Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 7

‫صفحات من أوراق جدي الصفراء ‪..

‬‬
‫اإلتقان واستدامة األعمال وخواتيمها‬
‫نشر في جريدة أخبار الخليج بتاريخ ‪ 14‬مايو ‪2023‬‬

‫بقلم‪ :‬الدكتور زكريا الخنجي‬

‫كتب جدي في أوراقه الصفراء‪..‬‬

‫إنه في زمن التحوالت النفطية في المنطقة‪ ،‬وفي فترة تحول البيوت من‬
‫المنازل الخشبية والسعف إلى البيوت المصنوعة من الطين والحصى‪،‬‬
‫كان هناك بنّاء اسمه (عبد اهلل)‪ ،‬وكان هذا البنّاء متقنًا في عمله إلى درجة‬
‫قوية‪ ،‬إذ كان كبار تجار المنطقة يطلبونه بين حين وآخر لبناء منازلهم‬
‫الجديدة أو إضافة غرف إلى منازلهم الكبيرة القديمة‪ ،‬فكان عمله يقارب‬
‫الكمال في كثير من األحيان‪.‬‬

‫وأما هو وأسرته فقد كانوا يسكنون في منزل من السعف الرخيص في‬


‫أطراف الحي القديم الذي ينتمي له‪.‬‬

‫وعندما كبر في السن وبدأ جسمه يوهن‪ ،‬شعر أنه آن األوان ليتقاعد ويهدأ‬
‫ويستريح مع أوالده وأسرته‪ ،‬وخاصة أن أوالده كبروا وبدأوا يعملون في‬
‫الدوائر الحكومية التي أنشأتها الحكومة مؤخرًا‪ ،‬فكان يسأل نفسه‪ :‬ما‬
‫الداعي للعمل أكثر ؟‬

‫سمع كبير التجار ما عزم عليه (عبد اهلل)‪ ،‬فاستدعاه‪ ،‬وطلب منه أال يتقاعد‬
‫وقال له‪ :‬إنه في الفترة القادمة سيتوسع عملك‪ ،‬وربما تصبح مقاوالً‬
‫كبيرًا‪ ،‬وخاصة إن المنطقة مقبلة على التغيير والتطور‪ ،‬وحتى إن شئت‬

‫‪1‬‬
‫يمكن أن نعمل أنا وأنت شركة مقاوالت تقوم أنت بإدارتها والعمل‬
‫فيها‪ ،‬وأنا أعطيك رأس المال‪.‬‬

‫شكر عبد اهلل مبادرة كبير التجار‪ ،‬ولكنه اعتذر ألنه عزم أمره وقطع عهدًا‬
‫ألسرته وأوالده أنه سيترك العمل ويستريح‪.‬‬

‫وبعد عدة محاوالت من كبير التجار‪ ،‬وجد أنه من المستحيل إقناع عبد اهلل‬
‫والعدول عن رأيه‪ ،‬فقال له‪ :‬لي رجاء واحد وأخير وبعدها يمكنك الرحيل‪.‬‬

‫فقال عبد اهلل‪ :‬ما هو ؟‬

‫كبير التجار‪ :‬أريدك أن تبني لي منزالً وسيكون هذا آخر عمل لك‪ ،‬وبعد‬
‫االنتهاء منه‪ ،‬يمكنك الرحيل‪.‬‬

‫وافق عبد اهلل على مضض‪ ،‬إال أنه شرع في العمل من اليوم التالي‪ ،‬ولعلمه‬
‫أن هذا البيت سيكون األخير فلم يحسن صنعه‪ ،‬فاستخدم المواد‬
‫الرديئة‪ ،‬ولم يعمل بكل إبداعاته وقدراته ومهاراته التي يعرفها في بناء‬
‫البيوت‪ ،‬وإنما كان يحاول أن ينهي البيت بأسرع ما يمكن وبأي طريقة‬
‫كانت‪ ،‬حتى إن العمال – في بعض األحيان – يحاولون أن ينبهوا عبد اهلل‬
‫لألخطاء التي يرتكبها إال أنه لم يهتم‪.‬‬

