Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 11

‫اﻷدب المقارن وفروع اﻷدب اﻷخرى‪:‬‬

‫ﻻ يمكن لﻸدب المقارن أن ينفصل عن فروع المعرفة اﻷخرى‪ ،‬بل هو يمد عﻼقات متينة مع كل ما‬
‫يحتاجه اﻹنسان من ثقافة‪ ،‬وما يدخل ضمن إطارها‪ ،‬كالفلسفة والفنون والدّين‪ ،‬كما يتصل بالعلوم ليفيد من‬
‫مناهجها ونتائجها‪ ،‬ولكن ليس على حساب أهدافه ومناهجه‪ ،‬بل ليتمكن بشكل أشمل وأدق‪ ،‬من جﻼء‬
‫عمليات اﻹبداع‪ ،‬وهي عملية مركبة ومعقدة‪ ،‬من الصعب تفكيك أنماطها ومساربها وتحوﻻتها‪ .‬فكل دراسة‬
‫مقارنة إذن ﻻبد من أن تقوم على أساس هذه الرؤية‪ ،‬ﻷن مهمة اﻷدب المقارن تكمن في استكشاف بذور‬
‫اﻷفكار ومآلها وكيفية نموها وطريقة انفتاحها على نمط دون آخر‪ ،‬تبعا لعوامل معينة واضحة اﻷصول‪.‬‬
‫‪1‬ـ تاريخ اﻷدب والنقد اﻷدبي ونظرية اﻷدب‪:‬‬

‫يفيد اﻷدب المقارن من التاريخ اﻷدبي الذي يشمل تاريخ المدارس واﻷنواع اﻷدبية وما يتصل بها‬
‫من تيارات وحركات‪ ،‬تبين الخط المشترك لتطور مختلف اﻵداب القومية‪ ،‬غير أنه ﻻ يملك أن يكشف عن‬
‫مواطن اﻷصالة عند المبدع‪ ،‬لذا كان التاريخ اﻷدبي غير كاف وحده‪ ،‬وتحددت ضرورته بالتمهيد للدراسة‬
‫اﻷدبية المقارنة‪ ،‬التي ﻻ تستغني عن النقد اﻷدبي الذي يدرس اﻷدب من الداخل‪ ،‬غير أن عمل النقد اﻷدبي‬
‫أيضا محدود بالنص اﻷدبي فقط‪ ،‬في حين أن اﻷدب المقارن يعتمد النص منطلقا لدراسة أصالة اﻷمة‪،‬‬
‫فيقف على التحوﻻت والتغيرات التي طرأت على هذه اﻷصالة نتيجة تفاعلها مع أصالة أدب آخر‪ ،‬وهذا ما‬
‫يقربه من الدراسات التي تُعنى بالتنظير لمفاهيم اﻷدب من خﻼل نظرية اﻷدب التي تتناول الكليات اﻷدبية‬
‫بدءا بالسؤال الجوهري الذي بات تقليديا‪ :‬ما اﻷدب؟ الذي تتفرع عنه أسئلة نوعية أخرى مثل ما‬
‫المسرحية؟ وما القصة؟ وما الرومانسية؟ وهي مثال عن اﻷسئلة التي تشغل الباحث المقارن أيضا‪.‬‬

‫‪2‬ـ الشعرية المقارنة‪:‬‬

‫يعود المصطلح إلى الناقد المقارن رونيه إيتامبل الذي فاجأ جيله عندما أعلن أن اﻷدب المقارن‬
‫يؤدي إلى شاعرية المقارنة؛ أي إلى إيضاح الجوهر البنائي ﻷي عمل أدبي‪ ،‬حيث ينطوي على أنساق‬
‫أساسية ينبغي أن يكون الكشف عن هذه اﻷنساق مطمح عالم اﻷدب المقارن‪.‬‬

‫على الرغم من انتماء رونيه إيتامبل إلى المدرسة الفرنسية‪ ،‬إﻻ أنه وجه لها جملة من اﻻنتقادات‬
‫كانت كفيلة بإخراجها من صرامة المنهج‪ ،‬أهمها تلك الصادرة في كتابه ) ‪La Comparaison n’est‬‬
‫‪ (pas raison‬محطما بعنوانه هذا اﻻعتقاد في تقديس اﻷداة‪ ،‬كما مثل كتابه هذا ردة فعل على أزمة‬
‫اﻷدب المقارن التي أعلن عنها رونيه ويليك‪ ،‬ليترجم الكتاب إلى اﻹنجليزية حامﻼ عنوان مقالة ويليك‪،‬‬
‫رغم أنه رد فعل على افتعال اﻷزمة أكثر منه مناقشة لها‪ .‬دعا رونيه إيتامبل أيضا إلى مراجعة مفهوم‬

‫‪1‬‬
‫اﻷدب العالمي‪ ،‬لدرايته بهذا الحقل‪ ،‬فهو ورغم كونه مختصا في الدراسات اليابانية إﻻ أن موسوعيته وتعدد‬
‫نشاطاته وغزارة إنتاجه‪ ،‬جعلته يحتل الصدارة في ميدان الدراسات المقارنة‪.‬‬

