Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 19

‫ﺃﺻﺎﻟﺔ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻋﻨﺪ ﺻﺪﺭﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﺸﻴﺮﺍﺯﻱ ‪ :‬ﺭؤﻳﺔ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻣﻘﺎﺭﻧﺔ‬ ‫ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ‪:‬‬

‫ﻣﺠﻠﺔ ﻛﻠﻴﺔ ﺍﻵﺩﺍﺏ‬ ‫ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ‪:‬‬


‫ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺑﻨﻐﺎﺯﻱ ‪ -‬ﻛﻠﻴﺔ ﺍﻵﺩﺍﺏ‬ ‫ﺍﻟﻨﺎﺷﺮ‪:‬‬
‫ﺯﻭﺭﺍﺏ‪ ،‬ﻋﻤﺮ ﻓﺮﺝ‬ ‫ﺍﻟﻤؤﻟﻒ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻲ‪:‬‬
‫اصالة‪37‬الوجود عند صدر الدين الشريازى‬
‫ﻉ‬ ‫ﺍﻟﻤﺠﻠﺪ‪/‬ﺍﻟﻌﺪﺩ‪:‬‬
‫ﻧﻌﻢ‬ ‫ﻣﺤﻜﻤﺔ‪:‬‬
‫رؤية نقدية مقارنة‬ ‫‪2013‬‬ ‫ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ‪:‬‬
‫‪165 - 182‬‬ ‫ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ‪:‬‬
‫‪492567‬‬ ‫ﺭﻗﻢ ‪:MD‬‬
‫ﺑﺤﻮﺙ ﻭﻣﻘﺎﻻﺕ‬ ‫ﻧﻮﻉ ﺍﻟﻤﺤﺘﻮﻯ‪:‬‬
‫‪AraBase‬‬ ‫ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ‪:‬‬
‫ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ‪ ،‬ﻭﺣﺪﺓ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ‪ ،‬ﺻﺪﺭ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﺸﻴﺮﺍﺯﻱ‪ ،‬ﺍﻟﻌﻘﻞ‪ ،‬ﺍﻟﺒﺤﻮﺙ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ‬ ‫ﻣﻮﺍﺿﻴﻊ‪:‬‬
‫‪http://search.mandumah.com/Record/492567‬‬ ‫ﺭﺍﺑﻂ‪:‬‬

‫الدكتور عمر فرج زوراب‬


‫قسم الفلسفة اإلسالمية‪ -‬جامعة مصراتة‬

‫© ‪ 2022‬ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪ .‬ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪.‬‬


‫ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‪ ،‬ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ .‬ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡ‬
‫ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ‪ ،‬ﻭﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ ﺃﻱ ﻭﺳﻴﻠﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺪ ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ( ﺩﻭﻥ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﺧﻄﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ ﺩﺍﺭ‬
‫ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬

‫‪561‬‬
‫اصالة الوجود عند صدر الدين الشريازى‬

‫رؤية نقدية مقارنة‬

‫الدكتور عمر فرج زوراب‬


‫قسم الفلسفة اإلسالمية‪ -‬جامعة مصراتة‬

‫‪561‬‬
‫املقدمة ‪:‬‬
‫تقوم هذه الدراسة النقدية املقارنة انطالقـاﹰ مـن القـول بـأن هنـاك متـايزاﹰ بـني الوجـود واملاهية ‪ ،‬من حيث أنه ملا كان مفهوم‬
‫الوجود مشرتكاﹰ معنوياﹰ بديهياﹰ غري قابل للتحليل والتفريق ‪ ،‬فهو إذن يفرتق ويتمايز عن املاهية اليت هي معىن معلوم االسم‬
‫والصـفة‪ ،‬وهـذا يرتـد إىل أن املاهيـة ترتكـب من أمرين عنصريني عقليني مها جنس وفصل ‪ ،‬على خالف مفهوم الوجود الذي قال‬
‫عنه ال شريازي أنه ال يقوم من جنس وفصل ‪ ،‬فالوجود واملاهية مفهومان متغايران من الناحية الذهنية فمعايرة املاهية للوجـود‬
‫وإنصافها به ‪ ،‬أمر عقلي إمنا يكون يف الذهن ال يف اخلارج ‪ ،‬وإن كانت يف الذهن أيضـاﹰ غـري منفكـة عن الوجود ‪ ،‬وإذا الكون‬
‫يف العقل أيضاﹰ وجود عقلي ‪ ،‬والكون يف اخلارج وجود خارجي ‪ ،‬لكن العقل شأنه أن يأخذ املاهية وحدها دون مالحظة شيء‬
‫من الوجوديني اخلـارجي والـذهين معهـا ويصـفها به ‪ ،‬مبعىن أن الوجود ليس عني املاهية ذهنياﹰ ‪ ،‬أي أن التصورات اليت تتوافر عليه‬
‫أذهاننا عن ماهية األشياء ليست هي عني تصورنا عن مفهوم الوجود بل هي مغايره له يف عامل الذهن ‪ ،‬حيث اصطلح على‬
‫تسـمية هذا التغاير الذهين بني الوجـود واملاهيـة بزيـادة الوجـود علـى املاهيـة ‪ ،‬أي أن الوجـود زائـد على املاهية عارض هلا ‪ ،‬وهذا‬
‫يعين أن املفهوم من أحدمها غري املفهوم من اآلخر يف الـذهن ‪ ،‬إذ املاهيـة تتخذ مع الوجود اخلارجي يف اخلارج ‪ ،‬ومع الوجود‬
‫الذهين يف الذهن ‪ ،‬لكن العقل حيث يعقل املاهية مع عدم االلتفات إىل أحناء الوجود حيكم باملغـايرة بينـهما حبسـب العقـل ‪،‬‬
‫وهـذا يعـين أن املفهـوم من أحدمها غري املفهوم من اآلخر ‪ ،‬فالوجود ليس عني املاهية وال جزء املاهية يف الذهن ‪ ،‬أما على‬
‫الصعيد اخلارجي العيين الواقعي فإن الوجود واملاهية متحدان وال مغايره بينهما ‪ ،‬فليس يف الواقع إذن أي مغـايرة بني املاهية‬
‫والوجود ‪ ،‬بل للعقل أن حيلل بعض املوجودات إىل ماهية ووجود ‪ ،‬حبيث يالحظ بينهما إنصافاﹰ ونسبة ‪ ،‬وميكننـا يف الواقـع‬
‫ح صـر جمموعـة مـن األدلـة علـى هـذا التمـايز بـني الوجـود واملاهية ‪ ،‬بالنظر إىل اآلراء الفلسفية السابقة منذ اليونان وحىت الشريازي‬
‫سواء ما يقول منها بأصالة املاهية ومذهب الشريازي يف آلة الوجود ‪.‬‬

‫تغاير الوجود واملاهية ‪-:‬‬


‫الوجود والماهية متغايران ذهنياﹰ ومتحدان على المستوى الحقيقي الخارجي بعدة دالئل وهي كما يلي ‪)1( -:‬‬
‫‪-1‬إفادة الحمل ‪ :‬إذ أننا جند أن محل الوجود على املاهية مفيد ‪ ،‬بعكس لو أننا قمنا حبمل املاهية على الوجود‬
‫‪-2‬الحاجة إلى االسـتدالل‪ :‬أي أن الوجود من املفاهيم البديهية غري احملتاجة إىل االستدالل بعكس املاهية ‪ ،‬ذلك أن التصديق‬
‫بثبوت الوجود للماهية قد يفتقر إىل كسب ونظر كوجود العقل مثالﹰ خبالف املاهية وذاتياهتا ‪ ،‬ألهنما بينتا الثبوت هلا ‪.‬‬
‫‪-3‬صحة السلب‪ :‬وهذا الدليل من األدلة املهمة اليت توضح وجود تفرقة واضحة بني الوجود واملاهية ‪ ،‬إذ لو كان الوجود عني‬
‫املاهية استحال نفي الوجود عن املاهية ‪ ،‬يف حني أنه يصح سلب الوجود عن املاهية كاملثال الذي أخرب به الشريازي(‪ )2‬للعنقاء‬
‫اليت ميكن تصورها ذهنياﹰ مع أنه يصح سلب الوجود عنها ‪ ،‬فسلب الوجود عن املاهية يصح ‪ ،‬مثل العنقاء ليس مبوجود ‪ ،‬وليس‬
‫يصح سلب املاهية وذاتياهتا عن نفسها‪.‬‬