‫وأنهى بناء البيت بأسرع ما يمكن‪ ،‬حتى يتفرغ للتقاعد‪ ،‬وبعد االنتهاء من‬
‫البيت ذهب إلى كبير التجار‪ ،‬فسلمه المفتاح‪ ،‬وطلب منه بكل أدب‬
‫واحترام أن يرحل اآلن‪.‬‬

‫إال أن كبير التجار طلب منه أن يصحبه إلى المنزل الجديد‪ ،‬وأن يشرح له‬
‫المرافق وكل ما في المنزل‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫فذهبا إلى المنزل الجديد‪ ،‬وفتح عبد اهلل ذلك البنّاء المبدع العجوز الباب‬
‫وقام بشرح المنزل وتفصيالته‪ ،‬وكان كبير التجار يقف مذهوالً من تلك‬
‫القدرات واإلمكانيات في بناء البيت‪ ،‬وهو ال يعلم خفايا ونواقص المنزل‪،‬‬
‫إذ كان عبد اهلل يحاول أن يخفي العيوب والنواقص التي في المنزل والتي‬
‫تجاهلها هو‪ ،‬وعندما انتهى حاول أن يغادر‪ ،‬إال أن كبير التجار استوقفه‬
‫وقال له‪" :‬خذ المفتاح‪ ،‬فهذا المنزل هديتي لك نظير كل سنوات الخدمة‬
‫التي قدمتها المنطقة‪ ،‬أرجو أن تتقبلها مني"‪ ،‬ثم غادر‪.‬‬

‫وقف البنّاء العجوز المبدع في وسط المنزل‪ ،‬صعقًا مبهورًا ال يصدق ما‬
‫سمع‪ ،‬ولكن خلخلة المفاتيح بين يديه جعلته يعيد النظر في كل حياته‪،‬‬
‫أصبحت حياته المهنية كشريط سينمائي صدأ يتحرك أما ناظريه‪ ،‬ال‬
‫يرى من خالله أي شيء‪ ،‬فسأل نفسه‪ :‬ماذا فعلت في نهاية حياتي ؟ لماذا‬
‫أهملت ؟ أنا لم أكن هكذا ؟ فلماذا عندما بلغت النهاية لم أتقن عملي ؟ ما‬
‫الفرق بين البدايات والنهايات ؟‬

‫وتنتهي قصة جدي عند هذا الحد‪ ،‬إال أنه في نهاية القصة يذكر الحديث‬
‫النبوي الشريف الذي يقول فيه صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إن اهلل تعالى‬
‫يحب إذا عمل أحدكم عمالً أن يتقنه"‪ ،‬صحيح الجامع‪.‬‬

‫ثم يسأل جدي هذا السؤال‪ :‬ترى لماذا تناسى أو تجاهل البنّاء العجوز هذا‬
‫المبدأ المهم ؟‬

‫وتنتهي أوراق جدي عند هذا الحد‪ ،‬عندها ذهبت أتساءل وأبحث في‬
‫موضوع االتقان‪ ،‬فوجدت أن مصطلح (االتقان) هو نفسه أو شبيه‬
‫لمصطلح (الجودة)‪ ،‬إال إننا – ولألسف – رغبة في التقليد بالغرب نحاول أن‬
‫نستعيض مصطلحاتنا العربية األصلية ببعض المصطلحات الغربية‪،‬‬

‫‪3‬‬
‫وذلك حتى ال يتهمنا المثقفون الغرب أننا متخلفون‪ ،‬عمومًا هذا ليس‬
‫موضوعنا‪.‬‬

