الغربان PDF

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 113

‫كوب القهوة الساخن في اليد اليمنى متصاعدا ً منه بعضا ً من البخار وباليد اليسرى حفنة من األوراق المهمة‬

‫يقف شابٌ دخل هذا‬


‫والتي تحمل في طياتها عديد القضايا والموضوعات ذات األهمية القصوى‪ ،‬بالجوار ُ‬
‫ٌ‬
‫عرق يتصبب في الجلسة األولى‬ ‫المبنى الشاهق للمرة األولى‪ ،‬بالكاد يستطيع اإلمساك بهذا الكوب الساخن‪،‬‬
‫لهذا الشاب اليافع‪ ،‬كنت أنا هذا العضو الجديد بمجموعة " الغربان " التي تعمل خلف الظل‪ ،‬القوى المحركة‬
‫يحدث بهذا البلد‪ ،‬ال يعرفون للمزاح وال التهاون طريقاً‪ ،‬مركز مناقشة القرارات قبل أن تخرج للنور‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لكل ما‬
‫مجموعة ال يتوقف طموحها قط‪ ،‬البداية كانت منذ ما يقارب الخمسة عشر عاما ً وليس للنهاية معنى في‬
‫قاموسهم المتعارف عليه‪.‬‬

‫كنت مجرد مستمع ليس أكثر باالجتماع األول في حضرتهم‪ ،‬النظام السمة السائدة داخل هذه الغرفة الكبيرة‪،‬‬
‫كل ملف يأخذ ُ وقتا ً محددا ً من الحديث عنه‪ ،‬وبنهاية الوقت تطر ُح المقترحات والحلول وتكون الغلبة للحل‬
‫األقوى واألمثل‪ ،‬هل أنت سعيد ُ معنا خيرت ؟ نعم سيد نزار أنا سعيد لتواجدي معكم للمرة األولى وأتمنى أن‬
‫أثبت كفاءة للبقاء هنا أطول فترة ممكنة‪ ،‬كانت تلك أولى كلماتي في هذا االجتماع‪ ،‬حينها كنتُ أدون بعض‬
‫المالحظات واألفكار عساها تجدي نفعا ً في قادم المواعيد‪.‬‬

‫حان وقت الخروج من باب هذه الغرفة وبدأ القلق ينسل بداخلي من هو ِل ما سمعته داخلها‪ ،‬للحظ ٍة شعرت أن‬
‫أية حلول أو مقترحات مقدمة إليهم لن تكون كافية وبدأت التفكير بأن أيامي ستكون معدودة داخل هذا المبني‬
‫الشاهق‪ ،‬حاولتُ جاهدا ً طرد تلك األفكار التي ال أساس لها من الصحة على األقل حالياً‪ ،‬بدالً من إطالق‬
‫أفكر في مواكب ِة ما يدور هنا‪ ،‬أعلم أن هذا لن يكون باألمر اليسير ولكن هذا‬
‫نوبات البكاء عديمة الفائدة بدأت ُ‬
‫أفضل بكثير من الشكوى‪ ،‬أثناء طريقي للعودة لم ينقطع تفكيري قط ولم أشعر بنفسي سوى عند لحظة نداء‬
‫السائق بأني قد وصلتُ أخيرا ً إلي المنزل‪.‬‬

‫لم يكن من الجيد إضاعة الكثير من الوقت في التفكير‪ ،‬بمجرد الوصول للمنزل أغلقت باب غرفتي وجلست‬
‫على مكتبي وأحضرت حفنة من األوراق مشابهة لتلك التي كانت بأيديهم‪ ،‬بدأت أض ُع تصورات لقادم‬
‫لي مجاراة األعضاء‪ ،‬ال مكان للعاطفة وال‬ ‫االجتماعاتِ‪ ،‬كان لزاما ً قتل ذلك العضو المسمى القلب حتى يتسنى ً‬
‫مكان لإلنسانية بينهم‪ ،‬تلك هي القاعدة األولى للغربان‪ ،‬وبمجرد شعورهم بأنك تمتلك ولو قدرا ً طفيفا ً منها‬
‫ستلقى خارج هذا المبنى بال عودة‪.‬‬

‫صباح اليوم التالي كان الكثير من الفضول يراودني حول نزار وكيف وصل إلى اعتالء هرم المجموعة ؟ لم‬
‫أكن أعرف عنه سوى بعض المعلومات‪ ،‬شخص حاد الطبع وجاد في عمل ِه عالوة على ذلك يتمتع بدهاء‬
‫كبير‪ ،‬تركت السؤال جانبا ً ومضيت قدما ً في محاولة تفهم قواعد اللعبة‪ ،‬اإللهاء كان يشك ُل القاعدة األولى‬
‫ستثير بعض القرارات المتخذة الكثير من السخط داخل أروقة البيوت‪ ،‬ستشع ُل فتيل‬ ‫ُ‬ ‫واألهم لتلك اللعبة‪ ،‬فحتما ً‬
‫الغضب عند أحزاب المعارضة وحينها يتحول األمر إلى صداع نحنُ في غنى عنه‪.‬‬

‫شاب يدعى " يوسف " على مدخل الجامعة وبيده بعض األوراق التي تحث الطالب‬ ‫ُ‬ ‫يقف‬
‫في الجهة المقابلة ُ‬
‫على االنضمام للحزب الجديد‪ ،‬ي علم تمام العلم هذا الشاب ناصع البياض بأن اإلقبال لن يكون بالقدر المأمول‬
‫ولكن ال مانع من بعض المحاوالت هنا وهناك‪ ،‬يلهث ورائهم يمينا ً ويسارا ً عساه يجذب االنتباه ولكن دون‬
‫خمس وعشرون طالبا ً من اهتموا بشأن هذا الحزب‪ ،‬في الحقيقة لم يكن عدد المنضمين يمث ُل‬ ‫ُ‬ ‫جدوى‪ ،‬فقط‬
‫هاجسا ً كبيرا ً بالنسبة له بل كان يطم ُح لهدف أسمى من ذلك‪ ،‬فقط يريد رؤية األمل في عيون من حملت أيديهم‬
‫تلك األوراق‪ ،‬يمقتُ نظرة اليأس والالمباالة ولكن كانت هي النظرة السائدة رغما ً عن أنفه‪.‬‬
‫ليرحب بهم‪ ،‬لكن المفاجأة كانت‬
‫َ‬ ‫جاء موعد ُ المؤتمر األول للحزب وكان " يوسف " يقف منتظرا ً األعضاء‬
‫تمكنُ بظهور عضو جديد سمع بشأن الحزب من حديث الطالب‪ ،‬فتاة ٌ جميلة ذات شعر طويل وصاحبة عيون‬
‫شديدة السوادِ‪ " ،‬نضال " استمعت لبعض األحاديث الجانبية وقررت الحضور لمعرفة ما يدور بهذا المقر‪،‬‬
‫شعرت أنها وجدت ضالتها أخيرا ً فهي ناشطة حقوقية تنادي بفساد المنظومة‪ ،‬كان ميالد الحزب نقطة التقاء‬
‫منبر من خالله تستطيع البوح بكامل األسرار في إطار قانوني كامل دون وجود أية مناوشات تذكر‪.‬‬‫بينهم‪ُ ،‬‬
‫مر المؤتمر سريعا ً وأحس " يوسف " أن أمر الحزب لن ينتهي سريعا ً كالبقية‪ ،‬يرى أن اإليمان الطريق‬
‫الوحيد للبقاء أ طول فترة ممكنة على الساحة‪ ،‬لم يكترث بشأن العدد في البداية بعكس " نضال " التي كانت‬
‫تخالفه الرأي و ترى أن العدد هو مفتاح بقاء الحزب وتوسعه في شتى أنحاء البالد‪ ،‬ظهر هذا جليا ً حين تحدث‬
‫ك ُل منهم وألقى بكلمته‪ ،‬ما لبث أن انتهى المؤتمر حتى اتجه مسرعا ً نحوها مبادرا ً بسؤالها هل ستكون هذه‬
‫لك ؟ أجابت بابتسامة عريضة ال لن تكون المرة األخيرة‪ ،‬اعتلت البسمة وجههُ ولم يمنع مخيلته‬ ‫المرة األخيرة ِ‬
‫في التفكير بنجاح هذا الحزب وانتشاره في أنحاء البالد‪.‬‬

‫القدر أن يرحب بي‪ ،‬مفاجأة هزت أرجاء البالد وبثت الرعب والفزع‪ ،‬حادث‬ ‫ُ‬ ‫بينما كنت أغط في النوم أراد‬
‫تصادم على الطريق أودى بحياة الركاب‪ ،‬استقبلتُها بذهول شديد في الصباح ولكن مع بعض الهدوء أيقنتُ أن‬
‫الفرصة أتت من الباب الكبير‪ ،‬سريعا ً حدثت اتصاالت وتم تحديد موعد اجتماع طارئ لمناقشة ما حدث‪،‬‬
‫القلق بدا واضحا ً على‬
‫ُ‬ ‫حسنا ً هذا هو الوقت المناسب لتقديم أوراقي اعتمادي كعضو مهم بين أروقة المجموعة‪،‬‬
‫وجوه من في الغرفة والكل ح َل عليه الصمت التام بانتظار كلمة السيد " نزار " ‪.‬‬

‫" نحن في موقف ال نحسد عليه‪ ،‬الحادثة جاءت في توقيت قاتل‪ ،‬البد لنا من حلول تهدأ من روع الرأي العام‪،‬‬
‫واألهم إرضاء عائالت الضحايا‪ ،‬الوقت ليس في صالحنا‪ ،‬نريد إغالق هذا الملف بأسرع وقت ممكن " تلك‬
‫كانت كلماته التي افتتح بها هذا االجتماع الطارئ‪ ،‬بدأ األعضاء يدلون بدلوهم بشأن ما حدث‪ ،‬الكل أجمع‬
‫تقريبا ً على تعويض مادى لعائالت الضحايا‪ ،‬كنتُ شارد الذهن حين بدأ بسؤالي قائالً " وماذا عنك خيرت ؟‬
‫أظن أن التعويض المادي لن يكون كافيا ً والبد من حل أقوى المتصاص غضبهم‪ ،‬إقالة الوزير قد تكون بمثابة‬
‫رشفة الدواء التي تريح المريض من عناء األلم "‪.‬‬

‫تلك الكلمات البسيطة أثارت دهشة البعض منهم وحازت على إعجاب البعض اآلخر‪ ،‬حتى أنا قبل دخولي من‬
‫باب هذه الغرفة لم أكن ألفكر بمثل هكذا حل! ولكن ال بأس بقليل من المغامرة‪ ،‬الصمت الذي مأل المكان‬
‫حينها كان كفيالً بتسلل القلق بداخلي قبل أن يقطعه حديث السيد نزار" اقتراح مجنون من شاب واعد ولكن ال‬
‫بأس به " ‪ ،‬تلك الكلمات أثلجت صدري وبثت مزيدا ً من الثقة والهدوء لي‪ ،‬ووافقت األغلبية عليه قبل أن‬
‫لصحف الغ ِد الصادرة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يكون العنوان الرئيسي‬

‫ب شدي ٍد ورادعٍ للمسئولين عن هذه الفاجعة‪،‬‬


‫في هذه األثناء تعالت األصوات داخل الحزب تنادي بعقا ٍ‬
‫نظرهم‪ ،‬مرة أخرى حاز " يوسف " على إعجاب الحاضرين‬ ‫التعويضات المادية لن تكون كافية بالطبع في ِ‬
‫من فصاحته‪ ،‬كان يمتلكُ لسانا ً يستطيع من خالله تحريك الصخر ! في اليوم التالي انتشر خبر اإلقصاء في‬
‫اإلعالم ووصل لمقر الحزب وغمرت السعادة المكان‪ ،‬ظن خاطئا ً أن كلمات الحزب أتت أكلها وأن الرضوخ‬
‫لمطالبهم قد تحقق‪ ،‬في ظاهر األمر كان رضوخا ً بالفعل وهذه كانت الرسالة التي أردنا إيصالها ليوسف لكن‬
‫ُ‬
‫ونسبق حزبهُ بخطوة اآلن‪.‬‬ ‫في باطن األمر نحن نسبقهُ‬

‫أشعة الشمس حملت معها األنباء الجيدة‪ ،‬انهالت عبارات الثناء من الصحف الصادرة وظهر ذلك جليا ً في‬
‫برت عائالت الضحايا عن رضاها التام بتلك‬
‫العناوين الرئيسية‪ ،‬لم تتوقف األنباء عند هذا الحد بل ع َ‬
‫القرارات‪ ،‬عندها فقط تم إغالق ملف هذه القضية تماما ً وبدأ التحضير لقضايا ال تقل أهمية عن سابقتها‪،‬‬
‫االبتسامة كانت تعلو وجوه الحاضرين مؤتمر الحزب وأيقنوا أن حديثهم وحديث غيرهم من المعارضين لم‬
‫يذهب أدراج الرياح وأنهم وضعوا المسئولين تحت ضغط تام‪ ،‬وأن تلك القرارات ما هي إال بداية مولد حزب‬
‫قد يكون له باعُ كبير في المستقبل‪.‬‬

‫ق‪ ،‬ساورتني عديد‬ ‫أشعر براح ِة البال كما في الساب ِ‬


‫ُ‬ ‫أفكر كثيراً‪ ،‬لم أكن‬
‫ُ‬ ‫فور العودةِ إلى المنز ِل ليلتها جلستُ‬
‫سأكتسب الثقة يوما ً بعد يوم ولكن ماذا عن‬
‫ُ‬ ‫الشكوك والمخاوف‪ ،‬نعم سأكون عضوا ً قويا ً ذو كلمة رنانة‪ ،‬نعم‬
‫أذكر جليا ً لحظة انضمامي لتلك المجموعة كان هناك وعد ُ باحترام‬ ‫ُ‬ ‫ذلك الجزء اإلنساني الذي لطالما قدستهُ ؟‬
‫االنسانية مهما كانت صعوبة القضايا والملفات‪ ،‬هل ستبقى الوعود كما هي ؟ هل سيبقى ذلك الجزء اإلنساني‬
‫بعيدا ً كل البع ِد عن تلك الحسابات التي تُصفى داخل الغرف ال ُمغلقة ؟‬

‫ق فور صعودي المبنى‬ ‫بعض القل ِ‬


‫ُ‬ ‫في اليوم التالي تالشت تلك األفكار ولو مؤقتا ً وازدادت الثقة وانزاح‬
‫الشاهق‪ ،‬هذه القضية كانت بمثابة تقديم نفسي كعضو ال يُستهان به فيما بعد‪ " ،‬حسنا ً يبدو أن العضو الجديد‬
‫الجالس بينكم قد أبلى بالء حسنا ً في االختبار األول له وعليكم الحذر منه فيما بعد‪ ،‬يبدو أنه يريد المقعد الذي‬
‫اختتم السيد " نزار " حديثه ‪ ،‬الحديث الذي كان بمثابة شهادة جيدة قد‬ ‫َ‬ ‫ببعض من المزاح‬
‫ٍ‬ ‫أجلس عليه أنا "‬
‫يكون لها مفعول السحر وتمكنني من الدخول سريعا ً في أجواء العمل‪.‬‬

‫قبل الدخول في صميم االجتماع وقفتُ لبضع ِة دقائق أتاب ُع عن بعد تعبيرات األعضاء‪ ،‬هل يعيرون الجانب‬
‫اإلنساني نفس القدر من االهتمام الذي أعيرهُ له أم أن ذلك الجزء قد اختفى كلية ؟ لو وقعوا في اختبار‬
‫بعض من ما تبقى من الدخان المتصاعد ذكرني بكوب القهوة الذي أنستني إياهُ‬ ‫ُ‬ ‫اإلنسانية ما موقفهم حينها ؟‬
‫سخونة األسئلة‪ ،‬شربته على عجل ٍة من أمري وتناسيتُ مؤقتا ً أمر األجوبة لحين االنتهاء من االجتماع القادم‬
‫بعد بضعة دقايق‪.‬‬

‫الهدف‬
‫ُ‬ ‫الحديث ممزوجا ً بالهدوء وكان‬
‫ُ‬ ‫طاولة االجتماعات هذه المرة لم تحمل قضية مثيرة للجدل كثيراً‪ ،‬كان‬
‫ضربة أخرى تعيد ُ الثقة أكثر بعد تلك الفاجعة‪ ،‬انتشرت المقاالت عن اإلهمال الصحي ببعض القرى الصغيرة‬
‫وتعالت أصوات المعارضين مجددا ً وكان ذلك يمث ُل فرصة أخرى للني ِل من المسئولين ثانية‪ ،‬بالطبع " يوسف‬
‫ونضال " كانا في الموعد مرة أخرى ولم تتوقف أسهم النقد الموجهة‪ ،‬هذه المرة لم يكن األمر بحاجة‬
‫دعم كام ٍل لتلك القرى الصغيرة‪ ،‬لكن شيئا ً ما بداخل السيد "‬
‫لمقترحات خارج الصندوق واتفقت األغلبية على ٍ‬
‫نزار " يحدثهُ أن ذلك الدعم لن يكون كافيا ً وأن أسهم النقد لن تتوقف‪ " ،‬الدعم سيشمل العاصمة والمدن‬
‫الرئيسية في البالد " هكذا علق على هذا الشأن‪ ،‬واتفق الجمي ُع مع هذا الرأي‪.‬‬
‫وسائل اإلعالم تناولت خبر الدعم الصحي وأشادت بهذه القرارات المهمة‪ ،‬نوعا ً من الرضا ساد أرجاء‬
‫يرتكز على أهم عضوين " يوسف ونضال " هذه األيام انخفضت قليالً‬ ‫ُ‬ ‫المعارضين وباألخص الحزب الذي‬
‫الحزب أخيرا ً اإلشادة بالقرارات األخيرة وأنه يتمنى عدم توقفها في المستقبل القريب‪ ،‬هذا‬
‫ُ‬ ‫نبرة االنتقاد وقرر‬
‫ما كُنا نريد وأكثر في هذا التوقيت تحديداً‪ ،‬فالمرحلة القادمة على ما يبدو تحمل الكثير في جعبتها ونحن بصد ِد‬
‫تحول كبير في مستقب ِل هذه المجموعة‪.‬‬

‫تكثر بمرور األيام‪ ،‬لكنَ كُ َل هذا لم يكن كافيا ً بالنسبة‬


‫ُ‬ ‫كان النجا ُح يزداد ُ يوما ً تلو اآلخر وعبارات اإلشادة بدأت‬
‫لي‪ ،‬في تلك اللحظة لم أملك أية تعليقات سلبية خالل فترتي القصيرة بالمجموعة‪ ،‬الوعود تنفذ ُ وال مساس‬
‫سيستمر شهر العسل هذا معهم ؟ ال جدوى من تلك األسئلة على األقل في‬ ‫ُ‬ ‫باإلنسانية على اإلطالق ولكن هل‬
‫تلك المرحلة خصوصا وأن المرحلة القادمة ستشهد ُ عديد التطورات‪ ،‬أخيرا ً قررتُ الخلود إلى النوم قبل ٍ‬
‫يوم‬
‫ق بالغد‪.‬‬
‫شا ٍ‬
‫يغير من‬
‫ملف قد ُ‬‫ملف آخر في الطريق‪ٌ ،‬‬ ‫يبدو أن العمل داخل أروقة تلك المجموعة لن يتوقف على اإلطالق‪ٌ ،‬‬
‫شأن تلك الغرفة على األقل في السنوات القادمة‪ ،‬غرفة العمليات باتت تعمل أرب ُع وعشرون ساعة‪ ،‬وسائل‬
‫الضخم‪ ،‬حتى المعارضون لم يمنعوا خيالهم من التفكير بشأنه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ث‬
‫اإلعالم خاصتنا بدأت تعد ُ عدتها لهذا الحد ِ‬
‫الملف وعن رؤيتهم فيما قد يحدث‪ ،‬الصحف العالمية انهالت بالعناوين‬
‫ِ‬ ‫العامةُ ال حديث لهم سوى عن ذلك‬
‫يدور داخل البالد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫القوية لمواكبة ما‬

‫االنتخابات الرئاسية تدنو شيئا ً فشيئا ً ومع اقترابها هناك حفنةُ من القرارات يجب مناقشتُها قبل خروجها للنور‪،‬‬
‫سيستمر كما هو في منصب ِه ولكن مع ترويج أكثر يحم ُل الموضوع طابع الديموقراطي ِة‬‫ُ‬ ‫ليس خفيا ً أن الرئيس‬
‫والنزاه ِة‪ ،‬األحزاب المنتشرة في البالد لم يكن بمقدورها المنافسة‪ ،‬مرشحون مجهولون بالنسبة للرأي العام‪،‬‬
‫الحزب الذي ينشطُ فيه " يوسف ونضال " كان لتوه بدأ العمل السياسي فاختار أن يقف في صف المرشح‬
‫العلم أنها محاولة مصيرها الفش ُل‬
‫الذي قد يمتلك أكبر فرصة لقلب الطاول ِة على النظام‪ ،‬بداخلهم يعلمون تمام ِ‬
‫بعض المناوشات على الساح ِة االنتخابي ِة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ال محالة ولكن ال مانع من‬

‫تلفز يخر ُج فيه الرئيس لشعب ِه محدثا ً إياهم عن برنامجه االنتخابي‪ ،‬بدأت الترتيبات‬
‫ظهور ُم ٍ‬
‫ٍ‬ ‫كان البد من‬
‫للجميع‬
‫ِ‬ ‫لظهور سيادت ِه على إحدى القنوات التابعة للدول ِة وحدد الموعد ُ وانتشرت اإلعالنات حتى يتسنى‬‫ِ‬
‫اللقاء‪ ،‬االعتقاد السائد داخل غُرفتنا أن هذا اللقاء قد يكونُ الخطوة األهم في طريق النجاح‬
‫ِ‬ ‫مشاهدة ذلك‬
‫الكاسح‪ ،‬حان موعد اللقاء وبدأت تلك ال ُمذيعة الجميلة تبادل الرئيس الحوار " سيادة الرئيس مرحبا َ بك هنا أوالً‬
‫ِ‬
‫ونشكركَ على تلبية الدعو ِة ثانيا ً ماهي خطتُكم لتلك االنتخابات ؟ قبل البداية وقبل الخوض في تفاصيل‬
‫ُ‬
‫أشكركم على تلك الدعوة وأتمنى من الشعب أن يتحلى بسعة الصدر عند بداية هذا‬ ‫ُ‬ ‫البرنامج وما إلى ذلك فأنا‬
‫الحوار "‬‫ِ‬
‫السن وتحسين المعاشات‬‫ِ‬ ‫" البرنامج يشتم ُل على عديد اإلصالحات المهمة في شتى المجاالت‪ ،‬اهتمام بكبار‬
‫أكثر فأكثر‪ ،‬االهتمام بالعنصر النسائي باعتباره جزأ ال يتجزأ من نسيج هذا المجتمع‪ ،‬وأيضا ً الشباب فهم‬
‫قدر لك النجاح ستكون تلك الفترة الرئاسية األخيرة‬
‫الهدف ال ُمستهدف من األساس في هذا البرنامج‪ ،‬هل وإن َ‬
‫ُ‬
‫يحدث في‬ ‫أصابك المللُ‪ ،‬في الحقيقة ال أعلم ما قد‬
‫ِ‬ ‫ببعض من المزاح قائالً يبدو ِ‬
‫أنك قد‬ ‫ِ‬ ‫يجيب‬
‫ُ‬ ‫لك سيدي ؟‬
‫المستقبل ولكني أنوي البقاء لسنوات عديدة "‬

‫قدم وساق‪ ،‬دع ُم كامل لمؤسسات مثل الصحة والتعليم‪ ،‬خروج الرئيس بنفس ِه لزيارة القرى‬ ‫العم ُل كان على ٍ‬
‫الصغيرة‪ ،‬بينما لم تتوقف ثرثرة أولئك الشباب وكانت أحاديثهم تتمحور حول انتهاء فترة الرئيس والبد من‬
‫التغيير في الفترة القادمة‪ ،‬حديثهم أشبه ُ بجلوسك أمام شاشة التلفاز وأنت تتجاه ُل متعمدا ً سماع الصوت‬
‫يتصبب منها العرق دون جدوى تذكر‪ ،‬محاوالتهم إلقناع طبقة الفقراء‬‫ُ‬ ‫الصادر منها‪ ،‬فقط أفواه تتحدث ووجوه‬
‫باءت بالفش ِل وكان ذلك بمثابة الضربة الكبيرة بالنسبة لهم‪ ،‬لكنهم رفضوا رفع الراية البيضاء خصوصا بعد‬
‫ت ال ُمناسب‪.‬‬
‫السماء في التوقي ِ‬
‫ِ‬ ‫تلك الواقعة التي هبطت عليهم من‬

‫لصالح‬
‫ِ‬ ‫تقرير يشككُ في نزاهة االنتخابات‪ ،‬بعض القرى الصغيرة بالفعل أُثبت فيها التزوير‬ ‫ُ‬ ‫خرج علينا‬
‫الرئيس‪ ،‬أثناء االجتماع كنتُ قلقا ً من تلك األحاديث وفكرتُ للحظة أن شأن هذه المجموعة سيكون الهالك !‬
‫ت من السيد " نزار " أنهت كل الجدل " ال تقلق خيرت‬ ‫لكن ضحكات السخرية اعتلت الغرفة وتبعتها عبارا ٍ‬
‫كل هذا مجرد مسرحية صغيرة من أصدقائنا المعارضين وسينتهي بمجرد إنكار تلك االتهامات " كان ذلك‬
‫الكالم يصب ُح بالضرورة‬
‫ِ‬ ‫السر األو ُل في تلك اللُعب ِة‪ ،‬ليس ك ِل من يخر ُج على شاشات التلفاز ويتمت ُع بفصاحة‬
‫ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫معارضا‪ " ،‬حسنا سيد نزار إذا من هي المعارضة الحقيقية ؟ " يضحك ثم يتاب ُع حديثه " المعارضون‬ ‫ً‬
‫الموجودون على الساحة قد يمثلون قلقا ً بالفع ِل لكن الوضع الزال تحت السيطرة التامة "‪.‬‬

‫أمر ذلك التقرير ونُفيت تماما ً تلك االتهامات التي شككت بنزاه ِة العملية االنتخابية‪،‬‬ ‫لم تمر ساعا ٍ‬
‫ت حتى انتهى ُ‬
‫انتشرت بعدها بعض التقارير المصورة لعدي ِد المواطنين يستنكرون وبشدة تلك األحاديث العارية تماما ً من‬
‫الصحة وأعلنوا التأييد الكامل للرئيس في الفترة المقبلة‪ ،‬كان هذا بمثابة الضربة الموجعة ليوسف ولحزبه‪،‬‬
‫صرنا متقدمين بدالً من الخطوة اثنتين بل ثالثة ! آن األوان لالعتراف كلية بأنهم ذاقوا طعم الهزيمة للمرة‬
‫األولى بتلك المعركة الكبرى لكنها لن تكون األخيرة بكل تأكيد‪.‬‬

‫ما زاد الطين بلة هو ملف هؤالء المعارضين‪ ،‬كنتُ فرحا ً طوال فترة االنتخابات باالنشغال عن أمر تلك‬
‫يتاجر هؤالء المعارضين‬
‫ُ‬ ‫األسئلة لكن سرعان ما وجدتُ نفسي أمام سؤاال آخر يحتا ُج لجواب كمثله‪ ،‬هل‬
‫بمشاكل العامة وأحالمهم‪ ،‬يظهرونُ لهم الوقوف بجانبهم ولكنهم في األصل مع النظام‪ ،‬رأسي قارب على‬
‫االنفجار من شدة التفكير‪ ،‬جز ٌء يحاو ُل الهروب من هذا الفخ وجز ٌء يحدثُني أن هذا مجرد أمر يتعلق‬
‫بالمعارضين أنفسهم وأن جانبك اإلنساني لم يتعرض لإليذاء‪.‬‬

‫خيمت حالة من الهدوء التام في أوساط الشارع عقب تلك نتيجة االنتخابات‪ ،‬نتيجة منطقية نظرا ً للدهاء الذي‬
‫رسي‪ ،‬أما داخل هذا المبنى الكبير فسيطر التفاؤل بشأن‬ ‫َ‬ ‫يتحلى به الرئيس ولضعف منافسي ِه على ذلك الكُ‬
‫ال ُمستقب ِل‪ ،‬طوينا صفحة االنتخابات بك ِل ما تحم ُل من تفاصي ِل وبدأنا نعد ُ العدة لما هو قادم‪ ،‬هناك قضايا نريد ُ‬
‫لإلفراط في االحتفاالت‪ ،‬لكن يبدو أن االحتفاالت أصرت على الرحيل‬
‫ِ‬ ‫ننفض من عليها الغبار‪ ،‬ال وقت‬
‫ُ‬ ‫أن‬
‫مسبقا ً فور تلك األنباء التي تواردت في الساعات األخيرة‪.‬‬

‫الهشيم ‪ ،‬وسائل اإلعالم تناقلت تلك األنباء‪ ،‬الصحف اليومية نشرت العناوين‬
‫ِ‬ ‫األنباء انتشرت كالنار في‬
‫والمقاالت‪ ،‬تعذيبٌ في أقسام الشرطة تلك كانت القضية األولى التي عقبت فوز الرئيس‪ ،‬لن يجد المعارضون‬
‫األمر أصعب من واقعة‬‫ُ‬ ‫فرصة أفضل من تلك للعودةِ إلى الساحة مرة أخرى بعد تلك الهزيمة‪ ،‬هذه المرة كان‬
‫تكلف لنا عدم فتح هذا الملف ثانية‪ ،‬طاولة االجتماعات عادت من جديد ومعها بدأت‬ ‫ُ‬ ‫التزوير‪ ،‬ال مفر من حلول‬
‫االقتراحات المتوقعة سلفا ً بضرورة التغيير وإبعاد من تسبب بتلك األزمة‪ ،‬لم يكن مسموحا ً أن تفسدَ تلك‬
‫َ‬
‫حدث في االنتخاباتِ‬ ‫القضية ما‬

‫أقالم وأفوا ِه المعارضين لن تكف عن الحديث‬


‫ِ‬ ‫كنتُ شارد الذهن ولم أحبذ فكرة اإلقصاء فقط‪ ،‬كنت مقتنعا ً أن‬
‫بهذا الشأن وحينها جاءت الفكرة العبقرية‪ " ،‬حسنا ً سيدي ما رأيكم بفكرة زيادة المرتبات من الشهر القادم ؟ "‬
‫هكذا كان االقتراح األكثر جنونا ً في تلك الليلة ! " لطالما قلتُ لكم أن هذا الشاب اللعين سيكون رقما ً صعبا ً في‬
‫الخبر فورا ً لوسائل اإلعالم قبل‬
‫ُ‬ ‫مجموعتنا " هكذا انهى حديثه ووافقت المجموعة على هذا المقترح وتسرب‬
‫الصباح الباك ِر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫انتشار ِه بالصحف في‬

‫الشعب قضية التعذيب وسال لعابهُ فور علم ِه بزيادة المرتباتِ‪،‬‬


‫ُ‬ ‫العناوين الرئيسية كانت مدوية للغاية‪ ،‬تناسى‬
‫ظل " يوسف " يتحدث كثيرا ً وكثيرا ً عن قضية التعذيب وأنها قد تتكرر في المستقب ِل لكن كعادته ال يزال‬
‫متأخرا ً عديد الخطوات‪ " ،‬األمر لن يمر هكذا نضال حتما ً الزال التعذيب مستمرا ً وأن اإلقصاء مجرد تحسين‬
‫تظهر وتحدثت بنبرة حزينة " نحنُ‬ ‫ُ‬ ‫للصورة ليس إال " وجه نضال كان أبلغ من الحديث‪ ،‬عالمات اليأس بدت‬
‫ت وبعد أن كُنا خلفهم في حادثة الركا ِ‬
‫ب "‪.‬‬ ‫نخلفهم اآلن مرة ثانية بعد أن كُنا خلفهم في معركة االنتخابا ِ‬

‫اندمجتُ سريعا ً في صلب المجموعة وأصبحتُ واثقا ً تمام الثقة بعكس اللحظات األولى‪ ،‬لكن مع ازدياد تلك‬
‫تتدهور حالته الصحية‪ ،‬وكأنهُ وضع في العناية المركزة وفي‬
‫ُ‬ ‫الثقة بدا الجانب اإلنساني معتالً‪ ،‬يوما ً بعد يوم‬
‫أراقب عن بع ٍد حالتهُ وال أملكُ سوى الدعاء وإلقاء النظر إن أمكن‪ ،‬أيقنت‬
‫ُ‬ ‫للسماء‪ ،‬فقط‬
‫ِ‬ ‫انتظار لحظة الصعود‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫أنه أوشك على الرحيل لألبد‪ ،‬لكن ال مانع من بعض المحاوالت عساها تجدي نفعا‪ ،‬كنتُ أعلم أنه ال فائدة‬
‫وأنها فقط بضع سويعات قبل النهاية‪.‬‬

‫يسبب إزعاجا ً انتهى أمرهُ‪ ،‬هناك أشياء أهم في الطريق‬


‫ُ‬ ‫شعرتُ مع لحظة النهاية بالحماسة تجاه العم ِل‪ ،‬ما كان‬
‫يتطلب مزيدا ً من الجهد والعمل‪ ،‬ال مزيد من األسئلة التي ال فائدة منها‪ ،‬فقط مزيد من أكواب‬
‫ُ‬ ‫وهناك مستقبل‬
‫القهوة الساخنة والمزيد من حفنة األوراق والقضايا‪ ،‬كانت ليلة صعبة وشاقة وطويلة ولكن ليلة تمكنتُ فيها من‬
‫التخلص من تلك األشياء التي عكرت صفوي طوال الفترة الماضية وحان وقت االستمتاع‪ ،‬فقط االستمتاع‬
‫بكل دقيقة داخل هذا المبنى الشاهق‪.‬‬

‫الشعب ُمغلقا ً فمه ُ فالكرسي في أمان تام‪ ،‬هم‬


‫ُ‬ ‫مادام‬
‫َ‬ ‫صباح كُ ِل يوم تزداد ُ ثقة المجموعة بنفسِها َ‬
‫أكثر فأكثر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مع‬
‫بحاجة لنفض ذلك الغبار الذي مأل قلوبهم وأجسادهم‪ ،‬هم أشبه برجا ِل الكهف الذين غرقوا في نومهم وال‬
‫يفيقون سوى في بعض المناسبات القليل ِة‪ ،‬أصوات يوسف ونضال ومن مثلهم ال تحركهم قيد أُنملة‪ ،‬هم فقط‬
‫يومهم في أمان فال داعى للثرثرة يمينا ً ويساراً‪ ،‬كان‬
‫يستمعون إلي صوت المرتبات والمشروعات‪ ،‬مادام قوت ِ‬
‫ذلك بمثابة المعادلة األهم للبقاء أطول فترة ممكنة في مركز صناعة القرار‪.‬‬

‫في الحقيقة مع لفظ آخر أنفاس ذلك الجانب الذي ظل يؤرقُني كثيرا ً بات هناك سؤال واحد الزال لم يبح بعد‬
‫باإلجابة عنهُ‪ ،‬هل أولئك األعضاء لفظ جانبهم اإلنساني أنفاسهُ األخيرة أيضاً؟ أم قرروا التخلص منه في‬
‫يسبب األلم لهم ؟ حاولتُ معرفة إجابة ذلك السؤال من واحد من‬
‫ُ‬ ‫البداية ؟ هل الزال يؤرقهم ؟ هل الزال‬
‫هؤالء األعضاء " مرحبا ‪ ..‬محمد كنتُ أريد ُ طرح سؤال مهم عليك‪ ،‬هل مازال في قلبهم ولو بصيصا ً من‬
‫تظهر فقط‬
‫ُ‬ ‫الشفقة والرحمة ؟ قاطعني ضاحكاً‪ ،‬معذرة خيرت أي شفقة ورحمة تتحد ُ‬
‫ث عنها‪ ،‬تلك ال ُمسميات‬
‫ُ‬
‫تتحدث عنها ال وجود لها‬ ‫على شاشات التلفاز واللقاءات كجزء من الدعاية ولكن صديقي كل تلك األشياء التي‬
‫إطالقا ً داخل هذه المؤسسة العمالقة‪.‬‬

‫عم الهدوء أنحاء البالد وتوقفت أقالم وأصوات المعارضين قليالً قبل أن تستيقظُ األمةُ على حادثة مدوية‬ ‫َ‬
‫أخرى‪ ،‬انحراف قطار عن مسار ِه مما أدى إلي مصرع الكثيرين‪ ،‬انتشرت األخبار سريعا ً وهذه المرة أقوى‬
‫من سابقتها‪ ،‬تمت الدعوة الجتماعٍ عاج ٍل على الفور لمناقشة ما حدث‪ " ،‬هذه المرة الحادثة أصعب وأظن أن‬
‫األعضاء الحديث عن واقع ِة‬
‫ِ‬ ‫التعويضات لن تكون كافية بل حتى اإلقالة لن تجدي نفعا ً " هكذا أفتتح أحد ُ‬
‫تخفيف الحدث‪ " ،‬يبدو أنكم عجزتم هذه المرة عن إيجاد الحلول‬ ‫ُ‬ ‫القطار‪ ،‬لم يكن يملكُ أحد أية حلول من شأنها‬
‫ِ‬
‫المبتكرة ولكن المحاكمات قد يكونُ لها مفعول السحر " وعلى الفور وافقت األغلبية على رأي السيد نزار في‬
‫تلك الفاجعة عسى أن نكبح جماح الغضب‪.‬‬

‫يوسف ونضال " أنهم قد اقتربوا قليالً لكنهم مازالوا يتمتعون بقدر من السذاج ِة‪ ،‬عبارات التنديد هزت‬
‫ُ‬ ‫أحس "‬
‫َ‬
‫مقرهم هذا وتعالت األصوات تنادي بضرورة مثول المتهمين أمام القضاء‪ ،‬قبل أن تنتهي وقائع‬ ‫أرجاء ِ‬
‫ألسر من طالتهم‬
‫ِ‬ ‫القرار قد اتخذ بمثول من تخاذل في تلك الحادثة بجانب دفع تعويضات ضخمة‬ ‫ُ‬ ‫المؤتمر كان‬
‫المقر شاكرين‬‫ِ‬ ‫القطار‪ ،‬أسر الضحايا كانوا متواجدين آنذاك وما إن وصلت األخبار حتى خرجوا من‬ ‫ِ‬ ‫نيرانُ‬
‫زن بداخ ِلهم‪.‬‬
‫المسئولين عن تلك القرارات وأنها أطفئت نيران ال ُح ِ‬
‫نفوس الحاضرين وهم مدركون أنه ال جدوى من تكرار المؤتمرات دون أية فائدة تذكر‪" ،‬‬ ‫ِ‬ ‫تسلل االحباطُ في‬
‫الغيظ‪ ،‬بالجهة المقابلة نجلس نحنُ واالبتسامة تمأل ٌ وجوهنا‬
‫ِ‬ ‫يوسف ونضال " يعضون على أناملهم من شدة‬
‫تسير على ما يرام بهذا المبنى بعد تجاوز آثار‬ ‫ُ‬ ‫وأكواب القهوة الساخن ِة على مشارف الوصو ِل‪ ،‬كانت األمور‬
‫تلك الحادث ِة‪ ،‬لم يكن لدينا الكثير لنناقشهُ حينها‪ ،‬ال مانع من السخرية من المعارضين الذين ظنوا ولو للحظة‬
‫واحدة أنهم قد يغيرون من واقع األمر‪ ،‬أحال ُمهم في بعض ساعات تصب ُح كابوسا ً مميتا ً يريدون الفرار منهُ‪ ،‬في‬
‫ك ُل مرةِ يعودون من ح ُ‬
‫يث أتوا‪ ،‬يعودون إلى نقطة الصفر‪.‬‬
‫المصائب ال تأتي فرادى وتنها ُل على وج ِه يوسف ونضال‪ ،‬أحد أكبر المعارضين في البال ِد تم إلقاء‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫ب المشكلة فهو بمثابة‬ ‫القبض علي ِه لتورط ِه في قضية فسا ٍد كُبرى‪ ،‬لم يكن كغيره من المعارضين وهذا كان لُ َ‬
‫غير مسمى‪ ،‬هذا‬ ‫القرار من الرموز الكبيرة بالحزب بتعطيل العمل ألجل ِ‬‫ُ‬ ‫األب الروحي بالنسبة لهم‪ ،‬جاء‬
‫خالف حاد ُ بين الرموز وبين الشابين وبدأ تراشق األلفاظ واالتهامات‬
‫ُ‬ ‫القرار أثار حفيظة الشابين‪ ،‬نشب‬
‫المطاف بهم خارج المقر يجرون أذيال الخيبة‪ ،‬تلك كانت الضربة األولى‬ ‫ُ‬ ‫بالتواطؤ لمصلح ِة المسئولين‪ ،‬انتهى‬
‫التي أصابت أحالمهم وقد تجعلهم يعيدون التفكير مرة أخرى فيما هو قادم‪.‬‬

‫ب إلى المبنى خاصتنا‪ ،‬تعالت الضحكات في أرجاء الغرف ِة ساخرة‬ ‫كانت قد وصلت أخبار تعطيل العمل بالحز ِ‬
‫هؤالء الشباب‪ ،‬استمرار الحزب قد‬
‫ِ‬ ‫بنفوس‬
‫ِ‬ ‫األخبار‪ ،‬كانت النقطة األهم تتمث ُل في قتل أي بادرة أمل‬
‫ِ‬ ‫من تلك‬
‫يمث ُل فيما بعد أزمة قد تمأل طاولة االجتماعات زحاما ً نحنُ في غنى عنهُ‪ ،‬انتهى االجتماع سريعا ً هذه المرة فال‬
‫يوجد داعي للبقاء حتى الساعات األولى من صباح اليوم التالي دون وجود قضية مهمة تذكر‪ ،‬بل كان‬
‫األعجب من ذلك هو إعطائنا يومين لالسترخاء قليالً بعد هذا المجهو ِد الشا ِ‬
‫ق‪.‬‬ ‫ُ‬

‫في الواقع وبرغم قصر مدة العطلة إال أنها جاءت في التوقيت المناسب‪ ،‬فرصة جيدة لالبتعاد عن حفنة‬
‫األوراق وكثرة الملفات‪ ،‬فرصة مواتية للجلوس مع العائلة الصغيرة لالستمتاع بنسمات الربيع بعيدا ً عن‬
‫الصحف‬
‫ِ‬ ‫بالصحف وال تلك المقاالت الملقاةِ في آخر‬
‫ِ‬ ‫ضوضاء العاصمة‪ ،‬لم أحبذ قراءة العناوين الرئيسية‬
‫ِ‬
‫تتحدث عن اإلهمال والفسادِ‪ ،‬فقط بعض التواصل مع األعضاء وال مانع من مشاركة األوقات اللطيفة سويا ً‬ ‫ُ‬
‫والسماء الصافية قبل العودة مرة‬
‫ِ‬ ‫واقع الموسيقى الهادئة‬
‫ِ‬ ‫حتى ال يصيبُنا الملل‪ ،‬انتهت الليلة األخيرة على‬
‫أخرى إلى سخونة أكواب القهوة‪.‬‬

‫ق لالجتماع األول عقب العودة من العطل ِة السريع ِة‪ ،‬وقعت عيناي على عديد المشاهد التي جذبت‬ ‫في الطري ِ‬
‫ع رغبة في كسرة من الخبر تشب ُع جوعها ثم رشفة من‬ ‫تجوب الشار َ‬
‫ُ‬ ‫البنيان‬
‫ِ‬ ‫انتباهي‪ ،‬طفلة صغيرة ضعيفة‬
‫الماء تروي ظمأها‪ ،‬لم يكن هذا المشهد الوحيد بل تلتهُ مشاهد أخرى لكنها لم تكن بقدر مشهد الطفلة‪ ،‬سابقا ً‬
‫كانت تؤلمني إلقاء النظر والتدقيق فيها‪ ،‬تغير هذا منذ ُ االنضمام للمجموع ِة‪ ،‬فقط يكفي دقيقة واحدة لتذكر‬
‫إنسانيتُك قبل أن تتذكر مرة أخرى أنك عضوا ً في مجموعة الغربان‪.‬‬

‫" مرحبا ً بكم مرة أخرى أيها المشاغبون " على سبي ٍل من المزاح خرجت عبارة الترحيب من السيد " نزار "‬
‫ُ‬
‫الحدث الجل ُل هذه المرة هو االنتخابات البرلمانية‪ ،‬ال‬ ‫قبل العودة مرة أخرى إلى غمار القضايا والملفاتِ‪ ،‬كان‬
‫ب‪ ،‬فقط‬‫األمر ذات قدر األهمية بالنسبة للشع ِ‬
‫ُ‬ ‫صوت يعلو فوق صوت االنتخابات بالنسبة لنا‪ ،‬لم يكن يمث ُل‬
‫وحديث منمق ووعود سئمت آذا ِنهم من سما ِعها‪ ،‬في الجهة المقابلة يرى‬ ‫ُ‬ ‫التلفاز‬
‫ِ‬ ‫تظهر على‬
‫ُ‬ ‫وجوه جميلة‬
‫المعارضون أنها قد تكون الفرصة األخيرة إلنقاذ ما يمكنُ انقاذه في تلك الفترة الصعبة عليهم‪.‬‬

‫نجا ُح المرشحون خاصتُنا كان الهاجس الحقيقي في تلك اآلونة‪ ،‬نعل ُم جميعا ً أن نجاحهم قد يكو ُن المسمار‬
‫الحكم‪ ،‬كما‬
‫ِ‬ ‫يدق في نعش المعارض ِة‪ ،‬خطواتُ كبيرة في سبي ِل البقاء أطول فترة ممكنة على رأس‬ ‫األخير الذي ُ‬
‫التحضير لها مسبقا ً عن طريق الترويج للمرشحين وتطبيق بعض القرارات‬ ‫ُ‬ ‫جرت العادة في أية انتخابات يت ُم‬
‫التي من شأنها كسب جموع الشعب لصالحنا‪ ،‬آنذاك ابتعد " يوسف ونضال " قليالً عن العمل السياسي‬
‫صيغ‬
‫ِ‬ ‫وجمعتهما جريدة صغيرة يترددان عليها أمالً في مزاولة مهنة الصحافة بشك ٍل يمكنُهما فيما بعد من‬
‫ت رغبة في تحسين القرارات‪.‬‬
‫العبارا ِ‬

‫إشعار آخر قرر خوض تلك المعركة االنتخابية‪ ،‬حاول استعطاف الشابين مرة‬ ‫ٍ‬ ‫الحزب الذي أوقف العمل حتى‬
‫ُ‬
‫أخرى عقب ذلك الخالف الحاد الذى نشب حينها‪ ،‬لم يكن لديهم خيار آخر سوى الموافقة للعودة‪ ،‬مغامرة غير‬
‫الحزب ومعه أه ُم عضوين ‪ ،‬الكل اجمع داخل المقر أنها فرصة مواتية إلزعاج النظام وليعلم‬‫ُ‬ ‫محسوبة بصددها‬
‫في من علته وهبت فيه‬‫المقر كمعت ٍل شُ ً‬
‫ُ‬ ‫أن األمر لم ينتهي بعد‪ ،‬بدأت المؤتمرات تعود ُ للحياة مرة أخرى‪ ،‬بدا‬
‫الحماس داخل األعضاء وشعروا أن النظام قد يرتعد ُ خوفا ً منهم ومن أحاديثهم تلك‬
‫ُ‬ ‫الرو ُح مرة أخرى‪ ،‬دب‬
‫ومن عودتهم للعمل السياسي مرة أخرى‪.‬‬

‫ع‬
‫ت المناسب حتى تتأكد جمو ُ‬ ‫لم تُمثل العودة أية ضغوط تُذكر على المجموعة‪ ،‬بل كانت العودة في الوق ِ‬
‫كاسح نشت ُم رائحتهُ من‬
‫ٍ‬ ‫فوز‬
‫تشير إلى ٍ‬
‫ُ‬ ‫ب أن الفوز أتى بعد منافسة حقيقية‪ ،‬كانت التوقعات داخل األروقة‬‫الشع ِ‬
‫يقف عليها النظام كافية‬
‫معارض مهما كان‪ ،‬األرضية الصلبة التي ُ‬‫ٍ‬ ‫بعيد‪ ،‬استبعدنا كلية أية احتمالية لنجاح أي‬
‫ق‪ ،‬نبرة السخرية واالستهزاء كانت النبرة السائدة في ذلك االجتماع فور‬ ‫ق كافة المنافسين داخل الصنادي ِ‬ ‫لسح ِ‬
‫علمنا بعودتهم ونيتهم الترشح‪ ،‬ال مفر من هزيمة أخرى قد تنهى عليهم لألبد‪.‬‬

‫تكبر‬
‫تقرب فجأة ! بدت ُ‬ ‫ُ‬ ‫مقرهم‪ ،‬تلك النقطة المضيئة البعيدة بدت‬
‫في الجهة المقابلة سادت نبرة التفاؤل في ِ‬
‫كرسي البرلمان‪ ،‬النجا ُح بمثاب ِة‬
‫َ‬ ‫تشير إلى مزاحمة النظام الحكام على‬
‫ُ‬ ‫وتتحول من كونها مجرد نقطة ! األجواء‬
‫التنفُ ِس بعد اختناق‪ ،‬استبعدوا تماما ً فكرة الفشل الذريع ثانية وكانوا على أهبة االستعداد لهذا الحدث ذو األهمية‬
‫القصوى‪ ،‬حديث منمق في مؤتمراتهم‪ ،‬بث األمل في نفوس الشباب وحثهم على مواصلة العمل الذي بدأ من‬
‫أروقة هذا الحزب‪ ،‬كلها رسائل تحمل طابع األمل في غد مشرق في عيونهم‪.‬‬

‫الفتات المرشحين جابت شوارع المحافظات والقرى‪ُ ،‬وضعت خطة محكمة للتركيز أكثر على المرشحين‬
‫خاصتنا وتلميعهم من قبل وسائل اإلعالم المسموعة والمرئية وحتى الصحافة ! مساحة صغيرة للمعارضين‬
‫للحديث وهذا ما أثار حفيظتهم واعتبروه محاولة لتهميش صورتهم أمام جموع الشعب‪ ،‬في مقر المبنى لم‬
‫تتوقف االجتماعات قط وكنا حريصين على خنق المعارضين قدر اإلمكان‪ ،‬ال نريد صداعا ً قد يصب ُح مزمنا ً‬
‫بين ليلة وضحاها‪ ،‬الخالص منهُ سريعا ً يضمنُ عدم عودته على األقل في تلك الفترة‪.‬‬

‫لكن على ما يبدو أن محاولة التلميع ليالً عبر شاشات التلفاز ونهارا ً عبر أقالمنا لم تكن كافية لالكتساح‬
‫للكامل‪ ،‬الصداع يريد البقاء أطول فترة ممكنة داخل رؤوسنا‪ ،‬نجحوا في انتزاع مقعد ألنفسهم داخل البرلمان‪،‬‬
‫تقرب له م تلك النقطة التي لطالما تحدثوا عنها بمقرهم‪ ،‬حاولنا التماسك قدر المستطاع فور إعالن‬ ‫ُ‬ ‫بدت‬
‫النتيجة‪ ،‬تصنعنا التماسك والهدوء لكن درجة الغليان حينها أوشكت على االنفجار‪ ،‬لم يكن الخوف في‬
‫شخصهم بقدر ما كان الخوف في هؤالء العامة الجالسون خلف الشاشات ينتظرون جلسات البرلمان‪.‬‬

‫لكن ذلك االنفجار سرعان ما تحول لهدوء تام‪ ،‬مازال البرلمان تحت السيطرة رغم انتزاعهم فرصة ثمينة‬
‫للدفاع عن أفكارهم تلك‪ ،‬الخطة التالية كانت التضييق عليهم داخل أروقة البرلمان بشتى الطرق‪ ،‬وقت قصير‬
‫للحديث باإلضافة لبعض المقاطعة والتشويش من األعضاء خاصتنا فيتولد ُ خطاب هش رغم قوة كلماته‬
‫الحزب يحاول تقديم نفسه ككتلة تحاول التحدث باسم الشعب وتمثيله‬
‫ُ‬ ‫وبراعة عباراته‪ ،‬على العكس تماما ً كان‬
‫ومحاولة رصد معاناته‪ ،‬فرصة مواتية لبث ولو قدر بسيط من الرعب في نفس النظام‪.‬‬

‫لكن الحلقة األهم في ذلك الصراع وهو الشعب ال يعي كل ذلك الحديث الضخم وال تلك المصطلحات الصعبة‪،‬‬
‫كان غارقا ً في بحر همومه فقط يريد التشبث بقشة قد تخرجه إلى بر األمان‪ ،‬جل أحالمهم يتمثل في تكوين‬
‫أسرة بسيطة وعيش حياة كريمة‪ ،‬ال يريدون أن يقحموا أنفسهم في تلك الصراعات بين النظام وبين‬
‫معارضيه‪ ،‬أخبار استقرار أسعار السلع تد خل في قلوبهم السرور‪ ،‬ال يدققون في أحاديث الشاشات وال مقاالت‬
‫الصحف‪ ،‬كل ذلك كان بمثابة الهراء بالنسبة لهم‪ ،‬سعيهم في عيش حياة كريمة أوقف التكفير عندهم‪ ،‬ذلك كان‬
‫يمث ُل واحدا ً من األهداف الكبرى للغربان‪.‬‬

‫اعتقد المعارضون خطئا ً بأن سياسة الكلمات الرنانة في البرلمان ستستميل قلوب البسطاء والعامة‪ ،‬اعتقدوا أن‬
‫بإمكانهم جلب الشعب لصفوفهم حين يحين وقت الحديث‪ ،‬لم يكن في حسبانهم معادلة الفشل قط‪ ،‬ملفات‬
‫ستثير غضب الشعب على النظام‪ ،‬التفاؤل ازداد في معسكرهم وبدأ التحضير للجلسات‬ ‫ُ‬ ‫بحوزتهم وقضايا حتما ً‬
‫على قدم وساق‪ ،‬تدريب مكثف على كيفية الحديث أمام أعضاء البرلمان‪ ،‬تدريب على خلق طريقة تقن ُع العقول‬
‫الجالسة والمنتظرة أمام شاشات التلفاز‪.‬‬

‫متحمس في بداية طريقهم السياسي‪ ،‬لكن معذرة لهم فهم ال يملكون أبسط قواعد اللعبة السياسية بتاتاً‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫شبابٌ‬
‫فقط يعتقدون أن العبارات والكلمات سيكون لها مفعول السحر الستمالة فؤاد الشعب وكسب ثقتهم‪ ،‬حفنة‬
‫األوراق ضد النظام ستكون كافية في نظرهم إليقاظ شعب أوشك النوم على قتله‪ ،‬لكنهم لم يستوعبوا بعد أنهم‬
‫أمام نظام يعي جيدا ً قواعد اللعبة ويعرف متى يثير غضب الشعب ومتى يمتصهُ‪ ،‬لم يستوعبوا أنهم أمام نظام‬
‫يعرف تماما ً رموز تلك الشفرة التي من خاللها يستطي ُع كسب فؤاد الشعب وعقله‪.‬‬
‫ُ‬
‫أثناء كُل هذا كان نجمي يسط ُع أكثر فأكثر‪ ،‬بداية رج ُل يحركهُ القلق يمينا ً ويسارا ً لرج ٍل أصبحت كلمته ذات‬
‫أهمية كبرى بين جنبات المجموعة‪ ،‬بدأ نفوذي يزداد وبدأت أعين بعض من رجالي للتوغل في الصحافة‬
‫ونشر األخبار الداعمة للنظام وبث األكاذيب التي تقلل من شأن المعارضة‪ ،‬كنتُ أعلم أن الصحافة هي األداة‬
‫األقوى للسيطرة على جموع هذا الشعب‪ ،‬برامج ليالً ونهارا ً تخر ُج وتسلطُ الضوء على المشروعات التي يقوم‬
‫بها النظام من أجل عيون الفقراء والعامة‪.‬‬

‫بعض من المزاح وبعض من الجدية‪ ،‬لم نكن‬ ‫ٌ‬ ‫كان الهدوء في تلك الفترة سمة اجتماعات المجموعة‪ ،‬يتخللها‬
‫بحاجة إلى الحديث كثيرا ً عن ال معضالت الداخلية فاألمور كلها على ما يرام برغم تلك األصوات الخافتة التي‬
‫تنادي بعديد التعديالت في النظام‪ ،‬الدخول آنذاك من بوابة المبنى لم يكن سوى روتين هدفه ُ الحضور فقط حتى‬
‫وإن لم تتواجد أية قضايا شائكة وصعبة‪ ،‬كان األهم وقتها تثبيت أقدام النظام بقدر المستطاع‪ ،‬أصبنا جميعا ً‬
‫بهوس السلطة حتى أنا أصبتُ بنوبات ذلك المرض اللعين‪.‬‬

‫الهدوء حينها مثل فرصة مناسبة للتعرف عن قرب بعديد األعضاء وفرصة مواتية لمعرفة ما يدور بداخلهم‬
‫و وجهات نظرهم فيما يدور في أروقة الشوارع والحارات‪ ،‬واحد من هؤالء كان " أحمد " عضو يكبرني‬
‫ويعرف الكثير من خبايا تلك المجموعة‪ " ،‬ما رأيك فيما يدور بداخل مجموعتنا وهل ستكون للمعارضة كلمة‬
‫داخل البرلمان ؟ صمتَ لوهلة ثم بدأ حديثه قائالً أعتقد ُ أن مستقبل هذه المجموعة في أمان تام وقد يطول بقائها‬
‫أما عن المعارضة فال أعتقد ُ أن صوتهم الخافت قد يشك ُل خطرا ً على النظام حتى وإن أصبحت لهم فرصة‬
‫كفرصة البرلمان تلك "‬

‫تابعنا الحديث عن ما يدور بين العامة ومن خالله علمتُ أن فرصة التمرد على النظام تكاد ُ تكون معدومة‪،‬‬
‫مقيدون داخل سجون الخوف والجهل‪ ،‬انعدام الثقافة كفيل بتصديق المذيعة التي تخرج عليهم في تمام التاسعة‬
‫مسا ًءا لتعلمهم أن حالة البالد على ما يرام وأن البالد في طريقها للتطور أكثر بشرط بقاء النظام في سدة الحكم‬
‫أطول فترة ممكنة‪ ،‬لكنه لم يكن يملك المقدار الكافي من الشجاعة للبوح بأسرار المجموعة وحاول مرارا ً‬
‫التهرب وفضل الصمت عوضا ً عن الكالم‪.‬‬

‫المثير للدهشة كان رد فعله عن مدى رضاه عن السياسة المتبعة للمجموعة‪ ،‬ظننتُ أنه مازال يحم ُل في قلبه‬
‫ولو مثقال ذرة من الرحمة لكني فوجئت تماما ً بأنه يتمنى أن يمارس النظام سياسة الترهيب بشكل أكبر وأنه ال‬
‫يجاهر بمعارضة النظام‪ ،‬يبدو أني كنتُ مخطئا ً عندما خلتُ نفسي شيطانا ً حين وأدتُ‬
‫ُ‬ ‫مانع لديه من قمع من‬
‫ذلك الجانب االنساني‪ ،‬فإذا كنتُ شيطانا ً فماذا يكونُ أحمد ؟ وهل البقية يحملون في صدورهم كل معاني القسوة‬
‫مثل ما يحملها أحمد في صدره ؟‬

‫استمرت فترة التقرب ل ألعضاء ولكن هذه المرة كانت مع عضو غامض له باعٌ كبير في هذه المجموعة‬
‫ويعرف ما ال يعرفهُ أحمد‪ ،‬فكرة الحديث مع " عمر " كانت صعبة بل ومستحيلة‪ ،‬بمجرد انتهاء االجتماع‬ ‫ُ‬
‫يختفي كالشبح وال يرى له أثر‪ ،‬وبعد عناء شديد جاءت اللحظة المناسبة للحديث معه ولو بقليل الكلمات‬
‫والعبارات‪ ،‬قليل االبتسامة كثير التفكير هكذا كان " عمر " وال عجب في أن يكون كثير التفكير فأنت أمام‬
‫العقل المدبر لهذه المجموعة‪ " ،‬لماذا تكون سيادتك دائما ً في عجلة من أمرك ؟ ابتسم على غير العادة قائالً‬
‫حتى ال أستمع لمثل هذه األسئلة عديمة الفائدة‪.‬‬

‫لم يقتصر الح ديث على " أحمد وعمر " فقط بل تحدثت عن قرب مع أعضاء آخرين لكن الحديث لم يحمل‬
‫طابع األهمية على األقل بالنسبة لي‪ ،‬لكن المثير في األمر هو رضاهم التام عن سياسة المجموعة ولم يختلف‬
‫أحد عليها وال يوجد ولو تعليق واحد يعارض تلك السياسة الموضوعة سلفاً‪ ،‬السؤال األهم هل ذلك الرضا‬
‫مغلف بنهكة‬
‫ٌ‬ ‫الكامل ناب ٌع من إيمانهم التام بتلك السياسة وأنها الطريقة المثلى للتعامل مع الشعب أم أنه رضا‬
‫الخوف من اإلقصاء؟‬

‫أثناء تفكيري بشأن هؤالء األعضاء كان هناك اجتماع يعقد ُ بمقر الحزب‪ ،‬تدريب وتجهيز للجلسة األولى‬
‫بالبرلمان‪ ،‬قليل من األخطاء ومزيد من الكلمات ذات المذاق المميز‪ ،‬كل الملفات كانت مجهزة كي تطر ُح أمام‬
‫أعضاء البرلمان وأمام الماليين الجالسين خلف الشاشات بانتظار ظهور من صوتوا لهم للحديث بالنيابة عنهم‪،‬‬
‫تكبر باقتراب موعد الظهور األول‪ " ،‬هل يوجد‬
‫أحالم الفتى ناصع البياض والفتاة ذات الشعر الطويل بدأت ُ‬
‫أمل حقيقي يوسف ؟ نعم وسيكبر غدا ً وسيصل صوتنا إلى الجميع ولن يمنعنا أحد من الحديث " ابتسمت الفتاة‬
‫العشرينية بعد أن سمعت تلك اإلجابة وجرى فيها األمل مجرى الدم في الجسد‪.‬‬
‫في الواقع لم تكترث المجموعة بشأن الحزب وال حتى بشأن البرلمان‪ ،‬ثرثرة تقارب الثالث ساعات وبعد كل‬
‫نجلب ألنفسنا مزيدا ً من التعب ؟ هم بحاجة ماسة لتلك الثرثرة ألنها تمثل‬
‫ُ‬ ‫هذا يُنفذ كل ما نريده نحن ! فلماذا‬
‫الورقة األخيرة ضد النظام وغير مسموح بأن تذهب هذه الورقة أدراج الرياح‪ ،‬نظرات األمل في عيونهم‬
‫أفكر جديا ً‬
‫تجعلني أشعر بالشفقة عليهم من مجهود ال فائدة منه وتارة تدخلني في نوبة ضحك هيستيرية‪ُ ،‬‬
‫بالجلوس أمام شاشة التلفاز منتظرا ً الظهور األول لهم داخل أروقة البرلمان‪.‬‬

‫حان وقت الجلسة األولى للبرلمان المنتخب من قب ِل الشعب‪ ،‬محتوى تلك الجلسة خرج من غرفة االجتماعات‪،‬‬
‫فاألمر لم يكن ليحمل طابع اإلثارة على اإلطالق‪ ،‬جلسة هادئة وتحمل ملفات بعيدة كل البعد عن التعقيد‬
‫والصعوبة‪ ،‬لكن مشاهدة ما يُسمى بالرجال الحالمين كان أمرا ً شيقاً‪ ،‬كي أكون صادقا ً فكلماتهم كانت أقوى‪،‬‬
‫الشعب يتحلى ببعض الثقافة‪ ،‬آذان‬
‫ُ‬ ‫عباراتهم كانت أصدق‪ ،‬ولكن من يهتم ؟ كان حديثهم سيشكل خطرا ً لو كان‬
‫الشعب ألفت كلمات النظام وعباراته‪.‬‬

‫في اليوم التالي وعند نهاية االجتماع دار جانبي مع لفيف من األعضاء حول ما حدث ليلة األمس في الجلسة‬
‫األولى‪ ،‬لم تظهر عالمات القلق قط وكان الرأي السائد أنه ال خوف من صدى تلك الكلمات مادام محتوى‬
‫الجلسات يخرج من باب هذه الغرفة‪ ،‬ظهرت بوادر اإلعجاب بهؤالء الحالمين ولكنه مزيج من اإلعجاب‬
‫والشفقة عليهم‪ ،‬لن تشفع لهم حقائبهم المليئة باألوراق‪ ،‬يا له من أمر صعب عندما تظ ُن أنك تتحدث بحرية‬
‫تكتب كلماتك بموافقة النظام‪ ،‬كل األمور تبدو تحت السيطرة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تامة ولكنك باألساس تتحدث بأمر من النظام‪،‬‬

‫معسكر الحالمين أظهر عالمات الرضا عن ما قدمه في ظهوره األول‪ ،‬أحس " يوسف ونضال " أن صدى‬
‫صوتهم بدأ يعلو أكثر‪ ،‬ومما زاد من سعادتهم هو تفاعل بعض الشباب معهم‪ ،‬لكن ال وقت لاللتفات كثيرا ً إلى‬
‫تفاعل الشباب فهناك جدول أعمال بانتظارهم‪ ،‬ال مانع من بعض العناوين المثيرة على أغلفة الصحف عساها‬
‫تطفي بعضا ً من اإلثارة‪ ،‬على صعيد آخر السيد " نزار " كان يخططُ لرفع أسهم ذلك الحزب بين صفوف‬
‫الشعب ومنحهم الفرص ة الكاملة للحديث بل وترتيب لقاءات لهم داخل جدران اإلذاعة والتليفزيون ولم يكتفى‬
‫بهذا القدر بل وأطلق اسم "األمل" على تلك الخطة‪ ،‬كانت تلك ال ُخطة غريبة ألغلبية األعضاء‪ ،‬حتى هؤالء‬
‫المتمرسين باألمور الداخلية للمجموعة بدت عليهم عالمات التعجب فيما يسمى بخطة " األمل "‬

