Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 6

‫‪5‬‬

‫(فلو)‬
‫تعتبر جزيرة (بيليتوجن) الصغيرة أغنى جزيرة يف إندونيسيا‪ ،‬وهي جزء‬
‫من سومطرة‪ ،‬لكن غناها جعلها تنفرد بنفسها‪ ،‬وإلى هذه اجلزيرة النائية‬
‫سر بقي مدفو ًنا‬
‫تسلّلت حضارة (املاليو) القدمية من (مالكا)‪ ،‬وكان ثمة ّ‬
‫يف األرض إلى أن اكتشفه الهولنديون‪ ،‬ففي أعماق األرض املوحلة تدفّق‬
‫الكنز‪ :‬القصدير‪ ،‬القصدير املبارك‪ ،‬القصدير الذي تساوي حفنة منه ما‬
‫يزيد عن عشرات الدالء من األرز‪.‬‬
‫لو حدث وأولج املرء ذراعه يف الطمي الضحل‪ ،‬أو باألحرى يف أي‬
‫بقعة أخرى على اإلطالق‪ ،‬فإنها تعود إليه متأللئة‪ ،‬ملطخة بالقصدير‪،‬‬
‫تشع بالقصدير الالمع‬‫ومن قبالة الساحل‪ ،‬تبدو (بيليتوجن) للناظر وهي ّ‬
‫كمنارة ترشد قباطنة السفن‪.‬‬
‫متأخر من الليل‪ ،‬ولطاملا أخذ استغالله‬
‫لطاملا ملع القصدير إلى وقت ّ‬
‫على نطاق واسع مجراه حتت كنف آالف األضواء التي تستخدم املاليني‬
‫من كيلوواطات الطاقة‪.‬‬
‫مباركة هي األرض التي يتدفّق فيها القصدير‪ ،‬ألنه مع القصدير‬
‫فضة‪ ،‬توباز‪،‬‬ ‫دائما مواد أخرى‪( :‬طني‪ ،‬كزينوتامي‪ ،‬زيركون‪ ،‬ذهب‪ّ ،‬‬
‫تظهر ً‬
‫جالينا‪ ،‬نحاس‪ ،‬كوارتز‪ ،‬سيليكا‪ ،‬غرانيت‪ ،‬مونازيت‪ ،‬سيدريت‪،‬‬
‫هيماتيت‪ ،‬بل ح ّتى يورانيوم)‪ ،‬حتت البيوت القائمة على الركائز حيث‬
‫عشنا حياتنا احملرومة‪ ،‬قبعت طبقات وطبقات من الثروة‪ ،‬وك ّنا‪ ،‬نحن‪،‬‬
‫يغص‬ ‫جوعا يف مخزن ّ‬ ‫أهالي (بيليتوجن) مثل مجموعة جرذان تتضور ً‬
‫باألرز‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫املُلكية‬

‫قامت باستغالل هذا املورد الطبيعي العظيم شركة ُتدعى (پ ن‬


‫تيما)‪ ،‬ترمز (پ ن) إلى «پيروساهان نيغري» أو شركة مملوكة للدولة؛‬
‫وتعني تيما القصدير‪.‬‬
‫جرافة‪ ،‬واستوعب املشروع‬ ‫شغلت شركة الـ (پ ن) ست عشرة ّ‬ ‫ّ‬
‫تقريبا‪.‬‬
‫جميع األيدي العاملة يف اجلزيرة ً‬
‫اجلرافات الفوالذية بطول مالعب كرة القدم‪ ،‬وال‬ ‫كانت أوعية ّ‬
‫شيء يستطيع الوقوف يف طريقها‪ ،‬حطّ مت الشعاب املرجانية‪ ،‬اقتلعت‬
‫األشجار ذات اجلذوع التي متاثل أحجام البيوت الصغيرة‪ ،‬هدمت مباني‬
‫الطوب بضربة واحدة‪ ،‬وسحقت قرى بأكملها‪ ،‬جالت يف املنحدرات‬
‫اجلبلية‪ ،‬واحلقول‪ ،‬والوديان والبحار والبحيرات واألنهار واملستنقعات‪،‬‬
‫الضجيج الناجم عنها بدا أشبه بهدير ديناصورات مزمجرة‪.‬‬
‫غالبا ما أجرينا فيما بيننا رهانات حمقاء‪ ،‬مثل كم دقيقة تستغرق‬
‫ً‬
‫لتحول أكمةً إلى أرض مستوية‪ ،‬وعلى اخلاسر م ّنا أن يعود‬ ‫ّ‬ ‫اجلرافة‬
‫ّ‬
‫القهقرى من املدرسة إلى البيت‪ ،‬وحينئذ نبدأ يف الضرب على الدفوف‬
‫ونتبعه وهو يتهادى إلى الوراء مثل البطريق‪.‬‬
‫استولت احلكومة اإلندونيسية على شركة الـ (پ ن) من املستعمرة‬
‫أيضا العقلية‬
‫الهولندية‪ ،‬ولم ُتصادر األصــول فقط‪ ،‬بل صــادرت ً‬
‫حتررت إندونيسيا‪ ،‬بقيت معاملة شركة الـ‬‫اإلقطاعية‪ ،‬وح ّتى بعد أن ّ‬
‫(پ ن) للموظفني احملليني متييزية إلى أقصى احلدود‪ ،‬وكانت املعاملة‬
‫تختلف باختالف تصنيف الطبقات‪.‬‬
‫شغل املسؤولون التنفيذيون أعلى طبقة يف الـ (پ ن)‪ ،‬كان ُيشار‬

