺔ واﻻنفالت ويتﺣدث ﻋن الﮭوة التﻲ تفصل‬
‫بين األديان واﻻنفصال بين الﻌوالم ويﺳبب اﻻھالك والتﺧريب‬
‫لﻣواطن الﻌﻣران ويﻘضﻲ اﻣكانيات الﺣياة والوﺟود لدى البشر‪.‬‬
‫ﻣن البديﮭﻲ أن يكون اﻻرھاب شيئا ﻻﻣﻌﻘوﻻ واﻣتدادا لﺳياﺳﺔ‬
‫ﺣربيﺔ ﺧاطئﺔ وأن يتﺣول الﻰ ﻋنف ﺧالص وﻻ يﻘدر ﺣتﻰ ﻋﻠﻰ‬
‫تﺣﻘيق أھداف ﺳياﺳيﺔ ولكنه فﻲ األصل يرتكز ﻋﻠﻰ رﺳم لﻠﻣﺟال‬
‫الﺳياﺳﻲ وفق ﺛنائيﺔ الصديق والﻌدو وينبﻊ ﻣن ﺧصوﻣﺔ وتوتر بين‬
‫الﻣتﻌاطفين ﻣﻊ النظام والﺳاﺧطين ﻣنه والﺧارﺟين ﻋﻠيه‪.‬‬
‫اذا كان الﻌنف يﻣتﻠك أرضيﺔ طبيﻌيﺔ ويتﺧذ شكل الرﻣزيﺔ‬
‫والشرﻋيﺔ فﻲ الﺳياﺳﺔ والتاريﺦ والﻣﺟتﻣﻊ والﺛﻘافﺔ والﺟﮭاز النفﺳﻲ‬
‫والﻌولﻣﺔ اﻻﻗتصاديﺔ واﻹﻋالﻣيﺔ فإنه اذا ﻣا اﺳتفﺣل وبﻠغ ﺣد‬
‫التﻌذيب واﻻفتراس والﻘتل والوﺣشيﺔ والﻌدوانيﺔ وتﻣظﮭر فﻲ‬
‫صورة اﻻﻏتيال يصﻌب ايﻘاف ﻣده ووضﻊ ﺣد ﻻنتشاره ويﻌﺳر‬

‫‪191‬‬
‫ﻣنﻌه ﻣن ﻣﺣايﺛﺔ الﺣياة اﻻنﺳانيﺔ والرد ﻋﻠيه وإﺧﻣاد ناره‪ .‬بناء‬
‫ﻋﻠﻰ ذلك "يتﻌﻠق األﻣر بشﻲء أكﺛر ﻣن الﻌنف‪ ،‬ﻋﻠينا أن نتﺣدث‬
‫ﻋن ﻋنف شرس‪ .‬انه ﻋنف فيروﺳﻲ يﺣدث ﻋن طريق الﻌدوى‬
‫وفﻲ شكل نتائج ﻣتوالدة ويﻌﻣل شيئا فشيئا ﻋﻠﻰ تدﻣير ﻣناﻋتنا‬
‫وﻗدرتنا ﻋﻠﻰ الﻣﻘاوﻣﺔ"‪ .1‬فﻣا وﺟه البداھﺔ واﻹشكال فﻲ ﺣادﺛﺔ‬
‫اﻻﻏتيال الﺳياﺳﻲ؟‬

‫‪ -2‬ﺗداعيات ﺣادثﺔ االغﺗيال‪:‬‬


‫"اﻻﻏتيال ﻣصطﻠح يﺳتﻌﻣل لوصف ﻋﻣﻠيﺔ ﻗتل ﻣنظﻣﺔ وﻣتﻌﻣدة‬
‫تﺳتﮭدف شﺧصيﺔ ﻣﮭﻣﺔ ذات تأﺛير فكري أو ﺳياﺳﻲ أو ﻋﺳكري‬
‫أو ﻗيادي … يﻌتبره ﻣنظﻣو ﻋﻣﻠيﺔ اﻻﻏتيال ﻋائﻘا ً لﮭم فﻲ طريق‬
‫‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫أھدافﮭم "‬ ‫أو‬ ‫ألفكارھم‬ ‫أوﺳﻊ‬ ‫انتشار‬
‫ﻣن الﺟﻠﻲ أن اﻻﻏتيال ‪ assassinat‬ھو أبشﻊ أنواع الﻌنف‬
‫الﻣباشر الذي يصيب اﻻنﺳان وينﻘﻠه ﻣن الوﺟود الﻰ الﻌدم‪ ،‬وھو‬
‫ظاھرة ﻗديﻣﺔ شﮭدتﮭا ﺟﻣيﻊ الﻣﺟتﻣﻌات ﻋندﻣا تﻌيش تﺣوﻻت‬
‫ﻋنيفﺔ واضطرابات ﺳياﺳيﺔ ودينيﺔ واﺳﻌﺔ ولكنﮭا ﺣاضرة‬
‫باﺳتﻣرار ﻋﻠﻰ ﻣﺳرح وتتكرر دائﻣا اذا وﺟد ﻣناخ ﺳياﺳﻲ‬
‫واﺟتﻣاﻋﻲ يتﻣيز بالالّتﺳاﻣح والنزاع‪ .‬ويﻌرف اﻻﻏتيال بأنه الﻘتل‬
‫التآﻣري الﻣباشر فﻲ زﻣن ﻣباﻏت وﻣن ﻗبل أطراف ﻣﺟﮭولﺔ بﺟﺛﺔ‬
‫ﻣﻌﻠوﻣﺔ ويكون الغرض ﻣنه اﺣداث الصدﻣﺔ فﻲ الرأي الﻌام‬

‫‪1‬‬
‫‪Jean bouderiere, mondialisation et terrorisme, in le monde‬‬
‫‪deplomatique, 18 nouvembre 2002.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Lien :‬‬
‫‪http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D9%8A%D‬‬
‫‪8%A7%D9%84‬‬

‫‪192‬‬
‫والذھول الشﻌبﻲ وتﺣﻘيق ﻣكاﺳب ﺳياﺳيﺔ ﻣﺛل اضﻌاف الﻣنافس‬
‫وتصفيﺔ الﺧصم والﺛأﺛر ﻣنه واﻻنﻘالب ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ وإﺳﻘاط الﺣكم‬
‫الﻘائم والتغﻠب فﻲ الﻣﻌركﺔ الﺳياﺳيﺔ والتشكيك فﻲ الشرﻋيﺔ‬
‫وافتكاك زﻣام الﻣبادرة وإﺳكات صوت الﺣﻘيﻘﺔ وإﻋادة فرز‬
‫األوراق‪ .‬ﻣاھو ﻣتﻌارف ﻋﻠيه أن ﺟريﻣﺔ اﻻﻏتيال الﺳياﺳﻲ ھﻲ‬
‫تنفيذ لﺧطﺔ وﻗﻊ اﻋدادھا بشكل ﺳري ﻣن ﻗبل طرف أو ﺟﮭﺔ ﻣﻌينﺔ‬
‫ويكون الﺟانﻲ اﻣا ﻣﺟﮭوﻻ أو ﻣﻌروفا وذلك لﻌدة أﺳباب دينيﺔ أو‬
‫ﺳياﺳيﺔ‪.‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك يأتﻲ اﻻﻏتيال بغتﺔ وﻋﻠﻰ ﺣين ﻏرة ويشق الﺳير‬
‫الﻌادي لألشياء ويﺳرع ﻣن تدفق الزﻣن وﻋند ﺣدوﺛه بتﻠك الطريﻘﺔ‬
‫البشﻌﺔ يصبح البﺣث ﻋن الﺟناة أﻣرا فوريا ويكﺛر الﺣديث ﻋن‬
‫التتبﻊ وتﺣﻣيل تبﻌات الﺟريﻣﺔ والبﺣث ﻋن الﺟﮭﺔ الﻣﺳؤولﺔ ويبدأ‬
‫التفكير فﻲ إﻣكانيﺔ الﻌﻘاب الﺳريﻊ بالنﺳبﺔ الﻰ الﻣﺟرﻣين وتبرز‬
‫ﻋﻠﻰ الﺳطح ﻣشاﻋر الغضب واﻻنتﻘام والﺛأر والرد الرادع وتصﻌد‬
‫النزﻋات التدﻣيريﺔ وتﻌصف بالﻣﺟتﻣﻊ رياح فوضويﺔ وينتصر‬
‫ﻣنطق الﻘوة وصوت الﻌنف ﻋﻠﻰ ﻗوة الﻣنطق وصوت الﺣكﻣﺔ‬
‫والﻌﻘل‪ .‬والﺣق أنه ﻻ توﺟد ﻋﻘوبﺔ ﻣتناﺳبﺔ ﻣﻊ ﺟريﻣﺔ اﻻﻏتيال‬
‫ألنﮭا أﻣر ﻻ يﻘبل ﻣﻌه الندم والتوبﺔ وﻻ يغتفر ﻣﻌه وﻻ يﻘبل التﻘادم‬
‫وفﻌل آﺛم ﻗد يتﻌذر التكفير ﻋنه وربﻣا ﻻ يﻘبل الصفح بل يتطﻠب‬
‫اﻻﺳتﻌﺟال والتدﺧل‪.‬‬
‫ﺟﻣﻠﺔ الﻘول ﻣا أبشﻊ الوﺟود ﺣينﻣا يكشف ﻋن ﺳﻠوك اﻻنﺳان‬
‫الﻌدوانﻲ ولﻣا يصادر ﺣق الناس فﻲ الﺣياة ويﻣنﺣﮭم الغياب‬
‫واﻻنفصال واأللم‪ ،‬وﻣا أﻗذر الﺳياﺳﺔ ﺣينﻣا تﺟﮭز ﻋﻠﻰ ﻗدﺳيﮭا بال‬
‫شفﻘﺔ وتيتم األطفال وترﻣل الﺛكالﻰ وتﮭﺟر النوارس ﻋن أوطانﮭا‪،‬‬

‫‪193‬‬
‫وﻣا أﻗبح الﺛورة ﺣينﻣا تأكل أصدق أبنائﮭا وتﺣﻘق ﻣآرب أﻋدائﮭا‬
‫ولﻣا تضﺣﻲ بالﻌﻣيق الﻣﺧﻠص وتﻘدم الشﻌبﻲ الﻣغوار ﻗربانا لكﮭنﺔ‬
‫رأس الﻣال‪ ،‬وﻣا أطﮭر أرواح الشﮭداء ﺣينﻣا تصﻌد الﻰ الﺳﻣاء‬
‫وتتﺧﻠص ﻣن وﺳﺦ التاريﺦ وﻏبار الزﻣان وتﻌانق األبديﺔ والﺧﻠود‪.‬‬
‫ﻋند ﺣدوث اﻻﻏتيال تشرع الﺛورة فﻲ أكل ﺧيرة أبنائﮭا وتفﻘد‬
‫الذين أﺧﻠصوا لﻣﺳارھا وانﺣازوا الﻰ الطبﻘات الفﻘيرة والﻣﮭﻣشﺔ‬
‫وﻋادوا اﻻﻣبرياليﺔ وﻗاوﻣوا التطبيﻊ ﻣﻊ الواﻗﻊ الﻣﮭزوم ونادوا‬
‫بالتوﺣيد واﻻنصﮭار واﻻندﻣاج والﻌروة الوﺛﻘﻰ والكتﻠﺔ التاريﺧيﺔ‬
‫ﻋﻠﻰ أرضيﺔ وﺣدة الطبﻘﺔ الﻌاﻣﻠﺔ واﺳتﻘالليﺔ الﻘرار الﺳيادي‬
‫الوطنﻲ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ الرﻏم ﻣن ھول الفاﺟﻌﺔ التﻲ يﺳببﮭا اﻻﻏتيال الﺳياﺳﻲ‬
‫وكارﺛيﺔ التداﻋيات بالنﺳبﺔ الﻰ كل الﻣﺳارات اﻻنتﻘاليﺔ التﻲ تﻣر‬
‫بﮭا الﺣكوﻣات الفاشﻠﺔ والﻣﻠتفﺔ ﻋﻠﻰ الﺛورات فإن الﺧروج ﻣن‬
‫الﮭاويﺔ ﻻ يكون بالتﻠطيف والتﺧفيف واﻻكتفاء بﻌﻣل الﺣداد‬
‫والﺣزن وإنﻣا يﺟب اﺳتﺣضار الشر كﻣا وﻗﻊ والتﻌاﻣل ﻣﻊ ﻣصيبﺔ‬
‫اﻻﻏتيال بﻣا يﻘبل الصفح وﻣﻊ الﺣﻘيﻘﺔ التﻲ ﻻ تﻘبل الﻣﺣو ﻣن‬
‫الذاكرة الوطنيﺔ واﻻﻋتبار ﻣن دواﻋﻲ وﻣناخ الﻌنف وأﺟواء‬
‫اﻻﺣتﻘان الذي ﺳبﻘتﮭا وتﺳبب فيﮭا تردد الﻣﺟﻣوﻋات الﺣاكﻣﺔ‬
‫وارتﻌاش األيادي الﻣاﺳكﺔ بزﻣام الﺳﻠطﺔ واﻹﺳراع نﺣو رأب‬
‫الصدع وﻣﻌالﺟﺔ ظاھرة الﻌنف الﺳياﺳﻲ ﻣن ﺟذورھا وتﺣﻘيق‬
‫انفراج فوري والتوﺟه نﺣو اﻋادة بناء ﻣﻘوﻣات الدولﺔ ﻋﻠﻰ أﺳس‬
‫ﺛوريﺔ تﺣترم اﺳتﻘالليﺔ الﻘرار الﺳيادي الوطنﻲ‪.‬‬
‫اذا كان اﻻﻏتيال الذي تﻌرض له الﺟﺳد البريء ھو وﻗيﻌﺔ‬
‫بالﻣﺳار الﺛوري وفﻌل ﻏادر بالﺣركﺔ الﺛوريﺔ وﻣؤاﻣرة دنيئﺔ فإن‬

‫‪194‬‬
‫الدرس الﻣﺳتفاد ﻋند الﻘوى الديﻣﻘراطيﺔ والتﻘدﻣيﺔ ھو الﻣزيد ﻣن‬
‫التوﺣد واﻻنصﮭار ﻣﻊ الﺛﻘافﺔ الوطنيﺔ والدفاع ﻋن الرأﺳﻣال‬
‫الرﻣزي لألﻣﺔ والﻣصالﺣﺔ ﻣﻊ الﮭويﺔ الﻣركبﺔ والتصدي لﻘوى‬
‫الﺛورة الﻣضادة واﻻبتﻌاد ﻋن الفتنﺔ وﻋدم تﺣويل الصراع‬
‫الﺳياﺳﻲ الﻰ صراع بين الﻌﻠﻣانيين واﻹيﻣانيين‪.‬‬
‫رأس األﻣر أن الﻣطﻠوب اليوم بﻌد ھذا الﻣصاب الﺟﻠل ھو انﻘاذ‬
‫الوطن وتكريس اﻻرادة الشﻌبيﺔ واﺳتكﻣال الﻣﺳار الﺛوري بالﻌﻣل‬
‫ﻋﻠﻰ تﺣﻘيق أھداف الﺛورة ﻣن تشغيل لطالبيه وتنﻣيﺔ ﻣﺣﻠيﺔ‬
‫وﺟﮭويﺔ ﻋادلﺔ وبناء اﻗتصاد وطنﻲ ﻣﺳتﻘل والتﺧﻠص ﻣن الﻣديونيﺔ‬
‫وﻣﻘاوﻣﺔ الفﺳاد وتﺣييد اﻻدارة ﻋن الصراﻋات اﻻيديولوﺟيﺔ‪.‬‬
‫ان اﻻنﻌتاق ﻣن الضياع فﻲ ھذه الﻣﻣرات الﻣغﻠﻘﺔ يكون بتدشين‬
‫لﻣرﺣﻠﺔ ﺳياﺳيﺔ ﺟديدة بالنﺳبﺔ الﻰ لﻣﺳتﻘبل الديﻣﻘراطيﺔ الناشئﺔ فﻲ‬
‫ھذا الوطن والﺣديث ﻋن تغيير ﺟذري فﻲ لغﺔ الﺣياة اليوﻣيﺔ‬
‫واﻻرتﻘاء بﻣﺳتوى الﺧطاب الﺳياﺳﻲ وتﺣﻘيق نوع ﻣن الوﻋﻲ‬
‫الﻣنﻘذ ﻣن طرف فاﻋل ديﻣﻘراطﻲ ﻗد تذﻣر ﻣن اﻻﻋتداء‪ .‬فﻣاھﻲ‬
‫الشروط الضروريﺔ لالنتﻘال ﻣن ﺣالﺔ انفالت الﻌنف الﻰ وضﻊ‬
‫ﻣدنﻲ وﺳﻠﻣﻲ؟‬

‫‪ -3‬دعائم اﻟسلم اﻷهلي‪:‬‬


‫ﺳ ِّد ِّه‪ِّ ،‬ﻋ ْن َدهُ ﻗُوتُ يَ ْو ِّﻣ ِّه‪،‬‬ ‫" َﻣ ْن أ َ ْ‬
‫صبَ َح ِّﻣ ْن ُك ْم ِّآﻣنًا فِّﻲ ِّﺳ ْربِّ ِّه‪ُ ،‬ﻣﻌَافًﻰ فِّﻲ َﺟ َ‬
‫فَ َكأَنَّ َﻣا ِّﺣ ت له الدنيَا"‬
‫يزَ ْ َ ُ ُّ ْ ‪1‬‬

‫يدل ﻣصطﻠح الﺳﻠم األھﻠﻲ الدائم ﻋﻠﻰ الﻌﻣل الدؤوب لﻣنﻊ‬


‫اندﻻع الﺣرب األھﻠيﺔ وايﻘاف أﻋﻣال الﻌنف والﻌدوانيﺔ وﻣظاھر‬

‫حديث شريف‬ ‫‪1‬‬

‫‪195‬‬
‫الالّتﺳاﻣح والﺣيﻠولﺔ دون تغذيﺔ ﻣشاﻋر الكراھيﺔ والتباﻏض بين‬
‫األفراد والﻣﺟﻣوﻋات‪ .‬وﻣن شروط تدﻋيم الﺳﻠم األھﻠﻲ يﻣكن‬
‫التركيز ﻋﻠﻰ نشر ﺛﻘافﺔ التﺳاﻣح ورفض كل ﻣظاھر التصادم‬
‫واﻹﻗصاء والتﻘاتل واﻹيﻣان بضرورة الﻌيش الﻣشترك والتﻌاون‬
‫والتواصل والتآنس والتكافل والكف ﻋن الدﻋوة ﻋﻠﻰ التﻘاتل‬
‫والتﺣريض ﻋﻠﻰ ﺧيارات الﻌصيان‪ ،‬والﻌزوف ﻋن اﺣداث‬
‫الفوضﻰ والنﮭﻲ ﻋن التﻣرد ﻋﻠﻰ الﻣؤﺳﺳات الﻣدنيﺔ‪ ،‬والﺣرص‬
‫ﻋﻠﻰ فض النزاﻋات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ بالطرق الﺳﻠﻣيﺔ وبوﺳاطات‬
‫رﻣزيﺔ وﻋن طريق إﺟراء ﺣوارات ﻋﻘالنيﺔ بين الﻘوى الﻣتدافﻌﺔ‬
‫وتنظيم نﻘاشات ﻋﻣوﻣيﺔ بين الفرﻗاء تفضﻲ الﻰ تﺳويات ﻗانونيﺔ‬
‫بالتفاوض والتﻌاﻗد وتفاھﻣات توافﻘيﺔ باﻹﻗناع وإنﮭاء ﺧصوﻣات‬
‫ﺳياﺳيﺔ وتﺧطﻲ ﻋدة ﺧالفات ﻋﻘديﺔ بالﻣﺣاﺟﺟﺔ والرضا والتﻌادل‬
‫والتشارك الﻣتﺳاوي فﻲ الﻣضار والﻣنافﻊ بين الﺟﻣيﻊ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا األﺳاس تكون الفﻠﺳفﺔ التﻲ يﺳتند اليﮭا دﻋاة الﺳﻠم‬
‫األھﻠﻲ ھﻲ فﻠﺳفﺔ التفاؤل واألﻣل والﻣﺣبﺔ وھﻲ ﻣتناﻗضﺔ ﻣﻊ فﻠﺳفﺔ‬
‫التشاؤم والصراع والﻌدﻣيﺔ التﻲ تﺳﻠم بﺟذريﺔ التباين وتﺣول‬
‫ايديولوﺟيا اﻻﺧتالف الﻰ ﻣبرر لﻠﺧالف وتﺟﻌل ﻣن التنوع والتﻌدد‬
‫والكﺛرة ﻣﺳوﻏا لﻠفتنﺔ والتشرذم واﻻﺣتدام والتﺧاصم والفرﻗﺔ‪.‬‬
‫ﻣن ﺛﻣار الﺳﻠم األھﻠﻲ تﺣﻘيق األﻣن الﺟﻣﮭوري واﻻﺳتﻘرار‬
‫الﺳياﺳﻲ واﻻزدھار اﻻﻗتصادي واألﻣان النفﺳﻲ‪ ،‬وﻣن ﻣزاياه‬
‫أيضا أن يﻌيش اﻻنﺳان ﺣياته بطريﻘﺔ ﺟيدة ﻣﻊ ﺳﮭولﺔ ﺣصوله‬
‫ﻋﻠﻰ ﻣنافﻌه دون ﺧوف ويﺳر تواصﻠه ﻣﻊ ﻏيره وتﻌاونه ﻣﻌه فﻲ‬
‫ﺳبيل تﺣﻘيق الﻣصﻠﺣﺔ الﻣشتركﺔ وﻣواصﻠﺔ ﻋﻣﻠه وﻣﺣافظته ﻋﻠﻰ‬

‫‪196‬‬
‫ﻣﻣتﻠكاته وتنﻣيﺔ ذاته دون ﻣضايﻘﺔ أو تﻌرض لﺧطر اﻻﺳتﺣواذ‬
‫واﻻﺳتيالء والغﻠبﺔ‪.‬‬
‫ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك يﻘترن الﺳﻠم األھﻠﻲ بالﺳياﺳﺔ الديﻣﻘراطيﺔ‬
‫والﻣﺟتﻣﻊ الﻌادل الﺣر والنظام الﺳياﺳﻲ الﻌصري والتربيﺔ الﺳﻠيﻣﺔ‬
‫والبيئﺔ النظيفﺔ والﺛﻘافﺔ الراﻗيﺔ والﻌﻘﻠيﺔ الﻣنفتﺣﺔ والﻣﺟددة والدين‬
‫الﻣدنﻲ واألﺧالق اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والﺣس الﺣضاري والوﻋﻲ‬
‫الﻣواطنﻲ ويتطﻠب ترﺳيﺦ تﻘاليد التﻌﻘل والتروي والالّتﻌصب‬
‫والﻌفو‪ .‬ﻣن الﻣﻌﻠوم أن الﻘضاء الﻣﺳتﻘل الﻌادل ھو الذي ينشر‬
‫الﺳﻠم األھﻠﻲ ويﻌﻣل ﻋﻠﻰ توطينه فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ ﻋن طريق ﻣﻘاوﻣﺔ‬
‫الفﺳاد والﻣﺣﺳوبيﺔ والرشوة وﻣﻌاﻣﻠﺔ الﺟﻣيﻊ ﻣن ﻣنطﻠق ﻣبدأ‬
‫الﻣﺳؤوليﺔ والتكﻠيف وﻣن ﺟﮭﺔ الﻣﺳاواة فﻲ الﺣﻘوق والواﺟبات‬
‫وﻣن ﺧالل اﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ الﻌنف الﻣشروع وﺳﻠطﺔ الﺟزاء والردع‬
‫الﻣﺧفف‪ .‬ﻣن ناﺣيﺔ أﺧرى يﺣتاج الﺳﻠم األھﻠﻲ الﻰ آليات لﻠﻣﺣاﺳبﺔ‬
‫والنﻘد والﻣراﻗبﺔ وذلك ﻣن أﺟل توفير الشفافيﺔ فﻲ الﻣﻌاﻣﻠﺔ‬
‫والﻣصداﻗيﺔ فﻲ الﻣﻌﻠوﻣﺔ والنﺟاﻋﺔ فﻲ اﻻدارة والشرﻋيﺔ الوظيفيﺔ‬
‫لﻠكوادر والﻌﻘول والكفاءات والﻘيام ببﺳط نفوذ الﻌﻘل ﻋﻠﻰ التاريﺦ‬
‫والﻣﺟتﻣﻊ‪ .‬وبالتالﻲ ﻣن الﻣفروض "أن الﻌﻘل يﺳيطر ﻋﻠﻰ الﻌالم‬
‫وان تاريﺦ الﻌالم يتﻣﺛل أﻣاﻣنا بوصفه ﻣﺳارا ﻋﻘﻠيا"‪ ،1‬لكن ﻣا‬
‫الﺣيﻠﺔ فﻲ التﻌاﻣل ﻣﻊ ﻣكر التاريﺦ وﺣيﻠﺔ الﻌﻘل وتفﺟر ﻣوﺟات‬
‫الﻌنف واﻻﻏتيال وتفاﻗم الشر الﺳياﺳﻲ؟‬

‫‪ 1‬هيجل‪ ،‬العقل في التاريخ‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ترجمة امام عبد الفتاح امام‪ ،‬دار التنوير‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬طبعة ‪ .1981‬ص‪.73.‬‬

‫‪197‬‬
‫‪ -4‬ﺟدوى اﻟالّعنف‪:‬‬
‫"ﻻ يتﻣيز الفﻌل ﻏير الﻌنيف فﺣﺳب بالديناﻣيكيﺔ الﺟﻣاﻋيﺔ التﻲ تﻌبر‬
‫ﻋن نفﺳﮭا بواﺳطﺔ ﻗوة الﻌدد الﻣنظم‪ .‬وإنﻣا يتم ترﺟﻣته فﻲ األبﻌاد األكﺛر‬
‫‪1‬‬
‫نوﻋيﺔ التﻲ تﻘودنا ﺧاصﺔ الﻰ ﻣيدان األنﺛربولوﺟيا"‬

‫ﻣن الﺟدير اﻻنتباه الﻰ أن الالّﻋنف ‪ Non-violence‬ھو أفق‬


‫اﻻنﺳانيﺔ الرﺣب الذي يﺟب ﻋﻠﻰ الكل دون اﺳتﺛناء أن يتوﺟه اليه‬
‫ﻣن أﺟل انﺟاز ﻣﺳار يﺳﻣح بتﺣﻘيق الﻣصﻠﺣﺔ الوطنيﺔ ويﺣترم‬
‫تطﻠﻌات الشﻌب بﺛورة الﻌزة والكراﻣﺔ ويﻘطﻊ فﻌﻠيا ﻣﻊ ﻋﻘﻠيﺔ‬
‫التﺳﻠط واﻻﺣتكار والتﻌالﻲ ويﺳارع الﻰ ﻣﻘاوﻣﺔ كل أشكال‬
‫الالّتﺳاﻣح الفكري والتﻌصب اﻻيديولوﺟﻲ والتشدد الدينﻲ ويضﻊ‬
‫الﺣوار كﻣﻘابل لإلﻗصاء ويغﻠب ﻣنطق التﻌايش بدل لغﺔ اﻻﺳتبﻌاد‬
‫وينظر الﻰ الﻌفو بكونه ھو وﺣده الﻘادر ﻋﻠﻰ اﻋادة األﻣور الﻰ‬
‫طبيﻌتﮭا ويتﻌاﻣل ﻣﻊ الصفح بوصفه الﻘيﻣﺔ الوﺣيدة التﻲ تنﺳﺦ ﻣا‬
‫ﻻ يﻣكن الصفح ﻋنه وﻣﻊ التصافﻲ باﻋتباره األرضيﺔ اﻹتيﻘيﺔ لفداء‬
‫الوطن والتصالح بين الفرﻗاء والﺧالص ﻣن الﺣرب األھﻠيﺔ‪.‬‬
‫ﻣن ھنا "ﺣين يصبح الﻣرء ﻣﺳالﻣا‪ ،‬فﻲ الوﻗت الذي يكون فيه‬
‫األكﺛر ﺧشيﺔ‪ ،‬ﻣوﺟﮭا اﺣﺳاﺳه بﺳﻣو‪ ،‬يبرھن بذلك أن ھذه الوﺳيﻠﺔ‬
‫التﻲ تﻘود لتﺣﻘيق الﺳﻠم الﺣق الذي يﺟب أن يﻘوم دوﻣا ﻋﻠﻰ ترتيب‬
‫لﻌﻘل ھادىء"‪.2‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Christstian mellon et Jacques Semelin, la non-violence, édition‬‬
‫‪PUF, Paris, 1994. p.77‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Nietzsche F, le voyageur et son ombre, traduction par Henri Albert‬‬
‫‪, edition Daniel Gauthier, 1975, p.286‬‬

‫‪198‬‬
‫ان زرع األفكار فﻲ الﻣﺟتﻣﻌات ونشر الﻣﻌتﻘدات ﻻ يﺟب أن‬
‫يتم باﻻكراه والبطش وإنﻣا بالﺣوار واﻹﻗناع وﻻ ينبغﻲ أن تفرض‬
‫األفكار ﻣنطﻘﮭا ﻋﻠﻰ الناس بتﻌﺳف وأﺳﻠوب ﻗﮭري وﻻ يﻠزم أن‬
‫تﺳﺧر لألﻏراض نفﻌيﺔ ضيﻘﺔ وبطريﻘﺔ ﺳﻠطويﺔ وانﻣا يﻣكنﮭا أن‬
‫تضفﻲ الطابﻊ النﺳبﻲ ﻋﻠﻰ ﻣﺟال صالﺣيتﮭا وتﻌﻣل ﻋﻠﻰ ترويض‬
‫النظريات والﻣﻌتﻘدات بشكل ﺳﻠﻣﻲ وﻣوﺟه نﺣو تﺣﻘيق الﺧير‬
‫والﺣق والﺟﻣال والﻣودة لإلنﺳانيﺔ‪.‬‬
‫لﻌل الﻣطﻠوب اليوم ھو نﻘد الوﺳائل الﻣﺳتﻌﻣﻠﺔ فﻲ الصراع‬
‫الﺳياﺳﻲ وإﻋادة النظر فﻲ الغايات والتﺧﻠﻲ ﻋن التصورات الﺣديﺔ‬
‫والﻣطالب اﻻطالﻗيﺔ وتنﻣيﺔ الﻌﻘﻠيﺔ الديﻣﻘراطيﺔ واﻹﻗرار بوﺟود‬
‫تﻌدديﺔ ﺛﻘافيﺔ‪.‬‬
‫ان النظام الﺛﻘافﻲ يﺟب تﻌديﻠه بﺣيث يﻣنﻊ ظﮭور أفراد ﻋنفيين‬
‫ويﺣول دون الﻠﺟوء الﻰ الﻌنف ﻣن أﺟل ايﻘاف الﻌنف ويضﻊ ﺣدا‬
‫ﻻﺳتﻌﻣال الﻣﻌرفﺔ كشكل ﻣن أشكال الﺳيطرة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وان‬
‫الﻣطﻠوب ھو ايﺟاد أنﻣاط ﺛﻘافيﺔ وتربويﺔ بديﻠﺔ تﻌﻣل ﻋﻠﻰ انتاج‬
‫الﺳﻠم والتﺳاﻣح وتﺳﻣح لﻠﻌﻘالنيﺔ بترويض الﻌاطفﺔ واﻻنفﻌال‪.‬‬
‫اذا كان الﻌنف ھو تﺟﻠﻲ لﻠصراع الطبﻘﻲ فإن الالّﻋنف ھو‬
‫وضﻊ ﺣد لﮭذا الصراع ﻣن ﺧالل ﻣﺳار ﺣركﺔ الﺛورة يتشكل‬
‫بﻣﻘتضاھا تﺣالف بين شرائح الﻣﺟتﻣﻊ ويتم تأصيل الصراع‬
‫اﻻيديولوﺟﻲ وتﺛبيت التوافق ﻣن أﺟل انﺟاح التشكل الﺟديد لﻠنظام‬
‫ﺧارج دائرة النﺳق الشﻣولﻲ البائد وبالﻘطﻊ ﻣﻊ كل دوائر التدﺧل‬
‫الﺳافر‪.‬‬
‫وبأي ﺣال‪ ،‬ليس ﻣن ﻗبيل الصدفﺔ أن "الالّﻋنف ھو أكبر ﻗوة‬
‫تﻣتﻠكﮭا اﻻنﺳانيﺔ كﻣا أن تأﺛيرھا أكبر بكﺛير ﻣن أشد األﺳﻠﺣﺔ‬

‫‪199‬‬
‫تدﻣيرا… ﻻ يﺣرر الالّﻋنف اﻻنﺳان ﻣن الﺧوف ولكنه يبﺣث ﻋن‬
‫ﺳبب الﺧوف ﻻﺟتﺛاﺛه…الالّﻋنف ﻣبدأ كونﻲ يﺟب أن ينتصر ﺣتﻰ‬
‫فﻲ أﺣﻠك الظروف"‪.1‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك يكون األوكد لﻠﺧروج بالديﻣﻘراطيﺔ التداوليﺔ‬
‫الوليدة ﻣن الﻣضيق وتﺣصين الﻣﺳار ﻣن الﻌنف ھو كتابﺔ بيان‬
‫إتيﻘﻲ ينبذ الﻌنف الﺳياﺳﻲ ويﻠزم الﻘوى الفاﻋﻠﺔ والﺣركات النشطﺔ‬
‫فﻲ الﻣﺟال الﻌﻣوﻣﻲ بالكف ﻋن الﺳير نﺣو اﺳتراتيﺟيات‬
‫اﻻﺳتﺣواذ واﻹكراه واﻻنضباط التﻲ تﻣارﺳﮭا الﺳﻠطﺔ والبﺣث‬
‫الفوري ﻋن شروط اﺟرائيﺔ لتﺛبيت التوافق بين الفرﻗاء والﺧصوم‬
‫ﺧارج اطار ﻗواﻋد لﻌبﺔ التنافس الﺳياﺳﻲ الﻣﻌتاد‪.‬‬
‫بيد أن الرد ﻋﻠﻰ الﻌنف الﺳياﺳﻲ بالالّتﺳاﻣح ھو رد لإلﺳاءة‬
‫بﻣﺛﻠﮭا ﻣن اﻻﺳاءة الﻣضادة والتشريﻊ لﻠفتنﺔ والﺣرب الﻣتناﺳﻠﺔ فﻲ‬
‫الداﺧل وﺳﻘوط فﻲ الﻣربﻊ الﻣﺟنون الذي يريد الﺧصوم ﺟﻠب‬
‫الﻣناضﻠين اليه‪ .‬لكن الرد ﻋﻠﻰ الفﻌل اﻻرھابﻲ وﺟريﻣﺔ اﻻﻏتيال‬
‫ھو ﻣصيدة ﻗد ﻻ يﺟد لﮭا الﺟﺳم الﺳياﺳﻲ ﻣﺧرﺟا ووﻗوع فﻲ كﻣاشﺔ‬
‫الﻌنف والﻌنف الﻣضاد والﺣرب التﻲ لن تكون ﻣﺛل باﻗﻲ الﺣروب‬
‫يﻣكن ايﻘافﮭا‪.‬‬
‫وإذا كان األﻣر كذلك‪ ،‬فﻣن الصﺣيح ﻋندئذ أن نﻣيز بين ذنب‬
‫أﺧالﻗﻲ ناتج ﻋن ﺧطأ فﻲ اﻻﺧتيار وﺳوء تﻘدير فﻲ الفﻌل‬
‫وﻻتناﺳب أصﻠﻲ فﻲ تكوين الطبيﻌﺔ البشريﺔ وذنب ﺳياﺳﻲ أفرزته‬
‫ظروف ﻣوضوﻋيﺔ وشروط ﻣاديﺔ وتﻣت برﻣﺟته بشكل ﻋﻘالنﻲ‬
‫وواع وبراﻏﻣاتﻲ بغرض تﺣﻘيق ﻣنفﻌﺔ وﺣصد ﻣصﻠﺣﺔ ﻣاديﺔ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Gandhi, tous les hommes sont des freres, edition Gallimard,‬‬
‫‪Paris,1983.pp.53-154‬‬

‫‪200‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو اﻻﻏتيال ﻣرفوض ﻣن ﺟﮭﺔ الﺣق والواﺟب‬
‫وﻣدان بأﻗصﻰ أشكال اﻻدانﺔ فﻲ الﺳياﺳﺔ واألﺧالق واألﻋراف‬
‫واألديان ألنه يﺣرم اﻻنﺳان الﺣق فﻲ الﺣياة ويشطب الوﺟود‬
‫الﺳياﺳﻲ لﻠﻣناضل ويﮭدر دﻣه الزكﻲ ويبيح لﻠفوضﻰ أن تنتشر فﻲ‬
‫الﺟﺳم الﺳياﺳﻲ ويشرع لالنتﻘام‪ .‬واآلن يتوﺟب ﻋﻠﻰ الفاﻋﻠين‬
‫الﺳياﺳيين أن يﺟﻌﻠوا ﻣن ھذه ﺣوادث اﻻﻏتيال األليﻣﺔ تنبيﮭا الﻰ‬
‫الﺧطر الﻣﺣدق بالبﻠدان والﻌباد وفرصﺔ لﻠتوﺟه نﺣو الكتﻠﺔ‬
‫التاريﺧيﺔ والصداﻗﺔ الﺳياﺳيﺔ وانﺟاز تفاھﻣات دﺳتوريﺔ وبﻠورة‬
‫توافﻘات تنازﻋيﺔ وتصالﺣات ﺣﻘيﻘيﺔ ﻗائﻣﺔ ﻋﻠﻰ الوفاء لﻣبادئ‬
‫الوطنيﺔ وﻗيم الﺛورة وليس ﻣﺟرد اﻻﺣتكام الﻰ توافﻘات ﻣغشوشﺔ‬
‫وتﺣالفات ظرفيﺔ ﻣبنيﺔ ﻋﻠﻰ الﻣصﻠﺣﺔ الﺣزبيﺔ والرؤيﺔ الطبﻘيﺔ‬
‫الضيﻘﺔ وأن يتوﻗفوا ﻋن التكالب ﻋﻠﻰ الصراع ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ‬
‫وافتكاك الﻣواﻗﻊ وتﻘاﺳم الغنائم‪ .‬اذا كان الالّتﺳاﻣح ﻗد ارتبط‬
‫باألنظﻣﺔ الشﻣوليﺔ والﻌنف وإذا كانت الﺣريﺔ ھﻲ الﻣﻌين الذي ﻻ‬
‫ينضب لﻠﻣوﺟﺔ الﺛوريﺔ‪ .‬فكيف يؤدي نبذ الﻌنف الﺳياﺳﻲ الﻰ تﺛبيت‬
‫التوافق اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ويدﻋم الﺳﻠم األھﻠﻲ ويفوت الفرصﺔ أﻣام‬
‫الﻣتربصين باألوطان؟‬

‫خاتمة‬
‫‪1‬‬
‫"ليس ﺛﻣﺔ ﺛورة ﻻ تكون تﺣديﺛيﺔ‪ ،‬تﺣرريﺔ‪ ،‬وطنيﺔ "‬
‫ﺛﻣﺔ اﻗتران بين الﺛورة والشﮭادة وبين الفﻌل فﻲ التاريﺦ والتضﺣيﺔ‬

‫‪ 1‬آالن تورين‪ ،‬نقد الحداثة‪ ،‬ترجمة عبد السالم الطويل‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫المغرب‪ .2010 ،‬ص‪.72.‬‬

‫‪201‬‬
‫بالنفس وذلك ألن الفكرة الﺛوريﺔ تﺟﻣﻊ بين الﻌزم ﻋﻠﻰ ارادة‬
‫التﺣرير واﺳتﺛﻣار ﻗوة الﺣداﺛﺔ فﻲ ﺟﻣيﻊ ﻣﺟالت الﺣياة اﻻنﺳانيﺔ‪،‬‬
‫وتكرس النضال ضد النظام الﻘديم الذي يﻌيق التﺣديث وذلك‬
‫بانتصار الﻰ الﻌﻘل واﻹبداع والوﻻدة ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب الﻣيراث والتﻘﻠيد‬
‫والﻣﺣافظﺔ‪ ،‬وتضيف ﻋنصرا ﺛالﺛا ھو تأكيد ارادة ﺳياﺳيﺔ وطنيﺔ‬
‫تتﻣاھﻰ ﻣﻊ التﺣديث وتشﺟﻊ ﻋﻠﻰ التطوير‪ .‬بيد أن اﻻنتﻘال ﻣن‬
‫نظام ﻗديم ووﻻدة نظام ﺟديد ﻻ يﻘتضﻲ التواصل ﻣﻊ الﺳائد‬
‫واﻹبﻘاء ﻋﻠﻰ األطر الﻘديﻣﺔ وإنﻣا اﺣراز الطفرة واﻻنﻘطاع‬
‫والﺧروج ﻋن الﻣألوف والصراع ﻣﻊ الﻌوائق والﺣركﺔ الﻣدﻣرة‪.‬‬
‫فكيف يواﺟه الفيﻠﺳوف ﻣفارﻗﺔ الﻌنف؟ أﻻ نﺣتاﺟه ﻣن ﺟﮭﺔ‬
‫ﻻﺳتكﻣال ﻣﺳار الﺛورة وإنﺟاح الﺣركﺔ اﻻﺣتﺟاﺟيﺔ؟ ولكن أﻻ‬
‫يﺟب أن نتﺧﻠص ﻣنه ﻣن ﺟﮭﺔ أﺧرى انﻘاذا لﻠنفس البشريﺔ ﻣن‬
‫الﮭالك الﺣتﻣﻲ؟‬
‫ﻣن شروط التﺧﻠص ﻣن الﻌنف اﻻيديولوﺟﻲ واﻻﻏتيال‬
‫الﺳياﺳﻲ والﺣروب الدينيﺔ ھو اﻻيﻣان باﻻﺧتالف واﺣترام ﺣﻘوق‬
‫اﻻنﺳان ونزع الﮭالﺔ ﻋن الﻣﻌتﻘدات وﺧﻠﻊ األﺳطرة ﻋن األشﺧاص‬
‫وتنﺳيب األفكار‪ .‬وبالتالﻲ " ﻻ ينبغﻲ تﺳﺧير أيﺔ فكرة أو نظريﺔ‪،‬‬
‫كﻣا ﻻ ينبغﻲ أليﺔ فكرة أن تفرض أﺣكاﻣﮭا بطريﻘﺔ ﺳﻠطويﺔ‪ .‬يﺟب‬
‫اضفاء الطابﻊ النﺳبﻲ ﻋﻠﻰ الفكرة‪ ،‬بل يﺟب ترويضﮭا"‪ 1‬ﺣتﻰ‬
‫تﻣنﻊ ظﮭور الكراھيﺔ والﻌنف وتﻣنح الﻣﺣبﺔ والرفق‪ .‬فﻲ نﮭايﺔ‬
‫الﻣطاف يبدو اﻻﻏتيال بوصفه أﻗصﻰ درﺟات الﻌنف ﻋﻠﻰ الصﻌيد‬
‫الفردي ﻣﺛﻠﻣا تﻣﺛل الﺣرب أﻗصﻰ درﺟات اﻻرھاب ﻋﻠﻰ الصﻌيد‬

‫‪ 1‬إدغار موران‪ ،‬تربية المستقبل‪ ،‬ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي‪ ،‬دار توبقال‬
‫للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬طبعة ‪ .2002‬ص‪.30.‬‬

‫‪202‬‬
‫الﺟﻣاﻋﻲ والﺣﺟﺔ ﻋﻠﻰ ذلك أن اﻻﺛنين يﺧﻠفان الشر الﺳياﺳﻲ‬
‫والضﺣايا ويﺳببان الدﻣار بالنﺳبﺔ لﻠﺣضارة والﻌار ﻋﻠﻰ اﻻنﺳانيﺔ‪.‬‬
‫فﮭل تﻌوض الﻘيﻣﺔ اﻻﻋتباريﺔ لﻠشﮭادة الﺧﺳائر الﻣﻌنويﺔ‬
‫واألضرار الﻣاديﺔ التﻲ يتكبدھا الكائن اآلدﻣﻲ ﻣن اﻻﻏتيال‬
‫الﻌنيف؟‬
‫رأس األﻣر أن رﺳالﺔ الشﮭداء ﺧالدة وﻗيﻣﺔ دﻣﮭم ﻻ تﻘارن وأنﮭم‬
‫يتﺣولون الﻰ رأس ﺣربﺔ فﻲ وﺟه الطغاة والﻣﺳتبدين‬
‫والﻣﺳتﻌﻣرين وبصﻣتﮭم شوكﺔ فﻲ ﺣﻠق كل ﻣتربص ﺣﻘود‪ .‬ﻣن‬
‫ﺟﮭﺔ ﺛانيﺔ ﻣا أصﻌب الفترات اﻻنتﻘاليﺔ وﻣا أشكل ھذ الﻌنف الﻣدﻣر‬
‫واﻻﻏتيار الغادر وﻣا أﺛﻘل ھذا الزﻣن الفاصل بين الﻣاﻗبل والﻣابﻌد‬
‫وﻣا أبشﻊ أﻣراض اﻻرتداد واﻻلتفاف الﺣائﻠﺔ دون انﺟاح الﺛورات‬
‫وﻣا أﻋﺳر وﻻدة الﻣدينﺔ اﻻنﺳيﺔ‪ ،‬ألم يﻘل ﺣولﮭا أنطونيو ﻏراﻣشﻲ‬
‫فﻲ دفاتر الﺳﺟن‪" :‬الﻘديم يﺣتضر فﻲ ﺣين يتﻌﺛر الﺟديد فﻲ طريق‬
‫وﻻدته‪ ،‬فﻲ ھذا الفاصل تظﮭر أﻣراض كﺛيرة وﻋظيﻣﺔ فﻲ‬
‫تنوﻋﮭا"‪ 131‬؟ فﻣا الﻌﻣل لﻠﺧروج ﻣن ھذا الﻣأزق التاريﺧﻲ؟‬
‫وكيف نتﺧطﻲ دائرة الﻣﺟﮭول؟ أليس ﻣن الﺣكﻣﺔ الﻘول بأن اﻗاﻣﺔ‬
‫دﺳتور شرﻋﻲ يﺣترم ﻣبادىء الﺣريﺔ والﻌدالﺔ والكراﻣﺔ والﻌدالﺔ‬
‫والﻣﺳاواة واﻻﻋتراف ويتالءم ﻣﻊ الﺣق الﻌﻣوﻣﻲ ھو النﮭايﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ لﻠﻌنف؟‬

‫‪ 1‬أنطونيو غرامشي ‪ ،‬دفاتر السجن‪ ،‬ترجمة عادل غنيم ‪ ،‬دار المستقبل العربي‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ .1994‬نسخة محملة‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل االول‬

:‫ﺑاﻟلسان اﻟﻌرﺑي‬
‫ ترﺟﻣﺔ ﻋزيز لزرق وﻣنير‬،‫ ﺗرﺑيﺔ اﻟﻣسﺗﻘﺑل‬،‫أدﻏار ﻣوران‬
.2002 ‫ طبﻌﺔ‬،‫ الدار البيضاء‬،‫ دار توبﻘال لﻠنشر‬،‫الﺣﺟوﺟﻲ‬
،‫ دار النﮭار‬،‫ ترﺟﻣﺔ ﻏﺳان ﻏصن‬،‫ صورة اﻟﻣثﻘف‬،‫ادوارد ﺳﻌيد‬
.1996،‫بيروت‬
‫ دار‬،‫ ترﺟﻣﺔ ﻋادل ﻏنيم‬،‫ دفاﺗر اﻟسﺟن‬،‫أنطونيو ﻏراﻣشﻲ‬
.1994 ‫ الﻘاھرة‬،‫الﻣﺳتﻘبل الﻌربﻲ‬
‫ إفريﻘيا‬،‫ ترﺟﻣﺔ ﻋبد الﺳالم الطويل‬،‫ نﻘد اﻟﺣداثﺔ‬،‫آﻻن تورين‬
.2010 ،‫ الﻣغرب‬،‫ الدار البيضاء‬،‫الشرق‬
‫ ترﺟﻣﺔ اﻣام ﻋبد الفتاح‬،‫ الﺟزء األول‬،‫ اﻟﻌﻘل في اﻟﺗاريخ‬،‫ھيﺟل‬
.1981 ‫ طبﻌﺔ‬،‫ بيروت‬،‫ دار التنوير‬،‫اﻣام‬
:‫ﺑاﻟلسان اﻟﻔرنسي‬
Christstian mellon et Jacques Semelin, la non-
.violence, édition PUF, Paris, 1994
Gandhi, tous les hommes sont des freres, edition
.Gallimard, Paris,1983
Eric Weil, Philosophie politique, édition Vrin,
.Paris,1966. p.233
Jean bouderiere, mondialisation et terrorisme, in le
.monde deplomatique, 18 nouvembre 2002
Nietzsche F, le voyageur et son ombre, traduction
.par Henri Albert , edition Daniel Gauthier, 1975
Freud Sigmund, malaise dans la civilisation , edition
Quadrige /PUF,Paris, 1995

204
‫الفصل الثاني‬

‫االغرتاب الديني وشروط التحرر االنساني‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫"لﻘد أﺧذت ﻋودة الدين فﻲ الﺳنوات األﺧيرة طابﻌا اﺳتﻌراضيا‬
‫وفﻲ بﻌض األﺣيان ﻣﺣيرا‪ .‬نفكر أوﻻ فﻲ الدول اﻹﺳالﻣيﺔ ولكن‬
‫كل شﻲء يؤكد أن الغرب فﻲ أشكال ﻣﺧتﻠفﺔ يﻘينا ليس بﻌيدا ﻋن‬
‫الظاھرة‪".1..‬‬
‫تبدو ظاھرة التدين لصيﻘﺔ بالوﺟود اﻻﺟتﻣاﻋﻲ لإلنﺳان الواﻋﻲ‬
‫ولذلك تطرح ﻋﻠﻰ كل إنﺳان ينتﻣﻲ إلﻰ ﺟﻣاﻋﺔ يتصرف فﻲ‬
‫شؤونﮭا نظام ﺳياﺳﻲ ﻣﻌين‪ ،‬وھﻲ ظاھرة يبﺣث فيﮭا أيضا كل‬
‫ﻋاﻗل وﻣفكر وﻗد اھتم فيﻠﺳوف الرﺟﺔ كارل ﻣاركس بالدين بشكل‬
‫ﻣباشر صريح وبطريﻘﺔ ضﻣنيﺔ ﻣنذ بدايﺔ ﻣشواره الفكري وبشكل‬
‫ﻣبكر ولذلك شكل الدين وﺣده ﻣن بين كل الﻣﺳائل النظريﺔ‬
‫والﻌﻣﻠيﺔ الﻣنطﻠق والﻣدﺧل إلﻰ بﻘيﺔ الﻣﺳائل الفكريﺔ وھو ﻣا ﺟﻌل‬
‫الﻣﺳألﺔ الدينيﺔ تبرز فﻲ ھذا الﺳياق بﻘوة وبكﺛافﺔ وتﺣتل ﻗيﻣﺔ‬
‫نظريﺔ وﻋﻣﻠيﺔ ﻋﻠﻰ صﻌيد ﻣنظوﻣﺔ ﻣاركس الﻣﻌرفيﺔ وﻋصره‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪André Comte-Sponville, l’esprit de l’athéisme, introduction à une‬‬
‫‪spiritualité sans Dieu,Editions, Albin Michel,2006,p9‬‬

‫‪205‬‬
‫إن الﻣﻌضﻠﺔ الرئيﺳيﺔ التﻲ يتصدى الفكر الﻣﻌاصر لﺣﻠﮭا ھﻲ‬
‫الﻣﻌضﻠﺔ الدينيﺔ ألن صالبﺔ الﺧطاب الدينﻲ وشﻣوليته تصطدم‬
‫بﻣرونﺔ الواﻗﻊ وﺣدﺛيﺔ صيرورة التاريﺦ وأن أھم الصﻌوبات التﻲ‬
‫تواﺟه الﻌﻘول الﺣرة ﻋﻠﻰ صﻌيد التفكير الفﻠﺳفﻲ فﻲ الدينﻲ ھﻲ‬
‫النزول ﻣن ﻋالم النص إلﻰ ﻋالم الواﻗﻊ والتوفيق بين الﻣﺣتوى‬
‫الﻣطﻠق والﺛابت لﻠنص الدينﻲ وبين ﺣركﺔ الواﻗﻊ النﺳبيﺔ‪ ،‬وﻋندﻣا‬
‫تﺟﻌل نﺧبﺔ ﻣن اﻻكﻠيروس ﻣن لغﺔ النص ﻣيدان ﻋﻣﻠﮭا وتﺣرص‬
‫ﻋﻠﻰ نﻘل ﻋالم الﻘداﺳﺔ النصيﺔ وتفﺳيرھا والتﻌبير ﻋنﮭا باﺳتﺧدام‬
‫الﻠغﺔ الﻌاديﺔ فان الدين يصبح الﺣﻘل الرئيﺳﻲ لﻘﻠب الﻌالﻗات‬
‫الﺣﻘيﻘيﺔ بين اﻹنﺳان وهللا وبين الذات والﻣوضوع ويﺳﻘط اﻹنﺳان‬
‫ﺧارج الصفات التﻲ تﺧص نوﻋه‪.‬‬
‫يﻣكن أن نﻘﺳم آراء النﻘاد والﻣؤرﺧين ﺣول ﻋالﻗﺔ ﻣاركس‬
‫بالﻌاﻣل الدينﻲ إلﻰ فريﻘين‪ :‬األول يصنفه ضﻣن التيار اﻹلﺣادي‬
‫الالأدري الذي ينكر وﺟود هللا والغيب والبﻌث ويﺣارب الدين بال‬
‫ھوادة ويﻣﺛﻠه ﻣارﺳيل نوتش وواكنﮭايم‪ 1‬وبولتزير وﻏيره كﺛير‬
‫وفريق ﺛانﻲ يﻌدل الﻣوﻗف األول ويﻠطف الﻠغﺔ ويﻌتبر ﻣاركس ﻗد‬
‫تﻌاﻣل ﻣﻊ الدين تﻌاﻣالا فﻠﺳفﻲ تاريﺧيا ﻋﻘالنيا وأنه يبﺣث‬
‫باﺳتﻣرار ﻋن الﻘاع اﻹنﺳانﻲ فﻲ التﺟربﺔ الدينيﺔ واﻹﻣكانيات‬
‫الﮭائﻠﺔ التﻲ تتضﻣنﮭا األديان فﻲ أيﺔ ﻣشروع انﻌتاﻗﻲ تﺣرري‬
‫ويﻣﺛﻠه ﻏراﻣشﻲ وﻣاوتﺳﻲ تونغ وروزا لكﺳﻣبور وبدرﺟﺔ أﻗل‬
‫‪2‬‬
‫ألتوﺳير وبيير بيغو‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Wackenheim, Ch ,la faillite de la religion d’après Karl Marx, Paris,‬‬
‫‪PUF,1963‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Pierre Bigo, Marxisme et humanisme, Paris, PUF, 3 éditions, 1961‬‬

‫‪206‬‬
‫لكن الﺳؤال الذي يطرح ھنا ھو‪ :‬ﻣاھو الطابﻊ النوﻋﻲ الﺧاص‬
‫الذي اكتﺳبه الﻌاﻣل الدينﻲ ضﻣن الﺧطاب الفﻠﺳفﻲ لﻣاركس؟ ھل‬
‫باﺳتطاﻋتنا أن نﺳتنبط أصالﺔ فكر ﻣاركﺳﻲ ﻋﻠﻰ الصﻌيد الدينﻲ؟‬
‫ھل صﺣيح أن الﻣاركﺳيﺔ ﻣﺛﻠﮭا ﻣﺛل أي فﻠﺳفﺔ ﻣﻠﺣدة تﻌادي الدين‬
‫وتﻌتبره أفيون الشﻌوب؟ ھل تﻘوم الﻣاركﺳيﺔ بﻣﺣاربﺔ الدين‬
‫وﻣﻌارضته فﻲ الﻣطﻠق أم أنﮭا تنزل الدين فﻲ إطاره التاريﺧﻲ‬
‫وﺳياﻗه اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻣﺛﻠه ﻣﺛل أي فكرة بشريﺔ أﺧرى؟ أﻻ تﻌاﻣل‬
‫الدين ﻣن زاويﺔ فﻠﺳفيﺔ وﻋﻘﻠيﺔ وتاريﺧيﺔ؟ وھل ھذا الﻣوﻗف‬
‫الﻣناھض ھو فريد وﻣبتكر وﺧاص بﮭا أم أنه يﻣتد إلﻰ أصول‬
‫ﻋﻣيﻘﺔ وبﻌيدة فﻲ التفكير البشري؟ أﻻ ينطﻠق ﻣن رؤيﺔ تضﻊ‬
‫اﻹنﺳان وليس هللا ﻣركز اھتﻣاﻣﮭا وتفكيرھا وتضﻊ الﺣياة الدنيا‬
‫وليس اآلﺧرة ھدف لﮭا؟ ھل يصح وصف الﻣاركﺳيﺔ بالفﻠﺳفﺔ‬
‫الﻣﻠﺣدة إذا ﻣا كانت ﻣتفﻘﺔ ﻣﻊ األديان فﻲ ﻣناھضﺔ اﺳتغالل اﻹنﺳان‬
‫لإلنﺳان؟ ﻣا الفرق بين اﻹيﻣان واﻹلﺣاد إذا كانا ينطﻠﻘان ﻣن ﻣشكﻠﺔ‬
‫واﺣدة ويﻘفان ﻋﻠﻰ األرضيﺔ نفﺳﮭا؟ أﻻ تكون فﻲ ھذه الﺣالﺔ‬
‫الﻣاركﺳيﺔ فﻠﺳفﺔ ﻻھوتيﺔ تنطﻠق ﻣن ﻣشكﻠﺔ هللا لتﻌﻠن رفضه؟‬
‫إن اﻹشكاليﺔ الﻣركزيﺔ التﻲ نﺳﻌﻰ إلﻰ إبرازھا ھﻲ‪ :‬ھل أن‬
‫الدين ﻣشكﻠﺔ تﻌترض البشريﺔ فﻲ طريﻘﮭا إلﻰ الوﻋﻲ بذاتﮭا أم‬
‫ﻋاﻣل ﻣﮭم ﻣن ﻋواﻣل التﻘدم والنﮭوض؟‬
‫ﻋندئذ يﻣكن تﻘﺳيم ھذه اﻹشكاليﺔ إلﻰ ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن األﺳئﻠﺔ‬
‫الفرﻋيﺔ ھﻲ‪:‬‬
‫ھل أن الﻣاركﺳيﺔ ھﻲ التﻲ تﺣارب الدين ام أن رﺟال الدين ھم‬
‫الذين يﺣاربون النزﻋات الفﻠﺳفيﺔ الﻌﻘﻠيﺔ والتﺣرريﺔ التﻲ تشﮭر‬
‫بﮭم وتﻣﺛل ﺧطرا يﮭدد ﻣصالﺣﮭم واﺳتﻣراريﺔ الﺳﻠطات التﻲ‬

‫‪207‬‬
‫يدﻋﻣونﮭا؟ ھل تأتﻲ شدة ھﺟوم رﺟال الفكر ﻋﻠﻰ الﻣؤﺳﺳﺔ الدينيﺔ‬
‫ﻣن أن ھذه الفﻠﺳفﺔ ھﻲ ﻣن ﺣيث الﺟوھر فﻠﺳفﺔ ﻣاديﺔ دنيويﺔ أم‬
‫أن ذلك كان نتيﺟﺔ الﻣوﻗف الﻣﺣافظ الذي يتﺧذه رﺟال الدين ﻣن‬
‫الصراع اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والﺳياﺳﻲ وتﺣالفﮭم ﻣﻊ الطبﻘات الﻣﺳيطرة‬
‫ضد الطبﻘات الﻣﺣروﻣﺔ؟ أﻻ توﺟد ﻋالﻗﺔ بين إنكار الﻣاركﺳيﺔ‬
‫لﻣبدأ الﻣﻠكيﺔ الﺧاصﺔ وإبداء الﻌديد ﻣن التﺣفظات تﺟاه الﻌاﻣل‬
‫الدينﻲ؟‬
‫ﻣن ﺟﮭﺔ ﻣﻘابﻠﺔ ھل يﺣﻣﻲ الدين الﻣﻠكيﺔ الﺧاصﺔ ويبرر تراكم‬
‫الﺛروة ﻋﻠﻰ شكل اﻹنتاج الرأﺳﻣالﻲ أن أنه يشرع لﻠﻣﻠكيﺔ الﻌاﻣﺔ‬
‫ويﺣرم اﻻﺣتكار والربا واﺳتئﺛار طبﻘﺔ اﺟتﻣاﻋيﺔ بﻣﻌظم الﺛروات‬
‫ويرفض كل أشكال التفاوت والالﻣﺳاواة والظﻠم ﻋﻠﻰ الصﻌيد‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ؟ ﻣاذا تﻌارض بالضبط الﻣاركﺳيﺔ ﻣن الﻌاﻣل الدينﻲ؟‬
‫ھل تﻘف ضد الدين ﻣطﻠﻘا وتﻌتبره ﻣﺟرد ﻣرﺣﻠﺔ تاريﺧيﺔ يﻣر بﮭا‬
‫الفكر البشري ونﻣط ﻣن الﻌالﻗات التﻲ يﻘيﻣﮭا اﻹنﺳان ﻣﻊ نفﺳه‬
‫واآلﺧر والﻌالم فﻲ ﺛوب ﻣﻌتﻘدات وطﻘوس أم أنﮭا تﻌارض تدﺧل‬
‫رﺟال الدين وﻣؤﺳﺳاته فﻲ أﻣور الﺣياة اليوﻣيﺔ والﺳياﺳيﺔ باﺳم‬
‫فكرة ﻣتﻌاليﺔ يصبغون ﻋﻠيﮭا الﻘداﺳﺔ واﻻطالﻗيﺔ؟‬
‫لﻣاذا يتﺣفظ الﻣاركﺳيون ﻋﻠﻰ ﻣشاركﺔ رﺟال الدين فﻲ‬
‫الﺳياﺳﺔ وﻻ يﻌاﻣﻠونﮭم كبشر يﻌبرون ﻋن ﻣصالح ﻣطﻣوﺣات‬
‫الطبﻘات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ التﻲ ينﺣدرون ﻣنﮭا وليﺳوا ﻣﻘدﺳين وﻻ‬
‫ﻣفوضين ﻣن طرف هللا وﻻ يﻣﺛﻠون الدين؟ ھل تﻘول الﻣاركﺳيﺔ‬
‫بأن األديان ھﻲ ﺳبب الﺣروب والنزاﻋات التﻲ شﮭدھا التاريﺦ‬
‫البشري أم أنﮭا تﻌترف بكونﮭا ﺳاھﻣت فﻲ ترﺳيﺦ ﺛﻘافﺔ الﺳﻠم‬
‫والتﺳاﻣح والتكافل بين األفراد والﻣﺟﻣوﻋات والدول؟ أﻻ يﺟب أن‬

‫‪208‬‬
‫تدافﻊ الﻣاركﺳيﺔ ﻋن نﻘاء الدين وﻋن إيﻣان ﻣا بﻌد الدين‬
‫وكاﻋتراف فردي بالﺣﻘيﻘﺔ الوﺟوديﺔ ضد التشويه والتﺣريف الذي‬
‫يتﻌرض له فﻲ الﺣياة الﻌاﻣﺔ؟‬
‫أليس ﻣن األﺟدر أن يتبنﻰ الﻣاركﺳيين فكرة ﻻھوت الﺛورة‬
‫واألرض والتﺣرير ﺣتﻰ يفكوا الﻌزلﺔ ﻋنﮭم ويتصالﺣوا ﻣﻊ واﻗﻌﮭم‬
‫الﺣضاري وﺛﻘافتﮭم الوطنﻲ ويدافﻌون ﻋﻠﻰ إﻋطاء الشرﻋيﺔ‬
‫ألﺣزاب ﻣدنيﺔ تﻘدﻣيﺔ ذات ﻣرﺟﻌيﺔ دينيﺔ؟ أليس ﻣن األﺟدر أن‬
‫يدور ﺣوار ﺟدي وﻣﺳؤول بين رﺟال الدين واﻹيﻣانيين ﻣن ﺟﮭﺔ‬
‫والﻌﻠﻣانيين والناشطين الوضﻌيين ﺣول فكرة الﻣﺟتﻣﻊ الﻣدنﻲ‬
‫وﺣﻘوق اﻹنﺳان والتنﻣيﺔ والديﻣﻘراطيﺔ دون ادﻋاء الﻌصﻣﺔ‬
‫والﻘدﺳيﺔ ودون إنكار الدين وإلغاء ﻣﺳائل اﻹيﻣان والﻌﻘيدة؟ كيف‬
‫ارتبط ﻣفﮭوم اﻻنﺳان ﻋند ﻣاركس بالﻌﻣل واﻻنتاج؟ والﻲ أي ﻣدى‬
‫تؤﺛر ﻋﻣﻠيﺔ اﻻنتاج الﻣادي فﻲ تغيير ﻣضﻣون الوﻋﻲ لديه؟‬
‫تتﻣﺛل ﺧطﺔ البﺣث فﻲ ﻣشكل الدور الذي يﻌطيه ﻣاركس إلﻰ‬
‫الﻌاﻣل الدينﻲ فﻲ تﺟاوز النظرة التبﺳيطيﺔ التﻲ تﻌتبر الﻣاركﺳيﺔ‬
‫فﻠﺳفﺔ ﻣﻠﺣدة والتفطن إلﻰ الدور الﺣﺳاس الذي يﻠﻌبه الدين فﻲ‬
‫تأﺧر الﻣﺟتﻣﻌات وتﻘدﻣﮭا ولذلك اﺧترنا ﻣفصﻠﺔ ﻋﻣﻠنا إلﻰ ﺛالث‬
‫لﺣظات ﻣنطﻘيﺔ ھﻲ‪:‬‬
‫‪ -‬اﻻﻏتراب الدينﻲ والنظر إليه كانﻌكاس إيديولوﺟﻲ كاذب‬
‫لﻠﻌالم‪.‬‬
‫‪ -‬نﻘد الدين ھو الشرط الﻣﻣﮭد لكل نﻘد ﺳواء لﻠﻣﺟتﻣﻊ أو‬
‫لالﻗتصاد أو لﻠﺛﻘافﺔ والفﻠﺳفﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬الدين شﻲء ﺣﻘيﻘﻲ له ﻗاع أنﺳانﻲ ويﻣكن أن يكون دﻋاﻣﺔ‬
‫لﻠرفض واﻻﺣتﺟاج والﺛورة‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫ﻣا نراھن ﻋﻠيه ھو تفادي النظرة التبشيريﺔ الدﻋويﺔ لﻘضايا‬
‫اﻹيﻣان ونﻘد كل توظيف نفﻌﻲ واﺳتﻌﻣال أداتﻲ لﻠدين والبﺣث ﻋن‬
‫اﻹدراك الﻌﻠﻣﻲ لﮭذه الﻣﺳألﺔ فﻲ واﻗﻌنا التاريﺧﻲ وﻋﻠﻣنته بشكل‬
‫انﺳﻲ ﻗصد التﻌويل ﻋﻠيه كﻌاﻣل ﻣﺳاﻋد فﻲ كل دﻣﻘرطﺔ ﻣﻣكنﺔ‬
‫لﻠفضاء الﻌﻣوﻣﻲ ﻗصد الﻘضاء ﻋﻠﻰ كل أشكال اﻻﻏتراب وبناء‬
‫شروط تﺣرر ﺳياﺳﻲ واﺟتﻣاﻋﻲ لالنﺳان‪.‬‬

‫‪ -1‬ﻣخاطر االغﺗراب اﻟديني‪:‬‬


‫" لم يتﺟاھل ﻣاركس الﻣﺳيﺣيﺔ تﺟاھال تاﻣا بﻣا أنه اھتم‬
‫‪1‬‬
‫بالناﺣيﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‪ .‬وﻗد ﺟاء ﻣن ﻣدارس ﻣﺳيﺣيﺔ‪"...‬‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن ﻣاركس لم يﻌش أزﻣﺔ دينيﺔ فﻲ ﺳنوات الشباب‬
‫ﻣﺛل ﻋدة فالﺳفﺔ آﺧرين تﺟﻌﻠه يﺛور ﻋﻠﻰ كل الﻣﻌتﻘدات التﻲ ورﺛﮭا‬
‫بﺣكم التنشئﺔ التربويﺔ ولكنه لم يبد ﻣيال شديدا تﺟاه الالھوت ﻣﺛل‬
‫بﻘيﺔ ﻋاﻣﺔ الناس ولم يكن ﺣريصا ﻋﻠﻰ إﻗاﻣﺔ الشﻌائر الدينيﺔ أو‬
‫ﻣتﺣﻣﺳا لﮭا وإنﻣا توﺟه ﻣنذ البدايﺔ نﺣو التفكر واﻻﺳتبصار‬
‫والبﺣث ﻋن نظرة ﻣﻌتدلﺔ إلﻰ ھذه الﻣﺳائل الشائكﺔ‪.‬‬
‫الالفت لﻠنظر أنه أنﺟز رﺳالﺔ دكتوراه ﺣول الﻣاديﺔ الﻘديﻣﺔ‬
‫انﺣاز فيﮭا إلﻰ التصور الطبيﻌﻲ ﻋند أبيﻘور ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب النزﻋﺔ‬
‫الﻣاديﺔ الﻣيكانيكيﺔ الفﺟﺔ التﻲ نﺟدھا ﻋند ديﻣوﻗريطس بل انه كان‬
‫أﻣيل إلﻰ تبنﻲ األفكار الفﻠﺳفيﺔ التﻲ تنﻘد اﻻتﺟاه الﻣﺛالﻲ وتﻌترض‬
‫ﻋﻠﻰ األفكار الغيبيﺔ وترفض األﻗوال الﻣيتافيزيﻘيﺔ باﻋتبارھا‬
‫تتﺟاوز ﻋالم التﺟربﺔ وتبتﻌد ﻋن الواﻗﻊ الﻣوضوﻋﻲ وكان بالتالﻲ‬

‫‪1‬‬
‫‪Marcel neusch ,aux sources de l’athéisme contemporain, chretien‬‬
‫‪malgré lui,Ed centurion, 1977.p77‬‬

‫‪210‬‬
‫أﻣيل إلﻰ اﻹيﻣان بديانﺔ الطبيﻌﺔ والتﻲ ﺟﻌﻠته يﺳتﻣد أفكاره الدينيﺔ‬
‫ﻣن الﮭيﺟﻠيين اليﺳاريين وﺧاصﺔ فيورباخ الذي نادى بإﺣالل‬
‫الﻣﻌرفﺔ اﻹنﺳانيﺔ ﻣكان الﻣﻌرفﺔ اﻹلﮭيﺔ‪.‬‬
‫ھذا الﻣوﻗف ظﮭر ﺟﻠيا لﻠﻌيان ﻋندﻣا ﻣال ﻣاركس إلﻰ تبنﻲ‬
‫األفكار الﻌﻠﻣيﺔ الﻣبتكرة فﻲ ﻋصره وﺧاصﺔ نظريﺔ داروين‬
‫البيولوﺟيﺔ فﻲ التطور واﻗترب ﻣن الﻣناھج الوضﻌيﺔ التﻲ شيدھا‬
‫أوﻏﺳت كونت والنﻘديﺔ الكانطيﺔ وأﻋﺟب بالتﺣاليل اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫اﻻﻗتصاديﺔ لبﻌض اﻻشتراكيين رﻏم إﻏراﻗﮭا فﻲ الطوباويﺔ‬
‫وھﺟوﻣه الكبير ﻋﻠﻰ ﻋﻠم اﻻﻗتصاد الﻠيبرالﻲ‪.‬‬
‫إن األﺳاﺳﻲ فﻲ نظرة ﻣاركس لﻠدين ھو ربطه لﮭذه الظاھرة‬
‫الﺛﻘافيﺔ الﻣنتشرة فﻲ الوﺳط الشﻌبﻲ بالﻌزاء الوھﻣﻲ والﺳﻌادة‬
‫الﻣزيفﺔ وﻗد فﺳر فيﻠﺳوف البرولوتاريا تشكل الظاھرة الدينيﺔ‬
‫بﻌﻣﻠيﺔ اﻻنﻌكاس الكاذب لﻠواﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ الذي يﻌيش فيه‬
‫اﻹنﺳان‪ ،‬وﻗد أدى ذلك إلﻰ اﻋتبار الدين ﺳبب ظﮭور الوﻋﻲ‬
‫الزائف ووﻗوع الناس فﻲ اﻻﻏتراب والبﻘاء فﻲ وضﻊ ﻣﻘﻠوب‪ ،‬فﻲ‬
‫ھذا الﺳياق يﻘول أنﺟﻠز فﻲ ﻣناھضﺔ ديﮭرينغ‪ ":‬كل دين لم يكن‬
‫ﺳوى انﻌكاس ﺧيالﻲ فﻲ أدﻣغﺔ البشر لﻘوى ﺧارﺟيﺔ تﮭيﻣن ﻋﻠﻰ‬
‫الوﺟود اليوﻣﻲ‪"...‬‬
‫إن الدين يﻘيد أياد اﻹنﺳان بواﺳطﺔ إكﻠيل ﻣن الزھور وصورة‬
‫الﻣﻘدس ﻋند الﻣتدين ھﻲ صورة األزھار ﻣوضوﻋﺔ ﻋﻠﻰ الﻘيد‬
‫وﻻﺳيﻣا وأنه يﻣكن أن يكون ﻣصدر شﻘاء اﻹنﺳان وبؤﺳه ويﻌطل‬
‫البشر ﻋن اﻻنصراف نﺣو تغيير واﻗﻌﮭم ولذلك نﺟد ﻣاركس‬
‫يصرح فﻲ ﻣﻘدﻣﺔ لنﻘد فﻠﺳفﺔ الﺣق ﻋند ھيﺟل‪ ":‬إن الدين زفرة‬

‫‪211‬‬
‫الﻣﺧﻠوق الﻣضطﮭد وضﻣير ﻋالم ليس له ضﻣير‪ ،‬كﻣا ھو روح‬
‫األوضاع التﻲ ليس لﮭا روح‪...‬انه أفيون الشﻌب‪".‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو يﻌرف الناطق الرﺳﻣﻲ باﺳم الطبﻘﺔ الﻌاﻣﻠﺔ‬
‫الدين بأنه تﻌويض ﺧيالﻲ وﺟزاء ﻣﻌنوي وﻋزاء ﻋن الشﻘاء‬
‫الواﻗﻌﻲ فﻲ ھذا الﻌالم ألنه يﻣكن أن يﻘدم توفيﻘا وھﻣيا ﺧالصا‬
‫لﻠتﻌارضات الواﻗﻌيﺔ الﻘائﻣﺔ ويﻣتص التناﻗضات ويﻠغﻲ التباينات‬
‫بشكل التفافﻲ‪ ،‬انه ﻣﺟرد تﻌبير ﻋن اﻹذﻋان والﺳﻠوى وﻋﻘيدة ﺳﻠبيﺔ‬
‫تﻠﺟأ إلﻰ تبرير ﻋﻠوي وتﺣث ﻋﻠﻰ الﺧنوع والركون‪ ،‬انه انﻌكاس‬
‫لﻠشﻘاء الواﻗﻌﻲ ويكون ﻋزاء وتﺧدير وﻣواﺳاة وھﻣيﺔ وتﻌبير ﻋن‬
‫الﻌﺟز وتبرير لﻠبؤس والتﻌاﺳﺔ‪ ،‬كﻣا أنه يﻣﺛل شكال ﻣغتربا لوﻋﻲ‬
‫الذات‪ ،‬وھو وﻋﻲ الذات ﻋند اﻹنﺳان الذي لم يﺟد نفﺳه‪.‬‬
‫ﻏنﻲ ﻋن البيان"أن الدين ھو النظريﺔ الﻌاﻣﺔ لﮭذا الﻌالم‬
‫وﺧالصته الﻣوﺳوﻋيﺔ وﻣنطﻘه فﻲ شكل شﻌبﻲ وروﺣانيته‬
‫وﺣﻣاﺳته وﻋﻘوبته الﻣﮭنيﺔ وأﺳاﺳه الكونﻲ ﻣن أﺟل الﻌزاء‪".‬‬
‫والﻣﻘصود بذلك أن الدين اﻏتراب إيديولوﺟﻲ يﺟﻌل الذوات تشﻌر‬
‫بﻘدرتﮭا ﻋﻠﻰ اﻻﺳتغناء ﻋن الواﻗﻊ واﻹذﻋان لﺳﻠطته باﻻﺳتناد إلﻰ‬
‫انفصال التﺟربﺔ اليوﻣيﺔ لدى اﻹنﺳان الﻣضطﮭد الﻣﻣزق والذي‬
‫يﺣتاج إلﻰ الﻌزاء والتﻌويض‪.‬‬
‫إن الدين ھو فﻲ ﻣﻌظﻣه إيديولوﺟيا تﺧفﻲ ﻣصالح ورﻏبات‬
‫الﻘوى التﻲ أنتﺟتﮭا وھﻲ انﻌكاس زائف ﻣشوه تظﮭر فيه الﻌالﻗات‬
‫بين البشر ﻣﻘﻠوبﺔ وتﺟﻌل ﻣن األوھام الذاتيﺔ وكأنﮭا أفكار صﺣيﺣﺔ‬
‫تﺣدد نﻣط ﺣياتﮭم وان الﻣبادئ واألﺣكام الالھوتيﺔ يﻣكن أن تﻘوم‬
‫بالتﻌويض ﻋن الﻣﮭانﺔ وتبرر الشرور وتفﺳر ذلك باﻻبتالء‬
‫والﻣﺣن وتتﺳتر ﻋن اﻻضطﮭاد بتصور ﻗيام ﺟزاء ﻋادل فﻲ‬

‫‪212‬‬
‫الﻣاوراء وتدﻋو إلﻰ اﺣتﻘار الذات والﺟبن والضﻌﺔ والذل‬
‫والﺧنوع"‪.‬‬
‫يﻘول ﻣاركس‪":‬إن الﻣبادئ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ لﻠﻣﺳيﺣيﺔ ﻗد بررت نظام‬
‫الﻌبوديﺔ البالﻲ وﻣﺟدت فﻲ الﻌصور الوﺳطﻰ نظام الﻘنانﺔ الﺳائد‬
‫وﻗادرة ﻋﻠﻰ الدفاع ﻋﻠﻰ ﻗﻣﻊ البروليتاريا ولو أظﮭرت أﺛناء ذلك‬
‫بﻌض األشياء‪،".‬لكن ﻣا الﻣﻘصود باﻻﻏتراب الدينﻲ؟ وبﻌبارة‬
‫أﺧرى كيف يوﻗﻊ الدين اﻹنﺳان فﻲ اﻻﻏتراب؟‬
‫إن الﺣﻘيﻘﺔ الﻣؤلﻣﺔ لﺣياة الناس ﻋﻠﻰ األرض ھﻲ واﻗﻊ اﻏترابﮭم‬
‫اليوﻣﻲ ﻋن ذواتﮭم بﺣيث تﻣﺛل شﺧصياتﮭم صورة ﻋن اﻹنﺳان‬
‫الﻣغترب الفاﻗد تﻣاﻣا لﮭويته‪ .‬والﻣفارق أن الذي يﻘود إلﻰ اﻻﻏتراب‬
‫ليس األفكار الﻣﺟردة والغيبيات بﻌيدة الﻣنال بل األﺳس الﻣاديﺔ‬
‫لإلنتاج اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والشروط التﻘنيﺔ التﻲ تتطور فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫الﺣديث‪.‬واﻻﻏتراب لم يﻌد يﻘتصر ﻋﻠﻰ الﻌاﻣل بل تﻌدى ذلك إلﻰ‬
‫ﻗيﻣﺔ الﻌﻣل ذاتﮭا ووصل إلﻰ ﺣد اﻏتراب الﺛﻘافﺔ بأﺳرھا ألن ھناك‬
‫تضاﻣن ﻋﻣيق بين اﻻﻏتراب اﻻﺟتﻣاﻋﻲ واﻻﻏتراب الﺛﻘافﻲ‬
‫واﻻﻏتراب الدينﻲ‪.‬‬
‫فﻲ ھذا الﺳياق يﻘول أنﺟﻠز ﻋن اﻻنﺣراف الذي ﺣصل فﻲ‬
‫الﻣﺳيﺣيﺔ األولﻰ‪ ":‬ھذا التﻌويض الﺳﻣاوي ھو الذي أصبح ذات‬
‫يوم أفيونا ﻣدھش األﺛر كانت الﺳﻠطﺔ تﺳتﺧدﻣه لﺟﻌل الناس يﻘبﻠون‬
‫تﻌاﺳﺔ الدنيا بانتظار وﻋود اآلﺧرة‪ "...‬ﻏير أن اﻻﻏتراب لﻣا كان‬
‫ھو الفﻌل الذي تطرح بﮭا الذات الﻣوضوع وتتﺧارج ﻣﻌه فان‬
‫الدين يﻣﺛل لﺣظﺔ اﻻﻏتراب الذاتﻲ والﺧضوع لﻘوانين الدولﺔ‬
‫الشﻣوليﺔ يﻣﺛل لﺣظﺔ اﻻﻏتراب الﺟزئﻲ أﻣا نﻣط الﻣﻠكيﺔ الﺧاصﺔ‬
‫وتراكم الﺛروة بشكل ﻏير ﻣشروع واﻻﺣتكار والتفاوت فﻲ تﻘﺳيم‬

‫‪213‬‬
‫الﻌﻣل وفﻲ التوزيﻊ والالتكافﻰء فﻲ التبادل فﮭو يﻣﺛل لﺣظﺔ‬
‫اﻻﻏتراب الكﻠﻲ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو فان اﻻﻏتراب الدينﻲ ھو الﻠﺣظﺔ التﻲ يﺣﻘق‬
‫فيﮭا اﻻنﻌكاس الﻣﻘﻠوب اﺣتالله الكﻠﻲ لﻠوﻋﻲ وبالتالﻲ ﻻ تﻌود صﻠﺔ‬
‫اﻹنﺳان ﻣﻊ ذاته وﻣﻊ األشياء فﻲ صورة ﻣطابﻘﺔ وصﺣيﺣﺔ بل فﻲ‬
‫وضﻊ ﻣشبوه وﻣﻘﻠوب بﺣيث يﻘدم الوھم ﻋﻠﻰ الﺣﻘيﻘﺔ والتﻌويض‬
‫الﺧيالﻲ بدل اﻹشباع الواﻗﻌﻲ وﻋالم الﺳﻣاء ﻋﻠﻰ ﻋالم األرض‬
‫وتنتصر لغﺔ الﻌﺟز والتﻣنﻲ واﻻنتظار ﻋﻠﻰ الﻣبادرة والفﻌل‬
‫واﻻنﺧراط‪.‬‬
‫إن الدين ﻋند ﻣاركس ھو شﻣس وھﻣيﺔ تدور ﺣول اﻹنﺳان بﻣا‬
‫أن ھذا األﺧير ظل ﻣنذ زﻣان ﻻ يدور ﺣول نفﺳه والﺣل ھو أن‬
‫يدور اﻹنﺳان ﺣول نفﺳه ألن ذاته ھﻲ الشﻣس الﺣﻘيﻘيﺔ التﻲ ينبغﻲ‬
‫أن يدور ﺣولﮭا وليس األشياء الﺧارﺟيﺔ التﻲ يضفﻲ ﻋﻠيﮭا طابﻊ‬
‫الﻘداﺳﺔ‪ .‬ﻋندئذ" ﻻ يﺣدث اﻻﻏتراب الدينﻲ فﻲ ﺣد ذاته إﻻ فﻲ‬
‫الوﻋﻲ‪ ،‬فﻲ الضﻣير الباطنﻲ لإلنﺳان‪ ،‬لكن اﻻﻏتراب اﻻﻗتصادي‬
‫يﺣدث فﻲ الﺣياة الواﻗﻌيﺔ"‪ .‬لذلك يﻌرف ﻣاركس الدين ﻋﻠﻰ أنه‬
‫الوﻋﻲ الذاتﻲ لإلنﺳان الذي أضاع ذاته‪ ،‬والغريب أنه كﻠﻣا وضﻊ‬
‫أشياء أكﺛر فﻲ ﻗوة ﻣطﻠﻘﺔ ﻣوﺟودة ﺧارج الﻌالم كﻠﻣا ﺣفظ أشياء‬
‫أﻗل فﻲ نفﺳه وھو كذلك شﻣس وھﻣيﺔ تترك الناس يدورون ﺣول‬
‫أنفﺳﮭم ﻋوض الدوران ﺣول الﻌالم‪.‬‬
‫إن ضياع الفﻠﺳفﺔ فﻲ الدين ھو انﻌكاس لضياع أﻋﻣق ھو‬
‫اﻻﻏتراب الدينﻲ الﺣﻘيﻘﻲ الذي يتﺟﻠﻰ فﻲ ﻣفﮭوم اﻹيديولوﺟيا‪ .‬لﮭذا‬
‫فإن "ﻣا يﮭم ﻣاركس ليس الفرد الﻣﺟرد وﻻ الوﻋﻲ والنفس الزكيﺔ‬
‫التﻲ تتﺣدث ﻋنﮭا األديان والفﻠﺳفات بل اﻹنﺳان الذي يﻌﻣل ويكابد‬

‫‪214‬‬
‫والنفس التﻲ تﻣوت بﺳرﻋﺔ وھﻲ تبتﻌد ﻋن الدين ألنه يﻌﻣل ﻋﻠﻰ‬
‫‪1‬‬
‫تﮭﻣيشﮭا أو ﻋﻠﻰ األﻗل ﺳﻠب ھذا الفرد ھنا‪"...‬‬
‫يربط ﻣاركس بين اﻻﻏتراب الدينﻲ واﻻﻏتراب اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫ويﺣاول الﻌﺛور ﻋﻠﻰ أﺳباب اﻻﻏتراب اﻻﺟتﻣاﻋﻲ فﻲ الﻌاﻣل‬
‫اﻻﻗتصادي وضﻣن ظروف الﻌﻣل وﻋالﻗات اﻹنتاج ويربط بين‬
‫ﻣفﮭوم اﻻﻏتراب واﻻﺳتغالل ضﻣن نظام األﺟرة‪ ،‬و"إذا كان‬
‫اﻻﻏتراب وﻗﻊ التطرق إليه كﻣفﮭوم نظري فان توﺳيﻌه الﻣتزايد‬
‫ينبغﻲ أن يﻠزﻣنا بالﻘول أن كل ﻋﻣل ﻣغترب ھو ﻣﺳتغل‪ ...‬إن‬
‫ھيﻣنﺔ الﻘبﻠيﺔ ﻣن طرف نﻣوذج اﻻﻏتراب ﻋﻠﻰ كل النشاطات ليس‬
‫له ﻣن نتيﺟﺔ ﺳوى اﻻﺳتغالل"‪. 2‬لكن‪ ،‬كيف فﻌل ﻣاركس آلبته‬
‫النﻘديﺔ فﻲ ﻗضايا اﻹيﻣان واﻻﻋتﻘاد؟‬

