Professional Documents
Culture Documents
Document
Document
(فلو)
تعتبر جزيرة (بيليتوجن) الصغيرة أغنى جزيرة يف إندونيسيا ،وهي جزء
من سومطرة ،لكن غناها جعلها تنفرد بنفسها ،وإلى هذه اجلزيرة النائية
سر بقي مدفو ًنا
تسلّلت حضارة (املاليو) القدمية من (مالكا) ،وكان ثمة ّ
يف األرض إلى أن اكتشفه الهولنديون ،ففي أعماق األرض املوحلة تدفّق
الكنز :القصدير ،القصدير املبارك ،القصدير الذي تساوي حفنة منه ما
يزيد عن عشرات الدالء من األرز.
لو حدث وأولج املرء ذراعه يف الطمي الضحل ،أو باألحرى يف أي
بقعة أخرى على اإلطالق ،فإنها تعود إليه متأللئة ،ملطخة بالقصدير،
تشع بالقصدير الالمعومن قبالة الساحل ،تبدو (بيليتوجن) للناظر وهي ّ
كمنارة ترشد قباطنة السفن.
متأخر من الليل ،ولطاملا أخذ استغالله
لطاملا ملع القصدير إلى وقت ّ
على نطاق واسع مجراه حتت كنف آالف األضواء التي تستخدم املاليني
من كيلوواطات الطاقة.
مباركة هي األرض التي يتدفّق فيها القصدير ،ألنه مع القصدير
فضة ،توباز، دائما مواد أخرى( :طني ،كزينوتامي ،زيركون ،ذهبّ ،
تظهر ً
جالينا ،نحاس ،كوارتز ،سيليكا ،غرانيت ،مونازيت ،سيدريت،
هيماتيت ،بل ح ّتى يورانيوم) ،حتت البيوت القائمة على الركائز حيث
عشنا حياتنا احملرومة ،قبعت طبقات وطبقات من الثروة ،وك ّنا ،نحن،
يغص جوعا يف مخزن ّ أهالي (بيليتوجن) مثل مجموعة جرذان تتضور ً
باألرز.
24
املُلكية
25
إليهم عادة باسم املوظفني ،أما أدنى طبقة فلم تتألّف يف الواقع إال من
عمال غربلةحمالي أنابيب ،أو ّ أهالينا الذين عملوا لدى هذه الشركة ّ
القصدير ،أو عما ًال مياومني ،وألن (بيليتوجن) أصبحت قرية شركات،
انتهجت (پ ن) شي ًئا فشي ًئا أسلوب الهيمنة ،كانت مثل اإلقطاعية:
دائما ح ّتى خارج ساعات العمل. طبقة العامل فيها الزمته ً
تقريبا من ((املاليويني )البيليتوجنيني)،
عاش املوظفون ،ال أحد منهم ً
مخصصة للنخبة ُتدعى املُلكية ،وكانت هذه املنطقة تخضع يف منطقة ّ
ومحصنة بسياجات وأسوار عالية وحتذيرات قاسية ّ مشددة،
حلراسة أمنية ّ
اللهجة منتشرة يف كل مكان بثالث لغات :اإلندونيسية الرسمية ذات
الطابع االستعماري ،والصينية والهولندية ،تقول تلك التحذيرات ممنوع
حق.دخول من ليس له ّ
يف أعيننا؛ أعني أطفال القرية الفقراء ،بدت املُلكية كما تقول :اِلزم
بصف من أشجار طويلة ريشية الشكل ّ حدودك ،وقد تع ّزز هذا االنطباع
تساقط دوما كريات حمراء بلون الدم على أسطح السيارات الفارهة ِ
احملتشدة عند مخرج املرآب.
ُبنيت منازل املُلكية الفاخرة على الطراز الفيكتوري ،تتألّف ستائر
عدة ،كستائر مسارح السينما ،يف تلك املنازل نوافذها من طبقات ّ
استقرت عائالت صغيرة وعاشت بسالم مع طفلني أو رمبا ثالثة على ّ
دائما ومعتمة ومتكتمة. ً مساملة املنازل تلك كانت األكثر،
اكتسبت تلك املنازل ذات الطابع الفيكتوري مظهر قالع النبالء
ّ
وتشكل كلّ منزل هناك بسبب قيام املُلكية على بقعة أرض مرتفعة،
من أربعة أقسام منفصلة :احلجرات الرئيسة ،ومساكن اخلدم ،واملرآب،
وقسم التخزين ،وجميعها متصلة بشرفات طويلة مفتوحة حتيط ببركة
صغيرة ،عند حفاف البركة تطفو زنابق املاء الزرقاء.
26
كانت غرف املعيشة يف تلك البيوت مفروشة باألثاث العتيق ،كأرائك
اخلشب الوردي الفيكتورية ،إذا جلس عليها املرء شعر أنه أقرب إلى ملك
حاولت
َ جليل ،وعلى اجلدران ُعلّقت لوحات غامضة وباهظة الثمن ،ولو
يا صديقي أن تذهب من غرفة املعيشة إلى غرفة الطعام من غير أن تركّ ز
بعناية ستضيع بسبب وفرة األبواب يف تلك املنازل.
يتناول ساكنو تلك البيوت العشاء وهم يرتدون أفضل ثيابهم،
أيضا ،إذا باشروا األكل ،بعد أن يضعوا مناديلهم وينتعلون أحذيتهم ً
على أحضانهم ،ال يصدر عنهم أي صوت ،ويستمعون يف تلك األثناء
إلى املوسيقا الكالسيكية ،رمبا سيمفونية «هافنر رقم 35ملوزارت» سلّم
«دي» األساس ،وال أحد منهم يضع مرفقيه على الطاولة.
