Professional Documents
Culture Documents
إتحاف السائل بجواب المسائل
إتحاف السائل بجواب المسائل
()1/1
()1/1
المقدمة%
وال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم
سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
الحمد هلل الذي ال يخيب من أمله ،وال يرد من سأله ،وال يقطع من وصله ،وال يبخس من
عامله ،وال يسلب من شكره ،وال يخذل من نصره ،وال يوحش من استأنس بذكره ،وال يسلم
من لم يستلم لقهره ،وال يكل من توكل عليه ،وال يهمل من التجأ إليه ،وال يضل من تمسك
بكتابه ،وال يذل من الذ بجنابه .
أحمده على ما ألهم وعلم ،وأشكره على ما أفضل وأنعم ،وأستعينه على القيام بحقه العظيم،
وأعوذ بنور وجهه الكريم ،من زوال النعم وهجوم النقم.
وأصلِّي وأسلِّم على نبيه األكرم ورسوله األفخم ،وحبيبه األعظم ،سيدنا وموالنا محمد،
وعلى آله وصحبه معادن الفضل والكرم ،وينابيع العلم والحكم ما جرى قلم ونُ ِ
صب َعلَم.
()1/9
أما بعد :فقد طلب مني الشيخ الزكي ذو الفهم الذكي عبد الرحمن بن عبد اهلل عباد ،جوابا
على عدة مسائل ،أثبتها في ورقة ،ودخل بها إلي وذاك بمدينة شبام ،عند صدوري من زيارة
الشيخ الكبير العارف باهلل سعيد بن عيسى العمودي ،ومن بتلك النواحي من عباد اهلل
الصالحين ،األحياء منهم والميتين ،فوعدته بالجواب ،لما رأيت عليه من لوائح الرغبة في
معرفة الحق ،وشممت منه روائح الصدق.
وقد حان حين إنجاز الوعد بحول اهلل وقوته ،وإكرام وفد أسئلته الالئقة ،بقرى األجوبة
الرائقة.
وأرى أن أورد مقدمة %بين يدي الكالم على المسائل ،يكون فيها تبصرة وإيناس للسائل ،ولمن
ينجو نحوه من األلباء األكياس ،فأقول مستعينا باهلل ،ومتوكال على اهلل ،ومفوضا إلى اهلل،
وسائال منه سبحانه ،أن يهديني لما هو الحق عنده ،إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم،
(( صراط اهلل الذي له ما في السموات وما في األرض أال إلى اهلل تصير األمور )).
()1/10
مقدمة%
أعلم أن السؤال في مواضع الحاجة ،وفي مواطن اإلشكال ولطلب المزيد من العلم
واالستبصار ،مما جرت عليه عادة األخيار في األعصار واألمصار ،وهو أعني السؤال ،واجب
عن العلم الواجب ،وفضل عن العلم الذي هو فضيلة والسؤال مفتاح يتوصل به إلى ما في
الصدور والقلوب ،من معاني العلوم وأسرار الغيوب.
فكما أنه ال يوصل إلى ما في البيوت من األمتعة والنفائس إال بالمفاتيح المتخذة من الحديد
والخشب ،كذلك ال يوصل إلى ما عند العلماء والعارفين ،من العلوم والمعارف ،إال باألسئلة
المتخذة من طلب االستفادة ،مقرونة بالصدق والرغبة وحسن األدب .
وقد ورد الشرع باألمر بالسؤال ،وورد الحث عليه ،والترغيب فيه ،قال اهلل تعالى :
(( فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك )).
وقال تعالى (( :فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون بالبينات والزبر )).
()1/11
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم"" :حسن السؤال نصف العلم "" وكل من أخبر من
األئمة عن سعة علمه ،فقصده بذلك أن يعرف به فيسأل عنه .ويطلب منه .وقد روي ذلك
عن علي كرم اهلل وجهه ،وعن إبن مسعود %وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة ،وغيرهم من
السلف والخلف رضي اهلل عنهم.
وقد حرض جماعة من العلماء الناس على السؤال منهم ،كعروة بن الزبير والحسن %البصري
وقتادة .
وكان سفيان الثوري ،يبادر بالرحيل من كل بلدة دخلها ،ولم يسأله أحد من أهلها عن شيء
من العلم ،ويقول :هذا بلد يموت فيه العلم .
وكان الشبلي رحمه اهلل ،إذا جلس في حلقته ولم يسأله أحد ،يتلوا عليهم قوله تعالى :
(( ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم ال ينطقون ))
وربما يسأل العالم جلساءه ،ليفيدهم وليعرف به ما عندهم من العلم كما ورد في الحديث
الصحيح :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،كان في جماعة من أصحابه فسألهم عن
شجرة ال يسقط ورقها ،وهي شبيهة بالمؤمن ،فلم يعرفها الحاضرون ،حتى أخبرهم عليه
الصالة والسالم %أنها النخلة ،وكان فيهم ابن عمر ،وكان قد عرفها فلم يتكلم ،فلما أخبر أباه
بذلك ،المه على سكوته .
()1/12
وكان عمر رضي اهلل عنه يسأل جلساءه كثيرا ،وكان إذا سأل أحدا عن شيء فقال :اهلل
أعلم ،يغضب ويقول له :لم أسألك عن علم اهلل ،وإنما أسألك عن علمك ،فقل :أعلم أو ال
أعلم .
وقد يسأل العالم بعض الجلساء عما يعلمه ،ليفيد سائرهم ،نظير ذلك سؤال جبريل عليه
السالم لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن اإلسالم واإليمان واإلحسان .الحديث .
وقد يختص المفضول بعلم دون الفاضل ،لسر لطيف ،فيسأله أعني من هو أفضل منه عنه،
نظير ذلك :سؤال عمر لحذيفة رضي اهلل عنهما ،عن الفتن وأهل النفاق. %
وقد يسأل العالم ،من هو مثله أو قريب منه ،عن شيء فهمه في كتاب اهلل ،أو في سنة رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم لينظر هل يوافقه على مثل رأيه ،ويقوى به ويعتضد ،وذلك كسؤال
عمر رضي اهلل عنه جماعة من الصحابة ،عن شيء فهمه في سورة (( إذا جاء نصر اهلل
والفتح )) فلم يوافقه على ما في نفسه منهم سوى ابن عباس رضي اهلل عنهما ،ومثل هذا كثير
يقع لألكابر من المتقدمين والمتأخرين.
وأما سؤال عمر لعلي رضي اهلل عنهما ،فهو على قصد االستفادة منه ،وذلك أن علياً خص
بخصوصية ،لم يشاركه فيها
()1/13
أحد من الصحابة ،وهي أنه باب مدينة العلم التي هي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
وأما نهي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه %،عن اإلكثار من سؤاله .فالنهي وإن كان
عاما ،فإنه مخصوص بالسؤال عن األحكام والحدود ،وأحوال الناس ،شفقة %منه عليه الصالة
والسالم على أمته ،ورحمة بهم على أن يكلفوا شيئا ،يعجزون عن القيام به.
والدليل على ذلك قوله تعالى (( :يا أيها الذين آمنوا ال تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا اهلل عنها واهلل غفور حليم قد سألها قوم من
قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين )) .
وقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :إن اهلل فرض فرائض فال تضيعوها ،وحد حدودا
فال تعتدوها ،وحرم أشياء فال تنتهكوها ،وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فال تبحثوا
عنها ".
وفي الحديث اآلخر " :إنما أهلك الذين من قبلكم ،كثرة مسائلهم واختالفهم على أنبيائهم
".
وقد سأل رجل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن الحج :أهو واجب في كل عام ؟ فسكت
عنه ،فلما أكثر عليه،
()1/14
قال :في العمر مرة ،ولو قلت :نعم لوجبت وعجزتم وتحت هذه النكتة سر شريف ،ال
يسمح بذكره في الكتب ،فأطلبه تحت أستار قوله تعالى (( :من يطع الرسول فقد أطاع
اهلل )) (( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اهلل )).
وينبغي للمريد إذا سال شيخه ،وللمتعلم إذا سأل معلمه عن شيء أن ال يكون له قصد سوى
االستفادة ،وليحذر أن يكون قصده االمتحان واالختبار ،فيرجع بالحرمان والخسران .
وينبغي للشيخ والعالم ،إذا سأله مريده أو تلميذه عن شيء يضره علمه ،أو ال يبلغه بفهمه ،أن
ينظر ،فإن عرف من حال السائل أنه إن أخبره بعدم أهليته ،ال ينكسر قلبه انكساراً يضره في
دينه ،وال تنفر نفسه نفرة ،يعرض به عن مطلوبه ،فليخبره واإل فليتنزل له في جوابه إلى حد
علمه وفهمه ،وإن عدل عن مقتضى السؤال ،وال يقول كما قال بعض أهل الحقيقة: %
علي نحت القوافي من معادنها ...وما علي إذا لم تفهم البقر
فلهذا المقال حال ،وموطن يخصه ،والشيخ والعالم كالوالد الشفيق والقيم الرفيق ،يتكلم
ويعامل بحسب المصلحة والمنفعة .
وللعارفين غلبات واستغراقات ،ال يمكنهم معها أن
()1/15
يستحضروا ما أشرنا اليه فلتسلم لهم أحوالهم ،فإنهم أجل من أن يعترض عليه ،أو ينسب
الجهل والتجاهل إليهم ،وليس هذا محل بسط العذر للمحققين فيما أودعوه كتبهم ورسائلهم
من األسرار الربانية والحقائق الغيبية.
وقد يباح السؤال بقصد االمتحان في موضعين :
أحدهما :أن يرى العالم الناصح الشفيق إنسانا قد غلب عليه اإلعجاب بنفسه ،حتى منعه من
طلب العلم ،وطلب المزيد منه ،وعن االعتراف بفضل أهل الفضل فله أن يسأله على قصد
االمتحان واالختبار ،ليعرفه مقداره نصحا له وكون ذلك في خلوة أولى.
والثاني :أن يرى منافقا عليه اللسان ،يخشى منه أن يلبس على ضعفاء %المؤمنين ،بإدخاله في
الدين ما ليس منه ،فيسأله بمحضر منهم ممتحنا له ،ليبين لهم عواره وجهله ويقصد مع ذلك
نصحه ،وتنبيهه على معائبه ،ويرجو رجوعه إلى اإلنصاف واالنقياد للحق ،وهذا األمر هو
الذي دعا العلماء رضي اهلل عنهم إلى مناظرة أهل االبتداع والزيغ والتحريف.
وإذا سئل العالم عن علم يجب عليه تعليمه ،لم يسغ له السكوت لقوله صلى اهلل عليه وسلم:
" من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار"
()1/16
وينبغي لعلماء هذا الزمان ،أن ال يكتموا العلم حتى يأتيهم من يسألهم ،فإن أكثر الناس اليوم
قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين ،وقلة االحتفال بالعلم وبما ينفع في اآلخرة ،حتى إنها
ربما شابت لحية اإلنسان ،وهو ال يعرف فروض الطهارة والصالة ،وال ما يتعين عليه علمه،
من اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر ،ولسان أحوالهم تنادي عليه بالجهل،
وكفى بها سائال للعلماء إن كانوا يعقلون.
وينبغي للمريد الذاهب إلى اهلل ،المقصور همه على ابتغاء معرفة اهلل ،الراغب في التخلص عن
كل ما يشغله عن الذهاب في اهلل ،أن ال يسأل أحدا عن شيء من العلم ،إال ان كان من
ضرورة حاله أو وقته ،ولكن المريد على هذا الوجه في هذا الزمان المبارك ،أغرب من عنقاء
مغرب ،وأعز من الكبريت األحمر .
فليستكثر اإلنسان من السؤال عن العلم ،لطلب االستفادة والزيادة ،فإن المؤمن ال يشبع من
خير ،وفي الحديث ":منهومان ال يشبعان منهوم العلم ،ومنهوم المال ".
