Professional Documents
Culture Documents
لا تعتذر عما فعلت
لا تعتذر عما فعلت
د .عبدالخالق عيسى
جامعة النّجاح الوطنيّة
فلسطين ـ نابلس
الملخص
ّ
يتناول البحث العناصر الحاضرة ،والعناصر الغائبة في ديوان محمود درويش "ال تعتذر
ٍ
متأخر ،ال ينفع فيه (الرحيل ) في وقت
ال ّذاكرة بمالمحها القديمة ) ،واعترافات بارتكاب ال ّذنب ّ
بقوة عيسى ـ عليه السالم ـ وجلجامش ،وحمورابي ،وهوالكو ،والمحتل اإلسرائيلي ،
الديوان ّ
وأخرى تقوم بينها وبين العناصر الغائبة( ،)iوتعد الثانية عالئق معنى ورمز ،فهذا الدال يدل على
ذلك الم دلول ،وه ذه الحقيقة تس تدعي أخ رى ،والحادثة مركز الفك رة .أما عالئق الحض ور فهي
ذات بعد تصويري وتكويني ،حيث تتوالى فيها األحداث وتتشكل الشخصيات بوصفها مجموعة
وال شك أن عالئق الحض ور في األدب تقابل العالئق الس ياقية في علم اللغة(،)2وقد تك ون
عالئق الغي اب ذات ص فة تبادلية مع وح دات أخ رى مش ابهة لها داللي اً أو اش تقاقياً ،أما عالئق
الحض ور فقد تك ون ذات ص فة تتابعية مع الوح دات المج اورة له ا ،ال تي تس بقها أو تلحقها ،في
الخط اب الملف وظ ،ذلك أن اإلش ارة ال تكتسب معناها من ذاته ا ،بل من مجمل العالق ات ال تي
وقد تك ون البص مات واآلث ار والرس وم دالة على الحض ور " ف األرض الموحلة ترتسم
عليها ح دوة الحص ان ،وعنف إيق اف الس يارة ي ترك على الطريق المبلطة خطا أس ود ،وأحمر
الش فاه ال ذي يل ون ( فل تر ) الس يجارة ي دل على حض ور أنث وي بين م دعوي حفلة س اهرة ،وبقايا
األواني الفخارية أو األس لحة أو األدوات ال تي يع ثر عليها ع الم اآلث ار تس اعده على تحديد كيفية
تعاقب الجماعات اإلنسانية على المكان الذي يمارس فيها حفرياته "(.)iii
والحض ور عند التفكيك رهينة مرئي ة ،والغي اب ظالله الكثيفة الغ ائرة( ،)ivوتب دأ مس تويات
الحض ور والغي اب بالج دل ض من أفق االختالف وذلك حين يمد ال دال ب دالئل ال نهائية من
الديوان:
2
قوة القصيدة الدرويشية تنبع من قوة الحدث التاريخي ،وإ ّن الثورة والمأساة منذ عهد
إن ّ
ّ
والخطاب في هذا الديوان يعتمد ركنين أساسيين ،هما الحضور والغياب ،ولع ّل الحضور
األبرز كان حضور الفلسطيني ،والغياب األوضح كان غياب اإلسرائيلي ،ويمكن أن نقول إن
هذه هي أيديولوجيا النص ،أما بقية العناصر فهي انعكاس لهذين الركنين ،إذ تنمو النصوص
باستقطاب الوحدات الثانوية في حركة من الزمان إلى المكان ،ومن الحالة إلى الموقف ،ومن
الحلم الرومانسي إلى الواقع المؤلم ،وتتحرك في عالقات تتوحد فيها الذات في المجموع في
نهج مأساوي.
