Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 247

‫جامعة وهران ‪2‬‬

‫كلية العلوم االجتماعية‬

‫أطروحة‬
‫لـنيـل شهادة دكتوراه في الفلسفة‬

‫اإلتيقا والتواصل عند كارل أوتو آبل‬


‫دراسة تحليلية نقدية‬

‫من اعداد الطالب‬


‫محمد بوحجلة‬

‫‪ :‬تشكيلة لجنة المناقشة‬

‫مؤسسة االنتماء‬ ‫الصفة‬ ‫الرتبة‬ ‫اسم و لقب االستاذ‬


‫جامعة وهران ‪2‬‬ ‫رئيسا‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫الحسين زاوي‬
‫جامعة وهران ‪2‬‬ ‫مشرفا ومقررا‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫سواريت بن عمر‬
‫جامعة وهران ‪2‬‬ ‫مناقشا‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫عبدهللا عبدالالوي‬
‫جامعة تلمسان‬ ‫مناقشا‬ ‫أستاذ محاضر أ‬ ‫أحمد عطار‬
‫جامعة معسكر‬ ‫مناقشا‬ ‫أستاذ محاضر أ‬ ‫بشير خليفي‬
‫جامعة مستغانم‬ ‫مناقشا‬ ‫أستاذ محاضر أ‬ ‫أحمد إبراهيم‬

‫الموسم الجامعي‪:‬‬
‫‪2016-1720‬‬

‫اإلهداء‬
‫نهدي هذا العمل إلى الوالدين الكريمين‬

‫وإلى كافة أفراد األسرة الكريمة‪.‬‬


‫كلمة شكر‬

‫نتقدم بالشكر إلى‪ :‬أستاذنا الفاضل الدكتور سواريت بن عمر الذي تفض ل‬

‫باإلش راف على ه ذه األطروح ة‪ ،‬وعلى م ا بذل ه من جه د وم ا قدم ه من‬

‫مالحظات وتوجيهات قيمة في متابعته إلنجاز هذا العمل‪ ،‬ونتمنى أننّا كنّ ا‬

‫عند حسن ظنه‪.‬‬


‫مقدمــــــــة‬
‫مقدمة‬

‫يجري الحديث في هذا البحث حول "إتيقا التواصل"ـ عند الفيلسوف األلماني المعاصر‬
‫كارل أوتو آبل ‪ ،Karl-Otto Apel‬وذلك من خالل دراسة تحليلية نقدية لمشروعه الفلســفي‬
‫التواصلي‪،‬ـ وفي هذا اإلطار يمكن القول ّ‬
‫أن آبل تناول في مختلف أعماله موضوعين أساسيين‬
‫هما اإلتيقا والتواصل‪،‬ـ ومبدئيا يبدو أنه ال توجد عالقة بين هــذا وذاك‪ ،‬فــالمفهوم األول مشــتق‬
‫من الفلسفة األخالقية‪ ،‬والثاني مشتق من فلسفة اللغة‪ ،‬اللتين ظلتا منفصلتين عبر تــاريخ الفكــر‬
‫الفلســفي‪ ،‬ولكن بالنســبة آلبــل وغــيره من فالســفة التواصــل‪،‬ـ فــإن هــذين الموضــوعين ليســا‬
‫مســتقلين عن بعضــهما البعض بــل همــا في الحقيقــة لــو تعمقنــا في األمــر جيــدا موضــوعان‬
‫مترابطــان ببعضــهما البعض‪ ،‬ومن الصــعب أن نفصــل منطقيــا بين مــا هــو إتيقي ومــا هــو‬
‫تواصلي‪ ،‬وفي هذا السياق عمل آبــل في مشــروعه الفلســفي على تحليــل طبيعــة العالقــة الــتي‬
‫تربط بين الفلسفة األخالقيــة وفلســفة اللغــة المعاصــرة‪ ،‬وبين الفلســفة الترنســندنتالية الكانطيــة‬
‫والفلسفة التحليلية األنجلوساكسونية ليؤسس "النظرية التداولية الترنسندنتالية للتواصل"‪.‬‬

‫وتجــدر االشــارة هنــا إلى أن المشــروع الفلســفي آلبــل ينــدرج في إطــار مســاهمة هــذا‬
‫الفيلسوف في البراديغم الجديد للنظرية النقدية في مرحلتها الثانية (إتيقا التواصل)‪،‬ـ حيث عمل‬
‫آبل على إعادة صـياغة نظريـة زميلـه يـورغن هابرمـاس‪" Jürgen Habermas‬التداوليـة‬
‫الشاملة" وإعطاءها طابعا ترنسندنتاليا لتصبح "تداولية ترنسندنتالية"‪ ،‬وعلى إثر ذلك شــهدت‬
‫الساحة الفلسفية األلمانية في الربع األخير من القـرن العشــرين حــوارا فلســفيا ســاخنا بين آبـل‬
‫وهابرماس‪ ،‬ول ّما كان الهدف األساســي للمشــروع الفلســفي التــداولي الترنســندنتالي آلبــل هــو‬
‫التأســيس النهــائي للفلســفة واألخالقيــة أو كمــا يعــبر عنهــا هــو "التأســيس النهــائي التــداولي‬
‫الترنســندنتالي" «‪ ،»fondation ultime pragmatico-transcendentale‬أي‪ :‬البحث‬
‫عن تأســيس نهــائي للفلســفة ولألخالقيــة ومحتواهــا المعيــاري على غــرار المعيــار العقالني‬
‫والكوني الكانطي لألخالق‪ ،‬فإننا سطرنا كإشكالية مركزية لهــذا البحث الســؤال التــالي‪« :‬ه ل‬
‫يمكن إيجاد مرجعية معيارية مشتركة لألخالقية‪ ،‬ووضع تأسيس نهائي للفلسفة ؟»‪.‬‬

‫ولكن اإلجابة عن هذا اإلشكال المركزي يتطلب المرور واإلجابة أوال عن المشــكالت‬
‫واألسئلة الكثيرة التي تتفرع عنه ومن أهمها‪:‬‬
‫ا‬
‫مقدمة‬

‫‪ -‬ما اإلتيقا؟ وما هو التواصل؟‬

‫‪ -‬هل تعدد المرجعيات الفلسفية بالنسبة لكارل أوتو آبل وتأثره بها يعني أن فلسفته ما ه ّي‬
‫إال مجرد نقل وتركيب لبعض الفلسفات السابقة وإعادة طرحها بصيغة مختلفة نوعا ما أم أنها‬
‫فلسفة تعتمد على اإلبداع واالبتكار والتجديد ؟‬

‫‪ -‬هل يعتبر نقد كارل أوتو آبل لهبرماس خروجا عن المسار الفكــري الــذي رســمه رواد‬
‫الجيل األول لمدرسة فرانكفورت أو هو مجرد حوار داخلي الهدف منــه إصــالح هــذا المســار‬
‫وتعديله على ضوء المتغيرات السياسية والثقافية والفلسفية والعلمية والتقنية التي شهدها العالم‬
‫في النصف الثاني من القرن العشرين؟‬

‫‪ -‬إذا كــانت العالقــة بين فلســفة اللغــة وفلســفة األخالق بمعناهمــا التقليــدي هي عالقــة‬
‫انفصال‪ ،‬فكيف أصبحت العالقة بين التواصل (المعنى الجديد لفلسفة اللغــة) واإلتيقــا (المعــنى‬
‫الجديد لفلسفة األخالق) عالقة اتصال عند كارل أوتو آبل؟ أو بتعبير آخر‪ :‬كيف اســتطاع آبــل‬
‫الربـــط بين اللغـــة واإلتيقـــا لينحت مفـــاهيم فلســـفية جديـــدة مثـــل‪ :‬التداوليـــة الترنســـندنتالية‪،‬‬
‫والسميوطيقا الترنسندنتالية‪ ،‬وأخالقيات التواصل‪ ،‬ويحدث منعرجا حقيقيــا ويحقــق أنموذجــا (‬
‫‪ )Paradigme‬في الفلسفة تجاوز به فلسفات الذات والتأمل وأسس فلسفة تواصلية؟ـ‬

‫‪ -‬إذا كانت العالقة بين الفلسفة القارية األوربية الــتي غلب عليهــا الطــابع الهرمــنيوطيقي‬
‫منفصلة عن الفلسفة التحليلية األنجلوساكسـونية إلى غايـة مـا بعـد منتصـف القـرن العشـرين‪،‬‬
‫فكيف استطاع كارل أوتو آبل التركيب بينهما وإحداث منعرج هرمنيوطيقي تداولي؟‬

‫‪ -‬ما هو البعد الذي أخذته فلسفة التواصلـ عند كارل أوتو آبل؟‬

‫‪ -‬إلى أي مدى يمكن تطبيق أخالقيـات التواصـل على مجـاالت النشــاط اإلنسـاني العلمية‬
‫والتقنية والسياسية واالقتصادية والرياضية في نظر كارل أوتو آبل؟‬

‫‪ -‬هل يمكن اعتبار كارل أوتو آبل مجددا في الفلســفة التواصــلية أو هــو مجــرد اســتمرار‬
‫وامتداد لهبرماس ؟‬

‫ب‬
‫مقدمة‬

‫‪ -‬ماذا بعد التداولية الترنسندتالية التي نحتها آبل؟‬

‫وسعيا لتحليل هذه اإلشكالية‪ ،‬ومحاولة اإلجابــة عن مختلــف الفرضــيات والتســاؤوالت‬


‫المتفرعة عنها‪ ،‬رسمنا خطة استهدفنا من وراءها الوقــوف عنــد أهم المحطــات المركزيــة في‬
‫فلسفة آبل‪ ،‬حيث تم تقسيم هذا البحث إلى مقدمة‪ ،‬وأربعة فصول‪ ،‬وخاتمة‪ ،‬وحاولنا من خاللها‬
‫مراعاة الترابط والتسلسل المنطقي والتوازن بين هذه العناصر قدر اإلمكان‪ ،‬وذلك بتقسيم كل‬
‫فصل إلى مبحثين وتقسيم كــل مبحث إلى مطلــبين‪ ،‬مــع وضــع مــدخل وخالصــة لكــل فصــل‪،‬‬
‫وتتمثل هذه الخطة في ما يلي‪:‬‬

‫مقدم ة‪ :‬وتتضمن العناصــر التاليــة (تحديــد موضــوع البحث ‪ -‬تحديــد اإلشــكالية والمشــكالت‬
‫المتفرعــة عنهــا ‪ -‬خطــة البحث ‪ -‬تحديــد المنهج ‪ -‬الدراســات الســابقة ‪ -‬الصــعوبات ‪ -‬أســباب‬
‫اختيــار الموضـوع)‪،‬ـ كمـا حـددنا على هامشــها مفهـوم "التأسـيس النهــائي" باعتبــاره مفهومــا‬
‫مفتاحيا ال يمكن بدونه الدخول في محاولة فهم المشروع الفلسفي آلبل‪.‬‬

‫الفص ل األول‪ :‬المرجعي ات الفلس فية لتأسيس وية آبل‪ ،‬وأردنــا من خاللــه أن نحــدد اإلطــار‬
‫المفــاهيمي لهــذا البحث ونضــعه في ســياقه التــاريخي والفلســفي‪ ،‬وذلــك بــالتطرق أوال إلى‬
‫المفهومين المركزيين للبحث (اإلتيقــا والتواصــل)ـ ومعرفــة أهم مجاالتهمــا‪ ،‬ثم تحديــد الســياق‬
‫التاريخي والفلسفي للبحث بـالتطرق إلى الســيرة المعرفيــة آلبــل (التعريـفـ بـه وبــأهم أعمالـه‬
‫وبالخطوط العريضة لفلسفته) باعتباره فيلسوفا غير معروف بشكل كبير في الثقافــة العربيــة‪،‬‬
‫حيث لم يترجم إلى العربية ‪ -‬على حد علمنا ‪ -‬من أعماله سوى عمال واحدا هــو "التفكــيرـ مــع‬
‫هابرماس ضد هابرماس"‪ ،‬ومن أجل التعرف عليه أكثر وفهمــه تحــدثنا أيضــا عن مرجعياتــه‬
‫الفلسفية (مدرسة فرانكفورت ‪ -‬والمنعرج الهرمنيوطيقي ‪ -‬والمنعــرج التــداولي ‪ -‬وســميوطيقا‬
‫بيرس (‪ - )C.S.Pierce‬وفلسفة كانط ((‪ E.Kant‬الترنسندنتالية)‪.‬‬

‫الفص ل الث اني‪ :‬إش كالية التواص ل بين هابرم اس وآبل‪ ،‬وتطرقنــا فيــه إلى الحــوار الفلســفي‬
‫الساخن الذي جرى بين آبل وهابرماس حول مشروع "إتيقا التواصل"‪ ،‬وهنا تطرقنا أوال إلى‬
‫المشروع الفلسفي لهابرماس المعروف بنظرية الفعــل التواصــلي وهيكلــه الفلســفي "التداوليــة‬

‫ج‬
‫مقدمة‬

‫الشاملة"‪ ،‬ثم تطرقنا إلى التحفظات واالعتراضات التي أبــداها آبــل ضــد هــذا المشــروع تحت‬
‫عنوان "آبل والتفكير مع هابرماس ضد هابرماس"‪ ،‬وذلك ألن هذه االعتراضات تمثــل نقطــة‬
‫انطالق آبل في تأســيس مشــروع فلســفي تواصــلي متمــيز عن مشــروع زميلــه هابرمــاس‪ ،‬ثم‬
‫تطرقنا إلى المشروع البديل الذي يقدمه آبل والمعروف بـ "التداولية الترنسندنتالية"‪ ،‬وانطلقنا‬
‫فيه من ضبط المفاهيم التي يتأسس عليها هذا المشروع (اللغة ‪ -‬الحجاج ‪ -‬النقــاش ‪ -‬البينذاتيــة‬
‫‪ -‬المسؤولية)‪ ،‬ثم تحدثنا عن التداولية الترنســندنتالية باعتبارهــا قــراءة جديــدة من طــرف آبــل‬
‫للفلسفة الكانطية اعتمادا على سميوطيقا بيرس وتشــارلس مــوريس (‪ ،)C.Morris‬ثم تحــدثنا‬
‫عن هــذه التداوليــة الترنســندنتالية باعتبارهــا نظريــة للعلــوم االجتماعيــة في نظــره لتجــاوز‬
‫التعارض بين الموقف التأويلي الذي يعتمد على الفهم والموقف الوضعي القائم على التفسير‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬إتيقا (أخالقيات) التواصل‪ ،‬وهو الفكرة المركزية في بحثنا هذا‪ ،‬وتطرقنــا فيــه‬
‫إلى "إتيقا النقاش والمسؤولية" التي تمثل العمود الفقري للمشــروع الفلســفي التواصــلي آلبــل‪،‬‬
‫وتحدثنا فيه أيضا عن تطبيقات إتيقا النقاش في مختلف مجاالت النشـاط اإلنسـاني االجتماعيـة‬
‫واالقتصادية وحتى الرياضية‪ ،‬وتناولنا فيه أيضا إتيقــا العلم والسياســة من منظــور آبــل‪ ،‬حيث‬
‫حاولنــا أن نعــرف موقــف آبــل من التطــورات الحاصــلة في مختلــف مجــاالت العلم والتقنيــة‪،‬‬
‫وموقفــه أيضــا من أهم القضــايا السياســية الراهنــة كالتهديــد النــووي واألزمــة اإليكولوجيــة‬
‫والعالقات الدولية خاصة العالقات بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬ما بع د فلس فة التواصل‪ ،‬والغرض منــه تقــديم قــراءة نقديــة لفلســفة التواصــل‬
‫عموما ولفلسفة آبل خصوصا من أجل تجاوزهــا‪ ،‬وتطرقنــا فيــه إلى مختلــف االنتقــادات الــتي‬
‫وجهت إلى فلســفة التواصــل بصــفة عامــة من طــرف جيــل دولــوز (‪ )G.Deleuz‬وســيال بن‬
‫حــبيب (‪ )S.Benhabib‬وحســن مصــدق‪ ،‬وفلســفة آبــل بصــفة خاصــة من طــرف هابرمــاس‬
‫وجان مارك فــيري (‪ )J.M.Ferry‬وهــانس ألــبرت (‪ ،)H.Albert‬ثم تطرقنــا فيــه أيضــا إلى‬
‫االنتقادات الخاصة التي وجهها رائد الجيـل الثــالث لمدرســة فرانكفــورت "أكسـيل هـونيث" (‬
‫‪ )A.Honneth‬لفلسفة التواصل عند هابرماس وآبل‪ ،‬ألن هذه االنتقــادات كــانت أيضــا نقطــة‬

‫د‬
‫مقدمة‬

‫انطالق هونيث لتأسيس مشروع فلسفي جديــد عــرف بــ "فلســفة االعــتراف"ـ كتجــاوز وبــديل‬
‫للمشروع الفلسفي التواصلي‪.‬‬

‫خاتمة‪ :‬وتم فيها حوصلة النتائج المتوصل إليها من خالل هذه الدراسة التحليلية النقدية لفلسفة‬
‫كارل أوتو آبل ‪.‬‬

‫ولإلحاطة واإللمام بهذا الموضوع من كل جوانبــه (من اإلشــكالية ‪ -‬إلى الســياق ‪ -‬إلى‬
‫التحليل ‪ -‬إلى النقد والتجاوز) اعتمدنا في هذا البحث المنهج التحليلي النقدي الذي يتناســب في‬
‫رأينا مع طبيعة موضوع البحث واإلشكالية التي يطرحها‪ ،‬كما اعتمدنا أحيانـا المنهج التحليلي‬
‫التاريخي خاصة في المبحث الثاني من الفصل األول ألن محاولتنا التعريف بآبل ومرجعياتــه‬
‫الفلسفية حتّم علينا التعريف بمدرسة فرانكفورت وبمراحلها الثالث وبــأهم رواد كــل مرحلــة‪،‬‬
‫والتعريف كذلك بالمنعرج الهرمنيوطيقيـ والمنعرج التداولي وروادهما‪ ،‬وبفلسفة البراجماتزم‬
‫والسميوطيقا عند بيرس‪ ،‬وكذلك بالفلسفة الترنسندنتالية الكانطية‪ ،‬ول ّمــا كــانت غايتنــا تــتراوح‬
‫بين العام الذي هو فلسفة التواصل‪،‬ـ والخاص الذي هو فلسفة أحد فالسفة هذا المجال وهوآبل‪،‬‬
‫فإننا لم نفصل بين هذين المستويين في عرضنا لألفكار‪ ،‬حيث قمنا بالمزاوجــة في كــل فصــل‬
‫وفي كــل مبحث وكــل مطلب تقريبــا بين العــام والخــاص‪ ،‬ليســهل فهم الخــاص ضــمن ســياقه‬
‫الفلسفي العام‪ ،‬حيث كنا نضع كل قضية في سياقها العام ليتلوها تحليل موقف كارل أوتو آبل‪.‬‬

‫أما فيما يخص الدراسات السابقة حول فلسفة آبل‪ ،‬فإننــا الحظنــا عــدم وجــود دراســات‬
‫أكاديميــة جامعيــة حــول هــذا الفيلســوف باللغــة الفرنســية واللغــة العربيــة‪ ،‬باســتثناء دراســتين‬
‫جامعيتين‪ ،‬إحداهما باللغــة الفرنســية‪ ،‬وهي أطروحــة لنيــل شــهادة الــدكتوراه بجامعــة نــانت (‬
‫‪ )Nanntes‬تمت مناقشتها سنة ‪( 2010‬وهي منشورة اآلن)‪ ،‬تم إعــدادها من طــرف البــاحث‬
‫الفرنسي ‪ Martin Le CORRE CHANTECAILLE‬تحت إشراف األستاذ ‪André‬‬
‫‪ ،STANGUENNEC‬بعنوان "التفكير مع وضد‪ :‬التداولية الترنسندنتالية عند كارل أوتــو‬
‫آبل"‪ ،« » La pragmatique transcendantale de Karl-Otto Apel‬أ ّما الدراسة‬
‫الثانية فكانت باللغــة العربيــة‪ ،‬وهي مــذكرة لنيــل شــهادة الماجســتير بجامعــة قســنطينة أعـ ّدها‬

‫ه‬
‫مقدمة‬

‫الطالب توفيق بن محمد تحت إشراف األستاذ جمال حمــود‪ ،‬بعنــوان "كونيــة أخالق المناقشــة‬
‫والمسؤولية عند آبل" (غير منشورة) تمت مناقشتها في ‪ ،2014‬وعلى العموم فإن كارل أوتو‬
‫آبل فيلسوف غير معروف بصفة كاملة خارج الثقافتين األلمانية واألنجلوساكسونية‪ ،‬أي غــير‬
‫معروف بصفة جيدة في الثقافة الفرنسية وفي الثقافة العربية‪ ،‬فرغم أن معظم أعماله تــرجمت‬
‫إلى اللغة الفرنسية فإنه ال توجد حولــه دراســات كاملــة ومســتقلة باســتثناء الدراســة المــذكورة‬
‫سابقا‪ ،‬حيث غالبا ما يتحــدث عنــه الدارســون عنــدما يتطرقــون إلى المرحلــة الثانيــة لمدرســة‬
‫فرانكفــورت‪ ،‬أوعنــدما يبحثــون في فلســفة التواصــل‪ ،‬أوعنــدما يتحــدثون عن فلســفة زميلــه‬
‫هابرماس‪ ،‬أما في الثقافة العربية فإنه لم يترجم من أعمالـه إال مؤلفـا واحـدا هـو "التفكـير مـع‬
‫هابرماس ضد هابرماس"‪ ،‬ترجمه الباحث الجزائــري عمــر مهيبــل‪ ،‬وأمــا الدراســات الكاملــة‬
‫والمستقلة حوله فمنعدمة باســتثناء الدراســة الــتي أشــرنا إليهــا ســابقا‪ ،‬وال يــذكر إال في مجــال‬
‫الحديث عن مدرسة فرانكفــورت الثانيــة المرادفــة لفلســفة التواصــل‪ ،‬أو عنــدما يتم البحث في‬
‫فلسفة زميله هابرماس‪ ،‬كما الحظنا ذلك في بعض الدراسات التي اعتمدناها في هذا البحث‪.‬‬

‫والشك أن هذا البحث كغيره من األبحاث الجامعيــة عامــة واألبحــاث الفلســفية خاصــة‬
‫واجهتنا فيه صعوبات عديدة‪ ،‬من أهمها كما أشرنا سابقا انعدام مصادر هــذا الفيلســوف باللغــة‬
‫العربية‪ ،‬وندرة الدراسات حوله أيضا باللغة العربية‪ ،‬وهو األمر الذي حتم علينــا التعامــل مــع‬
‫النص المصدري مباشرة باللجوء إلى النصوص المترجمة إلى الفرنسية (ألن معظم األعمــال‬
‫األساسية آلبل المتعلقة ببحثنا مترجمة إلى اللغة الفرنسية)‪ ،‬وأيضا إلى الدراسات القليلة حوله‬
‫باللغة الفرنسية‪ ،‬وهو األمر الذي استهلك منا جهدا كبيرا ووقتا طويال‪ ،‬ونود أن نشير هنــا إلى‬
‫أننا لسنا من المترجمين المحترفين ولهذا فإننا على يقين بأننا إذا كنا قد وفقنا في هذا األمر في‬
‫بعض األحيان‪ ،‬فإننا ربما كنا عرضة للخطأ أيضا في أحيان أخرى‪.‬‬

‫وما دفعنا إلى البحث في هذا الموضوع هو رغبتنا اقتحام حقــل فلســفي جديــد بــاقتراح‬
‫وتشجيع من أستاذنا الفاضل "سواريت بن عمر"‪ ،‬إذ تأكد لنا بعــد اإلطالع األولي على بعض‬
‫األبحــاث في فلســفة التواصــل المعاصــرة مــدى أهميــة هــذا الموضــوع ومكانتــه الممــيزة في‬
‫الفلسفة‪ ،‬ومدى مساهمة رواده في إثراء المنتوج الفلسفي المعاصــر‪ ،‬ولقــد وقــع اختيارنــا على‬
‫و‬
‫مقدمة‬

‫فلسفة التواصل ونظرية التأسيس النهائي*عند كارل أوتو آبل كنمــوذج في هــذا البحث‪ ،‬لكونــه‬
‫يعتبر أحد أشهر فالسفة اإلتيقا والتواصل في الربع األخير من القرن الماضــي‪ ،‬ولكن أعمالــه‬
‫وفلسفته لم تحظ بالدراسة واالهتمام في الثقافة العربية بخالف أعمال وفلسفة زميله هابرماس‬
‫الذي نقلت العديد من أعماله للغة العربية وأجريت حول فلسفته دراسات عديدة تمت االستعانة‬
‫بها في هذا البحث‪ ،‬فاستقراء الحقل الفلسفي العربي المعاصــر يثبت بالنســبة لفلســفة التواصــل‬
‫بصفة عامة‪ ،‬وفلسفة آبل بصفة خاصة‪ ،‬وجود نقص كبير وفراغ رهيب بحثا ودراســة وتأليفــا‬
‫وترجمة في هذا المجال الفلسفي‪ ،‬ومن هنا فإن بحثنا يندرج في إطار المجهود المرغــوبـ فيــه‬
‫للمساهمة في التعريف بفلسفة التواصل عامة وفلسفة آبل خاصة‪ ،‬وهو عمل نعتقد أنــه يســاعد‬
‫إلى جانب غيره في البداية على تجاوز النقص وملء الفراغ في هذا المجال الفلسفي الهــام في‬
‫الثقافة العربية الراهنة‪ ،‬وهللا ولي التوفيق‪.‬‬

‫*‪ -‬التأسيس النهائي‪ :‬تعد مشكلة التأسيس من أقدم وأهم المشكالت الفلسفية‪ ،‬ولكنها لم تطرح بحدة كما طرحت في الفلس فة األلماني ة‬
‫المعاصرة‪ ،‬حيث كانت موضوعا لحوار فلسفي س اخن خاص ة بين ك‪.‬أ‪.‬آب ل وك ولمن ‪ Kuhlmann‬من جه ة وخص ومهما من داخ ل‬
‫مدرس ة فرانكف ورت وعلى رأس هم هابرم اس ومن خارجه ا وبالتحدي د من فالس فة العقالني ة النقدي ة وعلى رأس هم ه انس أل برت‬
‫‪ H.Albert‬من جه ة أخ رى‪ ،‬حيث داف ع آب ل وك ولمن على إمكاني ة وقابلي ة الفلس فة واألخالقي ة للتأس يس النه ائي في حين رفض‬
‫هابرماس وألبرت ذلك‪ ،‬ومن هذا المنطلق يعد مفهوم التأسيس من المفاهيم المركزية في المشروع الفلسفي آلبل‪ ،‬حيث ظل آبل يدافع‬
‫عن فكرة التأسيس النهائي للعقل والفلسفة واألخالقية حتى اشتهرت نزعته الفلسفية بالتأسيسوية ‪ Fondationnisme‬تمي يزا له ا‬
‫عن نزعة زميله وخصمه هابرماس نزعة إعادة البناء ‪ ،Reconstructionnisme‬فمامعنى التأسيس في نظر آبل؟‪ « .‬إن المفهوم‬
‫الشائع عن التأسيس هو أنه محاولة لتقديم أسس سواء لألحكام (القضايا) أو لألفعال أو للمعايير تثبت صدقها وصحتها‪ ،‬أما مفهوم ه‬
‫عند آبل فهو يختلف عن ذلك‪ ،‬فهو يرفض التأس يس الفلس في الق ائم على االس تنتاج المنطقي (اس تنتاج قض ايا من قض ايا)‪ ،‬حيث إذا‬
‫أردنا أن نرجع المبادئ إلى أمر آخر بصورة استنتاجية فإنه علين ا أن نرج ع ه ذه المب ادئ ب دورها إلى مب ادئ أخ رى وهك ذا إلى م ا‬
‫النهاية له‪ ،‬إن هذا السعي محكوم علي ه بالفش ل‪ ،‬وله ذا ي رى آب ل أنن ا بحاج ة إلى نظ رة أخ رى للتأس يس وعلين ا أن نبحث عن نهج‬
‫تأسيسي آخر‪ ،‬تأسيس تفكري ‪ Reflexive‬باعتباره تفكرا ترنسندنتاليا في ما هو مفروض دائما ومسبقا من شروط إمك ان الحج اج‪،‬‬
‫وبالتالي يصبح التأسيس عند آبل هو التفكير الترنسندنتالي في شروط اإلمكان والص حة لك ل حج اج أي في ش روط إمك ان التأس يس‬
‫والنقد وشروط إمكان صحتهما‪ ،‬وب ذلك يص بح التأس يس علم حج اجي ح ول أفع ال اللغ ة لل ذات التداولي ة الترنس ندنتالية‪ ،‬أو بعب ارة‬
‫أخرى‪ :‬التأسيس عند آبل هو تبرير أو تعليل للمعايير بصورة تجعل الذهاب إلى ما وراءها غير ممكن‪ ،‬وتجعل تأسيس المعايير هذا ال‬
‫يحتاج إلى تأسيس آخر‪ ،‬ومنه يتضح أن التأسيس النهائي الذي سعى إليه آبل في مشروعه الفلسفي ليس تأسيس ا اس تنتاجيا منطقي ا‬
‫بل هو تأسيس تداولي ترنسندنتالي يرتكز على أفع ال اللغ ة‪ ،‬فآب ل يط رح من جدي د مس ألة التأس يس الترنس ندنتالي ال تي س بق وأن‬
‫طرحها كانط‪ ،‬ولكن غاية التأسيس عنده لم تعد كما كانت عند كانط هي وحدة الوعي بالذات ب ل ص ارت وح دة تأوي ل الرم وز أي فهم‬
‫الخطاب "بن اء اإلجم اع" في جماع ة حج اج مثالي ة غ ير مح دودة »‪( .‬نقالعن) أبس الون إدمون دس‪ ،‬الم وجز في راهن اإلش كاليات‬
‫الفلسفية‪ :‬مشكل غاية التأسيس وعقالنية الفلسفة‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬ال دار المتوس طية للنش ر ومؤسس ة محم د بن راش د‬
‫آل مكتوم‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‪ ،2009 ،1‬ص‪[ ،‬من ‪ 249‬إلى ‪ ،]252‬بتصرف‪.‬‬

‫ز‬
:‫الفصل األول‬
« Karl-Otto Apel se présente comme un néokantien "un Kant revu et corrigé par
Peirce"» Daniel Andler et al, philosophie des sciences I, édition Gallimard, 2002, p, 188.

‫ دانيال أندلر‬.»‫ هو كانط مصحح ومنقح من طرف بيرس‬:‫«إن كارل أوتو آبل كانطي جديد‬
‫‪ -I‬الفصل األول‪ :‬المرجعيات الفلسفية لتأسيسوية آبل‬
‫مدخل‬
‫‪ - 1‬المبحث األول‪ :‬اإلطار المفاهيمي للبحث‬
‫أ ‪ -‬المطلب األول‪ :‬مفهوم اإلتيقا ومجاالتها‬
‫ب ‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬مفهوم التواصل ومجاالته‬

‫‪- 2‬المبحث الثاني‪ :‬اإلطار التاريخي والفلسفي للبحث‬


‫أ ‪ -‬المطلب األول‪ :‬كارل أوتو آبل و مدرسة فرانكفورت‬
‫ب ‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬المرجعيات الفلسفية المتعددة لكارل أوتو آبل‬

‫خالصة‪.‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫‪- I‬المرجعيات الفلسفية لتأسيسوية آبل ‪:‬‬


‫مدخل‪:‬‬
‫يتأسس هذا البحث على مجموعة من المفاهيم األساسية تمثل المفاتيح الخاصة إلنجازه‬
‫وفهمه‪ ،‬ومن أهم هذه المفاهيم اإلتيقا (‪ )Éthique‬والتواصل (‪)Communication‬‬
‫واألخالق (‪ )Morale‬واللغة (‪ )Langage‬والتـداوليـة (‪ )La pragmatique‬والتـداوليـةـ‬
‫الترنسندنتالية (‪ )Pragmatique transcendantale‬والتداولية الشاملة (‪Pragmatique‬‬
‫‪ )universelle ou formelle‬والحجاج (‪ )L’argumentation‬والنقاش (‪)Discussion‬‬
‫والبينذاتية (‪ )Intersubjectivité‬والمسؤولية (‪ )Responsabilité‬وغيرها‪ ،‬وقد ارتأينا أن‬
‫نخصص في الفصل األول من هذا البحث مبحثا لضبط المفهومين المركزيين في هذا‬
‫الموضوع اللذين يتشكل منهما عنوان هذا العمل أال وهما‪ :‬اإلتيقا والتواصل وذلك بتخصيص‬
‫مطلب مستقل لكل منهما‪ ،‬أما المفاهيم األخرى ذات الصلة بالمفهومين المركزيين فسيأتي‬
‫الحديث عنها في سياق التحليل‪ ،‬وأما المبحث الثاني من هذا الفصل فتم تخصيصه لتحديد‬
‫اإلطار التاريخي والفلسفي للبحث‪ ،‬وذلك من خالل تحليل السيرة المعرفية لكارل أوتو آبل‬
‫وعالقته بمدرسة فرانكفورت وتحليل المرجعيات الفلسفية المختلفة والمتعددة التي ساهمت‬
‫في تبلور فكره من المنعرج الهرمنيوطيقيـ إلى المنعرج التداولي إلى فلسفة البراجماتزم‬
‫والسميوطيقا األمريكية إلى الفلسفة الترنسندتالية الكانطية‪.‬‬

‫‪ - 1‬المبحث األول‪ :‬اإلطار المفاهيمي للبحث‬

‫أ ‪ -‬المطلب األول‪ :‬مفهوم اإلتيقا‪ ‬ومجاالتها‬

‫يعد مفهوم "اإلتيق ا" من أهم المفــاهيم المتداولــة في الفلســفة المعاصــرة‪ ،‬ولكنــه مفهــوم‬
‫يتداخل ويلتبس معناه كثيرا مع مفهوم آخــر ونعــني بــه "األخالق"‪ ،‬ولهــذا فــإن داللــة اإلتيق ا‬
‫تتحدد من خالل مقارنتها بمفهــوم األخالق والتميــيز بينهمــا‪ ،‬لــذلك البــد في البدايــة من تحديــد‬
‫مفهوم األخالق لغة واصــطالحا‪ « :‬األخالق في اللغــة العربيــة هي جمــع خلــق‪ ،‬وهــو العــادة‬
‫والسجية والطبع والمروءة‪ ،‬والدين‪ ،‬وعند القدماء هي ملكة تصدر بها األفعــال عن النفس من‬

‫‪10‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫غير تقدم روية وفكروتكلف »*‪ ،‬ويعني هذا أن األخالق صفة فطرية في اإلنســان تطلــق على‬
‫األفعال الصادرة عنه (حسنة أو سيئة)‪ ،‬فنقول فالن كريم أو سيئ األخالق‪.‬‬

‫وتعني األخالق في االصــطالح الفلســفي « علم الســلوك‪ ،‬أو فلســفة األخالق‪ ،‬أو الحكمــة‬
‫العملية والمقصود به معرفة الفضائل وكيفية اقتنائها‪ ،‬لتزكو بها النفس ومعرفة الرذائل لتتنزه‬
‫عنهــا »†‪ ،‬وهــو كمــا نعلم أحــد المبــاحث األساســية في الفلســفة‪ ،‬والــذي ينــدرج ضــمن إطــار‬
‫ما يعرف بفلسفة القيم (األكسيولوجيا) إلى جانب مبحثي الجمال والحق‪ ،‬فهل األخالق واإلتيقا‬
‫مفهوم واحد؟ وإذا لم يكن األمر كذلك‪ ،‬فما الفرق بينهما؟ و ماحقيقة العالقة القائمة بينهما؟‬

‫ورد في الموسوعة الفلسفية ألندري اللند ‪ « André Lalande‬اإلتيقا ‪ Éthique‬هي‬


‫علم موضوعه الحكم التقويمي القائم على التمييز بين الخير والشر »‡‪ ،‬ويضيف قائال‪ « :‬ثمــة‬
‫ثالثة مفــاهيم ينبغي الفصــل بينهــا‪ :‬األخالق وهي مجمــل التعــاليم المســلم بهــا في عصــر وفي‬
‫مجتمع محددين والمجهود المبذول في سبيل االمتثال لهذه التعاليم والحض على اإلقتــداء بهــا‪،‬‬
‫والمقصــود بهــا هنــا طبعــا "‪ ،"Morale‬والعلم العملي وموضــوعه ســلوك اإلنســان بصــرف‬
‫النظر عن األحكام التقويمية التي يطلقها الناس على هذا السلوك ويقترح أن يسمى هذا العلم "‬
‫‪ "Éthographie‬أو "‪ ،"Éthologie‬والعلم الـــذي يتخـــذ موضـــوعا مباشـــرا لـــه األحكـــام‬
‫التقويمية على األعمال الموسومة بأنها حسنة أو قبيحة‪ ،‬وهذا نقترح أن يسمى ‪.§» Éthique‬‬

‫وعن الفرق والعالقة بين ‪ Éthique‬و‪ Morale‬يقول طه عبد الرحمن في كتابــه ســؤال‬
‫األخالق‪ « :‬استعمل اليونان للداللة على هــذا الموضــوع لفــظ "‪ "Ethikos‬أي "خلقي" وهــو‬
‫الذي نقله الالّتين إلى لغتهم بلفــظ "‪ ،"Moralis‬وقــد اســتعمل المتقــدمون من فالســفة الغــرب‬
‫اللفظين بمعنى واحــد باعتبارهمــا مــترادفين [‪ ]...‬أمــا المعاصــرون منهم فــأبوا إال أن يفرقــوا‬

‫* ‪ -‬صليبا جميل‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬بيروت ‪ ،1982‬ص‪.49 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪.50 ،‬‬

‫‪ -‬اللند أندري‪ ،‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ترجمة خليل أحمد خليل‪ ،‬مؤسسة عويدات‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ، 2001 ،1‬ص ‪.370‬‬ ‫‡‬

‫§ ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪.371‬‬

‫‪11‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫بينهما »*‪ ،‬ويضيف قائال بشأن هذا التميــيز بينهمــا‪ « :‬البعض يجعــل "‪ "Morale‬عبــارة عن‬
‫جملة األوامر والنواهي المقررة عند مجتمع مخصوص وفي فترة مخصوصة في حين تكــون‬
‫"‪ "Éthique‬عنده عبارة عن العلم الذي ينظر في أحكام القيمة التي تتعلق باألفعــال إن حســنا‬
‫أو قبيحا‪ ،‬وآخرون يستعملون التفرقــة الــتي أقامهــا كان ط بين مــذهبين اثــنين‪ ،‬مــذهب األخالق‬
‫الذي يقوم على الواجبات العامــة‪ ،‬ومــذهب الســعادة الــذي يقــوم على النصــائح الخاصــة الــتي‬
‫ترشد إلى الحياة المثلى‪ ،‬فقد جعل بعضهم كلمة "‪ "Morale‬دائرة على الــواجب الكلي وكلمــة‬
‫"‪ "Éthique‬دائرة على الحياة الطيبة »†‪.‬‬

‫وفي نفس اإلطار ذهب محمد عابد الج ابري إلى التميــيز بين المفهــومين بكيفيــة أوضــح‬
‫فيقــول‪ « :‬هنــاك في اللغـات األوروبيـة لفظــان يقـابالن كلمــة "األخالق" عنـدنا‪ :‬اللفـظ األول‬
‫يوناني األصل وهو "‪ "Éthique‬والثاني روماني األصل وهو "‪ ،"Morale‬واللفظان بمعنى‬
‫واحد‪ :‬العادات األخالقية‪ ،‬إلى حــدود النصــف الثــاني من هــذا القــرن ( أي القــرن العشــرين )‬
‫كانت كلمة "‪ "Morale‬هي السائدة في الكتابات الفلسفية‪ ،‬أما اليــوم ومنــذ بضــعة عقــود‪ ،‬فقــد‬
‫تـــراجعت هـــذه الكلمـــة لفائـــدة "‪ "Éthique‬الـــتي يكـــثر اســـتعمالها بصـــورة غطت على‬
‫مرادفتها »‡‪ ،‬ويضيف قائال بخصوص هذا المفهوم في اللغة العربيــة‪ « :‬ليس هنــاك في اللغــة‬
‫العربية كلمتان مترادفتان بنفس المعنى "األخالق" [‪ ]...‬ومن أجل ذلــك يميــل الكتــاب العــرب‬
‫اليوم إلى استعمال لفظة أخالق بمعنى «‪ ،»Morale‬وأخالقيات بمعنى "‪ ،"Éthique‬والفرق‬
‫بين المعنيين كما أخذ يتبلور في الفكر األوروبي المعاصــر‪ ،‬هــو أن كلمــة "‪ "Morale‬تحيــل‬
‫إلى سلوك الفرد البشري‪ ،‬بينما تحيل الكلمــة الثانيــة "‪" "Éthique‬أخالقيــات" إلى القيم الــتي‬
‫تخص المجتمع‪ ،‬وبعبارة أخرى تنظم األخالق فضاء الفضيلة الفردية‪ ،‬بينمــا تنظم األخالقي ات‬
‫فضاء القيم االجتماعية »§‪.‬‬

‫* ‪ -‬طه عبد الرحمن‪ ،‬سؤال األخالق "مساهمة في النقد األخالقي للحداثة الغربية"‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‪ ،2000 ،1‬ص‪. 17‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪ ،‬ص ‪. 18 ،17 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬الجابري محمد عابد ‪ ،‬قضايا الفكر المعاصر ‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط‪ ، 1997 ، 1‬ص ‪. 64‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 64‬‬

‫‪12‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫كما ميز بينهما عمر مهيبل تمييزا واضحا ومختصرا بقولــه‪ « :‬تشــير اإلتيقــا إلى الجهــد‬
‫النظري المبذول لبلورة المبادئ التي تنظم عالقاتنا مع اآلخرين‪ ،‬في الوقت الذي تحتفــظ فيــه‬
‫األخالق بمهمتها التاريخية البدئية وهي وضع المبادئ موضع التطبيق والممارسة »*‪.‬‬

‫أمـا مـونـيـك كـانـتـو‪-‬ســبـيـربـيـر ‪ Monique Canto-Sperber‬وروفـيـن أدجيـان‬


‫‪ Ruwen Ogien‬في عملهما المشترك "الفلسفة األخالقية" فإنهما رأيا أنه على الرغم من‬
‫الفرق الواضح بين المفهومين فإنه يمكننا استعمالهما بنفس المعـنى ويقـوالن في هـذا السـياق‪:‬‬
‫» إن االستعمال الذي نقوم به في أيامنا هذه قد ترك اختالفا بين التعبيرين‪ ،‬فتعبــير األخالق "‬
‫‪ "morale‬يشير غالبا إلى اإلرث المشترك للقيم الكلية الكونية التي تطبق على أفعــال البشــر‪،‬‬
‫من هنا جاءت الداللة التقليدية‪ ،‬وبالمقابل فإن المفردة األخالقية "‪ "éthique‬غالبا ما تســتعمل‬
‫من أجل أن تدل على ميدان أضيق هو ميدان األعمال المتصلةـ بالحياة اإلنسانية‪ ،‬بهذا المعــنى‬
‫فإنها بمنأى عن أن يعاب عليها أنها "وعظية" كما يعاب على كلمــة أخالق‪ ،‬ولكن علينــا عــدم‬
‫المبالغة في اختالف المعنى بين هاتين الكلمتين‪ ،‬إذ يمكن في العديــد من الحــاالت أن نســتعمل‬
‫الواحدة بدل األخرى »†‪  .‬‬

‫وفي الستينيات من القرن الماضي ظهر في الفلسفة الغربية المعاصرة مفهوم جديد تحت‬
‫اسم األخالقيات التطبيقية "‪ ،"Éthiques Appliquées‬فما المقصود بذلك ؟‬

‫جاء في معجم اإلتيقا والفلسفة األخالقية‪ « :‬إن العالقة بين الفلسفة واإلتيقا أسست لظهور‬
‫مشكلة فلسفية جديدة في الفكر الفلسفي المعاصر‪ ،‬حيث ظهر مفهوم فلسفي جديد في الســتينات‬
‫بالواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬وهذا المفهوم يعبر عن حقــل جديــد من المشــكالت اإلتيقيــة على‬
‫المســرح االجتمــاعي وخاصــة في ســنوات الســبعينات ومن أهم هــذه المشــكالت والمجــاالت‬
‫الجديدة "البيوإتيقا" و"إتيقا البيئة" و"إتيقا األعمال" أو"اإلتيقا المهنية"»‡‪.‬‬

‫* ‪ -‬هابر ماس يورغن ‪ ،‬إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة ‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل ‪ ،‬الدار العربية للعلوم ومنشورات االختالف‪ ،‬لبنان‬
‫والجزائر‪ ،‬ط‪ ( ،1،2010،‬مقدمة المترجم ص ‪. )7‬‬

‫† ‪ -‬سبيربير‪ -‬كانتو مونيك وروفين أدجيان‪ ،‬الفلسفة األخالقية‪ ،‬ترجمة جورج زيناتي‪ ،‬دار الكتاب الجديد المتحدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2008‬‬

‫‪13‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫ومعنى هذا أن اإلتيقا العملية هي مجال فكري جديد فرضــه وطرحــه اســتعمال الوســائل‬
‫التقنية في مجال الطب وهذا ما تبحث فيه "البيوإتيقا" أو"أخالقي ات الحي اة"‪ ،‬بينمــا "إتيق ا‬
‫البيئة" تنظر وتبحث في التصرفات التي يجب أن نبادر بها اتجــاه مختلــف المنــاطق الحيويــة‬
‫من الطبيعة سواء أكانت نباتية أو حيوانية أو مائية ألن الحياة في هــذا العــالم أصــبحت مهــددة‬
‫بالتلوث وتعيش وضعا كارثيا يشكل خطرا حقيقيا على اإلنسان والبيئة معا‪ ،‬وهو األمــر الــذي‬
‫دفع بــالكثير من الفالســفة المعاصــرين إلى االهتمــام بهــذين المجــالين‪ ،‬أمــا "إتيق ا األعم ال"‬
‫أو"أخالقيات المهنة" فتبحث في القيم المهنية والواجبات والمســؤوليات المســندة إلى العمــال‬
‫بموجب الوظائف الــتي يمارســونها‪ ،‬فم ا مع نى أخالقي ات البيئ ة‪ ،‬وم ا المقص ود بأخالقي ات‬
‫الحياة‪ ،‬واألخالقية المهنية؟ وماهي ظروف نشأة هذا الحقل الفلسفي الجديد ؟‬

‫أخالقيات البيئ ة (األخالق اإليكولوجي ة) ‪ « :L’éthique de l’environnement‬هي‬


‫من أقسام األخالق العملية‪ ،‬نشأ منذ ثالثين عاما وموضوعه المعايير والقيم الــتي تــدور حــول‬
‫العالقــات بين اإلنســان والكائنــات الحيــة األخــرى‪ ،‬كمــا أنــه يســجل اآلثــار الســلبية للقــوة‬
‫التكنولوجية واالقتصادية‪ ،‬ثم أنـه يهتم بتأسـيس رؤيـة جديــدة لمســؤولية اإلنســان عن مســتقبل‬
‫الحياة في هذا الكـوكب‪ ،‬وهـذا العلم على صـلة بـاألخالق البيولوجيـة‪ ،‬ونشـأ هـذا العلم بسـبب‬
‫أزمة حادة واجهت المجتمع الصناعي وبسبب الوعي بتلوث الهواء والمياه والتربــة و تــدهور‬
‫البيئة إلى الحد الذي قامت فيه المظاهرات وصدر تقرير نــادي رومــا ســنة ‪ 1972‬وكــان كــل‬
‫ذلك تعبيرا عن الهلع من هذا المشكل الذي قد يفضي باإلنســانية إلى أزمــة خطــيرة إذا اســتمر‬
‫األمر على هذا الحال »*‪.‬‬

‫ويتضح من التعريف السابق أن اتيقا البيئة هي فلسفة أخالقية جديدة تريد توجيه الــوعي‬
‫نحو النشاطات اإلنسانية واتجاه البيئة الطبيعية وتدافع عن اتيقا للمسؤولية اتجاه هذه الطبيعــة‪،‬‬
‫وهي فلسفة تُح ّمل اإلنسان مسؤولية ما آلت إليه الطبيعة من تلوث عام ال حدود له واســتنزاف‬

‫‪-Monique Canto-Sperber,dictionnaire d’éthique et de philosophie morale, 1 erÉdition1996, P.U.F,‬‬


‫‡‬

‫‪Paris, pp, 534,535.‬‬

‫* ‪ -‬وهبة مراد‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬دار قباء الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،2007 ،‬ط ‪ ،5‬ص‪ ،‬ص‪.35 ،34 ،‬‬

‫‪14‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫للموارد الطبيعية‪ ،‬وأدى هذا إلى انتشار الوعي بالدفاع عن البيئة الطبيعيــة الــتي أصــبحت في‬
‫حالة هشة نظرا لمــا تعرضـت لــه من أحــداث‪ ،‬كمـا نبهت هـذه الفلســفة الجديــدة أيضــا إلى أن‬
‫التطور االقتصادي والصناعيـ والعمراني للمجتمع المتوجه نحو االستهالك التجاري ال يحقق‬
‫النجاة والخالص وال يمكنه الصمود أمام النتائج المرعبة لتدهور البيئة‪.‬‬

‫ولهذا فإن مشكلة الوعي بحماية البيئة أنتجت تفكــيرا فلســفيا غزيــرا في هــذا الموضــوع‪،‬‬
‫ـواز لعلم خـاص يهتم بهــذا الموضــوع ويــدعى علم البيئة أو اإليكولوجي ا‬
‫وهو فكــر فلســفي مـ ِ‬
‫‪ L’écologie‬وهو علم يدرس الوسط الطبيعي للكائنات الحية‪ ،‬ومن الفالسفة الذين بحثوا في‬
‫هذا الموضوعـ نجد الفيلسوف الفرنســي المعاصر ل وك ف يري ‪Luc Ferry‬الــذي دافــع عن‬
‫البيئة وتحدث عن فكرة"حقوق الطبيعة" في كتاب شهير (النظام الجديد لإليكولوجيا)‪.‬‬

‫وكذلك يعتبر الفيلسوف والثيولوجي األلماني المعاصر هانس يون اس ‪Hans Jonas‬‬
‫) ‪ (1903 - 1993‬من أهم فالسفة اإلتيقا المعاصرين‪ ،‬اشتهر بكتابه "مبدأ المسؤولية‪ :‬نحو‬
‫إتيقا للحضارة التكنولوجية" ‪ "″Le principe de la responsabilité‬الذي أصــدره‬
‫سنة ‪ ،1979‬وكذلك بعمل آخر هو "نحو إتيقا للمستقبل"‪ ،‬وقد نظر هانس يوناس في الشــروط‬
‫الجديدة المفروضة على النشاط اإلنساني بواسطة التحوالت البيئية‪ ،‬واقــترح إتيقــا للمســؤولية‬
‫اتجاه األجيال المقبلة‪ ،‬وهذه اإلتيقا كما يرى هانس يوناس تتجاوز المجال التقليدي لإلتيقا الذي‬
‫كان يركز على أساس مجال عالقات اإلنسان مع نفسه ومــع الغــير‪ ،‬وبمــا أن اإلتيقــا التقليديــة‬
‫تتمحور حول اإلنسان فهي غير قادرة على منح معايير لتصرفات صحيحة اتجاه الطبيعة‪.‬‬

‫ويعتبر "مبدأ المسؤولية" من أهم األعمال المعاصرة التي تنتقــد الحداثــة والتقــدم‪ ،‬وهــو‬
‫من أقوى ردود األفعال الفلسفية ضد الخطر الــذي أصــبح يهــدد مســتقبل اإلنســانية والطبيعــة‪،‬‬
‫حيث أعرب فيه هانس يوناس عن مخاوفــه من تطــور البحث العلمي في المجتمعــات الغربيــة‬

‫‪ - ‬لوك فيري (‪ )..-1952‬سياسي وفيلسوف فرنسي معاصر‪ ،‬عمل أستاذا للفلسفة ثم وزي را للتربي ة الوطني ة (‪ ،)2004-2002‬من‬
‫أهم أعماله الفلسفية ‪ ))Le Novel Ordre écologique‬الذي رأى فيه أن فكرة "حقوق الطبيعة" ليست مج رد فك رة فلس فية‪،‬‬
‫ولكنها فكرة سياسية وحقوقية‪ ،‬ودعا من خالله إلى ضرورة تأسيس أخالقيات إنسانية خاصة بالبيئة‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫المعاصرة‪ ،‬وانتقد فيه القوة الشديدة للتكنولوجيا ونزعتها العدمية المــدمرة للطبيعــة واإلنســان‪،‬‬
‫والتي اختفى معها اإليمان بالقيم المطلقة التي أسســها الــدين والميتافيزيقــا‪ ،‬وربــط يونــاس بين‬
‫الخطر المشترك المحدق بالطبيعة واإلنسانية‪ ،‬وهو خطر شديد يؤدي إلى تشوه أساسي أو إلى‬
‫الفنــاء والقضــاء نهائيــا على الحيــاة*‪ ،‬ولمواجهــة هــذا الخطــر ال بــد من تأســيس إتيقــا تعــنى‬
‫بالمســتقبل‪ ،‬وتفتح قاعــدة لسياســة حكوميــة حكيمــة وراشــدة يكــون اهتمامهــا الرئيســي حمايــة‬
‫الوجود والحياة اإلنسانية على المدى البعيد†‪ ،‬وينطلق يونــاس في ذلــك من مســلمة مؤداهــا أن‬
‫قيمة اإلنسان الطبيعية والثقافية متجذرة ومتأصلة في اإلنسان والطبيعة معا‡‪.‬‬

‫إن إتيقــا المســؤولية عنــد هــانس يونــاس تنبــه إلى األخطــار الــتي يمكن أن تحــدث في‬
‫المستقبل القريب أو البعيد بسبب التصرفات الحمقاء لإلنسان اليوم اتجاه الطبيعة§‪.‬‬

‫إن إتيقــا وسياســة المســؤولية عنــد هــانس يونــاس هي منــع جميــع المؤسســات وخاصــة‬
‫مؤسسات البحث والتطوير العلمي والتقني من أن تتجه نحو الخطر مهمــا كــان بعيــدا ألنــه لن‬
‫يؤدي إالّ إلى تشويه أو تدمير لإلنسانية**‪ ،‬وقد طرح يوناس سؤال التطور ووجــه نقــدا شــديدا‬
‫إلى فكر النهضة واألنوار وأصوله حول المعــنى والقيمــة والحريــة في الفكــر الحــديث والــذي‬
‫تواصل مع مشروع السيطرة على الطبيعة‪ ،‬ألن هذا الفكر يقود إلى العدمية التقنو‪-‬علمية††‪.‬‬

‫ويتضح من ذلك أن فلســفة هــانس يونــاس تأخــذ بجديــة األجيــال المســتقبلية (كمحــاورين‬
‫محتملين) قــدر المســتطاع في الــوقت الــراهن‪ ،‬ألن مســؤوليتنا وواجبنــا ليس هــو ضــمان أن‬
‫يوجدوا فقط ولكن لكي يتمتعوا بشروط اجتماعية ومادية مالءمة ومتناسبة مــع تطــور العقــل‪،‬‬

‫*‬
‫‪-Monique Canto-Sperber, dictionnaire d’éthique et de philosophie morale, Op.Cit, p, 764.‬‬
‫†‬
‫‪-Ibid, p, 764.‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 764.‬‬
‫§‬
‫‪-Ibid, p, 764.‬‬

‫**‬
‫‪-Ibid, p, 764.‬‬
‫††‬
‫‪-Ibid,  p, 764.‬‬

‫‪16‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫أي أن اإلتيقا مع هانس يوناس أخذت بعدا يتمثل في شــعور اإلنســان بالمســؤولية اتجــاه نفســه‬
‫واتجاه غيره وخاصة اتجاه األجيال المستقبلية وكذلك اتجاه البيئة أو الطبيعة‪.‬‬

‫ومن الفالســــفة الــذين اهتمــــوا بهــذا الموضــــــــوع أيضــا نجــد الفرنســي ميش ال س ير‬
‫‪ Michel Serres‬الذي دعا إلى ضرورة إضافة "عق د ط بيعي" إلى "العق د االجتم اعي"‬
‫ألن مسألة البيئــة تتطلب تطــوير فكــر شــامل على المســتوى العلمي وعلى المســتوى الفلســفي‬
‫والعمومي‪ ،‬وفي هــذا يقــول ميشــال ســير‪ « :‬أقصــد بالعقــد الطــبيعي وبالتحديــد الميتــافيزيقي‪،‬‬
‫االعتراف من طرف كل مجموعة تعيش وتعمل في نفس العالم الذي يشمل الجميع‪ ،‬ليس فقــط‬
‫كل مجموعة سياسية مرتبطة بعقد اجتماعي ولكن أيضا كل مجموعة ســواء كــانت عســكرية‪،‬‬
‫تجارية‪ ،‬دينية‪ ،‬صناعية‪ ،‬مرتبطة بعقد قانوني‪ ،‬إن العقد الطبيعي الميتافيزيقي يتجاوز الحــدود‬
‫العاديــة لمختلــف االختصاصــات المحليــة‪ ،‬وهــو أشــمل من العقــد االجتمــاعي الــذي تم بهــذه‬
‫الطريقــة في العــالم‪ ،‬إن العقــد الطــبيعي يــؤدي إلى مــا يمكن اعتبــاره وجهــة نظــر عالميــة‬
‫موحدة »*‪.‬‬

‫أخالقي ات الحي اة ( األخالق البيولوجي ة ) ‪ « :Bioéthique‬نحت هــذا المصـــطلح عـــالم‬


‫أمريكي يدعى ‪ Van Rensslaer Potter‬وهو متخصص في األمراض السرطانية وذلك‬
‫في مقال نشـره عـام ‪ 1970‬عنوانـه "األخالق البيولوجي ة وعلم البق اء"‪ ،‬حيث قـال "الـرأي‬
‫عندي أن األخالق البيولوجية تولــد حكمــة مرتبطــة بكيفيــة اســتثمار المعرفــة من أجــل الخــير‬
‫االجتماعي استنادا إلى معرفة واقعية بالطبيعة البيولوجية لإلنسان وللعلم البيولوجي"‪،‬ـ ثم نشر‬
‫كتابا عام ‪ 1971‬بعنوان "األخالق البيولوجية‪ :‬جسر نحو المستقبل"‪ ،‬وبين من كل ذلــك أن‬
‫األخالق البيولوجية هي ملتقى عدة علوم مثل الطب والبيولوجيا واألخالق الفلسفية والالهوت‬
‫والقانون واالجتماع والتحليل النفسي »†‪.‬‬

‫‪ -‬ميشال سير‪ ،‬ولد سنة ‪ ،1930‬فيلسوف ومؤرخ ورجل أدب فرنسي ‪.‬‬
‫*‬
‫‪- Serres Michel, Le contrat naturel, Édition François Bourin, Paris, 1990, p, p, 78, 79.‬‬

‫†‪ -‬وهبه مراد‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.35 ،‬‬

‫‪ -‬جان برنارد ‪ ،‬طبيب فرنسي مختص في ‪ ، Concérologie Hémotologie‬عمل أستاذ بجامعة باريس ‪.7‬‬

‫‪17‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫يتضح من المفهوم السابق أن البيوإتيقا تعني مجموعة التساؤالت األخالقية واالجتماعية‬


‫والقانونية اتجاه ما يحدث في المجتمع من تطور علمي وتقــني في البيولوجيــا والطب‪ ،‬وحــول‬
‫ماهي المبادئ والقيم التي يجب أن تش ّرع في مواجهة هذه الفتوحات العلمية ؟‬

‫أي أن البيوإتيقا هي سؤال اســتعجالي متعلــق بــالتحكم في الحيــاة في يومنــا الــراهن بعــد‬
‫التطور السريع والمذهل الذي حدث في مجـال البيولوجيـا والطب‪ ،‬فالوصـول إلى االستنسـاخ‬
‫ومنــع الحمــل واالنقطــاع اإلرادي عن اإلنجــاب‪ ،‬واإلنجــاب بمســاعدة طبيــة‪ ،‬والتحكم في‬
‫الخصائص الوراثية من خالل التشخيص قبل الوالدة‪ ،‬والهندسة الوراثية الــتي تســمح بتعــديل‬
‫التراث الجيني لكائن حي ما‪ ،‬يفســر ثــورة بيولوجيــة عصــفت بالتقاليــد وأدت إلى طــرح عــدد‬
‫كبير من المشكالت ليســت من طبيعــة قانونيــة فحســب ولكنهــا أخالقيــة وفلســفية‪ ،‬حيث ينبغي‬
‫االعتراف بــأن للكــائن اإلنســاني قيمــة أخالقيــة وليس مجــرد موضــوع للعلم‪ ،‬ومــع ذلــك فــإن‬
‫البيوإتيقا ليست مهمتها فرض مبادئ قبلية يجب العمل بها في هذا المجال‪ ،‬بل هنا يأخذ معنى‬
‫اإلتيقا اقتراح تساؤالت حول المبادئ التي يمكن أن تكون موضوعا للحوار في هذا المجال‪.‬‬

‫وقد حاول المفكرون اإلجابة عن هذه التساؤالت المتعددة في إطــار مبـادئ القـانون‬
‫والشــرائع الدينيــة المختلفــة الــتي تســير حيــاة اإلنســان وفي اإلطــار الفلســفي والسياســي‬
‫واالجتماعي والفرداني‪ ،‬ويعتبر الطبيب والمفكر الفرنسي جان برنارد ‪Bernard Jean ‬‬
‫)‪ (1907 - 2006‬والذي كان رئيسا ألول جمعية وطنية في فرنسا للبيوإتيقا سنـــــة ‪1983‬‬
‫من أبرز المفكرين في هذا المجال‪ ،‬حيث قام بتحديد التوجهات األساسية للبيوإتيقا ومشكالتها‪،‬‬
‫وتتمثل هذه التوجهات في ما يلي ‪:‬‬

‫‪ -‬احــترام الفــرد‪ :‬اليجب أن يكــون اإلنســان حقال للتجــارب‪ ،‬وال أن يكــون الجســم اإلنســاني‬
‫موضوعا للتجارة بالتجزئة أو بالجملة‪ ،‬أي ال يجب الحديث عن توفير األعضاء الجسمية‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪18‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ -‬مسؤولية العلماء‪ :‬احترام المعرفة التي ال يجب أن تهدف فقط إلى تطوير العلم‪ ،‬ولكن كــذلك‬
‫يجب أن تكون لها نظرة اتيقية ‪ ،‬أي يجب أن يتأسس العلم على مبادئ اتيقية*‪.‬‬

‫ومن المفكرين الذين كان لهم اهتمام بهذه المشكلة نجد كذلك الفرنسي جاك تس تار ‪Ja‬‬
‫‪cques Testart‬الذي دافع بشجاعة على فكــرة وقــف وتعليـق البحث في مجـال البيولوجيــا‬
‫حتى يتسنى لإلتيقا التدخل لوضع معــايير أخالقيــة لضــبط التطــور في هــذا المجــال‪ ،‬وتعــرف‬
‫فكرته هذه بـإتيقا النفي (رفض البحث) ‪ - recherche Une éthique de la non‬وفي‬
‫هذا يقول‪ « :‬ال ينبغي أن نخلـط بين الخاصـية المنطقيـة للبحث العلمي وحركتـه العميـاء نحـو‬
‫التطور‪ ،‬وسأدافع عن منطق (ال‪ -‬لالكتشاف) وأيضا عن إتيقا (ال‪ -‬للبحث)‪ ،‬ويجب أن نتوقف‬
‫عن اإلدعــاء بــأن البحث ســيكون حياديــا‪ ،‬إن التطبيقــات وحــدها هي المؤهلــة لتحديــد مــا هــو‬
‫ايجابي وما هو سلبي في هذه األبحاث‪ ،‬ألنه ثبت لنا أن مجرد االكتشــاف حــتى ولــو لم يطبــق‬
‫[‪ ]...‬يجب أن يعمل وفــق اختيــارات إتيقيــة‪ ]...[ ،‬إن الــدعوة إلى إتيقــا (ال‪ -‬للبحث) [‪ ]...‬هي‬
‫مشــروع طمــوح لفهم مــا قمنــا بــه ســابقا‪ ،‬ومســعى لتنظيم مــا يجب أن نفعلــه‪ ،‬وهــذا شــعور‬
‫وإحساس سيكولوجي (نفسي) بضرورة المشاركة في تفكير متعدد االختصاصات حول معنى‬
‫†‪.‬‬
‫اإلنتاج العلمي »‬

‫األخالقي ة المهني ة‪ :‬إن تطور الحيــاة االجتماعيــة فــرض على أفــراده التخصــص في العمــل‪،‬‬
‫ولكل تخصص مهني متطلباته وأسراره‪ ،‬وهكذا أصبح الحديث عن أخالقيات المهنة ليس فقط‬
‫موضوعا للتشريع القانوني بل كذلك موضوعا فلسفيا‪ ،‬وهذا ما أوضحه مونيك كانتو‪-‬سبيربير‬
‫وروفين أدجيان في كتابهما المشترك "الفلسفة األخالقية" حين قاال‪ « :‬إن مفارقات األخالقيــة‬
‫المهنية يمكن أن تختصر إلى سؤالين‪ ،‬هما موضــع جــدل واســع اليــوم في الفلســفة األخالقيــة‪،‬‬
‫السؤال األول يتصل بتعريف الواجبات األخالقيات بحسب الدور الذي نشغله‪ ،‬وهذا ما يســمى‬
‫*‪ -1‬بوفتاس عمر‪ ،‬البيوإتيقا "األخالقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا"‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬الدارالبضاء‪ ،2011 ،‬ص‪،‬‬
‫ص‪ ( ،207 ،138 ،‬بتصرف ) ‪.‬‬

‫‪ -‬جاك تستار‪ ،‬بيولوجي فرنسيي‪ ،‬ولد سنة ‪ ،1939‬كان وراء ميالد أول طفل أنابيب في فرنسا سنة ‪ ،1982‬ولكنه سرعان ما توق ف‬
‫عن هذه التجارب وأصبح معارضا لها ‪.‬‬
‫†‬
‫‪- Testart Jacques, L’œuf transparent, Flammarion, coll champs, 1986, p, 34-35.‬‬

‫‪19‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫أخالقية األدوار‪ ،‬أما السؤال اآلخر فيتصل بمسألة تعدديــة القيم وتعارضــها »*‪ ،‬وقــد أوضــحا‬
‫ذلك بأمثلة متعددة لتحليل هذه المفارقة‪ « :‬يمكننا أن نبرر طبيبا نفسانيا حين ال يخبر الشــرطة‬
‫بالنيات اإلجرامية لمريضه‪ ،‬في حين أن موظفا في القسم نفسه لن يكــون هنــاك على اإلطالق‬
‫أي تبرير لتصرفه‪ ،‬إن لم يقم بإخبار الشرطة »†‪ ،‬ويضيفا قائلين بشأن هــذه المفارقــة‪ « :‬مــاذا‬
‫نقول عن حالة محام يملك البراهين على أن عميله مذنب وال يقول شيئا‪ ،‬وهو يـرى أن إنسـانا‬
‫آخر بريئا يدان؟ مثل هذا العمل سيبدو في تناقض مــع مبــدأي الكونيــة وعــدم االنحيــاز اللــذين‬
‫يميزان اليوم‪ ،‬مع أكبر إجماع حول ذلك وجهة النظر األخالقية »‡‪.‬‬

‫وهكذا أصبح من الممكن الحديث فلسفيا عن أخالقيات العمل السياسي وأخالقيات العمل‬
‫الصــحفي وأخالقيــة مهنــة التعليم ومهنــة القضــاء والتجــارة وأخالقيــات المنافســة الرياضــية‬
‫وغيرها‪ ،‬ولكن إلى أي مدى يمكننا تبرير األخالقية المهنية؟‬

‫إجابة عن هذا التساؤل يقول مونيك كانتو‪-‬ســبيربير وروفين أدجيــان‪ « :‬يمكننــا أن نقبــل‬
‫أن هناك صــلة حقيقيــة بين أخالقيــة األدوار وبين مفارقــة األخالقيــات المهنيــة‪ ،‬غــير أنــه من‬
‫المؤسف حقا أن نلجأ فقط إلى أخالقية األدوار كي نبرر الصحة األخالقيــة لمعــايير األخالقيــة‬
‫المهنية‪ ،‬ألن أخالقية األدوار هي موضع خالف بما هي موقف أخالقي عام‪ ،‬أضــف إلى ذلــك‬
‫أن تأســيس األخالقيــة المهنيــة على أخالقيــة األدوار يحرمنــا من إمكانيــة االعــتراف بالطــابع‬
‫الحتمي للصراع بين فلسفة أخالقية مهنية وبين فلسفة أخالقية عامة »§‪.‬‬

‫وهكــذا يتضــح أن االنتقــال من اإلتيقــا إلى اإلتيقــات كــان نتيجــة حتميــة للتطــور العلمي‬
‫والتكنولوجي‪ ،‬وكان أيضا بسبب استحالة إخضاع مجاالت النشاط اإلنســاني إلى منظومــة قيم‬
‫واحدة وكلية وشاملة ولهذا ظهرت اتيقات جديدة وعديــدة تحــاول مســايرة ومواكبــة التغــيرات‬
‫* ‪ -‬كانتو سبيربير مونيك وأدجيان روفين‪ ،‬الفلسفة األخالقية‪ ،‬ترجمة زيناتي جورج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.101 ،‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.102 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.102 ،‬‬

‫§ ‪ -‬كانتو سبيربير مونيك وأدجيان روفين‪ ،‬الفلسفة األخالقية‪ ،‬ترجمة زيناتي جورج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.103 ،102 ،‬‬

‫‪20‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫ومراعاة الظروف وخصوصية مختلف أشــكال الحيــاة الــتي يحياهــا اإلنســان المعاصــر‪ ،‬وقــد‬
‫ذكرنا من هذه اإلتيقات أخالقيات الطب واليولوجيا وأخالقيات البيئة وأخالقية المهنة‪.‬‬

‫وقبل أن ننه حديثنا عن مفهوم اإلتيقــا والوصــولـ إلى خالصــة حــول الفــرق بينهــا وبين‬
‫األخالق نود أن نتطرق باختصــار إلى مفهــوم اإلتيقــا عنـد الفيلسـوف موضــوع البحث كـارل‬
‫أوتو آبل‪ ،‬فماذا تعني اإلتيقا عند آبل؟‬

‫مفهوم اإلتيقا عند كارل أوتو آبل (‪:)Karl-Otto Apel‬‬

‫كانت اإلتيقا من أهم المفاهيم التي تناولها كــارل أوتــو آبــل في مختلــف أعمالــه الفلســفية‬
‫وخاصة "إتيقا النقاش ‪ "Éthique de la discussion‬الذي عـرض فيـه اإلطـار النظـري‬
‫ألخالقيــات التواصــل في صــورتها التداوليــة الترنســندنتالية‪ ،‬وأيضــا في عملــه الهــام اآلخــر‬
‫"النقــاش والمســؤولية ‪ "Discussion et Responsabilité‬بجزئيــه والــذي عــرض فيــه‬
‫اإلطار العملي لهــذه األخالقيــات وتطبيقاتهــا على مختلــف مجــاالت النشــاط اإلنســاني‪ ،‬وهــو‬
‫العمــل الــذي كــانت فيــه مســؤولية اإلنســان المعاصــر أمــام األخطــار المحدقــة بالبشــرية مثــل‬
‫األسلحة النووية وتلوث البيئة وغيرها المحــور األساســي فيــه‪ ،‬ويمكن تلخيص مفهــوم اإلتيقــا‬
‫في أحــد األعمــال الفلســفية الــتي‬ ‫عند أوتو آبل كمــا تقــول أديلــة كورتينا‪Adela Cortin‬‬
‫أشرف عليها آالن رينو ‪ « :Alain Renaut‬إن اإلتيقا عند آبل تتكون من جانبين‪ :‬الجــانب‬
‫األول ويتعلق بتأسيس المعايير األخالقية‪ ،‬والجانب الثاني يتعلـق بمـدى تطـبيق هــذه المعــايير‬
‫في الحياة االجتماعية عبر التاريخ‪ ،‬والكلمـة المفتاحيـة في ذلـك هي المس ؤولية »*[ وسـنعود‬
‫بالتفصيل إلى مفهوم اإلتيقا ومختلف تطبيقاتها عند آبل في الفصل الثالث]‪.‬‬

‫وعلى ضوء ما ســبق يتضــح أن هنــاك فرقــا واضــحا بين اإلتيقــا واألخالق وخاصــة في‬
‫الفكر الفلسفي المعاصر‪ ،‬ولكن هذا االختالف ال ينف وجود عالقة بينهما ‪:‬‬

‫*‬
‫‪- Cortina Adela, éthique de la duscusion…, in Renaut Alain et al, histoire de la philosophie‬‬
‫‪politique, 5, les philosophies politiques contemporaines, Calmann-Lévy, 1999, p, 188.‬‬

‫‪21‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ -‬ليس لهما نفس االشتقاق اللغـوي‪ ،‬فمصـطلح ‪ Éthique‬ينحـدر من اللغـة اليونانيـة‪ ،‬بينمـا‬
‫مصطلح ‪ Morale‬ينحدر من اللغة الالتينية‪.‬‬

‫‪ -‬استعمل فالسفة اليونان مفهوم "اإلتيقا" بينما اســتعمل فالســفة العصــور الوســطى مفهــوم‬
‫"األخالق"‪ ،‬وفي الفلســفة الحديثــة وقــع تــأرجح في اســتعمال الفالســفة للمفهــومين معــا‪ ،‬وفي‬
‫الكتابة الفلسفية المعاصرة عادت الغلبة الستعمال مفهوم "اإلتيقا"‪.‬‬

‫‪ -‬اإلتيقا‪ Ethique‬تعبر عن قيم وضعية ومتغيرة ونسبية وغايتها تحقيــق الســعادة والحيــاة‬
‫الطيبة « إفعل هذا ألنه يؤدي إلى سعادتك »*‪ ،‬بينما األخالق ‪ Morale‬تعبر عن قواعد قبليــة‬
‫وثابتة ومطلقة تحيل إلى الجانب اإللزامي « افعل هذا ألنه واجبك »†‪.‬‬

‫وخالصة القول أن الفلسفة األخالقية تهتم بمشكلة معرفة القيم التي يجب أن توجه اإلنســان‬
‫في حياتــه‪ ،‬ومن جهــة أخــرى تضــع هــذه القيم تحت اإلختبــار باســتمرار من خالل الســلوك‬
‫اإلنساني‪ ،‬ونموذج أسئلتها ال يختلف عن سؤال الغاية التي يهدف إليها الوجود اإلنساني‪.‬‬

‫ب‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬مفهوم التواصل ومجاالته‬


‫أصــبح مفهــوم التواصل‪ Communication‬من أهم المفــاهيم المتداولــة في الفلســفة‬
‫الغربية المعاصرة وخاصة في الفلسفة األلمانية‪ ،‬وذلك باعتبار أن إشكالية التواصل أصــبحت‬
‫من أهم اإلشكاليات في الفلسفة المعاصرة‪ ،‬وهي إشكالية « ترمي إلى إعادة بعث النقاش حول‬
‫مسائل معرفية ومنهجية اعتقـد أنهـا تـآكلت ولم تعـد ذات أهميـة »‡‪ ،‬فكي ف يمكن تحدي د ه ذا‬
‫المفهوم؟‪.‬‬

‫التواصل في العربية من الوصل‪ ،‬حيث ورد في لسان العرب في مادة وصل ‪ «:‬الوصــل‬
‫ضــد الهجــران‪ ،‬وهــو خالف الفصــل‪ ،‬ونقــول وصــلت الشــيء بالشــيء بصــلة‪ ،‬كمــا ورد في‬
‫التنزيل العزيز "ولق د وص لنا لهم الق ول لعلهم يت ذكرون" [سـورة القصـص اآليـة ‪ ،]50‬أي‬
‫‪ -‬مرحبا عبدالرحمن‪ ،‬من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪ ،1983 ،‬ص‪.204 ،‬‬ ‫*‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫‡ ‪ -‬مهيبل عمر‪ ،‬إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬ط‪ ،1‬المغرب ولبنان‪ ،2005 ،‬ص‪. 7‬‬

‫‪22‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫وصــلنا ذكــر األنبيــاء وأقاصــيص من مضــى بعضــها ببعض لعلهم يعتــبرون‪ ،‬ونقــول اتصــل‬
‫الشيء بالشيء أي لم ينقطع‪ ،‬ونقول وصل الشيء إلى الشيء وصوال وتوصل إليه‪ ،‬أي انتهى‬
‫إليه وبلغه »*‪.‬‬

‫ويتضح مما سبق أن كلمة وصل في اللغة العربية تشير إلى العالقــة اإلنســانية (الوص ل)‬
‫ويقابلها (الهجران )‪ ،‬وهما من الكلمات المتداولــة في الــتراث األدبي العــربي‪ ،‬ويــدل الوصــل‬
‫على وجود الروابط اإلنسانية بين الناس‪ ،‬كما قال ابن الخطيب في موشحه الشهير‪:‬‬

‫يا زمـان الوصـل باألنـدلــس‬ ‫جادك الغيث إذا الغيث همى‬


‫†‬
‫في الكرى أو خلسة المختلس‬ ‫لم يكن وصلك إال حلمـــــــا‬

‫وخالصة القول أن التواصل في اللغة العربية مأخوذ من الوصل أو الصلة‪ ،‬ويعني تبادل‬
‫الحقائق واألفكار والمشاعر بين فردين أو أكثر بمختلف وسائل االتصال وأهمها الكالم‪.‬‬

‫وفي اللغة الفرنسية فإنه كما ورد في المعجم الفلســفي لمــراد وهبــه « التواص ل يقابلــه في‬
‫اللغــة الفرنســية‪ Communication‬وهــذه اللفظــة الفرنســية مشــتقة من اللفظــة الالتينيــة‬
‫‪ Communicare‬بمعنى يشــارك‪ ،‬وهي تعــنى الحــوار بين العقــول أو الــذوات حيث تنتقــل‬
‫اإلحساسات والمعاني المتخيلة والمجردة من عقــل آلخــر‪ ،‬والتواصــل يتضــمن وســائل حســية‬
‫مثل الكالم والكتابة وتعبير الوجه وحركة الجسم‪ ،‬كما يتضمن احتكاك مباشر بين العقــول عن‬
‫طريق المشاركة الوجدانية »‡‪.‬‬

‫أما عن معنى التواصل اصطالحا فإن له عــدة معــاني تختلــف بــاختالف المجــاالت الــتي‬
‫يستخدم فيها « التواصل غزا كل المجاالت والمؤسسات والعالقات اإلنســانية »§‪ ،‬وقــد أجمــل‬

‫*‪ -‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مادة وصل‪/www.maajaim.com/dictionary ،‬‬

‫† ‪ -‬انظر‪ :‬ابن خلدون عبد الرحمن‪ ،‬المقدمة وأطروحة غاستون بوتول ( فلسفة ابن خلدون االجتماعية )‪ ،‬دار العلم للمجتمع‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪. 586 ،‬‬

‫‡‪ -‬وهبة مراد‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.18 ،‬‬


‫§‬
‫‪-Monique Canto-Sperber, dictionnaire d’éthique et de la philosophie morale, Op.Cit, p, 275.‬‬

‫‪23‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫طه عبد الرحمن هذه المعاني في تعريف واحد حين قــال‪ « :‬يــدل التواصــل على معــان ثالثــة‬
‫متمايزة فيما بينها‪ ،‬أحدها نقل الخبر‪ ،‬ويســمى هــذا النقــل بالوصــل‪ ،‬والثــاني‪ ،‬نقــل الخــبر مــع‬
‫اعتبار مصدر الخبر الذي هو المتكلم‪ ،‬ويطلق عليه اســم اإليصــال‪ ،‬والثــالث‪ ،‬نقــل الخــبر مــع‬
‫اعتبار مصدر الخبر الذي هو المتكلم ومقصده الذي هو المستمع معا‪ ،‬وهذا مــا يصــطلح على‬
‫تسميته باالتصال »*‪.‬‬

‫ومن أهم هذه المجاالت التي يستخدم فيها لفــظ التواصــل بنطــاق واســع نجــد مجــال‬
‫اللسانيات‪ ،‬حيث يعرفه البــاحثون في هــذا المجــال « التواصــل هــو رســالة تحــوي موضــوعا‬
‫يرسله بـاعث إلى متلقي عــبر قنــاة معينــة »†‪ ،‬والــذي يمكننــا إعــادة صــياغته كــاآلتي‪ :‬يرســل‬
‫المرس ل رس الة إلى المرس ل إليه‪ ،‬حيث تتضــمن هــذه الرســالة موضــوعا أو مرجعا معينــا‪،‬‬
‫وتكتب هــذه الرســالة بـ لغة يفهمهــا كــل من المرســل والمتلقي‪ ،‬ولكــل رســالة قن اة وحافظــة‪،‬‬
‫ومعنى هذا أن التواصلـ يتأســس على مجموعــة من العناصــر هي‪ :‬المرسل ‪ -‬المرس ل إليه ‪-‬‬
‫الرسالة ‪ -‬المرجع ‪ -‬الشيفرة‪ -‬الوسيلة‪ ،‬كما حددها عالم اللسانيات الروسي رومان ياكبس ون‬
‫)‪.‡Roman Jakobson (1896 – 1982‬‬

‫ومن المجاالت التي يستخدم فيها أيضا مفهوم التواصل نجد علم االتصـال (‪La sience‬‬
‫‪)de la communication‬ـ ويعني هنا نقل األخبار والمعلومات إلى الــرأي العــام الــداخلي‬
‫والخارجي عن طريق مختلف وسائل اإلتصال المكتوبة والمسموعة والمرئية‪ ،‬وهنــا يجب أن‬
‫نميز بين البعدين التواصلي واالتصــالي‪ ،‬أي يجب أال نخلــط بين العمليــة التواصــلية والعمليــة‬

‫* ‪ -‬طه عبد الرحمن‪ ،‬التواصل والحجاج‪ ،‬درس افتتاحي للسنة الجامعية ‪ ،1994-1993‬كلية العلوم اآلداب والعلوم اإلنسانية بأكادير‪،‬‬
‫مطبعة المعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪ ،1994 ،‬ص‪.5 ،‬‬

‫†‪.Monique Canto-Sperber, dictionnaire d’éthique et de la philosophie morale, Op.Cit, p, 275-‬‬

‫‪ -‬رومان ياكبسون )‪ ، R.Jakobson (1896-1982‬عالم لغوي روسي من أهم مؤسسي حلقة موسكو اللسانية‪ ،‬ومن المساهمين‬
‫في انجازات حلقة براغ‪ ،‬د ّرس في العديد من الجامعات األوربية وكان له ت أثير كب ير على البنيوي ة الفرنس ية‪ ،‬غ ادر أوروب ا في ع ام‬
‫‪ 1941‬إلى الواليات المتحدة األمريكية حيث نشط في جامعات كولومبيا وهارفارد حتى وفاته في مدينة بوسطن‪.‬‬

‫‡ ‪ -‬زكريا ميشال‪ ،‬األلسنية‪ :‬علم اللغة الحديث المبادئ واألعالم‪ ،‬المؤسسة الجامعي ة للدراس ات والنش ر‪ ،‬ب يروت‪ ،‬ط‪ ،1983 ،2‬ص‪،‬‬
‫ص‪.236 ،235 ،‬‬

‫‪24‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫االتصالية‪ ،‬فالتواصل هو عملية حوارية تقتضي وجود طــرفين أو أكــثر يجــري بينهمــا نقــاش‬
‫حجاجي يحاول من خالله كل طرف إقناع اآلخــر بينمــا العمليــة االتصــالية هي مجــرد عمليــة‬
‫إخبارية تهتم بنقل الخبر من مرسل إلى مرسل إليه‪ ،‬حيث يهيمن المرسل على المرسل إليه‪.‬‬

‫كما أصبح يستخدم مفهوم التواصلـ من طرف المؤسســات اإلقتصــادية الـتي تسـتعمل مـا‬
‫يسمى باالشهار لتقــديم خــدماتها ونشــاطها ومنتوجاتهــا وتحســين صــورتها في الســوق‪ ،‬وهــو‬
‫مفهوم قريب من مفهوم نظرية االتصال باشتراكهما في الدعاية والتأثير حيث غالبا ما ينســاقا‬
‫إلى التالعب بأفكار المتلقي وتغليطه وإغراءه لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية وتجارية‪.‬‬

‫أمــا في اإلصــطالح الفلســفي فيعــود الفضــل إلى الفيلســوف األلمــاني المعاصــر ي ورغن‬
‫هابرماس ‪ Jürgen Habermas‬في إدخال هذا المفهوم إلى الفلسفة ونحت مفاهيم فلسفية‬
‫جديدة مثل "العقالنية التواصلية" و"الفاعلية التواصلية"ـ و"إتيقــا التواصــل"‪ ،‬وتأســيس فلســفة‬
‫جديدة عرفت بفلسفة التواصل‪ ،‬حيث ربط هابرماس بين اإلتيقــا وهي فلســفة أخالقيــة وفلســفة‬
‫اللغة ممثلة في التداولية أو نظريـة أفعـال الكالم الــتي تربـط بين الكالم والفعــل‪ ،‬وتــرتب على‬
‫ذلك تأسيس فلسفة جديدة (فلسفة التواصل) سيطرت على الساحة الفلسفية العالميــة المعاصــرة‬
‫في الربع األخير من القرن العشرين‪ ،‬وهكــذا أصــبحت إتيقــا التواصــل‪ « :‬من أهم المتطلبــات‬
‫الخاصة في هذا العالم الذي أصبح يتواصل بصفة شاملة وبوســائل لم يعرفهــا تــاريخ اإلنســان‬
‫سابقا‪ ،‬والهدف منها تسوية المشاكل المتعلقة بالسعادة والمساواة وتطــور األفــراد والجماعــات‬
‫من أجل تالشي النزاعات واإليديولوجيات التي نعتقدها »*‪.‬‬

‫وفي هذا اإلطار تركز اهتمام هابرماس على التواصل واتيقا المناقشة كفلسفة اجتماعية‬
‫موضوعها األساسي التساؤل حول إمكانية الحــد من تعــدد المعــنى والســيما كوســيلة وأداة في‬
‫االستعمال اللساني والسياسي‪ ،‬ولهــذا نجــده يعــرف التواصـلـ بقولــه‪ « :‬هــو نــوع من التفاعــل‬
‫الهــادف إلى خلــق تفــاهم بين مجموعــة من الــذوات داخــل مجــال عمــومي »†‪ ،‬وقــد اشــتهر‬
‫*‬
‫‪- Monique Canto-Sperber, dictionnaire d’éthique et de la philosophie morale, Op.Cit, p, 275.‬‬

‫† ‪ -‬بن ت ومي الي امين‪ ،‬ق راءة في مفه وم العق ل التواص لي لي ورغن هابرم اس‪( ،‬في) المحم داوي علي عب ود ومهنان ة اس ماعيل‬
‫وآخرون‪ ،‬مدرسة فرانكفورت النقدية‪ ،‬ابن النديم للنشر والتوزيع (وهران) و دار الروافد الثقافية (بيروت)‪ ،‬ط‪ ،2012 ،1‬ص‪.209 ،‬‬

‫‪25‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫هابرماس بنظرية الفعل التواصليـ « وهو الفعل العقالني الــذي يهــدف إلى فهم حقيقي‪ ،‬وهــو‬
‫فعل يقوم على التواضــع والتجــرد من األنانيــة والمصــلحة الذاتيــة‪ ،‬والــدافع إليــه هــو التعــاون‬
‫البينذاتي »*‪ ،‬ومصدر هذا الفعل عنده هو العقل التواصليـ الذي يقترحه كبديل للعقــل األداتي‪،‬‬
‫ومعنى هذا أن العقالنية التواصلية عند هابرماس هي منهج ووسيلة لتجاوز العقالنية األداتية‪.‬‬

‫مفهوم التواصل عند كارل أوتو آبل‪:‬‬

‫تعتبر نظرية كارل أوتو آبل في فلسفة التواصل من أهم النظريــات الفلســفية المعاصــرة‪،‬‬
‫وإذا كان هابرماس ق ّدم إتيقا التواصل كفلسفة اجتماعية وسياسية‪ ،‬فإن كارل أوتو آبل قدم إتيقا‬
‫التواصل كفلسفة أخالقية واشتهر باعتراضاته الكثيرة على نظرية هابرماس تضــمنها خاصــة‬
‫كتابه "التفكير مع هابرماس ضد هابرماس"‪ ،‬فهو وإن كان يتفق معه في الدعوة إلى تأســيس‬
‫عقالنية تواصلية فإنه يختلف معه حول الكيفية التي يتم بها تحقيق هذا الهــدف‪ ،‬ويمكن تحديــد‬
‫مفهوم التواصل عند كارل أوتو آبل مبــدئيا كــاآلتي‪ « :‬النشــاط التواصــلي هــو ماهيــة أساســية‬
‫ذاتية وبينذواتية في الوقت ذاته‪ ،‬وهو ينطبق حصرا على أنواع النشــاط الــتي كــان قــد حــددها‬
‫هابرماس كالنشاط المتعلق باســتجالء المعــنى‪ ،‬أو ذلــك الخــاص بــالبحث عن الحقيقــة‪ ،‬أو عن‬
‫الصــدق‪ ،‬وهــذه المتطلبــات األساســية* البــد أن تكــون ترنســندتالية وإال ســتختزل إلى مجــرد‬
‫شروط سوسيو‪ -‬ثقافية ذات وجود نسبوي ال يمكن االطمئنان إليها بقصد بعث تأســيس فلســفي‬
‫نهائي »†‪ ،‬وعلى العموم هناك نقاط اتفاق كثيرة بين آبــل وهابرمــاس كمــا توجــد بينهمــا نقــاط‬
‫اختالف كثيرة يكشف عنها الحوار الساخن الذي جرى بينهما [وهذا ما سنعرفه بالتفصــيل من‬
‫خالل تحليل موقفي آبل وهابرماس من مسألة التواصل الحقا] ‪.‬‬
‫*‪ -‬مصطفى عادل‪ ،‬فهم الفهم‪ :‬مدخل إلى الهرمنيوطيقا‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،2003 ،1‬ص‪.302،‬‬

‫†*‪ -‬يتفق آبل مع هابرماس حول قواعد التواص ل ال تي ينبغي احترامه ا من ط رف ك ل المش اركين في عملي ة النق اش‪ ،‬وتتمث ل ه ذه‬
‫القواعد في‪ :‬المعقولية (‪ )Intelligibilité‬وتعني إنتاج خطاب تتوفر فيه الصحة التركيبية وتحترم فيه المعايير اللسانية‪ ،‬والحقيق ة‬
‫(‪ ) Véritté‬وتعني أن مضمون القول البد أن يتضمن وصفا لوقائع حقيقية وليست مستوحاة من الخيال‪ ،‬والمص داقية (‪)Justesse‬‬
‫وتع ني تط ابق الفع ل اللغ وي م ع المع ايير المع ترف به ا من ط رف المجتم ع‪ ،‬أي تجنب التن اقض بين الق ول والمع ايير االجتماعي ة‬
‫السائدة‪ ،‬والصدقية (‪ ) Sincérité‬وتعني تعبير المتحدث عن قصده ونواياه بطريقة صادقة بعيدة عن التضليل والكذب‪ ،‬أنظر‪ :‬مصدق‬
‫حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء وبيروت‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪ ،‬ص‪.146 ،145 ،‬‬

‫‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ض د هابرم اس‪ ،‬ترجم ة عم ر مهيب ل‪ ،‬منش ورات االختالف والمرك ز الثق افي الع ربي وال دار‬
‫العربية للعلوم‪ ،‬الجزائر والمغرب ولبنان‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪( ،19 ،‬مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫ويتضــح من التعريفــات الســابقة أن التواصــل اليتم بين الــذات ونفســها‪ ،‬بــل بين الــذات‬
‫والغير‪ ،‬وذلك ألن الذات ال توجد وحدها في هذا العالم بل أن مقتضيات الحيــاة تفــرض عليهــا‬
‫أن تكون عالقات مع غيرها تتبادل معهم األفكار والمشاعر والخبرات بواسطة اللغة والكالم‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أن اإلنسانية ال تتحقق إال بالتواصل واإلنفتاح على الغير‪.‬‬

‫وهكذا أصبح التواصل كما يقول الجابري‪ « :‬علما من العلوم والــذي يعتــبر ملتقى لعلــوم‬
‫متنوعة »*‪ ،‬وذلــك « ألن البحث في موضــوع التواصــل يقتضــي البحث في مجــاالت أخــرى‬
‫وربطه بها كالفلســفة والسياســة واللغــة والتقنيــة »†‪ ،‬ومعــنى هــذا أن التواصــل لم يعــد مجــرد‬
‫موضوعا فلسفيا ولغويا لسانيا فحسب‪ ،‬بل أصبح موضوعا لمجموعة من العلوم المختلفة مثل‬

‫األنثروبولوجيا وعلم االجتماع وعلم النفس واللسانيات‪ ،‬وحتى التقنيــة‪ ،‬ويــترتب على ذلــك أن‬
‫للتواصل مجــاالت وأنــواع عديــدة منهــا‪ :‬التواصــل التقــني‪ ،‬والتواصــل السياســي‪ ،‬والتواصــل‬
‫الفني‪ ،‬والتواصل في مجال التربية والتعليم وغيرهــا‪ ،‬ولكننــا سنقتصــر الحــديث على مجــالين‬
‫فقط هما المجال التقني والمجال الفلسفي‪.‬‬

‫المج ال التق ني‪ :‬يعــود الفضــل في نشــأة هــذا المجــال وتطــوره إلى العــالمين األمريكــيين‬
‫كلودش انون ‪ Claud Shannon‬ووارين ويف ر ‪ *Warren Weave‬اللــذين أسســا‬
‫النظرية الرياضية للتواصل‪ ،‬حيث أصبح هذا األخـير عنـدهما « يرتكـز على قيـاس رياضـي‬
‫جبري كوحدة يمكن تقليصها إلى حدها األدنى‪ ،‬كي تنخفض تكلفتهــا عــبر التلغــرافـ »‡‪ ،‬وقــد‬
‫فرض هذا النموذج « ذو الخانات الست "مصدر المعلومة‪ -‬الجهاز المرسل‪ -‬الرسالة‪ -‬مصدر‬
‫*‪ -‬الجابري محمد عابد‪ ،‬التواصل نظرياته وتطبيقاته‪ ،‬الكتاب الثالث‪ ،‬الشركة العربية لألبحاث والنش ر‪ ،‬ط‪ ،1‬ب يروت‪ ،2010 ،‬ص‪7 ،‬‬
‫( من التمهيد) ‪.‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪( 7 ،‬من التمهيد)‪.‬‬

‫‪ - ‬كلود شانون (‪ ،)2001-1916‬عالم أمريكي مختص في الرياضيات والهندسة اإلليكترونية‪ ،‬له إس هامات علمي ة هام ة في نظري ة‬
‫المعلوم ات‪ ،‬حيث ابتك ر ط رق التش فير الرياض ي‪ ،‬واش تهر ك ذلك بخطاطت ه في التواص ل‪ ،‬من أهم أعمال ه‪ :‬النظري ة الرياض ية في‬
‫التواصل‪.‬‬

‫‪ -* ‬وارين ويفر (‪ ،) 1978-1894‬عالم أمريكي‪ ،‬اشتهر بتطوير نظرية المعلومات بالتعاون مع كلود شانون‪.‬‬

‫‡ ‪ -‬مستر حسن‪ ،‬ال وعي التواصل‪( ،‬في) الجابري محمد عابد‪ ،‬التواصل "نظرياته وتطبيقاته"‪ ،‬الكتاب الثالث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪،‬‬
‫‪.10‬‬

‫‪27‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫التشوش‪ -‬الجهاز المستقبل‪ -‬هدف المعلومة أو المرسل إليه" نفسه على أشكال التواصـلـ كافــة‬
‫البعيدة كل البعد عن األصل التلغرافي التقــني الصــرف »*‪ ،‬وقــد بلــغ هــذا التواصــل مــداه من‬
‫خالل وصول اإلنسان إلى التواصلـ الرقمي بواسطة وسائل جد متطورة‪.‬‬

‫المج ال الفلس في‪ :‬رغم أن مفهــوم التواصــل يعتــبر من المفــاهيم الفلســفية الجديــدة إال أن لــه‬
‫جذورا بعيـدة تعـود إلى الـتراث اليونـاني وفلسـفة كانط وهيغل وتطـور هـذا المفهـوم وأصـبح‬
‫مفهومــا مركزيــا في الفلســفة واللســانيات وعلم االجتمــاع المعاصــرة‪ ،‬وخاصــة لــدى فالســفة‬
‫ومفكــري مــا يعــرف بـ ـ "مدرس ة فرانكف ورت" وروادهــا من الجيــل الثــاني ونعــني خاصــة‬
‫هابرم اس ‪ Jürgen Habermas‬وك ارل أوت و آب ل ‪ Karl-Otto Apel‬وج ان م ارك‬
‫ف يري ‪ ،Jean-Marc Ferry‬حيث يمثــل مفهــوم التواصــل بالنســبة لهم نقلــة براديغمية‪،‬‬
‫[وهذا ما سنعرفه من خالل الفصول والمباحث والمطالب الموالية]‪ ،‬هذا ويربط الفالســفة بين‬
‫التواص ل واللغة‪ ،‬وفي هــذا المجــال نجــد نظريــتين أساســيتين‪ « :‬النظريــة التحليليــة وتعــرف‬
‫بنظرية السميوطيقا وتعتبر فلسفة التواصلـ إنتاجا أنجلوساكسونيا وبالتحديد أمريكيا ظهر مــع‬
‫تش ارل س ندرس ب يرس )‪ ،Charles Sanders Peirce (1839-1914‬وهي نظريــة‬
‫تتأسس على المنطق والرياضيات‪ ،‬والنظرية البنيوية وتعــرف بنظريــة الس ميولوجيا وتعتــبر‬
‫فلسفة التواصل إنتاجا أوروبيا وبالتحديد فرنسيا بدأ مــع فردينان د دي سوس ير‪Ferdinand‬‬
‫)‪ ،de Saussure (1857-1913‬وهي نظرية تتأسس على الدرس اللغوي واللسانيات »†‪،‬‬
‫ُ‬
‫ُعرف االتجاه األول في فلســفة اللغــة باإلتجــاه الت داولي (‪ ،)Pragmatique‬ويركــز على‬ ‫وي‬
‫الجانب التواصليـ للغة منطلقا من مبدأ مفاده "اللغة تحيل على ذاتهــا وعلى عــالم غــير لغــوي‬
‫(اجتمــاعي)"‪ ،‬بينمــا يعــرف اإلتجــاه الثــاني بــالبنيوي(‪ ،)Structuralisme‬ويركــز على‬
‫الجانب الداللي (السمانطيقي)‪ ،‬وما يهمنا في هذا المقام هو اإلتجــاه التــداولي ألن هــذا اإلتجــاه‬
‫هو الذي كان له تأثيرا حاسما على التوجه الفلسفي لكارل أوتو آبل‪.‬‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.11 ،10 ،‬‬

‫†‪ -‬جميل حمداوي‪ ،‬سميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الداللة‪( ،‬في) الجابري محمد عاب د‪ ،‬التواص ل "نظريات ه وتطبيقات ه"‪ ،‬الكت اب‬
‫الثالث‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.54 ،‬‬

‫‪28‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫وفي هذا اإلطار يعد بيرس مؤسسا لنظرية العالمات التي تسمى السميوطيقا (تحليــل‬
‫العالمات)‪ ،‬وتتكون هذه النظرية من ثالثــة مبــاحث هي‪ :‬المنطــق النقــدي والخطابــة والنحــو‪،‬‬
‫وهي نظرية قســم فيهــا بــيرس العالمــة حســب المقــوالت الفينومينولوجيــة إلى (عالمــة كيفيــة‬
‫وعالمة وجودية وعالمة عا ّمة)‪ ،‬وميز فيها بين العالمة والرمز واإلشــارة واأليقونــة‪ ،‬وربــط‬
‫فيها بين اللغة والتواصل‪ ،‬أي بين المعــنى واإلســتعمال "داللــة الكلمــة هي اســتخدامنا لهــا من‬
‫اللغة"*‪ ،‬وقد كان لهذه النظرية تأثير كبير على التوجه الفلسفي آلبل كما سنرى الحقا‪.‬‬

‫هذا فيما يخص اإلطار المفاهيمي للبحث‪ ،‬فماذا عن اإلطارالتاريخي والفلسفي‪ ،‬وبالتحديد‬
‫عن السيرة المعرفية والمرجعيات الفلسفية المتعددة لكارل أوتو آبل؟‬

‫‪- 2‬المبحث الثاني‪ :‬اإلطار التاريخي و الفلسفي للبحث‬


‫أ ‪ -‬المطلب األول‪ :‬كارل أوتو آبل و مدرسة فرانكفورت‬
‫السيرة المعرفية لكارل أوتو آبل‪:‬‬