والدليل لما ذكرنا في شأن المريد ،ما بلغنا عن داود الطائي رحمه اهلل ،أنه لما عزم على
االنقطاع إلى اهلل ،بدأ بمجالسة %أهل العلم ،فجالس اإلمام أبا حنيفة رحمه اهلل قريبا من سنة،
()1/17
قال :وقد تقع له المسألة ،وهو أشوق إلى العلم بها من العطشان إلى الماء البارد فال يسأل
عنها ،وذلك لما ذكرناه من أنه ال ينبغي للمريد أن يسأل إال عما هو ضرورة في حقه.
ثم إن لجملة ما أوردناه من المسائل في هذه المقدمة %الوجيزة ،أدلة كثيرة ،لو بسطناها
لخرجنا عن مقصودنا من اإليجاز ،وفيما أشرنا إليه كفاية وباهلل التوفيق ومنه اإلعانة والتثبيت،
وبه الثقة وعليه التكالن ،وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وهذا أوان الشروع في المقصود ،واهلل يقول الحق وهو يهدي السبيل.
)1( ...سألت -أكرمك اهلل بالفهم النوراني والفتح الرباني،عن معنى ال إله إال اهلل ؟
فاعلم -أن جميع العلوم الدينية ووسائلها ،ترجع إلى شرح معنى هذه الكلمة الشريفة،
وشرح حقها الذي هو األمر والنهي والوعد والوعيد ،وما يتبع ذلك ،وماكان شرحا لحقها،
كان شرحا لها بحكم التبعية ،والقصد التعريف بأنه ال سبيل إلى اإلحاطة بشرح علومها،
فضال عن إيراده ،كما سيأتي.
وأما شرح معناها في نفسها ،فهو العلم الذي يطلق عليه علم التوحيد ،وهو البحر الزاخر
الذي ال يبلغ له ساحل ،وال يدرك له قعر ،وقد سبح النظار من المتكلمين في باحته،
()1/18
وغاص المحققون من العارفين في لجته فأدركوا من لطائفه ونفائسه وعجائبه وغرائبه ،ما
يجل قدره ويتعذر حصره .
ثم أجمعوا بعد طول البحث واإلمعان ،وفناء الطاقة واإلمكان على االعتراف بالعجز عن
الغاية ،والوقوف على النهاية ،وذلك ألن اإلحاطة بعلوم التوحيد ،موقوفة على اإلحاطة بذات
الموحد وصفاته ،تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وقد أجمع المحققون على أن اإلحاطة بذات اهلل تعالى وصفاته غير ممكنة ،ال في الدنيا وال
في اآلخرة .
وقد شذ من قال من المنتمين إلى الطائفة ،بما يوهم حصولها ،وال حاجة بتسمية القائل ،إذا
قد علم فساد ما قاله ،وإنما كانت األحاطة به سبحانه محالة ،إلستلزامها معنى من القهر
واالستيالء فإن المحيط بالشي ،من طريق العلم أو غيره ،مستولي عليه وقاهرله من كل
الوجوده أو بعضها ،والحق تعالى هو القاهر الذي ال يقهر ،فاعلم ذلك .
وعلم التوحيد على قسمين:
أحدهما :ظاهر ،وهو الذي يعلم بالدليل والبرهان .ويجب على كل مؤمن ،أن يعلم ويعتقد
منه ماال يصح إيمانه بدونه .
والمتكلم هو الذي يعتني بتحرير هذا العلم ،والذب عنه ،والفحص عن أدلته وبراهينه،
فيفضل عامة %المؤمنين بذلك ،وفضله إن كان إيمانا وعلما ،وإال كان صورة فقط .
()1/19
والثاني من القسمين :باطن وهو ما ال يدرك بدون الكشف والعيان ،وذلك ميراث التقوى،
ومعنى الهداية التي هي ثمرة المجاهدة ،وهو سر بين العبد وبين ربه ،وقد يتفاوض أهله في
أشياء منه فيما بينهم ،ولهم رضي اهلل عنهم الغيرة التامة على أن يقف على شيء منه من ليس
من أهله ،حتى كان الجنيد رحمه اهلل إذا أراد أن يتكلم فيه مع أصحابه يغلق الباب ويجعل
المفاتيح تحت وركه وذلك رحمة منهم بالمؤمنين .
فإن الواقف على هذا العلم من غير أهله :إما أن ينكره ،فيكون عند اهلل من المكذبين بما لم
يحيطوا به علما ،وإما أن يصدق به ،ويفهمه على غير الوجه المراد منه ،فيتعثر في أذيال
الخطأ .
واعلم أنها ق توجد من هذا العلم تلويحات ،في كتب المحققين ،كاإلحياء والقوت ،وإنما
سمحوا بها تشويقا للمريد الصادق في بعض المواضع ،لتوقف حصول الفائدة ،من علم
المعاملة الذي هم بصدد بيانه على ذلك .وإال فهم أشح شيء بإيراده .
أما ترى اإلمام الغزالي رحمة اهلل ،حين يشرف على بحاره المتالطمة يقول:
ولنمسك عنان القلم ،وتارة يقول :هاهنا سر فلنتجاوزه ،
()1/20
وأخرى :هذا من علم المكاشفة ،وليس من غرضنا ذكره في علم المعاملة ،إلى غير ذلك.
وأما من أورد من الصوفية في كتبه أطرافا من هذا العلم ،كالحاتمي والكيالني ومن نحا
نحوهما ،فليحمل ذلك منهم على الغلبة ،والمغلوب معذور ،أو على اإلذن والمأذون له
مأمور يجب عليه االمتثال ،وسر اإلذن في ذلك ال يجوز ذكره إال مشافهة .
()1/21
فصل
نذكر فيه طرفا من ظاهر معنى ال إله إال اهلل ،وقد أسلفنا العذر المقتضي للسكوت عن باطن
معناها ،فنقول :
أعلم أنه ال إله إال اهلل واجب الوجود لذاته الفرد الواحد الملك القادر ،الحي القيوم القديم
األزلي ،الدائم األبدي ،الذي هو بكل شيء عليم ،وعلى كل شيء قدير ،يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد ليس كمثله شيء وهو السميع البصي ،تقدس وتعالى عن الشبيه والنظير،
وعن الشريك والوزير ،ال تحده األزمان وال يشغله شأن عن شأن ،ال تحيط به الجهات وال
تعتريه الحادثات ،له الغنى المطلق عن كل شيء ،بكل معنى ومن كل وجه .وكل ما سواه
مفتقر إليه فقرأ ال يتصور انفكاكه عنه ،خلق الخلق أجمعين ،وخلق أعمالهم خيرها وشرها،
فتبارك اهلل أحسن الخالقين ،يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من
يشاء ،ويغفر لمن يشاء ،ويعذب من يشاء ،ال يسئل عما يفعل وهم يسألون خلقهم ورزقهم،
وأنزل الكتب وبعث الرسل لهدايتهم ،لطفا بهم وتفضال عليهم ،يجب توحيده وطاعته على
عباده ،بإيجابه على ألسنة رسله،
()1/22
وال يجب عليه ألحد شيء ،ألنه المالك لكل شيء المستولي على كل شيء ،فليس ألحد معه%
ملك وال ألحد عنده حق ،وعد المحسنين بثوابه فضال ،وتوعد المسيئين بعقابه عدال.
فاإلله هو الجامع لجميع هذه الصفات ،وهو اهلل الذي ال إله إال هو ألن هذه األوصاف ثابتة
له تعالى ،وال يصح لغيره على اإلطالق االتصاف بشيء منها ،فضال عن جملتها.
فمن نفى اإللهية عنه أو أثبتها لغيره ،أو أشرك معه %فيها سواه فقد أعظم البهتان وأحاط به
الخسران ،أولئك الذين قال فيهم عز من قائل (( :ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن واإلنس
لهم قلوب ال يفقهون بها ولهم أعين ال يبصرون بها ولهم آذان ال يسمعون بها أولئك
كاألنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون )).
()1/23
فصل
اعلم أن هذه الكلمة الشريفة شطران :
أحدهما :نفي ،وهو قولك ال إله ،واآلخر إثبات وهو قولك إال اهلل ،فإذا صدر النفي معقبا%
باإلثبات ،ممن ال يشرك مع اهلل إلها آخر ،فمعناه نفي َت َوهُّم من َت َوهَّم أن مع اهلل إلها آخر من
المشركين والرد عليهم ،وتقرير المعني الحاصل في القلب من التوحيد ،فإنه يتأكد بتكرار
هذه الكلمة ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ":جددوا إيمانكم بقول ال إله إال اهلل".
وأيضا للشرك معان خفية دقيقة ،ال ينجو منها إال العارفون المحققون ،والمكاشفون بصريح
الحق من طريق العيان ،وقد يقع المؤمن في شيء منها وال يشعر مثل أن يعتقد أن أحدا غير
اهلل ،يجلب نفعا أو يدفع ضرا بطريق االستقالل ،ومن ذلك شدة الحرص على االستيالء
واالستعالء على الخلق ،ومحبة االستقالل واالستيثار باألمور واشتهاء المنزلة والتعظيم
والمدح في قلوب الخلق وعلى ألسنتهم.
وفي الحديث " :الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل ".
()1/24
()1/25
قال بعض العارفين نفع اهلل بهم :من طلب دليال على وحدانية اهلل ،فالحمار أعرف باهلل منه،
ولوال الحرص على اإليجاز ألمور يعلمها اهلل ،ألطنبنا في هذا الفن ،إطنابا يبهر العاقل اللبيب،
واهلل على ما أقول رقيب .
()1/26
فصل
قال العلماء المحققون رضي اهلل عنهم :اإلله هو المعبود بحق ،والمعبود بحق هو الخالق
الرازق والخالق لكل شيء والرازق له هو اهلل تعالى ،فهو اإلله وهو المعبود وحده ال شريك
له.
ومن المستحيل عقال وشرعا أن يكون للعالم أكثر من إله ،فما من إله إال اهلل العزيز الحكيم،
وفي اإلشارة إلى كون ذلك محاال أعني أن يكون للعالم الهان ،قال اهلل تعالى (( :لو كان
فيهما آلهة إال اهلل لفسدتا ،ما اتخذ اهلل من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما
خلق ولعال بعضهم على بعض ،سبحان اهلل عما يصفون ))
ادعى اإللهية مع اهلل أحد كالنمرود وفرعون ،لعنة اهلل عليهما وال ادعيت ألحد
وما ّ
كالكواكب واألحجار ،إال وأثر النقص واالفتقار والعجز واالنقهار ،المقتضية للحدوث
والعبودية ،ظاهر على المدعي لها من األدميين ،وعلى من ادعيت له من غيرهم .
()1/27
والذي يظهر :أن المدعي لإللهية مع اهلل ،كان الحامل له على ذلك توهما فاسدا وتخيال
باطال ،تولد من مشاهدة االقتدار من نفسه ،على بعض األمور ،يشير إلى ذلك قوله تعالى،
فيما حكى عن الخليل عليه السالم حين حاجه النمرود في ربه (( قال إبراهيم ربي الذي يحي
ويميت قال أنا أحي وأميت )).
وفي التفسير :أنه أقام البرهان على احتجاجه الداحض ،بإحضار رجلين فقتل أحدهما وترك
اآلخر ،وفيما حكى سبحانه عن فرعون ،حيث قال لقومه ((أليس لي ملك مصر وهذه األنهار
تجري من تحتي أفال تبصرون )) إشارة إلى ذلك أيضا .
وال يبعد أن يكون مثل هذين اللعينين ،كانا يعرفان بطالن ما ادعياه ،ولكن حملهما البطر
واألشر على الجحود ،وعلى ادعاء ما ليس لهما بحق ،ووجدا لذلك موضعا ،من سخافة
المنقادين لهما والمذعنين لطاعتهما .قال اهلل تعالى في شأن فرعون (( :فاستخف قومه
فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين )).
وبلغنا أنه حين طلب منه قومه أن يجري لهم النيل ،حين حبس عنهم ،خرج بهم ثم خال عنهم
وجعل يمرغ خده في التراب ،ويسأل ويتضرع ويدعو اهلل،
()1/28
فعند ذلك أجرى اهلل النيل بقدرته ،استدراجا لعدوه ،فقال فرعون عند ذلك لقومه :أنا الذي
أجريته لكم ،فبان بذلك صحة ما ذكرناه ،وتحت هذه الكلمات أسرار ال يجوز أيداعها
الكتب .