‫واالتقان في اللغة يعني؛ أتقن الشيء بمعنى أحكمه‪ ،‬وأحسن صنعه‬


‫وفعله بأحسن صورة‪ ،‬واإلتقان هو إحكام األشياء‪ .‬وأما اصطالحًا؛ فهو‬
‫القيام بالعمل الموكل للشخص على أحسن وجه وإجادته بالصورة‬
‫المطلوبة والكاملة من غير نقصان‪.‬‬

‫وكذلك ي عرف إتقان العمل على أنه أداء المهمة المطلوبة دون أي خلل‬
‫بدقة ومهارة وإخالص‪ ،‬وااللتزام بالمتطلبات والتقيد بالضوابط‬
‫المتعلقة باستعمال تقنيات معينة‪ ،‬مع الحرص على القيام به في‬
‫الوقت المحدد مسبقًا ودون تأخير‪ ،‬والتفكير بتطوير العمل الحقًا‬
‫لمستويات أفضل‪.‬‬

‫ووجدنا أن ما يساعد على إتقان العمل واألمور كلها في الحياة خمسة‬


‫أمور أساسية‪ ،‬وهي التي تهمنا هنا‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫• إخالص النية هلل تعالى‪ ،‬والبعد عن الرياء في القول والعمل ومراقبة‬


‫اهلل تعالى في كل صغيرة وكبيرة‪.‬‬
‫• معرفة العمل الذي نقوم به‪ ،‬وبكل تفاصيله‪.‬‬
‫• عدم التسويف وتأجيل عمل اليوم إلى الغد وإنجاز العمل أوالً بأول‪.‬‬
‫• استغالل الوقت وفهم إدارته بالشكل السليم‪.‬‬
‫• تقديم األهم على المهم وتطبيق‪ ،‬ومعرفة فقه األولويات في‬
‫العمل‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫واآلن‪ ،‬دعونا نعيد قراءة قصة البنّاء عبد اهلل‪ ،‬فهل أتقن عمله ؟ وهل‬
‫توفرت فيه هذه النقاط ؟ أترك لكم اإلجابة على هذا التساؤل‪.‬‬

‫وأنا أكتب هذا المقال وأعبث بأوراق جدي الصفراء‪ ،‬خطر على بالي‬
‫الحديث النبوي الشريف‪ ،‬الذي ينص على قَالَه رَسول اهللِ صَلَّى اهلل عَلَيْهِ‬
‫وَسَلَّمَ‪" :‬إِنْ قَامَتِ السَّاعَة وَفِي يَدِ أَحَدِكمْ فَسِيلَةٌ‪ ،‬فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقومَ‬
‫حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْ"‪ ،‬البخاري وأحمد‪.‬‬

‫يمكن أن يالحظ أن هذا الحديث النبوي الشريف له عالقة بموضوع إتقان‬


‫العمل وخواتيم األعمال واستدامتها بصورة كبيرة‪ ،‬وهو مرشد إداري‬
‫عالي المستوى‪ ،‬فالقضية هنا ليس مجرد زرع نخلة في لحظات اإلنسان‬
‫األخيرة فقط‪ ،‬وإنما هي إتمام العمل وإتقانه مهما كانت مجريات األمور‬
‫التي تدور حولك‪ ،‬حتى وإن كانت الدنيا كلها ستنتهي‪.‬‬