‫‪ -2‬نﻘد االيديوﻟوﺟيا اﻟدينيﺔ‪:‬‬


‫"ھذه الفﻠﺳفﺔ تﻣتﻠك ﻣﻘصد نﻘدي ﻣزدوج‪ :‬تأﺧذ شكل النﻘد‬
‫الﺣﻘوﻗﻲ ﻋندﻣا تواﺟه الﺳﻠطﺔ الﺳياﺳيﺔ وتأﺧذ شكل نﻘد الدين‬
‫‪3‬‬
‫ﻋندﻣا تواﺟه الﺳﻠطﺔ الروﺣيﺔ‪"...‬‬
‫ظل ﻣاركس ﻣﮭتﻣا بكيفيﺔ ﺧالص اﻹنﺳان ككائن ﻣنتج وﻋﻣل‬
‫ﻋﻠﻰ تﺣريره ﻣن اﺳتﻌباده وﻣن اﻏترابه فﻲ نطاق ﻋالﻗات اﻹنتاج‬
‫الرأﺳﻣاليﺔ وتﻣوضﻌه بواﺳطﺔ شروط اﻹنتاج والبضائﻊ ولذلك‬
‫اﻗترح كﺣل نﻘد الدين وإلغاء الﻣﻠكيﺔ والﺛورة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وإﻗاﻣﺔ‬

‫‪1‬‬
‫‪Marcel neusch ,aux sources de l’athéisme contemporain, chretien‬‬
‫‪malgré lui,Ed centurion, 1977.p80‬‬
‫‪2‬‬
‫‪J .f. Lyotard , Dérive à partir de marx et freud, collection 10-‬‬
‫‪18,UGE ,1973,pp141-142‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Emmanuel Renault, Marx et l’idée de critique, Ed PUF, 1995, p.7.‬‬

‫‪215‬‬
‫دولﺔ الطبﻘﺔ الﻌاﻣﻠﺔ ﺣتﻰ تﺣل النزﻋﺔ اﻹنﺳانيﺔ والفكر الﻌﻠﻣﻲ‬
‫ﻣﺣل الﺧرافﺔ والوھم والﻣيتافيزيﻘا والﻣﺛاليات‪.‬‬
‫لكن" إذا كانت الطبيﻌﺔ اﻹنﺳانيﺔ ھﻲ األﺳﻣﻰ بالنﺳبﺔ لإلنﺳان‬
‫فإنه ينبغﻲ ﺣينئذ أن يكون أول ﻗانون وأﺳﻣاه ھو ﺣب اﻹنﺳان‬
‫لإلنﺳان‪ ،‬اﻹنﺳان ھو اله اﻹنﺳان ھذا ھو الﻣبدأ الﻌﻣﻠﻲ الﻌظيم‪"...‬‬
‫وھو ﻣا أكد ﻋﻠيه ذات ﻣرة فﻲ بﻌض ﻣن ﻣﺳوداته‪" :‬إن الفﻠﺳفﺔ‬
‫النﻘديﺔ فﻲ كفاﺣﮭا ضد الﻌالم ﻻ تﻘف فﻘط ضد ھذا الﻌالم وإنﻣا‬
‫أيضا ضد الفﻠﺳفﺔ التﻲ كانت تﺳوده إلﻰ ذلك الﺣين"‪" .‬ﻣاركس‬
‫ﻣﺛل بﻘيﺔ الﮭيﺟﻠيين الشباب اآلﺧرين يتصور النﻘد فﻲ ﻋالﻗﺔ‬
‫‪1‬‬
‫ﻣرﺟﻌيﺔ ﻣﻊ الفﻠﺳفﺔ وبالتﺣديد كتﺣﻘيق لﻠفﻠﺳفﺔ"‪.‬‬
‫إن اﻹنﺳان ﻻ يغترب فﻲ الﻌالم الدينﻲ وفﻲ دنيا الﻣاوراء دون‬
‫أﺳباب واﻗﻌيﺔ فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ والدولﺔ والﺛﻘافﺔ ويكفﻲ أن يﺳترد ھذا‬
‫اﻹنﺳان ﻣادته التﻲ ﺧﻠصﮭا ﻋن ذاته وﺟﺳدھا فﻲ هللا ﺣتﻰ تظﮭر‬
‫النزﻋﺔ اﻹنﺳانيﺔ بﺟالء‪ ،‬فﻲ ھذا اﻹطار يﻘول ﻣاركس‪ ":‬إن إلغاء‬
‫الﺣياة الﻣﺛﻠﻰ فﻲ الﺳﻣاء يﺳتﻠزم ﺣياة ﻣﺛﻠﻰ ﻋﻠﻰ األرض تﺟﻌل ﻣن‬
‫ﺣﻠول ﻣﺳتﻘبل أﺣﺳن ﻋﻠﻰ األرض ﻻ ﻣوضوﻋا ﻹيﻣان أﺟوف بل‬
‫إلزاﻣا وواﺟبا ﻋﻠﻰ اﻹنﺳان تﺣﻘيﻘﮭﻣا‪ "...‬وبالتالﻲ فان نفﻲ‬
‫الﻣاوراء يكون نتيﺟته الﺣتﻣيﺔ إﻗاﻣﺔ ﺣﻘيﻘﺔ الﻌالم الدنيوي وبالتالﻲ‬
‫ينبغﻲ أن نﺣذف األﺳاس الدنيوي الذي يرتكز ﻋﻠيه اﻻﻏتراب‬
‫الدينﻲ ولن يكون ذلك ﻣﻣكنا إﻻ بنﻘد الدين‪ ،‬انه وادي الدﻣوع الذي‬
‫يﻣﺛل الدين ھالته الﻣﻘدﺳﺔ ونﻘده يﻌنﻲ الﮭبوط ﻣن الﺳﻣاء إلﻰ‬
‫األرض‪.‬‬

‫‪Emmanuel Renault, Marx et l’idée de critique, p.17.‬‬


‫‪1‬‬

‫‪216‬‬
‫فﻲ ھذا الﺳياق يﻘول ﻣاركس‪ ":‬إننا نريد أن نﺣﻲ ﺟانبا كل ﻣا‬
‫يتﻠبس ﻣظﮭر ﻣا فوق الطبيﻌﻲ وﻣا فوق اﻹنﺳانﻲ ألن ﻣﺛل ھذا‬
‫اﻻدﻋاء ھو ﻣصدر كل زيف وكذب‪"...‬إن نفﻲ الﻣاوراء ھو الﺳبيل‬
‫الوﺣيد لﻌودة اﻹنﺳان إلﻰ ﺣياة النوع لكينونته الﺣﻘيﻘيﺔ وتﺣﻘق‬
‫اﻹنﺳانيﺔ ﻣصالﺣﺔ ﻣﻊ ذاتﮭا ﻻﺳيﻣا وأن الدين ھو ﻋالﻗﺔ اﻹنﺳان‬
‫بذاته أي طبيﻌته الذاتيﺔ‪.‬ألم يﻘل ﻣاركس‪ ":‬الدين ﺣﻠم الﻌﻘل البشري‬
‫بيد أننا ﺣتﻰ فﻲ األﺣالم ﻗد ﻻ نﺟد أنفﺳنا فﻲ الفراغ أو فﻲ الﺳﻣاء‬
‫بل ﻋﻠﻰ األرض وفﻲ ﻋالم الواﻗﻊ‪"...‬؟‬
‫النﻘد ھو ﻣوضوع الفﻠﺳفﺔ وﻏايتﮭا ﻋند ﻣاركس وھو اﻣتﺣان‬
‫ﻣوضوع ﻣا بغيﺔ تﺣديد ﻗيﻣته ونﻘد الدين يﻌنﻲ البﺣث ﻋن‬
‫ﻣشروﻋيته اﺟتﻣاﻋيﺔ والﺳياﺳيﺔ ﻣن دونﮭا وتﺣرير لﻘيم األرض‬
‫ﻣن ﻣطﻠﻘات الﺳﻣاء وﻻﺳيﻣا وأن ﻣﺳار الفﻠﺳفﺔ النﻘديﺔ ﻋوض أن‬
‫يصﻌد ﻣن األرض إلﻰ الﺳﻣاء يﮭبط ﻣن الﺳﻣاء إلﻰ األرض‪ .‬إن‬
‫نﻘد األوھام الذاتيﺔ يﺳبق ﺣتﻣا نﻘد األوضاع الواﻗﻌيﺔ ولذلك فإن‬
‫نﻘد الدين ھو شرط انتﻘال أي ﺟﻣاﻋﺔ ﻣن الالﻋﻘل إلﻰ الﻌﻘل وﻣن‬
‫األﺳطورة إلﻰ التاريﺦ وتﺣﻘيق الﻣنﻌطف الﺳياﺳﻲ الذي يﺳﻣح‬
‫بتﻌاصر الالﻣتﻌاصر وإتاﺣﺔ الفرصﺔ إلﻰ اﻹنﺳان بأن يﺣتل ﻣكانا‬
‫يﻠيق به فﻲ ھذا الﻌالم‪.‬‬
‫إن نﻘد الدين يﺳير ﺟنبا إلﻰ ﺟنب ﻣﻊ نﻘد كل أشكال الوﻋﻲ‬
‫الزائفﺔ األﺧرى ﻻﺳيﻣا وأن الظاھرة الدينيﺔ ھﻲ ظاھرة تاريﺧيﺔ‬
‫إنﺳانيﺔ ﻻ يﻣكن ﻋزلﮭا ﻋن بﻘيﺔ الظواھر األﺧرى‪ ،‬ﻣن ھذا‬
‫الﻣنطﻠق ﻻ يﺧرج الدين ﻋن كونه نتاﺟا تاريﺧيا لﻠبشر فﻲ ظروف‬
‫ﺣياتﮭم اليوﻣيﺔ وفﻲ وضﻌﮭم التاريﺧﻲ ﺧاصﺔ وأنه شكل اﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫لﻠوﻋﻲ وﺛيق الصﻠﺔ بالﺣياة اﻹنﺳانيﺔ التﻲ انبﺛق ﻣنﮭا ويﺳتﻣد‬

‫‪217‬‬
‫تصوراته وﻣكوناته النظريﺔ الﻣﻘدﺳﺔ والدنيويﺔ ﻣن ﺣاﺟات‬
‫البشريﺔ الواﻗﻌيﺔ وتطﻠﻌاتﮭم‪.‬يﻠبﻲ الدين ﺣاﺟتين‪ ،‬األولﻰ نظريﺔ‬
‫وتتﻣﺛل فﻲ فﮭم الصالت التﻲ تربط الناس ببﻌضﮭم البﻌض وبالﻌالم‬
‫والﺛانيﺔ ﻋﻣﻠيﺔ وتتﻣﺛل فﻲ تأكيد ﺳيادة البشر ﻋﻠﻰ ﺣياتﮭم الفرديﺔ‪.‬‬
‫ألم تنتزع كﻠﻣﺔ الدين أفيون الشﻌب ﻣن ﺳياﻗﮭا الﺛﻘافﻲ والﻠغوي‬
‫والتاريﺧﻲ ليبالغ فﻲ اﺳتﻌﻣالﮭا فﻲ ﻏير الﻣﻌنﻰ الذي ﺟﻌﻠت له؟‬
‫ألم يشر ﻣاركس ھو نفﺳه إلﻰ الﻘاع اﻹنﺳانﻲ الﻌﻣيق فﻲ الدين وﻣا‬
‫تتضﻣنه لغته ﻣن رﻏبات إنﺳانيﺔ وتطﻠﻌات دنيويﺔ؟‬
‫تبﻌا لذلك يظﮭر أن" نﻘد الدين يﺧﻠﻊ الﺳﺣر ﻋن اﻹنﺳان ﻣن‬
‫أﺟل أن يفكرويفﻌل ويبدع ﺣﻘيﻘته وھو يصبح ﻋاﻗال ﻋندﻣا يكون‬
‫إنﺳانا ﻣﺧﻠوﻋا ﻣن الﻘداﺳﺔ"\ز وبالتالﻲ "ﻻ يﻣكن أن يﺧتفﻲ‬
‫اﻻنﻌكاس الدينﻲ لﻠﻌالم الواﻗﻌﻲ ﻋند اﻹنﺳان إﻻ ﻋندﻣا تظﮭر له‬
‫ظروف الﻌﻣل والﺣياة الﻌﻣﻠيﺔ ﻋالﻗات شفافﺔ وﻋﻘالنيﺔ ﻣﻊ أﻣﺛاله‬
‫‪1‬‬
‫وﻣﻊ الطبيﻌﺔ"‪.‬‬
‫لﻘد ﻏادر النﻘد ﻣﻊ ﻣاركس أرض الفﻠﺳفﺔ الﻣﺛاليﺔ والتﻣظﮭرات‬
‫الﻣﺟردة واصطف ﻋﻠﻰ يﺳار ھيﺟل ليدﺧل أرض الالھوت‬
‫والتصورات األﺧالﻗيﺔ وينﺟز نفﺳه فﻌﻠيا ﻋندﻣا ﺛار ﻋﻠﻰ ﻣاھو‬
‫ﻗائم ويصبح فﻲ ﺧدﻣﺔ التاريﺦ والفﻌل الﺳياﺳﻲ واﻻﺟتﻣاﻋﻲ‪ ،‬إن‬
‫النﻘد يتﺧطﻰ ﻣبادئ الﻣﻌرفﺔ وﻗوانين الﻣنطق وأﺳس األنطولوﺟيا‬
‫ليشﻣل الشروط اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والتاريﺧيﺔ ﻣن أﺟل الﻘضاء ﻋﻠﻰ‬
‫األوھام الالﻋﻘالنيﺔ واﻻيديولوﺟيا الﻣﺛاليﺔ ولكﻲ يﺛبت أن الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫األرضﻲ ھو ﻣصدر الﺧير وأن اﻹنﺳان ﺣاﻣل ﻗيم وأن الذات يﻣكن‬
‫أن تكون ﻣﺳؤولﺔ ﻋن وﺟودھا فﻲ الﻌالم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪Karl Marx, le Capital,‬‬

‫‪218‬‬
‫"إن لفظ اﻹيديولوﺟيا فﻲ الﻘاﻣوس الفﻠﺳفﻲ الفرنﺳﻲ يﻣتﻠك دﻻلﺔ‬
‫ﺳﻠبيﺔ‪ .‬انه يفترض نوﻋا ﻣن التﺟريد ﻣن درﺟﺔ ﺛانيﺔ بإشارته إلﻰ‬
‫ﺧطاب ﺣول األفكار‪ .‬لكنه ﺳيﻌاد له اﻻﻋتبار فﻲ الفكر الﻣاركﺳﻲ‬
‫رﻏم بﻘاء دﻻلته ﻏاﻣضﺔ‪ ,‬انه يشير إلﻰ األفكار بوصفﮭا وﺳائل‬
‫فﻲ الفﻌل والﺳﺟال الﺳياﺳﻲ‪ .‬ھكذا نتﺣدث كﺛيرا ﻋن اﻹيديولوﺟيا‬
‫البرﺟوازيﺔ وﻋن اﻹيديولوﺟيا اﻻشتراكيﺔ ( أو البروليتاريﺔ) وﻋن‬
‫‪1‬‬
‫الصراع اﻹيديولوﺟﻲ ﻋندﻣا يتﻌارض ھذان الﺧصﻣان‪".‬‬
‫ﻻ يﻣكن تﺣﻘيق نﻘد الدين تﻣاﻣا دون اﻻنتﮭاء ﻣن نﻘد‬
‫اﻹيديولوﺟيا البرﺟوازيﺔ وﻣن نﻘد الفﻠﺳفﺔ الﻣﺛاليﺔ لكن ﻣاركس‬
‫يذھب إلﻰ أبﻌد ﻣن ذلك بضﻣه نﻘده الﺟزئﻲ لﻠدين إلﻰ نظريته‬
‫الكﻠيﺔ فﻲ البراكﺳيس ﻻﺳيﻣا وأن أوھام اﻻﺳتالب الدينﻲ ﻻ يﻣكن‬
‫تبديدھا بﻣﺟرد نﻘد الدين وإنﻣا ﻋن طريق الﺛورة والتغيير الشاﻣل‬
‫لﻠﺣالﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ التﻲ ولدت ﻣن تﻠك األوھام‪ ،‬وھذا ﻣا نﻌﺛر ﻋﻠيه‬
‫ﻋند ﻣاركس فﻲ اﻹيديولوﺟيا األلﻣانيﺔ فﻲ ﻗوله‪" :‬إن الﺛورة ﻻ النﻘد‬
‫ھﻲ الﻘوة الﻣﺣركﺔ لﻠتاريﺦ وكذلك لﻠدين والفﻠﺳفﺔ وكل األشكال‬
‫النظريﺔ‪ ".‬لكن إلﻰ أي ﻣدى يﻣكن أن نﻌتبر ﻣاركس صاﺣب ديانﺔ‬
‫ﺟديدة؟ أو بﻌبارة أﺧرى ھل ترك لﻠدين وظيفﺔ ﺛوريو ﻣﻣكنﺔ فﻲ‬
‫إطار الﺣراك الﺳياﺳﻲ الذي يﻌرفه أي ﻣﺟتﻣﻊ؟‬

‫‪ -3‬اﻟدين دعاﻣﺔ رئيسيﺔ ﻟلثورة‪:‬‬


‫" إن الصراع ضد الدين ھو بصورة ﻏير ﻣباشرة صراع ضد‬
‫ذلك الﻌالم الذي يﻣﺛل الدين أريﺟه الروﺣﻲ‪ ،‬إن الشﻘاء الدينﻲ ھو‬
‫فﻲ الوﻗت نفﺳه تﻌبير ﻋن الشﻘاء الواﻗﻌﻲ واﺣتﺟاج ضده"‬
‫‪1‬‬
‫‪Henri lefebvre, problèmes actuels du marxisme, Ed PUF,1958, p,36,‬‬

‫‪219‬‬
‫لﻌل فرادة الﻣاركﺳيﺔ فﻲ كونﮭا فﻠﺳفﺔ ﺛورة ﺧصوصا ﻋند‬
‫تبنيﮭا ألطروﺣﺔ ‪ 11‬ﻋند فيورباخ التﻲ تﻌﻠن األﻣر الﻘطﻌﻲ‬
‫بالتوﺟه نﺣو البراكﺳيس‪ ":‬ﻣا فتئ الفالﺳفﺔ يؤولون الﻌالم فﻲ ﺣين‬
‫أنه يﺟب تغييره" وتتوضح ضرورة الﺛورة فﻲ رﻏبﺔ ﻣاركس‬
‫الﻌارﻣﺔ فﻲ ﻗﻠب األوضاع رأﺳا ﻋﻠﻰ ﻋﻘب والشروع فﻲ صناﻋﺔ‬
‫اﻹنﺳان وفتح اآلفاق أﻣام الكائن البشري ﻣن أﺟل انﺟاز ذاته‬
‫وإﻋادة تأصيل ﻋالﻗته بنفﺳه وبالطبيﻌﺔ ﻋﻠﻰ نﺣو إنتاﺟﻲ‪ ،‬فﻲ ھذا‬
‫الﺳياق يﻘول ﺟورج ﻻبيكا‪":‬ﻻ يﻣكن لﻠﻌالم فﻲ ﺣالته الﺣاليﺔ أن‬
‫يﺳتﻣر‪ .‬إن الﻌالم الﺣالﻲ وأشكال وﺟوده وتفكيره وإﺣﺳاﺳه أو فﻌﻠه‬
‫ھو الﻌالم اآلﺧر‪ ،‬ﻋالم الدين والفﻠﺳفﺔ وﻣا شابﮭﮭﻣا الذي اﺣتل‬
‫ﻣكان الﻌالم األرضﻲ‪ .‬إن فﻌل التغيير ھو الﻌودة إليه وﻣﺣاولﺔ‬
‫‪1‬‬
‫الﻌﺛور ﻋﻠيه‪"...‬‬
‫إن ﻣاركس ينﻘد الدين كإيديولوﺟيا وكأداة ﻣﺣافظﺔ تبرر ﺳيطرة‬
‫طبﻘﺔ ﻋﻠﻰ أﺧرى وليس الدين فﻲ ﺣد ذاته كتﺟربﺔ روﺣيﺔ يﻘيم ﻣن‬
‫ﺧاللﮭا اﻹنﺳان صﻠﺔ بالﻣطﻠق وفﻲ نﻘده ھذا يشير إلﻰ الطابﻊ‬
‫الﻣزدوج الﻌﻣﻠﻲ والنظري لﻠدين وﻋالﻗﺔ الوﻋﻲ الدينﻲ بالصراع‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والﺳياﺳﻲ ويﻘر بأن األديان تﻠﻌب دورا تاريﺧا ﺣاﺳﻣا‬
‫فﻲ اﻻنتﻘال ﻣن ﺣﻘبﺔ ﻣﻌينﺔ إلﻰ أﺧرى‪.‬إن الدين ﻋند ﻣاركس ليس‬
‫ﻣركب ﻏيبﻲ ﻣﺛالﻲ وﺧرافﺔ تﻘيد الناس بنﻣط طفولﻲ ﻣن التفكير‬
‫والﺳﻠوك ويﻌبر ﻋن ﻋالﻗات بدائيﺔ بين اﻹنﺳان ونفﺳه واألﺧر‬
‫والطبيﻌﺔ بل ھو اﺣتﺟاج وتﻌبير ﻋن الﻠﺣظﺔ الفاﻋﻠﺔ والرﻏبﺔ‬
‫الﺣﺛيﺛﺔ فﻲ تﺧطﻲ النظام الﻘائم بصورة واﻗﻌيﺔ وفﻌﻠيﺔ‪ ،‬وھو ﻣﺣفز‬

‫‪1‬‬
‫‪Georges labica, Karl Marx, les Thèses sur Feuerbach, Ed PUF,‬‬
‫‪1987,p,129,‬‬

‫‪220‬‬
‫تاريﺧﻲ وواﻗﻌﻲ يتﺣول إلﻰ نﮭج لﻠﺳﻠوك الفاﻋل واﻻيﺟابﻲ‬
‫ودﻋاﻣﺔ أﺳاﺳيﺔ لالﺣتﺟاج والرفض وﻗد ﻗاﻣت الﻌديد ﻣن الﺛورات‬
‫واﻻنتفاضات تﺣت رايﺔ الدين ﻣﺛل التﻣردات الفالﺣيﺔ فﻲ الﻌصور‬
‫الوﺳطﻰ وﺣركات التﺣرر الوطنﻲ فﻲ األزﻣنﺔ الﺣديﺛﺔ‪.‬‬
‫لﻘد بين أنﺟﻠز أن الﻣﺳيﺣيﺔ األولﻰ كإيﻣان دينﻲ صافﻲ ﻗبل أن‬
‫تأﺧذ شكل ﻋﻘيدة وﻣؤﺳﺳﺔ ﻣﺣافظﺔ فﻲ يد الﺳﻠطﺔ ﻣنذ ﻋﮭد‬
‫ﻗﺳطنتين وﻗبل أن تنﻘﻠب إلﻰ ﺣﻠم وھروب ﻣن الواﻗﻊ التﻌيس‬
‫وانتظار لﻠوفاء بالوﻋد كانت اﺣتﺟاﺟا وﻋنصرا ﺛوريا تﻌكس التوق‬
‫الﻌارم ﻣن ﻗبل الطبﻘﺔ الناشئﺔ إلﻰ التغيير وتأﺛيث ﻋالم أفضل ولﻌل‬
‫الﺛائر األلﻣانﻲ توﻣاس ﻣونزر ھو ﺧير ﻣﺛال ﻋﻠﻰ ذلك اﻻلتﻘاء بين‬
‫اﻹيﻣان والﺛورة ﺣيث لبس الدين ﺛوب النضال ضد اﻹﻗطاع‬
‫والنبالء‪.‬‬
‫"تﺣتل الﻣﺳألﺔ الدينيﺔ ﻣكانﺔ ﻣتصاﻋدة فﻲ كتابات أنﺟﻠز‬
‫وأشكال الﻣرور بالدين ھﻲ باألﺣرى توصيفات وﻣالﺣظات‪ .‬وﻗد‬
‫كان أنﺟﻠز ﺣﺳاس بالتأﺛيرات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والﺳياﺳيﺔ لﻠدين‪ .‬لﻘد كان‬
‫الدين بالنﺳبﺔ إليه ﻗبل كل شﻲء واﻗﻊ اﺟتﻣاﻋﻲ وليس ﻣﺳألﺔ دينيﺔ‪.‬‬
‫وﻗد بدأ باكرا تﻌاونه ﻣﻊ ﻣاركس وأﺧرﺟا ﻣن ﻋﻣﻠﮭﻣا الﻣشترك‬
‫ليس نﻘدا لﻠدين بل ﻋﻠﻣا بالتاريﺦ يأﺧذ بﻌين اﻻﻋتبار الظاھرة‬
‫الدينيﺔ كانﻌكاس ﺧيالﻲ لﻠﻌالم الﺧارﺟﻲ أي كإيديولوﺟيا‪.1"...‬‬
‫فﻲ ھذا الﺳياق يصفه أنﺟﻠز فﻲ كتابه ﺣرب الفالﺣين فﻲ‬
‫ألﻣانيا‪":‬كانت تﻌاليم ﻣونزر الﺳياﺳيﺔ وﺛيﻘﺔ الصﻠﺔ بتصوراته‬
‫الدينيﺔ الﺛوريﺔ وﻣﺛﻠﻣا كان ﻻھوته يتﺧطﻰ التصورات الرئيﺳيﺔ‬

‫‪1‬‬
‫‪Nguyen Ngoc Vu, idéologie et religion, d’après Marx et Engels ,‬‬
‫‪édition Aubier Montaigne,1975 , p115‬‬

‫‪221‬‬
‫فﻲ ﻋصره كذلك كانت تﻌاليﻣه الﺳياﺳيﺔ تﻣضﻲ إلﻰ أبﻌد ﻣن‬
‫الشروط الﺳياﺳيﺔ واﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الﺳائدة ﻣباشرة وكانت فﻠﺳفته‬
‫الدينيﺔ تتاﺧم اﻹلﺣاد ﻣﺛﻠﻣا كان برناﻣﺟه الﺳياﺳﻲ يﻘارب‬
‫الشيوﻋيﺔ‪...‬كان ھذا البرناﻣج يطالب بإﻗاﻣﺔ ﻣﻣﻠكﺔ الرب ﻣباشرة‬
‫ﻋﻠﻰ ھذه األرض‪...‬لﻘد رأى ﻣونزر فﻲ ﻣﻣﻠكﺔ الرب ﻣﺟتﻣﻌا بال‬
‫فوارق طبﻘيﺔ وﻻ ﻣﻠكيﺔ ﺧاصﺔ وﻻ ﺳﻠطﺔ دولﺔ ﻣﺳتﻘﻠﺔ أﺟنبيﺔ‬
‫تفرض نفﺳﮭا ﻋﻠﻰ أﻋضائﮭا‪"...‬‬
‫لﻘد كان الفالﺣون يطالبون بالﻌدالﺔ واﻻﻋتراف بظروف‬
‫الﻣﺳاواة التﻲ شﮭدتﮭا الﻣﺳيﺣيﺔ األولﻰ فتصبح ﻗواﻋد ﺳائدة فﻲ‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ الذي يوﺟدون فيه وﻗد اﻋتﻣدوا ﻋﻠﻰ تﺳاوي البشر أﻣام‬
‫هللا كﺣﺟﺔ ﻣﻘنﻌﺔ فﻲ ﻣطالبتﮭم بالﻣﺳاواة ﻋﻠﻰ األرض فﻲ الﺛروات‬
‫وأﻣام الﻘانون‪ ،.‬ﺧاصﺔ وأن شﻌار ﺛورتﮭم كان‪ ":‬يا رب أيد ﻋدالتك‬
‫الﺳﻣاويﺔ‪"...‬إن ازدھار األديان ﻣرتبط ﻋﻠﻰ نﺣو وﺛيق بتﺣول فﻲ‬
‫الﻣﺟتﻣﻌات ذات اﻻﻣتيازات والﻣؤﺳﺳات الناظﻣﺔ إلﻰ ﻣﺟتﻣﻌات‬
‫طبﻘيﺔ وان الوﻋﻲ الدينﻲ لتﻠك الطبﻘﺔ الناشئﺔ الﻣتﺟﮭﺔ نﺣو التﻣرد‬
‫والﺛورة ينطوي فﻲ ظروف تاريﺧيﺔ واﺟتﻣاﻋيﺔ ﻣﻌينﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣﻌارف وﻣطالب ﻣﺳتﻣدة ﻣن ﻗوانين الﺣياة اليوﻣيﺔ‪ ".‬وفق ھذا‬
‫الﻣنظور لم تتشكل األديان ﻣن أﺟل أن تﻠغﻰ بل ﻣن أﺟل أن تأﺧذ‬
‫بﻌين اﻻﻋتبار الﺟﮭد األرضﻲ"‪.1‬‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن ﻣاركس ينﻘد الدين كإيديولوﺟيا وھﻣيﺔ ﻣﻘيدة‬
‫لﺳﻠوك الناس ولكنه ﻣﻘابل ذلك يﻌترف بالبﻌد اﻹنﺳانﻲ الﻣكنوز فﻲ‬
‫الﻌاﻣل الدينﻲ بﻘوله‪ ":‬كﻠﻣا ﻋﻣد األفراد الفاﻋﻠون إلﻰ اﻻﺣتﺟاج‬

‫‪1‬‬
‫‪René de lacharrière ,la divagation de la pensée politique,Marx et la‬‬
‫‪socialisation de dieu, PUF 1972,pp191‬‬

‫‪222‬‬
‫ﻋﻠﻰ ظروف وواﻗﻌﮭم ﻗﻠت ﺣاﺟتﮭم إلﻰ الدين كوھم بديل ﻋن‬
‫الواﻗﻊ يبرر تﻌاﺳتﮭم وﻋﺟزھم وشرﻋوا باﺳتدﻋاء الﻘاع اﻹنﺳانﻲ‬
‫الﻌﻣيق فﻲ الدين وتﻣﺛيﻠه نظريا"‪.‬إن الﻌاﻣل الدينﻲ ھو ﻣنﻌطف‬
‫ﻗوي يﻣكن أن تتﺣول إلﻰ طاﻗﺔ رئيﺳيﺔ لاليديولوﺟيا وتﻌﻣل ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣﺧاطبﺔ وﺣث الذوات الفاﻋﻠﺔ تاريﺧيا ﻣن أﺟل ﺣفز ھﻣﻣﮭم ودفﻌﮭم‬
‫إلﻰ البراكﺳيس وتﻠبﻲ لديﮭم ﻣﺳتﻠزﻣات رﻏبتﮭم فﻲ الصراع‬
‫والﻣﻘاوﻣﺔ وﺣاﺟتﮭم إلﻰ الﺣﻣاﺳﺔ واﻹرادة‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو يﻘترح ﻣاركس إﺧراج رﺟال الدين ﻣن دائرة‬
‫اﻹيﻣان الﺧالص إلﻰ دائرة اﻹيﻣان الفاﻋل وتﺣويﻠﮭم إلﻰ ﻗوة‬
‫ﻣﺣركﺔ لﻠتاريﺦ‪ .‬وﻣن ھذا الﻣنطﻠق اﻋتبر ﻣيشيل ھنري‪" :‬ﻣاركس‬
‫واﺣد ﻣن الﻣفكرين الﻣﺳيﺣيين األوائل"‪" ،‬إن اﻹيديولوﺟيا نفﺳﮭا‬
‫فﻲ ﺣد ذاتﮭا تفرض ﻗوة ﺟذب نوﻋيﺔ ويﻣكن أن تكون ناﺟﻌﺔ بشكل‬
‫فوري‪،‬إنﮭا نصف دين ويﻣكن أن ترضﻲ الﺣاﺟيات الدينيﺔ وأن‬
‫تﺣدث تﺣوﻻت فﻲ اﻹيﻣان وتﺣديدا ﻣن ﺧالل الﻣﺳيﺣيﺔ وفﻲ كل‬
‫األﺣوال نﻘﻠل ﻣن ﻋدم الﻘدرة ﻋﻠﻰ تﺟاوز الالانطباق بين اﻹلﺣاد‬
‫واﻹيﻣان (ربﻣا ھذا األﺧير يصﻠح أيضا فﻲ الدول اﻹﺳالﻣيﺔ)‪.‬‬
‫يﻣكننا أن نﻌﺛر بﻣﻌنﻰ ﻣا فﻲ اﻹيديولوﺟيا والتطبيق الﺣﺳن‬
‫لﻠﻣاركﺳيين بالكاد فﻲ ﻏير ﻣوضﻌﮭا ﻋﻠﻰ اﻹيﻣان واألﻣل والﻣﺣبﺔ‬
‫‪1‬‬
‫وﺣتﻰ أبﻌاد الرؤيﺔ واألﺧرويﺔ واﻹنتظاريﺔ‪".‬‬
‫لﻘد "كتب بيير بيﺟو ﺣول ﻣاركس‪ :‬إن تﻌبيره يﻘترب فﻲ بﻌض‬
‫األﺣيان وبشكل ﻏريب ﻣن التﻌبيرات الدينيﺔ‪ .‬وﻋندﻣا يﮭب إلﻰ‬
‫البروليتاري "ﻋيب فﻲ ذاته" ﻋندﻣا يرى فيه " الفﻘدان التام‬

‫‪1‬‬
‫‪Armand Guillaume, la séduction marxiste, un prêtre médite Marx,‬‬
‫‪EMI, Bologne 1987, pp219‬‬

‫‪223‬‬
‫لإلنﺳان" وينتظر ﻣن ﺧالصه "اﻻﺳترﺟاع الكاﻣل لإلنﺳان" أﻻ‬
‫يﺟﻌل ﻣنه بطريﻘﺔ ﻣا إنﺳان الﮭﻲ يكون فﻲ اآلن نفﺳه ضﺣيﺔ‬
‫وﻣﺧﻠص؟‬

‫‪-4‬ﻣﻔهوم االنسان اﻟﻣنﺗج‪:‬‬

‫"ان الكائن البشري ينطوي ﻋﻠﻰ اﺳتﻌدادات لﻠتﺣول الذاتﻲ تتنبه فﻲ‬
‫ﺣاﻻت األزﻣﺔ ﻋندﻣا تأﺧذ األشياء الﻣتصﻠبﺔ فﻲ التفكك فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ‬
‫‪1‬‬
‫الﻣﺧاطر‪".‬‬

‫ينتﻣﻲ كارل ﻣاركس إلﻰ فﻠﺳفﺔ الرﺟﺔ ويﻌتبر واﺣد ﻣن كاشفﻲ‬


‫األﻗنﻌﺔ وأﻗطاب الظنﺔ وذلك لﻣﻣارﺳته النﻘد الفﻠﺳفﻲ لﻠﻣﺟتﻣﻊ‬
‫وتطبيﻘه ﻗراءة إيديولوﺟيﺔ ﻋﻠﻣيﺔ لﻠوضﻊ اﻻﻗتصادي لﻠبشر تﺣت‬
‫ﻋنوان الﺟدليﺔ الﻣاديﺔ والﺟدليﺔ التاريﺧيﺔ وذلك باﻻﺳتفادة ﻣن‬
‫كشوفات ﻋﻠم اﻻﻗتصاد الﺳياﺳﻲ الكالﺳيكﻲ وتطوريﺔ شارلز‬
‫داروين ووضﻌيﺔ أوﻏﺳت كونت‪ .‬فﻲ ھذا الﺳياق بدل إتباع الﻣنﮭج‬
‫الﺟدلﻲ الﻌﻘالنﻲ ﻋند ھيﺟل الذي ينزل ﻣن الﺳﻣاء إلﻰ األرض‬
‫ويﺳﻘط نﺳق األﺣكام الﻣطﻠﻘﺔ ﻋﻠﻰ الواﻗﻊ النﺳبﻲ ولوﺣﺔ الﻣفاھيم‬
‫الﻣﺟردة ﻋﻠﻰ الظواھر الﻣﻠﻣوﺳﺔ وبدل أن يدرس الناس ﻣن زاويﺔ‬
‫التﺧيالت واألشباح واألوھام واألﻗوال واآلراء التﻲ يكونوھا ﻋن‬
‫أنفﺳﮭم وﻋن بﻌضﮭم البﻌض واﻋتبار ﻣاھو ﻣﻌﻘول ھو واﻗﻌﻲ‬
‫وﻣاھو واﻗﻌﻲ ﻣﻌﻘول يﻘوم ﻣاركس بﻌﻣﻠيﺔ ﻗﻠب إيديولوﺟيﺔ ويبدأ‬

‫‪ 1‬إدغار موران‪ ،‬هل نسير الى الهاوية؟ ‪ ،‬ترجمة عبد الرحيم حزل‪ ،‬افريقيا الشرق‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،2012 ،‬ص‪.33.‬‬

‫‪224‬‬
‫ﻣن األرض ويصﻌد إلﻰ الﺳﻣاء وينطﻠق ﻣن الوﻗائﻊ الﻣاديﺔ وﻣن‬
‫الناس بﻣاھم لﺣم ودم ويوﺛق الصﻠﺔ بﻠغﺔ ﺣياتﮭم الواﻗﻌيﺔ والفﻌاليﺔ‬
‫الﺣﻘيﻘيﺔ ونشاطﮭم الﻣادي ويدرس شروط نﻣو ﻗواھم اﻹنتاﺟيﺔ‬
‫وأوﺟه التبادل اﻻﻗتصادي الﻣباشر ونﻣط الﻌالﻗات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ التﻲ‬
‫توافق إنتاﺟﮭم ويﻌتﻣد ﻋﻠﻰ التﺟربﺔ‪ .‬لﻘد اﻗترب ﻣاركس ﻣن‬
‫الصواب ﺣينﻣا أﻋﻠن‪ ":‬إننا ننطﻠق ﻣن األفراد الواﻗﻌيين األﺣياء‬
‫أنفﺳﮭم ونﻌتبر الوﻋﻲ‪ ،‬فﻘط الوﻋﻲ‪ ،‬يتﻌﻠق بﮭم"‪.1‬‬
‫والﺣق أن الفﻠﺳفﺔ ﻋند ﻣاركس ليﺳت إيديولوﺟيا وليﺳت ﻋﻠﻣا‬
‫بل نظريﺔ لﻠﻣﻣارﺳﺔ الﻌﻣﻠيﺔ كﻣا يﻘول ألتوﺳير وتﻌتﻣد ﻋﻠﻰ ﻣنﮭﺟيﺔ‬
‫تنطﻠق ﻣن الﻣﺟرد إلﻰ الﻣﺟﺳم وتﺳﻌﻰ إلﻰ بناء واﻗﻊ ﺟديد وتشتﻣل‬
‫ﻋﻠﻰ الﻣاديﺔ الﺟدليﺔ وﻋﻠﻰ ﻋﻠم الﻣاديﺔ التاريﺧيﺔ وھو ﻋﻠم نشأة‬
‫وتطور أنﻣاط اﻹنتاج واألشكال اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وأﻗر بأن التغيير‬
‫يتﺣﻘق بواﺳطﺔ تﺣريك أنﻣاط وبنﻰ اﻹنتاج فﻲ الﻣﺟال اﻻﻗتصادي‬
‫والﺳياﺳﻲ واﻹيديولوﺟﻲ‪ .‬لكن لﻣاذا ﻣيز ﻣاركس بين اﻹيديولوﺟيا‬
‫والﻌﻠم الﻣوضوﻋﻲ؟ وﻣاھو دور ﻣفﮭوم البضاﻋﺔ داﺧل اﻻﻗتصاد‬
‫الرأﺳﻣالﻲ؟ وﻣاذا ترتب ﻋن تﻌﻣيﻣﮭا ﻋﻠﻰ ﻣﺧتﻠف اﻹنتاﺟات‬
‫اﻹنﺳانيﺔ؟ أﻻ يتﻌﻠق األﻣر بظاھرة التشيؤ؟ وكيف تم فصل النتيﺟﺔ‬
‫ﻋن الﺳبب فﻲ ﻋﻣﻠيﺔ اﻹنتاج وظﮭرت اﻻزدواﺟيﺔ والتﻌارض بدل‬
‫الوﺣدة واﺳتفﺣل اﻻﺳتالب فﻲ الﻌﻣل وتﺣكم الﻣﺟتﻣﻊ الشيئﻲ فﻲ‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ البشري وأصبﺣت البضاﻋﺔ تروج وتباع ﻋوض أن‬
‫تﺳتﮭﻠك وازدادت درﺟات اﺳتﻘالليﺔ ﻋالم األشياء الﻣنتﺟﺔ ﻋن ﻋالم‬
‫الﻌﻣال الﻣنتﺟين؟‬

‫‪1‬‬
‫‪Marx Karl et Frederik Engels, l’idéologie allemande, éditions‬‬
‫‪sociale, Paris, 1968, pp.50.51.‬‬

‫‪225‬‬
‫ﻏايﺔ الﻣراد أن " اﻹنﺳان يﺟب ﻋﻠيه ﻣن اآلن أن يرتب الﻌالم‬
‫بطريﻘﺔ إنﺳانيﺔ ﺣﻘا ووفﻘا لﻣﻘتضيات طبيﻌته وبذلك يكون ﻗد ﺣل‬
‫لغز ﻋصرنا‪ 1".‬وبالتالﻲ لم يﻌد اﻹنﺳان ﻣﻊ ﻣاركس كائنا ﻣﺛاليا‬
‫يﺳﻣو ﻋﻠﻰ الﻣادة بالروح وإنﻣا تصالح ﻣﻊ الطبيﻌﺔ وتﻣيز بالﻌﻣل‬
‫واﻹنتاج وﺟﺳم ﻗدرته الﺧالﻗﺔ الكاﻣنﺔ فﻲ طبيﻌته كفرد وكنوع‬
‫أيضا‪ .‬لﻘد انغﻣس اﻹنﺳان الطبيﻌﻲ فﻲ تﺣويل األشياء إلﻰ ﻣواد‬
‫نافﻌﺔ وإنتاج بضائﻊ ﻣفيدة ولكن اﻻنﺳان فﻲ الﻌصر الصناﻋﻲ‬
‫إنتاﺟه تﺧطﻰ ﻋتبﺔ ﺣاﺟته وظﮭر فائض فﻲ البضائﻊ وبدل‬
‫اﺳتﻌﻣالﮭا فﻲ ﻗضاء نواﻗصه أو ادﺧارھا وتبادلﮭا ﻣﻊ ﻏيره ﻋند‬
‫الضرورة ﻋرضﮭا لﻠبيﻊ فﻲ الﺳوق ﻣﻘابل ﺛﻣنا ﻣاديا وﺣدد لﮭا ﻗيﻣﺔ‬
‫تداوليﺔ ورويدا رويدا اﺳتﻘﻠت ﻋنه البضائﻊ وﺧرﺟت ﻋن دائرة‬
‫تصرفه وصار ﻣطالب باﻗتنائﮭا ﻋند اﻻﻗتضاء‪ .‬لﻘد انفصل اﻹنتاج‬
‫ﻋن الﺣاﺟات اﻹنﺳانيﺔ األولﻰ وصار بضاﻋيا وﺟﻣدت البضاﻋﺔ‬
‫الﻌالﻗات اﻹنﺳانيﺔ وﺟﻌﻠتﮭا تظﮭر فﻲ شكل أشياء ولم تﻌد ﺣﻘيﻘﺔ‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ ﻋالﻗات إنﺳانيﺔ بل أشياء ﺟاﻣدة وﻣﺟﻣوﻋﺔ آﻻت وﻣصانﻊ‬
‫وأﺳواق ونﻘود ورﻏبات وﻣصالح تتﺣكم فﻲ ﻣصير الشﻌوب‬
‫ووضﻌﮭا وﺣياة وﻣﺳتﻘبل الكائن‪ .‬لﻘد أوﺟد التشيؤ اﻻﻏتراب‬
‫والتضﺧم واﻻنكﻣاش والتﺳﻠيﻊ واﻻﺣتكار واﻻﺳتغالل والبطالﺔ‬
‫والﻌوز والﺟريﻣﺔ وفﻘد اﻹنﺳان ﺣريته وكراﻣته وإرادته وﻗدرته‬
‫ﻋﻠﻰ الﻣبادرة لكﻲ يﺣافظ ﻋﻠﻰ بﻘائه ويضﻣن لﻘﻣﺔ ﻋيشه‪ .‬كﻣا‬
‫تﺣول اﻹنتاج إلﻰ بضاﻋﺔ ولكﻲ يﻌود إلﻰ أصﻠه تﺣول إلﻰ نﻘد‬
‫وتﺣول النﻘد إلﻰ ﻣادة اﺳتﮭالكيﺔ بﺣيث صار النظام اﻹنتاﺟﻲ‬

‫‪ 1‬سربست نبي ‪ ،‬كارل ماركس ومسألة الدين‪ ،‬دار كنعان‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪،2002 ،‬‬
‫ص‪.121.‬‬

‫‪226‬‬
‫بأﺳره يتﺣرك ضﻣن النظام اﻻﺳتﮭالكﻲ وتم إﺟالل النﻘود وصار‬
‫الﻣال ھو الﻣﮭﺟﺔ الﺣﻘيﻘيﺔ لكل األشياء وﻣن له ﻣال اﻣتﻠك كل‬
‫الﺳﻠطات‪ .‬لﻘد اﻗترن الﻌﻣل اﻹنﺳانﻲ بالﺧصائص التاليﺔ‪:‬‬
‫‪ -‬بذل الﺟﮭد الﻌضﻠﻲ والذكاء الذھنﻲ وﻣا يترتب ﻋن ذلك‬
‫ﻣن شﻌور بالتوتر والتﻌب واﻹكراه‪.‬‬
‫‪ -‬إنتاج الﻣنافﻊ والبضائﻊ التﻲ توضﻊ ﻋﻠﻰ ذﻣﺔ الناس‬
‫ﻹرضاء الرﻏبات وإشباع الﺣاﺟيات‪.‬‬
‫‪ -‬ﻗابﻠيﺔ الﻌﻣل لﻠتﻘﺳيم واصطباغ الﻌﻣل باآلليﺔ وتأﺛير ذلك‬
‫ﻋﻠﻰ ظروف الﻌﻣل ووضﻊ الﻌﻣال‪.‬‬
‫‪ -‬انفصال الﻌﻣل ﻋن رأس الﻣال وتأﺛير تغيير وﺳائل اﻹنتاج‬
‫فﻲ ﻋالﻗات اﻹنتاج وﻗوى اﻹنتاج‪.‬‬
‫لﻘد ظﮭر فﻲ النظام الرأﺳﻣالﻲ تﻘﺳيم الﻌﻣل وتم تﺣويل الﻣنافﻊ‬
‫إلﻰ نﻘود وأصبح الﻌﻣال يﻘدﻣون ﻣﺟﮭودھم البدنﻲ وﺧبراتﮭم الفنيﺔ‬
‫ﻣﻘابل أﺟر ﻣﻌين دون أن يكون لﮭم نصيب فﻲ رأس الﻣال واﻗتصر‬
‫نشاطﮭم ﻋﻠﻰ التﺧصص بالﻘيام بﻌﻣﻠيﺔ واﺣدة ﻣن ﻋدة ﻋﻣﻠيات‬
‫إنتاﺟيﺔ ﻣﻌﻘدة وتﻣيز الرأﺳﻣالﻲ ﻋن الﻌﻣال باﺳتﺛﻣارھم بواﺳطﺔ‬
‫الﻣال واﻣتالك وﺳائل اﻹنتاج دون اﻻشتراك فﻲ ﻋﻣﻠيﺔ اﻹنتاج‬
‫نفﺳﮭا والتﻣتﻊ بالترفيه والﺳياﺣﺔ أﺛناء وﻗت الفراغ‪ .‬لكن إلﻰ أين‬
‫يﺳير الﻌﻣل اﻹنﺳانﻲ فﻲ ظل ھيﻣنﺔ اآلليﺔ ﻋﻠﻰ ﺣد ﻋبارة فريدان؟‬
‫لﻘد ازداد اﻹنتاج كﻣا وزاد ربح الرأﺳﻣالﻲ ولكنه أدى إلﻰ‬
‫ازدياد ﺣرﻣان الﻌاﻣل وفﻘره ﻋدم اﻻﺳتفادة ﻣن ﻣنتوﺟه واﻏترابه‬
‫وفﻘدان ﺣريته وتﺳبب إدﺧال اآلليﺔ فﻲ إدﺧال تغييرات ﺟذريﺔ‬
‫ﻋﻠﻰ الﻌﻣل والﻌﻣال والﻣﺟتﻣﻊ والطبيﻌﺔ وتم التﺧفيف ﻋن الﻣﺟﮭود‬
‫الﻌضﻠﻲ لﻠﻌﻣال والتﻘﻠيص فﻲ ﻋدد ﺳاﻋات الﻌﻣل ولكن تم‬

‫‪227‬‬
‫اﻻﺳتغناء ﻋﻠﻰ ﻋدد كبير ﻣن الﻌﻣال وتﺳريﺣﮭم دون تﻌويضات‬
‫تطبيق لﻣبدأ "شركاء فﻲ الﺧﺳارة وﻋدم شركاء فﻲ الربح" وأصبح‬
‫اﻹنﺳان ﻋبدا لآللﺔ واﺳتبد به الﺳﻠوك النﻣطﻲ والبرﻣﺟﺔ الﻣﺳبﻘﺔ‬
‫لﻠﻌﻘل‪ .‬بﮭذا الﻣﻌنﻰ " فﻠنفترض لﺣظﺔ‪ ...‬أن كل الظروف الﻌارضﺔ‬
‫التﻲ ﻗد يرى الﻌاﻣل اليوم أنﮭا ﺳبب وضﻌه البائس ﻗد اﺧتفت تﻣاﻣا‬
‫فﺳتكون ﻗد ﻣزﻗت كﺛيرا ﻣن الﺳتائر التﻲ تﺣﺟب ﻋن ﻋينيه ﻋدوه‬
‫الﺣﻘيﻘﻲ"‪.1‬‬
‫إن النظرات الﺟديدة إلﻰ الﻌالم ﻻ تنبﻌث بصفﺔ ﻣباﻏتﺔ بفﻌل‬
‫ﺣدﺳﻲ ﻣن أﺣد الﻌباﻗرة بل تﺳتﻠزم ﺟﮭود ﻋدد كبير ﻣن الناس‬
‫ﻣوﺟﮭﺔ فﻲ نفس اﻻتﺟاه وتﻣتد أﺟياﻻ ﻋديدة وتوفر تيار اﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫ويﻌبر ﻋن الﻣشاكل األﺳاﺳيﺔ التﻲ تطرﺣﮭا الﻌالﻗات فيﻣا بين‬
‫البشر وﻋالﻗات ھؤﻻء بالطبيﻌﺔ وان تشكل ھذه النظرات إلﻰ الﻌالم‬
‫فﻲ فترة بﻌينﮭا ﻣن التاريﺦ يكون نتيﺟﺔ الوضﻊ الذي توﺟد ﻋﻠيه‬
‫ﻣﺧتﻠف الﻣﺟﻣوﻋات البشريﺔ فﻲ التاريﺦ وان ﻗيﻣتﮭا ليس فﻲ‬
‫ﻋنصر الﺣﻘيﻘﺔ الذي تأتﻲ به بل فﻲ الكيفيﺔ الﻣنطﻘيﺔ التﻲ تﻌبر به‬
‫ﻋن ھذه النظرات‪ .‬وبالتالﻲ ﻻ يﻣكن تﻌريف اﻹنﺳان ﻣن زاويﺔ‬
‫الوﻋﻲ بﻣا أن الوﻋﻲ نفﺳه نتاج اﺟتﻣاﻋﻲ وتابﻊ لﻠوضﻌيات الﻣاديﺔ‬
‫التﻲ يوﺟد ﻋﻠيﮭا اﻹنﺳان وبﻣا أن الوﻋﻲ ليس الذي يﺣدد الكينونﺔ‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ لألفراد بل ھذه األﺧيرة ھﻲ التﻲ تﺣدده‪ ،‬لكن اﻹنﺳان‬
‫ﻗادر ﻋﻠﻰ التﺣرر ﻣن ظروفه بالﻌﻣل والﺛورة والتوﺣد ﻣﻊ ﻏيره‬
‫وتكوين ﻗوة براكﺳيس ﻗادرة ﻋﻠﻰ تغيير ھذه الظروف‪.‬‬

‫‪ 1‬ماركس ( كارل)‪ ،‬بؤس الفلسفة ‪ ،‬خطاب عن مسألة التجارة الحرة‪ ،‬ترجمة محمد‬
‫مستجير مصطفى‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الرابعة‪.2010 ،‬ص‪.315‬‬

‫‪228‬‬
‫لﻘد طبق ﻣاركس ﻣفﮭوم النﻘد اﻻيﺟابﻲ بشكل ﺣﺛيث وفﻲ ﺟﻣيﻊ‬
‫الﻣﺟاﻻت ولم يكن يﮭدف فﻘط إلﻰ ﻗتل رﻣزي لألب ھيﺟل ﻋن‬
‫طريق فيورباخ والﻘيام بﻌﻣﻠيﺔ ﻗﻠب إيديولوﺟﻲ لﻠﻣﺛاليﺔ األلﻣانيﺔ‬
‫وإنﻣا فك ﻋرى اﻻرتباك ﻏير الﻣشروع والﻣﻣاھاة بين الفرد‬
‫والنوع وبين الﻣيتافيزيﻘا والواﻗﻊ الفﻌﻠﻲ واﺳتﺣضاره لﻠواﻗﻊ ليس‬
‫تشريﻌا لنﻣوذج أو اكتﻣال وبيان الﺧﻠفيﺔ الصاﻣتﺔ لتأليه اﻹنﺳان‬
‫فﻲ صورة اﻹنﺳان الﻣطﻠق ﻣن أﺟل كﻣال النﺳق ﻋند فيورباخ‪.‬‬
‫لﻘد اتﺟه ﻣاركس إلﻰ إبراز الوﺟود الﻌينﻲ لإلنﺳان ودفﻌه إلﻰ بناء‬
‫ذاته وتﺟاوز اﻻﻏتراب ليس فكريا بل ﻣاديا وليس بالﻣﻌنﻰ‬
‫الﺧالص الدينﻲ بل التﻘدم اﻻﻗتصادي والتﺣرر الﺳياﺳﻲ‪ .‬لﻘد ﺳﻌﻰ‬
‫ﻣاركس إلﻰ تﺣرير اﻹنﺳان وتﻣكينه ﻣن إﻋادة تﻣﻠك الﻘوى‬
‫اﻹنﺳانيﺔ الﻣغتربﺔ ﻋبر التاريﺦ وإرﺟاﻋه إلﻰ الﻣصالﺣﺔ ﻣﻊ ذاته‬
‫بﻣﻌرفتﮭا وإزالﺔ األوھام التﻲ كبﻠتﮭا ونﻘد الرواﺳب التيولوﺟيﺔ‬
‫بالكف ﻋن إﺳﻘاط ﻣاھيﺔ اﻹنﺳان الﺧاصﺔ ﻋﻠﻰ ﻋالم وھﻣﻲ كان ﻗد‬
‫صنﻌه بنفﺳه وﺟﻌﻠه ﻗوة ﺧارﺟيﺔ تﮭيﻣن ﻋﻠيه والﻘضاء ﻋﻠﻰ أشكال‬
‫التشويه التﻲ تﻌرض لﮭا واﻻنشطار الذي برز بين البرﺟوازي‬
‫والﻣواطن‪ .‬إذا كان فيورباخ ركز ﻋﻠﻰ الطبيﻌﺔ ونﻘد الدين وأھﻣل‬
‫الﺳياﺳﺔ والﻌاﻣل اﻻﻗتصادي فإن ﻣاركس ﺳيﺟﻌل ﻣاھو روﺣﻲ‬
‫ونظري ﻣرتبط بالظروف الﻣوضوﻋيﺔ والشروط الﻣاديﺔ لﻠﺣياة‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ويؤكد ﻋﻠﻰ أن كل الﺣياة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ھﻲ ﺣياة ﻋﻣﻠيﺔ‬
‫وﻋﻠﻰ أھﻣيﺔ البراكﺳيس الﺛوري فﻲ تغيير األوضاع اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‪.‬‬
‫" تﻣﺛل فﻠﺳفﺔ ﻣاركس‪ ،‬كﺣال ﻣﻌظم اﻻنتاج الفكري الوﺟودي‪،‬‬
‫اﺣتﺟاﺟا ضد اﻏتراب اﻻنﺳان‪ ،‬ضياﻋه ﻋن نفﺳه‪ ،‬وتﺣوله الﻰ‬

‫‪229‬‬
‫شﻲء‪ ،‬كﻣا أنﮭا ﺣركﺔ تﻘف فﻲ وﺟه ﻋﻣﻠيﺔ تشويه انﺳانيﺔ اﻻنﺳان‬
‫‪1‬‬
‫وتﺣوله الﻰ آلﺔ"‬
‫ﻏنﻲ ﻋن البيان أن البراكﺳيس يﻌنﻲ النشاط الﻣادي لﻠبشر‬
‫والﻌالﻗات الﻣاديﺔ التﻲ يﻘيﻣونﮭا داﺧل ﻣﺟﻣوﻋﺔ اﺟتﻣاﻋيﺔ ويأتﻲ‬
‫البراكﺳيس بﻌد النﻘد بﻣاھو فتح طريق نﺣو التﺣرر والتﺟاوز‬
‫ويﮭدف البراكﺳيس إلﻰ تغيير البنيﺔ التﺣتيﺔ بإﺣداث تﺣول ﺟذري‬
‫فﻲ الواﻗﻊ ﻋﻠﻰ ﻣﺳتوى ﻋالﻗات اﻹنتاج وبنيﺔ الﻣﻠكيﺔ ووضﻌيﺔ‬
‫ﻗوى اﻹنتاج والتوﺟه فﻲ الشغل نﺣو إنشاء ظروف ﺟديدة لﻠﺣياة‬
‫وأشكال ﻣﺳتﺟدة ليس بوﺳﻊ الطبيﻌﺔ توفيرھا‪ .‬إن الﻣﻣارﺳﺔ ھﻲ‬
‫ﻋﻣﻠيﺔ اﻹنتاج اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وتﻣﺛل الواﺳطﺔ األﺳاﺳيﺔ بين البشر‬
‫والطبيﻌﺔ وأﺳاس الﻌالﻗﺔ بين الطبﻘات وﻣرتكز التصورات الفكريﺔ‬
‫والﻌﻘديﺔ الذي تﻘﮭر التصورات الﻘديﻣﺔ وتبتكر أوضاﻋا أكﺛر‬
‫ﻣﺳاواة وتﻘدﻣا‪ .‬ھكذا تﺣﻣل فﻠﺳفﺔ البراكﺳيس ﻣشروع انﻌتاق‬
‫بالنﺳبﺔ إلﻰ البشريﺔ يﻘوم ﻋﻠﻰ تنبيه ﻗوى التوليد الﻣتضﻣنﺔ فﻲ‬
‫الكينونﺔ البشريﺔ ﻣن أﺟل تﺣﻘيق بدايﺔ ﺟديدة بالﻌودة الﻰ األصل‬
‫يﻘول ﻋنﮭا أدﻏار ﻣوران ﻣا يﻠﻲ‪ ":‬يﻣكن أن نﺳتﺣضر فكرة‬
‫اﻹنﺳان الﺟنﺳﻲ الذي تﺣدث ﻋنه ﻣاركس فﻲ الﻣﺧطوطات‬
‫الﺳياﺳيﺔ واﻻﻗتصاديﺔ التﻲ كتبﮭا فﻲ ﺳنﻲ شبابه فﻠم يكن ﻣاركس‬
‫فﻲ ذلك الوﻗت يﻌرف بﻌﻠم الوراﺛﺔ فﻠم يكن يتﺣدث ﻋن الﺟينات‬
‫بل كان ﺣديﺛه ﻋن الﺳﻠطات الﻣولدة الﺧالﻗﺔ"‪ .25‬لكن أﻻ يﺟد‬

‫فروم (ايريك )‪ ،‬مفهوم االنسان عند ماركس‪ ،‬ترجمة محمد سيد رصاص‪ ،‬دار الحصاد‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،‬طبعة أولى‪.1998 ،‬ص‪.09‬‬

‫إدغار موران‪ ،‬هل نسير إلى الهاوية ؟‪ ،‬صص‪.149-148‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪230‬‬
‫اﻹنﺳان أصوله فﻲ الﺳير إلﻰ أﻣاﻣه بدل التشبث بالﻌودة إلﻰ‬
‫وراءه؟ وأي بدايﺔ ﺟديدة تنبﺛق ﻣن ھذا الزﺣف إلﻰ الﮭاويﺔ؟‬
‫خاﺗﻣﺔ‪:‬‬
‫" لﻣا نتﺣدث ﻋن األفكار التﻲ تﺛور ﻣﺟتﻣﻊ ﻣا برﻣته فإننا نﻌبر‬
‫فﻘط ﻋن أن ﻋناصر الﻣﺟتﻣﻊ الﺟديد تتشكل فﻲ ﺣضن الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫الﮭرم نفﺳه وأن انﺣالل األفكار الﮭرﻣﺔ ترافق انﺣالل ظروف‬
‫الوﺟود الﻘديﻣﺔ‪ ...‬وإن أفكار الﺣريﺔ الدينيﺔ لم تتوان ﻋن اﻹﻋالن‬
‫‪1‬‬
‫ﻋن ﻣﻣﻠكﺔ التنافس الﺣر فﻲ ﻣﺟال الﻣﻌرفﺔ‪"...‬‬
‫ھكذا يﻌﻣل ﻣاركس ﻋﻠﻰ اﻻﺳتناد ﻋﻠﻰ الﻣﻘوﻻت الدينيﺔ ﻣن‬
‫أﺟل بناء نظريﺔ ﺛوريﺔ وينطﻠق ﻣن أفكار الﻣﺳيﺣيﺔ اﻻشتراكيﺔ‬
‫ﻣن أﺟل تأﺳيس اشتراكيﺔ ﻋﻠﻣيﺔ وربﻣا ﻋوض الﻣبدأ الدينﻲ‪ :‬كل‬
‫الناس أﺧوة بالشﻌار الﺳياﺳﻲ‪ :‬يا ﻋﻣال الﻌالم اتﺣدوا‪ ".‬لﻘد أنﺟز‬
‫الﺟوھري ﻣن نﻘد الدين فﻲ ألﻣانيا كﻣا يﻘول ﻣاركس نفﺳه وكأن‬
‫ﺳيادته الﺳياﺳيﺔ نزﻋت لﻣصﻠﺣﺔ الدول الﻘوﻣيﺔ وﺳيادته الﻌﻘﻠيﺔ‬
‫لﻣصﻠﺣﺔ الﻌﻠوم الطبيﻌيﺔ واﻹنﺳانيﺔ أﻣا ﻋندنا فبﻌيدا ﻣن أن تكون‬
‫الﻣشكﻠﺔ الدينيﺔ ﻗد ﺣﻠت يتراءى لبﻌضنا بالﻌكس أن الدين ھو الﺣل‬
‫لﻣشكالتنا الوفيرة‪ ،‬اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والﺳياﺳيﺔ والﺛﻘافيﺔ وﻏيرھا‪."...‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك لم يﺧش ﻣاركس الﻣﻘارنﺔ بشكل ﻋﻠنﻲ بين‬
‫البروليتاري والﻣﺳيﺣﻲ أين الﻣﻌاناة ھﻲ أيضا فﻲ ﻋيون‬
‫الﻣﺳيﺣيين ﻣﻌاناة كونيﺔ‪ ".‬فﻲ الواﻗﻊ يوﺟد تيار فكري يﺣاول‬
‫اﺧتزال النظريﺔ الﻣاركﺳيﺔ فﻲ فكر دينﻲ ويﺣاول أن يﻌتبر‬
‫الﻣاركﺳيﺔ كدين ﻣضاد وشيوﻋيﺔ ﻣاركس وانﺟﻠز ھﻲ اﺳتكﻣال‬
‫ﻋﻠﻣانﻲ أي ﺟﺳم صوفﻲ لﻠﻣﺳيح فﻲ ﺣالﺔ اكتﻣاله أي وروﺣنﺔ تاﻣﺔ‬
‫‪1‬‬
‫‪Karl Marx, manifeste communiste, pp65 -66,‬‬

‫‪231‬‬
‫ﻹنﺳانيﺔ شبه ﻣتألﮭﺔ‪ .‬يؤول األﺳتاذ ﻣن ﺟاﻣﻌﺔ برنﺳتون الﻣاركﺳيﺔ‬
‫بألفاظ تكاد تكون دينيﺔ ﺣيث يدرج ﻣاركس ضﻣن ﻣﻘوﻻت‬
‫الﻣؤﺳﺳين لﻠدين‪ .‬وﻗد تﻣﺛل ﻣشروﻋه فﻲ إﻣاطﺔ الﻠﺛام الﺳﻣيك ﻋن‬
‫الﻣظاھر ﻣن اكتشاف ﻣا يتضﻣنه أﺛر ﻣاركس الدينﻲ ﻣن ﺟوھري‪.‬‬
‫فﻣاھﻲ نتائج بﺣﺛه؟‬
‫يﺛبت ر‪ .‬توكير أن " الﻣاركﺳيﺔ ھﻲ ديانﺔ الﺛورة" وأن ﻣذھب‬
‫ﻣاركس تشكل ﻋﻠﻰ ﻏرار الﻣذھب الدينﻲ ويذكر ﻣن ﺟﮭﺔ البنيﺔ‬
‫بالتصورات الدينيﺔ الكبرى لﻠغرب‪ .‬تظﮭر اﻻشتراكيﺔ الﻌﻠﻣيﺔ‬
‫ﺣﺳب الكاتب ﺧصائص أﺳاﺳيﺔ ﻣشابﮭﺔ لتﻠك التﻲ نﺟدھا فﻲ‬
‫ﻣﺳﺣيﺔ الﻘديس أوﻏﺳطين فﻲ الﻌصر الوﺳيط‪ .‬انه ﻻ ينبغﻲ أن‬
‫تغالطنا التصريﺣات باﻹلﺣاد ﻣن ﻣاركس ألن إلﺣاده كﻣا يﻘول ر‪.‬‬
‫توكير يترﺟم فﻲ نﮭايﺔ الﻣطاف بواﺳطﺔ ﻗضيﺔ دينيﺔ توكيديﺔ‪ .‬إن‬
‫ديانﺔ ﻣاركس ھو ديانﺔ ﺧالص وﻻ نﺳتطيﻊ أن نفﮭم ﻣاركس إذا‬
‫‪1‬‬
‫لم ندرك فكرة الﺧالص ھذه التﻲ توﺟد كأﺳاس لنﺳﻘه"‬
‫إن نﻘد الدين يؤدي إلﻰ اكتشاف وإبراز الطابﻊ الﺣﻘيﻘﻲ لتﻌاﺳﺔ‬
‫اﻹنﺳان وآلﻻﻣه الواﻗﻌيﺔ الﺣﺳيﺔ ولكن نﻘد ﻣاركس لﻠدين ﻣﺧتﻠف‬
‫ﻋن نﻘد فيورباخ ونيتشه والﻣاديين الﻣوﺳوﻋيين ألن ﻣاركس ﻣﻊ‬
‫إبطال الﻣﻌتﻘدات الغيبيﺔ واألفكار الﻣاورائيﺔ ولكننا ينبغﻲ أن نبتﻌد‬
‫ﻋن الرأي الذي يﻌتبره ﻣﺟرد ﻣﻠﺣد ﻣناھض لﻠدين فﮭو ينادي‬
‫بتطﮭير الوﻋﻲ ﻣن األوھام والشوائب وإﺣالل الوﻋﻲ الﻌﻠﻣﻲ‬
‫والنزﻋﺔ الدنيويﺔ وترﺳيﺧﮭا فﻲ الﺛﻘافﺔ اﻹنﺳانيﺔ والﺣياة اليوﻣيﺔ‪.‬‬
‫انه ﻣن التﺟنﻲ أن نﻌتبر ﻣاركس ﻣﺟرد ﻣنكر لﻠدين أو صاﺣب‬

‫‪1‬‬
‫‪Nguyen Ngoc Vu, ideologie et religion, d’après Marx et‬‬
‫‪Engels ,edition Aubier Montaigne,1975 , p157-158-159‬‬

‫‪232‬‬
‫دين وضﻌﻲ ﺟديد ألنه يتﺣرك فﻠﺳفيا ضﻣن أﻗطاب الظنﺔ وكاشفﻲ‬
‫األﻗنﻌﺔ وھو ﻣا يﻌنﻲ تﺟاوز الفرضيتين ﻣﻌا اﻹلﺣاد واﻹيﻣان‪"،‬‬
‫ينزل ﻣاركس فﻲ ﻣﺧطوطات ‪ 44‬فﻲ وﺟﮭﺔ النظر الذي يصبح‬
‫بﻣﻘتضاھا اﻹلﺣاد فاﻗدا لﻠﻣﻌنﻰ‪ .‬إن ﻣﻌنﻰ ﻣﻘترح ﻣاركس يكون ھنا‬
‫الﻘول بأن اﻹلﺣاد ﻗد أصبح ﻣن ھذه الزاويﺔ شيئا ﺛانويا وأنه أصبح‬
‫نﮭائيا ﻣن ﻏير النافﻊ أن نصدح به‪ .‬ويفﺳر ﻣاركس بأن اﻹلﺣاد‬
‫ھو نفﻲ هلل وھذا النفﻲ يطرح وﺟود اﻹنﺳان‪...‬إن هللا يﺳتﻣر إذن‬
‫بالنﺳبﺔ إلﻰ اﻹلﺣاد كوﺳيط وﺣد أوﺳط ضروري بﻣا أنه ﻣن ﺧالل‬
‫‪1‬‬
‫الﻣرور به يﻌود اﻹنﺳان إلﻰ ذاته كشﻲء ضروري‪"...‬‬
‫إن اﻋتراض ﻣاركس ﻋﻠﻰ الدين ليس إنكار له وان نﻘده‬
‫لﻠتوظيف الﺳيئ له لم يتﺧذ شكل ﻣذھب ﻋدﻣﻲ لإللﺣاد بل كان‬
‫ذلك ﻣن أﺟل تأكيد اﻹنﺳان الﻣكتفﻲ بإنﺳانيته الذي ﻻ يدين فﻲ‬
‫وﺟوده ألﺣد ﺳوى لﻌالﻣه اﻹنﺳانﻲ ويﻌتبر نفﺳه الﻣرﺟﻊ والﻣصدر‬
‫لﻘيﻣه الﺧاصﺔ‪ .‬إن ﻣاركس ﻗد نظر إلﻰ الدين نظر ﻋﻠﻣانيﺔ ﻋﻘالنيﺔ‬
‫ﻣتﺣررة ﻣن كل الﻣﻌتﻘدات والبواﻋث ولم يأﺧذ ھذه الﻣﺳألﺔ بﺟديﺔ‬
‫وكشﻲء يﺳتﺣق الﻣﻘاوﻣﺔ الضاريﺔ كﻣا فﻌل لينين وﺳتالين بل تبنﻰ‬
‫ﻣوﻗفا فﻠﺳفيا ﻋﻘﻠيا‪".‬ربﻣا تﻘدر الﻣاركﺳيﺔ أن تنفتح ﻋﻠﻰ الفكرة التﻲ‬
‫ترى بوﺟود ﻣكان لﻠﻘوى الروﺣانيﺔ التﻲ تغير اﻹنﺳان نفﺳه وتﻘدم‬
‫ﺣال نﮭائيا لﻣشكﻠه إلﻰ ﺟانب الﻘوى الزﻣنيﺔ التﻲ تغير البنﻰ‬
‫الﻣﺟتﻣﻌيﺔ‪ .‬ربﻣا يﻣكن انﺟاز الﻣتطﻠبات الﻣشروﻋﺔ التﻲ تطرﺣﮭا‬
‫ھذه الﻘوى الروﺣانيﺔ باﺳم اﻹنﺳان ﻋوض الﺧضوع لﮭذا التﺣول‬

‫‪1‬‬
‫‪Franck Fischbach, la production des hommes ,marx avec‬‬
‫‪Spinoza,Ed PUF,pp126.‬‬

‫‪233‬‬
‫فﻲ البنﻰ نفﺳﮭا‪ 1"...‬لكن أﻻ يﻣكن أن تﻌد الﻣاركﺳيﺔ ‪ -‬كﻣا أكد‬
‫برديائيف‪ -‬إيﻣانا ﻋﻠﻣانيا ودينا وضﻌيا ﺟديدا؟ أليس دينﮭا نفﺳه ھو‬
‫الذي ﺟﻌﻠﮭا ضد كل دين؟ وھل بالفﻌل أدى اﻹلغاء الﺳياﺳﻲ لﻠﻌاﻣل‬
‫الدينﻲ ﻋن طريق الﻌﻠﻣنﺔ الﺟذريﺔ إلﻰ إلغاء اﺟتﻣاﻋﻲ وﺛﻘافﻲ له؟‬
‫ألم يﺳتﻣر الﻌاﻣل الدينﻲ فﻲ التأﺛير ﻋﻠﻰ ﺳﻠوكيات الناس ﻣن ﺣيث‬
‫طاﻗته التربويﺔ واألﺧالﻗيﺔ والتواصﻠيﺔ ﻋﻠﻰ الرﻏم ﻣن ﺣﻣﻠﺔ‬
‫التشكيك واﻹنكار التﻲ تﻌرض لﮭا ﺧالل زﻣن الﺣداﺛﺔ؟ لكن إذا‬
‫كان الﻌاﻣل الدينﻲ ﻻزﻣﺔ ﻣن لوازم أيﺔ ﺛورة فأﻻ يتﺣول إلﻰ ﻋائق‬
‫يﻣنﻊ تشكل دولﺔ ﻣدنيﺔ؟ ﻣاھﻲ وظيفﺔ الﻣﻌتﻘدات الدينيﺔ فﻲ تنظيم‬
‫الﻌالﻗات بين البشر؟ كيف نفﺳر ﺣكم ﻣاركس ﻋﻠﻰ أن الدولﺔ‬
‫دنيويﺔ ﻣن ﺣيث األصل والﻣبدأ وأن الدولﺔ التﻲ تﺟﻌل الدين وﺳيﻠﺔ‬
‫ﻹكﻣال ذاتﮭا ھﻲ دولﺔ ﻣارﻗﺔ وأﺳوأ دولﺔ تتغﻠف بالطﮭرانيﺔ ﻹﺧفاء‬
‫التناﻗضات وتﺟﻌل كل رﻏيف ﺧبز رھنا باﻹيﻣان؟ وإذا كانت‬
‫ﺳيطرة الدين ﻻ تزيد ﻋن تكون دين الﺳيطرة فﮭل الﻣطﻠوب ھو‬
‫ﻣوﻗف دينﻲ راشد تﺟاه الﺳياﺳﺔ أو ﻣوﻗف ﺳياﺳﻲ ﺣازم تﺟاه‬
‫الدين؟ وبأي ﻣﻌنﻰ تتصور الفﻠﺳفﺔ الﻣاركﺳيﺔ الدين الﺳياﺳﻲ؟ أﻻ‬
‫تتﺟه نﺣو ﻣﺣاربﺔ اليﻣين الدينﻲ الﺳياﺳﻲ والﻰ الدفاع ﻋن ﺣق‬
‫الوﺟود لﻠﺳياﺳﺔ الدينيﺔ ﻣن وﺟﮭﺔ نظر يﺳاريﺔ؟ أليﺳت الدولﺔ‬
‫الديﻣﻘراطيﺔ فﻲ ﺣاﺟﺔ إلﻰ الﺟانب الﻌﻘالنﻲ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ التﻘدﻣﻲ‬
‫ﻣن الدين ﻣن أﺟل تﺣﻘيق كﻣالﮭا الﺳياﺳﻲ بﻣا ھﻲ دولﺔ الطبيﻌﺔ‬
‫البشريﺔ وﺣريﺔ الﻌﻘل؟‬

‫‪1‬‬
‫‪Pierre Bigo, Marxisme et humanisme, Paris, PUF, 3 éditions,‬‬
‫‪1961,pp220‬‬

‫‪234‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟثاني‬

‫ ﺧطاب ﻋن ﻣﺳألﺔ التﺟارة‬،‫ ﺑؤس اﻟﻔلسﻔﺔ‬،)‫ﻣاركس ( كارل‬


،‫ بيروت‬،‫ دار التنوير‬،‫ ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد ﻣﺳتﺟير ﻣصطفﻰ‬،‫الﺣرة‬
.2010 ،‫الطبﻌﺔ الرابﻌﺔ‬
‫ ترﺟﻣﺔ ﻋبد الرﺣيم‬،‫ هل نسير اﻟﻰ اﻟهاويﺔ؟‬،‫إدﻏار ﻣوران‬
،2012 ،‫ الدار البيضاء‬،‫ افريﻘيا الشرق‬،‫ﺣزل‬
،‫ دار كنﻌان‬،‫ ﻛارل ﻣارﻛس وﻣسأﻟﺔ اﻟدين‬،‫ﺳربﺳت نبﻲ‬
،2002 ،‫ الطبﻌﺔ األولﻰ‬،‫ الﺟﻣﮭوريﺔ الﺳوريﺔ‬،‫دﻣشق‬
‫ ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد‬،‫ ﻣﻔهوم االنسان عند ﻣارﻛس‬،) ‫فروم (ايريك‬
.1998 ،‫ طبﻌﺔ أولﻰ‬،‫ ﺳوريا‬،‫ دﻣشق‬،‫ دار الﺣصاد‬،‫ﺳيد رصاص‬
André Comte-Sponville, l’esprit de
l’athéisme, introduction à une spiritualité sans
Dieu,Editions, Albin Michel,2006
Armand Guillaume, la séduction marxiste,
un prêtre médite Marx, EMI, Bologna 1987
Emmanuel Renault, Marx et l’idée de
critique, Ed PUF, 1995
Franck Fischbach, la production des
hommes , Marx avec Spinoza, Ed PUF,2005
Georges labica, Karl Marx, les Thèses sur
Feuerbach, Ed PUF, 1987
Henri lefebvre, problèmes actuels du
marxisme, Ed PUF,1958

235
J.f. Lyotard ,dérive à partir de Marx et
Freud, collection 10-18,UGE ,1973
Marcel neusch , aux sources de l’athéisme
contemporain, chretien malgré lui,Ed
centurion, 1977
Nguyen Ngoc Vu, ideologie et religion,
d’après Marx et Engels , edition Aubier
Montaigne,1975
Pierre Bigo, Marxisme et humanisme,
Paris, PUF, 3 éditions, 1961
René de lacharrière , la divagation de la
pensée politique, Marx et la
socialisation de dieu, PUF 1972,
Wackenheim, Ch , la faillite de la religion
d’après Karl Marx, Paris, PUF,1963
Marx Karl et Frederik Engels, l’idéologie
allemande, éditions sociale, Paris, 1968,

236
‫الفصل الثالث‬

‫أنثربولوجيا املقدس والرغبة يف املحاكاة‬

‫‪1‬‬
‫"انه الﻌنف الذي يشكل الﻘﻠب النابض والروح الﺳريﺔ لﻠﻣﻘدس"‬

‫لﻘد رﺣل ﻋن الدنيا يوم ‪ 4‬نوفﻣبر ‪ 2015‬رونﻲ ﺟيرار وھو‬


‫أنﺛربولوﺟﻲ فرنﺳﻲ ولد بأفينيون يوم ‪ 25‬ديﺳﻣبر ‪1923‬‬
‫وﺣصل ﻋﻠﻰ ﻋضويﺔ فﻲ األكاديﻣيﺔ الفرنﺳيﺔ ﻣنذ ‪2005‬‬
‫وصاﺣب نظريﺔ الرﻏبﺔ الﻣﺣاكاتيﺔ وكاشف الﻌالﻗﺔ الﺳﺣريﺔ‬
‫الﺧفيﺔ بين الﻌنف والﻣﻘدس والذي ﻋاصر الﺟيل الذھبﻲ ﻣن‬
‫البنيونيين الفرنﺳيين أﻣﺛال ﺟاك ﻻكان وﺟاك دريدا وروﻻن بارت‬
‫ولﻘد وﺟه انتﻘادات كبيرة إلﻰ كتابات كﻠود ليفﻲ شتراوس والﻰ‬
‫تفﺳيرات ﻋﻠم النفس التﺣﻠيﻠﻲ الﺧرافيﺔ وﻣيز بين ﻋﻣﻠيﺔ التوﺳط‬
‫الداﺧﻠﻲ والتوﺳط الﺧارﺟﻲ‪.‬‬
‫ﻣن البديﮭﻲ أن يشكل اﻹنﺳان ﻋند رينﻲ ﺟيرار كائنا راﻏبا‬
‫وﻣن الطبيﻌﻲ أن يﺣاكﻲ ﻣن ينافﺳه فﻲ ﻣوضوع رﻏبته ويضﺣﻲ‬
‫بنفﺳه لفائدته‪ ،‬ولكن اﻹشكالﻲ ھو ارتباط الرﻏبﺔ بالﻌنف والﻣﺣاكاة‬
‫والﺣاﺟﺔ إلﻰ التضﺣيﺔ لوﻗف ھذا التدﺣرج‪ .‬لكن ﻣﻣا تتكون‬
‫الرﻏبﺔ؟ وكيف يتﺣول ﻣوضوع تافه إلﻰ ﻣوضوع رﻏبﺔ؟ وأﻻ‬

‫‪1‬‬
‫‪Réné Girard, la violence et le sacré, éditions Bernard Grasset,‬‬
‫‪Paris, 1972.p.52.‬‬

‫‪237‬‬
‫يظﮭر الﻌنف ﻋندﻣا تتنازع الذوات ﻋﻠﻰ نفس ﻣوضوع الرﻏبﺔ؟‬
‫وكيف تﺳاھم الﻣﺣاكاة فﻲ ظﮭور أزﻣﺔ تضﺣويﺔ وانتشار الﻌنف؟‬
‫وﻣا تأويل ﺣضور طﻘس التضﺣيﺔ فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ؟ ﻋﻠﻰ ﻣاذا يدل‬
‫الﻌنف الﻣالزم لﻠتضﺣيﺔ؟ وكيف تتﺣول ﻗوى اﺟتﻣاﻋيﺔ ﻣتنازﻋﺔ‬
‫إلﻰ ﻗوة ﻣوﺣدة فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ ﺧطر الﻌنف؟ وﻣاھﻲ الﻘراءة‬
‫األنﺛربولوﺟيﺔ ﻋند رونﻲ ﺟيرار لﻠﻌالﻗﺔ الشائكﺔ بين الﻌنف‬
‫والﻣﻘدس؟ أﻻ يﻠتﺟﻰء الﻣﻘدس إلﻰ الﻌنف ﻣن أﺟل الوﻗايﺔ ﻣن‬
‫الﻌنف؟ ﻣا دور الدينﻲ فﻲ بناء الﻠﺣﻣﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ؟ ھل يشكل‬
‫الﻣﻘدس وضﻌا ﺟﻣاﻋيا ﻻنتشار الﻌنف أم يﺳاھم فﻲ كبح ﺟﻣاﺣه؟‬
‫ﻣا ﻋالﻗﺔ تفشﻲ الﻌنف فﻲ النﺳيج اﻻﺟتﻣاﻋﻲ بالرﻏبﺔ والﻣﺣاكاة‬
‫والﻣازوشيﺔ والﺳاديﺔ؟ وكيف يتﻣكن الكائن البشري فﻲ وﺟوده‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻣن طرح الﻌنف ﺧارج وضﻌه؟ والﻰ أي ﻣدى تﺳاھم‬
‫التضﺣيﺔ فﻲ وﻗف داء الﻌنف؟‬
‫"يﺟب وضﻊ الﻣﺣاكاة والﻌنف فﻲ أصل كل شﻲء لفﮭم الﻣوانﻊ‬
‫والﻣﺣرﻣات كﻠﮭا "‪ 1‬فاﻹنﺳان بوصفه أﻗدر الﻣوﺟودات ﻋﻠﻰ‬
‫الﻣﺣاكاة والرﻏبﺔ ينﺧرط فﻲ رﻏبﺔ ﻣﺣاكاتيﺔ لﻠﻌنيف فﻲ ﻋنفه‬
‫فيشﻌر بالﺧوف ﻣن ﺣتفه ويتﺳبب فﻲ تبادل الﻌنف واندﻻع الﺣرب‬
‫الكﻠيﺔ‪ .‬ﻏنﻲ ﻋن البيان أن الذات ﻻ ترﻏب فﻲ شﻲء تافه وبشكل‬
‫ﻋفوي بل وفق ﻣنوال اآلﺧر وﻣن ﺧالل نﻣوذج وبالتالﻲ تتكون‬
‫الرﻏبﺔ ﻣن ﺛالﺛﺔ أبﻌاد ھﻲ الذات الراﻏبﺔ وﻣوضوع الرﻏبﺔ‬
‫والنﻣوذج الذي ينبغﻲ ﻣﺣاكاته ﻋند اآلﺧر ويتﺳبب فﻲ األزﻣﺔ‬

‫‪1‬‬
‫‪Réné Girard, Du mensonge romantique et vérité romanesque,‬‬
‫‪éditions Bernard Grasset, Paris, 1961.p.207.‬‬

‫‪238‬‬
‫التضﺣويﺔ وظﮭور الرﻏبﺔ الﻣﺣاكاتيﺔ وانتشار الﻌنف فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫واﺧتالطه بالﻣﻘدس‪ .‬فﻲ ھذا الﻣﻘام تبرز التضﺣيﺔ بوصفﮭا ﻣﻣارﺳﺔ‬
‫اﺟتﻣاﻋيﺔ تﮭدف إلﻰ ﺣﻣايﺔ الﻣﺟتﻣﻊ والﻣﺣافظﺔ ﻋﻠيه ويكون الﻌنف‬
‫التضﺣوي ﻗد ﺣرف ﻋن ﻣوضوﻋه األصﻠﻲ نﺣو ﻣوضوع بديل‬
‫ويﺳﻣح بتفريغ طاﻗﺔ الﻌنف فﻲ ﻣوضوع آﺧر أﻗل أھﻣيﺔ لﻠﺣفاظ‬
‫ﻋﻠﻰ تﻣاﺳك الﺟﻣاﻋﺔ ودون الﻣﺳاس بﺳالﻣﺔ األفراد‪ .‬وبﻌد ذلك‬
‫يﺳﻣﻲ رونﻲ ﺟيرار ھذه الظاھرة باﻻﺳتبدال التضﺣوي ويرى أنه‬
‫فﻌل ﺳوﺳيولوﺟﻲ فﻲ ﻋﻣﻘه يﺳيره أفراد ﻣن الﻣﺟتﻣﻊ ولصالح‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ و ذلك بﻘياﻣﮭم بتﺣويل الﻌنف ﻋن ﻣوضوﻋه األصﻠﻲ نﺣو‬
‫ﻣوضوع بديل لوﻗف الﻌنف‪ .‬فﻲ ھذا الﺳياق يصرح‪ ":‬الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫يبﺣث ﻋن تﺣويل ﻋنف يﮭدد الﻣنتﻣين إليه نﺣو أضﺣيﺔ ھﻲ ﻗﻠيﻠﺔ‬
‫األھﻣيﺔ‪...‬التضﺣيﺔ ھﻲ ﻋنف ھدفه ﺣﻣايﺔ الﺟﻣاﻋﺔ ﻣن ﻋنف‪ ،‬إنﮭا‬
‫ﺧداع الﻌنف‪ ...‬وتﻣنﻊ التضﺣيﺔ الﻌنف ﻣن النﻣو‪ ،‬إنﮭا تﺳاﻋد البشر‬
‫ﻋﻠﻰ الﺣد ﻣن اﻻنتﻘام‪...‬وظيفﺔ التضﺣيﺔ ھﻲ الﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ الﺳﻠم‬
‫الﻌام داﺧل الﺟﻣاﻋﺔ ﻋن طريق توﺟيه الﻌنف نﺣو أضﺣيﺔ‬
‫‪1‬‬
‫ﻣالئﻣﺔ‪"..‬‬
‫ﻣﺟﻣل الﻘول أن التضﺣيﺔ ﻣﻣارﺳﺔ شﻌائريﺔ يﻘوم ﻣن ﺧاللﮭا‬
‫اﻹنﺳان بﻣﺣاكاة األزﻣﺔ التضﺣويﺔ (الﻌنف الﻣؤﺳس) ﻣن أﺟل ﻣنﻊ‬
‫التﺣﻘق الواﻗﻌﻲ لتﻠك األزﻣﺔ وذلك بإﻋادة تفﻌيل ﻣيكانيزﻣات‬
‫اﻻﺳتبدال التضﺣوي وتﻘديم الفداء والتوﺣد ضد الﺧطر والتﻌاﻣل‬
‫ﻣﻊ الرﻏبﺔ الﻣﺣاكاتيﺔ بوصفﮭا ﺳبب انتشار الﻌنف وتﺧﻠيص‬

‫‪1‬‬
‫‪Réné Girard, la violence et le sacré, éditions Bernard Grasset,‬‬
‫‪Paris, 1972.p.63.‬‬

‫‪239‬‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ شرور واﻗﻌيﺔ وافتراضيﺔ وﺣفظ النظام وتﻣاﺳك الﻣﺟتﻣﻊ‪.‬‬
‫إن التضﺣيﺔ ھﻲ ﻋنف ﻣوﺟه نﺣو تﺧﻠيص الﺟﻣاﻋﺔ ﻣن التناﺣر‬
‫ﻋن طريق تﻘديم أضﺣيﺔ والﻘربان الفدائﻲ والذبيح الشﻌائري‪ .‬ﻣن‬
‫ھذا الﻣنطﻠق تﻌتبر التضﺣيﺔ وﺳيﻠﺔ وﻗائيﺔ وﺣرب اﺳتباﻗيﺔ لتفادي‬
‫اشتﻌال نار اﻻنتﻘام وتبﺣث أضﺣيﺔ الفداء إلﻰ كبح الﻌنف الﻣنتشر‬
‫والﻣﮭدد داﺧل الﺟﻣاﻋﺔ وإﻋادة الﻣﺟتﻣﻊ إلﻰ ﺣالته األولﻰ وإﺧفاء‬
‫ﺣﻘيﻘﺔ البشر الﻌنيفﺔ ﻋنﮭم‪.‬‬
‫ﻏنﻲ ﻋن البيان أن دراﺳﺔ ﻋالﻗﺔ الﻣﻘدس بالﻌنف تتﺟاوز‬
‫الﻘراءات اﻻﺧتزاليﺔ والتبﺳيطيﺔ التﻲ ترى فﻲ‪:‬‬
‫‪ -‬الﻣﻘدس أصل البالء ويصدر ﻋنه الﻌنف وبالتالﻲ يﺟب‬
‫التﺧﻠص ﻣن الدين لﻠﻘضاء ﻋﻠﻰ الﻌنف‪.‬‬
‫‪ -‬الﻣﻘدس بريء ﻣن الﻌنف ويﻌﻣل ﻋﻠﻰ نشر الﻣﺣبﺔ‬
‫والتﻌاون والتآلف وﻣصدر الﻌنف دنيوي‪.‬‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن الﻌالﻗﺔ بين الﻣﻘدس والﻌنف ﻣﻌﻘدة وشائكﺔ‬
‫ويﻣكن أن نﻌﺛر فﻲ الدين ﻋﻠﻰ دوافﻊ إلﻰ ﻣﻣارﺳﺔ الﻌنف‬
‫واﻻﺳتبﻌاد ولكن يﻣكن أيضا أن نﺟد فيه ﻣنابت لتﺟاوز الﻌنف‬
‫وتﺣﻘيق الﺳالم وﺧاصﺔ ﻣبادئ التربيﺔ وﻗواﻋد األﺧالق وطﻘوس‬
‫التضﺣيﺔ واﻻﺳتبدال التضﺣوي والفداء‪ .‬فﻲ الواﻗﻊ أن ﺣﻘيﻘﺔ الدين‬
‫ھو تﺟاوز لﻠﻌنف ونشر لﻠﺳالم وليس بث الفوضﻰ والﻌدوانيﺔ‬
‫والتباﻏض‪ .‬بناء ﻋﻠﻰ ذالك تتﻣﺛل " وظيفﺔ الطﻘوﺳﻲ ھﻲ التطﮭير‬
‫ﻣن الﻌنف وذلك بتوفير نﻘاط ﻣرﺟﻌيﺔ رﻣزيﺔ "‪.1‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو يأتﻲ الدين كﻲ يﻣتص الﻌنف ويغير وﺟﮭته‬
‫ويﺳير فﻲ الﻣﺳﻠكيﺔ األﺧالﻗيﺔ التﻲ تﮭدف إلﻰ الالّﻋنف ولو‬
‫‪1‬‬
‫‪Réné Girard, la violence et le sacré, op.cit.p.168.‬‬

‫‪240‬‬
‫باﺳتﻌﻣال الﻌنف الرﻣزي‪ .‬ھكذا يﻘوم الدين ﻋﻠﻰ تأليف بين الﻌنف‬
‫والالّﻋنف ويﻌﻘﻠن ﻋﻣﻠيﺔ اﻻنتﻘام‪ .‬لكن ﻣاذا ﻋن الﻣﺟتﻣﻌات التﻲ ﻻ‬
‫يتأﺳس نظاﻣﮭا الﻌام ﻋﻠﻰ التضﺣيﺔ والفداء واﻻﺳتبدال التضﺣوي؟‬
‫ھنا يﺣل النظام الﻘضائﻲ ﻣﺣل النظام التضﺣوي ولكن إذا كانت‬
‫وظيفﺔ التضﺣيﺔ وﻗائيﺔ وتأتﻲ ﻣانﻌﺔ لﻠﻌنف فإن وظيفﺔ النظام‬
‫الﻘضائﻲ ﻋالﺟيﺔ وتأتﻲ فﻲ فترة ﻻﺣﻘﺔ لوﻗف انتشار الﻌنف‬
‫بفرض ﺳﻠطﺔ الﻘانون‪ .‬إن التضﺣيﺔ ﻣﺣاولﺔ اﺳتباﻗيﺔ لﻠوﻗايﺔ ﻣن‬
‫اﻻنتﻘام بينﻣا النظام الﻘضائﻲ يشرﻋن الﺟريﻣﺔ والﻌﻘاب ويركز‬
‫اﻻنتﻘام فﻲ يد ﺳﻠطﺔ ﻋﻠيا تﺣتكر الﻌنف الﻣشروع لنفﺳه وتﻌيد‬
‫توزيﻌه فﻲ شكل ﻣنظوﻣﺔ ﺟزاء وردع‪ .‬فﻲ ﻣﺟﻣل الﻘول أن رونﻲ‬
‫ﺟيرار ينصح باﺳتدﻋاء نﻣوذج كونﻲ لكﻲ يتفادى الﺧطر الذي يﻘﻊ‬
‫فيه ﻏالبيﺔ البشر والﻌودة إلﻰ التﻌاليم الﻣرﺳﻠﺔ إلﻰ الﻣﺟتﻣﻊ ﻋن‬
‫طريق الﻣﻘدس فﻲ ﺣد ذاته ولكن أن يﻌيش الﻣﺟتﻣﻊ فﻲ الﻣﻘدس‬
‫ھو أن يﻌيش فﻲ الﻌنف وبالتالﻲ لكﻲ يﻌيش اﻹنﺳان فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫يﺟب ﻋﻠيه أن يفﻠت ﻣن ﻣرض الﻌنف ويﺣﻘق ﻣصالﺣﺔ كاﻣﻠﺔ ﻣﻊ‬
‫ذاته وذلك بأن يتﺟاھل الﻌنف تﺟاھال تاﻣا‪ .‬ﻣن ﺟﮭﺔ أﺧرى أﻻ‬
‫يﻣكن اﻻنتﻘال ﻣن تشابك اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻣﻊ الدينﻲ إلﻰ تفاﻋل بين‬
‫الوضﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والبناء التﺣتﻲ اﻻﻗتصادي؟‬

‫‪241‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟثاﻟث‬

Réné Girard, la violence et le sacré,


éditions Bernard Grasset, Paris, 1972.
Réné Girard, Du mensonge romantique et
vérité romanesque, éditions Bernard
Grasset, Paris, 1961.