‫‪566‬‬
‫‪-4‬اتحاد المفهوم‪ :‬فإن الوجود واحد واإلنسان والفرس والشجرة خمتلفة (‪. )3‬‬
‫‪-3‬االنفكاك في التعقل ‪ :‬فإننا قد نتصور املاهية وال نتصور كوهنا ال اخلارجي وال الذهين (‪. )4‬‬
‫وهنا يصري وجود املمكن عني ماهيته خارجاﹰ ومتحداﹰ هبا حنواﹰ من االحتاد وهو ما أشار إليه الشريازي عندما رأي أن الوجود‬
‫باملعىن احلقيقي وليس الوجود االنتزاعي املصدري العام ‪ ،‬من األمور العينية ‪ ،‬وأن الوجود اإلمكاين لو مل يكن متحداﹰ باملاهية‬
‫املمكنة احتاد األمر العيين باملفهوم االعتباري ‪ ،‬لكان إما املاهية نفسها حبسب املفهـوم أو جـزءاﹰ منـها كذلك ‪ ،‬وذلك باطل‬
‫عقالﹰ ألنه من املمكن تصور املاهية مع إغفال وجودها‪.‬‬
‫والواقع أن الشريازي بتفكيكه ملفهوم الوجود إىل وجود انتزاعي تتحقق به املوجود به وحقيقة الوجود أو الوجـود احلقيقي الذي هو‬
‫الوجودات احلقيقية كهويات عينية موجودة بذواهتا ‪ ،‬مت ربطه بني التغاير املفهومي بني الوجود واملاهية من ناحية ‪ ،‬واالحتاد‬
‫اخلارجي من ناحية أخرى ‪ ،‬هو املبدأ اجلوهري واحملور األساسي ‪ ،‬الذي يكشف عن مذهبه يف أصالة الوجود وبالتايل كل‬
‫نظريات احلكمة املتعالية لديه ‪.‬‬
‫واحلق فإن واقعية الوجود اليت ليس لدينا أي شك يف ثبوهتا ال تقبل النفي إطالقاﹰ ‪ ،‬وال حيمل عليها العدم ‪ ،‬وهذا شيء ال يقبل‬
‫أي نوع من السفسفه ‪ ،‬فإننا نواجه واقع األشياء ونتعامل مع واقع الوجـود ‪ ،‬فواقعيـة الوجـود دون قيـد أو شرط هي واقعية‬
‫الوجود ‪ ،‬وال تصري ال واقعية بدون قيد وشرط ‪ ،‬ذلك أننا نعلم أن هناك واقعاﹰ نصدق به ‪ ،‬وهو أصل يقيين وقطعي ‪ ،‬وهو‬
‫النقطة الدوالنية يف التفكري اإلنساين عرب سريته العقالنية الفلسفية حيث تتخـذه نقطـة انطـالق حركتها ‪ ،‬وهذا هو املنطق اليقيين‬
‫الذي علينا أن نبدأ منه ألنه ال يقبل الشك ‪ ،‬وهلذا كان قاعدة االنطالق حنـو بنـاء الرباهني واالستدالالت بوصفه أساساﹰ‬
‫حمكماﹰ ومتيناﹰ ‪ ،‬ذلك أن جمموعة األفكار الفلسفية لو كانت على أسـاس فرضـي غري قطعي ‪ ،‬أو من نظرية احتمالية فسوف‬
‫تفقد قيمتها واعتبارها بالبداهة ‪ ،‬هلذا كان البد وأن يكون األصل األول الذي تنبثق عنه األفكار أصالﹰ ال يعرتيه أي شك ‪ ،‬بل‬
‫وجيب أن يكون أصالﹰ متعارفاﹰ ال موضوعاﹰ ‪ ،‬بل جيب أن يكون إنكـاره معادالﹰ إلنكار مجيع األصول األخرى املسلم هبا ‪.‬‬
‫وهلذا كان األصل الذي يتمتع هب ذه امليزات كنقطة النطالق الفلسفة هو الواقع الواضح يف أذهاننا ‪ ،‬فنحن نواجه واقع األشياء‬
‫ونتعامل مع واقع الوجود ‪ ،‬وهلذا كان الوجود الواقعي هو األصل مبظاهرة املتحققة يف مثمنه وهي ظواهر تـدل على حقيقته ‪،‬‬
‫وهذه احلقيقة بديهية عينية مثل حقيقة (أنا موجود) اليت تنبع من العلم احلضوري بالنفس بذاهتا ‪ ،‬أو حقيقة األرض أو الشمس‬
‫موجودة اليت تتبع من العلم احلسي البديهي ‪ ،‬ورغم أن بعض هذه احلقائق حيتاج حبثاﹰ وحتقيقاﹰ ‪ ،‬ولكن هذه املرحلة تؤكد‬
‫اإلذعان باألصل الكلي ‪.‬‬
‫((إن هناك واقعاﹰ)) أي أن هناك ((وجوداﹰ)) وتنفي الزعم السفسطائي الباطل الذي يدعي أن كل شيء باطل ‪ ،‬فهذا األصل‬
‫الكلي ثابت ومطلق وغري خاضع لقانون التحول ‪.‬‬

‫‪561‬‬
‫وهكذا فإن كل شيء خارجي ال يتعدى أمراﹰ واقعياﹰ واحداﹰ ‪ ،‬ميكننا أن نستخلص منه ما سبق أن قلناه هنا ‪ ،‬وهـو استخالص‬
‫مفهومي املاهية – الوجود – وعلينا اآلن أن حناول بدقة مناقشة ملن األصالة من هذين املفهومني ؟ ‪ ،‬بصرف النظر عن آراء‬
‫املاهويني أو الوجوديني وإمنا بالنظر إىل الرؤية النقدية اليت تنظر يف األسس اليت بين عليها كل فريق رأيـه يف أصالة املاهية أو‬
‫أصالة الوجود ‪.‬‬
‫وعلينا اآلن أن نتساءل ‪ :‬هل مفهوم اإلنسان مثالﹰ هو الذي حيكي عن الواقعية الـيت نبغضـها املثاليـة أم مفهـوم الوجود ؟ (‪)5‬‬
‫الواقع أنه بعد اإلذعان بأن اإلنسان موجود ‪ ،‬والشجرة موجودة ‪ ،‬والبياض موجـود‪ ...‬أي أنـه بعـد تكـثري ((األصل الكلي)) أي‬
‫((الواقع موجود)) واحلصول على واقعيات متعددة يطرح هذا االستفهام – هكذا بعد اإلميـان باألصل الكلي ((الواقع‬
‫موجود )) وهو ما ميثل احلد الفاصل بني املثالية والواقعية فإننا خنطوا أوىل اخلطوات يف االنفصال عن عامل اخليال والدخول إىل‬
‫عامل الواقع مث نعكف على تكثري هذا األصل ‪ ،‬فنعثر على واقعيات متعـددة ‪ ،‬كاإلنسـان والشجرة واجلسم ‪ ...‬إخل ‪ ،‬فنذعن يف‬
‫أذهاننا ونصدق بشكل قطعي بأن هلذه األمور واقعاﹰ ‪ ،‬مث نعكـف علـى حتليـل ذهننا فنجد ‪:‬‬
‫أوالﹰ‪ :‬أن لدي الذهن صورة عن كل واحد من هذه األمور الواقعية مغايرة لصورة الوجود اليت لديه (زيادة الوجود على املاهية)‪.‬‬
‫ثانياﹰ ‪ :‬إن مفهوم الوجود مفهوم عام مشرتك ينطبق على هذه األمور الواقعية مبعىن ومفهوم واحد (اشرتاك معنـوي للوجود) مث‬
‫نستنتج من هذا التحليل املختصر للذهن النتيجة الثالثة ‪ :‬إذن لدينا مفهومان عن كل أمر نصـدق ونـذعن بواقعيته ‪ ،‬األول‬
‫مفهوم عام ومشرتك هو (الوجود) الذي ينطبق على كل هـذه األمـور الواقعيـة ‪ ،‬وهـو مشـرتك بينها ‪ ،‬والثاين ‪ :‬مفهوم خاص‬
‫خيتص بكل أمر من هذه األمور الواقعية ‪ ،‬وهو ليس مشرتك بينها ‪ ،‬وإمنا خيتص بكل أمر منها على حده ‪ ،‬مثل مفهوم اإلنسان‬
‫‪ ،‬مفهوم الشجرة ‪ ،‬مفهوم اجلسم ‪ ،‬حيث ينطبق كل مفهوم من هذه املفاهيم على مورد معني ويصطلح عليه مبفهوم (املاهية)‪.‬‬
‫وهذا بدوره يطرح أمامنا استفهامان ‪ :‬األول ‪ :‬من أين ينشأ املفهوم العام واملشرتك يف األذهان ‪ ،‬ومن أين ينشأ املفهوم اخلاص يف‬
‫األذهان أيضاﹰ ؟ ‪.‬‬
‫وهذا السؤال ذو طابع نفسي ‪ ،‬فالنفس يف بدء تكوينها وحدوثها ال تعرف شيئاﹰ بالعلم احلصويل ‪ ،‬وليس لديها تصور عن أي‬
‫شيء يف الذهن حىت عن ذاهتا وحاالهت ا النفسية ‪ ،‬بل هي من حيث األساس تفتقر إىل الذهن ابتـداءاﹰ الن عـامل الذهن ال‬
‫يتعدى عامل التصور لدى النفس ‪ ،‬وحيث أهنا ال متلك صورة عن أي شيء ابتداءاﹰ ‪ ،‬إذن فليس لـديها ذهـن فاإلنسان يفتقر إىل‬
‫الذهن ابتداءاﹰ ‪ ،‬ولكنه بعد أن حيصل على الصورة الذهنية بالتدريج وحيصل على تصورات األشـياء وعن ذاته وحاالته النفسية ‪،‬‬
‫يتشكل لديه الذهن ‪ ،‬ولكن النفس اليت ال تعرف يف بدء تكوينها وحدوثها أي شيء بالعلم احلصويل تفتقر إىل الذهن ‪ ،‬تعرف‬
‫بالعلم احلضوري منذ البدء ذاهتا وقوي ذاهت ا النفسية ‪ ،‬ألن األصل يف العلم احلصويل هو الفعالية التصويرية لقوة اخليال‪ ،‬واألصل‬
‫يف العلم احلضوري ‪ ،‬هو جترد وجود الشيء عن املادة وخصائصها ‪.‬‬