‫سابقة فريدة من نوعها تلك التي حدثت في هذه الليلة‪ُ ،‬جل األعضاء خرجوا من الغرفة ينظرون لبعضهم‬
‫البعض واألسئلة تكاد تخرج من تلقاء نفسها من شدة الحيرة‪ ،‬كان حديثهُ هو الخيط الوحيد تلك الخطة ولم‬
‫سنعرف كافة التفاصيل الحقا ً عندما يحين الوقت‬
‫ُ‬ ‫نعرف أكثر مما تم سرده على لسانه‪ ،‬على ما يبدو أننا‬
‫المناسب‪ ،‬وإلي حين معرفة تلك التفاصيل اللعينة سينسل الشك في نفوس البقية ومعها يبدأ صداع تلك األسئلة‬
‫يعاود من جديد أمالً في إجابات تنهي ذلك الصراع‪.‬‬

‫في معسكر المعارضين يبدو أنهم بحال جيد‪ ،‬في الحقيقة أحسدهم على عدم إلمامهم الكامل لما يدور‪ ،‬على‬
‫يصعب اإلجابة عنها‪ ،‬كل ما عليهم العمل سويا ً من أجل‬
‫ُ‬ ‫األقل لن يصابوا بالدوار من شدة التفكير في أسئلة‬
‫الظهور بصورة مرموقة داخل البرلمان‪ ،‬األمور انقلبت رأسا ً على عقب في تلك الفترة‪ ،‬الكل يريد أن يعلم‬
‫تفاصيل الخطة تلك‪ ،‬صرت عازفا ً عن فيلم منتصف الليل وأصبحتُ أطرح كل االحتماالت‪ ،‬كعادتي فأنا ال‬
‫يحدث‪ ،‬ولكن القاعدة التي فهمتُها مؤخرا ً‬
‫ُ‬ ‫أحب أن أقف بعيدا ً عن الصورة‪ ،‬أريد ُ أن أكون في قلبها ملما ً بما‬
‫ُ‬
‫ليس من المهم أن تعرف كل التفاصيل ومن األفضل االنتظار أحيانا ً حتى يحين الوقت المالئم‪.‬‬

‫يفكر السيد " نزار " ؟ ولماذا يريد رفع أسهمهم بين‬
‫ُ‬ ‫كاد الفضول أن يقتلني وصار النو ُم يأتي صدفة‪ ،‬فيما‬
‫صفوف الشعب ؟ هل يريد خلق عدوا ً يزع ُج الحكومة ؟ هل يريد ُ التخلص من أحد المسؤولين ؟ كل تلك‬
‫ويجب أخذ خطوات أوسع من ذلك‬‫ُ‬ ‫األسئلة وأكثر من ذلك احتل عقلي‪ ،‬أدركتُ أنه ال طائل من التفكير الكثير‬
‫حتى أتمكن من حل هذا اللغز‪ ،‬لكني تذكرتُ أن من تحدثتُ معهم فضلوا الصمت وتهربوا من الحديث‪ ،‬كنتُ‬
‫سأقط ُع شوطا ً كبيرا ً لو تحدث أحدهم عن بعض من األسرار‪.‬‬

‫يوقف‬
‫ُ‬ ‫يعرف فيما يفكر سوى بعض المقربين‪ ،‬تارة‬
‫ُ‬ ‫تاريخ السيد " نزار " نفسه ملئ بالغموض‪ ،‬ال أحد‬
‫يجلس معها على طاولة واحدة ليتجاذب أطراف الحديث‪ ،‬في سابق المرات كان يعل ُم‬
‫ُ‬ ‫المعارضة وتارة‬
‫المقربين منهُ بما يريد فعلهُ‪ ،‬حتى المقربين منهُ لم يسلموا من غموضه‪ ،‬وصلتُ إلى طريق مسدود وقررتُ‬
‫غلق هذا الملف تماما ً وفضلتُ االنتظار حتى تسنح الفرصة للحديث‪ ،‬فيلم منتصف الليل سيكون كافيا ً للتخلص‬
‫من آثار هذا التفكير العميق‪.‬‬

‫لعبة مليئة بالقواعد الصعبة والشاقة‪ ،‬معارضة تعد نفسها للحديث باسم الشعب ومجموعة بانتظار إشارة من‬
‫كبيرها‪ ،‬وشعبٌ يقف بعيدا ً عن مسرح األحداث يحاو ُل دفع األيام خوفا ً من أن تدهسه ُ‪ ،‬ليلة جنسية باسم الزواج‬
‫أفضل من الجلوس وراء التلفاز واستماع كلمات ال جدوى منها مثل " الديموقراطية والحرية " وكل تلك‬
‫خير من قراءة العناوين األولى التي تحمل في طياتها " المعارضة‬ ‫الكلمات التي على شاكلتها‪ ،‬لحم طازج ٌ‬
‫تكسب جولتها األولى " وماذا بعد أن كسبت جولتها األولى ؟ وماذا بعد كل تلك األحاديث التي تجع ُل الدماغ‬
‫يقارب على االنفجار‪.‬‬
‫ُ‬

‫االجتماع التالي لم يتناول أية تفاصيل عن جلسة البرلمان القادمة وال من قريب وال من بعيد وتطرقنا للحديث‬
‫عن قضايا أخرى وبدا واضحا ً أن السيد نزار يريد أن يُبعد ُنا عن شكل خطته تلك‪ ،‬من حسن حظه لم يلتفت‬
‫ستعرض وقتها‪ ،‬يبدو أنهم‬
‫ُ‬ ‫أحد ولم ينطق ولو شخص واحد عن تفاصيل الجلسة القادمة وما القضايا التي‬
‫انتظروا حديثا ً منه بشأن تلك الخطة لكن لم يتحدث البتة عنها‪ ،‬خرج الجمي ُع ينظرون لبعضهم البعض دون‬
‫النطق بكلمة واحدة‪ ،‬الك ُل يحاول إيجاد تفسير لما حدث بالداخل لكن بال فائدة‪ ،‬علينا انتظار الجلسة القادمة‬
‫للخروج منه ببعض المعلومات عن تلك الخطة‪.‬‬

‫زلزال ضرب أركان الحكومة‪ ،‬المعارضة ضربت بقوة في الجلسة التالية ولم تترك أية فرصة للحزب الحاكم‬
‫للرد‪ ،‬ظهرت عالمات القلق عليهم وظهر ذلك جليا ً في حديثهم المهلهل الذي ظهر ضعيفا ً ال حول له وال قوة‪،‬‬
‫من وراء الشاشات نجلس نحنُ والقلق ليس ببعيد عنا‪ ،‬الكل يخشى على مركزه في المجموعة بل األكثر من‬
‫ذلك نخشى أن تنتهى المجموعة لألبد جراء هزة ذلك الزلزال العنيف‪ ،‬بدأت االتصاالت تجري أثناء الجلسة‬
‫ترجف من آثار‬
‫ُ‬ ‫نسخر منهم في بادئ األمر أصبحت أناملنا ُ‬
‫ُ‬ ‫والسؤال المتكرر" هل تشاهد الجلسة ؟ " من كنا‬
‫صوتهم الصداح‪.‬‬
‫عناوين الصباح لم تتوقف هي األخرى عن بث الرعُب في نفس الحكومة ونفوسنا‪ ،‬حاولت الحكومة أن تظهر‬
‫متماسكة لم يؤثر عليها ذلك الهراء ليلة البارحة‪ ،‬لكن القلق ظهر مع ظهور المتحدث الرسمي باسم الحكومة‪،‬‬
‫عرق يتصبب ونفي متكرر لكل ما قيل على لسان المعارضة ومحاولة بائسة للنيل منهم‪ ،‬لألسف كانت محاولة‬ ‫ُ‬
‫بائسة ونجحت المعارضة في بث الرعب والخوف داخل أروقة الحكومة‪ ،‬كنا نتاب ُع األحداث ونتاب ُع ردة فعل‬
‫الحكومة واستهجن أغلبنا حديث المتحدث الرسمي‪ ،‬دقائق قليلة تفصلنا عن الدخول إلى االجتماع بعد تلك‬
‫الهزة العنيفة‪.‬‬

‫المفاجأة كانت ردة فعل السيد " نزار " هدوء تام وابتسامة لم نعتد عليها قط‪ ،‬في موقف كهذا توقعنا أن ينسل‬
‫له الرعب والقلق كما انسل للحكومة‪ ،‬لكنهُ لم يظهر في ردة فعله أية عالمة توحي بالقلق أو ما شابه بل على‬
‫العكس ظهرت عالمات السعادة على وجهه إزاء ما حدث ليلة البارحة‪ ،‬رفض أن يجيب على سر االبتسامات‬
‫والسعادة تلك وبرر أنه شأن شخصي ال عالقة له بالعمل من قريب أو من بعيد‪ ،‬ما زاد الطين بلة هو رفضه‬
‫التام اإلجابة عن مستقبل المجموعة في ظل ارتفاع أسهم المعارضة‪.‬‬

‫مالمح السعادة كانت واضحة في معسكر المعارضة‪ ،‬شيئا ً فشيئا ً يعلو صوتهم وتُثبت أقدامهم وتزداد ثقتهم‪،‬‬
‫الشمس شاهدة على صدى صوتهم‪ ،‬من كانت اجتماعاتهم ذات حضور‬ ‫ُ‬ ‫من كانوا يتحدثون في الظل صارت‬
‫ضئيل أصبحت تعج بالحاضرين‪ ،‬ك ُل شئ كان على ما يرام حتى الصحافة التي كانت غافلة باألمس أصبحت‬
‫تحتفي اليوم‪ ،‬وبمرور األيام يزداد إيمانهم في تغير سياسة النظام‪ ،‬لقد وضعوا الحكومة تحت الضغط والبد‬
‫من اتخاذ طريق اإلصالح عاجالً أو آجالً‪.‬‬

‫كنا نراقب وضع الحزب من بعيد‪ ،‬كدنا نصاب بالجنون ! للمرة األولى لم نفهم ما يحدث على الساحة‬
‫وستمر سريعا ً وجبهة تظنُ أنها‬
‫ُ‬ ‫وأصبحت وجهات النظر مختلفة‪ ،‬جبهة من األعضاء تعتقد ُ أنها مجرد ضجة‬
‫مجرد تصفية مع بعض الوزراء دون علم المعارضة‪ ،‬وذهب البعض لألبعد من ذلك وهو احتمالية وجود‬
‫صفقة تلوح في األفق بين السيد " نزار " ممثالً عن النظام وبين المعارضة متمثلة في هذا الحزب‪ ،‬لكن‬
‫يصعب من‬
‫ُ‬ ‫االحتمال األخير كان االحتمال األضعف في الحقيقة لضعف األدلة ولحداثة هذا الحزب مما‬
‫احتمالية إبرام صفقة كهذه بين الجهتين‪.‬‬

‫يفكر السيد نزار‪ ،‬الك ُل صار قلقا ً فمستقبل الحكومة على المحك والزال السيد‬
‫ُ‬ ‫تمر األيام وال أحد يعلم فيما‬
‫ُ‬
‫نزار يتحلى بابتسامت ِه المعتادة‪ ،‬الحديث عن جلسات البرلمان كان قليالً والحديث عن المعارضة أصبح نادراً‪،‬‬
‫فقط بعض القضايا معدومة األهمية كنا نتناولها أثناء اجتماعاتنا‪ ،‬لم يكن مسموحا ً حتى بالسؤال بذلك الشأن‬
‫وهذا ما زاد من الشك في نفوسنا‪ ،‬الكل بات يخرج من تلك الغرفة وعلى وشك االنفجار من شدة الغضب‪ ،‬لم‬
‫يسبق أن حملت قضية في تاريخ المجموعة كل هذا التعتيم الشديد !‬

‫يدور خلف الكواليس‪ ،‬هذا لم يكن مسموحا ً به‬ ‫ُ‬ ‫بدأ كل فرد في المجموعة التحرك على حدى في سبيل معرفة ما‬
‫طبقا ً ألعراف المجموعة المتعارف عليها ولكن لم يترك السيد نزار أي خيارا ً آخر‪ ،‬توقعنا أن تكون الصحافة‬
‫مفتاحا ً هاما ً في تلك القضية‪ ،‬بعض الصحفيين المقربين منه حتما ً يملكون ولو معلومة واحدة لصمته التام عن‬
‫ما يدور داخل أروقة البرلمان‪ ،‬لكن المفاجأة كانت في ردة فعل الصحفيين الذين أنكروا تماما ً معرفتهم نوايا‬
‫صديقهم المقرب‪ ،‬ازدادت القضية تعقيدا ً وقلت الخيارات المتاحة لدينا‪ ،‬حاولنا معرفة أية معلومة من بطن‬
‫الحوت متمثلة في الحكومة ولكن دون جدوى‪.‬‬

‫قلت أسهم السيد نزار داخل الحكومة‪ ،‬بعض الوزراء أظهروا غضبا ً شديدا ً تجاه هذا الصمت الغريب ! كانوا‬
‫يعتقدون أنه عقد صفقة مع أولئك المعارضين لتشويه سمعتهم أمام الشعب ومن ثم اإلطاحة بهم قريبا ً للجلوس‬
‫في منازلهم‪ ،‬حاولوا مرارا ً وتكرارا ً من خالل شبكة عالقاتهم فهم ما ي ُ‬
‫دور داخل عقله ولكن كما أخفقنا نحنُ‬
‫أخفقوا هم‪ ،‬كل همهم ذلك الكرسي القابع وراء هذا الباب المغلق‪ ،‬كل همهم هذا المكتب الكبير وتلك الموظفة‬
‫الجميلة صاحبة االبتسامة الساحرة‪ ،‬لم يظهروا اهتماما ً بحديث المعارضة عنهم ولم ينصتوا للنصيحة‬
‫بضرورة اإلصالح‪ ،‬رائحتهم الخبيثة بدأت تفوح أكثر من الالزم ويبدو أنه وقت الحساب‪.‬‬

‫حاولنا نحنُ أيضا ً الحديث مع هؤالء الوزراء لحثهم على القيام ببعض الخطوات الالزمة لكسب ثقة الشعب‪ ،‬ال‬
‫فائدة تذكر من حديثنا معهم فنحنُ أمام كالب يسي ُل لعابها وتلهث خلف هذا الكرسي‪ ،‬خرجنا من طاولة‬
‫ٌ‬
‫حديث مع أحد‬ ‫االجتماع معهم ونح ُن واثقون بأنهم يقضون ساعاتهم األخيرة كوزراء في تلك الحكومة‪ ،‬دار‬
‫أعضاء المجموعة بعد ذلك االجتماع وبدأت حديثي قائالً " يبدو أنهم فقدوا عقلهم تماما ً وأصبحوا خارج‬
‫أسخر منك يا صديقي ولكن ضحكاتي تلك على‬ ‫ُ‬ ‫السيطرة " ضحك كثيرا ً قبل أن يرد " معذرة خيرت فأنا ال‬
‫أشفق عليهم ولكن تلك هي الضريبة عندما تفو ُح رائحتُكَ ‪ ،‬حديثهم هذا قد يلقي بهم‬
‫ُ‬ ‫موقفهم‪ ،‬ال أخفي عليك أنني‬
‫في مشفى لألمراض العقلية "‬

‫كان بطل تلك الحكاية على دراية كاملة بما نقو ُم به من جهة ومن ما يقو ُم به بعض الوزراء من جهة أخرى‪،‬‬
‫موعد االجتماع اقترب والزلنا ال نعل ُم نوايا السيد نزار‪ ،‬مفاجأة كبرى تلوح في األفق بمجرد دخولنا من باب‬
‫ٌ‬
‫وحديث بدأ لتوه " محاوالت مع الصحفيين هنا وهناك‬ ‫هذه الغرفة‪ ،‬نبرة ٌ تحمل في طياتها بعض السخرية‬
‫وجلسات مع بعض الوزراء الفاسدين‪ ،‬لو أنكم تحليتم ببعض من الصبر لكانت المعلومات اآلن جالسة أمام‬
‫حضراتكم‪ ،‬ولكن إنها آفة بنو البشر وهي التسرع والعجلة من أمركم‪ ،‬انتهى االجتماع وعلى حضراتكم‬
‫االنتظار حتى أصلح ما أفسدتموه بغبائكم هذا "‬

‫وانفجار أصبح وشيكا ً أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬وأسئلة‬


‫ُ‬ ‫صمتُ رهيب وشكُ ازداد فور الخروج من االجتماعُ‪،‬‬
‫أخرى بحاجة لإلجابة عنها‪ ،‬من أين للسيد نزار بكل هذا القدر الهائل من المعلومات ؟ قد يخبره الصحفيون‬
‫المقربون بما نسعى من أجله ولكن هل أخبره الوزراء كذلك ؟ كيف وهم باألساس على خصام تام معه ؟ هل‬
‫يحضر معنا وفي نفس الوقت يخبرهُ خططنا ؟ وكيف أفسدنا األمور ؟ وكيف‬‫ُ‬ ‫هناك أحد من األعضاء من كان‬
‫يسيطر على عقولنا‪ ،‬األهم من كل هذا أننا أضعنا فرصة ثمينة كانت‬
‫ُ‬ ‫سيتم إصالحها ثانية ؟ كل ذك وغيره بدأ‬
‫في المتناول في سبيل الالشئ‪.‬‬

‫دبت الحيوية في نفوس الوزراء مؤخرا ً وبعد محاوالت عديدة قاموا بعديد اإلصالحات سعيا ً منهم في البقاء‪،‬‬
‫يبدو أن الكفة تعادلت بعد تلك اإلصالحات وهنا فهمنا جملة السيد نزار عن محاولة إصالح ما أفسدناه‪ ،‬تلك‬
‫اإلصالحات كانت الشئ الذي أفسد خططه وأعاد األمور من جديد لصالح التعادل‪ ،‬زادت الثقة في معسكرهم‬
‫وأصبحوا على استعداد للذهاب إلى البرلمان ملبيين دعوة المعارضة للمثول أمامهم والرد على تساؤالتهم‪ ،‬بل‬
‫ومحاسبة ذلك الصوت على كل ما صدر في حقهم من اتهامات‪.‬‬

‫تسلل القلق إلى الحزب من جراء ردة فعل الوزراء‪ ،‬أحسوا أنهم فقدوا السيطرة على األمور بعد أن أحرزوا‬
‫تقدما ً كبيرا ً داخل البرلمان واألهم من كل هذا هو ردة فعل الشارع بعد أن استمعوا لهم ووقفوا بجانبهم‪ ،‬من‬
‫المحتمل أن يعود الشعب إلى صف الحكومة مرة أخرى عقب ما قام به الوزراء‪ ،‬بات الكرسي في أمان بعض‬
‫الشئ بعد أن كان على شفا حفرة من السقوط لألبد‪ ،‬صرنا في موقف ال نحسد ُ عليه فنحنُ وقفنا أمام خطط‬
‫رأس المجموعة وبات محتمالً أن يطيح بنا خارج المبنى الكبير‪.‬‬

‫اختفت االبتسامة من على وجه ِه ولم يعد يتحمل النظر إلينا مطلقاً‪ ،‬لم نعتد عليه بكل هذا الحزن من قبل‪ ،‬كانت‬
‫االجتماعات في تلك الفترة قصيرة جدا ً ولم تكن تحتوى على أية قضايا مثيرة لالهتمام على اإلطالق‪ ،‬لقد‬
‫أسدينا معروفا ً كبيرا ً للوزراء دون أن نعلم‪ ،‬صرنا مطالبين أمامه بضرورة التحرك من أجل إعادة األمور إلى‬
‫نصابها وتهديد مكان هؤالء الوزراء ولكن كيف ؟ كنا نخشى حتى مجرد التفكير بعد فساد األمور برمتها من‬
‫قبل‪ ،‬انهارت المعنويات تماما ً وظهرنا وكأننا مجرد هواة ال يعلمون أبجديات العمل‪.‬‬

‫هل نتحركُ إلى مقر الحزب ونتفاوض معهم من أجل ضرب الوزراء ؟ ولكن كيف نضمنُ أن السيد نزار عقد‬
‫معهم صفقة من األساس ؟ هل نمضي قدما ً لإلعالم من أجل تشويههم ؟ بالطبع يملكون بعضا ً من النفوذ هناك‬
‫ولن يكون سهالً علينا إسقاطهم‪ ،‬القضية برمتها ذهبت إلى طريق مسدود ويبدو أنه علينا االنتظار حتى تتضح‬
‫الرؤية الكاملة لمعالمها‪ ،‬صف المنتظرون للطعام كان بانتظارنا بعد أن كنا نحنُ الطباخون‪ ،‬كانت تلك أوقات‬
‫عصيبة علينا كأعضاء داخل مجموعة الغربان‪.‬‬

‫يبدو أن القدر كان يحم ُل مفاجأة سارة لنا‪ ،‬ملف فساد كامل لهؤالء الوزراء سيطي ُح بهم خارج الحكومة ولربما‬
‫سيودي بهم خلف القضبان‪ ،‬وللمرة األولى تقريبا ً تشاركنا مع الحزب الفرحة ولربما تكون األخيرة‪ ،‬يوسف‬
‫ُ‬
‫حديث لطيف بينهم‪ ،‬بدأ يوسف حديثه‬ ‫ونضال عادت لهم االبتسامة من جديد بعد أن غابت لمدة قصيرة ودار‬
‫قائالً " هذا الملف حتما ً سيقضي عليهم نهائيا ً وسنعود كما كنا أقوياء " نضال لم تخفي قلقها وقالت " أخشى أن‬
‫يكذب اإلعالم والحكومة هذا األمر ويذهب مجهوداتنا أدراج الرياح "‬

‫اختلف يوسف معها هذه المرة ورأى أن مصلحة الحكومة والنظام هي إقالتهم والتخلص منهم في أسرع وقت‬
‫ممكن‪ ،‬كانت الجلسة هذه المرة قوية وأبلت المعارضة بال ًء حسنا ً أمام أعضاء البرلمان‪ ،‬ولم يمر كثيرا ً على‬
‫تلك الجلسة حتى حملت أشعة الشمس الذهبية في جعبتها األخبار السارة لنا وللمعارضة على حد سواء‪ ،‬إقالة‬
‫الوزراء الذين طالهم الفساد وتم تكليف وزراء جدد مهمة القيادة‪ ،‬تنفسنا الصعداء وصعدت معنوياتنا السماء‬
‫بعد أن قاربت على المساس باألرض وعادت الثقة مرة أخرى‪.‬‬

‫" كنتم على وشك السقوط إلى الهاوية أيها الغربان الصغار ! " بتلك العبارات افتتح السيد نزار االجتماع الذى‬
‫تلى إقالة الوزراء قبل أن يدير ظهره لنا كاشفا ً عن ابتسامة غابت طيلة الفترة الماضية‪ ،‬عرفنا من خالله‬
‫تفاصيل ما كان مخطط لهُ وكيف نجح في إصالح ما أفسدناه نحن‪ ،‬استكمل حديثهُ قائال " هؤالء الوزراء كان‬
‫البد من رحيلهم في أقرب فرصة تتاح‪ ،‬لم يكن النظام بحاجة إلى مزيد من القيل والقال ورأى أن اإلطاحة بهم‬
‫هو الحل األفضل واستغل هجوم المعارضة " ‪.‬‬

‫قبل أن يكمل حديثه قاطعه أحد الزمالء موجها ً له سؤال بلسان األعضاء " وماذا عن المعارضة ؟ نح ُن نعلم‬
‫أنها ليست معارضة صورية وأنها معارضة حقيقية فكيف تم لهم السماح لهم بهذا الهجوم الغريب على‬
‫الحكومة ؟ " ضحك السيد نزار كثيرا قبل أن يجيب " توقعت أن أسمع هذا السؤال‪ ،‬أعضاء مثلكم البد وأن‬
‫يسألوا هذا السؤال المهم‪ ،‬لحسن الحظ تزامنت خططنا مع هجوم المعارضة ولألمانة كان األمر من قبيل‬
‫الصدفة التامة ولم يكن هناك أي اتفاق بالمرة مع هذا الحزب "‪.‬‬

‫قطعنا شوطا ً كبيرا في معرفة ما دار خلف الكواليس لكن يتبقى جزء صغير لم تتضح مالمحه بعد‪ ،‬جزء قد‬
‫يقلب موازين المجموعة رأسا ً على عقب‪ ،‬الزالت هناك خطة األمل التي تحدث عنها السيد نزار مسبقا ً وكان‬
‫هدفها رفع أسهم المعارضة متمثلة في الحزب لدى الشعب ولكن ماذا بعد ؟ ها قد ذاع صيتهم في الشوارع‬
‫يبشر بالخير ليوسف ونضال‬ ‫ُ‬ ‫وصارت كلماتهم رنانة قوية تسم ُع األصم‪ ،‬تاريخ المجموعة مع المعارضة ال‬
‫وزمالئهم في الحزب‪ ،‬ولكن لحد اللحظة فالصورة ضبابية بالكامل‪.‬‬

‫لم يتوقف الحزب عن العمل وقطعوا أفراحهم تلك وقرروا تجهيز ملفات أخرى ضد الوزراء الجدد ! خطوة‬
‫كانت غريبة بعض الشئ منهم ولكنهم كانوا يعتقدون أن الوزراء الجدد ال يختلفون كثيرا ً عن سابقيهم ولهم‬
‫صوالت وجوالت في عالم الفساد ‪ ،‬وهنا كانت نقطة التحول في مستقبل هذا الحزب‪ ،‬استعدوا كعادتهم للجلسة‬
‫القادمة بالعبارات القوية والكلمات المرتبة ولكن على ما يبدو أن حديثهم هذا على غير المتوقع لم يرق‬
‫للموجودين داخل أروقة البرلمان واعتبروه تحامالً على الحكومة !‬

‫يبدو أن المصائب ال تأتي فرادى‪ ،‬فحتى اإلعالم الذي كان يمد ُح باألمس بات ينتقد ُ تلك الكلمات‪ ،‬وفجأة‬
‫تراجعت أسهمهم داخل البرلمان ومن ث ًم عند جموع الشعب‪ ،‬لكنهم رفضوا رفع الراية البيضاء مبكرا ً وحاولوا‬
‫ينخفض صدى صوتهم وكأنهم عادوا‬ ‫ُ‬ ‫التعويض في جوالت أخرى عساهم تدارك ما فاتهم‪ ،‬بمرور الجوالت‬
‫إلى نقطة الصفر‪ ،‬وقتها أيقنوا أن استمرار الهجوم كان خطئا ً وقعوا فيه وكان البد من الهدوء والتريث قليالً‬
‫وبعدها يأتي الهجوم ثانية ولكن ال جدوى من العتاب فقد فات وقت المعاتبة‪.‬‬

‫عادت الجلسات تدار بواسطتنا بعد أن غضينا الطرف لمرات ومرات‪ ،‬بدأ الحزب يشعر باالختناق‪ ،‬أحس‬
‫وكأنه سُلب الحرية تماماً‪ ،‬ظهر أمام العامة كاذبا ً ضعيفاً‪ ،‬فقد ثقة الشباب قبل الكبار بل واألكثر من ذلك بدأت‬
‫حمالت ضدهم ولدت من موطن المجموعة‪ ،‬تعطيل كامل لمصلحة المواطنين هكذا كانت الكلمات التي‬
‫روجت لها تلك الحمالت‪ ،‬حزب فقد السيطرة تماما ً على مجريات األمور‪ ،‬مهاجمة الوزراء الجدد لم تأت‬
‫نقف‬
‫أكلها وباءت بالفشل وعليهم االعتراف بالهزيمة‪ ،‬كل ذلك حدث دون تدخل قوي يذكر من المجموعة‪ ،‬كنا ُ‬
‫من بعيد نشاهد ُ سقوط هذا الولد الصغير من على حافة السرير‪.‬‬
‫بدأت معالم خطة األمل تتضح أكثر فأكثر ومع قدوم االجتماع المرتقب كنا قد وضعنا أيدينا على الجزء‬
‫المفقود‪ " ،‬تلك هي خطة األمل أيها األصدقاء‪ ،‬رفع الثقة في نفوسهم شيئا ً فشيئاً‪ ،‬إيهامهم بحصد النجاحات‬
‫نجاحا ً تلو اآلخر‪ ،‬إيصال أصواتهم إلى جموع الشعب وبعدها تنقلب اآلية‪ ،‬زرع الشك في نفوسهم ومن ث ًم‬
‫ينخفض صدى صوتهم وبعدها تُوأد كلماتهم‪ُ ،‬زهقت أحالم يوسف ونضال أسرع من المتوقع‪ ،‬في ٍ‬
‫يوم قاربوا‬ ‫ُ‬
‫يوم ارتطمت رؤوسهم باألرض " انبرى الجميع بالتصفيق للسيد نزار وعلت االبتسامة‬ ‫مالمسة السُحب وفي ٍ‬
‫وجهه وفهم الجميع القصة الكاملة‪.‬‬

‫في الجانب اآلخر تلم ُح الوجوه الشاحبة بالقرب من مقر الجزب‪ ،‬من كان موطنا ً للسعادة صار موطنا ً للحزن‬
‫ومن كان بيت الشباب أصبح بيت العنكبوت‪ ،‬ليلة عصيبة أخرى مرت على الحزب حين قررت نضال‬
‫الرحيل‪ " ،‬كانت أياما ً جميلة معكم هنا‪ ،‬حلم عشناه سوياً‪ ،‬فرحنا معا ً وحزنا معاً‪ ،‬أتمنى لكم التوفيق في‬
‫المرحلة المقبلة أصدقائي " في الحقيقة أصابت تلك الكلمات الجميع بالقشعريرة عدا يوسف الذي تملكه‬
‫الغضب وأحست نضال بذلك قائلة " يبدو أن يوسف غاضب من كلماتي " أكتفى يوسف بالتحديق فيها ولم يقل‬
‫سوى جملة مكونة من كلمتين " الهروب الكبير " ‪.‬‬

‫جرح غائر ذلك الذي أصاب نضال عقب سماعها لتعقيب يوسف‪ ،‬لم تستطع السيطرة على نفسها وبدأت‬
‫تذرف الدموع وشعرت بأن وجودها لم يعد مرغوبا ً فيه والذت بالفرار معلنة معها نهاية حلم الحزب‪ ،‬صمتُ‬
‫رهيب مأل المكان والكل بدأ يهرب تدريجياً‪ ،‬فقط يوسف من تبقى من األعضاء جلس يفند ُ جنبات الحزب‬
‫متذكرا ً كل ما حدث هنا‪ ،‬كان آخر الراحلين من المقر واختفى ضوء الالفتة الكبرى التي تحمل عبارة " معا ً‬
‫لغ ٍد أفضل " ثم تذكر يوسف حديث والدته المتكرر عن الزواج‪ ،‬خسارة سريعة لمعركة الزواج التقليدي التي‬
‫خاضها يوسف مع عائلته‪.‬‬

‫شاحب وعينان مليئتان باإلرهاق وكأنهما‬


‫ُ‬ ‫في اليوم التالي كانت نضال تعد أغراضها للسفر خارج البالد‪ ،‬وجه‬
‫لم يتذوقا طعم النوم منذ مدة طويلة‪ ،‬مرة أخرى بدأت تذرف الدموع ولكن هذه المرة هي دموع السفر خارج‬
‫موطنها الذي تربت فيه‪ ،‬لقد خسرت معركة التغيير مع والدها‪ ،‬لطالما أقنعها بصعوبة التغيير وأنه البد لها من‬
‫االلتحاق به في الخارج‪ ،‬يوسف أخيرا ً رضخ لوالدته وقرر االستجابة لطلبها المتكرر وهو الزواج‪ ،‬هو اآلخر‬
‫خسر معركة حارب فيها بكل ما يملك من قوة‪ ،‬ظل يبرر ويبرر ولكن حان وقت ال ُمسكنات‪.‬‬

‫على الورق فالحزب يزاول عمله أما على أرض الواقع فقد أصبح من الماضي‪ ،‬فقط يوسف يذهب على‬
‫فترات متقطعة وقليل من األعضاء مستمرون فقط حرصا ً على مقعدهم اليتيم في البرلمان‪ ،‬ال كلمات تُعد وال‬
‫حديث يُجهز وال حناجر تُلقي‪ ،‬وكأنه بيت مهجور تمر عليه بسيارتك مسرعا ً خوفا ً من هجمات الشياطين‬
‫عليك‪ ،‬حتى جلسات البرلمان تحولت لجلسات بال طعم وال رائحة‪ ،‬فقط بعض الوجوه المقززة التي تقوم بتقديم‬
‫فروض الوالء والطاعة للنظام عبر الدفاع عنهُ متى سنحت الفرصة ‪.‬‬
‫عاد الهدوء ثانية إلى طاولة االجتماعات‪ ،‬أجواء المزاح والمرح تغلبت على الطابع الجدي‪ ،‬في الواقع كانت‬
‫االجتماعات في تلك الفترة من باب الروتين فقط ال أكثر‪ ،‬األجواء العامة كانت تتسم بالهدوء التام‪ ،‬ك ُل شئ‬
‫كان تحت السيطرة‪ ،‬فقلت ساعات االنعقاد وتارة يلغى االجتماع وتارة أخرى يلغى اجتماعين‪ ،‬كانت تلك‬
‫الفترة األكثر هدو ًء في تاريخ المجموعة‪ ،‬فرصة أخرى مواتية إلراحة الذهن من عناء التفكير في األسئلة‬
‫واألجوبة وكذلك فرصة للجلوس أكثر مع العائلة الذين قاربنا على نسيان وجوه ِهم‪.‬‬

‫اقتراب أكثر من‬


‫ُ‬ ‫سابقا ً فترات الهدوء تلك كانت تمثل الفرصة الوحيدة إلحياء الضمير اإلنساني من موته‪،‬‬
‫العامة والشعور بمعاناتهم يمث ُل ذلك النقطة المضيئة في جسد تملكهُ الظالم‪ ،‬فترات الهدوء في تلك المرة‬
‫والكبر‪ ،‬غريب ذلك التحول الرهيب الذي طرأ على شخصيتي‪ ،‬من رج ٍل‬ ‫حملت طابع القسوة ونظرات التعالي ِ‬
‫يحاو ُل مرارا ً وتكرارا ً حفظ ما تبقى من إنسانيته لرج ٍل ال يلقى اهتماما ً لهؤالء المارة بالشوارع والطرقات‪،‬‬
‫عين الرحمة والشفقة هي ذاتُها من صارت عين االحتقار‪ ،‬من كانوا يستحقون االهتمام بمشاكلهم وسماع‬
‫معاناتهم باتوا ال يستحقون حتى جرعة الماء التي تروي عطشهم وال كسرة الخبز التي تشبع جوعهم‪.‬‬

‫طبيعتي الفضولية أبت حالة الخمول الذهنية تلك وحملت معها سؤال جديد لم يأت إلى مخيلتي مسبقاً‪ ،‬كيف‬
‫ستكون نهاية كل هذا ؟ هل سيأتي أناس يحتلون موقعنا داخل المجموعة ؟ وإن استمر عمل المجموعة هل‬
‫سنبقى صغارا ً خلف الكواليس ؟ لكن قواعد الغربان تحر ُم تلك األسئلة وشبيهاتها حتى ال تقع في المحظور‪،‬‬
‫تجلس في بيتك مرتديا ً جلبابا ً واسعا ً بانتظار نشرة‬
‫ُ‬ ‫الطموح الزائد وغير المشروع قد يودى بك خارج المبنى‬
‫التاسعة مسا ًءا وكأنك تجاوزت السبعين من عمرك‪.‬‬

‫قواعد المجموعة لم تكن كافية إلقناع ذهني بأن يكف عن التفكير بتلك األسئلة‪ ،‬لكن تلك المرة احتفظت بها‬
‫لنفسي ورفضت مشاركتها مع أي عضو من األعضاء وال حتى مع عائلتي‪ ،‬لكن الحسنة الوحيدة في اختفاء‬
‫األجوبة هو بقاء الشغف كما هو‪ ،‬نداء المجموعة أنقذني من السقوط في محيط الشك‪ ،‬اجتماع عاجل في وقت‬
‫ُ‬
‫وحدث جلل ال يتحمل‬ ‫متأخر من الليل وفي جو بارد‪ ،‬عادة االجتماعات المتأخرة تحم ُل معها قضية شائكة‬
‫التأجيل حتى ساعات الصباح األولى‪.‬‬

‫" بالطبع أنتم مندهشون من االنعقاد في تلك الساعة المتأخرة من الليل ولكن كما يقال للضرورة أحكام ! "‬
‫ُ‬
‫حادث هنا أو هناك أودى بحياة‬ ‫افتتح السيد نزار تلك الجلسة المفاجأة بتلك الكلمات‪ ،‬ظنت األغلبية أن ثمة‬
‫حدث من نوع آخر ذلك الذي سردهُ لنا السيد نزار "‬ ‫ُ‬ ‫العشرات‪ ،‬أو واحد من رجال النظام تعرض لخطر ما‪،‬‬
‫منذ ساعات قليلة وفي مباراة لكرة القدم شنت إحدى الجماهير هجوما ً حادا ً وعنيفا ً على النظام ولم يكن من‬
‫رجال األمن سوى اعتقال بعضهم والبرامج الرياضية اآلن ال تتوقف عن الحديث "‬

‫مث ُل تلك االنتقادات عادة ال تمث ُل أي خطر على النظام على اإلطالق‪ ،‬لكن الغريب في األمر أنها أتت من فئة‬
‫ال عالقة لها من قريب أو من بعيد بالسياسة‪ ،‬هجوما ً غير مفهوم وغير مبرر خصوصا ً في تلك اآلونة التي‬
‫اتسمت بالهدوء الشديد‪ ،‬كان الشغل الشاغل هو معرفة الدوافع الخفية وراء تلك الهتافات وهل هي مخطط لها‬
‫أم جاءت من قبيل الصدفة ؟ حاولنا أوالً معرفة ما دار قبل المباراة وكيف تعامل رجال األمن مع أولئك‬
‫المشجعين‪ ،‬في الحقيقة التقرير الذي جاء على طاولتنا لم يحمل أخبارا ً سارة على اإلطالق‪.‬‬
‫ال تقرير حمل في طياته تعامل ابتعد كل البعد عن معاني اإلنسانية مع هؤالء المشجعين‪ ،‬لذلك رجحنا أن الدافع‬
‫األكبر وراء هتافاتهم هو تعامل رجال األمن القاسي معهم‪ ،‬سريعا ً كان القرار باإلفراج عنهم والمبيت في‬
‫حضن ذويهم وإنهاء تلك القضية سريعاً‪ ،‬باإلفراج عنهم كنا قد اعتقدنا أن تلك القضية التي أرقت ليلتنا آنذاك‬
‫قد انتهت لألبد ولكن تبعها هتافات شبيهة ضد النظام وهذه المرة من مشجعين آخرين‪ ،‬هل كرر رجال األمن‬
‫تعاملهم الفظ مع المشجعين؟ كيف وقد خرجت تعليمات تفيد بتهدئة األجواء معهم ؟ التقرير القادم أصاب السيد‬
‫نزار بنوبة غضب شديدة لم نرى لها مثيل مطلقاً‪.‬‬

‫" هذا التقرير يفيد بأن رجال األمن هذه المرة التزموا بأقصى درجات ضبط النفس بل وطالهم الهجوم كما‬
‫طال النظام‪ ،‬ال أعرف ماذا يريد هؤالء الشباب‪ ،‬كل من تم القبض عليها خرج ليلتها فلماذا كل ذلك الهجوم ؟‬
‫" هكذا كان تعقيب السيد نزار على هذا التقرير‪ ،‬حاولت تهدئة األمور محدثا ً إياهُ قائالً " قد يكون تأييد بسيط‬
‫لزمالئهم من المشجعين وانتهى أمره " اتفق كثير من األعضاء مع وجهتي نظري تلك وأقروا أنها مجرد‬
‫هتافات صبيانية ولن تتكرر في المستقبل القريب‪ ،‬هدأ السيد نزار ويبدو أنه أقتنع بعض الشئ بحديثنا واقتنع‬
‫هو اآلخر بأنها لن تتكرر مجدداً‪.‬‬

‫فئة أخرى تماما ً من المشجعين انضمت هي األخرى في قافلة الهجوم على النظام‪ ،‬رجال األمن طبقا ً للتعليمات‬
‫فقد التزموا أقصى درجات ضبط النفس مرة أخرى‪ ،‬الهتافات كانت طوال المباراة ولم تتوقف حتى بين‬
‫شوطي المباراة‪ ،‬أصرت التعليمات المقدمة لرجال األمن على االلتزام بضبط النفس والهدوء الشديد‪ ،‬كانت‬
‫تلك القضية حديث الساعة ليس في األوساط الرياضية فحسب بل حتى األوساط السياسية واالجتماعية على‬
‫حد سواء‪ ،‬برامج التليفزيون أصبحت تخصص فقرة كاملة للحديث عن تلك الظاهرة وأسباب تفشيها بهذا‬
‫الشكل الواسع بين المشجعين‪.‬‬

‫اآللة اإلعالمية التابعة لنا بدأت هي األخرى تشنُ هجوما ً مضادا ً على المشجعين‪ ،‬الهجوم كان مرتبا ً له من‬
‫قبلنا قبل أن يوزع على غالبية العاملين باإلعالم‪ ،‬في البداية انتقاد ما حدث وأن رجال األمن في خدمة الشعب‬
‫وهذا الكالم الروتيني ومن ث ًم الخطوة األهم في ذلك الهجوم‪ ،‬تفسير ما حدث على أنه ظاهرة دخيلة على‬
‫مالعبنا وأنه منافي تماما ً لما تربيت عليه األجيال القديمة البسيطة وأن األطفال والسيدات قد يشاهدون مثل‬
‫شباب منح ُل‬
‫ُ‬ ‫تلك الهتافات المسيئة‪ ،‬ثالثا ً ال مانع من بعض الهجوم على شخص الشباب وبعض االتهامات بأنهم‬
‫وفاسد وال يعرف أين مصلحتهُ‪.‬‬

‫استمرت اآللة اإلعالمية في الهجوم ليل نهار ولم تترك فرصة إال وهاجمت تلك الظاهرة‪ ،‬البرلمان هو اآلخر‬
‫تهتف وتسب‪ ،‬بعد كل هذه الترتيبات‬
‫ُ‬ ‫بدوره انتقد ما حدث وطالب بتعام ٍل أشد حزما ً مع الفئة الخارجة التي‬
‫اعتقدنا نحنُ أعضاء المجموعة أن تلك الظاهرة في طريقها لالختفاء وأن هؤالء الفتية لن يهاجموا النظام مرة‬
‫أخرى‪ ،‬بنا ًء على تلك المعطيات السابقة قررنا غلق ملف تلك القضية والتركيز على قضايا أكثر أهمية بعيدا ً‬
‫عن صخب المالعب‪ ،‬لكن على ما يبدو أن كل هذا الهجوم المضاد لم يؤت أكلهُ وعلى النقيض تماما ً فقد‬
‫زادهم قوة وصالبة كانت فريدة من نوعها !‬

‫هذه المرة لم يسلم اإلعالم من الهجوم ونال نصيب األسد من الهتافات والسباب‪ ،‬وال مانع من بعض الهتافات‬
‫في حق النظام وكذلك البرلمان‪ ،‬لم يكن من رجال األمن سوى بدأ الهجوم على تلك الفئة واعتقل الكثير منهم‬
‫وولى البقية با لفرار من بطش رجال األمن‪ ،‬حالة من الجنون ممزوجة بحالة من الغضب سيطرت على مبنى‬
‫المجموعة‪ ،‬تعامل رجال األمن سيزيد ُ حتما ً من وتيرة الهجوم التي نحنُ في غنى عنها‪ ،‬وها قد فُتح هذا الملف‬
‫من جديد بعد أن كان قد ذهب إلى سلة المهمالت !‬

‫عقد في أروقة المجموعة لمناقشة تلك القضية مجددا ً والبحث عن ح ٍل نهائي لها‪ ،‬بدأ السيد نزار‬ ‫اجتماعُ مهم ُ‬
‫كالعادة بالحديث بنبرة يسودها الغضب " يبدو أن هؤالء الفتية مستمرون في هجومهم هذا وكلما زدنا من‬
‫هجومنا المضاد كلما ارتفع صوتهم‪ ،‬يبدو وكأنه تحدي لنا‪ ،‬نجتم ُع اليوم لغلق ملف تلك القضية نهائيا ً فالنظام‬
‫قد ضاق ذرعا ً من تلك الهتافات " بمجرد نهاية حديثه حتى بدأنا في سرد الحلول وعرضها على السيد نزار‬
‫منها أن نقلل عدد الحضور ومنها من رأى منع الجمهور ومنها من رأى تأجيل المباريات كنوع من التهديد‬
‫للجماهير لكن تلك المقترحات لم ترق له كلية وصرخ فينا قائالً " هذه حلول صعبة التطبيق على أرض‬
‫الواقع‪ ،‬سنحاول معهم بطريقة أكثر ديموقراطية ولو فشلت فال يلوموا سوى أنفسهم "‬

‫خرجت األوامر لإلعالم تحثهم فيها على تغيير نغمة الحديث عن الجمهور تماماً‪ ،‬عوضا ً عن الهجوم‬
‫ووصفهم بأنهم فئة فاسدة تم تقديمهم على أنهم أوالدنا ويجب علينا التعامل معهم بطريقة جيدة والحديث معهم‬
‫يدور داخل عقولهم عن طريق المناقشة المتحضرة‪ ،‬بل وحاولنا ترتيب عدة مكالمات تليفونية بين‬ ‫ُ‬ ‫وفهم ما‬
‫وسائل اإلعالم وبعض من المشجعين لتقريب وجهات النظر‪ ،‬وبالكاد استطاعت وسائل اإلعالم إقناع أولئك‬
‫الشباب بالحديث عبر الهاتف لمعرفة األسباب والدوافع وراء تلك الهتافات‪.‬‬

‫كان البد من الزج باسم مقدم يحظى بقبول ولو ضئيل عند هؤالء الشباب حتى يتسنى له ولنا الخروج بكل‬
‫التفاصيل الممكنة منهم وبالفعل ُرتب لكل هذا وبدأ مقد ُم السابعة مسا ًءا مكالمتهُ " مساء الخير عالء نشكركُ‬
‫أوالً على قبولك الحديث معنا عبر شاشتنا المتواضعة ثانيا ً هل تعامل رجال األمن معكم هو السبب الرئيسي‬
‫لكل تلك الهتافات ؟ أوالً نحنُ شباب يحب هذا البلد عكس ما ترو ُج الحكومة وعكس ما تروجونه أنتم اإلعالم‬
‫ثانيا ً تعامل رجال األمن معنا ما هو إال جزء من سياسية قمعية يمارسها النظام‪ ،‬رجال األمن هم فقط آلة بيد‬
‫تمارس البطش فكان البد من خروج بعض الهتافات فقد سئمنا هذا الوضع السخيف "‬ ‫ُ‬ ‫النظام‬

‫تقرب وجهات النظر بين الطرفين قائالً " ما رأيك في عقد‬


‫ُ‬ ‫اُستكمل الحديث وهذه المرة ُ‬
‫بادر المقدم بمبادرة‬
‫جلسة بينكم أنتم الشباب وبين بعض من ممثلي النظام لوقف ذلك الضجيج ولمعرفة العراقيل التي تواجهكم ؟‬
‫يعرف سوى لغة الهجوم والقمع وحتى وإن جلس فستكونُ‬ ‫ُ‬ ‫النظام لن يجلس ويتكلم بلغة الديموقراطية فهو ال‬
‫الوعود كاذبة ال قيمة لها " وانتهى الحديث وظهر على ما يبدو أن هؤالء الفتية رافضون تماما ً للجلوس أمام‬
‫رجال األمن والنظام وأنهم مستمرون في الهجوم حتى تتغير لغة القمع على حد تعبيره ‪.‬‬
‫مبنى المجموعة على وشك االنفجار‪ ،‬لم يسبق وأن تجرأ أحد ُ على الوقوف أمام النظام ومهاجمته كل هذا‬
‫الهجوم‪ ،‬اتضح لنا أن تلك القضية ربما تأخذ وقتا ً أطول مما اعتقدنا‪ ،‬لغة التحذير فشلت ولغة الحوار فشلت‬
‫وهذا ما أصابنا وأصاب السيد نزار بحالة من الغضب الشديد‪ ،‬كا ُن القرار قد اتخذ ُ وخرج لإلعالم بمعاودة‬
‫الهجوم ضد أولئك الشباب ثانية واتهامهم بأنهم من رفضوا الحوار شكالً وموضوعا ً وهذه فرصة جاءت على‬
‫ب لرجال األمن لشن الهجمات في حالة تكرار تلك الهتافات‪.‬‬ ‫ق من ذه ٍ‬
‫طب ٍ‬
‫ب تنتظر البائع ليعطي لها باقي النقود لتعاود الذهاب إلى‬
‫تقف نضال بوج ٍه شاح ٍ‬ ‫بعيدا ً عن ك ُل هذا الصخب كله ُ‬
‫بيت والدها ومن ث ُ َم كيل المدح يوميا ً لتلك البلد التي تقب ُع فيها نضال‪ ،‬يعتريها المل ُل من تكرار كلمات والدها‬
‫وأنها قد جاءت في الوقت المناسب لكي تكون شاهدة على كل هذا الرقي‪ ،‬فقط وقت النوم هو المنقذ الوحيد لها‬
‫من عباراته الرتيبة‪ ،‬لكنهُ على قدر ما يحميها منهُ على قدر ما يذكرها بذكريات تبدأ بعدها ذرف الدموع تلقائيا ً‬
‫قبل أن يخطفها النو ُم من قبضة يد الحزنُ والملل‪.‬‬

‫تقف في‬
‫عودة مرة أخرى إلى الصخب ولكن هذه المرة في بيت يوسف‪ ،‬أطفال تركض هنا وهناك وامرأة ُ‬
‫منتصف البيت تصرخ بعلو صوتها أمالً منها في إيقاف ذلك الضجيج‪ ،‬بدا عليها مالمح الكبر مبكرا ً كيف ال‬
‫وهي أ ُم ألربعة أطفال‪ ،‬تلك األ ُم ومعها حفنة األطفال تكون أخت يوسف التي تكبرهُ في العمر جاءت خصيصا ً‬
‫ترغب في رؤية ابنها داخل‬
‫ُ‬ ‫من بيتها بدعوة من والدتها إلقناع يوسف بفكرة الزواج‪ ،‬دعوة من امرأة عجوز‬
‫بيته قبل أن تفارق الحياة‪ ،‬ترغب في رؤية صغار يركضون من حولها وتعطيهم حلوى العيد‪.‬‬

‫أخته كانت تعل ُم مسبقا ً أن فكرة فرصة اقناعه تكاد تكون معدومة‪ ،‬ولكن نزوالً عند رغبة والدتها ال مانع من‬
‫محاولة عساها تجدي نفعا ً مع هذا الشاب العنيد‪ " ،‬أريد أن أصبح عمة يا يوسف " ببعض من المزاح بدأت‬
‫كلماتها حتى تعرف مكنونات صدر أخيها‪ ،‬ابتسم ابتسامة عريضة قبل أن يرد " الزالت والدتي ترسلكُ من‬
‫علي الوحدة‪ ،‬فلتكوني مطمئنة أختاه‬
‫ً‬ ‫أجل إقناعي بفكرة الزواج‪ ،‬لن تتغير تلك المرأة العجوز الزالت تخشى‬
‫فعلى ما يبدو أن الشاب العنيد الجالس أمامكم قد اقتنع أخيرا ً بحديثكم " هكذا انهى حديثه بنبرة اإلحباط واليأس‬
‫وإقرار منه برفع الراية البيضاء أمام الحياة‪.‬‬

‫ولى مسرعا ً إلى غرفته بعد تلك األحاديث وجلس يتذكر طموحا ً رسمهُ لنفسه‪ ،‬يتذكر طريقا ً شقه لذاته‪ ،‬كل ذلك‬
‫وأكثر ذهب أدراج الرياح‪ ،‬وقف على النافذة المطلة على الشارع حامالً كوبا ً من الشاي كأنه متزو ٌج يفكر في‬
‫نفقات أوالده‪ ،‬تبقى له فقط أن يكون مدخنا ً حتى تكتمل فصول هذا المشهد القاتم‪ ،‬ولكن لما العجلة ؟ فغدا ً‬
‫ويفكر كيف سيقن ُع المدرسة أن تقبل بتقسيط‬
‫ُ‬ ‫وسيقف بنفس الشاكلة يحم ُل كوب الشاي‬
‫ُ‬ ‫يتزو ُج وينجب األطفال‬
‫يلهث هنا وهناك من أجل حفنة من المال تلقى بأبنائه جنبا ً إلى جنب مع ذوات العيون الزرقاء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫المبلغ‪،‬‬

‫يفكر في مستقبله كانت شاشات التلفاز تنقل على الهواء مباشرة هتافات الجماهير مرة‬
‫أثناء ما كان يوسف ُ‬
‫أخرى ضد النظام ورجال األمن واإلعالم‪ ،‬فقط لم يتبق سوى أن يهتفوا ضد أنفسهم في نهاية المطاف‪ ،‬تعامل‬
‫رجال األمن هذه المرة كان باالعتقال لمن تالحقهُ أيديهم‪ ،‬هجوم وهتافات وخروج عن النص كلها اتهامات‬
‫كافية لتبرير حملة االعتقال تلك‪ ،‬اإلعالم بدوره وقف مع رجال األمن فطريقة الحوار لم تجد نفعا ً مع هؤالء‬
‫الفتية وكان لزاما ً أن يتم التعامل معهم بنوعٍ من القسوة والعنف‪.‬‬

‫اليوم التالي كان نفس المشهد يتكرر تنديد من زمالئهم اآلخرين وهجو ُم يصف النظام بالقمعي‪ ،‬اتضح لنا أن‬
‫هذا الملف قد تطول مدته على طاولة االجتماعات وأنها معركة من ذوات النفس الطويل‪ ،‬قررنا أن نغض‬
‫الطرف قليالً عن تلك التجاوزات حتى يتسنى لنا التركيز على قضايا أكثر أهمية‪ ،‬تحسين صورة الحكومة كان‬
‫على رأس األولويات للمجموعة‪ ،‬فصورتها بدت مهتزة قليالً عقب ملف الوزراء‪ ،‬ومن هنا جاءت الفكرة لعدة‬
‫مشروعات شبابية تعيد ثقة الشعب في حكومته‪ ،‬وبالفعل بدأ الترويج لتلك المشروعات عن طريق اإلعالنات‬
‫في الصحف وكذلك عبر شاشات التلفاز التي يشاهدها الماليين‪.‬‬

‫لم تتوقف المجموعة عند فكرة المشروعات الشبابية فحسب بل فكرت في جذب االنتباه العام عن طريق خلق‬
‫فرص عمل حقيقية للشباب واستغالل طاقاتهم‪ ،‬بدأت بعض المصالح والمؤسسات الحكومية في نشر إعالنات‬
‫للشباب والقى اإلعالن استحسان الشعب وخصوصا ً الفئة الشابة‪ ،‬المرتبات كانت العائق الوحيد في تطور تلك‬
‫المشروعات وهذا ما كان يخيف بعضهم ويجعله يفكر في األمر مرتين قبل أن يقدم على تلك الوظيفة ولكن‬
‫وعود الحكومة بتحسين المرتبات في حالة إثبات الكفاءة كان يثل ُج صدورهم وينزل السكينة عليهم‪.‬‬

‫" إنها أجمل فترات المجموعة سيد نزار" هكذا علقتُ في بداية اجتماعنا ليلة الثالثاء‪ " ،‬نعم خيرت فالحكومة‬
‫اكتسبت الثقة من جديد وكذلك الوزراء الجدد وبالطبع لن نتوقف عن هذا الحد " تعليقاته تلك لم تكن فعال‬
‫سوى البداية قبل أن يكمل حديثه قائالً " هناك عديد المشروعات التي ستنفذ قريبا في المدن الكبرى وكذلك‬
‫ترسيخ لفكرة البقاء أطول فترة‬
‫ٍ‬ ‫القرى الصغيرة وستنشر عنها الصحف الحقا " كان ذلك االجتماع بمثابة‬
‫ممكنة في سدة الحكم‪ ،‬ظهرت االبتسامة على جميع األعضاء وأيقنوا جميعا ً أن مقاعدهم في أمان وأنهم‬
‫بعيدون كل البعد عن مرحلة الخطر‪.‬‬

‫بالطبع لم تفوت الصحف فرصة االحتفاء بمشروعات الحكومة وال بفرص عمل الشباب وأفردت صفحات‬
‫كاملة لإلشادة بتلك الخطوات‪ ،‬البرامج التلفزيونية بدورها جلست بالساعات تستضيف الخبراء وتكيل المدح‬
‫وتن اقش مدى تأثير تلك المشروعات على االقتصاد‪ ،‬استعادت الحكومة هيبتها المفقودة وأزالت آثار ملف‬
‫الوزراء بكل ما فيه من فساد‪ ،‬كانت بمثابة الصلح مع الشعب وعودة المياه إلى مجاريها وتكذيب ادعاءات‬
‫المعارضة التي شككت في نزاهة الوزراء الجدد‪.‬‬

‫الملعب يهتز بكل جنباته بهتافات معادية للنظام‪ ،‬يبدو أن تلك القضية‬
‫ُ‬ ‫وعلى مقربة من مبنى المجموعة كان‬
‫تريد أن تعكر صفونا‪ ،‬هذه المرة لم نكن نفهم ما السبب وراء تلك الهتافات فالحكومة لتوها عقدت صلحا ً مع‬
‫طوائف الشعب عن طريق تلك اإلصالحات‪ ،‬تلك المرة تطور الهجوم وأصبحت الالفتات ترف ُع في كل بقعة‬
‫يمكنُ أن تصل لها أقدامهم وبالخط العريض كذلك‪ ،‬حاولنا الوصول لهم مجددا ً والتنسيق معهم وترتيب جلسة‬
‫مغلقة لنفهم منهم الدوافع الخفية وراء كل هذا الحقد الدفين ولكن لُقينا بالرفض‪.‬‬
‫نفس األمر تكرر في اليوم التالي هتافات مع الفتات‪ ،‬للوهلة األولى تظن أنها أمور مرتبة مع بعضهم البعض‬
‫قبل أن تكتشف أن كالهما يدين بالوالء لفريقين مختلفين‪ ،‬ما الحل إذا ً ؟ ال أحد يعلم ما هو الحل المناسب‬
‫إلغالق هذا الملف الشائك مدى الحياة‪ ،‬كل العقول احتارت مع تلك القضية وفشلت في فك لوغاريتمات هذا‬
‫اللغز المحير‪ ،‬وقررنا باالتفاق التجاهل التام لهم وكذلك إعطاء التعليمات لإلعالم المرئي والمسموع وكذلك‬
‫الصحف بالتجاهل الكامل لهؤالء المشجعين والتعامل مع مباريات الكرة فقط وعدم التطرق ألية تفاصيل‬
‫أخرى متعلقة بالمباراة‪.‬‬

‫سابقا ً كنا قد اتفقنا على غض الطرف عن تلك التجاوزات وأن خيوط تلك القضية متشابكة ولذلك قررنا‬
‫إغالقها ألجل غير مسمى والتركيز على قضايا أخرى تحمل ذات األهمية وربما أكثر‪ ،‬لكن الهتافات آنذاك‬
‫التي كانت بالقرب من مبنى المجموعة أجبرتنا مجددا ً عن الحديث عنها وتناولها‪ ،‬عُقد االتفاق بالتجاهل لنرى‬
‫ما هي ردة فعلهم‪ ،‬المفاجأة وقعت وردة فعلهم كانت أعنف وأشرس عن طريق تكثيف الهتافات ضد رموز‬
‫النظام وضد كبار رجال األمن‪ ،‬كعادة األمور سيتم الزج بهم داخل السجون ومن ث ُم الخروج ثانية ومعاودة‬
‫الهجوم والهتاف ضد النظام‪.‬‬

‫في نهاية المطاف كُنا قد قررنا تلك األمور برمتها إلى رجال األمن لفعل ما يحلو لهم‪ ،‬قضية منهكة للذهن ولن‬
‫تنتهي على األقل في تلك الفترة‪ ،‬لكن أقالمنا في الصحافة بدورها لم تتوقف عن التنبيه بخطر تفشي تلك‬
‫الظاهرة على المجتمع وحثت اآلباء على التركيز مع ابنائهم قليالً‪ ،‬محاولة يائسة لمخاطبة أولياء األمور داخل‬
‫البيوت عساها تحركُ المياه الراكدة‪ ،‬ولحين عودة جريان المياه مرة أخرى نكون قد انتهينا من حملة‬
‫المشروعات الحكومية تلك وحققنا جميع األهداف المنشودة‪.‬‬

‫صخب شديد ُ داخل هذه العربة التي تق ُل يوسف ووالدتهُ وأفراد أسرته‪ ،‬أصواتُ عالية وابتسامات تعلو الوجوه‬
‫ُ‬
‫بينما يظ ُل وجهُ واحد محتفظُ بجموده‪ ،‬وجهٌ شاحبٌ يحم ُل في يديه علبة من الحلوى لعروست ِه الصغيرة التي‬
‫يشعر بثقل أقدامه في‬
‫ُ‬ ‫أجبرت هي األخرى على تلك الزيجة‪ ،‬كانت بداية التعارف بين الطرفين وك ُل منها‬
‫وشاب ظل يؤج ُل تلك الخطوة‪ ،‬مزي ُج ملئ بخيبة األمل واالحباط‬
‫ُ‬ ‫السير‪ ،‬فتاة ُ صغيرة أصبحت عبئا ً ال يحتم ُل‬
‫والقلوب والمنكسرة ومن خلفهم ضو ٌء يكاد يعمي العيون من قوت ِه وقبالتُ متبادلة بين أهل الطرفين غير‬
‫مكترثين بما ح َل على العروسين‪.‬‬

‫هناكَ قد تمت الموافقة على بنود الزواج وكل كبيرة وصغيرة‪ ،‬و ُحدد موعد الخطبة ومازال يوسف لم يحرك‬
‫ورسمت االبتسامة على وجهها المستدير‪،‬‬‫ساكنا ً بعد أما " هند " زوجته المستقبلية فقد تغيرت مالمحها قليالً ُ‬
‫ابتسامة تخفي خلفها آثار الضعف واالنكسار ولكن من يهتم ألمرها ؟ فالواضح للجميع أنها قد ابتسمت فليس‬
‫مهما ً أنها أخفت آثار الحزن أو ما إلى ذلك من تلك األشياء التي يتحجج بها الشباب‪ ،‬أما ذلك الشاب طويل‬
‫القامة فحتى االبتسامة الصورية لم يظهرها طيلة اللقاء واكتفى بالتحديق في الحاضرين‪.‬‬

‫حاولت والدة هند أن تحرك ذلك الجبل الجالس أمامهم عن طريق إلقاء بعض عبارات المزاح تارة وبعض‬
‫عبارات المدح تارة أخرى‪ ،‬ولكن الجبل ظ ًل محتفظا ً بثباته هذا ورفض كل محاوالت الحراك‪ ،‬خج ٌل شديد ٌ‬
‫أحست به والدتهُ وسرعان ما حاولت أن تبعد األنظار عن ابنها بأي طريقة كانت‪ ،‬شعرت بالحزن هي‬
‫األخرى للطريقة التي سيتزو ُج بها ابنها الوحيد ولكن ما باليد حيلة فهي الطريقة المثلى إلجباره على الزواج‪،‬‬
‫ماهرة ٌ وتحمل ك ٌم ال بأس به من الخبرات التي تجعلُها تخفي أية معالم للحزن‪.‬‬

‫انتهى ذلك الموعد الذي كان ثقيالً على قلب يوسف‪ ،‬وما إن هموا بالرحيل حتى تفوه أخيرا ً ببضعة من‬
‫الكلمات مفاد ُها أنه كان سعيدا ً أثناء جلوسه معهم‪ ،‬الكل يعل ُم أنه كاذبٌ حتى هو نفسه يعلم أنه يكذب ولكن‬
‫كنوعٍ من المجاملة ألقى تلك الكلمات‪ ،‬ولكن ال بأس المه ُم أنه قد نطق أخيرا ً حتى وإن كان كاذبا ً هكذا كانت‬
‫األحاديث التي حملتها صدورهم وأبت نطقها ألسنتهم‪ ،‬كانت ليلة لطيفة على األقل بالنسبة لمن لم تشملهم‬
‫مراس ُم الزواج‪ ،‬أما من شملتهم فحدث وال حرج !‬

‫أثناء العودة إلى المنزل دار حديث قصير بين يوسف ووالدته‪ ،‬بادرت بسؤاله " ما رأيك في هند ؟ أعتقد أنها‬
‫جميلة وستكون زوجة مطيعة في المستقبل " ابتسم يوسف قبل أن يجيب قائالً " نعم هي كذلك أمي " لم يرد‬
‫تكف الحديث معهُ وتدعه‬ ‫ُ‬ ‫ت غير تلك التي باح بها فؤاده واكتفى بموافقة والدته في الرأي عساها‬‫التفوه بكلما ٍ‬
‫يراقب عن كثب تحركات المارة متناسيا ً تلك‬
‫ُ‬ ‫يرمق النظر إلى الطريق وما به من ضجيج‪،‬‬‫ُ‬ ‫وشأنه‪ ،‬كان‬
‫إلحاح مستمر من عائلته‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الخطوة المؤلمة التي أقبل عليها بعد‬

‫مرة أخرى عاود الذهاب إلى غرفته دون أن ينطق ولو بكلمة واحدة تري ُح من تحملوا معه ُ عناء تلك الزيارة‪،‬‬
‫تمارس عليه كل‬‫ُ‬ ‫لكنهم فضلوا تركهُ وحيدا ً خلف ذلك الباب الصغير‪ ،‬تركوه فريسة سهلة لمخالب األفكار‬
‫دوافعها العدوانية‪ ،‬يبدو أنه فقد القوة لمقاومتها ورفع الراية البيضاء أمامها وظ َل يراقبُها وهي تحاوطهُ من كل‬
‫مكان وهو ال حول له وال قوة‪ ،‬كانت تلك الليلة شاهدة على تغير جذري في حياة يوسف وكانت إيذانا ً ببدء‬ ‫ٍ‬
‫حياة الروتين‪ ،‬إيذانا ً ببدء حياة الجريدة وفاكهة البطيخ !‬

‫كان المبنى في أزهى أيامه‪ ،‬األجواء كانت جميلة ولطيفة والكل يتبادل االبتسامة والتحية‪ ،‬فترة مليئة‬
‫يصعب تحطيمهُ في قادم المواعيد‪ ،‬لم تغفل عن‬
‫ُ‬ ‫بالنجاحات والمشروعات‪ ،‬فترة تثبيت األقدام كرقم صعب‬
‫المجموعة فكرة تقديم الرئيس بصورة جيدة في تلك المشروعات وإظهاره في مظهر الراعي األول لها‪،‬‬
‫فرصة مواتية لتحسين عالقته مع الشعب وكذلك التفكير إلى ما هو أبعد من ذلك وهو البقاء أطول فترة ممكنة‬
‫في سدة الحكم‪ ،‬مصلحة المجموعة تكمنُ في بقائه ودعمه كرئيس للبالد‪ ،‬ومن هنا بدأ العمل في مشروعٍ طويل‬
‫األمد يضمنُ بقاءه حتى الموت !‬