ٍ
ويجري التعبير في القصيدة بضمير المتكلم الفردي ،وهو هنا يمثل الضمير الجماعي ،إذ
من صفة الجماعة التي تحمل قضية أن تنأى في حركتها التاريخية عن الفردي والذاتي ،لتنهج
ويغدو الديوان في مجمله محاكمةً للذات المذنبة التي انفصلت عن المكان ،ثم عادت
()viii
وهذا ما يدفعنا لوصفه " سيرة شخصية " بكل ما وتغير المكان
تغير فيها اإلنسانّ ،
إليه،وقد ّ
ربما
أمشي على هدي البصيرةّ ،
نصه مفتوحاً
عبر عن تجربة مع الحقيقة ،وجاء ّ
يحول الجرح إلى وردة ،بل ّ
ودرويش لم ّ
على نصوصه السابقة من جهة ،وعلى نصوص غيره من جهة ثانية ،ومع ذلك بدا جديداً في
3
قالبه وإ يحاءاته ،منسجماً مع قول ( هرقليطس )ّ :إنك ال تستحم في ماء النهر نفسه مرتين؛ ألن
وعلى الرغم من وجود تقاطعات كثيرة بين ما ورد في هذا الديوان ،وأعمال درويش
السابقة ،فإن زيارة األمكنة والناس ،ونبش الذكريات جعلت قريحته تتفتح على رؤيا جديدة ،فهو
يرفض االعتذار من البئر الذي هو جزء من ذكرياته ،بل ويمثل أطواراً مهمة من حياته .واألم
على طريقتها
ربته
لكن الرياح هي التي ّ
ّ
إنها مرحلة من حياة الشاعر لم تحددها التجربة أو السنون ،وإ نما حددها هاجس الموت،
فتصير عنده حكمة المحكوم باإلعدام ،حين تكتب له حياةٌ أخرى ،وماذا عن بذور الحكاية؟
للتجدد
ّ طل القدرة على الفعل والتغيير ،ولم يعد الزمن قابالً
إن غيابه عن أرضه ع ّ
ّ
ولجأ درويش إلى مزج األزمنة ( الزمن الماضي /زمن العودة /زمن الكتابة ) ،لتتحول
القصيدة إلى فعل إنساني يحاول أن يزيل صدأ النفس وتثلم الفكر ،والنزوع إلى ُب ْع ٍد تطهيري،
4
جغرافية األحداث وتاريخها ، ،لتشمل معاناة شعب بأسره على المستوى
ّ عميق الحضور في
التاريخي واإلنساني.
فاألنا الدرويشية تستوعب أنا الفلسطيني عامةً،وتشير إلى التحامه مع الذكرى في عالقة
مع ذلك فهو يعترف بأن السلطة على المكان ليست له ،فهو ال يعدو رجع الكمان.
ويحاول من خالل حضور الكمان والعازف تجسيد مفارقة كبيرة بين اإلنساني
والالإنساني ،إذ تصير األناشيد واألغاني ،وتعاليم المغنيين بأيدي األعداء من أجل سفك الدماء
والتدمير ،وتُجعل أدوات العزف التي تدعو إلى الرحمة ،غاية للقتل.
وتتحقق األبعاد الداللية في مجال التناص من خالل الصدى بصفته داالً على الزمن
صدر ديوانه بلقاءين ،لقاء بالماضي العربي البعيد من خالل أبي تمام
واتصاالً بالمكان ّ
في قوله(:)xiii
أنت ِ
أنت ال ِ
ديار
الديار ُ
ُ وال
5
لكن تلك
ويبدو الجمع في ظاهره غريباً ،يحم ُل معه استفهاماً كبيراً ،ودهشةً مشروعةًّ ،
الغرابة تزول والدهشة تتالشى عندما نتعرف إلى شكل التواصل الذي يربطنا بلوركا.
ِ
بعروبة لوركا يقول بابلو نيرودا :لقد كان لوركا نتاجاً عربياً أندلسياً ،لهذا آمنت
اإلسباني األندلسي(.)xiv
ِ
قراءة التاريخ األندلسي والموشحات أن أوغلت في
أما عز الدين المناصرة فقال " :بعد ْ
األندلسية ،وعشت في مدينة تلمسان ( األندلسية ) ،وزرت مدينة فاس المغربية ( األندلسية )
ومدينة طنجة ،وعشت في تونس وقسنطينة …،أصبح لوركا أقرب إلى روحي الشعرية ،وكان
الغناء الغرناطي في تلمسان ووجده يحركان مشاعري باتجاه طفولتي مع قصائد لوركا ".