242
‫الفصل الرابع‬

‫التسوية وحرب املواقع والثورة الثقافية‬

‫"طالﻣا أن الفﻠﺳفﺔ ﻣازالت تﻌتﻘد بأنﮭا صاﺣبﺔ رؤيﺔ أكيدة تتناول كﻠيﺔ‬
‫الطبيﻌﺔ والتاريﺦ‪ ،‬فﮭﻲ تتصرف باﻹطار الذي نأﻣل أن تنتظم فيه الﺣياة‬
‫‪1‬‬
‫الفرديﺔ وﺣياة الﺟﻣاﻋات"‬

‫يندرج ھذا الﻣبﺣث ضﻣن دائرة التفكير فﻲ صياﻏﺔ إﺳتراتيﺟيﺔ‬


‫التﺳويﺔ التاريﺧيﺔ لﻠتدافﻊ الﺳياﺳﻲ الﻌربﻲ فﻲ ﻣرﺣﻠﺔ ﻣا بﻌد‬
‫الﺣراك الﺛوري وﻣآﻻته الﻣﻌﻘدة وإفرازاته الﻣﺟﮭولﺔ بالنﺳبﺔ‬
‫لﻠﻣﺟتﻣﻊ والﺛﻘافﺔ واﻻﻗتصاد‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا األﺳاس يﺣاول الفكر الفﻠﺳفﻲ اﻹﻣﺳاك بالواﻗﻊ الﻌربﻲ‬
‫الﻣﻠﻣوس والتركيز ﻋﻠﻰ الﺧصائص النوﻋيﺔ لﻠﺣال الﺳياﺳيﺔ‬
‫الﻌربيﺔ ويشرح الرﻣوز الﺣضاريﺔ ويكد فﻲ دراﺳﺔ األطر‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والﺛﻘافيﺔ واﻻﻗتصاديﺔ التﻲ ينغرس فيﮭا الﻌﻣل الﺛوري‬
‫ويتتبﻊ األدوات التﻲ اﺳتﻌﻣﻠت فﻲ النضال الشبابﻲ ضد الشﻣوليﺔ‬
‫ويرصد بؤر الﮭيﻣنﺔ ودوائر اﻻﺣتكار وتﺣديد أشكال اﻻﺳتغالل‬
‫وﺣﺟم التفاوت وتﺣﻠيل أﺳاليب الﻣواﺟﮭﺔ الﻣتبﻌﺔ وطرق التصدي‬
‫لﻠﻣشاريﻊ الﻣﻌولﻣﺔ وﻣكافﺣﺔ الفﺳاد وإيﻘاف ﻋﻣﻠيات اﻹھدار‪.‬‬

‫‪ 1‬هابرماس (يورغن)‪ ،‬مستقبل الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬ترجمة جورج كتورة‪ ،‬مؤسسة كلمة ‪،‬‬
‫أبو ظبي‪ ،‬المكتبة الشرقية‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة أولى‪ ،2007 ،‬ص‪.26‬‬

‫‪243‬‬
‫لﻘد شﮭدت الﻣﻠﺣﻣﺔ الكﺛير ﻣن التﻌﻘيدات والﺣبكات وﻋرف‬
‫الﻣﺳار اﻻﺣتﺟاﺟﻲ تﻘﻠبات وﻣطبات واﺳتﺣال ﻋﻠﻰ الﺣركﺔ‬
‫اﻹصالﺣيﺔ التﺣول إلﻰ ﺛورة برﺟوازيﺔ وفق النﻣوذج الغربﻲ ولم‬
‫تتطور الﮭبﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ إلﻰ ﺛورة شﻌبيﺔ ولم يﻘﻊ افتكاك الﺣكم‬
‫الﺳياﺳﻲ بشكل تام ولم تتبﻠور ﻗطيﻌﺔ ﺟذريﺔ ﻣﻊ الﻣاضﻲ‬
‫الﺳﻠطوي‪.‬‬
‫لﻘد ﻗدﻣت الﻌديد ﻣن التفﺳيرات ﻋﻠﻰ ذلك وﻣن أبرزھا ضﻌف‬
‫الوزن اﻻﺟتﻣاﻋﻲ لﻠطبﻘﺔ الﺛائرة والتبﻌيﺔ وﻋدم اﻻنفصال ﻋن‬
‫الﮭيئات الﺧارﺟيﺔ الداﻋﻣﺔ (الﻠيبراليﺔ واليﺳاريﺔ والﻘوﻣيﺔ‬
‫واﻹﺳالﻣيﺔ) والﺣﺳاﺳيﺔ الﻣفرطﺔ تﺟاه التنظيم والطاﻋﺔ وﻏﻠبﺔ‬
‫الفوضﻰ ﻋﻠﻰ الﺣريﺔ والنﮭب ﻋﻠﻰ الﻣﻠكيﺔ واﻻنﻘﺳام ﻋﻠﻰ التوﺣد‬
‫والدور الﻣركزي لإليديولوﺟيا الدينيﺔ فﻲ تطﻌيم الوﻋﻲ الﺳياﺳﻲ‬
‫لﻠﻣنتفضين وﻏياب نظريﺔ ﺛوريﺔ ﻣتكاﻣﻠﺔ‪.‬‬
‫لﻘد اﺳتﺣال ﻋﻠﻰ الﻘوى الفاﻋﻠﺔ اﻻنﺧراط فﻲ ﺣرب ﺣركﺔ ﻣن‬
‫أﺟل اﺳتكﻣال الﻣﺳار الﺛوري واﻻﺳتيالء ﻋﻠﻰ الدولﺔ ﻣن ﻗبل‬
‫الفريق الﻣنتصر بﻌد اﺳتبدال النظام الﻣتﮭرئ بنظام ﺳياﺳﻲ تﻌددي‬
‫وتم تفضيل ﺧيارات رأب الصدع بين الﻘديم والﺟديد وبين الﻌﻣيق‬
‫والﺳطﺣﻲ وبين اﻹصالﺣﻲ والﺟذري وﺟنح الكﺛير نﺣو التفاوض‬
‫والتفاھم والتوافق والصفح والﻣصالﺣﺔ دون الﻣصارﺣﺔ والﻣﺣاﺳبﺔ‬
‫ولكن فﻲ الﻣﻘابل دشنت الﻌديد ﻣن األطراف الناﺟيﺔ ﻣن الﻣطﺣنﺔ‬
‫ﺣرب ﻣواﻗﻊ ﻣن أﺟل افتكاك الﻣبادرة الﺳياﺳيﺔ ﻣن األﺟﮭزة‬
‫الﻘﻣﻌيﺔ لﻠدولﺔ واﻻﺳتﺣواذ ﻋﻠﻰ ﻣﻌاﻗل فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ الﻣدنﻲ تﺳﻣح‬
‫لﮭم بالﮭيﻣنﺔ والﻘيادة الفكريﺔ واألﺧالﻗيﺔ لﻠدولﺔ‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫إذا كان األﺟﮭزة الﻘﻣﻌيﺔ التابﻌﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ الﺳياﺳﻲ تﻘوم بوظيفﺔ‬
‫الﺳيطرة وتﺣرص ﻋﻠﻰ اﺳتﻣراريﺔ النظام فإن الﮭيئات والﻣنظﻣات‬
‫الﺣﻘوﻗيﺔ التابﻌﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ الﻣدنﻲ تﻘوم بوظيفﺔ الﮭيﻣنﺔ وتﺣرص‬
‫ﻋﻠﻰ اﺳتﻣراريﺔ الدولﺔ وتﻌﻣل ﻋﻠﻰ صياﻏﺔ إﺳتراتيﺟيﺔ التﺳويﺔ‬
‫التاريﺧيﺔ بين الﻣنافﺳين الﺳياﺳيين بإﺟراء تﺳويﺔ اﻗتصاديﺔ‬
‫واﺟتﻣاﻋيﺔ بين الطبﻘﺔ الﻘائدة والفئات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الﻣتﺣالفﺔ ﻣﻌﮭا‬
‫والﺟﻣاﻋات واألﺣزاب والﻣنظﻣات الﻘريبﺔ ﻣنﮭا وبدل الﻘضاء‬
‫ﻋﻠيﮭا وتصفيتﮭا واﺟتﺛاﺛﮭا تﻘوم بإدﻣاﺟﮭا وترويضﮭا وإﺧضاﻋﮭا‬
‫وتشريكﮭا فﻲ الﺣياة الﺳياﺳيﺔ ﻋبر اتفاﻗات وبإتباع تكتيكات‬
‫وﻣناورات تﻌتﻣد ﻋﻠﻰ ﻣﺣاربﺔ الﻣركزيﺔ البيروﻗراطيﺔ وتﺟنب‬
‫الﻘوة الﻣﺳﻠﺣﺔ والصراع اﻹيديولوﺟﻲ الﺣاد وإتباع ﻣركزيﺔ‬
‫ديﻣﻘراطيﺔ ترﺳﻲ تفاﻋال بين الﻘادة والﺟﻣﮭور‪.‬‬
‫ﻣن بين الﻣبررات التﻲ تفضﻲ إلﻰ الﺣديث ﻋن التﺳويﺔ‬
‫التاريﺧيﺔ ھو ھول الﺣرب األھﻠيﺔ وفظاﻋﺔ اﻻنﻘﺳام الداﺧﻠﻲ‬
‫والتفويت فﻲ الﺳيادة الوطنيﺔ وﻏياب اﺳتﻘالليﺔ الﻘرار الﺳياﺳﻲ‬
‫والتنازل ﻋن الﺛوابت وانتشار الفوضﻰ والفﺳاد واﻻﺣتﻘان‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والفوات الﺣضاري واﻻنﺳداد التاريﺧﻲ والتﺧﻠف‬
‫اﻻﻗتصادي‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا األﺳاس تتضاﻋف ھيﻣنﺔ الكتﻠﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ التﻲ تﻣﺛل‬
‫األكﺛريﺔ ليس ﻣن ﺧالل اﺣتكار الﻘيادة والصﻠف اﻹيديولوﺟﻲ‬
‫لﻠﺣزب الﺣاكم الواﺣد وديكتاتوريﺔ الﺛورة بل بتوﺳيﻊ أفق‬
‫إنتظارات الناس والتركيز ﻋﻠﻰ ترﺟﻣﺔ وطنيﺔ لﻠﻣطالب والتﺣرك‬
‫وﺳط ﺛورة ﺳﻠبيﺔ تﻌول ﻋﻠﻰ الﻣﺛﻘفين الﻌضويين والﻣﺟتﻣﻊ الﻣدنﻲ‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق ﻻ يﻘتضﻲ األﻣر بناء ﺣزب أو تكوين ﺟبﮭﺔ‬
‫تكون وريﺛا لﻠﻣﺳار الﺛوري وإنﻣا الﻣطﻠوب ھو اﻻشتغال ﻋﻠﻰ‬
‫اﺣتالل الﻣواﻗﻊ وافتكاك زﻣام الﻣبادرة ﻣن الفوضويين والﻣﻠتفين‬
‫ضﻣن كتﻠﺔ تاريﺧيﺔ‪.‬‬
‫ينبغﻲ ﻣﻌرفﺔ الطريق الذي يﺳﻣح بالذھاب إلﻰ الشﻌب‬
‫والﺣديث ﻣﻌه ﻋن ﻣشاكﻠه بﻠغته والتﻌرف ﻋﻠﻰ ﺣﺳه الﺳﻠيم وﺟﻣﻠﺔ‬
‫التصورات الﻘبﻠيﺔ التﻲ يرى ﻣن ﺧاللﮭا الﻌالم واﻹنصات إلﻰ‬
‫نبض الشارع وصوت الناس واﻹﻋداد الرصين لﻠﺛورة الﺛﻘافيﺔ‬
‫ليس بالتﻌويل ﻋﻠﻰ ﻣوظفﻲ البنﻰ الفوﻗيﺔ بل بالصراع ضد الﺛﻘافﺔ‬
‫التابﻌﺔ‪.‬‬
‫تﻌتﻣد الكتﻠﺔ التاريﺧيﺔ الﺟديدة ﻋﻠﻰ ﻣفﮭوم لﻠﻌالم ﻣﺳتﻣد ﻣن‬
‫الﺣس الﻣشترك لﻠطبﻘات الرافضﺔ والفئات الﻣتﻣردة ويﻠﻌب الﺣس‬
‫الﻣشترك الﻘادم ﻣن التﻘاليد دورا ﻣﺣركا فﻲ تغيير الذھنيﺔ وتنﻣيﺔ‬
‫الوﻋﻲ الشﻌبﻲ وتتدﺧل فﻠﺳفﺔ الﻣﻣارﺳﺔ لكﻲ تؤﺛر فﻲ التﺟانس‬
‫بين الﻣﺛﻘفين والﺟﻣﮭور وتﻘطﻊ الصﻠﺔ بالشﻣوليﺔ التراﺟﻌيﺔ وتنﺟز‬
‫ﻋﻣﻠيﺔ ﻗﻠب فﻲ صﻠب الﻣﺟتﻣﻊ وتﺟﻌل ﻣن اﻻنفصال إﻋادة تأليف‬
‫وﻣن ﻋﻣﻠيﺔ اﻻﺳتيﻌاب تﺟاوزا‪.‬‬
‫ﻻ تﻣتﻠك الكتﻠﺔ التاريﺧيﺔ اﺳتﻘالﻻ نﺳبيا ﻋن البنﻰ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫التﻲ شكﻠتﮭا وﻻ تﻣتﻠك إيديولوﺟيا ﺧاصﺔ بﮭا وإنﻣا تطبﻊ الﻣﺟﻣوع‬
‫الﺳياﺳﻲ والﻘانونﻲ والﺛﻘافﻲ بطابﻌﮭا الﺧاص وتﻘترح تنظيم ﻋﻣﻠﻲ‬
‫وﻣتكاﻣل لﻠﻣﺟتﻣﻊ‪.‬‬
‫لﻘد تضﻣن وﻋﻲ الطبﻘات الﻣنتصرة إرادة التﺟاوز والتكاﻣل‬
‫والبناء والتﺟديد واﻻلتزام والﻣﺛابرة وفﻘدت الطبﻘات الﻣغﻠوبﺔ‬
‫التﻣاﺳك والصالبﺔ وﺣضرت بﺧوائﮭا الفكري وفراﻏﮭا الروﺣﻲ‬

‫‪246‬‬
‫وتﺟريدھا البرﺟوازي‪ .‬لﻘد اتضح لﻠﺟﻣيﻊ ﻏياب الﺟديﺔ فﻲ التدارك‬
‫وصﻌوبﺔ اﺳتﻌادة ﻣا فات وزال وأھﻣيﺔ الﻣضﻲ ﻗدﻣا واﺳتﻘبال‬
‫اآلتﻲ وﻋﻘد األﻣل فﻲ الﻣشروع الﺳياﺳﻲ الذي ﻗد يتﻣﺧض ﻋن‬
‫ﺣركيﺔ الكتﻠﺔ التاريﺧيﺔ واندفاﻋﮭا الﺣيوي‪.‬‬
‫رأس األﻣر أن النفوذ الذي تﻣارﺳه الدولﺔ الشﻣوليﺔ ﻋن طريق‬
‫ﺳﻠطﺔ الﻣؤﺳﺳات الﻘﻣﻌيﺔ لن يﻣﺛل ﺣﺟر ﻋﺛرة أﻣام الطﻣوح‬
‫الﺛوري لﻠكتﻠﺔ التاريﺧيﺔ وأن التﺳويﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ﻻ يﺟب أن‬
‫تتﺣول إلﻰ ترضيات لﻠﻣتﺣكﻣين فﻲ ﻣراكز النفوذ والﻰ رﺳكﻠﺔ‬
‫لﻠنظام الﻘديم وﻻ تﻌطيه فرصﺔ ﻣن أﺟل إﻋادة ترﻣيم نفﺳه وإﻋادة‬
‫إنتاج آليات اﻻﺳتيالء التﻘﻠيديﺔ ﻋﻠﻰ الﻣﺟتﻣﻊ والغﻠبﺔ ﻋﻠﻰ ﻣفاصﻠه‬
‫بل يفترض أن تﺧﻠق ھذه التﺳويات ﻣناﺧا إيتيﻘيا لﻠﻌﻣل الﻣشترك‬
‫بين ﻗوى ﺳياﺳيﺔ ﻣتنوﻋﺔ وﻣتﻌددة تتﺣرك فﻲ إطار ﺣركﺔ اندﻣاﺟيﺔ‬
‫تؤطرھا ﻗيم الﻣشاركﺔ والﻌفو والتصافﻲ‪ .‬وبالتالﻲ" ﻗد يصبح‬
‫التنظيم اﻻندﻣاﺟﻲ ھو الشكل الﺟديد لﻠتغيير ولكننا نتﺳاءل ھل‬
‫نتﻌرض لﺧدﻋﺔ ﻣن ﺧدع الﻘدر التﻲ ﺣدﺛنا ﻋنﮭا فيكو‪ ،‬ﺣيث يﺟد‬
‫الناس أنفﺳﮭم ﻣﺟبرين ﻋﻠﻰ اﻻنصياع ألواﻣر التاريﺦ وضروراته‪،‬‬
‫بصرف النظر ﻋﻣا يريدون ويدبرون؟"‪ .1‬لﻣاذا تغﻠبت الﻌﻘالنيﺔ‬
‫الﻌﺳكريﺔ البونبارتيﺔ التﻲ ﻣيزت النظريﺔ الشﻣوليﺔ الﺳياﺳيﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣنطق النﻘاء الديﻣﻘراطﻲ التﻌددي وطﮭريﺔ الﻣﺳار الﺛوري؟ وكيف‬
‫انﻘطﻊ الطريق فﻲ الﻠﺣظﺔ التﻲ أفصح فيﮭا التﺟديد التاريﺧﻲ ﻋن‬
‫أﺳرار ﻣشروﻋه الواﻋد؟ والﻰ أي ﻣدى يﻣكن الﺣديث ﻋن ﻣنافﻊ‬
‫ﺳياﺳيﺔ وﻣزايا ايﺟابيﺔ ﻋﻠﻰ الصﻌيد الﻌربﻲ لﮭذه الﺛورة الﺳﻠبيﺔ؟‬

‫‪ 1‬غرامشي (أنطونيو)‪ ،‬كراسات السجن‪ ،‬الجزء الثاني ‪ ،‬ترجمة عادل غنيم‪ ،‬الناشر دار‬
‫المستقبل العربي‪ ،‬القاهرة‪.1994،‬ص‪19‬‬

‫‪247‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟراﺑﻊ‬

‫ﻏراﻣشﻲ (أنطونيو)‪ ،‬ﻛراسات اﻟسﺟن‪ ،‬الﺟزء الﺛانﻲ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬


‫ﻋادل ﻏنيم‪ ،‬الناشر دار الﻣﺳتﻘبل الﻌربﻲ‪ ،‬الﻘاھرة‪.1994،‬‬
‫ھابرﻣاس (يورﻏن)‪ ،‬ﻣسﺗﻘﺑل اﻟطﺑيﻌﺔ اإلنسانيﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﺟورج كتورة‪ ،‬ﻣؤﺳﺳﺔ كﻠﻣﺔ‪ ،‬أبو ظبﻲ‪ ،‬الﻣكتبﺔ الشرﻗيﺔ‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫طبﻌﺔ أولﻰ‪.2007 ،‬‬

‫‪248‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫ضرورة مراجعة الغرب صورته عن ذاته‬

‫"يدفﻊ اﻹرھاب الشاﻣل إلﻰ الﺣد األﻗصﻰ بﻌدين اﺛنين ھﻣا ﻏياب‬
‫األھداف الواﻗﻌيﺔ والﻘدرة ﻋﻠﻰ اﺳتﺧالص فائدته ﻣن ﻋطوبيﺔ األنﺳاق‬
‫‪1‬‬
‫الﻣﻌﻘدة"‬

‫ﻣا ھو دور الفﻠﺳفﺔ النﻘديﺔ فﻲ تشريح الﻌالﻗﺔ بين اﻹرھاب‬


‫والﻌولﻣﺔ والتﻣفصل بين األديان والﻌنف الﻣدﻣر؟‬
‫ذلك ھو الﺳؤال الذي ﺣاول يورﻏن ھابرﻣاس أن يﺟيب ﻋﻠيه‬
‫باﻻﻋتراف ﻣنذ البدايﺔ بالطابﻊ الﻣزلزل لﻠﺣدث التاريﺧﻲ واتصاف‬
‫التﺳاؤل الفﻠﺳفﻲ ﻋن الﺧبر بدراﺳﺔ الصاﻋﻘﺔ التﻲ تﺧﻠف البطش‬
‫والرﻋب‪ .‬ولﮭذا ﺣاول إﻋادة التفكير فﻲ دﻻﻻت الﮭﺟوﻣات‬
‫اﻹرھابيﺔ وﻣدى انتﻣائﮭا إلﻰ األﺣداث الفارﻗﺔ فﻲ األزﻣنﺔ‬
‫التاريﺧيﺔ وﻣدى تورط الﻌولﻣﺔ والوﺳائل الﺣديﺛﺔ لالتصال فﻲ‬
‫صناﻋﺔ اﻹرھاب وانتشارھا بشكل ﺳريﻊ‪.‬‬
‫لﻘد ﺣصل إﺟﻣاع ﻋﻠﻰ أن اﻹرھاب ﻋالﻣﺔ ﻣرض بالنﺳبﺔ‬
‫لﻠﺣضارة الكونيﺔ ودليل ﻋﻠﻰ أزﻣﺔ بنيويﺔ فﻲ الديﻣﻘراطيﺔ التﻣﺛيﻠيﺔ‬

‫‪1‬‬
‫‪Habermas )Jürgen(,Qu’est-ce que le terrorisme ?, février 2004.‬‬
‫‪Lien :http://www.monde-‬‬
‫‪diplomatique.fr/2004/02/HABERMAS/11007‬‬

‫‪249‬‬
‫وفشل الفصل الﻌنيف بين الﺳرديات التأﺳيﺳيﺔ والﻘوانين الوضﻌيﺔ‬
‫ويﻣﺛل ﺧطرا داھﻣا ﻋﻠﻰ الﺣياة الﺳياﺳيﺔ التشاركيﺔ وﻋﻠﻰ النظام‬
‫التشريﻌﻲ الضاﻣن لﮭا ويﺳبب الشﻠل البطﻲء لآلليات الدفاﻋيﺔ‬
‫والﻣيكانزﻣات الﻣﻘاوﻣﺔ ﺣينﻣا تتﻌرض الﺟﻣاﻋﺔ الﺳياﺳيﺔ لﮭﺟوم‬
‫ﺧارﺟﻲ وتتﺣﺳس ضﻌفا ھيكﻠيا داﺧﻠﮭا‪.‬‬
‫إذا كان ﺟاك دريدا يفﺳر ھذه التصرفات بكونﮭا ردود أفﻌال‬
‫دفاﻋيﺔ ناتﺟﺔ ﻋن الﺣداﺛﺔ نفﺳﮭا والتنوير الذي شرﻋن اﻻﺳتﻌﻣار‬
‫وضاﻋف أشكال الالّﻣﺳاواة بﺳبب التﺣديث الﻘﺳري والﺳريﻊ‬
‫واﻹرادة الﺳياﺳيﺔ الغازيﺔ ويري أن "الﻌولﻣﺔ" ھﻲ ﻋبارة ﻣنﻣﻘﺔ‬
‫تﻌد اﻹنﺳانيﺔ بالرﺧاء والوفرة ولكنﮭا تﺧفﻲ البؤس والﻌنف والظﻠم‬
‫ويأﻣل أن تشفﻰ اﻹنﺳانيﺔ ﻣن ھذا الوباء الرﻗﻣﻲ بأن يتم إﺧﻣاد‬
‫النيران والﺣروب وفض النزاﻋات التدﻣيريﺔ والتﻘﻠيل ﻣنﮭا‬
‫وﻣراﻗبتﮭا واﻻنتصار ﻋﻠيﮭا بالتدرج وﻋبر ﻣراﺣل وبطريﻘﺔ بطيئﺔ‬
‫وﻣدروﺳﺔ فإن ھابرﻣاس يفﺳر وﺟود التطرف واﻹرھاب بالﻌنف‬
‫الذي أفرزته الﻌصرنﺔ الﻣﺳﻘطﺔ ﻋﻠﻰ أنﻣاط الﺣياة التﻘﻠيديﺔ وفشل‬
‫الﺣداﺛﺔ فﻲ اﻻنتشار ﻋﻠﻰ الصﻌيد الكونﻲ ووﺟود ﻣﻘاوﻣات ھوويﺔ‬
‫ويشير إلﻰ أن الﻌﻘل اﻹنﺳانﻲ ﻣﺛﻠﻣا يﺳﻣح بالتواصل الشفاف‬
‫والتنظيم اﻹداري والتﻘدم التكنولوﺟﻲ يفرز أيضا اﻻنفصال‬
‫واﻻﻏتراب والﻌنف‪.‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك يﺧيم شبح اﻹرھاب الﻌالﻣﻲ ﻋﻠﻰ الﺣياة اﻹنﺳانيﺔ‬
‫ويصدم الوﻋﻲ ويﺣتل ﻣﺳاﺣات التفكير الﻣﻣكنﺔ وينتﻘم ﻣن‬
‫الﻣﺳتﻘبل بأن يﻠغﻲ كل أﻣل بالﻌيش الﻣشترك وكل وﻋﻲ بالﻌالﻗﺔ‬
‫التكوينيﺔ فﻲ الﺣاضر‪ .‬وفﻲ نظر ھابرﻣاس يﻣﺛل الﻌالم اﻹﺳالﻣﻲ‬
‫ﺣالﺔ ﺧاصﺔ ويوﺟد فﻲ وضﻊ اﺳتﺛنائﻲ‪ ،‬فﮭو يﺧﻠو ﻣن التﻘاليد‬

‫‪250‬‬
‫الديﻣﻘراطيﺔ والتداول الﺳﻠﻣﻲ ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ ويﻌرف أنظﻣﺔ ﺣكم‬
‫ﻣﺳتبدة وشﻣوليﺔ ﻣن ناﺣيﺔ أولﻰ ويﻣتﻠك ﺛروات بشريﺔ ھائﻠﺔ‬
‫وﻣصادر ﻣن الطاﻗﺔ البتروليﺔ الﺣيويﺔ ﻻ يﻘدر اﻻﻗتصاد الﻌالﻣﻲ‬
‫أن يﻌوضﮭا ﻣن ناﺣيﺔ ﺛانيﺔ ولذلك تتﺣرك الدول الكبرى ﻣن أﺟل‬
‫ﺣﻣايتﮭا وتشن الﺣروب والنزاﻋات ﻣن أﺟل الﺳيطرة ﻋﻠيﮭا‪.‬‬
‫الﻌيب األكبر بالنﺳبﺔ إلﻰ ھابرﻣاس ھو فﻲ التﻘاليد والﺛﻘافيﺔ‬
‫اﻹﺳالﻣيﺔ التﻲ تتناﻗض ﻣﻊ الﺣداﺛﺔ وتوﺟد فﻲ وضﻌيﺔ ﻣواﺟﮭﺔ‬
‫دائﻣﺔ ﻣﻊ الﺣضارة الكونيﺔ وتﺳتﻣيت فﻲ الدفاع ﻋن ھويتﮭا‬
‫وتضﺣﻲ بﺣاضرھا ﻣن أﺟل الﺣنين إلﻰ األصول والبﻘاء وفيﺔ إلﻰ‬
‫الينابيﻊ ولذلك تﺣولت إلﻰ تربﺔ ﺧصبﺔ لالﺳتبﻌاد واﻹﻗصاء‬
‫والﻌزلﺔ‪.‬‬
‫والﺣق أن اﻹرھاب ظاھرة نفﺳيﺔ ﻣتﻣركزة ﺣول اآللﺔ الرﻗﻣيﺔ‬
‫وﻣﻠتصﻘﺔ بالﻌﻘل الﺣﺳابﻲ وتتكﺛف باﺳتﻣرار فﻲ الﻣﺳتﻘبل وتتداﺧل‬
‫ﻣﻊ التﺟربﺔ اﻹنﺳانيﺔ وتﻠتصق بالﻌﻘل التﻘنﻲ والفضاء الرﻗﻣﻲ‬
‫والﻌالم اﻻفتراضﻲ وﺟﻌﻠت ﻣن الدافﻊ الﻣرضﻲ ھو اﺳتيﮭاﻣات‬
‫األﻣل والوﻋد والﺣﻠم الذي يﻣكن اﻹنﺳان الﻣﻘﮭور ﻣن ﺛبت ذاته‬
‫فﻲ الﺧيال‪ ،‬وﻻ ﻣﺧرج ﻣنﮭا إﻻ بالتﺣﻠيل والنﻘد الذاتﻲ لﻠتراث‬
‫اﻻﺳتﻌﻣاري الذي ﺧﻠفته الﺣداﺛﺔ والتنوير‪.‬‬
‫يفرق ھابرﻣاس بين الﺟريﻣﺔ الﻌاديﺔ وأشكال الﻌنف األﺧرى‬
‫التﻲ يﻠﺟأ إليﮭا األفراد والﺟﻣاﻋات لﻠدفاع ﻋن النفس ويﻌتبر دفاع‬
‫الفﻠﺳطينيين ﻋن أرضﮭم وﻣﻘاوﻣتﮭم لكل التﻌديات التﻲ تصادر‬
‫ﺣﻘوﻗﮭم إرھابا ﻣن النوع التﻘﻠيدي الذي يﺣدث داﺧل األوطان‬
‫وتﻣارﺳه ﺣركات ﺳياﺳيﺔ تﺟاه كيان ﺳياﺳﻲ ﻗائم يﺳﻣﻰ دولﺔ‪ .‬ﻏير‬
‫أن ﻣﺛل ھذا الﺣكم الﻣتﺟنﻲ ھو باطل وﻗد نتج ﻋن اﻹﺣﺳاس بالذنب‬

‫‪251‬‬
‫لدى كل ألﻣانﻲ وربﻣا ﻗد ارتبط بتوبيﺦ الضﻣير لﻣا ضاﻗه اليﮭود‬
‫فﻲ الﺣﻘبﺔ النازيﺔ ﻣن تشريد وازدراء وصدر ﻋن التﻣركز‬
‫الﺣضاري الغربﻲ‪.‬‬
‫يصل الﻌنف إلﻰ درﺟﺔ الفتك والتﻌدي لكل الﻣﻌايير ﺣينﻣا‬
‫يﻣارس بطريﻘﺔ فوضويﺔ ﻣدﻣرة لﻠﻌدو الﻣفترض ويﻘابل الﺣياة‬
‫بالﺣياة ويبادل الﻣوت بالﻣوت ويﺣدث الصدﻣﺔ والرﻋب ﺣينﻣا يفﻘد‬
‫الغائيﺔ ويﻣارس اﻹﻋدام لكل إﻣكانيﺔ لﻠوﺟود فﻲ الﻌالم والتواصل‬
‫ﻣﻊ الغير وﻋندﻣا يﻘضﻲ نﮭائيا ﻋﻠﻰ كل أشكال الﺣوار والتفاھم‪.‬‬
‫بوﺟه ﻋام أن األﺳباب الﻣؤديﺔ بصورة ﻏير ﻣباشرة إلﻰ تفﺟر‬
‫الﻌﻣﻠيات اﻹرھابيﺔ ھﻲ الكراھيﺔ بين الشﻌوب واﻻﺧتالفات فﻲ‬
‫التصورات الﻌﻘديﺔ لﻠﺣياة وبروز أشكال ﻣن التﮭﻣيش اﻻﻗتصادي‬
‫والظﻠم اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وتﻌﺛر الﻣنوال التنﻣوي والتﻣييز ﻋﻠﻰ أﺳاس‬
‫الﻌرق والﺟﮭﺔ والﻣﻌتﻘد والﻠون واﻻنتﻣاء الﮭووي واﺣﺳاس الﺛﻘافﺔ‬
‫الرﺳﻣيﺔ بالتﻌالﻲ والتفوق ﻋﻠﻰ ﻣا يفد ﻣن الﮭواﻣش واألطراف‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا األﺳاس يشكل اﻹرھاب تﺟﻠيا صادﻣا لﻠﻌنف البنيوي‬
‫الذي يﻘبﻊ فﻲ الالوﻋﻲ الﺳياﺳﻲ لألفراد ويﺟد الفرصﺔ بالبروز‬
‫ﻋند اﺣتدام األزﻣات الدوليﺔ واﻻنتفاضات الشﻌبيﺔ وأشكال‬
‫الﻌصيان والتﻣرد‪ .‬وبالتالﻲ ﺣينﻣا تتﻌطل لغﺔ الﺣوار بين‬
‫الﺟﻣاﻋات الﻣتغايرة ﺛﻘافيا وﺣينﻣا يطرأ اضطرابا فﻲ التواصل‬
‫ويﺳود اﻻنفصال واﻻنطواء ﻋﻠﻰ الذات والﻌزلﺔ والتوﺣد وتﺳتبد‬
‫أشكال ﺳوء التفاھم وانﻌدام الﺛﻘﺔ بالﻣشﮭد فإن النزاﻋات تظﮭر ﻋﻠﻰ‬
‫الﺳطح ويبرز الالّتواصل ولغﺔ الﻌنف بوصفﮭﻣا الطريﻘﺔ الوﺣيدة‬
‫لﻠتواصل‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫وبال شك يفضﻲ ﺣدوث اضطراب فﻲ دوائر التواصل إلﻰ‬
‫نشوب الﻌنف واﻹرھاب وكذلك ينتج ھذا التوﺟه التﺧريبﻲ إلﻰ‬
‫تراكم أشكال ﻣن ﺳوء التفاھم والﻣشاﺣنات التﻲ تﻌطل بدورھا‬
‫تﺟربﺔ التواصل‪.‬‬
‫بطبيﻌﺔ الﺣال أدان ھابرﻣاس ﻣن وﺟﮭﺔ نظر أﺧالﻗيﺔ الﺣركات‬
‫الﻣرﻋبﺔ لﻠنفوس التﻲ تﮭاﺟم وتدﻣر وتﮭدد الﺣياة الﻣدنيﺔ وتﺣﻣل‬
‫صفات الﮭﻣﺟيﺔ والتوﺣش ﻣﮭﻣا كانت الدواﻋﻲ والوضﻌيات‬
‫الﻣضطربﺔ التﻲ دفﻌت إليﮭا ويرفض أي تبرير لﻠﻘتل والﻌنف‬
‫واأللم الﻣﺳﻠط ﻋﻠﻰ الغير وإلﺣاق الضرر به وتﺧﻠيف الضﺣايا‪.‬‬
‫ويﻘوم بتﺣﻠيل كيفيﺔ نشوء الظاھرة ﻣن زاويﺔ تاريﺧيﺔ ويضﻌﮭا فﻲ‬
‫ﺳياﻗات ﺳياﺳيﺔ دوليﺔ ﻣضطربﺔ تﻣيزت بنﮭايﺔ اﻻﺳتﻘطاب الﺛنائﻲ‬
‫وھيﻣنﺔ النﻣوذج الﻠيبرالﻲ الغربﻲ فﻲ صيغته الرأﺳﻣاليﺔ الصناﻋيﺔ‬
‫الﻣتﻘدﻣﺔ وبروز تﺣوﻻت ﺳياﺳيﺔ فﻲ ﻣﺧتﻠف أشكال الﺣكم وﺳﻘوط‬
‫األنظﻣﺔ الشﻣوليﺔ وفﻘدان الدول الﺳيطرة ﻋﻠﻰ األوضاع الداﺧﻠيﺔ‬
‫وﻋﺟزھا ﻋن ﻣراﻗبﺔ األﻗاليم وفرض نفوذھا ﻋﻠﻰ األرض والتﺣكم‬
‫فﻲ الﺟﻣاﻋات اﻻﺣتﺟاﺟيﺔ التﻲ وﺟدت الفرصﺔ الﺳانﺣﺔ لﻠﻘيام‬
‫بأﻋﻣال إﺟراﻣيﺔ فﻲ الداﺧل والتﺧطيط لﻣﮭاﺟﻣﺔ الﺧارج‪ .‬ﻻ يشبه‬
‫اﻹرھاب الﺳياﺳﻲ ﻣطﻠﻘا الﺟريﻣﺔ الﻌاديﺔ التﻲ يتولﻰ الﻘضاء‬
‫الﻣﺣﻠﻲ التﺣﻘيق والبت فيﮭا وﻻ يﻘدر الﻘضاء الدولﻲ لوﺣده الﺣكم‬
‫ﻋﻠﻰ ھذه الظاھرة الﻌالﻣيﺔ وذلك لتﻌﻘدھا ولطابﻌﮭا الﻣﺟﮭري وﻣا‬
‫تتطﻠبه ﻣن تضافر لكل الﺟﮭود وتﻌاون الﻣﻘاربات والﻣﻌالﺟات‬
‫والﺳﻌﻲ إلﻰ فض الﺧالفات بالطرق الﺳياﺳيﺔ الﺳﻠﻣيﺔ‪.‬‬
‫ينﺟم ﻋن ذلك أن إﻋالن الﺣرب ﻋﻠﻰ اﻹرھاب بغيﺔ درء‬
‫الﻣﺧاطر يؤدي إلﻰ ارتكاب أﺧطاء ﺟديدة لكونه يواﺟه ﻗوة شبكات‬

‫‪253‬‬
‫ﻣﺟﮭريﺔ ﻻ يﻣكن ﺣصرھا وﻻ يﻘتصر ﻋﻠﻰ ﻣﺣاربﺔ ﺟيش نظاﻣﻲ‬
‫كالﺳيكﻲ لدولﺔ ﻣارﻗﺔ‪ .‬ان لفظ الﺣرب ﻋﻠﻰ اﻹرھاب ھو ﻋبارة‬
‫ﺳﻘيﻣﺔ ﻣن وﺟﮭﺔ نظر ﻣﻌياريﺔ لكونه يرفﻊ ﻣن ﻗيﻣﺔ الﻣﺟرﻣين‬
‫ويﻣنﺣﮭم ﻣرتبﺔ الﻣﺣاربين األﻋداء وﻣن زاويﺔ براﻏﻣاتيﺔ يﺳتﺣيل‬
‫بالﻘوة الﻌﺳكريﺔ التغﻠب ﻋﻠﻰ الﻣﺟﮭول‪.‬‬
‫يدافﻊ ھابرﻣاس ﻋن ﻣﺳارات التﺣديث التﻲ تﻘوم بﮭا الﺣضارة‬
‫الغربيﺔ تﺟاه الﻌالم ويوظف الﻣنﻌرج الﻠغوي فﻲ ﺳبيل تﺣﻘيق‬
‫أشكال الﻣﻌرفﺔ الكﻠيﺔ وتﺟﺳيد أفكار الﻌﻘﻠنﺔ واألﺧالق والﺣريﺔ فﻲ‬
‫الﻣؤﺳﺳات الﻘانونيﺔ الدوليﺔ ويﻌتبر ﻣﻘصد الﺣداﺛﺔ الغربيﺔ فﻲ ﻗيام‬
‫ﻣﺟتﻣﻊ دولﻲ ﺣر يﺳﻌد فيه الﺟﻣيﻊ لم يفشل ألنه لم يتﺣﻘق بﻌد بل‬
‫ﻣازال لم ينته ولم يصل إلﻰ اﻻكتﻣال ويتطﻠب ﻣواصﻠﺔ ﻋﻣﻠيﺔ‬
‫التنوير واﻹصرار ﻋﻠﻰ اﺳتﺧدام الﻌﻘل وتاﻣين الﻘدرة ﻋﻠﻰ الﻌﻣل‬
‫والبناء والكفاءة فﻲ التواصل وﻗنص الﻣصالح الﻣﻌرفيﺔ والﻣاديﺔ‬
‫والتﻘنيﺔ والﻣصالح الﻌﻣﻠيﺔ ﻣﺛل اﻻنﻌتاق واﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والتفاھم‬
‫والتفاﻋل والتكاﻣل والﻣشاركﺔ الكاﻣﻠﺔ فﻲ ﻋﻣﻠيات اتﺧاذ الﻘرار‬
‫وتﺣﻣل ﻣﺳؤوليﺔ التدﺧل البناء والفﻌال فﻲ الفضاء الﻌﻣوﻣﻲ‬
‫والتﺳﻠح بالتفاؤل واألﻣل‪.‬‬
‫ﻏير أن ﻏابﺔ ﻣن الﻣشاكل أﻋاﻗت بﻠورة ھذه الﺣداﺛﺔ البﻌديﺔ‬
‫وأدت الﻰ ظﮭور ﻣوﺟﺔ ﻣن النزاﻋات الﻌدﻣيﺔ الﻣتشائﻣﺔ والواﻗﻌيﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ الﻣﺣافظﺔ بﺳبب التناﻗض بين البنﻲ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫والصيرورة التاريﺧيﺔ والنظم الﻣﻌرفيﺔ ويظﮭر ذلك فﻲ ﻗيام‬
‫التنوير ﻋﻠﻰ اﻻﺳتﻌباد والبناء الﮭرﻣﻲ وتﺣول الﻌﻘالنيﺔ إلﻰ ﺣﺳاب‬
‫أدوات‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫لﻘد ﺣاول ھابرﻣاس تﺣويل الﻌﻘالنيﺔ الغربيﺔ إلﻰ ﺣكم ﻣﻌياري‬
‫وتصور ﻣﺟتﻣﻌﻲ ونظام ﺳياﺳﻲ ديﻣﻘراطﻲ ينطبق ﻋﻠﻰ ﺟﻣيﻊ‬
‫البشر بشتﻰ توﺟﮭاتﮭم وأنﻣاط ﺣياتﮭم ويﺳﻣح لﻠﺟﻣيﻊ باﻻﺧتيار‬
‫ﻋﻠﻰ التكافؤ والﺧبرة‪ .‬لكن ظﮭور بوادر الﮭيﻣنﺔ والتﺳﻠط‬
‫واﻻﺳتغالل واﻻﻏتراب واألداتيﺔ ﻋطﻠت األفﻌال الﻌﻘالنيﺔ‬
‫التواصﻠيﺔ وأﻋاﻗت ﻗوى التطور ﻣن اﻻندفاع نﺣو إﻣكانيات ﻏير‬
‫ﻣتوﻗﻌﺔ وأنتﺟت ﻗيم ﺛﻘافيﺔ ﻣﻌاديﺔ لﻠتغير واألنﺳنﺔ‪.‬‬
‫رأس الفتيل الذي يغذي الصراع والتصادم بين الغرب‬
‫والﺛﻘافات األﺧرى يتﻣﺛل فﻲ ھينﺔ الﻣﺳتوى اﻻﻗتصادي ﻋﻠﻰ‬
‫الﻣﺳتوى اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وﻋﻠﻰ الﻣﺳتوى الﺛﻘافﻲ وتﺣوله إلﻰ الﻌنصر‬
‫الﻣﺣدد فﻲ شكل تطور النوع البشري والﻣتﺣكم األبرز فﻲ‬
‫صيرورته التاريﺧيﺔ و ﻣصيره‪ .‬وﻣا يﻌﻘد الوضﻌيﺔ أكﺛر ﺧضوع‬
‫ﻣؤﺳﺳات الدولﺔ لﮭيﻣنﺔ رﺟال اﻻﻗتصاد واألﻋﻣال وتﻣادي ﻋالﻗات‬
‫الﻘرابﺔ ﻣن الﻌائالت الﻣاليﺔ فﻲ اﺣتكار الﻘرار الﺳياﺳﻲ والتصرف‬
‫فﻲ شؤون البشر والتنفذ فﻲ اﻹدارة وكذلك اﻻنفراد بالتﺧطيط‬
‫ورﺳم الﺳياﺳات‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ أن الفكرة التﻲ تربط اﺳتﻘرار‬
‫الديﻣﻘراطيات الغربيﺔ بتكون رأي ﻋام ﺣﻘيﻘﻲ يﻣﺛل ﻗوة ضغط‬
‫ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ ويﻣكن ﻏالبيﺔ الناس ﻣن الﻣشاركﺔ والتأﺛير والتوﺟيه‬
‫واتﺧاذ الﻘرار ھﻲ ﻣﺟرد وﺟﮭﺔ نظر ﻣتداولﺔ وفاﻗدة لﻠﻣصداﻗيﺔ‬
‫وتﺣتاج إلﻰ ﻗرائن وإﺛباتات بالنظر إلﻰ أن البنيﺔ الطبﻘيﺔ لﻠﻣﻠكيﺔ‬
‫تكرس ھيﻣنﺔ الﻘﻠﺔ ﻋﻠﻰ الرأي الﻌام وتﻘصﻲ األﻏﻠبيﺔ وتﺳﻣح‬
‫لﻠﻌناصر الﻣتﺣالفﺔ ﻣﻊ دوائر الضيﻘﺔ ﻣن الﻘوة ﻣن اﺳتﺧدام‬
‫اﻻﻗتصاد لﻣآربﮭا الشﺧصيﺔ دون ﻣراﻋاة الﻣصﻠﺣﺔ الﻣشتركﺔ‬
‫ودون التفكير فﻲ اﺳتﻣرار ﺳيادة الدولﺔ‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫" لﻘد وصل تدﺧل الدولﺔ وﻣا اﺳتتبﻌه ﻣن نﻣو الﻌﻘل األداتﻲ‬
‫إلﻰ ﺣد ﺧطير ﺣتﻰ أضﺣت اليوتوبيا الﺳﻠبيﺔ ﻣﻣكنﺔ وﻗد وصﻠت‬
‫ﻋﻘﻠنﺔ الﻘرارات التﻲ تﺧص الشأن الﻌام إلﻰ ﺣد تفويض الكﻣبيوتر‬
‫بالﻘيام بﮭذا الدور بدل التنظيﻣات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‪ ،‬األﻣر الذي أدى إلﻰ‬
‫اﺳتبﻌاد تﻠك الﻘرارات ﻣن ﻣﺟال الﻣناﻗشﺔ الﻌاﻣﺔ تﻣاﻣا"‪.1‬‬
‫ﻏنﻲ ﻋن البيان أن يكون الغرب فﻲ أزﻣﺔ ناتﺟﺔ ﻋن التﺣوﻻت‬
‫البنيويﺔ التﻲ ﻋصفت بالنظام الرأﺳﻣالﻲ ﺣﺳب ھابرﻣاس وتتﺟﻠﻰ‬
‫فﻲ اﻻﻗتصاد فﻲ ﻣﺳتوى الصراع بين الﻣالكين لوﺳائل اﻹنتاج‬
‫والﻣنتﺟين الفﻌﻠيين تظﮭر فﻲ الﻣﺟال الﺳياﺳﻲ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ فﻲ توتر‬
‫الﻌالﻗﺔ بين الدولﺔ واألفراد وبين الﺣاكﻣين والﻣﺣكوﻣين وتشتد فﻲ‬
‫الﻣﺟال الﺛﻘافﻲ الﻘيﻣﻲ فﻲ ﻻﻣﻌﻘوليﺔ الﻌﻘالنيﺔ واندﻻع صراع بين‬
‫الﺛﻘافات ﻣن أﺟل الشرﻋيﺔ‪.‬‬
‫ﻣن الﻣفروض أن يﻘوم الغرب بتنﻣيﺔ ﻋالﻗاته ﻣﻊ الﺛﻘافات‬
‫األﺧرى والدول الﻣغايرة والكف ﻋن فرض ﻗواﻋد الﺣوار وﻣنطﻘه‬
‫الﺧاص فﻲ التفاھم ﻣﻊ اآلﺧر بالﻘوة واﻹكراه وأن يﻌﻣل ﻋﻠﻰ‬
‫تﺧفيف درﺟات الكراھيﺔ وﺣدة الﻌدوانيﺔ التﻲ تشﻌر بﮭا بﻌض‬
‫الشﻌوب تﺟاھه وﺧاصﺔ تﻠك التﻲ تم اﺳتﻌﻣارھا واﺳتغالل ﺛرواتﮭا‬
‫ونﮭب ﻣدﺧراتﮭا وإھانﺔ رأﺳﻣالﮭا الرﻣزي وتدنيس ﻣﻘدﺳاتﮭا ولﮭا‬
‫ذاكرة ﻣﺛﺧنﺔ بالﺟراح‪ .‬وبالتالﻲ ﻣن الﻣفروض أن تﻘوم الﺣضارة‬
‫الغربيﺔ بنﻘدھا الذاتﻲ وأن تبﺣث ﻋن لغﺔ ﻣشتركﺔ وتﻌول ﻋﻠﻰ‬
‫ترﺟﻣﺔ وﺟﮭﺔ نظرھا اﻻيﺟابيﺔ إلﻰ لغات الﻌالم وتدﺧل فﻲ ﺳياﺳﺔ‬
‫ﺣواريﺔ ﻣﻊ الﺛﻘافات وتوطد الﺳﻠم والتﻌايش‪.‬‬

‫‪ 1‬كريب (إيان)‪ ،‬النظرية االجتماعية من بارسونز الى هابرماس‪ ،‬ترجمة محمد حسين‬
‫غلوم‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة ‪ ،‬عدد‪،244‬الكويت‪،1999 ،‬ص‪.356‬‬

‫‪256‬‬
‫ﻻ يكفﻲ أن تتﺣرر الﻌﻘالنيﺔ الغربيﺔ ﻣن فﻠﺳفﺔ الوﻋﻲ وتنفتح‬
‫ﻋﻠﻰ الﻣنﻌرج الﻠغوي وﻻ يﮭم أن تتوﻗف ﻋن طﻣوح التأﺳيس‬
‫الﻣوروث ﻋن األنطولوﺟيات التﻘﻠيديﺔ وتتبنﻰ ﺧيارات تداوليﺔ‬
‫تشاركيﺔ وتنتﮭج ﻣﺳارات إﺟرائيﺔ فﻲ الﺛﻘافﺔ والﺳياﺳﺔ والﻘانون‬
‫واﻻﺟتﻣاع والﻌالﻗات الدوليﺔ بل األھم ھو ﺣﺳن إدارة األزﻣﺔ‬
‫والوﻋﻲ بالوضﻊ الﻣرضﻲ الﻣزﻣن ونﺳق األزﻣات التﻲ يصدره‬
‫الغرب إلﻰ الﻌالم باﺳم التضاﻣن والتكافل‪.‬‬
‫إذا كانت األزﻣﺔ فﻲ ﻣظﮭرھا اﻻﻗتصادي تتأﺛر باندﻻع‬
‫صراﻋات ﺟديدة ﺣول األﺟور وتﺣﺳﻲ شروط الﻌﻣل وتؤدي إلﻰ‬
‫فﻘدان اﻹنﺳان الﺳيطرة ﻋﻠﻰ الﺣياة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وبروز توترات‬
‫نفﺳيﺔ ﻣﺛل التشويه والكبت وتنشأ نتيﺟﺔ فوضﻰ الﺳوق وﻋﺟز‬
‫الدولﺔ ﻋن التوفيق بين الﻣصالح الﻣتضاربﺔ لﻠﻣتنافﺳين وانﺟرارھا‬
‫وراء ﺳياﺳﺔ إصالﺣيﺔ ترﻗيﻌيﺔ تﻘوم ﻋﻠﻰ اﻻﻗتراض والتداين‬
‫وبالتالﻲ تﻘﻊ فﻲ شراك التضﺧم والفشل فﻲ تأديﺔ وظائفﮭا الﺣيويﺔ‬
‫فإن الﻣنﺣدر الﺧطير الذي يﮭدد الغرب ھو نﮭايﺔ الدولﺔ األﻣﺔ‬
‫وإصابتﮭا بنﻘص فﻲ الﻣشروﻋيﺔ وذلك بﺣكم فﻘدان النظام‬
‫اﻻنتﺧابﻲ التﻣﺛيﻠﻲ الﮭالﺔ وﺣدوث ﻗصور فﻲ الدافﻌيﺔ بﺳبب تناﻣﻲ‬
‫البيروﻗراطيﺔ اﻹداريﺔ وإضﻌاف ﻗدرات الفئات الشابﺔ والنﺳويﺔ‬
‫والشرائح الشﻌبين ﻣن الﻣشاركﺔ‪.‬‬
‫يﻌول ھابرﻣاس ﻋﻠﻰ نظريﺔ الفﻌل التواصﻠﻲ فﻲ اﻣتصاص‬
‫الﻌنف الالﻋﻘالنﻲ‪ ،‬الذي يﮭدد بتﻣزيق الروابط وبتوتير الﻣناخ‬
‫وبشﺣن األﺟواء بالﻣشاﻋر الﺳﻠبيﺔ‪ ،‬ويﺟﻌل ﻣن الفاﻋﻠيﺔ الﻣوﺟﮭﺔ‬
‫نﺣو التالﻗﻲ األداة الناﺟﻌﺔ لبناء أرضيﺔ ﻣشتركﺔ لﻠﺣوار الﺛﻘافﻲ‬

‫‪257‬‬
‫والتﻌاون اﻻﻗتصادي والتبادل الﻌﻠﻣﻲ والتنافس التﻘنﻲ ﻋﻠﻰ‬
‫اﻻﺧتراع‪.‬‬
‫كﻣا يﺳﻌﻰ إلﻰ تشييد ﻣﺟال التﺟربﺔ الﻣباشرة والتﻠﻘائيﺔ لﻠرﻏبﺔ‬
‫والﻣﻌرفﺔ والفﻌل ﻋﻠﻰ التكاﻣل اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وربط الﺣياة اليوﻣيﺔ‬
‫لﻠناس بالﺣوار الﻌﻘالنﻲ الﻣتبادل وتﻣتين ﺟﺳور التواصل بين‬
‫األفراد والﻣﺟﻣوﻋات والشﻌوب وفق الﺣﺟﺔ والتﻌﻘل وليس وفق‬
‫األﻋراف والﻌادات والتﻘاليد وﻋن طريق اﻹﻗناع وليس اﻹكراه‪.‬‬
‫تبدو الﻌﻣﻠيﺔ ﻣﻌﻘدة وﻣتشابكﺔ وتﮭم الﺟانب اﻹداري والﻣﻌطﻰ‬
‫الﻘانونﻲ وتطرح فﻲ إطار شبكات اﻻتصال والﻣنظوﻣﺔ الرﻗﻣيﺔ‬
‫وتﻣس أيضا الرﻣوز الﺛﻘافيﺔ والﻘناﻋات الدينيﺔ وتﮭم أشكال الرﻗابﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ لألفراد‪ .‬وإذا أردنا بناء الﺛﻘﺔ ﻋﻠﻰ الصﻌيد الكوكبﻲ وبﻠوغ‬
‫ﻋالﻗات دوليﺔ ﻣﺳتﻘرة فإنه ﻣن الضروري الشروع فﻲ تنﻘيﺔ‬
‫األﺟواء ﻋﻠﻰ صﻌيد اﻹيﻣان والﻌﻠم والﻌالﻗات الﺛﻘافيﺔ ﻗبل‬
‫الﻣﺳارﻋﺔ بوﻗف التﮭديدات الﻌﺳكريﺔ وﺣﻠﺣﻠﺔ الﻣشاكل الﺳياﺳﻲ‬
‫بفرض لغﺔ الﺳﻠم والتفاوض الديبﻠوﻣاﺳﻲ بدل لغﺔ التﮭديد والوﻋيد‬
‫الﺣربﻲ‪.‬‬
‫بال ريب إن نشر ﺛﻘافﺔ ﺣﻘوق اﻹنﺳان والﻣواطنﺔ والﻘيم التﻘدﻣيﺔ‬
‫والتربيﺔ ﻋﻠﻰ الديﻣﻘراطيﺔ وترشيد الﻣﻣارﺳات الﻠيبراليﺔ فﻲ الﺣياة‬
‫الﻌاﻣﺔ وتنظيم ورشات النﻘاش ودورات الﺣوار ھﻲ ﺧطوة فﻲ‬
‫الطريق الصﺣيح نﺣو اﺳتكﻣال الﻣشروع األنواري ﻣن أﺟل‬
‫تﺣديث الﻣﻌﻣورة وﻣﮭﻣا كانت أشكال الﻣﻌاندة والﻌرﻗﻠﺔ ﺣادة‬
‫وﻋنيفﺔ فإن الﻣنتصر الوﺣيد ﺣﺳب ھابرﻣاس ھو الﻌﻘالنيﺔ‬
‫التواصﻠيﺔ وﻣؤﺳﺳات التفاوض والتوافق‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫ﺧالصﺔ الﻘول أن الﻘيﻣﺔ الﻣضافﺔ فﻲ التواصل بين الشﻌوب ﻻ‬
‫يﻣكن اﺣتكارھا وادﺧارھا ﻣن ﺟﮭﺔ دوليﺔ واﺣدة وأن توزيﻊ‬
‫رأﺳﻣال الﺛﻘﺔ الﻣتبادلﺔ بين الشركاء فﻲ تﻌﻣير الكوكب وإزالﺔ‬
‫الﺣدود والﺣواﺟز أﻣام تنﻘل األفراد والبضائﻊ ورؤوس األﻣوال‬
‫والﻣﻌﻠوﻣات والﺧبرات ھو الﺧيار الكونﻲ والتﻣشﻲ الﺣضاري‬
‫التﻣدينﻲ الذي يﺟب أن يﺳير فيه الكل دون اﺳتﺛناء ﺣتﻰ يتم الﻘضاء‬
‫ﻋﻠﻰ اﻹرھاب واﻗتالﻋه ﻣن ﺟذوره‪" .‬بالتالﻲ يﻘتضﻲ التواصل ‪-‬‬
‫باﻋتباره شرط إﻣكان دون أن يكون ھدفا‪ -‬بﺧصوص الﻌالم وﺟود‬
‫نظام لغوي ﻋﻣوﻣﻲ يشترك فيه الناس فﻲ الواﻗﻊ الﺣﻲ‪ ..‬ويتشرب‬
‫‪1‬‬
‫التﻘاليد الﻣوروﺛﺔ والﻣواﻗف الﺟﻣاﻋيﺔ ﺣول الﻌالم"‪.‬‬
‫لﮭذا الﺳبب ﻋﻠﻰ الﺣضارة الغربيﺔ أن تراﺟﻊ الصورة النﻣطيﺔ‬
‫التﻲ كونتﮭا ﻋن نفﺳﮭا وﺳببت لﮭا األذى والشيطنﺔ وأن تغير ﻣن‬
‫نﮭج ﺳياﺳاته تﺟاه الﻌالم وأن تكف ﻋن اﺳتﻌﻣال شﻌار صدام‬
‫الﺣضارات ﻣن أﺟل تﺣﻘيق ﻣصالﺣﮭا اﻻﻗتصاديﺔ وتتﺧﻠﻰ نﮭائيا‬
‫ﻋﻠﻰ الﺣﻠم اﻻﺳتﻌﻣاري األنواري بالتﺳيد التﻘنوي لﻠوﺟود‪.‬‬
‫اآليﺔ ﻋﻠﻰ ذالك ھو" أن ﺣوار ﺣضارات ﺟديدا ﺳيتيح نزع‬
‫الصفﺔ الﺟبريﺔ ﻋﻠﻰ الﻣﺳتﻘبل والتدرب ﻋﻠﻰ تصور إﻣكانيات‬
‫أﺧرى وتﺣﻘيﻘﮭا والﻌﺛور ﻣن ﺟديد ﻋﻠﻰ توازن ﻣﻊ الطبيﻌﺔ وأھم‬
‫ﻣا فﻲ األﻣر ھو ﺧﻠق شروط تتيح لكل اﻣرئ أن يتصور ويﻌيش‬
‫‪2‬‬
‫إﻣكانيات أﺧرى وأن يشﺟﻊ تﺣديد الغايات تﺣديدا ذاتيا‪".‬‬

‫‪ 1‬فرانك مانفريد‪ ،‬حدود التواصل‪ ،‬اإلجماع والتنازع بين هابرماس وليوتار‪ ،‬ترجمة عز‬
‫العرب لحكيم بناني‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬الدارا البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪،2003 ،‬ص‪.88‬‬
‫‪ 2‬روجي غارودي ‪ ،‬حوار الحضارات‪ ،‬ترجمة عادل العوا‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بيروت ‪،‬‬
‫طبعة رابعة‪ ،1999 ،‬صص‪.162-161‬‬

‫‪259‬‬
‫لكن تبشير ھابرﻣاس بالنﻣوذج الﻠيبرالﻲ الديﻣﻘراطﻲ وتبنيه‬
‫نﮭج الﻌولﻣﺔ وﻣناداته باﺳتكﻣال إﺳتراتيﺟيﺔ الﺣداﺛﺔ بالنﺳبﺔ إلﻰ‬
‫بﻘيﺔ الشﻌوب والدول الﻣتﺧﻠفﺔ ﻋن الركب أﻻ ينم ﻋن إﻋادة إنتاج‬
‫لﻠﻣركزيﺔ الغربيﺔ والصورة النﻣطيﺔ الﺧاطئﺔ ﻋن الغير؟ لﻣاذا‬
‫أﺳاء الظن بالفﻠﺳطينيين الﻣدافﻌين ﻋن ﺣﻘوﻗﮭم الﻣشروﻋﺔ ﺣينﻣا‬
‫نﻌتﮭم باﻹرھابيين؟ ﻣاذا أنتج التواصل ﻏير اﻻﻋتراف بالﻌدو‬
‫والتطبيﻊ ﻣﻊ الواﻗﻊ والتنازل ﻋن الﺣق؟ أليس ﻣن الالئق أن يﺣترم‬
‫الغرب ﻣﻘدﺳات الشﻌوب التﻲ تﺧتﻠف ﻣﻊ ﻣنظوﻣته الﻣﻌياريﺔ‬
‫لﻠﺣياة؟‬

‫‪260‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟراﺑﻊ‬

‫كريب (إيان)‪ ،‬اﻟنظريﺔ االﺟﺗﻣاعيﺔ ﻣن ﺑارسونز اﻟﻰ‬


‫هاﺑرﻣاس‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد ﺣﺳين ﻏﻠوم‪ ،‬ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻋالم الﻣﻌرفﺔ‪،‬‬
‫ﻋدد‪،244‬الكويت‪ ( ،1999 ،‬الفصل ‪ 12‬يورﻏن ھابرﻣاس‪:‬‬
‫ﻋودة الﻰ ﺧزانﺔ ﻣﻠفات صص‪.)366 -345‬‬
‫فرانك ﻣانفريد‪ ،‬ﺣدود اﻟﺗواصل‪ ،‬اإلﺟﻣاع واﻟﺗنازع ﺑين‬
‫هاﺑرﻣاس وﻟيوﺗار‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋز الﻌرب لﺣكيم بنانﻲ‪ ،‬أفريﻘيا‬
‫الشرق‪ ،‬الدارا البيضاء‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪،2003 ،‬‬
‫رﺟاء ﻏارودي‪ ،‬ﺣوار اﻟﺣضارات‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋادل الﻌوا‪،‬‬
‫ﻣنشورات ﻋويدات‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ رابﻌﺔ‪1999 ،‬‬

‫‪261‬‬
262
‫الفصل السادس‬

‫يف املواجهة الفلسفية مع عوملة اإلرهاب‬

‫"إذا كان ﺛﻣﺔ ﻣن صدﻣﺔ ﻗد أﺣدﺛﮭا الﺣادي ﻋشر ﻣن أيﻠول‪ ...‬فإنﮭا ﻻ‬


‫تﻘوم ﻋﻠﻰ األﺛر الﺟارح الناﺟم ﻋﻣا ﺟرى فﻌﻠيا وﻋﻣا ﺟرى ﺣاليا وﻗد يتكرر‬
‫‪1‬‬
‫ﻣرة أﺧرى بل ﻣن تصور يﻘينﻲ لﺧطر أﺳوأ ﻣﻘبل"‬

‫لﻘد ضرب اﻹرھاب ﻣﺟددا فﻲ ﻋاصﻣﺔ األنوار والﺣريﺔ وﺧﻠف‬


‫الﻘتل والرﻋب والﺣيرة ﻋﻠﻰ وﺟوه الناس وارتبط باﻻلتباس‬
‫واأللغاز والغﻣوض وﺣالت ﻋدة صﻌوبات وﻋراﻗيل وتﺣفظات‬
‫دون فﮭم ھذه الظاھرة ولﻌل ھذه الﻌﻣﻠيﺔ الﻣدانﺔ ﻗد ﻋرفت ﻣن ﺟﮭﺔ‬
‫التنفيذ والضﺣايا ولكنﮭا تظل ﻣﺟﮭولﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ الﻣﺧطط‬
‫والﻣﺳتﮭدف‪ ،‬ولذلك اﺳتنﺟد الﻣتابﻌون بالصﺣافﺔ واﻹﻋالم وﻋﻠﻣاء‬
‫الﺳياﺳيﺔ واﻻﺟتﻣاع والنفس واألنﺛربولوﺟيا الﺛﻘافيﺔ واألديان‬
‫لﻠﻣﺳاﻋدة والتﻌﻣق فﻲ التﺣﻠيل والتوضيح‪ ،‬ولكن لﻠفالﺳفﺔ رأي‬
‫ﺳديد وﻣنﮭج فريد ولﻘد ﺳبق لﺟاك دريدا أن ﺣاول تشﺧيص ھذه‬
‫الﻣﻌضﻠﺔ إبان أﺣداث ‪ 11‬ﺳبتﻣبر ‪ 2001‬وﻗدم نظرة تفكيكيﺔ ﻋن‬
‫ھذا الﻣرض الﻣزﻣن وتوﻗﻊ ﻗبل ﻏيره اﻻنتشار الﻌالﻣﻲ لﮭذه‬
‫الظاھرة واﺳتفﺣالﮭا‪.‬‬

‫‪ 1‬جاك دريدا‪ ،‬منطق األقوى‪ :‬هل هناك حقا دولة مارقة‪ ،‬ضمن كتاب ذهنية االرهاب‪،‬‬
‫لماذا يقاتلون بموتهم؟‪ ،‬مجموعة من المؤلفين‪ ،‬ترجمة بسام حجار‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة أولى‪،2003 ،‬ص‪.82.‬‬

‫‪263‬‬
‫فﻲ ھذا الصدد تتوﻗف الفﻠﺳفﺔ كﺛيرا أﻣام األﺣداث الﺣاﺳﻣﺔ فﻲ‬
‫التاريﺦ التﻲ تولد الدھشﺔ والذھول وتﻣارس فن التفكير بﺣذر شديد‬
‫ولكنﮭا تﻘدم ﺟوابا يضﻊ ھذا الﺣدث الﮭائل ﻣوضﻊ ﻣﺳاءلﺔ ﺟذريﺔ‬
‫وتنﻘيب ﻣﺳتﻣر وتﻘﻠيب ﻣن ﺟﻣيﻊ ﺟوانب وﺟوده وﻻ تتﺳرع إلﻰ‬
‫تﻌويم الﻣﺳألﺔ وتﻠﺧيص األﺳباب والدوافﻊ وتﺣديد األدوات‬
‫واألﺳاليب وﻻ تنتﮭﻲ بﺳرﻋﺔ إلﻰ توﻗﻊ النتائج والتداﻋيات وﻻ‬
‫تبادر بﻌﺟالﺔ بتﻘديم وصفات ﻋالﺟيﺔ ﻣفترضﺔ‪ .‬بطبيﻌﺔ الﺣال ﻣﻊ‬
‫ﺟاك دريدا ھذا الﺣدث اﻹرھابﻲ ﻻ يوﻗظ الفﻠﺳفﺔ ﻣن ﺳباتﮭا‬
‫الدوﻏﻣائﻲ فﺣﺳب بل يدفﻌﮭا إلﻰ التفكير فﻲ نفﺳﮭا‪ ،‬كﻣا ﻻ يﻣكنﮭا‬
‫التفكير فيه بالﻣﺳﻠﻣات الﻣفﮭوﻣيﺔ الﻣنﻘوشﺔ فﻲ الﺧطاب الﻣﻌتاد‬
‫والﻣكرر وإنﻣا تنﺣت تفكير فﻠﺳفﻲ ﺟديد تﺳاءل فيه ﻣوروث‬
‫الفﻠﺳفﺔ الﺳياﺳيﺔ وﻋدم التﻌويل ﻋﻠﻰ الﺧطاب الذي يتم تداوله ﻣن‬
‫ﻗبل الﻣيديا والﺧطابﺔ الرﺳﻣيﺔ الذي يﺳتﺳﮭل تﻌريف ﻣفاھيم دﻗيﻘﺔ‬
‫وشائكﺔ ﻣﺛل الﺣرب واﻹرھاب‪.1‬‬
‫فﻲ ھذا الصدد يﻌود دريدا إلﻰ تﻣييز كارل شﻣيث بين الﺣرب‬
‫الكالﺳيكيﺔ التﻲ تتفﺟر بإﻋالن الﻣواﺟﮭﺔ بين دولتين ﻋدوتين‬
‫والﺣرب األھﻠيﺔ بين الﻣﺟﻣوﻋات داﺧل الدولﺔ الواﺣدة وضدھا فﻲ‬
‫اآلن نفﺳه‪ .‬ولكنه يﺧالفه فﻲ ﻣصطﻠح الﺣرب ﻋﻠﻰ اﻹرھاب‬
‫ويﻌتبره ﻣصطﻠﺣا ﻏاﻣضا ويﺣﻣل الكﺛير ﻣن الﻣغالطات والﻣصالح‬
‫وﻋاﺟز ﻋن تﺣديد الﻌدو الذي يﺣاربه والﺟﮭﺔ التﻲ تﻌﻠن الﺣرب‬
‫‪1‬‬
‫‪Qu’est-ce que le terrorisme ? par Jacques Derrida, février 2004,‬‬
‫‪lien :‬‬
‫‪http://www.monde-diplomatique.fr/2004/02/DERRIDA/11005‬‬

‫‪264‬‬
‫وأكﺛر ﻣن ذلك ﻻ يﻌتبر الﻌنف الﻣتفشﻲ اآلن ﺳﻠيل ظاھرة الﺣرب‬
‫فﻘط بل يتأتﻰ ﻣن ﻣصادر ﻣتنوﻋﺔ وتغذيه روافد نفﺳيﺔ واﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫وﺛﻘافيﺔ‪ .‬يتﺣدث دريدا ﻋن الﺣرب الﺟديدة التﻲ وﻗودھا الشبكات‬
‫اﻹرھابيﺔ ويتم فيﮭا اﺳتﻌﻣال أكﺛر التكنولوﺟيات الﺣربيﺔ شراﺳﺔ‬
‫وﻗﺳوة ويندلﻊ الصراع باألﺳاس ﺣول اﻣتالك الﻣﻌﻠوم والﺳيطرة‬
‫ﻋﻠﻰ الدﻋايﺔ واﻹﻋالم‪ .‬لﻘد تﺣول اﻹرھاب إلﻰ ﺧطر ﻣﺟﮭول‬
‫وﻏير ﺣكوﻣﻲ وﻣصدره الﻘادم ﻣن بﻌيد ويﮭدد الﺟﻣيﻊ دون اﺳتﺛناء‬
‫وذلك لﻘدرته الفائﻘﺔ ﻋﻠﻰ التدﻣير وإﺣداث الصدﻣﺔ وﺳيطرته‬
‫الدﻗيﻘﺔ ﻋﻠﻰ الﻣكان وﺳرﻋﺔ اﺣتﺟاز الرھان‪.‬‬
‫لم تﻌد الﻌﻣﻠيات اﻹﺟراﻣيﺔ تتم بإلﻘاء الﻘنابل واﺧتطاف‬
‫الطائرات وتفﺟير الﻣبانﻲ وطريﻘﺔ الكاﻣيكاز وإنﻣا أصبﺣت تﺟري‬
‫ﻋﻠﻰ الصﻌيد الرﻗﻣﻲ باﺧتراق الﻣنظوﻣات اﻹﻋالﻣيﺔ والﮭﺟوم‬
‫اﻻلكترونﻲ والتشويش ﻋﻠﻰ الفضائيات وإﺣداث البﻠبﻠﺔ فﻲ‬
‫الﻣصادر الﻣﻌﻠوﻣاتيﺔ والﻣاليﺔ والﻌﺳكريﺔ لدولﺔ ﻣﻌينﺔ وﻣﻣارﺳﺔ‬
‫الضغط الديبﻠوﻣاﺳﻲ والﺣصار اﻻﻗتصادي والتضييق التﺟاري‬
‫وفرض ﻣنظوﻣﺔ ﻣن الرﻗابﺔ الﻘانونيﺔ الدوليﺔ‪ .‬ھنا يظﮭر إرھاب‬
‫الدول ضد إرھاب الﻣﺟﻣوﻋات واألفراد ويرتﻘﻲ التﻌنيف الﻣﻣنﮭج‬
‫إلﻰ درﺟﺔ اﻻﺳتراتيﺟيات‪ .‬لﻘد ﻏيرت التﺛنيﺔ الصناﻋيﺔ الﻌالﻗﺔ بين‬
‫األرض واألرضيﺔ وأدﺧﻠت اضطرابا فﻲ التﻣييز بين اﻹرھاب‬
‫والﺣرب وزادت ﻣن ﻗدرة الفتك وطاﻗﺔ التدﻣير وضاﻋفت ﻣن‬
‫اﺣتياطﻲ اﻹﻣكانيات الكارﺛيﺔ لﻠفوضﻰ‪ .‬ھذه الشبكات الﺟاھﻠﺔ‬
‫بالﻌالم تكشف بين الفينﺔ واألﺧرى ﻣشاھد ﻣن الﻌنف ﻋﻠﻰ الﻣﺳرح‬
‫الﻌالﻣﻲ تصدم الﺧيال‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫تﺳاﻋدنا الفﻠﺳفﺔ ﻋﻠﻰ فﮭم ﻣا ﺣدث ﺣﺳب دريدا بالتأكيد ﻋﻠﻰ‬
‫أن الﮭﺟوم اﻹرھابﻲ أينﻣا وﻗﻊ وفﻲ أي اتﺟاه ﻣورس وﻣﮭﻣا كانت‬
‫ﻋواﻗبه وﻣﺧﻠفاته وبأي الطرق والتكتيكات تم تنفيذه ھو ﺣدث ﻣن‬
‫ﻗيﻣﺔ ﻣضافﺔ يﺣﻣل بطريﻘﺔ ﻣﺟﮭريﺔ ولغﺔ صاﻣتﺔ وبﺳرﻋﺔ ﻏير‬
‫ﻣتوﻗﻌﺔ وبشكل لصوصﻲ إلﻰ ﻏد البشريﺔ شرا ﻻ يﻣكن تﺣﻣﻠه‪.‬‬
‫أي دولﺔ فﻲ الﻌالم ﻣﮭﻣا كانت ﻋظﻣتﮭا وﻗوتﮭا الﻣاديﺔ واألﻣنيﺔ‬
‫ﻣﻌرضﺔ لﻠﺧطر اﻹرھابﻲ ويﻣكن أن تصاب ﺣياتﮭا اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫واﻻﻗتصاديﺔ والﻌﺳكريﺔ بالشﻠل والﻌطالﺔ ﻋند وﻗوع أي ھﺟوم‬
‫إﺟراﻣﻲ داﺧل أراضيﮭا‪ .‬ھل الﮭﺟﻣات اﻹرھابيﺔ ھو واﺣدة‬
‫األشكال الﻣﺧففﺔ ﻣن الﺣرب األﺧيرة فﻲ األزﻣنﺔ الغابرة ﻗد أﻋيد‬
‫إﺣيائﮭا؟‬
‫يبدي دريدا دھشته ﻣن الدﻗﺔ والناظم فﻲ التنفيذ ويشير إلﻰ تﻘنيﺔ‬
‫النانو والﻣنطق الذري وﻋالم البكتيريا والﻣﺟﮭريات ونظام الﮭائل‬
‫والﻌظيم فﻲ الفنون الذي يﺟﻌل الالوﻋﻲ يصاب بالرﻋب ويﺣس‬
‫بالﺧوف‪ ،‬وينتﮭﻲ إلﻰ الﻘول بأن اﻹرھاب تﺳﻣيﺔ ﺟديدة لﻣفﮭوم‬
‫ﺟديد يصﻌب تﻣييزه بصورة دﻗيﻘﺔ لكونه يﺧتﻠف ﻋن الﺣرب‬
‫الكالﺳيكيﺔ بين الدول وﻋن ﺣرب التﺣرير التﻲ يﺧوضﮭا الﺳكان‬
‫ضد اﻻﺣتالل وﻋن الﺣرب األھﻠيﺔ وألنه يﺟوب األرض بالطول‬
‫والﻌرض ويﻌشش فوق الﻣﺳطح بال ﻣركز وينتشر فﻲ الفضاء‪.‬‬
‫كﻣا يدﻋو دريدا إلﻰ الﺣذر ﻣن ھذه الظاھرة وﻋدم الﺧﻠط بين‬
‫الﺣرب الباردة والﺣرب الﺳاﺧنﺔ وبين الﺣرب الغاشﻣﺔ والﺣرب‬
‫الﻌادلﺔ والتﻣييز بين الرﻋب والﺧوف والﻘﻠق واﻻنتباه إلﻰ األشكال‬
‫الواﻋيﺔ والالواﻋيﺔ والظاھرة والﻣﺧفيﺔ لﻠﻌنف والﻣﺧاطر التﻲ‬
‫تﺣﻣل تﮭديدا ﻋاﺟال وآﺟال لﻣﺳتﻘبل الﺣياة البشريﺔ ﻋﻠﻰ الكوكب‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫لﻘد دﺧﻠنا إلﻰ ﻣرﺣﻠﺔ ﺳبرنيطيﻘيﺔ تتﺣكم وتوﺟه وتغذي‬
‫اﻹرھاب ﻋن طريق التﻘنيﺔ الصناﻋيﺔ وظﮭر اﻹرھاب الﻣنظم‬
‫والﻣﺳﻠح بأكﺛر الوﺳائل تطورا والﻣﺛار بﻣنﮭﺟيﺔ وفﻲ أوﻗات‬
‫ﻋصيبﺔ وﻣنتﻘاة ببراﻋﺔ‪ .‬لﻘد تﺣولت الدولﺔ نفﺳﮭا ﻣن شرط ﺳياﺳﻲ‬
‫لتنفيذ ﺳﻠطﺔ الﻘانون إلﻰ أداة تﻣتﻠك لنفﺳﮭا ﺣق الردع وتبادر‬
‫بالدفاع ﻋن نفﺳﮭا بالﻘوة الكافيﺔ التﻲ ترھب بﮭا الﻣتطاولين ﻋﻠﻰ‬
‫ھيبتﮭا والﺧارﺟين ﻋن ﻣؤﺳﺳاتﮭا ونظاﻣﮭا الﻌام‪ .‬لﻘد ﺳاﻋدت‬
‫تﺣﻠيالت ھوبز وشﻣيث وبنياﻣين ﻋﻠﻰ تﺣديد الﻌالﻗﺔ بين الﻘوة‬
‫والﻘانون وبين الدولﺔ والﻌنف ولكن ﺧصوصيﺔ تﺟربﺔ اﻹرھاب ﻻ‬
‫تﺳتند إلﻰ تﻘﻠيد ﺳابق وﻻ يﻣكن اشتﻘاﻗﮭا ﻣن الرﻋب الﺛوري طالﻣا‬
‫أننا ﻻزال يﻣارس باﺳم الدولﺔ أو ضدھا ويتضﻣن طاﻗﺔ ﻣن الﻌنف‬
‫الشرﻋﻲ أو ﻏيره ﻣن وﺟﮭﺔ نظر الﻘانون‪.‬‬
‫اﻹرھاب يﺣيل إلﻰ ﺟريﻣﺔ ضد الﺣياة اﻹنﺳانيﺔ باﺧتراق‬
‫الﻘوانين الوطنيﺔ أو الدوليﺔ وﻋدم التﻣييز بين الﻣدنﻲ والﻌﺳكري‬
‫والتﺣرك وفق ﻏائيﺔ ﺳياﺳيﺔ تﮭدف إلﻰ التأﺛير أو التغيير فﻲ‬
‫ﺳياﺳﺔ الدول وﻗناﻋات الشﻌوب‪ .‬وﻻ يﻌفﻲ ھذا التﻌريف األنظﻣﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ والدول ﻣن ﻣﺳؤوليﺔ التورط فﻲ ارتكاب ھذا الشر‬
‫وبالتالﻲ يوﺟد إرھاب دولﺔ ﻣﺛﻠﻣا يﺳطﻊ إرھاب الﻣﺟﻣوﻋات وﻻ‬
‫يﻣكن تبييضه ﻣﮭﻣا كانت الﻣﺳوﻏات‪.‬‬
‫ﻣن يشﺟﻊ اﻹرھاب؟ وﻣن يﻘف وراء انتشار الشبكات‬
‫اﻹرھابيﺔ فﻲ أنﺣاء الﻌالم؟ ھل الفكر الﻣتطرف الذي يﺳتند إلﻰ‬
‫نص ﻣغﻠق أم الدول اﻻﻣبرياليﺔ ذات الﻣصالح الﻣاديﺔ؟ وﻣن‬
‫الﻣﺳؤول ﻋن تﺧﻠيف األضرار؟‬