‫يعد كارل أوتو آبل ‪ Karl-Otto Apel‬جزءا أساسيا مما يسمى بنادي الخمسة‪ ،‬والذي‬
‫يضم مجموعة من أهم الفالســفة المعاصــرين‪ ،‬والمتضــمن كــل من ريك ور‪*P.RICŒUR‬‬
‫وليفين اس **‪E.Levinas‬ودري دا ***‪J.Derrida‬وهابرم اس‪ J.Habermas‬عالوة‬
‫على ك ارل أوت و آب ل‪ ،‬وهــو بــذلك يعــد من أكــبر فالســفة الغــرب اليــوم‪ ،‬ومن أهم الفالســفة‬
‫المعاصرين†‪.‬‬

‫*‬
‫‪- Deledalle Gérard, la philosophie américaine, Édition l’age d’homme, Lausanne, Suisse, 1983, p,‬‬
‫‪p, 138, 139.‬‬

‫†*‪ -‬بول ريكور )‪ ، P.RICŒUR (1913- 2005‬فيلسوف فرنسي معاصر‪ ،‬اشتهر بأبحاثه الفلسفية في مجال الهرمنيوطيقا‪.‬‬

‫**‪ -‬إيمانويل ليفيناس )‪ ،E.Levinas (1906- 1995‬فيلسوف فرنسي معاصر من أصل ليتواني‪ ،‬اشتهر بأبحاثه في اإلتيقا‪.‬‬

‫***‪-‬جاك دريدا)‪ ،J.Derrida (1930- 2004‬فيلسوف فرنسي معاصر‪ ،‬اشتهر بتأسيسه للمدرسة التفكيكية‪.‬‬

‫‪ -‬المحمداوي علي عبود‪ ،‬اإلشكالية السياسية للحداثة‪ :‬من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل "هابرماس نموذجا"‪ ،‬منشورات دار‬
‫االختالف‪ ،‬الجزائر وبيروت‪ ،‬ودار األمان‪ ،‬الرباط‪ ،‬ط‪ ،2011 ،1‬ص‪ ،‬ص‪( 31 ،30 ،‬بتصرف)‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫وتتفق أغلب المصــادر والمراجـع المعتمـدة في هــذا البحث على أن كـارل أوتــو آبـل من‬
‫مواليد ‪ 1922‬باستثناء بعض المراجع ومنها (‪ )Dictionnaire des philosophes‬فإننا‬
‫وجدنا فيه أن آبل من مواليد ‪ [ *1924‬وال ندري إن كان األمر يتعلــق بــاختالف حــول تــاريخ‬
‫ميالد هذا الفيلسوف أو أن األمر يتعلق بخطأ مطبعي ]‪.‬‬

‫بدأ مساره الفكري بتقــديم أطروحــة جامعيــة ســنة ‪ 1950‬تمحــورت حــول فلســفة أســتاذه‬
‫مارتن هيدغر بعنوان (الدازيين والمعرفة عند هيدغر) بجامعة بون عاصمة ألمانيا االتحاديــة‬
‫آنذاك‪ ،‬وهو عمل لم ينشر لحـد اآلن†‪ ،‬و في سـنة ‪ 1963‬أصـدر عمال أكاديميـا تمحـور حـول‬
‫تاريخ الفكر اللغــوي في الثقافــة األوربيــة خاصــة عنــد دانــتي ‪Dante‬وفيكــو ‪ ،‡Vico‬عمــل‬
‫أستاذا للفلسفة في جامعة)‪ keil (1962- 1969‬ثم بجامعة )‪Sarrebruck(1969- 1972‬‬
‫ثم بجامعـــة فرانكفـــورت )‪ ،§Francfort(1972- 1989‬اســـتلهم واســـتوحى من هي دغر‬
‫المنظور الهرمنيوطيقيـ وتأثر أيضا بفلسفة اللغة األنجلوساكسونية وخاصة بأبحاث فنتجشــتين‬
‫الثاني ‪ L.Wittgenstein‬وســميوطيقا بــيرس ونظريــة أفعــال الكالم‪ ،‬وحــاول التقــريب بين‬
‫الفلسفة التحليلية األنجلوساكسونية والفلسفة الهيرمنيوطيقيةـ القارية والحد من الصــراعـ الحــاد‬
‫بينهما‪ ،‬وفي هذا اإلطار أصدر آبل عمال أساسيا من أعماله سنة ‪ ،1973‬الــذي بــدأ من خاللــه‬
‫في بناء مشروع فلسفي خاص بــه‪ ،‬ويتمثــل هــذا العمــل األســــاس في"تحوي ل الـفـلســــفـة"‬
‫" ‪ "Transformation de la philosophie‬في جزأين‪ ،‬وهو العمل الذي عبر فيه عن‬
‫برنامجه ومشروعه الفلسفي البراجماتية الترنسندتالية‪ ،‬والذي يعتبر انعطافا كبيرا من فلسفة‬
‫الشعور والذات إلى فلسفة التواصل** على غرار زميله هابرماس‪.‬‬
‫*‬
‫‪-Husman Denis,Dictionnaire des philosophes (A.J), p.u.f, 2 Édition, 1984, Paris, p, 98.‬‬
‫†‬
‫‪- Martin Le Corre Chantecaille, «penser avec…et contre…»la pragmatique transcendantale de karl-‬‬
‫‪Otto Apel: une théorie et une pratique de l’intersubjectivité, thèse pour le doctorat de philosophie,‬‬
‫‪sous la direction d’André stanguennec, soutenue le 24 juin 2010 à l’université de Nantes, p, 16.‬‬

‫‪- Martin Le Corre Chantecaille, penser avec…et contre…la pragmatique transcendantale de karl-‬‬
‫‡‬

‫‪Otto Apel, Op.Cit, p, 382.‬‬


‫§‬
‫‪- Monique Canto-Sperber, dictionnaire d’éthique et de philosophie morale, Op.Cit, p, 84. ‬‬

‫**‬
‫‪- ibid, p, 84.‬‬

‫‪30‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫ويبــدو من خالل عنــاوين أعمالــه*أنــه تــأثر كثــيرا بالترنســندتالية الكانطيــة وســيميوطيقا‬


‫بيرس حتى قيل عنه « هو كانط جدي د مص حح ومنقح من ط رف ب يرس »*‪ ،‬ويمكن التعبير‬
‫عن مشــروعه الفلســفي البراجماتيــة الترنســندتالية بالســميوطيقا الترنســندتالية‪ ،‬وهوالمشــروع‬
‫الذي أكد فيه على التأسيس النهــائي للعقــل والفلســفة واألخالقيــة‪ ،‬وطــرح فيــه مشــاكل فلســفية‬
‫تتعلق خصوصا بإعادة صياغة الفلســفة الكانطيــة‪ ،‬حيث قــدم آبــل قــراءة جديــدة لفلســفة كانــط‬
‫انطالقا من البرنامج السميوطيقي لبيرس‪ ،‬وهي قراءة تختلف عن القراءات األخرى المتعــددة‬
‫للفلسفة الكانطية‪ ،‬وهي القراءة التي أصبحت مرجعية أساسية ومركزا للحــوار الفلســفي حــول‬
‫اإلتيقا والنقاش والتواصل بين مختلف اإلتجاهات الفلســفية في ألمانيــا وخارجهــا خاصــة بينــه‬
‫وبين زميله‪ ‬هابرماس‪.‬‬

‫اشتهر آبل بتجديد الفلسفة الترنسندتالية الكانطية انطالقا من قواعد اللغة والتواصــل الــتي‬
‫وضعها بيرس‪ ،‬وفي هذا اإلطار يقول آبل‪ « :‬تحويل الفلسفة المتعالية التقليديــة بمعـنى جعلهــا‬
‫فلسفة تداولية لسانية متعالية أوعلم الرموز‪ ،‬ذلك هو برنامجي الحالي »†‪ ،‬وقد أوضح البــاحث‬
‫األلماني إدموندس أبسالون ‪Edmunds Absalon‬هذا المفهوم والمشـروع الفلسـفي الجديـد‬
‫بقوله‪ « :‬اسم هذا التصورـ الذي طوره آبل يجعلنا نفترض أن األمر يتعلق بتـأليف بين الفلســفة‬
‫المتعالية (كانط) والفلسفة التداولية (بيرس)‪ ،‬ويمكن القول بتحليل أدق أن هذا التحديــد الجديــد‬
‫يبين أن األمر يتعلق بتأليف بين أربعة مواقف فلسفية على األقل‪ :‬الفلســفة المتعاليــة التقليديــة‪،‬‬
‫فلسفة اللغة الحديثة‪ ،‬الفلسفة التداولية‪ ،‬الفلسفة التأويلية »‡‪ ،‬وهذا المشروع الفلسفي قريب جدا‬
‫من مشروع زميله هابرماس مع وجود تمايز واضح بينهما§‪ ،‬حيث توافق مع هابرماس حــول‬
‫* ‪ -‬واصل آبل مشروعه الفلسفي بإصداره عدة أعمال بعد س نة ‪ ،1973‬من أش هرها دراس ة ح ول ب يرس س نة ‪ ،1975‬ثم دراس ة‬
‫أخرى بعنوان التفسير والفهم س نة ‪ ،1979‬وفي س نة ‪ 1988‬أص در عمال آخ ر بعن وان النق اش والمس ؤولية في ج زأين‪ ،‬وفي س نة‬
‫‪ 1996‬أصدر السيميوطيقا الترنسندتالية‪ ،‬وله أعمال أخرى كثيرة من أش هرها الإتيق ا في عص ر العلم‪ ،‬وإتيق ا النق اش‪ ،‬والتفك ير م ع‬
‫هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬وموقف اإلتيقا من التحديات المعاصرة‪ ،‬والمنطق الخاص للغة اإلنسانية وغيرها‪.‬‬
‫*‬
‫‪- Andler Daniel et autres, philosophie des sciences I, Éditions Gallimard, 2002, p, 188.‬‬

‫†‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ :‬مشكلة غاية التأسيس وعقالنية الفلسفة‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪،‬‬
‫الدار المتوسطية للنشر‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‪ ،2009 ،1‬ص‪.157 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.156 ،‬‬


‫§‬
‫‪--Husman Denis, Dictionnaire des philosophes (A.J), Op.Cit, 1984, paris, p, 98.‬‬

‫‪31‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫التصور النظري اإلجتماعي للمشروعية إال أنه تميز عنه بتداوليته الترنسندتالية التي أراد من‬
‫خاللها البرهنة على وجود شروط شــرعية ضــرورية تمتــاز بهــا المعــايير وليس على وجــود‬
‫شروط كلية كما ذهب إلى ذلك هابرماس في تداوليته الشاملة* ‪.‬‬

‫وإجماال يمكن القول أن كارل أوتو آبل اهتم في فلسفته بالمشاكل التي يطرحها التواصل‪،‬‬
‫حيث دافــع آبــل عن الموقــف المســمى" البراجماتيــة الترنســندتالية"‪ ،‬الــذي جمــع وركب فيــه‬
‫خاصة بين فلسفة كانط وفلسفة بيرس‪ ،‬كمــا اهتم أيضــا بفلسـفة هيـدغر وفنتجشــتين‪ ،‬وهـذا مــا‬
‫ســمح لــه بتشــكيل جســر بين تقليــدين فلســفيين مختلفين حيث تمكن من الربــط بين فلســفة‬
‫الهرمنيوطيقا القارية والفلســفة التحليليــة األنجلوساكســونية‪ ،‬كمــا قــام بالتعــاون والتنســيق مــع‬
‫هابرماس بتأسيس وتطوير اتيقا للنقاش‪ ،‬وفي هذا اإلطار تمكن آبل من تأسيس وتطــوير اتيقــا‬
‫كونية بالمعنى الكانطي متفتحة على كل أنواع الحوار وتحـاول إقصـاء كـل عوائـق التواصـل‬
‫كما فعل هابرمــاس‪« ،‬واشــتهر أيضــا بمناهضــته للبوبريــة»†‪ -‬نســبة إلى كــارل بــوبر‪Karl -‬‬
‫)‪ « ،Popper (1902-1994‬حيث دخل في سجال وصــراع فلســفي حــاد مــع أحــد األتبــاع‬
‫األوفياء للفيلسوف الليبرالي بوبر أال وهو هانس ألبرت ‪ ،‡» H.Albert‬ويعرف هذا الخالف‬
‫الفلسفي في ألمانيا بـخصومة التأسيس‪ ،‬وفي هذا المجال يقول إدموندس أبسالون‪ « :‬خصومة‬
‫التأسيس في الفلسفة األلمانيــة هي خصــومة بين تصــورين مختلفين للفلســفة [‪ ]...‬والخصــمين‬
‫األساسيين اآلن هما هانس ألبرت "ممثل البوبرية‪ :‬العقالنية النقدية" وكارل أوتو آبــل "ممثــل‬
‫مدرســة فرانكفــورت"ـ »§‪ ،‬ووجــه الخالف بينهمــا كمــا يوضــحه أبســالون هــو‪ « :‬أصــحاب‬
‫العقالنية النقدية (البوبرية)ـ ال يتكلمون على عدم إمكانية تأسيس المعايير بل على عدم الحاجة‬
‫إلى تأسيسها أما آبل فإنه يدافع عن إمكانية تأسيس المعايير وقابليتها للتأسيس »**‪.‬‬

‫* ‪ -‬كونزمان بيتر وآخرون‪ ،‬أطلس الفلسفة‪ ،‬ترجمة جورج كتورة‪ ،‬المكتبة الشرقية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ص‪.233 ،‬‬
‫†‬
‫‪-Andler Daniel et autres, philosophie des sciences I, Op.Cit, p, 188.‬‬

‫‡‬
‫‪- Renault Alain et autres, histoire de la philosophie politique, Op.Cit, p, 168.‬‬

‫§‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.59 ،58 ،‬‬
‫**‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.63 ،‬‬

‫‪32‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫وعلى ضوء ما سبق يمكن اعتبار آبل واحـدا من أهم فالسـفة العـالم في الربـع األخـير‬
‫من القــرن العشــرين‪ ،‬وواحــدا من أبــرز فالســفة النظريــة النقديــة (مدرســة فرانكفــورت) في‬
‫مرحلتهــا الثانيـة الـتي اشـتهرت بــ "فلسـفة التواصــل"‪ ،‬ومن أغـزر المـؤلفين إنتاجــا في هـذا‬
‫المجال الفلسفي‪ ،‬حيث يجمع معظم الباحثين في الفلسفة الغربية المعاصــرة على تصــنيف آبــل‬
‫ضــمن التقليــد الفلســفي المشــهور بـــ"النظريــة النقديــة"‪ ،‬وهــو المشــروع الــذي يبقى مفتوحــا‬
‫ومستمرا‪.‬‬

‫هذا عن السيرة المعرفية لكارل أوتو آبل‪ ،‬فماذا عن عوامل تبلور فكره وثقافته وفلسفته‬
‫التواصلية؟ أو بتعبير آخر‪ :‬ما هي األصول والمرجعيات الفكرية والفلسفية لكارل أوتو آبل؟‬

‫كارل أوتو آبل والمشروع الفلسفي النقدي لمدرسة فرانكفورت‪:‬‬

‫يتفق جميع الباحثين في فلسفة كارل أوتو آبل على اعتبار هذا األخير فيلسوفا من فالسفة‬
‫الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت المعروفة بالنظرية النقدية‪ ،‬أي أن المشروع الفلســفي آلبــل‬
‫هو جزء من المشروع الفلسفي لهذه المدرسة‪ ،‬وفي هذا اإلطار يقــول عمــر مهيبــل في مقدمــة‬
‫ترجمته لكتاب آبل "التفكير مع هابرماس ضد هابرمــاس"‪ « :‬إن آبــل يصــنف إجمــاال ضــمن‬
‫الحلقــة الضــيقة المقربــة من هابرمــاس في جامعــة فرانكفــورت »*‪ ،‬ويقــول أيضــا في مقدمــة‬
‫ترجمته لكتاب جان مــارك فـيري "فلسـفة التواصــل"‪:‬ـ « تمثـل النظريـة النقديـة عـبر رافـدها‬
‫األساس مدرسة فرانكفــورت معينــا خاصــا لمبحث فلســفة التواصــل‪،‬ـ بــل أن هــذا المبحث نمــا‬
‫أصــال بين جنباتهــا‪ ،‬نشــأ مــع مــاركيوز ‪ H.Marcuse‬ونمــا وترعــرع عنــد هابرمــاس وآبــل‬
‫وألبرخت فيلمــر ‪ ،†» A.Wellmer‬وورد أيضــا في الصــفحة الخارجيــة للترجمــة الفرنســية‬
‫لكتــاب النقــاش والمســؤولية آلبــل ‪ « Discussion et Responsabilité‬يمثــل آبــل مــع‬
‫هابرماس مدرسة فرانكفورت الثانية »‡‪ ،‬والمقصــود من ذلــك أنهمــا من أبـرز فالسـفة الجيــل‬
‫الثاني للنظرية النقدية‪ ،‬وفي هــذا اإلطـار أيضــا يقــول إدمونــدس أبسـالون‪ « :‬من الطــبيعي أن‬

‫* ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪( 16 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫†‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلس فة التواص ل‪ ،‬ترجم ة عم ر مهيب ل‪ ،‬منش ورات اإلختالف والمرك ز الثق افي الع ربي وال دار العربي ة للعل وم‪،‬‬
‫الجزائر والمغرب ولبنان‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬ص‪( 14 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫يكون الكالم على وجود صلة بين النظرية النقدية لقدامى مدرسـة فرانكفـورت وفلسـفة آبـل ذا‬
‫إشكال ليس بالقليل‪ ،‬لكنه بوسعنا أن نجزم بوجود قرابــة بين ممثلي الجيــل الثــاني من مدرســة‬
‫فرانكفــورت على ســبيل المثـال بين آبـل وهابرمــاس‪ ،‬وهــذه القرابــة تتـبين من نظرتيهمـا إلى‬
‫الفلسفة [‪ ]...‬وهو ما يسمح لنا أن نسلم بوجود نموذج فلسفي مصدره مدرسة فرانكفورت »*‪.‬‬
‫ومجمل القول أن معظم الدراسات الفلسفية ترى أن فكر وفلسفة كارل أوتو آبل ينــدرج ضــمن‬
‫المشروع الفلسفي النقدي لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬فما المقصود بمدرس ة فرانكف ورت؟ ومن هم‬
‫أبرز روادها؟ وما هي أهم القضايا الفلسفية التي اهتمت بها؟ وعلى أي أس اس يمكن إدراج‬
‫كارل أوتو آبل واحدا من فالسفة هذه المدرسة؟ وما مكانته داخل هذه المدرسة؟‬

‫مدرسة فرانكفورت هي حركــة فكريــة ظهــرت في العشــرينيات من القــرن الماضــي في‬


‫ألمانيا‪ ،‬وجمعت هذه الحركــة الفكريــة عــدة مفكــرين من اختصاصــات مختلفــة‪ ،‬وقــامت بعــدة‬
‫أبحاث شكلت مشروعا فلسفيا مشتركا عرف بـ «النظرية النقدية»‪ ،‬أي أن اصــطالح مدرســة‬
‫فرانكفورت يشير إلى تجمع أو حركة ثقافية لمجموعة من المنظرين من اختصاصات متعــددة‬
‫عملوا بصفة مشتركة على تأسيس مشروع مجتمع‪ ،‬باالعتماد على الفكر الماركسي‪ ،‬وعملــوا‬
‫جماعيا على تأسيس معهد األبحاث االجتماعية سنة ‪ ،1923‬وخالل فترة الحكم النــازي أجــبر‬
‫معظم أعضــاء هــذه المدرســة على الهجــرة إلى الواليــات المتحــدة األمريكيــة‪ ،‬حيث واصــلوا‬
‫نشاطهم هناك‪ ،‬وتم إعادة بعث هذا المعهد سنة ‪ 1950‬بعد عودة معظم أعضاءه إلى ألمانيا†‪.‬‬

‫وتعود الجذور الفكرية لهذه الحركة الفكرية إلى الماركسية حيث حاولت إحياء المشروع‬
‫النقدي لماركس الــذي تعــرض لإلهمــال من طــرف المفكــرين الغربــيين‪ ،‬وأرادت أن تصــحح‬
‫االنحرافات التي حدثت في مسار هذا المشروع‡‪ ،‬كما تستمد أصالتها من الفكر الكانطي حيث‬
‫‡‬
‫‪-Apel Karl- Otto, Discussion et Responsabilité 2: contrubution à une éthique de la responsabilité ,‬‬
‫‪traduit par christaian bouchindhomme et al. Édition du Ceref, Paris, 1998, (page de garde).‬‬

‫*‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.157،‬‬
‫†‬
‫‪- Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres,‬‬
‫‪Édition grassetet fasquelle, Paris, 1983, p, 603.‬‬

‫‡ ‪ -‬آسون لوران‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ترجمة سعاد حرب‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،2005 ،2‬ص‪.77 ،‬‬

‫‪34‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫يعتبرها الكثير من الدارسين الوريث الشرعي لكانط‪ ،‬ألنهــا هــاجمت كــل دوغمائيــة وركــزت‬
‫على النقد*‪.‬‬

‫قام فالسفة ومنظري هذا الفضــاء الثقــافي المتعــدد االختصاصــات بأبحــاث في مجــاالت‬
‫مختلفة تدور خاصة حـول تحليـل النظم السـائدة‪ ،‬ومن أبـرز الوجـوه التاريخيـة لهـذه الحركـة‬
‫الفكرية النقدية ماكس هوركهايمر ‪ Horkheimer‬وتي ودور أدورن و ‪ Adorno‬من الجيـل‬
‫األول بإسهامهما في تأسيس هذه المدرسة النقديــة‪ ،‬وي ورغن هابرم اس وك ارل أوت و آبل من‬
‫الجيل الثــاني بإســهامهما في تأســيس إتيقــا التواصل†‪ ،‬ويقــود هــذا الفضـاء الفكـري في الفــترة‬
‫األخيرة أكسيل هونيت ) ‪ Axel Honneth ( 1949- .‬من الجيل الثالث‡ (مؤسس براديغم‬
‫االعتراف)‪.‬‬

‫ماكس هوركه ايمر*)‪ :Max Horkheimer(1895-1973‬يعـد من المؤسسـين األوائـل‬


‫لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬اشتهر بمشروعه النقدي الذي يشكل أحــد أهم إنتاجــات النظريــة النقديــة‬
‫في مرحلة التأسيس‪.‬‬
‫* ‪ -‬الخوني محسن‪ ،‬منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت‪ ،‬مجلة أوراق فلسفية‪ ،‬العدد ‪ ،11‬السنة ‪ ،2004‬القاهرة‪ ،‬ص‪ ،‬من ‪ 461‬إلى‬
‫‪.480‬‬

‫‪1-Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres,‬‬


‫†‬

‫‪Op.Cit, p, p, 603, 604.‬‬


‫‡ ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى أكسيل هونيث‪ ،‬الدار العربي ة للعل وم ومنش ورات االختالف‬
‫ودار األمان‪ ،‬بيروت والجزائر والرباط‪ ،‬ط‪ ،2010 ،1‬ص‪.79 ،‬‬

‫* ‪ -‬هوركهايمر ماكس‪ «:‬بدأ حياته بالعمل في مصنع النسيج الذي كان يمتلك ه وال ده بمدين ة مس قط رأس ه "ش توتغارت"‪ ،‬وبع د أن‬
‫التقى مع فرديرك بولوك ‪ F.Pollock‬سنة ‪ 1912‬توجها معا إلى باريس ثم بروكسل وذلك قبل اندالع الحرب العالمية األولى‪ ،‬شارك‬
‫في الحرب كمجهول وأصيب خاللها رفقة بولوك‪ ،‬أنهيا دراس تهما الثانوي ة وتابع ا دراس تهما بين س نتي ‪ 1922 -1919‬في الفلس فة‬
‫وعلم النفس واالقتصاد السياسي تحت إشراف هانس كورنيه ‪ Hans Cornlins‬والذي ك ان ل ه ت أثير كب ير عليهم ا‪ ،‬كم ا ت أثر في‬
‫بداية مساره الفكري بفلسفة شوبنهاور ‪ Shopenhoure‬كما صرح بذلك في سيرته الذاتية "هو عامل أساسي في بداية تفك يري"‪،‬‬
‫وتأثر كذلك باألديب الروسي تولوستوي ‪ Tolstoï‬وبالعديد من فالسفة القرن التاسع عشر‪ ،‬ويعود الفضل إلى تبل ور فك ره ك ذلك إلى‬
‫إحدى المجالّت اليسارية المستقلة لألحزاب السياسية التي اكتشف من خالله ا فك ري م اركس وانجل ز‪ ،‬وتمام ا مث ل ش وبنهاور ح دد‬
‫هوركهايمر لنفسه مسارا فلسفيا بعد أن جرب لمدة قصيرة مهنة رجل أعمال انتق ل إلى الت دريس س نة ‪ 1925‬بع د تقديم ه ألطروح ة‬
‫فلس فية ح ول كان ط »‪ [،‬من أش هر أعمال ه‪ :‬أف ول العق ل‪ ،‬ب دايات الفلس فة البرجوازي ة للت اريخ‪ ،‬وعم ل مش ترك م ع أدورن و"ج دل‬
‫التنوير"]‪( .‬المرجع)‪Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures:‬‬
‫‪.et œuvres, Op.Cit, p, 604‬‬

‫‪35‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫أسس هوركهايمر رفقــة صـديقيه بولـوك و فليكس فايـل ‪ Félix Weil‬معهـد األبحـاث‬
‫اإلجتماعية ســنة ‪ 1923‬بــدعم مــالي من رجــل األعمــال هيرمــان فايــل ‪Hermann Weil‬‬
‫(والد فليكس صديق هوركهايمر) والذي أصــبح معهــدا رســميا بمــوجب مرســوم رســمي من‬
‫وزارة التـربيـة األلمـانيـة آنـذاك‪ ،‬وقد عادت رئاسة هـذا المعهد في بدايـة تـأسيـسه إلى أستـاذ‬
‫الحقوق والعلــوم السياســية بجامعــة فيينــا كــارل غرينــبرغ ‪ ،*Carl Grunberg‬وفي ســنة‬
‫‪ 1931‬وألســباب صــحية تــرك غرينــبرغ رئاســة هــذا المعهــد لهوركهــايمر‪ ،‬ومن التوجهــات‬
‫الجديدة لهذا المعهد تحت رئاسة هوركهايمر هو تسطير برنامج يتأسس على‪:‬‬

‫‪ -‬تطوير الفلسفة االجتماعية انطالقا من األطروحات الهيغيلية‪.‬‬


‫‪ -‬تأسيس نظرية مادية مدعمة بالعمل التجريبي‪.‬‬
‫‪ -‬القيام بدراسات حول العمال والموظفين ومشاكلهم المختلفــة في ألمانيــا وغيرهــا من البلــدان‬
‫الصناعية في أوروبا‪.‬‬
‫‪ -‬إعطاء األولوية لعلم النفس االجتماعي من أجل التوصل إلى التوازن بين الفرد والمجتمع‪.‬‬
‫‪ -‬األخذ بعين االعتبار نتائج الدراسات التحليلية النفسية التي ازدهرت في تلك الفترة†‪.‬‬
‫وفي ســنة ‪ 1932‬صــدر أول عــدد*من مجلــة األبحــاث االجتماعيــة الصــادرة عن هــذا‬
‫المعهد‪ ،‬وفي ‪ 13‬أبريل ‪ 1933‬طرد هوركهايمر من ألمانيا وأغلق هــذا المعهــد بحجــة تهديــده‬
‫ألمن الدولة النازية‪ ،‬وبعدها استقر هذا المعهد في سويسرا تحت اسم فرنسي "المعهــد الــدولي‬
‫لألبحاث اإلجتماعية" «‪ ،»I.I.R.S‬والذي بلغ إشعاعه وتــأثيره إلى كــل من فرنســا وانجلــترا‬
‫واســتمرت مجلتــه في الصــدور إلى غايــة ‪ 1940‬ولكن بتوقيــع ريمــون آرون ‪Raymond‬‬

‫*‬
‫‪-Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres,‬‬
‫‪Op.Cit, p, p, 604, 605.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 605.‬‬

‫*‪ -‬وقد تضمن هذا العدد مقاالت مختلفة‪ ،‬حيث كتب غروسمان ‪ Grossmann‬مق اال ح ول م اركس‪ ،‬وع رض بول وك وجه ة نظ ره‬
‫حول م دى إمكاني ة نج اح التخطي ط االقتص ادي في النظ ام الرأس مالي‪ ،‬وكتب لوفنت ال ‪ Lowenthal‬ح ول اجتماعي ة اآلداب‪ ،‬وكتب‬
‫أدورنو ‪ Adorno‬مقاال حول دور الدراسات النفسية في األبحاث االجتماعية‪ ،‬ونشر هوركهايمر ‪ Horkheimer‬في هذا العدد مقاال‬
‫بعنوان "التاريخ وعلم النفس" وقع ه العض و الجدي د في ه ذا المعه د إري ك ف روم‪( Erich Fromm‬المرج ع)‪Besnier Jean-:‬‬
‫‪.Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres, Op.Cit, p, 605‬‬

‫‪36‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ Aron‬وجورج فريدمان ‪ Georges Friedmann‬وغيرهمــا‪ ،‬بينمــا اســتقر هوركهــايمر‬


‫منذ سنة ‪ 1934‬في نيويورك رفقة مـاركيوز وولوفنتـال وبولـوك وفـروم وغـيرهم وهنـا تبـدأ‬
‫مرحلة جديدة من تاريخ مدرسة فرانكفورت*‪.‬‬

‫تيودور أدورنو*)‪ :Theodor W.Adorno (1903-1969‬ويعد كذلك من المؤسسين‬


‫األوائل لمدرسة فرانكفــورت‪ ،‬تنــوع اهتمامــه بين الفلســفة والفن واشــتهر بأعمالــه خاصــة في‬
‫فلسفة الفن والجمال‪ ،‬وبالتحديد حول الموسيقى‪.‬‬

‫وتميزت الفترة بين (‪ -1931‬ـ ‪ )1933‬من حياة هذا الفيلســوف الشــاب بالعمــل مــع فــالتر‬
‫بنيامين ‪ W.Benjamin‬على محاولة إحياء المثالية التي عرفت بالكانطية الجديدة وإثراءها‬
‫باألفكار الفينومينولوجية إلدمونــد هســرل ‪ E.Husserl‬ومــارتن هيــدغر‪ ،‬وكــان تفكــيره في‬
‫البداية منصبا حول اإلستيتيقا نظرا لما كان للفن الموسيقي من تأثير في فترة طفولته وشــبابه‪،‬‬
‫حيث اعتــبر أدورنــو الموســيقى "أداة من األدوات األساســية للتعبــير عن الفكــر والتواصــل"‬
‫ومتأثرا في ذلك أيضا بأفكار هيغل في هذا المجال‪ ،‬وتوصل أدورنو من خالل ذلك إلى فكــرة‬
‫مفادها أن هناك "عهد سري بين الموسيقى والمجتمع"‪ ،‬وفي ســنة ‪ 1936‬انفصــل عن أســتاذه‬
‫فالتر بنيامين‪ ،‬وخالفا ألعضاء مدرسة فرانكفورت الذين استقروا أوال بسويسرا فــإن أدورنــو‬
‫غادر مباشرة إلى إحــدى الجامعــات اإلنجليزيــة وفي ســنة ‪ 1938‬عــبر األطلنطي ليصــل إلى‬
‫الواليات المتحدة األمريكية حيث التحق برفيقه هوركهايمر بالمنفى االختياري بأمريكا‪ ،‬ومن‬

‫*‬
‫‪- Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres,‬‬
‫‪Op.Cit, p, 605.‬‬

‫* ‪ -‬ثيودور أدورنو‪ :‬قضى طفولته بين أمه المغنية (الكورسكية األصل) وشقيقته الكبرى عازفة البيانو‪ ،‬وهو األمر الذي ساعده على‬
‫تعلم العزف على هذه اآللة الموسيقية والتي كان لها تأثير كبير على توجهه الفلسفي فيم ا بع د‪ ،‬وفي ص يف ‪ 1924‬التقى ألب ان ب رغ‬
‫‪ Alban Berg‬واتفق ا على الس فر إلى فيين ا من أج ل الدراس ة هن اك‪ ،‬وب دأ بالعم ل في بعض الجرائ د وفي ال وقت نفس ه متابع ة‬
‫محاضرات كارل كروس ‪ K.Kraus‬وبع د ذل ك انض م إلى مجموع ات العم ل ال تي ك ان يش رف عليه ا تليش ‪ Tillich‬وهوركه ايمر‬
‫ولوفنت ال وبول وك ومانه ايم ‪ ،Mannheim‬وفي سنة ‪ 1931‬ن اقش أطروح ة جامعي ة ح ول اإلس تيتيقا عن د كيردج ارد بعن وان‪:‬‬
‫‪ ،)) Kierkegaard ; Construction de l’esthétique‬وأصبح بعدها أستاذا مساعدا‪ ،‬من أشهر أعماله‪ [ :‬النظرية الجمالية‪،‬‬
‫الج دل الس لبي‪ ،‬وعم ل مش ترك م ع هوركه ايمر "ج دل التن وير"]‪( .‬المرج ع)‪Besnier Jean-Michel, histoire de la :‬‬
‫‪.philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres, Op.Cit, p, 606‬‬

‫‪37‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫هناك استأنفا العمل المشترك بينهمــا‪ ،‬ومــا يثــير االســتغراب هنــا حســب بعض الدارســين هــو‬
‫لجوء مفكرين ماركسيين حتى النخاع إلى رائدة العالم الليبرالي أمريكا‪ ،‬وهو األمر الذي كــان‬
‫له تأثير كبير على تغيير توجههما الفكري كما يالحظ ذلك من خالل أعمالهمــا ســواء الفرديــة‬
‫منها أو المشتركة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى غاية ‪.* 1970‬‬

‫ومع عودة المعهد إلى فرانكفورت سنة ‪ 1950‬عاد معظم أعضاءه من المنفى االختياري‬
‫وخاصة هوركهايمر وأدورنو‪ ،‬وبدأت مرحلة جديـدة في تـاريخ هـذا المعهـد وهـذه المدرسـة‪،‬‬
‫حيث وصلت النظرية النقدية في هذه الفترة إلى ذروة ازدهارها‪ ،‬وسيطرت عليها بشكل كامل‬
‫أفكــار هــذين المفكــرين† بحكم أن األول أي هوركهــايمر تــرأس هــذا المعهــد من ‪ 1950‬إلى‬
‫‪ 1959‬ثم ترك رئاسة هذا المعهد إلى الثاني أي أدورنو‡‪ ،‬ثم حمل المشعل بعد ذلك جيــل آخــر‬
‫من أبرزهم يورغن هابرماس وألبرخت فيلمر وألفريــد شــميث ‪ ،A.Schmidt‬وتعــرف هــذه‬
‫الفترة بفترة األفول والتجدد§‪ ،‬دون أن ننسى دور كارل أوتو آبل في هذه الفترة باعتبــاره كــان‬
‫من المفكرين القريبين من هابرماس والمؤثرين في فكره‪ ،‬وذلك باعتراف هابرمــاس شخصـيا‬
‫حين قال‪ « :‬إن صديقي كارل أوتو آبل كان له الــدور األكــبر في توجيــه عملي الخــاص أكــثر‬
‫من أي زميل آخر »** ‪ ،‬أما في الفترة األخيرة وبالتحديد منذ بداية القرن الواحد والعشرين فقد‬
‫أصبح أكسيل هونيت هو مدير هذا المعهد‪ ،‬وبالتالي هو رائد مدرسة فرانكفورت حاليا‪.‬‬

‫يورغن هابرماس‪ :‬وهو رائد الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬اشتهر بعملــه الهــام "نظريــة‬
‫الفعل التواصلي"ـ‪ Théorie de l’agir coommunicationnel‬الــذي يعــبر عن أصــالة‬

‫‪-Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres,‬‬


‫*‬

‫‪Op.Cit, p, p, 606, 607.‬‬

‫† ‪ -‬بوتمور توم‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ترجمة سعد هجرس‪ ،‬دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬طرابلس‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ط‪ ،1998 ،1‬ص‪،‬‬
‫‪.61‬‬

‫‡ ‪ -‬آسون لوران‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ترجمة سعاد حرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.18 ،‬‬

‫§ ‪ -‬بوتمور توم‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ترجمة سعد هجرس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.103 ،‬‬

‫‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.32 ،‬‬ ‫**‬

‫‪38‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫فلسفته من خالل نحته لمفهوم مركزي جديد في الفلســفة هــو ( العق ل التواص لي )*‪[ ،‬وتجــدر‬
‫اإلشارة هنا إلى أن هابرماس يعد من أغزر المؤلفين إنتاجا في الفكر الفلسفي المعاصــر‪ ،‬وقــد‬
‫ترجمت أعماله إلى لغات عديدة خاصة اإلنجليزية وحتى العربية‪ ،‬وسنعود إلى بعض جوانب‬
‫سيرته المعرفية في الفصل الموالي‪ ،‬أما كارل أوتو آبل فقد سبق لنا في الجــزء األول من هــذا‬
‫المطلب الحديث عن سيرته المعرفية وســنعود في الفصــلين الموالــيين للحــديث عن مشــروعه‬
‫الفلسفي‪ ،‬وأما أكسيل هونيت وجان مــارك فــيري فســنعود إليهمــا في الفصــل األخــير من هــذا‬
‫البحث من خالل القراءة النقدية في فكر آبل ومحاولة تجاوزه ]‪.‬‬

‫وبعد هذه الجولة التاريخية حول نشأة مدرسة فرانكفورت وتطورها والحديث عن حياة‬
‫أبرز روادها من الجيل األول والثاني‪ ،‬ننتقل اآلن إلى الحــديث باختصــار على أبــرز القضــايا‬
‫الفلسفية التي كانت محل اهتمام فالسفة مدرسة فرانكفورت‪ ،‬والتي من أهمها ما يلي‪:‬‬

‫مشكلة التحرر‪ :‬كانت المشكلة األساسية عند مفكري مدرسة فرانكفورت هي البحث والتنظير‬
‫لمعرفة لماذا لم تؤد نهضة عصر التنوير إلى تحرر اإلنسانية‪ ،‬بــل أنهــا على العكس من ذلــك‬
‫أدت في نظرهم إلى نشأة مجتمع تتحكم فيه أنظمة توليتارية دمرت الفردانية كمــا هــو مالحــظ‬
‫في التجربة التاريخية للنازية والتي تسببت في إعداد نظام يعكس تفكيرها†‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار‬
‫عمل مفكرو هذه المدرسة بمختلف توجهـاتهم على رفض كـل تفكـير إيـديولوجي سـواء أكـان‬
‫يمينيا أو يساريا يقمع مشروع الحرية‪ ،‬حيث تجند هؤالء المفكرين في تحليل نظريتهم النقديــة‬
‫لتأسيس مشروع نقدي للعقالنية والمجتمــع يهــدف إلى تأســيس أنظمــة للوجــود اإلنســاني على‬
‫الحرية‪.‬‬

‫مشكلة الحداثة وما بعد الحداثة‪ :‬الحداثة هي مشروع حضاري تأسس بدءا من القــرن الثــامن‬
‫عشر‪ ،‬وكان يسعى إلى تحقيق ثالثة أهداف أساسية هي‪:‬‬

‫‪ -‬أولوية المستقبل‪ :‬الذي يؤكد التطور نحو األفضل‪.‬‬


‫* ‪ -‬آسون لوران‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ترجمة سعاد حرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.25 ،24 ،‬‬

‫†‪ -‬مصدق حس ن‪ ،‬النظري ة النقدي ة التواص لية‪ :‬ي ورغن هابرم اس ومدرس ة فرانكف ورت‪ ،‬المرك ز الثق افي الع ربي‪ ،‬ال دار البيض اء‪،‬‬
‫المغرب‪ ،‬ط‪،2005 ،1‬ص‪.25 ،‬‬

‫‪39‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ -‬تقريــر البــدء في طــرح الجديــد الحاســم وإحــداث قطيعــة أحيانــا تكــون عنيفــة مــع معطيــات‬
‫الماضي ومع كل الماضي خاصة على المستوى السياسي‪.‬‬
‫‪ -‬الميل إلى العلمنة‪ :‬إعادة النظر في المرجعيات التقليدية في تحديد القيم*‪.‬‬

‫أما ما بعد الحداثة فهي تيار ومشــروع فكــري حــاول أصــحابه القيــام بمراجعــة لمشــروع‬
‫الحداثة‪ ،‬وظهر هذا المشروع الفكري في خمســينيات القــرن الماضــي في فرنســا‪ ،‬ومن أبــرز‬
‫ممثليه ليوتار )‪ J.F.Lyotard (1924- 1998‬وفوكو )‪M.Foucault (1926-1984‬‬
‫ودريدا (‪ J.Derrida )1930- 2006‬وغيرهم‪ ،‬ويقوم هــذا المشــروع على‪ « :‬نقــد أســس‬
‫الحداثة الغربية ومحاولة صياغة مبادئ جديدة للمجتمع الغربي »†‪.‬‬

‫ومعنى ذلك أن الحداثة تسـببت في حـدوث أزمــات متعــددة‪ ،‬أزمــة المجتمـع وأزمـة العلم‬
‫وغيرها حتى"عرفت الفلسفة المعاصرة بأنها فلسـفة األزمـات"‪ ،‬وفلسـفة مـا بعـد الحداثـة هي‬
‫مراجعة وإعادة نظر في مشــروع الحداثــة‪ ،‬حيث أصــبح من الضــروري التفكــير في تأســيس‬
‫فضاء عمومي جديد بمواصفات إتيقية وتواصلية مختلفة عن ما هو قائم أمرا ال مفر منه ‪.‬‬

‫ويعتبر رائد الجيل الثاني في مدرسة فرانكفورت يــورغن هابرمــاس من أبــرز الفالســفة‬
‫الــذين تنــاولوا هــذه المشــكلة‪ ،‬حيث يقــول في إحــدى مقاالتــه الشــهيرة الــتي نشــرها بمجلــة‬
‫‪ Lettre internationale‬سنة‪″ 1987‬العدد ‪"14‬ـ بعنوان "الحــديث ومــا بعــد الحــديث"‪:‬‬
‫« إن مشروع الحداثة الذي تشــكل في القــرن الثــامن عشــر من طــرف فالســفة األنــوار تحــدد‬
‫بفضــل الجهــد لتطــوير علم موضــوعي وعلى قيم أخالقيــة لحقــوق شــاملة وعلى االســتقاللية‪،‬‬
‫حيث يكون لكل واحد وظيفته [‪ ]...‬حيث أراد فالسفة األنوار من وراء هــذا المشــروع العمــل‬
‫على تـنظيــم أكثـر عقالنيـة للحيـاة االجتماعيـة اليـوميـة‪،‬ـ إن مفكريـن أمثـال كونـدورسـيـه *‬
‫‪ Condorcet‬علقوا آماال كثيرة على الفنون والعلوم ليس فقط ألنها قد تسمح لنــا بــأن نكــون‬

‫* ‪ -‬آفاية محمد نور الدين‪ ،‬الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ :‬المغرب ولبنان‪ ،‬ط‪ ،1998 ،2‬ص‪[ ،‬‬
‫‪ ( ]116 ،115 ،114‬بتصرف)‪.‬‬

‫† ‪ -‬تيزيني الطييب‪ ،‬مابعد الحداثة كنقد للحداثة‪( ،‬في) سبيال محمد وبنعبدالعالي عبدالسالم‪ ،‬مابعد الحداثة‪ ،‬سلسلة دفاتر فلسفية‪ ،‬دار‬
‫توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،2007 ،1‬ص‪( 74 ،‬بتصرف)‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫في يــوم من األيــام متمكنــون من التحكم في القــوى الطبيعــة ولكن لتطــوير فهمنــا لهــذا العــالم‬
‫وألنفسنا‪ ،‬وسوف تؤدي إلى تطور األخالق وعدالة القوانين وحتى سعادة اإلنسانية »*‪ ،‬وعلى‬
‫هذا األساس‪ -‬حسب هابرماس‪ -‬علّق فالسفة ومفكرو وعلمــاء األنــوار آمــاال كبــيرة على على‬
‫مشــروع الحداثــة من أجــل التحــرر من كــل أنــواع الســيطرة وتحســين الحيــاة اليوميــة‪ ،‬ولكن‬
‫هابرماس وعلى غرار فالسفة الجيل األول من مدرسة فرانكفورت رأى أن مشــروع الحداثــة‬
‫فشل فشال ذريعا في تحقيق أهدافه وتحقيق طموحات فالسفة ومفكري وعلماء عصر األنوار‪،‬‬
‫حيث يضيف هابرمـاس قـائال‪ « :‬إن القـرن العشـرين خـرب هـذا التفـاؤل‪ ،‬فـالتمييز بين العلم‬
‫واألخالق والفن تحول اليوم إلى استقالل مختلف المجــاالت الــتي أصــبحت تعــالج من طــرف‬
‫مختصين‪ ،‬وهــذا التفريــق للمشــاكل أدى إلى ســيطرة النزعــة العلمويــة المدعمــة بالتقنيــة على‬
‫مختلف مجاالت الحياة‪ ،‬وعليه فإن المشــكلة الــتي تبقى مطروحــة اليــوم هي‪ :‬هــل يجب علينــا‬
‫االلتزام بأهداف فالسفة األنوار انطالقا من آمالهم ونعتبر أن مشروع الحداثة لم ينجــز بعــد أو‬
‫أنه يجب علينا اعتبار مشروع الحداثة بمثابة قضية خاسرة؟»†‪.‬‬

‫وعلى ضوء ما سبق يتضح لنا أن مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية‪ ،‬هي نظرية‬
‫تأسست على نقد النظم السائدة‪ ،‬وهي كذلك نظريــة حــاولت أن تجعــل من التفكــير تعبــيرا عن‬
‫الواقع االجتماعي من خالل ربطها بين الفكر والحياة االجتماعية وتأسيسها لفكــر نقــدي متفتح‬
‫على المتغيرات والتطورات الحاصلة في المجتمــع علميــا وتقنيــا وسياســيا‪ ،‬وهــذا مــا نستشــفه‬
‫خاصة من خالل قراءة فكر كل من هابرماس وكارل أوتو آبل اللّــذين وجهــا انتقــادات الذعــة‬
‫للوضعية المنطقية ولكارل بوبر وأتباعه رغم ادعاء هذا األخير انتماءه إلى العقالنية النقديــة‪،‬‬
‫ولم يسلم حتى فكر الجيــل األول لهــذه المدرســة من نقــدهما ألن مفكــري الجيــل األول أسســوا‬
‫فلسفتهم على نقد العقل األداتي دون اقتراح بديل واضح وكــان اهتمــامهم منصــبا خاصــة على‬

‫**‪ -‬كوندورسيه )‪ ، Marquis De Condorcet (1743-1794‬فيلسوف ورياضي ومصلح اجتماعي فرنسي‪.‬‬

‫‪-Habermas Jurgen, Le moderne et le postmodernne, (in) Lettre internationale, n: 14, automne‬‬


‫‪1987, p, 42.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 42.‬‬

‫‪41‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫فلسفة التــاريخ‪ ،‬بينمــا أســس مفكــرو الجيــل الثــاني فلســفتهم على العقــل التواصــلي بــوحي من‬
‫هابرماس وعلى اإلتيقا بوحي من آبل‪.‬‬

‫ومع ذلك يبقى فكر الجيل األول لهذه المدرسة من أهم الروافد الفكرية التي مثلت منطلقــا‬
‫ومرجعية فلسفية لكارل أوتو آبل باعتباره عـاش في وسـط هـذا المنـاخ الفكـري الـذي عرفتـه‬
‫ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية‪ ،‬حيث حاول مفكرو مدرسة فرانكفورت المســاهمة في‬
‫إعادة إدماج ألمانيا ايجابيــا في وســطها األوروبي والعــالمي‪ ،‬وقــد كــان آبــل رغم اختالفــه في‬
‫بعض المسائل مع هابرماس رائدا من رواد هذه المدرسة في الربع األخير من القرن الماضي‬
‫بعد رحيل مؤسسيها التاريخيين هوركهايمر وأدورنـو‪ ،‬وقـد ســبق لنــا أن قـدمنا في بدايــة هـذا‬
‫المطلب بعض الشــواهد الــتي تثبت انتمــاء آبــل إلى هــذه المدرســة ومكانتــه فيهــا‪ ،‬ويمكننــا أن‬
‫نضيف هنا شواهد أخرى تثبت انتماء آبل إلى هذه النظرية النقدية ومنها على سـبيل المثــال ال‬
‫الحصر تلك الدراسة التي اعتمدنا عليها في هذا البحث للبــاحث الفرنســي جــان مشــال بيزنيــه‬
‫‪ Besnier‬بعنوان تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة‪ :‬وجوه وأعمال‪ ،‬والتي أفرد فيها فصــال‬
‫للحـــديث عن مدرســـة فرانكفـــورت من خالل تركـــيزه على أربعـــة نمـــاذج ( هوركهـــايمر‪،‬‬
‫وأدورنو‪ ،‬وهابرماس‪ ،‬وكارل أوتو آبل )*‪ ،‬وقد بدأ حديثه عن آبل قائال‪ « :‬إن كارل أوتو آبــل‬
‫مثل هابرماس‪ ،‬هو كذلك أستاذ بجامعة فرانكفورت أظهر طموحا نظريا ســمح لــه بــأن يكــون‬
‫ممثال آخر للمدرسة التي أسســها هوركهــايمر وأدرنــو »†‪ ،‬وهي بــدورها دراســة اعتمــد فيهــا‬
‫صــاحبها على دراســات غربيــة متخصصــة في فكــر مدرســة فرانكفــورت ومن أشــهر هــذه‬
‫الدراسات دراسة الباحث ‪ M.Abensour‬بعنوان "النظرية النقدية‪ :‬فكر المنفى"‪ ،‬وغيرها‪،‬‬
‫ونضيف هنا أيضا دليال آخر يثبت انتماء آبل إلى مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ويتمثل هــذا الــدليل في‬
‫موقف الباحث الجزائري كمال بومنير في كتابه "النظري ة النقدي ة لمدرس ة فرانكف ورت من‬
‫هوركهايمر إلى هونيت"‪ ،‬حيث رأى أن هذه المدرسة [ حســب المختصــين في البحث فيهــا ]‬
‫مرت في تطورها بثالث مراحل‪ ،‬المرحلة األولى وهي مرحلة التأسيس في بداية العشرينيات‬
‫*‬
‫‪- Besnier jean-Michel, Histoire de la philosophie moderne et contemporaine ; figures et ouvres,‬‬
‫‪Op.Cit, p, [603….618].‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 616.‬‬

‫‪42‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫من القرن الماضي عندما تكتل مجموعــة من المفكــرين األلمــان ذوو التوجــه الماركســي ومن‬
‫أبرزهم ماكس هوركهايمر وثيودورأدورنو وهربرت مــاركيوز‪ ،‬ويطلــق على هــؤالء تســمية‬
‫الجيل األول‪ ،‬أما المرحلة الثانية فيمثلها خاصة يورغن هابرمــاس وك ارل أوت و آبل‪ ،‬ويطلــق‬
‫على هؤالء اسم الجيل الثاني‪ ،‬أما المرحلة الثالثة أو ما يطلق عليــه اســم الجيــل الثــالث فيمثلــه‬
‫خاصة أكسيل هونيت الذي يرأس حاليا معهد الدراسات االجتماعية بفرانكفورت‪ ،‬وهــو الــذي‬
‫انتقل بفلسفة هذه المدرسة من براديغم التواصل إلى ب راديغم االع تراف*‪،‬ومـع هـذه اإلثباتــات‬
‫أصبح من المؤكد لدينا أن إدراج كارل أوتو آبل ضمن مدرسة فرانكفورت النقدية هو أمــر ال‬
‫غبار عليه‪ ،‬ولكن هل تمثل مدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية المرجعية الفلسفية الوحيدة‬
‫لكارل أوتو آبل؟‬

‫ب ‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬المرجعيات الفلسفية المتعددة لكارل أوتو آبل‬

‫انطالقا مما سبق يمكن القــول أن مدرســة فرانكفــورت ونظريتهــا النقديــة الــتي ســيطرت‬
‫على الفلسفة األلمانية خالل القرن العشرين وخاصة في النصــف الثــاني منــه تعتــبر المصــدر‬
‫األول لثقافة كارل أوتــو آبــل‪ ،‬ولكن بمــا أن هــذه المدرســة في حــد ذاتهــا هي مدرســة متعــددة‬
‫المشارب الفكرية من كانطية وهيجيلية وماركسية وفرويديــة وغيرهــا‪ ،‬فال شــك وأن مصــادر‬
‫ومشارب فكر فالسفتها يكون متعددا كــذلك وليس واحــدا‪ ،‬وهــذا األمــر ينطبــق على فيلســوفنا‬
‫موضوع هذا البحث كارل أوتو آبل والذي تعددت المصادر والعوامل التي ساهمت في تبلــور‬
‫فلسفته‪ ،‬فباإلضافة إلى فكر النظرية النقدية لمدرســة فرانكفــورت تــأثر آبــل بــالتراث الفلســفي‬
‫األوروبي الذي غلب عليه الطابع الهرمنيوطيقي‪ ،‬حيث يعتبر المنعرج الهرمنيوطيقيـ اللحظة‬
‫الفلسفية األولى التي كانت نقطــة انطالق آبــل‪ ،‬ثم تــأثر بالفلســفة التحليليــة ممثلــة في التداوليــة‬
‫والبراجماتزم والسميوطيقا األمريكيين‪ ،‬وبذلك يمثل المنعرج األلسني التــداولي والبراجمــاتزم‬
‫اللحظة الفلسفية الثانية التي مر بها آبل‪ ،‬ثم عاد إلى الفلسفة الترنسندتالية الكانطية والتي تمثــل‬
‫اللحظة الفلسفية الثالثة له‪ ،‬مشكال بذلك منعرجا هرمنيوطيقيا تداوليا ‪ ،‬وقد ارتأينا أن نركز في‬
‫هذا البحث على المرجعيات التي بدت لنا أنها األكثر تأثيرا بالنســبة آلبــل‪ ،‬وغرضــنا من ذلــك‬
‫* ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسيل هونيت‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص ‪ ،‬ص‪.79 ،64،‬‬

‫‪43‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫ليس هو تحليل هذه االتجاهات الفلسفية وإنما هو إبراز مدى تأثيرها على فكر كارل أوتو آبــل‬
‫على وجه التحديد‪ ،‬وذلك ألنه ال يمكننا فهم أي فيلسوف فهما صحيحا وجيدا دون الرجوع إلى‬
‫الجذور الفكرية واألصول الفلسفية التي انطلق منها وتأثر بها وحاول أن يتبناها أو يتجاوزها‪،‬‬
‫ألن فكر أي فيلسوف إنما يتأسس على تلك المرجعيات الفلسفية التي تأثر بهــا من خالل تبنيــه‬
‫لها أو محاولته تعديلها أو نقدها وتجاوزها‪.‬‬

‫كارل أوتو آبل والمنعرج الهيرمنيوطيقي‪:‬‬

‫لم يقدم آبل فلسفته أبدا دون ذكــر مرجعيتهــا‪ ،‬بــل على العكس من ذلــك نجــد في كتاباتــه‬
‫الفلسفية تصريحا واعترافا بهذه المرجعيات تحت إطار منهجي ( التفكير مع ‪ ...‬ضد‪ ،)...‬فهو‬
‫يعترف بتأثره بهرمنيوطيقا التأويل الــتي تــؤدي إلى اقـتراح آراء متعــددة تفرضــها الضــرورة‬
‫المنهجيـة واإلتيقيـة لتأكيـد األفكـار*‪ ،‬فم ا المقص ود بالهرمنيوطيق ا؟ وم ا هي أهم المحط ات‬
‫التاريخية التي مر بها هذا المفهوم؟ وما مدى تأثيرها على فكر كارل أوتو آبل؟‬

‫« الهرمنيوطيقا ‪ Herméneutique‬هي فن الفهم »†‪ ،‬بمعنى أنها تأويل وترجمة بشكل‬


‫واضــح للعالمــات الــتي يمكن أن تكــون غامضــة‪ ،‬وكــانت الوظيفــة األولى للهرمنيوطيقــا هي‬
‫الولــوج إلى أعمــاق معــاني النص الــديني ثم تطــورت ودخلت إلى مجــال العلــوم اإلنســانية‬
‫والفلســفة‪ ،‬فالهرمنيوطيقــا المســيحية كــانت تبحث في المعــاني الخفيــة الــتي يحتويهــا الكتــاب‬
‫المقدس (اإلنجيل)‪ ،‬حيث كان العمل الهرمنيوطيقيـ في العصور الوسـطى يهتم بتحديـد أربعـة‬
‫مستويات لفهم النص وهي‪ « :‬المعنى الحــرفي ‪ Le sens littéral‬ويــبين لنــا مــاذا فعــل هللا‬
‫وماذا فعل أباؤنا‪ ،‬والمعنى الرمزي ‪ Le sens allégorique‬ويبين لنا أين يختفي إيماننــا‪،‬‬
‫والمعنى األخالقي‪ Le sens tropologique‬ويعطينا قواعد سلوك لحياتنا اليومية‪ ،‬والمعنى‬
‫الروحي ‪ Le sens anagogique‬ويبين لنا أين ينتهي سعينا »‡‪ ،‬ويتضح من خالل هذا أن‬
‫*‬
‫‪- Martin Le Corre Chantecaille, penser avec…et contre…la pragmatique transcendantale de k.o.‬‬
‫‪Apel, thèse pour le doctorat de philosophie, Op.Cit, p, 3.‬‬

‫†‪.Grondin Jean, L’Herméneutique, Puf, que sais je ?, 3 Édition, 2014, Paris, p, 9-‬‬

‫‡ ‪ -‬جاسير دافيد‪ ،‬مقدمة في الهرمنيوطيقا‪ ،‬ترجمة وجبة قانصو‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪ ،2007 ،1‬ص‪.73 ،‬‬

‫‪44‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫الهرمنيوطيقا المسيحية ليست مجرد تقنية بسيطة للقراءة وفهم نص مــا‪ ،‬بــل هي تقنيــة معقــدة‬
‫تغــوص في أعمــاق النصــوص المقدســة إلدراك معناهــا وحيثياتهــا ومقاصــدها‪ ،‬ونســتنتج من‬
‫تعريــف دافيــد جاســير أيضــا أن الهرمنيوطيقــا من حيث التصــنيف هي نــوع من الدراســة‬
‫الفيلولوجية‪( Philologique‬فقــه اللغــة)‪ ،‬بمعــنى هي تقنيــة للقــراءة موجهــة لفهم اآلثــار‬
‫الكالسيكية والنصوص الدينية‪ ،‬وتتأســس هــذه الدراســة الفيلولوجيــة على قواعــد محــددة مثــل‬
‫شرح المفردات واإلعراب والتصحيح النقدي لألخطاء التي وقع فيهــا النقلــة‪ ،‬ولكن هي أيضــا‬
‫تأويل استعارتي وأخالقي يتوجه لوضــع قيم لتميــيز النمــاذج النصــية‪ ،‬وآفـاق هــذه التقنيـة هي‬
‫العودة إلى الوضع السابق للنص‪ ،‬وإعادة تأسيس المعنى باعتبــاره معــنى ضــائعا أو محتجبــا‪،‬‬
‫وهذا المعنى يؤسس لوجود حقيقة اختفت عبر الزمن‪ ،‬هذا ويقابل الهرمنيوطيقــا المســيحية في‬
‫الفكر اإلسالمي ما يسمى بالتأويل مع اختالف واضح بينهما*‪.‬‬

‫في بداية القرن الثامن عشر بدأت الهرمنيوطيقا تأخذ بعدا فلســفيا‪ ،‬وذلــك مــع الــثيولوجي‬
‫البروتستانتي ش الير م اخر )‪ Friedrich Schleiermacher (1768- 1834‬بتعميمه‬
‫الستعمال الهرمنيوطيقا من خالل دراســته لإلنجيــل واآلثــار الكالســيكية والتعبــير اإلنســاني‪،‬‬
‫حيث لم تكن هـذه الدراسـات مركـزة على النص فقـط بـل أيضـا على كاتبـه‪ ،‬فقـراءة نص مـا‬
‫معناها هو محاورة كــاتب مــا‪ ،‬ومعرفــة دوافــع ومقاصــد كتابتــه لهــذا النص‪ ،‬والبحث عن فهم‬
‫روح النص وفك رموزه*‪.‬‬

‫ومع الفيلسوف األلماني وليام دلت اي )‪ Wilhlem Dilthey (1833-1911‬أضــحت‬


‫الهرمنيوطيقا منهجا معرفيــا متخصصــا وأصــبحت تهــدف إلى فهم النشــاطات اإلنســانية‪ ،‬ألن‬

‫* استخدم المفكرون والفقهاء المسلمون التأويل أيضا في فهم النص القرآني وخاصة المعتزلة وابن رشد‪ ،‬والتأويل في اللغة العربية‬
‫مشتق من األول ويعني الترجيح‪ ،‬ويعرفه الجرجاني‪ « :‬التأويل في الشرع هو صرف اللفظ عن معن اه الظ اهر إلى مع نى يحتمل ه إذا‬
‫كان المحتمل موافقا للكتاب والسنة »‪ ،‬ويعرفه ابن رشد‪ « :‬التأويل هو إخراج داللة اللف ظ من الدالل ة الحقيقي ة إلى الدالل ة المجازي ة‬
‫»‪ ،‬وهو منهج فرضته الظروف الفكرية آنذاك ‪ ،‬وقد أشار إلى المقارن ة بين التأوي ل عن د المس لمين والهرمنيوطيق ا عن د المس يحيين‬
‫الب احث الجزائ ري يوزي د بوم دين في كتاب ه (الفهم والنص‪ :‬دراس ة في المنهج الت أويلي عن د ش الير م اخر ودلت اي)‪ ،‬منش ورات‬
‫االختالف‪ ،‬الجزائر ولبنان‪ ،‬ط‪ ،2008 ،1‬الفصل الثالث‪ :‬زمنا التنزيل والتأويل‪،‬من ص ‪ 29‬إلى ص ‪.51‬‬

‫* ‪.Grondin Jean, L’Herméneutique, Op.Cit, p [14-22] -‬‬

‫‪45‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫النص المؤول والحقيقة اإلنسانية سـيّان في تطورهمـا التـاريخي‪ ،‬حيث أصـبح يعتمـد التأويـل‬
‫على الحدث التاريخي‪ ،‬وأصبحت العملية الهرمنيوطيقية تهدف إلى تمكين البـاحث من العـودة‬
‫إلى الوراء وفهم المقصـد الــذي كـان يوجـه الكــاتب إلى الدرجــة الــتي أخــذ فيهـا هـذا القـرار‪،‬‬
‫وتمكينه أيضا من الوصول إلى رموز ودالالت هذا الحــدث‪ ،‬فقــد اعتــبر دلتــاي الهرمنيوطيقــا‬
‫أساسا علميا لتأويل النص والسلوك‪ ،‬ألنه إذا أردنا أن نفهم الغير‪ ،‬يجب أن تكون لدينا إمكانيــة‬
‫تخيل حياته الداخلية انطالقا منا بواسطة التحويل اإلنعكاسي‪ ،‬وهكذا دخلت الهرمنيوطيقــا مــع‬
‫دلتاي مجال العلوم اإلنسانية*‪.‬‬

‫ومع الفيلسوف األلماني مارتن هيدغر )‪ Martin Heidegger (1889-1976‬لم تعد‬


‫الهرمنيوطيقا مجرد نظرية في الفهم‪ ،‬ولم تعد مجرد مشكلة منهجية في العلوم اإلنســانية‪ ،‬فهي‬
‫ليســت كمــا تصــورها دلتــاي‪ ،‬حيث رفض هيــدغر أن تبقى الهرمنيوطيقــا مجــرد فهم خــالص‬
‫للعلوم اإلنسانية وتمييزها عن العلوم الطبيعية‪ ،‬ولم يعد الفهم مع هيــدغر مجــرد فعــل معــرفي‬
‫لموضوع منفصل عن العالم‪ ،‬حيث أصبح للهرمنيوطيقا عند هيدغر بعــد أساســي في الوجــود‬
‫الذي يجب أن يكون محل فهم‪ ،‬وفي الـوقت نفسـه أصــبحت مشــكلة الفهم عنــد هيــدغر متعلقــة‬
‫بمشكلة العالقة مع الغير‪ ،‬فالســؤال الهرمــنيوطيقي األساســي هــو‪ :‬كيــف أفهم اآلخــر؟ وكيــف‬
‫أتعامل معه؟ وبذلك أصبح للفهم آفاقا أخرى تختلف تماما عن اآلفــاق الــتي حــددها لــه دلتــاي‪،‬‬
‫فالفهم الذي يحصل لكائن ما عن وضعه وعن مشاريعه ال يمكن أن يفسروإنما يؤول بواســطة‬
‫اللغة‪ ،‬وبذلك أصبح للهرمنيوطيقا عند هيدغر بعد انطولوجي تبعا لفكرتــه عن اللغــة بوصــفها‬
‫بيت الوجود‪ ،‬وبذلك يمكن القول أن هيدغر تجاوز المفهوم الكالسيكي للهرمنيوطيقا باعتبارها‬
‫فنا للفهم أو منهجا للعلوم اإلنسانية ووضع األسس األولى للهرمنيوطيقا كفلسفة†‪.‬‬

‫ومع الفيلسوف األلماني اآلخـر ه انز ج ورج غ ادامير ‪Hans Georg Gadamer‬‬
‫)‪ 1900-2002‬ومن خالل كتابه الشهير (الحقيقة والمنهج) لم تعد الهرمنيوطيقــا مجــرد منهج‬
‫أو انطولوجيا بل أصبحت فلسفة قائمة بذاتها حيث‪ « :‬بين أن الكائن أو الوجــود الوحيــد الــذي‬
‫*‪.Ibid, p [22-27] -‬‬

‫†‪.Grondin Jean, L’Herméneutique, Op.Cit, p [28-42]-‬‬

‫‪46‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫يمكن فهمه هو الوجود اللغوي‪ ،‬وبين في أكثر من دراسة مفهومه لما يسميه بالفلسفة التأويلية‪،‬‬
‫مؤكدا على أن التأويل موضوع قديم‪ ،‬ولكنه أصبح فلســفة عالميــة »*‪ ،‬وعلى ضــوء مــا ســبق‬
‫يمكننا القول أن هيدغر أحـدث قطيعــة مـع مفهــوم الهرمنيوطيقــا الـذي تم تطـويره من طــرف‬
‫دلتاي وأن غادامير هو الذي أعطى للهرمنيوطيقا بعدا فلسفيا بتحويلــه لهــا إلى نمــوذج فلســفي‬
‫مواز للفلسفة التحليلية‪ ،‬فكيف تأثر كارل أوتو آبل بهذا المنعرج الهرمنيوطيقي؟‬

‫يتفق أغلب الدارسين لفكر آبل على اعتبار الهرمنيوطيقا من المرجعيات األساسية التي‬
‫كان لها تأثيرا كبيرا على فكـره وخاصـة في بدايـة مسـاره الفكـري‪ ،‬فهـو من جهـة كـان وفيـا‬
‫ألستاذه مارتن هيدغر‪ ،‬ومن جهــة أخــرى وعلى غــرار زميلــه هابرمــاس تــأثر كثــيرا بــالفكر‬
‫الهرمــنيوطيقي لغــادامير‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار يقــول األســتاذ بوزيــد بومــدين في كتابــه "الفهم‬
‫والنص‪ :‬دراسة في المنهج التأويلي عند شــالير مــاخر ودلتــاي"‪ « :‬تــابع الفيلســوف األلمــاني‬
‫كارل أوتو آبل جيدا التعارض الجدلي بين شرح‪ -‬فهم‪ ،‬فهو يرى أن هذا التفــرع الثنــائي عنــد‬
‫دلتاي بني على قاعدة ما تركه شالير ماخر من إسهامات فلسفية في المجــال الفينومولــوجيـ ‪-‬‬
‫التاريخي [‪ ]...‬ويرى آبل أن الجــدل بين ش رح ‪ -‬فهم مـر بثالث مراحـل‪ :‬دلتــاي ثم الكانطيـة‬
‫الجديــدة ثم مــاكس فيــبر »†‪ ،‬وقــد اعــترف آبــل نفســه في عملــه "التفكــير مــع هابرمــاس ضــد‬
‫هابرماس" بتأثره بهرمنيوطيقــا هيــدغر وغــادامير‪ ،‬فهــو يقــول في معــرض حديثــه عن نقــاط‬
‫االتفاق بينه وبين زميله وخصمه ‪ -‬في نفس الوقت ‪ -‬هابرماس‪ « :‬نحن االثنين ورثــة التغيــير‬
‫التداولي األلسني التأويلي في الفلسفة المعاصرة‪ ،‬كما أننا ســنكون مــع اتفــاق مــع مفكــرين من‬
‫أمثال فنتجشتين ‪ Wittgenstein‬وهيدغر وغــادامير وســيريل ‪ Searle‬وريتشــارد رورتي‬
‫‪ ،‡» Richard Rorty‬وقد أكد الباحث الفرنسي ‪Martine Le corre chantecaille‬‬
‫في دراسته األكاديمية حول فلسفة كارل أوتو آبــل على مــدى تــأثر هــذا األخــير بهرمنيوطيقــا‬
‫هيدغر وغــادامير حيث يقــول‪ « :‬إن محاولــة التأســيس الــتي اســتهدفها آبــل "من خالل عملــه‬
‫* ‪ -‬بغورة الزواوي‪ ،‬الفلسفة واللغة‪ :‬نقد المنعطف اللغوي‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.115 ،‬‬

‫† ‪ -‬بوزيد يومدين‪ ،‬الفهم والنص‪ :‬دراسة في المنهج التأويلي عند شالير ماخر ودلتاي‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر ولبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2008‬ص‪.19 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.23 ،‬‬

‫‪47‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫األول حول هيدغر" تنــدرج في إطــار التحــول الفلســفي الترنســندتالي الكــانطي‪ ،‬وهــو تحــول‬
‫هرمــنيوطيقي يمكن إدراجــه ضــمن البحث في تعميم الهرمنيوطيقــا الهيدغريــة الــتي حــاولت‬
‫اإلجابـة عن إشـكالية الشـروط الممكنـة لفهم الصــالحية‪ ،‬وهي القضـية األساسـية في فلســفته‪،‬‬
‫ويالحظ أيضا تأثر الكتابات الفلسفية آلبل في الستينيات بالفلسفة الهرمنيوطيقيـةـ لغــادامير »*‪،‬‬
‫ويضيف قائال‪ « :‬إن قراءة آبل لكتاب الحقيقــة والمنهج لعبت دورا أساســيا في تبلــور فلســفته‪،‬‬
‫وبذلك تمثل فلسفة غادامير جزءا من التحول الفلسفي‪ ،‬كمــا أكــد آبــل ذلــك مــرارا في مختلــف‬
‫أعمالــه »†‪ ،‬وهنــاك شــهادة أخــرى من هابرمــاس ال تؤكــد فقــط مــدى تــأثر كــارل أوتــو آبــل‬
‫بالمنعرج الهرمنيوطيقي بل تؤكد مسـاهمته الفعالـة في إحـداث هـذا المنعــرج وتطـويره‪ ،‬وقـد‬
‫وردت هذه الشهادة في مقال كتبه هابرماس في كتاب جماعي شــارك في تأليفــه مجموعــة من‬
‫الفالسفة المعاصــرينـ أمثــال آبل وسيريل وغيرهما‪ ،‬وكان عنــوان هــذا الكتــاب "قرن من‬
‫الفلسفة ‪ ،"2000 -1900‬حيث قال هابرماس‪ « :‬إن آبــل وانطالقــا من وجهــة نظــره حــول‬
‫الهرمنيوطيقا هو واحــد من المفكــرين األوائـل الـذين اكتشـفوا التقـارب الموجـود بين مواقــف‬
‫هيـــدغر وفنتجشـــتين »‡‪ ،‬وهـــذا على الـــرغم من انتمـــاء األول إلى الفلســـفة الهرمنيوطيقيـــة‬
‫والوجودية وانتماء الثاني إلى الفلسفة التحليلية األنجلوساكســونية‪ ،‬ويضــيف هابرمــاس قــائال‪:‬‬
‫« ألح آبل على أن الهرمنيوطيقا باعتبارها منهجا علميا يجب عليها أن تحقق الهــدف المتمثــل‬
‫في "من أجل فهم أفضل" »§‪.‬‬

‫وعلى ضوء ما سبق يتضح أن المنعـرج الهرمـنيوطيقيـ يمثـل بالنســبة لكــارل أوتـو آبـل‬
‫مرجعية فلسفية أساسية فهو لم يتأثر به فقــط بــل ســاهم في تطــويره وذلــك من خالل محاولتــه‬
‫تجديد الفلسفة الكانطية وإعادة بعثها على ضوء المعطيات الهرمنيوطيقيــة واللســانية الجديــدة‪،‬‬
‫*‬
‫‪-Martin Le Corre Chantecaille, penser avec…et contre…la pragmatique transcendantale de k.o.‬‬
‫‪Apel, thèse pour le doctorat de philosophie, Op.Cit, p, 208.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 209.‬‬
‫‡‬
‫‪-Habermas Jurgen, Philosophie herméneutique et philosophie analytique, in Apel Karl-Otto et‬‬
‫‪al.Un siècle de philosophie 1900-2000, Édition Gallimard, Paris, 2000, p, 212.‬‬
‫§‬
‫‪-Habermas Jurgen, Philosophie herméneutique et philosophie analytique, in Apel Karl-Otto et‬‬
‫‪al.Un siècle de philosophie 1900-2000, Op.Cit, p, 213.‬‬

‫‪48‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫وبذلك يمكن القول فعال أن المنعرج الهرمنيوطيقي يمثل اللحظة الفلسفية األولى في المشروع‬
‫الفلسفي آلبل المعروف بـ "البراجماتية الترنسندتالية"‪.‬‬

‫كارل أوتو آبل والمنعرج األلسني‪ /‬التداولي‪:‬‬

‫يقول كارل أوتو آبــل‪ « :‬أنــا وهابرمــاس ورثــة المنعــرج األلســني التــداولي التــأويلي في‬
‫الفلسفة المعاصرة‪ ،‬وعلى اتفاق مع المفكــرين أمثــال فنتجشــتين وهيــدغر وغــادامير وســيريل‬
‫وروتي »*‪ ،‬فما المقصود بالمنعرج األلسني التداولي؟ وإلى أي م دى أث ر ه ذا المنع رج في‬
‫فكر كارل أوتو آبل؟ وإلى أي حد ساهم هذا األخير في إثراء وتطوير هذا المنع رج الفلس في‬
‫الذي يعرف أحيانا بالمنعطف اللغوي؟‬

‫ال يمكن إدراك ماهيــة المنعــرج األلســني التــداولي دون الحــديث عن الفلســفة التحليليــة‪،‬‬
‫وذلك ألن التيار التحليلي هو من أهم التيارات الــتي ســيطرت على الفلســفة األنجلوساكســونية‬
‫المعاصرة كوريث للفلسفة التجريبيــة اإلنجليزيــة الحديثــة‪ ،‬بينمــا ســيطر على الفلســفة القاريــة‬
‫المعاصرة تيارات فلسفية متعددة من أهمها التيار الفينومنولوجيـ والهرمنيوطيقيـ والوجودي‪،‬‬
‫وفي هذا الســياق يقــول الفيلســوف األمــريكي ســيريل‪ « :‬إن أكــبر تيــارين فلســفيين في القــرن‬
‫العشــرين‪ ،‬همــا الفلســفة التحليليــة والفينومنولوجيــا‪،‬ـ ومهمــا كــانت االختالفــات بينهمــا فهمــا‬
‫يشتركان في نفس المصلحة بالنسبة للغة والروح‪ ،‬فالفينومنولوجيا اختــارت كموضــوع تفكــير‬
‫لها تحليل الروح بينما الفلسفة التحليليــة بصــفة عامــة اختــارت اللغــة كأولويــة »†‪ ،‬بينمــا قســم‬
‫هابرماس الفلسفة المعاصرة إلى تيارين أساسيين هما التيار الهرمنيوطيقي والتيــار التحليلي‡‪،‬‬
‫وما يهمنا في هذا المقام هو التيار التحليلي فقط‪ ،‬وهو التيار الذي يعرفــه عبــد الــرحمن بــدوي‬
‫قائال‪ « :‬يقصد بهذا اللفظ شكالن من أشــكال النزعــة التجريبيــة همــا تجريبيــة أكســفورد الــتي‬
‫*‬
‫‪-Apel Karl-Otto, penser avec Habermas contre Habermas, traduite de l’allemand par Marianne‬‬
‫‪Charrière, Édition de l’éclat, 1990, p, 8.‬‬
‫†‬
‫‪-Searle John, Langage ou esprit, in Apel Karl-Otto et al.Un siècle de philosophie 1900-2000, Op.Cit,‬‬
‫‪p, 367.‬‬
‫‡‬
‫‪- Habermas Jurgen, Philosophie herméneutique et philosophie analytique, in Apel Karl-Otto et‬‬
‫‪al.Un siècle de philosophie 1900-2000, Op.Cit, p, [177-230].‬‬

‫‪49‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫تدور أبحاثها حول تحليل اللغة العاديـة‪ ،‬والوضـعية المنطقيـة أو الوضـعيةـ الجديـدة الـتي تهتم‬
‫أساسا بتحليل اللغة العلميـة‪ ،‬وقـد قـامت تجريبيـة أكسـفورد تحت تـأثير فنتجشـتين [‪ ]...‬الـذي‬
‫جعل الغرض من الفلسفة إيضاح الفكر »*‪ ،‬ويبدوا من خالل هذا التعريــف أن التيــار الفلســفي‬
‫التحليلي ينقسم إلى اتجاهين رئيســيين همــا االتجــاه الت داولي الــذي أسســه فنتجشــتين وأرســى‬
‫دعائمه كل من أوستين وسيريل من خالل نظريتهما "أفعال الكالم"‪ ،‬وهو االتجــاه الــذي كــان‬
‫له تأثير كبير على الفلسفة التواصليةـ لدى كل من هابرماس وآبل الذين يعتبران نفسيهما ورثة‬
‫هذا المنعرج التداولي نظرا لنقاط االشتراك الكثيرة التي تجمعهما مع هذا االتجاه كما يعــترف‬
‫بذلك كارل أوتو آبل شخصيا‪ ،‬أمــا االتجــاه الثــاني المقصــود في التعريــف الســابق فهــو اتجــاه‬
‫الوضعية المنطقية والذي يسمى أحيانا بالوضعية الجديدة وبالتجريبية المنطقية أحيانا أخرى‪،‬‬
‫وهو االتجاه الذي كان محل نقد شديد من طرف فالسفة مدرســة فرانكفــورت خاصــة أدورنــو‬
‫وهابرمــاس وآبــل وذلــك نظــرا لنقــاط االختالف الكثــيرة بين التوجهــات الفلســفية لمدرســة‬
‫فرانكفــورت من جهــة والتوجهــات الفلســفية للوضــعية المنطقيــة من جهــة أخــرى‪ ،‬حيث أن‬
‫الوضعية المنطقية كان اهتمامها منصــبا على فلســفة العلم وتحليـل لغــة العلم فقـط‪ ،‬بينمــا كـان‬
‫اهتمام فالسفة مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى أدورنـو وإلى هابرمـاس وكـارل أوتـو‬
‫آبل مزدوجــا‪ ،‬أي اهتمــوا بقضــايا العلم من جهــة وبالقضــايا االجتماعيــة والسياســية واإلتيقيــة‬
‫واللغوية والتواصليةـ من جهة أخرى‪.‬‬

‫ويفهم مما سبق أن الفلسفة التحليلية هي تيار فلسفي معاصر حــاول تغيــير مهمــة الفلســفة‬
‫بتركيزه على التحليل اللغوي‪ ،‬ويتكون هــذا االتجــاه من عــدة نظريــات أساســية‪ ،‬منهــا نظريــة‬
‫الذرية المنطقية لراسل وفنتجشتين األول‪ ،‬ونظريــة الوضــعية المنطقيــة‪ ،‬ونظريــة االســتعمال‬
‫لفنتجشتين الثاني‪ ،‬ونظرية أفعــال الكالم ألوســتين وســيريل وغيرها†‪ ،‬وســنركز فقــط في هــذا‬
‫المقام على إسهامات وانجازات كل من فنتجشتين وأوستين وسيريل نظرا لما كان لهــؤالء من‬
‫تأثير كبير وفعال على الفلسفة التواصلية عموما وفلسفة كارل أوتو آبل على الخصوص‪.‬‬
‫* ‪ -‬بدوي عبد الرحمن‪ ،‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1984 ،1‬ص‪ ،‬ص‪،‬‬
‫‪.163 ،162‬‬

‫† ‪ -‬بغورة الزواوي‪ ،‬الفلسفة واللغة‪ :‬نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.203 ،202 ،‬‬

‫‪50‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫يعتبر الفيلسوف األنجلوساكسوني لدفينغ فنتجشتين من أبرز مؤسســي الفلســفة التحليليــة‬


‫التي غيرت منحى الفلسـفة من حيث أهـدافها ومجاالتهـا‪ ،‬والــتي أصـبحت تقتصـر على اللغــة‬
‫وتحليلها تحليال منطقيا‪ ،‬ومن أبرز أعمال هذا الفيلســوف كتــاب الرس الة المنطقي ة الفلس فية‬
‫‪ Tractatus Logico-Philosophicus‬الذي ألفه باأللمانية ونشــره ســنة ‪ ،1921‬وهــو‬
‫العمل الذي اعتمد فيــه فتجنشــتين على منهج التحليــل‪ ،‬حيث قــام بتحليــل العــالم وتحليــل اللغــة‬
‫والفكر والمنطق والعلوم واألخالق والجمال‪.‬‬

‫في تحليله للغة يرى فنتجشتين أن الغــرض من الفلســفة هــو تحليــل اللغــة تحليال منطقيــا‪،‬‬
‫حيث يقول‪ «:‬إن موضوع الفلسفة هو التوضــيح المنطقي لألفكــار »*‪ ،‬وقــد صــرح فنتجشــتين‬
‫في عمله "الرسالة" أن سوء فهم منطق اللغة هــو الــذي أدى إلى ظهــور كثــير من المشــكالت‬
‫الفلسفية‪ ،‬وهذه المشكالت لن يتم حلها في نظره إال إذا كان استخدامنا للغة استخداما صحيحا‪،‬‬
‫وهذا ما جعلــه يقــول بشــأن الفلســفة‪ « :‬إن معظم القضــايا واألســئلة الــتي كتبت عن مواضــيع‬
‫فلســفية ليسـت كاذبــة‪ ،‬بــل هي خاليــة من المعــنى [‪ ]...‬فمعظم األســئلة والقضــايا الــتي يقولهــا‬
‫الفالسفة إنما تنشــأ عن حقيقــة كوننــا ال نفهم منطــق لغتنــا [‪ ]...‬وإذن فال عجب‪ ،‬إذا عرفنــا أن‬
‫أعمق المشكالت ليست في حقيقتها مشكالت على اإلطالق »†‪.‬‬

‫ولكن بعد وفــاة فنتجشــتين وبالتحديــد ســنة ‪ 1953‬ظهــر لــه عمــل آخــر بعنــوان "أبحــاث‬
‫فلسفية"‪ ،‬وقد كان محتوى هــذا العمــل مختلفــا تمامــا عن محتــوى "الرســالة"‪ ،‬وذلــك ألنــه في‬
‫الرسالة ركز على البعد المنطقي للغــة بينمــا ركــز في "أبحــاث فلســفية" على البعــد الت داولي‬
‫للغة‪ ،‬وهـو البعـد الـذي أطلــق عليــه اســم "لعبــة االســتعمال"‪ ،‬حيث رأى أن لكـل لعبـة لغويــة‬
‫استعماالتها‪ ،‬وأصبح اهتمام فنتجشتين منصــبا على اللغــة العاديــة « وهي اللغــة الــتي يتكلمهــا‬
‫الرجل العادي في حياتــه اليوميـة كمــا يتكلمهـا الفالســفة والعلمــاء في غــير أوقــات بحثهم »‡‪،‬‬
‫وبذلك أصبحت اللغة في الفلسفة الثانية لفنتجشــتين « وســيلة للتفــاهم والتواصــل وكــذا التــأثير‬

‫*‪ -‬فنتجشتين لدفينغ‪ ،‬رسالة منطقية فلسفية‪ ،‬ترجمة عزمي إسالم‪ ،‬المكتبة األنجلومصرية‪ ،1968 ،‬ص‪.91 ،‬‬

‫†‪ -‬فنتجثتين لدفينغ‪ ،‬رسالة منطقية فلسفية‪ ،‬ترجمة عزمي إسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.83 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬خليفي بشير‪ ،‬الفلسفة وقضايا اللغة‪ ،‬منشورات االختالف والدار العربية للعلوم ناشرون‪ ،‬الجزائر ولبنان‪ ،‬ط‪ ،2010 ،1‬ص‪.162 ،‬‬

‫‪51‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫على اآلخــرين »*‪ ،‬وبنــاء على مــا ســبق يمكن القــول أن فنتجشــتين يعتــبر واحــدا من أبــرز‬
‫مؤسسي التداولية التي تأثر بها كارل أوتو آبل وغيره من فالسفة التواصل ‪.‬‬

‫وبعد فنتجشتين جاء الفيلسوف اإلنجليزي جون النجشــو أوســتين ‪John Langshaw‬‬
‫)‪ ،Austin (1911-1960‬وهو أحد أعضاء مدرسة أكسفورد التي اهتمت باللغة التداوليــة‪،‬‬
‫وممثل مهم للفلسفة التحليلية في انجلترا‪ ،‬قدم تمييزا بين االســتعمال التــداولي للجمــل الخبريــة‬
‫واالستعمال اإلجرائي أو اإلنجازي للجمل اإلنشائية‪ ،‬وسمى النوع األول بالعبــارات التداوليــة‬
‫التي تقرر أفعاال‪ ،‬بينما سمى الثانية عبارات إجرائية أو انجازيــه وهي الــتي تنــدرج في إطــار‬
‫الكالم نفسه‪ ،‬وعارض القول بــالتمييز بين الكالم والفعــل (الكالم هــو الفعــل)‪ ،‬أي ( أنت تتكلم‬
‫إذن أنت تفعل)‪ ،‬وهو في هذا المجال يقول‪ « :‬ولقد ابتدأت بأن لفتت انتباهكم‪ ،‬وبإعطاء أمثلة‪،‬‬
‫إلى بعض العبارات البسيطة من النوع المعلوم لكم بالعبارات االنجازية أو اإلنشائية [‪ ]...‬وقد‬
‫كان من أمثلتنا على مــا نتــذكر العبــارة المتلفــظ بهــا "نعم" (إنــني أقبــل أن تكــون هــذه المــرأة‬
‫زوجتي الشرعية)‪ ،‬كما ننطق بها أثناء حفلة الزواج‪ ،‬ويجب أن نقول هنا‪ ،‬أننا عنــدما نتحــدث‬
‫بهذا الكالم‪ ،‬فنحن في حال انجاز شيء ما‪ ،‬وبعبارة أوضح في حال إنشــاء الــزواج أكــثر ممــا‬
‫نحن في حال اإلخبار بالشيء‪ ،‬كقولك إني تزوجت‪ ،‬ثم أن من شأن الــتزويج‪ ،‬كفعــل الرهــان‪،‬‬
‫مثال‪ ،‬أنه يمكن على األقل‪ ،‬أن يوصف على وجه أفضل (وإن كان ليس على وجه الدقة) بأنــه‬
‫التلفظ بكلمات معينة أكــثر ممــا يمكن أن يكــون أداء ألمــر بــاطني نفســي مغــاير‪ ،‬وهــو الكالم‬
‫النفســي المغــاير لمــا تــدل عليــه في الخــارج األلفــاظ المســموعة‪ ،†» ...‬ولهــذا تعــرف نظريــة‬
‫أوستين بنظرية الفعل اللغوي )‪ ،L’acte de Langage (Speech Act‬أي‪ ":‬أنت تتكلم‬
‫إذن أنت تفعل" "‪ "Parler, c’est faire‬أو"‪ ،"Quand dire, c’est faire‬وهي النظرية‬
‫التي تسمى بالتداولية‪ ،‬ألنه ‪ -‬حســب أوســتين ‪ -‬أنــه من الممكن دراســة اللغــة من وجهــة نظــر‬
‫فاعليتهــا التداوليــة‪ ،‬وقــد كــان لنظريــة أوســتين هــذه كــذلك تــأثير كبــير على ظهــور الفلســفة‬
‫التواصليةـ عامة وتواصلية كارل أوتو آبل على الخصوص‪.‬‬
‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.163 ،‬‬

‫† ‪ -‬أوستين جون النجشو‪ ،‬نظرية أفعال الكالم العامة‪ :‬كيف ننجز األشياء بالكالم‪ ،‬نرجمة عبدالقادر قينيني‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،1991 ،‬ص‪ ،‬ص‪.26 ،25 ،‬‬

‫‪52‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫وبعد أوستين جاء الفيلسوف األمـريكي س يريل)‪ J.R.Searle (1932- .‬الــذي أعــاد‬
‫تنــاول نظريــة أســتاذه أوســتبن وطــور فيهــا بعــدين أساســين من أبعادهــا وهمــا‪ :‬المقاصــد‬
‫والمواضعاتـ*‪ ،‬وحدد الشروط التي بمقتضــاها يكلــل عمــل مــا متضــمن في القــول بالنجــاح†‪،‬‬
‫ومنهــا (غايــة الفعــل وتوجيهــه وحالتــه الســيكولوجية)‪ ،‬ومكن هــذا التجديــد ســيريل من تقــديم‬
‫تصـنيف جديـد لألعمـال اللغويـة الـتي كـانت أساسـا لمنطـق األعمـال المتضـمنة في القـول‡‪،‬‬
‫وخالصة القول أن سيريل طور نظرية أوستين وأضاف عليها أفكار كثيرة وهامة‪.‬‬

‫وقد كان لهذا المنعطــف األلســني التــداولي تــأثيرا كبــيرا في تفكــير وفلســفة كــارل أوتــو آبــل‪،‬‬
‫فكيف ذلك؟‬

‫الشــك أن تأمــل عنــوان المشــروع الفلســفي التواصــلي لكــارل أوتــو آبــل (البراجماتيــة‬
‫"التداولية"ـ الترنسندتالية) يوحي مبدئيا بوجود عالقة ما بين النظرية التداوليــة في اللغــة الــتي‬
‫بدأت مع فنتجشتين وتطورت خاصة مع أوستين وسيريل من جهة وفلسفة التواصل عنــد آبــل‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬ألن هذا العنوان المركب يشير الشطر األول منه البراجماتية (التداوليــة)ـ إلى‬
‫أن فلسفة آبل ترجع بعض جذورها إلى الفلسفة التحليلية األنجلوساكسونية‪ ،‬بينما يشير الشــطر‬
‫الثاني (الترنسندتالية) إلى التأثر بالفلسفة الكانطية‪ ،‬وسنركز هنا على الجانب األول فقط‪.‬‬

‫ولقــد أشــار البــاحث الفرنســي ‪ Martine Le corre chantecaille‬في أطروحتــه‬


‫األكاديمية حول فلسفة كارل أوتو آبــل إلى مــدى تــأثر هــذا األخــير خاصــة بفلســفة فنتجشــتين‬
‫الثانية‪ ،‬والتي اعتبرها المرحلة الثانية للفلسفة التحليلية‪ ،‬كما اعتبرها ثورة فلسفية حقيقية‪ ،‬فإذا‬
‫كانت الرسالة المنطقية‪ -‬الفلسفية التي تعرف في الوسط الفلسفي بفلسفة فنتجشتين األولى تمثل‬
‫المرحلة األولى للفلسفة التحليلية والــتي اهتم فيهــا فنتجشــتين بالتحليــل المنطقي للغــة الفلســفية‬
‫والعلمية‪ ،‬فإن الفلسفة الثانية (التداولية) اهتم فيها فنتجشتين بلغة االستعمال اليومي الــتي تمثــل‬

‫*‪ -‬روبول آن و موشالر جاك‪ ،‬التداولية اليوم‪ :‬علم جديد في التواصل‪ ،‬ترجمة سعد الدين دغفوس ومحمد الشيباني‪ ،‬المنظمة العربية‬
‫للترجمة‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،2003 ،‬ص‪.33 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.34 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫المادة الخام للتواصل*‪ ،‬كما رأى هذا الباحث أنه يمكن الحــديث عن قطيعــة تامــة بين الرســالة‬
‫المنطقية‪ -‬الفلسفية وأبحاث فلسفية†‪.‬‬

‫وبالفعل فإن التأمل في األعمال الفلسفية لكارل أوتو آبل يثبت أن هذا األخير تأثر إلى‬
‫حد كبير بالفلسفة التحليلية وخاصة بفلسفة فنتجشتين الثانية‪ ،‬فآبل فيلســوف ال يخفي مرجعيتــه‬
‫الفلسفية‪ ،‬وكان يتبع دائما منهجية ( التفكير مــع ‪ ...‬ضــد‪ ،) ...‬فهــو يشــيد وينــوه كثــيرا بفلســفة‬
‫فنتجشتين‪ ،‬ويتبــنى خاصــة فلســفته الثانيــة‪ ،‬فهــو مثال في عملــه "التفكــيرـ مــع هابرمــاس ضــد‬
‫هابرماس" (في الترجمة الفرنسية) يذكر فنتجشتين ثماني مرات منها قوله‪ « :‬إننا على اتفــاق‬
‫مــع المفكــرين أمثــال فنتجشــتين ‪ ،‡» ...‬وقولــه أيضــا‪ « :‬لم اســتند إطالقــا على تجربــة اليقين‬
‫المســبقة للغــة بــالمعنى الــديكارتي‪ ،‬أو الفيخــتي‪ ،‬أو الهوســرلي‪ ،‬وإنمــا اســتندت على المعــنى‬
‫الفنتجشتيني‪ ،‬أي على اليقين الناجم عن لعبة لغوية‪ ،‬يقين تداولي مشروح سلفا من خالل اللغــة‬
‫التي هي حسب فنتجشتين شرطا لمعنى الخطاب »§‪ .‬‬

‫وبناء على الشواهد السابقة وغيرها من الشــواهد الــتي ال يتســع المقـام هنـا لـذكرها كلهـا‬
‫يتضح أن الفلسفة التحليلية بصفة عامة وفلسفة فنتجشتين الثانية ونظرية أفعال الكالم ألوستين‬
‫وسيريل على الخصوص‪ ،‬أي نظرية االستعمال التداولي للغة‪ ،‬تمثل مرجعية ولحظــة فلســفية‬
‫أساسية بالنسبة كارل أوتو آبل ‪ -‬كما اعترف هو وصرح بذلك ‪ -‬في معظم أعمالــه الفلســفية‪،‬‬
‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فـإن هــذا الفيلسـوف سـاهم في تطــوير هـذا المنعــرج األلسـني‬
‫التداولي من خالل نظريته التواصلية المعروفة بنظرية البراجماتية "التداولية"ـ الترنسندتالية‪.‬‬

‫كارل أوتو آبل وفلسفة البراجماتزم وسميوطيقا بيرس‪:‬‬

‫*‬
‫‪-Martin Le Corre Chantecaille, penser avec…et contre…la pragmatique transcendantale de k.o.‬‬
‫‪Apel, thèse pour le doctorat de philosophie, Op.Cit, p ,188.‬‬
‫†‬
‫‪- ibid, p, 189.‬‬
‫‡‬
‫‪-Apel karl-Otto, penser avec Habermas contre Habermas, Op.Cit, p, 8.‬‬

‫§‬
‫‪-Ibid, p, 50.‬‬

‫‪54‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫تمثل فلسـفة البراجمـاتزم وخاصـة فلسـفة تشـارل سـانديرس بـيرس ‪ -‬حسـب الدارسـين‬
‫لفلسفة كارل أوتو آبل ‪ -‬أيضــا مرجعيــة أساســية ســاهمت في تبلــور الشخصــية الفلســفية لهــذا‬
‫الفيلسوف‪ ،‬فما المقصود بالبراجماتزم؟ وكيف تط ور ه ذا المفه وم من ب يرس إلى ريتش ارد‬
‫روتي؟ وأين يتجلى تأثيره في فلسفة آبل؟‬

‫إن كلمة البراجماتية من الناحيـة اللغويــة « مشـتقة من الجــذر اليونــاني ‪ Pragma‬الـذي‬


‫يعني الفعل أو العمل »*‪ ،‬ولكنها من الناحية االصطالحية تشير إلى معنــيين مختلفين‪ ،‬المعــنى‬
‫األول البراجماتي ك ‪ ،Pragmatique‬وهــو يعــني التداوليــة وهــو المفهــوم الــذي اســتعمله‬
‫فنتجشتين وأوستين وسيريل‪ ،‬وهو مذهب في فلسفة اللغة يركز على الجانب االستعمالي للغة‪،‬‬
‫أما المعنى الثاني فهــو البراجم اتزم‪ ، Pragmatisme‬ويطلــق على تيــار فلســفي ظهــر في‬
‫الواليات المتحدة األمريكية في نهاية القرن التاسع عشر بقيادة تشارل ساندرس بيرس ووليــام‬
‫جيمس وجون ديوي‪ ،‬وتميز هذا التيار الفلســفي بتوجيــه الفلســفة نحــو التجربــة ونحــو العمــل‪،‬‬
‫وهو يعتبر اليوم من أهم التيارات الفلسفية في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬وهو المفهوم الذي‬
‫سنركز عليه في هذا المقام ‪.‬‬

‫ظهر هذا المصطلح (البراجماتزم ) ألول مرة في الواليات المتحــدة في مقــال شــهير‬
‫لبيرس‪( ? Haw to make our ideas clear‬كيف يمكن أن نجعل أفكارنا واضحة؟) نشره‬
‫سنة ‪ 1878‬في مجلة البــوبيالر ســاينس مــونثلي ‪ ،†Poupulair science monthly‬حيث‬
‫أوضح بيرس في هذا المقال بأن البراجماتية هي أوال وقبل كل شيء منهج لتوضيح المفاهيم‪،‬‬
‫وتهدف في تفكيرها إلى إقصاء المشكالت الزائفــة للميتافيزيقــا التقليديــة‪ ،‬وتهتم بوضــع أســس‬
‫جديدة لنظرية المعرفة وتطوير برنامج نقدي أكثر منه مذهب فلسفي‪ ،‬حيث ال يوجد كما يعتقد‬
‫بــيرس "محاولــة من أجــل تحديــد حقيقــة األشــياء" ولكن يوجــد "منهج لتأســيس المعــاني‬
‫والمفاهيم"‡‪ ،‬وعلى ضوء ذلك قام بــيرس بصــياغة األســاس المنهجي للبراجماتيــة باعتبارهــا‬

‫*‪ -‬ال لند أندري‪ ،‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص‪.1013 ،‬‬

‫‪ -‬فام يعقوب‪ ،‬البراجماتزم أو مذهب الذرائع‪ ،‬دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1985 ،2‬ص‪.137 ،‬‬ ‫†‬

‫‡‬
‫‪- Hutin Serge, la philosophie anglaise et américaine, P.U.F, Paris, 1963, p, 100.‬‬

‫‪55‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫مقولة أو مبدأ يهتم بـالنظر في اآلثـار واالنعكاسـات العمليـة للفكر*‪ ،‬أي أنـه ال يمكن أن نحـدد‬
‫محتوى ومضمونـ ومعنى الفكر إال من خالل العمل أو الفعل المترتب عنه‪.‬‬

‫وأخــذ ولي ام جيمس )‪ William James(1842-1910‬مفهــوم البراجمــاتيزم عن‬


‫بيرس‪ ،‬ولكنه أعطــاه معــنى يختلــف نوعــا مــا‪ ،‬حيث كــان اهتمــام جيمس مركــزا على وضــع‬
‫نظرية للحقيقة التي تعرف على أنها عملية فعل‪ ،‬حيث رأى أن حقيقة أي فكرة إنما تستند على‬
‫مجالهــا العملي‪ ،‬وهــذا مــا أوضــحه في عملــه الشــهير الــذي أصــدره ســنة ‪ 1907‬بعنــوان‬
‫"البراجماتزم" الذي قال فيه بأن الحقيقة ليست كما يتصورها المثقفون التقليديون‪ ،‬بل الحقيقة‬
‫هي الفكرة التي تعبر عن الواقــع ويمكن التحقــق منهــا تجريبيــا وتــؤدي إلى العمــل‪ ،‬ومن هــذا‬
‫المنظــور ال يجب أن نعتــبر الحقيقــة صــفة مالزمــة وثابتــة في الفكــرة‪ ،‬أي أن الفكــرة ليســت‬
‫صحيحة دائما وال تبقى صحيحة إلى األبد‪ ،‬فحقيقة أي فكرة أو أن تصبح الفكرة صــحيحة هــو‬
‫النجاح الذي يترتب عليها†‪.‬‬