ُ
ونقترب أكثر من روح لوركا عندما ننظر في أولى قصائده التي تُرجمت إلى العربية،
ويقول فيها(:)xv
وي ْذكر أن أحد الصحافيين العرب شبه الثالثي الفلسطيني ( درويش ومعين بسيسو،
ُ
وعز الدين المناصرة ) خالل حصار بيروت عام 1982م ،بالثالثي ( لوركا ونيرودا ،وإ لبرتي
) (.)xvi
ولع ّل تشابه التجربة عند درويش ولوركا السبب األهم في استحضار هذه الشخصية- ،
خاصة إذا ما علمنا أن لوركا سجن واضطهد وأعدم -دون أن يؤثّر ذلك في خصوصية األول،
6
إرضاء لروح لوركا ،أو ليقال إنهم أحفاد
ً أو أن يكون على طريقة من يكتبون قصائد لوركية
فضالً عن ذلك فقد آمن درويش بالصلة الوثيقة بين الخصوصية والعالمية ،وفي بعض
وتوحدت المشاعر.
ّ األحيان يغدو الفصل غير منطقي خاصة إذا ما تشابهت التجربة
وثمة نصوص غائبة أخرى ،وهي نصوص يتم استحضارها وتحويلها في الممارسة
ٍ
آلت بما لم تستطعه األوائ ُل وإ ني وإ ن كنت األخير زمانه
في قوله(:)xix
األخير،
َ كنت
وأنا ،وإ ْن ُ
رسم
كل قصيدة ٌ
وقد يكون هذا التوظيف إنما هو من قبيل الهروب من هذا الواقع والبحث عن بديل
7
ومنها أيضاً قوله(:)xx
ديوان الحماسة
صورة األب
معجم البلدان
شكسبير
ٍ
رحلة ،فلتكن إن كان ال ُب ّد من
رحلةً أبدية!
أن مسار النص نحو هذه االستحضارات يتّخذ بعداً جديداً في فهمه ،ويجعلنا
وال شك ّ
نخلص إلى انبثاق الحياة من الموت ،والسعي إلى تخليص الدنيا بأجمعها من الظلم الذي لحق
بها ،خاصة إذا ما وقفنا على سيرة الشاعر بابلو نيرودا الذي قضى حياته مدافعاً عن وطنه
8
ويلجأ إلى أسطرة الفلسطيني ،واالرتفاع به عن مستوى البشر ،ولهذا يستحضر شخصية
لكني
أنا ال أنا في حضرة المعراجّ .