‫‪3‬ـ الفنون الجميلة )العﻼقات المتبادلة بين الفكر الفني والفكر اﻷدبي(‪:‬‬
‫يُفهم اﻷدب فهما سليما عندما يدرس من خﻼل عﻼقاته بباقي الفنون‪ ،‬وهذا ﻻ يعني أن كل الفنون‬
‫تظهر لدى أمة بالدرجة نفسها في زمن معين‪ ،‬بل يبقى ذلك مرتبطا بنوع العﻼقة الخاصة التي تقيمها هذه‬
‫اﻷمة مع أدوات بعض الفنون دون غيرها؛ ﻷن روح اﻷمة ﻻ تتجزأ في ميدان واحد دون غيره من‬
‫الميادين‪ ،‬واﻷكيد أنها تتغير وتتمايز من حقبة زمنية إلى أخرى‪ ،‬ومهمة المقارن أن يقف على هذه‬
‫التغيرات والتمايزات لينطلق من ثمة إلى دراسة تفاعلها مع ما يرصده لدى أمة أخرى‪.‬‬
‫لم يعر النقد اﻷدبي العربي هذا الموضوع كبير شأن‪ ،‬غير أن عبد القاهر الجرجاني لحظ وحدة‬
‫القدرة على التأثير في النفوس بين الشعر والرسم‪ ،‬والفرابي كذلك شبه الشعر بالرسم )صناعة التزويق(‪،‬‬
‫ولم يجد من اختﻼف بينهما إﻻ في مادة الصناعة‪ ،‬وكان للجاﺣﻆ أن يلحظ أيضا عﻼقة الشعر بالرسم ولكن‬
‫من غير أن يعكس ذلك نظرية متماسكة عنده‪ ،‬فقال‪" :‬إنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من‬
‫التصوير"‬
‫يعد هذا النوع من الدراسات‪ ،‬بحثا ذا فائدة ضئيلة‪ ،‬خاصة إن نحن قارناه بباقي مجاﻻت البحث في‬
‫اﻷدب المقارن‪ ،‬ومع ذلك ﻻ يمكن إنكار تأثير الفنون في اﻷدباء‪ ،‬فلوحة بيجماليون بمتحف اللوفر مثﻼ‬
‫ألهمت توفيق الحكيم كتابة مسرحيته التي تحمل العنوان ذاته‪ ،‬وقصور غرناطة ألهمت نزار قباني في‬
‫قصيدة )غرناطة(‪ ،‬كما أن بعض المذاهب اﻷدبية ظهرت أوﻻ في مجال الفنون الجميلة قبل أن يتأثر بها‬
‫اﻷدباء‪ ،‬وبعض اﻷدباء استفادوا من تقنيات الرسم‪ ،‬كالتأطير ‪ ،‬وتقنيات السينما باللقطات القريبة والبعيدة‬
‫وحتى من الموسيقى في تشييد نصوصهم‪ ،‬بل إننا نجد من النصوص من تكون بؤرة الحكي فيه عمﻼ فنيا‬
‫كلوحة العشاء اﻷخير في رواية )شيفرة دافنشي(‪ .‬وغير ذلك من الصﻼت التي تربط مابين اﻷدب‬
‫ومختلف الفنون‪.‬‬
‫ـ الحضور الموسيقي في اﻷعمال اﻷدبية وانعكاساته على الدراسات اﻷدبية المقارنة‪:‬‬
‫تاريخ اﻷدب غني بعدة مظاهر تعكس تداخل اﻷدب والفنون اﻷخرى في عدة أوجه‪ ،‬مثل محاوﻻت‬
‫الرومانسيين بلوغ التأثير الموسيقي في القصيدة من خﻼل العمل على ضغط البنية المعنوية للشعر‪ ،‬وتجنب‬
‫التأليف المنطقي‪ ،‬والتشديد على أهمية المغزى بدﻻ من الدﻻلة‪ ،‬أو محاكاة البنى الموسيقية كتكرار الﻼزمة‬
‫أو السوناتا أو الشكل السمفوني‪ ،‬لتتم المطابقة بين معنى الكلمة وصوتها‪.‬‬
‫ومهمة اﻷدب المقارن هنا هي مقارنة الفنون على أساس خلفياتها الثقافية المشتركة وليس تناولها من‬
‫خﻼل نظريات الفن واﻷدب‪ ،‬ولكن رونيه ويلك يطرح مشكلة أساسية ﻻ نملك حتى اﻵن أدوات الحلول لها‬