‫وقد القت البراجماتية بالوجه الذي قدمها به وليام جيمس خاصة في بداية القرن العشرين‬
‫صدى كبيرا‪ ،‬وساهمت في دفع الفكر الفلسفي خطوات كبيرة إلى األمام‪ ،‬وتمكنت من االلتقــاء‬
‫في نقاط كثيرة مع باقي التيارات الفلسفية المعاصــرة‪ ،‬وكــان ذلــك خاصــة على يــد الفيلســوف‬
‫األمــريكي ريتش ارد روتي )‪ R.Rorty (1931-2007‬الــذي طــور البراجماتيــة في اتجــاه‬
‫منظور نقدي للعقالنية‪ ،‬حيث وضع هذا الفيلسوف الحوار البراجماتي المعاصر حول الحقيقــة‬
‫في منظور اتيقي‪ ،‬وبذلك أصبحت الفلسفة معه تتكفل بالموضوعية وتأكيد التضامن‪ ،‬وفي هذا‬
‫يقول روتي‪ « :‬إن البراجماتيين يريدون تعويض الرغبــة في الحقيقــة بالرغبــة على أن نكــون‬
‫على اتصال دائم مع الواقعية والمجتمـع‪ ،‬ويعتقـدون أن االعتمـاد على عـادة اإلقنـاع واحـترام‬
‫الزمالء أفضل من استخدام القوة‪ ،‬وأن الفضولية والتعطش لألفكار والمعطيات الجديــدة همــا‬
‫وحدهما الفضيلتين اللتين تدفعان اإلنسان إلى العلم »‡‪ ،‬ويقول أيضا‪ « :‬إن البراجماتية ليســت‬
‫نظرية للحقيقة [‪ ]...‬فهي بوصفها مؤيدا للتضامن فإن ما تقوله عن قيمة البحث اإلنســاني ليس‬
‫*‬
‫‪- Ibid, p, 100.‬‬
‫†‬
‫‪- Hutin Serge, la philosophie anglaise et américaine, Op.Cit, p, p, 101, 102.‬‬

‫‪56‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫إال تأسيسا إتيقيا وليس تأسيسا ابستمولوجيا أو ميتافيزيقيا »*‪ ،‬ومعنى هــذا أن ريتشــارد روتي‬
‫يعلن رسميا نهاية الحقل الفلسفي االبستمولوجي ليحــل محلــه في الفلســفة البراجماتيــة الجديــدة‬
‫حقل فلسفي آخر عنوانه اإلتيقا والذي ركز فيه خاصة على مسألة التضامن اإلنساني‪.‬‬

‫وعلى ضوء ما سبق يتضح أنه إذا كان كـارل أوتـو آبـل يمثـل نقطـة التقـاء بين الفلسـفة‬
‫القارية التي غلب عليها الطــابع الهرمــنيوطيقيـ والفلســفة األنجلوساكســونية الــتي غلب عليهــا‬
‫الطابع التحليلي عن الجانب األوروبي‪ ،‬فإن ريتشارد روتي يمثل كذلك نقطة التقــاء هامــة بين‬
‫هاتين الفلسفتين عن الجــانب األنجلوساكســوني وبالتحديــد عن الجــانب األمــريكي‪ ،‬فهــو يمثــل‬
‫جسرا للحوار الفلسفي بين الفلسفتين التحليلية والقارية‪ ،‬وهو أحد الفالسفة البراجمــاتيين الــذين‬
‫تفتحــوا على الفلســفة األوربيــة وخاصــة على فلســفة التواصــل األلمانيــة والفرنســية باعتبــاره‬
‫صاحب الموقف والمبدأ والمفهوم الفلسفي المشهور بـ‪":‬ما بعد الفلسفة التحليلية "‪.‬‬

‫ولذلك فال عجب أن نجد كارل أوتو آبل ينوه ويشيد كثيرا بفلسفة روتي‪ ،‬فهو مثال في‬
‫كتابه "التفكير مع هابرماس ضـد هابرمـاس" (الترجمـة الفرنسـية) يـذكر روتي ثالث مـرات‬
‫معلنا من خاللها اتفاقه والتقاءه معه في عدة مسائل حيث يقول‪ « :‬إننا على اتفاق مــع مفكــرين‬
‫أمثال فنتجشتين وهيدغر وغادامير وسيريل وروتي »†‪ ،‬ويقول أيضــا‪ « :‬ال يمكن أن نؤســس‬
‫فقط على المبدأ الشكلي الصالح شموليا بصورة قبلية إلتيقا النقاش وحده‪ ،‬إنما يجب أن ترتبــط‬
‫دائما بقاعدة توافقية مقبولة كما هو الحال عند روتي وجون راولس‪ ،‡»..Rawls .. J‬ويقول‬
‫أيضــا‪ « :‬عنــد ريتشــارد روتي‪ ،‬المبــدأ ال يختلــف فقــط عنــدما يــرفض قيــاس أشــكال الحيــاة‬
‫والمؤسسات األمريكية قياسا يخضع للمبادئ الفلسفية لمنحها تبريرا ‪.§»...‬‬

‫‡‬
‫‪- Rorty Richard, science et solidarité: la vérité sans pouvoir, traduite par jean pierre comotti,‬‬
‫‪Édition de l’éclat, Paris, 1990, p, p, 54, 55.‬‬
‫*‬
‫‪- Rorty Richard, solidarité ou objectivité, (in) Critique, n: 439 decembre 1983, p, 927.‬‬
‫†‬
‫‪-Apel karl-Otto, penser avec Habermas contre Habermas, Op.Cit, p, 8.‬‬
‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 39.‬‬
‫§‬
‫‪- Ibid, p, 41.‬‬

‫‪57‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫ولكن الفيلسوف البراجماتي األكثر تأثيرا في المسار الفلســفي لكــارل أوتــو آبــل بإجمــاع‬
‫الباحثين هو تشارل سانديرس بيرس إلى الحد الذي قال فيه أحدهم ‪ -‬كما أشــرنا ســابقا ‪ « -‬إن‬
‫كارل أوتو آبل هو كانط جديد مصحح ومنقح من طرف بيرس »*‪ ،‬وهذا ما أكده وركز عليــه‬
‫أيضا الباحث الفرنسي ‪ Martine Le corre chantecaille‬في أطروحته المتميزة حــول‬
‫فلســفة كــارل أوتــو آبــل‪ ،‬حيث رأى هــذا البــاحث أن أعمــال بــيرس وخاصــة منهــا المتعلقــة‬
‫بالسميـوطيـقا لعبت دورا كبيرا في صياغة مشروع التحول الفلسفي نحو الترنســندتاليـة عنـد‬

‫آبل†‪ ،‬ومعنى ذلك أن آبل تأثر كثيرا بنظرية السميوطيقا التي نحتها بيرس‪ « ،‬إن التحــول من‬
‫الفلسفة الترنسندتالية إلى الهرمنيوطيقا الذي تم على يد غادامير والتحول السميوطيقي الذي تم‬
‫على يد بيرس لعبا دورا كبيرا بالنسبة للتوجهات األولى في بناء المشروع الفلسفي آلبل الــذي‬
‫كانت مرجعيته الفلسفية في البداية مقتصرة على الوفاء لفكر أستاذه هيدغر »‡‪.‬‬

‫وبالفعل فإن هناك أدلة كثيرة تدل على أن فلسفة بيرس بصفة عامة ونظريــة الســميوطيقا‬
‫بصفة خاصة تعــد من أهم العوامــل المــؤثرة في المشــروع الفلســفي آلبــل‪ ،‬ولهــذا كــانت لهــذا‬
‫الفيلسوف عدة دراسات حول فلسفة بيرس [ذكرنــا بعضــها في الحــديث عن الســيرة المعرفيــة‬
‫آلبل]‪ ،‬وكذلك فإنه بالرجوع إلى العمل الذي يعتبر خالصة فلسفة كارل أوتو آبل "التفكير مــع‬
‫هابرماس ضد هابرماس" (الترجمة الفرنسية) فإننا نجد آبل يذكر بــيرس عــدة مــرات معتمــدا‬
‫فيهــا على آراءه في نقــد صــديقه وخصــمه هابرمــاس‪ ،‬منهــا قولــه‪ « :‬أعتقــد أن أغلبيــة كبــار‬
‫الفالسفة يتبنون الرأي األول ويرون فيه موقفا وسطا ومقبوال وكافيا كنتيجة ألطروحــة قابليــة‬
‫الخطأ عند بيرس وبوبر وأيضا عند فنتجشتين وفلسفة الهرمنيوطيقــا »§‪ ،‬ويقــول أيضــا‪ « :‬إن‬
‫هذا األمر واضح بالنسبة للعقول التي تكونت في مدرســة بــيرس وفنتجشــتين »**‪ ،‬ونعتقــد أن‬
‫*‬
‫‪-Andler Daniel et autres, philosophie des sciences I, Op.Cit, p, 188.‬‬
‫†‬
‫‪-Martin Le Corre Chantecaille, penser avec…et contre…la pragmatique transcendantale de k.o.‬‬
‫‪Apel, thèse pour le doctorat de philosophie, Op.Cit, p, 225.‬‬
‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 239.‬‬

‫§‬
‫‪-Apel karl-Otto, penser avec Habermas contre Habermas, Op.Cit, p, 10.‬‬
‫**‬
‫‪- Ibid, p, 10.‬‬

‫‪58‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫هذه العينة الصــغيرة من الشــواهد تثبت ممــا ال يــدع مجــاال للشــك على التــأثير الكبــير لفلســفة‬
‫بيرس في تبلور المشروع الفلسفي لكارل أوتو آبل‪.‬‬

‫وبناء على ما سبق تقديمه من األدلة يتضح أن البراجماتزم ونظرية السميوطيقا لبيرس‪،‬‬
‫تمثل لحظة فلسفية ومرجعية فكرية أساسية بالنسبة لكارل أوتو آبــل حــتى اعتــبر هــذا األخــير‬
‫الممثل الرسمي للفلسفة األمريكية في ألمانيا‪ ،‬ولكن على الرغم من قوة تـأثير هـذه المرجعيـة‪،‬‬
‫فإن تأثيرها ال يضاه تأثير الفلسفة الترنسندتالية لكانط‪ ،‬فكيف ذلك؟‬

‫كارل أوتو آبل والفلسفة الترنسندتالية الكانطية‪:‬‬

‫يعتبر كانط )‪ E.Kant (1724- 1804‬من أعظم فالســفة العصــر الحــديث*‪ ،‬وهــو‬
‫الفيلسوف الذي صـاغ مشـروعه الفلسـفي النقـدي بكاملـه انطالقـا من أسـئلته النقديـة الشـهيرة‬
‫الثالثة وهي‪ :‬ماذا يمكنـني أن أعــرف؟ ومــاذا يجب علي أن أعمـل؟ ومـاذا يمكنــني أن آمـل؟‪،‬‬
‫حيث قام كانط بإلقاء الضوء على الكثير من المشكالت الفلسفية وإعادة تجديــد كيفيــة طرحهــا‬
‫وبدأ أوال بمساءلة العقل كي يحدد ماهي سلطاته؟ وماهي حدوده؟‪ ،‬وبــذلك أخــذت الفلســفة مــع‬
‫كانط بعدا نقديا حول المعرفة والفعـل والحساسـية الجماليــة‪ ،‬وقــد كـان لفلســفة هـذا الفيلسـوف‬
‫المتمــيز تــأثيرا كبــيرا على العديــد من الفالســفة والتيــارات الفلســفية في العصــر الحــديث‬
‫والمعاصر‪ ،‬حيث يدعي الكثير من الفالسفة أنهم الوريث الشرعي للفلســفة الكانطيــة‪ ،‬ومنهم ‪-‬‬
‫على سيبل المثال ال الحصر‪ -‬رائد العقالنية النقدية المعاصرة كارل ب وبر‪ ،‬وكــذلك الفيلســوف‬
‫األلماني الشهير أرنست كاسيرر )‪ Ernst Cassierer(1874-1945‬الذي كان ينتمي إلى‬
‫تيار فلسفي أطلق عليهم اسم الكانطيون الجدد‪ ،‬إال أن أبــرز مدرســة فلســفية معاصــرة تــأثرت‬
‫بالفلســفة الكانطيــة هي دون شــك مدرســة فرانكفــورت المعروفــة بالنظريــة النقديــة وخاصــة‬
‫فيلسوفها من الجيل الثاني كارل أوتو آبل الذي صرح بمرجعيته الفلســفية الكانطيــة في الكثــير‬
‫من أعماله‪ ،‬وسنركز في هذا المقام على التأثير الذي مارســته الفلســفة الكانطيــة على مدرســة‬

‫* ‪ -‬بدوي عبد الرحمن‪ ،‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.229 ،‬‬

‫‪59‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫فرانكفورت بصفة عامـة وعلى كـارل أوتـو آبـل بصـفة خاصـة‪ ،‬ف أين يتجلى ت أثير الفلس فة‬
‫الكانطية على فالسفة مدرسة فرنكفورت عموما وعلى كارل أوتو آبل خصوصا؟‬

‫يرى بعض المتتبعين ألثر كانط في فلسفة مدرسة فرانكفورت أن فلسفة هذه األخيرة هي‬
‫مجــرد اســتمرار وامتــداد وتجديــد للفلســفة النقديــة الكانطيــة‪ ،‬وذلــك باعتبــار النقــد هــو القاســم‬
‫المشترك بينهما‪ ،‬وفي هــذا الســياق يقــول البــاحث العــربي محس ن الخ ولي في مقالــة بعنــوان‬
‫"منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت"‪ « :‬لقد احتلت فلسفة كانط مكانة متمــيزة لــدى فالســفة‬
‫النظريــة النقديــة‪ ،‬ونعــني بالــذات هوركهــايمر وأدرنــو ومــاركيوز وهابرمــاس‪ ،‬وذلــك خالل‬
‫مراحــل بناءهــا وتطورهــا وإعــادة بناءهــا »*‪ ،‬ويضــيف قــائال‪ « :‬إن دعــوة منظــري مدرســة‬
‫فرانكفورت إلى الفلسفة بوصفها إطارا جامعا للمعارف تمثل مواصلة للمشروع النقــدي الــذي‬
‫انطلق مع كانط وتجـذيرا لـه »†‪ ،‬ونالحـظ هنـا أن هـذا البـاحث يقـدم قـراءة ألصـول مدرسـة‬
‫فرانكفورت تختلف عن القراءات الشائعة التي تعتبرها مدرسة ماركسية‪-‬هيجيليــة‪ ،‬كمــا أشــار‬
‫هذا الباحث إلى تأثير مفهــوم الترنســندتالية في فلســفة النظريــة النقديــة لمدرســة فرانكفــورت‪،‬‬
‫وقال في هذا السياق‪ « :‬يمثل الترنسندتالي مشكال أساسيا في النظرية النقدية ألنه يعــد اإلطــار‬
‫العام لطرح معضلة الجدلية »‡‪ ،‬ثم يردف قائال‪ « :‬إن موقفهم المرن من المسألة الترنسندتالية‬
‫سيجد صداه العميق في كتابات هابرماس بدءا بكتابه المعرفة والمصلحة الذي يتحدث فيه عن‬
‫أطروحة ترنسندتالية للمعرفة‪ ،‬ثم تتخذ هذه المسألة بالذات منعرجا حاسما من خالل المناظرة‬
‫بين كارل أوتو آبل وهابرماس انطالقا من برادغيم اللغة كأرضية مشتركة بينهمــا في تنــاول‬
‫القضايا الفلسفية »§‪.‬‬

‫وهذا ما أكده كذلك الباحث الفرنسي دانيال أندلر حين قال‪ « :‬في كتابه "تحويل الفلسفة"‬
‫الذي أصدره سنة ‪ ،1973‬وفي أحد مباحثه تحت عنوان "من كانط إلى بيرس"ـ اســتهدف آبــل‬

‫*‪ -‬الخولي محسن‪ ،‬منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت‪ ،‬مجلة أوراق فلسفية‪ ،‬العدد ‪ ،2004 ،11‬القاهرة‪ ،‬ص‪.463 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.465 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.471 ،‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.472 ،‬‬

‫‪60‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫تحويل نظرية الحس المشترك الكانطيــة إلى دراســة لشــروط الحجـاج بين أشـخاص يتبــادلون‬
‫الحجج‪ ]...[ ،‬ورأى أنــه من الممكن تأســيس صــالحية بينذاتيــة للمعرفــة تتطــور بالمجموعــة‬
‫التواصليةـ »*‪ ،‬ومعنى هذا أن الفلسفة الترنسندنتالية تعد لحظة فلسفية هامة بالنسبة آلبل‪.‬‬

‫وإلى ذلك أيضا ذهبت الباحثة العربية أم الزين بنشيخة المسكيني حول هذه المسألة في‬
‫عملها "كانط راهنا" حيث قالت عن تأثير الفكر الكانطي في فكر فالسفة مدرســة فرانكفــورت‬
‫وبالتحديد في فكري هابرماس وآبل « إن فكــرة الفضــاء العمــومي لــدى هابرمــاس هي إعــادة‬
‫لصياغة فكرة السالم الدائم الكانطية »†‪ ،‬وتضيف قائلة‪ « :‬اكتشف هابرماس أن هذه النظريــة‬
‫هي الحق‪ ،‬والدولة الكوسمولوجية هي التي استنبط منها هابرماس فكرة المواطن العالمي »‡‪،‬‬
‫وعن تأثير كانط في فلسفة آبل بالتحديد تقول هذه الباحثة « أراد آبل هرمنيوطيقــا متعاليــة في‬
‫أفق المنعرج اللغوي إلتيقا أساسية بعد كانط »§‪ ،‬وتضيف قائلة « آبل هو صاحب إتيقا للنقاش‬
‫تتأسس على المسؤولية‪ ،‬وهي رد فعل على نظرية هانس يوناس التي وجــه فيهــا هــذا األخــير‬
‫نقدا شديدا لنظرية األمر القطعي لكانط »**‪.‬‬

‫وبالفعــل فــإن هنــاك أدلــة كثــيرة تثبت بقــوة على أن الفلســفة الكانطيــة وخاصــة المفهــوم‬
‫الترنســندتالي تعــد العامــل األساســي في تبلــور الشخصــية الفلســفية لكــارل أوتــو آبــل‪ ،‬وذلــك‬
‫باعترافه هو شخصيا في الكثير من أعماله‪ ،‬ومنها عمله األساس "التفكير مع هابرمــاس ضــد‬
‫هابرماس" الذي يعتبر خالصة فلسفته‪ ،‬وهو العمل الذي اعتمدناه كمؤشر لقيــاس تــأثر كــارل‬
‫أوتو آبل بمختلف التيارات الفلسفية‪ ،‬فهو في هذا العمل (الترجمــة الفرنســية) يــذكر كانــط ‪05‬‬
‫مرات مستندا عليه في الدفاع عن رأيه ومشروعه "البراجماتية الترنســندتالية" وناقــدا ومفنــدا‬
‫لرأي ومشروع صديقه وخصمه هابرماس "البراجماتيــة الشــاملة"‪ ،‬ومنهــا قولــه‪ « :‬تلــك هي‬

‫*‪.Andler Daniel et autres, philosophie des sciences I, Op.Cit, p, 188-189 -‬‬

‫† ‪ -‬المسكيني أم الزين بنشيخة‪ ،‬كانط راهنا‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء وبيروت‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬ص‪.191 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.192 ،191 ،‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.91 ،‬‬

‫**‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.121 ،‬‬

‫‪61‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫النتيجة التي يخلص إليها هابرماس‪ ،‬وهي حسب زعمه ال تندرج ضمن األخالقية المعيشة في‬
‫كــل حالــة خاصــة‪ ،‬وإنمــا تنــدرج في مبــادئ أخالقيــة بــالمعنى الكــانطي‪ ،‬أي بمعــنى التحــول‬
‫الكانطي ألخالقية النقاش لتمثيل المعايير الشكلية ‪ ، *»...‬وقوله أيضا‪ « :‬إن هابرماس ينطلــق‬
‫في هــذه المســألة من فكــرة أن األنمــاط الثالثــة لمــزاعم صــالحية القــول الكانطيــة "حقيقــة‪،‬‬
‫مصداقية‪ ،‬عدالة "‪ « ،†»...‬أما بالنسبة لكانط فإنه من الضروريـ لنا أن نتوصل لنسبية الطابع‬
‫اإللزامي لمبــدأ إتيقــا النقــاش ‪ ،‡» ...‬هــذا من جهــة ومن جهــة أخــرى فــإن التأمــل في عنــوان‬
‫المشروع الفلسفي التواصلي لكارل أوتو آبل "البراجماتية (التداولية) الترنس ندتالية" يــوحي‬
‫دون شك بوجود عالقة ما بين آبل وكانط‪ ،‬وذلك ألنه إذا كان الشطر األول (البراجماتيــة) من‬
‫العنوان يشير إلى تأثر آبل بنظريات بيرس وفنتجشتين وأوستين وسيريل وغيرهم في اللغــة ‪-‬‬
‫كما أوضحنا ذلك سابقا خالل حديثنا عن تأثير المنعرج األلسني والتــداولي والســميوطيقي في‬
‫فلسفة آبل ‪ -‬فإن الشــطر الثــاني من العنــوان (الترنســندتالية) يشــير إلى تـأثر كــارل أوتــو آبــل‬
‫بالفلسفة الترنسندتالية الكانطية‪ ،‬وذلك باعتبار المفهوم الترنسندتالي هو مفهــوم كــانطي‪ ،‬وهــذا‬
‫دليل آخر يؤكد مدى تأثر آبل بالفلسفة الترنسندتالية الكانطية‪.‬‬

‫وهكذا يتضح أن الفلسـفة الترنسـندتالية الكانطيـة تمثـل مرجعيـة فلســفية أساسـية بالنسـبة‬
‫لمدرسـة فرانكفـورت بصـفة عامـة وبالنسـبة لكـارل أوتـو آبـل بصـفة خاصـة‪ ،‬بـل هي أكـثر‬
‫المرجعيات تأثيرا في فلسفة آبل‪ ،‬ولعل العبـارة الـتي سـبق وأن ذكرناهـا سـابقا « إن آبـل هـو‬
‫كانط جديد مصحح ومنقح من طرف بيرس »§‪ ،‬هي أحسن تعبير عن هذا التأثير‪.‬‬

‫خالصة‪:‬‬

‫بعــد تحديــدنا للمفهــومين المركــزيين وللســياق التــاريخي والفلســفي لهــذا البحث يمكننــا‬
‫استخالص النتائج التالية‪:‬‬
‫*‬
‫‪-Apel karl-Otto, penser avec Habermas contre Habermas, Op.Cit, p, 16.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 32.‬‬
‫‡‬
‫‪-Apel karl-Otto, penser avec Habermas contre Habermas, Op.Cit, p, 35.‬‬
‫§‬
‫‪- Andler Daniel et autres, philosophie des sciences I, Op.Cit, p, 188.‬‬

‫‪62‬‬
‫المرجعيات الفلسقية لتأسيسوية آبل‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ّ -‬‬
‫أن مفهوم اإلتيقا هو مفهوم قديم جديد‪ ،‬فهو من حيث النحت اللغوي تعود جذوره إلى الفلسفة‬
‫اليونانية‪ ،‬ولكنه أخذ بعدا آخر في الفلسفة المعاصرة وأصبح له مشتقات كثيرة مثــل‪ :‬البيوإتيقــا‬
‫وإتيقا البيئة وإتيقا األعمال‪ ،‬بينما مفهوم التواصل هو مفهوم جديد في الفلسفة ولكنه أصبح من‬
‫أبرز المفاهيم الفلسفية خاصة في النصـف الثـاني من القـرن العشـرين‪ ،‬حيث أصـبحت فلسـفة‬
‫التواصل من أهم الفلســفات المعاصــرة خاصــة مــع هابرمــاس وكــارل أوتــو آبــل الــذين شــيدا‬
‫مشروعا فلسفيا جديدا جمعا فيه بين اإلتيقا والتواصلـ بعنوان ‪″‬إتيقا أو أخالقيات التواصل‪.″‬‬

‫‪ّ -‬‬
‫وأن المشــروع الفلســفي اإلتيقي التواصــلي لكــارل أوتــو آبــل ســاهم في ظهــوره وتطــوره‬
‫مجموعة من العوامل الفكرية والفلسفية‪ ،‬فبناء على ما سبق ذكره من األدلة وغيرها كثير مما‬
‫لم يتســع المقــام هنــا لــذكرها كلهــا يتضــح أن المنعــرج األلســني الهرمــنيوطيقي‪ /‬التــداولي‬
‫والبراجماتزم وسميوطيقا بيرس وترنسندنتالية كانـط‪ ،‬إضــافة إلى التـأثير الكبـير الـذي خلفتـه‬
‫الكتابات الفلسفية واالجتماعية والسياسية النقديــة لمفكــري الجيــل األول لمدرســة فرانكفــورت‬
‫أمثــال هوركهــايمر وأدرنــو ومــاركيوز وزمالءه من الجيــل الثــاني خاصــة صــديقه وخصــمه‬
‫هابرماس تمثل مرجعيات فكرية وفلسفية أساسية بالنسبة لكارل أوتــو آبــل في ســعيه لصــياغة‬
‫وبلورة مشروع فلسفي متميز وخاص به "التداولية الترنسندنتالية" في مقابــل مشــروع زميلــه‬
‫وخصمه هابرماس "التداولية الشاملة أو الشكلية" ‪[.‬وسنتعرف على خصائص ومميزات هــذا‬
‫المشروع الفلسفي في الفصول الالحقة]‪.‬‬

‫‪ -‬ونســتخلص كــذلك أنــه على الــرغم من تعــدد المرجعيــات الفلســفية آلبــل (الترنســندنتالية‪،‬‬
‫التداولية‪ ،‬الهرمنيوطيقــا) فإنــه اســتطاع اســتيعابها والتــأليف بينهــا بشــكل منطقي محكم‪ ،‬حيث‬
‫استطاع الجمــع بين نمــوذجين فلســفيين‪ :‬نمــوذج الفلســفة الترنســندنتالية ونمــوذج فلســفة اللغــة‬
‫بوجهيها التداولي والهرمنيوطيقي‪،‬ـ ليستنتج نظرة جديدة للفلسفة من حيث هي‪" :‬تداولية لسانية‬
‫ترنسندنتالية"‪.‬‬

‫‪63‬‬
:‫الفصل الثاني‬

« Le nouveau paradigme d’une philosophie transcendantale transformée par


l’apport d’une pragmatique du langage » Apel Karl-Otto, Ethique de la discussion,
traduction de l’allemand par Mark Hunyadi, les éditions du Cerf, Paris, 1994, p, 71.

‫ كارل أوتو آبل‬.» ‫« البراديغم الجديد للفلسفة الترنسندنتالية هو تحولها إلى براغماتيكا للغة‬
‫الفصل الثاني‪ :‬إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل ‪II -‬‬
‫مدخل‬
‫المبحث األول‪ :‬المشروع الفلسفي التواصلي لهابرماس ‪1 -‬‬
‫أ‪ -‬المطلب األول‪ :‬نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس‬
‫ب ‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬كارل أوتو آبل والتفكير مع هابرماس ضد هابرماس‬

‫المبحث الثاني‪ :‬المشروع الفلسفي التواصلي لكارل أوتو آبل ‪2-‬‬


‫أ‪ -‬المطلب األول‪ :‬أسس التواصل عند كارل أوتو آبل‬
‫ب ‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬التداولية الترنسندنتالية لكارل أوتو آبل‬

‫خالصة‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪- II‬إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‪:‬‬


‫مدخل‪:‬‬
‫بدأ كارل أوتو آبل وهابرماس معــا في الســبعينيات من القــرن الماضــي صــياغة وبلــورة‬
‫مشروع فلسفي جديد عرف بـ"إتيقا التواصل"‪ ،‬ولكنه وقع خالف‪ ‬كبير بينهمــا في منتصــف‬
‫الطريق حول المنهج الــذي يــؤدي إلى تأســيس مجتمــع حــواري تواصــلي حقيقي‪ ،‬فهابرمــاس‬
‫استهدف تأسيس مشروع فلسفي تواصليـ اجتماعي سياسي أطلق عليه اسم "التداولية الشــكلية‬
‫أو العالمية"‪ ،‬بينما استهدف آبل تأسيس مشروع فلسفي تواصلي اجتماعي أخالقي أطلق عليــه‬
‫اسم "التداولية الترنسندنتالية أو المتعالية"‪ ،‬وترتب على ذلك حدوث سجال فلسفي حاد بينهما‪،‬‬
‫وسنحاول من خالل هذا الفصل الوقوف عند أهم محطات هذا الحوار والصراعـ الفكري الذي‬
‫جرى بين هذين الفيلسوفين‪ ،‬وهو الحوار الذي يمكن اعتباره قمة التفكــير الفلســفي التواصــلي‬
‫المعاصرمن جهة باعتباره جرى بين أبرز شخصيتين فلســفيتين تمثالن هــذا االتجــاه الفلســفي‬
‫الذي سيطر على الساحة الفلسفية في ألمانيا المعاصرة وامتد إلى خارجها وخاصة إلى فرنســا‬
‫والواليات المتحدة األمريكية وهو من جهة أخــرى كــذلك حــوار وصــراع يعــبر عن االنقســام‬
‫الذي حـدث في مدرســة فرانكفـورت والنظريــة النقديـة بعـد رحيــل مؤسسـيها األوائــل‪ ،‬وهــذا‬
‫يتطلب منا عرض موقفي الفيلسوفين بغية الخروج من ذلك بخالصــة حــول أهم نقـاط االتفــاق‬
‫واالختالف بينهما‪ ،‬وذلك انطالقــا من أحــد التســاؤالت الــتي طرحناهــا في مقدمــة هــذا البحث‬
‫وهو‪ :‬هل يعتبر نقد كارل أوتو آبل لهبرماس خروجا عن المسار الفك ري ال ذي رس مه رواد‬
‫الجيل األول لمدرسة فرانكفورت أو هو مجرد حوار داخلي الهدف منه إص الح ه ذا المس ار‬

‫الس جال الفلس في بين‬


‫الس جاالت الفلس فية المعاص رة على غ رار ّ‬
‫الس جال الفلس في ال ذي ج رى بين آب ل وهابرم اس من أهم ّ‬
‫‪ -‬يعد ّ‬
‫هابرماس ‪ ‬هيدغر‪ ،‬وهابرماس ‪ ‬غادامير‪ ،‬وهابرماس ‪ ‬دريدا‪ ،‬وآبل ‪ ‬ه انس أل برت‪ ،‬وآب ل ‪ ‬ج ان م ارك ف يري‪ ،‬إلى ج انب‬
‫س جاالت الفلسفية التي انخرط فيها كل من فنتجشتين من جهة وكارل بوبر من جهة أخرى ضد كل التيارات الفلسفية المخالفة لهما‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫ولكن الحوار الفلسفي بين آبل وهابرماس له طابع خاص‪ ،‬فهو ليس صراعا من أجل الصدارة في فلسفة التواصل وال ه و ص راع من‬
‫أجل ريادة مدرسة فرانكفورت كما يعتقد البعض‪ ،‬وإنما هو حوار يقوم على التعاون واالحترام واالعتراف المتبادل ‪ ،‬حيث يعترف كل‬
‫واحد منهما بفضل اآلخر عليه في بلورة وتطوير مشروعه وبرنامجه الفلسفي‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وتعديله على ضوء المتغيرات السياسية والثقافية والفلسفية والعلمية والتقنية التي ش هدها‬
‫العالم في النصف الثاني من القرن العشرين؟‬
‫‪‬‬
‫المبحث األول‪ :‬المشروع الفلسفي التواصلي لهابرماس‬ ‫‪-1‬‬

‫أ ‪ -‬المطلب األول‪ :‬نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس‬

‫قبل البدء في محاولة الجواب عن السؤال المطروح‪ ،‬نود أن نبين الدافع الذي جعلنــا نقحم‬
‫هابرماس في هذا البحث‪ ،‬ونقول أنه كان من الضروري المــرور عــبر فلســفة هابرمــاس لفهم‬
‫فلسفة كارل أوتو آبل‪ ،‬فهمــا كمــا يقــول عمــر مهيبــل « ليســا على مســافة تأسيســية بعيــدة عن‬
‫بعضهما البعض »*‪ ،‬وأجواء الحوار الذي جرى بينهمــا يكشــف عن « عمــق العالقــة بينهمــا‪،‬‬

‫‪ -‬هابرماس يورغن‪ :‬ولد سنة ‪ ،1929‬عمل مساعدا ألدورنو بجامعة فرانكف ورت من (‪ ،)1959 -1956‬ثم د ّرس بع د ذل ك الفلس فة‬
‫وعلم االجتماع بجامعة هايدلبرغ ‪ Heidelberg‬حيث التقى هناك غادامير‪ ،‬ثم عاد إلى فرانكف ورت وأس س نظري ة الفع ل التواص لي‬
‫سنة‪ « .1981‬درس هابرماس الفلسفة من ‪ 1949‬إلى ‪ 1954‬مع نيكوالي هارتمان ‪ Nicolai Hartmann‬في غوتن برغ‪ ،‬وم ع‬
‫هانس بارث ‪Hans Barth‬في زيوريخ بسويسرا‪ ،‬وفي الوقت نفسه تابع دروسا في الت اريخ وعلم النفس واالقتص اد‪ ،‬ن اقش أول‬
‫أطروحة جامعية سنة ‪ 1954‬حول التاريخ عند شلينج ‪ Schelling‬قبل أن يشرع في أبحاث حول مفه وم االي ديولوجيا‪ ،‬تمت ترقيت ه‬
‫مساعدا ألدورنو في جامعة فرانكفورت (معهد األبحاث االجتماعية) سنة ‪ ،1956‬وقدم هابرماس أطروحة جامعية ثانية لكنها رفض ت‬
‫من طرف هوركهايمر‪ ،‬فاض طر إلى مناقش تها في جامع ة م اربورغ تحت إش راف أدن دروث ‪W.Adendrothe‬س نة ‪ ،1960‬ولكن‬
‫هذه الحادثة لم تمنع هابرماس من البقاء وفيا لمدرسة فرانكفورت وأن يبقى أحد أتباع هوركهايمر وأدرنو‪ ،‬وبعد سنتين من ذل ك ق ام‬
‫بنشر هذه األطروحة تحت عنوان "الفضاء العمومي‪ ،‬أركيولوجيا الدعاية كبعد تأسيسي للمجتمع البرجوازي" ‪.L’espace public‬‬
‫وبعد مناقشة هابرماس ألطروحته الجامعية تولى التدريس بجامعة هيدلبرغ ‪ Heidelberg‬إلى جانب ه انس ج ورج غ ادامير‪ ،‬وفي‬
‫سنة ‪ 1964‬رقي إلى رتبة أس تاذ للفلس فة وعلم االجتم اع بجامع ة فرانكف ورت‪ ،‬وبع د أح داث الطلب ة في أورب ا الغربي ة س نة ‪1968‬‬
‫واإلصالحات الجذرية والعميقة التي أعقبتها من خالل مراجعة أسس الليبرالية الغربية والقوانين التي تق وم عليه ا أص بح هابرم اس‬
‫هدفا لليسار الفاشي‪ ،‬فقرر مغادرة جامعة فرانكفورت سنة ‪ 1971‬وأصبح مديرا لمعه د م اكس بالن ك للبحث في ش روط وج ود ع الم‬
‫علمي وتقني‪ ،‬وهنا أيضا أصبح هدفا إلرهاب بعض المنظمات اليمينية المتطرفة في ألمانيا فتوجه إلى الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬ثم‬
‫عاد إلى جامعة فرانكفورت واستقر بها منذ سنة ‪ .» 1983‬وقد كان لهبرماس أعمال كثيرة‪ ،‬حيث يعد واحدا من أكثر الفالسفة غزارة‬
‫في اإلنت اج الفك ري خالل النص ف الث اني من الق رن العش رين‪ ،‬ومن أهم ه ذه األعم ال "المعرف ة والمص لحة" و"العلم والتقني ة‬
‫كإي ديولوجيا" و"الحداث ة وخطابه ا السياس ي" و"اتيق ا المناقش ة ومس ألة الحقيق ة" و"األخالق والتواص ل" و"الق ول الفلس في‬
‫للحداثة"‪ ،‬و"نظرية الفعل التواصلي"‪( .‬المرجع)‪.Besnier Jean-Michel, Op.Cit, p, p, 613, 615   :‬‬

‫* ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪(16 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وصعوبة فهم أحدهما دون المرور باآلخر بــالرغم من الخالفــات الموجــودة بين مشــروعيهما‬
‫النظريين »*‪.‬‬

‫بدأ هابرمــاس مســاره الفكــري بإصــداره عمــل نقــدي فلســفي واجتمــاعي هــام بعنــوان‬
‫"الفضاء العمــومي" وهـو العمـل الـذي حـاول أن يــبين من خاللــه كيـف أن اإلعالم بــالمفهوم‬
‫الكانطي يعتبر كمبدأ يمثل السلطة القادرة على ضمان الوحدة بين السياسة واألخالق†‪.‬‬

‫وقد قــام هابرمــاس في هــذا العمــل بدراســة جينيالوجيــة لتطــور الــرأي العــام كشــف من‬
‫خاللها أن العقل النقدي الذي ساد في عصر األنوار كان عقال أداتيا‪ ،‬كما وجــه من خالل هــذا‬
‫العمــل نقــدا شــديدا إلى الحكومــات ســواء كــانت يمينيــة أو يســارية في اســتخدامها للدعايــة‬
‫اإلعالمية لتضليل الرأي العام رغم وجــود دســاتير تمنح المــواطن حــق التعبــير عن رأيــه في‬
‫المجال السياسي‪ ،‬وقد ألقى هابرماس بالالئمة كذلك على الجمهور وتبعيته وعدم مساهمته في‬
‫استغالل هذا الحق كمــا يجب‪ ،‬وقــال في هــذا الشــأن "إن الســلطة بمــا أن مصــدرها تحــريض‬
‫جماهيري سياسي موجه‪ ،‬فإن موضوع النقاش البد وأن يعمل على تحويل اإلرادة إلى أسباب‬
‫تلخص المنافسة على المسرح الجماهيري‪ ،‬والحجج الخاصة يمكن فرضــها كإجمــاع وتوافــق‬
‫يقترح تمثيال حقيقيا وضرورة من وجهة نظر المصلحة العامة"‪ ،‬وقد دعا هابرماس في عملــه‬
‫هذا إلى ضرورة الحد من سلطة اإلعالم اإليديولوجي من أجل تجنب إمكانية وقوع الجمــاهير‬
‫في نهاية المطاف ضحية التوجه اإليــديولوجي لإلعالم والدعايــة‪ ،‬كمــا دعــا النخبــة ألن تلعب‬
‫دورهــا المنــوط بهــا في ذلــك من خالل مراقبتهــا للحكومــة‪ ،‬ألن ســيطرة هــذه األخــيرة على‬
‫اإلعالم هــو الــذي أدى إلى ظهــور بعض األنظمــة التوليتاريــة في القــرن العشــرين كالنازيــة‬
‫والفاشية والستالينية‪ ،‬ثم توسع هابرماس في نقده للماركسية ورأى أن المصالح العملية للطبقة‬
‫العاملة فيها توجد لدى رؤسائهم في العمل فقــط في المصــلحة التقنيــة الــتي يريــدونها حيث أن‬

‫*‪ - 2‬هابرماس يورغن‪ ،‬إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ (5 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬
‫†‬
‫‪- Besnier Jean-Michel, Histoire de la philosophie moderne et contemporaine ; figures et ouvres,‬‬
‫‪Op.Cit, p, 613.‬‬

‫‪70‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫التحكم في المجتمع يتم بنفس الكيفية الـتي يتحكم بهـا في الطبيعـة‪ ،‬ورأى هابرمـاس من خالل‬
‫هذا العمل أن االشتراكية البيروقراطيــة هي في الواقــع نتيجــة تواطــؤ بعض الماركســيين مــع‬
‫تكنوقراط التخطيط الرأسمالي*‪.‬‬

‫وكان الهدف من هذا العمل هو الدعوة إلى ضــرورة تأســيس فضــاء عمــومي‪ ،‬والفضــاء‬
‫العمومي هو وصــف لميالد جمهــور يســتعمل العقــل النقــدي من خالل النشــاط األدبي وتنميــة‬
‫صحافة الرأي‪ ،‬هذا هو في رأيه الشكل المثالي لحكم من الحياة العامــة أين تختفي كــل أشــكال‬
‫السيطرة وتصبح السلطة تستمد شرعيتها من مطلب العقالنية†‪.‬‬

‫ثم واصل هابرماس مشروعه النقدي لفكر الجيل األول لمدرسة فرانكفــورت مســتهدفا‬
‫في ذلك « إعادة بنـاء الهيكــل النظــري العـام للمدرســة »‡‪ ،‬كمـا « وجــه نقـدا حـادا للوضـعية‬
‫المنطقية وعقالنية كارل بوبر النقدية »§‪ ،‬رافضا في ذلــك وفي آن واحــد موقــف الوضــعانيين‬
‫المناطقة الذين نفوا إمكانية قيــام علــوم اجتماعيــة وموقــف بــوبر الــذي لم يمــيز فيــه بين منهج‬
‫العلوم الطبيعية والعلوم االجتماعية‪ ،‬وفي هذا الســياق يــرى هابرمــاس أن العلــوم االجتماعيــة‬
‫مستقلة عن العلوم الطبيعية في مسائل المنهجية‪ ،‬وقد أوضـح هابرمـاس هـذه المشـكلة خاصــة‬
‫في عملــه الهــام "المعرفــة والمصــلحة" الــذي مــيز فيــه بين ثالثــة أشــكال للمعرفــة مرتبطــة‬
‫بالمصلحة اإلنسانية وهي‪ « :‬مصلحة تقنية (‪ :)Intérêt technique‬وتتمحور حول تطبيقات‬
‫العلم التجريبي لتلبية حاجــات ماديــة معينــة‪ .‬ومصــلحة عمليــة (‪ )Intérêt pratique‬وتنهمم‬
‫أساسا بعملية التواصل بين األفراد والجماعات من خالل تأكيــدها على اللغــة [‪ .]...‬ومصــلحة‬
‫تحررية (‪ )Intérêt d’émancipation‬تقوم على مالحظة األفعال واألقوال المشــوهة ومن‬
‫ثمة محاولة التحرر منها »**‪.‬‬
‫*‬
‫‪- Besnier Jean-Michel, Histoire de la philosophie moderne et contemporaine ; figures et ouvres,‬‬
‫‪Op.Cit, p, p, 613, 614.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 613.‬‬

‫‡ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪( 13 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫§‪ -‬المصدر نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫**‪ -‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪( 14 ،13 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وقد كان لهابرماس أعمال عديـدة ولكن أهم عمـل يعـبر عن مشـروعه الفلسـفي النقـدي‬
‫والتواصليـ هو دون شك عمله األساسي "نظرية الفعل التواصلي"ـ الذي أصــدره ســنة ‪1981‬‬
‫وترجم إلى الفرنسية سنة ‪ 1987‬من طرف كل من جان مارك فــيري (الجــزء األول) و جــان‬
‫لويس شليجل ‪( J.L.Sclegel‬الجزء الثاني)‪.‬‬

‫وسنحاول من خالل هذا المطلب أن نسلط الضوء على نظرية التواصل عند هابرماس‬
‫أو ما يسمى "العقل التواصلي" وبيان اختالفه عن ما أسماه "العقل األداتي" وبيان خصــائص‬
‫وممــيزات كـل منهمــا‪ ،‬ومعرفـة األسـباب الــتي جعلت هابرمــاس يؤكــد على االهتمـام بالعقــل‬
‫التواصليـ ويرفض العقل األداتي‪ ،‬وسنحاول كذلك أن نعرف عناصر النظرية التواصليةـ عنــد‬
‫هابرماس والمعروفة بـ " البراجماتية أو التداولية الشاملة"‪.‬‬

‫وفي هذا اإلطــار تعتــبر نظريــة الفعــل التواصــلي لهبرمــاس من أهم النظريــات الفلســفية‬
‫واالجتماعيــة المعاصــرة‪ ،‬والكلمــات المفتاحيــة لهــا هي "العقــل‪ ،‬الفعــل‪ ،‬التواصــل"‪ ،‬ونقطــة‬
‫االنطالق في هذه النظرية هي التأســيس للفــرق الموجــود بين مختلــف أنــواع العقالنيــة‪ ،‬حيث‬
‫مــيز هابرمــاس بين العقالنيــة األداتيــة الــتي يتوجــه نشــاطها نحــو تحقيــق النجــاح والعقالنيــة‬
‫التواصليةـ التي يتوجه نشاطها نحو التفاهم‪ ،‬كما ميز من جهة أخرى داخل العقالنية التواصلية‬
‫بين الفعل االستراتيجي والفعل التواصلي‪،‬ـ فماهو الفرق بين هذه المفاهيم عند هابرماس؟‬

‫انطلق هابرماس في تحديد مفهوم العقالنيـة األداتيـة من مـاكس فيـبر الـذي جعـل مفهـوم‬
‫النشاط العقالني يحيل بالضرورةـ إلى مقوالت عملية منظمة اجتماعيا إلى نظام من التداخالت‬
‫تدمج نوعا من المعرفة وتعقلن الواقع االجتماعي‪ ،‬ولكن هابرماس لم يكتـف باسـتكمال العمـل‬
‫السوسيولوجي لفيبر بل حاول تجاوز اإلطار الــذي وضــع فيــه فيــبر فعــل العقلنة*‪ ،‬وذلــك ألن‬
‫العقل الذي أسسه ماكس فيبر ‪-‬حسب هابرماس ‪ -‬هو عقل أداتي‪ ،‬بل ذهب هابرماس أبعــد من‬
‫ذلك حين اعتبر العقل األنواري بصفة عامة عقال أداتيا‪ ،‬فمالمقصود بالعقل األداتي؟ ومــاهي‬
‫سماته؟‬

‫* ‪ -‬آفاية محمد نور الدين‪ ،‬الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.179 ،‬‬

‫‪72‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ظهـــر مفهـــوم العقـــل األداتي في العديـــد من مؤلفـــات فالســـفة الجيـــل األول لمدرســـة‬
‫فرانكفورت وخاصة عند هوركهايمر وأدورنــو في عملهمــا المشــترك "جــدل التنــوير"‪ ،‬وفي‬
‫العمل الخاص لهوركهايمر" أفول العقل"‪ ،‬وكذلك في أحد أهم أعمال مــاركيوز " اإلنســان ذو‬
‫البعد الواحد"‪ ،‬حيث يرى هؤالء أن العقل األداتي هــو منطــق في التفكــير وأســلوب في رؤيــة‬
‫العالم ينظر إلى العالم االجتماعي كمــا ينظــر إلى الطبيعــة المادية*‪ ،‬وهــو العقــل الــذي يعرفــه‬
‫هوركهايمر "هو العقل المهيمن في المجتمعات الرأسمالية الحديثة‪ ،‬وهي المجتمعات التي فقــد‬
‫فيها العقل ملكته الفكرية وأصبح مجرد أداة لتحقيق أهداف معينة"†‪ ،‬ومعنى ذلك حسب هؤالء‬
‫أن العقل فقد القدرة على إدراك الحقيقة في ذاتها وأصبح مجرد وسيلة وأداة للنجاح والسيطرة‬
‫في الحضارة الحديثة‪.‬‬

‫وإلى ذلك تقريبا ذهب على عبود المحمداوي في أطروحته "اإلشكالية السياسية للحداثة‪:‬‬
‫هابرماس نموذجا"‪ ،‬حيث قال « حدد كل من هوركهايمر وأدورنو في عملهمــا جــدل التنــوير‬
‫العقل األداتي بأنه العقل الذي يهدف إلى معرفة الطبيعة بغية السيطرة عليها [‪ ]...‬وهما يريان‬
‫أن التنوير بهذه المهمة وبأداتية العقل المنتجة [‪ ]...‬قــد انحــرفت مســيرة العقــل التنــويري »‡‪،‬‬
‫ومعــنى ذلــك أن الفكــر األنــواري تحــول من أداة معرفيــة للتقــدم والتحــرر إلى أداة للهيمنــة‬
‫والسيطرة على الطبيعة واإلنسان معا‪.‬‬

‫ولكن هابرماس انتقد النقد الذي وجهه كــل من هوركهــايمر وأدورنــو وحــتى مــاركيوز‬
‫للعقل األداتي‪ ،‬حيـث اتهمهم بتحويـل العقل إلى أداة قمع من خالل النقد‪ ،‬وذلـك ألن هـذا النقــد‬
‫لـــم يســتطع إخــراج الفلســفة من دائــرة وفلــك الذاتيــة‪ ،‬وهــو تعبــير عن عالقــة الــذات بالعــالم‬
‫الموضــوعي بوصــفه وســائل من أجــل الــذات والعقــل مجــرد أداة للســيطرة على هــذا العــالم‬
‫الموضوعي‪،‬ـ وكان هدف هابرمــاس من وراء ذلــك هــو تجــاوز العقالنيــة الوضــعانية وإيجــاد‬

‫* ‪ -‬أبو النور حسن أبو النور حمدي‪ ،‬يورغن هابرماس‪ :‬األخالق والتواصل‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،2009 ،‬ص‪،‬‬
‫ص‪. 133 ،132 ،‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.133 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬المحمداوي علي عبود‪ ،‬اإلشكالية السياسية للحداثة‪ :‬من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل (هابرماس نموذجا)‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫ص‪.156 ،‬‬

‫‪73‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫مخرج من األداتية*‪ ،‬وقـد حـدد هابرمـاس العقـل األداتي في عملـه المعرفـة والمصـلحة وهـو‬
‫يتحدث عن بيرس ويناقشه بقوله‪ « :‬المعرفة األداتية هي التي ترســخ الفعــل العقالني الهــادف‬
‫والمحكوم بالنجاح في محيط متموضع ضمن وجهة نظر التحكم التقني الممكن » †‪ ،‬وفي عمله‬
‫اآلخر "العلم والتقنية كإيديولوجيا" نجد تعريفا أكثر وضوحا للفعــل األداتي وهــو يتحــدث عن‬
‫ماكس فييبر ويناقشه حيث يقول‪ « :‬أنا أريد أن أشرح من جديد ما دعاه ماكس فييبر "العقلنة"‬
‫أن أتجاوز المنطلق الذاتي [‪ ]...‬وأن أقترح إطارا مقوالتيا آخر‪ ،‬وأنا بهــذا انطلــق من التميــيز‬
‫األساسي بين العمل والتفاعــل [‪ ]...‬تحت مقولــة "العمــل" أو الفعــل العقالني الهــدف أفهم إمــا‬
‫فعال ذاتيا وإما اختيارا عقالنيا‪ ،‬أو ربما تركيبا بين االثنين‪ ،‬يتشكل الفعل األداتي حسب قواعد‬
‫تقنية تقوم على المعرفة التجريبية‪ ،‬وهي تتضمن في كل حال تنبؤات مشروطة حول األحداث‬
‫القابلـــة للمراقبـــة‪ ،‬طبيعيـــة أو اجتماعيـــة‪ ،‬وهي يمكن أن تتجلى بوصـــفها مقنّعـــة أو غـــير‬
‫حقيقية »‡‪ ،‬وقد شرح حسن مصــدق مفهــوم العقالنيــة األداتيــة‪ -‬حســب هابرمــاس ‪ -‬في عملــه‬
‫"النظرية النقدية التواصلية"ـ بقوله‪ « :‬هي عقالنية تخضع للحساب الواعي الذي يدرس كيفيــة‬
‫الوصول إلى أهداف بحد ذاتها موضوع حساب وغير خاضعة لطابع قيمي بــل لطــابع عملي‪،‬‬
‫ويتشخص نوع هذه العقالنيــة في تفاعــل اإلنســان مــع الطبيعــة‪ ،‬وتتجســد في العلم والصــناعة‬
‫والتكنولوجيا الحديثة »§‪ ،‬ونفس الشرح تقريبـا نجـده عنـد البـاحث المغـربي نـور الـدين آفايـة‬
‫حيث يقول‪ « :‬النشاط األداتي يخضع لقواعـد تقنيـة تتأسـس على معرفـة تجريبيـة [‪ ]...‬وهـذه‬
‫القواعد تتضمن تنبؤات شرطية تتعلق بالوقائع القابلة للمالحظة [‪ ]...‬وهذه التنبــؤات يمكن أن‬
‫تكون صحيحة أو خاطئة »**‪ ،‬ومعنى ذلك أن العقالنيــة األداتيــة محــدودة بتحقيــق النجــاح في‬
‫العالم الموضوعي‪ ،‬ولكن لماذا يرفض هابرماس العقل األداتي؟‬

‫* ‪ -‬المحمداوي علي عبود‪ ،‬اإلشكالية السياسية للحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.160 ،159 ،158 ،‬‬

‫† ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬المعرفة والمصلحة‪ ،‬ترجمة حسن صقر‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬ط‪ ،1‬كولونيا‪ ،‬المانيا‪ ،2001 ،‬ص‪.162 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬العلم والتقنية كإيديولوجيا‪ ،‬ترجمة حسن صقر‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬ط‪ ،1‬كولونيا‪ ،‬المانيا‪ ،2003 ،‬ص‪.56 ،‬‬

‫§ ‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ ،‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.133 ،‬‬

‫** ‪ -‬آفاية محمد نور الدين‪ ،‬الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪. 182 ،‬‬

‫‪74‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يــرفض هابرمــاس العقــل األداتي ألنــه عقــل ال يمــيز بين العــالم الموضــوعي الــذي هــو‬
‫موضوع العلم والعـالم االجتمـاعي الـذي هــو موضــوع العقالنيــة التواصـليةـ « العقـل األداتي‬
‫ينظر إلى الطبيعة والواقع من منظور التماثل‪ ،‬ويحاول تفتيت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة‬
‫وينظر إلى اإلنسان باعتباره مجرد جزء يشــبه األجــزاء الطبيعيــة الماديــة‪ ،‬فاإلنســان بالنســبة‬
‫للعقل األداتي شيء ثابت وكمي »*‪ ،‬ولكن ماهو الهدف الذي رســمه هابرمــاس من وراء نقــده‬
‫للعقل األداتي؟‬

‫يــرى البــاحث العــربي عبدهللا ابــراهيم في عملــه الهــام "المركزيــة الغربيــة" أن نقــد‬
‫هابرماس للعقل األداتي كان القصد من وراءه هدم معطيات هذا العقل وتأسيس عقل تواصلي‬
‫محله حيث يقول‪ « :‬كان نقد هابرماس يتقصــد تهــديم معطيــات العقــل األداتي‪ ،‬بالقضــاء على‬
‫مركزه الفلسفي الوضعي الذي أبرز هذه الرؤية للعقل‪ ،‬ولم يقبل بالنقــد العقالني الــذاتي للعقــل‬
‫المتمركز على ذاته‪ ،‬ألن وسيلة نقده هي الذات التي سرعان ما تتمركــز على ذاتهــا‪ ،‬ومن بين‬
‫كــل ذلــك اقــترح "العقــل التواصــلي"ـ الــذي يقــوم على تنشــيط التواصــل وتنميــة اإلنســان في‬
‫المجتمع »†‪ ،‬ومعنى ذلك أن العقالنية األداتية ال يمكنها أن تعــبر عن الحقيقــة‪ ،‬وبالتــالي ال بــد‬
‫من تهديمها وتحطيمها باعتبارها عائقا يجب تجاوزه‪ ،‬وبعد تحطيم وهــدم العقــل األداتي انتقــل‬
‫هابرماس إلى بنـاء وتأســيس عقــل جديـد أطلــق عليــه اســم "العقـل التواصــلي"‪،‬ـ فمــاذا يقصـد‬
‫هابرماس بالعقل التواصلي؟‬

‫إذا كان هابرماس في تحديــده ونقــده للعقــل األداتي انطلــق من مــاكس فيــبر والنقــد الــذي‬
‫وجهه له رواد المدرسـة النقديـة األوائـل ( هوركهايمر وأدرنو وماركيوز ) فإنـه في محاولته‬

‫لتحديد مفهوم العقل التواصليـ وتأسيس نظرية الفعل التواصلي انطلق من هيغل‪ ،‬حيث اعتمــد‬
‫على منهج الديالكتيك الهيغيلي في تحليل هذا المفهوم وهذه النظرية‪ ،‬ويبــدوا ذلــك واضــحا في‬
‫عمله األساس "العلم والتقنية" حيث خصص الفصل األول من هذا العمل لتحليــل محاضــرات‬
‫هيغل التي ألقاها في جامعة "يينــا" حــول المنهج الفــيينومينولوجي‪ ،‬وفي هــذا ينقــل هابرمــاس‬
‫* ‪ -‬أبو النور حسن أبو النور حمدي‪ ،‬يورغن هابرماس‪ :‬األخالق والتواصل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪. 134 ،‬‬

‫† ‪ -‬ابراهيم عبدهللا‪ ،‬المركزية الغربية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدارالبيضاء وبيروت‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬ص‪.385 ،‬‬

‫‪75‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫عن هيغل‪ « :‬كل واحد مماثل لآلخر من حيث أنــه يعارضــه [‪ ]...‬وذلــك أن معارضــته تنقلب‬
‫إلى التماثل بالنسبة إليه ذاته‪ ،‬أو أنه مثلما يعاين نفسه في اآلخر يعرف نفسه على أنه ذاته »*‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أن كل واحد يشبه اآلخر ويختلف عنه في آن واحد‪ ،‬وتميزه عن اآلخر معرفــة لــه‬
‫بحد ذاتها‪ ،‬وبمعنى آخر يتعرف على نفسه بهذه الطريقة التي يرى نفســه في اآلخــر‪ ،‬ألنــه من‬
‫هذا الحـوار بين األنـا واآلخـر تتأسـس عالقـة االعـتراف المتبـادل‪ ،‬وهكـذا يتضـح أن منطـق‬
‫هابرماس في التفكير حول المجتمــع يمكن تصــنيفه كفكــر ديــاليكتيكي في مواجهــة المالحظــة‬
‫االجتماعية التي تنطلق من الواقع التجريـبي للمجتمـع‪ ،‬والعقـل التواصـلي يلعب دور الوسـيلة‬
‫المنهجية في النتيجة المنتظرة في مجال شرعية النظم المعيارية وتمثيلها االجتماعي والثقافي‪.‬‬

‫من هذا المنطلق يبدأ هابرماس في نحت وصياغة وتحديد مفهوم جديــد أطلــق عليــه اســم‬
‫"العقل التواصلي"ـ كمنهج للخروج من فلسفة الذات وتأسيس فلســفة جديــدة تعــرف بــ "فلســفة‬
‫التواصل"‪،‬ـ وهي الفلسفة التي ســعى من وراءهــا هابرمــاس إلى وضــع قواعــد لنظريــة نقديــة‬
‫فلسفية واجتماعية وسياسية تسمح بإعادة النظر في بنـاء المجتمـع الغـربي الحـديث‪ ،‬وفي هـذا‬
‫المجال يقول نور الدين آفاية‪ « :‬نظرية الفاعلية التواصــليةـ بوصــفها فاعليــة موجهــة بالدرجــة‬
‫األولى إلى التفاهم تستهدف منطقيا البحث عن مجتمع ممكن »†‪ ،‬ويمكن تعريف هـذه الفاعليـة‬
‫كما يلي‪ « :‬النشاط التواصليـ هو ذلك التفاعــل المصــاغ بواســطة الرمــوز ويخضــع للمعــايير‬
‫الجاري بها العمــل [‪ ]...‬على أســاس أن تكــون مفهومــة ومعــترف بهــا [‪ ]...‬من طــرف ذاتين‬
‫فـاعلتين على األقـل »‡‪ ،‬ونجـد نفس التعريـف تقريبــا عنـد حســن مصـدق حيث يقــول‪ « :‬هي‬
‫تنظيم عملية التفاعل بين أفراد المجتمع وتصوغ فهم الجماعة لــذاتها‪ ،‬ويظهــر هــذا النــوع من‬
‫العقالنية في المجال األخالقي والسياسي الذي ينظم الشرائع والمعايير الجاري بها العمل »§‪.‬‬

‫* ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬العلم والتقنية‪ ،‬ترجمة حسن صقر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.14 ،‬‬

‫† ‪ -‬آفاية محمد نور الدين‪ ،‬الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪. 180،‬‬

‫‡ ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.182 ،‬‬

‫§ ‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ ،‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.133 ،‬‬

‫‪76‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫كما ميز هابرماس في نظريتــه الفاعليــة التواصــليةـ بين فعلين‪ :‬همــا الفعــل االســتراتيجي‬
‫والفعل التواصلي الحقيقي‪ ،‬وفي هذا اإلطار يقول نور الدين آفاية‪ « :‬صالحية القواعد التقنيــة‬
‫واإلستراتيجية متوقفة على صـالحية القضـايا الصـحيحة تجريبيـا أو تحليليـا‪ ،‬بينمـا صـالحية‬
‫المعايير االجتماعية تتأسس على التذاوت الذي يحصل في عملية التفاهم »*‪ ،‬أي أن هابرماس‬
‫يفصل بوضوح بين هذين الفعلين حسب نور الــدين آفايــة « غــير أن بين هــذين القطــبين "أي‬
‫الفعل االستراتيجي والفعل التواصلي"ـ ينبغي االنتباه إلى موقع االستراتيجيات الــتي كثــيرا مــا‬
‫تتحدد بشكل يتداخل بين هــذين النمطين لــذلك يــرى هابرمــاس أنــه ينبغي التميــيز بين النشــاط‬
‫االستراتيجي واألنشطة التواصلية‪،‬ـ ذلك أن االستراتيجيات تخضــع للمنطــق الحــواري المفــرد‬
‫أما منطق التفاعل فهو حواري بشكل أساسي‪ ،‬في الفعل االستراتيجي نبلــغ نوعــا من التــذاوت‬
‫المتعالي بينما في الحالة التواصلية هو تذاوت على أساس االعتراف المتبادل »†‪.‬‬

‫وعلى ضوء مـا سـبق يتضـح أن هنـاك فرقـا واضـحا عنـد هابرمـاس بين الفعـل األداتي‬
‫والفعــل التواصــلي من جهــة‪ ،‬وبين الفعــل االســتراتيجي والفعــل التواصـليـ من جهـة أخــرى‪،‬‬
‫وتبسيطا للمسألة سنحاول أن نلخص هذه الفروق كاآلتي‪:‬‬

‫الفرق بين الفعل األداتي والفعل التواصلي عند هابرماس‪:‬‬

‫«‪ -‬الفعل األداتي موضوعه العالم الموضوعي (الطبيعة)‪،‬ـ بينمــا الفعــل التواصــلي موضــوعه‬
‫العالم االجتماعي ‪.‬‬

‫‪ -‬الفعل األداتي يهدف إلى تحقيق الســيطرة على العــالم الموضــوعي‪،‬ـ بينمــا الفعــل التواصــليـ‬
‫يهدف إلى إيجاد نوع من التفاهم داخل العالم االجتماعي‪.‬‬

‫* ‪ -‬آفاية محمد نور الدين‪ ،‬الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪. 183،‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪. 184 ،183،‬‬

‫‪77‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -‬خطــاب الفعــل األداتي هــو خطــاب تقريــري يقتضــي بلــوغ الحقيقــة الدعائــه الصــالحية‬
‫والمشـــروعية‪ ،‬بينمـــا خطـــاب الفعـــل التواصـــلي هـــو خطـــاب معيـــاري يقتضـــي الصـــحة‬
‫لمشروعيته»*‪.‬‬

‫الفرق بين الفعل االستراتيجي والفعل التواصلي عند هابرماس‪ :‬رغم أن الفعل االســتراتيجي‬
‫والفعل التواصلي لهما موضوعا وميدانا واحدا هو العالم والميدان االجتماعي‪ ،‬فإنــه يمكن من‬
‫خالل التحليل السابق أن نستنتج بينهما عدة فروق تتمثل في ما يلي‪:‬‬

‫«‪ -‬الفعل االستراتيجي هو فعل يهدف إلى تحقيق النجــاح‪ ،‬بينمــا الفعــل التواصــلي يســعى فيــه‬
‫الفاعلون إلى التعاون البينذاتي و الحوار‪.‬‬

‫‪ -‬الهدف من الفعل االستراتيجي هو إقناع اآلخر والتأثير فيــه‪ ،‬بينمــا يهــدف الفعــل التواصــلي‬
‫†‬
‫إلى تحقيق التفاهم والمشروعية »‪.‬‬

‫وخالصة القول هنا هو أنه‪ :‬إذا كــانت مرجعيــة الفعــل األداتي والفعــل االســتراتيجي هي‬
‫المنطق واألدلة التجريبية‪ ،‬فإن مرجعية الفعل التواصليـ هي معــايير الصــدق والحقيقــة‪ ،‬وأنــه‬
‫إذا كان الفعل االستراتيجي يهيمن فيه طرف على آخر‪ ،‬فإن الفعـل التواصـليـ ال يسـلم بهيمنـة‬
‫أو ســيطرة شــخص مــا على التواصــل‪ ،‬وذلــك ألن الفعــل االســتراتيجي كــل فاعــل فيــه يقــوم‬
‫بحساب الوســائل والغايــات من أجــل تحقيــق النجــاح كمــا يتوقــع مــؤثرات الفــاعلين اآلخــرين‬
‫المتوجهين لتحقيق أهدافهم الخاصة أيضا ويحاول التأثير فيهم‪ ،‬بينما الفعــل التواصــليـ يســعى‬
‫فيه الفاعلون عن طريق الحوار إلى اإلجماع‪ ،‬وبذلك يمكن القول أن الفعــل االســتراتيجي هــو‬
‫خطاب أو نقاش مغلق‪ ،‬بينما الفعل التواصلي هو خطاب ونقاش مفتوح‪.‬‬

‫فضاء الفعل التواصلي عند هابرماس‪:‬‬

‫*‪ -‬المحمداوي علي عبود‪ ،‬اإلشكالية السياسية للحداثة‪ :‬من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.197 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ويتضح مما سبق أن هابرماس يحــدد العقــل بالتواصــل‪ ،‬ألن البعــد العلمي والتقــني الــذي‬
‫أخذته حياة اإلنسـان في المجتمعـات المتقدمـة يقتضـي حسـبه نيـة وعـزم على إعـادة إصـالح‬
‫وتأهيل للعقل بشكل عاجل ال يحتمل التأجيل حتى يكــون العقــل هــو العامــل األساســي في كــل‬
‫تعبير تواصلي*‪ ،‬وفي هذا يقول هابرماس‪ « :‬لقد غـدا التواصـل الصـوت الوحيـد القـادر على‬
‫توحيد عالم فقد كل مرجعياته‪ ،‬لنتواصل ولنتواصل باألدوات والتقنيات التي تضعف التواصل‬
‫نفسه‪ ،‬هذا هو جب التناقض الذي وضعنا فيه »†‪ ،‬وال شــك أن هــذا تعبــير من هابرمــاس على‬
‫مدى قلقه مما أصبح يعيشه اإلنسان المعاصر من إحباط واغتراب وضعف للتواصــل وتفكــك‬
‫للنسيج االجتماعي بسبب تدهور القيم والمرجعيات التي كــانت تحافــظ على تماســك المجتمـع‪،‬‬
‫وهذا على الرغم من تطور وسائل االتصال‪ ،‬فكيف يمكن تحقيق التواصل ‪ -‬حسب هابرمــاس‬
‫‪ -‬في ظل هذه الظروف الصعبة التي أصبح يعيشها اإلنسان المعاصر؟ وأين يمكن تحقيقه؟‬

‫يرى هابرماس أن العالم المعاش يشكل األفق لممارســة الفهم المتبــادل الــذي يحــاول فيــه‬
‫الفاعلون الذين يعملون من خالل التواصلـ أن يتوجهوا إلى مشاكلهم اليوميــة ومحاولــة حلهــا‪،‬‬
‫وذلك ألن العالم المعاش هو الخلفية التي يستقي منها المشتركون في التواصلـ عبــاراتهم الــتي‬
‫يمكن من خاللهــا التوصــل إلى اتفــاق بشــأن مســألة معينة‡‪ ،‬ويركــز هابرمــاس في فلســفته‬
‫التواصــليةـ خاصــة على المجــال االجتمــاعي والسياســي وبالتحديــد على مــا يســميه "الفضــاء‬
‫العمومي"ـ أو "الميدان العام"‪ ،‬حيث سعى من خالل مشروعه الفلسفي إلى إعادة االعتبار لهذا‬
‫المجال الذي سيطرت عليه الدولة كما هو الشأن في المجتمعات االشتراكية أو سيطرت عليــه‬
‫الطبقة البرجوازية كما هو الشأن في المجتمعات الرأسمالية ‪.‬‬

‫وفي هذا اإلطــار يــرى هابرمــاس أن الفضــاء العمــومي هــو المملكــة الــتي يجتمــع فيهــا‬
‫األفراد للمشاركة في النقاشات العمومية‪ ،‬حيث بإمكان كل واحد المشاركة فيــه دون أن يكــون‬

‫*‬
‫‪- Besnier Jean-Michel, Histoire de la philosophie moderne et contemporaine ; figures et ouvres,‬‬
‫‪Op.Cit, p, 615.‬‬

‫† ‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ ،‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.141 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬المحمداوي علي عبود‪ ،‬اإلشكالية السياسية للحداثة‪ :‬من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.187 ،‬‬

‫‪79‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ألحـد امتيـاز ال يملكـه غـيره§‪ ،‬ومعـنى هـذا أن هابرمـاس يـدعو في برنامجـه التواصـلي إلى‬
‫مشــاركة جميــع المواطــنين في النقاشــات السياســية‪ ،‬وبطريقــة متســاوية‪ ،‬للتعبــير عن رأيهم‬
‫وآمالهم وطموحاتهم‪ ،‬وهذا معناه أيضــا أن هابرمــاس يحــاول أن يؤســس مشــروعه السياســي‬
‫على بعــد تواصــلي عقالني‪ ،‬وهــذا المنهج يــذكرنا أيضــا بــالمنهج السياســي "الديمقراطيــة‬
‫المباشرة" الذي كان مطبقا في أثينا قديما مع فارق مهم هو أن النقاشات السياسية في أثينا كان‬
‫يشــارك فيهــا المواطنــون األحــرار فقــط‪ ،‬بينمــا هابرمــاس ال يســتثني أي مــواطن من هــذه‬
‫المشاركة‪ ،‬والشك أن هذا يقتضي إصالح النظام الــديمقراطي "الديمقراطي ـةـ النيابيــة" الســائد‬
‫في المجتمعات الرأسـمالية ألنـه نظـام ال يمكن للضـعفاء اقتصـاديا فيـه من التعبـير عن رأيهم‬
‫وبالتالي فهم ال يشاركون في صنع القرار السياسي إال بطريقــة صــورية‪ ،‬ولكن مــاهي أدوات‬
‫وآليات هذا التواصل؟‬

‫يرى هابرماس أن الفعل التواصــلي يتأســس على عــدة أســس من أهمهــا‪ :‬اإلتيقــا واللغــة‬
‫والنقاش والحجاج‪ ،‬وتفاعل هذه األسس يعطينا ما يســميه "البراجماتيــة أوالتداوليـةـ الشــاملة"‪،‬‬
‫فكيف ذلك؟‬

‫يتأسس المشروع الفلسفي لهابرماس على دراسة الوضعية الحالية للفكــر وإعــادة بنــاء‬
‫النظرية النقدية لفالسفة الجيل األول لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬واستبعاد العقـل الـذي يتأسـس على‬
‫التاريخية الفلسفية‪ ،‬وأسس عقال آخر جديدا انطالقا من المفهوم البراجمــاتي (التــداولي) للغــة‪،‬‬
‫وقصد من وراء ذلك بطريقة مباشرة نقد الهيمنة األداتية التي سدت الطرق أمام مجال الحرية‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وفي هذا اإلطار عمل هابرماس بكل ما أوتي من قوة فكريــة على إبطــال العقالنيــة‬
‫الكالسيكية‪ ،‬أي فلسفة الــوعي واألداتيــة ليؤســس محلهمــا عقالنيــة جديــدة تقــوم على الفاعليــة‬
‫التواصلية‪،‬ـ وفي هذا المجال يقول في عمله الشهير "القول الفلســفي للحداثــة‪ « :‬إن مــا نســميه‬
‫"العقالنية"ـ هي أوال القدرة التي تثبت الموضوعات التي يمكن أن تكون محل حــديث أو فعــل‬
‫تم اكتسابه والعمل به على أساس معرفة خاطئة‪ ،‬حيث أنه منذ زمن طويل والمذاهب الفلســفية‬

‫§ ‪ -‬المحمداوي علي عبود‪ ،‬اإلشكالية السياسية للحداثة‪ :‬من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.230 ،‬‬

‫‪80‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫تفرض فهما قاصرا للمعرفة وتقدم معرفة نسبية حول بعض األشياء الموجودة في هــذا العــالم‬
‫الموضوعي‪،‬ـ إن العقالنية كــانت مقياســا لموضــوع معــزول موجــه لخدمــة اســتمرار األفكــار‬
‫الخاطئــة‪ ،‬حيث تم تركــيز التفكــير على معــايير العقالنيــة انطالقــا من مواصــفات الحقيقــة‬
‫والنجاح‪ ،‬والتي تنظم العالقة بين المعرفــة والعمــل من أجــل تحقيــق غايــة االتفــاق على عــالم‬
‫األشياء الممكنة ‪ ،‬ولهذا يجب علينا اإلسراع في القيام بتصميم معرفة تقوم على التواصل‪ ،‬أي‬
‫تأسيس العقالنية على معايير كلية (شاملة)‪ ،‬يكون من خاللها الناس مســؤولين ومشــاركين في‬
‫هذا التفاعل الذي يتحرك وفقا للصالحية التي تمثل معرفة بينذاتية »*‪.‬‬

‫ويتأســس المشــروع الفلســفي لهابرمــاس كــذلك على اإلتيقــا‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار أقــام‬
‫هابرماس عالقــة جدليــة بين مفهــومي إتيقــا المناقشــة والتواصــل إلى درجــة أصــبح معهــا من‬
‫الصعب جدا فهم أحد هذين المفهــومين فهمــا صــحيحا دون الرجــوع لآلخــر‪ ،‬وخاصــة لمــا تم‬
‫التركيب بين المفهومين [من طرف كل من هابرماس وكارل أوتو آبل] إلخراج مفهــوم جديــد‬
‫أال وهو مفهوم اتيقا التواصل أو أخالقيات التواصل‪ ،‬وهذا ما أشار إليه عمر مهيبل في مقدمة‬
‫ترجمته لكتاب هابرماس "اتيقا المناقشة ومســألة الحقيقـة"‪ ،‬حيث كتب قـائال‪ « :‬إن هابرمــاس‬
‫يعتقــد بــأن اإلنســان كــائن اتيقي تواصــلي انطالقــا من أن التواصــل بمختلــف تجلياتــه الماديــة‬
‫والداللية هو رمز دال من رموز المرحلة المعاصرة‪ ،‬ويكفي أن العالم المادي ذاته صار قرية‬
‫صغيرة فكيف إذا تعلق األمر بما هو نظري وقابل للتجريد‪ ،‬ذلــك أن مفهــوم التواص ـلـ يالمس‬
‫حقوال معرفية متعددة كالسوســيولوجيا‪ ،‬األنثروبولوجيــا‪ ،‬الســيميائيات‪ ،‬التــداوليات‪ ،‬األلســنية‪،‬‬
‫النظرية النقدية ومبحثها الهام اتيقا المناقشة‪ ،‬وواضح تماما أن الخيط السحري الرابط بين كل‬
‫هذه الحقول هو اللغة [‪ ]...‬فكيف يصبح التواصل في نهاية المطاف تواصال اتيقيا؟ »† ‪.‬‬

‫*‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬القول الفلسفي للحداث ة‪ ،‬ترجم ة فاطم ة الجيوش ي‪ ،‬منش ورات وزارة الثقاف ة الس ورية‪ ،‬دمش ق‪ ،1995 ،‬ص‪،‬‬
‫‪. 482‬‬

‫†‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪( ،‬من مقدمة المترجم‪ ،‬ص‪.)8 ،‬‬

‫* ‪ -‬وهو الكتاب الذي أهداه إلى كارل أوتو آبل تكريما له لبلوغ ه ‪ 60‬عام ا‪ ،‬وش كرا ل ه على ثالثين س نة من الت دريس في الجامع ة‪.‬‬
‫أنظر‪.Habermas Jürgen, Morale et Communication, p21 :‬‬

‫‪81‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وهكذا يتبين لنا أن مفهوم أخالقيات التواصل أو إتيقا النقاش هي أحد المفاهيم المركزيــة‬
‫في فلسفة التواصل المعاصرة‪ ،‬وهو المفهوم الــذي تناولــه هابرمــاس بتعمــق وتوســع في أحــد‬
‫أعماله األساسية "األخالق والتواصل"ـ "‪ *"Morale et Communication‬وهــو العمــل‬
‫الــذي قــام فيــه بشــرح وتبســيط نظريــة الفاعليــة التواصــلية الــتي اقترحهــا كحــل لألزمــات‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار حــاول هابرمــاس تــبرير جمعــه بين نظريــة التواصــل وإتيقــا‬
‫النقاش‪ ،‬أي‪ :‬بين الفعل الذي تعود مرجعيته إلى العالم المعيش والنقــاش الــذي تعــود مرجعيتــه‬
‫إلى محتــوى الحجــاج*‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار أيضــا اعتــبر هابرمــاس التواصــل أساســا للحيــاة‬
‫االجتماعية‪ ،‬مؤكدا على أن الميزة األساسية لنظرية الفاعلية التواصليةـ هي اختبــار فرضــيات‬
‫التواصل اليومي والشــروط الضــرورية لنجاحه†‪ ،‬وحــدد مجــاال واســعا إلتيقــا النقــاش‪ ،‬فإتيقــا‬
‫النقاش عنده تدافع عن الفرضــيات المعرفيــة والكونيــة واإلجرائية‡‪ ،‬أي‪ :‬أن إتيقــا النقــاش هي‬
‫أداة يمكن استعمالها في كل مجــاالت الحيــاة االجتماعيــة‪ ،‬كمــا اعتــبر معــايير النقــاش معــايير‬
‫كونية‪ ،‬ألن الرأي الموضوعيـ الوحيد ‪ -‬في نظره ‪ -‬هو الرأي الذي ينطلق من كونية المعايير‬
‫ألنه في هذه الحالة يجسد بوضوح المصلحة المشتركة لكل الناس المعنــيين‪ ،‬ويلقى الــدعم من‬
‫طرفهم‪ ،‬ويترتب عنه بهذا االعتبار اعتراف بينذاتي§‪.‬‬

‫كما تنــاول هابرمــاس مســألة "أخالقيــات البيولوجيــا" (البيوإتيقــا) باعتبارهــا فرعــا من‬
‫فروع إتيقا النقاش في عمل أساسي آخر "مســتقبل الطبيعــة اإلنســانية‪ :‬نحــو نســالة ليبراليــة"‪،‬‬
‫وهنا طرح هابرماس عدة تساؤالت حول مخاطر تطور العلوم البيولوجية والطب‪ ،‬ودعــا إلى‬
‫ضرورة فتح نقاش وحوار أخالقي حــول هــذه المشــكالت‪ ،‬وســجل هابرمــاس في هــذا العمــل‬
‫تحفظات كثيرة حول بعض الفتوحات العلمية في مجال علم األحياء والطب في عصر ما بعــد‬
‫الميتافيزيقا والــدين « هــل يحــق للفلســفة أن تــدافع عن التحفــظ تجــاه المســائل المطروحــة في‬
‫*‬
‫‪- Habermas Jürgen, Morale et Communication, Traduction par Christian Bouchindhomme,‬‬
‫‪Flammarion, 1986, p, 78.‬‬
‫†‬
‫‪-Ibid, p, 81.‬‬
‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 89.‬‬

‫§‬
‫‪-Ibid, p, 86.‬‬

‫‪82‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫أخالقيــات النــوع اإلنســاني؟ »*‪ ،‬وتطــرق إلى أهم النتــائج الــتي توصــلت إليهــا األبحــاث‬
‫البيولوجيــة‪ ،‬وهي النتــائج الــتي أثــارت ضــجة كبــيرة على المســتوى العلمي وعلى المســتوى‬
‫االجتمــاعي‪ ،‬فعلى المســتوى العلمي تعتــبرا تطــورا مـذهال‪ ،‬ولكن على المســتوى االجتمــاعي‬
‫أثارت ردود أفعال قوية من طرف رجــال الــدين وفالســفة األخالق والسياســيين واإلعالمــيين‬
‫وغيرهم‪ ،‬خاصة فيما يتعلـق باالستنســاخ والتـدخل الـوراثي في األجنــة واإلجهـاض والمـوت‬
‫الرحيم وغيرها‪ ،‬حيث حذر هابرماس من هــذه المســائل « إن مـا يضــعه العلم تقنيــا بتصـرفنا‬
‫يجب أن يكون خاضعا لرقابة أخالقية تجعلنا غير قادرين على التصرف بها على هوانــا »†‪،‬‬
‫وعبر عن قلقه الكبير اتجاه هذه التطورات وطرح تساؤالت عديدة في هذا المجال خاصــة في‬
‫مسألة البرمجة الوراثية لألجنة حيث قال‪ « :‬ما هو تــأثير الحــق الوالــدي باتجــاه قــرار نســالي‬
‫بصــدد األوالد المــبرمجين وراثيــا »‡‪ ،‬وذهب إلى حــد بعيــد في نقــده للتطــور العلمي في هــذا‬
‫المجال حيث قال‪ « :‬إن الحياة في الفراغ األخالقي‪ ،‬وســط شــكل حيــاة ال تعــرف حــتى معــنى‬
‫اإلســـتخفاف األخالقي‪ ،‬إن حيـــاة كهـــذه ال تســـتحق أن تعـــاش »§‪ ،‬ونـــ ّوه هابرمـــاس ببعض‬
‫التشريعات التي منعت تجسيد هذه األبحاث « في ألمانيا لم يقم المشرع بمنع التشخيص ما قبل‬
‫الزرع واألبحاث اإلستهالكية على األجنة وحسب‪ ،‬بل منع ما هو مسـموح بـه في مكـان آخـر‬
‫مثل االستنســاخ العالجي واألمهــات المتطوعــات والمــوت الــرحيم‪ ،‬وحاليــا تعتــبر التــدخالت‬
‫التقنية على الساللة البزرية وعلى استنساخ األعضاء البشرية محظورة في العالم كله »**‪.‬‬

‫ومن األسس الهامة أيضا التي يتأسس عليها المشروع الفلســفي لهابرمــاس نجــد كــذلك‬
‫مفهوم الحجاج أو المحاجة‪ ،‬وهــو من المفــاهيم المركزيــة الــتي تقــوم عليهــا فلســفة التواصــل‪،‬‬
‫وذلــك ألنــه إذا كــان الهــدف من التواصــل هــو تحقيــق التفــاهم البينــذاتي كمــا عــبر عن ذلــك‬

‫* ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬مستقبل الطبيعة اإلنسانية‪ :‬نحو نسالة ليبرالية‪ ،‬ترجمة جورج كتورة‪ ،‬المكتبة الشرقية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،2006 ،1‬‬
‫ص‪(5 ،‬من التمهيد)‪.‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.34 ،33 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.95 ،‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.90 ،‬‬

‫**‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬مستقبل الطبيعة اإلنسانية‪ :‬نحو نسالة ليبرالية‪ ،‬ترجمة جورج كتورة ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.33 ،‬‬

‫‪83‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫هابرماس بقوله‪ « :‬يكفي‪ ،‬للحظة‪ ،‬افتراض نموذج الفاعلية الموجهة نحــو التفــاهم [‪ ]...‬أن مــا‬
‫هو أساسي في نموذج التفاهم هو االتجاه األدائي الذي يتبناه هؤالء الذين يشتركون في تفاعــل‬
‫[‪ ]...‬أنا بقيامي بالكالم ‪ -‬واآلخر الذي يتخذ مــني موقفــا إزاء هــذا العمــل الكالمي ‪ -‬يعتقــدان‪،‬‬
‫الواحد مع اآلخر‪ ،‬عالقة بين شخصــية »*‪ ،‬وهــذا النقــاش والحــوار بين األنــا والغــير يقتضــي‬
‫حسب هابرماس تبادل الحجج من أجل تحقيق التفاهم « إن النقاش بالحجة الذي تثيره مطــالب‬
‫المصداقية بوصفها افتراضية يمكن أن تعد شكل تفكري للفاعلية التواصليةـ ‪ -‬ذاتيــة المرجعيــة‬
‫تستغني عن الموضعة التي تفرضها مقوالت فلسفة الذات »†‪.‬‬

‫وهكذا يتضـح أن التداوليـة الشـاملة سـلطت الضـوء على شـروط العالقـات االجتماعيـة‬
‫باعتبار التفاعل التواصلي يؤسـس للنـاس عالمـا مشـتركا (العيشـ سـويا أو العيش معـا)‡‪ ،‬أمـا‬
‫اإلتيقا فتمثل شرطا قبليا للتواصل « اإلتيقـا عنـد هابرمـاس هي شـكل من أشـكال التحـرر من‬
‫التشويه والوقاية منه‪ ،‬وهي تهــدف إلى تحديــد االفتراضــات التداوليــة للغــة‪ ،‬وإلى إبانــة شــكل‬
‫التأسيس البينذاتي »§‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة هنا إلى أن هابرماس وجه مالحظات نقدية عديدة إلى زميله كارل أوتو‬
‫آبل في إطار الحـوار الفلسـفي الـذي جـرى بينهمــا حـول تطــبيق إتيقــا النقـاش [ ســنعود إليهـا‬
‫بالتفصيل في المطلب األول من المبحث األول من الفصل الرابع]‪.‬‬

‫وخالصة القول أن المشروع الفلسفي لهابرماس والمعروف بـ"العقالنية التواصلية"‬


‫هو مشروع انطلق من « التركيز على نقد مفهوم العقل األداتي كما حدده ماكس فييبر وبلوره‬
‫فالســفة مدرســة فرانكفــورت األوائــل وعلى رأســهم هوركهــايمر »**‪ ،‬وانتهى بالــدعوة إلى‬

‫* ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬القول الفلسفي للحداثة‪ ،‬ترجمة فاطمة الجيوشي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.455 ،454 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.495 ،‬‬

‫‪-Besnier Jean-Michel, Histoire de la philosophie moderne et contemporaine ; figures et ouvres,‬‬


‫‡‬

‫‪Op.Cit, p, 616.‬‬

‫§ ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪( ،‬مقدمة المترجم‪ ،‬ص‪. )14 ،‬‬

‫** ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪( ،15 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫تأســيس « عقــل منفتح وجــدي يعمــل على تنظيم العالقــة بين المعرفــة المجــردة والواقــع‬
‫االجتماعي كما هو الحال عند بارسونز ‪ ،*T.Parsons‬وهذا التوجه يعكس انهمام هابرمــاس‬
‫بالنظرية النقدية وحرصه الشديد على تطويرها بمــا يتناســب مــع مســتوى التقــدم الــذي عرفــه‬
‫المجتمع الغربي‪ ،‬وبخاصة من خالل تطوير لغة التخاطب والتواصل بين البشر وإقامة أســس‬
‫جديدة إلتيقا المناقشة »*‪.‬‬

‫ولكن المشروع الفلسفي التواصليـ لهابرمــاس لم يســلم من االنتقــادات الشــديدة‪ ،‬فهــو‬


‫كما يرى الباحث اإلنجليزي إيان ك ريب ‪ Ian Craib‬في كتابه "النظري ة االجتماعي ة من‬
‫ﭘارسونز إلى هابرماس"« إن هابرماس لم يثبت وال يستطيع أن يثبت أولوية فعل التواصــل‬
‫على الفعـل االسـتراتيجي‪ ،‬وأنـا شخصــيا غـير مقتنـع بـأن ذلــك يجب أن يــبرهن عليــه بصــفة‬
‫مطلقة‪ ،‬فالمهم هو فكرة التواصل ذاتها وكونها تنبع من اللغة‪ ،‬فهذه الفكرة تزودنا بإمكانيــة أن‬
‫يكون لدينا مثل أعلى نقيس بمقتضــاه األشــياء وننقــدها‪ ،‬فضــال عن أنــه يزودنــا بتصــور آخــر‬
‫للعقل »†‪ ،‬وهو كذلك كما يرى الفيلســوف األمــريكي دافي د راسمس ن ‪ D.Rasmussen‬أن‬
‫المشروع الفلسفي التواصــلي لهابرمــاس يحتــوي على تنــاقض فاضــح وعــبر عن ذلــك قــائال‪:‬‬
‫« يظهر أن مشروع هابرماس بمجمله يعاني من تناقض في األهــداف‪ ،‬فــإذا أخــذنا مشــروعه‬
‫األكبر بأوضح معانيه‪ ،‬فسيظهر أن محاولة تأمين أولوية التواصــل في فلســفة اللغــة تجهضــها‬
‫تلك التفرقة التي يقيمها بين النسق والحياة اليومية ‪ -‬ذلك أن تلك التفرقة تقيد مجــاالت أساســية‬
‫من التجربة االجتماعيــة للبشــر من الشــكل عــبر عمليــات تنطلــق من التواصــل »‡‪ ،‬ويضــيف‬
‫قائال‪ « :‬أما إذا أخذنا مشروعه من حيث النسق االجتماعي فــإن ظــواهر بعينهــا فحســب يمكن‬
‫أن تصنف تحت مقولـة اإلجمـاع ولـذا فـإن حجتـه الـتي تـدعم التحـول اللغـوي نحـو النظريـة‬
‫االجتماعية‪ ،‬وحجته التي تؤيد إقامة تفرقة بين النسق االجتماعي والحياة اليومية همــا حجتــان‬
‫* بارس ونز ت الكوت ‪( Talcote Parsons‬ت ‪ ،)1979‬ع الم اجتم اع أم ريكي‪ ،‬ص احب نظري ة نقدي ة اجتماعي ة ش هيرة تع رف‬
‫بالوظيفية البنائية‪ ،‬وهي النظرية التي كان لها تأثير كبير على تبلور فكر هابرماس‬

‫* ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪( ،15 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫† ‪ -‬كريب إيان‪ ،‬النظرية االجتماعية من بارسونز إلى هابرماس‪ ،‬ترجمة محمد حسين غلوم‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬المجلس الوطني‬
‫للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،1999 ،‬ص‪.362 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬كريب إيان‪ ،‬النظرية االجتماعية من بارسونز إلى هابرماس‪ ،‬ترجمة محمد حسين غلوم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.362 ،‬‬

‫‪85‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫على طــرفي نقيض‪ ،‬إذ أن الرغبــة في تــأمين أولويــة التحــرر من اإلطــار األول (اللغــة) قــد‬
‫تقوضت بمحاولة تقييد التحرر من اإلطار الثاني (المجتمع) »*‪.‬‬

‫هذه إذن هي أهم المميزات التي اتصف بها المشــروع الفلســفي التواصــلي لهابرمــاس‬
‫وأهم االنتقادات التي وجهت له‪ ،‬فماذا عن المش روع الفلس في التواص لي لك ارل أوت و آب ل؟‬
‫وإلى أي مدى يمكننا القول بحث كارل أوتو آبل عن أفضل األسس لإلتيقا والتواصل مقارن ة‬
‫مع هابرماس؟‬

‫ب ‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬كارل أوتو آبل والتفكير مع هابرماس ضد هابرماس‬

‫رغم االعتراضات والمالحظات النقدية العديدة التي وجهها هابرمــاس إلى آبــل‪ ،‬فـإن‬
‫هذا األخير استمر في التفكير خارج إطار "التداولية الشاملة" التي رســم معالمهــا هابرمــاس‪،‬‬
‫وأسس لنفسه إطارا خاصا تعرف به فلسفته أطلق عليـه اسـم "التداوليـة الترنسـندتالية"‪ ،‬وهـو‬
‫إطار أو سياق يعتمــد أساســا على المحاججــة والنقــاش‪ ،‬حيث يــرى آبــل أن المحاججــة ليســت‬
‫مجرد لعبة لغوية بل هي أساس النشاط التواصلي حيث يقول في هــذا الصــدد‪ « :‬إن المناقشــة‬
‫الحجاجية ليسـت لعبـة قوامهـا اللغـة "‪ "jeu de langage‬يكـون االنخـراط فيهـا من عدمـه‬
‫سيان‪ ،‬بل إنها تعد عماد النشاط التواصلي بما هو ماهيــة أساســية ذاتيــة وبينذاتويــة في الــوقت‬
‫ذاته »†‪ ،‬ومعنى ذلك حسب آبل أننا عنــدما نحــاجج في نقــاش مــا فنحن ملزمــون على اعتبــار‬
‫اآلخر شريكا مساو لنا سواء أكانت هذه المحاججة معنا أو ضدنا‪.‬‬

‫ولقد وجه كارل أوتو آبل نقدا شديدا لمفهوم "التداوليةـ الشــاملة" الــذي اقترحــه هابرمــاس‬
‫وتساءل حول أسسه‪ ،‬وكيف يمكنه أن يكون ُمرضيا وكافيا لحل األزمات االجتماعية؟ ‪.‬‬

‫حيث ال يوافق آبل على ما ذهب إليــه هابرمــاس‪ ،‬فهــو يــرى أن الســلطة المعياريــة الــتي‬
‫أسندها هابرمــاس للمجموعــة التواصــلية لكي تؤخــذ بعين االعتبــار يجب أن تســتجيب لبعض‬
‫الشروط « لن أتمكن من انجاز ذلك إال بشرط إتمامها بتأسيس تداولي ‪ -‬ترنسندنتالي‪ ،‬ما يعني‬
‫* ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.363 ،362 ،‬‬

‫† ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪( ،19 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫أنني مجبر كأحد بقايا الفلسفة المجردة للتاريخ التي مــرت بصــمت ودون أن يتفطن إليهـا أحــد‬
‫إلى حــد مــا‪ ،‬على رفض مطلب هابرمــاس‪ ،‬والــذي بطريقــة ضــمنية يــود أن يتضــمن الوجــه‬
‫الحجاجي تأسيسه الخاص والكافي »*‪.‬‬

‫إن ما يرفضه آبل أساسا بالنســبة لهبرمــاس هــو فكــرة أن تكــون البراجماتيــة (التداوليــة)ـ‬
‫الشاملة هي األساس اإلمبريقي البارز للعقل التواصلي‪ ،‬فبالنسبة آلبــل فــإن اقــتراح هابرمــاس‬
‫استخدام مرجعية التفاهم للعالم المعيش في النشاط التواصليـ قــد فشــل كمــا تثبت ذلــك الوقــائع‬
‫نظرا لسطحيتها وزيفها وعدم قدرتها على تأسيس أساس نهائي لألخالقية (اإلتيقــا )‪ ،‬ولتــبرير‬
‫رفضه للتداولية (البراجماتية) الشاملة‪ ،‬بـدأ آبـل بتحديــد مفهـوم الفرضـية الســياقوية في تأملـه‬
‫الفكري إلتيقا النقاش‪ ،‬كما ورد ذلــك في الجــزء الثــاني من كتابــه المناقشــة والمســؤولية حيث‬
‫قال‪ « :‬إن إتيقــا المناقشــة يجب أن تفهم على مســتويين‪ :‬يجب أوال أن نؤســس فلســفيا المبــادئ‬
‫التي تكون كإجراءات رســمية ألي نقــاش نظــري أو عملي‪ ،‬وثانيــا أن تكــون كــل الفرضــيات‬
‫النظرية الالزمة عن المبادئ كمستوى ثاني للنقاش في الفضاء العمومي »†‪ ،‬وهكذا يتضح أن‬
‫هناك فرقا منهجيا كبيرا بين آبل وهابرماس‪.‬‬

‫وبالعودة إلى العمل الشهير آلبل "التفكير مع هابرماس ضــد هابرمــاس" نجــده ينطلــق‬
‫في نقده لهابرماس من تساؤالت معينــة ثم يقــوم بعــرض مواقــف ومــبررات هابرمــاس ليــبين‬
‫الخلل المنطقي الموجود في هذا المشروع النظري المعروف بالتداولية الشــاملة‪ ،‬أي أنــه كــان‬
‫يعرض مسلمات خصمه بكل أمانة علمية ثم يستخلص منها نتائج غير منطقية‪ ،‬ونقطة البدايــة‬
‫في ذلك هي تحديــد آبــل لمجــال النقــاش مــع صــديقه هابرمــاس‪ ،‬وهــو يقــول في هــذا الصــدد‪:‬‬
‫« ودائما في إطار هذا الخالف‪ ،‬ينبغي أن أوضح هنا أنه ال يتعلق بمشاريعنا الفلسفية الخاصة‬

‫* ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.35 ،‬‬

‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2: contribution à une éthique de la responsabilité ,‬‬
‫‪traduit de l’allemand par christaian bouchindhomme et al. 2, Op.Cit, p, p, 57, 58.‬‬

‫‪87‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫بمقدار ما يعني إستراتيجياتنا المفهومية والحجاجية‪ ،‬كما ينبغي أن أؤكد أن هذا الخالف يتعلق‬
‫أساسا بفكر هابرماس الذي يهدد انسجامه‪ ،‬بل يهدد حقيقة وجوده »* ‪.‬‬

‫ويدخل آبـل بطريقـة مباشـرة في حـواره مـع هابرمـاس بطـرح تسـاؤول أساسـي بقولـه‪:‬‬
‫« على أن مـا يبـدو غامضـا ومثـار جـدل بيـني وبين هابرمـاس هـو اإلجابـة الـتي يسـتوجبها‬
‫السؤال التالي‪ :‬هل يكفي (أو هل من الضروري) لقيام مناقشة فلسفية الرجوع إلى نفس موارد‬
‫التفاهم المتبادل الموجودة في العـالم المعيش؟ »†‪ ،‬ومعـنى ذلـك أن نقطـة الخالف األوليـة بين‬
‫الفيلســـوفين (آبـــل وهابرمـــاس) هي طبيعـــة "مـــوارد" أو "فرضـــيات" أي "منطلقـــات" أو‬
‫"مسلمات" النقاش الفلسفي‪ ،‬وفي هــذا المجــال يــرى آبــل أن هــذه المــوارد يجب أن « تؤســس‬
‫إلمكانية قيام الشك ولحدود الشك‪ ،‬وفي الوقت ذاتـه تكـون التأسـيس الفلسـفي النهـائي لمـزاعم‬
‫الصــالحية‪ ،‬وأخــيرا فرضــيات تتجــاوز من حيث المبــدأ المــوارد النســبوية ألشــكال الحيــاة‬
‫التاريخيــة‪-‬الجــائزة‪ ،‬وهي بهــذا المعــنى تكــون ترنســندتالية »‡‪ ،‬في حين يســتبعد هابرمــاس‬
‫التأسيس النهــائي‪ ،‬وهــو نقطــة الخالف الجوهريــة بينهمــا‪ ،‬وفي هــذا الصــدد يقــول آبــل‪ « :‬إن‬
‫هابرماس ينتمي إلى أولئك الذين يرغبون‪ ،‬عن قصــد‪ ،‬في التملص من البــديل الــذي اقترحــه‪،‬‬
‫فهو من جهة يود الحفـاظ على شـمولية مـزاعم الصـالحة المسـاوقة للقـول اإلنسـاني (معـنى‪،‬‬
‫مصــداقية‪ ،‬معياريــة)‪ ،‬وكــذلك طــابع الالمشــروطية والمثاليــة الــذي ينتمي إلى االفــتراض‬
‫الالحــدثي‪ ،‬وإلى التوقــع الفعلي لتوافــق ممكن بين كــل المشــتركين المحتملين‪ ،‬والمشــمولين‬
‫بالمحاجة حول مشروعية مزاعم الصالحة »§‪ ،‬وهـو الطـرح الـذي يرفضـه آبـل رفضـا تامـا‬
‫« أنا مجبر باعتباري أحد بقايا الفلسفة المجردة للتاريخ على رفض مطلب هابرماس »**‪.‬‬

‫*‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.22 ،21 ،‬‬

‫†‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.24 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.26 ،‬‬

‫§‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هايرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.28 ،‬‬

‫**‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.35 ،‬‬

‫‪88‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ومنذ البداية يعترف آبل بالتأثير الكبير الذي أحدثــه هابرمــاس على المســرح الفلســفي‪،‬‬
‫ويعترف من جهة أخــرى كــذلك بصــعوبة المهمــة الملقــاة على عاتقــه في الــدفاع عن نظريتــه‬
‫الفلسفية "التداوليــة الترنســندتالية" نظــرا للشــهرة الــتي اكتســبتها نظريــة "التداوليــة الشــاملة"‬
‫ووزن صاحبها "هابرماس" في الوسط الفلسفي‪ ،‬وفي هــذا الشــأن يقــول آبــل‪ « :‬إن الكثــيرين‬
‫ســيجدون صــعوبات كبــيرة في فهم الحــد األدنى من المعــنى الــدقيق والحــافز العقالني للبــديل‬
‫التداولي‪-‬ـالترنسندتالي الذي أقوم ببلورته‪ ،‬فهم يعتقدون‪ ،‬بما أنهم قد فهموا المعنى والحــافز أن‬
‫بإمكانهم أن يروا في ذلك بداية تراجع‪ ،‬سواء تعلق األمر بمبدأ قابلية الخطأ‪ ،‬أو بالمفاهيم التي‬
‫أضحت واضحة بفعل تداولية اللغــة وتــاريخ التأويليــة وســواء كــان يعــني ذلــك حدثيــة مــا‪ ،‬أم‬
‫تاريخية ما‪ ،‬أم جواز كل ما يتعلــق بفهم مســبق وباتفــاق مــرحلي في شــكل تفــاهم متبــادل »*‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أن موقف هابرماس مثّل تحديا فلسفيا وعائقا معرفيا كبيرا أمام كــارل أوتــو آبــل‪،‬‬
‫كان عليه أوال تفنيده من أجل تجاوزه لتأسيس موقفه ونظريتــه التواصــلية البديلــة الــتي أطلــق‬
‫عليها تســمية "التداوليــة الترنســندنتالية"‪ ،‬وهي النظريــة الــتي ســاهمت في رفــع حــدة النقــاش‬
‫الفلسفي في ألمانيا وخارجها آنذاك‪.‬‬

