Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 79

‫بيان التوحيد‬

‫الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا‬


‫وبعث به خاتمهم محم ًدا‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬

‫المؤلف‪:‬‬
‫عبد العزيز بن عبد هللا بن باز‬
‫(ت ‪١٤٢٠‬هـ)‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫‌‌[مقدمة]‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على سيد‬


‫األولين واآلخرين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين‪..‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فهذه ثالث كلمات في التوحيد من كتابي (مجموع فتاوى‬
‫ومقاالت متنوعة)‪:‬‬
‫األولى‪ :‬حقيقة التوحيد والشرك‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬توحيد المرسلين‪ ،‬وما يضاده من الكفر والشرك‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬توضيح معنى الشرك باهلل‪.‬‬
‫رأيت جمعها في كتاب واحد بعنوان‪( :‬بيان التوحيد الذي‬
‫بعث هللا به الرسل جميعًا‪ ..‬وبعث به خاتمهم محمدًا صلى هللا‬
‫عليه وسلم)‪ ،‬وذلك مساهمة مني في بيان التوحيد‪ ،‬والتحذير‬
‫من الشرك الذي انتشر في كثير من بالد العالم اإلسالمي‪ ،‬من‬
‫دعاء األولياء والصالحين‪ V‬والتوسل بهم بعد موتهم‪ ،‬والبناء‬
‫على القبور والنذر لها والطواف حولها‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫األمور القادحة في التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جميعا‪،‬‬

‫‪3‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫س ِإاَّل‬ ‫الموضح في قول هللا عز وجل‪َ { :‬و َما َخلَ ْقتُ ا ْل ِجنَّ َواِإْل ْن َ‬
‫ُون} [الذاريات‪ ،]٥٦ :‬وقوله تعالى‪َ { :‬و َما َأ ْر َ‬
‫س ْلنَا ِمنْ‬ ‫لِيَ ْعبُد ِ‬
‫وحي ِإلَ ْي ِه َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل َأنَا فَا ْعبُد ِ‬
‫ُون}‬ ‫ول ِإاَّل نُ ِ‬
‫س ٍ‬‫قَ ْبلِكَ ِمنْ َر ُ‬
‫سواًل‬ ‫{ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ‬
‫[األنبياء‪ ،]٢٥ :‬وقوله تعالى‪َ :‬‬
‫اجتَنِبُوا الطَّا ُغوتَ } [النحل‪.]٣٦ :‬‬ ‫َأ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ْ‬
‫راجيًا من هللا عز وجل أن ينفع بها عباده‪ ،‬وأن يصلح‬
‫أحوال المسلين جميعًا‪ ،‬ويمنحهم الفقه في الدين‪ ،‬إنه سميع‬
‫قريب‪.‬‬
‫وصلى هللا وسلم على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫‌‌[حقيقة التوحيد والشرك]‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وال عدوان إال على الظالمين‪،‬‬


‫والصالة والسالم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه‪،‬‬
‫وأمينه على وحيه‪ ،‬نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد هللا بن‬
‫عبد المطلب الهاشمي العربي المكي ثم المدني‪ ،‬وعلى آله‬
‫وأصحابه‪ ،‬ومن سلك سبيله‪ ،‬واهتدى بهداه إلى يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فإن هللا عز وجل خلق الخلق ليعبدوه وحده ال شريك له‪،‬‬
‫وأرسل الرسل لبيان هذه الحكمة والدعوة إليها‪ ،‬وبيان‬
‫تفصيلها وبيان ما يضادها‪ ،‬هكذا جاءت الكتب السماوية‪،‬‬
‫وأرسلت الرسل البشرية من عند هللا عز وجل للجن واإلنس‪،‬‬
‫وجعل هللا سبحانه هذه الدار طريقا لآلخرة‪ ،‬ومعبرًا لها‪ ،‬فمن‬
‫عمرها بطاعة هللا وتوحيده‪ ،‬واتباع رسله عليهم الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬انتقل من دار العمل ‪-‬وهي الدنيا‪ -‬إلى دار الجزاء ‪-‬‬
‫وهي اآلخرة‪ ،-‬وصار إلى دار النعيم والحبرة والسرور‪ ،‬دار‬
‫الكرامة والسعادة‪ ،‬دار ال يفنى نعيمها‪ ،‬وال يموت أهلها‪ ،‬وال‬

‫‪5‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫تبلى ثيابهم‪ ،‬وال يخلق شبابهم‪ ،‬بل في نعيم دائم‪ ،‬وصحة‬


‫دائمة‪ ،‬وشباب مستمر‪ ،‬وحياة طيبة سعيدة‪ ،‬ونعيم ال ينفد‪،‬‬
‫يُنادى فيهم من عند هللا عز وجل‪« :‬يا أهل الجنة‪ ،‬إن لكم أن‬
‫تصحوا فال تسقموا أبدًا‪ ،‬وإن لكم‬
‫ّ‬ ‫تَحيَوا فال تموتوا أبدًا‪ ،‬وإن لكم أن‬
‫أن تشبوا فال تهرموا أبدًا‪ ،‬وإن لكم أن تنعموا فال تبأسوا أبدًا»‬
‫[رواه مسلم (‪ ،])2837‬هذه حالهم ولهم فيها ما يشتهون ولهم‬
‫يم} [فصلت‪ ،]٣٢ :‬ولهم‬ ‫فيها ما يدعون‪{ ،‬نُزُاًل ِمنْ َغفُو ٍر َر ِح ٍ‬
‫فيها لقاء مع هللا عز وجل كما يشاء‪ ،‬ورؤية وجهه الكريم جل‬
‫وعال‪.‬‬
‫أما من خالف الرسل في هذه الدار‪ ،‬وتابع الهوى‬
‫والشيطان‪ ،‬فإنه ينتقل من هذه الدار إلى دار الجزاء‪ ،‬دار‬
‫الهوان والخسران‪ ،‬والعذاب واآلالم والجحيم‪ ،‬التي أهلها في‬
‫ضى َعلَ ْي ِه ْم فَيَ ُموتُوا َواَل يُ َخفَّفُ‬ ‫عذاب وشقاء دائم‪{ ،‬اَل يُ ْق َ‬
‫َع ْن ُه ْم ِمنْ َع َذابِ َها} [فاطر‪ ،]٣٦ :‬كما قال عز وجل‪ِ{ :‬إنَّهُ َمنْ‬
‫ت َربَّهُ ُم ْج ِر ًما فَِإنَّ لَهُ َج َهنَّ َم اَل يَ ُموتُ فِي َها َواَل يَ ْحيَا} [طه‪:‬‬ ‫يَْأ ِ‬
‫ست َِغيثُوا يُ َغاثُوا بِ َما ٍء َكا ْل ُم ْه ِل‬‫‪ ،]٧٤‬وقال فيها أيضا‪َ { :‬وِإنْ يَ ْ‬
‫سا َءتْ ُم ْرتَفَقًا} [الكهف‪:‬‬ ‫اب َو َ‬‫ش َر ُ‬ ‫ش ِوي ا ْل ُو ُجوهَ بِ َ‬
‫ْئس ال َّ‬ ‫يَ ْ‬
‫سقُوا َما ًء َح ِمي ًما فَقَطَّ َع‬ ‫{و ُ‬‫‪ ،]٢٩‬وقال فيها جل وعال‪َ :‬‬
‫َأ ْم َعا َء ُه ْم} [محمد‪.]١٥ :‬‬
‫‪6‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫والمقصود‪ :‬أن هذه الدار هي دار العمل‪ ،‬وهي دار‬


‫التق ّرب إلى هللا عز وجل بما يرضيه‪ ،‬وهي دار الجهاد‬
‫للنفوس‪ ،‬وهي دار المحاسبة‪ ،‬ودار التفقه والتبصر في الدين‪،‬‬
‫والتعاون على البر والتقوى‪ ،‬والتواصي بالحق والصبر‬
‫عليه‪ ،‬والعلم والعمل‪ ،‬والعبادة والمجاهدة‪ ،‬قال هللا سبحانه‬
‫ُون ‪َ -‬ما ُأ ِري ُد‬
‫س ِإاَّل لِيَ ْعبُد ِ‬ ‫{و َما َخلَ ْقتُ ا ْل ِجنَّ َواِإْل ْن َ‬‫وتعالى‪َ :‬‬
‫ق ُذو‬ ‫ون ‪ِ -‬إنَّ هَّللا َ ه َُو ال َّر َّزا ُ‬ ‫ق َو َما ُأ ِري ُد َأنْ يُ ْط ِع ُم ِ‬ ‫ِم ْن ُه ْم ِمنْ ِر ْز ٍ‬
‫ا ْلقُ َّو ِة ا ْل َمتِينُ } [الذاريات‪ ،]٥٨ - ٥٦ :‬فخلق هللا الجن‬
‫واإلنس ‪-‬وهما الثقالن‪ -‬لعبادته عز وجل‪ ،‬لم يخلقهم سبحانه‬
‫لحاجة به إليهم‪ ،‬فإنه سبحانه هو الغني بذاته عن كل ما سواه‪،‬‬
‫اس َأ ْنتُ ُم ا ْلفُقَ َرا ُء ِإلَى هَّللا ِ َوهَّللا ُ ُه َو‬
‫كما قال سبحانه‪{ :‬يَا َأيُّ َها النَّ ُ‬
‫ق َج ِدي ٍد ‪َ -‬و َما َذلِ َك‬ ‫شْأ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم َويَْأ ِ‬
‫ت ِب َخ ْل ٍ‬ ‫ا ْل َغنِ ُّي ا ْل َح ِمي ُد ‪ِ -‬إنْ يَ َ‬
‫َعلَى هَّللا ِ بِ َع ِزي ٍز} [فاطر‪ ،]١٧ - ١٥ :‬ولم يخلقهم ليَتكثَّر بهم‬
‫من قلة‪ ،‬أو يعتز بهم من ذلة‪ ،‬ولكنه خلقهم سبحانه لحكمة‬
‫عظيمة‪ ،‬وهي‪ :‬أن يعبدوه ويعظّموه‪ ،‬ويخشوه‪ ،‬ويثنوا عليه‬
‫سبحانه بما هو أهله‪ ،‬ويعلموا أسماءه وصفاته‪ ،‬ويثنوا عليه‬
‫بذلك‪ ،‬وليتوجهوا إليه بما يحب من األعمال واألقوال‪،‬‬
‫ويشكروه على إنعامه‪ ،‬ويصبروا على ما ابتالهم به‪،‬‬
‫وليجاهدوا في سبيله‪ ،‬وليتفكروا في عظمته‪ ،‬وما يستحق‬
‫‪7‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫س ْب َع‬ ‫ق َ‬ ‫عليهم من العمل‪ ،‬كما قال عز وجل‪{ :‬هَّللا ُ الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫ض ِم ْثلَ ُهنَّ يَتَنَ َّز ُل اَأْل ْم ُر بَ ْينَ ُهنَّ لِتَ ْعلَ ُموا َأنَّ‬ ‫ت َو ِم َن اَأْل ْر ِ‬ ‫اوا ٍ‬ ‫س َم َ‬ ‫َ‬
‫َي ٍء ِع ْل ًما}‬ ‫َي ٍء قَ ِدي ٌر َوَأنَّ هَّللا َ قَ ْد َأ َحاطَ ِب ُك ِّل ش ْ‬ ‫هَّللا َ َعلَى ُك ِّل ش ْ‬
‫سنَى فَا ْدعُوهُ‬ ‫س َما ُء ا ْل ُح ْ‬ ‫{وهَّلِل ِ اَأْل ْ‬
‫[الطالق‪ ،]١٢ :‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫بِ َها} [األعراف‪ ،]١٨٠ :‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إنَّ فِي َخ ْل ِ‬
‫ق‬
‫ت ُأِلولِي‬ ‫ف اللَّ ْي ِل َوالنَّ َها ِر آَل يَا ٍ‬ ‫اختِاَل ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َواَأْل ْر ِ‬ ‫اوا ِ‬‫س َم َ‬ ‫ال َّ‬
‫ون هَّللا َ قِيَا ًما َوقُ ُعو ًدا َو َعلَى ُجنُوبِ ِه ْم‬ ‫ين يَ ْذ ُك ُر َ‬
‫ب ‪ -‬الَّ ِذ َ‬‫اَأْل ْلبَا ِ‬
‫ض َربَّنَا َما َخلَ ْقتَ َه َذا‬ ‫ت َواَأْل ْر ِ‬ ‫س َما َوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬ ‫ون فِي َخ ْل ِ‬ ‫َويَتَفَ َّك ُر َ‬
‫اب النَّا ِر} [آل عمران‪،]١٩١ - ١٩٠ :‬‬ ‫س ْب َحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ‬ ‫بَا ِطاًل ُ‬
‫فأنت‪ :‬يا عبد هللا‪ ،‬مخلوق في هذه الدار‪ ،‬ال لتبقى فيها‪ ،‬وال‬
‫لتخلد فيها‪ ،‬ولكنك خلقت فيها لتنقل منها بعد العمل‪ ،‬وقد تنقل‬
‫منها قبل العمل‪ ،‬وأنت صغير لم تبلغ‪ ،‬ولم يجب عليك العمل‬
‫لحكمة بالغة‪.‬‬
‫فالمقصود‪ :‬أنها دار ممزوجة بالشر والخير‪ ،‬ممزوجة‬
‫باألخالط من الصلحاء‪ V‬وغيرهم‪ ،‬ممزوجة باألكدار‬
‫واألفراح‪ ،‬والنافع والضار‪ ،‬وفيها الطيب والخبيث‪ V،‬والمرض‬
‫والصحة‪ ،‬والغنى والفقر‪ ،‬والكافر والمؤمن‪ ،‬والعاصي‬
‫والمستقيم‪ ،‬وفيها أنواع من المخلوقات ُخلقت لمصلحة‬

‫‪8‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ق لَ ُك ْم َما ِفي اَأْل ْر ِ‬


‫ض‬ ‫الثقلين‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ { :‬ه َو الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫َج ِمي ًعا} [البقرة‪.]٢٩ :‬‬
‫والمقصود من هذه الخليقة كما تقدم‪ :‬أن يُعظَّ َم هللا‪ ،‬وأن‬
‫يُطاع في هذه الدار‪ ،‬وأن يُعظّم أمرُه ونهيُه‪ ،‬وأن يُعبد وحده‬
‫سبحانه وتعالى بطاعة أوامره‪ ،‬وترك نواهيه‪ ،‬وقصده‬
‫سبحانه في طلب الحاجات‪ ،‬وعند الملمات‪ ،‬ورفع الشكاوى‬
‫إليه‪ ،‬وطلب الغوث منه‪ ،‬واالستعانة به في كل شيء‪ ،‬وفي‬
‫كل أمر من أمور الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫فالمقصود من خلقك وإيجادك يا عبد هللا هو‪ :‬توحيده‬
‫سبحانه‪ ،‬وتعظيم أمره ونهيه‪ ،‬وأن تقصده وحده في حاجاتك‪،‬‬
‫وتستعين به على أمر دينك ودنياك‪ ،‬وتتبع ما جاء به رسله‪،‬‬
‫وتنقاد لذلك طائعا مختارًا‪ُ ،‬محبًّا لما أمر به‪ ،‬كارهًا لما نهى‬
‫عنه‪ ،‬ترجو رحمة ربك‪ ،‬وتخشى عقابه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫والرسل أرسلوا إلى العباد ليُعرِّ فوهم هذا الحق‪ ،‬ويعلّموهم‬
‫ما يجب عليهم‪ ،‬وما يحرم عليهم‪ ،‬حتى ال يقولوا‪ :‬ما جاءنا‬
‫من بشير وال نذير‪ ،‬بل قد جاءتهم الرسل مبشرين ومنذرين‪،‬‬
‫سواًل َأ ِن اُ ْعبُدُوا‬ ‫{ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ‬
‫كما قال سبحانه‪َ :‬‬
‫اجتَنِبُوا الطَّا ُغوتَ } [النحل‪ ،]٣٦ :‬وقال تعالى‪ُ { :‬ر ُ‬
‫ساًل‬ ‫هَّللا َ َو ْ‬
‫س َعلَى هَّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْع َد‬ ‫ون لِلنَّا ِ‬
‫ين لَِئاَّل يَ ُك َ‬ ‫ين َو ُم ْن ِذ ِر َ‬
‫ش ِر َ‬
‫ُمبَ ِّ‬
‫‪9‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫{و َما َأ ْر َ‬
‫س ْلنَا ِمنْ قَ ْبلِكَ‬ ‫س ِل} [النساء‪ ،]١٦٥ :‬وقال تعالى‪َ :‬‬ ‫الر ُ‬
‫ُّ‬
‫وحي ِإلَ ْي ِه َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل َأنَا فَا ْعبُدُو ِن}‬
‫ول ِإاَّل نُ ِ‬
‫س ٍ‬‫ِمنْ َر ُ‬
‫[األنبياء‪.]٢٥ :‬‬
‫فهم قد ُأرسلوا ليوجّهوا الثقلين لما قد ُأرسلوا به‪،‬‬
‫ويرشدوهم إلى أسباب النجاة ولينذروهم أسباب الهالك‪،‬‬
‫وليقيموا عليهم الحجة‪ ،‬ويقطعوا المعذرة‪ ،‬وهللا سبحانه يحب‬
‫أن يُم َدح‪ ،‬ولهذا أثنى على نفسه بما هو أهله‪ ،‬وهو غيور على‬
‫محارمه‪ ،‬ولهذا حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن‪.‬‬
‫فعليك‪ :‬أن تحمده سبحانه‪ ،‬وتثني عليه بما هو أهله‪ ،‬فله‬
‫الحمد في األولى واآلخرة‪.‬‬
‫وعليك أن تثني عليه بأسمائه وصفاته‪ ،‬وأن تشكره على‬
‫إنعامه‪ ،‬وأن تصبر على ما أصابك‪ ،‬مع أخذك باألسباب التي‬
‫شرعها هللا وأباحها لك‪.‬‬
‫وعليك أن تحترم محارمه‪ ،‬وأن تبتعد عنها‪ ،‬وأن تقف عند‬
‫حدوده؛ طاعة له سبحانه‪ ،‬ولما جاءت به الرسل‪.‬‬
‫وعليك‪ :‬أن تتفقه في دينك‪ ،‬وأن تتعلم ما ُخلقت له‪ ،‬وأن‬
‫تصبر على ذلك حتى تؤدي الواجب‪ V‬على علم وعلى بصيرة‪،‬‬
‫قال صلى هللا عليه وسلم‪َ « :‬من يُ ِرد هللا به خي ًرا يفقِّ ْهه في الدين»‬

‫‪10‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫[البخاري (‪ ،)71‬ومسلم (‪ ،])1037‬وقال صلى هللا عليه‬


‫وسلم‪« :‬من سلك طريقًا يلتمس فيه عل ًما‪ ،‬سهل هللا له به طريقًا‬
‫إلى الجنة» [مسلم (‪.])2699‬‬
‫وأعظم األوامر وأهمها‪ :‬توحيده سبحانه‪ ،‬وترك اإلشراك‬
‫به عز وجل‪ ،‬وهذا هو أهم األمور‪ ،‬وهو أصل دين اإلسالم‪،‬‬
‫وهو دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم‪ ،‬وهو توحيد هللا‬
‫وإفراده بالعبادة‪ ،‬دون كل من سواه‪.‬‬
‫هذا هو أصل الدين‪ ،‬وهو دين الرسل جميعًا من أولهم‬
‫نوح‪ ،‬إلى خاتمهم محمد عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ال يقبل هللا‬
‫من أحد دينًا سواه‪ ،‬وهو اإلسالم‪.‬‬
‫وسمي إسال ًما؛ لما فيه من االستسالم هلل‪ ،‬والذل له‪،‬‬
‫والعبودية له‪ ،‬واالنقياد لطاعته‪ :‬وهو توحيده واإلخالص له‪.‬‬
‫مستسل ًما له جل وعال‪ ،‬وقد أسلمت وجهك هلل‪ ،‬وأخلصت‬
‫عملك هلل‪ ،‬ووجهت قلبك إلى هللا في سرك وعالنيتك‪ ،‬وفي‬
‫خوفك وفي رجائك‪ ،‬وفي قولك وفي عملك‪ ،‬وفي كل شأنك‪.‬‬
‫تَعلَم أنه سبحانه هو اإلله الحق‪ ،‬والمستحق ألن يُعبد‬
‫ويُطاع ويُعظّم‪ ،‬ال إله غيره وال رب سواه‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وإنما تختلف الشرائع‪ ،‬كما قال سبحانه‪{ :‬لِ ُك ٍّل َج َع ْلنَا ِم ْن ُك ْم‬
‫اجا} [المائدة‪ ،]٤٨ :‬أما دين هللا فهو واحد‪ ،‬وهو‬ ‫ش ْر َعةً َو ِم ْن َه ً‬ ‫ِ‬
‫دين اإلسالم‪ ،‬وهو‪ :‬إخالص العبادة هلل وحده‪ ،‬وإفراده‬
‫بالعبادة‪ :‬من دعاء‪ ،‬وخوف‪ ،‬ورجاء‪ ،‬وتوكل‪ ،‬ورغبة‪،‬‬
‫ورهبة‪ ،‬وصالة‪ ،‬وصوم وغير ذلك‪ ،‬كما قال سبحانه‬
‫ضى َربُّ َك َأاَّل تَ ْعبُدُوا ِإاَّل ِإيَّاهُ} [اإلسراء‪،]٢٣ :‬‬ ‫{وقَ َ‬ ‫وبحمده‪َ :‬‬
‫أي‪ :‬أمر أال تعبدوا إال إياه‪ ،‬وقال سبحانه‪ِ{ :‬إيَّا َك نَ ْعبُ ُد َوِإيَّا َك‬
‫ست َِعينُ } [الفاتحة‪ ،]٥ :‬أخبر عباده بهذا ليقولوه‪ ،‬وليعترفوا‬ ‫نَ ْ‬
‫به‪ ،‬فعلَّمهم كيف يثنون عليه‪ ،‬فقال عز من قائل‪{ :‬ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ‬
‫يم ‪َ -‬مالِ ِك يَ ْو ِم الدِّي ِن} [الفاتحة‪:‬‬ ‫ين ‪ -‬ال َّر ْح َم ِن ال َّر ِح ِ‬ ‫َر ِّب ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫‪ ،]٤ - ٢‬علمهم هذا الثناء العظيم‪ ،‬ثم قال‪ِ{ :‬إيَّا َك نَ ْعبُدُ}‬
‫[الفاتحة‪ ،]٥ :‬و َّجهَهم إلى هذا سبحانه وتعالى‪ ،‬فيثنوا عليه‬
‫بما هو أهله من الحمد واالعتراف بأنه رب العالمين‪،‬‬
‫والمحسن إليهم‪ ،‬ومربيهم بالنعم‪ ،‬وأنه الرحمن‪ ،‬وأنه الرحيم‪،‬‬
‫وأنه مالك يوم الدين‪ ،‬وهذا كله حق لربنا عز وجل‪.‬‬
‫ستَ ِعينُ } [الفاتحة‪ ،]٥ :‬إياك‬ ‫ثم قال‪ِ{ :‬إيَّاكَ نَ ْعبُ ُد َوِإيَّاكَ نَ ْ‬
‫نعبد وحدك‪ ،‬وإياك نستعين وحدك‪ ،‬ال رب وال معين سواك‪،‬‬
‫فجميع ما يقع من العباد هو من هللا‪ ،‬وهو الذي س َّخرهم‪ ،‬وهو‬
‫الذي هيأهم لذلك‪ ،‬وأعانهم على ذلك‪ ،‬وأعطاهم القوة على‬
‫‪12‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫{و َما بِ ُك ْم ِمنْ نِ ْع َم ٍة فَ ِم َن هَّللا ِ}‬