محمد
ٌ أفكر :وحده ،كان النبي
وفي السياق نفسه استطاع أن َي ْعُبر إلى قصة يوسف عليه السالم ،وأن يحملها دالالت
تُ َعّبر عن اإلنسان المقهور الذي يئن تحت ظلم الطغاة ،يقول(:)xxiv
وقلت
ُ قرأت ٍ
آيات من الذكر الحكيم، ُ
فاإلشارة التي تُستدعى مع حضور يوسف عليه السـالم والبئر ترتبط بمعاني النفي
والترحال والوحدة والفراغ ،وتلتقي بأبعادها مع البحث عن أســرار الوجود ،وربمـا تُتخذ ( البئر
القديمة ) إشارة أخرى إلى ( الجماعة ) أو الذاكرة البشرية ،وما توحي به من صورة االمتالء
بماضيها وحاضرها ،فلم تعد السيرة عنده سيرة عادية ،أو حتى سيرة نضالية شخصية ،بل سيرة
9
شعب ووطن تعرض لالحتالل والزوال ،فكانت مراحل حياته تاريخاً حافالً بنهوضه ضد
التالشي والموت(.)xxvi
األعماق ،والوصول إلى الوصف الدقيق للمكان ،وما حدث عليه من قتل وتدمير ،ولهذا يبدأ
مرةً أخرى
سنولد ّ
ثم في قوله(:)xxviii
مت القراءةَ
أنا آدم الثاني :تعلّ ُ
فآدم عليه السالم ترك الجنة ودرويش ترك فلسطين ،والثاني سيتعلم من دروس خطيئته،
والهدف إبراز الخطيئة األولى في حياة البشرية وتصوير السقوط الذي تعيشه ،فما يظهر اآلن
المحرمة ،ثم
ّ ابتداء من مخالفة آدم عليه السالم ،وإ قباله على الشجرة
ً استمرار للخطايا السالفة،
ٌ
وربما يكون الموقف اإلنساني الذي يتجلى في مواقف بعض الشخصيات التوراتية من
الدوافع التي حدت بدرويش السعي الستحضارها وإ براز أبعادها ومنها شخصية عيسى المسيح
سيما أن التساؤالت التي يطرحها الحضور والمتصلة بأسباب انتصار الظلم على
عليه السالم ،ال ّ
10
العدل ،والشر على الخير ،كانت شديدة التشابه بالتساؤالت التي تساور نفس درويش(،)xxix
يقول(:)xxx
الشتوي
ّ وسوف أحم ُل للمسيح حذاءه
َ
ويتنامى نص درويش مع الملحمة األسطورية البابلية ،مشيراً إلى بطلها جلجامش ،وما
تفيده تلك اإلشارة من الوصول إلى جوهر القضايا اإلنسانية التي ترتبط بهذه الشخصية الرمزية،
وما تحمله من محاوالت اإلنسان األولى في البحث عن أسرار الوجود ،وبخاصة مشكلة
بالسر المحال
ّ المصير ،والتفكير المخيف في الخالص من شبح الموت الذي يطارده والتعلق
بطلب الخلود .واستحضار جلجامش فيه إيماء إلى تلك المحاوالت اإلنسانية التي ال تجد لها
تفسيراً واضحاً في الوجود ،ولكنها مفعمةٌ بأسرار الحياة ممتلئة باألمل والخوف اإلنسانيين
معاً( ،)xxxiiيقول(:)xxxiii
دى:
السياب ،يصرخ في الخليج ُس ً
أتذكر ّ
ُ
السومري
ّ أتذكر السياب ،في هذا الفضاء
ّ
11
ولد في العراق
الشعر ُي ُ
َ إن
السياب … ّ
َ أتذكر
ُ
يفكر
تخي َل بين دجلة والفرات ،فلم ّ
ّ
وقصيدة درويش هذه ( أتذ ّكر السياب ) تحم ُل في سطورها الصرخة التي احتبست في
اغتراباً سرمدياً.
ويتجسد حضور السياب في صوته وهو يردد :عراق ،عراق ،ليس سوى عراق ،ثم
غياب األثر والفعل:وال يرد سوى الصدى ،وثمة في القصيدة شخصيات أخرى حاضرة،
وشخصيات غائبة :فالسياب يقابله جلجامش وحمورابي ،والعرب يقابلهم هوالكو .وبمحاولة
جلجامش وهو يبحث عن أعشاب الخلود ،وجلجامش في النص هو محمود درويش نفسه الذي
وارتد.