‫‪561‬‬
‫أمـا االستفهام الثاين ‪ :‬فبعد معرفتنا أن هناك مفهومني يف الذهن (املاهية – الوجود ) ‪ ،‬فأي منهما هو األصيل ‪ ،‬وأي منهما هو‬
‫االعتباري ؟ فهل مها أصيالن معاﹰ أم مها اعتباريان معاﹰ ‪ ،‬أم أن الوجود هو األصـيل واملاهيـة أمـر اعتبـاري أم العكس ؟ وهذه‬
‫املسألة رغم طابعها الذهين مسألة فلسفية خالقة ‪ ،‬وذات طـابع عـيين ‪ ،‬وتتوقـف معرفـة الواقـع عليها ‪ ،‬بل هي أكثر مسائل‬
‫معرفة الواقع جوهرية ‪.‬‬
‫أ‪ -‬تعين األصالة هنا العينية واخلارجية ‪ ،‬مقابل االعتبارية اليت تعين عدم العينية واخلارجية ‪ ،‬وتعين أهنا حمصول ذهـين خالص ‪،‬‬
‫ول قد درجنا يف الواقع يف االصطالح الفلسفي احلديث على استخدام األصالة مبعىن التقدم مقابل الفرع والنتيجة ‪ ،‬فيقال هل‬
‫األصالة للروح أم املادة ؟ وبديهي هنا أن املقصود يف هذا االستفهام ليس حتديد ما هو عيين خارجي وما هو اعتباري ذهين ‪ ،‬بل‬
‫املقصود هو حتديد ما هو األساس هل املادة هي األساس والروح من خواص املادة ونتيجة تركيباهتا أم أن الروح هي األساس‬
‫واملادة نتيجة هلا ؟‬
‫وال يعين يف حبث أصالة الوجـود أو املاهيـة بالبحـث عمـا هـو أسـاس ‪ ،‬بـل يطـرح االسـتفهام بصـدد املفهومني اللذين تتوفر‬
‫عليهما عن كل أمر واقعي ‪ ،‬فأي من هذين املفهومني ذو طابع عني خارجي ‪ ،‬وأي منـهما ذو طابع ذهين واعتباري ؟ والواقع‬
‫أننا إذا اعتربنا الوجود أو املاهية أمراﹰ اعتبارياﹰ فسوف ال نقر له بأي طابع عيين ‪ ،‬فال هو أصل أساس وال هو فرع ونتيجة ‪،‬‬
‫وعلى أي حال ال ينبغي اخللط بني البحث عن األصالة وعدمها هنا ‪ ،‬وبني البحـث عن األصالة وعدمها يف الفلسفة احلديثة إذ‬
‫االصطالحات يف هذه الفلسفة ختتلط أحياناﹰ ‪ ،‬ومن املمكن أن يراد من عدم األصالة يف بعض املوارد االعتبارية أيضاﹰ ‪.‬‬
‫ب – ينبغي أن نوضح مفهوم املاهية اليت نبحث عن أصالتها أو عدم أصالتها وجيـب هنـا أن نكـون علـى بينـة من أن هذا‬
‫البحث مطروح بعـد التصـديق بعـدة أمـور واقعيـة ‪ ،‬أي أن واقعيـة األشـياء مقدمـة للـدخول إىل هذا البحث ‪ ،‬وهي ليست فرضية‬
‫احتمالية بل هـي أمـر بـديهي وقطعـي ‪ ،‬وموضـوع تصـديق وإذعـان كل األذهان – لنفرض أننا آمنا بواقعية ثالثة أشياء ‪ :‬اخلط ‪،‬‬
‫العدد ‪ ،‬اإلنسان ‪ ،‬وأن هذه األشياء موجودة على حد سواء وال اختالف بينها من زاوية واقعيتها ووجودها ‪ ،‬من الواضح لذى‬
‫أذهاننا أن الوجود تعلق يف كل مواد من هذه املوارد بشيء ‪ ،‬ويف كل مواد لبس شيء من لباس الوجود ‪ ،‬وبعبارة أخرى واضح‬
‫لدى أذهاننا أن شيئاﹰ يف كل مورد من هذه املوارد قد خرج من ستارة اإلهتام وظلمة العدم ‪ ،‬فقد تعلق الوجود يف مورد مبا تسميه‬
‫الكمية املتصلة ‪ ،‬وتعلق الوجود يف مورد آخر مبا نسميه الكمية املنفصلة ‪ ،‬وتعلق يف مورد آخر مبا نسميه اجلوهر العاقل ‪ ،‬فيما‬
‫يبدو يف أذهاننـا متلبسـاﹰ ومعروضاﹰ وخارجاﹰ من ستا رة وظلمته هو ( املاهنة ) ففي املثال السابق حينما حنكم بوجود العدد أو‬
‫اخلط أو اإلنسان ‪ ،‬فإن العدد واخلط واإلنسان ماهيات ذوات وجود ‪ ،‬وهنا ميكننا القول أن املاهيات منشأ الكثرة والتعدد بينما‬
‫الوجود هو منشأ الوحدة مبعىن أن األمور السابقة أمور واقعية ثالثية ‪ ،‬أي ثالثة أمور ال أمر واحد ‪ ،‬حيث أن أحدها خط‬
‫واآلخـر عدد والثالث إنسان ‪ ،‬برغم أهنا من زاوية الواقع والتوفر على الوجود متشاهبة ومشرتكة مع بعضها ‪ ،‬غري أننـا جيـب‬
‫اإلشارة هنا إىل إمكانية أن ينكر منكر حقيقة ‪( :‬إن ما ندركه من األشياء هو عني ما هيتها) ‪ ،‬فال يقر بأن الصـورة الذهنية‬
‫للخط أو العدد أو اإلنسان هي عني املاهية املتلبسة بالوجود اخلارجي ‪ ،‬أي أن يسلك أفكار يف حبث الوجـود الذهين ‪ ،‬ولكن‬

‫‪561‬‬
‫مع القبول بأن هناك أموراﹰ ثالثة ذات واقع ووجود ال يبقى هناك شك يف آن كل واحد من هذه األمور الثالثة شيء خاص‬
‫بنفسه ‪ ،‬قد تغلق به الوجود ‪ ،‬وهذا الشيء الذي تعلق فيه الوجود هو ماهية ذلك الشيء سواء آمناﹰ بالوصول إىل كنهة أم مل‬
‫نؤمن ‪.‬‬
‫(‪)7‬‬
‫ج‪ -‬حينما نحمل محموالً على موضوع فسوف نالحظ وجود حالتين ‪:‬‬
‫الحالة األولى ‪ :‬أن يكون احملمول واملوضوع يف عامل اخلارج أمرين واقعيني ‪ ،‬أي لكل واحد منـهما واقـع خـاص به ‪ ،‬كما هو‬
‫احلال يف عالم الذهب ‪ ،‬حيث يتوفر كل من املوضوع واحملمول على صورة ذهنية خاصة بـه ‪ ،‬مثـل حينما حنكم بأن هذه الورقة‬
‫بيضاء ‪ ،‬أو هذه الغرفة مربعة أو هذه احلبة حلوة ‪.‬‬
‫‪ -‬نالحظ يف هذه األمثلة أن لكل واحد من احملمول واملوضوع تصوراﹰ خاصاﹰ به يف الذهن – ونالحظ أيضاﹰ أن لكـل واحد‬
‫منهما ما بإزاء يف عامل اخلارج ‪ ،‬أي أن هناك واقعاﹰ للبياض ‪ ،‬وأن هناك واقعاﹰ للورقة وأن هناك واقعاﹰ للغرفة وأن هناك واقعاﹰ‬
‫للمربع ‪ ،‬وأن هناك واقعاﹰ للحبة وأن هناك واقعاﹰ للحالوة ‪ ،‬فرغم ارتباط هذه الوقائع مع بعضها وارهتـان كل حممول مبوضوعة ‪،‬‬
‫لكن لكل واحد منهما مصداقاﹰ واقعياﹰ ‪ ،‬ومن مت له ما بآراء خاص به ‪.‬‬
‫احلالة الثانية‪ :‬أن ال يكون لكل من احملمول واملوضوع واقع مستقل يف اخلارج ‪ ،‬وال تكون هناك أثنينية بني املوضوع واحملمول يف‬
‫اخلارج فال كثرة بينهما ‪ ،‬بل حبكم الوحدة بين هما ‪ ،‬والكثرة تستند إىل الذهب بشكل خالص ‪ ،‬وبعبارة أخرى أن الذهن بلون‬
‫من ألوان التحليل والتجزئة يقسم األمر اخلارجي الواحد إىل أمور متعددة ‪ ،‬فيصوغ مفـاهيم ومعاين متعددة من أمر واقعي‬
‫خارجي واحد ‪ ،‬ليس فيه أي لون من ألوان الكثرة ‪ ،‬وال جمال إلنكار قدرة الذهن على التحليل والتجزئ ‪ ،‬فلها آالف الشواهد‬
‫الواضحة ‪.‬‬
‫وألق نظرة على (التعريفات) تالحظ كيف يصوغ الذهن شيء واحد بسيط خارجي مفاهيم ومعاين متعـددة لديك ويضع‬
‫له زوايا اشرتاك ونقاط امتياز ‪ ،‬بالشكل الذي تنطبق مجيع املعاين واملفاهيم الكثرية على هـذا الشـكل اخلارجي البسيط الواحد ‪،‬‬
‫كما هو احلال يف تعريف اخلط فالذهن حيكم بأنه ( كمية متصلة ذات بعـد واحـد ) ‪ .‬فالذهن هنا جيزء اخلط بقوة حتليلية إىل‬
‫كمية واتصال ‪ ،‬وإهن ا ذات بعد واحد ‪ ،‬وهذه املفاهيم الثالثة تنطبق على اخلط ‪ ،‬ومن البديهي أن الوجود للخط ال يرتكب من‬
‫ثالثة أجزاء ‪ ،‬أي أن قسماﹰ من وجوده كمية ‪ ،‬وآخر اتصال ‪ ،‬وآخـر بعد واحد ‪ ،‬بل املفاهيم الثالثة يف عامل اخلارج واحدة‬
‫وذات واقع ووجود واحد ‪ ،‬لكن الذهن هو الذي ينتزع من هذا الواقع الواحد ‪ ،‬على أي حال ال جمال إلنكار قدرة الذهن على‬
‫صياغة مفاهيم ومعان متعددة للواقع الواحد ‪.‬‬
‫حبث املاهية والوجود مورد من موارد احلالة الثانية ‪ ،‬احلالة اليت ال يكون لكل من املوضوع واحملمول واقع مستقل ‪ ،‬أي املوارد اليت‬
‫نتخذ املاهية نظري اخلط أو العدد أو اإلنسان موضوعاﹰ وحنمل الوجود عليها ‪ ،‬فنؤلف قضايا ‪،‬وحنكم أن اخلــط موجــود أو العــدد‬
‫موجــود أ و اإلنســان موجــود للموضــوع واحملمــول يف هــذه امل ـوارد ( يعني مفهوم اإلنسان ومفهوم الوجود مثالﹰ ) كثرة يف عامل‬