‫ذلك ولهذا يقول جل وعال‪َ :‬‬
‫[النحل‪ ،]٥٣ :‬فهو سبحانه المنعم‪ ،‬وهو المستعان والمعبود‬
‫بالحق جل وعال‪.‬‬
‫فأنت‪ :‬يا عبد هللا‪ ،‬إذا جاءتك نعمة على يد صغير أو‬
‫كبير‪ ،‬أو مملوك أو ملك‪ ،‬أو غيره‪ ،‬فكله من نعم هللا جل‬
‫وعال‪ ،‬وهو الذي ساق ذلك ويسره سبحانه‪ ،‬خلق من جاء بها‬
‫وساقها على يديه‪ ،‬وح ّرك قلبه ليأتيك بها‪ ،‬وأعطاه القوة‬
‫والقلب والعقل‪ ،‬وجعل في قلبه ما جعل حتى أوصلها إليك‪.‬‬
‫فكل النعم من هللا جل وعال مهما كانت الوسائل‪ ،‬وهو‬
‫المعبود بالحق‪ ،‬وهو الخالق للعباد‪ ،‬وهو مربيهم بالنعم‪ ،‬وهو‬
‫الحاكم بينهم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وهو الموصوف بصفات‬
‫الكمال المنزه عن صفات النقص والعيب‪ ،‬واحد في ربوبيته‪،‬‬
‫واحد في ألوهيته‪ ،‬واحد في أسمائه وصفاته‪ ،‬جل وعال‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه له التوحيد من جميع الوجوه‪ ،‬له الوحدانية في خلقه‬
‫العباد‪ ،‬وتدبيره لهم‪ ،‬ورزقه لهم‪ ،‬وتصريفه لشئونهم‪ ،‬ال‬
‫يشاركه في ذلك أحد سبحانه وتعالى‪ ،‬يدبر األمر جل وعال‪،‬‬
‫َي ٍء َوه َُو َعلَى ُك ِّل ش َْي ٍء‬ ‫كما قال جل وعال‪{ :‬هَّللا ُ َخالِ ُ‬
‫ق ُك ِّل ش ْ‬
‫ق ُذو‬ ‫َو ِكي ٌل} [الزمر‪ ،]٦٢ :‬وقال سبحانه‪ِ{ :‬إنَّ هَّللا َ ُه َو ال َّر َّزا ُ‬
‫ا ْلقُ َّو ِة ا ْل َمتِينُ } [الذاريات‪ ،]٥٨ :‬وقال سبحانه‪ِ{ :‬إنَّ َربَّ ُك ُم هَّللا ُ‬
‫‪13‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ست ََوى َعلَى‬ ‫ستَّ ِة َأيَّ ٍام ثُ َّم ا ْ‬


‫ض فِي ِ‬ ‫ت َواَأْل ْر َ‬‫اوا ِ‬‫س َم َ‬ ‫ق ال َّ‬‫الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫يع ِإاَّل ِمنْ بَ ْع ِد ِإ ْذنِ ِه َذلِ ُك ُم هَّللا ُ‬ ‫ش يُ َدبِّ ُر اَأْل ْم َر َما ِمنْ َ‬
‫شفِ ٍ‬ ‫ا ْل َع ْر ِ‬
‫ون ‪ِ -‬إلَ ْي ِه َم ْر ِج ُع ُك ْم َج ِمي ًعا} [يونس‪:‬‬ ‫َربُّ ُك ْم فَا ْعبُدُوهُ َأفَاَل تَ َذ َّك ُر َ‬
‫‪ ]٤ - ٣‬اآلية‪ ،‬فهو المستحق للعبادة؛ لكمال إنعامه‪ ،‬وكمال‬
‫إحسانه‪ ،‬ولكونه الخالق والرزاق‪ ،‬ولكونه مصرف األمور‬
‫ومدبرها‪ ،‬ولكونه الكامل في ذاته وصفاته وأسمائه‪ ،‬فلهذا‬
‫استحق العبادة على جميع العباد واستحق الخضوع عليهم‪،‬‬
‫والعبادة‪ :‬هي الخضوع والذل‪ ،‬وسمي الدين عبادة؛ ألن العبد‬
‫يؤديه بخضوع هلل‪ ،‬وذل بين يديه‪ ،‬ولهذا قيل لإلسالم‪ :‬عبادة‪.‬‬
‫تقول العرب‪ :‬طريق ُم َعبَّد‪ ،‬يعني‪ُ :‬مذلل‪ ،‬قد وطأته‬
‫األقدام‪ ،‬حتى صار لها أثر بيِّن يُعرف‪ ،‬ويقال‪ :‬بعير ُمعبَّد‪ :‬أي‬
‫قد ُشد ورحل عليه‪ ،‬حتى صار له أثر فصار معبدًا‪.‬‬
‫والعبد‪ :‬هو الذليل المنقاد هلل‪ ،‬المعظم لحرماته‪ ،‬وكلما كان‬
‫العبد أكمل معرفة باهلل وأكمل إيمانًا به‪ ،‬صار أكمل عبادة‪.‬‬
‫ولهذا كان الرسل أكمل الناس عبادة؛ ألنهم أكملهم معرفة‬
‫وعل ًما باهلل‪ ،‬وتعظي ًما له من غيرهم‪ ،‬صلوات هللا وسالمه‬
‫عليهم‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ولهذا وصف هللا نبيه محمدًا صلى هللا عليه وسلم‬


‫ان الَّ ِذي‬ ‫س ْب َح َ‬ ‫بالعبودية في أشرف مقاماته‪ ،‬فقال سبحانه‪ُ { :‬‬
‫س َرى بِ َع ْب ِد ِه} [اإلسراء‪ ،]١ :‬وقال تعالى‪{ :‬ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي‬ ‫َأ ْ‬
‫{وَأنَّهُ‬
‫َاب} [الكهف‪ ،]١ :‬وقال تعالى‪َ :‬‬ ‫َأ ْن َز َل َعلَى َع ْب ِد ِه ا ْل ِكت َ‬
‫لَ َّما قَا َم َع ْب ُد هَّللا ِ يَ ْدعُوهُ} [الجن‪ ،]١٩ :‬إلى غير ذلك‪.‬‬
‫فالعبودية مقام عظيم وشريف‪ ،‬ثم زادهم هللا فضاًل من‬
‫عنده سبحانه بالرسالة التي أرسلهم بها‪ ،‬فاجتمع لهم فضالن‪:‬‬
‫فضل الرسالة‪ ،‬وفضل العبودية الخاصة‪.‬‬
‫فأكمل الناس في عبادتهم هلل‪ ،‬وتقواهم له‪ :‬هم الرسل‬
‫واألنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ثم يليهم الصديقون الذين‬
‫كمل تصديقهم هلل ولرسله‪ ،‬واستقاموا على أمره‪ ،‬وصاروا‬
‫خير الناس بعد األنبياء‪ ،‬وعلى رأسهم‪ :‬أبو بكر الصديق‬
‫رضي هللا عنه‪ ،‬فهو رأس الصديقين‪ ،‬وأكملهم صديقية‪،‬‬
‫بفضله وتقواه‪ ،‬وسبقه إلى الخيرات‪ ،‬وقيامه بأمر هللا خير‬
‫قيام‪ ،‬وكونه قرين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وصاحبه‬
‫في الغار‪ ،‬ومساعده بكل ما استطاع من قوة رضي هللا عنه‬
‫وأرضاه‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫فالمقصود‪ :‬أن مقام العبودية‪ ،‬ومقام الرسالة هما أشرف‬


‫المقامات‪ V،‬فإذا ذهبت الرسالة بفضلها‪ ،‬بقي مقام الصديقية‬
‫بالعبادة‪.‬‬
‫فأكمل الناس إيمانًا وصال ًحا وتقوى وهدى‪ :‬هم الرسل‬
‫واألنبياء عليهم الصالة والسالم؛ لكمال علمهم باهلل‪ ،‬وعبادتهم‬
‫له‪ ،‬وذلهم لعظمته جل وعال‪ ،‬ثم يليهم الصديقون‪ ،‬ثم الشهداء‪،‬‬
‫سو َل‬‫ثم الصالحون‪ ،‬كما قال جل وعال‪َ { :‬و َمنْ يُ ِط ِع هَّللا َ َوال َّر ُ‬
‫ين‬
‫صدِّيقِ َ‬‫ين َوال ِّ‬ ‫فَُأولَِئكَ َم َع الَّ ِذ َ‬
‫ين َأ ْن َع َم هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم ِم َن النَّبِيِّ َ‬
‫س َن ُأولَِئكَ َرفِيقًا} [النساء‪.]٦٩ :‬‬ ‫ين َو َح ُ‬ ‫صالِ ِح َ‬ ‫ش َه َدا ِء َوال َّ‬
‫َوال ُّ‬
‫وال بد مع توحيد هللا من تصديق رسله‪ ،‬ولهذا لما بعث هللا‬
‫نبيه محمدًا عليه الصالة والسالم‪ ،‬صار يدعو الناس أواًل إلى‬
‫توحيد هللا‪ ،‬وإلى اإليمان بأنه رسوله عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫فال بد من أمرين‪ :‬توحيد هللا‪ ،‬واإلخالص‪ ،‬وال بد مع ذلك‬
‫من تصديق الرسل عليهم الصالة والسالم‪.‬‬
‫فمن وحَّد هللا‪ ،‬ولم يصدق الرسل فهو كافر‪ ،‬ومن صدقهم‬
‫ولم يوحد هللا فهو كافر‪ ،‬فال بد من األمرين‪ :‬توحيد هللا‪،‬‬
‫وتصديق رسله عليهم الصالة والسالم‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫واالختالف في هذا المقام هو في الشرائع‪ ،‬وأما توحيد هللا‬


‫واإلخالص له‪ ،‬وترك اإلشراك به‪ ،‬وتصديق رسله‪ ،‬فهو أمر‬
‫ال اختالف فيه بين األنبياء‪ ،‬بل ال إسالم وال دين وال هدى‬
‫وال نجاة إال بتوحيد هللا عز وجل‪ ،‬وإفراده بالعبادة‪ ،‬واإليمان‬
‫بما جاء به رسله عليهم الصالة والسالم‪ ،‬جملة وتفصياًل ‪.‬‬
‫فمن و ّحد هللا جل وعال‪ ،‬ولم يصدِّق نوحًا في زمانه‪ ،‬أو‬
‫إبراهيم في زمانه‪ ،‬أو هودًا‪ ،‬أو صالحًا‪ ،‬أو إسماعيل‪ ،‬أو‬
‫إسحاق‪ ،‬أو يعقوب‪ ،‬أو من بعدهم إلى نبينا محمد صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فهو كافر باهلل عز وجل‪ ،‬حتى يصدِّق جميع‬
‫الرسل‪ ،‬مع توحي ِده هلل عز وجل‪.‬‬
‫فاإلسالم في زمن آدم‪ :‬هو توحيد هللا مع اتباع شريعة آدم‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬واإلسالم في زمن نوح‪ :‬هو توحيد هللا‬
‫مع اتباع شريعة نوح عليه الصالة والسالم‪ ،‬واإلسالم في‬
‫زمن هود‪ :‬هو توحيد هللا مع اتباع شريعة هود عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬واإلسالم في زمن صالح‪ :‬هو توحيد هللا مع اتباع‬
‫شريعة صالح عليه الصالة والسالم‪ ،‬حتى جاء نبينا محمد‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فكان اإلسالم في زمانه‪ :‬هو توحيد هللا‬
‫مع اإليمان بما جاء به محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬واتباع‬
‫شريعته‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫فاليهود والنصارى لما لم يصدِّقوا محمدًا عليه الصالة‬


‫ضاّل اًل ‪ ،‬وإن فرضنا أن بعضهم‬ ‫والسالم‪ ،‬صاروا بذلك كفارًا ُ‬
‫وحَّد هللا‪ ،‬فإنهم ضالون كفار بإجماع المسلمين لعدم إيمانهم‬
‫بمحمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فلو قال شخص‪ :‬إني أعبد هللا‬
‫وحده‪ ،‬وأص ّدق محمدًا في كل شيء إال في تحريم الزنا‪ ،‬بأن‬
‫جعله مباحًا‪ ،‬فإنه يكون بهذا كافرًا حالل الدم والمال بإجماع‬
‫المسلمين‪ ،‬وهكذا لو قال‪ :‬إنه يوحِّ د هللا ويعبده وحده دون كل‬
‫من سواه‪ ،‬ويصدق الرسل جميعًا‪ ،‬وعلى رأسهم محمد صلى‬
‫هللا عليه وسلم إال في تحريم اللواط‪ :‬وهو إتيان الذكور‪ ،‬صار‬
‫كافرًا حالل الدم والمال بإجماع المسلمين‪ ،‬بعد إقامة الحجة‬
‫عليه إذا كان مثله يجهل ذلك‪ ،‬ولم ينفعه توحيده وال إيمانه‬
‫وكذب هللا في بعض الشيء‪.‬‬ ‫كذب الرسول‪َّ ،‬‬ ‫ألنه َّ‬
‫وهكذا لو وحَّد هللا‪ ،‬وص ّدق الرسل‪ ،‬ولكن استهزأ‬
‫بالرسول في شيء‪ ،‬أو استنقصه في شيء أو بعض الرسل‪،‬‬
‫صار كافرًا بذلك‪ ،‬كما قال جل وعال‪{ :‬قُ ْل َأبِاهَّلل ِ َوآيَاتِ ِه‬
‫ُئون ‪ -‬اَل تَ ْعتَ ِذ ُروا قَ ْد َكفَ ْرتُ ْم بَ ْع َد ِإي َمانِ ُك ْم}‬ ‫سولِ ِه ُك ْنتُ ْم تَ ْ‬
‫ستَ ْه ِز َ‬ ‫َو َر ُ‬
‫[التوبة‪.]٦٦ - ٦٥ :‬‬
‫فإن كل‬ ‫ثم إن ضد هذا التوحيد هو الشرك باهلل عز وجل‪ّ ،‬‬
‫شيء له ضد‪ ،‬والضد يبين بالضد‪ ،‬قال بعض الشعراء‪:‬‬
‫‪18‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫والضد يظهر حسنه الضد … وبضدها تتميز األشياء‬


‫فالشرك باهلل عز وجل هو ضد التوحيد الذي بعث هللا به‬
‫الرسل عليهم الصالة والسالم‪ ،‬فالمشرك مشرك ألنه أشرك‬
‫مع هللا غيره فيما يتعلق بالعبادة هلل وحده‪ ،‬أو فيما يتعلق بملكه‬
‫وتدبيره العباد‪ ،‬أو بعدم تصديقه فيما أخبر أو فيما شرع‪،‬‬
‫فصار بذلك مشركا باهلل‪ ،‬وفيما وقع منه من الشرك‪.‬‬
‫وتوحيد هللا عز وجل الذي هو معنى ال إله إال هللا‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫أنه ال معبود بحق إال هللا‪ ،‬فهي تنفي العبادة عن غير هللا‬
‫بالحق‪ ،‬وتثبتها هلل وحده‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ { :‬ذلِ َك بَِأنَّ هَّللا َ ُه َو‬
‫اط ُل} [لقمان‪ ،]٣٠ :‬وقال‬ ‫ُون ِمنْ دُونِ ِه ا ْلبَ ِ‬ ‫ق َوَأنَّ َما يَ ْدع َـ‬ ‫ا ْل َح ُّ‬
‫تعالى‪{ :‬فَا ْعلَ ْم َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل هَّللا ُ} [محمد‪ ،]١٩ :‬وقال سبحانه‪:‬‬
‫ش ِه َد هَّللا ُ َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل ه َُو َوا ْل َماَل ِئ َكةُ َوُأولُو ا ْل ِع ْل ِم قَاِئ ًما‬ ‫{ َ‬
‫س ِط اَل ِإلَهَ ِإاَّل ُه َو ا ْل َع ِزي ُز ا ْل َح ِكي ُم} [آل عمران‪،]١٨ :‬‬ ‫بِا ْلقِ ْ‬
‫{وقَا َل هَّللا ُ اَل تَتَّ ِخ ُذوا ِإلَ َه ْي ِن ا ْثنَ ْي ِن ِإنَّ َما ُه َو ِإلَهٌ‬
‫وقال سبحانه‪َ :‬‬
‫احدٌ} [النحل‪.]٥١ :‬‬ ‫َو ِ‬
‫فتوحيد هللا‪ :‬هو إفراده بالعبادة عن إيمان‪ ،‬وعن صدق‪،‬‬
‫وعن عمل‪ ،‬ال مجرَّد كالم‪ ،‬ومع اعتقاده بأن عبادة غيره‬
‫باطلة‪ ،‬وأن ُعبَّاد غيره مشركون‪ ،‬ومع البراءة منهم‪ ،‬كما قال‬
‫ين َم َعهُ‬ ‫سنَةٌ فِي ِإ ْب َرا ِهي َم َوالَّ ِذ َ‬ ‫س َوةٌ َح َ‬ ‫عز وجل‪{ :‬قَ ْد َكانَتْ لَ ُك ْم ُأ ْ‬
‫‪19‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ُون ِمنْ دُو ِن هَّللا ِ‬ ‫ِإ ْذ قَالُوا لِقَ ْو ِم ِه ْم ِإنَّا بُ َرآ ُء ِم ْن ُك ْم َو ِم َّما تَ ْعبُد َ‬
‫ضا ُء َأبَ ًدا َحتَّى‬ ‫اوةُ َوا ْلبَ ْغ َ‬
‫َكفَ ْرنَا بِ ُك ْم َوبَ َدا بَ ْينَنَا َوبَ ْينَ ُك ُم ا ْل َع َد َ‬
‫{وِإ ْذ قَا َل‬ ‫تُْؤ ِمنُوا ِباهَّلل ِ َو ْح َدهُ} [الممتحنة‪ ،]٤ :‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫ِإ ْب َرا ِهي ُم َأِلبِي ِه َوقَ ْو ِم ِه ِإنَّنِي بَ َرا ٌء ِم َّما تَ ْعبُد َ‬
‫ُون ‪ِ -‬إاَّل الَّ ِذي‬
‫ين} [الزخرف‪ ،]٢٧ - ٢٦ :‬فتبرأ من‬ ‫سيَ ْه ِد ِ‬‫فَطَ َرنِي فَِإنَّهُ َ‬
‫ُعبّاد غير هللا‪ ،‬ومما يَعبدون‪.‬‬
‫فالمقصود‪ :‬أنه البُد من توحيد هللا‪ ،‬بإفراده بالعبادة‪،‬‬
‫والبراءة من عبادة غيره‪ ،‬وعابدي غيره‪ ،‬والبد من اعتقاد‬
‫وبطالن الشرك‪ ،‬وأن الواجب على جميع العباد من جن‬
‫وإنس‪ :‬أن يَ ُخصُّ وا هللاَ بالعبادة‪ ،‬ويؤدوا حق هذا التوحيد‬
‫بتحكيم شريعة هللا‪ ،‬فإن هللا سبحانه وتعالى هو الحاكم‪ ،‬ومن‬
‫توحيده‪ :‬اإليمان والتصديق بذلك‪ ،‬فهو الحاكم في الدنيا‬
‫بشريعته‪ ،‬وفي اآلخرة بنفسه سبحانه وتعالى‪ ،‬كما قال جل‬
‫وعال‪ِ{ :‬إ ِن ا ْل ُح ْك ُم ِإاَّل هَّلِل ِ} [األنعام‪ ،]٥٧ :‬وقال تعالى‪:‬‬
‫{فَا ْل ُح ْك ُم هَّلِل ِ ا ْل َعلِ ِّي ا ْل َكبِي ِر} [غافر‪ ،]١٢ :‬وقال سبحانه‪َ :‬‬
‫{و َما‬
‫َي ٍء فَ ُح ْك ُمهُ ِإلَى هَّللا ِ} [الشورى‪.]١٠ :‬‬
‫اختَلَ ْفتُ ْم فِي ِه ِمنْ ش ْ‬‫ْ‬
‫وصرف بعض العبادة لألولياء‪ ،‬أو األنبياء‪ ،‬أو الشمس‬
‫والقمر‪ ،‬أو الجن‪ ،‬أو المالئكة‪ ،‬أو األصنام‪ ،‬أو األشجار أو‬
‫غير ذلك‪ ،‬كل هذا ناقض لتوحيد هللا‪ ،‬ومبطل له‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫أن هللا سبحانه بعث نبيه محمدًا صلى هللا عليه‬ ‫وإذا ُعلِم ّ‬
‫وسلم‪ ،‬واألنبياء قبله إلى أمم يعبدون غير هللا‪ ،‬منهم من يعبد‬
‫األنبياء والصالحين‪ V،‬ومنهم من يعبد األشجار واألحجار‪V،‬‬
‫ومنهم من يعبد األصنام المنحوتة‪ ،‬ومنهم من يعبد الكواكب‬
‫إلى غير ذلك‪ ،‬فقد دعوهم كلهم إلى توحيد هللا‪ ،‬واإليمان به‬
‫سبحانه‪ ،‬وأن يقولوا‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬وأن يبرؤوا مما يخالفها‪V،‬‬
‫وأن يبرؤوا من عابدي غير هللا‪ ،‬ومن معبوداتهم‪َّ ،‬‬
‫وأن َمن‬
‫ص َرف بعض العبادة لغيره فما و َّح َده‪ ،‬كما قال هللا سبحانه‪:‬‬ ‫َ‬
‫اجتَنِبُوا‬ ‫{ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا ِفي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ‬
‫سواًل َأ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ْ‬ ‫َ‬
‫الطَّا ُغوتَ } [النحل‪.]٣٦ :‬‬
‫أن ما يُصنع حول القبور المعبودة من دون‬ ‫وبهذا تَعلَم ّ‬
‫هللا‪ ،‬مثل قبر البدوي‪ ،‬والحسين بمصر‪ ،‬وأشباه ذلك‪ ،‬وما يقع‬
‫من بعض ال ُجهّال من ال ُحجّاج‪ V‬وغيرهم‪ ،‬عند قبر النبي صلى‬
‫طلَب ال َم َدد والنَّصْ ر على األعداء‪،‬‬ ‫هللا عليه وسلم ِمن َ‬
‫أن هذه عبادةٌ لغير‬ ‫واالستغاثة به والشكوى إليه ونحو ذلك ‪ّ -‬‬
‫هللا عز وجل‪ ،‬وأن هذا شرك الجاهلية األولى‪ ،‬وهكذا ما قد‬
‫أن بعض األولياء‬ ‫يَقع ِمن بعض الصوفية من اعتمادهم َّ‬
‫ك‬‫يتص ّرف في الكون‪ ،‬ويدبِّر هذا العالم ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬شر ٌ‬
‫أكبر في الربوبية‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫أن بعض المخلوقات‬ ‫وهكذا ما يقع من اعتقاد بعض الناس ّ‬