ّ ترك وطنه ليجد األفضل خارجه ،وكالهما فشل،
لذا فالشخصية الحاضرة الباقية التي حملت الوجه المشرق هي شخصية السياب ،وألجل
ذلك فإذا أردت أن تكون شاعراً فعليك أن تكون عراقياً – كما يقول درويش ،-في حين حمل
جلجامش الوجه السلبي المقابل.ويماثل السياب في الحضور حمورابي الذي سعى بشرائعه إلى
12
ورمز به إلى بوش وجيشه ،في مقابل حضور
ويفضي النص إلى حضور هوالكوُ ،
العرب وغياب دورهم .وفي الحضور األخير مفارقة مؤلمه بين الواقع والواجب ،إذ تصل
األمور إلى أن نجد العربي يهيئ الطعام ويحمل الماء ليصب على أيدي األعداء التي تلطخت
بدمائنا ،يقول(:)xxxiv
(?) صالح فضل ،نظرية البنائية في النقد األدبي،مكتبة األنجلو المصرية ،مطبعة األمانة، i
، 1978ص.228
( )1عبد اهلل إبراهيم وآخران :معرفة اآلخر،مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة ،المركز ii
(?) أفنان القاسم :مسألة الشعر والملحمة الدرويشية ،محمود درويش في مديح الظل العالي، vi
(?) عادل األسطة :دراسة في ديوان محمود درويش " ال تعتذر عما فعلت " األسوار ،عكا، viii
.72
(?) السابق.26 ، x
(?) جم ال الرف اعي :أثر الثقافة العبرية في الش عر الفلس طيني المعاصر – دراسة في ش عر xii
(?) عز ال دين المناص رة :ه امش النص الش عري ،مقارب ات نقدية في الش عر والش عراء xiv
13
أتذكر السياب ،يأخذ عن حمورابي.
بالح ّمى
أصاب ُ
ُ أتذكر السياب ،حين
(?) أحمد ج بر ش عث :األس طورة في الش عر الفلس طيني المعاص ر ،مكتبة القادس ية للنش ر، xvii
الثقافي ،بيروت ،الدار البيضاء ،ط ،1988 ،2ص ،86-85شربل داغر :التناص سبيالً إلى
دراسة النص الشعري وغيره ،مجلة فصول ،العدد األول ،صيف ،1997ص.130
(?) ال تعتذر عما فعلت ،ص.21 xix
(?) رج اء عي د :الق ول الشعري ،منظ ورات معاص رة ،منش أة المع ارف ،اإلس كندرية ،ط،1 xxv
ص.227
(?) أحمد جبر شعث :األسطورة في الشعر العربي المعاصر ،ص.259 xxvi
الرف اعي :أثر الثقافة العبرية في الش عر الفلس طيني المعاصر – دراسة في ش عر
(?) جم ال ّ
xxix
(?) أحمد جبر شعث :األسطورة في الشعر الفلسطيني الحديث ،ص.221 xxxi
14
يعدون العشاء
وأهذي :إخوتي كانوا ّ
خدم سواهم
لجيش هوالكو … وال ُ
رب غضب
أن ال ّ
ويوقظ درويش بعض الرم وز التوراتية األخ رى ،ومنها س دوم ،وفيها ّ
وحض ور س دوم يرمز إلى الخ راب وال دمار والغضب اإللهي على اإلنس ان ،ويكشف ما
ح َّل بالحاضر الق ريب على أي دي الغ زاة الج دد .وبعثها من جديد ينقلها من الداللة الرمزية القديمة
يقول(:)xxxvii ()xxxvi
إلى دالالت الضياع والتفكك الذي آل إليه واقع العالم العربي
األبدي
ِّ تطير بي لغتي إلى مجهولنا
ُ
إن
خلف الحاضر المكسور من جهتينْ :
منفاي كالمنفى
(?) أحمد جبر شعث :األسطورة في الشعر الفلسطيني المعاصر ،ص.206 xxxvi
15
()xxxviii
وهو بالتالي والليل في ديوانه قليل الحضور؛ ألنه كما يوصف بشاعر أفعال النهار
ش اعر متفائل يت ابع خي وط الش مس ح تى مغيبه ا ،مع ذلك فحالة القلق ال تي يعيش ها ،والح زن ال ذي
األندلس
وأن درويش ش اعر س ؤال من الط راز األول ،وقد ي أتي به ذا الرمز لكي يفتح لنا
فيه ا ،خاصة ّ
النوافذ على الحيرة والتساؤل الدائم عن أسرار ما يدور حوله ،وعن حركة الزمان( ،)xlيقول(:)xli
والتشمس
ّ يخرجون من الحكاية للتنفّس
16
أبيض ،أحمر العينين من أثر التأمل
الدم المسفوك:
في ّ
والبداية والنهاية مرتبطت ان ب الوطن فلس طين ،فمنه ابت دأت الحكاي ة ،وإ ليه تنتهي ،وس ؤال
ٍ
بغالف سياسي ووطني ،وربما تكون هذه محاولة البداية والنهاية يحمل طابعاً فكرياً وفلسفياً مغلّفاً
من درويش لمزج الفكر بالشعر( ")xliiكما فعل من قبله أبو تمام والمتنبي.