‫‪267‬‬
‫بﻌض الدول الكبرى والﻘوي الﻌظﻣﻲ ارتكبت ﻣﺟازر‬
‫وفضاﻋات فﻲ ﺣق الشﻌوب البريئﺔ وﺧاصﺔ فﻲ ﻣرﺣﻠﺔ اﻻﺳتﻌباد‬
‫واﻻﺳتﻌﻣار وأﺛناء الﺣروب الﻌالﻣيﺔ ولﻣا تم إلﻘاء الﻘنابل النوويﺔ‬
‫والﻌنﻘوديﺔ والصواريﺦ الباليﺳتيﺔ الﻌابرة لﻠﻘارات وﺣيث تﻣت‬
‫ﻣﻣارﺳﺔ التطﮭير الﻌرﻗﻲ والتصفيﺔ ﻋﻠﻰ الﮭويﺔ وإبادة األبرياء‪.‬‬
‫ﻏير أن ﻣصطﻠح ﺣرب نظيفﺔ ضد اﻹرھاب الدولﻲ ھو كﻠﻣﺔ‬
‫ﺣق أريد بﮭا باطل تشبه كﺛيرا ﻣصطﻠﺣات الﺣرب الﻌادلﺔ‬
‫والﺣرب الﻣﻘدﺳﺔ وﺣرب التﺧﻠيص وﻣواصﻠﺔ لﻠصراﻋات‬
‫الﺳياﺳيﺔ بﻠغﺔ ﻋﺳكريﺔ ﻗاتﻠﺔ وبالتالﻲ الترﺣيب بﻣﺛل ھذا الﻣصطﻠح‬
‫ﻻ يبارح الﻣكان الذي انطﻠﻘت ﻣنه صيﺣات التنديد واﻹدانﺔ له‪.‬‬
‫ربﻣا يندرج تنظيم ﺣوار فﻠﺳفﻲ ﻣن أﺟل التصدي لظاھرة‬
‫اﻹرھاب ﻋﻠﻰ الصﻌيد الدولﻲ ضﻣن الدفاع ﻋﻠﻰ الﻘيم الكونيﺔ‬
‫واﻹنﺳانيﺔ التﻘدﻣيﺔ باﻋتبارھا ﺧيارا إيتيﻘيا ﻻ ﻣﺣيد ﻋنه لﻠتﻌايش‬
‫الﺳﻠﻣﻲ بين الدول والشﻌوب‪ .‬لﻘد ﻣورس اﻹرھاب ﻣن طرف‬
‫الدول ضد دول وشﻌوب أﺧرى فﻲ الﺟزائر وفﻠﺳطين وايرلندا‬
‫الشﻣاليﺔ وﻻ يﻣكن نﻌت الﺛوار الﻣطالبين باﻻﺳتﻘالل فﻲ الﺟزائر‬
‫ﻣن اﻻﺳتﻌﻣار الفرنﺳﻲ بكونﮭم إرھابيين وﻻ يﻣكن ﻣﻌالﺟﺔ ﻗضايا‬
‫التﺣرر الوطنﻲ وتﻘرير الﻣصير ﻋن طريق الﻘوة الﻌﺳكريﺔ‪ ،‬وﻗتﮭا‬
‫تصبح الدولﺔ إرھابيﺔ‪.‬‬
‫ﺧالصﺔ الﻘول ﻻ يﻘبل بتاتا الﺣكم ﻋﻠﻰ النﺳق الﻣﻌياري‬
‫لﺧصوصيﺔ ﺛﻘافيﺔ ﻣﻌينﺔ ﻣن ﻣنظور ﺳﻠم ﻗيﻣﻲ كونﻲ ﺳاھﻣت كل‬
‫الﺧصوصيات الﺛﻘافيﺔ فﻲ تشكيﻠه ﻋﻠﻰ ﻣر التاريﺦ وراكﻣته‬
‫الﺣضارة اﻹنﺳانيﺔ ﻣدة ﻗرون‪ ،‬وﻻ يﻣكن اﻹﺳاءة إلﻰ الﻣﻘدﺳات‬
‫وتدنيس الرﻣوز الدينيﺔ باﺳم ﺣريﺔ التﻌبير وﺣريﺔ الضﻣير وﻻ‬

‫‪268‬‬
‫يﺟوز الذب ﻋن الﻌﻘائد والدفاع ﻋﻠﻰ الﻘناﻋات الﻌﻘديﺔ باﺳتﻌﻣال‬
‫الﻘوة الغاشﻣﺔ وارتكاب الﻌنف الﻣروع وﻻ يﺟب تﺣويل الرؤيﺔ‬
‫الﻘدﺳيﺔ لﻠﺣياة إلﻰ ﻣنظوﻣﺔ ﻣراﻗبﺔ وﻣﻌاﻗبﺔ تﻘيد ﻣن ﺣريﺔ‬
‫اﻻﺳتﻌﻣال النﻘدي لﻠﻌﻘل‪.‬‬
‫لكن كيف يﺳتطيﻊ الﻣرء التﻣييز بين ﻋﻣل إرھابﻲ ﻣرﻋب‬
‫وﻣﻘاوﻣﺔ ﻣشروﻋﺔ ضد اﻻﺣتالل واﻻﺳتﻌﻣار؟ وﻣتﻲ يﺳتوطن‬
‫الﺳﻠم فﻲ البنيﺔ الﻘانونيﺔ والﻣنظوﻣﺔ الﻘيﻣيﺔ لﻠﻌالﻗات بين الشﻌوب‬
‫والدول والﺛﻘافات؟ أليس ﻣن الﻣطﻠوب الكف ﻋن اﻻﺳتغالل‬
‫والﮭيﻣنﺔ وإنﮭاء اﻻﺣتالل واﻻﺳتيطان ﺛم نتﺣدث ﻋن الﻌيش‬
‫الﻣشترك؟ لﻣاذا يزج باﻹﺳالم ﻣن ﺟﮭﺔ اﻻﻋتﻘاد فﻲ ﻣﻌركﺔ ضد‬
‫الشﻌوب الﻣﺳﻠﻣﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ الﺛﻘافﺔ واﻻﺟتﻣاع البشري؟‬

‫‪269‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟسادس‬

‫‪Qu’est-ce‬‬ ‫‪que‬‬ ‫‪le‬‬ ‫? ‪terrorisme‬‬


‫‪par Jacques Derrida, février 2004, lien:‬‬
‫‪http://www.monde-‬‬
‫‪diplomatique.fr/2004/02/DERRIDA/11005‬‬
‫كتاب ذهنيﺔ االرهاب‪ ،‬ﻟﻣاذا يﻘاﺗلون ﺑﻣوﺗهم؟‪ ،‬ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن‬
‫الﻣؤلفين‪ ،‬ترﺟﻣﺔ بﺳام ﺣﺟار‪ ،‬الﻣركز الﺛﻘافﻲ الﻌربﻲ‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪ ،2003 ،‬ص‪.82.‬‬

‫‪270‬‬
‫الفصل السابع‬

‫ثورة الحشود واإلمرباطورية املضادة‬

‫‪1‬‬
‫"أنا أبﺣث فﻲ تﺣﻠيﻠﻲ لﻠﻣﻌاناة ﻋن ﻣفتاح لكﻲ أﻗاوم"‬

‫ﻣا ھو التﺣدي الذي رفﻌه أنطونيو نيغري باﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ‬


‫ﻣاركس؟ ضد ﻣن؟ ولﻣاذا ﺣﻣل اﻹﻣبراطوريﺔ ﻣﺳؤوليﺔ التصﺣر؟‬
‫وكيف تﻌولم اﻻﺳتغالل والتفﻘير؟ ﻣا ﺳبب الفﻘر؟ ولﻣاذا يوﺟد‬
‫فﻘراء وأﻏنياء؟ وأﻻ ﻣن ﺳياﺳﺔ ﺣيويﺔ تﻌالج آفﺔ الﻌوز الﻣادي؟‬
‫وھل يﻣكن الﻘضاء ﻋﻠﻰ الفﻘر؟ وأين تتم الﻣﻘاوﻣﺔ؟ وبﻣاذا؟ وﻣا‬
‫الطريق الﻣؤدي إلﻰ ﻗيﻣﺔ ﻣضافﺔ ﻣن الوﺟود؟ أي دور لﻠﺣشود‬
‫فﻲ بناء إﻣبراطوريﺔ ﻣضادة؟‬
‫يبدو أن أزﻣﺔ الوضﻊ اﻻﻗتصادي ﺣﺳب أنطونيو نيغري ﻗد‬
‫ﺣدﺛت فﻲ الﻣﺟال الﻌﻣﻠﻲ وﺣﻘل الﻣﻣارﺳﺔ ونتﺟت ﻋن صﻌوبﺔ‬
‫التأليف بين نظريات تدﻋﻲ الدﻗﺔ والﻣوضوﻋيﺔ وتﺟارب ترتكز‬
‫ﻋﻠﻰ التﺧﻣين واﻻفتراضات‪ .‬لﻘد اتﺟه تﺣﻠيﻠه نﺣو األشكال‬
‫اﻹنتاﺟيﺔ الﺳابﻘﺔ ﻋﻠﻰ الرأﺳﻣاليﺔ (اﻹﻗطاﻋيﺔ والﻌبوديﺔ) وﻣا تﻣﺛﻠه‬
‫ﻣن ﻋراﻗيل أﻣام التﺣديث والتطوير فﻲ ﻣﺳتوى ﻋالﻗات اﻹنتاج‪،‬‬
‫وبﻌد ذلك تناول ﻣﺳألﺔ اﻻنﺳيابيﺔ والتدفق فﻲ ﺣﻠﻘات التصنيﻊ‬
‫واﻹنتاج والتبادل والتوزيﻊ واﻻﺳتﮭالك واﻻﺳتﻌﻣال لﻠﺳﻠﻊ‬

‫‪1‬‬
‫‪Negri Antonio, Job, la force de l’esclave, p.202.‬‬

‫‪271‬‬
‫والﻣنافﻊ والﻘيم التبادليﺔ‪ .‬كﻣا بﺣث ﻋن شروط اﻹنتاج فﻲ الرأﺳﻣال‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وﻋالج ﻣﺳألﺔ ﻻإنﺳانيﺔ الوضﻊ اﻹنﺳانﻲ وتصور‬
‫وضﻌيات ﻣاديﺔ تﻌتﻣد ﻋﻠﻰ تﺛوير الﺣياة اﻻﻗتصاديﺔ اﻻشتراكيﺔ‬
‫تﻌتﻣد ﻋﻠﻰ ﻣاركس وتذھب إلﻰ ﻣا بﻌده‪ .‬لﻘد أﻋاد نيغري ﻗراءة‬
‫النظريﺔ الﻣاركﺳيﺔ بالﻣرور برؤى واﺟتﮭادات ﻣاكيفﻠﻲ وﺳبينوزا‬
‫ونيتشه ودولوز وفوكو ﺣول ﻋالﻗﺔ الﻣﻌرفﺔ بالﺳﻠطﺔ‪ .‬وفﻲ ذلك‬
‫يصرح‪ ":‬ﻣا يوفره ﻣاركس ھو ﻏذاء ﺧارق لﻠﻌادة يبﻌث فﻲ‬
‫الﺣﻣاﺳﺔ والﺳﻌادة ﻣﺛﻠﻣا يﺣدث لﻠنﺣل ﻋندﻣا يالﻣس الورود‪ ...‬وان‬
‫الطريق الذي نؤﺛره ھو الذھاب إلﻰ ﻣاوراء ﻣاركس"‪.1‬‬
‫لﻘد ﺣ ّﻣل نيغري ﻣﺳؤوليﺔ األزﻣﺔ التﻲ يﻌانﻲ ﻣنﮭا الﻌالم‬
‫الﻣﻌاصر ﻻﻣبراطوريﺔ الﻌولﻣﺔ بوصفﮭا إرادة ﻏازيﺔ تفرض نﻣطا‬
‫ﻣﻌينا ﻣن اﻹنتاج وتﻘﺳيﻣا ﻋالﻣيا لﻠﻌﻣل يﺳببان ﻣﺧاطر ﺟﻣﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫اﻗتصاديات البﻠدان الضﻌيفﺔ ﻣﺛل اﻻرتﮭان والﻣديونيﺔ واﻻﺣتكار‬
‫والتطور الﻣتكافﻰء وتدﻣير طرق اﻹنتاج التﻘﻠيديﺔ وإلزاﻣيﺔ‬
‫اﻹلﺣاق والشراكﺔ ﻣﻊ ﻣؤﺳﺳات وأﺳواق اﻻﻗتصاد الﻌالﻣﻲ‪ .‬لﻘد‬
‫ﻗام نيغري بتﺣﻠيل الﻌُﻣﻠﺔ (النﻘود) وﺣدد أزﻣﺔ الﻘيﻣﺔ التبادليﺔ وبين‬
‫كيفيﺔ تشكل الﻘيﻣﺔ الﻣضافﺔ فﻲ الرأﺳﻣال اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وكشف ﻋن‬
‫الشروط الذاتيﺔ والﻣوضوﻋيﺔ لإلنتاج وﻣا يﺧﻠفه تدفق رؤوس‬
‫األﻣوال وﻗانون التبادل ﻣن اﺳتغالل واﺣتدام الصراع بين‬
‫الطبﻘات‪ .‬والﺣق أن تداﻋيات األزﻣﺔ تكﻣن فﻲ توتر الﻌالﻗﺔ بين‬
‫الﻘدرة اﻹنتاﺟيﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ وبﺣث الدولﺔ الدائم ﻋن شرﻋنﺔ كل‬
‫أشكال اﻹنتاج الﻣتﺧﻠفﺔ ﻋن الركب والﻣوازيﺔ ورﻏبتﮭا فﻲ تكوين‬

‫‪1‬‬
‫‪Negri Antonio, Marx et au delà de Marx, p.47.‬‬

‫‪272‬‬
‫ﺳﻠطﺔ تضﻣن اﻻﺳتﻘرار الداﺧﻠﻲ وتﺣﻣﻲ الﻣﻠكيﺔ والﺛروات‬
‫وتتﻌاون ﻣﻊ اﻻﻗتصاد الﻌالﻣﻲ فﻲ الﺧارج‪.1‬‬
‫لكن ﻣاھﻲ اﺳتتباﻋات األزﻣﺔ اﻻﻗتصاديﺔ ﻋﻠﻰ الوضﻊ‬
‫اﻹنﺳانﻲ؟ وﻣاھﻲ ﻣظاھر التفﻘير الﻣﻣنﮭج الذي يتﻌرض له الناس‬
‫زﻣن اﻹﻣبراطوريﺔ؟ وأي طرق يﻌتﻣدھا لﻠﻣواﺟﮭﺔ؟‬
‫فﻲ الواﻗﻊ الفﻘر ليﺳت طبيﻌﺔ ﺛابتﺔ وﻻ ﻗدر ﻣﺣتوم بل ھو وضﻊ‬
‫اﻗتصادي ﺳﻠبﻲ يﻣر به الكائن اﻻﺟتﻣاﻋﻲ فﻲ ﻣرﺣﻠﺔ تاريﺧيﺔ‬
‫ﻣﻌينﺔ ناتج ﻋن بنيﺔ إنتاﺟيﺔ رأﺳﻣاليﺔ ويﺳببه اﺣتالل ﻣوﻗﻊ دونﻲ‬
‫فﻲ الﻌﻣﻠيﺔ اﻹنتاﺟيﺔ‪.‬‬
‫ﻏير أن الﻣؤلم أن يتﺣول الفﻘر إلﻰ صورة ﺣيﺔ ودائﻣﺔ ﻣن‬
‫الﺣياة الﻣشتركﺔ لفئات واﺳﻌﺔ ﻣن الﻣﺟتﻣﻊ وأن يصبح التفﻘير‬
‫ﺳياﺳﺔ اﻗتصاديﺔ ﻣﻘصودة تﮭدف إلﻰ ﻣراكﻣﺔ الﺛروة وتﺣﻘيق‬
‫الﻣزيد ﻣن األرباح‪ .‬فﻲ ھذا اﻹطار يﻘول نيغري‪ " :‬الفﻘير بال‬
‫ﻣوارد وﻣنبوذ وﻣﺳﺣوق وﻣﺳتغل ولكنه ﺣﻲ‪ ...‬ھذا اﻻﺳم‬
‫الﻣشترك – الفﻘير – ھو أيضا األﺳاس لكل إﻣكانيﺔ لإلنﺳانيﺔ"‪.2‬‬
‫فﻲ الواﻗﻊ الﻣﻌولم يﻣﺛل الفﻘير شﺧصا ﺧاضﻌا وﻣﺳتغال ولكنه يظل‬
‫رﻗﻣا صﻌبا فﻲ الﻣﻌادلﺔ الرأﺳﻣاليﺔ بﻣا أنه يظل ﻋﻠﻰ األﻗل شكال‬
‫لإلنتاج‪.‬‬
‫البﻌد اﻹشكالﻲ يﺛار لﻣا توﺟد ﺛروة ﻋالﻣيﺔ وفﻘر ﻣﻌولم وﻋندﻣا‬
‫تكون طبﻘﺔ الﻌﻣال ھﻲ الﺣشود التﻲ تﻣتﻠك ذاتا ﺟﻣاﻋيﺔ ﻗادرة ﻋﻠﻰ‬
‫التﻌبير ﻋن نفﺳﮭا بشكل ﻣادي وﻣﺣايث ﻣن ﺧالل اﻹنتاج وتفتح‬
‫لنفﺳﮭا أفق تﺣرر وﻗادرة ﻋﻠﻰ اﺳتﻌادة إنﺳانيتﮭا بشكل ﻣﻠﻣوس بﻣا‬

‫‪1‬‬
‫‪Negri Antonio, le pouvoir constituant, p.399.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Negri Antonio, Empire, p.202.‬‬

‫‪273‬‬
‫ألنﮭا تﻣﺛل ﺣﻠﻘﺔ ﻣن الﻌﻣﻠيﺔ اﻹنتاﺟيﺔ بينﻣا الفﻘراء ﻻ يﻣﺛﻠون ﻗوة‬
‫ﻋﻣل وﻻ ينتﻣون إلﻰ الﻌالﻗات اﻹنتاﺟيﺔ بل ھم ﻣﺳتبﻌدون‬
‫وﻣرﻣيون فﻲ الﺧارج ﺣيث الفراغ والبطالﺔ‪ .‬لكن كيف ﺳيتم‬
‫تﺣريرھم؟ وھل لﮭم الﻘدرة ﻋﻠﻰ إدﻣاج أنفﺳﮭم وھم ﻻ يﻣﻠكون‬
‫الﺛروة وﻻ يﻌﻣﻠون؟ كيف يتشكل الرأﺳﻣال اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والشكل‬
‫الﺟﻣاﻋﻲ لإلنتاج ﻏير الرأﺳﻣالﻲ؟ ﻣن الﻣﺳؤول ﻋن انتشار الفﻘر؟‬
‫ھل ﺳياﺳﺔ الدولﺔ الطبﻘيﺔ أم التﻘﺳيم الﻌالﻣﻲ لﻠﻌﻣل وﻋولﻣﺔ الفﻘر‬
‫ﻣن طرف اﻹﻣبراطوريﺔ الرأﺳﻣاليﺔ؟‬
‫إن ايديولوﺟيا الﺳوق الﻌالﻣيﺔ تﻘوم ﻋﻠﻰ اﻻﺧتراق والتفكيك‬
‫والتدﻣير ﻣن ﺟﮭﺔ وﻋﻠﻰ اﻻﺳتﻘطاب واﻹلﺣاق والتبﻌيﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ‬
‫ﺛانيﺔ ويترتب ﻋن ذلك الﻘضاء ﻋﻠﻰ ﺳيادة الدولﺔ األﻣﺔ وإضﻌاف‬
‫اﻻﻗتصاد الﻣﺣﻠﻲ فﻲ ﺳبيل ضﻣان ﺣريﺔ التﺟارة الدوليﺔ وتشﺟيﻊ‬
‫اﻻﺳتﺛﻣار وتوﺳيﻊ دوائر الﺳوق الﻌالﻣيﺔ‪ .‬لﻘد ﺳﻌت الرأﺳﻣاليﺔ ﻣنذ‬
‫ظﮭورھا إلﻰ بناء نظام ﻋالﻣﻲ لكن الﺟديد ھو ﻋولﻣﺔ ھذا النظام‬
‫الالإنﺳانﻲ بطريﻘﺔ فوﻗيﺔ وﻣﺳﻘطﺔ وتصديرھا ألزﻣاتﮭا وﺣروبﮭا‬
‫إلﻰ الﻣﺟتﻣﻌات الﻣتﻣاﺳكﺔ والدولﺔ الﻣﺣﻘﻘﺔ ﻻكتفائﮭا الذاتﻲ‬
‫وإﺣداث تغييرات ﻋنيفﺔ فﻲ نﺳيﺟﮭا الﺛﻘافﻲ واﻻﺟتﻣاﻋﻲ وتدﻣير‬
‫بُنَﻰ اﻹنتاج وﻣﺣاولﺔ إلﺣاﻗﮭا بﺣﻠﻘات اﻻﻗتصاد الﻌالﻣﻲ ودفﻌﮭا‬
‫بالﻘوة إلﻰ انتﮭاج ﺳياﺳﺔ اﻗتصاد الﺳوق والﻣﻠكيﺔ الﺧاصﺔ‬
‫وإﺟبارھا ﻋﻠﻰ فتح أﺳواﻗﮭا أﻣام ﺣريﺔ تدفق البضائﻊ والﻣبادﻻت‬
‫الﺟﻣركيﺔ‪ .‬لﻘد تﺣول الﻌالم إلﻰ كل ﻋضوي يتﺣكم فيه رأﺳﻣال‬
‫وﻣنظم بصورة اﻗتصاديﺔ وتم تكوين الﻣؤﺳﺳات الﻘانونيﺔ‬
‫والﺳياﺳيﺔ والﺛﻘافيﺔ التﻲ تضفﻲ الﻣشروﻋيﺔ ﻋﻠﻰ ھذا النﮭج‬

‫‪274‬‬
‫اﻹﻣبراطوري بل وضﻌت إدارة تنظيﻣيﺔ ﻋﻘالنيﺔ ﻋﻠﻰ ذﻣﺔ‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ الدولﻲ‪.‬‬
‫" إن ﻋولﻣﺔ اﻹنتاج الرأﺳﻣالﻲ والﺳوق ھﻲ وضﻌيﺔ ﺟديدة‬
‫بشكل ﺟوھري وﻣنﻌطف تاريﺧﻲ"‪ ، 1‬ولﻌل نتيﺟﺔ ھذه الﻌولﻣﺔ‬
‫الﻣتوﺣشﺔ ھو التفﻘير وظﮭور اﺳتﻌﻣار ﺟديد وﺳيادة نيوكﻠيانيﺔ‬
‫ﺣيث تﻣارس إﻣبراطوريات شركات ﻣتﻌددة الﺟنﺳيات اكتﺳاﺣا‬
‫لﻠﻣﻌﻣور ﻣن الكوكب وتنتﮭك اﻹنﺳان والﺣياة والبيئﺔ‪ .‬لﻘد تﻌرض‬
‫الكون ألول ﻣرة إلﻰ اﺟتياح ﻣن طرف الﺳوق وﺳيطرة ﻋﻣﻠﺔ‬
‫واﺣدة وأنظﻣﺔ اتصال ﺣديﺛﺔ وﺛورة رﻗﻣيﺔ ھوﺟاء وبﻠغت‬
‫اﻻﻣبرياليﺔ أﻗصﻰ ﻣراﺣﻠﮭا فتكا وزادت ﻣن الوضﻌيات البائﺳﺔ‬
‫التﻲ ﻣرت بﮭا البشريﺔ وﺧﻠﻘت ﺣاﺟيات اﺳتﮭالكيﺔ ﻏير ﻗابﻠﺔ‬
‫لإلشباع وبطالﺔ وفﻘر وﺳﻠﻌنﺔ لﻠﺣياة واﻏتراب‪.‬‬
‫بيد أن "الفﻘير ھو إﻣكانيﺔ كل إنتاج"‪ 2‬ويﻣﺛل ﻣشروع تﺣرر‬
‫ووﻗود الﺛورة وﻣفﺟرھا وذلك ﻻنفالته ﻣن كل رﻗابﺔ واﺳتﻘالليته‬
‫ﻋن آليات الدﻣج واﻻﺳتغالل ووﺟوده ﺧارج الﻘانون الرأﺳﻣالﻲ‬
‫واﻣتالكه لﺳﻠطﺔ نفﺳه وليس له ﻣا يﺧﺳره فﻲ ﻋﻣﻠيﺔ الﻘيام‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﺳوى أﻏالله وﺳيأتﻲ اليوم الﻌظيم الذي تﻘوم فيه ﺣشود‬
‫الفﻘراء بالﺛورة ضد التﻣييز واﻻزدراء وتطالب باﻹدﻣاج داﺧل‬
‫نظام اﻹنتاج وتغيير األوضاع‪ .‬فﻲ ذلك اليوم الﻌظيم ﺳيﺣتل‬
‫الفﻘراء وﺳط الدائرة وﻣركز الفﻌل الﺳياﺳﻲ واﻹنتاﺟﻲ وتظﮭر‬
‫ﺣياتﮭم ﻗدر كافﻲ ﻣن اﻹنتاﺟيﺔ اﻹبداﻋيﺔ‪" .‬لﻘد أتت الﻠﺣظﺔ التﻲ‬

‫‪1‬‬
‫‪Negri Antonio, Empire, p.31‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Negri Antonio, Empire, p.204‬‬

‫‪275‬‬
‫تﺳﻣح لنا أن نفﮭم إن كان اﺳتﻣرار األزﻣﺔ يﻣنﻊ ﻣن تركيز الﻣبدأ‬
‫الﺟذري لﻠوﺟود بطريﻘﺔ أكﺛر صالبﺔ"‪.1‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنظور يكون الﻣﺧرج ﻣن األزﻣﺔ ھو اﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ‬
‫فﻌل ﺳياﺳﻲ يﺳتﻣد ﻣشروﻋيته ﻣن الﺳﻠطﺔ الﻣكونﺔ ﻣن الرأﺳﻣال‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وفائض الﻘيﻣﺔ التﻲ ينتﺟﮭا التﻌارض الذاتﻲ بين‬
‫الﻣتنافﺳين ﻋﻠﻰ اﻹنتاج‪ .‬إن ﻣصير تﺣﻘيق الﻌدالﺔ والﺣريﺔ ﻣتوﻗف‬
‫ﻋﻠﻰ ﻗدرة الﺣشود ﻋﻠﻰ ترﺟﻣﺔ ﻗوتﮭم إلﻰ فﻌل وﺣركﺔ وان الطبﻘﺔ‬
‫الﺛوريﺔ ھﻲ ضرورة أنطولوﺟيﺔ ألنﮭا الﻘادرة ﻋﻠﻰ بﻌث الﺣياة فﻲ‬
‫الﻌدم وكﺳب تﺟربﺔ اﻻنﻌتاق بتكوين الﻘدرة ﻋﻠﻰ ﻣﺣبﺔ الزﻣان‬
‫وإنتاج الﺳﻌادة وﺳياﺳﺔ الﺣياة‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك يراھن نيغري‬
‫ﻋﻠﻰ ﻗيﻣﺔ الﻌﻣل باﻋتباره أھم الﻣيكانيزﻣات الﻣتاﺣﺔ لتﺣطيم‬
‫األشكال اﻹنتاﺟيﺔ التﻘﻠيديﺔ وتطوير البنﻰ التﺣتيﺔ وﺧﻠق وإبداع‬
‫بنﻰ ﺟديدة‪ .‬ويﺳتﻣد الﻌﻣل ﻗيﻣته ﻣن الﻘدرات الذاتيﺔ الﻣشتركﺔ‬
‫لﻌﻣال وﺣرصﮭم ﻋﻠﻰ تكوين شبكات ﻗوة وبؤر ﻣﻘاوﻣﺔ لﻠﮭيﻣنﺔ‬
‫والﺳيطرة ﻣن ﻗبل شركات اﻻﺣتكار والنفوذ‪ .‬وفﻲ ھذا الصدد‬
‫يدﻋو نيغري إلﻰ ﺣﺳن اﺳتﺛﻣار األلم أنطولوﺟيا والتﻌاﻣل ﻣﻌه‬
‫كتراﺟيديا إبداﻋيﺔ ويبرر ذلك بكون الﻘوة الكاﻣنﺔ فﻲ الﻌﻣال ليﺳت‬
‫فﻘط ﻣصدر تﺣرر بل تﻣﺛل وﻋيا تراﺟيديا يﺣول األلم إلﻰ فرح‬
‫ولﻌب بالوﺟود وﺳﺧريﺔ وتﮭكم ﻋﻠﻰ الﻣﺳتغﻠين وﻗدرة ﻋﻠﻰ الوﻻدة‬
‫الﻌالم وينﻣذﺟه وفق الﻣواد‬
‫َ‬ ‫والﻣبادأة‪ .‬وبالتالﻲ " يُ َك ِّون الﻌﻣل الﺣﻲ‬
‫التﻲ يﻠﻣﺳﮭا ويﻌيد إبداﻋه بطريﻘﺔ ﺟديدة‪ ...‬ويصبح ﺳﻠطﺔ ُﻣك ِّونﺔ‬
‫"‪.2‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Negri Antonio, le pouvoir constituant, p.411‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Negri Antonio, le pouvoir constituant, pp.429-428‬‬

‫‪276‬‬
‫تبﻌا لذلك ينادي نيغري بضرورة ﺗطوير اﻟﻣارﻛسيﺔ ﺑﺣيث‬
‫ﺗﺟﻌل اﻟذاﺗيﺔ هي اﻟواقﻌﺔ اﻟﻣﺗﻘدﻣﺔ في سلسلﺔ اﻟشروط اﻟﻣﺣﻔزة‬
‫علﻰ إعادة ﺑناء اﻟوضﻊ االقﺗصادي وﺗخطي اﻟواقﻊ اإلنﺗاﺟي في‬
‫ﺣرﻛﺔ ﺟدﻟيﺔ قائﻣﺔ علﻰ اﻟﺗﻌارض ﺑين اﻟوعي ﺑﺣلول اﻟﻛارثﺔ‬
‫وﺗثﻣين اﻟﻔﻘراء ﻟذواﺗهم وعزﻣهم علﻰ اﻟنﻘد اﻟﺟذري ﻟﻣأساﺗهم‬
‫والﻘيام بﺛورة ﻣن تﺣت ‪révolution d’en bas‬ورفض ھم لكل‬
‫ﻣﺣاولﺔ التفافيﺔ تنظر ﻹﻣكانيﺔ ﺛورة ﻣن فوق ‪révolutionn‬‬
‫‪ .d’en haut‬ﻣن ھذا الﻣنظور ينبغﻲ إﻋادة الذاتيﺔ إلﻰ الطبﻘﺔ‬
‫الﻌاﻣﻠﺔ بﻌد أن ھيﻣنت ﻋﻠيﮭا ﻣوضوﻋيﺔ النظريﺔ اﻻﻗتصاديﺔ وذلك‬
‫لكﻲ تتﻣكن ﻣن تنظيم ﻗواھا واﻣتالك الذكاء الضروري لإلبداع‬
‫وترﺟﻣﺔ الﺣركﺔ الواﻗﻌيﺔ فﻲ ﺣركﺔ ﺛوريﺔ‪ .‬ربﻣا الﻣدﺧل الذي‬
‫يتبﻌه نيغري ھو نﻘد تدفق الﻌُﻣﻠﺔ ﻣن أﺟل نﻘد تﻣركز الﺳﻠطﺔ ونﻘد‬
‫الﻘيﻣﺔ التبادليﺔ ﻣن أﺟل الكشف ﻋن األزﻣﺔ التﻲ يﻌانﻲ ﻣنﮭا الوضﻊ‬
‫اﻻﻗتصادي الﻣﻌاصر وتﺣولت إلﻰ كارﺛﺔ إنﺳانيﺔ فﻘرت الوﺟود‬
‫وﻗضت ﻋﻠﻰ إﻣكانيﺔ ﻗيام ﺳياﺳﺔ ﻋادلﺔ لﻠﺣياة تﻘوم بتوزيﻊ الﺣﻘوق‬
‫والﺣريات بالتﺳاوي‪ .‬ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو يراھن نيغري ﻋﻠﻰ ذاتيﺔ‬
‫الﻣنتج الﻌاﻣل بوصفه الفاﻋل األبرز والﺣﻠﻘﺔ الﻘويﺔ فﻲ الﻌﻣﻠيﺔ‬
‫اﻹنتاﺟيﺔ وﻣدار النﺟاح والفشل وﻣﻘياس التﻘدم والتأﺧر فﻲ كل‬
‫وضﻊ اﻗتصادي ويدﻋوه إلﻰ تﺣرير نفﺳه وتﺣرير الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫وتﺣويل الرأﺳﻣال اﻻﺟتﻣاﻋﻲ إلﻰ ﻗيﻣﺔ إنتاﺟيﺔ واشتراكيﺔ ﺣﻘيﻘيﺔ‬
‫وﻣاديﺔ ﺛوريﺔ ‪ . 19‬ھكذا تبدو الﻣﻘاوﻣﺔ ضروريﺔ ﻋند نيغري‬
‫لﻣواﺟﮭﺔ الﻌولﻣﺔ الﻣتوﺣشﺔ وطاﻗتﮭا التدﻣيريﺔ ﻋﻠﻰ الشﻌوب‬
‫والدول الﻣفﻘرة وذلك ليس تﺣﺳين األوضاع الﻣاديﺔ وتﺟﻣيل‬
‫‪1‬‬
‫‪Negri Antonio, Job, la force de l’esclave, p.177-175‬‬

‫‪277‬‬
‫الﻣشﮭد وإنﻣا لﺧﻠق أوضاع إنﺳانيﺔ تﺳﻣح لﻠكائن البشري بالﻣكوث‬
‫والتفتح وتﺣﻘيق أصالﺔ الذات الﺛوريﺔ فﻲ الﺣشود‪.‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق يﻘترح نيغري إﻗاﻣﺔ اﻗتصاد إنﺳانﻲ وﺳياﺳﺔ‬
‫ﺣيويﺔ ويﺛﻣن البﻌد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ويدﻋو إلﻰ رفض أشكال الرﻗابﺔ‬
‫واﻻﺳتغالل واﻻﺣتكار والﺟريﻣﺔ والتﮭريب لكونﮭا ﻣن الشروط‬
‫الﻣفضيﺔ لﻠتفﻘير واﻻزدراء والﻘﻣﻊ ويﻘترح تنظم الﺣشود ذاتيا فﻲ‬
‫شبكات ﻣﻘاوﻣﺔ ﻋﻠﻰ شكل ريزوﻣات وتكوين إﻣبراطوريﺔ ﻣضادة‬
‫تتكون ﻣن ﺟﻣﻌيات الﻣﺟتﻣﻊ الﻣدنﻲ وتشﺟﻊ ﻋﻠﻰ اﻻﻗتصاد الﻣﺣﻠﻲ‬
‫وتبنﻲ أشكال ﻣتنوﻋﺔ ﻣن اﻹنتاج والتبادل والتوزيﻊ وتدﻋو إلﻰ‬
‫الزھد فﻲ اﺳتﮭالك الﻣوارد والﻣنافﻊ وتدافﻊ ﻋﻠﻰ ﺣق اﻟﻣواطنﺔ‬
‫اﻟﻌاﻟﻣيﺔ‪ .‬لكن كيف ألفﻌال الﺣشود أن تصبح ﺛورة ﺳياﺳيﺔ‬
‫ﻣناھضﺔ لﻠﻣﻣارﺳات اﻻﻣبرياليﺔ؟‬
‫يصبح فﻌل الﺣشود ﺳياﺳيا إذا ﻣا بدأ فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ ﻣباشرة‬
‫وواﻋيﺔ لﻠﻌﻣﻠيات الﻌدوانيﺔ التﻲ تﻘوم بﮭا الﻌولﻣﺔ ﻣﺛل التﻘﺳيم‬
‫والتﻣييز والتفﻘير ويتﺣول ﺣق الﻣواطنﺔ الﻌالﻣيﺔ بوصفه الﻣطﻠب‬
‫األول الذي يضﻣن ﺣريﺔ لﻠﺟﺳم وﺣق لﻠضﻣير وراتب اﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫لكل ﻋاﻣل واﻣتالك الﻌاﻣل لذاتيته الﻣنتﺟﺔ ويﻣنح الﻣﺟتﻣﻊ بديال‬
‫تنﻣويا ﻣالئﻣا ويكﺛف ﻣن التﺟﻣيﻊ بدل التﺟزئﺔ ويزيد ﻣن التكتالت‬
‫بدل ﻣشاﻋر التفرﻗﺔ‪ .‬فﮭل يﺳتطيﻊ الﺣشود اﻗاﻣﺔ اﻻﻣبراطوريﺔ‬
‫الﻣضادة ﻋن طريق فﻌل الﻣﻘاوﻣﺔ والصﻣود واﻻنﺧراط فﻲ الﺛورة‬
‫الﺟذريﺔ الدائﻣﺔ؟‬

‫‪278‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟساﺑﻊ‬

Negri Antonio, Job, la force de l’esclave,


édition Bayard, Paris, 2002.
Negri Antonio, le pouvoir constituant, essai
sur les alternatives de la modernité, édition
PUF, Paris, 1997.
Negri Antonio, Marx, au-delà de Marx,
édition l’Harmattan, Paris, 1996.
Negri Antonio et Hardt Michael, Empire,
Exils éditeur, paris, 2000.

‫ إﻣﺑراطوريﺔ‬:‫اإلﻣﺑراطوريﺔ‬،‫ﻣايكل ھاردت وأنطونيو نيغري‬


،‫ ﻣكتبﺔ الﻌبيكان‬،‫ ترﺟﻣﺔ فاضل ﺟتكر‬، ‫اﻟﻌوﻟﻣﺔ اﻟﺟديدة‬
،2002 ،‫ الطبﻌﺔ األولﻰ‬،‫الﺳﻌوديﺔ‬

279
280
‫الفصل الثامن‬

‫التزام املثقف واالشتباك مع السلطة‬

‫استهالل‬
‫"إن ﻣﺣاولﺔ تﺣديد الﻠوم والﻣﺳؤوليﺔ فﻲ ﻣﺛل ھذه الفوضﻰ صﻌب‬
‫‪1‬‬
‫ﺟدا إن لم يكن ﻣﺳتﺣيال إﻻ لتﺳﺟيل نﻘاط ﺣواريﺔ"‬
‫ﻻ يﻣكن بأي ﺣال اﻻتفاق ﻋﻠﻰ ﻋالﻗﺔ ﺛابتﺔ وﻣﺳتﻘرة بين الﻣﺛﻘف‬
‫والﺳﻠطﺔ فﻲ نظر إدوارد ﺳﻌيد‪ .‬وذلك ﻻ يﻌود إلﻰ الطابﻊ الﻌالئﻘﻲ‬
‫الﻣتﺣول والﻣﺟﮭري لﻠﺳﻠطﺔ وﻏزوھا الﻣكﺛف والﻣداھم لﺟل‬
‫الﻣﺟالت التﻲ يتﺣرك ضﻣنﮭا اﻻنﺳان وإنﻣا يرﺟﻊ الﻰ ﻏﻣوض‬
‫الدور الذي يؤديه الﻣﺛﻘف واﻻشتباك اليوﻣﻲ الذي يﺟريه ﻣﻊ الواﻗﻊ‬
‫واألھﻣيﺔ الكبيرة التﻲ تﻣﺛﻠﮭا األفكار والﻣؤھالت التﻲ ﺣصل ﻋﻠيﮭا‬
‫وتﺟﻌﻠﮭا يﻣارس نوﻋا ﻣن الوظيفﺔ الﺣيويﺔ فﻲ الوﺟود اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫والﻣﺟال الﺳياﺳﻲ‪.‬‬
‫لﻘد اشتﮭر إدوارد ﺳﻌيد بنظريته ﻋن الﺛﻘافﺔ واﻹﻣبرياليﺔ‬
‫وفكرته ﻋن اﻻﺳتشراق والﻣفاھيم الغربيﺔ لﻠشرق وأطروﺣته‬
‫تﻘول‪" :‬إننا نﺳتطيﻊ أن نفﮭم الﺟوانب الﺟوھريﺔ لنظريﺔ الﻣﺳتشرق‬

‫‪ 1‬إدوارد سعيد‪ ،‬خيانة المثقفين‪ ،‬النصوص األخيرة‪ ،‬ترجمة أسعد الحسين‪ ،‬دار نينوى‪،‬‬
‫دمشق‪ ،2011 ،‬ص‪.84.‬‬

‫‪281‬‬
‫الﺣديث وﻋﻠﻣه‪ ،‬ﻻ باﻋتبارھا ﻣﻌرفﺔ ﻣوضوﻋيﺔ أصبﺣت ﻣتاﺣﺔ‬
‫ﻋن الشرق‪ ،‬بل باﻋتبارھا ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن األبنيﺔ الﻣوروﺛﺔ ﻣن‬
‫الﻣاضﻲ‪ ،‬بﻌد أن ﻗاﻣت بﻌد الﻣباﺣث الﻌﻠﻣيﺔ بإكﺳابﮭا صبغﺔ‬
‫‪1‬‬
‫ﻋﻠﻣانيﺔ"‪.‬‬
‫بيد أن إدوارد ﺳﻌيد ﻗد ترك التﻌريفات الكالﺳيكيﺔ لﻠﻣﺛﻘف ﺟانبا‬
‫ونظر الﻲ ھذا الﺧير ﻣن زاويﺔ ﻣوﻗﻌه ﻣن الﺳﻠطﺔ واﻻﺳتراتيﺟيﺔ‬
‫التﻲ يﻣارﺳﮭا بﮭا وﺣاول تﻣﺛل الصورة التﻲ رﺳﻣﮭا لذاته والصفﺔ‬
‫التﻲ يﻣﺛﻠﮭا واألشﺧاص الذين ينوبﮭم والشريﺣﺔ التﻲ يتكﻠم باﺳﻣﮭا‬
‫والطبﻘﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ التﻲ يﻌبر ﻋنﮭا‪ .‬وﻗام بتفريق الﻣﺛﻘف ﻋن‬
‫الﻣتﻌﻠم والﻣفكر والﻣربﻲ واألكاديﻣﻲ والﺳياﺳﻲ والﺧبير ورﺟل‬
‫الﻌﻠم والﻣﻌرفﺔ‪ .‬فﮭو ليس ذلك الشﺧص الذي ينتﻣﻲ إلﻰ طبﻘﺔ فاﻋﻠﺔ‬
‫وﻣﻣيزة بالتفكير النﻘدي والﻣتﻌالﻲ ويﺣوز ﻋﻠﻰ ﻣﮭارات ﻋﻘالنيﺔ‬
‫وﺣﻘق ﻣنﺟزات ﻗيﻣيﺔ تﺳﻣح له باﻣتالك طﻣوح ﺳياﺳﻲ والﻣشاركﺔ‬
‫فﻲ الصراع والﺣﻠم بالﻣشاركﺔ فﻲ صنﻊ الﻘرارات الﻣصيريﺔ‬
‫لﻠشﻌب وفﻲ الدفاع ﻋن األﻣﺔ وصيانﺔ ﺛوابت ھويتﮭا‪ ،‬وﻻ ھو ذلك‬
‫الﻘائد الذي يؤﺛر فﻲ الناس ويﺣرك الﺟﻣاھير ويوﺟه الرأي الﻌام‬
‫وينفذ إلﻰ ﻗاع الﻣﺟتﻣﻊ ويﺣرك الشارع ويكون بارﻋا فﻲ اﺳتﻌﻣال‬
‫ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن الرﻣوز والرؤى ألﻏراض الﮭيﻣنﺔ والنفوذ‪ .‬ﻋﻠﻰ‬
‫ﺧالف ذلك "الﻣﺛﻘف ھو الشﺧص الﻣﻠتزم والواﻋﻲ اﺟتﻣاﻋيا بﺣيث‬
‫يكون بﻣﻘدوره رؤيﺔ الﻣﺟتﻣﻊ والوﻗوف ﻋﻠﻰ ﻣشاكﻠه وﺧصائصه‬
‫وﻣالﻣﺣه وﻣا يتبﻊ ذلك ﻣن دور اﺟتﻣاﻋﻲ فاﻋل ﻣن الﻣفروض أن‬

‫‪ 1‬إدوارد سعيد ‪ ،‬االستشراق‪ ،‬المفاهيم الغربية للشرق‪ ،‬ترجمة محمد عنائي‪ ،‬دار رؤية‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة ‪. 2006 ،‬ص‪.210.‬‬

‫‪282‬‬
‫يﻘوم بتصﺣيح ﻣﺳارات ﻣﺟتﻣﻌيﺔ ﺧاطئﺔ"‪ .1‬فأي صورة لﻠﻣﺛﻘف‬
‫ﻋند إدوارد ﺳﻌيد؟ ھل ھو ھاوي أم ﻣﺣترف؟ ﻣا ھﻲ ﺧصائص‬
‫الﺳياﺳﺔ الﺛﻘافيﺔ؟ كيف تتﻣيز ﻋالﻗته بالﺳﻠطﺔ؟ ﻣاھو الدور الﻌام‬
‫لﻠﻣﺛﻘف؟ لﻣاذا يتﻌرض الﻰ التﮭﻣيش واﻻﻏتراب والﮭﺟرة؟ كيف‬
‫يصﻣد أﻣام إﻏراءات الﺳﻠطﺔ؟ وﻣاذا يﺣدث لﻠشﻌوب والﻣﺟتﻣﻌات‬
‫ﺣينﻣا يﺧون الﻣﺛﻘفون رﺳالتﮭم زﻣن الﻣﺣن واﻻنكﺳار واألزﻣﺔ؟‬
‫أليس الﻣﺛﻘف ھو الﺟانب اﻻﺧر ﻣن الﺣﻘيﻘﺔ وﻣصدر اﺳتشراف‬
‫الطاﻗﺔ التﻲ تدﺧرھا الشﻌوب وتذود بﮭا ﻋند األوﻗات الصﻌبﺔ؟‬
‫وھل الﻣﺛﻘفون فئﺔ بالغﺔ الكﺛرة أم فئﺔ ضئيﻠﺔ وﻻ تضم اﻻ ﻋدد‬
‫ﻣﺣدودا وﻣنتﻘﻰ بﻌنايﺔ شديدة؟ وھل يﻣﺛل ﺣركﺔ ﺛﻘافيﺔ تفﻌل ﺳياﺳيا‬
‫أم يﺳﮭر ﻋﻠﻰ التوﻋيﺔ لﻠﺛﻘافيﺔ لﻠشﻌب؟‬
‫ﻣا يراھن ﻋﻠيه ﺳﻌيد ھو تفادي تدﺟين الﻣﺛﻘف وإلغاء دوره فﻲ‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ ﻣن ﻗبل الﺳﻠطﺔ وتشﺟيﻌه ﻋﻠﻰ صون اﺳتﻘالليته وتﺣﻣل‬
‫ﻣﺳؤوليته ﻋند الشداد والﻘيام بدوره الﺛوري فﻲ الﺛﻘافﺔ التﻲ يﻣﺛﻠﮭا‪.‬‬

‫‪ - 1‬صورة اﻟﻣثﻘف‪:‬‬
‫"دور الﻣﺛﻘف فﻲ الﺣياة الﻌاﻣﺔ يﻌتبر الالّﻣنتﻣﻲ أو الﮭاوي الذي‬
‫‪2‬‬
‫يﻌكر صفو الﺣالﺔ الراھنﺔ"‬
‫الﻣﺛﻘف ﻋند ﺳﻌيد ليس الﻣﻣﺛل ‪ représentant‬الذي ينوب‬
‫شريﺣﺔ اﺟتﻣاﻋيﺔ ﻣﻌينﺔ فﻲ ﻣكان اتﺧاذ الﻘرار ﻋﻠﻰ ﻏرار البرلﻣان‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬خيانة المثقفين‪ ،‬النصوص األخيرة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.37-36.‬‬ ‫‪1‬‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬المثقف والسلطة‪ ،‬ترجمة محمد عناني‪ ،‬دار رؤية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ،2005‬ص‪.18.‬‬

‫‪283‬‬
‫ويكون صوت ﻣن انتﺧبه وﻣن أﻋطاه توكيال بل ھو‬
‫‪Intellectuel‬رﺟل الﺛﻘافﺔ والفكر ويﺧتص بالذھن والذكاء‬
‫والﻣنطق والتﺟربﺔ ويﻣتﻠك ﻣﮭارة الﺣوار الﻌﻘالنﻲ ويضم الوﻋﻲ‬
‫الﺳياﺳﻲ والتﺣضر إلﻰ اﻻلتزام اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والﻣﻣارﺳﺔ النﻘديﺔ‬
‫والتربيﺔ اﻻنﺳانيﺔ‪ .‬اذا كانت صورة الﻣﺛﻘف ﻣتﻌددة فﻲ الوﺟود‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وتتوزع ﻋﻠﻰ ﺟﻣيﻊ ﻣﺳتويات الﺣياة وبالﺧصوص‬
‫ﻋالﻗﺔ اﻹنﺳان بنفﺳه وبغيره وبالﻌالم الذي يﻌيش فيه فإن الﻣﺛﻘف‬
‫الﺣق ﺣﺳب إدوارد ﺳﻌيد ھو الشﺧص الذي تﻣﺳك بﻘيم ﻋﻠيا ﻣﺛل‬
‫الﻌدالﺔ وﺣﻘق اﺳتﻘالليته التاﻣﺔ ﻋن الﺳﻠطﺔ "بﻣﻌنﻰ ﻋدم اﻻرتباط‬
‫بﻘيود تﺣد ﻣن تفكيره أو توﺟه ﻣﺳار أفكاره ﻣﮭﻣا تكن تﻠك‬
‫‪1‬‬
‫األفكار"‬
‫ﻣن الﻣفروض أن يفترق الﻣﺛﻘف ﻣﻊ الﺳياﺳﻲ الﻣﺣترف وﻣﻊ‬
‫الﺧطيب البارع الذي يﺳتﻣيل الﺳاﻣﻌين ويﻣﺛل ذلك الشﺧص الذي‬
‫يﻣﺛل الفئات الشﻌبيﺔ واألﻏﻠبيﺔ الصاﻣتﺔ فﻲ ﻣﻘاوﻣﺔ اﺳتبداد الﺳﻠطﺔ‬
‫وظﻠﻣﮭا وتﻌﺳفﮭا‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك يرفض الﻣﺛﻘف أن يدافﻊ ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣصالح ضيﻘﺔ وأﻏراض ﺟزئيﺔ ﻣﺛل الربح الﺳريﻊ والﺳﻠوك‬
‫األنانﻲ وﻻ يﻘتصر ﻋﻠﻰ تﻣﺛيل ﻏيره ﻣﻣا ﻻ يﻣﺛﻠﮭم أﺣد فﻲ دوائر‬
‫الﺳﻠطﺔ ويكرس ﺣياته لﻠدفاع ﻋﻠﻰ ﻗيم إنﺳانيﺔ كﻠيﺔ ولذلك يفضل‬
‫أن يكون ھاويا وتصدر ﻋنه أفﻌاله باﻗتناع وﻋن ﺣب وليس بإكراه‬
‫أو تﺣت ضغط الﺣاﺟﺔ أو ﺧدﻣﺔ أي طرف أو طﻣﻌا فﻲ ﺟزاء‪.‬‬
‫ھكذا يﺣرص الﻣﺛﻘف ﻋﻠﻰ تنﻣيﺔ ﻗدراته الذھنيﺔ والﺟﺳﻣانيﺔ‬
‫وتﮭذيب ﻣﻠكاته النفﺳيﺔ والﻌﻘﻠيﺔ وينتصر لﻠﺣريﺔ والتفكير وينبذ‬

‫‪ 1‬إدوارد سعيد‪ ،‬المثقف والسلطة‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.11.‬‬

‫‪284‬‬
‫الﻘيود والﻌبوديﺔ والوصايﺔ ويﻌول ﻋﻠﻰ نفﺳه فﻲ الﻌنايﺔ بذاته‪.‬‬
‫إذا ألصﻘنا بالﻣﺛﻘف صفﺔ الﻣفكر الذي يﻘيم فﻲ برﺟه الﻌاﺟﻲ ونﺳﻘه‬
‫النظري الﻣﺟرد فإنه يصبح ﻣﺛيرا لﻠﺳﺧريﺔ وﻣدﻋاة لالﺳتﮭزاء‬
‫والتﮭكم أﻣا إذا ألصﻘنا به صفﺔ النضال والﻣﻘاوﻣﺔ والﺛورة‬
‫والﺣركيﺔ والنشاط واﻻنتﻣاء واﻻلتزام والﻌضويﺔ والكفاح‬
‫واﻻنﺣياز إلﻰ الفﻘراء والتﻌاطف ﻣﻊ الﻣﮭﻣشين والﻣتبنﻲ لﻠﻘضايا‬
‫الﻌادلﺔ والﻣدافﻊ الشرس ﻋﻠﻰ ﺣﻘوق اﻹنﺳان وﺣريﺔ الشﻌوب‬
‫واألﻗﻠيات الﻣضطﮭدة فﻲ تﻘرير ﻣصيرھا بنفﺳﮭا فإننا نكون ﻗد‬
‫أنصفناھا ورفﻌنا ﻋنه الضيم‪.‬‬
‫لﻘد ألصق الﻣﺛﻘف بنفﺳه صفات الوﻋظ والتبشير والتﺧصص‬
‫واﻻﺣترافيﺔ وأصبح يبﺣث ﻋن الشﮭرة والكﺳب ويﺧاﻣره الطﻣوح‬
‫الﻰ ﻣﻣارﺳﺔ الﺳﻠطﺔ والصﻌود الﻰ الﺣكم وصار ﻣوظفا لدى شركﺔ‬
‫ﻋالﻣيﺔ ووكيال تﺟاريا لﻠﻌولﻣﺔ الﻣتوﺣشﺔ ونائبا ﻋن ﺣزب وﻣواليا‬
‫لﻘناﻋات وﻣتﻌصبا لﺟﮭﺔ‪.‬‬
‫وألﺣق أن الﻣﺛﻘف ﻻ يﻘبل األوضاع ﻋﻠﻰ ﻣاھﻲ ﻋﻠيه بل يﺣتج‬
‫و يتﻣرد ويﺳﻌﻰ إلﻰ تغييرھا ولذلك يﺟد نفﺳه فﻲ ﻋزلﺔ ويﻌيش‬
‫الغربﺔ ويﻌﻣل ﻋﻠﻰ لفت أنظار الﺟﻣﮭور إليه ويكﺳب ود الناس‬
‫ودﻋﻣﮭم فﻲ صراﻋه ضد ﺧصوﻣه وﻣواﺟﮭﺔ الﺳﻠطﺔ الﻣﻘدﺳﺔ‬
‫والﻘدر الﻣﺣتوم ويﻌﻣل ﻋﻠﻰ بناء ﺣركﺔ اﺟتﻣاﻋيﺔ تﻌتﻣد ﻋﻠﻰ‬
‫تشكيل ﺛﻘافﻲ ﻣﺧتﻠف وتﺳﻌﻰ إلﻰ تﺧﻠيص اﻹنﺳان ﻣن ﻗيوده‬
‫واﻻرتﻘاء به‪ .‬الالفت لﻠنظر أن ﺳﻌيد نبه الﻰ ﻗرب انتﮭاء وظيفﺔ‬
‫الﻣﺛﻘف وتﮭشم صورته بفﻌل الﻌولﻣﺔ‪ .‬كﻣا " يﻠوح لﻲ ﺧطر اﺧتفاء‬
‫صورة الﻣﺛﻘف‪ ،‬أو اﺣتﺟاب ﻣكانته‪ ،‬فﻲ ﺧضم ھذه التفصيالت‬
‫الكﺛيرة‪ ،‬أي النظر إلﻰ الﻣﺛﻘف باﻋتباره أﺣد الﻣﮭنيين وﺣﺳب‪ ،‬أو‬

‫‪285‬‬
‫ﻣﺟرد رﻗم نﺣﺳبه فﻲ ﺣﺳاب التيارات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‪ 1".‬وآيته فﻲ‬
‫ذلك ھو أن وظيفﺔ الﻣﺛﻘف فﻲ الﺣياة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ تدﺣرﺟت إلﻰ‬
‫ﻣرتبﺔ الﺣضيض واﺧتزلت صورته الرﺳاليﺔ إلﻰ صورة ﻣﮭنﻲ‬
‫ﻣﺟﮭول الﮭويﺔ وﻣﺟرد فرد كفء‪.‬‬
‫ﺟدير بالﻣالﺣظﺔ أن األفكار األﺳاﺳيﺔ التﻲ تدور ﺣولﮭا‬
‫أطروﺣﺔ ﺳﻌيد فﻲ ﻋالﻗﺔ الﻣﺛﻘف بالﺳﻠطﺔ ھﻲ التاليﺔ‪ :‬ان وظيفﺔ‬
‫الﻣﺛﻘف فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ ﻻ يﻘوم بﮭا ﻋاﻣﺔ الناس وطبﻘﺔ الﻣﺛﻘفين ليﺳت‬
‫كﺛيرة الﻌدد وإنﻣا ھم ﻗﻠﺔ ﻣن الناس ينتﻣون الﻰ النﺧبﺔ ويؤدون‬
‫دورا طﻠيﻌيا ووظيفﺔ تنويريﺔ لﻠﺣشود‪.‬‬
‫الﻣﺛﻘف التﻘﻠيدي يشارك بطريﻘﺔ ﺳﻠبيﺔ ويﺣافظ ﻋﻠﻰ الوضﻊ‬
‫الﻘائم بينﻣا الﻣﺛﻘف الﻣنﺳق يشارك بطريﻘﺔ إيﺟابيﺔ فﻲ النشاط‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ويناضل فﻲ ﺳبيل تغيير األفكار وتنﻣيﺔ البنﻰ‬
‫والﻣؤﺳﺳات‪.‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك يتﻣيز الﻣﺛﻘف األصيل بالﺣركﺔ الدائﻣﺔ وﻏزارة‬
‫اﻹنتاج ويتﺣﻠﻰ بروح اﻻبتكار والﻣوھبﺔ الفائﻘﺔ والﺧﻠق الرفيﻊ‬
‫والﻣناداة بالﻣﻌايير الﺧالدة لﻠﻌدالﺔ والﻣﺳاواة والﻣﺣبﺔ واﻻﺧتالف‬
‫والتﻌايش‪ .‬ﻣن ﺟﮭﺔ أﺧرى توﺟد فئﺔ ﻣن الﻣﺛﻘفين تﺧون شﻌوبﮭم‬
‫ﺣينﻣا تتﺧﻠﻰ ﻋن رﺳالتﮭم ويفرطون فﻲ ﻣبادئﮭم فﻲ ﺳبيل‬
‫الﺣصول ﻋﻠﻰ بﻌض الﻣنافﻊ الﻣاديﺔ أو نتيﺟﺔ الﺧوف ﻣن الﻌﻘاب‬
‫الﺳﻠطوي‪.‬‬
‫والﺣق أن الﻣﺛﻘف األصيل ﻻ ينشد ﻣتﻌﺔ نظريﺔ فﻲ برج ﻋاﺟﻲ‬
‫وﻻ يفرط فﻲ التﺣﻠيل النظريﺔ لﻠﺣياة الﻌﻠﻣيﺔ وﻻ يغرق فﻲ‬
‫التأﻣالت الﻣيتافيزيﻘيﺔ لﻠﻌالم اآلﺧر وإنﻣا يﻣتﻠك أھدافا ﻋﻣﻠيﺔ‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬المثقف والسلطة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.43.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪286‬‬
‫وأﻗرب إلﻰ الواﻗﻊ ويشﻌر باألﻏيار ويﻌايش الوضﻌيات الصﻌبﺔ‬
‫ﻋن ﻗرب ويﻘاﺳم الﻣﮭﻣشين ﻣأﺳاتﮭم‪.‬‬
‫صورة الﻣﺛﻘف فﻲ الزﻣن ﻣا بﻌد الكﻠيانﻲ لم تبﻘﻰ ﺧالبﺔ‬
‫وناصﻌﺔ وإنﻣا ﻏطتﮭا الكﺛير ﻣن األﻗنﻌﺔ والنﻣاذج التﻲ تتﺳم‬
‫بالﻣﺣافظﺔ والروﻣانﺳيﺔ الﺣالﻣﺔ‪.‬‬
‫دور الﻣﺛﻘف الشرﻗﻲ ھو ضروري فﻲ نﻘد اﻻﺳتشراق وتﻣﺛيل‬
‫نفﺳه والبرھنﺔ ﻋﻠﻰ أن الﺛﻘافﺔ الشرﻗيﺔ ليﺳت ﻣﺟاﻻ لﻠغزو والتﺧيل‬
‫بالنﺳبﺔ لﻠغرب وإنﻣا ھﻲ ﻗد شاركت فﻲ صنﻊ الكونيﺔ وﺣﻘل‬
‫ﻣﺳتﻘل وﻏنﻲ ﻣن الرﻣوز والﺧصوصيات التﻲ يﻣكن أن تفيد‬
‫البشريﺔ‪.‬‬

‫‪ -2‬االفﺗﺗان ﺑاﻟسلطﺔ‪:‬‬
‫"ھناك ﻋدد كبير ﻣن الناس ﻻ يزالون يشﻌرون بﺣاﺟﺔ لﻠنظر‬
‫الﻰ الكاتب‪-‬الﻣﺛﻘف كشﺧص ينبغﻲ أن يصغﻲ إليه كﻣرشد‬
‫لﻠﺣاضر الﻣربك وكﻘائد زﻣرة أو ﺟﻣاﻋﺔ تنافس ﻣن أﺟل ﻗوة ونفوذ‬
‫‪1‬‬
‫أكبر"‬
‫فﻲ الﺣﻘيﻘﺔ تبدأ ﺧيانﺔ الﻣﺛﻘفين ﺣينﻣا تظﮭر ﻋﻠيه ﻋالﻣات ﺣب‬
‫الربح الﺳريﻊ والبﺣث ﻋن الﻣناصب والﺳﻠوك اﻻنتﮭازي‬
‫واﻻنتفاﻋيﺔ وذلك بتغييب اﻻلتزام والتﻌصب لﻠﻣﻌتﻘدات واألفكار‬
‫والﺳﻘوط فﻲ التبرير والشﺧصنﺔ وتغﻠيب الﻣشاﻋر الفئويﺔ الضيﻘﺔ‬
‫ﻋﻠﻰ الوﻋﻲ النﻘدي واﻻﺳتﮭتار بالﻘيم التﻘدﻣيﺔ والكونيﺔ وتدنيس‬
‫الﺣياة وبﻠوغ ﺣالﺔ اﻹفالس األﺧالﻗﻲ الكاﻣل‪ .‬لكن ﻣن ھو الﻣﺛﻘف‬
‫ﻋﻠﻰ وﺟه التﺣديد؟ ھل يﻣكن اﻋتبار كل الناس ﻣﺛﻘفين أم فئﺔ ﺧاصﺔ‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬خيانة المثقفين‪ ،‬النصوص األخيرة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.282.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪287‬‬
‫فﺣﺳب؟ وكيف يﻣكن تﻣييزھا ﻋن ﻏيرھم ﻣن الﻣتﻌﻠﻣين؟ وھل كل‬
‫ﻣتﻌﻠم ھو ﻣﺛﻘف؟‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن ﺳﻌيد يﻘﺳم الﻣﺛﻘفين إلﻰ نوﻋين‪" :‬األول‪ :‬يضم‬
‫الﻣﺛﻘفين التﻘﻠيديين ﻣﺛل الﻣﻌﻠﻣين والكﮭنﺔ واﻻداريين وھم الذين‬
‫يﺳتﻣرون فﻲ أداء ذلك الﻌﻣل نفﺳه ﺟيال بﻌد ﺟيل‪ ،‬والﺛانﻲ‪ :‬يضم‬
‫ﻣن يﺳﻣيﮭم الﻣﺛﻘفين الﻣنﺳﻘين‪ ،‬وكان ﻏراﻣشﻲ يرى أنﮭم يرتبطون‬
‫ﻣباشرة بالطبﻘات التﻲ تﺳتﺧدم الﻣﺛﻘفين فﻲ تنظيم ﻣصالﺣﮭا‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫واكتﺳاب الﻣزيد ﻣن الﺳﻠطﺔ والﻣزيد ﻣن الرﻗابﺔ‪".‬‬
‫يظﮭر الﻣﺛﻘف ﺣينﻣا وﺟد البﻌض الفرصﺔ لﻠتﻌبير ﻋن آرائﮭم‬
‫بﺣريﺔ ولﻣا اﺧتار البﻌض اآلﺧر ﻣﺟادلﺔ كبار الﺳاﺳﺔ والﻣفكرين‬
‫ورﺟال الصﺣافﺔ واﻹﻋالم وﻣﻘارﻋتﮭم بالﺣﺟﺔ‪ .‬ﻣن ﺣيث الظاھر‬
‫يزﻋم الﻣﺛﻘفون أنﮭم يﻣﺛﻠون وزنا اﻋتباريا لﺟﻣﮭورھم وﻗيﻣﺔ‬
‫ﻣضافﺔ لشﻌبﮭم فإنه ﻣن ﺣيث الباطن يﻣﺛﻠون أنفﺳﮭم ألنفﺳﮭم‬
‫ويﺳﻌون لﻠوصول لتﺣﻘيق ﻣآربﮭم وھم األﻗل نفﻌا لﻠناس واألكﺛر‬
‫ضررا لﻠﻣصﻠﺣﺔ الﻣشتركﺔ وﻻ يزنون شيئا فﻲ الﻌﻣوم‪ .‬ﻣن أﺟل‬
‫ذلك يﺳﻌﻰ الﻣﺛﻘف إلﻰ ﻣﻣارﺳﺔ الﺳﻠطﺔ وذلك بالتﺣالف ﻣﻊ‬
‫رأﺳﻣال وبالتغﻠغل داﺧل ﺟﮭاز الﺣكم واﻻنتﻣاء الﺣزبﻲ والنﻘابﻲ‬
‫وبالتﻘرب ﻣن رﺟال الدين‪ ،‬وبالتالﻲ يﻣكن التﻣييز بين الﻣﺛﻘف‬
‫الﻌﻠﻣانﻲ الذي ينتصر لﻠدولﺔ الﻣدنيﺔ والﻣﺛﻘف الداﻋﻲ الذي يﺣبذ‬
‫الدولﺔ الدينيﺔ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو تبدو رﺳالﺔ الﻣﺛﻘف كﻣا ضبطﮭا ﺳﻌيد ﻣتﻣﺣورة‬
‫ﺣول ادﻋاء اﻣتالك الﻘوة والتضﺣيﺔ بالنفس ﻋند الﻣﺣن واﻻﺳتﻌداد‬
‫لﻠﻣواﺟﮭﺔ وإتﻘان فن الﻣﺟادلﺔ وﻣنطق التفنيد ولذلك فإن الﻣﺛﻘفين‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬المثقف والسلطة‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬صص‪.34-33.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪288‬‬
‫"ﻻبد أن يكونوا أفرادا يتصفون بالكﻣال ويتﻣتﻌون بﻘوة الشﺧصيﺔ‬
‫وﻗبل ھذا كﻠه‪ ،‬ﻋﻠيﮭم أن يكونوا دائﻣا ﻣﻌارضين لﻠوضﻊ الراھن‬
‫‪1‬‬
‫فﻲ زﻣانﮭم وبصورة دائﻣﺔ"‬
‫ﻋالوة أن الصورة األصﻠيﺔ لﻠﻣﺛﻘف ھﻲ أن يكون فردا ﻗويا‬
‫ﻣﻣيزا ﻗادرا ﻋﻠﻰ أن يصح بالﺣق فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ الﺳﻠطﺔ وأن ينتﻘدھا‬
‫كﻠﻣا لزم األﻣر بالكﻠﻣﺔ الﻌﻠنيﺔ والتﺣريض ﻋﻠيﮭا‪ .‬إذا كان ﺟان بول‬
‫ﺳارتر ﻗد نظر إلﻰ الﻣﺛﻘف الﻌالﻣﻲ الذي يﺣرر الشﻌوب ويدافﻊ‬
‫ﻋن الﻌدل أينﻣا وﺟد الظﻠم واﻻﺳتغالل فإن ﻣيشيل فوكو ينظر‬
‫لﻠﻣﺛﻘف الﻣتﺧصص الذي يﻣﺛﻠه األكاديﻣﻲ الذي يﻘوم بشغﻠه داﺧل‬
‫ﻣﺧبره بإتﻘان وﻗادر ﻋﻠﻰ إفادة ﻏيره إذا ﻣا اﺣتاج إليه‪ .‬والﺣق أنه‬
‫كﻠﻣا ﻗاﻣت ﻣﻌارضﺔ أو تفﺟرت ﺛورة إﻻ وكان الﻣﺛﻘفون ﻣن يﻘف‬
‫وراء ذلك ألنﮭم األكﺛر ﻗدرة ﻋﻠﻰ إلﮭاب ﻣشاﻋر الﺟﻣاھير وتﺣفيز‬
‫الﮭﻣم وتﺣريك الﺳواكن‪" ،‬فﻠم يﺣدث أن ﻗاﻣت ﺛورة كبرى فﻲ‬
‫التاريﺦ الﺣديث دون ﻣﺛﻘفين وفﻲ ﻣﻘابل ذلك لم تنشب ﺣركﺔ‬
‫ﻣناھضﺔ كبرى لﻠﺛورة دون ﻣﺛﻘفين‪ ،‬فﻠﻘد كان الﻣﺛﻘفون آباء‬
‫الﺣركات وأﻣﮭاتﮭا "‪ . 2‬ھكذا يطرح الﻣﺛﻘف ﻋﻠﻰ بيئته التﻘﻠيديﺔ‬
‫أﺳئﻠﺔ ﻣﺣرﺟﺔ ويرفض الﺟﻣود الفكري ويفصح ﻋن ﻗناﻋاته‬
‫الغريبﺔ ويتﺧذ ﻣوﻗفا ﻣﺧتﻠفا ﻋن الرأي الﻌام ويرفض اﺳتﻘطاب‬
‫الﺳﻠطﺔ‪ .‬يبدو ﻣن الضروري ﺣينئذ التوﻗف ﻋند تﻣييز ﺳﻌيد بين‬
‫اﻻﺳتشراق الﺳافر واﻻﺳتشراق الكاﻣن واﻋتباره الﻣﺳتشرق ھو‬
‫ﻣﺛﻘف ﺳﻠطوي يﺳﻣح لﻠﺛﻘافﺔ الغربيﺔ بأن تﻣارس ھيﻣنﺔ ﻋﻠﻰ الﺛﻘافﺔ‬
‫الشرﻗيﺔ وتصدر بشأنﮭا ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن األﺣكام الﻣﺳبﻘﺔ وتشرﻋنﮭا‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬المثقف والسلطة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.38.‬‬ ‫‪1‬‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬المثقف والسلطة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.‬ص‪.42.43.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪289‬‬
‫باﺳم الﻌﻠﻣيﺔ ويشير الﻰ اﺧتطاف الﻣﺳتشرق لورنس لﻠﺛورة التﻲ‬
‫ﻗام بﮭا الﻌرب وتوﺟيﮭﮭا لﻣصالح الﻘوى الغربيﺔ اﻻﺳتﻌﻣاريﺔ‪.‬‬
‫"وﻻ تكتﺳب الﺛورة الﻌربيﺔ ﻣﻌناھا اﻻ ﺣين يتولﻰ لورنس تدبير‬
‫ﻣﻌنﻰ لﮭا…وھنا يصبح الﻣﺳتشرق الصوت الذي يﻣﺛل الشرق‬
‫وينوب ﻋنه"‪ .1‬فأي دور يضطﻠﻊ به الﻣﺛﻘف زﻣن الﺛورة؟ وكيف‬
‫يتﺣرر ﻣن النظرة اﻻﺳتشراﻗيﺔ؟‬

‫‪ -4‬اﻟﻣثﻘف ﺑين االﻟﺗزام واﻟﻣخاطرة‪:‬‬

‫"أتﺣدث ﻋن الﻣﺛﻘف أو الﻣفكر باﻋتباره شﺧصيﺔ يصﻌب التكﮭن بﻣا‬


‫ﺳوف تﻘوم به فﻲ الﺣياة الﻌاﻣﺔ ويﺳتﺣيل تﻠﺧيصﮭا فﻲ شﻌار ﻣﺣدد أو فﻲ‬
‫اتﺟاه ﺣزبﻲ ﻣﻌتﻣد أو ﻣذھب فكري ﺟاﻣد"‪.2‬‬

‫يرفض الﻣﺛﻘف اﻻنواء واﻻنﻌزال واﻻلتﺟاء الﻰ الصﻣت‬


‫والتﺟاھل ويكره اﻻرتداد الﻰ الوراء والنكوص النفﺳﻲ واﻻﺳتبﻌاد‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ويأبﻰ الﺟﻠوس ﻋﻠﻰ الربوة والتﻣتﻊ بالفرﺟﺔ كﻣا يفﻌل‬
‫البﻌض ويبادر بالتنديد والﻣﻌارضﺔ والﻣواﺟﮭﺔ ويتبنﻰ ﺧيار‬
‫اﻻﺳتﻣاتﺔ والﺛبات وﻣوﻗف الﻣﻣانﻌﺔ ﻋندﻣا يتﻌرض الﻰ التضييق‬
‫والتوﺟس ويﺳﻌﻰ الﻰ كﺳر الﺟدران الﻌازلﺔ الﻣضروبﺔ ﺣوله‬
‫وتﺧطﻲ الﺣواﺟز وإبداء الرأي والﻣﺧاطرة بﻘول الﺣق والشﮭادة‬
‫ﻋﻠﻰ الﻌصر ونصرة الﻣظﻠوﻣين والﻣنبوذين واﺛارة الﺣرج‬
‫واﺣداث اﻻرباك فﻲ النﺳق الﻌادي واﻻﺳتياء فﻲ الوﻋﻲ الﻣطﻣئن‪.‬‬

‫إدوارد سعيد ‪ ،‬االستشراق‪ ،‬المفاهيم الغربية للشرق‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.375.‬‬ ‫‪1‬‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬المثقف والسلطة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.21.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪290‬‬
‫اذا ربطنا الﻣﺛﻘف بالكاتب واﻋتبرنا ﻣﺛﻘفا كل ﻣن يﺳﻣﻲ نفﺳه‬
‫كاتبا ويﻘول انه كذلك فإننا نﺧتار لفئﺔ الكتاب طبﻘﺔ الﻣﺛﻘفين ونﺟﻌل‬
‫الﻣﺛﻘفين يشكﻠون ﺟزء ﻣن الفئات الشﻌبيﺔ ونﺳﻣح لﻠكتاب بان‬
‫يضﻌوا ﺧبراتﮭم ﻋﻠﻰ ذﻣﺔ أصﺣاب رؤوس األﻣوال وﻣديري‬
‫الشركات وندﺧل الﺛﻘافﺔ ﻋصر الﺧصﺧصﺔ‪ .‬فﻲ ﻋصر األزﻣات‬
‫والتصﺣر الﺛﻘافﻲ يتﺣول أنصاف الﻣتﻌﻠﻣين الﻰ ﻣفكرين ويتم‬
‫الﺧﻠط بين األكاديﻣﻲ والكاتب ويتﺣول ﻋدد كبير ﻣن الناس الﻰ‬
‫ﻣﺛﻘفين وﻣﺣﻠﻠين ﺳياﺳيين وتﺧتار الدولﺔ ﻣن األنتيﻠﺟنﺳيا بﻌض‬
‫الﺧبراء والﻣﺛﻘفين لتﺳويق ايديولوﺟيا والﻣشاركﺔ فﻲ الدﻋايﺔ‬
‫والبروباﻏندا لﮭا‪.‬‬
‫كﻣا ينتج ﻋن الرﻏبﺔ فﻲ الﺟاذبيﺔ الﺳاذﺟﺔ والبﺣث ﻋن‬
‫اﻻﻣتيازات الﻣغﻠوطﺔ الﺳﻘوط فﻲ التبﻌيﺔ واﻻﻏتراب والنفاق‬
‫والرﻋونﺔ وإضفاء الﻣشروﻋيﺔ وﺣﺟب الﺣﻘائق والتغطيﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫الوضﻊ البائس‪.‬‬
‫يﺟد الﻣﺛﻘف نفﺳه فﻲ وضﻌيﺔ ﻗصوى فﮭو ﻣطالب ﻣن ﺟﮭﺔ‬
‫بالﺧروج ﻋن الصف والصراع ضد ﻣصالح وتﺣوش الﺳﻠطﺔ‬
‫واﺳتﻌﻣال كل الوﺳائل الﻣنفرة والﻣشاركﺔ فﻲ الﺣوارات الﻣﻠغوﻣﺔ‬
‫ولكنه ﻣﮭدد بالفشل وﻣﻌرض الﻰ اﻻﺣتواء والدﻣج واﻹﺳكات‬
‫واﻹﺧﻣاد واﻻنﻘراض والطاﻋﺔ الﮭادئﺔ‪.‬‬
‫ﻻ تﻘتصر ﻣﮭﻣﺔ الﻣﺛﻘف بإﻋادة تﺟﻣيﻊ ﻣكتﺳبات الﻣاضﻲ وإنتاج‬
‫األنﺳاق الﻣﺟردة بشكل فردي واﺧتراع التصورات والبدائل وإنﻣا‬
‫بالتدﺧل الفﻌّال فﻲ الﺣركﺔ الﻣناوئﺔ لﻠﺳائد والﻣشاركﺔ الفﻌﻠيﺔ فﻲ‬
‫تﺣﺳين األوضاع وﻣﻌارضﺔ الﻣألوف وتأﺟيج النزاﻋات الﻣربﺣﺔ‬
‫بالنﺳبﺔ لﻠفئات الﻣﺳﺣوﻗﺔ‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن" الﻣواﻗف الرﻣزيﺔ التﻲ يﻘفﮭا الﻣﺛﻘف أو الﻣفكر‬
‫بﻣﻌنﻰ ﻗدرته ﻋﻠﻰ التﻌبير لﻠﻣﺟتﻣﻊ ﻋن ﻗضيﺔ ﻣا أو فكرة ﻣا‪ ،‬ﻻ‬
‫ترﻣﻲ فﻲ الﻣﻘام األول الﻰ تدﻋيم ذاته أو اﻻﺣتفاء بﻣكانته‪ ،‬وﻻ‬
‫ھﻲ ﻣﻘصود بﮭا أﺳاﺳا ﺧدﻣﺔ األﺟﮭزة البيروﻗراطيﺔ الﻘويﺔ لدى‬
‫أصﺣاب الﻌﻣل األﺳﺧياء‪ ،‬بل ان ھذه الﻣواﻗف الفكريﺔ تﻌبر فﻲ‬
‫ذاتﮭا نشاطا ﻣﺳتﻘال‪ ،‬يﻌتﻣد ﻋﻠﻰ نوع ﻣن الوﻋﻲ الذي يتشكك فيﻣا‬
‫ﺣوله‪ ،‬ويتﻣيز باﻻلتزام‪ ،‬ويكرس ﻋﻣﻠه دائﻣا لﻠبﺣث الﻌﻘالنﻲ‬
‫واألﺣكام الﺧﻠﻘيﺔ‪ ،‬وﻣن شأن ھذا أن يﻠفت النظر اليه ويﻌرضه الﻰ‬
‫الﺧطر ﻣﻌا‪ 1".‬لكن ھل يﻘف الﻣﺛﻘف ﻣكتوف األيدي أﻣام الﻣﺣن‬
‫التﻲ يبتﻠﻰ بﮭا؟ وﻣا الﻌﻣل اذا ﻣا تﺣول الﻣﺛﻘف الﻰ أﺟير أو ﻣوظف‬
‫فﻲ اﺣدى الشركات أو األﺟﮭزة الﺳﻠطويﺔ؟ بﻣاذا يتغﻠب ﻋﻠﻰ‬
‫وضﻌيﺔ التﮭﻣيش والشﻌور بالﻌﺟز واﻻﺣﺳاس بالضياع والغربﺔ‬
‫فﻲ ﻣﺟتﻣﻌه؟‬

‫‪ -5‬ﻣﻘاوﻣﺔ اﻟﻣثﻘف‪:‬‬
‫" يﺟب دائﻣا ﻋﻠﻰ الﻣرء أن يبدأ ﻣﻘاوﻣته ﻣن وطنه ضد الﺳﻠطﺔ‬
‫‪2‬‬
‫كﻣواطن يﻣكنه التأﺛير"‬

‫دور الﻣﺛﻘف ھو اﻻﺧالص لﻠﻣبادىء والتﻣﺳك بالﻣنﮭج والوفاء‬


‫لﻠﺣﻘيﻘﺔ وضبط ﻣﻌايير الصدق والكذب والتصدي لواﻗﻊ الشﻘاء‬
‫والظﻠم وﻣﻘاوﻣﺔ ﻣظاھر الﻌنف وﻗوى الالّتﺳاﻣح والتﻌصب‪.‬‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬المثقف والسلطة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.55.‬‬ ‫‪1‬‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬خيانة المثقفين‪ ،‬النصوص األخيرة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.89.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪292‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق ليس ﻣﮭﻣﺔ الﻣﺛﻘف تشكيل الرأي الﻌام وﻗيادة‬
‫الﺟﻣاھير بل اﻻنشﻘاق ﻋﻠﻰ الﺳﻠطﺔ والتﺣريض ﻋﻠﻰ الفﻌل‬
‫الﺳياﺳﻲ والنﻘد الﻌﻠﻣﻲ وفضح كل أشكال اﻻﻏتراب وتﻌريﺔ كل‬
‫ﻣظاھر اﻻﺳتغالل وﻣﺳاﻋدة الناس ﻋﻠﻰ ايﺟاد الطرق الكفيﻠﺔ‬
‫باﻻنﻌتاق والوﺳائل الالزﻣﺔ لﻠتﺣرر والنﻣاء‪.‬‬
‫صﺣيح أن ظروف وﺟود الﻣﺛﻘف صﻌبﺔ وأوضاع ﻋﻣﻠه‬
‫ﻣضطربﺔ ولكنه ﻻ يتصرف بطريﻘﺔ ﻋشوائيﺔ وﻻ يتبنﻰ الفوضويﺔ‬
‫كنﻣط لﻠوﺟود فﻲ الﻌالم وإنﻣا يﺣﻣل ﻣشروﻋا ﻣضادا لﻠﺳائد ويﻘوم‬
‫بتنظيم ﻋﻣﻠه بطريﻘﺔ ﻋﻘالنيﺔ وﻣﻣنﮭﺟﺔ ويضﻊ نصب ﻋينه تفكيك‬
‫الﺳﻠطﺔ الﻣﺳتبدة كﮭدف أولﻲ‪.‬‬
‫ﻏايﺔ الﻣراد أن إدوارد ﺳﻌيد يدﻋو الﻰ ﺧيانﺔ الﺧيانﺔ التﻲ‬
‫يﻘترفﮭا الﻣﺛﻘفون تﺟاه ﻗضايا أﻣتﮭم وذلك بﻌدم اﻻكتفاء بوصف‬
‫تضاريس الﺳاﺣﺔ الﺳياﺳيﺔ والﻘول بوﻋورة الﻣشﮭد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫وصﻌوبﺔ الﺧروج ﻣن األزﻣﺔ والتأھب لالندﻣاج ﻣﻊ الﻘوى‬
‫الﻣنتفضﺔ واﻻشتراك الفﻌال فﻲ الﻣﻌركﺔ واتﺧاذ ﻣوﻗف صائب‬
‫تﺟاه األﺣداث والتﺣﻠﻲ بالشﺟاﻋﺔ الكافيﺔ والصبر الضروري‬
‫ﻹتﻣام ابالغ الرﺳالﺔ‪.‬‬
‫"بالنﺳبﺔ لنا‪ ،‬اﻋتبارنا األﺧالﻗﻲ األول اآلن ھو بذل كل طاﻗتنا‬
‫لنؤكد أننا ﻣﺳتﻣرون رﻏم الﻣﻌاناة الﮭائﻠﺔ والدﻣار الذي فرضته‬
‫الﺣرب اﻻﺟراﻣيﺔ ﻋﻠينا"‪ .1‬بناء ﻋﻠﻰ ذلك ﻻ يﻘتصر الﻣﺛﻘف ﻋﻠﻰ‬
‫التفﮭم الصﺣيح الواﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ الﻣﻌﻘد ورؤيﺔ األﻣور كﻣا تتبدل‬
‫ﻣن طور الﻰ آﺧر والكشف ﻋن الﻘوانين التﻲ تﺣرك التاريﺦ وانﻣا‬
‫ﻣﻘاوﻣﺔ الﺳﻠطﺔ التﻲ تتﺣكم فﻲ ﻣﺟرى األﺣداث وتﻣنﻊ التﻘدم‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬خيانة المثقفين‪ ،‬النصوص األخيرة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.314.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪293‬‬
‫والﺳﻣاح ألﺳﻠوب ﻏير تﻘﻠيدي لﻠﺣياة بأن يولد والزھد فﻲ تﺣﻘيق‬
‫األھداف الشﺧصيﺔ والﺣرص ﻋﻠﻰ انﺟاح اﻻنﻌتاق الﺟﻣاﻋﻲ ﻣن‬
‫الﻣﻌاناة ولذلك يرفض الﻣوافﻘﺔ واﻻﺳتﻘرار ويﻌشق الترﺣال‬
‫واﻻﻗاﻣﺔ فﻲ التﺧوم والﮭواﻣش ويﺧﻠﺧل الﻣركز ويفكر ﺧارج‬
‫النﺳق ويتﺧطﻰ الﺣدود ويﺣاول ادﺧال اﻻضطراب والزﻋزﻋﺔ‬
‫فﻲ األنظﻣﺔ الﻣﻌرفيﺔ الﺛابتﺔ واألطر اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الناﻋﻣﺔ‪.‬‬
‫ھكذا كانت الرﺳالﺔ الﻌﻠﻣيﺔ التﻲ يﺟب أن يبﻠغﮭا الﻣﺛﻘف األصيل‬
‫ﻋند إدوارد ﺳﻌيد ھو أن يبين لﻠﻌالم الغربﻲ ﺧاصﺔ والبشريﺔ‬
‫ﺟﻣﻌاء أن " الشرق ليس أﻋﺟوبﺔ وﺣﺳب‪ ،‬أو ﻋدوا‪ ،‬أو فرﻋا ﻣن‬
‫فروع الغرائب‪ ،‬بل انه واﻗﻊ فﻌﻠﻲ ﺳياﺳﻲ يتﻣيز بﺛﻘل وزنه‬
‫وأھﻣيته الكبرى"‪.1‬‬
‫ﻋندئذ يدﻋو ﺳﻌيد الﻰ الكف ﻋن تصور الﻌرب بأنﮭم ﻗوﻣيﺔ ﻻ‬
‫تﺟيد التفكير وﻣﻌاديﺔ لﻠﻌﻘالنيﺔ وتﻣﺛل اآلﺧر الﮭﻣﺟﻲ وﻣوضوع‬
‫اشباع الرﻏبﺔ الﻣتﺧيﻠﺔ وتبديل النظرة الﻰ اﻻﺳالم فﮭو ليس دينا‬
‫ﻻإنﺳانيا وﻋنيفا وﺛﻘافته ليﺳت ﻋاﺟزة ﻋن التﺟدد و بل يﺳتطيﻊ‬
‫تطوير نفﺳه بنفﺳه‪ .2‬كﻣا ينادي بتغيير ﺳياﺳﺔ الﻌالﻗات الﺛﻘافيﺔ‬
‫بين الشرق والغرب وإﺣداث نﻘﻠﺔ نوﻋيﺔ ﻣن الﮭيﻣنﺔ واﻹلﺣاق‬
‫واﻻﺣتواء الﻰ اﻻﻋتراف الﻣتبادل واﻻﺣترام وإرﺳاء تﻘاليد ﺟديدة‬
‫ﻣن الﺣوار الﻌﻘالنﻲ والتﺛاﻗف التوليدي وتبادل الﺧبرات الﻌﻠﻣيﺔ‬
‫وإﺟراء الدراﺳات الﻣيدانيﺔ وتبنﻲ النظرة الﻣوضوﻋيﺔ بﺣق‪ .‬لكن‬
‫كيف يﺳﮭم ﻣﺟﮭود الﻣﺛﻘف فﻲ تنظيم الﻌﻣل الﺳياﺳﻲ بطريﻘﺔ‬