‫له صلة بالرب عز وجل‪ ،‬وأنه يستغني بذلك من متابعة‬
‫الرسول محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أو أنه يعلم الغيب‪ ،‬أو‬
‫أنه يتصرف في الكائنات‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬فإنه كف ٌر باهلل أكبر‪،‬‬
‫ُخرج صاحبَه ِمن الملة اإلسالمية إن كان‬ ‫ك ظاهر‪ ،‬ي ِ‬ ‫وشر ٌ‬
‫ينتسب إليها‪.‬‬
‫فال توحيد‪ ،‬وال إسالم‪ ،‬وال إيمان‪ ،‬وال نجاة‪ ،‬إال بإفراد هللا‬
‫بالعبادة‪ ،‬واإليمان بأنه مالك الملك‪ ،‬ومدبِّر األمور‪ ،‬وأنه‬
‫كامل في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله‪ ،‬ال شريك له‪ ،‬وال‬
‫شبيه له‪ ،‬وال يقاس بخلقه عز وجل‪ ،‬فله الكمال المطلق في‬
‫ذاته وصفاته وأفعاله‪ ،‬وهو مدبِّر الملك ج َّل وعال‪ ،‬ال شريك‬
‫له‪ ،‬وال معقب لحكمه‪.‬‬
‫هذا هو توحيد هللا‪ ،‬وهذا هو إفراده بالعبادة‪ ،‬وهذا هو دين‬
‫الرسل كلهم‪ ،‬وهذا معنى قوله تعالى‪ِ{ :‬إيَّا َك نَ ْعبُ ُد َوِإيَّاكَ‬
‫ست َِعينُ } [الفاتحة‪ ،]٥ :‬يعني‪ :‬إياك نوحِّ د ونُطيع‪ ،‬ونرجو‬ ‫نَ ْ‬
‫ونخاف‪ ،‬كما قال ابن عباس رضي هللا عنهما‪ :‬نعبدك وحدك‬
‫ونرجوك ونخافك‪.‬‬
‫وإياك نستعين على طاعتك‪ ،‬وفي جميع أمورنا‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫فالعبادة‪ :‬هي توحيد هللا عز وجل واإلخالص له في طاعة‬


‫أوامره‪ ،‬وترك نواهيه سبحانه وتعالى‪ ،‬مع اإليمان الكامل‬
‫بأنه مستحق للعبادة‪ ،‬وأنه رب العالمين المدبر للعبادة‪،‬‬
‫والمالك لكل شيء‪ ،‬والخالق لكل شيء‪ ،‬وأنه الكامل في ذاته‪،‬‬
‫وأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬وال نقص فيه‪ ،‬وال عيب فيه‪ ،‬وال‬
‫مشارك له في شيء من ذلك‪ ،‬سبحانه وتعالى‪ ،‬بل له الكمال‬
‫المطلق في كل شيء جل وعال‪.‬‬
‫ومن هذا نعلم‪ :‬أنه ال بد من تصديق الرسل جميعًا فيما‬
‫جاءوا به‪ ،‬وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫وأنه متى َأخلَص العب ُد العبادةَ هلل وحده‪ ،‬وص ّدق رسلَه عليهم‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬وال سيما محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وانقاد‬
‫لشرعه واستقام عليه‪ ،‬إال في واحد أو من أكثر من نواقض‬
‫اإلسالم فإنه تبطل عبادته‪ ،‬وال ينفعه ما معه من أعمال‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫فلو أنه ص َّدق محمدًا في كل شيء‪ ،‬وانقاد لشريعته في كل‬
‫شيء‪ ،‬لكن قال مع ذلك‪ :‬مسيلمة رسول مع محمد‬
‫‪-‬أعني‪ :‬مسيلمة الكذاب الذي خرج في اليمامة وقاتله‬
‫الصحابة في عهد الصديق رضي هللا عنه‪ -‬بَطَلَت هذه‬
‫العقيدة‪ ،‬وبطلت أعماله‪ ،‬ولم ينفعه صيام النهار‪ V،‬وال قيام‬
‫‪23‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫الليل‪ ،‬وال غير ذلك من عمله؛ ألنه أتى بناقض من نواقض‬


‫ألن ذلك يتض ّمن‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وهو تصديقه لمسيلمة الكذاب؛ ّ‬
‫ان ُم َح َّم ٌد َأبَا َأ َح ٍد‬
‫تكذيب هللا سبحانه في قوله عز وجل‪َ { :‬ما َك َ‬
‫ين} [األحزاب‪:‬‬ ‫سو َل هَّللا ِ َو َخاتَ َم النَّبِيِّ َ‬
‫ِمنْ ِر َجالِ ُك ْم َولَ ِكنْ َر ُ‬
‫‪ ،]٤٠‬كما تضمن تكذيب الرسول صلى هللا عليه وسلم في‬
‫قوله صلى هللا عليه وسلم في األحاديث المتواترة عنه عليه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬بأنه خاتم األنبياء وال نبي بعده‪.‬‬
‫وهكذا من صام النهار‪ ،‬وقام الليل‪ ،‬وتَعبَّد وأفرد هللا‬
‫بالعبادة‪ ،‬واتَّبَع الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ثم بعد ذلك في‬
‫بعض العباد ِة لغير هللا‪ ،‬كأن‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ص َر َ‬ ‫أي وقت من األوقات َ‬
‫يجعل بعض العبادة للنبي‪ ،‬أو للولي الفالني‪ ،‬أو للصنم‬
‫الفالني‪ ،‬أو للشمس‪ ،‬أو للقمر‪ ،‬أو للكوكب الفالني‪ ،‬أو نحو‬
‫ذلك‪ ،‬يدعوه ويطلب منه النصر‪ ،‬ويستمد العون منه‪ ،‬بطلت‬
‫أعماله التي سبقت كلُّها‪ ،‬حتى يعو َد إلى التوبة إلى هللا عز‬
‫وجل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ولَ ْو َأ ْ‬
‫ش َر ُكوا لَ َحبِطَ َع ْن ُه ْم َما َكانُوا‬
‫ون} [األنعام‪ ،]٨٨ :‬وقال سبحانه‪َ { :‬ولَقَ ْد ُأو ِح َي ِإلَ ْيكَ‬ ‫يَ ْع َملُ َ‬
‫ين ِمنْ قَ ْبلِكَ لَِئنْ َأش َْر ْكتَ لَيَ ْحبَطَنَّ َع َملُكَ َولَتَ ُكونَنَّ ِم َن‬
‫َوِإلَى الَّ ِذ َ‬
‫ين} [الزمر‪.]٦٥ :‬‬ ‫اس ِر َ‬ ‫ا ْل َخ ِ‬

‫‪24‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وهكذا لو آمن باهلل في كل شيء‪ ،‬وص َّدق هللاَ في كل‬


‫شيء‪ ،‬إال في الزنا‪ ،‬فقال‪ :‬الزنا مباح‪ ،‬أو اللواط مباح‪ ،‬أو‬
‫الخمر مباحة‪ ،‬صار بهذا كافرًا‪ V،‬ولو فعل كل شيء آخر من‬
‫دين هللا‪ ،‬فاستحاللُه لما حرَّم هللا مما هو معلوم من الدين‬
‫بالضرورة‪ ،‬صار باستحالله هذا كافرًا باهلل‪ ،‬مرت ًّدا عن‬
‫اإلسالم‪ ،‬ولم تنفعه أعماله وال توحيده هلل عند جميع المسلمين‪.‬‬
‫إن نوحًا‪ ،‬أو هودًا‪ ،‬أو صال ًحا‪ ،‬أو إبراهيم‪،‬‬ ‫وهكذا لو قال‪ّ :‬‬
‫أو إسماعيل أو غيرهم ليس بنبي‪ ،‬صار كافرًا باهلل‪ ،‬وأعمالُه‬
‫كلُّها باطلة؛ لكونه بذلك قد ك َّذب هللاَ سبحانه فيما أخبر به‬
‫عنهم‪.‬‬
‫وهكذا لو حرم ما أحله هللا‪ ،‬مع التوحيد واإلخالص‬
‫واإليمان بالرسل‪ ،‬فقال مثال‪ :‬أنا ما أحل اإلبل أو البقر أو‬
‫الغنم أو غيرها مما أحله هللا حال مجمعا عليه‪ ،‬وقال‪ :‬إنها‬
‫حرام يكون بهذا كافرا مرتدا عن اإلسالم بعد إقامة الحجة‬
‫عليه‪ ،‬إذا كان مثله قد يجهل ذلك وصادف جنس من أحل ما‬
‫حرم هللا‪.‬‬
‫أو قال‪ :‬ما أحل الحنطة أو الشعير‪ ،‬بل هما حرام‪ ،‬وما‬
‫أشبه ذلك‪ ،‬صار كافرا‪ ،‬أو قال‪ :‬إنه يستبيح البنت أو األخت‪V،‬‬
‫صار بهذا كافرا باهلل‪ ،‬مرتدا عن اإلسالم‪ ،‬ولو صلى وصام‬
‫‪25‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وفعل باقي الطاعات ألن واحدة من هذه الخصال تبطل دينه‪،‬‬


‫كما قال تعالى‪َ { :‬ولَ ْو َأش َْر ُكوا لَ َحبِطَ َع ْن ُه ْم َما َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫ون}‬
‫[األنعام‪.]٨٨ :‬‬
‫ونحن في زمان َغلب فيه الجهل‪ ،‬وقَ َّل فيه العلم‪ ،‬وأقبل‬
‫الناس إال من شاء هللا‪ ،‬على علوم أخرى‪ ،‬وعلى مسائل‬
‫أخرى تتعلق بالدنيا‪ ،‬فقَ َّل علمهم باهلل وبدينه؛ ألنهم ُش ِغلوا بما‬
‫يص ُّدهم عن ذلك‪ ،‬وصارت أغلب الدروس في أشياء تتعلق‬
‫بالدنيا‪ ،‬أما التفقُّه في دين هللا‪ ،‬والتدبُّر لشريعته سبحانه‪،‬‬
‫وتوحيده‪ ،‬فقد أعرض عنه األكثرون‪ ،‬وأصبح من يشتغل به‬
‫اليوم هو أقلُّ القليل‪.‬‬
‫فينبغي لك يا عبد هللا‪ ،‬االنتباه لهذا األمر‪ ،‬واإلقبال على‬
‫كتاب هللا‪ ،‬وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬دراسة وتدبُّرًا‬
‫وتعقُّاًل ‪ ،‬حتى تعرف توحيد هللا واإليمان به‪ ،‬وحتى تعرف ما‬
‫هو الشرك باهلل عز وجل‪ ،‬وحتى تكون بصيرًا بدينك‪ ،‬وحتى‬
‫تعرف ما هو سبب دخول الجنة والنجاة من النار‪ ،‬مع العناية‬
‫بحضور حلقات‪ V‬العلم والمذاكرة مع أهل العلم والدين‪ ،‬حتى‬
‫تستفيد وتفيد‪ ،‬وحتى تكون على بينة وعلى بصيرة في أمرك‪.‬‬
‫والشرك شركان‪ :‬أكبر‪ ،‬وأصغر‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫فالشرك األكبر‪ :‬ينافي توحيد هللا‪ ،‬وينافي اإلسالم‪ ،‬ويُحبِط‬


‫عمل أو قو ٍل دلَّت‬ ‫ٍ‬ ‫األعمال‪ ،‬والمشركون في النار‪ ،‬وكلُّ‬
‫األدلة على أنه كفر باهلل‪ :‬كاالستغاثة باألموات أو األصنام‪ ،‬أو‬
‫اعتقاد ِح ّل ما حرَّم هللا‪ ،‬أو تحريم ما أحله هللا‪ ،‬أو تكذيب‬
‫بعض رسله‪ ،‬فهذه األشياء تحبط األعمال‪ ،‬وتوجب الردة عن‬
‫اإلسالم‪ ،‬كما سبق بيان ذلك‪ ،‬قال تعالى في سورة النساء‪:‬‬
‫ُون َذلِكَ لِ َمنْ يَشَا ُء‬ ‫{ِإنَّ هَّللا َ اَل يَ ْغفِ ُر َأنْ يُش َْر َك بِ ِه َويَ ْغفِ ُر َما د َ‬
‫ش ِركْ بِاهَّلل ِ فَقَ ِد ا ْفت ََرى ِإ ْث ًما َع ِظي ًما} [النساء‪ ،]٤٨ :‬فهنا‬ ‫َو َمنْ يُ ْ‬
‫قد بيَّن هللا أن الشرك ال يغفر‪ ،‬ثم علّق ما دونه على المشيئة‪،‬‬
‫فأ ْم ُره إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬إن شاء غفر له وإن شاء‬
‫عذبه‪ ،‬على قدر المعاصي التي مات عليها‪ ،‬غير تائب‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬
‫بعد أن يطهَر بالنار يخرجه هللا منها إلى الجنة‪ ،‬بإجماع أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬خالفًا للخوارج والمعتزلة‪ ،‬ومن سار على‬
‫نهجهم‪.‬‬
‫أما في آية الزمر‪ ،‬ف َع َّمم وأطلَق‪ ،‬فقال سبحانه‪{ :‬قُ ْل يَا‬
‫س َرفُوا َعلَى َأ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم اَل تَ ْقنَطُوا ِمنْ َر ْح َم ِة هَّللا ِ‬ ‫ين َأ ْ‬‫ي الَّ ِذ َ‬‫ِعبَا ِد َ‬
‫وب َج ِمي ًعا ِإنَّهُ ه َُو ا ْل َغفُو ُر ال َّر ِحي ُم} [الزمر‪:‬‬ ‫الذنُ َ‬‫ِإنَّ هَّللا َ يَ ْغفِ ُر ُّ‬
‫‪ ،]٥٣‬قال العلماء‪ :‬هذه اآلية في التائبين أما آية النساء فهي‬
‫ص ًّرا على بعض‬ ‫في غير التائبين‪ ،‬ممن مات على الشرك ُم ِ‬
‫‪27‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫المعاصي‪ ،‬وهي قوله سبحانه‪ِ{ :‬إنَّ هَّللا َ اَل يَ ْغفِ ُر َأنْ يُ ْ‬


‫ش َر َك بِ ِه‬
‫ُون َذلِكَ لِ َمنْ يَشَا ُء} [النساء‪.]٤٨ :‬‬ ‫َويَ ْغفِ ُر َما د َ‬
‫أما من مات على ما دون الشرك‪ ،‬كالزنا والمعاصي‬
‫األخرى‪ ،‬وهو يؤمن أنها محرمة‪ ،‬ولم يستحلها ولكنه انتقل‬
‫إلى اآلخرة ولم يتب منها‪ ،‬فهذا تحت مشيئة هللا عند أهل‬
‫السنة والجماعة إن شاء هللا غفر له‪ ،‬وأدخله الجنة لتوحيده‬
‫عذبه على قدر المعاصي التي‬ ‫وإسالمه‪ ،‬وإن شاء سبحانه ّ‬
‫مات عليها بالنار من الزنا وشرب الخمر‪ ،‬أو عقوقه لوالديه‪،‬‬
‫أو قطيعة أرحامه‪ ،‬أو غير ذلك من الكبائر‪ ،‬كما سبق إيضاح‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وذهب الخوارج إلى أن صاحب المعصية ُمخلَّد في النار‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬ووافقهم المعتزلة بتخليده في‬ ‫وهو بالمعاصي كاف ٌر أي ً‬
‫النار‪ ،‬ولكن أهل السنة والجماعة خالفوهم في ذلك‪ ،‬ورأوا‪:‬‬
‫ق لوالديه وغيرهم من أهل الكبائر‬ ‫أن الزاني والسارق والعا ّ‬
‫ال يَكفُرون بذلك‪ ،‬وال يُخلّدون في النار‪ ،‬إذا لم يستحلّوا هذه‬
‫المعاصي‪ ،‬بل هم تحت مشيئة هللا كما تقدم‪ ،‬فهذه أمور‬
‫عظيمة ينبغي أن نعرفَها جيدًا‪ ،‬وأن نفه َمها كثيرًا؛ ألنها من‬
‫أصول العقيدة‪ ،‬وأن يعرف المسلم حقيقة دينه‪ ،‬وضده من‬

‫‪28‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫الشرك باهلل تعالى‪ ،‬ويعلم أن باب التوبة من الشرك‬


‫والمعاصي مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها‪.‬‬
‫ولكن المصيبة العظيمة هي الغفلة عن دين هللا‪ ،‬وعدم‬
‫التفقّه فيه‪ ،‬فربما وقع العبد في الشرك والكفر باهلل وهو ال‬
‫يبالي لغلبة الجهل‪ ،‬وقِلّة العلم بما جاء به الرسول صلى هللا‬
‫عليه وسلم من الهدى ودين الحق‪.‬‬
‫فانتبه لنفسك أيها العاقل‪ ،‬وعظّم حرمات ربك‪ ،‬وأخلِص‬
‫هلل العمل‪ ،‬وسارع إلى الخيرات‪ ،‬واعرف دينك بأدلته‪ ،‬وتفقه‬
‫في القرآن والسنة باإلقبال على كتاب هللا‪ ،‬وبحضور حلقات‪V‬‬
‫العلم وصحبة األخيار‪ ،‬حتى تعرف دينك على بصيرة‪.‬‬
‫وأكثر من سؤال ربك الثبات‪ V‬على الهدى والحق‪ ،‬ثم إذا‬
‫وقعت في معصية فبادر بالتوبة‪ ،‬فكل بني آدم خطاء‪ ،‬وخير‬
‫الخطائين التوابون‪ ،‬كما جاء في الحديث الصحيح؛‪ V‬ألن‬
‫المعصية نقص في الدين‪ ،‬وضعف في اإليمان‪.‬‬
‫فالبدار البدار إلى التوبة‪ ،‬واإلقالع والندم‪ ،‬وهللا يتوب‬
‫{وتُوبُوا ِإلَى هَّللا ِ َج ِمي ًعا‬
‫على َمن تاب‪ ،‬وهو القائل سبحانه‪َ :‬‬
‫ون}ـ [النور‪ ،]٣١ :‬وقال عز وجل‪:‬‬ ‫َأ ُّيهَ ا ْل ُمْؤ ِمنُ َ‬
‫ون لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِ ُح َ‬

‫‪29‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وحا} [التحريم‪:‬‬
‫ص ً‬ ‫{يَا َأ ُّي َها الَّ ِذ َ‬
‫ين آ َمنُوا تُوبُوا ِإلَى هَّللا ِ ت َْوبَةً نَ ُ‬
‫‪.]٨‬‬
‫فالتوبة ال بد منها‪ ،‬وهي الزمة للعبد دائ ًما‪ ،‬والرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم يقول‪« :‬التوبة تهدم ما كان قبلها»‪ ،‬فاستقم‬
‫ت منك زلّةٌ فبادر بالتوبة واإلصالح‪ ،‬وكن‬ ‫عليها‪ ،‬فكلما َوقَ َع ْ‬
‫متفقّهًا في دينك‪ ،‬ال تُش َغل بحظك في الدنيا عن حظك من‬
‫اآلخرة‪ ،‬بل اجعل للدنيا وقتًا‪ ،‬وللتعلّم وللتفقه في الدين‬
‫والتبصر والمطالعة والمذاكرة والعناية بكتاب هللا وسنة‬
‫رسوله صلى هللا عليه وسلم وحضور حلقات العلم ومصاحبة‬
‫غالب وقتِك‪ ،‬فهذه األمور هي أه ُّم شأنِك‪ ،‬وسبب‬ ‫َ‬ ‫األخيار ‪-‬‬
‫سعادتك‪.‬‬
‫وهناك نوع آخر وهو‪ :‬الشرك األصغر‪ ،‬مثل‪ :‬الرياء‪V،‬‬
‫والسمعة في بعض العمل أو القول‪ ،‬ومثل أن يقول اإلنسان‪:‬‬
‫ما شاء هللا وشاء وفالن‪ ،‬والحلف بغير هللا‪ ،‬كالحلف باألمانة‬
‫والكعبة والنبي‪ ،‬وأشباه ذلك‪ ،‬فهذه وأشباهُها من الشرك‬
‫األصغر‪ ،‬فال بد من الحذر من ذلك‪« ،‬قال النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم لما قال له رجل‪ :‬ما شاء هللا وشئت‪ :‬أجعلتني هلل نِ ًّدا؟ ما شاء‬
‫هللا وحده» [رواه أحمد (‪ ،])1839‬وقال النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪« :‬ال تقولوا‪ :‬ما شاء هللا وشاء فالن‪ ،‬ولكن قولوا‪ :‬ما شاء‬
‫‪30‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫هللا ثم شاء فالن» [رواه أبو داود (‪ ،)4980‬وأحمد (‬


‫‪ ،])23264‬وقال صلى هللا عليه وسلم‪« :‬من كان حالفًا فليحلف‬
‫باهلل أو ليصمت» [البخاري (‪ ،)2679‬ومسلم (‪،])1646‬‬
‫وقال‪« :‬ال تَحلِفوا بآبائكم وال بأمهاتكم وال باألنداد وال تحلفوا باهلل‬
‫إال وأنتم صادقون» [رواه أبو داود (‪ ،)3248‬والنسائي (‬
‫‪ ،])3769‬وقال صلى هللا عليه وسلم‪« :‬من حلف بغير هللا فقد‬
‫أشرك» [رواه الترمذي (‪ ،)1535‬وأبو داود (‪ ،])3251‬إلى‬
‫غير هذا من األحاديث الصحيحة الواردة في هذا المعنى‪،‬‬
‫ومن ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم‪« :‬أخوف ما أخاف عليكم‬
‫الشرك األصغر‪ ،‬فسئل عنه‪ ،‬فقال‪ " :‬الرياء» [رواه أحمد (‬
‫‪.])23630‬‬
‫وقد يكون الريا ُء كفرًا أكبر إذا دخل صاحبُه في الدين‬
‫ريا ًء ونفاقًا‪ ،‬وأظهر اإلسالم ال عن إيمان وال عن محبة‪ ،‬فإنه‬
‫يصير بهذا منافقًا كافرًا كفرًا أكبر‪.‬‬
‫المحلوف به ِمثل تعظيم‬
‫َ‬ ‫وكذلك إذا حلف بغير هللا‪ ،‬وعظَّم‬
‫هللا‪ ،‬أو اعتقد أنه يعلم الغيب‪ V،‬أو يصلح أن يُعبد مع هللا‬
‫سبحانه‪ ،‬صار بذلك مشر ًكا شر ًكا أكبر‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫أما إذا جرى على اللسان الحلف بغير هللا كالكعبة والنبي‬
‫وغيرهما‪ ،‬بدون هذا االعتقاد فإنه يكون مشر ًكا شر ًكا أصغر‬
‫فقط‪.‬‬
‫وأسأل هللا عز وجل أن يمن َحنا وإياكم الفقهَ في دينه‬
‫والثبات عليه‪ ،‬وأن يرزقَنا وإياكم االستقامة عليه‪ ،‬وأن يعي َذنا‬
‫َ‬
‫وإياكم من شرور أنفسنا‪ ،‬وسيئات أعمالنا‪ ،‬ومن مضالت‬
‫الفتن‪ ،‬إنه تعالى جواد كريم‪.‬‬
‫وصلى هللا وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد‪،‬‬
‫وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫‌‬
‫[توحيد المرسلين وما يضاده من الكفر والشرك]‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والعاقبة للمتقين‪ ،‬والصالة‬