‫‪2‬‬
‫وهي‪ :‬ما هي عناصر الفن المشتركة والقابلة للمقارنة؟ وذلك رغم ما يذكره تيودور ميرغين من عناصر‬
‫قابلة للمقارنة في الفنون مثل اﻹيقاع‪.‬‬
‫‪4‬ـ اﻷدب العام واﻷدب المقارن‪:‬‬
‫يدرس اﻷدب المقارن في مفهومه الدقيق ـ غالبا ـ العﻼقات الثنائية بين أدبين قوميين‪ ،‬سواء كانت‬
‫العﻼقة نوعا أدبيا‪ ،‬من قصة أو رواية أو مسرحية‪ ،‬أو كانت مذهبا أدبيا كالرومانسية والواقعية‪ ،‬أو كتابا‬
‫تجاوز حدود زمانه ومكانه‪ ،‬أو أديبا ترك من اﻷثر الشيء الكثير عند بني قومه وعند غيرهم‪ ،‬وسواء‬
‫اتصلت هذه العﻼقة بمادة اﻷثر الفني أم بصورته‪.‬‬
‫غير أن هذه الدراسات وهي تعكف على تتبع الجزئيات‪ ،‬تعجز عن إدراك الظواهر اﻷدبية العالمية‬
‫الكبرى وفهمها‪ ،‬ورغم أنها تخدم اﻷدب القومي إﻻ أن إسهامها منفصلة في خلق أدب عالمي‪ ،‬محدود‪،‬‬
‫ومن هنا تقدّم الباحثون خطوة فانتهوا إلى فرع من الدراسة المقارنة‪ ،‬يأتي بعد اﻷدب المقارن ويكمله‪،‬‬
‫ويمهد لﻸدب العالمي وهو اﻷدب العام‪.‬‬
‫يضطلع اﻷدب العام بدراسة نوع من الوقائع في عدة آداب جملة واحدة‪ ،‬ويجعل من مجاله تحليل‬
‫المشكﻼت التاريخية واﻹيديولوجية للحركات اﻷدبية‪ ،‬أو دراسة الحركات اﻷدبية المختلفة مثل‪ :‬الطبيعية‬
‫والرمزية‪ ،‬أو ما يدعى باﻷشكال المشتركة في الفن واﻷسلوب مثل المأساة الكﻼسيكية ورواية تصوير‬
‫العادات‪ ،‬وهي موضوعات جانب منها ذو طابع أدبي واﻵخر تاريخي إيديولوجي‪.‬‬
‫إن مصطلح اﻷدب العام على غموضه وما يثيره من التباس‪ ،‬لم يهتد الباحثون إلى تسمية أدق منه‪،‬‬
‫يقربه إلى الذهن قلنا‪ :‬إن "دراسة دور العقاد في تطور مفهوم الشعر في‬
‫وإذا أردنا أن نضرب له مثﻼ ّ‬
‫العربي الحديث" من اﻷدب القومي‪ ،‬ودراسة "تأثير غي دي موباسان في محمود تيمور" من اﻷدب‬
‫المقارن‪ ،‬أما دراسة "الواقعية عند شعوب البحر اﻷبيض المتوسط " فهي من اﻷدب العام‪.‬‬
‫يترك اﻷدب العام لﻶداب القومية كل ما هو ما ليس له صدى خارج حدوده‪ ،‬وما هو ذو طابع‬
‫فردي‪ ،‬ولكنه في الوقت نفسه يفيد من الوقائع التي تجلوها اﻵداب القومية وتكشفها‪ ،‬كما يترك اﻷدب العام‬
‫لﻸدب المقارن دراسة ما بين اﻵداب من عﻼقات والبحث في المصادر والترجمات وانتشار المؤلفات‬
‫ودور الوسطاء‪ ،‬ولكنه ينتفع في الوقت نفسه بالنتائج التي ينتهي إليها المقارن‪ ،‬ﻷن المبادﻻت الفكرية‬
‫والفنية والتأثيرات واﻻستجابة لها وردود الفعل ضدها‪ ،‬وقائع ذات أهمية‪ ،‬والمقارن وحده يخرجها من‬
‫عزلتها ويقربها من وقائع أخرى شبيهة بها أو يمزجها بعضها في بعض‪ ،‬ليخرج من ذلك كله بنتيجة‬
‫شاملة‪.‬‬
‫غير أن بعضا من الباحثين يرى أن اﻷدب المقارن إذا توسعنا في مفهومه يشمل اﻷدب العام أيضا‪،‬‬
‫ويرى الناقد رونيه ويلك أن من المحال رسم خط فاصل واضح بين اﻷدب المقارن واﻷدب العام‪ ،‬بين‬
‫تأثير ولتر سكوت في فرنسا وبين نشأة الرواية التاريخية في أوروبا‪ ،‬فالفصل بينهما مصطنع‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪5‬ـ اﻷدب المقارن بين العالمية وعالمية اﻷدب‪:‬‬
‫يرجع الفضل في صياغة مفهوم اﻷدب العالمي إلى اﻷديب اﻷلماني يوهان فولفغانغ فون غوته‬
‫)‪1749) (Johan Wolfgang on Goethe‬ـ‪ ،(1832‬الذي صاغ هذا المفهوم وب ّ‬
‫شر به في اﻷعوام‬
‫أن عصر اﻵداب القومية قد ولّى‪ّ ،‬‬
‫وأن عصر أدب‬ ‫اﻷخيرة من حياته‪ ،‬ففي رسائله وأحاديثه رأى غوته ّ‬
‫جديد قد بدأ‪ ،‬وهو عصر اﻷدب العالمي‪ .‬عندما صاغ غوته هذا المفهوم الجريء انطلق من ّ‬
‫أن الثورة‬
‫تطور في وسائل النقل واﻻتصال والطباعة والنشر‪ ،‬ومن نمو في المبادﻻت‬
‫الصناعية‪ ،‬وما رافقها من ّ‬
‫ّ‬
‫تخطي‬ ‫التجارية بين الشعوب‪ ،‬ستكون لها بالضرورة مترتبات ثقافية وأدبية‪ ،‬وستؤدي بالضرورة إلى‬
‫الحدود القوميّة الضيقة للّغات واﻵداب‪.‬‬
‫من الطبيعي أﻻ يتمكن غوته في ذلك الوقت من أن يطرح تصورا ً دقيقا ً ومتكامﻼً لﻸدب العالمي‬
‫أن ذلك المفهوم صحيح من حيث المبدأ‪ .‬وانطﻼقا ً من رؤيته المستقبلية‬ ‫أن ّ‬
‫الزمن قد أثبت ّ‬ ‫شر به‪ ،‬إﻻّ ّ‬
‫الذي ب ّ‬
‫هذه دعا غوته اﻷدباء عموماً‪ ،‬واﻷدباء اﻷلمان على وجه الخصوص‪ ،‬ﻷن يعوا حقائق العصر‪ ،‬وأن‬
‫يستخلصوا ما يترتب عليها بالنسبة ﻹبداعاتهم اﻷدبية‪ .‬وتتلخص تلك المترتبات في أن يكتبوا وفي أذهانهم‬
‫ي شكﻼً وموضوعا ً‪ ،‬بحيث‬ ‫تلك المنافسة اﻷدبية العالمية‪ ،‬التي ﻻ يصمد فيها إﻻّ من ّ‬
‫يطور إبداعه اﻷدب ّ‬
‫ي‪ّ .‬‬
‫إن المنافسة التي سيتعرض لها اﻷدب الوطني من جانب اﻵداب اﻷجنبية‬ ‫يرتقي إلى المستوى العالم ّ‬
‫ي سيوفّر لﻸعمال اﻷدبية فرصا ً لم تكن‬ ‫ّ‬
‫ولكن عصر اﻷدب العالم ّ‬ ‫ستجعل ذلك اﻷدب في وضع حرج‪،‬‬
‫ي‪.‬‬
‫موجودة في الماضي‪ ،‬من حيث انتشارها خارج مجتمعاتها ولغاتها على الصعيد العالم ّ‬
‫ي في حينه على محمل الجدّ من قبل معاصريه‪ ،‬رغم ما كانوا‬
‫لم يؤخذ حديث غوته عن اﻷدب العالم ّ‬
‫ي كان من الناحية‬ ‫شر فيه غوته باﻷدب العالم ّ‬ ‫يكنّونه لهذا اﻷديب من إجﻼل وتقدير‪ .‬فالعصر الذي ب ّ‬
‫ي واستشرفه‬‫شر باﻷدب العالم ّ‬‫إن عبقرية غوته تكمن في أنه ب ّ‬
‫سياسية عصر حروب وتمسك بالقومية‪ّ ،‬‬ ‫ال ّ‬
‫في ذلك الوقت بالذ ّات‪ ،‬وفي أنّه لم يسمح للنزعة القومية اﻻنعزالية المقيتة التي ع ّمت بﻼده بأن تحجب عن‬
‫نظره الثاقب مﻼمح عصر جديد ﻻح في اﻷفق‪ ،‬وإن يكن لم يتضح بعد‪.‬‬

‫أـ موقف المدرسة التاريخية‪:‬‬


‫في الوقت الذي بلور فيه غوته مفهوم اﻷدب العالمي كان عالم اﻷدب الفرنسي آبل فيلمان يلقي‬
‫محاضراته حول عﻼقة اﻷدب الفرنسي باﻵداب اﻷوربية اﻷخرى‪ ،‬مدشنا ً بذلك نوعا ً جديدا ً من الدراسات‬
‫اﻷدبية أصبح يعرف باﻷدب المقارن‪ .‬لقد انطوى هذا النوع من الدراسات على استقصاء تفاعل تلك اﻵداب‬
‫ي إمكانية لتجاوز اﻵداب القومية‬ ‫فيما بينها وتأثر بعضها بالبعض اﻵخر‪ .‬إﻻّ ّ‬
‫أن اﻷدب المقارن لم ير أ ّ‬
‫أن اﻵداب القومية معطيات ثابتة ﻻ مجال لتجاوزها‪ ،‬وسعى‬ ‫وصوﻻً إلى )أدب عالمي(‪ ،‬بل انطلق من ّ‬
‫ﻻستكمال تاريخ ك ّل من تلك اﻵداب عبر دراسة عﻼقته باﻵداب اﻷخرى‪ ،‬أي ما أخذه منها وما أعطاها من‬