‫ولكن هذه الصعوبات لم تمنع آبل من الدخول في صــلب الموضــوع ومناقشــة خصــمه‬
‫هابرماس حول نظريتــه المتعلقــة بــ « إرجــاع جميــع مصــادر التفــاهم المتبــادل إلى الصــورة‬
‫الخلفية لعالم معيش »†‪ ،‬والتي اســتخدم فيهــا هابرمـاس ‪ -‬حســب آبــل ‪ -‬حجـتين أساســيتين من‬
‫أجل إثباتها والدفاع عنها‪ ،‬ومبـدئيا يقـول آبـل الـذي يهـدف إلى تفنيـد وإبطـال هـذا الـرأي عن‬
‫هاتين الحجتين‪ « :‬الوجه األول في اعتقـادي يبــدو وكأنــه في حاجـة إلى أن يكمــل‪ ،‬وهــو فعال‬
‫يمكنه ذلك‪ ،‬بالمقابل فإن الوجه الثاني ما هو إال محصلة لما يفتقر إليه الوجــه األول »‡‪ ،‬وهــذا‬
‫قول صريح منذ البداية ‪ -‬من طــرف آبــل ‪ -‬يــدل على رفضــه للحجج والمســلمات الــتي أســس‬
‫عليها هابرماس موقفه واستراتيجيته التشييدوية (إعادة البناء)‪.‬‬

‫* ‪-‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.27 ،‬‬

‫† ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪. 32 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 34 ،‬‬

‫‪89‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ثم يقوم آبل بعد ذلك بعرض هاتين الحجتين بكل أمانــة علميــة‪ ،‬وتتمثــل الحجــة األولى‬
‫في ما يلي‪ « :‬الوجه األول من أوجه الفكر‪ ،‬في المحاجــة المعنيــة‪ ،‬يتعلــق باس تحالة قي ام فهم‬
‫معياري محايد‪ ،‬ويمكننا اســتجالء ذلــك في القضــايا التاليــة‪ :‬ال يمكننــا فهم غالبيــة المنطوقــات‬
‫اإلنسانية (ومن ثمة فهم الواقع المركب رمزيا‪ ،‬والـذي يشـكل مجــال اهتمـام العلــوم اإلنسـانية‬
‫واالجتماعية) دون أن نفهم في وقت متزامن‪ ،‬ولو كان ضــمنيا على األقــل‪ ،‬مــزاعم الصــالحة‬
‫الشــاملة‪ ،‬وأن نصــدر حكمــا قيميــا حــول األســباب الــتي تــؤدي إلى تأييــد أو معارضــة هــذه‬
‫المنطوقات »*‪ ،‬وبعد عرضه لهذه الحجة أضاف إليها تحليال وتوضيحا‪ « :‬بهــذا المعــنى [‪]...‬‬
‫عملية مثل هذه ال بد أن تفضي إلى عقلنة للتفاهم الخاص بالعالم المعيش‪ ،‬على أمل أال توضع‬
‫هذه الموارد ذاتها موضع مراجعة [‪ ]...‬أما فيما يتعلق بزعم الصالحة المحوري في المستوى‬
‫األخالقي الخاص بمعيارية النشــاطات المتعلقــة بمعــايير النشــاط وأفعــال الكالم المرتبطــة بــه‬
‫[‪ ]...‬هــذا يــدل على أن في كــل فعــل كالمي‪ ،‬وظاهريــا في كــل فعــل كالمي معيــاري‪ ،‬توجــد‬
‫بطريقة مسبقة وغير واقعيــة‪ ،‬بنيــة المســاواة بين الحــق والتضــامن الخاصــة بوضــعية لغويــة‬
‫مثلى »† ‪.‬‬

‫وبعد عرض هـذه الحجــة وتوضـيحها ينتقـل آبــل إلى مناقشــتها ونقـدها‪ ،‬وهــو في هــذا‬
‫الصدد يقول‪ « :‬أستطيع أن أقبل عن طيب خــاطر الوجــه الحجــاجي الــذي أنــا بصــدده‪ ،‬فهــو‪،‬‬
‫وبمعنى معين من المفترض أن يحل محل الفلسفة المجردة للتــاريخ‪ ،‬الــتي ســأدافع عنهــا فيمــا‬
‫بعد ضد أي اعتراضــات محتملــة‪ ،‬لكن لن أتمكن من إنجــاز ذلــك إال بشــرط إتمامهــا بتأســيس‬
‫نهائي تداولي‪ -‬ترنسندنتالي »‡‪ ،‬ومعنى هذا أن آبل ال يرفض هذه الحجة رفضا قاطعا ونهائيــا‬
‫ولكنه يعتبرها حجة ناقصــة ال بــد من إتمامهــا بتأســيس نهــائي يجعلهــا تداوليــة‪ -‬ترنســندنتالية‬
‫وليس تداولية‪ -‬شاملة‪ ،‬ثم يواصل مناقشته لهذه المســلمة أو الحجــة قــائال‪ « :‬الوجــه الحجــاجي‬
‫األول يقتضــي‪ ،‬في اعتقــادي‪ ،‬تتمــة لكي أظهــر‪ ،‬وعن طريــق إعــادة بنــاء نقديــة أنهــا ال تكفي‬

‫* ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 34 ،‬‬

‫†‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هايرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪. 35 ،34 ،‬‬

‫‡‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 35 ،‬‬

‫‪90‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫لتأسيس النظرية النقدية معياريا‪ ،‬وذلــك أن هــذا الوجــه هــو التعبــير عن اســتحالة قيــام أي فهم‬
‫معياري محايد يتعلق بأفعال اللغة اإلنسانية‪ ،‬وسأحاول فيمــا بعـد أن أبين أن الوجــه الحجـاجي‬
‫لتأسيس نهــائي تــداولي‪ -‬ترنســندنتالي لمبــدأ المناقشــة وإســقاطاته التاريخيــة‪ ،‬ولمبــدأ االنتظــام‬
‫الذاتي للعلوم المؤسسة هو تكملة تناسب‪ ،‬من حيث االنسجام‪ ،‬مشروع العلم النقـدي المؤسـس‪،‬‬
‫أكثر مما تناسب فكرة هابرماس المتعلقة باستبدال التأسيس النهائي باللجوء إلى أخالقية العــالم‬
‫المعيش »*‪.‬‬

‫وبعد عرض الحجة األولى ومناقشتها‪ ،‬انتقل كارل أوتو آبل إلى عرض الحجة الثانية‪،‬‬
‫والتي عبر عنها بقوله‪ « :‬يعتقد هابرمـاس بشـكل جلي‪ ،‬أنـه بإمكانـه القبـول دونمـا حاجـة إلى‬
‫إقامة أساس آخر عدا التواصل في العالم المعيش »†‪ ،‬ولتوضيح هــذه الحجــة قــدم آبــل مقطعــا‬
‫نصــيا كســند نقلــه من العمــل الشــهير لهبرمــاس "نظريــة الفاعليــة التواصــلية"‪،‬ـ حيث يقــول‬
‫هابرماس بصريح العبارة‪ « :‬لسنا في حاجة للتثبت بمطلبية تأسيس نهــائي‪ ،‬حــتى لــو وضــعنا‬
‫في اعتبارنا أهميته المفترضة بالنسبة للعالم المعيش »‡‪ ،‬ومعنى هذا حسب آبل « أن التأسيس‬
‫األخالقي مستحيل بالنسبة لهابرماس‪ ،‬وينبغي أن يســتبدل بــاللجوء إلى األخالقيــة الــتي كــانت‬
‫دائما منغرسة في بنية النشاط التواصليـ الــتي بــدونها ســيختزل الفــرد إلى مجــرد تــدمير ذاتي‬
‫»§‪ ،‬ثم يدخل آبل مباشرة في مناقشة هذه الحجة‪ ،‬وهو يركز هنا خاصة على الجــانب المنطقي‬
‫لهذه الحجة بصفة خاصة ولنظرية هابرماس التواصلية بصــفة عامــة‪ ،‬وفي ذلــك يقــول‪ « :‬إن‬
‫السياق الخاص بمسألة التأسيس وحده يفسر المقطع الذي ذكرته‪ ،‬والذي ال يتوافق إطالقــا مــع‬
‫الخط الرئيسـ لفكر هابرماس‪ ،‬ذلك أنه يتيح لنا رؤيته وكأنه رد فعــل نــاتج عن تحــد يعــود إلى‬
‫غياب مخرج (عكس ما يعتقد هابرماس) بالنسبة لتأسيس فلسفي نهــائي لألخالق‪ ،‬وعليــه فــإن‬
‫هذا المقطع يندرج بكل تأكيد ضمن صورة فكرية عملت أعمال هابرماس على إظهارهــا‪ ،‬من‬

‫*‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.42 ،‬‬

‫† ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.35 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هايرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.38 ،‬‬

‫§ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.37 ،‬‬

‫‪91‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الناحيــة المنطقيــة‪ ،‬بمثابــة دور فاســد‪ ،‬إن لم نقــل في شــكل مصــادرة على المطلــوب »*‪ ،‬ثم‬
‫يواصل آبل نقده المنطقي لهابرماس قائال‪ « :‬يبدو لي أن اإلستراتيجية الحجاجيــة لهابرمــاس‪،‬‬
‫على خلفيــة ســعيها إلى االقتصــاد في التميــيز المنهجي بين الفلســفة والعلم المؤســس‪ ،‬القابــل‬
‫للتحقق تجريبيا‪ ،‬هي بالبداهة غير منسجمة‪ ،‬أو غـير متماســكة‪ ،‬وأعتقــد أن هابرمــاس‪ ،‬ســيجد‬
‫نفسه يوما ما مجبرا على الحسم فيما إذا كان ينــوي االســتمرار في الالإنســجام أو الالتماســك‪،‬‬
‫أو أن يعيد للفلسفة وظيفتها التأسيسية األصلية »†‪ ،‬وذهب كــارل أوتــو آبــل إلى أبعــد من ذلــك‬
‫حين اكتشف التناقض المنطقي الفاضح في النسق الفلسفي العام لهابرماس‪ ،‬حيث يقــول‪ « :‬إن‬
‫الحجة األقوى التي تظهر أن هابرماس مــايزال يتبــع في الواقــع إســتراتيجية مؤسســة مختلفــة‬
‫(وأقوى) عما يجيزه‪ ،‬تظهر أنه هو ذاته‪ ،‬وفي المواضع األكثر حسما في أحدث مؤلفاته "قول‬
‫الحداثة"‪ -‬المتناقض لألسف مع ما يتعلق بتأسيس اإلتيقا لم يستعن قــط بأيــة حجج تجريبيــة أو‬
‫شبه تجريبية‪ ،‬إال من إجراء يتمثل في استخالص النتيجــة من تنــاقض صــيغوي »‡‪ ،‬كمــا أكــد‬
‫آبل في نهاية عمله هذا على الخلل المنطقي الــوارد في نظريــة التداوليــة الشــاملة لهابرمــاس‪،‬‬
‫وهو الهدف الذي حدده آبل من وراء هذا العمل وقصد إليه حيث يقول‪ « :‬لعل القارئ [‪ ]...‬قد‬
‫الحظ أن الهدف المنشود هنا هو رفض الدور الفاسد لالستدالل الزائف الجوهري »§‪.‬‬

‫ولم يتوقف آبل عند حد الكشف عن التناقض المنطقي الموجـود في هـذه المحاجـة‪ ،‬بـل‬
‫تعرض أيضا إلى محتوى ومضمون هــذه الحجج ومــا يــترتب عليهــا في الواقــع العملي‪ ،‬وفي‬
‫هذا الصدد يقــول آبــل منتقــدا التداوليــة الشــاملة‪ « :‬يبــدو أن نظريــة الفعــل التواصــلي بنواتهــا‬
‫التداوليــة الشــكلية وبتفريعاتهــا من أنمــاط مختلفــة من عقالنيــة الفعــل‪ ،‬ومن ثمــة التفريــق بين‬
‫"نسق" و"عالم معيش" ليست متضمنة في الفهم والحكم الملموسين على أســباب الفعــل الــتي‪،‬‬
‫وبموجبها‪ ،‬تقوم بصياغة منطوقات تدعى الشمولية الشكلية »**‪ ،‬وهي تقريبــا نفس المالحظــة‬
‫* ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.41 ،‬‬

‫† ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.71 ،70 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هايرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.71 ،‬‬

‫§ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.85 ،‬‬

‫** ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.54 ،‬‬

‫‪92‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫التي وجهها له المفكر األمريكي دافيد راسمسن [كما أشرنا إلى ذلك في المبحث السابق]‪ ،‬وقد‬
‫أخذ النقد هنا أيضا طابع االستفهام حيث تساءل آبل قــائال‪ « :‬من أين يســتمد المفهــوم الخــاص‬
‫بالعلوم االجتماعية والمؤسسة (النقدية) ‪-‬الذي يفترض فيه أن يكون في مســتوى مباشــرة حكم‬
‫تقييمي ‪ -‬مقاييس حكم عقالني على األسباب‪ ،‬وبخاصة مقاييس الحكم الالزمة إلعــادة تأســيس‬
‫نقدية لمسارات العقلنة المجاز بمقتضى مزاعم الصــالحة الثالث للقــول اإلنســاني؟»*‪ ،‬واتخــذ‬
‫االستفهام النقدي عند آبل أحيانا طابع التعجب من هابرماس‪ ،‬حيث يقول آبــل‪ « :‬كيــف يمكننــا‬
‫أن نتصور في الحقيقة أخالقا ال عقلية ستحل الطابع الالمشروط للصالحة في نهايــة المطــاف‬
‫وتعيده إلى فرضية قابلة للتحقق تجريبيــا؟ »†‪ ،‬وعلى العمــوم فقــد وجــه آبــل مالحظـات نقديــة‬
‫عديدة إلى هابرماس ال يتسع المجال هنا لذكرها كلها واقتصرنا على ذكر أهمها وأبرزها‪.‬‬

‫وبعد نقد نظرية الفعل التواصلي الهابرمسية ونواتها األساسية التداولية الشاملة‪ ،‬انتقــل‬
‫آبل إلى عرض وتحليل اقتراحه البديل‪ ،‬والمتمثل في التداوليــة الترنســندنتالية‪ ،‬وذلــك انطالقــا‬
‫من تســاؤول أساســي « م ا هي الص ورة أو الوج ه الحج اجي األك ثر ص الحة لتأس يس علم‬
‫مؤسس (النظرية النقدية)؟ ه ل ه و التأس يس الت داولي ‪-‬الترنس ندنتالي النه ائي واالنتظ ام‬
‫ال ذاتي أم أنه ا تب ديل ه ذه اإلس تراتيجية المؤسس ة ع بر تس خير أخالقي ة خاص ة بالع الم‬
‫المعيش‪ ،‬الموضوعة موضع تساؤول بشكل مسبق؟ »‡‪.‬‬

‫في حقيقة األمر‪ ،‬إن هذا التساؤل هو تحصيل حاصــل‪ ،‬ألن النقــد الــذي وجهــه آبــل في‬
‫هذا العمل إلى هابرماس هو إجابة ضمنية ومسبقة‪ ،‬حيث أنه قال بصريح العبارة ‪ -‬قبل طرح‬
‫هذا التساؤول‪ « :‬إن المزاعم ببلوغ صالحة أخالقية شاملة ال نصادفها فقط في أخالقية العــالم‬
‫المعيش‪ ،‬باإلضافة إلى أن هذه المـزاعم ذاتهـا غـير قـادرة على مواجهـة أي اعـتراض عليهـا‬
‫بأنها مجرد أوهام بوضــعها موضــع مســاءلة عقليــة‪ ،‬لكن‪ ،‬وعلى خالف ذلــك‪ ،‬ولكي نشــرعن‬
‫بصفة نهائية البد‪ ،‬برأي‪ ،‬من تأسيس عقالني نهائي تداولي ‪-‬ترنسندنتالي ال يســتند فقــط إلى‬

‫* ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.63 ،‬‬

‫† ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هايرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.65 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.66 ،‬‬

‫‪93‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫موارد العالم المعيش التي وضعها التنوير موضع تساؤول‪ ،‬ولكنه يستند أيضا إلى افتراضــات‬
‫المحاجة التي تستعين بها المساءلة العقلية »*‪ ،‬وإجابة عن هذا التساؤول أيضا ‪ -‬بعد طرحــه ‪-‬‬
‫يقول آبل مؤكدا ما سبق ذكــره‪ « :‬إن تأسيسا ال جــدال فيــه لــزعم بصــالحة العلــوم المؤسســة‬
‫المعيارية المقدمة ‪-‬على أنها نظرية نقدية مجددة ‪-‬ال ينبغي أن ينظر إليه من واقع أن ه م زاعم‬
‫وموارد خاصة بالع الم المعيش‪ ،‬ولكن انطالقــا من وجه ة نظ ر المناقشة الــتي يتم الوصــول‬
‫إليها دائما من خالل وضع مــزاعم العــالم المعيش ومــوارده موضــع تســاؤل‪ ،‬الخاصــة بــالعلم‬
‫والفلسفة‪ :‬أي وجهــة نظــر خاصــة بالمناقشــة الحجاجيــة الــتي ال يمكن تجاوزهــا‪ ،‬ومن هنــا ال‬
‫ينبغي فص ل المناقش ة عن الع الم المعيش »†‪ ،‬وبـذلك يتضـح أن التأســيس النهـائي التـداولي‬
‫الترنسندنتالي عند آبل ال يتأسس فقط على موارد العالم المعيش الــتي أســس عليهــا هابرمــاس‬
‫تداوليته الشاملة‪ ،‬بل يتأسس على مــوارد العــالم المعيش والمناقشــة الحجاجيــة‪ ،‬ويواصــل آبــل‬
‫تأكيــده على أهميــة المناقشــة الحجاجيــة قــائال‪ « :‬إن مب دأ المناقشة اإللــزامي في المســتوى‬
‫التداولي ‪-‬الترنسندنتالي ينبغي أن يكون‪ ،‬بما هــو ش رط إلمكانيــة إعــادة بنــاء التــاريخ كواقعــة‬
‫وكغاية للتاريخ المفترض إعادة بنــاءه »‡‪ ،‬ويالحــظ من خالل هــذا العمــل أيضــا إصــرار آبــل‬
‫على تقديم اقتراحه "التداوليةـ الترنسندنتالية" على أنــه المخــرج األفضــل إلشــكالية العقالنيــة‪،‬‬
‫حيث يقول‪ « :‬إن البديل الهيكلي ‪ -‬األساسي إلستراتيجية مؤسسة تداوليــة ‪-‬ترنســندنتالية الــتي‬
‫أتبناها‪ ،‬بمعنى التأسيس من "األعلى" انطالقا من نقطة التأسيس النهــائي الفكــري للمحاججــة‪،‬‬
‫يمكنه أن يتقدم خطوات إلى األمام‪ ،‬مع اإلقرار‪ ،‬في الوقت ذاته‪ ،‬بعدم استقاللية تكوين المعنى‬
‫بالنســبة ألشــكال الحيــاة االجتماعيــة ‪-‬الثقافيــة المشــروطة بالتــاريخ‪ ،‬أي أنــه يمكن إلغــاء كــل‬
‫االعتراضات ضــد التأســيس النهــائي الفكــري »§‪ ،‬وبــذلك يتضــح أن القضــية األساســية الــتي‬
‫شكلت محور الخالف بين كارل أوتو آبل ويــورغن هابرمــاس هي مســألة "التأســيس النهــائي‬
‫لألخالقية والفلسفة"‪ ،‬و يتضح كذلك مدى حرص وتأكيد آبل من وراء هذا النقد على ضرورة‬
‫* ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.51 ،‬‬

‫† ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هايرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.76 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪. 77 ،‬‬

‫§ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.85 ،‬‬

‫‪94‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫إعــادة النظــر في "العقالنيــة التواصــلية"ـ الــتي اقترحهــا هابرمــاس ومن خاللهــا إعــادة بنــاء‬
‫"العقالنية"‪،‬ـ ويبدو ذلك واضحا في أكثر من موضع في هــذا العمــل‪ ،‬منهــا قولــه‪ « :‬إن إعــادة‬
‫البناء العقالنية لمسارات العقلنة هي أولوية »*‪.‬‬

‫وأخــيرا وليس آخــرا‪ ،‬الحظنــا ‪ -‬من خالل قــراءة هــذا العمــل ودراســته "التفكــير مــع‬
‫هابرماس ضد هابرماس"‪ -‬أن كارل أوتو آبل تمــيز في تفكــيره بــالرد اإلســتباقي أو الوقــائي‪،‬‬
‫فتحسبا لالنتقادات التي يمكن أن توجه إليه بتهمة الدوغمائية النظرية‪ ،‬استبق خصومه‪ ،‬وأعــد‬
‫العدة الالزمـة للــرد عليهم‪ ،‬وطـرح على نفســه هـذا الســؤال‪« :‬ه ل يمث ل التأس يس الت داولي‬
‫‪-‬الترنسندنتالي تراجعا (انكفاء) في الميتافيزيقا الدغماتية‪ ،‬أو هل ه و ق ادر من جانب ه على‬
‫كشف التوجهات شبه الميتافيزيقية الخفية كاإليحاءات المتعلقة مثال ببطالن بعض المواق ف‬
‫الضرورية تاريخيا؟ »†‪ ،‬وقد أجاب عن هذا السؤال قبل طرحه قائال‪ « :‬إن التأســيس النهــائي‬
‫التــداولي الترنســندنتالي ال يتضــمن أي تراجــع باتجــاه الميتافيزيقــا الدوغمائيــة بــل وإنــه على‬
‫العكس من ذلك تماما يوفر لنا الوسائل لتعرية بعض أشــكال الميتافيزيقــا المقنّعــة ذات التــأثير‬
‫البالغ اليوم وهي‪ :‬اإلختزالوية العلموية للشــروح من نمــط "الشــيء" واالقتراحــات التاريخيــة‬
‫من نوع‪ :‬هذا أو ذاك التي تحل محل الحجج »‡‪ ،‬كما أجاب عنه بعد طرحه بشــقيه‪ ،‬حيث قــال‬
‫بشأن الشق األول منه‪ « :‬إن التأسيس النهــائي التــأملي البحت‪ ،‬ال يســتدعي إطالقــا فرضــيات‬
‫ميتافيزيقية‪ ،‬إنه معرض لنقد ذاتي ولمراجعة ذاتيــة دائمــة »§‪ ،‬وقــال مجيبــا عن الشــق الثــاني‬
‫منه‪ « :‬إن التأسيس النهائي التداولي ‪-‬الترنسندنتالي يتضمن من وجهة نظر العقل‪ ،‬فيما أعتقــد‬
‫االنتقادات الــتي تســمح بكشــف التــدابير الميتافيزيقيــة الخفيــة [‪ ]...‬على أن خطــر الميتافيزيقــا‬
‫الخفية يتجلى بوجه خاص عند محاولتنا تجنب التأسيس النهائي الفكري ‪-‬الترنسندنتالي »**‪.‬‬

‫* ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.77 ،‬‬

‫† ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هايرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.85 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.42 ،‬‬

‫§ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.92 ،‬‬

‫** ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.93 ،‬‬

‫‪95‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫هذا عن المشروع التواصلي لهابرماس والنقد الذي وجهه له كارل أوتو آب ل‪ ،‬فم اذا‬
‫عن المشروع الفلسفي التواصلي آلبل؟‬

‫‪- 2‬المبحث الثاني‪ :‬المشروع الفلسفي التواصلي لكارل أوتو آبل‬

‫أ ‪ -‬المطلب األول‪ :‬أسس التواصل عند كارل أوتو آبل‬

‫إن الفلسفة التواصلية عنــد كــارل أوتــو آبــل ال تتأســس فقــط على المفهــومين المركــزيين‬
‫(اإلتيقا والتواصل) اللذين سبق تحديدهما في الفصــل األول من هــذا البحث‪ ،‬بــل تتأســس على‬
‫شبكة عنكبوتيه من المفاهيم المتداخلة والمترابطة فيما بينهــا ارتباطــا وثيقــا‪ ،‬وقــد أدى ارتبــاط‬
‫هذه المفاهيم التي يندرج بعضها ضمن فلسـفة األخالق وينـدرج بعضـها اآلخـر ضـمن فلسـفة‬
‫اللغة‪ ،‬إلى إنتاج فلسفة جديدة تعرف بـ "أخالقيات التواصل"ـ أو "إتيقا التواصل"‪ ،‬وهي فلسفة‬
‫تتميز بالوحدة العضوية وصلت إلى درجة يصعب فيهـا على أي بـاحث فصــل هــذه العناصـر‬
‫عن بعضها البعض‪ ،‬لذلك ارتأينا أن نقوم بعمليــة تحليــل وتفكيــك لهــذه المفــاهيم حــتى نعــرف‬
‫كيف استطاع فالسفة التواصلـ وخاصة كارل أوتو آبل القيــام بعمليــة تــركيب معقــدة جــدا بين‬
‫هذه المفاهيم إلنتاج فلسفة تواصلية تربط بين اإلتيقي واللغوي وتحدث منعرجا حقيقيا وتحقــق‬
‫أنموذجا (براديغم) جديدا في الفلسفة يعتبر تجاوزا لكل الفلسفات السابقة في نظر آبل‪ ،‬وتتمثل‬
‫أهم هذه المفاهيم األساسية ذات الصلة بالمفهوم المركزي‪ ،‬أي التواصل‪ ،‬في مايلي‪:‬‬

‫‪ -‬اللغة ‪ :Le langage‬يعتبرمفهوم اللغة من أهم المفاهيم التي تتأســس عليهــا فلســفة كــارل‬
‫أوتو آبل‪ ،‬وهنا نطــرح التســاؤل التــالي‪ :‬إذا كــان التواصــل هــو « نشــاط تبــادلي وعالئقي يتم‬
‫بصــور شــتى كاألصــوات واإلشــارات والصــور‪ ،‬وكــان التواص ـلـ اللغــوي هــو أرقى أنــواع‬

‫‪96‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫التواصل »*‪ ،‬فكيف يمكن تحديد مفهوم اللغة؟‪ ،‬وهل هي في نظر كارل أوتو آبل مجرد قــدرة‬
‫إنسانية خاصة بالتفكير والتعبير أو هي أداة للتواصل؟‬

‫إن اللغــة في المعجم العــربي هي الصــوت‪ ،‬حيث ورد في القــاموس المحيــط‪ « :‬اللغــة‬
‫أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم‪ ،‬وجمعها لغات‪ ،‬مشتقة من الفعل لغا‪ ،‬لغــوا‪ :‬أي تكلم‬
‫وخاب‪ ،‬كما قال تعالى " ال يؤاخذكم هللا باللّغو في أيمانكم "[ البقرة‪ ،‬آية ‪ ،†» ] 224‬ويعرفها‬
‫الجرجاني‪ « :‬هي كل ما يعبر به كل قوم عن أغراضهم »‡‪ ،‬أما في اللغــات األجنبيــة فيقابلهــا‬
‫في اللغة الفرنسية ( ‪ ،) Langage‬وفي اللغة اإلنجليزية ( ‪ ،) Languige‬وهما مشتقتان‬
‫من الكلمة الالتينية ( ‪.§)Langua‬‬

‫وأما إذا انتقلنا إلى تعريفها اصطالحا فنجد أندري اللنــد يعرفهــا بقولــه‪ « :‬هي كــل نظــام‬
‫عالمات يمكن استعماله وسيلة اتصال »**‪ ،‬أما كارل أوت و آب ل فيعرفها كمــا يلي‪ « :‬هي الكم‬
‫المتعالي(الترنسندنتالي) األول الذي يشكل شرطا قبليا لكل صحة فهم »††‪.‬‬

‫تناول كــارل أوتــو آبــل مشــكلة اللغــة في العديــد من أعمالــه الفلســفية وخاصــة في عملــه‬
‫المعنون "المنطق الخاص باللغة اإلنسانية ‪،"Le logos propre au langage humain‬‬
‫وهو عبارة عن بحث قصير تحدث فيه عن أنموذج كالسيكي وأنموذج جديد في فلسـفة اللغـة‪،‬‬
‫ففي األنموذج الكالسيكي قام آبل بتحليل نظرية وظائف اللغة عند كــارل بــوهلر‪*K.Buhler‬‬
‫وكارل بوبر وجذورها اليونانية ودعائمها المنطقية الرياضية‪ ،‬وأما في األنموذج الجديــد فقــام‬
‫بتحليل نتائج نظرية أفعال اللغة ألوستين وجذورها في سميوطيقا بيرس وموريس وكارنــاب‪،‬‬

‫* ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ، ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪(،8 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫†‪ -‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مادة اللغة‪/www.maajaim.com/dictionary،‬‬

‫‡ ‪ -‬صليبا جميل‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.276 ،‬‬

‫§ ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫** ‪ -‬اللند أندري‪،‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.721 ،‬‬

‫†† ‪ -‬طرابيشي جورج‪ ،‬معجم الفالسفة‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ ،2006 ،3‬ص‪.7 ،‬‬

‫* ‪ -‬بوهلر كارل (‪ ،)1963-1879‬فيلسوف نفساني ولغوي ألماني‪ ،‬من أهم أعماله‪ :‬نظرية اللغة‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وبعد أن عرض النتائج األساسية للمنعرج التداولي لفلسفة اللغة‪ ،‬قام آبل بقراءة تركيبية فريــدة‬
‫من نوعها لهذه اإلشكالية‪ ،‬حيث قـام بتحليـل طبيعـة العالقـة الـتي تربـط فلسـفة اللغـة بنظريـة‬
‫التواصل ليبرر نظريته التداوليــة الترنســندنتالية للتواصـلـ مســتدركا بــذلك مكــامن النقص في‬
‫ترنسندنتالية كانط ألن‪ « :‬النقص الرئيسـ في فلسفة كانط يتمثل في غيــاب التفكــير في اللســان‬
‫وفي القبلي اللساني »*‪.‬‬

‫وانطلق آبل في بحثه هذا من تحديد اإلشكالية بالتساؤل‪ :‬إلى أي مــدى يمكن الحــديث عن‬
‫براديغمين (أنموذجين) في فلسفة اللغة؟†‪ ،‬والمقصود بذلك األنموذج السمانطيقي الــذي يركــز‬
‫على الوظيفة الداللية للغة واألنموذج التداولي الذي يركز على وظيفتها التواصلية‪.‬‬

‫وقبل أن يبدأ في الجواب عن هذه اإلشكالية حدد األسباب الفكرية الــتي دفعتــه إلى البحث‬
‫في هذا الموضوع‪،‬ـ وهنــا صــرح آبــل بـأن موضــوع هــذا البحث هــو رد على النصــيحة الــتي‬
‫وجهها له كارل بوبر في أعقاب مقابلة قصيرة جمعتهما على إثر تقديم آبــل محاضــرة تنــدرج‬
‫في إطار شرحه لمشروعه الفلسفي "النظرية التداولية الترنسندنتالية للتواصــل"‡‪ ،‬وكــان نص‬
‫هذه النصيحة‪:‬ـ « ال يجب االهتمام فقــط بالتواصــل‪ ،‬ألن الوظيفــة التواصــليةـ للغــة هي وظيفــة‬
‫مشتركة مع الحيوان‪ ،‬إن اللغة اإلنسانية تتميز بهاته الخاصية إالّ أنهــا تتمـيز بوظـائف أخـرى‬
‫تمكن الجماعة اإلنسانية من وصف حقيقة العالم »§ ‪.‬‬

‫وفي محاولتــه اإلجابـة عن هـذه اإلشــكالية حـاول آبــل أن يقــدم إجابــة تختلـف عن إجابـة‬
‫أرســطو وأكــثر شــمولية من موقــف بــوبر ودقــة من موقــف فريجــه‪ ،‬وفي هــذا المجــال يقــول‬
‫إدموندس أبسالون معبرا عن موقف آبل من هذه اإلشــكالية‪ « :‬يســتند النمــوذج الجديــد لفلســفة‬
‫اللغة بعد المنعرج التداولي على المسلمة األساسية القائلة بــأن اللغـة لهـا وظيفــة أساسـية ولهــا‬

‫* ‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.168 ،‬‬
‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Le logos propre au langage humain, traduite de l’allemand par M.Charriére et J.P.‬‬
‫‪Cometti, L’éclat, 1994, p, 7.‬‬
‫‪‡-‬‬
‫‪Ibid, p, 7.‬‬
‫§‬
‫‪-Ibid, p, 7.‬‬

‫‪98‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫بالفعــل وظيفــة تأويليــة متعاليــة وأن اللغــة ينبغي النظــر إليهــا في الحقيقــة بصــفتها النطــق‬
‫(اللوجوس)ـ المشترك بين البشر‪ ،‬فاللغـة تـؤدي وظيفـة التواصـل المشــترك بين الـذوات وهي‬
‫تعتبر توافقا على المعاني »*‪ ،‬وهذا ما أوضحه أيضا الباحث الجزائري محمد بكاي حين قــال‬
‫عن مفهوم اللغة ووظيفتها عند آبل‪ « :‬هي كائن حي متفتح على هموم اإلنسان وقضاياه‪ ،‬ومــا‬
‫عليه إال أن يحسن ترتيبها‪ ،‬ومن ثمة ربطها بالمنطوقات اللغوية فتصير أفعال اللغة هي أفعال‬
‫اإلنسان‪ ،‬وتصبح اللغة أداة التواصلـ األساسية »†‪.‬‬

‫وفي تحليله لألنموذج الكالسيكي يرى آبل أن المنطق الخــاص باللغــة اإلنســانية يتضــمن‬
‫تعارضا بين السمانطيقا كوظيفة داللية والتداولية أي الوظيفة التواصلية للغــة‪ ،‬ألن بــوبر أقــام‬
‫تعارضا بين الوظيفة التمثيليــة أو الوصــفية للغــة والوظيفــة التواصــلية‪ ،‬معتمــدا في ذلــك على‬
‫نظرية أستاذه كارل بوهلر الذي اشتهر بنظرية الوظائف الثالث للغة وهي‪ :‬الوظيفــة التمثيليــة‬
‫(الوصفية)ـ للرمــوز‪، La fonction représentative "descriptive"du symboles‬‬
‫والوظيفة التعبيرية لألعراض ‪ ،La fonction expressive du symptômes‬والوظيفة‬
‫التواصليةـ لإلشارات ‪.‡La fonction d’appel du signaux‬‬

‫ويرى آبل أن كارل بوبر سار في نفس اتجاه أســتاذه بــوهلر حينمــا تحــدث عن وظيفــتين‬
‫سفليتين للغــة "‪ "deux fonctions inférieures‬وهمــا الوظيفــتين التعبيريــة والتواصــلية‬
‫وهمـــا وظيفـــتين مشـــتركتين مـــع الحيـــوان‪ ،‬ووظيفـــتين ســـاميتين " ‪deux fonctions‬‬
‫‪ "supérieures‬وهما الوظيفــة التمثيليــة بمعناهــا الوصــفي من جهــة والوظيفــة الحجاجيــة أو‬
‫النقدية من جهة أخرى§‪ ،‬أي أن اللغة عند بوبر ليست أداة للتواصل كما هو الحال عند آبل بــل‬
‫هي أداة لوصف العالم من جهة وأداة لالستدالل والنقد من جهة أخــرى‪ ،‬ويمكن القــول إجمــاال‬

‫*‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.197 ،‬‬

‫†‪ -‬بكاي محمد‪ ،‬المنعط ف الت داولي في فلس فة ك ارل أوت و آب ل‪( ،‬في) المحم داوي علي عب ود وآخ رون‪ ،‬مدرس ة فرانكف ورت‪ :‬ج دل‬
‫التحرر والتواصل واالعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.249 ،248 ،‬‬
‫‡‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Le logos propre au langage humain, Op.Cit, pp, 8,9.‬‬
‫§‬
‫‪- Ibid, p, 10.‬‬

‫‪99‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫أن كارل بوبر جاء ليكمــل مــا توصــل إليــه بــوهلر واهتم بمــا أســماه الوظيفــة الحجاجيــة للغــة‬
‫وأهمل الوظيفة التواصليةـ* ‪.‬‬

‫وبعد أن عرض آبل األنموذج الكالسيكي لفلسفة اللغة‪ ،‬انتقل إلى عرض األنموذج الجديد‬
‫لهــذه الفلســفة وهــو األنمــوذج الســميوطيقي الــذي تأســس حصــريا على الوظيفــة التداوليــة‬
‫والتواصلية‪،‬ـ وهنا يرى آبل أن مفهوم السميوطيقا أخذه تشارلس موريس عن تشارل ساندرس‬
‫بيرس‪ ،‬ويؤكد آبل أن هناك أدلة كثيرة تؤكد على أن موريس وضع خطاطته المشهورة حــول‬
‫أقسام فلسفة اللغة انطالقا من سميوطيقا بيرس‪ ،‬فحسب هذا األخير فإن السميوطيقا مبــدئيا هي‬
‫عالقــة ثالثيــة تكــون فيهــا الرمــوز هي أســاس الوســاطة بين‪ :‬العالمــة‪ ،‬ومســتعمل العالمــة‪،‬‬
‫والمعرفة†‪.‬‬

‫ويعتقد آبل كذلك أن مفهوم السميوطيقا عند كارناب الــذي قســم الدراســة الفلســفية العامــة‬
‫للغة إلى ثالثة أقســام‪ :‬البراجماتيــات (العالقــة بين المتحــدثين والســامعين)‪ ،‬والســمانطيقا (علم‬
‫الداللة)‪ ،‬والتركيب أو البناء اللغوي (‪ )syntaxe‬ويهتم بالعالقة بين الكلمــات والكلمــات‪ ،‬هــو‬
‫كذلك استمرار وامتداد لسميوطيقا بيرس‪ ،‬وهنا يرى آبـل أن السـميوطيقا المبينـة سـابقا تتمثـل‬
‫أهميتها بالنسبة لنظرية أفعال اللغة باعتبارها أدت إلى تأسيس البراديغم الجديد‡‪.‬‬

‫ويتمثل هذا البراديغم الجديد في اكتشــاف أوســتين للعبــارات أو الجمــل اإلنجازيــة‪ ،‬وهــو‬
‫االكتشاف الـذي جـاء ليكـذب كليـة التميـيز الكالسـيكي بين السـمانطيقا والتداولية§‪ ،‬وهـذا نقـد‬
‫صــريح ومباشـر لمــا ذهب إليـه بـوهلر وبـوبر في تمييزهمــا بين ســيمانطيقا نظـام ألســني مـا‬
‫وتداوليــة االســتعمال التواصــلي للغــة من جهــة والتميــيز بين الوظيفــة التمثيليــة أو الوصــفية‬
‫للعبارات الخبرية والوظيفة التداولية المحضة لهذه العبارات ‪.‬‬

‫*‬
‫‪-Ibid, p, 37.‬‬
‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Le logos propre au langage humain, Op.Cit, pp29, 30.‬‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 31.‬‬
‫§‬
‫‪- Ibid, p, 36.‬‬

‫‪100‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ولتوضيحـ المسألة وطرحها بدقة أكثر ميز كارل أوتو آبل بين المنطق الســميوطيقي للغـة‬
‫الطبيعية والمنطــق الســميوطيقي للغــة االصــطناعية‪ ،‬ويقصــد باللغــة االصــطناعية تلــك اللغــة‬
‫الصورية التي رافقت مرجعية فريجه وراسل وفنتجشــتاين األول وتارســكي وكارنــاب‪ ،‬وهي‬
‫اللغة التي اهتم منطقها بتحديد الوظيفة التمثيلية أو الوصفية بمعنى وظيفة حقيقــة الجملــة‪ ،‬أمــا‬
‫اللغة الطبيعيــة فهي اللغــة التداوليــة الــتي تعتمــد على ألعــاب العبــارات اإلنجازيــة والــتراكيب‬
‫الخبرية ويهدف منطقها إلى تحديد الوظيفة التواصليةـ للغة‪ ،‬وبالتالي فإن المنطق السميوطيقي‬
‫للغــة االصــطناعية الــتي تأسســت على الرياضــيات يختلــف عن المنطــق الســميوطيقي للغــة‬
‫الطبيعية‪.‬‬

‫وبعد أن عــرض آبــل ممــيزات األنمــوذج الجديــد حــاول أن يــركب بينــه وبين األنمــوذج‬
‫الكالسيكي من أجل الخروج ببراديغم ثالث أطلق عليه اسم "السميوطيقا الترنسندنتالية"‪ ،‬وفي‬
‫هذا السياق يقول آبل‪ « :‬إلى النقطة التي وصلنا إليها اآلن‪ ،‬يمكننا انطالقا من تحليلنــا الســابق‬
‫للبنية المزدوجة لمنطق اللغة أن نحاول تأسيس عالقة بين الجمل اإلنجازية والقضايا الخبريــة‬
‫للخطاب اإلنساني على ضوء سميوطيقا بيرس ورويس »*‪.‬‬

‫وفي هذا السياق يرى آبل أن الوظيفة التمثيلية أو الوصفية للجمل الخبريــة ال تســتند فقــط‬
‫على الوظيفة الرمزية المفهومة بالتعبير االصطالحي السيمانطيقي‪ ،‬ولكن أيضا على الوظيفة‬
‫التواصليةـ التي تدعو المنتمين إلى اتفاق تواصلي حول معنى المفـاهيم على مسـتوى الخطـاب‬
‫الحجاجي†‪ ،‬ومن هنا يتضح أن المعــاني الدقيقــة للمفــاهيم تقتضــي المنطــق الســميوطيقي للغــة‬
‫بمعناه المزدوج البنية الذي يتأسس على التعبير التداولي الترنسندنتالي‡[ وهو المفهــوم الــذي‬
‫سنعود إلى تحليله وتوضيحه في المطلب الموالي]‪.‬‬

‫وهكـذا يتضـح أن كـارل أوتـو آبـل اعتمـد في تحديـده لمفهـوم اللغـة ووظيفتهـا التداوليـة‬
‫الترنسندنتالية وتغيير األنموذج (البراديغم)ـ على مرجعيات فلســفية لغويــة عديــدة منهــا اإلرث‬
‫*‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Le logos propre au langage humain, Op.Cit, p61.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 63.‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 65.‬‬

‫‪101‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫السميوطيقي لبيرس ومــوريس وكارنـاب وعلى الفلســفة التحليليـة للغــة وخاصـة على نظريــة‬
‫أفعال الكالم ألوستين‪ ،‬وقام بالتركيب بين هذه الفلسفات اللغويــة وتجاوزهــا نحـو تداوليـة تهتم‬
‫بالفاعليــة والتفاعليــة ليســتخلص وينحت مفــاهيم جديــدة في الفلســفة مثــل مفهــومي"التداولي ـةـ‬
‫الترنسندنتالية" و"السميوطيقا الترنسندنتالية"‪،‬ـ وبذلك يمكن القول أن آبل يمثل التصور القائــل‬
‫بنظرة التواصل التداولي الترنسندنتالي خالفا لهابرماس الذي يمثل التواصل التداولي الكوني‪.‬‬

‫اج ‪ :L’argumentation‬يعتبر مفهوم الحجاج كذلك من أهم المفاهيم التي ترتكــز‬


‫الح َج ُ‬
‫‪ِ -‬‬
‫عليها فلسفة التواصل بصفة عامة وفلسفة كارل أوتو آبل بصفة خاصة « ال تواصل باللسان‬
‫من غير حجاج‪ ،‬وال حجاج بغــير تواصــل باللســان »*‪ ،‬فمــا معــنى الحجــاج؟ ومــا أهميتــه في‬
‫فلسفة آبل؟‬

‫الحجاج"مفردها ُحجَّة "‪ ،"Argument‬وهي في اللغــة العربيــة مشــتقة من الفعــل َحـ اجَّ‪،‬‬
‫اججْ ‪ ،‬و ُم َحا َّجةٌ‪ِ ،‬‬
‫وح َجاجٌ‪ ،‬بمعنى قدم ال ُح َج َج‪ ،‬كما ورد في القرآن الكريم‪ « :‬ألم تر إلى الذي‬ ‫ي َُح ِ‬
‫حاج إبراهيم في ربّه إذ ق ال رب ال ذي يحي ويميت ق ال أن ا أح يي وأميت »†‪ ،‬وقولـه تعـالى‬
‫ّ‬
‫أيضا‪ « :‬أتحاجوننا في هللا وهو ربنا وربكم »‡‪ ،‬وقوله تعالى أيضا‪ « :‬ها أنتم ح اججتم فيم ا‬
‫لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم »§ وغيرها من اآليات‪.‬‬

‫وقد ورد هذا المفهوم كثيرا في التراث الفكــري العــربي اإلســالمي‪ ،‬ومنهــا ‪ -‬على ســبيل‬
‫المثال ال الحصر ‪ -‬ما أورده ابن خلدون في مقدمته بشأن تعريف علم الكالم حيث قال‪ « :‬هــو‬
‫علم يتضمن الحجاج عن العقائد اإليمانية باألدلة العقلية »‬
‫**‪.‬‬

‫وال يختـلف المعنى االصطالحي الفلسفي كثيـرا عن المعنى اللغوي‪ ،‬حيـث يعرفه اللند‪:‬‬

‫* ‪ -‬طه عبد الرحمن‪ ،‬التواصل والحجاج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.5 ،‬‬

‫† ‪ -‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.257‬‬

‫‡‪ -‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.137‬‬

‫§ ‪ -‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪.64 ،‬‬

‫** ‪ -‬ابن خلدون عبدالرحمن‪ ،‬المقدمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.458 ،‬‬

‫‪102‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫« المحاجة هي طريقة عرض الحجج وترتيبها »*‪ ،‬ويعرفه جميل صليبا‪ « :‬الحجاج هي‬
‫جملة من الحجج الــتي يــؤتى بهــا للبرهــان على رأي أو إبطالــه‪ ،‬أو هــو طريقــة تقــديم الحجج‬
‫واالستفادة منها »†‪.‬‬

‫وخالصة القول حــول مفهــوم الحجــاج هــو سلســلة من األدلــة تفضــي إلى نتيجــة واحــدة‬
‫معينة‪ ،‬أو هو طريقة عرض الحجج وتقديمها‪.‬‬

‫ويكتسي الحجاج أهمية كبيرة في فلسفة آبل‪ ،‬حيث يعتــبر أهم آليــة لغويــة يؤســس عليهــا‬
‫المرسل مناظرته ومناقشته ويُجسِّد عبرها إستراتيجيته إلقناع محاوريــه‪ ،‬أي يُــبرز بواســطتها‬
‫كفاءتــه التداوليــة‪ ،‬وتختلــف نوعيــة الحجــاج بــاختالف مجــاالت النقــاش من المجــال الفلســفي‬
‫إلى العلمي أو الديني أو السياسي أو االجتماعي‡‪.‬‬

‫وفي هذا المجال يقول آبل عن الهدف من المحا َّجة‪ « :‬االنخراط في محاجة جادة يفضي‬
‫بنا إلى القبول ضمنيا بمبدأ معياري إتيقي مفاده أنه ينبغي إخضاع أي نزاع أو خالف يقع بين‬
‫الذوات المنضوية في نقاش ما إلى حجج محــددة يكــون هــدفها األساســي بلــوغ اإلجمــاع »§‪،‬‬
‫وبذلك يتضح أن الحجاج يحتل مكانة أساســية في فلســفة آبــل ألن نجــاح أي نقــاش مهمــا كــان‬
‫سياقه التداولي ومهما كـان صـعبا يتوقــف على قـوة الحجــاج وقدرتـه على اإلقنـاع‪ ،‬وهــذا مـا‬
‫تؤكده شهادة جان مارك فيري حين قال‪ « :‬في تداولية آبــل تمثــل المناقشــة الحجاجيــة الســبيل‬
‫الناجح ألية بنية عقلية منطقيـة يمكنهـا الركـون إلى البرهـان لبلـوغ صـيغة تواصـلية وعالقـة‬
‫تفاعلية متينة مثلى بين أفراد المجتمع »**‪ ،‬ومعنى هذا كما يرى إدموندس أبسالون أن الفلسفة‬

‫* ‪ -‬اللند أندري‪ ،‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.94 ،‬‬

‫† ‪ -‬صليبا جميل‪ ،‬المعجم الفلسفسي‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.446 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬بكاي محمد‪ ،‬المنعطف التداولي في فلسفة كارل أوتو آبل‪( ،‬في) المحمداوي علي عبود واسماعيل مهناتة‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪،‬‬
‫جدل التحرر والتواصل واالعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.273 ،272 ،‬‬

‫§ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.19 ،‬‬

‫**‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.17 ،‬‬

‫‪103‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫التداولية المتعالية ترتبط بنظرية الحجاج‪ « :‬نظريــة الحجــاج ينبغي لهــا حســب آبــل أن تضــع‬
‫قواعد الحجاج العقالني وأن تبين أن هذه القواعد ملزمة لممارسة الحجاج في الفلسفة »*‪.‬‬

‫وعلى ضوء ما ســبق يتضــح أن الحجــاج أو المحاجــة عنــد كــارل أوتــو آبــل وغــيره من‬
‫فالســفة التواصــل يهــدف إلى تحقيــق غــايتين مترابطــتين‪ ،‬األولى هي إقنــاع الطــرف اآلخــر‬
‫بوجهة نظر معينة‪ ،‬والثانية هي أن يكون هذا اإلقناع محركا ودافعا إلى العمل†‪.‬‬

‫‪ -‬النقاش ( المناقشة ) ‪ :Discussion‬ومن المفاهيم األساسية أيضا في فلسفة التواصل لدى‬


‫كارل أوتو آبل نجد أيضا مفهوم النقاش‪ ،‬فما معنى النقاش؟ وما أهميته في فلســفة كــارل أوتــو‬
‫آبل؟‬

‫المناقشة في اللغة العربية « هي االستقصاء في الحساب حتى ال يــترك منــه شــيء‪ ،‬وفي‬
‫حديث علي ‪ -‬كرم هللا وجهه‪" -‬يجمع هللا األولين واآلخرين لنق اش الحس اب" »‡‪ ،‬وهــو لفــظ‬
‫مشتق من الفعل ناقش‪ ،‬يناقش‪ ،‬مناقشة‪ ،‬ونقاشا‪ ،‬أي إجراء حوار بين طرفين أو عــدة أطــراف‬
‫حول موضوع ما‪ ،‬وقد يكون هذا النقاش والحوار بنَّاءاً وايجابيــا وناجحــا يــؤدي إلى اإلجمــاع‬
‫أو التفاهم حول مشكلة ما‪ ،‬وقد يكون هذا الحوار والنقاش ســلبيا وفاشــال فيــؤدي إلى الالتفــاهم‬
‫ويؤجج الصراع بين األطراف المتنازعة فتزداد المشكلة تعقيدا‪.‬‬

‫وفي اللغة الفرنسية فإن لفظ النقاش يقابله اللفظ ‪ Discussion‬كمـا يــدل عليـه لفـظ آخــر‬
‫هو ‪ Dialogue‬الذي يعنى في اللغة العربية الحوار « حاوره محاورة وحوارا‪ ،‬أي جادلــه‪،‬‬
‫والمحاورة هي المجاوبة‪ ،‬أو مراجعة النطق والكالم في المخاطبــة‪ ،‬ويقتضــي الحــوار وجــود‬
‫ثالثة عناصر هي‪ :‬المخَ اطبُ وال ُمتَ َكلِ ُم وتبادل الكالم‪ ،‬وغاية الحوار توليد األفكار الجديــدة في‬
‫ذهن المتكلم »§‪.‬‬
‫* ‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليت الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.208 ،207 ،‬‬

‫† ‪ -‬بكاي محمد‪ ،‬المنعطف التداولي في فلسفة كارل أوتو آبل‪( ،‬في) المحمداوي علي عبود وآخرون‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ :‬جدل‬
‫التحرر والتواصل واالعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.274 ،‬‬

‫‡‪ -‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مادة نقش‪/www.maajaim.com/dictionary ،‬‬

‫§ ‪ -‬صليبا جميل‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.501 ،‬‬

‫‪104‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وفي االصــطالح الفلســفي « المناقشــة في المســألة بحثهــا‪ ،‬والفحص عنهــا‪ ،‬وتحليلهــا‪،‬‬


‫ويشترط في المناقشة أن يكون لدى المشتركين فيها آراء متعارضــة‪ ،‬وأن يتــولى متكلم واحــد‬
‫أو أكثر تحليل هذه اآلراء‪ ،‬ومقابلتها بعضها ببعض‪ ،‬لألخذ بأقربها إلى الصواب »* ‪.‬‬

‫واحتــل هــذا المصــطلح مكانــة رائــدة في الفكــر الفلســفي المعاصــر خاصــة في الفلســفة‬
‫التواصليةـ لدى كارل أوتو آبل‪ ،‬الذي كانت له عدة أعمال في هــذا المجــال من أشــهرها "اتيقــا‬
‫المناقشة‪ " Ethique de la discussion‬الذي ترجم إلى الفرنسية سنة ‪ ،1994‬وهو العمل‬
‫الذي عرض فيه أخالقيات النقاش في صــورتها التداوليــة الترنســندنتالية مركــزا خاصــة على‬
‫الجانب النظري‪ ،‬وكذلك له عمل آخر يتكون من جزأيـن تحت عنـوان "النـقاش والمســؤوليـة‬
‫‪ "Discussion et Responsabilité‬الذي ترجم إلى الفرنسية سنة ‪ ،1996‬وتحدث فيه آبل‬
‫عن تطبيقات أخالقيــات النقــاش على مختلــف مجــاالت النشــاط اإلنســاني‪ ،‬أي ركــز فيــه على‬
‫الجـانب العملي لهـذه األخالقيـات‪ ،‬وهي األخالقيـات الـتي قـال عنهـا عمـر مهيبـل في مقدمـة‬
‫ترجمة كتاب "التفكيرـ مع هابرماس ضد هابرماس" لكارل أوتو آبل‪ « :‬إن اتيقا المناقشة كمــا‬
‫تصورها آبل ال تهدف إلى تأسيس معايير مؤسسية بطريقة قبليــة‪ ،‬وإنمــا تهــدف‪ ،‬عكس ذلــك‪،‬‬
‫إلى تأسيس شكل إجرائي يسهل انسيابية النقاش والحوار بغرض الوصــول إلى نتــائج محــددة‬
‫تلخص في قرارات مع مالحظة في غاية األهمية‪ ،‬وهي أن هـذا النقـاش نقـاش حقيقي‪ ،‬واقعي‬
‫يدور حول مصالح حقيقية تمس حياة البشر كمــا هي في واقعهم االجتمــاعي التــاريخي‪ ،‬وهنــا‬
‫مكمن الخالف بين نزعة هابرماس الشمولية والنزعة الترنسندنتالية عند آبل »† ‪.‬‬

‫وعلى ضوء ما سبق يتضح أن تداولية آبل غايتهــا الوصــول إلى الخطــاب التواصــليـ‬
‫المنظم بقواعد المناقشة اإليجابية‪ ،‬وهنا يؤكد آبل على ضرورة احترام أربعــة مبــادئ يســميها‬
‫مسلمات في كل عالقة تواصلية‪ ،‬وهي‪ :‬المعقولية‪ ،‬والحقيقة‪ ،‬والمصداقية‪ ،‬والصدقية‡‪.‬‬

‫*‪ -‬صليبا جميل‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.426 ،‬‬

‫† ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪ ( ،20 ،‬من مقدمة المترجم )‪.‬‬

‫‡‪ -‬بكاي محمد‪ ،‬المنعط ف الت داولي في فلس فة ك ارل أوت و آب ل‪( ،‬في) المحم داوي علي عب ود وآخ رون‪ ،‬مدرس ة فرانكف ورت‪ :‬ج دل‬
‫التحرر والتواصل واالعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ، :،‬ص‪.263 ،‬‬

‫‪105‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -‬البينذاتية ‪ : Intersubjectivité‬تتأسس فلسفة التواصل عنــد آبــل على البينذاتيــة "أنا‪-‬‬


‫أنت" التي عمادها التفاعل والتواصل والتفاهم كنموذج بديل للنموذج الذاتي أو فلســفة الــوعي‬
‫والشعور التي سيطرت على الساحة الفلسفية من فلسفة ديكارت مرورا بفلسفة كانط ووصوال‬
‫إلى فلسفة هسرل تحت شعار "أنا أفكر"‪ ،‬فما معنى البينذاتية؟ وما مكانتها في فلسفة آبل؟‬

‫«البينذاتية هو مفهوم فلسفي شاع تداوله في الكتابة الفلسفية بعد األبحاث التي قـام بهــا‬
‫هسرل حول األنا‪ ،‬واألبحاث التي قام بها هيدغر حول الكينونة واألنا والغير‪ ،‬وكــذا األبحــاث‬
‫التي قام بها العــالم االجتمــاعي الفرنســي ج ورج غ ورفيتش*‪ ،G.Gurvitch‬وأصــبح هــذا‬
‫المفهــوم من أهم المفــاهيم المتداولــة من طــرف الكثــير من فالســفة الشخصــانية والوجوديــة‬
‫والفينومنولوجيا أمثال غابريال مارسيل وإيمانويل مونييه وموريس ميرلوبونتي وليفيناس»*‪.‬‬

‫وورد في معجم فلسفي آخــر‪« :‬البينذاتيــة الترنســندنتالية‪ :‬في الفينومنولوجيــا هي أحــد‬


‫حقول البحث الفلسفي الذي يتعلق إما بالتجربة الملموسة للغير‪ ،‬أو كمجال ترنسـندنتالي يتعلـق‬
‫باألنا الخاص [‪ُ ]...‬ع ِرفَ هذا المفهوم عند هسرل كحقل في الفكر الفينومنولوجي الـذي ظهـر‬
‫سنة ‪ ]...[ 1905‬وأصبح من المفاهيم المركزية في األبحاث الفلسفية الفينومنولوجية وخاصــة‬
‫لدى هيدغر الذي أصبح عنده هذا المفهوم يحمل مقاربة مزدوجة األولى ترنسندنتالية والثانيــة‬
‫امبريقية [‪ ]..‬أما مفهومه عند الفيلسوف الفرنسي سارتر فيندرج في االتجاه الرافض للتأسيس‬
‫الترنسندنتالي [‪]...‬واستخدمه بنطاق واسع كثير من الفالسفة خاصة ميرلوبونتي وليفيناس»†‪.‬‬

‫ويتضــح من التعــريفين الســابقين أن البينذاتيــة هــو مفهــوم ترجــع أصــوله إلى الفلســفة‬
‫الفينومنولوجية‪ ،‬ويفيد عالقة التشارك‪ ،‬أي يعنى أن وعي الذات لذاتها مشروط بما تنسجه من‬

‫* غورفيش جورج (‪ ،)1965-1894‬عالم اجتماع فرنسي من أصل روسي‪ ،‬أشرف على طه حسين حين ك ان يع د رس الة ال دكتوراه‬
‫في جامع ة الس وربون خلف ا ل دوركايم ال ذي وافت ه المني ة قب ل مناقش ة ط ه حس ين لرس الته‪ ،‬من أهم أعم ال غ ورفيتش‪ :‬التي ارات‬
‫المعاصرة للفلسفة األلمانية‪ ،‬النزعات المعاصرة لعلم االجتماع‪ ،‬األطر االجتماعية للمعرفة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫*‬
‫‪- Duméry Henry, dictionnaire de la philosophie, ensyclobudia universelles et Albain Michel, Paris,‬‬
‫‪2006, pp, 1024, 1025.‬‬
‫†‬
‫‪- Shnell Alexander, Larousse: grand dictionnaire de la philosophie, CNRS, Edition 2003, pp, 571,‬‬
‫‪572.‬‬

‫‪106‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫عالقــات مــع الــذوات األخــرى في إطــار عالقــة انفتــاح وتشــارك وتعــاون وتعــاطف‪ ،‬وضــده‬
‫االنغالق‪ ،‬وهو المفهوم الذي عبر عنه البــاحثون العــرب بعبــارات مختلفــة مثــل "العالقــة مــع‬
‫الغير" أو "العالقة بين شخصين"‪ ،‬أو "العالئقية"‪ ،‬وذلك باعتبــار اإلنسـان كـائن اجتمــاعي ال‬
‫يستطيع أن يعيش مستقال بذاته عن المجتمع‪ ،‬وإذا كان المجتمع هو مجموعة أفــراد يرتبطــون‬
‫فيما بينهم بعالقات منظمة فــإنهم ال يتبــادلون الخــدمات الماديــة فحســب بــل يتبــادلون األفكــار‬
‫والمشاعر عن طريق اللغة‪ ،‬وهذا هو جوهر التواصل‪.‬‬

‫وأصبح هذا المفهوم من المفاهيم األساسية في فلســفة التواصــل المعاصــرة خاصــة لــدى‬
‫كل من هابرماس وآبل‪ ،‬حيث تميز المشروع الفلسفي لكارل أوتو آبل منذ السبعينات باالهتمام‬
‫بإعــادة صــياغة الفلســفة الترنســندنتالية الكانطيــة واضــعا نصــب عينيــه تغيــير األنمــوذج‬
‫(البراديغم)‪،‬ـ أي استبدال الوعي الذاتي المكتفي بالعقل وحده بمجتمع تواصلي وتفاعلي*‪ ،‬وفي‬
‫هذا السياق عمل آبــل على تفنيــد المــزاعم الــتي تــرى للــذات القــدرة على التفاعــل والتواصــل‬
‫والتبادل مع العالم وحدها‪ ،‬ورأى أن الذات مرغمة على التفاعل مع ذوات أخرى مختلفة عنها‬
‫بواســطة اللغــة من خالل الحــوار والنقــاش العقالني†‪ ،‬أي أن البينذاتيــة تعــني في نظــر آبــل‬
‫التفاعلية والحوارية‪.‬‬

‫‪ -‬المسؤولية ‪ :Responsabilité‬يعد مفهوم المسـؤولية أيضـا من المفـاهيم المفتاحيـة في‬


‫فلســفة آبــل حيث اشــتهرت إتيقــا النقــاش عنــده بأنهــا إتيقــا للمســؤولية‪ ،‬فمــاهو المفهــوم العــام‬
‫للمسؤولية؟ وماهو مفهومها عند كارل أوتو آبل؟‬

‫« تعني المسؤولية في اللغة التّبعة‪ ،‬فنقول‪ :‬أنا بريء من مسؤولية هذا العمل‪ ،‬أي ألتحمل‬
‫نتائجه »‡‪ ،‬وال يختلف كثيرا المعنى االصطالحي والقانوني عن المعنى اللغوي‪ ،‬حيث يعرفها‬
‫الالند‪ « :‬هي واجب أدبي‪ ،‬معنوي‪ ،‬منصوص أو غير منصوص عليــه في القــانون إلصــالح‬

‫* ‪ -‬بكاي محمد‪ ،‬المنعطف التداولي في فلسفة كارل أوتو آبل‪( ،‬في) المحمداوي علي عبود وآخرون‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ :‬جدل التحرر‬
‫والتواصل واالعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.259 ،‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.266 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬صليبا جميل‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.396 ،‬‬

‫‪107‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫األذى الذي لحق بالغير »* ‪ ،‬أي أن المســؤولية هي إلــزام الفــرد بإصــالح الخطــأ الواقــع على‬
‫الغير طبقا للقانون‪ ،‬أو هي إلزام الفاعل بتحمل نتائج فعله‪.‬‬

‫ولقــد بحث كــارل أوتــو آبــل في مشــكلة المســؤولية على غــرار نظــراءه من الفالســفة‬
‫المعاصرين أمثال رائد العقالنية النقدية المعاصرة كارل بوبر والفيلسوف األلمــاني المعاصــر‬
‫هانس يوناس ورائد العقالنية التواصليةـ يورغن هابرماس وغيرهم‪ ،‬حيث انصب اهتمــام آبــل‬
‫على إثبات اتيقا المناقشة والدفاع عن النقاش التواصلي‪،‬ـ وأكد على األهمية الكبيرة للمســؤولية‬
‫بعد أن وضع المعالم المعياريــة للفضــاء التواصــلي‪،‬ـ حيث رأى أن أهــداف النقــاش الحجــاجي‬
‫تنطوي على العمل على احترام الموقف المسؤول أو المشارك في المسؤولية‪ ،‬مركزا في ذلك‬
‫خاصة على المسؤولية األخالقيــة لكــل أطــراف العمليــة التواصــلية ســواء في المجــال العلمي‬
‫والتقني أو في المجال االجتماعي أو السياسي أو اإلقتصــادي‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار يقــول كــارل‬
‫أوتو آبل‪ « :‬إن الفرد مســؤول‪ ،‬ولكن بكيفيــة أكــثر أصــالة هــو مســؤول مســؤولية تجعــل منــه‬
‫يساهم قبليا مع كــل شـركاءه في النقــاش‪ ،‬بمعــنى التضــامن بين المجموعــة التواصــلية إليجـاد‬
‫حلول للمشاكل »†‪ [،‬وسنعود بالتفصـيل إلى هـذه المشــكلة الحقـا عنــدما نتعـرض إلى النقـاش‬
‫والمسؤولية ]‪.‬‬

‫ب ‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬التداولية (البراجماتية) الترنسندنتالية عند كارل أوتو آبل‬

‫نود قبل التطرق إلى تحديد وتحليل مفهوم "التداوليةـ الترنسندنتالية" الذي نحته كارل أوتو‬
‫آبل أن نستعرض مفهوم التداولية كمبحث فلسفي جديد وكذلك مفهــوم التداوليــة الشــاملة الــذي‬
‫نحته هابرماس من أجل معرفة موقع تداولية آبل وسط مختلف التداوليات التي عرفتها الفلسفة‬
‫الغربية المعاصرة‪ ،‬ومن ثمة الحكم على مدى فعالية هذه التداولية في الفضاء العمومي ‪.‬‬

‫‪ -‬التداولية‪ : La pragmatique‬التداوليــة في اللغــة العربيــة مشــتقة من الفعــل تــداول‪،‬‬


‫يتداول‪ ،‬تداوال‪ ،‬وتداولية‪ ،‬حيث ورد في لسان العرب البن منظور « صــار الفيء دولــة بينهم‬

‫* ‪ -‬الالند أندري‪ ،‬موسوعة الالند الفلسفية‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.1217 ،‬‬
‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Éthique de la discussion, trad.M.Hunyadi, CERF, Paris, 1994, p, 73.‬‬

‫‪108‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫يتداولونه‪ ،‬يكون مرة لهذا ومــرة لهــذا‪ ،‬كمــا ورد في القــرآن الكــريم "كي ال يك ون دول ة بين‬
‫األغنياء منكم"[ سورة الحشر‪ ،‬اآلية ‪ ،] 06‬والمقصود به المال‪ ،‬وتداولته األيدي‪ ،‬أي أخذتــه‬
‫هذه مرة وهذه مــرة‪ ،‬ودالت األيــام‪ ،‬أي دارت‪ ،‬وهللا يــداولها بين النــاس‪ ،‬كمــا ورد في القــرآن‬
‫الكريم "وتلك األيام نداولها بين الناس"[ سورة آل عمران‪،‬اآلية ‪ ، ]139‬أي تنتقل من حــال‬
‫إلى حال »*‪ ،‬وفي اللغة العربية المعاصرة نقول اللغة المتداولة‪ ،‬أي لغــة االســتعمال اليــومي‪،‬‬
‫ونقول كذلك العملة المتداولة‪ ،‬أي المستخدمة في التعامالت التجارية واالقتصادية‪.‬‬

‫أما في االصطالح فإن التداولية هي ترجمة للكلمــة األجنبيــة ‪ Pragmatique‬المشــتقة‬


‫من الكلمة اليونانية ( براغما ‪ ،) Pragma‬بمعنى فعال أو نافع مقابل ما هو كالم غير مفيد†‪،‬‬
‫وهو لفظ استعمله ألول مرة كانط وم وريس بلون دل*‪ ،‬وهو يختلــف في معنــاه االصــطالحي‬
‫عن البراجماتزم ‪Pragmatisme‬الذي استعمله بيرس‡‪ ،C.S.Pierce‬وعن ذلك يقول طه‬
‫عبد الرحمن « وقع اختيارنا منذ ‪1970‬على مصطلح (التداوليات) مقابال للمصــطلحـ الغــربي‬
‫(براجماتيكا)‪ ،‬ألنه يوفي المطلوب حقه‪ ،‬باعتبار داللتــه على معنــيين (االس تعمال والتفاع ل)‬
‫معا »§‪ ،‬وقد حدد طه عبد الرحمن مفهوم التداوليــة اصــطالحا بقولــه‪ « :‬هي وصــف لكــل مــا‬
‫كان مظهرا من مظاهر التواصل والتفاعـل بين صـانعي الـتراث من عامـة النـاس وخاصـتهم‬
‫»**‪ ،‬أي أن التداولية هي علم يهتم بدراسة العالقة بين المتكلم واللغة التي يستعملها‪.‬‬

‫وتطـلق التـداوليـــة عـــلى اتـــجاه في فلســـفة اللغــة أســـسه الفيـلســـوف األنـجلـــوساكسوني‬


‫لدفينغ فنتجشتيـن)‪ L.Wittgensteine (1889-1951‬الـــذي اشـتـــهر بـنظريـــة اللغـة‬
‫التـداوليـة ‪ ،le langage ordinaire‬وأرســى دعــائم هــذا االتجــاه وطــوره الفيلســوفان‬

‫* ‪ -‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مادة دول‪/www.maajaim.com/dictionary.‬‬

‫† ‪ -‬ال لند أندري‪ ،‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.1013 ،‬‬

‫*‪ -‬موريس بلوندل )‪ ،Mourice Blandel ( 1861- 1949‬فيلسوف فرنسي‪.‬‬

‫‡ ‪ -‬ال لند أندري‪ ،‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.1014 ،1013 ،‬‬

‫‪ -‬طه عبد الرحمن‪ ،‬في أصول الحوار وتجديد علم الكالم‪،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪ ،2000 ،2‬ص‪.28 ،‬‬ ‫§‬

‫‪ -‬طه عبد الرحمن‪ ،‬تجديد المنهج في تقويم التراث‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الرباط‪ ،‬المغرب‪ ،1993 ،‬ص‪.244 ،‬‬ ‫**‬

‫‪109‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫األنجلوساكســونيان اإلنجلــيزي ج ون أوس تين ‪John Langshaw Austin (1911-‬‬


‫)‪ 1960‬واألمريكي س يرل )‪ J.R.Searle (1932- .‬اللــذين اشــتهرا بنظريــة أفع ال الكالم‬
‫)‪ ،L’acte de langage (Speech Act‬ويعرف هــذا االتجــاه في الفلســفة المعاصــرة‬
‫بالمنعرج األلسني التداولي‪ ،‬وقد كان لهذه النظريات تأثيرا كبيرا في تبلــور نظريــة التواصــل‬
‫عند هابرماس وآبل [ كما أشرنا إلى ذلك سابقا عند تطرقنا إلى مصادر فكــر آبــل في المطلب‬
‫الثاني من المبحث الثاني من الفصل األول ]‪.‬‬

‫ومجمل القول أن التداولية هي نقطة التقاء علوم ومجاالت فكرية مختلفــة من اللســانيات‬
‫إلى علم االجتمــاع والمنطــق‪ ،‬أي أن اهتماماتهــا تتجــاوز األبحــاث المتعلقــة بــالنص والمعــنى‬
‫والتواصل‪،‬ـ ونظرا لذلك يصعب ضبط مفهوم التداولية ضــبطا دقيقــا ونهائيــا‪ -‬على حــد تعبــير‬
‫فرانسوا أرمنيكو ‪ -‬حين قــال‪ « :‬التداوليــة هي درس جديــد وغزيــر ال يملــك حــدودا واضــحة‬
‫[…] تقع كأكثر الدروس حيوية في مفترق طــرق األبحــاث الفلســفية واللســانية »*‪ ،‬وهــذا مــا‬
‫في‬ ‫ذهب إليــه أيضــا كــل من آن روب ول ‪ A.Reboul‬و ج اك موش الر‪J.Moeschler‬‬
‫عملهما المشــترك "التداولي ة الي وم‪ :‬علم جديد في التواصل" حين قــاال‪ « :‬بــدا االختالف في‬
‫تحديد موقع التداولية (هــل هي جــزء من اللســانيات أم هي مســتقلة عنهــا وتتجــاوز في تأويــل‬
‫األقوال الجانب اللغوي؟)‪ ،‬ونجم عن ذلك اختالف في تحديد موضوع نظرهــا (هــل تنظــر في‬
‫األعمال اللغوية وأشكال تحققها وما يتولد عنهــا من مقاصــد؟ وهــل تفســر اختيــار تأويــل دون‬
‫آخر‪ ،‬وتبين عالقة المشيرات المقامية بالخارج أم أنها تتجاوز وفق منظور معرفي‪ ،‬هذا الحــد‬
‫معتبرة أن تأويل األقوال يستند إلى عمليات استداللية ليست من خصائص اللغة؟) »†‪ ،‬ومعنى‬
‫ذلك أن التداولية هي علم أو مجال فكري يتداخل مع علوم ومجاالت فكرية أخرى كثيرة ‪.‬‬

‫‪ -‬التداولية الشاملة ‪ :La pragmatique universelle ou formelle‬يــتركب هــذا‬


‫المصطلحـ من كلمتين هما التداولية ومعناها البراجماتية [ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ] والشاملة‬

‫* ‪ -‬أرمنيكو فرانسوا‪ ،‬المقاربة التداولية‪ ،‬ترجمة سعيد علوش‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬الرباط‪ ،1986 ،‬ص‪.7 ،‬‬

‫† ‪ -‬روبول آن و موشالر جاك‪ ،‬التداولية اليوم‪ :‬علم جديد في التواصل‪ ،‬ترجمة سعد الدين دغفوس ومحمد الشيباني‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫ص‪.264 ،‬‬

‫‪110‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وتعني العالمية أو الكونية‪ ،‬أي تعني البراجماتية الشاملة‪ ،‬وهو مفهوم خاص يستعمله يورغن‬
‫هابرماس في فلسفته التواصليةـ وفي حديثه عن العقل التواصلي‪ ،‬فماذا يقصد به؟‬

‫يرى هابرماس في إحدى مقاالته الشهيرة ( ماهي التداولية الشاملة؟ ) ‪ 1976‬الذي نشــر‬
‫في كتاب رفيقه كارل أوتو آبل الذي يقــود معــه المدرســة النقديــة الجديــدة بعنــوان‪:‬ـ ‪Sprach‬‬
‫‪ pragmatik und philosophie‬أن فحص اللغة والكالم ال يقتصــر فقــط على دراســة‬
‫الجمل من الناحية الصوتية والتركيبية أو الداللية بل يجب أن ينتقــل إلى مســتوى جديــد يعــنى‬
‫بتداولية ‪ Pragmatique‬األفعــال والخطــاب‪ ،‬بحيث ال نكتفي بالجمــل لصــالح دراســة تــداول‬
‫الخطاب ككل‪ ،‬أي االنتقال من دراسة الكفاءة اللغوية إلى الكفاءة التواصليةـ* ‪.‬‬

‫ويعرف مصطفى عادل في كتابه "فهم الفهم" التداولية الشاملة قائال‪ « :‬تدرس عالقة‬
‫العالمات اللغوية بمستخدميها من بني اإلنسان‪ ،‬فليست اللغة بأي حــال شــيئا مخزنــا بالمعــاجم‬
‫وكتب النحو‪ ،‬بل هي شيء متصل بين بني اإلنسان‪ ،‬وأيسر طريقـة لبيـان الموضـوعات الـتي‬
‫تتــألف منهــا البراجماتيكــا هي أن نقــول إنهــا تشــمل جميــع المســائل الــتي ال يمكن أن يبحثهــا‬
‫اللغويـون وفالسـفة اللغـة في نطـاق علم النظم أو علم الداللـة »† ‪ ،‬ويضـيف مصـطفى عـادل‬
‫قائال‪ « :‬لقد أخذ هابرماس يبحث عن النظام‪ ،‬والبنية‪ ،‬والقــالب في منطوقــات الحيــاة اليوميــة‪،‬‬
‫وبذلك أحدث انقالبا في البراجماتيكا‪ ،‬إذ جعــل يعامــل "الكالم"ـ معاملــة "اللغــة" فقــد نحت مــا‬
‫أسماه "البراجماتيكا العامة" أي العمومية أو الشاملة أو العالمية‪ ،‬أي أن براجماتيكا هابرمــاس‬
‫العامة تقوم على إعادة بناء اإلستراتيجيات التي يستخدمها النــاس في أداء أعمــالهم التواصــليةـ‬
‫داخل سياقات محددة »‡ ‪.‬‬

‫ويرى علي عبـود المحمـداوي أن المشـروع الفلسـفي لهابرمـاس "العقالنيـة التواصـلية"‬


‫يرتبط بالتداولية كجانب من جوانب دراسة فلسفة اللغة‪ ،‬والــتي تعــني أن قيمــة الحقيقــة لجملــة‬
‫ما‪ ،‬ال تتمثل في البناء الداللي لها‪ ،‬وإنما ترتبــط هــذه القيمــة بواقعهــا‪ ،‬حيث تنتقــل الحقيقــة من‬
‫* ‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.127 ،‬‬

‫† ‪ -‬مصطفى عادل‪ ،‬فهم الفهم‪ :‬مدخل إلى الهرمنيوطيقا‪ ،‬مرجع سابق‪.303 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.304 ،‬‬

‫‪111‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫طابعها الداللي المتعلق بقيمتي الصدق والكذب إلى طابعهــا التــداولي المتعلــق بقيم االســتعمال‬
‫والفعالية والتأثير*‪.‬‬

‫وعلى ضوء ما سبق يتضح أن التداولية (البراجماتيــة) الشــاملة هي فــرع من فــروع علم‬
‫اللغة يهتم بدراسة الكالم ‪ Parole‬أي‪ :‬بالمعنى الذي قال به فنتجشتين الثاني في نظريته اللغة‬
‫التداولية‪ ،‬وكل من أوستين وسيرل في نظريتهما( أفعال الكالم )‪ ،‬وهي النظرية التي كان لهــا‬
‫تأثير كبير في تأسيس نظرية الفلسفة التواصلية خاصة لدى كل من هابرماس وصــديقه كــارل‬
‫أوتو آبل‪.‬‬

‫‪ -‬التداولية الترنسندتالية ‪ : La pragmatique transcendantale‬وهو من المفاهيم‬


‫األساسية التي تتأسس عليها فلسفة كارل أوتو آبل‪ ،‬ويتركب هذا المصــطلح أيضــا من كلمــتين‬
‫هما التداولية ومعناها البراجماتية والترنسندتالية‪ ،‬فماذا تع ني الترنس ندنتالية ؟ وم اذا يقص د‬
‫آبل بالبراجماتية (التداولية) الترنسندنتالية ؟‬

‫الترنســندتالية هي ترجمــة حرفيــة للكلمــة األلمانيــة ‪ Transzendental‬وهــو مفهــوم‬


‫استعمله كانط في عمله الشهير " نقد العق ل المحض ‪"Critique de la raison pure‬‬
‫ويعرفها كمايلي‪ « :‬أسمي محضة (خــالص) بــالمعنى الترســندالي جميــع التصــوراتـ الــتي ال‬
‫يعثر فيها على شيء ينتمي إلى اإلحساس »†‪ ،‬وقد وضع كانط هذا المفهوم كمحمول أي صفة‬
‫لعــدة مواضــيع فكــان يســتعمل مصــطلح اإلســتطيقا الترســندالية‪ ،‬والمنطــق الترســندالي‪،‬‬
‫والديالكتيك الترسندالي [ ‪ ]...‬وتترجم هذه الكلمة عادة إلى "المتع الي"‪ ،‬إال أن موس ى وهبه‬
‫يستبعد هذه الترجمة الشائعة ألنها ال تــؤدي المعــنى المقصــود‪ ،‬ويقــترح تعريفــا لهــذا المفهــوم‬
‫بقوله‪ « :‬الترسندالي يعني إمكان المعرفة أو استعمالها قبليـا »‡ ‪ ،‬أمـا جمي ل ص ليبا فـيرى أن‬
‫الترنسندنتالي يقابله في اللغة العربية "المتعالي" ويعرفه قائال‪ « :‬له عدة معان‪ ،‬فهو يدل عنــد‬
‫فالسفة القرون الوسطى على المفارق أو على ما هو أعلى من المقوالت األرسطية [‪ ]...‬وهو‬
‫* ‪ -‬المحمداوي علي عبود‪ ،‬اإلشكالية السياسية للحداثة‪ :‬هابرماس أنموذجا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.210 ،‬‬

‫†‪ -1‬كانط إيمانويل‪ ،‬نقد العقل المحض‪ ،‬ترجمة موسى وهبه‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬لبنان‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪. 60 ،59 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪( ،11 ،‬مقدمة المترجم) ‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫عند كانط ضد التجريبي تارة‪ ،‬واألعلى تارة‪ ،‬والميتافيزيقي تارة أخرى [‪ ]...‬وتسمى الفلســفة‬
‫المتعالية عند كانط بالفلسفة اإلنتقادية »*‪ ،‬أمــا عنــد أن دري اللند فهي « لفظــة فلســفية كانطيــة‬
‫تعني إعالئي (متسام) »† ‪ ،‬ويضيف قائال‪ « :‬يقــال‪ :‬إعالئي‪ ،‬عنــد كانــط‪ ،‬أصــال ودومــا على‬
‫معرفة‪ ،‬الكلمة تتعارض تارة مع تجريبي‪ ،‬وتارة مـع متعـالي‪ ،‬وطـورا مـع مـا ورائي‪ ،‬يكـون‬
‫إعالئيا‪ ،‬في مقابل التجريبي‪ ،‬كل ما هو شرط قبلي وليس ماهو من معطيات االختبار »‡‪.‬‬

‫وخالصة القول أن الترنسندنتالية في الفلسفة هي أطروحة فلسفية كانطيــة مفادهــا وجــود‬


‫موجودات مفارقة للخبرة الحسية‪ ،‬حيث ذهب كانط إلى القــول أن الزمــان والمكــان ومقــوالت‬
‫الحكم كلها مفارقة للخبرة الحسية‪ ،‬هذا عن ماهية الترنسندنتالية عند كانــط‪ ،‬فم اذا عن ماهي ة‬
‫البراجماتية (التداولية) الترنسندتالية عند كارل أوتو آبل ؟‬

‫إذا كان هابرماس اشتهر بالتداولية (البراجماتيــة) الشــاملة فــإن كــارل أوتــو آبــل اشــتهر‬
‫بالتداولية (البراجماتية ) الترنسندتالية‪ ،‬وإذا كانت البراجماتية الشاملة كما يصفها كــارل أوتــو‬
‫آبل في معــرض نقــده لهابرمــاس في كتابــه "التفك ير م ع هابرم اس ض د هابرم اس" « هي‬
‫تأســيس من األســفل للصــالحة يرتبــط ارتباطــا ضــروريا بتقــييم غــير واقعي ألنمــاط العــالم‬
‫المعيش »§‪ ،‬فــإن البراجماتيــة الترنســندتالية « هي التأســيس من األعلى انطالقــا من نقطــة‬
‫التأسيس النهائي الفكري للمحاججة »**‪ ،‬أي أن كارل أوتــو آبــل يقــدم التداوليــة الترنســندتالية‬
‫كبــديل هيكلي للتداوليــة الشــاملة‪ ،‬ويتبــنى خالفــا لهابرمــاس منظــورا ترنســندتاليا تشــكل فيــه‬
‫االفتراضات القبلية شروطا فعلية إلقامة الحجة‪ ،‬وتندرج األفعال اللغويــة ولعبهــا المختلفــة في‬

‫* ‪ -‬صليبا جميل‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪َ .299 ،‬‬

‫† ‪ -‬اللند أندري‪ ،‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.1474 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬ص‪.1475 ،‬‬

‫§ ‪ -‬آبل كارل أوتو‪ ،‬التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.85 ،‬‬

‫**‪ -‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.85 ،‬‬

‫‪113‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫هذا السياق بالبحث عن إقامـة البرهــان وإقــرار صــالحية مــا تدعيـه‪ ،‬يتم استخالصـها بفضــل‬
‫تحليل تأملي ذي طبيعة تداولية و ترنسندتالية (متعالية)* ‪.‬‬

‫وقــد أبــرز جــان مــارك فــيري االختالف بين مفهــومي ‪″‬التداوليــة الترنســندنتالية‪ ″‬و‬
‫‪″‬التداولية الشاملة‪ ″‬بكيفية أوضح حين قال‪ « :‬ففي الوقت الذي نجد فيه أن آبل قــد انخــرط في‬
‫إطــار المقاربــة الترنســندنتالية الهادفــة إلى إبــراز االفتراضــات النظريــة النهائيــة للتــأمثالت‬
‫الضـــروريةـ للممارســـة المفترضـــة‪ ،‬نجـــد أن هابرمـــاس انخـــرط في طريـــق أقـــرب إلى‬
‫الفينومينولوجيا‪ ،‬هدفه تعليم االفتراضات المعيارية المصاحبة لممارسات الوفاق »†‪.‬‬

‫وعلى ضــوء هــذا االختالف صــنف جــان مــارك فــيري آبــل في إطــار الخــط الفلســفي‬
‫المعــروف بـــالتأسيسوية ‪ ،*Fondationnisme‬بينما أدرج هابرمــاس في إطــار الخــط‬
‫الفلسفي المعروف بـ التشييدوية ( نزعة إع ادة البن اء)‪ ، Reconstructionnisme‬وفي‬
‫هذا الصدد يقول فيري‪ « :‬وإذا كان آبل ينشد تأسيسا معينا‪ ،‬فإن هابرماس يباشر عملية إعــادة‬
‫تأسيس‪ ،‬في الوقت نفسه الذي يمكنه دائما القول بالقابلية للخطأ‪ ،‬لكن دون أن يصل به األمــر‪،‬‬
‫كما هو الحال بالنسبة آلبل‪ ،‬إلى زعم وجود نظام استثنائي خاص بالمنطوقــات الترنســندنتالية‬
‫ومن ثمــة تقــديم تصــوره إلعــادة البنــاء بمــا هــو عنصــر يمكن تزويــره بــالرغم من أنــه غــير‬
‫تجريبي »‡‪.‬‬

‫وعلى عكس مقاربة جان مارك فــيري الــتي رأى من خاللهــا أن العالقــة بين التــداوليتين‬
‫الشــاملة والترنســندنتالية هي عالقــة تعــارض يقــدم البــاحث الفرنســي لــوك ليجيرنــال ‪Luc‬‬
‫‪ Leguérinel‬مقاربة مختلفة عنهــا تمامــا يــرى بموجبهــا أن التداوليــة الشــاملة لهابرمــاس‬
‫والتداوليـة الترنسـندنتالية آلبـل ليسـتا متعارضـتين بـل همـا على العكس من ذلـك متكـاملتين‪،‬‬
‫ويقــول في هــذا الصــدد‪:‬ـ « إن البراجماتيــة الشــاملة لهابرمــاس تتقــدم كمكملة للبراجماتيــة‬
‫*‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.150 ،‬‬

‫† ‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.60 ،‬‬
‫*‪ -‬ورد في كتاب "فلسفة التواصل" لجان مارك فيري المترجم من طرف عمر مهيبل مصطلح (‪ )Fondatonnisme‬في ص‪،60‬‬
‫وبعد البحث تبين لنا أن هناك خطأ مطبعي بسقوط الحرف (‪ )i‬وأن المقصود والصحيح هو (‪.)Fondationnisme‬‬

‫‡ ‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.60 ،‬‬

‫‪114‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الترنســندنتالية آلبــل‪ ،‬وفي نفس الــوقت كــدفاع عن الــدور الفــائق األهميــة للنشــاط التواصــلي‬
‫باعتباره شكال أعلى للعقل العملي‪ ،‬واستكماال للرجوع إلى كانط بشكل إعادة استثمار للمفهــوم‬
‫الكانطي "العقل العملي" لتمنح داللة خاصة للتواصل‪،‬ـ كما أنها دعــوة مثاليــة لمجتمــع عقالني‬
‫منظم بواسطة الفاعلية التواصلية‪ ،‬كمجتمع يقوم على النقاش والحوار بين مختلف المشــتركين‬
‫في وضعية مثالية للكالم‪ ،‬تحددها القيم والمعايير اإلتيقية بواسطة خطاب حر وحجاجي »*‪.‬‬

‫وبعيدا عن هذا الجدل حول العالقة بين التـداوليتين‪ ،‬يـرى كـارل أوتـو آبـل أن التداوليـة‬
‫الترنسندنتالية هي األساس المفهومي لتأسيس وبناء النظرية التواصــلية‪،‬ـ وقــد تنــاول آبــل هــذا‬
‫المفهوم وقام بتحليله في العديد من أعمالــه الفلســفية‪ ،‬وخاصــة في عمليــه األساســيين "تحويــل‬
‫الفلسفة" ‪ Transformation de la philosophie‬بجزأيه وكذلك في عمله "تفسير ‪ -‬فهم"‬
‫‪.Explique- comprendre‬‬

‫ففي عمله "تحويل الفلسفة" الذي يعد من أبرز األعمال المعبرة عن مشــروعه الفلســفي‪،‬‬
‫وهــو العمــل الــذي يتكــون من جــزأين حـاول آبــل من خاللــه تحديـد وتــبرير مفهـوم التداوليــة‬
‫الترنسندنتالية‪ ،‬حيث ركز في الجزء األول منــه على تحويــل الفلســفة الترنســندنتالية الكانطيــة‬
‫القائمة على الذات إلى فلسفة ترنسندنتالية قائمة على البينذاتية من طــرف بــيرس‪ ،‬وذهب آبــل‬
‫في أحد فصول هذا الجــزء إلى حــد وصــف بــيرس بأنــه « هــو كانــط الفلســفة األمريكيــة »†‪،‬‬
‫ووصف براجماتية بيرس بأنها تحويل لفلسفة كانط بعلم الرموز‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار يــرى آبــل‬
‫أن بيرس توصل إلى تحويل ناجح للفكر الكانطي‪ ،‬وهذا التحويل ليس مجرد تحويــل تــاريخي‬
‫بل هو كما يقول‪ « :‬ليس ترجمة لتاريخ الفلسفة الكانطية ولكنه إعادة بناء للمشــروع الكــانطي‬
‫في سياق جديد »‡‪ ،‬ومعنى ذلك أن هذا التحويل ال يهدف إلى هــدم ونفي المشــروع الكــانطي‪،‬‬
‫وإنما يهدف إلى تجديد وإثراء وبعث الفلسفة الترنسندنتالية الكانطية في صيغة جديدة‪.‬‬
‫‪- Leguérinel Luc, enjeux et limites des théories contemporaines de l’action: de la praxéologie à la‬‬
‫*‬

‫‪pragmatique, collection la philosophie en commun, L’Harmattan, 2009,p, 242.‬‬


‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Transformation de la philosophie I, Trad par Christian Bouchindhomme et Thiery‬‬
‫‪Simonelli et Denis Trieweiler, CERF, Paris, 2007, p, 414.‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 415.‬‬

‫‪115‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وهذا ما أوضــحه إدمونــدس أبســالون وهــو يتحــدث عن التحويــل الســميوطيقي للمنطــق‬


‫الترنسندنتالي لكانط من منظور آبل‪ « :‬مبادرة بيرس يمكن أن نفهمها كإعادة صــوغ تحــويلي‬
‫لنمطق كانط المتعالي بعلم الرموز‪ ،‬ويؤيد هذا الفهم أن الكثير من الكــانطيين يعتــبرون بــيرس‬
‫كانطيا محدثا [‪ ،]...‬وبيرس نفسه يعتبر منطقه [‪ ]...‬تحويال لنقد العقل الكانطي »*‪.‬‬

‫ويعتقد آبل أن جميع عناصر المشــروع المعــرفي الكــانطي (المثاليــة المتعاليــة) تحــولت‬
‫سيميوطيقيا‪ ،‬بمعنى أن فكرة الشعور الترنسندنتالي كموضــوع ومــبرر للمعرفــة الموضــوعيةـ‬
‫ذات الصالحية استبدلت بفكرة المجموعة الالمحـدودة لمســتخدمي العالمـات الـتي تسـعى إلى‬
‫توافق في اآلراء‪ ،‬وهو المعيار النهائي من أجل بينذاتية ذات صالحية‪ ،‬وفي هذا الصدد يقــول‬
‫آبل‪ « :‬يمكن اعتبار المنهج السميوطيقي كإعادة بناء نقدية لنقد العقل النظري‪ ،‬ألننــا من جهــة‬
‫نجد كل المميزات األساسية للمنطق التحليلي‪-‬األلسني الحــديث للعلم عنــد بــيرس‪ ،‬التميــيز بين‬
‫مشكالت الصالحية والتبرير كمسألة معيار المعنى‪ ،‬ومســألة معــايير إثبــات صــدق المعــارف‬
‫العلمية‪ ،‬واستبدال نقد الميتافيزيقا كنقد للمعرفة بواسطة نقد الميتافيزيقا كنقد للمعنى »†‪.‬‬

‫ويواصل آبل ثناءه على الدور الذي لعبه بيرس في إعادة بناء وبعث المشروع الكــانطي‪،‬‬
‫مرجعا الفضل في ذلك إلى معرفة بيرس الواسعة بتاريخ المنطق والفلســفة‪ ،‬وفي هــذا الصــدد‬
‫يقــول‪ « :‬أســس بــيرس القاعــدة الثالثيــة للمنطــق الســميوطيقي للعلم بفضــل تحويلــه للفلســفة‬
‫الترنسندنتالية الكانطية‪ ،‬وهنا يصبح من الممكن إثبات أن الجانب األكثر أهمية لعمله هــذا هــو‬
‫أنه يعتبر رائدا في المجال الجديد الذي أثمر المنطق الصوري الرياضي‪ ،‬أي منطق العالقــات‬
‫الذي وجد دافع له في منطق الفئات الثالث للعالمات »‡‪.‬‬

‫ومعنى ذلك أن سيميوطيقا بيرس تمثل ‪ -‬بالنسبة آلبــل‪ -‬المنهج المناســب الــذي لعب دور‬
‫الوســيط بين مختلــف وجهــات النظــر الكالســيكية في الفلســفة المعاصــرة‪ ،‬حيث قــام بــيرس ‪-‬‬

‫*‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.183 ،‬‬
‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Transformation de la philosophie I, Op.Cit, p 414.‬‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 415.‬‬

‫‪116‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫حسب آبل ‪ -‬بتطوير فكر نسقي جديد وتأسيس فلسفة أمريكية جديــدة تجــاوز بهــا في آن واحــد‬
‫هيوم وكانط‪ ،‬أي‪ :‬تجاوز التعارض بين التقاليد الكبرى للفكر الغربي (التجريبية والعقالنية)‪.‬‬

‫ولكن آبل ال يعتبر بيرس نسخة طبــق األصــل لكانــط بــل هنــاك في نظــره نقــاط اختالف‬
‫كثيرة بينهما منها مسألتي التمييز بين العقــل النظــري والعقــل العملي من جهــة‪ ،‬والتميــيز بين‬
‫النومان والفينومان‪ ،‬حيث ثار بيرس على التمييز األول واختفى معه كذلك التمييز الثاني*‪.‬‬

‫أما في الجزء الثاني من هذا العمل‪ ،‬فعــالج آبــل مســألتين أساســيتين لهمــا عالقــة مباشــرة‬
‫بالتداولية الترنسندنتالية‪ ،‬حاول في المسألة األولى منهما التوفيــق بين التيــارين األساســيين في‬
‫الفلسفة الغربية المعاصرة (التحليلي والقاري) من خالل إجراءه لحوار بين الهرمنيوطيقا ذات‬
‫األصول الهايدغرية ونظرية نقد المعنى ذات األصول الفينتجشتاينية‪ ،‬وفي المسألة الثانية قــام‬
‫آبــل بتحليــل مشــكلة كيــف يمكن للغــة أن تكــون أداة بينذاتيــة وحجاجيــة تســمح بتحويــل‬
‫الترنسندنتالية الكالسيكية القائمة على الــذات إلى قضــية اجتماعيــة وبينذاتيــة محـاوال البرهنــة‬
‫على لماذا "أنا أفكر" كمشروع كالسيكي يجب أن يستبدل بـ "أنا أحــاجج" من طبيعــة تداوليــة‬
‫وسيميوطيقية‪ ،‬وبالتالي تتحول الترنسندنتالية الذاتية إلى مجموعة تواصلية وحجاجية‪.‬‬

‫وفي هذا الصــدد وجــه آبــل انتقــادات شــديدة لنظريــات المعرفــة الكالســيكية قــائال‪ « :‬في‬
‫النظرية ما قبل السميوطيقية للمعرفة‪ ،‬يمكننا تصنيف كانط والوضعية الكالسيكية مــع نظريــة‬
‫الفهم في العلوم اإلنسانية التي طورها شالير ماخر ودلتاي‪ ،‬هذه النظرية كانت فقط تبحث في‬
‫مشكلة المعرفة مركزة على بعد واحد يتمثل في العالقة بين الذات والموضــوع [‪ ]...‬وبعبــارة‬
‫أخرى نقول‪ :‬اللغة أهملت كــأداة وســاطة [‪ ]...‬ولكن إهمــال اللغــة هــو دائمــا إهمــال للوســاطة‬
‫البينذاتية »† ‪.‬‬

‫وقد استعان آبل في فهمه وتوظيفه لسيميوطيقا بــيرس في مشــروعه الفلســفي بالدراســات‬
‫التي قام بها الفيلسوف األمريكي جون رويس حول هذا الموضــوع‪ ،‬وفي هــذا المجــال يقــول‪:‬‬
‫*‬
‫‪-Ibid, p, 427.‬‬

‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Transformation de la philosophie II, traduits sous la direction de Pol Vandevelde,‬‬
‫‪CERF, Paris, 2010, pp, 353, 354.‬‬

‫‪117‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫« في تحليله للعالقة بين "اإلدراك"ـ و"المفهوم" و"الفهم"‪ ،‬لم يحدد رويس فقط طريق التحول‬
‫الهرمنيوطيقيـ للفلسفة الترنسندنتالية‪ ،‬ولكنــه أيضــا مهــد الطريــق لنظــرة حاســمة للعالقــة بين‬
‫العلوم الطبيعية والعلوم اإلنسانية »*‪ ،‬ويضــيف قــائال‪ « :‬تفســير الهرمنيوطيقــا الترنســندنتالية‬
‫سميوطيقيا‪ ،‬حسب رويس‪ ،‬فتحت الطريق ليظهر معهــا بشــكل واضــح أن "الفهم" ال يمكن أن‬
‫يتضمن "التفسير"‪ ،‬وإنما يعتبره ظاهرة معرفية مكملــة للمعرفــة العلميــة تنطــوي على حقيقــة‬
‫موضوعية »†‪ ،‬وقد استثمر آبل جيدا هذه األبحاث في بناء مشروعه الفلسفي كما يصــرح هــو‬
‫بــذلك معترفــا‪ « :‬األفكــار الــتي تم عرضــها في الخــط الفكــري لــرويس‪ ،‬تثبت في نظــري أن‬
‫الفلسفة الترنسندنتالية التي تم تحويلها سميوطيقيا يمكن فهمها على نحو مالئم أصــال للتســاؤل‬
‫الهرمنيوطيقيـ انطالقا من المصلحة المنتظــرة من الفهم المتبــادل الــذي هــو مكمــل للمصــلحة‬
‫المعرفية العلمية‪ ،‬من حيث أن المجموعة التواصلية تجعل موضوع المعرفــة كوظيفــة توســط‬
‫بواسطة العالمات »‡ ‪.‬‬

‫ويرى آبل أن « ألعاب اللغة الترنسندنتالية للمجموعــة التواصــلية الالمحــدودة هي شــرط‬


‫إلمكانية العلـوم االجتماعيـة »§‪ ،‬أي أنـه يعتـبر المجموعـة التواصـلية كفرضـية ترنسـندنتالية‬
‫للعلوم االجتماعية‪ ،‬وهذا ما أوضحه من خالل األطروحتين التاليتين‪:‬‬

‫«‪ -1‬على عكس المنطــق العلمي المهيمن‪ ،‬أنــا أرى أن كــل نظريــة فلســفية في العلم يجب أن‬
‫تجيب عن الســـؤال الــذي وضــعه كانــط حــول الشــروط الترنســندنتالية إلمكانيــة وصــالحية‬
‫العلوم »** ‪.‬‬

‫«‪ -2‬وعلى عكس المدافعين عن األرثوذكسية الكانطية‪ ،‬فأنــا ال أرى أن الجــواب عن الســؤال‬
‫الذي وضعه كانط يتطلب الرجـوع إلى الفلسـفة الكانطيـة القائمـة على الشـعور الترنسـندنتالي‬
‫*‬
‫‪-Ibid, p, 354.‬‬

‫†‬
‫‪--Ibid, pp, 355, 356.‬‬

‫‡‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Transformation de la philosophie II, Op.Cit, p, 357.‬‬

‫§‬
‫‪-Ibid, p, 377.‬‬

‫**‬
‫‪-Ibid, p, 377.‬‬

‫‪118‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫العام‪ ،‬بل أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال المتعلــق بالموضــوع الترنســندنتالي للعلم يجب أن‬
‫يكون انطالقا من المعطيات المعرفية لفلسفة القرن العشرين التي تظهــر للعيــان أن اللغــة وأن‬
‫المجموعة اللغوية هي قيمة ترنسندنتالية »* ‪.‬‬