‫والسالم على سيد األولين واآلخرين‪ ،‬وعلى جميع األنبياء‬
‫والمرسلين‪ ،‬وآل ُكلٍّ وسائر الصالحين‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فل ّما كان توحيد هللا عز وجل واإليمان به وبرسله عليهم‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬أهم الواجبات وأعظم الفرائض‪ ،‬والعلم‬
‫بذلك أشرف العلوم وأفضلها‪ ،‬ولما كانت الحاجة إلى هذا‬
‫األصل األصيل داعية إلى بيانه بالتفصيل رأيت إيضاح ذلك‬
‫في هذه الكلمة الموجزة لشدة الحاجة إلى ذلك‪ ،‬وألن هذا‬
‫الموضوع العظيم جدير بالعناية‪ ،‬وأسأل هللا عز وجل أن‬
‫يوفقنا جميعًا إلصابة الحق في القول والعمل‪ ،‬وأن يعيذنا‬
‫جميعًا من الخطأ والزلل‪.‬‬
‫فأقول ومن هللا سبحانه وتعالى أستمد العون والتوفيق‪:‬‬
‫ال ريب أن التوحيد هو أهم الواجبات‪ ،‬وهو أول فريضة‪،‬‬
‫وهو أول دعوة الرسل عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وهو زبدة هذه‬
‫الدعوة‪ ،‬كما بين ذلك ربنا عز وجل في كتابه المبين‪ ،‬وهو‬

‫‪33‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫أصدق القائلين‪ ،‬حيث يقول سبحانه عن جميع المرسلين‪:‬‬


‫اجتَنِبُوا‬ ‫{ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ‬
‫سواًل َأ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ْ‬ ‫َ‬
‫الطَّا ُغوتَ } [النحل‪.]٣٦ :‬‬
‫أوضح جل وعال أنه بعث في جميع األمم في ك ِّل أمة‬
‫رسواًل يقول لهم‪ :‬اعبدوا هللا‪ ،‬واجتنبوا الطاغوت‪ ،‬هذه دعوة‬
‫الرسل كل واحد يقول لقومه وأمته‪ :‬اعبدوا هللا واجتنبوا‬
‫الطاغوت‪.‬‬
‫المعنى‪ :‬وحَّدوا هللا‪ ،‬ألن الخصومة بين الرسل واألمم في‬
‫بأن هللاَ ربُّها وخالقُها ورازقُها‪،‬‬
‫توحيد العبادة‪ ،‬وإال فاألمم تُقِرُّ َّ‬
‫وتعرف كثي ًرا من أسمائه وصفاته‪ ،‬ولكن النزاع والخصومة‬
‫من عهد نوح إلى يومنا هذا في توحيد هللا بالعبادة‪ ،‬فالرسل‬
‫تقول للناس‪ :‬أخلصوا‪ V‬العبادة له‪ ،‬و ّحدوه بها‪ ،‬واتركوا عبادة‬
‫ما سواه‪ ،‬وأعداؤهم وخصومهم يقولون‪ :‬ال‪ ،‬بل نَعب ُده ونعب ُد‬
‫غيره‪ ،‬ما نَ ُخصُّ ه بالعبادة‪.‬‬
‫َ‬
‫هذا هو محل النزاع بين الرسل واألمم‪.‬‬
‫األمم ال تنكر عبادته بالجملة‪ ،‬بل تعبده‪ ،‬ولكن النزاع هل‬
‫يخص بها أم ال يخص؟‬

‫‪34‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫فالرسل بعثهم هللا لتخصيص الرب بالعبادة‪ ،‬وتوحيده بها‬


‫دون كل ما سواه؛ لكونه عز وجل المالك القادر على كل‬
‫شيء‪ ،‬الخالق‪ ،‬الرزاق للعباد‪ ،‬العليم بأحوالهم‪ ،‬إلى غير ذلك‪.‬‬
‫فلهذا دعت الرسل عليهم الصالة والسالم جميع األمم إلى‬
‫توحيد هللا‪ ،‬وإخالص العبادة له سبحانه َوتَ َعالى‪ ،‬وترك عبادة‬
‫ما سواه‪.‬‬
‫وهذا هو معنى قوله ع َّز وجلَّ‪َ{ :‬أ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ْ‬
‫اجتَنِبُوا‬
‫الطَّا ُغوتَ } [النحل‪.]٣٦ :‬‬
‫قال ابن عباس رضي هللا عنهما في هذا المعنى‪ :‬العبادة‬
‫هي التوحيد‪.‬‬
‫وهكذا قال جميع العلماء‪ :‬إن العبادة هي التوحيد‪ ،‬إذ هو‬
‫المقصود‪ ،‬واألمم الكافرة تعبد هللا وتعبد معه سواه‪ ،‬كما قال‬
‫{وِإ ْذ قَا َل ِإ ْب َرا ِهي ُم َأِلبِي ِه َوقَ ْو ِم ِه ِإنَّنِي بَ َرا ٌء ِم َّما‬
‫جل وعال‪َ :‬‬
‫ين} [الزخرف‪- ٢٦ :‬‬ ‫سيَ ْه ِد ِ‬‫ُون * ِإاَّل الَّ ِذي فَطَ َرنِي فَِإنَّهُ َ‬ ‫تَ ْعبُد َ‬
‫‪ ،]٢٧‬فتب ّرأ من معبوداتهم كلها إال فاطره سبحانه‪ :‬أي خالقه‪.‬‬
‫فعلم أنهم يعبدونه‪ ،‬ويعبدون معه غيره‪.‬‬
‫فلهذا تبرأ الخليل من معبوداتهم سوى خالقه وفاطره عز‬
‫وجل‪ ،‬وهو هللا سبحانه وتعالى‪ .‬وهكذا قوله عز وجل‪:‬‬

‫‪35‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ُون ِمنْ دُو ِن هَّللا ِ َوَأ ْدعُو َربِّي} [مريم‪:‬‬


‫{وَأ ْعتَ ِزلُ ُك ْم َو َما تَ ْدع َـ‬
‫َ‬
‫‪ ،]٤٨‬فعلم أنهم يعبدون هللا‪ ،‬ويعبدون معه غيره‪ .‬واآليات في‬
‫هذا المعنى كثيرة‪ ،‬فعلمنا بذلك أن المقصود من دعوة الرسل‪:‬‬
‫تخصيص هللا بالعبادة‪ ،‬وإفراده بها‪ ،‬ال يُدعى إال هو جل‬
‫وعال‪ ،‬وال يستغاث إال به‪ ،‬وال ينذر إال له‪ ،‬وال يذبح إال له‪،‬‬
‫وال يُصلى إال له‪ ...‬إلى غير ذلك من العبادات‪ ،‬فهو المستحق‬
‫لها جل وعال دون كل ما سواه‪ ،‬وهذا هو معنى ال إله إال هللا‪،‬‬
‫فإن معناها‪ :‬ال معبود حق إال هللا‪.‬‬
‫هذا هو معناها عند أهل العلم؛ ألن اآللهة موجودة بكثرة‬
‫والمشركون من قديم الزمان‪ :‬من عهد نوح يعبدون آلهة من‬
‫دون هللا‪ ،‬منها‪ :‬ود‪ ،‬وسواع‪ ،‬ويغوث‪ ،‬ويعوق‪ ،‬ونسر‪ ،‬وغير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وهكذا العربُ عندها آلهة كثيرة‪ ،‬وهكذا الفرسُ والرو ُم‬
‫وغيرهم‪ ،‬كلهم عندهم آلهة يعبدونها مع هللا‪ ،‬فعلم بذلك أن‬
‫المقصود بقول‪ :‬ال إله إال هللا هو المقصود بدعوة الرسل‪:‬‬
‫وهو أن يُو ّحد هللا‪ ،‬ويخص بالعبادة دون كلِّ ما سواه جل‬
‫وعال‪ ،‬ولهذا يقول سبحانه في كتابه المبين‪َ { :‬ذلِكَ بَِأنَّ هَّللا َ ه َُو‬
‫ق َوَأنَّ َما يَ ْدع َـ‬
‫ُون ِمنْ دُونِ ِه ه َُو ا ْلبَا ِط ُل} [الحج‪،]٦٢ :‬‬ ‫ا ْل َح ُّ‬
‫فاتضح بذلك أن المقصود‪ :‬تخصيصه بالعبادة دون كل ما‬
‫‪36‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫سواه‪ ،‬وأنه سبحانه المعبود الحق جل وعال‪ ،‬وأن ما عبد من‬


‫دونه معبود باطل؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي‬
‫اجتَنِبُوا الطَّا ُغوتَ } [النحل‪:‬‬ ‫ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ‬
‫سواًل َأ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ْ‬
‫‪ ،]٣٦‬أي‪ :‬وحِّ دوا هللا واجتنبوا الطاغوت‪ ،‬أي‪ :‬اتركوا عبادة‬
‫الطاغوت‪ ،‬وابتعدوا عنها‪.‬‬
‫والطاغوت‪ :‬كل ما ُعبد من دون هللا من اإلنس والجن‬
‫والمالئكة‪ ،‬وغير ذلك من الجمادات‪ V،‬ما لم يكن يكره ذلك وال‬
‫يرضى به‪.‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن الطاغوت‪ :‬كل ما عبد من دون هللا من‬
‫الجمادات وغيرها‪ ،‬ممن يرضى بذلك‪ ،‬أما من ال يرضى‬
‫بذلك؛ كالمالئكة‪ ،‬واألنبياء‪ ،‬والصالحين‪ V،‬فالطاغوت‪ :‬هو‬
‫الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم‪ ،‬وزيَّنها للناس‪.‬‬
‫فالرسل واألنبياء والمالئكة‪ ،‬وكل صالح ال يرضى أن‬
‫يُعب َد من دون هللا أبدًا‪ ،‬بل يُنكر ذلك ويحاربه‪ ،‬فليس‬
‫بطاغوت‪ ،‬وإنما الطاغوت‪ :‬كل ما عبد من دون هللا ممن‬
‫يرضى بذلك كفرعون‪ ،‬وإبليس وأشباههما ممن يدعو إلى‬
‫ذلك‪ ،‬أو يرضى به‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وهكذا الجمادات من األشجار واألحجار واألصنام‬


‫المعبودة من دون هللا‪ ،‬كلها تسمى‪ :‬طاغوتًا؛ بسبب عبادتها‬
‫من دون هللا‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى‪َ { :‬و َما َأ ْر َ‬
‫س ْلنَا ِمنْ‬
‫وحي ِإلَ ْي ِه َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل َأنَا فَا ْعبُد ِ‬
‫ُون}‬ ‫ول ِإاَّل نُ ِ‬
‫س ٍ‬‫قَ ْبلِكَ ِمنْ َر ُ‬
‫[األنبياء‪ ،]٢٥ :‬وهذه اآلية مثل اآلية السابقة‪ ،‬يُبين فيها‬
‫سبحانه أن دعوةَ الرسل جميعًا‪ :‬هي الدعوة إلى التوحيد‬
‫وإخالص العبادة هلل وحده جل وعال دون كل ما سواه‪ ،‬ولو‬
‫كان قوله‪" :‬ال إله إال هللا" يكفي مع قطع النظر عن تخصيص‬
‫هللا بالعبادة واإليمان بأنه هو المستحق لها‪ ،‬لما امتنع الناس‬
‫من ذلك‪ ،‬ولكن المشركين عرفوا أن قولها يبطل آلهتهم‪ ،‬وأن‬
‫قولها يقتضي‪ :‬أن هللا هو المعبود الحق‪ ،‬والمختص بذلك جل‬
‫وعال‪.‬‬
‫فلهذا أنكروها وعا َدوها واستكبروا عن االستجابة لها‪،‬‬
‫فاتضح بهذا أن المقصود من ذلك‪ :‬تخصيص هللا بالعبادة‪،‬‬
‫وإفراده بها دون جميع ما عبد من دونه سبحانه وتعالى‪ ،‬من‬
‫أنبياء‪ ،‬أو مالئكة‪ ،‬أو صالحين‪ ،‬أو جن أو غير ذلك؛ ألن هللا‬
‫سبحانه هو المالك الرازق القادر المحيي المميت‪ ،‬الخالق لكل‬
‫شيء‪ ،‬المدبر ألمور العباد‪ ،‬فهو المستحق ألن يعبد َجل‬
‫‪38‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وعال‪ ،‬وهو العليم بأحوالهم سبحانه وتعالى؛ فلذلك بعث‬


‫الرسل لدعوة الخلق إلى توحيده واإلخالص له‪ ،‬ولبيان‬
‫أسمائه وصفاته‪ ،‬وأنه المستحق ألن يعبد ويعظم؛ لكمال‬
‫علمه‪ ،‬وكمال قدرته‪ ،‬وكمال أسمائه وصفاته‪ ،‬وألنه عز وجل‬
‫النافع الضار‪ ،‬العالم بأحوال عباده‪ ،‬السميع لدعائهم‪ ،‬الكفيل‬
‫بمصالحهم جل وعال‪ ،‬فهو المستحق ألن يعبد جل وعال دون‬
‫ما سواه سبحانه وتعالى‪ ،‬وقد أخبر سبحانه عن نوح وهود‬
‫وصالح وشعيب عليهم الصالة والسالم أنهم قالوا لقومهم‪:‬‬
‫{ا ْعبُدُوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِمنْ ِإلَ ٍه َغ ْي ُرهُ} [هود‪ ،]٥٠ :‬فهذا مطابق‬
‫{ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ‬
‫سواًل َأ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ‬ ‫لقوله تعالى‪َ :‬‬
‫اجتَنِبُوا الطَّا ُغوتَ } [النحل‪.]٣٦ :‬‬ ‫َو ْ‬
‫وقد أجاب قوم هود نبيهم عليه الصالة والسالم بقولهم‪:‬‬
‫ان يَ ْعبُ ُد آبَاُؤ نَا فَْأتِنَا بِ َما‬‫{َأ ِجْئتَنَا لِنَ ْعبُ َد هَّللا َ َو ْح َدهُ َونَ َذ َر َما َك َ‬
‫ين} [األعراف‪ .]٧٠ :‬فقد علموا‬ ‫صا ِدقِ َ‬ ‫ت َِع ُدنَا ِإنْ ُك ْنتَ ِم َن ال َّ‬
‫المعنى وعرفوه وهو‪ :‬أن دعوة هود عليه الصالة والسالم‬
‫تقتضي إخالص العبادة هلل وحده‪ ،‬وخلع األوثان المعبودة من‬
‫ان يَ ْعبُ ُد‬ ‫دونه‪ ،‬ولهذا قالوا‪َ{ :‬أ ِجْئتَنَا لِنَ ْعبُ َد هَّللا َ َو ْح َدهُ َونَ َذ َر َما َك َ‬
‫ين} [األعراف‪:‬‬ ‫صا ِدقِ َ‬ ‫آبَاُؤ نَا فَْأتِنَا بِ َما ت َِع ُدنَا ِإنْ ُك ْنتَ ِم َن ال َّ‬

‫‪39‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫‪ ،]٧٠‬فاستمروا على العناد والتكذيب‪ ،‬حتى نزل بهم العذاب‪،‬‬


‫نسأل هللا العافية‪.‬‬
‫وهللا سبحانه أنزل الكتب وأرسل الرسل؛ ليُعبد وحده ال‬
‫شريك له‪ ،‬وليبين حقه لعباده‪ ،‬ويذكر للعباد ما هو موصوف‬
‫به سبحانه من أسمائه الحسنى وصفاته العال؛ ليعرفوه جل‬
‫وعال بأسمائه وصفاته وعظيم إحسانه‪ ،‬وكمال قدرته‪،‬‬
‫وإحاطة علمه جل وعال؛ وما ذاك إال ألن توحيد الربوبية هو‬
‫األساس واألصل لتوحيد اإللهية والعبادة؛ فلهذا بعثت الرسل‬
‫عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وأنزلت الكتب السماوية من هللا عز‬
‫وجل لبيان صفاته وأسمائه‪ ،‬وعظيم إحسانه‪ ،‬وبيان استحقاقه‬
‫أن يعظم ويدعى ويسأل جل وعال‪ ،‬حتى تخضع األمم لعبادته‬
‫وطاعته‪ ،‬وحتى تنيب إليه‪ ،‬وحتى تعبده دون كل ما سواه جل‬
‫وعال‪ ،‬وهذا موجود كثي ًرا في كتاب هللا عز وجل‪ ،‬وقد ذكر‬
‫هللا سبحانه وتعالى ذلك عن كثير من رسله عليهم السالم‪،‬‬
‫ت‬
‫س َما َوا ِ‬ ‫سلُ ُه ْم َأفِي هَّللا ِ شَكٌّ فَا ِط ِر ال َّ‬ ‫فقال سبحانه‪{ :‬قَالَتْ ُر ُ‬
‫{وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبََأ‬ ‫ض} [إبراهيم‪ ،]١٠ :‬وقال جل وعال‪َ :‬‬ ‫َواَأْل ْر ِ‬
‫ان َكبُ َر َعلَ ْي ُك ْم َمقَا ِمي َوت َْذ ِكي ِري‬ ‫وح ِإ ْذ قَا َل لِقَ ْو ِم ِه يَا قَ ْو ِم ِإنْ َك َ‬ ‫نُ ٍ‬
‫ت هَّللا ِ فَ َعلَى هَّللا ِ تَ َو َّك ْلتُ فََأ ْج ِم ُعوا َأ ْم َر ُك ْم َوش َُر َكا َء ُك ْم ثُ َّم اَل‬
‫بِآيَا ِ‬
‫ون * فَِإنْ‬ ‫ضوا ِإلَ َّي َواَل تُ ْن ِظ ُر ِ‬ ‫يَ ُكنْ َأ ْم ُر ُك ْم َعلَ ْي ُك ْم ُغ َّمةً ثُ َّم ا ْق ُ‬
‫‪40‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ي ِإاَّل َعلَى هَّللا ِ َوُأ ِم ْرتُ َأنْ‬ ‫سَأ ْلتُ ُك ْم ِمنْ َأ ْج ٍر ِإنْ َأ ْج ِر َ‬
‫تَ َولَّ ْيتُ ْم فَ َما َ‬
‫ين} [يونس‪ ،]٧٢ - ٧١ :‬فبين عليه الصالة‬ ‫ون ِم َن ا ْل ُم ْ‬
‫سلِ ِم َ‬ ‫َأ ُك َ‬
‫والسالم أنه معتمد على هللا‪ ،‬وأنه متوكل عليه جل وعال‪،‬‬
‫وأنه ال يبالي بتهديدهم وتخويفهم‪ ،‬وأنه ال بد له من تبليغ‬
‫رساالت هللا‪ ،‬فقد بلغ فِعاًل عليه الصالة والسالم‪ ،‬فعرَّفهم‬
‫بقدرة ربه وعظمته‪ ،‬وأنه هو المحيط بالجميع‪ ،‬والقادر على‬
‫إنجائه‪ ،‬وعلى إهالك أعدائه‪ ،‬كما أنه القادر على حفظ رسله‬
‫وأنبيائه‪ ،‬وإحاطتهم بكالءته‪ ،‬وإعانتهم على تنفيذ ما جاءوا به‬
‫من الهدى‪ ،‬وأنزل في هذا سورة تتعلق بنوح عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬حيث قال جل وعال‪ :‬بسم هللا الرحمن الرحيم {ِإنَّا‬
‫وحا ِإلَى قَ ْو ِم ِه َأنْ َأ ْن ِذ ْر قَ ْو َمكَ ِمنْ قَ ْب ِل َأنْ يَْأتِيَ ُه ْم‬ ‫س ْلنَا نُ ً‬ ‫َأ ْر َ‬
‫اب َألِي ٌم * قَا َل يَا قَ ْو ِم ِإنِّي لَ ُك ْم نَ ِذي ٌر ُمبِينٌ * َأ ِن ا ْعبُدُوا هَّللا َ‬ ‫َع َذ ٌ‬
‫َؤخ ْر ُك ْم ِإلَى َأ َج ٍل‬ ‫ون * يَ ْغفِ ْر لَ ُك ْم ِمنْ ُذنُوبِ ُك ْم َويُ ِّ‬ ‫َواتَّقُوهُ َوَأ ِطي ُع ِ‬
‫ون * قَا َل‬ ‫سمًّى ِإنَّ َأ َج َل هَّللا ِ ِإ َذا َجا َء اَل يُ َّ‬
‫َؤخ ُر لَ ْو ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ُم َ‬
‫َر ِّب ِإنِّي َد َع ْوتُ قَ ْو ِمي لَ ْياًل َونَ َها ًرا * فَلَ ْم يَ ِز ْد ُه ْم ُد َعاِئي ِإاَّل‬
‫صابِ َع ُه ْم فِي‬ ‫فِ َرا ًرا * َوِإنِّي ُكلَّ َما َد َع ْوتُ ُه ْم لِتَ ْغفِ َر لَ ُه ْم َج َعلُوا َأ َ‬
‫ستِ ْكبَا ًرا * ثُ َّم‬ ‫ستَ ْكبَ ُروا ا ْ‬ ‫ص ُّروا َوا ْ‬ ‫ستَ ْغش َْوا ثِيَابَ ُه ْم َوَأ َ‬ ‫آ َذانِ ِه ْم َوا ْ‬
‫س َر ْرتُ لَ ُه ْم‬ ‫ِإنِّي َد َع ْوتُ ُه ْم ِج َها ًرا * ثُ َّم ِإنِّي َأ ْعلَ ْنتُ لَ ُه ْم َوَأ ْ‬
‫س ِل‬ ‫ان َغفَّا ًرا * يُ ْر ِ‬ ‫ستَ ْغفِ ُروا َربَّ ُك ْم ِإنَّهُ َك َ‬‫س َرا ًرا * فَقُ ْلتُ ا ْ‬ ‫ِإ ْ‬
‫‪41‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ين َويَ ْج َع ْل لَ ُك ْم‬ ‫س َما َء َعلَ ْي ُك ْم ِمد َْرا ًرا * َويُ ْم ِد ْد ُك ْم ِبَأ ْم َو ٍ‬
‫ال َوبَنِ َ‬ ‫ال َّ‬
‫ون هَّلِل ِ َوقَا ًرا * َوقَ ْد‬ ‫ت َويَ ْج َع ْل لَ ُك ْم َأ ْن َها ًرا * َما لَ ُك ْم اَل ت َْر ُج َ‬ ‫َجنَّا ٍ‬
‫َخلَقَ ُك ْم َأ ْط َوا ًرا} [نوح‪.]١٤ - ١ :‬‬
‫فأوضح سبحانه على لسان نبيه نوح عليه الصالة والسالم‬
‫شيًئا من صفاته عز وجل‪ ،‬وأنه الذي يمدهم بما يمدهم به من‬
‫األرزاق‪ ،‬والخير الكثير‪ ،‬والنعم العظيمة‪ ،‬وأنه المستحق ألن‬
‫يعبد ويطاع‪ ،‬ويعظم جل وعال‪.‬‬
‫وقال عن هود عليه الصالة والسالم‪ ،‬وعن قومه في‬
‫ين * ِإ ْذ قَا َل لَ ُه ْم َأ ُخو ُه ْم‬ ‫سلِ َ‬ ‫سورة الشعراء‪َ { :‬ك َّذبَتْ َعا ٌد ا ْل ُم ْر َ‬
‫سو ٌل َأ ِمينٌ * فَاتَّقُوا هَّللا َ َوَأ ِطي ُعو ِن‬ ‫ون * ِإنِّي لَ ُك ْم َر ُ‬ ‫هُو ٌد َأاَل تَتَّقُ َ‬
‫ي ِإاَّل َعلَى َر ِّب ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫ين‬ ‫سَألُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِمنْ َأ ْج ٍر ِإنْ َأ ْج ِر َ‬ ‫* َو َما َأ ْ‬
‫صانِ َع لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫ون َم َ‬ ‫ون * َوتَتَّ ِخ ُذ َ‬ ‫يع آيَةً تَ ْعبَثُ َ‬‫ون بِ ُك ِّل ِر ٍ‬‫* َأتَ ْبنُ َ‬
‫ين * فَاتَّقُوا هَّللا َ‬ ‫شتُ ْم َجبَّا ِر َ‬ ‫شتُ ْم بَطَ ْ‬‫ُون * َوِإ َذا بَطَ ْ‬‫ت َْخلُد َ‬
‫ون * َأ َم َّد ُك ْم بَِأ ْن َع ٍام‬ ‫ون * َواتَّقُوا الَّ ِذي َأ َم َّد ُك ْم بِ َما تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫َوَأ ِطي ُع ِ‬
‫اب يَ ْو ٍم‬ ‫ت َو ُعيُو ٍـن * ِإنِّي َأ َخافُ َعلَ ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫ين * َو َجنَّا ٍ‬ ‫َوبَنِ َ‬
‫يم} [الشعراء‪.]١٣٥ - ١٢٣ :‬‬ ‫َع ِظ ٍ‬
‫فأوضح هللا جل وعال على لسان نبيهم هود عليه الصالة‬
‫والسالم كثي ًرا من النعم التي أنعم بها عليهم جل وعال‪ ،‬وأنه‬
‫رب الجميع‪ ،‬وأن الواجب عليهم‪ :‬الخضوع له‪ ،‬وطاعة‬
‫‪42‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫رسوله وتصديقه‪ ،‬ولكنهم أبوا واستكبروا فنزل بهم عذاب هللا‬