‫‪511‬‬
‫الذهن ‪ ،‬وحبكم التغاير بني املفهومني ‪ ،‬ووفق االصطالح الفلسفي ( الوجود زائد على الماهية ) بل – كما قلنا – يبدو يف‬
‫الوهلة األوىل للذهن أن الوجود تعلـق باملاهيـة‪،‬‬
‫وأخرجها من عامل العدم ومن ستارة اإلهبام والظلمة إىل عامل الظهور ‪ ،‬واملاهية مبثابة املتلبس بلباس الوجود ‪ ،‬لكـن للعلم أن‬
‫املاهية والوجود يف عامل اخلارج ليسا أمرين أحدمها ظاهر واآلخر مظهر ‪ ،‬وأحدمها لباس واآلخر متلبس ‪ ،‬بل الذهن هو الذي‬
‫يصوغ هذين املفهومني من واقع خارجي واحد ‪ ،‬فيعترب أحد املفهومني عارضاﹰ واآلخر معروضاﹰ عليه ‪ ،‬هناك تركيبات ممكنة يف‬
‫عامل اخلارج ‪ ،‬لكن تركيب املاهية والوجود يف عامل اخلارج أمر ال معىن له ‪ ،‬إمنا حتصل هذه الكثــرة والرتكيــب بــني املاهيــة‬
‫والوجــود بقــوة التحليــل الــذهين ‪ ،‬ولــيس للوجــود واملاهيــة يف عامل اخلارج ( كاإلنسان ووجود اإلنسان أو الخط ووجود الخط‬
‫أو األرض ووجود األرض ) واقعان مستقالن ‪ ،‬فيكون لكل واحد منها ما بإزاء خارجي ‪ ،‬وكيف ميكن من حيث األساس أن‬
‫يكون لألمر الواقعي الواحـد ‪ ،‬ممـا فرضناه اإلنسان أ و اخلط أو الذرة ‪ ،‬واقعان واقع لذاتـه وواقـع لوجـوده ‪ ،‬كـل علـى حـده ‪،‬‬
‫فيكـون لـه واقعان يف اجملموع ؟! ‪.‬‬
‫ال حاجة إلقامة الربهان على أن الشيء ووجوده يشكالن واقعاﹰ واحداﹰ واختالف وتعدد املاهية والوجود أمر ذهين ومعلول لقوة‬
‫التحليل الذهنية فإذا استطاع أحد أن يتصور هذا املوضوع فسوف يصدق هبذه الفكرة بال تردد ‪ ،‬لكننا يف نفس الوقت تقيم‬
‫برهاناﹰ ألولئك الذين مييلون إىل إقامة الربهان واالسـتدالل علـى هـذا املوضـوع وبرهاننـاﹰ على النحو اآليت ‪)8( :‬‬
‫إذا كان الشيء ووجوده أمرين واقعيني يلزم أن يتألف كل أمر واقعي من أمور واقعية غري متناهية ‪ ،‬مضافاﹰ إىل أن يكون ذلك‬
‫الشيء من حيث األساس أمراﹰ واقعياﹰ مستقالﹰ ‪ ،‬فسوف تنقل الكالم إىل كل واحد من هـذين الـواقعني (املاهية والوجود)‬
‫وحيث أن كل واحد من هذين األمرين أمر واقعي ‪ ،‬وكل أمر واقعي حبسب الفرض مـع واقعـه أمران واقعيان ‪ ،‬أي هناك اختالف‬
‫حاكم يف ذاته وليس أمراﹰ واحداﹰ ‪ ،‬إذن لكل واحد من الوجود جمموع من أمـرين واقعيني ‪ ،‬مث ننقل الكالم يف املرحلة الثانية إىل‬
‫هذين األمرين الواقعيني اللذين تشكلهما املاهية ‪ ،‬واألمرين الـواقعيني اللذين يشكلهما واقع الوجود ‪ ،‬وحيث أن كل واحد من‬
‫هذه األربعة أمر واقعي ‪ ،‬وكل أمر واقعي حبسب الفـرض جمموع من أمرين واقعيني بينهما اختالف خارجي ‪ ،‬إذن فكل واحد من‬
‫هذه األمور األربعة يشكل أمرين واقعيني ‪ ،‬وهكذا ننقل الكالم يف املرحلة الثالثة والرابعة إىل ما ال هناية ‪ ،‬حيث نستمر مع أمور‬
‫واقعية مركبة من أمرين واقعيني آخرين وهكذا ‪.‬‬
‫ومن الواضح أن هذه الظاهرة أمر محال عقالﹰ ألسباب ‪-:‬‬
‫أوالﹰ ‪ :‬إن األمر الواقعي الواحد كاإلنسان الواحد ليس جمموعة من األناس الالمتناهية ‪ ،‬واخلط الواحد ليس جمموعة من اخلطوط‬
‫الالمتناهية ( على أن ال خنلط بني قابلية انقسام اخلط إىل أجزاء غري متناهية وهذا املوضـوع) والـذرة الواحدة ليست مشكلة من‬
‫ذرات ال متناهية ‪ ،‬فكيف ميكن من حيث األساس أن يكون الشيء الواحد يف نفس الوقت الذي هو أمر واحد بالفعل مؤلفاﹰ‬
‫من أشياء غري متناهية ‪.‬‬

‫‪515‬‬
‫ثانياﹰ ‪ :‬إن األمر الالمتناهي املفروض هنا لون من الكثري الذي ال ينتهي إىل وحدات ‪ ،‬وقد الحظنا أن الشيء يتألف من أمرين‬
‫واقعيني إىل ما ال هناية وال ينتهي إىل أمر واقعي مؤلف من هذين األمرين الواقعيني ‪ ،‬والكثري الذي ال ينتهي‬
‫إىل أمر واحد يستحيل وجـوده ألن الكـثري حيصـل جـزاء جتمـع وحـدات فـإذا مل تكـن هنـاك وحـدة مل تكن هناك كثرة ‪.‬‬
‫إذن يلزم من كون الشئ الواقعي الواحد ذاته أمرين واقعيني أن ال يكون لذلك الشيء من حيث األساس وجـود وواقعية ‪.‬‬
‫مما تقدم الحظنا أن الشئ الواحد ال ميكن أن يكون هو نفسه أمـرين واقعـيني ‪ ،‬بعبـارة أخـرى ال ميكـن أن تكون املاهية‬
‫والوجود أمرين عينيني ‪ ،‬نأيت اآلن لنقول على أساس وجود أمور خارج أذهاننا ‪ ،‬إن املاهية وواقعها ال ميكن أيضاﹰ أال يكون لكل‬
‫منهما وجود عينية خارجية ‪ ،‬فنحن نؤمن بأن اإلنسان أو اخلط أو العدد أو الذرة موجودة خارج أذهاننا فإذا كان اإلنسان‬
‫وواقعه أو اخلط وواقعه ال وجود خارجي وال عينية هلم ا ‪ ،‬بل مها أمران ذهنيان ‪ ،‬إذن حينما نقول اإلنسان موجود سوف يكون‬
‫أمراﹰ ذهنياﹰ حبثاﹰ ‪ ،‬وليس هناك خلف الذهن أي شيء ‪ ،‬وهذا خالف األصل البديهي الذي تقدم ‪ ،‬وهو عني مدعى‬
‫السفسطانيني ‪)9(.‬‬
‫بعد بيان هذه املقدمات أتضح عرب املقدمة األوىل أن حبث أصالة الوجود أو املاهية ذو طابع ذهين ‪ ،‬رغم أن البحـث عن تعيني‬
‫وحتقيق األمر اخلارجي والواقعي منها ‪ ،‬فله طابع ذهين وطابع خارجي‪ ،‬ومها توأمان مع بعضهما ‪ ،‬واتضح من املقدمة الثانية‬
‫مفهوم املاهية ونسبتها للوجود حبسب االعتبار الذهين ‪ ،‬واتضح من املقدمة الثالثة أن الوجود واملاهية يشكالن واقعاﹰخارجياﹰ‬
‫واحداﹰ ‪ ،‬وليسا أمرين واقعـيني ‪ ،‬ومـن هنـا ال ميكـن أن يكونـا خـارجيني وعينـيني وأصليني ‪ ،‬أي أن يكون الوجود أصيالﹰ واملاهية‬
‫أصيلة ‪ ،‬واتضح من املقدمة الرابعة أن الوجود واملاهية ال ميكن أن يكونا معاﹰ غري واقعيني ‪ ،‬وأن يكون كل منهما أمراﹰ ذهنياﹰ‬
‫حمضاﹰ ‪ ،‬يعين أن يكون اعتباريني معاﹰ ‪.‬‬
‫بعد طرح هذه المقدمات يأتي دور االستفهام التالي ‪ ،‬ما هو األصيل هل الوجود هو األصيل والماهية هي االعتبارية أم‬
‫العكس ؟‬
‫أقيمت براهني متعددة إلثبات أصالة الوجود تتكئ بعض هذه الرباهني على أصول موضوعة ‪ ،‬ينبغي إثباهتا عرب العلـم أو الفلسفة‬
‫ومن احملتم أن األصول املوضوعة ما مل يقم عليها الربهان تبقى اإلفادة منها يف الربهان على أصالة الوجود غـري متوفرة على الطابع‬
‫اليقيين ‪ ،‬وبعض الرباهني ليست كذلك ‪ ،‬وحنن هنا ال نستطيع أن نطرح وحنلل مجيع الـرباهني الـيت أقيمت إلثبات أصالة الوجود ‪،‬‬
‫بل نكتفي ببيان برهان ذو طابع فلسفي خالص ‪ ،‬وهو أسهل الـرباهني وأوضـحها‪ ،‬وأكثرها أحكاماﹰ وقوة ‪ ،‬وهذا الربهان ال‬
‫يتطلب مقدمات إضافية خارج متحيص مفهومي الوجود واملاهية ذاهتا ويتكـئ صدر املتأهلني مؤسس نظريـة أصـالة الوجـود يف كتبـه‬
‫علـى هـذا الربهـان يف أغلـب األحيـان والربهـان هو على النحو التايل ‪)10( :‬‬
‫إن األمر يدور بني حالني ‪ ،‬فإما أن يكون الوجود أمراﹰ واقعياﹰ وتكون املاهية أمراﹰ انتزاعياﹰ عرب القوة الذهنية ‪ ،‬وإمـا أنتكون‬
‫املاهية أمراﹰ واقعياﹰ ويكون الوجود أمراﹰ ‪ ،‬انتزاعياﹰ ذهنياﹰ ‪ ،‬حينما نقيس كالﹰ من الوجود واملاهية بالواقعية واخلارجية نالحظ (‬