‫ماذا يعني هذا الحديث النبوي الشريف ؟ وإلى ماذا يرمي ؟‬

‫تصور إنه في لحظة انفجارات الكرة األرضية‪ ،‬وتدهور الجبال وتهدمها‪،‬‬


‫وانتشار الزالزل الضخمة التي ليس لها قياس على مقياس ريختر‪،‬‬
‫وانفجار البراكين‪ ،‬والشمس ارتفعت درجة حرارتها حتى وأنها من مكانها‬
‫أصبحت تحرق األرض‪ ،‬يقول تعالى في سورة االنفطار – اآلية ‪( 5‬إِذَا‬
‫السَّمَاء انفَطَرَتْ‪ ،‬وَإِذَا الْكَوَاكِب انتَثَرَتْ‪ ،‬وَإِذَا الْبِحَار فجِّرَتْ‪ ،‬وَإِذَا الْقبور‬
‫بعْثِرَتْ‪ ،‬عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)‪ ،‬وفي لحظات أهوال يوم القيامة‬
‫في تلك اللحظات حين تختم الحياة‪ ،‬وتقطع أنفاس البشرية‪ ،‬ويعلم‬
‫حينها اإلنسان أن النهاية قد أزفت‪ ،‬في تلك اللحظة يطلب منك رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن تركز على خواتيم أعمالك وأن تتقن العمل‬
‫الذي تقوم به‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫هل نتصور ماذا يعني ذلك ؟ نحن نعلم‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم خير من يعلم أن نفسية اإلنسان وحتى جسده وقوته لن‬
‫تساعدانه حتى يكمل غرس فسيلته‪ ،‬ثم ماذا يمكن أن تصنع فسيلتي‬
‫أمام كل هذه التغيرات واألهوال التي تحدث ؟‬

‫ولكن هذا هو االتقان واالهتمام بخواتيم األعمال‪ ،‬وهذه هي الجودة‬


‫والتنمية المستدامة كما تسمى اليوم‪.‬‬

‫واآلن لننظر حولنا‪ ،‬الكثير من المبدعين والمفكرين قبعوا في الظل‪ ،‬وذلك‬


‫بسبب أن أهل الصخب طفحوا على السطح‪ ،‬تجد أهل الصخب في كل‬
‫مكان وخاصة بعد انتشار وسائل التواصل االجتماعي‪ ،‬تجدهم يرقصون‬
‫ويغنون ويحتفلون غير آبهين بأي قيم أو مبادئ‪ ،‬ويمكن في لحظات أن‬
‫يقوموا بتغير جلدهم‪ ،‬فتارة يصفقون لهذا وبعدها بهنية يتغيرون‬
‫ويصفقون للنقيض‪ ،‬ألنهم أهل صخب فهم يعيشون من غير مبادئ‬
‫وقيم‪ .‬ولكن أهل اإلبداع والقيم والمبادئ في هذا العصر يعيشون في‬
‫الظل‪ ،‬وربما تراهم بين حين وآخر يطلون برؤوسهم لمحاولة إثبات‬
‫وجودهم إال أنهم في لحظات يكتشفون أنه من األفضل العودة إلى‬
‫الظل ‪ ،‬فالكثير مما يقدم ال يندرج تحت قائمة اإلبداع أو االتقان أو‬
‫االستدامة‪.‬‬

‫وهكذا فكرة البنّاء عبد اهلل عندما كلف ببناء المنزل األخير‪ ،‬لم يفكر في‬
‫االبداع أو االتقان أو االستدامة‪ ،‬وإنما فكر في اللحظة التي سيخرج فيها‬
‫للتقاعد‪ ،‬في اللحظة التي سيترك العمل من غير رجعة‪ ،‬فكر في نفسه‬
‫فقط‪ ،‬لم يفكر بعقلية االستدامة واالتقان‪ ،‬فمن فرط حماسة للخروج لم‬
‫يزرع فسيلته بطريقة متقنة‪ ،‬وإنما وضعها بأي طريقة كانت‪ ،‬فكانت‬

‫‪6‬‬
‫النتيجة مخيبة له ولتفكيره‪ ،‬فهو لم يعتقد في لحظة أن كل خير سنوات‬
‫العمر وكل هذا االتقان واإلبداع يمكن أن يخدماه‪ ،‬فخسر استدامة البيت‬
‫الذي من المفروض أن يكون ملكه‪.‬‬

‫فهل لنا أن نفكر فيما قاله جدي في أوراقه الصفراء ؟‬

‫‪7‬‬

You might also like