‫الريح العقيم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫ين *‬ ‫سلِ َ‬ ‫وقال عن صالح عليه السالم‪َ { :‬ك َّذبَتْ ثَ ُمو ُد ا ْل ُم ْر َ‬
‫سو ٌل َأ ِمينٌ *‬ ‫ون * ِإنِّي لَ ُك ْم َر ُ‬ ‫صالِ ٌح َأاَل تَتَّقُ َ‬ ‫ِإ ْذ قَا َل لَ ُه ْم َأ ُخو ُه ْم َ‬
‫ي‬‫سَألُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِمنْ َأ ْج ٍر ِإنْ َأ ْج ِر َ‬ ‫ون * َو َما َأ ْ‬ ‫فَاتَّقُوا هَّللا َ َوَأ ِطي ُع ِ‬
‫ين * فِي‬ ‫ون ِفي َما َها ُهنَا آ ِمنِ َ‬ ‫ين * َأتُ ْت َر ُك َ‬ ‫ِإاَّل َعلَى َر ِّب ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫ضي ٌم * َوتَ ْن ِحتُ َ‬
‫ون‬ ‫وع َونَ ْخ ٍل طَ ْل ُع َها َه ِ‬ ‫ون * َو ُز ُر ٍ‬ ‫ت َو ُعيُ ٍ‬ ‫َجنَّا ٍ‬
‫ين * فَاتَّقُوا هَّللا َ َوَأ ِطي ُعو ِن * َواَل‬ ‫ال بُيُوتًا فَا ِر ِه َ‬ ‫ِم َن ا ْل ِجبَ ِ‬
‫ض َواَل‬ ‫ُون فِي اَأْل ْر ِ‬ ‫سد َ‬ ‫ين يُ ْف ِ‬
‫ين * الَّ ِذ َ‬ ‫س ِرفِ َ‬‫تُ ِطي ُعوا َأ ْم َر ا ْل ُم ْ‬
‫ون} [الشعراء‪ ]١٥٢ - ١٤١ :‬اآليات‪.‬‬ ‫صلِ ُح َ‬‫يُ ْ‬
‫فبيَّن صالح عليه الصالة والسالم ما يتعلق باهلل‪ ،‬وأنه رب‬
‫العالمين‪ ،‬وأنه أعطاهم ما أعطاهم من النعم‪ ،‬فكان الواجب‬
‫عليهم‪ :‬الرجوع إليه‪ ،‬وتصديق رسوله صالح‪ ،‬وطاعته فيما‬
‫جاء به‪ ،‬وأن ال يطيعوا المسرفين المفسدين في األرض‪،‬‬
‫ولكنهم لم يبالوا بهذه النصيحة‪ ،‬ولم يبالوا بهذا التوجيه‪ ،‬بل‬
‫استمروا في عنادهم وضاللهم وكفرهم حتى أهلكهم هللا‬
‫بالصيحة والرجفة‪ ،‬نسأل هللا العافية‪.‬‬
‫ضا عن خليله‪ :‬إبراهيم عليه‬
‫وذكر سبحانه وتعالى أي ً‬
‫الصالة والسالم شيًئا من صفاته عز وجل‪ ،‬وأنه ذكرها لقومه‬
‫‪43‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫لينيبوا إلى هللا‪ ،‬وليعبدوه ويعظموه‪ ،‬حيث قال سبحانه وتعالى‬


‫{وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبََأ ِإ ْب َرا ِهي َم * ِإ ْذ قَا َل َأِلبِي ِه‬
‫في سورة الشعراء‪َ :‬‬
‫ين *‬ ‫صنَا ًما فَنَظَ ُّل لَ َها َعا ِكفِ َ‬ ‫ُون * قَالُوا نَ ْعبُ ُد َأ ْ‬ ‫َوقَ ْو ِم ِه َما تَ ْعبُد َ‬
‫ون}‬ ‫ض ُّر َ‬ ‫ُون * َأ ْو يَ ْنفَ ُعونَ ُك ْم َأ ْو يَ ُ‬ ‫س َم ُعونَ ُك ْم ِإ ْذ تَ ْدع َـ‬
‫قَا َل َه ْل يَ ْ‬
‫[الشعراء‪.]٧٣ - ٦٩ :‬‬
‫ينبغي الوقفة عند هذا‪ ،‬فإن هللا سبحانه بهذا يُبيِّن لهم أن‬
‫هذه األصنام ال تصلح للعبادة؛ ألنها ال تسمع وال تجيب‬
‫الداعي‪ ،‬وال تنفع وال تضر ألنها جماد ال إحساس لها بحاجة‬
‫الداعين وسؤالهم‪ ،‬وما لديهم من ضرورات‪ V،‬فكيف تُدعى من‬
‫س َم ُعونَ ُك ْم ِإ ْذ تَ ْدع َ‬
‫ُون * َأ ْو يَ ْنفَ ُعونَ ُك ْم‬ ‫دون هللا‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬ه ْل يَ ْ‬
‫ون} [الشعراء‪ ،]٧٣ - ٧٢ :‬ماذا أجابوا؟ حاروا‬ ‫ض ُّر َ‬‫َأ ْو يَ ُ‬
‫وحادوا عن الجواب؛‪ V‬ألنهم يعلمون أن هذه اآللهة ليس عندها‬
‫نفع وال ضر‪ ،‬وليست تسمع دعاء الداعين وال تجيبه‪.‬‬
‫ون} [الشعراء‪:‬‬ ‫فلهذا قالوا‪{ :‬بَ ْل َو َج ْدنَا آبَا َءنَا َك َذلِكَ يَ ْف َعلُ َ‬
‫‪ ،]٧٤‬ولم يقولوا‪ :‬إنهم يسمعون أو ينفعون أو يضرون‪ ،‬بل‬
‫حادوا عن الجواب‪ ،‬وأتوا بجواب يدل على الحيرة والشك‪،‬‬
‫بل واالعتراف بأن هذه اآللهة ال تصلح للعبادة‪ ،‬فقالوا‪{ :‬بَ ْل‬
‫ون} [الشعراء‪ ،]٧٤ :‬يعني‪ِ :‬سرْ نا‬ ‫َو َج ْدنَا آبَا َءنَا َك َذلِكَ يَ ْف َعلُ َ‬
‫على طريقتهم وسبيلهم من غير نظر فيما قلت لنا‪ ،‬وهذا‬
‫‪44‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫معنى قوله في اآلية األخرى‪ِ{ :‬إنَّا َو َج ْدنَا آبَا َءنَا َعلَى ُأ َّم ٍة َوِإنَّا‬
‫ُون} [الزخرف‪ ،]٢٣ :‬هذه طريقتهم‬ ‫َعلَى آثَا ِر ِه ْم ُم ْقتَد َ‬
‫الملعونة الخبيثة التي سلكوها واحتجوا بها‪ ،‬وساروا عليها‪،‬‬
‫نسأل هللا السالمة‪.‬‬
‫ثم قال لهم الخليل عليه السالم‪{ :‬قَا َل َأفَ َرَأ ْيتُ ْم َما ُك ْنتُ ْم‬
‫ب‬‫ون * فَِإنَّ ُه ْم َع ُد ٌّو لِي ِإاَّل َر َّ‬ ‫ُون * َأ ْنتُ ْم َوآبَاُؤ ُك ُم اَأْل ْق َد ُم َ‬
‫تَ ْعبُد َ‬
‫ين} [الشعراء‪ ،]٧٧ - ٧٥ :‬مراده بذلك معبوداتهم من‬ ‫ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫ين}‬ ‫ب ا ْل َعالَ ِم َ‬ ‫األصنام‪ ،‬ولهذا قال‪{ :‬فَِإنَّ ُه ْم َعد ٌُّو لِي ِإاَّل َر َّ‬
‫ين} [الشعراء‪]٧٧ :‬‬ ‫ب ا ْل َعالَ ِم َ‬‫[الشعراء‪ ،]٧٧ :‬فقوله‪ِ{ :‬إاَّل َر َّ‬
‫يدلنا على أنه كان عليه الصالة والسالم يعلم أنهم يعبدون هللا‬
‫ب‬‫ويعبدون معه غيره‪ ،‬ولهذا استثنى ربه‪ ،‬فقال‪ِ{ :‬إاَّل َر َّ‬
‫ين} [الشعراء‪ ]٧٧ :‬كما في اآلية األخرى‪ِ{ :‬إاَّل الَّ ِذي‬ ‫ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫فَطَ َرنِي} [الزخرف‪ ]٢٧ :‬فعلم بذلك‪ :‬أن المشركين يعبدون‬
‫هللا‪ ،‬ويعبدون معه‬
‫سواه‪ ،‬ولكن النزاع بينهم وبين الرسل في تخصيص هللا‬
‫بالعبادة‪ ،‬وإفراده بها دون كل ما سواه جل وعال‪.‬‬
‫ثم قال بعد ذلك في بيان صفات‪ V‬الرب‪{ :‬الَّ ِذي َخلَقَنِي فَ ُه َو‬
‫ضتُ فَ ُه َو‬‫سقِي ِن * َوِإ َذا َم ِر ْ‬
‫ين * َوالَّ ِذي ه َُو يُ ْط ِع ُمنِي َويَ ْ‬
‫يَ ْه ِد ِ‬
‫ين * َوالَّ ِذي يُ ِميتُنِي ثُ َّم يُ ْحيِي ِن} [الشعراء‪،]٨١ - ٧٨ :‬‬ ‫شفِ ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫‪45‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫هذه أفعال الرب جل وعال‪ :‬يشفي المرضى‪ ،‬ويميت ويحيي‪،‬‬


‫ويطعم ويسقي‪ ،‬ويهدي من يشاء‪ ،‬وهو الخالق القادر على‬
‫مغفرة الذنوب وستر العيوب‪ ،‬فلهذا استحق العبادة على عباده‬
‫جل وعال‪ ،‬وبطلت عبادة كل ما سواه؛ ألنهم ال يخلقون وال‬
‫يرزقون‪ ،‬وال ينفعون وال يضرون‪ ،‬وال يعلمون المغيبات‪،‬‬
‫وال يستطيعون لداعيهم أن يُقدِّموا شيًئا‪ ،‬نفعًا أو ض ًّرا‪ ،‬كما‬
‫ين تَ ْدع َ‬
‫ُون ِمنْ‬ ‫قال سبحانه‪َ { :‬ذلِ ُك ُم هَّللا ُ َربُّ ُك ْم لَهُ ا ْل ُم ْل ُك َوالَّ ِذ َ‬
‫ون ِمنْ قِ ْط ِمي ٍر * ِإنْ تَ ْدعُو ُه ْم اَل يَ ْ‬
‫س َم ُعوا‬ ‫دُونِ ِه َما يَ ْملِ ُك َ‬
‫ست ََجابُوا لَ ُك ْم َويَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة يَ ْكفُ ُر َ‬
‫ون‬ ‫س ِم ُعوا َما ا ْ‬ ‫ُد َعا َء ُك ْم َولَ ْو َ‬
‫ش ْر ِك ُك ْم} [فاطر‪ ،]١٤ - ١٣ :‬فبين عجزهم‪ ،‬وبين أن‬ ‫بِ ِ‬
‫دعوتهم من دون هللا شرك باهلل عز وجل‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ويَ ْو َم‬
‫ش ْر ِك ُك ْم} [فاطر‪ ،]١٤ :‬فبين سبحانه‪ :‬عجز‬ ‫ون بِ ِ‬ ‫ا ْلقِيَا َم ِة يَ ْكفُ ُر َ‬
‫هذه اآللهة جميعها‪ ،‬وبين أنهم بهذا الدعاء قد أشركوا باهلل عز‬
‫{والَّ ِذي َأ ْط َم ُع َأنْ يَ ْغفِ َر لِي َخ ِطيَئتِي يَ ْو َم‬ ‫وجل‪ ،‬وهنا قال‪َ :‬‬
‫ِّين} [الشعراء‪ ،]٨٢ :‬يعني‪ :‬أطمع أنه سبحانه يغفر لي‬ ‫الد ِ‬
‫خطيئتي يوم الدين‪ ،‬فهو جل وعال ينفع في الدنيا‪ ،‬وينجي في‬
‫اآلخرة‪ ،‬أما هذه األصنام فال تنفع ال في الدنيا وال في اآلخرة‪،‬‬
‫بل تضرُّ ه‪ ،‬ولهذا قال عن خليله إبراهيم‪َ { :‬والَّ ِذي َأ ْط َم ُع َأنْ‬
‫يَ ْغفِ َر لِي َخ ِطيَئتِي يَ ْو َم الدِّي ِن * َر ِّب َه ْب لِي ُح ْك ًما َوَأ ْل ِح ْقنِي‬
‫‪46‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ْق فِي اآْل ِخ ِر َ‬


‫ين *‬ ‫صد ٍ‬
‫ان ِ‬
‫س َ‬‫اج َع ْل لِي لِ َ‬ ‫ين * َو ْ‬ ‫صالِ ِح َ‬‫بِال َّ‬
‫يم} [الشعراء‪.]٨٥ - ٨٢ :‬‬ ‫اج َع ْلنِي ِمنْ َو َرثَ ِة َجنَّ ِة النَّ ِع ِ‬‫َو ْ‬
‫هذا كله يدل على‪ :‬اإليمان باآلخرة‪ ،‬والدعوة إلى ذلك‪،‬‬
‫وتنبيه العباد على أن هناك آخرةً ال بد من المصير إليها‪،‬‬
‫اج َع ْلنِي ِمنْ‬ ‫{و ْ‬ ‫وهناك جزا ًء وحسابًا‪ ،‬ولهذا قال بعده‪َ :‬‬
‫ين}‬‫ضالِّ َ‬‫ان ِم َن ال َّ‬ ‫يم ‪َ -‬وا ْغفِ ْر َأِلبِي ِإنَّهُ َك َ‬ ‫َو َرثَ ِة َجنَّ ِة النَّ ِع ِ‬
‫[الشعراء‪ ،]٨٦ - ٨٥ :‬دعا له بالمغفرة قبل أن يعلم حاله‪،‬‬
‫فلما علم حاله تبرأ منه‪ ،‬كما قال في سورة العنكبوت‪:‬‬
‫{وِإ ْب َرا ِهي َم ِإ ْذ قَا َل لِقَ ْو ِم ِه ا ْعبُدُوا هَّللا َ َواتَّقُوهُ َذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم ِإنْ‬‫َ‬
‫ُون هَّللا ِ َأ ْوثَانًا َوت َْخلُقُ َ‬
‫ون‬ ‫ُون ِمنْ د ِ‬ ‫ون * ِإنَّ َما تَ ْعبُد َ‬ ‫ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون لَ ُك ْم ِر ْزقًا‬ ‫ُون هَّللا ِ اَل يَ ْملِ ُك َ‬
‫ُون ِمنْ د ِ‬ ‫ين تَ ْعبُد َ‬ ‫ِإ ْف ًكا ِإنَّ الَّ ِذ َ‬
‫ون}‬ ‫ش ُك ُروا لَهُ ِإلَ ْي ِه تُ ْر َج ُع َ‬ ‫ق َوا ْعبُدُوهُ َوا ْ‬ ‫فَا ْبتَ ُغوا ِع ْن َد هَّللا ِ ال ِّر ْز َ‬
‫[العنكبوت‪ ،]١٧ - ١٦ :‬فبيَّن عليه الصالة والسالم‪ :‬أن‬
‫العبادة حق هللا‪ ،‬وأنه يجب أن يُتقى ويعب َد سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وأن الذي فعلوه إفك ال أساس له‪ ،‬وأن معبوداتهم ال تملك لهم‬
‫رزقًا أبدًا‪ ،‬كما أنها ال تنفعهم وال تضرهم‪ ،‬فهي أيضًا ال تملك‬
‫لهم رزقًا‪ ،‬بل هللا جل وعال هو الرزاق‪ ،‬ولهذا قال‪{ :‬فَا ْبتَ ُغوا‬
‫ق َوا ْعبُدُوهُ} [العنكبوت‪ ،]١٧ :‬فهو سبحانه‬ ‫ِع ْن َد هَّللا ِ ال ِّر ْز َ‬
‫الذي يعبَد‪ ،‬ويطلب الرزق منه جل وعال‪ ،‬دون كل ما سواه‬
‫‪47‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ون} [العنكبوت‪:‬‬ ‫ش ُك ُروا لَهُ ِإلَ ْي ِه تُ ْر َج ُع َ‬ ‫{وا ْ‬


‫سبحانه وتعالى‪َ :‬‬
‫‪ ،]١٧‬فالمرجع إليه‪ ،‬وهو سبحانه المالك لكل شيء‪ ،‬والقادر‬
‫على كل شيء‪ ،‬والمستحق ألن يشكر لكمال إنعامه وإحسانه‪،‬‬
‫وهو الذي يُطلب منه الرزق جل وعال‪ ،‬ولهذا قال في آيات‬
‫ق ُذو ا ْلقُ َّو ِة ا ْل َمتِينُ } [الذاريات‪:‬‬ ‫أخرى‪ِ{ :‬إنَّ هَّللا َ ه َُو ال َّر َّزا ُ‬
‫ض ِإاَّل َعلَى هَّللا ِ‬‫{و َما ِمنْ َدابَّ ٍة فِي اَأْل ْر ِ‬ ‫‪ ،]٥٨‬وقال عز وجل‪َ :‬‬
‫ب ُمبِي ٍن}‬ ‫ست َْو َد َع َها ُك ٌّل فِي ِكتَا ٍ‬ ‫ستَقَ َّر َها َو ُم ْ‬‫ِر ْزقُ َها َويَ ْعلَ ُم ُم ْ‬
‫[هود‪.]٦ :‬‬
‫واآليات الدالة على أن هللا سبحانه أمر الرسل أن يوجّهوا‬
‫العباد إليه‪ْ ،‬‬
‫وأن يُع ّرفوهم بخالقهم ورازقهم وإلههم سبحانه‬
‫كثيرة جدًا‪ ،‬موجودة في كتاب هللا من تأمل القرآن وجد ذلك‬
‫واضحًا بيّنًا‪ ،‬فالرسل أفصح الناس وأعرف الناس باهلل عليهم‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬وأكملهم نشاطًا في الدعوة إليه‪ ،‬فليس هناك‬
‫من هو أصبر منهم على الدعوة وال أعلم منهم باهلل‪ ،‬وال أحب‬
‫لهداية األمم منهم عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ولهذا بلّغوا‬
‫رساالت هللا أكمل تبليغ وأتمه‪ ،‬وبينوا للناس صفات الخالق‬
‫المعبود وأسماءه سبحانه وأفعاله‪ ،‬وفصلوها كي يعلم العباد‬
‫ربهم‪ ،‬وحتى يعرفوه بأسمائه وصفاته وعظيم حقه على‬
‫عباده‪ ،‬وحتى ينيبوا إليه عن بصيرة وعلم‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ومن هذا ما ذكره هللا عن موسى عليه الصالة والسالم‪،‬‬


‫ين *‬ ‫ت ا ْلقَ ْو َم الظَّالِ ِم َ‬‫سى َأ ِن اْئ ِ‬ ‫{وِإ ْذ نَا َدى َربُّكَ ُمو َ‬ ‫حيث قال‪َ :‬‬
‫ون * قَا َل َر ِّب ِإنِّي َأ َخافُ َأنْ يُ َك ِّذبُو ِن *‬ ‫قَ ْو َم فِ ْر َع ْو َن َأاَل يَتَّقُ َ‬
‫ون *‬ ‫س ْل ِإلَى َها ُر َ‬ ‫سانِي فََأ ْر ِ‬ ‫ص ْد ِري َواَل يَ ْنطَلِ ُ‬
‫ق لِ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ضي ُ‬ ‫َويَ ِ‬
‫ب فََأ َخافُ َأنْ يَ ْقتُلُو ِن * قَا َل كَاَّل فَ ْاذ َهبَا بِآيَاتِنَا ِإنَّا‬ ‫َولَ ُه ْم َعلَ َّي َذ ْن ٌ‬
‫سو ُل َر ِّب‬ ‫ون * فَْأتِيَا فِ ْر َع ْو َن فَقُواَل ِإنَّا َر ُ‬
‫ستَ ِم ُع َ‬ ‫َم َع ُك ْم ُم ْ‬
‫ين} [الشعراء‪.]١٦ - ١٠ :‬‬ ‫ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫أمره أن يُبيّن له‪ :‬أنه رسول رب العالمين؛ لعله يتذ ّكر‬
‫فينيب إلى الحق‪ ،‬لكنه لم يتذكر‪ ،‬بل أعرض عن ذلك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ين * َوفَ َع ْلتَ‬ ‫سن ِ َ‬ ‫{َألَ ْم نُ َربِّكَ ِفينَا َولِي ًدا َولَبِ ْثتَ فِينَا ِمنْ ُع ُم ِركَ ِ‬
‫ين * قَا َل فَ َع ْلتُ َها ِإ ًذا َوَأنَا‬ ‫فَ ْعلَتَكَ الَّتِي فَ َع ْلتَ َوَأ ْنتَ ِم َن ا ْل َكافِ ِر َ‬
‫ب لِي َربِّي ُح ْك ًما‬ ‫ين * فَفَ َر ْرتُ ِم ْن ُك ْم لَ َّما ِخ ْفتُ ُك ْم فَ َو َه َ‬ ‫ضالِّ َ‬‫ِم َن ال َّ‬
‫ين * َوتِ ْل َك نِ ْع َمةٌ تَ ُمنُّ َها َعلَ َّي َأنْ َعبَّدْتَ‬ ‫سلِ َ‬ ‫َو َج َعلَنِي ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬
‫ين * قَا َل َر ُّب‬ ‫س َراِئي َل * قَا َل فِ ْر َع ْونُ َو َما َر ُّب ا ْل َعالَ ِم َ‬ ‫بَنِي ِإ ْ‬
‫ين * قَا َل لِ َمنْ‬ ‫ض َو َما بَ ْينَ ُه َما ِإنْ ُك ْنتُ ْم ُموقِنِ َ‬ ‫ت َواَأْل ْر ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫س َم َ‬‫ال َّ‬
‫ين * قَا َل‬ ‫ون * قَا َل َربُّ ُك ْم َو َر ُّب آبَاِئ ُك ُم اَأْل َّولِ َ‬ ‫ستَ ِم ُع َ‬ ‫َح ْولَهُ َأاَل تَ ْ‬
‫ق‬
‫ش ِر ِ‬ ‫س َل ِإلَ ْي ُك ْم لَ َم ْجنُونٌ * قَا َل َر ُّب ا ْل َم ْ‬ ‫سولَ ُك ُم الَّ ِذي ُأ ْر ِ‬ ‫ِإنَّ َر ُ‬
‫ون} [الشعراء‪- ١٨ :‬‬ ‫ب َو َما بَ ْينَ ُه َما ِإنْ ُك ْنتُ ْم تَ ْعقِلُ َ‬ ‫َوا ْل َم ْغ ِر ِ‬
‫‪ ،]٢٨‬فانظروا كيف يبين له موسى عليه الصالة والسالم‬
‫‪49‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫صفات الرب عز وجل‪ ،‬وأنه رب العالمين‪ ،‬ورب السماوات‪،‬‬