ويضحي درويش ملتحما أكثر بالزمان والمكان حين يصبح جزءاً من البداية ،وشاهداً حياً
على تفاص يل المك ان ،وش رعية وج ود أهل ه ،وله ذا فال غرابة أن ُيع رف به المك ان ،وإ ْن طمست
معالمه .يقول(:)xliii
الشهي،
َّ الهواء
َ ك هذا
أمس ُ
يدي
هواء الجليل بكلتا ّ
الماعز الجبلي
ُ وأمضغه مثلما يمضغُ
أعالي الشجيرات،
17
مآذن مكسورة
ُ
ٍ
أحرف ُمحيت، قرى كنقاط على
ً
وأبعد من ذلك فقد يتح ّول الش اعر إلى عص ارة أو جزئية ،تس اهم في خلق المك ان
واألشياء ،وهذه حالة من الصوفية ،ذات روحانية عميقة،وهي أشبه بحالة الحلول والغياب،فترى
والتأوي ل ،ال ي دركها اإلنس ان إالّ إذا ح َّل في ض مير األش ياء ،،عن دها تُ ْكتشف الحقيقة العميقة في
يقول(:)xlv ()xliv
وليست افتراضية
ٍ
امرأة من وأدخل في إبرة
نساء األساطير
وينفذ إلى طروادة الستكمال حالة التشرد والضياع التي يعاني منها الشعب الفلسطيني بعد
18
قدر إلى ٍ
قدر كأنهم يأتون من ٍ
ّ
النص،
مدونةٌ وراء ّ
مصائرهم ّ
بيضاء أو سوداء
...
الهوميري
ّ وماذا بعد هذا االنتظار
وتمثّل ط روادة في ال زمن األس طوري ذروة البطولة الجماعي ة ،ب الرغم من انكس ارها
وهزيمته ا ،ول ذلك غ دت نموذج اً إنس انياً ُخلَّد في وج دان الجماع ة .ودرويش يت وق إلى أن يك ون
وال ي رى س وى أرض قاحلة إالّ من ص ور اله زائم وال تراجع .وتجيء ط روادة رم زاً لألمل في
الزحام
في الشام ،أعرف من أنا وسط ّ
علي. ٍ
امرأة ًّ ... قمر تألأل في يد
يدلّني ٌ
(?) انظر أحمد جبر شعث :األسطورة في الشعر الفلسطيني المعاصر ،ص.248 xlvii
19
والقمر يعكس حالة من القلق والح زن ،وقد يتّخذ دور المؤشر للغ د ،ويق وم ب دور
االستش راف ال ذي يخ بئ أس راراً كث يرة ،وقد يك ون القمر أداة إلن ارة الفعل اإلنس اني ال ذي يب دو
وربما يكون هو البالد ،أو النصر ،أو الموت ،وربما يكون هو الحب(.)xlix
مستحيالًّ ،
المادي ة ،والق ّوة التأريخية في ال وقت نفس ه؛ إذ من ع ادة درويش اس تنطاق الجوام د ،كما فعل مع
ّ
ومن الحجر يخ رج الم اء ليحل الخصب والنم اء ،وقد ُي ْزه ر ،أو يتكلم وقد يمت ّد ظل ه ،أو
عري بش ري .وللحجر ذاك رة ك ذاكرة الرم ل، يخ رج منه الض وء ،وه ذه كلّها تحيله إلى ك ٍ
ائن ش ٍّ
والتكوين(.)li
20
ومن رم وزه األخ رى الحاض رة الحم ام ،وهو رم ُز للخ روج وال دخول ال دائمين ،وهي