واعلموا أن الكالم في هذه الفصول ،قد دخل بعضه في بعض ومعانيه متقاربة ،ولم نذكر في
جملته ما يتعلق بإعراب هذه الكلمة ،وحكمها وفضلها بالقصد وليس من غرضنا التعرض
لإلعراب .
وحسبك من شرح الحكم والفضيلة أن الكافر بهذه الكلمة ،حالل الدم والمال ،مخلد في
نار جهنم أبد األباد وأن اإلنسان يعيش كافرا باهلل سبعين سنة مثال ،فإذا قالها معتقدا لمعناها،
عصم دمه وماله ،وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ،وأنه لو لقي اهلل تعالى عبد بذنوب األولين
واآلخرين ،ومع ذلك ال يشرك به شيئا ،لكان يغفرله إن شاء وإن عاقبه بذنوبه كانت عقوبة
منقضية ألنه ال يخلد في النار أحد من أهل التوحيد ،والموحد هو المعتقد لمعنى هذه الكلمة
الشريفة .
وفي الحديث " :أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ال إله إال اهلل وأني رسول اهلل،
ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة ،فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ،إال بحق
اإلسالم وحسابهم على اهلل ".
وفيه " :من كان آخر كالمه :الإله إال اهلل دخل الجنة ".
()1/29
وفيه " :وليس على أهل ال إله إال اهلل وحشة في قبورهم ،وال في نشورهم ،وكأني بهم وقد
خرجوا من قبورهم ينفضون التراب من رؤسهم ،يقولون (( :الحمد هلل الذي أذهب عنا
الحزن إن ربنا لغفور شكور )).
وفيه " :أنه يصاح برجل فتمد له تسعة وتسعون سجال من الخطايا ،كل سجل مد البصر
فتطرح في كفة السيئات ،فيقول الحق :إن لك عندنا حسنة ،فتخرج له بطاقة مكتوب فيها :
ال إله إال اهلل فتطرح في الكفة األخرى ،فترجح بالسجالت كلها " الحديث بمعناه .
وقد ذكر الشيخ ابن عطاء اهلل ،في مفتاح الفالح طرفاً من فضل هذه الكلمة وما يلحق به.
ثم إن جميع المنافع والفوائد المرتبة على هذه الكلمة ،في الدنيا واآلخرة ،ال يظفر بشيء
منها من فرق بين الشهادتين ،ألن حكمهما واحد.
ومن أقر بشهادة التوحيد وأنكر الشهادة للرسول ،فليس من أهل التوحيد ،والكالم فيمن
يكفر بالرسول ويؤمن بوحدانية اهلل تعالى .
وأما المؤمن بالوحدانية والرسالة ،فليس عليه بأس إذا قال :ال إله إال اهلل ولم يتبعها بشهادة
الرسول ،وال يفوته بسبب ذلك شيء من الخيرات المرتبة على هذه الكلمة ،فاعلم ذلك.
()1/30
وفي الباب فروع ودقائق ،لو استقصيناها لضاق عنها مجلد ضخم .والمقصود اإلشارة إلى
شيء من معاني كلمة التوحيد .
()1/31
تتمة
اعلم أن هذه الكلمة أجمع األذكار وأنفعها ،وأقربها إلى الفتح واستنارة القلب بنور اهلل،
وأوالها بكل أحد ،وذلك لتضمنها معاني جميع األذكار ،من التحميد والتسبيح وغيرهما،
فينبغي لكل مؤمن %أن يجعلها ورده الالزم ،وذكره الدائم ،ومع ذلك فال يبنغي له أن يهجر
بقية األذكار ،بل يجعل له من كل منها وردا.
ثم إن العبد ال يخلوا من أن يكون سالكا أو واصال أو غير سالك ،فهم ثالثة أقسام ،وكلهم
األولى بهم المالزمة %لهذه الكلمة .
أما السالك ومن ليس سالكا ،فالنهم ينظرون إلى األشياء ويثبتونها من حيث هي وربما دخل
عليهم بسبب ذلك ،شيء من دقائق الشرك الخفي ،فيتحتاجون إلى نفيه عنهم ،وال يكون إال
بمالزمة هذه الكلمة .
وأما الواصل فألنه ينظر إلى األشياء باهلل ،ويكون على الدوام مشغوال بدعوتها إلى اهلل تعالى،
وال يخلوا في بعض األحيان من مطالعة نفسه،
()1/32
ومن خطرات تخطر له ال تليق بمقامه ،فتكون هذه الكلمة لذلك أولى األذكار به.
وقد بلغنا أن أبا بكر الصديق رضي اهلل عنه ،كان يدخلها في كالمه ،وكلما تكلم بكلمات
يقول :ال إله إال اهلل .ثم يرجع إلى كالمه ،وهذا في مقام البقاء وهو بعد الفناء ،فليس شيء
أولى باإلنسان ،أن يالزمه من األذكار غيرها كما تقدم.
نعم إذا أشرف السالك على أوائل الفناء ،وانمحى عن شهود جميع األكوان فاألولى به حينئذ
مالزمة اهلل اهلل ،هكذا ذكره العارفون .
وهذا كله من حيث األفضل واألولى ،وإال فجميع األذكار طرق إلى اهلل موصلة.
وللمشايخ رضي اهلل عنهم ،طرق في كيفية النطق بهذه الكلمة الشريفة وفي الجهر بها
واإلسرار ،وفي الشرائط التي يحتاج إليها الذاكر بها من المتعرضين للفيض اإللهي والفتح
الرباني ،وهي مشروحة في رسائلهم ،فليطلبها من يريد أن يسير على سبيلهم.
ومن وجد في زمانه أحدا من المشايخ المحققين ،فاألولى به أن يأخذ ذلك منه ،فإن الكتب
حيلة الفاقد،
()1/33
وإال فكم من فرق بين من يأخذ طريقه عن عارف محقق %يسلك به إلى اهلل ،وبين من يأخذ
طريقه من كتاب ،واهلل الهادي إلى الصواب وإليه المرجع واإلياب والتوفيق منه وبيده.
()1/34
فصل
)2( ...وسألت عن الحضور المتكلف ،ما معناه ؟
فاعلم أوال أن اإلنسان في أصل خلقته مفطور على خلو القلب ،واستعداده لقبول كل ما يلقى
إليه ،مما يكون سببا في صالحه واستنارته أو سببا في فساده وإظالمه ،فأول شيء يلقى إليه
رسخ فيه ،وانتقش به انتقاشا ،يحتاج في محوه إلى تكلف ومجاهدة.
والسابق إلى قلوب بني آدم ،إال من شاء اهلل منهم ،المعرفة بأحوال دنياهم ،وما يقع به
قوامهم والتذاذهم فيها ،وذلك أول شيء يسمعونه ،ويرونه من أبناء جنسهم .
فإذا وردت على قلوبهم بعد تمكن هذه األشياء منها معرفة اهلل ومعرفة حقوق ربوبيته ،وطلب
القيام بها كما ينبغي ويليق بالحضرة المقدسة ،لم تجد في القلوب مستقرا وال مستوطنا،
فتبقى متزلزلة وغير ثابتة ،فيحتاج ال محالة الراغب في رسوخ معرفة اهلل في قلبه ،وأن يصير
الحضور مع اهلل دأبه وشعاره ،في جميع عباداته وسائر أحواله ،إلى محو ما سبق إلى القلب،
()1/35
من المعرفة بأحوال الدنيا المشغلة عن التجرد لهذا األمر ،والظفر به على وجه الكمال ،وال
بد وأن يناله في ذلك مشقة %ويحتاج فيه إلى رياضة ومجاهدة ،قد يخف ذلك وقد يثقل،
ويختلف باختالف الفطر كماال ونقصا ،وباختالف التوجهات والهمم قوة وضعفا ،وباختالف
رسوخ األمور المشوشة ،فإنها قد تتمكن من القلب تمكنا بالغا ،وقد يكون دون ذلك.
وليس هذا الذي ذكرناه خاصا بالحضور فقط ،بل هو عام في استجالب %جميع األخالق
المحمودة التي هي مصادر األعمال الصالحة ،فإن المتخلق بها يحتاج في بدايته إلى الصبر
والمجاهدة ،ويأتي بها مع التعب والمشقة ،ثم يفضي به األمر إلى أن تصدر عنه مقرونة باللذة
والراحة.
إذا علم ذلك فاعلم أن الحضور مع اهلل روح العبادات ،وهو المقصود منها وبه يعني
المحققون ،وعليه يعول العارفون.
واألعمال التي تصدر من العبد مع الغفلة ،يرونها إلى العقوبة والحجاب ،أقرب منها إلى
المكاشفة %والثواب.
وطريق الوصول إلى الحضور مع اهلل في العبادات ،أن ينظر األنسان في األمور المشوشة له
فيدفعها ،وهي قسمان :ما يرد من جهة الحواس كالسمع والبصر ودفعه بالخلوة،
()1/36
وما يكون من قبيل حديث النفس ،وتشويشها على القلب بوساوس وخواطر توردها عليه،
ودفعها باإلعراض عنها.
واشتغال القلب ،إما بأن تجري فيه صورة اللفظ الذي يجري على اللسان ،من قرآن أو ذكر.
وإما بأن يجعل القلب مصغيا ومستمعا إلى ما هو القائم باللسان من ذلك ،والمعول عليه في
هذه الحالة ضبط القلب وحفظه عن كل ما يرد عليه ،من جهة النفس والحواس.
فإذا أحكم العبد هذه المرتبة ،من تكلف الحضور ،فلينتقل منها إلى ما فوقها وذلك أن يشعر
القلب ،ويقيم فيه معنى ما يكون جاريا على اللسان ،وذلك كالتوحيد عند التهليل وكالتزيه
والتعظيم عند التسبيح والتكبير.
وإن كان الذي يجري على اللسان قرآنا ،فليكن على القلب معاني ما يقرؤه وهذا المذكور
مرتبة في الحضور شريفة ،وبعدها أشرف منها وهي أن يشعر القلب ويحضره ،حين التالوة
والعبادة والذكر حضرة المعبود والمتكلم والمذكور.
وإلى ذلك اإلشارة بقوله صلى اهلل عليه وسلم " :اإلحسان :أن تعبد اهلل كأنك تراه ".
ويحتاج من يريد الوصول إلى هذه المشاهدة العظيمة ،إلى أحكام ما قبلها كما ذكرناه وإلى
أن يكون في
()1/37
غاية التنزيه لإلله الحق عن مشابهة الحوادث ،فإن من ال بصيرة له ربما يتصور ذلك مقرونا
بشيء من التخيالت ،التي يتقدس الحق عن مثلها.
وفي هذه المرتبة التي هي مشاهدة %المتكلم في كالمه ،والمذكور في ذكره ،تكون الغيبة
واالستغراق والسكر والفناء ،وما شاكلها من أحوال أهل اهلل.
فمن رغب في الوصول ،فليسلك السبيل ويعانق الصبر والجد ،ويشمر عن ساق الطلب بكل
جهده وإمكانه ،ويسمع قول سيد الطائفة الجنيد رحمه اهلل ،وقد قيل له :من أين لك هذه
العلوم ،التي ال توجد عند أحد من أشياخك؟ فقال :من جلوسي مع اهلل تحت هذه الدرجة
ثالثين سنة ،وأشار إلى درجة في بيته .
وكان الشبلي رحمه اهلل تعالى في بدايته يخلوا بنفسه %في سرب تحت األرض ،ويأخذ معه
حزمة قضبان ،وكلما داخلته غفلة ضرب بها نفسه فما يمضي المساء حتى تفني تلك الحزمة
من كثرة ما يضرب بها ،فإن ما كان أول ما صاروا إليه ،من المكاشفات والمشاهدات
مجاهدات ومكابدات .وقد يحصل ذلك بدون ما ذكرناه وهو نادر جد .