‫ورب األرض وما بينهما ورب الخالئق كلها‪ ،‬ورب المشرق‬
‫والمغرب‪ ،‬حتى يعلم عدو هللا هذه الصفات لعله يرجع إلى‬
‫الحق والصواب ولكن سبق في علم هللا أنه يستمر على‬
‫طغيانه وضالله‪ ،‬ويموت على كفره وعناده‪ ،‬نسأل هللا‬
‫العافية‪.‬‬
‫وبين هللا سبحانه وتعالى لهارون وموسى أنه معهما يسمع‬
‫ويرى‪ ،‬وأنه حافظهما وناصرهما ومؤيدهما؛ فلهذا أقدما على‬
‫دعوة هذا الجبار العنيد المتكبر المتغطرس الذي قال‪َ{ :‬أنَا‬
‫َر ُّب ُك ُم اَأْل ْعلَى} [النازعات‪ ،]٢٤ :‬فصانهما وحماهما من شره‬
‫وكيده‪.‬‬
‫وال شك أن هذا كله من حفظ هللا وعنايته برسله وأنبيائه‬
‫عليهم الصالة والسالم‪ ،‬رجل متكبِّر طاغية‪َ ،‬ملِك لعين يدعي‬
‫أنه رب العالمين‪ ،‬ومع هذا أقدما على دعوته وبيان حق هللا‬
‫عليه‪ ،‬وأن الواجب عليه‪ :‬أن ينيب إلى هللا‪ ،‬ولكنه أبى‬
‫واستكبر‪ ،‬ثم دعا إلى ما دعا إليه من جمع السحرة والسحر‬
‫إلى غير ذلك‪ ،‬حتى أبطل هللا كيده‪ ،‬وأظهر عجزه‪ ،‬ونصر‬
‫موسى وهارون ‪-‬عليهما الصالة والسالم‪ -‬عليه وعلى‬
‫سحرته‪ ،‬ثم صارت العاقبة ‪-‬لما استمر في الطغيان‪ -‬أن‬
‫‪50‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وخلَّ َ‬
‫ص موسى وهارون‬ ‫أغرقه هللا وجميع جنده في البحر‪َ ،‬‬
‫ومن معهما من بني إسرائيل‪.‬‬
‫هذه من آيات هللا البالغة‪ ،‬في انتقام هللا من أعدائه‪ ،‬ونصره‬
‫ألوليائه‪ ،‬رجالن ليس معهما إال جماعة ُمستَعبَدون لفرعون‬
‫يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم‪ ،‬ويسومهم سوء العذاب‪،‬‬
‫يقدمان على دعوة ملك جبار‪ ،‬وبيان الحق له‪ ،‬وإنكار ما هو‬
‫عليه من الباطل‪ ،‬فيحميهما هللا من ظلمه وبطشه‪ ،‬بل ويثبِّتهما‬
‫ويؤيدهما جل وعال‪ ،‬وينطقه بما يقيم الحجة عليه‪ ،‬ولهذا قال‬
‫سى * قَا َل َربُّنَا الَّ ِذي‬ ‫في اآلية األخرى‪{ :‬فَ َمنْ َربُّ ُك َما يَا ُمو َ‬
‫َي ٍء َخ ْلقَهُ ثُ َّم َه َدى * قَا َل فَ َما بَا ُل ا ْلقُ ُرو ِن اُأْلولَى‬ ‫َأ ْعطَى ُك َّل ش ْ‬
‫سى *‬ ‫ض ُّل َربِّي َواَل يَ ْن َ‬‫ب اَل يَ ِ‬ ‫* قَا َل ِع ْل ُم َها ِع ْن َد َربِّي فِي ِكتَا ٍ‬
‫سبُاًل َوَأ ْن َز َل ِم َن‬‫سلَ َك لَ ُك ْم فِي َها ُ‬‫ض َم ْه ًدا َو َ‬ ‫الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم اَأْل ْر َ‬
‫شتَّى * ُكلُوا‬ ‫ت َ‬ ‫اجا ِمنْ نَبَا ٍ‬ ‫س َما ِء َما ًء فََأ ْخ َر ْجنَا بِ ِه َأ ْز َو ً‬ ‫ال َّ‬
‫ت ُأِلولِي النُّ َهى * ِم ْن َها‬ ‫ار َع ْوا َأ ْن َعا َم ُك ْم ِإنَّ فِي َذلِكَ آَل يَا ٍ‬ ‫َو ْ‬
‫َارةً ُأ ْخ َرى} [طه‪٤٩ :‬‬ ‫َخلَ ْقنَا ُك ْم َوفِي َها نُ ِعي ُد ُك ْم َو ِم ْن َها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ت َ‬
‫‪.]٥٥ -‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن الرسل عليهم الصالة والسالم بيَّنوا الحق‬
‫وأوضحوه‪ ،‬وبيّنوا أسماء الرب وصفاته الدالة على قدرته‬
‫العظيمة واستحقاقه العبادة‪ ،‬وأنه الخالق المالك‪ V‬الرازق‬
‫‪51‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫المحيي المميت المدبر لكل شيء جل وعال‪ ،‬وبيّنوا أيضًا علو‬


‫هللا وفوقيّته على خلقه‪.‬‬
‫ص ْر ًحا لَ َعلِّي‬
‫ولهذا قال فرعون لوزيره هامان‪{ :‬ا ْب ِن لِي َ‬
‫سى}‬ ‫ت فََأطَّلِ َع ِإلَى ِإلَ ِه ُمو َ‬
‫س َما َوا ِ‬
‫اب ال َّ‬ ‫اب * َأ ْ‬
‫سبَ َ‬ ‫َأ ْبلُ ُغ اَأْل ْ‬
‫سب َ َ‬
‫[غافر‪ ،]٣٧ - ٣٦ :‬أخبره‪ :‬أن هللا فوق السماء جل وعال‪.‬‬
‫ولهذا أراد هذا الجبار‪ V‬أن يتطاول بهذا الكالم القبيح‬
‫الساقط الذي ال قيمة له‪.‬‬
‫ومن هذا ما ذكره هللا جل وعال عن عيسى عليه الصالة‬
‫والسالم والحواريين في سورة المائدة‪ ،‬حيث قال سبحانه‪ِ{ :‬إ ْذ‬
‫ست َِطي ُع َربُّ َك َأنْ‬ ‫سى ا ْب َن َم ْريَ َم َه ْل يَ ْ‬ ‫ون يَا ِعي َ‬ ‫قَا َل ا ْل َح َوا ِريُّ َ‬
‫س َما ِء قَا َل اتَّقُوا هَّللا َ ِإنْ ُك ْنتُ ْم ُمْؤ ِمنِ َ‬
‫ين‬ ‫يُنَ ِّز َل َعلَ ْينَا َماِئ َدةً ِم َن ال َّ‬
‫* قَالُوا نُ ِري ُد َأنْ نَْأ ُك َل ِم ْن َها َوتَ ْط َمِئنَّ قُلُوبُنَا َونَ ْعلَ َم َأنْ قَ ْد‬
‫سى ا ْبنُ َم ْريَ َم‬ ‫ين * قَا َل ِعي َ‬ ‫ون َعلَ ْي َها ِم َن الشَّا ِه ِد َ‬ ‫ص َد ْقتَنَا َونَ ُك َ‬ ‫َ‬
‫س َما ِء تَ ُكونُ لَنَا ِعي ًدا َأِل َّولِنَا‬ ‫اللَّ ُه َّم َربَّنَا َأ ْن ِز ْل َعلَ ْينَا َماِئ َدةً ِم َن ال َّ‬
‫ين * قَا َل هَّللا ُ ِإنِّي‬ ‫ار ُز ْقنَا َوَأ ْنتَ َخي ُر ال َّرا ِزقِ َ‬ ‫آخ ِرنَا َوآيَةً ِم ْن َك َو ْ‬ ‫َو ِ‬
‫ُمنَ ِّزلُ َها َعلَ ْي ُك ْم فَ َمنْ يَ ْكفُ ْر بَ ْع ُد ِم ْن ُك ْم فَِإنِّي ُأ َع ِّذبُهُ َع َذابًا اَل ُأ َع ِّذبُهُ‬
‫ين} [المائدة‪.]١١٥ - ١١٢ :‬‬ ‫َأ َح ًدا ِم َن ا ْل َعالَ ِم َ‬

‫‪52‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫بيان شي ٍء من قدرة هللا جل وعال‪ ،‬وأنه سبحانه‬ ‫ففي هذا ُ‬


‫القادر على كل شيء‪ ،‬وأنه سبحانه في العلو؛ ألن اإلنزال‬
‫يكون من األعلى إلى األسفل‪ ،‬فإنزال المائدة وطلب إنزالها‪،‬‬
‫كل ذلك دليل على‪ :‬أن القوم قد عرفوا أن ربهم في العلو‪ ،‬فهم‬
‫أعرف باهلل‪ ،‬وأعلم به من الجهمية وأضرابهم ممن أنكر‬
‫العلو‪ ،‬فالحواريون طلبوا ذلك‪ ،‬وعيسى بيّن لهم ذلك‪ ،‬وهللا‬
‫بيّن ذلك أيضًا‪ V،‬ولهذا قال‪ِ{ :‬إنِّي ُمنَ ِّزلُ َها َعلَ ْي ُك ْم} [المائدة‪:‬‬
‫‪.]١١٥‬‬
‫فدل ذلك على أن ربَّنا جل وعال يطلب من أعلى‪ ،‬وأنه‬
‫في العلو سبحانه وتعالى فوق السماوات‪ V،‬وفوق جميع‬
‫الخالئق‪ ،‬وفوق العرش‪ ،‬قد استوى عليه استوا ًء يليق بجالله‬
‫وعظمته‪ ،‬ال يُشابه خلقه في شيء من صفاته جل وعال‪.‬‬
‫وقد دل على هذا المعنى‪ :‬آيات كثيرات مصرحة بعلو هللا‬
‫سبحانه وتعالى على خلقه‪ ،‬ومن ذلك آيات االستواء السبع‬
‫المعروفة التي فيها قوله سبحانه في سورة األعراف‪ِ{ :‬إنَّ‬
‫ستَّ ِة َأيَّ ٍام ثُ َّم‬
‫ض فِي ِ‬ ‫ت َواَأْل ْر َ‬ ‫س َما َوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬‫َربَّ ُك ُم هَّللا ُ الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫ار يَ ْطلُبُهُ َحثِيثًا‬ ‫شي اللَّ ْي َل النَّ َه َ‬ ‫ش يُ ْغ ِ‬ ‫ست ََوى َعلَى ا ْل َع ْر ِ‬ ‫ا ْ‬
‫ق‬ ‫ت بَِأ ْم ِر ِه َأاَل لَهُ ا ْل َخ ْل ُ‬
‫س َّخ َرا ٍ‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر َوالنُّ ُجو َم ُم َ‬ ‫ش ْم َ‬ ‫َوال َّ‬
‫ين} [األعراف‪ ،]٥٤ :‬وفي هذه‬ ‫َواَأْل ْم ُر تَبَ َ‬
‫ار َك هَّللا ُ َر ُّب ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫‪53‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫اآلية يبين علوه‪ ،‬وأنه الخالق الرزاق‪ ،‬وأنه صاحب الخلق‬


‫واألمر سبحانه وتعالى‪ ،‬وأنه الذي يغشي الليل النهار‪ ،‬وأنه‬
‫خالق الشمس والقمر‪ ،‬وخالق النجوم ليعلم العباد عظيم شأنه‪،‬‬
‫وكمال قدرته‪ ،‬وكمال علمه سبحانه‪ ،‬وأنه العالي فوق جميع‬
‫خلقه‪ ،‬المستحق ألن يعبد سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫سى‬ ‫ومن هذا الباب قول هللا عز وجل‪َ { :‬وِإ ْذ قَا َل هَّللا ُ يَا ِعي َ‬
‫س اتَّ ِخ ُذونِي َوُأ ِّم َي ِإلَ َه ْي ِن ِمنْ دُو ِن‬ ‫ا ْب َن َم ْريَ َم َأَأ ْنتَ قُ ْلتَ لِلنَّا ِ‬
‫ق ِإنْ‬ ‫س لِي بِ َح ٍّ‬ ‫س ْب َحانَكَ َما يَ ُكونُ لِي َأنْ َأقُو َل َما لَ ْي َ‬ ‫هَّللا ِ قَا َل ُ‬
‫سكَ‬‫سي َواَل َأ ْعلَ ُم َما فِي نَ ْف ِ‬ ‫ُك ْنتُ قُ ْلتُهُ فَقَ ْد َعلِ ْمتَهُ تَ ْعلَ ُم َما فِي نَ ْف ِ‬
‫ب * َما قُ ْلتُ لَ ُه ْم ِإال َما َأ َم ْرتَنِي بِ ِه َأ ِن‬ ‫ِإنَّ َك َأ ْنتَ َعاَّل ُم ا ْل ُغيُو ِ‬
‫ش ِهي ًدا َما ُد ْمتُ فِي ِه ْم‬ ‫ا ْعبُدُوا هَّللا َ َربِّي َو َربَّ ُك ْم َو ُك ْنتُ َعلَ ْي ِه ْم َ‬
‫َي ٍء‬ ‫يب َعلَ ْي ِه ْم َوَأ ْنتَ َعلَى ُك ِّل ش ْ‬ ‫فَلَ َّما ت ََوفَّ ْيتَنِي ُك ْنتَ َأ ْنتَ ال َّرقِ َ‬
‫ش ِهي ٌد * ِإنْ تُ َع ِّذ ْب ُه ْم فَِإنَّ ُه ْم ِعبَا ُد َك َوِإنْ تَ ْغفِ ْر لَ ُه ْم فَِإنَّ َك َأ ْنتَ‬
‫َ‬
‫ا ْل َع ِزي ُز ا ْل َح ِكي ُم} [المائدة‪ ،]١١٨ - ١١٦ :‬فانظر كيف بين هذه‬
‫الصفات‪ V‬العظيمة هلل عز وجل‪ ،‬الداعية إلى عبادته وحده‪،‬‬
‫دون كل ما سواه‪ ،‬وأنه عالم الغيوب‪ ،‬وأنه العزيز الحكيم‪،‬‬
‫وأنه الرقيب على عباده‪ ،‬والشهيد عليهم‪ ،‬وأنه يعلم ما في‬
‫نفس نبيِّه عيسى‪ ،‬وعيسى ال يعلم ما في نفسه سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وفي هذا أيضا داللة على إثبات الصفات‪ ،‬وأن األنبياء‬


‫جاءوا بإثبات أسماء هللا وصفاته على الوجه الالئق به‬
‫بأن له ن ْفسًا تليق به‬ ‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وأنه جل وعال يوصف ّ‬
‫عز وجل ال تشابه نفوس المخلوقين كما أنه سبحانه له وجهٌ‬
‫وله ي ٌد وله قد ٌم وله أصابع ال تشابه صفات المخلوقين‪ ،‬جاء‬
‫بعض هذا في الكتاب العزيز‪ ،‬وجاء في السنة المطهرة ذكر‬
‫الوجه واليد والقدم واألصابع‪ ،‬كل ذلك دليل على أنه سبحانه‬
‫موصوف بصفات‪ V‬الكمال‪ ،‬وأنه ال يلزم من ذلك مشابهته‬
‫س ِمي ُع‬ ‫س َك ِم ْثلِ ِه ش ْ‬
‫َي ٌء َو ُه َو ال َّ‬ ‫للخلق‪ ،‬ولهذا قال عز وجل‪{ :‬لَ ْي َ‬
‫صي ُر} [الشورى‪ ]١١ :‬سبحانه وتعالى‪ ،‬فنفى عن نفسه‬ ‫ا ْلبَ ِ‬
‫المماثلة‪ ،‬ثم أثبت لنفسه السمع والبصر‪ ،‬فدل ذلك على أن‬
‫صفاته وأسماءه ال شبيه له فيها‪ ،‬وال مثيل له فيها‪ ،‬بل هو جل‬
‫وعال الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬فهو المستحق‬
‫ألن يعبد ويعظم جل وعال‪.‬‬
‫أما المخلوقون فصفاتهم ضعيفة وناقصة‪ ،‬أما هو جل‬
‫وعال فهو الكامل في كل شيء‪ ،‬فعلمه كامل وصفاته كاملة‬
‫كلُّها‪ ،‬وال شك أن صفات المخلوقين ال تماثل صفاته أبدًا‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬ولهذا قال سبحانه‪{ :‬فَاَل ت ْ‬
‫َض ِربُوا هَّلِل ِ‬
‫ون} [النحل‪ ،]٧٤ :‬وقال‬ ‫اَأْل ْمثَا َل ِإنَّ هَّللا َ يَ ْعلَ ُم َوَأ ْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُم َ‬
‫‪55‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ص َم ُد * لَ ْم يَلِ ْد َولَ ْم يُولَ ْد *‬‫عز وجل‪{ :‬قُ ْل ه َُو هَّللا ُ َأ َح ٌد * هَّللا ُ ال َّ‬
‫َولَ ْم يَ ُكنْ لَهُ ُكفُ ًوا َأ َحدٌ} [اإلخالص‪ ،]٤ - ١ :‬وقال سبحانه‪:‬‬
‫صي ُر} [الشورى‪.]١١ :‬‬ ‫س ِمي ُع ا ْلبَ ِ‬
‫َي ٌء َو ُه َو ال َّ‬ ‫س َك ِم ْثلِ ِه ش ْ‬
‫{لَ ْي َ‬
‫فأهل السنة والجماعة يُثبِتون ما ورد في كتاب هللا وما‬
‫صح عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من أسماء هللا‬
‫وصفاته على الوجه الالئق به جال وعال من غير تحريف وال‬
‫تعطيل وال تكييف وال تمثيل وال زيادة وال نقصان‪ ،‬بل‬
‫يثبتونها كما جاءت‪ ،‬ويمرونها كما جاءت مع اإليمان بأنها‬
‫حق‪ ،‬وأنها ثابتة هلل سبحانه على الوجه الالئق به سبحانه‬
‫س َك ِم ْثلِ ِه‬ ‫وتعالى‪ ،‬ال يشابه فيها خلقه‪ ،‬كما قال عز وجل‪{ :‬لَ ْي َ‬
‫س ِمي ُع ا ْلبَ ِ‬
‫صي ُر} [الشورى‪.]١١ :‬‬ ‫َي ٌء َوه َُو ال َّ‬
‫ش ْ‬
‫وهذه مسائل من مسائل التوحيد‪ ،‬وهي من أهم المسائل‪،‬‬
‫وهللا سبحانه وتعالى بيّن في كتابه العزيز أسماءه وصفاته‪،‬‬
‫وكرر ذلك في مواضع كثيرة حتى يُعرف هللا سبحانه وتعالى‬
‫بعظيم أسمائه‪ ،‬وعظيم صفاته وعظيم أفعاله جل وعال‪،‬‬
‫فأفعاله كلها جميلة‪ ،‬وأسماؤه كلها حسنى‪ ،‬وصفاته كلها ُعلى‪،‬‬
‫وبذلك يعلم العباد ربهم وخالقهم فيعبدونه على بصيرة‪،‬‬
‫وينيبون إليه على علم‪ ،‬وأنه يسمع دعاءهم‪ ،‬ويجيب‬
‫ُمضطرَّهم‪ ،‬وأنه على كل شيء قدير سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ومن هذا ما ذكره هللا جل وعال عن قوم موسى من بني‬


‫إسرائيل لما عبدوا العجل أوضح لهم سبحانه فساد أمرهم‪،‬‬
‫سى ِمنْ‬ ‫{واتَّ َخ َذ قَ ْو ُم ُمو َ‬ ‫وبطالن ما فعلوه‪ ،‬فقال جل وعال‪َ :‬‬
‫س ًدا لَهُ ُخ َوا ٌر َألَ ْم يَ َر ْوا َأنَّهُ اَل يُ َكلِّ ُم ُه ْم‬
‫بَ ْع ِد ِه ِمنْ ُحلِيِّ ِه ْم ِع ْجاًل َج َ‬
‫ين} [األعراف‪:‬‬ ‫سبِياًل اتَّ َخ ُذوهُ َو َكانُوا ظَالِ ِم َ‬ ‫َواَل يَ ْه ِدي ِه ْم َ‬
‫‪ ،]١٤٨‬فبين لنا‪ :‬أن اإلله المستحق للعبادة يجب أن يكون‬
‫متكلِّ ًما‪ ،‬وأن يكون سميعًا بصي ًرا‪ ،‬وأن يكون يهدي السبيل‪،‬‬
‫وأن يكون بيده القدرة على كل شيء‪ ،‬والعلم لكل شيء‪ ،‬أما‬
‫ِعجْ ل جماد يعبد من دون هللا‪ ،‬فهذا من فساد العقول‪ِ :‬عجْ ل ال‬
‫يجيب الداعي‪ ،‬وال يُبيِّن كال ًما‪ ،‬وال يَ ُر ُّد جوابًا‪ ،‬وال ينفع وال‬
‫يضر‪ ،‬فكيف يُعبَد من دون هللا؟!‬
‫وفي اآلية األخيرة يقول جل وعال‪َ{ :‬أفَاَل يَ َر ْو َن َأاَّل يَ ْر ِج ُع‬
‫ض ًّرا َواَل نَ ْف ًعا} [طه‪،]٨٩ :‬‬ ‫ِإلَ ْي ِه ْم قَ ْواًل َواَل يَ ْملِ ُك لَ ُه ْم َ‬
‫أي‪ :‬أنه ال يَرجع لهم قواًل ‪ ،‬ومعنى يَر ِجع‪ :‬يَر ّد‪{ ،‬فإن‬
‫رجعك هللا}‪ :‬ر َّدك هللا‪ ،‬يعني‪ :‬أن هذا العجل ال ير ُّد قواًل لمن‬
‫كلّمه وخاطبه‪ ،‬وال يملك ض ًّرا وال نفعًا‪ ،‬فكيف تُصرف له‬
‫العبادة لو كانت العقول سليمة؟‬
‫وهذا المعنى في كتاب هللا كثير جدًا‪ ،‬يبين هللا سبحانه‬
‫وتعالى لعباده أنه المستحق للعبادة لكماله وقدرته العظيمة‪،‬‬
‫‪57‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وأنه المالك لكل شيء والقادر على كل شيء‪ ،‬الذي يسمع‬