‫‪511‬‬
‫املاهية مثل( اإلنسان أو اخلط أو غريمها) يف ذاهتا تصلح للوجود وتصلح للعدم أيضاﹰ) ونسـبتها إىل الوجـود والعدم على السواء ‪،‬‬
‫فاملاهية حبكم مصاحبتها للوجود والواقعية يعتربها الذهن صاحلة حلمل الوجود عليها ‪.‬‬
‫أما الوجود والواقعية فهو عني املوجودية والواقعية واخلارجية ‪ ،‬وفرض عدم واقعية الواقع وعـدم وجـود الوجـود فرض حمال ‪.‬‬
‫إذن فالوجود هو عني الواقعية والعينية ‪ ،‬وهو الذي يشكل اخلارجية وعامل العينية ‪ ،‬أما املاهية فهي قالب ذهين للوجود يهيئه‬
‫الذهن بفعاليته اخلاصة جراء ارتباطه بالواقع اخلارجي ‪ ،‬فينسبه للواقع اخلارجي ‪.‬‬
‫وهذا هو معىن عبارة املنت ‪ :‬كل شيء ‪ ،‬أي كل أمر واقعي خارجي يتوفر على الواقعية يف ظل الواقعية ‪ ،‬وإذا فرضنا أن واقع‬
‫الوجود يسلب عنه الوجود ‪ ،‬فيكون عدماﹰ فهذا الفرض ال يتعدى الوهم الفارغ ‪ ،‬إن لنظرية أصالة الوجود نتـائج كثرية يف‬
‫الفلسفة ‪ ،‬ويرهت ن البحث يف أغلب املسائل الفلسفية بالبحث يف أصالة الوجود ‪ ،‬خصوصاﹰ يف موضوع احلركة حيث يفيد هذا‬
‫البحث من موضوع أصالة الوجود نتائج كثرية ال جمال لعدها هنا وسنذكر هذه النتائج يف حملها ‪ ،‬ونشري يف خامتة هذه الفقرة إىل‬
‫املالحظة التالية ‪:‬‬
‫الحظ القارئ احملرتم أننا طرحنا موضوع البحث عن أصالة الوجود بعد اإلميان باألصلي الكلي (إن هناك واقعاﹰ) وبعد التصديق‬
‫بواقعية جمموعة أمور ‪ ،‬وبعد االلتفات إىل زيادة الوجود على املاهية ‪ ،‬وبعـد اإلميـان باالشـرتاك املعنـوي للوجود ‪ ،‬فطرحنا من‬
‫الناحية الفنية مرتتب على جمموعة مسائل وكلن ينبغي أن نوضح أن هذا الرتتيب الفين ال ضرورة لاللتزام به ومن املمكن تقريب‬
‫الطريق والدخول إىل حبث أصالة الوجود بعد اإلميان باألصل الكلي ( إن هناك واقعـاﹰ ) الذي هو احلد الفاصل بني الفلسفة‬
‫والسفسطة وجنعل موضوع أصالة الوجود البحث الفلسفي األول فنقول ‪ :‬بعد اإلميان باألصل الكلي يتضح لنا أن هناك أمراﹰ‬
‫واقعياﹰ وأن لدينا موجوداﹰ ‪ ،‬وهذا املوجود الواقعي إما أن يكون وجوداﹰ وإمـا أن يكون شيئاﹰ له الوجود ‪ ،‬أي إما أن يكون الواقع‬
‫الذي يقف خلف الذهن الذي ال يصلح ألن حيكم الذهن بأن املاهيـة(س) خرجت من ستارة العدم أو أي ماهية أخرى ‪ ،‬وإما‬
‫أن يكون الواقع الذي يقف خلف الذهن مؤهالﹰ لكي حيكـم الذهن بأن األمر خرج من ستارة العدم إىل الوجود ‪ ،‬بناء على‬
‫الفرض فليس هناك أثر للماهية أساساﹰ ‪ ،‬وبناءً على الفرض الثاين تكون املاهية معروضة للوجود وقد تعلق هبا ‪ ،‬وعلى أساس‬
‫هذا الغرض ‪ ،‬جنري الربهان املتقـدم طبـق الطريقـة اليت تقدمت – وإذا سلكنا هذا األسلوب فسوف نصل إىل النتيجة بشكل‬
‫أسرع ويكون امليـدان بعيـداﹰ عـن كـثري من الشبهات ‪ ،‬ومن هنا يتضح أن أولئك ( نظير الحكم السبزواري ) الذين اختذوا‬
‫قاعدة الزوج الرتكييب ‪ ،‬وإن املمكن زوج تركييب الذي يوحي بتقسيم املوجود إىل واجب وممكن ‪ ،‬وبساطة الواجب وتركيب املمكن‬
‫‪ ،‬الذين اختذوا هـذه الفكرة مقدمة للربهنة على أصالة الوجود قد سلكوا طريقاﹰ بعيداﹰ ‪ ،‬عن النظام املنطقي ‪ ،‬ألن تقسيم املوجود‬
‫إىل الواجب واملمكن متأخر كثرياﹰ عن أصالة الوجود‪.‬‬
‫ومن الواضح أن كل شيء ‪ ،‬أي كل أمر واقعي إمنا يتوفر على الواقعية ‪ ،‬حتت ظل الواقع ‪ ،‬وإذا فرضنا أن واقـع الوجود نسلب‬
‫عنه الوجود ‪ ،‬فيكون عدماﹰ ‪ ،‬فهذا الفرض ليس إال ومهاﹰ فارغاﹰ ‪ ،‬وعليه نستدل ‪ ،‬أن األصل األصـيل يف كل شيء إمنا هو‬
‫وجوده ‪ ،‬واملاهية أمر ذهين ‪ ،‬أي أن واقع الوجود بذاته أمر واقعي ‪ ،‬وعني الواقعيـة ‪ ،‬ومجيـع املاهيات تكون واقعية به ‪ ،‬وبدونه‬

‫‪511‬‬
‫أي ( بذاهتا) ال تكون إال أمراﹰ ذهنياﹰ واعتبارياﹰ ‪ ،‬بل أن املاهيات هي جمرد صـور توحدها الواقعيات اخلارجية يف ذهننا وإدراكنا‬
‫‪ ،‬وإال فهي ال ميكن أن تنفصل يف عامل اخلارجي املوضوعي عن الوجود ‪ ،‬وبالتايل فليس هلا وجود مستقل بوجه من الوجوه ‪،‬‬
‫وبعبارات أخرى ‪ ،‬فمادام حتقق جهة االحتاد ‪ ،‬بـني الوجـود واملاهية جتري يف اخلارج من جهة الوجود ال املاهية ‪ ،‬فهذا يعين أن‬
‫األولية والسبق هي للوجود دون املاهية بوصفه هو ال املاهية جهة االحتاد بينهما يف اخلارج ‪ ،‬وهلـذا كـان الشـريازي علـى حـق‬
‫عنـدما رأى يف اجلـزء األوملن األسفار(‪( )11‬ص‪ ) 87‬أي مبدأ األثر أو أثر املبدأ ليس إال الوحدات احلقيقية اليت هي هويات‬
‫عينيـة موجـودة بذواهتا وال املاهيات املرسلة املبهمة الذوات اليت ما مست بذواهتا يف حدود أنفسها رائحة الوجود ‪.‬‬
‫والواضح إذن أن األصالة تعود إىل الوجود العيين احلقيقي ‪ ،‬من حيث كونه حيمل أثراﹰ مباشراﹰ يف األشـياء خالل حضوره‬
‫لإلنسان وحواسه ‪ ،‬وال تؤول األصالة إىل الوجود االنتزاعي العقلي كوهن ا أمور ذهنية ‪ ،‬مها جمـردان عن األثر والفاعلية ‪ ،‬ومن مث‬
‫مها مفهومان عدميان ‪ ،‬فكالمها يف حدود نفسيهما ‪ ،‬وال يقتضي الوجود وال العدم ‪ ،‬ألن الوجود والعدم خارجان عن ذاهتما ‪،‬‬
‫فهما متساويات يف النسبة إليهما ‪ ،‬وهذا واضح من حتليلنا ملاهية مـا ‪ ،‬ماهيـة اإلنسان مثالﹰ ‪ ،‬الذي هو حيوان ناطق ‪ ،‬أي أننا‬
‫ال نقول ‪ :‬اإلنسان حيوان ناطق موجود ‪ ،‬ألن الوجود خارج عن ذات املاهية ‪ ،‬فاملاهية عدم حمض ‪ ،‬فهي ال متلك شيئاﹰ ‪ ،‬ألهنا‬
‫من حيث هي ليست إال هي ال موجودة وال معدومة ‪ ،‬ومن مث ال ميكن أن تكون األصالة للماهية ‪ ،‬ألهنا قرينة العدم ‪ ،‬فال جيوز‬
‫لذلك أن تتقدم على الوجود يف اخلارج ‪ ،‬فإذا كانت املاهية يف ذاهتا ‪ ،‬ال موجودة وال معدومة فهي حتتاج إذاﹰ إىل من خيرجها من‬
‫حالة االستواء بني الوجود والعدم ‪ ،‬فهي حبسب ذاهت ا وحدود أنفسها معراة عن الوجود والظهور ‪ ،‬فالوجود والظهور يطرأ عليها‬
‫من غريها ‪ ،‬فهي يف حـدود أنفسها هالكات الذوات ‪ ،‬بإطالق احلقائق ‪ ،‬أزالﹰ وأبداﹰ ال يف وقت من األوقات ومرتبة من املراتب‬
‫‪ ،‬وبالتايل لن تكون املاهية هي سبب خروجها من حالة االستواء ‪ ،‬فالوجود هو الذي خيرجها من حالة اإلمكان بني الوجـود‬
‫والعـدم وجيعلها متلبسة ب الوجود ‪ ،‬وليس املاهية هي اليت خترج نفسها إىل الوجود ‪ ،‬ألن املاهية يف نفسها ال عالقة بينها وبني‬
‫غريها ‪ ،‬فما مل يدخل املاهية يف عامل الوجود دخوالﹰ عرضياﹰ ليست هي يف نفسها شيئاﹰ من األشياء حىت نفسها ‪ ،‬حىت تصلح‬
‫إلسناد مفهوم ما إليها حبسب التقدير البحث ‪ ،‬أي ذهنياﹰ فقط ‪ ،‬وهذا يدل على أن األصالة ترتد إىل الوجـود فهو منشأ ترتيب‬
‫اآلثار باخلارج وليس املاهية ‪ ،‬ألن املاهية إمكانية يف ذاهتا ‪ ،‬حبيث ال حتصل هلا الفعلية ‪ ،‬إال من خالل الوجود ‪ ،‬ألنه ال فعلية هلا‬
‫يف ذاهتا‪ ،‬أو كما يقول الشريازي نفسه أن (( ما ال فعلية له ال اقتضاء منه لشيء مـا لم ينصبغ بصبغ الوجود )) (‪. )21‬‬
‫والواقع أن القول بأصالة الوجود كما رأي الشريازي مل يتوقف عند تأكيد املغايرة بني الوجـود واملاهيـة من حيث هي إحدى‬
‫النتائج اجلاهزة – املهمة اليت ورثها عن أسالفه ‪ ،‬وإمنا كان مهه األكرب حل التساؤل الذي طرحه أستاذه املرياداما أول مرة على‬
‫بساط الدرس الفلسفي ‪ ،‬واليت أنتقل منه الشريازي إلثبات أصالة الوجود بعد أن كـان موافقاﹰ ألستاذه بالقول بأصالة املاهية ‪،‬‬
‫وهو التحول اخلالق ملسار الفلسفة اإلسالمية ألنه يؤسس بناءً فلسفياﹰ جديـداﹰ وإجيابياﹰ للنظرة إىل العامل ‪ ،‬وإذا مل يعد للنظرة‬
‫املرتكزة على أولوية املاهيات وتقدمها أي املاهية ‪ ،‬وبسقوطها على يـد الشريازي تسقط كل االعتبارات اليت من شأهنا احلط من‬
‫الوجود العيين احلقيقي الذي كان يف منظور أصحاب أصالة املاهية ومهاﹰ وخياالﹰ ‪ ،‬وهنا فأصالة الوجود واعتبارية املاهية ‪ ،‬حبسب‬
‫منظور احلكمة املتعالة ‪ ،‬أسفر عن صياغة فلسفة واقعية وجودية وميتافيزيقية يف الوقت ذات ‪ ،‬واقعية تعيد اعتبار قوي‬