‫لم تأت اللحظة المناسبة للتمهيد للشعب عن ذلك المشروع‪ ،‬االنتهاء من كافة المشروعات التي قامت بها‬
‫ثم الحديث عن بقاءه‪ ،‬الشارع ملئ بالهدوء فمن وقت انهيار الحزب بدأت الثقة تعود من‬ ‫الحكومة أوالً ومن َ‬
‫جديد في النظام‪ ،‬الفكرة األهم التي حاولنا زرعها داخل العقول هي صعوبة رحيل النظام وبدأنا نشر األفكار‬
‫الشعب مسلما ً لتلك الفكرة وأصبح مقتنعا ً تمام‬
‫ُ‬ ‫التي تقت ُل أي أمل يتعلق برحيله حتى في قادم السنوات‪ ،‬صار‬
‫االقتناع بذلك‪.‬‬
‫المجموعة أبت أن تعلن ذلك مبكرا ً وأرادت من الشعب أن يتقدم خطوة لألمام حتى يتسنى لنا الحديث عن ذلك‬
‫ُ‬
‫حديث اإلعالم كان عن‬ ‫المشروع المقترح‪ ،‬كالعادة في مثل هذه المواقف يبدأ اإلعالم جس نبض الرأي العام‪،‬‬
‫ستجلب معها الخير والرخاء للبالد وحتى يتحقق ذلك يجب‬
‫ُ‬ ‫كيل المديح للنظام وعن مشروعاته تلك التي‬
‫تحقيق اال ستقرار‪ ،‬تحقيق االستقرار يأتي عن طريق بقاء الرئيس وحكومته لفترة طويلة وهذا هو الشرط األهم‬
‫في سبيل الوصول إلى حياة ُ‬
‫تليق بالمواطن‪.‬‬
‫الشعب أنه مهت ُم برأي الجماهير‪ ،‬لم يتطرق كثيرا ً‬
‫ُ‬ ‫أحاديث الرئيس في ذلك الوقت كانت ضرورية حتى يقتنع‬
‫إلى نقطة البقاء من عدمها وترك الشعب يقرر مصيره بيده‪ ،‬كذلك رفض أشد الرفض تصويرهُ بصورة‬
‫الطامع في كرسي الرئاسة وأنه ال مانع لديه في تداول السلطة‪ ،‬في الحقيقة كلنا نعل ُم داخل المجموعة بأن تلك‬
‫يلهث وراء الكرسي‪ ،‬لكن خارج أسوار المجموعة فقد‬ ‫ُ‬ ‫األحاديث أبعد ُ ما تكون عن الصحة وأنهُ كالكلب الجائ ُع‬
‫نالت كلماته استحسان المواطنين وترسخت لديهم فكرة البقاء أكثر فأكثر‪.‬‬

‫حديث الرئيس أتى على طبق من ذهب لإلعالم‪ ،‬فرصة ثمينة لمعاودة المديح للنظام وخصيصا ً الرئيس‪،‬‬
‫صرخات اإلعالميين في آذان الشعب بأنهُ رج ُل متواض ُع ال يطم ُع في السلطة يبدو أنها آتت أكلها خصوصا ً‬
‫أن حديثهُ تزامن مع تلك المشروعات التي من شأنها تحسين األوضاع الداخلية‪ ،‬كانت خطوة ظهوره وحديثه‬
‫الخطوة األهم في تلك الفترة وتكاد أهميتها توازي أهمية المشروعات الحكومية‪ ،‬ك ُل شئ يبدو بحا ٍل جيد‬
‫والمجموعة على وشك انعطاف مهم في تاريخها‪.‬‬

‫تخر ُج من غرفتها لتكسر ذلك الملل الذي أحاط بها وتنتهز فرصة خروج والدها الثرثار لتجلس أمام شاشة‬
‫التلفاز رغبة منها في إيجاد ضالتها هُنا أو هُناك‪ ،‬منذ سفرها ولم تعد تتاب ُع ما يحدث داخل البالد وفي قرارة‬
‫نفسها تعتقد ُ أن عالقتها مع تلك البلد قد انتهت بالكامل‪ ،‬لكن شيئا ً ما داخلها أخبرها أن تتابع ولو دقيقة ما يحدث‬
‫يمارس هوايتهُ المفضلة في بث عبارات الشكر للنظام‬ ‫ُ‬ ‫هناك‪ ،‬ال جديد يذكر وال قديم يعاد فقط اإلعالم كعادت ِه‬
‫ليل نهار وكأن شهيتهم تلك لن تتوقف‪ ،‬قررت العودة لغرفتها وإغالق الباب عليها فاالرتماء في أحضان الملل‬
‫أفضل ألف مرة من متابعة المنافقين‪.‬‬

‫تتذكر ذلك الشاب صاحب‬ ‫ُ‬ ‫بمجرد دخولها الغرفة تبدأ فقرة الذكريات في الدوران دون توقف‪ ،‬الزالت‬
‫تتذكر كيف تعد ُ نفسها‬
‫ُ‬ ‫االبتسامة الجميلة والكلمات القوية‪ ،‬الزالت تحفظُ عباراته عن ظهر قلب‪ ،‬الزالت‬
‫الجتماعات الحزب‪ ،‬كيف كان شغفها هو المحرك األول لها‪ ،‬ومن خلف النافذة أمطار غزيرة حجبت رؤية‬
‫للنوم واالستيقاظ‬
‫ٍ‬ ‫المستقبل واضحا ً جلياً‪ ،‬ذرف الدموع هو الخطوة األخيرة في تلك الفقرة الحزينة قبل التوجه‬
‫أب يدعو ربه على تغير حال تلك الفتاة‪.‬‬‫من جديد وتكرار ما حدث باألمس‪ ،‬وخلف ذلك الباب ُ‬

‫تحركت بعض من المياه الراكدة بين يوسف وهند على األقل من جهة تلك الفتاة الصغيرة‪ ،‬تدريجيا ً بدأ قلبها‬
‫يدور داخل عقل ِه‪ ،‬جل محاوالتها‬
‫ُ‬ ‫يتحركُ في اتجاه ِه‪ ،‬حاولت خلق األحاديث مرارا ً وتكرارا ً حتى تفهم ما‬
‫باءت بالفش ِل وكل ما خرجت به بعض الكلمات التي ال تسمنُ وال تغني من جوع‪ ،‬لم تصب باليأس وحاولت‬
‫التقليب في صفحات الماضي لعلها تجد ُ ضالتها هناك وقد كان‪ ،‬يوسف لم يخبرها بما حدث فترة الحزب‬
‫يقلب في تلك الصفحات ليس غيره‪ ،‬وأخيرا ً سنحت‬
‫ُ‬ ‫إطالقا ً وكان يتهرب من تلك الفترة بالذات‪ ،‬هو فقط من‬
‫الفرصة لها لفك شفرة هذا الشاب العنيد‪.‬‬

‫كانت تعتقد ُ أن صفحات الماضي كفيلة بتقريب األمور بينهما‪ ،‬قد تكون هي األولى التي تسم ُح لنفسها باإلبحار‬
‫داخل أعماق يوسف‪ُ ،‬مسبقا ً ُجهز لهذا اللقاء من قبل األسرتين‪ ،‬الهدف من هذا اللقاء هو جعل يوسف يتحدث‬
‫ُ‬
‫ينطق العبارات‪ ،‬بدأ اللقاء بابتسامة‬ ‫الهدف جعله‬
‫ُ‬ ‫أكثر‪ ،‬لم يكن مهما ً لُب الموضوع المطروح بقدر ما كان‬
‫جميلة من هند وبعض األسئلة التقليدية المعتادة‪ ،‬كانت إجابتهُ بمث ِل مقدار األسئلة‪ ،‬قبل أن تجذب انتباهه عبر‬
‫أثق في الحكومة إطالقا ً‬‫ذلك السؤال " ما رأيك في تلك المشروعات الحكومية الجديدة ؟ صمت قليالً ثم قال ال ُ‬
‫" مرة أخرى إجابة على قدر السؤال‪ ،‬صمتت هي األخرى قليالً قبل أن يبدأ الصدام‪.‬‬

‫" بصفتك عضوا ً في حزب معارض هل تعتقد ُ أن الرئيس سيبقى طويالً ؟ في الحقيقة لم يلقى باالً للجزء الثاني‬
‫من السؤال بقدر ما ألقى باالً للجزء األول قبل أن يسألها قائالً " وكيف علمتي أنني عضوا ً في حزب معارض‬
‫تفكر في اإلجابة قبل أن تقول " حاولت معرفة‬ ‫ُ‬ ‫؟ أصيبت بالدهشة من سؤاله هذا وأخذت أكثر من دقيقتين‬
‫بعض المعلومات عنك وحاولت أن أشاركك األشياء التي تستهوي قلبك وتسيطر على عقلك " لم ينطق ولو‬
‫بحرفٍ واح ٍد قبل أن ي ُه َم بالرحيل‪.‬‬

‫أدركت لحظتها أنها مخطئة وفقدت األمل كلية في فك شفرة هذا الشخص غريب األطوار‪ ،‬ألم يكفي القدر أنها‬
‫قد تتزوج رغما ً عنها بل وحمل معهُ شابا ً مريباً‪ ،‬وعندما بدأ قلبها يمي ُل باتجاهه زاد من األمور تعقيداً‪ ،‬كانت‬
‫تجلس على مقربة من باب الشقة تمنى النفس في أخبار سارة تحملُها صغيرتها‪ ،‬فوجئت بدموعِ منهمرة‬ ‫ُ‬ ‫والدتها‬
‫تعرف طريقها مغلقة الباب ورائها‪ ،‬على ما يبدو أن المهمة قد فشلت فشالً ذريعاً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وأقدام تجرى نحو غرفتها‬
‫بل ولم تمنع مخيلتها في التفكير في فشل األمر برمته بعد أن كان وشيكاً‪.‬‬

‫رفضت الدخول على صغيرتها وأيقنت أن الدخول في تلك اآلونة قد يقود ُ ابنتها لالنفجار‪ ،‬فضلت الجلوس‬
‫معها في ساعات الصباح الباكر لربما قد يتغير مزاجها‪ ،‬مع اإلطاللة األولى للشمس على بيتهم‪ ،‬ذهبت والدتها‬
‫تجاه غرفة هند واستأذنت قبل الدخول عليها‪ ،‬ابتسمت هند ابتسامتها المعتادة أمالً منها في إخفاء األلم الذي حل‬
‫ثم االنهيار التام‪ ،‬لم يكن من األم سوى ضمها‬ ‫بها لكن االبتسامة خرجت ممزوجة ببعض الدموع ومن َ‬
‫ومحاولة احتوائها وإخراجها من تلك الحالة قبل أن تفهم ما حدث ليلة األمس‪.‬‬

‫ثم بادرت بسؤالها قائلة " ماذا حدث ليلة األمس ؟ صمت مرة أخرى ؟ أم ماذا ؟‬ ‫انتظرت حتى تهدأ هند َ‬
‫حركت رأسها يمينا ً وبدأت تذرف الدموع ثانية قبل أن تنطق بصعوبة " هرب وقت المواجهة " وولت‬
‫مسرعة بعيدا ً عن الغرفة وعيناها تكاد تفيض بالدماء من شدة البكاء‪ ،‬رغم قلة كالم هند إال أن والدتها أيقنت‬
‫التنقيب عنه فشل برمته‪ ،‬لم يكن الخوف على ابنتها هو الخوف الوحيد بالتأكيد‬
‫ُ‬ ‫أن ذلك الجانب الذي أرادت هند‬
‫فهي تخشى أن تفسد المسألة بينهما‪.‬‬

‫يعبر عن ما جرى منذ ساعات‪ ،‬لكن‬


‫في الجانب اآلخر احتفظ يوسف بكامل هدوئه ورجع إلى بيته في حا ٍل ال ُ‬
‫والدة يوسف شعرت بأنه لربما أفسد األمور مرة ثانية وهذه المرة لن يتحملهُ أحد‪ ،‬حاولت مسرعة تهدئة‬
‫األجواء عن طريق االتصال بوالدة هند واالعتذار لها دون العودة إلى يوسف وفهم المسألة من األساس‪،‬‬
‫ويقف من بعيد يراقب ما يجري في تلك المكالمة قبل أن ينفجر غاضبا ً‬
‫ُ‬ ‫صوتُ بالخارج يحاول تلطيف األجواء‬
‫تجاه والدته ويعنفها على ما فعلتهُ مع تلك السيدة‪.‬‬

‫علي وتحاو ُل العبث في صفحات ال ماضي " هكذا كان تبرير يوسف لوالدته عندما حاولت‬‫ً‬ ‫تتجسس‬
‫ُ‬ ‫" وكأنها‬
‫تثير غضب ابنها ولكن‬
‫فهم ما حدث باألمس وسبب رحيله عن هند دون مقدمات‪ ،‬تعل ُم أن مثل تلك التصرفات ُ‬
‫بعض العبارات الجميلة قد تؤدي الغرض وتمتص ذلك الغضب " هي تحاول التقرب لك أيها األبله‪،‬ـ تحاول‬
‫أن تحرك ذلك الجبل الذي أمامها‪ ،‬وتأتي أنت بكل حماقة الرجال وتنصرف بدون سبب مقنع ! لن أندهش إن‬
‫رفضت تلك الجميلة االستمرار في هذا الهراء "‪.‬‬

‫كان حديث تلك السيدة العجوز كافيا ً لجعل ذلك الشاب يعاود التفكير في طريقة التعامل مع هند‪ ،‬قرر أن يعطي‬
‫لنفسه الفرصة للحديث أكثر معها وفهم ما يدو ُر بداخلها‪ ،‬في الحقيقة لم يكن ليغير طريقته معها دون ذلك‬
‫الحديث‪ ،‬كان يخشى غضب والدته وهو الذى ال يتحمل رؤيتها حزينة‪ ،‬كم هي ذكية تلك العجوز ! لعبت على‬
‫هذا الجزء البسيط لتنجح في قلب الطاولة على صغيرها‪ ،‬كان يدركُ أن الخطوة القادمة قد تكون األصعب في‬
‫حياته ويكاد يدف ُع أقدامهُ نحوها ولكن ال بديل !‬

‫بالكاد انتهينا داخل غرفة االجتماعات من شأن هذا الحزب المعارض حتى ظهر لنا على الساحة قل ُم جديد يبدو‬
‫وكأنه يريد تكرار التجربة‪ ،‬مقا ُل في إحدى الصحف غير المشهورة يهاج ُم الحكومة بشراسة ويته ُمهما بإخفاء‬
‫التكلفة الحقيقة لتلك المشروعات التي تبنتها الحكومة والنظام‪ ،‬في الواقع لم يكن خفيا ً علينا أن حديث ذلك‬
‫الشاب كان صحيحا ً وأن تلك األرقام التي ذكرت في الصحف خاصتنا لم تكن حقيقية ولكن هذا الشاب قد علم‬
‫أكثر من المسموح به وانتهك قواعد المجموعة ‪.‬‬

‫لم يكد أن يمر الوقت حتى انتشر هذا المقال في اإلعالم وانتهز الحزب المريض تلك الفرصة عساهُ يتحسس‬
‫طريق الشفاء ثانية‪ ،‬حاولنا عن طريق البرامج المذاعة نفي ما كُتب على يد هذا الصحفي وأنهُ مجرد إشاعة ال‬
‫أساس لها من الصحة ‪ ،‬تلك كانت الخطوة األولى في حل تلك المعضلة‪ ،‬الخطوة األهم كانت في إخفاء أية‬
‫معلومة بشأن تلك القضية وتلك المشروعات‪ ،‬لم يتبق سوى أن يعلم هذا الشاب الطموح أن لدغات البرغوث‬
‫داخل أروقة السجن ال تحتمل‪.‬‬

‫ينشر مقاالً عن التغذية السليمة لألطفال وكيفية االهتمام بها جيداً‪ ،‬كان من‬
‫ُ‬ ‫في األسبوع التالي كان هذا الشاب‬
‫المفترض نشر تلك األرقام الحقيقية لكن توخي الحذر كان كفيالً بالحديث عن فوائد البيض وتناوله في السابعة‬
‫صباحا ً بصحبة الجبن‪ ،‬لم تهدأ المجموعة حتى تأكدت أن تلك األرقام في أمان تام‪ ،‬ومرة أخرى كانت تلك‬
‫القضية الصغيرة فرصة جيدة إلثبات حسن النية للشعب وأن كل األمور تسير على الطريق الصحيح وال يوجد‬
‫أي تالعب من جهة الحكومة وال جهة النظام‪.‬‬
‫ُ‬
‫تتحدث عن‬ ‫لكن االسوأ لم يأت بعد‪ ،‬بمجرد االنتهاء من ملف هذا الشاب حتى ظهرت بعض األقالم األخرى‬
‫أمر يثير الدهشة والتعجب‪ ،‬حاولت بعض األقالم المعارضة‬ ‫تلك المشروعات وأن ما حدث مع هذا الشاب ُ‬
‫ينطق بكلمة واحدة حول تلك القضية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الوصول له وفهم ما حدث معهُ‪ ،‬لكن الخوف أبى أن يجعل صديقهُ‬
‫تحجج بأنهُ ظلم الحكومة ظلما ً بينا ً وال حقيقة لتلك األرقام التي تحدث عنها قبل ذلك‪ ،‬حديثهُ تفو ُح منه ُ رائحة‬
‫الكذب والخوف معا ً لكن األقالم المعارضة تلك أبت االستسالم كما استسلم ذلك الصحفي‪.‬‬

‫وجدت تلك األق الم ضالتها في هؤالء المشجعين الذين يهتفون ضد الحكومة والنظام وضد السياسة المتبعة من‬
‫قبلهم‪ ،‬حتما ً وراء تلك الهتافات سبب معين كان البد من الكشف عنه‪ ،‬محاولة الحديث معهم لن تكون سهلة فهم‬
‫يعتقدون أن هؤالء الصحفيون هم األداة األقوى التي يمتلكها النظام ويستطيع العبث بها متى شاء‪ ،‬تقديم أنفسهم‬
‫على أنهم معارضين قد ال يكون كافيا ً بالضرورة إلقناع أولئك الشباب بالحديث‪ ،‬وحتى أن وافقوا على ذلك‬
‫فمن يضمن لهم إيجاد معلومة مفيدة‪ ،‬عملية معقدة وال خيار أمام تلك األقالم سوى المضي قدما ً ومحاولة‬
‫االستفادة قدر االمكان من تلك األلسنة‪.‬‬

‫كما توقع الصحفيون فلم تكن المهمة باليسيرة على اإلطالق وتهرب المشجعون منهم عديد المرات‪ ،‬بدأ األمل‬
‫صحفي يريد المساعدة وال حتى شباب غاضبون على سياسة‬ ‫ُ‬ ‫يدخ ُل في المرحلة األخيرة قبل الموت والفناء‪ ،‬ال‬
‫النظام يحبذون الحديث‪ ،‬يا له من حظ عاثر ! لم يقفوا مكتوفي األيدي هكذا وحاولوا مرارا ً وتكرارا ً الوصول‬
‫إلى هؤالء الشباب وفهم ما يدور بداخلهم وما يشعرون به تجاه النظام‪ ،‬تنفسوا الصعداء أخيرا ً بعد موافقتهم‬
‫على الجلوس معهم على طاولة واحدة والتحدث بما تحملهُ أفئدتهم ‪.‬‬

‫قبل الجلوس معهم على طاولة واحدة كان الصحفيون الشبان صاحبي الظهور الجديد على الساحة اإلعالمية‬
‫ينشرون بعض التحقيقات لهم بشأن تلك القضية ذات الضجة الكبيرة‪ ،‬لم يأخذ أولئك الشباب وقتا ً طويالً‬
‫ودخلوا في صلب الموضوع وهاجموا الحكومة وانتهزوا الفرصة التي عادة تأتي مرة واحدة‪ ،‬بالرغم من‬
‫رفض أغلب الصحف الكبيرة الداعمة للنظام نشر تلك التحقيقات وتكفل بعض الصحف الصغيرة بنشرها إال‬
‫تضرب‬
‫ُ‬ ‫أنها أحدثت هزة كبيرة داخل جنبات الحكومة ولما كانت تحاو ُل استيعاب ما حدث حتى كانت الهزة‬
‫جموع الشعب ‪.‬‬

‫كان الحديث معهم بمثابة حبة الكريز على الكعك ذات المذاق الحلو‪ ،‬ذلك الحديث سيكونُ الضربة القادمة‬
‫تناسب أفكارهم لم تكن في محلها‬
‫ُ‬ ‫وراء تلك التحقيقات‪ ،‬لكن آمال وطموحات هؤالء الفتية في الخروج بكلمات‬
‫وأصيبوا بحالة من اإلحباط الشديد عقب الجلوس مع المشجعين‪ ،‬كل ما استطاعوا الخروج به من ذلك‬
‫االجتماع هو ك ره أولئك الشباب للنظام وسياسته القمعية التي يمارسها عليهم في مدرجاتهم‪ ،‬فقط يريدون‬
‫التمتع بكامل الحرية عن طريق الهتافات واالنتقاد دون التعرض لإليذاء‪.‬‬

‫لكن الكلمة التي ظلت عالقة في أذهان الصحفيين وقتما حاولوا أن يعرفوا منهم ولو معلومة واحدة بشأن تلك‬
‫المشروعات‪ ،‬وهل وقعت أيديهم على أي من تلك األرقام التي قال زميلهم السابق أنه سينشرها الحقا ً جاء الرد‬
‫ينشر في الصفحات األولى " تلك اإلجابة‬
‫ُ‬ ‫" نحن فقط مشجعون كرة قدم ال عالقة لنا من قريب أو من بعيد بما‬
‫قطعت الشك باليقين وتأكدوا أن المشجعين قضيتهم مختلفة تماما ً مع النظام ولكنهم تعهدوا للصحفيين‬
‫بمساندتهم في قضيتهم تلك ومحاولة دعمهم من المدرجات قدر اإلمكان وحتى لو اختلفت القضايا فاألهداف‬
‫واحدة ال غبار عليها إطالقا وهي رحيل النظام بأكمله‪.‬‬

‫المبنى على وشك االنفجار من شدة الغضب‪ ،‬ال صوت يعلو فوق صوت تلك التحقيقات المنتشرة‪ ،‬مرة أخرى‬
‫حاولنا عن طريق اإلعالم تكذيب تلك االدعاءات جملة وتفصيالً وأنها مجرد إشاعات هدفها اإليقاع بين‬
‫الحكومة والشعب بعد أن ربطتهم حالة من الثقة‪ ،‬نجحت تلك المحاوالت اإلعالمية في الحد من سيطرة تلك‬
‫التحقيقات على عقول الشعب حتى ولو أنها سيطرت على فئة بعينها ولكن ال يهم المهم أنها حدت من‬
‫السيطرة‪ ،‬الفئة الشابة وجدت في حديث الصحفيين ضالتهم المفقودة منذ كلمات الحزب في البرلمان وتوسموا‬
‫خيرا ً في هؤالء الشباب عساهم أن يفضحوا كذب النظام الذي استمر طيلة سنوات وسنوات‪.‬‬

‫حاولنا السيطرة على تلك الصحف الصغيرة قدر اإلمكان ومنعها من نشر بقية التحقيقات‪ ،‬أيضا ً أُصدرت‬
‫التعليمات لكافة القنوات بعدم السماح للصحفيين المزعومين بالظهور والحديث‪ ،‬االنطباع السائد داخل‬
‫يشير بالخوف من حديث أولئك الفتية‪ ،‬مزيد ُ من الحديث يعني بالضرورة مزيد من فرض السيطرة‬ ‫ُ‬ ‫المجموعة‬
‫التي كنا قد نجحنا في الحد منها ولو قليالً‪ ،‬سيطر القلق على أروقة المبنى ولم تتوقف العقول عن التفكير في‬
‫حلول قوية وفعالة للخروج من هذا المأزق السخيف الذي تسبب به مجرد صحفي صغير امتهن الكتابة حديثاً‪.‬‬

‫خرجت األوامر سريعا ً للصحافة وللبرلمان على حد سواء بنشر أرقام بعينها لكسب الثقة مجدداً‪ ،‬بالفعل خرج‬
‫بعض رموز النظام للحديث عن تلك المشروعات وحملوا على عاتقهم تجميل صورة النظام‪ ،‬حملوا في أيديهم‬
‫ستنشر‬
‫ُ‬ ‫بعضا ً من المستندات التي تفيد باألرقام الحقيقية للمشروعات وليس تلك التي زعم الصحفيون كذبا ً أنها‬
‫الحقاً‪ ،‬لم يكتف رجالنا عند هذا الحد فقط بل شنوا الهجوم على هؤالء الصحفيين وطالبوا بوقفهم عن العمل‬
‫بتهمة نشر األكاذيب وزعزعة استقرار الدولة المدنية بل ووقف عمل تلك الصحف التي مثلت المنبر الذي‬
‫اعتاله هؤالء الشباب للترويج ألكاذيبهم تلك‪.‬‬

‫كان ذلك الحديث بمثابة حفظ ماء الوجه بالنسبة للنظام وحكومته‪ ،‬في اليوم التالي جاءت األخبار بوقف تلك‬
‫الصحف عن العمل بتهمة التحريض ضد مصلحة الدولة وأيضا ً وقف هؤالء الصحفيون عن العمل وتحويلهم‬
‫للتحقيق‪ ،‬في الحقيقة فلن يستمر وقفهم طويالً عن العمل وستعود تلك الصحف لممارسة أعمالها بشكل طبيعي‬
‫وسينتهي التحقيق معهم في أسرع وقت ممكن‪ ،‬لكن كان البد من اتخاذ تلك الخطوات حتى يتسنى لهم التفكير‬
‫أكثر من مرة قبل الهجوم على النظام‪.‬‬

‫شهر واحد ُ كان كافيا ً لعودة تلك الصحف لممارسة العمل بشكل طبيعي‪ ،‬على غرار الصحفي السابق فقد‬ ‫ُ‬
‫حملت العناوين األولى لتلك الجريدة وصفات صحية من أجل أطفالنا وشبابنا‪ ،‬لقد استوعبت تلك الصحف‬
‫الدرس جيدا ً وعلمت أن العبث مع النظام سيكلفهم الغالي والنفيس‪ ،‬اختاروا مسلكا ً آخر يمارسون فيه أعمالهم‬
‫بعيدا ً عن بطش النظام وقمعه‪ ،‬خروج أولئك الشباب من محبسهم الذي لم يدم طويالً ورؤيتهم هروب تلك‬
‫الصحف منهم كان المشهد الذي أرادهُ النظام وطبقته المجموعة حتى يتعلمون الدرس جيداً‪.‬‬
‫حاول الصحفيون العودة مرة أخرى إلى تلك الصحف لكنهم اشتموا رائحة الخوف فور صعودهم تلك المباني‬
‫الصغيرة التي اتخذتها تلك الصحف مكانا ً لها‪ ،‬ما إن يذهبوا لمبنى ما حتى يخرجوا منهُ سريعاً‪ ،‬كل تلك‬
‫المباني رفضت وجودهم‪ ،‬كان األمر صعبا ً عليهم فحتى صحف المعارضة باتت هي األخرى تخشى الدخول‬
‫في صدام مباشر مع النظام‪ ،‬وما العمل إذا ً ؟ حتى تلك المعلومات التي وقعت أيديهم عليها فقد ذهبت أدراج‬
‫الرياح ولم يعد لها وجود على اإلطالق حتى يتسنى لهم نشرها ولو الحقا ً في أي مكان‪.‬‬

‫كانت تلك الضربة التي أرادتها المجموعة ونجحت مجددا ً في تنفيذها‪ ،‬ال معلومات وال وظيفة وقد ينتهي بهم‬
‫الحال في الجلوس خلف الشاشة لمشاهدة مسلسل العائلة في الثامنة مساءاً‪ ،‬ومن يدري فلربما يدركون أن‬
‫الحديث عن الوصفات الصحية وتناول الجبن والعسل والحديث عن السينما وخالفه هو الحل األمثل لمعاودة‬
‫يفكر به هؤالء الفتية وكيف ستكون خطوتهم القادمة األهم هو أن الرسالة التي‬
‫ُ‬ ‫العمل من جديد‪ ،‬ال يهم ما‬
‫أرادت المجموعة ومن خلفها النظام إيصالها قد وصلتهم بالفعل‪.‬‬

‫وصلت إلى مسامع يوسف كل تلك األحداث رغم محاوالته االبتعاد عن كل ما يتعلق بالسياسة من قريب أو‬
‫من بعيد‪ " ،‬يا لهم من جبناء " هكذا كان تعليقه األول على تعامل تلك الصحف الصغيرة مع الصحفيين وأحس‬
‫أن المشهد يعيد ُ نفسه ثانية وكأن النظا ُم يختار الطريقة المثلى لقتل األمل بداخلك ومن ث ًم العبث بأحالمك‬
‫وطموحاتك‪ ،‬تمنى في قرارة نفسه أن ال يسلك هؤالء الشباب نفس مسلكه‪ ،‬تمنى أن ال تقف ورائهم أ ُم عجوز‬
‫تحثهم على الزواج وتكوين عائلة جميلة تخر ُج أسبوعيا ً لمشاهدة فيلم السهرة السخيف‪.‬‬

‫بدأ يوسف يتحسس طريقه نحو معاملة جديدة تماما ً مع تلك الفتاة الجميلة الصغيرة‪ ،‬لم يعتد النفاق في حياته‬
‫وال استعمال األلفاظ الجميلة في غير محلها‪ ،‬حاول التنقيب بداخل تلك الفتاة عن أشياء قد تستهويه وتمكنهُ من‬
‫خلق األعذار لنفسه لحظة الحديث بكل العبارات الجميلة‪ ،‬تدريجيا ً شعر أن محاوالت التنقيب ال جدوى منها‬
‫يركض من الجهة اليسرى في‬
‫ُ‬ ‫وترك األمور تأخذ مسارها الطبيعي‪ ،‬انطلق في الحديث كما لو كان العبا ً يافعا ً‬
‫محاولة مستميتة للحاق بالكرة‪ ،‬انطلق كما لو كان رساما ً وجد ضالته في تلك األلوان للخروج بأفضل لوحة‬
‫فنية ممكنة‪.‬‬
‫ُ‬
‫يحدث بين الطرفين‪ ،‬هذا هو الوقت المناسب لبدأ الحديث عن‬ ‫شعرت العائلتين ببعض من الراحة تجاه ما‬
‫الزواج وتحديد موعد مناسب له يرضي جميع األطراف‪ ،‬ال عقبات اآلن في طريقهم فكل شئ على أهبة‬
‫االستعداد لهذا الحدث الكبير‪ ،‬كالعادة بدأت والدة يوسف الحديث عن هذا األمر وما إن بدأت حديثها حتى‬
‫ابتسم يوسف وهند معا ً وهمت هند بالدخول إلى غرفتها كنوعٍ من خجل الفتيات المتعارف عليه‪ ،‬دخولها هذا‬
‫أعطى إشارة مسبقة بالموافقة بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من الرفض‪.‬‬

‫الشتاء القادم هو موعد زواج العروسين‪ ،‬فقط بضعة أشهر كفيلة بالتجهيز لذلك الحدث المهم‪ ،‬ال يكاد يصدق‬
‫ع عائلته‪ ،‬مرت السنوات سريعا ً على ذلك الشاب فمن كان يصد ُق أن‬ ‫عقلهُ فبعد أشهر قليلة سيدخل بيته وسيود ُ‬
‫تفكر مغادرة‬
‫تفكر في الحياة الزوجية وبدأت ُ‬
‫ُ‬ ‫هذا العنيد قد يرض ُخ لفكرة الزواج‪ ،‬كذلك تلك الفتاة الجميلة بدأت‬
‫ذلك المنزل بعد أن عاشت عمرا ً ليس بالقصير بين جنباته‪ ،‬لم تمنع مخيلتها في التفكير في ذلك الطفل الصغير‬
‫يقف بعيدا ً في انتظارها لمداعبته وألخذ حصته من الطعام من والدته‪.‬‬
‫الذي ُ‬

‫سيطرت حالة من الهدوء في قاعة االجتماعات بعد تلك المناوشات التي عكرت صفو المجموعة من قبل‬
‫أولئك الصحفيين‪ ،‬جاءت إشارة البدء في المشروعات بعد أن تأجلت فترة قصيرة بسبب كل ما حدث من‬
‫مقاالت وتحقيقات‪ " ،‬بعد أن تنتهي تلك المشروعات سأضمن لكم بقاء النظام مدة قد ال تقل عن عشر سنوات‬
‫بالتمام والكمال " ذلك كان تعليق السيد نزار عن بداية العمل سعيا ً وراء البقاء أطول فترة ممكنة على كرسي‬
‫الحكم‪ ،‬كالعادة ُرسمت االبتسامة على وجوه األعضاء جميعا ً فهذه إشارة جديدة منهُ باالطمئنان على مستقبل‬
‫المجموعة طالما ُحققت األهداف‪.‬‬

‫أهداف على وشك التحقيق وأقال ُم معارضة كُسر صوتها و ُمنعت‬ ‫ُ‬ ‫حالة من السعادة غمرتني في تلك الفترة‪،‬‬
‫أفكر كيف سيكون الحال لو لم يكتب لي االنضمام لتلك المجموعة والجلوس على طاولة‬ ‫ُ‬ ‫كلماتها‪ ،‬جلستُ‬
‫سيجدر بي الوقوف ساعتين في انتظار الموظف حتى يعطيني ورقة عديمة الفائدة كي‬ ‫ُ‬ ‫اجتماعاتها‪ ،‬ربما‬
‫أحظى بوظيفة األحالم وبعدها أتقد ُم للفتاة التي أحبها قبل أن يركلني أبوها خارجا ً لضعف الراتب الذي‬
‫تقترب من السقوط على رأسي‬
‫ُ‬ ‫ت وراء نافذة صغيرة ومن فوقي مروحة لعينة‬ ‫أتقاضاه‪ ،‬ربما أجلس ثمان ساعا ٍ‬
‫وتحتي كرسي انتهت صالحيته في االستخدام وخلف كل هذا ضجيج بالصالة ومواطنون ينتظرون دورهم‬
‫بعض من البطاطس الفاسدة تحت‬‫ٍ‬ ‫بفارغ الصبر حتى يُأذن لهم بالرحيل إلى بيوتهم اآليلة للسقوط قريبا ً وتناول‬
‫شعار تجمع العائلة الذي ال مثيل له‪.‬‬

‫كل تلك األفكار ومثيالتها جلستُ أتخيلها وسرعان ما طردتها حتى أحظى ٍ‬
‫بقدر من المتعة داخل هذا المنزل‬
‫الجميل‪ ،‬جلستُ مع أطفالي أبادلهم الحديث وكذلك مع زوجتي التي خرجت من غرفتها تحم ُل معها ابتسامة‬
‫تُنسيك عناء العمل‪ " ،‬ما أخبار العمل خيرت ؟ " بدأت زوجتي حديثها بهذا السؤال المعتاد قبل أن أهز رأسي‬
‫ُ‬
‫يحدث داخل‬ ‫وتلك الحركة كافية للتعبير عن أن األمور تجري على ما يرام‪ ،‬أجم ُل ما في زوجتي أنها ُ‬
‫تقدر ما‬
‫المبنى وتقدر العمل والزالت تملكُ نفس القدر من الشغف عند لقائي ولكن ال مانع من أسئلة الزوجة المعتادة‬
‫التي نكره ها نحن كرجال ولكن ما باليد حيلة‪.‬‬

‫يسيطر في معسكر الصحفيين‪ ،‬بالتأكيد لن ينتهي بهم المطاف وهم جالسون في بيوتهم منتظرين‬‫ُ‬ ‫الزال األم ُل‬
‫وظيفة أخرى غير تلك التي لطالما أحبوها وتمنوها بل واعتادوا عليها كلية‪ ،‬لكن في نفس الوقت يجب التحلي‬
‫بالحذر في قادم الخطوات حتى ال تتكرر الهزيمة مرة أخرى‪ ،‬جاءت لهم عديد األفكار مثل تأسيس جريدة‬
‫صغيرة خاصة بهم تجمعهم وتجمع عديد الصحفيين أصدقائهم وينشروا فيها ما يحلو لهم‪ ،‬قد تبدو على الورق‬
‫فكرة سهلة لكنها على أرض الواقع ومع نظام كهذا فهي فكرة أقرب للخيال‪.‬‬
‫هتافات المشجعين كانت والزالت مستمرة لم تتوقف ولو لجولة واحدة‪ ،‬كل الطرق قد نُفذت مع هؤالء الشباب‬
‫وفشلت جميعها‪ ،‬حتى أجهزة األمن التي ُخولت بتلك القضية فشلت هي األخرى في التعامل معهم واحتواء‬
‫غضبهم هذا‪ ،‬لكن ال داعي للقلق مادامت تلك الهتافات هي المصدر الوحيد للهجوم على النظام وسياساته‪،‬‬
‫القلق قد يبدأ عندما تنتق ُل تلك الهتافات للشارع ومعها قد تبدأ العقول باالنفتاح بعد أن ظلت مغلقة تماما ً لعديد‬
‫السنوات‪ ،‬في تلك األثناء يحاو ُل الصحفيون البحث عن طريقة مثلى للعودة ثانية إلى المجال الذي ترعرعوا‬
‫تحت ظله وشعروا أن فكرة الجريدة الصغيرة المستقلة لن تأتي أكلها وسيكون مصيرها الفشل في النهاية‪.‬‬

‫قبل التفكير في حلول مثالية وجب عليهم أوالً تحريك الرأي العام لصالحهم‪ ،‬فكانت الفكرة في تنفيذ وقفة‬
‫صغيرة أمام الصحف الكبرى للمطالبة بعودتهم لتلك المهنة التي ال يجيدون سواها‪ ،‬في مخيلتهم يعتقدون أن‬
‫تلك الوقفة قد تكون بمثابة ورقة ضغط على الحكومة والنظام في الوقت الحالي‪ ،‬في بادئ األمر اعتقدنا داخل‬
‫المجموعة أنها مجرد وقفة عابرة وقد ال تتكرر ثانية ولذلك قُرر التجاهل التام لمطالب هؤالء الشباب‪ ،‬رأت‬
‫المجموعة أن أولئك الصحفيون سيصابون بالملل عاجالً أو آجالً وبهذا قد تكون نجحت خطة المجموعة‬
‫والنظام‪.‬‬

‫استمرت تلك الوقفة على عكس كل التوقعات‪ ،‬على ما يبدو أن الملل قد فشل في السيطرة عليهم‪ ،‬الخطوة‬
‫التالية كانت تتمث ُل في إعطاء األوامر لكافة الصحف وكافة القنوات بتجاهل ذلك الملف تماما ً وكأنه غير‬
‫موجود باألساس‪ ،‬اإلعالم يمث ُل حلقة الوصل بين هؤالء الشباب وبين جموع الشعب وما إن ينقطع هذا الحبل‬
‫فهم قد فقدوا نصف قوتهم وقد ال يجدوا دافعا ً للتجمهر أمام الصحف الكبرى‪ ،‬لكن حتى مع تجاهل اإلعالم‬
‫لمطالبهم تلك لم يصبهم اليأس قط وظلوا ينادون بالعودة إلى حيث ينتمون‪ ،‬ينادون بالعودة إلى ديارهم الثانية‪.‬‬

‫مع استمرار تلك المطالبات فقد رضخت المجموعة لفكرة عودة أولئك الشبان للعمل من جديد‪ ،‬في الحقيقة كان‬
‫الرضوخ في حد ذاته صعبا ً للغاية ولكن ال مانع من تقديم بعض التنازالت في سبيل المصلحة العامة‪،‬‬
‫استمرار تلك الوقفة حتما ً يشك ُل إزعاجا ً لنا وللنظام فجاء التنازل على عكس ما نريد‪ ،‬اختفاء األرقام الحقيقية‬
‫للمشروعات الحكومية كان محفزا ً هو اآلخر لفكرة عودة الصحفيون لعملهم‪ ،‬ال مزيد من تلك المقاالت النارية‬
‫وال تلك المقدمات الالذعة‪ ،‬اعتقدت المجموعة أن حدة الهجوم على النظام البد وأن تقل فور عودتهم مرة‬
‫أخرى لممارسة المهنة التي تعلقت أفئدتهم بها‪.‬‬

‫لم تخفي الحكومة استيائها من تعامل ال مجموعة مع القضية‪ ،‬وحملتنا كافة العواقب المحتملة في حالة تكرار‬
‫تلك المقاالت‪ ،‬ترتعد ُ خوفا ً من عودة الهجوم عليهم وقضية الوزراء الفاسدون ليست ببعيدة من الحدوث ثانية‬
‫وهذا السبب األقوى لغضبهم وخوفهم‪ ،‬عودة هؤالء الشباب كان الحل األخير لتلك القضية في نظر الحكومة‪،‬‬
‫ممثل الحكومة جاء للمرة األولى للحديث أمامنا وجها ً لوجه مع السيد نزار بشأن تلك القضية وبدأ حديثه قائالً‬
‫" عودتهم لم يكن الحل األمثل نزار‪ ،‬أرى أنكم قد تقاعستم هذه المرة في التعامل مع األمر‪ ،‬كان من األحرى‬
‫التفكير في حلول أخرى مجدية غير ذلك الحل البائس الذي خرج من غرفتكم اللعينة تلك " أصابتنا الدهشة في‬
‫الحقيقة من لهجة ممثل الحكومة فلم يسبق وأن تحدث أحد مع السيد نزار بتلك الطريقة مهما كان‪ ،‬من جانبه‬
‫تحلى بالهدوء قبل أن يجيب إجابة أنهت كل شئ " مادامت األرقام الحقيقة بحوزتنا فال داعي لهذا الخوف‬
‫يسيطر على قلوب كم‪ ،‬اذهب ومعك رسالة الطمأنينة لهؤالء البائسين الجالسين على مقاعد ال قيمة لها "‬
‫ُ‬ ‫الذي‬
‫رد السيد نزار كان قاسيا ً جدا ً وخرج ممث ُل الحكومة ووجهه يكاد ُ يقوم بعمل كوب من القهوة من شدة الغليان‪،‬‬
‫إجابته نالت استحسان األعضاء واتفقنا جميعا ً على أن رده كان األمثل في الحقيقة لوقف ذلك الهجوم غير‬
‫المبرر من الحكومة‪ ،‬كانت تلك الجلسة كافية النتهاء فترة شهر العسل بين المجموعة وبين الحكومة وانقطعت‬
‫كافة وسائل االتصال بيننا وبينهم‪ ،‬اعتقدت الحكومة أن ثمة صفقة قد عقدت في الخفاء بين السيد نزار وأولئك‬
‫الشباب للعودة مرة أخرى وتشويه صورة الحكومة أمام الرئيس وأمام الشعب‪.‬‬

‫السيد نزار كان على دراية تامة بأن ما فعله يصب في المقام األول في مصلحة المجموعة والحكومة‪ ،‬اصيب‬
‫بالدهشة من االتهامات التي وجهت إليه من قبل الحكومة وأكد في االجتماع أن كل تلك االتهامات هي مجرد‬
‫هراء ليس أكثر‪ ،‬تلك المرة كنا واثقي ن بأن حديثه ال يحتوى أية أكذوبة بالفعل وأنه بالفعل يرفض عودة أولئك‬
‫الشباب لمزاولة عملهم ولكن استمرار وقفتهم ليس من مصلحة النظام على اإلطالق‪ ،‬لم تفهم الحكومة وجهة‬
‫نظره وأغلقت مسامعها بالكامل عن أية أحاديث تخر ُج من داخل المجموعة واستمعت فقط ألوهامها‪.‬‬

‫عودة ال شباب كانت هادئة في البداية عكس المتوقع‪ ،‬لم تشمل المقاالت األولى أي هجوم على الحكومة وال‬
‫النظام وال عن تلك المشروعات التي كانوا يتحدثون عنها سلفاً‪ ،‬على ما يبدو أنهم تعلموا الدرس جيدا ً وأيقنوا‬
‫أن الهجوم مجددا ً قد يكلفهم الكثير هذه المرة‪ ،‬فقط اكتفوا بالحديث عن الشباب وعن تطلعاتهم في المستقبل‬
‫القريب‪ ،‬مقاالت من تلك النوعية التي تتمناها الحكومة ويُحبذها النظام‪ ،‬في نظر المجموعة أن هؤالء الشباب‬
‫يحاولون تقديم فروض الوالء والطاعة للنظام وكسب ثقته من جديد حتى يتسنى لهم البقاء في وظيفتهم تلك‬
‫أطول فترة ممكنة‪.‬‬
‫البرلمان من جهته أشاد بتلك المقاالت وشدد على أهميتها في تثقيف الشباب والجيل الجديد‪ ،‬الكل بدا سعيدا ً‬
‫بتلك النقلة النوعية في تفكير الصحفيين وحينها ُوضعت الحكومة في مأزق حرج‪ ،‬اتهاماتها باتت ال أساس لها‬
‫من الصحة بل وأصبحوا مدينون باعتذار للسيد نزار وللمجموعة عن ما بدر منهم‪ ،‬لم نكن نهتم من األساس‬
‫باعتذار الحكومة ولم نفكر على اإلطالق في لوم الحكومة على ما حدث بالسابق‪ ،‬فقط يكفينا أنهم شاهدوا‬
‫صحة رؤية المجموعة حتى تكف أفواههم عن الثرثرة مرة أخرى‪.‬‬

‫هُيئت الظروف من جديد الستكمال العمل بالمشروعات والستكمال الترويج لها عبر الصحف وعبر القنوات‪،‬‬
‫ممثل الحكومة من جهته خرج في مؤتمر صحفي ليتحدث عن كافة التفاصيل وعن خارطة الطريق وعن المدة‬
‫المتوقعة لالنتهاء منها‪ ،‬لم تشهد الحكومة أجواء كهذه وال مناخا ً مناسبا ً للعمل كهذا منذ فترة طويلة‪ ،‬اختفت كل‬
‫العقبات في طريقهم وبدا أن لحظ الحقيقة قد اقتربت‪ ،‬لكن كما يُقال تأتي الرياح بما ال تشتهي السفن وكأنه قُدر‬
‫لتلك الحكومة أن ال تنعم بأجواء سعيدة ألكثر من أسبوع واحد على األقل‪.‬‬

‫تلك المرة كانت الهدية خارجة من فم ممثل الحكومة‪ ،‬لم يفطن إال أن التفاصيل ال ُمعلنة في ذلك المؤتمر كانت‬
‫مختلفة بعض الشئ عن تلك التي أُعلنت في بادئ األمر‪ ،‬أصبحت الحكومة في موقف ال تُحسد عليه أمام‬
‫الرأي العام وأمام البرلمان‪ ،‬صارت ُمطالبة بتوضيح شامل عن ما صدر على لسان المتحدث الرسمي لها‬
‫وعن ذلك االختالف الذي ظهر جلياً‪ ،‬بالنسبة لهؤالء الشباب فال توجد فرصة أفضل من ذلك لالنقضاض‬
‫ثانية على الحكومة‪ ،‬ومن يعلم فلربما يكون هذا االنقضاض هو بمثابة لحظة النهاية لتلك الحكومة المتخبطة‪.‬‬

‫بينما كان الشباب منغمسون في التحضير لمقاالتهم الجديدة وكانوا قد انقطعوا عن العالم الخارجي للتركيز قد‬
‫اإلمكان على الخروج بمقاالت جيدة قوية جاءتهم األخبار من الخارج عن تلك الواقعة‪ ،‬انتابهم الشك في البداية‬
‫واعتقدوا أنه مجرد فخ من الحكومة إليقاعهم في شر أعمالهم‪ ،‬اعتقدوا أن الحكومة فعلت هذا عن عمد حتى‬
‫تحمسهم ليكتبوا مرة أخرى عن تلك المشروعات‪ ،‬لم ينجرف أولئك الشباب وراء تلك األخبار وفضلوا‬
‫التركيز على ما بأيديهم عوضا ً عن االنقضاض على الحكومة‪.‬‬

‫تشير إلى إن ثمة هزة حدثت داخل الحكومة جراء ذلك‬ ‫ُ‬ ‫تدريجيا ً بدأ الشك ينس ُل إلى قلوب الصحفيين‪ ،‬األخبار‬
‫الحديث وأنها تعمل جاهدة على التعافي من تلك الهزة التي صابتها‪ ،‬بدا لهم أن ذلك الجسد المريض يحتا ُج فقط‬
‫لمقال واحد لإلجهاز عليه وللتخلص منه مدى الحياة ولكن قرار كهذا يحتا ُج شجاعة ال مثيل لها‪ ،‬كان التردد‬
‫يحيط بهم فال أحد يريد ُ العودة مرة أخرى إلى منزله في الواحدة صباحا ً عقب نزهة مع األصدقاء وسماع‬
‫المزيد من السباب وفي نفس الوقت فقد لن تتكرر تلك الفرصة ثانية للقفز إلى أعلى درجات السلم المهني في‬
‫فترة بسيطة‪.‬‬

‫أخيرا ً وبعد عناء كبير كلفهم عديد الساعات قد االستقرار على مقال من شأنه االجهاز تماما ً على ذلك الجسد‬
‫المعتل والتخلص منه نهائياً‪ ،‬استبعدوا تماما ً فكرة العواقب التي قد تُوضع على رؤوسهم وعقدوا العزم على‬
‫المضي قدما ً في تلك المعركة التي هي في نظرهم أسهل من سابقتها‪ ،‬ساعات قليلة متبقية على خروج ذلك‬
‫المقال المشترك بينهم‪ ،‬الكل بدأ يض ُع يدهُ على قلبه من شدة الخوف‪ ،‬خوف طبيعي في لحظات مثل هذه ولكنه‬
‫قد يكون إيذانُ بالتخلص من ذلك السجن ال ُمسمى الخوف أبد الدهر‪.‬‬

‫اجتمع ممثل الحكومة مع الوزراء في أحد المنازل وكان ذلك المنزل بمثابة غرفة العمليات الذي يحاولون من‬
‫خالله بحث كل السبل الممكنة للخروج من هذا المأزق الصعب‪ ،‬استمر االجتماع حتى الصباح في محاولة‬
‫منهم للوصول إلى حل يُمكنهم من إقناع الرأي العام بأن ما حدث يومها هو مجرد ذلة لسان ليس أكثر وأن هذا‬
‫يتصبب بالعرق من شدة‬
‫ُ‬ ‫االختالف في التفاصيل لن يسبب أية مشاكل في طريق تلك المشروعات‪ ،‬الكل بدأ‬
‫القلق وحاول بعض الوزراء االتصال بالسيد نزار عساهُ يجد لهم الحل المناسب‪.‬‬

‫علم مسبقا ً بما يجري داخل غرفة العمليات تلك‪ ،‬كان يعل ُم أيضا ً أنه البد وأن يتم االتصال‬
‫كان السيد نزار على ٍ‬
‫به من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه‪ ،‬لكنهُ كان يرى أن الوقت قد فات للحديث عن حل وأنه البد من التسليم بفشل‬
‫الحكومة في التعامل مع هذا الملف الشائك ورفض الرد تماما ً على تلك االتصاالت‪ ،‬من جهتهم حاولوا ترتيب‬
‫لقاء معهُ في مقر المجموعة لتناول كافة التفاصيل المتعلقة بالقضية وكانوا يعتقدون أن السيد نزار فقط هو من‬
‫يملك الحل لعتق رقابهم من النيران المحتملة‪.‬‬

‫على جانب آخر وعلى غرار الوزراء اجتمع الشباب في أحد المنازل أيضا ً حتى الصباح وجلسوا يتسامرون‬
‫حول ذلك المقال المتوقع نشرهُ بعد عدة ساعات‪ ،‬تناولوا كل االحتماالت فور نشره وبدأ بعضهم برسم مستقبله‬
‫وبل واألبعد من ذلك رسم مستقبل البالد‪ ،‬لكنهم لم يسلموا أيضا ً من التفكير في النظرة السلبية ولم يستبعدوا‬
‫فكرة وقوف البرلمان والشعب في صف الحكومة ثانية وحينها قد ال تجدى الوقفات نفعا ً للخروج من الظالم‬
‫الدامس الذي قد يحيطُ بهم لو نجحت الحكومة في الخروج من محنتها‪.‬‬

‫يجلس رج ُل عجوز على قارعة الطريق يحاو ُل التخلص من بضاعته تلك المتبقية‬ ‫ُ‬ ‫بين غرفتي العمليات‬
‫المناسب ليذهب مسرعا ً إلى بيته ويتناول جبة العشاء المعتادة بجانب ابناءه‬
‫ُ‬ ‫بحوزته‪ ،‬فقط كل همه جمع المال‬
‫يكترث بشأن تلك المشروعات الكبيرة وال يلقى باالً لالختالف في تلك التفاصيل المعلنة‪ ،‬ربما قد‬‫ُ‬ ‫وزوجته‪ ،‬ال‬
‫ال يعل ُم من األساس بشأنها‪ ،‬فقط يعل ُم أن هناك ابنة على مشارف الزواج والبد من جمع كافة األموال لكي‬
‫تظهر بالمظهر الالئق أمام أهل زوجها المحتمل‪ ،‬فقط يعل ُم أن هناك ولد ُ في انتظار عودته حتى يستطيع أخذ‬
‫يجلس العجوز رغما ً‬
‫ُ‬ ‫المال المناسب لدفعه في مدرسته صباحا ً قبل أن يلقى خارجها ذليالً وما بين هذا وذلك‬
‫عن أنفه منتظرا ً الفرج وقبل أن يلتهمه ظالم الليل الحالك‪.‬‬

‫في الصباح الباكر اتجه ممثل الحكومة بصحة لفيف من الوزراء تجاه منزل السيد نزار لمناقشة تداعيات‬
‫تمر بها وللبحث عن مخرج يضمن لهم عدم اهتزاز صورتهم أمام الشعب‪ ،‬قبل الذهاب تواردت‬ ‫األزمة التي ُ‬
‫لهم أخبار المقال هذا‪ ،‬جن جنونهم ومرة أخرى شعروا بأن السيد نزار قد أبرم صفقة في الخفاء مع هؤالء‬
‫الشباب لكي يستغل حالة التخبط التي تمر بها الحكومة وضربها في مقتل‪ ،‬تبدلت المشاعر وبدالً من الجلوس‬
‫معه للبحث عن حلول صار الجلوس معه لمهاجمته وإدانته‪.‬‬

‫في البداية استغرب السيد نزار من حضورهم في وقت مبكر هكذا عوضا ً من االنتظار والحضور مساءا ً في‬
‫مبنى المجموعة‪ ،‬لكنه أيقن أن االمر ال يتحمل التأجيل حتى ساعات الليل األولى‪ ،‬لم يكن مرتاحا ً عند دخولهم‬
‫وإلقاءهم السالم عليه‪ ،‬وإذ فجأة يخر ُج أحد الوزراء من سترته الجريدة التي حملت في طياتها ذلك المقال‬
‫وألقاه أمام أعين السيد نزار بادرا ً إياه بسؤاله " ما هذا ؟ " ابتسم السيد نزار واندهش من ردة فعل الوزير‬
‫وسؤاله قبل أن يجيب " كيف لي أن أعرف ما هذا " اشتد غضب الوزير وتابع حديثه قائالً " هذا مقال‬
‫مكتوب على يد أولئك الشباب الذين كنت أنت من أعادهم للنور مرة أخرى "‬

‫بمجرد سماعه ذلك الحديث حتى أدرك السيد نزار أنه أمام تهمة التآمر مع هؤالء الشباب لإلحاطة بتلك‬
‫الحكومة أو على األقل وضعها في موقف ال تحسد عليه أمام شعبها‪ ،‬أنكر تماما ً معرفته بذلك المقال وأنه ال‬
‫يعرف من األساس أنهم عادوا للحديث عن السياسة‪ ،‬كلماته تلك أشعلت النيران في قلوبهم وبادر وزير منهم‬
‫بالحديث قائالً " صفقة جديدة تلوح في األفق أيها العجوز " تلك العبارات كانت بمثابة انتهاء واجب الضيافة‬
‫بال نسبة للسيد نزار وعندها قرر رد الهجمات " أطفال صغار يجهلون إدارة األزمات وال يمتلكون الحد األدنى‬
‫من الوعي يأتون إلى منزلي ويهاجمونني على خطأ لم اقترفه وال توجد أية صلة لي به من قريب أو من بعيد‬
‫" فور االنتهاء من حديثه ولى الوزراء بالخروج سريعا ً نحو طريق هم يجهلوه تماما ً في مشهد يبين مدى‬
‫التخبط الذي تمر به تلك الحكومة ‪.‬‬
‫في الوقت ذاته كان هؤالء الشباب في موقع الجريدة يرصدون ردود األفعال على ذلك المقال‪ ،‬البعض منهم‬
‫يشعر بالخوف من بطش النظام ومن ردة فعله والبعض اآلخر يعلم أنها الفرصة األخيرة‪ ،‬نظرات زمالئهم في‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫العمل كانت تحمل طابع اإلعجاب بما قدموه ونزلت عليهم الطمأنينة قليال‪ ،‬األهم من تلك النظرات هو رد فعل‬
‫الشارع وهل سيستمع إلى نداء الحقيقة ؟ هل سيكون هذا المقال كافيا ً إلزالة تلك الغشاوة من على أعينهم‬
‫ومعرفة من له مصلحة في تردي األوضاع االجتماعية في البالد ؟‬

‫قبل البحث عن إجابات عن تلك األسئلة وجب عليهم اإلجابة عن السؤال األهم وهو وماذا بعد المقال ؟ قد يبدو‬
‫السؤال سهالً وبسيطا ً ويتكون من ثالثة كلمات ولكنهُ قد يحتاج مئات الكلمات عساها تكفي لإلجابة عنه‪ ،‬ولكن‬
‫اإلجابة عن هذا السؤال مرتبطة ارتباطا ً وثيقا ً بردة فعل النظام‪ ،‬من جهته لم يتأخر الرئيس في إعطاء األوامر‬
‫ألجهزة األمن بإلقاء القبض على هؤالء الشباب‪ ،‬األوامر خرجت من أروقة المكتب الرئاسي بدافع الوقوف‬
‫إلى جانب حكومة الرئيس‪.‬‬

‫على الفور عُقد اجتماع عاجل في مبنى المجموعة لمناقشة ما حدث خالل الساعات الماضية من أحداث قد‬
‫تشك ُل خطرا ً على النظام وعلى المجموعة‪ ،‬انتقد السيد نزار وبشدة تلك القرارات ليس عطفا ً منه بالتأكيد على‬
‫هؤالء الشباب فلو كان األمر بيده ألطلق على كل واح ٍد منهم رصاصة في رأسه وأنهى األمر في غضون‬
‫دقائق‪ ،‬لكن انتقاده هذا حرصا ً منه على مستقبل المجموعة والنظام فهو يعلم تمام العلم أن قرارات كتلك قد‬
‫تشعل النيران داخل الشارع وقد يتعاطف الشعب مرة أخرى مع تلك األقالم الشابة‪.‬‬

‫سيطر اإلحباط على أولئك الشباب ومن جديد ينتهي بهم المطاف داخل أروقة السجن والمتهمون الحقيقيون‬
‫بالخارج يقودون السيارات الفارهة‪ ،‬في الحقيقة فالمتهمون يقودون السيارات الفارهة ولكنهم ليسوا بأفضل‬
‫حاالً من أولئك القابعين في السجون‪ ،‬حاول الرئيس الوصول إلى حل مثالي للخروج بتلك األزمة إلى بر‬
‫األمان‪ ،‬كان يرى أن المجموعة والحكومة قد وضعوه في موقف ال يحسد عليه وهو اآلخر يريد تحسين‬
‫الكرسي‪.‬‬
‫ً‬ ‫صورته كي يضمن البقاء أطول فترة ممكنة على هذا‬

‫لم يكن خفيا ً عن أعضاء المجموعة أن ثمة خالف يلوح في األفق بين السيد نزار من جهة والحكومة والرئيس‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬الزالت وجهة نظره لم تتغير وهي أن الزج بهؤالء الشباب داخل السجون سيدفع النظام‬
‫ضريبته غالياً‪ ،‬حاول من جهته نفي كل تلك اإلشاعات المنتشرة بوجود خالف بينه وبين الحكومة والرئيس‬
‫ولكن رائحة كذبه قد وصلت إلى ذلك الرجل أسفل المبنى الذي يبيع الطعام‪ ،‬فكرتُ أكثر من مرة بسؤاله عن‬
‫حقيقة تلك الخالفات ولكن في كل مرة يعجز لساني عن النطق واكتفي بالمشاهدة من بعيد‪ ،‬رأيت أن هذا‬
‫الوقت ليس مناسبا ً للحديث عن تلك األزمة وغض الطرف عن األزمة األهم‪.‬‬

‫على مقربة من مبنى المجموعة كان الرئيس بصحبة مستشاريه يفكرون سويا ً في إنهاء ذلك الملف تماما ً مهما‬
‫كلفهم األمر‪ ،‬لقد ضاق ذرعا ً من السيد نزار ومن الحكومة ورأى أنهم قد يضيعون عليه فرصة البقاء حاكما ً‬
‫يلهث يمينا ويسارا ً بحثا ً عن ذلك اللحم الذي قد ينهي جوعه هذا‪ ،‬لم يلقى باالً‬
‫ُ‬ ‫لهذا الشعب‪ ،‬بدا وكأنه كلب جائع‬
‫لحقيقة تلك المشروعات ولم يفكر على اإلطالق في الخروج على الشعب واالعتراف بالخطأ الذي وقعت فيه‬
‫حكومته وأنه سيعاقب المخطئين أشد العقاب‪ ،‬جل همه يتمثل في الظهور على شاشات التلفاز والجلوس في‬
‫قصره الفخم منتظرا ً ضيوفه من الرؤساء أمثاله‪.‬‬

‫بينما الكل بالخارج يحاول أن يجد حالً يضمن له ُ البقاء حتى ولو على حساب هذا الشعب التعيس‪ ،‬توجد‬
‫مجموعة من الشباب قابعة داخل مقرات األمن وكل همها إيجاد حل يضمنُ للشعب أن يعيش حياة مستقرة‬
‫آمنة‪ ،‬لكن تلك األحالم يجدر بهم أن يحققوها في سيناريو لفيلم العرض األول أو في مسرحية بائسة تحاو ُل‬
‫نصرة األخيار على حساب األشرار‪ ،‬لم يلتفت أحد ُ على اإلطالق إلى هؤالء الشباب حتى ذلك الشعب الذي‬
‫كان كل همهم نصرته فهو قاب ُع في أسفل البئر بعيدا ً كل البعد عن ضوء الشمس ‪.‬‬

‫حاول المقربون من الرئيس إقناعه بالخروج إلى الشعب واالعتذار لهم عن ما بدر من الحكومة وتحججوا بأن‬
‫الشارع يريد تفسيرا ً لما حدث متجاهلين فكرة أن الشارع قد سئم من كثرة الكالم وأنه ال يهتم من األساس‬
‫بحديث الرئيس من عدمه ولكن تلك الحجج كانت تمثل الورقة األخيرة للضغط على الرئيس من أجل إنقاذ ما‬
‫يمكن إنقاذه‪ ،‬حتى المقربون‪ ،‬يدركون تماما ً أن سقوط النظام يعني بالضرورة سقوطهم معه‪ ،‬يفكرون في‬
‫مصلحتهم فهم بالتأكيد ال يحبذون فكرة أن ينتهي بهم المطاف وهم يرتدون تلك المالبس المهترئة داخل‬
‫حجرات السجن‪.‬‬

‫لم تنتهي محاوالت المقربون عند هذا الحد بالتأكيد‪ ،‬فحاولوا تهدئة األجواء بين السيد نزار وبين الرئيس‬
‫وخرجت الفكرة بأن يجلس السيد نزار بصفته رئيسا ً للمجموعة ونائبا ً عنها مع الرئيس على طاولة واحدة‬
‫إلنهاء ذلك الخالف تماماً‪ ،‬بالفعل نجحت محاوالتهم تلك وانتهى الخالف بينهم وأصبح من الماضي وفي تلك‬
‫الجلسة اقتنع الرئيس بفكرة الخروج على شاشات التلفاز والحديث وجها ً لوجه مع الشعب وتوضيح كافة‬
‫األمور المتعلقة بقضية المشروعات التي شغلت الرأي العام‪.‬‬

‫ينص على اإلطاحة بممثل الحكومة حتى تخف وطأة االنتقادات ووافق‬ ‫ُ‬ ‫كان االتفاق في المكتب الرئاسي‬
‫الرئيس على بنود هذا االتفاق تماماً‪ ،‬لكن المفاجأة لم تأت بعد‪ ،‬انتهى المؤتمر الصحفي ولم يعلن الرئيس عن‬
‫اإلطاحة بهذا المتحدث الذي كان السبب األول لتلك األزمة‪ ،‬لم يكن غريبا ً أن يتجاهل الرئيس بنود تلك‬
‫االتفاقية فهذا المتحدث يعد من األشخاص المقربين للرئيس وكان عينه الوحيدة داخل أروقة الحكومة وال‬
‫يجدر به التخلص من عينه الوحيدة بالتأكيد‪.‬‬

‫من جديد عاد الخالف مرة أخرى بين السيد نزار والرئيس‪ ،‬وأمر بحضور كافة األعضاء إلى اجتماع عاجل‬
‫ومهم ال يتحمل التأجيل‪ ،‬بدا عليه القلق وتأخر كثيرا ً في حديثه قبل أن ينطق أخيرا ً قائالً " ال يدرك الرئيس‬
‫بأن فعلته آنذاك قد تطي ُح بها خارج ذلك القصر الفخم " لم يكد ينهي حديثهُ حتى بادرت بسؤاله مسرعا ً " وما‬
‫هو هدف الرئيس من بقاء هذا الغبي داخل المطبخ السياسي ؟ " صمت لوهلة قبل أن يجيب " هذا الغبي هو‬
‫عينه الوحيدة داخل الحكومة‪ ،‬أعرف أنك ستقول أن الوزراء يدينون بالوالء للرئيس ولكنه ال يريد تكرار ما‬
‫حدث في السابق مع أولئك الوزراء الفاسدين "‬
‫بقدر ما كان السيد نزار غاضبا ً من الرئيس إال أن لغة التواصل بينهم مازالت مستمرة وهذا ما ظهر جليا ً في‬
‫االجتماع‪ ،‬فال يزال السيد نزار يتحدث عنه بصورة جيدة ولكن هذا منطقي عندما تعلم أن السيد نزار يريد بقاء‬
‫الرئيس أطول فترة ممكنة حتى يتنسى له تقوية المجموعة قدر اإلمكان بحيث إن وقع النظام في يوم من األيام‬
‫تكونُ المجموعة في مأمن تام بعيد عن أي سقوط محتمل‪ ،‬ومن هنا جاءت فكرة العمل على خطة تكفل له‬
‫وتكفل لنا البقاء ولو حتى خلف الستار نلقنُ من ُ‬
‫يقف على خشبة المسرح الحديث‪.‬‬