‫دعاء الداعين‪ ،‬ويقدر على قضاء‪ V‬حاجتهم ويجيب مضطرهم‪،‬‬
‫ويملك الضر والنفع‪ ،‬ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‪،‬‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وقد بعث هللا نبيَّنا محمدًا صلى هللا عليه وسلم وهو سيد‬
‫الخلق‪ ،‬وأفضلهم‪ ،‬وإمام المرسلين‪ ،‬بعثه بما بعث به‬
‫المرسلين األولين‪ :‬من توحيد هللا‪ ،‬واإلخالص له‪ ،‬والدعوة‬
‫إلى ذلك‪ ،‬وبيان صفاته وأسمائه‪ ،‬وأنه المستحق ألن يعبد جل‬
‫وعال‪ ،‬فكانت دعوته دعوة كاملة‪ ،‬قال جل وعال‪{ :‬قُ ْل يَا َأيُّ َها‬
‫سو ُل هَّللا ِ ِإلَ ْي ُك ْم َج ِمي ًعا} [األعراف‪،]١٥٨ :‬‬ ‫اس ِإنِّي َر ُ‬ ‫النَّ ُ‬
‫وأنزل عليه كتابًا عظي ًما‪ ،‬وهو أشرف الكتب وأعظمها‬
‫وأنفعها وأعمها‪ ،‬بين فيه أدلة التوحيد‪ ،‬وأنه الرب العظيم‪،‬‬
‫القادر على كل شيء‪ ،‬المالك لكل شيء‪ ،‬النافع الضار‪ V،‬وأمر‬
‫نبيه أن يبلغ الناس ذلك في آيات كثيرات‪ ،‬من تدبر القرآن‬
‫ت‬
‫س َما َوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬ ‫سَأ ْلتَ ُه ْم َمنْ َخلَ َ‬‫{ولَِئنْ َ‬ ‫عرفها‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ :‬‬
‫ض لَيَقُولُنَّ هَّللا ُ} [لقمان‪ ،]٢٥ :‬وقال سبحانه {قُ ْل َمنْ‬ ‫َواَأْل ْر َ‬
‫س ْم َع َواَأل ْب َ‬
‫صا َر‬ ‫ض َأ َّمنْ يَ ْملِ ُك ال َّ‬‫س َما ِء َواَأل ْر ِ‬ ‫يَ ْر ُزقُ ُك ْم ِم َن ال َّ‬
‫ت َويُ ْخ ِر ُج ا ْل َميِّتَ ِم َن ا ْل َح ِّي َو َمنْ‬‫َو َمنْ يُ ْخ ِر ُج ا ْل َح َّي ِم َن ا ْل َميِّ ِ‬
‫ون} [يونس‪،]٣١ :‬‬ ‫ون هَّللا ُ فَقُ ْل َأفَال تَتَّقُ َ‬‫سيَقُولُ َـ‬ ‫يُ َدبِّ ُر اَأل ْم َر فَ َ‬
‫‪58‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫فأمر هللا نبيه صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أن يحتج عليهم بما أقرُّ وا‬
‫به من أفعال الرب وقدرته‪ ،‬وأنه يحيي ويميت‪ ،‬وأنه المدبِّر‬
‫الرزاق على ما جحدوا في توحيد العبادة وأنكروه‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬إذا كنتم ُمقرِّ ين بأن هذا هو ربكم الذي يملك‬
‫الضر والنفع‪ ،‬ويدبر األمور‪ ،‬ويحيي ويميت‪ ،‬ويرزق عباده‪،‬‬
‫فكيف ال تتركون اإلشراك به‪ ،‬وتعبدونه وحده دون ما سواه‬
‫ض َو َمنْ‬‫جل وعال‪ ،‬ومن هذا قوله سبحانه‪{ :‬قُ ْل لِ َم ِن اَأْل ْر ُ‬
‫ون}‬‫ون هَّلِل ِ قُ ْل َأفَاَل تَ َذ َّك ُر َ‬
‫سيَقُولُ َـ‬ ‫فِي َها ِإنْ ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون * َ‬
‫[المؤمنون‪ ]٨٥ - ٨٤ :‬واآليات بعدها‪.‬‬
‫فكل هذا تذكير من هللا لعباده على يد رسوله محمد صلى‬
‫هللا عليه وسلم بعظيم حقه‪ ،‬وبأسمائه وصفاته‪ ،‬وأنه عز وجل‬
‫المستحق ألن يعبد لكمال قدرته‪ ،‬وكمال علمه وكمال‬
‫إحسانه‪ ،‬وأنه النافع الضار‪ V،‬وهو القادر على كل شيء‪،‬‬
‫المتفرد في أفعاله وأسمائه وصفاته عن المشابه والنظير جل‬
‫وعال‪.‬‬
‫ولما بعث هللا نبيَّه محمدًا عليه الصالة والسالم‪ ،‬بدأ دعوته‬
‫بالتوحيد‪ ،‬كالرسل السابقين سواء‪ ،‬فقال لقريش‪« :‬يا قوم‪،‬‬
‫قولوا‪ :‬ال إله إال هللا تفلحوا» [رواه أحمد (‪ ،])166.3‬هكذا‬

‫‪59‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫بدأهم‪ ،‬ما أمرهم بالصالة أو الزكاة أواًل ‪ ،‬أو ترك الخمر أو‬
‫الزنا أو شبه ذلك‪.‬‬
‫ال‪ ،‬بل بدأهم بالتوحيد؛ ألنه األساس‪ ،‬فإذا صلح األساس‬
‫جاء غيره بعد ذلك‪.‬‬
‫فبدأهم باألساس العظيم‪ :‬وهو توحيد هللا واإلخالص له‪،‬‬
‫واإليمان به وبرسله‪.‬‬
‫فأساس الملة وأساس الدين في شريعة كل رسول‪ :‬توحيد‬
‫هللا‪ ،‬واإلخالص له‪ ،‬فتوحيد هللا واإلخالص هو دين جميع‬
‫المسلمين‪ ،‬وهو محل دعوتهم جميعًا‪ ،‬وزبدة رسالتهم عليهم‬
‫الصالة والسالم كما سلف‪ ،‬ولما قال الرسول عليه الصالة‬
‫والسالم لقومه‪« :‬قولوا‪ :‬ال إله إال هللا»‪ ،‬استنكروا ذلك‪،‬‬
‫واستغربوه؛ ألنه خالف ما هم عليه وآباؤهم‪ ،‬فقد ساروا على‬
‫الشرك‪ ،‬وعبادة األوثان من دهر طويل‪ ،‬بعدما غيَّر عليهم‬
‫دينهم عمرو بن لحي الخزاعي الذي كان رئيسًا في مكة‪،‬‬
‫فيقال‪ :‬إنه سافر إلى الشام‪ ،‬ووجد الناس يعبدون األصنام‬
‫هناك فجاء إلى مكة ودعا الناس إلى عبادة األصنام؛ تقليدًا‬
‫للكفار هناك‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه قيل له‪ :‬إيت ج ّدة‪ ،‬تجد فيها أصنا ًما‬
‫مع ّدة‪ ،‬فخذها وال تهب‪ ،‬وادع العرب إلى عبادتها تجب‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫فاستخرجها ونشرها بين العرب فعبدوها وهي‪ :‬ود‪،‬‬


‫وسواع‪ ،‬ويغوث‪ ،‬ويعوق‪ ،‬ونسر‪ ،‬التي كانت معبودة في قوم‬
‫نوح‪ ،‬فاشتهرت بين العرب‪ ،‬و ُعبدت من دون هللا؛ بسبب‬
‫عمرو بن لحي المذكور‪ ،‬ثم أوجدوا أصنا ًما وأوثانًا أخرى‪،‬‬
‫في سائر القبائل يعبدونها مع هللا‪ ،‬يسألونها قضاء الحوائج‪،‬‬
‫ويجعلونها آلهة مع هللا‪ ،‬ويتقربون إليها بأنواع القربات‬
‫كالذبح‪ ،‬والنذر‪ ،‬والدعوات‪ ،‬والتمسح‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ومن ذلك العزى‪ :‬ألهل مكة‪ ،‬ومناة‪ :‬ألهل المدينة ومن‬
‫حولهم‪ ،‬والالت‪ :‬ألهل الطائف ومن حولهم‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من األوثان واألصنام الكثيرة في العرب‪V،‬‬
‫فلما دعاهم هذا النبي الكريم رسولنا عليه الصالة والسالم إلى‬
‫توحيد هللا وترك آلهتهم‪ ،‬أنكروا عليه ذلك‪ ،‬وقالوا‪َ{ :‬أ َج َع َل‬
‫اب} [ص‪.]٥ :‬‬ ‫اح ًدا ِإنَّ َه َذا لَش ْ‬
‫َي ٌء ع َُج ٌ‬ ‫اآْل لِ َهةَ ِإلَ ًها َو ِ‬
‫وقال جل وعال عنهم في سورة الصافات‪ِ{ :‬إنَّ ُه ْم َكانُوا ِإ َذا‬
‫ون َأِئنَّا لَتَا ِر ُكو‬
‫ون * َويَقُولُ َـ‬ ‫قِي َل لَ ُه ْم اَل ِإلَهَ ِإاَّل هَّللا ُ يَ ْ‬
‫ستَ ْكبِ ُر َ‬
‫ون} [الصافات‪.]٣٦ - ٣٥ :‬‬ ‫َاع ٍر َم ْجنُ ٍ‬ ‫آلِ َهتِنَا لِش ِ‬
‫ب عليهم الجه ُل حتى جعلوا‬ ‫فانظر يا أخي‪ ،‬كيف َغلَ َ‬
‫الدعوة إلى توحيد هللا أمرًا عجابًا‪ ،‬واستكبروا عنه‪،‬‬

‫‪61‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫واستغربوه‪ ،‬وعادوا من دعاهم إليه حتى قاتلوه‪ ،‬وانتهى‬


‫األمر أن جُمع رأيُهم على قتله‪ ،‬فأنجاه هللا من مكرهم‪،‬‬
‫وهاجر من بين أظهرهم إلى المدينة عليه الصالة والسالم‪ ،‬ثم‬
‫ضا يوم بدر فلم يفلحوا‪ ،‬وحاولوا ذلك يوم ْأحد‬ ‫حاولوا قتله أي ً‬
‫مكرهم وكي َدهم‪ ،‬ثم حاولوا يوم‬
‫بأشد مما قبل‪ ،‬فكفاه هللا َ‬
‫األحزاب استئصال الدعوة والقضاء على الرسول وأصحابه‪،‬‬
‫فأبطل هللا كيدهم‪ ،‬وفرَّق شملهم‪ ،‬وأنجاه هللا من شرهم‬
‫ومكائدهم‪ ،‬ونَصر دينَه‪ ،‬وأيَّد دعوتَه‪ ،‬وأعانه على جهاد‬
‫أعدائه حتى أق َّر هللا عينَه قبل وفاته عليه الصالة والسالم‬
‫بانتصار دين هللا وظهور الحق‪ ،‬وانتشار التوحيد في‬
‫األرض‪ ،‬والقضاء على األوثان واألصنام‪ ،‬بعدما فتح هللا‬
‫عليه مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان‪ ،‬ودخل‬
‫الناس بعد ذلك في دين هللا أفواجًا؛‪ V‬بسبب فتح هللا عليه مكة‪،‬‬
‫ودخول قريش في اإلسالم‪ ،‬ثم تتابعت العرب في الدخول في‬
‫دين هللا‪ ،‬وقبول ما دعا إليه عليه أفضل الصالة والسالم‪ ،‬من‬
‫توحيد هللا‪ ،‬واإلخالص له جل وعال‪ ،‬والتمسك بشريعته‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫والمقصود‪ :‬أن رسولَنا ونبيَّنا محمدًا عليه الصالة‬


‫والسالم دعا إلى ما دعت إليه الرسل قبله ‪-‬من نوح ومن‬
‫بعده‪ -‬إلى توحيد هللا‪ ،‬واإلخالص له‪ ،‬وترك عبادة ما سواه‪.‬‬
‫هذه أول دعوته‪ ،‬وهذه زبدتها‪ ،‬وهي أهم واجب‪ V،‬وأول‬
‫واجب‪ ،‬وأعظم واجب‪ ،‬وكان بنو آدم على التوحيد من عهد‬
‫آدم إلى عهد نوح عليه السالم عشرة قرون‪ ،‬كما قال ابن‬
‫عباس وجماعة‪ ،‬فلما اختلفوا بسبب الشرك الذي وقع في قوم‬
‫اس ُأ َّمةً‬
‫ان النَّ ُ‬
‫نوح‪ ،‬بعث هللا الرسل‪ ،‬قال هللا عز وجل‪َ { :‬ك َ‬
‫ين} [البقرة‪،]٢١٣ :‬‬ ‫ين َو ُم ْن ِذ ِر َ‬‫ش ِر َ‬ ‫ين ُمبَ ِّ‬ ‫اح َدةً فَبَ َع َ‬
‫ث هَّللا ُ النَّبِيِّ َ‬ ‫َو ِ‬
‫المعنى‪ :‬كان الناس أمة واحدة على التوحيد واإليمان‪،‬‬
‫فاختلفوا بعد ذلك‪ ،‬كما قال في آية أخرى في سورة يونس‪:‬‬
‫اختَلَفُوا} [يونس‪.]١٩ :‬‬ ‫اح َدةً فَ ْ‬‫اس ِإاَّل ُأ َّمةً َو ِ‬
‫ان النَّ ُ‬ ‫{و َما َك َ‬ ‫َ‬
‫فالمعنى‪ :‬أنهم كانوا على التوحيد واإليمان‪ ،‬هذا هو القول‬
‫الحق‪ ،‬ثم اختلفوا بعد ذلك بينهم بسبب دعوة الشيطان إلى‬
‫عبادة‪ :‬و ّد‪ ،‬وسواع‪ ،‬ويغوث‪ ،‬ويعوق‪ ،‬ونسر‪.‬‬
‫فلما وقع الشرك في قوم نوح بسبب غلوهم في‬
‫الصالحين‪ V،‬وتزيين الشيطان لهم عبادتهم من دون هللا‪ ،‬بعث‬
‫هللا إليهم نو ًحا عليه الصالة والسالم‪ ،‬فدعاهم إلى توحيد هللا‬
‫واإلخالص له‪ ،‬وترك عبادة ما سواه جل وعال‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫فكان نوح عليه الصالة والسالم أول رسول أرسله هللا إلى‬
‫أهل األرض بعدما وقع الشرك فيها‪ ،‬أما آدم فجاءت‪ V‬أحاديث‬
‫ضعيفة تدل على أنه نبي ورسول ُمكلَّم‪ ،‬لكنها ال يُعتمد عليها‬
‫لضعف أسانيدها‪ ،‬وال شك أنه أوحي إليه بشرع‪ ،‬وأنه على‬
‫شريع ٍة من ربه عليه الصالة والسالم‪ ،‬وكانت ذريته على‬
‫شريعته وعلى توحيد هللا‪ ،‬واإلخالص له‪ ،‬ثم بعد ذلك بعشرة‬
‫قرون أو ما شاء هللا من ذلك‪ ،‬وقع الشرك في قوم نوح في ود‬
‫وسواع ويغوث ويعوق ونسر‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫وقد جاء في اآلثار المشهورة عن ابن عباس وغيره‪:‬‬
‫أن و ًّدا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا كانوا رجااًل‬
‫صالحين‪ ،‬فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم‪ :‬أن انصبوا‬
‫إلى مجالسهم أنصابًا‪ V،‬وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد‪،‬‬
‫حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم ُعبدت من دون هللا عز وجل‪،‬‬
‫أي لما ذهب العلم وقَ َّل العلماء المتبصرون جاء الشيطان إلى‬
‫الناس فقال لهم‪ :‬إن هذه األصنام إنما صورت ألنها كانت‬
‫تنفع‪ ،‬وكانت تدعى ويستغاث بها‪ ،‬ويستسقى بها‪ ،‬فوقع‬
‫الشرك في الناس بسبب ذلك‪.‬‬
‫وبهذا يعلم‪ :‬أن نو ًحا عليه الصالة والسالم أول رسول‬
‫أرسله هللا إلى أهل األرض‪ ،‬بعد وقوع الشرك فيها‪ ،‬كما جاء‬
‫‪64‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫في الصحيحين وغيرهما من أن أهل الموقف يوم القيامة‪:‬‬


‫«يقولون‪ :‬يا نوح‪ ،‬أنت أول رسول أرسله هللا إلى أهل األرض‪،‬‬
‫فاشفع لنا إلى ربك‪ »...‬الحديث [البخاري (‪ ،)4712‬ومسلم (‬
‫‪.])194‬‬
‫أما آدم فقد ثبتت نبوتُه قبل ذلك عليه الصالة والسالم‬
‫بدالئل أخرى‪.‬‬
‫وجاء في حديث أبي ذر عند أبي حاتم بن حبان وغيره‬
‫أنه سأل النبي صلى هللا عليه وسلم عن الرسل وعن األنبياء‬
‫فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬األنبياء مائة وأربعة‬
‫وعشرون ألفًا‪ ،‬والرسل ثالثمائة وثالثة عشر» [رواه ابن حبان (‬
‫‪ ])361‬وفي رواية أبي أمامة‪« :‬ثالثمائة وخمسة عشر»‬
‫[المعجم الكبير للطبراني (‪.])7545‬‬
‫ولكنهما حديثان ضعيفان عند أهل العلم‪ ،‬ولهما شواهد‬
‫ولكنها ضعيفة أيضًا‪ ،‬كما ذكرنا آنفًا‪ ،‬وفي بعضها أنه قال‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬ألف نبي فأكثر» [أحمد (‪،])11752‬‬
‫وفي بعضها‪« :‬أن األنبياء ثالثة آالف»‪ ،‬وجميع األحاديث في‬
‫هذا الباب ضعيفة‪ ،‬بل عد ابن الجوزي حديث أبي ذر من‬
‫الموضوعات‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫والمقصود‪ :‬أنه ليس في عدد األنبياء والرسل خب ٌر يعتمد‬


‫عليه‪ ،‬فال يَعلم عد َدهم إال هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬لكنهم ج ٌّم‬
‫غفير‪ ،‬قصَّ هللا علينا أخبار بعضهم ولم يقصّ علينا أخبار‬
‫البعض اآلخر لحكمته البالغة جل وعال‪ ،‬والفائدة العظمى‪ :‬أن‬
‫نعرف أنهم جميعهم دعوا إلى توحيد هللا‪ ،‬واإلخالص له‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وأنهم دعوا أممهم إلى ذلك‪ ،‬فمنهم من قبل‬
‫هذه الدعوة‪ ،‬ومنهم من ر َّدها‪ ،‬ومنهم من لم يتبعه إال القليل‪V،‬‬
‫ومنهم من لم يجبه أحد بالكلية‪ ،‬كما أخبر بذلك نبينا محمد‬
‫عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫ونبيُنا وهو خاتمهم وأفضلهم عليه الصالة والسالم قد ُعلِم‬
‫ما جرى له مع قومه من الخصومة والنزاع في مكة‬
‫المكرمة‪ ،‬وقد أوذي كثي ًرا هو وأصحابه حتى أجمعوا على‬
‫قتله‪ ،‬فأنجاه هللا من بين أظهرهم‪ ،‬وفي المدينة جرى ما جرى‬
‫من الغزوات والجهاد العظيم حتى نصره هللا وأيده عليهم‬
‫عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫وبذلك يتضح للجميع‪ :‬أن دعوة الرسل جميعهم‪ :‬هي دعوة‬
‫إلى توحيد هللا واإلخالص له‪ ،‬وأن األنبياء جميعًا والمرسلين‬
‫كلهم دعوا إلى توحيد هللا واإلخالص له‪ ،‬واإليمان بأسمائه‬
‫وصفاته وأفعاله‪ ،‬وأنه سبحانه واحد في ربوبيته‪ ،‬واحد في‬
‫‪66‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫أسمائه وصفاته‪ ،‬واحد في استحقاقه العبادة دون كل ما سواه‬


‫جل وعال‪ ،‬فال يستحقها غيره ال نبي وال ملك وال صالح وال‬
‫غيرهم من المخلوقات‪ V،‬فالعبادة حق هللا جل وعال‪ ،‬ولها خلق‬
‫الخلق سبحانه وتعالى‪ ،‬وبها أرسل الرسل‪ ،‬كما قال سبحانه‬
‫ُون} [الذاريات‪:‬‬ ‫س ِإاَّل لِيَ ْعبُد ِ‬ ‫{و َما َخلَ ْقتُ ا ْل ِجنَّ َواِإْل ْن َ‬
‫وتعالى‪َ :‬‬
‫سواًل َأ ِن اُ ْعبُدُوا‬ ‫{ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ‬
‫‪ ،]٥٦‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫اجتَنِبُوا الطَّا ُغوتَ } [النحل‪ ،]٣٦ :‬فلعبادة هللا وتوحيده‬ ‫هَّللا َ َو ْ‬
‫خلقت الخليقة‪ ،‬وأرسلت الرسل‪ ،‬وأنزلت الكتب‪ ،‬كما قال‬
‫يم َخبِي ٍر ‪-‬‬ ‫صلَتْ ِمنْ لَدُنْ َح ِك ٍ‬ ‫َاب ُأ ْح ِك َمتْ آيَاتُهُ ثُ َّم فُ ِّ‬
‫تعالى‪ِ { :‬كت ٌ‬
‫غ‬‫َأاَّل تَ ْعبُدُوا ِإاَّل هَّللا َ} [هود‪ ،]٢ - ١ :‬وقال سبحانه‪َ { :‬ه َذا بَاَل ٌ‬
‫اح ٌد َولِيَ َّذ َّك َر ُأولُو‬‫س َولِيُ ْن َذ ُروا بِ ِه َولِيَ ْعلَ ُموا َأنَّ َما ه َُو ِإلَهٌ َو ِ‬ ‫لِلنَّا ِ‬
‫ب} [إبراهيم‪.]٥٢ :‬‬ ‫اَأْل ْلبَا ِ‬
‫وقد أبان هللا سبحانه في كتابه العزيز من آياته ومخلوقاته‬
‫ما يدل على قدرته العظيمة‪ ،‬وألوهيته وربوبيته‪ ،‬وأنه‬
‫المستحق للعبادة سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ومن تدبَّر كتاب هللا ومخلوقاته َو َج َد من اآليات المتلوة‬
‫والحسية واألخبار المنقولة ما يدل على أنه سبحانه المستحق‬
‫للعبادة جل وعال‪ ،‬وأن الرسل كلهم بلغوا ذلك ودعوا إليه‪،‬‬
‫وأن الشرك الذي وقع في قوم نوح لم يزل في الناس إلى‬
‫‪67‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫يومنا هذا‪ ،‬فلم يزل في الناس من يعبد األصنام واألوثان‪،‬‬