‫وقد أوضح آبل المبرراتـ التي دفعته إلى اتخاذ هــذا الموقــف قــائال‪ « :‬أعتقــد أن الســؤال‬
‫الترنسندنتالي الذي احتل مكانا مهما عند كانط تمت اإلجابة عنه من طرف كانــط على أســاس‬
‫معطيات المعرفة الكالسيكية وشروطها المتعالية‪ ،‬وهي معطيات تجاوزتها المعرفــة الجديــدة‪،‬‬
‫وعليه فإن البرهان الشعوري للمعنى عنـد ديكـارت وكانـط وأيضـا هسـرل ال يمكن أن يكـون‬
‫قاعدة لصالحية المعرفة »† ‪.‬‬

‫ولم يتوقف آبل عند حد عرض هذه المشكلة ونقد مختلف المواقــف الفلســفية بشــأنها‪ ،‬بــل‬
‫ذهب إلى حــد بعيــد في اقــتراح الحلــول وتقــديم البــدائل‪ ،‬وفي هــذا الصــدد يقــول‪ « :‬أعتقــد أن‬
‫المنهجين الفلسفيين األساسيين الذين يعود لهما الفضــل ‪ -‬في نظــري ‪ -‬كــأداتين مفتــاحيتين في‬
‫التحول الفلسفي الكانطي‪ ،‬هما من جهة مفهوم "ألعاب اللغة" عند فنتجشتين الثاني‪ ،‬ومن جهــة‬
‫أخــرى المجموعــة الالمحــدودة للبــاحثين الــتي افترضــها بــيرس أثنــاء تحويلــه الســميوطيقي‬
‫"للمنطق الترنسندنتالي الكانطي"‪ ،‬على نحو يصبح معه اإلجمــاع ممكنــا فيهــا حــول الحقيقــة‪،‬‬
‫هذه المجموعة تم استقراءها وتعميمها من طرف رويس تحت عنوان "المجموعة التفســيرية"‬
‫ومن طرف جورج هربرت ميد تحت عنوان "مجموعة الخطاب الكوني"ـ »‡‪.‬‬

‫وتوصل آبل بعد هذه الدراسـة "تحويـل الفلســفة" إلى نتيجـتين أسـاســـيتين‪ ،‬حيث يقــول‪:‬‬
‫« نجد أن النتيجــتين "األثــرين" األكــثر أهميــة من هــذا التحويــل للفلســفة الترنســندنتالية الــتي‬
‫توقعها بيرس في تداوليته السميوطيقية الترنسندنتالية هما »§‪.‬‬

‫*‬
‫‪-Ibid, p, 377.‬‬

‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Transformation de la philosophie II, Op.Cit, pp, 378, 379.‬‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 381.‬‬

‫§‬
‫‪-Ibid, p526.‬‬

‫‪119‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ « -1‬تحويل الفلسفة هو استبدال "أنا أفكر" بـ "المجموعة التواصــلية"‪،‬ـ وبالتــالي فهي إعــادة‬
‫بناء للمشروع الفلسفي الكانطي »*‪.‬‬

‫‪ « -2‬األثر الثاني لهذا التحول الفلسفي الترنسـندنتالي لمفهوم فلسفة اللغة يكمن في ‪ -‬نظري ‪-‬‬
‫في إقصاء التمييز بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية [‪ ]...‬وهكذا فإن الفكــر الهرمــنيوطيقيـ‬
‫الترنســندنتالي حــول الشــروط الممكنــة للفهم المشــترك اللغــوي في مجموعــة ال محــدودة‬
‫للتواصـل‪،‬ـ يبــدو أنــه أعــاد الوحــدة للفلسفـــة األولى باعتبارهــا وحــدة للعقــل النظـــري والعقــل‬
‫العمـلي »†‪.‬‬

‫أمــا في عملــه "تفســير‪ -‬فهم" الــذي خصصــه لتحليــل المنــاهج المســتعملة في العلــوم‬
‫االجتماعية‪ ،‬حيث انصب اهتمامه فيه بإبسـتمولوجيا العلـوم االجتماعيـة‪ ،‬وهـذا االهتمـام قـاده‬
‫إلى إعادة طرح ذلك الصراع المنهجي الذي جرى في بداية القرن العشرين خاصة بين دلتاي‬
‫‪ W.Dilthey‬وماكس فييــبر ‪ M.Weber‬بخصــوص المنهج الــذي يجب أن يتبــع في علــوم‬
‫الروح‪ ،‬وهنا استعرض آبــل أوال الموقــف الهرمــنيوطيقيـ من العلــوم االجتماعيــة انطالقــا من‬
‫شالير ماخر ودلتاي ووصوال عند هسرل‪ ،‬وهو الموقف الذي يرى أن العلوم االجتماعية هي‬
‫علوم تأويلية‪ ،‬ثم انتقــل إلى عــرض وتحليــل الموقــف الوضــعي من مشــكلة المنهج في العلــوم‬
‫االجتماعية انطالقا من موقف الفيلسوف الفرنسي أوغســت كــونت ‪ A.Comte‬ووصــوال إلى‬
‫مواقف كل من كارل بوبر وهمبل ‪*Hempel‬وأوبنهايم‪،** Oppenheim‬وهــو الموقــف‬
‫الذي يعتقد بوحدة المنهج العلمي بين العلوم الطبيعية والعلوم االجتماعيــة‪ ،‬وعليــه في نظــرهم‬
‫فإما أن تكون العلــوم االجتماعيــة علومــا وضــعية أو ال تكــون‪ ،‬ثم عــرض بعــد ذلــك الموقــف‬

‫*‬
‫‪-Ibid, p527.‬‬

‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Transformation de la philosophie II, Op.Cit, p, 528.‬‬

‫همبل كارل غوستاف (‪ 1905‬ألمانيا‪ 1997-‬و م أ)‪ ،‬أحد أبرز فالسفة العلم المعاصرين‪ ،‬وأحد رواد الوضعية المنطقية‪ ،‬تأثر بالمبدأ ‪*-‬‬
‫‪.‬العلمي الذي وضعه هيزنبرغ "الالحتمية"‪ ،‬من أبرز أعماله‪ :‬فلسفة العلوم الطبيعية‬

‫أوبنهايم بول (‪ ،)1977 -1885‬صناعي وكيميائي ألماني‪ ،‬هاجر إلى و م أ سنة ‪ 1939‬ثم عاد إلى ألمانيا بعد نهاية ح ع ‪ ،2‬له ‪**-‬‬
‫‪ .‬عدة أعمال مشتركة مع همبل‪ ،‬من أشهرها‪ :‬فلسفة العلم‬

‫‪120‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المتــأخر لفنتجشــتين من هــذه المشــكلة‪ ،‬وهــو الموقــف الــذي طمح إلى إعــادة تجديــد العلــوم‬
‫االجتماعية من حيث أنها يمكن أن تجمع بين الفهم والتفسير*‪.‬‬

‫وقد اعتمد آبل في تحليل أطروحتــه "التداوليــة الترنســندنتالية"ـ في هــذا العمــل والمتعلقــة‬
‫بالعلوم االجتماعية كما صرح بذلك في أكثر من موقع منه على عمل مشابه لــه في العنــوان (‬
‫‪ )Explication et Compréhension‬للفيلســوف الفنلنــدي ج ورج هنري ك ف ون رايت‬
‫)‪.*Georg HenrikVonWright (1916-2003‬‬

‫وفي هــذا المســتوى من محاولتــه للبحث عن حــل للمشــكلة الخاصــة بنظريــة العلــوم‬
‫االجتماعية والمتعلقة بالخالف أو الجدل بين التفسير والفهم‪ ،‬رأى آبل أن السؤال الذي يطــرح‬
‫نفسه في أعقاب هذه الفلسفة األساسية يتجاوز الكيفية المفترضة لحــد اآلن كعالقــة نظريــة بين‬
‫الــذات والموضــوع‪ ،‬حيث أشــار آبــل إلى مســاهمة الفلســفة األساســية إلبســتمولوجيا العلــوم‬
‫االجتماعية‪ ،‬ورأى أنها تتفق في نظــره مــع التحــول التــداولي الترنســندنتالي الــذي ينــدرج في‬
‫المسعى الكانطي للفلسفة الترنسندنتالية الحديثة†‪.‬‬

‫وقــد أراد آبــل أن يحــدد النقطــة الحاســمة في هــذا المســعى‪ ،‬وفي هــذا الصــدد رأى أن‬
‫"المذهب الكانطي" يبقى هو المذهب األكثر تميزا واألكــثر إثــارة لإلشــكاليات الفلســفية‪ ،‬ألنــه‬
‫مـذهب مـيز بين عـالم "الفينومـان ‪ "Phénomènes‬و"األشـياء في حـد ذاتهـا ‪Choses en‬‬
‫‪ ،"soi‬وفي نظره فإن هذا المذهب المركزي لكانط يتضمن بعدين‪ :‬بعد تقــدمي ‪،Progressif‬‬
‫وبعد رجعي ‪ ،Régressif‬فهو يتضمن بعـد تقـدمي ألنـه يـرفض أوهـام الميتافيزيقـا مـا قبـل‬
‫الكانطية‪ ،‬بحيث يمكن الحديث دون عبث عن عالم كموضوع قابل للمعرفة من طرف الــذات‪،‬‬
‫ويمكن أن نبحث فيه ‪ -‬في نفس الوقت ‪ -‬بشــروط ترنســندنتالية وذاتيــة‪ ،‬ويمكن تأســيس معــنى‬
‫موضوع هذا العالم‪ ،‬وبالتالي إمكانية توفر شروط الصــالحية الموضــوعية لمعرفــة تجريبيــة‪،‬‬
‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Expliquer– Comprendre:la controverse central des sciences humaines une‬‬
‫‪approche pragmatico-transcendantale, traduit de l’allemand par Sylvie Mesure, les Éditions du‬‬
‫‪CERF, paris, 2000, p [31- 115].‬‬

‫† *‪ -‬جورج هنريك فون رايت‪ ،‬فيلسوف فنلندي‪ ،‬كان يكتب باللغة السويدية‪ ،‬من أشهر أعماله‪. Le mythe du progrès:‬‬

‫‪-Apel Karl-Otto, Expliquer – Comprendre, Op.Cit, p, 309.‬‬

‫‪121‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫أما البعد الرجعي الذي يتضمنه هذا المذهب فيتمثل في رفضه األوهام النظرية ‪-‬األنطولوجيــة‬
‫التي يمكن أن يكون عليها اإلنسان‪ ،‬وبالتالي ال يمكن الحديث عن روح خالصة*‪.‬‬

‫ويرى آبل أن عمق النقد والميتافيزيقا الذي تميز بهما المسعى والنسق الكانطي يسمح لنــا‬
‫بأن نفهم المفارقة الداخلية بين "الفهم والتفسير" ألن المحاوالت الرامية الختراق هذه المشكلة‬
‫تقوم دائما بإعادة إنتاج هذه المفارقة‪ ،‬وهنا تساءل آبل‪ :‬كيف يمكن للبعــد التقــدمي في المســعى‬
‫الكــانطي التحقــق في إطــار التحــول الــواعي للفلســفة الترنســندنتالية دون أن يســقط في أوهــام‬
‫النظرية الميتافيزيقية ‪-‬األنطولوجية؟†‪.‬‬

‫ولكن آبل يرى أن زمن المفارقات قد تم "تجاوزه" وتبعا لــذلك يجب االعتمــاد على مبــدأ‬
‫أو شرط القابلية للخطأ الذي وضعه "بيرس"ـ حين ميز بين "المعرفة الممكنــة" و"مــا ال يمكن‬
‫معرفته إطالقا" من طرف الذات‪ ،‬ألن المعايير الحاسمة من وجهة النظر النقديــة تعتــبر النقــد‬
‫العقلي عملية مختلفة جذريا عن مفهوم المعرفة‡‪.‬‬

‫ويعتقــد آبــل أن التحــول الفلســفي‪ ،‬بالنســبة للفلســفة األساســية انطالقــا من منظــور تميــيز‬
‫النظرية العلمية أدى إلى تأسيس ب راديغم جديد‪ ،‬عنوانــه "البراجماتي ة الترنس ندنتالية" الــذي‬
‫يجمع بين األنطولوجيا والسميوطيقا‪ ،‬وبالتالي أصبح للفلسفة مفهوم جديد يمكن أن نطلق عليه‬
‫اسم "التداولية الترنسندنتالية" أو"السميوطيقا الترنسندنتالية"‪ ،‬وهو مفهــوم مختلــف تمامــا‬
‫عن مفهوم الفلسفة التحليلية التي أهملت الميتافيزيقا‪ ،‬ومختلف كذلك عن الفلسفة الترنسندنتالية‬
‫الــتي أهملت اللغــة‪ ،‬وهــذه البراجماتيــة الترنســندنتالية أو الســميوطيقا الترنســندنتالية قــدمت‬
‫مشروع البراديغم الثالث للفلسفة األولى على المستوى المنهجي للفلسفة§‪.‬‬

‫وفي هذا المجال قال كارل أوتو آبل في الصفحات األخيرة من عمله هذا‪ « :‬يمكننــا لحــد‬
‫اآلن ‪ -‬وعلى الــرغم من الفتوحــات الجديــدة لفنتجشــتين‪ -‬تقــديم رأي عــادل ليس على مســتوى‬
‫*‬
‫‪-Ibid, pp, 309, 310.‬‬
‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Expliquer – Comprendre, Op.Cit, pp, 310. 311.‬‬

‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 311.‬‬
‫§‬
‫‪- Ibid, p, 320.‬‬

‫‪122‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫التفكير المتأثر بالفلسفة الترنسندنتالية الكالسيكية لكانط وهيغــل‪ ،‬وليس على مســتوى إشــكالية‬
‫الديالكتيك الهرمنيوطيقي للروح والثقافة والعلوم االجتماعية الذي كان محـل نقـاش بين هيغـل‬
‫وماركس ودلتاي والكانطيون الجــدد ومــاكس فييــبر‪ ،‬ولكن على مســتوى معــايير الســميوطيقا‬
‫الترنسندنتالية المتكاملة مع الفتوحات المنهجية للفلسفة التحليلية للغة‪ ،‬دون أن نهمل سميوطيقا‬
‫براجماتزم الفلسفة األمريكية للتواصل التي جاء بها كل من بيرس وجــون رويس ‪J.Royce‬‬
‫وجورج هربرت ميد ‪ J.H.Mead‬لتكــون فكــرة الترنســندنتالية كابراديغم للعقالنيــة الفلســفية‪،‬‬
‫يمكنهــا أن تمنح للفلســفة األساســية لنظريــة العلــوم المختلفــة "األنطــو‪-‬ســميوطيقية" المــيزة‬
‫"البراجماتية الترنسندنتالية" التي أصبحت اليوم مطلبا ضروريا في الفلسفة »*‪.‬‬

‫وهذا ما أكده الباحث الفرنسي تيري بريو‪ Thierry Briault‬في عمله الهام "فلسفات‬
‫الحس المشترك‪ :‬البراجماتية والتفكيكية" حيث رأى أن مشــروع الســميوطيقا الترنســندنتالية‬
‫الذي وضعه آبل هو رغبة في عودة الفلســفة المتعاليــة وتأكيــد لوجــود االفتراضــات التداوليــة‬
‫والترنسندنتالية للحجاج†‪ ،‬وقـال في هـذا الصـدد‪ « :‬مشـروع السـميوطيقا الترنسـندنتالية يبـدو‬
‫كمركب بين الترنسندنتالية والبراجماتية »‡‪.‬‬

‫ويرى تيري بريو أن صالحية البينذاتية للعالمات حددت أسس السميوطيقا الترنسندنتالية‬
‫التي اقترحها آبل‪ ،‬ألنها تأخــذ بعين االعتبــار مقــوالت الفئــات الثالث الـتي وضـعها "بـيرس"ـ‬
‫وهي‪ :‬األوليات ‪ Priméité‬والثنائيــات ‪ Secondéité‬والثالثيــات ‪ Tiercéité‬الــتي اعتبرهــا‬
‫كمفهوم وحيد للفينومينولوجيا تســمح بالربــط بين فينومينولوجيــا الوضــوح والفلســفة التحليليــة‬
‫للغة‪ ،‬في حين أن المنطق السميوطيقي للوضعية الجديدة أغفل أو تجاهل الوظيفـة البراجماتيـة‬
‫للعالمات§‪.‬‬

‫*‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Expliquer – Comprendre, Op.Cit, pp, 320, 321.‬‬
‫†‬
‫‪- Briault Thierry, les philosophies du sens commun: pragmatique et déconstruction, l’harmattan,‬‬
‫‪2004, p, 243.‬‬
‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 243.‬‬
‫§‬
‫‪-Ibid, pp, 244, 245.‬‬

‫‪123‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وقــد أوضــح تــيري بريــو مفهــوم الــبراديغم الجديــد الــذي مثلتــه التداوليــة الترنســندنتالية‬
‫أو الســـميوطيقا الترنســـندنتالية حين قـــال‪ « :‬إن آبـــل في نصـــه المعنـــون بــــ "الســـميوطيقا‬
‫الترنســـندنتالية" وبـــراديغم الفلســـفة األولى‪ ،‬تحـــدث عن ثالث براديغمـــات كـــبرى‪ ،‬أوله ا‬
‫األنطولوجيا والميتافيزيقا في معناها األرسطي‪ ،‬وثانيها هو الفلسفة الترنس ندنتالية بمعناه ا‬
‫الك انطي أو الفلس فة الحديث ة من ديك ارت إلى هس رل‪ ،‬وثالثه ا ه و ب راديغم الس ميوطيقا‬
‫الترنسندنتالية‪ ،‬والتي هي في حد ذاتها إنجاز للفلسفة التحليلية للغة »*‪.‬‬

‫ويعني هذا أن السميوطيقا عند آبل ليست مجرد علم أو نظرية عامة للعالمات واللغة‪ ،‬بل‬
‫هي إلى جــانب ذلــك منطــق أو منهج للعلــوم األخــرى‪ ،‬فهي من جهــة أداة لتحويــل الفلســفة‬
‫الترنســندنتالية الكانطيــة إلى فلســفة تواصــلية‪ ،‬ومن جهــة أخــرى هي كــذلك أداة للتوحيــد بين‬
‫العلوم الصورية (النحو البحت والمنطق والبالغة البحتية)⃰ والعلوم االجتماعية‪.‬‬

‫ويرى إدموندس أبسالون أن التداولية الترنسندنتالية هي مفهوم جديد للفلســفة ونتيجــة من‬
‫نتــائج برنــامج تحويــل الفلســفة الــذي قــام بــه آبــل والــذي ســعى فيــه إلى إعــادة بنــاء الفلســفة‬
‫الترنسندنتالية الكالسيكية‪ ،‬ويقول في هذا الصدد‪:‬ـ « يريــد آبــل أن يحافــظ على طــرح الســؤال‬
‫المتعالي (الترنسندنتالي) المعروف منذ كانط ولكن على شــكل مح ـ ّول أيضــا في الفلســفة ذات‬
‫التوجه اللغوي‪ ،‬فهو يتكلم على ضرورة استئناف إشكالية الفلسفة المتعاليــة بمفــاهيم علم اللغــة‬
‫ويرى في ذلك سبال لتحقيق هذا البرنامج »†‪ ،‬وتتمثل هــذه الســبل في‪ « :‬الســبيل األول تكــون‬
‫في علم الرموز الذي حدده ش‪.‬س‪.‬بيرس[ـ‪ ،]... ‬والسبيل الثانية تبين علم المنطق النحوي الذي‬
‫طوره كارناب‪ ،‬والثالثة تتفرع عن تحليل اللغة عند فنتجشــتاين في مــا يســمى بـــ"فلســفة اللغــة‬
‫العاديــة"‪ ،‬والرابعــة مبــدأي النحــو التحــويلي الــذي طــوره نعــوم تشومســكي ‪))Chomsky‬‬
‫ونظرية أفعال الكالم ألستين وسيرل‪ ،‬وقد اتبــع آبــل الســبيل األول أساســا في محاولتــه تحديــد‬
‫الفلسفة تحديـدا جديـدا‪ ،‬أمـا السـبل األخـرى الثالث فـأكثر مـا اسـتخدمها كـان لمسـاندة موقفـه‬
‫*‬
‫‪-Briault Thierry, les philosophies du sens commun: pragmatique et déconstruction, Op.Cit, p, 248.‬‬

‫‪.‬وهي فروع السميوطيقا عند بيرس ‪* -‬‬

‫† ‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليت الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.158 ،157 ،‬‬

‫‪124‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الفلسفي »*‪ ،‬وأما عن وظيفة هذه الفلسفة الجديدة فيقــول أبســالون‪ « :‬التداوليــة المتعاليــة الــتي‬
‫دشنها آبل‪ :‬هي فلسفة تجيب بصورة مناسبة على وضعية الفلسفة الراهنة [‪ ]...‬إنها تتمثــل في‬
‫المقام األول في كون المسائل المتعلقــة بإمكـان شــروط المعرفـة واألخالق تبقى دائمـا مسـائل‬
‫مركزية في الفلسفة »†‪.‬‬

‫خالصة‪:‬‬
‫وعلى ضوء مـا ســبق يتضــح أنــه رغم انتمــاء كــل من هابرمــاس وكــارل أوتــو آبــل إلى‬
‫التراث الفكري لمدرســة فرانكفــورت ونظريتهــا النقديــة‪ ،‬ورغم اشــتراكهما معــا في مشــروع‬
‫التحول الفلسـفي (اللسـاني) في بدايــة السـبعينيات من القــرن الماضــي‪ ،‬وهـو المشـروع الـذي‬
‫أحدث تقاربا واندماجا بين الفلسفة التحليلية األنجلوساكسونية والفلسفة القارية التي غلب عليها‬
‫الطابع الهرمنيوطيقي‪ ،‬ولكن هذا االتفاق والعمل المشترك كان بصــورة مؤقتــة حيث ســرعان‬
‫ما حدث اختالف جذري بينهما تحول إلى صراع فكري حاد‪ ،‬فأين يتجلى هذا االختالف؟‬

‫‪ -‬كان الطابع العام لفلسفة هابرماس سياسيا‪ ،‬بينما كان الطابع العام لفلسفة آبل أخالقيا‪.‬‬

‫‪ -‬كانت المرجعية األساسية لهابرماس هي الفينومينولوجيا والديالكتيك الهيغيليين وتداولية أوستين‬


‫وسيرل‪ ،‬بينما كانت المرجعية األساسية آلبل هي الترنسندتالية الكانطية وسميوطيقا بيرس ‪.‬‬

‫‪ -‬الهيكل العام لفلسفة هابرماس هو البراجماتية (التداولية) الشاملة‪ ،‬بينما الهيكل العام لفلســفة آبــل‬
‫هو البراجماتية (التداولية) الترنسندتالية‪.‬‬

‫‪ -‬سلم هابرماس بتأســيس مبــدأ التداوليــة الشــاملة على افتراضــات المحاججــة في العــالم المعيش‪،‬‬
‫ورفض أن يعطي لهذا المبدأ قانون التأسيس النهائي‪ ،‬فبالنسبة له ال توجد ضرورة وال فعاليــة وال‬
‫قوة تقتضي ذلك‪ ،‬بينما أثبت آبل التأسيس النهــائي للفلســفة ورأى أن إتيقــا الخطــاب (النقــاش) هي‬
‫افتراض للتحول اللساني الذي يعني ضمنا أن اللغة هي أساس العالقة مع الغير‪.‬‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.159 ،158 ،‬‬

‫† ‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليت الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.203 ،‬‬

‫‪125‬‬
‫إشكالية التواصل بين هابرماس وكارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ -‬تندرج فلسفة هابرماس في إطار النزعة التشييدوية (إعادة البناء) ‪،Reconstructionnisme‬‬


‫بينما تندرج فلسفة كارل أوتو آبل في إطار النزعة التأسيسوية ‪.Fondationnisme‬‬

‫‪126‬‬
:‫الفصل الثالث‬

« Apel considère que l’éthique de la discussion se compose de deux partie: la


partie A, consacrée à la fondation du principe moral, et la partie B, qui a traite à
l’application du principe dans la vie sociale et qui doit compter sur l’histoire, À
ce niveau, le mot clé est "responsabilité."».Cortina Adela, Éthique de la discussion et
fondation ultime de la raison, (in) Renaut Alain et al. Les philosophies politiques contemporaines 5,
Calmann-Lévy, 1999, p, 188.

‫ الجــانب األول ويتعلــق بتأســيس المعــايير‬:‫« إن إتيقــا النقــاش عنــد آبــل تتكــون من جــانبين‬
‫ والجــانب الثــاني يتعلــق بمــدى تطــبيق هــذه المعــايير في الحيــاة االجتماعيــة عــبر‬،‫األخالقيــة‬
‫ أديلة كورتينا (ممثلة مدرسة‬.»"‫ والكلمة المفتاحية في ذلك هي "المسؤولية‬،‫التاريخ‬
)‫فرانكفورت بجامعة فالنسيا بإسبانيا‬
‫‪III‬الفصل الثالث‪:‬إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل ‪-‬‬
‫مدخل‬
‫‪ – 1‬المبحث األول‪ :‬إتيقا النقاش والمسؤولية عند آبل‬
‫أ‪ -‬المطلب األول‪ :‬اإلتيقا والنقاش‬
‫ب‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬اإلتيقا والمسؤولية‬
‫‪ -2‬المبحث الثاني‪ :‬إتيقا العلم والسياسة عند آبل‬
‫أ‪ -‬المطلب األول‪ :‬اإلتيقا والعلم‬
‫ب‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬اإلتيقا والسياسة‬
‫خالصة‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫‪:III‬إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‪-‬‬


‫مدخل‪:‬‬
‫عرف العالم في الفــترة المعاصــرة تحــوالت عميقــة في جميــع المجــاالت خاصــة في‬
‫المجال العلمي بشقيه الطبيعي المادي والطبيعي اإلنساني‪ ،‬وهو األمر الذي ترتب عليــه أيضـا‬
‫تطور تقني مذهل‪ ،‬فمن جهة هناك تطور كبير في علوم المادة وتكنولوجيــا االتصــال أدى إلى‬
‫ثورة في مجال االتصال والتواصــل‪ ،‬حيث تقلصــت المســافات والــزمن بواســطة التكنولوجيــا‬
‫أضحى العـالم معهـا عبــارة عن قريــة كونيـة‪ ،‬ومن جهــة أخـرى هنــاك تقـدم هائــل في مجـال‬
‫البيولوجيا واألبحاث الوراثية والطب‪ ،‬ولكن هذا التطــور العلمي والتقــني تــرتبت عليــه نتــائج‬
‫ســلبية على عالمنــا من الناحيــة البيئيــة واالجتماعيــة وعلى المنظومــة القيميــة لإلنســان‪ ،‬فعلى‬
‫المستوى البيئي أصبح عالمنا اليوم يعيش أزمة إيكولوجية خطيرة نتيجة التلوث والخطر الذي‬
‫أصبح يشكله الثقب الذي حدث في طبقة األوزون‪ ،‬وعلى المستوى االجتمــاعي أصــبح العــالم‬
‫يعاني من أزمات متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية مثل الحروب والالمساواة االجتماعية‬
‫والمديونيــة والهجــرة والجريمــة وغيرهــا‪ ،‬وهــذا مــا أدى بفالســفة اإلتيقــا إلى « االهتمــام‬
‫باالنقالبات االجتماعية الــتي تضــرب العــالم طــوال وعرضــا ســواء مــا تعلــق منهــا بــالفرد أو‬
‫المجتمع كالتحرر الجنسي‪ ،‬العدالة‪ ،‬الممارسـة السياسـية‪ ،‬الحركــات النسـوية‪ ،‬إلى غيرهـا من‬
‫االنشغاالت األخرى »*‪ ،‬إضافة إلى قضية « طغيان النزعــة العلميــة أوالعلمويــة على مجمــل‬
‫مناحي الحياة المعاصرة والتي أفرزت مطارحات تحــوم جلهــا حــول مخــاطر التطــور العلمي‬
‫على الطبيعة أو المحيط وعلى اإلنسان ذاته »†‪ ،‬أي أن هذه القضايا وغيرها كمــا يــرى أحمــد‬
‫عبد الحليم عطية قادت إلى تحول في الوجــدان األخالقي ومبــادئ المجتمــع المعياريــة « حين‬
‫يسود الفراغ الروحي ويفقـد التعــالي‪ ،‬تظهـر األخالق النظريـة الجديـدة بطبيعتهـا المزدوجــة‪،‬‬
‫بصفتها فلسفة أخالق‪ ،‬أسس أخالق وباعتبارهــا أخالق نظريــة تطبيقيــة »‡‪ ،‬وأصــبح الســؤال‬
‫* ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ( ،7 ،‬من مقدمة المترجم )‪.‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫‪ -‬عطية أحمد عبد الحليم‪ ،‬قراءات في األخالقيات الراهنة‪ ،‬دار الثقافة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،2010 ،‬ص‪.13 ،‬‬ ‫‡‬

‫‪130‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الحاسم هنا « كيف يمكن في عالم توقف عن الرجــوع إلى غايــات وفقــد كــل أســاس إلهي عن‬
‫تقديم صياغة لألخالق النظرية أن يشكل مفاهيم ومبــادئ قيميــة جديــدة‪ ،‬وكيــف نبتكــر أخالقــا‬
‫نظريــة جديــدة؟ »*‪ ،‬ولكن الجــواب عن هــذا الســؤال ونظــرا للتغــيرات الــتي طــرأت على‬
‫المنظومة القيمية للمجتمعات المعاصرة نتيجة التطورات المعرفية والتقنية الــتي عرفتهــا هــذه‬
‫المجتمعات أدى إلى تعدد االتيقيات‪ ،‬وهذا ما عبر عنه عمر مهيبل بقوله‪ « :‬إن اإلتيقا تشذرت‬
‫إلى إتيقيات بفضل التصدعات التي ضربت البنية الرسوبية للمجتمعات المعاصرة »†‪.‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬فقد عرف الفكر الفلسفي المعاصر جدال وحوارا ونقاشـا واســعا بين الفالســفة‬
‫في هذا المجال‪ ،‬حيث طرح المفكرون المعاصرون فلسفات أخالقية أو اتيقيات عديدة ال يتسع‬
‫المجال هنا لتحليلها بعمق ولكن بوسعنا أن نشير هنا إلى الخطوط العريضة ألهم هذه األفكــار‬
‫الفلسفية‪ ،‬وفي هذا المجال اشتهر الفيلسوف الفرنسي ليفيناس بأخالق التعالي الــديني « يؤكــد‬
‫ليفيناس على العالقة باآلخر‪ ،‬الــتي هي أكــثر حســما من العالقــة بــالوجود‪ ،‬فليس الوجــود هــو‬
‫المسألة األساسية‪ ،‬بل األخالق النظرية‪ ،‬العالقة باألفراد‪ ،‬عالقة ‪″‬الوجه‪ -‬وجه‪ ″‬عالقــة اللقــاء‬
‫باآلخر‪ ،‬فأنا أدرك مسؤوليتي أمام الوجه‪ ،‬وتنبثــق األخالق النظريــة أمــام وجــه اآلخــر‪ ،‬عــبر‬
‫عالقة اإلنساني‪ ،‬إن اللقاء باآلخر هو اإلحساس بالمسؤولية تجاهه »‡‪ ،‬كمـا اشــتهر الفيلســوف‬
‫األلماني هانس يوناس بأخالق المسؤولية « الذي حاول أن يعيد بناء نظرية المســؤولية تحت‬
‫مفهوم أخالق المسـتقبل‪ ،‬تجاوبــا مـع ضــرورة التفكــير في المشــكالت األخالقيــة الناجمـة عن‬
‫الحضــارة التكنولوجيــة »§‪ ،‬كمــا « تعــد ‪″‬نظريــة العدالــة‪ ″‬الــتي قــدمها ج ون راولس أحــد‬
‫النصوص المعاصرة األكثر شهرة في الفلسفة األخالقية النظرية والسياســية‪ ،‬وهــو في الواقــع‬
‫كتاب أخالق نظرية وفكر سياسي على نحو ال ينفصل‪ ،‬وفيه يطرح راولس تساؤالت حول ما‬
‫العدالــة؟ مــا النظــام العــادل المســتقر؟ كيــف تفهم القواعــد الــتي تهيمن على توزيــع الخــيرات‬

‫* ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫† ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ( ،7 ،‬من مقدمة المترجم )‪.‬‬

‫‡ ‪ -‬عطية أحمد عبد الحليم‪ ،‬قراءات في األخالقيات الراهنة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.33 ،‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.47 ،‬‬

‫‪131‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫والمصــالح األساســية »*‪ ،‬كمــا اشــتهر هابرم اس بأخالقيــات الحــوار والتواصــل‪،‬ـ [وهي‬
‫األخالقيات التي تم التطرق إلى بعض مميزاتهــا في الفصــل الســابق عنــد دراســتنا لمشــروعه‬
‫الفلسفي التواصلي]‪،‬ـ كما ساهم هابرماس في المبحث األخالقي الجديد المعروف بـــ ‪″‬األخالق‬
‫التطبيقية‪[ ،″‬وهو المبحث الذي تم التطرق إليه أيضــا في الفصــل األول عنــد محاولتنــا تحديــد‬
‫مفهوم اإلتيقا ومجاالتها]‪ ،‬حيث كان لهابرمــاس في هــذا المجــال عمال فلســفيا خاصــا بعنــوان‬
‫‪″‬مستقبل الطبيعة البشرية‪ .‬هل نسير نح و نزع ة لتحس ين النس ل البش ري؟‪ ،″‬وهو العمــل‬
‫الذي سعى فيه هابرماس « إلى إثــارة االنتبــاه إلى أخطــار محتملــة يمكن أن تجلبهــا معطيــات‬
‫التقدم العلمي التي تشهده حاليــا ميــادين العلــوم الطبيــة وعلــوم الحيــاة »†‪ ،‬وقــد كــان فيلســوفنا‬
‫موضوع هذا البحث كارل أوتو آبل أحد أبــرز المســاهمين في هــذا النقــاش الفلســفي‪ ،‬وشــاهدا‬
‫على كل هذه األحداث والتحوالت الفكرية والعلمية والتقنيــة والسياســية والبيئيــة‪ ،‬فكيــف نظــر‬
‫إلى هذه التحوالت العميقة التي شهدها العالم المعاصر؟‬

‫‪ -1‬المبحث األول‪ :‬إتيقا النقاش والمسؤولية عند كارل أوتو آبل‬

‫أ‪-‬المطلب األول‪ :‬اإلتيقا والنقاش‬


‫نود في البداية هنــا أن نشــير إلى أن الفلســفة األخالقيــة لكــارل أوتــو آبــل‪ ،‬وبإجمــاع كــل‬
‫الدارسين لفلسفته تندرج في إطار ما عرف في الفلسفة المعاصرة وخاصة لدى فالسفة الجيــل‬
‫الثاني لمدرسة فرانكفورت في فلسفة ‪″‬أخالقيات النقاش‪ ″‬أو ‪″‬أخالقيــات الحــوار والتواصــل‪″‬‬
‫على غرار فلسفة رفيقه وخصمه هابرماس‪ ،‬وفي هذا اإلطار يقول عبد الحليم عطيــة‪ « :‬يقــدم‬
‫لنا كارل أوتو آبل [‪ ]...‬مشروع جماعة اتصالية وأسس األخالق النظرية‪ ،‬حيث يطرح أســس‬
‫الخطــاب األخالقي‪ ،‬الــذي توســع فيــه هابرمــاس‪ ،‬وينطلــق من األخالق النظريــة لتحليــل‬
‫المشــكالت المعاصــرة ويكشــف عن عوائــق تأســيس األخالق النظريــة تأسيســا عقليــا لصــالح‬
‫المجتمع البشري ككل‪ ،‬فالحاجة إلى األخالق أكثر إلحاحا في هذا العصر من أي وقت مضى‪،‬‬

‫* ‪-‬عطية أحمد عبد الحليم‪ ،‬قراءات في األخالقيات الراهنة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.53 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.79 ،‬‬

‫‪132‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫خاصة بعد فشل االتجاهات الوضعية في تناول المشــكالت األخالقيــة »*‪ ،‬ولكن فلســفة كــارل‬
‫أوتو آبل األخالقية تتمــيز عن نظيرتهــا عنــد هــابرمس كمــا يجمــع على ذلــك أغلب الدارســين‬
‫أمثــال عبــد الحليم عطيــة الــذي يقــول في هــذا الشــأن‪ « :‬أســس هابرمــاس األخالق النظريــة‪،‬‬
‫أخالقيــات النقــاش (الحــوار) على ذرائعيــة كليــة‪ ،‬بينمــا شــيد آبــل فلســفة عقليــة من النمــط‬
‫الكانطي »†‪ ،‬ومعنى ذلك أن المشروع اإلتيقي الذي يقترحه علينا آبل هو مشروع مختلف إلى‬
‫حد ما عن مشروع هابرمــاس كمــا الحظت ذلــك أيضــا جــاكلين روس الــتي قــالت‪ « :‬إن آبــل‬
‫صاحب منظور متعال يعود حتى إلى ‪″‬ما قبل‪″‬جماعة االتصــال »‡‪ ،‬وكمــا الحــظ ذلــك أيضــا‬
‫جان مارك فيري وعبر عنه بقوله‪ « :‬إن آبل ال يخشى الكالم على تأســيس أقصــى للعقــل »§‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أن فلسفة كارل أوتو آبل هي فلسفة من نمط الترنسندنتالية الكانطية‪.‬‬

‫وانطالقا مما ســبق‪ ،‬يمكن القــول أن مشــكلة ‪″‬اتيق ا النق اش‪ ″‬أو كمــا يســميها البعض‬
‫‪″‬أخالقيات الحوار والتواص ل‪ ″‬تعــد المشــكلة األساســية في فلســفة كــارل أوتــو آبــل‪ ،‬بــل هي‬
‫العمود الفقري في مشروعه الفلسفي‪ ،‬وقد تحدث عنها آبل في مختلف أعمالــه الفلســفية وأفــرد‬
‫لها عمال خاصا بعنوان ‪″‬اتيقا النق اش‪ ،″″Éthique de la discussion″‬وهو العمــل‬
‫الذي انطلق فيه من إشكالية أساسية وهامة هي « مـا معـنى أن يكــون اإلنســان كائنـا أخالقيـا‪،‬‬
‫وما داللة ذلك؟ »***‪ ،‬وقد حاول آبل في عمله هذا أن يضع خارطة طريق لما يمكن أن نطلق‬
‫عليه اسم ‪″‬نظرية اتيقي ة ترنس ندنتالية‪ ″‬يمكن لكــل بــاحث ومهتم بمجــال القيم والمعــايير أن‬
‫يسترشد بها††‪.‬‬

‫* ‪-‬عطية أحمد عبد الحليم‪ ،‬قراءات في األخالقيات الراهنة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.35 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.39 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫** ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ( ،10 ،‬من مقدمة المترجم )‪.‬‬

‫*‪ -‬أنظر أيضا‪.Apel karl-Otto, Ethique de la discussion, p7:‬‬

‫†† ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪( ،10،‬من مقدمة المترجم )‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫وقد حدد آبل في بداية هذا العمل الفلســفي مجموعــة متطلبــات اعتبرهــا بمثابــة الهيكلــة‬
‫العامة إلتيقا المناقشة‪ ،‬وتتمثل أهم هذه المتطلبات في ما يلي‪:‬‬

‫« ‪ - 1‬ضرورة توفر إتيقا خاصة بالحياة السعيدة‪ ]...[ ،‬ال يمكننا االستغناء عنهافي أي توجــه‬
‫غائي أو مسعى لتأسيس نهائي عقلي‪.‬‬

‫‪ - 2‬على إتيقــا المناقشــة أن تســعى حثيثــا لتأســيس حيــاة إتيقيــة جوهريــة خاصــة بالجماعــات‬
‫اإلنسانية المختلفة [‪ ]...‬علما أن هيغل كان أول من أشار إلى هذه المسألة‪.‬‬

‫‪ - 3‬على إتيقا المناقشة أن تأخــذ مســألة المنفعيــة بعين االعتبــار بمــا هي أيضــا مســألة مك ّملــة‬
‫ومرتبطة ببرنامج اإلتيقا المرسوم بشكل قبلي لتحقيق اقتصاد الحياة السـعيدة‪ ]...[،‬ممـا يجعـل‬
‫اإلتيقا بكل حمولتها القيمية والمعيارية منفتحة على أبواب االقتصاد واألرقام والحســابات ألن‬
‫التداخالت المعاصرة جعلت اإلنسان ذاته كتلة هجينة من التناقضات والتجاذبات‪.‬‬

‫‪- 4‬على إتيقا المناقشة أن تقر بأن اللجوء إلى مؤثرات أخالقية مصــطنعة يعــني ولــوج مجــال‬
‫يتناقض مع وضعها الخاص‪.**» ]...[ ،‬‬

‫ويتضح مما سبق أن الهاجس الفكري األساسي آلبل في مجال اإلتيقــا كــان هــو وضــع‬
‫تأسيس نهائي‪ ،‬أي تأسيس مرجعية معياريــة مشــتركة (كونيــة) لألخالقيــة‪ ،‬ثم بعــد ذلــك يــأتي‬
‫البحث عن تطبيقها في الفضاء العمومي من أجل تحقيق مجتمع تواصلي حقيقي‪.‬‬

‫وبعــد أن حــدد آبــل إشــكالية بحثــه‪ ،‬وحــدد األســباب الضــرورية لتأســيس اتيقــا النقــاش‬
‫وشروطها الموضوعية‪ ،‬انتقل إلى الحديث عن الوضعية الراهنة لإلتيقــا وهي وضــعية معقــدة‬
‫تميزت بتغيرات جديدة‪ ،‬أصبحت معها األشكال التقليدية لإلتيقا غــير قــادرة على تقــديم حلــول‬
‫للمشاكل المستجدة‪ ،‬وهذا ما يستدعي في رأيه صياغة برنامج إتيقي مناســب في مســتوى هــذه‬
‫التحديات الجديدة‪ ،‬أي أن إتيقا النقاش التي يقترحها علينا آبل هي حل للخروج من حالة العجز‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪ (10،11،‬من مقدمة المترجم )‪.‬‬

‫*‪ -‬انظر أيضا‪.Apel karl-Otto, Ethique de la discussion, pp, 9-10:‬‬

‫‪134‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫التي وصلت إليها اإلتيقا التقليديــة في مواجهــة التحــديات الجديــدة‪ ،‬ومن هنــا نجــده يحــاول أن‬
‫يعرف اتيقا النقاش قــائال‪ « :‬هي تفكــير حــول نتــائج األفعــال والنشــاط الجمــاعي لإلنســان في‬
‫مجال العلم والتقنية التي تأسست عليه »*‪.‬‬

‫وتحــدث آبــل في عملــه هــذا أيضــا عن اإلشــكالية والمفارقة الصــعبة الــتي أصــبحت‬
‫تواجهها الفلسفة اليوم والتي تتمثل في ‪″‬تأسيس عقالني لإلتيقا في عصرالعلم‪ ″‬حيث تســاءل‬
‫آبل عن إمكانية تأسيس إتيقا عقلية في عصر الهيمنــة العلميــة‪ ،‬وو ّجــه من خالل هــذا التســاؤل‬
‫نقدا شديدا للنزعة العلموية وعلى رأسها فالسفة الوضعية المنطقية الذين اتجهوا إلى االهتمــام‬
‫بالعلم وتطبيقاته التقنية وأهملواالجانب األخالقي لنتائج هذا التطور العلمي والتقني على الحياة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وهو في هذا يقول‪ « :‬نجد مختلف فالسفة الوضعيةـ المنطقية الــذين كــان لهم توجــه‬
‫نحو براديغم عقالني وأكسيولوجيا محايدة لم يهتموا فقط بالفلســفة النظريــة باعتبارهــا نظريــة‬
‫للعلم‪ ،‬ولكنهم أيضا اعتبروها كميتا نظرية لالقتصاد والحقوق‪ ،‬وأصبح هــذا المنظــور مقياســا‬
‫لمختلف مجاالت العقالنية كالقيم والمعايير األخالقية »† ‪.‬‬

‫وقد أوضح عمر مهيبل هذه المفارقة وعلق عليها قائال‪ « :‬بين آبــل أن طبيعــة العالقــة‬
‫القائمة بين اإلتيقا والعلم أو بتعبير آخــر النتــائج األخالقيــة للتطــور العلمي تعــبر عن مفارقة‪،‬‬
‫فمن جهة نجد أن األنموذج العلمي قد تعمم ومسّ أغلب قطاعات المعرفة والممارسة على حد‬
‫سواء‪ ،‬وبخاصــة في المجتمعــات األكــثر تطــورا‪ ،‬مــا أدى إلى مســار عقلنــة مسّ كــل منــاحي‬
‫الحياة‪ ]...[،‬ومن جهة ثانية إن اتخاذ العلم الطبيعي والرياضــي كــأنموذج أوحــد لقيــاس مسـار‬
‫التطور والعقلنة قد أدى إلى تصلب هذه النزعة العلمية وسقوطها في الالعقلنة والمغاالة [‪]...‬‬
‫ما أدى إلى ظهور تيار أكسيولوجي في الغرب مضـاد لهـذه النزعـة‪ ،‬ومنـافح عن قيم إنسـانية‬
‫تشذرت واندثرت في غمرة السباق المحموم للحصـول على المنتجـات الماديـة »‡‪ ،‬ولكن هـذا‬
‫ال يعــني أن كــارل أوتــو آبــل يــرفض التطــور المــادي الــذي تحقــق بفضــل التطــور العلمي‬

‫*‪.Apel karl-Otto, Ethique de la discussion, Op.Cit, p, 13 -‬‬


‫†‬
‫‪-Ibid, p, 24.‬‬

‫‡ ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ (12 ،‬من مقدمة المترجم ) ‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫وإنما يرفض ما ترتب عليه من نتائج على الصعيد األخالقي‪ ،‬وفي هذا اإلطــار يضــيف عمــر‬
‫مهيبل موضحا ذلك بقوله‪ « :‬صحيح أن هذه المنتجات المادية قــد أفــادت اإلنســان أيّمــا فائــدة‪،‬‬
‫ويسرت عليه الكثير من صعوبات الزمن الغابر‪ ،‬لكن أن تتحول إلى ديانــة جديــدة فهنــا مكمن‬
‫اإلشكالية »*‪.‬‬

‫وبعد أن حلل كارل أوتو آبل هذه المفارقة وبين الصــعوبات الــتي تطرحهــا‪ ،‬انتقــل إلى‬
‫تحليل االقتراح الذي يقدمه كحل يسمح لإلتيقا من الخــروج من وضــعية العجــز الــتي وصــلت‬
‫إليها‪ ،‬أي تحليل مضمون ومحتوى ‪″‬اتيقا النقاش‪ ،″‬وهو الحل الــذي يصــفه منــذ البدايــة على‬
‫أنه حل يتأسس على « البعد البراغماتي‪″‬التداولي‪ -″‬الترنسندنتالي »†‪ ،‬وهذا ما شرحه عمر‬
‫مهيبل قائال‪ « :‬كان مسعى آبل في إتيقا المناقشــة هــذه هــو بلــوغ تداوليــة ترنســندنتالية غايتهــا‬
‫القصوى تأسيس صالحة شمولية لمبادئ مثـل العدالـة‪ ،‬التضـامن‪ ،‬المسـؤولية المشـتركة على‬
‫‡‬
‫ضوء الوضع القائم كنقطة انطالق أوالنية »‬

‫وبعد أن بين الطبيعة التداولية الترنسـندنتالية لــ ‪″‬إتيقـا النقــاش‪ ،″‬حـدد آبــل التســاؤالت‬
‫واالفتراضات التي ينبغي لها أن تنطلق منها‪ ،‬وهي « تساؤالت وافتراضات لها جذور عميقــة‬
‫في الفلســـفة الغربيـــة وعلى الخصـــوص في الفلســـفة الحديثـــة »§‪ ،‬ومن هـــذه التســـاؤالت‬
‫واالفتراضات األنموذجية ما يلي‪:‬‬

‫« ‪ - 1‬األنانة (‪)Solipsisme‬المنهجية أو الترنسندنتالية للعقل المنحدرة إلينا من ثنايا الفلسفة‬


‫الفينومينولوجيةـ لهوسرل‪ ،‬والمرتبطة بمطلقية العالقة‪ :‬ذات – موضوع في مجال المعرفة‪.‬‬

‫‪ – 2‬أمــا فيمــا يخص مســألة التأســيس الفلســفي النهــائي‪ ،‬وبخاصــة مــا تعلــق منــه بالجــانب‬
‫األخالقي‪ ،‬فإننا نفترض البديل غير الدياليكتيكي التالي‪ :‬إما أن التأسيس النهائي لن يعتمــد في‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬


‫†‬
‫‪- Apel karl-Otto, Ethique de la discussion, Op.Cit, p, 33.‬‬

‫‡ ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ (14،‬من مقدمة المترجم ) ‪.‬‬
‫§‬
‫‪- Apel karl-Otto, Ethique de la discussion, Op.Cit, p, 33.‬‬

‫‪136‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫مقاربته إالّ على المبادئ المثلى المجردة للتاريخ‪ ،‬أو أن هذا التأسيس ذاته يتــوجب عليــه عــدم‬
‫الرجــوع أو االعتمــاد على مبــادئ يفــترض أنهــا صــحيحة‪ ،‬وذلــك لصــالح شــكل معين من‬
‫تاريخانية الصالحة »**‪.‬‬

‫وهذا يعـني أن آبـل يـرى أن من يريـد أن يضـع نظريـة فلسـفية في مجـال المعرفـة أو‬
‫األخالق‪ ،‬يجب عليه أوال أن يضع اإلنتاج الفلســفي الحــديث من ديكــارت إلى هســرل موضــع‬
‫تساؤل‪ ،‬وهو الفكر الذي أصبح تطلق عليه عــدة تســميات "فلسـفة الــوعي ‪ -‬وفلسـفة الشـعور‪-‬‬
‫وفلسفة الذات" ويسميه آبل هنا "األنانة المنهجية"‪ ،‬وعندما نضــع هــذا الفكــر موضــع تســاؤل‬
‫حسبه‪ ،‬فإنه سيتضح لنا أن الحل المناســب لتجــاوز األزمــة الــتي وصــل إليهــا هــذا الفكــر هــو‬
‫"التأسيس النهائي" والذي يتضمن منطقيا وضع مرجعية معيارية مشتركة (كونية) لألخالقية‪.‬‬

‫وبعد أن ضبط آبل الجانب النظري إلتيقا النقـاش انتقـل إلى الجـانب العملي‪ ،‬أي كيفيــة‬
‫تطبيق مبادئ هذه اإلتيقا على أرض الواقع أو فيما يسميه فالسفة التواصل ‪″‬الفضاء العمــومي‬
‫[ كمــا‬ ‫‪ ،″‬ألن اإلتيقا عند كارل أوتو آبل تتكون من جــانبين أولهمــا نظــري وثانيهمــا عملي‬
‫أشرنا إلى ذلك في تعريــف اإلتيقــا عنــد آبــل في المطلب األول من المبحث األول من الفصــل‬
‫األول ]‪.‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬فإنه بعد أن قام كارل أوتو آبل بتحديد األساس الذي تقوم عليــه التداوليــة‬
‫الترنسندتالية للعقالنية التواصلية‪ ،‬انتقل إلى صياغة النتائج العملية إلتيقــا النقــاش‪ ،‬وعلى هــذا‬
‫المستوى من التفكير واصل آبل مجهوده الفكري رافضا لكل أنماط المفـاهيم الكالسـيكية الـتي‬
‫تأسست على فلسفة الذات‪ ،‬ورافضا أيضا كل التيارات الوضعية التي جردت الفعــل اإلنســاني‬
‫من إنســانيته ألجــل تــبرير األشــكال والنظم الجديــدة الــتي ظهــرت في المجتمعــات الليبرالي ـةـ‬
‫المتقدمة نتيجة التطور العلمي والتقني‪ ،‬والتي قلصت المواطن الفاعــل إلى عقــل أداتي أصــبح‬
‫معها مجــرد عنصــر من اســتراتيجية‪ ،‬أي مجــرد وســيلة من أجــل تحقيــق غايــة معينــة‪ ،‬بينمــا‬
‫يتأسس المجتمع التواصلي الــذي ينشــده آبــل على الخطــاب الحجـاجي‪ ،‬وفي هــذا يقــول‪ « :‬إن‬
‫* ‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪(13 ،12 ،‬من مقدمة المترجم )‬

‫*‪ -‬انظر أيضا‪.Apel Karl-Otto, Ethique de la discussion, pp, 33-34 :‬‬

‫‪137‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫النقاش الحجاجي ليس فعال عقالنيا ألداء مهمة لغاية مــا يمكن أوال يمكن حلهــا بقــدر مــا هــو‪-‬‬
‫حسب اعتقادنا ‪ -‬أن نكون دائما ملتزمين في هذا الفعل بافتراضاته المعيارية »*‪.‬‬

‫ويركز آبل في الجانب العملي والتطبيقي إلتيقا النقاش على البعد التداولي ‪-‬الترنسندنتالي‬
‫حيث « عمــل آبــل من خالل إتيقــا المناقشــة على إخضــاع الممارســات اإلنســانية االقتصــادية‬
‫واالجتماعية والسياسية واألخالقية للمساءلة الحجاجية وتحكيمهــا للنقــاش وفــق قواعــد وأطــر‬
‫تداولية متعاقد ومصطلح عليها لضمان االتفاق بين كل األطراف المعنية »†‪.‬‬

‫وكان هدف آبل من وراء ذلـك تأســيس األخالق فلســفيا وتجـاوز الطــرح الكــانطي حيث‬
‫« عوض آبل أفكار كانط المتمركزة على الذات وملكــة الفهم بأنموذجــه التــداولي المســتند إلى‬
‫الحوار والحجاج والبحث المشترك عن الحقيقة [‪ ]...‬آخذا بعين االعتبار الظروف االجتماعية‬
‫المعقدة في حياة اإلنسان المعاصر ورهانات التقنية والتكنولوجيا »‡‪.‬‬

‫كمــا قــام آبــل بصــياغة القيم األوليــة المتعلقــة بجــوهر النقــاش من أجــل تهيئــة الفضــاء‬
‫العمومي إلتيقــا تتأســس على مبــادئ احــترام الحقيقــة والتضــامن‪ ،‬مؤكــدا في ذلــك على البعــد‬
‫األخالقي الصارم « إذا انتهك شخص ما معايير النقـاش‪ ،‬فمعـنى ذلـك أن كـل المشـاركين في‬
‫النقاش باعتبارهم باحثين عن الحقيقة يعتبرون بمثابــة خاســرين‪ ،‬بمــا فيهم المخــالفون أنفســهم‬
‫باعتبارهم باحثين عن الحقيقة من وجهة نظر أخالقيــة‪ ،‬ألن ســلوكهم في هــذه الحالـة يتنــاقض‬
‫مع المعايير‪ ،‬وبالتالي فإن هذا اإلجراء يتوافق مــع معــايير العقالنيــة اإلســتراتيجية وليس مــع‬
‫معايير إتيقا النقاش »§‪.‬‬

‫كما سلط آبل الضوء على مسألة الوضع األخالقي لمعايير النقــاش‪ ،‬وكــان يهــدف من‬
‫وراء ذلــك إلى تحديــد قيم معياريــة للنقــاش‪ ،‬حيث اعتــبر آبــل في القســم العملي من اإلتيقــا‬
‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Ethique de la discussion, Op.Cit, p, 56.‬‬

‫†‪ -‬بكاي محمد‪ ،‬المنعطف التداولي في فلسفة كارل أوتو آبل‪( ،‬في) المحمداوي علي عبود وآخرون‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ :‬جدل التحرر‬
‫والتواصل واالعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.259 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.260 ،259 ،‬‬


‫§‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Ethique de la discussion, Op.Cit, p, 58.‬‬

‫‪138‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫‪″‬المساواة في الحقوق‪ ،‬والتضامن‪ ،‬والمسؤولية المشتركة‪ ″‬كمعــايير أساســية‪ ،‬ويقــول في هــذا‬


‫الشــأن‪ « :‬هــذه المعــايير‪ ،‬يمكن اعتبارهـا كبــديهيات تسـاهم في حــل المشـكالت الحاليـة الــتي‬
‫يعرفها العالم »*‪ ،‬وبذلك تكون قضية المسؤولية من أبرز القضايا الفلسفية الــتي كــانت محــور‬
‫تفكير آبل في هذا العمل‪ ،‬حيث يرى آبل أن إتيقا المناقشة هي فلسفة التزام وبــذلك فهي ترتبــط‬
‫ارتباطا وثيقا بالمسؤولية‪ ،‬وهو في هذا يقول‪ « :‬إن هذه الوضعية باعتبارها عقالنية )بالمعنى‬
‫الهيغيلي(‪،‬ـ هي في الواقع‪ ،‬لم تطبق إتيقا المناقشة بكاملهــا‪ ،‬ولــذا يجب أن ترتبــط بالمســؤولية‪،‬‬
‫فإتيقا النقاش يجب أن تفــترض في أي وقت‪ ،‬وفي أي حين عملي‪ ،‬احــترام المســؤولية في كــل‬
‫الوضعيات التاريخية‪ ،‬باعتبارها تطبيق لنتائج إتيقا عقالنيــة مـا بعــد تقليديــة »†[و سـنعود إلى‬
‫قضية المسؤولية في المطلب المقبل من خالل دراسة ما تبقى من هــذا العمــل‪Éthique de″‬‬
‫‪Discussion‬‬ ‫‪ ″la‬ومن خالل التطــــرق أيضــــا إلى عملــــه اآلخر‪et″‬‬ ‫‪discussion‬‬
‫‪ "Responsabilité‬الذي يتكون من جزأين ]‪.‬‬

‫وهكذا نالحظ مدى تركيز كارل أوتو آبــل على أهميــة إتيقــا المناقشــة‪ ،‬ألنهــا هي الــتي‬
‫تسمح لنــا باإلتفــاق على تســوية بشــأن اإلجــراءات والمؤسســات الــتي تســاعدنا على مواجهــة‬
‫المصالح الضيقة‪ ،‬ولهذا ألح على ضرورة التصريح بالمعايير المتعلقة بالنقــاش المثــالي كعقــد‬
‫مسبق للنقاش من أجل تأسيس المرحلة األولى‪ ،‬وبعد ذلك يجب تقييم تطبيق إتيقا المناقشــة من‬
‫أجل ضمان صالحيتها النظرية ومدى مالئمتها للواقع‪.‬‬

‫واآلن‪ ،‬وبعــد أن تعرفنــا على بعض مالمح إتيقــا النقــاش الــتي اقترحهــا آبــل بجانبيهــا‬
‫النظري والعملي‪ ،‬نود أن ننتقل إلى اســتخالص خصــائص إتيقــا النقــاش اآلبلية‪ ،‬فمــا هي إذن‬
‫أهم مميزات هذه اإلتيقا؟‬

‫هي إتيقا ذات طابع كوني‪ :‬يجمع أغلب الدارسين لفلسفة كــارل أوتــو آبــل على اعتبــار‬
‫إتيقا النقاش عنده تتميز بطابع كوني‪ ،‬وهذا ما ذهب إليــه حســن مصــدق في دراســته للنظريــة‬
‫النقدية التواصلية‪ ،‬حيث قال في هذا الصدد‪ « :‬تتضمن الكونية كما يدافع عنها كــل من كــارل‬
‫*‬
‫‪-Ibid, p, 61.‬‬

‫†‬
‫‪-Ibid, pp, 66, 67.‬‬

‫‪139‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫أوتو آبل وهابرماس تراضيا بين المعنيين يقوم بواسطة حوار‪ ،‬يتم أثناءه دفاع كل طــرف عن‬
‫موقفــه بكــل حريــة ومســاواة‪ ،‬ممــا يــتيح لهم إمكانيــة اإلقنــاع واالقتنــاع بــأن مصــلحة التقعيــد‬
‫المشترك لمصالحهم الخاصة‪ ،‬تقتضي االلتزام بطريقة معينة في السلوك‪ ،‬فوحدة النقاش الــذي‬
‫يتم تداوله بموازين ‪″‬الصدق‪ ،‬المصداقية‪ ،‬الحقيقة‪ ″‬يؤدي إلى الموافقــة المشــتركة على معيــار‬
‫لموضوع المناقشة‪ ،‬وذلك بدوافع معقولة وبميزان كوني »*‪ ،‬ومعنى ذلــك أن آبــل يركــز على‬
‫مبدأ كونية المعايير األخالقية ألنها تتجاوز المعايير الفردية ورغباتها‪.‬‬

‫وهذا ما ذهبت إليه أيضا الباحثــة العربيــة رجـاة العتـيري في مقـال خـاص لهـا بمجلــة‬
‫أوراق فلسفية بعنوان ‪″‬من كانط إلى كارل أوتو آبل‪ :‬نحو أخالقية النقــاش‪ ″‬في العــدد الحــادي‬
‫عشر ‪ 2004‬والذي خصص لدراسة فلســفة كانــط وتأثيرهــا في الفكــر الفلســفي بعــده بمناســبة‬
‫الــذكرى ‪ 200‬لوفاتــه حيث قــالت‪ « :‬إن األوضــاع العالميــة الراهنــة [‪ ]...‬تجعلنــا نفكــر مــع‬
‫هابرماس وآبل في أخالق كلية مبنيـة على أسـس عقليـة ومبـادئ مقنعـة على صـعيد ع المي‪،‬‬
‫حيث أصبح طرح مشكلة أسس األخالق اليوم بعد كانط أمرا ضروريا نظــرا ألفــول األخالق‬
‫التقليديــة والقيم العمليــة الصــادرة عن األديــان والــتي أضــعفتها النظم الالئكيــة المعاصــرة‬
‫وتجاوزها التقدم العلمي والتكنولوجيـ ابتداءا من القرن العشرين »†‪ ،‬ومعنى ذلــك‪ ،‬أن الحالــة‬
‫الراهنة للعالم على كافة المســتويات فرضــت على كــارل أوتــو آبــل وهابرمــاس وغــيرهم من‬
‫الفالسفة والمفكرين طرح اإلشكاليات على صعيد عالمي وكلي‪ ،‬ألنــه ال يمكن االكتفــاء اليــوم‬
‫بأنساق ومعايير أخالقية محلية ونسبية أو أخالق ومعايير فردية تصــلح لمجموعــات أو أفــراد‬
‫دون غيرهم‪.‬‬

‫وهذا ما الحظه أيضا الباحث الفرنسي جان ميشال بيزنيــه ‪ Besnier‬في عملــه الهــام‬
‫‪″‬تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة‪ :‬وجوه وأعمال‪ ″‬حيث قال‪ « :‬إن إتيقا التواصل أو اإلتيقــا‬
‫الحجاجية‪ ،‬هي الفلسفة التي وجدت مع هابرمــاس وآبــل دعــوة سياســية ش املة‪ ،‬وهي الــدعوة‬

‫* ‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.153 ،‬‬

‫†‪ -‬العتيريرجاة‪ ،‬من كانط إلى كارل أوتو آبل‪ :‬نحو أخالقية النقاش‪،‬مجلة أوراق فلسفية‪ ،‬العدد ‪ ،2004 ،11‬القاهرة‪،‬ص‪ ،‬ص‪،451 ،‬‬
‫‪.452‬‬

‫‪140‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫التي كانت مغيبة في أعمــال هوركهــايمر وأدورنــو »*‪ ،‬وأردف قــائال‪ « :‬إن إرادة المحاججــة‬
‫العقالنية هي تعهد أرجعه جان مارك فيري إلى كانط ‪″‬أخالق كونية من وجهة نظــر كوس مو‬
‫سياسية‪ ″‬في نهاية القرن العشرين‪ ،‬وليس هنــاك مــا هــو أكــثر من هــذا العهــد جــدارة يســتحق‬
‫الدفاع عنه »†‪ ،‬وذلك ألن مبدأ الكونية كما يقول حسن مصدق‪ « :‬يضمن تكوين حكم أخالقي‬
‫محايد يستجيب للجميع‪ ،‬وهو مبــدأ يتفــوق على الــرؤى الخاصــة والمحليــة ويتجــاوز التطــبيق‬
‫الشكلي والحرفي للمعايير العامة‪ ،‬كما أنه يتعارض مع الصورية ويتفادى السقوط في العفوية‬
‫أو الخضوع لرغبات أو تطبيقات شكلية معــايير عامــة‪ ،‬ويجنح مبــدأ الكونية إلى اإلجابــة عن‬
‫حتميــة تكــوين إرادة عقالنيــة مشــتركة تــتيح ســبل تــبرير وتعليــل القــوة اإللزاميــة للمعــايير‬
‫الفعلية »‡ ‪.‬‬

‫وهكذا يتضح أن فلسفة كارل أوتو آبل وفلسفة التواصــل بصــفة عامــة هي فلســفة ذات‬
‫طابع كوني وعالمي وليست مجرد فلسفة محلية ألمانية‪ ،‬ألن مجال اهتمامها والمشكالت الــتي‬
‫عالجتها تتجاوز الحدود الجغرافية أللمانيا وأوروبا‪ ،‬وهذا ما يفسر انتشارها السـريع والواسـع‬
‫عالميا خاصة فلسفة زميله وخصمه في مدرسة فرانكفورت ‪″‬هابرماس‪ ″‬الذي تــرجمت معظم‬
‫أعماله إلى مختلف اللغات األجنبية ومنها العربية‪ ،‬أما كــارل أوتــو آبــل وعلى الــرغم من أنــه‬
‫مفكر عالمي‪ ،‬فإنه ال يزال غير معروف بصفة كاملة في العالم العربي‪ ،‬ألن أعماله لم تعــرف‬
‫طريقها بعد إلى اللغة العربية باستثناء عمل واحد لحــد اآلن أال وهــو ‪″‬التفكــير مــع هابرمــاس‬
‫ضد هابرماس‪ ″‬الذي ترجمــه إلى العربيــة البــاحث ‪″‬عمـر مهيبـل‪ ،″‬ولكن معظم البـاحثين في‬
‫فلسفة هابرماس أو في فلسفة التواصل في العالم العربي كثــيرا مــا نجــدهم يتطرقــون في ذلــك‬
‫إلى فلسفة آبل نظــرا لالرتبــاط والتــداخل الشــديد بين فلســفتيهما‪ ،‬كمــا الحظنــا ذلــك ســواء في‬
‫الدراسة المقدمة من طرف حسن مصدق أو من قبل نور الدين آفاية أو علي عبود المحمداوي‬
‫وغيرهم‪ ،‬وحتى عمر مهيبل في ترجمته سواء لعمل ‪″‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة لهابرماس‬
‫‪Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres,‬‬
‫‪*-‬‬

‫‪Op.Cit, p, 617.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 617.‬‬

‫‡ ‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.153 ،‬‬

‫‪141‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫‪ ″‬أو في ترجمته لعمل ‪″‬فلسفة التواصلـ لجان مارك فيري‪ ″‬لم يســتطع أن يتجــاوز في تقديمــه‬
‫لهذه األعمال الحــديث عن كــارل أوتــو آبــل واعــترف أنــه ال يمكن فهم أحــدهما دون المــرور‬
‫باآلخر ‪.‬‬

‫هي إتيقا كانطية متعالي ة متحولة‪ :‬يــرى معظم البــاحثين في فلســفة التواصــل أن إتيقــا‬
‫النقاش سواء بوجهها التأسيسي عند آبل أو بوجههــا كإعــادة بنــاء عنــد هابرمــاس هي برنــامج‬
‫يندرج في إطار حركة التحول الكانطية للنظريات األخالقية الجديدة‪ ،‬وتجدر اإلشارة هنــا إلى‬
‫أن العقل الغربي أقــام مشــروعه الفلســفي الجديــد على أســاس االزدواجيــة الــتي مــيزت فكــره‬
‫األخالقي (اإلتيقا)‪ ،‬وتعود جذور هذه االزدواجية إلى بدايــة عصــر النهضــة حين تمكن الفكــر‬
‫الفلسفي الحديث من تجاوز النظرة السكوالئية وســلطة الفكــر التقليــدي وتأســيس فلســفة قائمــة‬
‫على مرجعيــتين مختلفــتين‪ ،‬أولهمــا مرجعيــة العقــل مــع الفيلســوف الفرنســي روني ه ديك ارت‬
‫)‪ ،R.Descartes (1596-1650‬وثانيهمــا مرجعيــة التجربــة مــع الفيلســوف اإلنجلــيزي‬
‫فرنس يس بيك ون )‪ ،F.Bacon (1561-1626‬حيث أدت المرجعيــة األولى إلى تأســيس‬
‫العقالنيـــة األوربيـــة الحديثـــة‪ ،‬في حين أدت المرجعيـــة الثانيـــة إلى تأســـيس التجريبانيـــة‬
‫األنجلوساكسونية الحديثة‪ ،‬وتعمق هذا االنقسام في فلسفة القرن الثامن عشر أين برز توجهــان‬
‫أخالقيان أساسيان متعارضان‪ ،‬أولهما التوجه األنجلوساكسوني ومن أبرز رواده دافي د هي وم‬
‫)‪ ،David Hume (1711-1776‬وهو التوجه الذي نجد امتداداته في الفلسفة الغربية عند‬
‫كــل من بنث ام )‪ J.Bentham ( 1748-1832‬وتلميــذه ج ون اس تيوارت م ل ‪J.S.Mill‬‬
‫)‪ (1806-1873‬وفي العلــوم االجتماعيـة المعاصــرة خاصــة مــع مـاكس فيـبر‪ ،‬وثانيهمــا هـو‬
‫التوجه األلماني ومن أبرز رواده ايمانويل كانط‪ ،‬ونجد امتداداته داخل الفلسفة المعاصرة عنــد‬
‫كل من هابرماس وآبل وراولسـ وجان مارك فيري وغيرهم‪ ،‬فكيف يمكن القول إذن أن فلسفة‬
‫كارل أوتو آبل من جهة هي امتداد للفلسفة الكانطيــة المتعاليــة الــتي تنــدرج في إطــار الفلســفة‬
‫القاريـــة‪ ،‬ومن جهـــة أخـــرى هي نقطـــة التقـــاء وتقـــاطع بين الفلســـفة القاريـــة والفلســـفة‬
‫األنجلوساكسونية دون الوقوع في تناقض؟‬

‫‪142‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫في هذا الصدد يقول حسن مصدق‪ « :‬يتبنى كارل أوتو آبل خالفــا لهابرمــاس منظــورا‬
‫متعاليا‪ ،‬إذ تشكل االفتراضات القبلية بالنسبة له شروطا قبلية إلقامة الحجــة‪ ،‬وتنــدرج األفعــال‬
‫اللغوية ولعبها المختلفة في هذا السياق بالبحث عن إقامة البرهان وإقرار صالحية مــا تدعيــه‪،‬‬
‫يتم استخالصها بفضل تحليلي تأملي ذي طبيعة تداولية متعالية »*‪ ،‬ويضـيف قـائال‪ « :‬التأمـل‬
‫هنا يســعى إلى إبــراز صــدقية االفتراضــات أو الشــروط التداوليــة الترنســندنتالية الــتي تشــكل‬
‫األساس األخالقي الممكن لصالحية المحاججة [‪ ]...‬وتتمثل هــذه الشــروط واالفتراضــات في‬
‫‪″‬الصدق‪ ،‬المسؤولية‪ ،‬الحقيقة‪ ،‬المعقولية‪ ،‬المصداقية‪ ،†»...‬وهذا ما يثبت فعال أن فلسفة كارل‬
‫أوتو آبل وخاصة فيما يتعلق بإتيقا المناقشة منها هي فلسفة كانطية ترنسندنتالية ولكنها مطعمة‬
‫بنظرية أفعال الكالم األنجلوساكسونية‪ ،‬وبذلك تمثل فلسفة آبل نقطة التقاء وتقاطع أساسية بين‬
‫الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية‪.‬‬

‫وهذا ما ذهبت إليه أيضا الباحثة العربية رجاة العتــيري حين قــالت‪ « :‬يؤكــد آبــل على‬
‫الطابع الصوري والمنهجي الترنسندنتالي ألخالقية النقــاش »‡‪ ،‬واألمــر نفســه يؤكــده البــاحث‬
‫الفرنسي جان ميشال بيزنيه حين قال‪ « :‬سعى آبل إلى مواصلة المسعى الفلسفي لكانــط‪ ،‬وقــام‬
‫بمحاولة تأسيس تداولية ترنسندنتالية »§ ‪.‬‬

‫ولكن على الرغم من اســتغراق آبــل في الفلســفة الترنســندنتالية الكانطيــة‪ ،‬فــإن هــذا لم‬
‫يمنعــه من االهتمــام بالفلســفة التواصــلية‪،‬ـ حيث اعــترف بخصوصــية الوســيط اللغــوي وقــام‬
‫بإقصاء كل األفكار الفلسفية التي تركز على الذات والشـعور‪ ،‬وركـز على البينذاتيـة من أجـل‬
‫تأسيس إتيقا للنقاش‪ ،‬وحاول أن يتجاوز الذاتية األخالقية والصورية الكانطية‪ ،‬وأوضــح كيــف‬
‫أن الفضاء الخطابي وبواسطة قدرته االتصالية يمكنـه تحقيـق التفـاهم‪ ،‬وفي هـذا الشـأن يقـول‬

‫* ‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.150 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.155 ،154 ،‬‬

‫‡‪ -‬العتيري رجاة‪ ،‬من كانط إلى كارل أوتو آبل‪ :‬نحو أخالقية النقاش‪ ،‬مجلة أوراق فلسفية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.457 ،‬‬

‫‪Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres,‬‬


‫‪§-‬‬

‫‪Op.Cit, p, 616.‬‬

‫‪143‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫آبل‪ « :‬البرادغيم الجديد للفلسفة الترنسندنتالية هو تحولها إلى براغماتيكا للغة »*‪ ،‬وهذا ما‬
‫أشار إليه كثير من الباحثين ومنهم على ســبيل المثــال ال الحصــر رجــاة العتــيري حين قــالت‪:‬‬
‫« يتكلم كارل أوتو آبل عن ‪″‬تحول للعقــل‪ ″‬وهــو المعــنى الــذي أراده الفيلســوف األلمــاني في‬
‫كتابه ‪″‬تحويل الفلسفة ‪ ″ Transformation de la philosophie‬وذلــك بعــد المنعــرج‬
‫اللساني‪ ،‬ويتمثل تحول العقل في تجاوز شكله الكانطي المتمركــز على الــذات وعلى مقــوالت‬
‫ملكة الفهم وعلى األفكار المثل وقوانين العقل العملي »†‪ ،‬وهو األمر نفسه الذي الحظــه جــان‬
‫ميشال بيزنيه وقال بشأنه‪ « :‬كان آبل كانطيا تمامـا‪ ،‬غــير أن هنــاك مســافة تفصــله عن كــاتب‬
‫النقديات الثالث‪ :‬فآبل لم يهتم بمنطلق الفعل بل اهتم أيضا بما يــترتب عن هــذا الفعــل ليؤســس‬
‫إتيقا المسؤولية كما اهتم ببعض القضــايا الــتي لم تكن مطروحــة في عهــد كانــط مثــل القضــية‬
‫اإليكولوجية‪ ،‬وقام بتحويل اإلتيقا الكانطيــة ليس إلعطائهــا طابعــا هيغيليــا أو أنجلوساكســونيا‪،‬‬
‫ولكن للخــروج بإتيقــا للنقــاش كنمــوذج يــدل على مــدى عــدم مالئمــة الموقــف الكــانطي لحــل‬
‫المشكالت الراهنة »‡‪ ،‬وأضاف قائال‪ « :‬أكد آبــل على أن إتيقــا النقــاش ال تهــدف إلى تأســيس‬
‫قبلي ينص على معايير مؤسسة أو تعريف للحياة الســعيدة‪ ،‬وإنمــا تقصــد ببســاطة إلى تأســيس‬
‫عقالني لشكل إجرائي يسمح بمداولة وأخذ القرار‪ ،‬وعمل آبــل على إنشــاء إتيقــا حقيقيــة تعــبر‬
‫عن مصلحة حقيقية وتختبر الشروط المالئمة وتسمح أيضا للمعايير بأن تالحظ وظيفة النتائج‬
‫المباشرة أو غير المباشرة للنشاطات التي تم تحديدها »§‪.‬‬

‫وهكذا يتضح أن كارل أوتو آبل خاض معركة فكرية شرسة من أجــل تصــحيح مســار‬
‫العقالنية وتأسيس إتيقا للنقاش تقوم على مبـدأ المسـؤولية والكونيـة والتداوليـة الترنسـندنتالية‪،‬‬
‫وهذا ما جعله في موقف التفكير ‪″‬مع وضد‪ ″‬كل من كانـط وفنتجشــتين وهابرمـاس وغـيرهم‪،‬‬
‫وذلك ألنه رفض الذاتية والصــورية الكانطيــة وعلمويــة فنتجشــتين وحــتى تداوليــة هابرمــاس‬
‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Ethique de la discussion, Op.Cit, p, 71.‬‬

‫†‪ -‬العتيري رجاة‪ ،‬من كانط إلى كارل أوتو آبل‪ :‬نحو أخالقية النقاش‪ ،‬مجلة أوراق فلسفية ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.459 ،‬‬

‫‪Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et contemporaine figures et œuvres,‬‬


‫‪‡-‬‬

‫‪Op.Cit, p, 617.‬‬
‫§‬
‫‪- Ibid, p, 617.‬‬

‫‪144‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الشاملة‪ ،‬وحاول أن يتجاوزها إلى تأسيس أخالقيات للنقاش انطالقــا من معــايير نظريــة قابلــة‬
‫للتطبيق في الفضاء العمومي أي إتيقا ذات طابع نظـري وتطـبيقي معـا‪ ،‬ومعتـبرا إياهـا الحـل‬
‫الوحيد في الوقت الراهن خاصة بعد زوال األخالق الدينية والميتافيزيقية إلقامة وبناء مبــادئ‬
‫وقيم ومعايير جديدة على أسس عقلية‪ ،‬وفي هذا تقول رجاة العتيري‪ « :‬تمثل أخالقيــة النقــاش‬
‫تقدما بالنظر إلى األخالق في المعنى الكــانطي وذلــك ألســباب عديــدة منهــا‪ :‬ضــرورة اعتبــار‬
‫التــأثير اإلشــكالي للعلم والتكنولوجيــا على حيــاة اإلنســان الخاصــة واالجتماعيــة وضــرورةـ‬
‫احتساب المســؤوليات المرتبطــة بنتــائج اختباراتنــا وأفعالنــا المختلفــة‪ ،‬ونحن نعلم أن في ذلــك‬
‫تجاوز للفهم الكانطي لألخالق القائل باالستقالل التام للعقل العملي عن العقل النظري والقائــل‬
‫بأولوية احترام القانون األخالقي على البحث في النتائج »*‪.‬‬

‫ب‪-‬المطلب الثاني‪ :‬اإلتيقا والمسؤولية‬


‫لقد سبق وان أشرنا في [المطلب األول من المبحث الثاني من الفصل الثاني] إلى القــول‬
‫أن مفهوم المسؤولية هو أحد المفاهيم المفتاحية في إتيقا النقاش عند كارل أوتو آبل‪ ،‬ونــود في‬
‫هذا المطلب أن نتوســع في تحليــل هــذا المفهــوم من خالل قــراءة خاصــة في عملــه ‪″‬النق اش‬
‫والمسؤولية ‪ ،″ ″Discussion et Responsabilité‬ولكن قبل ذلك نود أن نشير إلى أن‬
‫آبل تحدث عن هذا المفهوم في مختلف أعماله ومنهـا خاصـة عملـه األسـاس ‪″‬إتيقـا النقـاش‪،″‬‬
‫ففي إطار تحليله ألهمية إتيقا النقاش في فلسفة التواصلـ أشار آبل إلى األهمية القصوى لفكــرة‬
‫ومفهوم المسؤولية‪ ،‬فبعد أن حدد المعالم المعيارية للفضاء التواصلي‪،‬ـ سلم أن أهــداف النقــاش‬
‫الحجاجي تتضمن االلتزام بالعمل على ترسيخ عادة المسؤولية في اإلنسان حيث يقول في هذا‬
‫المجــال‪ « :‬المســؤولية المشــتركة‪ ،‬في أي دور من أدوار المؤسســات ال تعــني فقــط مســؤولية‬
‫الفرد‪ ،‬ولكن بمعنى أكثر أصالة هي مسؤولية تجعل الفرد يتقاســم قبليــا مــع جميــع المشــاركين‬
‫في النقاش التضامن االجتماعي من أجل إيجاد حلول للمشاكل »†‪ ،‬ومعنى هــذا أن المســؤولية‬
‫*‪ -‬العتيري رجاة‪ ،‬من كانط إلى كارل أوتو آبل‪ :‬نحو أخالقية النقاش‪ ،‬مجلة أوراق فلسفية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.459 ،‬‬
‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Ethique de la discussion, Op.Cit, pp, 73.‬‬

‫‪145‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫التي يركز عليها آبل هي المسؤولية الجماعية وليس الفردية‪ ،‬فهــو يتحــدث في عملــه هــذا عن‬
‫مسؤولية واسعة ذات بعد اجتماعي وإنساني أوسع من المســؤولية الفرديــة « التكتفي أخالقيــة‬
‫المسؤولية بأن تجعل كل فــرد يفكــر بمعــزل عن اآلخــرين في النتــائج المرتقبــة لألفعــال [‪]...‬‬
‫فالعقالنية الحجاجية تسعى إلى أن يتبع المشــتركون قواعــد في المقــال التواصــلي [‪ ]...‬تســمح‬
‫لهم بالتوصل إلى توافق [‪ ]...‬يمكنه إقناع الجميع بالنتــائج المتوخــاة »*‪ ،‬وذلــك ألن التواصــل‬
‫الجماعي يتميز باتفاق الجماعة بعد النقاش على رأي يرضي الكل‪ ،‬وهنا يميز آبل بين نــوعين‬
‫من التواصل‪ « :‬التواصل المثــالي ‪ Communication idéale‬ويشــترط أن يكــون مناســبا‬
‫للجميع‪ ،‬والتواصل الــواقعي ‪ Communication réal‬المتــداول النــاقص المشــوب بعوائــق‬
‫تمنعه من تحصيل االجماع »†‪.‬‬

‫وهكذا يتضح أن أخالقيات النقاش عند آبــل هي في المقــام األول أخالقيــات للمســؤولية‪،‬‬
‫ألنه أكد على ضرورة انتهاج أسلوب الحوار وااللتزام بالمسؤولية في محاولتنا حل النزعــات‬
‫الفكرية والدينية واالجتماعية والدولية حتى نتجنب تعريض الوجود اإلنساني للخطر ‪.‬‬

‫وبالرجوع إلى عمله األساس ‪″‬النقاش والمسؤولية‪ ″‬الذي يتكون من جـزأين نجـد أن‬
‫آبل توسع في تحليل مفهوم المسؤولية‪ ،‬انطالقا من إشكالية أساســية وهامــة هي‪ :‬إلى أي مــدى‬
‫يمكن تطبيق أخالقيات النقاش على كافــة مجــاالت النشــاط اإلنســاني من علم وتقنيــة وسياســة‬
‫واقتصاد و رياضة ؟‬

‫بحث كارل أوتو آبل في هذا العمل المشكالت المتعلقــة بالتواصــل والنقــاش‡‪ ،‬وتنــدرج‬
‫إشكالية الجزء األول المعنــون بــ‪″‬اإلتيق ا بع د كان ط‪ ″‬في إطــار مشــروع البحث المعنــون بــ‬
‫‪″‬التداولية الترنسندنتالية‪ ″‬الذي ساهم في بلورتـه كولم ان ‪ *Wolfgang Kuhlmann‬منـذ‬

‫*‪ -‬بكاي محمد‪ ،‬المنعطف التداولي في فلسفة كارل أوتو آبل‪( ،‬في) المحمداوي علي عبود وآخرون‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ :‬جدل التحرر‬
‫والتواصل واالعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.267 ،‬‬

‫†‪ -‬بكاي محمد‪ ،‬المنعطف التداولي في فلسفة كارل أوتو آبل‪( ،‬في) المحمداوي علي عبود وآخرون‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ :‬جدل التحرر‬
‫والتواصل واالعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.265 ،‬‬
‫‡‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 1: L’éthique après kant, traduite de l’allemand par‬‬
‫‪Christian Bouchindhomme et al.Éditions du CERF, Paris, 1996, p, 7.‬‬

‫‪146‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الثمانينات بجامعة فرانكفورت‪ ،‬وهو المشروع الذي يعتبر كذلك ثمرة من ثمــار النقــاش الــذي‬
‫جرى مع هابرماس*‪.‬‬

‫استعرض آبل في هذا العمل الوضــعية الحاليــة لإلنســان واعتبرهــا وضــعية تعــبر عن‬
‫مشكلة اتيقية‪ ،‬ألن هناك تحـديات كبـيرة أصـبحت تواجـه اإلنسـانية‪ ،‬من أهمهـا خطـر انـدالع‬
‫حـــرب نوويـــة يمكن أن تـــدمر الحضـــارة اإلنســـانية في أي لحظـــة ومنهـــا أيضـــا األزمـــة‬
‫االيكولوجية‪ ،‬وهو األمر الــذي يســتدعي شــعورا من طــرف اإلنســان بالمســؤولية األخالقية†‪،‬‬
‫حيث يرى آبل أنه إذا كانت ‪″‬األخالق التقليدية‪ ″‬قد نجحت في تحقيق التماسك الــداخلي لألمم‪،‬‬
‫فهي ليست قادرة اليوم على حل مشاكل المجتمعات المعاصرة‪ ،‬ومعـه أصـبح من الضـروري‬
‫البحث عن إتيقــا قــادرة من جهــة على تلبيــة متطلبــات الوجــود اإلنســاني والتعــاون المســؤول‬
‫لمختلف نشاطات الحياة االجتماعية الداخلية وكذا الدولية التي تتجاوز الحــدود الوطنيــة‪ ،‬ومن‬
‫جهة أخــرى يجب أن تكــون هــذه اإلتيقــا قــادرة خاصــة على معالجــة المشــكلتين االيكولوجيــة‬
‫والنووية‪ ،‬فاإلنسان في الحياة المعاصرة يجب أن يكتسب وعيا قادرا على تنظيم ما يسميه آبل‬
‫« المنظمة التواصــلية للمســؤولية الجماعيــة الــتي تنظــر في نتــائج النشــاطات الجماعيــة للعلم‬
‫والتقنية »‡‪ ،‬ومعنى ذلك أن المشكلتين األساســيتين (الكونيــتين)ـ اللــتين شــغلتا تفكــير آبــل همــا‬
‫الكارثة اإليكولوجية التي تسببت فيها المصانع المعاصرة وخطر الحرب النووية بسبب تطور‬
‫وانتشار األسلحة النووية الناتج بدوره عن تطــور العلم والتقنيــة‪ ،‬وال شــك أن الطــابع الكــوني‬
‫لهاتين المشكلتين وغيرهما يتطلب تأسيس إتيقا إنسانية كونية‪.‬‬

‫طرح آبل ضرورة هذا التأسيس لإلتيقا على أسس فلسفية ترنسندنتالية متحولــة‪ ،‬فإتيقــا‬
‫المسؤولية عنده ال تقرر معايير محددة ولكنها تقدم الشروط الصــوريةـ الالزمــة الــتي تســتطيع‬

‫**‪ -‬كولمان وولف جانغ‪ ، Wolfgang Kuhlmann‬فيلسوف ألم اني من موالي د ‪ ،1939‬يعت بر أح د رواد الجي ل الث اني لمدرس ة‬
‫فرانكفورت‪ ،‬كان في تفكيره قريبا جدا من كارل أوتو آبل‪ ،‬حيث ساهم معه في بل ورة وتأس يس نظري ة التداولي ة الترنس ندنتالية ك رد‬
‫فعل على التداولية الشاملة التي أسسها هابرماس‪.‬‬

‫‪-Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 1, Op.Cit, p, 12.‬‬


‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 1, Op.Cit, p, 15.‬‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 11.‬‬

‫‪147‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫تحقيق الشرعية بكيفية كونية‪ ،‬حيث يؤكــد آبــل على ذلــك بقولــه‪ « :‬العقالنيــة الحقــة للتواصــل‬
‫التوافقي وحدها‪ ،‬هي التي تفترض معايير قبليـة تتجــاوز المصـلحة الفرديــة الخاصــة »*‪ ،‬ألن‬
‫هــذا النــوع من المعــايير فقــط هــو مــا يســمح بتأســيس اتيقــا عقالنيــة ذات طــابع كــوني وذات‬
‫صـالحيـة تسمـح بالمـرور من ‪″‬فلسـفة الـذات‪ ″‬إلى ‪″‬فلســـفة النـحـــن‪ ″‬أو كمـــا يسميـــها آبـــل‬
‫من‬

‫إلى‬ ‫‪″‬األنـانــــة المنهجيـــة الحديثـــة‪Solipsisme méthodologique moderne″‬‬


‫‪″‬المجمـوعة التـواصلـية‪. La communauté communicationnelle″‬‬

‫كما قام آبل في هذا العمل بإجراء مقاربة فلسفية بين كانط وهيغل حول إشكالية األسس‬
‫المعياريــة لألخالق والحقــوق‪ ،‬محــاوال في ذلــك تجــاوز الســؤال الكالســيكي‪ « :‬هــل كانــط أو‬
‫هيغل؟ » واستبداله بسؤال جديــد‪ « :‬لمــاذا كانــط أو هيغــل؟ أال يمكن أن يكــون بينهمــا طريــق‬
‫ثالث يصلح لنا اليوم؟ »†‪.‬‬

‫وفي هـذا اإلطـار أشـاد آبـل بـالمجهودات الفكريـة الـتي بـذلها كـل منهمـا أي‪( :‬كانـط‬
‫وهيغل) في الفلسفة األخالقية والسياسية‪ ،‬ولكنه دافع عن الطريق الثالث الذي أطلق عليه اســم‬
‫« تحويل الفلسفة الترنســندنتالية »‡‪ ،‬وفي هــذا المجــال أدرج آبــل نقــد هيغــل لكانــط في إطــار‬
‫التحول الفلسفي§‪ ،‬ولكنه رأى أن هذا النقد أدى إلى هيرمنيوطيقــا تاريخيــة لم تســتطع أن تقــدم‬
‫بديال نظريا وعمليــا للمشــكالت األخالقيــة والسياســية المطروحــة‪ ،‬ولهــذا دعــا في نهايــة هــذه‬
‫المقاربة الفلسفية بين كانط وهيغـل إلى « البحث عن وسـاطة نقديـة بين اإلتيقـا الترنسـندنتالية‬

‫*‬
‫‪-Ibid, p, p, 30, 31.‬‬

‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 1, Op.Cit, p, 39.‬‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 39.‬‬

‫§‬
‫‪-Ibid, p, 43.‬‬

‫‪148‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫والهيرمنيوطيقا التاريخية لتحل محــل التعــارض بين الصــورية الكانطيــة والجدليــة التاريخيــة‬
‫الهيغيلية »*‪.‬‬

‫كما تحدث آبل في هذا العمل الفلسفي عن األسس اإلتيقيــة للحضـارة الغربية†‪ ،‬وكــان‬
‫يريــد من وراء ذلــك تســليط الضــوء على تــأثير إتيقــا مــا بعــد الحداثــة على مســرح الثقافــة‬
‫المعاصرة‡‪ ،‬ورأى أن هذه المسألة تم التطرق لها في األيــام الفكريــة الــتي جــرت وقائعهــا في‬
‫فيفري ‪ 1986‬بباريس تحت شعار ‪″‬الحوار الفرنسي األلماني‪ ،§″‬وهنــا تســاءل آبــل عن مــدى‬
‫إمكانية أن تكون األسس اإلتيقية للثقافة الغربية نموذجــا عالميا**‪ ،‬وفي محاولتــه الجــواب عن‬
‫هذا التساؤل‪ ،‬دخل آبل في حوار فلسفي معمــق مـع فالســفة مـا بعــد الحداثـة في فرنسـا أمثـال‬
‫ميشال فوكو وجان فرانسوا ليوتارد)‪ ،J.F.Lyotard (1924- 1998‬وتساءل من خالل‬
‫هذا الحوار عن الخلفية الفكرية واالجتماعية التي أدت إلى أحــداث ‪ 1968‬في فرنســا وألمانيــا‬
‫وعن دور التيار الماركسي الفرنسي خصوصا فيها††‪ ،‬وخالصة ما توصــل إليــه آبــل في هــذه‬
‫المسألة هو أنه أصبح من الصعب جدا تطبيق إتيقا كونية وكلية في ظل أســس النظــام الغــربي‬
‫الحالي الذي يغلب عليه طابع االزدواجية في المعايير‪ ،‬فمن جهة هناك عقــل أداتي محايــد من‬
‫الناحية القيمية اتجاه العلم والتقنية‪ ،‬ومن جهة أخرى هنــاك محاولــة للحكم على القيم السياســية‬
‫واالجتماعية واالقتصادية على ضوء معايير علمية وتقنية العقالنية‪.‬‬

‫ورأى آبــل في هــذا العمــل أيضــا أن مشــكلة المســؤولية تطــرح وضــعية مفارقــة بين‬
‫(الض رورة واالس تحالة)‪ ،‬حيث عــبر عن ذلــك قــائال‪ « :‬من جهــة هنــاك ضــرورة إلى إتيقــا‬
‫للمسؤولية والتضامن مع قوة إجبار بينذاتية تنخرط فيها اإلنسانية جمعاء لتحمــل النتــائج الــتي‬

‫*‬
‫‪-Ibid, p, 67.‬‬

‫†‬
‫‪-Ibid, p, 69.‬‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 69.‬‬

‫§‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 1, Op.Cit, p, 69.‬‬

‫**‬
‫‪-Ibid, p, 70.‬‬

‫††‬
‫‪-Ibid, p, 71.‬‬

‫‪149‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫تترتب على األفعال والصراعاتـ اإلنسانية‪ ،‬وهي حالة لم تكن مستعجلة وملحة كما هــو عليــه‬
‫الحال اليوم‪ ،‬ومن جهة أخرى فـإن التأسـيس العقالني إلتيقـا بينذاتيـة للصـالحية ال يبـدوا أبـدا‬
‫على أنه أمر سهل اليوم‪ ،‬ألن الفكر العلمي الحديث ضبط مفهوم التأسيس العقالني والبينــذاتي‬
‫ضمن شروط دقيقة‪ ،‬أصبح معها تطبيق إتيقا عقلية للحــد من الصــراعات يبــدو مســتحيال »*‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أنه من الضروري‪ -‬حسب آبل‪ -‬أن تكون هناك إتيقا‪ ،‬ألن الوجــود المشــترك لبــني‬
‫اإلنســان ومختلــف أشــكال الحيــاة يحتــاج إلى معــايير إتيقيــة كليــة وكونيــة قــادرة على تنظيم‬
‫المسؤولية المشــتركة والتضــامن‪ ،‬أي أن هــذه اإلتيقــا الكليــة يجب أن تحقــق تنظيم المســؤولية‬
‫المترتبة على النشاطات العلمية والتقنية‪ ،‬ولكنه من الصعب ‪ -‬حسب آبل ‪ -‬أن تؤســس وتطبــق‬
‫هــذه اإلتيقــا‪ ،‬ألن مفهــوم العلمــاء للعلم يمنــع اإلنســان على أن يمتلــك اليــوم مفهومــا للتأســيس‬
‫العقالني‪ ،‬ألن التطور الفكري النظري‪ ،‬أي الفلسفي‪ ،‬الذي رافق هــذا التطــور العلمي والتقــني‬
‫لم يكن تطورا أكسيولوجيا محايدا‪ ،‬بل انحرف عن مساره وأصبح تطورا ايديولوجيا خالصــا‪،‬‬
‫ول ّما أصبحت اإلتيقا والمعايير والقيم ال عقالنية‪ ،‬فإن التحدي الفلسفي الذي يفرض نفسه بقــوة‬
‫في الوقت الراهن ‪ -‬حســب آبــل ‪ -‬هــو التأســيس العقالني والموضــوعي لإلتيقــا‪ ،‬والــتي يقــول‬
‫عنها‪ « :‬هي إتيقا ال تقوم على جانب واحد تتأسس عليه المعايير بطريقة مباشــرة على غــرار‬
‫إتيقــا الــواجب الكانطيــة‪ ،‬بــل هي إتيقــا تقــوم على جــانبين‪ ،‬على إجــراءات صــورية للتأســيس‬
‫النهائي‪ ،‬والذي بدوره يؤسس مبررا أو شرعية للمعايير الملموسة للتواصل التوافقي »†‪.‬‬

‫وفي آخر هذا الجزء األول من هذا العمل الفلسفي قام آبــل بــإجراء مقاربــة طريفــة بين‬
‫إتيقا الرياضة (‪ )Ethique du sport‬وإتيقا النقاش منطلقا في ذلك من إشـكالية طرحهـا في‬
‫بداية هذا البحث وهي‪ « :‬إلى أي مدى يمكن تطبيق إتيقا النقاش على المجــال الرياضــي؟ »‡‪،‬‬
‫حيث الحــظ آبــل وجــود عالقــة وثيقــة بين ظــاهرة الرياضــة واإلتيقــا‪ ،‬وذلــك ألن المنافســة‬
‫الرياضية النزيهة تقوم على قواعد ثابتة يجب احترامها من طرف المتنافســين‪ ،‬وعلى احــترام‬

‫*‬
‫‪-Ibid, p, 134.‬‬

‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 1, Op.Cit, p, 105.‬‬

‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 155.‬‬

‫‪150‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫نتيجة المنافسة سواء في حالة االنتصار أو الهزيمة‪ ،‬وهذا ما يعرف في الرياضــة بـ ـ ‪″‬الــروح‬
‫الرياضــية‪ ،″‬وهي من أســمى الصــفات األخالقيــة الــتي يجب أن يتحلى بهــا الرياضــي أثنــاء‬
‫المنافســة‪ ،‬وهــذا معنــاه أن كــل طــرف من أطــراف أي لعبــة رياضــية يجب عليــه أن يتحمــل‬
‫مسؤوليته اتجاه اآلخرين*‪ ،‬وذهب آبل إلى حد بعيد في طرحه هذا حين اعتبر قوانين الرياضة‬
‫وأخالقياتها نوعا من أنواع التداولية التي أرسى دعائمها فنتجشتين وأوســتين وســيريل†‪ ،‬وفي‬
‫آخر هــذا الموضــوع عــبر آبــل عن أملــه في أن تكــون قــوانين الرياضــة وأخالقياتهــا الكونيــة‬
‫نموذجا يتم تعميمه على كل المجاالت األخرى إلتيقا النقاش‡‪ ،‬ويتضح من خالل ما ســبق أنــه‬
‫على الرغم من طرافة هذه المقاربة الفلسفية بين أخالقيات الرياضة وإتيقــا النقــاش‪ ،‬فــإن ذلــك‬
‫يعبر عن مدى سعة ثقافة كـارل أوتــو آبــل ومــدى اهتمامــه بمختلـف األنشـطة الــتي يقــوم بهــا‬
‫اإلنسان المعاصر‪.‬‬

‫أما الجزء الثاني من كتاب ‪″‬النقــاش والمســؤولية‪ ،″‬والــذي كــان عنوانــه‪″ :‬إس هام في‬
‫إتيقا للمسؤولية‪ ،″‬فقد استعرض فيه آبل مجموعة من اإلشكاليات المتعلقة بالمسؤولية‪ ،‬حيث‬
‫حدد فيه مفهومه الخاص للمسؤولية‪ ،‬منطلقا في ذلك من تساؤالت أساســية‪ « :‬هــل المســؤولية‬
‫هي أداة للحد من التطور التقنــو‪-‬علمي الــذي أصــبح يشــكل خطــرا على اإلنســانية أو هي أداة‬
‫لتحرير وتحقيق اإلنسانية؟ »§‪،‬و « هل تستطيع المجتمعات الصناعية العيش دون إتيقا يمليهــا‬
‫العقل؟ »**‪.‬‬

‫لإلجابــة عن هــذه التســاؤالت دخــل آبــل في حــوار ونقــاش فلســفي حــاد مــع مواطنــه‬
‫الفيلسوف الشهير هانس يوناس‪ ،‬حيث عرض في البداية أطروحة يونــاس بخصــوص مفهــوم‬
‫المسؤولية الذي حدده في عمله الفلســفي الشــهير ‪″‬مبــدأ المســؤولية‪[ ″‬وهــو العمــل الــذي تمت‬
‫*‬
‫‪- Ibid, p, 160.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 164.‬‬
‫‡‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 1, Op.Cit, p175.‬‬

‫§‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2: Contribution à une éthique de la responsabilité,‬‬
‫‪traduite de l’allemand par Christian Bouchindhomme et al.Op.Cit, p, 9.‬‬
‫**‬
‫‪- Ibid, p, 9.‬‬