‫إدوارد سعيد ‪ ،‬االستشراق‪ ،‬المفاهيم الغربية للشرق‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.383.‬‬ ‫‪1‬‬

‫إدوارد سعيد ‪ ،‬االستشراق‪ ،‬المفاهيم الغربية للشرق‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.454.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪294‬‬
‫ﻋﻘالنيﺔ؟ وأليس الكل ﻣﺳؤول ﻋن تﺣرير الﻌﻘول والتﺳﻠح باألﻣل؟‬
‫ﻣن أين يﺳتﻣد الﻣﺛﻘف التفاؤل والﻘدرة ﻋﻠﻰ التﻘدم الﻰ األﻣام؟‬

‫خاتمة‬
‫"إن دور الﻣﺛﻘف ﻋﻣوﻣا ﺟدلﻲ وﻣتناﻗض وھو أن يكشفوا‬
‫ويوضﺣوا الصراع‪...‬وان يﻘﮭروا الصﻣت الﻣفروض بالﻘوة‬
‫‪1‬‬
‫والﮭدوء الﻣطيﻊ لﻠﺳﻠطﺔ الﺧفيﺔ أينﻣا كانت وكﻠﻣا كان ذلك ﻣﻣكنا"‬
‫يﻌتﻘد إدوارد ﺳﻌيد أن الﺛﻘافﺔ والﺳياﺳﺔ بالﻣﻌنﻰ الﻌام ھﻣا نفس‬
‫الشﻲء وﻋﻠﻰ اتصال كبير ويتبدﻻن الﺧدﻣات‪ ،‬اذ يﻣكن النظر الﻰ‬
‫الﺳياﺳﺔ كﺛﻘافﺔ والتﻌاﻣل ﻣﻊ الﺛﻘافﺔ كﺳياﺳﺔ‪ ،‬فاألﻋﻣال الﺳياﺳيﺔ‬
‫ھﻲ أﻋﻣال فنيﺔ ﻋظيﻣﺔ وتؤدي وظيفﺔ ﺟﻣاليﺔ لﻠشﻌب‪ ،‬واألﻋﻣال‬
‫الﺛﻘافيﺔ ھﻲ أفﻌال ﺳياﺳيﺔ وتؤدي وظيفﺔ تربويﺔ وﻣﮭﻣﺔ نضاليﺔ‬
‫فﻲ تدبير الشأن الﻌام وتنظيم الﻌالﻗات بين األفراد‪ .‬ولكنه بﻌد ذلك‬
‫يﻣيز بينﮭا بالﻣﻌنﻰ الﺧاص ويﻌتبر الﺛﻘافﺔ شكل فﻲ الﺣياة يغﻠب‬
‫ﻋﻠيﮭا الطابﻊ األرﺳتﻘراطﻲ والبرﺟوازي يﻣكن أن تفﺳده الﺳﻠطﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ وينظر الﻰ الﺳياﺳﺔ ﻋﻠﻰ أنﮭا ظروف وأﺣداث وتوافﻘات‬
‫تﻣيل ﻣﻌظﻣﮭا الﻰ الواﻗﻌيﺔ واليﺳار اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وتكرس شﺟاﻋﺔ‬
‫الﻘول وتفاؤل اﻻرادة‪.‬‬
‫رأس األﻣر أن الﻣﺛﻘف األصيل ھو الشاھد ﻋﻠﻰ الﻌصر الذي‬
‫يﺳتﺧدم أﺳﻠوبا ﺳﮭال ولغﺔ واضﺣﺔ ويﺳتند ﻋﻠﻰ ﻣﻌﻠوﻣات دﻗيﻘﺔ‬
‫وأرﻗام صﺣيﺣﺔ وﻗرائن ﺛابتﺔ وذلك بﻌد تﺣرره ﻣن األوھام وتبﺣره‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬خيانة المثقفين‪ ،‬النصوص األخيرة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.297.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪295‬‬
‫فﻲ الﻌﻠم وتوﺟﮭه نح ايﻘاظ الوﻋﻲ الديﻣﻘراطﻲ ﻋند الﻣواطنين‬
‫وتﺣﺳيﺳﮭم بأھﻣيﺔ الﻣشاركﺔ فﻲ ادارة شؤون ﻣدينتﮭم والتدﺧل فﻲ‬
‫الفضاء الﻌام والتنديد بالﮭوة الﺳﺣيﻘﺔ التﻲ تفصل بين الناس‪.‬‬
‫ﻏايﺔ الﻣراد أن إدوارد ﺳﻌيد يﺳند الﻰ الﻣﺛﻘف ﻣﮭام التطوير‬
‫والتدﺧل الﺛﻘافﻲ فﻲ األوضاع اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والﺳياﺳيﺔ ويوكل اليه‬
‫ﺛالﺛﺔ ﻣﮭام أﺳاﺳيﺔ ھﻲ‪:‬‬
‫‪ -‬ﻣﻘاوﻣﺔ اﺧتفاء الﻣاضﻲ بإﻋادة صياﻏﺔ التﻘاليد وبناء التاريﺦ‬
‫بشكل ﻣﮭذب وتوظيفه فﻲ الصراع‪ .‬وبالتالﻲ اﻻﻗرار بأن " دور‬
‫الﻣﺛﻘف أوﻻ ھو أن يﻘدم ﺳرودا ﻣﺧتﻠفﺔ وﻣناظير أﺧرى لﻠتاريﺦ‬
‫ﻏير تﻠك التﻲ يوفرھا الﻣولﻌون بالﻘتال لصالح الذاكرة الرﺳﻣيﺔ‬
‫"‪.1‬‬
‫‪ -‬تشييد ﻣيادين لﻠتﻌايش والتﻌاون بدﻻ ﻣن ﻣيادين اﻻﺣتدام‬
‫والتنابذ كﺣصيﻠﺔ لﻠﺟﮭد الفكري‪.‬‬
‫‪ -‬التأكيد ﻋﻠﻰ ﻗيﻣﺔ الﻣﺳاواة لتﺣﻘيق الﺳالم والتكافؤ بين األفراد‬
‫فﻲ الﺣﻘوق وإﻋادة توزيﻊ الﺛروات وﻣﻘاوﻣﺔ التراكم الﮭائل لﻠﺳﻠطﺔ‬
‫‪2‬‬
‫ورأس الﻣال‪.‬‬
‫ھكذا تكﻣن الوظيفﺔ الﻌﻣوﻣيﺔ لﻠﻣﺛﻘف فﻲ اﻻﻗاﻣﺔ فﻲ الﺣﻘل‬
‫الﺳياﺳﻲ واﻻﺟتﻣاﻋﻲ الﻣﺣفوف بالﻣﺧاطر وبذل الﺟﮭد ﻣن أﺟل‬
‫فﮭم ﻣا تﻌذر فﮭﻣه والتﺟرؤ ﻋﻠﻰ الﺧروج لﻠﻣﺣاولﺔ ﺛانيا‪ .‬كﻣا أن‬
‫اﻻلتزام الﺳياﺳﻲ ﻣن ﻗبل الﻣﺛﻘف يﺟﻌﻠه صادﻗا ﻣﻊ نفﺳه ﻣﺧﻠصا‬
‫ألفكاره وﻣنتﻣيا الﻰ ﻋصره‪.‬‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬خيانة المثقفين‪ ،‬النصوص األخيرة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.305.‬‬ ‫‪1‬‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬خيانة المثقفين‪ ،‬النصوص األخيرة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.305.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪296‬‬
‫ربﻣا يكون أفضل درس يﻘدﻣه الﻣﺛﻘف لإلنﺳانيﺔ ﺟﻣﻌاء ھو‬
‫التذكير بﻣا تم تﺟاھﻠه وتناﺳيه وﻣشاھدة صورة أوﺳﻊ نطاق ﻣﻣا‬
‫ترﺳﻣه الﺳﻠطﺔ واﻹشارة الﻰ طرائق ﻋﻣل بديﻠﺔ وفتح الﻣغاليق‬
‫وفتح اآلفاق وإبصار األﺣداث "ﻻ فﻲ وضﻌﮭا الراھن بل ﻣن ﺣيث‬
‫تﺣولﮭا الﻰ ﻣا تؤول إليه"‪ .1‬لكن ھل تﻣﻠك ﺣضارة إﻗرأ الﻣﺛﻘفين‬
‫الﻘادرين ﻋﻠﻰ اﻗتالع ﻣرض التﺳﻠط ﻣن ﺟذوره؟ أﻻ ينبغﻲ أن تتم‬
‫ﻋﻠﻣنﺔ الداﻋيﺔ والفﻘيه وﺧﻠﻊ الﻘداﺳﺔ ﻋن كﮭنﺔ الالھوت ﺣتﻰ يولد‬
‫الﻣﺛﻘف كﻘرار ﺛﻘافﻲ ﺧطير؟‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬المثقف والسلطة‪ ،‬ﻣصدر ﻣذكور‪ ،‬ص‪.111.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪297‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟثاﻣن‬

‫إدوارد ﺳﻌيد‪ ،‬خيانﺔ اﻟﻣثﻘﻔين‪ ،‬اﻟنصوص اﻷخيرة‪ ،‬ترﺟﻣﺔ أﺳﻌد‬


‫الﺣﺳين‪ ،‬دار نينوى‪ ،‬دﻣشق‪،2011 ،‬‬
‫إدوارد ﺳﻌيد‪ ،‬اﻟﻣثﻘف واﻟسلطﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد ﻋنانﻲ‪ ،‬دار رؤيﺔ‬
‫لﻠنشر والتوزيﻊ‪ ،‬الﻘاھرة‪،2005 ،‬‬
‫إدوارد ﺳﻌيد‪ ،‬االسﺗشراق‪ ،‬اﻟﻣﻔاهيم اﻟغرﺑيﺔ ﻟلشرق‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﻣﺣﻣد ﻋنائﻲ‪ ،‬دار رؤيﺔ لﻠنشر والتوزيﻊ‪ ،‬الﻘاھرة‪،‬‬
‫‪.2006‬ص‪.210.‬‬

‫‪298‬‬
‫الفصل التاسع‬

‫النشاط االجتماعي بني العقلنة والشرعنة‬

‫"ينشد ﻋﻠم اﻻﺟتﻣاع الفﮭم ﻣن ﺧالل التأويل لﻠنشاط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وﻣن‬


‫‪1‬‬
‫ﺧالل ذلك التفﺳير الﺳببﻲ لﺣدوﺛه وآﺛاره"‬

‫يبدو أن الﻣﻌرفﺔ التﻲ ينتﺟﮭا تطبيق الﻘوانين اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ليﺳت‬


‫ﻣﻌرفﺔ لﻠواﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ فﻲ ﺣد ذاته وإنﻣا أﺣد الوﺳائل التﻘريبيﺔ‬
‫التﻲ يﺳتﻌﻣﻠﮭا الفكر فﻲ ھذا الﺳياق‪ .‬وبالتالﻲ ﻻ يﻣكن ﻣﻌرفﺔ‬
‫الظواھر اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ إﻻ ﻋبر اﻻرتكاز ﻋﻠﻰ ﺣﻘيﻘﺔ الﺣياة وإدراك‬
‫الﻌالﻗات الدﻗيﻘﺔ التﻲ تتﺣكم فﻲ الظواھر ودﻻلتﮭا البنيويﺔ‪.‬‬
‫لكن ھل الظواھر اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ھﻲ ظواھر بﺳيطﺔ أم ظواھر‬
‫ﻣﻌﻘدة؟ وﻣا الذي يﻘﻊ تأويﻠه فﻲ الظاھرة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ؟ ھل النشاط‬
‫الفردي أم النشاط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ؟ أليس البناء اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻋﻠﻰ صﻠﺔ‬
‫وﺛيﻘﺔ بﻣوضوع الﮭيﻣنﺔ – الﻣشروﻋيﺔ؟ ھل يتم اﻻلتﺟاء إلﻰ التﮭديد‬
‫بالﻘوة وﻣﻣارﺳﺔ الﻌنف ﻣن أﺟل تنظيم األنشطﺔ الفرديﺔ والﺟﻣاﻋيﺔ‬
‫لصالح اﺳتﻘرار الﻣﺟتﻣﻊ ونﻣائه أم يتطﻠب ذلك إﻗاﻣﺔ نظام رﻣزي‬
‫ﻗانونﻲ ﻋن طريق اﻻﻋتراف والطاﻋﺔ والﻣوافﻘﺔ؟ ھل يرتكز‬
‫النشاط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻋﻠﻰ رابطﺔ ﺧارﺟيﺔ وﻋالﻗﺔ تﻌاﻗديﺔ تبادليﺔ أم‬
‫ﻋﻠﻰ رابطﺔ داﺧﻠيﺔ واﻹﺣﺳاس باﻻنتﻣاء ضﻣن إطار الﻌيش‬

‫‪ 1‬بول ريكور‪ ،‬العادل‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة بيت الحكمة‪ ،‬قرطاج‪ ،‬تونس‪ .2003 ،‬فصل‬
‫المقوالت األساسية لعلم االجتماع عند ماكس فيبر‪ ،‬ص‪،470‬‬

‫‪299‬‬
‫الﻣشترك؟ أﻻ تتم ﻣﻣارﺳﺔ الﺳﻠطﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ﻣن ﺧالل ﺳيطرة‬
‫الﻣﻌﻘوليﺔ ﻋﻠﻰ الالّﻣﻌﻘوليﺔ الﻣتبﻘيﺔ واﻻنتﻘال ﻣن التوﺣش‬
‫والفوضﻰ إلﻰ النظام والتﻣدن؟ أﻻ يتوطد النظام اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫باﻻﻋتراف بالتراتبيﺔ وشرﻋنﺔ الﻘيادة وﻋﻘﻠنﺔ الﻌنف الﻣادي فﻲ‬
‫شكل ﻋنف رﻣزي؟ فﻲ أيﺔ شروط يﺧضﻊ األفراد نشاطﮭم لترتيب‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ؟ لﻣاذا تتﺟه األنشطﺔ الفرديﺔ الﻰ اﻻندﻣاج ﻣﻊ األنشطﺔ‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ؟ وﻋﻠﻲ أي تبريرات داﺧﻠيﺔ ووﺳائل ﺧارﺟيﺔ تﺳتند‬
‫ھذه الﺳيطرة اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ؟‬
‫ﻣن وﺟﮭﺔ الﻣنﮭج يتﺟاوز فيبر فﻲ ﻣﻘاربته لﻠوضﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫لﻠكائن البشري أوﻻ التصور الوضﻌﻲ لﻠﻣﺳألﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫واﻋتﻣاده ﻋﻠﻰ طريﻘﺔ التفﺳير والﻣالﺣظﺔ الﺧارﺟيﺔ والتنبؤ وينﻘد‬
‫اﻋتبار دوركايم الظواھر اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ﻣﺟرد أشياء وتطبيﻘه لطرق‬
‫كﻣيﺔ‪ .‬ﻣن ﺟﮭﺔ ﺛانيﺔ يتﺧطﻰ التﻌارض الذي يﻘيﻣه ديﻠتاي بين الفﮭم‬
‫والتفﺳير بﺟﻌﻠه ﺣركﺔ التأويل تتضﻣن الﻌنصر الﺳببﻲ وﻗوله‬
‫بﺟدليﺔ الفﮭم والتفﺳير ألن ﻋﻠم اﻻﺟتﻣاع تأويﻠﻲ ويﻣكنه أن ينتج‬
‫تفﺳيرا ويﺣرص ﻋﻠﻰ اﺳتيفاء الﻌﻘﻠنﺔ ﻋﻠﻰ نطاق واﺳﻊ ﻣن‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ والتاريﺦ واﻻﻗتصاد والﻘانون والدين ضﻣن اﺳتراتيﺟيﺔ‬
‫برھنﺔ تﻘوم ﻋﻠﻰ اﻻﻗتران والﻣزاوﺟﺔ بين التأويل التاريﺧﻲ‬
‫والتفﺳير الﺳببﻲ ويتﺣرك ضﻣن تصنيفيﺔ األنﻣاط الﻣﺛاليﺔ‬
‫والفردانيﺔ الﻣنﮭﺟيﺔ‪.‬‬
‫ينبغﻲ أن يكون ﻋﻣل ﻋالم اﻻﺟتﻣاع ﻣتﺧصصا وﻣﮭنيا وبﻌيدا‬
‫ﻋن الﮭوى والصدق والﻣوھبﺔ والﻌﻣق واﻹلﮭام وﻗريبا ﻣن التﺟربﺔ‬
‫الﻣﻌيشﺔ والﻘدرة والكفاءة‪ .‬كﻣا يﺟب التوﻗف ﻋن النظر إلﻰ الﻌﻠم‬

‫‪300‬‬
‫بوصفه ﻋﻣﻠيﺔ ﺣﺳابيﺔ باردة تﻘوم فﻲ الﻣﺧابر وﻣكاتب اﻹﺣصاء‬
‫والتﻌاﻣل ﻣﻌه كﻣﺟﮭود بشري ﺣﻲ وﻣﻌيش‪.‬‬
‫"ﻻ يﻣكن أن نفﺳر بالتدﻗيق ﻣﺟﻣوع الظواھر اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ بكيفيﺔ‬
‫ﻋاﻣﺔ إﻻ بالﻘيام بتﺣﻠيالت ﺳوﺳيولوﺟيﺔ ﺧاصﺔ"‪ .1‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك‬
‫" يشير ﻋﻠم اﻻﺟتﻣاع إلﻰ ﻋﻠم الواﻗﻊ ويبﺣث ﻋن فﮭم أصالﺔ ﺣﻘيﻘﺔ‬
‫الﺣياة التﻲ تﺣيط بالناس ويﻌيشونﮭا بكل ﺟوارﺣﮭم وﻣن ﺧالل‬
‫أنشطتﮭم والﻌالﻗات التﻲ يﻘيﻣونﮭا فيﻣا بينﮭم"‪.2‬‬
‫ﻣن وﺟﮭﺔ الﻣوضوع يتوﺟه البﺣث فﻲ الزوج الﻣفﮭوﻣﻲ الﮭيﻣنﺔ‬
‫والشرﻋنﺔ ﻣﻊ األﺧذ بﻌين اﻻﻋتبار ﻣصطﻠح اﻻﻋتﻘاد واﻻﻋتناء‬
‫بﻣفﮭوم النشاط البشري أو الفﻌل فﻲ دوائر الفرديﺔ والﺟﻣاﻋﺔ‬
‫واﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‪.‬‬
‫ليس النشاط ﻣﺟرد ﺳﻠوك أو تصرف يتكون ﻣن ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن‬
‫الﺣركات التﻲ تﺣدث داﺧل الزﻣان والﻣكان بل يﺳتوﻋب ﻣفﮭوم‬
‫الﻣﻌنﻰ بالنﺳبﺔ إلﻰ الفاﻋل اﻹنﺳانﻲ ويتﺣدد ﻣن ﺧالل الﻌالﻗﺔ ﻣﻊ‬
‫فاﻋﻠين آﺧرين ويرتبط بنشاط الغير ويتم انﺟازه بالتﻌاون ﻣﻌه‪.‬‬
‫ھكذا يتشكل النشاط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻣن ﺧالل ھذه الﻌالﻗﺔ بين الذاتﻲ‬
‫والبيذاتﻲ ويتضﻣن أوﻻ ﻣﻌنﻰ ذاتيا وﻣن ﺟﮭﺔ ﺛانيﺔ يأﺧذ بﻌين‬
‫اﻻﻋتبار دوافﻊ اآلﺧر‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Weber (Max), économie et société, tome1, traduit par Julien‬‬
‫‪Freund, édition Librairie Plon, Paris, 1971. chap les concepts‬‬
‫‪fondamentaux de la sociologie,,p.48.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Weber (Max), essai sur la théorie de la science, traduit par Julien‬‬
‫‪Freund, édition Librairie Plon, Paris, 1965, pp.152.153 .‬‬

‫‪301‬‬
‫ينطﻠق فيبر ﻣن فكرة النﻣوذج الﻣﺣفز ﻋﻠﻰ الفﻌل لكﻲ يفﺳر‬
‫تفﮭﻣيا ﻣفﮭوم النشاط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وظواھر اﻻﻣتناع ﻋن النشاط‬
‫واﻻنﺳﺣاب ﻣن دائرة الفﻌل واﻻﻋتناق الﺳﻠبﻲ والﺣركﻲ وتوﺟه‬
‫الفﻌل نﺣو الﻣﻌاصرين ونﺣو الﺳابﻘين ونﺣو الالﺣﻘين ويﻘر بأننا‬
‫" نكون دوﻣا إزاء أفراد ينشطون بتفاﻋل ﻣﻊ أفراد آﺧرين"‪ .1‬كﻣا‬
‫يتضﻣن النشاط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻣﻌنﻰ البيذاتيﺔ ﻋﻠﻰ ﻏرار دﻋوة‬
‫ھوﺳرل إلﻰ تنزيل الﻌالﻗات البيذاتيﺔ فﻲ إطار اﺟتﻣاﻋﻲ فﻲ التأﻣل‬
‫الﺧاﻣس ﻣن تأﻣالته الديكارتيﺔ‪ .‬تبﻌا لذلك يتﺣدد النشاط‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‪:‬‬
‫‪ -‬ﻋﻠﻰ نﺣو ﻋﻘالنﻲ ﻣن ﺣيث ﻏايته وﻣن ﺧالل انتظارات‬
‫تتﻌﻠق بﻣواضيﻊ ﺧارﺟيﺔ وأفراد آﺧرين‬
‫‪ -‬ﻋﻠﻰ نﺣو ﻋﻘالنﻲ فﻲ ﻗيﻣته وﻣن ﺧالل اﻻﻋتﻘاد الواﻋﻲ‬
‫بﻘيﻣته اﻹتيﻘيﺔ والﺟﻣاليﺔ والدينيﺔ‪.‬‬
‫‪ -‬ﻋﻠﻰ نﺣو تﻘﻠيدي وبﻣﻘتضﻰ الﻌادات الﻣتأصﻠﺔ ووفق‬
‫ﻋواطف وانفﻌاﻻت ﺧاصﺔ بالفاﻋﻠين‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ذلك يتكون ﺣﻘل البﺣث ﻣن أربﻊ أبﻌاد‪ :‬ھﻲ اﺳتﮭداف‬
‫ﻣﻌنﻰ واﻻتﺟاه صوب اآلﺧر واﻻنﺧراط فﻲ النشاط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﺛم‬
‫ﻣﻣارﺳﺔ الﮭيﻣنﺔ وشرﻋنﺔ الﻘيادة وﻋﻘﻠنﺔ النظام واﻻﻋتراف‬
‫التراتبﻲ‪ .‬يترتب ﻋن ذلك أن" ﻣا يظل ﻣﮭﻣا ھو إدﺧال ﻣشكل‬
‫الشرﻋيﺔ فﻲ ﻣشكل النظام وبﮭذا الﻣﻌنﻰ ﻻ نكون إزاء رؤيﺔ فوﻗيﺔ‬

‫المرجع نفسه‬ ‫‪1‬‬

‫‪302‬‬
‫وإنﻣا رؤيﺔ ﻣن األﺳفل ﺧاصﺔ بالفاﻋﻠين اﻻﺟتﻣاﻋيين الذين‬
‫يﺳتطيﻌون ﻣنح نظام ﻣا صالﺣيﺔ ﻣشروﻋﺔ"‪.1‬‬
‫ﻏايﺔ الﻣراد أن ھناك ﺛالﺛﺔ أﺳس لﻠشرﻋيﺔ‪:‬‬
‫‪ -‬ﺳﻠطﺔ التﻘاليد الﻣﻘدﺳﺔ وﻋادة اﺣترام ﻣاھو ﻋريق وكل‬
‫ﻣاھو ﻣتﺟذر فﻲ اﻹنﺳان ونفوذ األﻣس األبدي ( الﺳيد اﻹﻗطاﻋﻲ‬
‫وشيﺦ الﻘبيﻠﺔ)‪.‬‬
‫‪ -‬ﺳﻠطﺔ الكاريزم والنفوذ الﻣبنﻲ ﻋﻠﻰ الﻣﻣيزات الﻣﺛاليﺔ‬
‫لﻠﻘائد والﺳﺣر الشﺧصﻲ والفائق لﻠفرد وتفانﻲ الزﻋيم فﻲ ﺧدﻣﺔ‬
‫الناس والﺛﻘﺔ الكبيرة التﻲ وضﻌوھا فيه‪.‬‬
‫والﺣق أن الﺳﻠطﺔ التﻲ تفرض نفﺳﮭا بواﺳطﺔ الشرﻋيﺔ‬
‫وصالﺣيﺔ الوضﻊ الﻘانونﻲ والكفاءة اﻻيﺟابيﺔ التﻲ تبنﻰ ﺟدارتﮭا‬
‫‪2‬‬
‫ﻋﻠﻰ ﻗواﻋد ﻋﻘالنيﺔ‪.‬‬
‫ﻣا يﻠفت النظر فﻲ ھذا التﻣشﻲ ھو أن ﻣاكس فيبر يﻣيز بين‬
‫ﺳياق يتشكل فيه الﻣﺟتﻣﻊ ويتﻣيز باﻻنفتاح وتﻣتﻠك فيه الﺳﻠطﺔ‬
‫ﻣصداﻗيتﮭا ﻣن الﻣﺳاندة الطوﻋيﺔ والتكﻣﻠﺔ الشرﻋيﺔ‪ ،‬وﺳياق‬
‫تتشكل فيه الﺟﻣاﻋﺔ الﻣتﺣدة ويتﻣيز باﻻنغالق ويغﻠب ﻋﻠﻰ الوضﻊ‬
‫التﮭديد بالﻠﺟوء إلﻰ الﻌنف لفرض الﮭيﻣنﺔ وتأﺳيس دوام النظام‪.‬‬
‫فﻲ ھذا الﻣﻘام يصرح ﻏاداﻣير أن " كل طاﻋﺔ لنفوذ ﻣا تﻘتضﻲ‬
‫اﻻﻋتراف بتفوﻗه وإذا توﻗف ﻋن ذلك فإنه يرتد إلﻰ الﻌنف"‪.3‬‬
‫إﺣﻘاق لﻠﺣق يﻣكن اﻻنتﮭاء إلﻰ النﻘاط التاليﺔ‪:‬‬

‫‪ 1‬بول ريكور‪ ،‬العادل‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‪ .‬فصل المقوالت األساسية لعلم االجتماع عند‬
‫ماكس فيبر‪ ،‬ص‪.475‬‬
‫‪ 2‬ماكس فيبر‪ ،‬العالم والسياسي‪ ،‬ترجمة نادر ذكرى‪،‬دار الحقيقة‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة ‪،1982‬‬
‫صص‪.48-47.‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.482.‬‬

‫‪303‬‬
‫‪1‬ـ ﻻشﻲء يﻣنﻊ ﻣن إنشاء ﻋﻠوم اﺟتﻣاﻋيﺔ تدرس النشاط‬
‫الفردي والﺟﻣاﻋﻲ ذات ﻗدر ﻣن الﻣوضوﻋيﺔ ﻣﻘارب لﻣا فﻲ الﻌﻠوم‬
‫الصﺣيﺣﺔ والطبيﻌيﺔ بالرﻏم ﻣن اﺳتﻘالليتﮭا واندراﺟﮭا فﻲ نظام‬
‫ﻣﻌنوي ﻣغاير وانفتاﺣﮭا ﻋﻠﻰ ﻏير ﻋادة الوضﻌيين ﻋﻠﻰ الرﻣز‬
‫والتﺟربﺔ الﻣﻌيشﺔ والﻣﻌنﻰ والﻘصديﺔ‪.‬‬
‫‪2‬ـ لكﻲ يتم تناول الوضﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻋبر ﻣنظور ﻣزدوج ﻣن‬
‫الفﮭم والتفﺳير يكون ﻣن الالزم اﻹبﻌاد الكﻠﻲ لﻣفﮭوم اﻹنﺳان الذي‬
‫ﺳاد لفترة طويﻠﺔ فﻲ التراث الﻣيتافيزيﻘﻲ ونتج ﻋنه ﻣن ﺣديث ﻋن‬
‫الﺟوھر والﻣاھيﺔ والطبيﻌﺔ والتﻌريف واﻻھتﻣام الﺣصري بدراﺳﺔ‬
‫أﺣوال الكائن البشري ﻣن ﺟﮭﺔ شروط وﺟوده وأوضاع ﺣياته‬
‫وﺳيرته الذاتيﺔ وأنﻣاط ﺣضوره فﻲ الﻌالم وتﺟاربه الﻣﻌيشﺔ دون‬
‫أﺣكام ﻣﺳبﻘﺔ ﻣﻌياريﺔ‪.‬‬
‫‪3‬ـ صﺣيح أن الﻣﺟتﻣﻌات البشريﺔ ﻏاﻣضﺔ وﻣﻌﻘدة وتتالﻗﻰ فﻲ‬
‫الﻌديد ﻣن الﻌواﻣل والﻌناصر وتﻌرف تﺣوﻻت وتﻘﻠبات وﻣأﺧوذة‬
‫فﻲ الصيرورة ولكن ھذا ﻻ يﺟﻌﻠﮭا ﺧاضﻌﺔ بشكل تام ألھواء‬
‫الﺣريﺔ وﻣﻌرضﺔ لﻠفوضﻰ الﻰ درﺟﺔ أن الﻌﻘل الﻌﻠﻣﻲ يﻌﺟز ﻋن‬
‫فﮭﻣﮭا ويتﻌذر ﻋﻠيه تشكيل ﻣﻌرفﺔ ﻣوضوﻋيﺔ وتأويل ﻣﻘبول ﻋنﮭا‪.‬‬
‫لكن ھل يﻣكن اﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ ھذه الﻣفاھيم فﻲ ﻣﺟتﻣﻌات يتداﺧل‬
‫فيﮭا الﻌنف ﻣﻊ الﻣﻘدس؟ ھل تتضﻣن ھذه الﻣفاھيم ﻗيﻣﺔ وصفيﺔ‬
‫تفﺳيريﺔ أﻣا أنﮭا تﻣتﻠك ﻗيﻣﺔ ﻣضافﺔ فﻲ ﻣﺟال التأويل والنﻘد؟‬

‫‪304‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟﺗاسﻊ‬

‫‪Max Weber, essais sur la théorie de la‬‬


‫‪science, traduit par Julien Freund, édition‬‬
‫‪Librairie Plon, Paris, 1965.‬‬
‫‪Max Weber, économie et société, tome1,‬‬
‫‪traduit par Julien Freund, édition Librairie‬‬
‫‪Plon, Paris, 1971. chap les concepts‬‬
‫‪fondamentaux de la sociologie, pp3.57.‬‬
‫ﻣاكس فيبر‪ ،‬ﻣﻔاهيم أساسيﺔ في علم االﺟﺗﻣاع – الفصل األول‬
‫ﻣن كتاب "اﻻﻗتصاد والﻣﺟتﻣﻊ"‪ ،‬ترﺟﻣﺔ صالح ھالل‪ ،‬الﻣركز‬
‫الﻘوﻣﻲ لﻠترﺟﻣﺔ‪ ،‬الﻘاھرة‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.2011 ،‬‬
‫ﻣاكس فيبر‪ ،‬اﻟﻌاﻟم واﻟسياسي‪ ،‬ترﺟﻣﺔ نادر ذكرى‪،‬دار الﺣﻘيﻘﺔ‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ ‪،1982‬‬
‫بول ريكور‪ ،‬اﻟﻌادل‪ ،‬الﺟزء الﺛانﻲ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ بيت الﺣكﻣﺔ‪،‬‬
‫ﻗرطاج‪ ،‬تونس‪ .2003 ،‬فصل الﻣﻘوﻻت األﺳاﺳيﺔ لﻌﻠم اﻻﺟتﻣاع‬
‫ﻋند ﻣاكس فيبر‪ ،‬صص‪ 469‬و‪ ،490‬وفصل وﻋود الﻌالم فﻠﺳفﺔ‬
‫ﻣاكس فيبر لبيار بوراتز‪ ،‬صص‪ 491‬و‪.500‬‬

‫‪305‬‬
306
‫الفصل العاشر‬

‫قضية فلسطني والحق يف الوجود‬

‫"أبدا لن يﻘدر اﻹﺳرائﻠيون أن يدفﻌوا الفﻠﺳطينيين أبﻌد أو يﻘذفوا بﮭم إلﻰ‬


‫الﻠيل‪ ،‬إلﻰ النﺳيان"‬
‫ﺟيل دوﻟوز‬

‫ﻣواﻗف بﻌض الفالﺳفﺔ الﻣواليﺔ ألوطانﮭم والﻣنتصرة لبﻌض‬


‫األنظﻣﺔ الشﻣوليﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب الﻘضايا الﻌادلﺔ وبالتصادم ﻣﻊ‬
‫الﻣبادئ الكونيﺔ اﻹنﺳانيﺔ ﻣشﮭورة وﻣﻌروفﺔ وﻻ تﺣتاج إلﻰ تﻌﻠيق‬
‫وذلك لﺧضوﻋﮭم إلﻰ ﻋﻘدة التفوق الﻌرﻗﻲ والتﻣركز ﻋﻠﻰ الذات‬
‫ولنا فﻲ ﻗصﺔ ﻣاركس ﻣﻊ اﻻﺳتﻌﻣار الفرنﺳﻲ فﻲ الﺟزائر‬
‫واﻻﺳتﻌﻣار اﻻنﺟﻠيزي فﻲ الﮭند الذي اﻋتبره نوع ﻣن التنوير‬
‫وﻣﺳاﻋدة ﻋﻠﻰ التﺣديث وكذلك ﺣادﺛﺔ ھيدﺟر ﻣﻊ الﺣكم النازي‬
‫ﺧير ﻣﺛال‪ .‬ولكن ﻣواﻗف فالﺳفﺔ آﺧرين وكتاب وفنانين ورﺟال‬
‫ﺳياﺳﺔ وﻗانون كانت ﻣشرفﺔ وﺟديرة باﻻﺣترام وضد التﻣييز‬
‫الﻌنصري وضد الشﻣوليﺔ واﻻﺳتﻌﻣار وھﻲ ﻣا يﺟب التوﻗف ﻋنده‬
‫وﻗراءتﮭا بتﻣﻌن ﺧاصﺔ وأنﮭا ﺟاءت ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب الﻣصالح الﻘوﻣيﺔ‬
‫ألوطانﮭم وضد ﻣﺟرى الرأي الﻌام الغربﻲ ولنا فﻲ بﻌض ﻣﺛﻘفﻲ‬
‫الوﻻيات الﻣتﺣدة األﻣريكيﺔ أﺛناء ﺣربﮭا ﻋﻠﻰ الفيتنام وفﻲ روﺟﻲ‬
‫ﻏارودي وتكذيبﮭا لﺣﺟم الﻣﺣرﻗﺔ وتفكيكه أﺳاطير الصﮭيونيﺔ وفﻲ‬

‫‪307‬‬
‫نﻌوم شوﻣﺳكﻲ أﺛناء ﻋدوانﮭا ﻋﻠﻰ الﻌراق أﺣﺳن برھان ﻗاطﻊ‬
‫ﻋﻠﻰ صدﻗيﺔ ھؤﻻء األﺣرار‪ .‬ولﻌل فيﻠﺳوف اﻻﺧتالف الفرنﺳﻲ‬
‫ﺟيل دولوز أﺣد ﻣنظري فكر‪ 1968‬إلﻰ ﺟانب ﻣيشيل فوكو ھو‬
‫واﺣد ﻣن الذين ناصروا الﻘضايا الﻌادلﺔ فﻲ الﻌالم ودافﻌوا ﻋﻠﻰ‬
‫ﺣﻘوق الشﻌوب وﺣريتﮭا فﻲ تﻘرير ﻣصيرھا ﺣتﻰ وان تناﻗض ذلك‬
‫ﻣﻊ الﻣوﻗف الرﺳﻣﻲ لﻠنظام الﺳياﺳﻲ الﻘائم فﻲ بﻠده‪ .‬إذ تﻣﺛل‬
‫ﻣناصرته لﻘيام دولﺔ فﻠﺳطينيﺔ وإﻋﺟابه الكبير باﻻنتفاضﺔ األولﻰ‬
‫والﻣنزع الﺳﻠﻣﻲ الكونﻲ أﻣرا ﻣﻠفتا لالنتباه وﻣشﺟﻌا ﻋﻠﻰ ﻗيﻣﺔ‬
‫الشﺧصيات الفﻠﺳفيﺔ وتأﺛيرھا ﻋﻠﻰ ﻣﺟرى األﺣداث التاريﺧيﺔ وھو‬
‫ﻣا ينبغﻲ اﻹشادة به واﻻﻋتبار ﻣنه ﺧاصﺔ ھذه األيام بﻌد تﺣول‬
‫الﺣوار بين الشرق والغرب إلﻰ لغﺔ التﮭديد والوﻋيد وﺣﻠت لغﺔ‬
‫الﻌﺳكر والﺳالح والﺣرب ﻣﺣل لغﺔ التواصل والتفاھم والﺣكﻣﺔ‪،‬‬
‫فﻣا الذي دفﻊ فيﻠﺳوف ﻏربﻲ ﻣﺛل دولوز إلﻰ ﻣناصرة الﻘضيﺔ‬
‫الفﻠﺳطينيﺔ فﻲ ظل ﺛﻘافﺔ اﺧترﻗتﮭا الدﻋايﺔ الصﮭيونيﺔ؟ أليس‬
‫الﻣبادئ الكونيﺔ التﻲ تناضل ﻣن أﺟل اﻻنتفاضﺔ الفﻠﺳطينيﺔ األولﻰ‬
‫والوﺳائل الﻣشروﻋﺔ التﻲ اﻋتﻣدتﮭا وكﺳبﮭا التﻌاطف الدولﻲ ﺧير‬
‫ﻣﺛال ﻋﻠﻰ نزاھتﮭا؟ لﻣاذا فﻘدت النﺧب الفﻠﺳطينيﺔ البوصﻠﺔ وتﻘﻠص‬
‫التﻌاطف الفكري واﻹﻋالﻣﻲ ﻣﻌﮭم؟ أليس ذلك ناتج ﻋن تﺧﻠيﮭم‬
‫ﻋن ﻣطالبتﮭم البﺳيطﺔ فﻲ ﺣق الﺣياة واألﻣن والتﻌﻠم والصﺣﺔ‬
‫واﻻﻋتراف الدولﻲ بﮭم ككيان ﻗائم الذات؟‬
‫ﻣن الواضح أن النص الذي كتبه دولوز ﺣول أطفال اﻻنتفاضﺔ‬
‫فيه انبﮭار كبير بالﻣﻠﺣﻣﺔ الﺳﻠﻣيﺔ التﻲ ﺧطﮭا الﻣناضﻠين دون‬
‫ضﺟيج وفﻲ صﻣت ﻣﻊ ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن األشبال الذين أرادوا لوطنﮭم‬
‫فﻠﺳطين أن يكون ﺣرا ولكن األﻣور بﻌد ذلك ﺟرت بﻣا ﻻ يرﻏب‬

‫‪308‬‬
‫أﺣد وﺣب التﺳﻠط فاق كل تﻘدير وفوت األبناء فﻲ ﻣا كﺳبه اآلباء‬
‫بﻌرق الﺟبين فﮭل يﺳتوﻋب ﻗادة الكفاح الفﻠﺳطينﻲ ھذا الدرس‬
‫الرائﻊ الذي ﻗدﻣه ﺟيل دولوز فﻲ ھذا النص الشﮭير الذي ترﺟﻣته‬
‫ﻋﻠﻰ ﻣا أظن ﻣﺟﻠﺔ الكرﻣل بﻌنوان‪" :‬ﺣيﺛﻣا يﺳتطيﻌون رؤيتﮭا"‬
‫والذي ﻋﺛرت ﻋﻠيه بالصدفﺔ بﻌد أن ﺧﻠت أننﻲ فﻘدته‪.‬‬
‫يﻘول ﺟيل دولوز‪" :‬لم تشرع أوروبا بتﺳديد الدين الالّﻣتناھﻲ‬
‫الذي تدين به لﻠيﮭود وإنﻣا ﺟﻌﻠت شﻌبا آﺧر بريئا –الفﻠﺳطينيين‪-‬‬
‫يﺳدده ﻋنﮭا‪ .‬لﻘد بنﻰ الصﮭاينﺔ دولﺔ إﺳرائيل بالﻣاضﻲ الﺣديث‬
‫لﻌذابﮭم وﻋﻠﻰ الرﻋب األوروبﻲ الﻣتﻌذر ﻋﻠﻰ النﺳيان‪ -‬ولكن كذلك‬
‫ﻋﻠﻰ ﻣﻌاناة ھذا الشﻌب اآلﺧر وبأﺣﺟار ھذا الشﻌب اآلﺧر‪ .‬لﻘد‬
‫ﺳﻣﻲ "األرﻏون" إرھابا ﻻ ألنه كان يفﺟر ﻣراكز الﻘيادة األنغﻠيزيﺔ‬
‫الﻌاﻣﺔ فﺣﺳب وإنﻣا ألنه كان يدﻣر ﻗرى كاﻣﻠﺔ ويزيل "دير ياﺳين"‬
‫ﻣن الوﺟود أيضا‪ .‬صنﻊ األﻣريكان ﻣنﮭا إﺳرائيل صناﻋﺔ كبرى‬
‫ﻋﻠﻰ الطريﻘﺔ الﮭوليوديﺔ‪ :‬كانوا يﻌتبرون أن دولﺔ إﺳرائيل ﺳتﻘوم‬
‫ﻋﻠﻰ أرض ﺧاليﺔ تنتظر ﻣنذ زﻣن بﻌيد الشﻌب الﻌبري الﻌريق ﻣﻊ‬
‫أشباح بﻌض الﻌرب اآلتين ﻣن أﻣاكن أﺧرى ﺣرﺳا لألﺣﺟار‬
‫النائﻣﺔ‪ .‬كانوا يﻘذفون بالفﻠﺳطينيين إلﻰ النﺳيان‪ .‬يأﻣرونﮭم‬
‫باﻻﻋتراف ﻗانونا بدولﺔ إﺳرائيل‪ ،‬فﻲ ﺣين ﻻ يكف اﻹﺳرائيﻠيون‬
‫ﻋن أن ينكروا ﻋﻠﻰ الشﻌب الفﻠﺳطينﻲ واﻗﻌه الﻣشﺧص‪ .‬وﺣده‬
‫ﺧاض الشﻌب الفﻠﺳطينﻲ ﺣربا لم تنته إلﻰ اآلن ليدافﻊ ﻋن أرضه‬
‫ﻋن أﺣﺟاره وﻋن ﺣياته‪ :‬ھذه الﺣرب التﻲ ﻻ يتﺣدث أﺣد ﻋنﮭا‬
‫لفرط ﻣا يﮭم اﻹيﮭام بأن الفﻠﺳطينيين ھم ﻋرب آتون ﻣن أﻣاكن‬
‫أﺧرى ويﻣكنﮭم الرﺟوع إليﮭا‪ .‬فﻣن يفصل بين ﺟﻣيﻊ ھذه‬
‫األردنيات؟ وﻣن ﺳيﻘول لﮭم أن الوشائج بين فﻠﺳطينﻲ وﻋربﻲ‬

‫‪309‬‬
‫آﺧر يﻣكن أن تكون ﻗويﺔ لكن ليس أكﺛر ﻣا بين بﻠدين أوروبيين؟‬
‫وأي فﻠﺳطينﻲ ﺳينﺳﻰ ﻣا كبده إياه ﻋرب آﺧرون إلﻰ ﺟانب‬
‫إﺳرائيل؟ ﻣا ﻋﻘدة ھذا الدين الﺟديد؟‬
‫ﻣطرودين ﻣن أرضﮭم يﻘيم الفﻠﺳطينيون ﺣيﺛﻣا يﺳتطيﻌون‬
‫ﻣواصﻠﺔ روايتﮭا ﻋﻠﻰ األﻗل واﻻﺣتفاظ برؤيتﮭا كصﻠﺔ أﺧيرة ﻣﻊ‬
‫كيانﮭم الﻣغيب فﻲ األﺣالم‪ .‬أبدا لن يﻘدر اﻹﺳرائﻠيين أن يدفﻌوھم‬
‫أبﻌد أو يﻘذفوا بﮭم إلﻰ الﻠيل‪ ،‬إلﻰ النﺳيان‪.‬‬
‫تدﻣير الﻘرى‪ ،‬نﺳف الﻣنازل‪ ،‬طرد الﺳكان واﻏتيال األشﺧاص‪:‬‬
‫كان تاريﺦ ﻣرﻋب يبدأ التشكل ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب أبرياء ﺟدد‪ .‬يﻘال إن‬
‫اﻻﺳتﺧبارات اﻹﺳرائيﻠيﺔ تﺳتﺣوذ ﻋﻠﻰ إﻋﺟاب الﻌالم كﻠه ولكن‬
‫ﻣاھﻲ ھذه الديﻣﻘراطيﺔ التﻲ تﻣتزج ﺳياﺳتﮭا بأكﺛر ﻣﻣا يﻠزم ﻣﻌه‬
‫نشاط اﺳتﺧباراتﮭا؟ كيف ﺳتﺧرج إﺳرائيل ﻣن ھذا وﻣن األراضﻲ‬
‫الﻣﺣتﻠﺔ وﻣن ﻣﺳتوطنيﮭا وﻣﺳتوطناتﮭا وﻣن ﺣاﺧاﻣاتﮭا‬
‫الﻣوتورين؟‬
‫اﺣتالل‪ ،‬اﺣتالل إلﻰ ﻣا ﻻنﮭايﺔ له‪ :‬إن األﺣﺟار الﻣﻘذوفﺔ لﮭﻲ آتيﺔ‬
‫ﻣن الداﺧل‪ ،‬آتيﺔ ﻣن الشﻌب الفﻠﺳطينﻲ لﻠتذكير بأنه فﻲ ﻣكان ﻣن‬
‫الﻌالم‪ ،‬ﻣﮭﻣا كان صغره‪ ،‬ﻗد انﻘﻠب الدين‪ .‬إن ﻣا يﻘذفه الفﻠﺳطينيون‬
‫ھو أﺣﺟارھم‪ ،‬األﺣﺟار الﺣيﺔ لبالدھم‪ .‬إن رﺟاﻻ يولدون ﻣنﮭا‪ .‬ﻻ‬
‫أﺣد يﻘدر أن يﺳدد الدين بﺟرائم الﻘتل‪ 10 ،7 ،3 ،2 ،1،‬يوﻣيا‬
‫وﻻ بالتفاھم ﻣﻊ آﺧرين‪ .‬إن اآلﺧرين يتﺧﻠصون ولكن كل ﻣيت‬
‫يﺳتدﻋﻲ أﺣياء ولﻘد توﻏل الفﻠﺳطينيون فﻲ روح إﺳرائيل وھم‬
‫يشتغﻠون ﻋﻠﻰ ھذه الروح كشﻲء يﺳبر ﻏوره ويﺧترق كل يوم"‪.‬‬
‫يﺛبت دولوز فﻲ ھذا النص رؤيﺔ اﺳتراتيﺟيﺔ بارﻋﺔ يﺣول فيه‬
‫الصراع بين اﻹﺳرائﻠيين والفﻠﺳطينيين ﻣن تصادم ﺧارﺟﻲ إلﻰ‬

‫‪310‬‬
‫اﺧتراق داﺧﻠﻲ لواﺣد لآلﺧر وينصف فيه الفﻠﺳطينيين ألن الغرب‬
‫أراد أن يكفر ﻋن ذنبه فارتكب ﺣﻣاﻗﺔ ﺟديدة وﺳاھم فﻲ ظﻠم‬
‫وتشريد شﻌبا آﺧر ﻻ ذنب له وبالتالﻲ فانه ﺣاول أن يصﻠح ﺧطأ‬
‫بارتكاب ﺧطأ آﺧر أشد فظاﻋﺔ‪ .‬فﮭل ﻗدر لﻠفﻠﺳطينيين وﻣن ورائﮭم‬
‫الﻌرب أن يتﺣولوا إلﻰ يﮭود التاريﺦ أم أن ﺣركﺔ التاريﺦ نفﺳه‬
‫ھﻲ التﻲ ﺳتﻘود الفﻠﺳطينيين إلﻰ اﺳترداد ﺣﻘوﻗﮭم الﻣشروﻋﺔ؟‬

‫‪311‬‬
312
‫الفصل الحادي عشر‬

‫املعاناة الفلسطينية‬

‫وصحوة الضمري الغربي‬

‫ﺗرﺟﻣﺔ وﺗﻌليق‬
‫"يبدو أن ﻣا يﻌانﻲ ﻣنه الشرق األوﺳط فﻲ الﻌﻣق ھو نزاع ﺣول‬
‫الﺟغرافيا الالھوتيﺔ التﻲ انﺣطت بشكل ﻣﺳتﻣر إلﻰ ﺟغرافيا ﺳياﺳيﺔ‪ ،‬أليﺳت‬
‫إﺳرائيل واﻹﺳالم ﻣصابين بنفس الداء الذي ھو فﻲ ﺟزء ﻣنه ﻣن صنﻌنا‬
‫نﺣن األوروبيين؟"‬
‫ﺑول ريﻛور‬

‫انتﻘﻠت الفﻠﺳفﺔ الﻣﻌاصرة ﻣن البﺣث فﻲ الﻣﺳألﺔ اليﮭوديﺔ بﻌد‬


‫أن شﻌر الضﻣير األوروبﻲ بالتوبيﺦ وأﺣس بالذنب ﻣن ﻣﺣرﻗﺔ‬
‫الﮭﻠوكوﺳت الﻣشكوك فﻲ أرﻗاﻣﮭا إلﻰ تناول الﻣﺳألﺔ الفﻠﺳطينيﺔ‬
‫ﺧاصﺔ والﻌربيﺔ اﻹﺳالﻣيﺔ ﻋاﻣﺔ نﻘدا لﻠتﻣركز ﻋﻠﻰ الذات‬
‫واﺣتراﻣا لﺣﻘوق الﺧصوصيات وتنظيرا لالﺧتالف والتﻌدد‬
‫وتشريﻌا لﻠﻌيش الﺳوي وﺣﺳن الﺟوار فﻲ إطار اﻻشتراك فﻲ‬
‫صناﻋﺔ الﺣضارة الكونيﺔ‪.‬‬
‫لﻘد ﻣﺛﻠت الﻘضيﺔ الفﻠﺳطينيﺔ ﻣن أھم الﻘضايا الﺳياﺳيﺔ التﻲ‬
‫شغﻠت بال وﻻتزال الكتاب والفالﺳفﺔ والﻣﺛﻘفين الغربيين وﻗد‬
‫تﺣولت إلﻰ ﻣﺣك يﺧتبر فيه ﻣدى وفاء الفكر لﻘيﻣه والتزاﻣه بﻣبادئه‬

‫‪313‬‬
‫وﻣدى اﺣتراﻣه ﻹنﺳانيﺔ اﻹنﺳان ودرﺟﺔ اصطفافه وراء الﻣﺛل‬
‫التوﺟيﮭيﺔ الﺛالث لﻠفﻌل البشري‪ :‬الﺣق والﺧير والﺟﻣال‪ .‬وﻗد كان‬
‫بول ريكور واﺣد ﻣن ھؤﻻء الفالﺳفﺔ الذين اھتﻣوا بالﻣﺳألﺔ‬
‫اليﮭوديﺔ الﻌربيﺔ وﻣن الذين فندوا األﺳس الدينيﺔ الواھيﺔ لدولﺔ‬
‫إﺳرائيل ﻣﺣﻣال أوروبا ﻣﺳؤوليﺔ تغذيﺔ التوترات فﻲ الﻣنطﻘﺔ‬
‫وتأﺟيج الصراع الﻌربﻲ اﻹﺳرائيﻠﻲ بالتﺧندق إلﻰ ﺟانب إﺳرائيل‬
‫فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ الﺳكان الﻌرب األصﻠيين والضغط ﻋﻠيﮭم ﻣن أﺟل‬
‫تﺳويف فﻲ ﺣﻘوﻗﮭم‪.‬‬
‫فﻣاھﻲ الﻣبررات التﻲ ينطﻠق ﻣنﮭا ريكور ليﻘول‪ ":‬أن الالھوت‬
‫اليﮭودي الﻣبرر لﻘيام دولﺔ اﺳرائيل ﻏير ﻣﻠزم"؟ كيف يﻌترف‬
‫بأﺣﻘيﺔ الفﻠﺳطينيين فﻲ التواﺟد الﺳياﺳﻲ ﻋﻠﻰ أرضﮭم الشرﻋيﺔ‬
‫والتاريﺧيﺔ؟ الﻰ ﻣاذا يﺳتند فﻲ ذلك؟ أي تصور يﻘترﺣه فيﻠﺳوف‬
‫الﮭرﻣينوتيﻘا والفنوﻣنولوﺟيا لﻠصراع الﻌربﻲ اﻻﺳرائيﻠﻲ؟ ﻣا‬
‫ﺣﻘيﻘﺔ نظرته الﻰ الﻣﻘاوﻣﺔ الﻌربيﺔ لالﺳتيطان اﻻﺳرائيﻠﻲ فﻲ‬
‫الﻣنطﻘﺔ؟ آﻻ تتﺣﻣل اﺳرائيل بوصفﮭا آلﺔ ﺣرب وﺟيش ﻣنظم‬
‫ﻣﺳؤوليﺔ ﻣا يﺣصل ﻣن تﻘتيل وتﮭﺟير واﻏتصاب؟‬
‫اذا ﻋدنا الﻰ ﻣا ترك بول ريكور ﻣن ﻣواﻗف ﺳياﺳيﺔ وتﺣﻠيالت‬
‫فﻠﺳفيﺔ نﺟده ﻗد ترك لنا ﻣﻘال كتبه ﺳنﺔ ‪ 1951‬يﻣكن تنزيﻠه ضﻣن‬
‫فﻠﺳفﺔ الﻣﻘاوﻣﺔ ويرد فيه ﻋﻠﻰ أندريه نيﮭير الذي كتب ﻣﻘاﻻ نشره‬
‫فﻲ ﻣﺟﻠﺔ فكر فيفري ﻣن نفس الﺳنﺔ بﻌنوان تفكير فﻲ اﺳرائيل‬
‫يﻘف فيه ﻋﻠﻰ ﻣا ﺳﻣاه الﻣﻌطيات الﺟوھريﺔ التﻲ تأﺳﺳت ﻋﻠيﮭا‬
‫الﺣﻘيﻘﺔ اﻻﺳرائيﻠيﺔ وﻗد تصدى ريكور الﻰ ھذه الﻣزاﻋم ﻣن وﺟﮭﺔ‬
‫نظر فيﻠﺳوف ﻣﺳيﺣﻲ بروتﺳتانتﻲ وكشف ﻋﻣا وﻗﻊ فيه ھذا الﻣفكر‬
‫اليﮭودي ﻣن ﻣغالطات صﮭيونيﺔ وفضح األﺳس الالھوتيﺔ الواھيﺔ‬

‫‪314‬‬
‫لﻠدولﺔ الﻌبريﺔ وفﻲ الﻣﻘابل نراه يﻌترف فﻲ ھذا الﻣﻘال بالذنب‬
‫الغربﻲ تﺟاه الظﻠم الذي تﻌرض له الﻌرب ويﻌطﻲ الفﻠﺳطينيين‬
‫ﺣﻘوﻗﮭم التاريﺧيﺔ ﻋﻠﻰ الصﻌيد النظري‪.‬‬
‫ﻣنذ بدايﺔ الﻣﻘال الذي ﺳنﻌﻣل ﻋﻠﻰ ترﺟﻣته ﻣن الفرنﺳيﺔ ينصف‬
‫ريكور ﻋﻠﻰ التو الﻌرب ويرفض أن يﻌتبرھم شﻌوبا ﻣتﻌصبﺔ‬
‫ﻣﻌاديﺔ لألﻏيار بل ھم دﻋاة تﺳاﻣح وﺳالم وفيﮭم ﻣن الﻣﺳيﺣيين‬
‫واليﮭود والالدينيين كﻣا فيﮭم ﻣن الﻣﺳﻠﻣين ويرى أنﮭم يتﻣيزون‬
‫بالكرم والﺟود وﺣﺳن الضيافﺔ ويﺣترﻣون اآلﺧر ويكرﻣون‬
‫الغريب والﻣﮭاﺟر والزائر ويطﻌﻣون ابن الﺳبيل والﻣﺣتاج‪ .‬ويفﺳر‬
‫ظﮭور بﻌض النزﻋات الﻣتشددة بأنﮭا ردود أفﻌال ناتﺟﺔ ﻋﻣا‬
‫ﻣارﺳته أوروبا واﺳرائيل ﻣن تﻣييز واﺳتﻌﻣار واﺳتيطان‪.‬‬
‫ان الﻌرب ليس لﮭم أي ذنب فﻲ ﻣا ﺣصل لﻠيﮭود فﻲ الﻣاضﻲ‬
‫ﻣن تشرد وﻣطاردة وﻗتل ﻋﻠﻰ الﮭويﺔ وضياع فﻲ الﻌالم وھم لم‬
‫يﻘترفوا فﻲ ﺣﻘﮭم أيﺔ ﻣﺣرﻗﺔ أو ابادة أو تنكيل أو ﺣتﻰ تﻣﻣييز‬
‫وﺣرﻣان بل تركوھم يﻌيشون ﻣﻌﮭم يﻣارﺳون شﻌائرھم فﻲ كنف‬
‫التﺳاﻣح ويشتغﻠون فﻲ ﻣﮭنﮭم وأﻣنوھم ﻋﻠﻰ ﺛرواتﮭم وﻣﻣتﻠكاتﮭم‬
‫وﻗﻠدوھم ﻣناصب ﺣﺳاﺳﺔ فﻲ الدولﺔ وتﻣتﻌوا بﺣالﺔ الرﺧاء‬
‫والتﺣضر التﻲ شﮭدتﮭا بالد الﻌرب ﺧاصﺔ فﻲ لﺣظات الﻣﺟد فﻲ‬
‫الﺣضارة الﻌباﺳيﺔ واألندلﺳيﺔ‪.‬‬
‫ان الﻣﻠفت لالنتباه ھو اﻗرار ريكور بشرﻋيﺔ دفاع الﻌرب ﻋن‬
‫دولﮭم ورد الﻌدوان وﺳﻌيﮭم لﻠتﺣرر ﻣن ربﻘﺔ اﻻﺳتﻌﻣار واﻋتباره‬
‫ﻣﻘاوﻣﺔ الفﻠﺳطينيين لﻠﻣد الصﮭيونﻲ ﻣﻘاوﻣﺔ ﻣشروﻋﺔ طالﻣا أنﮭم‬
‫ﻣﺟرد ضﺣايا لﻠدﻋايﺔ الصﮭيونيﺔ والتآﻣر التركﻲ والغربﻲ ﻋﻠيﮭم‬

‫‪315‬‬
‫بل يذھب ھذا الفيﻠﺳوف الﻰ أبﻌد ﻣن ذلك ﻋندﻣا يبشر بأن يﻘظﺔ‬
‫الﻌرب ﻗادة ﻻﻣﺣالﺔ‪.‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق ينﻘد ريكور ھذا الﻣفكر اليﮭودي ويﻌتبره ﻗد‬
‫وﻗﻊ فﻲ ﻋدة أشكال ﻣن الﺧﻠط والتﺣريفات لﻠﺣﻘائق التاريﺧيﺔ‬
‫والتأويالت الﻣضﻠﻠﺔ ولﻌل أكبر ﺧطأ ﻣﻌرفﻲ وﻗﻊ فيه ھو ﻣﺣاولته‬
‫الوصول الﻰ ﻣﻌطيات ﺟوھريﺔ باﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ ﻣﻌطيات طارئﺔ‬
‫فﻲ ﻣا يﺧص األﺳس التوراتيﺔ التﻲ انبنت ﻋﻠيﮭا دولﺔ اﺳرائيل‬
‫ﻻﺳيﻣا وأنه يتﺣدث ﻋن ﺟوھﮭر وﻣاھيﺔ تﺧص الشﻌب اليﮭودي‬
‫وتناﺳﻰ أنﮭا ﻣﺟرد ﺟغرافيا ﻻھوتيﺔ‪ ،‬فكيف تﺟﻠﻰ نﻘد ريكور تﺟاه‬
‫أندرييه نيﮭرو؟ ولبﻣاذا التردد بشأن اﺳرائيل؟ وأﻻ يﻣكن الوصول‬
‫الﻰ ﻣوﻗف واضح وﺣازم بشأن الﺧالف اﻻﺳرائيﻠﻲ الﻌربﻲ؟‬

‫"ﺗرددات عن اسرائيل‪:‬‬
‫ﺳﻌﻰ أندريه نيﮭير فﻲ ﻣﻘال له صادر بﻌنوان "تفكير فﻲ‬
‫اﺳرائيل" ( الفكر فيفري ‪ )1958‬الﻰ تفﺳير الوﺟود الﺳياﺳﻲ‬
‫لدولﺔ اﺳرائيل بواﺳطﺔ الﻣصير ﻋينه لﻠشﻌب اليﮭودي الذي‬
‫اصطفاه الكالم التوراتﻲ اصطفاءا أبديا‪ .‬ھكذا دﻋا الﻘراء ﻏير‬
‫اليﮭود لﻠﻣﺟﻠﺔ الﻰ التفكير فﻲ اﺳرائيل بنفس الﻘدر ﻣن الﺟذريﺔ ھم‬
‫أيضا التﻲ فكر بﮭا ھو‪ .‬يدﻋونا أندريه نيﮭير الﻰ الﻌﺛور ﻋﻠﻰ ﻣا‬
‫يﺳﻣيه الﻣﻌطيات الﺟوھريﺔ فﻲ ﻣاوراء الﻣﻌطيات الﻌرضيﺔ‬
‫لﻠﺣﻘيﻘﺔ اﻻﺳرائيﻠيﺔ‪ .‬ان الﻌرضيﺔ فﻲ نظره ھﻲ الروح البراﻏﻣاتيﺔ‬
‫والذھنيﺔ البطوليﺔ لالﺳرائيﻠﻲ اليوم الﻣﺣكوم ﻋﻠيﮭا ﻣن ﺧالل‬
‫ظروف الﮭﺟرة الﻣكﺛفﺔ والدولﺔ شبه الﻣغﻠﻘﺔ والتﮭديد اليوﻣﻲ‬
‫بالفناء الﻣادي الﻰ أن ظﮭر ھذا الﺧﻠيط بين األﻣركﺔ واﻻشتراكيﺔ‬

‫‪316‬‬
‫وبالﺧصوص ھذا التصرف الﻌﺳكري الذي يتﮭم اﺳرائيل بالنزﻋﺔ‬
‫الﺣربيﺔ‪.‬‬
‫وتبﻌا لذلك تصنﻊ الﻌرضيﺔ بالﺧصوص الربط الﻣﻘﻠق بين ﺟبل‬
‫ﺳيناء والﻘوة الضاربﺔ الفرنﺳيﺔ البريطانيﺔ فﻲ الﺳويس والتﻘارب‬
‫الﻣﺣير ﺟدا بين ﻣصالح اﺳرائيل وﻣصالح فرنﺳا الﻣترددة فﻲ‬
‫الﺟزائر‪ .‬يضﻊ أندريه نيﮭير فﻲ النﮭايﺔ كل ﺳوء التفاھم الﻌربﻲ‬
‫اﻻﺳرائيﻠﻲ فﻲ نفس الﺟواب الذي يتصور به ﻣشكل الالﺟئين‬
‫الﻌرب ﻣن فﻠﺳطين والذي نراه الﻰ اليوم ﻣازال ﻗائﻣا ﺣتﻰ بﻌد‬
‫ﻣرور ﺛﻣانيﺔ ﺳنوات بﻌد التﮭﺟير واﻻﻗاﻣﺔ فﻲ ﻣﺧيﻣات‪ .‬ھذه‬
‫النزاﻋات أﻋادت النظر فﻲ اﻣكانيﺔ التﺣول ضﻣن ﻣنظور ﻣطﻣئن‬
‫نﺳبيا الﻰ تﻌايش يﮭودي ﻋربﻲ‪.‬‬
‫ينتﻘل أندريه نيﮭير ﻣن ھذه الﻣﻌطيات الﻌرضيﺔ الﻰ الﻣﻌطيات‬
‫الﺟوھريﺔ بﻘوله‪ ":‬ﺛﻣﺔ ﻣاھيﺔ تﺣدد بﻣفردھا الشكل الواﻗﻌﻲ والدائم‬
‫لدولﺔ اﺳرائيل وتطﻠق وتصدر ﺣكﻣا لوﺣدھا"‪ .‬تربط ھذه الﻣاھيﺔ‬
‫ﻣصير اﺳرائيل بأرض وفﻠﺳطين ھﻲ ھذه األرض الﻣﻘدﺳﺔ‪ .‬ان‬
‫طرد الشﻌب اليﮭودي ﻣن األنﺣاء األربﻌﺔ لﻠﻌالم لم يﺛبت ھذا‬
‫الﻣكان بواﺳطﺔ ألم الﻌزل فﻘط بل انه ﻗد ﺟﻌل ﻣنﮭا ظاھرة ﻋالﻣيﺔ‪.‬‬
‫وبﻣا أن الشﻌب اليﮭودي ﻗد نفﻲ ﻣن الﻌالم برﻣته فان فﻠﺳطين ﻗد‬
‫أصبﺣت ﻣركز لﻠنفﻲ وبالتالﻲ ﻣركزا لﻠﻌالم‪ .‬ﻻ يﻣكن ﻋندئذ لدولﺔ‬
‫اﺳرائيل أن يكون لﮭا أﺳاس ﻏير ﺟغرافيا ﻻھوتيﺔ تﻌﻣل ﻋﻠﻰ‬
‫تﻣاھﻲ الﻣطﻠق ﻣﻊ األرض لكﻲ يﺟﻌل ھذا الﻣصير الﻣنصﮭر ﻣﻊ‬
‫أرض ﻣوﻋودة ﻣن دولﺔ اﺳرائيل ﻣﺧتﻠفﺔ ﻋن دولﺔ صﻠيبيﺔ أو‬
‫اﺳتﻌﻣاريﺔ وﻋن دولﺔ يشيدھا ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن األھالﻲ الﻣتﻣردين‪ .‬ان‬
‫اﺳرائيل ھﻲ دولﺔ الﺟبل والﻌودة ودولﺔ اﻻلتﻘاء والتﺟﻣيﻊ‬

‫‪317‬‬
‫واﻻﺣتشاد داﺧل ﻣكان ﻣالزم ﻣن ﺣيث الﻣاھﺧيﺔ لﻠزﻣان الذي‬
‫توﻗفت فيه اﺳرائيل ﻋن أن تكون ﻣشتتﺔ‪.‬‬
‫ان ھذا التفﺳير اليﮭودي ﻋينه يطرح ﻋﻠﻰ ﻏير اليﮭودي ﺳؤالين‬
‫أﺳاﺳيين‪:‬‬
‫‪ -1‬ھل يﻣكن لﮭذه الﻣاھيﺔ الﻣﻌطاة الﻰ ﺟﻣاﻋﺔ ﻣصطفاة والتﻲ‬
‫تﺳﻌﻰ الﻰ تﺟﻣيﻊ أﻏﻠب اليﮭود الﻣشتتين ويﮭود دولﺔ اﺳرائيل أن‬
‫يﻘﻊ اﻻﻋتراف بﮭا ﻣن طرف أناس وﻣﺟﻣوﻋات أﺧرى؟‬
‫‪ -2‬ھل يﻣكن لﮭذا اﻻﻋتراف أن يؤدي الﻰ ﺣل ﺳياﺳﻲ‬
‫لﻠنزاﻋات التﻲ تم تﻘديﻣﮭا ﻋﻠﻰ أنﮭا نزاﻋات ﻋرضيﺔ؟‬
‫‪Ω‬‬
‫يﻘف اليﮭودي اليوم ﻣن بين كل األﻣم ﻣتﻣﺳكا بﮭويﺔ ﻣصطفاة‬
‫وأنا أطﻠب ﻣاذا يﻌنﻲ أن يكون‪ -‬بالنﺳبﺔ الﻰ ﻏير اليﮭودي وبالنﺳبﺔ‬
‫الينا نﺣن الشﻌوب األﺧرى‪ -‬ﺛﻣﺔ شﻌب ﻣشتت يﻌتبر نفﺳه ﻣنفيا فﻲ‬
‫كل ﻣكان يوﺟد ﺧارج فﻠﺳطين وﻻ يﻌترف بنفﺳه كشﻌب اﻻ باﻗاﻣﺔ‬
‫ﻋالﻗﺔ ﻣﻊ أرض‪.‬‬
‫يبدو لﻲ أن ھناك طريﻘﺔ ﺧاطئﺔ فﻲ ﻣﻌالﺟﺔ الﻣشكل بالنﺳبﺔ‬
‫الﻰ ﻏير اليﮭودي‪ :‬وھو أن يكون الطرح باﺳتﺧدام األلفاظ الﺣﻘيﻘﺔ‬
‫الﻣطﻠﻘﺔ وتبﻌا لذلك يﻘﻊ اتباع اليﮭودي الﻣؤﻣن ﻋﻠﻰ األرضيﺔ التﻲ‬
‫يﺳﻣيﮭا أندريه نيﮭير أرضيﺔ الﻣاھيﺔ‪.‬‬
‫فﻲ الواﻗﻊ‪ ،‬ان طرح الﻣشكل وفق ھذه األلفاظ يﺟﻌﻠه ﻏير ﻗابل‬
‫لﻠﺣل [أي شكل ﻣشترك كان‪ .‬ھذه الﻣاھيﺔ الﻣﻌطاة فﻲ نظر‬
‫اآلﺧرين ھﻲ أﺳطورة‪ ،‬وﺟبل صﮭيون فﻲ نظر الﻣﺳيﺣﻲ ليس‬
‫ﻋﻠﻰ اﻻطالق أرضا وﻻ ﻣﻣﻠكﺔ لﮭذا الﻌالم‪ ،‬ليس ﺟبل صﮭيون‬

‫‪318‬‬
‫البتﺔ فﻠﺳطين‪ ،‬انه يدل ﻋﻠﻰ ﻣكان وھو ليس أرضا بل ﻣﻣﻠكﺔ بال‬
‫أرض‪.‬‬
‫ان الﻣﻌنﻰ الﺣرفﻰ لألرض الﻣوﻋودة ھو ﻣﻠغﻰ فﻲ رﻣزيﺔ‬
‫الﻣكان ﻏير الﺟغرافﻲ‪ ،‬كﻣا أن الﺟغرافيا الالھوتيﺔ ھﻲ ﻣرﺣﻠﺔ‬
‫ﻣتﺟاوزة وﻣﻠغاة ﻣن التاريﺦ الروﺣﻲ الدائر ﻋﻠﻰ أنبياء اليﮭود‬
‫أنفﺳﮭم‪ .‬ﻣن ھنا يﺟب أن أﻗول كﻣﺳيﺣﻲ أن الﻣاھيﺔ التﻲ تؤﺳس‬
‫وﺟود اﺳرائيل ليﺳت الﻣاھيﺔ التﻲ تؤﺳس وﺟودي‪.‬‬
‫لكن اذا كنت ﻻ أﺳتطيﻊ الﻣشاركﺔ فﻲ الﻣاھيﺔ التﻲ يصطفيﮭا‬
‫اليﮭودي الﻣﻌتﻘد ﻣن أﺟل الﻣطالبﺔ بﻣكان ﻣطﻠق فانه يﻣكن أن أفﮭم‬
‫ايﻣانه ﻣن ﺧالل التﺧيل والتﻌاطف‪ .‬ھذا كافﻲ بالريب ليس فﻘط‬
‫بالنﺳبﺔ الﻰ الالھوت بل وأيضا بالنﺳبﺔ الﻰ الﺳياﺳﺔ‪.‬‬
‫ﻻ تﺣتاج رﺳالﺔ شﻌب الﻰ أن تكون ﺣﻘيﻘﺔ ﻣشﮭود بﮭا ﻣن ﻗبل‬
‫اآلﺧرين بوصفﮭا تاريﺧا ﻋظيﻣا‪ ،‬اذ يﻣتﻠك كافﺔ الشﻌب فﻲ تاريﺧه‬
‫أﻣرا ﻣا ﻋﻠﻰ أنه ﻣشروع يتأﺳس ﻋﻠﻰ ﻣوافﻘﺔ أﻋضائه ﻋﻠﻰ نفس‬
‫الوﺟود الﻣﺟﻣوﻋاتﻲ‪ ،‬ويتﺟﻠﻰ ھذا الﻣشروع فﻲ األﺧالق الﻣتﻌينﺔ‬
‫وفﻲ الروح التﻲ ينفرد أﻋضائﮭا باﻣكانيﺔ فﮭﻣﮭا ﻣن الداﺧل‬
‫وﻋيشﮭا بالفﻌل‪ ،‬وبل تأكيد ﻻ يﻠزم الﻘانونﻰ الدولﻲ الشﻌوب بأن‬
‫تﻠغﻲ ﺧصوصياتﮭا وفروﻗاتﮭا فﻲ تﺟريدات ﻏاﻣضﺔ‪.‬‬
‫ان ﻣا يﮭم ﻋندئذ فﻲ الﺳياﺳﺔ الﻌالﻣيﺔ ليس ﻣاھيﺔ اﺳرائيﻠيﺔ ﻏير‬
‫التواصﻠيﺔ ﻣﻊ أي شﻌب ﻏيرھا وليس ﺣﻘيﻘﺔ ھذه الﻣاھيﺔ بل فﻌل‬
‫وﺟودھا الﻣتكون بواﺳطﺔ ھذا اﻻيﻣان الﻣﻌروض فﻲ ﻣشﮭد لكل‬
‫الشﻌوب‪.‬‬
‫ان ﻣا يﮭم بالنﺳبﺔ الﻰ الﺳياﺳﺔ الﻌالﻣيﺔ ھو أنه ﺛﻣﺔ شﻌب يﻌتﻘد‬
‫بكل ﻣا فيه ﻣن ضﻌف وبكل ﻣﻌاناته وبكل أﻣﻠه أن وﺟوده الوﺣيد‬

‫‪319‬‬
‫والﻣﻣكن ھو أن يﺣتل ﻣكانا ﻣﻌينا فﻲ الﻌالم وأنه شﻌب ﺧارج ھذا‬
‫الﻣكان ويفرح ﻋندﻣا يتﺟﻣﻊ فيه‪ .‬بيد أنه ليس ﺛﻣﺔ ايﻣان يﻣكن لﻲ‬
‫أن أفﮭﻣه وأن أتﻘاﺳﻣه ﻣﻊ ايﻣان اﺳرائيل بأرض الﻣيﻌاد ﻻﺳيﻣا‬
‫بﻌد الﻘول بأن الﺟغرافيا الالھوتيﺔ ھﻲ فﻲ الواﻗﻊ ﺧاطئﺔ وباطﻠﺔ‬
‫وزائﻠﺔ الﻰ الكونيﺔ الﺟديدة الﺣﺳنﺔ‪.‬‬
‫انﻲ أشﻌر أنﻲ ﻣضطر الﻰ الﻘول بأن وﺟود الناس الذين‬
‫يواصﻠون فﻲ اﻻﻋتﻘاد بﮭذه الﺟغرافيا الالھوتيﺔ ھو وﺟود ﻗريب‬
‫ﻣنﻲ ﻣن أي وﺟود آﺧر‪ .‬وھذا لﺳببين‪ :‬بدايﺔ ألننﻲ ﻻ أكون شيئا‬
‫دون ھذه الﺟغرافيا الالھوتيﺔ لآلرض الﻣوﻋودة كﻠﺣظﺔ ﻣتﺟاوزة‬
‫اآلن‪.‬‬
‫ان اﺳرائيل اليوم ھﻲ ﻣن ﺳاللﺔ األنبياء الذين أﻋطوا التوراة‬
‫الﻰ الﻌالم‪ ،‬ھذه الﺳاللﺔ ﻣن األنبياء ﻻ يﻣكن أن تكون شﻌبا ﻣﺛل‬
‫اآلﺧرين وأنا ﻣوﺟود ﻣﻌﮭا فﻲ ﻋالﻗﺔ فريدة وﺳياﺳيﺔ رائﻌﺔ –‬
‫ﻋالﻗﺔ ﻣيتافيزيﻘيﺔ ﺣﺳب ﻣﻌنﻰ أندريه نيﮭير‪ .‬ان اﺳرائيل اليوم‬
‫ھﻲ اﻻﻣتداد ﻻﺳرائيل الﻣوﺟودة فﻲ ذاكرتﻲ‪.‬‬
‫وبﻌد ذلك ألن لﻲ ﻋالﻗﺔ أﺧرى ﻣﻊ اﺳرائيل فأنا أنتﻣﻲ الﻰ‬
‫الدول التﻲ اضطﮭدت ﺳاللﺔ األنبياء‪ .‬وأنا ﻣتضاﻣن ﻣﻊ الدول‬
‫والكنائس والﻣﺳيﺣيﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الﻣدانين بﮭذه الﻣذابح‬
‫واﻻﻋتﻘاﻻت والتﻌذيب وأشكال اﻻھانﺔ التﻲ تغطﻲ تاريﺦ اﺳرائيل‬
‫ﻣنذ تشتتﮭا والتﻲ تﻣﺛل ﻋاﻣال ﺣاﺳﻣا فﻲ اﺳتﻌادتﮭا لوﻋيﮭا كشﻌب‬
‫ﻣنفﻲ بﻌيدا ﻋن أرضه الﺟوھريﺔ‪ .‬ھذا ھو الﺳبب الذي يﺟﻌﻠنﻲ‬
‫أفﮭم ايﻣان اﺳرائيل ﻋن طريق التﺧيل والتﻌاطف ﺣتﻰ وان كنت‬
‫أنا نفﺳﻲ ﻻ أﻋتﻘد فﻲ ﺟغرافيتﮭا الالھوتيﺔ‪.‬‬

‫‪320‬‬
‫ھذا الفﮭم الﻌرضانﻲ لﻣصير الشﻌب اليﮭودي‪ -‬ﺣتﻰ وان بدت‬
‫ﻣشاركتﻲ فيه ﻣن الﻣركز ﻣﺳتﺣيﻠﺔ‪ -‬يﻘودنﻲ الﻰ ﺳؤال واﺣد يﺟوز‬
‫لﻲ أن أطرﺣه ﻋﻠﻰ صديﻘﻲ اليﮭودي‪ :‬هل هذه اﻟﻣاهيﺔ اﻟﺗي‬
‫ﺗزعﻣها واﻟﺗي ﺣسب رأيك ﺗؤسس ﻟﺣﻘك في أرض فلسطين هي‬
‫ﻣاهيﺔ ﻣوائﻣﺔ ﻟوﺟود اآلخرين ﺣول هذه اﻷرض وفوقها؟‬
‫لو كانت رﺳالﺔ اﺳرائيل الﻰ ھذه األرض فﻲ ﺣد ذاتﮭا وألﺟل‬
‫ذاتﮭا ﻏير تواصﻠيﺔ ﻣﻊ أي طرف آﺧر فان ﻣشكل تضايف‬
‫الرﺳاﻻت وتبﻌا لذلك تﻌايش الﺟﻣاﻋات التاريﺧيﺔ داﺧل نفس‬
‫الفضاء يﻣكن وﺣده ويﺟب أن يكون ﻣوضوع ﺣوار ونﻘاش‪ .‬ولو‬
‫كانت رﺳالﺔ شﻌب ﻣا ھﻲ ﻣا يﺟب أن تﻌاش ﺳوى ﻣن ذلك الشﻌب‬
‫فانﮭا تﺣصل ﻋﻠﻰ الﺣد األدنﻰ ﻣن اﻻﻋتراف ﻣن ﻗبل الغير ﻣن‬
‫أﺟل أن تتﻌايش ﻣﻊ رﺳالﺔ اآلﺧرين ضﻣن ﺳياﺳﺔ ﻋالﻣيﺔ‪ .‬وھذا‬
‫اﻻﻋتراف األدنﻰ ﻣن طرف اآلﺧرين ھو األﺳاس وليس لﻠوﺟود‬
‫لذاته ﻻﺳرائيل بل لوﺟودھا ﻣﻊ بﻘيﺔ الدول‪.‬‬
‫بيد أن ھذا الﺳؤال ﻗد طرﺣناه فﻲ أوروبا فﻘط تﺣت تأﺛير‬
‫الﻌاﻣﻠين الذين ذكرتﮭﻣا ﻣنذ الﻠﺣظﺔ لكﻲ أﺛبت ﻣا ﺳﻣيته فﮭم‬
‫ﻋرضانﻲ لاليﻣان باﺳرائيل والﻣﻌروف بالﻘرابﺔ التاريﺧيﺔ بين‬
‫اليﮭوديﺔ والﻣﺳيﺣيﺔ واضطﮭاد الﻣﺳيﺣيﺔ لالﺳرائيﻠيين‪ .‬لﻘد ﻗادنا‬
‫ھذان الﻌاﻣالن (أﻗول ﺟيدا نﺣن بﻣﻌنﻰ التضاﻣن الﺳياﺳﻲ) الﻰ‬
‫طرح ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻣن الﻘرارات‪ :‬وﻋد بﻠفور فﻲ ‪( 1917‬الﻣؤيد ﻣن‬
‫ﻗبل ﺣﻠفاء بريطانيا الﻌظﻣﻰ) والذي أﻋطﻰ لﻠﺣركﺔ الصﮭيونيﺔ ﺣق‬
‫"اﻗاﻣﺔ وطن ﻗوﻣﻲ لﻠشﻌب اليﮭودي فﻲ فﻠﺳطين"‪ ،‬وﻗد ضغط‬
‫الرأي الﻌام الﻌالﻣﻲ ﻋﻠﻰ بريطانيا الﻌظﻣﻰ ﻣن أﺟل أن تتوﻗف ﻋن‬
‫الﺣصار البﺣري الذي فرضته لﻣنﻊ الﮭﺟرات الﻣكﺛفﺔ لﻠيﮭود‬

‫‪321‬‬
‫الفارين ﻣن الﻣﻌﺳكرات األلﻣانيﺔ كأشﺧاص ﻣتنﻘﻠين‪ ،‬وﻗد انتﮭت‬
‫بﻌﺛﺔ تﻘصﻲ الﺣﻘائق لألﻣم الﻣتﺣدة الﻰ ﺧطﺔ تﻘﺳيم فﻠﺳطين ﺳنﺔ‬
‫‪ ،1948‬كﻣا تم التصويت لصالح اﻗرار تﻘﺳيم فﻠﺳطين ﻣن طرف‬
‫ﻣﺟﻠس الﺟﻣﻌيﺔ الﻌاﻣﺔ بﺛالﺛﺔ وﺛالﺛون صوتا ﻣﻘابل ﺛالﺛﺔ ﻋشر‬
‫والﻣتغيبين( الوﻻيات الﻣتﺣدة واﻻتﺣاد الﺳوفياتﻲ صوتا لصالح‬
‫الﻘرار)‪ ،‬كﻣا تم اﻻﻋتراف بدولﺔ اﺳرائيل بﻌد اﻋالن بن ﻏورين‬
‫اﻻﺳتﻘالل‪ ،‬فﻣاذا تﻌنيه ھذه األفﻌال التﻲ تغﻣرنا نﺣن األﻣريكيين‬
‫واألوروبيين والﺳوفيات؟‬
‫تﻌنﻲ فﻲ البدايﺔ وﻗبل كل شﻲء ارﺟاع أوروبا لدين تاريﺧﻲ‬
‫تﺟاه الشﻌب اليﮭودي‪ .‬لﻘد دفﻌت الﻣﺳيﺣيﺔ والدول التابﻌﺔ لﻠﻣﺳيﺣيﺔ‬
‫التاريﺧيﺔ فﻲ اآلن نفﺳه ﻣا ﻋﻠيﮭا ﻣن دين اﻻﻋتراف تﺟاه ﺳاللﺔ‬
‫األنبياء ﻗصد التﺧﻠص ﻣن الشﻌور بالذنب تﺟاه ضﺣايا كل ﺣركات‬
‫الﺳﻠطات الﻘيصريﺔ ﻻﺳتئصال اليﮭود وكل ﻣﻌﺳكرات اﻻﻋتﻘال‬
‫فﻲ التاريﺦ‪ .‬لكن نظرا الﻰ أن أوروبا وأﻣريكا ﻗد ﺳﻣﺣتا وأﺣيانا‬
‫شﺟﻌتا الناﺟون الﻣﻠيون ﻣن الﻣذابح ﻋﻠﻰ الﻌودة الﻰ فﻠﺳطين ﻣن‬
‫أﺟل دفﻊ الدين التاريﺧﻲ تﺟاه الشﻌب اليﮭودي فان ﻣشكل اﺳرائيل‬
‫ﻗد طرح الﻰ ﺣد ‪ 1948‬كﻣشكل يتﻌﻠق بأوروبا أﺳاﺳا وفﻲ ﻋالﻗﺔ‬
‫بالشﻌب الﻌربﻲ فﻘط فﻲ ﻣرﺣﻠﺔ ﺛانيﺔ‪ .‬ان أوروبا‪ -‬ھذه الﺛﻘافﺔ التﻲ‬
‫تﻣتد ﻣن فرانكفورت الﻰ فالديﺳتوك‪ -‬ﻗد ﺣﻠت ﻣشكﻠتﮭا اليﮭوديﺔ‬
‫بﻣنح الشﻌب الﻣطرود أرضا كانت ﻗد أصبﺣت أرضا ﻋربيﺔ فﻲ‬
‫ﻣرﺣﻠﺔ النفﻲ‪ .‬ان أوروبا فﻲ تﺳويتﮭا لﻣشكﻠتﮭا اليﮭوديﺔ ﻗد ﺧﻠﻘت‬
‫ﻣشكل ﻋربﻲ يﮭودي لم تﻘدر وزنه فﻲ الﻣﺳتﻘبل بالبصيرة ذاتﮭا‬
‫التﻲ ﻗدرت بﮭا فﻲ الﻣاضﻲ وزن الﻣشكل اليﮭودي الﻣﺳيﺣﻲ‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫ألم يكن ﺣل الﻣشكل األوروبﻲ اﻻﺳرائيﻠﻲ ﻗد أدى الﻰ ﺧﻠق‬
‫ﻣشكل آﺧر ﻏير ﻗابل لﻠﺣل ھو الﻣشكل اليﮭودي الﻌربﻲ؟‬
‫أﻋﺛر ھنا بالتﺣديد لﻰ كل الﻣﻌطيات التﻲ يﻌتبرھا أندريه نيﮭير‬
‫ﻋرضيﺔ وكل الﻣشاكل التﻲ يﺳﻣيﮭا "ﺳوء تفاھﻣات"‪ .‬أليﺳت ھذه‬
‫الﻣﻌطيات وھذه الﻣشاكل بالﺧصوص ھﻲ الﻌواﻗب الوﺧيﻣﺔ‬
‫لﻠﻣﻌطيات التﻲ يﺳﻣيﮭا فﻲ ﻣوضﻊ آﺧر بالﻣﻌطيات الﺟوھريﺔ‪،‬‬
‫بﻣﻌنﻰ الوﻋد اﻻلﮭﻲ ﻻﺳرائيل ابأرض كان لﮭا تاريﺦ يﻌود الﻰ‬
‫تشتت اﺳرائيل الﻘديﻣﺔ وباألﺧص الﻰ التاريﺦ الﻌربﻲ؟‬
‫ﻋﻠﻰ الفور‪ ،‬أريد أن أﻗول‪ ":‬اننا نﺣن األوروبيين أصبﺣنا رويدا‬
‫رويدا ﻣؤيدين لﮭذه الﻣاھيﺔ الﻣصطفاة ﻣنذ أن ﻗبﻠنا بالﻌودة الﻣكﺛفﺔ‬
‫لﻣﻠيون يﮭودي الﻰ فﻠﺳطين وﻣنذ أن صوتنا لصالح تﻘﺳيم فﻠﺳطين‬
‫واﻋترفنا بدولﺔ اﺳرائيل"‪ .‬ان ھذه األفﻌال تﻠزﻣنا‪ .‬ﻋندئذ يﺟب أن‬
‫نتﺣﻣل الﻌواﻗب اليﮭوديﺔ والﻌربيﺔ لﺣﻠنا لﻣشكﻠنا اليﮭودي‬
‫الﻣﺳيﺣﻲ‪.‬‬
‫ان ھذا األﻣر ينبغﻲ أن يكون ﻣﻌروفا ﻣن ﻗبل الﺟﻣيﻊ طالﻣا أنه‬
‫ﻻ يﻣكن أليﺔ ﺳياﺳﺔ ﻣؤيدة لﻠﻌرب أن تتنكر لﺣدث ‪ ،1948‬وﻣﮭﻣا‬
‫يكن الﺛﻣن الﻣدفوع ﻣﻘابل ذلك فاننا ﻣرتبطين أشد اﻻرتباط بﮭذا‬
‫الﺣدث ﻣنذ اﻋالن وﻋد بﻠفور فﻲ ‪ 1917‬وﺣتﻰ اﻻﻋتراف‬
‫باﺳرائيل ﻋام ‪ .1948‬وينبغﻲ اذن أن نطرح الﻣشكل اليﮭودي‬
‫الﻌربﻲ ﻣن ﺧالل ‪ 1948‬بﻣصطﻠﺣات التﻌايش وليس‬
‫بﻣصطﻠﺣات اﻻﻗصاء‪ .‬ولكن ھذا ﻻ يﻣنﻊ ﻣن الﻘول بأننا نﺣن‬
‫األوروبيون ﻗﻣنا فﻲ البدايﺔ بﺣل الﻣشكل األوروبﻲ اﻻﺳرائيﻠﻲ‬
‫ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب الﻌرب‪ ،‬وأننا بذلك ﻗد ﺧﻠﻘنا دينا تﺟاه الﻌرب ﻋند‬
‫ﻣﺣاولتنا ارﺟاع ديننا تﺟاه اليﮭود‪ .‬وھذا الدين تﺟاه الﻌرب ﻻ‬