‫‪25‬‬
‫إليهم عادة باسم املوظفني‪ ،‬أما أدنى طبقة فلم تتألّف يف الواقع إال من‬
‫عمال غربلة‬‫حمالي أنابيب‪ ،‬أو ّ‬ ‫أهالينا الذين عملوا لدى هذه الشركة ّ‬
‫القصدير‪ ،‬أو عما ًال مياومني‪ ،‬وألن (بيليتوجن) أصبحت قرية شركات‪،‬‬
‫انتهجت (پ ن) شي ًئا فشي ًئا أسلوب الهيمنة‪ ،‬كانت مثل اإلقطاعية‪:‬‬
‫دائما ح ّتى خارج ساعات العمل‪.‬‬ ‫طبقة العامل فيها الزمته ً‬
‫تقريبا من ((املاليويني )البيليتوجنيني)‪،‬‬
‫عاش املوظفون‪ ،‬ال أحد منهم ً‬
‫مخصصة للنخبة ُتدعى املُلكية‪ ،‬وكانت هذه املنطقة تخضع‬ ‫يف منطقة ّ‬
‫ومحصنة بسياجات وأسوار عالية وحتذيرات قاسية‬ ‫ّ‬ ‫مشددة‪،‬‬
‫حلراسة أمنية ّ‬
‫اللهجة منتشرة يف كل مكان بثالث لغات‪ :‬اإلندونيسية الرسمية ذات‬
‫الطابع االستعماري‪ ،‬والصينية والهولندية‪ ،‬تقول تلك التحذيرات ممنوع‬
‫حق‪.‬‬‫دخول من ليس له ّ‬
‫يف أعيننا؛ أعني أطفال القرية الفقراء‪ ،‬بدت املُلكية كما تقول‪ :‬اِلزم‬
‫بصف من أشجار طويلة ريشية الشكل‬ ‫ّ‬ ‫حدودك‪ ،‬وقد تع ّزز هذا االنطباع‬
‫تساقط دوما كريات حمراء بلون الدم على أسطح السيارات الفارهة‬ ‫ِ‬
‫احملتشدة عند مخرج املرآب‪.‬‬
‫ُبنيت منازل املُلكية الفاخرة على الطراز الفيكتوري‪ ،‬تتألّف ستائر‬
‫عدة‪ ،‬كستائر مسارح السينما‪ ،‬يف تلك املنازل‬ ‫نوافذها من طبقات ّ‬
‫استقرت عائالت صغيرة وعاشت بسالم مع طفلني أو رمبا ثالثة على‬ ‫ّ‬
‫دائما ومعتمة ومتكتمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مساملة‬ ‫املنازل‬ ‫تلك‬ ‫كانت‬ ‫األكثر‪،‬‬
‫اكتسبت تلك املنازل ذات الطابع الفيكتوري مظهر قالع النبالء‬
‫ّ‬
‫وتشكل كلّ منزل هناك‬ ‫بسبب قيام املُلكية على بقعة أرض مرتفعة‪،‬‬
‫من أربعة أقسام منفصلة‪ :‬احلجرات الرئيسة‪ ،‬ومساكن اخلدم‪ ،‬واملرآب‪،‬‬
‫وقسم التخزين‪ ،‬وجميعها متصلة بشرفات طويلة مفتوحة حتيط ببركة‬
‫صغيرة‪ ،‬عند حفاف البركة تطفو زنابق املاء الزرقاء‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫كانت غرف املعيشة يف تلك البيوت مفروشة باألثاث العتيق‪ ،‬كأرائك‬
‫اخلشب الوردي الفيكتورية‪ ،‬إذا جلس عليها املرء شعر أنه أقرب إلى ملك‬
‫حاولت‬
‫َ‬ ‫جليل‪ ،‬وعلى اجلدران ُعلّقت لوحات غامضة وباهظة الثمن‪ ،‬ولو‬
‫يا صديقي أن تذهب من غرفة املعيشة إلى غرفة الطعام من غير أن تركّ ز‬
‫بعناية ستضيع بسبب وفرة األبواب يف تلك املنازل‪.‬‬
‫يتناول ساكنو تلك البيوت العشاء وهم يرتدون أفضل ثيابهم‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬إذا باشروا األكل‪ ،‬بعد أن يضعوا مناديلهم‬ ‫وينتعلون أحذيتهم ً‬
‫على أحضانهم‪ ،‬ال يصدر عنهم أي صوت‪ ،‬ويستمعون يف تلك األثناء‬
‫إلى املوسيقا الكالسيكية‪ ،‬رمبا سيمفونية «هافنر رقم ‪ 35‬ملوزارت» سلّم‬
‫«دي» األساس‪ ،‬وال أحد منهم يضع مرفقيه على الطاولة‪.‬‬