ثم إن الواصل إلى رتبة الحضور مع اهلل واألنس به ،يصير يتكلف الحضور مع الخلق،
والخوض في شيء من
()1/38
أمور الدنيا عندما تدعوه إليه الحاجة ،نظير ما يتكلفه أوال في طلب الحضور مع اهلل تعالى .
ومن أقوى ما يستعان به على حصول الحضور مع اهلل :أن يشعر العبد قلبه بأن اهلل يراه وإنه
إنما ينظر إلى قلبه وباطن قصده وتوجهه ،ال إلى جسمه وصورة ما يجري عليه من عمله.
ومن المشوشات %للحضور عند العارفين :أن يكون اإلنسان في صالة أو ذكر فيشغل قلبه
بغير ما هو فيه ولو من أمور اآلخرة إذا المعول عليه عندهم ،هو أن يجتمع اإلنسان بظاهرة
وباطنه على كل ما يدخل فيه هلل تعالى ،فإنه ال يحكمه وال يأتي به على وجهه حتى يكون
كذلك.
ومع غفلة القلب قد تفسد صورة العمل ،فضال عن معناه كما هو مشاهد .والعمل مع الغفلة
وعدم تكلف الحضور ال يؤدي إلى الحضور ،وإنما يؤدي إليه إذا كان مصحوبا %بتكلفه،
ولكنه ال يخلوا من بركة.
قال رجل ألبي حفص إني أذكر اهلل وال أجد حضورا ،فقال له :أحمد اهلل الذي زين جارحة
من جوارحك بذكره.
()1/39
فصل
… ( )3وسألت عن معني التنزيه والثناء وعن ما يعبر به عن الحول والقوة ،وعن معني الندم
واالستغفار ،وهل ذلك خاص بأهل الذنوب أم عام حتى في الترقي من مقام شريف إلى أعلى
منه ؟
فأعلم أن التنزيه هو التقديس وهو التسبيح أيضا ،ومعناه :أن يعتقد القلب تنزيه الحق جل
وعال ذاتا وصفاتا وأفعاال عن مشابهة المخلوقين ،فإنه المتقدس سبحانه المنزه عن الشركاء
واألمثال وعن الحدوث والزوال ،وعن األعراض والعلل وعن التقيد بالزمان والمحل ،بل هو
المنزه عن أن يتصوره وهم أو يتخيله خيال ،أو يظفر به فكر أو يدرك ماهيته عقل أو يحيط به
علم.
وكثيرا ما وقع التسبيح في القرآن الكريم ،متصال بتنزيه الحق نفسه ،عما أضافه إليه
الملحدون ،مما ال يليق بعز كماله ،مثل قوله تعالى (( :يا أهل الكتاب ال تغلوا في دينكم وال
تقولوا على اهلل إال الحق )) إلى قوله (( إنما اهلل إله واحد
()1/40
سبحانه أن يكون له ولد )) ومثل قوله تعالى ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا)) إلى قوله
(( سبحانه عما يشركون )) ومثل قوله تعالى (( أال إنهم من إفكهم ليقولون ولد اهلل وإنهم
لكاذبون )) اآليات إلى قوله (( :سبحان اهلل عما يصفون)) إلى غير ذلك.
وأما الثناء فهو الحمد والمدح ومعناه :ذكر ما يستحقه الممدوح ،من صفات الكمال وما هو
متصف به من معاني العز والشرف والجالل ،وما يفيض منه على المثني وغيره ،من العطاء
والنوال ،وما يدفع عن المادح وعن سواه ،من ضرور البالء واألنكال مقرونا باإلعظام
واإلجالل .ومن أجمع العبارات وأشملها لمعاني الثناء قول :الحمد هلل .
واعلم أن اهلل تعالى هو المنزه على اإلطالق والمستحق %للثناء على كل وجه ،وبكل معنى،
وهو المنفرد بذلك والمتوحد به ألنه المنزه عن كل نقص المتصف بكل كمال ،المفيض لكل
خير ونوال .فالتنزيه والثناء له حقيقة ولغيره مجازا بل ال منزه وال محمود سواه حقيقة
ومجازا.
فكل من أتى من الخلق شيئا من النزاهة ،أو وصل إلى شيء مما يقع عليه الثناء ،فما وصل
إلى ذلك بحوله وقوته ،بل بقدرة اهلل ومشيئته وفضله ورحمته ،وذلك من اهلل وهلل.
()1/41
ومن نزه مخلوقا عما هو منزه عنه ،فتنزيه وثناءه ومباعدته نقص يعتور أبناء جنسه ،أو أثنى
عليه بكمال هو متصف به فتنزيه وثناءه تنزيه هلل وثناء على اهلل ،علم ذلك من علمه وجهله
من جهله.
واعلم أن اهلل تعالى غني عن تنزيه المنزهين ،وعن ثناء المثنين ،فإن المنزه له سبحانه لم يدفع
بتنزيهه عنه نقصا ،إذ ال نقص وال يتصور وجوده.
والمثني عليه تعالى لم يثبت له بثنائه كماال ،فإن الكمال هلل أزال وأبدا ،وإنما تنزيه العبد لربه
وثناؤه عليه نفع يجره إلى نفسه ،وخير يوصله إليها ،وقد وعده اهلل ذلك بفضله ،قال صلى
اهلل عليه وسلم "" الحمد هلل تمأل الميزان وسبحان اهلل والحمد هلل تمآلن او تمأل ما بين
السماء واألرض "" .الحديث .
وقال عليه الصالة والسالم "" :إن اهلل ليرضى عن العبد يأكل األكلة فيحمده عليها ،
ويشرب الشربة فيحمده عليها "".
وما ورد في فضل التسبيح والتحميد ،أكثر من أن يحصر ،اشهر من أن يذكر ،ومن جاهد
فإنما يجاهد لنفسه %إن اهلل لغني عن العالمين .
()1/42
فصل
وأما ما يعبر به عن معني التبري عن الحول والقوة ،فاعلم أن أجمع العبارات عن ذلك
وأشملها ،قول :ال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم .
قال حجة االسالم رضي اهلل عنه :الحول هو الحركة والقوة هي القدرة ،وال حركة وال
قدرة ألحد من الخلق على شيء من األشياء إال باهلل القوي القادر وكلما جعل اهلل للمخلوقين
إلى فعله أو إلى تركه سبيال ،كالقيام بالتكاليف فعال وكفا ،وكالسعي لطلب المعاش بأنواع
الحركات من الحرف والصناعات ،وما في معني ذلك فالواجب على المؤمن ،أن يعتقد أن
اهلل تعالى ،هو الخالق المخترع إلراداتهم وقدرتهم وحركاتهم ،وإنما لما يصدر عنهم من
األفعال اإلختيارية ،نسبة إضافة إليهم ،تسمى الكسب والعمل ،عليها يترتب الثواب
والعقاب ،ولكنهم ما يشاؤن إال أن يشاء اهلل وال يقدرون على فعل شيء وال على تركه ،إال
إن أقدرهم اهلل و (( ال يملكون مثقال ذرة في السموات وال في األرض .ومالهم فيهما من
شرك ،وما له منهم من ظهير)).
()1/43
وعلى القدرة واالختيار الذي جعل اهلل لعباده يترتب األمر والنهي ،فلألمور الصادرة عنهم
بالقصد مع االختيار ،نسبة وإضافة إليهم وبحسب ذلك يثابون ويعاقبون .
فمعنى ال حول وال قوة إال باهلل ،نفي االستقالل ،واالستبداد بالقوة والحول مع االعتراف
بوجود القدرة واالختيار اللذين جعلهما للعبد ،فإن من زعم أنه ليس للعبد اختيار وال اقتدار
على شيء ،وأن أفعاله االختيارية كاالضطرارية ،وأنه مجبور في كل حال ،فهو مبتدع
جبري ،وقد أبطل بزعمه الفاسد فائدة إرسال الرسل ،وأنزال الكتب .
ومن زعم أن اإلنسان يستقل بمشيئته وقدرته على أفعاله االختيارية ،فهو مبتدع معتزلي.
ومن اعتقد أن لإلنسان المكلف قدرة واختيارا ،يقدر بهما على امتثال ما أمره اهلل به وعلى
اجتناب ما نهاء عنه ،وأنه ليس مستقال بذلك وال خالقا له فقد أصاب السنة ودخل في
الجماعة %وسلم من البدعة ،ولهذا شرح طويل وهو سبيل وعر قد تخبط فيه وضل عنه خلق
كثير ،وتحته سر القدر الذي حارت فيه األلباب ،وأمر باإلمساك عن الخوض فيه سيد
المرسلين .
فليقنع العاقل باإلشارة ،وليكفه من ذلك أن يؤمن أن كل شيء خلقه اهلل ،وأنه ال يكون كائن
بدون مشيئته وقدرته ،
()1/44
ثم ليطالب نفسه بامتثال األوامر واجتناب المحارم وليقم الحجة لربها عليها على كل حال .
وفي الحديث " :ال حول وال قوة إال باهلل كنز من كنوز الجنة " .فافهم اإلشارة في كونه
كنزا تعلم أن معناه من األشياء الخفية الغامضة ،فإن الجزاء من جنس العمل كما قال صلى
اهلل عليه وسلم " ركعتان في جوف الليل كنز البر " فجعل ثوابهما كنزا مخفيا %لوقوعها في
وقت بهذه المثابة وهو الليل .
وورد أيضا " :ال حول وال قوة إال باهلل دواء من تسعة وتسعين داء ،أدناها الهم" .وإنما
كانت دواء للهموم ،ألنها إنما ترد غالبا عند فوات محبوب %أو حصول مكروه فيستشعر
اإلنسان عند الفوات وحصول ما يكره عجزه وضعفه ،عن الوصول إلى ما يشتهي فيهتم
لذلك ،فإذا كرر على قلبه ولسانه معني التبري من الحول والقوة ،أنتج له ذلك يقينا ،يعلم
به أنه عاجز وضعيف ،إال أن قواه اهلل وأقدره ،فيذهب إذ ذاك همه وتتسع معرفته بربه .
ويتضح هذا المعنى من قوله عليه الصالة والسالم ":من آمن %بالقدر ذهب همه " .وفي إضافة
الحول والقوة إلى اسمه " اهلل " الذي هو قطب األسماء ورئيسها ،وإتباعه غالبا باالسمين
الكريمين ،الدالين على صفتين من صفات الذات المقدسة %العلو والعظمة ،إشارة إلى نهاية
التنزيه وغاية
()1/45
التقديس عن أوهام توهمها من ضل السبيل وعمي عن الدليل وخاض في سر القدر ،وفي
حركات العباد بدون بصيرة فتنبهوا لذلك .
()1/46
فصل
وأما الندم فهو رجوع القلب مع التحسر والتأسف ،عن شيء قد كان هم العبد به ،مما
يسخط اهلل تعالى فعله كالمعاصي أو تركه كالفرائض وقد يقع على االنهماك في المباحات ،
وعلى التأخر عن نوافل القربات .
والندم الصادق ما حمل على مجانبة التقصير ومالزمة التشمير وعند صحته يكاد يتضمن
جميع شرائط التوبة ،ولذلك قال عليه الصالة والسالم "" :الندم توبة "" .والذي يندم على
إتيان القبائح مع المالبسة %لها متالعب ال يغني عنه ندمه شيئا .
وأما االستغفار فهو طلب المغفرة من اهلل وهو الستر على الذنوب ،وإذا تفضل اهلل بغفران
ذنب لم يفضح به صاحبه ولم يعاقه عليه ال في الدنيا وال في اآلخرة .
وأشرف أنواع المغفرة أن يجعل اهلل بين العبد سترا من الذنوب حاجزا بينه وبينها حتى ال يقع
في شيء منها ،ويسمى هذا الستر بلسان النبوة :عصمة وبلسان الوالية :حفظا ،
()1/47
وإليه يرجع معنى قوله تعالى لسيد المعصومين عليه افضل الصالة والسالم (( :واستغفر
لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات )) وقوله تعالى(( :ليغفر لك اهلل ما تقدم من ذنبك وما تأخر )).