‫ويغلو في الصالحين واألنبياء‪ ،‬يعبدهم مع هللا‪ ،‬كما هو معلوم‬
‫عند كل من نظر في أخبار العالم من عهد نوح إلى يومنا‬
‫هذا‪.‬‬
‫وبما ذكرنا من كتاب هللا عز وجل‪ ،‬ومن كالم رسوله‬
‫محمد عليه أفضل الصالة وأزكى التسليم‪ ،‬ومن واقع العالم‬
‫يتضح أن التوحيد أقسام‪ ،‬وقد عرف ذلك أهل العلم‬
‫باالستقراء لكتاب هللا‪ ،‬وسنة رسوله عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫فهو أقسام ثالثة‪ :‬األول‪ :‬توحيد الربوبية‪ :‬وهو اإليمان بأن‬
‫هللا عز وجل واحد في أفعاله‪ ،‬وخلقه وتدبيره لعباده‪ ،‬وأنه‬
‫المتصرف في عباده كما شاء سبحانه وتعالى‪ ،‬بعلمه وقدرته‬
‫جل وعال‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬توحيد األسماء والصفات‪ ،‬وأنه سبحانه وتعالى‬
‫موصوف باألسماء الحسنى والصفات العال‪ ،‬وأنه كامل في‬
‫ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله جل وعال‪ ،‬وأنه ال شبيه له‪ ،‬وال‬
‫نظير له‪ ،‬وال ند له عز وجل‪.‬‬
‫الثالث‪ V:‬توحيد العبادة‪ ،‬وأنه يستحق سبحانه وتعالى أن‬
‫يعبد وحده ال شريك له‪ ،‬دون ما سواه جل وعال‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫وإن شئت قلت‪ :‬توحيد هللا سبحانه وتعالى‪ :‬هو اإليمان‬


‫بأنه رب الجميع وخالق الجميع‪ ،‬ورازق الجميع‪ ،‬وأنه ال‬
‫شريك له في جميع أفعاله سبحانه وتعالى‪ ،‬ال شريك له في‬
‫خلقه ورزقه للعباد‪ ،‬ال شريك له في تدبير األمور‪ ،‬وهو‬
‫المالك لكل شيء جل وعال‪ ،‬كما قال سبحانه وتعالى‪{ :‬هَّلِل ِ‬
‫ض َو َما فِي ِهنَّ َو ُه َو َعلَى ُك ِّل ش ْ‬
‫َي ٍء‬ ‫ت َواَأْل ْر ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ُم ْل ُك ال َّ‬
‫س َم َ‬
‫قَ ِدي ٌر} [المائدة‪ ،]١٢٠ :‬فهو المالك لكل شيء‪ ،‬والمتصرف‬
‫في كل شيء جل وعال‪ ،‬له األمر كله‪ ،‬وله الخلق كله‪ ،‬كما‬
‫ين}‬ ‫ق َواَأْل ْم ُر تَبَ َ‬
‫ار َك هَّللا ُ َر ُّب ا ْل َعالَ ِم َ‬ ‫قال تعالى‪َ{ :‬أاَل لَهُ ا ْل َخ ْل ُ‬
‫[األعراف‪ ،]٥٤ :‬وهو الموصوف بصفات‪ V‬الكمال‪ ،‬والمسمى‬
‫باألسماء الحسنى‪ ،‬فال شبيه له من خلقه في شيء‪ ،‬بل هو‬
‫الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬وهو المستحق أن‬
‫يعبد ويخص بالعبادة من الدعاء والخوف والرجاء والتوكل‬
‫والرغبة والرهبة والصالة والصوم والذبح والنذر وغير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫هذا كله داخل في مسمى التوحيد‪ ،‬توحيد هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬توحيد األنبياء والمرسلين‪ ،‬وهو التوحيد الذي جاء به‬
‫خاتمهم وسيدهم وإمامهم نبيُّنا محم ٌد عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫ويمكن أن نأتي بعبارة أخرى فنقول‪ :‬توحيد هللا الذي‬


‫جاءت به الرسل جميعهم ينقسم إلى قسمين‪:‬‬
‫األول‪ :‬توحيد في المعرفة واإلثبات‪ ،‬فمعناه‪ :‬اإليمان‬
‫بأسماء هللا وصفاته وذاته جل وعال‪ ،‬وخلقه للعباد ورزقه‬
‫لهم‪ ،‬وتدبيره لشئونهم سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫هذا هو التوحيد في المعرفة واإلثبات‪ :‬أن تؤمن وتصدق‬
‫بأن هللا سبحانه واحد في ربوبيته‪ ،‬واحد في أسمائه وصفاته‬
‫وتدبيره لعباده‪ ،‬وهو الخالق لهم والرازق لهم والموصوف‬
‫بصفات الكمال المنزه عن النقص والعيب ال شريك له في‬
‫ذلك‪ ،‬وال شبيه له‪ ،‬وال ن ّد له جل وعال‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬توحيد القصد والطلب‪ :‬وهو‪ :‬إفراد هللا سبحانه في‬
‫قصدك وطلبك وصالتك وصومك‪ ،‬وسائر عباداتك‪ ،‬ال تقصد‬
‫بها إال وجهه جل وعال‪ ،‬وهكذا صدقاتك‪ ،‬وسائر أعمالك التي‬
‫تتقرب بها‪ ،‬ال تقصد بها إال وجهه جل وعال‪ ،‬فال تدعو إال‬
‫إياه‪ ،‬وال تنذر إال له‪ ،‬وال تتقرب بأنواع القربات‪ V‬إال له‬
‫سبحانه‪ ،‬وال تطلب شفاء المرضى والنصر على األعداء إال‬
‫منه عز وجل‪ ،‬توحده في كل ذلك‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫فهذه أنواع التوحيد‪ ،‬لك أن تعبِّر عنها بنوعين‪ ،‬ولك أن‬


‫تعبر عنها بثالثة أنواع‪ ،‬ولك أن تعبِّر عنها بنوع واحد كما‬
‫تقدم فيما ذكرنا آنفًا‪.‬‬
‫وال مشاحة في االصطالح والتعبير‪ ،‬وإنما المقصود‪:‬‬
‫أن نعرف ما هو التوحيد الذي بعث هللا به الرسل‪ ،‬وأنزل‬
‫به الكتب‪ ،‬ووقعت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم‪ ،‬وهو‬
‫توحيد العبادة‪.‬‬
‫أما كونه سبحانه رب الجميع وخالق الخلق ورازقهم‪،‬‬
‫وأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬وأنه ال شبيه‬
‫له‪ ،‬وال ند له وال مثيل له‪ ،‬فهذا لم يقع فيه الخالف بين الرسل‬
‫واألمم‪ ،‬بل جميع المشركين من قريش وغيرهم مقرون به‪،‬‬
‫وما وقع من إنكار فرعون وادعائه الربوبية فمكابرة‪ ،‬يعلم‬
‫في نفسه أنه مبطل‪ ،‬كما قال له موسى‪{ :‬لَقَ ْد َعلِ ْمتَ َما َأ ْن َز َل‬
‫صاِئ َر} [اإلسراء‪:‬‬ ‫ض بَ َ‬ ‫ت َواَأْل ْر ِ‬
‫اوا ِ‬ ‫َهُؤ اَل ِء ِإاَّل َر ُّب ال َّ‬
‫س َم َ‬
‫{و َج َحدُوا بِ َها‬ ‫‪ ،]١٠٢‬وقال سبحانه فيه وفي أمثاله‪َ :‬‬
‫س ُه ْم ظُ ْل ًما َو ُعلُ ًّوا} [النمل‪ ،]١٤ :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ستَ ْيقَنَ ْت َها َأ ْنفُ ُ‬
‫َوا ْ‬
‫ون فَِإنَّ ُه ْم اَل يُ َك ِّذبُونَ َك َولَ ِكنَّ‬
‫{قَ ْد نَ ْعلَ ُم ِإنَّهُ لَيَ ْح ُزنُكَ الَّ ِذي يَقُولُ َـ‬
‫ُون} [األنعام‪ ،]٣٣ :‬وهكذا ما‬ ‫ت هَّللا ِ يَ ْج َحد َ‬‫ين بِآيَا ِ‬ ‫الظَّالِ ِم َ‬
‫ادعته الثانوية من إلهية النور والظلمة‪ ،‬فمكابرة أيضًا‪ V،‬وهم‬
‫‪71‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫مع ذلك لم يقولوا‪ :‬إنهما متساويان‪ ،‬فليس في العالم من يقول‪:‬‬


‫إن هناك إلهين متساويين في التصرُّ ف والتدبير‪.‬‬
‫وأما إنكار المالحدة لرب العالمين كليًّا‪ ،‬وإنكارهم‬
‫لآلخرة‪ ،‬فليس هذا بمستغرب من أعداء هللا لفساد عقولهم‬
‫بسبب استيالء الشياطين عليهم حتى اجتالتهم عن فطرة هللا‬
‫التي فطر عليها الناس‪ ،‬وهؤالء المالحدة‪ ،‬وإن أنكروا‬
‫بألسنتهم فقلوبهم تُقِرُّ بذلك‪ ،‬كما أق َّر بذلك الجمادات‪ V،‬وكل‬
‫س ْب ُع‬
‫س َما َواتُ ال َّ‬ ‫سبِّ ُح لَهُ ال َّ‬ ‫شيء‪ ،‬كما قال سبحانه وتعالى‪{ :‬تُ َ‬
‫سبِّ ُح بِ َح ْم ِد ِه َولَ ِكنْ اَل‬‫ض َو َمنْ فِي ِهنَّ َوِإنْ ِمنْ ش َْي ٍء ِإاَّل يُ َ‬ ‫َواَأْل ْر ُ‬
‫ان َحلِي ًما َغفُو ًرا} [اإلسراء‪،]٤٤ :‬‬ ‫يح ُه ْم ِإنَّهُ َك َ‬ ‫ون تَ ْ‬
‫سبِ َ‬ ‫تَ ْفقَ ُه َ‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫س ُج ُد لَهُ َمنْ فِي ال َّ‬
‫س َم َ‬ ‫وقال جل وعال‪َ{ :‬ألَ ْم ت ََر َأنَّ هَّللا َ يَ ْ‬
‫س َوا ْلقَ َم ُر َوالنُّ ُجو ُم َوا ْل ِجبَا ُل َوالش ََّج ُر‬ ‫ش ْم ُ‬ ‫ض َوال َّ‬ ‫َو َمنْ فِي اَأْل ْر ِ‬
‫اب} [الحج‪:‬‬ ‫ق َعلَ ْي ِه ا ْل َع َذ ُ‬
‫س َو َكثِي ٌر َح َّ‬ ‫اب َو َكثِي ٌر ِم َن النَّا ِ‬ ‫َوال َّد َو ُّ‬
‫‪.]١٨‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن من أنكر رب العالمين من الكفرة‬
‫المجرمين‪ ،‬فهو في الحقيقة مكابر لفطرته وعقله‪ ،‬فإن الفطرة‬
‫والعقل يشهدان بوجود رب متصرف في الكون‪ ،‬مدبر للعباد‪،‬‬
‫ال شبيه له‪ ،‬وال شريك له‪ ،‬وال ند له سبحانه وتعالى عما يقول‬
‫الظالمون علوا كبيرا‪ ،‬ولهذا قلنا‪ :‬إن المشركين قد أقروا‬
‫‪72‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫بتوحيد الربويية واألسماء والصفات‪ V،‬ولم ينكروا ذلك؛ ألنهم‬


‫يعلمون أن هللا جل وعال خالق العباد ورازقهم‪ ،‬ومدبر‬
‫أمورهم‪ ،‬منزل المطر‪ ،‬المحيي المميت‪ ،‬الرزاق للعباد وغير‬
‫ذلك‪ ،‬كما تقدم بيانه‪.‬‬
‫عرفت ما تقدم‪ -‬أن تبذل‬ ‫َ‬ ‫فالواجب‪ V‬عليك‪ :‬يا عبد هللا ‪-‬إذا‬
‫وسعك في بيان هذا األصل األصيل‪ ،‬ونشره بين الناس‪،‬‬
‫وإيضاحه للخلق‪ ،‬حتى يعلمه من جهله‪ ،‬وحتى يعبد هللا‬
‫وحده‪ ،‬من أشرك به وخالف أمره‪ ،‬وحتى تكون بذلك قد‬
‫اتبعت الرسل‪ ،‬وسرت على منهاجهم في الدعوة إلى هللا‪ ،‬أدا ًء‬
‫لألمانة التي حملتها فيكون لك مثل أجور من هداه هللا على‬
‫يديك إلى يوم القيامة‪ ،‬كما قال هللا جل وعال‪َ { :‬و َمنْ َأ ْح َ‬
‫سنُ‬
‫صالِ ًحا َوقَا َل ِإنَّنِي ِم َن‬ ‫قَ ْواًل ِم َّمنْ َد َعا ِإلَى هَّللا ِ َو َع ِم َل َ‬
‫سبِيلِي‬ ‫ين} [فصلت‪ ،]٣٣ :‬وقال سبحانه‪{ :‬قُ ْل َه ِذ ِه َ‬ ‫سلِ ِم َ‬‫ا ْل ُم ْ‬
‫ان هَّللا ِ َو َما‬
‫س ْب َح َ‬ ‫صي َر ٍة َأنَا َو َم ِن اتَّبَ َعنِي َو ُ‬ ‫َأ ْدعُو ِإلَى هَّللا ِ َعلَى بَ ِ‬
‫ع‬
‫ين} [يوسف‪ ،]١٠٨ :‬وقال جل وعال‪{ :‬ا ْد ُ‬ ‫ش ِر ِك َ‬‫َأنَا ِم َن ا ْل ُم ْ‬
‫سنَ ِة َو َجا ِد ْل ُه ْم بِالَّتِي‬ ‫يل َربِّكَ بِا ْل ِح ْك َم ِة َوا ْل َم ْو ِعظَ ِة ا ْل َح َ‬ ‫سبِ ِ‬‫ِإلَى َ‬
‫سنُ } [النحل‪ ،]١٢٥ :‬وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫ِه َي َأ ْح َ‬
‫في الحديث الصحيح‪« :‬من دل على خير فله مثل أجر فاعله»‬
‫[رواه مسلم (‪ ،])1893‬وقال لعلي رضي هللا عنه لما بعثه‬
‫‪73‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫إلى خيبر‪« :‬فو هللا لئن يهدي هللا بك رجال وحدا خير لكم من حمر‬
‫النعم» [البخاري (‪ ،)2942‬ومسلم (‪.])2406‬‬
‫هذا وأسأل هللا عز وجل أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه‬
‫واالستقامة على ما يرضيه‪ ،‬وأن يعيذنا جميعًا من أسباب‬
‫غضبه‪ ،‬ومن مضالت الفتن‪ ،‬كما أسأله سبحانه أن ينصر‬
‫دينه ويعلي كلمته‪ ،‬وأن يصلح أحوال المسلمين ويولي عليهم‬
‫خيارهم‪ ،‬إنه سبحانه وتعالى جواد كريم‪ .‬والحمد هلل رب‬
‫العالمين‪ ،‬وصلى هللا وسلم على آله وأصحابه والتابعين لهم‬
‫بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫‌‌[توضيح معنى الشرك باهلل]‬

‫السؤال‪ :‬ما هو الشرك‪ ،‬وما تفسير قول‪VV‬ه تع‪VV‬الى‪{ :‬يَــا َأ ُّي َهــا‬
‫س ـيلَةَ} [المائ‪VV‬دة‪]٣٥ :‬‬ ‫ين آ َمنُوا اتَّقُوا هَّللا َ َوا ْبتَ ُغــوا ِإلَ ْيـ ِه ا ْل َو ِ‬
‫الَّ ِذ َ‬
‫اآلية؟‬
‫الجواب‪ :‬الشرك على اسمه‪ :‬هو تشريك غير هللا مع هللا‬
‫في العبادة‪ ،‬كأن يدعو األصنام أو غيرها‪ ،‬يستغيث بها‪ ،‬أو‬
‫ينذر لها‪ ،‬أو يصلي لها‪ ،‬أو يصوم لها‪ ،‬أو يذبح لها‪ ،‬ومثل‪ :‬أن‬
‫يذبح للبدوي‪ ،‬أو للعيدروس‪ ،‬أو يصلي لفالن‪ ،‬أو يطلب المدد‬
‫من الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أو من عبد القادر‪ ،‬أو من‬
‫العيدروس في اليمن‪ ،‬أو غيرهم من األموات والغائبين فهذا‬
‫كله يُسمى شر ًكا‪ ،‬وهكذا إذا دعا الكواكب‪ ،‬أو الجن أو‬
‫استغاث بهم‪ ،‬أو طلبهم المدد‪ ،‬أو ما أشبه ذلك‪ ،‬فإذا فعل شيًئا‬
‫من هذه العبادات مع الجمادات‪ V،‬أو مع األموات‪ ،‬أو الغائبين‬
‫{ولَ ْو‬
‫صار هذا شر ًكا باهلل عز وجل‪ ،‬قال هللا جل وعال‪َ :‬‬
‫ون} [األنعام‪ ،]٨٨ :‬وقال‬ ‫َأش َْر ُكوا لَ َحبِطَ َع ْن ُه ْم َما َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫ين ِمنْ قَ ْبلِ َك لَِئنْ َأش َْر ْكتَ‬ ‫سبحانه‪َ { :‬ولَقَ ْد ُأ ِ‬
‫وح َي ِإلَ ْي َك َوِإلَى الَّ ِذ َ‬
‫ين} [الزمر‪ ،]٦٥ :‬ومن‬ ‫اس ِر َ‬ ‫لَيَ ْحبَطَنَّ َع َملُكَ َولَتَ ُكونَنَّ ِم َن ا ْل َخ ِ‬
‫‪75‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫الشرك‪ :‬أن يعبد غير هللا عبادةً كاملة‪ ،‬فإنه يس َّمى‪ :‬شر ًكا‪،‬‬
‫ويسمى‪ :‬كف ًرا‪ ،‬فمن أعرض عن هللا بالكلية وجعل عبادته‬
‫لغير هللا كاألشجار‪ ،‬أو األحجار‪ V،‬أو األصنام‪ ،‬أو الجن‪ ،‬أو‬
‫بعض األموات من الذين يسمونهم باألولياء يعبدهم أو يصلي‬
‫لهم أو يصوم لهم وينسى هللا بالكلية فهذا أعظم كفرًا وأشد‬
‫شر ًكا‪ ،‬نسأل هللا العافية‪.‬‬
‫وهكذا من ينكر وجود هللا‪ ،‬ويقول‪ :‬ليس هناك إله‪ ،‬والحياة‬
‫مادة؛ كالشيوعيين‪ ،‬والمالحدة المنكرين لوجود هللا‪ ،‬هؤالء‬
‫أكفر الناس وأضلهم وأعظمهم شر ًكا وضالاًل نسأل هللا‬
‫العافية‪.‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن أهل هذه االعتقادات وأشباهها كلها تسمى‪:‬‬
‫شر ًكا‪ ،‬وتسمى‪ :‬كف ًرا باهلل عز وجل‪ ،‬وقد يغلط بعض الناس‬
‫لجهله فيسمي دعوة األموات واالستغاثة بهم‪ :‬وسيلة‪ ،‬ويظنها‬
‫جائزة‪ ،‬وهذا غلط عظيم؛ ألن هذا العمل من أعظم الشرك‬
‫باهلل‪ ،‬وإن سماه بعض الجهلة أو المشركين‪ :‬وسيلة‪ ،‬وهو دين‬
‫المشركين الذي ذمهم هللا عليه وعابهم به‪ ،‬وأرسل الرسل‬
‫وأنزل الكتب إلنكاره والتحذير منه‪ ،‬وأما الوسيلة المذكورة‬
‫في قول هللا عز وجل‪{ :‬يَا َأيُّ َها الَّ ِذ َ‬
‫ين آ َمنُوا اتَّقُوا هَّللا َ َوا ْبتَ ُغوا‬
‫سيلَةَ} [المائدة‪ ،]٣٥ :‬فالمراد بها‪ :‬التقرب‪ V‬إليه‬ ‫ِإلَ ْي ِه ا ْل َو ِ‬
‫‪76‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫سبحانه بطاعته‪ ،‬وهذا هو معناها عند أهل العلم جميعًا‪،‬‬


‫فالصالة قربة إلى هللا فهي وسيلة‪ ،‬والذبح هلل وسيلة؛‬
‫كاألضاحي والهدي‪ ،‬والصوم وسيلة‪ ،‬والصدقات وسيلة‪،‬‬
‫وذكر هللا وقراءة القرآن وسيلة‪ ،‬وهذا هو معنى قوله جل‬
‫سبِيلِ ِه}‬ ‫سيلَةَ َو َجا ِهدُوا فِي َ‬ ‫وعال‪{ :‬اتَّقُوا هَّللا َ َوا ْبتَ ُغوا ِإلَ ْي ِه ا ْل َو ِ‬
‫[المائدة‪ ،]٣٥ :‬يعني‪ :‬ابتغوا القربة إليه بطاعته‪ ،‬هكذا قال‬
‫ابن كثير وابن جرير والبغوي وغيرهم من أئمة التفسير‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬التمسوا القربةَ إليه بطاعتِ ِه واطلبوها أينما كنتم‬
‫مما شرع هللا لكم‪ ،‬من صالة وصوم وصدقات وغير ذلك‪.‬‬
‫ُون‬
‫ين يَ ْدع َ‬ ‫وهكذا قوله في اآلية األخرى‪ُ{ :‬أولَِئكَ الَّ ِذ َ‬
‫ون َر ْح َمتَهُ‬
‫ب َويَ ْر ُج َ‬ ‫سيلَةَ َأ ُّي ُه ْم َأ ْق َر ُ‬
‫ون ِإلَى َربِّ ِه ُم ا ْل َو ِ‬
‫يَ ْبتَ ُغ َ‬
‫ون َع َذابَهُ} [اإلسراء‪ ،]٥٧ :‬هكذا الرسل وأتباعهم‬ ‫َويَ َخافُ َ‬
‫يتقرَّبون إلى هللا بالوسائل التي شرعها من جهاد وصوم‬
‫وصالة وذكر وقراءة قرآن إلى غير ذلك من وجوه الوسيلة‪.‬‬
‫أما ظن بعض الناس أن الوسيلة هي التعلق باألموات‬
‫واالستغاثة باألولياء فهذا ظن باطل‪ ،‬وهذا اعتقاد المشركين‬
‫ُون ِمنْ دُو ِن هَّللا ِ َما اَل يَ ُ‬
‫ض ُّر ُه ْم َواَل‬ ‫{ويَ ْعبُد َ‬
‫الذين قال هللا فيهم‪َ :‬‬
‫شفَ َعاُؤ نَا ِع ْن َد هَّللا ِ} [يونس‪،]١٨ :‬‬ ‫يَ ْنفَ ُع ُه ْم َويَقُولُ َ‬
‫ون َهُؤ اَل ِء ُ‬
‫فر َّد عليهم سبحانه بقوله‪{ :‬قُ ْل َأتُنَبِّ َ‬
‫ُئون هَّللا َ ِب َما اَل يَ ْعلَ ُم فِي‬
‫‪77‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫س ْب َحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْ‬


‫ش ِر ُك َ‬
‫ون}‬ ‫ت َواَل فِي اَأْل ْر ِ‬
‫ض ُ‬ ‫اوا ِ‬
‫س َم َ‬
‫ال َّ‬
‫[يونس‪.]١٨ :‬‬

‫‪78‬‬
‫بيان التوحيد الذي بعث هللا به الرسل جمي ًعا وبعث به خاتمهم محمدًا‬

‫الفهرس‬

‫‌‌[مقدمة]‪3..............................................................‬‬
‫‌‌[حقيقة التوحيد والشرك]‪5..........................................‬‬
‫[توحيد المرسلين وما يضاده من الكفر والشرك]‪29...........‬‬
‫‌‌[توضيح معنى الشرك باهلل]‪66....................................‬‬
‫الفهرس‪69............................................................‬‬

‫‪79‬‬

You might also like