‫جدا‪ ،‬بل كان السكون مطب ًقا‬‫اجلو يف املُلكية ساك ًنا ً‬ ‫ٍ‬
‫يف ليلة هادئة كان ّ‬
‫تسرب صوت‬ ‫تقريبا‪ ،‬ومن أحد البيوت الفيكتورية ذات األعمدة الطويلة ّ‬
‫ً‬
‫بيانو‪ ،‬هناك جلست بنت صغيرة صبيانية‪ ،‬اسمها (فلوريانا)‪ ،‬أو (فلو)‬
‫نوعا‬
‫احلظ نعسة ً‬‫اختصارا‪ ،‬تأخذ درس عزف على البيانو‪ ،‬كانت لسوء ّ‬ ‫ً‬
‫ما‪ ،‬وإذ أراحت ذقنها بيديها انبرت تتثاءب وتتثاءب بال انقطاع‪ ،‬بدت‬
‫أشبه بقطّ ة نالت من النوم ما يزيد عن حاجتها‪.‬‬
‫اجلرافات‪ ،‬والغضب‬ ‫إلى جانبها جلس والدها‪ ،‬الرئيس املسؤول عن ّ‬
‫تصرفها‪ ،‬مع شعوره باحلرج من معلّمة البيانو اخلاصة؛‬ ‫يسيطر عليه من ّ‬
‫امرأة جاوية مهذبة يف منتصف العمر‪.‬‬
‫وبارعا يف‬
‫ً‬ ‫قادرا على إدارة مناوبات آالف العمال‪،‬‬ ‫كان والد (فلو) ً‬
‫ٍ‬
‫أصول مباليني‬ ‫وناجحا يف اإلشراف على‬
‫ً‬ ‫حلّ أصعب املشاكل التقنية‪،‬‬
‫الدوالرات‪ ،‬ولكن عندما يواجه هذه البنت الصغيرة‪ ،‬األصغر من بني‬