‫في بادئ األمر كان هدف السيد نزار حماية النظام قدر المستطاع والعمل على بقاء الرئيس أطول فترة‬
‫ممكنة‪ ،‬ثمة أشياء قد تغيرت وجعلت تفكيره يتغير مائة وثمانون درجة والحقيقة أن تلك الخالفات التي نشبت‬
‫كان لها تأثير مهول على بث أفكار جديدة في عقل الرأس األكبر للمجموعة‪ ،‬بعد أن خرج للشعب في حديثه‬
‫وتجاهل تماما ً الحديث عن المخطئين أدرك تماما ً أن ذلك النظام قد ال يستمر طويالً وأن عليه العمل على‬
‫تقوية مجموعته حتى ال تصيبها هزات الزلزال إن حدثت‪ ،‬كان يريد ُ أن يتقدم بخطوة على الرئيس وقرر‬
‫التفرغ تماما ً لتلك القضية المهمة‪.‬‬

‫في الجانب اآلخر لم يتغير الشئ الكثير داخل المكتب الرئاسي والزال مؤشر التفاؤل مرتفعا ً ببقاء سيادته فترة‬
‫رئاسية أخرى‪ ،‬من جهته تنفس ممثل الحكومة الصعداء عقب ذلك المؤتمر وكان أشد المستفيدين من انعقاده‬
‫وكان بمثابة شهادة ميالد جديدة له‪ ،‬لم يكن الرئيس قلقا ً بشأن تلك الخالفات الدائرة بينه وبين السيد نزار وكان‬
‫يعتقد أنها لن تطول وأن مصير المجموعة مرتبط بالضرورة بمصيره‪ ،‬اعتقاده هذا جعله في اآلونة األخيرة‬
‫يتناول عديد القضايا مع حكومته عوضا ً من عرضها على المجموعة‪.‬‬

‫" من الجيد أنه قد انفرد بعديد القضايا مع حكومته البائسة تلك‪ ،‬ال يعلم أننا كنا نريد مثل هذه القرارات‪ ،‬فتلك‬
‫هي الفرصة األمثل للتركيز على الخطة األهم على اإلطالق في المرحلة الحالية " هذا كان تعقيب السيد نزار‬
‫على ما بدر من الرئيس ومن هنا دقت ساعة العمل‪ ،‬أعضاء المجموعة كانوا يعلمون أنهم مقبلون على‬
‫منعطف تاريخي قد يغير حياتهم بالكامل‪ ،‬منعطف عليهم تجاوزه دون التشبث بتالبيب النظام‪ ،‬غير مسموح‬
‫بالخطأ على اإلطالق في تلك اللحظات الحرجة‪.‬‬

‫ما لبثت الحكومة أن تريح جسدها الذي نالته أسهم االنتقاد حتى أُطلق عليها سهم جديد لم تضع له حسباناً‪،‬‬
‫مقال ينتقد ما حدث ألولئك الشباب وأن سياسة النظام تلك لن تجدي نفعا ً في حل القضايا واألزمات‪ ،‬هذا المقال‬
‫يقدر على جذب االنتباه إلى تلك الغرف‬
‫كان عن طريق صحفيين أصدقاء ألولئك الشباب‪ ،‬فقط القلم وحده من ُ‬
‫المظلمة‪ ،‬فقط القلم وحده من سيذكر األمن بأن هناك مجموعة من الشباب كل جريمتهم أنهم انتقدوا الحكومة‬
‫على خطأ ال يستهان به وال يغتفر مهما خرج من أعذار‪.‬‬

‫ضرب مرة أخرى‬‫شاب لتوه بدأ يفيق من آثار تلك الضربة الموجهة نحو رأسه ولما بدأ يستجمع قواه حتى ُ‬
‫ضربة أفقدته الوعي وجعلت الدماء تسيل منه في منظر يوحي بالوهن‪ ،‬هكذا كان حال النظام والحكومة‬
‫وبمجرد أن حاولت التخلص من تباعات المقال األول حتى جاءهم مقال من حيث ال يحتسبون خلط كل‬
‫ورتبت عباراته داخل أروقة‬
‫األوراق‪ ،‬من جديد اعتقدت الحكومة أن هذا المقال الجديد قد صيغت كلماته ُ‬
‫الغربان وأن ما فعلته المجموعة هو رد فعل لما حدث ليلة مؤتمر الرئيس‪.‬‬

‫تجلس هند وتعلوها االبتسامة الجميلة أمام ذلك الشاب الذي‬


‫ُ‬ ‫في مكان هادئ بعيدا ً عن ضوضاء العاصمة‬
‫أصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح زوجها‪ ،‬نسمات الهواء اللطيفة ووضوح القمر في تلك الليلة كانا‬
‫الئقان على العروسين‪ ،‬ك ُل منهما يفت ُح قلبه لآلخر دون تكلف يذكر‪ ،‬لقد ذابت جبال الجليد التي كانت تمثل‬
‫حاجزا ً كبيرا ً في بداية تعارفهما‪ ،‬هكذا هو الشعور بالحب يُنسيك نفسك ويغير من شاكلتك تماماً‪ ،‬تبدو سخيفا ً‬
‫أمامهُ وكأنك قد شربت كاسا ً من الخمر وال تدري متى ستفيق وال حتى كيف ستفيق‪.‬‬

‫ترقب حدثا ً جديداً‪ ،‬لقد سئمت ذلك‬


‫ُ‬ ‫بعيدا ً عن كل مشاعر الحب تلك تقف فتاة أتعبها الملل من وراء نافذتها‬
‫يكسر كل حواجز الرتابة تلك التي أحاطت بها من جميع االتجاهات‪ ،‬حاولت‬ ‫ُ‬ ‫النظام وكأنها تريد ُ شيئا ً فوضويا ً‬
‫مرارا ً وتكرارا ً إيجاد نفسها هُنا كما فعل والدها سابقا ً لكنها تفشل في كل مرة أو باألحرى الزالت رافضة أن‬
‫تعطي نفسها الفرصة الكاملة للخروج من كل هذا‪ ،‬الزالت تفتح التلفاز كل يوم وتراقب أخبار الديار والبالد‪،‬‬
‫الزالت تحل ُم بالعودة مرة أخرى رغم لهيب نيرانها‪.‬‬

‫هنا في الديار الزالت األجواء مشحونة كلية عقب تلك األحداث المتتالية‪ ،‬كانت المجموعة قد قررت اإلغالق‬
‫على نفسها تماما ً وترك معظم القضايا للحكومة وللنظام‪ ،‬عقب ذلك المقال المتضامن مع هؤالء الشباب لم يكن‬
‫أمام النظام خيار سوى إطالق سراحهم وإال فالعواقب قد تكون أكبر من سقف توقعاتهم‪ ،‬النظام تجاهل تماما ً‬
‫مطالب المقال وأصر على رفض خروج أولئك الفاسدين في نظرهم‪ ،‬األوامر هذه المرة خرجت من المكتب‬
‫الرئاسي طالبة من اإلعالم تكثيف الهجوم عليهم وعلى من يدعمهم‪.‬‬

‫" هذا الهجوم المكثف يعد من أسوأ القرارات التي اتخذت في تاريخ النظام " هذا كان تعقيب السيد نزار على‬
‫قرار تكثيف الهجوم من اإلعالم‪ ،‬كان يرى أن مثل هكذا قرار يوضح مدى الترهل الذي أصابهم وانعدام‬
‫اإلبداع في اتخاذ القرارات‪ ،‬كل تلك األحداث كانت المحرك األول لفكرة االستقالل‪ ،‬ال يريد أن يرى كل ذلك‬
‫المجهود أن يذهب أدراج الرياح بسبب نظام أصيب بدوار البحر وأصبح ال يدري ماذا يفعل‪ ،‬أراد أن يحمي‬
‫نفسه ويحمي مجموعته من توابع دوار البحر هذا ويتجنب الفناء‪.‬‬

‫لم يكن أمام كُتاب المقال سوى الخروج إلى وقفة تدعو لخروج زمالئهم من سجنهم هذا‪ ،‬يعلمون تمام العلم بأن‬
‫النظام قد يتجاهل تلك المطالب بل وقد يتم الزج بهم داخل السجون مع زمالئهم ضريبة كثرة استخدام لسانهم‪،‬‬
‫جاءت األخبار إلى مسامع النظام وحكومته وكانت األوضاع ال تتحمل وقفات أخرى وجاءت القرارات‬
‫بالتجاهل التام من جديد لتلك الوقفة وإن لزم األمر فيجب إبعادهم ولو بالقوة‪ ،‬رجال األمن بدورهم باتوا ال‬
‫يتوقفون عن العمل تارة مع المشجعين وتارة مع الصحفيين وكأن النظام استخدمهم للهروب من مواجهة‬
‫الحقيقة‪.‬‬
‫يوم تلو اآلخر والزالت الوقفة كما هي والزالت الحناجر تهتف ولم تكل أو تمل‪ ،‬يوم تلو اآلخر والزال النظام‬
‫يهرب من مواجهة الحقيقة كما لو كان طفالً صغيرا ً يرتعد من األشباح‪ ،‬الحقيقة تكمنُ في الجلوس وجها ً لوجه‬
‫ُ‬
‫أمام الوزراء ومعرفة أوجه القصور والخلل لكنهم م شغولون بكيفية الحفاظ على مقاعدهم تلك‪ ،‬لن يسمحوا‬
‫ألحد بسلبها مهما كلف األمر‪ ،‬لم يدركوا أن ذلك الهروب المتكرر قد يكلفهم الكثير والكثير‪ ،‬فاألمر أكبر من‬
‫مجرد مقاعد وأكبر من مجرد مكاتب كبيرة واسعة‪.‬‬

‫انقطعت كافة االتصاالت مع الحكومة والرئيس وصارت المجموعة تعمل وحيدة منعزلة عن البقية‪ ،‬السيد‬
‫نزار كانت له رؤية ثاقبة فالمرض قد انتشر بالكامل في جسد النظام ونال منه ما نال‪ ،‬وبالكاد يستطيع الحراك‬
‫من فراشه كي يعطي أوامر ال فائدة منها‪ ،‬لكنه الزال يظهر بمظهر القوة والسيطرة أمام الشعب‪ ،‬أخفى علته‬
‫تلك التي أوشكت أن تطرحه أرضا ً وأظهر التماسك أمام الحشود‪ ،‬وبمرور األيام واستمرار الوقفة يزداد‬
‫انتشار المرض وتمكنه من ذلك الجسد الضعيف الذي ال يقدر حتى على مقاومة برد الشتاء‪.‬‬

‫انضم العديد من الصحفيين لتلك الوقفة وازدادت أعداد الحناجر المطالبة بخروج زمالئهم من محبسهم‪ُ ،‬‬
‫شل‬
‫تفكير النظام تماما ً وتوقف عن الحركة مثلما توقف جسده أيضاً‪ ،‬يحتاجون لمعجزة من السماء كي تنقذهم من‬
‫هذا الوضع‪ ،‬حاولوا كثيرا ً الوصول للسيد نزار كي يجد لهم الحل المناسب للخروج من تلك األزمة العصيبة‬
‫ولكن دون جدوى‪ ،‬عادت غرفة العمليات لتكون موقع الوزراء للتشاور في كيفية المرور من هذا الظرف‬
‫الصعب بأقل األضرار الممكنة وبدون التضحية بأحد منهم‪.‬‬

‫األعداد في ازدياد والوقفة صارت اعتصاما ً كامالً ال يتحرك منه أحد‪ ،‬أخبار االعتصام بدأت تصل لعامة‬
‫الشعب وصارت المطالب تنادى بإقالة الحكومة بعد أن كانت تنادي فقط بخروج زمالئهم وضمان الحرية في‬
‫المستقبل القريب‪ ،‬اعتقد النظام خاطئا ً أن ذلك االعتصام لن يستمر طويالً وأن الرتابة والملل سيح ُل عليهم‬
‫عاجالً أو آجالً‪ ،‬في الحقيقة لم تكن لدى النظام خطة واضحة لمواجهة ذلك االعتصام‪ ،‬الدعوات وحدها لن‬
‫تكفي لحفظ مكانهم فيجب عليهم األخذ في االعتبار أنهم يواجهون شبابا ً سئموا تربع هذا النظام على عرش‬
‫البالد وسئموا طريقته في إدارة شئون وطنهم‪.‬‬

‫أُصدرت األوامر كالعادة إلى اإلعالم بتجاهل كل ما يحدث داخل االعتصام والحديث عن بقية القضايا ومنها‬
‫تلك المشروعات‪ ،‬صدى صوت المعتصمين أجبر النظام بتغيير األوامر وهذه المرة كانت مهاجمة‬
‫المعتصمين وأنهم يقفون عائقا ً أمام مصلحة البالد وأشياء من هذا القبيل‪ ،‬ولكن على ما يبدو فقد فات أوان تلك‬
‫الهجمات وأيقن كبار رجاالت اإلعالم بأن استمرار الهجوم على هؤالء الشباب لن يصب في مصلحتهم في‬
‫حالة سقوط النظام وقد ينتهي بهم الحال قابعين في منازلهم فاقدين لوظيفتهم‪.‬‬

‫أدرك الرئيس بأنه بات محاصرا ً من كل الجهات‪ ،‬مجموعة انعزلت عنه وحكومة ال تقوى على مساعدة نفسها‬
‫وإعالم بات يقف بجوار المعتصمين ورجال األمن ضاقوا ذرعا ً من كثرة التعليمات‪ ،‬لكنه كان مترددا ً بشأن‬
‫أولئك الشباب الماكثين في السجون وهل سينتهي االعتصام فور إطالق سراح زمالئهم ؟ لكن الشئ األكيد بأن‬
‫استمرار تجاهل االعتصام بات أمرا ً غير مقبوالً على اإلطالق وعلى الفور خرج القرار أخيرا ً باإلفراج عن‬
‫الصحفيين أمالً في انتهاء ذلك االعتصام إلى األبد‪.‬‬

‫كان الرئيس في مكتبه يراقب ساعته قلقا ً وينتظر وصول أخبار انتهاء االعتصام عقب تلبيته أهم طلباتهم‪،‬‬
‫لكنها كانت لحظات بسيطة قبل انفجاره كالقنبلة الموقوتة ‪ ،‬جاءت األخبار إلى مكتبه ولم تكن مبشرة نهائياً‪،‬‬
‫االعتصام مستمر حتى يتحقق الطلب اآلخر وهو رحيل الحكومة بالكامل دون استثناء أي وزير منهم‪ " ،‬يبدو‬
‫أنه جن جنون هؤالء الخارجين عن القانون‪ ،‬يطالبون برحيل حكومة بأكملها‪ ،‬لقد تمادت طلباتهم والبد أن‬
‫أحمر من شدة الغضب ورأى أن رحيل الحكومة‬ ‫َ‬ ‫يتذكروا مع من يتحدثوا " تفوه الرئيس بتلك الكلمات بوجه‬
‫يعني بالضرورة فقدان القوة الوحيدة المتبقية له بعد أن خسر اإلعالم والمجموعة‪.‬‬

‫حاول الرئيس تنسيق اجتماع مع أولئك الشباب بعد إلحاح متزايد من مقربيه‪ ،‬كانت وجهة نظر المقربين أنه‬
‫يمكن للرئيس عقد اتفاق معهم من خالله ينتهي االعتصام ويرحل بعض الوزراء وليست الحكومة بأكملها‪،‬‬
‫لكن الغضب أبى أن يفارقه في تلك اآلونة ورفض المعتصمون رفضا ً قاطعا ً فرصة الجلوس معه وجها ً لوجه‬
‫وكرروا طلباتهم إلى مسامع النظام‪ ،‬لم يكن أمامه سوى الخروج إلى شاشات التلفاز بخطاب يستجدي فيه‬
‫تعاطف الشعب بعديد الكلمات الرنانة والعبارات البراقة‪ ،‬كانت آخر فرصة له حتى يضمن على األقل البقاء‬
‫لنهاية مدته بعد أن كان سابقا ً يخطط للجلوس طيلة سنوات وسنوات‪.‬‬

‫بدا على مالمحه الضعف والعجز‪ ،‬كانت تلك المرة األولى الذي امتُزج حديثه بلحن االنكسار‪ ،‬غاب الكبرياء‬
‫عن حديثه‪ ،‬غاب الغرور عن أساليبه الكالمية‪ ،‬بات ذليالً يستعطف العامة كي يقفوا بجانب النظام‪ ،‬نظام‬
‫لطالما أغلق مسامعه أمام شكاوى الشعب‪ ،‬لطالما أُغلقت مكاتبه أمام طلبات الشعب‪ ،‬يأتي اآلن ويطلب بكل‬
‫وقاحة أن يقف الشعب بجواره كي نمر سويا ً من تلك األزمة‪ ،‬انتهى الخطاب وولى مسرعا ً إلى مكتبه حيث‬
‫عديد الصحف الملقاة على طاولته وشاشة التلفاز ينظر من ورائها إلى أولئك الشباب التي ال تزال حناجرهم‬
‫تزلز ُل األرض من تحتهم‪.‬‬

‫رفض الخروج من مكتبه وأمر بأن تقام االجتماعات عنده وكان ينام ساعات قليلة ويفكر ساعات كثيرة‪ ،‬يتمنى‬
‫أن يغلق عينه ويفتحها ثم يجد االعتصام قد تبخر تماما ً لكنها مجرد أحالم ال تمس للواقع بصلة‪ ،‬كلما اقترب أن‬
‫يوافق على طلبهم برحيل الحكومة كلما تذكر أنه قد يصب ُح عاريا ً بعدها‪ ،‬المقربون منه نصحوه بأن يجتمع مع‬
‫كبار رجاالت األمن المحتفظين بوالئهم له للبحث عن الطريقة المثلى لفض هذا االعتصام نهائيا ً وإنهاء تلك‬
‫القضية لألبد حتى لو كلفه ذلك حياة بعض المعتصمين‪.‬‬

‫كانت األجواء داخل المجموعة تشير بقرب رحيل الحكومة رغما ً عن أنف الرئيس‪ ،‬السيد نزار رفض من‬
‫جديد الذهاب إلى مكتبه مع رجاالت األمن للحديث عن طريقة تُفض بها االعتصام‪ " ،‬لن ينجحوا في فض‬
‫ذلك االعتصام‪ ،‬األفضل له أن يرضخ ويعلن رحيل الحكومة حتى يمتص غضبهم‪ ،‬ولكنه في المرحلة‬
‫األخيرة‪ ،‬إنه يصارع الموت ! رجل عنيد سيرحل ضحية ألفكاره تلك " على قدر ما كان السيد نزار رافضا ً‬
‫سياسته تلك على ما قدر ما كان حزينا ً على ما يجري لهذا الرجل العجوز‪.‬‬
‫كل تلك األحداث لم تخفى على يوسف ورفض أن يتعلق بذلك الخيط الرفيع‪ ،‬رفض مجرد التفكير في رحيل‬
‫هذا النظام‪ ،‬كل يوم يفكر باالنضمام إلى هذا االعتصام ولكنه يخشى ظلمات السجن‪ ،‬يخشى أن تكون تلك‬
‫اآلمال سرابا ً في نهاية المطاف‪ ،‬الزال أمر الحزب عالقا ً في ذهنه‪ ،‬الزال يتذكر كيف أُزهق حلمه وهو يحبو‬
‫خطواته األولى‪ ،‬في السابق كان وحيدا ً عكس تلك اللحظات التي تقف بجواره فتاة في مقتبل العمر لن تسمح‬
‫بالتأكيد أن يرمى زوجها القادم خلف القضبان وتنتهي حياتها حتى من قبل أن تبدأ‪.‬‬

‫أخبار االعتصام قد وصلت إلى نضال‪ ،‬هي األخرى الزالت مترددة بشأن العودة مرة أخرى للديار‪ ،‬ال تريد‬
‫أن تكبت عناء السفر ومن ث ًم العودة ثانية إلى والدها يحدثها عن تطور تلك البلد التي يقطنها وعن مدى تخلف‬
‫موطنهم األصلي‪ ،‬لقد سئمت الجلوس قابعة في غرفتها متذكرة كل ما مر عليها في بالدها‪ ،‬الزالت تحل ُم‬
‫بالتغيير‪ ،‬الزالت تحلم بأن تمشي في الشوارع والحارات ويعلو صوتها منتقدا ً الحكومة دون أن ينتهي بها‬
‫الحال في قضية تناول المخدرات‪ ،‬الزالت تحل ُم برفع الالفتات دون أن يلقى عليها القبض وتخرج وهي تذرف‬
‫الدموع من سوء معاملة رجال األمن‪.‬‬

‫في النهاية وبعد شد وجذب وبعد تفكير عميق قررت أخيرا ً السفر إلى البالد‪ ،‬لقد كان هذا القرار مغامرة من‬
‫الدرجة األولى فهو بمثابة العودة إلى المجهول‪ ،‬أي فشل محتمل قد يطيح بأحالمها تلك إلى البلد‪ ،‬قد تنكسر‬
‫هذه المرة وال أحد يعلم كيف ستفيق في حالة انكسارها‪ ،‬أبى والدها أن يجبرها على البقاء بجواره والجلوس‬
‫أمامه‪ ،‬لطالما أعطاها الحرية في اختياراتها‪ ،‬رأى في عينها الثورة على التقاليد وعلى النظام‪ ،‬رأي في عينها‬
‫طفالً صغيرا ً يجري بكل ما أوتي من قوة سعيا ً وراء الحرية فقط الحرية !‬

‫الثانية عشر صباحا ً والزال النوم لم يعرف لي طريقا ً قط‪ ،‬فشلت في منع مخيلتي في التفكير فيما يجري داخل‬
‫البالد وفشلت أيضا ً في صد األسئلة هذه المرة‪ ،‬كنت مع تفكير السيد نزار قلبا ً وقالبا ً في فكرة االستقالل ولكن‬
‫في نفس الوقت ال أخفي تعاطفي مع الرئيس‪ ،‬ليس تعاطفا ً مع شخصه بل تعاطفا ً مع بقاء سياسة النظام كما‬
‫ه ي‪ ،‬رحيله يعني بالضرورة استنشاق هؤالء الشباب هواء الديموقراطية والحرية بعد أن كانوا يلفظون‬
‫أنفاسهم األخيرة من شدة القمع‪ ،‬ال مزيد من هواء الحرية والديموقراطية !‬

‫في اليوم التالي عقدت العزم على التحدث مع السيد نزار وجها ً لوجه والكشف له عن تلك المخاوف التي‬
‫أحاطت بي عساه يحاو ُل نجدة المجموعة قبل نجدة النظام‪ ،‬عساه ينقذنا من ريح الديموقراطية الذي من الممكن‬
‫أن يطيح بنا أرضاً‪ ،‬القدر أراد أن تبقى تلك المخاوف بداخلي فقط ولم استطع الحديث معه بشأنها‪ ،‬كان في‬
‫عجلة من أمره وعلى ما يبدو أن المرض قد تفشى تماما ً في جسد النظام وكل ما تبقى هو إعالن وفاته‪،‬‬
‫رفضتُ أن أجلس هكذا دون التحدث مع أحد بشأن ما يدور وحاولت معرفة ردود فعلهم حول المستقبل‬
‫المجهول الذي نحن بصدده وكيف سنتعامل فيما بعد ؟‬

‫اكتشفت أني الوحيد بين أعضاء المجموعة تقريبا ً الذي يحيط به الخوف من كل جانب‪ ،‬الكل أجمع على ثقته‬
‫بالسيد نزار وعلى قدرته في الحفاظ على مستقبل هذه المجموعة بعيدا ً عن وباء األمراض الذي حل بالنظام‪،‬‬
‫يا لهم من حمقى ! فال أحد شكك بقدرته على فعل ذلك ولكن ماذا سيفعل حيال الديموقراطية التي ينادي بها‬
‫أولئك الشباب ؟ هل ستجدي سياسة العصى نفعا ً بعد كل التضحيات التي قدمها أفراد االعتصام ؟ تبا ً لذلك‬
‫الجسد اللعين الذي شارف على الموت وسيهلكنا معه ‪.‬‬

‫حاولت االتصال بالوزراء إلنقاذ ما يمكن إنقاذه لكن على ما يبدو أن الغباء هو اآلخر قد تفشى تماما ً في أروقة‬
‫النظام‪ ،‬لقد رفضوا تماما ً الحديث مع أي عضو يتبع تلك المجموعة التي في نظرهم هي سبب كل ما يحدث‬
‫لهم‪ ،‬تناسوا تماما ً أنهم من أدخل البالد في تلك المرحلة الصعبة‪ ،‬الكل أغلق آذانه ورفض الحديث ولم يتبقى‬
‫سوي نفسي أحدثها عما يدور وأحدثها عن كل ما أشعر به‪ ،‬ذهبت إلى منزلي مثقالً بالهموم وكأنني عجوز‬
‫أتعبته الدنيا وما فيها ‪.‬‬

‫السابعة صباحا ً كانت موعدا ً الجتماع آخر بين الرئيس وبين رجال األمن‪ ،‬كل االجتماعات السابقة كان مترددا ً‬
‫بشأن الكيفية التي سينهي بها رجاله هذا االعتصام‪ ،‬لم يرد أن يلجأ للعنف في البداية حتى يظهر للشعب حسن‬
‫نيته لكن في قرارة نفسه يتمنى وأن يحمل السالح ويفتك بهم واحدا ً تلو اآلخر‪ ،‬بدأ االجتماع دون مقدمات وبدأ‬
‫حديثه سريعا ً " ال أريد العنف في البداية‪ ،‬ال أريد تعاطفا ً قد يطيح بنا في النهاية‪ ،‬قطع االمدادات قد يكون كافيا ً‬
‫لرحيلهم " انهى تلك الكلمات وولى مهروالً إلى غرفته منتظرا ً األخبار الجيدة ‪.‬‬

‫ما لبث أن انتهى االجتماع حتى قام رجال األمن بوضع خطة محكمة تمكنهم من فض ذلك االعتصام دون‬
‫إطالق رصاصة واحدة‪ ،‬قطع الكهرباء كان الركن األول من أركان تلك الخطة األمنية‪ ،‬بالطبع لم يكتف رجال‬
‫األمن بذلك وهددوا كل من يمد المعتصمين بالطعام والشراب‪ ،‬أراد رجال األمن بداية التنفيذ ليالً حتى تكون‬
‫األجواء أكثر صعوبة‪ ،‬كان المعتصمون يظنون أن األمن لن يتدخل وأن الطريق أصبح يسيرا ً أمامهم وما هي‬
‫إال بضع خطوات حتى ينتهي أمر ذلك النظام إلى األبد‪ ،‬لكن رجال األمن لم يدلوا بدلوهم بعد ومازالت هناك‬
‫مفاجأة قد تقضي على كل تلك األحالم‪.‬‬

‫ترتقب من العودة مرة أخرى إلى‬


‫ُ‬ ‫ما بين استعداد رجال األمن وما بين غفلة المعتصمين كانت هناك فتاة‬
‫بالدها حاملة معها الكثير من الطموح واألمل‪ ،‬كانت تتابع من وراء تلك النافذة الصغيرة الشوارع والطرقات‪،‬‬
‫كانت تتابع وجوه المارة وتحدث نفسها بأن وجوهم العابسة تلك ستصبح باسمة غداً‪ ،‬كانت تريد أن تنزل من‬
‫السيارة وتتحدث إلى كل واحد منهم‪ ،‬فقط بضع دقائق وكانت قد وصلت إلى منزلها‪ ،‬كانت قد قررت تأجيل‬
‫فترة الذكريات مع منزلها وارتاحت قليالً ومن ث ًم ذهبت إلى مكان االعتصام‪ ،‬كانت مفعمة بطاقة وحيوية‬
‫افتقدتها منذ األيام األولى لذلك الحزب‪.‬‬

‫بعد تفكير استغرق الكثير من وقته وبعد شد وجذب مع عقله وقلبه عقد يوسف العزم أخيرا ً على الذهاب إلى‬
‫االعتصام‪ ،‬كان يرى أنها الفرصة األخيرة لركل مؤخرات أولئك الفاسدين بعيدا ً عن مركز الحكم‪ ،‬قد ال تأتي‬
‫تلك الفرصة مرة ثانية‪ ،‬يعلم أن بقاءهم بعد تلك الظروف العصيبة لن يزيدهم إال قوة وحينها سيجد كل من في‬
‫االعتصام نفسه داخل السجون بانتظار أن تلين قلوب حراسهم قليالً ويعطونهم الطعام والشراب‪ ،‬هذه المرة‬
‫المعارضين يتقدمون بخطوات ليست بالقليلة عن النظام‪ ،‬فرصة جيدة لالنتقام من نظام أجلسه بجوار أمه يندب‬
‫حظه على مستقبل مشرق كان يلوح في األفق‪ ،‬حان الوقت لعودة المستقبل المشرق‪.‬‬
‫مساءا ً ذهب يوسف إلى مكان االعتصام وأحس وكأن الروح قد عادت مرة أخرى إلى جسده‪ ،‬أحس وكأنه‬
‫أرض بور انتعشت بجريان المياه العذبة فيها‪ ،‬أحس وكأنه صبي يالمس لعبته المفضلة للمرة األولى‪ ،‬فشل في‬
‫إخفاء الدموع قبل أن ينسل إلى الداخل‪ ،‬لكن المفاجأة لم تأت بعد‪ ،‬من كانت يوما ً تقف بجانبه تراقب تلك‬
‫العبارات والكلمات ها هي من جديد تقف بجانبه في سبيل تحقيق ذات الهدف‪ ،‬نظرات وابتسامات كانت‬
‫عنوان اللقاء األول بعد خيبة األمل تلك‪ ،‬اختفت الكلمات وحلت مكانها الهتافات‪ ،‬الزال هذان الشابان على قيد‬
‫الحياة‪.‬‬

‫لكن تلك االبتسامات لم تدم طويالً‪ ،‬نفذ الطعام والشراب من المعتصمين وحاولوا كعادتهم االتصال لجلب‬
‫االمدادات الالزمة لهم‪ ،‬ال أحد يجيب‪ ،‬حتى م ن تطوع وأجاب عليهم رفض بصوت يحمل في نبراته الخوف‬
‫مساعدتهم‪ ،‬ال توجد أية أسباب قوية لرفضهم‪ ،‬دقائق قليلة كانت تفصلهم عن انقطاع الكهرباء‪ ،‬في غضون‬
‫ساعات انقلب الوضع رأسا ً على عقب وكأن النظام يريد أن يلعب لعبة مع المعتصمين‪ ،‬تسلل االحباط إلى‬
‫بعضهم وازداد شعورهم بالفشل من جديد بعد أن كادت أيديهم تالمس النجاح‪ ،‬لكن البعض اآلخر لم يفقد األمل‬
‫وظلت حناجره تهز أرجاء المكان في رسالة قوية للنظام مفادها أن األمور لن تنتهي بتلك السهولة‪.‬‬

‫الساعة العاشرة صباحا ً وكأن شيئا ً لم يكن‪ ،‬الهتافات تهز االعتصام والحناجر وكأنها لم تتأثر بقلة المياه‪،‬‬
‫األجواء مازالت كما هي‪ ،‬يبدو أن الرسالة التي أراد أولئك الشباب إيصالها للنظام قد وصلت بالفعل ‪ ،‬كان‬
‫رجال األمن يقفون من بعيد يراقبون األوضاع‪ ،‬يعتقدون أنها الجولة األولى وأن تلك الحناجر لن تستمر بنفس‬
‫القوة وأن خطتهم ستنجح رغما ً عن أنف المعتصمين‪ ،‬بدأ االرهاق والتعب يحل على بعض أفراد االعتصام‬
‫وح اولوا االتصال بكل األماكن القريبة منهم ولكن ال فائدة تذكر‪ ،‬كان عليهم قطع مسافات كبيرة كي يتسنى لهم‬
‫أن يأكلوا ويشربوا‪ ،‬ما زاد من تعقيد األمور هو رفض رجال األمن دخول المعتصمين بالطعام‪ ،‬من يريد‬
‫الطعام فليذهب بعيدا ً ويمأل بطنه ومن ث ُ َم يمكنه العودة مرة أخرى إلى أحضان االعتصام‪.‬‬

‫ال حل سوى أن يقسم أعضاء االعتصام أنفسهم إلى مجموعات‪ ،‬مجموعة تجلس وتراقب المكان ومجموعة‬
‫تخرج للطعام والشراب‪ ،‬كانت تلك هي الثغرة األولى التي أحدثتها الخطة وبالرغم من أنها قد ال تعني شيئا ً إال‬
‫أنها أصابت رجال األمن ببعض من التفاؤل الحذر‪ ،‬كانت قد وصلت إلى مسامع الرئيس تلك األخبار ولكنها لم‬
‫تصبه بالسعادة على قدر ما أصابته باإلحباط‪ ،‬كان يظن أن تلك الخطة قد تنجح بين ليلة وضحاها‪ ،‬في الحقيقة‬
‫كان يسابق الزمن للتخلص منهم‪ ،‬صمود أكثر يعني بالضرورة فرص أقل في البقاء في سدة الحكم‪.‬‬
‫كانت المجموعة تراقب كل ما يدور في الخارج‪ ،‬البعض حذر بشأن المستقبل والبعض اآلخر ال يلقي اهتماما ً‬
‫لما يحدث على اإلطالق‪ ،‬من كان حذرا ً بشأن المستقبل يرى أن المجموعة حتما ً قد تتأثر برحيل النظام وأن‬
‫النظام القادم قد يطيح بها من اللعبة السياسية ومن كان ال يلقى اهتماما ً يرى أن المجموعة ستظل تحظى بهذا‬
‫أشاطر من كان حذرا ً فال أحد يعلم ماذا قد‬
‫ُ‬ ‫الدور في حضور هذا النظام أو غيره من األنظمة األخرى‪ ،‬كنت‬
‫أشاطر من كان ال يلقى باالً فقد نجحت‬
‫ُ‬ ‫يحدث بالمستقبل وكيف سيتعامل النظام الجديد مع المجموعة وكنت‬
‫المجموعة في االستقالل بذاتها وتقوية نفسها من الداخل ولكني كنت أحمل مخاوف مختلفة‪ ،‬كنت أخشى أن‬
‫نبتلع جرعات من ذلك الُسم المدعى الديموقراطية‪.‬‬

‫الرجل األهم داخل غرفة االجتماعات كان يرى أن المجموعة لن تتأثر بأي حال من األحوال في حالة إقصاء‬
‫النظام وكان يدرك أنه بمقدوره التعامل مع األمور بحكمة في المستقبل‪ ،‬بقاء النظام قد يعني بعض التأثر في‬
‫مستقبل السيد نزار نفسه وليس مستقبل المجموعة‪ ،‬كان على علم بأن بقاء الرئيس يشكل تهديدا ً على مكانته‬
‫داخل المجموعة وكان الرئيس يعتقد أن السيد نزار سبب كل ما يجري في البالد فبقائه قد يبقى الرجل األهم‬
‫داخل منزله يتابع كل األخبار بعد أن كان واحدا ً من صانعيها طوال سنوات كثيرة‪.‬‬

‫لم أفطن لحقيقة كم من المرات جلستُ أفكر وجلست أحاول البحث عن إجابات‪ ،‬بات شيئا ً معتادا ً كثرة التفكير‬
‫واألسئلة‪ ،‬وهذه المرة كانت األسئلة تتعلق بالسيد نزار نفسه‪ ،‬هل السيد نزار على دراية بذلك السُم الذي هو‬
‫بانتظارنا في حالة رحيل النظام ؟ هل سيفكر في مقعده داخل أروقة المجموعة على حساب البقية ؟ كل تلك‬
‫اإلجابات عند شخص واحد فقط‪ ،‬كل ما أملكه هو التكهن بشأنها‪ ،‬كل ما أملك هو التفكير في كافة االحتماالت‬
‫الممكنة‪ ،‬كالعادة غلبني النوم في وقت متأخر من الليل قبل أن أفيق على بعض من األخبار الصباحية التي‬
‫حملت المفاجآت في عناوينها ‪.‬‬

‫صوت العصافير كان يحمل معهُ عناوين صادمة من الصحف‪ ،‬لم أحتج كثيرا ً من الوقت كي أعلم أن تلك‬
‫العناوين تحمل النكهة الحكومية‪ " ،‬واقترب انتصار النظام " ذلك كان العنوان األبرز في كافة الصحف‬
‫المطبوعة‪ ،‬الصحافة كانت ترى ان انقطاع االمدادات يعني بالضرورة نجاح النظام في خطته دون أن يتكبد‬
‫أية خسائر بشرية وفوق كل ذلك بالطبع فالحكومة لن ترحل‪ ،‬كنت على علم بأن الحكومة حاولت بث اليأس‬
‫في معسكر المعتصمين وإيهامهم بأن تلك األيام التي قضوها لم تأت أكلها البتة وأنه ال مفر من الفشل‪.‬‬

‫على خطى الصحف كانت القنوات تعيد نشر ما قيل في الصباح وتؤكد أن االعتصام قاب قوسين أو أدنى من‬
‫االنتهاء‪ ،‬هذه األخبار أثارت غضب كل من في االعتصام وحاولوا الوصول إلى بعض القنوات للتأكيد على‬
‫استمرار االعتصام والتمسك بمطالبهم‪ ،‬رفضت جميع القنوات استقبالهم ولو حتى عن طريق الهاتف وأحس‬
‫البعض أنهم قد يعودوا إلى نقطة الصفر‪ ،‬فرصة رائعة للنظام لترتيب أوراقه جيدا ً حتى ال يقع في الفخ مرة‬
‫أخرى‪ ،‬يبدو وأن الرئيس قد استعاد بعض من نشاطه عقب تلك األخبار وألقى نظرة من بعيد على ذلك‬
‫الكرسي‪ ،‬نظرة ُمغلفة باالبتسامة والثقة‪.‬‬

‫لن يجد الرئيس ظروفا ً أفضل من تلك للخروج إلى شعبه والحديث إليه قليالً‪ ،‬كان يرى أنها الفترة المناسبة‬
‫لتصحيح األوضاع ولتحسين الصورة من جديد‪ ،‬بوجه ناصع البياض وبابتسامة عريضة وبجسد تخلص من‬
‫كل آثار المرض هكذا خرج الرئيس على شعبه‪ ،‬تجاهل تماما ً االعتصام والمعتصمين وتحدث على أن النظام‬
‫سيعمل جاهدا ً على خدمة الرعية وأن المشروعات قيد التنفيذ‪ ،‬رفض الحديث بشأن فكرة البقاء حتى تعود‬
‫العالقات كما كانت في السابق‪ ،‬نعم لم يكن يدري أن الماليين يعانون كثيراً‪ ،‬لطالما رأى أن العالقة جيدة وال‬
‫تشوبها شائبة على اإلطالق‪.‬‬
‫بعيدا ً عن ضو ضاء المعتصمين‪ ،‬جلس يوسف ونضال مع بعضهم البعض يتذكرون كل ما مضى‪ ،‬الصمت‬
‫كان اللغة السائدة في البداية‪ ،‬على غير العادة كان يوسف هو من كسر تلك اللغة قائالً " ها نحن قد عدنا ثانية‬
‫يا نضال‪ ،‬كنت أظن أن اللقاء لن يتكرر " ابتسمت نضال وقالت " القدر يريد أن نكتب بأصواتنا فصالً من‬
‫فصول النجاح بعد أن رفض سابقا ً كتابته بأيدينا " أحس بنبرة التفاؤل في حديثها وتابع " اقتالع الطائرة لم‬
‫منك التفاؤل واألمل " ضحكت ضحكة لم تضحكها منذ فترة ليست بالقصيرة وأكملت حديثها قائلة "‬ ‫يختطف ِ‬
‫ذلك هو الشئ الوحيد الجيد الذي لم تسلبني إياه الخطوط الجوية "‬

‫رفض يوسف الحديث عن هند ورأى أن الوقت ليس مناسبا ً عنها وأشار عليها بالقرب أكثر من مكان‬
‫أصدقائهم المعتصمين‪ ،‬كانت كلمات الرئيس قد انتشرت بين أولئك الشباب‪ ،‬لقد أحكم الغضب قبضته عليهم‬
‫جراء ذلك الحديث‪ ،‬تجاهله لهم قد يعني مزيدا ً من الساعات في هذا المكان سعيا ً وراء التغيير‪ ،‬ومن هنا جاءت‬
‫ينشر على شبكات‬
‫ُ‬ ‫الفكرة التي قد تعيد لهم التقدم من جديد‪ ،‬كاميرا صغيرة قد تكون كافية إللقاء خطاب مصور‬
‫اإلنترنت من شأنه قلب الموازين‪ ،‬ما هي إال ساعة واحدة فقط وانتشر هذا الخطاب انتشار النار في الهشيم‬
‫ووصلت عباراته إلى آذان النظام‪ " ،‬نحن مستمرون‪ ،‬لن نتخلى عن مطالبنا ولن نرحل دون تنفيذها مهما كلف‬
‫األمر " كانت تلك جزءا ً بسيطا ً من الجمل التي رددها المعتصمون في ذلك الخطاب والذي أحدث هزة كبيرة‬
‫في مكتب الرئيس‪.‬‬

‫في الحقيقة لم يكن الرئيس وحده من استشاط غضباً‪ ،‬كنت أشاركه نفس الغضب‪ ،‬بقدر ما كنت أكذب أحاديث‬
‫الصحف والقنوات بقدر ما كنت أملك بعضا ً من األمل في انتهاء ذلك االعتصام لألبد‪ ،‬بدأت اشتم رائحة‬
‫الحرية وشعرت بشئ من الضيق‪ ،‬كلما شعر أنفي بتلك الرائحة كلما أصبت بالدوار‪ ،‬البد وأن تكون هناك‬
‫خطة محكمة لفض هذا الهراء نهائياً‪ ،‬فكرت في الحديث إلى السيد نزار وأن أبوح له بكل ما يحمل قلبي‬
‫ولكني خشيتُ غضبه‪ ،‬لم يغب عن ذهني محاولة الوصول إلى الرئيس وإلى حاشيته لمحاولة الوصول إلى حل‬
‫يضمن بقاؤه ولكن االتصال قد انقطع تماماً‪ ،‬كدت أفقد عقلي من شدة التفكير‪ ،‬لن أستطيع الجلوس على‬
‫السرير ومشاهدة التلفاز واال ستمتاع بالطقس الجميل وتناول ما لذ وطاب من الطعام كمثل البقية ونسيان تلك‬
‫األزمة التي قد تنهى على حياتهم تلك‪.‬‬

‫كل ما كنت احتاجه هو الحديث مع شخص أثق به حتى ينزاح ذلك الهم‪ ،‬من تلقاء نفسها جاءت وحاولت‬
‫معرفة سبب ذلك القلق‪ ،‬وكأن زوجتي أتت من السماء في تلك اللحظة لتنقذني من براثن التفكير التي كادت‬
‫تطيح بي أرضاً‪ " ،‬أولئك الشباب مستمرون في اعتصامهم والنظام مستمر في تعنته والمجموعة مستمرة في‬
‫استقاللها‪ ،‬ال أحد يشعر بحجم الخطر الذي يداهمنا من كل جهة‪ ،‬المجموعة تخشى زاولها والنظام يخشى‬
‫فنائه‪ ،‬وكأن حاسة الشم قد فُقدت من عندهم‪ ،‬ما بالهم ال يلقون اهتماما ً لهؤالء الشباب‪ ،‬ما بالهم وهم يلهثون‬
‫وراء مقاعدهم وال يفكرون في مصلحة البقية وال يفكرون في الديموقراطية اللعينة ! "‬

‫حاولت التهدئة من روعي قليالً وجلست تنطق ببعض الكلمات التي يتفوه بها من يحسبون أنفسهم سفراء‬
‫للتنمية البشرية‪ ،‬تبا ً فكم أكره تلك التنمية وتلك األحاديث التي ال تسمن وال تغني من جوع‪ ،‬حاولت االسترخاء‬
‫قليالً قبل العودة مجددا ً إلى غرفة االجتماعات لمناقشة ما يدور داخل البلد التي أوشكت أن تسلبنا عقولنا ! من‬
‫جديد كانت بجانبي قبل الذهاب إلى مقر المجموعة وحاولت بث روح التفا ؤل بذلك الجسد المتشائم‪ ،‬في‬
‫الطريق إلى االجتماع جلست أدقق النظر إلى بعض المارة وسألت عديد األسئلة‪ ،‬هل حقا ً يستحق هؤالء‬
‫الحرية ؟ هل يستحق أولئك الكسالى مناخا ً أفضل من ذلك ؟ هل يدركون من األساس معنى الديموقراطية ؟‬

‫قررت تأجيل اإلجابة عن تلك األسئلة والتركيز قليالً في االجتماع المهم في ذلك اليوم المشمس‪ ،‬كنت أرى‬
‫وجوها ً يعلوها التفاؤل‪ ،‬حتى كبير المجموعة الزال يتحلى بابتسامته‪ ،‬أردت وأن أمسك برأس كل واحد منهم‬
‫وأحاول إيقاظها من سباتها العميق‪ ،‬لكن حتى االمساك بالرؤوس لن يكون كافيا ً للتخلص من ذلك المخدر الذي‬
‫مأل أجساد هم‪ ،‬قررت الصمت في نهاية األمر ومتابعة كل ما يجري دون التعليق ولو بكلمة واحدة‪ ،‬كانت تلك‬
‫واحدة من االجتماعات القليلة جدا ً التي ال أنطق فيها بكلمة واحدة‪.‬‬

‫قبل العودة إلى المنزل كنت قد ذهبت إللقاء النظرات على هذا االعتصام‪ ،‬يبدو وكأنه يخلو من وجود قائد‬
‫بعينه وهذ ا ما قد جعله يستمر رغم محاوالت الحكومة المستميتة في القضاء عليه‪ ،‬ابتسامات وهتافات وجو‬
‫يشبه جو العائالت القديمة‪ ،‬يستحيل أن يتفكك هذا االعتصام‪ ،‬أيقنتُ أن النظام بحاجة إلى معجزة إلهية لفضه‪،‬‬
‫مرة أخرى بدأت رائحة الحرية تلوح في األفق وسريعا ً لذت بالفرار حتى ال أختنق‪ ،‬لقد انسل اليأس بداخلي‬
‫واعتقدت أنها بضعة ساعات فقط تفصلهم من تحقيق حلهم‪ ،‬وبعضة ساعات تفصل النظام عن السقوط‬
‫والرحيل بطريقة يعجز العقل أن يصدقها‪.‬‬

‫في تلك األثناء كانت الرئيس يكثف من اجتماعاته مع رجال األمن في محاولة بائسة منه للحفاظ على نظامه‬
‫من الرحيل‪ " ،‬لقد أمرتم الصحافة واإلعالم بالتعاون مع الحكومة بأنكم قد اقتربتم من تحقيق هدفكم‪ ،‬وها هو‬
‫ذلك الخطاب المصور يفيد بأنهم لن يذهبوا حتى تتحقق مطالبهم‪ ،‬فما العمل اآلن ؟ " حل الصمت على أجواء‬
‫المكان قبل أن ينفعل قائالً " يبدو وكأن العصفور قد أكل ألسنتكم بما بكم ال تنطقون " وسط كل هذا الخوف‬
‫خرج واحد منهم وقرر الرد عليه " هناك حل واحد سيدي الرئيس وهو استخدام القوة في فض ذلك االعتصام‬
‫" هدأ الرئيس قليالً وجلس يمسك على رأسه ويتمتم بكلمات غير مفهومة وفي نهاية المطاف لم ينطق سوى‬
‫بكلمة واحدة " نفذ "‬

‫رجال األمن كان ينتظرون بدورهم اإلذن المباشر من الرئيس حتى يباشروا عملهم في فض االعتصام‪ ،‬لقد‬
‫ضاقوا ذرعا ً من أولئك الشباب وها هو القدر يتيح لهم فرصة من ذهب للنيل منهم‪ ،‬في تلك اللحظات كان قد‬
‫انضم بعض من المشجعين إلى مكان االعتصام‪ ،‬كيف ال وهم من حمل على عاتقه مهاجمة النظام وقت ما‬
‫كان البعض يخشى حتى مجرد نقده‪ ،‬لحظة الحقيقة تقترب شيئا ً فشيئا ً وكان الرئيس متفائالً بشأن خطة رجال‬
‫األمن تلك ورأى أنها السبيل الوحيد لضمان االستمرار كرئيس للبالد‪.‬‬

‫لم تكن المجموعة على علم بذلك االجتماع‪ ،‬لم يفكر السيد نزار في ذلك الحل‪ ،‬كان يرى أن حل القوة مستعبد‬
‫تماما ً وقد يعج ُل برحيل الرئيس وحكومته‪ ،‬كان غرفة االجتماعات جاهزة الستقبال األعضاء وقتما جاءت‬
‫األنباء من الخارج بحدوث اشتباكات بين بعض من رجال األمن والمعتصمين‪ ،‬هُنا تأكد السيد نزار أن الرئيس‬
‫يلفظُ أنفاسه األخيرة وأن النظام قد تمكن منه المرض وال مفر من الموت ! " كان ذلك هو الحل األخير الذي‬
‫قد يلجأ إليه‪ ،‬هو ال يعلم أن القوة لن تجدي نفعا ً وأنها قد تطيح به خارج مكتبه " بنبرة حزينة خرجت كلمات‬
‫السيد نزار‪ ،‬نبرة تؤكد تلك المخاوف عندما أحاطت بي رائحة الحرية ‪.‬‬
‫كانت التعليمات لإلعالم بالتغاضي تماما ً عن تلك االشتباكات‪ ،‬رفض الرئيس فكرة وصف نظامه بالنظام الذي‬
‫يستخدم القمع لمحاربة معارضيه‪ ،‬وكأنه يتعامل مع القمع للمرة األولى ! لكنه تناسى أن تلك اللحظات هي‬
‫اللحظات الوحيدة التي ال يجوز له استخدام القمع لتأكيد سلطته على البالد‪ ،‬وصف اإلعالم رجال األمن بأنهم‬
‫ملتزمون بأقصى درجا ت ضبط النفس وأن هؤالء الشباب من نسيج الشعب وقليل من الكلمات الرنانة لتحسين‬
‫تلك الصورة الوحشية والقمعية‪.‬‬

‫كان الرئيس في مكتبه يتابع األحداث لحظة بلحظة‪ ،‬يدعو هللا بأن ينفض االعتصام ويبقى رئيسا ً حتى إشعار‬
‫آخر‪ ،‬كان يعتقد أن تلك الهجمات من شأنها بث الرعب في قلوب هؤالء الشباب‪ ،‬لطالما اعتقد أن الخوف هو‬
‫سالحه األول في مواجهة المعارضين وكل من تسول له نفسه بأن يهاجمه‪ ،‬يبدو أن هذا السالح قد فقد جزءا ً‬
‫كبيرا ً من بريقه هذا ويبدو أن الرصاص الذي بداخله أوشك على النفاذ‪.‬‬

‫صوت الرصاص لم يهز المعتصمين ولو قيد أنملة‪ ،‬جريان الدماء على األرض لم يقذف الرعب بداخلهم قط‬
‫بل زاد من إصرارهم على مطالبهم تلك التي خرجوا من بيوتهم خصيصا ً لتحقيقها‪ ،‬كان رجال األمن ومن‬
‫فوقهم الحكومة والرئيس يعتقدون أن تلك الهجمات كافية لجعل الشباب يتراجعون عن أفكارهم‪ ،‬كلما مرت‬
‫الساعات كلما ارتفعت أصوات الهتافات وكأن ذلك الهجوم كان بمثابة المحفز لهم‪ ،‬اهتز المكان مطالبا هذه‬
‫المرة برحيل النظام بأكمله وليس الحكومة فقط‪ ،‬لقد خسروا ً كثيرا ً في الماضي واآلن ال شئ يخسرونه‪ ،‬إما‬
‫البقاء تحت قبضة هذا النظام القمعي وإما الحرية ‪.‬‬

‫للمرة الثانية أحس رجال األمن بأن خطتهم أوشكت على الفشل‪ ،‬الزال الرئيس يقبع في مكتبه منتظرا ً تلك‬
‫األخبار التي تفيد برحيل المعتصمين‪ ،‬أيد ُ ترجف ووجه يتصبب عرقا ً ورأسا ً قاب قوسين أو أدنى من االنفجار‬
‫وقلب ينبض بسرعة فائقة وعين ترمق ذلك الكرسي الذي جلس عليه سنوات وسنوات وخلف كل هذا فم يتمت ُم‬
‫بكلمات عشوائية غير مفهومة ‪ ،‬حاول المقربون نجدة الرئيس والبحث عن حل يحفظ للرئيس مكانته ولو مؤقتا ً‬
‫وطالبوه بإعالن إقصاء الحكومة في خطاب رسمي‪ ،‬اندهش من هذا الطلب لكن ال حل سوى التضحية‬
‫برجاالته من أجل البقاء قليالً في سدة الحكم‪ ،‬ذلك الوجه الذي خرج آخر مرة وهو ناصع البياض خرج شاحبا ً‬
‫باهتا ً وتلك األقدام التي كانت تتسابق للوقوف على المنصة بدت ثقيلة ال تقدر على الحراك‪.‬‬

‫انتهى الخطاب وأعلن الرئيس إقصاء الحكومة وتشكيل حكومة جديدة تعيد األمور إلى نصابها‪ ،‬بقدر ما كان‬
‫األمر صعبا ً عليه بقدر ما كان يخشى أكثر على منصبه‪ ،‬ذهب مسرعا ً إلى غرفته ليجلس من وراء شاشته تلك‬
‫متمنيا ً رحيلهم فقط لبى المطلب األهم لهم‪ ،‬المقربون منه أخبروه بأن االعتصام الزال موجودا ً ولن يرحلوا‬
‫حتى يسقط النظام بأكمله‪ ،‬اشتد غضبه ورأى أن القوة وحدها هي من ستدفعهم للفرار وال مانع من استخدام‬
‫القوة مرة ثانية حتى ينهي على هؤالء الثرثارين لألبد‪.‬‬

‫فورا ً خرجت التعليمات من مكتبه بشن الهجمات مرة أخرى على أماكن المعتصمين‪ ،‬هذه المرة رائحة الدماء‬
‫ملئت المكان وتلك الطاقة المتفجرة اختفت في غمضة عين‪ ،‬اعتقد رجال األمن أن تلك األيادي قاربت على‬
‫رفع الراية البيضاء‪ ،‬لكن صمتهم ما هو إال إعادة شحن لتلك الطاقات وبعدها عادت الهتافات ُ‬
‫تهز أرجاء‬
‫المكان‪ ،‬تسلل اإلحباط إلى المقربين وإلى من نفذوا تلك الهجمات وأيقنوا هم اآلخرين أنها بضعة ساعات‬
‫ويرحل ذلك الداهية القابع في مكتبه دون عودة‪.‬‬
‫يهب علينا ويطيح برؤوسنا‬ ‫جلستُ في غرفتي وحيدا ً أنتظر سقوط الرئيس‪ ،‬جلستُ أتخيل ريح الحرية الذي قد ُ‬
‫جميعاً‪ ،‬جلست أتخيل تلك األفواه التي ظلت مكتومة طوال سنوات وهي ال تتوقف عن الحديث بشأن مستقبلها‪،‬‬
‫تلك الرائحة التي أصابتني بالضيق يومها قد تودي بحياتي‪ ،‬كنت قد حاولت االتصال ببعض حاشية الرئيس‬
‫ألعرف منهم ماهي الخطوات القادمة‪ ،‬علمتُ أنها دقائق ويخرج إلى الجموع في خطاب قد يعلن فيه أخيرا ً‬
‫رحيله وانتهاء فترته الرئاسية‪.‬‬

‫الخطاب وجلستُ منتبها ً أتاب ُع كلماته األخيرة كرئيس للبالد‪ ،‬يبدو عليه الحزن واالنكسار‪ ،‬نعم ذلك العجوز‬
‫ُ‬ ‫بدأ‬
‫الذي كان يهز قلوب الرجال جاءت طائفة من الشباب وهزت عرشه وقلبه‪ ،‬حديثه كان طويالً يحاو ُل سرد‬
‫الكلمات والعبارات‪ ،‬يعل ُم أنها ساعته األخيرة فال مانع من اإلطالة ولو قليالً‪ ،‬حاول إخفاء انكساره هذا بالحديث‬
‫عن اإلنجازات والمشروعات ولكن ال جدوى فلو مر طف ُل من أمام التلفاز محض صدفة ورأى حديثه هذا‬
‫فسيعلم أن ذلك الرجل سينفجر بالدموع اآلن من شدة الحزن‪.‬‬

‫أخيرا ً انتهى أمره ورحل وترك األمر للبرلمان يقرر من هي الحكومة التي ستقود البالد حتى وقت االنتخابات‬
‫المقبلة‪ ،‬ما إن أنهى حديثه من هنا حتى كنت أغلق التلفاز من هنا وأحاول أن أفيق من ذلك الكابوس الذي حل‬
‫تكتب ليل نهار تحت شعار الديموقراطية‪ ،‬سقوطه يعني مزيدا ً من‬‫ُ‬ ‫علينا جميعاً‪ ،‬سقوطه يعني مزيدا ً من األقالم‬
‫الملفات والقضايا‪ ،‬مزيدا ً من الهتافات ومزيدا ً من األفواه ومزيدا ً من الشجاعة‪ ،‬حاولت النظر إلى الجانب‬
‫اإليجابي ولكنه وجدته ضئيالً ال يرى بالعين المجردة‪.‬‬

‫بدأ الرئيس يعد عدته للرحيل نهائيا ً من مكتبه ومن قصره الفخم‪ ،‬بدأت حاشيته هي األخرى تحذو حذوه كي‬
‫تستعد للرحيل‪ ،‬ال أحد يتكلم ال أحد ينطق‪ ،‬وكأنهم يجلسون في سرادق للعزاء مرتدين الزي األسود الكامل‪،‬‬
‫وفي الخارج أفرا ُح هزت العاصمة‪ ،‬رحل ذلك الكابوس في نظرهم الذي كان مطبقا ً على قلوبهم وصدورهم‪،‬‬
‫رحل من كانت يده تطال الصغير قبل الكبير‪ ،‬لم يستطع أولئك الشباب منع دموعهم وانفجروا بالبكاء من شدة‬
‫الفرحة‪ ،‬بين األفراح واألحزان وبين الخوف وبين القلق أسدل الستار على واحد من الفصول المهمة من‬
‫فصول البالد ومن فصول مجموعة الغربان‪.‬‬

‫اليوم التالي والزالت االحتفاالت مستمرة بإزاحة ذلك الكابوس من على مقعده بعد سنوات الظالم‪ ،‬النظرات‬
‫متبادلة داخل أروقة االعتصام غير مصدقين أنهم نجحوا أخيرا ً في تلك المهمة الصعبة‪ ،‬أدرك يوسف أن ما‬
‫قام به مسبقا ً لم يذهب سدى وأن اللحظة التي كان يعتقد أنها لن تأتي إال في األحالم صارت واقعا ً ملموساً‪ ،‬أما‬
‫تلك الفتاة الجميلة التي تكبدت عناء السفر اآلن فقط بمقدورها التباهي أمام والدها بما حدث على أرض ذلك‬
‫البلد الذي ظن مسبقا ً أنها لن تفيق من سباتها هذا‪.‬‬

‫لم أكن مصدقا ً ما حدث بعد‪ ،‬كنت أتمنى أن يكون كابوسا ً قارب على االنتهاء‪ ،‬ابتعدت عن شاشة التلفاز‬
‫وحاولت تجنب قراءة عناوين الصحف‪ ،‬زوجتي حاولت الحديث معي مرارا ً وتكرارا ً ولكن دون فائدة‪ ،‬لقد‬
‫أحكم الصمت قبضته تماماً‪ ،‬كنت أحاول جاهدا ً أن أغط في النوم ثانية‪ ،‬كنت أحاول الهروب من تلك الحقيقة‬
‫ولكن دون جدوى‪ ،‬حتى تلك األسئلة التي كانت تصارعني ليل نهار تركتني وحيدا ً أصارع ذلك الكابوس‬
‫المفزع‪ ،‬تركتني لقمة سائغة أمام فم يملك نهما ً جنونياً‪ ،‬يملك نهما ً لطعام الحرية‪.‬‬

‫على الجانب اآلخر تماما ً كان السيد نزار مفعما ً بالنشاط والحيوية‪ ،‬كانت االبتسامة ال تفارقه‪ ،‬تنفس الصعداء‬
‫أخيرا ً بعد نجاح ذلك االعتصام‪ ،‬في الحقيقة ال يملك أية ذرة تعاطف من األساس مع أولئك الشباب وال كان‬
‫مقتنعا ً من األساس بفكرة الديموقراطية والحرية ولكنهم استطاعوا اإلطاحة برأس النظام وهذا ما قد يجعله‬
‫ينظر لهم بقدر ولو بسيط من االحترام‪ ،‬لكنهُ لم يرد أن ينشغل باالحتفاالت كثيرا ً وبدأ يعيد ترتيب أوراقه من‬
‫جديد حتى يستطع التقرب أكثر فأكثر من النظام الجديد‪.‬‬

‫الصخب مستمرا ً داخل االعتصام وانضم الكثير لالحتفاالت‪ ،‬انتصف اليوم والزلتُ‬
‫ُ‬ ‫انتصف اليوم والزال‬
‫منتظرا ً خروج الحكومة لتتلوا علينا بيانا ً يشرح أهمية المشروعات الجديدة‪ ،‬في ذلك اليوم اعتذرت زوجتي‬
‫بالنيابة عني عن الذهاب إلى اجتماع المجموعة معللة ذلك بأن زوجها المسكين أصابته الحمى وجعلته طريح‬
‫الفراش غير قادر على الحراك من مكانه‪ ،‬لقد أصابت القول رغم صحتي‪ ،‬فقد أطاحت بي حمى الهتافات‬
‫وجعلتني كالوردة التي قاربت على السقوط أرضا ً بعد أن كانت ُ‬
‫تسر أعين الناظرين‪.‬‬

‫أفيق من الصدمة رغم شدتها‪ ،‬رغم ذلك لم يكن الوقت مناسبا ً بعد لالنضمام إلى طاولة‬ ‫ُ‬ ‫تدريجيا ً بدأتُ‬
‫االجتماعاتِ‪ ،‬من جديد تحججت زوجتي بعلتي وأني ال استطي ُع االلتحاق بهم‪ ،‬في تلك األثناء حاولتُ االبتعاد‬
‫ببعض من الهواء النقي في‬‫ٍ‬ ‫عن عناوين الصحافة ونشرات األخبار والبرامج التليفزيونية‪ ،‬قررتُ االستمتاع‬
‫الخارج حتى يعود الجسد للحياة من جديد‪ ،‬لكن الخروج كان الفكرة األشد سوءا ً في الحقيق ِة‪ ،‬الزال صدى تلك‬
‫ث‪.‬‬
‫ق بين ليلة وضحاها صارت العاصمة كثيرة الحدي ِ‬ ‫الهتافات في األزقة والشوارعِ‪ ،‬بعد أن كانت فاقدة للنط ِ‬
‫ق‪ ،‬كيف ستتعامل المجموعة‬ ‫الرئيس الساب ِ‬
‫ِ‬ ‫في مبنى المجموعة تُعقد االجتماعات يوميا ً للتخطيط لمرحلة ما بعد‬
‫ت واضحة بهذا‬ ‫مع ملف المرشحين ؟ وهل ستز ُج باسم موالي لها كي تضمن السيطرة ؟ لم أملك أية معلوما ٍ‬
‫بكثير‬
‫ٍ‬ ‫الصدد‪ ،‬لم أكن مكترثا ً من األساس بتلك القضية‪ ،‬شعرتُ وكأن ذلك الكابوس قد يطول وأن المسألة أكبر‬
‫تتفق سياستهُ مع سياسة المجموع ِة‪ ،‬كنتُ أتمنى وأن تخبرني زوجتي بأن كل هذا الهراء ما هو إال‬ ‫من مرشحٍ ُ‬
‫الرئيس سيخر ُج غدا ً إللقاء كلمت ِه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كابوس وأن سيادة‬

‫ق‬
‫خاص ومغل ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وأخيرا ً نفضتُ الغبار عن ذلك الجس ِد الكسو ِل‪ ،‬صباحا ً ذهبتُ إلى منزل السي ِد ِ‬
‫نزار في اجتماعٍ‬
‫بكثير من السخرية‬
‫ٍ‬ ‫ث عن سبب االنقطاعِ وأشياء أخرى‪ " ،‬مرحبا ً بالعضو الذي أصابتهُ حمى االكتئاب "‬ ‫للحدي ِ‬
‫ق عهدهِ‪ ،‬لم أبُح بأية كلمة‬‫بدأ حديثهُ معي‪ ،‬كان يعل ُم أن تلك اللهجة وحدها هي من قد تعيد ُ خيرت إلى ساب ِ‬
‫بالرئيس وأن مخاوفكَ تلك‬
‫ِ‬ ‫وفضلتُ االبتسام فقط‪ ،‬ث ُ َم تابع حديثه قائالً " أعلم أن حزنكَ هذا ليس له أدنى عالقة‬
‫بشأن المجموعة وبشأن الحرية‪ ،‬تحدث يا فتى أعلم أنكَ على وشك االنفجار"‬
‫الحواس خاصتي كي أتحدث‪ ،‬شعرتُ أنهُ يشاركني نفس األفكار وها هو‬ ‫ِ‬ ‫كلمات ِه تلك كانت بمثابة اإلشارة إلى‬
‫لساني لم يتوقف قط عن البوح بكل تلك األسرار التي عذبتني طيلة الفترة الماضية‪ " ،‬الحرية سيدي الحرية‬
‫ذهب عقلُكَ‬
‫َ‬ ‫وتسلب من أعيني النوم " صمت قليالً وبادر بسؤالي " هل تخشى الحرية ؟ كيف‬ ‫ُ‬ ‫هي من تُؤرقُني‬
‫بعيدا ً إلى هذا الحد ؟ أنت تعتقد أن الحرية قد تخفي المجموعة لألبد ؟ حقا ً يبدو وكأنني ُ‬
‫أقف أمام فتى في‬
‫المرحلة االبتدائية وأحاول أن أشرح لهُ بان حاصل ضرب اثنين في اثنين يساوى أربعة يا للعار يا للعار !!‬