جدا ،بل كان السكون مطب ًقااجلو يف املُلكية ساك ًنا ً ٍ
يف ليلة هادئة كان ّ
تسرب صوت تقريبا ،ومن أحد البيوت الفيكتورية ذات األعمدة الطويلة ّ
ً
بيانو ،هناك جلست بنت صغيرة صبيانية ،اسمها (فلوريانا) ،أو (فلو)
نوعا
احلظ نعسة ًاختصارا ،تأخذ درس عزف على البيانو ،كانت لسوء ّ ً
ما ،وإذ أراحت ذقنها بيديها انبرت تتثاءب وتتثاءب بال انقطاع ،بدت
أشبه بقطّ ة نالت من النوم ما يزيد عن حاجتها.
اجلرافات ،والغضب إلى جانبها جلس والدها ،الرئيس املسؤول عن ّ
تصرفها ،مع شعوره باحلرج من معلّمة البيانو اخلاصة؛ يسيطر عليه من ّ
امرأة جاوية مهذبة يف منتصف العمر.
وبارعا يف
ً قادرا على إدارة مناوبات آالف العمال، كان والد (فلو) ً
ٍ
أصول مباليني وناجحا يف اإلشراف على
ً حلّ أصعب املشاكل التقنية،
الدوالرات ،ولكن عندما يواجه هذه البنت الصغيرة ،األصغر من بني
27
أوالده ،يقف عاج ًزا مكتوف اليدين ،وكلما رفع صوته أكثر وهو يوبخها،
اتساعا.
ً ازداد تثاؤبها
اخلاصة بعزف رموز (دو ،مي ،صو ،تي) متن ّقلة ما بني ّ بدأت املعلمة
مبينة وضعية األصبع لكلّ رمز ،إال ّأن (فلو) تثاءبت من أربع نغماتّ ،
جديد.
مدرسة الـ (پ ن)
مجمع املُلكية ،واع ُتبرت ً
دائما كانت مدرسة الـ (پ ن) يف قلب ّ
مرك ًزا للتميز ،مكان َمن هم األفضل ،وفيها تنافس مئات من التالميذ
األكفاء على أعلى مستوى ،و(فلو) واحدة منهم.
ال يختلف الفرق بني هذه املدرسة وبني مدرستنا عن الفرق بني األرض
والسماء ،كانت صفوفها مزينة بالرسوم التعليمية ،وجداول الضرب،
واجلداول الدورية ،وخرائط العالم ،وموازين احلرارة ،وصور الرئيس ونائب
غريبا بذيل يتألف منطائرا ً
الرئيس ،والرمز الوطني البطولي الذي مي ّثل ً
مجسمات كرات أرضية، أيضا متاثيل تشريحّ ، ثماني ِر َيش ،كانت هناك ً
ومناذج النظام الشمسي ،لم يستخدموا يف تلك الصفوف الطباشير ،بل
خاصة كريهة الرائحة ألن ألواحهم بيضاء. أقالما ّاستخدموا ً
«عندهم كثير من املعلّمني» زعق (أمران إنسياني) الذي ارتاد تلك
مرة ،أعلمني بهذا يف الليلة السابقة على ّأول يوم لي يف ابتدائية املدرسة ّ
األول».
الصف ّ ّ احملمدية« ،كلّ ما ّدة لها معلّمها اخلاص ،مبا يف ذلك
عجزت عن النوم يف تلك الليلة ،أصابني الدوار وأنا أحاول إحصاء
تشوقي الشديد طبعا بسبب ّ وأيضا ً
عدد املدرسني يف مدرسة الـ (پ ن)ً ،
للذهاب إلى املدرسة يف الصباح التالي.
املقر األكثر متي ًزا يف (بيليتوجن) ،ويف ّأول
كانت مدرسة الـ (پ ن) ّ
28
ُ
ويؤخذ مقاس مئات يوم مدرسي تصطف عشرات السيارات أمامها،
الطالب ،ليس فقط من أجل زي مدرسي واحد بل من أجل ثالثة أزياء
مطبعة برسوممختلفة ،يف يوم االثنني يرتدي التالميذ قمصا ًنا زرقاء ّ
أزهار جميلة ،وتقلّهم إلى املدرسة حافلة زرقاء ،رؤية تالميذ مدرسة الـ
يترجلون من احلافلة ذكّ رتني بصورة مجموعة أطفال بيض (پ ن) وهم ّ
وجذابني ومج ّنحني يحلّقون فوق الغيوم يف بعض التقاومي.
لم تقبل مدرسة الـ (پ ن) إال أبناء املوظفني الذين يعيشون يف
املُلكية ،وقد ُضبطت بقانون رسمي نوعية رتبة املوظفني الذين ّ
يحق لهم
وطبعا ،على البوابة ُعلِّق التحذير الذي
تسجيل أطفالهم يف املدرسةً ،
حق.
ينص على عدم دخول من ليس لهم ّ ّ
وهذا َع َنى أن أبناء صيادي السمك ،وناقلي األنابيب ،والعمال
وخصوصا أبناء
ً األشداء الذين يغربلون القصدير ،واملياومني مثل أهالينا،
ّ
(بيليتوجن) احملليني ال ميلكون أدنى فرصة يف تلقي تعليم جيد ،ولذلك
اضطروا إلى االلتحاق مبدرسة احملمدية؛ املدرسة التي ميكن أن تنهار إذا
داعبتها ملسة ريح قوية.
أما ما كان يستدعي السخرية األعظم يف حياتنا فهو أن مجد املُلكية
وسحر مدرسة الـ (پ ن) ّميوالن مئة باملئة من القصدير املستخرج من
أراضينا ،كانت امللكية معل ًَما من معالم (بيليتوجن).
29