‫‪27‬‬
‫أوالده‪ ،‬يقف عاج ًزا مكتوف اليدين‪ ،‬وكلما رفع صوته أكثر وهو يوبخها‪،‬‬
‫اتساعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ازداد تثاؤبها‬
‫اخلاصة بعزف رموز (دو‪ ،‬مي‪ ،‬صو‪ ،‬تي) متن ّقلة ما بني‬ ‫ّ‬ ‫بدأت املعلمة‬
‫مبينة وضعية األصبع لكلّ رمز‪ ،‬إال ّأن (فلو) تثاءبت من‬ ‫أربع نغمات‪ّ ،‬‬
‫جديد‪.‬‬
‫مدرسة الـ (پ ن)‬
‫مجمع املُلكية‪ ،‬واع ُتبرت ً‬
‫دائما‬ ‫كانت مدرسة الـ (پ ن) يف قلب ّ‬
‫مرك ًزا للتميز‪ ،‬مكان َمن هم األفضل‪ ،‬وفيها تنافس مئات من التالميذ‬
‫األكفاء على أعلى مستوى‪ ،‬و(فلو) واحدة منهم‪.‬‬
‫ال يختلف الفرق بني هذه املدرسة وبني مدرستنا عن الفرق بني األرض‬
‫والسماء‪ ،‬كانت صفوفها مزينة بالرسوم التعليمية‪ ،‬وجداول الضرب‪،‬‬
‫واجلداول الدورية‪ ،‬وخرائط العالم‪ ،‬وموازين احلرارة‪ ،‬وصور الرئيس ونائب‬
‫غريبا بذيل يتألف من‬‫طائرا ً‬
‫الرئيس‪ ،‬والرمز الوطني البطولي الذي مي ّثل ً‬
‫مجسمات كرات أرضية‪،‬‬ ‫أيضا متاثيل تشريح‪ّ ،‬‬ ‫ثماني ِر َيش‪ ،‬كانت هناك ً‬
‫ومناذج النظام الشمسي‪ ،‬لم يستخدموا يف تلك الصفوف الطباشير‪ ،‬بل‬
‫خاصة كريهة الرائحة ألن ألواحهم بيضاء‪.‬‬ ‫أقالما ّ‬‫استخدموا ً‬
‫«عندهم كثير من املعلّمني» زعق (أمران إنسياني) الذي ارتاد تلك‬
‫مرة‪ ،‬أعلمني بهذا يف الليلة السابقة على ّأول يوم لي يف ابتدائية‬ ‫املدرسة ّ‬
‫األول»‪.‬‬
‫الصف ّ‬ ‫ّ‬ ‫احملمدية‪« ،‬كلّ ما ّدة لها معلّمها اخلاص‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫عجزت عن النوم يف تلك الليلة‪ ،‬أصابني الدوار وأنا أحاول إحصاء‬
‫تشوقي الشديد‬ ‫طبعا بسبب ّ‬ ‫وأيضا ً‬
‫عدد املدرسني يف مدرسة الـ (پ ن)‪ً ،‬‬
‫للذهاب إلى املدرسة يف الصباح التالي‪.‬‬
‫املقر األكثر متي ًزا يف (بيليتوجن)‪ ،‬ويف ّأول‬
‫كانت مدرسة الـ (پ ن) ّ‬

‫‪28‬‬
‫ُ‬
‫ويؤخذ مقاس مئات‬ ‫يوم مدرسي تصطف عشرات السيارات أمامها‪،‬‬
‫الطالب‪ ،‬ليس فقط من أجل زي مدرسي واحد بل من أجل ثالثة أزياء‬
‫مطبعة برسوم‬‫مختلفة‪ ،‬يف يوم االثنني يرتدي التالميذ قمصا ًنا زرقاء ّ‬
‫أزهار جميلة‪ ،‬وتقلّهم إلى املدرسة حافلة زرقاء‪ ،‬رؤية تالميذ مدرسة الـ‬
‫يترجلون من احلافلة ذكّ رتني بصورة مجموعة أطفال بيض‬ ‫(پ ن) وهم ّ‬
‫وجذابني ومج ّنحني يحلّقون فوق الغيوم يف بعض التقاومي‪.‬‬
‫لم تقبل مدرسة الـ (پ ن) إال أبناء املوظفني الذين يعيشون يف‬
‫املُلكية‪ ،‬وقد ُضبطت بقانون رسمي نوعية رتبة املوظفني الذين ّ‬
‫يحق لهم‬
‫وطبعا‪ ،‬على البوابة ُعلِّق التحذير الذي‬
‫تسجيل أطفالهم يف املدرسة‪ً ،‬‬
‫حق‪.‬‬
‫ينص على عدم دخول من ليس لهم ّ‬ ‫ّ‬
‫وهذا َع َنى أن أبناء صيادي السمك‪ ،‬وناقلي األنابيب‪ ،‬والعمال‬
‫وخصوصا أبناء‬
‫ً‬ ‫األشداء الذين يغربلون القصدير‪ ،‬واملياومني مثل أهالينا‪،‬‬
‫ّ‬
‫(بيليتوجن) احملليني ال ميلكون أدنى فرصة يف تلقي تعليم جيد‪ ،‬ولذلك‬
‫اضطروا إلى االلتحاق مبدرسة احملمدية؛ املدرسة التي ميكن أن تنهار إذا‬
‫داعبتها ملسة ريح قوية‪.‬‬
‫أما ما كان يستدعي السخرية األعظم يف حياتنا فهو أن مجد املُلكية‬
‫وسحر مدرسة الـ (پ ن) ّميوالن مئة باملئة من القصدير املستخرج من‬
‫أراضينا‪ ،‬كانت امللكية معل ًَما من معالم (بيليتوجن)‪.‬‬

‫‪29‬‬

You might also like