‫‪151‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫اإلشارة إليه في المطلب األول من المبحث األول من الفصل األول]‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار يــرى‬
‫آبل أن يوناس نبه إلى الوضعية الخطيرة التي تعيشها المجتمعــات الصــناعية‪ ،‬وهــذا مــا دفعــه‬
‫(أي يوناس) إلى توجيه انتقادات شديدة لألسس الفلسفية الــتي تأسســت عليهــا الحداثــة‪ ،‬وركــز‬
‫في ذلــك خاصــة على يوتوبيــا فرنســيس بيكــون (جزيــرة العلمــاء) ويوتوبيــا كــارل مــاركس‬
‫(المجتمع الالطبقي)‪ ،‬وفي هذا المجال دعا يوناس ‪ -‬حسب آبــل‪ -‬إلى ضــرورة أن تعلن أوربــا‬
‫المعاصرة نعيها يوتوبيا بيكون التي كان يأمل من خاللها تحقيق الســيطرة التقنــو‪-‬علميــة على‬
‫الطبيعة ألن هــذه الســيطرة أصــبحت خـارج نطــاق الســيطرة‪ ،‬وأن تعلن نعيهــا أيضــا يوتوبيــا‬
‫مــاركس للتحــرر ألن هــذا التحــرر لم يكن ســوى مجــرد أحالم ال يمكن أبــدا أن تتحقــق في‬
‫الواقع*‪ ،‬كما وجه يوناس نقدا الذعا لنظرية ‪″‬مبدأ األمل‪ ″‬للفيلسوف األلماني أرنست بلوخ*‪E‬‬
‫‪.†rnest Bloch‬‬

‫ولهذا فإن التحدي بالنسبة لهانس يوناس هو تحـدي جديــد تمامـا لم يســبق لإلنســانية أن‬
‫عرفتــه ســابقا‪ ،‬وبالتــالي فإنــه ال توجــد أيــة إتيقــا تقليديــة تســتطيع أن تقــدم حلــوال للمشــكالت‬
‫المطروحة في العصر الراهن‪ ،‬ألن اإلتيقات التقليدية ليست إتيقــا للمســؤولية تهتم بالمســتقبل‪،‬‬
‫وبهذا يتحدد معنى المسؤولية عند يوناس بأنهــا تفكــير في المشــكالت األخالقيــة المترتبــة عن‬
‫الحضارة التكنولوجية‪ ،‬و أنها كذلك نظرية أخالقية للمستقبل‡ ‪.‬‬

‫وبعد أن عــرض كــارل أوتــو آبــل موقــف هــانس يونــاس من الوضــعية الحاليــة للعــالم‬
‫ومفهومه للمسؤولية انتقل إلى مناقشته بخصوص هاتين المسألتين‪ ،‬وهنا يعلن آبــل اتفاقــه مــع‬
‫يوناس حول مدى خطورة الوضعية الحالية التي أصبحت تعيشها اإلنسانية‪ ،‬ويتفق معه أيضــا‬
‫على ضرورة تأمين الوجود اإلنساني وضـمان الكرامـة اإلنسـانية§‪ ،‬ولكن اختلــف معــه حـول‬

‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, 9.‬‬

‫†‬
‫‪- Ibid, p, 11.‬‬

‫* ‪ -‬أرنست بلوخ )‪ ،Ernest Bloch (1885-1977‬فيلسوف ماركسي ألماني‪ ،‬من أبرز أعماله ‪″‬مبدأ األمل‪.″‬‬
‫‡‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, p, 9, 10.‬‬
‫§‬
‫‪- Ibid, p, p, 12, 13.‬‬

‫‪152‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫المنهج الذي يؤدي إلى ذلك‪ ،‬واختلف معــه أيضــا حــول مفهــوم المســؤولية‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار‬
‫يرى آبل أنه من أجل إنقاذ الوجود والكرامـة اإلنســانية يجب « البحث على المسـتوى الكـوني‬
‫على عالقات اجتماعية تتفق مع الكرامة اإلنسانية »*‪ ،‬وو ّجــه آبــل نقــدا شــديدا ليونــاس حــول‬
‫مسألة نقده للحداثة وتشاؤمه وخوفه الشديد من المستقبل‪ ،‬وهو يقول في هذا الصدد‪ « :‬إن نقــد‬
‫يوناس ليتوبيات الحداثة ال يمثل حدثا كبيرا مقارنة مع نقد الحداثة حاليـا والـذي تعـود جـذوره‬
‫إلى هيدغر وتطور في الفكر الفرنسي حتى وصل إلى نقد ‪″‬ما بعــد الحداثــة‪ ،†»″‬ومعــنى هــذا‬
‫أن آبل ال يتفــق مــع يونــاس حــول الحلــول الــتي يقترحهــا هــذا األخــير لمشــكالت المجتمعــات‬
‫التكنولوجية ويرفض في فلسفته الرجوع إلى ما قبل الحداثة كما دعا إلى ذلــك يونــاس‪ ،‬وذلــك‬
‫ألن البحث والتطور العلمي والتقني في نظر آبل يلعب دورا مهمــا في عمليــة التحــرر بشــرط‬
‫أال يفقد النظرة المثالية التي يهدف إلى تحقيقهــا مجتمــع عــالمي للتواصل‡‪ ،‬فآبــل يطــرح إتيقــا‬
‫للنقاش تختلف عن اإلتيقا التي يطرحها يوناس‪ ،‬حيث أعطى لنظرية األخالقيــة بعــدا حجاجيــا‬
‫وبذلك تصبح أخالق التواصل أخالق حجاج « إن نظرة الحجاج تذهب إلى ماهو أبعد من ذلك‬
‫تــذهب إلى أخالق معياريــة‪ ،‬فمفروضــات الحجــاج وقواعــده وآراء المتحــاجين بعضــهم في‬
‫البعض كل ذلك ينتسب إلى المعايير الخلقية ومبادئ أخالق معيارية »§‪.‬‬

‫وخالصة القول حول الحوار الذي جرى بين آبل ويوناس‪ ،‬أنــه إذا كــان يونــاس يــدافع‬
‫عن األطروحــة القائلــة أن المســؤولية هي أداة للمحافظــة على تماســك المجتمــع‪ ،‬وأداة لكبح‬
‫جماح التطور التقنو‪-‬علمي الذي أصبح يشكل خطرا على اإلنسان والبيئة‪ ،‬فإن كارل أوتو آبل‬
‫يدافع عن األطروحة القائلة أن المسؤولية هي أداة لتحرير وتحقيق اإلنسانية‪ ،‬وهو هنا‪ -‬طبعا‪-‬‬
‫يقصد ‪″‬مبدأ المسؤولية الجماعية أو المشتركة‪ ،″‬حيث يرى آبل أنــه من الضــروري أن توجــد‬

‫*‬
‫‪- Ibid, p, 13.‬‬
‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, 14.‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 14.‬‬

‫§ ‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليت الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.227 ،‬‬

‫‪153‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫فكرة تنظم وتراقب ‪ -‬في نفس الوقت ‪ -‬التطور التكنولوجي والتطور االجتماعي‪ ،‬وتتمثل هــذه‬
‫الفكرة في المسؤولية‪.‬‬

‫ومن أبرز نقاط االختالف والتباين بينهما أيضا هو أن كارل أوتو آبل كــان أكــثر تفــاؤال‬
‫وأقل تشاؤما من هانس يوناس‪ ،‬حيث على الرغم من قلقــه ومخاوفــه من آثــار التطــور العلمي‬
‫والتقني على الحياة اإلنسانية فإنه كان يثق في مقدرة هــذا اإلنســان على تجنب هــذه المخــاطر‬
‫باعتباره كائنا أخالقيا عاقال ومسؤال‪ ،‬وفي هذا اإلطار يرى آبل أن اإلنسان السياسي ال ينبغي‬
‫عليه أن يكون فقط ‪″‬سياسيا واقعيا‪ ″‬يســتبعد كــل بعــد أخالقي في تســيير األزمــات‪ ،‬بــل ينبغي‬
‫عليه كما يرى آبل‪ « :‬إن اإلنسان السياسي األخالقي بمعناه في ‪″‬إتيقا المسؤولية‪ ″‬ينبغي عليــه‬
‫االنصياع لمبدأ منظم‪ ،‬يساعده على عدم إهمال األخطــار اإلســتراتيجية الممكنــة‪ ،‬ويســاهم في‬
‫تقليص أمد األزمات وحلها بالتراضي بطريقة خطابيــة أكــثر منهــا اســتراتيجية‪ ،‬وعالوة على‬
‫ذلك فإنه يجب على الفضاء العمومي أن يفكــر من اآلن فصــاعدا على مســتوى كــوني‪ ،‬وعلى‬
‫وســائل اإلعالم أالّ تقيــد السياســيين عن الحــديث في االجتماعــات والنــدوات الكثــيرة على‬
‫الخوض في أسئلة تهم اإلنسانية جمعـاء »*‪ ،‬ويضـيف كـارل أوتـو آبـل في نهايـة حديثـه عن‬
‫اإلتيقا التي يقترحها يوناس قائال‪ « :‬إن شروط حل األزمات تكمن ‪-‬حسب رأي‪ -‬في افــتراض‬
‫هام يمكن تطبيقه في كل المجاالت التي مستها األزمة الحالية التي يعرفهــا العــالم‪ ،‬وهــو إتيقــا‬
‫المسؤولية الجماعية في مواجهة المستقبل‪ ،‬وإن ضــرورة االنصــياع في األزمــة الحاليــة لهــذا‬
‫المبدأ يسير جنبا إلى جنب مع واجب حفظ الوجود والكرامة اإلنســانية »†‪ ،‬وبــذلك يتضــح أن‬
‫الطرح اإلتيقي ومفهوم المسؤولية عند آبل يختلف عن طرح ومفهوم هانس يوناس لهما‪.‬‬

‫وبعد ذلك انتقل آبل إلى الحــديث عن « كيفيــة تحقيــق الســالم في العصــر النــووي »‡‪،‬‬
‫وفي هذا الصــدد يــرى آبــل أنــه « ال يوجــد أي مــبرر أخالقي الســتخدام أو التهديــد باســتخدام‬

‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, pp, 37,38.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 38.‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 39.‬‬

‫‪154‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫األسلحة النووية »*‪ ،‬كما وجه آبل من خالل دراسته لهذه المشــكلة نقــدا شــديدا لمواقــف بعض‬
‫الفالسفة المعاصرين منها وخصّ بالذكر‪ « :‬ماكس فيبر وفالسفة الوضــعيةـ المنطقيــة وكــارل‬
‫بوبر ومعظم فالسفة النزعة التحليلية »†‪ ،‬ولم يتوقف آبـل عنـد حـد النقـد‪ ،‬بـل ذهب إلى تقـديم‬
‫اقتراحات ملموسة بإمكانها المســاهمة في حـل األزمــات السياســية العالميـة بعيـدا عن التهديــد‬
‫النــووي‪ ،‬منطلقــا في ذلــك من تســاؤل أساســي‪ « :‬كيــف تتم تســوية المشــكالت في العصـــر‬
‫النووي؟ »‡‪ ،‬وتندرج مســاهمة آبــل في هــذا الموضــوع في إطــار القســم (ب) من اإلتيقــا‪ ،‬أي‬
‫القسم العملي‪ ،‬وهنا يعترف آبل أنه « من الصعب جدا تأســيس إتيقــا للمســؤولية السياســية »§‪،‬‬
‫وذلــك نظــرا لعــدم وجــود تطــابق بين المعــايير األساســية إلتيقــا النقــاش الــتي تتطلب تســوية‬
‫األزمات بواسطة التفاهم بين األطراف المعنية أو بواسطة مســار حجــاجي حقيقي مــع الواقــع‬
‫السياسي‪ ،‬وأمام حالة التناقض هذه بين المعايير األساســية المثاليــة والواقــع السياســي‪ ،‬أي بين‬
‫القســم (أ) من إتيقــا النقــاش والمتمثــل في أسســها النظريــة والقســم (ب) والمتمثــل في أسســها‬
‫العملية يقترح آبل معيار ثالثا يعمل على تحقيق التكامل بينهما‪ ،‬وبذلك فإن البناء الفلسفي آلبــل‬
‫يتأســس على ثالثــة معــايير‪ « :‬المعيــار األساســي هــو األولويــة الخطابيــة لتشــكيل توافــق يتم‬
‫الوصول إليه بواسطة مسار حجاجي حقيقي […] والمعيار الثاني هو المسؤولية الملقــاة على‬
‫عاتق اإلنسان السياسي الذي يجب عليه حفظ وصيانة األمانة التي أوكلت إليه […] والمعيــار‬
‫الثالث هو بذل الجهد من أجل تحقيق التكامل بين المعياريين السابقين […] والهــدف من ذلــك‬
‫هو تهيئة الظروف الواقعية حتى تسمح بتطبيق المعيار األساسي »**‪.‬‬

‫وهكــذا نالحــظ أن آبــل أدخـل في فلســفته األخالقيـة معيــارا ثالثـا هــدف من وراءه إلى‬
‫التقريب بين المعايير المثالية إلتيقا النقــاش والواقـع السياسـي الــذي يقــوم على المسـؤولية من‬

‫*‬
‫‪- Ibid, p, 39.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 41.‬‬
‫‡‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, 48.‬‬
‫§‬
‫‪- Ibid, p, 48.‬‬
‫**‬
‫‪- Ibid, p, 55.‬‬

‫‪155‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫أجل الخروج بتسوية توافقية لألزمات‪ ،‬ومعنى ذلك أن المعيــار الثــالث الــذي أضــافه آبــل هــو‬
‫معيار للتنظيم‪ ،‬وبفضل هذا المعيار فـإن إتيقـا النقـاش يمكنهـا أن تكشـف عن إتيقـا للمسـؤولية‬
‫السياسية تساهم في حل األزمات والنزاعات السياسية‪ ،‬وبذلك أيضا يكون الفعل الذي يقوم بــه‬
‫اإلنسان السياسي ‪ -‬حسب آبل ‪ -‬فعال مسؤال وحجاجيــا ينــدرج في إطــار األفعــال الخطابيــة أو‬
‫التواصليةـ وليس في إطار األفعال اإلستراتيجية‪.‬‬

‫وبعد أن بحث كارل أوتو آبل مشــكلة إتيقــا المســؤولية السياســية‪ ،‬انتقــل إلى البحث في‬
‫مجال آخر وثيق االرتباط بالسياسة أال وهو المجال االقتصــادي‪ ،‬حيث حــاول آبــل الربــط بين‬
‫إتيقا النقاش باعتبارها إتيقا للمسؤولية والعقالنية االقتصادية‪ ،‬ومن خاللها بين اإلتيقا الفلســفية‬
‫والعلوم االقتصادية‪ ،‬وقد انطلق آبل في تحليله لهذا الموضوع انطالقا من تســاؤل أساســي قــام‬
‫بصــياغته على الشــكل التــالي‪ :‬هــل يمكن تطــبيق أخالقيــات النقــاش الفلســفية على المجــال‬
‫االقتصادي؟ أو‪ :‬هل يمكن تطبيق التداولية الترنسندنتالية على العلوم االقتصادية؟‪.‬‬

‫صرح آبل منذ بداية هذا البحث بصعوبة تطبيق مفهــوم أخالقيــات النقــاش أو التداوليــة‬
‫الترنسندنتالية التي يدعو إليها على المجال االقتصادي والعلوم االقتصادية*‪ ،‬وفي هذا اإلطــار‬
‫استعرض آبل تاريخ تطور الفكر االقتصادي من أرسطو إلى يومنا هذا‪ ،‬وهنا الحظ أن الفكــر‬
‫االقتصادي من أرسطو إلى القرن الثامن عشــر‪ ،‬كــان مرتبطــا بــالفكر السياســي‪ ،‬بينمــا كــانت‬
‫اإلتيقا مرتبطة بالفلسفة‪ ،‬ومعنى ذلك أن الفكر االقتصادي كــان منفصــال عن الفكــر األخالقي‪،‬‬
‫ولكن ابتداء من منتصف القرن الثامن عشر‪ ،‬أي منذ عصر كانط‪ ،‬حدث تحــول هــام وتأســس‬
‫العلم االقتصــادي كعلم مســتقل عن الفكــر السياســي‪ ،‬خاصــة مــع تشــكل مــا يســمى الحركــة‬
‫‪″‬النيو‪ -‬كالسيكية‪ ″‬التي قامت بصياغة فكرة ‪″‬اإلنسان االقتصــادي ‪″homo economicus‬‬
‫والتي كانت تعتبر أن الحاجــة البيولوجيــة لإلنســان هي الــدافع الــذي يقــف وراء تطــور الفكــر‬
‫االقتصادي‪ ،‬وهــذا مــا يــبرر نشــأة الفكــر الليــبرالي وتطــوره واعتبــاره أساســا لتقــدم األنظمــة‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬وهكــذا أصــبح الفكــر االقتصــادي علومــا اقتصــادية خالصــة على نمــط العلــوم‬
‫الرياضية والطبيعية‪ ،‬ولكن بالموازاةـ مع هذا العلم توجد أيضــا نظريــة أخالقيــة فلســفية تلعب‬
‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, 57.‬‬

‫‪156‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫دورا هامــا‪ ،‬وهنــا تطــرح مشــكلة مــدى تناســب عقالنيــة (الوســيلة‪-‬الغايــة)‪ ،‬أي العقالنيــة‬
‫اإلستراتيجية السائدة في الميــدان االقتصــادي الــتي تقــوم على تحقيــق أكــبر قـدر من المنفعـة‪،‬‬
‫وهي التي تعرف بالعقالنية اإلجرائية بصفة عامة‪ ،‬وهي الفلسفة التي جــرى التأســيس لهــا في‬
‫مذهب المنفعة االنجليزي مع العقالنية الخطابية*‪.‬‬

‫وفي هــذا المجــال رأى آبــل أن اإلتيقــا بــدءا من عصــر العقالنيــة االقتصــادية ‪ -‬وبكــل‬
‫بساطة ‪ -‬تحولت وتقلصت إلى عقالنية حسابية موجهة لتكون وظيفتهــا تحقيــق رغبــات ذاتيــة‬
‫أساسا‪ ،‬وترتب على هذا ‪ -‬حسب آبل ‪ -‬مثال أن التعاون مع الغير لم يعــد يتأســس على معــايير‬
‫أخالقية تعزز العالقات بين مختلف المجتمعات من خالل تحقيــق المصــالح المشــتركة‪ ،‬وإنمــا‬
‫أصبح‪ ،‬أي‪ :‬التعاون‪ ،‬يقوم على معايير إستراتيجية بعيدة جدا عن األخالقية وتتمثل في تحقيق‬
‫مصلحة الطرف القوي في المعادلة االقتصادية على حساب مصلحة الطرف الضعيف†‪.‬‬

‫ويصرح آبل أن إتيقا النقاش التي يدافع عنها تهدف إلى تحقيق الشــراكة والتقــارب بين‬
‫الفلسفة والعلوم االقتصادية‪ ،‬وذلك بتأسيس معايير ملموســة وخاصــة بوضــعية معينة‡‪ ،‬ولهــذا‬
‫رأى أن اإلتيقــا االقتصــادية باعتبارهــا نظريــة أخالقيــة لالقتصــاد‪ ،‬فــإن تأســيس معاييرهــا‬
‫األخالقيـــة يجب أن يكـــون مشـــروطا بالمعرفـــة‪ ،‬وانطالقـــا من هـــذه البديهيـــة فـــإن المبـــدأ‬
‫الــديونتولوجي* يمنــع أن يكــون تحقيــق الــربح على حســاب العمــال أو المجتمــع هــو الهــدف‬
‫األساسي من العملية االقتصادية§‪ ،‬أي أن العدل مقدم على الربح‪ ،‬فاإلتيقا االقتصــادية بمعناهــا‬
‫الواسع يجب أن تأخذ بعين االعتبار اإلجراءات العقالنية والتمايز بين مختلف األنظمة‪ ،‬ولهذا‬
‫ال يجب علينا البحث عن الخالص في العقالنية األداتية أو اإلستراتيجية ولكن علينــا أن نبحث‬

‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2 , Op.Cit, p, 62.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 63.‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 64.‬‬

‫* ‪ -‬الديونتولوجيا (‪ :)Déontologie‬علم الواجب‪ ،‬ويعربها جورج زيناتي (الواجباتية)‪.‬‬


‫§‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, p, 69.‬‬

‫‪157‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫بدال من ذلك عن هذا الخالص في إتيقا التواصــل أو النقــاش*‪ ،‬وذلــك ألن الفاعــل االقتصــادي‬
‫ليس مجرد ‪″‬إنسان اقتصادي‪ ″‬ولكنه أيضا فاعل مسؤول يجب عليه مراعاة الظروف القائمــة‬
‫اليوم†‪.‬‬

‫وخالصة القول في هذا المجــال ‪ -‬حســب آبــل‪ -‬هــو أن النشــاط االقتصــادي كغــيره من‬
‫النشاطات اإلنسانية األخرى من سياسة وعلم وتقنية يجب أن يتأسس على قيم أخالقية‪ ،‬ولهــذا‬
‫يجب على منظري العلوم االقتصادية أن يأخذوا هذا الجانب بعين االعتبار ويقوموا بمراجعــة‬
‫ونقد ذاتي لنظرياتهم االقتصادية حتى تتجاوز العقالنية األداتية واإلستراتيجية وتصبح العلــوم‬
‫االقتصادية ومعها النشاط االقتصادي خاضعين للعقالنية التواصلية‪،‬ـ أي إلتيقا النقاش‪.‬‬

‫وكعادته في مختلف أعماله‪ ،‬فإن آبل لم يفوت الفرصة للحديث في عمله هذا أيضــا عن‬
‫التأسيس النهائي إلتيقا التواصل‪ ،‬حيث حاول الربط بين التأسيس األخالقي الــذي يقــوم حســبه‬
‫على التداوليــة الترنســندنتالية ونظريــة تطــور األحكــام األخالقيــة لــدى اإلنســان من منظــور‬
‫ل ورانس كولب يرغ* )‪ Lawrence Kohlberg(1927-1987‬الــذي اعتمــد بــدوره في‬
‫وضعه لهذه النظرية على نظرية نمو التفكير العام لدى اإلنسان التي صــاغها ج ان بياجيه**‬
‫)‪.Jean Piaget (1896-1980‬‬

‫وفي هذا المجال قام آبل بتحليل نظرية كولبيرغ التي عرضها في كتابه ‪Stages of″‬‬
‫‪ ″moral development‬والتي رأى فيها أن التفكير األخالقي عند بني اإلنسان يمــر بســت‬
‫‪ 06‬مراحــل‪ ،‬وهــذه المراحــل يمكن تصــنيفها في مســتويات ثالث ‪ ،03‬كــل مســتوى يشــمل‬

‫*‬
‫‪- Ibid, Pp, 72 , 73.‬‬
‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, 76.‬‬

‫* ‪ -‬كولبيرغ لورانس‪ ،‬عالم نفساني أمريكي‪ ،‬تأثر بنتائج األبحاث التي توصل إليها بياجيه ونقلها من مجال علم النفس والمعرف ة إلى‬
‫فلسفة األخالق والتربية‪ ،‬مات منتحرا‪.‬‬

‫**‪ -‬بياجي ه ج ان‪ ،‬ع الم نفس اني وفيلس وف سويس ري‪ ،‬رائ د المدرس ة البنائي ة في علم النفس أو م ا يس مى علم النفس التكوي ني‪،‬‬
‫وصاحب نظرية النمو المعرفي ‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫مرحلتين‪ ،‬وقبل أن يدخل آبــل في تفاصـيل هـذه المســتويات والمراحــل ومناقشــتها‪ ،‬حـاول أن‬
‫يحدد مميزاتها العامة والعالقة القائمة بينها‪ ،‬حيث قال في هذا الصدد‪:‬ـ‬

‫« ‪ -1‬الحكم األخالقي يستند على إجراءات تقرر دور الفــرد (وهــذه فكــرة قريبــة من نظريــة‬
‫جورج هربرت ميد)‪.‬‬
‫‪ - 2‬في كل مرحلة هناك بناء فكري يتناسب مع مرحلة من مراحل التفكير عند بياجيه‪.‬‬
‫‪ -3‬يمكن فهم كل بناء على أنه بناء للعدالة‪.‬‬
‫‪ -4‬كل مرحلة تالية تشمل المرحلة السابقة‪ ،‬وهي في نفس الوقت مختلفــة عنهــا وأكــثر توازنــا‬
‫منها »*‪.‬‬
‫ثم انتقل آبل إلى تحليل نظرية كولبيرغ حول نمو التفكير األخالقي والتي بين من خاللهــا‬
‫أن تفكير بني اإلنسان في مجال األحكام األخالقية ينمو عبر مراحل بنظام متدرج كالتالي‪:‬‬

‫‪ -‬المستوى قبل التقليدي‪Au Stades Préconventionnels1et 2:‬‬

‫المرحلة األولى‪ :‬الحكم أخالقيا على األفعال وفق قاعدة الثواب والعقاب‪.‬‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬الحكم أخالقيا على األفعال وفق قاعدة المنفعة‪.‬‬
‫‪ -‬المستوى التقليدي‪Au Stades Conventionals 3et 4:‬‬

‫المرحلة الثالثة‪ :‬الحكم أخالقيا على األفعال على أساس العالقات داخل المجموعة‪.‬‬
‫المرحلــة الرابعــة‪ :‬الحكم أخالقيــا على األفعــال على أســاس اســتمرار وجــود وبقــاء المجتمــع‬
‫وقوانينه‪.‬‬
‫‪ -‬المستوى بعد التقليدي (المبدئي)‪:‬ـ ‪Au Stades Postconventionnels 5et 6‬‬

‫المرحلة الخامسة‪:‬الحكم أخالقيا على األفعال وفق االلتزام بالقيم الواردة في عقد اجتماعي‪.‬‬
‫المرحلة السادسة‪ :‬الحكم أخالقيا على أساس االلتزام بقيم العدالة اإلنسانية†‪.‬‬

‫*‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2 , Op.Cit, p, 94.‬‬

‫†‬
‫‪- Ibid, p, [ 94- 104].‬‬

‫‪159‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫وقد ال حظ آبل أن كولبيرغ تطرق إلى قضايا األخالق في سياق العدالة اإلنسانية‪ ،‬ألنه‬
‫كان يفكر على غرار راولس في كيفية بناء مجتمع عادل*‪ ،‬لــذلك كــان يركــز في أبحاثــه على‬
‫تطوير فهم القيم الديمقراطية واإلنسانية وتنفيذها في المجتمع‪ ،‬وقد توقف آبل كثيرا عنــد أعلى‬
‫مستوى في السلم األخالقي لكولبيرغ‪ ،‬أي المرحلة الخامسة والسادسة‪ ،‬وقام بفحصها‪ ،‬ألن في‬
‫هذا المستوى يتوجه التزام اإلنسان نحو القيم االجتماعية ونحو قيم العدالــة اإلنســانية الســاري‬
‫مفعولها من الناحية العقالنية‪ ،‬أي نحو ما هو أسمى من االنتماء الشخصي والجماعي†‪.‬‬

‫وبعد أن عرض آبل نظرية كولبيرغ انتقل إلى فحصها ومناقشتها‪ ،‬حيث الحظ أوال أن‬
‫من أهم نتائج األبحاث الميدانية التي قام بها كولبيرغ هو أن قلة قليلــة من المواطــنين البــالغين‬
‫في الواليات المتحدة األمريكية ممن شملتهم هذه الدراسة وصـلوا إلى إصـدار أحكـام أخالقيـة‬
‫عليا‪ ،‬أي وصلوا إلى المستوى المبدئي ( المرحلة الخامسة والسادسة)‪ ،‬حيث قدرت نســبتهم بـ‬
‫‪ %5‬فقط‡‪ ،‬كمــا الحــظ أيضــا أن بحث كولبــيرغ*‪ ،‬والــذي هــو في األســاس دراســة ميدانيــة‬
‫أجريت في الواليات المتحدة أنه بحث يرتكز على قاعدة جان بياجيــه في التفكــير‪ ،‬حيث حــدد‬
‫كولبيرغ العالقة بين نمو التفكير األخالقي ونمو التفكــير العــام‪ ،‬ووجــد أن العوامــل األساســية‬

‫*‬
‫‪- Ibid, p, 104.‬‬
‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2 , Op.Cit, p, [104 - 111] .‬‬

‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 105.‬‬

‫*‪ -‬كان كولبيرغ في دراساته الميدانية يضع الفئات المدروسة في معضلة أخالقية تتع ارض فيه ا قيم معين ة وتتطلب حس ما أخالقي ا‪،‬‬
‫أي أن هذه المعضلة األخالقية ليست حالة خيار بين موقف أخالقي وآخر غير أخالقي‪ ،‬وإنما هي حالة صراع بين م وقفين أخالق يين‪،‬‬
‫حيث يكون كل واحد منهما مقبوال حسب المعايير األخالقية للمجتمع‪ ،‬ولهذا يكون الحسم ص عبا ويس توجب ق درة على التفك ير معق دة‬
‫التركيب‪ ،‬وكان كولبيرغ يهدف من وراء ذلك إلى تطوير مهارات أساس ية في النق اش وأدب الح وار مث ل حس ن اإلص غاء‪ ،‬والتعب ير‪،‬‬
‫واتخاذ موقف أخالقي مبرر‪ ،‬ومن المعضالت األخالقية التي اشتهر بها كولبيرغ معضلة هاينز (‪)dilemme de Heinz‬ومضمون‬
‫هذه المعضلة األخالقية المفترضة‪ ،‬هو أنه كان لرج ل ي دعى ه اينز زوج ة أص يبت بس رطان ن ادر وش ارفت على الم وت‪ ،‬وفي نفس‬
‫الوقت تمكن أحد صيادلة المدينة من اكتشاف دواء لهذا المرض‪ ،‬ولكن رغم أن ثمن ه ذا ال دواء لم يكن مكلف ا‪ ،‬إال أن الص يدلي طلب‬
‫ثمنا باهظا مقابل جرعة صغيرة‪ ،‬ولكن هاينز لم ينجح إال في جمع نصف ثمن الدواء‪ ،‬فطلب من الصيدلي إما أن يخفض ل ه الس عر أو‬
‫يبيعه له بالتقسيط‪ ،‬ولكن الصيدلي رفض ذلك بحجة أنه صاحب االخ تراع ويري د أن يك ون غني ا باختراع ه ه ذا‪ ،‬وهن ا أص يب ه اينز‬
‫باإلحباط واليأس‪ ،‬وفكر باقتحام الصيدلية وسرقة الدواء‪ ،‬فهل من األخالق أن يقدم هاينز على سرقة الدواء؟‬

‫نالحظ أن في هذه المعضلة تعارض بين قيمتين أخالقي تين‪ ،‬حيث هن اك ص راع بين قيم ة الحف اظ على الق انون وقيم ة الحف اظ على‬
‫حياة اإلنسان‪ ،‬فمن جهة القيم االجتماعية تمنع السرقة وتعتبره ا فعال ال أخالقي ا‪ ،‬ومن جه ة أخ رى ف إن القيم اإلنس انية تعت بر حي اة‬
‫اإلنسان قيمة أخالقية عليا وتحافظ عليها‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫التي تمنع نمو التفكير األخالقي إلى المراحل العليا هي القدرة اإلدراكيــة المحــددة حســب ســلم‬
‫بياجيه* ‪.‬‬

‫ومن خالل حديث كارل أوتو آبل عن نظرية كولبيرغ الحظنا أنــه بقي وفيــا لمنهجيتــه‬
‫الخاصة ‪″‬التفكير مع ‪ ...‬وضد‪ ،″...‬فهو من جهة يقر بنظرية كولبــيرغ الــتي رأى من خاللهــا‬
‫هذا األخير أن أنمــاط التفكــير عنــد اإلنســان في مراحــل حياتــه المختلفــة‪ ،‬في قضــايا األخالق‬
‫والعدالة‪ ،‬تتحسن بشكل جوهري مع الــزمن‪ ،‬ولكنــه‪ ،‬أي آبــل‪ ،‬من جهــة أخــرى يــرى أن ســلم‬
‫كولبيرغ األخالقي هو سلم ناقص في حاجة إلى اإلكمال حــتى يتناســب مــع التأســيس النهــائي‬
‫لألخالق‪ ،‬وهنــا تحــدث آبــل عن « ضــرورة إضــافة مرحلــة ســابعة لتطــور الــوعي األخالقي‬
‫كمرحلة خاصة بإتيقا المسؤولية »†‪.‬‬

‫وفي هذا الصدد قال كارل أوتو آبل في نهاية حديثه عن نظرية كولبيرغ‪:‬ـ « إن تطــبيق‬
‫إتيقا ذات أسس كونية يقتضي مرحلة سابعة كقدرة خاصة بإصــدار األحكــام األخالقيــة‪ ،‬حــتى‬
‫يكون الحكم بشكل جيد وداال على الواقعية‪ ،‬وال يكون إطالقا تابعــا للنتــائج الــتي تم الحصــول‬
‫عليها من خالل منطق كولبيرغ للوعي األخالقي المستند على نظرية بياجيه‪ ،‬لقد توصــلنا إلى‬
‫نتيجة أخرى تفترض مرحلة سابعة إضافية ‪″‬مك ّملــة‪″ ″‬ميتافيزيقيــة‪-‬دينيــة‪ ،″‬ألن إتيقــا النقــاش‬
‫تفترض مرحلة أكثر كفاءة في إصدار األحكام األخالقية‪ ،‬إن هــذه المراحــل الــتي تم عرضــها‬
‫تستلزم وجود مرحلة أعلى من المرحلة السادسة تتجاوز منطق تطــور قــدرة إصــدار األحكــام‬
‫األخالقية كفعل محدود بتوازن نشأة الفرد‪ ،‬وهنا يجب اإلعالن عن وجــود قـدرة لحكم أخالقي‬
‫خاص بالحالة اإلنسانية‪ -‬المشروطة تاريخيا »‡‪.‬‬

‫وفي آخر هذا العمل أفصح آبل عن الدوافع والخلفيات السياسية والتاريخيــة والفكريــة‬
‫والشخصية التي جعلته يتجــه فلســفيا إلى االهتمــام بصــفة أساســية باإلتيقــا والمســؤولية‪ ،‬حيث‬
‫المصدر‪) : ‬بتصرف( ]‪Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, p, [98 - 100‬‬
‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, 107.‬‬
‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, 124.‬‬

‫‡‬
‫‪- Ibid, p, p, 132, 133.‬‬

‫‪161‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫صرح بأن إتيقا النقاش هي تعبير عن تجربته الشخصــية كمــواطن ألمــاني يمثــل الجيــل الــذي‬
‫عايش الكارثــة الــتي لحقت بألمانيــا جــراء سياســة الحــزب النــازي‪ ،‬وقــد انطلــق آبــل هنــا من‬
‫تساؤالت أساسية وهامة تتعلق بالحالة األلمانيــة وخصوصــيتها‪ « :‬هــل يمكن أن تعــود ألمانيــا‬
‫إلى وضعها الطبيعي؟ وماذا تعلمنا نحن األلمان من كارثتنا الوطنية؟ »*‪.‬‬

‫وخالل محاولته اإلجابة عن هذا التساؤالت اعترف آبل ببعض الحقائق المــرة بعضــها‬
‫شخصي يتعلق بمسؤوليته الفردية حيث اعترف بمشاركته في هذه الحرب مع الجيش النــازي‬
‫« في سنة ‪ -1940‬وحينها كنت أبلــغ من العمــر ‪ 18‬ســنة‪ -‬تطــوعت كبقيــة زمالئي من القســم‬
‫النهائي في الجيش األلماني »†‪ ،‬واعترف أيضا بأنه أسر من طرف الجيش األمريكي وأطلــق‬
‫سراحه عقب نهاية الحــرب « في ســنة ‪ 1945‬أفــرج عنّي من طــرف القــوات األمريكيــة بعــد‬
‫خمس سنوات قضـيتها في الحـرب‪ ،‬وبعـدها عـدت إلى الدراسـة في بـون وبـدأت بالتـاريخ ثم‬
‫توجهت نحو تخصص الفلسفة »‡‪ ،‬وبعضها وطني يتعلق بمسؤولية ألمانيــا كدولــة ومســؤولية‬
‫الشعب األلماني في هذه الحرب‪ ،‬وفي هذا الصدد قال آبل‪ « :‬باعتباري أنتمي إلى الجيل الذي‬
‫عايش الكارثة األلمانية في العهد الهتلري‪ ،‬أقول بعد أن استيقظنا ‪″‬إن هذه الكارثة تمثل موت‬
‫الضمير الخلقي‪ ]...[ ″‬ال أقول هذا من منطلق أنني فيلسوف مهتم بــالبحث في أســس اإلتيقــا‪،‬‬
‫ولكن أقول هذا من منطلق أنــني ‪ -‬أوال وقبــل كــل شــيء ‪ -‬إنســان يريــد أن يعــبر عن تجربتــه‬
‫الشخصــية »§‪ ،‬ويضــيف قــائال‪ « :‬بعــد عــودتي من الحــرب‪ ،‬قــررت دراســة التــاريخ‪ ،‬وهنــا‬
‫اكتشفت أنني عايشت كارثة وطنية لم يعرف تاريخ البشرية مثيال لها »**‪.‬‬

‫وقد استعرض آبل في هذا العمل تجربته الشخصية كطالب وكفيلسوف من سنة ‪1945‬‬
‫إلى ســنة ‪ 1987‬ومن خاللهــا أيضــا التجربــة األلمانيــة الــتي ســمحت لهــذه الدولــة ولشــعبها‬

‫*‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, 135.‬‬

‫†‬
‫‪- Ibid, p,138 .‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p,136.‬‬
‫§‬
‫‪- Ibid, p, 136.‬‬
‫**‬
‫‪- Ibid, p, 137.‬‬

‫‪162‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ومفكريها وعلمائها واقتصادها الرجوع إلى الوضع الطــبيعي‪ ،‬أي إعــادة انــدماجها مجــددا في‬
‫محيطهــا األوروبي والعــالمي‪ ،‬وقــد قســم هــذه التجربــة إلى ثالث مراحــل أساســية تتمثــل في‬
‫ما يلي‪ « :‬المرحلة األولى ويمكننا أن نسميها مرحلة ‪″‬إعادة التأهيل‪ ″‬والتي تزامنت بالنســبة‬
‫لنا كطلبة عائدين من الحرب مع الدخول في العالم‪ ،‬وهنا تميزت الدراسات الجامعية بالتركيز‬
‫على دراسة الفلسفة الوجودية‪ ،‬والمرحلة الثانية‪ ،‬هي مرحلة المواجهة الفلسفية مع النظريــات‬
‫التي قدمت لنا أهم وجهات النظر المتعلقة باإلتيقا السياسية وفلسفة التاريخ‪ ،‬والمرحل ة الثالث ة‬
‫تتوافــق مــع مــا يمكن أن نســميه التنــاقض مــع ‪″‬إعــادة التأهيــل‪ ″‬حيث تم التوجــه نحــو ميــدان‬
‫البراجماتيكا‪ ،‬مع اختالف التشجيع الوارد من الداخل والخارج من أجل الرجــوع إلى الوضــع‬
‫الطبيعي »*‪.‬‬

‫ولم يتوقــف آبــل عنــد حـد هــذا التقســيم بــل ذهب إلى أبعــد من ذلــك‪ ،‬حيث قـام بتحليــل‬
‫تاريخي معمق لهذه الفترة الحساسة من تاريخ ألمانيا الغربية‪ ،‬وتحدث بإسهاب عن هذه الفترة‬
‫من كل النواحي مركزا في ذلك خاصــة على أهم التطــورات الفلســفية الــتي عرفهــا هــذا البلــد‬
‫ودوره الشخصي فيها‪ ،‬محاوال من خالل ذلك الوقوف على العوامل الــتي جعلت ألمانيــا تقــف‬
‫على رجليها من جديد وتستعيد مكانتها الدولية بكل جــدارة واســتحقاق†‪ ،‬وقــد فســر آبــل نجــاح‬
‫التجربــة األلمانيــة تفســيرا ســيكولوجيا‪ ،‬حيث يقــول في هــذا الصــدد‪ « :‬من وجهــة النظــر‬
‫الســيكولوجية‪ ،‬هي رغبــة ســرية للتعــويض عن الهزيمــة »‡‪ ،‬منطلقــا في ذلــك من معطيــات‬
‫التحليل النفسي وبالتحديد من نظرية ‪″‬الشعور بالقصــور‪ ″‬الــذي يــؤدي إلى ‪″‬التعــويض وحب‬
‫التفوق‪ ″‬للطبيب والعالم النفساني النمساوي أدلر )‪.Adler (1870-1937‬‬

‫ومجمل القول أن آبل حاول من خالل الصفحات األخــيرة من هــذا العمــل أن ينقــل لنــا‬
‫تجربته الشخصية كمواطن وفيلســوف وإنســان وتجربــة ألمانيــا كدولــة وشــعب وحضــارة كي‬
‫تكون نموذجا ودرسا فلسفيا وسياسيا وتاريخيا واقتصاديا يقتدى به من طرف األمم والشعوب‬
‫*‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Discussion et Responsabilité 2, Op.Cit, p, 139.‬‬

‫†‬
‫‪- Ibid, p, [139-210].‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 138.‬‬

‫‪163‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الــتي تتعــرض إلى أزمــات أو كــوارث مماثلــة أو مشــابهة للكارثــة األلمانيــة‪ ،‬وهي التجربــة‬
‫التاريخية التي أشاد ون ّوه بنجاحها كثير من المفكرين العــالميين ومنهم ‪ -‬على ســبيل المثــال ال‬
‫الحصر‪ -‬المفكر الجزائري مال ك بن ن بي الــذي كــان يسـتدل في الكثــير من أعمالـه بالتجربــة‬
‫األلمانية‪ ،‬حيث قال وهو يتحدث عن أهمية الوقت في المعادلة الحضــارية في كتابــه ‪″‬شــروط‬
‫النهضة‪ « :″‬ما حدث في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية‪ ،‬تلك الحرب التي خلفت وراءهـا‬
‫ألمانيا ‪ 1945‬قاعا صفصفا‪ ،‬حطمت فيها كل جهاز لإلنتاج‪ ،‬ولم يبــق لهــا من شــيء تقيم على‬
‫أساسه بناء نهضتها‪ ،‬وفوق ذلك فقد تركتها لتصرف شؤونها تحت احتالل أربع دول‪ ،‬فلما بدأ‬
‫النشاط يسري في نفس الشعب األلماني في مستهل سنة ‪ ،1948‬كان ساعتئذ في نقطة الصــفر‬
‫من حيث المقومات االقتصادية الموجودة لديه‪ ،‬واليوم‪ ،‬وبعد عشر سنوات تقريبا [‪ ]...‬تــذهلنا‬
‫المعجزة‪ ،‬إذ انبعث شعب من الموت والدمار ‪.*»...‬‬

‫وما يفهم من كالم ‪ -‬مالك بن نبي ‪ -‬أن الحرب العالمية الثانيــة الــتي حصــدت عشــرات‬
‫الماليين من البشر في ساحات القتال والمدن المحطمــة‪ ،‬لم تخلــف فقــط ســيال من الــدماء على‬
‫وجه األرض‪ ،‬ولكنها خلفت أيضا بذور أفكار في الشعب األلمـاني بـدأت تظهـر آثارهـا اليــوم‬
‫في كافة المجاالت اإلقتصادية والعلمية والتقنية والفلسفية الــتي جعلت ألمانيــا تتجــاوز محنتهــا‬
‫ونكستها وتسترجع مكانتها الدوليــة على كافــة األصــعدة وخاصــة على صــعيد الفلســفة لتنجب‬
‫عشرات الفالسفة أمثال هابرماس وآبل وهونيث وغيرهم خلفا لكانط وهيغــل ونتشــه وغــيرهم‬
‫من الفالســفة العظمــاء‪ ،‬ونفس األمــر ينطبــق على األصــعدة األخــرى‪ ،‬فألمانيــا اليــوم تمتلــك‬
‫اقتصادا من أقوى ثالث اقتصاديات في العالم إلى جانب الواليات المتحــدة واليابــان‪ ،‬وال شــك‬
‫أن هذه القوة اإلقتصادية وراءها قوة فكرية وعلمية وتكنولوجيــة تعــبر عن العبقريــة األلمانيــة‬
‫التي أساء زعيم النازية أودولف هتلر‪‬استثمارها فألحق بأوروبا والعــالم أجمــع كارثــة عظمى‬
‫وبألمانيا كارثة وطنية ال مثيل لها في تاريخ العالم ‪ -‬كما وصفها‪ -‬كارل أوتو آبل‪.‬‬

‫* ‪ -‬بن نبي مالك‪ ،‬شروط النهضة‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،1986 ،‬ص‪.141 ،‬‬

‫‪ -‬هتلر أودولف )‪ Adolf Hitler (1889-1945‬سياسي وعسكري ألماني معاصر‪ ،‬أسس الحزب النازي‪ ،‬وحكم ألمانيا ما بين (‬
‫‪.)1945-1933‬‬

‫‪164‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫وهكذا نالحـظ أن كـارل أوتــو آبــل في عملـه هـذا ‪″‬النقــاش والمســؤولية‪ ″‬بجزأيــه‪ ،‬قــد‬
‫تطرق إلى قضايا ومشكالت مختلفة‪ ،‬حيث انتقل من تحليل أخالقيات النقاش العامة إلى تحليل‬
‫أخالقيات الرياضة وأخالقيـات السياسـة وأخالقيـات االقتصـاد إلى تحليـل تجربتـه الشخصـية‬
‫والتجربة األلمانية مرورا بالحديث عن التأسيس النهائي لألخالق‪ ،‬وهذا يدل على مدى اطالع‬
‫هذا الفيلسوف على أهم المشاكل المطروحة في هذا العصر وسعة ثقافته من جهــة‪ ،‬ومن جهــة‬
‫أخرى نود أن نشير هنا إلى أن تعدد وتنـوع وتشـعب المسـائل الـتي تم التطـرق إليهـا في هـذا‬
‫العمل يعود إلى كون هذا العمل هو في األصل مجموعة من المحاضــرات والمــداخالت الــتي‬
‫ألقاها آبل في نــدوات ومــؤتمرات فكريـة وفلسـفية وسياســية وتاريخيـة واقتصــادية ورياضــية‬
‫مختلفـة تم جمعهـا في هـذا العمـل‪ ،‬وهـو األمـر الـذي جعـل هـذا العمـل الفلسـفي جامعـا لعـدة‬
‫مشكالت فلسفية وفكرية وسياسية واجتماعية‪.‬‬

‫وهكذا يتضح أن إتيقا النقاش التي يطرحها آبل تحــاول تطــوير معيــار مثــالي (الجــانب‬
‫النظري) يجب أن يكون محاولة للتحقق التدريجي (الجانب العملي)‪ ،‬وهذا التطــور يمــر عــبر‬
‫تحسين المؤسسات نحو المسؤولية والعــدل والتضــامن والحريــة للوصــول إلى تنظيم سياســي‬
‫واقتصادي أفضل للمجتمع ‪.‬‬

‫هذا عن إتيقا النقاش والمسؤولية‪ ،‬فماذا عن إتيقا العلم والسياسة؟‬

‫‪165‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫‪ -2‬المبحث الثاني‪ :‬إتيقا العلم والسياسة عند آبل‬

‫أ‪ -‬المطلب األول‪ :‬اإلتيقا والعلم‬

‫تُ َع ُّد مشكلة إخضاع العلم والتقنية إلى القيم األخالقية من أهم المشــكالت الفكريــة الــتي‬
‫كانت محل اهتمــام وبحث من طــرف الفالســفة قـديما وحــديثا‪ ،‬وخاصــة في العصــر الــراهن‪،‬‬
‫وذلك انطالقا من الحكمة المتداولــة "العلم ســالح ذو حــدين"‪ ،‬أي‪ :‬أنــه يمكن أن يكــون إنتاجــا‬
‫مفيدا أو ضارا‪ ،‬وإن كان البعض يعتقد أن األضرار التي يتســبب فيهــا العلم ال تعــود إلى العلم‬
‫في حد ذاته بمقدار ما تعود إلى ُمستخ ِدم هذا العلم أال وهو اإلنسان‪ ،‬وبالفعل فإنه كما يمكن أن‬
‫نصل علميا إلى مركبات كيميائية تستعمل في صناعة أدويــة معينــة مثال‪ ،‬يمكن أن نصــل إلى‬
‫تركيبات كيميائية قاتلة يمكن أن تستعمل في الحروب‪ ،‬وكما يمكننا أن نستخدم الطاقة النوويــة‬
‫في إنتاج الكهرباء أو استخدامها في مجاالت مدنية أخرى كالطب‪ ،‬بإمكاننــا أن نســتخدمها في‬
‫صــناعة أســلحة نوويــة‪ ،‬ومن هــذا المنطلــق كــانت ضــرورة إخضــاع العلم وإفرازاتــه التقنيــة‬
‫وتوجيههما أخالقيا إلى ما يفيد اإلنسان أمرا ملحا‪ ،‬خاصة في هذا العصر‪.‬‬

‫ويُ َع ُّد كارل أوتو آبل واحدا من أبرز الفالســفة المعاصــرين اهتمامــا بهــذه المشــكلة من‬
‫خالل تناوله لها بعمق ومسؤولية‪ ،‬حيث ظل « يعمل منــذ صــدور كتابــه "األخالق في عصــر‬
‫العلم" حول المشـكالت الـتي ترتبـط بـاألخالق والنظريـة األخالقيـة والتواصـل أو مـا يسـميه‬
‫أحيانا الحوار‪ ،‬وتتخذ أبحاثه اتجاهين‪ ،‬األول‪ ،‬تابع بعمق التفكير في البراجماتية المتعالية‪ ،‬أي‬
‫مشكلة التأسيس وتأسيس عقالني لألخالق‪ ،‬والثاني‪ ،‬خلق منطق شكلي ضروري وفــق مقولــة‬
‫التأسيس لآلخر »*‪ ،‬وهذا ما أشارت إليــه أيضــا الباحثــة الفرنســية ج اكلين روس حين قــالت‪:‬‬
‫« في محاولته سنة ‪" 1967‬مشكلة تأسيس اإلتيقا في عصــر العلم‪:‬ـ مشــروع جماعــة اتصــالية‬
‫وأسس األخالق النظرية" يفتح آبل المناقشة الحاليــة ألخالق الخطــاب النظريــة‪ ،‬ذلــك أن هــذا‬
‫المفكر يتخذ األخالق النظرية منطلقا ويحلل الشكوك والصعاب المعاصرة‪ ،‬ويميط اللثام عمــا‬
‫يشكل عائقا في وجه تأسيس أخالق نظرية تأسيسا عقليا صالحا للمجتمع اإلنساني بأسره »†‪.‬‬
‫* ‪ -‬عطية أحمد عبد الحليم‪ ،‬قراءات في األخالقيات الراهنة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.39 ،38 ،‬‬

‫† ‪ -‬روس جاكلين‪ ،‬الفكر األخالقي المعاصر‪ ،‬ترجمة عادل العوا‪ ،‬عويدات للنشر والطباعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ص‪.67 ،‬‬

‫‪166‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ولقــد ســبق وأن تطرقنــا ســابقا [في المطلب األول من الفصــل الثــالث] إلى المفارقــة‬
‫الصــعبة الــتي أثارهــا آبــل بين حاجــة اإلنســان المعاصــر إلى أخالق نظريــة كليــة من جهــة‪،‬‬
‫والتكنولوجيـا المتطـورة الـتي تسـعى إلى تنميـط العـالم في عصـر العولمـة من جهـة أخـرى‪،‬‬
‫« ومعنى ذلك أن األخالق النظرية في عصرنا هي في آن واحد أمر ملح ومحال »*‪ ،‬وهذا ما‬
‫يجعل « مهمة الفلسفة في تأسيس أخالق نظرية كلية ليس شاقا فقط‪ ،‬بل يتسم باليأس في حقبــة‬
‫التطور العلمي والتكنولوجي التي نحياها »†‪.‬‬

‫وهكذا يمكن اعتبار ســنة ‪ 1967‬بالنســبة آلبــل نقطــة انطالق مشــروع فلســفي عنوانــه‬
‫"أخالقيات التواصل"‪،‬ـ وهو المشروع الذي كان لــه صــدى كبــيرا على الصـعيد العــالمي وفي‬
‫هذا المجال يقول آبل‪ « :‬بعد‪ 1967‬بدأت في تأسيس إتيقا للخطاب أو التواصلـ »‡‪ ،‬ويعــد هــذا‬
‫المشروع مناظرة نقدية بين الهرمنيوطيقا‪ ،‬والفلسفة التحليلية للغــة‪ ،‬والعقالنيــة النقديــة لكــارل‬
‫بوبر‪ ،‬رجع من خاللها آبل إلى التأمل الذاتي الترنسندنتالي الكانطي المحول تداوليا‪ ،‬واعتــبره‬
‫المخرج المناسب للتعارض والمأزق الذي وصلت إليه الفلسفة الغربية‪.‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬فإنه بالرجوع إلى كتابه الذي أصــدره ســنة ‪" 1967‬اإلتيقــا في عصــر العلم‪،‬‬
‫‪ "l’éthique à l’âge de science‬نجد كارل أوتو آبل يتحـدث عن هـذه المشــكلة بعمــق‬
‫وتفصيل معتبرا إياها مشكلة كونية‪ ،‬وهذا ما يتضــح في قولــه‪ « :‬الحضــارة العلميــة والتقنيــة‪،‬‬
‫وضعت كل الشــعوب واألعــراق والثقافــات‪ ،‬بغض النظــر عن التقاليــد األخالقيــة لكــل منهــا‪،‬‬
‫سواء المتعلقة بمتطلباتهم أو خصوصياتهم الثقافية‪ ،‬أمام إشكالية إتيقا مشتركة »§‪.‬‬

‫* ‪ -‬عطية أحمد عبد الحليم‪ ،‬قراءات في األخالقيات الراهنة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.36 ،‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.36 ،35 ،‬‬


‫‡‬
‫‪-Apel Karl-Otto, L’«a Priori du corps»dans le problème de la connaissance, traduction par Thierry‬‬
‫‪Simonelli, CERF, Paris, 2005, p, 98.‬‬
‫§‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Sur le problème d’une fondation rationnelle de l’éthique à l’âge de science:‬‬
‫‪l’apriori de la communauté communicationnelle et les fondements de l’éthique, trad de l’allemand‬‬
‫‪par Raphaël Lellouche et Inga Mittmam, Presses universitaires de Lille, 1987, p, 46.‬‬

‫‪167‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫وقــد عـبر آبـل في هــذا المشــروع من خالل عملــه "اإلتيقــا في عصــر العلم" عن قلقـه‬
‫الشديد من نتــائج التطــور العلمي والتقــني وانعكاســاته الســلبية على حيـاة اإلنســان خاصــة في‬
‫جانبها األخالقي‪ ،‬حيث قال في هذا الصــدد‪ « :‬النتــائج التقنيــة للعلم أضــفت اليــوم على أفعــال‬
‫اإلنسان إخفاقا واسع النطاق لم يعد معه ممكنا من اآلن فصاعدا تسوية المعايير األخالقية »*‪.‬‬

‫ونبه آبــل في هــذا العمــل إلى األخطــار الــتي تــرتبت على االنتشــار الواســع للحضــارة‬
‫العلمية والتقنية وآثارها على األفعال اإلنسانية‪ ،‬وفي هذا يقــول‪ « :‬الوجــود اإلنســاني بالكامــل‬
‫مهدد‪ ،‬فاآلثار المباشرة والثانوية للتقنية الصناعية تتصف بأخطار متماثلــة‪ ،‬فلقــد اســتيقظنا في‬
‫السنوات األخيرة على خطر التلوث الذي أصبح يهدد البيئة‪ ،‬هــذه اإلشــكالية اإليكولوجيــة هي‬
‫من آثــار انحــراف الحضــارة الصــناعية‪ ،‬وقــد أثــارت ضــجة على كــل المســتويات‪ ،‬ومن‬
‫التساؤالت المطروحة هنا‪ ،‬هو ما إذا كانت أسطورة النمــو اإلقتصــادي والتقــني‪ ،‬وخاصــة في‬
‫الدول الصناعية المتنافسـة‪ ،‬ال ينبغي أن يعـاد فيهــا النظـر جـذريا‪ ،‬إذا مــا أردنـا ضــمان إنقــاذ‬
‫المحيط الحيوي لإلنسانية »†‪ ،‬كما نبه أيضا إلى خطر الحــرب‪ ،‬وقــال في هــذا الصــدد‪ « :‬لقــد‬
‫أصــبحت الحــرب أداة لالنتخـاب الــبيولوجي [‪ ]...‬وأداة للتوسـع اإلقليمي [‪ ]...‬وإبـداع القنبلــة‬
‫النووية أصبح معه خطر الدمار بالحرب ليس له حدودا »‡‪.‬‬

‫وتحدث آبل في هذا العمل عن المشكالت الفكرية والفلســفية الــتي تــرتبت عن التطــور‬
‫العلمي والتقني‪ ،‬وخاصة في مجـال الفلســفة األخالقيـة‪ ،‬أين أصـبح بعض الفالســفة المتـأثرين‬
‫بالنزعة العلموية والتفسيرات المادية والواقعية يحاولون تأسيس قيم أخالقية علمية وواقعيــة‪،‬‬
‫وهو األمـر الـذي يرفضـه آبـل جملـة وتفصـيال‪ ،‬ويقـول في هـذا‪ « :‬اسـتخالص المعـايير من‬
‫الوقائع‪ ،‬هو إخالل بالمبدأ اإلنساني الـذي يتأسـس على التميـيز الصـارم بين مـاهو كـائن ومـا‬

‫*‬
‫‪-Ibid, p, 44.‬‬

‫†‬
‫‪-Ibid, p, 45.‬‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 45.‬‬

‫‪168‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ينبغي أن يكون »*‪ ،‬وهذا ما أدى في نظر آبل إلى بروز مفارقة صعبة تتمثل على حد تعبــيره‪:‬‬
‫« المفارقة التي تطرحها المشكلة التي تواجهنــا اليــوم‪ ،‬هي مســألة العالقــة بين العلم واإلتيقــا‪،‬‬
‫فإتيقا المسؤولية والتضامن التي يجب أن تكون كونية‪ ،‬أي‪ :‬بينذاتية وذات صالحية‪ ،‬يبدو أنهــا‬
‫أضحت اآلن ضرورية ومستحيلة »†‪.‬‬

‫كما عبر آبل في هذا العمل عن خيبة أمله من معالجة الفالسفة لهــذه المفارقــة‪ ،‬ورأى أن‬
‫الفلسفة فشلت في وظيفتها سواء في الشــرق أو الغــرب الصــناعيين‪ ،‬ويقــول في هــذا المجــال‪:‬‬
‫« الســمة األساســية في هــذه المفارقــة للوضــعية الحاليــة‪ ،‬يمكن عرضــها على شــكل تنــاقض‬
‫بالمعنى الــدياليكتيكي لهيغــل‪ ،‬ونســتطيع أن نمــيز في الواقــع تناقضــا حقيقيــا بين اتجــاهين في‬
‫الفلسفة المعاصرة‪ ،‬وهو تناقض يمكن اعتباره محركا للديالكتيك القــادر على منحنــا توضــيحا‬
‫وتفسيرا مثمرا نستدل به على مشــكلتنا‪ ،‬فمـاهي االتجاهـات الــتي لهــا تـأثير فعــال في الفلسـفة‬
‫المعاصرة وتمثل هذا التناقض األكاديمي والنظري؟ »‡‪.‬‬

‫يرى آبــل أن االتجــاه الفلســفي األول الــذي يمثــل أحــد طــرفي هــذا التنــاقض هــو الفلســفة‬
‫الماركســية الــتي كــانت ســائدة في المعســكر االشــتراكي‪ ،‬وهنــا يتســاءل آبــل‪ « :‬كيــف يمكن‬
‫للماركسية أن تقدم أسسا اتيقية وفي نفس الوقت شروط إمكانية عمل تضامني ومسؤولية قابلة‬
‫للتجسيد؟ »§‪.‬‬

‫وقد أجاب عن هــذا الســؤال بتوجيهــه النتقـادات شـديدة لهــذا االتجــاه قـائال‪ « :‬إن الفكـرة‬
‫الماركسية التي تربط بين النظرية والتطبيق وبين العلم واإلتيقا‪ ،‬تبــدو في نهايــة األمــر كتفنيــد‬
‫ودوغمائيــة لكــل من الــروح العلمي وروح حريــة المســؤولية اإلتيقيــة في آن واحــد‪ ،‬تح ـ ّول‬
‫االنطولوجيــا الثيولوجيــة إلى أداة دياليكتكيــة للتــاريخ‪ ،‬إن الماركســية يبــدو أنهــا اتجهت نحــو‬
‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, Sur le problème d’une fondation rationnelle de l’éthique à l’âge de science,‬‬
‫‪Op.Cit, p, 48.‬‬
‫†‬
‫‪-Ibid, p, 49.‬‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 49.‬‬

‫§‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Sur le problème d’une fondation rationnelle de l’éthique à l’âge de science, Op.Cit,‬‬
‫‪p, 50.‬‬

‫‪169‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫دوغمائية الميتافيزيقا التقليدية وخطابها هو نبــؤة باطلــة عن المســتقبل‪ ،‬وباعتبارهــا اشــتراكية‬


‫علمية استبدلت التوقعات المشروطة للعلم اإلمبريقي‪-‬التحليلي للطبيعة بتوقعات غير مشروطة‬
‫للتاريخانية‪-‬على حد تعبير بوبر‪ -‬واستبدلت األسس اإلتيقية لإللتزامات االجتماعيــة بمرجعيــة‬
‫الضرورةـ التاريخية ‪-‬على حد تعبير بوبر‪ -‬دائما »*‪.‬‬

‫أما االتجاه الفلسفي الذي يمثل الطرف الثــاني في هــذا التنــاقض فهــو الفلســفة في الغــرب‬
‫الصناعي بمختلف تياراتها‪ ،‬وهي التي تتفق على‪ « :‬األسس الفلسفية للنظــام الغــربي تــرى أن‬
‫للقرارات الفردية للضمير األخالقي لألفراد‪ ،‬يمكنها في نهاية األمر أن تفرض على أصحابها‬
‫قيم الواجب األخالقي‪ ،‬ولكن كيف يمكن لقــرارات الضــمير األخالقي لألفــراد أن توفــق بينهــا‬
‫كقواعد معيارية بطريقة تفترض مسؤولية تضامنية في العمل االجتماعي؟ »†‪ ،‬وقد أجاب آبل‬
‫عن هذا التساؤل بتعبير يتضمن نقدا تهكميا للفلسفة الغربية قــائال‪ « :‬إنــه من الصــعب معرفــة‬
‫[‪ ]...‬كيف يمكن للنموذج الغربي للحضارة العلمية تحمل مسؤولية أخالقية في مواجهـة نتـائج‬
‫التقنية الصناعية »‡‪.‬‬

‫ولم يتوقف آبـل عنـد حـد اإلشـارة إلى المفارقـة الـتي أثارتهـا العالقـة بين العلم واإلتيقـا‬
‫والتنبيه إلى األخطار التي أصبحت تهدد الحياة اإلنســانية جــراء التطــور العلمي والتقــني‪ ،‬بــل‬
‫ذهب إلى حـد تحديــد االفتراضـات المنطقيـة لهــذه المفارقـة واالسـتراتيجيات الممكنـة لحلهـا‪،‬‬
‫وتتمثل هذه االفتراضات في ما يلي‪:‬‬

‫«‪ -1‬ال معيار يمكن استخالصه من الواقع‪.‬‬


‫‪ -2‬إن العلم باعتباره يقدم محتوى معرفي يتعلق بالواقع يترتب عليه أن التأسيس العلمي إلتيقا‬
‫معيارية غير ممكن ‪.‬‬

‫*‬
‫‪-Ibid, p, 53.‬‬

‫†‬
‫‪-Ibid, p, 61.‬‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 65.‬‬

‫‪170‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫‪ -3‬العلم وحــده فقــط هــو من يقــدم معرفــة موضــوعية‪ ،‬والموضــوعيةـ مطابقــة للصــالحية‬
‫البينذاتية‪ ،‬وبالتالي فإن التأسيس البينذاتي لصالحية اتيقا معيارية مستحيل »*‪.‬‬

‫وعلى ضوء ذلك توصل آبل إلى أن الفلسفة المعاصرة ال يمكنها تأســيس اتيقــا معياريــة‪،‬‬
‫فماهو الحل في نظره؟‬

‫لخص آبـل الهـدف من اتيقـا التواصـل الــتي يــدعو إليهــا بقولـه‪ « :‬أوال‪ ،‬أن تضـمن كــل‬
‫تصرفاتنا وأفعالنا استمرار الجنس البشري باعتباره مجموعة حقيقية للتواصل‪ ،‬وثانيا‪ ،‬تجسيد‬
‫(تحقيق) المجموعة المثالية في المجموعة الحقيقية للتواصل »†‪.‬‬

‫ويتضح مما قاله آبل أن الهدف األول هو شرط ضروري للثاني‪ ،‬وتوضيحا لــذلك يقــول‬
‫الباحث الفرنسي مــارتن لوكــور شــانتيلي‪ « :‬إن كــل شــخص يحــاجج يجــد نفســه في وضــعية‬
‫دياليكتيكية ألنه يشير بالضرورة إلى قبلية مزدوجة‪ ،‬تفترض في آن واحد‪ ،‬شروط المجموعــة‬
‫المثالية للتواصل والمجموعة الحقيقية للتواصــل‪،‬ـ اللــتين تعــبران عن مبــدأين منظمين يقــودان‬
‫االستراتيجية األخالقية على المدى البعيد لكل أفعال اإلنسان »‡‪.‬‬

‫كما بحث آبل مشكلة إتيقا العلم والتأسيس النهائي في عمل أساسي آخر بعنوان "موقف‬
‫إتيقــا النقــاش من التحــدي األخالقي للوضــعيةـ اإلنســانية الخاصــة حاليــا ‪La réponse de‬‬
‫‪l’éthique de la discussion: au défi morale de la situation humaine‬‬
‫‪ ،*"comme telle spécialement aujourd’hui‬وهو العمل الذي ركز فيه على دراسة‬
‫وتحليل أهم التحديات التي تواجه تأسيس نهائي لألخالقية‪ ،‬وفي هذا المجال يقول مترجمه إلى‬
‫الفرنسية عن آبـل وعن إتيقـا النقـاش‪ « :‬يعتـبر آبـل إلى جـانب هابرمـاس من أهم فالسـفة مـا‬
‫أصبح يسمى اليوم "إتيقا النقاش" وهي إتيقا ال تتعلق فقط بالمجال التطــبيقي للحــوار‪ ،‬بــل هي‬
‫إتيقا أساسية يمكن تطبيقها على مختلف مجاالت النشاط اإلنساني »*‪.‬‬

‫*‬
‫‪-Apel Karl-Otto, Sur le problème d’une fondation rationnelle de l’éthique à l’âge de science, Op.Cit,‬‬
‫‪p, 66.‬‬
‫†‬
‫‪-Ibid, p, 133.‬‬

‫‪171‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ويتمثل الدرس األول الذي تم بحثه كأول نوع من التحديات في األخطار التي أصبحت‬
‫تهدد المجتمع من جراء التطور العلمي والتقني‪ ،‬أي‪ :‬الوضعية الناتجة عن التطور اإلنســاني‪،‬‬
‫وهو تطور‪ -‬كما يرى آبل‪ -‬يفتقر إلى قدرات أساسية وكافية تجعل الناس يعيشــون في توافــق‬
‫نسبي‪ ،‬ألن معظم تصــرفاتهم في بــيئتهم االجتماعيــة والطبيعيــة هي تصــرفات ال تختلــف عن‬
‫السـلوكيات الحيـوانية†‪ ،‬وهنا يتسـاءل آبل‪ « :‬كيـف تكون المؤسـسـات بديـال للغرائز؟ وكيـف‬
‫يمكن اعتبارها مؤسسات قبلية معيارية؟ وكيف ننظر إلى األبحاث الجديدة للتطور اإلنســـاني‬
‫حتى نفهم أساس مشكلة اإلتيقا؟ »‡‪.‬‬

‫وقد حاول آبل اإلجابــة عن هــذه التســاؤالت منطلقــا من الكتــاب المقــدس قــائال‪ « :‬لقــد‬
‫أعطى اإلنجيل جوابا لهذا السؤال عنــدما تحــدث عن ســقوط أول زوج إنســاني "آدم وحــواء"‬
‫إلى األرض بعــدما أغواهمــا الشــيطان وأكال التفاحــة على األرض ليعرفــا الفــرق بين الخــير‬
‫والشر »§‪ ،‬وهنا يلتقي آبل مع كانط « وقد قام كانط بترجمة هــذه األســطورة كمفهــوم للتطــور‬
‫في محاولته "تخمينات حول بداية التاريخ اإلنساني" »**‪.‬‬

‫‪- Martine Le Corre Chantecaille, L’éthique de la discussion entre raison et histoire chez Karl-Otto‬‬
‫‡‬

‫‪Apel, Edition M-Editer, 2014, p-p, 44-45 .‬‬

‫* *‪ -‬يندرج ما ورد في هذا الكتاب في إطار المحاضرات التي ألقاها آبل في مارس ‪ 1999‬باللغة االنجليزي ة ب دعوة من المعه د الع الي‬
‫للفلسفة بالجامعة الكاثوليكية لوفان التي دأبت على دعوة شخصيات فلسفية هامة‪ ،‬والدروس الثمانية التي يحتويها ه ذا الكت اب‪ ،‬هي‬
‫ترجمة لنص أصلي حرره آبل باللغة االنجليزية‪ ،‬ونحن نقدم هذه الدروس إلى الجمهور الفرانكفوني العريض‪ ،‬ألنه ا بحث نس قي ه ام‬
‫تم تطويره في المرحلة األخيرة إلتيقا النقاش من طرف آبل‪.‬‬

‫‪Voir, Apel Karl-Otto, la réponse de l’éthique de la discussion, p-p, 1-2 (l’introduction de‬‬
‫‪traducteur).‬‬

‫‪- Apel Karl-Otto, la réponse de l’éthique de la discussion au défi moral se la situation humaine‬‬
‫‪comme telle spécialement aujourd’hui, trad par Michel Canivet, édition peeters, Louvain, Paris,‬‬
‫‪2001, p, 1 (l’introduction de traducteur).‬‬
‫†‬
‫‪-Ibid, p, 3(l’introduction de traducteur).‬‬

‫‪-Apel Karl-Otto, la réponse de l’éthique de la discussion: au défi morale de la situation humaine‬‬


‫‡‬

‫‪Op.Cit, p, 17.‬‬
‫§‬
‫‪-Ibid, p, 17.‬‬
‫**‬
‫‪-Ibid, p, 17.‬‬

‫‪172‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫ولم يتوقف آبل عند حد تحليل أسباب هذه الوضعية‪ ،‬بل حـاول تقــديم الحلــول المناســبة‬
‫لها‪ ،‬وفي هذا المجال يقول‪ « :‬انطالقا من هذا التأويل للتطور اإلنساني‪ ،‬فــإن األســاس األكــثر‬
‫عمقــا في أطروحــتي هــو أن الوضــعية اإلنســانية تؤســس لمشــكلة إتيقيــة‪ ،‬تتمثــل في كــون أن‬
‫السلوك اإلنساني لم ينفصل بصفة نهائية عن الغرائز‪ ،‬أو بعبارة أخرى عن القوانين الطبيعية‪،‬‬
‫ولكن يجب أن يضبط بتخيل قوانين للنشاط أو مبادئ كوسائل لإلرادة الحرة أو العقــل العملي‪،‬‬
‫وهذا التأويل للوضعية اإلنسانية األساسية هــو بكــل تأكيــد بحث عن أفضــل الشــروط الالزمــة‬
‫إلعادة بناء الثقافة اإلنسانية »*‪ ،‬ومعنى هــذا أن آبــل يقــترح وضــع قــوانين عقليــة تحــل محــل‬
‫السلوكيات الفطرية والغريزيــة مســتندا في ذلــك على أدلــة علميــة‪ ،‬وفي هــذا الصــدد يواصــل‬
‫تحليــل اقتراحــه هــذا قــائال‪ « :‬لقــد ســبق وأن أعلنت أن القــوانين باعتبارهــا بــدائل ضــرورية‬
‫للغرائز كما يرى ذلك بعض علماء االجتماع واألنثروبولوجيــا‪ ،‬ألن الســلوك اإلنســاني وعلى‬
‫عكس الحيوانات ال يتحدد بآليات البيئة والغريزة "وحتى ألن بعض الحيوانــات العليــا نالحــظ‬
‫أن لديها تكامال مابين السلوك الفطـري والسـلوك المكتســب"‪ ،‬وبـالموازاة مــع ذلـك نجـد لــدى‬
‫أفراد الكائن اإلنساني بعض مخلفات الغرائزيــة مثــل مــا يحــدث في العالقــات الجنســية أو في‬
‫سلوك األمهات تجاه أبنائهم »†‪.‬‬

‫وبعــد أن تحــدث آبــل عن التحــديات الداخليــة لألخالقيــة‪ ،‬حيث يمكن للنــاس مواجهــة‬
‫األفكار التي يكونون هم مصدرها‪ ،‬وتتمثل هذه التحديات في العقل اإلنساني نفســه‪ ،‬ليس فقــط‬
‫العقالنيــة األداتيــة واالســتراتيجية الــتي تربــط بين الوســائل والغايــات ولكن أيضــا العقالنيــة‬
‫التواصليةـ‡‪ ،‬انتقل إلى الحديث عن التحديات الخارجية التي طرحت بقوة في القــرن العشــرين‬
‫وهي تحــديات خطــيرة جــدا تتمثــل في التهديــد النــووي واألزمــة االيكولوجيــة‪ ،‬والالتــوازن‬
‫االقتصادي العالمي§‪ ،‬وفيهذا اـلـصـدـدـ يـرى آبـل « أن اـلـوـضـعـية اإلـنـســانية بـعــدــ ‪ 1945‬أصــبحت‬
‫*‬
‫‪-Ibid, p, 18.‬‬
‫†‬
‫‪-Apel Karl-Otto, la réponse de l’éthique de la discussion: au défi morale de la situation humaine,‬‬
‫‪Op.Cit, p, 22.‬‬
‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 3, (l’introduction de traducteur).‬‬

‫§‬
‫‪- Ibid, p, 3, (l’introduction de traducteur).‬‬

‫‪173‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫خطيرة جدا » *‪ ،‬ويواصل آبل تحليله لهذه التحديات قــائال‪ « :‬الوضــعية المعاصــرة وبالتحديــد‬
‫في النصف الثاني من القرن العشرين عرفت تحديات خارجية أخطــر من التحــديات الداخليــة‬
‫سببها التطور الثقافي ونحن نتوقع أن يصل هذا التطور إلى ذروته ال تعود المصادر الداخليــة‬
‫لإلتيقا الفلسفية معه قادرة على مواجهة التحــديات الجديــدة‪ ،‬ويمكن وصــف الوضــعية الحاليــة‬
‫بأنها حالة أزمة يصبح معها تأسيس تداولية ترنسندنتالية إلتيقا النقاش أمرا ملحا »†‪.‬‬

‫وفي هذا اإلطار لم يف ّوت آبل الفرصة ليقوم بتشريح حالة الفلسفة في ظل هــذه األزمــة‬
‫قــائال‪ « :‬الحالــة الفلســفية في الغــرب قــدمت ثنائيــة‪ ،‬حيث نجــد من جهــة الوضــعية المنطقيــة‬
‫وبصفة عامة العقالنية العلمية ومن جهة أخرى الوجودية‪ ،‬أما في الشرق الشيوعي فانتشــرت‬
‫فلسفة المادية الدياليكتيكيــة والتاريخيــة والــتي حــددت الخــير األخالقي كموضــوع ديـاليكتيكي‬
‫للضرورةـ التاريخية‪ ،‬وفي ظل هذه الشروط يصــبح تأســيس إتيقــا كليــة مســتحيال‪ ،‬ولهــذا فإنــه‬
‫يصبح من الواجب علينا تأسيس جديد وجذري للفلسفة »‡‪ ،‬ويواصل آبل وصـفه لهـذا الوضـع‬
‫الفلسفي قائال‪ « :‬تطور الحالة الفلسفية في الغــرب ابتــداء من سـنة ‪ 1970‬وخاصـة بعـد زوال‬
‫النظام اإليـديولوجي في الشـرق تثبت أن اإلتيقـا الفلسـفية هي الغالبـة والمسـيطرة سـواء لـدى‬
‫الفالسفة القاريين أو الفالسفة األنجلوساكسونيين الذين طـوروا الهرمنيوطيقـا وتداوليـة اللغـة‪،‬‬
‫ولكن هذه الفلسفة اصطدمت بعائق جديد أمام التأسيس العقالني إلتيقا كونيــة وذات صــالحية‪،‬‬
‫ويتمثل هذا العائق في النسبوية التاريخية‪ ،‬وهنا يصبح من الضروري‪،‬ـ في نظري‪ ،‬تقــديم نقــد‬
‫جذري للبراديغم الحالي للفلسفة »§‪ ،‬وأمام هذه الوضعية التي وصلت إليها الفلسفة يقترح آبــل‬
‫حال للخروج منهـا‪ ،‬حيث يقــول‪ « :‬أعتقــد أن هـذا األمــر ليس مسـتحيال حلــه بواسـطة نهضـة‬
‫جذرية وتحويل لما أسماه كانط األسس الترنسندنتالية للفلسفة النظرية والعملية‪ ،‬وهذا التحويل‬
‫يجب أن يؤسس لتغيير براديغمي من النمط التالي‪ :‬إن وظيفة الموضوع الترنســندنتالي للفكــر‬
‫*‬
‫‪- Ibid, p, 45.‬‬

‫†‬
‫‪-Ibid, p, 45.‬‬

‫‡‬
‫‪- Apel Karl-Otto, la réponse de l’éthique de la discussion: au défi morale de la situation humaine,‬‬
‫‪Op.Cit, p, 46.‬‬
‫§‬
‫‪-Ibid, p, 46.‬‬

‫‪174‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الذي كان يعتمد على فرضية "أنا أفكر" لــديكارت وكانــط وهســرل يجب أن يعــوض بوظيفــة‬
‫قبلية المجموعة التواصلية باعتبارها مجموعة حوارية ترنسندنتالية »*‪.‬‬

‫كما انتقد آبل ما يسمى بالعقالنية النقدية "لكارل بوبر وهانس ألبرت" ألنهــا تتعــارض‬
‫مع فكرة تأســيس عقالني نهــائي لألخالقيــة‪ ،‬وفي هــذا الصــدد يقــول آبــل‪ « :‬إن كــارل بــوبر‬
‫وهانس ألبرت يتقاسمان مع ماكس فييبر وأيضا مـع الوجوديـة القناعـة بـأن التأسـيس النهـائي‬
‫العقالني لإلتيقا مستحيل »†‪ ،‬بينمــا يلح هـ ّو على التأســيس النهــائي للفلســفة والعقــل واألخالق‬
‫والمعــايير‪ « :‬نحن بحاجــة إلى تأســيس فلســفي بمعــنى التفكــير المتعــالي في شــروط اإلمكــان‬
‫والصحة لكل حجاج‪ ،‬أي في شروط إمكان التأسيس والنقد وشروط إمكان صحتها »‡‪.‬‬

‫وبذلك يتضح أن آبل يقدم إتيقا النقاش كتجاوز لإلتيقـات التقليديـة من جهـة‪ ،‬ومن جهـة‬
‫أخرى كتحويل للفلسفة األخالقية الكانطية حيث يصير مبدأ الكونية الكانطي كمبدأ ممــيز لهــذه‬
‫اإلتيقا ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬المطلب الثاني‪ :‬اإلتيقا والسياسة‬

‫تعــد مشــكلة إخضــاع الممارســة السياســية إلى القيم األخالقيــة أيضــا من أهم وأعقــد‬
‫المشكالت الفلسفية‪ ،‬حيث كانت محــل اهتمــام وبحث عــبر تــاريخ الفكــر الفلســفي والسياســي‪،‬‬
‫وهنا انشطر المفكرون إلى شطرين‪ :‬أحدهما فصل بين السياســة واألخالق ومن أبــرز ممثليــه‬
‫ميكيافيلي صــاحب الكتــاب الشــهير "األمــير" الــذي دعــا فيــه إلى تطــبيق مبــدأ "الغايــة تــبرر‬
‫الوسيلة"‪ ،‬وبالتالي فإنه أباح للحاكم استخدام مختلف الوســائل من مكــر وخــداع ومهمــا كــانت‬
‫عنيفة من أجل الحفاظ على سلطانه‪ ،‬وثانيهما ربــط بين السياســة واألخالق ومن أبــرز ممثليــه‬
‫كانط في كتابه "نحو سالم دائم" وتبعــه في ذلــك مفكــرون كثــيرون أمثــال برترانــد راســل في‬
‫كتابه "السالم العالمي" وغيرهما‪.‬‬

‫*‬
‫‪- Ibid, p, 46.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 55.‬‬

‫‡ ‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليت الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.251 ،‬‬

‫‪175‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫أما بالنسبة لكارل أوتـو آبـل فإنـه في حقيقـة األمـر ال يصـنف ضـمن دائـرة المفكـرين‬
‫السياسيين المعاصرين الكبار أمثال راولس وكارل بوبر وهابرمــاس وتشوميســكي وغــيرهم‪،‬‬
‫وذلك ألنه كما أشرنا في خاتمة الفصل السابق أن آبل كــان فيلســوفا أخالقيــا بالدرجــة األولى‪،‬‬
‫ولكن هذا لم يمنعــه من التطــرق إلى بعض المسـائل السياسـية المعاصــرة كـاألزمتين النوويـة‬
‫واإليكولوجية اللتين اعتبرهما من أهم األزمات المهددة للحياة اإلنسانية [كمــا أشــرنا إلى ذلــك‬
‫في المبحث السابق من هذا الفصل]‪ ،‬وقد عثرنا ونحن نبحث عن مصادر فكر آبــل على مقــال‬
‫نشــره في مجلــة اليونســكو ســنة ‪ ،1992‬وهــو المقــال الــذي تطــرق فيــه آبــل إلى المشــكالت‬
‫السياسية التي كانت محل اهتمامه مثل المشكلة اإليكولوجية‪ ،‬ومشكلة العدالــة االجتماعيــة بين‬
‫دول الشمال ودول الجنوب‪ ،‬والتأسيس لنظام حقوقي سياسي عالمي لحقــوق اإلنســان وحقــوق‬
‫الشعوب‪ ،‬وهو المقال الذي حاول أن يجيب فيه عن سؤال هام مضمونه‪:‬ـ « هل فكــرة الكونيــة‬
‫أو العالمية هي شكل ُمقَنَع أو متنكر للمركزية األوروبية؟ »*‪.‬‬

‫وفي هذا السياق وجه آبل انتقادات حادة إلى الفكر الفلسفي السياسي الغربي متهما إيــاه‬
‫بتبرير مصالح الدول الغربيــة على حســاب دول العــالم الثـالث‪ ،‬وهنـا يقــول آبــل‪ « :‬أعتقــد أن‬
‫الفلسفة العالمية األوروبية‪ ،‬خاصة في مجال األخالق والحقوق‪ ،‬تكشف باستمرار عن غائيتها‬
‫اإلقتصادية والسياسية كتعبير إيديولوجي لسيطرة المركزية األوروبية »†‪ ،‬وتحدث عن معاناة‬
‫شعوب العالم الثالث من الهيمنة الغربية في كل المجاالت قائال‪ « :‬في كـل األحـوال كمـا يبـدو‬
‫اليوم‪ ،‬فإن شعوب العــالم الثــالث غــير قــادرة على التعبــير عن تطلعاتهــا بكيفيــة مناســبة‪ ،‬فهي‬
‫مقصاة من الحوار حتى حول مشاكلها الخاصــة بهــا [‪ ]...‬فهي ال تســتطيع مثال المشــاركة في‬
‫مداوالت البنك العالمي والمؤتمراتـ الدولية الهامة لتدافع بصورة كافية عن حقوقها [‪ ]...‬على‬
‫الــرغم من أن نخبهــا تريــد أن تثبت حضــورها على الصــعيد العــالمي‪ ،‬ولكنهــا تبقى أســيرة‬

‫‪- Apel Karl-Otto, L’impératif moral, in le COURRIER de l’UNESCO, numéro double, juillet-aout 1992,‬‬
‫*‬

‫‪p, 13.‬‬
‫†‬
‫‪-- Ibid, p, 13.‬‬

‫‪176‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫الضعف على المستوى االقتصادي أمام وجهــة النظــر المفروضــة من طــرف مصــالح الــدول‬
‫الغنية »*‪.‬‬

‫ويُح ّم ل آبل الدول الغنية ومؤسساتها المالية مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الدول الفقيرة‬
‫خاصة فيما يتعلق بمشكلة المديونية والبيئة‪ ،‬وفي هذا يقول آبل‪ « :‬تتمثل وجهة النظر هــذه في‬
‫الشروط المسبقة لقرارات أكبر المتحكمين في الحياة االقتصادية العالمية‪ ،‬أي‪ :‬البنــك العــالمي‬
‫وصندوق النقد الــدولي‪ ،‬حيث تصــبح هــذه الشــروط قيم قبليــة عالميــة ومقــدمات منطقيــة ألي‬
‫حــوار بين الطــرفين »†‪ ،‬ويضــيف قــائال‪ « :‬إن الــدول الغنيــة في أوروبــا وأمريكــا الشــمالية‬
‫واليابان هي المسؤلة األساسية على األزمة اإليكولوجية الحاليــة مباشــرة من خالل اســتنزافها‬
‫غير المنضبط للطاقة والمخلفات السـامة لصـناعتها‪ ،‬وغـير مباشـرة من خالل إزالـة الغابـات‬
‫االستوائية من طرف فالحي العالم الثالث »‡‪.‬‬

‫ويواصل آبل انتقاداته الحادة للفلسفة التي قــامت عليهــا سياســة الــدول الغنيــة وفي هــذا‬
‫المجال يقول‪ « :‬أود أن أقدم حجة يبدو لي أنهــا تؤكــد االرتبــاط بين التقاليــد الفكريــة ألوروبــا‬
‫وادعاءها العالمية‪ ،‬وهي دليل تاريخي يثبت أنه منذ بداية غزو العالم من طرف أوروبــا‪ ،‬فــإن‬
‫االنتقادات المتكررة لم تتوقف عن إدانة األحداث التراجيدية لهذه اإلمبريالية‪ ،‬مثل إبادة الهنود‬
‫أو االتجار بالسود‪ ،‬الذي ش َّر َعهُ الفكر العــالمي للفلســفة األوروبيــة وهــو مــا أدانتــه الثيولوجيــا‬
‫والفلسفة األمريكية الالتينية التي تدعو إلى التحرر [‪ ]...‬وهنا يصبح من الصــعب أن نتصــور‬
‫فلسفة تدعي العالمية في المجال األخالقي والحقوقي تستطيع الحصول على إجماع من طرف‬
‫كل سكان األرض وتكون منطلقا لبناء تقاليد جديدة للفكـر األوروبي‪ ،‬وهنـا يبـدو تأكيـد ادعـاء‬
‫العالمية من طرف أوروبا ولو بصورة مؤقتة مجرد أمنية فكرية »§‪.‬‬

‫*‬
‫‪- Ibid, p, 13.‬‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p, 13.‬‬
‫‡‬
‫‪-Apel Karl-Otto, L’impératif moral, in le COURRIER de l’UNESCO, Op.Cit, p, 14.‬‬
‫§‬
‫‪-Ibid, p, p, 14, 15.‬‬

‫‪177‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫كما تحدث آبل عن إشكالية العالمية وإمكانية وضع قانون عــالمي ملــزم لجميــع ســكان‬
‫األرض وفي هذا المجال استعرض مختلف وجهات نظر الفالسفة قبل أن يحدد موقفه من هذه‬
‫اإلشكالية‪ ،‬وفي هذا اإلطـار يقــول‪ « :‬في الحقيقـة إن مـا يلفت النظــر ومـاهو مــزعج في نفس‬
‫الوقت هو أن كــل األســماء الــتي تكــافح اليــوم في مجــال الفكــر الــذي يعــارض فكــرة القــانون‬
‫العالمي ويعتبرون أنه ال لزوم له‪ ،‬وغير مجدي وغير ممكن‪ ،‬ألن مبادئ القانون العالمي غير‬
‫مرغوب فيها كما يرى بعض فالسفة ما بعد الحداثة أمثال فرانســوا ليوتــارد والراحــل ميشــال‬
‫فوكو‪ ،‬الذين أعربا عن مخاوفهمـا من تـأثير تضـييق العالميـة نطـاق االختالفـات الفرديـة بين‬
‫مختلف أشكال الحياة‪ ،‬أما البراجماتيين الجــدد في الواليــات المتحــدة األمريكيــة أمثــال روتي‪،‬‬
‫واألرسطيين الجدد في بريطانيا أمثال ألستار مكلنتيير ‪ Alastair Maclntyre‬فإنهم ذهبــوا‬
‫أبعد من ذلك ألنهم ال يؤمنون بوجود قانون يحمــل صــفة وقيمــة العالميــة »*‪ ،‬كمــا اســتعرض‬
‫مواقف بعض الفالسفة األلمان المعاصرين من هذه اإلشكالية‪ ،‬ويقول في هذا الصــدد‪ « :‬وفي‬
‫ألمانيــا فــإن االتجــاه المحافــظ‪ ،‬أي‪ :‬األرســطيين الجــدد من أمثــال ح‪.‬ليب ‪ H. lubbe‬وأوتــو‬
‫ماركورد ‪ Otto Marquard‬فإنهم يرون أن قانون عالمي ترنسندنتالي خاص ليس فقط غير‬
‫ممكن بــل هــو غــير مرغــوب فيــه‪ ،‬ألنــه يمكن أن تكــون مضــرته أكــثر من فائدتــه بالنســبة‬
‫للحياة »†‪ ،‬ويرى آبل أن التحفظات حول فكرة العالمية لم تكن فقط من جانب بعض المفكــرين‬
‫األوروبيين بل أيضا من جانب بعض مثقفي العــالم الثــالث‪ ،‬ويقــول في هــذا المجــال‪ « :‬وهــذا‬
‫يؤكد ضمنيا انتقادات مثقفي العالم الثالث الذين يرون في فكرة الكونية مجرد قنــاع إلمبرياليــة‬
‫المركزية األوربية‪ ،‬وهكذا فإن مهمة رسالة الكونية األوروبية أثارت ردود أفعال نقدية داخليا‬
‫وخارجيا‪ ،‬وهذه االنتقادات تتجه أساسا إلى نفي أي إمكانية لتحقيق إتيقــا كليــة لحقــوق عالميــة‬
‫معترف بها من طرف الجميع »‡‪.‬‬

‫*‬
‫‪- Apel Karl-Otto, L’impératif moral, in le COURRIER de l’UNESCO, Op.Cit, p, 15.‬‬

‫†‬
‫‪- Ibid, p, 15.‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 16.‬‬

‫‪178‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫وقبل أن يحدد آبل موقفه من هذه اإلشكالية قام بنقــد المواقــف الســابقة مركــزا في ذلــك‬
‫خاصة على موقف ميشال فوكو ومبينا التناقض الذي وقع فيه هذا الفيلســوف بخصــوص هــذا‬
‫الموضوع‪ ،‬وفي هذا يقول آبل‪ « :‬تأسف ميشال فوكو في أحد أهم أعماله "تــاريخ الجنســانية"‬
‫على القانون اليوناني الكالسيكي رعاية الذات "‪ "Souci de soi‬الذي حدد التطــور الكامــل‬
‫لكل فرد بواسطة نمط حياة شخصي‪ ،‬والذي ألغته الرواقية والمسيحية التي تمت إعادة هيكلتها‬
‫من طرف كانط‪" ،‬فــرض قــانون عــالمي ملــزم بنفس الكيفيــة على كــل كــائن عاقــل"‪ ،‬أي‪ :‬أن‬
‫فوكو يرفض فكرة قانون عالمي‪ ،‬ويرى "أن البحث عن شكل قانوني يكون مقبوال من طــرف‬
‫كل العالم وملزم للجميع يعد كارثة" »*‪ ،‬ويضيف آبل قـائال‪ « :‬ولكن بعـد وقت قصـير طـالب‬
‫فوكــو بــأن تكــون حقــوق اإلنســان ذات صــبغة عالميــة‪ ،‬وأدى هــذا إلى اعــتراض النشــطاء‬
‫التقدميون على ذلك‪ ،‬فوجد المثقف فوكو نفسـه مجـبرا على الـرد عليهم بتأكيـد موقفـه الثـاني‪،‬‬
‫وهنا وقع في تناقض مع موقفه األول »†‪ ،‬وقد علق آبل على هذا التنــاقض بقولــه‪ « :‬يبــدو لي‬
‫أن هذا التناقض نتج عن عدم التوافق بين الخطاب النقدي للسلطة لميشــال فوكــو وقناعتــه بمــا‬
‫بعد النتشوية "نسبة إلى نتشه" التي تتمثل في أن كل خطاب بمــا فيــه خطــاب دولتــه هــو فعــل‬
‫يعبر عن إرادة القوي »‡‪.‬‬

‫وأمام هذا االستقطاب الفكري بين مناصري فكرة العالميـة وخصـومها يحــاول آبـل أن‬
‫يقف موقفا عــادال وموضـوعيا من هـذه اإلشــكالية‪ ،‬وفي هــذا يقـول آبــل‪ « :‬مـادام صــحيح أن‬
‫معجزة االختالف موجودة‪ ،‬وإذا ســلمنا أن الهــدف النهــائي للتواصــل اإلنســاني هــو أن نــدرك‬
‫األهمية الخاصــة "لالختالف" و"الغيريــة" األساســية‪ ،‬ال يمكن أن نشــجع على ســلوك مماثــل‬
‫ألوائل أولئك المستعمرين الذين جمعوا الكثير من الناس المختلفين ولم ينظروا إليهم كبشر بل‬
‫كوحوش‪ ،‬وبالتالي لم يكن هناك أي اعتراض على المجازر التي تعرض لها الكثير من البشر‬

‫*‬
‫‪- Ibid, p, 16.‬‬
‫†‬
‫‪- Apel Karl-Otto, L’impératif moral, in le COURRIER de l’UNESCO, Op.Cit, p, 16.‬‬
‫‡‬
‫‪- Ibid, p, 16.‬‬

‫‪179‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫في دول العالم الثالث »*‪ ،‬ويضيف آبل موضحا موقفه من خصوم فكرة العالميــة بقولــه‪ « :‬إن‬
‫قولنــا هــذا ال نســعى من وراءه إلى إثبــات انتقــادات مــا بعــد الحداثــة لوحــدة العقــل‪ ،‬ولكن‪،‬‬
‫باألحرى‪ ،‬ودون شك هو قبول االختالف حول مبادئ القانون »†‪.‬‬

‫ويريد آبل من وراء ذلك التمهيد لموقفه الوسطي من هذه اإلشكالية كمــا يبــدو ذلــك في‬
‫قوله الصريح‪ « :‬أنا أعتقد من جهتي‪ ،‬أن مهمتنا اليوم ليس فقـط معارضـة المصـالح الخاصـة‬
‫لالختالف والرعاية الذاتية للوجود الفردي بمعايير القيم الكونية‪ ،‬ولكن هــو البحث عن عالقــة‬
‫تكامل بين متطلبات القانون الكوني وقيم الفردية كما حددتها األرســطية الجديــدة‪ ،‬وهــذا يعــني‬
‫كما هو األمر عند كانط الذي أوضح أن المبادئ الكبرى لإلتيقا هي قيم كونية لها األولوية قبل‬
‫تحقيق الذات‪ ،‬وهذه األولوية أو األسبقية تأخذ بعين االعتبار تطلعات األفراد‪ ،‬ألنه منذ القانون‬
‫الروماني فإن التطور األخالقي والتشريعي في مجال حقوق اإلنسان كان يقود دائمـا إلى تقـدم‬
‫في مجال احترام الخصوصية الفردية »‡‪.‬‬

‫وبذلك يتضح حسب آبل أن إتيقــا اإلجمــاع هي المخــرج األفضــل من هــذا االســتقطاب‬
‫الفكري‪ ،‬وفي هذا يقول‪ « :‬ما بعد الحداثة الــتي تعــارض وحــدة العقــل المعيــاري لم تفهم أنهــا‬
‫أخفقت فلسفيا‪ ،‬وعلى النقيض من ذلك فإن إتيقا اإلجماع تسمح بتأسيس تواصــل في اتجــاهين‪،‬‬
‫توفيق بين المعــايير الكونيــة لقــانون ملــزم ومتطلبــات تحقيــق الــذات‪ ،‬ويتجلى في هــذا العمــل‬
‫المــركب أن هــذا التوفيــق يمــر حتمــا عــبر البحث عن إجمــاع عقالني وليس عــبر التهديــد أو‬
‫التالعب الذي يعمل بالعالقة مع القوة »§‪.‬‬

‫ولكن آبــل عــبر عن مخاوفــه من عــدم تحقيــق هــذا الهــدف وأن تطغى فكــرة العالميــة‬
‫بمعنى الهيمنة االقتصادية والثقافية كمــا ينظــر إليهــا أنصــار المركزيــة األوروبيــة على فكــرة‬
‫العالمية بمعناها األخالقي‪ ،‬وفي هـذا يقـول‪ « :‬وأخلص من جهـتي إلى القـول‪ ،‬أنـه حـتى على‬
‫*‬
‫‪- Ibid, p, 16.‬‬
‫†‬
‫‪-Ibid, p, 16‬‬
‫‡‬
‫‪- Apel Karl-Otto, L’impératif moral, in le COURRIER de l’UNESCO, Op.Cit, p, 17.‬‬
‫§‬
‫‪- Ibid, p, 17.‬‬

‫‪180‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫المستوى األخالقي فإن الدعوة الكونية في أوروبا غير ممكنة وهدف ال يمكن تحقيقه‪ ،‬وحــول‬
‫ما إذا كان سيتم التوصل إلى هذا الهدف وأن تنجح أوروبا في أن تفصل بشكل كاف وبصورة‬
‫واضحة في إيديولوجيا للسلطة للمركزية األوروبية‪ ،‬فإن هذا ما سيجيبنا عنه المستقبل »*‪.‬‬

‫خالصة‪:‬‬

‫وعلى ضوء ما سبق التطرق إليه في هذا الفصل‪ ،‬يمكن أن نستنج ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬إن التوجه الفكري لنظرية آبل "التداولية الترنسندنتالية" يندرج في إطار المشروع الفلســفي‬
‫لمدرسة فرانكفورت الذي بني على التقاليد النقدية للمجتمع الصــناعي المتقــدم‪ ،‬ولكنــه اختلــف‬
‫كثيرا عن مشروع فالسفة الجيل األول من أمثال هوركهايمر وأدرنــو ومــاركيوز الــذين غلب‬
‫على تفكيرهم التوجه الماركسي‪ ،‬كمــا اختلــف عن مشــروع زميلــه وخصــمه هابرمــاس الــذي‬
‫غلب على تفكيره الطــابع الــدياليكتيكي الهيغيلي لنظريتــه التواصــلية والــذي أســس من خاللــه‬
‫نظرية نقدية للمجتمع تحمل في طياتها مشروعا سياسيا كبديل للنظام السياسي الليبرالي المتبع‬
‫في المجتمعــات الغربيــة‪ ،‬بينمــا حـاول آبــل تقـديم مش روع أخالقي للمجتمـع‪ ،‬وهـذا مــا يفسـر‬
‫اهتمامه المستمر بأخالقيات النقاش ومعاييرها‪ ،‬وتعيين مجال تطبيقها في الحيــاة االجتماعيــة‪،‬‬
‫ورفضه القاطع لتأسيسها على فكرة العالمية كمـا حـددتها فلسـفة المركزيـة األوربيـة السـاعية‬
‫إلى الحفاظ على هيمنتها الثقافية واإلقتصادية‪ ،‬ودعوته إلى تأسيسها على المعاييرالكونية التي‬
‫حددتها العقالنية التواصلية في ظل احترام الخصوصيات الفردية والجماعية‪.‬‬

‫‪ -‬إن أصالة فكر آبل تتمثل في تفضيله االهتمام بمسألة "أخالقيات النقاش"‪ ،‬حيث ظــل طــوال‬
‫مســاره الفكــري يبحث عن شــروط وجــود أســس للشــرعية على مســرح الواقــع االجتمــاعي‪،‬‬
‫ولتحديــد الممــيزات األخالقيــة للتواصــل عمــل على تأســيس مفهومــه الخــاص "التداوليــة‬
‫الترنســندنتالية"‪ ،‬وفي هــذا اإلطــار يمكننــا أن نالحــظ عنــد آبــل نــوع من التحويــل للمبــادئ‬
‫األخالقية الكانطية‪.‬‬

‫*‬
‫‪- Ibid, p, 17.‬‬
‫‪181‬‬
‫إتيقا (أخالقيات) التواصل عند كارل أوتو آبل‬ ‫الفصل الثالث‬

‫‪ -‬ميز آبل في فلسفته األخالقية بين الجانب النظري الذي يهتم بوضــع المعــايير الــتي يجب أن‬
‫يسير عليهــا الســلوك اإلنســاني‪ ،‬والجــانب العملي الــذي يهتم باختبــار هــذه المعــايير من خالل‬
‫أفعال اإلنسان باستمرار‪ ،‬والكلمة المفتاحية في ذلك عنده هي المسؤولية‪.‬‬

‫‪ -‬عبر آبل عن قلقه من هيمنة التفكير العلمي والتقني الذي أدى إلى سيطرة التقنية على الحيــاة‬
‫اإلنســانية‪ ،‬وحســب آبــل فإنــه ال يجب النظــر إلى اإلنســان باعتبــاره مجــرد عنصــر أو عامــل‬
‫ميكانيكي في نظام معين بل يجب النظر إليه نظرة أخالقية تحدد دوره في المجتمع ‪.‬‬

‫‪ -‬وقف آبل موقفا نقديا من الفلسفات السياســية ال ُمــبرّرة للمركزيــة األوربيــة والهيمنــة الثقافيــة‬
‫واإلقتصـــادية الغربيـــة‪ ،‬ورأى أن الفعـــل السياســـي يجب أن يكـــون فعال خاضـــعا للمعـــايير‬
‫األخالقية‪ ،‬أي أنه جعل الفلسفة السياسية تابعة للفلسفة األخالقية‪.‬‬

‫‪182‬‬
:‫الفصل الرابع‬
« le monde vécu primaire de l’être humain serait donc un monde de
reconnaissance et non un monde de l’entente rationnelle, Ce n’est pas l’entente
qui est première mais la reconnaissance, Et cela pas seulement de manière
génétique-ce qui n’est guère difficile à démontrer puisque la reconnaissance
affective précède toujours génétiquement l’acquisition du langage – mais aussi
de manière structurelle » Honneth Axel, la société du mépris, vers une nouvelle théorie critique,
traduite de l’allemand par Olivier Voirol et autres, la découverte, paris, 2010, p, 174.