‫‪4‬‬
‫مؤثرات‪ .‬وقد مثّل ذلك تقدما ً علميا ً هاماً‪ ،‬وتوسيعا ً لﻸفق بالمقارنة مع الدراسات التي كانت تدرس ك ّل أدب‬
‫ي اهتمام لعﻼقته باﻵداب اﻷخرى وتفاعله معها‪ .‬إﻻّ ّ‬
‫أن اﻷدب المقارن‬ ‫داخل حدوده اللغوية فقط‪ ،‬وﻻ تعير أ ّ‬
‫سك ّ‬
‫بأن اﻵداب القومية هي اﻷساس‪ ،‬ووهب نفسه ﻻستكمال تاريخها‪.‬‬ ‫تم ّ‬
‫ي الذي تحد ّث عنه غوته كبير اهتمام‪ ،‬وأﻻ‬
‫من الطبيعي أﻻ يعير أدب مقارن ذاك شأنه اﻷدب العالم ّ‬
‫ي فائدة لذلك المفهوم‪ .‬فما يشغله هو استكمال تاريخ اﻵداب القومية عبر دراسة عﻼقات التأثير‬
‫يرى أ ّ‬
‫والتأثر الفعلية الموثقة التي نشأت بين تلك اﻵداب‪ّ .‬‬
‫إن المقارنين الفرنسيين الذين أسسوا اﻷدب المقارن‪،‬‬
‫ومن سار على نهجهم‪ ،‬لم يكونوا مستعدين للتعامل مع أية مسألة أدبية من منظور فوق ‪ -‬قومي‪ ،‬إﻻّ إذا كان‬
‫لتلك المسألة عﻼقة بظاهرة التأثير والتأثر‪ ،‬وكانت دراستها مجدية من الناحية التاريخية‪ .‬إﻻّ ّ‬
‫أن لمساعي‬
‫ممثلي اﻻتجاه التاريخي في اﻷدب المقارن جانبا ً يعني المهتم بمسألة عالمية اﻷدب‪ ،‬هو دراسة نجاح‬
‫الكتّاب وتأثيرهم في بﻼد أجنبية‪ .‬فهذا النوع من التأثير يتطابق مع ما نسميه اليوم استقبال اﻷعمال اﻷدبية‬
‫خارج حدود آدابها القومية‪ .‬لقد تناول ممثلو المدرسة التاريخية في اﻷدب المقارن هذه الظاهرة بالبحث‪،‬‬
‫سبل التي يتحقق عبرها ذلك النوع من التأثير الذي يتم بعضه من خﻼل الترجمة‪ ،‬ويتم البعض‬
‫ودرسوا ال ّ‬
‫صل المقارنون إلى معلومات قيّمة فيما يتعلق بدور الوسطاء اﻷدبيين‪ ،‬من‬
‫اﻵخر من دون وسطاء‪ .‬وقد تو ّ‬
‫مترجمين ونقاد‪ ،‬في نشوء هذا النوع من العالمية‪ .‬صحيح أننا أصبحنا اليوم ننظر إلى ظاهرة التأثير اﻷدبي‬
‫بصورة مختلفة عن الصورة التي نظر بها ممثلو اﻷدب المقارن التاريخي إلى تلك الظاهرة‪ ،‬ولكن ذلك ﻻ‬
‫يلغي حقيقة أن تأثر أدب قومي باﻵداب اﻷجنبية وتأثيره فيها هما مسألة وثيقة اﻻرتباط بعالمية اﻷدب‪،‬‬
‫مكونين هامين من مكونات تلك العالمية‪.‬‬
‫فالترجمات اﻷدبية والكتابات النقدية حول اﻵداب اﻷجنبية تشكل ّ‬

‫ب ـ موقف المدرسة الماركسية‪:‬‬


‫بعد مرور عقدين على طرح مفهوم اﻷدب العالمي من قبل غوته قام مثقفان ألمانيان هما كارل‬
‫ماركس وإنجلز بنشر وثيقة سياسية اجتماعية ثقافية شاملة أطلقا عليها تسمية "البيان الشيوعي"‪ ،‬وب ّ‬
‫شرا‬
‫بأن أدبا ً عالميا ً سيحل مكان اﻵداب القومية‪ .‬فوجود هذه اﻵداب مرتبط بوجود المجتمعات الرأسمالية‬
‫فيها ّ‬
‫البورجوازية ذات الدول والثقافات واﻵداب القومية‪ .‬أ ّما المجتمع الجديد الذي دعا إليه ماركس وانجلز فهو‬
‫مجتمع تسيطر عليه الطبقة المثقفة‪ ،‬وهي طبقة أممية أو عالمية‪ ،‬ولذا ّ‬
‫فإن اﻷدب سيكون في ظل سيطرتها‬
‫أدبا ً عالميا ً أو أمميا ً‪ .‬إﻻّ أن ماركس وانجلز كانا غير قادرين على تحديد أ ّ‬
‫ي سمات جمالية أو فكرية لذلك‬
‫اﻷدب العالمي‪.‬‬
‫في مرحلة ﻻحقة تبلورت نظرية أدب ماركسية‪ ،‬وظهر في اﻷدب المقارن اتجاه يستند إلى تلك‬
‫النظرية‪ .‬إن أبرز أعﻼم ذلك اﻻتجاه هو المقارن الروسي فيكتور جيرمونسكي الذي أنجز دراسات مه ّمة‬
‫حول التشابهات النمطية أو التيبولوجية بين اﻵداب‪ .‬نظر اﻷدب المقارن الماركسي إلى اﻷدب من منظور‬

‫‪5‬‬
‫أممي؛ أي عالمي‪ ،‬دون أن ينكر خصوصية كل أدب من اﻵداب القومية‪ .‬إﻻّ أنه رأى أن اﻵداب ّ‬
‫تمر‬
‫بمراحل التطور نفسها‪ ،‬وذلك تبعا ً لتطور البنى اﻻقتصادية واﻻجتماعية )البنى التحتية( التي تعكسها‪ .‬ومع‬
‫أن مقولته الرئيسة هذه ﻻ تساعد كثيرا ً في‬
‫اﻹقرار بأهمية المنطلق العالمي لﻸدب المقارن الماركسي‪ ،‬إﻻ ّ‬
‫فهم إشكالية عالمية اﻷدب والبنى المتناقضة للعﻼقات اﻷدبية الدولية‪ .‬فتركيزه على دور البناء التحتي يقلل‬
‫من قدرتنا على تفسير ظاهرة ازدهار آداب مجتمعات متأخرة‪ ،‬كآداب أمريكا الجنوبية‪ ،‬التي تمكنت من‬
‫احتﻼل موقع متميز على خريطة اﻷدب العالمي المعاصر‪ ،‬رغم تخلف مستويات التطور اﻻقتصادي‬
‫واﻻجتماعي للمجتمعات التي تعكسها‪.‬‬