ومن المعلوم أن الذنب ال يصدر منه ولكن ذكره نعمته عليه بعصمته مما يبعده منه ،وأمره
أن يدعو بذلك ،فإن الدعاء في هذا الموطن يرجع إلى الشكر ،والشكر سبب المزيد (( لئن
شكرتم ألزيدنكم )) واهلل أعلم .
()1/48
دقيقة
اعلم أن الطاعة وإن كانت هي الطريق إلى اهلل ،والوسيلة إلى القرب من حضرته المقدسة ،
قد يداخل العاملين بها من أهل الغفلة أمور معدودة من كبائر الذنوب وذلك كالرياء والعجب
،والتكبر بها على العباد ،واإلدالل بها على اهلل ونسيان منته في التوفيق لها ،وما يجري
هذا المجري .
وهذه األشياء قد تنتهي بالمطيع إلى أحباط أصل الثواب ،وربما استوجب مع ذلك أليم
العقاب. %
والمؤمن المعول على طريق الحزم الحريص على حصول النجاة ،ال يفارقه االتهام لنفسه%
وسوء الظن بها فهو يستغفر بإزاء الطاعات ،وإن لم تكن له صور المخالفات ،مخافة %أن
تكون نفسه قد دهته بشيء من هذه الدواهي المهلكات ،فقد عرفت بهذا موقع االستغفار
من الطاعات .
وأمر أدق من هذا يقع ألهل المعرفة في بعض الحاالت ،وهو أنهم إذا آنسوا من نفوسهم
ركونا إلى
()1/49
الصالحات من أعمالهم أو أنسا بها أو اعتمادا عليها يرجعون إلى اهلل بالتوبة واالستغفار .
وهذه األشياء بعينها قد تطرقهم عند منازالت المقامات الشريفة ،واألحوال الواردة فيتوبون
عنها ويستغفرون منها .
ولذلك كانت الذنوب عند أهل اهلل المتجردين عن عالئق األكوان ،االلتفات إلى غير اهلل
كائن ذلك الغير ما كان ،فتراهم يفزعون إلى اهلل ويفرون إليه من أحوال لو وردت على
غيرهم كان يعدها من أعظم القربات وذلك كخواطر الرجاء بإزاء الطاعة ،وخواطر الخوف
وخواطر الزهد ،وأفهم هاهنا قولهم :حسنات األبرار سيئات المقربين .
ولو ال إندراس الطريق وأفول أنوار التحقيق لكنا نأتي من ذلك بالعجب العجاب ، %فتذكروا يا
أولى األلباب .
قال الشيخ شهاب الدين السهروردي رحمه اهلل :وللمقامات %قوادح قد تدخلها دواخل ،ال
يكاشف بها العارف في حال اإلقامة بها .وإنما يتبينها إذا ارتقى من مقام إلى ما هو أعلى
منه .فعند ذلك ينظر إلى األوال وقد حصل له من الثاني زيادة تبصرة فيرجع إلى الذي فارقه
فيصلحه ويجبر تقصيره فيه ،وال يكون ذلك إال بالتوبة واالستغفار ،وهذا معنى كالمهم مع
مزيد شرح وإيضاح .
()1/50
وقد تأول بعضهم قوله عليه الصالة والسالم "" %إنه لَيُغان على قلبي حتى أستغفر اهلل في اليوم
سبعين مرة "" ،بنحو ما ذكره السهروردي ،وهو بعيد المناسبة للمنصب المحمدي ،الذي
تندرج فيه جميع الكماالت الحقيقة %والخلقية .وعندي له تأويل ال أسمح بذكره إال مشافهة
ألهله ،واهلل أعلم .
()1/51
فصل
)4( ...وسألت عن قول بعض أهل الطريق :ينبغي لمن يأخذ من أيدي الخلق ن أن يكون
أخذه من اهلل كشفا وذوقا ال إيمانا وعلما .فما كيفية ذلك ،من حيث العلم به ؟
فأعلم أن هذا كالم عارف أخبر عن حاله ،وعبر عن شهوده وهو حال الفاني عما سوى اهلل ،
المستغرق بمشاهدة جالل اهلل وجماله ،الذي لم يبق عنده من الخلق خبر ،وال من الوجود
وأهله حس وال أثر ،قد سلب التدبير واالختيار ،وغاب عن مشاهدة اآلثار ،وغرق سره في
لجة بحر األسرار،وانمحت عنه ظلمة ليل الوجود ،بإشراق نهار الشهود ،فتراه مع ربه
كالميت مع غاسله ال يتحرك إال بتحريكه ،وقد غاب عن األسباب برؤية مسبب األسباب،
وفني عن األغيار بمشاهدة فعل الفاعل المختار .فهو كما قال بعض العارفين األخيار:
اهلل در فتى حيران ذا وله ...أفنى مسماه مواله وأسماه
يمضى الزمان وال يدري بعدته ...يستف من رائق العذري حمياه
فصاحب هذا الحال مغلوب بمشاهدته ،ومحكوم عليه
()1/52
ال يستطيع خروجا عن حكم الوارد ،فما وقع منه في حاله ذلك فاهلل وليه فيه ،وهو حافظه
حتى إن الصادق في هذه المواطن ،ال يالبس شيئا مما يناقض وصف العبودية ،وإن كان إذ
ذاك خارجا عن عهدة التكاليف ،لفقد التمييز الذي هي منوطة به .
وللمتحققين رضي اهلل عنهم حرص بالغ على ورود هذا الوارد ودوامه ،لما فيه من مفارقة
الرسوم ومحو أوصاف البشرية التي هي الحجاب عن مشاهدة األسرار اإللهية.
واعلم أن هذا الحال إذا ورد ال يدوم ،وإن دام ظهرت على العبد أمور عجيبة وقد ينتهي به
األمر إلى االضمحالل %واالنمحاق ،وهو اختصاص الهي يختص اهلل به من يشاء ،ال يدرك
باألماني وتسويالت %النفس .
ولإلنسان سبيل إلى التعرض لذلك بحسن الرياضة وصدق المجاهدة ،على موافقة الكتاب
والسنة .
والمتكلف للتحلي بهذا الحال ،المتصف بأوصاف أربابه مغرور مأزور ،ألنه يقع بسبب ذلك
إلى اإلخالل بحقوق اهلل وحقوق العباد ،وذلك ألن صاحب الفناء ال يتصور منه حب وال
رجاء ،وال خوف ألحد من الخلق وال يشكر وال يكافيء أحدا منهم على معروف يصل إليه
منه ألنه ما يرى إال اله ،إلى غير ذلك من أوصاف الفاني باهلل.
()1/53
()1/54
استعمال العلم واألدب ظاهرا وباطنا .أما العلم الظاهر فهو أن ال تأخد إال ما يسوغ لك أخذه
شرعا ،وأما الباطن فهو أن ال تأخذ شيئا وانت عنه في غناء إال بنية اخراجه ،وال شيئا
استشرفت إليه النفس .
ومعنى االستشراف :أن ترجوه وتطمع فيه من موضع معين ،وهذا من األداب الباطنة
والتزامها فضل .والواجب من باطن العلم أن تؤمن يقينا أن اهلل تعالى هو المعطي حقيقة ،فإنه
هو الرزاق لذلك المعطي ،واآلمر له باإلعطاء والمجازي له بما هو أجل وأفضل من عطائه،
وهو الذي سلط على قلبه البواعث القاهرة ،التي ال يستطيع لها خالفا ،وهو الذي زين له
البذل واخطرك على باله ،والقى في نفسه أن الخير والمنفعة في االصطناع إليك ،فما أحسن
إال إلى نفسه .
فقل لي :هل يبقى مع استشعار هذا األمر من العلم باهلل ،نظر إلى الخلق أو وقوف معهم ؟
ومع هذا كله ،فال تغفل عن شكر المحسنين وموادتهم والدعاء لهم ،من حيث إنه سبحانه
أمر بذلك ،وما جعلهم محال للمعروف ،وموضعا للخير وواسطة بينه وبين عباده ،إال وهو
يحب لهم ذلك ،ويحب معاملتهم به وشكرك إياهم شكر هلل عند التحقيق .
فقد علمت بما قررناه ،حكم اآلخذ من أيدي الخلق بالنسبة إلى أهل الفناء وأهل البقاء وأهل
السلوك ،فتمسك به واعمل عليه .
()1/55
دقيقة
قال صاحب قوت القلوب رحمه اهلل ونفع به :إذا صادفت لمعروفك أحدا من أهل اليقين،
الذين ال يرون إال اهلل فاغتنم اصطناع المعروف إليه .وإن كان حاله يقتضي أن ال يشكر أو ال
يدعو لك لكونه ال يراك ،فإن يقينه أنفع لك وأرجح في ميزانك من دعاء غيره وشكره .انتهى
بمعناه .
()1/56
()1/57
وللعبد في التحرز من الحاجة إلى الناس -إذا عقل -أفضل نية ،فإن المؤمن الفطن ال يقصد
باالستغناء عن الناس وبالسالمة في النفس واألهل ،وما شاكل ذلك مما يقترن به من الراحة
واللذة الصورية ،بل يقصد به الخالص من آفات تضر الدين ،وقد تظهر على كثيرين من
المبتلين بشيء من هذه البليات .
ومن ثم الشتد حرص األكابر ،على سؤال العافية من اهلل المعنوية والحسية وذلك خوفا من
انفسهم ،لما هي مجبولة عليه من الضعف والتزلزل عند ورود األشياء المنافرة لها .
وقد تكرر من الرسول صلى اهلل عيه وسلم االستعاذة من الفقر واألمراض وقال "":كاد الفقر
أن يكون كفرا "" ،لما يتهدف له المبتلى به ،من التبرم بالقضاء والسخط للمقدور والجزع .
قال سفيان الثوري رحمه اهلل :ما أجزع من البالء ألنه يؤلمني ،ولكن أخشى أن أبتلي
فأكفر .
ثم إن كمال العبد في رضاه باختيار ربه له واكتفائه بعلمه ،واعتنائه باختياره وتدبيره عن تدبير
نفسه واختيارها .
دقيقة
قال بعض العرافين :في ترتيب سورة الواقعة سر يرجع إلى تنمية اليقين ،الذي يقارنه سكون
القلب
()1/58
وتصحبه الطمأنينة في حال الوجد والعدم ،وذلك ألن اهلل افتتحها واختتمها بذكر المعاد،
وتفاوت الناس يومئذ.
ومن تدبر ذلك األمر أذهله عن كل ما يخطر له من أمور الدنيا ،وأيضا فإن اهلل ذكر فيها أصل
الخلق ،وأنه ابتدأه من نطفة إذا تمنى ،وأصل الحرث والماء اللذين بهما يكون القوام فحث
على التفكر في ذلك ،وعرف الكافة بعجزهم عن الخلق ،وعن تنمية الحرث وحفظه وعن
إنزال الماء ،وفي ذلك أبلغ تعريف بشأن القدرة اإللهية والمشيئة والعلم األزليين.
فإذا انضم العلم بذلك إلى العلم بضمان اهلل وتكفله لعبده برزقه وما يقوت سكن قلبه وأقبل
على عبادة ربه .واهلل أعلم .
()1/59
تَ ِ
بصرة
)6(...ربما داوم اإلنسان على قراءة شيء من السور ،وواظب على شيء من األذكار
واألدعية ،الموعود عليها شيء من المنافع الحالية فلم ير لذلك أثرا ،فال ينبغي لمن وقع له
ذلك أن يتشكك في صحة ما وقع به الوعد الصادق .
والذي ينبغي له أن يرجع على نفسه بالالئمة وينسبها إلى التقصير في يقينها وتوجهها ،فإن
القاريء والذاكر ،ال يسمى قارئا وذاكرا على اإلطالق الشرعي ،إال باجتماع شروط فيه ،
يقصر عن القيام بها أكثر الناس.
والعمدة في تأثير هذه األشياء وحصول الجدوى بها ،تيقن القلب بأن ما ذكر كما ذكر ،من
غير تشكك وال قصد تجربة ،وصدق التوجه واجتماع الظاهر والباطن على الدخول في ذلك
الشيء ،وامتالء القلب بخالص حسن الظن باهلل وكمال الحضور معه .