‫‪511‬‬
‫للمشخصات العينية احلقيقية ‪ ،‬من خالل أصالة وجودها وحتققها ‪ ،‬إذ مل تعد موصوفة باملثال اليت كانت عليه يف ظل التنظري‬
‫املاهوي السابق ‪ ،‬وميتافيزيقية كوهنا تس عى عن طريق احلركة اجلوهرية إىل إثبات الوجود الروحي املفارق ‪ ،‬حيث خترج عن أن‬
‫تكون جمرد فلسـفة وجوديـة منحصرة يف جمال العامل املادي ‪ ،‬أو يف بعد اإلنسان وأفعاله فقط كما هو شأن الوجودية املعاصرة ‪،‬‬
‫إذا أن فلسفة أصالة الوجود بالطرح املتعايل الذي قدمه الشريازي هي فلسفة الوجود األصيل الذي يبدأ من أعلى مراتبه ‪ ،‬أي من‬
‫اﷲ تعاىل على أدىن مراتبه ‪ ،‬حيث اهليويل ‪.‬‬
‫وواضح عند المتأهل في االحتماالت العقلية الممكنة بين الماهية والوجود أنها ال تخـرج عـن ثالثة احتماالت ‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن الوجود عني املاهية ونفسها ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن الوجود جزء من املاهية ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن الوجود أمر مغاير للماهية زائد عليها ‪.‬‬
‫لكن أحداﹰ من الفالسفة أو املتكلمني مل يذهب إىل القول بأن الوجود جزء املاهية (‪ ، )13‬إذن يبقى لنا هنا احتماالن ‪ :‬إن‬
‫الوجود عني املاهية أو أن الوجود مغاير للماهية زائد عليها ‪.‬‬
‫ومن جانب آخر نجد أن الماهية قد تكون واجبة وقد تكون ممكنة ‪ ،‬وعليه سوف تكون االحتماالت العقلية ال ممكنة‬
‫بين الماهية بقسميها والوجود أربعة ‪:‬‬
‫األول‪ :‬الوجود نفس املاهية ويف الواجب ويف املمكن ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الوجود زائد على املاهية يف الواجب ويف املمكن ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الوجود نفس املاهية يف الواجب زائد عليها يف املمكن ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الوجود نفس املاهية يف املمكن زائد عليها يف الواجب ‪.‬‬
‫غير أن االحتمال األخير ال يخرج عن كونه احتماالﹰ عقلياﹰ ‪ ،‬فلم يتخذه أحداً مذهباﹰ لـه (‪ ، )14‬فيتحصل لنا أن‬
‫المذاهب في هذه المسألة ثالثة ‪:‬‬
‫المذهب األول‪ :‬مذهب أيب احلسن األشعري وبعض أصحابه ‪ ،‬وبعض املعتزلة كأيب احلسن البصري ‪ ،‬وهو أن الوجود نفس‬
‫املاهية ‪ ،‬وليس بزائد عليها ‪ ،‬سواء كان ذلك يف الواجب أو املمكن(‪. )15‬‬
‫المذهب الثاني‪ :‬مذهب مجهور املتكلمني ‪ ،‬ومنهم أكثر املعتزلة وهو أن الوجود مغاير للماهية ‪ ،‬زائد عليها يف الواجب‬
‫واملمكن (‪.)16‬‬

‫‪511‬‬
‫المذهب الثالث‪ :‬مذهب الفالسفة ‪ ،‬كالفارايب وابن سينا وغريهم ‪ ،‬وهو أن الوجود نفس املاهية يف الواجب وزائد على املاهية‬
‫يف املمكن (‪.)17‬‬
‫أدلة المذهب األول ‪:‬‬
‫استدل القائلون بأن الوجود نفس امل اهية بعدة أدلة ‪ ،‬ذكرنا أثنني منها يف مسألة اشرتاك الوجـود اشرتاكاﹰ لفظياﹰ ‪،‬‬
‫وذلك ألنه يلزم من القول بأن الوجود عني املاهية أو املوجود أن يكون الوجود مشرتكاﹰ لفظياﹰ ‪ ،‬وها أنا أذكر ما تبقى منها ‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬أنه لو كان وجود الشيء زائداﹰ عليه ملا كان الوجود موجوداﹰ ‪ ،‬ضرورة امتنـاع تسلسـل الوجودات ‪ ،‬إذن يكون‬
‫معدوماﹰ ‪ ،‬وهذا باطل ‪ ،‬ألن فيه اتصاف الشيء بنقيضه ‪ ،‬وكون ما ال ثبوت له يف نفسه ثباتاﹰ يف حمله ‪.‬‬
‫الدليل الثاني‪ :‬أنه لو كان الوجود قائماﹰ باملاهية ‪ ،‬لكان موجوداﹰ ‪ ،‬ضرورة امتناع اتصاف الشيء بنقيضه ‪ ،‬وامتناع أن يثبت يف‬
‫احملل ما ال ثبوت له يف نفسه ‪ ،‬فننقل الكالم إىل وجوده ‪ ،‬ويتسلسل ‪ ،‬ألن التقدير أن وجود كل شيء زائد عليه ‪ ،‬والتسلسل‬
‫باطل (‪ ، )18‬وقد أورد على هذه األدلة عدة اعرتاضات ال نطيل املقام بذكرها(‪. )19‬‬
‫أدلة المذهب الثاني ‪:‬‬
‫تنقسم أدلة مجهور امل تكلمني يف هذا املقام إىل قسمني ‪ :‬األدلة اليت تدل على زيادة الوجود يف ذات الواجب وإليك التفصيل‬
‫يف ذلك ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬األدلة على أن الوجود زائد على ماهية الممكن ‪:‬‬
‫صحة سلب الوجود عن املاهية ‪ ،‬حيث إننا يصح لنا أن نسلب الوجود عن املاهية كقولنا ‪ "" :‬العنقاء ليست مبوجودة "" ‪ ،‬ولو‬
‫مل يكن الوجود زائداﹰ على املاهية ملا صح لنا هذا السلب ‪ ،‬ألنه إذا مل يكن زائداﹰ ‪ ،‬فال خيلو ‪ :‬إما أن يكون نفس املاهية أو‬
‫جزأها ‪ ،‬ولو كان األمر كذلك ملا صح سلب الوجود عنها ‪ ،‬ألنه يؤدي إىل سلب املاهية عـن نفسها ‪ ،‬أو سلب أجزائها عنها ‪،‬‬
‫وهو حمال ‪ ،‬فثبت أن الوجود زائد على املاهية ‪.‬‬
‫صحة األخبار بالوجود عن املاهية اليت اردكناها حبقيقتها ‪ ،‬ولو كان الوجود عني املاهية ‪ ،‬أو جزأها ملا صح األخبار به عنها ‪،‬‬
‫والسبب يف ذلك ‪ :‬أن املاهية إذا أدركت جبميع أجزائها كان محل أجزائها أو محل نفسها عليها غري مفيد ‪ ،‬مثال ذلك ‪ :‬أنا لو‬
‫أدركنا حقيقة اإلنسان ‪ ،‬وتصورناها بأنه حيوان ناطق ‪ ،‬مث بعد ذلك حكمنا عليه بالوجود ‪ ،‬فقلنا ‪ " :‬اإلنسان موجود" ‪ ،‬كان‬
‫ذلك احلكم مفيداﹰ ‪ ،‬وما صحت إفادته إال بسبب أن الوجود غري املاهية ‪ ،‬وإال لو كان عينها أو جزأها ملا أفاد احلمل ‪ ،‬ألن‬
‫محل الشيء على نفسه ال يفيد ‪ ،‬وكذلك محل أجزاءه حيث كانت احلقيقة معلومة ‪.‬‬

‫‪516‬‬
‫اختاذ مفهوم الوجود دون مفهوم املاهيات ‪ ،‬فعندما نفكر يف وجود اإلنسان والفرس والشجر وغري ذلـك‪ ،‬جند أن هلا مفهوماﹰ‬
‫واحداﹰ ‪ ،‬هو الكون يف األعيان ‪ ،‬وعندما نفكر يف نفس اإلنسان والفرس والشجر وغري ذلك جند أن لكل واحد منها مفهوماﹰ‬
‫مغايراﹰ ملفهوم اآلخر ‪ ،‬وليس ها هنا سبب لذلك إال أن الوجود مغاير للماهية زائد عليها ‪.‬‬
‫االنفكاك يف التعقل ‪ ،‬وذلك أن نستطيع أن نتعقل املاهية مع ذهولنا عن وجودها ‪ ،‬فنتعقل ماهية اجلسـم‪ ،‬وحنده بأنه ما تركب‬
‫من أجزاء ‪ ،‬مع الذهول عن وجوده ‪ ،‬وأيضاﹰ ‪ :‬نستطيع أن نتعقل الوجود مع عدم تعقل املاهية ‪ ،‬كتعقلنا لوجود الروح مع عدم‬
‫إدراكنا ملاهيتها ‪.‬‬
‫اكتساب الثبوت ‪ ،‬فإن تصديقنا بثبوت الوجود للماهية قد يفتقر إىل كسب ونظر ‪ ،‬كتصديقنا بوجود اجلن مثالﹰ ‪ ،‬خبالف ثبوت‬
‫املاهية وذاتياهتا هلا فإنه غري حمتاج إىل كسب ونظر(‪. )20‬‬
‫ً‬
‫ثانيا ‪ :‬األدلة على أن الوجود زائد على ذات الواجب ‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه لو مل يكن الوجود يف الواجب زائداﹰ عليه ن لكان الواجب هو الوجود املقيد بقيـد التجـرد ‪ ،‬ألن الوجود مشرتك بني‬
‫الواجب واملمكنات ‪ ،‬ووجود الواجب ال يكون زائداﹰ عليه ‪ ،‬فيلزم أن يكون الواجب عبارة عـن‬
‫الوجود اجملرد ن أي ‪ :‬الوجود الذي ال يكون عارضاﹰ ‪ ،‬وحينئذ لو جترد الوجود لتجرد لعلة غري الوجود ‪ ،‬وهذا باطل ‪ ،‬فيلزم منه‬
‫بطالن كون الواجب عبارة عن الوجود اجملرد ‪.‬‬
‫والعلة يف أن الوجود لو جترد لعلة غري الوجود ‪ :‬هو أن لو مل يكن جترد الوجود لعلة غري الوجود لكان جترده لذات الوجود ‪،‬‬
‫فيكون التجرد الزماﹰ لذات الوجود من حيث هو هو ‪ ،‬والوجود يف املمكنات عارض‪ ،‬فال يكـون مقتضياﹰ للتجرد يف املمكنات‬
‫‪ ،‬فيلزم التنايف يف لوازم الوجود من حيث هو هو ‪ ،‬وهو حمال ‪.‬‬
‫إذن ثبت أنه لو جترد الوجود لتجرد لعلة غريه ‪ ،‬وهذا باطل ‪ ،‬ألنه يلزم منه أن يكون الوجود الواجب ممكناﹰ‬
‫‪ ،‬وهو حمال ‪ ،‬فثبت أن الوجود زائد على ذات الواجب ‪.‬‬
‫وميكن أن يقرر هذا الدليل بوجه آخر ‪ ،‬وهو أن يقال ‪ :‬الوجود املشرتك بني الواجب واملمكنات ‪ :‬إمـا أن يقتضي التجرد أو‬
‫يقتضي الالجترد ‪ ،‬أو ال يقتضي التجرد وال الالجترد ‪ ،‬واألول يقتضي التجرد يف املمكنات أيضـاﹰ‪ ،‬والثاين يقتضي الالجترد يف‬
‫الواجب أيضاﹰ ‪ ،‬والثالث يقتضي أن يكون كل من التجرد والالجترد لعلة غري الوجود ‪ ،‬فيلزم أن يكون الواجب ممكناﹰ (‪.)12‬‬
‫‪-2‬إن الواجب يشارك املمكنات يف الوجود ‪ ،‬ألن الوجود معناه الثبوت أو الكون يف األعيان ‪ ،‬وخيالفها يف احلقيقة ‪ ،‬ومن‬
‫املعلوم أن ما به االشرتاك غري ما به االختالف ‪ ،‬فوجب أن يكون الوجود غري املاهية ‪.‬‬
‫‪ -3‬أن الوجود معلوم ضرورة لكل أحد ‪ ،‬وحقيقة الواجب غري معلومة ‪ ،‬فوجـب أن يكـون الوجـود غري الذات ‪ ،‬ألن املعلوم‬
‫خالف اجملهول (‪.)22‬‬