‫ُ‬
‫يتحدث السيد نزار معي بتلك اللهجة‬ ‫تلك العبارات قد أصابتني بالصدم ِة ولم أحرك ساكناً‪ ،‬للمرة األولى‬
‫الحادة‪ ،‬كان من الصعب عليه رؤية أحد أكبر أعضائه في المجموعة بهذا الضعف واالنكسار‪ " ،‬يا ولدي تلك‬
‫الحرية التي ترتعد ُ منها خوفا ً لن تحط الرحال هُنا‪ ،‬نحنُ فقط من نسم ُح بمرورها أحيانا ً وبترحيلها أحيانا ً‬
‫تجلس أنت وزوجتكَ ليالً أمام شاشاتها وتشاهدا معا ً فيلما ً‬
‫ُ‬ ‫تفرض نفسها في تلك البالد التي‬
‫ُ‬ ‫أخرى‪ ،‬الحرية‬
‫رومانسيا ً مليئا ً بالقبالت أيها الفتى البائس ! " تلك الكلمات كانت كافية لبث الطمأنينة بداخلي‪ ،‬ال يهم من يكن‬
‫المرشح األهم أني قد علمتُ مصير الحرية‪.‬‬

‫في تلك األثناء كان البرلمانُ يعقد ُ جلسات ِه حتى يختار أعضاء الحكومة الجديدة التي ستقود ُ زمام األمور حتى‬
‫استقر‬
‫َ‬ ‫موعد االنتخابات‪ ،‬كانوا يحاولون انتقاء األعضاء بعناية تامة فالتزا ُل صدى الهتافات ُ‬
‫تهز مكانهم هذا‪،‬‬
‫الشعب من هم المخولون الجدد‪ ،‬المثير للدهشة أن‬
‫ُ‬ ‫أخيرا ً على جميع الوزراء الجديد وكلها لحظات قليلة ويعلم‬
‫البرلمان‪ ،‬ال‬
‫ِ‬ ‫السيد نزار لم يتدخل في االختيارات قط وأبى التعليق نهائيا ً وترك المسألة برمتها إلى أعضاء‬
‫يريد ُ إضاعة وقت ِه في تلك القضايا الفرعية‪.‬‬

‫كانت تلك الفترة هي األكثر نشاطا ً بالنسبة للصحافة المعارضة ولألحزاب التي لم يكن لها دور أثناء فترة‬
‫األمر‬
‫ُ‬ ‫ق‪ ،‬الكل يرى أنها فرصة ذهبية لتقديم نفس ِه إلى الشعب باسم التغيير والديموقراطية‪ ،‬كان‬
‫النظام الساب ِ‬
‫الخلف أو حتى في الوصاف ِة ! كلما اقترب موعد ُ‬
‫ِ‬ ‫ت السياراتِ‪ ،‬ال أحد يود أن يرى سيارتهُ في‬ ‫أشبه بسباقا ِ‬
‫االنتخابات كلما باتت السيارات أكثر جاهزية لخوض غمار هذا السباق الشاق‪ ،‬حزب يوسف بدوره لم يرد‬
‫الرئيس السابق‪.‬‬
‫ِ‬ ‫تفويت تلك الفرصة وهذه المرة بمساحة كبيرة من حرية التعبير عكس ما حدث أثناء حكم‬

‫يراقب بابتسامت ِه المخيفة تلك‪ ،‬السيد نزار كان المنظم األول والراعي األكبر لهذا الحدث الضخم‬
‫ُ‬ ‫من بعي ٍد كان‬
‫أكثر ما كان يخشاهُ هو فكرة االتحا ِد وكان يرى أن االتحاد قد يعني بالضرورة‬
‫الذي أوشك على االنطالق‪ُ ،‬‬
‫انتهاء مصير تلك المجموعة لألبد دون رجعة ! ولكن حينما رأى الغرف المغُلقة واالختالفات وهي تطفو على‬
‫السطح أيقنَ أنه أمام مجموعة من المهر جين ال يعلمون كيف تدار األمور وبالطبع لن يسمح كلية بأن ينتهى‬
‫ِ‬
‫األمر في إعطاء زمام األمور إلى تلك الحفن ِة من المهرجين‪.‬‬
‫تلك المرحلة كانت هي المرحلة األهم في نظر السيد نزار‪ ،‬كان يريد ُ اإليقاع بأولئك الشباب وبتلك األحزاب‬
‫واحدا ً تلو اآلخر‪ ،‬سريعا ً عقد اجتماعات ِه مع الحلقة األهم في ذلك النزاع وهي اإلعالم‪ ،‬يؤمنُ بأن اإلعالم‬
‫تقدر حتى‬
‫بمقدوره خلق الخالفات بينهم‪ ،‬وبمجرد أن تبدأ الخالفات حتى تصير جبهتهم جبة هشة ضعيفة ال ُ‬
‫على مواجهة الهجوم وصده‪ ،‬تلك الجبهة الهشة ستُخر ُج منتجا ً ضعيفا ً لن يقدر على الفوز بالنهاية ولو تمكن‬
‫تام ومسبق بتلك‬ ‫من الفوز فلن يضمن البقاء طويالً في صورة الحاكم‪ ،‬كان أعضاء المجموعة على ٍ‬
‫علم ٍ‬
‫رئيس مجموعتهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ت التي يقودها‬
‫التحركا ِ‬

‫والشغف‪ ،‬كانت‬
‫ِ‬ ‫يغلب عليه طابع الحماس‬‫ُ‬ ‫في الجهة المقابلة عاد يوسف من جديد ذلك الشاب الطموح الذي‬
‫الساطع‪ ،‬حماسهُ هذا جعله ُ‬
‫ِ‬ ‫الضوء‬
‫ِ‬ ‫الدامس إلى مرحلة‬
‫ِ‬ ‫الظالم‬
‫ِ‬ ‫لديه عديد األفكار التي قد تنق ُل البالد من مرحلة‬
‫األرض في‬
‫ِ‬ ‫بقدر من السعادةِ‪ ،‬هند كان الشخص األكثر سعادة على وجه‬ ‫يشارك تلك األفكار مع المقربين منهُ ٍ‬
‫تلك األيام‪ ،‬ترى بأم عينها ذلك العبوس يضحك من جديد‪ ،‬ترى أمامها طفالً مقبالً على الحياةِ ويريد االعداد‬
‫ت ممكن‪.‬‬‫للمستقبل القريب في أسرعِ وق ٍ‬

‫إشعار آخر وأبلغت والدها نيتها بذلك‪ ،‬في الحقيقة رغم ابتعادها‬
‫ٍ‬ ‫نضال بدورها قد استقرت على البقاء حتى‬
‫عنهُ باآلالف الكيلو مترات إال أنه كان سعيدا ً لسعادتها التي فشل في منحها إياها‪ ،‬هي األخرى استعادت طاقتها‬
‫تغيب عن‬
‫ُ‬ ‫لب منها عمداً‪ ،‬الكل في تلك المرحلة استعاد عافيته وكانت األفكار ال‬
‫المفقودة وشغفها الذي سُ َ‬
‫عقولهم‪ ،‬كل شخص يريد ُ أن يُشكل البالد على طريقت ِه هو وأن يضيف لها ما يضيف ويخفى منها ما يخفي‬
‫وهذا بمثابة الخطأ الفادح والجسيم الذي وقعت فيه عقولهم !‬

‫القنوات التليفزيونية والصحف كانت تحاو ُل عقد اللقاءات يوميا ً للحديث معهم بشأن المستقبل وعن األفكار‬
‫المقترحة لتحسين مستقبل البالد‪ ،‬فرصة على طبق من ذهب للسيد نزار كي تظهر أفكار كل فئة للفئة األخرى‬
‫المطاف‪ ،‬السيد نزار كان‬
‫ِ‬ ‫تقلب األمور رأسا ً على عقب في نهاية‬
‫ُ‬ ‫ويبدأ من هنا نقطة الخالف المتوقعة والتي قد‬
‫يريد ُ أن يصور لهم بأن الطرف الفائز سيطي ُح بالطرف اآلخر المختلف معهُ في األفكار والمعتقدات وأنه ال‬
‫ت الحضارية المثمرةِ‪.‬‬
‫يوجد مكان للنقاشا ِ‬

‫أفكر قليالً في حديث الرجل األول للمجموعة عن الحرية‪ ،‬السيد نزار يراها وكأنها فتاة ساقطة ثملة‬ ‫ُ‬ ‫جلستُ‬
‫تلهث في الشوارع بحثا ً عن شهوتها‪ ،‬البد وأن يطهر البالد من تلك الفتاة الثملة حتى ال تفسد المجتمع وتقلبهُ‬
‫ُ‬
‫تماماً‪ ،‬أولئك الشباب كانت الحرية بالنسبة لهم تلك الفتاة الجميلة التي تخر ُج في الشوارع بحثا ً عن حقوقها‬
‫ت ممكن‪ ،‬وما بين الساقطة والثائرة يندل ُع الصراع من جديد‪ ،‬حتى وإن كنتُ أجدها‬ ‫وتنادي بها بأعلى صو ٍ‬
‫ثائرة فحتما ً في بالدنا وحرصا ً على ُمستقب ِلنا فستكونُ ساقطة وخارجة‪.‬‬

‫الحسنة الوحيدة ربما في رحيل النظام هو توقف بعض المشجعين ولو قليالً عن الهتاف والصراخ ! كُنا نعل ُم‬
‫أن الحكومة الجديدة ستكو ُن موضع خالفٍ كبير ولكن بالتأكيد أفضل من بقاء ذلك النظام‪ ،‬الحكومة من جه ِتها‬
‫كانت تعل ُم أنها قادمة لهدف معين وبعد ذلك ستعود ُ األمور كما كانت‪ ،‬ال يريدون مزيدا ً من الصدام مع الشعب‬
‫همهم انقضاء تلك المدة بأقصى سرعة‪ ،‬في المقاب ِل كان المرشحون يعدون العدة لذلك العُرس االنتخابي‪،‬‬‫كُ ِل ِ‬
‫وأوراق تُفند وحناجر تهتف في سبيل الذو ِد بكرسي الرئاسة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ت تُجهز‬‫كلما ٍ‬

‫تسير بنحو جيد‪،‬‬


‫ُ‬ ‫يدور بالخارج وما يُعد داخل القاعات‪ ،‬خطتهُ كانت‬
‫ُ‬ ‫خلف الستار يقب ُع السيد نزار متابعا ً ما‬
‫البعض أنهم قد يتم إقصائهم فور انتهاء االنتخابات‪ ،‬حتى‬
‫ُ‬ ‫بعض الخالفات بدأت تطفو على السطح وأحس‬
‫اللقاءات بدأت تطغو عليها النزاعات‪ ،‬اللُعبة أصبحت مكشوفة للجميع وهذا ما أرادهُ تماماً‪ ،‬وقعت األحزاب‬
‫يشعر‬
‫ُ‬ ‫الخصوم‪ ،‬هذا ما قد يجع ُل الشعب‬
‫ِ‬ ‫ووقع المتنافسون في ذلك الفخِ وأصبحت القلوب مليئة بحقد دفين تجاه‬
‫ق‪.‬‬
‫النظام الساب ِ‬
‫ِ‬ ‫ببعض الحنين إلى‬
‫ٍ‬
‫نظام كما السابق ولكن بشكل‬ ‫ٍ‬ ‫الشعور في حد ذات ِه بمثابة اإلذن لعودة‬
‫ِ‬ ‫ب فذلك‬
‫ينتظر اإلشارة من الشع ِ‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫مغاير متماسك‪ ،‬يعل ُم أن ُحلمه هذا لن يحدث في التو واللحظ ِة ولكنهُ سيعم ُل على تحقيق ِه مهما كلفهُ األمر من‬
‫انتظار‪ ،‬كان يريد ُ أن يكون الرئيس قريبا ً من المجموعة ليس بالضرورة أن يكون واحدا ً منها بل على األقل أن‬
‫تكون وجهات النظر بينهم متقاربة لتمكنهُ من البقاء‪ ،‬تلك األفكار ومثيالتِها مجرد حبر على ورق ومجرد حلم‬
‫لم يدخل حيز التنفيذ بعد‪.‬‬

‫تستحق الوقوف عندها‪ ،‬االنتخابات أخذت قلوب وعقول البعض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لم تحمل تلك الفترة أية أحداث مثيرة للجدل‬
‫مقر‬
‫مرشحهم‪ُ ،‬حبل األفكار هناك في ِ‬ ‫ِ‬ ‫عادت ثنائية يوسف ونضال لتعمل سويا ً برفقة الحزب من أجل دعم‬
‫تفارق وجو َه ُهم‪ ،‬أخيرا ً وبعد عناء‬
‫ُ‬ ‫ب ال ينقطع البتة‪ ،‬رغم مشقة العم ِل ليالً ونهارا ً فاالبتسامة ال تكاد‬‫الحز ِ‬
‫بالهواء يدخ ُل قلبها مضيفا ً لها إحساس السعادة واالنتماء لتلك البلد‪ ،‬مع بداية ٍ‬
‫يوم‬ ‫ِ‬ ‫تشعر‬
‫ُ‬ ‫بدأت تلك الفتاة العنيدة‬
‫تكبر أحالم تلك الفتاة في مستقب ٍل أفضل وأجمل مما سبق‪.‬‬ ‫جدي ٍد ُ‬
‫ب يمتلكون أحالما ً يسعون لتحقيقها‪ ،‬األغلبية منهم كانت مؤمنة إيمانا ً‬
‫كثير من الشبا ِ‬
‫ُ‬ ‫على غرار نضال فهناك‬
‫شديدا ً بأن تلك الفترة هي األنسب لبدأ العمل على تحويل الحلم إلى حقيقة ملموسة‪ ،‬رجال األمن صاروا هادئين‬
‫بطش وظلم بين للجميع‪ ،‬كانوا يريدون تقديم أنفسهم بصورة جيدة أمام‬ ‫مقارنة بما كان يجري في السابق من ٍ‬
‫النظام الجديدِ‪ ،‬أقالم الصحاف ِة بدورها لم تتوقف عن الحديثِ‪ ،‬تارة تدع ُم مرشحا ً على حساب اآلخر وتارة تنتقد ُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫تتحدث كما تشاء‬ ‫حزبا ً لتبنيه وجهة نظر بعينها‪ ،‬أدركت األقالم أن تلك العيون المحدق ِة لن تعود مجددا ً فراحت‬
‫ومتى أرادت في مشه ٍد دخي ٍل على تلك البالد‪.‬‬

‫لتكوين‬
‫ِ‬ ‫ت قد يكون كافيا ً‬
‫هؤالء المرشحين وأحزابِهم‪ ،‬مزيدا ً من الوق ِ‬
‫ِ‬ ‫ب من‬ ‫لم يكن واضحا ً بالمرة موقف الشع ِ‬
‫فوز أحدهم بالرئاس ِة‪ ،‬البرامج ال ُمتلفزة بدورها كانت منبرا ً لهم‪،‬‬
‫صورة كاملة عنهم وعن ما قد يحدث في حالة ِ‬
‫الله لصالح ِه وبعضهم فشل‪ ،‬كانوا يؤمنون بأن تلك البرامج هي السبيل األول لدخول‬ ‫بعضهم نجح في استغ ِ‬
‫قلوب أولئك المواطنين‪ ،‬الخطأ كان ممنوعا ً بالنسبة لهم فقد يُكلفُهم الكثير والكثير‪ ،‬من المهم الدخول إلى مبنى‬
‫الرهان‪.‬‬
‫ِ‬ ‫البرامج وأنت ُمحمالً بكم من الحديث الُمنم ِ‬
‫ق ليمكنُكَ من كسب‬
‫بدت الصورة تض ُح يوما ً تلو اآلخر وبدأت فئات كبيرة من الشعب تحديد ُم ِ‬
‫رشحهم القادم‪ ،‬كلما اقترب الموعد‬
‫للنوم‪ ،‬الالفتات ظهرت هُنا وهُناك‪ ،‬ال صوت يعلو فوق‬
‫ِ‬ ‫كلما زادت ساعات العم ِل‪ ،‬ال وقت للراح ِة وال وقت‬
‫ق‬
‫ت االنتخاباتِ‪ ،‬رغم أن المدة المتبقية على االنتخابات ليست بالقصيرة إال أن األحزاب أحست بضي ِ‬ ‫صو ِ‬
‫ُساورهم الشكُ‬
‫ُ‬ ‫ضهم بأنهم قد فشلوا فشالً ذريعا ً في ذلك الصراعِ‪ ،‬ال مكان للجبناء وال من ي‬ ‫ت بل وشعر بع ُ‬ ‫الوق ِ‬
‫في تلك المعرك ِة الطاحن ِة‪.‬‬

‫البعض أنها‬
‫ُ‬ ‫األمن التي أيقن‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫حدث اهتزت له جموع البالدِ‪ ،‬قواتُ‬ ‫لكن فترة الهدوء تلك أبت االستمرار طوي ً‬
‫ال‪،‬‬
‫صارت مسالمة شنت هجوما ً ضاريا ً على فئة كبيرة من المشجعين الذين لم تعجبُهم قرارات الحكومة الجديدة‪،‬‬
‫ت‬
‫يسبق العاصفة‪ ،‬عاصفة قوية من الهتافا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك الصمت الذي كان يخي ُم عليهم لم يكن سوى الهدوء الذي‬
‫األمن نالوا حظهم من تلك الغارات ولذلك فقد نفذ صبرهم وهاجموا دون الرجوعِ إلى‬ ‫ِ‬ ‫والهجوم‪ ،‬رجا ُل‬
‫ِ‬
‫والتشاور معهم بشأن تلك الواقعة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫المسئولين‬

‫ب‪ ،‬لم ترد الدخول في‬


‫االنفجار من شدةِ الغض ِ‬
‫ِ‬ ‫وشك‬
‫ِ‬ ‫ص بهم على‬ ‫المكتب الخا ِ‬
‫ُ‬ ‫ُجنَ جنون الحكوم ِة وبات‬
‫ت دون أية مشكلة تذكر‪ ،‬لم تحرك تلك‬ ‫ت مع تلك الفئة الشبابية وكانت تود ُ الوصول إلى االنتخابا ِ‬ ‫صراعا ٍ‬
‫ب بداخ ِلهم واعتبروها طبيعية معتادة‪ ،‬ذلك الهجوم قد يعني بالضرورة أنهم من‬ ‫الهتافات أية مشاعر للغض ِ‬
‫الصحف الصادرةِ صباحا ً بعناوين ساخنة من شأنها إثارة الجدل‬
‫ُ‬ ‫األمن بمهاجمتِهم وتنفرد ُ‬
‫ِ‬ ‫أعطوا اإلذن لرجا ِل‬
‫واالعتذار ألولئك الشباب‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫ت ما حدث في المدرجا ِ‬ ‫لشرح مالبسا ِ‬
‫ِ‬ ‫أكثر وأكثر‪ ،‬سريعا ً تم التجهيز لعق ِد مؤتمر‬
‫األمن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫المتضررين منهم والعفو عن من طالتهُ أيادي رجال‬

‫الموقف وانتقد‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫المتحدث الرسمي للحكوم ِة عن تداعيات ذلك‬ ‫َ‬
‫وتحدث‬ ‫مبكر من اللي ِل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫المؤتمر في وق ٍ‬
‫ت‬ ‫ُ‬ ‫بدأ‬
‫الحوار هذه لن تجدي‬
‫ِ‬ ‫ب في النهاية هم أبناء ذلك الوطن ولغة‬ ‫الهجوم بشدةِ وأن هؤالء الشبا ِ‬
‫ِ‬ ‫المسئولين عن‬
‫للخروج بهذ ِه‬
‫ِ‬ ‫من قد يكونُ السبيل الوحيد‬ ‫نفعاً‪ ،‬المطبخ الحكومي كان على ٍ‬
‫علم بأن الهجوم على رجا ِل األ ِ‬
‫يكبر وحينها قد يأخذ ُ وقتا ً أطول كي‬
‫الملف سريعا ً قبل أن ُ‬
‫ِ‬ ‫الهدف يكمنُ في إنهاء ذلك‬
‫ُ‬ ‫األمان‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بر‬
‫األزمة إلى ِ‬
‫األمن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ت قبض ِة‬‫بخروجهم من تح ِ‬
‫ِ‬ ‫القرار‬
‫ِ‬ ‫يتم غلقهُ لألبدِ‪ ،‬لذك تم اتخاذ‬

‫ت الجميل ِة لن تجدي نفعا ً معهم‪ ،‬بمجر ِد‬ ‫ت تلك والكلما ِ‬


‫لم تعلم الحكومة أن هذا المؤتمر ومكبرات الصو ِ‬
‫األمن قط واكتفوا‬
‫ِ‬ ‫تكرر الهجو ُم ثانية‪ ،‬هذ ِه المرة لم يتدخل رجا ُل‬‫َ‬ ‫خروجهم وفي وقت إحدى المباريات‬ ‫ِ‬
‫النظام إلى األب ِد وأنهُ الزا َل‬
‫ِ‬ ‫ب لم يكن مقتنعا ً بفكر ِة مو ِ‬
‫ت‬ ‫بالمشاهد ِة عن قرب‪ ،‬على ما يبدو أن بعضا ً من الشبا ِ‬
‫للفتك بهم‪ ،‬كانوا معتقدين أن تلك الحكومة‬ ‫ِ‬ ‫يقف خلف ُهم ممسكا ً بعصاهُ منتظرا ً اللحظة المناسبة‬
‫موجودا ً بينهم‪ُ ،‬‬
‫هواء الحري ِة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫النظام وأن األوضاع لم تتغير كثيرا ً رغم استنشاقِهم بعضا ً من‬ ‫ِ‬ ‫هي امتداد لذلك‬

‫ويجب استغاللها االستغالل‬


‫ُ‬ ‫ب للمرشحين‪ ،‬فرصة قد ال تتكرر ثانية‬
‫ق من ذه ٍ‬‫تلك األحداث جاءت على طب ٍ‬
‫ت‬‫ب كان الغاية المرجوة بالنسب ِة لهم‪ ،‬خرجت األحزاب تنتقد ما حدث في المدرجا ِ‬
‫األمثل‪ ،‬كسب و ِد الشبا ِ‬
‫اإلعالم يقفون جنبا ً إلى جنب مع‬
‫ِ‬ ‫غرار المرشحين خرج رجا ُل‬
‫ِ‬ ‫وخرج المرشحون يدعمونهم بطريقتِهم‪ ،‬على‬
‫االنكسار التي تعرض لها أولئك المغرورين‪ ،‬البرامج التلفزيونية التي‬
‫ِ‬ ‫يصف حالة‬
‫ُ‬ ‫ب في مشه ٍد‬‫هؤالء الشبا ِ‬
‫تقف خلف ُهم وتدعمهم في قضيتهم‪.‬‬
‫ب تريد ُ التخلص منهم اآلن ُ‬‫باألمس القري ِ‬
‫ِ‬ ‫كانت‬

‫األقالم المؤيدة للنظام سابقا ً تحسين‬


‫ِ‬ ‫الصحافةُ بدورها وقفت تدع ُم تلك القضية وارادت هي األخرى عن طري ِ‬
‫ق‬
‫بالطبع لن تريدَ أن‬
‫ِ‬ ‫القديم‪ ،‬الكل أدرك مؤخرا ً مدى خطورةِ تلك الهتافاتِ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫صورتها التي شُوهت في العه ِد‬
‫تظهر التعاطف والتأييد حتى‬
‫ُ‬ ‫ينتهي بك المطاف الجلوس في منزلِكَ وأنت فاقد ٌ لوظيفتِكَ ‪ ،‬ال مانع من كلما ٍ‬
‫ت‬
‫وتعلم منهُ رجاالت اإلعالم والصحاف ِة بأن دوام الحا ِل من المحا ِل‬ ‫َ‬ ‫ولو كان ظاهرياً‪ ،‬الدرس كان قاسيا ً للغاية‬
‫النسيان اعتماد خاطئ بالمرةِ‪.‬‬‫ِ‬ ‫وأن االعتماد على‬
‫يخص السياسة‪ ،‬السياسة التي كانت ترتعد ُ لها األجساد صارت مرتعا ً‬ ‫ُ‬ ‫لن تجد شخصا ً واحدا ً ال يتكل ُم فيما‬
‫لآلراء واألحاديث‪ ،‬الشباب أعادوا الروح إلى ذلك الجس ِد الهام ِد وأصب َح قادرا ً على مزاولة العم ِل بعد أن كان‬
‫ت الموتِ‪ ،‬الشوارع التي كانت صامتة وال تسم ُع لها صوتا ً بات صدى صوتها‬ ‫الفراش بانتظار سكرا ِ‬ ‫ِ‬ ‫طريح‬
‫يهز العالم بأجمع ِه‪ ،‬وكأن ساحرا ً مر على تلك البال ِد بعصاه مغيرا ً كل التفاصي ِل‪ ،‬وكان رساما ً قرر أن يغير‬
‫بريشت ِه تلك اللوحة القاتمة الكئيبة ليجعلها لوحة ُمبهجة جميلة‪.‬‬

‫المرشح‬
‫ِ‬ ‫ب تلك التطورات الكبيرة التي شهدتها البالد‪ ،‬كُ ٌل يبدي رأيهُ في هذا‬ ‫أمر يوميا ً ألراقب عن قر ٍ‬ ‫كنتُ ُ‬
‫النظام حتى لو كان مخطئا ً أشد‬
‫ِ‬ ‫ب‪ ،‬يا للعجب ! من كانوا يخشون التفوه بكلم ٍة واحدة ضد‬ ‫وكُ ٌل ينتقد ُ ذلك الحز ِ‬
‫الخطأ باتوا يتحدثون في السياسة دون أية قيود ! تلك معضلةٌ كبرى‪ ،‬مجرد حديثِهم عن السياس ِة دون أي‬
‫ب هو كارثة في ح ِد ذات ِه‪ ،‬ال نعل ُم متى قد تنتهي تلك الكارثة وال نعل ُم هل يملكُ السيد نزار حالً جذريا ً لها أم‬ ‫رقي ٍ‬
‫تستمر على األقل في تلك الفترة الحالية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ال‪ ،‬كل ما نعلمهُ أنها قد‬

‫بعضهم البعض إال‬ ‫ب في ِ‬ ‫رغم تلكَ ال ُخط ِة التي حيكت بواسط ِة السي ِد نزار بإيقاعِ تلك األحزاب وأولئكَ الشبا ِ‬
‫أني لزلتُ قلقاً‪ ،‬كُ ِل خطة قد تفش ُل وقد تنجح لكن عنده ال يوجد مسمى للفش ِل‪ ،‬يعل ُم تمام ِ‬
‫العلم بأن الفش ِل قد‬
‫ويجب أن تسوى‬ ‫ُ‬ ‫يودي به إلى المقصل ِة برفق ِة أعضاء مجموعت ِه‪ ،‬الصبر هو المفتاح األهم في تلك المرحل ِة‬
‫نار هادئة‪ ،‬لكن ذلك الشخص القلق بداخلي الزال يُحدثُني قائالً بأن التفاصيل لن تظل تخد ُمنا‬ ‫األمور كلها على ٍ‬
‫طيلة الوقت‪ ،‬لن تظل تُمهد لنا الطريق من جديد‪.‬‬
‫ُ‬
‫أتحدث عنها‬ ‫المخاوف حدثتُ بها زوجتي على غير العادة‪ ،‬لطالما كنتُ أحتفظُ بأسرار المجموعة وال‬ ‫ِ‬ ‫كل تلك‬
‫الصغير‪ ،‬لم تجب في البداية‬
‫ِ‬ ‫الفم‬
‫ت من هذا ِ‬ ‫خروج الكلما ِ‬
‫ِ‬ ‫كثيرا ً داخل المنز ِل‪ ،‬لكن هذ ِه المرةِ شعرتُ بوجو ِ‬
‫ب‬
‫زن‬
‫بشئ من ال ُح ِ‬
‫ٍ‬ ‫عني لكن عندما تحدثت كانت إجابتها كافية وافية " لن تستمر الحريةُ في بالدِنا تلك " قالتها‬
‫ب وبين المرشحين قد تعج ُل بتلك الصغيرة‬ ‫ت على الساح ِة بين األحزا ِ‬
‫واأللم‪ ،‬لربما كانت تعل ُم أن تلك الخالفا ِ‬
‫ِ‬
‫" الحرية " التي لم يتجاوز عُمرها الشهرين بعد‪.‬‬
‫يوما ً بعد يوم يزداد ُ االعتقاد ُ بأن الفائزَ بالنهاي ِة سيقصي من كان ندا ً لهُ في تلك المعرك ِة‪ ،‬بدأ الشكُ يتسل ُل لهم‬
‫الرعب بداخ ِلهم‪ ،‬أصبحت معركة حياة أو موت‪ ،‬يبدو أن تلك الحناجر التي ظلت تنادي وتنادي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويبث‬ ‫خفية‬
‫ب‪ ،‬إذا ً فما الفائدة من رحي ِل النظام ؟ لم يعد أحد ٌ ُ‬
‫يثق في‬ ‫مناخ مناس ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ق‬
‫التعب ما نال فشلت في خل ِ‬ ‫ُ‬ ‫ونال منها‬
‫منافسي ِه وباتت القضية شخصية أكثر منها قضية بالد كانت تخطو خطواتها األولى نحو الديموقراطية‪ ،‬يبدو‬
‫أنهم تناسوا ما خرجوا من أجل ِه وتناسوا ذلك األلم الذي أهلكَ أجسادهم ونفوسهم‪.‬‬

‫ينتظر بطلهُ‬
‫ُ‬ ‫الصغير الذي‬
‫ِ‬ ‫ال ولو حتى بنسب ٍة قليلة‪ ،‬كنتُ أتابعُها كالطف ِل‬‫تلك الخالفات كانت تجعلُني متفائ ً‬
‫هؤالء البائسين وهم يضيعون‬ ‫ِ‬ ‫ت ألتاب َع‬
‫التلفاز بالساعا ِ‬
‫ِ‬ ‫أجلس أمام‬
‫ُ‬ ‫األشرار‪،‬‬
‫ِ‬ ‫يظهر وينقذ بلدتهُ من‬
‫َ‬ ‫الخارق كي‬
‫القدر من‬
‫ِ‬ ‫تتكرر مرة أخرى خصوصا ً في تلك البال ِد خاصتنا‪ ،‬لم أتخيل أنهم بهذا‬ ‫ُ‬ ‫من أيديهم فرصة ذهبية قد ال‬
‫ت التي قضيتُها قابعا ً‬
‫والغباء معاً‪ ،‬هم من قد يُعطون المجموعة فرصة للحياةِ من جديد‪ ،‬بعدَ الساعا ِ‬ ‫ِ‬ ‫السذاج ِة‬
‫التلفاز صرتُ متأكدا ً بأن تلك الطفلة الصغيرة ستموتُ قريباً‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أمام‬

‫حزب يوسف هو من يتصدر المشهد حاليا ً وفرصته كانت كبيرة في انتزاع الحكم في النهاية‪ ،‬إدارة الحزب‬ ‫ُ‬
‫كانت ذكية ولم ترد الدخول في مهاترة أمام الماليين القابعين خلف شاشات التلفاز‪ ،‬كانت حديثهم شافيا ً كافيا ً‬
‫تجلب خسائر ال حصر لها‬ ‫ُ‬ ‫رغم قلته‪ ،‬كانوا مقتنعين بأن سياسة الصوت العالي لن تجدي نفعا ً بعد اليوم وقد‬
‫اإلعالم‪ ،‬سياستُهم تلك نجحت بشك ٍل كبير في خطف‬ ‫ِ‬ ‫منابر‬
‫ِ‬ ‫وأن فوائد الكالم القليل أفضل من الثرثرة يوميا ً في‬
‫الراهن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫ب وهذا هو الشئ األكثر أهمية في الوق ِ‬ ‫ب السواد األعظم من الشع ِ‬‫قلو ِ‬
‫ت وهي مبتسمة‬ ‫ب الرئاس ِة " كانت نضا ُل تبوح بتلك الكلما ِ‬ ‫" أملكُ شعورا ً كبيرا ً بأننا وضعنا قدم داخل مكت ِ‬
‫بطريقة لم تعهدها من قبل والتفاؤل أصبح مسيطرا ً بالكام ِل على حديثِها‪ ،‬ابتسم يوسف قبل أن يرد " يجب أن‬
‫نكون حذرين مهما زادت فرصتُنا في الفوز " ‪ ،‬بداخ ِله كان يعل ُم أن الفوزَ قاد ٌم ال محالة وأنها فقط بضع‬
‫بدورهم‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫الحذر‪ ،‬القائمين على الحز ِ‬
‫ِ‬ ‫خطوات على االنفرا ِد بكرسي البال ِد ولكنهُ رغم ذلك كُل ِه كان حذرا ً أشدَ‬
‫االنجاز‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كانوا متفائلين فيما بينهم بأنهم قد قطعوا شوطا ً كبيرا ً ولم يتبقَ سوى القليل على تحقي ِ‬
‫ق‬

‫ب‪ ،‬أيقنت متأخرة بأن تلك‬ ‫ب وثق ِة الشع ِ‬ ‫خطف قلو ِ‬


‫ِ‬ ‫ت لمحاولة‬‫ق مع الوق ِ‬ ‫بقية األحزاب ال ُمتنافسة كانت في سبا ٍ‬
‫ت وأنها سرقت من وقتِهم وطاقتِهم الكثير والكثير‪ ،‬حاولوا إنقاذ ما‬ ‫ت المتكررةِ لم تكن سوى مضيعة للوق ِ‬ ‫اللقاءا ِ‬
‫ت هدفُها األول استعطاف الغالبية العظمى من المواطنين دون النظر إلى ما‬ ‫يُمكنُ إنقاذه عن طري ِ‬
‫ق بيانا ٍ‬
‫اليأس إلى نفو ِسهم وصاروا متأكدين بأن‬‫ُ‬ ‫ت وجمل من شأنها تغيير الدفة‪ ،‬تسلل‬ ‫تحتويه تلك البيانات من كلما ٍ‬
‫سيقف بجان ِبهم في تلك االنتخابات المزمع إقامتها بعد عدةِ أسابيع ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الفشل‬

‫ق من قب ِل حتى بدايتِه‪ ،‬على ما يبدو أن تلك‬


‫كلما مرت األيام والساعات والدقائق كلما خرج حزبٌ من السبا ِ‬
‫األساس وأصيبت باالندهاش فور‬
‫ِ‬ ‫األجواء الديموقراطية ولم تكن مهيأة لها من‬
‫ِ‬ ‫األحزاب لم تعتد التنافس داخل‬
‫ق وهم ال‬
‫عين وجدوا أنفسهم يربطون األحزمة ويستعدون للسبا ِ‬ ‫الفوز‪ ،‬في غمض ِة ٍ‬
‫ِ‬ ‫علمها بأنها تملكُ فرصة‬
‫ِ‬
‫حزب "األمل" الذي كان "يوسف" تابعا ً لهُ والزال هو الوحيد تقريبا ً‬ ‫ُ‬ ‫يعلمون أية تفاصي ٍل ُمسبقة عن قواعدهِ‪،‬‬
‫بعض التفاصي ِل التي أفادتهُ كثيرا ً طوال الفتر ِة الماضي ِة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الذي كان يملكُ‬

‫ت األولي ِة إال أنهُ كان قلقا ً في حالة فوز ِه باالنتخاباتِ‪ ،‬لن يتحمل‬
‫الحزب سعيدا ً بتلك المؤشرا ِ‬
‫ُ‬ ‫بقدر ما كان‬
‫ِ‬
‫النجاح ستكونُ‬
‫ِ‬ ‫الواقع‪ ،‬كانوا يعلمون أن ضريب ِة‬
‫ِ‬ ‫أرض‬‫ِ‬ ‫ق حقيقي على‬ ‫الشعب مزيدا ً من الوعو ِد دون تطبي ٍ‬
‫الشأن حتى ال تختلطُ األمور‬
‫ِ‬ ‫نظام قادم‪ ،‬لكنهم لم يفكروا كثيرا ً بهذا‬
‫ٍ‬ ‫بالطبع مع أي‬
‫ِ‬ ‫الثمن ولن يتهاونوا‬
‫ِ‬ ‫باهظةَ‬
‫عليهم وفضلوا التركيز اآلن على ما هو أهم‪ ،‬الوجوه ُمتعبة واأليادي ُمنهكة واألجساد ُمستهلكة والكل يتمنى‬
‫المطاف‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قدومها سريعا ً حتى ينتهي هذا التعب مهما كانت النتيجةُ في نهاي ِة‬

‫ت المجموع ِة لم تتوقف عن العم ِل‪ ،‬المبنى لم يتوقف عن الحرك ِة‪ ،‬أعضاء المجموع ِة لم يتوقفوا‬ ‫قاعةُ اجتماعا ِ‬
‫يدور على الساح ِة‪ ،‬لم تكن هناك آراء واضحة وصريحة بشأن االنتخاباتِ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الحضور يوميا ً لمراقبة ما‬
‫ِ‬ ‫عن‬
‫حتى الرجل األول لم يكن أحد ٌ يعلم مع من يفض ُل العم َل خالل الفترةِ ال ُمقبل ِة‪ ،‬لكن النقطة األهم والتي كانت‬
‫إقصاء المجموع ِة من خيارات ِه وأن‬
‫ِ‬ ‫وجب علي ِه عدم‬
‫ُ‬ ‫تفق عليها باإلجماعِ أن الحزب الفائز باالنتخابات يت‬ ‫ُم ٌ‬
‫التقدم المرجو ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫المصلحة العامة هي العمل سويا ً تحت سقفٍ واح ٍد لتحقي ِ‬
‫ق‬

‫ق تجاه الشارع والمواطنين لم تكن المجموعة مكترثة‬ ‫ب الذي كان يملكُ بعضا ً من القل ِ‬ ‫على عكس الحز ِ‬
‫ت من شأنها كسب‬ ‫ت ما هو إال شعارا ٍ‬ ‫ق التقدم وعمل المشروعا ِ‬ ‫بأحالمهم‪ ،‬تحقي ِ‬
‫ِ‬ ‫ب وال بطموحاتِهم وال‬
‫بالشع ِ‬
‫ب‪ ،‬عندما‬
‫الحزب في مقت ٍل في ال ُمستقب ِل القري ِ‬
‫َ‬ ‫تصيب‬
‫ُ‬ ‫و ِد أولئكَ البائسين العجزة‪ ،‬ذلك القلق هو الثغرة التي قد‬
‫باالنهيار وهم‬
‫ِ‬ ‫تصاب سفينت َهم‬
‫ُ‬ ‫يتصبب عرق هؤالء القائمين عليه وقد‬‫ُ‬ ‫الخوف وقتها قد‬
‫ِ‬ ‫يشت ُم الشعب رائحة‬
‫على مقدم ِة الشاطئ ولم يتحركوا بعد ‪.‬‬

‫تقديم المجموع ِة‬


‫ِ‬ ‫المهم‬
‫ِ‬ ‫ببعض االتصاالت مع المشاركين في ذلك العُرس االنتخابي‪ ،‬كان من‬ ‫ِ‬ ‫السيد "نزار" قام‬
‫الظروف الصعب ِة‪ ،‬تلك اإلجراءات الروتينية كانت مهمة للغاي ِة في‬
‫ِ‬ ‫تقف خلف الفائز وتدعمهُ في تلك‬ ‫على أنها ُ‬
‫ب علي ِه ليكون رئيسا ً‬
‫اختيار الشع ِ‬
‫ُ‬ ‫نظر ِه ولم يرد التغافل عنها‪ ،‬كانَ يعل ُم هو اآلخر من هو الشخص الذي وقع‬
‫ت بعد أن كان‬ ‫ُ‬
‫سيحدث في االنتخابا ِ‬ ‫يراقب ما‬
‫ُ‬ ‫للبال ِد في الفترةِ القادم ِة‪ ،‬كان أمرا ً غريبا ً علي ِه أن َ‬
‫يقف من بعي ٍد‬
‫ق نفسهُ‪.‬‬
‫الرئيس الساب ِ‬
‫ِ‬ ‫ويعرف النتيجة حتى قبل‬
‫ُ‬ ‫يض ُع تفاصي ِل كُ ِل كبيرةٍ وصغيرةٍ‬

‫اإلعال ُم كان ال ُمستفيد األول من ذلك الصراعِ االنتخابي‪ ،‬يوميا ً كانت تُقام اللقاءات ال ُمباشرة على عدي ِد‬
‫األمر يكم ُن في أن ذلك الصراع‬
‫ُ‬ ‫المرشح ذاك‬
‫ِ‬ ‫المرشح هذا أو‬
‫ِ‬ ‫القنواتِ‪ ،‬لكن األمر ليس مجرد سويعات مع‬
‫النظام وال يتوقفون عن مدح ِه ليالً‬
‫ِ‬ ‫وتلك التغطية الشاملة لربما أنست الشعب قليالً أنهم كانوا يقفون خلف‬
‫البرامج يتنفسون الصعداء اآلن بعدما التفتُ الشارعُ إلى االنتخابا ِ‬
‫ت وأن‬ ‫ِ‬ ‫ونهاراً‪ ،‬أكاد ُ أجز ُم أن مقدمي تلك‬
‫أمورهم سابقاً‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بأولياء‬
‫ِ‬ ‫ب تلك لم تطح بهم كما أطاحت‬
‫هتافات الشبا ِ‬
‫الصحف اليومي ة لم تقف متفرجة هي األخرى وسارت على خطى البرامج التلفزيونية وحاولت بشتى الطرق‬
‫ب لعدي ِد اإلعالميين والكتاب والصحفيين‬
‫ق من ذه ٍ‬
‫ق‪ ،‬كانت فرصة على طب ٍ‬ ‫للنظام الساب ِ‬
‫ِ‬ ‫انبطاحها‬
‫ِ‬ ‫محو آثار‬
‫وبالتأكيد لن يفوتوا مثل هكذا فرصة على أنفُسِهم‪ ،‬أيقنوا أن تلك االنتخابات بمثابة صفحة جديدة مع الشع ِ‬
‫ب‬
‫بجميع طوائفه‪ ،‬كانوا الطرف األكثر استفادة من ذلك الصخب االنتخابي بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من‬
‫واألقالم اليومي ِة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫التلفاز‬
‫ِ‬ ‫اإلقصاء لألب ِد بعيدا ً عن شاشا ِ‬
‫ت‬

‫إلعالم نهائياً‪ ،‬كانوا يريدون‬


‫ِ‬ ‫األمور ولم تتح لهم الفرصة كاملة كي يتخلصوا من هذا ا‬ ‫ِ‬ ‫الشباب عن تلك‬
‫ُ‬ ‫لم يغفل‬
‫ب الذين تجمهروا وهتفوا و لم‬ ‫الرئيس الجديد وما سيفعلُه معهم وما هي خطتهُ ال ُمستقبلية‪ ،‬بعض الشبا ِ‬
‫ِ‬ ‫انتظار‬
‫النظام ال ُمتمث ِل في‬
‫ِ‬ ‫تكن لهم ميول واضحة تجاه أي رئيس كانوا يعتقدون بأن الوقت قد فات لمحاسب ِة صوت‬
‫الجلوس معهم على طاول ٍة واحدة‪ ،‬يا للغباء !! كيف‬ ‫ِ‬ ‫ب محاول ِة إقصائهم بدالً من‬
‫األجدر بتلك األحزا ِ‬
‫ِ‬ ‫اإلعالم‪،‬‬
‫ِ‬
‫ب يا للغباء يا للغباء !!‬
‫لهم بأن يجلسوا مع من ظلوا يُشككون في وطني ِة تلك األحزا ِ‬
‫التنويم المغناطيسي وعينهم ال ترى سوى صناديق‬ ‫ِ‬ ‫تأثير‬
‫ِ‬ ‫أدركوا مؤخرا ً بأن تلك األحزاب وكأنها وقعت تحت‬
‫رشحين‪ ،‬عينهم ال ترى سوى الخوف والخيان ِة ومحاولة انتزاعِ ذلك المقع ِد عوضا ً عن‬ ‫ِ‬ ‫ورموز ال ُم‬
‫ِ‬ ‫االقتراعِ‬
‫كرئيس للبالدِ‪ ،‬كل تلك األشياء عززت‬
‫ٍ‬ ‫األصلح ومبايعتِه‬
‫ِ‬ ‫الجلوس على طاولة واحدة يتفقون فيها على مناصرة‬ ‫ِ‬
‫بعدم جدوى تلك الحناجر‬‫ب ضعيفا ً للغاية وبدأ االعتقاد ُ فيما بينهم ِ‬
‫موقف المجموع ِة وجعلت موقف الشبا ِ‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫أكثر إشراقا ً من ذي قبل ‪.‬‬
‫أليام وأيام راغبة في ُمستقب ٍل ُ‬
‫تهتف ٍ‬ ‫ُ‬ ‫التي ظلت‬

‫المخاوف في محاولة‬
‫ِ‬ ‫بشأن تلك‬
‫ِ‬ ‫ث‬‫أصدقاء "يوسف" الجلوس معهُ على انفرا ٍد والحدي ِ‬
‫ِ‬ ‫ب من‬‫بعض الشبا ِ‬
‫ُ‬ ‫حاول‬
‫أخيرة إلنقا ِذ ما يمكنُ إنقاذه‪ ،‬لكنهُ كان مشغوالً للغاية ولم يرد على اتصاالتِهم ولم يتبقَ أمامهم سوى ح ٍل واح ٍد‬
‫ب ومقابلتِه وجها ً لوجه‪ " ،‬لقد مرت فترة كبيرة منذ ُ آخر لقاءٍ لنا أصدقائي"‬ ‫ب الحز ِ‬
‫وهو الذهاب إلي ِه في قل ِ‬
‫هكذا كانت كلمات ِه األولى ترحيبا ً بهم مدعومةً باالبتسام ِة‪ " ،‬نعم يوسف لقد مر وقتٌ طوي ٌل وها أنت تغيرت‬
‫عن السابق وصرت منغمسا ً هنا لدرج ِة تجاهل اتصاالتِنا " كلماتِهم تلك خرجت بنبرةٍ حادة بعض الشئ‪ ،‬لم‬
‫االعتذار لهم وتحج َج بأن الوقت ليس ملكهُ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يكن منهُ سوى‬

‫ُ‬
‫يتعلق ب ُمستقب ِل تلك البال ِد " من نظرة‬ ‫االعتذار منك إنما نح ُن هنا لموضوعٍ َ‬
‫أكثر أهمية‬ ‫ِ‬ ‫" لسنا هنا لمحاولة أخ ِذ‬
‫أعينِهم فَ ِه َم "يوسف" السبب وراء زيارتِهم تلك وتبدلت تلك االبتسام ِة التي ظهرت في البداي ِة وصار اللقا ُء‬
‫بعض‬
‫ٍ‬ ‫ضهم إلى‬‫يحم ُل الطابع الرسمي ال الودي‪ " ،‬إذا ً ما هو الموضوع المهم الذي جئتم من أجل ِه ؟ " نظر بع ُ‬
‫الحزب تماما ً ويبدو أنكَ تناسيت ما قد خرجنا من‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫يتحدث واحد ٌ منهم بالنياب ِة عن البقي ِة " لقد أخذكَ‬ ‫وقرروا أن‬
‫ت في النهاية‪ ،‬معركة قد‬ ‫األمر‪ ،‬ها أنت وحزبكُ تدخ ُل في معرك ٍة قد تطي ُح بكُ ِل تلك المكتسبا ِ‬ ‫ِ‬ ‫أج ِله في بادئ‬
‫ب ذلك‬ ‫ت وسنوات " صمت قليالً في ُمحاول ٍة منهُ الستيعا ِ‬ ‫تنهي ذلك ال ُحلم الذي عشنا نحاو ُل تحقيقهُ لسنوا ٍ‬
‫نقف بعيدا ً عن معرك ِة األحزا ِ‬
‫ب الباقي ِة وحملنا‬ ‫ثم ردَ قائالً " ال شئ قد يطي ُح ب ُح ِ‬
‫لمنا ونحنُ كنا ُ‬ ‫ث ومن َ‬ ‫الحدي ِ‬
‫أحالمكم " ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ق‬‫على عات ِقنا مهمة تحقي ِ‬
‫الشأن واعتذر منهم عن استكما ِل‬‫ِ‬ ‫الحديث كثيرا ً بهذا‬
‫َ‬ ‫ب وشعروا بأنهُ ال يريد ُ‬‫نبرة يُوسف لم تُعجب أولئك الشبا ِ‬
‫تنتظر إنجازها‪ ،‬تلك الجلس ِة لم تزدهم إال إحباطا ً وصاروا يشعرون بأن نسم ِة‬ ‫ُ‬ ‫اللقاء نظرا ً لألعما ِل الكثيرةِ التي‬
‫ِ‬
‫تدوم طويالً‪ ،‬لم يكن أمامهم‬‫َ‬ ‫ت وأن رحلتها في تلك البل ِد لن‬ ‫الهواء التي كانت تحم ُل الحرية قد تختفي في أي وق ٍ‬ ‫ِ‬
‫مواقع التواصل االجتماعي في محاولة يائسة منهم لتنبي ِه‬ ‫ِ‬ ‫ت‬
‫ق صفحا ِ‬ ‫ب بداخ ِلهم عن طري ِ‬ ‫سوى تفري ِغ الغض ِ‬
‫بالطبع لن يكون كافيا ً وال مجديا ً لكنهُ أفضل بكثير من كتم طاق ِة‬
‫ِ‬ ‫األمر وهذا‬
‫ِ‬ ‫البعض وتوعيتِهم بخطورةِ‬ ‫ِ‬
‫ب تلك ‪.‬‬‫الغض ِ‬

‫األمن قد أخذوا مواقعهم لتأمين تلك العميل ِة االنتخابي ِة‪ ،‬اللجنة‬


‫ِ‬ ‫صناديق االقتراع قد ُجهزت تماما ً ورجال‬
‫اليوم األو ِل لالنتخاباتِ‪ ،‬يبدو أن العاصمة قد استعدت جيدا ً ولم‬ ‫ِ‬ ‫صباح‬
‫ِ‬ ‫المشرفة قد وصلت في ساع ٍة مبكرةٍ من‬
‫السن‬
‫ِ‬ ‫ب فقط بل حتى كبار‬ ‫ت والمشاركة لم تقتصر على الشبا ِ‬ ‫بمرور الوق ِ‬
‫ِ‬ ‫يتبق سوى البداية‪ ،‬األعداد تزداد ُ‬
‫اللجان الخاص ِة بهم من أجل اإلدالء بأصواتهم‪ ،‬اللجنةُ من جهتِها أبدت تفاؤالً كبيرا ً وتوقعت أن‬ ‫ِ‬ ‫توافدوا على‬
‫الماليين من الشعب‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يستمر توافد‬

‫ق‬
‫الخروج بسب ٍ‬
‫ِ‬ ‫ت وتسابقت القنوات على‬ ‫القنوات التليفزيونية نشرت مراسليها في أنحاء البال ِد لتغطية االنتخابا ِ‬
‫اإلعالم‪ ،‬لم تتوقف التغطية‬
‫ِ‬ ‫قد يضمنُ لهم مشاهدة أكبر في المستقب ِل‪ ،‬مثل تلك المحاف ِل مهمة للغاي ِة في ِ‬
‫نظر‬
‫ب لمتابع ِة ردو ِد الفع ِل هناك ومتابعة غرفة العمليات‬
‫مقار األحزا ِ‬
‫أمام ِ‬
‫عند هذا الحد بل تواجد ُمراسلون من ِ‬
‫ب‪ ،‬الصحف هي األخرى أرسلت بعضا ً من‬ ‫هناك ومحاولة الخروج بتصريح من أحد المسئولين عن الحز ِ‬
‫تجذب انتباه القراء في الصفحة الرئيسي ِة غداً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫للخروج بعناوين قوية‬
‫ِ‬ ‫محرريها‬

‫الناس للمشارك ِة‪ ،‬االتصاالت ال تتوقف هُناك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫قدم وساق‪ ،‬كانت تحاو ُل دفع‬ ‫مقار األحزاب كانت تعمل على ٍ‬
‫الماء‬
‫ِ‬ ‫وتشرب كوبا ً من‬
‫ُ‬ ‫الكل يريد معرفة مسار العميلة االنتخابية‪ ،‬ال أحد يرتا ُح هُناك‪ ،‬بالكاد تلتقطُ أنفاسك‬
‫ت‬‫ث كثيرا ً مع القنوات التليفزيونية وال بإدالء تصريحا ٍ‬ ‫ومن ث ُ َم تتاب ُع لحظة بلحظة ما يحد ُث‪ ،‬ال وقت للحدي ِ‬
‫األرض من شدةِ‬
‫ِ‬ ‫الصحف الكبيرةِ‪ ،‬كُل ما تبقى هو جزء بسيط من الثانية قبل أن تقع تلك األجساد على‬ ‫ِ‬ ‫ألحد‬
‫اليوم األو ِل لذلك الحدث المهم والتاريخي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ب والجه ِد المبذول في‬ ‫التع ِ‬
‫الوقوف تحت أشع ِة‬
‫ِ‬ ‫اليوم األو ِل‪ ،‬لم يتكبدوا سوى عناء‬
‫ِ‬ ‫المواطنون كانوا الطرف األكثر تمتُعا ً بالراح ِة في‬
‫ت وأخيرا ً يأتي دور الجزء األجم ِل‬ ‫الشمس الحارق ِة لمدة ال تزيد ُ عن الساع ِة وبعدها يتسنى لهم الدخول للتصوي ِ‬ ‫ِ‬
‫الحار وهو الهروب إلى مناز ِلهم‪ ،‬المتابعة من أمام الشاش ِة هو الجزء التالي بالنسب ِة‬ ‫ِ‬ ‫اليوم‬
‫ِ‬ ‫بالنسب ِة لهم في هذا‬
‫للمواطنين الذين انتهوا من صداع ِ االنتخاباتِ‪ ،‬الدور القادم سيكون على الذين لم يتمكنوا من المشارك ِة في‬
‫المتوقع أن يكون االقبا ُل أكثر في اليوم الثاني‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اليوم االفتتاحي ومن‬
‫ِ‬
‫اللجان وها هم المواطنون قد التزموا الصف كي‬ ‫ِ‬ ‫األمن قد وقفوا على‬
‫ِ‬ ‫صباح اليوم الثاني قد حل وها هم رجا ُل‬
‫الباكر وهذ ِه المرة لمحاولة أخذ‬
‫ِ‬ ‫الصباح‬
‫ِ‬ ‫يشاركوا ويدلون بأصواتهم‪ ،‬مراسلو القنوات التليفزيونية حضروا منذ ُ‬
‫سير العميلة وهل من مشاكل تواج ُههم‪ ،‬فرصة ممتازة لهم‬ ‫األمن لمعرف ِة ِ‬
‫ِ‬ ‫ت من رجا ِل‬
‫بعض التصريحا ِ‬
‫للظهور أمام شعبِهم والحديث بصورة لبِقة قد يعيد ُ الثقة من جديد بهم‪ ،‬اللجنة المشرفة بدورها كان لها نصيب‬
‫ِ‬
‫ت وأكدت أن كل شئ يسير بصورة جيدة ولم ترصد محاوالت حتى اآلن للتزوير‪.‬‬ ‫من تلك اللقاءا ِ‬
‫لهؤالء المساكين الذي يرجون هما ً‬
‫ِ‬ ‫يعرف طريقا ً‬
‫ُ‬ ‫ت تعم ُل بشك ٍل مستمر والزال النو ُم ال‬ ‫الزالت غرفة العمليا ِ‬
‫كبيراً‪ ،‬كانت محاوالتهم مستمرة لمحاولة حشد الفئات التي لم تتحرك من مكانها للمشارك ِة في االنتخابات‪،‬‬
‫لليوم الثاني لم يتحدث كبار المسئولين في تلك‬ ‫ِ‬ ‫األمور تماماً‪،‬‬
‫ِ‬ ‫يدركون جيدا ً أن ثمة صوتا ً واحدا ً قد ُ‬
‫يغير من‬
‫التعب‬
‫ُ‬ ‫انتصف اليو ُم وبدأ‬
‫ُ‬ ‫ب النشغالهم تماما ً وباتت عربات القنوات قابعة هُناك دون أي فائدة تذكر‪،‬‬ ‫األحزا ِ‬
‫ب ولكن من يكترث ؟! فمواصلة العم ِل كانت السمة السائدة هُناك‪.‬‬ ‫األعضاء في تلك األحزا ِ‬
‫ِ‬ ‫يح ُل على عديد‬

‫ت يدركون تماما ً األهمية الكبيرة لذلك الحدثِ‪ ،‬لذلك فلم تخلو بقعة من البال ِد إال وكنت تجد ُ فيها‬ ‫رؤساء القنوا ِ‬
‫الظرف لن يعوض إطالقا ً‬‫ِ‬ ‫اللجان‪ ،‬كانوا يؤمنون بأن السبق في ذلك‬
‫ِ‬ ‫مراسالً يرصد ُ ردود الفع ِل من أمام‬
‫الك ورؤسائهم في العم ِل‬ ‫أحالم ال ُم ِ‬
‫ِ‬ ‫ق‬
‫تعزز من قوةِ القناةِ‪ ،‬البائسون هم من يحاولون تحقي ِ‬‫ُ‬ ‫وسيُشك ُل ضربة قوية‬
‫بتصريح‬
‫ٍ‬ ‫وبعض منهم خرج‬‫ُ‬ ‫بتصريح من المواطنين‬
‫ٍ‬ ‫الخروج‬
‫ِ‬ ‫متحدين التعب والظروف‪ ،‬أغلبهم كان ينجح في‬
‫أعضاء اللجن ِة ال ُمشرفة ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫األمن وقلي ٌل منهم انفرد بلقاءٍ مع‬
‫ِ‬ ‫من رجال‬

‫اليوم األو ِل وهذا ما أدخل السرور إلى‬


‫ِ‬ ‫للحضور أكثر من‬
‫ِ‬ ‫االنتهاء واألعداد ال ُمسجلة‬
‫ِ‬ ‫اليوم الثاني أوشكَ على‬
‫التزوير‪ ،‬لكن ما عكر‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫ب أعضاء اللجن ِة‪ ،‬األهم من ذلك بالنسبة لهم هو عدم تسجي ِلهم ألي حالة من حاال ِ‬ ‫قلو ِ‬
‫ت الباطل ِة ولكنهم في النهاية اعتقدوا أنها مجرد حاالت‬
‫ت من األصوا ِ‬ ‫صفوهم قليالً هو تسجي ِلهم لعدي ِد الحاال ِ‬
‫ُ‬
‫تفوق األعداد التي‬ ‫واألخير قد‬
‫ِ‬ ‫ث‬
‫اليوم الثال ِ‬
‫ِ‬ ‫فردية وليست ُمنظمة‪ ،‬كانوا يتوقعون بأن األعداد ال ُمشاركة في‬
‫سجلت في اليومين األو ِل والثاني‪.‬‬ ‫ُ‬

‫حديث جانبي دار بين "يوسف" و"نضال" بشأن االنتخابات واليوم الثالث المتبقي لهم ولمرشحهم‪" ،‬هل تعتقد‬
‫علم بأن المتنافسين‬
‫أن أحمد بإمكانه الفوز بالنهاية ؟ اإلجابة كانت سريعة وبثقة كبيرة "نعم أعتقد" ‪ ،‬كان على ٍ‬
‫ال يملكون الذكاء والنضج كمرشح حزبهم‪ ،‬اليوم األخير سيكون فرصة من وجهة نظره لتأكيد كالمه هذا‬
‫عندما تعلن اللجنة المشرفة على االنتخابات اكتساح مرشح حزب "األمل" "أحمد عبدالرحمن" بمقعد الرئاسة‬
‫ت قادمة بالتمام والكمال‪ ،‬ذلك هو المشهد الذي ُرسم في مخيل ِة "يوسف" ولن يرضى بغير ِه في‬ ‫أربع سنوا ٍ‬
‫ِ‬ ‫لمدة‬
‫النهاي ِة‪.‬‬
‫بحضور أكبر من سابقيه كما توقعت األغلبية‪ ،‬كل األحزاب تحاو ُل دفع ما لم يصوتوا إلى‬
‫ٍ‬ ‫اليوم الثالث بدأ‬
‫اللجان االنتخابية عسى أن تكون أصواتهم تلك سببا ً للفوز‪ ،‬رغم الزحام الذي شهدته اللجان إال أن العملية‬
‫سارت كما أرادوا لها والنظام كان المحرك األول لها‪ ،‬تلك التجمعات أدخلت السرور إلى اللجنة المشرفة التي‬
‫كانت قلقة في البداية بشأن الحضور العام في تلك االنتخابات ولكن على ما يبدو أن الماليين كانوا متعطشين‬
‫لتلك التجربة الفريدة من نوعها ويريدون تجربة الشعور بالتصويت دون أية ضغوط تذكر‪.‬‬

‫ق قوي فيما تبقى من ساعاتٍ‪ ،‬بعض القنوات أطلقت‬


‫تقف هُنا وهُناك محاولة الخروج بسب ٍ‬
‫الزالت القنوات ُ‬
‫عديدا ً من اإلشاعات فيما يخص الرئيس المحتمل للبالد‪ ،‬بعضها أكد أن "أحمد عبدالرحمن" بات األقرب‬
‫النتزاع المقعد الرئاسي والبعض اآلخر يقول أن "محمد شكري" يتصدر السباق بفارق مريح‪ ،‬في الحقيقة لم‬
‫تكن تملك القنوات معلومات مؤكدة وموثقة باألرقام ولكنها كانت بعض االجتهادات من الصحفيين وعلى‬
‫أثرها تحدثت القنوات بها ولكن تبقى مجرد اجتهادات ال أساس لها من الصحة حتى اآلن‪.‬‬

‫ب‬
‫بصدر رح ٍ‬
‫ٍ‬ ‫غرف العمليات قاربت على إنهاء العمل المطلوب منها وأصبحوا مستعدين الستقبال النتيجة‬
‫حزن‪ ،‬الكل فضل البقاء في مكانه منتظرا ً لحظات الفرز ولحظات إعالن النتيجة‬ ‫ٍ‬ ‫فرح أو‬
‫ٍ‬ ‫مهما كانت تحمل من‬
‫تقترب شيئا ً فشيئا ً وها هم يضعون‬
‫ُ‬ ‫على أن يشد الرحال إلى منزله ويأخذ قسطا ً من الراح ِة‪ ،‬لحظة الحقيقة‬
‫ق وينتظروها خروجها اآلن وال يهم إن فازوا أو خسروا المهم أن يرتاحوا‬ ‫أيديهم على رؤو ِسهم من شدة القل ِ‬
‫من عناء التفكير والقلق وأن ينتهي ذلك الحدث‪.‬‬

‫القادم‬
‫ِ‬ ‫الرئيس‬
‫ِ‬ ‫الفرز وكنتُ متشوقا ً في الحقيق ِة لمعرف ِة‬
‫ُ‬ ‫غرار أولئك الشباب جلستُ في منزلي أتاب ُع لحظة‬
‫ِ‬ ‫على‬
‫بعكس السي ِد "نزار" الذي كان يرى بأن الرئيس القادم مهما كان من هو فقد يهدد ُ بقاء المجموع ِة كنت‬ ‫ِ‬ ‫للبالدِ‪،‬‬
‫ت أخرى قد تنهى مصير هذه‬ ‫أرى بأنه من الوارد التعاون مع الفائز‪ ،‬كنتُ أحبذ ُ عدم الدخول في صراعا ٍ‬
‫نعرف كيف نتحرك في‬ ‫ُ‬ ‫المجموع ِة لألبدِ‪ ،‬من األفضل االنتظار ومعرفة نوايا النظام الجديد وعلى أثرها‬
‫المستقبل وهذا ما كان يرفضهُ الرجل األول للمجموعة‪.‬‬

‫اليوم لمشاهدةِ تلك اللحظة لكنهم تحججوا بأنهم يقضون‬ ‫ِ‬ ‫حاولتُ دعوة أحد األصدقاء من المجموع ِة في ذلك‬
‫لحظات مع العائل ِة‪ ،‬قدرتُ حديثهم واعتذارهم وبقيتُ مع عائلتي في المنزل‪ ،‬لكن الملفتَ أنهم تقبلوا حديثي في‬
‫ق‬‫للنظام الساب ِ‬
‫ِ‬ ‫بالوالء‬
‫ِ‬ ‫البداية عن متابع ِة لحظة الفرز بنوعٍ من السخريةٍ‪ ،‬لم أكن أدري هل مازال أحدهم يدينُ‬
‫القادم ؟ أم قضاء الوقت‬‫ِ‬ ‫للرئيس‬
‫ِ‬ ‫األساس‬
‫ِ‬ ‫لدرج ٍة تجعله يكره مشاهدة مؤتمر النتيجة ؟ أم أنهم ال يكترثون من‬
‫مع العائلة جعلهم يسخرون من دعوتي تلك ؟ كعادتي فصغائر األحداث قد تخر ُج عديد األسئل ِة التي قد أفش ُل‬
‫في النهاي ِة باإلجابة عنها ولكن ال بأس غدا ً قد تتض ُح كل التفاصيل‪.‬‬

‫ت وسط تغطية كبيرة من القنوات التلفزيونية‬


‫بدأت وقائع المؤتمر الصحفي للجن ِة المشرف ِة على االنتخابا ِ‬
‫بشكر كافة المواطنين الذين شاركوا في هذا الحدث وساهموا في‬
‫ِ‬ ‫ووسائل اإلعالم الخارجي ِة‪ ،‬بدأ الحديث‬
‫خروج ِه بتلك الصورةِ الجميل ِة‪ ،‬بعدها تم رصد األع داد المشاركة واألصوات الباطلة وعديد األشياء المعتادة‬
‫جميع أنحاء البالدِ‪ ،‬لحظة‬
‫ِ‬ ‫ينتظرها الجميع في‬
‫ُ‬ ‫في مث ِل هكذا محافل‪ ،‬اللحظة األهم قد حانت‪ ،‬اللحظة التي‬
‫ب "األمل"‪.‬‬
‫مرشح حز ِ‬
‫ِ‬ ‫القادم وهو "أحمد عبدالرحمن"‬
‫ِ‬ ‫إعالن الرئيس‬

‫وضعتُ يدي على رأسي قليالً بعد سماعي لتلك الكلماتِ‪ ،‬فذلك الرئيس القادم يمث ُل حزبا ً ليس على وفا ٍ‬
‫ق كبير‬
‫در للرج ِل األو ِل لمجموعتنا أن يدخل في ذلك الصراع ال ُمحتم ِل‪ ،‬كنتُ أتمنى نجاح‬ ‫مع سياسات المجموع ِة‪ ،‬قُ َ‬
‫ب مثل هذا النوعِ من الصراعاتِ‪ ،‬ما هي إال دقائق فقط وكان‬ ‫مرشح آخر ليس خوفا ً منه بالتأكيد ولكن لتجن ِ‬
‫ٍ‬
‫الهاتف يناديني بالتوج ِه مسرعا ً نحو مبنى المجموع ِة الجتماعٍ طارئ وعاجل‪ ،‬يبدو أن السيد "نزار" ال‬ ‫ِ‬ ‫جرس‬
‫ُ‬
‫ت واالنتظار حتى ينقض "أحمد عبدالرحمن" على المجموعة ويفتكَ بها‪.‬‬ ‫يريد ُ إهدار الوق ِ‬