‫‪323‬‬
‫نﻌرف الكيفيﺔ التﻲ نﺳدده بﮭا ألنه ﻣن الﻣرفوض أن نﻘبل بﺟريﻣﺔ‬
‫ﻋربيﺔ ضد اﺳرائيل ‪,‬أن نﻘبل بﺟريﻣﺔ ﺟﻣاﻋيﺔ تﺟﻌﻠنا ﻣرة أﺧرى‬
‫فﻲ التاريﺦ ﻣطالبين بدم اليﮭود الذين ﻗبﻠنا بﻌودتﮭم الﻰ اﺳرائيل‪.‬‬
‫ينبغﻲ أن نﻘول الﺣﻘيﻘﺔ أذ ﻻ أﺣد يﺳتطيﻊ راھنا أن ينكر ﺣاﻻت‬
‫التﻌايش بين اليﮭود والﻌرب فﻲ الشرق األوﺳط‪ ،‬لﻘد فرضنا ﻋﻠﻰ‬
‫أنفﺳنا ﻋﻠﻰ اﻻشتغال ﻋﻠﻰ ھذا التﻌايش ﺳواء ﻣن ﺟﮭﺔ اليﮭود أو‬
‫ﻣن ﺟﮭﺔ الﻌرب‪ .‬وأنا ﻻ أﺳتطيﻊ أن أﻋتبر الظواھر الﻣروﻋﺔ التﻲ‬
‫تدور فﻲ الشرق األوﺳط والتﻲ تصدر ﺣتﻣيا ﻣن ﻗبولنا ل ‪1948‬‬
‫والذي شطبنا به التاريﺦ الﻌربﻲ لفﻠﺳطين ﻣن أﺟل اﻋادة اﺛبات‬
‫ﻣصيره اليﮭودي‪ ،‬وأنا آل أﺳتطيﻊ أن أﻋتبر ھذا ﻣﺟرد ﺳوء تفاھم‬
‫أو ﻋالﻣات طارئﺔ‪.‬‬
‫ﻻ أرى كيف يﻣكن زرع اﺳرائيل فﻲ ھذه البﻘﻌﺔ ﻣن األرض‬
‫الﻌربيﺔ دون أن يﺳﻣﻰ ذلك ﺣروبا صﻠيبيﺔ أو ظاھرة اﻻﺳتﻌﻣار‬
‫فﻲ نظر الﻌرب‪ ،‬فﻲ ﺣين أنه فﻲ نظر اليﮭود ﻻ يﻣكن أن تﺧتزل‬
‫الﻌودة ﻣن الناﺣيﺔ الروﺣيﺔ الﻰ ﺣرب صﻠيبيﺔ أو اﺳتﻌﻣار‪ ،‬فﻲ‬
‫نظر الﻌرب ليس ھناك تﻣييز بين الوﺟود اﻻﺳرائيﻠﻲ وبين ھاتين‬
‫الظاھرتين ﻣن الناﺣيﺔ الﺳياﺳيﺔ‪ .‬الﻠﮭم اﻻ اذا كان ھناك فﮭم ﻋن‬
‫طريق الﺧيال والتﻌاطف لالﺳباب التوراتيﺔ لصﻌود اليﮭود الﻰ‬
‫اﺳرائيل‪.‬‬
‫ينبغﻲ أن يتﻣكن الﻌرب ﻣن فﮭم الﺟغرافيا الالھوتيﺔ ﻻﺳرائيل‬
‫دون ﻣشاركﺔ ﻣنﮭم اذا ﻣا أرادوا ﻗبول اﺳرائيل ﻋن طيب ﺧاطر‪.‬‬
‫وأنا ﻻ أرى البتﺔ أن ھذا الفﮭم لﻠﺣﻘيﻘﺔ التواراتيﺔ ﻻﺳرائيل يتوافق‬
‫ﻣﻊ ﻣﺳتوى الﺛورة الشﻌبيﺔ التﻲ ھﻲ بصدد التطور فﻲ الﻘاھرة‬
‫ودﻣشق‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫ان تشاؤﻣﻲ وﺣيرتﻲ لﮭذا الﺳبب يكونان كبيرين بالنﺳبﺔ الﻰ‬
‫ﻣﺳتﻘبل الﺳالم فﻲ الشرق األوﺳط‪ .‬لكن فﻲ الواﻗﻊ بﻘﻲ الﻌالم‬
‫الﻌربﻲ ﻣوضوع الﺳياﺳﺔ الدوليﺔ بين ‪ 1917‬و‪ ،1948‬وﻗد‬
‫ﺳاﻋدت ھذه الﺣالﺔ التﻲ وصفﮭا بن نبﻲ بأنﮭا ﺣالﺔ ﻗابﻠيﺔ اﻻﺳتﻌﻣار‬
‫ﻋﻠﻰ ﺧﻠق دولﺔ اﺳرائيل ألنﮭا ﺳﻣﺣت باﻻلغاء النﺳبﻲ لﻠطابﻊ‬
‫الﻌربﻲ لﻌودة اليﮭود الﻰ فﻠﺳطين‪ .‬بيد أن ھذه الوضﻌيﺔ لم تﺳتﻣر‬
‫أو ﻋﻠﻰ األﻗل تالشت شيئا فشﻲء ولﮭذا الﺳبب اﺧتفت بﻌض‬
‫الوضﻌيات التﻲ رافﻘت انشاء دولﺔ اﺳرائيل ﻣن الوﺟود ﺣتﻰ‬
‫تﺳاﻋدھا ﻋﻠﻰ اﻻﺳتﻣرار‪.‬‬
‫يبدو لﻲ أن يﻘظﺔ الﻌالم الﻌربﻲ ھﻲ ﻣﺣﻣﻠﺔ بالتﮭديدات الفاشيﺔ‬
‫الديﻣاﻏوﺟيﺔ والتﻲ تﺟﻌل ﻣن انظﻣام الالﺟئين الفﻠﺳطينيين الﻰ‬
‫دول ھذا الﻌالم الﻌربﻲ رأس أھدافﮭا‪ .‬لكن انتشار ﺳياﺳﺔ الﻌودة‬
‫ﻣن ﺟانب اليﮭود ﻻ تبدو لﻲ أﻗل ﺛﻘال باألﺧطار‪ ،‬فﻘد نشأت الدولﺔ‬
‫اليﮭوديﺔ ﻣن انﻘالب األﻏﻠبيﺔ فﻲ فﻠﺳطين لﻣصﻠﺣﺔ اليﮭود بﻌد‬
‫اكﻣال الﮭﺟرة اليﮭوديﺔ الﻣكﺛفﺔ بﻌد الﺣرب وبﻌد تﮭﺟير بﻌض‬
‫الﻣئات ﻣن اآلﻻف ﻣن الﻌرب الفﻠﺳطينيين فﻲ ﺣرب الﺣدود ﺳنﺔ‬
‫‪.1948‬‬
‫ان الﻣﺳتﻘبل ﺳيصبح أﻗل تﻌتيﻣا لو أن توازنا ديﻣغرافيا ﺟديدا‬
‫يﻣكن أن يتبﻠور انطالﻗا ﻣن ھذه الوضﻌيﺔ الﺣاليﺔ ( ودون اﻻﺣتراز‬
‫ﻣن ﺣل ﻣرضﻲ لﻣشكﻠﺔ الالﺟئين والتﻲ ﻻ يﺳتطيﻊ اﺣد ان يتنبا‬
‫بﻌواﻗبﮭا)‪ .‬بيد أن ﻗانون الﻌودة والذي التزﻣت بواﺳطته دولﺔ‬
‫اﺳرائيل بضﻣان لكل يﮭودي ﻣﮭدد بالﮭﺟرة الﻣباشرة ﻻﺳرائيل‬
‫والﻣواطنﺔ ﻏير الﻣشروطﺔ وتﺟﻌل ﻣن دولﺔ اﺳرائيل دولﺔ ﻣفتوﺣﺔ‬
‫اﻣكانيا ﻋﻠﻰ ﻋدة ﻣاليين ﻣن الﻣﮭاﺟرين‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫ينبه أندريه نيﮭير ھنا الﻰ أن األﻣر يتﻌﻠق فﻘط بارادة الشﻌوب‬
‫ﻏير اليﮭوديﺔ أﻻ يؤدي ھذا النداء الﻰ أي ﺧﻠل فﻲ التوازن‬
‫الديﻣوﻏرافﻲ‪ .‬ھذا األﻣر ھو الﺣق ولكن الشﻌوب الﻌربيﺔ ليﺳت‬
‫ھﻲ التﻲ بيدھا ﻣفتاح اﻻضطﮭاد ﻣرة أﺧرى وبالتالﻲ أﺳباب‬
‫الﮭﺟرة الﻰ اﺳرائيل‪ .‬ان يﮭود الدياﺳبورا توﺟد فﻲ روﺳيا‬
‫وأﻣريكا‪ .‬ولكن ﻣﺟرد وﺟود دولﺔ اﺳرائيل وبصفﺔ ﺧاصﺔ الوﺟود‬
‫الوﺣيد لدولﺔ اﺳرائيل وﻗانون الﻌودة يشكالن ﻣرﺳل الﻰ كل اليﮭود‬
‫فﻲ الﻌالم بﻌض النظر ﻋن فكرة اﻻضطﮭاد‪.‬ھكذا يتﺣدث أندريه‬
‫نيﮭير ھو نفﺳه ﻋن الوﺣدة ﻏير الﻣفصولﺔ بين دولﺔ اﺳرائيل‬
‫ويﮭود الدياﺳبورا وﺳرﻋان ﻣا يضيف أن يﮭودي الدياﺳبورا‬
‫يﻌرف كيف يﻣيز بين الروابط التﻲ تصل بالوطن والروابط التﻲ‬
‫تصﻠه بنﺳبه اﻻﺳرائﻠﻲ‪ ،‬لكن أليس ھذا التﻣييز ھو تﻣييزا دﻗيﻘا‬
‫وھشا بالﻣﻘارنﺔ ﻣﻊ ﻗدرة الﺟذب الﻰ النﺳب اﻻﺳرائﻠﻲ؟ أﻻ يﻣﺛل‬
‫ﻗانون الﻌودة بالنﺳبﺔ لﻣن يريد أن يفكر ﻋﻠﻰ الﻣدى الطويل ﻋاﻣل‬
‫تفكك بالنﺳبﺔ لوطنيﺔ يﮭود الدياﺳبرا ﻣنذ الﻠﺣظﺔ التﻲ اﻋتبروا فيﮭا‬
‫أنفﺳﮭم كيﮭود وليس فﻘط كﻣواطنون ضﻣن آﺧرين؟ أليﺳت الﻌودة‬
‫ھﻲ الﻣصير الطبيﻌﻲ لكل يﮭودي يﻌتبر نفﺳه ﻣنفيا اذا كانت‬
‫فﻠﺳطين ھﻲ ﻣركز النفﻲ؟ أﻻ ينبغﻲ أن تتوفر لديه أﻋذار ﺣتﻰ‬
‫يرفض الﻌودة الﻰ اﺳرائيل ﻣنذ الﻠﺣظﺔ التﻲ أصبح فيﮭا ﻣصيره‬
‫يشكل ﺟزءا ﻣن الﻣوب الال نﮭائﻲ لﻠﻌالم؟‬
‫ھنا يريد الﻣرء أن يري ﻣبادرات ﻋﻘالنيﺔ ﻣن اليﮭود الﻣتدينين‬
‫وﻏير الﻣتدينين وﻣن اﻻﺳرائﻠيين وﻏير اﻻﺳرائﻠيين لﻠﻌالﻗات‬
‫الﻣﺳتﻘبﻠيﺔ بين يﮭود الدياﺳبورا ودولﺔ اﺳرائيل‪ .‬اذا ﻣا أصبﺣت‬
‫دولﺔ اﺳرائيل تصبح دولﺔ ﻋﻠﻣانيﺔ فان اآلفاق الﻣفتوﺣﺔ بواﺳطﺔ‬

‫‪326‬‬
‫ﻗانون الﻌودة فﻲ ﻋصر اليﻘظﺔ الﻌربيﺔ ﻻ يﻣكن نﮭا كﻣا تبدو لﻲ‬
‫اﻻ أن تنﺣﺳر‪.‬‬
‫ان ﻣا يظﮭر ﻣتناﻗضا ھو أن يتﻘدم ھذا الوازع بﻌد أن تم تﺣوير‬
‫كل الﻣشروع الﺳياﺳﻲ لدولﺔ اﺳرائيل ﺣول تيولوﺟيا الﻌودة‪ ،‬ﻏير‬
‫ان ھذه الﺳياﺳﺔ التﻲ تﺟد ﻣﻌناھا فﻲ ﻣﺛل ھذه التيولوﺟيا تﺣديدا‬
‫يﻣكن لﮭا أن تﻌﺛر فيه ﻋﻠﻰ ﻣﻌيارھا‪ .‬واذا كان األﻣر ﻣﺛﻠﻣا أﻗرأ فﻲ‬
‫كل ﻣكان يتﻌﻠق بأن اليﮭود الﻣؤﻣنين ﻗادرون ﻋﻠﻰ أن يﻌطوا‬
‫لﻌودتﮭم ﻣﻌنﻰ الغزو الصوفﻲ لﻠﻣطﻠق وان ھؤﻻء ﻗد تﺣولوا الﻰ‬
‫أﻗﻠيﺔ تتﮭﻣش أكﺛر فأكﺛر داﺧل نفﺳﮭا فانﻲ أتﺳاءل اذن ﻣاذا تﻌنيه‬
‫الﻌودة ﺧارج اطار النبوة التوراتيﺔ وﻣا الذي يﺣﻣﻲ كل الﻣشروع‬
‫الﺳياﺳﻲ ﻻﺳرائيل ﻋﻠﻣانيﺔ ضد الﺣرب وضد كل توﺳﻊ ﻋﻠﻰ‬
‫أﺳاس ﻋنصري‪.‬‬
‫والﺣق أن ﻣا يصﻌب فﮭﻣه بالنﺳبﺔ الﻰ ﻏير اليﮭودي ھو الﻣﻌنﻰ‬
‫الذي يﻣكن أن تﺣافظ ﻋﻠيه الﻌودة ﻋند اليﮭودي ﻏير الﻣؤﻣن‪ ،‬فاذا‬
‫كان ھناك ﺳر ﻋند اليﮭودي الﻣؤﻣن فان ھناك لغز بالنﺳبﺔ لﻠيﮭودي‬
‫ﻏير الﻣؤﻣن وﻋند الذي يتﻌرف ﻋﻠﻰ نفﺳه كيﮭودي ﻣن ﺧالل ھذه‬
‫الﻌودة‪ .‬لكن ﻣا ييدو ﻣن الواﺟب تشييده بالنﺳبﺔ الﻰ ﻣﺳتﻘبل‬
‫اﺳرائيل ھو ھذا الﻠغز بالذات‪ .‬أنا ﻻ أرى أي شﻲء فﻲ دراﺳﺔ‬
‫أندريه نيﮭير يﺳاﻋدنﻲ ﻋﻠﻰ فﮭم ھذا الﻠغز‪ .‬ھل نﻌتﻘد كﻣا تتركنا‬
‫صفﺣته األﺧيرة نفﮭم بشكل ذكﻲ أن اليﮭود ﺣتﻰ وان كانوا‬
‫ﻋﻠﻣانيين يظﻠون دائﻣا ﻣدفوﻋين الﻰ الﻌودة ﻻ لشﻲء اﻻ لكونﮭم‬
‫يﮭود بدوافﻊ يﻣكن تفﺟيرھا أيضا ﻣن النبﻊ التوراتﻲ؟ أﻻ ترفﻊ‬
‫ﺟذريا ﻣن األفق التاريﺧﻲ ھذه اﻻﻣكانيﺔ التﻲ ﻻ تﺟﻌل دولﺔ‬
‫اﺳرائيل تفﮭم نفﺳﮭا اﻻ ﻋن طريق الوﻋد التوراتﻲ بأرض الﻣيﻌاد‬

‫‪327‬‬
‫والنظر الﻰ ھذا الوﻋد كأﺳطورة ﻣؤﺳﺳﺔ بﻣوتﮭا ﺣتﻰ تﺳتطيﻊ‬
‫ھذع الدولﺔ أن تبﻘﻰ كدولﺔ؟ أليس ﻣن أﺟل ھذه اﻻﻣكانيﺔ كافح‬
‫أنبياء اﺳرائيل الﻘديﻣﺔ بال ھوادة؟‬
‫وھكذا يتوﻗف ﻋﻠﻰ ھذه اﻻﻣكانيﺔ ايﻘاف تﮭور األوضاع فﻲ‬
‫الشرق األوﺳط‪ ،‬فاذا كانت اﺳرائيل ﺣﻘيﻘﺔ ضﻌيفﺔ ﺟدا الﻰ الﺣد‬
‫الذي ﻻ يشكل ﻣﻌه وﺟودھا تﮭديدا لﻠدول الﻌربيﺔ ﻣﮭﻣا تظاھرت‬
‫ھذه الدول بتصديق ذلك‪ ،‬فان اﺧتزال اﺳرائيل الﻰ ﻗوة بين الﻘوى‬
‫تتﻌارض فيﮭا نزﻋﺔ ﻋﺳكريﺔ ﻣﻊ أﺧرى ونزﻋﺔ توﺳﻌيﺔ ﻣﻊ نزﻋﺔ‬
‫أﺧرى‪ ،‬كل ھذا ﺳيصبح ﻋاﻣل ﻋدم اﺳتﻘرار وتوتر اضافﻲ‪.‬‬
‫يبدو أن ﻣا يﻌانﻲ ﻣنه الشرق األوﺳط فﻲ الﻌﻣق ھو نزاع ﺣول‬
‫الﺟغرافيا الالھوتيﺔ التﻲ انﺣطت بشكل ﻣﺳتﻣر الﻰ ﺟغرافيا‬
‫ﺳياﺳيﺔ‪ ،‬أليﺳت اﺳرائيل واﻻﺳالم ﻣصابين بنفس الداء الذي ھو‬
‫فﻲ ﺟزء ﻣن صنﻌنا نﺣن األوروبيين؟‬
‫ھذه ھﻲ الﻣنظورات الﻣرﻋبﺔ ﻣن النزاع اليﮭودي الﻌربﻲ واذا‬
‫لﻠم نأﺧذ ﺣيطتنا ﻣن ذلك فان شرارة الﺣرب النوويﺔ ﺳوف تنطﻠق‬
‫ﻣنه‪ ،‬ولﮭذا الﺳبب ﺳوف تكون اﺟراءات الوﻗايﺔ وﺣدھا ھﻲ ﻣا‬
‫يﻣكن اليوم اتﺧاذھا اذا ﻣا فشل ﺣوار ﺣﻘيﻘﻲ بين اليﮭود والﻌرب‬
‫والذي راھنا ﻣازال بﻌيد الﻣنال‪.‬‬
‫‪ )1‬ارتكزت ﺣالﺔ التوازن فﻲ ‪ 1948‬ﻋﻠﻰ اﻻتفاق بين الﻘوى‬
‫الكبرى ويصفﺔ أوليﺔ بين الوﻻيات الﻣتﺣدة واﻻتﺣاد الﺳوفياتﻲ‪ .‬اذ‬
‫ﻻ يﻣكن تركيز الﺳالم فﻲ الشرق األوﺳط اﻻ ﻋبر اﻋادة بناء اتفاق‬
‫‪ 1948‬وﻋﻠﻰ ﺣظر كل األﺳﻠﺣﺔ التﻲ بﺣوزة كل دول الشرق‬
‫األدنﻰ‪ ،‬وھذا ھو أول اﻻﺟراءات الوﻗائيﺔ التﻲ تفرض نفﺳﮭا ﻋﻠﻰ‬
‫الدول الكبرى‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫‪ )2‬ان ﺳياﺳﺔ ﻣوازيﺔ ﻣن ﻋدم اﻻنتﻣاء الﻰ كتل الﻘوى الكبرى‬
‫ھﻲ وﺣدھا يﻣكن أن تﻌيد ﺧﻠق اتفاق فﻲ وﺟﮭات النظر بين‬
‫اﺳرائيل والدول الﻌربيﺔ‪ ،‬وﺣول ھذه النﻘطﺔ ناﺣيم ﻏولدﻣان ھو‬
‫الراﻋﻲ الﺣﻘيﻘﻲ لﻣصالح اﺳرائيل‪.‬‬
‫‪ )3‬يﺟب أن يكون التوازن الديﻣغرافﻲ الﻌادي فﻲ الشرق‬
‫األوﺳط ﻣضﻣونا بواﺳطﺔ الﻘوى الكبرى‪ ،‬ويﻘترح أندريه نيﮭير أن‬
‫يكون ﻗانون الﻌودة ﻣتفﺣصا بواﺳطﺔ ﻣﺣكﻣﺔ دوليﺔ لﻠﻌدل ﻣن نوع‬
‫ﻣﺣكﻣﺔ ﻻھاي ﻣن أﺟل أن تزول كل شبﮭﺔ اﺳتغالل ھذا الﻘانون‬
‫كوﺳيﻠﺔ ﻣﻠتويﺔ لﻠتوﺳﻊ اﻻﺳرائيﻠﻲ‪ ،‬ھذا اﻻﻗتراح ھام ﺟدا ويتنزل‬
‫ضﻣن ﻣشروع اﻋتراف اآلﺧرين برﺳالﺔ اﺳرائيل‪.‬‬
‫‪ )4‬ينبغﻲ أن تﺣصل الﻘوى الكبرى ﻋﻠﻰ اﻋتراف شكﻠﻲ بدولﺔ‬
‫اﺳرائيل فﻲ ﺣدودھا الﺣاليﺔ تﻘريبا ﻣن طرف الﻌرب وﻋﻠﻰ اﻣضاء‬
‫ﻣﻌاھدة ﺳالم فﻲ ﻣﻘابل دراﺳﺔ صيغ ﺟديدة ﻣن الكونفيدراليﺔ‬
‫تضﻣن ﻻﺳرائيل وﺟودا ﻗوﻣيا داﺧل كيان ﺳياﺳﻲ يﻠﻌب فيه الﻌرب‬
‫دورا ﺣاﺳﻣا‪.‬‬
‫ان اﻻﻋتراف بالواﻗﻊ الﻌربﻲ ضﻣن الﻣشروع الصﮭيونﻲ‬
‫(ﺣﺳب ﻋبارة اندريه نيﮭير) واﻻﻋتراف بالواﻗﻊ الصﮭيونﻲ داﺧل‬
‫الﻣؤﺳﺳﺔ الﻌربيﺔ يﻣكن أن يضﻊ ﺣدا لﻠنزاع الﻌربﻲ اﻻﺳرائيﻠﻲ‪.‬‬
‫نﺣن لﺳنا بﻌد فﻲ ھذه الﻣرﺣﻠﺔبل ان كل شﻲء يﺳير فﻲ اﻻتﺟاه‬
‫الﻣﻌاكس‪ .‬ان األﻣر ﻋﻠﻰ األﻗل يتوﻗف ﻋﻠﻰ الﻘوى الكبرى التﻲ‬
‫ﻗبﻠت بوﺟود اﺳرائيل وتريد اآلن تﻌايشﮭا ﻣﻊ الﻌالم الﻌربﻲ‪ ،‬بﻣا‬

‫‪329‬‬
‫أن الﻣشكل ﻗد ﺧﻠﻘته ھﻲ ﻋندﻣا أرادت تدارك فشﻠﮭا فﻲ زرع‬
‫‪1‬‬
‫اﺳرائيل فﻲ ﻗﻠب الﻣﺳيﺣيﺔ‪".‬‬
‫ان ھذا النص الذي كتبه بول ريكور ﺳنﺔ ‪ 1951‬ﻣازال يﻣﺛل‬
‫ﻣرﺟﻌا بالنﺳبﺔ الﻰ الﻰ ﻣواﻗف الﻣﺳيﺣيين التﻘدﻣيين ﻣن ﻗيام دولﺔ‬
‫اﺳرائيل وھو يﻣﺛل اﻋترافا صريﺣا ﻣن ﻣﺛﻘف أوروبﻲ بأھﻣيﺔ‬
‫الدور الذي يﻠﻌبه الﻌرب والﻣﺳﻠﻣون فﻲ الﺳياﺳﺔ الدوليﺔ راھنا اذا‬
‫ﻣا أﻋطوا كاﻣل اﺳتﻘالليتﮭم وﺣﻘوﻗﮭم ويبدي فيه اتﻘديرا لﻠيﻘظﺔ‬
‫الﻌربيﺔ الﻘادﻣﺔ ولﻠﺛﻘافﺔ الﻌربيﺔ ﻋند اﺳتشﮭاده بالﻣفكر الﺟزائري‬
‫ﻣالك بن نبﻲ ونظريته فﻲ ﻗابﻠيﺔ اﻻﺳتﻌﻣار وﻋند تﺣﻣيﻠه الغرب‬
‫الﻣﺳؤوليﺔ الﻘانونيﺔ الكاﻣﻠﺔ فﻲ كل ﻣا يﻣارس ﻣن ﺟرائم وتﮭﺟير‬
‫لﻠﺳكان األصﻠيين ﻣن الﻌرب والفﻠﺳطينيين انطالﻗا ﻣن وﻋد بﻠفور‬
‫الﻰ ﺣد اﻻﻋتراف بالكيان ﻣن ﻗبل الﻣنتظم األﻣﻣﻲ وﺧاصﺔ ﻣن‬
‫طرف أكبر دولتين ھنا الوﻻيات الﻣتﺣدة واﻻتﺣاد الﺳوفياتﻲ‪ .‬كﻣا‬
‫يﻌالج ريكور فﻲ ھذا النص ﺣادﺛﺔ تشكل الدولﺔ الﻌبريﺔ ﺳنﺔ‬
‫‪ 1948‬و ينبه الﻰ ﻣارافق ذلك ﻣن نكبﺔ لﻠﺳكان األصﻠيين والتﺳبب‬
‫فﻲ ھﺟرة وتشرد لشﻌب بأكﻣﻠه ويكشف ﻋن األﺳاس الالھوتﻲ‬
‫التوراتﻲ لدولﺔ اﺳرائيل وﺧطورة الﮭﺟرة الﻣكﺛفﺔ ﻣن طرف اليﮭود‬
‫ﻋﻠﻰ التوازن الديﻣوﻏرافﻲ ويﺟﻌﻠﮭا ﺳبب اﺛارة الﻣشاﺣنات‬
‫والتورات فﻲ الﻣنطﻘﺔ ويدﻋو الﻰ ﻗيام دولﺔ ﻋﻠﻣانيﺔ تتﻌايش فيﮭا‬
‫ﺟﻣيﻊ الديانات والﺛﻘافات ﻋﻠﻰ ﻗدم الﻣﺳاواة ودون تﻣييز واﻗصاء‬
‫ويﺣرص ريكور ﻋﻠﻰ نبذ الﺣروب والﻌنف ويﻘترح بﻌض الﺣﻠول‬
‫لﻠصراع الﻌربﻲ اﻻﺳرائيﻠﻲ فﻲ اطار نظرته الفﻠﺳفيﺔ الكونيﺔ‬

‫‪1‬‬
‫‪Paul Ricoeur, Lectures 1 , Autour du Politique , Edition Du Seuil ,‬‬
‫‪1991 ,P357- P366‬‬

‫‪330‬‬
‫والتﻲ تﻌبر كل ﻣن اليﮭود والﻣﺳيﺣيين ﻣنﺣدرين ﻣن أصل واﺣد‬
‫ھو الشﺟرة اﻻبراھيﻣيﺔ ولذلك ﺣري بﮭم أن ينﮭوا ﺧالفاتﮭم الﻌﻘديﺔ‬
‫وأن يتصالﺣوا ويتﻌايشوا‪.‬لكن ﻋيب ريكور أنه لم ينﻘد صراﺣﺔ‬
‫الﻌﻘيدة الصﮭيونيﺔ ولم يشر الﻰ الطبيﻌﺔ الﺣربيﺔ الﻌﺳكريﺔ لﮭذا‬
‫الكيان وﺳاوى بين الضﺣيﺔ والﺟالد ودﻋا الﻌرب الﻰ اﻻﻋتراف‬
‫الﻣﺟانﻲ باﺳرائيل ﻣﻘابل اﺣترام ھذا الكيان لﺟيرانه الﻌرب وكأنه‬
‫يريد اﻻﻋتراف ﻣﻘابل الﺳالم واألﻣن لﻠﻌرب وھو ﻣا ﺣصل ﻋند‬
‫توﻗيﻊ الﺳادات لﻣﻌاھدة كاﻣب ديفيد وﻣشاركﺔ ﻣنظﻣﺔ التﺣرير فﻲ‬
‫ﻣفاوضات الﺳالم فﻲ ﻣدريد وأوﺳﻠوا وﻗيام بﻌض الدول الﻌربيﺔ‬
‫بالتطبيﻊ واﻻﻋتراف بﮭذا الكيان وﻗد وصل األﻣر الﻰ ﺣد التﻣﺛيل‬
‫الديبﻠوﻣاﺳﻲ وفتح الﺳفارات وﻣكاتب التﻣﺛيل الديبﻠوﻣاشﺳﻲ ولكن‬
‫دون ﺟدوى لم ينه ذلك الﻣشكل ولم تصف الﻘضيﺔ الفﻠﺳطينيﺔ‬
‫وﻣازال ﻣن الﻌرب وﻣن الفﻠﺳطينيين ﻣن يطالب بكاﻣل فﻠﺳطين‬
‫ﻣن النﮭر الﻰ البﺣر ويﻌتبر اﺳرائيل دولﺔ اﺳتيطانيﺔ واﺳتﻌﻣاريﺔ‬
‫ﻻ بد أن تزول ﻣن الوﺟود فﻲ ﺣين أن الذين ﺣاوروا وفاضوا‬
‫وطبﻌوا لم يﺣصوا شيئا واألنظﻣﺔ الﺳياﺳيﺔ الﻣﮭادنﺔ ﻗد فﻘدت‬
‫ﻣشروﻋيتﮭا التاريﺧيﺔ والﺣضاريﺔ والشﻌبيﺔ وتصاﻋدت أﺳﮭم‬
‫التيار الرافض وزادت أھﻣيته فﻲ الﻣنطﻘﺔ‪.‬‬
‫لﻘد نﺳﻲ بول ريكور أن الفﻠﺳطينيين يطالبون بأرضﮭم‬
‫الﻣﺳتباﺣﺔ وﺣﻘوﻗﮭم التاريﺧيﺔ فﻲ الﻘدس والﻌودة والوطن الﻣﺳتﻘل‬
‫وذي الﺳيادة الكاﻣﻠﺔ وليس ﻣﺟرد ﻣﺳاﻋدات ﻣاديﺔ وأﻣكنﺔ لاليواء‬
‫ﻣن التشرد وھذه الﺣﻘوق ﻏير ﻣﺣصﻠﺔ فﻲ ظل وﺟود دولﺔ اﺳرائيل‬
‫وانتﮭاﺟﮭا ﺳياﺳﺔ توﺳﻌيﺔ اﺧتراﻗيﺔ تﺣﻠم باﻣبراطوريﺔ ﻣن الفرات‬
‫الﻰ النيل‪ .‬فاذا تﺣيزالفالﺳفﺔ لﻠﻣﻠﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب الﺣﻘيﻘﺔ وتبنوا‬

‫‪331‬‬
‫ﻣواﻗف ذاتيﺔ وﻗبﻠيﺔ ﺛﻘافيﺔ ﻣالوا الﻰ األھواء والﻘناﻋات الﻣﺳبﻘﺔ‬
‫فكيف نﺳتغرب تصرفات ﺟنراﻻت الﺣرب الﮭوﺟاء ونﻠوم رﺟال‬
‫الﺳياﺳﺔ ﻣن ﻣﻣارﺳﺔ التﻌﺳف والغطرﺳﺔ؟‬

‫اﻟﻣرﺟﻊ‪:‬‬
‫‪Paul Ricoeur, Lectures 1 , Autour du Politique ,‬‬
‫‪Edition Du Seuil , 1991‬‬

‫‪332‬‬
‫الفصل الثاني عشر‬

‫صعود الروحانية السياسة‬

‫والعناية بالحياة‬

‫"لﻘد أﺛارت طبيﻌﺔ ھذا التيار اﺳتغرابﻲ ﻣنذ أن ﻋﻠﻣت بﮭا‪ ،‬وشﻌرت‬
‫بﻘﻠيل ﻣن الﺳأم‪ ،‬وھو أﻣر يﺟب أن أﻋترف به‪ ،‬وأنا أﺳﻣﻊ ﻋددا ً ﻣن الﺧبراء‬
‫الفطنين يكررون أﻣاﻣﻲ‪" :‬إننا نﻌرف ﻣا يرفضونه‪ ،‬لكنﮭم ﻻ يﻌرفون ﻣا‬
‫يريدونه"‪.‬‬
‫ﻣيشيل فوﻛو (‪Le Nouvel Observateur‬‬
‫ﻋدد ‪).1978 /22 - 16‬‬

‫ﻣضﻰ اآلن ﻋﻠﻰ وفاة الفيﻠﺳوف الفرنﺳﻲ ﻣيشيل‬


‫فوكو(‪ )1926-1984‬أربﻊ وﻋشرون ﺳنﺔ وھو ﻣا يزال يتربﻊ‬
‫ﻋﻠﻰ ﻋرش الﺳاﺣﺔ الفكريﺔ وينصب ﻋﻠﻰ رأس اﻻھتﻣاﻣات‬
‫الفﻠﺳفيﺔ فﻲ الدوائر األكاديﻣيﺔ ولكن ﻣﻘاله ﻋن ﻣا ﺣصل فﻲ إيران‬
‫ﻣن ﻣنﻌطف تاريﺧﻲ الذي كتبه ﻣنذ ﺛالﺛين ﺳنﺔ (‪ )1978‬ﻣازال‬
‫يفيض بالﻣﻌانﻲ ويزﺧر بالدﻻﻻت وأظن أنه لم يﻘرأ ﻗراءة وافيﺔ‬
‫كافيﺔ ولم يﻘدر ﺣق ﻗدره والﻣرات الﻘالئل التﻲ ذكر فيﮭا اﺳتغل‬
‫لﻠﻣﺳاندة والتبرير وتﻠﻣيﻊ الصورة والتباھﻲ بالﺣصول ﻋﻠﻰ‬
‫اﻋتراف ﻣن اآلﺧر بﻌظﻣﺔ األنا أو ﻹﺛبات ﻗدرة الغرب ﻋﻠﻰ إنتاج‬
‫ﻣﺛﻘفين ﻋضويين ينتﻣون إلﻰ الﻣﺟتﻣﻊ الﻣدنﻲ الﻌالﻣﻲ ويﻣﺛﻠون‬

‫‪333‬‬
‫الﺟانب اﻹنﺳانﻲ ويﺳاندون الﻘضايا الﻌادلﺔ فﻲ الﻌالم الناﻣﻲ ‪.‬‬
‫لكن األﺳئﻠﺔ التﻲ تطرح نفﺳﮭا ھنا ھﻲ التاليﺔ‪ :‬كيف يدافﻊ أﺣد أھم‬
‫دﻋاة التﺣرريﺔ والﻣﺛﻠيﺔ الﺟنﺳيﺔ ﻋﻠﻰ الﺛورة الدينيﺔ ويتﺳاﻣح ﻣﻊ‬
‫ﻋودة األنظﻣﺔ الﺛيوﻗراطيﺔ التﻲ ﺣﺳﻣت الﺣداﺛﺔ الغربيﺔ الﻣﻌركﺔ‬
‫ﻣﻌﮭا ﻣنذ الﺛورة الفرنﺳيﺔ وإبﻌاد ﺳﻠطﺔ الكنيﺳﺔ ﻋن التدﺧل فﻲ‬
‫الشأن الﻌام؟ وأﻻ يوﺟد تناﻗض بين الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ التﻲ ينظر لﮭا‬
‫فوكو فﻲ كتاباته الﻣتأﺧرة والروﺣانيﺔ الﺳياﺳيﺔ ‪politique‬‬
‫‪ spirituelle‬التﻲ صﻌدت فﻲ الﺟاﻣﻌات اﻹيرانيﺔ؟ أﻻ يﺣاول‬
‫فوكو اﻻنتصار إلﻰ النزﻋﺔ الﺛﻘافيﺔ التﻲ تﻣﺛﻠﮭا فرنﺳا ضد النزﻋﺔ‬
‫اﻻﻗتصاديﺔ التﻲ تﺟﺳدھا أﻣريكا؟‬
‫البﻌض يفﺳر ﺳر افتتان فوكو بﻣا ﺣدث فﻲ إيران بكونه كان‬
‫ضﺣيﺔ ﻏوايﺔ الصورة الشبﻘيﺔ التﻲ ﻗدﻣﮭا اﻻﺳتشراق ﻋن ﺳﺣر‬
‫الشرق وﺟﻣاله وتﻌدد ﻣﺟاﻻت تﺣﻘيق الرﻏبﺔ وتنشيط الﺧيال‬
‫وإطالق ﻋنان الغرائز فيه ولكن الﺣﻘيﻘﺔ ھﻲ أبﻌد ﻣن ذلك بكﺛير‬
‫إذ يطبق فوكو ھنا ﻣنﮭﺟه التشﺧيصﻲ ويﺳتﻌين بﻣﺳبره‬
‫األركيولوﺟﻲ وﻣنﮭﺟه البنيوي ﻣن أﺟل ﻗراءة الواﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫والﻣﺳتﻘبل الﺳياﺳﻲ ألكبر دولﺔ نفطيﺔ فﻲ الشرق تﺣاول التﺣرر‬
‫ﻣن ھيﻣنﺔ شيوﻋيﺔ الﺳوفيات واﻣبرياليﺔ األﻣريكان ‪.‬‬
‫بينﻣا ھناك ﻣن يرى أن ھذا الﻣﻘال ھو ﺣﺟﺔ ﻣﻠﻣوﺳﺔ تﺛبت أن‬
‫فوكو ﻗدم ﻣﺳاﻋدة ﻣﻌتبرة ﻣن أﺟل إنﺟاح تﺟربﺔ اﻹﺳالم الﺳياﺳﻲ‬
‫فﻲ ﻗيادة الﻣﻌارضﺔ والﺟﻣاھير اﻹيرانيﺔ إلﻰ تفﺟير ﺛورة شﻌبيﺔ‬
‫ﻋارﻣﺔ ﺧاصﺔ وأن ﻣﻘاله الصﺣفﻲ فد ترﺟم إلﻰ الفارﺳيﺔ وﻋﻠق‬
‫فﻲ ﺟاﻣﻌات طﮭران فﻲ ذلك الزﻣن الﻣتوتر‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫ربﻣا الﺳبب األكﺛر وﺟاھﺔ الذي ﺟﻌل ذھن الﻣفكر الفرنﺳﻲ‬
‫ﻣشدودا إلﻰ التﺣول الكبير فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ اﻹيرانﻲ ويرصد الوﻻدة‬
‫الﻌﺳيرة لﺣﻘبﺔ تاريﺧيﺔ ﻣغايرة لﮭذه الرﻗﻌﺔ الﺣضاريﺔ الضاربﺔ‬
‫فﻲ الﻘدم ھو التالﺣم الذي فﮭﻣه بين الفكر والناس وبين الﻌﻘيدة‬
‫والﺳﻠوك وﻗدرة األفراد الرھيبﺔ ﻣن ﺧالل األفكار الﺛوريﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫تغيير ﻣﺟرى التاريﺦ والتأﺛير فﻲ األشﺧاص والﻌﻘول وتﺣريرھم‬
‫ﻣن األوھام والﺧوف والدفﻊ بﮭم إلﻰ الﻣشاركﺔ فﻲ صنﻊ الﻣﺳتﻘبل‬
‫وترﻏيبﮭم فﻲ التضﺣيﺔ فﻲ ﺳبيل الشأن الﻌام ‪.‬‬
‫يرى فوكو فﻲ ﻣا يﺣدث فﻲ إيران تﺟﺳيدا لألفكار الﻠيبراليﺔ‬
‫وﺧاصﺔ ﻣﻘوﻻت الﺣركﺔ والتﻘدم والﺣريﺔ إذ يصرح فﻲ ھذا‬
‫الﺳياق‪" :‬إن فكرة الﻠيبراليﺔ الﻌاﺟﻠﺔ‪ ،‬دون أن تتشظﻰ بنيﺔ الﺳﻠطﺔ‬
‫تﻌنﻲ أن تﻠك الﺣركﺔ اآلتيﺔ ﻣن األﺳفل يﺟب أن تندﻣج ﻣﻊ النظام‪،‬‬
‫أو أن يتم تﺣييدھا‪ .‬ھنا‪ ،‬يﺟب ﻋﻠﻰ الﻣرء أوﻻً أن يﻌرف إلﻰ أين‬
‫وكيف تﻌتزم ھذه الﺣركﺔ أن تذھب "‪.‬‬
‫يذكر فوكو الﻣفكر ﻋﻠﻲ شريﻌتﻲ ﻋﻠﻰ أنه ﻣن الذين ھتف الناس‬
‫باﺳﻣه زﻣن الﺛورة ورفﻌت صوره فﻲ الشوارع وكتب اﺳﻣه بالبند‬
‫الﻌريض فﻲ التاريﺦ ويﻠﻣح بأن التنوير الغربﻲ لم يصدر فﻘط إلﻰ‬
‫الشرق اﻻﺳتﻌﻣار واﻻﻣبرياليﺔ والنﺧبﺔ الراﻋيﺔ لالﺳتبداد بل كون‬
‫الﻣفكرين الشرﻗيين األﺣرار الذين يؤﻣنون بالبراكﺳيس والتغيير‬
‫وينﮭضون بشﻌوبﮭم نﺣو األفضل ‪.‬‬
‫يﺳﻣﻲ فوكو شريﻌتﻲ الﺣاضر الغائب ويﻘر بصداﻗته له ويبدى‬
‫إﻋﺟابه بالﻣفكر إذ يﻘول ﻋنه‪" :‬ﻋند ھذه النﻘطﺔ نﻠتﻘﻲ بشبح يتصيد‬
‫كل الﺣياة الﺳياﺳيﺔ والدينيﺔ فﻲ إيران اليوم‪ ،‬إنه شبح "ﻋﻠﻲ‬
‫شريﻌتﻲ"‪ ،‬إنه الرﺟل الذي ﻣنﺣه ﻣوته ﻗبل ﻋاﻣين ھذا الﻣنصب‬

‫‪335‬‬
‫الرفيﻊ فﻲ اﻹﺳالﻣﻲ الشيﻌﻲ‪ ،‬ﻣنصب الﺣاضر الغائب‪ .‬أﺛناء فترة‬
‫تواﺟده فﻲ أوربا لﻠدراﺳﺔ‪ ،‬كان ﻋﻠﻲ شريﻌتﻲ ﻋﻠﻰ اتصال ﻣﻊ ﻗادة‬
‫الﺛورة الﺟزائريﺔ‪ ،‬وﻣﻊ ﺣركات ﻣﺳيﺣيﺔ يﺳاريﺔ ﻋديدة‪ ،‬وﻣﻊ تيار‬
‫ﻣن اﻻﺟتﻣاﻋيين الالﻣاركﺳيين‪ .‬وﻗد ﺣضر ﻣﺣاضرات ﻋند ﺟورج‬
‫ﺟيورفيتش‪ ،‬كﻣا ﻗرأ ﻋﻠﻲ أﻋﻣال فرانز فانون‪ ،‬إضافﺔ إلﻰ لويس‬
‫ﻣاﺳينيون ‪".‬‬
‫ﺣﺳب فوكو انه لم يﻘترب الفكر فﻲ ھذا الزﻣن ﻣن األرض الشرﻗيﺔ‬
‫ولم يﻠﮭم الﺟﻣاھير شﺧص ﻗدر اﻗتراب ﻋﻠﻲ شريﻌتﻲ ﻣنﮭﻣا‪،‬‬
‫والغريب أنه دﺧل باب الﺛورة ﻣتﻣردا ﻋﻠﻰ الﻌﻘيدة بكل الطﻘوس‬
‫والشﻌائر وﻣا تتصف به ﻣن انتظاريﺔ وﻗﻌود بل ان تﺣاليﻠه ﺧاليﺔ‬
‫ﻣن كل روﺣانيﺔ وﻏيبيﺔ وﻣشبﻌﺔ بالدنيويﺔ والواﻗﻌيﺔ واألفكار‬
‫الﻌﻠﻣانيﺔ والﻠيبراليﺔ وﺧاصﺔ الﻣبادئ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‪ ،‬ألم يبشر‬
‫بالﻣﺟتﻣﻊ التوﺣيدي ودﻋا إلﻰ الوﻋﻲ التاريﺦ الﺣﻲ والتﺳﻠح‬
‫بالنباھﺔ اﻻﺟتﮭاديﺔ لﻣواﺟﮭﺔ النزﻋات الﻣغﻠﻘﺔ واألفكار التﻘﻠيديﺔ ‪.‬‬
‫بﻌد ذلك يﺣاول فوكو أن يفﮭم اﻹﺳالم ويترك لنا آراء ھرﻣينوطيﻘيﺔ‬
‫وينﻘل ﻋدة أفكار فﻲ اﻻشتراكيﺔ اﻹﺳالﻣيﺔ ﻋند ﻗوله‪ ":‬فاﻹﺳالم‬
‫يﻘدر الﻌﻣل‪ ،‬ﻻ يﻣكن ﺣرﻣان أﺣد ﻣن ﺛﻣار الﻌﻣل‪ ،‬األشياء التﻲ‬
‫تﻌود ﻣﻠكيتﮭا لﻠﺟﻣيﻊ‪( ،‬كالﻣياه‪ ،‬واألرض) ﻻ يﺟوز ألﺣد اﻻﺳتيالء‬
‫ﻋﻠيﮭا‪ ،‬الﺣريات ﺳتظل ﻣﺣل اﺣترام‪ ،‬ﻣاداﻣت ﻣﻣارﺳتﮭا ﻻ تؤذي‬
‫اآلﺧرين‪ .‬ﺳتﺣظﻰ األﻗﻠيات بالﺣﻣايﺔ والﺣريﺔ والﻌيش بالشكل‬
‫الذي ترﻏب به‪ ،‬بشرط ﻋدم إيذاء األكﺛريﺔ‪ ،‬ﺳيكون ھناك ﻣﺳاواة‬
‫بين الرﺟال والنﺳاء‪ ،‬وﺳيكون ھناك اﺧتالف أيضاً‪ ،‬نظرا ً لوﺟود‬
‫فروق طبيﻌيﺔ بينﮭﻣا‪ .‬فﻲ الشؤون الﺳياﺳيﺔ‪ ،‬تؤﺧذ الﻘرارات وفق‬
‫رأي األﻏﻠبيﺔ‪ ،‬الﻘادة ﻣﺳؤولون ﻋن الشﻌب‪ ،‬وكﻣا ھو ﻣبين فﻲ‬

‫‪336‬‬
‫الﻘرآن‪ ،‬فالﺣاكم ﻋرضﺔ لﻠﻣﺣاﺳبﺔ أﻣام أي فرد فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ ‪".‬‬
‫الكﻠﻣﺔ الﺳﺣريﺔ التﻲ وﻗف أﻣاﻣﮭا فوكو ﻣندھشا ولم يﻘاوم فتنتﮭا‬
‫ورونﻘﮭا ھﻲ ‪ politique spirituelle‬والتﻲ تترﺟم بالروﺣانيﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ‪ ،‬انه لم يفﮭم ھذه الطاﻗﺔ الﮭائﻠﺔ التﻲ لﻌبﮭا الﻌاﻣل الدينﻲ‬
‫فﻲ ﻣﻘاوﻣﺔ اﻻﺳتبداد والتﺧﻠف واﻻﺳتﻌﻣار ﻏير الﻣباشر والتبﻌيﺔ‬
‫لﻠغرب وكل ذلك كان تﺣت شﻌار الروﺣانيﺔ الﺳياﺳيﺔ‪ ،‬فﮭل كان‬
‫ﻣﺟرد اﺳتبدال كﻠﻣﺔ الواﻗﻌيﺔ أو الﻣاديﺔ بكﻠﻣﺔ روﺣانيﺔ كافيا لتنفﺟر‬
‫ﺛورة شﻌبيﺔ ﻋارﻣﺔ ﻣﺛﻠت ﻣنﻌطفا كبيرا لتاريﺦ الﻣنطﻘﺔ والﻌالم؟‬
‫ﻣا الذي ﻣنﻊ الروﺣانيﺔ الﺳياﺳيﺔ ﻣن أن تكون ﻣﺟرد كﻠﻣﺔ ﻣﺛاليﺔ‬
‫أو ﻣﻘولﺔ طوباويﺔ؟ وھل يﻣكن أن تنﺟز الﺛورات بالﻌودة إلﻰ‬
‫ﻣﻘوﻻت ﻗروﺳطيﺔ أم أن الﻘروﺳطﻲ ھو الذي يكتفﻲ بتﻘﻠيد وﻣﺣاكاة‬
‫ﻣﻘوﻻت ﻋصره دون أي اﺟتﮭاد أو إبداع؟‬
‫ان تﺣﻣس فوكو إلﻰ ﻣﺳألﺔ الروﺣانيﺔ اﻹﺳالﻣيﺔ يﻘابﻠه رفضه‬
‫الﻘاطﻊ لفكرة الﺣكوﻣﺔ اﻹﺳالﻣيﺔ ﻋبر ﻋنه كﻣا يﻠﻲ‪ ":‬ﻻ اشﻌر‬
‫باﻻرتياح وأنا أتكﻠم ﻋن ﺣكوﻣﺔ إﺳالﻣيﺔ ﺳواء كفكرة‪ ،‬أو ﻣﺛال‪.‬‬
‫لكنﮭا أﺛرت فﻲ كشكل ﻣن أشكال "اﻹرادة الﺳياﺳيﺔ"‪ .‬لﻘد أﺛر فﻲ‬
‫ﺟﮭدھا نﺣو تﺳييس البنﻰ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والدينيﺔ فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ الﻣشاكل‬
‫الراھنﺔ‪ .‬لﻘد أﺛرت فﻲ ﻣﺣاولتﮭا لفتح بﻌد روﺣﻲ لﻠﺳياﺳﺔ ‪".‬‬
‫البﻌض رأى فﻲ ﻣﺛل ھذا األﺛر دليال ﻋﻠﻰ إيﻣان فوكو بفكر‬
‫اﻻﺧتالف وتﺟﺳيدا لﻘيﻣﺔ الغيريﺔ واﺣترام اآلﺧر واﻻنفتاح ﻋﻠﻰ‬
‫الﻌالم الشرﻗﻲ ولكن البﻌض اآلﺧر اﻋتبر ﻣا ﺣدث ورطﺔ كبيرة‬
‫وﻗﻊ فيﮭا فوكو وزلﺔ الﻌﻘل الغربﻲ الذي أراد أن يكفر ﻋن ذنبه‬
‫ويفكك الﻌالﻗﺔ الﺣﻣيﻣيﺔ بين التنوير واﻻﺳتﻌﻣار فﺳﻘط فﻲ تبرير‬

‫‪337‬‬
‫اﻻﺳتبداد والشﻣوليﺔ باﺳم النزﻋات الﻌدﻣيﺔ والتنظير إلﻰ ﻣا بﻌد‬
‫الﺣداﺛﺔ ‪.‬‬
‫ﻣايزال ﺳبب ھذا الﻣوﻗف الﻣفارق ‪Paradoxale‬ﻏاﻣضا‬
‫وﻏير ﻣﺣﺳوم ويﺳتﺣق نﻘاشا فﻠﺳفيا واﺳﻌا تﺳاھم فيه الﻌديد ﻣن‬
‫األطراف الفرنﺳيﺔ واﻹيرانيﺔ والفﻠﺳفيﺔ والﺳياﺳيﺔ ولكن بﻌض‬
‫النﻘاد يرون أن الفالﺳفﺔ ﻗد يرتكبون الكﺛير ﻣن األﺧطاء التاريﺧيﺔ‬
‫ﻋندﻣا يﺣاولون التدﺧل فﻲ األﺣداث الﺳياﺳيﺔ الصاﺧبﺔ ﺧاصﺔ‬
‫ﻋندﻣا ﻻ يتﺳﻠﺣون بفضيﻠﺔ الﺣذر ‪.‬‬
‫فﮭل كان تدﺧل فوكو فﻲ أﺣداث طﮭران رﻏبﺔ ﻣن أنوار فرنﺳا‬
‫فﻲ اﺳتﻌادة الﻣبادرة ﻣن األﻣركﺔ الصاﻋدة آنذاك فﻲ ﺛوب ﻋولﻣﺔ‬
‫اﻗتصاديﺔ لﻠكوﺳﻣوس الالتينﻲ ان صﺣت الﻌبارة؟‬
‫طرح ﻣيشيل فوكو ﺳؤالين ﻣﮭﻣين ﺣول ﻗوة النظام الﺳياﺳﻲ‬
‫الﻘائم الصﻣود أﻣام رياح اﻻنتفاضﺔ الشﻌبيﺔ وق أﺟابت ﻋﻠيﮭﻣا‬
‫صيرورة األﺣداث فيﻣا بﻌد ﻋندﻣا انﮭار البيت ﻋﻠﻰ رؤوس‬
‫ﺳاكنيه‪ ،‬ويكون فوكو بذلك ﻗد تنبأ بﻣا ﺳتؤول إليه األﻣور وكشف‬
‫ﻋن ﻗدرة األفراد ﻋﻠﻰ اﺳتنباط آليات لﻣناھضﺔ الﺣكم الشﻣولﻲ ﻣن‬
‫الظاھرة الدينيﺔ نفﺳﮭا ﻋندﻣا ﻗال‪" :‬فﻲ فﺟر التاريﺦ‪ ،‬اﺧترع الفرس‬
‫ﻣفﮭوم الدولﺔ‪ ،‬وﻣنﺣوا نﻣوذﺟﮭا لإلﺳالم‪ ،‬فصار ﻣدراؤھا ﻣوظفون‬
‫ﻋند الﺧﻠيفﺔ‪ .‬لكن ﻣن ھذا اﻹﺳالم نفﺳه‪ ،‬اشتﻘوا دينا ً أﻋطاھم‬
‫ﻣصادر ﻻ تنتﮭﻲ لﻣﻘاوﻣﺔ اﺳتبداد الدولﺔ"‪.‬‬
‫الﻣﺛير فﻌال أن فوكو ﺣذر ﻣن الﻣطبات التﻲ تﻘﻊ فيﮭا كل ﺛورة‬
‫وھﻲ أن تنﻘﻠب ﻋﻠﻰ الﻘيم التﻲ وﻗفت وراء تفﺟرھا ونادت باﻻلتزام‬
‫بﮭا وأن تﺧون ﻣبادئﮭا وتأكل أصﺣابﮭا وتتﺣول إلﻰ ﻣﺟرد دولﺔ‬

‫‪338‬‬
‫يكون شغﻠﮭا الشاﻏل الﻣزيد ﻣن التوﺳﻊ والتواﺟد اﻹﻣبراطوري‬
‫فﻲ الﻌالم ‪.‬‬
‫والﺣق أن ھذا الﻣﻘال الصﺣفﻲ الﻘصير لم تفﺟر نﻘاط ﻗوته بﻌد‬
‫ولم تﺳتﺧرج كنوزه ألنه ﻣنﺟﻣا ﻣن الدرر الفكريﺔ وفضاء ﺳيﻣيائﻲ‬
‫يرﺳل ﻋدة رﺳائل لم تفك شفرتﮭا إلﻰ اآلن ويطﻠق ﻋدة أصوات‬
‫لم نﺳﻣﻊ لﮭا رﺟﻊ صدى وظﻠت األﺳئﻠﺔ الﻣطروﺣﺔ فيه ﻣزﻋﺟﺔ‬
‫وﻣنددة وأﺟوبتﮭا ﻣؤﺟﻠﺔ إلﻰ األبد ‪.‬‬
‫لكن الﺳؤال الذي ظل ﻣﻌﻠﻘا والذي بﻘﻲ بﻣﺛابﺔ التشﺧيص‬
‫األركيولوﺟﻲ لكل نفﺳيﺔ إيﻣانيﺔ تبرر لﻠناس الدفاع ﻋن أنفﺳﮭم‬
‫بﻣوتﮭم ھو التالﻲ‪ ":‬ﻣا ھو الﻣغزى‪ ،‬بالنﺳبﺔ لﺳكان ھذه األرض‪،‬‬
‫ﻣن وراء البﺣث‪ ،‬الذي ﻗد يكﻠفﮭم ﺣياتﮭم‪ ،‬ﻋن شﻲء نﺳينا إﻣكانيﺔ‬
‫إيﺟاده ﻣنذ ﻋصر النﮭضﺔ واألزﻣﺔ الكبرى لﻠﻣﺳيﺣيﺔ‪ ،‬أﻗصد‬
‫الروﺣانيﺔ الﺳياﺳيﺔ؟" ھل يﻘصد أن الﻌالم الغربﻲ ﻗد ودع فكرة‬
‫إرادة الﻌدم وﺣب الﻣوت وتوﺟه نﺣو إرادة البﻘاء وﺣب الﺣياة أم‬
‫أن األﻣر فﻲ ﻋﻣﻘه يتﻌﻠق بالﮭروب ﻣن فكرة الﻣوت الﻌنيف‬
‫والﻣباشر ﻋﻠﻰ ﺣد ﻗول ھوبز وھيﺟل والرضا بالﺣياة الﺛكن؟ لكن‬
‫إذا كان فوكو ﻣن الﻣفتونين بل وﻣن الﻣنظرين لﻘيام ھذه اﻻنتفاضﺔ‬
‫الشﻌبيﺔ ضد الكوﻣبرادور أﻻ يﻣكن أن نﻌده أول ضﺣيﺔ‬
‫اﻻﺳالﻣوفوبيا ﺧاصﺔ ﻋند تﺣذيره ﻣن توظيف الدين فﻲ الﺳياﺳﺔ‬
‫ولتصريﺣه الشﮭير‪" :‬ان اﻹﺳالم برﻣيل بارود ﺳيغير ﻣيزان الﻘوى‬
‫فﻲ الﻣنطﻘﺔ وربﻣا أكﺛر"؟ وبأي ﻣﻌنﻰ اﻋتبر ﻣيشيل فوكو الﺳياﺳﺔ‬
‫الﺣيويﺔ بديال ليبراليا لﻠنظريات اﻻيديولوﺟيﺔ؟‬

‫‪339‬‬
‫"الﺣريﺔ تﺳتطيﻊ أن تصارع وتناضل وتصبح ﻗوة ﺳياﺳيﺔ‬
‫‪1‬‬
‫وتاريﺧيﺔ"‬
‫يﻌد ﻣفﮭوم الﺳياﺳيﺔ الﺣيويﺔ ﻣركز الﺛﻘل فﻲ النظريﺔ اﻹتيﻘيﺔ‬
‫الﻣتأﺧرة ﻋند ﻣيشيل فوكو بالرﻏم ﻣﻣا يﺛيره ﻣن إﺣراﺟات وﻣزالق‬
‫داﺧل النﺳق الﻌام الذي تتنزل فيه فﻠﺳفته البنيويﺔ وتطبيﻘاتﮭا‬
‫األركيولوﺟيﺔ ضﻣن الﻣنﮭج التشﺧيصﻲ الذي شرح به األنظﻣﺔ‬
‫الﻣﻌرفيﺔ لﻠﺛﻘافﺔ الغربيﺔ‪.‬‬
‫لﻌل أھم األﺳئﻠﺔ التﻲ يطرﺣﮭا فوكو فﻲ ھذا الصدد ھﻲ‪ :‬ﻣا‬
‫ﻋالﻗﺔ الﺳياﺳﺔ بالﺣياة؟ وھل يﻣكن اﺧتزال الﺳياﺳﺔ فﻲ ﻣﻣارﺳﺔ‬
‫الﺳﻠطﺔ؟ وكيف يﻣكن ﺣصر الﺳﻠطﺔ فﻲ الﺣياة؟ وھل الﺳياﺳﺔ‬
‫الﺣيويﺔ ھﻲ ﻣﺟﻣوﻋﺔ الﺳﻠطات الﺣيويﺔ الﻣبﺛوﺛﺔ بشكل ﻣﺟﮭري‬
‫فﻲ الشغل والﻠغﺔ والﺟﺳد؟ وكيف تتﺟﺳد الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ فﻲ‬
‫ﺳﻠطﺔ ﻣضادة وفﻲ ﻣكان انتاج الذاتيﺔ الرافضﺔ لكل أشكال‬
‫الﺧضوع؟ أي دور لﻠرﻏبات والﺟنﺳانيﺔ والﻣﻘاوﻣات والﻣؤﺛرات‬
‫فﻲ التصدي لضغوط الﻣﺟتﻣﻊ اﻻنضباطﻲ؟‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن فوكو ﻗد تفطن الﻰ أھﻣيﺔ الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ ﺳنﺔ‬
‫‪ 1982‬وﺟﻌﻠﮭا وﺳيطا وﺟﺳر ﻋبور ﻣن الﺳياﺳﺔ الﻰ اﻻتيﻘا ورأى‬
‫أن راھنيتﮭا تكﻣن فﻲ الﺣﻘبﺔ الﻣﻌاصرة فﻲ ﻣﺳاھﻣتﮭا فﻲ اﻋادة‬
‫صياﻏﺔ الﺳياﺳﺔ ﻋﻠﻰ ضوء اﻻتيﻘا وإﻋادة فﮭم الﺳﻠطﺔ باألﺧذ بﻌين‬
‫اﻻﻋتبار ﻗيﻣﺔ الﺣياة وﻣﻌناھا‪.‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق تتﻣﺛل الﻣﮭﻣﺔ الﺳياﺳيﺔ البارزة بالنﺳبﺔ لﻠوﺟود‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ فﻲ تﺣﻠيل وﻣﺳاءلﺔ اﺳتراتيﺟيات ﻣﻣارﺳﺔ الﺳﻠطﺔ‬

‫‪ 1‬ميشيل فوكو‪“ ،‬يجب الدفاع عن المجتمع”‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.2003 ،‬‬
‫ص‪.205.‬‬

‫‪340‬‬
‫وبﻠورة وضﻣان توازن ﻣرن بين ﻋالﻗات الﻘوة ونﺳق الﺣريات‪.‬‬
‫ﻋندئذ رﺳم فكور ﻣن ﺧالل ﻣفﮭوم الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ صور تﺣول‬
‫ﻣﻣارﺳﺔ الﺳﻠطﺔ وﺳﻌيﮭا نﺣو ﺣكم ﻻ فﻘط األفراد ‪individus‬‬
‫ﻣن ﺧالل ﻋدد ﻣﻌين ﻣن اﻻﺟراءات التأديبيﺔ واﻻنضباطيﺔ وإنﻣا‬
‫ﻣﺟﻣوﻋﺔ األﺣياء ‪Vivants‬الذين يكونون ﺳكانا ‪Population‬‬
‫أو شﻌبا‪. peuple1‬‬
‫ھكذا تﻌتنﻲ الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ بالﺳكان ﻣن ﺟﮭﺔ صﺣتﮭم‬
‫ووﻗايتﮭم ﻣن األﻣراض الﻣﻌديﺔ والﺧطيرة وتﻠﻘيﺣﮭم وتﺣرص ﻋﻠﻰ‬
‫تغذيتﮭم وتصون أﺟﺳادھم وتنظم رﻏباتﮭم وتﻌﻘﻠن طرق تصرفﮭم‬
‫فﻲ أﺟﺳادھم‪ .‬كﻣا تراھن ﻋﻠﻰ توفير الﺣياة الﺟيدة والﺣرة لغالبيﺔ‬
‫الﺳكان دون اﺳتﺛناء أﻗﻠيﺔ أو فرد‪ .‬لكن التﺣﻠيل التاريﺧﻲ يكشف‬
‫أن الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ ترتبط بالﻌﻘالنيﺔ الﺳياﺳيﺔ وبﻣيالد الﻠيبراليﺔ‬
‫والتﻲ تﻌنﻲ ﻣﻣارﺳﺔ الﺣكم ﻋن طريق الﺳﻠطات الﻣﺣﻠيﺔ وتوفير‬
‫ﻣﻘوﻣات الﺣياة لﻠﺟﻣيﻊ وذلك بضﻣان الﺣد األكبر ﻣن الﻣنافﻊ ﻣﻊ‬
‫ارتكاب الﺣد األﻗل ﻣن الﻣضار كﻣا فﻲ النﻣوذج اﻻﻗتصادي بل‬
‫تﺧفيض الﻣﺳاوئ وتﺟنب أكﺛر ﻣا يﻣكن الﻣضار وﻗبول الﺣد‬
‫األنﺳب ﻣن الﻣنافﻊ والﺧيرات‪.‬‬
‫ربﻣا ﻣن أھم الركائز التﻲ تﺳتند ﻋﻠيﮭا الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ ھﻲ‬
‫اﻋتﻣاد تكنولوﺟيا ﺟيدة لﻠﺳﻠطﺔ تﻘوم بتوفير ﺟﻣﻠﺔ ﻣن اﻻﺟراءات‬
‫واآلليات لﻠﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ النظام ‪ maintien de l’ordre‬وإتباع‬
‫تﺧطيط ﻋﻠﻣﻲ وﻣﺧتص يﻌﻣل ﻋﻠﻰ تنﻣيﺔ وتطوير الدولﺔ وتﻌتنﻲ‬

‫‪1‬‬
‫‪Voir Judith Revel, Dictionnaire Foucault, Ellipses Edition Marketing‬‬
‫‪S.A, 2008.p.p.25-26-27.‬‬

‫‪341‬‬
‫بالﺳكان ‪ Population‬أو الشﻌب وذلك بﺣﺳن التصرف فﻲ ﻗوة‬
‫الﻌﻣل وﻣراﻗبﺔ ﻣصادر الﺣياة وﻣدﺧرات الغذاء والﻣاء‪.‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك يرتبط التوﺟه الﻠيبرالﻲ ﻋند فوكو بالﻌﻘالنيﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ والواﻗﻌيﺔ ويﺣرص ﻋﻠﻰ الرﺟوع الﻰ ﻋﻘل دولﺔ بتفﻌيل‬
‫نﻣط ﺟديد الﺣوكﻣﺔ ‪gouvernementalité‬وتطوير الﺳﻠطﺔ‬
‫ﻋبر تﺣﻘيق تنﻣيﺔ اﻻﻗتصاد واﻻرتﻘاء بالﻣﺟتﻣﻊ وتﺛﻘيف األفراد‬
‫الدولﺔ‪.‬‬ ‫وازدھار‬ ‫األﻋراق‬ ‫وتطﮭير‬
‫لﻘد ﻣﺛل ﻣفﮭوم الﺣوكﻣﺔ ‪ gouvernementalité‬نﻘطﺔ‬
‫الالّﻋودة ﻣﻊ فن الﺣكم باﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ الﻣبادئ الﻣﺳتﺧﻠصﺔ ﻣن‬
‫الفضائل األﺧالﻗيﺔ التﻘﻠيديﺔ ﻣﺛل اﺣترام الﻣﻘدس والﺣكﻣﺔ والﻌدالﺔ‬
‫وﺟﻌل ﻣن الﺣذر والتفكير والتﻌﻘل ﻣﻌيار ﻗيس لﻠﻘرارات الﺳياﺳيﺔ‬
‫والتدابير الﻣتﺧذة لﻠتدﺧل فﻲ الشأن الﻌام ووظف الﻌﻘالنيﺔ الﺳياﺳيﺔ‬
‫فﻲ ﺧدﻣﺔ الدولﺔ الوظيفيﺔ وﺣﻘل تطبيق بالنﺳبﺔ لﻠﻣبادئ الﻣتبﻌﺔ‪.‬‬
‫لﻘد ﻋنﻰ فوكو بالﺣوكﻣﺔ فﻲ ﻣرﺣﻠﺔ أولﻰ ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن الﻣؤﺳﺳات‬
‫واﻹﺟراءات والتﺣاليل والﺣﺳابات والتكتيكات التﻲ تﺳﻣح‬
‫بﻣﻣارﺳﺔ نوع ﻣﺣدد وﻣﻌﻘد ﻣن الﺳﻠطﺔ ﻣن أﺟل اﻻرتﻘاء بالﺳكان‬
‫نﺣو النﻣاء واﻻزدھار والﺳالﻣﺔ وذلك باﺳتﻌﻣال وﺳائل كفيﻠﺔ‬
‫بضﻣان الﺣﻣايﺔ واألﻣن‪ .‬أﻣا الﻣﻌنﻰ الﺛانﻲ لﻠﺣوكﻣﺔ‪ ،‬فإنه يشير‬
‫الﻰ ھيﻣنﺔ ﻣؤﺳﺳﺔ الﺣكوﻣﺔ ﻋﻠﻰ الﺳﻠطات التشريﻌيﺔ والﻘضائيﺔ‬
‫وﻣا تبﻘﻰ ﻣن الﺳﻠطﺔ التنفيذيﺔ وتفردھا بوﺳائل الﺳيادة والﻣنﻌﺔ‬
‫بالنﺳبﺔ الﻰ الدولﺔ‪ .‬فﻲ ﺣين أن الﻣﻌنﻰ الﺛالث لﻠﺣوكﻣﺔ يشير الﻰ‬
‫ﻋﻘل الدولﺔ‪ .‬ويتكون ﺣﺳب فوكو ﻣن التﻘاء بﻌدين ھﻣا الﺳكان‬
‫والﺛروة وبﻌبارة أﺧرى ﻣﺟﻣوﻋﺔ الﻣﻌارف والﺧبرات والتﻘنيات‬

‫‪342‬‬
‫الﺳياﺳيﺔ والﺣربيﺔ ﻣن ﺟﮭﺔ والﻣنافﻊ الﻣاديﺔ واألﻣوال الناتﺟﺔ ﻋن‬
‫التﺟارة والفالﺣﺔ والصناﻋﺔ والﺧدﻣات‪.1‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو ﻻ ينطﻠق التفكير الﻠيبرالﻲ ﻣن وﺟود الدولﺔ وﻻ‬
‫يﮭدر الوﻗت فﻲ البﺣث فﻲ أﺳﺳﮭا وﻻ يﺳتﻌﻣل الﺣكوﻣﺔ ﻣن أﺟل‬
‫تﺣﻘيق ھذه الغايﺔ بل يﻌود الﻰ الﻣﺟتﻣﻊ وينطﻠق ﻣن الﻣﺟتﻣﻊ وﻣا‬
‫يوﺟد ﻋﻠيه ﻣن وضﻊ الصﻠﺔ الﻣﻌﻘدة بين التﺧارج والتداﺧل ﻣن‬
‫ﻣنظور الدولﺔ وكذلك ﻣن األﺣياء والﺳكان فﻲ ﻣﺳتوى وﺟودھم‬
‫اليوﻣﻲ وأﺣوالﮭم وﻣطالبﮭم وﻣشاكﻠﮭم والطابﻊ الﻌالئﻘﻲ بينﮭم‪ .‬لﻌل‬
‫الﻣنﮭج الذي تﻌﻣتده الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ ھو بﻌيد كل البﻌد ﻋن التﺣﻠيل‬
‫الﻘانونﻲ والتﺣﻠيل اﻻﻗتصادي وﻗريب ﻣن الﺣوكﻣﺔ الرشيدة وذلك‬
‫بالتﻌاﻣل ﻣﻊ الﺳكان بوصفﮭم ﻣﺟﻣوﻋﺔ الكائنات الﺣيﺔ واألفراد‬
‫الﻣتﻌايشﺔ تظﮭر ﺟﻣﻠﺔ ﻣن األبﻌاد البيولوﺟيﺔ والﻣرضيﺔ‬
‫‪pathologique‬الﻣﻣيزة‪ .‬فﻲ الواﻗﻊ‪ ،‬لﻘد ﺣﻘﻘت الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ‬
‫ﺛورة فﻲ ﻣﺟال تدبير الفﻌل الﺳياﺳﻲ ﺣينﻣا نﻘدت الﻣاركﺳيﺔ ﻣبﻘيﺔ‬
‫ﻋﻠﻰ الﻌدالﺔ والﻣﺳاواة والﻣنفﻌﺔ الﻌاﻣﺔ ولﻣا ﺧﻠﺧﻠت الﻠيبراليﺔ‬
‫الكالﺳيكيﺔ ﻣنتصرة الﻰ الفرد والﺣريﺔ والكراﻣﺔ والشﺧص‬
‫وﻋندﻣا تﺟاوزت التراث والتﻘﻠيديات وتﺧطت ﺛنائيﺔ ﻣﺟتﻣﻊ‪ /‬دولﺔ‬
‫بتشييد اﻗتصاد ﺳياﺳﻲ لﻠﺣياة بصفﺔ ﻋاﻣﺔ ‪économie‬‬
‫‪ ،politique de la vie en général‬تﺣول الﻰ طب‬

‫‪1‬‬
‫‪Voir Judith Revel, Dictionnaire Foucault. p.p.67-68-69.‬‬

‫‪343‬‬
‫اﺟتﻣاﻋﻲ ضﺧم يﺣرص ﻋﻠﻰ تﺣﻘيق اﻻﺳتﻘالليﺔ الذاتيﺔ لألﺟﺳاد‬
‫ويﺣﻣﻲ ﺣياة األفراد‪.1‬‬
‫يترتب ﻋن ذلك اﺣداث ﻣيشيل فوكو تفريﻘا واضﺣا بين الدولﺔ‬
‫والﺳﻠطﺔ وبين األﺧالق واﻹتيﻘا‪ ،‬وآيته يف ذلك أن نظريﺔ الدولﺔ‬
‫تﻌود الﻰ الﺣﻘبﺔ الﺣديﺛﺔ وتﻣﺛل تﻌبيرا ﻣﻣكنا ﻋن ﻋالﻗات الﻘوة فﻲ‬
‫زﻣن تاريﺧﻲ ﻣﻌين تﺧضﻊ األفراد لﻘراراتﮭا وﻗواﻋد لﻌبتﮭا‪.‬‬
‫واﺳتنتج فوكو اﺳتﻌﻣال الدولﺔ ﻹﺳتراتيﺟيﺔ الﺳﻠطﺔ ﻣن أﺟل فرض‬
‫ھيﻣنتﮭا ﻋﻠﻰ الﻣﺟتﻣﻊ وﺧاصﺔ فﻲ الﻣؤﺳﺳﺔ والﻣتﺣف والفضاء‬
‫والﺳوق‪ .‬اذا كانت األﺧالق تﻌنﻲ ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن الﻘيم وﺟﻣﻠﺔ ﻣن‬
‫ﻗواﻋد الفﻌل يتم اﻗتراﺣﮭا ﻋﻠﻰ األفراد والﻣﺟﻣوﻋات بواﺳطﺔ‬
‫األﺟﮭزة اﻻلزاﻣيﺔ ﻣﺛل الﻌائﻠﺔ والﻣدرﺳﺔ والﻣﻌبد فإن اﻻتيﻘا ھﻲ‬
‫الطريﻘﺔ التﻲ يتكون بﮭا الﻣرء كذات أﺧالﻗيﺔ ويﺣدد لنفﺳه ﻗواﻋد‬
‫لﻠﺳﻠوك ونﻣط لﻠوﺟود فﻲ الﻌالم‪ .‬لذلك ﻋد فوكو الﺟوھر‬
‫اﻻتيﻘﻲ ‪substance éthique‬الطريﻘﺔ التﻲ يشكل بﮭا الفرد‬
‫الﻣادة األﺳاﺳيﺔ لﻠﻘاﻋدة األﺧالﻗيﺔ لﻠﺳﻠوك‪ .2‬لكن ﻣاھو الدور الذي‬
‫الﺣيويﺔ؟‬ ‫الﺳياﺳﺔ‬ ‫فﻲ‬ ‫اﻻتيﻘا‬ ‫به‬ ‫تضطﻠﻊ‬
‫والﺣق أن لفظ اﻻتيﻘا ظﮭر فﻲ الفﻠﺳفﺔ الفرنﺳيﺔ الﻣﻌاصرة أول‬
‫ﻣرة بطريﻘﺔ دالﺔ ﻋام ‪ 1977‬فﻲ ﻣﻘدﻣﺔ كتاب “أوديب ﻣضاد‪:‬‬
‫الرأﺳﻣاليﺔ والفصام” لﺟيل دولوز وفيﻠيكس ﻏتاري وكان أول‬
‫كتاب فﻲ اﻻتيﻘا بالﻣﻌنﻰ الفﻠﺳفﻲ لﻠكﻠﻣﺔ وﺳبب ذلك طرﺣه ألول‬

‫‪1‬‬
‫‪Voir Foucault Michel, naissance de la biopolitique, cours au collège‬‬
‫‪de France, 1978-1979, Paris, Gallimard-Seuil-Ehess,2004.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪Voir Foucault Michel, Histoire de la sexualité, le souci de soi, tome‬‬
‫‪3, Paris , Gallimard, Paris, 1984.‬‬

‫‪344‬‬
‫ﻣرة الﻌالﻗﺔ التﻲ يﻌﻘدھا الﻣرء ﻣﻊ ذاته ﺣينﻣا يفﻌل ويتﺣول الﻰ‬
‫ذات راﻏبﺔ ويتصرف ﻣﻊ ﻏيره ويدبر طريﻘﺔ ﻋيشه ونﻣط وﺟوده‪.‬‬
‫بناء ﻋﻠﻰ ذلك ﻋوضت اﻹتيﻘا بﻣاھﻲ أنطولوﺟيا نﻘديﺔ‬
‫لﻠراھن ‪Ontologie critique de l’actualité‬األﺧالق‬
‫الﻣﺳيﺣيﺔ‪ ،‬التﻲ تﻌتﻣد بالﺧصوص ﻋﻠﻰ الﺧضوع لﻠواﺟب وتﻘﺳم‬
‫الﻌالم الﻰ ﻣدنس وﻣﻘدس‪ ،‬وﺣﻠت كذلك ﻣﺣل الﺳياﺳﺔ بﻣاھﻲ‬
‫اﺳتراتﺟيﺔ لﻠﺳﻠطﺔ الﻣطﻠﻘﺔ ﻋﻠﻰ األفراد‪ ،‬وبالتالﻲ صار بإﻣكان‬
‫الﺳياﺳﻲ أن ينتج الذاتيﺔ ﻣن ﺧالل التكوين اﻹتيﻘﻲ لﻠذوات والبناء‬
‫الﺟﻣالﻲ لﻠوﺟود‪ ،‬وھذا ﻣا يﻘصده فوكو بالﺳياﺳﺔ بوصفﮭا اتيﻘا ‪la‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪politique‬‬ ‫‪comme‬‬ ‫‪une‬‬ ‫‪éthique 1‬‬
‫ﻏايﺔ الﻣراد أن ليبراليﺔ الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ ﻗد ﺳﻣﺣت لﻣيشيل فوكو‬
‫بالنظر الﻰ الﺳكان ليس بوصفﮭم ﻣواضيﻊ تﺣتل إﻗﻠيﻣا وﻻ‬
‫ﻣﺟﻣوﻋﺔ ذوات ﺣﻘوق تشكل الﻣﻘولﺔ األﺳاﺳيﺔ لﻠنوع البشري وإنﻣا‬
‫باﻋتبارھم يﻣﺛﻠون الﺟﺳم الذي يتشكل ﻣن ﺣياة األفراد والذي يبنيه‬
‫التصرف الﺳياﺳﻲ الكوكبﻲ‪ .‬أليس ﺣﻘيق بﮭذا الفيﻠﺳوف البارع أن‬
‫يﺟﻌل ﻣن الﺳياﺳﺔ الﺣيويﺔ طريﻘﺔ فﻲ ضبط اﻻﺳتراتيﺟيات التﻲ‬
‫يﺟب أن يتوﺧاھا األفراد ﻋند تدبير ذواتﮭم وﺣكم أنفﺳﮭم وربط‬
‫صالت ﻣﻌﮭا وﻋند اﻻنفتاح ﻋﻠﻰ ﻏيرھم والتواصل ﻣﻌﮭم وليﺳت‬
‫ﻣﺟرد التصرف فﻲ الﺳكان وتدبير شؤونﮭم الﻌاﻣﺔ وﺣفظ ﺣياتﮭم؟‬
‫و لكن كيف تﺳتفيد الﻠيبراليﺔ ﻣن اﻻلتﻘاء بين تﻘنيات ﺣكم الذات‬
‫وتﻘنيات الﮭيﻣنﺔ ﻋﻠﻰ الغير والﻌالم؟‬

‫‪1‬‬
‫‪Voir Judith Revel, Dictionnaire Foucault. p.p,54.55.56‬‬

‫‪345‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟثاني عشر‬

‫ "بﻣاذا يﺣﻠم اﻹيرانيون؟" الذي نشر ألول‬:‫نص ﻣيشيل فوكو‬


.‫ﻣرة فﻲ ﻣﺟﻠﺔ الﻣالﺣظ الﺟديد‬
.1978 /22 - 16 ‫ﻋدد‬Le Nouvel Observateur
‫ ترﺟﻣﺔ الزاوي‬،‫ يﺟب اﻟدفاع عن اﻟﻣﺟﺗﻣﻊ‬،‫ﻣيشيل فوكو‬
.2003 ،‫ لبنان‬،‫ بيروت‬،‫ دار الطﻠيﻌﺔ‬،‫بوﻏورة‬
Foucault Michel, naissance de la
biopolitique, cours au collège de France,
1978-1979, Paris, Gallimard-Seuil-
Ehess,2004.
Foucault Michel, Histoire de la sexualité, le
souci de soi, tome 3, Paris , Gallimard, Paris,
1984.
Judith Revel, Dictionnaire Foucault, Ellipses
Edition Marketing S.A, 2008.