‫‪511‬‬
‫أدلة املذهب الثالث ‪:‬‬

‫استدالل الفالسفة على أن وجود الواجب عني ذاته بعدة أدلة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه لو كان الوجود زائداﹰ يف الواجب ‪ ،‬فال خيلو ‪ :‬إما أن يكون الواجب الذي هو مبدأ الكائنات هـو املاهية والوجود ‪ ،‬وإما‬
‫أن يكون الواجب هو املاهية دون الوجود ‪ ،‬وإما أن يكون الواجب هو الوجود دون املاهية ‪.‬‬
‫فإن كان الواجب هو املاهية والوجود لزم تركيب الواجب ‪ ،‬والرتكيب ولو عقالﹰ يؤدي إىل احتياج املركب إىل من يركبه ‪ ،‬وإىل‬
‫احتياجه إىل أجزائه ‪ ،‬وهو مؤد إىل احلدوث الذي هو حمال يف حق واجب الوجود عز شأنه‪.‬‬
‫وإن كان الواجب هو املاهية لزم االحتياج ‪ ،‬ألهن ا تكون حمتاجة إىل الوجود ‪ ،‬حيث ال حتقق هلا إال به ‪ ،‬فيلزم اإلمكان ‪ ،‬وهو‬
‫حمال ‪.‬‬
‫وإن كان الواجب هو الوجود لزم االحتياج أيضاﹰ ‪ ،‬ألنه حمتاج إىل املاهية احتياج العارض إىل املعـروض‪ ،‬فيلزم اإلمكان احملال ‪.‬‬
‫وحيث أنه ثبت ترتب احملال على كون الوجود زائداﹰ يف الواجـب ‪ ،‬ثبـت أن وجـود الواجـب عـني ذاته ‪ ،‬وهو املطلوب ‪.‬‬
‫‪ -2‬أنه لو كان الوجود زائداﹰ يف الواجب ‪ ،‬لكان حمتاجاﹰ إىل ذات الواجب ليقوم هبا وهذا يلزم منه أن يكون ممكناﹰ‪،‬واملمكن‬
‫جيوز زواله‪ ،‬فيكون وجود الواجب جائز الزوال ‪ ،‬وهذا باطل ‪ ،‬فثبت أن وجوده عني ذاته (‪ )23‬هذه أهم األدلة اليت أوردها كل‬
‫فريق لالحتجاج على مطلوبة ‪.‬‬
‫وتبقى هنا نقطة أخيرة ‪ ،‬وهي أن القائلني بزيادة الوجود على املاهية أشاروا إىل أن زيادة الوجود على املاهية إمنا تعقل يف الذهن‬
‫والتصور فقط ‪ ،‬فال ميكن أن تتصور تلك الزيادة يف الوجود اخلارجي ‪.‬‬
‫قال األصفهاين موضحاﹰ هذا املعىن ‪ "" :‬وأعلم أن زيادة الوجود على املاهية يف التعقل ‪ ،‬على معىن أن العقل إذا تصور املاهية مل‬
‫جيدها نفس الوجود ‪ ،‬وال مشتملة على الوجود ‪ ،‬بل وجد الوجود غري نفسها وغري داخل فيها ‪ ،‬فاتصاف املاهية بالوجود أمر‬
‫عقلي ‪ ،‬ليس كاتصاف اجلسم بالبياض ‪ ،‬فإن املاهية ليس هلا وجود منفرد ‪ ،‬ولعارضـها املسمى بالوجود وجود آخر ‪ ،‬فيحل‬
‫الوجود يف املاهية كالبياض يف اجلسم ‪ ،‬بل املاهية إذا كانت فكوهنا وجودهـا‪ ،‬واملاهية إمنا تكون قابلة للوجود عند وجودها يف‬
‫العقل ‪ ،‬فال يكون الوجود زائداﹰ إال يف العقل "" (‪.)24‬‬

‫التوفيق بني اآلراء ‪:‬‬


‫تعترب مسألة زيادة الوجود على املاهية من أهم املسائل الكالمية املطروحة يف مباحث الوجود ‪ ،‬فال يكاد خيلو كتاب من كتب‬
‫الفلسفة وعلم الكالم إال وتعرض هلا ‪ ،‬فكثرت فيها األدلة واالعرتاضات واملناقشات ‪ ،‬وسودت فيها الصفحات ‪.‬‬

‫‪511‬‬
‫لكن عند تأملنا يف مذاهب هذه املسألة وأدلتها ‪ ،‬تأمالﹰ يتسم باإلنصاف والبعد عن اهلوى والتعصب ‪ ،‬جنـد اخلالف‬
‫فيها خالفاﹰ ال يرتكز على أسس صحيحة ‪ ،‬بل ال يبعد أن تكون هذه املسألة من ضمن املشكالت الزائفة اليت اختمت هبا كتب‬
‫الفلسفة والكالم ‪ ،‬وأرهقت املتصدين هلا ‪ ،‬وقد تفطن هلذا كثري من العلماء احملققني(‪ ، )25‬فتصدوا لبيان هذه احلقيقة ونادوا‬
‫بان هذه املسألة ال تستحق كل هذا العناء والتطويل ‪ ،‬واحلال أن أقوال املتخلفني فيها مل ترد على مورد واحد ‪ ،‬بل إن كل واحد‬
‫منهم نظر على جهة يف املسألة مل ينظر إليها اآلخر ‪ ،‬ولو نظروا كلهم إىل جهـة واحدة ملا اختلفوا ‪.‬‬
‫وليس مثة شك يف أن كـثرياﹰ مـن العلمـاء املتـأخرين عـن أصـحاب هـذه املسـائل سـامهوا بشـكل أو بآخر ‪ ،‬يف تضخيم هذه‬
‫املسألة وتطويلها ‪ ،‬فأوردوا فيها من االعرتاضات واملناقشات ما متجه األمساع ‪ ،‬وتنفر منه الطباع ‪ ،‬وهذا دائماﹰ حال املسائل‬
‫البسيطة عندما تضخم ويطول فيها ‪.‬‬
‫ولبيان كيفية كون هذا اخلالف غري حقيقي ‪ ،‬نقول ‪ :‬إن اإلمام األشعري ومن وافقه مل نظـروا يف اهلويـة اخلارجية للشيء ‪ ،‬ورأوا‬
‫أن الوجود يف اخلارج ال ينفصل عن ماهية املوجود ‪ ،‬حبيث تتميز الصفة مـن املوصـوف‪ ،‬ويكون كالسواد وماهية األسود ‪ ،‬وأنه ال‬
‫فرق يف ذلك بني الواجب واملمكن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إن الوجود عـني املوجـود أو املاهية ‪ ،‬مبعىن أنه ليس يف اخلارج حقيقتان متمايزتنا‬
‫بالتعني اخلارجي ‪ ،‬تقوم إحدامها – وهي الوجود – بـاألخرى‪ ،‬وهي الذات أو املاهية ‪ ،‬بل املتحقق يف اخلارج هو الذات فقط ‪.‬‬
‫وما ذهبوا إليه هنا ال ينفي أن يكون بـني الـذات والوجـود تغـاير يف املفهـوم العقلـي وال ميكـن ألحد أن خيالفهم فيه ‪.‬‬
‫والفالسفة ملا قالوا ‪ :‬إن الوجود عني املوجود يف الواجب وغريه يف املمكن ‪ ،‬فقـد بنـوه علـى مـا قـرروه من أن ذات الواجب بقطع‬
‫النظر عن مجيع املالحظات ‪ ،‬كافية يف انتزاع مفهوم الوجود منها ‪ ،‬ألن وجودها من ذاهتا ‪ ،‬مبعىن أن ذات الواجب مقتضية‬
‫للوجود ‪ ،‬وال ميكن أن ينفك الوجود عنها ‪.‬‬
‫وهذا خبالف وجود املمكن ‪ ،‬فإننا لو نظرنا إىل ذاته بقطع النظر عن مجيع املالحظات ‪ ،‬مل تكن ذاته كافيـة يف انتزاع ذلك‬
‫املفهوم املشرتك ‪ ،‬بل البد يف انتزاع ذلك من اعتبار الفاعل املؤثر فيه ‪ ،‬وهلذا قالوا ‪ :‬إن وجود املمكن زائد على ذاته ‪ ،‬وما ذهب‬
‫إليه الفالسفة ال ميكن لعاقل أن خيالف فيه (‪.)26‬‬
‫وأما مجهور املتكلمني فإهن م ملا نظروا إىل مفهوم الوجود ‪ ،‬ووجدوه أنه أمر ينتزع من وجود الواجب ووجـود املمكن ‪ ،‬و ال ميكن‬
‫أن يكون عيناﹰ لشيء من الواجب واملمكن ‪ ،‬بل جيب أن يكون اعتباراﹰ آخر غري املهيآت حيكـم عليها به ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إن الوجود‬
‫غري املوجود يف الواجب واملمكن ‪ ،‬وهذا أيضاﹰ مما ال ميكن لعاقل أن خيالف فيه ‪.‬‬
‫إذن يتبين مما سـبق ‪ :‬أن مجيـع املـذاهب متفقـة علـى أن مفهـوم الوجـود مغـاير ملفهـوم املاهيـة والذات ‪ ،‬سواء كان ذلك يف‬
‫الواجب أو املمكن ‪ ،‬وأنـه لـيس يف اخلـارج حقيقتـان متمايزتـان ‪ :‬إحـدامها الوجود ‪ ،‬واألخرى املاهية ‪.‬‬