تتكرر في قصائده لتعبر عن حركة الفلسطيني في أرجاء العالم ،فهو يدخ ُل من هجرة إلى
الزمة ّ
رمز للشعب الفلسطيني المنتشر على تضاريس الخريطة البشرية ،مستوحى من
والحمام ٌ
كونه رمزاً عربياً تراثياً له عالقة بالهجرة النبوية ،وله عالقة بالتنقل العربي ،ألن العرب اعتادوا
ِ
والليل ماشياً .ال فرق بين نهارها
معرض أخر(:)liv
ٍ ويقول في
21
وفي مشهد يلخص حقيقة الحالة التي آل إليها درويش في عودته المنقوصة تتزاحم
األسئلة في بيت أمه ،عندما تلتقي الذات المؤرقّة المثقلة بهموم الحاضر ،بمالمح الماضي ،ممثّالً
بصورته المعلقة على جدار في بيت أمه ،وال تكاد الصورة تبرح ببصرها عنه.
ويأتي الشاعر على تفاصيل المكان القديم وما حملته إليه الغربة من ( رحيل البحر،
أما المدلول الذي حمله الدال ( الصورة ) فهو الرمز ألبناء فلسطين الذين ُغرسوا في
أرضهم وظلوا يحملون شيئاً من جغرافية فلسطين وتاريخها ،لذلك فهم وحدهم من يحق لهم أن
يسألوا أو يحاكموا.
نسائي
ٌّ يوم
وبقي أن نشير إلى أن الصدمة قادته إلى العبث والسخرية ،إذ يتراءى له ٌ
جمي ٌل يشيع فيه الخصب والنماء ،وتتفجر العيون من الحجارة ،ويتوقف الرصاص ،وينتهي
الخوف ،فترى الحمائم تبني أعشاشها في دبابة األعداء ولهذا يعدل عن رغبته في االنتحار أو
نسائي
ٌّ يوم
يوم آخرٌ ،
سيجيء ٌ
…..
22
الخاتمة
عما فعلت " صدمةً كبيرة ،عاشها درويش بعد لقائه بالوطن
يحمل ديوان " ال تعتذر ّ
التحول في مالمح األمكنة وحدها ،وإ ّنما في الشاعر نفسه ،فلهذا كان بؤرة
ولم يكن ّ
النصوص لينفذ
الديار ديار \ وال أنا أنا وال البيت بيتي ) ،وتتنامى ّ أنت ِ
أنت ،وال ّ النص ( ال ِ
ّ
يقول :
الشهي،
َّ الهواء
َ ك هذا
أمس ُ
يدي
هواء الجليل بكلتا ّ
ّ
الجبلي الماعز
ُ وأمضغه مثلما يمضغُ
أعالي الشجيرات،
23
وطروادة في وصفه لحالة التشرّد والضياع التي يعاني منها الشعب الفلسطيني ،وجلجامش في
بحثه عن الخلود ،وهوالكو في قتله وتدميره ،رابطا بين حالة المسلمين آنذاك ،وحالتهم اليوم ،
وبدا الشاعر في الديوان عابثا ،ساخرا من اإليمان برغبة المحت ّل في تحقيق السالم مع
ال ّشعب الفلسطيني ،مقارنا بين رغبة المحت ّل في محو الحق التاريخي ،وأصحاب األرض
وحمله حالة القلق والحزن التي يعيشها الشعب الفلسطيني واتّخذ منه دور المؤشر للغد ،الذي
ّ
المراجع
24