ف َق َّل أن تجتمع هذه األشياء في متوجه بشيء من اآليات واألذكار في حصول شيء ،أي شيء
كان ،إال ويكون
()1/60
مطلوبه كأنه طوع يده وتحت حكمه وتصرفه ،فال يلومن عبد قعدت به همته وأخَّره جده
وتشميره إال نفسه ،وما اهلل بظالم للعبيد .
()1/61
فصل
… ( )7وسألت عن شخص إذا حضر السماع ،يحس بروحه كأنها تضطرب ويناله بسبب
ذلك شيء من التعب ،فما األنسب له :حضور السماع ، %أو عدمه ؟
فاعلم -علمك اهلل -أن أمر السماع %خطر ،حتى قال سيدي القطب الرباني العيدروس عبد
اهلل بن أبي بكر رضي اهلل عنه ونفع به :إن هذا السماع %يهدي اهلل به واحدا ويضل به ألفا ،أو
كما قال .
فالذي ال بد من بيانه أن لألثر الحاصل من السماع ،حكم الباعث عليه ،فينبغي أن يكون
الباعث من الحق ،سالما من مزج الشهوة والهوى ،وأن ال يسمع إال ما يجوز االستماع إليه
في حكم العلم ،وأحمد أثر تحصل من السماع شيء يحصل من استماع القرآن والسنة
والمواعظ الحسنة .
واألثر الحاصل من استماع األشعار واألصوات الحسنة والنغمات الموزونة محمود أيضا ،إن
تعلق بأمر الدين ،وإال فهو مباح وال بأس باستماعها على هذا الوجه بشرط أن
()1/62
ال يكون في ذلك خروج عن المباح .وقد قصدنا بهذه الكلمات المجملة إيناس الطالب،
وإال فكتب القوم طافحة بشرع حكم السماع ،خصوصا اإلحياء والعوارف منها .
وأما الشخص الذي يحصل له ما ذكر ،فإن كان يخشى مع ذلك مراءاة للخلق أو تزينا لهم،
فترك الحضور أنسب له .
وإن كان ال يخشى ذلك ولكن ال يحصل له بالسماع فائدة ،من إنهاض همة أو نشاط في
عبادة أو شوق إلى مشاهدة ،ونحو ذلك ،فعدم الحضور أحسن له أيضا ،ألنه ال يسوغ
لإلنسان أن يتعب نفسه لغير مصلحة .
وإن كانت تحصل له فائدة وتناله منفعة %في دينه ،فليزن ذلك بما يحصل له من التعب ويكون
مع األرجح واألصلح .
وبالجملة فالعارفون ال يرون لمتاعب األجسام وآالمها قدرا مع منافع القلوب وفوائدها ،ألن
حاصل طريقهم تنقية القلب وعمارته ،ومطمح نظرهم ،فيما يجمع قلوبهم على موالهم عز
وجل فاعلم ذلك ،وباهلل التوفيق.
()1/63
فصل
)8(...وسألت عن معنى قول اإلمام حجة اإلسالم شرف األئمة المهتدين وأستاذ األكابر
المحققين %محمد بن محمد بن محمد الغزالي ،قدس اهلل سره العزيز وأعاد علينا من بركاته
الشاملة ،آمين .قوله :العلم بالشيء مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء؟
فاعلم أن هذا الكالم واضح ،ونضرب للتعريف به مثال حتى يعقل ،مثال ذلك إنك تعلم أن
اهلل هو الذي خلقك وخلق كل شيء .هذا هو العلم بالشيء ثم تعلم إنك تعلم بخلق اهلل لك
فهذا هو العلم بالعلم ،وهو غيره .وقد يتصور انفكاك أحد العلمين عن اآلخر.
وقال الخليل بن أحمد :الرجال أربعة :رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه،
ورجل يدري وال يدري أنه يدري فذلك نائم فايقظوه ،ورجل ال يدري ويدري أنه ال يدري
فذلك مسترشد فأرشدوه ،ورجل ال يدري وال يدري أنه اليدري فذلك جاهل فأرفضوه.
()1/64
)9(...وسألت عن قول الغزالي أيضا :العلم يثمر الحال والحال يثمر المقام .هل ذلك مقرر،
بل قد يفهم من كالم غيره خالف ما ذكره؟.
فاعلم أن كالم حجة اإلسالم رحمه اهلل ،في ذلك هو العمدة .ولو خالفه مخالف لم يعتد به.
وبيان ما قاله رحمه اهلل تعالى ،تعرفه بشرح مقام من مقامات اليقين حتى تقيس عليه غيره من
المقامات%.
فاعلم أن الزهد من المقامات %الشريفة ،وأصله أن يعلم اإلنسان بما ورد في الكتاب والسنة
وكالم صالحي األمة في ذم الدنيا وتقبيح حال الراغبين فيها ،وذكر فضيلة الراغبين عنها
المقبلين على اآلخرة فيقع في قلبه إن أدركه التوفيق أثر يقتضي الزهد في الدنيا والرغبة في
العقبى .فاألول العلم ،وهذا األثر هو الحال .ويظهر على الجوارح بواسطة هذا األثر أعمال
تدل عليه ،من اإلعراض عن عمارة الدنيا وجمع حطامها ومالزمة ما ينفع في اآلخرة من
األعمال الصالحة ،إلى غير ذلك.
ثم إن هذا األثر تعرض له عوارض من وساوس الشيطان والنفس ،فيما يدعو إلى الرغبة في
الدنيا فيحول ويتزلزل ويطرأ عليه ضعف ،وربما ينمحي في بعض األحيان ولذلك يسمى
حاال .فإذا رسخ وتأكد ورست قواعده في القلب فلم
()1/65
تؤثر فيه خواطر الرغبة ولم تزلزله البتة ،فعند ذلك يسمى مقاما %،فقد عرفت بهذا أن العلم
يثمر الحال والحال يثمر المقام.
وللحال والمقام أمارات وعالمات %،تدل على صحتها وسقمها ،تجري على الظاهر وتسمى
العمل وهو ينشأ ايضا عن العلم ،غير أنه يتعلق بالظاهر ،فيفرق بينه وبين الحال بذلك .
وقد ذكر صاحب العوارف أن األحوال بدايات المقامات ،وأن من رسخت قدمه في شيء
من مقامات اليقين ،يكون له حال من المقام الذي هو أعلى منه ،فاعلم ذلك .
ثم إن األحوال قسمان :أحدهما ما تقدم ذكره واآلخر ما يرد على القلب المشرق بأنوار
الرياضة والمجاهدة من الواردات الشريفة كاألنس والفيبة والسكر والجمع ،وهذا القسم من
األحوال ال تثمره العلوم ،ولكن تثمره التوجهات الخارقة في قوالب المعامالت الخالصة
والنيات الصادقة ،ولم يرده اإلمام بقوله ذلك واألحوال التي يجري ذكرها كثيرا على لسان
القوم المراد بها القسم الثاني منها ،واهلل أعلم .
***
)10(...وسألت عن قوله أيضا :ال يكفي في فعل الطاعات العلم بكونها طاعة فقط ،بل ال
بد مع ذلك من معرفة الوقت
()1/66
والترتيب والشرط ،فالوقت :هو الزمان المعين المحدد المأمور بفعلها فيه.
والترتيب :هو اإلتيان بها على الوجه المأمور به ،من تقديم ما يجب تقديمه وتأخيرما يجب
تأخيره كالطهارة والصالة اليصحان بدون الترتيب ،وهو واجب في الطاعات التي يتصور
وجوده فيها ،وحكم الوقت والترتيب ظاهر .
وأما الشرط :فيقرب أنه أراد به علم ما يتوقف فعل الطاعات عليه أو كمالها .ومثال ذلك أن
العقل شرط في صحة اإليمان واإلسالم ،وهما شرط في صحة القيام بالواجبات واالنتهاء عن
المحرمات %والتقرب بنوافل الطاعات واإلخالص هلل ،وتصفية النية من شوائب الرياء شرط في
االنتفاع بالجميع في الدار اآلخرة ،واهلل أعلم .
***
)11(...وعن قوله ،رضي اهلل عنه ،في الخواطر ،من حيث المؤاخذة بها ،وهو أمر واضح .
وبيانه على سبيل اإلجمال ،أن الخاطر ما دام مترددا خيرا كان أو شرا ال يترتب عليه ثواب
وال عقاب حتى يقع الجزم والتصميم فعند ذلك تتوجه المجازاة عليه من جنسه ،وأما نسبة
كالمه في الخواطر التي هذا حكمها إلى كالمه الذي أورده في آخر كتاب الخوف ،وذلك
أنه ذكر هنالك ،أن صفات %باطن اإلنسان المخلط من الكبر والرياء والحسد ونظائرها،
()1/67
()1/68
)12(...وسألت أيضا عن قول اإلمام الغزالي في ( كتاب أسرار التالوة ) :اللسان واعظ
والعقل ترجمان والقلب هو المتأثر.
وهذا الذي قاله واضح فاللسان وظيفته القيام باأللفاظ المتضمنة للمعاني ،والعقل يصغي إليها
فيأخذ المعاني التي بها يقع التأثير فيلقيها إلى القلب المتأثر ،فإنه وزيره والقائم بتدبيره فهو
لتوسطه بين القلب واللسان في مثل هذا الموطن يسمى ترجمانا.
وهذا الذي ذكره يكون ألصحاب اليمين ،الذين ترد عليهم المعاني عند التالوة وبعدها.
وأما المقربون الذين ترد عليهم المعاني قبل التالوة ،وذلك ألن معاني التالوة قد رسخت في
قلوبهم ومازجت حقائقهم ،فهي على الدوام حاضرة لديهم ،سواء كان اللسان تاليا أو غير
تال .
***
)13(...وسألت عن قوله أيضا فيمن يستعين بنعم
()1/69
اهلل على معاصيه :إن تمني زوال النعمة عنه ال يكون من قبيل الحسد ،بل هو من قبيل الغيرة
هلل تعالى.
فاعلم أن الحق ما ذكره رحمه اهلل ولكن لو جعل اإلنسان مكان تمني زوال النعمة عن
العاصي ،سؤال الهداية له والتوفيق لشكر ربه ،ووضع النعمة حيث يحب لكان أحسن .
ومن األول ما يحكي عن ذي النون رحمه اهلل ،أنه نظر في البحر إلى زورق فيه جماعة
يريدون بعض األماكن وقصدهم أن يشهدوا على بريء بالباطل ومجانبة الحق ،فدعا اهلل
عليهم فغرقوا فلما قيل له في ذلك ،قال :شهادة البحر خير لهم من شهادة الزور .
ومن الثاني ما حكي عن معروف الكرخي رحمه اهلل ،أنه مر هو وأصحابه على شاطيء الدجلة
فنظروا إلى عصابة من الفساق راكبين في سفينة وهم مشتغلون بالشراب وأنواع اللهو ،فقال
أصحاب معروف له :يا أستاذ ادعو اهلل عليهم فرفع يديه وقال :اللهم كما فرحتهم في الدنيا
ففرحهم في اآلخرة فقال له أصحابه في ذلك فقال :إذا فرحهم في اآلخرة تاب عليه فلم
يلبثوا أن جاءوا إلى الشيخ تائبين.
وهذا الذي فعله معروف أكمل وهو وصف الرحماء من أهل اهلل وخاصته والمكاشفين
بوصف الجمال .
()1/70
والذي ذكره اإلمام مقام شريف في الغيرة هلل ،ويغلب على من مشهده الجالل من الخاصة.
واعلم أن الغيرة قسمان :أحدهما أن يغار اإلنسان لربه إذا هتكت محارمه وضيعت حقوقه
ويسمى الغضب هلل أيضا ،وعنه يكون األمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبغض الظالمين
والدعاء عليهم ،كما وقع ذلك لنوح وموسى عليهما السالم .