‫ج ـ موقف المدرسة النقديّة‪:‬‬


‫تشترك المدرسة النقدية اﻷمريكية‪ ،‬في اﻷدب المقارن مع المدرسة الماركسية في أنها ﻻ تولي ظواهر‬
‫التأثير والتأثر كبير اهتمام‪ ،‬بل تدعو لدراسة اﻷدب دراسة نقدية دون التقيد بالحدود اللغوية والثقافية‬
‫لﻶداب‪ ،‬وهي تنطلق في ذلك من حقيقة أن الظواهر اﻷدبية الكبرى‪ ،‬كاﻷجناس والتيارات اﻷدبية‪ ،‬ﻻ‬
‫تنحصر في أدب قومي واحد‪ ،‬بل تتعداه إلى آداب مختلفة‪ ،‬وقد تكون عالمية اﻻمتداد‪ .‬ومع ّ‬
‫أن لهذا التو ّجه‬
‫يسوغه‪ ،‬فإنه ينطوي على إشكالية تتمثل في‬
‫الذي يراعي البعدين الجمالي وفوق القومي للظواهر اﻷدبية ما ّ‬
‫أنه يقفز من فوق الطابع القومي لﻶداب‪ ،‬وهذا يحمل في طياته خطر القفز من فوق التناقضات السائدة في‬
‫العﻼقات اﻷدبية الدولية‪ .‬فهو بذلك يمكن أن يخدم‪ ،‬وإن بصورة غير مقصودة‪ ،‬سعي بعض المجتمعات‬
‫لبسط سيطرتها الثقافية واﻷدبية على العالم‪ ،‬مستفيدة في ذلك من عالمية لغاتها‪ ،‬ومن قوتها اﻻقتصادية‬
‫والتكنولوجية والعلميّة‪.‬‬
‫ي‪ ،‬فإنها لم‬
‫ولئن كانت المدرسة النقدية أو اﻷمريكية في اﻷدب المقارن قد حددت مفهوم اﻷدب العالم ّ‬
‫ي الذي تبنته هذه المدرسة‪.‬‬
‫تتحرر من المركزية اﻷوروبية‪ -‬اﻷمريكية التي صبغت مفهوم اﻷدب العالم ّ‬
‫فالمشكلة ﻻ تكمن في ترسيم الحدود بين المفهومات‪ ،‬بقدر ما تكمن في صياغة مفهوم أدب عالمي يكون‬
‫عالميا ً بالفعل‪ ،‬وليس ستارا ً تمارس خلفه مركزية أوروبية وغربية بعيدة كل البعد عن العالمية الحقة‪.‬‬
‫ي‪ ،‬إذا ما أريد له أن يكتسب مصداقية‪ ،‬يجب أن ينطلق من واقع العﻼقات اﻷدبية‬
‫فالحديث عن اﻷدب العالم ّ‬
‫الدولية وبناها المتناقضة التي تتسم بهيمنة اﻵداب اﻷوروبية والغربية على التبادل اﻷدبي الدولي من جهة‪،‬‬
‫ي الذي يستحق‬
‫وبضآلة دور آداب شعوب العالم الثالث في ذلك التبادل من جهة أخرى‪ .‬أما اﻷدب العالم ّ‬
‫هذه التسمية فهو أدب تسهم فيه آداب العالم بصورة متوازنة ومتكافئة بﻼ هيمنة وﻻ تبعية‪ .‬وهذا ﻻ يت ّم إﻻ ّ‬
‫إذا توافرت لﻶداب كلها فرص تجاوز حدودها اللغوية والثقافية من خﻼل الترجمة والتوسيط النقدي‪ ،‬فهما‬
‫أبرز مؤشرين لعالمية اﻵثار اﻷدبية‪ .‬إﻻ أن المعطيات المتوافرة تد ّل بصورة ﻻ لبس فيها على أن العﻼقات‬
‫اﻷدبية الدولية المعاصرة عﻼقات غير متوازنة‪ ،‬وهي مختلة لصالح اﻵداب اﻷوروبية والغربية ولغير‬