‫‪511‬‬
‫اخلالصة‬
‫املاهية ‪ ،‬وأثبت‬ ‫إن أصالة الوجود اليت أسس عليها الشريازي فلسفته املتعاليـة يف كـل مباحثهـا‪ ،‬قابلتـها القـول باعتباريـة‬
‫الشريازي هلذا األصل اجلوهري‪ ،‬إمنا مر عرب صور عديدة من النقد لتلك املذاهب اليت قالت باعتباريـة الوجود وأصالة املاهية‪،‬‬
‫كمذهب ابن سينا الذي ميز فيه بني املاهية والوجود يف الواقع‪ ،‬فأكد أن الوجود قائم باملاهيـة ‪ ،‬ألن وجود املمكن زائد علي‬
‫ماهيته‪ ،‬وعليه صار الوجود عرضا من األشياء‪ ،‬وانتهي إيل أن احلدود احلقيقية إمنا تصنع من شرائط املاهية ومقوماهتا‪ ،‬ال من‬
‫شرائط الوجود‪.‬‬
‫فالوج ود منتزع من املاهية العتباريته وأصالتها‪ ،‬ولقد كان من أشد الناقدين ملذهب أصـالة السـهروردي شـهيد اإلشراف الذي رأي‬
‫أن املاهية هي احلقيقة الوحيدة ‪ ،‬أما الوجود فتجريد عقلي اعتباري‪ ،‬أو هو صفة للماهية‪ ،‬ومن هنا رفض أن يكون الوجود‬
‫متحققا يف األعيان ألن هذا يؤدي عنده إيل التسلسل الالهنائي ولقد وصل األمـر إيل ذروتـه يف مذهب املريداماد أستاذ‬
‫الشـريازي املباشـر الـذي رأي يف" قبسـاته " أن احلقيقـة األوليـة للماهيـة ولـيس للوجود ‪،‬إذ الوجود زائد علي املاهية يف األعيان‬
‫الواقعية‪ ،‬هذه بصورة إمجالية املذاهب املاهوية اليت رفضت أ صالة الوجود وأكدت أصلة املاهية‪ ،‬وهي اليت دافع عنها الشريازي فرتة‬
‫طويلة عندما كان واقعا حتت تأثري أستاذه املريداماد‪ ،‬وهو يقول عن ذلك " وإين كنت شديد الذب عنهم يف اعتبارية الوجود‬
‫وتأصل املاهيات‪ ،‬حيت أن هـداين ريب وانكشـف يل انكشافا بينا أن األمر بعكس ذلك وهو أن الوجوديات هي احلقائق‬
‫املتأصلة الواقعة يف العـني ‪ ،‬وأن املاهيـات املعـرب عنها يف عرف طائفة من أهل الكشف واليقني باألعيان الثابتة ما مشت رائحة‬
‫الوجود أبدا" ‪.‬‬

‫‪511‬‬
‫املصادر واملراجع ‪:‬‬
‫الشريازي ‪ :‬األسفار األربعة ‪ ،‬اجمللد األول ص ‪.18‬‬ ‫‪)1‬‬

‫الشريازي ‪ :‬األسفار األربعة ‪ ،‬اجمللد األول ص ‪.244‬‬ ‫‪)2‬‬

‫الشريازي ‪ :‬األسفار األربعة ‪ ،‬اجمللد األول ص ‪. 244‬‬ ‫‪)3‬‬

‫الشريازي ‪ :‬األسفار األربعة ‪ ،‬اجمللد األول ص ‪. 244‬‬ ‫‪)4‬‬

‫العالمة الطبطباين ‪ :‬أصول الفلسفة واملنهج الواقعي ‪ ،‬ثالث جملدات ‪ ،‬تعليق ‪ :‬مرتضى مظهري ‪ ،‬ترمجـة‪:‬‬ ‫‪)5‬‬

‫عمار أبو رغيف ‪ ،‬مؤسسة أم القرى ‪ ،‬للتحقيق والنشر ‪ ،‬بريوت ‪ 1421 ،‬هـ ‪ ،‬جملد ‪ ، 2‬ص ‪.44‬‬
‫‪ )6‬العالمة الطبطباين ‪ :‬أصول الفلسفة واملنهج الواقعي ‪ ،‬ثالث جملدات ‪ ،‬تعليق ‪ :‬مرتضى مظهري ‪ ،‬ترمجـة‪:‬‬
‫عمار أبو رغيف ‪ ،‬مؤسسة أم القرى ‪ ،‬للتحقيق والنشر ‪ ،‬بريوت ‪ 1421 ،‬هـ ‪ ،‬جملد ‪ ، 2‬ص ‪44 .‬‬

‫‪ )7‬العالمة الطبطباين ‪ :‬أصول الفلسفة واملنهج الواقعي ‪ ،‬ثالث جملدات ‪ ،‬تعليق ‪ :‬مرتضى مظهري ‪ ،‬ترمجـة‪:‬‬
‫عمار أبو رغيف ‪ ،‬مؤسسة أم القرى ‪ ،‬للتحقيق والنشر ‪ ،‬بريوت ‪ 1421 ،‬هـ ‪ ،‬جملد ‪ ، 2‬ص ‪47 .‬‬

‫‪ )8‬العالمة الطبطباين ‪ :‬أصول الفلسفة واملنهج الواقعي ‪ ،‬ثالث جملدات ‪ ،‬تعليق ‪ :‬مرتضى مظهري ‪ ،‬ترمجـة‪:‬‬
‫عمار أبورغيف ‪ ،‬مؤسسة أم القرى ‪ ،‬للتحقيق والنشر ‪ ،‬بريوت ‪ 1241 ،‬هـ ‪ ،‬جملد ‪ ، 2‬ص ‪.48‬‬
‫العالمة الطبطباين ‪ :‬أصول الفلسفة واملنهج الواقعي ‪ ،‬ثالث جملدات ‪ ،‬تعليق ‪ :‬مرتضى مظهري ‪ ،‬ترمجـة ‪:‬‬ ‫‪)9‬‬

‫عمار أبو رغيف ‪ ،‬مؤسسة أم القرى ‪ ،‬للتحقيق والنشر ‪ ،‬بريوت ‪ 1421 ،‬هـ ‪ ،‬جملد ‪ ، 2‬ص ‪. 50‬‬
‫الشريازي األسفار األربعة ‪ ،‬اجمللد األول ‪ ،‬ص ‪ ، 87‬اجمللد الثاين ص ‪. 8‬‬ ‫‪)11‬‬

‫‪ )11‬الشريازي األسفار األربعة ‪ ،‬اجمللد األول ‪ ،‬ص ‪. 87‬‬


‫‪ )12‬الشريازي األسفار األربعة ‪ ،‬اجمللد األول ‪ ،‬ص ‪ 92-91‬و ص ‪.399‬‬
‫‪ )13‬شرح املواقف ‪ ، 256/1‬مباحث الوجود واملاهية للدكتور ‪ ،‬أمحد الطيب ص ‪71‬‬

‫‪ )14‬مباحث الوجود واملاهية ص ‪. 72‬‬


‫‪ )15‬هناية األقدام للشهرستاين ص ‪ ، 213‬األربعني يف أصول الدين للرازي ‪ 143/1‬الصحائف اإلهلية ص ‪ ، 78‬طوابع األنوار‬
‫للبيضاوي ص ‪ ، 78‬شرح املقاصد ‪61/1.‬‬

‫‪515‬‬
‫‪ )16‬الكامل يف االستقصاء لتقي الدين النجراين ص ‪ ، 171‬األربعني للرازي ‪ 143/1‬جتريد االعتقاد للطوسي ص ‪ ، 63‬مطالع‬
‫االنظار لألصفهاين ص ‪ ، 39‬شرح املقاصد ‪ ، 61/1‬شرح املواقف ‪.256/1‬‬
‫‪ )17‬فصوص احلكم للفارايب املطبوع ضمن كتاب ‪ :‬اجملموع من مؤلفات أيب نصر الفارايب ‪ ،‬مطبعة السعادة مبصر‬
‫‪ ،‬املطبعة األوىل ‪1325‬هـ‪ 1907 ،‬م ‪ ،‬ص ‪ ، 115‬املباحثات ألبن سينا ‪ ،‬حتقيق ‪ :‬حمسن بيدارفر ‪ ،‬طبع ايران – قم ص ‪248‬‬
‫‪ ،‬املباحث املشرقية للرازي ‪. 30/1‬‬
‫‪ )18‬شرح املقاصد ‪68/1 .‬‬

‫‪ )19‬كشف املراد ص ‪ ، 9‬شرح املقاصد ‪ ، 69/1‬شرح املواقف ‪. 257/1‬‬


‫‪ )20‬شرح املقاصد ‪ ، 62/1‬القول السديد أليب دقيقة ‪. 92/1‬‬
‫‪ )21‬مطالع األنظار لألصفهاين ص ‪. 41‬‬
‫‪ )22‬شرح املقاصد ‪ ، 65/1‬القول السديد ‪ ، 94/1‬وقد ورد على هذه األدلة عدة اعرتاضـات أنظرهـا يف املراجع اليت سبق‬
‫ذكرها ‪ ، ،‬وأيضاﹰ يف مطالع األنظار ص ‪ ، 42‬شرح املواقف ‪265/1 .‬‬

‫‪ )23‬الصحائف اآلهلية ص ‪ ، 81‬القول السديد ‪ 94/1‬وأنظر االعرتاضات الواردة على أدلـة احلكمـاء يف أن وجوده عني ذاته يف‬
‫مطالع األنظار ص ‪ 43‬شرح املقاصد ‪ 63/1‬شرح املواقف ‪.262/1‬‬
‫‪ )24‬مطالع األنظار ص ‪. 41‬‬
‫‪ )25‬األمام عضد الدين االجيي ‪ ،‬والشريف اجلراجاين ‪ ،‬والشي حممد خبيت املطيعي ‪ ،‬والشي حممود أبو دقيقة ‪ ،‬وغريهم أنظر‬
‫شرح املواقف ‪ ، 271/1‬القول املفيد للشي خبيت ص ‪ ، 17‬القول السديد أليب دقيقة ‪. 95/1‬‬
‫‪ )26‬القول املفيد للشي حممد خبيت املطيعي ص ‪ ، 17‬القول السديد أليب دقيقة ‪96/1.‬‬

‫‪511‬‬

‫)‪Powered by TCPDF (www.tcpdf.org‬‬

You might also like