346
‫الفصل الثالث عشر‬

‫الالّوعي الديني للجماعات السياسية‬

‫"لﻘد أﺧفت الﺳياﺳﺔ ﻋنﻲ لوﻗت طويل الﺳياﺳﻲ"‬

‫يبدو أن أﺳاس الﺳياﺳﻲ ﻋند "ريﺟيس دوبريه" فﻲ كتابه "نﻘد‬


‫الﻌﻘل الﺳياﺳﻲ" ھو الدينﻲ بﻣﻌنﻰ الرﻣزي والﻣتﻌالﻲ والﻣﻘدس‬
‫والﻣﻌتﻘد‪ .‬إنﮭا النتيﺟﺔ التﻲ توصل إليﮭا ﻋالم اﻻﺟتﻣاع الفرنﺳﻲ‬
‫فﻲ نﻘده الطويل لﻠﺣياة الﺳياﺳيﺔ ولﻘد تﻌاكس فﻲ ذلك ﻣﻊ كارل‬
‫ﻣاركس الذي ﺳبﻘه فﻲ تﺛبيت اﻻﻗتصاد وبدﻗﺔ أكبر ﻋالﻗات اﻹنتاج‬
‫والﻘوى الﻣاديﺔ لإلنتاج والطبﻘات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ الركيزة الضروريﺔ‬
‫والبنيﺔ التﺣتيﺔ التﻲ تﺣدد كل ﻣن الﺳياﺳﺔ والﺛﻘافﻲ والدينﻲ وﻣﻌظم‬
‫ﻣكونات البنيﺔ الفوﻗيﺔ وﺟﻣيﻊ األﺟﮭزة اﻹيديولوﺟيﺔ لﻠدولﺔ ﻣﺛل‬
‫الﻘضاء والتﻌﻠيم‪.‬‬
‫يبدأ دوبريه كتابه بنﻘد ﻣﻌنﻰ اﻻيديولوﺟيا والكشف ﻋن‬
‫ضﻣنيات البدائل وﺧﻠفيات التنظيﻣات ووظائفﮭا الﺣﻘيﻘيﺔ والﻣصالح‬
‫الﻣﺳتﮭدفﺔ ﻣن تشكﻠﮭا ويﻘوم بتشريح الوھم ﻏير اﻹﺟرائﻲ الذي‬
‫يﺣﺟب الواﻗﻊ وينادي بالكف ﻋن اﻻﻋتﻘاد فﻲ تبنﻲ إيديولوﺟيا‬
‫ﻋﻘالنيﺔ ﺧالصﺔ والتﺧﻠﻲ ﻋن الزﻋم باﻣتالك ﻗراءة ﻣوضوﻋيﺔ‬
‫لﻠواﻗﻊ اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ويكشف ﻋﻠﻰ أن اﻻيديولوﺟيا ھﻲ ﻋاطفيﺔ‬
‫وﻣرتبطﺔ بأﻣر اﻻنتﻣاء إلﻰ ﻣﺟﻣوﻋﺔ إنﺳانيﺔ‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫يدرس ريﺟيس دوبريه شروط تشكل التنظيﻣات الﮭوويﺔ وﻗيام‬
‫األﺣزاب الﺳياﺳيﺔ ووظيفﺔ الﻣﺟﻣوﻋات البشريﺔ الﺛابتﺔ ويكشف‬
‫الروابط الﻣتينﺔ التﻲ يﻣكن أن تﻘوم بين ﻗوة الﻣﻌتﻘدات اﻹيﻣانيﺔ‬
‫وصالبﺔ األفكار الدينيﺔ واﺳتﻘرار الكيانات وانﺳﺟام الﻣﺟﻣوﻋات‬
‫التﻲ تتبنﻰ تﻠك األفكار التﺣشيديﺔ والرؤى اﻹيﻣانيﺔ‪ .‬لكن لﻣاذا‬
‫يرى دوبريه ﺣتﻣيﺔ وﺟود ﻣﻌتﻘد داﺧل كل ﺟﻣاﻋﺔ؟ كيف تكون‬
‫طبيﻌﺔ الﺟﻣاﻋﻲ دينيﺔ ضرورة؟‬
‫يﺣاول دوبريه اﻻﺟابﺔ ﻋﻠﻰ ھذا الﺳؤال األول بواﺳطﺔ ﻣفﮭوم‬
‫الالاﻣتالء والالاكتﻣال ويفﺳر ذلك بﻘوله‪ ":‬ﻣﻊ ﻣفﮭوم الالاكتﻣال‬
‫أﻋﻣم ﻋﻠﻰ النظام الﺳياﺳﻲ ﻣا تﻘوله ﻗاﻋدة ﻏودل فﻲ نظام الﻣنطق‬
‫التﻲ تبين بأنه ﻻ يﻣكن ألي نﺳق أن يؤﺳس ﺣﻘيﻘته دون الرﺟوع‬
‫الﻰ ﻋاﻣل ﺧارج ﻋنه‪ ،‬بﻣﻌنﻰ آﺧر ﻻ يوﺟد أي نﺳق برھانﻲ فﻲ‬
‫ذاته‪ ،‬أﺣاول أن أوضح ﻋﻠﻰ ضوء ھذا النﺳق اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻣاھيﺔ‬
‫إذن ھذا الﻌنصر الﺧارﺟﻲ"‪.‬‬
‫ﻣن طبيﻌﺔ النﺳق اﻻﺟتﻣاﻋﻲ أن يترك الﻣﺟال الﻰ وﺳيط‬
‫ﺧارﺟﻲ يتﺣﻣل ﻣﺳؤوليﺔ التنظيم وتﺣﻘيق التناﻏم ويﺳﻣح بتأﺳيس‬
‫الﺣﻘيﻘﺔ وبالتالﻲ ﻻ تدرك الﻣﺟﻣوﻋﺔ ھويتﮭا إﻻ ﻋبر تﻣﺛالت أو‬
‫أفضل بواﺳطﺔ كاريزﻣا‪ .‬وبالتالﻲ تبﻘﻰ الﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣدينﺔ لﻠوﺳيط‬
‫الﺧارﺟﻲ باﺳتﻣرار ھويتﮭا وبﻘاء وﺣدتﮭا الكﻠيﺔ ﻣصانﺔ وﻣﺣفوظﺔ‪.‬‬
‫بﮭذا الﻣﻌنﻰ تﺣتاج الﺟﻣاﻋﺔ الﺳياﺳيﺔ إلﻰ الديانﺔ الطبيﻌيﺔ ﻗصد‬
‫التغﻠب ﻋﻠﻰ الالإكتﻣال وﺳد أبواب النﻘصان وﻻ يﻣكن التﻌاﻣل ﻣﻊ‬
‫الدينﻲ ھنا كنﺳق ﻣن الﻣﻌتﻘدات وإنﻣا يتم أﺧذه كﻣﻌطﻰ لتصريف‬
‫الﻣﻘدس اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‪ .‬ھذه الطبيﻌﺔ الدينيﺔ لﻠﺟﻣاﻋﻲ تفرض ﻋﻠﻰ كل‬
‫الﻣﺟتﻣﻌات ﺧصوصياتﮭا بﻣا فيﮭا الﻣﺟتﻣﻌات التﻲ تزدريﮭا‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫يشكل الﻣﻌتﻘد ﻋنصرا طبيﻌيا لﻠﺟﻣاﻋﻲ ويتﺣول إلﻰ أرتدوكﺳيﺔ‬
‫ودوافﻊ ﻋﻣيﻘﺔ ﻋﻣيﻘﺔ توﺟه الفﻌل الﺳياﺳﻲ وتﺣدد ﻣصير الﺟﻣاﻋﻲ‬
‫وتﻣﺛل بالﺧصوص نﺳق ﻣﻘاوﻣﺔ ودفاع ضد كل اﻋتداء ﺧارﺟﻲ‬
‫وكل تفكك داﺧﻠﻲ‪.‬‬
‫يبرھن دوبريه ﻋﻠﻰ ھذا التالﺣم باﺳتﻌصاء ﻗﺳﻣﺔ الوﺣدة‬
‫الﻣفﮭوﻣيﺔ التﻲ تكون الﺳياﺳﻲ والدينﻲ والﻌﺳكري ويرى أن‬
‫اﻻيديولوﺟيا الدينيﺔ تؤدي وظيفﺔ الﺟﮭاز اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وتﻣنح التنظيم‬
‫الذاتﻲ وتتفادى اﻻنﻘالبات وتضﻣن اﻻﺳتﻘرار واﻻنﺳﺟام وتتدارك‬
‫فترات الفراغ واﻻنتﻘاﻻت الفﺟئيﺔ وتﺣﻘق توازن اﺛنﻲ وھووي‪.‬‬
‫ﻻ ﻣﺟال لالﻋتﻘاد إذن بأن ﻣالﺣظﺔ الﻣﺟتﻣﻌات البشريﺔ الﺣديﺛﺔ‬
‫تأذن بﻣصادفﺔ ﻣﺟتﻣﻊ بال ايديولوﺟيا وبال ﻣنظوﻣﺔ إﻋتﻘاديﺔ تؤدي‬
‫وظيفﺔ اﺟتﻣاﻋيﺔ وتضفﻲ الﻣﻌنﻰ ﻋﻠﻰ الﻌالم الذي يﻌيش فيه أفراد‬
‫ذلك الﻣﺟتﻣﻊ‪.‬‬
‫ﻣا فتئت الﺳياﺳﺔ تﺟﻌل الناس ﺣﻣﻘﻰ وﻣﺟانين وﻻﻋﻘالنيين‬
‫وﺧطرين وباﺣﺛين ﻋن اﻻنتﻘام والﺛأر وطاﻣﻌين فﻲ الﻣﺟد والﺳﻠطﺔ‬
‫والﺛروة وھذا ﻣا يﻘوله الﺣس الﻣشترك ويؤيده الﻣنﮭج التﺣﻠيﻠﻲ‬
‫الﺟدلﻲ لريﺟيس دوبريه‪.‬‬
‫ﻻشﻲء يﺣدث لﻠﻣرء دون ﺳبب ﻣﻌﻠوم وتوﺟد ﺟﻣﻠﺔ ﻣن الﻌﻠل‬
‫ﺟﻌﻠت الناس يﻘﻌون ضﺣيﺔ الالّﻋﻘل ويتبﻌون األھواء وربﻣا ﺳؤال‬
‫دوبريه الﺛانﻲ ھو اآلتﻲ‪ :‬لﻣاذا يفﻘد الناس ﻋﻘولﮭم ﻣن أﺟل أن‬
‫يﻌيشوا فﻲ ﻣﺟﻣوﻋات؟‬
‫يتطﻠب ﻣﻌالﺟﺔ الﻣشكل واﺟب الصﻌود إلﻰ شروط إﻣكان‬
‫انبﺛاق الﮭذيان الﺟﻣاﻋﻲ والﮭوس اﻹيديولوﺟﻲ وﻋﻠﻰ ھذا األﺳاس‬
‫يشرع دوبريه فﻲ اﻣتﺣان ﻣكونات الﺧطاب الﺳياﺳﻲ وذلك بتﺣﻠيل‬

‫‪349‬‬
‫لغﺔ الﮭذيان الﺟﻣاﻋﻲ وتشريﻊ اﻻيديولوﺟيا الﺛاويﺔ وتفﺣص البنيﺔ‬
‫الﻣنطﻘيﺔ التﻲ تﺳﻣح بتشكل ﺟﻣاﻋﺔ ﺳياﺳيﺔ ﻣﺳتﻘرة وﻣنﺳﺟﻣﺔ‪.‬‬
‫يﺣدد ﻻإكتﻣال الﻣﺟﻣوﻋﺔ الﻣغﻠﻘﺔ اﺳتﻌﻣالﮭا الﻣﻣكن لﻘابﻠيﺔ‬
‫أفرادھا لﻠفﻌل والتنظم الﺟﻣاﻋﻲ‪ ،‬وﻻ تﻌﻣد إلﻰ إتباع ﻣﺳارات‬
‫ايديولوﺟيﺔ كﺛيرة وفق ﺳرﻋات ﻣتفاوتﺔ بل تﺧتار ﻣﺳار اﻋتﻘادي‬
‫واﺣد وفق ﺳرﻋﺔ ﻣنتظﻣﺔ‪.‬‬
‫ﻏير أن الطبيﻌﺔ الدينيﺔ لﻠوﺟود الﺟﻣاﻋﻲ تتبﻠور بطريﻘﺔ ﻣاديﺔ‬
‫وتشكل الالوﻋﻲ الﺳياﺳﻲ لﻠبشريﺔ وتﻌﻣل ﻋﻠﻰ تنظيم الالّﻣتغيرات‬
‫والدوال الﺛابتﺔ فﻲ ﺳﻠوك األفراد وفﻲ تﺣديد الﻌالﻗات بين‬
‫الﻌناصر الﻣكونﺔ لﻠﺳياﺳﻲ‪.‬لكن اذا كانت األﺣزاب الﺳياﺳيﺔ‬
‫الﻌصريﺔ تضﻣر ﺧﻠفيﺔ دينيﺔ أين الﻌﺟب فﻲ أن تﺣﻣل الﺟﻣاﻋات‬
‫الدينيﺔ ﻣواﻗف ﺳياﺳيﺔ؟ أﻻ يﺟب أن تﺧرج الطبيﻌﺔ الدينيﺔ ﻣن‬
‫ظﻠﻣات الالوﻋﻲ إلﻰ أنوار الوﻋﻲ؟‬

‫اﻟﻣصدر‪:‬‬
‫‪Régis Debray, critique de la raison politique,‬‬
‫‪éditions Gallimard, Paris , 1981.‬‬

‫‪350‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬

‫نفوذ السياسي من منظور فنومينولوجي‬

‫"ينبغﻲ أن نتفادى كل ﺳوء لﻠفﮭم‪ .‬فالطبيﻌﺔ البشريﺔ ﻻ تتطابق ﻣﻊ‬


‫الوضﻊ البشري‪ .‬وﻣﺟﻣوع األنشطﺔ وال َﻣﻠَكَات اﻹنﺳانيﺔ التﻲ تكون الوضﻊ‬
‫البشري ﻻ تشكل شيئا ﻣﻣا يﻣكن أن نﺳﻣيه طبيﻌﺔ بشريﺔ"‪.11‬‬

‫إذا طرﺣنا ﻣشكل الطبيﻌﺔ البشريﺔ بصورة فردانيﺔ بﺳيكولوﺟيﺔ‬


‫أو بالﻣﻌنﻰ الفﻠﺳفﻲ الﻌام فإننا لن نﺣﻠم بإﻣكانيﺔ انفراج ھذا الﻣشكل‬
‫بﻣﺟرد تﺣويل الﺳؤال ﻋن الذات إلﻰ اﻻھتﻣام الﻣركزي لﻠتفكير‬
‫الفﻠﺳفﻲ‪ .‬ﻋالوة ﻋﻠﻰ أنه يﻣكن تﺣديد وﻣﻌرفﺔ وتﻌريف طبيﻌﺔ‬
‫األشياء التﻲ تﺣيط باﻹنﺳان وتﺧتﻠف ﻋنه ﻣن ﺟﮭﺔ الوﺟود‪ ،‬ولكن‬
‫ﻻ أﺣد يﻣكن أن يفترض طبيﻌﺔ ﺛابتﺔ لﻠبشر وﻻ أﺣد يدﻋﻲ وﺟود‬
‫ﻣاھيﺔ ﺛابتﺔ لﮭم تﻣاﻣا ﻣﺛل األشياء‪ .‬فﻲ ھذا الﺳياق ترفض ﺣنﺔ‬
‫أرندت إﺳﻘاط ﻣﻘوﻻت الﻣﻌرفﺔ الﺧاصﺔ باألشياء وكيفياتﮭا‬
‫الطبيﻌيﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﻘوﻻت الﻣﻌرفﺔ الﺧاصﺔ بالبشر باﻋتبارھم الﺟنس‬
‫األكﺛر تطورا فﻲ الﺣياة الﻌضويﺔ وتﻘر بضرورة طرح ﺳؤال ﻣن‬
‫نﺣن؟ وترى ﻣاذا نكون؟ ﻋند التوﺟه نﺣو فﮭم الوضﻊ اﻹنﺳانﻲ‬
‫وتطالب بطرح ﺳؤال الﮭويﺔ ﺧارج إطار الﻣﺛال األفالطونﻲ‬

‫‪1‬‬
‫‪Hannah Arendt, Condition de l'homme moderne, édition Calment-‬‬
‫‪Levy, Paris, 1983, p44.‬‬

‫‪351‬‬
‫وتدﻋو الﻰ الكف ﻋن النظر إلﻰ الطبيﻌﺔ البشريﺔ ﻣن زاويﺔ‬
‫األلوھيﺔ التﻲ ﺧﻠﻘتﮭا وﻋن ﻣفﮭﻣﺔ الﻣﻠكات البشريﺔ وكيفياتﮭا وﻋن‬
‫ﻣنح الطبيﻌﺔ البشريﺔ صفات إلﮭيﺔ ﺧاصﺔ باﻹنﺳان األﻋﻠﻰ‪ .‬وترى‬
‫فﻲ الﻣﻘابل وﺟوب اﻻنطالق ﻣن شروط الوﺟود البشري‬
‫واﻻنغراس فﻲ الﺣياة فﻲ ﺣد ذاتﮭا والتركيز ﻋﻠﻰ الفترة الﻣﻣتدة‬
‫بين الوﻻدة والوفاة والتﻌاﻣل ﻣﻊ التﻌدد والكوكبيﺔ بوصفﮭا‬
‫وضﻌيات اﻻنتﻣاء إلﻰ الﻌالم واﻻنتباه إلﻰ التﮭديدات الﻣﺣدﻗﺔ‬
‫بالوضﻊ البشري وﻣا يترتب ﻋنﮭا ﻣن ھشاشﺔ وتﻠف وضياع‬
‫وﻋطوبيﺔ وﻣداھﻣﺔ وضرر‪ .12‬فﻲ ھذا الصدد ﻣا الذي ﺣدث فﻲ‬
‫الشأن الﺳياﺳﻲ؟ لﻣاذا ﺣدث كل ذلك الﻌنف وتﻠك الﺣروب فﻲ‬
‫الﻣﺳرح التاريﺧﻲ؟ وكيف أﻣكن ﺣدوث ذلك األﻣر الﻣكروه؟ ھل‬
‫يﻣﺛل الوضﻊ الﺳياﺳﻲ وضﻌا طبيﻌيا ﻣوروﺛا بالنﺳبﺔ إلﻰ اﻹنﺳان‬
‫أم ھو وضﻊ ﻣكتﺳب ﺛﻘافيا ونتيﺟﺔ تﺟربﺔ تاريﺧيﺔ ﻣؤلﻣﺔ؟ وبالتالﻲ‬
‫ھل اﻹنﺳان ﺧير وﻣﺳالم أم ھو ﻋنيف وشرير؟ وھل ھو ﻣدنﻲ‬
‫بالطبﻊ وبالضرورة أم كائن ﺳياﺳﻲ باﻻصطناع واﻹكراه وﻗوة‬
‫الوازع؟ ﻣا الفرق بين الﺳياﺳﺔ والﺳياﺳﻲ؟ ولﻣاذا ارتبط الﺣكم‬
‫باألفراد والﺳﻠطﺔ بالشﻌب والنفوذ بالتﻘاليد والتراث؟‬
‫تﺣاول أرندت أن تﺟﻣﻊ بين الﻣﻘاربﺔ الفنوﻣينولوﺟيﺔ والﻌﻠوم‬
‫الﺳياﺳيﺔ فﻲ دراﺳﺔ الظواھر اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والﻣؤﺳﺳات الﻣدنيﺔ‪.‬‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن الفنوﻣينولوﺟيا ھﻲ تيار فﻠﺳفﻲ ﺣاﺳم ﻗام بتﺟديد‬
‫الفﻠﺳفﺔ فﻲ الﻘرن الﻌشرين وبدأ ﻣﻊ ھوﺳرل ﺣينﻣا ﺣاول بﻠورة‬
‫أﺳس الﺣﻘيﻘﺔ الﻌﻠﻣيﺔ والﻣﻌرفﺔ الفﻠﺳفيﺔ والتﺟربﺔ الﺣيﺔ وذلك‬
‫بتفادي الﻣﻘاربات النفﺳانيﺔ والوضﻌيﺔ واھتم بوصف الظواھر‬
‫‪1‬‬
‫‪Arendt (Hanna), condition de l’homme moderne,op.cit.pp.19-20.‬‬

‫‪352‬‬
‫باﻋتبارھا ﻣاھيات ﻣﻌطاة ﻋن األشياء الﻣدركﺔ واﺳتﺧدم األبوﺧيا‬
‫لﻠرد ﻋﻠﻰ الﻣوﻗف الطبيﻌﻲ وتنبيه الوﻋﻲ بغيﺔ اﻻلتفات إلﻰ‬
‫الظواھر ﻣن ﺧالل ﻣفﮭوم الﻘصديﺔ وإنتاج الﻣﻌنﻰ بواﺳطﺔ أفﻌاله‪.‬‬
‫فﻲ ﺣين أن الﻌﻠوم الﺳياﺳيﺔ ھﻲ أﺣد الﻌﻠوم اﻹنﺳانيﺔ ظﮭر بﻌد‬
‫الﺣرب الﻌالﻣيﺔ الﺛانيﺔ وتدرس الظواھر الﺳياﺳيﺔ وﺧاصﺔ‬
‫النظريات واألنظﻣﺔ والتطبيﻘات والﻣﻣارﺳات والﺳﻠوكات الفرديﺔ‬
‫والﺟﻣاﻋيﺔ والتوﺟﮭات الﻌاﻣﺔ والرأي الﻌام وتأﺛير ﺟﻣاﻋات‬
‫الضغط وتطور الﻘوانين وﻣضاﻣين الدﺳاتير وﺣﻘوق اﻹنﺳان‬
‫والﺣريات وﺣﻘوق الشﻌوب وﺳيادة األوطان‪.‬‬
‫لﻘد طرﺣت أرندت فﻲ ﺧاتﻣﺔ تﻣارينﮭا الﺳياﺳيﺔ الﺛﻣانيﺔ ﻣن‬
‫كتابﮭا الﻣﻌنون "أزﻣﺔ الﺛﻘافﺔ" اﻹشكال التالﻲ‪ :‬ھل أدى ﻏزو‬
‫اﻹنﺳان لﻠفضاء إلﻰ تزايد بﻌده اﻹنﺳانﻲ أم إلﻰ اﻻنتﻘاص ﻣنه‬
‫وتدﺣرﺟه الوﺟودي‪13‬؟‬
‫ھذا الﺳؤال يﺳﻠم ضﻣنيا بأن اﻹنﺳان يوﺟد فﻲ الﻣراتب الﻌﻠيا‬
‫فﻲ ﺳﻠم الكائنات وفﻲ أفضل ﻣكان فﻲ الكون ولكن التطور الﻌﻠﻣﻲ‬
‫والتﻘنﻲ ﻗد افﻘده ھذا اﻻﻣتياز وﺟﻌﻠه يﺧﺳر نظرته التبﺟيﻠيﺔ لنفﺳه‬
‫ويتبنﻰ نظرة نﺳبيﺔ‪.‬‬
‫صﺣيح أن اﻹنﺳان ﻋﺛر ﻋﻠﻰ النﻘطﺔ األرﺧﻣيديﺔ ولكنه‬
‫اﺳتﻌﻣﻠﮭا ضد نفﺳه وﻗام بغزو لﻠفضاء ونظر إلﻰ الكوكب ﻣن‬
‫الﺧارج وبﺣث ﻋن نﻘطﺔ ﺧارج األرض تﻣﺛل ﻗاﻋدة ارتكاز فﻲ‬
‫اﺳتكﻣال ﺳيادته ﻋﻠﻰ الكون‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Arendt (Hanna), la crise de la culture, huit exercices de pensée‬‬
‫‪politique, édition Gallimard, Paris, 1972.p337.‬‬

‫‪353‬‬
‫لكن األﺧطر ﻣن كل ذلك ليس الﻘضاء ﻋﻠﻰ التصورات‬
‫الﻣركزيﺔ اﻹﺣيائيﺔ وإنﻣا تﻌويض الكالم الﺣﻲ والﻠغﺔ البشريﺔ‬
‫والﻣﻌاﻣالت الﻣاديﺔ الﻣباشرة بالرﻣوز الرياضيﺔ والﻌالﻗات‬
‫الﻣنطﻘيﺔ واألبنيﺔ الصوريﺔ‪.‬‬
‫ﻣﺣصﻠﺔ ھذا التﺣول الكبير ﻻ تنﺣصر فﻲ إزاﺣﺔ الذات ﻣن‬
‫ﻣركز الكون والكف ﻋن ﻣﻌاﻣﻠتﮭا بوصفﮭا ﺳيدة الكائنات وتﻘﻠيص‬
‫البﻌد اﻹنﺳانﻲ وتﺧفيض ﻣنزلته وإنﻣا تتﻌدى ذلك نﺣو تﺣطيﻣه‬
‫والﻘضاء ﻋﻠيه نﮭائيا‪ .14‬لكن ھل ﻣن الﻣﻣكن أن تكوين ﻣﺟال‬
‫ﺳياﺳﻲ ﺧاليا ﻣن الﻌنف والكذب فﻲ ﻋالﻗﺔ الدولﺔ بالﻣواطنين‬
‫وﻋﻠﻰ الﻣﺳتوى الﻌالﻗات الدوليﺔ؟ بأي ﻣﻌنﻰ يكون تﺛبيت الﺳالم‬
‫بشكل دائم بين الشﻌوب فﻲ الﻌالم أﻣرا ﻗابال لﻠتﺣﻘيق؟ كيف نفﮭم‬
‫اﻹنﺳان بوصفه الكائن الوﺣيد الذي يتصرف بطريﻘﺔ ﻏير إنﺳانيﺔ؟‬
‫وﻣتﻰ تنﻘﻠب اﻹنﺳانيﺔ ﻋﻠﻰ نفﺳﮭا؟ وكيف صار التصدي‬
‫لﻠالّإنﺳانيﺔ اﻻھتﻣام األبرز فﻲ الفﻠﺳفﺔ الﺳياﺳيﺔ الﻣﻌاصرة؟‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أن اﻹنﺳانيﺔ ﻻ تﻌنﻲ نوﻋا وﻻ طبيﻌﺔ كونيﺔ بل‬
‫تتﻣيز باألﺣرى بﺣريﺔ ﻏير ﻣوﺟﮭﺔ أﺧالﻗيا نﺣو تأﺳيس وﺟودنا‬
‫وإنﻣا يﻣكن أن تﺳﻘط فﻲ أفﻌال ﻣضادة لإلنﺳانيﺔ ﻣﺛل الﻘيام بالشر‬
‫والكذب والﻌنف‪ .‬ولذلك ﺟﻌﻠت أرندت ﻣﺣور اھتﻣاﻣﮭا اﺳتشكال‬
‫الشر الﺟذري والرد ﻋﻠﻰ ﻋدم التفكير فﻲ تفاھﺔ الشر والتﻌاﻣل ﻣﻊ‬
‫كل ﻣاھو ﻣﺧيف وﻣرﻋب وﻣﺳكوت ﻋنه وﻣتكتم ﻋﻠيه وﺧاصﺔ إذا‬

‫‪1‬‬
‫‪Arendt (Hanna), la crise de la culture, huit exercices de pensée‬‬
‫‪politique, op.cit.pp354.355.‬‬

‫‪354‬‬
‫ﻣا تﻌﻠق األﻣر باﻹبادة الﺟﻣاﻋيﺔ وﻗتل األفراد األبرياء والﻌزل فﻲ‬
‫الﻣﺣتشدات والتﻣييز الﻘانونﻲ واﻻﺳتبﻌاد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ضدھم‪.‬‬
‫لﻘد ارتبطت الﮭﻣﺟيﺔ بالﺟريﻣﺔ الﻣنظﻣﺔ ﻣن ﻗبل اآللﺔ الﺣربيﺔ‬
‫والﻌﻘﻠيﺔ األﻣنيﺔ اﻻﺳتصاليﺔ وذھنيﺔ التفوق والﻌظﻣﺔ وترتب ﻋنﮭا‬
‫إلﻘاء الﻣنبوذين فﻲ وضﻌيات ﻏير إنﺳانيﺔ وﺣشرھم فﻲ ظروف‬
‫ﻣرﻋبﺔ وﻣأﺳاويﺔ‪ .‬إن الﻘذف بﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن األفراد فﻲ الﺧارج‬
‫وﻣﺣاﺳبتﮭم بﻣنطق الﮭويﺔ وﻣﻌاﻣﻠتﮭم باﻋتبارھم ﻻ ينتﻣون إلﻰ‬
‫دائرة اﻹنﺳانيﺔ ھو إﺟﺣاف فﻲ ﺣﻘﮭم وﻣصادرة لكراﻣتﮭم وإﻏفال‬
‫لآلدﻣيﺔ وتبنﻲ نظرة فوق ﻋنصريﺔ‪.‬‬
‫ﻏنﻲ ﻋن البيان أن أرندت لم تﺟد تبريرا لﮭذه الﻣﻣارﺳات ولم‬
‫تﻌﺛر ﻋﻠﻰ ﻣﺳوغ أﺧالﻗﻲ يشرع لﻠكائنات البشريﺔ إتيان أفﻌال‬
‫ﻻإنﺳانيﺔ وشيطانيﺔ ولم تﻘتنﻊ بصفات الرﻋونﺔ والصفاﻗﺔ التﻲ‬
‫تﻠتصق ببﻌض البشر‪.‬‬
‫ھذه األزﻣﺔ التﻲ ﻋصفت بالنزﻋﺔ اﻹنﺳانويﺔ تﺳربت إلﻰ ﻣﺟﻣل‬
‫أروﻗﺔ الﺛﻘافﺔ وطالت التربيﺔ والتﻌﻠيم واﻻﻗتصاد والفنون وﻣﺳت‬
‫باألﺳاس الﻌالﻗات اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والﻣﻣارﺳﺔ الﺳياﺳيﺔ وأدى ذلك إلﻰ‬
‫توتير الوضﻊ اﻹنﺳانﻲ‪ .‬لﻘد ارتكبت األنظﻣﺔ الﺳياﺳيﺔ ﺟرائم فﻲ‬
‫ﺣق البشريﺔ وألﺣﻘت أضرارا فادﺣﺔ فﻲ ﺣق الكائن ﻣﮭﻣا كان‬
‫الطابﻊ الذي تﻣيزت به وﻣﮭﻣا كان الﻌنوان الذي لﺣق بﻣﻣارﺳاتﮭا‬
‫‪tyrannie‬‬ ‫طغيان‬ ‫ﺣكﻣﮭا‪:‬‬ ‫بآليات‬ ‫واصطبغ‬
‫واﺳتبداد ‪despotisme‬وشﻣوليﺔ أو كﻠيانيﺔ ‪totalitarisme‬‬
‫وإﻣبراطوريﺔ‪ empire.‬لﻘد كان ﻣن الضروري بالنﺳبﺔ لﻠفكر‬
‫الﻣﻌاصر تﺣرير الﻣﺟال الﺳياﺳﻲ ﻣن ھيﻣنﺔ النظرة الﻣﻌياريﺔ‬
‫الﻣيتافيزيﻘيﺔ التﻲ ﺟﻌﻠت فيﻠﺳوفا كبيرا ﻣﺛل ھيﺟل ﻻ ينظر إلﻰ‬

‫‪355‬‬
‫الدولﺔ إﻻ ﻣن زاويﺔ ﻣﺳﻠﻣات ﻻھوتيﺔ وھﻲ ﻣﺟﻲء اﻹله إلﻰ‬
‫األرض بدل اﺳتﺛﻣار الﻘارة الﻣﺟﮭولﺔ التﻲ اكتشفﮭا وھﻲ التاريﺦ‬
‫والتﻌاﻣل ﻣﻌﮭا بوصفﮭا أرض النﺳبﻲ‪.‬‬
‫ﻋندﻣا يوﺟد الفرد أو الﺟﻣاﻋﺔ فﻲ نظام شﻣولﻲ فإنه يﺣرم ﻣن‬
‫ﻣرﺟﻌيات أﺧالﻗيﺔ ويﺳﻠب ﺣﻘوﻗه وﺣرياته وإنﺳانيته ويﻌاﻣل‬
‫ﻣﻌاﻣﻠﺔ ﺳيئﺔ ووﺣشيﺔ ويدرج فﻲ ﺧانﺔ الغرباء واألﺟانب‬
‫واآلﺧرين ويتم تﺳﻠيط ﻋﻠيه لشتﻰ أنواع اﻹھانﺔ والتﮭكم والﺳﺧريﺔ‬
‫ويصل األﻣر إلﻰ ﺣد اﻻﺳتغالل والتوظيف واﻻﺳتﻌباد والﻘتل‪.‬‬
‫لﻘد نﺣتت أرندت ﻣفﮭوﻣا ﺟديدا فﻲ الﻘاﻣوس الﺳياﺳﻲ ھو‬
‫الشﻣوليﺔ نﺳبﺔ إلﻰ الفاشيﺔ والنازيﺔ والﺳتالينيﺔ والﻣاويﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫الﺳواء وﻣيزتﮭا ﻋن الطغيان واﻻﺳتبداد وﻣنﺣتﮭا ﺟﻣﻠﺔ ﻣن‬
‫الﺧصائص والﻣﺣﻣوﻻت الدﻻليﺔ ھﻲ الﻘانون الشﻣولﻲ والرﻋب‬
‫الﻣﻌﻣم واﻹيديولوﺟيا وذوبان الفرد والﻣﺣتشد والﻌزل واﻹبادة‬
‫الﺟﻣاﻋيﺔ‪.‬‬
‫بيد أنﮭا تﻌاﻣﻠت ﻣﻊ الظواھر الﺳياﺳيﺔ ﻣن زاويﺔ فنوﻣينولوﺟيﺔ‬
‫إيتيﻘيﺔ وﻗدﻣت وصفا لﻠوضﻊ البشري باﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ ﻣﻘوﻻت‬
‫الفﻠﺳفﺔ الوﺟوديﺔ ونظرت إلﻰ الطابﻊ النشط والﺣركﻲ لﻠشأن‬
‫اﻹنﺳانﻲ فﻲ ﻣﻘابل الطابﻊ التأﻣﻠﻲ والﺣياة النظريﺔ الﺳكونيﺔ‬
‫وركزت ﻋﻠﻰ ﺛالﺛﺔ أنشطﺔ كبرى يﻘوم بﮭا اﻹنﺳان ھﻲ‪:‬‬
‫ـ الشغل يتﻣﺛل فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ ضرورات الﺣياة والﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫البﻘاء‬
‫ـ الﺣرفﺔ تﻘوم بإنتاج ﻣصنوﻋات تصﻠح لالﺳتﮭالك وتتﻣيز‬
‫بالدوام‬

‫‪356‬‬
‫ـ الفﻌل ھو ﻣﻣارﺳﺔ إنﺳانيﺔ ﻻ تﻘتصر ﻋﻠﻰ الﻌﻣل وتﺣﻘيق ھدف‬
‫وإنﻣا تتﻌدى ذلك نﺣو التﻌبير ﻋن الﺣياة وانﺟاز الكينونﺔ وﺧاصﺔ‬
‫ﺣينﻣا يﻌبر ﻋن تﺟربﺔ ھاﻣﺔ ﻣن إﻣكانيات الﺣياة بين الﻣتﺳاوين‬
‫وتﻘاﺳم الﻌيش ﻣﻊ اآلﺧرين فﻲ فضاء ﻋﻣوﻣﻲ يﻣكن أن يتﺣول إلﻰ‬
‫فضاء ﺳياﺳﻲ ديﻣﻘراطﻲ إذا انتظم وفق الﻣﺳاواة والتﻣيز‪.‬‬
‫لﻘد ﺣرصت ﺣنﺔ أرندت ﻋﻠﻰ طرح الﻣشكل اﻹنﺳانوي ﺧارج‬
‫تربﺔ الﺣداﺛﺔ وذلك بالﺧروج ﻣن الﺣياة التأﻣﻠيﺔ نﺣو الﺣياة النشطﺔ‬
‫وتغﻠيب الفﻌل الﺳياﺳﻲ الذي يرﻣز إلﻰ األبديﺔ ﻋﻠﻰ النشاط‬
‫اﻻﻗتصادي الذي يﺣاول إنﻘاذ ديﻣوﻣﺔ الﻌالم وتﺧﻠيد اآلﺛار البشريﺔ‬
‫ﻣن ﻣصنوﻋات وﻣنتوﺟات ووﺳائل ﻣﻌدة لالﺳتﮭالك‪.‬‬
‫إذا كانت اﻻھتﻣاﻣات البشريﺔ ﻣﻌرضﺔ لﻠﻌطب والتﻠف وھشﺔ‬
‫وﻣتناھيﺔ ﻋندﻣا يتم تداولﮭا فﻲ الﺳوق وﻋرضﮭا فﻲ فضاء الظﮭور‬
‫وتفﻘد ﻣﻌناھا نتيﺟﺔ اﻻﻏتراب وتفشﻲ اﻻﺳتﮭالك والﻣﻠكيﺔ واآلليﺔ‬
‫فإن اﻻرتﻘاء ﻣن الشغل إلﻰ الفﻌل وﻣن اﻹنﺳان الصانﻊ إلﻰ‬
‫اﻹنﺳان الﻣدنﻲ ﻗد يﻌيد لﻠكالم ديناﻣيكيته الﻣولدة ويبﻌث فﻲ الفﻌل‬
‫اﻗتداره ﻋﻠﻰ اﻹبداع وﻗد يﺟﻌل ﻣن الﺣياة إطارا ﻣﺟﺳﻣا لﻠﺳﻌادة‬
‫وتﺟربﺔ ﻣﻠﻣوﺳﺔ لتوطين الﺧير األﺳﻣﻰ‪ .‬لﻘد طبﻘت أرندت الﻣنﮭج‬
‫الفنوﻣينولوﺟﻲ فﻲ الﺳياﺳﺔ وﻗاﻣت بالتﻣييز بين الفضاء الﺧاص‬
‫والفضاء الﻌام ووصفت الفﻌاليﺔ الﺳياﺳيﺔ بكونﮭا اھتﻣاﻣا بشريا‬
‫ﻣركزيا يتنزل فﻲ إطار اﺟتﻣاﻋيته وﻣيﻠه نﺣو الﻣشترك والﺣياة‬
‫الﻣدنيﺔ ووظفت ﻣنوال تدبير الﻣنزل فﻲ ترتيب أوضاع الدولﺔ‬
‫وﺟﻌﻠت ﻣن الصفح ‪pardon‬أﻣرا ﻻ يﻣكن الرﺟوع ﻋنه وتﻌاﻣﻠت‬

‫‪357‬‬
‫ﻣﻊ الوﻋد ‪promesse‬بوصفه ﺣدﺛا ﻣﺳتﻘبﻠيا ﻏير ﻣتوﻗﻊ‪ .15‬ﻏير‬
‫أن الﻣبادئ التوﺟيﮭيﺔ لﻠفﻌل الﺳياﺳﻲ لم تﻘتصر ﻋﻠﻰ الصفح‬
‫‪pluralité‬والﻌيش‬ ‫التﻌدديﺔ‬ ‫شﻣﻠت‬ ‫وإنﻣا‬ ‫والوﻋد‬
‫الﺳوي ‪coexistence‬الﺣريﺔ وإرادة الﺣياة الﻣشتركﺔ‬
‫‪volonté de vivre ensemble‬والصداﻗﺔ والﺣﻘيﻘﺔ‬
‫واألﻣل ‪espérance‬والشﮭادة ‪ témoignage‬والﺧير‬
‫والﺟﻠيل‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫كﻣا ربطت أرندت بين الﺣكم الﺳياﺳﻲ والﺣكم الﺟﻣالﻲ‪6‬‬
‫وتصورت ﻣﮭﻣﺔ الﺳياﺳﻲ ﻋﻠﻰ ﻏرار ﻣﮭﻣﺔ كل ﻣن الﻣؤرخ‬
‫والﻘاضﻲ والطبيب وھﻲ إصدار األﺣكام والتﻣييز بين الصادق‬
‫والكاذب وبين الﻣشروع وﻏير الﻣشروع وبين الﺳوي والﻣرضﻲ‬
‫وفﻲ ھذا الصدد ﻣيزت بين الﺣس الﻣشترك والﺣس الﺳﻠيم وﺟﻌﻠت‬
‫ﻣﻠكﺔ التﻌﻘل ھﻲ ﻗوة التﻣييز بين الوﺳائل والتدابير التﻲ يﺟدر‬
‫بالﺳياﺳﻲ إتباﻋﮭا فﻲ ﺳبيل تﺣﻘيق نظام الغايات‪ .‬لﻘد ﺣاربت‬
‫أرندت النزﻋﺔ الﻣﺣافظﺔ ‪ conservatisme‬والﻣﻣارﺳات‬
‫الشﻣوليﺔ والﮭيﻣنﺔ اﻹيديولوﺟيﺔ وذلك ﻻنغالﻗﮭا ونشرھا روح‬
‫التﻌصب والالّتﺳاﻣح والتﻣييز والﺳﻠطويﺔ وفﻲ الﻣﻘابل انتصرت‬
‫إلﻰ الﻠّيبراليﺔ ‪ libéralisme‬ﻻﺣتكاﻣﮭا إلﻰ الﻣؤﺳﺳات الﻘانونيﺔ‬

‫‪1‬‬
‫‪Arendt (Hanna), condition de l’homme moderne, op.cit, pp. 265-‬‬
‫‪274.‬‬

‫ريكور ( بول )‪ ،‬العادل‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ترجمة المجمع التونسي للعلوم واآلداب والفنون‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫بيت الحكمة‪ ،‬قرطاج‪ ،‬تونس‪ ،‬طبعة أولى‪ 2003 ،‬صص‪.199-177.‬‬

‫‪358‬‬
‫وصونﮭا الﺣريﺔ وتنﻣيتﮭا الﻣنافﺳﺔ فﻲ إطار التﻌدديﺔ‪ 7 1.‬ﺟﻣﻠﺔ‬
‫الﻘول أن اﻹيتيﻘا تدﺧل ﻣن ھذه النﻘطﺔ ﻹصالح ﻣا أفﺳدته الشﻣوليﺔ‬
‫ﺣينﻣا ﺟففت الﻣنابﻊ األﺧالﻗيﺔ لﻠكائن البشري وذلك بأن تطرح ﻣن‬
‫ﺟديد إﻣكانيﺔ الﻣصالﺣﺔ ﻣﻊ ﻋين الذات وتنﻣيﺔ ﻗدرة الفرد ﻋﻠﻰ‬
‫الوﺟود فﻲ ﻋالﻗﺔ ﻣﻊ ذاته دون تدﺧل الﺳﻠطﺔ الﺧارﺟيﺔ وفﻲ‬
‫التفكير الﺧالق والتفاﻋل ﻣﻊ اآلﺧرين والتﻌايش الﻣشترك‬
‫واﻻﺣترام الذاتﻲ والتﻘدير بالنﺳبﺔ لﻠكراﻣﺔ البشريﺔ والﻌنايﺔ بالغير‬
‫الﻘريب والبﻌيد بوصفه تشريﻌا لﻠرﻋايﺔ باﻹنﺳانيﺔ‪ .‬لﻘد ﻗاﻣت‬
‫بتﺟديد الفﻠﺳفﺔ األﺧالﻗيﺔ والﺳياﺳيﺔ وافترضت ﻗيام ﻣﺟتﻣﻊ ﺧال‬
‫ﻣن الشﻣوليﺔ والرﻋب واﻹيديولوﺟيا ويﻌتﻣد باألﺳاس ﻋﻠﻰ‬
‫الﻣواطنﺔ الكاﻣﻠﺔ لكل األفراد واألﻗﻠيات دون اﺳتﺛناء أو تﻣييز‪ .‬كﻣا‬
‫أنﮭا نادت بتوفير شروط وﺟوديﺔ إنﺳانيﺔ تنﻌدم فيﮭا أشكال التﺣطيم‬
‫والﻌزل والتﻌذيب والﻘتل البطﻲء ويغيب ﻋنﮭا ﻣنطق تﺧﻠيف‬
‫الضﺣايا ﻣن أﺟل تغﻠيب الﻣصﻠﺣﺔ الﻌاﻣﺔ وتﻘويﺔ الﺟبﮭﺔ الداﺧﻠيﺔ‬
‫ضد الﻌدو الﺧارﺟﻲ‪ " .‬بﮭذا الﻣﻌنﻰ تكون الﺳياﺳﺔ والﺣريﺔ‬
‫ﻣتﻣاھيتين وﺣين يتم التفريط فﻲ ھذا النوع ﻣن الﺣريﺔ فإنه لم يﻌد‬
‫ﺛﻣﺔ أصال فضاء ﺳياﺳﻲ بالﻣﻌنﻰ الﺧاص"‪ .28‬لكن كيف الﺳبيل‬

‫‪1‬‬
‫‪Arendt (Hanna), les origines du totalitarisme, édition Payot, Paris,‬‬
‫‪1990, chapitre 10.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Arendt (Hanna), qu’est ce que le politique ?, Texte établi par Ursula‬‬
‫‪Ludz, traduction de l’allemand de Sylvie courtine-Denamy, éditions‬‬
‫‪du Seuil, 1995. pp.92-93.‬‬

‫‪359‬‬
‫لكﻲ يﺳتﻌيد لﻠكائن ذاته ويوﻗﻊ ﺣضوره فﻲ وضﻌه الﻣتﻌدد األبﻌاد؟‬
‫لﻣاذا يﺧفق اﻹنﺳان فﻲ أن يكون ﺳﻌيدا؟ وھل يبﻘﻰ اﻹنﺳان ﺳﺟين‬
‫وضﻌياته الﻣاديﺔ وﻣﺣدود بشروط وﺟوده أم بإﻣكانه اﻹنﻌتاق‬
‫والتأﺛير والتﺟاوز والتغيير وصناﻋﺔ ﻣاھو ﻣﺧتﻠف وﺟديد؟ كيف‬
‫يﻘتدر ﻋﻠﻰ وضﻊ شروط وﺟوده بنفﺳه والتﺣكم فﻲ ﻣصيره؟‬

‫‪360‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟراﺑﻊ عشر‬

Arendt (Hanna), la crise de la culture, huit


exercices de pensée politique, édition
Gallimard, Paris, 1972.( la conquête de
l’espace et la dimension de l’homme),
pp337.355.
Arendt (Hanna), condition de l’homme
moderne, édition Calment-Levy,
.Paris, 1983
Arendt (Hanna), les origines du
édition Payot, Paris, 1990, totalitarisme,
Arendt (Hanna), qu’est ce que le
politique ?, Texte établi par Ursula Ludz,
traduction de l’allemand de Sylvie courtine-
Denamy, éditions du Seuil, 1995.
‫ ترﺟﻣﺔ الﻣﺟﻣﻊ التونﺳﻲ‬،‫ اﻟﺟزء اﻷول‬،‫ اﻟﻌادل‬،) ‫ريكور ( بول‬
‫ طبﻌﺔ‬،‫ تونس‬،‫ ﻗرطاج‬،‫ بيت الﺣكﻣﺔ‬،‫لﻠﻌﻠوم واآلداب والفنون‬
.2003 ،‫أولﻰ‬

361
362
‫الفصل الخامس عشر‬

‫تشريح التدمريية وأنسنة األمل‬

‫"إن الفرق بين الكينونﺔ والتﻣﻠك ليس بالضرورة الفرق الﻘائم بين‬
‫الشرق والغرب‪ .‬بل إن الفرق يتﻌﻠق بﻣﺟتﻣﻊ ﻣتﻣركز ﺣول األفراد‪،‬‬
‫وﻣﺟتﻣﻊ ﻣتﻣركز ﺣول األشياء"‪.11‬‬

‫لم يﺟد ﻋﻠﻣاء اﻻنﺳان تفﺳيرا لتﺣول بﻌض الكائنات اآلدﻣيﺔ‬


‫فﻲ ﺣالﺔ الوداﻋﺔ والطيبﺔ والنزﻋﺔ الﺳﻠﻣيﺔ الﻰ ﺣالﺔ التوﺣش‬
‫والﻌدوانيﺔ والنزﻋﺔ الﺣربيﺔ‪ .‬ولﻘد ﺣاول البﻌض ﻣنﮭم تبرير ذلك‬
‫بالفاﻗﺔ والﺣرﻣان والظروف الصﻌبﺔ التﻲ يﻣر بﮭا بﻌض الﻣنبوذين‬
‫ولكن الﻣفارﻗﺔ تكﻣن فﻲ تﻌطش بﻌض الﺣاﻻت البشريﺔ الﻰ‬
‫التدﻣير وإيذاء الغير وﻣﻣارﺳﺔ اﻻرھاب بالرﻏم ﻣن انﺣدارھا ﻣن‬
‫شرائح اﺟتﻣاﻋيﺔ ﺛريﺔ و ﻣرفﮭﺔ وتﻣتﻌﮭا برﻏد الﻌيش وبﺣبوﺣﺔ‬
‫الﺣياة‪ .‬فﻣا الﺳر الذي يكﻣن وراء انفالت النزﻋﺔ التدﻣيريﺔ فﻲ‬
‫الطبيﻌﺔ البشريﺔ ﺣﺳب ايريك فروم؟ وھل اﻹنﺳان ﻋدوانﻲ بطبﻌه‬
‫كﻣا يرى فرويد؟ ھل الﻌدوانيﺔ ﻏريزة فطر ﻋﻠيﮭا اﻹنﺳان أم ھﻲ‬
‫رد فﻌل ﺛﻘافﻲ ﻣكتﺳب؟ ھل الكائن البشري يﺧضﻊ لﺣتﻣيﺔ‬
‫بﺳيكولوﺟيﺔ أم يﻣكن أن يﺳتﻌيد ﺣريته؟ ھل يﮭرب ﻣن الﺣريﺔ أم‬

‫‪ 1‬راجع مقال ايريك فروم ‪ ،‬تملك وكينونة‪ ،‬ترجمة محمد سبيال‪ ،‬الرابط‬
‫‪http://www.aljabriabed.net/n03_10sabilai.htm‬‬

‫‪363‬‬
‫يﺧاف ﻣن أن يصير ﺣرا؟ ﻣا ﻣﻌنﻰ إﻋطاء الﺣريﺔ لﻠبشر فﻲ ظل‬
‫تناﻣﻲ النزﻋﺔ التدﻣيريﺔ وتكاﺛر النظم الشﻣوليﺔ؟ وكيف ننﻘذ البشر‬
‫ﻣن نزﻋﺔ التﻣﻠك ونﺳﻣح لﮭم بتﺣﻘيق الكينونﺔ؟‬
‫ايريك فروم ﺟاء بﻌد فرويد وأدلر ويونغ وتأﺛر بكارين ھورنﻲ‬
‫وھاري ﺳتاك ﺳاليفان الذين أﻋطيا التﺣﻠيل النفﺳﻲ طابﻌا اﺟتﻣاﻋيا‬
‫وﻗد أضاف إليﮭﻣا اھتﻣاﻣا بﻣشكالت إنﺳانيﺔ كبري ﻣﺛل الرﻣز‬
‫والﺣريﺔ والكينونﺔ‪ .‬كﻣا ﻻ يتفق فروم ﻣﻊ فرويد فﻲ تصدع الذات‬
‫واﻹھانﺔ البﺳيكولوﺟيﺔ التﻲ ﺳددھا لإلنﺳان واﻹﻗرار بالوضﻌيﺔ‬
‫الفصاﻣيﺔ لﻠكوﺟيتو وﻗوله بﺳكونيﺔ الﻌالﻗﺔ بين الفرد والﻣﺟتﻣﻊ‬
‫وفﻲ ارتباط الفرد بالﻌالم الﻣﺣيط به وتبﻌيته لﻠﻣاضﻲ الطفولﻲ وفﻲ‬
‫دور الغرائز‪ ،‬إذ ﻻ تﻘتصر ﻋنده ﻋﻠﻰ الﺣاﺟات البيولوﺟيﺔ لإلنﺳان‬
‫ويبرر ذلك بأن الدوافﻊ ﻻ تفﺳر لﻣاذا يﻘوم اﻹنﺳان بأفﻌال ﻣﻌينﺔ‬
‫دون أﺧرى وكيف وﻣتﻰ ينﺟز ذلك أو ينﻘطﻊ ﻋنﮭا أو يضﺣﻲ‬
‫بنفﺳه فﻲ ﺳبيل ﺣاﺟات ﺣضاريﺔ وﻣبادئ أﺧالﻗيﺔ تﻣاشيا ﻣﻊ‬
‫ﻣﻌتﻘدات دينيﺔ أو توﺟﮭات وطنيﺔ‪.‬‬
‫فﻲ ھذا الﺳياق نﺟده يﻘول‪ ":‬كل ﺳﻠوك تدﻣيري ليس نتاﺟا ﻋﻣﻠيا‬
‫لغريزة تدﻣيريﺔ فﻲ بنيﺔ الطبﻊ البشري بل ﻣﺣصﻠﺔ دوافﻊ ونزﻋات‬
‫ليﺳت طبيﻌيﺔ بالضرورة وإنﻣا لﮭا ﻋالﻗﺔ وﺛيﻘﺔ بالﻣﻣارﺳات‬
‫والطﻘوس الﺛﻘافيﺔ"‪ .‬لﻘد فﺳر فروم الﺳﻠوك الﻌدوانﻲ بفﻘدان الفرد‬
‫لﻘيﻣته وشﻌوره بأن ﺣياته ﻏير ﺟديرة بأن تﻌاش وظﮭور نرﺟﺳيﺔ‬
‫ﺟﻣاﻋيﺔ تﻌتﻘد فﻲ التفوق والﻌظﻣﺔ وبالتالﻲ ﻏياب البﻌد اﻹنﺳانﻲ‬
‫وﺧاصﺔ انﻌدام الضﻣير والﮭروب ﻣن الﺣريﺔ‪ .‬ﺣينﻣا درس فروم‬
‫الشﺧصيﺔ اﻹنﺳانيﺔ وﺟدھا تركيب ﻋﺟيب ﻣن الﻌواﻣل النفﺳيﺔ‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ والتأﺛيرات الﺳياﺳيﺔ اﻻﻗتصاديﺔ وانتﮭﻰ إلﻰ أن‬

‫‪364‬‬
‫اﻻنﺟازات الﺣضاريﺔ ﺳببت الﻌديد ﻣن الﻣشاكل والﻣﺧاطر التﻲ‬
‫أصبﺣت تﮭدد الﺣياة وتﻣظﮭرت فﻲ طغيان النزﻋﺔ الفرديﺔ وتأﺛير‬
‫الﺣروب ﻋﻠﻰ الوضﻊ النفﺳﻲ لﻠكائن البشري وفﻲ ضياع الﺣريﺔ‬
‫والوﻗوع فﻲ اﻻﻏتراب‪ .‬لﮭذا الﺳبب نراه يتﺳاءل‪ :‬ھل يريد اﻹنﺳان‬
‫الﺣريﺔ ﺣﻘا أم أنه يﺧاف ﻣنﮭا؟ وھل الﺧوف ﻣن الﺣريﺔ كاﻣن فﻲ‬
‫طبيﻌﺔ البشر أم ناتج ﻋن ﺳيطرة النظم الشﻣوليﺔ؟ ولﻣاذا يﮭرب‬
‫اﻹنﺳان ﻣن الﺣريﺔ ويفضل الﺣياة فﻲ اﻻﻏتراب واﻻﺳتغالل؟‬
‫ليس اﻹنﺳان ﺟوھرا واﺣدا وﻻ يتكون ﻣن بﻌدين وإنﻣا ھو‬
‫ثالثي اﻷﺑﻌاد ﺣﺳب ايريك فروم ھﻲ الفردي واﻻﺟتﻣاﻋﻲ‬
‫واﻹنﺳانﻲ تﺳاھم إذا ﺣضرت دون زيادة أو نﻘصان فﻲ نﻣائه‬
‫ونضﺟه وفﻌاليته فﻲ الوﺟود‪ .‬فﻲ البدايﺔ الﮭويﺔ الفرديﺔ يكتﺳبﮭا‬
‫الشﺧص نتيﺟﺔ نﻣو ﺣريﺔ داﺧﻠيﺔ وتفتﺣﮭا داﺧل الوﺳط الذي‬
‫تتفاﻋل ﻣﻌه‪ .‬ﻏير أن الفرديﺔ الﻣنشودة ﻻ ينبغﻲ أن تتﻌارض ﻣﻊ‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ بل يتدﺧل الﻌاﻣل اﻻﺟتﻣاﻋﻲ فﻲ تكوين الفرديﺔ وبالتالﻲ‬
‫يرفض فروم أن يكون اﻹنﺳان ﻋدوا بطبﻌه لغيره وأن يفضل‬
‫اﻻنﻌزال واﻻنطواء ﻹشباع ﻏرائزه بل ھو ﻣﺣب لﻠﻌدل ويفضل‬
‫الصداﻗﺔ والتﻌاون ﻣﻊ الغير ويﻌﻣل ﻋﻠﻰ بناء أشكال ﻣن الروابط‬
‫الﻣتينﺔ والﻣفيدة ﻣﻊ الﻣﺟتﻣﻊ دون أن يﺳﻘط فﻲ إلغاء شﺧصيته‬
‫ونكران ذاته ودون الوﻗوع فﻲ التضاد أو التﻣاﺛل‪ .‬ﻏايﺔ الﻣراد أن‬
‫فروم يؤﺳس تصورا ﺟدليا لﻠكائن البشري ﺣينﻣا يتﺧطﻲ الﻣراوﺣﺔ‬
‫بين الفردي واﻻﺟتﻣاﻋﻲ نﺣو اﻹنﺳانﻲ وينظر إليه بوصفه ﻣﺳتﻘال‬
‫واﺟتﻣاﻋيا فﻲ ذات الوﻗت ويرى أنه ﻻ يصل إلﻰ ﺣالﺔ النضج‬
‫اﻹنﺳانﻲ والنﻣاء النفﺳﻲ إﻻ إذا ﺳاھم فﻲ الﻌﻣل الﺟﻣاﻋﻲ الناﺟح‬
‫واﺣتفظ بﺧصوصيته الفرديﺔ وﺣﻘق اﻻﺳتﻘالل والتواصل ﻣﻌا‬

‫‪365‬‬
‫بوصفﮭﻣا ﺣاﺟتين ﻣتأصﻠتين فﻲ كينونته وﻗاوم النزﻋات الﻣضادة‬
‫لإلنﺳانيﺔ‪ .‬ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو يتﺟﻠﻰ البﻌد اﻹنﺳانﻲ فﻲ رفض‬
‫اﻻنﻌزال ﻋن الﻣﺟتﻣﻊ والتﻣاﺛل ﻣﻊ األﻏﻠبيﺔ فﻲ ذات الوﻗت ويرتبط‬
‫بالضﻣير اﻹنﺳانﻲ باﻋتباره ذلك الصوت الذي ينبﻌث ﻣن األﻋﻣاق‬
‫ﻣناديا بأھﻣيﺔ الﻌودة إلﻰ الذات‪ .‬بناء ﻋﻠﻰ ذلك يﺧتﻠف الضﻣير ﻋند‬
‫فروم ﻋن األنا األﻋﻠﻰ الفرويدي والضﻣير التﺳﻠطﻲ ويﮭتدي بﻘيم‬
‫التﻌاون والتﻌاطف واﻻنتﻘال ﻣن وضﻌيﺔ الﻣﺟتﻣﻊ الالّﺳوي إلﻰ‬
‫وضﻌيﺔ الﻣﺟتﻣﻊ الﺳوي ﻋن طريق إﺣداث تغيير ﺟذري بالﻌالج‬
‫النفﺳﻲ وتﺣﻠيل األوضاع الﻣرضيﺔ التﻲ يتصف بﮭا البشر وھﻲ‪:‬‬
‫ﻣيكانيزﻣات الﻣازوشيﺔ األﺧالﻗيﺔ (ﺣب الذات) والﺳاديﺔ (ﺣب‬
‫التﻌذيب) والنزﻋﺔ التدﻣيريﺔ (ﺣب التدﻣير) والﻣطابﻘﺔ اآلليﺔ‬
‫(اﻹﻣتﺛاليﺔ الﻌﻣياء لﻠﺳﻠطﺔ الﻘائﻣﺔ واﻻنﺳياق التام) والﺧوف ﻣن‬
‫الﺣريﺔ (تفضيل اﻻﺳتﻌباد)‪ .‬والﺣق أن الﻌصر الصناﻋﻲ لم يف‬
‫بوﻋوده وتﺳبب لﻠبشريﺔ فﻲ صدﻣﺔ نابﻌﺔ ﻣن ﻣﻌاينﺔ الفشل‬
‫والتدھور ويظﮭر ذلك فﻲ النتائج الكارﺛيﺔ التاليﺔ‪:‬‬
‫‪ -‬لﻘد تﺣول اﻻﺳتﮭالك بوصفه شكل ﻣن أشكال التﻣﻠك فﻲ‬
‫ﻣﺟتﻣﻊ الوفرة إلﻰ فﻘدان نﻣطه اﻹشباﻋﻲ وانضافت إليه أنشطﺔ‬
‫الترويح ﻋن النفس وﺳﻠبيات التﻠﮭيﺔ وصرف الوﻗت والﺟﮭد‪.‬‬
‫‪ -‬ﻻ يﺳﮭم اﻹشباع التام لكل الرﻏبات فﻲ تﺣﻘيق الﺳﻌادة وﻻ‬
‫الﻣتﻌﺔ بل تﺣول إلﻰ شﻌور بالتﻌاﺳﺔ واأللم‪.‬‬
‫‪ -‬لﻘد أصبح اﻹنﺳان ﺟزء ﻣن اآللﺔ البيروﻗراطيﺔ وصارت‬
‫أفكاره وﻋواطفه ﻣراﻗبﺔ ﻣن وﺳائل اﻹﻋالم وﻣﺧابر تصنيﻊ الرأي‬
‫التﻲ تﻣﻠكه الﺣكوﻣﺔ وانتﮭﻰ ﺣﻠم اﻻﺳتﻘالليﺔ والﺳيادة الذاتيﺔ‪.‬‬

‫‪366‬‬
‫‪ -‬لﻘد ضاﻋف التﻘدم اﻻﻗتصادي فﻲ الﮭوة التﻲ تفصل‬
‫األﻏنياء ﻋن الفﻘراء والشﻣال ﻋن الﺟنوب وﺧﻠق أﺧطار بيئيﺔ‬
‫وتﮭديدات لﻣﺳتﻘبل الﺣياة ﻋﻠﻰ الكوكب‪.‬‬
‫ﻏير أن فروم يﺣذر ﻣن نﺳيان روﻋﺔ األﻣل الﻌظيم وضﺧاﻣﺔ‬
‫اﻻنﺟازات الﻣاديﺔ والفكريﺔ التﻲ ﺣﻘﻘﮭا الﻌصر الصناﻋﻲ بﻘوله‬
‫فﻲ "تﻣﻠك وكينونﺔ"‪ " :‬إن األﻣل الكبير فﻲ تﻘدم ﻏير ﻣﺣدود –‬
‫وھو أﻣل الﺳيطرة ﻋﻠﻰ الطبيﻌﺔ والوفرة الﻣاديﺔ وتﺣﻘيق ﻗدر‬
‫أﻗصﻰ ﻣن الﺳﻌادة ألكبر ﻋدد ﻣﻣكن ﻣن الناس‪ ،‬وتﺣﻘيق ﺣريﺔ‬
‫فرديﺔ ﻻنﮭائيﺔ‪ -‬ﻗد كان أﺳاس اﻻﺳتبشار واﻻﻋتﻘاد الذي ﻣيز أﺟياﻻ‬
‫بكاﻣﻠﮭا ﻣنذ الﻌصر الصناﻋﻲ"‪.‬‬
‫إن اﻹنﺳان يتﺳﻠح باألﻣل ضد التشاؤم ويﺣاول الﺧروج ﻣن‬
‫اﻻﻏتراب نﺣو التﺣرر وﻣن الﻣﻠكيﺔ إلﻰ الكينونﺔ ويبدي نوﻋا ﻣن‬
‫التﺳاﻣﻲ يﺣول به الدوافﻊ الغريزيﺔ والﻣيوﻻت إلﻰ إبداﻋات‬
‫ﺣضاريﺔ ﻣﺛل الفن والﻌﻠم والتﻘنيﺔ واألدب والفﻠﺳفﺔ‪...‬كﻣا ترتكز‬
‫نظرة فروم الﻣتفائﻠﺔ ﻋﻠﻰ ﺧاصيات اﻹنﺳان األنطولوﺟيﺔ والنفﺳيﺔ‬
‫وﻋنصر ھام ھو األﻣل‪ .‬لكن األﻣل ﻻ يرتبط بفﻌاليﺔ اﻹنﺳان‬
‫ونشاطه الﺣيوي فﻲ ظروف الﻣدينﺔ البرﺟوازيﺔ الﻣﻌاصرة بل ھو‬
‫ﻣالزم لكل فرد وﻣرتبط بالﺣياة ويتوﺟه نﺣو الﻣﺳتﻘبل‪ .‬ليس األﻣل‬
‫انتظارا ﺳﻠبيا ووھﻣا بل اﻻﺳتﻌداد الداﺧﻠﻲ لإلنﺳان ألﻣر لم يأت‬
‫بﻌد واﺳتﻌداد لﻠﻌﻣل‪ .‬انه ﻋنصر داﺧﻠﻲ فﻲ بنيﺔ الﺣياة وديناﻣيكيﺔ‬
‫الروح وشرط أﺳاس لتﺣﻘيق الكينونﺔ األصيﻠﺔ‪ .‬ﻻ يﻣﺛل األﻣل‬
‫طﻣوح الفرد إلﻰ أن يﻣﻠك شيئا بل ﺳﻌيه إلﻰ أن يكون نفﺳه أي أن‬
‫يكون شﺧصا ﻣﻣيزا وفرد ﻣﺳتﻘال ينتﻣﻲ إلﻰ ﻣﺟتﻣﻊ ويﺣﻣل ﻗيﻣا‬

‫‪367‬‬
‫إنﺳانيﺔ نبيﻠﺔ‪ .1‬ﻣن ھذا الﻣنطﻠق يبدو اﻹنﺳان كائنا ﻣتﻌﻠﻘا باألﻣل‬
‫ويﻣﺛل األﻣل بالنﺳبﺔ إليه ﺧيرا وﺳﻌادة واﺳتﻌدادا داﺧﻠيا ﻹﺣداث‬
‫تغييرات ﻣﮭﻣﺔ فﻲ الوﺟود اﻻﺟتﻣاﻋﻲ تتﺣﻘق فﻲ الﻣﺳتﻘبل فﻲ‬
‫ﺳياق برناﻣج ايﺟابﻲ يﻘوم بأنﺳنﺔ الﻣﺟتﻣﻊ واﻹنﺳان يﺳﻣيه فروم‬
‫"ﺛورة األﻣل"‪.32‬‬
‫فﻲ نﮭايﺔ الﻣطاف ينادي فروم بأن يﻌيش تﺟربﺔ الﺣياة بتﻠﻘائيﺔ‬
‫وبﻘﻠب ﻣفتوح ﻋﻠﻰ الﺣب والصداﻗﺔ واألﻣل ويﺣﺳن اﺳتﺛﻣار ﻗوة‬
‫الطاﻗﺔ الﺣيويﺔ ويﻘاوم ﺟاذبيﺔ الﺧضوع لﻠﺳﻠطﺔ الﺧارﺟيﺔ‬
‫ويﺳتبدلﮭا باﻹنصات إلﻰ نداء الﺣريﺔ وصوت الضﻣير‪ .‬لكن‬
‫برناﻣج فروم يظل ﻣتأﺛر بالفﻠﺳفﺔ البوذيﺔ الشرﻗيﺔ واﻗتصر ﻋﻠﻰ‬
‫توﺟيه إرشادات روﺣيﺔ نفﺳيﺔ ﺟديدة لإلنﺳان وتﺣريضه ﻋﻠﻰ‬
‫اﻻنفصال ﻋن وﺟوده الﻘائم واكتﺳابه لنفﺳه وبﻘﻲ ﻣشروع تبديل‬
‫الوضﻊ النفﺳﻲ وظروف الوﺟود اﻹنﺳانﻲ يﻌتﻣد بشكل كاﻣل ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣﺟرد التﺟديد األﺧالﻗﻲ واﻻنبﻌاث الروﺣﻲ واليﻘظﺔ النفﺳيﺔ وﻻ‬
‫يﻣس ﺟوھر الوﺟود والنشاط اﻻﺟتﻣاﻋﻲ‪ .‬فكيف يرتبط األنا‬
‫الواﻗﻌﻲ لإلنﺳان باﻻنتﻣاء إلﻰ الﻣﺟتﻣﻊ؟‬

‫فاليري ليبين‪ ،‬مذهب التحليل النفسي وفلسفة الفرويدية الجديدة‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫طبعة أولى‪.1981 ،‬ص‪.193‬‬


‫ايريك فروم ‪ ،‬ثورة األمل‪ ،‬نحو تكنولوجيا مؤنسنة‪ ،‬ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫مكتبة دار الكلمة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪.2010 ،‬‬

‫‪368‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟخاﻣس عشر‬

‫ايريك فروم‪ ،‬اإلنسان ﺑين اﻟﺟوهر واﻟﻣظهر‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺳﻌد‬


‫زھران‪ ،‬ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻋالم الﻣﻌرفﺔ‪ ،‬ﻋدد‪.140‬‬
‫ايريك فروم‪ ،‬اﻟﻣﺟﺗﻣﻊ اﻟسوي‪ ،‬الفصل الﺛالث الوضﻊ اﻹنﺳانﻲ‬
‫ﻣفتاح التﺣﻠيل النفﺳﻲ اﻹنﺳانﻲ ص‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣود ﻣنﻘذ الﮭاشﻣﻲ‪،‬‬
‫الطبﻌﺔ األولﻰ‪ ،‬دﻣشق‪2009 ،‬‬
‫ايريك فروم‪ ،‬ﺗشريح اﻟﺗدﻣيريﺔ اﻟﺑشريﺔ‪ ،‬الﺟزء األول‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﻣﺣﻣود ﻣنﻘذ الﮭاشﻣﻲ‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪ ،‬دﻣشق‪.2006 ،‬‬
‫ايريك فروم‪ ،‬ثورة اﻷﻣل‪ ،‬نﺣو ﺗﻛنوﻟوﺟيا ﻣؤنسنﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﻣﺟاھد ﻋبد الﻣنﻌم ﻣﺟاھد‪ ،‬ﻣكتبﺔ دار الكﻠﻣﺔ‪ ،‬الﻘاھرة‪ ،‬الطبﻌﺔ‬
‫األولﻰ‪.2010 ،‬‬
‫ايريك فروم‪ ،‬ﻣﻔهوم اإلنسان عند ﻣارﻛس‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد ﺳيد‬
‫رصاص‪ ،‬دار الﺣصاد دﻣشق‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ ‪.1998‬‬
‫فاليري ليبين‪ ،‬ﻣذهب اﻟﺗﺣليل اﻟنﻔسي وفلسﻔﺔ اﻟﻔرويديﺔ‬
‫اﻟﺟديدة‪ ،‬دار الفارابﻲ‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.1981 ،‬‬

‫‪369‬‬
370
‫الفصل السادس عشر‬

‫العدالة اإلجرائية واملساواة الديمقراطية‬

‫لﻘد ظﮭرت الفﻠﺳفﺔ التﺣﻠيﻠيﺔ فﻲ الﻘرن الﻌشرين لكﻲ تﮭتم‬


‫بﻣﺳائل دﻗيﻘﺔ ﻣﺛل نظريﺔ الﻠغﺔ وفﻠﺳفﺔ الﻣنطق واﻹبﺳتيﻣولوﺟيا‬
‫وفﻠﺳفﺔ الفكر والﻌﻠوم الﻌرفانيﺔ وتﻘوم بتوضيﺣات وتﻣييزات‬
‫باﻻﻋتﻣاد ﻋﻠﻰ صياﻏات وﻣﻌالﺟات تﺳتدﻋﻲ الﺣس الﻣشترك‬
‫والﻠغﺔ الﻌاديﺔ وتركز ﻋﻠﻰ اﺳتﻌﻣال النص ونظريﺔ الفﻌل ونظريﺔ‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ وتﺣاول فﮭم الطبيﻌﺔ فﻲ تنوع وتﻌﻘد ظواھرھا وﻗدرات‬
‫الفكر البشري فﻲ ﻣﺟال الﻘيﻣﺔ والﻣﻌيار‪.‬‬
‫لكن إذا كانت البراﻏﻣاتيﺔ الﺟديدة تضﻊ صدق الﻘضايا ﻣﺣل‬
‫تطابﻘﮭا ﻣﻊ الواﻗﻊ بوصفﮭا ﻣﻌيارا لالﻋتﻘاد بأھﻣيتﮭا واﻻنتفاع بﮭا‬
‫فﻲ ﺣل ﻣشاكﻠنا ولذلك ترفض التصور الﻣاھوي والنظريﺔ التﻣﺛيﻠيﺔ‬
‫لﻠواﻗﻊ والﻣشروع التأﺳيﺳﻲ الذاتانﻲ لﻠﺣداﺛﺔ وتنتصر إلﻰ التﻌدديﺔ‬
‫والتﺳاﻣح والﺣوار ﻣﻊ اآلﺧر والديﻣﻘراطيﺔ بوصفﮭا ﻣﻣارﺳﺔ‬
‫اﺟتﻣاﻋيﺔ لﻠتضاﻣن‪ ،‬فإن الطريﻘﺔ اﻹﺟرائيﺔ ‪ procédurale‬ھﻲ‬
‫طريﻘﺔ ﻣﺳتﺧدﻣﺔ فﻲ الﻌﻠوم الصوريﺔ واﻹنﺳانيﺔ وتﻌنﻲ تﻌنﻲ‬
‫تﺣديد الﻣؤشرات الﻌﻣﻠيﺔ ووضﻊ الﻣﻘاييس التﻘنيﺔ التﻲ تﺳﻣح‬
‫بتﻌريف ظاھرة ﻏاﻣضﺔ ﻏير ﻗابﻠﺔ لﻠﻘياس بشكل ﻣباشر وذلك ﻋبر‬
‫ﻣﺣاولﺔ فﮭﻣﮭا بربطﮭا بظاھرة أﺧرى ﻗريبﺔ ﻣنﮭا وﻋبر ﺟﻣﻠﺔ ﻣن‬
‫الﻣالﺣظات التﺟريبيﺔ‪ .‬فﻲ ھذا ضرب ﻣن الﻣناخ الﻠيبرالﻲ يأتﻲ‬
‫ﺟون رولز ليﻘدم نظريته ﺣول الﻌدالﺔ باﻋتبارھا إنصافا ولكﻲ يﻘدم‬
‫‪371‬‬
‫تصورا توزيﻌيا لﻠﻣنافﻊ والﻣﺳاوئ تغطﻲ كل الفئات بﻣا فﻲ ذلك‬
‫األﻗل ﺣظا وتؤلف بين نﺟاﻋﺔ الرأﺳﻣاليﺔ وإنﺳانيﺔ اﻻشتراكيﺔ‬
‫وتنطﻠق ﻣن فرضيﺔ الوضﻊ األصﻠﻲ‪ 11‬بوصفﮭا شرط إﻣكان ﻗيام‬
‫ﻣﺟتﻣﻊ ﺳياﺳﻲ ﻋادل‪ .‬لكن ﻣا الﻣﻘصود بالوضﻊ األصﻠﻲ؟ ھل‬
‫وضﻊ طبيﻌﻲ أم وضﻊ افتراضﻲ؟ وھل يﺣتاج لتأﺳيس بدئﻲ وفق‬
‫تصور إﺟرائﻲ أم ﻹﻋادة بناء وفق رؤيﺔ براﻏﻣاتيﺔ؟ ﻣاھﻲ‬
‫الشروط الﻘانونيﺔ الالزﻣﺔ لﮭذا التأﺳيس اﻻﺟرائﻲ؟ ھل تﺳتوفﻲ‬
‫الﺣريات والﺣﻘوق التﻲ يطالب بﮭا الكائن البشري؟ وكيف يتم‬
‫اﻻنتﻘال إلﻰ نظم ﺳياﺳيﺔ ﻣنصفﺔ وديﻣﻘراطيﺔ تﺣترم التﻌدديﺔ‬
‫والﻣواطنﺔ؟ بأي ﻣﻌنﻰ تﺟد الفئات األﻗل ﺣظا فرصا ﺣﻘيﻘيﺔ‬
‫لالنتفاع بالﺧير الﻌام والﻣشاركﺔ واﻹندﻣاج؟‬
‫ﻣن ھذا الﻣنظور تﻘوم الفﻠﺳفﺔ باﻋتبارھا ﺟزء ﻣن الﺛﻘافﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ الﻌاﻣﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ باألدوار الكبرى التاليﺔ‪:‬‬
‫‪1‬ـ ﻣﻌرفﺔ الﻣﺳائل الﺳياﺳيﺔ التﻲ أدت إلﻰ النزاع الﻌﻣيق والﺣاد‬
‫وإيﺟاد أرضيﺔ ﻣشتركﺔ وﻣﻌﻘولﺔ ﻻتفاق ﺳياﺳﻲ ﺣولﮭا ﻣﺛل ﻣﺳألﺔ‬
‫الضﻣير وﺣق الﻣﻘاوﻣﺔ والﻣﺳاواة والﺣريات‪ .‬لذلك يتﻣﺛل الدور‬
‫الﻌﻣﻠﻲ لﻠفﻠﺳفﺔ فﻲ تﺣديد الﻣﺳائل الﺧالفيﺔ والنظر فﻲ إﻣكانيﺔ بناء‬
‫توافﻘات واتفاﻗات أﺧالﻗيﺔ تضيق شﻘﺔ الﺧالف وتﺣتفظ بالتﻌاون‬
‫ﻋﻠﻰ ﻗاﻋدة اﻻﺣترام الﻣتبادل والتﻌايش الﺳﻠﻣﻲ‪.‬‬
‫‪2‬ـ يﻣكن أن تﺳﮭم الفﻠﺳفﺔ فﻲ ﻣﻌرفﺔ نوﻋيﺔ تفكير الناس فﻲ‬
‫شكل ﻣؤﺳﺳاتﮭم وفﻲ أھدافﮭم ﻣن الﺣياة وﻣﻘاصد أفراد الﻣﺟتﻣﻊ‬

‫‪1‬‬
‫‪Rawls Jean, théorie de la justice, traduit par Catherine Audard,‬‬
‫‪éditions du Seuil, Paris, 1987. partie1, chap3. la position originelle.‬‬
‫‪pp. 151. 228.‬‬

‫‪372‬‬
‫وتﻘوم بالتالﻲ بدور التوﺟيه وتﻌيين ﻣبادىء وﻏايات ﻋﻘالنيﺔ‬
‫وأﺧالﻗيﺔ لﻠفرد والﺟﻣاﻋﺔ‪.‬‬
‫‪3‬ـ يﻣكن لﻠفﻠﺳفﺔ أن تﻠﻌب دور التﺳويﺔ والﻣصالﺣﺔ وأن تﮭدىء‬
‫ﻣن ﻏضب األفراد ونزوﻋﮭم نﺣو الﻌنف وتﺟﻌﻠﮭم يﻘبﻠون الﻌالم‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ويطبﻌون ﻣﻊ الواﻗﻊ الﺳائد ويؤكدون الﺣياة بصورة‬
‫ايﺟابيﺔ ﻣﻊ الغير‪.‬‬
‫‪4‬ـ يﻣكن لﻠفﻠﺳفﺔ أن تتﺣول إلﻰ يوتوبيا واﻗﻌيﺔ وأن تﺣاول ﺳبر‬
‫ﺣدود اﻹﻣكان الﺳياﺳﻲ الﻌﻣﻠﻲ وتﺟﻌل الناس يأﻣﻠون فﻲ نظام‬
‫ﺳياﺳﻲ ﻻئق وديﻣﻘراطيﺔ ﻋادلﺔ بصورة ﻣﻌﻘولﺔ فﻲ ظل ظروف‬
‫ﻣالئﻣﺔ وتﻌدديﺔ ﻣﻌﻘولﺔ وأﺣوال تاريﺧيﺔ ﻣﻣكنﺔ وأن تﺳاﻋد‬
‫الﻣﺟتﻣﻊ ﻋﻠﻰ بناء نظام تﻌاونﻲ ﻣنصف‪.12‬‬
‫يﺟﻣﻊ رولز بين الﻠغﺔ التﺣﻠيﻠيﺔ والتوﺟه البراﻏﻣاتﻲ الﺟديد‬
‫وﻣدرﺳﺔ الﻌﻘد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ فﻲ صورتﮭا الكانطيﺔ والبﺣوث‬
‫الﻘانونيﺔ الوضﻌيﺔ ليصوغ نظريﺔ ﻣتكاﻣﻠﺔ فﻲ الفكر الﺳياﺳﻲ‬
‫والﺣﻘوﻗﻲ واﻻﻗتصادي الﻣﻌاصر تضم كل ﻣن ﺟﻣﻠﺔ ﻣن البنﻰ‬
‫األﺳاﺳيﺔ ‪ 23‬ھﻲ الوضﻊ األصﻠﻲ‪ 4 3‬وﻣا يفترضه ﻣن ﺣﺟاب‬
‫الﺟﮭل والﻌدالﺔ باﻋتبارھا إنصاف والتوافق بالتﻘاطﻊ وتنظر‬
‫لﻠﻌصيان الﻣدنﻲ والتﺳاﻣح فﻲ ظل الالّتﺳاﻣح وﺣﻘوق األﻗﻠيات‬
‫وﺣريﺔ الضﻣير وﺧﻠﻘنﺔ الﺳياﺳﻲ‪ .‬يﻘول فﻲ ھذا الﺳياق‪ :‬إذا لم‬
‫نتﻣكن ﻣن تشكيل الوضﻊ األصﻠﻲ بﺣيث تﺳتطيﻊ األطراف أن‬

‫‪ 1‬جون رولز‪ ،‬نظرية العدالة كإنصاف ‪ ،‬ترجمة حيدر إسماعيل‪ ،‬مركز دراسات الوحدة‬
‫العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة أولى‪ ،2009 ،‬ص‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Rawls Jean, justice et démocratie, édition du Seuil, Paris, 1993. La‬‬
‫‪structure de base comme objet. pp.37.70.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Rawls Jean, théorie de la justice, op.cit, p.168.‬‬

‫‪373‬‬
‫تتفق ﻋﻠﻰ ﻣبادئ لﻠﻌدالﺔ ﻋﻠﻰ أﺳس ﻣالئﻣﺔ فإن الﻌدالﺔ كإنصاف‬
‫ﻻ يﻣكن انﺟازھا‪.15‬‬
‫فﻲ ھذا الصدد تصﻠح فكرة الوضﻊ األصﻠﻲ ﻣن أﺟل بﻠورة‬
‫إﺟراء ﻣنصف تبﻘﻲ بﻣﻘتضاه الﻣبادئ الﻣتفق ﻋﻠيﮭا ﻋادلﺔ وبالتالﻲ‬
‫تﻣﺛل ﺣﺟر الزاويﺔ فﻲ نظريﺔ الﻌدالﺔ اﻹﺟرائيﺔ ‪procédurale‬‬
‫وتفترض ﺣالﺔ ﺟﮭل ﻻ يﻌرف أﺣد ﻣكانته فﻲ الﻣﺟتﻣﻊ وﻻ ﻣوﻗﻌه‬
‫فﻲ طبﻘته وﻻ ﻣوضﻌه اﻻﺟتﻣاﻋﻲ وﻻ ﺣصته ﻣن تﻘﺳيم الﻣواھب‬
‫والﻘدرات فﻲ الذكاء والﻘوة وﻻ أﺣد يﻌﻠم تصوره الﺧاص لﻠﺧير‬
‫وﻻ يدري ﻋن ﺧصوصيات ﻣشروﻋه الﻌﻘالنﻲ لﻠﺣياة وليﺳت له‬
‫فكرة ﻋن التشاؤم والتفاؤل وﻋن نوﻋيﺔ الﺟيل الذي ينتﻣﻲ إليه‬
‫وطبيﻌﺔ الﻣﺟتﻣﻊ الذي يﻌيش فيه‪62.‬‬
‫والﺣق أن فكرة الوضﻊ األصﻠﻲ وﻣا تفترضه ﻣن ﺟﮭل‬
‫بالﻣصالح الﻌﻘالنيﺔ الﺧاصﺔ بالﻣشاركين وﻣا تؤديه ﻣن توافق فﻲ‬
‫صورة تﺳويغ تشبه ﻣن بﻌيد فكرة الﻌﻘد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻋند لوك‬
‫وروﺳو وكانط فﻲ ﺧاصيﺔ الﻣﺳاواة و ‪l’impartialité‬ﻋﻠﻰ‬
‫الرﻏم ﻣن النﻘد األﺧالﻗﻲ الرولزي لﻠنفﻌيﺔ والديﻣﻘراطيﺔ‬
‫الﻠيبراليﺔ‪73.‬‬
‫لﻘد نﻘد رولز الﻣاركﺳيﺔ وﻣغاﻻتﮭا فﻲ الﻣﺳاواة ودافﻊ ﻋﻠﻰ‬
‫النظام الديﻣﻘراطﻲ الﻠيبرالﻲ بتأليفه بين ﻣكاﺳب الﻠيبراليﺔ وﻣكاﺳب‬
‫اﻻشتراكيﺔ ولكنه ﻣيز بين الﻠيبراليﺔ الﺳياﺳيﺔ التﻲ تﻣنح ﻣﺟﻣوﻋﺔ‬
‫ﻣن الﺣﻘوق الﺣريات ضد الطابﻊ الﻌرضﻲ لﻠﺳﻠطﺔ التﻲ ﻻ تﻠتزم‬

‫جون رولز‪ ،‬نظرية العدالة كإنصاف ‪ ،‬مرجع مذكور‪،‬ص‪.219‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪2‬‬
‫‪Rawls Jean, théorie de la justice, op.cit, p.169.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Rawls Jean, théorie de la justice, op.cit, p.38.‬‬

‫‪374‬‬
‫بأي ﺣق وبين الﻠيبراليﺔ اﻻﻗتصاديﺔ التﻲ تضﻊ الﻘيود ﻋﻠﻰ تدﺧل‬
‫الدولﺔ فﻲ التبادﻻت اﻻﻗتصاديﺔ والتﺧطيط الﻣركزيﺔ وﻣﻠكيﺔ‬
‫وﺳائل اﻹنتاج‪ .‬كﻣا ﻣيز بين الﺣﻘوق الﺣريات التﻲ تﻌطﻰ لألفراد‬
‫ﻣن ﻗبل ﻣؤﺳﺳات الدولﺔ ﻣﺛل ﺣريﺔ التفكير واﻻﺟتﻣاع والتنظم‬
‫والﻣﻠكيﺔ والﻌبادة والتﺟارة والﺣﻘوق اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ ﻣﺛل الشغل‬
‫والتﻌﻠيم والصﺣﺔ والﺳكن والتنﻘل والترفيه والﺣﻣايﺔ واألﻣن التﻲ‬
‫توفرھم دولﺔ الﻌنايﺔ لألفراد والﺟﻣاﻋات فﻲ إطار اﺣترام ﺣق‬
‫األﻏﻠبيﺔ دون الﻣﺳاس بﺣق األﻗﻠيات‪.18‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق "لﻘد ﺣدد رولز تصورا ﺳياﺳيا باﺳتﻌﻣال ﺛالﺛﺔ‬
‫ﻣﻌايير‪ :‬أ ينبغﻲ أن يتم صياﻏته وفق ﻣوضوع ﻣﺧصوص أي بنيﺔ‬
‫أﺳاﺳيﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ‪ ،‬ب يتم ﻋرضه بشكل ﻣﺳتﻘل ﻋن كل ﻋﻘيدة‬
‫ﻣذھبيﺔ‪ ،‬ث يتم بﻠورته بﺣدود أفكار ﺳياﺳيﺔ أﺳاﺳيﺔ تﻌتبر ﻣتضﻣنﺔ‬
‫‪2‬‬
‫فﻲ الﺛﻘافﺔ الﺟﻣﮭوريﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ الديﻣﻘراطﻲ"‪9‬‬
‫وبطبيﻌﺔ الﺣال ﻻ يﻌنﻲ التوافق الﺳياﺳﻲ إلغاء اﻻﺧتالفات‬
‫والتﻌدديﺔ بل يﺣترم أشكال التباين والتنوع ويبﻘيﮭا ويﻌﻣل ﻋﻠﻰ‬
‫تنﻣيﺔ التﻌارضات الﻣﻘبولﺔ والﺧالفات الﻣﻌﻘولﺔ وذلك ﻋن طريق‬
‫الﻘبول بالتﻌدديﺔ األﺧالﻗيﺔ فﻲ ﻣﺳتوى تصورات الﺧير والﺳﻌادة‬
‫والواﺟب‪ .‬وبالتالﻲ فإن أصالﺔ الديﻣﻘراطيﺔ الﻠيبراليﺔ ﻻ تكﻣن فﻲ‬
‫النظام التﻣﺛيﻠﻲ الذي يتم ﻋن طريق اﻻﻗتراع الﻌام واﺧتيار‬
‫الﻣﻣﺛﻠين أﺛناء اﻻنتﺧابات الﺣرة والشفافﺔ وإنﻣا فﻲ الﻌدالﺔ‬
‫التوزيﻌيﺔ التﻲ تﺣاول التﻘﻠيل ﻣن الفوارق اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ وتﻘوم بتﻘﺳيم‬

‫‪1‬‬
‫‪Rawls Jean, théorie de la justice, op.cit, p.140.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Guillarme Bertrand, Rawls et l’égalité démocratique, édition PUF,‬‬
‫‪Paris, 1999, p.2o5.‬‬

‫‪375‬‬
‫الﺧيرات والﺣريات وفق الﺟدارة والكفاءة والدور والوظيفﺔ‪ .‬إن‬
‫إﺣالل الﻣصداﻗيﺔ والﺣق والﺳالم والﻌيش الﺳوي والﻣواطنﺔ ﻣكان‬
‫الكذب والﻌنف والالّتﺳاﻣح والتصادم الﻣﮭﻠك ليﺳت ﻣﮭﻣﺔ ﻣﺳتﺣيﻠﺔ‬
‫وإنﻣا تتوﻗف ﻋﻠﻰ اتﺧاذ تدابير ﻗانونيﺔ وإﺟراءات ﻋﻘالنيﺔ وفق‬
‫تﻌﻘل ﺳديد ونﺟاﻋﺔ ﻣوزونﺔ فﻲ الﻘرارات الﺳياديﺔ‪.‬‬
‫ربﻣا الﮭدف الﻣشترك لﻠﺟﻣاﻋﺔ التاريﺧيﺔ ﻣن الﺳياﺳﺔ الﻠيبراليﺔ‬
‫الﻣشروﻋﺔ ليس الﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ الﮭويﺔ وصيانﺔ التراث وضﻣان‬
‫اﺳتﻣراريﺔ التﻘاليد وإنﻣا الﻌنايﺔ بالﻘيم الكونيﺔ وتوفير وضﻊ ﺳياﺳﻲ‬
‫يﺳﻣح بوﻻدة دائﻣﺔ لﻠكائن البشري وﻣبادأة ﻋﻠﻰ صﻌيد الﻣﻌرفﺔ‬
‫والوﺟود والﻘيم‪ .‬وﻻ يكون اﻹنصاف بوصفه الﻌدالﺔ التوزيﻌيﺔ بنيﺔ‬
‫أﺳاﺳيﺔ لﻠﻣﺟتﻣﻊ الﺳياﺳﻲ بالنظر إلﻰ اﺣتراﻣه الﻣنزلﺔ الﺧصوصيﺔ‬
‫لﻠفرد وتﺣﻘيﻘه لﺣرياته الشﺧصيﺔ ودفاﻋه ﻋﻠﻰ اﺳتﻘالليته التاﻣﺔ‬
‫ﻋن كل الﺳﻠطات واﻹكراھات بل لدوره اﻹﺟرائﻲ والوظيفﻲ فﻲ‬
‫تﻣاﺳك الﻣﺟتﻣﻊ وتالﺣم الﺣياة الﻣشتركﺔ‪.‬‬
‫والﺣق أن الديﻣﻘراطيﺔ ھﻲ نظام ﺳياﺳﻲ ﻻ تكون فيه الﺳﻠطﺔ‬
‫تﺣت تصرف أي شﺧص أو ﻣﺟﻣوﻋﺔ وإنﻣا ﻋند كل ﻣواطنﻲ‬
‫الﻣدينﺔ والﻣﺟتﻣﻊ الديﻣﻘراطﻲ ھو الذي تغطﻰ ﻋﻣﻠيﺔ الدﻣﻘرطﺔ‬
‫ﺟﻣيﻊ ﻣﺳاراته وشبكﺔ ﻋالﻗاته‪ .‬كﻣا ينبغﻲ التﻣييز بين الﺣريﺔ‬
‫الشﺧصيﺔ باﻋتبارھا ﺣريﺔ داﺧﻠيﺔ تطرح دوﻣا كواﻗﻌﺔ ﻣن وﻗائﻊ‬
‫الﺣياة اليوﻣيﺔ الﺧاصﺔ وضﻣن ﻋالﻗﺔ ضديﺔ ﻣﻊ اآلﺧرين فﻲ تأكيد‬
‫لﻠذات وبين الﺣريﺔ الﺳياﺳيﺔ التﻲ يتم تأكيدھا ﻣن طرف الﻘانون‬
‫فﻲ الﺣياة الﻌاﻣﺔ وصيانتﮭا ﻣن ﻗبل ﻣؤﺳﺳات دولﺔ الﻌنايﺔ وتﺟﻌل‬
‫الناس يﻌيشون بشكل ﺟﻣاﻋﻲ دون أن يتنازﻋوا بشكل دائم‪ .‬لكن‬
‫أﻻ تؤﺳس الﻌدالﺔ اﻻﺟرائيﺔ وضﻌا ﺳياﺳيا نﮭائيا ودائﻣا؟‬

‫‪376‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟﻔصل اﻟسادس عشر‬

‫ ترﺟﻣﺔ ﺣيدر‬،‫ نظريﺔ اﻟﻌداﻟﺔ ﻛإنصاف‬،)‫رولز (ﺟون‬


،‫ طبﻌﺔ أولﻰ‬،‫ بيروت‬،‫ ﻣركز دراﺳات الوﺣدة الﻌربيﺔ‬،‫اﺳﻣاﻋيل‬
.2009
Rawls (Jean), théorie de la justice, traduit
par Catherine Audard, éditions du Seuil,
Paris, 1987.
Rawls (Jean),justice et démocratie, traduit
par Catherine Audard et autres, édition du
Seuil, Paris, 1993.
Guillarme (Bertrand), Rawls et l’égalité
démocratique, édition PUF, Paris, 1999.