‫‪6‬‬
‫صالح آداب شعوب العالم الثالث‪ ،‬التي ﻻ يزيد نصيبها من التبادل اﻷدبي الدولي عن نصيبها من اﻻقتصاد‬
‫العالمي والتجارة العالمية‪ .‬وهنا تكمن المعضلة الراهنة الحقيقية لﻸدب العالمي وعالمية اﻷدب‪.‬‬
‫على أية حال ّ‬
‫فإن مفهوم اﻷدب العالمي الذي صاغه اﻷديب اﻷلماني غوته في ثﻼثينيات القرن التاسع‬
‫عشر قد لقي في أول اﻷمر إعراضا ً ورفضا ً من جانب علماء اﻷدب المقارن أكثر مما حظي به من قبول‬
‫واستحسان‪ .‬إﻻّ أن اﻻهتمام بهذا المفهوم ما لبث أن تجد ّد منذ منتصف القرن العشرين‪ ،‬إن على الصعيد‬
‫العلمي اﻷكاديمي‪ ،‬أو على الصعيد الثقافي العام‪ ،‬فقد ظهر في المرحلة اﻷخيرة ما يشبه التض ّخم في‬
‫استخدام عبارة اﻷدب العالمي‪ .‬فباﻹضافة إلى معاجم اﻷدب العالمي‪ ،‬وسﻼسل اﻷدب العالمي ومكتبات‬
‫تحولت صفة عالمي إلى صفة بالغة اﻹيجابية‪ ،‬يُنعت بها كثير من اﻷدباء واﻷعمال اﻷدبية‬
‫اﻷدب العالمي‪ّ ،‬‬
‫ي في النصف الثاني من القرن العشرين‬
‫بغرض الدعاية والترويج التجاري‪ .‬لقد حقق مفهوم اﻷدب العالم ّ‬
‫مر بسيرورة ما كانت ستخطر لواضعه غوته على بال‪ ،‬ولكن هل استقر هذا‬ ‫انتصارا ً كبيراً‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫المفهوم أخيرا ً وحصل إجماع على مضمونه؟‬
‫ي لم يُزل ما ينطوي عليه هذا المفهوم من إشكالية‬ ‫ّ‬
‫إن النجاح الذي أحرزه مفهوم اﻷدب العالم ّ‬
‫ي مجموع اﻷعمال اﻷدبية الرائعة المتميزة التي‬
‫وخﻼفية‪ .‬فهناك خﻼف شديد بين من يرى في اﻷدب العالم ّ‬
‫تنتمي إلى آداب قومية مختلفة‪ ،‬جاعﻼً بذلك من الجودة الفنية مقياسا ً لعالمية اﻷدب‪ ،‬وبين من يرى أن‬
‫اﻷدب العالمي هو تلك اﻵثار اﻷدبية التي تمكنت من أن تتخطى حدودها اللغوية والثقافية القومية‪ ،‬وأن‬
‫تحظى بانتشار عالمي‪ ،‬إن بدون وسيط أو بوسيط ترجمي ونقدي‪ .‬فأساس هذا المفهوم هو اﻻنتشار‬
‫ي‪ ،‬سواء ترافق مع جودة فنية وفكرية أم لم يترافق‪ .‬وهناك أخيرا ً من يرى ّ‬
‫أن اﻷدب العالمي هو‬ ‫العالم ّ‬
‫مجموع اﻵداب القومية الموجودة في العالم‪ ،‬بصرف النظر عن المستويات الفنية واﻻنتشار العالمي‬
‫ﻷعمالها‪ .‬وهذا يعني ّ‬
‫أن هناك ثﻼثة مفهومات لﻸدب العالمي‪ ،‬لك ّل منها حججه وأنصاره‪ ،‬وإذا كان التوفيق‬
‫ﻷن الروائع اﻷدبية كثيرا ً ما تحظى بانتشار‬
‫بين المفهومين اﻷول والثاني ممكنا ً إلى حدّ كبير‪ ،‬وذلك ّ‬
‫ي‪ّ ،‬‬
‫فإن التوفيق بين هذين المفهومين وبين المفهوم الثالث أمر بالغ الصعوبة‪ .‬فأنصار هذا المفهوم‬ ‫عالم ّ‬
‫يأخذون على المفهومين اﻵخر ْين مركزيتهما اﻷوروبية والغربية‪ ،‬ﻷن ج ّل اﻷعمال اﻷدبية الرائعة‬
‫والمنتشرة عالميا ً تنتمي فعليا ً إلى اﻵداب اﻷوروبية والغربية‪ ،‬ولذا يطالب أنصار المفهوم الثالث بتبني‬
‫مفهوم التكافؤ والمساواة بين اﻵداب‪ .‬أ ّما أنصار المفهومين اﻷول والثاني فهما يريان بالمقابل ّ‬
‫أن اﻷدب‬
‫العالمي ليس هيئة عامة لﻸمم المتحدة‪ ،‬يتساوى فيها صوت دولة متطورة عظمى مع صوت دولة متأخرة‬
‫فقيرة أو صغيرة‪ .‬فالمساواة بين اﻵداب فيما يتعلق بالعالمية أمر غير ممكن‪ ،‬ﻷن اﻵداب تختلف عن‬
‫ي يعكس ما‬ ‫بعضها البعض في تطورها وغناها ومستوياتها الفنيّة والفكريّة‪ .‬وهكذا ّ‬
‫فإن مفهوم اﻷدب العالم ّ‬
‫هو قائم في الساحة الثقافية الدولية من تناقضات‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪6‬ـ الترجمة اﻷدبية واﻷدب المقارن‪:‬‬
‫أ ِلف الدارسون نم ً‬
‫طا معينًا من الدراسات الترجمية التي تركز على مدى مطابقة الترجمة للنص‬
‫اﻷصلي‪ ،‬فضاعت جهود كبيرة لم تكن دائ ًما مفيدة‪ ،‬في حين يُفضل التركيز على جانب آخر من الترجمة‬
‫أكثر أهمية‪ ،‬يتعلق بدراسة تلقي الترجمات على مستويات متعددة‪ ،‬بعيد ًا عن المطابقة الحرفية بين الترجمة‬
‫والنص اﻷصلي‪ .‬تسمح لنا هذه الدراسة برؤية الفعل الحقيقي لهذه النصوص في المنظومة الثقافية التي‬
‫تستقبلها‪ ،‬فقد يؤدي هذا الفعل إلى خلخلة مجموعة من الثوابت الفنية أو الفكرية أو اﻻجتماعية‪ .‬وهذا‬
‫الجانب له اﻷهمية اﻷولى في البحوث التي تتناول دراسة الترجمة وعﻼقتها باﻷدب المقارن حيث يسمح لنا‬
‫اﻷدب المقارن بفهم كثير من اﻵليات التي تتحكم بعملية الترجمة على مستوى اﻷفراد والجماعات‪ ،‬وتؤثر‬
‫على توجه الرأي العام‪.‬‬
‫ﻻ يمكن تخيل الثقافة الحديثة دون هذا الوسيط المثمر بين اللغات والثقافات والذي نسميه الترجمة‪،‬‬
‫ضا بوحدة‬
‫وإذا كانت الترجمة تذكرنا بوجود اﻵخر المختلف عنا ثقافيًا‪ ،‬واجتماعيًا‪ ،‬ودينيًا‪ ،..‬فإنها تذكرنا أي ً‬
‫الفكر اﻹنساني الذي ﻻ يمكن أن نعيش على هامشه‪ ،‬ﻷن العزلة تعني الموت‪ ،‬مثلما يقول المقارنون‪ ،‬كما‬
‫أنها تجعلنا أكثر قبوﻻ لﻶخر المختلف عنّا‪ّ ،‬‬
‫ﻷن اﻵخر ليس هو الشبيه وإنما هو المختلف الذي يقاسمنا‬
‫الحياة‪ .‬ولهذا فإننا اليوم أحوج ما نكون إلى الترجمة بمفهومها اﻹنساني‪ ،‬أي التي تمد جسور التواصل بين‬
‫البشر بغض النظر عن الجنس والعرق والموطن‪.‬‬
‫معنى ذلك أن اﻷدب المترجم ﻻ يستطيع أن يمحو أصله اﻷجنبي‪ ،‬وسيثير قراءات ليست فقط ذات‬
‫ضا ذات قيمة فكرية‪ .‬ولهذا فإن دراسة هذه القراءات تؤدي إلى وعي الطبيعة الخاصة‬
‫قيمة جمالية‪ ،‬ولكن أي ً‬
‫لبعض التبادﻻت اﻷدبية العالمية‪ ،‬والتي تتعلق بنقل اﻷفكار والمضامين اﻷدبية من أمة إلى أمة أخرى‪،‬‬
‫وكذلك النصوص والصور‪ ،‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى الموضوعات نفسها التي تتبادلها اﻷمم فيما‬
‫بينها‪ ،‬والتي قد تؤدي إلى إحداث تغيرات كبرى داخل اﻷدب المستق ِبل كالتغيرات التي حدثت داخل اﻷدب‬
‫العربي بفعل اﻻتصال باﻵداب العالمية المختلفة‪.‬‬
‫إن متابعة الموجات الكبيرة للترجمة بين اللغات العالمية الحية تساعدنا على فهم المؤثرات اﻷجنبية‪،‬‬
‫والتيارات اﻷدبية‪ ،‬ولهذا تعد هذه العملية كتابة للتاريخ اﻷدبي أو إعادة كتابة له‪ ،‬وهذا يؤكد أن اﻷمانة‬
‫للنص اﻷصلي ليست هي المقياس الوحيد التي يجب التركيز عليها في دراسة الترجمة‪ ،‬بل يمكن القول إن‬
‫يسيرا مما نطلق عليه اسم الترجمة‪ ،‬وإذا أردنا التفصيل أكثر نقول‪ :‬إن اﻷمانة ركن‬
‫ً‬ ‫هذا ﻻ ي ّمثل إﻻ جز ًءا‬
‫من أركان عملية تشمل دراسة اﻻنزياح في النص المترجم‪ ،‬ودراسة اﻻنزياح الحاصل في الثقافة‬
‫المستق ِبلة‪ ،‬كدراسة تأثير اﻷدب الفرنسي في اﻵداب اﻷوربية‪ ،‬وكيف أسهم في خلخلة المنظومات الثقافية‬
‫اﻷوربية عبر غزو المذاهب اﻷدبية والنقدية المختلفة التي تأسس القسم اﻷكبر منها في فرنسا‪ ،‬وهنا نفهم‬