‫األماكن التي تدع ُم‬


‫ِ‬ ‫جميع‬
‫ِ‬ ‫المؤتمر الصحفي هذا حتى انطلقت االحتفاالت في‬
‫ِ‬ ‫وقائع‬
‫ِ‬ ‫ما أن انتهت اللجنة من‬
‫ب كان المكان األشد صخبا ً وبدأ الجمي ُع يتبادل األحضان والقُبالت‪ ،‬ال مانع من‬ ‫مقر الحز ِ‬‫الرئيس الجديد‪ُ ،‬‬
‫السماء من شد ِة‬
‫ِ‬ ‫الفرح والسعاد ِة‪ ،‬تناسوا لوهلة التعب الذي ح َل بأجسادِهم والمست أيديهم‬
‫ِ‬ ‫بعض دموعِ‬
‫ِ‬
‫بمقدورهم اآلن تنفيذ تلك األفكار التي لطالما حملتها مخيلتِهم ولم تيأس من حملها يوما ً ما‪ ،‬لن‬
‫ِ‬ ‫السعادةِ‪ ،‬أصبح‬
‫ثم ينتهى بهم‬ ‫للوقوف أمام المسئولين ومحاولة استعطافهم لتنفيذ تلك األفكار ومن َ‬
‫ِ‬ ‫يذهبوا في الثامنة صباحا ً‬
‫الكبير‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الصف‬
‫ِ‬ ‫المطاف خارج‬

‫ت التي كانوا يريدونها منذ البداي ِة‪ ،‬الكل عبر عن‬‫ت استطاع المراسلون تسجيل بعض اللقاءا ِ‬ ‫في تلك اللحظا ِ‬
‫سعادت ِه بتلك النتيج ِة وشكروا الشعب بأكمل ِه للثقة التي وضعوها في رئيسهم‪ ،‬لم يتناسوا التأكيد على أن الحرية‬
‫الحوار ستكونُ أسهل مما سبق‪ ،‬لكن‬
‫ِ‬ ‫العصر الجدي ِد وأن لغة‬
‫ِ‬ ‫والديموقراطية هما المحرك األساسي لذلك‬
‫حظهم أنهُ كان يحتف ُل هو‬
‫لسوء ِ‬
‫ِ‬ ‫الرئيس الجدي ِد ولكن‬
‫ِ‬ ‫المراسلون كان يطمعون في أكثر من هذا وهو لقا ٌء مع‬
‫األثناء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مسقط رأس ِه ولن يستطيع الحديث على األقل في تلك‬
‫ِ‬ ‫اآلخر في‬

‫للرئيس الجدي ِد ُمتمنية له التوفيق في تلك المهمة‬


‫ِ‬ ‫الحزن باركت‬
‫ِ‬ ‫بعض من األحزاب ال ُمشاركة بدوها بنوعٍ من‬
‫ستقف خلفهُ داعمة وناصحة‪ ،‬البعض اآلخر تأثر كثيرا ً بالنتيج ِة وفضل عدم الخروج على‬ ‫ُ‬ ‫الصعبة وأنها‬
‫الرئيس وخرج‬ ‫ِ‬ ‫ت استطاعت عقد مكالمة مع‬ ‫ت آخر‪ ،‬واحدة من القنوا ِ‬‫ت حاليا ً على أن يتحدثوا في وق ٍ‬
‫الشاشا ِ‬
‫ق بلد ِه مادام‬‫نجاح ذلك العرس االنتخابي ووعد الجميع بأنهُ لن يقصر في ح ِ‬
‫ِ‬ ‫الشعب على مشاركت ِه في‬
‫َ‬ ‫يشكر‬
‫ُ‬
‫حيا ً يُرزق وأن وقت الظلم والفساد قد رح َل بال عودة وأن المرحلة القادمة هي مرحلة الشباب بامتياز‪.‬‬

‫الرئيس يتحدث إلى شعبهُ كان‬


‫ُ‬ ‫المقر صاخبا ً ووقت ما كان‬
‫ُ‬ ‫أثناء ما كانت االحتفاالتُ مستمرة وأثناء ما كان‬
‫بانتظار عقد االجتماعِ العاج ِل‪ ،‬أعضاء المجموع ِة تفاجئوا بذلك االتصا ِل فاألغلبية‬
‫ِ‬ ‫مبنى المجموعة صامتا ً‬
‫ب ذلك النداء‬
‫يحدث زميله عن سب ِ‬‫ُ‬ ‫منهم لم تكن مستعدة تماما ً لذلك االجتماع‪ ،‬بدأت التساؤالت وبدأ كل واحد‬
‫يعرف سوى السيد "نزار" نفسهُ‪ ،‬ما زاد من تلك التساؤالت هو العطلة التي أعطانا إياها‬ ‫ُ‬ ‫العاجل ولكن ال أحد‬
‫لقطع تلك العطل ِة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ق يحددهُ هو وعلى ما يبدو فإن الوقت قد حان‬‫ت الح ٍ‬ ‫على أن نعود في وق ٍ‬
‫" نحن اآلن على أعتاب مرحلة مهمة في مستقبل تلك المجموعة‪ ،‬أي خطأ قد يكلفنا الكثير والكثير‪ ،‬لقد فكرتُ‬
‫جيدا ً فيما يخص النظام الجديد وال مانع من التعامل معهم إن رحبوا بذلك " حديث الرجل األول للمجموعة‬
‫جعل األعضاء ينظرون إلى بعضهم البعض وهم يحملون االبتسامة على وجو ِههم المستديرة تلك‪ ،‬يبدو أنهم‬
‫ت من فم ِه‪ ،‬اعتقدتُ أني الوحيد الذي كنتُ أود ُ التعامل مع الطاقم الجديد‬
‫كانوا بانتظار خروج تلك الكلما ِ‬
‫ولكنهم أيضا ً ال مانع لديهم من التعامل معه شرط عدم إغفال دور المجموعة أبداً‪.‬‬

‫مرشحها‬
‫ِ‬ ‫ب الزالت تحتف ُل ِ‬
‫بفوز‬ ‫في الطريق إلى المنز ِل بعد هذا االجتماعِ شاهدتُ مجموعة كبيرة من الشبا ِ‬
‫بمقع ِد الرئاس ِة‪ ،‬كنت أشاركُهم الفرحة ولكنها مختلفة قليالً عنهم‪ ،‬فرحتي كانت مستمدة من الهدوء الذي ستتبعهُ‬
‫نخسر الحاضر‬ ‫ُ‬ ‫النظام الجدي ِد منذ اللحظة األولى فقد‬
‫ِ‬ ‫الوقوف أمام‬
‫ِ‬ ‫المجموعة في الفترةِ القادم ِة‪ ،‬ال حاجة لنا في‬
‫بشأن تلك األسئل ِة التي غالبا ً‬
‫ِ‬ ‫للتفكير‬
‫ِ‬ ‫االستيقاظ في الثاني ِة فجرا ً‬
‫ِ‬ ‫بالنوم دون‬
‫ِ‬ ‫والمستقبل‪ ،‬اآلن استطي ُع االستمتاع‬
‫ق يمينا ً ويسارا ً دون فائدة تذكر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أعجز في اإلجابة عنها وأكتفي بالتحدي ِ‬ ‫ما‬

‫المقر‬
‫ِ‬ ‫مسقط رأس ِه للتوج ِه نحو‬
‫ِ‬ ‫الرئيس الجديد ُ قد تحركَ من‬
‫ُ‬ ‫في اللحظ ِة التي وضعتُ فيها قدما ً داخل البي ِ‬
‫ت كان‬
‫أعضاء حزب ِه‪ ،‬الزالت القنوات تغطي كل ما يحدث حتى بعد انتهاء االنتخاباتِ‪،‬‬‫ِ‬ ‫ت وسط‬ ‫الستكما ِل االحتفاال ِ‬
‫اقترب من الوصو ِل‬
‫َ‬ ‫بدورهم كان يحاولون الوصول إليه دون جدوى ولكن البعض منهم عرف أنهُ‬ ‫ِ‬ ‫المراسلون‬
‫ب وشدوا الرحال إلى هُناك‪ ،‬كان من المتوقع أن يستمر ذلك الصخب وتلك االحتفاالت حتى ساعة‬ ‫إلى الحز ِ‬
‫الهرج كنوعٍ من اإلجراء االحترازي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اليوم التالي ولذلك فقد تمركز رجال األمن في مواقعِ‬ ‫ِ‬ ‫صباح‬
‫ِ‬ ‫مبكرة من‬

‫ب وفشلوا في تسجي ِل ولو لقاءٍ واح ٍد معهُ‪ ،‬يبدو أنه‬ ‫مقر الحز ِ‬ ‫حظ المراسلين فالرئيس لم يستمر طويالً في ِ‬ ‫لسوء ِ‬
‫ِ‬
‫األعضاء توجهَ مسرعا ً‬
‫ِ‬ ‫يوم طوي ٍل قد ال ينتهي في تلك اللحظاتِ‪ ،‬على الفور بمجر ِد االنتهاء من زيارة‬ ‫أمام ٍ‬
‫ت وعن االستعدادات قبلها وعن الخطط‬ ‫كواليس االنتخابا ِ‬
‫ِ‬ ‫ث أكثر عن‬ ‫ت لعق ِد لقاءٍ معهُ للحدي ِ‬
‫إلى أحد القنوا ِ‬
‫لألعضاء أن‬
‫ِ‬ ‫ب آن األوان‬‫القادمة بعد أن أصبح الرئيس الرسمي للبالدِ‪ ،‬بعد ثالث ِة أيام وأكثر من الجه ِد والتع ِ‬
‫ق‬
‫يذهبوا إلى مناز ِلهم كي يتمتعوا بقسطٍ من الراح ِة قبل معاودةِ العم ِل من جديد‪ ،‬ربما قد يحلمون بصنادي ِ‬
‫االقتراعِ بعد كُ ِل هذا المجهود المبذول‪.‬‬

‫االنفجار‪،‬‬
‫ِ‬ ‫لم تكن األحزاب المتنافسة وحدها حزينة بل هناك فتاة صغيرة كانت أشد حزنا ً منهم وأوشكت على‬
‫لهاتف مغلقاً‪" ،‬هند" لربما المتضرر‬
‫ُ‬ ‫ال تعل ُم شيئا ً عن خطيبِها منذ ُ أسبوع كام ٍل وكلما حاولت االتصال به كان ا‬
‫ق‪ ،‬فتلك الهتافات وتلك الحرية سلبت منها خطي ِبها وصار مشغوالً عنها طيلة‬ ‫النظام الساب ِ‬
‫ِ‬ ‫األكبر من رحي ِل‬
‫ب التابع له "يوسف"‬
‫ت وما زاد الطين بلة هي تلك االنتخابات اللعينة‪ ،‬كم تمنت أن يخسر مرشح الحز ِ‬ ‫الوق ِ‬
‫حتى يعود لها مرة أخرى بعد أن خطفتهُ رياح الديموقراطي ِة‪.‬‬

‫جسد "يوسف" كان متعبا ً للغاي ِة ومنذ دخول ِه لشار ِعهم وهو يحل ُم بغرف ِة نوم ِه وهي تلو ُح بيدها منتظرة إياهُ كي‬
‫يعكر صفوهُ في تلك الليل ِة‪ ،‬بعد أن‬
‫ُ‬ ‫ئ قد‬
‫النوم ويتناسى كل هذا الصخب‪ ،‬لكنهُ كان يعل ُم أن ثمة ش ُ‬ ‫ِ‬ ‫يخلدَ إلى‬
‫بالفوز‬
‫ِ‬ ‫األصدقاء‬
‫ِ‬ ‫ب ستكون مباركة من‬‫للجميع أيقن أن االتصاالت لن تتوقف وعلى األغل ِ‬ ‫ِ‬ ‫صار هاتفهُ مفتوحا ً‬
‫ب‪ ،‬ولكن يبدو أنهُ تناسى تلك الفتاة الصغيرة التي لو رأتهُ في الت ِو‬ ‫االنضمام إلى الحز ِ‬
‫ِ‬ ‫ومن يعلم لربما يريدون‬
‫ب‪.‬‬
‫زن والغض ِ‬‫فرط ال ُح ِ‬
‫واللحظ ِة فقد تقتل ُع رأسهُ من مكانِها من ِ‬
‫الضعيف‪ " ،‬مرحبا ً أيها‬
‫ِ‬ ‫النظر‬
‫ِ‬ ‫يظهر على الشاش ِة واضحا ً لألعمى وذو‬ ‫ُ‬ ‫الهاتف يرنُ وها هو اس ُمها‬‫ُ‬ ‫ها هو‬
‫العضو النشيط‪ ،‬أتمنى أن تكون قد قضيت وقتا ً لطيفا ً مع االنتخاباتِ" بنوعٍ من السخري ِة واالستهزاء بدأت‬
‫ث فجسدي أوشك على‬ ‫الفتاة الجميلة حديثها مع خطيبِها المفقودِ‪ " ،‬هند أظنُ أن الوقت قد ال يكونُ مناسبا ً للحدي ِ‬
‫لك كل ما مررتُ به " لم يكن يعلم ذلك المسكين أن تلك الكلمات قد‬ ‫الباكر سأشر ُح ِ‬
‫ِ‬ ‫الصباح‬
‫ِ‬ ‫أن يسبُني‪ ،‬غدا ً في‬
‫تزيد ُ من حدةِ غض ِبها لدرج ِة أنها أغلقت في وجه ِه في الت ِو واللحظ ِة‪.‬‬

‫تمر بها ولكن ال جدوى‪ ،‬في النهاية‬ ‫مسرعا ً حاول معاودة االتصا ِل بها لكي يخرجها من تلك الحال ِة السيئة التي ُ‬
‫الشمس سيكون لهم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تشرق‬ ‫النوم وحينما‬
‫ِ‬ ‫ويجدر به الذهاب إلى‬ ‫ُ‬ ‫أُغلقَ الهاتف وتأكدَ لحظتها أنهُ ال فائدة اليوم‬
‫حديث آخر‪ ،‬أما تلك المسكينة فقد انهمرت في الدموعِ وألقت بهات ِفها بعيدا ً عنها وتذكرت األيام األولى معهُ‬ ‫ٌ‬
‫التي كانت تعاني فيها األمرين وخشيت أن يعودَ إلى حالت ِه السابق ِة‪ ،‬بينما كان البكا ُء مسيطرا ً عليها إذ كان‬
‫المرير‪.‬‬
‫ِ‬ ‫التفكير‬
‫ِ‬ ‫عناء‬
‫ِ‬ ‫النو ُم يخطفُها خطفا ً لينقذها من‬

‫الباكر وبينما "يوسف" يحاو ُل االتصال بتلك الصغيرةِ التي حل عليها النو ُم وهي حزينة جاءهُ‬ ‫ِ‬ ‫الصباح‬
‫ِ‬ ‫في‬
‫الرئيس الجديدِ‪ ،‬لم يلبث أن يرتاح قليالً حتى‬
‫ِ‬ ‫تقديم‬
‫ِ‬ ‫مؤتمر‬
‫ِ‬ ‫الفور في‬
‫ِ‬ ‫يطلب حضورهُ على‬ ‫ُ‬ ‫اتصا ُل من الحز ِ‬
‫ب‬
‫جاءت المعاناة مرة أخرى‪ ،‬في الناحية األخرى كان هاتفُها يرنُ وظهر اس ُم حبيبها على الشاش ِة وأيقنت أنهُ‬
‫يحاو ُل االتصال بها منذ ُ الليلة البارح ِة وما كان منها سوى الرد علي ِه ألنها تعل ُم مسبقا ً أن ذلك الشاب حتما ً لن‬
‫المحزن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يرضى رؤيتها في ذلك الحا ِل‬

‫بجوارها‬
‫ِ‬ ‫اليوم كل ِه‬
‫ِ‬ ‫الالزم عندما اعتقدت أنهُ سيحاو ُل مصالحتها وقضاء‬ ‫ِ‬ ‫لكنها كانت متفائلة بدرجة أكبر من‬
‫أنك مستاءة جدا ً ولكني عندما‬ ‫أعرف ِ‬
‫ُ‬ ‫األيام التي اختفى فيها كلية‪ " ،‬صباح الخير هند‬
‫ِ‬ ‫تعويضا ً لها عن تلك‬
‫ت وتمنت لو أنهُ أغلقَ فمه ُ‬ ‫الفور" ُجنَ جنونها فور سما ِعها تلك الكلما ِ‬
‫ِ‬ ‫لك على‬
‫المؤتمر سأعو ِد ِ‬
‫ِ‬ ‫أنتهي من ذلك‬
‫المؤتمر اللعين دون أن يخبرها وأبت إال أن تترك بصمتها قائلة " حسنا ً بالتوفيق أيها الولد‬ ‫ِ‬ ‫وذهب إلى ذلك‬
‫ب والو ِد هناك " فورا ً أغلقت الهاتف في وجه ِه ثانية وما إن انتهت‬ ‫النشيط عسى أن تسمع بعض كلمات ال ُح ِ‬
‫المكالمة حتى تغيرت مالمحهُ وأمسكَ برأس ِه من شدةِ الحيرةِ‪.‬‬

‫يفكر في طريق ٍة ُمثلى يحاو ُل من خال ِلها كسب ثق ِة زوجت ِه ال ُمستقبلية مرة أخرى‪،‬‬
‫ق إلى هناك جلس ُ‬ ‫في الطري ِ‬
‫للشك أنهُ قد أحبها رغما ً عن‬
‫ِ‬ ‫يفكر بها‪ ،‬تلك اللحظات اثبتت بما ال يدعُ مجاالً‬‫ُ‬ ‫بقدر ما كان‬
‫المؤتمر ِ‬
‫ِ‬ ‫لم يفكر في‬
‫األيام ولكنَ تلك المراهقة خطفت قلبهُ بعد معاناة استمرت طويالً‬‫ِ‬ ‫أنف ِه‪ ،‬لم يتخيل نفسهُ محبا ً عاشقا ً في ٍ‬
‫يوم من‬
‫ق " ها قد وصلنا سيدي " وحينها‬ ‫ث السائ ِ‬
‫توقف السيارةِ التي تقلهُ وعند حدي ِ‬
‫ِ‬ ‫معهُ‪ ،‬لم يشعر بنفس ِه سوى عند‬
‫ب ولو مؤقتا ً على أن يتم فت ُحها مرة أخرى عقب انتهاء فعاليات المؤتمر‪.‬‬ ‫حاول طوى صفحة ال ُح ِ‬
‫أعين "هند" مليئة بالدموعِ وتأبى الحديث مع عائلتها وال حتى صديقاتِها التي حاولن‬ ‫ِ‬ ‫في تلك األثناء كانت‬
‫ت الرقيق ِة التي من الممكن أن‬
‫تنتظر منهُ بعض الكلما ِ‬
‫ُ‬ ‫ق هات ِفها‪ ،‬كانت‬
‫ق والدتها بعد إغال ِ‬
‫الوصول لها عن طري ِ‬
‫األلم تلك وتركها لقمة سائغة‬
‫األلم الذي حل بها طوال الفترةِ الماضي ِة‪ ،‬لكنهُ زاد من جرع ِة ِ‬
‫تزيل بعض ِ‬
‫األفكار السيئ ِة إلى ذهنِها وشعرت بأنها عديمة القيم ِة بالنسب ِة لهُ وأنها‬
‫ِ‬ ‫بعض‬
‫ُ‬ ‫يفترسُها الحزنُ كما شاء‪ ،‬تواردت‬
‫المثابر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مجرد جسد بال روح في حيا ِة ذلك العضو‬

‫البكاء من جديد‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ث تكلمت أخيرا ً وانفجرت في‬ ‫ب والدتِها كي تحثها على الحدي ِ‬
‫ت متكررة من جان ِ‬ ‫بعد محاوال ٍ‬
‫العذر لهُ وهذا ما أثار حفيظة ابنتها وجعلها تصر ُخ في وج ِه‬ ‫ِ‬ ‫لم تكن األ ُم قاسية على "يوسف" وحاولت التماس‬
‫والدتِها‪ ،‬ابتسمت أمام صغيرتِها وتركتها في غُرفتِها على أن تعود لها مرة أخرى بعد أن تكون قد هدئت تماما ً‬
‫وحينها يكون الحديث أسهل من ذلك‪ ،‬األ ُم هي األخرى كانت حزينة ولم تكن تريد ُ رؤية ابنتها في تلك الحال ِة‬
‫وعقدت العزم على محاول ِة ِلم الشم ِل من جديد مهما كلف األمر‪.‬‬

‫بينما كانت "هند" تتعافى من آثار األلم إذ كانت والدتُها تحاو ُل االتصال به لتفهم منهُ أكثر سبب كُ ِل هذا‪ ،‬لم‬
‫الصباح ولهذا عاودت االتصال ب ِه من جديد دون فائدة تذكر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تكن تعل ُم أن المؤتمر سيعقد ُ في ساع ٍة مبكرة من‬
‫الهاتف‬
‫ِ‬ ‫محاوالتها توقفت تماما ً فور سما ِعها صوت خافت يقو ُل لها بأن "يوسف" لن يستطيع الرد على‬
‫ت الرئاسي ِة‪ ،‬ذلك الصوت الخافت كان‬ ‫الرئيس الجدي ِد بمناسب ِة فوز ِه باالنتخابا ِ‬
‫ِ‬ ‫ت مع‬
‫النشغال ِه في تلك اللحظا ِ‬
‫اإلمكان‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بقدر‬
‫للتماسك ِ‬
‫ِ‬ ‫صوتُ ابنتها التي خرجت أخيرا ً من غرفتِها في محاولة منها‬

‫تذرف الدموع‬
‫ُ‬ ‫اعتذرت الفتاة الصغيرة لوالدتِها عما بدر منها في الغرف ِة ومن جديد انكبت على والدتِها وهي‬
‫دون توقف‪ ،‬كانت األ ُم ُمتفهمة لذلك وقالت " ال تعتذري أيها الصغيرة فأنا أعل ُم جيدا ً ما تشعرين ب ِه ولكني‬
‫غير عمد " وما إن أنهت حديثِها حتى كان صوتُ االبن الصغير يمأل جنبا ِ‬
‫ت‬ ‫كنت أقصد ُ أنهُ يفع ُل ذلك كله عن ِ‬
‫التلفاز‬
‫ِ‬ ‫المنز ِل "يوسف" على التلفاز !! سريعا ً تناست "هند" كل ما تشكو منهُ وولت مسرعة نحو شاش ِة‬
‫ب ذلك الشاب‪.‬‬ ‫لمشاهد ِة خطي ِبها في مشه ٍد جع َل األم تبتس ُم تلقائيا ً ِ‬
‫لعلمها بأن ابنتها واقعة في ُح ِ‬
‫تنتظر مسلسلها التركي ال ُمفضل‪ ،‬كتلك الفتاة الصغيرةِ التي‬ ‫ُ‬ ‫جلست أمام الشاش ِة كتلك الفتاة المراهقة التي‬
‫يجلس منتظرا ً فريقهُ كي يلعب‪ ،‬كذلك العجوز الذي‬ ‫ُ‬ ‫تنتظر الفيلم الكارتوني ال ُمحبب إلى قل ِبها‪ ،‬كذلك الفتى الذي‬
‫ُ‬
‫ينتظر النشرة اإلخبارية التي تفيد ُ بأن المعاشات قد ارتفعت أخيراً‪ ،‬كانت تمس ُح بيد ِها آثار الدموعِ وتزي ُل من‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫حدث طوال الفتر ِة الماضي ِة‪ ،‬لكن‬ ‫باألمس وتناست ما‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫حدث‬ ‫زن‪ ،‬تناست مؤقتا ً كُ َل ما‬
‫ت ال ُح ِ‬
‫وج ِهها عالما ِ‬
‫الكرام وستعاتبهُ فور لقائ ِه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫تمر مرور‬‫بداخ ِلها تعل ُم أن كل التفاصيل تلك لن َ‬

‫اإلعالم بكاف ِة أنوا ِعها‪،‬‬


‫ِ‬ ‫الرئيس قد انهى حديثهُ لوسائ ِل‬
‫ُ‬ ‫مشاعرها المضطرب ِة كان‬
‫ِ‬ ‫بينما كانت الفتاة غارقة في‬
‫بقدر ما كان سعيدا ً لتحقيق ِه‬
‫كرئيس فعلي للبالد‪ِ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الخطوة القادمة هي الذهاب إلى مكتب ِه الجدي ِد وممارس ِة عمل ِه‬
‫وتعبث به أشد العبثِ‪ ،‬هل‬‫ُ‬ ‫بقدر ما كان قلقا ً من ال ُمستقب ِل‪ ،‬بدأت األسئلة تجو ُل بخاطر ِه‬
‫هذا االنجاز الكبير ِ‬
‫نظر الشعب ؟ هل سيصبرون عليه ؟ كل‬ ‫ستكون المشروعات كافية ؟ هل سيكون البرنامج الجديد مرضيا ً في ِ‬
‫تلك األسئلة عليه إيجاد إجابات لها قبل أن يخوض غمار التحدي الجديد‪.‬‬
‫لم يستغرق الرئيس وقتا ً طويالً حتى بدأ يشك ُل حكومتهُ الجديدة التي قد كان حدد بعضا ً من أركانِها بالفع ِل قبل‬
‫ق وكان حريصا ً وبشدة‬ ‫النظام الساب ِ‬
‫ِ‬ ‫أخطاء‬
‫ِ‬ ‫تكرار‬
‫ِ‬ ‫عدم‬
‫الحرص على ِ‬
‫ِ‬ ‫فوز ِه في االنتخاباتِ‪ ،‬كان حريصا ً أشد‬
‫الوزراء ال ُجددِ‪ ،‬لم يرد االعتماد كثيرا ً على حزب ِه حتى ال تبدأ األقاويل بأنهُ شكل حكومتهُ من حزب ِه‬
‫ِ‬ ‫انتقاء‬
‫ِ‬ ‫على‬
‫قدر عا ٍل من الكفاءةِ‬
‫بشرط أن تكون على ٍ‬ ‫ِ‬ ‫واكتفى بثالث وزراء فقط على أن تكون البقية من أحزاب أخرى‬
‫العصر الجديدِ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫والجودةِ‪ ،‬وهُنا قد تكون قد شُكلت الحكومة األولى في‬

‫بمجر ِد انتهاء اجراءات التشكي ِل حتى كان االجتماع األول قد ُجهز مع الحكوم ِة الجديد ِة‪ ،‬اجتمع معهم في‬
‫لقصر الرئاسي وشدد على أهمية تحقيق األهداف المنشودةِ في أسرعِ وقت وأنه ال مكان للتراخي هُنا ولن‬ ‫ِ‬ ‫ا‬
‫التعيين حتى يتسنى لهم مزاولة‬
‫ِ‬ ‫يسمح بوجو ِد متكاس ٍل بينهم‪ ،‬فور انتهاء االجتماعِ صدقَ رسميا ً على ِ‬
‫قرار‬
‫ت فبمجر ِد انصرافِهم حتى كان يعقد ُ اتصاالت ِه مع حزب ِه‬
‫أعمال ِهم كوزراء جدد للبالدِ‪ ،‬لم يكن يريد إضاعة الوق ِ‬
‫قادم المواعيدِ‪.‬‬
‫ورتب الجتماع كبير في مكتب ِه لمناقشة الخطة التي سيتبعُها الحزب في ِ‬ ‫َ‬
‫الصادر منذ ُ لحظا ٍ‬
‫ت قليلة‪ ،‬يعل ُم أن بعض‬ ‫ِ‬ ‫بشأن التعيين الوزاري‬‫ِ‬ ‫ث‬‫الرئيس حريصا ً على الحدي ِ‬
‫ُ‬ ‫في البداي ِة كان‬
‫ق منهُ ولذلك فلم يغفل تلك النقطة وأراد التحدث بشأنِها في‬ ‫األعضاء الذين لم يحالفُهم الحظ قد يشعرون بالضي ِ‬
‫ِ‬
‫تكوين‬
‫ِ‬ ‫أقدر كما تعلمون على‬
‫ب التشكي ِل الجدي ِد ولكني ال ُ‬‫بالحزن بسب ِ‬
‫ِ‬ ‫يشعر‬
‫ُ‬ ‫البداي ِة‪ " ،‬أعل ُم أن بعضا ً منكم‬
‫األعضاء مقاطعة حديثهُ قبل أن يكمل " أعل ُم أنكَ ستتحدث عن‬
‫ِ‬ ‫ب " حاول بعض‬ ‫حكوم ٍة بالكام ِل من الحز ِ‬
‫ق ولكن األمور مختلفة تماما ً عن الماضي " وهُنا قد أنهى الجد َل نهائيا ً بشأن تلك النقطة وطلب‬ ‫النظام الساب ِ‬
‫ِ‬
‫عدم مناقشتِها من جديد‪.‬‬

‫حضور "يوسف" وسأل عنهُ ولم تجب سوى "نضال" التي قالت بأن والدتهُ قد‬ ‫ِ‬ ‫عدم‬
‫لم يغفل الرئيس عن ِ‬
‫لالطمئنان عليها‪ ،‬في الحقيق ِة لم تكذب فهذا بالفع ِل ما قد أخبرها إياهُ‪ ،‬أكمل حديثهُ وقال‬
‫ِ‬ ‫التعب وذهب‬
‫ُ‬ ‫أصابها‬
‫اليوم‪ ،‬النقطة األكثر أهمية التي تحدث عنها بعد‬ ‫ِ‬ ‫ق من هذا‬ ‫ت الح ٍ‬‫بأنهُ سيطمئن على والدةِ "يوسف" في وق ٍ‬
‫العزم على‬
‫َ‬ ‫األهداف التي عقدنا‬
‫ِ‬ ‫والتركيز على‬
‫ِ‬ ‫ث كثيرا ً إلى وسائ ِل اإل ِ‬
‫عالم‬ ‫نقطة التشكي ِل الجديد هي عدم الحدي ِ‬
‫ق بأن الثرثرة يمينا ً ويسارا ً لن تكون‬
‫علم مسب ٍ‬
‫التلفاز‪ ،‬كان على ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫ق سويا ً وعدم االلتفات كثيرا ً مع شاشا ِ‬
‫تحقي ِ‬
‫كرئيس للبالدِ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫األيام األولى لهُ‬
‫ِ‬ ‫في صالح ِه أبدا ً خصوصا في‬

‫بجوار الرجل األو ِل للدول ِة حالياً‪،‬‬


‫ِ‬ ‫التلفاز لمشاهدةِ ابنها‬
‫ِ‬ ‫والدة ُ "يوسف" كانت بصح ٍة جيدةٍ وكانت تقب ُع أمام‬
‫ألم خطيبت ِه‪ ،‬في طريق ِه‬‫ب بأكمل ِه حتى يذهب ويخفف من ِ‬ ‫ب على "نضال" وعلى الحز ِ‬ ‫الشاب للكذ ِ‬
‫ُ‬ ‫اضطر‬
‫سيجلب له كل هذا الستقال على‬
‫ُ‬ ‫االهتزاز‪ ،‬لو كان يعل ُم أن تصدر المشه ِد‬
‫ِ‬ ‫يتوقف عن‬
‫ُ‬ ‫نحوها كان هاتفهُ ال‬
‫ديم‪ ،‬لم يكن يعلم أنهُ اآلن يمث ُل الطريق‬ ‫الشعر الق ِ‬
‫ِ‬ ‫بجوار خطيبت ِه يقرأ ُ لها بعضا ً من‬
‫ِ‬ ‫ب وجلس‬ ‫الفور من الحز ِ‬
‫ِ‬
‫أحالمهم وطموحاتِهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ق‬‫التي يود ُ الكثيرون العبور من خالل ِه وتحقي ِ‬
‫ت "هند" والتقط أنفاسهُ أوالً قبل أن يطرقَ الباب‪ ،‬لم يتوقع من في الداخ ِل بتاتا ً‬ ‫وصل "يوسف" أخيرا ً إلى بي ِ‬
‫الباب‬
‫َ‬ ‫الجيران‪ ،‬ذهب االبنُ الصغير كي يفتح‬
‫ِ‬ ‫أن يكون الطارق هو "يوسف" واعتقدوا أنهُ قد يكون واحد ٌ من‬
‫االبن كان كفيالً بتحريك الميا ِه‬
‫ِ‬ ‫ورحب ب ِه‪ ،‬صوتُ‬
‫َ‬ ‫ت عا ٍل "يوسف" واحتضنهُ‬ ‫وإذ ب ِه يبتس ُم وينادي بصو ٍ‬
‫الراكدةِ في المنز ِل وابتسمتُ األ ُم وذهبت مسرعة تستقبلهُ‪ ،‬الفتاة الصغيرة ابتسمت وكانت تود ُ الخرو َج اآلن‬
‫الخروج أو‬
‫ِ‬ ‫تفكر في‬
‫ثم ُ‬‫انتظار دخو ِل والدتِها عليها ومن َ‬
‫ِ‬ ‫ت جعلها حبيسةَ الغُرف ِة في‬
‫للقائ ِه ولكن كبرياء الفتيا ِ‬
‫البقاء‪.‬‬
‫ِ‬

‫تتحدث مع خطي ِبها وتناستها‪ ،‬أخذت تتحركُ في‬ ‫ُ‬ ‫تأخرت والدتُها في الدخو ِل إليها وشعرت بأنها قد جلست‬
‫للخروج علي ِه‪ ،‬جهزت نفسها أخيرا ً وخرجت ووج ُهها ال‬ ‫ِ‬ ‫ت الغرف ِة يمينا ً ويسارا ً ُ‬
‫تفكر في طريق ٍة جيدةٍ‬ ‫جنبا ِ‬
‫يعرف طريقا ً لالبتسام ِة قط‪ " ،‬مرحبا ً أيها العضو الكادح ومباركٌ عليك الفوز " بطريق ٍة يشوبُها السخرية‬ ‫ُ‬
‫تسخر منهُ‪ " ،‬أعل ُم جيدا ً‬
‫ُ‬ ‫لكالمها هذا وكان ظاهرا ً بأنها‬
‫ِ‬ ‫واالستهزاء تحدثت "هند" في البداي ِة‪ ،‬ضحكَ كثيرا ً‬
‫الوقوف "‬
‫ِ‬ ‫عليك واآلن فلتنضمي معنا في تلك الجلس ِة بدالً من‬ ‫ِ‬ ‫أنك تسخرين مني ولكن على أي ِة حال فباركَ هللا‬ ‫ِ‬

‫وافقت على طلب ِه وانضمت إلى تلك الجلس ِة الودي ِة‪ ،‬لكنها لم تتوقف عن السخري ِة منهُ وبادرت بسؤال ِه " هل‬
‫جالس هنا ؟ أخشى عليكَ من كلما ِتهم وعتا ِبهم " ابتسم من جديد وقال " ال‬‫ٌ‬ ‫ب الموقرين بأنكَ‬
‫يعل ُم أعضاء الحز ِ‬
‫ليس لديهم معلومة واضحة أين اختفيت وإن بادروا بالسؤال عني فقد أخبرت "نضال" بأن والدتي متعبة‬
‫وذهبت لالطمئنان عليها " توقع "يوسف" بعد إجابت ِه تلك بأن تخف حدة السخري ِة منهُ قليالً وتتغير اللهجة إلى‬
‫يكذب عليهم من‬
‫ُ‬ ‫لهج ِة تعاطفٍ ولكنهُ كان متفائالً فلم تتوقف عن الني ِل منهُ معلقة " يا للهو ِل العضو المحترم‬
‫عيون فتاةٍ مراهقة " تلك الكلمات هذه المرة أزعجت والدتها التي طلبت منها الحديث بصورة أفضل من‬ ‫ِ‬ ‫أجل‬
‫تلك وإال فعليها الدخول إلى غرفتِها‪.‬‬

‫تمر‬
‫التلفاز إال أنها لن تدع تلك الجلسة ُ‬
‫ِ‬ ‫رغم أنها كانت متلهفة لرؤيت ِه وتحمست عندما شاهدتُه على شاش ِة‬
‫ببعض من كالم ِه المعسو ِل هذا‪" ،‬يوسف" اعتذر عما حدث الليلة‬ ‫ٍ‬ ‫ب عليها‬
‫الكرام‪ ،‬لن يستمر بالكذ ِ‬
‫ِ‬ ‫مرور‬
‫الماضية واعتذر عن كُ ِل ما سبقَ وتحج َج باالنتخابا ِ‬
‫ت وأنهُ في تلك الفترةِ لم يقدر حتى على التواص ِل مع‬
‫عائلت ِه حتى يطمئن عليهم‪ ،‬جلس يعد ُ الفتاة الصغيرة بأنهُ لن ينشغل عنها مجددا ً ومهما تراكمت االجتماعات‬
‫سيحاو ُل الوصول إليها والحديث معها مهما كلف األمر‪.‬‬

‫الحديث كثيراً‪ ،‬لم ينزعج من ذلك طالما تغيرت‬ ‫َ‬ ‫هدأت "هند" قليالً وتغيرت مالم ُحها قليالً ورغم ذلك لم تبادلهُ‬
‫مكان هادئ وجميل‪ ،‬كبرياء‬‫ٍ‬ ‫العشاء سويا ً في‬
‫ِ‬ ‫اللهجة عن البداي ِة‪ ،‬حاول إثبات صحة كالم ِه ودعاها على‬
‫الفور وبدأ يفتع ُل التفكير من دقيقة إلى دقيقتين على أق ِل تقدير‪ ،‬في النهاية وافقت‬ ‫ِ‬ ‫الفتيات أبى الموافقة على‬
‫الجفاء بينهم‪ ،‬رحل "يوسف" إلى بيت ِه‬‫ِ‬ ‫استمرار‬
‫ِ‬ ‫على دعو ِته تلك وهذا ما أثلج صدر والد ِتها التي كانت تخشى‬
‫انتظاره‬
‫ِ‬ ‫صحبت ِه‪ ،‬العائلة كانت في‬‫للخروج ب ُ‬
‫ِ‬ ‫لالطمئنان على عائلتِه ريثما تكونُ "هند" قد استعدت تماما ً‬
‫ِ‬ ‫سريعا ً‬
‫ب منتظرا ً حتى بدأت االحتفاالت‪.‬‬ ‫يقف على البا ِ‬
‫علمهم أن ابنهم ُ‬ ‫الجمر وبمجر ِد ِ‬
‫ِ‬ ‫أحر من‬
‫على ِ‬
‫الهواء مباشرة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫التلفاز يذي ُع نبأ التشكيل الوزاري الجديد على‬
‫ِ‬ ‫ت في منز ِل "يوسف" كان صوتُ‬
‫أثناء االحتفاال ِ‬
‫حتى تلك اللحظ ِة لم يكن يعل ُم هذا الشاب بشأن ذلك التشكيل الوزاري‪ ،‬حاولت "نضال" االتصال ب ِه إلخبار ِه‬
‫األساس‪ ،‬بعد انتهاء ذلك الضجيج بدأ‬
‫ِ‬ ‫فالصخب كان على أشد ِه لدرج ٍة تجعلهُ ينسى هاتفهُ من‬
‫ُ‬ ‫ولكن دون جدوى‬
‫للخروج مع خطيبت ِه وحينها تذكر أنهُ يحم ُل هاتفا ً وقبل أن يتصل عليها وجد "نضال" تحاو ُل‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يجهز نفسهُ‬
‫الوصو َل لهُ ولكنهُ تجاهلها مؤقتا ً حتى ال يجن ُجنون الفتاة الصغيرة‪.‬‬

‫التحرك في ساع ٍة محدد ٍة عاود االتصال بزميلت ِه في‬


‫ِ‬ ‫بعد أن أنهى "يوسف" حديثهُ مع خطيبت ِه واتفقا على‬
‫عدم الر ِد في الت ِو واللحظ ِة النشغال ِه مع عائلت ِه وتفهمت "نضال" موقفهُ تماما ً وأنها‬
‫ب‪ ،‬اعتذر منها على ِ‬ ‫الحز ِ‬
‫الرئيس حولها‪ ،‬لم يستوعب‬
‫ِ‬ ‫ث‬
‫فقط كانت تريد ُ االطمئنان على والدت ِه وتخبرهُ بالحكوم ِة الجديدةِ وبحدي ِ‬
‫بتجهيز نفس ِه واعتذر منها مجددا ً وانهى االتصال على أن يحدثُها‬
‫ِ‬ ‫ت ألنهُ كان مشغوالً‬‫"يوسف" بعض الكلما ِ‬
‫ت فقط‪.‬‬‫بضع ساعا ٍ‬
‫ِ‬ ‫ق لم يعرفهُ بعد وحاول أن يتناسى أمور السياس ِة ولو ل‬ ‫في وق ٍ‬
‫ت الح ٍ‬
‫مقر المجموع ِة‪ ،‬كنتُ أعتقد ُ بأن سبب االجتماعِ متعلقا ً بالحكوم ِة‬ ‫ب إلى ِ‬ ‫ُ‬
‫أجهز نفسي للذها ِ‬ ‫ت كنتُ‬ ‫نفس التوقي ِ‬
‫في ِ‬
‫ق وظهر هذا جليا ً فور‬ ‫يعترض عليها‪ ،‬هذا االعتقاد لم يكن صحيحا ً على اإلطال ِ‬ ‫ُ‬ ‫الجديدةِ وأن السيد "نزار"‬
‫أعضاء مجموع ِتنا‪ ،‬بالنسب ِة لنا فهذا كان أمرا ً متوقعا ً وهذا ما‬
‫ِ‬ ‫حديث ِه بأن الرئيس ال ُمنتخب يريد ُ عقد جلسة مع‬
‫للرئيس وأجلها حين يتم عقد تلك الجلسة‪ ،‬لم تكن لدى المجموعة‬ ‫ِ‬ ‫يتأخر قليالً في المبارك ِة‬
‫ُ‬ ‫جعل السيد "نزار"‬
‫الطراز األو ِل‬
‫ِ‬ ‫ب ولكن األغلبية توقعت بأنه قد يكون لقاء روتيني من‬ ‫اللقاء المرتق ِ‬
‫ِ‬ ‫ب هذا‬‫أدنى فكرة عن سب ِ‬
‫للنهوض بالبال ِد من جديد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الرئيس عن أهمية دور المجموع ِة‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يتحدث فيه‬

‫القمر ليل ِة كمال ِه‪ ،‬اعتذر منها‬


‫َ‬ ‫يظهر بصور ٍة تشبهُ‬
‫ُ‬ ‫الزوجين ال ُمستقبليين وكان كالً منهم‬
‫ِ‬ ‫العشاء بين‬
‫ِ‬ ‫حان وقتُ‬
‫األشياء السيئ ِة‪ ،‬ابتسمت وقالت بأنها قد تناست جزءا ً كبيرا ً منها‬
‫ِ‬ ‫بدر منهُ وطلب منها نسيان كل تلك‬ ‫مجددا ً عما َ‬
‫الرئيس في المؤتمر ولكن الجزء اآلخر بقى في ذهنِها كي تستطي ُع مهاجمتهُ عند لقائ ِه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بجوار‬
‫ِ‬ ‫فور رؤيت ِه‬
‫ب طفلة " عالمات‬ ‫الصغير هذا وقال " أنا واق ٌع في ُح ِ‬
‫ِ‬ ‫ضحكَ كثيرا ً عندما سمع تلك ال ُجمل تخر ُج من ِ‬
‫فمها‬
‫الخج ِل ظهرت عليها بعد تلك الجمل ِة وابتسمت تلقائيا ً وأحست بأن روحها قد عادت إليها من جديد‪.‬‬

‫أيام ذاقت فيها كُل أنواعِ التع ِ‬


‫ب والمشق ِة ولكنها‬ ‫في الناحي ِة األخرى كانت "نضال" في طري ِقها للمنز ِل عقب ٍ‬
‫الرياح‪ ،‬عندما دخلت غُرفتها استلقت على فرا ِشها من شدةِ التع ِ‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫كانت فرحةَ بأن هذا الجهد لم يذهب أدراج‬
‫وحاولت االستمتاع ولو بقلي ٍل من الراح ِة قبل أن تعاود الكرة َ والعمل من جديد‪ ،‬لكنها على ما يبدو تناست أن‬
‫ب لممارس ِة‬ ‫تذهب إلى الحز ِ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫نومها ومن َ‬ ‫سيستمر هذا الحال ؟ إلى متى ستظ ُل ُ‬
‫تفيق من ِ‬ ‫ُ‬ ‫تسأل نفسها إلى متى‬
‫الحزب قد تمكن من تحقيقَ ذات ِه وهدف ِه‬
‫ُ‬ ‫جدو ِل أعما ِلها ؟ هل ستسم ُح لهُ بأن يسرق عمرها أمام أعينِها ؟ ها هو‬
‫وهل هي نظرت إلى هدفِها وذاتِها ؟‬

‫لم يكن من الطبيعي أن تكمل "نضال" حياتها على هذه الوتير ِة ال ُممل ِة‪ ،‬أخيرا ً فقد انتبهت إلى تلك األسئل ِة‬
‫شهر على زواج ِه وها‬ ‫ٌ‬ ‫األعضاء‪ ،‬فها هو "يوسف" متبقى‬ ‫ِ‬ ‫وأيقنت أنها الوحيدة الخاسرة تقريبا ً من وسط بقية‬
‫الزواج بأنه الغاية‬
‫ِ‬ ‫تنظر إلى‬
‫ُ‬ ‫بالطبع هي ال‬
‫ِ‬ ‫هم البقية ما بين متزوجٍ بالفع ِل وما بين من تزو َج وبحوزت ِه ابناء‪،‬‬
‫أكثر وال أقل‪ ،‬الغاية الكبرى بالنسب ِة لها هو‬
‫االهتمام ال َ‬ ‫ِ‬ ‫الكبرى التي تحل ُم بالوصو ِل لها ولكنها تنظرهُ له بعين‬
‫االستمتاع بكل كبيرة وصغيرة في الحياةِ وال تسم ُح ألح ٍد مهما كان من تعكير صفوها‪ ،‬بجان ِ‬
‫ب عم ِلها في‬
‫تمارس الهواية التي لطالما أحبتها وهي الرسم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ب عادت‬ ‫الحز ِ‬
‫ت الصعب ِة مثل "الديموقراطية" و‬ ‫ب قليالً من عالم االجتماعا ِ‬
‫ت وعالم الكلما ِ‬ ‫في تلك الفترةِ قامت بالهرو ِ‬
‫عالمها البسيط الذي يحم ُل‬ ‫ِ‬ ‫"العلمانية" وكل ما لهُ عالقة بالسياس ِة من قريب أو من بعيد وفضلت الذهاب إلى‬
‫ت سلسة وبسيطة خالية من التعقيد مثل "االبتسامة" و "السعادة" كانت تؤمنُ بأن ذلك الهروب سيري ُح‬ ‫كلما ٍ‬
‫ببعض‬
‫ِ‬ ‫ت المتكررةِ‪ ،‬بدأت تتحج ُج‬
‫غرف العمليا ِ‬
‫ِ‬ ‫ت ومن‬‫تتابع الجلسا ِ‬
‫ِ‬ ‫ذهنها الذي أوشك على االنهيا ِر من‬
‫ب ومقارنة بالفترة التي عقبت عودتها للبالدِ‪.‬‬ ‫الظروف وقلت نسبة حضورها مقارنة باأليام األولى للحز ِ‬‫ِ‬
‫ب طوي ٍل عن موطنِه‪ ،‬لم تتخيل أنهُ قد‬ ‫للديار بعد غيا ٍ‬‫ِ‬ ‫بانتظارها هي عودة والد ُها‬
‫ِ‬ ‫المفاجأة الكبيرة التي كانت‬
‫األيام ولو على سبي ِل العطل ِة القصيرة حتى لدرج ِة أنها لم تصدق نفسها عندما فتحت له ُ‬ ‫ٍ‬ ‫يوم من‬
‫يعود في ٍ‬
‫تظهر في‬
‫ُ‬ ‫بالباب ورأتهُ خلفهُ‪ ،‬أول ما فعلتهُ هو إلقاء تلك الفرش ِة من يدها تلقائيا ً واحتضان ِه حضنا ً كتلك التي‬
‫زن‪ ،‬أما‬ ‫بدافع ال ُح ِ‬
‫ِ‬ ‫بدافع الفرح ِة والسعادةِ وليس‬
‫ِ‬ ‫بالبكاء ولكنهُ كان بكا ًء‬
‫ِ‬ ‫هش‬
‫األفالم األجنبي ِة‪ ،‬وجدت نفسها تج ُ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫ببعض الدموعِ قبل عودت ِه متماسكا مرة أخرى‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ً‬
‫والد ُها فكان قويا واكتفى‬

‫َ‬
‫الحديث‬ ‫بجوار لوحاتِك وتتركين أمور البال ِد هكذا دون إدارة وعناية " هكذا بدأ والد ُها‬
‫ِ‬ ‫أنك غارقةَ هُنا‬
‫" أجد ِ‬
‫بجوارها‬
‫ِ‬ ‫األمور أيها العجوز " وانضم‬
‫ِ‬ ‫تضخيم‬
‫ِ‬ ‫المزاح قبل أن تجيب " لطالما أعتدت على‬ ‫ِ‬ ‫معها بنوعٍ من‬
‫الكالم‬
‫ِ‬ ‫ت التي لم تنت ِه بعد‪ ،‬أثناء ما كانت ترس ُم كان يلقى عليها األسئلة ولم يتوقف عن‬ ‫يتاب ُع تلك اللوحا ِ‬
‫األشياء التي‬
‫ِ‬ ‫ونظرت لهُ وهي صامتة قبل أن تحدثهُ قائلة " أريد التركيز قليالً يا رجل وبعدها نتحدث عن كل‬
‫ت كي أطهو لك الطعام فأنا أعل ُم أنكَ‬ ‫ق وأشتري بعضا ً من الخضروا ِ‬ ‫تود ُ الحديث عنها وبعدها سأذهب للسو ِ‬
‫تفتقد ُ لمساتي المميزة فيه "‬

‫وهم بسؤا ِلها قائالً " لماذا ال تذهبين للحزب ؟ هل حدث‬ ‫ب أثناء وجودِه معها َ‬ ‫الحظ والد ُها أنها ال تذهب للحز ِ‬
‫ئ ما ؟ " لم ترد اإلجابة عن تلك األسئل ِة التي توقعت مسبقا ً أن تُطر َح عليها ولكن ال مفر‪ " ،‬أحاو ُل‬ ‫ش ُ‬
‫أجلس معكَ طوال فترة وجودك هُنا " ابتسم والدها‬ ‫َ‬ ‫االسترخاء قليالً أبي وفي الحقيق ِة مجيئُكَ كان في وقت ِه كي‬
‫إنك منشغلة معي‪ ،‬حيلة ذكية أيتُها الصغيرة "‬ ‫وقال " تريدين استغالل وجودي أيتُها الفنانة كي تقولي لهم ِ‬
‫المتكرر‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫المزاح‪ ،‬بالفعل اعتذرت "نضال" عن الغيا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ضحكت كثيرا ً عقب كلماتِه تلك ألنهُ قالها كنوعٍ من‬
‫ب موقفها تماماً‪.‬‬
‫وتفهم قادة ُ الحز ِ‬
‫ث " في الحقيقة أبي فقد سئمتُ ذلك‬ ‫بمحض إرادتِها تجاه والدِها وصمتت قليالً وبعدها انفجرت في الحدي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ذهبت‬
‫الحزب مبتغاهُ‬
‫ُ‬ ‫أكثر من ذلك فقط حققَ‬‫ب قط ولكني أريد ُ االعتناء بنفسي َ‬ ‫الروتين المتكرر‪ ،‬لم أبخل على الحز ِ‬
‫الحق في ذلك " لم يتحدث الوالد في الت ِو واللحظ ِة ونظر لها كثيرا ً لدرج ٍة جعلتها‬
‫ُ‬ ‫وأريد ُ تحقيق هدفي ولي‬
‫خلف العرب ِة‬
‫ِ‬ ‫يوم‬
‫بالطبع يا ابنتي لن تركضي كل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫تخشى ردة فعل ِه ولكنهُ طمأنها بابتسام ِة جميلة ثم تحدث "‬
‫ت الغريب ِة تلك‪ ،‬االنسان‬‫ب‪ ،‬لن تجلسي طيلة حيات ُ ِك تستمعين لتلك المصطلحا ِ‬ ‫التي تحملُ ِك باتجا ِه ِ‬
‫مقر الحز ِ‬
‫أحيانا ً يحتا ُج لبعض الراح ِة وبعدها يعاود العمل من جديد بشكل طبيعي "‬

‫وعالمها البسيط الذي يخلو تماما ً من التعقيدا ِ‬


‫ت‬ ‫ِ‬ ‫بعد سما ِعها تلك الكلمات انطلقت مسرعة نحو لوحاتِها‬
‫ق ووجدتها بعد عناءٍ ومشقة‪،‬‬ ‫منتصف الطري ِ‬
‫ِ‬ ‫للرسم أشبه بعود ِة فتاة صغيرة فقدت أمها في‬
‫ِ‬ ‫والمشاك ِل‪ ،‬عودتها‬
‫والد ُها كان سعيدا ً بدور ِه لسعادةِ ابنت ِه ولكنهُ كان يريد االطمئنان أكثر من هذا ولن يتحقق ذلك سوى عند‬
‫زواجها‪ ،‬لم يرد أن يعكر صفوها الذي تحسنَ بصعوب ٍة بالغة وفضل أن يراقبُها من بعيد وهي تترن ُح يمينا ً‬
‫ويسارا ً بفرشاتِها الصغيرة تلك وتُتمت ُم بأجم ِل األغاني والمنشودات‪.‬‬

‫ب‪" ،‬يوسف" هو اآلخر‬ ‫مقر الحز ِ‬


‫الحضور إلى ِ‬
‫ِ‬ ‫ت وعن‬ ‫لم تكن "نضال" الوحيدة الغائبة عن طاولة االجتماعا ِ‬
‫ب‬
‫الهاتف بسب ِ‬
‫ِ‬ ‫الحضور ولكنهُ اعتذر في‬
‫ِ‬ ‫قلت نسبة حضوره مقارنة بالفترةِ السابق ِة‪ ،‬من غير المعتا ِد غيابهُ عن‬
‫ويجلس في منزل ِه الجدي ِد مع‬
‫ُ‬ ‫ت ويصب ُح زوجا ً بصف ٍة رسمي ٍة‬ ‫أيام معدودا ٍ‬
‫الزواج‪ ،‬لم يتبق سوى ٍ‬
‫ِ‬ ‫ترتيبات‬
‫العمر الذي عاشهُ مع عائلتِه‪ ،‬كان منشغالً بدرجة كبيرة لدرج ٍة‬ ‫ِ‬ ‫بجوار‬
‫ِ‬ ‫تعيش معهُ عمرا ً آخر‬
‫ُ‬ ‫زوجت ِه التي قد‬
‫ور على الساح ِة السياسي ِة‪.‬‬ ‫ت متباعدةٍ وجعلتهُ يتناسى كُ َل ما يد ُ‬‫جعلتهُ يتذوق طعم النوم على فترا ٍ‬

‫لحين عودةِ "يوسف" و "نضال" ‪ ،‬كان يريد ُ أن يكون‬ ‫ِ‬ ‫ب مع مجموعتِنا‬


‫الرئيس تأجيل االجتماعِ ال ُمرتق ِ‬
‫ُ‬ ‫حاول‬
‫ب في مواجه ِة المجموع ِة وثانيا ً‬
‫الظهور األو ِل للحز ِ‬
‫ِ‬ ‫الصفوف أوالً لتكوين صورة جيدة في‬
‫ِ‬ ‫الحزب متكمل‬
‫نظرهم كاملة‪ ،‬في البداي ِة نجح في تأجيل ِه‬‫ت ِ‬ ‫حتى يشهد جميع األعضاء ذلك االجتماع ومحاولة إيصال وجها ِ‬
‫ب السي ِد "نزار" وقرر االجتماع أخيرا ً في ِ‬
‫مقر المجموع ِة بعد عديد‬ ‫خشى من غض ِ‬ ‫َ‬ ‫أكثر من مرة َ ولكنهُ‬
‫ق‪.‬‬
‫ب على اإلطال ِ‬
‫أعضاء الحز ِ‬
‫ِ‬ ‫أهم‬
‫ت بدون اثنين من ِ‬ ‫التأجيال ِ‬

‫ينتظر ذلك االجتماع فيما بينهم حتى‬


‫ُ‬ ‫ت وأنهُ كان‬ ‫بدأ السيد "نزار" كلمتهُ مهنئا ً الرئيس الجديد بفوز ِه باالنتخابا ِ‬
‫الهواتف‪ ،‬أكمل كلمات ِه قائالً " بصفتي الرجل األول‬‫ِ‬ ‫استخدام‬
‫ِ‬ ‫مباشر عوضا ً عن‬
‫ٍ‬ ‫يعطي المباركة بشك ٍل‬
‫نظامكم وأننا ال نملكُ أية أزمة تذكر في التعامل‬‫ِ‬ ‫للمجموعة فأريد ُ إخبارك بأننا على استعدا ٍد ٍ‬
‫تام للتعام ِل مع‬
‫سنقف خلفكم بصفتكم النظام‬
‫ُ‬ ‫األهم من كُ َل هذا هو مصلحة البال ِد وأننا‬ ‫َ‬ ‫معكم أو في التعامل مع غيركم وأن‬
‫الذي استطاع الفوز في االنتخابات الرئاسي ِة "‬

‫شكر السيد "نزار" لقبول ِه دعوة هذا االجتماعِ وعبر عن‬


‫َ‬ ‫ث وفي البداي ِة‬
‫جاء دور الرئيس الجديد في الحدي ِ‬
‫الحضور‬
‫ِ‬ ‫مقر المجموع ِة وشدد َ على أنها لن تكون الزيارة األخيرة لهُ‪ ،‬بعدها اعتذر من‬
‫سعادت ِه لتواجد ِه في ِ‬
‫على غياب "يوسف" و "نضال" ووعد بأن يكونا حاضرين في مناسب ٍة أخرى وتفهم الرجل األول للمجموعة‬
‫ستقف داعما ً لنا في المستقب ِل‬
‫ُ‬ ‫العلم أن المجموعة‬
‫الرئيس خطبتهُ وقال " أعل ُم تمام ِ‬
‫ُ‬ ‫موقفهم ولم ينزعج‪ ،‬أكمل‬
‫وها أنا أشدد ُ على الدور الهام الذي ستتمت ُع به المجموع ِة معنا وأنهُ لن يوجد إي إقصاء لهم سواء في البداية أو‬
‫حتى فيما بعد "‬

‫مؤتمر‬
‫ٍ‬ ‫ب انتهاء كلمات ِه أن يرح َل ولكنهُ عبر عن نيت ِه في عق ِد‬‫لكن المفاجأة الكبرى لم تأت بعد والكل توقع عق ِ‬
‫صحفي كبير يكر ُم من خالل ِه السيد "نزار" لدوره الفعال في خدم ِة البال ِد طوال فترة عمل ِه‪ ،‬ابتسم عقب معرفتهُ‬
‫ُ‬
‫أستحق التكريم " ضحكَ الجمي ُع فور سما ِعهم هذا‬ ‫وعقب قائالً " يا للهول أخيرا ً َ‬
‫شعر أحد ُهم بأني‬ ‫َ‬ ‫بتلك الني ِة‬
‫النظام الجدي ِد والمجموع ِة‪ ،‬تنفستُ الصعداء عقب هذا‬‫ِ‬ ‫الساخر منهُ وأحسوا أنها بداية مثالية بين‬
‫ِ‬ ‫ق‬
‫التعلي ِ‬
‫االجتماعِ وكنتُ في حا ٍل جي ٍد لم أشهدهُ منذ ُ فترة كبيرة‪.‬‬

‫النظام الجدي ِد تجاه المجموع ِة‪ ،‬لم استبعد احتمالية التضحية بنا كي يتم إرضاء‬
‫ِ‬ ‫في البداي ِة كنتُ قلقا ً من رد ِة فع ِل‬
‫ب‪ ،‬لك ن الطريقة التي تحدث بها الرئيس مع السيد "نزار" جعلتني أعيد ُ التفكير مرتين في مكانة هذه‬ ‫الشع ِ‬
‫الرئيس‬
‫ُ‬ ‫ق‪ ،‬كان‬
‫للنظام الساب ِ‬
‫ِ‬ ‫المجموع ِة وأنها تمث ُل رقما ً صعبا ً لن يتم التخلص منهُ بسهولة حتى ولو كان داعما ً‬
‫نفس الوقت لن‬
‫بخالف الفترة األخيرة لهُ ولكن في ِ‬
‫ِ‬ ‫الرئيس‬
‫ِ‬ ‫ب الشعب تجاهنا كوننا كنا خلف‬ ‫علم بغض ِ‬ ‫على ٍ‬
‫يتجرأ على اتخاذ أية خطوةِ ألننا أظهرنا حسن الني ِة‪.‬‬

‫المؤتمر الضخم الذي ينوي الرئيس عقدهُ كي يكرم الرجل األول‬ ‫ِ‬ ‫لم يعلم بعد "يوسف" و "نضال" بشأن ذلك‬
‫الرئيس وأن تلك الخطوة غير موفقة وقد ال‬
‫ِ‬ ‫بعض األعضاء عبروا عن غضبهم مباشرةٍ أمام‬ ‫ُ‬ ‫لمجموعتِنا‪،‬‬
‫وعقب قائالً " هم ال يرون أية مشكلة في التعام ِل مع‬
‫َ‬ ‫الرئيس‬
‫ُ‬ ‫ب "يوسف" و "نضال" ابتسم‬ ‫تحوز على إعجا ِ‬
‫ُ‬
‫فأستحدث معهم بشأن ِه " توقع األعضا ُء فشل رئيسِهم في إقناع ِ العضوين بهذ ِه‬ ‫المجموع ِة وبالنسب ِة للمؤتمر‬
‫التراجع عن تنفيذِها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الخطوةِ الغير محسوب ِة وتمنوا ولو أنهم أقنعوه في‬

‫الرئيس بالتخلي عن تلك الفكرةِ‬‫ِ‬ ‫ث‬


‫انهالت االتصاالت على العضوين في محاول ٍة من زمالئِهم إلقناعهم على ح ِ‬
‫ولكن دون جدوى تذكر فال أحد منهم قد أمسكَ بهات ِفه وردَ على تلك االتصاالتِ‪ ،‬ما كان من األعضاء سوى‬
‫للحديث معهُ بهذا الصدد‪ ،‬بينما كان "يوسف" يحاو ُل أخذ قسطٍ من الراح ِة‬‫ُ‬ ‫بإرسال واح ٍد إلى كل عضو منهم‬
‫أصدقاء‬
‫ِ‬ ‫الغرباء‪ ،‬كانت األ ُم على معرف ٍة بالغالبي ِة العظمى من‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ُطرق بواسط ِة أحد‬ ‫في غرفت ِه إذ كان الباب ي‬
‫يقف منتظرا ً‬‫ب ُ‬ ‫ولدِها ولكن هذا الشكل جديدا ً عليها‪ ،‬خر َج بنفس ِه كي يرى من الطارق وها هو زميلهُ في الحز ِ‬
‫ب الزيارةِ المفاجأةِ‪.‬‬
‫خروجه‪ ،‬رحب ب ِه وأجلسهُ في الداخ ِل وهُنا سيبدأ الحديث لمعرف ِة سب ِ‬
‫قلق "يوسف" أكثر‬ ‫أجلس طوي ً‬
‫ال معكَ أنا هُنا ألقول لكَ كلمتين وبعدها أخر ُج ثانية " ازداد ُ‬ ‫َ‬ ‫" لستُ هنا كي‬
‫وشعر بأن ثمة كارثة تلو ُح في األفق وقال " ما بك صديقي ؟ لقد قذفت الرعب بداخلي " بدأ زميلهُ يلتقطُ‬
‫أنفاسهُ ليعاود الحديث مجددا ً " سيادة الرئيس ينوي تكريم المدعو "نزار" في مؤتمر ضخم يحدد ُ فيما بعد وكنا‬
‫ثم قال " كنتُ‬‫بالتراجع عن تلك الفكرةِ " هدأ عقب سما ِعه حديث العضو وتنفس الصعداء َ‬ ‫ِ‬ ‫نريد ُ منكَ إقناعهُ‬
‫أعتقد ُ أن األمر أكبر من هذا بكثير ال تقلق صديقي سوف أتولى األمر عندما أعود ُ إلى مزاول ِة العم ِل "‬

‫أغلق الباب بابتسامة تجاه زميله وبعدها تواردت األفكار سريعا ً إلى عقله عقب تلك الخطوة المفاجئة من‬
‫الرئيس التي قلبت كل الموازين‪ ،‬لم يفهم في الحقيقة السر ورائها ولكنه لم يرد التجني عليه ولربما يكرمه حتى‬
‫ثم يُبعده عن المسرح السياسي‪ ،‬لكن يا ترى هل سيفهم المارة الهاربين من قسوة البرد تلك‬ ‫يكسب ثقته ومن َ‬
‫الحسبة المعقدة ؟ خطوة كهذه في أولى أيام النظام الجديد قد تزرع الشكوك في أولئك الحالمين بمستقبل مشرق‬
‫لتلك البلد التي أنهكتها كوابيس منتصف الليل‪.‬‬

‫بعيدا ً عن عالم الطالسم واالبتسامات الصفراء والمصطلحات الصعبة كانت "نضال" تعيش داخل عالم‬
‫الفرشاة واأللوان الداكنة واأللوان التي ال يعرف اسمها سوى بعض الفتيات الخبيرات بشئونها‪ ،‬جاء دور‬
‫عضو آخر ليحدث زميلته في الحزب لدقائق‪ ،‬استغرب و الدها حضور ذلك الشاب إلى منزله وعند سؤاله قال‬
‫بأنه عضو في حزب "نضال" ابتسم األب فقد جاءت له فرصة على طبق من ذهب لمعرفة ما يدور هناك‬
‫وهل له عالقة بانقطاع ابنته عن الحضور وعن العزوف طوال تلك الفترة‪.‬‬
‫لم يكثر في الحديث بطلب من زميلته وقال لها مخلص الموضوع في عجالة وطلب منها أوالً الحضور في تلك‬
‫الفترة وثانيا ً محادثة الرئيس وإقناعه بالتراجع عن فكرة المؤتمر تلك واالكتفاء بتكريم السيد "نزار" بعيدا ً عن‬
‫أعين الصحفيين والكاميرات على أقل تقدير‪ ،‬أنهى رسالته هو ا آلخر ورحل وأغلق الباب خلفه لكنه فتح أبواب‬
‫عالم الطالسم من جديد‪ ،‬لو كانت تعلم نيته في القدوم إلى هنا لطلبت من والدها إخباره بأنها غير موجودة‪،‬‬
‫ألقت الفرشاة بعيدا ً وكادت أن تلقي باللوحة لوال تدخل األب في اللحظات األخيرة‪.‬‬