377
‫خاتمة‬

‫"ﻻ يﻣكن ألﺣد الﻌيش فﻲ ﻋالم ﻏير ﻗابل لﻠﺳرد أو البﻘاء بﻌد ﺣياة ﻏير‬
‫‪1‬‬
‫ﻗابﻠﺔ لﻠﺳرد ﻋﻠﻰ نﺣو ﺟذري"‬

‫لﻘد تضﻣنت الفﻠﺳفﺔ الﻣﻌاصرة تﻌﻠيﻣا أوليا وكونيا ﺣول الوضﻊ‬


‫البشري يكون فﻲ شكل تﻘرير ترفﻌه الفﻌاليﺔ النﻘديﺔ إلﻰ الﻣﻠكﺔ‬
‫التأويﻠيﺔ الﻌالﺟيﺔ لﻠﻌﻘل‪ ،‬وينبغﻲ أن يظل اﻹنﺳانﻲ‪l'Humain‬‬
‫اﻻنتﻣاء الﻣشترك لﻠبشر فﻲ الﻌصر الكوكبﻲ وأن تﺣدث ﻣغاﻣرة‬
‫كبرى تﻌصف بأوضاع البشريﺔ الﻣترديﺔ وتتﻠﻘف اﻹنﺳانﻲ‬
‫ﻲ وتنتشﻠه ﻣن النﺳيان وتﻌترف بالتنوع‬ ‫الﻣﺣاصر وتنﻘذ البﻌد الﺣ ّ‬
‫والتفرد والتﻌدد رﻣزيا وﻣاديا‪.‬‬
‫لﻘد ارتبط الوضﻊ البشري فﻲ الزﻣن ﻣابﻌد الﺣديث بﻣنزلﺔ التﻲ‬
‫أﻋطيت لﻠﺛﻘافﺔ والﻣﺛﻘفين بﻌد التﺣوﻻت الﻌﻣيﻘﺔ التﻲ ﻏيرت ﻗواﻋد‬
‫الﻠﻌبﺔ بين الﻌﻠم واألدب والفنون وﺳببت أزﻣﺔ ﺳرديات والتﻲ‬
‫أﺛرت فﻲ وضﻌيﺔ الﻣﻌرفﺔ فﻲ الﻣﺟتﻣﻌات الﻣتطورة وﺟﻌﻠت‬
‫الﺧبراء يﻘتصرون ﻋﻠﻰ نظريﺔ الفكر الضﻌيف‪ .‬لﻘد أصبﺣت‬
‫الفﻠﺳفﺔ فﻲ ظل النزاع بين الﻌﻠم واألدب ﻣﺟرد ﻣاوراء ﺧطاب‬
‫ﺣول الشرﻋنﺔ تﻘدم توﺟيﮭات نافﻌﺔ فﻲ إطار البﺣث ﻋن الﺣق‬

‫‪ 1‬بتلر جوديث ‪ ،‬الذات تصف نفسها‪ ،‬ترجمة فالح رحيم‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬طبعة أولى‪ ،2014 ،‬ص‪121‬‬

‫‪378‬‬
‫والﻌدل وتضفﻲ الﻣشروﻋيﺔ ﻋﻠﻰ ﻗواﻋد الﻠﻌبﺔ وترﺳم الﺣدود بين‬
‫التصورات‪.1‬‬
‫ﻣا يﻠتفت اﻻنتباه فﻲ الفﻌاليﺔ الﺳرديﺔ ھو تﺳرب أفﻌال الكالم‬
‫الﻰ النظريﺔ الﻣﻌرفيﺔ ﻋن الذات وﻏزو تداوليﺔ رواق الفﻠﺳفﺔ‬
‫ﺧاصﺔ وأن " ﻗاﻋدة التوافق بين الباث والﻣتﻘبل لﻌبارة لﮭا ﻗيﻣﺔ‬
‫ﺣﻘيﻘيﺔ يﻣكن أن تكون ﻣﻘبولﺔ إذا ﻣا اندرﺟت ضﻣن ﻣنظوريﺔ‬
‫إﺟﻣاع ﻣﻣكن بين كائنات ﻋاﻗﻠﺔ‪ :‬إنﮭا ﺳرديﺔ األنوار ﺣيث يشتغل‬
‫أبطال الﻣﻌرفﺔ ﻋﻠﻰ ھدف ﺣﺳن ﻣن الناﺣيﺔ اﻹيتيﻘيﺔ والﺳياﺳيﺔ‬
‫‪2‬‬
‫ھو الﺳالم الكونﻲ"‪.‬‬
‫لﻘد أصيب اﻹنﺳانﻲ بالتشظﻲ والتفكك والتصﺣر وفﻘد شكﻠه‬
‫وأفرغ ﻣن ﻣضﻣونه وتصدع إلﻰ ﻋدة أﺟزاء ﻣتناﺛرة ـ نفﺳﻲ‬
‫وفردي واﺟتﻣاﻋﻲ واﻗتصادي وﺛﻘافﻲ ولغوي وﺳياﺳﻲ وﻣادي‬
‫ورﻣزي ـ وآن األوان لكﻲ تتﺣرك الﻣﻌول الكونﻲ لﻠفﻠﺳفﺔ فﻲ اتﺟاه‬
‫توﺣيده وفﮭﻣه فﻲ ﻣﺟﻣوﻋه وتﺧطﻲ الﻌتبﺔ اﻹبﺳتيﻣولوﺟيﺔ‬
‫لﻠﻣشاكل الﻣنﮭﺟيﺔ التﻲ طرﺣتﮭا الﻌﻠوم اﻹنﺳانيﺔ ﻋﻠﻰ الطبيﻌﺔ‬
‫البشريﺔ ﺣينﻣا وﻗﻌت فﻲ اﻻﺧتزاليﺔ والتبﺳيط والتﻘﺳيم والصورنﺔ‬
‫وضاﻋفت ﻣن ﺟﮭل اﻹنﺳان بذاته وﺣولت الكائن إلﻰ أﺛر ووضﻌته‬
‫فﻲ ﻣﺧتبر تﺟريبﻲ‪ .‬إن ﻣﺳاءلﺔ الوضﻊ اﻹنﺳانﻲ ھﻲ اﺳتشكال‬
‫لﻣنزلته فﻲ الكون وأﺣواله النفﺳيﺔ وظروفه وأنشطته اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫وآﺛاره الﺛﻘافيﺔ وانتاﺟاته اﻻﻗتصاديﺔ وأفﻌاله الﺳياﺳيﺔ والﻠغويﺔ‬
‫وتصوراته الوﺟوديﺔ وﻣﻣارﺳاته اﻹيتيﻘيﺔ والبﺣث ﻋن شروط‬

‫‪1‬‬
‫‪Lyotard Jean-Francois , la condition postmoderne, édition Cérès,‬‬
‫‪Tunis, 1994,pp05.09.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Lyotard Jean-Francois , la condition postmoderne,op.cit.p06.‬‬

‫‪379‬‬
‫إﻣكان ﻣﺧتﻠفﺔ تتكفل بتغيير ﺟذري ألوضاﻋه وأنﺳنﺔ‬
‫‪humanisation‬ﻣﺳاراته وبﻠوغ وضﻊ بشري بالﻣﻌنﻰ الﺣﻘيﻘﻲ‬
‫لﻠكﻠﻣﺔ‪ .‬إن ﻗيﻣﺔ ﻋﻣﻠيﺔ التأنﺳن ‪hominisation‬التﻲ يﻘترﺣﮭا‬
‫أدﻏار ﻣوران أنﮭا تظﮭر كيفيﺔ تشكل الوضﻊ البشري ﻣن بﻌدي‬
‫الﺣيوانيﺔ ‪animalité‬والﻌاﻗﻠيﺔ ﺟنبا إلﻰ ﺟنب واﻹﻗرار بأن‬
‫اﻹنﺳان كائن بيولوﺟﻲ ﻻ يﺳتﺣق درﺟﺔ اﻹنﺳانﻲ ويصبح كائنا‬
‫إنﺳانيا إﻻ بواﺳطﺔ الﺛﻘافﺔ والﻠغﺔ والفن واﻹيتيﻘا والﺣياة‪ .‬لﻘد أﻋاد‬
‫أدﻏار ﻣوران اكتشاف ﻣفارﻗﺔ تﺧص الوضﻊ البشري تتﻣﺛل فﻲ‬
‫ﻣا يﻠﻲ‪ :‬نﺣن لدينا وضﻊ إنﺳانﻲ ‪condition humaine‬ولكن‬
‫ھذا الواضﻊ فاﻗد لإلنﺳانيﺔ وﻣضاد لﮭا وﻣغترب ﻋنﮭا وبالتالﻲ‬
‫ليس لدينا إنﺳانيﺔ الوضﻊ‪ .1humaine condition‬وآيته ﻋﻠﻰ‬
‫ذلك أننا نوﺟد فﻲ ذات الوﻗت داﺧل الطبيﻌﺔ وﺧارﺟﮭا‪ ،‬أي ننتﻣﻲ‬
‫إلﻰ الكون الفيزيائﻲ والطبيﻌﻲ وﻣنغرﺳين فﻲ الﺣياة الﻌضويﺔ‬
‫والﺳﺟل الﺣﻲ وﺧاصﺔ الﺣيوانيﺔ والﺟﺳد والﺟﮭاز الﻌصبﻲ‬
‫والفزيولوﺟﻲ ولكننا ﻣﺟردين ﻣن إنﺳانيتنا الﺧاصﺔ وﻏير‬
‫ﻣتﺟذرين فﻲ كينونتنا ونرزح فﻲ تبﻌيﺔ وأﺳر لغيريﺔ ﻣﺟﮭولﺔ‪ .‬إن‬
‫الفﻠﺳفﺔ النﻘديﺔ الﻣﻌاصرة ﻣطالبﺔ بأن تﻌيد تنزيل الكائن البشري‬
‫فﻲ الﻌالم وتﺣﻘيق الﻣصالﺣﺔ بين اﻹنﺳان واﻹنﺳانﻲ وتﺣويل البشر‬
‫ﻣن ﻣوضوﻋات ﻣشتتﺔ إلﻰ ذوات ﻣتفاﻋﻠﺔ وﺟﻌل الوضﻌيات‬
‫شروط إﻣكان لﻠﺣياة وﻣشاريﻊ وﺟود وإﺣداث ﻣنﻌطف كينونﻲ‬
‫باﻻنتﻘال ﻣن ﻻإنﺳانيﺔ الوضﻊ اﻹنﺳانﻲ إلﻰ أنﺳنﺔ الوضﻊ البشري‬
‫وذلك بإنارة الﻣﺳارات الﻣظﻠﻣﺔ والﻣتوﺣشﺔ والتغﻠب ﻋﻠﻰ أشكال‬

‫‪1‬‬
‫‪Morin Edgar, les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur,‬‬
‫‪édition du Seuil, Paris, 2000.p.49.‬‬

‫‪380‬‬
‫اﻻﻏتراب واﻻﺳتغالل وتشييد تأويﻠيﺔ ﻣتكاﻣﻠﺔ لﻠﺟينوم البشري فﻲ‬
‫أبﻌاده الﻣتشابكﺔ الفزيولوﺟيﺔ والﻌرفانيﺔ وتﻌﻘيداته النفﺳيﺔ والﺛﻘافيﺔ‬
‫واﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‪.‬‬
‫ھكذا يﺟدر بالفﻠﺳفﺔ أن تﻘاوم كل أشكال الالّتﺟذر واﻻنبتات‬
‫وأن ترتﻘﻲ بالكائن نﺣو الﻣرتبﺔ اﻹنﺳانيﺔ وتﻌترف باﻻنغراس‬
‫الﻣضاﻋف والتﺟذر الﻣزدوج فﻲ الﺳﺟل الفيزيائﻲ الﻣادي وفﻲ‬
‫الﺳﺟل الكوكبﻲ‪ .‬ﻋندئذ تظل ﻣﻌرفﺔ اﻹنﺳان ﻣﮭﻣﺔ تﻘتضﻲ تنزيﻠه‬
‫ضﻣن ﺳياق ﻣتﻌدد وﻣتﺣول وليس انتزاﻋه ﻣن ﻣﺣيطه الطبيﻌﻲ‬
‫الكوكبﻲ واﻗتالﻋه ﻣن تربته الﺛﻘافيﺔ الكونيﺔ‪ ،‬وبالتالﻲ ﺣري‬
‫رﺟ َﻊ ﺳؤال ﻣن نﺣن؟ الﻌﻘيم والﻣطروح بشكل ﺳﻲء‬ ‫بالفﻠﺳفﺔ أن ت ُ ِّ‬
‫إلﻰ أﺳئﻠﺔ أﺧرى ﻣنتﺟﺔ وشرﻋيﺔ ھﻲ‪ :‬أين نﺣن؟ وﻣن أين أتينا؟‬
‫وأين ﺳنذھب؟‬

‫‪381‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟخاﺗﻣﺔ‬

‫ دار‬،‫ ترﺟﻣﺔ فالح رﺣيم‬،‫ اﻟذات ﺗصف نﻔسها‬،)‫ﺟوديث (بتﻠر‬


،2014 ،‫ طبﻌﺔ أولﻰ‬،‫ الﻘاھرة‬،‫ تونس‬،‫ بيروت‬،‫التنوير‬
Lyotard (Jean-Francois) , la condition
postmoderne, édition Cérès, Tunis, 1994,
Morin (Edgar), les sept savoirs nécessaires
à l’éducation du futur, édition du Seuil,
Paris, 2000.

382
‫خاتمة عامة‬

‫"يلزم اﻟﻛثير ﻣن اﻟﻣﺣﺑﺔ‪ ...‬ﻟﻛي يﺗزود اﻟﻣرء ﺑاﻟوﺟود اﻷﺣسن في‬


‫اﻟﻌاﻟم ويأخذ ﺑﻌين االعﺗﺑار ضﻣان االسﺗﻣراريﺔ ﻣن ﺟيل اﻟﻰ آخر‪ .‬انه ﺑهذه‬
‫‪1‬‬
‫اﻟﻣﺣﺑﺔ وﺑها ﻟوﺣدها يﺣﻣي ﻣسﺗﻘﺑل اﻟﻌاﻟم"‬

‫"ﻟﻘد وﻟدنا في قسوة اﻟﻌاﻟم واﻟﺣياة‪ ،‬واﻟﻰ هذا أضﻔنا قسوة اﻟﻛائن‬
‫اﻟﺑشري وقسوة اﻟﻣﺟﺗﻣﻊ اإلنساني"‪.2‬‬

‫ربﻣا تكون ﻗﺳوة الﻌالم الذي نﻌيش فيه وﺧطورته ﻣتأتيﺔ ﻣن‬
‫تﺣول ارادة ﻏزو الطبيﻌﺔ والرﻏبﺔ فﻲ الﺳيطرة ﻋﻠﻰ الﻌالم إلﻰ‬
‫الرﻏبﺔ فﻲ ﻏزو الذات والتﺣكم فيﮭا وتﻌنيفﮭا وتبرير اﺳتﻌباد‬
‫الشﻌوب وانتﮭاك ﺧصوصياتﮭا وتدنيس رﻣوزھا واﻹﺳاءة الﻰ‬
‫ﻣﻘدﺳاتﮭا ﻣن ﻗبل ﻋولﻣﺔ ﻣتوﺣشﺔ ورأﺳﻣال ﻣنفﻠت ﻣن ﻋﻘاله‬
‫وذئبيﺔ بشريﺔ تتصيد الﻣصﻠﺣﺔ وتدوس ﻋﻠﻰ الﻘيم وتتاﺟر بﻌذابات‬
‫اﻹنﺳان‪.‬‬
‫لﻘد أضﻌفت الﺣداﺛﺔ الفكريﺔ التﻲ شﻣﻠت ﻣﺟاﻻت الفﻠﺳفﺔ‬
‫والﺳياﺳﺔ والفن والﻌﻠوم والﻣﺟتﻣﻊ ﻣﻌظم الروابط التﻲ تﺟﻣﻊ الناس‬
‫بالدين وأبﻌدت الكﺛير ﻣنﮭم ﻋن اﻻھتﻣام بشؤون اﻹيﻣان وﻗد‬
‫أرﺳت الﻌﻠﻣنﺔ والﻣذھب اﻹنﺳﻲ والﻌﻘالنيﺔ والﻘراءة الﻣوضوﻋيﺔ‬
‫والتوﺟﮭات التطوريﺔ والوضﻌيﺔ واﻹلﺣاد الﻣنﮭﺟﻲ وانتصرت إلﻰ‬

‫‪1‬‬
‫‪Harrison (Robert) , Jeunessence, quel age culturel avons-nous ?,‬‬
‫‪editions Le Pommier, Paris, 2015,p176.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Morin Edgar, mes démons, éditions Stock Paris,, 1994, 2008.p.328.‬‬

‫‪383‬‬
‫الﻌﻠم والﻌﻘل ودﻋت األفراد إلﻰ تنظيم ﺣياتﮭم وفق ﻗيم التﻘدم‬
‫والتنوير‪.‬لكن ﻣا بﻌد الﺣداﺛﺔ‪ 1‬ﻋادت بشكل ﺳريﻊ وبﻘوة إلﻰ تناول‬
‫ﻗضايا الﻣﻘدس والرﻣز وﻣنﺣت فرصﺔ كبيرة لﻠﻌﻠوم اﻹنﺳانيﺔ‬
‫لدراﺳﺔ الظاھرة التﻌبديﺔ ﻣن زوايا ﻣتﻌددة وركزت بالﺧصوص‬
‫ﻋﻠﻰ ﻣفاھيم الﻣﺧيال والذاكرة والوضﻊ التاريﺧﻲ والوﺟدان‬
‫والالشﻌور الﺟﻣاﻋﻲ والدينﻲ واﻹلﮭﻲ واألﺧروي‪ .‬كﻣا ﺣرصت‬
‫ﻋﻠﻰ التﻣييز بين الفضاء الﺧاص والفضاء الﻌام وبين الﺣياة‬
‫الروﺣيﺔ والﺣياة اليوﻣيﺔ وبين اﻻﻋتﻘاد والالّإﻋتﻘاد ولذلك ﺟﻌﻠت‬
‫ٍاألرواح والﻘﻠوب تراوح بين اﻹﻗرار والنفﻲ وبين اﻹﺛبات والشك‬
‫وبين اﻹيﻣان والالّإيﻣان تاركﺔ الﻌﻘول تتأرﺟح بين اﻻنزﻋاج‬
‫والﺛﻘﺔ وبين الﺣيرة والطﻣأنينﺔ‪ .2‬الالفت لﻠنظر أن األﺳباب التﻲ‬
‫ﺳوﻏت ھذه الﻌودة ھﻲ أزﻣﺔ األﺳس واﻹﺣﺳاس بالضياع بﻌد‬
‫فﻘدان ﺟذري لﻠيﻘين والرؤيﺔ الضبابيﺔ وطغيان الوﺳائل ﻋﻠﻰ‬
‫الغايات وﻏﻠبﺔ الﻌﻘل األداتﻲ ﻋﻠﻰ الﻌﻘل التواصﻠﻲ واكتﺳاح‬
‫الﮭﻣﺟيﺔ والالّتﺳاﻣح الﻣدينﺔ ونﻘص التفاھم بين األفراد‬
‫والﺟﻣاﻋات‪ .‬ﻣن ھذا الﻣنطﻠق" تبﻘﻰ النظريﺔ الﻌاﻣﺔ لإلنﺳان‪ ،‬اذا‬
‫ﻣا اكتﻣﻠت فﻲ ﻣﺟﻣوﻋﮭا وتأﺳﺳت ﻋﻠﻰ ﻣبادئ‪ ،‬فﻲ ﺣاﺟﺔ إلﻰ‬
‫اﺳتﻌﻣالﮭا وتﺣويﻠﮭا إلﻰ ﻣﻣارﺳﺔ"‪ ، 3‬لكن كيف يتصرف ﻋﻠم‬
‫الﺳياﺳﺔ فﻲ الﻣﻌطﻰ الدينﻲ؟‬

‫‪1‬‬
‫‪Derrida Jacques , G-H-Gadamer, Vatimo Gillani , La religion, « Foi‬‬
‫‪et savoir », édition le Seuil, Paris, 1996.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Morin (Edgar), Ethique, la méthode 6, édition du seuil, Paris,‬‬
‫‪2004.p.p.193-194.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Halévy (Elie) , le radicalisme philosophique, tome III, traduit par‬‬
‫‪Jean Pierre Cléro, édition PUF,Paris, 1995. p152‬‬

‫‪384‬‬
‫ﻣن الﻣﻌﻠوم أنه " ﻻ يﻣكن لﻠﺳﺟل الﺳياﺳﻲ أن يظﮭر ويﺳتﻣر‬
‫اﻻ داﺧل الﻘوانين ولكن ﻻ يتكون وﻻ ينﻣو ھذا الﺳﺟل اﻻ ﻋندﻣا‬
‫‪1‬‬
‫تتﻘابل شﻌوب ﻣﺧتﻠفﺔ"‬
‫شرع الﺳياﺳﻲ ھو الفﻘيه الداﻋﻲ‬
‫ﻣن ﻏير الﻣﻌﻘول أن يكون ال ُﻣ ّ‬
‫الﻣﻠتفت إلﻰ نصوص الﻣاضﻲ وﻣن ﻏير الﻣنطﻘﻲ أن يتم اﺳتبﻌاد‬
‫رﺟل الﻌﻠم الذي يربط الﻣﺳببات باألﺳباب والذي يﺳتنتج ﺣصول‬
‫األﺣداث ﻣن الﻣﻘدﻣات الﻣنطﻘيﺔ والﻘواﻋد الكبرى‪ .‬لذلك ينبغﻲ‬
‫التﻌويل ﻋﻠﻰ الﻘارىء الﻣؤول‪ ،‬فﮭو الﻣدبر الﻣتﻌﻘل الذي يﺳتﺧدم‬
‫فن الفﮭم ﻣن أﺟل التﻣﻌن فﻲ ﻣﺟريات األﻣور واﻹصغاء إلﻰ ﻏبار‬
‫الﻣﻌارك والﻣنﻌطفات واﺳتﺧالص الﻌبر والدروس ﻣن التﺣوﻻت‬
‫الﻌنيفﺔ والﮭزات بﻌد اﻗتالع ﻗصور الشﻣوليﺔ‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو ﻣن الضروري أن ينﮭﻣك الﻣفكر اليوم فﻲ‬
‫البﺣث ﻋن الﻣﻌنﻰ ﻋن طريق فﮭم ﻋﻣيق لﻠوضﻊ البشري‬
‫واألﺣداث الﺳياﺳيﺔ وتﺣديد ﻣﺳاھﻣﺔ الدين وﺣضوره وتأﺛيره فﻲ‬
‫األﺣداث وفﻲ الفﻌل الﺳياﺳﻲ‪.‬ھناك نﻘاط ﻣشتركﺔ بين الﻣﺟال‬
‫الﺳياﺳﻲ والﻣﺟال الدينﻲ وتتﻣﺛل فﻲ التﺟربﺔ التأﺳيﺳيﺔ واشكاليﺔ‬
‫البدء واﻻنطالق وأيضا اشكاليﺔ النﮭايات والﺧواتيم وتﺟربﺔ‬
‫األھداف الكﻠيﺔ والغايات الكبرى التﻲ يﺳﻌﻰ الفاﻋﻠون إلﻰ انﺟازھا‬
‫واتﻣاﻣﮭا‪ ،‬ﻣن ھذا الﻣنطﻠق ترى ﺣنﺔ أرندت "أن اﻻبتداء يشكل‬

‫‪1‬‬
‫‪Hannah Arendt, Qu'est-ce que la politique ?, éditions du Seuil,‬‬
‫‪Paris, 1995, p.119.‬‬

‫‪385‬‬
‫ﻣن وﺟﮭﺔ نظر ﻋﻠم الﺳياﺳﺔ ﻣاھيﺔ الﺣريﺔ اﻻنﺳانيﺔ فﻲ ﺣد‬
‫ذاتﮭا"‪.1‬‬
‫ﻣن ﻋيوب ﻋﻠم الﺳياﺳﺔ التﻘﻠيدي ھو اﻻﻋتﻘاد فﻲ كون تﺟربﺔ‬
‫التأﺳيس فﻲ زﻣن البدايات تﺳتوﺟب الﻠﺟوء إلﻰ الﻘوة التﻲ تتﻌدي‬
‫الﺣق وتشرع الﻌنف التكوينﻲ ﻣن أﺟل التﺧﻠص ﻣن ﻣرﺣﻠﺔ ﺳابﻘﺔ‬
‫وتدشين ﻣرﺣﻠﺔ أﺧرى ﻣﺧتﻠفﺔ‪ .‬كﻣا يغيب ﻋنﮭا أن ﻣاھيﺔ الفﻌل‬
‫الﺳياﺳﻲ ھو تدشين بدء ﺟديد وأن اﻻنﺳان يﻣتﻠك ﻗدرة ﻋﻠﻰ‬
‫اﻻبتداء ويشكل البدء الﻣاھيﺔ التﻲ تﺧصه بل ان ﺧﻠق اﻻنﺳان‬
‫ارتبط ﻣﻊ بدايﺔ الكون وتﺟﻠﻰ أصﻠه فﻲ ﻣيالد الفرد الﺣر‪ .‬ان‬
‫الصراع ﻣﻊ األنظﻣﺔ الشﻣوليﺔ ﻗد انﻌكس ﻋﻠﻰ الﻌالﻗﺔ بين الدين‬
‫والﺳياﺳﺔ وأدى إلﻰ توظيف ﻣﻘوﻻت دينيﺔ ﻣن أﺟل اﻗاﻣﺔ أنظﻣﺔ‬
‫شﻣوليﺔ وتبريرھا واطالﺔ ﻣدة بﻘائﮭا فﻲ الﺣكم وھيﻣنتﮭا ﻋﻠﻰ الﻌباد‬
‫والﺧيرات‪.‬‬
‫لكن ينبغﻲ أن نﻣيز ﺣﺳب أرندت بين النﺳق الدينﻲ الﻣتﻌالﻲ‬
‫الذي يدور ﺣول وﺣﻲ ﻣنزل والدين الﻌﻠﻣانﻲ الوضﻌﻲ الذي شكﻠته‬
‫ﺟﻣاﻋﺔ ﺳياﺳيﺔ واﻋتﻘدت فﻲ صدﻗيﺔ ﻣبادئه وﻗواﻋده وأھدافه‪ ،‬ﺛم‬
‫يﺟب اﻹنتباه أيضا إلﻰ أن الشيوﻋيﺔ ﻗد كونت دينا ﻋﻠﻣانيا ﺟديدا‬
‫وﺳﻣﺣت بإدﺧال الﻘداﺳﺔ إلﻰ ﺣﻘل الشؤون الﻌﻣوﻣيﺔ بﻌد أن ﻗاﻣت‬

‫‪1‬‬
‫& ‪Hannah Arendt, la nature du totalitarisme, éditions Payot‬‬
‫‪Rivages, Paris ,2006. p.50.‬‬

‫‪386‬‬
‫بالفصل بين الكنيﺳﺔ والدولﺔ وﺟﻌﻠت ﻣشكل الﻌالﻗات بين الدين‬
‫والﺳياﺳﺔ طﻲ الكتﻣان وأدﺧﻠته إلﻰ ﻏياھب النﺳيان‪.‬‬
‫كﻣا يﻣكن ﻣﻌاﻣﻠﺔ اﻻيديولوﺟيات الﺣديﺛﺔ بأنﮭا ديانات ذات‬
‫طابﻊ ﺳياﺳﻲ ﻣﻌﻠﻣن بﻌيدا ﻋن الفﮭم الﻣاركﺳﻲ لﻠدين بوصفه‬
‫ايديولوﺟيا بﺳيطﺔ وﻣﺣضﺔ تﺳتﻌﻣﻠﮭا الطبﻘﺔ الﺣاكﻣﺔ ﻣن أﺟل‬
‫الﮭيﻣنﺔ والﻣﺣافظﺔ ﻋﻠﻰ ﻣصﻠﺣتﮭا‪ .‬فﻲ نفس الﺳياق يﻣكن التﻌاﻣل‬
‫ﻣﻊ اﻻلﺣاد ﻋﻠﻰ أنه الﻌﻘيدة األولﻰ التﻲ نظر اليﮭا بوصفﮭا دينا‬
‫ﺟديدا‪.‬ان الﺣﺟج التﻲ تدل ﻋﻠﻰ وﺟاھﺔ اﻋتبار اﻻلﺣاد دين ﺟديد‬
‫كﺛيرة وتﻌود إلﻰ نيتشه الﻘائل بﻣوت اﻻله والﻰ دوﺳتوفﺳكﻲ الذي‬
‫ﻋبر ﻋن ﺛورة اﻻنﺳان الﻣﻌاصر ضد اآللﮭﺔ بﻌد أن فشﻠت كل‬
‫الﺣﺟج فﻲ اﺛبات ﻋدم وﺟوده‪ .‬زد ﻋﻠﻰ ذلك يﻣكن ذكر ﻗيام الﺛورة‬
‫الﻌﻠﻣيﺔ وتشكل ﺧطاب فﻲ ﻋﻠوم الطبيﻌﺔ يﻌتﻘد فﻲ الالاﻋتﻘاد وينﮭل‬
‫ﻣن انزﻋاج باﺳكال ﻣن الفضاءات الالّﻣتناھيﺔ وﻣن تﺟربﺔ الشك‬
‫الديكارتﻲ التﻲ طالت كل شﻲء تﻘريبا وﻣن النﻘد الكانطﻲ لﻠﻌﻘل‬
‫وﻣن اﻻرتياب النيتشوي ﺣول أوھام الﻣيتافيزيﻘا‪.‬‬
‫ﻣن ھذا الﻣنطﻠق تصرح أرندت‪ ":‬أن ﻋالﻣنا ھو ﻋالم ﻣﻌﻠﻣن‬
‫ﻣن وھﺟﺔ نظر الروح وذلك لكونه بالتﺣديد ﻋالم الشك"‪ 1‬وان‬
‫الطابﻊ الدينﻲ الذي يﺣﻠم به الشك الﺣديث كان ﺣاضرا فﻲ تﺟربﺔ‬
‫اﻻرتياب الديكارتﻲ التﻲ كشفت ﻋن الﺣاﺟﺔ إلﻰ الضﻣان اﻻلﮭﻲ‬
‫ﻣن أﺟل التﺧﻠﻲ ﻋن فرضيﺔ الشيطان الﻣاكر واكتشاف الكوﺟيتو‬

‫‪1‬‬
‫‪Hannah Arendt, la nature du totalitarisme, op.cit. p.119.‬‬

‫‪387‬‬
‫كيﻘين أول‪ .‬ان اﻻﻋتﻘاد الدينﻲ الﺣديث يﺧتﻠف ﻋن اﻻيﻣان التﻘﻠيدي‬
‫بﻣا أنه يتشكل ﻣن اﻋتﻘاد فﻲ الﻣﻌرفﺔ ويﺳﻣح بﺣريﺔ التفكير والفﻌل‬
‫ويﻘبل الﻣرور بتﺟارب الشك والﺣيرة واﻻرتياب ﻗبل بﻠوغ اﻻﻗرار‬
‫والشﮭادة‪ .‬ان اﻻنﺳان الدينﻲ الﻣﻌاصر ينتﻣﻲ إلﻰ نفس الﻌالم‬
‫الﻣﻌﻠن تﻣاﻣا ﻣﺛل ﺧصﻣه الﻣﻠﺣد الذي يؤﻣن بالنﺳبيﺔ والصيرورة‪.‬‬
‫ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو يﻣكن ﻣﻌاﻣﻠﺔ اﻻيديولوﺟيا والدين بوصفﮭﻣا‬
‫نفس الظاھرة وذلك لكونﮭﻣا يؤديان نفس الوظيفﺔ وھﻲ تﻣتين‬
‫الﻠﺣﻣﺔ اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ بين األفراد وتوﺟيﮭﮭم نﺣو نفس األھداف‬
‫والﻣصير الﻣشترك‪ .‬فﻲ الواﻗﻊ ھناك ﺧﻠط يﻘﻊ فيه الﻣنظور‬
‫التاريﺧﻲ بين طبيﻌﺔ الﻌﻠﻣنﺔ والﻌالم الﻣﻌﻠﻣن‪ ،‬نظرا إلﻰ أن الﻌﻠﻣنﺔ‬
‫ھﻲ ﻣﺳار ﺳياﺳﻲ يتﻌﻠق بالﻣضاﻣين الروﺣيﺔ ﻏير الﻣتطابﻘﺔ‬
‫وتفضﻲ إلﻰ نفﻲ وﺟود ﺳﻠطﺔ تﻣارﺳﮭا الﻣﻌتﻘدات والﻣؤﺳﺳات‬
‫الدينيﺔ ﻋﻠﻰ الﺣﻘل الﻌﻣوﻣﻲ ورفض اﻣتالك الﺣياة الﺳياﺳيﺔ لﺳﻘف‬
‫دينﻲ ﻣتﻌال ﻋنﮭا يﺣد ﻣن ﺣريتﮭا وتﻌدديتﮭا وﻗانونيتﮭا‪.‬‬
‫ان الﺳﻠطﺔ ﻻ يﺟب أن تكون ﻣﺳتﻣدة ﻣن ﺧﻠفيﺔ دينيﺔ وذات‬
‫ﻣصدر ﻣﻘدس ﺣتﻰ وان كانت تشير الﻰ التﻘاليد والتراث والﻘيم‬
‫الروﺣيﺔ وتتأﺳس ﻋﻠﻰ الﻣاضﻲ والﮭويﺔ الﺛﻘافيﺔ لﻠشﻌب بل ھﻲ‬
‫ﺳﻠطﺔ دنيويﺔ ﻗانونيﺔ‪ .‬كﻣا أن ﻣفﮭوم الﺣريﺔ ينبغﻲ أﻻ يكون ﻣﺳتﻣدا‬
‫ﻣن أصل دينﻲ ألن الصراع ﻣن أﺟل الﺣريﺔ ﻻ يبدو ﻣتطابﻘا وﻣتفﻘا‬
‫ﻣﻊ النﺳق الدينﻲ الﻌادي بل يﻣكن لنظام ﺳياﺳﻲ ﻗائﻣا ﻋﻠﻰ الﺣريﺔ‬
‫أن يﺳﻣح بالﺣريﺔ الدينيﺔ والﻣﻌتﻘد‪.‬‬
‫ان الﺣريﺔ التﻲ يتطﻠﻊ اليﮭا الناس ھﻲ ﺣريﺔ بالﻣﻘارنﺔ ﻣﻊ‬
‫الوﺟود الﺳياﺳﻲ وﺣريﺔ الوﺟود وتﺳﻌﻰ إلﻰ أن يكون الﻣﺟتﻣﻊ‬
‫ﻣﻌﻠﻣنا وتﺳﻣح لألفراد بأن يكونوا ﻣواطنين أﺣرار وبأن يﺧتاروا‬

‫‪388‬‬
‫ﻋﻘائدھم ويغيروھا ﻣتﻰ شاءوا دون وصايﺔ أو ﻣﺣاﺳبﺔ‪ .‬ان األديان‬
‫تربح الكﺛير ﻋندﻣا تتأﺳس الدولﺔ ﻋﻠﻰ ﺳيادة الشﻌب والﺣريﺔ‬
‫الﺳياﺳيﺔ والﻘانون وﺧاصﺔ ﻋندﻣا تضﻣن ﺣريﺔ الضﻣير واﻗاﻣﺔ‬
‫الشﻌائر فﻲ كنف الﺳﻠم والتﺳاﻣح‪.‬‬
‫ان ﻣﺣاربﺔ األنظﻣﺔ الشيوﻋيﺔ لﻠدين واضطﮭادھا لﻠﺣريات‬
‫الدينيﺔ وتضييﻘﮭا ﻋﻠﻰ الﻣؤﺳﺳات الدينيﺔ كان ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب‬
‫الﺣريات الﻣدنيﺔ والﺳياﺳيﺔ وليس ﻋﻠﻰ ﺣﺳاب ﻗيم التﺳاﻣح‬
‫واﻻﺧتالف والنﺳبيﺔ فﻘط‪ .‬كﻣا أن نفﻲ األنظﻣﺔ الشيوﻋيﺔ لﻠدين ﻗد‬
‫أفضﻰ إلﻰ الوﻗوع فﻲ أﺳوء دين وھو تﻘديس الزﻋاﻣات وشﺧصنﺔ‬
‫األفكار وتبنﻲ الدين الﺳياﺳﻲ الﻣﻌﻠﻣن الذي يﻌانﻲ ھو بدوره ﻣن‬
‫تﺣريفات الشﻣوليﺔ واﻻيديولوﺟيا الوضﻌيﺔ البائﺳﺔ الﻣتﻌارضﺔ ﻣﻊ‬
‫األبﻌاد الروﺣيﺔ لﻠطبيﻌﺔ البشريﺔ والتﻲ نادت بالﻘيم الﻣاديﺔ الﺟافﺔ‬
‫ودﺧﻠت فﻲ ﻣواﺟﮭﺔ ﻣﻊ كل دين ﺣر وكل فن ﺣر وكل فﻠﺳفﺔ ﺣرة‬
‫وﺛﻘافﺔ ﻣنتﺟﺔ ترتبط باﻹنﺳان الﻣنتج والﺧصوصيات الرﻣزيﺔ‬
‫لﻠشﻌوب‪ .‬ﻋﻠﻰ ھذا النﺣو ﻻ يﻣكن أن نأﺧذ بﺟديﺔ ﻣا يﻘوله الناس‬
‫ﻋﻠﻰ أنه ﺣﻘيﻘﺔ وينبغﻲ الﻌودة إلﻰ الكائن البشري الفاﻋل والواﻗﻌﻲ‬
‫طالﻣا أن األفكار واألﻗوال ھﻲ ﻣﺟرد ردود أفﻌال وانﻌكاﺳات ﻋن‬
‫ﻣﻌاناة يوﻣيﺔ ويﺟب أن ننظر إلﻰ الظاھرة الدينيﺔ ﻋﻠﻰ أنﮭا أكﺛر‬
‫ﻣن ﻣﺟرد اﻋتﻘاد وأوھام وايديولوﺟيا تنويﻣيﺔ كﻣا ھو الشأن ﻋند‬
‫ﻣاركس‪ ،‬بل يﻠزم اﻻنتباه إلﻰ الوظائف الﻌديدة التﻲ تؤديﮭا ﺳواء‬
‫ﻋﻠﻰ الصﻌيد النفﺳﻲ (شﻘاء اﻻنﺳان دون اله ﻋﻠﻰ ﺣد ﻋبارة‬
‫باﺳكال) أو ﻋﻠﻰ الصﻌيد اﻻﺟتﻣاﻋﻲ (الدين أﺳاس التﻣاﺳك‬
‫اﻻﺟتﻣاﻋﻲ ﻋند دوركايم) أو ﻋﻠﻰ الصﻌيد اﻻﻗتصادي (الرأﺳﻣال‬
‫الروﺣﻲ يﻣكن أن يتﺣول الﻰ رأﺳﻣال ﻣادي ﻋند بيير بورديو)‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫اذا ﻗام الكاتب بغض النظر ﻋن الﺳياق التاريﺧﻲ واألﺳاس الفﻠﺳفﻲ‬
‫فيﻣكنه اذن أن يﻌتبر الشيوﻋيﺔ دينا ﺟديدا دون أن يﺣتاج إلﻰ‬
‫تﻌريف ﻣفﮭوم الدين ودون البﺣث ﻋن ازالﺔ التناﻗض بينﮭﻣا طالﻣا‬
‫أنه يﻘصد بالشيوﻋيﺔ الدين الﻌﻠﻣانﻲ الذي ﻻ يكترث بالبرھنﺔ ﻋﻠﻰ‬
‫وﺟود هللا‪ .‬لكن ﻣن ﺟﮭﺔ نظر أﺧرى ينبغﻲ الغاء كل ارتباط بين‬
‫الدين والﺣرب طالﻣا أن الﺣرب الدينيﺔ تﺣول الدين إلﻰ ﺧطر‬
‫ايديولوﺟﻲ يبرر الﻌنف ﻋن طريق اﺣتكار تصريف شؤون‬
‫الﻣﻘدس واﻻنتﻘال به ﻣن دائرة الﻣﺟال الﺧاص إلﻰ دائرة أوﺳﻊ‬
‫ھﻲ دائرة الﻣﺟال الﻌام‪ .‬ﻏير أن الﻣأزق الذي تﻘﻊ فيه الشيوﻋيﺔ‬
‫أنﮭا أكدت ﻋﻠﻰ الطابﻊ الﻌنيف لﻠفﻌل الﺳياﺳﻲ تﺣت ﻋنوان تﺣريك‬
‫التاريﺦ وصناﻋﺔ الﻣﺟتﻣﻊ وبالتالﻲ تكون ﻗد اﺧتزلت اﻻنﺳان‬
‫التاريﺧﻲ فﻲ اﻻنﺳان الصانﻊ وأھﻣﻠت اﻻنﺳان الﻌارف واﻻنﺳان‬
‫الﻣتدين واﻻنﺳان الﻣبدع واﻻنﺳان الراﻏب واﻻنﺳان الراﻣز‬
‫واﻻنﺳان الالﻋب‪ .‬زد ﻋﻠﻰ أن الدين ليس أفيون الشﻌوب طالﻣا‬
‫أنه يﺳاﻋد ﻋﻠﻰ وﻻدة الفرد الﺣر وﺧالص الروح ﻣن الﻘيود‬
‫الغرائزيﺔ ويدفﻊ الناس نﺣو اﻻﺣتﺟاج ﻋﻠﻰ أوضاﻋﮭم اﻻﺟتﻣاﻋيﺔ‬
‫البائﺳﺔ ويغذي لديﮭم ﻣﻠكﺔ الﺣﻠم بﻌالم ﻋادل وﺧير‪.‬‬
‫ﻋالوة ﻋﻠﻰ ذلك يوﺟد ﻋنصر ﻗوي فﻲ الديانات التﻘﻠيديﺔ يﻣكن‬
‫أن يكون صالﺣا فﻲ تنظيم شؤون الﺣكم وﻣصدره ﻏير دينﻲ وھو‬
‫تفادي الذھاب إلىالﺟﺣيم والتصﻣيم ﻋﻠﻰ الفوز بالﺟنﺔ وتﺣﻘيق‬
‫النﻌيم األبدي وتﺟنب الشﻘاء األﺧروي‪ .‬كﻣا أن النتيﺟﺔ الﺳياﺳيﺔ‬
‫ﻋن ﻋﻠﻣنﺔ الﻌصر الﺣديث ھﻲ ﺣذف الﻌنصر الﺳياﺳﻲ الظاھر‬
‫فﻲ الديانات التﻘﻠيديﺔ ﻣن الﺣياة الﻌﻣوﻣيﺔ وﻣن الدين بصفﺔ والتﻲ‬
‫يﻣكن تﻠﺧيصﮭا فﻲ ﻣبدأ واﺣد ھو الﺧشيﺔ ﻣن الذھاب إلﻰ الﺟﺣيم‪.‬‬

‫‪390‬‬
‫ان ھذا الﺣذف ﻗد ترتب ﻋنه ﻋﻠﻰ الصﻌيد الﺳياﺳﻲ تغييب البﻌد‬
‫الروﺣﻲ وتبﺧر اﻻيﻣان األصيل ﻣن الﻘﻠوب وتدنيس الﻘيم‬
‫األﺧالﻗيﺔ الﻘابﻌﺔ فﻲ الﻌﻣق‪ .‬ﻋندﻣا وﻗﻊ الرﺟوع الﻲ الﻘاﻋدة الدينيﺔ‬
‫"ﻻ تﻘتل النفس بغير ﺣق" فإنﮭا ﻣﺛﻠت صفﻌﺔ شديدة فﻲ وﺟه‬
‫الﻘوانين الﺟزريﺔ والﻣﻣارﺳات الﻌنصريﺔ التﻲ ارتكبتﮭا األنظﻣﺔ‬
‫الشﻣوليﺔ فﻲ وﺟه الﻣﻌارضين واألﻗﻠيات وأﺛبتت أن الدين يتضﻣن‬
‫ﻋﻠﻰ أبﻌاد ﺛوريﺔ وﻗيم انﺳانيﺔ يﻣكن التﻌويل ﻋﻠيﮭا لﻣﻘاوﻣﺔ‬
‫اﻻﻣبرياليﺔ واﻻﺳتبداد‪.‬‬
‫لﻘد أﺛبت التاريﺦ أن التﺣالف بين الﺳﻠطﺔ والﻣﻘدس وبين الدين‬
‫والﺳياﺳﺔ ﻻ يكون فﻲ صالح الطرفين وآيتنا فﻲ ذلك أن الﺳياﺳﺔ‬
‫اذا وظفت الدين أفﻘدته روﺣانيته وﺳﻣوه وتﻌاليه وبﻌده التربوي‬
‫واألﺧالﻗﻲ والدين اذا فرض شريﻌته ﻋﻠﻰ الﺳياﺳﺔ ﻗيدھا ونزع‬
‫ﻋنﮭا ﻣرونتﮭا وطابﻌﮭا اﻻﺟرائﻲ والوظيفﻲ‪.‬‬
‫إن الﺣل الذي ينبغﻲ أن يﺧتاره الفاﻋﻠين ﻣن الطرفين ھو فﻘدان‬
‫الدين لﻣكونه الﺳياﺳﻲ األﺳاﺳﻲ وفتح باب اﻻﺟتﮭاد والتأويل ﻋﻠﻰ‬
‫ﻣصراﻋيه ودون ﺣدود وكذلك فﻘدان الﺳياﺳﺔ لﺳﻠطتﮭا الﻣتﻌاليﺔ‬
‫وطابﻊ الﻘداﺳﺔ الذي تضفيه ﻋﻠﻰ ﻗرارات الﺣكام واﺳتشارة الشﻌب‬
‫فﻲ كل أﻣر يﺧص تنظيم الشأن الﻌام‪.‬‬
‫إن الﺧطر ھو أن يتﺣول الدين إلﻰ ﻣﺟرد ﺳياق فﻲ ﺧدﻣﺔ‬
‫الﻘرار الﺳياﺳﻲ الشﻣولﻲ وأن تصبح الﺣياة الﺳياﺳيﺔ ﻣﺟاﻻ‬
‫لﻠﻌاطفﺔ الدينيﺔ ويتم اﺳتﻌﻣال الدين ﻹﺣداث التفاوت والتفرﻗﺔ بين‬
‫أﻋضاء الﻣﺟتﻣﻊ الواﺣد وﺣرﻣان البﻌض ﻣن ﺣق الﻣواطنﺔ‬
‫وتﺣويﻠه الﻰ ايديولوﺟيا تتصف بالتﻌصب وتبرر الشﻣوليﺔ الغريبﺔ‬
‫ﻋن ﺟوھر الﺣريﺔ اﻻنﺳانيﺔ‪ .‬ولكن األﺧطر ھو أن توظف الﺳياﺳﺔ‬

‫‪391‬‬
‫الدين وتﺳتولﻲ ﻋﻠﻰ دور الﻌبادة وتنشر نزﻋﺔ ﻣﺣافظﺔ وتفﺳيرا‬
‫يﻣينيا لﻠنصوص الﻣﻘدﺳﺔ يغﻠب ﺟانب الﻌبادات ﻋﻠﻰ الﻣﻌاﻣالت‬
‫ويشوه الدين‪.‬‬
‫إن الﺧروج ﻣن ھذه الورطﺔ ھو ﻋﻠﻣنﺔ الﻌالم الﻣﻌاصر بشكل‬
‫ﻣتبصر وﻏير ﻋنيف وذلك بالتﻣييز بين الﺳﺟل الدينﻲ والﺳﺟل‬
‫الﺳياﺳﻲ لﻠوﺟود البشري واﻋطاء ﺣﻘوق الﻣواطنﺔ كاﻣﻠﺔ لإلنﺳان‬
‫الدينﻲ ولغيره الﻣﺧتﻠف ﻋنه ﺳواء بﺳواء والﺣرص ﻋﻠﻰ أن تﺳﮭر‬
‫الﻘوانين والﻣؤﺳﺳات ﻋﻠﻰ اﺣترام وﺣﻣايﺔ ذلك‪.‬‬
‫ﻏير أن الﺳياﺳﺔ ﻻ تفﻌل فﻲ التاريﺦ بطريﻘﺔ ھادفﺔ وﻻ تﻘطﻊ‬
‫ﻣﻊ النﮭج الشﻣولﻲ وﻣﺧﻠفاته الكارﺛيﺔ بشكل تام اﻻ اذا تﺧﻠصت‬
‫ﻣن تفﺳير التﺣوﻻت الﻣﺟتﻣﻌيﺔ ﻋن طريق الصراع الطبﻘﻲ وﻣا‬
‫يؤدي ذلك الﻰ شرﻋنﺔ الﻌنف واﻋتﻣاد ﻗانون البﻘاء لألﻗوى‪ ،‬واﻻ‬
‫اﺳتبدلت ذلك بﻘانون التﺣدي واﻻﺟابﺔ ﻋند توينبﻲ أو نظريﺔ‬
‫األنﻣاط الﻣﺛاليﺔ ﻋند ﻣاكس فيبر أو الصراع ﻣن أﺟل اﻻﻋتراف‬
‫ﻋند كوﺟيف ﻗارئا ھيﺟل وفك اﻻرتباط بين الدين والتوظيف‬
‫الشﻣولﻲ‪ .‬فﻣا الﻌﻣل اذا ﻣا كانت الﺳياﺳﺔ الشﻣوليﺔ تفضﻲ ﻋادة‬
‫إلﻰ ترويج الكذب وتﻌﻣيم الﻌنف؟‬

‫‪392‬‬
‫ﻣراﺟﻊ اﻟخاﺗﻣﺔ اﻟﻌاﻣﺔ‬

Hannah Arendt, Qu’est-ce que la politique ?,


.éditions du Seuil, Paris, 1995
Hannah Arendt, la nature du totalitarisme,
.Rivages, Paris ,2006 &éditions Payot
Halévy (Elie) , le radicalisme philosophique,
tome III, traduit par Jean Pierre Cléro, édition
PUF,Paris, 1995.

393
394
‫املصادر واملراجع‬

‫‪ +‬ﺑاﻟلسان اﻟﻌرﺑي‪:‬‬
‫الﺛﻌالبﻲ (ﻋبد الﻌزيز)‪ ،‬روح اﻟﺗﺣرر في اﻟﻘرآن‪ ،‬نﻘﻠه ﻣن‬
‫الفرنﺳيﺔ ﺣﻣادي الﺳاﺣﻠﻲ‪ ،‬دار الغرب اﻹﺳالﻣﻲ‪،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪،‬‬
‫‪.1985‬‬
‫الﺳيد (رضوان)‪ ،‬ﻣﻔاهيم اﻟﺟﻣاعات في االسالم‪ ،‬دراﺳات فﻲ‬
‫الﺳوﺳيولوﺟيا التاريﺧيﺔ لالﺟتﻣاع الﻌربﻲ اﻻﺳالﻣﻲ‪ ،‬دار‬
‫الﻣنتﺧب الﻌربﻲ‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.1993 ،‬‬
‫(الشابﻲ) أبو الﻘاﺳم‪ ،‬اﻷعﻣال اﻟﻛاﻣلﺔ‪ ،‬الدار التونﺳيﺔ لﻠنشر‪،‬‬
‫دون تاريﺦ‪.‬‬
‫بالك (أنتونيو)‪ ،‬اﻟغرب واإلسالم‪ ،‬اﻟدين واﻟﻔﻛر اﻟسياسي في‬
‫اﻟﺗاريخ اﻟﻌاﻟﻣي‪ ،‬ترﺟﻣﺔ فؤاد ﻋبد الﻣطﻠب‪ ،‬ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻋالم الﻣﻌرفﺔ‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬ﻋدد‪ ،394‬نوفﻣبر‪،2012 ،‬‬
‫بوردريار (ﺟان)‪ ،‬كتاب ذهنيﺔ االرهاب‪ ،‬ﻟﻣاذا يﻘاﺗلون‬
‫ﺑﻣوﺗهم؟‪ ،‬ﻣﻊ ﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن الﻣؤلفين اآلﺧرين‪ ،‬ترﺟﻣﺔ بﺳام ﺣﺟار‪،‬‬
‫الﻣركز الﺛﻘافﻲ الﻌربﻲ‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪،‬‬
‫‪،2003‬‬
‫تورين (آﻻن)‪ ،‬نﻘد اﻟﺣداثﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋبد الﺳالم الطويل‪ ،‬إفريﻘيا‬
‫الشرق‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الﻣغرب‪.2010 ،‬‬
‫ﺟوديث (بتﻠر)‪ ،‬اﻟذات ﺗصف نﻔسها‪ ،‬ترﺟﻣﺔ فالح رﺣيم‪ ،‬دار‬
‫التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬تونس‪ ،‬الﻘاھرة‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪،2014 ،‬‬

‫‪395‬‬
‫ﺣنفﻲ (ﺣﺳن)‪ ،‬اﻟﺗراث واﻟﺗﺟديد‪ ،‬ﻣوقﻔنا ﻣن اﻟﺗراث اﻟﻘديم‪،‬‬
‫الﻣؤﺳﺳﺔ الﺟاﻣﻌيﺔ لﻠدراﺳات والنشر والتوزيﻊ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ‬
‫الﺧاﻣﺳﺔ‪.2002 ،‬‬
‫ﺣنفﻲ (ﺣﺳن)‪ ،‬اﻟوﺣي واﻟواقﻊ‪ ،‬ﺗﺣليل اﻟﻣضﻣون‪ ،‬ﻣركز الناﻗد‬
‫الﺛﻘافﻲ‪ ،‬دﻣشق‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ ‪،2010‬‬
‫ﺣنفﻲ (ﺣﺳن)‪ ،‬ﺗطور اﻟﻔﻛر اﻟديني اﻟغرﺑي‪ ،‬في اﻷسس‬
‫واﻟﺗطﺑيﻘات‪ ،‬دار الﮭادي‪ ،‬بيروت‪،‬طبﻌﺔ أولﻰ ‪،2004‬‬
‫دريدا (ﺟاك)‪ ،‬ﻣاذا ﺣدث في ﺣدث ‪11‬سﺑﺗﻣﺑر؟‪ ،‬ترﺟﻣﺔ صفاء‬
‫فتﺣﻲ‪ ،‬دار توبﻘال لﻠنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪.2006‬‬
‫رولز (ﺟون)‪ ،‬نظريﺔ اﻟﻌداﻟﺔ ﻛإنصاف‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺣيدر‬
‫اﺳﻣاﻋيل‪ ،‬ﻣركز دراﺳات الوﺣدة الﻌربيﺔ‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪،‬‬
‫‪.2009‬‬
‫رﺳل (برتراند)‪ ،‬ﺣﻛﻣﺔ اﻟغرب‪ ،‬ﻋرض تاريﺧﻲ لﻠفﻠﺳفﺔ الغربيﺔ‬
‫فﻲ اطارھا اﻻﺟتﻣاﻋﻲ والﺳياﺳﻲ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ فؤاد زكرياء‪ ،‬ﺳﻠﺳﻠﺔ‬
‫ﻋالم الﻣﻌرفﺔ‪ ،‬الكويت‪ ،364 ،‬يونيو‪،2009‬‬
‫روا (أوليفيه)‪ ،‬اﻟﺟهل اﻟﻣﻘدس‪ ،‬زﻣن دين ﺑال ثﻘافﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫صالح األشﻣر‪ ،‬دار الﺳاﻗﻲ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪.2012 ،‬‬
‫رودنﺳون (ﻣاكﺳيم)‪ ،‬ﺟاذﺑيﺔ اإلسالم‪ ،‬ترﺟﻣﺔ الياس ﻣرﻗص‪،‬‬
‫دار التنوير لﻠطباﻋﺔ والنشر‪ ،‬بيروت‪.1982 ،‬‬
‫ريكور (بول)‪ ،‬ﻣﺣاضرات في االيديوﻟوﺟيا واﻟيوﺗوﺑيا‪،‬‬
‫ترﺟﻣﺔ فالح رﺣيم‪ ،‬دار الكتاب الﺟديد الﻣتﺣدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ‬
‫‪،2002‬‬

‫‪396‬‬
‫ريكور (بول)‪ ،‬اﻟﻌادل‪ ،‬اﻟﺟزء اﻷول‪ ،‬ترﺟﻣﺔ الﻣﺟﻣﻊ التونﺳﻲ‬
‫لﻠﻌﻠوم واآلداب والفنون‪ ،‬بيت الﺣكﻣﺔ‪ ،‬ﻗرطاج‪ ،‬تونس‪ ،‬طبﻌﺔ‬
‫أولﻰ‪.2003 ،‬‬
‫ريكور (بول)‪ ،‬اﻟﻌادل‪ ،‬اﻟﺟزء اﻟثاني‪ ،‬ترﺟﻣﺔ الﻣﺟﻣﻊ التونﺳﻲ‬
‫لﻠﻌﻠوم واآلداب والفنون‪ ،‬بيت الﺣكﻣﺔ‪ ،‬ﻗرطاج‪ ،‬تونس‪ ،‬طبﻌﺔ‬
‫أولﻰ‪.2003 ،‬‬
‫ريكور (بول)‪ ،‬عن اﻟﺗرﺟﻣﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺣﺳين ﺧﻣري‪ ،‬ﻣنشورات‬
‫اﻻﺧتالف‪ -‬الﺟزائر‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪.2008 ،‬‬
‫ريكور (بول)‪ ،‬اﻟذاﻛرة‪ ،‬اﻟﺗاريح‪ ،‬اﻟنسيان‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺟورج‬
‫زيناتﻲ‪ ،‬دار الكتاب الﺟديد الﻣتﺣدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪،2009 ،‬‬
‫ﺳبيال (ﻣﺣﻣد)‪ ،‬اإليديوﻟوﺟيا‪ ،‬نﺣو نظرة ﺗﻛاﻣليﺔ‪ ،‬الﻣركز‬
‫الﺛﻘافﻲ الﻌربﻲ‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪،1992 ،‬‬
‫ﺳﻌيد (ادوارد)‪ ،‬االسﺗشراق‪ ،‬اﻟﻣﻔاهيم اﻟغرﺑيﺔ ﻟلشرق‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﻣﺣﻣد ﻋنانﻲ‪ ،‬دار رؤيﺔ لﻠنشر‪ ،‬الﻘاھرة‪.2006 ،‬‬
‫ﺳﻌيد (ادوارد)‪ ،‬خيانﺔ اﻟﻣثﻘﻔين‪ ،‬اﻟنصوص اﻷخيرة‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫أﺳﻌد الﺣﺳين‪ ،‬دار نينوى‪ ،‬دﻣشق‪،2011 ،‬‬
‫ﺳﻌيد (ادوارد)‪ ،‬اﻟﻣثﻘف واﻟسلطﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد ﻋنانﻲ‪ ،‬دار‬
‫رؤيﺔ لﻠنشر والتوزيﻊ‪ ،‬الﻘاھرة‪،2005 ،‬‬
‫ﺳﻌيد (ادوارد)‪ ،‬صورة اﻟﻣثﻘف‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻏﺳان ﻏصن‪ ،‬دار‬
‫النﮭار‪ ،‬بيروت‪.1996،‬‬
‫ﺳورديل (دوﻣينيك)‪ ،‬اإلسالم في اﻟﻘرون اﻟوسطﻰ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﻋﻠﻲ ﻣﻘﻠد‪ ،‬دار التنوير لﻠطباﻋﺔ والنشر‪ ،‬بيروت‪،1983 ،‬‬
‫ﺳوروش (ﻋبد الكريم)‪ ،‬اﻟدين اﻟﻌلﻣاني‪ ،‬تﻌريب أﺣﻣد‬
‫الﻘبانﺟﻲ‪ ،‬دار اﻻنتشار الﻌربﻲ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪،2009 ،‬‬

‫‪397‬‬
‫ﺳوروش (ﻋبد الكريم)‪ ،‬اﻟسياسﺔ واﻟﺗدين‪ ،‬دقائق نظريﺔ‬
‫وﻣآزق عﻣليﺔ‪ ،‬تﻌريب أﺣﻣد الﻘبانﺟﻲ‪ ،‬دار اﻻنتشار الﻌربﻲ‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪،2009 ،‬‬
‫شتراوس (كﻠود ليفﻲ)‪ ،‬اﻷنثرﺑوﻟوﺟيا اﻟﺑنيويﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﻣصطفﻰ صالح‪ ،‬ﻣنشورات وزارة الﺛﻘافﺔ‪ ،‬دﻣشق‪،1977 ،‬‬
‫شتراوس (كﻠود ليفﻲ)‪ ،‬اﻟﻔﻛر اﻟﺑري‪ ،‬ترﺟﻣﺔ نظير ﺟاھل‪،‬‬
‫الﻣؤﺳﺳﺔ الﺟاﻣﻌيﺔ لﻠدراﺳات والنشر والتوزيﻊ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ‬
‫الﺛانيﺔ‪،1987 ،‬‬
‫شتراوس (كﻠود ليفﻲ)‪ ،‬اﻟﺑنيات اﻷوﻟيﺔ ﻟلﻘراﺑﺔ‪ ،‬الطبﻌﺔ‬
‫الفرنﺳيﺔ ‪.1971‬‬
‫شتيبات ( فريتس)‪ ،‬اإلسالم شريﻛا‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋبد الغفار ﻣكاوي‪،‬‬
‫ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻋالم الﻣﻌرفﺔ‪ ،‬الكويت‪ ،‬ﻋدد‪ ،302‬أبريل‪،2014 ،‬‬
‫طرابيشﻲ (ﺟورج)‪ ،‬ﻣذﺑﺣﺔ اﻟﺗراث في اﻟثﻘافﺔ اﻟﻌرﺑيﺔ‬
‫اﻟﻣﻌاصرة‪ ،‬دار الﺳاﻗﻲ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ الﺛانيﺔ‪،2006 ،‬‬
‫ﻏارودي (رﺟاء)‪ ،‬ﻛيف نصنﻊ اﻟﻣسﺗﻘﺑل؟‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣنﻰ طﻠبﺔ‬
‫وأنور ﻣغيث‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الﻘاھرة‪ ،‬الطبﻌﺔ الﺛالﺛﺔ‪.2002 ،‬‬
‫ﻏارودي (رﺟاء)‪ ،‬في سﺑيل ﺣوار اﻟﺣضارات‪ ،‬تﻌريب ﻋادل‬
‫الﻌوا‪،‬ﻋويدات لﻠنشر والطباﻋﺔ‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبﻌﺔ‬
‫الرابﻌﺔ‪.1999،‬‬
‫ﻏراﻣشﻲ (أنطونيو)‪ ،‬ﻛراسات اﻟسﺟن‪ ،‬الﺟزء الﺛانﻲ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﻋادل ﻏنيم‪ ،‬الناشر دار الﻣﺳتﻘبل الﻌربﻲ‪ ،‬الﻘاھرة‪.1994،‬‬
‫ليتش (إدﻣوند)‪ ،‬ﻛلود ﻟيﻔي – شﺗراوس‪ ،‬اﻟﺑنيويﺔ في ﻣشروعه‬
‫ااﻷنثرﺑوﻟوﺟي‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺛائر ديب‪ ،‬دار الفرﻗد‪ ،‬دﻣشق‪ ،‬ﺳوريا‪،‬‬
‫الطبﻌﺔ الﺛانيﺔ‪.2010 ،‬‬

‫‪398‬‬
‫لويس (برنارد)‪ ،‬ﻟغﺔ اﻟسياسﺔ في اإلسالم‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ابراھيم‬
‫الباشا‪ ،‬دار ﻗرطبﺔ لﻠنشر‪،1993 ،‬‬
‫فروم (ايريك)‪ ،‬ﻣﻔهوم االنسان عند ﻣارﻛس‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد‬
‫ﺳيد رصاص‪ ،‬دار الﺣصاد‪ ،‬دﻣشق‪ ،‬ﺳوريا‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.1998 ،‬‬
‫فرويد (ﺳغﻣوند)‪ ،‬ﻣسﺗﻘﺑل وهم‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﺟورج طرابيشﻲ‪ ،‬دار‬
‫الطﻠيﻌﺔ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪.1974 ،‬‬
‫فوكو (ﻣيشيل)‪ ،‬يﺟب اﻟدفاع عن اﻟﻣﺟﺗﻣﻊ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ الزاوي‬
‫بوﻏورة‪ ،‬دار الطﻠيﻌﺔ‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.2003 ،‬‬
‫فوكوياﻣا (فرانﺳيس)‪ ،‬نهايﺔ اﻟﺗاريخ واإلنسان اﻷخير‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﻣركز اﻻنﻣاء الﻘوﻣﻲ‪ ،‬بيروت‪.1993 ،‬‬
‫فيبر (ﻣاكس)‪ ،‬ﻣﻔاهيم أساسيﺔ في علم االﺟﺗﻣاع – الفصل‬
‫األول ﻣن كتاب "اﻻﻗتصاد والﻣﺟتﻣﻊ"‪ ،‬ترﺟﻣﺔ صالح ھالل‪،‬‬
‫الﻣركز الﻘوﻣﻲ لﻠترﺟﻣﺔ‪ ،‬الﻘاھرة‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.2011 ،‬‬
‫فيبر (ﻣاكس)‪ ،‬اﻟﻌاﻟم واﻟسياسي‪ ،‬ترﺟﻣﺔ نادر ذكرى‪،‬دار‬
‫الﺣﻘيﻘﺔ‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبﻌﺔ ‪،1982‬‬
‫كانط (ﻋﻣونيال)‪ ،‬ﺗأﻣالت في اﻟﺗرﺑيﺔ‪ ،‬ضﻣن ثالثﺔ نصوص‪،‬‬
‫تﻌريب وتﻌﻠيق ﻣﺣﻣد بن ﺟﻣاﻋﺔ‪ ،‬دار ﻣﺣﻣد ﻋﻠﻲ الﺣاﻣﻲ لﻠنشر‪،‬‬
‫صفاﻗس‪ ،‬تونس‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.2005 ،‬‬
‫كريب (إيان)‪ ،‬اﻟنظريﺔ االﺟﺗﻣاعيﺔ ﻣن ﺑارسونز اﻟﻰ‬
‫هاﺑرﻣاس‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد ﺣﺳين ﻏﻠوم‪ ،‬ﺳﻠﺳﻠﺔ ﻋالم الﻣﻌرفﺔ‪،‬‬
‫ﻋدد‪،244‬الكويت‪،1999 ،‬‬
‫كيﻣﻠشكا (ويل)‪ ،‬ﻣدخل اﻟﻰ اﻟﻔلسﻔﺔ اﻟسياسيﺔ اﻟﻣﻌاصرة‪،‬‬
‫ترﺟﻣﺔ ﻣنير الكشو‪ ،‬الﻣركز الوطنﻲ لﻠترﺟﻣﺔ‪ ،‬دار ﺳيناترا‪،‬‬
‫تونس‪،‬طبﻌﺔ أولﻰ‪.2010 ،‬‬

‫‪399‬‬
‫ﻣاركس (كارل)‪ ،‬ﺑؤس اﻟﻔلسﻔﺔ‪ ،‬ﺧطاب ﻋن ﻣﺳألﺔ التﺟارة‬
‫الﺣرة‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣﺣﻣد ﻣﺳتﺟير ﻣصطفﻰ‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبﻌﺔ الرابﻌﺔ‪.2010 ،‬‬
‫ﻣانفريد (فرانك)‪ ،‬ﺣدود اﻟﺗواصل‪ ،‬اإلﺟﻣاع واﻟﺗنازع ﺑين‬
‫هاﺑرﻣاس وﻟيوﺗار‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋز الﻌرب لﺣكيم بنانﻲ‪ ،‬أفريﻘيا‬
‫الشرق‪ ،‬الدارا البيضاء‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪،2003 ،‬‬
‫ﻣوران (أدﻏار)‪ ،‬ﺗرﺑيﺔ اﻟﻣسﺗﻘﺑل‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋزيز لزرق وﻣنير‬
‫الﺣﺟوﺟﻲ‪ ،‬دار توبﻘال‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الﻣغرب‪ ،‬طبﻌﺔ ‪.2002‬‬
‫ﻣوران (أدﻏار)‪ ،‬هل نسير اﻟﻰ اﻟهاويﺔ؟‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋبد الرﺣيم‬
‫ﺣزل‪ ،‬افريﻘيا الشرق‪ ،‬الدار البيضاء‪،2012 ،‬‬
‫ﻣوران (أدﻏار)‪ ،‬اﻟنهج‪ ،‬إنسانيﺔ اﻟﺑشريﺔ‪ ،‬اﻟهويﺔ اﻟﺑشريﺔ‪،‬‬
‫ترﺟﻣﺔ ھناء صبﺣﻲ‪ ،‬كﻠﻣﺔ‪ ،‬أبو ظبﻲ‪ ،‬طبﻌﺔ أولﻰ ‪،2009‬‬
‫نبﻲ (ﺳربﺳت)‪ ،‬ﻛارل ﻣارﻛس وﻣسأﻟﺔ اﻟدين‪ ،‬دار كنﻌان‪،‬‬
‫دﻣشق‪ ،‬الﺟﻣﮭوريﺔ الﺳوريﺔ‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪،2002 ،‬‬
‫ھابرﻣاس (يورﻏن)‪ ،‬ﻣسﺗﻘﺑل اﻟطﺑيﻌﺔ اإلنسانيﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ‬
‫ﺟورج كتورة‪ ،‬ﻣؤﺳﺳﺔ كﻠﻣﺔ‪ ،‬أبو ظبﻲ‪ ،‬الﻣكتبﺔ الشرﻗيﺔ‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫طبﻌﺔ أولﻰ‪،2007 ،‬‬
‫ھابرﻣاس (يورﻏن)‪ ،‬اﺗيﻘا اﻟﻣناقشﺔ وﻣسأﻟﺔ اﻟﺣﻘيﻘﺔ‪،‬‬
‫الديﻣﻘراطيﺔ الدﺳتوريﺔ‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻋﻣر ﻣﮭيبل‪ ،‬ﻣنشورات‬
‫اﻻﺧتالف‪ ،‬الﺟزائر‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ‪.2010،‬‬
‫ھنتنﺟتون (صاﻣويل)‪ ،‬صدام اﻟﺣضارات واعادة ﺑناء اﻟنظام‬
‫اﻟﻌاﻟﻣي‪ ،‬ترﺟﻣﺔ ﻣالك ﻋبيد أبو شﮭيوة وﻣﺣﻣود ﻣﺣﻣد ﺧﻠف‪ ،‬الدار‬
‫الﺟﻣاھيريﺔ لﻠنشر‪ ،‬ﻣصراته‪ ،‬ليبيا‪ ،‬الطبﻌﺔ األولﻰ ‪.1999‬‬

‫‪400‬‬
‫ ترﺟﻣﺔ طﻠﻌت‬،‫ صدام اﻟﺣضارات‬،)‫ھنتنﺟتون (صاﻣويل‬
،‫ الطبﻌﺔ الﺛانيﺔ‬،‫ الﻘاھرة‬،‫ الﻣﻌادي‬،‫ شركﺔ ﺳطور‬،‫الشايب‬
.1999
:‫اإلﻣﺑراطوريﺔ‬،)‫ھاردت (ﻣايكل) ونيغري (أنطونيو‬
‫ ﻣكتبﺔ‬،‫ ترﺟﻣﺔ فاضل ﺟتكر‬، ‫إﻣﺑراطوريﺔ اﻟﻌوﻟﻣﺔ اﻟﺟديدة‬
،2002 ،‫ الطبﻌﺔ األولﻰ‬،‫ الﺳﻌوديﺔ‬،‫الﻌبيكان‬
‫ ترﺟﻣﺔ اﻣام ﻋبد الفتاح‬،‫ الﺟزء األول‬،‫ اﻟﻌﻘل في اﻟﺗاريخ‬،‫ھيﺟل‬
.1981 ‫ طبﻌﺔ‬،‫ بيروت‬،‫ دار التنوير‬،‫اﻣام‬
،‫ ﺟدل اﻟﺗنوير‬،‫ ﺛيودورف أدورنو‬،)‫ھور كﮭايﻣر (ﻣاكس‬
‫ دار الكتاب الﺟديد‬،‫ ترﺟﻣﺔ ﺟورج كتورة‬،‫شذرات فلسﻔيﺔ‬
.2006 ،‫ الطبﻌﺔ األولﻰ‬،‫ بيروت‬،‫الﻣتﺣدة‬
121-120 ‫ﻣﺟﻠﺔ الفكر الﻌربﻲ الﻣﻌاصر ﻋدد‬

:‫ ﺑاﻟلسان اﻟﻔرنسي‬+
Arendt (Hanna), la crise de la culture, huit exercices
de pensée politique, édition Gallimard, Paris, 1972
Arendt (Hanna), condition de l’homme moderne,
.édition Calment-Levy, Paris, 1983
édition Arendt (Hanna), les origines du totalitarisme,
Payot, Paris, 1990.
Arendt (Hanna), qu’est ce que le politique ?, Texte
établi par Ursula Ludz, traduction de l’allemand de Sylvie
courtine-Denamy, éditions du Seuil, 1995.
Arendt (Hanna), la nature du totalitarisme, éditions
.Rivages, Paris ,2006 &Payot
Alain B.L ; Gérard, Athéisme et religion, éthique et

401
modernité 4, réponses philosophiques, édition érès ,
1999.
Althusser (Louis), Pour Marx, édition Maspero, Paris,
1972.
Assoun (Paul Taurent), nature , inconscient et culture,
in Analyses et réflexions sur la nature, E. Marketing,
1990.
Bigo (Pierre), Marxisme et humanisme, Paris, PUF, 3
éditions, 1961.
Castoriadis (Corneluis), Domaines de l’homme, les
carrefours du labyrinthe, 2, édition du Seuil, Paris, 1986,
Comte-Sponville (André), l’esprit de l’athéisme,
introduction à une spiritualité sans Dieu,Editions, Albin
Michel,2006.
Constant (Benjamin), De la liberté des anciens
comparée à celle des modernes, in De l’esprit de
conquête et de l’usurpation, édition GF- Flammarion,
Paris, 1986.
Debray (Régis), critique de la raison politique, éditions
Gallimard, Paris ,1981.
Derrida (Jacques), Politique et amitié, entretiens avec
Michael Sprinker sur Marx et Althusser, édition Galilée,
Paris, 2011.
Fischbach (Franck), la production des hommes,Marx
avec Spinoza,Editions PUF,2005.
, naissance de la biopolitique, cours (Michel)Foucault
au collège de France, 1978-1979, Paris, Gallimard-Seuil-
Ehess,2004.
,Histoire de la sexualité, le souci de (Michel)Foucault
soi, tome 3, editions Gallimard, Paris, 1984.

402
Gandhi, tous les hommes sont des freres, edition
.Gallimard, Paris,1983
Girard (Réné), la violence et le sacré, éditions Bernard
Grasset, Paris, 1972.
Girard (Réné), Du mensonge romantique et vérité
romanesque, éditions Bernard Grasset, Paris, 1961.
Grimaldi (Nicolas), L’humain, edition PUF, Paris,
2011.
Guidère (Mathieu), Etat du monde arabe, edition de
boeck, Paris, 2015.
Guillarme (Bertrand), Rawls et l’égalité démocratique,
édition PUF, Paris, 1999.
Guillaume (Armand), la séduction marxiste, un prêtre
médite Marx, EMI, Bologna 1987.
Halévy (Elie) , le radicalisme philosophique, tome III,
traduit par Jean Pierre Cléro, édition PUF,Paris, 1995.
Harrison (Robert) , Jeunessence, quel age culturel
avons-nous ?, editions Le Pommier, Paris, 2015.
Koetschet (Pauline), la philosophie arabe, éditions
. 1Points Essais, Paris, 201
Labica (Georges), Karl Marx, les Thèses sur
Feuerbach, Editions PUF, 1987.
Lacharrière (René de), la divagation de la pensée
politique, Marx et la
socialisation de dieu, PUF 1972,
lefebvre (Henri), problèmes actuels du marxisme,
Editions PUF,1958.
Lyotard (Jean -Francois), Dérive à partir de Marx et
Freud, collection 10-18,UGE ,1973.
Lyotard (Jean-Francois) , la condition postmoderne,
édition Cérès, Tunis, 1994,

403
Marx (Karl) et Engels (Frederik), l’idéologie
allemande, éditions sociale, Paris, 1968.
Mellon (Christstian) et Semelin (Jacques), la non-
.violence, édition PUF, Paris, 1994
Morin (Edgar), les sept savoirs nécessaires à
l’éducation du futur, édition du Seuil, Paris, 2000.
, Job, la force de l’esclave, édition (Antonio )Negri
Bayard, Paris, 2002.
, le pouvoir constituant, essai sur les (Antonio )Negri
alternatives de la modernité, édition PUF, Paris, 1997.
, Marx au-delà de Marx, édition (Antonio )Negri
l’Harmattan, Paris, 1996.
, Empire, Exils (Michael), et Hardt (Antonio )Negri
éditeur, Paris, 2000.
Neusch (Marcel), aux sources de l’athéisme
contemporain, chretien malgré lui,Edition centurion,
1977.
Nietzsche (Frederic), le voyageur et son ombre,
traduction par Henri Albert , edition Daniel Gauthier,
.1975
Rawls (Jean), théorie de la justice, traduit par
Catherine Audard, éditions du Seuil, Paris, 1987.
Rawls (Jean),justice et démocratie, traduit par
Catherine Audard et autres, édition du Seuil, Paris,
1993.
Renault (Emmanuel), Marx et l’idée de critique, Ed
PUF, 1995.
Revel (Judith), Dictionnaire Foucault, Ellipses Edition
Marketing S.A, 2008.
Ricœur (Paul), Histoire et vérité, édition du Seuil.
Paris,1955- 1964.

404
Ricoeur (Paul), Lectures 1 , Autour du Politique ,
Edition Du Seuil ,1991.
Rousseau (Jean.Jacques) , Du contrat social , livre 2,
édition GF- Flammarion, Paris, 1992.
Sigmund (Freud), malaise dans la civilisation, edition
Quadrige /PUF,Paris, 1995.
Vu (Nguyen Ngoc), ideologie et religion, d’après Marx
et Engels , edition Aubier Montaigne,1975.
Wackenheim (Charles) , la faillite de la religion
d’après Karl Marx, Paris, PUF,1963.
, essais sur la théorie de la science, (Max)Weber
traduit par Julien Freund, édition Librairie Plon, Paris,
1965.
, économie et société, tome1, traduit par (Max)Weber
Julien Freund, édition Librairie Plon, Paris, 1971.
Weil (Eric), Philosophie politique, édition Vrin,
Paris,1966.
Actes du colloque: herméneutique de la sécularisation,
organisé par le centre international d’études humaines et
par l’institut d’études philosophiques de Rome, 3-8
Janvier 1976, aux soins de Enrico Castelli, Aubier
éditions Montaigne, Paris, 1976.
Actes du colloque: Islam et politique au Magreb,
CNRS, Paris, 1981.
Revue Sciences Humaines, numéro spécial, N° 266,
.Janvier 2015
Revue Philosophie Magazine , N°96, Décembre
2015.
Revue Le Point Références – Penser l’islam hier et
aujourd’hui, Novembre- Décembre 2015.

405
,Qu’est-ce que le terrorisme ?, le (Jürgen)Habermas
monde ,février 2004.
Lien:http://www.monde-
diplomatique.fr/2004/02/HABERMAS/11007

Derrida (Jacques) ,Qu’est-ce que le terrorisme ?,le


monde, février 2004,
lien:http://www.monde-
diplomatique.fr/2004/02/DERRIDA/11005
Bouderiere (Jean), mondialisation et terrorisme, in le
.monde deplomatique, 18 nouvembre 2002
Le Nouvel Observateur, N° 16-22-1978

406
‫ﻗﻼﺋﻞ ﻫﻢ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺃﻣﻜﻨﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻠﻮﺍ‬
‫ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺟﺰﺀﺍ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﻨﺎﺱ‪.‬‬
‫ﻭﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭ ﺯﻫﻴﺮ ﺍﻟﺨﻮﻳﻠﺪﻱ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻦ ﻣﻦ ﺃﻗﻞ ﺍﻟﻘﻠﻴﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﻌﻞ‬
‫ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﺘﻌﺔ ﻣﻦ ﻣﺘﻊ ﺍﻷﺩﺏ‪.‬‬
‫ﺑﻠﻐﺘﻪ ﺍﻟﺴﻬﻠﺔ‪ ،‬ﻭﺗﻨﺎﻭﻟﻪ ﺍﻟﺴﻠﺲ‪ ،‬ﻭﻣﻘﺎﺭﺑﺎﺗﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺲ‬
‫ﺃﻭﺟﻪ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﻠﻤﻮﺳﺔ‪ ،‬ﺗﻤﻜﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻔﻜﺮ ﺍﻟﺒﺎﺭﺯ‬
‫ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻨﺎﺭﺓ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ‬
‫ﺗﻀﻲﺀ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﻤﻼﻳﻴﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ‪.‬‬
‫ﺷﻴﺌﺎ ﻓﺸﻴﺌﺎ‪ ،‬ﺳﻮﻑ ﻳﺠﺪ ﺍﻟﻘﺎﺭﺉ ﺗﻨﺎﻭﻻ‬
‫ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻟﻘﻀﻴﺔ ﺍﻹﺭﻫﺎﺏ‪ .‬ﻫﺬﺍ ﺃﻭﻻ‪.‬‬
‫ﺛﻢ ﺃﻧﻪ ﺳﻮﻑ ﻳﻜﺘﺸﻒ ﻭﺟﻬﺎ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﺃﻛﺜﺮ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺔ‪،‬‬
‫ﻭﺃﻋﻤﻖ ﺩﻻﻟﺔ‪ ،‬ﻭﺃﻗﺮﺏ ﺍﻟﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ‪ .‬ﻫﺬﺍ ﺛﺎﻧﻴﺎ‪.‬‬
‫ﺛﻢ ﺃﻧﻪ ﺳﻮﻑ ﻳﺘﻌﺮﻑ‪ ،‬ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ‪ ،‬ﻋﻠﻰ ﻛﺎﺗﺐ‬
‫ﻣﺒﺪﻉ‪ ،‬ﻭﻣﻔﻜﺮ ﺃﺻﻴﻞ‪ ،‬ﻭﻣﺜﻘﻒ ﺟﺪﻳﺮ ﺑﻜﻞ ﺍﺣﺘﺮﺍﻡ‪.‬‬

‫ﺍﻟﻨﺎﺷﺮ‬
‫‪UU‬‬

‫ﺁﻻﻑ ﺍﻟﻜﺘﺐ‪ ،‬ﻟﻜﻞ ﻭﻗﺖ‪ ،‬ﻭﻣﻦ ﺃﻱ ﻣﻜﺎﻥ‬


‫‪e-kutub.com‬‬

You might also like