‫‪8‬‬
‫لماذا نشأ اﻷدب المقارن في فرنسا‪ ،‬واشتغل جيل الرواد من المقارنين الفرنسيين على تأثير اﻷدب‬
‫الفرنسي في اﻵداب اﻷوربية المختلفة‪ ،‬لهذا يصعب فصل الترجمة عن التلقي‪ ،‬وعن تاريخ التلقي‪ ،‬خاصة‬
‫أن المترجم وسيط لغوي وثقافي ﻻ يعمل في فراغ‪ ،‬ولكنه يعيش ضمن جماعة يعرف مسبقًا أن الجمهور‬
‫الذي يترجم له سيحكم على الترجمة‪ ،‬وعلى الصورة اﻷدبية‪ ،‬والجمالية‪ ،‬وحتى اﻷخﻼقية للثقافة التي جاء‬
‫منها النص المترجم‪.‬‬
‫ت ّمثل الترجمة الشكل اﻷهم من بين أشكال العﻼقات اﻷدبية‪ ،‬ﻷن الدراسات الترجمية تدخل في صلب‬
‫الدراسات اﻷدبية المقارنة‪ ،‬وتشكل القسم اﻷعظم من هذه الدراسات‪ ،‬وهي في هذا تختلف عن ميادين‬
‫دراسة الترجمة اﻷخرى‪ ،‬مثل علم الترجمة‪ ،‬واللسانيات‪ ،‬ذلك أن اﻷدب المقارن يدرس الترجمة اﻷدبية‬
‫بوصفها عﻼقة تبادل مثمر تقوم بين أدبين قوميين أو أكثر‪ ،‬فهو يدرس المترجمين بوصفهم وسطاء أدبيين‬
‫يمدون الجسور بين اﻵداب القومية المختلفة‪ .‬وعليه فإن امتﻼك عقل منفتح والرغبة في التسامح وقبول‬
‫اﻵخر على ما هو عليه هي سمات ﻻ بد من وجودها عند المترجم‪ ،‬فقد رأينا في حاﻻت عديدة تدخل‬
‫المترجم في حذف بعض المقاطع من النص اﻷصلي‪ ،‬أو إضافة مقاطع أخرى إليه وذلك ﻷسباب دينية‬
‫وسياسية واجتماعية مما سبب خلﻼ في بنية النص‪ ،‬ويمكن أن نشير في هذا المجال إلى ترجمة ﺣسن‬
‫عثمان للكوميديا اﻹلهية للشاعر اﻹيطالي دانتي‪ ،‬حيث أسقط نشيد ًا يتعلق بالرسول وعلي بن أبي طالب‬
‫ﻷسباب دينية‪ ،‬ففوت بذلك الفرصة على القارئ العربي لكي يعرف الجو الفكري والثقافي الذي كان سائد ًا‬
‫في أوربا في القرون الوسطى‪ ،‬والذي مهد للحروب الصليبية‪ ،‬بسبب اﻷفكار السلبية التي انتشرت فيها عن‬
‫اﻹسﻼم والمسلمين‪.‬‬
‫إن الكاتب يعكس‪ ،‬بشكل أو بآخر‪ ،‬أفكار عصره‪ ،‬ودانتي في عمله نطق بلسان عصره‪ ،‬وحين أسقط‬
‫ﺣسن عثمان هذا النشيد من ترجمته حرم القارئ العربي من اﻻطﻼع على مادة فكرية غنية تساعده على‬
‫فهم جذور هذه العﻼقة المأزومة تاريخيًا بين الشرق والغرب‪ .‬ويمكن أن نذكر مثاﻻ آخر عن الحالة الثانية‬
‫وهي ترجمة الفرنسي أنطوان غاﻻن لـ )ألف ليلة وليلة( إذ أضاف إلى النص المترجم مجموعة من‬
‫الحكايات ليست موجودة في النص العربي‪.‬‬
‫عندما يقوم اﻷدب المقارن بدراسة المترجم‪ ،‬وسيرته الثقافية‪ ،‬واختياراته‪ ،‬وعﻼقته بما يترجمه‪ ،‬فإنه‬
‫يستطيع تفسير خياراته الترجمية‪ ،‬سواء على صعيد اختيار النص‪ ،‬أم على صعيد تأويله‪ ،‬أم على صعيد‬
‫تجسيده لغويًا وأسلوبيًا في لغة الهدف‪ .‬وفي هذا اﻹطار يمكن مقارنة مترجمين استخدموا لغات مختلفة‬
‫لترجمة عمل أو أعمال واحدة ‪.‬مثلما يحصل مثﻼ عندما نقارن من قام بترجمة غوته إلى اللغة الفرنسية‪،‬‬
‫بمن قام بترجمته إلى اللغة العربية‪.‬‬
‫تقاس جودة الترجمة بقدرة المترجم‪ ،‬خاصة حين يكون المترجم كاتبًا معروفًا في لغته اﻷصلية‪ ،‬مثل‬
‫كثيرا‪ ،‬ومهما‬
‫بودلير‪ ،‬وماﻻرميه‪ ،‬طه ﺣسين‪ ..‬فالمبدع يسيطر على ما يترجمه ويعطيه من روحه وإبداعه ً‬