والثاني من القسمين :غيرة اإلنسان على شيء يختص به ،ال يقبل الشركة الزوجة ونحوها%
وقد تفرط هذه الغيرة باإلنسان ،حتى يتهم من ليس بمتهم ويكره أن يشاركه غيره في شيء
ال يضيق بالمشاركة ،كالعلم والعبادة والشرف والرفعة وربما يبغض ويحسد من صار له من
هذه األشياء نصيب ،وهذا ليس من الغير المحمودة في شيء .
وأما غيرة اهلل تعالى ،فمعناها أنه يغار سبحانه على عبيده أن يعبدوا غيره وأن يقعوا في معصيته
ومخالفة أمره ،ويغار أيضا عليه أن يشاركوه في صفاته الخاصة الكبرياء والعظمة والعلو
والعزة فإن هذه الصفات وما في معناها ال تليق إال باهلل الملك الحق الجبار ال إله إال هو
العزيز الحكيم .
()1/71
فصل
)14(...وسألت عن شيء يتعلق بالرؤيا من كالم السيد األكمل زين العابدين علي بن عبد
اهلل العيدروس رحمه اهلل ؟
فاعلم أن الرؤيا من أجزاء النبوة ولها عالم يخصها وهي برزخ بين الكشف الباطن واليقظة
الظاهرة .
وأول ما يبدأ بها الولي كما وقع ذلك للرسول عليه الصالة والسالم في أول األمر ولكن ما
كل أحد تقع رؤياه بهذه المثابة وقل أن تصدق رؤيا ألهل التخليط.
وصدق اللسان وسالمة التخيل والتوهم من التخيالت %والتوهمات الفاسدة شرط في صدق
الرؤيا واستقامتها.
وقد يتفق للمخلطين شيء من الرؤيا الصادقة ،ولكن يضيف الشيطان إليها ما يزيد عليها من
األمور الفاسدة ،فيشتبه عند التعبير صحيحها بفاسدها .
ومن كان الشيطان متحكما عليه في يقظته وهو مع ذلك يسمع ويعقل فهو في نومه الذي
تذهب به إدراكاته أشد تحكما فيه.
()1/72
وال يؤثر في الرؤيا شيئا نقص جسم اإلنسان إذا كانت إدراكاته الباطنة سليمة ،نعم إذا غلب
على اإلنسان مرض قوي أو شيء من األخالط الطبيعية خصوصا البلغم والسوداء منها تتخلط
الرؤيا وربما رأى الشيء على خالف ما هو عليه.
وذكر اإلمام الغزالي رحمه اهلل أن الذي يحدث نفسه باألمور المحالية ،ويشغل لسانه بما ال
خير تحته من الكالم وكذا الذي يعتقد األشياء ويراها أو يريها غيره على خالف ما هي به قل
أن تصدق له رؤيا ،فاعلم ذلك وتأمله حقه فإنه نفيس وما توفيقي إال باهلل عليه توكلت وإليه
أنيب.
وهذا آخر ما قصدنا إيراده من جواب أسئلتك وقد تضمن مع وجازته ،ما ال مزيد عليه من
البيان واإليضاح لمن يفهم ويكتفي باإلشارة عن بسط العبارة وخير الكالم ما قل ودل.
وقد عن لنا أن نسعفك بشرح وجيز على أبيات الشيخ أبي بكر بن عبد اهلل العيدروس
باعلوي التي كنت طلبت منا قديما الكالم عليها ،ونجعل ذلك خاتمة الكتاب تيامنا وتبركا
بكالم الشيخ ،نفع اهلل به وبسائر عباد اهلل الصالحين .
()1/73
خاتمة
)15(...تتضمن شرح أبيات بديعة المباني غزيرة المعاني من نظم سيدنا القطب الرباني
أستاذ العارفين وقدوة المحققين %الشيخ أبي بكر بن الشيخ عبد اهلل العيدروس الشريف
الحسيني ،قدس اهلل روحه ونور ضريحه وأعاد علينا من بركاته وأسراره في الدارين .
آمين :
هبت نسيم المواصة ...بال اتصال وال انفصال
بمقتضى مطلع خفي ...وليس للعلم فيه مجال%
ألنه ثمرة اليقين ...ومرتقي رتبة الكمال
عبر الشيخ رضي اهلل عنه بالنسيم ،الذي هو من ألطف الرياح وأرقها عن النفحات %اإللهية
والجذبات الربانية التي يختص اهلل بها أولياءه ويواصل بها أصفياءه ،العاكفين على حضرته
المشغوفين بمحبته المقبلين بكنه الهمم على طاعته المشمرين عن ساق الجد في خدمته،
المتأدبين بين يديه باألداب الروحانية والمعرضين عن كل ما يشغل عنه ويبعد منه ،من اللذات
البهيمية والصفات الشيطانية.
()1/74
وإنما عبر الشيخ عن هذه المواصلة الشريفة بالنسيم صيانة لألسرارعن إبتذال األغيار ،ونعتها
بالتقديس عن االتصال واالنفصال اللذين هما من سمات األجسام الكثيفة وعنها تتنزه مدارك
األرواح واألسرار الشريفة والحق تعالي منزه عن االتصال واالنفصال ،فال جرم كانت
المواصالت %التي يواصل بها خاصته ورجال حضرته كذلك ،فافهم.
والمطلع :هو المرتقى ،وخفاؤه :بعده ودقته عن إدراكات الحواس الظاهرة واألفكار والعقول%
الباطنة .
وليس للعلم المقتنص بشبكة حواس األجسام ،المدرك بآلة الحوافظ واإللهام فيه مجال %يعني
اتساع ،إذ نصيبها منه أن تؤمن وتصدق به فقط فإنه ليس من شأنها وال من مدركاتها ،ألنه
من خاصية الروح ونصيب السر كما قال رضي اهلل عنه ،ألنه ثمرة اليقين.
واليقين عبارة عن تمكن اإليمان من القلب واستيالئه عليه ،على وجه ال يتصور معه التزلزل
والتشكك بحال .
وثمرة اليقين هي الكشف والعيان ،فإن الكشف حال للموقن ،واليقين مقام له وهو أعني
اليقين حال للمؤمن واإليمان مقام له .فللمؤمن خطرات من اليقين ،وللموقن خطرات من
الكشف ،ومرتقى رتبة الكمال هي المكاشفة وهي أول قدم في مقامات %المشاهدة التي هي
الكمال.
()1/75
()1/76
ومن شأن الصادق المستقيم الفطرة ،إذا سمع بذكر هذه المواجيد والمشاهدات الشريفة أن
يشتاق إليها فبشره الشيخ وعرفه الطريق الموصل إليها بقوله :فمن لزم ما أمر به .
والمالزمة هي المداومة والمواظبة على الشيء والذي يؤمر به العبد هو العمل واليقين ،أعني
العمل بالطاعة ولها ظواهر تجري على الجوارح الظاهرة كصورة الصالة والصدقة وما في
معنى ذلك ،وبواطن يتصف بها ظاهر القلب وهي األخالق المحمودة مثل التواضع والزهد
والرضا وأخواتها.
واليقين :هو اإليمان الخالص الصادق كما تقدم ومحله باطن القلب ،وقد جعل اهلل رحمته
للعبد سبيال إلى تحصيل اليقين بمالزمة العبادات والنظر في ملكوت األرض والسموات
وتدبر اآليات المنزالت .
فمن قوي يقينه وتزين باطنه وظاهره بمالزمة العمل الصالح نال القرب من ربه ونزل بحبوح
جنات األنس به واجتنى ثمرات الوصول إلى كريم حضرته.
وثمرات الوصول :هي المفاتحات والمؤانسات والمحادثات والمسامرات الربانية إلى غير
ذلك من مواجيد أهل اهلل وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء من عباده .
()1/77
()1/78
ثم اثنى الشيخ على المتحققين بهذا العلم من أهل اهلل تعالى فقال :رجالها نعم من رجال .فإن
الرجل من قهر نفسه واستولى عليها ونقاها وزكاها من خبائث األخالق وحالها بمكارمها
وقطع عن قلبه عالئق األكوان واستقبل الحضرة اإللهية بوجه الباطن والظاهر فأقام القلب في
مواطن التوحيد والتفريد واقام القالب في مواطن الخدمة هلل تعالى التي هي شأن العبيد وهذا
وصف الصوفي المحقق.
والصوفية :هم الرجال الموصوفون بهذه األوصاف ،الذين لم يخالط يقينهم ريب وال شك
ولم يمازج هديهم الذي هو علومهم وأعمالهم ضالل وال ميل عن الحق وال ركون إلى
الباطل مما لم تقنع الصوفية من إيمانهم ويقينهم بدونه .وألجله كلفوا نفوسهم تلك
الرياضات وحملوها تلك المجاهدات حتى صفت ولطف جوهرها فأدركت ما غاب عنها من
العلوم الغيبية التي تعبدهم الشرع باإليمان بها ،فصارت لذلك علومهم وأعمالهم بعيدة عن
الجهالة سالمة من الضاللة ألنهم أخذوها من موطنها واقتبسوها من معدنها.
وما وصلوا إلى ذلك إال بعد ما تأدبوا بآداب الشرع وعلموا من علوم اإليمان واإلسالم ما ال
بد منه ثم أخذوا في العمل بما علموا وشمروا في ذلك وأقبلوا على مجاهدة %النفوس
وتهذيب أخالقها ،بأنواع الرياضات. %
()1/79
وإلى ذلك أشار الشيخ رضي اهلل عنه بقوله :قد اقتدوا يعني باالقتداء ها هنا أنهم علموا ما ال
بد من علمه وعملوا به.
وإلى الرياضة والتهذيب أشار بقوله :ثم جاهدوا ،فلما أحكموا هذين األصلين العلم والعمل به
وحسن الرياضة للنفوس بفطمها عن مألوفها ومعتادها مع التوجه الصادق إلى اهلل تعالى
تنورت سرائرهم وانفتحت بصائرهم فشاهدوا عالم الملكوت وتحققوا بحقائق الالهوت،
فانتفى المحال حينئذ أعني انتفاء شهوده وأما وجوده فلم يزل منفيا .
والمراد بالمحال هاهنا :ما ال حقيقة له وال استقالل عند النظر إليه من حيث هو .وهذا
وصف الزم لكل ما سوى اهلل تعالى.
ثم قال الشيخ رضي اهلل عنه :
علم اليقين ثم عينه ...بل حقه ما بقي احتمال
فنوا عن الكون جملة ...لما بدا طالع الجالل
وأحياهم بعد موتهم ...بالجمع في مشهد الجمال
أعلم أن علم اليقين يعبر به عن اإليمان الصادق المؤيد بالبراهين الصحيحة %واألدلة الصريحة،
وعين اليقين مرتبة فوقه وهي أن يستغني اإلنسان عن اإلستدالل لظهور الحق له من طريق
العيان أو قريب منه .
()1/80
وأما حق اليقين فهو المرتبة العليا المشار إليها بالكشف المطلق األسنى ،المخصوص به
أكابر األولياء وخواص العارفين األصفياء وفيها رسخت أقدام األنبياء وكمل ورثتهم من
الصديقين .
وأما قوله نفع اهلل به :ما بقي احتمال أي ما بقي للشك موضع ،وال لالرتياب محل .
والفناء عن الكون جملة حال شريف ينازله اهل اهلل وله معان جليلة ودقيقة والمراد هاهنا فناء
شهود اإلنسان لنفسه ولغيره من الكائنات .
واألمر الذي يشنأ عنه هذا الفناء تجلي صفات %الحق الجاللية للقهرية وعند تجليها تنمحق
الرسوم البشرية وتضمحل البقايا الكونية.
فإذا صح الفناء بهذا المعنى تجلى عليهم الحي القيوم باألوصاف الجمالية اللطفية َفتُحيي
أرواحهم وتنتعش أسرارهم وتبقى رسومهم وعوائدهم على ما هي عليه من اإلماتة الحاصلة
باإلفناءالجاللي فيبقيهم ما شاء سبحانه في هذا المشهد الجمالي المعبر عنه بالجمع ،وفيه
تجد أرواحهم من نعيم القرب وروح األنس باهلل شيئا ال يعبر عنه ،وعليه بعد مفارته يتأسف
المحبون وإليه يشتاق المحققون.