‫تركها وحيدة في غرفتها بعد تأكده بأنها لن تعبث مجددا ً باللوحات‪ ،‬لقد كلفها الهروب من براثن هذا العالم‬
‫كثيرا ً وأتى ذلك األحمق في بضع دقائق وسحب البساط من تحت عالم األلوان المبهجة‪ ،‬وما زاد الطين بلة‬
‫بأنه أقد أقحمها وكارثة في الطريق‪ ،‬كان من األحرى به إقحامها وسط أخبار جيدة ال وسط خبر قد يزلزل‬
‫أنحاء البالد‪ ،‬لم ترد التفكير أكثر من هذا وتوقفت حتى عن استكمال الرسم وألقت بنفسها على فراشها عساها‬
‫نسيان تلك الزيارة ونسيان تلك الكلمات المعقدة‪.‬‬

‫في اليوم التالي لتلك الزيارة ذهب "يوسف" إلى مكتب الرئيس للحديث معه بشأن ذلك الملف ومحاولة إقناعه‬
‫باالكتفاء بتكريم السيد "نزار" بعيدا ً عن الكاميرات‪ ،‬يعلم جيدا ً أنهُ حتى لو كُرم خلفها فسيكون الشارع في حالة‬
‫من الغليان ولكن بالطبع أفضل من الخروج أمام الصحفيين وجموع الشعب واالبتسامة تعلو الوجوه لذلك فلم‬
‫يكن يحبذ فكرة المؤتمر‪ ،‬لم يأخذ وقتا ً طويالً حتى دخل على الرجل األول للبالد عساهُ يطفئ تلك النيران قبل‬
‫اشتعالها‪ ،‬عساهُ يخمد ألسنة اللهب قبل تصاعدها‪.‬‬

‫بينما كان "يوسف" ينتظر اإلذن بالدخول كانت "نضال" لتوها قد استيقظت من نومها عقب تلك الليلة‬
‫العصيبة‪ ،‬آخر ما كانت تتذكرهُ هو زيارة ذلك األحمق ليملي عليها بعضا ً من التفاصيل المملة بشأن رئيسه‬
‫ينتظر اللحظة المناسبة للدخول عليها والحديث معها بشأن ما حدث‬
‫ُ‬ ‫وحزبه‪ ،‬كان والدها يراقبُها من بعيد وكان‬
‫باألمس وهل ستذهب لمحاولة إقناع الرئيس بتغيير ذلك القرار ؟ أم ستكتفي بالمتابعة وتترك تلك القضية بعيدة‬
‫وتجلس بجوار لوحاتها وبجوار تلك األلوان المبهجة ؟‬
‫ُ‬ ‫عن حساباتها‬

‫"مرحبا ً سيادة الرئيس كنت قد علمت بتفاصيل االجتماع وبشأن ما تناولته وأريد طرح وجهة نظري كاملة لو‬
‫لم تكن تمانع بالطبع" تلك الطريقة الهادئة والمهذبة والمليئة باالبتسامات كانت الحل األول لفتح طرق للحوار‬
‫مع الرئيس فالطبع لن يطرق الباب وينفعل عليه ويبدأ في الصياح‪ ،‬بدوره بادله االبتسامة وقال "بالطبع لن‬
‫أحب االستماع إلى كل اآلراء خصوصا ً لو كان من شاب ذو بصيرة جيدة‬ ‫ُ‬ ‫أمانع يوسف فأنت تعلم جيدا ً أني‬
‫مثلك" ذلك الرد قذف الطمأنينة في قلب "يوسف" وجعل الكلمات تتدفق بسالسة بعد أن حاصرهُ التلعثم‪.‬‬

‫"لن أطيل عليك كثيرا ً سيدي فأنا هُنا من أجل ملف السيد "نزار" وقد علمتُ بشأن ذلك المؤتمر وكنت أفضل‬
‫فكرة التكريم بعيدا ً عن عيون الصحافة وأسئلة الصحفيين التي لن تتوقف وحتى ال تهتز ثقة الشعب من‬
‫الرئيس من جديد قبل أن يتحدث قائالً "كل الردود مجهزة تماما ً وأعلم كيف‬
‫ُ‬ ‫البداية" أنهى حديثهُ وابتسم‬
‫تثير غضبهم كما‬
‫سأتعامل مع هؤالء محبي اإلثارة والحديث أما بالنسبة للشعب فال أعتقد ُ أن خطوة كهذه قد ُ‬
‫تعتقد‪ ،‬أريد ُ كسب هذا الرجل من البداية وال أريد الدخول في صراعات لن تسمن ولن تغنى من جوع"‬

‫ابتسم "يوسف" ثانية لكن هذه المرة كانت روتينية ولم تكن من قلبه فقد كانت ابتسامة بنكهة االجتماعات التي‬
‫ال تثمر عن نتيجة فعالة‪ ،‬يبدو أن الرجل يعرف ماذا يريد وال نية في التراجع عن هذا المؤتمر‪ ،‬خارج المكتب‬
‫البعض يتصبب عرقا ً وينتظر حركة الباب ليحمل معهُ األخبار السارة ولكن ذلك الباب وحركته لم يحمل‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫سوى ا ألخبار السيئة التي قد تشعل البالد من جديد بعد معاناة كبيرة في إطفائها طيلة الفترة الماضية‪ ،‬على ما‬
‫يبدو فأن العرق لن يتوقف وأن القلق سوف تزداد حدته طوال الفترة القادمة‪.‬‬

‫في تلك األثناء كان بابا ً آخر قد فُتح ولكنهُ بابا ً يحم ُل ملفا ً أكثر هدو ًء وصخبا ً عن سابق ِه‪" ،‬نضال" قد سمحت‬
‫ألبيها بالدخول إلى غرف تها والحديث معها بشأن غيابها المتكرر عن اجتماعات الحزب وبشأن تلك القضية‪،‬‬
‫هم بالحديث قائالً "أجدك جالسة وسط لوحاتك طيلة الوقت ولم تهتم ألمر ذلك الرجل باألمس ولم تفكر حتى‬ ‫َ‬
‫في معاودة االتصال به" لم تجب عليه في التو واللحظة وأخذت كامل وقتها قبل إجابته "سأعود إلى مقر‬
‫االجتماعات في اللحظة المناسبة أما عن تلك القضية فال تقلق فسيتكلف بها واحد من األعضاء ويُغلق ملفها‬
‫سريعاً"‬

‫ذلك العضو الذي كانت تقصده هو "يوسف" فهي تعل ُم جليا ً بأنهُ يملك تأثير كبير على غالبية أعضاء الحزب‬
‫وكلماته تلك قادرة على قلب المعطيات تماما ً لصالحه ولكنها لم تكن تعلم ما حدث داخل مكتب الرئيس وأن‬
‫ذلك العبقري فشل هذه المرة في إقناع حاكم البالد بفكرته‪ ،‬ها هو صوت الباب يعلو من جديد وهذه المرة لم‬
‫يكن أحد الحمقى الذين يريدون قطعها عن عالمها ولكنه كان "يوسف" الذي يود التحدث معها بشأن تلك‬
‫تطرق األبواب‪.‬‬‫ُ‬ ‫المشكلة التي فشل في حلها وبشأن تلك الكارثة التي‬

‫يعرف والدها من الطارق قبل أن يجيبه بأنه زميل "نضال" في الحزب وفتح لهُ الباب وتوقع بأنه نفس‬
‫ُ‬ ‫لم يكن‬
‫الشخص الذي جاء باألمس ولكنه وجد شخصا ً آخر‪" ،‬ضيف جديد من الحزب نضال" األربع كلمات تلك‬
‫ُ‬
‫وتهز اللوحة في حالة من الغضب الشديد قبل أن ترد "ومن‬ ‫كانوا كافيين لجعلها تُلقي بالفرشاة على األرض‬
‫يكون ذلك األحمق هذه المرة" سمع "يوسف" سؤالها هذا ودخل في نوبة من الضحك وكان والدها محرجا ً‬
‫للغاية منهُ ولكنهُ اندهش فور رؤيته يضحكُ بتلك الطريقة‪.‬‬

‫خرجت "نضال" سريعا ً من غرفتها وكانت عازمة على خلق مشكلة كبيرة مع ذلك األحمق الذي تجرأ على‬
‫طرق بابها من أجل الحديث عن بعض القضايا السخيفة التي لم تعد تهتم لها مطلقاً‪ ،‬لكنها هدئت مرة واحدة‬
‫وكأن تيارا ً كهربيا ً قد أصاب جسدها وجعلها غير قادرة على الحراك‪ ،‬والدها أغلق عينهُ لتوقعه ردة فعل‬
‫متهورة ولكنهُ وجدها صامتة قبل أن يفتح عينه من جديد ليجدها تقول وهي مبتسمة "يوسف تفضل بالدخول"‬
‫اندهش والدها قليالً قبل أن يقول "ها قد علمت سبب دخولك في نوبة الضحك تلك"‬

‫لم تنجح في مقابلته بذلك الفتور الذي اعتادت عليه طوال الفترة الماضية‪ ،‬لطالما كان يحم ُل مكانا ً خاصا ً في‬
‫قلبها لم ولن يتغير مع الوقت‪ ،‬نظرة اإلعجاب لم تختف على اإلطالق رغم كل ما حدث سابقا ً ورغم ما‬
‫سيحدث في المستقبل عندما يتزوج رسمياً‪ ،‬مرحبا ً بكم في العالم الثاني لتلك الفتاة العنيدة‪ ،‬عالم أكثر جماالً من‬
‫ُ‬
‫عالم األلوان واللوحات‪ ،‬عالم أقل تعقيدا ً من عالم المصطلحات والملفات ولكنهُ كان أكثرهم ألما ً ومعاناة ولكنهُ‬
‫من نوعية األلم المحبب لديها ومن نوعية المعاناة المفضلة لها‪.‬‬

‫بادر "يوسف" بالحديث أوالً وسألها عن أحوالها وعن سبب انقطاعها طيلة الفترة الماضية عن األجواء‬
‫السياسية وعن صخب االجتماعات‪ ،‬لم يرد الدخول في صلب الموضوع مباشرة فهو يعلم بأنها لن تحب تلك‬
‫الطريقة وقد يصيبها الغضب من جديد‪ ،‬وجدت قلبها يُفتح من تلقاء نفس ِه ليبوح عن كل تلك األشياء التي لم تبح‬
‫بها من قبل‪ ،‬وجدت لسانها يتحدث عن كل تلك المعاناة التي أحست بها طوال األيام الماضية‪ ،‬تحدثت وكأنها‬
‫نهرا ً قد جرت مائه عقب تحرك تلك الصخرة التي قيدت حركة المياه‪.‬‬

‫أخبرته بشأن ذلك العضو الذي أتى باألمس ليتحدث معها بشأن الرئيس وسألت "يوسف" عنه فهي لم تكن‬
‫تعرفه من قبل وأحست بأنه وجه جديد عليها‪ ،‬دخل في نوبة من الضحك من جديد وقال "هناك أعضاء جدد قد‬
‫توافدوا على الحزب عقب تلك االنتخابات األخيرة" هي األخرى قد ابتسمت وقالت "يبدو بأن قد أطلتُ الغياب‬
‫عن الحزب ولكن حدثني ماذا فعلت معه ؟ أخبرني بأنك قد نجحت في مهمتك" انقطعت تلك النوبة فجأة‬
‫وغابت االبتسامة قبل أن يخبرها في جملة مكونة من كلمتين "لقد فشلت"‬

‫مرة أخرى أصيبت باإلحباط قبل أن يعاود "يوسف" حديثهُ قائالً "حاولت إقناعه بفكرة غضب الشعب‬
‫واالكتفاء بالتكريم بعيدا ً عن الصحافة واإلعالم ولكنهُ قال بأن الردود جاهزة وأن الشعب لن يغضب كما‬
‫أتصور" كانت تنتظر األخبار السارة منهُ ولكنهُ قد زاد من مقدار األلم والحزن‪ ،‬حتى وإن كانت غير مكترثة‬
‫بشأن األحداث السياسية ولكن خبرا ً كهذا كفي ٌل بقذف القلق والحزن إلى قلبك في آن واحد‪ ،‬كسرت صمتها‬
‫قائلة "إذا وما العمل اآلن ؟ هل سنكتفي بالمشاهدة ؟ هل سنض ُع أنفسنا أمام المدفع ؟‬

‫كانت تعل ُم بأن خطوة كهذه ستضعهم في موقف ال يحسدون عليه أمام الشعب‪ ،‬ال توجد مبررات مناسبة‬
‫للخروج من هذا المأزق وهذه الخطوة األولى على طريق فقدان الثقة ما بين الحزب وما بين الماليين الذين‬
‫ينتظرون الخير بواسطة هؤالء األعضاء وذلك الرئيس‪ ،‬لم ينجح "يوسف" في إيجاد إجابات مقنعة ألسئلتها‬
‫يقترب شيئا ً فشيئا ً ويجب علينا‬
‫ُ‬ ‫واكتفى بالحديث قائالً "يبدو بأن كل الطرق قد أغلقت أمامنا وها هو المؤتمر‬
‫التواجد بجانبه خالل ذلك التكريم"‬
‫أدارت بوجهها تجاه "يوسف" ونظرت له بنوع من السخرية قبل أن تجيبه " نتواجد مع من ؟ نتواجد بجانبه‬
‫في ذلك المؤتمر السخيف لنسمع تلك كلمات المديح في ذلك الرجل الذي كان يعمل مع النظام السابق ؟ نجلس‬
‫بجانبه لكي نستمع إلى كلماته ونبتسم وتدوى القاعة بالتصفيق جراء تلك الكلمات الرنانة القوية ؟ أنا هُنا جالسة‬
‫بعيدة عن الحزب وحينما أعود من جديد أعود من الباب الضيق ؟ آسفة فلن أكون متواجدة في هذا الحدث‬
‫مهما كان مقدار الضغط ومهما كلف األمر"‬

‫أثناء ما كانت تلقى خطابها هذا كان ممسكا ً برأس ِه ال يعرف ماذا يقول لها فهو ال يملك عصا سحرية تمكنهُ من‬
‫منع هذا المؤتمر‪ ،‬كانوا متفقين في فكرة عدم التكريم على الهواء ولكنهم مختلفين في فكرة الحضور إذا ما‬
‫كان المؤتمر أمرا ً واقعيا ً ولن يتغير‪" ،‬يوسف" يرى بأنه حتى لو اختلف مع الرئيس فيجب عليه التواجد بجانبه‬
‫وبجانب بقية األعضاء أما "نضال" فهي من األساس لم تكن تريد العودة في تلك الفترة وذلك الخبر قد يجعلها‬
‫تطيل الغياب أكثر عن مقر الحزب وعن طاولة االجتماعات‪.‬‬

‫انتهى لقاء الشابين دون اتفاق يُذكر ولكن مالمح "يوسف" كانت تقول بأنهُ عاز ٌم على حضور ذلك المؤتمر‬
‫حتى لو كلفه ذلك الكثير‪ ،‬من جانبها "نضال" لم تغير موقفها ولكنها شعرت باإلحباط كثيرا ً لما رأته في أعين‬
‫زميلها المقرب في الحزب‪ ،‬يبدو أن ذلك العالم الجميل الخاص بيوسف يزادا إيالما ً فلم تتوقع منهُ تلك ال ُخطوة‬
‫أبدا ً ويبدو أن تلك الصورة الجميلة المعُلقة داخل ذهنِها لهُ طفت عليها البهاتة عن ذي قبل‪ ،‬لم يتبق سوى‬
‫انقالب اللوحات واأللوان عليها وتهبط من سماء ألوان الطيف إلى أرض كابوس الواقع‪.‬‬
‫ُ‬
‫نتحدث بلغة االجتماعات المتكررة‬ ‫بعيدا ً عن لغة المعاني السامية والمشاعر المتقلبة كنا في مقر المجموعة‬
‫يجلس كثيرا ً في الغرفة‬
‫ُ‬ ‫وبلغة الخطوات القادمة لنا في المستقبل القريب‪ ،‬في تلك الفترة لم يكن السيد "نزار"‬
‫وكان يختار عضوا ً كل يوم يقود االجتماع عوضا ً عنهُ‪ ،‬الكلمة التي من المفترض إلقائها في مؤتمر تكريمه‬
‫أخذت من وقته وكان يعل ُم بأنها مهمة للغاية في سبيل تقديم نفسه للشعب من جديد على أنه ابنهم المخلص الذي‬
‫يريد مساعدتهم في عيش حياة كريمة تليق بهؤالء المواطنين الشرفاء‪.‬‬

‫تقتصر على الحديث عن ذلك المؤتمر ال ُمرتقب‬


‫ُ‬ ‫تناقش عديد القضايا في تلك اآلونة وكانت‬‫ُ‬ ‫لم تكن االجتماعات‬
‫وتوقع ك ل عضو منا كيف ستكون كلمة الرجل األول للمجموعة ؟ وما هو رد فعل الشعب المتوقع عقب تلك‬
‫الخطوة التي تبدو مجنونة بعض الشئ‪ ،‬وما هو رد فعل الحزب الحاكم عقب سماعهم ذلك الخبر من رئيسهم ؟‬
‫التوقعات كانت متفاوتة من عضو آلخر فيما يتعلق بالشعب فلم يتفق أحد تقريبا ً على رأي واحد وتوقع بعضهم‬
‫ب فلم تختلف التوقعات كثيرا ً وراحت إلى غضبهم‬‫هدوء الشعب وتوقع آخرون غضبا ً جديدا ً أما بالنسبة للحز ِ‬
‫الشديد ولكن ما باليد حيلة‪.‬‬

‫تلك الفترة كانت فريدة من نوعها فلم يسبق وأن كلف السيد "نزار" رجالً غيرهُ بإدارة شئون المجموعة وعلى‬
‫عكس الهدوء ال ذي كان يعم أرجاء المجموعة ومقرها فخارج المقر لم يكن بذلك القدر من الهدوء‪ ،‬األحزاب‬
‫كانت تستشيط غضبا ً جراء تلك الخطوة المتهورة الغير محسوبة على اإلطالق‪ ،‬حاولوا مرارا ً وتكرارا ً‬
‫الوصول إلى كبار األعضاء في الحزب الحاكم إلقناعهم بالتراجع عن فكرة المؤتمر ولكن الكبار ردوا عليهم‬
‫بأنهم حاولوا بالفعل ولكن دون جدوى وهكذا عاد الغضب من جديد‪.‬‬

‫بالتأكيد لم تقف األحزاب مكتوفة األيدي بل وخرجت على شاشات التلفاز تدينُ بشدة تلك الفكرة وعلقت بأنه‬
‫من غير المعقول تكريم رجل كان يساند النظام السابق في الماضي وحتى إن اختلف معه في آخر أيامه فهذا‬
‫ليس مبررا ً قويا‪ ،‬القنوات التليفزيونية آنذاك كانت منبرا ً يتبادلهُ كبار رجال األحزاب المختلفة وتهافتت‬
‫شركات اإلعالنات على القنوات مستغلين حالة الجدل تلك فهي من اللحظات المناسبة التي تستطي ُع فيها تلك‬
‫الشركات الترويج لمنتجاتها حتى وإن كانت متواضعة‪.‬‬

‫تنشر فيها الغضب‬


‫ُ‬ ‫الصحف الورقية بدورها تقاسمت الكعكة مع القنوات التليفزيونية وأفردت صفحات كاملة‬
‫الكبير على الرئيس وعلى حزبه جراء ذلك المؤتمر القادم‪ ،‬لم يستطع الحزب الرد على ذلك الهجوم القوي‬
‫يقف أمامها‪ ،‬كانوا في موقف ال يُحسدون عليه وحاولوا‬
‫وبدا كطفل صغير أمام أمواج البحر التي تكتس ُح من ُ‬
‫الخروج على الشاشات أمام الشعب لتوضيح بقية الصورة الغائبة عنهم ولكن حتى ذلك الخروج لم يشفع لهم‬
‫أمام الشارع الذي وثق فيهم وجاء بهم كنظام جديد للبالد‪.‬‬

‫غرفة العمليات عادت من جديد وحاول "يوسف" االتصال بزميلته المقربة داخل الحزب ولكن دون فائدة‪،‬‬
‫كان يريد كل عضو بجانبه في تلك اللحظات الصعبة وخصوصا ً تلك الشابة العنيدة‪ ،‬لكن "نضال" أغلقت كل‬
‫سبل الوصول لها واكتفت بغلق باب غرفتها وظلت غارقة في أحزانها وكُلما ضاق بها الحال وضعت رأسها‬
‫منتظرة ذلك اللص المدعى النوم ليخطفها من وحش اإلحباط الذي يكاد يفتكُ بها في ليلة من إحدى الليالي‪،‬‬
‫وجد "يوسف" نفسهُ وحيدا ً أمام ذلك الطوفان الذي أوشك على ابتالعه ال محالة‪.‬‬

‫المحاولة األخيرة تمثلت في الذهاب مجددا ً إلى منزل "نضال" لعل وعسى ينج ُح هذه المرة في إقناعها‬
‫سأخبر نضال بأنك هنا" هكذا‬
‫ُ‬ ‫بالحضور إلى جانبه والوقوف معهُ في تلك األزمة‪" ،‬تفضل بالدخول يوسف‪،‬‬
‫رحب والدها به ودخل مسرعا ً إلى غرفتها ليخبرها بحضوره‪ ،‬خرجت من غرفتها وهي تبتس ُم مثل تلك‬
‫الشاب من تلك االبتسامة الغريبة وبدا لهُ بأن تلك المحاولة قد‬
‫ُ‬ ‫اللواتي يتقمصن دور الساحرة الشريرة‪ ،‬تعجب‬
‫ت القوية والجمل المتسقة‪.‬‬
‫تفشل ثانية ولكن ال مانع من بعض الكلما ِ‬

‫"ماذا تريد يا يوسف ؟ تأكد بأنهُ مهما بلغت قوة كلماتك وجمال أسلوبك فلن تستطيع تحريكي من هذا المكان‬
‫تهز شعرة واحدة من رأسي الكبير هذا" بعد تلك البداية منها ازدادت المهمة تعقيدا ً وبات يردد ُ كالما ً مثل‬
‫ولن ُ‬
‫ينطق بها الرجال الذين تشت ُم‬‫ُ‬ ‫" المصلحة العامة للبالد" و "سفينة الوطن" ومثلها من تلك المصطلحات التي‬
‫رائحة عفنهم من بعيد‪ ،‬ابتسمت مرة أخرى ولكن تلك االبتسامة لم يعقبها كالم وال رد وقامت ودخلت إلى‬
‫غرفتها من جديد وهكذا أُسدل الستار على ذلك الملف الشائك‪.‬‬
‫يقترب شيئا ً فشيئا ً كانت األصواتُ هُناك تتعالى بالتعليمات األخيرة‬
‫ُ‬ ‫يفكر في ذلك الطوفان الذي‬‫بينما كان ُ‬
‫لترتيب أماكن الحضور داخل القاعة المخصصة للمؤتمر‪ ،‬كلما تبق هو أقل من عشر ساعات وكانت القنوات‬
‫الرئيس يكم ُل اتصاالت ِه‬
‫ُ‬ ‫حاضرة لتغطية آخر االستعدادات وآخر اللمسات‪ ،‬وعلى مقربة من تلك القاعة كان‬
‫بأعضاء حزب ِه للتأكيد عليهم على القدوم‪ ،‬على ما يبدو أن ذلك الرجل ال ُمبتسم دائما ً لم يكن يهتم بتلك الحناجر‬
‫التي ظلت تهاجمهُ طوال الفترة الماضية وفضل التعليق في اللحظة المناسبة‪.‬‬

‫حلت لحظة الحقيقة واجتمعت الصحافة واإلعالم وكبار رجال الدولة ولفيف من أعضاء الحزب الحاكم‬
‫لحضور ذلك الحدث الكبير‪ ،‬قائمة الغياب شهدت عديد الشخصيات على رأسها "نضال" واحدة من أبرز‬
‫أعضاء الحزب وبالطبع شهدت القائمة عدم تواجد كبار رجال األحزاب األخرى الذين فضلوا البقاء في‬
‫منازلهم على أن يعاودوا الهجوم من جديد في الصباح الباكر على من تواجدوا في تلك القاعة‪ ،‬االبتسامات‬
‫كانت حاضرة هُنا وهُناك كعادة اللقاءات الرسمية وها قد بدأ المؤتمر‪.‬‬

‫قص الرئيس الجديد شريط البداية ورحب بكافة الموجودين في المكان وعلق قائالً "من الجيد رؤيتكم هُنا في‬
‫ذلك الحدث الجميل وبالطبع لن أخفى عليكم حزني الشديد لعدم حضور شخصيات كنتُ أتمنى تواجدهم في‬
‫تلك الليلة المهمة" حاول بشئ من الذكاء كسب ود الغائبين وإظهار بعض من الحزن لغيابهم عن ذلك المحفل‬
‫وحاول إخفاء اإلحباط داخله لعدم تلبيتهم الدعوة وتابع حديثه من جديد "من المحزن رؤية أشقائنا داخل هذا‬
‫الوطن يقفون بعيدا ً في المشهد األول للنظام الذي جاء به الشعب وجاءت به أصواتهم"‬

‫من جديد ألقى بالكرة في ملعب المعارضين لذلك المؤتمر وحاول إبعاد األنظار عنهُ ولو قليالً عقب ذلك‬
‫الضغط الهائل الذي تعرض لهُ خالل الفترة الماضية‪ ،‬يعل ُم جيدا ً أن سياسة الهجوم قد ال تجدي نفعا ً وأن بعضا ً‬
‫من الحكمة والفطنة سيتكفالن ببث الهدوء قليالً إلى ذلك البلد المستشيط غضباً‪ ،‬السيد "نزار" بدوره واصل‬
‫السير عل ى نهج رئيسه ولم ينتهج سياسة النقد والهجوم وعبر عن حزنه هو اآلخر للهجوم الشديد الذي تعرض‬
‫له بصفته مؤيدا ً للنظام السابق في أغلب فترات حكمه‪.‬‬

‫تلك الكلمات التي رددها "يوسف" داخل منزل صديقته "نضال" كانت حاضرة مرة أخرى في أروقة القاعة‬
‫ويبدو أنها العرف الرسمي لهؤال ء الرجال المتصاص غضب الماليين‪" ،‬مصلحة البالد" كانت الكلمة األكثر‬
‫رواجا ً في تلك الليلة وكأن بهم هم المخولين من قبل البالد عن المصلحة وأن تلك األصوات المعارضة ال‬
‫تعرف الحقيقة وتريد هز الشعب‪ ،‬في النهاية دعا الرئيس ودعا السيد "نزار" كافة األحزاب بالوقوف جنبا ً إلى‬
‫جنب بجوار النظام الجديد في مواجهة التحديات القادمة لذلك البلد العظيم‪.‬‬

‫كنتُ حاضرا ً في تلك الليلة إلى جانب أعضاء المجموعة لتقديم أنفسنا من جديد إلى الصحافة واإلعالم واألهم‬
‫من ذلك كله لتقديم أنفسنا إلى الشعب وطوي صفحة الماضي بكل ما تحمل من حزن وألم والمضي قدما ً في‬
‫صفحة أكثر إشراقا ً ولمعاناً‪ ،‬أجرينا عديد اللقاءات الصحفية واتبعنا نهج السيد "نزار" والرئيس في الوقوف‬
‫بجانب بعضنا البعض لتجاوز تلك الفترة الحرجة ولتحقيق اإلنجازات على أرض الواقع بعد أن كانت مجرد‬
‫أحالم بعيدة المنال عن هذا المواطن البسيط‪.‬‬

‫خلف الشاشات كان كبار رجال األحزاب يتابعون ذلك الحدث ويتمنون لو أن شيئا ً ما حدث لينهي ذلك العبث‬
‫على الفور ولكن أمنياتهم تلك لم تتحول إلى حقيقة ملموسة وانتهى المؤتمر كما خطط له في البداية‪ ،‬شابة‬
‫أخرى كانت تتاب ُع ذلك الحدث على غير المتوقع وهي "نضال" التي بمجرد االنتهاء من مراسم التكريم حتى‬
‫دخلت الحمام وتقيأت مما شاهدته للتو من ابتسامات مصطنعة ومن كذب مأل جنبات المكان ومن كوارث تلوح‬
‫باألفق عقب تلك الخطوة األكثر جنونا ً في وقتنا المعاصر‪.‬‬

‫اليوم التالي احتفت كبرى الصحف بذلك المؤتمر وأفردت عناوين كبيرة وتناولت ما حدث في تلك الليلة‬
‫أكثر ما كان يخشاهُ الرئيس هو ردة فعل األقالم ألنهُ يعلم تمام العلم بأنها قادرة على تحريك‬
‫المهمة بالطبع‪ُ ،‬‬
‫الشعب ضده‪ ،‬في الجهة المقابلة تناولت بعض الصحف ردة فعل بعض المواطنين والتي كانت متفاوتة بدرجة‬
‫كبيرة‪ ،‬األحزاب األخرى بدورها احتلت مكانا ً ليس بالصغير في صفحات تلك الجرائد وأفردت لهم عديد‬
‫العناوين ونقلت عنهم ردة فعلهم جراء ذلك المؤتمر‪.‬‬

‫لم يمر ما حدث مرور الكرام وازداد غضب تلك األحزاب وقرروا عقد مؤتمر مماثل للرد على ما جاء في‬
‫مؤتمر الرئيس وعلى ما يبدو فإن تلك الليلة ستكون بمثابة النقطة التي يبدأ من عندها الصدام بين الرئيس وبين‬
‫األحزاب التي وضعت كامل ثقتها فيه‪ ،‬اتفقت األحزاب على موعد محدد للحديث بشأن ما تناوله الرجل األول‬
‫للبالد هو والسيد "نزار" ونقلت كافة القنوات خبر ذلك الحدث الجديد فهو بمثابة الوجبة الشهية بالنسبة لهم‬
‫وفي انتظار تناولها في أسرع وقت ممكن‪.‬‬

‫اجتمعت الصحافة من جديد بجانب القنوات التليفزيونية لتغطية ذلك المؤتمر الذي حضره جميع أعضاء تلك‬
‫األحزاب وعدد من الصحفيين الذين لم يكونوا راضيين عن مؤتمر الرئيس‪ ،‬في البداية وجهوا الشكر لكافة‬
‫الموجودين وسطهم على تلبية الدعوة وشددوا على أنهم من ابناء هذا الوطن وأنهم مخلصين له ويريدون‬
‫الخير له وأنه ال داعي لتلك المزايدات التي لن تغير من واقع حبنا لتلك البلد وأن ذلك الرفض والعزوف عن‬
‫الحضور ال عالقة له من قريب أو من بعيد بتعلقنا الشديد بتراب الوطن‪.‬‬

‫تلك األحزاب بدورها استخدمت المصطلحات التي استخدمها السيد "نزار" والرئيس من قبلهم وباتت وكأنها‬
‫حرب مفردات ومصطلحات وسباق لمعرفة من يحب البلد أكثر من اآلخر‪ ،‬معركة ليس لها أهمية من األساس‬
‫بالنسبة للمواطن في الشارع الذي يريد ُ أن تهب عليه رياح التغيير لتزيح عنهُ غبار الفقر وغالء األسعار‪ ،‬تلك‬
‫الكلمات وتلك المؤتمرات لن تكون مجدية بالنسبة له فهو يريد قرارات سريعة وعاجلة تنقذهُ من ذلك الحبل‬
‫الذي التف حول رقبته طيلة عقود من الزمن وكاد أن يفتك بها‪.‬‬
‫أُغلق هذا الملف تماما ً وبدأ التركيز ينصب على قضايا أكثر أهمية تتعلق بتوفير حياة كريمة وذات قيمة‬
‫للماليين الذين يعانون من الفقر وغالء األسعار‪ ،‬الشباب كان لهم نصيب األسد من االهتمام بصفتهم الحجر‬
‫األساسي لبناء أي بلد‪ ،‬وعد الرئيس بتوفير وظائف لهم وتخليصهم من شبح البطالة الذي يطاردهم في كل ليلة‬
‫وفي كل يوم‪ ،‬كذلك تم وعد المرأة باالهتمام بقضيتها بصفتها جزء ال يتجزأ من هذا المجتمع الذي كان يمارس‬
‫كل أنواع الضغوط عليها ويعاملُها كأنها سلعة‪.‬‬

‫كان من الطبيعي عقد المؤتمرات بكثرة في البداية لتوضيح النهج الذي سيسير عليه النظام الجديد ولكنها أقل‬
‫جدالً من ذلك األول الذي أثار البلبلة في الشارع‪" ،‬يوسف" كان األكثر نشاطا ً بين زمالئه واألكثر حرصا ً‬
‫على الخ روج أمام الشعب وإعطائهم مسكنات األمل التي ينتظرونها كل يوم‪ ،‬أما "نضال" فالزالت غائبة عن‬
‫تراقب تلك األحالم التي تصب ُح‬
‫ُ‬ ‫الصورة وعن االجتماعات وعن المؤتمرات واكتفت بالجلوس في غرفتها‬
‫سرابا ً يوما ً تلو اآلخر وصارت كتلك الوردة التي سقطت على األرض واختفى بريقها وجمالها‪.‬‬

‫السيد "نزار" عاد من جديد ليتابع بنفسه كل ما يدور داخل غرفة االجتماعات واعتذر عن ذلك االنقطاع‬
‫المتكرر واحتفل معنا احتفاالً بسيطا ً بمناسبة تكريمه‪ ،‬في البداية تحدث عن سعادته بشأن تلك الخطوة ووجه‬
‫ثم تاب َع قائالً "اآلن جاء‬
‫الشكر ألعضاء المجموعة لثقتهم فيه وأنه وصل إلى تلك المكانة بوجودنا بجواره‪َ ،‬‬
‫وقت التفكير في كيفية التعامل مع النظام الحالي في المستقبل وكيف سنحاول تحسين تلك الصورة التي باتت‬
‫ُمشوهة بالكامل وتحتا ُج عمالً جبارا ً كي تعود جميلة من جديد"‬

‫لغة الرجل األول للمجموعة تغيرت قليالً ويبدو أن ذلك التكريم جعلهُ يعيد ُ التفكير في مساندة النظام من‬
‫عدمها‪ ،‬يبدو وأن ذلك المؤتمر طرد بعض الشكوك التي كانت تتمثل في إبعاده هو ومجموعته عن المشهد‬
‫ننظر إلى بعضنا البعض لتبدأ األسئلة لتحتل عقولنا‬ ‫ُ‬ ‫السياسي على األقل في تلك المرحلة‪ ،‬كلماته تلك جعلتنا‬
‫من جديد وليفتح الباب حول مزيد من عالمات االستفهام فيما يتعلق بالمستقبل‪ ،‬هل سيضحى بنا في مقابل‬
‫بقائه على الساحة السياسية ؟ هل سيأتي بأعضاء جديد يدينون بالوالء للنظام الجديد ؟‬

‫الكل خرج من الغرفة دون النطق ولو بكلمة واحدة تخفف من حدة التوتر الذي انتشر للتو في مقر المجموعة‪،‬‬
‫علي‪ ،‬قررتُ الذهاب إلى المنزل‬
‫ً‬ ‫خرجتُ مسرعا ً ودماغي أوشكت على االنفجار من شدة األفكار التي تكالبت‬
‫والتمتع بقسط من الراحة قبل معاودة التفكير بشأن تلك الكارثة التي تطرق األبواب بشدة‪ ،‬لم أنطق بكلمة‬
‫واحدة قط ودخلت إلى غرفتي وأغلقتُ الباب واستلقيتُ على فراشي والتقطتُ األنفاس وخلدت إلى النوم‪ ،‬كل‬
‫هذا وزوجتي لم تفهم بعد ما يحدث وفضلت االنتظار حتى أستيقظ لتتحدث معي بشأن تلك الحالة‪.‬‬
‫لم أشعر بنفسي سوى عند دخول ابنتي الصغيرة لتلعب معي قليالً‪ ،‬وقتها قمتُ مبتسما ً وقبلتُها وحدثتها قائ ً‬
‫ال‬
‫"لقد مر وقت على الجلوس معك أيتها الصغيرة" وعلى الفور نهضت من مكاني وحملتها وتعالت ضحكاتنا‬
‫وخرجنا إلى والدتها واندهشت أكثر وقالت "أنت تمزح وتضحك وأنا هنا عالقة وسط مجموعة من األسئلة‬
‫التي ال تنتهي" توقف المزاح في التو واللحظة ودخلت الطفلة إلى غرفتها وتابعت زوجتي الحديث من جديد‬
‫"خيرت لقد دخلت دون أ ن تنطق بكلمة واحدة ولم تتناول الطعام معنا وبدا أنك في مزاج سئ واآلن تدخل في‬
‫نوبة من الضحك‪ ،‬هل تريد أن أصاب بالجنون؟"‬

‫منك‬
‫لم أجاوبها في الحال وفضلت الصمت قبل أن أرد "بعض المشاكل هي من جعلتني أظهر هكذا وأعتذر ِ‬
‫عما بدر واآلن هيا بنا للخروج سويا ً لالستمتاع بالهواء الجميل" تبدل حال وجهها تماما ً وابتسمت ودخلت إلى‬
‫غرفتها كي تجهز نفسها فتلك اللحظة تعد من اللحظات القليلة التي تكون فيها بجوار زوجها الذي اختطفه‬
‫تهرب من حصار تلك األسئلة على أن تعود لهُ في وقت الحق‬
‫ُ‬ ‫العمل لصالحه‪ ،‬جملة واحدة كانت كفيلة بجعلها‬
‫فالطبع النساء يعشقن سرد األسئلة‪.‬‬

‫أرتب أفكاري بقدر ما كانت تلك السويعات كفيلة بتحسين المزاج العام‪ ،‬هُنا‬ ‫ُ‬ ‫أعرف كيف‬
‫ُ‬ ‫بقدر ما كنتُ مشتتا ً ال‬
‫نجلس في‬
‫ُ‬ ‫نجلس بعيدا ً عن مقر المجموعة وعن غرفة االجتماعات وعن كوب القهوة الذي سئم منا‪ ،‬هنا‬ ‫ُ‬
‫القلب ونستمتع بذلك الهواء الذي يشبهُ النبيذ في‬
‫َ‬ ‫صحبة األطفال الصغار وتلك المشروبات المثلجة التي تفر ُح‬
‫يذهب العقل تماما ً ! حاولتُ عدم التطرق ألمور العمل نهائيا ً‬
‫ُ‬ ‫تلك الحانات الصغيرة لتمتعه بنفس التأثير والذي‬
‫ونجحتُ بالفعل في ذلك وكانت سهرة لطيفة للغاية‪.‬‬

‫تأثير ذلك الهواء األشبه بالنبيذ بدأ يتالشى كلما اقتربت من المنزل‪ ،‬العقل الذي ذهب في رحلة بعيدة تماما ً عن‬
‫كل هذا الصخب السياسي بدأ يعود تدريجيا ً ليحمل معهُ شكوكا ً جديدة وقلقا ً أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬لم أحبذ‬
‫فكرة انتهاء التأثير ولكن ما باليد حيلة‪ ،‬قبلت ابنائي قبل الدخول إلى غرفتهم ودخلتُ بصحبة زوجتي إلى‬
‫غرفتنا وكانت ُمتعبة للغاية ولم تأخذ وقتا ً طويالً حتى تخلد إلى النوم أما عن هذا العضو الدؤوب فظلت عيناهُ‬
‫مفتوحة تأبى نداء الفراش وتسم ُع لنداء العق ِل‪.‬‬

‫الفراش وتركت العقل وحيدا ً ال‬


‫ِ‬ ‫استمر هذا الحال حتى نال مني التعب ما نال وأخيرا ً استجابت عيناي لنداء‬
‫يجيب عن ندائه‪ ،‬في اليوم التالي استيقظتُ وودتُ لو عادت عقارب الساعة إلى الوراء بعض الشئ حتى‬ ‫ُ‬ ‫أحد‬
‫استمتع بالنوم من جديد‪ ،‬جهزت نفسي وكانت زوجتي بجواري وحاولتُ عدم إظهار أية إشارات قد ترس ُم‬
‫القلق على وجهها وابتسمتُ لها في محاولة بائسة لبث الطمأنينة بداخلها‪ ،‬قبلتُها ومضيتُ مسرعا ً حتى أذهب‬
‫إلى العمل وأعود إلى ذلك المقر الذي بات بيت الشكوك والمخاوف‪.‬‬

‫في البداية كانت الحالة المعنوية ألعضاء المجموعة في السماء وكانت االبتسامة ال تفارق تلك الوجوه على‬
‫عكس بعض من أعضاء الحزب الحاكم‪ ،‬ولكن الوضع تغير ولم نعد أفضل حاالً منهم بل وكدنا نكون اسوأ‪،‬‬
‫أعضاء الحزب تناسوا ما حدث في المؤتمر وانخرطوا في تلك المشروعات والخطط والمؤتمرات أما نحنُ‬
‫فانخرطنا في األسئلة التي تحتاج إلى إجابات في أسرع وقت‪ ،‬استمر الحال كما هو عليه ولم ينطق أحد من‬
‫األعضاء بكلمة واحدة عقب نهاية االجتماع والكل فضل الذهاب على عجلة من أمره‪.‬‬
‫ذلك الوضع كان دخيالً بيننا ولم يجد أحد تفسير واضح لهُ‪ ،‬مقر المجموعة آنذاك كان أشبه بالمعتقل الذي ال‬
‫تجلس داخل الغرفة وأنت تعلم بأنك في غمضة عين قد تفقد ُ مكانك لصالح شخص آخر‪ ،‬لم‬ ‫ُ‬ ‫تحبذ ُ الدخول إليه‪،‬‬
‫يكن أمامنا سوى االنتظار لحدوث شئ ما يجعلنا نفكر بعناية في هذا المأزق‪ ،‬بينما كنا نحنُ على هذه الحالة‬
‫يدير الغرفة على أكمل وجه ولم ينتبه إلى تلك الوجوه المرتعدة خوفا ً منهُ ومن‬
‫كان السيد "نزار" مبتسما ً ُ‬
‫رئيسه‪ ،‬بداخله يرى أن األمور طبيعية والكل سيحتفظُ بمكانه ولكنهُ لم يفهم بأنه وجب عليه بث رسالة‬
‫الطمأنينة تلك حتى يهدأ ذلك الصداع الذى سيطر على عقول األعضاء‪.‬‬

‫هجوم األحزاب األخرى عاد من جديد وهذه المرة بسبب تعيين بعض األشخاص المقربين من النظام الحاكم‬
‫في المناصب الكبيرة‪ ،‬لم يكن يعلم الرجل األول للمجموعة بتلك القرارات الرئاسية وتفاجئ بهجوم األحزاب‬
‫وعندما عرف السبب انزعج هو اآلخر‪ ،‬في طريقي إلى االجتماع وصلني خبر الهجوم وخبر القرارات‬
‫وتوقعت بأن يتناول اجتماعنا ما يحدث من خالف على الساحة‪ ،‬كالعادة لم يتحدث أحد ودخلنا إلى الغرفة‬
‫وتأخر السيد "نزار" ألنه كان يجري مكالمة مهمة بالخارج‪.‬‬
‫كلما مر الوقت كلما ازداد قلق األعضاء لتأخر رئيسهم داخل المجموعة والحظنا علو صوته وكان غاضبا ً‬
‫للغاية وأغلق الهاتف ولم يكمل المكالمة وجلس على الطاولة والتقط أنفاسه ثم قال "أظن بأنكم قد سمعتم بما‬
‫حدث من الرئيس وبشأن تلك القرارات الغريبة التي لم يحدثني بشأنها‪ ،‬يبدو بأن ذلك التكريم كان ستارا ً لما هو‬
‫قادم" اندهش األعضاء من ردة فعله وسبب دهشتهم هو بأنهم يظنون أن السيد "نزار" على علم بما يدور‬
‫داخل مكتب الرئاسة ولكن الصورة بدأت تتضح أكثر فأكثر‪.‬‬

‫في تلك اللحظة قررت البوح بما في داخلي وبما في داخل هؤالء المساكين الذين يرتعدون خوفا ً من ذلك‬
‫الرجل الجالس أمامهم وقلتُ "مهال سيدي فنحن كنا نعتقد بأنك على علم بما يحدث بل وساورتنا الشكوك بأنك‬
‫تنوى اإلطاحة بنا قريبا ً حتى تضمن بقائك في الصورة" اندهش لما سمعهُ للتو وعالمات التعجب ظهرت على‬
‫وجهه قبل أن يجيب "يبدو أن زميلكم خيرت قد شرب النبيذ في الصباح بدالً من القهوة‪ ،‬كيف لك أن تفكر بهذا‬
‫وتتحدث بلسان زمالئك‪ ،‬مهالً هل هم احتسوا النبيذ معك في هذا الصباح ؟"‬

‫تابع السيد "نزار" حديثه غاضبا ً "كيف لكم أن تفكروا بهذه الطريقة الجنونية ؟ نحن في مركب واحد وال توجد‬
‫نغرق سويا ً أو ننجو سويا ً وال يوجد احتمال ثالث‪ ،‬هيا توقفوا عن تلك‬
‫ُ‬ ‫فرصة لنجاة واحد دون اآلخر‪،‬‬
‫السخافات وانتبهوا جيدا ً لما يحدث في تلك اآلونة" انتهى االجتماع سريعا ً على أن نستكمل الحديث في أقرب‬
‫فرصة عن ما خرج من المكتب الرئاسي وفي طريقنا للخروج من مقر المجموعة تحدت الرجل األول‬
‫للمجموعة بينه وبين نفسه بصوت خافت قائالً "يبدو أن رجالي أصابهم الغباء"‬
‫القنوات التليفزيونية كانت ساحة للعراك عقب تلك القرارات‪ ،‬األحزاب خرجت لتهاجم النظام بشكل علني‬
‫وقالت بأن ما حدث مخالف لما تم االتفاق عليه في البداية وأن تلك السياسة لن تجدي نفعا ً ويجب على الحزب‬
‫الحاكم اإلنصات إلى األص وات األخرى وليس اإلنصات لصوته فقط‪ ،‬الهجوم هذه المرة كان أشد مقارنة‬
‫بالمرة األولى التي كانت بسبب المؤتمر ولم تكتف األحزاب ورجاالتها بالخروج على الشاشات فقط وتحدثت‬
‫إلى الجرائد ووسائل اإلعالم األجنبية !‬

‫لم يقف "يوسف" هذه المرة أمام الطوفان وحيدا ً بل كان الحزب معهُ‪ ،‬أمر الرئيس بتجهيز لقاء يخر ُج فيه‬
‫الفريق اإلعالمي للحزب ليوضح الحقيقة كاملة‪" ،‬يوسف" لم يكن راضيا ً عن تلك الفكرة ورأى بأنه لو خرج‬
‫الفريق اإلعالمي في كل مرة للرد على هجوم حزب بعينه فلن ننتهى على اإلطالق وسنجد ُ الحزب يدخل في‬
‫صراعات ليس لها أي قيمة وكان يفضل الصمت والتركيز على تلك المشروعات التي جاء الرئيس من أجلها‬
‫وقرر التحدث معهُ ومحاولة إقناعه بإلغاء هذا اللقاء‪.‬‬

‫دخل "يوسف" إلى مكتب الرئيس وجلس وانتظر حتى ينتهى من قراءة الملفات الموضوعة أمامه ومن ثم يبدأ‬
‫الحديث‪ ،‬انتهى من القراءة وأعطى اإلذن له بالتحدث وعلى الفور بدأ العضو األبرز حديثه قائالً "سيدي‬
‫الرئيس كنت أرى بأن فكرة اللقاء تلك ليست صائبة وأننا نضيع وقت نحن بحاجة له في تلك الفترة ومن‬
‫األفضل تركهم يهاجمون ونجلس نحن على تلك المشروعات المهمة حتى تصبح حقيقة ملموسة فالرد عليهم‬
‫بمثابة مضيعة لوقتنا قبل أن يكون مضيعة لوقتهم"‬

‫لم ينطق الرئيس بكلمة واحدة ولم يقاطع "يوسف" وترك له الفرصة حتى يقول ما في قلبه وبعدها يستطيع‬
‫الرد عليه‪ ،‬بمجرد ما انهى الحديث حتى قال له "ال مشكلة في الرد عليهم ونحن نملك الوقت الكافي لتوضيح‬
‫الحقيقة وللعمل على المشروعات في آن واحد وبالتأكيد تلك الساعتين لن يوقفا خطتنا في النهوض بالبالد"‬
‫الشاب باإلحباط جراء رد رئيسه وخرج غاضبا ً للغاية وأغلق الباب بقوة وأندهش من في الخارج‬‫ُ‬ ‫أصيب‬
‫جراء ردة فعله وتوقعوا بأنه قد حدث ثمة خالف مما جعلهُ يغلق الباب بتلك الطريقة‪.‬‬

‫لم يتحدث الشاب مع أحد وخرج غاضبا ً وولى في طريقه إلى منزله وكانت هذه إشارة إلى عدم تواجده في‬
‫لقاء الفريق اإلعالمي المجهز له‪ ،‬ليس فقط هو من قرر عدم الوقوف بجانب الرئيس في تلك األزمة بل من تم‬
‫تكريمه للتو رفض التعليق تماما ً على هجوم الحزب والتزم الصمت هو اآلخر‪ ،‬ربما كانت تلك هي المرة‬
‫األولى وا لوحيدة التي اتفق فيها السيد "نزار" مع "يوسف" برغم اختالف أسباب الغضب‪ ،‬هذه المرة قد يجد‬
‫حاكم تلك البالد نفسه وحيدا ً أمام كل ذلك الهجوم القوي‪.‬‬

‫مرة أخرى قرر "يوسف" الذهاب إلى منزل زميلته ليبوح لها بكل ما يحمل من غضب بداخله‪ ،‬لم يرغب في‬
‫رحب به أشد الترحيب والحظ‬‫َ‬ ‫إقناعها بالعودة هذه المرة ولكنهُ يرغب فقط بالتحدث وال شئ غيره‪ ،‬والد ُها‬
‫تغيرا ً شديدا ً في مالمحه وكأنه أتى بخبر غير سار البنته‪ ،‬خرجت "نضال" مبتسمة ابتسامتها المعتادة بعكس‬
‫ابتسامة الساحرة الشريرة التي أظهرتها في آخر لقاء بينهم وأحست بأن ضمير صديقها قد استيقظ ولكنها لم‬
‫تبالغ في الفرحة لربما يفاجئها هذا الشاب بصدمة قد تجعلها تكرهُ هذه الحياة البائسة تماماً‪.‬‬

‫لكن حدس "نضال" كان صادقا ً عندما أخبرها بشأن خالفه مع الرئيس داخل مكتبه وقال "الرئيس يضيع وقتنا‬
‫ووقته في الرد على هجوم األحزاب بدالً من التركيز على المشروعات وبهذه الطريقة فلن ننتهى من الرد‬
‫على كبيرة وصغيرة" لم تفهم قصده في البداية فهي منقطعة تمام االنقطاع عن كل ما يحدث بالخارج وطلبت‬
‫منهُ شرح القصة بالكامل‪" ،‬كانت هناك بعض القرارات المتعلقة بتعيين المقربين من الحزب في بعض‬
‫المناصب الكبيرة وهذا ما أزعج العديد من رجاالت األحزاب األخرى وجعلهم يفتحون النار على الرئيس‬
‫وعلينا"‬

‫لم تستطع لوم من فتحوا النار على حزبها وتخيلت لو كانت مكانهم وتم تجاهل وجودها تماما ً ماذا كانت ستفعل‬
‫وقتها ؟ وضعت يدها على رأسها ثم قالت "لقد وقع في الفخ مرتين األولى حين خرج بتلك القرارات والثانية‬
‫حينما طلب من الفريق اإلعالمي الخروج للرد‪ ،‬هل هناك فرصة لمحاولة أخرى لمنع ذلك اللقاء أم أنك قد‬
‫أفسدت كل شئ ؟" لم يجبها "يوسف" وحينها علمت بأنهُ قد أفسد األمور تماما ً وال توجد فرصة لمحاولة‬
‫معالجة تلك األزمة التي وضعهم فيها الرئيس‪.‬‬

‫في مقر المجموعة كان السيد "نزار" يتلقى االتصاالت تلو األخرى من حاكم البالد ولكن لم يجب في أي‬
‫مرة‪ ،‬كان يحاول االستعانة بالرجل األول ولكن دون فائدة‪ ،‬يريد ُ ضمان وجود الدعم من المجموعة ورئيسها‬
‫ولكن يبدو بأن تلك القرارات أضرت به أشد الضرر‪ ،‬فقط مكالمة واحدة كافية من أحد أعضائنا على الهواء‬
‫مباشرة لبث الطمأنينة داخل قلبه ولكن حتى تلك اليتيمة لم ينلها ووجد نفسهُ وهو مركزه اإلعالمي أمام حملة‬
‫قوية ولم يتبق سوى ذلك اللقاء لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه‪.‬‬

‫خرج المركز اإلعالمي على الهواء في محاولة أخيرة لتصحيح األوضاع التي أفسدها الرئيس‪ ،‬كان الهدف‬
‫هو كسب ود األطراف المعارضة لتلك القرارات دون المساس والتعرض للنظام الحاكم‪ ،‬لم يكن أمامهم سوى‬
‫وضع أنفسهم ووضع رئيس البالد أمام األمر الواقع ووعدوا بتلبية مطالب األحزاب‪ ،‬ذلك الحل رغم كونه لم‬
‫يترك له خيارا ً واحدا ً ولكنهُ كان المنقذ لهُ عقب تلك القرارات‪ ،‬تنفس الصعداء بعد تلك المقابلة لكنه ظل قلقا ً‬
‫بعض الشئ وانتظر ردة فعل األحزاب حتى يطمئن بالكامل‪.‬‬

‫"يوسف" كان يتاب ُع من خلف الشاشات ولم يخف إعجابه بما شاهده من المركز اإلعالمي‪ ،‬كان خائفا ً من ذلك‬
‫اللقاء للغاية واعتقد بأنه قد يزيد الطين بلة ولكن توقعاته كانت خاطئة وهذا ما أراده بالتحديد‪ ،‬اآلن فقط بإمكانه‬
‫الذهاب مجددا ً لمتابعة اجتماعات الحزب وبعدها يشد الرحال إلى مكتب الرئيس لينهوا هذا الخالف تماماً‪ ،‬كان‬
‫يرى بأن األحزاب ال حجة لها في قبول هذا الحديث المحترم وأنهم مدينون باعتذار للنظام الحاكم بسبب ما‬
‫سببه ذلك الهجوم من أضرار نفسية‪.‬‬
‫اليوم التالي خرج رجاالت األحزاب الكبرى تلك على الشاشات وأعلنوا رضاهم عما جاء في حديث المركز‬
‫اإلعالمي لكنهم شددوا على أهمية تحويل ذلك الكالم إلى حقيقة ملموسة وليس مجرد جمل وعبارات فقط‪،‬‬
‫سعادة كبيرة انتشرت في جنبات الحزب عقب ما حدث الليلة ولكن شيئا ً غريبا ً حدث وكان ملفتا ً لألنظار‪،‬‬
‫السيد "نزار" لم يعلق حتى بعد خروج المعارضين لتلك القرارات على شاشات التلفاز وحتى نحن األعضاء‬
‫لم يخرج أحد منا للتعليق بشأن تلك األحداث األخيرة‪.‬‬

‫هذا الصمت المطبق من السيد "نزار" كان إشارة واضحة منهُ للرئاسة بأنه غير راض عن تلك القرارات‬
‫األخيرة وداللة على عدم الدعم المباشر للرئيس في حالة وجود أخطاء منه‪ ،‬كنتُ متفقا ً تماما ً معه وكنت أتمنى‬
‫لو تحدث بخطاب شديد اللهجة للمكتب الرئاسي وللحزب ولكنه لم يفعل قط واكتفى بالمشاهدة من بعيد دون‬
‫تعليق‪ ،‬أثناء االجتماع انهالت االتصاالت عليه وكل مرة كان ينظر إلى هاتفه ويمتعض ويرفض اإلجابة‬
‫وتوقعنا من هو الذي يريد مكالمته في ذلك التوقيت بالذات‪.‬‬

‫أخيرا ً وبعد فترات من الصمت أمر السيد "نزار" بخروج أحد األعضاء للحديث عن تلك األزمة على القنوات‬
‫التليفزيونية وقال "اآلن حان وقت الرد‪ ،‬خيرت لديك مكالمة الليلة أظن أنك تعلم ماذا ستقول فيها" حركت‬
‫علي فعلهُ هذا المساء‪ ،‬خرجتُ عقب االجتماع وعلمت توقيت‬‫ً‬ ‫رأسي في إشارة إلى معرفتي الكاملة بما‬
‫البرنامج حتى أكون جاهزا ً لتلقى المكالمة وذهبتُ مسرعا ً إلى المنزل حتى أتمتع بقسط من الراحة قبل ذلك‬
‫الحدث المهم الذي ينتظرني بعد ساعات قليلة‪.‬‬

‫فور دخولي المنزل أخبرتُ زوجتي بشأن تلك المكالمة وفرحت كثيرا ً عندما سمعت هذا الخبر‪ ،‬في الحقيقة لم‬
‫أفهم سر هذا السعادة الكبيرة ولكن النساء هم النساء وكأنها متزوجة برجل فن مشهور حتى تغمرها السعادة‬
‫بهذا الشكل‪ ،‬يبدو أنها ال تعلم أن رجال السياسة يكرهون المكالمات وتلك األسئلة من هذا المذيع رفيع القامة‬
‫وتلك المذيعة جميلة المالمح والشكل‪ ،‬ال بأس لم أرد إفساد مزاجها في تلك اللحظة وشاركتها تلك اللحظات‬
‫الجميلة قبل دخولي إلى غرفة النوم‪.‬‬

‫لم تمر ساعتان بالتمام والكمال حتى وجدتُها فوق رأسي توقظني لكي أجهز نفسي من اآلن للرد على تلك‬
‫المكالمة من هذا البرنامج الشهير‪ ،‬لقد ساورني الشك واعتقدت أني أخبرتُها بظهوري الليلة على الهواء‬
‫مباشرة ولكني تذكرتُ بأنهُ مجرد ظهور صوتي ال أكثر وال أقل‪ ،‬جلست تحاو ُل التأكد بأني جاهز تماما ً قبل‬
‫الحديث ليالً‪ ،‬يا للهول ! يبدو وكأنها أصيبت بالجنون وتمنيتُ لو أني لم أخبرها بشأن هذا الموضوع وتركتُها‬
‫تتاب ُع مسلسل التاسعة مساءا ً بدل من إيقاظي مبكرا ً بهذا الشكل الغريب‪.‬‬
‫لم يكن المكتب الرئاسي على علم بتلك المكالمة ولكنهم تمنوا حدوثها حتى تهدأ األجواء من حولهم‪ ،‬أمنيتهم‬
‫تلك صارت حقيقة ب عد خروجي على إحدى القنوات والتأكيد على دعم النظام في تلك الفترة وفي نفس الوقت‬
‫إلقاء بعض اللوم عليه بسبب تلك الخطوات التي أثارت حالة من الجدل داخل األوساط السياسية‪ ،‬ثانية انتشرت‬
‫أجواء السعادة داخل أروقة الحزب الحاكم ورئيسه وها قد أغلق هذا الملف تماما ً على أن ينصب تركيز النظام‬
‫على قضايا أشد أهمية بالنسبة للشعب‪.‬‬

‫عاد "يوسف" من جديد إلى مزاولة عمله بعد نهاية ذلك الخالف وسوء الفهم‪" ،‬نضال" هي األخرى عادت‬
‫على استحياء إلى مقر الحزب وفرح األعضاء بعودة تلك الفتاة النشيطة ذات المهام الصعبة‪ ،‬قبل استكمال‬
‫عملها طلبها الرئيس في مكتبه فور علمه بعودتها من جديد وهناك دار حديث قصير بينهم وبدأ الحوار قائالً‬
‫لك مجدداً" ابتسمت وقالت "مجرد‬ ‫"مرحبا بعودتك أيتها المثيرة للجدل‪ ،‬ظننا أن الفئران احتلت بيتك وال عودة ِ‬
‫راحة قصيرة كنت أحتاجها منذ زمن وها أنا جاهزة إلنقاذكم مما تعانون" نطقت تلك الجملة عن طريق‬
‫المزاح وضحك فور سماعه لتلك الكلمات وخرجت من عنده وهي في طريقها للعمل مرة ثانية‪.‬‬

‫عودتها كانت بناء على طلب وإلحاح من والدها ومن "يوسف" فهي لم تكن تنوى العودة على األقل في الوقت‬
‫الحالي ولكنها شعرت بأن بقاءها في غرفتها لن ينقذها من تلك األفكار السيئة التي أحاطت بها وإنما العمل هو‬
‫المنقذ الوحيد حالياً‪ ،‬ال تعلم هل ستستمر معهم أو لربما تحدث انتكاسة قد تُغرقها من جديد في محيط تلك‬
‫األفكار‪ ،‬المهم اآلن أنها عادت وعليها مساعدة نفسها قبل انتظار مساعدة اآلخرين حتى تعود إلى سابق عهدها‬
‫وتقف من جديد لتواجه تلك التحديات الصعبة‪.‬‬

‫انتهز "يوسف" الفرصة في تلك األثناء ووضع اللمسات األخيرة لزواجه‪ ،‬وجود "نضال" الدائم جعله يتغيب‬
‫من حين آلخر حتى يتابع بنفسه آخر االستعدادات لحفل الزفاف‪ ،‬شعور غريب حل به فرغم كونه فرحا ً لتلك‬
‫الخطوة الكبيرة لكنهُ يحمل شيئا ً من القلق في قلبه كونها حياة جديدة تماما ً مختلفة عن سابقتها وتحمل مسئولية‬
‫ينظر إلى زوجته القادمة ويبتسم وهي األخرى تبادله النظرات ويبدأ قلبه في العمل بقوة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أكبر وأصعب‪،‬‬
‫فرصة ذهبية للتمتع ببعض الرومانسية ونسيان حالة المكتب والمقر والورق‪.‬‬

‫يقف وراء الكواليس ولم يكن صافيا ً تجاه "يوسف" فتلك االستعدادات لم تكتمل وتلقى‬
‫يبدو أن أحدا ً ما كان ُ‬
‫اتصاالً من "نضال" تخبره بالحضور على الفور إلى مقر الحزب‪ ،‬صوتها كان يحم ُل إشارة لحدوث كارثة ما‬
‫يتصبب عرقا ً ووجد جميع‬
‫ُ‬ ‫ولم ينتظر التفسير وولى في طريقه لمعرفة ما حدث‪ ،‬لم يلتقط أنفاسه وكان‬
‫األ عضاء واقفين أمام شاشة التلفاز يتابعون األخبار‪ ،‬إحدى القطارات لم يكتب لها الوصول بسالم وتعرضت‬
‫لحادثة كبيرة أودت بحياة المئات من البشر والبقية ما بين الحياة والموت‪.‬‬

‫مسلسل القطارات والحوادث بات مكررا ً في تلك البلد وال أحد يعلم من المسئول الحقيقي عن تكرار تلك‬
‫الحادثة في كل مرة‪ ،‬األجواء كانت صعبة والكل ممسكُ برأسه وال يعرف ما هو الحل وبينما هم يذرفون‬
‫بعضا ً من الدموع على تلك الفاجعة إذ حدث اتصال من مكتب الرئيس يفيد بضرورة تواجد "يوسف"‬
‫و"نضال" وبعض من األعضاء اآلخرين هناك في مقر الحادث لمتابعة آخر التطورات على أن يلتحق بهم‬
‫الرئيس بنفسه في وقت آخر عقب االنتهاء من بعض التفاصيل الصغيرة‪.‬‬

‫انطلق الفوج مسرعا ً إلى مكان الحادث وهُناك لم تتمالك "نضال" نفسها واجهشت بالبكاء من جراء تلك‬
‫المشاهد الصعبة التي شاهدتها للتو‪ ،‬حاول الجميع إبعادها قليالً من موقع الحادث حتى تهدأ وتتناسى ما‬
‫شاهدته ‪" ،‬يوسف" والبقية أصابهم الصمت وحاولوا التماسك بقدر اإلمكان فهم على بعض لحظات قليلة من‬
‫التعاز ألهالي من‬
‫ِ‬ ‫الظهور على شاشات التلفاز لكي يبثوا الطمأنينة في نفوس ذوى الركاب المصابين ونشر‬
‫فقدوا أرواحهم جراء هذا الحادث األليم‪.‬‬

‫لم يمر وقت طويل حتى جاء الرئيس بنفسه إلى الموقع ليتحدث إلى من أصابهم القطار وأودى بحياتهم‪ ،‬في‬
‫البداية عبر عن كامل حزنه وأسفه لما حدث وأنهُ سيجري تحقيقا ً موسعا ً لمحاسبة المقصرين وبشدة لضمان‬
‫عدم تكرار مثل هكذا حوادث وأمر بصرف تعويضات ألهالي الركاب‪ ،‬لكنهُ وقف حائرا ً بسبب عبارات‬
‫المذيعة التي كانت تحم ُل في طياتها هجوما ً الذعا ً على المسئولين سواء القدامى أو الجدد حينما قالت "وماذا‬
‫بعد سيدي الرئيس هل سنكتفي بالتعويضات في كل مرة ؟ هل حفنة المال ستعيد ُ ذلك الشاب أو تلك الفتاة‬
‫الشعب من ركوب القطارات وأصب ُحوا يعرضون أنفس ُهم للخطر لمجرد شرائهم تذكرة سفر‬ ‫ُ‬ ‫الجميلة ؟ لقد سئم‬
‫!‬

‫تلك المرة لن تجدي المؤتمرات نفعا ً ولن تشفي غليل ذوي المصابين والذين لقوا حتفهم‪ ،‬األمر أشبه بهزة‬
‫أرضية ارتعشت لها القلوب واألجساد‪ ،‬البلد وكأنها رجعت إلى خمسينيات القرن الماضي حيث األلوان‬
‫البيضاء والسوداء فقط‪ ،‬ال وجود لأللوان األخرى التي تطفى البهجة في نفوس الناس‪ ،‬ال أحد يتكلم وال أحد‬
‫ينطق سوى اإلعالم الذي هاجم النظام أشد الهجوم على تلك الواقعة ولم يخجل من توجيه اللوم إليه وطالبه‬
‫بمحاسبة الجناة أشد الحساب حتى ال تتكرر مثل هذه األفعال مرة أخرى‪.‬‬