‫‪9‬‬
‫يكن من أمر المترجم‪ ،‬يجب أن تستند دراسته إلى اﻷسئلة اﻵتية ‪:‬من هو؟ وماذا يترجم؟ وكيف يترجم؟‬
‫يجب أن تكون شخصية المترجم معروفة تما ًما‪ ،‬فهي أحيانًا تفسر اختيار النص‪ ،‬مثلما تشرح قيمة الترجمة‬
‫واتجاهها‪ .‬ومثلما يدرس اﻷدب المقارن المترجم بوصفه وسي ً‬
‫طا ثقافيًا‪ ،‬يدرس كذلك تاريخ الترجمة اﻷدبية‬
‫بوصفها تاريخ نشاطات تبادلية بين تلك اﻵداب‪.‬‬
‫عند تناول مثل هذا الموضوع بدراسة علمية شاملة‪ ،‬علينا أن نبدأ بطرح مجموعة من اﻷسئلة‪،‬‬
‫ونحاول اﻹجابة عنها‪ ،‬مثل‪ :‬ما هي النصوص المترجمة؟ وكيف قدمت إلى القراء؟ وما اﻻنتشار الذي‬
‫عرفته على المستوى الكمي‪ ،‬وكم عدد الطبعة الواحدة؟ وكم عدد الطبعات؟ وعلى المستوى النوعي‪ :‬ما‬
‫نوع الجمهور الذي تم التوجه إليه؟‬
‫وفي هذا المجال يمكن أن ندرس تلقي اﻷعمال المترجمة على عدة مستويات‪:‬‬
‫ــ المستوى اﻷول دراسة كيف يتلقى فرد عمﻼ معينًا‪ :‬وهذا يعتمد على أفق توقع القارئ‪ ،‬وأفق توقع العمل‬
‫المترجم؛ إذ ﻻ يمكن لعمل غريب في أفق توقعه أن يلقى التجاوب المطلوب من القارئ‪.‬‬
‫ــ المستوى الثاني دراسة تلقي مجال ﺛقافي لعمل معين‪ :‬هنا ﻻ بد من التساؤل عن مكانة النص المترجم‬
‫ضمن المنظومة اﻷدبية؟ ولماذا‪ ،‬وما وظائفه ضمنها؟ وما التعديﻼت المتوقعة التي يحدثها فيها؟ عندما‬
‫ترجم الفرنسي أنطوان غاﻻن )ألف ليلة وليلة(‪ ،‬كان اﻷدب الفرنسي يبحث عما هو جديد خارج الحدود‬
‫القومية‪ ،‬ولذلك استقبل اﻷدباء الفرنسيون والجمهور الفرنسي هذا العمل بحفاوة بالغة‪ .‬ومن المؤكد أن هذا‬
‫العمل جدد في رؤية اﻷدباء الفرنسيين للعالم‪ ،‬فضﻼ عن تغيير صورة الشرق في ذهن الجمهور الفرنسي‪،‬‬
‫هذه الصورة التي بقيت راسخة منذ الحروب الصليبية‪ ،‬والتي تقوم على ثنائية ضدية لم يستطع الشرق‬
‫والغرب تجاوزها إلى اليوم‪.‬‬
‫المستوى الثالث مجاﻻت ﺛقافية عديدة وعمل واﺣد‪ :‬إن مهمة الدارس في هذا المجال هي أن يقارن موقف‬
‫المنظومة اﻷدبية العربية من ترجمة عمل معين‪ ،‬وذلك في مختلف لحظات تاريخها‪ ،‬مع موقف المنظومات‬
‫ضا يعد التزامن والتعاقب ضروريين جد ًا من أجل فهم عملية اﻻستقبال‪ ،‬كيف تم‪ ،‬مثﻼ‪،‬‬
‫اﻷخرى‪ ،‬وهنا أي ً‬
‫تلقي الروايات الروسية في مختلف منظومات العالم اﻷدبية‪ ،‬في نهاية القرن التاسع عشر؟ وهل يمكن‬
‫إعطاء نوع من التصور عن ردات فعل هذه المنظومات المختلفة في لحظة تاريخية معينة؟ وما درجة‬
‫التأثير الذي تسبب في إحداث تعديﻼت مهمة في هذه المنظومات؟ من المعروف أن الرواية الروسية في‬
‫القرنين التاسع عشر والعشرين انتشرت في مناطق مختلفة من العالم‪ ،‬ونشرت معها من خﻼل الترجمات‬
‫المتعددة القيم الفنية والجمالية والفكرية التي كانت سائدة في المجتمع الروسي‪.‬‬
‫ـ المستوى الرابع مستقبل واﺣد وأعمال عديدة‪ :‬وهنا يمكن أن ندرس استقبال مستقبل واحد ليس‬
‫بالضرورة أن يكون فردًا‪ ،‬بل قد يكون منظومة أدبية كاملة ﻷعمال متعددة‪ .‬إن هذه الدراسة توضح لنا‬
‫اﻻتجاهات الفكرية واﻷدبية التي تسود في حقبة تاريخية معينة‪ ،‬ولماذا تغيّرت‪ ،‬أو عدلت في مرحلة‬

‫‪10‬‬
‫أخرى؟ إن المتتبع ﻻهتمام الغرب باﻷعمال اﻷدبية والفكرية العربية يﻼحظ تغير اهتمام الغرب باﻷعمال‬
‫تبعًا للمرحلة الزمنية‪ .‬فبعد اهتمامه بالفلسفة العربية التي حافظت على الفلسفة اليونانية وطورتها‪ ،‬جاء‬
‫اﻻهتمام بأعمال خاصة مثل )ألف ليلة وليلة( و)رسالة الغفران( للمعري‪ ،‬قبل أن تتوجه اﻷنظار إلى‬
‫اﻷدب الصوفي‪ .‬إننا نعتقد أن تغير مزاج القارئ الغربي أو المنظومة الغربية بشكل عام جاء مرافقًا لتغير‬
‫اجتماعي‪ ،‬وسياسي‪ ،‬واقتصادي‪ ،‬وفكري‪ ،‬فالفن ﻻ يفرض نفسه من فراغ‪ ،‬بل هو يعبّر عن حاجة تتبدل‬
‫بتبدل الظروف‪ ،‬والشروط اﻻجتماعية‪.‬‬

‫ـ قائمة المراجع‪:‬‬
‫ـ الطاهر أحمد مكي‪ :‬اﻷدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪.1987 ،‬‬
‫ـ عبد النبي اصطيف‪ :‬المدرسة الترجمية في الدرس المقارن لﻸدب‪ ،‬مجلة المترجم‪ ،‬العدد ‪-2011 ،25‬‬
‫‪.2012‬‬
‫ـ عبده عبود‪ ،‬اﻷدب المقارن واقع وآفاق‪ ،‬مشكﻼت وآفاق‪ ،‬منشورات اتحاد كتاب العرب‪.1999 ،‬‬
‫ـ غسان السيد‪ :‬الترجمة اﻷدبية واﻷدب المقارن‪ ،‬مجلة جامعة دمشق‪ ،‬المجلد ‪ ،23‬العدد اﻷول‪.2007 ،‬‬
‫ـ مناف منصور‪ :‬مدخل إلى اﻷدب المقارن‪) ،‬سعيد عقل وبول فاليري(‪ ،‬منشورات مركز التوثيق‪،‬‬
‫بيروت‪.1950 ،‬‬
‫ـ منى بشلم‪ :‬مدخل لﻸدب المقارن)المدرسة الفرنسية(‪ ،‬دار رؤى فكرية للنشر والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪.2022 ،‬‬

‫‪11‬‬

You might also like