،‫« إن العــالم المعــاش األولي الخــاص بــالوجود اإلنســاني هــو عــالم االعــتراف ال التفــاهم‬
‫ وذلــك ألن االعــتراف‬،‫ وهــو أمــر يمكن إثباتــه بكــل ســهولة‬،‫واألولوية لالعــتراف ال للتفــاهم‬
‫ ترجمة‬،‫ أكسيل هونيث‬.» ‫ عملية اكتساب اللغة‬-‫ من الناحية التكوينية‬- ‫العاطفي يسبق دوما‬
.‫كمال بومنير‬
‫‪-VI‬الفصل الرابع‪ :‬ما بعد فلسفة التواصل‬
‫مدخل‬
‫‪ - 1‬المبحث األول‪ :‬فلسفة التواصل من منظور نقدي‬
‫المطلب األول‪ :‬حدود فلسفة التواصل‬
‫المطلب الثاني‪ :‬جان مارك فيري والتفكير مع آبل ضد آبل‬

‫‪- 2‬المبحث الثاني‪ :‬نحو تجاوز المشروع الفلسفي التواصلي‬


‫المطلب األول‪ :‬أكسيل هونيت والتفكير مع هابرماس وآبل ضد هابرماس وآبل‬

‫المطلب الثاني‪ :‬من إتيقا التواصل إلى إتيقا االعتراف‬

‫خالصة‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫‪ - VI‬الفصل الرابع‪ :‬ما بعد فلسفة التواصل‬


‫مدخل‪:‬‬
‫بعد أن تعرفنا في الفصول السابقة على الخصائص العامة لنظرية إتيقا التواصل عند آبل‬
‫نود في هذا الفصل االنتقال إلى الجانب النقــدي كي تكتمــل الصــورة الــتي رســمناها لحــد اآلن‬
‫ألحد فالسفة النظرية النقدية‪ ،‬ولكي نعي أن الفلسفة هي بطبيعتها نقد حــتى للنقــد نفســه وعمال‬
‫بالحكمة الفلسفية القائلــة‪ « :‬إن النقــد هــو روح الفلســفة إذا خلت منــه صــارت كــالعين الــتي ال‬
‫تبصر واللسان الذي ال ينطق والفؤاد الذي ال ينبض »*‪ ،‬ارتأينا أن نخصص فصال من عملنــا‬
‫هــذا لقــراءة نقديــة للمشــروع الفلســفي التواصــلي لكــارل أوتــو آبــل والمعــروف بـــ"التداوليـةـ‬
‫الترنسندنتالية"‪ ،‬فعلى الرغم من أن آبل كان مذهبه هو النظريــة النقديــة‪ ،‬وأنــه فيلســوف النقــد‬
‫حيث اشتهر بانتقاداته الشديدة للوضعية المنطقية ولفلسفة كارل بوبر وهــانس ألــبرت ولفلســفة‬
‫رفيقه هابرماس‪ ،‬فإن هذا ال يجعله بمنأى عن النقد‪ ،‬حيث تعرض مشروع آبل الفلســفي "إتيقــا‬
‫النقــاش" إلى انتقــادات واســعة ســواء من طــرف أصــدقائه داخــل مدرســة فرانكفــورت أو من‬
‫خارجها‪ ،‬وتركزت هــذه االنتقــادات خاصــة حــول فكــرة "التأســيس النهــائي"‪ ،‬وســنتطرق في‬
‫المبحث األول من هذا الفصــل لبعض االنتقــادات الــتي وجهت للمشــروع الفلســفي التواصــلي‬
‫عامة ومشــروع آبــل وأسســه الــتي يقــوم عليهــا خاصــة‪ ،‬وسنقســم هــذا النقــد إلى نقــد عــام من‬
‫اتجاهات مختلفة معارضة لفلسفة التواصل وفلسفة آبل تحت عنوان "حدود فلسفة التواصــل"‪،‬‬
‫ونقد خاص وجهه له جان مارك فيري تحت عنوان "التفكير مع آبل ضد آبل"‪ ،‬وأمــا المبحث‬
‫الثاني فسنتطرق فيه إلى أهم االنتقادات التي وجهها أكسيل هونيت لفلسفة التواصلـ ومحاولتــه‬
‫تجاوزها لتأسيس فلسفة جديدة عــرفت بـــ"فلســفة االعــتراف"‪ ،‬وغرضــنا من وراء هــذا النقــد‬
‫محاولة اإلجابة عن التساؤل التالي‪ :‬هل اعترف آبــل بنقــاط الضــعف الموجــودة في مشــروعه‬
‫الفلسفي التواصلي ونظريته التداولية الترنسندنتالية أم أمضى حياته الفكريــة يرقعــه ويصــلحه‬
‫متشبثا بفكرة "التأسيس النهائي"؟ وماذا بعد التداولية الترنسندنتالية؟‬

‫‪-1‬المبحث األول‪ :‬فلسفة التواصل من منظور نقدي‬

‫* ‪ -‬مكاوي عبد الغفار‪ ،‬لم الفلسفة‪ ،‬منشأة المعارف‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،1981 ،‬ص‪.52 ،‬‬

‫‪186‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫أ‪-‬المطلب األول‪ :‬حدود فلسفة التواصل‬

‫لم تكن فلسفة التواصل بصفة عامة وفلسفة كارل أوتو آبل بصفة خاصة أقل شأنا وتأثيرا‬
‫في األوساط الفلسفية من الفلسفات األخرى كالتحليلية والوضـعيةـ المنطقيـة والعقالنيـة النقديــة‬
‫والتأويليــة والبراجمــاتيزم والبنيويــة والتفكيكيــة وغيرهــا‪ ،‬حيث لقيت فلســفة التواصــل ومنهــا‬
‫فلسفة آبل اهتماما كبيرا من طرف الفالسفة والباحثين وتبــاينت آراؤهم حولهــا بين التأييــد من‬
‫طرف البعض والتحفظ والمعارضة من طرف البعض اآلخر‪ ،‬وسنركز في هذا المقام خاصــة‬
‫على التطرق إلى بعض االعتراضات على فلسفة التواصلـ عامة وفلسفة آبل خاصة‪.‬‬

‫لقد تعرضت فلسفة التواصل إلى انتقاد شديد من طرف بعض الفالسفة المعاصــرين لهــا‪،‬‬
‫ومنهم خاصة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز)‪ Gilles Deleuze(1926-1995‬في عملــه‬
‫المشترك مع فليكس غتاري )‪" Félix Guattari*(1930-1992‬ما هي الفلسفة؟" (‪qui‬‬
‫‪ )? est-ce que la philosophie‬وهو يبحث عن مفهوم مناسب للفلسفة رأى أن الفلســفة‬
‫ليســت هي التواصــل‪ ،‬وال التأمــل‪ ،‬وال التفكــير‪ ،‬وانتقــد بشــدة تحويــل الفلســفة إلى تواصــل‪،‬‬
‫وبالرجوع إلى ثنايــا هــذا العمــل األساســي لــدولوز نجــده يؤكــد على نفي صــفة التواصــل عن‬
‫الفلسفة‪ ،‬حيث يقول في هذا السياق‪ « :‬ليست الفلســفة تــأمال وال تفكــيرا وال تواصال حــتى وإن‬
‫كان لها أن تعتقد تارة أنها هذا وتارة أنها ذاك »*‪ ،‬ويضيف مؤكدا على ذلــك قــائال‪ « :‬ال تجــد‬
‫الفلسفة أي ملجأ نهائي في التواصل الذي ال يعمل بالقوة إال في مجال اآلراء‪ ،‬وذلــك من أجــل‬
‫خلق "إجماع" وليس من أجل خلق "مفهوم" »†‪.‬‬

‫وعلى عكس أرسطو الذي كان يرى أنه ال معرفة إال بالكليات‪ ،‬فإن دولوز يرى أن كليات‬
‫التأمل وكليات التفكير هي بمثابة أوهام عبرتهما الفلسفة سابقا حين كانت تسعى إلى الســيطرة‬
‫‪ -‬دولوز جيل (‪ ،) 1995-1926‬فيلسوف فرنسي معاصر‪ ،‬مات منتحرا‪ ،‬كان له مذهبا فلسفيا خاصا "التجريبي ة المتعالي ة"‪ ،‬من أهم‬
‫أعماله‪ :‬نتشه والفلسفة‪ ،‬فلسفة كانط النقدية‪ ،‬البرغسونية‪ ،‬االختالف والمعاودة‪ ،‬وما هي الفلسفة؟‪.‬‬

‫‪ - *‬غتاري فليكس (‪ ،)1992-1933‬فيلسوف ومحلل نفساني فرنسي معاصر‪.‬‬

‫* ‪ -‬دولوز جيل وغتاري فليكس‪ ،‬ما هي الفلسفة؟‪ ،‬ترجمة ومراجعة وتقديم مطاع صفدي‪ ،‬مركز اإلنماء القومي (بيروت) واليونيسكو‬
‫(باريس) والمركز الثقافي العربي (الدار البيضاء ‪ -‬بيروت)‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬ص‪.31 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫على مختلف المجاالت المعرفية‪ ،‬ونفس األمر ينطبــق على كلي ات التواصل المعاصــرة‪ ،‬وفي‬
‫هذا المجال يقول دولوز‪ « :‬ال يزيد الفلســفة شــرفا عنــدما تقــدم نفســها كأثينــا جديــدة‪ ،‬وال حين‬
‫ترتد إلى كليات التواصل التي قد تمــدنا بقواعــد تخيليــة للتحكم في األســواق‪ ،‬ووســائل اإلعالم‬
‫"مثالية بينذاتية ‪ ،"Intersubjectivité‬فكل إبداع هو فريد‪ ،‬ويشكل المفهوم باعتبــاره إبــداعا‬
‫فلسفيا محضا‪ ،‬فالمبدأ األول للفلسفة هو كون الكليات ال تفســر أي شــيء‪ ،‬بــل ينبغي أن تكــون‬
‫هي موضع تفسير »*‪.‬‬

‫ويواصل دولوز نقده الشديد لفلسفة التواصل ولمختلف التيارات الفكريــة الــتي حــاولت أن‬
‫تحل محل الفلسفة مثل السوسيولوجيا واالبستمولوجيا واللسـانيات والتحليـل النفسـي والتحليـل‬
‫المنطقي والتواصل واصفا إياهم بالمنافسين الجدد للفلســفة‪ ،‬مســتعمال في ذلــك أســلوبا تهكميــا‬
‫وهجائيا قائال‪ « :‬راحت تواجه الفلسفة‪ ،‬من تجربة إلى أخرى‪ ،‬منافســين وقحين أكــثر فــأكثر‪،‬‬
‫وشتامين أكثر فأكثر‪ ،‬حتى أن أفالطون نفسه لم يكن ليتصورهمـ في أشــد لحظاتــه هــزال‪ ،‬وقــد‬
‫بلغ العار مداه أخيرا حينما استحوذت المعلوماتية والتسويق التجاري وفن التصــميم والدعايــة‬
‫وكل المعـارف الخاصــة بالتواصل على لفظـة المفهـوم ذاتهـا‪ ،‬وقــالت‪ :‬هــذه من مهمتنــا‪ ،‬نحن‬
‫الخالقين‪ ،‬إنما نحن منتجو المفاهيم‪ ،‬نحن وحدنا أصدقاء المفهوم »†‪.‬‬

‫ومن الفالسفة الغربيين الناقدين لفلسفة التواصل وخاصة بوجهها التأسيسي عند آبل نجــد‬
‫أيضا الفيلسوف األلماني هانس ألبرت (من أتباع العقالنية النقدية لبوبر) والذي يعتبر الخصــم‬
‫األساسي آلبل في قضية "التأسيس النهائي"‪ ،‬حيث أكد على القول بأن التأســيس النهــائي ليس‬
‫ممكنا‪ ،‬وذهب إلى حد القول‪ « :‬أن عملية آبل كلها ال تعني شيئا آخــر سـوى صـوغ دوغمـائي‬
‫ألجــزاء معينــة من القناعــات بواســطة رفعهــا إلى نمــاذج »‡‪ ،‬وذهب إلى حــد وصــف الفكــر‬
‫التأسيسي بالالّديمقراطي واعتبار عقالنيــة آبــل عقالنيــة تقليديــة دوغمائيــة تقــوم منطقيــا على‬

‫* ‪ -‬دولوز جيل وغتاري فليكس‪ ،‬ما هي الفلسفة؟‪ ،‬ترجمة مطاع صفدي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.32 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.35 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.313 ،‬‬

‫‪188‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫مغالطتي الدور والمصادرة على المطلوب‪ ،‬ويقول في هذا الصدد‪ « :‬هــذا المبــدأ تختفي خلفــه‬
‫الحاجة إلى تأسيس تصور حقيقي وحيد ونظرية وحيدة صحيحة تستثني كل البدائل »*‪.‬‬

‫ومن أبرز النقاد للمشروع الفلسفي التواصــليـ نجــد أيضــا الفيلســوفة األمريكيــة ســيال بن‬
‫حبيب* ‪( Seyla Benhabib‬وهي من الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت)‪ ،‬والتي يعد نقــدها‬
‫بالغ األهمية كونه نقد يأتي من داخل النظرية النقدية نفسها‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة هنا إلى أن المشــروع الفلســفي لســيال بن حــبيب ينــدرج في إطــار فلســفة‬
‫االعتراف التي ذاع صيتها مع رائد الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت "أكسيل هونيث"‪ ،‬وهي‬
‫الفيلسوفة التي استفادت كثيرا من اإلرث الفكري الفرانكفورتي‪،‬ـ وفي هذا المجال « أفــادت بن‬
‫حبيب كثيرا من طروحات كل من هوركهايمر وأدورنــو خصوصــا من خالل كتابهمــا "جــدل‬
‫التنوير"ـ الذي تناول عــدة إشــكاليات تتمحــور باألســاس حــول قضــية العقــل األداتي والحداثــة‬
‫الغربية »†‪ ،‬وقد وافقتهما في الكثير من اآلراء خاصة فيما يتعلق بالعقالنية األداتية ومحاولتها‬
‫السيطرة على اإلنسان‪ ،‬وعلى أهمية النقــد في حيــاة اإلنســان‪ ،‬ولكنهــا اختلفت معهمــا في آراء‬
‫أخرى « تتعلق بالعادات الثقافية والمعتقدات الجماعية‪ ،‬كالسحر والخرافة‪ ،‬فهما يرونها مجرد‬
‫حنين لماورائيات تسيطر على العقل الفردي والجماعي‪ ،‬في حين تعتقد هي أن هــذه المظــاهر‬
‫ال يمكن االستغناء عنها في عيش الجماعة اإلنسانية ألنها تشكل هويتهم وذاتهم الجماعية »‡ ‪.‬‬

‫*‪ -‬أبسالون إدموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.137 ،‬‬

‫*‪ -‬سيال بن ح بيب (‪ ). -1950‬باس طنبول‪ ،‬وهي من أص ل يه ود األت راك‪ ،‬ه اجرت من تركي ا إلى الوالي ات المتح دة األمريكي ة س نة‬
‫‪ ،1970‬حيث واص لت دراس تها وتحص لت على ش هادة الماجس تير ثم ال دكتوراه س نة ‪ ،1977‬وفي بداي ة الثمانين ات أق امت تربص ا‬
‫بألمانيا وبالتحديد في جامعة فرانكفورت تحت إشراف يورغن هابرماس أين تعرفت على فلسفته وتأثرت به واحتكت بالتراث الفك ري‬
‫الفرانكفورتي حتى أصبحت واحدة من أبرز مفكري هذه المدرسة في جيلها الثالث‪ ،‬المرجع‪ :‬عزيز الهاللي‪ ،‬س ؤال الكوني ة األخالقي ة‬
‫في فلسفة سيال بن حبيب‪( ،‬في) المحمداوي علي عبود ومهنان ة اس ماعيل‪ ،‬مدرس ة فرانكف ورت النقدي ة"جدلي ة التح رر والتواص ل‬
‫واالعتراف"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.329 ،‬‬

‫† ‪ -‬صغير نبيل محمد‪ ،‬في التأسيس لمقبولية التعددية الثقافية‪ :‬دراسة في النظرية النقدية لسيال بن حبيب‪( ،‬في) المحمداوي علي‬
‫عبود ومهنانة اسماعيل‪ ،‬مدرسة فرانكفورت النقدية"جدلية التحرر والتواصل واالعتراف"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.298 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬صغير نبيل محمد‪ ،‬في التأسيس لمقبولية التعددية الثقافية‪ :‬دراسة في النظرية النقدية لسيال بن حبيب‪( ،‬في) المحمداوي علي‬
‫عبود ومهنانة اسماعيل‪ ،‬مدرسة فرانكفورت النقدية"جدلية التحرر والتواصل واالعتراف"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.299 ،298 ،‬‬

‫‪189‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫كما استفادت وتأثرت كثيرا من أعمال وتجربة "هربرت ماركيوز" خاصــة عملــه الهــام‬
‫"اإلنســان ذو البعــد الواحــد" الــذي انتقــد فيــه الوضــعية اإلنســانية الراهنــة في أمريكــا آنــذاك‬
‫باعتبارها محصلة للعقالنية األداتية والتطور التقني وفلسفة البراجماتزم المسيطرة في أمريكا‬
‫حينذاك‪ ،‬وهنا تتفق بن حبيب مع ماركيوز « حول الهدف األساسي من العمليــة النقديــة‪ ،‬وهــو‬
‫الوصول إلى تخليص اإلنسان من هيمنــة التكنولوجيــا والوصــول إلى مجتمــع تعــددي‪ ،‬يتمتــع‬
‫الفرد في إطار جماعته بالحرية التامة »*‪.‬‬

‫ومع الجيل الثاني « أفادت بن حبيب كثيرا من يورغن هابرمــاس‪ ،‬وال ســيما في نزوعــه‬
‫إلى مـا أسـماه "دولـة عالميـة" أو "مواطنـة عالميـة" يكـون فيهـا جميـع البشـر متسـاويين في‬
‫الحقوق والواجبات‪ ،‬وكذلك استفادت من فكــرة "الديمقراطيـةـ التشــاورية" الــتي هيئهــا لتكــون‬
‫األنسب في حكم الدولة العالمية »†‪ ،‬ولكن هذا التأثر ببعض أفكار هابرماس واتفاقهــا معــه في‬
‫بعضها لم يمنعها من االختالف معه ونقده في أفكار أخرى حيث ترى بن حــبيب « أن الحيــاد‬
‫والصوريةـ اللذين تقول بهما نظرية أخالقيات التواصل خداع ليس إال‪ ،‬فاالفتراضات المقدمــة‬
‫من طرف هابرماس تتضمن مفهوما محددا وخاصا للمســاواة‪ ،‬وأن الرؤيــة العالميــة لألخالق‬
‫فيــه خاضــعة ألفــق ثقــافي وتــاريخي معيــنين‪ ،‬هــو ثقافــة وتــاريخ الغــرب وســجين حضــارتها‬
‫ومنطقها »‡‪.‬‬

‫كما تأثرت سيال بن حبيب كثيرا بكارل أوتو آبل ووافقته في بعض اآلراء واختلفت معــه‬
‫وانتقدته في بعضها « أفادت سيال بن حبيب كثــيرا من االنتقــادات الــتي قــدمها آبــل للمشــروع‬
‫التواصليـ الهابرماســي خصوصــا في فكرتــه األساســية‪ ،‬وهي الخــروج عن الــذات والتركــيز‬
‫على مبدأ التواصل اللغوي وغير اللغوي‪ ،‬حيث عاب آبل االلتزام فقط بالتواصل على مستواه‬

‫* ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.300 ،‬‬

‫† ‪-‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.300 ،‬‬

‫‡‪ - -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.167 ،‬‬

‫‪190‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫اللغـــوي دون تقـــديم اســـتراتيجيات أوضـــح وأنجـــع لهـــذا التواصـــل على المســـتوى العملي‬
‫الممارساتي‪ ،‬وعدم قدرته على تجاوز السقف التأسيسي الذي وضعته مدرسة فرانكفورت »*‪.‬‬

‫كمــا أخــذت ســيال بن حــبيب عن آبــل « دعوتــه إلى أخالق كونيــة تســير وفقهــا الــدول‬
‫الصناعية الرأسمالية الكبرى‪ ،‬بدل تلك النزعة األخالقية النسبية‪/‬الجهوية الــتي تعتمــد على مــا‬
‫يسميه آبل بحجج العقل الموضوعي الذي رغم زعمه االلتزام بالموضوعيةـ إال أنه قد يقــع في‬
‫النزعة الذاتية نتيجة النزعة البراجماتية التي تتحكم فيه بطريقة أو أخرى »†‪.‬‬

‫كمــا تــأثرت بن حــبيب كثــيرا بنظريــة آبــل "إتيقــا النقــاش" واســتخدمتها في تطــوير‬
‫اســتراتيجياتها النقديــة والحجاجيــة « فنظريتهــا الحجاجيــة الــتي تصــر على وجــوب تطبيقهــا‬
‫للوصول إلى حلول للمشاكل والخالفات اإلنسانية قد استقتها من نظرية كارل أوتو آبل »‡‪.‬‬

‫ورغم كل هذه اإلفادات من آبل‪ ،‬فإن هذا لم يمنع سيال بن حبيب من توجيه نقــد شــديد لــه‬
‫يتعلق « بعدم تأكيده على ضرورة تطبيق النتائج والمبادئ بعد الخروج بها من دائــرة النقــاش‬
‫إلى الواقع العملي‪ ،‬فهي تتساءل عن فائدة وجدوى النقاش إن لم تكن هناك قوة من نوع خاص‬
‫تساهم في تطبيق النتائج والسهر على الحفاظ عليها »§ ‪.‬‬

‫وهكذا استطاعت سيال بن حــبيب اإلفــادة من اإلرث الفرانكفــورتي بجيلــه األول والثــاني‬
‫ومشروعهما النقدي والتواصلي وتجاوزتهما نحو فلسفة االعتراف التي أرسى دعائمهــا رائــد‬
‫الجيل الثالث "أكسيل هونيث" حيث انخرطت بقوة في هذه المقاربة الفلســفية الجديــدة‪ ،‬وظلت‬
‫تــدافع عن أطروحــة العدالــة وحقــوق اإلنســان والحريــة والمســاواة والتعــدد الثقــافي وحقــوق‬
‫األقليات والمهاجرين والمرأة ‪.‬‬

‫*‪ -‬صغير نبيل محمد‪ ،‬في التأسيس لمقبولية التعددية الثقافية‪ :‬دراسة في النظرية النقدية لسيال بن حبيب‪( ،‬في) المحمداوي علي‬
‫عبود ومهنانة اسماعيل‪ ،‬مدرسة فرانكفورت النقدية"جدلية التحرر والتواصل واالعتراف"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.302 ،‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪.302 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.303 ،302 ،‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.303 ،‬‬

‫‪191‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫كما سجل الباحث العربي "حسن مصدق" في عملــه "النظريــة النقديــة التواصــلية"ـ عــدة‬
‫مالحظات نقدية هامة على نظرية أخالقيات التواصل عند كل من هابرماس وكارل أوتو آبل‪،‬‬
‫وفي هذا السياق يرى حسن مصدق أن فلسفة آبل يغلب عليهــا الطــابع المثــالي حيث يقــول في‬
‫هذا الصدد‪:‬ـ « الجماعة غير المحدودة للتواصل التي تم االســتئناس بهــا من طــرف آبــل‪ ،‬ليس‬
‫بوسعها أن تكون نموذجا متطابقا مع الواقع العيني‪ ،‬بل وصــالحا لتعليــل مــا نتبنــاه من معــايير‬
‫وضوابط في واقع الحال اليومي »*‪ ،‬ويواصل حسن مصدق نقده لمثالية آبل مستعينا في ذلــك‬
‫بنقد داخلي من مدرسة فرانكفورت ذاتها ممثلة في ألبرت فيلمر قائال‪ « :‬إن اإلحالة على هــذه‬
‫الجماعة بعيدة كل البعد ع ّما يجري في الشروط العاديــة للحيـاة االجتماعيــة وفي واقــع الجـدل‬
‫اليومي الصاخب‪ ،‬أضــف إلى ذلــك‪ ،‬كمــا يشــير ألــبرت فيلمــر أن اإلحالــة على هــذه الجماعــة‬
‫"المجتمع كجماعة غير محدودة للتواصل"ـ ولــو بصــيغة فكــرة ناظمــة‪ ،‬يعــبر عن وهم مثــالي‬
‫للتفاهم وبعيــد عمــا يجــري في الواقــع إذا اعتبرنــا تلــك الــذات الجماعيــة قــادرة على تحصــيل‬
‫الحقيقة‪ ،‬تصير بمقتضاه كل ادعاءات الصالحية مستوفية للتعليل والتبرير »†‪.‬‬

‫ونظرا للطابع المثالي الذي تميزت به أخالقيات التواصل عند كارل أوتو آبل فإنها تكون‬
‫غير قابلة للتجسيد على أرض الواقع‪ ،‬أي‪ ،‬فيما يسـميه فالســفة التواصـل الفضــاء التواصــلي‪،‬‬
‫وفي هذا الصدد يقول مصدق‪ « :‬إن مرجعية بهذا الشكل (تصور حالة هالمية لمجتمــع يســود‬
‫فيه استعمال لغوي سليم معـافى وخــال من الكـذب واللغـط والــثرثرة والحشـو والنفـاق) تميـط‬
‫اللثام عن النقص الذي يسود في أي كالم ويميز أي إنتاج للمعنى‪ ،‬والتاريخية التي تلفه وتهيئ‬
‫شــروطه »‡‪ ،‬ويــذهب حســن مصــدق إلى أبعــد من ذلــك في نقــده ألســس المشــروع الفلســفي‬
‫التواصليـ آلبل حين قــال‪ « :‬ال يتجلى الخطــأ في الفــرق بين المثــالي والــواقعي‪ ،‬بــل في عــدم‬
‫التطــابق الموجــود أصــال في المثــالي‪ ،‬البعيــد كــل البعــد عمــا يجــري في واقــع النقــاش بين‬
‫األفراد»§‪.‬‬
‫*‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.160 ،‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫§‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.160 ،‬‬

‫‪192‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫كما وجه حسن مصدق نقدا شديدا لمبدأ الكونية الــذي تأسســت عليــه أخالقيــات التواصــل‬
‫عند كل من هابرماس وآبل وهو يقول في هذا الصدد‪ « :‬يتصور هذا المبدأ قدرة األفــراد على‬
‫التنــازل أو تغيــير‪ -‬بحســب الضــرورة‪ -‬بعض قناعــاتهم واختيــاراتهم في المناقشــة بغــرض‬
‫التوصل إلى تراض من أجل أحكام كونية معترف بها‪ ،‬ويمكننا والحال هذا من التســاؤل عمــا‬
‫إذا كانت هذه الضرورة قابلة لالستيفاء والتطبيق فضــال عن مشــروعية تلبيتهــا »*‪ ،‬ويواصــل‬
‫مصدق نقده لمبد الكونية قائال‪ « :‬ينبغي أن تتســاءل عمــا إذا كــان مبــدأ الكونيــة ال يطــرح من‬
‫نواحي عديدة ضمانة ضــعيفة من العقالنيــة‪ ،‬مــادام الهــدف هــو تحقيــق التوافــق بــأي ثمن بين‬
‫الفرقاء‪ ،‬فمن المعروف أن أي حوار معرض لخطر اإلســهاب والحذلقــة أوالحشــو واإلطنــاب‬
‫عكس ما تنــادي بــه الشــروط المثاليــة إلجــراء النقــاش‪ ،‬بحيث تســتوفي المالحظــة مــا يلي‪ :‬ال‬
‫يخضع تحقيق التراضي لشروط إجرائية بل أيضا لمقتضيات المصلحة المتنازع حولها‪ ،‬وهو‬
‫األمر الذي يتغاضى عنه مناصرو نظرية أخالقيات التواصل »†‪.‬‬

‫ويواصل حسن مصدق مالحظاته النقدية الدقيقة ألخالقيات التواصل التي رســم معالمهــا‬
‫آبـل قـائال‪ « :‬تتـوفر جماعـة التواصـل غـير المحـدودة على مبـدأ منظم يوجـه ويحكم النشـاط‬
‫األدائي لدى األفراد‪ ،‬وهو المبدأ الذي ينظر إليه آبل كمبدأ غائي يضبط العقل التطبيقي‪ ،‬تعــير‬
‫من خالله أخالقيات التواصلـ اعتبارا للشروط الحقيقية للتواصل‪ ،‬ويلتمس بــه إفشــال العقبــات‬
‫التي تمنع تحقيق مبدأ الكونية‪]...[،‬ـ غير أن اإلحالــة عليهــا [‪ ]...‬ال يمنــع إثــارة مشــاكل حــول‬
‫الشروط‪ -‬القبلية ‪ -‬التي تفترض في جماعة التواصلـ أنهــا تتحلى بالكونيــة كمــا يــزعم آبــل‪ ،‬إذ‬
‫يمكن لنا أن نتساءل عما إذا كان هذا التحليل ال يفتح المجال لمنظور طوباوي يقلل من التباين‬
‫بين الواقعي والمثالي »‡‪.‬‬

‫كما وجه حسن مصدق مالحظات نقدية منطقية دقيقــة لنظريــة أخالقيــات التواصــل عنــد‬
‫آبل متهما إياه بالوقوع في مايسمى في المنطق مغالطة الدور‪ ،‬فهو حين قال (آبل)‪ « :‬أ ّمــا من‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.161 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.161 ،‬‬

‫‡‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.164 ،163 ،‬‬

‫‪193‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫يعتبر التحليل البراجماتي الترنسندنتالي الذي تقوم عليــه دائريــا‪ ،‬أي أن األخالق تــبرر نفســها‬
‫من األخالق ذاتها‪ ،‬فليس بوسع ذلك أن يدعم هــذا اإلعــتراض‪ ،‬ألنــه في هــذه الحالــة الخاصــة‬
‫بالذات ال يمكن االنفالت من هــذه الدائريــة على اإلطالق »*‪ ،‬هــو في نظــر مصــدق اعــتراف‬
‫صريح من آبل بوقوعه في حلقة فكرية مفرغة لم يستطع الخروج منها‪.‬‬

‫كما أشار حسن مصدق إلى التناقضات المنطقية العديـدة الـتي وقـع فيهـا آبـل ومنهـا كمـا‬
‫يقول‪ « :‬ال يبدوا لنا البديل المرسوم من طرف آبل جوابـا مقنعــا‪ ،‬فتكــراره لألطروحـة القائلـة‬
‫بأن البرهنة العقالنية تضع هذه االفتراضات الداخلية والتأسيسية قبليا‪ ،‬فهو يــرمي إلى التقليــل‬
‫من شــأن الــذات الــتي قــد تتملص من أي تقــديم لتــبرير عقالني عنــدما تختــار أو ال تحتــار‬
‫االنضــمام إلى جماعــة تواصــلية‪ ،‬وهنــا يتملص آبــل ممــا أعلنــه في عريضــة المبــادئ »†‪،‬‬
‫ويواصل مصدق حديثه عن آبل وكاشــفا للتناقضــات المنطقيــة العديــدة الــتي وقــع فيهــا قــائال‪:‬‬
‫« على الرغم مما ذهب إليه آبــل بــأن المشــاركة في نقــاش يفــرض على أصــحابه الــدفاع عن‬
‫مصالحهم بواسطة ادعاءات مقبولة وقابلة منطقيا للتعليل‪ ،‬غير أن ما يجــري في الواقــع يؤكــد‬
‫عدم وجود ضمان بأن يمتثل المشاركون لذلك‪ ،‬وبهذا الصدد اعترف آبل باستحالة أن نقيم في‬
‫الممارسة فرقا واضحا بين النقاش الذي يهدف إلى تعليل ادعاءات صالحيته بطريقة برهانيــه‬
‫من جهة‪ ،‬واستخدام تبريرات بالغية ملتوية تعتمد الحيل والسفسطة الكالمية بغيــة التــأثير من‬
‫أجل أهداف غائية واستراتيجية من جهة أخرى »‡‪.‬‬

‫ومن أن أبرز النقــاد لفلســفة التواصــل بوجهيهــا التأسيســي عنــد آبــل ومن داخــل مدرســة‬
‫فرانكفورت نجد أيضا رفيقه في هذه المدرسة‪ ،‬ونعني به هابرماس الذي وجه انتقادات عديــدة‬
‫ّ‬
‫إطارالسـجال الفلسـفي الـذي جـرى بينهمـا‪ ،‬فعلى الـرغم من أن‬ ‫إلى خصمه وصـديقه آبـل في‬
‫هابرماس في مختلف أعماله الفلسفية ما فتئ يلح على اعتبار وجهــة نظــر آبــل بأنهــا األقــرب‬
‫إلى وجهة نظره واألكثر تأثيرا فيها‪ ،‬فإنه وجه مالحظات عديدة إلى نظريــة زميلــه آبــل‪ ،‬وفي‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.169 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.173 ،‬‬

‫‡‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.176 ،‬‬

‫‪194‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫هذا المجال يقول هابرماس‪ « :‬أؤكــد أن صــديقي كــارل أوتــو آبــل كــان لــه الــدور األكــبر في‬
‫توجيه عملي الخاص أكثر من أي زميل آخر‪ ،‬ومع ذلك فهناك خالفات قائمة بيننا‪ ،‬منهــا فيمــا‬
‫يخص التأسيس النهائي »*‪ ،‬وقد شــرح هابرمــاس هــذا الخالف قــائال‪ « :‬لجــأت في محــاولتي‬
‫إلرساء هذا النسق إلى تطبيق إستراتيجية أقل استنباطية من إستراتيجية كارل أوتو آبــل‪ ،‬فهــو‬
‫مازال يعتقد أن هناك ميتا‪ -‬مقال خاص باستدالل ذاتي اإلحالة من النمط الترنســندنتالي يمكنــه‬
‫أن يمنح الفلسفة وضعا مميزا عن بــاقي الفــروع المعرفيــة األخــرى‪ ،‬في حين أنظــر أنــا بعين‬
‫مغايرة إلى طبيعة العالقة بين الفلسفة والعلم‪ ،‬إذ أعمل على بلورة تصور ينظر بعين التعدديــة‬
‫لكل المقاالت النظريــة على اختالفهــا‪ ،‬انطالقــا من أنهــا‪ ،‬وفي أحســن األحــوال‪ ،‬لن يكــون في‬
‫مقدور أي منها ادعاء األفضلية واالمتياز عن غيره‪ ،‬سواء قلب األمر وفق مقاربة شموليانية‪،‬‬
‫أو نظر إليه انطالقا من رؤية اختزالية »†‪ ،‬ويواصل هابرماس عرض المسائل الخالفية بينــه‬
‫وبين آبل قائال‪ « :‬وجه الخالف الثاني بيننا يتمحور حــول مســألة التطــبيق‪ ،‬ففي الــوقت الــذي‬
‫التزمت فيه أنا بتمييز األقوال المنشغلة بالتطبيق عن تلك المنشــغلة بــالتبرير [‪ ]...‬وأنــا أعتقــد‬
‫أن هذا المســار يجنبنــا مواجهــة الصــعوبات المعروفــة والمالزمــة للمقاربــة الكانطيــة بعامــة‪،‬‬
‫والمرتبطة بواقعة أن مقاربته (أي كانط)‪ ،‬ولألسف الشديد تضع في سلة واحدة مشـكلة تــبرير‬
‫المعايير والمشكلة المتعلقة بتطبيقها‪ ،‬مع ذلك فإن كارل أوتو آبــل‪ ،‬وعنــدما يتكلم عن التطــبيق‬
‫وهو ما يسميه "القسم ب" من اإلتيقا فإنه‪ ،‬ومن دون شـك‪ ،‬يكـون قيـد التفكـير في شـيء آخـر‬
‫وذلك بغرض إحالته إلى ذلك المشكل الجدي النــاجم عن ذلــك النــوع من البراكســيس الهــادف‬
‫إلى إرساء شروط قد يتم افتراض تحقيقها منذ اآلن من قبل الممارســات العاديــة للمناقشــة »‡‪،‬‬
‫ولم يكتف هابرماس باإلشارة هنا إلى اختالف وجهة نظره عن وجهة نظــر كــارل أوتــو آبــل‪،‬‬
‫بل وجه نقدا الذعا له في هذه المسألة حيث أردف قائال‪ « :‬إن مشروع التأسيس النهائي [‪]...‬‬
‫هو استراتيجية خاوية وال معنى لها »§‪ ،‬كما رفض هابرماس إدراج آبــل للفلســفة االجتماعيــة‬

‫*‪ -‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.33 ،32 ،‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.33 ،‬‬

‫‡‪ - 1‬هابرماس يورغن‪ ،‬اتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.35 ،34 ،‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.34 ،‬‬

‫‪195‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫والسياسية ضمن الفلسفة األخالقية وعلق على ذلك قائال‪ « :‬إنني ال أتصــور كيــف يمكن ألي‬
‫تحويل للغائية السياسية إلى مبدأ أخالقي اإلسهام في حل هــذا المشــكل‪ ،‬ذلــك أن النظريــة ذات‬
‫البعــد األخالقي الــتي تــبين لنــا كيــف يتم تــبرير المعــايير العامــة ومن ثمــة تطبيقهــا‪ ،‬ال يمكن‬
‫السماح بتأكيد أولية معيارية معينة كائنا ما كان هدفها الخاص انطالقا من هذه المعــايير لجهــة‬
‫أن متابعــة غائيــة معينــة‪ -‬مهمــا تكن أهميتهــا ‪ -‬يســتوجب تــداخل اســتداللين اثــنين‪ :‬اســتدالل‬
‫معياري واستدالل يأخذ شكل الحصافة »*‪.‬‬

‫ب ‪-‬المطلب الثاني‪ :‬جان مارك فيري والتفكير مع آبل ضد آبل‬

‫من "التفكير م ع هي دغر ض د هي دغر" لهابرمــاس‪ ،‬إلى "التفك ير م ع هابرم اس ض د‬


‫هابرماس" آلبل‪ ،‬وعبر مبحث يحمل نفس مضامين ال ُسنَّة الفلسفية التي سنها هابرماس وآبــل‬
‫"التفكير مع وضد"‪ ،‬وهو"التفكير مع آبل ضد آبل" « سمح جان مارك فيري لنفسه بالتــدخل‬
‫على خط الجدل الساخن بين آبل وهابرماس حول مــيراث األنــوار الفلســفي في ألمانيــا بشــقيه‬
‫الترنسندنتالي عند كانط الذي انتصر له آبل من خالل تداوليته الترنسندنتالية‪ ،‬والشــمولياني أو‬
‫المطلقوي عند هيغل الذي انحاز إليه هابرماس عبر تداوليته الشــاملة »†‪ ،‬وتجلى هــذا التــدخل‬
‫« بشكل مباشر في الجزء األول من مؤلف فلسفة التواصـل الــذي يحمــل عنـوان "من نقيضـة‬
‫الحقيقة إلى التأسيس النهائي للعقل »‡‪ ،‬وانطالقا من هذا يحق لنا أن نتساءل‪ :‬ما موقف ف يري‬

‫من أهم اإلشكاليات التي طرحته ا فلس فة التواص ل؟ وم ا هي أهم المالحظ ات النقدي ة ال تي‬
‫وجهها فيري آلبل؟ وماذا كان يقصد بقوله "التفكير مع آبل ضد آبل"؟‬

‫يُ َع ُّد الفيلسوف والمفكر السياسي الفرنسي المعاصر جان مارك فــيري (‪ ).-1946‬من أهم‬
‫الفالسفة الغربيين اهتماما بفلسفة آبل من خالل تناولــه لهــا بالتحليــل والنقــد‪ ،‬وهــو مفكــر كــان‬
‫مقربا من هابرماس في مدرسة فرانكفورت « قام بترجمة جــزء من الكتــاب الهــام لهابرمــاس‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.36 ،‬‬

‫† ‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪( ،9 ،8 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‡ ‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪( ،9 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫"الفاعلية التواصلية"ـ »*‪ ،‬كما قام بدراسة هامة حول فكر هابرمــاس بعنــوان "إتيقــا التواصـلـ‬
‫عند هابرماس" أبرز من خاللهــا المكانــة الهامــة الــتي أصــبحت تحتلهــا "إتيقــا المناقشــة" في‬
‫الفلسفة األلمانية‪ ،‬ومن أشهر أعماله أيضا "فلسفة التواصل" الــذي ترجمــه إلى اللغــة العربيــة‬
‫"عمر مهيبل"‪ ،‬وهو من أهم المراجع المعتمدة في هذا البحث‪.‬‬

‫استعرض جان مارك فيري في هذا العمل مختلف اآلراء الفلسفية المعاصــرة خاصــة مــا‬
‫تعلق منها بفلسفة التواصل‪ ،‬حيث تمحور التحليل في الجزء األول منه على الجــانب النظــري‬
‫لمشكلة تأسيس الحقيقة‪ ،‬وهنا تحدث فيري عن مختلف المواقف المتناقضة بشأنها على مسرح‬
‫الفلسفة المعاصرة‪ ،‬وفي الجزء الثاني منه تناول النتائج العملية التي ترتبت عن هــذه المشــكلة‬
‫مركــزا في ذلــك خاصــة على الجــانب السياســي‪ ،‬وخاصــة فيمــا يتعلــق بمســألتي العدالــة‬
‫والديمقراطية‪ ،‬وهذا التحليل المزدوج قصد من وراءه فيري أوال تحليل نظرية التواصل عنــد‬
‫هابرمــاس وكــارل أوتــو آبــل‪ ،‬وثانيــا أراد من خاللــه أن يعبِّر عن اندماجــه فكريــا في فلســفة‬
‫التواصل وولوجه إلى دراسة مشكلة العقالنية ومختلف القضايا المرتبطة بهــا وخاصــة "إتيقــا‬
‫التواصل"‪،‬ـ وهذا ما أشار إليه عمر مهيبل في مقدمة ترجمتــه لهــذا العمــل حين قــال‪ « :‬اعتقــد‬
‫جان مارك فيري أن هذا التموقـع في مفصـلية الجـدل الفلسـفي األلمـاني سـيفتح أمامـه أبـواب‬
‫األنوار الفلسفية التي ظلت موصدة في وجــه الفكـر الفلسـفي الفرنسـي »†‪ ،‬ويضــيف المـترجم‬
‫مؤكدا هذه الفكرة قائال‪ « :‬محاولة فــيري في نظرنــا تلــبي مطلــبين أساســيين‪ :‬أولهمــا انفتاحــه‬
‫وانخراطــه ضــمن هــذا المبحث الحيــوي الــذي يخــتزل تعقيــدات المرحلــة المعاصــرة في كــل‬
‫أبعادهــا [‪ ]...‬وثانيهمــا هــو أن هــذا المبحث‪ ،‬أي مبحث فلســفة التواصــل‪ ،‬ينفتح على آفــاق‬
‫النظرية السياسية الليبرالية‪ ،‬وعلى آفاق الفكر السياسي بصفة عامة‪ ،‬انطالقا من أن التواصل‪،‬‬
‫ومهما كانت تمظهراتــه المعرفيــة المجــردة‪ ،‬هــو في نهايــة المطــاف يتموضــع داخــل مجتمــع‬
‫معين‪ ،‬وينفذ بأدوات اجتماعية معينة »‡‪.‬‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪( ،9 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫† ‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪( ،8 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪( 8 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫وعلى غرار آبـل وهابرمـاس حـاول فـيري من جهتـه المسـاهمة في طـرح قضـية أزمـة‬
‫الفلسفة‪ ،‬وبدأ بنقد حالة األزمة أوالطريق المسدود الناتج عن المواقف الراديكالية « التعارض‬
‫القــائم بين الشــموليانية "الكليانيــة"‪ Universalisme‬والســياقوية‪ ، Contextualisme‬بين‬
‫المطلقويــة ‪ Absolutisme‬والنســبوية ‪ ،*» Relativisme‬وســعى للتقــريب بين مختلــف‬
‫التيــارات واالتجاهــات الفكريــة‪ ،‬وهــذا المســعى الــذي يبــدو مبــدئيا عمال صــعبا ومهمــة شــبه‬
‫مستحيلة نظرا للتناقض الكبــير بين هــذه االتجاهـات الفكريــة‪ ،‬وفي هــذا الصــدد يقــول فـيري‪:‬‬
‫« إن مفهومـا مـا غـير اخـتزالوي للحقيقـة‪ ،‬والـذي سيسـتفيد هـو بـدوره أيضـا من "المنعـرج‬
‫األلسني‪ /‬الهيرمنيوطيقي‪ /‬التداولي‪ ،‬يمكنه أن يخضع فلسفة كانط لعمليــة نقــد مبرمجــة‪ ،‬طبعــا‬
‫مع االحتفاظ بجوهر المثالية النقدية‪ ،‬ومن ثمة بإمكانه تجنب شكية مــا بعــد الحداثــة‪ ،‬لكن دون‬
‫أن يوصلنا ذلك إلى بلوغ ميتافيزيقا على طريقة دريدا »†‪.‬‬

‫وفي مسعاه لوجــود أرضــية اتفــاق بين هــذه التيــارت الفلســفية المتعارضــة والمتناقضــة‪،‬‬
‫حــاول فــيري التوفيــق والتقــريب والتــأليف والجمــع بين هــذه المفــاهيم النظريــة المتعارضــة‬
‫"الســياقوية ≠ الشــموليانية‪ ،‬النســبوية ≠ المطلقويــة" وهــو يقــول في هــذا المجــال‪ « :‬إن نقــد‬
‫المطلقوية ال يوصل بداهـة إلى النسـبوية "روتي‪ ،‬كاسـتاريادس*"‪ ،‬ومن جهـة ثانيـة فـإن نقـد‬
‫النسبوية ال يوصــل أبــدا إلى المطلقويــة "آبــل‪ ،‬بيتنــام**"‪ ،‬ذلــك أن موقفــا خارجيــا ينبغي أن‬
‫نضعه في الحسبان مؤداه أن الحقيقة مفهوم ميتافيزيقي بائس‪ ،‬مع أنه ال توجد طريقـة مباشـرة‬
‫للفكاك منه‪ ،‬ألننا‪ ،‬وبكل بساطة‪ ،‬ال نستطيع االستغناء عن مفهوم الحقيقة »‡‪.‬‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.23 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.42 ،‬‬

‫‡*‪ -‬كاس تاريادس )‪ :Castoriadis Cornelins(1922-1997‬فيلس وف فرنس ي معاص ر من أص ول يوناني ة‪ ،‬ع رف بنزعت ه‬
‫الماركسية‪.‬‬

‫**‪ -‬بيتنام ) ‪ :Hilary Putnam (1926-2016‬فيلسوف أمريكي معاصر‪ ،‬كان في تفكيره قريبا من كارل أوتو آبل‪.‬‬

‫‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.45 ،‬‬

‫‪198‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫كما حدد فيري في عمله هذا الفرق األساسي بين التداولية الترنسندنتالية آلبــل والتداولي ـةـ‬
‫الشاملة لهبرماس‪ ،‬وهي المسألة التي تطرقنا إليها [في المطلب الثــاني من المبحث الثــاني من‬
‫الفصل الثاني]‪.‬‬

‫وبعد أن قام فيري بدراسة تحليليــة وتركيبيــة لفكــري هابرمــاس وآبــل‪ ،‬انتقــل في الجــزء‬
‫الثاني من هذا العمل إلى الحديث عن فكرتي العدالة والديمقراطية باعتبارهما أداتين تنفيذيتين‬
‫لتطبيق فلسفة التواصل في فضاء اجتماعي ما‪ « ،‬حيث قام باستقراء أبعاد نظرية العدالة عنــد‬
‫جون راولس ومقارنتها بمحاولة هابرماس النقدية »*‪ ،‬وهنا أوضــح فــيري أن نظريــة العدالــة‬
‫عند راولس هي في الواقع نظرية لم تخرج على مبادئ "المركزية الغربية" وخاصــة الطــابع‬
‫الــديمقراطي والليــبراليـ للمجتمعــات الغربيــة المعاصــرة‪ ،‬وهــذا بخالف نظريــة هابرمــاس‬
‫السياسية التي حاول من خاللها إحداث تغيــير جــذري في تنظيم المجتمــع الغــربي المعاصــر‪،‬‬
‫ولهذا يرى فيري أن نظرية راولس في حاجة إلى مراجعة نقدية‪ ،‬وفي هــذا يقــول‪ « :‬يتــوجب‬
‫على الحس الديمقراطي‪-‬ـ الليبرالي الذي ذكره راولس أن يحرز القــدرة على الظهــور بوصــفه‬
‫خزانا محتمال للنقد الذاتي »†‪.‬‬

‫وبعــد أن تعرفنــا على الموقــف العــام لفــيري من إشــكالية التواصــل ومختلــف القضــايا‬
‫المعرفيــة والسياســية واالجتماعيــة المرتبطــة بهــا‪ ،‬نــود اآلن أن ننتقــل إلى الحــديث عن أهم‬
‫المالحظات النقدية التي وجهها فيري آلبل في مبحثه "التفكير مــع آبــل ضــد آبــل"‪ ،‬حيث يعــد‬
‫هذا النقد « أبلغ اعتراض على نظريــة أخالقيــات التواصـلـ من داخلهــا‪ ،‬ألنــه يعتمــد البرهنــة‬
‫العقالنية ذاتها وااللتزام المسبق بمكوناتها »‡‪ ،‬فماذا كان يقصد فيري بقوله "التفكــير مــع آبــل‬
‫ضد آبل"؟‬

‫في هذا الصدد يقول فيري‪ « :‬إن ذلك يعني ببساطة رفض التأسيس النهائي دونما مساس‬
‫ببنية تأسيسه‪ ،‬وهكذا وبدال من ذلــك الســلوك التــأملي للتأســيس النظـري‪ ،‬سـيحل ســلوك أدائي‬
‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪( 10 ،9 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.127 ،‬‬

‫‡ ‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.172 ،‬‬

‫‪199‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫محدود تحديدا عمليا‪ ،‬إذ‪ ،‬وعوض اإللماح إلى معرفة تتعلــق بماهيــة العقــل بشــكل عــام‪ ،‬فإننــا‬
‫نقترح معرفة تتعلق فقط بما يمكن أن يستحق فعال أن نطلق عليه اسم "العقل"‪ ،‬وهــذا بالتأكيــد‬
‫ألسباب أخالقية بالدرجة األولى‪ ،‬إذ من السائغ‪ ،‬دائما بالنقاش والنقد‪ ،‬وحتى المراجعة »*‪.‬‬

‫ومن البداية يعلن فيري صراحة معارضته لتأسيسوية آبل (وميله إلى حــد مــا في مقابــل‬
‫ذلك إلى نزعة إعــادة البنــاء لهابرمــاس)‪ ،‬حيث يقــول‪ « :‬إن الحركــة المضــادة للتأسيســوية ال‬
‫تنفي أن يكون االفتراض الحجاجي هذا ضروريا بالنسبة إليها‪ ،‬بل إنهــا على النقيض من ذلـك‬
‫تظهر أن ما قــد يكــون ضــروريا أو مــا ال يمكن مجاوزتــه بالنســبة إلينــا ليس من الضــروري‬
‫التفكير فيه بما هو كذلك‪ ،‬ولكن بما هو موجود ضــمن حالــة نســبية‪ ،‬حاليــة‪ ،‬حالــة ال يمكن أن‬
‫نقول عنها بأنها نهائية أو ممثلة لوضع اإلنسان ككل »†‪ ،‬ويضيف مؤكدا معارضته هذه قائال‪:‬‬
‫« إن الحركة المضادة للتأسيسوية يمكنهــا أن تظهــر أن مــا هــو مهم بالنســبة إلينــا‪ ،‬في لحظــة‬
‫معينة‪ ،‬ال يحمل األهمية ذاتها بالنسبة لذاته بصفة عامة »‡‪ ،‬وقد أوضح فيري أن مدار الجــدل‬
‫بين تأسيسوية آبل وخصومها هو فكرة "التأسيس النهــائي للعقــل"‪ ،‬فــإذا كــان آبــل يعتــبر هــذه‬
‫الفكرة حيوية وضــرورية في مشــروعه الفلســفي‪ ،‬فــإن خصــومه يــرون عكس ذلــك « وجــود‬
‫أساس نهائي للعقل قول فارغ »§‪.‬‬

‫وقد ركز فيري في نقده آلبل على محاولة هدمه للحجة الترنسندنتالية‪ ،‬ألنهــا تمثــل حجــر‬
‫الزاوية في المشروع الفلسفي آلبل وهدمها يعني هدم هذا المشروع الفلسفي ‪ ،‬وهذا ما صــرح‬
‫به في بداية مبحثه هذا حين قال‪ « :‬استقصاء هذه المواجهة‪ ،‬كما يبدو لي‪ ،‬يجعلنا أمام حجــتين‬
‫اثنتين‪ :‬حجة ترنسندنتالية تستند على مبدأ التناقض‪ ،‬وحجــة نقدويــة تســتند على مبــدأ االنفتــاح‬
‫»**‪ ،‬وتتميز الحجة الترنسندنتالية التي هي محل نقد فيري بأنها « الحجــة الترنســندنتالية تــود‬

‫* ‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.90 ،89 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.86 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.87 ،86 ،‬‬

‫§ ‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.87 ،‬‬

‫**‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.86 ،‬‬

‫‪200‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫أن تفهمنا أن التأسيس النهائي للعقل بشكل عــام يتمثــل في منطــوق االفتراضــات الضــرورية‪،‬‬
‫التي ليس في استطاعتنا‪ -‬حتى ولو رغبنا في ذلك‪ -‬أن نضع منطوقها محل تساؤل »*‪.‬‬

‫ومعنى ذلك أن مسألة التأسيس النهائي وحجته الترنسندنتالية غير قابلة للنقاش عنــد آبــل‪،‬‬
‫في حين يرى فيري‪ « :‬أنها حجة عميـاء‪ ،‬إذ ال يمكن أن تظهــر بــدعم من اعتراضــها الـذاتي‪،‬‬
‫أي مفهوم يمكنه أن يكون عقال آخر غير ذلك الذي تستند إليه الفلسفة الترنسندنتالية "ســواء تم‬
‫تحويله أو ال" لمباشرة تأسيس نهائي »†‪.‬‬

‫وبعد أن عرض فيري حجة آبل وانتقدها‪ ،‬ذهب إلى أبعــد من ذلــك في نقــده لفلســفة آبــل‪،‬‬
‫حيث اعتبر فلسفته مجرد استمرار لفلسفات الشعور التي ظــل يــدعو طــوال مشــواره الفكــري‬
‫إلى تجاوزها نحو "التداوليةـ الترنسندنتالية"‪ ،‬وفي هذا المجال يقول فيري‪ « :‬إن مبدأ التناقض‬
‫الذي ترتكز عليه الحجة الترنسندنتالية لصالح التأســيس النهــائي هــو مجــاز حصــريا من قبــل‬
‫شعور خاص بالبداهة "وهو يحيل إلى معيار اليقين المستخدم في فلسفات الشعور" »‡‪.‬‬

‫وحاول فيري في مبحثه هذا أيضا أن يبرز التناقضات العديدة التي وقــع فيهــا آبــل‪ ،‬حيث‬
‫يقول في هذا اإلطار‪ « :‬إن آبل يقبل فكرة مراجعة فعلية لتأسيسه‪ ،‬وبموجب ذلك فهو يضــطلع‬
‫بنوع من القابليـة للخطـأ بــالتوازي مــع زعمـه التأسـيس النهـائي‪ ،‬لكنـه مـا يلبث أن يعـود إلى‬
‫تحفظــه حــول هــذا التحفــظ المتعلــق بالقابليــة للخطــأ »§‪ ،‬ويــترتب على هــذا حســب فــيري‪:‬‬
‫« بمقتضى هذا اإلجراء‪ ،‬فإنه يمكننا أن ننظر إلى تصريحات آبل التي يـبين فيهـا قبولـه لمبـدأ‬
‫مراجعة تأسيسه وكأنهــا تصـريحات بالغيـة‪ ،‬بينمـا ينظــر إليهــا هـو في حقيقــة األمـر وكأنهـا‬
‫معصومة من الخطأ »**‪.‬‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.86 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.90 ،‬‬

‫§ ‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.91 ،‬‬

‫**‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.91 ،‬‬

‫‪201‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ويواصل فيري نقده آلبل حتى وصل إلى حد اتهامه بالدوغمائية‪ ،‬وفي هذا الصــدد يقــول‪:‬‬
‫« إن ما يبقى دوغمائيـا‪ ،‬هـو ذلـك االفـتراض المنظـور إليـه نظـرة مجـردة تهـدف إلى إيجـاد‬
‫تطابق بين "الشيء في ذاته" وبين "النَّحْ ُن" »*‪ ،‬ويضيف فيري بشأن هذه الدوغمائية وبشــأن‬
‫استحالة "التأسيس النهائي" قائال‪ « :‬كما أن زعم التأسيس النهائي يستوجب أن تكــون شــروط‬
‫الصالحية الممكنة مشمولة بشــكل كلي في االفتراضــات الــتي يمكننــا إعــادة بناءهــا من خالل‬
‫التأمــل في إجراءاتنــا الحاليــة بالصــالحية‪ ،‬والحــال أن هــذه اإلجــراءات المشــكلة في تجربتنــا‬
‫الحالية ال يمكنها أن تقدم نفسها إال كما هي الحال في كل تجربة ممكنة‪ ،‬أو كما هي الحــال في‬
‫كل تجربة مكتملة للعقل بشكل عام‪ ،‬مع ذلك ال شيء يدل على أنها غير قابلة للتأويل وفــق مــا‬
‫يقدمه هذا "التأسيس" الفلسفي أو ذاك »†‪.‬‬

‫وفي األخير استخلص فيري من نقده آلبل‪ « :‬إن ما قد يبدو لنا من منظور داخلي بمثابــة‬
‫األساس النهائي للعقل‪ ،‬حتى وإن كان يمتلك من الناحيــة العمليــة "لجهــة العقــل العملي" قيمــة‬
‫مقولية‪ ،‬وأنه ال يمتلك نظريا "لجهة العقل النظري" إالّ قيمة إشكالية‪ ،‬وعلى النقيض من ذلك‪،‬‬
‫إذا ما قمنا كما فعل كارل أوتو بل‪ ،‬بإضفاء قيمة نظرية على هذا األسـاس‪ ،‬فإنــه سـيتحول إلى‬
‫أساس إشكالي فعليا »‡‪.‬‬

‫ومجمل القول حسب ‪ -‬فيري‪ -‬فإن فلسفة آبــل تثــير إشــكالية معقــدة « تكمن في الصــعوبة‬
‫التي تميز تحليل آبل حين ينتقل من مجال الفكر إلى مجال الفعل بدون تعليل‪ ،‬أي عندما ينتقــل‬
‫مثال من الضرورة النظرية التي تتعلق باالفتراض المسبق لجماعـة التواصـل غـير المحـدودة‬
‫إلى الضرورة التطبيقية التي تتعلق بالتزام المتكلم "أي متكلم" بالفعل بهذه المثالية »§‪.‬‬

‫وعلى ضوء ما سبق يتضح أن فلسفة كارل أوتو آبــل وجهت لهــا انتقــادات عديــدة ســواء‬
‫من داخل النظرية النقدية أو من خارجها‪ ،‬وقد تركزت هذه االنتقادات خاصة على مسعى آبــل‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.92 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫‡ ‪ -‬فيري جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.99 ،‬‬

‫‪ -‬مصدق حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.171 ،170 ،‬‬ ‫§‬

‫‪202‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫إلى التأسيس النهائي للفلسفة واألخالقية‪ ،‬حيث أجمع الخصوم بمختلف اتجاهاتهم الفكرية كمــا‬
‫يــرى إدمونــدس أبســالون على اعتبــار عقالنيــة آبــل عقالنيــة تقليديــة‪ « :‬طلب التأســيس [‪]...‬‬
‫يتطابق فيها موقف آبل مــع العقالنيــة التقليديــة »*‪ ،‬وقــد لخص أبســالون االنتقــادات الموجهــة‬
‫لعقالنية آبل ونظرية التأسيس النهائي ومن خاللها للعقالنية األلمانية بصفة عامة بقولــه‪ « :‬إن‬
‫معــايير الحجــاج هي في نفس الــوقت معــايير عقالنيــة ومعــايير األخالق [‪ ]...‬ومن ثم فنحن‬
‫ننتهي إلى مسلمة تقول بالوحدة بين المنطق والفلسفة واألخالق [‪ ]...‬وغاية القــول بخصــوص‬
‫مشكلة غاية التأسيس هي التالية‪ ]...[ :‬خصومة التأسيس في الفلســفة األلمانيــة لم تــؤد إلى أي‬
‫حل [‪ ]...‬ألنها عالجت مشكلة التأسيس من منظور تصــورات معينــة للعقالنيــة بمســلمة تقــول‬
‫بتعدد العقالنيات »†‪ ،‬ولكن كثرة هذه االنتقادات وحدتها ال ينقص من قيمة فلسفة آبل ومكانتــه‬
‫الفلسـفية‪ ،‬بـل هـو أمـر طـبيعي في الفلسـفة الـتي تتأسـس على النقـد والنقـد المضـاد والحـوار‬
‫والجدل‪ ،‬ألن تاريخ الفلسفة ال يثبت وجود رأي فلسفي مقدس لم يتعرض للنقد‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬نحو تجاوز المشروع الفلسفي التواصلي‬

‫أ‪ -‬المطلب األول‪ :‬أكسيل هونيت والتفكير مع هابرماس وآبل ضد هابرماس وآبل‬

‫يعــد أكسـيل هـونيث ‪( Axiel Honneth‬و‪ )1949‬رائـدا لمدرسـة فرانكفــورت النقديـة‬


‫الثالثة ومؤسسا لنظرية نقدية جديدة عرفت بـ "نظرية االعــتراف"‪ ،‬تقلــد منصــبين هــامين في‬
‫هذه المدرسة « شغل منصب أستاذ للفلسفة منذ سنة ‪ 1996‬بجامعة فرانكفورت‪ ،‬وأصـبح منـذ‬
‫أفريل ‪ 2001‬رئيسا لمعهـد األبحـاث االجتماعيـة خلفـا لهابرمـاس »‡‪ ،‬اسـتطاع أن ينقـل هـذه‬
‫النظرية من براديغم التواصل إلى براديغم االعتراف‪ ،‬ولكنه قبــل ذلــك « قــام بمراجعــة نقديــة‬
‫للنظريــة النقديــة األولى "هوركهــايمر وأدورنــو"‪ ،‬ثم النظريــة النقديــة الثانيــة "هابرمــاس‬

‫* ‪ -‬أبسالون ادموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ ،‬ترجمة أبويعرب المرزوقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.299 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪، ،‬ص‪.363 ،‬‬

‫‪- Honneth Axel, La société du mépris: Vers une nouvelle Théorie critique, traduits de l’allemand‬‬
‫‡‬

‫‪par Olivier Voirol et autres, La Découverte/Poche, Paris, 2010, p, 160.‬‬

‫‪203‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫وآبل"»*‪ ،‬وكان غرضه من ذلك تطـوير وتجديـد النظريـة النقديـة من خالل إعـادة النظـر في‬
‫مبادئهــا ومفاهيمهــا وأهــدافها‪ ،‬أي‪ « :‬إعــادة تأســيس النظريــة النقديــة من حيث مفاهيمهــا‬
‫ومنطلقاتها بغرض تحيينها من جديد »†‪ ،‬وفي هذا اإلطار ألف هونيث العديد من األعمال من‬
‫أهمها‪ « :‬الصراع من أجل االعتراف ‪ ،1992‬ومجتمــع االحتقــار‪ :‬نحــو نظريــة نقديــة جديــدة‬
‫‪ ،2002‬والتشــيؤ ‪ ،2005‬وغيرهــا »‡‪ ،‬وهي األعمــال الــتي ســيكون محتواهــا ومضــمونها‬
‫الفلسفي والسوسيولوجي محل تحليلنا في هذا المبحث‪ ،‬فماهي االعتراضات والتحفظـات الـتي‬
‫سجلها هونيث على نظرية التواصلـ عنـد هابرمــاس وآبــل؟ وبمـاذا يتمـيز المشـروع الفلسـفي‬
‫الجديد "نظرية االعتراف" عن المشروع الفلسفي التواصليـ السابق له؟‪.‬‬

‫وقبل التطرق إلى أهم المالحظات النقدية التي وجهها هونيث لنظرية التواصــل‪ ،‬نــود أن‬
‫نشير إلى أن هونيث انطلق في إعادة تأسيس النظرية النقدية من خالل نقده أوال ألفكار الجيــل‬
‫األول لهذه المدرسة‪ ،‬ومن أهم هــذه االنتقــادات كمــا يقــول البــاحث كمــال بومنــير‪:‬ـ « إن رواد‬
‫الجيل األول للنظرية النقدية لم يتحررو من رواسب الوظيفانية "‪ "Fonctionnalisme‬الــتي‬
‫ظهرت نتيجة تأثير النزعة اإلقتصادية الماركسية التي سادت في تلك الحقبة التاريخيــة والــتي‬
‫مثلت عائقا حقيقيا لهم في إدراك طبيعة الحيــاة االجتماعيــة‪ ،‬ومــا تتمتــع بهم من خصوصــيات‬
‫[‪ ]...‬ومن ثمة لم يهتم هوركهايمر وأدرنو‪ ،‬بالقدر الكافي‪ ،‬بالنشاط االجتماعي الــذي يمكن أن‬
‫يسمح بظهور "قناعات أخالقية" ذات توجهات معيارية في تلك الحيــاة االجتماعيــة »§‪ ،‬وهــذا‬
‫ما يؤكده أيضا علي عبود المحمداوي بقوله‪ « :‬يجــد هــونيث أن هوركهــايمر ورفاقــه "الجيــل‬
‫األول" قد بقوا ملتزمين المبدأ الوظائفي الماركســي الــذي ظلّلهم كــافتراض حلقــة من الهيمنــة‬
‫الرأسمالية واإلدارة الثقافية التي كانت منغلقة على نفسها‪ ،‬بحيث لم يعد هنــاك من مجــال لنقــد‬
‫عملي محتمل ضمن الواقع االجتماعي »**‪.‬‬
‫* ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬مؤسسة كنوز الحكمة‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪ ،2012 ،1‬ص‪.101 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها ‪.‬‬

‫‡ ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدية من ماكس هوركهايمر إلى أكسيل هونيث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.103 ،‬‬

‫§ ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.84 ،‬‬

‫** ‪ -‬المحمداوي علي عبود وآخرون‪ ،‬مدرسة فرانكفورت النقدية‪ :‬جدل التحرر والتواصل واالعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.51 ،‬‬

‫‪204‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫وبعــد أن وقــف هــونيث على مكــامن النقص الــتي الحظهــا في فكــر الجيــل األول لهــذه‬
‫المدرسة انتقل إلى الحديث عن فكر الجيــل الثــاني‪ ،‬فــأين يلتقى هــونيث مــع هابرمــاس وآبــل؟‬
‫وماهي النقــائص الــتي الحظهــا على النظريــة التواصــلية وجعلتــه يعمــل على تجاوزهــا نحــو‬
‫"نظرية االعتراف"؟‪.‬‬

‫لقد أشاد هونيث بما جاء به فالسفة الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت مع هابرماس وآبــل‬
‫وغيرهما‪ ،‬ولكنه اختلف معهم في مسألة المنعطف اللغوي الذي أقاموا عليه نظريتهم المتعلقــة‬
‫بالتواصل ومفهوم المجموعة التواصلية‪،‬ـ وفي هذا الصدد يقول كمال بومنــير‪:‬ـ « أكــد هــونيث‬
‫في مواضيع كثــيرة من كتاباتــه [‪ ]...‬أن مشـروعه الفلسـفي يعـد اســتكماال وتعميقــا للمشـروع‬
‫الفلسفي التواصلي لهابرماس‪ ،‬الذي مثل منعطفــا أساســيا في تــاريخ النظريــة النقديــة لمدرســة‬
‫فرانكفورت‪ ،‬حيث يعتبر أول فيلسوف نقدي استطاع أن ينقـل هــذه النظريــة إلى طـور جديـد‪،‬‬
‫من خالل بــراديغم التواصـل‪ ،‬الــذي لم يكتــف بفهم المجتمـع من خالل عالقــات اإلنتـاج‪ ،‬على‬
‫غرار فهم النظريـة النقديــة األولى‪ ،‬بـل انطالقــا من تصــور المجتمـع المتمــيز بعمليـة التفـاهم‬
‫والتواصلـ اللغوي »*‪.‬‬

‫ولكن على الرغم من ذلك فإن هونيث وقف موقفا نقديا صارما اتجاه الكثــير من األفكــار‬
‫التي تضمنها المشــروع التواصــليـ أو هــذا الــبراديغم الجديــد‪ ،‬حيث يعتقــد هــونيث‪ « :‬أن هــذا‬
‫البراديغم الجديد ال يسمح بإبراز مكانة وأهمية طابع الصراع أو النزاع الذي يعيشــه المجتمــع‬
‫الحالي‪ ،‬الــذي الزالت آليــات الســيطرة أوالهيمنــة متحكمــة فيــه إلى حــد بعيــد [‪ ]...‬إن نظريــة‬
‫هابرماس التي استندت إلى القواعد اللغوية الصورية لعملية التواصلـ النــاجح قــد تجــاهلت مــا‬
‫يسمى بالتجارب األخالقية للجور االجتماعي »†‪ ،‬ومعــنى ذلــك ‪ -‬حســب هـونيث ‪ -‬أن نظريــة‬
‫التواصــل اللغــوي ال تســتطيع أن تفســر دور التجربــة األخالقيــة للمســاهمين االجتمــاعيين في‬
‫النقاش واختزلتها في التجربة اللغوية « نظريـة هابرمـاس عجـزت عن إعـادة بنـاء التجـارب‬

‫* ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.87 ،86 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.88 ،87 ،‬‬

‫‪205‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫األخالقية للذوات وتطلعاتها األخالقية »*‪ ،‬وهذا ليس معناه أن هونيث يرفض بصورة مطلقــة‬
‫مفهوم التواصل كما حدده هابرماس وإنما يرفض اختزال هــذا المفهــوم في نمــوذج التواصــل‬
‫اللغوي‪ ،‬حيث رأى هونيث أن النموذج التواصليـ اللغوي له جــانبين أحــدهما ايجــابي واآلخــر‬
‫سلبي‪ ،‬ويتمثل الجانب االيجابي في « إعطاء هابرمــاس أهميــة للغــة قصــد إمكانيــة فهم العــالم‬
‫والتجــارب اإلنســانية كظــواهر لغويــة هي مســألة منهجيــة ال يمكن تجاهلهــا أو التقليــل من‬
‫قيمتها »†‪ ،‬وأما الجانب السلبي فيتمثــل في « إعطــاء هابرمــاس األولويــة واألهميــة القصــوى‬
‫للغة على حساب الواقع االجتمــاعي نفســه‪ ،‬يــؤدي حتمــا إلى اخــتزال بــراديغم التواصــل‪ ،‬ألن‬
‫العالقات االجتماعية أوسع بكثير مما يتم تمثله عن طريق عمليــات الفهم اللغــوي »‡‪ ،‬ومعــنى‬
‫ذلك ‪ -‬حسب هونيث‪ -‬أن فالسفة التواصل ركزوا على عمليات التفاعل والتواصل االجتماعي‬
‫اللغوي وأهملوا عمليات التفاعل وعالقات التواصل غير اللغوية مثــل األصــوات واإليمــاءات‬
‫والنظر واالنفعاالت « وتجدر اإلشــارة هنــا إلى أن هــونيث قــد اســتفاد بخصــوص مــا يســميه‬
‫باألشكال التفاعلية غير اللغوية من أعمال بعض الفالسفة الفرنسيين وخاصــة أعمــال كــل من‬
‫ميشال فوكو وموريس ميرولوبنتيـ »§‪.‬‬

‫وفي هذا الصدد يصرح هونيث أن من بين نقاط الخالف بينه وبين فالسفة التواصــل هــو‬
‫أن « فلسفة هابرماس غلب عليها التوجه األنجلوساكسوني ممثال في المنعطف اللغوي‪ ،‬بينمــا‬
‫كــانت توجهــاتي الفلســفية قريبــة من الفلســفة الفرنســية ممثلــة في "ميشــال فوكــو وســارتر‬
‫وميرلوبونتيـ وبورديو*‪ P.Bourdieu‬وكاســتاريداس وكلـــود ليـــفي سـتـــراوس**‪Claude‬‬
‫‪ levie-Straus‬وليوتارد" »**‪ ،‬وذلك يعني أن هونيث استلهم مفهوم التواصــل غــير اللغــوي‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.88 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.89 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.89 ،‬‬

‫§ ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسيل هونيث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.123 ،‬‬

‫*‪ -‬بورديو بيار (‪ ،)2002-1930‬عالم اجتماع فرنسي‪.‬‬


‫**‪ -‬ستراوس كلود ليفي (‪ ،)2009-1908‬عالم اجتماع بنيوي فرنسي ‪.‬‬
‫**‬
‫‪-Honneth Axel, La société du mépris: Vers une nouvelle Théorie critique, Op.Cit, pp, 167, 168.‬‬

‫‪206‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ومن المالحظات الهامة التي سجلها هونيث أيضا تجاه فلسفة التواصل نجــد أيضــا‪ « :‬إن‬
‫هابرماس قد تجاهل الطابع التنازعي أو الصراعيـ الموجود أو السائد في بنية المجتمع والذي‬
‫يحدد نمــط الحيـاة االجتماعيــة واألخالقيــة الـتي تمـيزه‪ ،‬فعـوض التركــيز على رد التفــاعالت‬
‫االجتماعيـــة إلى التفـــاهم التواصـــلي‪ ،‬يجب ربـــط هـــذه التفـــاعالت بـــالتوترات والنزعـــات‬
‫والصراعاتـ االجتماعية »*‪.‬‬

‫ومجمل القول حول المالحظات النقديــة الــتي ســجلها هــونيث على فلســفة التواصــل كمــا‬
‫يقول حسن مصدق‪ « :‬يرى هونيث أن الصــورية الــتي الــتي يتم التبشــير بهــا من طــرف آب ل‬
‫وهابرماس وهمية ألن التذرع بافتراضات معيارية يستنتج منها مبدأ الكونية يعــرض أخالقيــة‬
‫المناقشة في الحقيقة لتصور جــد ضـيق للعدالـة يتجلى في اختيــاره للنمـوذج الغــربي كنمـوذج‬
‫شمولي وأعلى بوصفه حاليا الممثل األسمى للعقل العملي البشري »†‪.‬‬

‫هذه إذن‪ ،‬هي أهم المالحظات النقدية واالعتراضــاتـ الــتي ســجلها هــونيث ضــد فالســفة‬
‫التواصل اللغوي‪ ،‬فإلى أي مدى استطاع هونيث تأسيس براديغم جديــد في الفلســفة تجــاوز بــه‬
‫براديغم التواصل لهابرماس وآبل؟‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬من إتيقا التواصل إلى إتيقا االعتراف‬

‫تعد نظرية "االعتراف" من أهم النظريات الفلسفية واالجتماعيــة المعاصــرة‪ ،‬باعتبارهــا‬


‫أسست براديغما أساسيا للعلوم اإلنسانية في الفكر المعاصر‪ ،‬خاصة في مجال الحق والسياسة‬
‫واإلقتصاد واألخالق والتربية وغيرها‪ ،‬حيث عرفت هذه المجــاالت تحــوالت وجــدال واســعا‪،‬‬

‫* ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسيل هونيث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.123 ،‬‬

‫† ‪ -‬مصدق حسن‪،‬النظرية النقدية التواصلية‪ :‬يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.167 ،‬‬

‫*‪-‬أ‪-‬هانس كريستوفر ش ميث‪ ،‬ب احث من الجي ل الث الث بمعه د األبح اث االجتماعي ة بفرانكف ورت‪ ،‬من أهم أعمال ه‪ :‬االع تراف كمب دأ‬
‫للنظرية النقدية‪ .‬ب– نانسي فرازر‪ ،‬فيلسوفة أمريكية (و‪ ،)1947‬مهتم ة بقض ايا الم رأة والمجتم ع‪ ،‬من أهم أعماله ا‪:‬م اهي العدال ة‬
‫االجتماعية؟‪ ،‬واالعتراف وإعادة التوزيع‪ .‬ج‪ -‬جوديث بتلر‪ ،‬فيلسوفة أمريكية (و‪ ،)1956‬من أهم أعمالها‪ :‬الدولة العالمية‪ ،‬اإلنس انية‬
‫والالإنس انية‪ ،‬س لطة الكلم ات‪ .‬د‪ -‬ش ارل ت ايلور فيلس وف اجتم اعي وسياس ي كن دي (و ‪ ،)1931‬من أهم أعمال ه‪ :‬هيغ ل والمجتم ع‬
‫الحديث‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫وتعود جذور فكرة "االعــتراف" إلى نصـوص الفلسـفة الحديثــة عنــد هيغـل ومـاركس وأعيـد‬
‫إحياءها وفتح النقاش حولها خاصة من طــرف أكســيل هــونيث وهــانس كريســتوف شــميث (‬
‫‪ )Hans-christoph Schmidt‬في ألمانيا ونانســي فــرازر (‪ )Nancy Frazer‬وجــوديث‬
‫بتلر (‪ )Judith Butler‬في الواليات المتحــدة وشــارل تــايلور(‪ )Charls Taylor‬في كنــدا‬
‫وغيرهم*‪ ،‬والبد من اإلشارة هنا إلى اختالف استعمال وتحليل هذا المفهوم‪ ،‬وفي هذا اإلطار‬
‫« يمكننا أن نذكر ثالثة اتجاهات أساسية‪ ،‬االتجاه األول يمثله الفيلسوف الكنــدي تــايلور الــذي‬
‫يعطى لهذا المفهوم داللة ثقافية ويوظفه لتحقيق مطالب سياســية [‪ ]...‬كــاالعتراف بمــا يســمى‬
‫األقليات الثقافية واإلثنية [‪ ،]...‬واالتجاه الثاني تمثله الفيلسوفة األمريكية فرازر والتي وظفتــه‬
‫في تحليل مشكلة العدالة االجتماعية وآليــات تطبيقهــا‪ ،‬أمــا االتجـاه الثــالث فيمثلـه رائـد الجيـل‬
‫الثــالث لمدرســـة فرانكفـــورت هــونيث الــذي أصــبح معــه هــذا المفهـــوم مبـــدأ أسـاسيـــا في‬
‫النظـريـة النقدية وأعطاه داللة وبعــدا آخــر"أخالقيــا"‪ ،*»...‬وسنقتصــر على الحــديث في هــذا‬
‫الموضوع على مفهوم االعتراف عند هـونيث لتوظيفـه في تجـاوز فلسـفة التواصـلـ عنـد آبـل‬
‫وهابرماس (باعتباره يمثل براديغما في مدرسة فرانكفورت)‪ ،‬ولكن قبل ذلك البد من التوقــف‬
‫أوال عند داللة هذا المفهوم في اللغة ‪.‬‬

‫مفهوم االعتراف (‪ )Reconnaissance‬في اللغة‪:‬‬

‫إذا انطلقنا أوال من اللغة العربية فإننا نجد كما ورد في معجم اللغة العربية المعاصــرة‪:‬‬
‫« االعتراف مشتق من الفعل اعترف‪ ،‬يعــترف‪ ،‬اعترافــا‪ ،‬واعترافــات‪ ،‬فنقــول‪ :‬اعــترف إلي‪،‬‬
‫أخــبرني باســمه وشــأنه‪ ،‬واعــترف بذنبــه‪ ،‬أقــر بــه على نفســه [فاعترفنــا بــذنوبنا]‪ ،‬واعــترف‬
‫بالجميل‪ ،‬أقر به وأعرب عن امتنانــه‪ ،‬اعــترفت دولــة بدولــة أخــرى‪ ،‬اعتبرتهــا دولــة شــرعية‬
‫وأقامت معها عالقات دبلوماسية‪ ،‬واالعتراف في القانون‪ ،‬هو إقــرار المــدعى عليــه أو المتهم‬
‫صراحة أو ضمنا بصحة الوقائع المنسوبة إليه »†‪.‬‬

‫*‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدي ة لمدرس ة فرانكف ورت من م اكس هوركه ايمر إلى أكس يل ه ونيث‪ ،‬مرج ع س ابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪،115 ،‬‬
‫‪.116‬‬
‫†‪ -‬معجم اللغة العربية المعاصرة‪ ،‬مادة اعترف‪/www.maajaim.com/dictionary ،‬‬

‫‪208‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫أما في اللغة الفرنســية فإنــه إذا رجعنــا إلى معجم الروس الصــغير فإننــا نجــد أن لمفهــوم‬
‫االعتراف عدة معاني أيضا منها‪ « :‬االعتراف بالخطأ (‪)reconnaissance d’une faute‬‬
‫واستطالع المكان (‪ )reconnaissance de lieu‬واالعــتراف بالــدين)‪reconnaissance‬‬
‫‪ )de dette‬واالعتراف بالجميل (‪ )gratitude d’un bien fait reçu‬والفعل الذي بموجبه‬
‫نقبــل بــااللتزام ( ‪)acte par lequel on admit l’exstence d’une obligation‬‬
‫واالعتراف بشرعية الحكومة )‪acte par lequel on reconnait un gouvernement‬‬
‫‪.*» )comme légal‬‬

‫مفهوم االعتراف عند أكسيل هونيث‪:‬‬

‫قبل أن يحلل هونيث نظريته الفلسفية األخالقية لالعتراف قــام بدراســة جينيالوجيــة لهــذا‬
‫المفهوم بحثا عن جذوره في تاريخ الفلسفة‪ ،‬فماهي أهم المحطات التاريخية التي مــر بهــا هــذا‬
‫المفهوم حسب أكسيل هونيث؟‬

‫يرى هونيث أن مفهوم االعتراف‪ ،‬في جميع صيغه‪ ،‬لعب دورا أساسيا في مجال الفلســفة‬
‫العمليــة‪ ،‬حيث كـان عمــوم فالسـفة األخالق‪ ،‬ومنــذ العصــور القديمـة‪ ،‬مقتنعين بـأن الشــخص‬
‫الوحيد الذي بإمكانه أن يحيا حياة طيبة هو ذلك الذي يستطيع أن يثــير التقــدير داخــل المدينــة‪،‬‬
‫وعلى ســبيل المثــال فــإن الفلســفة األخالقيــة األســكتلندية (‪ *)écossaise‬استرشــدت بــالفكرة‬
‫القائلة بأن وحده االعتراف أو عدم االعتراف العمومــيين همـا مـا يشــكالن اآلليــة االجتماعيـة‬
‫التي تجبر الفرد على اكتساب الفضائل المطلوبة‪ ،‬كما كان مفهوم االحترام مع "كانــط" المبــدأ‬
‫األسمى لكل فلسفة أخالقية والذي تضمنه األمر القطعي القائل‪ :‬عامل الشخص اإلنســاني كمــا‬
‫لو كان غاية في ذاته†‪.‬‬

‫*‬
‫‪- Larousse,Nouveu petit Larousse, libraire larousse, Paris, 1971, p, 867.‬‬

‫†*‪ -‬يطل ق اس م المدرس ة االس كتلندية (نس بة إلى دول ة اس كتلندة ‪ )ECOSSE‬على المدرس ة الفلس فية ال تي أسس ها توم اس ري د‬
‫)‪ Thomase Reid(1710-1776‬في النصف الثاني من القرن الث امن عش ر‪ ،‬ويطل ق على فلس فتها "فلس فة الموق ف الط بيعي"‬
‫و"فلسفة الذوق النظري"‪ ،‬وهي اتجاه فلسفي تفرع عن المذهب التجريبي االنجليزي‪ ،‬وإن كان أصحابه ي دعون أن ه اتج اه مع ارض‬
‫للنزعة التجريبية االنجليزية‪ ،‬ومن أبرز رواد هذه المدرسة نذكر‪ :‬دوجالد ستيوارت )‪ Dugald Stewert(1753-1828‬و توماس‬
‫براون )‪ ،Thomas Brown(1778- 1828‬والفيلسوف والمنطقي الشهير وليام هاملتن )‪.William Hamilton(788- 1856‬‬
‫المرجع‪:‬رودولف ميتس‪ ،‬الفلسفة االنجليزية في مائة عام‪ ،‬ج‪ ،1‬تر فؤاد زكريا‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباع ة والنش ر‪ ،‬االس كندرية‪ ،‬ط‪،1‬‬

‫‪209‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫غير أنه مع "هيغل" تحديــدا اكتســى مفهــوم االعــتراف مكانتــه اإليتيقيــة الجوهريــة‪ ،‬ولم‬
‫يتغير األمر إال في غضـون العقـدين األخـيرين‪ ،‬حيث أخـذ مفهـوم االعـتراف يجـذب االنتبـاه‬
‫جراء سلسلة من النقاشات السياسية والحركات االجتماعية‪ ،‬و ســواء قســنا ذلــك على مســتوى‬
‫النقاشات حول "التعددية الثقافية" أو على مستوى "الحركات النسوية" فـإن الفكـرة المعياريـة‬
‫واحدة‪ :‬هي ضرورة االعــتراف بــالفروق أو االختالفــات بين األفــراد والجماعــات‪ ،‬ومن هنــا‬
‫صار القول بمجرد التوزيع العادل للثروة المادية أمرا غــير كــاف مــا لم تــدمج ضــمن مفهــوم‬
‫العدالة تصوراتنا حول الكيفية التي يجب أن يعترف بها كل واحد منــا بــاآلخر‪ ،‬ومن ثم حــول‬
‫هوية هذا االعتراف المتبادل ذاتــه‪ ،‬كمــا أن النقاشــات السياســية شــكلت بــدورها مــادة للتفكــير‬
‫الفلســفي األخالقي حــول موضــوع االعــتراف‪ ،‬خاصــة بشــأن مســألة المضــمونـ المعيــاري‬
‫لألخالق الذي ال يمكن تفســيره إال بالقيــاس إلى بعض أشــكال االعــتراف المتبادلــة‪ ،‬وهــذا مــا‬
‫جعل الكالم عن ما صار يــدعى بـــ‪" :‬وجهــة النظــر األخالقيــة" ( ‪)point de vue moral‬‬
‫يرتبــط تحديــدا بالخصوصــيات (المقبولــة أو غــير المقبولــة)ـ الــتي تنتظم وفقهــا العالقــات بين‬
‫الذوات بعضها ببعض*‪.‬‬

‫مع ذلك لم تكن هذه المرحلة إال محاولة أولى في االستخراج المباشر للمبــادئ األخالقيــة‬
‫للتضمينات المعياريــة الخاصــة بمفهــوم االعــتراف‪ ،‬فمن بين أهـداف النقـاش األساسـية اليــوم‬
‫حــول أخالق االعــتراف حصــر هــذه الصــعوبات بصــورة نســقية‪ ،‬إن المشــكل األول يتعلــق‬
‫بتعددية المعنى للمقولة المفتاحية المستعملة‪ ،‬ذلك أنه بخالف مفهوم "االحترام" الــذي اكتســب‬
‫معنى دقيقا نسبيا في فاسفة كانــط األخالقيــة‪ ،‬لم يحــظ مفهــوم االعــتراف بــأي تثــبيت‪ ،‬ال على‬
‫مستوى اللغة اليومية وال على مستوى القبول الفلسفي†‪.‬‬

‫‪ ،2009‬ص[‪.]38-17‬‬

‫‪- Honneth Axeil, Reconnaissance, (in)Monique Canto-Sperber, Dictionnaire d’éthique et de‬‬


‫‪philosophie morale, Op.Cit, p, 1272.‬‬
‫*‬
‫‪-Honneth Axeil, Reconnaissance, (in)Monique Canto-Sperber, Dictionnaire d’éthique et de‬‬
‫‪philosophie morale, Op.Cit, p, 1272.‬‬
‫†‬
‫‪-Ibid, p, p, 1272.‬‬

‫‪210‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ففي سياق أخالقيات النقاش يشير هذا المفهــوم إلى ذلــك الضــرب من االحــترام المتبــادل‬
‫والذي يتعلق في ذات الوقت بالفرادة ‪ ))Singularité‬والمساواة بين كل االشخاص اآلخــرين‬
‫من حيث كونهم يحملون القدرة على المحاجة في نقاش ما‪ ،‬كما يؤكــد ذلــك هابرمــاس‪ ،‬بــل إن‬
‫الذين يحاولون تطوير النزعة الجماعانية(‪ )Communautarisme‬يستخدمون اليوم مقولــة‬
‫"االعتراف"ـ للداللة على أشكال التقدير الممنوحة ألنماط غريبــة في الحيــاة‪ ،‬وهــذا األمــر من‬
‫شأنه أن يضعنا أمام صعوبة ثانية وهي تغير معنى االعتراف بتغير نمط االستعمال والغرض‬
‫المقصــود‪ ،‬ممــا يفــترض أن القيم الدالليــة المختلفــة للفــظ "االعــتراف" ترتبــط في كــل مــرة‬
‫بمنظورات أخالقية خاصة‪ ،‬إن هذه التعددية في المعاني تطـرح مشـكل إمكانيـة إيجـاد مرجـع‬
‫مشترك لوجهات النظر المختلفة بحيث تصير قابلة للتبرير بصورة معيارية‪ ،‬وهــذا مــا يحيلنــا‬
‫على مشكلة التضمينات األخالقية لكل شكل من أشكال االعتراف*‪.‬‬

‫وبعد أن حدد هونيث االرهاصات األولى لظهــور مفهــوم "االعــتراف" وتطــوره عـبر‬
‫تاريخ الفكر الفلسفي إلى اآلن يعود إلى الحديث عن التأسيس الحقيقي لهذا المفهوم مع هيغل‪.‬‬

‫المفهوم الهيغلي لالعتراف‪ :‬إن التمييزات الدقيقــة الــتي قــام بهــا هيغــل الشــاب بشــأن مفهــوم‬
‫االعتراف تفتح مجــاال حقيقيــا لبلــوغ هــده اإلشــكالية في عمومهــا [‪ .†]...‬لقــد اســتوعب هيغــل‬
‫الشاب كل لحظات التفكير األساســية حــول مفهــوم االعــتراف كمــا تمثلهــا الفالســفة الســابقون‬
‫عليه‪ ،‬على غرار هوبس‪ ،‬وروسو‪ ،‬وفيخته‪ .‬ذلـك أن هـوبس‪ ،‬وبتـأثير من ميكيـافيللي‪ ،‬انطلـق‬
‫من المبدأ األنتربولوجي الذي ينص على أن األفــراد كــانوا واقعين أوال وقبــل كــل شــيئ تحت‬
‫سيطرة الحاجـة إلى امتالك أكـبر قـدر من "التقـدير" و"الشـرف"‪،‬ـ بينمـا دافـع "روسـو"‪ ،‬في‬
‫إطار عرضه النقدي للحضارة‪ ،‬عن فكرة كون االنســان في اللحظـة الـتي بـدأ يبحث فيهـا عن‬
‫التقدير االجتماعي بدأ بالموازاة يفقد الطمأنينة التي كانت تضمنها له الحياة الطبيعية‪ ،‬وأخيرا‪،‬‬
‫وفي معارضة جذرية لهذه السلبية‪ ،‬ذهب "فيختــه" في كتابــه "أصــل الحــق الطــبيعي" إلى أن‬

‫‪-Honneth Axeil, Reconnaissance, )in(Monique Canto-Sperber, Dictionnaire d’éthique et de‬‬


‫*‬

‫‪philosophie morale, Op.Cit p, 1273.‬‬


‫†‬
‫‪-Ibid, 1273.‬‬

‫‪211‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫األفــراد ال يمكنهم الحصــول على الــوعي بحــريتهم إالإذا تشــجعوا في اســتعمال اســتقالليتهم‬
‫الذاتية واعترفوا ببعضهم البعض بصورة تبادلية‪ ،‬ومن ثم اعتبروا أنفسهم مخلوقات حــرة‪ .‬إن‬
‫بالرغم من تناقض وتبــاين وجهــات النظــر هــذه إال أنهــا‪ ،‬في مجموعهــا‪ ،‬أثمــرت لــدى هيغــل‬
‫الشاب فكرة مفادها أن الوعي الذاتي لإلنسان يتوقف على تجربة االعتراف االجتماعية*‪.‬‬

‫لقد ركز هيغل على أشكال االعتراف انطالقا من مفهوم "الصــراع" أو "الكفــاح"‪ ،‬فعلى‬
‫مستوى العالقة بالذات (‪)Relation à soi‬أضاف هيغل على شكل االحترام األخالقي كمــا‬
‫تصوره كانط شكلين لالعتراف المتبادل‪ :‬من جهــة أولى االعــتراف في الحب‪ ،‬ويعــني هيغــل‬
‫بالحب أن األفراد يعترف بعضهم ببعض بتأثير الطبيعة الفريدة لحاجتهم‪ ،‬حيث يجــدون أمنهم‬
‫العاطفي في التعبير عن ميولهم الفطريـة‪ ،‬من جهـة ثانيـة يوجـد شـكل االعـتراف االجتمـاعي‬
‫بواسطة الدولة‪ ،‬حيث تتشكل الحلقة األخالقية الحقيقية‪ ،‬إن االنتقال بين مختلــف هــده األشــكال‬
‫هو الذي يسم االعتراف بالسمة الصراعيةـ أو الكفاحية حيث تسعى الذات في كل مرة إلى بناء‬
‫شكل جديد لالعتراف† ‪.‬‬

‫وبعــد أن أوضــح هــونيث مفهــوم هيغــل لالعــتراف ينتقــل إلى الحــديث عن البعــد‬
‫الفينومينولوجيـ لهذا المفهوم‪.‬‬

‫الحق ل الظ اهراتي لألخالقي‪ :‬لقــد صــار واضــحا اليــوم أن هنــاك عالقــة بين الجــرح أو األلم‬
‫األخالقي وبين طبيعة االعــتراف وذلــك على مســتوى العالقــة اإليجابيــة بالــذات والــتي أمكن‬
‫تحليلها فينومينولوجيا‪ ،‬حيث يمكن الوقوف على المبادئ التالية‪:‬‬

‫ا‪ /‬الكائنات التي ترتبط بحياتها الخاصة بصورة تفكرية هي الوحيدة الكائنات األخالقية‪،‬‬
‫ومن ثم هي التي تنشغل بكمال وجودها الشخصي‪ ،‬فإذا لم تتخذ كمرجــع لهــا المعــايير الكيفيــة‬
‫لحياتهـــــا الخاصـــــة لمـــــا أمكن القـــــول أن هـــــذه الـــــذوات تعـــــاني ألمـــــا أخالقيـــــا‪.‬‬
‫ب‪ /‬هـذه الذوات المعنيـــة بكمـــال وجـــودها الشخصــي بحاجــة إلى ذوات أخــرى تمكنهــا مـــن‬
‫*‬
‫‪-Ibid, p, 1273.‬‬

‫‪-Honneth Axeil, Reconnaissance, (in )Monique Canto-Sperber, Dictionnaire d’éthique et de‬‬


‫†‬

‫‪philosophie morale, Op.Cit p, 1273.‬‬

‫‪212‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫االرتبــاط اإليجــابي بالــذات حيث يمكن تقــييم موضــوع األلم األخالقي‪ ،‬ومن ثم اإلحالــة إلى‬
‫الشروط البين ذاتية‪.‬‬

‫ج‪/‬عالقة األلم األخالقي بهوية الذات‪ :‬فالهوية الذاتيـة تتعرض إلى ضرب مـــن االنشـــقاق في‬
‫الشخصية جراء عدم االعتراف‪ ،‬من قبل الذوات األخرى بالمفترض القبلي لقدرة الفــرد على‬
‫التصرف*‪.‬‬

‫إذا كــانت هــذه المبــادئ تفســر إجمــاال العالقــة بين األلم األخالقي وبين إنكــار أو ســحب‬
‫االعتراف‪ ،‬فإن إجــراء التــبرير الســلبي الــذي تبنينــاه يســمح من هنــا فصــاعدا بالقيــام بخطــوة‬
‫إضـــافية في المحاججـــة‪ :‬إذ في هـــذا اإلطـــار يمكننـــا تميـــيز أشـــكال مختلفـــة لالعدالـــة (‬
‫‪ ،)L’injustice‬حيث الشكل األكثر اقترابا هو الشكل الخاص بالتجربة الفردية‪ ،‬ذلــك أن كــل‬
‫مستوى من العالقة العملية بالذات عينها تتناسب مع ضـرب معين من الالعدالـة حيث يتشـكل‬
‫جرح نفساني‪ ،‬وعلى هذا من الضروريـ االستعانة بعلم النفس لتحديد المعايير األخالقية الــتي‬
‫تحكم عالقــة الــذات بــذاتها منــذ الطفولــة‪ ،‬وباختصــار صــار هنــاك اتفــاق على وجــود ثالثــة‬
‫مستويات للعالقة العملية للذات نحو ذاتها‪ ،‬ونقصد بهذه العالقة الوعي الــذي يمتلكــه الشــخص‬
‫بذاته فيما يتعلق بالملكات والحقوق التي تعود إليـه‪ ،‬بإمكاننــا اإلشـارة إلى المسـتوى األول من‬
‫العالقة بالذات بما يعــرف عــادة "بالثقــة في النفس"‪ ،‬فهــو ضــرب من اليقين األولي المؤســس‬
‫على قيمة الضرورات الخاصة بالذات‪ ،‬وفي المستوى الثاني هناك الوعي بكــوني ذاتــا قــادرة‬
‫على التمييز االخالقي‪ ،‬وهنا تظهر اإلحالـة على الـتراث الكــانطي القــائم على فكــرة "احــترام‬
‫الذات" وهو ضـرب اليقين المؤسـس على قيمــة ملكـة الحكم الخاصـة بالـذات‪ ،‬وأخـيرا هنـاك‬
‫مستوى من العالقة بالذات الذي يمكن قبوله بإجماع وهو ما يظهر في الوعي بامتالك قــدرات‬
‫أو ملكات خيّرة أو ثمينة‪ ،‬وهو ما يمكن التعبير عنه بمفهوم "الشعور بالقيمة الذاتية"†‪.‬‬

‫‪-Ibid, p, 1274.‬‬
‫*‬

‫‪-Honneth Axeil, Reconnaissance, (in) Monique Canto-Sperber, Dictionnaire d’éthique et de‬‬


‫†‬

‫‪philosophie morale, Op.Cit, p, 1274.‬‬

‫‪213‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫واضح إذن أن في كل مستوى من هذه المستويات الخاصــة بضــروب الالعدالـة تتناسـب‬


‫حالة أو ضرب من ضروب االحتقار أو االعتراف [‪.‡]...‬‬

‫يمكن إذن‪ ،‬بنــاء على مــا ســبق‪ ،‬تشــييد أخالق االعــتراف على أســاس بنيــة هــذه العالقــة‬
‫العملية التي تحدثها الــذات نحــو ذاتهــا (‪ )Relation pratique à soi‬حيث تصـير الهويـة‬
‫الذاتية مدينـة في وجودهـا األخالقي إلى بنيـة هـذه العالقـة ذاتهـا‪ ،‬ومنـه يمكن تصـور مفهـوم‬
‫إيجابي لألخالق‪ ،‬أي ما صار يدعى بوجهة النظر األخالقيــة‪ ‬حيث نعــني بهــا شــبكة المواقــف‬
‫التي نتبناها لحماية المخلوقات اإلنسانية من مخاطر األلم األخالقي†‪.‬‬

‫وبعد تحديد المفهوم الفينومينولوجيـ لالعتراف ينتقـل هــونيث إلى تحديـد هــذا المفهـوم‬
‫حسب وجهة نظره الفلسفية األخالقية الجديدة‪.‬‬