‫هذه الحادثة كانت بمثابة الصفعة بالنسبة للحزب الحاكم ورئيسه‪ ،‬حاولوا بذل ما بوسعهم ولكن ما من ردة فعل‬
‫في األوساط االجتماعية والسياسية‪ ،‬ذلك الصمت جعلهم خائفون مرتدعون والبعض لم يكن كما السابق‪،‬‬
‫تفكر بعيدا ً عن حسابات الكرسي‬
‫ُ‬ ‫"نضال" أكثر من تضرر بعد تلك الفاجعة‪ ،‬كانت أكثرهم إنسانية وكانت‬
‫والسياسة‪ ،‬األمر بالنسبة لها يتعلق بالمشاعر فقط المشاعر‪ ،‬البقية تخلوا عن اإلنسانية قليالً وجلسوا يفكرون‬
‫في مستقبلهم فقط وهذا ما جنتهُ السلطة على ُمكتسبيها‪.‬‬

‫األحزاب األخرى بدورها هاجمت النظام من جديد وطالبته بتحقيق العدالة واألمن للركاب‪ ،‬ظاهريا ً يبدو لك‬
‫بأن هؤالء الرجال تتقط ُع أفئدتهم حزنا ً على هؤالء الموتى فهم يصيغون العبارات والكلمات لكسب ود أهالي‬
‫تلك الواقعة ولكن ما خفي كان أعظم فهم مجرد أشخاص داخل لُعبة كبيرة تحركُ أولئك البالغين تدعى‬
‫المصلحة‪ ،‬يخرجون على شاشات التلفاز يكذبون أمام ال ماليين ويقولون بأنهم يريدون مصلحة البالد والوطن‬
‫ولكن الوطن يعل ُم تماما ً نواياهم السيئة‪.‬‬
‫هناك فئة بسيطة كانت تشبهُ "نضال" وهي الفئة ال ُمتمثلة في الشباب الذين قادوا حراك الهتافات وجاءوا بهذا‬
‫النظام‪ ،‬هؤالء أكثر من فشلوا في فهم قواعد اللُعبة وعلى األغلب فهم الخاسرون األوائل فيها‪ ،‬هؤالء أكثر من‬
‫يقدرون المشاعر اإلنسانية وأكثر من يمقتون التصارع على السلطة وال يملكون سوى كلمتهم تلك التي يتمنون‬
‫من خاللها إيقاظ الوعي داخل النفوس التي أصابها عفن الخوف وعدم التفكير‪ ،‬حاولوا مساعدة أهالي الحادث‬
‫بشتى الطرق المادية منها والمعنوية فقط بدافع اإلنسانية‪.‬‬

‫من جهتها طالبت المجموعة بمحاسبة الجناة ولكنها لم تسلك طريق الهجوم على النظام على غرار القنوات‬
‫واألحزاب فالسيد "نزار" لم يرد تعميق الجراح فاألمر ال يتحمل هجوما ً آخر في تلك الظروف الصعبة‬
‫بالنسبة لهم‪" ،‬لن يتحملوا انتقادات أخرى فهم ليسوا كالنظام السابق الذي كان يتفهم قواعد تلك اللُعبة المجنونة‬
‫أما هؤالء فهم مساكين أتوا لمحوا الصورة السيئة التي تركها من قبلهم" كلماته في االجتماع وصفت وضعهم‬
‫ووصفت كم الصعوبات التي ستقف في طريقهم في المستقبل القريب‪.‬‬

‫تناسى الكثيرون أمر تلك الحادثة وحا ول النظام لملمة جراحه والنهوض من جديد لمواجهة تلك التحديات‪ ،‬من‬
‫غير المقبول السقوط في أول الطريق كاألطفال الصغار الذين خرجوا للشارع لتوهم لممارسة لعبة كرة القدم‪،‬‬
‫تغير ترتيب األولويات بالنسبة لهم ووضعوا ملف القطارات والطرق عموما ً في البداية لضمان عدم تكرار‬
‫م شاهد دموية ثانية ولكسب ثقة الشعب من جديد ومرة أخرى توقف ملف المشروعات الذين يبدو بأنه غير‬
‫محظوظ بالمرة وتأخر ترتيبه من جديد ومن يعلم متى يعود في المقدمة التي كانت مسجلة باسمه‪.‬‬

‫تلك الفترة كانت األفضل بالنسبة للحزب الحاكم وللنظام بشكل عام‪ ،‬األوضاع كانت مستقرة وأُغلق ملف‬
‫القطارات تماما ً خصوصا ً بعد إلقاء الجناة داخل قفص االتهام وهدوء األهالي قليالً‪" ،‬نضال" استعادت عافيتها‬
‫تقريبا ً وعادت من جديد إلى أروقة الحزب لتمارس عملها ثانية‪ ،‬أما "يوسف" فقد استغل ذلك الهدوء ليعقد‬
‫حفل زفافه الذي تأخر كثيرا ً ولترتاح زوجته التي ساورها الشك كثيرا ً عقب كل مرة يتأخر فيها موعد‬
‫الزفاف‪ ،‬فرصة مواتية لقضاء إجازة جميلة مع زوجته بعيدا ً عن صخب العاصمة واجتماعاتها‪.‬‬

‫مقر المجموعة هو اآلخر كان هادئا ً على غرار مقر الحزب الحاكم‪ ،‬لم تكن هنالك الكثير من االجتماعات وإن‬
‫أجلس كثيرا ً بجانب زوجتي وأوالدي وانتهزت‬
‫ُ‬ ‫عقدت فلم تكن بتلك األهمية ولم تستغرق وقتا ً طويالً‪ ،‬كنتُ‬
‫تلك الفرصة وذلك الهدوء‪ ،‬الخبر الجميل الذى أتى ليكمل تلك الحالة هو أن السيد "نزار" أعطى لنا إجازة‬
‫قصيرة كي نستعيد فيها عافيتنا مرة ثانية ولننفض عن أنفسنا غبار االجتماعات واألوراق ولنعود بكامل‬
‫حيوتنا عقب تلك اإلجازة القصيرة‪.‬‬
‫من حسن الحظ أنها كانت قصيرة بالطبع‪ ،‬وعلى ما يبدو بأن السيد "نزار" كان يعلم بأن ثمة حدث قادم سيقلب‬
‫الموازين تماما ً لذلك أرادها أن تكون سريعة ال طويلة‪ ،‬بمجرد عودتنا إلى مزاولة العمل من جديد حتى‬
‫خرجت األخبار لتقول تحت عنوا ن كبير "غالء األسعار" ذلك الملف األكثر حساسية بالنسبة للشعب وال‬
‫يُسمح باالقتراب منه قيد أنملة فهو من المحرمات في نظرهم‪ ،‬تلك القضية هي بمثابة دستور الثقة بين الشعب‬
‫ورئيسه وما إن أخل النظام بها حتى مزقت الماليين ذلك االتفاق‪.‬‬

‫الهجوم كان مختلفا ً عن المرات السابقة ونقلت وسائل اإلعالم عن بعض األشخاص بأن النظام الحالي فشل في‬
‫تصحيح األوضاع وأن األزمات التي كان يعاني منها النظام السابق مستمرة إذا ً فلماذا تم اإلطاحة به ؟ فلماذا‬
‫خرجت الهتافات والعبارات تنادي بضرورة وجود أوجه جديدة على الساحة ؟ كل تلك األسئلة وغيرها لن‬
‫يجيب عليها سوى الحزب الحاكم متمثالً في األعضاء الكبار والرئيس‪ ،‬من سوء حظهم بأنهم أتوا في فترة‬
‫كان االنتقاد فيها على الهواء مباشرة دون أية خوف أو ذرع يذكر‪.‬‬

‫"يوسف" قطع إجازته عقب سماع تلك األخبار ولكنهُ استمتع بالقدر الكافي في تلك اآلونة وحان اآلن موعد‬
‫االجتماعات حتى ساعة مبكرة من الصباح‪ ،‬اختفت الكلمات الوردية حين عاد ولم يبارك له أحد بشأن تلك‬
‫الفترة فهم منغمسون في مشكلة كبرى ال يعرفون الطريقة األفضل للخروج منها بأقل األضرار‪ ،‬الخطوة‬
‫األولى في سبيل الحل هو الخروج أمام الشعب للحديث عن تلك األزمة وإخبارهم بأنها لن تطول بالطبع‬
‫وعليهم بأن يتحلوا بالصبر على األقل حاليا ً حتى ينعموا بالراحة فيما بعد‪.‬‬

‫في الحقيقة حديث النظام لم يكن مقنعا ً ال بالنسبة للشعب وال بالنسبة لألوساط السياسية واالجتماعية وهذه‬
‫المرة خرج الشباب ليخبر الرئيس في رسالة قوي ة بأنه ال يملك أي مشكلة في الخروج من جديد لإلطاحة به‬
‫حال تكرر تلك األزمات وحال عدم تغير األوضاع‪ ،‬تلك هي المرة األولي التي يستمع فيها النظام لذلك النوع‬
‫من التهديدات‪ ،‬المؤشرات كلها ضد الرجال الجدد وضد أعضاء الحزب وعلى ما يبدو فإن آثار تلك المعضلة‬
‫سيستمر فترة ليست بالقصيرة وسيكون بمثابة الصداع الذي يزعج النظام ويؤرقه‪.‬‬

‫خرج خبراء االقتصاد على شاشات التلفاز ليتحدثوا بشأن تلك األزمة ومدى تأثيرها على المدى البعيد‪ ،‬فرصة‬
‫من ذهب لبعضهم كي يعرف اسمه للناس بصفته خبير من طينة العباقرة‪ ،‬استمرت القنوات في نقل ردود‬
‫األفعا ل داخل الشوارع واستمر النقد والغضب‪ ،‬حاول المركز اإلعالمي تهدئة األجواء الملتهبة وكرر‬
‫اتصاالته الهاتفية مع تلك القنوات وطالب بالهدوء الكامل والتحلي بالثقة في الرئيس التي اختارته صناديق‬
‫االقتراع وأنه ال داعي لذلك الهجوم المكرر وطالب بإعطاء الفرصة كاملة ليثبت النظام جدارته في حكم‬
‫البالد‪.‬‬

‫تلك اللهجة التي استخدمها المركز اإلعالمي كانت جديدة تماما ً ولم يتحدث بها من قبل‪ ،‬لهجة برهنت على‬
‫مدى التخبط الذي يعيشه النظام في تلك األيام الصعبة‪ ،‬فبدالً من البحث عن حلول فعالة وقوية تخرج ألسنة‬
‫النظام لتخبر الشعب بأنهم من اختاروا وعليهم تحمل توابع اختيارهم‪ ،‬لم يكن جيدا ً الخروج في تلك الظروف‬
‫والحديث بمثل هكذا عبارات قد تزيد حالة الغضب والغليان وتجعل التعاطف يقل يوما ً بعد اآلخر‪ ،‬الوضع‬
‫بحاجة إلى معجزة كبرى قد تعيد الهيبة التي فقدت بعد تسلسل تلك األحداث وتعاقبها‪.‬‬

‫كالعادة فلم تتأخر األحزاب في الخروج على الشاشات واستغالل تلك األزمات للهجوم على النظام الحاكم‬
‫وكأنهم ينتظرون حدوث أية مشكلة حتى يُمسكوا بهواتفهم النقالة ويعقدوا االتصاالت صباحا ً ومسا ًء وتبدأ‬
‫دورة الهجوم التي ال تنتهي إال بانتهاء القضية تماماً‪ ،‬الملفت للنظر بأنهم في كل مرة ومع كل حدث مهم ال‬
‫يقدمون حلوالً فعالة وقوية من شأنها مساعدة الرئيس وحزبه على الخروج من دائرة الشك تلك وال يقدمون‬
‫سوى النقد وعبارات الهجوم الالذعة التي في ظنهم هي الطريق األسرع إلى قلب الشعب‪.‬‬

‫المجموعة كانت تراقب األحداث من بعيد ولم تعلق عليها باإليجاب أو الس لب وفضلت التزام الصمت وعدم‬
‫الحديث هذه المرة‪ ،‬السيد "نزار" اعتقد بأن الخروج على الشاشة لن يكون مفيدا ً وأن الشعب في حالة غضب‬
‫وغليان وقال "علينا االستفادة من أخطاء الماضي فالوقوف بجانب النظام السابق كاد يكلفنا الكثير والوقوف‬
‫مع النظام الحالي في تلك الفترة قد ينهي مستقبل هذه المجموعة لألبد" تلك العبارات كانت بمثابة مؤشر قوي‬
‫على انتهاء شهر العسل بين المجموعة وبين النظام‪.‬‬

‫السيد "نزار" يعي جيدا ً أن الوقوف بجانب الشعب في أزمته تلك كفي ُل بمحو تلك الصورة السلبية والسيئة التي‬
‫رسمها الماليين للمجموعة‪ ،‬يعي جيدا ً بأن الوقوف بجانب الرئيس سيكلفه الكثير والكثير فهو يريد الحفاظ على‬
‫مجموعته من براثن هذا الشعب الغاضب الذي ال يرحم‪ ،‬مكتب الرئيس انتظر خروج أحد أعضاء المجموعة‬
‫على الهواء مباشرة لتأييدهم في تلك الظروف العصيبة ولكن لم يخرج ولو عضو واحد قط‪ ،‬حاولوا الوصول‬
‫إلى الرجل األول وطلب المساعدة منه ولكن دون جدوى‪.‬‬

‫الرئيس كان مرتبكا ً للغاية وألغى كافة االجتماعات الخارجية ودعا إلى أخرى مع حكومته أوالً ومع حزبه‬
‫ثانيا ً لمناقشة كل الحلول المتاحة للعبور من هذا النفق المظلم الموحش‪ ،‬غرفة العمليات عادت مرة أخرى‬
‫ولكن بشكل موسع هذه المرة وكانت األعين ال تتذوق طعم النوم وكانت الرؤوس ال تعرف طريق الراحة‬
‫وكانت األبدان تعمل كاآللة الحديثة التي ال تتوقف عن العمل‪ ،‬الكل يحاول المساعدة بشتى الطرق حتى ال‬
‫تغرق السفينة بمن فيها في محيط الهجوم واألزمات والقضايا الصعبة‪.‬‬

‫استقرت األسعار بعض الشئ بعد شد وجذب وغالء استمر لفترة ليست بالقصيرة‪ ،‬هدأ الشعب قليالً عقب‬
‫سماعه لتلك األخبار وهدأت ألسنة الهجوم وبراكين الغضب التي كانت على وشك االنفجار في وجه النظام‬
‫بأكمله‪ ،‬تنفس الحزب الصعداء بعد انتشار األنباء المبهجة فهم يعلمون جيدا ً أن بقائهم يوما ً آخر في غرفة‬
‫العمليات تلك قد يكلفهم كثيرا ً من وقتهم ومن صحتهم تلك التي فقدوا جز ًء كبيرا ً منها بعد انضمامهم إلى الحياة‬
‫السياسية الصعبة المليئة بالعقبات وباألزمات التي ال تنتهي‪.‬‬
‫في الحقيقة أكثر المتضررين من انتهاء تلك األزمة ومن استقرار األحزاب ليست القنوات وال تلك األحزاب‬
‫بل خبراء االقتصاد الذين ظلوا أليام يخرجون مع المذيعين ليتحدثوا عن الغالء وعن تأثيره على الشعب وعلى‬
‫المدى البعيد‪ ،‬لم يعد مرحب بهم وانتهى دورهم على األقل في تلك اآلونة في انتظار حدوث شئ ما يعيدهم‬
‫إلى األنظار مرة أخرى‪ ،‬أما المستفيد األكبر فهو الرئيس الذي لربما فقد كيلوجرامات في تلك األثناء ولم يكن‬
‫ليستعيدها سوى بعد اغالق ذلك الملف لألبد‪.‬‬

‫بعد نهاية هذا النفق المظلم خرج النظام بأقل األضرار المتوقعة ولكنهُ فقد شيئا ً مهما ً للغاية‪ ،‬ذلك الشئ هو دعم‬
‫المجموعة ودعم السيد "نزار" وهذا ما عكر صفو مكتب الرئيس الذي كان فرحا ً بانتهاء تلك األزمة على‬
‫خير‪ ،‬لم تعد االتصاالت كما في البداية ولم تعد لهجة الود كما السابق وبدت األجواء متوترة بين الرجل األول‬
‫للمجموعة وبين حاكم البالد‪ ،‬الشرط األساسي لعودة األمور كما كانت هو رضاء الشعب عن حاكميه وهذا‬
‫بات أمرا ً صعبا ً في ظل تلك المشكالت المتتالية‪.‬‬

‫حاول الرئيس مرارا ً وتكرارا ً االتصال بالسيد "نزار" لعقد جلسة معه بشأن تلك األحداث األخيرة ولكن دون‬
‫فائدة تذكر ويبدو أن األمور وصلت إلى طريق مسدود تماما ً بينهما‪ ،‬أعضاء الحزب الحاكم كانوا مندهشين‬
‫من ردة فعل رئيسهم الذي كان مهتما ً للغاية بإعادة العالقات كما كانت مع المجموعة واعتبروا أن كل ما‬
‫يحدث منه هو مضيعة للوقت وأن عليه التركيز على قضايا أكثر أهمية بدالً من تلك االتصاالت التي ال قيمة‬
‫لها على اإلطالق وقرروا الجلوس معه للحديث معه ُ بهذا الصدد‪.‬‬

‫أعضاء الحزب قد كلفوا "يوسف" بالنيابة عنهم للحديث مع الرئيس عن ما يجول بخاطرهم وعما يدور داخل‬
‫عقولهم‪ ،‬في البداية اندهش الرجل من قدومهم له واعتقد أن ثمة مشكلة جديدة قد حصلت وانتظر النبأ العاجل‬
‫كي يزف إليه‪ ،‬في البداية كانوا صامتين فهم بسؤالهم قائالً "ماذا حدث ؟ هل حدثت مشكلة جديدة وأنا ال أعلم‬
‫؟ هل هناك خالف داخل الحزب ؟" صمت الجميع وبدأ "يوسف" في اإلجابة قائالً "ال سيدي الرئيس كل شئ‬
‫على ما يرام" تلك اإلجابة كانت كفيلة بتوقف ذلك العرق الذي كاد يُغرق مكتبه‪.‬‬

‫بدأ في ال تقاط أنفاسه قبل أن يتابع "يوسف" الحديث "المشكلة تكمن في ابتعادك عن األمور المهمة للبالد‬
‫وتركيزك الشديد على إعادة قنوات االتصال بيننا وبين المجموعة‪ ،‬أنت الرجل األول وال داعي لكسب ود‬
‫أشخاص ال يعنينا سعادتهم بقدر ما يعنينا سعادة الشعب" رجع الرئيس إلى الخلف وقال "على ما يبدو بأنكم لم‬
‫تفهمون شيئا ً بعد" هكذا كانت إجابته قصيرة وبسيطة ولم يرد الحديث أكثر من ذلك وأنهى االجتماع بنفسه‬
‫وسط غضب األعضاء وعلى رأسهم المتحدث باسمهم وهو "يوسف"‬
‫جلس وحيدا ً عقب خروج أعضاء حزبه وقال بصوت خافت "يبدو أن هؤالء الصغار ال يعلمون كيف تدار‬
‫األمور وكأنهم في المدينة الفاضلة يريدون اقتالع جذور الفساد‪ ،‬ليت األمر كان بهذه السهولة التي يظنونها"‬
‫ضحك عقب انتهاء تلك الكلمات في إشارة منه للسخرية مما طلبه أولئك الصغار في نظره ولم يلتفت لحديثهم‬
‫وحاول ثانية دون توقف إعادة لهجة الود بينه وبين السيد "نزار" فهو يريد دعمه الكامل قبل الخوض في‬
‫معارك أشد صعوبة من ذي قبل وال تتحمل التخاذل قط‪.‬‬

‫السيد "نزار" بدوره لم يكن مهتما ً بتلك االتصاالت فهو يعلم بأن هذا النظام سيقع في فخ جديد وقد ال ينهض‬
‫منه وإن كان الحظ قد وقف معه مرة وأخرى فلن يظل يقف معه طوال فترة حكمه‪ ،‬كان يرى بأن خطط النظام‬
‫تحتاج فترة كبيرة لتصبح حقيقة على أرض الواقع وكان على علم بأن طوائف هذا الشعب لن تتحمل فترات‬
‫طويلة لتنتظر النهوض فهم انتظروا بما فيه الكفاية واآلن حان وقت مكافئتهم وتحقيق أحالمهم بدالً من الكالم‬
‫المنمق الذي ال فائدة منه وبدالً من تلك المؤتمرات التي ال تسمن وال تغني من جوع‪.‬‬

‫كل منهما قد فهم األمور جيدا ً فرجل المجموعة يدرك بأن الوقوف بجانب النظام في تلك الظروف أمر مستعبد‬
‫تماما ً ورئيس البالد يعلم بأن بقائه لفترة طويلة متعلق بمدى رضى السيد "نزار" ومجموعته عن سياسته في‬
‫إدارة شئون هذا الشعب‪ ،‬لم يبح أحد منهم بتلك الحقائق وانتظروا اللحظة المناسبة للحديث مع األعضاء بهذا‬
‫الشأن‪ ،‬لم تكن هناك أدنى مشكلة بالنسبة لرئيسنا بعكس حاكم تلك البلد الذي يملك عديد المشكالت التي تتطلب‬
‫منهُ إيجاد حلول سريعة ‪.‬‬

‫حاول البعض منا داخل المجموعة فهم ما يدور بين الرئيس الحالي وبين السيد "نزار" وما سبب تخليه عنهُ‬
‫في تلك الظروف الصعبة بعد أن كانت العالقة بينهم تسير على نحو جيد تماما ً حتى في أثناء األزمات‪ ،‬توقف‬
‫الدعم فجأة زرع الشك من جديد في نفوسنا وكنتُ ممن بسط الشك نفوذه عليهم‪ ،‬في البداية حاول التهرب من‬
‫تلك األسئلة ق بل أن يجيب إجابة مبهمة وغير صريحة بالمرة وقال "مشاكل شخصية هي سبب توقف الدعم‬
‫له" لم يقتنع غالبية األعضاء بذلك الرد فهم يعلمون بأن الرئيس والسيد "نزار" ال تجمعهم عالقة من ذي قبل‬
‫بعكس الرئيس السابق الذي كان صديقا ً للرجل األول للمجموعة‪.‬‬

‫األمور باتت مبهمة للك ل فهما درجة الخالف التي تجعل السيد "نزار" يتوقف عن إصدار التعليمات بالخروج‬
‫على الشاشات والوقوف بجانب الرئيس في محنته‪ ،‬وحتى أعضاء الحزب الحاكم لم يتفهموا موقف المجموعة‬
‫ورئيسها خصوصا ً وأن العالقة بينهم بدأت بتكريم على الهواء مباشرة رغم غضب الشعب واألحزاب على‬
‫هذه الفكرة الغريبة المجنونة‪ ،‬ماذا حدث كي ينسى مراسم االحتفاء واالحتفال به ؟ هل أيقن بأن النظام الجديد‬
‫لن يستمر في سدة الحكم وأراد الوقوف بجانب الشعب في هذه المرة ؟ تلك األسئلة كانت مثار جدل بالنسبة‬
‫ألعضاء حزبه الذين يريدون معرفة ما يدور خلف الكواليس‪.‬‬

‫ُ‬
‫تؤرق تفكيره‪ ،‬وهذه المرة كانت األمور متعلقة‬ ‫لم يكتب لهذا النظام أن يعيش لفترة كبيرة من دون أزمات‬
‫بتردي األحوال الصحية في المستشفيات أكثر وأكثر ومن سوء حظ هذا الرئيس بأن كل تلك المشاكل متعلقة‬
‫بالطبقة المتوسطة فما أدنى وتلك الطبقات قد سئمت تلك األوضاع المعيشية التي لم تتحسن قط رغم تغير‬
‫النظام السابق الفاسد الذي لم يكن يلقى باالً لهم على اإلطالق‪ ،‬كانوا يمنون النفس في قدوم وجوه جديدة تغير‬
‫من حالة البؤس التي ظلوا عالقين فيها لسنوات وسنوات دون تغير يذكر‪.‬‬

‫من جديد أبرزت القنوات ردة فعل تلك الطبقة التي صرخت على الهواء مباشرة لتستغيث من تلك الوحوش‬
‫التي تريد الفتك بأجسادهم المريضة الهزيلة‪ ،‬صدى أصواتهم كان صداحا ً يوقظُ قلوبا ً قد ماتت منذ سنوات‬
‫مضت‪ ،‬ومن جديد تساءلت إحدى المذيعات قائلة "وماذا بعد ؟ تغيرت األوجه وتغير النظام ولكن األمور كما‬
‫هي فما الحل إذا ً هل نغير هؤالء المساكين ؟ هل نرحل من هذا الوطن ؟" تلك الكلمات ال ُموجعة أحدثت هزة‬
‫كبيرة في البالد وأثارت التساؤالت من جديد حول قدرة هذا النظام على إدارة شئون البالد‪.‬‬

‫لم تقف األمور عند هذا الحد بالطبع واستمرت القنوات في الهجوم على المسئولين عن تدهور الحالة الصحية‬
‫للمواطن وحملته م المسئولية كاملة ووجهت اللوم على الرئيس ونظامه الذي وعد بالكثير ولم ينفذ سوى القليل‪،‬‬
‫حاولوا الوصول إلى رؤساء تلك المستشفيات وبالفعل أجروا عديد االتصاالت معهم لتوجيه تلك األسئلة لهم‬
‫وليتحدثوا بلسان الماليين العاجزين عن مواجهتهم وتوجيه أصابع االتهام إليهم‪ ،‬بدورهم حملوا النظام‬
‫المسئولية الكبرى عن سوء األوضاع وقالوا بأنهم يفتقدون للدعم وبأنهم يبذلون قصارى جهدهم لعالج‬
‫المواطن‪.‬‬

‫عادت غرفة العمليات لتطل عليهم من جديد في محاولة منهم إلرضاء الطبقة التي تعاني من فشل األوضاع‬
‫الصحية‪ ،‬الرئيس لم يتوقف عن توجيه االنتقادات لوزير الصحة وطلب منه التفرغ الكامل لتفقد تلك‬
‫المستشفيات بنفسه واالطمئنان على مدي تحسن حالة المرضى هناك ووعدهم بتوفير أماكن أكثر هدو ًء وراحة‬
‫لهم وتحسين تلك المباني التي قاربت على السقوط وبناء مستشفيات جديدة تتسع لهذا العدد الهائل من الشعب‬
‫الذي يتطلع لمستوى عالج أفضل من ذي قبل‪.‬‬

‫نالت تلك الخطوات استحسان المرضى وعبروا عن سعادتهم الهتمام الرئيس شخصيا ً بهم وبقضيتهم التي‬
‫ظلوا يتمنون أن يُنظر لها في يوم في األيام‪ ،‬وبرغم من ذلك فعاد الهجوم على النظام من جديد رغم جهوده في‬
‫حل األزمة وخرج األطباء بدورهم ليتح دثوا عن مدى اإلهمال الذين يتعرضون له وأنهم ضحية مثلهم كمثل‬
‫هؤالء الذين فقدوا جز ًء من صحتهم‪ ،‬وأفرد اإلعالم مساحة واسعة لهم حتى يتحدثوا عن كل تلك العراقيل التي‬
‫تواجههم في أثناء عملهم وبأن لهم قضية تستحق النظر لها هي األخرى‪.‬‬

‫هذه المرة لم يخرج وزير الصحة ليتفق د حالة األطباء بل خرج الرئيس بنفسه ليرى الظروف الصعبة التي‬
‫يمرون بها في عملهم وبأنهم يحملون على عاتقهم مسئولية كبيرة ال يشاركهم فيها وال مسئول كبير وال وزير‬
‫وال حتى رئيس‪ ،‬عديد القنوات غطت ذلك الحدث المهم وتناولت حديث حاكم البالد في كافة المستشفيات‬
‫المختلفة مع عديد األطباء وطمأنهم بأنه سيوفر لهم الدعم الكامل لمواجهة تلك التحديات الصعبة وحتى يتمتع‬
‫الطبيب المعالج والمريض بظروف صحية أفضل من تلك التي تقف عقبة في طريقهم‪.‬‬

‫في االجتماع األخير داخل مقر المجموعة تناولنا سويا ً ما فعله الرئيس ووزيره من جهود من أجل توفير سبل‬
‫الراحة الكاملة للطبيب وللمريض‪ ،‬ابتسم السيد "نزار" وقال "يبدو أن ذلك الطفل بدأ للتو في تعلم المشي‬
‫وتخطى العقبة األولى وأتمنى بأن ال يسقط مجدداً" في إشارة منه بأن الرئيس عرف هذه المرة كيف تدار‬
‫األمور وذهب بنفسه لتفقد األحوال‪ ،‬رغم ذلك كله أبى الحديث وفضل الصمت وعدم الوقوف بجانب النظام‬
‫حتى تهدأ األوضاع تماما ً وحينها يختلف الكالم‪.‬‬

‫جلس الرئيس في مكتبه وأغلق الباب على نفسه وانتظر خروج أحد أعضاء المجموعة للوقوف معه ودعمه‬
‫بعد تلك األحداث وبعد ما فعله بنفسه ولكن انتظاره هذا كان مضيعة للوقت‪ ،‬كان غاضبا ً وبشدة بعد هذا‬
‫الصمت الغريب وكسر هاتفه عقب توالي االتصاالت على السيد "نزار" ولكن ال استجابة‪ ،‬ماذا عساه أن يفعل‬
‫حتى يجيب على اتصاالته تلك ويخرج أحدا ً من أعضائه الملعونين لكي ينهالوا بعبارات المدح على تعامل‬
‫حاكم البالد الحكيم مع أزمة األطباء والمرضى‪.‬‬

‫أحس أعضاء الحزب الحاكم بالغضب الذي يسيطر على رئيسهم وكانوا يعلمون سبب هذا الغضب ولكنهُ لم‬
‫يكن مفهوما ً بالنسبة لهم فها هي القنوات قد هدأت قليالً وها هم األطباء سعيدون بتلك الزيارة إذا ً فما سبب ردة‬
‫الفعل تلك الغير مبررة ؟ وهل سيظل الرئيس هكذا في حالة من عدم الرضا عن أدائه بسبب تجاهل ذلك‬
‫المدعو "نزار" التصاالته ؟ يعلمون تماما ً بأن حالته تلك ستؤثر بالسلب على عطائه وستنقل مشاعر اإلحباط‬
‫للحزب ولهم وقد يتوقون عن العمل في أي وقت كان‪.‬‬

‫"يوسف" و"نضال" كانوا أشد األعضاء غضبا ً من الرئيس وأرادوا الحديث معه على انفراد ولكنهم فشلوا‬
‫فهو ال يريد الحديث حاليا ً فاكتفوا بالذهاب إلى إحدى األماكن الهادئة وتبادلوا الحديث سويا ً عساهم يخرجوا‬
‫تلك الطاقة السلبية الموجودة بداخلهم وتمكنت منهم‪ ،‬لم يتحدثوا كثيرا ً عن حياتهم الشخصية وتناولوا مخاوفهم‬
‫المستقبلية من إدارة الرئيس لمقاليد الحكم وتمنوا لو تفهم تلك المخاوف وتمنوا لو أوقف اهتمامه بذلك الرجل‬
‫وبمجموعته التي ال تريد الخير لبلدهم الجميل والكبير‪.‬‬

‫لقد مر وقت طويل على آخر مرة جلس فيها "يوسف" مع زوجته وكانت متفهمة الظروف التي يمر بها‬
‫زوجها ورفعت يدها للسماء داعية هللا بأن ينهي كل ذلك الصخب من حولهم‪ ،‬تلك اللحظات هي التي يتمنى‬
‫فيها الرجل عدم التحاقه بالعمل السياسي الذي ال يتوقف عن المفاجئات المتتالية وتمنى لو اكتفى بالعمل في‬
‫مجال الرياضة لينقل ردة فعل جماهير الفريق هذا وجماهير الفريق ذاك ومتابعة أخبار االنتقاالت بدالً من‬
‫متابعة أخبار الحوادث وا ألزمات‪ ،‬يا للهول شتان الفارق بين تلك الحياة وقرينتها‪.‬‬

‫هناك لحظة أخرى يتمنى فيها الرجل عدم االلتحاق بالعمل السياسي وهو إيقاظك في السادسة صباحا ً على وقع‬
‫خبر صادم ومفاجئ وتضطر بعدها للهرولة في منزلك يمينا ً ويسارا ً بحثا ً عن الزي المناسب قبل الخروج‬
‫والذهاب إل ى عملك‪ ،‬تلك اللحظة كانت ارتفاع األسعار مرة أخرى وارتفعت معها أسعار المواصالت‪،‬‬
‫"يوسف" أيقظ زوجته من جراء حركته التي سببت ضجيجا ً في المكان ولم يكن األمر يتحمل تأخره أكثر من‬
‫هذا وعليه التواجد اآلن في المقر رغم أن الشارع ال يسم ُع فيه إال صوت العصافير‪.‬‬

‫الحادثة وقعت في آخر ساعات الليل ولم يعلم أحد بشأنها وبالطبع لن يستيقظ أحد من نومه لقراءة الصحيفة‬
‫غارق في أحالمه وربما كوابيسه‪ ،‬دخل "يوسف" إلى مقر الحزب‬ ‫ُ‬ ‫التي تنشر أخبار الغد ولذلك فالكل كان‬
‫ووجد البعض منهم يحاول االستيقاظ من نومه والبعض اآلخر الزال يتعامل على أنه راقد ُ في فراشه الجميل‪،‬‬
‫لم يستوعب أحد بعد تلك الكارثة التي حلت عليهم وكأن القدر ال يمهلهم الوقت حتى يطل عليهم بأزمة جديدة‬
‫تعصف بآمال الحزب والنظام في البقاء على رأس الحكم‪.‬‬

‫الجميع ظل يبحث عن الرئيس لمحاولة الجلوس معه وعقد اجتماع طارئ لمناقشة سبل الخروج من تلك‬
‫األزمة ولكنهُ لم يأت بعد وعلى ما يبدو أنهُ أكثر من تناول الطعام مسا ًء لذلك فلم يصحو إلى اآلن‪ ،‬بعد‬
‫محاوالت عديدة استجاب الرجل لالتصاالت ولم يمر وقت طويل حتى جاء إلى المقر ليعرف بالضبط ما‬
‫حدث‪ ،‬ردة فعله لم تكن قوية كما توقعنا ومالمح وجهه تشير إلى علمه مسبقا ً بتلك القرارات المفاجئة وهذا ما‬
‫أصاب الجميع بالدهشة‪ ،‬كيف يخفى تلك األخبار المفجعة ؟ ولماذا لم يحاول االتصال بنا ؟‬

‫"يوسف" أصابهُ الغضب الشديد وقرأ الكلمات الخفية على وجه الرئيس وقال وهو على وشك االنفجار "يبدو‬
‫أنه فقد عقله تماماً" لم يكن أعضاء الحزب بحاجة إلى تفسير منهُ إلخفائه ذلك الخبر المهم فالطبع هم يعلمون‬
‫بأنهُ الزال يحاو ُل كسب دعم ذلك العجوز الذي حتما ً سيودي بنا إلى التهلكة قريبا ً وسيشاهد من بعيد دون‬
‫الشعب بالخارج قاب قوسين أو أدنى من أن ينفجر في وجه‬ ‫ُ‬ ‫حراك يذكر‪ ،‬لقد أضاع وقتهُ مع هذا الرجل بينما‬
‫النظا م وحزبه ومعارضيه وكل من له عالقة بالسياسة‪.‬‬

‫المصائب لم تقف عند هذا الحد بالتأكيد وبمجرد فتح القنوات لمتابعة آخر التطورات إذ وجدنا أن الفئة الشبابية‬
‫تدعو إلى تظاهرة لإلطاحة بالرئيس ومن معه وأنهم لن ينتظروا أكثر من هذا وأنها الساعات األخيرة لهذا‬
‫النظام الفا شل‪ ،‬توقفت الحياة للحظة واحدة وحاول األعضاء استيعاب ما سمعوه للتو ولم يصدقوا تلك الدعوة‬
‫واعتقدوا أنها مجرد مزحة ليس أكثر وأن هؤالء الشباب يهددون فقط وال توجد نية لديهم في التظاهر لكنهم‬
‫رغم اعتقادهم هذا ظلوا مذعورين بسبب تلك التصريحات‪.‬‬

‫لم يستغرق األمر كثيرا ً حتى امتألت المواقع االلكترونية بدعوات لكافة طوائف الشعب للخروج والهتاف ضد‬
‫الرئيس وحزبه الذين أضاعوا البالد أكثر وأكثر ولن يسمحوا باالنتظار ثانية وأنهم أخذوا الفرصة كاملة ولم‬
‫يحققوا أية نجاح يذكر على أرض الواقع‪ ،‬حاول المركز اإلعالمي في تلك اللحظات الخروج على الهواء‬
‫للحديث عن تلك األزمة وتداعياتها ولبث الطمأنينة في نفوس الشعب وإخبارهم بأن الحلول موجودة وأن تلك‬
‫الفترة ستمر بكل ما تحمل من صعوبة شرط وقوف الشعب بجانب النظام‪.‬‬
‫اإلعالم لم يقبل حديث المركز اإلعالمي بعكس المرات السابقة وقال في رسالة صريحة بأنه قد فات وقت‬
‫ُ‬
‫يتحدث فيها البعض عن‬ ‫التحدث عن الغالء وغيره واآلن هو وقت التظاهرات وال غيرها‪ ،‬للمرة األولى تقريبا ً‬
‫فترة ما بعد النظام وبدوا يتعاملون بأنه غير موجود وكلها سويعات ويرحل لألبد دون عودة‪ ،‬في تلك األثناء‬
‫الهتافات خرجت من جديد تنادي برحيل الرئيس ومن معه في أسرع وقت وباتت األمور صعبة جدا ً في ظل‬
‫تلك التطورات السريعة التي تشهد ُها البالد‪.‬‬

‫لم يكن من الحزب الحاكم سوى حشد بعض المؤيدين لهُ حتى تتعادل الكفة وحينها تتأجل مسألة الرحيل إلى‬
‫إشعار آخر وتكون األزمة قد انتهت ويرحل المتظاهرين إلى بيوتهم وينتهي كل شئ‪ ،‬تم عمل ترتيبات لعقد‬
‫مؤتمر يخرج فيه الرئيس لشعبه ليتحدث معهم عن تلك األزمة وعن تلك التظاهرات‪ ،‬قبل البداية بلحظات قليلة‬
‫حاول االتصال بالسيد "نزار" للوقوف بجانبه في هذا المأزق الصعب ولكن اإلجابة ظلت كما هي وبدأ‬
‫ترتعش من شدة الخوف والذعر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يتصبب عرقا ً أكثر فأكثر وكانت يده‬

‫لم يتحدث كثيرا ً في ذلك المؤتمر الذي خلى من أغلبية الصحفيين الذين يقفون في الشوارع لتغطية أحداث‬
‫أخرى أكثر أهمية من ذلك الخطاب البائس‪ ،‬حاول كسب ود الشعب وقال بأن األزمة لن تنتهي بتلك الطريقة‬
‫وأنه يجب التحلي بالهدوء والصبر حتى تصبح بالدنا أفضل من ذي قبل وأنه لم يأخذ فرصته كاملة بعد‬
‫والعمل الزال مستمرا ً من أجل النهوض بالحالة االقتصادية واالجتماعية لهذا الشعب‪ ،‬عند تلك الكلمات‬
‫المعتادة لكل رئيس يعل ُم نهايته انتهى حديثه وعادت القنوات لتنقل التظاهرات مرة ثانية‪.‬‬

‫هذه المرة كان دور الخبراء السياسيون للخروج على الهواء مباشرة للحديث عن رأيهم في تلك التظاهرات‬
‫وفي خطاب الرئيس األخير‪ ،‬السواد األعظم منهم اتفق بأن اإلفالس هو صفة هذا النظام متمثالً في هذا‬
‫الخطاب وأن تلك الكلمات وإن دلت على شئ فهي تدل على معرفة مصيره الذي ينتظره وأنهُ يحاول فقط‬
‫تأجيل القرار حتى يضمن لنفسه خروجا ً جيدا ً ُ‬
‫يليق برجل سياسي مثلهُ‪ ،‬ظلت القنوات على هذا الحال‬
‫تستضيف الخبير تلو اآلخر وعلى يمين الشاشة صور مجمعة لتلك التظاهرات هُنا وهُناك‪.‬‬

‫مقر الحزب كان صامتا ً للغاية‪ ،‬بقى أن يرتدوا الزي األسود وتحمر أنفوهم وتذرف أعينهم الدموع حتى يظهر‬
‫مشهدا ً كامالً لوفاة أحدهم‪ ،‬ال أحد يتحدث وال أحد يتحرك وال أحد يريد تناول الطعام أو الشراب وال أحد يملك‬
‫القدرة على االتصال بإحدى القنوات ليخبرها بأن األمور جيدة وعلى ما يرام وأنهُ ال داعي لتلك الهتافات‪،‬‬
‫الزالوا تحت تأثير الصدمة ولم يتصوروا بأن كل تلك األحالم التي رسموها ألنفسهم قد تصب ُح سرابا ً في‬
‫الساعات القادمة ويعودوا من حيث جاءوا وينتهي المطاف بهم في التردد على إحدى الحانات لنسيان ما حدث‪.‬‬
‫ُ‬
‫تنطق بالحقيقة التي ال مفر منها‪ ،‬قبل الذهاب‬ ‫لم يقدر "يوسف" على البقاء أكثر وتحجج بزوجته ورحل وعينهُ‬
‫إليها خرج ليستنشق بعض الهواء لربما ال يجدهُ مرة ثانية‪ ،‬خرج ليستنشق هواء الديموقراطية وحرية الرأي‬
‫قبل أن تعذبهُ حرارة الرأي الواحد‪ ،‬يدركُ جيدا ً بأن النهاية قد اقتربت وأن تلك المرة لن يفلت النظام والحزب‬
‫واألعضاء من العقاب‪ ،‬نسمات الهواء باتت قليلة ظل يبحث عنها في كل مكان ولكنها ولت بعيدا ً ولم يبق منها‬
‫سوى القليل في انتظار السقوط حتى يهموا بالرحيل مع منهم سبقهم‪.‬‬

‫مقر المجموعة كان األكثر انتعاشا ً في تلك اآلونة فال خوف يهددنا وال ذعر يقلقُنا بتاتاً‪ ،‬السيد "نزار" بدأ‬
‫يتحدث عن فترة ما بعد النظام الحالي في إشارة واضحة وصريحة بأنه قد انتهى لألبد وأنهُ لن يقدر على‬
‫مواجهة غضب الشعب‪ ،‬لكن ما قاله ُ بعد ذلك كان أمرا ً جنونيا ً وال يصدق‪ ،‬أمر أشبه بالخيال الذي يروى في‬
‫قصص األطفال ويعرض في األفالم فقط وال صلة له بالواقع‪ ،‬ابتسم وقال "سندخل االنتخابات القادمة وسنفوز‬
‫بها وسيصب ُح خيرت هو الرئيس القادم لتلك البالد وأكون أنا قد انهيتُ عملي في تلك المجموعة"‬

‫في البداية اعتقد الجمي ُع بأنهُ يمزح كعادته في بداية االجتماعات وتعالت الضحكات في الغرفة قبل أن يكمل‬
‫قائالً "ال أمزح وأتحدث معكم بكل جدية‪ ،‬خيرت لم يعد ذلك الشاب الذي أتى لنا هُنا وهو يرتدي بدلة تص ُل‬
‫إلى صدره‪ ،‬خيرت بات رجالً قويا ً بإمكاننا االعتماد عليه في المستقبل القريب" من جديد عاد الضحك ليعم‬
‫المكان ولكن هذه المرة عقب سخريتهُ‪ ،‬حاولتُ فهم ما قالهُ للتو ولكن لم أقدر‪ ،‬لن أكذب وأقول بأني أملكُ‬
‫طموحا ً منذ ُ البداية في السيطرة على حكم البالد ولكنها ُخطوة مفاجئة تماماً‪.‬‬

‫لم أرد التفكير كثيرا ً بهذا الشأن وقلتُ في قرارة نفسي بأنهُ قد استبق األحداث ومن الوارد بقاء النظام الحالي‬
‫بمعجزة أخرى تكف ُل لهم اإلدارة حتى حدوث أزمة أقوى‪ ،‬في الحقيقة كنتُ أخشى من البوح بما حدث في‬
‫االجتماع لزوجتي فهي قد تسقطُ مغشية عليها ولن تفيق سوى بعد شهر وبعدها لن تصدق حديثي إطالقاً‪ ،‬تلك‬
‫المرأة ُجن جنونها لحظة المكالمة تلك فماذا لو أخبرتُها بأن سأترشح لرئاسة البالد ؟ قررتُ تأجيل التحدث‬
‫معها بهذا الخبر الجنوني وفضلتُ االنتظار حتى تحين اللحظة المناسبة‪.‬‬

‫وصل "يوسف" إلى منزله وزوجته ولم ينطق على اإلطالق وكانت تتاب ُع األخبار بنفسها وشعرت بما يجو ُل‬
‫في قلب زوجها وفضلت تركهُ يدخل الغرفة حتى يري ُح جسدهُ وأعصابه قليالً ومن َ‬
‫ثم يُعاود التفكير في تلك‬
‫األحداث العصيبة‪ ،‬بمجرد استلقائه على الفراش حتى كان مغلقا ً عينهُ وذهب بعيدا ً إلى عالم األحالم‪ ،‬كانت‬
‫تراقبهُ عن قرب وتشاه د ُ ما حل به وتمنت لو استطاعت إخراجه من تلك الحالة السيئة وأعادت لها تلك‬
‫االبتسامة التي فقدها منذ ُ وقت طويل ولم تعد حتى اآلن‪.‬‬

‫"نضال" شعرت بالتعب الشديد وقررت هي األخرى الذهاب إلى منزلها حتى تخلد للنوم فهي مستيقظة مبكرا ً‬
‫ولم تضع المياه وال الطعام في فمها‪ ،‬تمنت لو أنها لم تعد من جديد للحزب‪ ،‬تمنت لو أنها بقيت في غرفتها‬
‫وسط تلك اللوحات ووسط تلك األلوان الجميلة التي تفر ُح القلب‪ ،‬تمنت لو أنها رفضت دعوة "يوسف" للعودة‬
‫إلى مزاولة العمل‪ ،‬وقبل ذلك كله تمنت لو أنها لم تعد من األساس إلى البالد وبقيت في حالة الروتين تلك بدالً‬
‫من الركض وراء األمل دون فائدة تذكر‪.‬‬
‫التعب الذي أحل بها كاد يُنسيها مكان المنزل ولكنها تداركت خطئها سريعاً‪ ،‬والدها كان ينتظرها على أحر من‬
‫الجمر لكونها خرجت في ساعة مبكرة دون تناول وجبة اإلفطار‪ ،‬انتفض من مكانه فور سماعه صوت الباب‬
‫وركض مسرعا ً تجاهه وعندما وجد ابنته قام باحتضانها تلقائيا ً ونظر في وجهها وقال "تبدين متعبة ومنهكة‬
‫البد أنك لم تضعي شيئا ً في فمك‪ ،‬كلها بضعة دقائق وسنتناول سويا ً وجبة الغذاء" أشاحت بيده بعيدا ً ودخلت‬
‫إلى غرفتها وألقت بنفسها على سريرها وتجاهلت كلمات أبيها‪.‬‬

‫لم يبق في المقر سوى بعض األعضاء الذين فضلوا البقاء ومتابعة آخر األخبار على الذهاب إلى المنزل‬
‫والتمتع بقسط من الراحة‪ ،‬غرفة العمليات كانت صغيرة جدا ً هذه المرة واقتصرت على أشخاص ال يقدرون‬
‫حتى على الحراك لعشرة أمتار من شدة التعب واإلرهاق الشديدين‪ ،‬لم يقدروا على مواصلة االستيقاظ ومنهم‬
‫جالس على كرسي ومنهم من قرر الدخول في إحدى غرف المكان لالستراحة قليالً‬ ‫ُ‬ ‫من غلبهُ النوم وهو‬
‫وبعدها يتابعون العمل من جديد ومن يعلم لربما يأت خبر سعيد يبدل الحال تماما‪.‬‬

‫يبدو أن لحظات النوم تلك كانت مفيدة جسديا ً ونفسياً‪ ،‬عقبها جاءت بعض األخبار السارة التي جعلتهم‬
‫ينتفضون من مكانهم بمجرد سماعها على شاشات التلفاز‪ ،‬استقرار في األسعار جاء بعد غالء كاد يطيح‬
‫بالنظام كامالً وتعالت صيحات الفرح داخل أروقة المقر وبدأ الجميع في احتضان بعضه البعض‪ ،‬حاولوا‬
‫االتصال ببقية زمالئهم الذين ذهبوا إلى منازلهم فاستجاب البعض وشاركهم الفرحة ولم يستجب األخرين‬
‫وكان على رأسهم "يوسف" و"نضال" اللذان لم يشعرا بأنفسهما من فرط المجهود الجسدي‪.‬‬

‫تكسر الباب من شدة الفرح وهزت جسمهُ وقالت‬ ‫ُ‬ ‫لم تنتظر زوجتهُ حتى يفيق من نومهُ ودخلت عليه وكادت‬
‫بصوت عال "لقد استقرت األسعار لقد استقرت األسعار" المسكين كان يحاو ُل استيعاب األمور من حوله‬
‫وعيناهُ كانت محمرة ووجههُ على شكل عالمة استفهام يريد ُ إجابة واضحة لذلك العبث الذي حدث للتو بسبب‬
‫"هند" المجنونة تلك‪ ،‬ثم تابعت "ال وقت لالستغراب فأعضاء الحزب اتصلوا بك كثيرا ً لينقلوا إليك تلك‬
‫األخبار المفرحة أيها البائس" بدأ يهز رأسهُ يمينا ً ويسارا ً حتى يتأكد من كونه مستيقظا ً تماما ً وليس في حالة‬
‫حلم أو ما شابه‪.‬‬

‫يدب داخل جسده‬‫جلس أمام التلفاز يتابع األخبار وبالفعل كان حديث زوجتهُ صحيحا ً وشعر ببعض األمل ُ‬
‫هم باالتصال بزميلته لكي يشاركها الفرحة التي أحس بها عقب سماعه لتلك األنباء الجميلة‬ ‫المتعب الهزيل‪َ ،‬‬
‫العاجلة‪ ،‬كان يعتقد ُ بأنها قد علمت مسبقا ً ولكنهُ تفاجئ حينما ردت عليه والنو ُم لم يكن قد أنهى وقته بعد وقالت‬
‫"مرحبا ً يوسف أمهلني دقائق وبعدها سأعاود االتصال بك" لم تعطه فرصة الرد وأغلقت الهاتف في وجهه‬
‫وحاول االتصال بها من جديد ولكنها لم تجب‪.‬‬

‫حينما استيقظت من نومها شعرت بأنها تحدثت مع أحد وهي نائمة ولكنها فشلت في معرفة الشخص وخرجت‬
‫لتناول الغذاء مع والدها الذي لم يضع الطعام في فمه وانتظر ابنتهُ لتفيق من غيبوبتها تلك‪ ،‬أثناء جلوسهم مع‬
‫بعضهم البعض أخبرها بأن هاتفها لم يتوقف عن إصدار األصوات المزعجة وأنهُ حاول إغالقه ولكنه لم‬
‫ينجح‪ ،‬ضحكت "نضال" عقب كلماته تلك لمعرفتها بأنهُ ال يجيد التعامل مع تلك الهواتف الحديثة وعادت إلى‬
‫غرفتها لمعرفة السبب وراء كل تلك االتصاالت الكثيرة‪.‬‬

‫حدسها كان صحيحا ً بالفعل واتضح أنها تحدثت مع "يوسف" وهي نائمة وعلى الفور اتصلت به لتعتذر منهُ‬
‫عما بدر منها وقالت "يوسف أود االعتذار لك فقد كنت متعبة تماما ً وال أعلم ماذا أقول" أدرك وقتها بأنها لم‬
‫تعلم بع د بشأن ما حدث منذ ساعات وأمرها بالحضور على الفور إلى مقر الحزب وأغلق الهاتف كي يتسنى‬
‫له االحتفال مع زمالئه‪ ،‬لم تفهم السبب وراء طلبه هذا ودخلت لتجهز نفسها وتذهب إلى المقر وهذه المرة‬
‫تناولت طعامها كامالً حتى ال يصيبها التعب واإلرهاق مرة أخرى‪.‬‬

‫بمجرد دخولها إ لى مقر الحزب وجدت األعضاء ممسكين بيدها ويتراقصون معها ولكن تفهم السر وراء هذه‬
‫السعادة المرسومة على وجوههم‪ ،‬اعتقدت أن حالة انعدام النوم تلك لربما سببت جنونا ً مؤقتا ً لديهم وال يدرون‬
‫ماذا يفعلون ولكنها اندهشت أكثر فور رؤيتها "يوسف" هو اآلخر يتراقص معهم وحينها أدركت بأنهم قد‬
‫عرفوا طريق الخمر من جراء ما حدث لهم في مجال السياسة‪ ،‬قبل أن تصرخ فيهم بصوت عال وتقول "مهالً‬
‫ما سبب هذا المرح كله ؟ هل تناولتم بعضا ً من المشروبات المذهبة للعقل ؟ أم أنهُ قلة النوم ؟‬

‫لم يجيبوا عليها وتركوا شاشة التلفاز التي كانت تحم ُل الخبر اليقين والسعيد لتجيب عليها وحينها عادت لتمسك‬
‫بأيديهم وتبادلهم الرقص في مشهد عبثي بالكامل‪ ،‬األجواء كانت جميلة للغاية واعتقدوا أنه ال حجة‬
‫للمتظاهرين اآلن في استكمال الهتافات وأنها بعضة ساعات حتى ينتهي هذا الصخب ويعود الجميع إلى‬
‫ديارهم ويكمل النظام مسيرته كما كان‪ ،‬لكنهم تفاجئوا بأن الهتافات الزالت مستمرة وأن األعداد التي رحلت ال‬
‫تذكر وضئيلة جدا ً مقارنة باألعداد المتبقية في الشوارع‪.‬‬

‫في غمضة عين انتهت حالة الصخب تلك وعاد الصمت ليسيطر على األجواء من جديد ولم يُكتب لهم‬
‫االستمتاع ألكثر من ساعة‪ ،‬ما العمل اآلن ؟ هل سيجبرون المتظاهرين على الرحيل رغما ً عنهم ؟ هم اآلن‬
‫بين يدي هللا وحده وال يملكون سوى الدعاء عساهُ يخرجهم من تلك الظروف الصعبة‪ ،‬لكن هل الدعاء وحده‬
‫سيكون ك افيا ؟ لربما نعم ولربما ال ولكن األكيد بأنهم فعلوا ما بوسعهم للحفاظ على هذا الحزب وللحفاظ على‬
‫النظام وعلى رئيسهم واآلن حان وقت خروجه ثانية للشعب حتى يهدأ من روعهم‪.‬‬

‫الرئيس قد فقد األمل تماما ً في كسب دعم السيد "نزار" ومجموعته وحتى بارقة األمل تلك التي تمثلت في‬
‫استقرار األسعار سرعان ما اختفت فور علمه بإصرار التظاهرات على إقصائه ونظامه وأنهُ ال تراجع مهما‬
‫حدث من أمور‪ ،‬يعل ُم جيدا ً أن استخدام القوة معهم سيكون غبا ًء ولن يكرره فهو يقدر هذا الشعب تماما ً ويريد‬
‫الحفاظ على صورته وسمعته دون أن تلطخ بالدماء‪ ،‬لكن ال مانع من استخدام لهجة أكثر قوة ليذكرهم بأنه‬
‫الزال رئيسا ً للبالد وأنه لم يكمل مدته بعد كحاكم لتلك البالد‪.‬‬
‫لم يتبق في جعبته سوى ورقة وحيدة قد تمكنه ُ من قلب األمور تماما ً وقد تقضى على آماله نهائيا ً في البقاء‬
‫كرئيس للبالد‪ ،‬جلس ينظر إلى األرض ويفكر في تلك الكلمات التي سيخرج اآلن ليقولها إلى جموع الشعب‬
‫فهو يريد اختيارها بعناية شديدة‪ ،‬خرج ليخبرهم بأنهُ الزال رئيسا ً للبالد وسيظل طالما هناك مدة تسمح له‬
‫بالبقاء حتى تنتهي وأنهُ لن يرحل بسهولة عن هذا المنصب‪ ،‬ها هو قد استنفذ جميع الحلول وخرج خلف‬
‫الكواليس ليتابع من مكتبه ردود الفعل عقب خطابه‪.‬‬

‫يبدو بأنه لم يكن موفقا ً في هذا الخطاب الذي أغضب الحشود أكثر ونقلت عبر الشاشات استيائها من كلماته‬
‫وأنها مصرة على موقفها من النظام‪ ،‬يبدو بأن ذلك الحديث أسرع من عملية رحيله المحتملة رغم تكراراه بأن‬
‫مدته لن تنتهي فهو بالطبع لن يتحمل كل هذا الضغط الملقى على عاتقه هو وحزبه ونظامه‪ ،‬األعضاء كانوا‬
‫يتابعون حديثه عبر القنوات وأدرك الكثير منهم بأنهُ قد انتهى وأن تلك اللحظات تشبهُ سكرات الموت يُحاول‬
‫فيها المتوفي الهروب بشتى الطرق ولكن ال طائل من المحاولة‪.‬‬

‫المجموعة بدورها كانت تتابع الخطاب بتركيز شديد لترى ردة فعل الرئيس عقب الكم الهائل من الضغوط‬
‫يتعرض لهُ في كل ساعة ودقيقة‪ ،‬السيد "نزار" ابتسم عقب انتهاء حديثه وقال "ال يصدق بأن وقته قد‬
‫ُ‬ ‫الذي‬
‫انتهى‪ ،‬يعلم ذلك تماما ً ولكنهُ يحاول تكذيب نفسه" كنتُ واحدا ً من األعضاء القلقين عقب خبر استقرار األسعار‬
‫فكنا نعل ُم بأن انتهاء التظاهرات قد يعني بالضرورة استمراره في الحكم وهذا ما يعد ُ خطرا ً كبيرا ً خصوصا ً‬
‫بعد التعامل السئ الذي وجده من رئيسها‪.‬‬

‫أخيرا ً استجاب السيد "نزار" التصاالت الرئيس المتتالية ولكن لن يحقق طموح المتمثل في كسب دعم‬
‫المجموعة ولكنها كانت رسالة قصيرة يقول فيها "انتهى الوقت سيدي الرئيس وال جدوى من البقاء فأنت تعلم‬
‫وأنا أعلم بأن تلك الجموع لن ترحل سوى برحيلك" لم يصدق ما سمعهُ للتو فهو كان يمني نفسهُ بدعم قد يزي ُل‬
‫ذلك الهم ال ُمطبق على صدره ولكن تلك المكالمة ما زادته إال هما ً وحزنا ً وحينها علم بأن هذا الرجل ال يحبذ‬
‫وجوده على رأس الحكم ولذلك التزم الصمت طوال الفترة الماضية بأكملها‪.‬‬

‫اجتمع الرئيس داخل المقر وبدا الحزن مسيطرا ً عليه للغاية ووجههُ كان منكسرا ً ال يريد أن يرفعهُ في وجه‬
‫األعضاء‪ ،‬كلها دقائق معدودة ويخرج السيد "نزار" ليذيع خبر رحيل النظام وهو لم يرد إخبارهم بنفسه‪،‬‬
‫حزنه هذا كان دليل كبير على انتهاء األمور لألبد وتبقى فقط الخبر الرسمي الذي لم يعرف أحد منهم وقته‬
‫بالتحديد‪ ،‬فجأة خرجت إحدى القنوات لتقول في خبر عاجل بأن هناك كلمة لرئيس المجموعة للشعب وعلينا‬
‫االنتقال لسماعها فوراً‪ ،‬اندهش الحزب بأكمله ولم ينظر حاكم البالد تجاه التلفاز‪.‬‬

‫حدث ما كان متوقعا ً وذاع السيد "نزار" خبر رحيل النظام وحينها تعالت صرخات الفرح داخل الشوارع التي‬
‫كانت مكتظة بالمتظاهرين الذين سئموا هذا الوضع السئ‪ ،‬األمر أشبه بسقوطك من الطابق الثالث أو ما شابه‪،‬‬
‫لم ينطق أحد وانهارت الشابات الموجودة داخل المقر وحاول الشباب تصنع الثبات ولكنهم فشلوا ودخلوا هم‬
‫اآلخرين في نوبة من البكاء‪ ،‬حل ُمهم يُقتل أمامهم وكل تلك األفكار التي ظلوا عاكفين عليها لمدة سنوات‬
‫وسنوات في غمضة عين ذهبت أدراج الرياح‪.‬‬

‫الرئيس كان أول المغادرين للمقر فهو لم يتحمل ذلك الجو الحزين الكئيب وولى مسرعا ً إلى مكتبه يجم ُع ما‬
‫تبقى ويحزم أمتعته ويعود إلى دياره‪ ،‬البقية كانت موجودة تحاول استجماع قوتها التي ذهبت في البكاء وفي‬
‫ُ‬
‫يحترق من‬ ‫الصراخ‪" ،‬يوسف" الوحيد تقريبا ً الذي لم يذرف الدموع وبدا بأنهُ أكثرهم ثباتا ً وقوة ولكنهُ كان‬
‫الداخل ‪ ،‬يحترق على كذا هذا المجهود الذي ضاع سدى‪ ،‬يحترق على كم هذا الغباء الذي أصاب الشعب فعلى‬
‫ما يبدو بأنهم لم يتعلموا الدرس جيدا ً وال يعوا المصير الذي ينتظرهم في المستقبل‪.‬‬

‫"يوسف" كان المغادر الثاني عقب الرئيس وترك "نضال" والبقية في بركة من الدموع قد ال تتوقف حتى‬
‫ساعة متأخرة من الليل‪ ،‬حاول اللحاق بما تبقى من نسمات الهواء التي كانت تعيد ُ له االنتعاش‪ ،‬حاول اللحاق‬
‫بها قبل قدوم تلك الموجات الحارة التي ستفتكُ برؤوسهم‪ ،‬لم ينجح في التمتع بذلك المخدر الجوي وذهب في‬
‫طريقه إلى منزله حتى يرتدي الزي الرسمي للعاطلين عن العمل‪ ،‬أثناء العودة ظل يراقب كل كبيرة وصغيرة‬
‫في تلك البلد ويتذكر تلك الفكرة وهذا المشروع ويمسكُ برأسه من شدة الحزن‪.‬‬

‫"نضال" الزالت تتعافى من آثار الصدمة الشديدة التي تعرضت لها‪ ،‬طلبت من والدها الحضور كي يرحلوا‬
‫سوياً‪ ،‬كان يعل ُم بما حدث وحينما دخل المقر ركضت نحوه واحتضنته وانفجرت في البكاء من جديد وحاول‬
‫أن يهدأ من روعها ولكنها الزالت مصرة على موقفها من الدموع‪ ،‬طلبت منه السفر بعيدا ً والعودة إلى حيث‬
‫كانوا في أقرب فرصة فهي ال تود البقاء ثانية في تلك البلد المثيرة للجدل التي يفض ُل أهلُها الموجات الحارة‬
‫على نسمات الهواء الجميلة والناعمة‪.‬‬

‫بقية األعضاء خرجوا من المقر وهم بالكاد يستطيعون الوقوف على أقدامهم‪ ،‬وقفوا يلقون النظرة األخيرة على‬
‫هذا المكان الذي حمل اجتماعهم وفرحهم وحزنهم‪ ،‬وقفوا ينظرون إلى مقاعدهم التي تحملت عبئهم وهمهم‪،‬‬
‫المشهد أقرب إلى توديع خطيبتك قبل أن تسافر بحثا ً عن المال كي تتزوجها ولكنهُ أكثر حزنا ً وكآبة‪ ،‬انطفأ‬
‫نور الحزب ومقره وبات المكان وحيدا ً هو اآلخر ال صديق لهُ وال حبيب‪ ،‬انطلق الجميع في طريقهم بحثا ً عن‬
‫سبيل للهروب من ذلك الكابوس المفزع المرعب‪.‬‬

‫ُ‬
‫أصدق ما أراهُ‪ ،‬احتفاالت كبرى هزت العاصمة‬ ‫أراقب المشهد من نافذة مبنى المجموعة ولم أكد‬
‫ُ‬ ‫كنتُ‬
‫تختلف كثيرا ً عن سابقتها حين رحل النظام السابق‪ ،‬هل يدركون ما هم مقبلون عليه‬
‫ُ‬ ‫وضواحيها‪ ،‬احتفاالت ال‬
‫تحدث مرة أخرى‪ ،‬صدى صوتهم قد ال يعود ُ من جديد‪ ،‬تلك األيادي التي‬‫ُ‬ ‫؟ هل يظنون أن تلك التظاهرات قد‬
‫ض من الخضروات لوجبة الغذاء‪ ،‬تلك األيادي قد‬ ‫تتحركُ في الهواء الطلق قد تكتف بالعمل فقط وشراء بع ٍ‬
‫تكتف بأن تُوضع على أجساد زوجاتهم حتى يتنسى لهم الدخول في حالة من النشوة الجنسية‪.‬‬
‫ُ‬
‫تستغيث بهم ولكن‬ ‫تنزف الدماء وهم‬
‫ُ‬ ‫كنتُ أرى بأم عيني تلك الطفلة التي قتلوها بمحض إرادتهم‪ ،‬كنت أراها‬
‫دون فائدة‪ ،‬أصوات االحتفاالت غطى على صوت الصرخات‪ ،‬تركوها هكذا دون مساعدة وكدتُ أفقد ُ عقلي‬
‫من ما شاهدت‪ ،‬الطفلة التي كانت وليدة الهتافات األولى وخرجت إلى النور بعدها عانت األمرين وطلبت‬
‫النجدة في أكثر من مرة‪ ،‬الطفلة التي تُدعى "حرية" قد لقى ُحتفها منذ ُ بضعة دقائق مع سبق اإلصرار‬
‫والترصد واآلن فقط حان دورنا لنحكم‪ ،‬حان دور مجموعة الغربان‪.‬‬

You might also like