()1/81
وإلى ذلك النعيم والروح العظيم ،أشار ابن الفارض رحمه اهلل في قوله :
تلك الليالي التي تعتد من عمري ...مع األحبة كانت كلها عرسا
لم يحل للعين شيء بعد بعدهم ...والقلب منذ أنس التذكار ما أنسا
يا جنه فارقتها النفس مكرهة ...لوال التأسي بدار الخلد مت أسا
وفي كالم الناظم نفع اهلل به وكالم الشيخ السودي وغيرهما من العارفين أرباب اإلشارات
والتمكين إشارات كثيرة إلى ما ذكرناه .
وذلك المقام الذي ينقلهم الحق إليه أعني ينقل إليه منهم من أراد أن ينفع العباد به أكمل
واشرف وهو مقام %البقاء ومنه يرجع العارف إلى الخلق ،فيدعوهم إلى اهلل تعالى ويتخلق لهم
بأخالقهم تكلفا لتقع المناسبة بينهم وبينه فيستجبون له .
وتحقيق ذلك يستدعي بسطا كثيرا وتحته معان دقيقة وأسرار غامضة ال يجوز إيداعها الكتب
مخافة أن يعثر عليها من ليس من أهلها فيدعيها حاال لنفسه ،فيضل عن سواء السبيل.
ثم قال الشيخ رضي اهلل عنه :
حتى صفى ابريز تبرهم……فال يساويه قط مال
فالكون قد صار طوعهم……وال يخالف في االنفعال
()1/82
()1/83
واألكوان أبدا تكون مع مكونها ومن كان هلل كان اهلل له ومن كان له تعالى كانت األكوان
كلها طائعة ومنقادة له.
وفي بعض كتب اهلل المنزلة :ابن آدم أنا اهلل الذي أقول للشيء كن فيكون ،أطعني أجعلك
تقول للشيء كن فيكون .
فأي شيء يشاؤه العارف ويريده ،كان بقدرة اهلل كما أراد ولكنه قد فنيت إرادته ومشيئته
وتدبيره واختياره فال يريد وال يختار إال ما أراد اهلل واختاره فصار بهذا اإلعتبار ،مراده عين
مراد اهلل فافهم ذلك فإنه دقيق .والعارف يؤثر بهمته وتوجهه في أي شيء توجه إليه ،ولكنه
ال يتوجه للشيء إال عن إذن إلهي .
وطاعة األكوان ألولياء اهلل ،أمر معلوم بالتواتر ،وكثيرا ما تتفق وتقع االنفعاالت %بالهمم
والتوجهات للسالكين المشرفين على مراتب الكشف الذين لم يخلصوا إليها بعد ،ويكون في
ما يظهر لهم من ذلك تقوية لهم وتقع أيضا ألهل الفناء وقل أن يشعروا به لذهابهم في اهلل
وعدم شعورهم بشيء من الكائنات.
وأما أهل البقاء القائمون بوظيفة الدعوة إلى اهلل تعالى فيقل وقوعها لهم لسكونهم إلى اهلل
تعالى وطمأنينتهم إلى ما يجري من أحكامه وأقداره فقل أن تنبعث هممهم
()1/84
وتوجهاتهم لشيء من ذلك ،وقد يؤذن لهم في إظهار شيء من الخوارق لتقوية طالب ضعيف
القصد أو رد معاند يكذب بآيات اهلل ويدفع خصوصية اهلل في أوليائه.
ولو توجه العارف إلى جبل ليزول أو بحر ليغور لكان ذلك بقدرة اهلل.
ثم إن العارفين ال يقيمون وزنا لمن يشتهي هذه الكرامات ويطلبها لنفسه %بحظه .ويقولون:
الكرامة االستقامة ،وهي المعبر عنها بحسن المتابعة للرسول صلى اهلل عليه وسلم ظاهرا
وباطنا .
وال يصل أحد إلى شيء من هذه الخوارق حتى تصير نفسه في غاية من اللطافة بواسطة
الرياضة ويتحقق بكتمان األسرار ويتعرى عن الحظوظ النفسانية.
ومن حصل له شيء منها قبل إحكام هذه األمور كانت فتنة عليه إال إن عصمه اهلل وحفظه
وهذا الذي وصل إليه أولياء اهلل من التحرز عن رق األكوان والخروج عن عوارض األجسام
و اإلنقطاع إلى اهلل واإلقبال عليه بترك ما يشغل عنه ويقطع عن حضرته كائنا ماكان ،فهذا
هو الملك الحقيقي الذي يغبط صاحبه ،وال يحتاج في إقامته وحفظه إلى الرجال واألموال
والتدبيرات واالشغال الصافي عن مزاحمة اإلغيار السالم من منازعة األشرار البعيد عن
األنكاد والمتاعب واألكدار ،المنزه عن اإلنقطاع واإلنعزال والزوال واإلنحالل ،فإن هذه
عوارض
()1/85
()1/86
على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهي رحمة من اهلل مصحوبة بتعظيم يليق بالمنصب
النبوي الكريم.
وفي ختمها بالحث على الصالة على النبي صلى اهلل عليه وسلم ،تنبيه وإعالم وتنويه بأن كل
ما حصل للشيخ ولغيره من العارفين ،نتيجة لحسن اإلقتفاء وميرات لكمال اإلتباع للرسول
صلى اهلل عليه وسلم مهذب القول والفعال .
فقوله صلى اهلل عليه وسلم ،الصدق الفصل المنزه عن كل ما يخالط أقوال اآلدميين من
كذب وغيره .قال اهلل تعالى (( وما ينطق عن الهوى إن هو إال وحي يوحى ))
وأفعاله صلى اهلل عليه وسلم ،منزهة ومهذبة عن كل نقص يعرض ألفعال اإلنسان ،ألنه قد أيد
بالعصمة واختص بالوحي اإللهي فهو إنما يقول ويفعل عن األمر الرباني .
فطوبى لمن اقتدى به واهتدى بهديه وعمل بسنته والويل كل الويل لمن حاد عن متابعته
وتثاقل عن إجابة دعوته وعمل بخالف هديه وسنته.
وصحبه :هم الذين صحبوه في حياته وآمنوا به وهاجروا إليه ونصروا دينه وحاهدوا معه
وبلغوا عنه ما سمعوه ورأوه من أقواله وأفعاله.
فإلجتماع هذه المزايا والفضائل لهم ،التي لم يشاركهم فيها غيرهم كانوا سادات الورى
وأئمة الهدى.
()1/87
وآله :هم أقاربه الجامعون بين النسبة الطينية والدينية ،فهم أولى الناس به وأحب الناس إليه
وقد فرض اهلل على األمة حبهم ومودتهم وأكرمهم بالتطهير عن الرجس فهم لذلك خير آل
ألنهم آل من هو خير الخلق وأشرفهم صلى اهلل عليه وآله وسلم.
وال يكمل لهم هذا الشرف وال يتم لهم بدون المتابعة منهم لسيدهم الذي شرفهم اهلل به
ألنهم أولى الناس بها وأحق الناس بالتزامها.
ومن لم يحرص عليها منهم ولم يبذل وسعه وطاقته فيها .فاللوم والشؤم الالحق بالمعرضين
عن متابعة المصطفى ألزم لهم ،ونصيبهم منه أوفر من نصيب غيرهم.
كما أن الشرف والفضل الحاصل لمن أحسن المتابعة ،يكون للمحسنين فيها من أهل البيت
النبوي أجله وأكمله وأعاله وأفضله.
اللهم ارزقنا كمال المتابعة لرسولك صلى اهلل عليه وسلم ،في أخالقه وأفعاله وأقواله وأعنا
على ذلك واهدنا إليه وارزقنا اإلخالص والصدق فيه ،واحيينا وامتنا عليه حتى تجمعنا بنبيك
في دار كرامتك وأنت راض عنا في خير وعافية ،يا أرحم الراحمين .
وهذا آخر ما تيسر ايراده ،من الكالم على أبيات سيدي الشيخ .
()1/88
ولست أقوال وال أدعي أن هذا الذي ذكرته هو مراد الشيخ بعينه ولكنه شيء فهمته من
كالمه وهو من الحق .فإن وافق ما عناه الشيخ ،فلله الحمد وإال فهو شيء من الصواب
ينتفع به إن شاء اهلل من وقف عليه من األحباب واألصحاب .
ثم إني اعترف عن علم ويقين ،ال عن ظن وتخمين بإفالسي وخلوي عن حقائق أهل اهلل وعن
مواجيدهم وطرائقهم الحميدة.
نعم أعرف من نفسي حبهم والمواالة لهم ،والميل إلى التشبه بهم والتكثير لسوادهم مع
حسن الظن والتصديق بكل ما فتح اهلل عليهم به من المكاشفات والمشاهدات .
وارجو من اهلل ن يلحقني بهم ويجعل لي بفضله نصيبا مما خصهم به من معرفته ومحبته .وقد
ورد " ،المرء مع من أحب " و " من تشبه بقوم فهو منهم" و "من كثر سواد قوم فهو منهم
".
ومع ذلك فقد اندرست طريق هذه الطائفة وعفت رسومها وانطمست معالمها وعز وجود
الصادقين فيها ،بل عز وجود من يطلبها بصدق وصار الكالم فيها معدودا عند الناس من
البالغة والفصاحة ،فال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم .
()1/89
وما أحسن قول الشيخ أبي مدين رحمه اهلل في قصيدته التي أولها:
ما لذة العيش إال صحبة الفقراء
مشيراً إلى جملة ما ذكرناه في شأن اإلعتذار واإلعتراف واإلخبار باندراس الطريق ،حيث
يقول :
واعلم بأن طريق القوم دراسة ...وحال من يدعيها اليوم كيف ترا
متى أراهم وأنَّى لي برؤيتهم ...أو تسمع األذن مني عنهم خبرا
موارد لم ِ
ألف بها كدرا َ من لي وأنَّى لمثلي أن يزاحمهم ...على
أحبُّهم وأداريهم وأوثرهم ...بمهجتي وخصوصاً منهم نفرا
قوم كرام السجايا حيث ما جلسوا ...يبقى المكان على آثارهم عطرا
يهدي التصوف من أخالقهم طرفاً ...حسن التآلف منهم راقني نظرا
العز مفتخرا
هم ...ممن يجر ذيول ِّ
هم أهل ودِّي وأحبابي الذين ُ
ومغتفرا
الزال شملي بهم في اهلل مجتمعاً ...وذنبنُا فيه مغفوراً ُ
المسمى :باتحاف السائل بجواب المسائل جعله اهلل خالصاً لوجهه الكريم ومقربا
َّ تم الكتاب
إلى رحمته ورضوانه وغفر لنا كل ما وقع فيه مما يخالف الحق أو يميل إلى الباطل أو يوافق
الهوى أو داخلنا فيه من رياء وتصنع للخلق .وغفر لمن كان السبب في تأليفه ولقارئه وكاتبه
ومستكتبه وسامعه %ولوالدينا وأحبابنا وجميع المسلمين ،والحمد هلل.
اللهم ما بنا من نعمة في بواطننا وظواهرنا وديننا ودنيانا،
()1/90
فإنا نعلم ونوقن أنها منك وحدك ال شريك لك فلك الحمد ولك الشكر على ذلك ،عائذين
بوجهك الكريم من سلب النعم وحلول النقم ،سائلين من فضلك أن تعاملنا بمقتضى الجود
والكرم ،وإن لم نكن أهال لذلك فأنك أنت أهله.
رب اغفر وارحم وانت خير الراحمين وسالم على المرسلين والحمد هلل رب العالمين .
وكان الفراغ من إمالئه أول يوم الجمعة خامس عشر المحرم ،أول شهور سنة 1072اثنتين
وسبعين وألف من الهجرة النبوية ،على صاحبها أفضل الصالة والسالم.
وصلى اهلل على سيدنا محمد وآله وصحبه ،وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
والحمد هلل رب العالمين .
***
()1/91
()1/92
الفهرس
_____
()1/93