‫"أخالق" لالعتراف‪ :‬يـرى هـونيث أنـه من خالل هــذا الملخص الســريع يتضــح أن النظريـة‬
‫األخالقية المعروضة هنا تنتهي إلى فكرة مختلفة عن جميع التصورات التقليدية بخاصة حول‬
‫نقطة أساسية وهي‪ :‬أنه ال يوجد بين كل أنماط االعــتراف الــتي تشــكل في مجموعهــا "وجهــة‬
‫النظر األخالقية" أية عالقة انسجام‪ ،‬بل بالعكس هناك عالقة توتر دائم [‪ ]...‬إنه ال يمكن بــأي‬
‫حال من األحوال أن نحدد بصورة مسبقة أي شــكل من أشــكال االعــتراف الســابقة تكــون هي‬
‫األفضــل بالقيــاس إلى وضــعية مــا‪ ،‬وذلــك حين تبث جميعهــا و في نفس الــوقت مــزاعم غــير‬
‫متوافقة‪ ،‬وفي هذه الحالة فإن المجال األخالقي كله موسوم بالتوتر الذي ال يمكن أن يــزول إال‬
‫بالقياس إلى مبدأ المسؤولية الفردية حيث يتوجب علينا‪ ،‬في حالة الصراع بين هــذه األشــكال‪،‬‬
‫اختيار معايير أخرى من أجل تحديد نوع العالقــة الــذي يكتســي طــابع األولويــة‪ ،‬وال شــك أن‬
‫المعيار الكوني المرتبط بشكل االعتراف المتمثل في االحترام يضع هنــا حــدا معياريــا لجميــع‬
‫قراراتنا‪ ،‬فنظرا ألننا مطالبون باالعتراف بأن كل المخلوقــات اإلنســانية باعتبــارهم أشخاصــا‬
‫يتمتعون بنفس الحــق في االســتقاللية‪ ،‬فإننــا ال نســتطيع‪ ،‬وألســباب أخالقيــة‪ ،‬أن نحســم األمــر‬

‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 1274.‬‬

‫†‬
‫‪-Honneth Axeil, Reconnaissance, (in)Monique Canto-Sperber, Dictionnaire d’éthique et de‬‬
‫‪philosophie morale, Op.Cit, p, 1274.‬‬

‫‪214‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫لصــالح العالقــات االجتماعيــة في الــوقت الــذي يتطلب تفعيــل هــذه العالقــات خــرق المــزاعم‬
‫الخاصة بهذا االعتراف*‪.‬‬

‫إن هــذه اإلشــارة األخــيرة تفصــح عن أن أخالق االعــتراف ذاتهــا تتبــع‪ ،‬في جانبهــا‬
‫األساســي‪ ،‬المالمح المهيمنــة في الــتراث الكــانطي للفلســفة األخالقيــة حيث تعطى األولويــة‬
‫المطلقة‪ ،‬في حالة الصراع‪ ،‬دائمــا إلى مبــدأ االحــترام المتســاوي لالســتقاللية الفرديــة بالنســبة‬
‫لجميع األشخاص‪ ،‬غير أن الوصف الذي نقدمه هنــا لبنيــة صــراع من هــذا النــوع يتمــيز عن‬
‫مقدمات الطرح األخالقي الكانطي‪ ،‬إذ بصورة عامة ليس الواجبات األخالقية فقط‪ ،‬ولكن كــل‬
‫اإللزامات‪ ،‬على تنوعها‪ ،‬تمتلك طابعا أخالقيــا من حيث أنهــا تعــبر في مجموعهــا عن عالقــة‬
‫اعتراف أخرى تنحدر من تراث إيتيقي مغاير على غرار إيتيقا اللطف أو أخالقيات الطيــــــبة‬
‫(‪)Ethique de la bienveillance‬والمقاربـــات الخاصـــة بالنزعـــة الجماعانيـــة (‬
‫‪ )Communautariennes‬والتي من حقها أن تطالب بمكانها بجانب التراث الكــانطي‪ ،‬ففي‬
‫كل واحدة من هذه التراثــات يتم التعبــير عن واحــد من المواقــف األخالقيــة الــتي تتناســب مــع‬
‫األشكال الثالثة لالعتراف والتي بواسطتها نحمي مع بعض كمالنا الشخصي†‪.‬‬

‫واضح إذا على ضوء مـا ســبق‪ ،‬أن هــونيث اســتوحى مفهــوم "االعــتراف"ـ من فلســفة‬
‫هيغل الذي يعتبره المؤسس الحقيقي لهذا المفهوم فلسفيا‪ ،‬وذلك ألن « هيغل هو أول فيلســوف‬
‫حاول دراسة العالقات االجتماعية بوصفها عالقات بين ذوات تبحث عن االعتراف المتبادل‪،‬‬
‫وهذا على النقيض من التقليد الفلسفي الغربي الــذي كــان ســائدا في الحقــل السياســي والمجــال‬
‫األخالقي‪ ،‬وخاصة لدى ميكيافيلي وهوبس‪ ،‬وهو تقليد قــام على فكــرة الصــراع والحــرب بين‬
‫البشر »‡‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أن مفهوم االعتراف عند هونيث هو اســتمرار وامتــداد لمفهومــه‬
‫عند هيغل بل هناك مسافة فلسفية تفصل بين الطــرفين‪ « :‬اســتند هــونيث على هيغــل لتأســيس‬
‫نظرية االعــتراف ولكن من دون االنخــراط في الطــابع النســقي للفلســفة الهيغيليــة والمقــوالت‬
‫*‬
‫‪-Ibid, p, 1277.‬‬

‫‪-Honneth Axeil, Reconnaissance, (in)Monique Canto-Sperber, Dictionnaire d’éthique et de‬‬


‫†‬

‫‪philosophie morale, Op.Cit, p, 1277.‬‬


‫‡‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسيل هونيث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.105 ،‬‬

‫‪215‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫الميتافيزيقية واألنطولوجيــة الــتي أطــرت هــذه الفلســفة كمفهــوم الــروح المطلــق وغيرهــا من‬
‫المفاهيم »*‪ ،‬أي أن هونيث استند على هيغل ال ليكـرره بـل ليتجـاوزه من خالل قيامـه بإعـادة‬
‫النظــر في هــذا المفهــوم ومراجعتــه بغــرض تحيينــه بمــا يتماشــى مــع الظــروف االجتماعيــة‬
‫والسياسية والثقافية الراهنة‪.‬‬

‫هذه معاني االعتراف ودالالته وأبعاده (الفينومينولوجيــة واألخالقيــة)‪ ،‬فمـاهي أشــكاله‬


‫وشروط وعوائق تطبيقاته في الحياة االجتماعية والسياسية حسب هونيث؟‪ ،‬أو بعبارة أخــرى‪:‬‬
‫ماهي أهم المحطات الفكرية في المشروع الفلسفي الجديد ألكسيل هونيث؟‬

‫ارتأينا أن ننطلق في تحليل أهم المحطات الفكرية في مشروع هونيث الفلســفي الجديــد‬
‫من مقولته الهامة التاليــة‪« :‬إن الع الم المع اش األولي الخ اص ب الوجود اإلنس اني ه و ع الم‬
‫االعتراف ال التفاهم‪ ،‬واألولوية لالعتراف ال للتف اهم‪ ،‬وه و أم ر يمكن إثبات ه بك ل س هولة‪،‬‬
‫وذلك ألن االعتراف العاطفي يسبق دوما ‪ -‬من الناحية التكوينية ‪ -‬عملي ة اكتس اب اللغة»†‪،‬‬
‫وذلك ألن هـذه المقولـة تعتـبر إعالنـا صـريحا من طـرف هـونيث على انتهـاء حقبـة سـيطرة‬
‫"فلسفة التواصل" في مدرسة فرانكفورت وميالد فلسفة جديدة عنوانها "فلسفة االعتراف"‪.‬‬

‫بــدأ أكســيل هــونيث تأســيس المشــروع الفلســفي الجديــد ابتــداء من ســنة ‪ 1992‬تــاريخ‬
‫صـــدور عملـــه األساســـي "الصـــراعـ من أجـــل االعـــتراف" (‪La lutte pour la‬‬
‫‪ ،)reconnissance‬ثم تعمق هذا المشروع وترسخ في األوســاط الفلســفية حين صــدر عملــه‬
‫الهام اآلخر "مجتمع اإلزدراء‪ :‬نحو نظرية نقدية جديدة" ( ‪ )La sociéte du mépris‬سنة‬
‫‪ ،2002‬وأخيرا عمله "التشيؤ" ‪ ،))La Réification‬وسنركز في هذا المقام على تحليل أهم‬
‫األفكار الواردة حول "االعتراف"ـ في هذه األعمال األساسية الثالث التي توفرت لدينا‪.‬‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫† ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.90 ،‬‬

‫‪:‬وانظر أيضا‪Honneth Axel, La société du mépris: Vers une nouvelle Théorie critique, Op.Cit, p, 174.‬‬

‫‪216‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫في عمله الهام "الصراع من أجل االعتراف" تحــدث هــونيث عن الكثــير من القضــايا‬
‫الفلسفية والنفسية واالجتماعية المرتبطة بإشكالية "االعتراف"ـ منطلقـا في ذلـك من المرجعيـة‬
‫الهيغيلية ومستندا على األبحاث االجتماعية والنفسية لعدد من العلماء في هــذا المجــال خاصــة‬
‫على أبحاث عالم النفس االجتماعي األمريكي جورج هربرت ميد والعالم النفساني االنجليزي‬
‫دونالد وينيكوث*)‪. Donald Winicotte( 1896-1971‬‬

‫وقد توصل من خالل ذلك إلى تحديد ثالثة أشكال معيارية لالعتراف « الحب‪ -‬الحــق‪-‬‬
‫التضامن‪ ،‬متناسبة مع ثالثة مستويات من تحقيق الذات هي الثقة في الــذات‪ ،‬واحــترام الــذات‪،‬‬
‫وتقدير الذات »*‪ ،‬تقابلها ثالثة أشكال لإلزدراء « العنف واإلهانات الجســدية‪ -‬حرمـان المــرء‬
‫من حقوقه االجتماعية‪ -‬االحتقار االجتماعي للفرد »†‪.‬‬

‫وفي هذا اإلطار قام هونيث بتحليل األشكال الثالثة لالعتراف‪:‬‬

‫‪-1‬الحب (‪ « :)L’ amour‬وهو مجموعة العالقات األولية العاطفية واألسرية والصداقة التي‬


‫تربط بين الناس‪ ،‬وهــذا المفهــوم يتفــق مــع المفهــوم الهيغيلي الــذي يعطي للحب معــنى أوســع‬
‫يتجاوز مجال العالقة بين زوجين (رجــل وامــرأة) [‪ ]...‬حيث يعتــبر هيغــل أن عالقــة الطفــل‬
‫بأمــه هي أولى مســتويات االعــتراف المتبــادل (‪ ]...[ )Reconnaissance mutuelle‬ثم‬
‫يتسع فضاء عالقات الطفل االجتماعية لتشمل أفرادا آخرين »‡‪.‬‬

‫وحاول هونيث إثبات صحة هــذا المفهــوم وهــذا الشــكل من أشــكال االعــتراف مســتندا‬
‫على الدراسات النفسية التي قام بها الباحث النفساني االنجليزي وينيكوث في دراســته للعالقــة‬
‫التي تربط بين األم وابنها§‪.‬‬

‫**‪ -‬دونال د وي نيكوث‪ ،‬ع الم نفس اني انجل يزي‪ ،‬من أش هر أعمال ه‪" :‬اللعب والحقيق ة‪ :‬الفض اء الممكن"‪" ،‬الق درة على أن تك ون‬
‫وحدك"‪ ،‬و"الطفل واألسرة‪ :‬العالقات األولى"‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫‪-Honneth Axel, La lutte pour la reconnaissance, traduit de l’allemand par Pierre Rusch, les éditions‬‬
‫‪du cerf, Paris, 2010, p, [112-158].‬‬
‫†‬
‫]‪- Ibid, p, [162-170‬‬
‫‡‬
‫‪-Ibid, p, 117.‬‬

‫§‬
‫‪- Ibid, p, [120-129].‬‬

‫‪217‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫‪-2‬الحق (‪ )Le droit‬أو االعتراف القانوني ( ‪ « :)Reconnaissance juridique‬هو الذي‬


‫يضمن حرية األفراد واستقاللهم الذاتي في إطار االعتراف المتبادل الذي يقتضــي المســؤولية‬
‫األخالقية من طرف كل أفراد المجتمع »†‪.‬‬

‫وهنا أيضا حاول هونيث إثبات صحة هذا المفهوم وهذا الشــكل من االعــتراف مســتندا‬
‫في ذلك إلى األبحاث التي قام بها خاصة عالم النفس االجتماعي األمريكي ج‪ .‬هربرت ميد‡‪.‬‬

‫‪-3‬التضامن (‪ « :)La solidarité‬إلى جانب الحب‪ ،‬والحق‪ ،‬أضاف هيغل وميــد شــكال ثالثــا‬
‫لالعتراف المتبادل‪ ،‬يتمثل في العالقــات االجتماعيــة الــتي يضــمنها (التضــامن)‪،‬ـ يختلــف عن‬
‫الشكلين السابقين ويكملهمــا‪ ،‬وهــو أوســع من االعــتراف القــانوني‪ ،‬فاإلنســان ليس مقيــدا فقــط‬
‫بالقانون بل أن الحياة االجتماعية تفرض عليه واجبات اتجاه أفراد مجتمعــه‪ ،‬وقــد حــدد هيغــل‬
‫هذا الشكل من االعتراف بمفهوم الحياة األخالقية "‪ ،"vie éthique‬أما ميد فإنه نظر إليه من‬
‫زاوية أخرى‪ ،‬فهو لم يدرجــه في اإلطــار الشــكلي المحض‪ ،‬بــل أضــفى عليــه طابعــا مؤسســيا‬
‫يدخل في إطار التقسيم التعاوني للعمل »§‪.‬‬

‫هذه إذن‪ ،‬هي األشكال المعيارية "األخالقية" الثالثة لالعتراف التي حددها هونيث في‬
‫مؤلفه الهــام "الصــراع من أجــل االعــتراف"‪ ،‬فمــاهي العوائــق الــتي تحــول دون تحقيــق هــذا‬
‫االعتراف كليا أو جزئيا في الواقع اإلنساني حسب هونيث؟‬

‫يرى هونيث أنه مقابل كل شكل من أشـكال االعــتراف الســابقة الــذكر يوجــد شـكل من‬
‫أشكال اإلزدراء يحول دون تحقيق هذا االعتراف‪ ،‬وقد لخص هونيث هذه العالقــة في جــدول‬
‫(خطاطة) بعنوان "نظام عالقات االعتراف االجتماعي" يمكننا التعبــير عنهــا كمــا يلي‪ « :‬إن‬
‫العالقات العاطفية تحقق الشكل األول لالعتراف الذي يتمثل في الحب من خالل منحها للفــرد‬
‫الثقــة بــالنفس (‪ )Confiance en soi‬وشــكل اإلزدراء الــذي يقابلهــا هــو العنــف واإلهانــة‬

‫†‬
‫‪- Honneth Axel, La lutte pour la reconnaissance, Op.Cit, p, 139.‬‬

‫‡‬
‫‪- Ibid, [133-147].‬‬

‫§‬
‫‪-Ibid, p, 147.‬‬

‫‪218‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫الجسدية (‪ ،)Violence et intégrité physique‬بينما العالقــات القانونيــة تحقــق الشــكل‬


‫الثاني لالعتراف الذي يتمثل في الحق من خالل منحها للفــرد احــترام الــذات (‪Respect de‬‬
‫‪ )soi‬وشــكل اإلزدراء الــذي يقابلهــا هــو الحرمــان من الحقــوق والتهميش ( ‪Privation de‬‬
‫‪ ،)droits et exclusion‬في حين أن العالقات االجتماعية تحقق الشكل الثــالث لالعــتراف‬
‫الذي يتمثــل في التضــامن من خالل منحهــا الفــرد تقــدير الــذات (‪ )Estime de soi‬وشــكل‬
‫اإلزدراء الذي يقابلها هو اإلذالل واإلهانة االجتماعية (‪.*» )Humiliation et offense‬‬

‫ثم قام هونيث بتحليل األشكال الثالثة لإلزدراء†‪:‬‬

‫العنف واإلهانة الجسدية‪ :‬وتتمثل في « أشكال سوء المعاملة التي يحرم فيها المرء من‬ ‫‪-1‬‬
‫التصرف الحر في جسده تمثل المسـتوى األول للــذل الــذي قـد يعانيــه المـرء فمحاولــة‬
‫السيطرة على جســد شــخص مــا [‪ ]...‬عن طريــق اإلكــراه تمثــل إهانــة لهــذا الشــخص‬
‫ومساسا بكرامته [‪ ]...‬وهو األمر الذي يقوض عالقته العمليــة بذاتــه »‡‪ ،‬ومعــنى ذلــك‬
‫أن العنف الجسدي ال يهدد فقــط سـالمة الجسـم بــل يلحـق بــالمرء جرحـا نفسـيا عميقــا‬
‫يصبح عائقا أمام اإلندماج االجتماعي‪.‬‬

‫الحرمان من الحقوق والتهميش‪:‬ـ « ويتعلق األمر هنا بنمــط اإلزدراء الــتي تكــون فيهــا‬ ‫‪-2‬‬
‫الذات ضحية‪ ،‬وهذا عندما تجد نفسها [‪ ]...‬محرومة من بعض الحقوق داخل المجتمــع‬
‫الذي تنتمي إليـه »§‪ ،‬والـتي يـترتب عليهـا حسـب هـونيث « عنـدما يـدرك المـرء أنـه‬
‫محروم من حاجاته ومطالبه القانونيــة المقبولــة اجتماعيــا ينتابــه شــعور باإلهانــة [‪]...‬‬
‫وفي هذا الصدد تكون تجربــة الحرمــان غــير منفصــلة عن فقــدان احــترام الــذات »**‪،‬‬

‫*‬
‫شرح"بتصرف" لما ورد في هذه الخطاطة ‪- Honneth Axel, La lutte pour la reconnaissance, Op.Cit, p, 159.‬‬
‫(المذكورة سابقا)‬
‫†‬
‫‪- Ibid, p,[160-170].‬‬

‫‡‪ -‬هونيث أكسيل‪ ،‬ثالثة أشكال معياري ة لالع تراف‪ ،‬نص وص مترجم ة‪( ،‬في) بومن ير كم ال‪ ،‬النظري ة النقدي ة لمدرس ة فرانكف ورت‪،‬‬
‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.156 ،155 ،‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.157 ،‬‬

‫‪219‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ومعنى ذلك أن التهميش االجتماعي يلحق بالمرء أيضا جرحا وألما نفسيا عميقا يجعله‬
‫يفقد احترام ذاته‪.‬‬

‫اإلذالل واإلهانة االجتماعية‪ « :‬وتتمثل في نمط آخر من اإلهانة التي قــد يتعــرض لهــا‬ ‫‪-3‬‬
‫المرء‪ ،‬والمتمثلة في ما يسمى بالحكم السلبي على القيمة االجتماعية لبعض األفــراد أو‬
‫الجماعات »*‪ ،‬والتي يترتب عليها في نظر هونيث المســاس بالشــرف والكرامــة الــتي‬
‫تعبر عن "التقدير االجتماعي للمرء" وتــؤدي إلى "اهــتزاز مكانــة الشــخص ووضــعه‬
‫االجتماعي"‪ ،‬فيلحق المرء من جراء ذلك جرحا وألما مزدوجــا (نفســيا واجتماعيــا في‬
‫آن واحد)‪.‬‬

‫ويرى هونيث أنه إذا تحقق االعتراف المتبادل بين األفراد والمجموعات نالت الذات‬
‫التقدير على ثالث مستويات هي‪:‬‬

‫الثقة بالذات‪ « :‬شعور الفرد بمكانته وقيمته االجتماعية تجعله يثق في نفسه ويحقق‬ ‫‪-1‬‬
‫†‬
‫حاجاته العاطفية والمادية »‬

‫احترام الذات‪ « :‬من خالل االعتراف المتبادل يحقق األفراد حقوقهم المدنية والسياسية‬ ‫‪-2‬‬
‫واألخالقية المشروعة [‪ ]...‬وهذا ما يجعلهم مؤهلين لتقاسم أدوار الفاعلين األخالقيين‬
‫المسؤولين عن أفعالهم »‡‪.‬‬

‫تقدير الذات‪ «:‬إن األفراد ال يمكن أن يكتفوا بالتجارب العاطفية وباالعتراف القــانوني‬ ‫‪-3‬‬
‫وإنما هم في حاجة أيضا إلى تحقيق ما يسمى بالتقدير االجتماعي الــذي يســمح بــإبراز‬
‫قدراتهم وإمكاناتهم المتعددة »§‪.‬‬

‫**‪ -‬هونيث أكسيل‪ ،‬ثالثة أشكال معيارية لالعتراف‪ ،‬نصوص مترجمة‪( ،‬في) بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت‪،‬‬
‫مرجع سابق‪.157،‬‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها‪.‬‬

‫† ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسيل هونيث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.126 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.126 ،‬‬

‫‪220‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫هذه هي إذن‪ ،‬أشكال االعتراف ومستويات تحقيق الذات ومايقابلها من أشكال االحتقار‬
‫عند أكسيل هونيث‪ ،‬فماذا عن ظاهرة التشيؤ التي اكتسحت العالقات اإلنسانية؟‪.‬‬

‫في عمله التشيؤ (‪ )La Réification‬ناقش أكسيل هونيث أطروحة جورج لوكاتش *‬
‫‪ Gearg Lukàcs‬المتعلقة بالتقنية التي ميزت هذا العصــر كقــوة اســتالب واغــتراب حـ ّولت‬
‫اإلنســان إلى شــيئ « يعــني التشــيؤ تحــول العالقــات اإلنســانية في ظــل النظــام االقتصــادي‬
‫الليبراليـ إلى اشياء جامدة وخاضعة لمنطق التبادل التجاري [‪ ]...‬تحول فيهـا البشـر إلى سـلع‬
‫وبضائع يخضعون لقوى خارجة عن إرادتهم »*‪ ،‬وكان هدف هونيث من هذا العمل « تجاوز‬
‫التفسير األحادي الذي قدمه لوكاتش لمفهوم التشيؤ »†‪ ،‬وذلــك ألن « لوكــاتش ربــط بين تعميم‬
‫النموذج االقتصادي الليبراليـ ونشأة ظاهرة التشيؤ على المستوى االجتماعي »‡‪.‬‬

‫وفي هذا الصدد قام هونيث بمراجعة لهذه األطروحــة باحثــا عن األبعــاد األنطولوجيــة‬
‫واالجتماعيــة واألخالقيــة للتشــيؤ وصــل من خاللهــا إلى تحديــد ثالثــة أشــكال للتشــيؤ هي‪:‬‬
‫« التشيؤ الذاتي "العالقـة مـع الــذات"‪ ،‬والتشـيؤ الموضــوعي "العالقــة مــع العـالم"‪ ،‬والتشــيؤ‬
‫التذاواتي "العالقة مع الغير"»§‪.‬‬

‫وبدأ هونيث عمله هذا بعرض مفهوم التشيؤ عند لوكاتش من أجــل مناقشــته‪ ،‬وفي هــذا‬
‫اإلطــار يــرى هــونيث أن المفهــوم الــذي قدمــه لوكــاتش للتشــيؤ في كتابــه "التــاريخ والــوعي‬
‫الطبقي"‪:‬ـ « التشيؤ ال يعني شيئا آخر سوى تلــك العالقــة القائمــة بين األشــخاص والــتي تتخــذ‬
‫طابعا شيئيا »**‪ ،‬هو مفهــوم ركــز على البعـد األنطولـوجي للتشــيؤ وأهمــل األبعــاد األخـرى‪،‬‬
‫§ ‪ -‬بومنير كمال‪ ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسيل هونيث‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪،126 ،‬‬
‫‪.127‬‬

‫*‪ -‬جورج لوكاتش (‪ ،)1971-1885‬فيلسوف وسياسي مجري ماركسي من أصول يهودية‪.‬‬

‫* ‪ -‬هونيث أكسيل‪ ،‬التشيؤ‪ :‬دراسة في نظرية االعتراف‪ ،‬ترجمة كمال بومنير ‪ ،‬مؤسسة كنوز الحكمة‪ ،‬ط‪ ،1‬الجزائر‪ ،2012 ،‬ص‪20 ،‬‬
‫(من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫† ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها (من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫‡ ‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة ذاتها (من مقدمة المترجم)‪.‬‬


‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪( 21 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫**‪ -‬هونيث أكسيل‪ ،‬التشيؤ‪ :‬دراسة في نظرية االعتراف‪ ،‬ترجمة كمال بومنير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.31 ،‬‬

‫‪221‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫استلهمه لوكاتش من كارل ماركس )‪ ،Karl Marx (1818-1883‬ومن المعلوم أن ماركس‬


‫في نقده للنظام الرأسمالي ركز على مفهوم االغتراب واالستالب‪.‬‬

‫ثم ينتقل هونيث إلى نقــد ومناقشــة هــذا المفهــوم من كــل جوانبــه المعرفيــة واألخالقيــة‬
‫واالجتماعيــة مبينــا غرضــه من ذلــك‪ « :‬غرضــي هنــا يتمثــل في إعــادة صــياغة المفهــوم‬
‫اللوكاتشي للتشيؤ‪ -‬ضمن نظرية الفعل ‪ -‬قصد استخالص منظور جديد بقيت فيه هذه المســائل‬
‫إلى حد اآلن من دون حلـول‪ ،‬وهـذا حـتى تفقـد ذلـك الطـابع المأسـاوي‪ ،‬ولتحـل محلهـا أفكـار‬
‫واضحة‪ ،‬ولكن ضمن نظام آخر »*‪.‬‬

‫وقد استند هونيث في تحليله النقدي لمفهوم التشيؤ إلى مــوقفي كــل من هيــدغر وجــون‬
‫ديوي )‪ John Dewey(1859-1952‬من مشكلة تأثير التقنيــة على الحيـاة اإلنســانية‪ ،‬ومن‬
‫المعلوم هنا أن هيدغر بحث مشكلة التقنية التي ميزت هذا العصر خاصــة في كتابــه "الوجــود‬
‫والزمان" الذي صدر سنة ‪ ،1927‬والذي رأى فيه أن التطور العلمي والتقني ح ّول العــالم إلى‬
‫حساب وبرامج قابلة للتنبؤ‪ ،‬وهنا يرى هونيث أن هناك « تقارب فكري بين لوكاتش وهيــدغر‬
‫[‪ ]...‬ولكي نســتطيع أن نؤكــد ذلــك يجب أن نشــير إلى أن غــرض لوكــاتش لم يكن في حقيقــة‬
‫األمــر مجــرد نقــد للنتــائج "المشــيئة" الــتي مــيزت الشــكل االقتصــادي المتمثــل في النظــام‬
‫الرأسمالي‪ ،‬وإنما كان غرضه أيضا أن يــبين كيــف أصــبح محكومــا على الفلســفة الحديثــة أن‬
‫تصــطدم بنقــائض يتعــذر حلهــا ألنهــا بقيت ســجينة لــذلك التقابــل القــائم بين مفهــومي الــذات‬
‫والموضوعـ [‪ ]...‬كما أن منطلق هيدغر كان بدوره قائمــا على نقــد الفلســفة الحديثــة من خالل‬
‫تتبع مسار ارتباطها بثنائية الذات والموضوعـ »†‪ ،‬كما الحظ هونيث وجود تقارب فكري آخر‬
‫بين لوكاتش وديوي‪ ،‬وقال في هذا الصدد‪ « :‬على غرار لوكاتش وهيدغر شك ديوي إلى أبعد‬
‫حد في التصور التقليدي الذي قام على اعتقاد مفاده القول بأن عالقتنــا األساســية بالعــالم يجب‬
‫أن تكون ضمن مواجهة محايدة مع الموضوع القابل للمعرفة [‪ ]...‬فهو يتفــق في الجــوهر مــع‬
‫لوكــاتش وهيــدغر فيمــا يخص أهميــة أو مكانــة نمــوذج الــذات‪-‬الموضــوع [‪ ]...‬وهكــذا فــإن‬

‫*‪-‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.39 ،‬‬


‫† ‪ -‬هونيث أكسيل‪ ،‬التشيؤ‪ :‬دراسة في نظرية االعتراف‪ ،‬ترجمة كمال بومنير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.40 ،‬‬

‫‪222‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫الطريقة التي سوغ بها ديوي نقده تبدو أكثر وضوحا وصراحة من طريقــة لوكــاتش وهيــدغر‬
‫فيما يتعلق بنقد الحضارة الحديثة »*‪.‬‬

‫ثم تحدث هونيث في عمله هــذا عن « أســبقية االعــتراف على المعرفــة »† موظفــا في‬
‫ذلك « األبحاث السوسيولوجية والسيكولوجية الميدانية لكل من جان بياجيه وجورج هربــرت‬
‫ميد وسيجموند فرويد )‪ S.Freud (1856-1939‬وغيرهم »‡‪.‬‬

‫وبعد أن أثبت هـونيث "األطروحـة القائلـة بـأن السـلوك االجتمـاعي لإلنسـان يتضـمن‬
‫أسبقية تكوينية ومقوالتية لالعتراف على المعرفة" انتقــل إلى تحليــل فكــرة "التش يؤ كنس يان‬
‫لالعتراف" التي تمثل صلب موضوع عملــه هــذا وغايتــه منطلقــا في ذلــك من ســؤال أساســي‬
‫مفاده‪« :‬كيف يمكننا اليوم إعادة صياغة مفهـوم التشــيؤ مـع األخــذ بعين االعتبـار "الحـدوس"ـ‬
‫األصلية التي توصل إليها لوكاتش؟ »§‪ ،‬وبعد تحليـل معمـق لهـذه الفكــرة وصـل إلى الجــواب‬
‫عن هذا السؤال والقول‪ « :‬إن تشيؤ اإلنسان معناه ضياع أو انكار االعتراف الذي يكون سابقا‬
‫عنه »**‪.‬‬

‫ثم قام هونيث بتحليل مختلف أنواع التشيؤ "الذاتي‪ ،‬الموضوعي‪،‬ـ البنذواتي" متجــاوزا‬
‫في ذلك أطروحة لوكاتش متوصال في األخير إلى القول‪ « :‬إن محاولتي إعادة صياغة التشيؤ‬
‫الذي أخذته من لوكاتش ‪ -‬ولكن من منظور االعــتراف ‪ ]...[ -‬وقــد بلــورت مــوقفي هــذا وأنــا‬
‫أشعر بنوع من القلق حينما أدرك بأن مجتمعاتنا الحالية أصــبحت تتجــه نحــو مــا كــان يتوقعــه‬
‫لوكاتش‪ ،‬ولكن المالحظ أن هذا األخير قد اعتمد في ذلك ‪ -‬وهذا منذ ثمانين ســنة مــرت ‪-‬على‬
‫وسائل لم تعد اليوم كافية »††‪.‬‬

‫*‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ،‬ص‪.49 ،48 ،‬‬

‫†‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.53 ،‬‬

‫‡‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪( 21 ،‬من مقدمة المترجم)‪.‬‬

‫§‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.66 ،‬‬

‫**‪ -‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.78 ،‬‬

‫††‪ -‬هونيث أكسيل‪ ،‬التشيؤ‪ :‬دراسة في نظرية االعتراف‪ ،‬ترجمة كمال بومنير‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.103 ،‬‬

‫‪223‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫وخالصة القول في هذه المشكلة أن تشيؤ اإلنسان ‪ -‬وبإجمـاع غالبيـة الفالسـفة ‪ -‬سـببه‬
‫السيطرة التي فرضها العلم وإفرازاته التقنية على الحياة اإلنســانية‪ ،‬وأنــه كلمــا ازداد اإلنســان‬
‫تطورا على الصعيد العلمي والتقني ازداد تشيئا واغترابا واستالبا‪ ،‬والحل لهــذه المشــكلة كمــا‬
‫يرى هونيث هو تجسيد وتطبيق أفكار "فلسفة االعتراف" في كل مجاالت الحياة اإلنسانية‪.‬‬

‫وعلى ضوء ما سبق يمكن القول أن أكسيل هونيث استطاع أن يتجاوز نظريــة التواصــل‬
‫عند هابرماس وآبل‪ ،‬فإذا كان محور الخالف بين هابرماس وآبل هو التأسيس النهــائي‪ ،‬حيث‬
‫دافع آبل طوال مساره الفلسفي على تأســيس مرجعيــة معياريــة مشــتركة (كونيــة) لألخالقيــة‪،‬‬
‫بينما رفض هابرماس ذلك واعتمد على مرجعيات العــالم المعيش‪ ،‬وكــان مح ور الخالف بين‬
‫هونيث وهابرماس هو اختزال هذا األخير التواصل في التواصل اللغوي‪ ،‬بينما وسع هــونيث‬
‫هذا المفهوم إلى التواصل الجسدي والحركي واالنفعـالي والرمـزي (أنـواع التواصـل الـتي ال‬
‫تعتمد على اللغة العادية بل على شيفرات أخرى كاألصوات واإليماءات والنظــر واالنفعــال)‪،‬‬
‫فإن محور الخالف بين آبل وهونيث هو إيمان آبل بإمكانية إيجاد مرجعيــة معياريــة مشــتركة‬
‫وموحدة وكونية لألخالقية‪ ،‬بينما يرى هونيث أن طابع التعدد ألشــكال االعــتراف يحــول دون‬
‫تأسيس معيار مشترك على غرار المعيار الكانطي كما كان يطمح إلى ذلك آبل‪.‬‬

‫وهكذا طوت النظرية النقدية مرحلتها الثانية التي اشتهرت فيها بفلســفة التواصــل الــتي لم‬
‫تعمر سوى ثلث قرن لتحل محلها المرحلة الثالثة الجديدة بعنوان فلسفة االعتراف‪.‬‬

‫خالصة‪:‬‬

‫بعد هذه القراءات النقدية المتعددة لفلسفة التواصل بصفة عامة وفلسفة كارل أوتو آبــل‬
‫بصفة خاصة نستنتج‪:‬‬

‫‪ -‬تركزت معظم اإلنتقادات لفلسفة آبل على فكرة "التأســيس النهــائي للفلســفة واألخالقيــة"‬
‫والتي رأى معظم الباحثين أنها فكرة عديمة المعنى واستراتيجية غير مجدية‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫ما بعد فلسفة التواصل‬ ‫الفصل الرابع‬

‫‪ -‬إن إتيقا المسؤولية التي تحدث عنها آبل تهــدف إلى إقــرار أخلقــة المجتمــع وفــق أخالق‬
‫مثالية‪ ،‬وهي هنا تقترح مثاال ال يتناسب مع المجتمعات الليبراليةـ الغربية المعاصرة ألنها‬
‫تؤسس عالقة إشكالية بين األخالق والسياسة إلى الحد الذي أصـبحت فيـه السياسـة تابعـة‬
‫لألخالق‪.‬‬

‫‪ -‬اتيقا المسؤولية التي اقترحها آبل لها حظ قليل لترى مثالهــا يتحقــق في الواقــع ألنهــا لم‬
‫تحدد الوسائل الملموسة التي تمكن من تجسيد هذا المثال‪ ،‬وبعبارة أخرى إنه من الصعب‬
‫جدا تحقيق هذه المثالية‪.‬‬

‫‪ -‬يرى معظم الباحثين في فلسفة التواصلـ ومنهم على سبيل المثال ال الحصر جان مـارك‬
‫فيري وسيال بن حبيب وحسن مصدق أن هناك أفضلية نسبية لنظرية هابرماس وخاصــة‬
‫لنظرية أكسيل هونيث على حساب نظرية آبل‪ ،‬ألنهما راعتا الواقع االجتماعي والسياسي‬
‫الراهن‪ ،‬من خالل إقامتهما عالقة انســجام وتكامــل بين األخالق والسياســة عكس نظريــة‬
‫آبل التي جعلت النظرية السياسية فرعا من النظرية األخالقية‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫خاتمة‬
‫خاتمة‬

‫خاتمة‪ :‬بعد هذه الدراسة التحليلية النقدية للمشروع الفلسفي لكــارل أوتــو آبــل يمكننــا حوصــلة‬
‫نتائج هذا الدراسة وصياغتها كما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬نستنتج أن المشروع الفلسفي لكارل أوتو آبــل ينــدرج في إطــار المشــروع الفلســفي العــام‬
‫للنظرية النقدية‪ ،‬والنظرية النقديــة هي بصــورة عامــة مجموعــة التيــارات الفكريــة الــتي كــان‬
‫مصدرها مدرسة فرانكفورت‪ ،‬والتي هي تقليد ماركسي حسب مؤسسيها األوائل هوركهــايمر‬
‫وأدورنــو‪ ،‬حيث عــبرت هــذه النظريــة عن ميالد مشــروع فلســفي تخصــص في نقــد الحداثــة‬
‫واآلثار التي تركتها العقالنية األداتية‪ ،‬وهو مشــروع ذو طبيعــة اجتماعيــة جعــل من المجتمــع‬
‫موضوع وهدف له‪ ،‬وفي المرحلة الثانية مع هابرماس وآبل أصبحت النظرية النقديــة دراســة‬
‫وصفية للوظــائف االجتماعيــة المعاصــرة حيث تمكن هابرمــاس وآبــل من تأســيس إجــراءات‬
‫للنقاش الحجـاجي كمنهج نقــدي غايتــه تــبرير صــالحية األنظمــة على معــايير معينــة‪ ،‬أي‪ :‬أن‬
‫فلسفة التواصل عند آبل وهابرماس تهدف إلى تأسـيس نمـوذج اجتمـاعي تواصــلي يقــوم على‬
‫التوافــق واإلجمــاع عــبر النقــاش والمداولــة الحــرة والحجــاج للمشــكالت المطروحــة‪ ،‬كبــديل‬
‫يعــوض نظريــة العقــد االجتمــاعي الكالســيكية بين الفــرد والمجتمــع‪ ،‬ومنــه يمكن القــول أن‬
‫العقالنية التواصلية آلبل تتأسس على النقاش والحوار الجاد‪ ،‬الحجاجي‪ ،‬المفتوح والحر‪.‬‬

‫‪ -2‬عمل كارل أوتو آبل على تأسيس إتيقا إجرائية للنقاش كامتداد للفكر الكانطي ولكنه أثراهــا‬
‫بمساهمات فالسفة اللغة‪ ،‬حيث ربط بين الفلسفة الترنسندنتالية وفلسـفة اللغـة فتحـولت الفلسـفة‬
‫معه إلى تداولية ترنسندنتالية‪ ،‬وبذلك يكون قد حقق هدفه بالجمع بين ما يسميه بالفلســفة الحقــة‬
‫"إذا أردت الفلســفة الحقــة عليــك بالفلســفة األلمانيــة" وهي فلســفة تركــز على صــناعة ونحت‬
‫المفاهيم المجردة والتفلســف في إطارهــا‪ ،‬ومــا يســميه بالفلســفة اإلجرائيــة "إذا أردت الفلســفة‬
‫اإلجرائية عليك بالفلسفة األنجلوساكسونية" وهي فلســفة تركــز على الواقــع العملي وتتفلســف‬
‫في إطاره‪ ،‬وهو أرادهما معا وتمكن من التأليف بينهما بطريقة منطقية محكمة‪.‬‬

‫‪ -3‬ركز آبل في فلسفته على دراسة اللغة إيمانا منه بأن اإلنسان هو الكائن الذي يتواصل بأداة‬
‫اللغة وهو الكائن المتكلم‪ ،‬ومادام هو كذلك‪ ،‬فإنه اليكون مثاليا إال بواسطة هذه األداة األساسية‬

‫‪227‬‬
‫خاتمة‬

‫الــتي نســتعملها في التواصــل الــذي تتم فيــه عمليــة تبــادل المعلومــات واألفكــار والقناعــات‬
‫والمشاعر بين األفراد والمجموعات اإلنســانية المختلفــة‪ ،‬من أجــل خلــق العالقــات والجســور‬
‫واللقــاء بينهــا‪ ،‬بعيــدا عن اإلنغالق والتعصــب وكــل حساســية تــؤدي إلى اإلحتقــار واإلقصــاء‬
‫والتهميشـ والعنف‪ ،‬وبذلك أصبحت الفلسفة عند آبل تواصال ‪.‬‬

‫‪ -4‬وقف آبل موقفا نقديا من بعض نتائج التقــدم العلمي والتقــني‪ ،‬وهي النتــائج الــتي رأى أنهــا‬
‫أصــبحت تشــكل خطــرا على اإلنســان ألنهــا قــد تــؤدي إلى دمــاره خاصــة المشــكلة النوويــة‬
‫والمشكلة البيئية‪ ،‬ولكنه رفض في فلسفته الرجوع إلى حالة ما قبل الحداثة كمــا دعــا إلى ذلــك‬
‫هانس يوناس‪.‬‬

‫‪ -5‬استطاع آبل تأسيس نظرية فلسفية أصيلة وجديدة ومســتقلة تمثــل إضــافة حقيقيــة للفلســفة‪،‬‬
‫وهذا رغم تعدد المرجعيات الفلسفية الــتي نهــل منهــا‪ ،‬والشــك أن مــزج هــذه األفكــار واآلراء‬
‫المتناثرة وصياغتها في فلسفة واحدة يدل على براعة وعبقرية هذا الفيلسوف‪.‬‬

‫‪ -6‬استطاع آبل أن ينحت بأحرف من ذهب مفاهيم فلسفية جديدة كـان لهــا أثــر كبــير في عــالم‬
‫الفكر الفلسفي عموما ونظرية أخالقيات التواصــل خصوصــا‪ ،‬من أهمهــا‪ :‬التأســيس النهــائي‪-‬‬
‫التداولي الترنسندنتالي‪ ،‬والتداولية الترنسندنتالية‪ ،‬والســميوطيقا الترنســندنتالية الــتي أصــبحت‬
‫من أهم المفاهيم المتداولة في الفلسفة المعاصرة‪ ،‬حيث أصبحت هذه المفــاهيم محــورا أساســيا‬
‫في النقاش والحوار الفلسفي خاصة بينه وبين هابرماس وجان مارك فــيري وســيال بن حــبيب‬
‫وهانس ألبرت في الربع األخير من القرن العشرين [كما رأينا ذلك من خالل هذا البحث]‪.‬‬

‫‪ -7‬ولكن إذا كانت االستقاللية واألصــالة هي أهم مـا نسـجله آلبــل‪ ،‬فـإن مــا نسـجله عليـه هـو‬
‫جموده وثباته‪ ،‬إذ ال يمكن أن نجد له تطورا في تفكيره‪ ،‬فما قاله في أعماله األخــيرة في نهايــة‬
‫التسعينيات من القرن الماضي هو ما قاله في أعمالــه األولى‪ ،‬فمنـذ أن بـدأ مشــروعه الفلســفي‬
‫سنة ‪ 1967‬بإصداره "األخالق في عصر العلم" الذي تناول فيه مشــكلة القيمــة األخالقيــة في‬
‫عصر هيمنة العلم والتقنية‪ ،‬مرورا بعمله األساسي "تحويل الفلسفة" الذي تحــدث فيــه خاصــة‬
‫على تحويل بيرس للفلسفة الترنسندنتالية وعمله الهام "التفسير والفهم" الذي تناول فيه نظرية‬

‫‪228‬‬
‫خاتمة‬

‫العلوم االجتماعية من وجهة نظر التداولية الترنسندنتالية ووصوال إلى مؤلفــه "إتيقــا النقــاش"‬
‫الذي قام فيه بعرض أخالقيات النقاش النظرية والعملية في صورتها التداولية الترنســندنتالية‪،‬‬
‫ما فتئ يؤكد في فلسفته على "التأسيس النهائي ‪ ،"fondation ultime‬حــتى أنــه يمكننــا‬
‫أن نلخص مشــروعه الفلســفي "إتيقــا التواصــل" في جملــة واحــدة هي "التأس يس النه ائي‬
‫التداولي‪-‬الترنسندنتالي "‪،"fondation ultime pragmatico-transcendentale‬‬
‫فما من عمل ينشره أو مقالة يكتبها أو محاضرة يلقيها إال ويؤكد فيهــا على ذلــك‪ ،‬وهي الفكــرة‬
‫الــتي كــانت محــل خالف بينــه وبين زميلــه هابرمــاس‪ ،‬وهي أيضــا الفكــرة الــتي جلبت لــه‬
‫االنتقادات الكثيرة سواء من داخل مدرسة فرانكفورت أو من خارجها‪.‬‬

‫‪ -8‬تركزت االنتقادات الموجهة آلبل من مختلف الفالسفة على فكرة "التأسيس النهـائي" الـتي‬
‫اعتبرها الكثير منهم "فكرة خاوية من المعنى واستراتيجية فاشلة"‪ ،‬وهناك إجمــاع من طــرف‬
‫معظم المهتمين بفلسفة آبل على أن نظريته "التداوليةـ الترنسـندنتالية" الــتي اقترحهــا من غـير‬
‫الممكن تحقيقها في الواقع االجتماعي والسياسي المعاصر ألنها ذات طابع مثالي‪.‬‬

‫وفي األخير‪ ،‬نقول إن هذا البحث يعد إسهاما بسيطا في التعريف بفكـر كـارل أوتـو آبـل‪،‬‬
‫الذي يعد من أهم المفكريين الذين أنجبهم الفكر الغربي المعاصر في الربع األخــير من القــرن‬
‫العشرين‪ ،‬وذلك لما أحدثه من تأثير في الحقل الفلسفي‪ ،‬خصوصــا حينمــا اســتطاع أن يؤســس‬
‫نظرية جديدة "التداولية الترنسندنتالية" التي اكتست أهميــة بالغــة في النقــاش الــذي جــرى في‬
‫الفضاء الفلسفي األلمـاني في الربـع األخـير من القـرن الماضـي‪ ،‬وقـد الحظنـا من خالل هـذا‬
‫البحث الصدى واألثر الكبير للنظريــات الفلســفية المعاصــرة في العــالم الغــربي وفي مقــدمتها‬
‫نظريتي التواصل واالعتراف‪ ،‬وهذا دليل على مــدى أهميـة البحث في هــذا المجـال الفلســفي‪،‬‬
‫ولهــذا فإننــا نــدعو من خالل هــذا العمــل المتواضــع البــاحثين العــرب إلى االهتمــام بــالبحث‬
‫والترجمة والتأليف في هـذا المجـال الفلسـفي‪ ،‬وذلـك ألن دعـوة أصـحاب هـذه النظريـات إلى‬
‫مجتمع تواصلي ومجتمع االعتراف باآلخر هي دعوة إلى تأســيس مجتمــع يقــوم على الحــوار‬
‫والنقاش بالحجة لمختلف المشكالت المطروحة في المجتمع‪ ،‬ودعوة كذلك إلى تفادي اإلنغالق‬

‫‪229‬‬
‫خاتمة‬

‫والتعص ـبـ والعنــف‪ ،‬وهي أيضــا دعــوة إلى اســتثمار نتــائج األبحــاث الفلســفية واالجتماعيــة‬
‫والعلمية والتكنولوجية في تسطير السياسات المستقبلية للمجتمع‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫الفهــــــــرس‪:‬‬

‫‪ -‬فهرس المصادر والمراجع‬


‫‪ -‬فهرس األعالم‬
‫‪ -‬فهرس المصطلحات‬
‫‪ -‬فهرس المحتويات‬
‫فهرس المصادر والمراجع‬
‫أوال‬:‫مصادر البحث باللغة العربية‬
.‫القرآن الكريم‬
،1‫ط‬،‫ منشـورات االختالف‬،‫ ترجمة عمـر مهيبـل‬،‫ التفكير مع هابرماس ضد هابرماس‬،‫ آبل كارل أوتو‬-1
.2005 ،‫بيروت‬

‫ مصادر البحث باللغة األجنبية‬:‫ثانيا‬

1-APEL Karl-Otto, Le problème Sur d'une fondation rationnelle de l'éthique à


l'âge de la science: l'apriori de la communauté communicationnelle et les
fondements de l'éthique, trad de l’allemand par Raphael Lellouche et Inga
Mittmam, Presses universitaires de Lille, Lille, 1987.
2-APEL Karl-Otto, L’«apriori» du corps dans le problème de la connaissance…,
traduction par Thierry Simonelli, Éditions du Cerf, Paris, 2005.
3-APEL Karl-Otto, Le logos propre au langage humain, traduite de l’allemand
par M.Charriére et J.P. Cometti, L’éclat, Paris, 1994.
4-APEL Karl-Otto, Penser avec Habermas contre Habermas, traduite de
l’allmand par Marianne Charriiére, Éditions de l'Éclat, Paris, 1990.
5-APEL Karl-Otto, Transformation de la philosophie 1, trad par Christian
Bouchindhomme et Thierry Simonelli et Denis Trierweiler, Éditions du Cerf,
Paris, 2007.
6-APEL Karl-Otto, Transformation de la philosophie 2, traduite sous la
direction de Pol Vandevelde, Éditions du Cerf, Paris, 2010.
7-APEL Karl-Otto, l’Éthique de la discussion, trad par Mark Hunyadi, Éditions
du Cerf, Paris, 1994.
8-APEL Karl-Otto, Discussion et responsabilité 1: l'éthique après Kant, traduite
de l’allemand par Christian Bouchindhomme et Marianne Charriiére et Rainer
Rochlitz, Éditions du Cerf, Paris, 1996.
9-APEL Karl-Otto, Discussion et responsabilité 2: contribution à une éthique de
la responsabilité,traduite de l’allemand par Christian Bouchindhomme et Rainer
Rochlitz, Éditions du Cerf, Paris, 1998.
10-APEL Karl-Otto, La réponse de l'éthique de la discussion au défi moral de la
situation humaine comme telle et spécialement aujourd'hui, trad par Michel
Canivet, Éditions Peeters, Louvain, 2001.
11-APEL Karl-Otto, Expliquer – Comprendre: la controverse central des
sciences humaines une approche pragmatico-transcendantale, traduit de
l’allemand par Sylvie Messure, les éditions du CERF, Paris, 2000.

232
‫‪12-APEL Karl-Otto et Habermas et autres, Un siècle de philosophie 1900-2000,‬‬
‫‪Édition Gallimard, Paris, 2000.‬‬
‫‪13-APEL Karl-Otto, L’impératif moral, in le COURRIER de l’UNESCO,‬‬
‫‪numéro double, juillet-aout 1992.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مراجع البحث باللغة العربية‬
‫‪ -1‬أبسالون ادموندس‪ ،‬الموجز في راهن اإلشكاليات الفلسفية‪ :‬مشــكل التأســيس وعقالنيــة الفلســفة‪ ،‬ترجمــة‬
‫أبويعرب المرزوقي‪ ،‬الدار المتوسطية للنشر‪ ،‬مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم‪ ،‬ط‪ 2009 ،1‬م (‪1430‬ه)‪.‬‬
‫‪-2‬إبراهيم عبدهللا‪ ،‬المركزية الغربية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء وبيروت‪ ،‬ط‪.1997 ،1‬‬
‫‪ -3‬ابن خلدون عبدالرحمن‪ ،‬المقدمة‪ ،‬دار العلم للمجتمع‪ ،‬بيروت‪( ،‬دط)‪( ،‬دت)‪.‬‬
‫‪ -4‬أبوالنور حسن أبوالنورـ حمدي‪ ،‬يورغان هابرماس "األخالق والتواصل"‪ ،‬دار التنويرـ للطباعة والنشــر‬
‫والتوزيع‪.2009 ،‬‬
‫‪ -5‬أرمنيكوـ فرانسوا‪،‬ـ المقاربة التداولية‪ ،‬ترجمة سعيد علوش‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬الرباط‪.1986 ،‬‬
‫‪ -6‬آسون لوران‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ترجمة سعاد حرب‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط‪.2005 ،2‬‬
‫‪ -7‬آفاية محمد نورالدين‪ ،‬الحداثة والتواصلـ في الفلسفة النقدية المعاصرة‪ ،‬إفريقياـ الشرق‪ ،‬المغرب ولبنان‪،‬‬
‫ط‪.1998 ،2‬‬
‫‪ -8‬أوستين جون النجشوا‪ ،‬نظرية أفعــال الكالم العامــة‪ ،‬ترجمــة عبــدالقادر قينيــني‪ ،‬إفريقيــا الشــرق‪ ،‬الــدار‬
‫البيضاء‪.1991،‬‬
‫‪ -9‬بغورة الزواوي‪،‬ـ الفلسفة واللغة‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪،‬ـ بيروت‪ ،‬ط‪.2005 ،1‬‬
‫‪ -10‬بن نبي مالك‪ ،‬شروطـ النهضة‪ ،‬ترجمة عبدالصبورـ شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪.1986 ،‬‬
‫‪ -11‬بوتمور توم‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ترجمة محمد هجرس‪ ،‬دار أويا للنشر والتوزيع‪ ،‬طــرابلس (ليبيــا)‪،‬‬
‫ط‪.1998 ،1‬‬
‫‪ -12‬بوزيــد بومــدين‪ ،‬الفهم والنص‪ ،‬دراســة في المنهج التــأويلي عنــد شــالير مــاخر ودلتــاي‪ ،‬منشــورات‬
‫اإلختالف‪ ،‬الجزائرـ ولبنان‪ ،‬ط‪.2008 ،1‬‬

‫‪ -13‬بوفنتاس عمر‪ ،‬البيوإتيقا "األخالقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا"‪ ،‬إفريقيا الشــرق‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪.2011 ،‬‬

‫‪ -14‬بومنيرـ كمال‪ ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من هوركهايمرـ إلى أكسيل هونيث‪ ،‬الدار العربيــة‬
‫للعلوم ومنشوراتـ اإلختالف ودار األمان‪ ،‬بيروت والجزائر والرباط‪ ،‬ط‪.2010 ،1‬‬
‫‪ -15‬بومنيرـ كمال‪ ،‬قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬مؤسسة كنوز الحكمة للنشــر والتوزيــع‪،‬‬
‫الجزائر‪ ،‬ط‪.2012 ،1‬‬

‫‪233‬‬
‫‪ -16‬الجابريـ محمد عابد‪ ،‬التواصل نظرياته وتطبيقاته‪ ،‬الكتاب الثالث‪ ،‬الشركة العربية لألبحــاث والنشــر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪.2010 ،1‬‬
‫‪ -17‬الجابريـ محمد عابد‪ ،‬قضاياـ الفكر المعاصر‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.1997 ،1‬‬
‫‪ -18‬جاسر دافيد‪ ،‬مقدمــة في الهرمنيوطيقــا‪ ،‬ترجمــة وهبــة قانصــو‪ ،‬منشــورات اإلختالف‪ ،‬الجزائــر‪ ،‬ط ‪،1‬‬
‫‪.2007‬‬
‫‪ -19‬خليفي بشير‪ ،‬الفلسفة وقضاياـ اللغة‪ ،‬منشوراتـ اإلختالف والدار العربية للعلوم‪ ،‬الجزائر ولبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2010‬‬
‫‪ -20‬دولوزـ جيل وغتاري فيليكس‪ ،‬ما هي الفلسفة؟‪ ،‬ترجمة مطاع صفدي‪ ،‬مركز اإلنماء القومي (بيروت)‬
‫واليونيسكو (باريس) والمركز الثقافي العربي (الدارالبيضاء وبيروت)‪ ،‬ط‪.1997 ،1‬‬
‫‪ -21‬روبــولـ آن وموشــالر جــاك‪ ،‬التداوليــة اليــوم "علم جديــد في التواصــل"‪ ،‬ترجمــة ســعدالدين دغفــوس‬
‫ومحمد الشيباني‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.2003 ،1‬‬
‫‪ -22‬روس جاكلين‪ ،‬الفكر األخالقي المعاصر‪ ،‬ترجمة عــادل العــو‪ ،‬عويــدات للنشــر والتوزيـعـ والطباعــة‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪.2001 ،1‬‬
‫‪ -23‬زكرياـ ميشال‪ ،‬األلسنية "علم اللغة الحديث‪ :‬المبادئ واألعالم"‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪.1983 ،2‬‬
‫‪ -24‬سبيربير‪-‬كانتو مونيك وروفين أدجيان‪ ،‬الفلسفة األخالقية‪ ،‬ترجمة جورج زيناتي‪ ،‬دار الكتــاب الجديــد‬
‫المتحدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.2008 ،1‬‬
‫‪ -25‬سبيال محمد وبن عبدالعالي عبدالسالم‪ ،‬مابعد الحداثة‪ ،‬سلسلة دفاترـ فلسفية‪ ،‬دار طوبقال للنشــر‪ ،‬الــدار‬
‫البيضاء‪ ،‬ط‪.2007 ،1‬‬
‫‪ -26‬طه عبدالرحمن‪ ،‬التواصــل والحجــاج‪ ،‬درس افتتــاحيـ للســنة الجامعيــة (‪ ،)1994-1993‬كليــة العلــوم‬
‫اإلنسانية بأغادير‪ ،‬مطبعة المعارفـ الجديدة‪ ،‬الرباط‪.1994 ،‬‬
‫‪ -27‬طــه عبــدالرحمن‪ ،‬ســؤال األخالق "مســاهمة في النقــد األخالقي للحداثــة الغربيــة"‪ ،‬المركــز الثقــافي‬
‫العربي‪ ،‬ط‪.2000 ،1‬‬
‫‪ -28‬طه عبدالرحمن‪ ،‬في أصول وتجديدـ علم الكالم‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.2000 ،2‬‬
‫‪ -29‬طه عبدالرحمن‪ ،‬تجديد المنهج في تقويم التراث‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الرباط‪.1993 ،‬‬
‫‪ -30‬عطية أحمد عبدالحليم‪ ،‬قراءات في األخالقيات الراهنة‪ ،‬دار الثقافة العربية‪ ،‬القاهرة‪. 2010 ،‬‬

‫‪ -31‬فــام يعقــوب‪ ،‬البرجمــاتزم أو مــذهب الــذرائع‪ ،‬دار الحداثــة للطباعــة والنشـرـ والتوزيــع‪ ،‬لبنــان‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪.1985‬‬
‫‪ -32‬فنتجشتين لودفينغ‪ ،‬رسالة منطقية فلسفية‪ ،‬ترجمة عزمي إسالم‪ ،‬المكتبة األنجلو مصرية‪.1968 ،‬‬
‫‪ -33‬فيريـ جان مارك‪ ،‬فلسفة التواصل‪ ،‬ترجمة عمر مهيبل‪ ،‬منشورات اإلختالف والمركز الثقافي العربي‬
‫والدار العربية للعلوم‪ ،‬الجزائر والمغرب ولبنان‪ ،‬ط‪.2006 ،1‬‬
‫‪ -34‬كانط إيمانويل‪ ،‬نقد العقل المحض‪ ،‬ترجمة موسىـ وهبة‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪234‬‬
‫‪ -35‬كريب إيان‪ ،‬النظرية االجتماعية من بارسونز إلى هابرماس‪ ،‬ترجمة محمد حسين غلوم‪ ،‬سلسلة عــالم‬
‫المعرفة‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪. 1989 ،‬‬
‫‪ -36‬متس رودولف‪ ،‬الفلسفة االنجليزية في مائة عام‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ترجمة فؤاد زكريــا‪ ،‬دار الوفــاء لــدنيا‬
‫الطباعة والنشر‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬ط‪.2009 ،1‬‬
‫‪ -37‬المحمداويـ علي عبود‪ ،‬اإلشكالية السياسية للحداثة "هابرماسـ نموذجــا"‪ ،‬منشــورات اإلختالف‪ ،‬ودار‬
‫اآلمان‪ ،‬الجزائر وبيروت والرباط‪،‬ـ ط‪. 2011 ،1‬‬
‫‪ -38‬المحمــداوي علي عبــود ومهنانــة اســماعيل وآخــرون‪ ،‬مدرســة فرانكفــورت النقديــة‪" :‬جــدل التحــرر‬
‫والتواصل واالعتراف"‪ ،‬ابن النديم للنشر والتوزيعـ (وهران) ودارـ الروافد الثقافية (بيروت)‪ ،‬ط‪.2012 ،1‬‬
‫‪ -39‬مرحبا محمد عبدالرحمن‪ ،‬من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة اإلســالمية‪ ،‬ديــوان المطبوعــات الجامعيــة‪،‬‬
‫الجزائر‪.1983 ،‬‬
‫‪ -40‬المسكينيـ أم الزين بن شيخة‪ ،‬كانـط راهنــا‪ ،‬المركــز الثقـافي العــربي‪ ،‬الــدار البيضـاء وبـيروت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2006‬‬
‫‪ -41‬مصطفىـ عادل‪ ،‬فهم الفهم "مدخل إلى الهرمنيوطيقا"‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪. 2003 ،1‬‬
‫‪ -42‬مصدقـ حسن‪ ،‬النظرية النقدية التواصلية‪ ،‬المركزـ الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.2005 ،1‬‬
‫‪ -43‬مكاويـ عبدالغفار‪ ،‬لم الفلسفة؟‪ ،‬منشأة المعارف‪ ،‬اإلسكندرية‪.1981 ،‬‬
‫‪ -44‬مهيبل عمر‪ ،‬إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة‪ ،‬منشوراتـ اإلختالف‪ ،‬المغــرب ولبنــان‪،‬‬
‫ط‪. 2005 ،1‬‬
‫‪ -45‬هابرمــاس يــورغن‪ ،‬إتيقــا المناقشــة ومســألة الحقيقــة‪ ،‬ترجمــة عمــر مهيبــل‪ ،‬الــدار العربيــة للعلــوم‬
‫ومنشوراتـ اإلختالف‪ ،‬لبنان والجزائر‪ ،‬ط‪. 2010 ،1‬‬
‫‪ -46‬هابرماس يورغن‪ ،‬المعرفة والمصلحة‪ ،‬ترجمة حسن صقر‪ ،‬منشورات الجمـل‪ ،‬كولونيـا (المانيـا)‪ ،‬ط‬
‫‪. 2001 ،1‬‬
‫‪ -47‬هابرماس يورغن‪ ،‬العلم والتقنية كإيديولوجيا‪ ،‬ترجمة حسن صــقر‪ ،‬منشــورات الجمــل‪ ،‬ط‪ ،1‬كولوني ـاـ‬
‫(المانيا)‪. 2003 ،‬‬

‫‪ -48‬هابرمــاس يــورغن‪ ،‬القــول الفلســفي للحداثــة‪ ،‬ترجمــة فاطمــة الجيوشــي‪ ،‬منشــوراتـ وزارة الثقافــة‬
‫السورية‪ ،‬دمشق‪.1995 ،‬‬
‫‪ -49‬هابرماس يورغن‪ ،‬مستقبل الطبيعة اإلنسانية "نحو نسـالة ليبراليـة"‪ ،‬ترجمـة جـورج كتـورة‪ ،‬المكتبـة‬
‫الشرقية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1‬الجزائر‪. 2012 ،‬‬

‫‪ -50‬هونيث أكسيل‪ ،‬التشيؤ "دراسة في نظرية االعتراف"‪ ،‬ترجمة كمال بومنـير‪ ،‬مؤسسـة كنـوز الحكمـة‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪. 2012 ،1‬‬
‫رابعا‪ :‬مراجع البحث باللغة األجنبية‬

‫‪1- Andler Daniel et autres, philosophie des sciences, Éditions Gallimard, 2002.‬‬

‫‪235‬‬
2- Besnier Jean-Michel, histoire de la philosophie moderne et
contemporaine figures et œuvres, édition grasset et fasquelle, Paris, 1983.
3- Briault Thierry, les philosophies du sens commun: pragmatique et
déconstructions, l’harmattan, 2004.
4- Deledalle Gérad, la philosophie américaine, édition l’age d’homme,
Lousanne, 1983.
5- Grondin Jean, l’Herméntique, P.U.F, que sais-je ?, 3 édition, Paris, 2014.
6- Habermas Jürgen, Morale et communication, Traduction par Christian
Bouchindhomme, Éditions du Cerf, Paris, 1986.
7- Honneth Axel, La societé du mérpris: vers une nouvelle théorie critique,
édition La decouverte, traduits de l’allemand par Olivier Voirol et Pierre Rush et
Alexandre Dupeyrix, Paris, 2008.
8- Honneth Axel, La lutte pour la reconnaissance, traduits de l’allemand par
Pierre Rush, les Éditions du CERF, Paris, 2010.
9- Hutin Serge, la philosophie anglais et américaine, P.U.F, Paris, 1963.
10- Leguérinel Luc, enjeux et limites des théories contemporaines de l’action: de
la praxéologie à la pragmatique, collection la philosophie en commun,
L’harmattan, 2009.
11- Martin Le Corre chantecaille, L’éthique de la discussion Karl-Otto Apel
entre raison et histoire, Édition m-editer, 2014.
12- Renaut Alain et autres, histoire de la philosophie politique, tome 5, les
philosophies politique contemporaines, Calmann-Lévy, 1999.
13- Rorty Richard, science et solidarité:la verité sans pouvoir, traduit par Jean
Pierre Comotti, Édition de l’eclat, Paris, 1990.
14- Serres Michel, le contrat naturel, édition François Bourin, Paris, 1990.
15- Testart Jacques, l’œuf transparent, flammarion, coll champs, 1986.

‫ المعاجم والقواميس باللغة العربية‬:‫خامسا‬


‫ ط‬،‫ بــيروت‬،‫ المؤسسة العربية للدراسات والنشــر‬،‫ الجزء الثاني‬،‫الموسوعة الفلسفية‬،‫ بدويـ عبدالرحمن‬-1
.1984 ،1
.1982 ،‫ بيروت‬،‫ دار الكتاب اللبناني‬،‫ الجزء األول‬،‫ المعجم الفلسفي‬،‫ صليبا جميل‬-2
.1982 ،‫ بيروت‬،‫ دار الكتاب اللبناني‬،‫ الجزءالثاني‬،‫ المعجم الفلسفي‬،‫ صليبا جميل‬-3
.2006 ،3‫ ط‬،‫ـ بيروت‬،‫ دار الطليعة للطباعة والنشر‬،‫ معجم الفالسفة‬،‫ طرابيشي جورج‬-4
.2001 ،1‫ ط‬،‫ بيروت‬،‫ المكتبة الشرقية‬،‫ ترجمة جورج كتورة‬،‫ أطلس الفلسفة‬،‫ كونزمانـ بيتر وآخرون‬-5
‫ ط‬،‫ بيروت‬،‫ مؤسسة عويدات‬،‫ ترجمة خليل أحمد خليل‬،‫ الجزء األول‬،‫ الموسوعة الفلسفية‬،‫ اللند أندري‬-6
.2001 ،1

236
‫ ط‬،‫ بيروت‬،‫ مؤسسة عويدات‬،‫ ترجمة خليل أحمد خليل‬،‫ الجزء الثاني‬،‫ الموسوعة الفلسفية‬،‫ اللند أندري‬-7
.2001 ،1
،‫ بــيروت‬،‫ مؤسســة عويــدات‬،‫ ترجمة خليل أحمد خليل‬،‫ الجزء الثالث‬،‫ الموسوعة الفلسفية‬،‫ اللند أندري‬-8
.2001 ،1‫ط‬
.2007 ،1‫ ط‬،‫ـ القاهرة‬،‫ دار قباء الحديثة للنشر والتوزيع‬،‫ المعجم الفلسفي‬،‫ وهبة مراد‬-9
‫ المعاجم والقواميس باللغة األجنبية‬:‫سادسا‬
1-Duméry Henry, Dictionnaire de la philosophie, Ensyclobudia Universselles et
Albain Michel, Paris, 2006.
2-Husman Denis, Dictionnaire des philosophes (A.J), P.U.F, 2édition, Paris,
1984.
3- Larousse, nouveu petit larousse, libraaire larousse, Paris, 1971.
4-Monique Canto-Sperber, Dictionnaire d’Ethique et de philosophie morale,
P.U.F, Paris, 1er édition, 1996.
5-Shnel Alexandre, Larousse Grand Dictionnaire de la philosophie, CNRS
Édition, 2003.

‫ المجالت والدوريات باللغة العربية‬:‫سابعا‬

،‫ القاهرة‬،11 ‫ العدد‬،‫ (في) مجلة أوراق فلسفية‬،‫ منزلة كانط في مدرسة فراتكفورت‬،‫الخولي محسن‬-1
.2004

،11 ‫ العدد‬،‫ (في) مجلة أوراق فلسفية‬،‫ نحو أخالقية النقاش‬:‫ من كانط إلى كارل أوتو آبل‬،‫العتيريـ رجاة‬-2
.2004 ،‫القاهرة‬

‫ المجالت والدوريات باللغة األجنبية‬:‫ثامنا‬


1-Habermas, le moderne et le postmoderne, (in)Revue Lettre internationale,
N:14, automne, 1987.
2-Roty Richard, solidarité ou objectivité, (in)Revue Critique, N:439, Decembre,
1983.
‫ الرسائل الجامعية باللغة األجنبية‬:‫تاسعا‬
1-Martin Le Corre chantecaille, penser avec…et contre…la pragmatique
transcendantale de Apel, thèse pour le doctorat de philosophie, sous la direction
de Andrée stanguennec, soutenue le 24 juin 2010 àl’université de Nantes.

‫ المواقع اإلليكترونية‬:‫عاشرا‬

‫ تاريخ آخر‬/www.maajaim.com/dictionary)‫ تداولية‬،‫ نقاش‬،‫ لغة‬،‫ (تواصل‬،‫ لسان العرب‬،‫ ابن منظور‬-1
.‫ دقيقة‬44‫و‬16 ‫ على الساعة‬2016-04-16 :‫زيارة‬
-16 :‫ تاريخ آخر زيارة‬/www.maajaim.com/dictionary)‫ (اعتراف‬،‫ معجم اللغة العربية المعاصرة‬-2
.‫ دقيقة‬15‫و‬17 ‫ على الساعة‬2016-04

237
‫فهرس األعالم‬
‫إبراهيم عبدهللا‪.75 :‬‬
‫أبسالون إدموندس ‪.E. Absalon : 32 33 34 99  104 117126 203‬‬
‫آبل كارل أوتو ‪ : K-O.APEL‬أ ب ج د ه و ز ‪40 39 35 34 33 32 31 30 29 28 27 26 22 21 10‬‬
‫‪88 87 86 85 81 69 68 65 64 63 62 61 60 59 58 56 55 54 52 51 50 49 48 45 44 43 42‬‬
‫‪111 110 109 108 107 106 105 104 103 102 101 100 99 98 97 96 95 94 93 92 91 90 89‬‬
‫‪135 134 133 132 127 126 125 124 123 122 121 120 119 118 117 116 115 114 113 112‬‬
‫‪155 154 153 152 151 150 149 148 147 146 145 144 143 142 141 140 139 138 137 136‬‬
‫‪175 174 173 172 171 170 169 168 167 166 165 164 163 162 161 160 159 158 157 156‬‬
‫‪199 198 197 196 195 194 193 192 191 190 187 186 183 182 181 180 179 178 177 176‬‬
‫‪.230 229 228 226  225 209 208 207 205 204 203 202 201 200‬‬
‫ابن الخطيب‪.23 :‬‬
‫ابن خلدون‪.103 :‬‬
‫أبنسور ‪.M.Abensour: 43‬‬
‫ابن منظور‪.110 :‬‬
‫أدجيان روفين ‪.R.Ogien: 13 20‬‬
‫آدلر ‪. Adler: 164‬‬
‫أدندروث ‪.W.Adendrothe : 69‬‬
‫أرمنيكو فرانسوا ‪.F.Arménico : 111‬‬
‫أرسطو ‪.Aristote : 99 134 157 188‬‬
‫آرون ريمون ‪.R.Aron: 37‬‬
‫آفاية نور الدين‪ :‬و ‪.142 77 76 74‬‬
‫أفالطون‪.Platon: 188‬‬
‫ألبرت هانس ‪ :H.Albert‬د ز ‪.229 188 176 186 33‬‬
‫أندلر دانيال‪.D.Andler: 62‬‬
‫انجلز فريديركـ ‪.F.Engels :36‬‬
‫أوبنهايم ‪.P.Oppenheim : 122‬‬
‫أودرنوـ ثيودورـ ‪T.w.Adorno: 35 37 38 39 43 44 51 52 61 69 73 75 131 141 183 189 204‬‬
‫‪.205 228‬‬
‫أوستين ‪.J.L.Austin: 51 52 53 54 55 101 102 111 113 126 127 151‬‬
‫بارث هانس ‪.H.Barth : 69‬‬
‫بارسونزـ تالكوت ‪.T.Parsons : 85‬‬
‫بتلر ‪.J.Butler : 208‬‬
‫بدوي عبدالرحمن‪.51 :‬‬
‫برغ ألبان ‪.A.Berg : 38‬‬
‫برنارد جان ‪.J.Bernard : 18‬‬
‫بريو تيري ‪.T.Briault : 125‬‬
‫بكاي محمد‪.99 :‬‬
‫بالنك ماكس ‪.M.Planck:69‬‬
‫بلوخ أرنست ‪.E.Bloch : 153‬‬
‫بلوندل موريس ‪.M.Blandel : 110‬‬
‫بن نبي مالك‪.165 :‬‬
‫بن حبيب سيال ‪ : S.Benhabib‬د ‪.229 191 226 190 189‬‬

‫‪238‬‬
‫بن عمر سواريت‪ :‬صفحة الشكر‪ ،‬و ‪.‬‬
‫بن محمد توفيق‪ :‬و‬
‫‪.‬بن يامين والتر ‪.W.Benjamin : 38‬‬
‫بوبر كارل ‪.K.Popper : 33 42 61 71 98 99 100 101 109 122 155 168 171 176 177 186 188‬‬
‫بوتر فان روسلير ‪.V.R.Potter : 17‬‬
‫بورديوـ بيار ‪.P.Bourdieu : 207‬‬
‫بولوك فرديرك ‪.F.Pollock : 36 37 38‬‬
‫بومدين بوزيد‪.48 :‬‬
‫بومنير كمال‪.205 204  44 :‬‬
‫بوهلر كارل ‪.K.Bohler : 98 100 101‬‬
‫بياجيه جان ‪.J.Piaget : 159 160 161 162 224‬‬
‫بيتنام هيالري ‪.H.Putnam : 199‬‬
‫بيرس تشارلس ساندرس ‪ :C.S.Peirce‬ج د ‪110 102 101 98 74 65 64 60 59 57 56 32 31 29‬‬
‫‪.127 125 126 124 121 119 118 117‬‬
‫بيزنيه جان ميشال ‪.J.M.Besnier : 43 141 144‬‬
‫بيكون فرنسيسـ ‪.F.Bacon : 142 152‬‬
‫بينثام جيريمي ‪.J.Bentham : 143‬‬
‫تارسكي ألفريد ‪.A.Tarsky : 101‬‬
‫تايلور تشارلس ‪.C.Taylor : 208‬‬
‫تستار جاك ‪.J.Testart : 19‬‬
‫تشومسكيـ نعوم ‪.N.Chomsky:126 177‬‬
‫تليش ‪.Tillich : 38‬‬
‫تولستويـ ‪.L.Tolstoï:36‬‬
‫الجابري محمد عابد‪.27 12:‬‬
‫الجرجاني‪. 98:‬‬
‫جيمس وليام ‪W.James : 57‬‬
‫حمود جمال‪ :‬و‪.‬‬
‫الخولي محسن‪.61:‬‬
‫دانتي ‪.Dante : 31‬‬
‫دريدا جاك ‪.J.Derrida : 30 41 198‬‬
‫دلتاي وليام ‪.W.Dilthey : 46 48 119 122 124‬‬
‫دولوز جيل‪ : G.Deleuze‬د ‪.188 187‬‬
‫دي سوسير فرديناند ‪.F.De Saussure : 29‬‬
‫ديكارت رونيه ‪.R.Descartes : 56 107 121 126 137 142 176‬‬
‫ديوي جون ‪.J.Dewey : 57 223 224‬‬
‫راسمسن دافيد ‪.D.Rasmussen : 85 93‬‬
‫راسل برتراند ‪.B.Russell : 52 101 177‬‬
‫راولس جون ‪.J.Rawls : 59 131 132 143 160 177 199‬‬
‫روبول آن ‪.A.Reboul : 111‬‬
‫روتي ريتشارد ‪.R.Rorty : 49 50 56 58 59 179 199‬‬
‫روس جاكلين ‪.J.Rose : 133 167‬‬
‫روسوـ جان جاك ‪.J.J.Rousseau : 212‬‬
‫رويس جون ‪.J.Royce : 102 119 121 125‬‬

‫‪239‬‬
‫ريكور بول ‪.P.Ricoeur : 30‬‬
‫رينو آالن ‪.A.Renaut : 21‬‬
‫سارتر جان بول ‪.J.P.Sartre :108 207‬‬
‫سبيربيرـ مونيك كانتو ‪.M.C.Sperber :13 20‬‬
‫ستانغنس أندري ‪ : A.Stangueennec‬ه‪.‬‬
‫ستراوس كلود ليفي ‪.C.L.Straus :207‬‬
‫سوريل ‪.J.R.Searle :49 50 51 52 54 55 59 111 113 126 127 151‬‬
‫سير ميشال ‪.M.Serres : 17‬‬
‫شانتيلي مارتن لوكور ‪ : M.L.Chantecaille‬ه ‪.172 59 55 49‬‬
‫شانون كلود ‪.C.Channon : 28‬‬
‫شالير ماخر ‪.F.Schleirmacher : 46 48 119 122‬‬
‫شلنج ‪.Schelling :69‬‬
‫شليجل جان لويس ‪.J.L.Schlegel :72‬‬
‫شميث ألفريد ‪.A.Schmidt : 39‬‬
‫شوبنهاور‬ ‫شميث هانز كريستوفرـ ‪.H.C.Schmidt:208‬‬
‫‪. Schopenhauer: 36‬‬
‫صليبا جميل‪.114 104 :‬‬
‫عادل مصطفى‪.112:‬‬
‫عبدالرحمن طه‪.111 110 24 11:‬‬
‫العتيري رجاة‪.145 144 140:‬‬
‫عطية عبدالحليم‪.132 130:‬‬
‫غادامير هانس جورج ‪.H.G.Gadamer: 48 49 50 59 60 69‬‬
‫غتاري فليكس ‪.F.Guattari : 187‬‬
‫غروزمان ‪.Grossmann : 37‬‬
‫غورفيتش جورج ‪.G.Gurvitch : 107‬‬
‫غرينبرغ كارل ‪.C.Grunberg : 37‬‬
‫فايل فليكس ‪.F.Weil : 36‬‬
‫فايل هرمان ‪.H.Weil : 36‬‬
‫فرازرـ نانسي ‪.N.Frazer : 208‬‬
‫فريجه غوتلوب ‪.G.Frege : 99 101‬‬
‫فرومـ إريك ‪.E.Fromm : 37 38‬‬
‫فريدمان جورج ‪.G.Friedmann : 37‬‬
‫فرويدـ سيجموند ‪.S.Feud:224‬‬
‫فنتجشتين لودفينغـ ‪L.Wittgenstein :3132 49 50 51 52 53 55 56 59 60 101 111 121 122 124‬‬
‫‪.126 145 151‬‬
‫فوكو ميشال ‪.M.Foucault : 41 150 179 180 181 207‬‬
‫فون رايت جورج هنريك ‪.G.H.Von Wrigt : 123‬‬
‫فيبر ماكس‪.M.Weber:48 72 74 75 81 122 124 143 155 176‬‬
‫فيخته ‪.J.G.Fichte :56 212‬‬
‫فيري جان مارك ‪:J.M.Ferry‬د ‪198 197 196 186 143 142 141 133 116 115 104 72 40 34 28‬‬
‫‪.229 203 226 202 201 200 199‬‬
‫فيري لوك ‪.L.Ferry : 15‬‬
‫فيكو ‪.Vico :31‬‬

‫‪240‬‬
‫فيلمر ألبرخت ‪.A.Wellmer : 34 39 192‬‬
‫كاستاردياسـ ‪.C.Castoriadis : 199 207‬‬
‫كاسيرر أرنست ‪.E.Cassierrer : 61‬‬
‫كانط إيمانويل ‪: E.Kant‬ج ز ‪119 118 117 114 110 107 98 65 64 63 62 61 60 59 32 31 28‬‬
‫‪210  198 196 181 180 177 176 165174 157 149 147 145 144 143 141 140 126 124 121 120‬‬
‫‪.213 211‬‬
‫كارناب رودولفـ ‪.R.Carnap : 98 101 102 126‬‬
‫كروس كارل ‪.K.Kraus : 38‬‬
‫كريب أيان ‪.I.Craib : 85‬‬
‫كورتيناـ عديله ‪.A.Cortina : 21‬‬
‫كورنييه هانس ‪.H.Cornlins :36‬‬
‫كولبيرغ لورانس ‪.L.Kohlberg : 159 160 161 162‬‬
‫كولمان وولفـ جانغ ‪ : W.Kuhlmann‬ز ‪.147‬‬
‫كونت أوغست ‪.A.Comte:122‬‬
‫كوندورسيه ماركيز ‪.M.Condorcet:42‬‬
‫كيرجاردـ سورن ‪.S.Kierkegaard : 38‬‬
‫اللند أندريـ ‪.A.Lalande : 11 24 110 111‬‬
‫لوفنتال ‪.Lowenthal :37 38‬‬
‫لوكاتش جورج ‪.G.Lukàcs : 222 223 224 225‬‬
‫ليب ح ‪.H.Lubbe : 180‬‬
‫ليجيرنال لوك ‪.L.Leguérinel : 116‬‬
‫ليفيناس إيمانويل ‪.E.Levinas : 30 107 108 131‬‬
‫ليوتارد جان فرانسوا ‪.J.F.Lyotard :41 150 179‬‬
‫مارسيل غابريال ‪.G.Marcel : 107‬‬
‫ماركس كارل ‪.K.Marx : 35 37 124 152 153 208 223‬‬
‫ماركيوزـ ‪.H.Marcuse : 34 38 44 61 65 73 75 183‬‬
‫مانهايم ‪.Mannheim :38‬‬
‫المحمداوي علي عبود ‪:‬و ‪.205 142 113 73‬‬
‫المسكيني بن شيخة ‪.62:‬‬
‫مصدق حسن‪ :‬د و ‪.226 207 194 193 192 143 142 141 140 76 74‬‬
‫مكلنتير ألستار ‪.A.Maclntyre : 179‬‬
‫مل جون استيوارتـ ‪.J.S.Mill :143‬‬
‫مهيبل عمر ‪:‬و ‪.197 142 136 135 81 69 34 13‬‬
‫موشالر ‪.J.Moeschler : 111‬‬
‫موريس تشارلس ‪ : C.Morris‬د ‪.102 101 98‬‬
‫مونييه إيمانويلـ‪.I.Monier:107‬‬
‫ميد جورج هربرت ميد ‪.J.H.Mead : 121 125 160 218 219 224‬‬
‫ميرلوبونتي موريسـ ‪.M.Merleu-Ponty : 107 108 207‬‬
‫ميكيافيليـ ‪.N.Mechaivel : 177 212 216‬‬
‫نتشه فريديرك ‪.F.Nietzsche:165181‬‬
‫هابرماس يورغن ‪: J.Habermas‬أ ب ج د و ز ‪42 41 40 39 35 34 33 32 31 30 28 27 26 25‬‬
‫‪80 79 78 77 76 75 74 73 72 71 70 69 68 65 63 62 61 60 56 55 52 51 50 49 48 44 43‬‬
‫‪116 115 113 112 111 110 109 108 103 96 95 94 93 92 91 90 89 88 87 86 85 83 82 81‬‬
‫‪197 196 195 193 192 190 188 186 183 177 173 165 145 143 142 141 140 133 132 127 126‬‬

‫‪241‬‬
‫‪.230 229 228 225 226 211 209 208 207 206 205 200 204 199 198‬‬
‫هارتمان نيكوال ‪.N.Hartmann : 69‬‬
‫هتلر أودولف ‪.A.Hitler: 165‬‬
‫هسرل إدموندـ ‪.E.Husserl : 38 56 107 121 122 126 137‬‬
‫همبل كارل ‪.K.G.Hempel :122 176‬‬
‫هوبس توماس ‪.T.Hobbes : 212 216‬‬
‫هوركهايمرـ ماكس ‪M.Horkheimer :35 36 37 38 39 43 44 52 61 65 69 73 75 85 141 183‬‬
‫‪.189 204 205 228‬‬
‫هونيث أكسيل ‪ : A.Honneth‬د ه ‪210 209 208 207 206 205 204 189 186 165 44 40 39 36‬‬
‫‪.226 225 224 223 222 221 220 219 218 217 216 215 213 212‬‬
‫هيدغر مارتن ‪.M.Heidegger :30 31 32 38 47 48 49 50 59 60 69 107 154 196 223 224‬‬
‫هيغل فريديرك ‪.G.W.F.Hegel :28 76 124 134 149 165 196 208 210 212 213 216‬‬
‫هيوم دافيد ‪.D.Hume : 118 143‬‬
‫وهبه مراد ‪.23:‬‬
‫وهبه موسى‪.114:‬‬
‫ويفر واين ‪.W.Weaver : 28‬‬
‫وينيكوث دونالدـ ‪.D.Winicotte : 218‬‬
‫ياكبسون رومان ‪.R.Jakobson : 25‬‬
‫يوناس هانس ‪.H.Jonas :15 16 17 63 109 131 147 152 153 154 155 229‬‬

‫‪242‬‬
‫فهرس ألهم المصطلحات‬
‫اإلبستمولوجيا (‪.58 122 123 188 :)Épistémologie‬‬
‫اإلتيقا (‪ :)Éthique‬أ ب ج ز‪97 93 87 86 84 81 80 65 64 63 43 22 21 19 18 15 13 12 11 10‬‬
‫‪175 174 173 172 171 170 147 146 145 142 140 139 138 137 136 135 134 132 131 130‬‬
‫‪.196 182 181 180 177 176‬‬
‫إتيقا البيئة (‪.14 15 64 :)Éthique de l’environnement‬‬
‫اإلتيقا التطبيقية (‪.13 132 :)Éthiques appliquées‬‬
‫إتيقا التواصل‪ ،‬إتيقا النقاش‪ ،‬إتيقا المسؤولية‪ ،‬أخالقيات التواصل‪ ،‬أخالقيات النقاش‪ ،‬أخالقيات الحوار (‬
‫‪ :) Éthique de la communication - Éthique de la discussion‬أ ب ج د و ‪25 21 15 14‬‬
‫‪139 138 137 136 135 134 133 132 127 109 106 97 87 85 83 82 81 68 65 64 63 36 33 26‬‬
‫‪166 162 159 158 157 156 155 154 153 152 151 150 147 146 144 145 143 142 141 140‬‬
‫‪228 226 211 202 201 200 197 194 193 192 191 190 186 183 177 175 173 172 170 168‬‬
‫‪.230 229‬‬
‫اإلتيقا المهنية ( ‪.14 20 21 64 :)Éthique professionnelle‬‬
‫اإلجماع (‪ :)Consensus‬ز ‪.230 228 187 182 197 147 132 105 104 86 78 70 26‬‬
‫األخالق (‪10 11 13 21 22 42 52 82 93 127 130 131 132 137 140 141 145 148 149 154 162 :)Morale‬‬
‫‪.167 168 176 177 178 190 194 203 208 211 212 215 226 229‬‬
‫األنثروبولوجياـ (‪.28 81 174 :)Anthropologie‬‬
‫األنطولوجيا (‪.47 48 126 171 216 :)Ontologie‬‬
‫إعادة البناء‪ ،‬التشيدوية ( ‪ :)Reconstructionnisme‬ز ‪.200 142 127 115‬‬
‫االعتراف (‪ :)Reconnaissance‬ه ‪214 213 212 211 210 209 208 205 204 191 186 82 77 76 44 36‬‬
‫‪.230 225 224 222 220 219 218 217 216 215‬‬
‫اإليثوغرافيا‪ ،‬اإليثولوجيا (‪.11 :)Éthographie, Éthologie‬‬
‫اإليديولوجيا (‪.70 151 176 178 182 :)Idéologie‬‬
‫البنيوية (‪.29 187 :)Structuralisme‬‬
‫البراديغم‪ ،‬األنموذج (‪ :)Paradigme‬أ ب ‪135 126 125 124 108 102 101 99 100 98  97 62 44 36‬‬
‫‪.204 205 206 308 144 176‬‬
‫البراجماتزمـ (‪ :)Pragmatisme‬ه ‪.190 187  125 110 65 60 57 56 45 10‬‬
‫البيئة (‪ :)Environnement‬د ‪.178 177 175 169 154 148 144 130 15‬‬
‫البينذاتية (‪ :)Intersubjectivité‬د ‪.86 107 108 117 118 119 125 144 150 170 172 188 213 84 82 81 10‬‬
‫البيوإتيقا (‪.14 17 18 19 64 83 :)Bioéthique‬‬
‫البيولوجياـ (‪.18 19 83 130 132 :)Biologie‬‬
‫التأسيس النهائي (‪ :)Fondation ultime‬أ جز‪133 134 137 15 127 115 96 9495 92 8991 88 87 31 27‬‬
‫‪.230  1 159 162 166 173 176 186 188 195 196 197 200 201 202 203 225 226‬‬
‫التأسيسوية (‪ :)Fondationnisme‬ج ز ‪.115 116‬‬
‫التجريبية المنطقية‪ ،‬الوضعية المنطقية (‪42 51 52 :)Empirisme logique -Positivisme logique‬‬
‫‪.71 125 135 155 175 186 187‬‬
‫التحليل النفسي (‪.18 164 188 :)Psychanalyse‬‬
‫التداولية‪ ،‬البراجماتية (‪ :)La Pragmatique‬ج ‪102 110 111 1   99 100 101 81 65 56 55 54 52 29 10‬‬
‫‪.191 194 230  168 176 119 125 127 138 144 151 164 12 113 117‬‬
‫التداولية الترنسندنتالية ( ‪ :)Pragmatique transcendantale‬أ ب ج د ه ز ‪63 56 55 50 32 31‬‬
‫‪125 124 122 121 118 117 116 115 114  113 110 106 103  102 99 98 94 91 89 86 68 65 64‬‬
‫‪ .229 230  228  201  196  183 186  175 182  159 167  157  145 147  143 144  137  136  127  126‬‬
‫التداولية الشاملة أو الشكلية (‪ :)Pragmatique universelle ou formelle‬أ ‪86 80 72 68 65 63 32 10‬‬
‫‪.199 196 145 116 127 115 113 112 110 95 94 93 91 89 88 87‬‬

‫‪243‬‬
‫الترنسندنتالية‪ ،‬المتعالية ‪ :))Transcendantalisme‬أ ج ه ‪106 98 88 65 64 62 59 55 31 27 10‬‬
‫‪143 138 137 134 133 127 126 125 124 123 121 120 119 118 117 116 115 114 113 107‬‬
‫‪.230 229 228 201 199 196 195 194 180 176 168 149 148 144‬‬
‫التشيؤ (‪.204 222 223 224 225 :)Réification‬‬
‫التضامن (‪.58 91 109 136 138 139 146 150 166 170 218 219 220 :)Solidarité‬‬
‫التفكيك (‪.125 127 :)Déconstruction‬‬
‫التقنية‪ ،‬التكنولوجيا (‪ :)Technique -Technologie‬ب د ‪138   135 131 132 130 84 76 74 28 27 16 14‬‬
‫‪.225 229 230 223 190 183 173 172 171 170 169 168 167 159 154 153 147 148 150 151 140 145‬‬
‫التواصل (‪ :)Communication‬أ ب ج ز ‪78 72 71 65 64 52 44 38 33 32 29 28 27 26 25 24 23 22 21 10‬‬
‫‪154 147 148 151 146 130 125 122 115 111 108 107 105 100 103 99 98 97 91 86 85 84 82 81 80 79‬‬
‫‪.230 167 172 173 181 182 183 187 188 191 192 193 197 198 200 203 204 205 206 207 208 225 229‬‬
‫التوتاليتارية (‪.40 70 :)Totalitarisme‬‬
‫الثيولوجياـ (‪.147 171 179 :)Théologie‬‬
‫جنيالوجيا (‪.10 70 :)Généalogie‬‬
‫الحب (‪.212 213 218 219 :)Amour‬‬
‫الحجاج‪ ،‬المحاجة (‪ :)Argumentation‬د ‪125 118 115 105 104 103 94 92 91 89 87 86 84 82 80 10‬‬
‫‪.228 214 211 203 200 194 191 176 172 156 154 146 143 141 138 127‬‬
‫الحداثة (‪.16 40 41 42 81 93 152 153 189 228 :)Modernité‬‬
‫الحرية (‪.1680 140 166 192 :)Liberté‬‬
‫الدوغمائية‪ ،‬الوثوقية (‪.35 96 121 202 :)Dogmatique‬‬
‫الدياليكتيك (‪.76 114 124 127 137 170 171 172 175 183 :)Dialectique‬‬
‫الديمقراطية (‪.161 190 197 199 :)Démocratie‬‬
‫الدينوتولوجيا‪ ،‬علم الواجب‪ ،‬الواجباتية (‪.158 :)Déontologie‬‬
‫السميوطيقا (‪ :)Sémiotique‬ب ج ه ‪ 98 101 102 117 118 121 124 125 126 127 65 60 59 56 45 31 29‬‬
‫‪.229‬‬
‫السمانطيقا‪ ،‬علم الداللة (‪.29 95 100 101 102 112 113 :)Sémantique‬‬
‫السياقوية (‪.87 119 :)Contextualisme‬‬
‫الشموليانية‪ ،‬الكليانية (‪.195 196 198 199 :)Universalisme‬‬
‫الصالحة‪ ،‬الصالحية (‪25 81 88 89 90 93 94 115 117 118 120 121 123 125 136 137 140  :)Validité‬‬
‫‪.143 148 150 170 172 192 194 202 228‬‬
‫العدل‪ ،‬العدالة (‪.130 131 132 136 158 160 161 162 166 177 192 197 199 208 211 :)Justice‬‬
‫علم االجتماع (‪.28 81 111 188 :)Sociologie‬‬
‫علم البيئة (‪.15 :)Écologie‬‬
‫علم النفس (‪.28 214 :)Psychologie‬‬
‫العقد االجتماعي (‪.17 228 :)Contrat social‬‬
‫عقد طبيعيـ (‪.17 :)Contrat naturel‬‬
‫العقالنية األداتية (‪.26 72 74 75 158 159 175 189 228 :)Rationalité instrumentale‬‬
‫العقل األداتي‪ ،‬الفعل األداتي (‪26 43 70 72 73 74 :)Raison instrumentale - agir instrumentale‬‬
‫‪.75 77 78 85 138 150 189 190‬‬
‫العقالنية التواصلية (‪2526 72 73 95 109 113 137 159 175 :)Rationalité communicationnelle‬‬
‫‪.228‬‬
‫العقل التواصلي‪ ،‬الفعل التواصلي (‪:)Raison communicationnel - agir communicationnel‬‬
‫ج ‪.94 112 93 87 85 80 79 78 77 76 75 72 68 43 40 39 26‬‬
‫العقالنية النقدية (‪ :)Rationalité critique‬ز ‪.188  176187  109 168 71 61 42 33‬‬
‫الفضاء العمومي‪ ،‬الميدان العام (‪.62 70 71 79 80 88 110 198 134 145 155 :)Espace publique‬‬

‫‪244‬‬
. 72 77 75 85 :)Agir stratégique( ‫الفعل االستراتيجيـ‬
183 132 143 149 156 170  130 97 26 22 21 19 13 11 ‫ أ ب‬:)Philosophie morale( ‫فلسفة األخالق‬
.197210 215
55 54 52 51 34 33 31 29 26 25 ‫ ب د ه و ز‬:)Philosophie de la communication( ‫فلسفة التواصل‬
217 103 105 107 108 113 126 142 144 146 186 187 188 195 197 198 199 207 209 84 82 76 68 64 59
.225 226 228
.58 228 50 31 ‫ أ‬:)Philosophie anglo-saxonne ( ‫الفلسفة األنجلوساكسونية‬
.43 87 89 91 164 :)Philosophie de l’histoire( ‫فلسفة التاريخ‬
143 68 102 124 125 126 127 55 52 51 50 48 33 31 ‫ أ ب‬:)Philosophie analytique( ‫الفلسفة التحليلية‬
. 168 187
.26 149  183197 :)Philosophie politique( ‫الفلسفة السياسية‬
.58 127 143 50 31 ‫ ب‬:)Philosophie continentale( ‫الفلسفة القارية‬
.99 101 113 121 126 228 98 97 86 56 32 29 25 ‫ أ ب‬:)Philosophie du langage( ‫فلسفة اللغة‬
.46 :)Philologie( ‫ فقه اللغة‬،‫الفيلولوجيا‬
.38 51 76 107 108 115 125 127 137 213 215 217 :)Phénoménologie( ‫الفينومينولوجيا‬
.24 28 29 111 188 :)Linguistique( ‫اللسانيات‬
111 108 102 100101 99 98 97 91 89 86 85 82 64 62 55 53 51 47 32 29 27 10 ‫ ب د‬:)Langage( ‫اللغة‬
.206 211 217 225 228  112 113 118 119 120 121 124 126 127
.40 41 149 150 154 179 181 182 198 :)Postmodernité( ‫ما بعد الحداثة‬
.35 41 62 70 150 170 171 182 205 228 :)Marxisme( ‫الماركسية‬
33 28 ‫ أ ب ج د ه و ز‬:)Ecole de Francfort - théorie critique( ‫ النظرية النقدية‬،‫مدرسة فرانكفورت‬
186 182 142 132 112 129 91 85 82 80 75 73 71 68 65 64 62 61 52 51 44 43 42 40 39 38 35 34
.192 195 197 203 204 205 206 209 217 228 230  191  189
87 106 109 131 136 139 143 145 146 147 148 63 22 17 16 15 10 ‫ د‬:)Responsabilité( ‫المسؤولية‬
.183215 216  150 151 152 153 154 155 156 162 166 171
.196 199 :)Absolutisme( ‫المطلقوية‬
65 64 63 56 55 52 51 50 10 ‫ ب ج ه‬:)Tourrnant linguistique( ‫ المنعطفـ اللساني‬،‫المنعرج اللغوي‬
.99 111 144 198 205 207 98
.88 176 198 199 :)Relativisme( ‫النسبوية‬
 95 104 105 106 94 91 89 88 87 86 84 83 82 80 78 70 25 22 10 ‫ د‬:)Discussion( ‫ المناقشة‬،‫النقاش‬
206 107 108 109 115 124 131 132 138 139 140 146 147 152 166 167 183 191 193 194 196 200 201
.208 211 228 229 230
118 117 114 96 95 94 93 91 87 85 75 73 72 71 70 68 63 62 61 57 51 42 35 ‫ ب ه ز‬:)Critique( ‫النقد‬
206 204 203 123 135 149 153 154 155 176 186 188 189 190 191 192 193 197 198 199 200 201 202
.223 224 229
121 119 118  65 63 60 50 49 48 47 46 45 ‫ ب‬:)Herméneutique( ‫ـ الفلسفة التأويلية‬،‫الهرمنيوطيقا‬
.168 176 187 202 149  127 124 122
.50 107 164 175 176 :)Existentialisme( ‫الوجودية‬

245
‫فهرس المحتويات‬
‫مقدمة‪ ..................................................................................................‬أ‪ -‬ز‬
‫الفصل األول‪ :‬المرجعيات الفلسفية لتأسيسوية آبل ‪65 - 8.........................................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬اإلطار المفاهيمي للبحث‪10............................................................‬‬
‫مدخل‪10......................................................................................................‬‬
‫المطلب األول‪ :‬مفهوم اإلتيقا ومجاالتها‪10..............................................................‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬مفهوم التواصل ومجاالته‪22...........................................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬اإلطار التاريخي والفلسفي للبحث‪30................................................‬‬
‫المطلب األول‪ :‬كارل أوتو آبل ومدرسة فرانكفورت‪30..............................................‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬المرجعيات الفلسفية المتعددة آلبل‪44.................................................‬‬
‫خالصة‪64...................................................................................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬إشكالية التواصل بين هابرماس وآبل‪127-66.....................................‬‬
‫مدخل‪68......................................................................................................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬المشروع الفلسفي التواصلي لهابرماس‪69.........................................‬‬
‫المطلب األول‪ :‬نظرية الفعل التواصليـ لهابرماس‪69.................................................‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬آبل والتفكير مع هابرماس ضد هابرماس‪86........................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬المشروع الفلسفي التواصلي آلبل‪97...............................................‬‬
‫المطلب األول‪ :‬أسس التواصل عند آبل‪97.............................................................‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬التداولية الترنسندنتالية آلبل‪110......................................................‬‬
‫خالصة‪127.................................................................................................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬إتيقا (أخالقيات) التواصل عند آبل‪183 -128 .....................................‬‬
‫مدخل‪130....................................................................................................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬إتيقا النقاش والمسؤولية‪132 ........................................................‬‬
‫المطلب األول‪ :‬اإلتيقا والنقاش‪132......................................................................‬‬
‫‪246‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬اإلتيقا والمسؤولية‪146..................................................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬إتيقا العلم والسياسة‪167.............................................................‬‬
‫المطلب األول‪ :‬اإلتيقا والعلم‪167........................................................................‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬اإلتيقا والسياسة‪177....................................................................‬‬
‫خالصة‪182.................................................................................................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬ما بعد فلسفة التواصل‪226 -184....................................................‬‬
‫مدخل ‪186...................................................................................................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬فلسفة التواصل من منظور نقدي‪187 ..............................................‬‬
‫المطلب األول‪ :‬حدود فلسفة التواصل‪187..............................................................‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬جان مارك فيري والتفكير مع آبل ضد آبل‪196....................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬نحو تجاوز المشروع الفلسفي التواصلي‪204.....................................‬‬
‫المطلب األول‪ :‬أكسيل هونيث والتفكير مع آبل وهابرماس ضد آبل وهابرماس‪204............‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬من إتيقا التواصل إلى إتيقا االعتراف‪208...........................................‬‬
‫خالصة ‪226................................................................................................‬‬
‫خاتمة‪230-227...........................................................................................:‬‬
‫الفهرس‪247-231........................................................................................:‬‬
‫فهرس المصادر والمراجع‪232..........................................................................‬‬
‫فهرس األعالم‪238.........................................................................................‬‬
‫فهرس المصطلحات‪243..................................................................................‬‬
‫فهرس المحتويات‪246....................................................................................‬‬

‫‪247‬‬

You might also like